فهرس المكتبة التخصصية
 كتاب مختار:
 البحث في المكتبة:
 الصفحة الرئيسية » المكتبة التخصصية المهدوية » كتب أخرى » في رحاب الإمامين العسكري والحجة (عليهما السلام)
 كتب أخرى

الكتب في رحاب الإمامين العسكري والحجة (عليهما السلام)

القسم القسم: كتب أخرى الشخص المؤلف: الشيخ فوزي آل سيف تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠١٦/٠٨/٠٩ المشاهدات المشاهدات: ١٠٦٥٩ التعليقات التعليقات: ٠

في رحاب الإمامين العسكري والحجة (عليهما السلام)

تأليف: الشيخ فوزي آل سيف

الفهرس

موجز عن حياة الإمام علي بن محمد (عليه السلام)
رجال حول الإمام الهادي (عليه السلام)
١ - محمد بن علي الهادي (عليه السلام)
٢ - السيد عبد العظيم الحسني
٣ - علي بن جعفر الهماني
٤ - أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل
٥ - سعد بن عبدالله الأشعري
نساء حول الإمام الهادي (عليه السلام)
١/ سليل أم الإمام العسكري (عليه السلام)
٢/ كلثم الكرخية
٣/ فاطمة بنت محمد بن الهيثم
٤/ فاطمة بنت هارون بن موسى بن الفرات
٥/ أمامة بنت محمد بن علي الجواد (عليه السلام)
موجز عن حياة الإمام الحسن بن علي (عليه السلام)
١ - داود بن القاسم الجعفري
٢ - أيوب بن نوح بن درّاج النخعي
٣ - الفضل بن شاذان النيسابوري
٤ - عبد الله بن جعفر الحميري القمي
٥ - إسماعيل بن علي النوبختي
نساء حول الإمام العسكري (عليه السلام)
١/ نرجس: الوالدة المكرمة للمنقذ الأعظم
٢/ حكيمة بنت محمد بن علي الجواد (عليهما السلام)
٣/ أم كلثوم بنت أبي جعفر عثمان بن سعيد العمري
٤/ أم علي بن زيد بن علي العلوي
٥/ أم أحمد النيسابورية
موجز عن حياة الإمام محمد بن الحسن (عجل الله فرجه)
١ - عثمان بن سعيد العمري
٢ - محمد بن عثمان بن سعيد العمري
٣ - الحسين بن روح النوبختي
٤- علي بن محمد السمري
٥/ هل تكون الرجل الخامس حول المهدي؟!
نساء حول المهدي (عجل الله فرجه)
١/ عاتكة بنت الديراني
٢/ أم أبي العباس الزراري
٣/ نسيم الخادمة
٤/ طالبة البرهان البغدادية
٥/ من هي الخامسة؟

موجز عن حياة الإمام علي بن محمد (عليه السلام)

أبو الحسن (الثالث) الهادي ٢١٢ – ٢٥١ هـ.
ولد الإمام علي الهادي (عليه السلام) عام ٢١٢ هـ وتوفي عام ٢٥٤ هـ وتولى الإمامة بعد شهادة أبيه وعمره حوالي الثلاثة عشر عاماً، ومدة إمامته أربعة وعشرون عاماً.
كان ملوك عصره من العباسيين (وهم المعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمعتز) من أشد الحكام تعصباً ضد منهج أهل البيت وأتباعهم، فالمعتصم سبق أن تآمر لاغتيال والد الإمام الهادي (عليه السلام)، الإمام الجواد (عليه السلام) والمتوكل هو صاحب الصيت السيّء في منع زيارة قبر الإمام الحسين (عليه السلام)، ومعاقبة الزوار بالسجن والتعذيب وهو الذي أمر (بحراثة) قبر الإمام الحسين. وباستثناء المنتصر الذي كان يميل إلى أهل البيت ولم يبق في الحكم إلاّ فترة قصيرة (أقل من سنة) فإن الصبغة العامة التي لونت حكم هؤلاء الخلفاء كانت عداوة أهل البيت (عليهم السلام).
عاش الإمام الهادي (عليه السلام) قرابة العشرين عاماً بعد والده في المدينة المنورة، ممثلاً دور أجداده الطيبين في نشر الفضيلة والحفاظ على الشريعة، وكانت المدينة تنتظر هذه الفرصة بفارغ الصبر فالتفت حول الإمام الهادي (عليه السلام) مستنطقة إياه عن علم النبوة، ومستلهمة منه أسرار الإمامة، مما دعا أحد عملاء الحكم العباسي أن يكتب للخليفة: (إن كان لك بالمدينة حاجة فأخرج منها علي بن محمد)، وبالفعل فقد استدعي الإمام إلى سامراء مركز الخلافة، حيث يكون تحت المراقبة والنظر.
فيما كان الحكام سادرين في أهوائهم، كانت حركات الانحراف الفكري تنشأ وتنشط في الأمة، وكان من أبرزها حركات الغلو، ولأن الإمام هو حافظ شريعة جده فقد تصدى لفكر الغلو، ولأشخاص الغلاة. على الأصعدة الثلاثة الفكري والاجتماعي، ووصلت المسألة إلى حد القيام باغتيال زعماء الفكر المغالي.
كان المتوكل - الذي يسمونه (محيي السنة)!! يطلب من الجلاوزة إحضاره، وأحياناً في نصف الليل، وبينما الإمام يصلي نوافله الليلية يرى الجلاوزة قد تسلقوا عليه الجدار، لكي يبحثوا عن (الأسلحة والأموال) كما يزعمون، ويحضرون الإمام من مصلاه إلى مجلس المتوكل حيث مائدة الخمر، ويطلب منه المتوكل الشرب فيأبى ويلقي عليه شعر وعظ، وتذكير بالموت.
لم يكن الخلفاء العباسيون ينظرون بعين الارتياح لوجود الأئمة (عليهم السلام) إذ أن الخلفاء وإن كانوا أمراء الأجسام إلاّ أن الأئمة كانوا حكام القلوب، لذلك كان الخلفاء يسعون دائماً لاغتيال الأئمة، ولعلك بهذا تجد السبب في أن الأئمة في هذه الفترات كانوا يقضون نحبهم وهم في عز الشباب.. وهكذا قضى الإمام الهادي وعمره اثنان وأربعون سنة.. ودفن في سامراء.

رجال حول الإمام الهادي (عليه السلام)

١ - محمد بن علي الهادي (عليه السلام)
أبو جعفر
الإمامة - كما فهمها أهل البيت ومن بعدهم أتباعهم - تختلف عنها عند غيرهم. فإذا كانت عند غيرهم أمراً اعتبارياً يحصل من خلال تفويض مجموعة من الناس أمور دينهم أو دنياهم له، وكما تحصل لهذا الشخص برجوعهم إليه، فإنها تسلب منه برجوعهم عنه تماماً كسائر الرئاسات الأخرى، فإنها في نظر أهل البيت (عليهم السلام) ليست كسائر الرئاسات، بل هي كالنبوة تحصل لشخص من قبل الله سبحانه وتعالى من دون أن يكون للناس دخل في تعيين الإمام، كما لا دور لهم في تعيين النبي والرسول. بل عليهم واجب البحث عنه والإيمان به والدفاع عنه.
ولو فرضنا أن هؤلاء الناس لم يتبعوا الإمام ولم يسلموا إليه مقاليد الأمور العامة، فنحي عن موقعه الاعتيادي في قيادة المجتمع، فإن ذلك لا يؤثر إطلاقاً في إمامته، كما هو الحال في الرئاسة الاعتبارية حيث يفقد الرئيس صفة الرئاسة عندما لا يجد من يطيعه.
ليس هذا فحسب، بل لا دخل للإمام نفسه في أن يكون إماماً أو لا يكون، ولا دور له في (تعيين) من يخلفه من الأئمة إلا بمقدار التبليغ، وإيصال النص إلى الناس. فحتى لو رغب الإمام - من باب الفرض المجرد - في شخص غير المعين من قبل الله سبحانه، فإنه لا يستطيع أن يصرف الإمامة، لأنها تحتاج إلى مواصفات خاصة لا تتوفر في كل شخص. وقد مر في ما سبق جانباً منها، وهذا الأمر كان واضحاً ليس فقط لشيعة الأئمة، بل حتى لأعدائهم(١) فهؤلاء كانوا يعلمون أن الإمام يتصف بصفات خاصة.
ولا ترتبط المسألة بالوراثة كما يحلو للبعض ممن لم يتعرف على نظام الإمامة في الإسلام، وإن وجدنا أن الأئمة من ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأبناء علي (عليه السلام).. إذ لو كانت الوراثة هي المعيار الوحيد في الإمامة لما تخلف هذا من أبناء الإمام الحسن (عليه السلام)، مع أن أحداً منهم لم يكن إماماً بل لما تخلف عن سائر أبناء الإمام الحسين وأحفاده، كزيد بن علي بن الحسين، مع ما كان يتميز به من علم وفضل. وهكذا تجد في كل حلقة أنه يوجد إلى صف الإمام المعين والمنصوب من قبل الله، بنص رسول الله، كان هناك إخوة إلى جانبه، ولم يصبحوا أئمة برغم كونهم أبناء إمام وإخوة إمام.. ووجدنا أن بعضهم كان يدرك هذه الحقيقة فيقدم فروض الطاعة، والإتباع، بالرغم من أن المقاييس الظاهرية كانت في صفه، فهذا علي ابن الإمام الصادق (عليه السلام) وكان مقدماً في علمه، ومحترما عند الخاص والعام، وكبير السن، يقدم الحذاء لابن ابن أخيه محمد بن علي عن موسى بن جعفر الصادق (الإمام الجواد) ويمسك له الركاب، مع أن الإمام الجواد (عليه السلام) كان آنئذٍ في سن حفيد عمه علي بن جعفر الصادق، حتى لقد تساءل بعض من رأى ذلك وهو يرى هذا الاحترام منه للإمام الجواد (عليه السلام) فقال:
- ماذا أصنع إن كان الله سبحانه وتعالى قد اختاره للإمامة ولم ير هذه الشيبة أهلاً لذلك؟!.
وضمن هذه القاعدة، فبالرغم من أن قسماً من الناس كانوا يتوقعون أحد أبناء الأئمة، أن يكون هو الخلف والقائم بأمور الإمامة بعد أبيه، لما يمتلكه من فضل، وتقوى، إلا أن المسألة كما قلنا لما كانت لا ترتبط بالناس، بل حتى بالإمام، فإن توقعهم هذا بل رغبتهم أحيانا لم تكن تتحقق.
وقد كان أبو جعفر محمد ابن الإمام علي الهادي (عليه السلام) من أولئك الذين ظن الكثير من الناس فيه أنه سيكون الإمام بعد والده، لما كان يتميز به من صفات ومميزات في علمه وفضله. فقد سألوا الإمام الهادي (عليه السلام) عدة مرات عن هذا الأمر، وكان الإمام - مع إدراكه ومعرفته بشخصية ابنه وفضله - يعلم أن المسألة ليست - في جهة التعيين - بيده، بل هي بأمر الله، فكان يشير إلى ابنه الحسن (العسكري) مع أنه كان أصغر سناً من أخيه محمد.
ومن الواضح أن محمداً - على جلالته - لم يدع الإمامة، ولم ينازعها أهلها كما فعل مثلاً، أخوه جعفر الذي لقب فيما بعد بالكذاب، حينما ادعى الإمامة بعد أخيه الإمام الحسن العسكري، مستغلاً الظرف الذي أتاحه له اختفاء الإمام المنتظر (عجل الله فرجه)، لكن القاعدة الشعبية لما كانت تعرف مواصفات الإمام، في علمه وسيرته، بحيث يمكن تمييز المدعي بواسطتها، سرعان ما كشفت أمره. وفضح أمام الناس.
وفي أيام الإمام الهادي (عليه السلام)، مرض ابنه أبو جعفر محمد، وتوفي رحمة الله عليه، وبينما كان المعزّون يدخلون على الإمام الهادي يعزونه بفقدانه ابنه اكبر، كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قد انتحى ناحية يبكي على أخيه الراحل.
٢ - السيد عبد العظيم الحسني
" لو زرت عبد العظيم عندكم - بالري - لكنت كمن زار قبر الحسين (عليه السلام) "
الإمام الهادي (عليه السلام)
للغربة مع أهل البيت (عليهم السلام) ثأر لا ينتهي، لا تتركهم ولا يتركونها!!.
لا تتركهم لأنهم ذوو همم عالية، وقد قضت سنة الزمان أن الهمم والأهداف الكبرى تمر عبر جسر الغربة والناس يطلبونها في الحضر فلا يجدونها.
ولا يتركونها لأنهم ما خلقوا (ليشغلهم أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة أو المرسلة تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها).. إنهم يرون أن هدف حياتهم إعلاء كلمة الله، وإخراج عبد الله من عبادة عباده، ولا يستطيعون تصور معنى لحياتهم غير ذلك.
ولذلك كانت حياتهم سلسلة من التراجيديا المفجعة، والأحزان المتتابعة..
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر إلا أن هناك عاملاً آخر يزيد هذه التراجيديا فصلاً جديداً، ذلك هو موقف كثير من الناس من أهل البيت (عليهم السلام)، فإذا كان طبيعياً أن يقف الظالمون موقف الترصد والارصاد لأهل البيت حتى جعلوا على كل قارعة مأتماً وفي كل بيت عزاء.. فما هو تفسير موقف الآخرين؟!.
لَكثيراً ما ترددت هذه الكلمة على ألسنة العلويين. منذ أن نطقت بها فاطمة الزهراء (عليها السلام) (أليس المرء يحفظ في ولده)؟! لكن ضياع هؤلاء الذين كان يؤرقهم ضياع سنة رسول الله، وضياع أمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، كان النتيجة الطبيعية لمواقف التخاذل التي كان يتميز بها أكثر الناس آنئذٍ، ولذلك انتشرت مراقد العلويين من نسل الرسول في كل ناحية، وأقل النواحي في ذلك كانت مدينة جدهم، وموطنهم!!.
ولئن طوى هؤلاء خبرهم عن أقرب الناس إليهم، فإن التاريخ أحرى أن لا يقف على خبرهم، لكنك تستطيع أن تتلمس بعض أخبارهم من حال غربتهم وتخفيهم، فهذا أخفى نسبه وشخصيته وعلمه حتى عمل في الأعمال الدانية التي لا تليق بشخصيته ولم يعرف حتى ودع هذه الدنيا غير آسف عليها، وآخر ترى قبره في أعلى جبل وقد مضى هارباً من سلطان عصره.. وهكذا.
فلنكن مع السيد عبد العظيم الحسني (بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط) (عليه السلام) الذي كان واحداً من هذا السرب المغترب.
روى عن الإمام الرضا (عليه السلام) وصنف كتاب خطب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكتاب اليوم والليلة. كما كان مختصاً بأبي الحسن الهادي (عليه السلام). ولشدة تحرجه في دينه واحتياطه في عقيدته، فقد عرض كل ذلك على إمامه الهادي (عليه السلام). ونلفت النظر هنا إلى أن بعض أصحاب الأئمة، سمعوا منهم أحاديث ففهمها بعض وجهلها آخرون (سواء الجهل البسيط أو المركب) ثم انصرفوا يخبطون في العقائد كحاطب ليل لا يستبين له الهدى ولا يركن إلى اليقين، وساعد على ذلك أن ظروف الأئمة (عليهم السلام) في الأزمنة المتأخرة لم تكن مناسبة كما ينبغي، فشرق بعض وغرب آخرون.. من غلاة إلى صوفيين إلى مجسمة.
بينما بقي الواعون الورعون الذين كانوا إذا ازدحمت الفتن، وعصفت رياح الشك التجأوا إلى بر الأئمة الآمن.. ومنهم كان السيد عبد العظيم، فقد دخل على الإمام الهادي (عليه السلام) قائلا:
- يا بن رسول الله إني أريد أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضياً ثبت عليه.
فقال له الإمام: هات يا أبا القاسم..
فقال: إني أقول إن الله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء، خارج عن الحدين، حدّ الإبطال وحدّ التشبيه، وأنه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر بل هو مجسم الأجسام ومصور الصور وخالق الأعراض والجواهر ورب كل شيء ومالكه وجاعله ومحدثه.
وأن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة وأن شريعته خاتمة الشرائع فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة.
وأقول إن الإمام والخليفة وولي الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم أنت يا مولاي..
فالتفت إليه الإمام قائلاً: ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده؟.
واستفسر عبد العظيم عن الحجة بعده قائلاً: وكيف ذاك يا مولاي؟!.
قال: إنه لا يرى شخصه ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً..
واستطرد السيد عبد العظيم، مبيناً بقية عقائده..
".. أقررت وأقول إن وليهم ولي الله وعدوّهم عدو الله وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله، وأقول إن المعراج حق، والمسألة في القبر حق وأن الجنة حق والنار حق والصراط حق، والميزان حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
وأقول إن الفرائض الواجبة بعد الولاية - أي الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) - الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
فقال له الإمام (عليه السلام):
- يا أبا القاسم هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
واشتد الطلب أيام المتوكل العباسي ذلك أنه "كان شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم مهتماً بأمورهم شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير يسيء الرأي فيهم، فحسن له القبيح في معاملتهم فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من بني العباس قبله، وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين وعفى آثاره ووضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحداً زاره إلاّ أتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة"(٢) وتتبع أصحاب أهل البيت (عليهم السلام) واعتقل بعضهم وقتل البعض، وتوارى الكثير منهم، وانطلق السيد عبد العظيم إلى منطقة الري فسكن عند أحد الشيعة في منزله في سكن الموالي فكان يعبد الله في ذلك المكان يصوم نهاره ويقوم ليله ويخرج مستتراً فيزور قبراً قريباً.
وهكذا كان يقع خبره إلى الواحد بعد الواحد من شيعة أهل البيت في المنطقة ولم يكونوا يعرفونه تماماً، إلاّ القليل منهم ممن كان يعرفه الإمام بشخصية السيد عبد العظيم ممن كان أهلاً لمعرفته، وكتمان سره، فعندما دخل أبو حماد الرازي على الإمام الهادي، فسأله عن أمور مختلفة من قضايا الحلال والحرام، فلما أجابه عنها، ودعه وقال:
- يا حماد إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسل عنه عبد العظيم الحسني واقرأه مني السلام.
وباستثناء تلك الفئة القليلة الواعية، لم يعرف بقية الناس موقع هذا الرجل العلوي والعالم الهاشمي، الذي استمر فترة من الزمان مختفياً حتى مرض مرضاً شديداً، أخذ من صحته ما أبقته الغربة والبعد عن الوطن والخوف من السلطان، حتى أسلم الروح إلى بارئها.
وجاء أهل الري ليشيعوا جنازة هذا العالم الغريب، وبينما كان ينزع عنه ملابسه لتغسيله، وجدوا في جيبه رقعة كان فيها اسمه ونسبه وحينها أفاق الناس على عظم تقصيرهم في حق أنفسهم وكيف حرموا أنفسهم من التعرض لعلمه والاختلاف إليه، وتقصيرهم في حقه، وشيع تشييعاً ضخماً، وكأن الناس كانوا يريدون التعويض عما فاتهم في حياته بتعظيم تشييعه بعد وفاته.. وهيهات.
وإذا كان السيد عبد العظيم قد جهل قدره أيام حياته حتى مات غريباً (وضاع) في ديار الغربة، فإن الله سبحانه لا يضيع عنده مثقال حبة من خير، فكيف إذا وهب المرء حياته في سبيل الله؟!.
جواب ذلك ما نجده اليوم حيث لهذا السيد قبر عظيم، ومشهد عامر ولقد أصبحت المنطقة تسمى باسمه ووقفت أراضيها له.
٣ - علي بن جعفر الهماني
وجد نفسه في سجن المتوكل العباسي بعد أن كان وكيلا للإمام الهادي (عليه السلام).
وما أدراك ما سجن المتوكل؟! لكن يكفيك قاعدة - عزيزي القارئ - ان قصور الحاكمين كلما زادت عدداً وعظمت بناء وزينة، فإن سجونهم تزيد وتسوء.. وإذا كان همّ الحاكم الجديد أن يبني له قصراً صيفياً وآخر شتوياً.. وثالث.. فإنه لا ينسى عموم الناس من (معروفه) فيزيد عدد سجونه، لتستوعب الزيادات الجديدة!.
وهذا النوع من الحاكمين تنشط في قصورهم سوق التملق الكاذب والوشاية السياسية، فالذين لا يتقنون البيع في السوق الأولى التي تتطلب قدرة على نظم الشعر الجيد، فإنهم لا يحتاجون إلى كفاءة في السوق الثانية، يكفيهم مقدار ملائم من قلة الدين وموت الضمير، حتى يؤدوا هذه المهمة، فيحصلون على الثمن.. فلماذا يتعبون أنفسهم في ميدان الحياة، وساحة الكسب الحلال؟! حيث لا تأتي الأرزاق إلا بالجهد والعرق؟ لماذا يتعبون أنفسهم، مادامت هذه السوق قائمة على قدم وساق؟!.
نعم فقد وجد علي بن جعفر الهماني، البغدادي نفسه في السجن على أثر وشاية وصلت إلى قصر المتوكل..
وكانت عادة الحاكمين أن يسلبوا حرية الناس ثم يمنّوا عليهم بإطلاق سراحهم، بمكرمة وهكذا فإن على السجين أن يشكر سجّانه الذي سلبه حريته مدة من الزمن، ويثني عليه!! وأن على الناس أن يتوسلوا إلى الله بإبقاء (طويل العمر) الذي لم يترك السجين طول حياته - بل نصفها - في المعتقل!!.
مرض المتوكل، وزادت عليه الحمى حتى استبشر ولي عهده، فما هي إلا سويعات حتى يصدر بياناً من قصر الخلافة ينص على موت الخليفة.. فأصدر المتوكل أمرا بإطلاق سراح المعتقلين، وكان لا بد من توقيعه على كل اسم، وجاء عبيد الله بن يحيى بن خاقان فعرض على المتوكل الأسماء وبينها اسم علي بن جعفر، فغضب المتوكل وقال له:
- لا تتعبن نفسك بعرض قصة هذا وأشباهه فإن عمك (الفتح بن خاقان) أخبرني أن هذا رافضي وأنه وكيل علي بن محمد.. ثم أضاف مهدداً:
- لو شككت فيك لقلت أنك رافضي!! انه لا يخرج من الحبس ما دمت حياً!!.
إن المكرمة هذه لا تنال أصحاب العقيدة ولا سجناء الرأي الحر، إنما تطال أصحاب الجنايات، والسارقين، وقطاع الطرق.. أليس الطيور على أشكالها تقع؟!.
فكتبت إلى مولانا - يقول علي بن جعفر-:
- إن نفسي قد ضاقت وإني أخاف الزيغ! فكتب إليّ:
- أما إذا بلغ الأمر منك ما أرى فسأقصد الله فيك.
يتصور الإنسان ذو القدرة الفانية أن يستطيع ويستطيع، بينما هو في ميزان الكون لا يزيد عن سبب، ويبقى الله مسبب الأسباب القادر على ما يشاء.. وهكذا "فما عادت الجمعة حتى خرجت من السجن"(٣).

* * *

خرج علي بن جعفر من السجن بنعمة الله سبحانه، وبقي في سامراء مدة من الزمان، وكانت سامراء تشهد حركة من الغلو تزعمها علي بن حسكة والقاسم اليقطيني، الذين ادّعوا الألوهية للإمام العسكري!! وأنهم أنبياء!! واسقطوا الفرائض والواجبات!، ولكن الأخطر من هؤلاء كان "فارس بن حاتم القزويني"، الذي كان بعض الشيعة قد عرفوه في البدء على أنه من أصحاب الإمام الهادي، وكانوا يثقون به قبل أن يصدر منه مخاريقه، فتصدر البراءة في حقه، وكان هذا الرجل يتنقل، فتارة هو في سامراء، إذا به في فارس، وفي الكوفة.. وهكذا.
وأول من تصدى له على أرض الواقع كان علي بن جعفر، فقد أظهر للناس صورته الحقيقية، ولم يكن فارس بالذي يسكت فاستطاع أن يضل عدداً من الناس، وأن يجعلهم في الصف الأول للمواجهة، وهكذا.. كان من الممكن أن تتحول تلك إلى فتنة اجتماعية إلا أن توجيه الإمام العسكري (عليه السلام) لأتباعه، بضرورة إتباع علي وتجنب فارس، وأد تلك الفتنة في مهدها فقد كتب موسى بن جعفر بن إبراهيم إلى الإمام الهادي (عليه السلام): جعلت فداك قبلنا أشياء يحكى عن فارس والخلاف بينه وبين علي بن جعفر حتى صار بعضهم يبرأ من بعض فإن رأيت أن تمن عليّ بما عندك فيهما وأيّهما يتولى حوائجي قبلك، حتى لا أعدوه إلى غيره فقد احتجتُ إلى ذلك، فعلتَ متفضلاً إن شاء الله.
فكتب (إليّ): ليس عن مثل هذا يسأل ولا في مثله يشك، قد عظّم الله قدر علي بن جعفر، أمتعنا الله به، عن أن يقاس إليه، فاقصد علي بن جعفر بحوائجك واجتنبوا فارساً وامتنعوا عن إدخاله في شيء من أموركم أو حوائجكم تفعل ذلك ومن أطاعك من أهل بلادك، فإنه قد بلغني ما قد تموّه (فارس) به على الناس، فلا تلتفتوا إليه إن شاء الله(٤).
الجدير ذكره أن الصراع بين الغلاة وأتباع أهل البيت لم ينته، ولم يرعوِ أولئك الغلاة عن غيهم، بالرغم من وصايا الإمام للناس في تجنب مجالستهم واتهامهم، وتشويه سمعتهم، فقد كانوا يزيدون غيّاً، إلى أن قال الإمام الهادي (عليه السلام): من يقتل فارساً وأنا أضمن له الجنة.
وكان لهذه المهمة الجنيد. فقد رأى أن هؤلاء الغلاة لا ينفع معهم سائر مراحل النهي عن المنكر، إذ طبقت معهم ولم تؤت أكلها، فقد أعرض عنهم، وكلح في وجوههم، ونصحوا وهددوا، وضربوا، ولم ينفع ذلك، وأي منكر أشد من نسبة الألوهية لرجل، ثم الادعاء بأنهم أنبياؤه.. وهكذا وبينما فارس خارج في العتمة كمن له الجنيد وطبر رأسه بساطور كان قد أعده لهذا الغرض.. وأنهى حياته ومنكره.
من سامراء خرج علي بن جعفر إلى الكوفة ليقيم بها مدة من الزمان مبلغاً رسالة أهل البيت (عليهم السلام)، ثم وجهه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بعد شهادة أبيه الهادي (عليه السلام) إلى مكة، فكان هناك ينفق النفقات العظيمة على المحتاجين من الحجاج وسواهم، ويعرفهم بأفكار أهل البيت (عليهم السلام).. مما جعل بعض أصحاب الإمام يتعجب من ذلك، وينكره، فلما انصرف أبو طاهر بن بليل من الحج كتب إلى الإمام العسكري يعرفه ما رأى، فرد عليه الإمام بتوثيق علي بن جعفر وتأييد عمله.
٤ - أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل
(الكاتب والنديم)
تعرض التشيع في تاريخه - ولا يزال - إلى الكثير من التهم، كان المقصود منها، إيجاد جو عداء في الأمة تجاه من يعتنق فكره وبرنامجه، وإشعار الشيعة بالغربة والضعف.
وبالرغم من أن تلك التهم لم تكن لتصمد أمام البحث العلمي، ولم تكن لتقنع الواعين من غير الشيعة فضلاً عن الشيعة، إلاّ أن أصحاب التهم تلك كانوا يخاطبون بها العوام والغوغاء لعجزهم عن التفكير وقدرتهم على التهريج.
ومن تلك التهم: أن التشيع هو مذهب الموالي والفرس، فهم الذين صنعوه، وهم الذين ساندوا رجاله، وعلى ضوء هذا يفسرون كثيراً من الأحداث.
والغرض من مثل هذا الإرجاف كان: إحياء العصبية العربية الجاهلية التي تأبى العيش على صعيد واحد مع غير العرب، لرفض أفكار التشيع وقيم الإسلام، في المساواة والأخوّة بين المسلمين، وللإيحاء بأنه وافد غريب.
ونحن هنا لا ننكر أن التشيع - وهو جوهر الإسلام - قد خاطب الموالي، والضعفاء، كما خاطب غيرهم، ولامس قلوبهم، ووجدوا فيه ما ينسجم مع وجدانهم، وما يشفي صدورهم من عللها، وينقذ حياتهم من عبثها فآمنوا به والتزموه، ولعمري لو كان في هذا نقص لورد على أكمل الخلق، وسيد البشر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم). فقد عاب عليه "عرب" قريش أنه جمع حوله الموالي والعبيد والغرباء.. وطلبوا - كشرط لإسلامهم - أن يطرد هؤلاء عن أجوائه فأتاه الخطاب الإلهي (ولا تطرد الذين يدعون ربهم).
كما أننا لا ننكر أن التشيع - وهو جوهر الإسلام - لا يرى المفاضلة بين الناس بـ "العظام" من الآباء والأجداد بل يرى المفاضلة بـ "العظام" من المواقف والأفعال والأخلاق.

فقد رفع الإسلام سلمان فارس * * * وقد وضع الشرك الشريف أبا لهب

بل إن الإسلام يغير مصطلح العربي السابق، فيعتبر حقيقة جديدة فيه، فماذا كان (العربي) - قبل الإسلام - يعني من ولد لأبوين عربيين، أصبح الآن (كل مسلم عربي).
هذا.. ولكن حتى، لو تنزلنا ومشينا على طريقتهم، فإننا سنجد أيضاً خواء هذا الإرجاف.. إذ أننا بالتمعن قليلاً، سنجد أن أهل البيت (عليهم السلام) وأئمة الشيعة هم من الذروة العليا في العرب فـ (لا يقاس بآل محمد أحد).
وسنجد أن أئمة اللغة العربية، والحافظين لها، والناشرين لها كانوا من أتباع أهل البيت (عليهم السلام). وما ذلك إلاّ لأن هذه اللغة هي لغة القران، وألفاظ الأحكام، ولو ضعفت أو اندثرت، فالضرر عائد - لا شك - على الدين.
فالذي أسس علم النحو، وقواعد الإعراب هو أبو الأسود الدؤلي، تعلمه من أمير المؤمنين علي (عليه السلام). وبعده كان أبو جعفر محمد بن الحسن الرواسي إمام الكوفيين في النحو، وأول من وضع فيه كتاباً مفصلاً وهو أستاذ الكسائي والفرّاء. وفي طبقته كان الخليل بن أحمد وهو إمام البصريين في النحو، ومؤسس علم العروض، وهو من شيعة أهل البيت (عليه السلام)، ومن أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) كما ذكر العلامة البهائي، ومن طبقة أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام). وهكذا عطاء بن أبي الأسود الدؤلي، ويحيى بن يعمر العدواني وكلاهما تتلمذ على يد أبي الأسود، وكان يحيى تابعياً، عارفاً بالقرآن، والنحو، وله مواقف مشهورة مع الحجاج الثقفي، إذ كان يحدث بفضائل أهل البيت، ومناقب الحسنين. فاستدعاه الحجاج من خراسان، وله معه حوار شهير حول كون الحسنين ابني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
 ومنهم حمران بن أعين الشيباني صاحب الإمام الصادق (عليه السلام)، والفرّاء يحيى بن زياد الأقطع (وسمي أبوه بذلك لأن يده قطعت في وقعة فخ بقيادة الحسين بن علي بن الحسن المثلث) وهكذا ابن السكيت يعقوب (وقد مرت ترجمته) صاحب كتاب إصلاح المنطق. وهكذا أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل ابن حمدون الكاتب والنديم، وهو أستاذ أبي العباس ثعلب، ومنهم أبو العباس المبرد محمد بن يزيد الأزدي، صاحب كتاب الكامل، وهكذا ابن دريد محمد بن الحسن بن دريد الأزدي صاحب كتاب الجمهرة في اللغة.
وإذا جئت إلى حقل الشعر، تجد أعطر أزاهيره وأجمل وروده، إنما استقت من ينبوع أهل البيت (عليهم السلام)، كالنابغة الجعدي، والفرزدق، والكميت بن زيد، وكثير عزة، والسيد الحميري، والعبدي سفيان بن مصعب، والخزاعي دعبل، والطائي أبي تمام، وديك الجن، وداود بن القاسم، ومن تأخر من عصور هؤلاء كأبي فراس الحمداني، والمتنبي أبي الطيب، وابن الحجاج البغدادي، والشريفين الرضي والمرتضى(٥).. وغيرهم مما يطول المقام والكلام بنا.
ومن هؤلاء ممن عاصر العسكريين الإمام علي الهادي وابنه الحسن (عليهما السلام) وكان خصيصاً بهما(٦) وكبير المنزلة عندهما وروى عنهما. ومع هذا الاختصاص بالإمامين (عليه السلام)، كان نديماً للمتوكل العباسي، وجليسه في مجلسه الخاص، ومحدثه حيث كان النديم، آنئذٍ، أشبه بمؤسسة ثقافية لديه من تاريخ العرب والإسلام، والقصص والأحكام، والطرائف والمِلَح، ما يروّح به عن الحاكم.
ويحتمل العلامة المامقاني في رجاله أن يكون ذلك العمل (منادمة المتوكل) كان برضا الإمام الهادي (عليه السلام)، إن لم يكن بتوجيهه..
وأرى أن احتمال المامقاني ذلك ليس بعيداً، فكم شهدنا من هؤلاء الرجال ممن هم بأبواب الظلمة لأجل قضاء حوائج العباد، كداود بن زربي، وعلي بن يقطين وأمثالهم وكانوا يستطيعون رصد التوجه الموجود لدى الحاكم، فيخبرون به أئمة أهل البيت، لكي ينجو أتباعهم.
ويؤيد هذا الأمر ما ينقل من أن المتوكل ربما أحس بتوجهات أحمد بن حمدون نديمه، وباختصاصه بالإمام الهادي، خصوصاً مع الرقابة الشديدة المفروضة على الإمام، فتغيّر على نديمه، وأمر بنفيه إلى تكريت، ثم أرسل حاجبه زرافة لكي يقطع أذن أحمد في منفاه(٧)، عقاباً له، ولماذا الأذن؟! هل هي لأجل أنه سمع ما سمع ونقل ذلك إلى الإمام؟ أم هو تنكيل حقد؟!
له من الكتب:
١ - أسماء الجبال والمياه والأودية
 ٢ - كتاب بني مرة بن عوف.
 ٣ - كتاب بني نمر بن قاسط.
 ٤ - كتاب بني عقيل.
 ٥ - كتاب طي
 ٦ - كتاب شعر العجير السلولي
 ٧ - كتاب شعر ثابت بن قطنة
 ٨ - نوادر الإعراب.
٥ - سعد بن عبد الله الأشعري
توفي سنة ٣٥٥ هـ
سعد بن عبد الله الأشعري القمي جليل القدر، واسع الأخبار، كثير التصانيف، ثقة(٨).
وكان من علماء الطائفة، وخير نموذج لهم، فهو يسمع الأقوال ويتبع أحسنها. ومثال الانفتاح على المذاهب الفقهية والمدارس الفكرية الأخرى. فإذا كانت طريقة المذاهب الأخرى، وضع (فيتو) على فكر من يخالفها، وعدم قبول أشخاصهم، حتى لو كان بمستوى الرواية للخبر، كما فعل مثلاً البخاري في صحيحه حيث لم يقبل روايات الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن جده الرسول بينما قبل رواية مثل عمران بن حطان الخارجي، الذي يمدح عبد الرحمن بن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ويمدح ضربته تلك قائلا: بأنه ما أراد بها إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضواناً وينقل عن المذمومين والضعفاء، بل حتى الملعونين بأسمائهم على لسان رسول الله..
وهكذا عندما يأتي الذهبي إلى ترجمة الأعمش سليمان بن مهران، أو الحافظ بن عقدة، أو زرارة بن أعين، يلخص رأيه فيهم من خلال موقفه المذهبي، ومع اعترافه بصدقهم وعدالتهم وضبطهم، إلاّ أنه لا ينسى أن يذيّل ذلك، بما يصيب الحشويين والنواصب بالزكام، فيقول: إنه يترفض!! أو يتشيع..!!.
في المقابل كانت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، تنتهج حتى مع مخالفيها في المذهب والعقيدة، إذا كانوا صادقين وثقاة، على أساس قاعدة " خذوا ما رووا وذروا ما رأوا "، أي انظروا إلى الأحاديث والأخبار التي نقلوها، ولا تقلدوهم في تفسيرهم الخاطئ لها أو لغيرها.. وهذا - لَعمري - قمة التكامل واحترام العلم.
أما أن يعيش العالم في شرنقة مذهبية يصنعها لنفسه، ولا يحاول الخروج منها حتى للاطلاع على ما حوله، فهو الجهل المركب الذي يهوي بصاحبه إلى دركات الضلال.
إن من مميزات مدرسة أهل البيت أنها تنفتح على كل فكر ورأي، عن غير خشية على الذات، لأن الرأي الجديد إما أن يكون منسجماً مع القيم الدينية والقواعد الأساسية التي تقوم عليها هذه المدرسة، فما المانع من الاستفادة منه؟! وأما أن يكون مخالفاً لتلك القيم، فهي تمتلك من قوة الدليل، وسلامة الرأي ما يمكنها من مواجهته.. ولذلك وجدنا أن الزنادقة لم ينتهوا بفعل سيف (صاحب الزنادقة) الذي أنشأه المهدي العباسي، إذ السيف لا يستطيع القضاء على الفكر، حتى الخاطئ منه، وإنما انتهت حركتهم لما واجهها أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وتلاميذهم فكرياً، وعقائدياً، فلم يستطيعوا الوقوف في الميدان.
ومن النماذج التي مثلت هذا الجانب كان مترجمنا أبو القاسم سعد بن عبد الله القمي، فقد سمع من العامة شيئاً كثيراً، وسافر في طلب الحديث، ولقي وجوه العامة في عصره وأخذ عنهم، وكان شيخ الطائفة وفقيهها ووجهها(٩)في قم.
كما أنه يعتبر من الرواة المكثرين عن أهل البيت (عليهم السلام)، فقد جاء اسمه في عدد كبير من الروايات تبلغ ألفاً ومائة واثنين وأربعين مورداً(١٠). هذا فيما يرتبط بالروايات الفقهية والفروع، فضلاً عن الموارد الأخرى الكثيرة في التاريخ، والأخلاق، والعقائد، والقران الكريم. خلّف من الكتب ما أصبح مصدراً للموسوعات الحديثية الموجودة بين أيدينا، فقد نقل العلامة المجلسي في بحار الأنوار، في مواضع كثيرة، مقاطع مفصلة من كتبه فله من الكتب:
١ - كتاب الرحمة، ويشتمل على كتاب الطهارة - الصلاة - الصوم - الزكا ة - الحج.
٢ - كتاب جوامع الحجج.
٣ - كتاب الضياء في الإمامة.
٤ - كتاب مقالات الإمامية.
٥ - كتاب مناقب رواة الحديث ومثالب رواة الحديث.
٦ - كتاب فضل قم والكوفة.
٧ - كتاب فضل أبي طالب وعبد المطلب وعبد الله (والد النبي).
٨ - كتاب بصائر الدرجات (وهو مطبوع ٤ مجلدات).
٩ - كتاب المنتخبات.
١٠ - كتاب فرق الشيعة.
١١ - كتاب الرد على الغلاة.
١٢ - كتاب ناسخ القران ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه.
١٣ - كتاب فضل الذكر والدعاء.
١٤ - كتاب المتعة.
١٥ - كتاب قيام الليل.
١٦ - كتاب الرد على المجبرة.
١٧ - كتاب فضل النبي.
١٨ - كتاب الاستطاعة.
١٩ - كتاب المزار.
٢٠ - كتاب احتجاج الشيعة على زيد بن ثابت في الفرائض.

نساء حول الإمام الهادي (عليه السلام)

١/ سليل أم الإمام العسكري (عليه السلام)
مرة ثانية وثالثة تستوقفنا ظاهرة كون أمهات الأئمة (عليهم السلام) من الجواري أو من يطلق عليهن (أمهات الأولاد)..
وينبغي قبل ذلك أن نشير إلى صورة ذهنية خاطئة، تتبادر إلى ذهن البعض خطأ وهي أن كلمة الجواري أو الإماء تستدعي معنى النساء الزنجيات أو الممتهنات بالخدمة أو ذوي المرتبة الاجتماعية الهابطة.. خصوصا مع امتلاء كتب التراث القصصي في المجتمع العربي بهذه الصور، أو بصور المغنيات من الجواري، واللاتي أعددن للذة الجنسية..
هذه الصور نعتقد أنها صور خاطئة ولا تعكس حقيقة الأمر، بل ربما تستبطن مقدارا عظيما من التعالي والكبرياء العربي، الذي يرى أن العرب هم الأفضل وأن من سواهم لا يصلون إلى مستواهم.. وهو نفسه الأمر الذي جعل المجتمع العربي يتأخر في كثير من المجالات العلمية، لأجل هذه النظرة المتعالية.. حتى في علوم اللغة العربية وجدنا فحولها هم من غير العرب!!
لو نظرنا نظرة فاحصة، لوجدنا أن هؤلاء الجواري واللاتي كن يصبحن كذلك على أثر سبيهن في الحروب، فيهن طائفة عظيمة من ذوي الأحساب والأنساب في مجتمعاتهم، بل إن هؤلاء هم الأكثر تعرضا للسبي، بسبب كونهن عوائل القادة العسكريين أو السياسيين، فعندما تدور الدائرة على الجيش، ويقتل الرجال والزعماء، تتحول النساء بصورة طبيعية إلى أسيرات، وجوار بالتالي، ويصبحن من سهم بعض المسلمين المقاتلين، أو يجدن طريقهن إلى السوق للبيع!
ولهذا فإن النظرة الدونية إلى كل جارية قد بيعت، هي نظرة استعلائية جاهلة ولا تعبر عن واقع.
وإن الخطوة التي أقدم عليها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في استنجابهم أولادهم الأئمة من (أمهات الأولاد) والجواري، لها أهداف متعددة.
فمنها: لزوم إدماج فئة (الموالي) غير العرب، في المجتمع العربي الإسلامي، وكانت الجواري تشكل جزءا غير قليل من مجتمع الموالي (غير العرب).
فمن الثابت عند المحللين الاجتماعيين أن وجود فئة "منعزلة" في مجتمع، وتُعامل فيه باستعلاء، يجعلها بؤرة للنقمة والتمرد، قابلة للتفجر في أقرب مناسبة، وهذا ما نراه أيام حركة (صاحب الزنج) الذي استغوى الأرقاء والموالي والطبقات المهمشة والمهشمة، وما أن أعلن عصيانه وتمرده حتى تبعه الآلاف ونقضوا النظام الاجتماعي في البصرة وما والاها. وسبوا النساء العربيات(١١) حتى لقد كانت المرأة القرشية تباع بحسب ضخامة ساقها كما نقل بعض المؤلفين.
ومن ذلك: ما ذكره بعضهم من الآثار الصحية الناتجة عن تزاوج الأعراق البعيدة، حيث يرث المولود بين عرقين خلاصة صفات القوة لهما، بخلاف التزاوج بين الأقارب حيث ينتج الضعف البدني(١٢)، وتتكرس الأمراض الوراثية.
وإذا علمنا أن تلك النساء (الجواري) كن من مجتمعات أخرى، وفي الغالب كن من فئات اجتماعية متميزة كان يكن أقارب القادة العسكريين أو السياسيين فإنه يجتمع إضافة إلى العامل الصحي، العامل النفسي في تكوين المولود.
 ومنها: ما يذكر من أن التزاوج بين الشعوب، يساهم في الانتصار على العداوات التي تخلقها الحروب والصراعات السياسية، وهو أمر ملحوظ.
ومنها غير ذلك من الأهداف والغايات التي تتنوع في مساحتها وتأثيرها، على مستوى المجتمع الإسلامي تارة، وعلى مستوى الطفل الذي سوف يتخلق في رحم تلك المرأة ثانيا.
ولهذه الأسباب وغيرها كان أن نكح(١٣) الإمام الهادي (عليه السلام) سُليل، وروي أنه قد أثنى عليها وبيّن فضلها فقال: سليل(١٤) مسلولة من الآفات والأرجاس والأنجاس)(١٥).. وذكر أنها من العارفات الصالحات، وولدت الإمام الحسن (العسكري في شهر ربيع الأول سنة ٢٣٠ هـ.
وقد ذكر(١٦) آية الله السيد الشيرازي قدّس سرّه قولا عن الإمام الهادي (عليه السلام) أنه قال: سليل سلت من كل آفة وعاهة، ومن كل رجس ونجاسة، ثم قال: لا تلبثين حتى يعطيك الله عزّ وجلّ حجته على خلقه الذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا).. ولم يذكر مصدر تلك الكلمات، ولم أعثر أنا على مصدرها. وهي تتحد مع الفقرة السابقة المنقولة أيضا عنه (سليل مسلولة من الآفات والأرجاس والأنجاس)..
لكن الفقرة الثانية بناء على صدورها، يمكن استفادة أمور:
منها: أن السيدة سليل والدة الإمام العسكري قد بقيت إلى ولادة الإمام الحجة (عجل الله فرجه) وأن عمرها كان في ذلك الوقت بحدود الخمسة وأربعين عاما تقريبا إذا فرضنا أنها كانت في نكاح الإمام الهادي (عليه السلام) بملك اليمين وعمرها عشرون عاما.
بل يتأكد هذا المعنى من أحاديث أخرى، ففي كمال الدين نقل الشيخ الصدوق رحمه الله ‏ ما حاصله أن السيدة سليل والدة الإمام عندما توفيت كانت قد أمرت أن ‏تدفن في دارها، وفي ذلك تأكيد لإرثها مع حفيدها الإمام الحجة (عجل الله فرجه) ‏من الإمام العسكري (هي زوجته وتنعتق بوفاته، وهو ابنه) وقطع للطريق على ‏مدعي الميراث وهو جعفر المعروف بالكذاب (أخ الإمام العسكري)، فنازع في ‏ذلك ولم يتيسر له الأمر.‏
ويستفاد منها أيضا: أن السيدة سليل ربما تكون قد رأت حفيدها الإمام الحجة (عجل الله فرجه) الشريف، بمقتضى القول السابق (لا تلبثين حتى يعطيك الله حجته على خلقه الذي يملأ الأرض..).
هذا ولكن لم أجد ذكرا لهذه السيدة الفاضلة في تعداد من رأى الحجة المنتظر (عجل الله فرجه) في الفصل الذي عقده العلامة المجلسي رحمه الله في الثاني والخمسين من بحار الأنوار في ذكر من رأى الحجة.. فهل أنه لم يثبت عنده القول السابق أو لسبب آخر؟
٢/ كلثم الكرخية
يتحدث الرجاليون عن كلثم الكرخية بنحو من الاختصار، لا أعلم علّته وجهته، إن لم يكن انعدام المعلومات، خصوصا وأنها راوية من رواة الأحاديث، وفي طبقة أصحاب الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام).
فقد ذكرها شيخ الطائفة الطوسي في كتابه (رجال الطوسي) في باب النساء من أصحاب الإمام الهادي، وتحت رقم متسلسل هو (٥٨١٤) وقال روى عنها عبد الرحمن الشعيري وهو أبو عبد الرحمن أحمد بن داود البغدادي ونقل عنه من تأخر عنه هذا المقدار من التعريف..
وقد ذكرها آية الله الخوئي رحمه الله في كتابه (معجم رجال الحديث)(١٧) فقال ما نصه: كلثم الكرخية: روى عنها عبد الرحمان الشعيري، وهو أبو عبد الرحمان أحمد بن داود البغدادي، من أصحاب الهادي (عليه السلام)، رجال الشيخ. وقال البرقي فيمن روى عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام): كلثم الكرخية، روى عنها أبو عبد الرحمان الشعيري، أبو أحمد بن داود". أقول: الظاهر أن كلمة (أبو) قبل أحمد من غلط النساخ. وقال ابن داود، فصل الكنى من النساء من القسم الاول: " كلثم الكرخية، روى عنها عبد الرحمان الشعيري، وهو أبو عبد الله أحمد بن داود البغدادي ". أقول: لا يبعد أن تكون كلمة (أبو عبد الله) محرفة، والصحيح أبو عبد الرحمان.
ولم يذكر لا شيخ الطائفة رضوان الله عليه ولا السيد الخوئي، الروايات التي روتها عن الإمام الهادي (عليه السلام)، كما أنني بالاستعانة ببرامج البحث في الكتب والموسوعات الحديثية لم أجد مع التتبع، رواية واحدة مروية عنها عن الإمام الهادي..
وكذلك الراوي عنها وهو أحمد بن داود البغدادي أو أبو عبد الرحمن الشعيري، لم أعثر على رواية من طريقه، وعلى أي حال، فإنها كانت قد روت عن الإمام الهادي (عليه السلام) وروى عنها أحمد بن داود.
وهذا يفتح لنا نافذة على الحالة الاجتماعية التي كانت سائدة بين المؤمنين والمؤمنات في تلك الأزمنة، حيث كان تبادل العلم بين المؤمنين من الرجال والنساء ليس كما هو في عصرنا حيث يتصور البعض أن كل خروج للمرأة هو فتنة، وكل اختلاط هو موبقة، وأن صوت المرأة عورة محرمة.. فإننا نجد أن الكثير من النساء كن محدثات وراويات، وكان من يتلقى منهن تارة يكون رجلا وأخرى امرأة، فلم يكن النظر إلى المرأة بما هي أنثى تشتهى، أو إلى الرجل بما هو (فحل ضراب)!
وصل الحال بمجتمعنا إلى أن عدّ كل ما يرتبط بالمرأة - أي امرأة - يدخل في خانة الإثارة حتما، فإذا تكلمت كان ذلك الكلام ريبة وشهوة وإثارة.. إلى آخر القائمة.. هذا مع أننا لا نجد في الأدلة الشرعية - بغض النظر عن الحالات الاجتماعية والعادات المتوارثة - شيئا مما ذكر: فصوت المرأة ليس بعورة محرمة مع أن هذه الفكرة منتشرة ومشهورة بين الناس إلا أنها لا نصيب لها من الصحة.
قد قرر علماؤنا(١٨) هذا الأمر اعتمادا على جملة من الأدلة، بعدما لم يكن دليل صالح للقول بأنه عورة فلم أعثر على خبر عن أهل البيت (عليهم السلام) بهذا النص ولو كان ضعيفا(١٩).
كذلك فإن سيرة المعصومين (عليهم السلام) قاضية بأنهم كانوا يستقبلون النساء السائلات عن المسائل الدينية من غير إنكار منهم عليهن ومن غير ضرورة تلجؤهن مثلما أشارت إليه رواية أبي بصير قال: كنت جالسا عند أبى عبد الله (عليه السلام) إذ دخلت علينا أم خالد التي كان قطعها يوسف بن عمر تستأذن عليه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أيسرك أن تسمع كلامها؟ قال: فقلت: نعم، قال: فأذن لها قال: وأجلسني معه على الطنفسة قال: ثم دخلت فتكلمت فإذا هي امرأة بليغة فسألته.. إلى آخر الحديث(٢٠).
فأنت ترى أن الإمام (عليه السلام) قد استمع إليها، وعرض على أبي بصير الاستماع إلى حديثها..
كما دلت على سماع أصوات النساء من قبل المعصومين (عليهم السلام) صحيحة ربعي بن عبد الله عن الصادق (عليه السلام) (كان رسول الله يسلم - أي يلقي التحية - على النساء ويرددن عليه وكان أمير المؤمنين يسلم على النساء وكان يكره أن يسلم على الشابة منهن ويقول أتخوف أن يعجبني صوتها فيدخل علي أكثر مما طلبت من الأجر)(٢١). والرواية ظاهرة في أن الأمر لم يكن نادرا بل كان كثيرا. وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد فرض أنه يوجد أجر في إلقاء السلام عليها، لكن مع (إعجاب) الرجل البادئ بالسلام وتلذذه بجوابها قد يدخل عليه (من الحزازة) أكثر مما طلب من الأجر.. ولا شك أن هذا هو للتعليم وإلفات السامعين أنه لو لزم من السلام واستماع الجواب تلذذ فإنه ينبغي أن يترك.
فلو اعترض على الاستدلال بما قامت به الصديقة الزهراء (عليها السلام) من خطبتها في المسجد بمسمع من الحاضرين، أو ما قامت به العقيلة زينب وبنات الحسين في الكوفة والشام بمحضر من الإمام زين العابدين وعدم اعتراضه من الخطابة أمام الناس.. لو اعترض على ذلك بأن ضرورة نصرة الإسلام تبيح ذلك، فإن الروايات المتقدمة، فيها ما يظهر منه صريحا عدم الاضطرار(٢٢).
كما أشار الفقهاء إلى أن الممنوع من صوت النساء هو (الخضوع في القول) وذلك لما يعقبه من (طمع من في قلبه مرض) فليس استماع صوت النساء مطلقا غير جائز وإنما حصة منه هي التي فيها خضوع في القول وترقيق وإثارة.(٢٣) وأما مجرد خروج صوت المرأة وهي تلقي المحاضرة، أو تحدث وتروي أو تقرأ العزاء بحيث يسمعها الرجال الأجانب ليس ممنوعا بحد ذاته أو كما يقول العلماء (في نفسه) وإنما لو لزم منه محذور، بأن كان بكيفية مثيرة للشهوات كما قد يكون في الأغاني وأمثالها.
وهذا الذي سبق ينبغي أن يكون مرشدا في التشديد غير المبرر بأدلة شرعية، والذي نراه في مجتمعاتنا.. فكأن الأمر محصورا في أحد طريقين: إما أن تتميع المرأة وتخضع بالقول (فيطمع الذي في قلبه مرض) أو أن تسكت فلا تتحدث. بينما هناك طريق ثالث هو أن تتحدث وتدرّس وأن تنصح وتبني وأن تروي علما، ولكن كل ذلك في إطار احترام الذات واحترام الآخرين.
كلثم الكرخية(٢٤)، نموذج للمرأة التي تتعلم من الإمام وتعلم غيرها امرأة كان المتعلم أو رجلا.
٣/ فاطمة بنت محمد بن الهيثم
كان الفرح مسيطرا على بيت الإمام علي بن محمد الهادي، لولادة مولود جديد في هذا البيت الذي آلى العباسيون على إفنائه، وقتلهم سماً وسجناً وصبراً. وكان من الطبيعي أن ينقل الخبر إلى والد المولود، فإن ولادة ولد جديد في هذا البيت يعني غالبا وجود عالم يُعتمد عليه، وتشد الركائب إليه..
وسارعت فاطمة بنت محمد بن الهيثم، لتحمل البشارة إلى الإمام (عليه السلام) ولتأخذ منه هدية البشرى، والخبر الجيد.. لنتركها تتحدث:
كنت في دار أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليه السلام) في الوقت الذي ولد فيه جعفر فرأيت أهل الدار قد سُروا به، فصرت إلى أبي الحسن (عليه السلام) فلم أره مسرورا بذلك.
 فقلت له: يا سيدي مالي أراك غير مسرور بهذا المولود؟
فقال (عليه السلام): يهون عليك أمره، فانه سيضل خلقا كثيرا.
وكان في ذلك الخبر المستقبلي للإمام (عليه السلام) قراءة مفصلة عن طريقة حياة وممارسات جعفر ابنه الذي عرف فيما بعد باسم (جعفر الكذاب). وحيث أن الموضوع يكتسب أهمية قصوى، من خلال دروسه التربوية، وجهته التاريخية إذ يرى البعض أنه تاب بعد ذلك، وسموه بـ (جعفر التواب)، سوف نتعرض بنحو من البسط لهذا الموضوع.
وفي البداية نشير إلى أن القرآن الكريم قد تطرق في آيات كثيرة إلى دروس ترتبط بنمط العلاقة بين الوالد والولد، وعموما بين الأقارب، ويتبين من ملاحظتها ما يلي:
١/ أن القرابة ليست عاملا حتميا في صلاح أحد، مهما كان المتقرب به، ومهما كانت درجة تلك القرابة.. فقد يكون المتقرب به نبيا ويكون القريب كافرا كما هو الحال في قضية نوح وابنه(٢٥)، وهكذا نوع العلاقة سواء كانت نسبية كما ذكر أو سببية (زواج) كما في امرأة نوح وامرأة لوط(٢٦).. نعم المتوقع هو أن يصلح هذا القريب وأن يتأثر إيجابيا بطريق من يتقرب به، حيث أن الظروف تكون بالنسبة له أفضل من غيره، ولهذا ربما كان عقابه أكثر(٢٧) مع الانحراف كما أنه مع الاستجابة يكون له فضل مضاعف.
٢/ إنه لا يعيب الصالحَ (نبيا كان أو إماما أو من عامة الناس) أن يكون ابنه طالحا بل كافرا.. كما أنه لا يضره - في ميزان الثواب والعقاب - أن يكون أبوه(٢٨) كذلك، وذلك لأنه (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)(٢٩). ولهذا نحن لا نحتاج - كما يفعل بعضهم - إلى تجشم عناء الدفاع عن ابن نوح أو أبناء يعقوب في أول أمرهم أو عن جعفر الكذاب، ونثبت لهذا أو ذاك توبة لم تثبت! فلا يضير النبي أو الإمام أن يكون ابنه سيئا! بل ربما كان ذلك من جملة الامتحانات التي يتعرض لها المؤمن فينبغي أن يعرف كيف يتعامل معه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٣٠).
٣/ إن الموقف تجاه المنحرف القريب ينبغي أن يكون خاضعا للمقاييس الدينية، ولعل إيراد قصص الزوجات المخالفات للأنبياء، والأبناء المنحرفين عن الهدى هو من أجل تشكيل الموقف الصحيح لدى المؤمن لو ابتلي بذلك، فأنت (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٣١).
وهذه ليست دعوة للحرب في ساحة العائلات، فقد أمر الله في موضع آخر بالمعاشرة الحسنة (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٢).
وجعفر المعروف بالكذاب كان نموذجا للانحراف في الأسرة العلوية، وقد تم التحذير منه قبل ولادته، وفي هذا الإخبار مع تحققه دلالة على اتصال أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالغيب وإخبار الله لهم بذلك، فقد ورد في باب علة تسمية الإمام جعفر بن محمد بالصادق (عليه السلام) أن هناك شخصا آخر سيسمى جعفر وهو الكذاب،: فقد روى الشيخ الصدوق بسنده عن أبي خالد الكابلي أنه سأل الإمام زين العابدين (عليه السلام): قلت له: يا سيدي روي لنا عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): أن الأرض لا تخلو من حجة لله عزّ وجلّ على عباده، فمن الحجة والإمام بعدك؟ قال: ابني محمد، واسمه في التوراة باقر، يبقر العلم بقرا، هو الحجة والإمام بعدي، ومن بعد محمد ابنه جعفر، واسمه عند أهل السماء الصادق، فقلت له: يا سيدي فكيف صار اسمه الصادق وكلكم صادقون، قال: حدثني أبي، عن أبيه (عليهما السلام) أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فسموه الصادق، فإن للخامس من ولده ولدا اسمه جعفر يدعي الإمامة اجتراءً على الله وكذبا عليه فهو عند الله جعفر الكذاب المفتري على الله عزّ وجلّ، والمدعي لما ليس له بأهل، المخالف على أبيه والحاسد لأخيه، ذلك الذي يروم كشف ستر الله عند غيبة ولي الله عزّ وجلّ، ثم بكى علي بن الحسين (عليهما السلام) بكاء شديدا، ثم قال: كأني بجعفر الكذاب وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر ولي الله، والمغيب في حفظ الله والتوكيل بحرم أبيه جهلا منه بولادته، وحرصا منه على قتله إن ظفر به، طمعا في ميراثه حتى يأخذه بغير حقه. قال أبو خالد: فقلت له: يا ابن رسول الله وإن ذلك لكائن، فقال: إي وربي إن ذلك لمكتوب عندنا في الصحيفة التي فيها ذكر المحن التي تجري علينا بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)(٣٣).
فأنت ترى أن الرسول قد أخبر عنه كما في الرواية، وأمير المؤمنين وزين العابدين وهذا قبل ولادته بأكثر من قرنين(٣٤).
وكانت فترة شبابه قد اشتهر فيها بالفساد والانحراف، عند من يعرفه من الناس وإلى ذلك يشير ما ورد في التوقيع المروي عن صاحب الزمان (عجل الله فرجه) كما ذكره شيخ الطائفة الطوسي بسنده قال:
حدثنا الشيخ الصدوق أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري رحمه الله، أنه جاءه بعض أصحابنا يعلمه أن جعفر بن علي كتب إليه كتابا يعرفه فيه نفسه، ويعلمه أنه القيم بعد أخيه، وأن عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه، وغير ذلك من العلوم كلها. (قال أحمد بن إسحاق) فلما قرأت الكتاب كتبت إلى صاحب الزمان (عليه السلام) وصيرت كتاب جعفر في درجه، فخرج الجواب إلي في ذلك: (بسم الله الرحمن الرحيم أتاني كتابك أبقاك الله، والكتاب الذي أنفذته درجه وأحاطت معرفتي بجميع ما تضمنه على اختلاف ألفاظه، وتكرر الخطأ فيه... إلى أن قال: وقد ادعى هذا المبطل المفتري على الله الكذب بما ادعاه، فلا أدري بأية حالة هي له رجاء أن يتم دعواه، أبفقه في دين الله؟ فو الله ما يعرف حلالا من حرام ولا يفرق بين خطأ وصواب، أم بعلم؟ فما يعلم حقا من باطل، ولا محكما من متشابه، ولا يعرف حد الصلاة ووقتها. أم بورع؟ فالله شهيد على تركه الصلاة الفرض أربعين يوما، يزعم ذلك لطلب الشعوذة، ولعل خبره قد تأدى إليكم، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة، وآثار عصيانه لله عزّ وجلّ مشهورة قائمة. أم بآية؟ فليأت بها، أم بحجة. فليقمها، أم بدلالة فليذكرها..)(٣٥).
وكان رجال السلطة يعرفون منه ذلك أيضا ويستفيدون منه لمصالحهم، ويوصف في مجالسهم بالتهتك والفساد، كما ذكره أحمد بن عبيد الله بن خاقان، في مجلسه، فقد كان يتحدث بالإكبار والإعجاب عن الإمام الحسن العسكري:
فقال له بعض أهل المجلس من الأشعريين: يا أبا بكر فما خبر أخيه جعفر؟
فقال: ومن جعفر فيسأل عن خبره أو يقرن به، إن جعفرا معلن بالفسق، ماجن، شريب للخمور، وأقل من رأيته من الرجال وأهتكهم لستره، فدمٌ (أي أحمق عيي) خمار، قليل في نفسه، خفيف، والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي ما تعجبت منه وما ظننت أنه يكون(٣٦).. ثم ذكر خبر إغارته مع جنود الخليفة على بيت أخيه، ومحاولته القبض على ابن أخيه الإمام المنتظر، وتفتيش جواري أخيه، وتوكيل نساء بمراقبتهن..
بل لقد ورد أنه باع واحدة من الهاشميات على أنها أمة وجارية(٣٧)!! وذلك بعد أن فرت عدة جوارٍ خوفا منه!!
ثم لم يكتف بذلك بل حاول الاستعانة بالسلطة لجعله (إماما)!! على الناس، وحيث رأت السلطة أنه لا يمكن ذلك لشهرته السيئة لم تستجب له، فقد حمل جعفر الكذاب إلى الخليفة عشرين ألف دينار لما توفي الحسن بن علي (عليهما السلام) وقال: يا أمير المؤمنين تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته!.
فقال الخليفة: اعلم أن منزلة أخيك لم تكن بنا إنما كانت بالله عزّ وجلّ ونحن كنا نجتهد في حط منزلته والوضع منه، وكان الله عزّ وجلّ يأبى إلا أن يزيده كل يوم رفعة لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة، فان كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك لم نغن عنك في ذلك شيئا(٣٨).
ولهذا لا يمكن أن يُصغى إلى ما قيل من توبته، فلا شاهد عليها فضلا عن الدليل وما تمحله بعضهم من أن هناك تصريحا بتوبته قد رواه الكليني في الكافي فهو على ضد التوبة أدل وأصرح.. ولولا خوف الإطالة، وقد طال بنا المقام لبسطنا الكلام، لكن على سبيل الاختصار نقول: أنه ذكر بعضهم أن الإمام الحجة (عجل الله فرجه) قد صدر منه توقيع جاء فيه:
أما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا، فاعلم أنه ليس بين الله عزّ وجلّ وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح (عليه السلام). أما سبيل عمي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف (عليه السلام)(٣٩).
وقد استفاد بعضهم من ذلك أنه قد غفر له، وأنه قد تاب كما تاب إخوة يوسف وأنه لا تثريب عليه كما لم يكن عليهم تثريب!!
لكن هذا المعنى لا يستفاد أبدا فإن بداية الحديث والقاعدة التي جعلها في المقدمة أنه ليس بين الله عزّ وجلّ وبين أحد قرابة لا تنسجم مع هذا.. وقوله أما سبيل عمي وولده، فهو تفسير لما جرى وأن جعفرا قد حمله الحسد على الإضرار بابن أخيه كما حمل إخوة يوسف.
على أنه في موارد أخرى تم تشبيه جعفر بالنسبة لأبيه الهادي كنسبة ابن نوح لأبيه، وبالنسبة للإمام الحجة بأنه مثل قابيل لهابيل، وأنه لو استطاع أن يقتل الإمام لم يتوقف(٤٠).
ووصفه الإمام زين العابدين (عليه السلام) بما يوضح نمط العلاقة بينه وبين أبيه وأخيه وابن أخيه عندما قال: (المخالف على أبيه والحاسد لأخيه) وهذه توضح معنى سبيل إخوة يوسف حيث حسدوه وكادوا له.. ويؤيده بعد ذلك قوله (عليه السلام) (..حرصا منه على قتله)!! ولا شك أن هذا الحرص كان مستمرا مادام الحجة موجودا وإلى أن مات جعفر في سنة ٢٨١ هـ.
وفيصل القول ما نقلته فاطمة بنت الحسن بن الهيثم، عندما رأت الإمام الهادي (عليه السلام) غير مسرور بولادته مع أن الاستبشار في ذلك الموضع هو الطبيعي، فسألته فلخص لها، أن أمره هين ولا يستحق الفرح والسرور، بل سيضل به خلق كثير ممن لم يعرف سبيل الإمامة!!
٤/ فاطمة بنت هارون بن موسى بن الفرات
تميز شيعة أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم قد بدأوا في تدوين الأحاديث والروايات منذ وقت مبكر، خلافا لغيرهم من الفرق والطوائف الإسلامية الذين امتنعوا عن الكتابة والتدوين بناء على النهي الصادر من الخلافة الرسمية.
بل ذكر بعض المحققين أن الأمر بدأ مع الخليفة الأول حيث كتب خمسمائة حديث عن رسول الله ثم أحرقها، وفعل نفس الفعل الخليفة الثاني عندما بدا له أن يكتب السنة ثم تغير رأيه، وكتب في الأمصار أن من كان عنده شيء منها فليمحه(٤١)! ثم إنه بلغه أنه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيها الناس، إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقين أحد عنده كتابا إلا أتاني به، فأرى فيه رأيي. قال: فظنوا أنه يريد ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم، فأحرقها بالنار(٤٢).
ولهذا فقد ترك غالب صحابة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أمر التدوين والكتابة للحديث النبوي، وانصرفوا عنها، ولعل أول المحاولات الرسمية التي سجلت في تدوين السنة النبوية الشريفة، هي في أيام الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز.
في الطرف المقابل كان شيعة أهل البيت وبتوجيه من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأئمتهم (عليهم السلام) يصرون على كتابة الحديث، ويدونونه:
فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): قيدوا العلم بالكتاب.
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلم): قيدوا العلم، قيل: وما تقييده؟ قال: كتابته
وأيضا عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم): اكتبوا العلم قبل ذهاب العلماء، وإنما ذهاب العلم بموت العلماء.
وعن الإمام الحسن (عليه السلام): - لما دعا بنيه وبني أخيه -: إنكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): اكتبوا فإنكم لا تحفظون إلا بالكتاب
وعنه (عليه السلام) - لأبي بصير -: دخل علي أناس من أهل البصرة فسألوني عن أحاديث وكتبوها، فما يمنعكم من الكتاب؟!. أما إنكم لن تحفظوا حتى تكتبوا.
وعنه (عليه السلام): القلب يتكل على الكتابة.
كما كان هناك ترغيب وحث على التأليف والكتابة، فقد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيامة سترا فيما بينه وبين النار، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات.
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلم): من كتب عني علما أو حديثا لم يزل يكتب له الأجر ما بقي ذلك العلم(٤٣).ونظرا لهذا كان اهتمام شيعة آل البيت (عليهم السلام) بالتأليف والتصنيف والكتابة، وازداد الأمر في أيام الصادقين (عليهما السلام)، حيث انبعث تلامذتهما للكتابة والتدوين لكل ما سمعوه منهما من علم ومعرفة.
وقام بعض أولئك المؤلفين بعرض إنتاجهم التأليفي على الأئمة (عليهم السلام)، الذين أمضوا ما ألفه أولئك وأثنوا على خطواتهم في حفظ العلم والمعرفة.
ومن هؤلاء عبيد الله الحلبي الذي ألف كتابا عده بعض الرجاليين أول كتاب صنفه الشيعة، وعرضه على أبي عبد الله (عليه السلام)، فصححه وقال - عند قراءته -: أترى لهؤلاء مثل هذا "؟ أي هل يوجد عند غير الشيعة مثله؟ وهو يدل على منزلة الكتاب وصاحبه عند الإمام (عليه السلام). وقد كان كتاب الحلبي مشهورا، حتى كان غيره يُعرَّف به، فقد نجد في ترجمة محمد بن عبد الله الصفار في رجال النجاشي أن له نسخة كتاب تشبه كتاب الحلبي؛ مبوبة كبيرة.
ثم تمت رعاية تلك الكتب والأصول، وتناقلها يدا بيد مع رواية اللاحق عن السابق، ومقابلتها مع ما قاله الراوي السابق. واجتمعت تلك الأصول في فترة متأخرة - باسم الأصول الأربعمائة - في يد المحدثين الكبار أصحاب الموسوعات الحديثية، وكانت قد وصلت إليهم في الغالب بطرق معتبرة، وقام هؤلاء بتنظيمها وتبويبها على أساس المواضيع غالبا، فقلت الحاجة إلى تلك الأصول، وتم التخلي عنها، مع أنها كانت موجودة - أو أكثرها - إلى وقت متأخر(٤٤)..
وممن روى كتاب عبيد الله بن علي الحلبي، المرأة الفاضلة فاطمة بنت هارون بن موسى بن الفرات التي روت الكتاب عن جدها موسى بن الفرات، والذي روى الكتاب بدوره عن محمد بن أبي عمير، وقد ذكر الشيخ الطوسي ذلك في رجاله: في ترجمة فاطمة بنت هارون في باب النساء، وعدها فيمن لم يرو عنهم (عليهم السلام).
وهي وإن لم تروِ عنهم مباشرة إلا أنها بروايتها لكتاب الحلبي المذكور دخلت في جملة الرواة الحافظين لتراث الأئمة (عليهم السلام).
ومع الأسف أنا لا نجد ترجمة كافية لهذه المرأة الفاضلة إلا أن روايتها للكتاب المذكور عن جدها يبين جانبا من اهتماماتها وتوجهاتها..
جدير بالذكر أن والدها هارون بن موسى بن الفرات كان له مكاتبة مع وكيل صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه)، كما كان قد طلب - في رسالة للإمام المنتظر الدعاء في فكاك ابني أخيه، وكانا معتقلين لدى أجهزة الدولة. فكتب بأصابعه على ورق - من دون أن يكون هناك دواة أو ما يكتب به - في ذلك، فجاءه الجواب بإسمهما وأنه (عليه السلام) يدعو لهما!!
٥/ أمامة بنت محمد بن علي الجواد (عليه السلام)
تآخى العناء والغربة مع حياة أهل البيت (عليهم السلام) منذ أن اختار هؤلاء نصرة دين الله تعالى، ومنذ أن أجاب أمير المؤمنين (عليه السلام) نداء رسول الله في يوم الدار: أيكم يؤازرني على هذا الأمر؟ فلبى الوصي نداء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعندها كان ينبغي أن يدفع - وولده - ثمن ذلك..
ونقدوا الرسالةَ والشريعة ثمن ذلك، وأعطوا من أنفسهم ما بخل به غيرهم!! ولم يخلُ زمانٌ من صور (الشهادة) على ذلك العطاء السخي.
بعض تلك الصور هي لوحات دماء قانية لونت أراضي المعارك، بدءا من بدر وأحد ومرورا بكربلاء وباخمرى وفخ(٤٥)، وبعضها كان بلون الحديد الذي صدئ على سيقان وأذرع العلويين، ولم تصدأ عزائمهم!!
وتشظت مقابرهم تباعدا وافتراقا، بعدما (شطت بهم غربة النوى)، فتلك (مشاهدهم) شاهدة على حالهم مع الغربة، والغربة معهم! فهاهم:

بعض بطيبة مدفون وبعضهم * * * بكربلاء وبعض بالغريين
وأرض طوس وسامرا وقد ضمنت * * * بغداد بدرين حلاّ وسط قبرين

وبقدر ما كان ذلك الثمن الباهظ مكلفا ومجهدا، كان نافعا ومفيدا، فقد أنبت هؤلاء في كل أرض وصلوها غراس معرفة وجهاد، وغرسوا في كل بقعة بذور رسالة ونشاط، حتى (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)(٤٦).
فكان أن صارت قم، تلك القرية البعيدة عن المعرفة والعلم، والتي لا ماؤها يحلو ولا هواؤها، وليس لها من مقومات البلد المهم شيء يذكر.. صارت قبلة الراغبين في العلم والمعرفة، وملقى عصا الترحال لجموع الأشعريين اليمانيين الذين أتعبهم التطواف بحثا عن ما يستقر به النوى..
كانت هجرة - بل هجرات أهل البيت (عليهم السلام) - رجالا ونساء، تلك الهجرات القسرية منها - وما أكثرها - والاختيارية، بوابة فتوح علمية، وانتصارات دعوية ورسالية، وتحولت أماكن من عداء أهل البيت (عليهم السلام) إلى موالية لهم، وشعوب من منحرفة عنهم إلى منحرفة إليهم!!
إن الغزو - كل الغزو - ليس في أن تحمل السلاح، وتحتل أرضا حتى إذا غابت عنها سلطة السلاح عادت إلى ما كانت عليه، أو بقيت على ما اعتادت عليه حين تأمن حد السيف.. ولكن الغزو هو في تغيير الثقافات، وتبديل الأنماط السلوكية، وإحلال قيم جديدة في المجتمع يتربى عليها الجيل بالتدريج، حتى يمسي بصبغة جديدة، ويحمل أهدافا متميزة..
لقد كانت مرة من المرات القليلة التي نظر فيها هارون الرشيد إلى الواقع بعين الفاحص الصادق، فقال مبينا هذه الحقيقة: أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر!(٤٧).. بينما كان أئمة أهل البيت، أئمة القلوب والضمائر.
وهكذا تحولت بليدة قم، إلى موضع للموالين لأهل البيت (عليهم السلام)، ومحل لتلقي علوم محمد وآل محمد، وهكذا احتضنت رفات الذين هاجروا إليها وعاشوا فيها حتى صارت (قم المقدسة) (عش آل محمد)!
كان ممن انتقلوا إلى (قم) عدد من أولاد الإمام الجواد (عليه السلام)، كان منهم زينب بانية المشهد المعصومي، ومجددة عمارته.. وكانت أختها أيضا أمامة.
وثمة أمر يستوقف الناظر للتأمل قليلا، وهو أن الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام) والذي لم يرزق بنسل من أم الفضل بنت المأمون مع حرصها وحرص المأمون على ذلك بينما رزق من غيرها الولد والبنات.. وفي هذا مجال عبرة لمعتبر..
الإمام الجواد رزق بعدة من البنات، وكل واحدة من تلكم البنات كانت في مستوى عظيم من الإنتاج والشخصية المتميزة.. فلو تتبعت شخصية السيدة حكيمة ابنته والتي سيأتي الحديث عنها، ورأيت هذه الشخصية الفاضلة علما، والمدبرة للأمور في وقت كانت السلطة العباسية تسعى - جهدها - لاستئصال الوضع الشيعي.
أو تتبعت حياة بانية المشهد، ومجددته بعدما كاد يندثر أو يضيق بأهله، وقد ذكرنا عنها شيئا مختصرا..
أو هذه المرأة الصالحة التي هاجرت إلى تلك الديار لكي تبدأ فيها مشوار التعليم ونشر الفكر الإمامي. لوجدت من العظمة لوحات قد رسمتها أنامل تلك السيدات الطاهرات، وأن المجد لم يكن (ذكوريا) فقط.
أمامة (أو ميمونة) والأول هو الأكثر، واحدة من نساء أهل البيت الذين اقترنوا مع الغربة، امرأة هاجرت بدينها، ولدينها وختمت حياتها في أرض قم التي صارت بوجود هذه المراقد والقبور (مقدسة).

موجز عن حياة الإمام الحسن بن علي (عليه السلام)

أبو محمد العسكري
٢٣٢ - ٢٦٠ هـ
ولد في ربيع الآخر سنة ٢٣٢ هـ.
تولى الإمامة بعد شهادة والده الإمام علي الهادي (عليه السلام) في سنة ٢٤٥ هـ.
شهد عصره ألوانا من الكبت السياسي والفكري مارسها الحكام العباسيون ضده وضد أتباعه من شيعة أهل البيت (عليهم السلام). وبقدر ما كان هؤلاء الحكام قساة في حق المؤمنين كانوا ضعفاء أمام الجنود الأتراك وقادتهم، حيث كان هؤلاء القادة يتصرفون كما يشاءون ويعزلون الخليفة متى يريدون.
كان من حكام عصره المعتز بن المتوكل الذي تنازل له المستعين عن الخلافة، ثم قام بقتل المستعين وتولى الحكم سنة ٢٥٢ هـ، وكثرت الاضطرابات في عهده ثم خلع سنة ٢٥٥ هـ حيث ضرب بالسهام وكان يلطم أمام الناس، ثم منع من الطعام والشراب حتى هلك..
وأيضا منهم المهتدي بن الواثق بن المعتصم الذي بويع سنة ٢٥٥ هـ وخلع سنة ٢٥٦ وكان يتهدد أتباع الأئمة بالتصفية، وقتل سنة خلعه على يد الأتراك.
ومنهم المعتمد العباسي الذي بويع له سنة ٢٥٦ وبقي مدة عشرين سنة.
سُجن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) خلال هذه المدة ثلاث مرات في عهود الخلفاء الثلاثة، وكان يهدد بالقتل.
كان للإمام العسكري دور متميز في حركة الأمة يتمثل في إعداده الأمة لمرحلة الغيبة، وهو في ذلك كان عليه أن يمارس دورا ذا زاويتين حادتين: - التمويه على الجهاز الحاكم وإخفاء ولادة الإمام المهدي - (عجل الله فرجه)، وكانت المهمة عسيرة إذ جندت السلطة كل أعوانها لمراقبة ورصد ذلك الإمام المنتظر للقضاء عليه. ومن جهة أخرى كان لا بد من التصريح بولادته، بل إظهاره للمقربين من أتباع الإمام ووكلائه. وكانت هاتان - المهمتان تتعارضان فالأولى تتطلب أقصى درجات الإخفاء والتقية والثانية تقتضي الإظهار.
كذلك قام الإمام العسكري بتهيئة الأرضية اللازمة، لتعامل المؤمنين مع مرحلة الغيبة والاختفاء حيث سيقدر الله للإمام المهدي أن يختفي عن الأنظار، فلذلك اتخذ الإمام العسكري أسلوب الاحتجاب لفترات، واعتمد أسلوب الإرجاع إلى الوكلاء، لكي تعتاد الأمة على هذين ا لأمرين.
استشهد سنة ٢٦٠، مسموما وعمره ٢٨ سنة. ودفن في سامراء.
١ - داود بن القاسم الجعفري
أبو هاشم
توفي سنة ٢٦١ هـ
"أنت في حزب الله وفي زمرته إذ كنت بالله مؤمنا ولرسوله مصدقا ولأوليائه عارفا ولهم تابعا، فأبشر ثم أبشر".
الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
كان يتنازع شخصيتَه توجهان..
فمن جهة كان وجها اجتماعيا معروفا، ولكي يصبح المرء وجيها لدى الحاكمين، فإن عليه أن يدفع ثمنا من مواقفه وأفكاره، وأحيانا استقلاله. إنه يرى الكثير من الوجوه الاجتماعية وصلوا إلى هذا الموقع ولكن بعد الكثير من التضحية بما يعتقدونه، إذ لا يرض السلطان بغير ذلك ثمنا للقرب منه ومجالسته..
ومن جهة أخرى فهو يرى أن قوة موقعه بما يمثله من رقم أساسي في المجتمع الموالي لأهل البيت، وكذلك فإن فائدة هذه الوجاهة ينبغي أن تكون في الدفاع عن أعضاء ذلك التجمع ومسيرته.. فإذا لم يستفد من شخصيته الاجتماعية المرموقة في إنقاذ هذا المؤمن، ونصرة ذاك الضعيف، والإحسان إلى ذلك الفقير، وأيضا الشفاعة في حوائج المحتاجين... إذا لم يستفد منها في هذه الأمور فما نفع هذه الوجاهة؟! وما قيمتها غير غلاء ما تكلفه من ملابس؟!.
إن الشخصية الاجتماعية هنا، ليبدو بدون هذه الأمور أشبه بعارض ملابس غالية في مسرح السلطان، ويغدو صفرا صغيرا يضاف إلى عشرات الأصفار في بلاطه..
إنه يجد أن هذه الوجاهة تنطلق من موقعه في تجمع أهل البيت ويجب أن تعود إلى نفعه..
وهكذا كان أبو هاشم الجعفري.. الذي ينتهي نسبه إلى الشهيد جعفر (الطيار) ابن أبي طالب، فلا غرابة أن ينحدر هذا الطيب من نسل أولئك الطاهرين، حاملا صفاتهم.. فقد كان(ذا عارضة ولسان لا يبالي ما استقبل به الكبراء وأصحاب السلطان).
فقد دخل على محمد بن طاهر بعد أن قضى هذا على ثورة يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد الشهيد، وقطع رأسه، وبينما كان الكثير من أشباه الناس المصفقة للمنتصر - محقا كان أو مبطلا - يدخلون عليه مهنئين إياه بالفتح!!. دخل عليه أبو هاشم الجعفري. وقال:
- أيها الأمير جئتك مهنئا بما لو كان رسول الله حيا لعزي به.. (أي أنك تناقض منهج الرسول وتقتل ذريته) ثم أكمل كلامه شعرا قارعا:

يا بني طاهر كلوه وبيا * * * إن لحم النبي غير مريّ
إن وتراً يكون طالبه الله * * * لوترٌ بالفوت غير حريّ(٤٨)

وبالطبع فإن السلطات لم تكن لتعطي من يستقبلها بالمعارضة جوائز التقدير وأوسمة التشجيع. لذلك ما مرّت فترة من الزمن حتى استضاف السجن أبا هاشم الجعفري ومعه جماعة من أصحابه، وما إن بقي أياما حتى سجن الإمام الحسن العسكري في نفس السجن، ذلك أن (المهتدي) العباسي، قد ورث من ابائه النصب لأهل البيت، أراد كما قال تصفية الشيعة، وأن يشردهم عن مقاطعتهم، فقال لذلك الغرض باعتقال عدد من كبار شيعة أهل البيت ثم أعقبهم باعتقال سيدهم الإمام العسكري، أراد إطفاء نور الله (ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره).
مساكين هم.. هؤلاء الطغاة..
يتصورون وهم يسيطرون على أربعة أشبار من الأرض، ويملكون أجسام عديد من الجند.. يتصورون أنهم يستطيعون أن يسيطروا على التاريخ!! وأن يغيروا سنن الله في الكون!.
يجلس أبو هاشم إلى جانب الإمام العسكري فيقول له - بمنطق المتوكل على الله، المتصل به -:
- يا أبا هاشم إن هذا الطاغية أراد قتلي في هذه الليلة وقد بتر الله عمره..
ولم يكن أبو هاشم بحاجة للانتظار إلى اليوم الثاني ليتأكد من دقة ما ذكره الإمام، فقد شهد منه الكثير، الكثير مما يدلّ على اتصاله بعالم الغيب.. لقد شهد أن بعض شيعة الإمام كتب إليه (بلغنا أنه - المهتدي - يتهدد شيعتك، ويقول: والله لأجلينهم عن جديد الأرض).
فوقع (عليه السلام) له: إن ذلك أقصر لعمره، عد من يومك هذا خمسة أيام، فإنه يقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف وذل يلحقه..
وبينما بقي نور الله يضيء للسالكين درب عبادته، هلك الطاغية الذي ظن أنه يستطيع أن يغير سنن الله، والتاريخ، فقد نقم الأتراك على (المهتدي) وهجموا عليه بالخناجر، فجرحه أحدهم بخنجر في أوداجه، وانكب عليه فالتقم الجرح والدم يفور منه وأقبل يمص الدم حتى روي منه والتركي سكران، فلما روي من دم المهتدي قام قائما وقد مات المهتدي فقال: يا أصحابنا قد رويت من دم المهتدي كما رويت في هذا اليوم من الخمر!!(٤٩).
لقد تتلمذ أبو هاشم على يد ثلاثة أئمة وتشرف بصحبتهم، الإمام الجواد وابنه الإمام علي الهادي وابنه الحسن العسكري.. وكان في كل يوم يفتح عينه على باب من العلم مغلق، بهداية الإمام له.. لقد وجهه إلى استكناه غوامض نفسه، ومعرفة نعم الله عليه ثم إلى معرفة الواقع الذي يعيش فيه، وإلى المسؤولية الملقاة على عاتقه، لذلك لا غرابة أن نجد أبا هاشم من بين الرواة المكثرين عن الإمامين.
إنه يدخل على الإمام الهادي وقد ألمّت به ضائقة عكرت صفو حياته فيبادره الإمام القول: يا أبا هاشم أي نعم الله عز وجل عليك تريد أن تؤدي شكرها؟!.
فوجم أبو هاشم ولم يدر ما يقول.. فابتدر الإمام قائلا:
- رزقك الإيمان فحرم به بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذل.. وكانت هذه الكلمات خير وصفة علاج واجهه بها مشكلات الحياة بدواء القناعة.
وإذا كان البعد عن سنة الرسول قد تكرس في رأس النظام السياسي الحاكم لأمور المسلمين، فأصبح موقع القيادة الإلهية ألعوبة بيد الغلمان والخصيان يعزلون وينصبون، فقد سرى في كل مناحي الحياة حتى العبادية منها، وبالرغم من أن البدع أصبحت هي القاعدة إلا أن ذلك لا يخرجها عن كونها بدعا.
فقد بدأ الحاكمون منذ أيام معاوية بإنشاء مقاصير في المساجد يصلون فيها، وذلك خوفا من اغتيال الناس لهم، وجرت هذه البدعة في مسيرة خط الخلافة حتى العهد العباسي المتأخر..
يقول أبو هاشم: كنت عند أبي محمد (الحسن العسكري)، فقال: إذا قام القائم هدم المقاصير التي في المساجد، فقلت في نفسي: لأي معنى هذا؟!.
فأقبل علي وقال: معنى هذا أنها محدثة مبتدعة لم يبنها نبي ولا حجة.
إن أبا هاشم الذي أصبح باب الإمام العسكري ووكيله، وعن طريقه تصل أسئلة الكثير من أتباع الإمام، وإليهم يحمل أجوبتها، ليشهد كل يوم علما جديدا، ووعيا بأحكام دينه، ويرى كيف اختصّ الله أهل بيت نبيه، بعلم لم ينله غيرهم، ليس فقط لأن جدهم رسول الله بل - وأيضا - لطبيعة الدور الذي كلفوا بالقيام به في الأمة.
فقد سأل أحدهم الإمام العسكري:
- ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما واحدا ويأخذ الرجل سهمين؟!.
فقال: لأن المرأة ليس لها جهاد ولا نفقة ولا عليها معقلة(٥٠). إنما ذلك على الرجال..
يقول أبو هاشم: فقلت في نفسي: قد كان قيل لي أن ابن أبي العوجاء سأل أبا عبد الله (الصادق) عن هذه المسألة فأجابه بمثل هذا الجواب.
فأقبل علي وقال: نعم هذه مسألة ابن أبي العوجاء والجواب منا واحد إذا كان معنى المسألة واحدا، جرى لآخرنا ما جرى لأولنا، وأولنا وآخرنا في العلم سواء ولرسول الله وأمير المؤمنين فضلهما.
واستمر أبو هاشم ينتهل كل يوم من معين العلم النبوي، والمعارف العلوية ويبلغ ذلك إلى من يحتاجه من طالبي العلم، سواء من خارج التجمع أو من داخله، وكان بما وهبه الله من شجاعة أدبية وما اكتسبه من معرفة دينية يتصدى للأفكار الخاطئة، بالرغم من أن بعضها بسبب صدورها من دوائر قريبة من أهل البيت كانت قادرة على استقطاب عدد من الناس..
فقد ظن هؤلاء أن انتساب الشخص إلى ذرية الرسول أو كونه ابن للمعصوم يجعله إماما بشكل قسري غافلين عن حقيقة أن الإمامة - كالنبوة - أمر إلهي، يتم وفق مصالح قد لا يدركها البشر بالضرورة.. لذلك تصوروا أن إسماعيل ابن الإمام الصادق هو الإمام بعد والده، وبالرغم من نص الإمام وإشاراته الكثيرة إلى ابنه موسى الكاظم، وبالرغم من وفاة إسماعيل في حياة أبيه، إلا أنهم أصروا على ذلك وانشئوا فرقة هي (الإسماعيلية).
ويعالج أبو هاشم الجعفري ذلك في نقاشه مع أحد معتنقي هذه الطريقة بشعره قائلا:

لما انبرى لي سائل لأجيبه * * * موسى أحق بها أم إسماعيل
قلت الدليل معي عليك وما على * * * ما تدعيه للإمام دليل
موسى أطيل له البقاء فحازها * * * إرثا ونصا والرواة تقول
إن الإمام الصادق بن محمد * * * عزي بإسماعيل وهو جديل
وأتى الصلاة عليه يمشي حافيا * * * أفجعفر في وقته معزول؟

كما استمر أبو هاشم بما أوتي من وجاهة اجتماعية، ومنزلة، في دوره قاضيا حوائج إخوانه المؤمنين، متشفعا لهذا، وقائما بأمر ذاك، ذلك أنه كان قد سمع الإمام العسكري يقول: إن في الجنة بابا يقال له - المعروف، لا يدخله إلاّ أهل المعروف.
يقول أبو هاشم: فحمدت الله في نفسي وفرحت بما أتكلف من حوائج الناس فنظر إليّ وقال: نعم فدم على ما أنت عليه فإن أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، جعلك الله منهم يا أبا هاشم ورحمك(٥١).
٢ - أيوب بن نوح بن درّاج النخعي
إن أحببت أن تنظر إلى رجل من أهل الجنة فانظر إلى هذا (وأشار لأيوب بن نوح)
الإمام الحسن العسكري لعمرو بن سعيد المدائني
يلحظ المتتبع للتاريخ الإسلامي أن بعض العوائل والبيوت كانت - في الجملة - وغالبا في خط الفضيلة والتقوى ومارست أدوارا إيجابية في مقاطع مختلفة من حياتها.. وتوارث أبناؤها عن آبائهم وأجدادهم نصرة الحق ومقارعة الباطل..
وهناك عوائل أخرى لم تجنِ سوى الذكر السيء، والسمعة النتنة، لا يذكرون إلا باللعن ولا يقرنون إلا بالإثم، فأبناؤها - على خطى آبائهم - هم المسارعون إلى كل منقصة، والمبادرون إلى كل خطيئة.
ولهذا السبب - ربما - ندب الإسلام إلى الارتباط بأهل البيوت الصالحة لما يفرضه الانتساب إليها من نوع خاص من الأخلاق والعادات المتأصلة.. فهذا أمير المؤمنين على يوصي مالكا الأشتر في عهده المشهور: (وتوخ منهم - العمّال - أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام المتقدمة فإنهم أكرم أخلاقا، وأصح أعراضا، وأقل في المطامع إشراقا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرا..) وفي موضع آخر يوصيه: (ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة..).
وبنو درّاج من هذه العوائل، التي التصقت بأهل البيت، وبرز منهم رجال في هذا الخط الإلهي، فحازوا بذلك شرف الذكر، و(لسان الصدق) في الآخرين، في الدنيا، وهم في الآخرة مع من كانوا في خطهم في الدنيا.
فمنهم جميل بن درّاج - عم أيوب - الذي يعتبر من أبرز أصحاب الإمام الصادق، والكاظم، وممن أجمع الإمامية على تصحيح ما يصح عنهم، فهو في الطبقة العليا من حيث الوثاقة، والفقه (الاجتهاد). بل كان من أصحاب سر الإمام الصادق(٥٢)، وكان شيخ محمد بن أبي عمير وأستاذه، وتلميذ زرارة بن أعين فقد كان يقول له ابن أبي عمير: ما أزين محضرك، وأحسن مجلسك!‍! فقال له جميل: ما كنا حول زرارة إلا بمنزلة الصبيان في الكتاب حول المعلم.
وحين يدخل الفضل بن شاذان على محمد بن أبي عمير فيجده ساجدا، وتطول سجدته، فلما رفع رأسه، قال الفضل: ذكرت له طول سجوده، فقال: كيف لو رأيت جميل بن درّاج؟!.
ومنهم نوح بن درّاج - والد أيوب - الذي كان من أصحاب أهل البيت(٥٣)، ولكنه كان يخفي أمره وتولى القضاء في الدولة العباسية، وكان - بالرغم من هذا المنصب - يفتي ويقضي طبقا لرأي أئمة أهل البيت. وقد نقل أن الإمام الكاظم استشهد بفتواه في عدم توريث العصبة - وهو من مختصات مذهب أهل البيت - في مناظرة بينه وبين هارون العباسي(٥٤).
وهكذا الحال في (الحسن بن أيوب بن نوح)، فقد كان من السائرين أيضا على خطى أبيه وأجداده في معرفة أهل البيت وخدمتهم، فقد كان أحد رواة النص على الإمام الحجة المهدي (عجل الله فرجه) وممن رآه في حياة أبيه الإمام الحسن العسكري، إذ أنه حضر ومعه عدد من أصحابه إلى منزل الإمام العسكري، وفي مجلسه جماعة أيضا فسألوا عن الإمام بعده والحجة، فخرج (غلام كأنه قطعة قمر أشبه الناس بأبي محمد (العسكري) فقال (عليه السلام): هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه، ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر، فأقبلوا من عثمان (أي ابن سعيد العمري) ما يقوله وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه..)(٥٥).
هؤلاء بعض رجال هذا البيت (بنو درّاج).. وأما أيوب، فقد كان من أصحاب الإمام الرضا، والإمام الجواد كما كان وكيلا لأبي الحسن الهادي، وأبي محمد العسكري، وكان عظيم المنزلة عندهما، مأمونا، شديد الورع، كثير العبادة، ثقة في رواياته، وله كتاب فيه روايات ومسائل عن الإمام الهادي.
وكان إلى جنب ذلك، لا يفتأ يدعو الناس إلى مذهب أهل البيت، مطلعا إياهم على محاسن كلامهم، فهذا محمد بن سكين النخعي، يحدث قائلا إن أيوب بن نوح دعاه إلى هذا الأمر (أي مذهب أهل البيت) ومحمد بن سكين أصبح فيما بعد أحد الرواة عن الأئمة، وله في ذلك كتاب.
وفي الوقت الذي راج فيه سوق ادعاء الوكالة عن الأئمة، حيث حاول ذوو الإيمان المستودع، استغلال قربهم لفترة من الزمان من الأئمة، لكي يشتروا بذلك ثمنا قليلا من حطام الدنيا والجاه الزائل. فقام الأئمة بفضح هؤلاء المدعين، وإعلان البراءة منهم، وفي المقابل تعزيز موقع الوكلاء الحقيقيين في مجتمع الموالين، فقد وثقه الإمام علي الهادي، فقد روى أبو محمد الدينوري قال كنت أنا وأحمد بن أبي عبد الله بالعسكر فورد علينا رسول من الرجل(٥٦) "فقال: الغائب العليل (ويقصد به علي بن جعفر الهماني) ثقة، وأيوب بن نوح ثقة..
ونظرا لكون أيوب وكيلا في تصريف أمور أتباع الأئمة. فقد كان يواجه الدعوات المنحرفة والتي كان منها أفكار فارس بن حاتم القزويني، سواء في الغلو أو في التحلل من الواجبات.. إذ ينتهي عادة أصحاب الغلو إلى التحلل من الواجبات، وترك الطاعات بالتدريج... فكان أيوب على صلة بالإمام الهادي فيما يرتبط بطريقة مواجهته وكان يوزع الأوامر الواردة إليه على شخصيات المناطق التي شملتها فتنة فارس.. فقد كتب إلى محمد بن عيسى بن عبيد ما يلي، وكان قد سأله هذا عن الموقف المطلوب من فارس:
 - سألتني أن أكتب إليك بخبر ما كتب به إليّ في أمر القزويني فارس، فقد نسخت لك في كتابي هذا أمره، وكان سبب خيانته أني صرفته إلى أخيه، فلما كان في سنتنا هذه أتاني وسألني وطلب إلي في حاجة، وفي الكتاب (الكتابة) إلى أبي الحسن (الهادي) أعزّه الله، فدفعت ذلك عن نفسي فلم يزل يلح علي في ذلك حتى قبلت ذلك منه وأنفذت الكتاب ومضيت إلى الحج ثم قدمت فلم تأت جوابات الكتب التي أنفذتها قبل خروجي فوجهت رسولا في ذلك، فكتب إلي ما قد كتبت به إليك ولولا ذلك لم أكن ممن يتعرض لذلك حتى كتب به إليّ الجبلي يذكر أنه وجه بأشياء على يدي فارس الخائن لعنه الله لعنة متقدمة ومتجددة لها قدر فأعلمناه أنه لم يصل إلينا وأمرناه أن لا يوصل إلى الملعون شيئا أبدا وأن يصرف حوائجه إليك..
ووجه بتوقيع من فارس بخطه له بالوصول، لعنه الله وضاعف عليه العذاب فما أعظم ما اجترأ على الله عز وجل وعلينا وعلى الكذب علينا واختيان أموالنا وكفى به معاقبا ومنتقما..
فاشهر فعل فارس في أصحابنا الجبليين وغيرهم من موالينا..(٥٧) ويلاحظ من خلال هذه الرسالة، موقع أيوب بن نوح، فهو إضافة إلى كونه وكيلا موثوقا به من قبل الإمام الهادي، فإنه كان في موقع التوجيه لغيره من الوكلاء، فقد شرح لمحمد بن عيسى بن عبيد في البداية قضية خيانة فارس القزويني، لأموال كان قد أؤتمن عليهما و(بلعها) ثم زوّر توقيعا بوصول هذه الأموال وأرسله لمن سلمه الأموال، لذلك فقد أعلم أيوب، الرجل الجبلي بأن لا يسلم شيئا إلى فارس، وأن يوجه ما لديه من أسئلة أو حقوق مالية إلى محمد بن عيسى، ثم كلّف هذا الأخير أن يقوم بتوضيح أمر فارس إلى أتباع الإمام في منطقة وفي غير تلك المنطقة، لكي يتقي ويتجنب.
ولكي لا تختلط الأمور عندما يفتقد الترتيب، فيقوم الدخلاء بإيجاد مواقع لهم بين شيعة أهل البيت كان لا بد من ترتيب قنوات الاتصال بين شيعة أهل البيت وبين قادتهم الأئمة وهذا يقتضي أن يقوم كل وكيل بمسؤولية في الحدود المعينة له، وأن لا يتجاوزها، كما لا يسمح لمن هم في دائرة مسؤوليته أن يتجاوزوها.. وبهذا يستطيع الوكيل إدارة منطقته إدارة كفوءة، ومعرفة من يتحرك فيها على صعيد الموافقة أو المخالفة.. أما إذا اختلطت المسائل، وأمكن لأهل هذه المنطقة أن يتصلوا بالإمام من غير الطريق المعين، فإن هناك احتمال الدخلاء، وعدم انتظام المسائل..
لذلك يكتب الإمام كتاباً لأيوب بن نوح وكيله لافتا نظره إلى هذه المسألة جاء فيه: " وأنا آمرك يا أيوب بن نوح أن تقطع الإكثار بينك وبين أبي علي (بن راشد) وأن يلزم كل واحد منكما ما وكل به وأمر بالقيام فيه بأمر ناحيته، فإنكم إذا انتهيتم إلى كل ما أمرتم به استغنيتم بذلك عن معاودتي، وآمرك يا أبا علي بمثل ما آمرك يا أيوب: أن لا تقبل من أحد من أهل بغداد والمداين شيئا يحملونه، ولا تلي لهم استئذانا علي ومر من أتاك بشيء من غير أهل ناحيتك أن يعيده إلى الموكل بناحيته، وآمرك يا أبا علي في ذلك بمثل ما أمرت به أيوب، وليعمل كل واحد منكما مثلما أمرته به "(٥٨)
وأيوب بن نوح وإن كان عندما توفي لم يخلف سوى مائة وخمسين دينارا، بينما كان الناس يرون أنه من أصحاب الأموال الكثيرة، نظرا لوكالته عن الأئمة، إنه وإن لم يخلف سوى هذا المبلغ القليل من المال، إلا أنه خلف من الذكر الطيب، والثناء العاطر، الكثير الكثير الباقي.. فرحمه الله رحمة واسعة وحشره مع أئمته.
٣ - الفضل بن شاذان النيسابوري
توفي سنة ٢٦٦ هـ
يعيش الناس عادة في صراع لا ينتهي إلاّ بنهاية حياتهم مع مفردات الهموم اليومية، تلك المفردات التي تستغرق كل جهدهم، ووقتهم أو جلّه، وبذلك فهي لا تفسح لهم المجال لكي يفكروا في الأهداف السامية وإن فكروا فلا تعطيهم فرصة العمل لتحقيقها، وهكذا فهم في دوامة الحياة. عادة مشغولون بها. غافلون عما سواها، (فإذا ماتوا انتبهوا) وإذا شارفت حياتهم على النهاية عضوا على الأنامل أسفا على أنهم لخصوا عمرهم في لقمة للبطن ومتعة لما تحته!! وكان ينبغي أن يحققوا لأنفسهم مجدا، ولدينهم رفعة، ويقدموا لآخرتهم زادا!!.
والطريف أن هذه الهموم - بالرغم من ضالتها في جنب القضايا الكبرى - تضغط بشدة على الإنسان، وتستنزف كامل طاقته وجهده - في فترة من الزمان - فإذا كانت مشكلته في البيت مع زوجته أو أولاده، وجدته يفكر ليل نهار، ويرتب كل شيء على حل تلك المشكلة، وأحيانا لا يطلب من الله - هكذا يزعم - إلا حل هذه المشكلة. وهكذا الحال عندما يقدر عليه في الرزق فإنه يظل دائب التفكير في الأمر لا سواه.. ويوقف كل إبداع لديه، ولو تورط في مأزق سياسي، كأن يكون مطلوبا للسلطة، أو ممنوعا من السفر، أو تحت الإقامة الجبرية فالأمر أشد، إذ أنه ينتظر أولا أن يخرج من هذا المأزق، ثم يتوجه لتحقيق طموحاته الكبرى!!.
ويطول الانتظار، ويخرج هذا المرء من مشكلة عائلية ليدخل في ورطة سياسية، ومن معضل مالي إلى همّ اجتماعي، ولا يرتاح - أحيانا - حتى وهو على فراش الموت!!.
ويبقى ثلة من الناس يتعالون على المشاكل اليومية والهموم الحياتية، ومهما تعقدت فهم يتكيفون معها، ولا ينسون في غمرة الحاضر أهداف المستقبل، لذلك يمرّ عليهم الزمان وقد استثمروه لصالحهم.
إن التاريخ لا يتوقف أمام المشاكل الشخصية للأفراد، لأنه لا يخلو أحد من البشر من هذه المشاكل، ولكنه يمجد أولئك الرجال الذين يتجاوزون مشاكلهم فيصنعون شيئا في حياتهم ويصبحون (محطات).. فمَن مِن البشر لم يواجه مشاكل؟ ولكن كم من هؤلاء تجاوزها، وبنى في دنياه مجدا وفي أخراه رفعة؟!.
من هؤلاء الرجال، الفضل بن شاذان النيسابوري. فبالرغم من أنه كان عرضة لغضب الحاكمين العباسيين، لتشيعه، وتعرض كغيره لهذا النوع من المشاكل إلا أنه لم ينشغل بها عن دوره في تبليغ دين الله وثقافة أئمته..
فقد طلبه عبد الله بن طاهر وبعد التحقيق معه طرده من بلده، وكان يجهد أن يجد عليه تهمة تبرر له ذلك، كسبِّ فلان أو غيرها، إلا أن الفضل الذي كان واعياً لهذه المعادلة لم يترك له فرصة ذلك.. وهكذا نفي ابن شاذان عن بلده. إلا أنه لما كان قد رأى من الأئمة (الجواد - الهادي - والعسكري) فقد كان إناء علمه يفيض بما فيه، لذلك فقد كان محورا يجتمع أتباع أهل البيت حوله ويتحلقون حول سراج علمه، وكان الإمام العسكري يراقب هذه الظاهرة فيقول (إنني لأغبط أهل خراسان لمكان الفضل منهم)!!.
وقد أثر أنه كتب كثر من مائة وثمانين كتابا، كان منها:
ا - كتاب النقض على الإسكافي.
٢ - الرد على أهل التعطيل.
٣ - كتاب الاستطاعة.
٤ - كتاب الوعيد.
٥ - كتاب الإيمان.
٦ - كتاب الإعراض والجواهر.
٧ - كتاب العلل.
٨ - كتاب الرجعة.
٩ - كتاب تبيان أصل الضلالة.
١٠ - كتاب الرد على الفلاسفة.
١١ - كتاب السنن.
١٢ - أربع مسائل في الإمامة.
١٣ - كتاب الفرائض الكبير/ الأوسط/ الصغير.
١٤ - كتاب الرد على المرجئة.
١٥ - كتاب الرد على القرامطة.
١٦ - كتاب الطلاق.
١٧ - كتاب فضل أمير المؤمنين.
١٨ - كتاب الإمامة الكبير.
١٩ - كتاب الخصال في الإمامة.
٢٠ - كتاب الرد على الحسن البصري في التفضيل.
٢١ - كتاب المتعتين: متعة النساء ومتعة الحج.
٢٢ - كتاب الرد على الغلاة.
٢٣ - الرد على الحشوية.
٢٤ - كتاب المسح على الخفين.
وللتعرف على مقدرة الفضل وطول باعه في المسائل الاعتقادية نورد نصين مما روي عنه، يدلاّن على شدة عارضته، فقد كانت الإمامة في ذلك الوقت ليست مناظرة علمية لقضاء الوقت وقتل الفراغ، كما لم تكن أعمالا استعراضية في المجالس للافتخار والمراء، إذ ربما كلفت المرء حياته، وأهدر الظالمون دمه فمات مطاردا على كلمة قالها في الإمامة كما حصل لهشام بن الحكم وقد تنتهي به إلى التشرد بعيدا عن وطنه، متعرضا لغضب الحاكمين تارة وتعدي غوغاء المحكومين أخرى كما حصل للفضل نفسه.
إن اعتناق عقيدة معينة في الإمامة يعني انتخاب طريق خاص في الحياة، ويعني إدانة أو تأييدا لأسلوب الحكم القائم، ويعني التبليغ لهذا الموقف، لذلك فوجود شخص يحمل عقيدة مخالفة لعقيدة الحاكم في الإمامة، كان بمثابة قنبلة مدمرة لا تحتمل عند الحاكم.
ولهذا السبب شجع الحاكمون عقائد خاصة في الإمامة، وحاربوا عقيدة أهل البيت التي كان من شأن الاعتراف بها هدم القصور المبنية على الجور والتسلّط، والمطالبة بإرجاع الإمامة لأهلها آل بيت النبي، حيث أنهم أدرى بما فيه..
بين أيدينا واحد من النصوص التي نقلت عن الفضل بن شاذان حيث أنه سئل عن الدليل على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟ ويبدو أن السائل لم يكن من أتباع أهل البيت، كما يظهر ذلك من طريقة جواب الفضل إياه، فقد اعتمد على المسلمات التي يجمع عليها كل المسلمين.
فقال: الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه ومن إجماع المسلمين.
فأمّا كتاب الله تبارك وتعالى فقوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ) فدعانا سبحانه إلى طاعة أولي الأمر كما دعانا إلى طاعة نفسه وطاعة رسوله، فاحتجنا إلى معرفة أولي الأمر كما وجبت علينا معرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول عليه وآله السلام، فنظرنا في أقاويل الأمّة فوجدناهم قد اختلفوا في أولي الأمر، وأجمعوا في الآية على ما يوجب كونها في عليّ بن أبي طالب فقال بعضهم: أولي الأمر هم أمراء السرايا، وقال بعضهم: هم العلماء، وقال بعضهم: هم القوّام على الناس، والآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، وقال بعضهم: هم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ذريّته، فسألنا الفرقة الأولى فقلنا لهم: أليس علي بن أبي طالب من أمراء السرايا، فقالوا: بلى، فقلنا للثانية: ألم يكن من العلماء؟ قالوا: بلى، فقلنا للثالثة: أليس علي قد كان من القوام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فقالوا: بلى؟ فصار أمير المؤمنين معينا بالآية باتفاق الأمّة واجتماعها، وتيقنّا ذلك بإقرار المخالف لنا في الإمامة والموافق عليها، فوجب أن يكون إماما بهذه الآية لوجود الاتفاق على أنه معنيّ بها، ولم يجب العدول إلى غيره والاعتراف بإمامته لوجود الاختلاف في ذلك وعدم الاتفاق وما يقوم مقامه من البرهان.
وأمّا السنة فإنا وجدنا النبيّ استقضى عليّا على اليمن، وأمّره على الجيوش، وولاّه الأموال، وأمره بأدائها إلى بني جذيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد ظلما، واختاره لأداء رسالات الله سبحانه والإبلاغ عنه في سورة براءة، واستخلفه عند غيبته على من خلّف، ولم تجد النبي سن هذه السنن في أحد غيره، ولا اجتمعت هذه السنن في أحد بعد النبي كما اجتمعت في علي، وسنة رسول الله بعد موته واجبة كوجوبها في حياته، وإنما يحتاج الأمة إلى الإمام بهذه الخصال التي ذكرناها، فإذا وجدناها في رجل قد سنها الرسول فيه كان أولى بالإمامة ممّن لم يسن النبي فيه شيئا من ذلك.
وأما الإجماع فإن إمامته ثبتت من جهته من وجوه: منها أنهم قد أجمعوا جميعا أن عليا قد كان إماما ولو يوما واحدا، ولم يختلف في ذلك أصناف أهل الإمامة ثم اختلفوا فقالت طائفة: كان إماما في وقت كذا وكذا، وقالت طائفة: بل كان إماما بعد النبي، في جميع أوقاته، ولم يجمع الأمة على غيره أنه كان إماما في الحقيقة طرفة عين، والإجماع أحق أن يتبع من الاختلاف.
ومنها أنهم أجمعوا جميعا على أن عليا كان يصلح للإمامة، وأن الإمامة تصلح لبني هاشم، واختلفوا في غيره، وقالت طائفة: لم يكن تصلح لغير علي بن أبي طالب، ولا تصلح لغير بني هاشم، والإجماع حق لا شبهة فيه، والاختلاف لا حجة فيه.
ومنها أنهم أجمعوا على أن عليا كان بعد النبي ظاهر العدالة واجبة له الولاية، ثم اختلفوا فقال قوم: كان مع ذلك معصوما من الكبائر والضلال، وقال آخرون: لم يكن معصوما ولكن كان عدلا برا تقيا على الظاهر، لا يشوب ظاهره الشوائب؟ فحصل الإجماع على عدالته، واختلفوا في نفي العصمة عنه. ثم أجمعوا جميعا على أن أبا بكر لم يكن معصوما، واختلفوا في عدالته فقالت طائفة: كان عدلا، وقال آخرون: لم يكن عدلا، لأنه أخذ ما ليس له، فمن أجمعوا على عدالته واختلفوا في عصمته أولى بالإمامة وأحق ممن اختلفوا في عدالته وأجمعوا على نفي العصمة عنه(٥٩).
ولمزيد من تسليط الضوء على شخصية هذا العالم العبقري نفتح صفحات من كتابه (العلل). لنرى فيه الخط الوسط الصحيح الذي تنهجه مدرسة أهل البيت (عليه السلام) في مسألة العقل، بين إفراط المعتزلة الذين حشروا (أنف) العقل في كل مكان، حتى كادوا أن يؤلهوه، ولم يمنعوه من - الدخول إلى أية أرض، فكان أن نتج عن ذلك مناهج في الفقه كالقياس والاستحسان وأمام هذه قال أهل البيت: إن دين الله لا يصاب بالعقول وبين تفريط الأشاعرة الذين اعتبروا العقيدة والشريعة (منطقة ممنوعة) على العقل، وحرموا عليه الدخول حتى إلى بيته، فكان أن نسبوا إلى الله ما يأباه لعباده، في العقيدة، وأن ابتلوا بالتناقض في تحليل الأخبار في الشريعة.
فها هو الفضل بن شاذان يتحدث عن علل الشرائع وحكمها، إذ أوامر الشرع لما كانت صادرة عن الحكيم فلا يمكن أن تكون عن عبث، ولكن تارة يفهم العبد تلك الحكم وأخرى لا يصل عقله وجهده لها، وهنا لا يجوز له إنكارها أو عدم العمل بها لأنه لم يعرف تلك الحكم.. بل يرجع في ذلك إلى أهلها الراسخين في العلم الذين يعلمون التأويل من جدهم.
فقد قال الفضل بن شاذان النيسابوري: إن سأل سائل فقال: أخبرني هل يجوز أن يكلف الحكيم عبده فعلا من الأفاعيل لغير علّة ولا معنى؟ قيل له: لا يجوز ذلك لأنه حكيم غير عابث ولا جاهل.
فإن قال: فأخبرني لم كلّف الخلق؟ قيل: لعلل.
فإن قال: فأخبرني عن تلك العلل معروفة موجودة هي أم غير معروفة ولا موجودة؟ قيل: بل هي معروفة وموجودة عند أهلها.
فإن قال: أتعرفونها أنتم أم لا تعرفونها؟ قيل لهم: منها ما نعرفه، ومنها ما لا نعرفه.
فإن قال: فما أول الفرائض؟ قيل: الإقرار بالله عز وجل (وبرسوله وحجته) وبما جاء من عند الله عز وجل.
فإن قال: لهم أمر الله الخلق بالإقرار بالله وبرسله وحججه وبما جاء من عند الله عز وجل؟ قيل: لعلل كثيرة: منها أن من لم يقر بالله عز وجل لم يجتنب معاصيه ولم ينته عن ارتكاب الكبائر، ولم يراقب أحدا فيما يشتهي ويستلذ من الفساد والظلم؛ فإذا فعل الناس هذه الأشياء وارتكب كل إنسان ما يشتهي ويهواه من غير مراقبة لأحد كان في ذلك فساد الخلق أجمعين، ووثوب بعضهم على بعض، فغصبوا الفروج والأموال وأباحوا الدماء والنساء وقتل بعضهم بعضا من غير حق ولا جرم، فيكون في ذلك خراب الدنيا، وهلاك الخلق، وفساد الحرث والنسل.
ومنها أن الله عز وجل حكيم، ولا يكون الحكيم ولا يوصف بالحكمة إلا الذي يحظر الفساد، ويأمر بالصلاح، ويزجر عن الظلم، وينهى عن الفواحش، ولا يكون حظر الفساد والأمر بالصلاح والنهي عن الفواحش إلا بعد الإقرار بالله عز وجل ومعرفة الأمر والناهي، فلو ترك الناس بغير إقرار بالله ولا معرفته لم يثبت أمر بصلاح، ولا نهي عن فساد إذ لا آمر ولا ناهي.
ومنها أنا وجدنا الخلق قد يفسدون بأمور باطنة، مستورة عن الخلق، فلولا الإقرار بالله عز وجل وخشيته بالغيب لم يكن احد إذا خلا بشهوته وإرادته يراقب أحدا في ترك معصية، وانتهاك حرمة، وارتكاب كبيرة، إذا كان فعله ذلك مستورا عن الخلق، غير مراقب لأحد، وكان يكون في ذلك هلاك الخلق أجمعين، فلم يكن قوام الخلق وصلاحهم إلا بالإقرار منهم بعليم خبير، يعلم السر وأخفى، آمر بالصلاح، ناه عن الفساد، لا تخفى عليه خافية، ليكون في ذلك انزجار لهم عما يخلون به من أنواع الفساد.
فإن قال: فلم وجب عليهم معرفة الرسل والإقرار بهم والإذعان لهم بالطاعة؟ قيل: لأنه لما لم يكن في خلقهم وقولهم وقواهم ما يكملون لمصالحهم، وكان الصانع متعاليا عن أن يرى، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرا لم يكن بد من رسول بينه وبينهم، معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه، ويقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارهم، إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم، فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته لم يكن لهم في مجيء الرسول منفعة ولا سد حاجة، ولكان يكون إتيانه عبثا لغير منفعة ولا صلاح، وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شيء.
فإن قال: فلم جعل أُولي الأمر وأمر بطاعتهم؟
قيل: لعلل كثيرة: منها أن الخلق لما وقعوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحد (تلك الحدود) لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد، ويقيم فيهم الحدود والأحكام.
ومنها أنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس لما لا بد لهم منه في أمر الدين والدنيا؛ فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لا بد لهم منه ولا قوام لهم إلا به، فيقاتلون به عدوهم، ويقسمون به فيئهم، ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم.
ومنها أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة، وذهب الدين، وغيّرت السنة والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقص منه الملحدون، وشبهوا ذلك على المسلمين، لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين، غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم، فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول لفسدوا، على نحو ما بينا، وغيّرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين.
فإن قيل: فلم لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان في وقت واحد أو أكثر من ذلك؟
قيل: لعلل: منها أن الواحد لا يختلف فعله وتدبيره، والاثنين لا يتفق فعلهما وتدبيرهما، وذلك أنا لم نجد اثنين إلا مختلفي الهمّ والإرادة، فإذا كانا اثنين ثم اختلف همّهما وإرادتهما وتدبيرهما وكانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه، فكان يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد، ثم لا يكون أحد مطيعا لأحدهما إلا وهو عاص للأخر فتعم المعصية أهل الأرض، ثم لا يكون لهم مع ذلك السبيل إلى الطاعة والإيمان، ويكونون إنما أتوا في ذلك من قبل الصانع الّذي وضع لهم باب الاختلاف والتشاجر إذ أمرهم بإتباع المختلفين.
ومنها أنه لو كانا إمامين كان لكل من الخصمين أن يدعو إلى غير ما يدعو إليه صاحبه في الحكومة، ثم لا يكون أحدهما أولى بأن يتبع من صاحبه فتبطل الحقوق والأحكام والحدود.
ومنها أنه لا يكون واحد من الحجتين أولى بالنطق والحكم والأمر والنهي من الآخر، فإذا كان هذا كذلك وجب عليهما أن يبتدئا بالكلام، وليس لأحدهما أن يسبق صاحبه بشيء إذا كانا في الإمامة شرعا واحدا، فإن جاز لأحدهما السكوت جاز السكوت للآخر مثل ذلك، وإذا جاز لهما السكوت بطلت الحقوق والأحكام وعطلت الحدود، وصارت الناس كأنهم لا إمام لهم.
فإن قال: فلم لا يجوز أن يكون الإمام من غير جنس الرسول؟ قيل: لعلل:
منها أنه لما كان الإمام مفترض الطاعة لم يكن بد من دلالة تدل عليه ويتميز بها من غيره، وهي القرابة المشهورة، والوصية الظاهرة ليعرف من غيره ويهتدى إليه بعينه.
ومنها أنه لو جاز في غير جنس الرسول لكان قد فضل من ليس برسول على الرسل إذ جعل أولاد الرسل أتباعا لأولاد أعدائه، كأبي جهل وابن أبي معيط، لأنه قد يجوز بزعمه أن ينتقل ذلك في أولادهم إذا كانوا مؤمنين، فيصير أولاد الرسول تابعين، وأولاد أعداء الله وأعداء رسوله متبوعين، وكان الرسول أولى بهذه الفضيلة من غيره وأحق.
ومنها أن الخلق إذا أقروا للرسول بالرسالة وأذعنوا له بالطاعة لم يتكبر أحد منهم عن أن يتبع ولده ويطيع ذريته ولم يتعاظم ذلك في أنفس الناس، وإذا كان في غير جنس الرسول كان كل واحد منهم في نفسه أنه أولى به من غيره، ودخلهم من ذلك الكبر، ولم تسخ أنفسهم بالطاعة لمن هو عندهم دونهم، فكان يكون في ذلك داعية لهم إلى الفساد والنفاق والاختلاف.
 فإن قال: فلم وجب عليهم الإقرار والمعرفة بأن الله تعالى واحد أحد؟ قيل: لعلل: منها أنه لو لم يجب عليهم الإقرار والمعرفة لجاز أن يتوهموا مدبرين أو كثر من ذلك، وإذا جاز ذلك لم يهتدوا إلى الصانع لهم من غيره لأن كل إنسان منهم كان لا يدري لعله إنما يعبد غير الذي خلقه، ويطيع غير الذي أمره، فلا يكونون على حقيقة من صانعهم وخالقهم، ولا يثبت عندهم أمر آمر ولا نهي ناه، إذ لا يعرف الأمر بعينه ولا الناهي من غيره.
ومنها أنه لو جاز أن يكون اثنين لم يكن أحد الشريكين أولى بأن يعبد ويطاع من الآخر، وفي إجازة أن يطاع ذلك الشريك إجازة أن لا يطاع الله، وفي أن لا يطاع الله عز وجل الكفر بالله وبجميع كتبه ورسله، وإثبات كل باطل، وترك كل حق، وتحليل كل حرام، وتحريم كل حلال، والدخول في كل معصية، والخروج من كل طاعة، وإباحة كل فساد، وإبطال لكل حق.
ومنها أنه لو جاز أن يكون أكثر من واحد لجاز لإبليس أن يدعي أنه ذلك الآخر، حتى يضادّ الله تعالى في جميع حكمه، ويصرف العباد إلى نفسه، فيكون في ذلك أعظم الكفر وأشد النفاق(٦٠).
وبالرغم من قيام بعض الجاهلين باتهامه لدى الإمام الهادي يقول: إن وصي إبراهيم خير من وصي رسول الله، وهو أمير المؤمنين وكان ذلك خلافاً لرأيه، إلا أن الإمام الذي خطأ هذه الفكرة، ترّحم على الفضل(٦١).
ولمعرفة أعداء أهل البيت بأهمية دور ابن شاذان على الصعيدين العقيدي والاجتماعي لذلك بدأوا يترصدون له، فإذا كان عبد الله بن طاهر (القائد العباسي) قد طلبه ولم يستطع أن يدينه من فمه، فقد استعد عدد من غوغاء المتعصبين لاغتياله، وغالبا ما كان السيف الأهوج الذي لا يستطيع صاحبه رؤية شمس العلم المشرقة، غالبا ما كان ينهي المعادلة لصالحه.
 وفرّ الفضل بن شاذان متواريا من حملة الخوارج الذين قدموا لاغتياله، وكان الوقت في صقيع الشتاء، عندما بلغ بالفضل التعب مبلغه، وهو على كبر سنه، لينتقل إلى رحمة ربه متواريا ماسكا الجمر بيده محافظاً على مذهبه..
ألم يعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) المؤمنين به بأنهم سيصلون إلى يوم: القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر ينتقل من حجر إلى حجر؟.
٤ - عبد الله بن جعفر الحميري القمي
٢٣٧ - ٣١١ هـ
"الإيمان يماني والحكمة يمانية. ولولا الهجرة لكنت من اليمن".
كلمات تؤثر عن رسول الله، فتشير إلى ما تتمتع به هذه - المنطقة وسكانها من خصائص ومميزات. ولا يعني ذلك الإقرار بحتمية تأثير الوراثة أو الجغرافيا في المواقف والسلوك. إذ وجدنا أن من قبائل اليمن من وقفت إلى جانب الظالمين أو هادنت.. ولكن الطابع العام لعرب اليمن في التاريخ كان نصرة أهل البيت فقد أثر عن أمير المؤمنين قوله بعد ما رأى مواقف همدان:

فلو كنت بواباً على باب جنة * * * لقلت لهمدان ادخلوا بسلام

وهكذا وجدنا خلص أصحابه من خزاعة والنخع، وكندة، ويظهر أن هذا الأمر كان شائعا آنئذ فقد كان معاوية يقول: إن نساء خزاعة لو تركت لقاتلنا، فضلا عن رجالها.
وعندما خرج الإمام الحسين ضد يزيد، نصحه بعض أصحابه أن لا يذهب إلى العراق، بل يتوجه إلى اليمن، حيث سيجد أنصارا، هم على منهاج أبيه، ويتمتعون بزخم عاطفي قوي تجاه أهل البيت، وفوق ذلك هم أرجح الناس عقولا، فقد قال محمد بن الحنفية لأخيه الحسين:
(تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار، وإلا خرجت إلى بلاد اليمن فإنهم أنصار جدك وأبيك وأخيك وهم أرق وأرأف قلوبا وأوسع الناس بلادا وأرجحهم عقولا..).
ومثله قال ابن عباس له، وقد أعرب عن هذه الحقيقة الطرماح بن عدي الطائي حين التقى به في الطريق، وقال؟ ما هي إلا أيام حتى نبعث لك بالرجال من أجا وسلمى في طي.
وعندما واجه الحسين جيش الأمويين في كربلاء كان أكثر أصحاب الحسين من أهل اليمن، وعرب الجنوب(٦٢).
وهكذا مع تتابع الأحداث وجدنا أن عرب الجنوب (اليمن) كانوا في الكوفة غالبا في خط أهل البيت، في مقاومة الباطل، وهم المسارعون إلى الثورات، وهكذا حين كان يذهب الدعاة إلى اليمن، التي حصلت فيها عدة ثورات وانتفاضات.
ويستمر هذا إلى أن يقوم الأشعريون قبائل اليمن، فيهاجرون - على دفعات - وفي مناسبات مختلفة إلى قم والري، فيؤسسونهما من جديد، وتبعث هاتان البلدتان من جديد، وتخرجان كنوزهما من الرجال حتى لقد كانت تضم قم في أيام العسكري فيما بعد آلاف المحدثين ورجال الأخبار والعلماء.
بل لقد أصبحت قم بعد هذا التاريخ، مركز الحديث، وأخذت (تموّن) الكوفة، وتزودها بما أثر عن أهل البيت من علم ومعرفة، بعدما كانت قم (تلميذ) مدرسة الكوفة، و(ضيف) موائدها العلمية.
ولهذا وجدنا أن عبد الله بن جعفر الحميري، وأصله كما هو واضح من حمير (اليمن)، وهو من أصحاب الإمامين علي الهادي وابنه الحسن العسكري، عندما قدم الكوفة سنة مائتين وتسعين ونيف، أقبل عليه الكوفيين ينتهلون من علمه، ويسمعون منه، حتى أكثروا، ويبدو أن عبد الله بن جعفر كان - كما هو شأن العلماء في مدرسة أهل البيت - متقدما في قومه، فهو شيخ القميين ووجههم، وهو المحترم عند وكلاء الأئمة فنراه عندما يجتمع مع أبي عمرو عثمان بن سعيد العمري، وكيل الإمامين الهادي والعسكري، وسفير الإمام الحجة، ومعهما أحمد بن إسحاق يكون هو الواسطة حيث يسأل العمري.. لنسمع بقية القصة منه:
.. فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو إني أريد أن أسألك عن شيء وما أنا بشاك فيما أريد أن أسألك عنه، فإن اعتقادي وديني أن الأرض لا تخلو من حجة، إلا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوما، فإذا كان ذلك رفعت الحجة وأغلق باب التوبة فلم يك ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، فأولئك أشرار من خلق الله عز وجل، وهم الذين تقوم عليهم القيامة، ولكني أحببت أن أزداد يقينا، وأن إبراهيم سأل ربه عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى، قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي وقد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (الهادي) قال: سألته وقلت من أعامل وعمن اخذ وقول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي، فما أدى إليك عني، فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع، فإنه الثقة المأمون، وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمد (العسكري) عن مثل ذلك فقال له: العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.
فخر أبو عمرو ساجدا وبكى، ثم قال: سل حاجتك. فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد (العسكري)؟!
 فقال: أي والله ورقبته مثل ذا - وأومأ بيده - فقلت له: فبقيت واحدة، فقال لي: هات. قلت: فالاسم؟! قال: محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك ولا أقول هذا من عندي فليس لي أن أحلل ولا أحرم، ولكن عنه (عليه السلام) فإن الأمر عند السلطان أن أبا محمد مضى ولم يخلّف ولداً وقسم ميراثه وأخذه من لا حق له فيه، وهو ذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أن يتعرف إليهم أو ينيلهم شيئا وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتقوا الله وأمسكوا(٦٣).
وقد عرف الحميري عبد الله بن جعفر بكثرة التصنيف والتأليف، وهذه الصفة نجدها في أكثر أصحاب الأئمة خصوصا المتأخرين منهم (الرضا - الجواد - الهادي - العسكري) وهي مما يلفت النظر.. ولعل مرجع ذلك إلى أن الدور الأساسي - آنئذ - لهؤلاء حفظ الأخبار والأحاديث التي كانت بمثابة (محفظة التشريع) ولولاهم ربما كانت الأخبار والروايات الناقلة حالها حال الأخبار التاريخية المجهولة ولكان الإسلام من أفقر الأديان في تراثه الفكري ومحتواه العقيدي والتشريعي.
وربما لأجل هذا السبب كان أهل البيت يأمرون أتباعهم بالكتابة والتدوين ويؤكدون على هذا الأمر، بل عندما تعرض عليهم كتب أصحابهم يكثرون من الثناء عليهم وعلى كتابها، لما لهم من أثر في حفظ العقيدة والشريعة.
ومترجمنا، كان من هذا الصنف فله روايات كثيرة في الفقه (أكثر من ١٤٠ رواية) وقد صنف كتباً كثيرة منها:
١ - كتاب الإمامة.
٢ - كتاب الدلائل.
٣ - كتاب العظمة والتوحيد.
٤ - كتاب الغيبة والحيرة.
٥ - كتاب التوحيد والبداء والإرادة والاستطاعة والمعرفة.
٦ - كتاب الطب.
٧ - كتاب قرب الإسناد إلى الرضا.
٨ - كتاب قرب الإسناد إلى أبي جعفر بن الرضا
٩ - كتاب ما بين هشام بن الحكم وهشام بن سالم.
١٠ - مسائل الرجال ومكاتباتهم أبا الحسن الثالث (الهادي).
١١ - مسائل لأبي محمد الحسن (العسكري) على يد محمد بن عثمان العمري.
١٢ - قرب الإسناد إلى صاحب الأمر.
١٣ - مسائل أبي محمد وتوقيعاته.
٥ - إسماعيل بن علي النوبختي
أبو سهل
٢٣٧ - ٣١١ هـ
صور من عصر الخلافة:
(١)
واكتظت قصور ملوك بني العباس بالجواري اللاتي جلبن من أنحاء البلاد فكان للمتوكل العباسي أربعة آلاف جارية وقد قاربهن جميعا، وكان له جارية يهواها، ولا يصبر على فراقها فوقفت أمامه وقد كتبت على خدها بالغالية (جعفر) (اسم المتوكل) فتأملها ثم أنشأ يقول:

وكاتبة بالمسك في الخد جعفراً * * * نفسي خط المسك من حيث أثرا
لئن أودعت سطرا من المسك خدها * * * لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا

وقال النويري: أنفق المتوكل في بناء قصوره مائة ألف دينار، وخمسين ألف ألف عينا ومائتي ألف ألف وخمسين ألف ألف (أي مائتين وخمسين مليون) وخمسمائة ألف درهم.
وكانت القصور سبعة.
(٢)
وفي سنة (٢٣٧) أوعز المتوكل العباسي إلى العمال بهدم قبر الحسين فامتنع المسلمون عن ذلك، فأمر عددا هن اليهود على رأسهم الديزج. فاستجابوا له وهدموا كل بناء حول القبر.
وفي سنة (٢٤٧) هـ بلغ المتوكل أن المسلمين قد أقبلوا بكثرة هائلة إلى زيارة مرقد الإمام الحسين فأنفذ إليهم جيشا كبيرا وأمر مناديه فنادى (أن برئت الذمة ممن زار قبر الحسين).
(٣)
... وقال المتوكل لأبي العنبس: أخبرني عن حمارك ووفاته وما كان من شعره في الرؤيا التي أريتها قال: نعم يا أمير المؤمنين.. كان أعقل من القضاة، ولم يكن له جريرة ولا زلة، فاعتل علة على غفلة فمات منها، فرأيته فيما يرى النائم فقلت له: يا حماري ألم أبرد لك الماء، وأنقِ لك الشعير وأحسن إليك جهدي؟! فلِمَ متَّ على غفلة؟ وما كان خبرك؟ قال:
 - نعم لما كان في اليوم الذي وقفت على فلان الصيدلاني تكلمه في كذا وكذا مرت بي أتان حسناء، فرأيتها فأخذت بمجامع قلبي فعشقتها واشتد بها وجدي فمت كمدا متأسفا. فقلت له: يا حماري فهل قلت في ذلك شعرا؟! قال: نعم وأنشدني:

هام قلبي بأتان * * * عند باب الصيدلاني
تيمتني يوم رحنا * * * بثناياها الحسان..

فطرب المتوكل وأمر الملهين والمغنين أن يغنوا ذلك اليوم بشعر الحمار. وفرح في ذلك اليوم فرحا شديدا، وسرّ سرورا لم ير مثله وزاد في تكرمة أبي العنبس وجائزته(٦٤).

* * *

لقد كان هذا الوضع - عزيزي القارئ - الذي وصلت إليه الخلافة، وهي التي كان يفترض أنها منصب الرسول وخلفائه الحقيقيين. وانحدرت إليه يوما بعد يوم، ودرجة بعد درجة، هو الحصاد المر، للزرع الآثم، ذلك أن زاوية الانحدار والميل ولو كانت في مبدأ أمرها صغيرة وغير محسوسة، ولا تتجاوز درجة واحدة على مسطرة الزوايا، إلا أن الزمان كلما تقدم، فإن الانحراف يزداد، وجنين السفاح الذي كان نطفة، أصبح اليوم طفلا، وغدا يكون جبارا عنيدا (ثم احتلبوا ملء العقب دما عبيطا وزعافا ممقراً مبيداً، يدع فيئكم حصيداً، وجمعكم بديداً).
أجل وصلت الحالة، أن الخليفة يوزع أموال المسلمين، وما حصلوا عليه بعرقهم وبدمائهم، لصالح حمار أبي العنبس!! وبينما ينفق الملايين على قصوره وبذخه يأمر بتخريب قبر الحسين.
وإذا وجد الخليفة له فترة صحو من الشراب، ومن غناء المغنين فتلك الفترة ملك للجواري، ولعبادة الشهوة.
وفي المقابل كان شيعة أهل البيت ينيرون في كل يوم شمعة في طريق المهاجرين إلى الله، وبالرغم من سوء ظروفهم الحياتية والمعاشية، فهم مطاردون، و(مغضوب عليهم) من قبل الحاكمين. فإنهم كانوا لا يفترون عن تبليغ أحكام الله، والدفاع عن العقيدة.
علم الكلام من أهم العلوم، بل أهمها، لأنه لما كان يناقش أمور المبدأ والمعاد، وما يرتبط بالتوحيد، كان تسرب الشبهات، والأفكار الأجنبية من خلاله أسهل من غيره وأشد خطورة لأنه يضرب الأساس العقيدي للإنسان.. يضاف إلى ذلك فإن البناء الذي يبنى في الفروع والأحكام، إنما يعتمد على الأسس التي تثبت في علم الكلام.
ولأهمية هذا العلم، وتأثيره في حفظ العقيدة، فقد انتدبوا بعض أصحابهم ليتكلموا، ويناظروا أصحاب العقائد المختلفة، ويبينوا الحق لطالبه، ومدحوهم بأنهم أنصار حق أهل البيت، وحراس العقيدة، والمرابطون على الثغر الأعظم، بينما منعوا من لا يحسن، ولا يملك المستوى المناسب، من ولوج هذا الباب.
وكان أبو سهل النوبختي، (شيخ المتكلمين ووجههم، ومتقدم النوبختيين في زمانه)، مع ملاحظة أن النوبختيين كانوا قد اشتهروا بالكلام، والعلوم الفلسفية، والعقلية، وقد تتلمذ عليه جماعة في هذا منهم الشاعر الناشئ الصغير علي بن عبد الله، فبرع في الكلام والمناظرات.
ولعل نظرة سريعة إلى عناوين كتبه تبين هذا الجانب، حيث أنها تدور حول عناوين: الرد، والمناظرة في التوحيد والنبوة والإمامة، وكان قد صنف فأكثر. فمن كتبه:
١ - كتاب الصفات للرد على أبي العتاهية في التوحيد في شعره.
٢ - في استحالة رؤية القديم.
٣ - حدوث العالم.
٤ - التوحيد.
٥ - الإرجاء.
٦ - النفي والإثبات.
٧ - الرد على اليهود.
٨ - الرد على المجبرة في المخلوق.
٩ - الخصوص والعموم والأسماء والأحكام.
١٠ - الإنسان والرد على ابن الراوندي.

١١ - التنبيه في الإمامة.
١٢ - الجمل في الإمامة.
١٣ - الرد على محمد الأزهر في الإمامة.
١٤ - الاحتجاج لنبوة النبي.
١٥ - الأنوار في تاريخ الأئمة.
١٦ - الرد على الواقفة.
١٧ - الرد على الغلاة.
١٨ - مجالسة مع أبي علي الجبائي.
١٩ - مجالس ثابت بن أبي قرة.
٢٠ - النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد
٢١ - نقض مسألة أبي عيسى الورّاق.
وكان أبو سهل النوبختي قد روى النص على إمامة الإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن (عجل الله فرجه)، بل قد رآه في حياة أبيه الإمام الحسن العسكري، ومع أنه كان في ذهن بعض الشيعة أنه مؤهل ليكون سفيرا للإمام الحجة، بل حتى عند نفسه أيضا مما يعلم منه مقدار منزلته، إلا أنه حين ولّي الحسين بن روح مهمات السفارة عن الإمام المهدي، وبالرغم مما يثيره هذا الأمر من حالات تنافس، وحسد، وصلت عند البعض إلى حدّ الخروج عن دائرة الأخلاق وأحيانا الإيمان، ووصلت بهم حدّ الانحراف، إلا أن أبا سهل النوبختي، يكون أول شهود نص السفير الثاني محمد بن عثمان على السفير الثالث وهو الحسين بن روح النوبختي..
 بل إنه أكثر من ذلك يوجد التعليل المناسب لتعيين الحسين بن روح دونه، فقد أجاب عندما سئل عن سبب تعيين الحسين سفيرا للإمام، دونه - وهو من الفضل بمكان-: بأن الأئمة أعلم بما يختارون ولكن الحسين أقدر على الكتمان، وإخفاء اسم الإمام، ومكانه، بينما هو أي أبو سهل حينما تضغطه الحجة، وهو كثير المناظرة، لربما تكلم بمكان الإمام (عجل الله فرجه).
 بهذه الصورة من التجرّد، والصفاء الأخلاقي يواجه أبو سهل النوبختي المسألة بينما يتظلم غيره - على الأقل - في أنه حجب عنه حقه، وحيل بينه وبين موقعه، أو يكفر آخرون بالإمام والقائد لهذا السبب.
بل إنه أكثر من هذا، دافع بقوة عن موقع السفارة، وعن السفير النوبختي أمام أدعياء السفارة، فحين أظهر الحسين الحلاج انحرافه وادعى أنه سفير الإمام طمع في أن يلقى العون من الشخصيات المعروفة في محيط أتباع الأئمة، لكي تنجح خطته، وكان من الطبيعي أن يتوجه إلى أبي سهل، لأنه لو صار معه، فإنه يستطيع استقطاب الكثيرين فأرسل إلى أبي سهل: إني وكيل صاحب الزمان وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريد من النصرة لك لتقوى نفسك ولا ترتاب في أمرك.
فردّ عليه أبو سهل النوبختي مستهزئا به وساخرا منه إني أسألك أمراً يسيرا يخف عليك مثله في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين!! وهو أني رجل أحب الجواري وأصبو إليهن!! ولي منهن عدة أتحظاهن والشيب يبعدني عنهن وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك وإلا انكشف أمري عندهن فصار القرب بعداً والوصال هجراً، وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مئونته وتجعل لحيتي سوداء!! فإنني طوع يديك وصائر إليك وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة!!.
فلما سمع ذلك الحلاج منه، وعرف جوابه، علم أنه قد أخطأ في مراسلته وأمسك عنه ولم يرد إليه جوابا، ولم يرسل إليه رسولا، وصيره أبو سهل رضوان الله عليه أحدوثة وضحكة، عند كل أحد. وشهّر أمره عند الصغير والكبير(٦٥).

نساء حول الإمام العسكري (عليه السلام)

١/ نرجس: الوالدة المكرمة للمنقذ الأعظم
يا أبا بصير: (القائم) هو الخامس من ولد ابني موسى، ابن سيدة الإماء
الإمام الصادق (عليه السلام)
هل يعقل أن يخطط الله نظام الكون لينتهي إلى هذه النهايات البائسة؟
وهل يمكن أن يخلق الله البشر، ومعهم هذه القدرات المتفاوتة ليظلم بعضهم بعضا، ويأكل بعضهم رزق بعض، ويقتل الأقوياء منهم الضعفاء؟
هل يعقل أن يستمر ليل البائسين، فلا ينفلق عن صبح نعيم؟ وأن يتطاول مشوار النفق المظلم، من دون بصيص نور، أو بارقة أمل؟
أم أن هناك أملا إلهيا، ووعدا ربانيا، به يملأ الله الأرض قسطا وعدلا(٦٦) كما ملئت ظلما وجورا(٦٧)؟
حتى لو لم يكن لدينا هذا العدد الهائل(٦٨) من الروايات التي تتحدث عن ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه) في آخر الزمان، لكان يلزم أن يهدي الفكر السليم إلى لزوم وجوده، وحتمية ظهوره.
بل إن هذه القضية (قضية المصلح المنتظر) مما تتفق عليها الديانات السماوية وإن اختلفت في المصاديق، والتفاصيل. لكن أصل لزوم قيام المصلح العالمي المعَدّ من قبل الله سبحانه، مما لا يختلفون فيه.
غير أن فئة من الذين لم يجدوا برد اليقين أبدا، واصطلوا بحمى الشك والتردد صاروا إلى إنكار بعض تفاصيل هذه القضية، مثل إنكار ميلاده ووجوده، مع أن التاريخ يثبت ذلك، ولا أعلم ماذا يصنعون عندما ينظرون إلى ما روي كثيرا عن الأمور التي رافقت ولادته المباركة، والتي تعمد فيها والده المكرم إظهار أمر الولادة بوسائل مختلفة.. فمنها:
- ما روته السيدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) وقد ذكرت تفاصيل الولادة المباركة، وتقدم نص حديثها في ترجمتها، فليراجع.
- ومنها قيام الإمام العسكري (عليه السلام) نفسه بإخبار عدد من خلص أصحابه، ليكون عندهم ذلك معلوما وليسروا به(٦٩) كما سرّ هو به، ومنها قيامه (عليه السلام) بالعقيقة لعموم شيعته وقد أكثر من ذلك(٧٠).
- ومنها استقبال الإمام للشيعة المهنئين له بولادة صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه) الشريف(٧١).
- كما قام سلام الله عليه، بتشريف بعض الأصحاب بإراءتهم المنقذ الأكبر عندما كان طفلا صغيرا.. منهم: من كان في بيت من الغلمان والخدم مثل أبي غانم الخادم، ونسيم الخادمة. وأبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (وكيل الإمام العسكري وسفير الحجة فيما بعد، والذي وثقه - وابنه - الرجاليون بتبع توثيق الإمام له (العمري وابنه ثقتان ما أديا فعني يؤديان وما قالا فعني يقولان) حيث أجاب على سؤال أحمد بن اسحاق القمي عندما سأله: هل رأى الخلف من أبي محمد؟ فقال: إي والله(٧٢).
بلى.. كان الظالمون يخططون للقضاء على خط الإمامة ونسل الحسن العسكري (عليه السلام) وأراد الله - ولا راد لإرادته - أن يبقى هذا الخط وذلك النسل الطاهر. تماما مثلما قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) (.. زعم الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل فكيف رأوا قدرة الله) وسماه المؤمل.

* * *

حظيت سيدة الإماء(٧٣) بعناية تامة كما تنقل قصة وصولها إلى البيت الطاهر، وأنها رأت في منامها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يدعوها للإسلام، وأنها سوف تكون زوجة لأحد أبنائه، فتعلق قلبها بهذا الدين وبنبيه العظيم، وكانت تنتظر حصول الفرصة لأن تلتحق ببلاد المسلمين حيث أن أصولها رومية، وقد كانت من الأسر المالكة عندهم (من سلالة شمعون الوصي)، فلم يكن هينا أن تهرب مثلا، ولا أن تعلن عن رغبتها تلك لأسرتها، لكن المناسبة تهيأت عندما حصلت حرب بين المسلمين والروم(٧٤)، كانت الغلبة فيها للمسلمين، وكان أن سبيت فيها هذه المرأة، فوصلت إلى بغداد وكان البيت العلوي ينتظر قدومها حتى تصبح أم القائد الأعظم.
وينقل لنا شيخ الطائفة الطوسي في كتابه الغيبة(٧٥) كيفية وصول هذه السيدة إلى بيت الإمام (عليه السلام) فيقول:
قال بشر بن سليمان النخاس وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد وجارهما بسر من رأى: أتاني كافور الخادم فقال: مولانا أبو الحسن علي بن محمد العسكري يدعوك إليه فأتيته فلما جلست بين يديه قال لي: يا بشر إنك من ولد الأنصار وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف وأنتم ثقاتنا أهل البيت وإني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بسر أطلعك عليه، وأنفذك في ابتياع أمة فكتب كتابا لطيفا بخط رومي ولغة رومية وطبع عليه خاتمه وأخرج شقة صفراء فيها مائتان وعشرون دينارا فقال: خذها وتوجه بها إلى بغداد واحضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وترى الجواري فيها ستجد طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس وشرذمة من فتيان العرب فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس عامة نهارك إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا لابسة حريرين صفيقين تمتنع من العرض ولمس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها وتسمع صرخة رومية من وراء ستر رقيق فاعلم أنها تقول: واهتك ستراه فيقول بعض المبتاعين علي ثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة فتقول له بالعربية: لو برزت في زي سليمان بن داود وعلى شبه ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك فيقول النخاس: فما الحيلة ولابد من بيعك فتقول الجارية: وما العجلة ولابد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى وفائه وأمانته. فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس وقل له: إن معك كتابا ملطفة لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه تناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه فان مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن (عليه السلام) في أمر الجارية فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديدا وقالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بالمحرجة والمغلظة أنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها فما زلت أشاحه في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (عليه السلام) من الدنانير فاستوفاه وتسلمت الجارية ضاحكة مستبشرة وانصرفت بها إلى الحجيرة التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولانا (عليه السلام) من جيبها وهي تلثمه وتطبقه على جفنها وتضعه على خدها وتمسحه على بدنها..
وهكذا صارت هذه السيدة الجليلة في بيت الإمامة، منذ أيام الإمام الهادي (عليه السلام) لتحتضنها اليد القديرة في بناء الإنسان، والمربية الحكيمة (حكيمة بنت الجواد (عليه السلام)) فـ (دخلت، أم المهدي إلى بيت الإمامة.. جارية من نسل شمعون الوصي، شاء لها سعدها، وطيب نفسها أن يكتب لها الله سبحانه هذه المنزلة العالية..
سليل، سوسن، نرجس، ريحانة، مليكة.. وغيرها، أسماء مختلفة لشخصية واحدة هي زوجة الإمام العسكري والتي شاء الله أن تكون وعاء لحجة الله الكبرى، وآيته العظمى صاحب النهضة العالمية الإمام المهدي (عجل الله فرجه). تعدد الأسماء يكشف عن حراجة الوضع الذي كان يعيش فيه الإمام ويكشف عن حالة التخفي وراء عناوين متعددة وأسماء مختلفة، من قبل زوجته، أم المهدي (عجل الله فرجه)، فقد نمي إلى علم السلطة ان الحسن قد تزوج في عهد أبيه الهادي، من امرأة يتوقع أن تكون أم الموعود المنتظر، وظلوا يراقبون الأمر، إلى أن كبسوا دار الإمام بعد شهادة أبيه الهادي (عليه السلام)، وفتشت الدار والدور القريبة منها أيضا، وأمروا بتفتيش النساء، ومعرفة أسمائهن، والتعرف على من تكون منهن عليها آثار الحمل.. وكان تعددا الأسماء منجيا عن المراقبة، فإذا طلبوا سليل فليست هنا، وإنما الموجودة هي سوسن، ولو طلبوا ريحانة فالموجودة هي نرجس، وهكذا..
بينما كانت أم المهدي، في عهدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام)، والتي كانت قد نهلت من علوم أبيها الجواد ما جعلها تليق بمكانة أستاذة لأم آخر الأوصياء المعصومين، فقد قال الإمام العسكري (عليه السلام) عندما قرر الزواج من نرجس لعمته حكيمة، أن تأخذها عندها فتعلمها فرائض الإسلام، وعلوم النبوة وثقافة أهل البيت فنادى أحد غلمانه وقال له: يا كافور ادع لي اختي حكيمة فلما دخلت عليه قال (عليه السلام) لها: هاهيه فاعتنقتها طويلا وسرت بها كثيرا فقال لها مولانا: يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم (عليه السلام). وبالفعل فقد بقيت في بيت حكيمة مدة من الزمان حتى لقد عرفت بين الناس بأنها جارية حكيمة، وعلى يد بنت الجواد (عليه السلام)، أخذت من علوم أهل البيت (عليهم السلام) الكثير، ولولا أن الدور الذي كان ينتظر السيدة نرجس، كان يتطلب الكتمان والتخفي، لظهر من آثار تلك العلوم والمعارف شيء ليس بالقليل. ولقد برعت التلميذة فيما أخذت، وبلغت من الفضل ما بلغت، إلى الحد الذي نرى فيه السيدة حكيمة (عليها السلام) فيما بعد تسوي حذاءها، وعندما تعترض نرجس على ذلك تواضعا، تقول لها حكيمة: أنا فداك وجميع العالمين!!..
بلى؛ لا يعرف الفضل إلا أهله)(٧٦).
٢/ حكيمة بنت محمد بن علي الجواد (عليهما السلام)
توفيت بعد سنة ٢٦٢ هجرية
يتعجب الناظر إلى التاريخ حينا، ويمتلئ غضبا حينا آخر، عندما يرى أن المفاصل الأساسية التي اعتمد عليها هيكل الحضارة الإسلامية، وبناء الدين الشامخ، تخلو منها كتب كثير من المؤرخين، ويمرون عليها غير كرام!! فلا يعطونها حقها من الذكر. بينما تمتلئ صفحات كتبهم بقصص السقوط، وتفاهات الحاكمين، ومن في بلاطهم.
ويأتي الجيل الذي يريد الاطلاع على تأريخ أمته، فلا يجد في ذلك التاريخ إلا المخازي، خمريات يزيد شعرا وشربا، وشهويات هارون قولا وفعلا.. (فقد شغف بجارية لأبيه المهدي كان قد دخل بها - أي المهدي - فامتنعت عليه، وقالت له: لا أصلح لك إن أباك قد طاف بي)..وزاد غرامه بها فأرسل خلف الفقيه أبي يوسف، فقال له: أعندك شيء في هذا؟ فأفتى أبو يوسف بما خالف كتاب الله وسنة نبيه قائلا: يا أمير المؤمنين أو كلما ادعت امة شيئا ينبغي أن تُصدق(٧٧)؟ لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة!! وقد أفتى أبو يوسف بما يوافق هوى هارون وأعرض عما حكم به الإسلام من تصديق النساء على فروجهن!!
وتعلق هواه بجارية فأمر وزيره يحيى أن يدفع ثمنها وكان مائة ألف دينار، فاستكثر يحيى المال واعتذر عن دفعه فغضب الرشيد! فأراد يحيى أن يبين له مقدار ما يتحمله بيت المال من هذا الإسراف الذي لا مصلحة فيه ولا منفعة، فجعل المال دراهم، فبلغت مليونا فوضعها في الرواق الذي يمر به الرشيد إذا اراد الوضوء، فلما رأى ذلك استكثره وأدرك إسرافه. وجبي مال عظيم من بقايا خراج الموصل فأمر بصرفه أجمع إلى بعض جواريه فاستعظم الناس ذلك وتحدثوا به، وأصاب أبو العتاهية من ذلك شبه الجنون فقال له خالد بن الأزهر: ما بك يا أبا العتاهية؟ فقال: سبحان الله أيدفع هذا المال الجليل إلى امرأة؟؟
وإذا كان المؤرخون المعاصرون للخلفاء يدافعون عنهم طمعا في دنياهم وأموالهم، فلا أعلم لماذا يدافع مثل ابن خلدون عن هارون قائلا بأنه: لم يكن الرجل بحيث يوقع محرما من أكبر الكبائر عند أهل الملة ولقد كان أولئك القوم كلهم بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين التي لم يفارقوها..
ولا أعلم هل كان أولئك الحاكمون على السذاجة، أو المؤرخون الذي كتبوا عنهم - كابن خلدون - زاعمين أنه لم يكن على تلك الحال بل كان يغزو عاما ويحج عاما!!..نعم لو كانت غزواته كالتي ذكرت أعلاه، فلم تكن كل عام بل ربما كل يوم..
أوردت لك عزيزي القارئ، نموذجا لكي تعرف مقدار الجناية التي ارتكبت بحق تاريخ الأمة الحقيقي، عندما أُبرز تاريخها وكأنه تاريخ البلاط والقصور والخمريات، والشعراء المرتزقة، والفقهاء الطبالين على أبواب السلاطين، بينما كان تاريخها الحقيقي هو تاريخ العلم، ونشر الشريعة، وقصص العفة والفضيلة، تاريخ الجهاد بأكبره وأصغره، تاريخ الإمامة.

* * *

والآن عزيزي القارئ.. هلم لنفتح صفحة من أطهر الصفحات، لامرأة نسلت من أطهر البيوت، وقد قامت بدور سيكون مرتبطا به مصير استمرار الإمامة، والولاية. تلك هي حكيمة بنت الإمام محمد بن علي الجواد، أخت الإمام علي الهادي، وعمة الإمام الحسن العسكري (عليهم السلام) جميعا. ولا بد أن نتعرف قليلا على الدور الذي عاشت فيه هذه السيدة الطاهرة، وهو الذي يبدأ من أيام المتوكل العباسي ثم المنتصر، ثم المستعين ثم المعتز والمهتدي والمعتمد (ما بين ٢٣٢ هـ و٢٥٦).
ويذكر المؤرخون عن هذه الفترة مواصفات مشتركة، من أهمها الضعف العام الذي استولى على مؤسسة الحكم، ففقدت حتى احترامها الظاهري بين الناس بل بين أعوانها الأتراك الذين أصبحوا فيما بعد سادتها، فكانوا ينصبون ويعزلون كما يشاؤون، إلى الحد الذي تذكر فيه هذه الطرفة التي تحكي عن الحالة آنئذ: لما جلس المعتز على سرير الخلافة قعد خواصه وأحضروا المنجمين وقالوا لهم: انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة، وكان بالمجلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته، فقالوا: فكم تقول أنه يعيش وكم يملك؟ فقال: مهما أراد الأتراك!! فلم يبق في المجلس إلا من ضحك..
والملاحظ أنه في نفس الوقت الذي زاد ضعف الخلفاء امام الأتراك، كانوا يستأسدون على المؤمنين لا سيما على أهل البيت (عليهم السلام)، وهذه المعادلة يبدو أنها عند الحاكمين تجري كقاعدة، بينما العكس هو الموافق للحكمة، فنرى البعض من الحاكمين عندما يزداد ضعفهم يزداد عنفهم على شعوبهم، فيقمعون كل كلمة، ويحاربون كل تجمع، ويهدمون كل قوة، خوفا ورعبا، بينما لو اتجهوا إلى هذه الشعوب، وأعطوها بعض ما لها من حقوق لزادت قوتهم، ولتغلبوا على ضعفهم، ولانتصروا على عدوهم.
انظر إلى المتوكل فهو في نفس الوقت الذي يتآمر عليه الأتراك - وهم صنائعه - حتى انتهى الأمر بهم أن قتلوه، بدلا من أن يتجه إلى إكرام المسلمين من رعيته، ولا سيما أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فإذا به يعلن عليهم الحرب، فيحرث قبر الحسين، ويمنع الناس من زيارته، ويسجن الإمام عليا الهادي (عليه السلام)، ويتهدده بالقتل بين فترة وأخرى، وبزعم الدفاع عن السنة، فقد حول فتنة خلق القرآن إلى سيف سلطه على كل من عارضه، فوقع الناس بين مطرقة خلق القرآن أيام المأمون والواثق وبين سندان القول بقدمه أيام المتوكل!!
وجاءت أدوار من بعده لتسوء الحالة أكثر - باستثناء فترة قصيرة أيام المنتصر -، وبحسب ما كان لدى الحكام العباسيين، وغيرهم من علم بأن المهدي الموعود الذي وردت صفاته، وبُشر به من أيام رسول الله، وهو الثاني عشر من الأئمة سيكون من ولد الإمام العسكري، وعلى يده سيكون إزالة الظلم والانحراف، وإقامة حكومة العدل الإلهي بقيادة مهدي آل محمد، فأعلنوا حالة طوارئ قصوى في البلاد، وسعوا جهدهم للقضاء عليه قبل أن يشتد عوده، ففرضوا الإقامة الجبرية على أبيه العسكري (عليه السلام)، وكان منزله مراقبا طول الوقت، وكان كل تغيير يحصل في الوضع العام على مستوى الحاكم، لا بد أن يفتتح أمره بسجن الإمام (عليه السلام)، فقد سجن في أيام المستعين العباسي، ثم لما خلعه الأتراك وأمروا بقتله، وأتوا بالزبير بن المتوكل الملقب بالمعتز، وكان هذا كأبيه في نصبه وعدائه لأهل البيت (عليهم السلام)، كان أول ما افتتح به عهده هو إعادة الإمام إلى السجن بعدما كان قد أفرج عنه، وهلك هذا الثاني (المعتز) في ما قيمته خمسون ألف دينار فقد طلب منه قادته الأتراك هذا المبلغ ليوزعوه على أنصارهم، ولم يكن في خزينة الدولة التي انهارت هذا المبلغ، فخف المعتز إلى أمه المسماة (قبيحة) وطلب منها أن تعينه في ذلك، وكانت تملك ما يقارب من مليون وثمانمائة ألف دينار، مخبأة هذا عدا عن غيرها من الجواهر!
وجاء (ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه) المسمى بالمهتدي، وعلى سنة أسلافه مضى، وكعاقبة سابقيه انتهى.. وفي عهد التالي له، المعتمد استشهد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وكان لا يزال في ريعان شبابه.
في هذا الوضع الحرج، حيث كان الاتصال بين الإمام وبين شيعته ممنوعا، ومنزله مراقبا، والمنتظر ابنه مترقبا، والأمور كلها في حالة استثنائية.. كان من المهم أن تتم ولادة الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، بنحو خاص ينجو فيه من الرقابة، وكان ما يعرض للشيعة من مشاكل ومسائل يحتاجون فيها إلى رأي الإمام (عليه السلام)، لا بد من وصوله إليهم، من دون اتصال مباشر.
وهنا تجلى الدور الحكيم، للسيدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام)، فقد مارست دورها كأفضل ما يمكن لأحد أن يمارسه..
حكيمة معلمة لأم المهدي (عليه السلام):
في أيام الإمام علي الهادي (عليه السلام) دخلت أم المهدي إلى بيت الإمامة.. جارية من نسل شمعون الوصي، شاء لها سعدها، وطيب نفسها أن يكتب لها الله سبحانه هذه المنزلة العالية..
سليل، سوسن، نرجس، ريحانة، مليكة.. وغيرها، أسماء مختلفة لشخصية واحدة هي زوجة الإمام العسكري والتي شاء الله أن تكون وعاء لحجة الله الكبرى، وآيته العظمى صاحب النهضة العالمية الإمام المهدي (عجل الله فرجه). تعدد الأسماء يكشف عن حراجة الوضع الذي كان يعيش فيه الإمام ويكشف عن حالة التخفي وراء عناوين متعددة وأسماء مختلفة، من قبل زوجته، أم المهدي (عجل الله فرجه)، فقد نمي إلى علم السلطة ان الحسن قد تزوج في عهد أبيه الهادي، من امرأة يتوقع أن تكون أم الموعود المنتظر، وظلوا يراقبون الأمر، إلى أن كبسوا دار الإمام بعد شهادة أبيه الهادي (عليه السلام)، وفتشت الدار والدور القريبة منها أيضا، وأمروا بتفتيش النساء، ومعرفة أسمائهن، والتعرف على من تكون منهن عليها آثار الحمل.. وكان تعددا الأسماء منجيا عن المراقبة، فإذا طلبوا سليل فليست هنا، وإنما الموجودة هي سوسن، ولو طلبوا ريحانة فالموجودة هي نرجس، وهكذا..
بينما كانت أم المهدي، في عهدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام)، والتي كانت قد نهلت من علوم أبيها الجواد ما جعلها تليق بمكانة أستاذة لأم آخر الأوصياء المعصومين، فقد قال الإمام العسكري (عليه السلام) عندما قرر الزواج من نرجس لعمته حكيمة، أن تأخذها عندها فتعلمها فرائض الإسلام، وعلوم النبوة وثقافة أهل البيت فنادى أحد غلمانه وقال له: يا كافور ادع لي أختي حكيمة فلما دخلت عليه قال (عليه السلام) لها: ها هيَ فاعتنقتها طويلا وسرت بها كثيرا فقال لها مولانا: يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم (عليه السلام). وبالفعل فقد بقيت في بيت حكيمة مدة من الزمان حتى لقد عرفت بين الناس بأنها جارية حكيمة، وعلى يد بنت الجواد (عليه السلام)، أخذت من علوم أهل البيت (عليهم السلام) الكثير، ولولا أن الدور الذي كان ينتظر السيدة نرجس، كان يتطلب الكتمان والتخفي، لظهر من آثار تلك العلوم والمعارف شيء ليس بالقليل. ولقد برعت التلميذة فيما أخذت، وبلغت من الفضل ما بلغت، إلى الحد الذي نرى فيه السيدة حكيمة (عليها السلام) فيما بعد تسوي حذاءها، وعندما تعترض نرجس على ذلك تواضعا، تقول لها حكيمة: أنا فداك وجميع العالمين!!.. بلى؛ لا يعرف الفضل إلا أهله.
حكيمة الحاضرة في ولادة المنقذ:
مع أن الكثير كان يحب التشرف بخدمة الأئمة، إلا أن هناك أمورا لا يمكن أن يطلع عليها إلا من ملئ إيمانا ويقينا، وبلغ مرحلة من الكمال بحيث لا يخضع لضغط الظهور، وحب الشهرة.. لقد أفسد هذا الأمر كثيرا من خطط العاملين، وأضاع فرصا كبيرة على المؤمنين، ولكن في مثل هذه القضية التي يرتبط بها مصير العالم والرسالة الإسلامية لا مجال للتساهل.. ها أنت ترى الإمام العسكري يكتم الاسم (اسم الحجة) فضلا عن المكان بالنسبة إلى قسم من المؤمنين، ويتدخل الغيب لكي يسدل ستارا من الخفاء على الولادة المباركة، وها هي مليكة (أو نرجس أو سوسن..) تمارس حياتها الطبيعية من دون آثار ظاهرة للحمل، تشي بها للناظر، يساعدها في ذلك التخفي عن أنظار الأغراب كثرة أسمائها، ولذا نقل أن إحدى الجواري ممن كانت في بيت الإمام العسكري (عليه السلام) اشتبه على جواسيس السلطة أمرها، ورأوا في بطنها انتفاخا فأخذوها وأودعوها في حجرة ووكل بها نحرير الخادم، وبعض النسوة لحراستها.. إلى أن حدثت تغيرات سياسية على مستوى تغيير الخليفة، فلهوا عن أمرها، وكانت تلك المرأة بمثابة الفداء لأم المهدي في تلك الفترة.
وهنا كانت حكيمة الحاضرة في ولادة نور الله في ظلمات الأرض، ولنستمع إليها تذكر لنا قصة الولادة المباركة:
- حدثنا محمد بن الحسن بن الوليد رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن رزق الله (عبيد الله) قال: حدثني موسى بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: حدثتني حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قالت: بعث إلي أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) فقال: يا عمة اجعلي إفطارك هذه الليلة عندنا فإنها ليلة النصف من شعبان فإن الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة والحجة وهو حجته في أرضه قالت: فقلت له: ومن أمه قال لي: نرجس.
 قلت له: جعلني الله فداك ما بها أثر فقال: هوما أقول لك قالت: فجئت فلما سلمت وجلست جاءت تنزع خفي وقالت لي: يا سيدتي وسيدة أهلي كيف أمسيت؟
فقلت: بل أنت سيدتي سيدة أهلي قالت: فأنكرت قولي وقالت: ما هذا يا عمة؟ قالت: فقلت لها: يا بنية إن الله تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاما سيدا في الدنيا والآخرة.
قالت: فخجلت واستحيت فلما أن فرغت من صلاة العشاء الآخرة أفطرت وأخذت مضجعي فرقدت فلمان كان في جوف الليل قمت إلي الصلاة ففرغت من صلاتي وهي نائمة ليس بها حادث ثم جلست معقبة ثم اضطجعت ثم انتبهت فزعة وهي راقدة ثم قامت فصلت ونامت قالت حكيمة: وخرجت أتفقد الفجر فاذا أنا بالفجر الأول كذنب السرحان وهي نائمة فدخلني الشكوك فصاح بي أبو محمد (عليه السلام) من المجلس فقال: لا تعجلي يا عمة فهاك الأمر قد قرب قالت: فجلست وقرأت الم السجدة ويس فبينما أنا كذلك إذا انتبهت فزعة فوثبت إليها فقلت: اسم الله عليك ثم قلت لها: أتحسين شيئا قالت: نعم يا عمة فقلت لها: اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك قالت: فأخذتني فترة وأخذتها فترة فانتبهت بحس سيدي فكشفت الثوب عنه فإذا أنا به (عليه السلام) ساجدا يتلقى الأرض بمساجده فضممته إلي(٧٨).
 وكانت حكيمة فيما بعد الاختفاء والغيبة، تحدث بذلك من تثق به، وتبين له ولادة الإمام الحجة، وما رافقها من الكرامات الإلهية(٧٩)
حكيمة السفيرة والواسطة:
كانت الظروف التي أحاطت بشهادة الإمام العسكري (عليه السلام)، بالغة التعقيد خصوصا مع تربص الحكومة العباسية بالإمام بعده، فكانت تنتظر خروجه على الناس سواء في تشييع أبيه أو الصلاة عليه، أو فيما بعد حين يتصدى لمباشرة أمور الإمامة، وكان الإمام العسكري (عليه السلام) قد أعد الأتباع مبدئيا للتعامل مع إمام غير ظاهر، عن طريق تأكيد دور الوكلاء والنواب(٨٠)، وإرجاع المؤمنين إليهم. وربما أنتجت تلك الفترة حيرة لبعض الناس الذين لم يشأ لهم وضعهم الديني ووعيهم أن يكونوا في جو ما يحدث، وفي تفاصيله، كما نجد في عصرنا الحاضر أيضا أن قسما من الناس مع أنهم يعيشون في المجتمع إلا أنهم لا يعيشون في تفاصيل ما يحدث فيه من قضايا، وليس من الصالح إطلاعهم على تلك التفاصيل.. فإذا حدث الأمر الذي كانوا غائبين عن مقدماته حصل لهم نوع من التشويش والاضطراب.. وهذا ما حصل لقسم من الناس بعد شهادة العسكري، خصوصا مع تصدي أخيه جعفر لمقام الإمامة من غير حق، بدعم من السلطة العباسية واختفاء الإمام المهدي (عجل الله فرجه).
وأما حكيمة فقد (كانت مخصوصة بالأئمة (عليهم السلام)، ومودعة أسرارهم، وكانت أم القائم عندها وكانت حاضرة عند ولادته وكانت تراه حينا بعد حين في حياة أبي محمد العسكري (عليه السلام)، وكانت من السفراء والأبواب بعد وفاته). كما يقول شيخنا المجلسي رضوان الله عليه. ولذلك ربما رجع إليها بعض المؤمنين لسؤالها عما يرتبط بأمور الإمامة، فقد حدث محمد بن عبد الله الطهوي قال: قصدت حكيمة بنت محمد (عليه السلام) بعد مضي أبو محمد (عليه السلام) أسألها عن الحجة وما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي هم فيها فقالت لي: اجلس فجلست ثم قالت: يا محمد إن الله تبارك وتعالى لا يخلي الأرض من حجة ناطقة أو صامتة ولم يجعلها في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام) تفضيلا للحسن والحسين وتنزيها لهما أن يكون في الأرض عديلهما إلا أن الله تبارك وتعالى خص ولد الحسين بالفضل على ولد الحسن (عليهما السلام) كما خص ولد هارون على ولد موسى (عليه السلام) وإن كان موسى حجة على هارون والفضل لولده إلى يوم القيامة ولابد للأمة من حيرة يرتاب فيها المبطلون ويخلص فيها المحقون كيلا يكون للخلق على الله حجة وإن الحيرة لابد واقعة بعد مضي أبي محمد الحسن (عليه السلام) فقلت: يا مولاتي هل كان للحسن (عليه السلام) ولد فتبسمت ثم قالت: إذا لم يكن للحسن (عليه السلام) عقب فمن الحجة من بعده؟ وقد أخبرتك أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام) فقلت: يا سيدتي حدثيني بولادة مولاي وغيبته (عليه السلام)...ثم ذكرت حديث الولادة بما سبق أن ذكرناه..
كذلك أحمد بن إبراهيم قال دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا أخت أبي الحسن صاحب العسكر (عليهم السلام) في سنة اثنتين وستين ومائتين فكلمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها فسمت لي من تأتم بهم ثم قالت: والحجة ابن الحسن بن علي فسمته فقلت لها: جعلني الله فداك معاينة أو خبرا؟
فقالت: خبرا عن أبي محمد (عليه السلام) كتب به إلي! فقلت لها: فأين الولد فقالت: مستور! فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟
فقالت لي: إلى الجدة ام أبي محمد (عليه السلام) فقلت لها: أقتدي بمن وصيته إلى امرأة؟
فقالت: اقتداء بالحسين بن علي (عليهما السلام) فإن الحسين بن علي (عليهما السلام) أوصى إلى اخته زينب بنت علي في الظاهر فكان ما يخرج عن على بن الحسين (عليهما السلام) من علم ينسب إلى زينب سترا على علي بن الحسين (عليهما السلام) ثم قالت: أنكم قوم أصحاب أخبار أما رويتم أن التاسع من ولد الحسين بن علي (عليهما السلام) يقسم ميراثه وهو في الحياة.
توفيت السيدة الجليلة حكيمة بعد مدة من غيبة الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، وقد نقل عنها بعضهم أنه دخل عليها في المدينة في سنة ٢٦٢ للهجرة، وقد سألها مسائل.. وهذا آخر ما ذكر عنها في ثنايا كتب الروايات، وأما كتب التاريخ فلم تترك رواية الغنائيات، وأحوال العابثات والعابثين مجالا للمؤرخين لكي يتحدثوا عن هذه الأنوار الساطعة، والصفحات المضيئة.
٣/ أم كلثوم بنت أبي جعفر عثمان بن سعيد العمري
توفيت بعد سنة ٣٢٦ هـ
بين حدي الجحود والغلو ابتلي أهل البيت (عليهم السلام) بأتباع، لم يَعرفوا أو جحدتها أنفسهم بعد المعرفة..
ولا نزال نرى آثار ذلك الجحود التاريخي في (عدم انحياز) أكثرية الأمة لأهل البيت، ووقوفها على الحياد (السلبي) تجاه منهجهم وطريقتهم، فقههم وفكرهم، بالرغم من أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) للأمة أن تتمسك بهم، وأن تسير خلفهم.
فأنت تطالع كتب الفقه فلا ترى فيها ذكرا لهم، وكتب الصحاح (تتورع!!) عن النقل عنهم، وفي السياسة العامة لا ترى أثرا لهم.. وهكذا. فكأن هذا الإبعاد التاريخي الذي حصل، والانتهاك التام لحقوق أهل البيت من قبل أهل السياسة والدنيا لم يكن كافيا، حتى يكمله (ولا كمال فيه) هؤلاء. فكان بلاء أهل البيت (عليه السلام) مع هؤلاء الجاحدين لهم (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وكان البلاء الآخر لهم (عليهم السلام) فئات الغلاة، بينما بقيت شيعتهم (النمرقة الوسطى). فئات الغلاة الذين اختلطت فيهم الدوافع في مزيج غريب، يختلف بحسب اختلاف الأفراد والأدوار، والأزمان أحيانا. لكن يجمعهم أنهم يرون في المعصومين أنهم (فوق البشر). بينما الحق أنهم كانوا (خير البشر).
ومع أن ظاهر هؤلاء هو أنهم يدافعون عن ذوات الأئمة ويدعون لهم، ويردون إليهم حقهم أمام منكريه، إلا أن هؤلاء أكثر ضررا من أولئك على (منهج) أهل البيت. هلم معي لنتابع (كيف) يجند الغلاة أتباعهم؟
إن نقص معرفة عوام الغلاة بالمعصومين يجعل هؤلاء غير قادرين على الجمع بين المنازل التي أحلهم الله إياها، والنعم التي أولاهموها، وجريان الكرامات على أيديهم، و... وبين كونهم بشرا يتعاملون مع الواقع الخارجي بكل ظروفه من محن، وآلام ومتاعب. وفي ذلك أجرهم العظيم. هذا النقص في المعرفة يأتي قسم آخر ممن يعرفون ولكن (حليت الدنيا في أعينهم)، ويستغلونه فيجندون البسطاء حولهم باعتبارهم هم المدافعون وهم العارفون، والأبواب للأئمة، بل يصعدون إلى ما هو أعلى من ذلك أن روح الأئمة قد حلّت فيهم، وأصبحت جزءا منهم! وبالتالي فإن على الأتباع أن يقدسوا من حلّت فيه روح الإمام!! وأن يطيعوا أوامره وأن لا يعصوا له أمرا(٨١)!
 فأنت تنظر عزيزي القارئ أن هؤلاء قد بدأوا مما ظاهره الدفاع عن حق الأئمة، وانتهوا إلى مصالح أنفسهم الشخصية وتقديس ذواتهم هم دون الأئمة.
وهم في ذلك يسلكون طرقا خاصة، فهم يؤكدون على أن هذا الأمر لا يفهمه سائر الناس وإنما - أنت وحدك الذي تسمعهم - هو الفاهم والعارف، وأما الباقي فهم لا يفقهون شيئا.. العلماء الكبار هؤلاء رجال فقه!! ولا يفهمون في المنازل الروحية، والعرفان، والخلوات.. الخ. والذي تسمعه أنت أو تعرفه منهم هذا أمر عظيم لا يصح أن يطّلع عليه الآخرون!! وإنما جاء الاختصاص بك، لمنزلتك العالية وتوفيقك الإلهي! وبهذا يكسبون الشخص لأنهم يشبعون فيه تقدير ذاته، و(ينبهونه) إلى عظم نفسه!!
قد يرتقي الحال إلى مرتبة يعرّف فيها أشخاص الغلو بأن هذه المنزلة التي وصلها لعظم معرفته، ما لم يصله سواه من عامة الناس، يفترض فيه أن تكون عبادته مختلفة عن عبادة غيره، وهنا يأتي دور التأويل، فيكفي من الإيمان معرفة الإمام مثلا، ويكفي من الصلاة تحقيق أهدافها، ويكفي من الصوم كذا.. الخ. فتسقط التكاليف الشرعية والأحكام من قاموس حياته بالتدريج، يُكتفى مثلا بالدعاء والأوراد والأحراز.. وينتهي هذا الإنسان إلى (فاسق) بحسب التصنيف الشرعي لمن ترك العبادات والواجبات عامدا.. وهو يظن نفسه في أعلى الدرجات!! سالكا إلى الله.
ولو حصل أن تمت مواجهتهم من قبل العلماء، بل حتى من قبل الأئمة كما حدث تاريخيا، فإنهم يؤولون الأمور على غير ظاهرها، ويحملون الكلمات ما لا تحتمل، كما صنع الشلمغاني عندما خرج لعنه من قبل الإمام الحجة (عجل الله فرجه)، فقد أول لعنه - وهي كلمة لا يوجد أوضح منها - بما ينفعه عند أتباعه.
ثم إنهم يختارون ضحاياهم، فهم يبحثون عن غير أهل العلم، من ذوي المستوى البسيط الذي يمكن التمويه عليه وعن غير المتصلين بالمنابع العلمية الصافية، وعن النساء اللاتي هن - إجمالا وبحسب الطبع العاطفي - أميل إلى التصديق والقبول لاسيما إذا كان شيئا عليه هالة من القدسية.
لكنهم لو واجهوا من يعرفهم، ويكشفهم فإنهم لا يستطيعون، وهذا ما حصل مع أم كلثوم. تُرى من هي هذه المرأة؟
أم كلثوم بنت أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري.. عاشت في جو علمي موالٍ لأهل البيت (عليهم السلام)، بل في جو العلماء والسفراء والوكلاء ولم تكن بعيدة عن ما يجري فيه من المعرفة والفهم الديني العميق ولذا نجد أن حفيدها هبة الله بن أحمد الكاتب قد روى عنها كثيرا، وهو بدوره كان مكثرا في الكتابة التصنيف وكان والدها وجدها(٨٢) سفيرين للإمام الحجة (عجل الله فرجه) في فترة الغيبة الصغرى، وزوجها أحمد بن إبراهيم بن نوبخت(٨٣) خصيصا بوالدها السفير الثاني ومقربا منه في أموره، ثم اختص بالسفير الثالث أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي حتى كانت رسائل الحسين بن روح إلى الشيعة والتي فيها توجيهات الإمام صاحب الزمان (عجل الله فرجه) تخرج بخط زوجها أحمد بن إبراهيم النوبختي.
وهي نفسها كانت محل ثقة السفير الثالث، وكان يعتمد عليها فيما يظهر من الرواية التي سنذكرها فيما بعد - في توجيه النساء وتعليمهن، وكان لها هي منزلة رفيعة لعلمها. لكنها عندما لاحظت تيار الغلو والانحراف أخبرت السفير الثالث باعتبار أنه (ولو ردوه إلى الله وإلى الرسول لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
فقد روى شيخ الطائفة الطوسي رضوان الله عليه في كتابه الغَيبة، عند حديثه عن المذمومين من الوكلاء أن منهم أبا جعفر ابن أبي العزاقر المعروف بالشلمغاني:
- أخبرني الحسين بن إبراهيم عن أحمد بن نوح عن أبي نصر هبة الله بن محمد بن أحمد الكاتب ابن بنت أم كلثوم بنت أبي جعفر العمري رضي الله عنه قال: حدثتني الكبيرة أم كلثوم بنت أبي جعفر العمري رضي الله عنه قالت: كان أبو جعفر بن أبي العزاقر وجيها عند بني بسطام. وذاك أن الشيخ أبا القاسم رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان قد جعل له عند الناس منزلة وجاها.
فكان عند ارتداده يحكي كل كذب وبلاء وكفر لبني بسطام ويسنده عن الشيخ أبي القاسم فيقبلونه منه ويأخذونه عنه حتى انكشف ذلك لابي القاسم رضي الله عنه فأنكره وأعظمه ونهى بني بسطام عن كلامه وأمرهم بلعنه والبراءة منه فلم ينتهوا وأقاموا على توليه. وذاك أنه كان يقول لهم: إنني أذعت السر وقد أخذ علي الكتمان فعوقبت بالابعاد بعد الاختصاص لان الأمر عظيم لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن فيؤكد في نفوسهم عظم الأمر وجلالته.
 فبلغ ذلك أبا القاسم رضي الله عنه فكتب إلى بني بسطام بلعنه والبراءة منه وممن تابعه على قوله وأقام على توليه فلما وصل إليهم أظهروه عليه فبكى بكاء عظيما ثم قال: إن لهذا لقول باطنا عظيما وهو أن اللعنة الابعاد فمعنى قوله: لعنه الله أي باعده الله عن العذاب والنار والآن قد عرفت منزلتي ومرغ خديه على التراب وقال: عليكم بالكتمان لهذا الأمر.
قالت الكبيرة رضي الله عنها: وقد كنت أخبرت الشيخ أبا القاسم أن أم أبي جعفر بن بسطام قالت لي يوما وقد دخلنا إليها فاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتى انكبت علي رجلي تقبلها. فأنكرت ذلك وقلت لها: مهلا يا ستي فإن هذا أمر عظيم وانكببت على يدها فبكت ثم قالت: كيف لا أفعل بك هذا وأنت مولاتي فاطمة فقلت لها وكيف ذاك يا ستي. فقالت لي: إن الشيخ أبا جعفر محمد بن علي خرج إلينا بالسر.
قالت:
فقلت لها: وما السر قالت: قد أخذ علينا كتمانه وأفزع إن أنا أذعته عوقبت قالت: وأعطيتها موثقا أني لا أكشفه لاحد واعتقدت في نفسي الاستثناء بالشيخ رضي الله عنه يعني أبا القاسم الحسين بن روح.
قالت: إن الشيخ أبا جعفر قال لنا: إن روح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) انتقلت إلى أبيك يعني أبا جعفر محمد بن عثمان رضي الله عنه وروح أمير المؤمنين (عليه السلام) انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح وأن روح مولاتنا فاطمة (عليها السلام) انتقلت إليك فكيف لا أعظمك يا ستنا.
فقلت لها: مهلا لا تفعلي فإن هذا كذب يا ستنا فقالت لي: هو سر عظيم وقد أخذ علينا أننا لا نكشف هذا لاحد فالله الله في لا يحل بي العذاب ويا ستي فلولا أنك حملتيني على كشفه ما كشفته لك ولا لأحد غيرك.
قالت الكبيرة أم كلثوم رضي الله عنها: فلما انصرفت من عندها دخلت إلى الشيخ أبي القاسم بن روح رضي الله عنه فأخبرته بالقصة وكان يثق بي ويركن إلى قولي فقال لي: يا بنية إياك أن تمضي إلى هذه المرأة بعدما جرى منها ولا تقبلي لها رقعة إن كاتبتك ولا رسولا إن انفذته إليك ولا تلقيها بعد قولها فهذا كفر بالله تعالى وإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقا إلى أن يقول لهم: بأن الله تعالى اتحد به وحل فيه كما يقول النصارى في المسيح (عليه السلام) ويعدو إلى قول الحلاج لعنه الله.
قالت: فهجرت بني بسطام وتركت المضي إليهم ولم أقبل لهم عذرا ولا لقيت أمهم بعدها وشاع في بني نوبخت الحديث فلم يبق أحد إلا وتقدم إليه الشيخ أبو القاسم وكاتبه بلعن أبي جعفر الشلمغاني والبراءة منه وممن يتولاه ورضي بقوله أو كلمه فضلا عن موالاته.
ثم ظهر التوقيع من صاحب الزمان (عليه السلام) بلعن أبي جعفر محمد بن علي والبراءة منه وممن تابعه وشايعه ورضي بقوله وأقام على توليه بعد المعرفة بهذا التوقيع.

* * *

ولم يكن ينقص الشلمغاني علمٌ ولا معرفة، وإنما كانت المشكلة في التهذيب النفسي وفي مقاومة مغريات الدنيا من جاه ومال، ولذا كانت حاجة من هم في معرَض الابتلاء الدنيوي أكثر من غيرهم، كانت الحاجة إلى التهذيب النفسي والتذكر الأخروي أكثر من غيرهم، ولعل هذا ما كان يصنعه الحسين بن روح النوبختي رضوان الله عليه كما تنقل ذلك لنا أم كلثوم بنت العمري - كما نقل ذلك عنها حفيدها هبة الله الكاتب:
حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد الدلال القمي قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن عثمان رضي الله عنه يوما لأسلم عليه فوجدته وبين يديه ساجة ونقاش ينقش عليها ويكتب آيا من القرآن وأسماء الأئمة (عليهم السلام) على حواشيها.
فقلت له: يا سيدي ما هذه الساجة فقال لي: هذه لقبري تكون فيه أوضع عليها أو قال: أسند إليها وقد عرفت منه وأنا في كل يوم أنزل فيه فأقرأ جزءا من القرآن (فيه) فاصعد وأظنه قال: فأخذ بيدي وأرانيه فإذا كان يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا صرت إلى الله عز وجل ودفنت فيه وهذه الساجة معي.
فلما خرجت من عنده أثبت ما ذكره ولم أزل مترقبا به ذلك فما تأخر الأمر حتى اعتل أبو جعفر فمات في اليوم الذي ذكره من الشهر الذي قاله من السنة التي ذكرها ودفن فيه.
مضى الشلمغاني..
وتوفي الحسين بن روح
وماتت أم كلثوم..
بقي العذاب والذكر السيء للأول..
وصار الثاني إلى أئمة الهدى، وحشرت بنت العمري مع أبيها وجدها، يشيعهم ذكر جميل ولسان صدق في الآخرين. وفي ذلك عبرة للمعتبر.
٤/ أم علي بن زيد بن علي العلوي
بنت القاسم بن عقيل العقيلية
عرف الزيدية في تاريخهم، بأمور منها: أنهم كانوا من حملة السلاح الثائر، ومن المؤمنين بأن (السيف أصدق أنباء من الكتب)، وأنه لا يفل (حديد) الأصفاد إلا (حديد) السيف. ولهذا فقد احتلوا صدارة كتب التاريخ بمواجهتهم للحكومات المتسلطة، وشجاعتهم المتميزة.
كما عرفوا أيضا بأنهم لم يكونوا - في الغالب - على وفاق تام مع خط أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لو استثنينا بعض الفترات القليلة كفترة الشهيد زيد بن علي(٨٤) (عليه السلام) الذي كان محلا لتقدير أهل البيت وثنائهم، وكانت ثورته موضع تأييد من قبل الأئمة ولا سيما الصادق (عليه السلام)(٨٥).
غير أننا في الفترات المتأخرة نلتقي بنموذج قد جمع بين الأمرين، وهو علي بن زيد بن الحسين بن عيسى بن زيد.. فهو من جهة يعد من الثائرين على الحكم العباسي ومن أخرى هو من الملتزمين بنهج أهل البيت والمعتقدين بإمامتهم (عليهم السلام).
ونحن لا نتوقع أن يكون مثل هذا التوجه بعيدا عن تربية الوالدين، للشخص حتى ينشأ هذه النشأة.. ولا شك أنه كان لوالدته وهي أيضا هاشمية من أحفاد عقيل بن أبي طالب فهي بنت القاسم بن عقيل بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، قد كان لها دور كبير في تربية الولد لكي ينشأ هذه النشأة.
وهذه من النقاط التي ينبغي أن تلاحظ في دراسة الشخصيات، فإن الغالب هو أن يُنظر إلى هذه الشخصيات بما هي، ومجردة عن العوامل المؤثرة في هذه الشخصية، من أثر الوالدين، والتربية التي تلقاها الشخص، والبيئة التي عاش فيها، مع أن هذه كلها عوامل مباشرة في التأثير على حياته.
ومع هذا نجد أن دور هؤلاء لا سيما الأمهات غالبا ما يكون مغفولا عنه وغير مذكور، وإذا ذكر التاريخ شيئا منه فإنما يذكره بنحو عابر..
على أي حال: فإن هذا الثائر العلوي، كان قد صحب الإمام الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) واستفاد من علومه، ورأى من الدلالات على إمامته ما جعله يزداد اعتقادا به. فقد حدث يقول: صحبت أبا محمد (عليه السلام) من دار العامة إلى منزله، فلما صار إلى الدار، وأردت الانصراف، قال: "أمهل" فدخل ثم أذن لي فدخلت، فأعطاني مائة دينار، وقال: "صيرها في ثمن جارية، فإن جاريتك فلانة قد ماتت". وكنت خرجت من المنزل وعهدي بها أنشط ما كانت، فمضيت فإذا الغلام قال: ماتت جاريتك فلانة الساعة. قلت: ما حالها؟ قال: شربت ماء فشرقت، فماتت(٨٦).
وكان يقول: قال: كان لي فرس، وكنت به معجبا أكثر ذكره في المجالس، فدخلت على أبى محمد (عليه السلام) يوما فقال: " ما فعل فرسك؟ إلى أن ذكر أنه مات، قال: ثم دخلت على أبي محمد (عليه السلام)، وأقول في نفسي ليته أخلف علي دابة، فقال قبل أن أتحدث بشيء: "نعم، نخلف عليك، يا غلام أعطه برذوني الكميت - ثم قال - هذا خير من فرسك، وأطول عمرا وأوطأ"(٨٧).
وفي أيام الإمام العسكري (عليه السلام) أعلن علي بن زيد ثورته على الحاكم العباسي المهتدي، وكان في الكوفة، فخرج معه عدد من أهلها ممن ناصره..
قال أبو الفرج الاصفهاني في كتابه مقاتل الطالبيين: حدثني علي بن سليمان الكوفي، قال: قال لي أبي: كنا مع علي ابن زيد ونحن زهاء مائتي فارس نازلين ناحية من سواد الكوفة، وقد بلغنا خبر الشاه بن الميكال ونحن معه، فقال لنا علي بن زيد: إن القوم لا يريدون غيري، فاذهبوا أنتم في حل من بيعتي، فقلنا: لا والله لا نفعل هذا أبدا، فأقمنا معه.
ووافانا الشاه في جيش عظيم لا يطاق، فدخلنا من رعبه أمر عظيم، فلما رأى ما لحقنا من الجزع قال لنا: اثبتوا وانظروا ما أصنع، فثبتنا وانتضى سيفه، ثم قنع فرسه وحمل في وسطهم يضربهم يمينا وشمالا، فأفرجوا له حتى صار خلفهم وعلا على تلعة فلوّح إلينا، ثم حمل من خلفهم، فأفرجوا له حتى عاد إلى موقعه. ثم قال لنا: ما تجزعون من مثل هؤلاء، ثم حمل ثانية ففعل مثل ذلك وعاد إلينا، وحمل الثالثة وحملنا معه فهزمناهم أقبح هزيمة، فكانت هذه قصته، إلا أن أهل الكوفة لم يخفوا معه لما لحقهم في أيام يحيى بن عمر من القتل والأسر.
وفي تأريخ ابن الأثير في حوادث سنة ٢٥٦ ه‍: في هذه السنة ظهر علي بن زيد العلوي بالكوفة، واستولى عليها، وأزال عنها نائب الخليفة، واستقر بها، فسير إليه الشاه بن ميكال في جيش كثيف، فالتقوا واقتتلوا فانهزم الشاه، وقتل جماعة كثيرة من أصحابه ونجا الشاه. ثم وجه المعتمد إلى محاربته كيجور التركي، وأمره أن يدعوه إلى الطاعة ويبذل له الأمان، فسار كيجور فنزل بشاهي، وأرسل إلى علي بن زيد يدعوه إلى الطاعة وبذل له الأمان، فطلب علي أمورا لم يجبه إليها كيجور، فتنحى علي بن زيد عن الكوفة إلى القادسية، فعسكر بها، ودخل كيجور إلى الكوفة ثالث شوال من السنة. ومضى علي بن زيد إلى خفان، ودخل بلاد بني أسد، وكان قد صاهرهم، وأقام هناك ثم سار إلى جنبلاء، وبلغ كيجور خبره، فأسرى إليه من الكوفة سلخ ذي الحجة من السنة، فواقعه فانهزم علي بن زيد وطلبه كيجور ففاته، وقتل نفرا من أصحابه وأسر آخرين(٨٨).
رحم الله عليا، ورحم الله أمّاً ووالدة علمته كيف يأبى الضيم، وينتصر للحق..
٥/ أم أحمد النيسابورية
زوجة سليمان بن الحسن الزراري
كنا قد تحدثنا عن أم الأسود الشيبانية(٨٩)، التي كانت مفتاح البركة على أسرتها، فاستبصرت وأبصرت بعدها عائلة كاملة، كان منها رواد الفقه والتفسير والمناظرون في العقائد.. وهم الذين عرفوا فيما بعد بآل زرارة وحمران وفيهم قال ابن عقدة: كل واحد منهم يصلح أن يكون مفتي بلد.
وما بين تلك البداية وهذا الختام في عصر الإمام العسكري (عليه السلام) وابنه الحجة (عجل الله فرجه) الشريف، حيث أنجبت (أم أحمد) لزوجها سليمان بن الحسن، هذا العدد من الرواة والفقهاء، والذين كانت ترد توقيعات الأئمة عليهم، تتوسط مسيرة عظيمة(٩٠)من الولاء والتفقه على مبادئ أهل البيت (عليهم السلام).
وهنا يستطيع المرء أن يتساءل بحق: هل أن الأمهات لسن سوى أوعية؟ وهل أنه لا تأثير لهن؟ إن الوعاء ليأخذ من السائل الذي يوضع فيه، بينما قانون الوراثة يقضي بأن المرأة تعطي لولدها من خَلقها وأخلاقها نصف المؤثرات! فكيف تكون (مجرد وعاء)؟
بل يمكن أن يتساءل القارئ: هل يعطي الله سبحانه لهذه المرأة هذا العدد من الأولاد الطيبين والعلماء المتفقهين، ومن ترد عليهم توقيعات الأئمة.. اعتباطا من دون مبرر؟ إن السؤال ليترقى إلى أكثر من هذا ليصل إلى حياة الرسل والأوصياء.. هل هي مصادفة أن يعطي الله نبيه محمدا الولد من خديجة؟ مع وجود غيرها؟ وهل يكون أمرا غير محسوب عندما يرزق الله الإمام وصيا من زوجة (أو أم ولد) دون باقي النساء؟
لا أعتقد ذلك، وإنما النتاج الطيب دليل الأصل الحسن على القاعدة، (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)(٩١).
على أي حال:
سليمان بن الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين، وهو من أصحاب الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري الذي لقبه بـ (الزراري) نسبة إلى زرارة أخ بكير بن أعين، سترا عليه وتورية، وكانت تصله مكاتبات وأجوبة أسئلة من الإمام بهذا الاسم.. هذا الرجل كان في الكوفة أول أمره ثم انتقل إلى خراسان، وتزوج من منطقة نيشابور بامرأة صالحة من وجوه أهلها وأرباب النعم فيها.
كان نتيجة ذلك الزواج عشرة: ستة من الذكور، وأربع إناث، وليس العدد هنا مهما إذ ما أكثر من يكون لديهم العدد الكبير من الأولاد، ولكن الكلام هو في أي شيء هم أولئك الأولاد.
توفي سليمان بن الحسن بعد سنة (٢٥٠) هـ، لكي يستلم أبناؤه الباقون أمور والدهم ومنها كونه دائم الاتصال بالإمام العسكري (عليه السلام)، أما أحمد الابن الأكبر فقد توفي في حياة أبيه. وأما محمد (المعروف بأبي طاهر) فقد كان يكاتب صاحب العصر والزمان إلى أن وقعت الغيبة، وهو ثقة عين وقد نقلت قصة عن وصية الإمام صاحب العصر لبعض المؤمنين أن يذهب إليه ويطلب منه مالا معينا كمساعدة له، فلباها أبو طاهر محمد بن سليمان، مما يشير إلى نمط العلاقة بينه وبين إمامه (عليه السلام). وقد توفي سنة ٣٠٠ هـ. وله كتاب المواعظ والآداب، وكتاب الدعاء.
وعلي بن سليمان الذي ذكره النجاشي فقال: أبو الحسن كان له اتصال بصاحب الأمر وخرجت إليه التوقيعات، وكان ورعا ثقة فقيها، لا يُطعن عليه بشيء. له كتاب النوادر.
إن مما يؤسف له أن لا يذكر التاريخ ولا الروايات، شيئا كثيرا عن تلك الأم المربية والمنجبة، وذلك لأن التاريخ إنما يريد كتابة النتائج والحوادث، وليس له - عادة - تعلقٌ بالمقدمات والاعدادات، لكننا نستطيع بكل ثقة أن نستدل على حسن المقدمات وجودتها من خلال النتاج الطيب والثمر الحسن.. وهو ما وجدناه في أبناء هذه المرأة الصالحة.

موجز عن حياة الإمام محمد بن الحسن (عجل الله فرجه)

المهدي أبو صالح وأبو القاسم
٢٥٥ هـ - حيّ باق
ولد الإمام الحجة (عجل الله فرجه) سنة: ٢٥٥ هـ
تتفق جميع الديانات السماوية على فكرة المنقذ المنتظر، الذي يبعثه الله سبحانه في آخر الزمان لكي يزيل الفساد والجاهلية، ويرد الخلق إلى طريق الله عز وجل. ويتفق المسلمون على وجه الخصوص على أن الأرض لا تخلو من حجة ودليل وأن الله لم يكن ليهمل خلقه، بل للطفه بهم لا بد أن يجعل لهم طريقا يقربهم إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية.
تواترت الأخبار عن النبي عن المهدي، وأنه من ذرية الرسول، من ابنته فاطمة وأحفاد الحسين (عليه السلام)، وأنه الثاني عشر من الأوصياء.. وقد ورد من طرق السنة قرابة الأربعمائة - حديث على اختلاف تعابيرها ومن طرق الشيعة أكثر من ذلك. منها قوله: (لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملؤها عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا).
لما كان قد شاع الخبر واستفاض أن الإمام الحجة صاحب الثورة العالمية هو من أبناء الإمام العسكري فقد سعى العباسيون - آنئذ - للقبض عليه حين يولد والقضاء عليه، لذلك قام والده الإمام العسكري بإخفائه، وتغييبه منذ ولادته، بينما قام الحكم العباسي بعدة مداهمات واقتحامات لبيت الإمام، وفرض رقابة حتى على النساء لمعرفة من تلد منهن،(والله غالب على أمره) فلم يستطع أولئك الحاكمون أن يطفئوا نور الله.
تولى مقاليد الإمامة بعد شهادة والده الإمام العسكري، وظل يقود أتباعه من خلال سفرائه الأربعة: عثمان بن سعيد العمري، ثم ابنه محمد، وبعده الحسين بن روح النوبختي وأخيرا علي بن محمد السمري، في فترة الغيبة الصغرى التي امتدت ٧٤ سنة، كما كان له أيضا عدد آخر من الوكلاء - دون منزلة السفراء - كإبراهيم بن مهزيار - وابنه محمد، وأحمد بن إسحاق الأشعري القمي، والقاسم بن علاء وغيرهم.
قبيل وفاة السفير الرابع علي بن محمد السمري، خرج من الإمام توقيع يخبر فيه أنه قد بدأت الغيبة الكبرى، وأنه لن يوجد بعد هذا سفير مباشر، وإنما يقوم العلماء والفقهاء بمسؤولية قيادة الناس على خط الإمام المنتظر (عجل الله فرجه).
يمر على غيبته الكبرى سنة ٣٢٩ هـ منذ أن غاب حتى الآن ألف وسبعة وتسعون عاما من الزمان، البشرية تنتظر خروجه، لإصلاح العالم. وليس هذا العمر الطويل بمستغرب، بعدما ثبت وجوده بالأدلة العقلية والنقلية، وبعدما تم تأسيس أصل عقلي دلت عليه الأخبار من أن الأرض لا تخلو من حجة، وبعدما لم يمكن تطبيق أحاديث (من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية) إلا على البيعة معه وعلى نهجه، في هذا الزمان، وبعدما قامت الأدلة على وجود نظائر وأشباه لهذا العمر الطويل كنبي الله نوح (١٣٠٠ عام) وآدم (٩٣٠ عاما) وأهل الكهف والخضر حيث لا يزال حيا بإجماع المسلمين.
وجوده وهو غائب لا يعني انقطاع بركاته وخيره عن الأمة، بل إنه يبقى أمل المؤمنين كلما اشتدت عليهم المحن وسدت عليهم البلايا الطريق، كما أن المؤمنين حين يشعرون أنهم تحت مراقبة إمام يشهد أفعالهم، فإنهم يقومون بما يعتقدون أنه يرضي الإمام من عمل.. ولعل تشبيه الأئمة لذلك بأن الإمام الغائب هو (كالشمس إذا جللتها السحب) تشبيه دقيق فهي وإن اختفت عن فئة من الناس في الأرض إلا أنها ظاهرة على آخرين، وهكذا الإمام فإنه وإن اختفى عن فئة من الناس، فإنه يظهر لفئة أخرى من الأولياء.
بعدما يأذن الله له بالفرج، فيخرج، فإنه يقود ثورة عالمية يقضي فيها على مصادر الظلم والنفاق والفساد وآنئذ بشرى لهذه الأرض التي تكون قد (أَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا)، فتعم فيها الخيرات فالوعي والمعرفة تزداد (حتى أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله وسنة رسوله) و(يقسم المال صحاحا بالسوية ويملأ قلوب أمة محمد غنى ويسعهم عدله)، وتحتفل الأرض والسماء بمهرجان العدل العظيم فـ (ترسل السماء عليهم مدرارا، ولا تدع الأرض شيئا من نباتها إلا أخرجته) و(تزيد المياه في دولته، وتمد الأنهار، وتضاعف الأرض أكلها). وإذا كانت مشكلة الأمن في العالم اليوم هي الأولى، فإن في عصر الإمام المهدي (عجل الله فرجه) (تخرج العجوزة الضعيفة من المشرق تريد المغرب، لا يؤذيها أحد).
إن واجب المؤمنين في عصر الغيبة، الدعاء للإمام بالحفظ وتعجيل الفرج، والعمل على منهجه ومنهج آبائه، والاستعداد لظهوره، والتمهيد لدولته.
١ - عثمان بن سعيد العمري
عاصر عثمان بن سعيد طغيان المتوكل ثم نهايته بتلك الصورة المعروفة حيث اختلط لحمه بلحم وزيره الفتح بن خاقان واختلط دمه بالخمر المسال من قنانيه، على يد الأتراك الذين اصطنعهم لقمع أعدائه فإذا بهم يخمدون أنفاسه، ضمن مؤامرة دبرها ابنه المنتصر ونفذها وصيف وبغا والجنود الأتراك.
وبالرغم من أن المنتصر الذي خلف أباه حاول الاستفادة من تجارب آبائه بتجنبها والإحسان إلى الناس، إلا أن الأتراك بلغوا من القوة والنفوذ بحيث كانوا هم الحكام الحقيقيين، ينصبون هذا خليفة اليوم فإذا لم يرُق لهم خلعوه في الغد، وهكذا.. أمروا طبيبه طيفور ففصده بريشة مسمومة وتوفي فورا.
كما شهد عهد المستعين الذي بقدر ما كان خاضعا وضعيفا أمام الأتراك فقد كان عنيفا على أهل البيت وشيعتهم. حتى أصدر أمرا اعتقل بموجبه الإمام الحسن العسكري.
وقتل المستعين بعد أن سجن، ونصب الأتراك هذه المرة المعتز ابن المتوكل، ولأنه لم يستطع تلبية كل طلباتهم لذلك قتلوه.
وهكذا كانت الخلافة الإسلامية، أشبه بلعب الأطفال يبدؤون معا ثم لا يلبثون أن يختلفوا فيتصارعوا، فيغيّر كل واحد منهم صاحبه - إن استطاع - وأضيف إليها في هذه اللعبة القتل.
وكان الجامع لهؤلاء (الخلفاء) بعض أهل البيت والعداء لهم..
وهل يعجب الخفافيش ضوء الشمس؟!.
على الصعيد الآخر وبينما كان الخلفاء هؤلاء غارقين في مؤامراتهم ومخامراتهم، تاركين سفينة الأمة تضطرب، وهم الذين يدعون قيادتها كان أئمة أهل البيت يوجهون دفة الدين إلى حيث أراد الرسول.
وبقدر ما كان قمع السلطات عنيفا، يتمثل في السجن ومحاولات القتل، فقد كان عمل أهل البيت دقيقا ذلك أنه مع حراجة الظرف المتزايد يوما أثر يوم كان لا بد من طريقة جديدة في توجيه الأتباع، وتعويد الناس على مفاهيم الغيبة وتنظيم الأوضاع على أساس عدم الحضور الدائم للإمام بين الجمهور.
فقد بدأ الإمام الهادي يحتجب أحيانا عن الناس، وأكثر الإمام العسكري من ذلك.. "وحيث اتخذ الإمام العسكري مسلك الاحتجاب كان إلى نظام الوكالة أقرب وله ألزم واتخذه بشكل يشمل أكثر الأمور أو جميعها مما يتصل بأمور المجتمع حتى في داخل المدينة التي يسكنها الإمام نفسها فكانت عامة اتصالاته وتوقيعاته والأموال التي تصل إليه، ماعدا القليل، يتم عن طريق الوكلاء"(٩٢).
نهل من معين ثلاثة من الأئمة (علي الهادي، والحسن العسكري، والإمام الحجة). وكانت نفسه مكانا طيبا لتلك التعاليم فأنتجت وكيلا فوق مستوى الوثاقة.
كان يمارس دور الوكالة منذ أيام الإمام الهادي، وكان يمثله في كل أموره، وقد أحال الإمام عليه وكلاءه الآخرين لكي يأخذوا منه، لأن كلام العمري هو كلام الإمام كما يقول (عليه السلام)، فقد وفد أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري القمي وكان وافد القميين وقم آنئذ كانت إحدى المراكز المهمة للتشيع وأتباع أهل البيت وأحمد بن إسحاق كان وكيل الإمام في قم وهو على مستوى عال من المعرفة والوثاقة، وفد على الإمام الهادي، فقال له: يا سيدي أنا أشهد وأغيب ولا يتهيأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كل وقت (لكون الإمام في سامراء).. فقول من نقبل وأمر من نمتثل؟!.
فقال الإمام: هذا أبو عمرو الثقة الأمين ما قاله لكم فعني يقوله وما أداه فعني يؤديه.
قال أحمد بن إسحاق فلما مضى أبو الحسن (الهادي) وصلت إلى ابنه أبي محمد الحسن العسكري ذات يوم فقلت له مثل قولي لأبيه، فقال لي: هذا أبو عمرو الثقة الأمين ثقة الماضي (الهادي) وثقتي في المحيا والممات فما قاله لكم فعني يقوله وما أدى إليكم فعني يؤديه)(٩٣).
وبالتالي فقد كان منذ أيام الإمام الهادي وكيلا وقائدا، وكان يدير شؤون القواعد في مدينة بغداد، وقد تحول بالتدريج إلى وكيل مركزي عام، كان يفد عليه الأتباع من أماكن أخرى.
ولإخفاء اتصاله بالأئمة وإخفاء اتصال المنتمين به، كان يتخذ تجارة (بيع الدهن والسمن) حتى عرف بها فيقال له أحيانا (السمان) أو (الزيات). وذلك أن الأتباع كانوا ينفذون إليه حوائجهم من مسائل وأموال وغيرها، وهو بدوره يقوم (بتعليبها) وإخفائها في زقاق السمن، ويوصلها إلى الإمام العسكري.
وزاد الاعتماد على عثمان بن سعيد أيام الإمام العسكري نظرا لقرب غيبة الإمام المنتظر (عج) وتحول القيادة إلى الشكل غير المباشر، لذلك كان الإمام العسكري دائم التأكيد عليه، فإضافة إلى ممارسته للوكالة تلك الفترة، فقد عينه إمام أربعين من كبار شيعته كوكيل عام ونائب عن الإمام، فقد اجتمع أربعون رجلا من شخصيات الشيعة آنئذ إلى الإمام العسكري، ليسألوه عن خليفته من بعده، فقال لهم الإمام مبتدئا: أخبركم بما جئتموني به؟! قالوا نعم: فقال جئتم تسألوني عن الحجة من بعدي!
قالوا: نعم فإذا غلام كان قطعة قمر أشبه الناس بأبي محمد.
فقال (الإمام العسكري): هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا فتهلكوا في أديانكم ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر.
هذا وكان عثمان بن سعيد جالسا مع القوم، فاستطرد الإمام قائلا..
فاقبلوا من عثمان ما يقوله وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه(٩٤).
ويشير أيضا إليه في رسائله إلى وكلائه الآخرين، لكي ينتهوا إلى قوله ويسمعوا منه، ففي كتابه إلى إسحاق النيسابوري أشار إليه أن لا يخرج من المدينة إلا بعد أن يلتقي بالعمري وأن يرتبط معه، خصوصا وأن كل المسائل التي تأتي من الفروع ستصل إليه(٩٥).
وحين يأتي جماعة من أهل اليمن بقصد الاتصال بالإمام، يرسل الإمام إليهم عثمان بن سعيد باعتباره مندوباً تام الصلاحية، لرؤية ما لديهم. فعن محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد الله الحسنيان قالا: دخلنا على أبي محمد الحسن بسر من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته حتى دخل على خادمه بدر فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال: نعم هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن.
عندها قال الإمام لبدر: فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري فما لبثنا إلا يسيرا حتى دخل عثمان، فقال له سيدنا أبو محمد: امض يا عثمان فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال الله واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال(٩٦).
توفي رضوان الله عليه بعد خمس سنوات من بداية الغيبة الصغرى، وقد أبّنه الإمام الحجة (عجل الله فرجه)، فقد خرج التوقيع إلى ابنه محمد بن عثمان، من الإمام:
(إنا لله وإنا إليه راجعون، تسليما لأمره ورضاء بقضائه، عاش أبوك سعيدا ومات حميدا فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه، فلم يزل مجهدا في أمرهم وساعيا فيما يقرّبه إلى الله عز وجل وإليهم، نضر الله وجهه وأقاله عثرته.
.. أجزل الله لك الثواب وأحسن لك العزاء، رزئت ورزينا وأوحشك فراقه وأوحشنا، فسره الله في منقلبه، كان من كمال سعادته أن رزقه الله تعالى ولدا مثلك يخلفه بعده ويقوم مقامه بأمره ويترحم عليه، وأقول الحمد لله فإن الأنفس طيبة لمكانك وما جعله الله فيك وعندك أعانك الله وقواك وعضدك ووفقك وكان لك وليا وحافظا وراعيا وكافيا..).
٢ - محمد بن عثمان بن سعيد العمري
توفي سنة ٢٥٢ هـ
نشطت سوق أدعياء النيابة بعد غيبة الإمام الحجة، ذلك أن مقام الوكالة وما كان يوفّره من موقع اجتماعي متميز بين الناس لصاحبه، كونه باب الإمام، والعارف بالحلال والحرام يجعله محط أنظار المؤمنين في حوائجهم ومسائلهم، وإذا كان هذا المقام فيما مضى مهما بدرجة معينة فقد ضاعفت غيبة الإمام عن الأنظار، مقام الوكيل أضعافاً كثيرة. إذ بينما كان هناك عدة طرق لدى الأتباع والمنتمين الوصول إلى الإمام، فقد انحصر الطريق حين غيبة الإمام بهذا النائب. وأيضا ما كان يوفره هذا الموقع من إمكانية للثراء لمن أراد الاستفادة منه، لشخصه ذلك أن جموع المؤمنين وهي تعتقد بعدم شرعية النظام القائم كانت تمتنع عن دفع خمس مالها وزكاته لجباة هذا النظام ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولا تجد ذلك مجزيا، أو مقبولا، لأن هذا النظام لا يمثل الرسول.. وكانت تحاول إيصال تلك الحقوق الشرعية إلى الأئمة كونهم امتداد الرسول وإلى وكلائهم ونوابه.
يضاف إلى ذلك أنه كان من مصلحة الحكومة القائمة التشويش على أتباع أهل البيت بفسح المجال أمام أدعياء الوكالة والنيابة، لكي يختلط بالصادق الكاذب..
وكاد الأمر يختلط بالفعل، إلا أن مشيئة الله سخرت لهذا المنهج رجالا أكفاء، حملوا على عاتقهم هذه المسؤولية وتصدوا لمحاولات الانتحال والتزوير، وفوتوا على أصحابها محاولاتهم تلك بل فضحوهم، وأسقطوا بين الملأ شخصياتهم ببيان كذبهم.
وكان من بين هؤلاء الرجال الأكفاء محمد بن عثمان العمري الذي تولى النيابة عن الإمام المنتظر مدة طويلة وصلت إلى أربعين سنة.
ذلك أنه تحمل هذه المسؤولية منذ وفاة والده (السفير الأول) عثمان بن سعيد، بنص الإمام الحجة عليه، بعد إشارات تقدمت من الإمام العسكري في حياة أبيه، فقد خرج التوقيع إليه بعد وفاة والده (.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. تسليماً لأمره ورضاء بقضائه عاش أبوك سعيدا ومات حميدا فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه فلم يزل مجتهدا في أمرهم ساعيا فيما يقربه إلى الله عز وجل وإليهم نضر الله وجهه وأقاله عثرته.
.. كان من كمال سعادته أن رزقه الله ولدا مثلك يخلفه من بعده ويقوم مقامه بأمره ويترحم عليه وأقول الحمد لله فإن الأنفس طيبة بمكانك وما جعله الله فيك وعندك أعانك الله وقواك وعضدك ووفقك وكان لك وليا وحافظا وراعيا وكافيا)(٩٧).
بل إن محمدا كان يتحمل بعض المسؤوليات القيادية المرتبطة بوالده فقد كانت التوقيعات والأوامر تخرج على يد أبيه عثمان، وعلى يده إلى سائر الشيعة، وكان ذلك معروفا بين الأتباع بحيث لم يختلف الأمر على أحد بعد وفاة الأب وتحمل الابن لمسؤولية السفارة إنما (كانت الشيعة مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته لما تقدم له من النص عليه بالأمانة والعدالة والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن وبعد موته وفي حياة أبيه عثمان رحمة الله عليه).
يضاف إليه أن كتاب الإمام الحجة (عجل الله فرجه) في التعزية بأبيه والذي تقدم ذكره كان كتاب تنصيب وتعيين له وقد خرج إلى الوكلاء (المحليين) توقيعات من الإمام في شأن محمد بن عثمان، تدعيما لموقفه، وتأكيدا لسفارته، فقد خرج إلى محمد بن إبراهيم بن مهزيار (وكيل في الأهواز) بعد وفاة الأب في شأن الابن: (.. وقاه الله لم يزل ثقتنا في حياة الأب - رضي الله عنه وأرضاه ونضر وجهه - يجري عندنا مجراه ويسر مسره وعمن أمرنا يأمر الابن، وبه يعمل، تولاه الله، فانته إلى قوله، وعرف معاملتنا ذلك).
وكان مركزا إدارته - وكأبيه - في بغداد، ونظرا لاتساع رقعة العمل، وتعدد المراجعين فقد أنشأ له هيئة تدير الأعمال، ففي بغداد وحدها كان هناك عشرة وكلاء تابعون له من بينهم الحسين بن روح النوبختي، (السفير الثالث) وجعفر بن أحمد بن متيل، والذي كان قد اختص به بحيث (كان في آخر عمره لا يأكل طعاما إلا ما أصلح في منزل جعفر بن أحمد بن متيل وأبيه بسبب وقع له)، وعبر هؤلاء كان يدير أعماله المختلفة.
ونظرا لطول فترة سفارته لذلك كثر حديثه فيما يرتبط بالإمام وغيبته، فقد سأله عبد الله بن جعفر الحميري وهو وافد القميين، وشيخهم والمفوض من قبلهم، سأله: أرأيت صاحب هذا الأمر؟! فقال: نعم وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول اللهم أنجز لي ما اللهم انتقم لي من أعدائي.
ويؤكد له: والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم (الحج) كل سنة فيرى الناس ولا يرونه ويعرفهم ولا يعرفونه(٩٨).
ولا شك أن لهذه الأحاديث والتأكيدات أكبر الأثر في الحفاظ على الأمل في تغيير الواقع الفاسد، وفي تثبيت العقيدة فيما يرتبط بالإمام المستور (عجل الله فرجه)، كل ذلك مع الحفاظ على ما يقتضيه الوضع من تحفظ أمني في غاية الصراحة، فبالرغم من شدة إلحاح القواعد على رؤية الإمام ومعرفة مكانه واسمه، إلا أن ذلك لم يكن مسموحا به، ليس فقط المكان بل حتى الاسم، فهناك العديد من الأحاديث الناهية عن البحث عن الاسم لأن ذلك إن حصل أذيع، وإذا أذيع فقد قدمت خدمة (معلومات) مجانية للسلطة التي كانت تستفيد من أية معلومة تؤدي إلى الإمام المهدي (عج)، لذلك عندما يسأل أحد المؤمنين محمد بن عثمان عن الاسم يقول له: محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي وليس لي أن أحلل وأحرم ولكن عنه (عليه السلام)، فإن الأمر عند السلطان إن أبا محمد (الحسن العسكري) مضى ولم يخلف ولدا وقسم ميراثه وأخذه من لا حق له، وصبر على ذلك، وهؤلاء عياله يجولون وليس أحد يجرأ أن يتعرف إليهم أو يسألهم شيئا وإذا وقع الاسم وقع الطلب فاتقوا الله وأمسكوا من ذلك(٩٩).
ولقد كان الأمر مشددا في هذه القضية من قبل الإمام (عج) فقد خرج إلى محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه، ابتداء ومن دون مسألة ليخبر الذين يسألون الاسم أما السكوت والجنة وأما الكلام والنار، فإنهم إن وقفوا على الاسم أذاعوه وإن وقفوا على المكان دلوا عليه(١٠٠).
وكان أبو جعفر محمد بن عثمان قد اتخذ لنفسه قبرا، ينزل فيه كل يوم فيقرأ جزءا من القرآن فيه، ثم يصعد ليمارس شؤون الدنيا بروح الذاهب للآخرة، ويعيش كأنه سيموت غدا، حتى جاء يوم، اعتل أبو جعفر وزادت عليه علته، ونزل في ذلك القبر للمرة الأخيرة في سنة ٢٥٢ هـ.
٣ - الحسين بن روح النوبختي
أبو القاسم
لكي يركز موقعه بين الشيعة بحيث لا يستطيع من يريد الخلاف، ذلك، فقد كان محمد بن عثمان (السفير الثاني) يشير إلى الحسين بن روح، ويحول بعض مهمات السفارة إليه ويكلفه بإدارة بعض شؤون الأتباع المالية وغيرها.
فقد وجه أبا جعفر محمد بن علي الأسود بما يحمل من أموال، إلى أبي قاسم بن روح وذلك قبل موت العمري بسنتين، وكنت أطالب أبا القاسم بالقبوض (أوراق القبض) فأمرني أبو جعفر العمري بأن لا أطالبه بالقبوض، وقال كل ما وصل إلى أبي القاسم فقد وصل إلي. كذلك الحال بالنسبة إلى أبي عبد الله جعفر بن عثمان المدائني، فقد وجهه كذلك إلى أبي القاسم، فترددني الذهاب إليه، ثم مشى فلما بلغ بعض الطريق عاد إلى أبي جعفر العمري، فقال له العمري غاضبا: - ما الذي جرأك على الرجوع ولِمَ لم تمتثل ما قلته لك؟! فقال: لم أجد على ما رسمته لي.. فقال له وهو مغضب قم عافاك الله فقد أقمت أبا القاسم الحسين بن روح مقامي ونصبته منصبي فقال له: بأمر الإمام؟! فقال العمري: قم عافاك الله كما أقول لك.. فلم يكن عنده غير المبادرة إلى أبي القاسم وتسليم ما لديه من أموال وغيرها.
ونظرا لوجود عدد من كبار أصحاب الإمام، وبعضهم كان من وكلاء العمري، والمقربين إليه، لذلك كان من الضروري أن يتم التأكيد على أبي القاسم الحسين بن روح وخصوصا أن هؤلاء أو بعضهم (كانوا أخصّ بالعمري من أبي القاسم بن روح حتى أنه كان إذا احتاج إلى حاجة أو إلى سبب ينجزه على يد غيره) وبعضهم كان يرى أنه (إن كانت حادثة لا تكون الوصية إلا إلى جعفر بن مثيل). ولعله لهذا السبب وجدنا أن أكثر أدعياء السفارة من الكاذبين إنما نشطوا على عهد الحسين بن روح، مثل ابن هلال العبرتائي، والشلمغاني، وابن هلال، لذلك حرص أبو جعفر محمد بن عثمان أن يؤكد وكالة الحسين بن روح قطعا للطريق على منتهزي الفرص، فقد جمع وجوه الشيعة وشيوخها من بيته قبيل موته، وقال لهم: إن حدث علي حدث الموت فالأمر إلى أبي القاسم بن روح النوبختي فقد أمرت أن أجعله في موضعي بعدي فارجعوا إليه وعولوا في أموركم عليه.
وفي مرة أخرى جمع عددا آخر من الشيعة منهم أبو علي بن همام وأبو عبد الله بن محمد الكاتب وأبو عبد الله الباقطاني (الذي ادعى الوكالة والسفارة فيما بعد) وأبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي وأبو عبد الله بن الوجناء وغيرهم من الوجوه والأكابر فدخلوا على أبي جعفر، فقالوا له: إن حدث أمر من يكون مكانك؟! فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر والوكيل والثقة الأمين فارجعوا إليه في أموركم وعولوا عليه في مهماتكم فبذلك أمرت وقد بلغت.
وقد كان يمتلك من أساليب التقية، والتكتيك في استقطاب الخصوم الباع الواسع، وكانت آثار تلك الأساليب تتضح في تقريب الناس إلى منهج أهل البيت، فقد كان الجميع يحب أبا القاسم، فقد روى أبو عبد الله بن غالب قال ما رأيت من هو أعقل من الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، ولعهدي به يوما في دار ابن يسار وكان له محل عند السيد والمقتدر عظيم وكانت العامة أيضا تعظمه، وكان أبو القاسم يحضر تقية وخوفا وعهدي به وقد تناظر اثنان، فزعم واحد أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله ثم عمر ثم علي، وقال الآخر بل علي أفضل من عمر، فزاد الكلام بينهما، فقال أبو القاسم رضي الله عنه الذي اجتمعت عليه الصحابة هو تقديم الصديق ثم بعده الفاروق ثم بعده عثمان ذو النورين ثم علي الوصي وأصحاب الحديث على ذلك وهو الصحيح عندنا، فبقي من حضر في المجلس متعجبا من هذا القول وكان العامة الحضور يرفعونه على رؤوسهم وكثر الدعاء له والطعن على من يرميه بالرفض.
فوقع عليّ الضحك فلم أزل أتصبر وأمنع نفسي وأدسّ كمي في فمي فخشيت أن أفتضح، فوثبت عن المجلس ونظر إلي فتفطن لي فلما حصلت في منزلي، فإذا بالباب يطرق فخرجت مبادرا فإذا بأبي القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه راكبا بغلته، قد وافاني من المجلس قبل مضيه إلى داره فقال لي: يا أبا عبد الله - أيدك الله - لم ضحكت؟! أفأردت أن تهتف بي كأن الذي قلته عندك ليس بحق؟!.
فقلت: كذاك هو عندي. فقال لي: اتق الله أيها الشيخ فإني لا أجعلك في حل، تستعظم هذا القول مني؟!.
ففلت: يا سيدي رجل يرى بأنه صاحب الإمام ووكيله يقول ذلك القول لا يتعجب منه ويضحك من قوله هذا؟!.
فقال لي: وحياتك لئن عدت لأهجرنك وودعني وانصرف.
وقد مر سابقا أنه لحسن استخدامه لهذه الأساليب كان يدخل عليه عشرة وهم تسعة يعادونه وواحد يشكك فيه، فيخرجون، متأثرين به، تسعة يتقربون إلى الله بمحبته وواحد يشكك، وذلك لأنه يعطيهم حسب عقولهم، ويجاريهم في كلامهم، ويمتنع عن ذكر ما يغلظ عليهم فهمه. هذا وقد كان على مستوى رفيع من الملكات النفسية التي أهلته لأن يصبح الوكيل العام للإمام (عجل الله فرجه)، بحيث لو قرض بالمقاريض وكان الحجة تحت ذيله ما كشف عن ذيله، كما قال أبو سهل النوبختي عنه. ويلاحظ أن السفراء وإن كان دورهم الأساسي أن يكونوا قناة بين الإمام وشيعته - إلا أنهم كانوا عارفين بالأحكام الإسلامية، بحيث يلبون احتياجات الناس، بأجوبة رائعة.
فقد سأل أحد المتكلمين ويسمى (ترك الهروي) أبا القاسم قائلا:
كم بنات رسول الله. فقال: أربع.
قال الهروي: أيهن أفضل؟! قال: فاطمة.
قال: لم صارت أفضل وكانت أصغرهن سنا وأقلهن صحبة لرسول الله؟!.
قال: لخصلتين خصها الله بهما تطولا عليها وتشريفا وإكراما لها: إحداهما أنها ورثت رسول الله ولم يرث غيرها من ولده، والأخرى أن الله تعالى أبقى نسل رسول الله منها ولم يبقه من غيرها، ولم يخصصها بذلك إلا لفضل إخلاص عرفه من نيتها.
(قال الهروي): فما رأيت أحدا تكلم وأجاب في هذا الباب بأحسن ولا أوجز من جوابه.
امتدت فترة سفارته (٢١) سنة، فقد ابتدأت بوفاة أبي جعفر العمري
عام (٣٠٥) هـ وانتهت بوفاته في سنة ٣٢٦هـ.
٤ - علي بن محمد السمري
توفي ٣٢٩ هـ
للمجتمعات درجات نضج في تعاملها مع قيادتها.. فهناك درجة ابتدائية لا تعبر عن نضج كاف، وهي حين تطلب الأمة من القيادة، خوارق العادات، وما لا يستطاع حتى تؤمن بها وتتبعها، وإن لم تستجب لذلك فلن - تتبعها، (.. وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً). فهي لا تكتفي بوجود القائد، ودعوته لما يصلح أمرها، بل لا بد له من المعاجز، والقضايا الغيبية.
وهناك درجة أخرى أرقى، وهي حين تكون مسيرة الأمة مرتبطة بوجود القائد (النبي أو الإمام) ومتوقفة على التعامل معه بشكل مباشر، فلو ذهب فإن الأمة تتراجع، وتنحرف عن المسيرة (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). بل إن هذه المجتمعات قد لا تستجيب لنائب الرسول والإمام ووكيله مادام القائد نفسه موجودا، إذ تكون قد تعودت على التعامل مع شخص القائد.
والدرجة الأرقى والعليا في التنظيم الاجتماعي، والنموذج في العلاقة بين القيادة والأمة. أن تتعامل الأمة مع القائد حين وجوده فتطيعه وتلتزم بأوامره، وحين غيبته تتعامل مع برنامجه وأفكاره من خلال نوابه ووكلائه، والأمة حين تصل إلى هذا المستوى تأمن الهزات الناتجة عن غياب القائد. وقد وصلت القاعدة الشيعية في زمن الإمام الحسن العسكري، وابنه الإمام الحجة، إلى المستوى الأفضل في هذا الجانب، فقد نشطت حركة الوكلاء في إدارة مناطق أتباع الأئمة(١٠١). ولعل هذا هو السبب الرئيسي في حفظ كيان التشيع بالرغم من سنوات القمع وأحكام الجور على امتداد أحد عشر قرنا من الزمان.
وقد رسم الإمام الحسن العسكري بتوجيهه (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) منهجا لشيعة أهل البيت يسيرون عليه، كما قام بتنفيذه عبر نصب الوكلاء والإرجاع إليهم. ولهذا فلم تسبب غيبة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) الصغرى ارتباكا خطيرا في صفوف شيعته، بل أدار عملية التوجيه أربعة من سفرائه ونوابه خلال فترة امتدت سبعين عاما.. وكان آخرهم علي بن محمد السمري.
ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم يجد شيعة أهل البيت من بركات هذا التوجيه، ما لا سبيل إلى حصره.. فقد لا نجانب الحقيقة لو قلنا أن النظام الديني والاجتماعي الذي يحكم علاقة القاعدة المؤمنة والملتزمة في الشيعة، بقيادتها من العلماء والفقهاء هو أقوى الأنظمة الموجودة في عالمنا الإسلامي. ولعل العديد من النهضات والحركات الإصلاحية التي وفقت إلى تحقيق أهدافها في عالم التشيع، بينما فشلت نظيراتها في تحقيق ذلك، إنما يعود سبب نجاحها إلى هذا العامل.
وربما وجدنا أيضا لهذا السبب كانت الحرب مسعرة ضد العلماء والفقهاء، وفي سبيل ضرب هذه العلاقة، ولكن لما كان التوجيه من قبل الأئمة قد أكسب القضية جانبا دينيا، كان من العسير أن ينفصل الأتباع المؤمنون عن قيادتهم وعلمائهم.
وكان الإمام العسكري قد مهد الأرضية لهذه الحالة، عن طريق الاحتجاب عن شيعته، وإرجاع الشيعة إلى وكلائه، وكانت ظروف المراقبة والقمع العباسي، تفرض التأكيد على هذا الأسلوب أيضا، ولذلك ما أن غاب الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي (عجل الله فرجه)، إلا وقد كان الشيعة قد تعودت على التعامل مع الوكلاء، إذ أن قولهم هو قول الإمام، وما أداه إليهم فعن الإمام يؤديه، وهذا يبين الدرجة العالية التي وصل إليها هؤلاء الوكلاء والسفراء في معرفة توجهات الأئمة، وبرامج عملهم، وأفكارهم، كما يبين مستوى الأمانة والوثاقة التي كانوا عليها.. وهذا الأمر كان واضحا للمعاصرين لهم، من علماء أهل البيت فقد سئل أبو سهل النوبختي عن سبب اختيار الحسين بن روح النوبختي، دونه للسفارة من قبل الأئمة، فأجاب: هم أعلم بما يصنعون، وأنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم فلو ضغطتني الحجة، وكنت أعلم بمكانه، لعلي كنت أدل عليه، وأما أبو القاسم فلو كان الحجة تحت ذيله، وقرض بالمقاريض لما كشف عنه.
وعلى قاعدة قيادة السفراء والوكالة للمؤمنين، بدأت الغيبة الصغرى للإمام المنتظر (عجل الله فرجه) منذ ولادته، بإخفاء والده الإمام الحسن العسكري إياه، إلا عن خواص الخواص - وقد ذكرنا ذلك في ما مر-.
واستمرت مدة (٧٤) أربعة وسبعين عاما هي فترة سفارة عثمان بن سعيد العمري، ثم ابنه محمد بن عثمان، ثم الحسين بن روح النوبختي، وأخيرا علي بن محمد السمري..
وبعد أن قام علي بن محمد السمري بمهمة السفارة العامة بين الإمام المنتظر (عجل الله فرجه)، وبين شيعته مدة ثلاث سنوات أي بدءا من سنة وفاة أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي، ها هو الآن يتوقع رحيله عن هذه الدنيا، بل أنه أخبر من قبل الإمام بذلك ليجمع أمره، وأخرج إلى المؤمنين توقيعا من الإمام الحجة (عج):
(بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام. فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورا، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "(١٠٢).
وبعد ستة أيام اجتمع المؤمنون، في بيت علي بن محمد السمري حيث كانوا على موعد مع رحيل السفير الرابع، وسأله بعض الجالسين: من وصيك بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه.
يمر الزمان، وفي بطنه كل يوم جديد سيء، ذلك (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، يجرب هذا الإنسان كل ما لديه من قدرة، وحيلة، ومن فكر أيضا، لكن لن يصلح آخر هذا الخلق إلا بما صلح به أولهم، فكما أنقذهم الله بنبيه محمد بعد الحيرة، وطول الأمد وقسوة القلوب، لن يتم لهم النجاة في الأخير إلا حين يأذن الله لوليه محمد وابن نبيه ليملأها عدلا، تماما كما أخبر النبي.
(المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقا وخلقا، تكون له غيبة وحيرة تضل فيها الأمم، ثم يقبل كالشهاب الثاقب يملؤها عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا).
٥/ هل تكون الرجل الخامس حول المهدي؟!
غدا.. عندما تشرق الشمس، تنتفض الأرض ملقية عن صعيدها الطيب، أوحال البشر وقذارات الفساد.. هل ستكون على الموعد؟! هل ستكون - عزيزي القارئ - من أولئك الرجال الذين يجتمعون كما يجتمع قزع الخريف؟ هل أنت من رجال الغيب الذين سينفون ما في الشهود من باطل؟! هل أنت جزء من بشرى الأنبياء والأولياء؟! هل ترجو أن تكون من أصحاب الألوية؟ أم من الأصحاب؟ أم من الأنصار؟!.
هل ستشارك في صناعة الأرض الطاهرة من الدماء؟ بعدما شارك غيرك في سقيها من دماء النفوس البريئة؟ وتشارك في تحقيق الأمن لهذه البشرية المعذبة؟!.
هل ستستجيب لدعوة الداعي حين ينادي: هلموا إلى بيعة الله، فقد خرج المهدي.
هل ستكون من الذين وعدهم الله (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)؟!.
إذا أردت ذلك فما عليك إلا أن تتعرف على صفات هؤلاء الأصحاب الذين سيكونون مع الإمام المهدي، في ثورته العالمية المرتقبة التي بشر بها الأنبياء. فهلم معي - عزيزي القارئ - في نهاية مطافنا لنتعرف على صفاتهم، من أجل أن نسعى لتحقيق تلك الصفات في حياتنا.. ولنقرأ معا هذا النص الذي يسجل صفاتهم:
عن الإمام الصادق:
(.. ورجال كأن قلوبهم زبر الحديد، لا يشوبها شك في ذات الله أشد من الجمر، لو حملوا على الجبال لأزالوها، لا يقصدون براية بلدة إلا أخربوها، كأن على خيولهم العقبان، يتمسحون بسرج الإمام، يطلبون بذلك البركة، ويحفون به يقونه بأنفسهم في الحروب ويكفونه ما يريد، فيهم رجال لا ينامون الليل لهم دوي كدوي النحل، يبيتون قياما على أطرافهم ويصبحون على خيولهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار.
هم أطوع من الأمة لسيدها، كالمصابيح، كأن قلوبهم القناديل وهم من خشية الله مشفقون يدعون بالشهادة ويتمنون أن يقتلوا في سبيل الله. شعارهم يا لثارات الحسين. إذا ساروا سار الرعب أمامهم مسيرة شهر.. "(١٠٣).
وأول ما يلفت النظر في صفات أولئك الرجال: الوعي والمعرفة، فهم ليسوا رجالا عسكريين كالذين نعرفهم، لا يعرفون غير السلاح والحديد.. وإنما هم " رجال مؤمنون عرفوا الله حق معرفته " كما جاء في الحديث ولأنهم كذلك فمواقفهم واضحة، وهم على بينة من أمرهم، لا يدعون لشيطان الشك مجالا بينهم وقلوبهم " لا يشوبها شك في ذات الله ".
قوة القلب والشجاعة، فبالرغم من أنهم يقومون بمهمة التغيير العالمي الكبرى، ويواجهون بالتالي معسكر الفساد كله صفا واحدا، إلا أن ذلك، لا يخيفهم بل إن قلوبهم وحماسهم (أشد من الجمر).. ولا شك أن لوجودهم في صف الإمام الحجة يكسبهم قوة فوق قوتهم ذلك أنه:(إذا قام قائمنا كان الرجال من محبينا أجرأ من سيف وأمضى من سنان) وكأن الأنصار هؤلاء ينتظرون خروج القائد إذ لا حركة كاملة لهم بدونه " فإذا هز رايته لم يبق مؤمن إلا صار قلبه أشد من زبر الحديد"، ومع ملاحظة التعبير الكنائي الذي يوجد في الرواية، يمكن لنا معرفة ما لوجود الإمام من الأثر النفسي والمعنوي الهائل في قلوب المؤمنين، فإنه " يضع يده على رؤوس العباد فلا يبقى مؤمن إلا صار قلبه أشد من زبر الحديد).
التميز الروحي والعبادي، إذ أن المهمة بقدر ما هي ثقيلة وصعبة فإن الزخم العبادي، والارتباط بالله ينبغي أن يكون بنفس المستوى، فإذا كان المطلوب (أسد بالنهار) فلا بد أن يكونوا (رهبان الليل).
وأما طاعتهم لقائدهم، فإنهم فيها (أطوع من الأمة لسيدها)، وأنهم لعمق إيمانهم به، يتمسحون بسرج الإمام ويتبركون به، ويحفون به ويفدونه بأنفسهم، وإذا ما أراد شيئا فإنهم يسارعون إلى تنفيذه.
وإذا كان الشعار لدى كل جماعة يختصر اهتماماتها، ودوافع حركتها فإن شعار أصحاب الإمام الحجة، والرمز بينهم هو "أمت، أمت" و"يا لثارات الحسين (عليه السلام)"، فالأول هو شعار الرسول في غزواته، بينما الثاني هو عنوان الثورات العلوية المواجهة لحكومات الجور والطغيان، على امتداد التاريخ.

نساء حول المهدي (عجل الله فرجه)

١/ عاتكة بنت الديراني
عارفة من دينور
حاضر وهو غائب، وشاهد وهو مستور.. ومتابِِع وهو متبوع.. ذاك هو صاحب العصر والزمان الحجة المهدي (عجل الله فرجه).
وليس ذلك بدعا، فالغيب والانستار لم يكن مانعا عن الحضور والعلم، والاحاطة.. فالله (ولله الأمثال العليا) هو غيب الغيوب، وهو في نفس الوقت (قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(١٠٤)، وملائكة الله الذين (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(١٠٥) مثال آخر للغائبين عن الأنظار، والحاضرين في مواقع الفعل من (الصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً)(١٠٦)، وهكذا من (المرسلات) و(الفارقات) و(الملقيات)، و(الناشطات).. كل هؤلاء من الغائبين عن النظر، الحاضرين في مواقع الفعل والمسؤولية.
بل حتى القوى الطبيعية من الجاذبية، والأشعة - بمختلف درجاتها - غيب من الغيوب تعرف بآثارها، ولا تراها العيون.
نعم.. لم يكن الله سبحانه، ليجعل على الخلق حجة، ثم لا يعينه على ما يحتاجون إليه، من علم بما يسألون عنه، وإعانة على الاتصال بهم، وإذا كان سير الأحداث ومرور الأزمان قد وضح لنا كيف يمكن للإنسان أن يقود قومه وشعبه من داخل السجن، وهو معزول عنه، مع أنه لا يستعمل سوى المعادلات العادية الدنيوية، فكيف بمن يملك (العقل الأكبر) ويملك إضافة إلى ذلك (معونة الله) والأسباب غير الطبيعية؟
لكن المشكلة هنا، في كيفية تمييز الناس الإمام الحق، من المتقافزين على منصب الإمامة من غير استحقاق!
إننا نرى أن الكثير من الطامعين يتهارشون على منصب حقير تهارش الضباع على جيفة نتنة، فكيف بمنصب إلهي رباني، يكون بمثابة الواسطة بين الخالق وخلقه؟ هذا المنصب الذي فيه من التشريف ما لا يفوقه غير تشريف النبوة الخاتمة. وفيه من احترام المؤمنين ما يفدى معه بالروح والنفس، وفيه من المال.. و.
لذلك كان أتباع الأئمة بحاجة إلى وعي متقدم، بصفات الإمام وميزاته، حتى يقيسوا عليها من يتصدى للإمامة، ويعرفوا من خلالها صدقه، وزيفه. وكان الإمام بدوره يحتاج إلى قدرات خاصة - لا يتمتع بها غيره، ولا تحصل لسواه.
وصحيح أنهم سوف لا يستطيعون أن يحيطوا بكل صفاته(١٠٧)، وشخصيته إلا أن المقدار الذي يكون عليهم حجة من المعرفة، هو تحت اختيارهم ويمكن لهم الحصول، بل يجب التعرف عليه.
ويلحظ المتأمل أن ذلك المقدار من الوعي والمعرفة، بالإمام وما له من الصفات والإمكانات كان موجودا لدى الفئة الغالبة من شيعة أهل البيت (عليهم السلام) مما جعل محاولات البعض في الاستحواذ على منصب الإمامة تبوء بالفشل، ويذهب سعيهم في ذلك سدى.
وبين أيدينا نموذج امرأة فائقة الوعي، والإحساس الديني، سوف ننقل قصتها كما نقلها أرباب المجامع الحديثية، ونتوقف عند بعض فقراتها لكي نستجلي منها دروسا وعبرا.
عاتكة بنت الديراني: امرأة من دينور(١٠٨)..
عن أحمد بن أبي روح قال: وجهت إلي امرأة من أهل دينور فأتيتها فقالت: يا بن أبي روح أنت أوثق من في ناحيتنا دينا وورعا وإني أريد أن أودعك أمانة أجعلها في رقبتك تؤديها وتقوم بها!
فقلت: أفعل إن شاء الله تعالى.
فقالت: هذه دراهم في هذا الكيس المختوم لا تحله ولا تنظر فيه حتى تؤديه إلى من يخبرك بما فيه، وهذا قرطي يساوي عشرة دنانير وفيه ثلاث حبات يساوي عشرة دنانير، ولي إلى صاحب الزمان حاجة أريد أن يخبرني بها قبل أن أسأله عنها!
فقلت: وما الحاجة؟
قالت: عشرة دنانير استقرضتها أمي في عرسي لا أدري ممن استقرضتها ولا أدري إلى من أدفعها فان أخبرك بها فادفعها إلى من يأمرك بها.
قال (فقلت في نفسي): وكيف أقول لجعفر بن علي، فقلت: هذه المحنة (الامتحان) بيني وبين جعفر بن علي فحملت المال وخرجت حتى دخلت بغداد فأتيت حاجز بن يزيد الوشاء فسلمت عليه وجلست قال: ألك حاجة؟
قلت: هذا مال دُفع إلي لا أدفعه إليك حتى تخبرني كم هو ومن دفعه إلي؟ فان أخبرتني دفعته إليك!
قال: يا أحمد بن أبي روح توجه به إلى سر من رأى.
فقلت: لا إله إلا الله لهَذا أجلُّ شيء أردته فخرجت ووافيت سر من رأى فقلت: أبدأ بجعفر ثم تفكرت فقلت: أبدأ بهم فان كانت المحنة من عندهم وإلا مضيت إلى جعفر، فدنوت من دار أبي محمد فخرج إلي خادم فقال: أنت أحمد بن أبي روح؟
قلت: نعم!
قال: هذه الرقعة اقرأها! فإذا فيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم يا بن أبي روح أودعتك عاتكة بنت الديراني كيسا فيه ألف درهم بزعمك، وهو خلاف ما تظن وقد أديت فيه الأمانة، ولم تفتح الكيس ولم تدرِ ما فيه، وفيه ألف درهم وخمسون دينارا، ومعك قرط زعمت المرأة أنه يساوي عشرة دنانير، صدقت مع الفصين اللذين فيه، وفيه ثلاث حبات لؤلؤ شراؤها عشرة دنانير وتساوي أكثر فادفع ذلك إلى خادمتنا إلى فلانة فانا قد وهبناه لها، وصر إلى بغداد وادفع المال إلى الحاجز (حاجز الوشاء) وخذ منه ما يعطيك لنفقتك إلى منزلك.
وأما عشرة الدنانير التي زعمت أن أمها استقرضتها في عرسها وهي لا تدري من صاحبها.. بل هي تعلم لمن، هي لكلثوم بنت أحمد وهي ناصبية(١٠٩) فتحرجت أن تعطيها وأحبت أن تقسمها في أخواتها فاستأذنتنا في ذلك فلتفرقها في ضعفاء أخواتها.
ولا تعودن يا ابن أبي روح إلى القول بجعفر والمحبة له، وارجع إلى منزلك فان عمك قد مات، وقد رزقك الله أهله وماله فرجعت إلى بغداد، وناولت الكيس حاجزا فوزنه فإذا فيه ألف درهم وخمسون دينارا فناولني ثلاثين دينارا وقال: أمرت بدفعها إليك لنفقتك فأخذتها وانصرفت إلى الموضع الذي نزلت فيه وقد جاءني من يخبرني أن عمي قد مات وأهلي يأمروني بالانصراف إليهم فرجعت فإذا هو قد مات وورثت منه ثلاثة آلاف دينار ومائة ألف درهم(١١٠).
ونقف عند هذه الحادثة على جملة من العبر والدروس:
١/ أن القضية الدينية هي أهم قضية تحتاج إلى استيثاق، ولا تتحمل التساهل فيها بحيث يسمع الإنسان من أي شخص أو يقبل أي كلام، ولا سيما في الأمور المالية. فإن ذمة الإنسان تبقى مشغولة، ما دام لم يأتمن عليها الأمين، وعليه ضمان ضياعها وتلفها. لذلك وجدناها تبحث عن أحمد بن أبي روح والذي هو (أوثق من في ناحيتنا ورعا ودينا).
ونحن إذا نظرنا إلى هذا المعنى عرفنا كم هو الفاصل بين ما يحصل في مجتمعنا حيث يتم استغفال النساء على وجه الخصوص، ببعض المظاهر الدينية الكاذبة، ويساء استغلال بساطة الكثيرات منهن.. سواء في الأمر المالي أو غيره بل أحيانا في الأمر الجنسي! هنا تبدو الحاجة ملحة إلى البحث ليس عن الثقة فحسب بل الأوثق دينا وورعا كما فعلت هذه المرأة الواعية.
٢/ إن من معرفة هذه المرأة ووعيها، معرفتها بصفات الإمام التي لا تكون عند غيره، ووجودها عند شخص يعني ارتباطه بعالم الغيب، ويعني إمامته، فإنها تطلب من أحمد أن يوصل المبلغ المالي الذي أعطته إياه إلى من (يخبرك بما فيه) مع أن الكيس مغلق، ولم يطلع عليه حتى أحمد نفسه. وأن من يعرف باطن ما يجول في خاطرها، وما هي حاجتها من دون إطلاع سابق!!
ومع هذه العلامات لا مجال أبدا للاحتمال أو الصدفة لكي تتحكم في هذا الأمر فقد رأينا كيف أن عددا من الناس قد آمنوا برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عندما أخبرهم بدواخل أمورهم وبواطن تفكيرهم، فعلموا أنه لولا اتصاله بالوحي لما علم بذلك ولما أخبر عنه.
٣/ إن أثر النقطة السابقة مهم جدا في ردع المتطفلين، وتسلل الطامعين إلى موقع الإمامة الإلهية، ولولا مثل تلك العلامات التي ليست في متناول كل أحد لكان يسيرا على الكثير التطفلُ والتسلل، فقد يحفظ شخص شيئا من العلوم ويقدم نفسه إماما، وهذا أمر ممكن، ولكن علمه ببواطن الأمور ليس ممكنا. ولقد حدثت حادثة مع جعفر بن علي الهادي الذي ادعى الإمامة بعد أخيه الحسن العسكري (عليه السلام)، محاولا الاستفادة من الظروف الصعبة التي أحاطت بالإمام الحجة بن الحسن العسكري، حيث كانت السلطة العباسية تريد القضاء عليه مما أدى إلى تستره عن العيون. فقدم نفسه كإمام، لكن الصفات التي كان يعرفها شيعة أهل البيت (عليهم السلام) لم تكن تنطبق عليه، فباء بالفشل، مثل (أن الإمامة لا تجتمع في أخوين بعد الحسن والحسين). ومنها عدم قدرته على الإخبار على ما خفي عن عينه(١١١).
٤/ دور الوكلاء المخلصين في نظام الادارة الدينية دور أساسي، فهم يقومون بتنظيم طرق الاتصال بالإمام المعصوم (عليه السلام)، وفي نفس الوقت فإنهم لا يتجاوزون ما رُسم لهم وما هو في ضمن صلاحياتهم..
نحن نرى أن حاجزا بن يزيد الوشاء(١١٢)، مع أنه وكيل عنهم إلا أنه عندما طلب منه أحمد بن أبي روح، تلك العلامة التي أرادتها عاتكة العارفة، وهي أن يخبر بما في الكيس من غير فتحه، وجد أن هذا ليس من شأنه، ولا يستطيعه، فوجهه إلى سامراء، حيث سيلتقي من يصله بالإمام (عليه السلام).
٥/ في هذه القضية تبين أن وعي تلك المرأة كان أكثر من الرجل، مع أنه من الأصحاب الكبار، إلا أن القضية لا ترتبط بذكورية هذا وأنوثية تلك، وإنما بالوعي والمعرفة، فقد وجدناها هنا تعرف الإمام بالعلامات، بينما اشتبه الأمر على أحمد فقد كان يقول بجعفر، ولكن بواسطة هذه الامتحانات التي فرضتها عاتكة، وصل الرجل إلى الإمام الحقيقي، بعدما كان ولو على مستوى الاستقراب الأولي، يذهب إلى القول بإمامة جعفر بن علي (عم الإمام الحجة) وهذا يلقي بضوء على المقصود من (ناقصات العقول) كما تعرضنا له في المقدمة.
٢/ أم أبي العباس الزراري
(وأما الزوج والزوجة فأصلح الله بينهما)
الإمام الحجة
تتعرض الحياة الزوجية بين الزوجين إلى مشاكل وآفات.. وكأن هذا الأمر من الأمور الطبيعية التي قل أن يخلو منها بيت من البيوت(١١٣)، صغرت تلك المشاكل أو كبرت! وربما لهذا السبب فإن التوجيهات الدينية لا تكتفي بدور الوقاية، والتوجيه إلى جذور المشاكل، وإنما نجد طرقا في معالجتها لو حدثت، وما عسى الطرفان أن يصنعا في حالة وجودها. ذلك أن التنكر لهذا الواقع لا ينفيه، ووجود نظرة مثالية عما يُترقب من المؤمن والمؤمنة من خير، لا يمنع من أن يلاحظ الدين ما هو قائم وحاصل بينهما!!
إن التوجيهات الدينية تلاحظ أولا مسببات الخلافات والمشاكل..
فقد يعود الأمر إلى جهل الزوجين بحق كل منهما فيطالب بأكثر مما هو حقه، ولذا وجدنا النصوص الدينية تحدد تلك الحقوق وتبين ما على كل منهما تجاه الآخر، وقد يكون عائدا إلى طبيعة سيئة لدى أحد الطرفين، فيظلم صاحبه، ويسيء إليه، وهنا نجد التعنيف الشديد تجاه المرأة التي يبات زوجها عليها ساخطا من سوء أخلاقها وعشرتها، والتوبيخ الأشد على الزوج الذي يمد يده لضرب زوجته وهو أولى بالضرب منها!! وتبين أن (خيركم خيركم لأهله).
مع اشتداد أوار المشاكل والمشاكسات، وعدم القدرة على الانسجام بين الطرفين ينصح الدين بإدخال طرف ثالث يصلح ما أفسده التشنج والتوتر،(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً)(١١٤).. ولا يخفى ما في هذا التشريع من المنافع العظيمة، فإن البعض من الناس مستعد للتنازل قبل أن تخرج القضية والمشكلة من بيته، فتنتهي عند هذا الحد.. والبعض الآخر ممن هو ذاهب في النزاع إلى حده الأخير سوف يجد القريبين منه لا يشاركونه في تصوراته، لأنهم لا يعيشون الشحن النفسي الذي يعيشه هو، فهذا يؤدي إلى تخفيف تصوراته تلك. ثم إنه لن يُعترف له بأن يكون كامل الحق في جانبه، فيهيئونه للتنازل!! ونحن لا نريد أن نستطرد في هذا الجانب وإلا ففي الحديث مجال واسع.
كما يتم توجيه الإنسان هنا إلى اللجوء لربه، والاستعانة بخالقه في حل مشكلته، فإن صلاح زوجته وصلاح زوجها هو من أهم الأمور التي ينبغي طلبها من الله. وهو القادر على ذلك كما هو قادر على سائر الأمور، وقد ذكر القرآن أن الله سبحانه قد أصلح أحوال زوجات أنبياء (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ)(١١٥).
وهنا نقطة هامة ينبغي الإشارة إليها وهي ضرورة اجتناب (قطاع الطرق) من أدعياء الارتباط بالله سبحانه.. فكم أساؤوا إلى الدين وكم ارتكبوا جرائم باسمه، إذ يوجد بعض الأشخاص ممن يلبسون مسوح المتدينين ويتزيون بزي علماء الدين، فيزيدون الطين بلّة، ويصورون المشكلة البسيطة بين الزوجين على أنها مخططة من عوالم الجن والسحر، فهذه الزوجة مسكونة! وذلك الزوج (معمول له عمل) والأمر عويص يحتاج إلى الكثير من (الأموال) لفك السحر، وإخراج الجن!!
ومع الأسف فإن الكثير من الناس ذوي المشاكل، لما كانوا يبحثون عن حل، أي حل لمشكلتهم فإنه يقعون ضحية هذا النصب وهذا الاحتيال، فلا يجدون إلا السراب بعدما ضاعت نقودهم، إضافة إلى صفاء نفوسهم!
إن من الضروري أن يتوجه الإنسان إلى خالقه، ويستعين به، ويقصد أبواب الله الحقيقيين، تماما مثلما فعل الزراري عندما أعيته الطرق في أن يجد الحل مع زوجته ويطفئ لهب الشقاق، والتشنج، فقد ذهب إلى سفير الإمام صاحب العصر والزمان، وسأله أن يطلب من الإمام (عجل الله فرجه) الدعاء له، والاستشفاع عند الله لكي يفرج أمره ويصلح شأنه..
هلم - عزيزي القارئ والقارئة - لنسمع كيف كانت القضية، وماذا كانت النتيجة:
كنت تزوجت بأم ولدي، وهى أول امرأة تزوجتها وأنا حينئذ حدث السن وسني إذ ذلك دون العشرين سنة، فدخلت بها في منزل أبيها، فأقامت في منزل أبيها سنين وأنا اجتهد بهم في أن يحولوها إلى منزلي، وهم لا يجيبون إلى ذلك فحملت مني في هذه المدة وولدت بنتا فعاشت مدة، ثم ماتت (أي تلك البنت)، ولم أحضر في ولادتها ولا في موتها ولم أرها منذ ولدت إلى أن توفيت للشرور التي كانت بيني وبينهم، ثم اصطلحنا على أنهم يحملونها إلى منزلي، فدخلت إليهم في منزلهم ودافعوني في نقل المرأة إلي، وقُدر أن حملت المرأة مع هذه الحال، ثم طالبتهم بنقلها إلى منزلي على ما اتفقنا عليه، فامتنعوا من ذلك فعاد الشر والمضارمة سنين لا آخذها.
ثم دخلت بغداد، وكان الصاحب(١١٦) بالكوفة في ذلك الوقت أبو جعفر محمد بن احمد الزجوزجي رحمه الله وكان لي كالعم أو الوالد فنزلت عنده ببغداد وشكوت إليه ما أنا فيه من الشرور الواقعة بيني وبين الزوجة وبين الأحماء.
فقال لي: تكتب رقعة وتسأل الدعاء فيها، فكتبت رقعة وذكرت فيها حالي وما أنا فيه من خصومة القوم لي وامتناعهم من حمل المرأة إلى منزلي(١١٧).ومضيت بها أنا وأبو جعفر رحمه الله إلى محمد بن علي، وكان في ذلك الواسطة بيننا وبين الحسين بن روح رضي الله عنه، وان تأخر كان من جهة الصاحب (عليه السلام) فانصرفت، فلما كان بعد ذلك ولا أحفظ المدة إلا أنها كانت قريبة، فوجه إلي أبو جعفر الزجوزجي رحمه الله يوما من الأيام، فصرت إليه، فاخرج لي فصلا من رقعة وقال لي: هذا جواب رقعتك، فان شئت أن تنسخه فانسخه ورده، فقرأته فإذا فيه: (والزوج والزوجة فأصلح الله ذات بينهما)..
كانت تلك الدعوات بمثابة الترياق الذي وضع على تلك العلاقة الزوجية المجروحة فإذا بها تعود ملتحمة، منسجمة، وبمثابة ماء السماء الذي سقى تلك الأرض القاحلة من العواطف والمشاعر. هل كان ذلك أمرا استثنائيا؟ هل هو خارج المقاييس والقواعد؟ كلا! فـ (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(١١٨).
ماذا كانت النتيجة؟ يقول أبو العباس الزراري ما حاصل معناه:
ودخلنا الكوفة، فسهل الله لي نقل المرأة بأيسر كلفة، فقد جاءت لي - بعدما كانت في بيت أهلها - واسترضتني واعتذرت إلي وأقامت معي سنين كثيرة ورزقت مني أولادا، ولم تزل على حال الاستقامة ولم يجر بيننا بعد ذلك شيء مما كان يجري، وقد كنت أتعمدها بما يسخطها(١١٩)، فلا يجرى منها شيء، وأسأت إليها إساءات واستعملت معها كل ما لا تصبر النساء عليه.. فما كنت ألقى منها غير الجميل. إلى أن فرق الزمان بيننا.
٣/ نسيم الخادمة
كيف يُعرف شخص أنه موجود أو غير موجود؟ وأنه قد وُلد أو لم يُولد؟
إن لذلك طرقا متعددة؛ فمنها معاينة الشخص بنفسه والتعامل معه، حيث يحصل للناظر علم وجداني بوجود الشخص المعايَن، و(لا أثر بعد عين). ولكن هذا الطريق منحصر بمعاصري الشخص نفسه فلا يمكن أن يتم اعتماده في القضايا التاريخية السابقة، التي لم يعاصرها المؤرخ، ولم يعايشها الشخص.
ومن تلك الطرق إخبار عائلته وأهله عنه واعترافهم بذلك، ولاسيما الأبوان حيث يترتب على ذلك الاعتراف والإخبار عدد من الحقوق والواجبات، في الميراث والمحرمية والنسب.. ولا يصغى إلى تكذيب الغير مع اعتراف الوالدين بولادة الشخص، مع إمكانه وعدم المانع عنه، وانتفاء التهمة، وخصوصا لو كان الاعتراف عليهما.
ومنها ذكر علماء الأنساب والخبراء في هذا الجانب، فإنه كما أن لكل علم مختصين يُرجع إليهم في معرفة أطراف ذلك العلم وقضاياه، فإن النسب والقرابة وولادة أحد لأحد هو من قضايا النسّابة وخبراء هذا العلم.
ومنها النقل عمن عايش الشخص وعاصره إذا وصل ذلك إلينا بطريق يُوثق به..
وإذا انتفى في حقنا الطريق الأول حيث لم يسعدنا التوفيق بأن نكون في زمان المعصومين (عليهم السلام)، فإن باقي الطرق هي في متناول اليد.. وما يرتبط بمعرفة الإمام صاحب العصر والزمان (عجل الله فرجه)، وولادته ووجوده يمكن الاستفادة من باقي الطرق في هذا المجال.
فلقد نقل أرباب المجاميع الحديثية الكثير من الروايات عن المعصومين آباء وأجداد الإمام الحجة، وعن ولادته في ذلك الزمان، البعض من تلك الروايات تحدثت عن الميلاد المبارك قبل مجيء وقته بعشرات السنين وبعضها الآخر بعد ولادته.
ففي خبر عن الإمام العسكري (عليه السلام) رواه الشيخ الصدوق بسنده عن(١٢٠) معلى بن محمد البصري قال: خرج عن أبي محمد (عليه السلام) حين قتل الزبيري(١٢١): " هذا جزاء من افترى على الله تبارك وتعالى في أوليائه، زعم أنه يقتلني وليس لي عقب، فكيف رأى قدرة الله عزّ وجلّ وولد له ولد وسماه " م ح م د " سنة ست وخمسين ومائتين.
كما أن علماء النسب قد ذكروا هذا الأمر وأصروا عليه، وتحدث عنه المؤرخون في كتبهم، مع أنه قد لا يتوافق بالضرورة مع التزاماتهم العقدية، وهذا أدعى للتصديق والقبول منهم:
فممن ذكر ذلك محمد بن طلحة الشافعي في كتابه مطالب السؤول في مناقب آل الرسول وضع فيه بابا في أب القاسم محمد بن الحسن الخالص بن علي بن محمد بن علي بن موسى.. وقال: أما مولده فبسر من رأى في سنة ٢٥٨ هـ. ثم رد الشبهات القائلة بأنه ليس المقصود من أحاديث الرسول.
وممن تحدث في ذلك محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتابه: البيان في أخبار صاحب الزمان وكفاية الطالب في مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.. ففي الأول ذكر بابا في الأدلة على كون المهدي حيا باقيا منذ غيبته إلى الآن، وفي كفاية الطالب ذكر في أولاد الإمام الحسن العسكري: ابنه محمد وهو الإمام المنتظر.
وفي كتاب الفصول المهمة في معرفة الأئمة لابن الصباغ المالكي: الفصل الثاني عشر في ذكر أبي القاسم الحجة الخلف الصالح ابن الحسن الخالص وهو الإمام الثاني عشر: دلائل إمامته وذكر طرف من أخباره وغيبته ومدة قيام دولته. أما أبوه فالحسن وأما أمه فنرجس.
وفي تذكرة خواص الأمة في معرفة الأئمة لسبط ابن الجوزي: قال في ذكر أولاد الحسن العسكري محمد الإمام وهو الخلف الحجة وصاحب الزمان والمنتظر وآخر الأئمة.
وفي كتاب شواهد النبوة لعبد الرحمن الجامي روى خبر ولادة الإمام المهدي كما ترويها المصادر الشيعية عن حكيمة عمة الإمام (عليه السلام).
وقد ذكره النسابون عند حديثهم عن أبناء الإمام العسكري (عليه السلام) فقد قال علي بن محمد العلوي في كتابه المجدي في أنساب الطالبين(١٢٢):
ومات أبو محمد (عليه السلام) وولده من نرجس (عليها السلام) معلوم عند خاصة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها في ذلك، وامتحن المؤمنون بل كافة الناس بغيبته.
كما ذكره ابن عنبة (جمال الدين أحمد بن علي الحسيني) في كتابه عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب(١٢٣) قال:
أما علي الهادي فيلقب العسكري لمقامه بسر من رأى وكانت تسمى العسكر، وأمه أم ولد وكان في غاية الفضل ونهاية النبل أشخصه المتوكل إلى سر من رأى فأقام بها إلى أن توفى، وأعقب من رجلين هما الإمام أبو محمد الحسن العسكري، كان من الزهد والعلم على أمر عظيم وهو والد الإمام محمد المهدي صلوات الله عليه ثاني عشر الأئمة عند الإمامية، وهو القائم المنتظر عندهم، من أم ولد اسمها نرجس.
وغيرهما في سوى ذلك من الكتب المعدة لهذا الشأن..
والذين رأوا الإمام في زمان ولادته وما بعدها تحدثوا عنه بمقدار ما كانت تتيحه لهم الأجواء والظروف بما لا يوجه خطرا على وجوده الشريف.
فمنهم نسيم الخادمة، والتي كانت في بيت الإمام العسكري (عليه السلام)، حيث تحدثت عن رؤيتها للإمام وعن بعض كراماته، كما نقل ذلك الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه كمال الدين وتمام النعمة، قال: حدثنا محمد بن علي ماجيلويه، وأحمد بن محمد بن يحيى العطار رضي الله عنهما قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار، قال: حدثنا الحسين بن علي النيسابوري، عن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، عن السياري قال: حدثتني نسيم ومارية قالتا: إنه لما سقط صاحب الزمان (عليه السلام) من بطن امه جاثيا على ركبتيه، رافعا سبابتيه إلى السماء، ثم عطس فقال: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله، زعمت الظلمة أن حجة الله داحضة لو أذن لنا في الكلام لزال الشك.
قال إبراهيم بن محمد بن عبد الله: وحدثتني نسيم خادم أبي محمد (عليه السلام) قالت: قال لي صاحب الزمان (عليه السلام) وقد دخلت عليه بعد مولده بليلة، فعطست عنده فقال لي: يرحمك الله، قالت: نسيم ففرحت بذلك فقال لي (عليه السلام): ألا أبشرك في العطاس فقلت: بلى يا مولاي فقال: هو أمان من الموت ثلاثة أيام.
يشار هنا إلى أن بعض الرجاليين قد ذكر نسيم بعنوان الخادم، وبنى على أنه صاحب الاسم رجل، وهو اشتباه محض. فإن كلمة الخادم تطلق على المرأة كما ذكر ذلك الخليل الفراهيدي في العين(١٢٤) فقال: الخدم: الخدام، الواحد خادم غلاما كان أو جارية.. وذكره ابن منظور في لسان العرب(١٢٥) فقال:
والأنثى خادم وخادمة، عربيتان فصيحتان.
هذا إضافة إلى نص الشيخ الطوسي وغيره على كونها امرأة خادمة في بيت الإمام العسكري (عليه السلام) كما يرشد إليه أيضا النص المنقول آنفا.
٤/ طالبة البرهان البغدادية
من مفارقات الأمور أن البعض يطلب برهانا في الأمور الصغيرة، فلا يقبلها إلا بعد التأكد منها واليقين بها، بينما يتساهل في الأمور العظيمة فيكتفي فيها بالتقليد والاسترسال، فلا يسأل نفسه ولا غيره عن جهة الاعتقاد بها، ولا عن سبب التسليم بحقيقتها..
وهذا في مثال العقائد واضح، فإن الكثير من أصحاب العقائد لو راجعوا أنفسهم لوجدوا أنهم قد آمنوا بالشيء الفلاني باعتبار أن آباءهم كانوا على هذه الملة وهم يعتبرون أن مجرد ذلك هو كاف للقبول، وكأن سيرة الآباء هي بالضرورة تنتهي إلى الحق (قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)(١٢٦)بينما القرآن الكريم يرفض هذا الاعتبار، داعيا إلى التحقيق في الأمر (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ(١٢٧)
وهذه الحالة أعني عدم التفكير والاهتمام في أمور العقائد، وترك المطالبة بالبرهان فيها تسهل الأمر على الطامحين، وأصحاب النزوات الذي يستغفلون الناس فيأخذونهم بعيدا عن الحق، بلطائف الحيل، ومعسول الكلام، وغيرها.
لذلك رأينا كيف اعتمد فرعون على السحرة، الذي كانوا يمثلون هذا الجانب مع أنه لا ارتباط حقيقي بين قدرة الساحر - لو كانت على بعض الأشياء - وبين ربوبية فرعون كما كان يريد!! لكن مع ذلك استعان بهم، وقام هؤلاء بأعمال من الشطارة والشعوذة، و(سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)(١٢٨).
وينقل لنا التاريخ في وقت متأخر أن قسما من هؤلاء كانوا يحاولون السيطرة على عقول الناس ويجتذبونهم إليهم كما نقل عن الحلاج(١٢٩)، ولكنهم عندما يواجَهون بالواعين، تنكشف حقائق أولئك فيعودون خائبين كما نقل عن محاولة الحسين الحلاج إغواء النوبختي.. فقد نقل شيخ الطائفة بسنده عن أبي نصر هبة الله بن محمد الكاتب: لما أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلاج ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له أن أبا سهل إسماعيل بن علي النوبختي ممن تجوز عليه مخرقته وتتم عليه حيلته، فوجّه إليه يستدعيه وظن أن أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر أن يستجرّه إليه فيتمخرق به (يحتال) ويتسوف بانقياده على غيره، فيستتب له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة، لقدر أبي سهل في أنفس الناس ومحله من العلم والأدب أيضا عندهم، ويقول له في مراسلته إياه: إني وكيل صاحب الزمان (عليه السلام) - وبهذا أولاً كان يستجر الجهال ثم يعلو منه إلى غيره - وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر!.
فأرسل إليه أبو سهل رضي الله عنه يقول له: إني أسألك أمرا يسيرا يخف مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين!! وهو أني رجل أحب الجواري وأصبو إليهن، ولي منهن عدة أتحظاهن والشيب يبعدني عنهن ويبغضني إليهن وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة!! وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك، وإلا انكشف أمري عندهن، فصار القرب بعدا والوصال هجرا، وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإني طوع يديك، وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة!!.
فلما سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه، وأمسك عنه ولم يرد إليه جوابا، ولم يرسل إليه رسولا، وصيره أبو سهل رضي الله عنه أحدوثة وضحكة ويطنز به عند كل أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سببا لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه(١٣٠).
نعم عندما يكون الشخص واعيا وعارفا لا يستطيع أصحاب الدعوات المنحرفة تضليله.. وإنما يُعرف صاحب الدعوة الصحيحة ببرهانه، أو يبرز شيئا يتبين منه أنه من أهل ولاية الله سبحانه.
وشخصيتنا هذه التي لم يحفظ لنا التاريخ - مع كل الأسف - حتى اسمها، من تلك النماذج التي تؤمن بقيادتها على بصيرة.. وهنا نقطة مهمة للنساء على وجه الخصوص، حيث أن الكثيرات منهن يرين أنفسهن غير مسئولات عن البحث والتحقيق في هذه الجهة، وربما ساعد المجتمع المتخلف على تكريس هذه الحالة، فالوالد يفكر عنها في الصغر، والزوج يفكر عنها بعد الزواج، وبين ذلك يكون الأخ وغيره من الذكور هم الذين يقومون بعملية التفكير والاختيار نيابة عنها أو بالرغم منها!!
هذه المرأة لم تقبل لنفسها ذلك، وإنما حاولت أن تعرف قائدها ومن يمثله من خلال دليل واضح بالنسبة لها. فهي تسأل عن وكيل الإمام (عليه السلام) وتذهب إليه للقائه، حتى تتعرف عليه.
يقول الحسين بن علي بن محمد المعروف بأبي علي البغدادي وهو من مشايخ الصدوق رحمه الله: ورأيت تلك السنة بمدينة السلام امرأة فسألتني عن وكيل مولانا (عليه السلام) من هو؟ فأخبرها بعض القميين أنه أبو القاسم الحسين بن روح وأشار إليها فدخلت عليه وأنا عنده، فقالت له أيها الشيخ أي شيء معي؟ فقال: ما معك فألقيه في دجلة ثم ائتيني حتى أخبرك!
قال: فذهبت المرأة وحملت ما كان معها فألقته في دجلة، ثم رجعت ودخلت إلى أبي القاسم الروحي - قدس الله روحه - فقال أبو القاسم لمملوكة له: أخرجي إليَّ الحُق، فأخرجت إليه حُقة فقال للمرأة: هذه الحقة التي كانت معك ورميت بها في دجلة أخبرك بما فيها أو تخبريني؟
فقالت له: بل أخبرني أنت، فقال: في هذه الحقة زوج سوار ذهب، وحلقة كبيرة فيها جوهرة، وحلقتان صغيرتان فيهما جوهر، وخاتمان أحدهما فيروزج والآخر عقيق. فكان الأمر كما ذكر، لم يغادر منه شيئا. ثم فتح الحقة فعرض علي ما فيها فنظرت المرأة إليه، فقالت: هذا الذي حملته بعينه ورميت به في دجلة، فغشي علي وعلى المرأة فرحا بما شاهدناه من صدق الدلالة.
٥/ من هي الخامسة؟
تتساءل الكثيرات من الفتيات المؤمنات، والنساء الفاضلات: هل لنا في نصرة الإمام الحجة من نصيب؟ أم أن هذه المرتبة العالية والمنزلة الرفيعة احتكار لا يجوز لغير بعض الرجال الوصول إليه؟
هل تستطيع امرأة أن تكون من أنصار الحجة؟ هل لها أن تطمح إلى ذلك؟ كما هو الحال بالنسبة لأخيها أو أن ذلك الأمر ممنوع عليها مباح له؟
ماذا لو حصلت على وعي كبير، وإيمان عميق، وتضحية متميزة.. هل يغير ذلك في الأمر أو تبقى غير مؤهلة لنصرة الإمام المنتظر (عجل الله فرجه) الشريف؟
دعاء الندبة الذي يقرؤه المؤمنون الوالهون إلى إمامهم في الجُمعات، هل للمرأة المؤمنة حظ فيه؟
(بنفسي أنت من مغيب لم يخل منا! بنفسي أنت من نازح ما نزح عنا! بنفسي أنت أمنية شائق يتمنى! من مؤمن ومؤمنة ذكرا فحنا، بنفسي أنت من عقيد عز لا يُسامى! بنفسي أنت من أثيل مجد لا يُجارى! بنفسي أنت من تلاد نِعمٍ لا تُضاهى! بنفسي أنت من نصيف شرف لا يساوى!.
إلى متى أحار فيك يا مولاي وإلى متى؟ وأي خطاب أصف فيك وأي نجوى، عزيزٌ عليّ أن اُجاب دونك وأُناغى، عزيز علي أن أبكيك ويخذلك الورى، عزيز علي أن يجري عليك دونهم ما جرى!!.
 هل من معين فأطيل معه العويل والبكاء هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا؟ هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى؟ هل إليك يا ابن أحمد سبيل فتُلقى هل يتصل يومنا بغده فنحظى، متى نرد مناهلك الروية فنروى، متى ننتفع (ننتقع) من عذب مائك فقد طال الصدى، متى نغاديك ونراوحك فنقر منها عينا، متى ترانا ونراك وقد نشرت لواء النصر تُرى، أترانا نحف بك وأنت تؤم الملأ وقد ملأت الأرض عدلا، وأذقت أعداءك هوانا وعقابا، وأبرت العتاة وجحدة الحق، وقطعت دابر المتكبرين، واجتثثت أصول الظالمين، ونحن نقول الحمد لله رب العالمين!..)(١٣١).
الحقيقة: أن ما يوجد في روايات الظهور وما بعده - مع أن الكثير منها نفسه لا يتمتع بميزة الاعتبار من حيث السند، ولذلك ينبغي التأمل فيه - لا يشير بصراحة إلى كثير من الفئات وكيف سيكون دورها، وهو بالكامل بالنسبة لنا يكون في حكم الغيب غير المعلوم.. ومن تلك الفئات التي لا وضوح لدورها هو النساء، مع أننا نعتقد أن طبيعة الأمور تقتضي بوجود دور لهن، سواء في الجانب الايجابي أو السلبي.. ففي المجتمع المؤمن يوجد دور للمرأة كما في المجتمعات المنحرفة.
نعم قد لا يكون لها دور واضح ومباشر في الحركة العسكرية التي يفترض أن الإمام (عجل الله فرجه) سوف يقوم بها لمواجهة قوى الانحراف، التي ملأت الأرض جورا وفسادا..
ولعلي أستطيع القول: إن النظر إلى حركة الإمام (عجل الله فرجه) يمكن أن يكون بأحد نحوين: ما هو شائع في بعض الأذهان، وهو أقرب إلى أفلام الخيال العلمي!! بفارق انه كل شيء هنا يتحرك ضمن إطار الغيب والمعجز، بينما هو في تلك الأفلام ضمن إطار التقدم التكنولوجي المفترض (الخيالي).
هنا أيضا يطيب للبعض أن يروا مسرح الحركة المهدوية، ضمن أطر غيبية، تتحرك فيه كل العوامل من دون أن يكون للعوامل والأسباب الطبيعية كبير أثر يذكر!
والنحو الثاني من النظر: هو الاعتقاد أن ما هو غيبي وإلهي في هذه الحركة هو الظهور في توقيته، وفي انتصار قائد تلك الحركة على كل القوى العالمية، وتأسيس مجتمع العدل والقسط.. ولكن يفترض أن يحدث ما يحدث اعتمادا على العوامل والأسباب الطبيعية - إلا في موارد استثنائية يتم فيها الاستفادة من الصلاحيات والقوى الغيبية التي منحها الله سبحانه لقائد الظهور - فلا بد من استخدام هذه الحركة للتكنولوجيا المتقدمة، بل نفس هذه الحركة سوف تصنع تقدما (علميا) ورقيا (عقليا) للبشر!
إننا لا نعتقد أن هذه الحركة بعيدة في هذا الجانب عما كانت عليه حركة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، من حيث اعتمادها بشكل أساس على العوامل والمعادلات الطبيعية، وإن كانت أيضا متصلة بالغيب، وللرسول قدرة على الأمر المعجز، وربما استفاد منه في بعض المواقع التي لا يمكن الاستفادة فيها من الأمور الطبيعية.
وبناء على ذلك نستطيع القول أن الصفات التي تسابقت فيها النساء في زمان الرسالة، فقربت بعضهن، وأبعدت بعضا آخر هي نفس الصفات التي ستتنافس فيها النساء المعاصرات لحركة الظهور، والتغيير العالمي الشامل.
كيف تميزت المرأة في عصر الرسالة، وكيف ارتقت بعض النساء إلى أن كن من فضليات الصحابة، بل تقدم بعضهن على قسم من متقدمي الرجال(١٣٢)، وكيف كانت تلكم النساء بين مجاهدة بأموالها، ومربية لأبنائها خير تربية، ومشجعة لزوجها.. بين صاحبة الموقف في وجه طواغيت الزمان، وصاحبة اليد الحانية على أسرتها.. ومن خلال هذه النساء وأمثالهن وأشباههن تشكل ذلك المجتمع المؤمن الرسالي.
نحن نعتقد أن ما سيكون عليه دور المرأة في أيام الحركة المهدوية التغييرية لن يختلف في هذه الجهة كثيرا عن ما كان عليه دورها أيام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وقد بين القرآن الكريم ما الذي ينتظر من المرأة في آياته المباركات، وضع النبي الأكرم مقاييس لدور المرأة، وحركتها ونشاطها في المجتمع، تنفع في كل الأوقات والظروف.. وإن اختلفت أساليب تطبيقها..
إن القرآن الكريم يتحدث عن المرأة المؤمنة التي تبايع النبي ضمن ميثاق ديني له تجليات اجتماعية، تبايعه على عقيدة التوحيد بحيث لا تشرك بالله شيئا، وتجتنب المحظورات الشرعية ملتزمة بالحدود والأحكام فهي أمينة في الأموال لا تسرق وهي عفيفة في العرض فلا تزني، وهي حريصة على الأرواح فلا تقوم بوأد ولا إجهاض للجنين، ولا تنسب للعائلة غير من كان فيها.. وفي الطرف المقابل تلتزم بالقيم الدينية و(المعروف).
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٣٣)..
وإذا كانت العلاقات السائدة في بعض المجتمعات بين الرجال والنساء هي علاقات الجسد والمتعة والجنس والشهوة حيث لا يرى كل طرف في الآخر غير هذا الجانب، فإن العلاقات في المجتمع الإسلامي حسب ما يقرر القرآن هي علاقة الولاية والانتماء بغرض هدف رسالي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كصبغة خارجية، وإقامة الحالة العبادية كبناء داخلي، ويؤطر كلَّ ذلك طاعةُ الله ورسوله فـ (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(١٣٤). وإن كان ذلك لا يمنع وجود علاقة زوجية شرعية تحقق الاستقرار النفسي، والسكن الروحي، إلى جانب اللذة الحسية المشروعة فإن من آيات الله - وهي حقا من الآيات العظام - (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(١٣٥). فعلاقة البدن، وشهوة الجسم أمر ممكن، واللذة العابرة أمر ممكن ويسير، ولكن أن يكون بين اثنين لا علاقة سابقة بينهما بل لا معرفة، تلك المودة والرحمة، والسكن.. هذا من الأمور التي تحتاج إلى جعل إلهي..
وخلافا لما يتصوره البعض من أن مجرد كون الشخص رجلا يجعله في مرتبة متميزة من الأجر، وكونه امرأة يدعه في مرتبة دانية من الثواب يقرر القرآن خطأ هذه النظرية فـ (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(١٣٦).
فهذه هي المرأة في المجتمع الإسلامي وهذا هو دورها كما يقرره القرآن الكريم، الدور الذي مارسته أيام المصلح الأول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأصبحت من خيرة من اتبعه، وهو نفس الدور الذي ينتظر أن تمارسه في أيام المصلح الأخير المهدي المنتظر.
إن الشخصية الخامسة من النساء اللاتي حول الإمام صاحب الزمان هي الشابة الواعية المنفتحة على دينها، والملتزمة بنهج قادتها المعصومين (عليهم السلام) والتي تتحرك ضمن إطار المعروف، وتدعو إلى الخير..
الخامسة.. هي تلك الزهرة التي تتضوع عطر مودة في بيتها وأسرتها، فتصنع السعادة فيه، وفي وسطها الاجتماعي فتحدث فيه العفة، وفي بيت زوجها فتحيله إلى جنة أرضية.
ترى هل تكونين - عزيزتي القارئة - إياها؟(١٣٧)

الهوامش:

ــــــــــــــــــــــ

(١) راجع جعفر (المعروف بالكذاب) بن الإمام الهادي الخليفة العباسي بعد شهادة أخيه الحسن العسكري (عليه السلام) لكي يصيّر ما كان للإمام العسكري (الإمامة) إليه!! فسخر منه الخليفة قائلا: إن كان هذا الأمر لك فلا تحتاج إلى ذلك وإن لم يكن فلو اجتمع الناس على ذلك لم يكن ليصل إليك.. للتفصيل يراجع: إكمال الدين وتمام النعمة.
(٢) مقاتل الطالبيين/ ٣٩٥.
(٣) تنقيح المقال ٢/ ٢٧٢.
(٤) اختيار معرفة الرجال / ٥٢٣.
(٥) للاستزادة يراجع تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام/ للسيد حسن الصدر.
(٦) رجال النجاشي.
(٧) الكنى والألقاب/ الشيخ عباس القمي ٢٧٩.
(٨) الفهرست للطوسي.
(٩) رجال النجاشي
(١٠) معجم رجال الحديث / ٨
(١١) عمدة الطالب - ابن عنبة ص ٢٩٢: وكان (صاحب الزنج) قاسي القلب ذميم الافعال وحسبه من ذلك تمكن الزنج من دماء المسلمين ونسائهم وأموالهم: ويحكى أن امرأة علوية أسرها زنجي وكان يسيء إليها فعارضته ذات يوم واشتكت إليه ما يفعل بها الزنجي فقال لها: أطيعي مولاك!!. وقد قيل انه كان خارجي المذهب يرى تكفير من ليس على رأيهم من أهل القبلة.
(١٢) يشير إليه بعض ما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): (اغتربوا حتى لا تضووا) أي لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا، وقد أكد العلم الحديث على هذه الجهات.. ومن الملحوظ في مجتمعنا (القطيف) انتشار مرض السكلسل، وأهم أسباب ذلك هو التزاوج بين الأقارب والمصابين به.
(١٣) قال البعض من الفقهاء أن النكاح ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الدائم، والمنقطع، وملك اليمين. ورأى بعضهم أن الزوجية تضاد ملك اليمين وتختلف آثاره عن آثارها، والخلاف - فيما نحن فيه - لفظي.
(١٤) لسان العرب - ابن منظور ج ١١ ص ٣٣٩:يقال للإنسان أيضا أول ما تضعه أمه سليل. والسليل والسليلة: المهر والمهرة، وقيل: السليل المهر يولد في غير ماسكة ولا سلى.
(١٥) حياة الإمام الحسن العسكري للعلامة الشيخ باقر شريف القرشي، ناقلا عن أعيان الشيعة لآية الله الأمين.
(١٦) في كتابه أمهات المعصومين ص٢٩٦.
(١٧) ج ٢٤ ص ٢٢٩.
(١٨) قال السيد اليزدي رحمه الله في العروة الوثقى: يجوز سلام الأجنبي على الأجنبية وبالعكس على الأقوى إذا لم يكن هناك ريبة أو خوف فتنة، حيث إن صوت المرأة من حيث هو ليس عورة. انتهى.. ولم يعلق على المتن أحد من العلماء مما يعني موافقتهم له. (بالطبع السلام هنا لا يعني المصافحة حتى لا يشتبه الأمر على البعض!)
(١٩) نعم قد ورد في كلمات بعض الفقهاء المتقدمين (كالمحقق الحلي في الشرائع) عند الاستدلال على أنه لا يجوز للأعمى سماع صوت المرأة لأنه عورة، وعورض هذا الاستدلال عند المتأخرين بأنه لم يقم دليل على التعليل، وأنه حمل على ما لو كان بتغنج ومسببا للإثارة الشهوانية. والعلامة الحلي في مختلف الشيعة في مسألة أذان المرأة للرجال معلقا على قول شيخ الطائفة في المبسوط أنه لو أذنت المرأة للرجال اعتدوا به وأقاموا، قال الوجه المنع لأن صوتها عورة لكنه قطع في التذكرة بأن التحريم مشروط بصورة التلذذ أو خوف الفتنة. والمحقق الكركي في جامع المقاصد في مسألة الأذان أيضا واستدل كالعلامة.لكنه قيده في ج ١٢ بأنه عورة يحرم استماعه مع خوف الفتنة لا بدونه، واستشكل الشهيد الثاني في المسالك في إطلاق الحكم أو شموله لغير صورة التلذذ ‏(لما في ذلك من الحرج والضرر المنفي، ولعدم دليل صالح عليه، وكون صوتها ‏عورة لا يدل على التحريم مطلقا‏) واستجود اشتراط تحريم الاستماع بالتلذذ أو خوف الفتنة.
وقال المحقق البحراني في الحدائق: المشهور بين الأصحاب تحريم سماع صوت المرأة الأجنبية، مبصرا كان السامع أو أعمى، وإطلاق كلامهم شامل، لما أوجب السماع، التلذذ والفتنة أم لا، ولا يخلو من إشكال، لما علم من الأخبار المتكاثرة، من كلام النساء مع الأئمة (عليهم السلام)، وسؤالهن عن الأحكام، بل غير ذلك أيضا، وسيما كلام فاطمة (عليها السلام) مع الصحابة، كسلمان وأبي ذر والمقداد، وخروجها للمطالبة بميراثها في المسجد من أبي بكر، وحضور جملة من الصحابة يومئذ، وإتيانها بتلك الخطبة الطويلة المتفق على نقلها، بروايات الخاصة والعامة، أشهر من أن ينكر، مع أنها معصومة ومن المعلوم أن خروجها إنما يكون بإذن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا كله، مما يدفع ما ذكروه نعم لا بأس بتخصيص الحكم، بما إذا أوجب التلذذ والفتنة، وعليه يحمل ما أوهم خلاف ما ذكرناه.
وقال صاحب الجواهر بعد أن تعرض إلى ما ذكره المحقق في متن الشرائع، وغيره من العلماء في أن صوتها على الأعمى والمبصر عورة ولا يجوز لهما استماعه وما يمكن أن يكون دليلا على ذلك، قال: لكن ذلك كله مشكل بالسيرة المستمرة في الأعصار والأمصار من العلماء والمتدينين وغيرهم على خلاف ذلك، وبالمتواتر أو المعلوم مما ورد من كلام الزهراء وبناتها عليها وعليهن السلام، ومن مخاطبة النساء للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) على وجه لا يمكن إحصاؤه ولا تنزيله على الاضطرار لدين أو دنيا، بل قوله تعالى: " فلا تخضعن بالقول " دال على خلاف ذلك أيضا، ولعله لذا وغيره صرح جماعة كالكركي والفاضل في المحكي عن تذكرته وغيرهما ممن تأخر عنه كالمجلسي وغيره بالجواز، بل بملاحظة ذلك يحصل للفقيه القطع بالجواز فضلا عن ملاحظة أحوالهم في ذلك الزمان، من كونهم أهل بادية، وتقام المآتم والأعراس وغيرها فيما بينهم، ولا زالت الرجال منهم مختلطة مع النساء في المعاملات والمخاطبات وغيرها. نعم ينبغي للمتدينة منهن اجتناب إسماع الصوت الذي فيه تهييج للسامع وتحسينه وترقيقه حسبما أومأ إليه الله تعالى شأنه بقوله: "فلا تخضعن بالقول" الى آخره، كما أنه ينبغي للمتدينين ترك سماع صوت الشابة الذي هو مثار الفتنة حسبما أومأ إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في تعليم الناس فيما رواه عنه الصدوق قال: " كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يسلم على النساء ويرددن عليه، وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يسلم على النساء ويكره أن يسلم على الشابة منهن، ويقول: أتخوف أن يعجبني صوتها فيدخل علي من الإثم أكثر مما أطلب من الأجر.. إلى آخر ما ذكره. وورد أن (النساء عي وعورة فاستروا عيهن بالسكوت واستروا عوراتهن بالبيوت).
(٢٠) وسائل الشيعة (آل البيت): ج ٢٠ ص ١٩٧: ‏ محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد، عن معلي ‏بن محمد، عن الوشاء، عن أبان بن عثمان عن أبي بصير قال ‏.. وليس في السند من يتوقف فيه غير المعلى بن محمد (البصري) فالقوم فيه على رأيين: التضعيف لكلام النجاشي فيه أنه (مضطرب الحديث والمذهب) وقبول روايته كما عليه بعض أساتذتنا حيث أن كلام النجاشي ليس سوى وصف لحديثه لا للراوي، وهو مثل ما نقل عن ابن الغضائري: أنه يعرف حديثه وينكر.. وقد فسرت تلك الكلمات بأن أحاديثه ليست على مستوى واحد من المتانة والقوة والانسجام. كما أنه قد ورد اسمه في رجال تفسير علي بن إبراهيم القمي في القسم الأول على القول بتوثيقهم.
(٢١) الكافي ٥/٥٣٥: محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن ابيه عن حماد بن عيسى عن ربعي
(٢٢) هناك روايات أخرى تفيد أنه (لا تبدؤوا النساء بالسلام) و(لا تسلم على المرأة) وقد جمع بينها وبين السابقات في صراحتها بالحمل على الجواز على كراهة، أو أنه لا يسلم عند خوف الفتنة أو التلذذ..
(٢٣) من قضايا النهضة الحسينية / ج ٣ للمؤلف.
(٢٤) قال الحموي في معجم البلدان ج ٤ ص ٤٤٧: الكرخ بالفتح ثم السكون، وخاء معجمة، وما أظنها عربية إنما هي نبطية، وهم يقولون: كرخت الماء وغيره من البقر والغنم إلى موضع كذا جمعته فيه في كل موضع، وكلها بالعراق، ثم تحدث عن كرخ سامراء وكرخ البصرة وكرخ بغداد، وذيل هذا الأخير بقوله: وأهل الكرخ كلهم شيعة إمامية.
(٢٥) (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود:٤٦)
(٢٦) (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (التحريم:١٠)
(٢٧) (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً) (الأحزاب: ٣٠ - ٣١)
(٢٨) هذا لا ينافي ما يعتقد من كون آباء الأنبياء - لا سيما نبينا محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلم) - موحدين.
(٢٩) ‏الروم:١٩
(٣٠) التغابن:١٤
(٣١) ‏المجادلة:٢٢‏
(٣٢) ‏لقمان:١٥ ‏
(٣٣) كمال الدين وتمام النعمة ص ٣١٩ ‏
(٣٤) كانت ولادة جعفر حوالي سنة ٢٣٦ هـ
(٣٥) الغيبة ٢٧٨
(٣٦) كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق ص ٤٢
(٣٧) شرح أصول الكافي - المولى محمد صالح المازندراني ج ٧ ص ٣٥٥: - علي بن محمد قال: باع جعفر فيمن باع صبية جعفرية كانت في الدار يربونها، فبعث بعض العلويين وأعلم المشتري خبرها فقال المشترى: قد طابت نفسي بردها وأن لا أرزأ من ثمنها شيئا، فخذها، فذهب العلوي فأعلم أهل الناحية الخبر فبعثوا إلى المشترى بأحد وأربعين دينارا وأمروه بدفعها إلى صاحبها..
(٣٨) كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق ص ٤٧٩
(٣٩) ‏كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق ص ٤٨٣.
(٤٠) مدينة المعاجز ٨/ ١٣٤.
(٤١) تدوين السنة الشريفة السيد محمد رضا الجلالي.
(٤٢) المصدر ص٢٧٤.
(٤٣) ميزان الحكمة - محمدي الريشهري ج ٣ ص ٢٦٦٣.
(٤٤) مما يشير إلى كون كتاب الحلبي مشهورا أيام الشريف المرتضى رحمه الله (المتوفى سنة ٤٣٦ هـ) ما ورد في كتابه: رسائل المرتضى ج ١ ص ٢٧٩: ‏مسألة رابعة عشر (السؤال عن الرجوع إلى الكتب الثلاثة) ما يشكل علينا من الفقه ‏نأخذه من رسالة علي بن موسى بن بابويه القمي، أو من كتاب الشلمغاني، أو من كتاب ‏عبيد الله الحلبي؟ الجواب: الرجوع إلى كتاب ابن بابويه وإلى كتاب الحلبي أولى من ‏الرجوع إلى كتاب الشلمغاني على كل حال. ‏ كما أنه قد ذكر صاحب الوسائل رحمه الله أن الصدوق صرح في أكثر من موضع عن أن كتاب عبيد الله بن علي الحلبي كان موجودا عنده.
(٤٥) كربلاء في العراق أرض الشهادة التي حدثت فيها المواجهة بين جيش يزيد بن معاوية وأصحاب الحسين بقيادته واستشهدوا فيها، وفخ قرب المدينة المنورة فيها حصلت المواجهة بين الجيش العباسي أيام الهادي العباسي والحسين بن علي شهيد فخ. وباخمرى قرب الكوفة في العراق كانت فيها المواجهة بين جيش المنصور العباسي والثوار الحسنيين بقيادة ابراهيم بن عبد الله بن الحسن.
(٤٦) الحج:٥.
(٤٧) عيون أخبار الرضا ٢/ ٨٦.
(٤٨) مروج الذهب ٤/ ١٤٨.
(٤٩) مروج الذهب ٤/ ١٨٦.
(٥٠) المعقلة- بضم القاف- الغرم. يقال صار ذو معقلة على قومه أي صاروا يؤدونه من أموالهم.. والملتزمون للأداء هم: العاقلة وهم الذكور من أقاربه.
(٥١) بحار الأنوار ٥/ ٢٥٨.
(٥٢) تنقيح المقال ١/ ٢٣١.
(٥٣) رجال السيد بحر العلوم ١/ ٣٨٣
(٥٤) عيون أخبار الرضا ج١ص ٨٥
(٥٥) الغيبة لشيخ الطائفة.
(٥٦) المقصود به الإمام الهادي، ويستخدم هذا الوصف نظرا لظروف الضغط الشديد من قبل السلطة الحاكمة وما تتطلبه من ممارسة التقية، والاختفاء.
(٥٧) تنقيح المقال ٢/ ق ٢/ ١.
(٥٨) تعليقة اختيار الرجال/ رقم ٩٩٢. وللتفصيل يراجع كتاب نظام الإدارة الدينية عند الشيعة الإمامية للمؤلف.
(٥٩) بحار الأنوار ١٠/ ٣٧٦.
(٦٠) بحار الأنوار ٦/ ٦٣.
(٦١) مجمع الرجال ٥/ ٢٢.
(٦٢) يراجع أنصار الحسين/ الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
(٦٣) الأصول من الكافي ١/ ٣٣٠.
(٦٤) مروج الذهب ٤.
(٦٥) بحار الأنوار ٥١/ ٣٧٠.
(٦٦) الناظر يلاحظ محورية القسط والعدل في روايات المهدي المنتظر، وجهة ذلك ما نراه من أن السبب الرئيس في الفساد العالمي هو فقدان القسط والعدل، فأنت ترى الفساد السياسي مرجعه إلى الظلم والجور، والفساد الأخلاقي كذلك، بل فساد الأنفس مرجعه إلى (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (الروم:٩) فزوال النعم عن الأمم وبوار الدنيا، ونهاية الحضارات هي بسبب الظلم كما في كتاب الله العزيز (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل:٥٢).. (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (الحج:٤٥)
ولا غرابة في ذلك فإن (الظلم في الدنيا بوار وفي الآخرة دمار) وهو (يزل القدم ويسلب النعم ويهلك الأمم) كما في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام). ويكفيك أنه (لا أثر بعد عين).
(٦٧) في أحاديث الفريقين مثلما: نقل ابن حبان في صحيحه ١٥/ ٢٣٨: عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي أقنى يملأ الأرض عدلا كما ملئت قبله ظلما يملك سبع سنين..
- ونقل الطبراني في المعجم الكبير ج ١ / ١٣٣: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا..
- وفي روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عدد كبير بهذا النص، وأكثرها معتبر السند - وإن كانت مع كثرتها وتظافرها لا تحتاج إلى تحقيق سندي - مثل موثقة أبي بصير، التي رواها ابن بابويه القمي في كتابه الإمامة والتبصرة بسنده عن أبي بصير عن الصادق جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خلقا وخلقا، تكون له غيبة وحيرة حتى تضل الخلق عن أديانهم، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب، فيملاها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.
(٦٨) ذكر بعض المحققين أن الروايات الواردة من طرق السنة حول شؤون المهدي تزيد على أربعمائة حديث، ومن طرق الشيعة تزيد على خمسة آلاف.
(٦٩) في بحار الأنوار ج ٥١ ص ١٦: عن أحمد بن الحسن بن إسحاق القمي قال: لما ولد الخلف الصالح (عليه السلام) ورد من ‏مولانا أبي محمد الحسن بن علي، على جدي أحمد بن إسحاق كتاب وإذا فيه ‏مكتوب بخط يده (عليه السلام) الذي كان يرد به التوقيعات عليه: ولد المولود فليكن ‏عندك مستورا وعن جميع الناس مكتوما فانا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والمولى ‏لولايته أحببنا إعلامك ليسرك الله به كما سرنا والسلام.‏
(٧٠) وكذلك فيه عن أبي جعفر العمري قال: لما ولد السيد (الحجة) (عليه السلام) قال أبو محمد (عليه السلام): ابعثوا إلي أبي عمرو، فبعث إليه فصار إليه فقال: اشتر عشرة آلاف رطل خبزا وعشرة آلاف رطل لحما وفرقه أحسبه قال: على بني هاشم وعق عنه بكذا وكذا شاة.
وفيه أيضا عن محمد بن إبراهيم الكوفي أن أبا محمد (عليه السلام) بعث إلى (بعض) من سماه لي بشاة مذبوحة قال: هذه من عقيقة ابني محمد.
(٧١) عن الحسن بن الحسين العلوي أنه قال: دخلت على سيدنا أبي محمد الحسن ‏العسكري بسر من رأى فهنأته بسيدنا صاحب الزمان (عليه السلام).
(٧٢) الغيبة للشيخ الطوسي ٢٤٤
(٧٣) ورد تلقيبها بذلك في كلمات أمير المؤمنين، والحسن، والصادق والكاظم، والرضا (عليهم السلام)
(٧٤) ليس هناك تفاصيل عن هذه المعركة والتي ذكرت في سياق قصتها التي ينقلها العلامة المجلسي رحمه الله في البحار عن كتاب الغيبة للشيخ الطوسي قدّس سرّه.. ولكن نقل ابن كثير في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٩٠ ما يلي:.. ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين فيها أغزى المنتصر وصيفا التركي الصائفة لقتال الروم، وذلك أن ملك الروم قصد بلاد الشام، فعند ذلك جهز المنتصر وصيفا وجهز معه نفقات وعددا كثيرة، وأمره إذا فرغ من قتال الروم أن يقيم بالثغر أربع سنين، وكتب له إلى محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق كتابا عظيما فيه آيات كثيرة في التحريض للناس على القتال والترغيب فيه..
فقد تكون هذه المعركة (غزو الصيف) والتي يوافق تاريخها، قريبا من تاريخ ولادة الإمام الحجة (عجل الله فرجه)، حيث أنها قبل ولادته بسنتين، فلعل هذه الفترة كانت هي الفترة التي قدمت فيها السيدة نرجس إلى بيت الإمام العسكري (عليه السلام)، وكان أن تزوج بها فولدت له الحجة المنتظر.
(٧٥) صفحة ٢٠٨، ولسنا في مقام نقد الرواية سندا، وإنما ننقلها عن الكتاب وعهدتها عليه.
(٧٦) يراجع ترجمة حكيمة بنت محمد بن علي الجواد (عليه السلام) في هذا الجزء.
(٧٧) تاريخ الخلفاء.
(٧٨) كمال الدين ٤٢٤
(٧٩) ذكر ولادته الشافعي محمد بن طلحة في مطالب السؤول وقال أما مولده فهو بسر من رأى سنة ٢٥٨، ومحمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتابه كفاية الطالب في باب ذكر الأدلة على كون المهدي حيا باقيا منذ غيبته إلى الآن. وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة في ذكر طرف من أخباره وغيبته، ومدة قيام دولته، أما أبوه فالحسن وأما أمه فنرجس. وسبط ابن الجوزي في تذكرة خواص الأئمة وابن خلكان وغيرهم من علماء العامة وللتفصيل يراجع كتاب الإمام المهدي للعلامة الشيخ باقر القرشي، وأما من الشيعة فكل من كتب حول الإمامة أثبت ذلك.
(٨٠) يراجع كتاب نظام الادارة الدينية عند الشيعة الإمامية للمؤلف.
(٨١) للتفصيل يراجع كتاب الحياة الشخصية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) للمؤلف.
(٨٢) في الرواية أن أبا محمد الحسن العسكري (عليه السلام) قال لأحد أصحابه (العمري - أي عثمان بن سعيد جدها - وابنه ثقتان فما أديا إليك فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان). راجع قسم الرجال حول الإمام الحجة.
(٨٣) ذكر ابن النديم في ذيل ترجمة بعض المتكلمين من الإمامية أن بني نوبخت معروفون بولاية علي وولده. وذكر في أعيان الشيعة أسماء اثنين وعشرين متكلما من متكلميهم على مذهب الإمامية، ومن بينهم عبد الله بن إبراهيم أخ زوج المترجمة، وذكر أيضا أحد أحفادها
(٨٤) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقيه من فقهاء أهل البيت، وثائر ضد الحكم الأموي، نهض في الكوفة آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، فواجهه الأمويون وأنصارهم، في معركة شرسة انتهت بشهادته، وكان مقتله يوم الاثنين الثاني من صفر سنة ١٢٠ هـ وكان عمره يومئذ اثنتين وأربعين سنة..
(٨٥) كما في صحيحة عيص بن القاسم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له.. فانظروا على أي شيء تخرجون ولا تقولوا خرج زيد، إن زيدا كان عالما وكان صدوقا ولم يدعكم إلى نفسه، إنما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (عليهم السلام)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه..
وعبد الرحمان بن سيابة، قال: دفع إلي أبو عبد الله الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) ألف دينار وأمرني أن أقسمها في عيال من أصيب مع زيد بن علي (عليه السلام)، فقسمتها فأصاب عبد الله بن الزبير أخا الفضيل الرسان أربعة دنانير.. يعني عياله.
وما عن إسماعيل بن محمد (السيد الحميري) قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) بعد ما قتل زيد بن علي، قال (عليه السلام): رحمه الله أما إنه كان مؤمنا وكان عارفا وكان عالما وكان صدوقا، أما إنه لو ظفر لوفى، أما انه لو ملك لعرف كيف يضعها..
وقد قال السيد الخوئي في المعجم / ٨: وإن استفاضة الروايات أغنتنا عن النظر في إسنادها..
(٨٦) الثاقب في المناقب- ابن حمزة الطوسي ص ٢١٦.
(٨٧) مستدرك الوسائل - الميرزا النوري ج ٨ ص ٢٥٦.
(٨٨) الإمام الحسن العسكري للشاكري ٤٤١.
(٨٩) راجع النساء حول الإمام الباقر (عليه السلام).
(٩٠) في الفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم ج ١ ص ٢٥٥: تحدث عنهم، وذكر بكير وبين أنه فطحي لكنه ثقة، ثم قال: والممدوح بالتوثيق الصريح معه من آل أعين: زرارة وأبناؤه وعبيد، وعبد الله، ورومي، وضريس بن عبد الملك، والحسن بن الجهم ومحمد بن سليمان بن الحسن، وأخوه أبو الحسن علي بن سليمان، وابن ابنه أبو غالب احمد بن محمد، فهؤلاء عشرة من آل أعين، منصوص على توثيقهم. ولهم - عدا ضريس - ولحمزة بن حمران وأخيه محمد وعبد الرحمن بن أعين ومحمد بن عبيد الله بن أحمد - كتب مصنفة ذكرها الأصحاب. وقد جاء في مدح حمران بن أعين وجلالته وعظم محله، أخبار كادت تبلغ التواتر وفيما تقدم من كلام أبي غالب - رضي الله عنه - ما يقرب توثيقه، بل يقضي به، وفيه مدح (آل أعين) عموما وخصوصا. وفى الصحيح عن الصادق (عليه السلام): أنه قال في بكير - بعد موته " والله لقد أنزله الله بين رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) " وهذه منزلة عظيمة لا شيء فوقها. ومن الممدوحين - بالخصوص -: عبد الملك، وعبد الرحمن - ابنا أعين - والحسن والحسين - ابنا زرارة - ومحمد بن عبد الله بن زرارة. وتوثيقه قريب. وفي المعتبر - عن ثعلبة بن ميمون عن بعض رجاله - قال قال ربيعة الرأي لأبي عبد الله (عليه السلام): ما هؤلاء الأخوة الذين يأتونك من العراق ولم أر في أصحابك خيرا منهم ولا أبهى ولا أهيأ؟ قال "أولئك أصحاب أبي". - يعني: ولد أعين.
(٩١) الأعراف: ٥٨.
(٩٢) تاريخ الغيبة الصغرى ٢٢٧.
(٩٣) الغيبة/٢١٥
(٩٤) الغيبة/٢١٧.
(٩٥) اختيار معرفة الرجال ٥٧٥.
(٩٦) الغيبة/٢١٦.
(٩٧) الغيبة/ ٢٢٠.
(٩٨) إكمال الدين ٤/ ٤٤٠.
(٩٩) الغيبة/٢٢٩.
(١٠٠) الغيبة/٢٢٢.
(١٠١) يراجع نظام الإدارة الدينية/ للمؤلف.
(١٠٢) المقصود بالدعاء المشاهدة هنا، المشاهدة مع ادعاء السفارة أو الوكالة المباشرة والخاصة، فمن يدعي هذا بعد السفراء الأربعة فلا إشكال في كذبه وافترائه. لا مطلق المشاهدة، إذ من الثابت أن كثيرا من العلماء والأولياء قد التقوا به (عجل الله فرجه).
(١٠٣) تاريخ ما بعد الظهور ص ٤٩٧.
(١٠٤) الطلاق:١٢.
(١٠٥) ‏النحل:٥٠‏.
(١٠٦) الصافات: ١ – ٣.
(١٠٧) في حديث طويل للإمام الرضا (عليه السلام) يعترض فيه على من زعم أن الإمامة هي بانتخاب الناس، بيّن أن القائل بذلك لا يعرف منصب الإمامة حقا، ولا يعرف من يكون الإمام، في ذلك الحديث: كما في الكافي: (الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وميراث الحسن والحسين (عليهما السلام) إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، إن الإمامة أس الإسلام النامي، وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف. الإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة، والموعظة الحسنة، والحجة البالغة، الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار. الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز البلدان والقفار، ولجج البحار، الإمام الماء العذب على الظماء والدال على الهدى، والمنجي من الردى، الإمام النار على اليفاع، الحار لمن اصطلى به والدليل في المهالك، من فارقه فهالك، الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل والشمس المضيئة، والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة. الإمام الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والأم البرة بالولد الصغير، ومفزع العباد في الداهية النآد الإمام أمين الله في خلقه، وحجته على عباده وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذاب عن حرم الله. الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ عن العيوب، المخصوص بالعلم، المرسوم بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير..
(١٠٨) بلدة في ايران قرب همدان.
(١٠٩) الناصبي هو الذي يظهر البغض والحقد على أمير المؤمنين أو السيدة الزهراء، أو أحد المعصومين (عليهم السلام).
(١١٠) بحار الأنوار ج ٥١ ص ٢٩٥، نقلا عن الخرايج.
(١١١) نقل ذلك الشيخ الصدوق رحمه الله في كمال الدين وتمام النعمة، بسنده عن أبي الحسن علي بن سنان الموصلي قال: حدثني أبي قال: لما قبض سيدنا أبو محمد الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليهما وفد من قم والجبال وفود بالأموال التي كانت تحمل على الرسم والعادة، ولم يكن عندهم خبر وفاة الحسن (عليه السلام)، فلما أن وصلوا إلى سر من رأى سألوا عن سيدنا الحسن بن علي (عليهما السلام)، فقيل لهم: إنه قد فقد، فقالوا: ومن وارثه؟ قالوا: أخوه جعفر بن علي فسألوا عنه فقيل لهم: إنه قد خرج متنزها وركب زورقا في دجلة يشرب ومعه المغنون، قال: فتشاور القوم، فقالوا: هذه ليست من صفة الإمام، وقال بعضهم لبعض: امضوا بنا حتى نرد هذه الأموال على أصحابها.
فقال أبو العباس محمد بن جعفر الحميري القمي: قفوا بنا حتى ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره بالصحة. قال: فلما انصرف دخلوا عليه فسلموا عليه وقالوا: يا سيدنا نحن من أهل قم ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها وكنا نحمل إلى سيدنا أبي محمد الحسن بن علي الأموال فقال: وأين هي؟ قالوا: معنا، قال: احملوها إلي، قالوا: لا، إن لهذه الأموال خبرا طريفا، فقال: وما هو؟ قالوا: إن هذه الأموال تجمع ويكون فيها من عامة الشيعة الدينار والديناران، ثم يجعلونها في كيس ويختمون عليه وكنا إذا وردنا بالمال على سيدنا أبي محمد (عليه السلام) يقول: جملة المال كذا وكذا دينارا، من عند فلان كذا ومن عند فلان كذا حتى يأتي على أسماء الناس كلهم ويقول ما على الخواتيم من نقش!
فقال جعفر: كذبتم تقولون على أخي ما لا يفعله، هذا علم الغيب ولا يعلمه إلا الله. قال: فلما سمع القوم كلام جعفر جعل بعضهم ينظر إلى بعض فقال لهم: احملوا هذا المال إلي، قالوا: إنا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب المال ولا نسلم المال إلا بالعلامات التي كنا نعرفها من سيدنا الحسن بن علي (عليهما السلام) فإن كنت الإمام فبرهن لنا وإلا رددناها إلى أصحابها، يرون فيها رأيهم.
قال: فدخل جعفر على الخليفة - وكان بسر من رأى - فاستعدى عليهم، فلما احضروا قال الخليفة: احملوا هذا المال إلى جعفر، قالوا: أصلح الله أمير المؤمنين إنا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب هذه الأموال وهي وداعة لجماعة وأمرونا بأن لا نسلمها إلا بعلامة ودلالة، وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام).
فقال الخليفة: فما كانت العلامة التي كانت مع أبي محمد. قال القوم: كان يصف لنا الدنانير وأصحابها والأموال وكم هي؟ فإذا فعل ذلك سلمناها إليه، وقد وفدنا إليه مرارا فكانت هذه علامتنا معه ودلالتنا، وقد مات، فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر فليقم لنا ما كان يقيمه لنا أخوه، وإلا رددناها إلى أصحابها. فقال جعفر: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قوم كذابون يكذبون على أخي وهذا علم الغيب فقال الخليفة: القوم رسل وما على الرسول إلا البلاغ المبين قال: فبهت جعفر ولم يرد جوابا، فقال القوم: يتطول أمير المؤمنين بإخراج أمره إلى من يبدرقنا (يشايعنا) حتى نخرج من هذه البلدة، قال: فأمر لهم بنقيب فأخرجهم منها، فلما أن خرجوا من البلد خرج إليهم غلام أحسن الناس وجها، كأنه خادم، فنادى يا فلان بن فلان ويا فلان ابن فلان أجيبوا مولاكم، قال: فقالوا: أنت مولانا، قال: معاذ الله: أنا عبد مولاكم فسيروا إليه، قالوا: فسرنا (إليه) معه حتى دخلنا دار مولانا الحسن بن علي (عليهما السلام)، فإذا ولده القائم سيدنا (عليه السلام) قاعد على سرير كأنه فلقة قمر، عليه ثياب خضر، فسلمنا عليه، فرد علينا السلام، ثم قال: جملة المال كذا وكذا دينارا، حمل فلان كذا، (وحمل) فلان كذا، ولم يزل يصف حتى وصف الجميع.
ثم وصف ثيابنا ورحالنا وما كان معنا من الدواب، فخررنا سجدا لله عزّ وجلّ شكرا لما عرفنا، وقبلنا الأرض بين يديه، وسألناه عما أردنا فأجاب، فحملنا إليه الأموال، وأمرنا القائم (عليه السلام) أن لا نحمل إلى سر من رأى بعدها شيئا من المال، فإنه ينصب لنا ببغداد رجلا يحمل إليه الأموال ويخرج من عنده التوقيعات، قالوا: فانصرفنا من عنده ودفع إلى أبي العباس محمد بن جعفر القمي الحميري شيئا من الحنوط والكفن فقال له: أعظم الله أجرك في نفسك، قال: فما بلغ أبو العباس عقبة همدان حتى توفي رحمه الله.
(١١٢) حاجز بن يزيد الوشاء من وكلاء الإمامين العسكري وابنه صاحب الزمان، وقد صدر مدح فيه وثناء من الإمام، قال الحسن بن عبد الحميد شككت في أمر حاجز فجمعت شيئا ثم صرت إلى العسكري (عليه السلام)، فخرج (كتابة): ليس فينا شك ولا في من يقوم مقامنا بأمرنا، رد وما معك إلى حاجز بن يزيد. وفي آخر الخبر المذكور في المتن ما ينفع في بيان منزلته.
(١١٣) بالرغم من أن البيوت محمية بالستر، ولذلك فإن أصحاب المشكلة عادة ما ينظّرون حالهم بحال غيرهم أنه: انظر كيف أن فلانا يسعد زوجته بينما لا يصنع زوجي هكذا، أو أن فلانة كيف تحترم زوجها بينما لا تفعل ذلك زوجتي!! مع أن هذين لو اطلعا على بواطن حياة غيرهم لوجدوا فيها أمورا سيئة ليست موجودة عند هذين الناظرين!!
وقد ذكر المفسرون أن نبي الله ابراهيم (عليه السلام) قد شكى إلى ربه سوء خلق زوجته سارة، فأمره بالصبر عليها!
(١١٤) النساء: ٣٥.
(١١٥) الأنبياء:٩٠ وقد ذكر أكثر المفسرين أن المقصود من إصلاحها هنا: إرجاعها شابة قادرة على الإنجاب، ولكن قسما منهم ذكروا الجانب الأخلاقي، أيضا وأنها كانت عنيفة التعامل فأصلح الله أخلاقها.
(١١٦) الوكيل بالكوفة عن السفير الثالث.
(١١٧) الغيبة للشيخ الطوسي وهناك رواية أخرى ينقلها الشيخ في موضع آخر، يتبين فيها أنه لم يذكر حاجته تفصيلا، وإنما أضمرها، والرواية كما رواها عن أبي غالب الزراري:... فقال لي صاحبي (وهو هنا الزوج): هل لك أن تلقى أبا جعفر وتحدث به عهدا؟ فانه المنصوب اليوم لهذه الطائفة، فاني أريد أن أسأله شيئا من الدعاء يكتب به إلى الناحية قال: فقلت: نعم، فدخلنا إليه، فرأينا عنده جماعة من أصحابنا فسلمنا عليه وجلسنا، فأقبل على صاحبي، فقال: من هذا الفتى معك؟ فقال له الرجل: من آل زرارة بن أعين، فاقبل علي فقال: من أي زرارة أنت؟ فقلت: يا سيدي أنا من ولد بكير بن أعين أخي زرارة، فقال: أهل بيت عظيم القدر في هذا الأمر، فأقبل عليه صاحبي، فقال له: يا سيدنا أريد المكاتبة في شيء من الدعاء، فقال: نعم، قال: فلما سمعت هذا اعتقدت أنا أسال أيضا مثل ذلك وكنت اعتقدت في نفسي ما لم أبده لأحد من خلق الله، حال والدة أبى العباس ابني، وكانت كثيرة الخلاف والغضب على وكانت مني بمنزلة، فقلت في نفسي اسأل الدعاء لي في أمر قد أهمني ولا أسميه، فقلت: أطال الله بقاء سيدنا وأنا أسال حاجة قال: وما هي؟ قلت الدعاء لي بالفرج من أمر قد أهمني، قال: فأخذ درجا بين يديه كان أثبت فيه حاجة الرجل، فكتب: والزراري يسأل الدعاء له في أمر قد أهمه، قال: ثم طواه، فقمنا، وانصرفنا. فلما كان بعد أيام قال لي صاحبي: ألا نعود إلى أبي جعفر فنسأله عن حوائجنا التي كنا سألناه، فمضيت معه ودخلنا عليه، فحين جلسنا عنده أخرج الدرج، وفيه مسائل كثيرة قد أجيب في تضاعيفها، فأقبل على صاحبي فقرأ عليه جواب ما سأل ثم أقبل علي، وهو يقرأ: (وأما الزراري وحال الزوج والزوجة فأصلح الله ذات بينهما).
(١١٨) فصلت: من الآية ٣٩.
(١١٩) لأجل الاختبار بالطبع.
(١٢٠) كمال الدين وتمام النعمة- الشيخ الصدوق ص ٤٣٠.
(١٢١) هو الزبير بن جعفر المعروف بالمعتز العباسي، وكان قد بويع سنة ٢٥٢ هـ وقتل سنة ٢٥٥.. قال فيه المسعودي في التنبيه والإشراف:.. وكان يؤثر اللذات ويعدم الرأي وتدبره أمه قبيحة وغيرها..
(١٢٢) ص ١٣٠.
(١٢٣) ‏ ص ١٩٩.
(١٢٤) ‏ كتاب العين ج ٤ ص ٢٣٥.
(١٢٥) ج ٢١ ص ١٦٧.
(١٢٦) ‏الزخرف: ٢٢‏.
(١٢٧) ‏البقرة: ١٧٠.
(١٢٨) الأعراف: ١١٦.
(١٢٩) الحسين بن منصور الحلاج ذكره الزركلي في الأعلام ج ٢ ص ٢٦٠: فقال: ‏الحلاج (٠٠٠ - ٣٠٩ ه‍ = ٠٠٠ - ٩٢٢ م) الحسين بن منصور الحلاج، أبو مغيث: ‏فيلسوف، يعد تارة في كبار المتعبدين والزهاد، وتارة في زمرة الملحدين. أصله من بيضاء ‏فارس، ونشأ بواسط العراق (أو بتستر) وانتقل إلى البصرة، وحج، ودخل بغداد وعاد إلى ‏تستر. وظهر أمره سنة ٢٩٩ ه‍ فاتبع بعض الناس طريقته في التوحيد والإيمان. ثم كان يتنقل ‏في البلدان وينشر طريقته سرا، وقالوا: أنه كان يأكل يسيرا ويصلي كثيرا ويصوم الدهر، ‏وإنه كان يظهر مذهب الشيعة للملوك (العباسيين) ومذهب الصوفية للعامة، وهو في ‏تضاعيف ذلك يدعي حلول الإلهية فيه. وكثرت الوشايات به إلى المقتدر العباسي فأمر ‏بالقبض عليه، فسجن وعذب وضرب وهو صابر لا يتأوه ولا يستغيث. قال ابن خلكان: ‏وقطعت أطرافه الأربعة ثم حز رأسه وأحرقت جثته ولما صارت رمادا ألقيت في دجلة ونصب ‏الرأس على جسر بغداد. وادعى أصحابه أنه لم يقتل وإنما ألقي شبهه على عدو له. وقال ابن ‏النديم في وصفه: كان محتالا يتعاطى مذاهب الصوفية ويدعي كل علم، جسورا على ‏السلاطين، مرتكبا للعظائم، يروم إقلاب الدول ويقول بالحلول...
وذكره بعض المؤلفين الشيعة، فقال: ‏ له دعاوى باطلة ومقالات مشهورة، كان يعد نفسه أحد الأبواب للناحية ‏المقدسة في الغيبة الصغرى، وصدر توقيع من الناحية المقدسة (الإمام الحجة) في تكذيبه ‏ولعنه.
(١٣٠) الغيبة / الشيخ الطوسي ص ٤٠١.
(١٣١) ‏بحار الأنوار - العلامة المجلسي ج ٩٩ ص ١٠٨.
(١٣٢) يراجع القسم الخاص بالنساء حول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وما تحدث به في فضل بعضهن.. حتى ورد قوله أن مقام نسيبة - في المعركة - كان خيرا من مقام فلان وفلان.
(١٣٣) ‏(الممتحنة:١٢)‏.
(١٣٤) ‏(التوبة:٧١).
(١٣٥) ‏(الروم:٢١)‏.
(١٣٦) ‏(الأحزاب:٣٥).
(١٣٧) كان الفراغ من هذا الجزء في الثالث من شوال ١٤٢٥ هـ، في منزلنا الكائن في جزيرة تاروت، في أرض البدرية التي أوقفها المرحوم الوالد الحاج محمد تقي بن علي آل سيف، على طلبة العلم الشرعي من أبنائه والتبليغ الديني والثقافي، نسأل الله أن يتغمده برحمته وأن يسكنه الفسيح من جنته.

التحميلات التحميلات:
التقييم التقييم:
  ١ / ٥.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016