لماذا الغيبة؟
السيد محمد رضا الشيرازي
نشر وتحقيق: مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية
الطبعة الأولى ١٤٣١ هـ - ٢٠١٠ م
الفهرس
المقدمة...................٣
الأول: الأسباب الكامنة وراء غيبة الإمام
المنتظر (عليه السلام)...................١١
الغيبة ظاهرة عامة...................١١
سبب الغيبة...................١٣
* الإجابة الأولى...................١٣
العقيدة أولاً...................١٧
* الإجابة الثانية...................٢٠
إشكال وجواب...................٢٦
علة الخوف...................٢٨
* الثاني: أهمية نجاح الإنسان في التعامل مع
قضية الإمام المهدي (عليه السلام)...................٣٥
* الإجابة الثالثة...................٣٧
امتحان الأُمة بغياب
القائد...................٣٧
غياب موسى (عليه السلام) وفتنة
السامري...................٤٣
امتحان الأمة بغياب الإمام المهدي (عليه
السلام)...................٤٦
فلسفة البطون والغيبة...................٤٨
امتحان الغيبة يظهر
الكوامن...................٥٧
* الثالث: عوامل نجاح غيبة الإمام المنتظر
(عليه السلام)...................٥٩
* الإجابة الرابعة...................٦٠
وهناك قاعدتان للفرض...................٦٣
كيف تتهيأ الأجواء
العامة؟...................٦٦
على صعيد الأمة...................٧٠
فشل النظام العالمي...................٧٣
* الرابع: تفسير ظاهرة غيبة الإمام المهدي
(عليه السلام)...................٨٣
النوع الأول: رجال مرحلة
التكوين...................٨٤
النوع الثاني: رجال مرحلة
البناء...................٨٦
حركة غيبية أم حركة
طبيعية؟...................٨٧
تحقيق حلم دولة العدل
والحق...................٩١
لماذا أذكر هذا الكلام؟...................٩٥
رجال لا ينامون الليل...................٩٩
التسليم المحض والتطهير
التام...................١٠٣
* الخامس: عوامل غيبة الإمام المنتظر (عليه
السلام)...................١١١
مفهوم التنزيل...................١١١
التنزيل في اللغة...................١١٢
أصالة الرحمة الإلهية...................١١٦
ودائع الله...................١٢١
ثلاث حقائق في مفهوم
التنزيل...................١٢٣
* السادس: التربية الإلهية
للإنسان...................١٣١
الأثر الأول: الحالة
النفسية...................١٣٣
الأثر الثاني: الحالة
الفكرية...................١٣٦
الأثر الثالث: الحالة
العملية...................١٣٦
التربية بسوط الغيبة...................١٤٢
ألم الفقدان وروحية
التكامل...................١٤٥
نبذة عن حياة الفقيه المقدس (قدّس
سرّه)...................١٥١
تعريف بمؤسسة الفقيه الشيرازي
الثقافية...................١٥٣
توصيات مرجعية...................١٥٤
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الصراع الدائر بين الخير والشر،
وحالة الاستئثار المطلق بالغنائم والحصول على النفوذ والمال والسلطة بأي طريقة
كانت، أدى إلى سقوط الكثير من الضعفاء ضحايا للصراعات والمعارك المستعرة على طول
التاريخ، وقد فاض العالم بأعاصير الطغيان والاستبداد والقمع والتمييز والتنكيل
والعنصرية والإبادة الجماعية العرقية والطائفية على يد أنظمة متسلطة حكمت بالحديد
والنار.
من هنا كانت الحاجة حتمية للمنقذ لتحقيق أحلام البشرية في الحياة الكريمة، لذا شكل
انتظار ظهور الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أملاً راسخاً
وأبدياً في الخلاص من ربقة الظلم والطغيان.
إن وراء غيبة الإمام المهدي المنتظر
(عجل الله تعالى فرجه الشريف) تكمن أسباب عديدة تتوزع على محاورة كثيرة يُفصلها لنا
هذا الكتاب النفيس (لماذا الغيبة؟) الذي يحمل بين دفتيه مجموعة من المحاضرات القيمة
للفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته).
إن هذا الكتاب يحاول أن يبين القيم الكبرى التي أفرزتها ولا تزال غيبة الإمام
المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عبر أسانيد عقلية وبرهانية تؤكد الحقائق
الدينية والتربوية الكبيرة للغيبة وبشكل هادئ بعيداً عن القطع بالنتائج المسبقة.
إن الأفكار المطروحة في هذا الكتاب تتميز بالجدية التامة في التعامل مع الفكر
العقائدي ونشره وترسيخه في عموم شرائح وطبقات المجتمع الإسلامي، عبر رؤية ثاقبة
للأهمية القصوى التي تنطوي عليها غيبة الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه
الشريف) من جوانبها المتعددة، وفق رؤى تواكب أهدافها كافة، وقد سعى الفقيه المقدس
في هذا الكتاب لاستكشاف أسباب ظاهرة الغيبة حتى نكون على إطلاع بكل ما يتعلق بغيبة
الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من جوانب متعددة يمكن أن نوظفها لصالحنا
في الحياة.
ومن أسباب الغيبة هو جانب الابتلاء
والاختبار الإلهي للإنسان، فالغيبة كما يرى الفقيه الشيرازي هي نوع من أنواع
الاختبار والابتلاء الإلهي الذي يقود نحو بناء الأمة بناءً روحيا ونفسيا وحضاريا من
اجل التحضير والاستعداد لظهور الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) كما حال
الأمم الناهضة التي تحمل رسالة التغيير والإصلاح والإنقاذ.
فالغيبة كما يقول الفقيه المقدس الشيرازي لم تقتصر على إمام زماننا المهدي المنتظر
(عجل الله تعالى فرجه الشريف) بل هي شملت قبله عددا من الأنبياء العظام (عليهم
السلام)، مثل نبي الله موسى (عليه السلام) الذي غاب أربعين ليلة، ونبي الله عيسى
(عليه السلام) الذي غاب حوالي ألفي عام، والنبي ذو النون (عليه السلام) الذي غاب
أربعين يوماً عن قومه، وكذلك أهل الكهف الذين غابوا ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً،
فهذه التضمينات التاريخية تُعد دلائل قاطعة على تكرار ظاهرة الغيبة في التاريخ،
وهذا يدل على أهميتها حيث تمثل شكلاً من أشكال التمحيص والابتلاء الإلهي للعباد
والأمم.
إن الغيبة تُعدّ من العوامل والأسباب التي تهيّئ الأجواء العامة لنجاح الحركة
الإيمانية المتطورة، كما أنها تُسهم في تهيئة
الرجال الأشداء القادرين على نشر
وترسيخ الحركة الإصلاحية، كما إنها تمثل نوعاً من أنواع التربية الإلهية لبني
البشر، وهم يحثون الخطى ويكدحون في دنياهم وصولا إلى ربهم بسرائر نقيه وقلوب سليمة
تضعهم في المقامات العليا.
وأخيراً يمكن للقارئ أن يميز الجهد الكبير الذي بذله سماحة الفقيه الشيرازي (قدّس
سرّه) في عرضه العميق الاستدلالي للمفاهيم وبلغة هادئة وأسلوب معاصر رائع يجيب فيه
بشكل متين ومتماسك على مختلف الإشكالات، وفي أجوبة متمازجة بين العقل والحديث
الشريف، وبين التراث والحداثة، وبين الأصالة والمعاصرة.
ومن الله تعالى الرفعة والتوفيق.
مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
(١) الأسباب الكامنة وراء غيبة الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه)
هنالك حكمةٌ كامنة وراء الغيبة لا نعلمها ولا يُشترط أن نعلمها ربما تظهر لنا في عهد الظهور
الفقيه الشيرازي
الغيبة ظاهرة عامة:
يدور موضوعنا حول إمام زماننا وولي أمرنا الحجة المهدي المنتظر (عجل الله تعالى
فرجه)، وهو يتعلق بالسبب الكامن وراء غيبته، هذه الغيبة التي يعدّها البعض تحدّياً
كبيراً للقائلين بإمامة وبوجود الإمام المهدي (عليه السلام)، فلماذا كانت هذه
الغيبة المحيّرة كما يقول هؤلاء؟
بدايةً ينبغي أن نعرف أن الغيبة ظاهرةٌ عامةٌ في حياة الأنبياء والأولياء، وهي ليست
حالةً استثنائيةً تفرّد بها الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) حيث
يشير القرآن الكريم في مواقع متعددة
إلى ظاهرة الغيبة في حياة الأنبياء والأولياء، فلعلّ الإنسان إذا قرأ القرآن الكريم
بهذا المنظار يجد هنالك إشارات وتلويحات كثيرة في مواقع متعددة من القرآن الكريم
تشير إلى فكرة وشؤون الإمام المنتظر.
فيبين لنا القرآن الكريم أنَّ هناك غيبة لنبي الله موسى بن عمران (عليه السلام)،
كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ
لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾(١)، إذن فقد غاب موسى بن عمران (عليه
السلام) عن قومه أربعين يوماً وهو نبيٌّ من الأنبياء العظام، حتى أنه لم يصطحب معه
أخاه هارون (عليه السلام) في هذه الغيبة، فكان وحيداً كما يبدو في هذه الغيبة
القصيرة. ويثبت القرآن الكريم غيبةً أخرى، فإذا كانت غيبة موسى (عليه السلام)
قصيرة، فهنالك غيبةٌ أخرى طويلة في القرآن الكريم، فقد غاب نبي الله عيسى بن مريم
(عليه السلام) عن قومه بل غاب عن البشرية كلها، فقد مرّ على غيبة عيسى بن مريم
(عليه السلام) حوالي ألفَي عامٍ.. وجاء في القرآن الكريم:
﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾(٢)،
وجاء في آية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) سورة الأعراف: ١٤٢.
(٢) سورة النساء: ١٥٧.
أخرى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾(٣)، ولا يزال عيسى بن مريم (عليه السلام) يعيش حالة الغيبة إلى الآن(٤).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣) سورة النساء: ١٥٨.
(٤) نزول عيسى (عليه السلام) عند ظهر الإمام المهدي (عليه السلام) ثم صلاته خلفه،
دليل على بقائه حياً إلى ظهور الإمام المهدي (عليه السلام)، وهذه جملة من المصادر
من كتب العامة التي تدل على ذلك منها: ما رواه البخاري في صحيحه: ج٤ ص١٤٣ كتاب بدء
الخلق ومسلم في صحيحه: ج١ ص٩٤، وابن حبان في صحيحه: ج١٥ ص٢١٣ عن أبي هريرة أنه قال:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (كيف أنتم إذ نزل ابن مريم فيكم وإمامكم
منكم)، وروى مسلم في صحيحه عن جابر أنه قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله)
يقول: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال (صلّى
الله عليه وآله): فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعال صل لنا فيقول: لا إن بعضكم
على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة)، وروى أحمد في مسنده: ج٣ ص٣٦٨ عن جابر: (وإذا
هم بعيسى فيقال: تقدم يا روح الله فيقول ليتقدم إمامكم فليصل بكم) وقال عنه الهيثمي
في مجمع الزوائد رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح، وروى ابن ماجه عن أبي
أمامة في سننه: ج٢ ص١٣٦١: (وكلهم أي المسلمون ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح قد تقدم
ليصلي بهم إذ نزل عيسى فرجع الإمام ينكس ليتقدم عيسى فيقف عيسى بين كتفيه ثم يقول
تقدم فإنها لك أقيمت)، وفي الجامع الصغير: ج٢ ص٥٤٦ ح٨٢٦٢ وكنز العمال: ج١٤ ص٢٦٦:
(منا: الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه) وروى عبد الرزاق في المصنف: ج١١ ص٣٩٩ ح٢٠٨٣٨:
(بإسناده عن ابن سيرين قال: ينزل ابن مريم.. فيقولون له: تقدم فيقول: بل يصلي بكم
إمامكم انتم أمراء بعضكم على بعض) وفي ح٢٠٨٣٩:(عن معمر كان ابن سيرين يرى: انه
المهدي الذي يصلي وراءه عيسى)، وروى ابن أبي شيبة في المصنف ج٨ ص٦٩ ح١٩٥: عن ابن
سيرين أيضاً: قال: (المهدي من هذه الأمة وهو الذي يؤم عيسى ابن مريم)، ورواه نعيم
بن حماد في كتابه الفتن: ص٢٣٠ وروى في نفس الصفحة عن عبد الله بن عمر: (المهدي الذي
ينزل عليه عيسى بن مريم ويصلي خلفه عيسى).
كذلك يثبت القرآن الكريم غيبة نبي
الله يونس بن متّى (عليه السلام): ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ
ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾(٥)،
فكم يوماً بقي في بطن الحوت؟ يقول بعض العلماء: بقي أربعين يوماً(٦)، ومع أنه نبي
مبعوث لكنه عاش أربعين يوماً في بطن الحوت، فهل قدح ذلك في نبوّته؟ وهل انْتَفَتْ
عنهُ صفةُ النبوة بسبب هذه الغيبة؟ كلا..
ويثبت القرآن الكريم غيبة أهل الكهف: ﴿وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾(٧)، فقد غابوا
ثلاثمائة عام حسب السنوات الشمسية وثلاثمائة وتسعة أعوامٍ حسبَ السنينَ القمريةِ،
وكان هنالك كلام - كما أتذكر - هل يوجد أفراد بهذا الشكل أم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥) سورة الأنبياء: ٨٧.
(٦) انظر(التبيان): ج٨ ص٥٣٠ سورة الأنبياء، وهو منقول عن عبد الله بن مسعود والسدي
ومقاتل بن سليمان والكلبي، وغيرهم.
(٧) سورة الكهف: ٢٥.
لا؟ لأنه هناك أجيال عديدة تبدلت
بعد مرور ثلاثمائة عام حيث يقول بعض علماء الحضارات: إنَّ الجيل يتبدل كل أربعين
عاماً، ولذلك يوجد في الآية: ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ
فِي الأَرْضِ﴾(٨)، حتى يتبدل هذا الجيل، فكم جيلاً تبدل في خلال هذه الأعوام
الطويلة، لعلّ القضية نسيت أو اختلف فيها ولكن بعد هذه المدة الطويلة، ﴿وَكَذَلِكَ
أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾(٩)، وإذا بأهل الكهف يعودون إلى الظهور بعد هذه
الغيبة.
سبب الغيبة:
إذا كانت ظاهرة الغيبة عامة فالسؤال عن علة الغيبة وسببها يكون سؤالاً عاماً أيضا،
كما أن هذا السؤال لا يختص بالإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، إذ يجب أن يُقال
لماذا غاب عيسى بن مريم؟ فالسؤال نفسه يرد، فهو إذن سؤال عامٌّ وليس سؤالاً خاصّاً،
نعود بعد هذا المدخل إلى الأجوبة عن هذا السؤال بصيغته الخاصة، لماذا غاب الإمام
المهدي (عجل الله تعالى فرجه)؟
هنالك عدة إجابات في هذا البحث نتناول منها إجابتين ونَدَعُ بقيةَ الإجابات لمباحث
قادمة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨) سورة المائدة: ٢٦.
(٩) سورة الكهف: ٢١.
الإجابة الأولى:
هي التي أجاب بها الشيخ الطوسي(١٠) (رحمة الله تعالى عليه) في كتابه (الغيبة (١١)
في ص٨٥)(١٢)، ونحن نعتقد أن هذه الإجابة مفتاحٌ مهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠) شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن
الحسن الطوسي، تتلمذ على يد الشيخ المفيد والشريف المرتضى من بعده، ورأس الطائفة
بعد وفاته وكان جامعاً للعلوم بشتى أصنافها وقد أكثر في التأليف والتحقيق فخرجت على
يديه مئات الكتب التي لم يصنف مثلها كماً وكيفاً فضلاً عن خدماته الجليلة التي
أقامها من إحياء الحوزات العلمية والدفاع عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ولد
سنة٣٨٥هـ وتوفي سنة٤٦٠ هـ.
(١١) كتاب الغيبة: من أهم الكتب المعتبرة في هذا المضمون وفيه ثمانية فصول وفي كل
فصل مجموعة من المطالب المهمة في إثبات الغيبة ورد الشبهات حولها وما يتعلق بها من
مسائل ويحتوي على (٥٠٥) حديثاً، وقد سبق الشيخ الطوسي في التأليف حول هذا المضمار
جمع من مصنفي الإمامية وشيوخهم منهم: الشيخ الثقة الجليل الفضل بن شاذان ت٢٦٠هـ في
كتابه (إثبات الرجعة) في إثبات الغيبة، ومنهم: الشيخ النعماني حدود٣٦٠هـ تلميذ
الشيخ الكليني وكاتبه في كتابه المعروف بـ(غيبة النعماني)، ومنهم: والشيخ الصدوق
ت٣٨١هـ في كتابه (كمال الدين وتمام النعمة) وغيرهم.
(١٢) قال (رحمه الله) في كتابه: ص٨٥ ط. مؤسسة المعارف الإسلامية قم المقدسة: (فإذا
ثبت بطلان هذه الأقاويل كلها لم يبق إلا القول بإمامة ابن الحسن (عليه السلام)،
وإلا لأدى إلى خروج الحق عن الأمة، وذلك باطل. وإذا ثبتت إمامته بهذه السياقة ثم
وجدناه غائبا عن الابصار، علمنا أنه لم يغب مع عصمته وتعين فرض الإمامة فيه وعليه
إلا لسبب سوغه ذلك وضرورة ألجأته إليه، وإن لم يُعلم على وجه التفصيل. وجرى ذلك
مجرى الكلام في إيلام الأطفال والبهائم وخلق المؤذيات والصور المشينات ومتشابه
القرآن إذا سألنا عن وجهها بأن نقول: إذا علمنا أن الله تعالى حكيم لا يجوز أن يفعل
ما ليس بحكمة ولا صواب، علمنا أن هذه الأشياء لها وجه حكمة وإن لم نعلمه معينا.
وكذلك نقول في صاحب الزمان (عليه السلام)، فإنا نعلم أنه لم يستتر إلا لأمر حكمي
يسوغه ذلك وإن لم نعلمه مفصلاً).
من مفاتيح التعامل مع الدين ككل،
ويمكن أنْ نُعَبِّرَ عنها بفكرة الحكمة المجهولة - على الرغم من أنَّ الشيخ لا
يستخدم هذا التعبير - هنالك في الحياة نقاط غموض تخص دائرة التكوين والتشريع، ونقاط
الغموض هذه، أما أنّ عقلية البشر لا تستطيع فهمها، وأمّا أنَّ الله سبحانه وتعالى
جعل هذه النقاط غامضة لحكمة من الحكم..
في دائرة التكوين هنالك نقاط غموض، فأن يلاحظ الإنسان هذه النقاط بعيداً عن نظرية
الحكمة المجهولة فربما يُبتلى بحالة من الإحباط والنكوص والارتداد.
ربما نُقل لكم قديماً، إنَّ رجلاً قال: مرةً ذهبت إلى أوربا فرأيت هنالك امرأة كانت
تنكر وجود الله سبحانه وتعالى وتقول: لو كان الله موجوداً لما قامت الحرب العالمية
الثانية، يبدو أنها اكتوت بنيران الحرب العالمية الثانية، وإنَّنا كبشر نعيش
أحياناً مشكلات محيّرة في حياتنا، فلماذا يحدث هذا الشيء؟ فهو إما حدثٌ يتعلق
بحياتنا
الشخصية أو حدث يتعلق بالبشرية ككل،
إنها نقاط غموض في الإطار التكويني، وهنالك نقاط غموض وإبهام في الإطار التشريعي،
كم مثالاً لدينا؟ هنالك مئات الأمثلة على ذلك.
فكيف نواجه نقاط الغموض وفق نظرية الحكمة المجهولة، إنَّ هذه النظرية ترتبط
ارتباطاً عضوياً مع مستوى الإيمان، أي كلما كان مُستوى الإيمان عالياً يكون الإيمان
بالحكمة المجهولة أقوى، فنحن عندما آمنا بالله سبحانه وتعالى إيماناً يقينيّاً
قاطعاً، وآمنا بأن الله سبحانه وتعالى حكيم ورحيم و ودود، (لاحظ مفردة (ودود) كم هي
لفظة جميلة).
ويمكن كل إنسان أن يبتلى مرةً بمشكلة مدمِّرة في حياته، والله تعالى يعرف كيف يبتلي
الفرد في نقطة مدمرة من حياته، فكل شخص يبتليه الله تعالى بشكل أو طريقة ما، فيقول
لماذا يا الله..؟ إن القضية تعد محلولة لأنك آمنت بالله وبحكمته، إنك تؤمن بأن الله
ودود رحيم، وتؤمن بأن الله تعالى ما قدّر للمؤمن شيئاً إلا وهو خير له، إذن حُلّت
المشكلة.
نعم إذا كان الشخص عديم الإيمان يجب أن يعود إلى الجذور، فإذا شعر أنَّ لديه شكّاً
يجب أن يعود إلى إيمانه وجذوره.
العقيدة أولاً:
لا بأس أن ننقل لكم هذه القضية، ربما يكون مضمونها مفيداً، يقول العَمُّ(١٣)(حفظه
الله): عندما جاءت الموجة الشيوعية إلى العراق قبل خمسة وأربعين عاماً تقريباً -
كما أظن - قلت لوالدي (رحمه الله)(١٤): ماذا نبحث مع الشباب؟ (لأننا كُنّا ندير
هيئات شبابية) فقال والدي: ابحثوا معهم في أصول الدين فقط، ولا تبحثوا في أي شيء
آخر، فلا تبحث معه لماذا حُرِّم خاتم الذهب على الرجل مثلاً، لأن هذه الأسئلة تبدأ
ولا تنتهي، إنك وصلت إلى حل هذه المشكلة، لأن خاتم الذهب يحتوي على إشعاعات تؤثر
على الكريات الحمر أو البيض لدى الرجال ولا تؤثر في النساء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣) المرجع الديني آية الله العظمى
السيد صادق الحسيني الشيرازي ولد سنة ١٣٦٠هـ في مدينة كربلاء المقدسة، ألف أكثر من
خمسة وثمانين كتاباً لمختلف المستويات، تحمل أعباء المرجعية بعد وفاة أخيه الأكبر
سنة ١٤٢٢هـ.
(١٤) آية الله العظمى السيد مهدي بن حبيب الله الحسيني الشيرازي ولد في كربلاء
المقدسة سنة ١٣٠٤هـ تتلمذ على أساطين الحوزة العلمية منهم: الآخوند الخراساني
والسيد اليزدي والميرزا الشيرازي والميرزا النائيني والشيخ محمد رضا الهمداني، وكان
من المجاهدين في ثورة العشرين وضد الموجة الشيوعية والمد القومي فضلاً عن الاشتراك
في الحركة ضد الحكومة الإيرانية بقيادة المرجع الكبير السيد حسين القمي، وبعد وفاته
سنة ١٣٦٦هـ تسنم المرجعية في كربلاء المقدسة إلى أن توفي فيها سنة ١٣٨٠هـ.
سؤال ثان: لماذا تشتمل صلاة الصبح على ركعتين وليست ركعة واحدة؟ ولماذا ليست ثلاث ركعات؟ كذلك لماذا يكون الطواف حول الكعبة سبعة أشواط وليس ثمانية أو ستة أشواط؟ قد يقول أحدهم: أنا اليوم مرتاح وصحتي جيدة ويعجبني أن أتوجه إلى الله سبحانه وأصلي صلاة الصبح أربع ركعات، لِمَ هذا غير ممكن؟! إن هذه الأسئلة التي تتعلق بالفروع تبدأ ولا تنتهي، لأنكم لا تصلون إلى نتيجة في هذا الجانب فينبغي عليك أن تثبّت قاعدة، والقاعدة هي: (الله، النبي، الإمام، المعاد) فإذا حُلَّت قضية العقيدة لدى الشاب فإن كل القضايا لديه تصبح محلولة، ولا يقتصر هذا الأمر على الدين بل في أمور الحياة الأخرى أيضا، فعندما آمنتم بأن هذا طبيب حاذق وفاهم ورحيم وودود، فكل ما سيقوله ستعملون به، إننا لا نفهم كثيراً من التعليمات التي يقولها لنا الأطباء، بل لا يمكن أن نفهمها، لأن الطبيب لا يتمكن من أن يُفهمنا إياها، كما لا يتمكن عالم من علماء الأصول أن يُفهم (المعنى الحرفي) لبقالٍ في رأس المحلة، لأن إفهام المعنى الحرفي لهذا البقال غير ممكن، ولكن عندما آمنت بالطبيب ستخضع لكل تعليماته، ولكن لماذا جاء قول الطبيب هكذا؟ إذن هي الحكمة المجهولة التي جاءت من خبيرٍ ودود، ولأنه عليم حكيم فقد حُلَّتْ المشكلة.
إذن النظرية الأولى التي يطرحها
الشيخ الطوسي (رحمة الله عليه) في هذا المجال هي الحكمة المجهولة، فهنالك حكمةٌ
كامنة وراء الغيبة لا نعلمها ولا يُشترط أن نعلمها، هل تظهر لنا هذه الحكمة في يوم
من الأيام؟ ربما تظهر لنا في عهد الظهور، وإذا شكك أحد في هذا فيجب أن يشكك في
إيمانه، إذن يجب علينا أن ننتقل إلى مرحلة متقدمة من الإيمان، فهل نؤمن بالله
والنبوة والإمامة وبالإمام المنتظر؟ إذا انتهينا من هذه المرحلة فستكون جميع الفروع
محلولة.
تعليق:
ويوجد هنالك تعليق مختصر على هذه النظرية، إننا مع امتلاكنا للإيمان ولكن قد نحاول
تحويل الحكمة المجهولة إلى حكمة معلومة ولو في بعض أبعادها، يوجد كتاب لطيف (علل
الشرائع)(١٥)حيث كان يأتي الناس إلى أهل البيت (صلوات الله عليهم) ويطرحون عليهم
أسئلة تتناول الدين وأحكامه وفروعه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥) تأليف الشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي الملقب بالصدوق المتوفى سنة ٣٨١ هـ وهو (علل الشرائع والأحكام والأسباب) والكتاب في بيان حكم والعلل الظاهرية للأحكام والموضوعات الشرعية والقضايا التاريخية الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) وللكتاب جزءان وكل جزء على يحتوي على مجموعة من الأبواب وكل باب يحتوي على جملة من الأحاديث والجزء الأول يحتوي على (٢٦٢) باباً والجزء» «الثاني يحتوي على(٣٨٥) باباً.
إن السؤال لا يتنافى مع الإيمان
وربما يكون مُنكراً، إنني مؤمن ولكنني أحاول أن أفهم بعد الإيمان، فإذاً كانت
الإجابة صحيحة وتامة، ولكن نحن نحاول أن نحوّل الحكمة المجهولة إلى حكمة معلومة،
ونحاول أن نبحث في طرق استكشاف بعض الحكم وراء هذه الغيبة.
الإجابة الثانية:
إنها كالإجابة الأولى وقد وُوجِهت بالرفض والتشكيك وقد طرحها الشيخ الطوسي (رحمة
الله عليه) أيضا في مكان آخر من (كتابه في ص٩١)(١٦)وهي الخوف من بطش الظالمين، ولكن
هل الأنبياء والأولياء يخافون؟ الجواب: نعم، فقد ورد في القرآن الكريم أن الأنبياء
يخافون، كما جاء في القرآن الكريم عن حكاية نبي الله موسى (عليه السلام): ﴿فَفَرَرْتُ
مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾(١٧)، إذاً لقد خاف النبي موسى (عليه السلام)
وفرّ على أثر هذا الخوف، إن الفرار ليس عيباً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦) قال (رحمه الله) في كتابه ص٩٠:
(قلنا: مما يقطع على أنه سبب لغيبة الإمام هو خوفه على نفسه بالقتل بإخافة الظالمين
إياه، ومنعهم إياه من التصرف فيما جعل إليه التدبير والتصرف فيه فإذا حيل بينه وبين
مراده، سقط فرض القيام بالإمامة، وإذا خاف على نفسه وجبت غيبته، ولزم استتاره كما
استتر النبي (صلّى الله عليه وآله) وسلم تارة في الشعب، وأخرى في الغار ولا وجه
لذلك إلا الخوف من المضار الواصلة إليه).
(١٧) سورة الشعراء: ٢١.
لأن نبي الله موسى (عليه السلام)
فرّ لكي لا يُقتل.
إننا حين نصف شخصاً بأنه (خوّاف) فإن هذا يعد ذمّاً، لكن كيف يخاف نبي الله (عليه
السلام) وهو يجب أن يكون قمة في الكمال الإنساني؟
والجواب على ذلك هو أن الخوف نوعان:
الخوف المحمود: وهو الخوف مما ينبغي أن يُخاف منه في موطن يعدّ الخوف فيه محموداً.
الخوف المذموم: وهو الخوف مما لا ينبغي أن يُخاف منه في موطن يعدّ الخوف فيه
مذموماً.
إذن فالخوف ليس مذموماً مطلقاً، بل هو قضية فطرية أودعها الله سبحانه وتعالى في
فطرتنا نحن البشر لندافع به عن كياننا وذواتنا وأنفسنا وشؤوننا عند استشعار الخطر.
إن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف فإن هذا يعود إلى أحد عاملين:
إما يعاني من مشكلة شعورية.
وإما يعاني من مشكلة نفسية.
فإذا لم يَخَفْ الشخص في موطنٍ ينبغي أن يُخاف فيه ومن شيءٍ ينبغي أن يُخاف منه فإن
هذا يدل على وجود خلل في أحد العاملين أعلاه.
العامل الأول: هو وجود خلل في
الشعور والإدراك، وهو ما يذكره المحقق النائيني(١٨) (رحمة الله عليه) في فوائده، إذ
يقول: (إنَّ هنالك وجوداً خارجيّاً ووجوداً عينيّاً، وبين الوجود الخارجي والوجود
العيني وجه، قد يكون وجوداً خارجيّاً لا عينيّاً، وقد يكون وجوداً عينيّاً لا
ذهنيّاً، وقد يجتمعان وقد يرتفعان).
فهنالك واقع خارجي مخيف لكنه قد لا ينعكس في الذهن، كما لو أنَّ شخصاً ما جالس في
مكان ما ويأتيه أسد من ورائه ليفترسه ولكن هذه الوقائع الخارجية لا تنعكس في ذهنه
فيبقى جالساً في مكانه ولا يفرّ منه، لأن هنالك إشكالاً في الصورة الذهنية لديه،
حيث لم يستشعر الخطر المحيط به ولم يفهمه.
وأحياناً نرى بعض الأطفال قد يأخذ عقربة ويلعب بها وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨) الشيخ الجليل محمد حسين بن الشيخ عبد الرحيم النائيني، أستاذ الفقهاء والأصوليين، ولد في نائين بإيران سنة ١٢٧٣ هـ وهاجر إلى العراق وحضر في سامراء سنة ١٣٠٣هـ وقرأ فيها على المجدد الشيرازي والميرزا الشيرازي وغيرهما وبعد وفاة المجدد بقي في سامراء في جملة من بقي ثم سافر إلى كربلاء وبقي فيها مدة ثم انتقل إلى النجف وكان ممن يحضر مجلس الآخوند الخاص وبعد وفاته استقل بالتدريس وبعد وفاة الميرزا محمد تقي الشيرازي ترأس على المرجعية هو والسيد أبو الحسن الأصفهاني وكان من المجاهدين ومن زعماء الثورة على الانجليز ومن المعارضين لهم بعد الثورة، توفي في النجف يوم السبت ٢٦ جمادى الأولى سنة ١٣٥٥هـ.
يأكلها أيضا، لأنه لا يدرك خطورتها،
فهل هذا كمال يتحلى به هذا الطفل؟ كلا، إنه لا يخاف لأنه هنالك إشكال في الإدراك
لديه وهنالك مشكلة في الشعور.
العامل الثاني: قد لا يعاني شخص ما من مشكلة شعورية وهو يدرك الخطر إذا حاق به، لكن
قد لا يخاف مما ينبغي أن يُخاف منه، ومثل هذا الشخص يعاني من خلل في تركيبته
النفسية، فإذا هاجم ثعبان شخصاً ما ورأى الشخص الثعبان وعرف بأنه قاتل ولم يفرّ منه
ولم تكن مهمته الثبات، فإن هذا يدل على وجود خلل نفسي لديه ولا يعتبر إنساناً
طبيعيّاً أو سويّاً.
إن الله تعالى جعل فينا غريزة الخوف لندافع بها عن أنفسنا ومصالحنا وذوينا وكياننا،
فالخوف كمال، وإذا كان الشخص لا يشعر بالخوف، فهو جدار!! أو قد يكون ملَكاً، فلعل
الملَك لا يخاف لأننا لا نعرف طبيعة الملَك، أما الجدار فلا يخاف، لأنه ليس لدينا
إحاطة بواقع الجدار فهو لا يخاف كما يبدو لنا، إن الجماد لا يخاف والنبات كذلك حيث
يُخيّل إلينا أنه لا يخاف، إن من لا يخاف فهو جدار وليس بشراً، فإذاً الخوف كمال.
نعم، يجب على الفرد في بعض المواقف أن يُقدم ولا يُحجم، ذاك بحث آخر، وهنا نسأل هل
الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كان معرّضاً للخطر؟ بمعنى لو أن الإمام كان
ظاهراً هل كان هنالك خطر
يحيق به؟ الجواب: نعم، وهناك أدلة
كثيرة على ذلك، والدليل الأول هو أبوه، الإمام العسكري (عليه السلام) الذي قُتل
بأيدي الظالمين، والدليل الثاني جدّه الإمام الهادي (صلوات الله عليه) الذي قُتل
بأيدي الظالمين أيضاً، أما الدليل الثالث فإن جميع آبائه الطاهرين إلى رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) مقتول لقوله: «ما منا إلا مسمومٌ أو مقتول»(١٩).
إن الظالمين ومجتمعات الظلم لم تتحمل الوجود الطاهر لأهل البيت، فالمجتمع لا يتحمل
وجودهم وكذلك الحكومات، فتقتلهم واحداً واحداً، وفي هذا الأمر يقول الخطباء الكرام:
أما النبي فقد قضى وبقلبه * * * من
قومه قبسات وجدٍ مُكمنِ
والبضعة الزهراء ماتت بعدما * * * ألقت بضرب سياطهم بالمحسنِ
والمرتضى أردوه في محرابه * * * بيمين أشقى العالمين وألعنِ
لقد قتلوا الأئمة واحداً واحداً، كذلك قتلوا أنبياء الله وشرّدوهم وطاردوهم. وكما جاء في بحار الأنوار عن الإمام الحسين (صلوات الله عليه) أنه قال لعبد الله بن عمر: «يا أبا عبد الرحمن أما علمت أن رأس يحيى أُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل»(٢٠).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩) كفاية الأثر، للخزاز القمي:
ص٢٢٧ في ما جاء عن الحسن (عليه السلام) من النص على أخيه (عليه السلام).
(٢٠) انظر (بحار الأنوار): ج٤٤ ص٣٦٥ ب٣٧ في توجه الحسين (عليه السلام) إلى العراق.
لماذا قتلوا نبي الله يحيى (عليه
السلام)؟ لأنه وقف بوجه السلطان(٢١) ، فقتله الحاكم، ووضع رأسه في طشت ثم أُهدي
الطشت إلى بغيٍ من بغايا بني إسرائيل(٢٢).
في الحديث نفسه هذا يقول الإمام (عليه السلام): «أما علمت أن بني إسرائيل كانوا
يقتلون بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً ثم يغدون إلى أسواقهم كأنهم لم
يفعلوا شيئاً، يبيعون ويشترون»(٢٣)، إذن فجميع الأنبياء أو معظمهم قتلوا وطوردوا،
لأن الحكومات والمجتمعات لم تكن تتحملهم.
وجاء في الآية الكريمة: ﴿وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾(٢٤).
إن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) لا يشذ عن هذا القانون العام بل أن التهديد
الذي كان معرّضاً له أكثر لأنه هو المُبشّر به،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١) وهو هيرودس انتيباس ابن هيرودس
الكبير، وبعد وفاة أبيه ورث منطقة الجليل وجزءاً من شرق الأردن ولد سنة (٤ ق.م
وتوفي سنة ٣٩ ب.م).
(٢٢) سعد السعود: ص٥٧ في أسباب قتل يحيى (عليه السلام).
(٢٣) بحار الأنوار: ج٤٤ ص٣٦٥ ب٣٧ في توجه الحسين (عليه السلام) إلى العراق ونص
الحديث: «أما تعلم أن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس
سبعين نبياً ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كأن لم يصنعوا شيئاً فلم يعجل
الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز ذي انتقام، اتق الله يا أبا عبد الرحمن، ولا
تدع نصرتي».
(٢٤) سورة هود: ٩١، وهذه الآية إشارة إلى خطاب قوم النبي شعيب إياه (عليه السلام)
والمعنى: فلولا عشيرتك وقومك لرجمناك بالحجارة وقتلناك شر قتلة.
وهو الذي تواترت الأحاديث حوله بأنه
سوف يُسقط جميع الظالمين، وينهي الظلم من على الكرة الأرضية.
فكم من مرة بعث المعتمد الحاكم العباسي(٢٥) أفراداً لاغتيال الإمام المهدي (عليه
السلام)، ففي إحدى المرات بعث ثلاثة لا يعرف أحدهم عن الآخر شيئاً حيث بعثهم
متفرقين لكي يقتلوا الإمام (عليه السلام)، ثم بعث جيشاً لقتل الإمام (عليه
السلام).. فلم يتركوه وشأنه، ولو كان الإمام (عليه السلام) ظاهراً لكان مهدداً من
قبل الحكومات ولعله كان مهدداً من قبل كثير من المجتمعات أيضاً.
إشكال وجواب:
هنالك شخص مجهول كتب قصيدة طرح فيها الإشكال التالي - دقق قليلاً في هذا الإشكال -
يقول بما معناه: إن الإمام الحجة (عليه السلام) يعلم بأنه الموعود وأنه سوف يظهر،
وأن الله سبحانه وتعالى ادّخره لذلك اليوم، إذن ليس هنالك خطر على الإمام المهدي
(عليه السلام) ولذلك فالإمام لا يخاف، فإذا قررت إرادة الله تعالى بأن الإمام
المهدي سيظل إلى اليوم الموعود إذن فلا خطر عليه، بمعنى حتى لو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥) هو أحمد المعروف بالمعتمد بن جعفر المتوكل العباسي ولد سنة ٢٢٩هـ واستلم الحكم سنة ٢٥٦هـ وفي سنة ٢٦٠هـ اغتال الإمام العسكري (عليه السلام) وكبس داره وقد عرف عنه إنه كان منهمكاً باللهو واللعب فكرهته الرعية وكان يسكر ويعربد مع الندماء وهلك في قصره مع ندماءه ومطربيه سنة ٢٧٩هـ.
كان الإمام ظاهراً فلا يمكن أن
يمسّه سوء، إن من كتب هذه القصيدة تركها من دون توقيع وأشكل ضمن أبياتها على فكرة
الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، إن هذا الإشكال واضح وقد فصلّنا الإجابة عنه
في مكان آخر.
هنالك قضايا حملية وقضايا شرطية، فإرادة الله تعالى قد تتعلق بظاهرة على نحو القضية
الحملية، ولستم بحاجة إلى تهيئة مقدمات، فإرادة الله تعالى تتعلق بطلوع الشمس، فما
هي وظيفتكم بشأن طلوع الشمس غداً؟ ليس لديكم وظيفة، تجلسون في أماكنكم وتنتظرون أن
ينجلي الليل وستطلع الشمس غداً لأن إرادة الله تعلقت بهذه القضية على نحو القضية
الحملية، ولكن أحياناً تتعلق إرادة الله بشيء على نحو القضية الشرطية، إن الله
تعالى يريد أن يكون لكم أولاد ولكن بشرط أن تتزوجوا، إذن قد يقعد شاب ما في بيته
ويقول إذا كانت قضية الأولاد تتعلق بإرادة الله فسأبقى في مكاني ولا أتزوّج فحتى لو
تزوّجت لا يكون لي أولاد لأن القضية متعلقة بإرادة الله، ماذا يكون جوابنا؟
الجواب هو إن إرادة الله قررت بأن يكون لك أولادٌ ولكن بشرط أن تتزوج.
فهل كان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) يعلم أن الله حافظه أم لم يكن يعلم؟ وهل
كان النبي الأعظم يعلم بأنه يعود إلى مكة أم
لا؟ ﴿إِنَّ
الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾(٢٦)، إذن
لماذا ذهب النبي إلى الغار؟ فكان يستطيع أن يقعد في بيته ويقول إن سلامتي مصانة
بالضمان الإلهي، لكنه أخفى نفسه عن الأعداء، نعم، إن النبي مصان بالضمان الإلهي
ولكن على نحو القضية الشرطية لا على نحو القضية الحملية، وبذلك يمكن أن نقول: إن
هذا الإشكال أيضا غير وارد.
«أما علمت أن بني إسرائيل كانوا يقتلون بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبياً
ثم يغدون إلى أسواقهم كأنهم لم يفعلوا شيئاً، يبيعون ويشترون».
علة الخوف:
لدينا تعليق مختصر حول هذه النظرية بعد توضيحها، هنالك علة لكل شيء ولكنها لا تكون
العلة النهائية بل يكون وراءها علة أخرى هي السبب في ولادتها، فهي علل طولية
مترامية، وكل علة لاحقة تستند إلى العلة السابقة.
إننا نقبل العلة التي ذكرها الشيخ الطوسي وهنالك رواية تؤيّد هذا المطلب أيضا مروية
في كتاب كمال الدين: (باب٤٤ حديث ٨ و٩ و١٠ ص٢٨١) حيث يرويها زرارة(٢٧) إذ يقول:
سمعت أبا جعفر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦) سورة القصص: ٨٥.
(٢٧) روى زرارة هذه القضية عن كل من الإمام الباقر(عليه السلام) والإمام
الصادق(عليه السلام) ورواها الشيخ الصدوق وغيره بأسانيده عن زرارة فروى الصدوق
بإسنادين الأول عن ابن بكير والثاني عن علي بن رئاب عن زرارة قوله: سمعت أبا جعفر
(عليه السلام) يقول: «إن للقائم غيبة قبل أن يقوم» (كما في نسخة ابن بكير) «إن
للقائم غيبة قبل ظهوره» (في نسخة علي بن رئاب)، قلت: ولِمَ؟ قال (عليه السلام):
«يخاف وأومأ بيده إلى بطنه»، (قال زرارة: يعني القتل كما في نسخة علي بن رئاب)،
وروى أيضا بإسناده عن خالد بن نجيح وابن بكير عن زرارة قوله: قال أبو عبد الله
(عليه السلام): «يا زرارة لا بد للقائم من غيبة؟» (نسخة خالد وفي نسخة ابن بكير:)
«للقائم غيبة قبل قيامه»، قلت: ولِمَ؟ قال (عليه السلام): «يخاف على نفسه وأومأ
بيده إلى بطنه»، (نسخة خالد وفي نسخة ابن بكير:) قال (عليه السلام): «يخاف على نفسه
الذبح».انظر(كمال الدين): ص٤٨١ ح٧ رواية خالد بن نجيح، وح٨ رواية ابن بكير عن زرارة
عن الباقر (عليه السلام)، وح٩ رواية علي بن رئاب و١٠ رواية ابن بكير عن زرارة عن
الإمام الصادق (عليه السلام).
الباقر (عليه السلام) يقول: «إن
للمهدي (صلوات الله عليه) غيبةً قبل أن يقوم» - فيغيب قبل الظهور وقبل القيامة -
فقلتُ: لمَ قال الإمام (عليه السلام): «إنه يخاف؟»، فقال زرارة: يعني القتل.
لكن هناك احتمال آخر، على الرغم من أن فهم زرارة حجة لنا(٢٨)، لأن هذا الأمر يدور
بين الاجتهاد والحس، وأصالة الحس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨) زرارة بن أعين بن سنسن أبو الحسن واسمه عبد ربه و(زرارة) لقب له شيخ الإمامية كان قارئاً فقيهاً متكلماً شاعراُ أديباً من أفقه الأولين، من أصحاب الإمام الباقر والصادق والكاظم (عليهم السلام) وكان من خواصهم وأصحاب سرهم ومن حواري الصادقين توفي سنة ١٥٠هـ ووردت في حقه وفي حق جملة من الأصحاب جملة كبيرة من المدائح من قبل الأئمة منها قول الصادق (عليه السلام): «ما أجد أحدا أحيى ذكرنا، وأحاديث أبي إلا زرارة وأبو بصير ليث المرادي، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفاظ الدين وأمناء أبي (عليه السلام) على حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا، والسابقون إلينا في الآخرة».
العقلانية محكّمة، فالمقام ربما
يعني بإشارة من الإمام أن مراده القتل(٢٩)، ولكن هناك احتمال آخر وهو الخوف على
المهمة، إذن نحن لدينا خوفان وربما سنوضح هذا لاحقاً، فربما يخاف الشخص على نفسه
وقد يخاف على مهمته وليس على نفسه.
نأتي بشاهد لذلك، إن الله تعالى يقول: ﴿فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾(٣٠)، فمن أي شيء خاف؟ عندما ألقى السحرة حبالهم
وعِصيّهم وإذا بالصحراء تمتلئ بالأفاعي ويُقال كما أظن: إن الناس فرّوا، فقد وضع
السحرة زئبقاً على هذه العصي والحبال وظهرت كأنها تتحرك بفعل حرارة الشمس(٣١)، فهل
خاف موسى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩) بل هذا المعنى كما مرّ إما
بتصريح من المعصوم كما في رواية ابن بكير عن الصادق (عليه السلام) وإما بكناية
وإشارة كما في رواية خالد عن الصادق(عليه السلام) أيضا وإما بإشارة منه كما في
رواية ابن بكير وعلي بن رئاب عن الإمام الباقر (عليه السلام).
(٣٠) سورة طه: ٦٧.
(٣١) جاء في كتاب (قصص الأنبياء) للسيد الجزائري: ص٢٩٢ في بعثة موسى (عليه السلام)
وهارون (عليه السلام) إلى فرعون: (وروي في قوله تعالى: ﴿يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾، أنه لم تكن تسعى حقيقة وإنما
تحركت: لأنهم جعلوا داخلها الزئبق، فلما طلعت الشمس طلب الزئبق الصعود فحركت الشمس
ذلك فظُن أنها تسعى، فخاف موسى أن يلتبس على الناس أمرهم ولم يفرقوا بين فعله
وفعلهم فيشكوا).
(عليه السلام) هذه الأفاعي الوهمية؟
جاء في حديث عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه خاف من غلبة الباطل وتضليل
الجهلة(٣٢)، إذ كيف يميز الناس بين المعجزة والسحر؟ فخشي الإمام أن لا يظهر الحق
ويبدي الواقع وينجح في مهمته، وربما تؤيد الآية اللاحقة(٣٣) هذا المعنى: ﴿قُلْنَا
لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾(٣٤)، إن الأمر متعلق بالخوف من أن لا
تكون حجته هي الأعلى، إنه كان خائفاً من هذا الأمر، نعم يوجد احتمال في صحة هذا
القول، إن الإمام لم يكن يخاف من القتل كما فهم زرارة(٣٥)، وإنما كان خائفاً من عدم
تمكنه لأداء المهمة، وسنشرح هذا الموضوع في أحاديث قادمة.
وقيل في رواية أخرى: إن الإمام (عليه السلام) كان «يخاف على نفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٢) راجع: نهج البلاغة: ج١ ص٣٩ من
خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الرابعة في هداية الناس وكمال يقينه، وفيها قوله
(عليه السلام): «لم يوجس موسى (عليه السلام) خيفة على نفسه، أشفق من غلبة الجهال
ودول الضلال».
(٣٣) اللاحقة لقوله تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً
مُوسَى﴾.
(٣٤) سورة طه: ٦٨.
(٣٥) ومقام الجمع بين الاحتمالين أنه كان خائفاً من القتل لأن في قتله قتل للرسالة
المحمدية وعدم إتمام المهمة السماوية.
الذبح»(٣٦)، فهؤلاء الذين فجروا
المراقد في سامراء، لو كان الإمام الحجة (عليه السلام) ظاهراً هل كان يردعهم مانع
من قتل الإمام الحجة؟ قطعاً كلا، فقد قتلوا آباءه من قبل، وهؤلاء هم أولاد أولئك أو
أتباعهم.
إذن فنظرية الخوف مقبولة، ولكن هنالك ملاحظة، وهي قد تكون للشيء علة ووراءها علةٌ
أخرى طولية لا عرضية، أي علتان ليستا في مستوى واحد، بل علة تولد عنها علة ظاهرة،
فلماذا غاب الإمام (عليه السلام)؟ هل بسبب الخوف؟ ولكن لماذا يخاف؟ إن الخوف واقع
نفسي وهو انعكاس لواقع خارجي.
الإجابة الثانية والواقع الخارجي:
وهنا يلزم أن ننتقل إلى الكلام عن ذلك الواقع الخارجي:
في أحد الأيام سيظهر الإمام الحجة (صلوات الله عليه)، فلماذا لا يخاف ذلك الوقت؟
ولماذا تنتفي علة الخوف في ذلك الوقت؟
لأن الشروط الموضوعية تغيرت، إن تلك الشروط الموضوعية التي ستوجد في عصر الظهور غير
متوفرة الآن، وكما يبدو أن تلك الشروط هي علة الخوف، وبعد أن انتقلنا إلى الإجابة
الثانية هذه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٦) كمال الدين وتمام النعمة: ص٤٨١ ح١٠.
يجب أن ننتقل إلى العلة الكامنة
وراء هذه العلة، فما هي تلك الشروط الموضوعية التي تسبب الخوف؟
وهنالك سؤال آخر، هل هذه الشروط الموضوعية اختيارية أو جبرية؟
فإن كانت تلك الشروط الموضوعية جبرية، فليس لنا حول ولا قوة، ولكن إذا كانت تلك
الشروط الموضوعية اختيارية فإذن يمكن لنا أن نسهم في تغييرها.
وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين.
(٢) أهمية نجاح الإنسان في التعامل مع قضية
الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه)
إن غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه) تمثل شكلاً من أشكال التمحيص
والابتلاء الإلهي للعباد
الفقيه الشيرازي
كان كلامنا يدور حول السبب الذي يكمن وراء غيبة ولي أمرنا وإمام زماننا الحجة المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه)، وكيف يمكن تفسير هذه الغيبة المحيرة؟ وقد سبق أن ذكرنا في الحلقة الماضية أن هذا السؤال لا يختص بغيبة الإمام المهدي، وإنما يعم كثيراً من غيبات الأنبياء والأولياء، فلماذا غاب نبي الله موسى (عليه السلام) أربعين ليلة؟ ولماذا غاب نبي الله عيسى (عليه السلام) حوالي ألفي عام؟ ولماذا غاب ذو النُّون (عليه السلام) أربعين
يوماً عن قومه؟ ولماذا غاب أهل
الكهف ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً؟
في المقام توجد هنالك عدة إجابات وقد مضت منها إجابتان: إن غيبة الإمام المهدي (عجل
الله تعالى فرجه) تمثل شكلاً من أشكال التمحيص والابتلاء الإلهي للعباد، حيث يبيّن
القرآن الكريم أن الابتلاء الإلهي سنّة الله في عباده ويقول: ﴿أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ *
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾(٣٧)، فالابتلاء الإلهي كان موجوداً
في الأمم المتقدمة ولا تشذ هذه الأمة عن هذه السُنة الإلهية(٣٨)، بل لعلّ القرآن
الكريم يدل على أن الغاية من الخلقة والهدف منها هو الاختبار والامتحان، يقول
القرآن الكريم:
﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾(٣٩)،
ولعلّ ظاهر هذه اللام أنها تخص الغاية أو أنها لام العاقبة التي يذكرها
(المُغني)(٤٠)، فهذا هو الهدف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٧) سورة العنكبوت: ٢ - ٣.
(٣٨) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لتركبن سنن الذين من قبلكم حذو النعل
بالنعل، والقذة بالقذة» المسترشد: ص٢٢٩ ح٦٦، وقريب منه في مصادر العامة: انظر
(المستدرك): ج٤ ص٤٥٥.
(٣٩) سورة الملك: ١ - ٢.
(٤٠) كتاب (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) تأليف ابن هشام الأنصاري النحوي توفي سنة
٧٦١هـ وهو من المتون الدراسية في الحوزات العلمية والكتاب مؤلف من ثمانية أبواب
الباب الأول منه: في تفسير المفردات وذكر أحكامه، والثاني: في تفسير الجمل وذكر
أقسامها وأحكامها، والثالث: في ذكر الظرف والجار والمجرور، والرابع: في ذكر أحكام
يكثر دورها، والخامس: في ذكر الأوجه التي يدخل على المعرب الخلل من جهتها، والسادس:
في التحذير في الأمور المشهورة بين المعربين والصواب خلافها، والسابع: في كيفية
الأعراب والثامن في ذكر أمور كلية في النحو.
وهذه هي الغاية.
الإجابة الثالثة:
إن للاختبار والابتلاء الإلهي أشكال، أحد أشكاله: الابتلاء بالغنى والابتلاء
بالفقر، والابتلاء بالقوة والابتلاء بالضعف والابتلاء بالجمال والابتلاء بالقبح،
وهنالك الابتلاء بالغيبة أيضا، ولكي تتوضح الصورة نستعين بمثال من حياة الأنبياء
صلوات الله عليهم أجمعين.
امتحان الأمة بغياب القائد:
إن وجود القائد في مراحل التحول التاريخي يُعد قضية مهمة جداً، فوجود القائد بين
ظهراني الأمة في مرحلة التحول وفي بدايات التكوين قضية مهمة لأن الأمة لم تصل بعد
إلى كمالها المطلوب ولم تستقر بعد، بل لا تزال فيها رواسب الماضي التي يمكن أن تعرض
الأمة للخطر في حالة غياب القائد، ولكن مع كل ذلك تجدون أن
نبياً من الأنبياء العظام يغيب عن
أمته في مرحلة التحوّل والتكوين.
فعندما انتقل نبي الله موسى (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام) إلى مرحلة تكوين
الأمة، حيث كانت حديثة التكوين والتأسيس، وكانت قد خرجت لتوها من تحت حكم فرعون،
وكان وجود النبي موسى في هذه المرحلة مهمّاً جداً، لكن وإذا به يغيب ثلاثين ليلة،
والعجيب أن التقدير الإلهي مدّد هذه الفترة من ثلاثين ليلة إلى أربعين: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا
بِعَشْرٍ﴾(٤١)، والسؤال هو كيف كان هذا الإتمام وكيف كان هذا الوعد؟ لكن هذه
قضية أخرى، فقد طالت الغيبة وإذا بالكوامن الدفينة تتحرك، والمجال يُفسح أمام القوى
التي في قلبها مرض أو شك أو ريب، وإذا بهذه الأمة الجديدة تُمتحن امتحاناً شديداً،
فيأتي رجل يُقال له: السامري ويصنع عجلاً من ذهب ثم يُلقي بعد ذلك بقبضة في داخل
هذا العجل(٤٢)، وإذا به يخرج لهم صوت خوار، وهنالك رواية لطيفة وردت في (بحار
الأنوار: المجلد الثالث عشر ص٢٢٧)(٤٣) منقولة عن الإمام الباقر صلوات الله وسلامه
عليه، يقول الإمام كما ورد في هذه الرواية: «لما ناجى موسى (عليه السلام) ربه أوحى
إليه تعالى وهو في الطور: أن يا موسى قد فتنت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤١) سورة الأعراف: ١٤٢.
(٤٢) اسم عجل السامري (بهيوثا)، انظر(كتاب المحبر): ص٣٩١ باب أسماء أشياء ذكرها
الله في كتابه.
(٤٣) انظر (بحار الأنوار): ج١٣ ص٢٢٧ ب٧ ح٢٨.
قومك»، بمعنى حصل نوع من الامتحان
أو الفتنة، فلو كان موسى موجوداً لما كان لهذا الامتحان الإلهي أن يتم كما يبدو.
وهنالك رواية حيث سُأل سيد الشهداء صلوات الله عليه: لماذا خرجت إلى كربلاء؟ فقال
الإمام صلوات الله عليه: «فبمَ إذن يُمتحن هذا الخلق»(٤٤)، فلو لم تكن قضية كربلاء
موجودة كيف كان سيظهر جوهر حبيب بن مظاهر والشمر؟ فلعلّ مظهرهما كان واحداً، ولكن
عندما تحدث قضية كربلاء وإذا بها تفصل بين هذين الرجلين، وهنالك كوامن خفية في
مرحلة القوة حيث يوفر الامتحان الإلهي الجو لكي يتحول ما في هذه القوة إلى فعل.
توجد هنالك بيضة عصفور وبيضة أفعى، فإذا لا توجد الأجواء الملائمة لإخراج ما في هذه
القوة ربما لا تجدون فرقاً في المظهر بين البيضتين، ولكن عندما توفرون الأجواء لكي
يتحول ما في القوة إلى ما بالفعل، وإذا بتلك البيضة تتحول إلى طائر جميل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤) راجع: اللهوف في قتلى الطفوف، للسيد ابن طاووس: ص٤٢ في خروج الحسين (عليه السلام) من مكة إلى العراق، وفيه: «وأتته أفواج من مؤمني الجن، فقالوا له: يا مولانا نحن شيعتك وأنصارك فمرّنا بما تشاء فلو أمرتنا بقتل كل عدو لك، وأنت بمكانك لكفيناك ذلك، فجزاهم خيراً وقال لهم: أما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾، فإذا أقمت في مكاني فبمن يمتحن هذا الخلق المتعوس، وبماذا يختبرون...».
والبيضة الثانية تتحول إلى أفعى
قاتلة.
إن الله سبحانه وتعالى يحرك الأحداث ولا يسلب الإرادة، فهي موجودة ولكن الله تعالى
يحرك الأحداث بشكل ما لكي يتحول ما في القوة إلى ما بالفعل، فنحن لا نعلم حتى من
نحن؟! وغير مكشوفين لأنفسنا، أي لا نعرف أنفسنا ولذلك دائماً يشعر المؤمنون بالخطر
ودائماً يدعون: ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا﴾(٤٥).
أحياناً يوجد اختلاط في القلب وعندما يأتي الجو المناسب وإذا بالإنسان يتحول إلى
ولي من الأولياء، فهو لم يصبح وليّاً بالقوة، إنما الامتحان هو الذي وفّر له الجو
وإذا به قد تحول إلى احد الأولياء، ومن اجل توفير مثل هذا الجو لابد - مثلاً -
لصدام أن يأتي ويحكم الناس، ولو لم يكن صدام حاكماً فربما لم تكن تظهر بعض الكوامن،
ولكن حين يُسجن رجلان في هذا الجو وإذا بواحد منهما يتحول إلى صديق مع الأنبياء
والصديقين، والثاني يتحول في هذا السجن إلى رجل كافر وزنديق، فمن الذي حوّل ما في
القوة إلى ما بالفعل؟ إن الأجواء وحركة الأحداث هي التي تحركت بشكل أظهر تلك
الكوامن.
لهذا ينبغي أن يغيب النبي موسى (عليه السلام)، وغاب فعلا لكي تتحرك الإرادة
التكوينية في اتجاه - دققوا قليلاً - وتتحرك الإرادة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٥) سورة آل عمران: ٨.
التشريعية في اتجاه آخر، لأنه إذا
توافق تحرك الإرادتين التكوينية والتشريعية فلا يُفسح المجال للامتحان، لهذا تتحرك
الإرادة التشريعية في اتجاه وتتحرك الإرادة التكوينية في اتجاه آخر، وإذا بالله
سبحانه وتعالى يمحّص ما في القلوب، فقد أوحى الله إليه: «أن يا موسى قد فتنت قومك،
قال وبماذا يا رب؟ قال: بالسامري» فلو كان موسى (عليه السلام) موجوداً لعلّه لم يكن
هنالك دور للسامري ولكن غيبة موسى (عليه السلام) هي التي فسحت أمامه المجال، وقد
كان السامري يبحث عن ماء يسبح به وهذه الغيبة هي التي وفرت له هذا الماء، وهذه ليست
قضايا الأمم المتقدمة بل هي قضايانا نحن أيضا، وتخصّ كل واحد منّا.
وإذا لم يكن الإمام الكاظم (صلوات الله عليه) يغيب في ظلمات السجون كيف كانت تظهر
حقيقة علي بن أبي حمزة البطائني(٤٦) وزياد بن مروان القندي(٤٧) وعثمان بن عيسى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٦) علي بن أبي حمزة البطائني أبو
الحسن وكان من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) والكاظم (عليه السلام) ثم وقف وهو
أحد عمد الواقفة، وقد قال الشيخ الطوسي في هذه الواقفة وهم من وقفوا على الإمام
الكاظم (عليه السلام): (روى الثقات أن أول من أظهر الاعتقاد علي بن أبي حمزة
البطائني، وزياد بن مروان القندي، عثمان بن عيسى الرؤاسي، طمعوا في الدنيا ومالوا
إلى حطامها واستمالوا قوما فبذوا لهم شيئاً مما اختانوه من الأموال).
(٤٧) زياد بن مروان أبو الفضل القندي مولى بني هاشم ومن أصحاب الإمام الصادق
والكاظم (عليهما السلام) ثم أصبح من الواقفة والعجيب أنه كان قد روى النص من الإمام
موسى الكاظم على إمامة الإمام الرضا في حياته وبعد شهادته اظهر القول بالوقف طمعا
بالمال.
الرؤاسي(٤٨)، فلو كان الإمام ظاهراً
لما كان يتاح المجال لهذا الاختبار، فكان لابد للإمام الكاظم أن يغيب في الظلمات،
وهي ظلمات السجون وظُلم المطامير فيُفسح المجال لامتحان هؤلاء.
«قال: بالسامري، قال: وما فعل السامري؟» يسأل موسى من ربه؟ «قال: صاغ لهم من حُليهم
عجلاً»، وهو وليد البقر، فأخذ الحلي منهم أو الذهب وصاغ عجلاً ذهبياً.
لاحظوا سؤال موسى (عليه السلام)، «قال: يا رب إن حليهم لتحتمل أن يُصاغ منها غزال
أو تمثال أو عجل - هذا ليس امتحاناً - فكيف فتنتهم؟» لقد أخذ السامري الذهب وصنع
منه عجلاً فكيف يكون الامتحان؟ وكيف تكون الفتنة؟
«قال الله: إنه صاغ لهم عجلاً فخار) له خوار كما في الآية الكريمة، فهذا هو
الامتحان.
«قال موسى (عليه السلام): يا رب ومن أخاره؟»، أي من الذي جعل العجل يخور؟ «قال:
أنا» جعلته يخور، فقال موسى (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٨) عثمان بن عيسى أبو عمرو العامري الرؤاسي من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) وكان من وكلائه وكان شيخ الواقفة ووجهها وقيل: إنه تاب من القول بالوقف وأرجع أموال الإمام إليه (عليه السلام).
عندئذ: ﴿إِنْ
هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ﴾
(٤٩) فكيف أخار الله سبحانه وتعالى هذا العجل؟ لاحظوا حركة الأحداث.
غيبة موسى (عليه السلام) وفتنة السامري:
إن السامري هو أحد عظماء قوم موسى (عليه السلام)، وكما ذكر البعض إنه كان من خُلّص
أصحابه، وعندما أراد قوم موسى أن يعبروا البحر وإذا بجبرائيل يأتي على فرس لا يراه
الكل - لاحظوا حركة الأحداث - فأي فرد لم يرَ جبرائيل ولكن السامري يراه - لاحظوا
هذه مقدمة لحركة الأحداث نحو تلك النتيجة - ولكن لماذا يرى السامري جبرائيل؟ لأنه
إذا لم يكن يرى جبرائيل لما كانت تقوم هذه الفتنة ولما كان هذا الامتحان، فيرى
جبرائيل ويرى التراب وقد دبّت فيه الحياة ويتحرك تحت حافر فرس جبرائيل فيخطر في
ذهنه أن يأخذ قبضة من هذا التراب المتحرك ويحتفظ بها طويلاً إلى اليوم الموعود، أي
عندما يغيب موسى ويُصنع العجل الذهبي فيأخذ قبضة من هذا التراب المتحرك الحي ويلقيه
في باطن العجل وإذا بالعجل يخور، بمعنى يصدر منه خوار كخوار العجل، ﴿فَقَالُوا
هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾(٥٠) أي هذا هو الرب! وقد نسي موسى أن هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٩) سورة الأعراف: ١٥٥.
(٥٠) سورة طه: ٨٨.
هو إلهه وضيّع الطريق وذهب لكي يرى
الله بينما هذا هو الله - ويقصد به العجل - إن الله (كما يقول السامري للقوم): لا
يريد بعد الآن أن يتعامل معكم بواسطة بل يتعامل معكم بلا واسطة، فسجدوا للعجل.
هنا يوجد كلام وتساؤل: كيف فتن الله سبحانه وتعالى قوم موسى (عليه السلام)؟
الجواب: إن الأمر واضح، فالفتنة توجد مجالاً للالتفات - وهذا ما سنوضحه بعد قليل إن
شاء الله - وإلا كيف يدل عجل يخور على أنه إله؟!.
يقول الوالد (رحمه الله)(٥١): إذا جاء لكم أحدهم بفأرة مصنوعة من الحديد وقال لكم:
إن هذه الفأرة إله بدليل أنها تتحرك، وأخذت الفأرة الحديدية تتحرك، فهل هذا يُسوّغ
أن تقولوا هذا إله؟! وهل يقبل العقل بهذه الفأرة إلهاً؟! فالإله الذي يجب أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥١) المجدد الثاني آية الله العظمى السيد محمد ابن المرجع الورع السيد الميرزا مهدي الشيرازي ولد في النجف الأشرف سنة ١٣٤٧هـ وهاجر مع والده إلى كربلاء المقدسة سنة ١٣٥٦هـ حضر أبحاث كبار فقهاء عصره أمثال: والده المقدس والسيد محمد هادي الأميني والشيخ محمد رضا الأصفهاني وغيرهم وتزعم الحوزة العلمية سنة ١٣٨٨هـ ثم هاجر منها إلى الكويت سنة ١٣٩٠هـ ومنها إلى إيران سنة ١٣٩٩هـ واستقر في مدينة قم المقدسة إلى أن وافاه الأجل سنة ١٤٢٢هـ ألف أكثر من ألف وستمائة عنوان ما بين موسوعة وكتاب ورسالة.
يكون صانعاً كيف يكون مصنوعاً؟
بمعنى ليس هنالك مجال في هذا، ولكن فُتح هنالك هامش وإذا بقوم موسى وعددهم ستمائة
ألف فرد يرتدّون جميعاً، ويبقى منهم اثنا عشر ألف فقط، ثم قال لهم السامري: إن موسى
كذب عليكم - والعياذ بالله - وهرب منكم ولا يعود إليكم أبداً.
إن العقل لا يقبل هذا إلهاً، وقد ورد في بعض الكتب أن السامري(٥٢) أخذ العجل وألصقه
بجدار وكان وجهه إلى الناس وذيله إلى الجدار وقد ثقب ذلك الجدار - هذا الكلام نقلاً
عن احد المصادر طبعاً - وذهب مجموعة من أعوانه المتآمرين معه وراء الجدار وأخذوا
يطلقون الأصوات من وراء الجدار(٥٣)، و كان يجب أن يحققوا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٢) ورد في قضية عجل السامري وسبب
خوره عدة معاني، منها: (أنه جعل فيه خروقاً تدخل فيها الريح، فيسمع منه صوت)،
انظر(الخرائج والجرائح): ج٣ ص١٠١٨ باب في ذكر الحيل وأسبابها وآلاتها، وقيل: غير
ذلك.
(٥٣) عن (قصص الأنبياء، للراوندي) ص١٧٤ ح١٩٨: (فجاء السامري فشبه على مستضعفي بني
إسرائيل، فقال: وعدكم موسى أن يرجع إليكم عند أربعين، وهذه عشرون ليلة وعشرون يوماً
تمت أربعين أخطأ موسى، وأراد ربكم أن يريكم أنه قادر على أن يدعوكم إلى نفسه بنفسه،
وانه لم يبعث موسى لحاجة منه إليه، فاظهر العجل الذي عمله، فقالوا له: كيف يكون
العجل إلهنا؟ قال: إنما هذا العجل يكلمكم منه ربكم كما تكلم موسى من الشجرة فضلوا
بذلك، فنصب السامري عجلاً مؤخره إلى حائط، وحفر في الجانب الآخر في الأرض واجلس فيه
بعض مردته، فهو الذي يضع فاه على دبره ويكلم بما تكلم لما قال: هذا إلهكم واله
موسى).
مصدر تلك الأصوات ويذهبوا وراء
الجدار ليروا إذا كان هنالك شيء يقف وراء هذه الظاهرة الغريبة؟
﴿فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ
يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا﴾، أي ألم يعدكم
الله تعالى وعد السيادة في الدنيا، والقانون والمقام الرفيع في الآخرة: ﴿أَفَطَالَ
عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ
رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾(٥٤) حتى أرادوا أن يقتلوا هارون - كما
ورد في بعض الكتب - فهرب منهم كي لا يقتلوه(٥٥).
امتحان الأمة بغياب الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه):
أذكر هنا بعض الروايات التي تبين أن غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه)،
تمثل امتحاناً من الله سبحانه وتعالى لعباده وأعقّب هذه الروايات بملاحظة، وقد وردت
هذه الروايات في المجلد الثاني والخمسين من كتاب بحار الأنوار، وإحداها موجودة في
(الصفحة ٩٥/ الحديث رقم ١٠) في آخر هذا الحديث المروي عن الإمام الصادق صلوات الله
عليه يقول: «إن للغلام غيبة قبل أن يقوم» كما جاء في نهاية الحديث: «لأن الله تعالى
يحب أن يمتحن خلقه، فعند ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٤) سورة طه: ٨٦.
(٥٥) روى الشيخ الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره: (ج٢ ص٦٢) عن أبي جعفر (عليه
السلام): «وخلف هارون على قومه فلما جاءت الثلاثون يوماً ولم يرجع موسى إليهم غضبوا
وأرادوا أن يقتلوا هارون.. فهمّوا بهارون حتى هرب من بينهم...».
يرتاب المبطلون»(٥٦) وليس الباحثون
عن الحقيقة، فالمبطل والذي في قلبه مرض هو الذي يرتاب، وإلا فإن الباحث عن الحقيقة
لا يشك.
الرواية الثانية موجودة في (الصفحة ١٠١/ الحديث الثالث)، قال أبو عبد الله (عليه
السلام): «والله لتُكسرن كسر الزجاج وإن الزجاج يُعاد فيعود كما كان، والله لتُكسرن
كسر الفخار وإن الفخار لا يعود كما كان»، ولعلّ هذه إشارة إلى نوعين من الأفراد:
قسم منهم يميلون ثم يعودون وقسم آخر لا يعودون كما كانوا، «والله لتُمحصن، والله
لتُغربلن كما يُغربل الزؤان(٥٧) من القمح»(٥٨)، حيث تختلط مع الحنطة حبوب حمراء
وسوداء أو صفراء، فلابد أن يحدث تمييز وفصل لتظهر الكوامن.
الحديث الثالث (صفحة ١١٣/ رقم الحديث ٢٦) عن الإمام الكاظم صلوات الله عليه: «إذا
فُقد الخامس من ولد السابع - وهو الإمام الكاظم (عليه السلام) - من الأئمة فالله
الله في أديانكم...»(٥٩).
إن هذه قضية خطيرة، لا سيما في هذا العهد، أعني عهد العولمة وعهد الاختلاط، اختلاط
الأفكار والمذاهب والأديان، حيث توجد الآن في كل غرفة كل الأفكار وكل الأديان وكل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥٦) بحار الأنوار: ج٥٢ ص٩٥ ب٢٠
ح١٠، عن كتاب كمال الدين للشيخ الصدوق.
(٥٧) الزؤان هو ما يخالط الخنطة ومفرده: زؤنة.
(٥٨) بحار الأنوار: ج٥٢ ص١٠١ - ١٠٢ ح٣، عن كتاب الغيبة للشيخ الطوسي.
(٥٩) بحار الأنوار: ج٥٢ ص١١٣ ب٢١ ح٢٦، عن كتاب الغيبة للشيخ الطوسي.
الاتجاهات، فإذا غفل الإنسان
قليلاً ينتهي، «فالله الله في أديانكم لا يُزيلنكم عنها أحد، يا بُني إنه لابد
لصاحب هذا الأمر من غيبة إنما هي محنة من الله امتحن بها تعالى خلقه».
الرواية الأخرى: (رقم ٢٨) عن جابر الجعفي: قلت لأبي جعفر - أي الإمام الباقر (عليه
السلام) - متى يكون فرجكم؟
قال: «هيهات هيهات - كأن معنى هيهات بعُدت - لا يكون فرجنا حتى تُغربلوا ثم
تُغربلوا ثم تُغربلوا حتى يذهب الكدر ويبقى الصفو»(٦٠).
فلسفة البطون والغيبة:
هنا توجد ملاحظة مهمة في امتحانات الغيبة، حيث يوجد اختلاط عجيب بين عنصرين: عنصر
البطون وعنصر الظهور، أو عنصر التجلّي وعنصر الاختفاء، أو عنصر الغيبة وعنصر
الوضوح، إنه خليط عجيب، ربما يعالج هذا المطلب بعض الإشكالات التي ربما وردت في بعض
الأذهان، فمن جانب بطون كامل، ومن جانب آخر ظهور كامل، ولكن لماذا البطون للامتحان،
ولماذا الظهور الكامل؟ لتتم الحجة على العباد، بمعنى لماذا الاختفاء؟ للامتحان،
ولماذا التجلي؟ لتمام الحجة، لأن الله تعالى لا يترك عباده بل يتم عليهم الحجة،
ولكن إذا يذهب الإنسان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٠) بحار الأنوار: ج٥٢ ص١١٣ ب٢١ ح٢٨، عن كتاب الغيبة للشيخ الطوسي.
وراء الحجة، فهل الآخرة غيب أم
شهود؟ أيهما الجواب؟ وهل أن الله تعالى قبل الآخرة غيب أم شهود؟.
الجواب: إن الله تعالى غيب وشهود في آن واحد، فهو سبحانه غيب من جانب ويُمتحن
العباد بهذا الغيب، وهو حقاً امتحان مهم، ومن جانب آخر شهود «عميت عين لا تراك»(٦١)
لأن الله تعالى متجلٍّ بقدرته في كل ورقة شجرة.
ذلك العالم في المختبر يقول: (رأيت الله، عظمة الله، وجود الله، صفات الله، تتجلى
في كل ذرة من هذا الكون). إن هذا يدل على اختلاط عجيب «يا باطناً في ظهوره يا
ظاهراً في بطونه»(٦٢)، فالبطون يمثل امتحان والظهور يمثل تمام الحجة، فهل الآخرة
غيب أم شهود؟ إذا كانت الآخرة شهوداً لا يتحقق الامتحان، كما لو أن شرطيا واقف
أمامكم، فإذا وضع الله تعالى جهنم ظاهرة أمامنا، وكل من يعمل معصية تأخذه الملائكة
فوراً وترميه في جهنم! فهل كان سيتم الامتحان؟ كلا أبداً، فجهنم غيب ولكن الجنة
والجحيم واضحتان في الوقت نفسه لمن يريد أن يراهما، أي إذا لم يغمض الإنسان عينيه،
أما إذا لا يريد أن يرى ذلك سيقول: هل رأيتم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦١) مقطع من دعاء عرفة للإمام
الحسين (عليه السلام).
(٦٢) إقبال الأعمال: ج١ ص٣٨٢ ب٢٧ في دعاء الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) في
ليلة القدر، ولكن عنه العلامة المجلسي في بحار الأنوار: ج٩٥ ص١٦٥ ب٧ دعاء علي بن
الحسين (عليهما السلام) في ليلة القدر.
أحدا خرج من قبره (مهشم الرأس)؟
وهذا مثال معروف، أو ذلك الرجل الذي جاء وأخذ العظم وقال: ﴿مَنْ
يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾(٦٣).
لاحظوا في الآخرة، هنالك خلط العنصرين بشكل عجيب، فالآخرة واضحة مائة بالمائة لمن
يفتح عينيه، حيث كل البراهين العقلية والنقلية والوجدانية، أي البرهان والوجدان
والقرآن كلها تؤدي إلى الآخرة بوضوح، لكنها تبدو من جانب آخر باطنة، وهنا يظهر
الامتحان، ولعله - والله أعلم - أن معنى الآية الكريمة حيث يقول الله سبحانه
وتعالى: ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا
تَسْعَى﴾(٦٤) إذ يقول البعض: (تعني مفردة ﴿أَكَادُ﴾
أريد أن أخفيها)(٦٥)، ولكن لماذا أخفى الله الآخرة؟ لعلّ معنى الآية: ﴿لِتُجْزَى
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ فإذا كانت الآخرة ظاهرة لكان الكل متقين
ومؤمنين، وهذا الامتزاج العجيب نفسه بين البطون والظهور موجود في قضية المهدي
المنتظر (عجَّل الله تعالى فرجه)، ففي الوقت الذي يكون فيه الإمام المهدي صلوات
الله عليه غائباً عن الأكثرية حيث لا يرون الإمام المهدي (عليه السلام)، ولكن في
الوقت نفسه إذا أراد أحدهم الحقيقة يمكنه الوصول إليها، وإذا لا يريدها فسوف يشكك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٣) سورة يس: ٧٨.
(٦٤) سورة طه: ١٥.
(٦٥) انظر (الأمالي، للسيد المرتضى): ج٢ ص١٢.
حتى في وجود الله تعالى.
إذن، إذا أراد الإنسان الحقيقة فأن قضية الإمام المهدي واضحة كوضوح الشمس في رابعة
النهار، ولا يوجد أي مجال للتشكيك فيها، فقد أتمّ الله الحجة، لكن إذا أراد أحدهم
أن يغالط نفسه ووجدانه، نعم يوجد مجال للإنكار كما يوجد مجال لإنكار الآخرة وكما
يوجد مجال لإنكار الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ
فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾(٦٦) نعم يوجد مجال، لأن هذه هي طبيعة
الدنيا، فلابد أن يُمتحن الإنسان.
أذكر لكم هنا ما قرأته في مقالة، ولو أن هذا يقع خارج بحثنا، لكنني سأذكر لكم هذا
لكي تلاحظوا أن الإنسان إذا أراد أن يعرف الحقيقة سيصل إليها وإذا أراد أن يغالط
نفسه يمكنه ذلك أيضا سواء في قضية الإمام المهدي أو في غيرها، لقد قرأت قبل مدة ما
يقوله الكاتب: أنا مؤمن بالله ولكن ليس لدي دليل على وجوده، عجيب!! ويقول أيضا: إن
من يؤمن بالله ليس لديه دليل على وجوده، ومن يكفر بالله ليس لديه دليل على وجوده
أيضا! إنها قضية ذوقية، بهذا الشكل.
وفي كل شيء له آية * * * تدل على أنه واحد(٦٧)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٦) سورة إبراهيم: ١٠.
(٦٧) من شعر أبي العتاهية وهو أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان العنزي
الكوفي ولد سنة ١٣٠هـ بعين التمر، وتوفي سنة ٢١١هـ وقيل: غير ذلك، وكان من الشعراء
الفحول ويعد من طبقة بشار وأبي نواس والسيد الحميري وكان من المكثرين في النظم.
ولكن إذا أراد الإنسان أن يغالط نفسه فيوجد مجال لذلك، هذه القضية حدثت في شهر رمضان المبارك حيث نشرت إحدى الصحف تلك المقالة، هنا أريد أن أبين كيف يمكن أن يوجد في عين البطون ظهور كامل ولكن لمن يفتح عينه؟ كان عنوان المقالة - لا أتذكر الصحيفة أو مكانها - عن اثني عشر خليفة من قريش، فهذه الرواية المحيرة (داخ) فيها الآخرون، من هم هؤلاء الاثنا عشر؟ لقد ذكر البخاري هذه الرواية، وأنتم طبعاً تعتقدون بالبخاري(٦٨) وهو أصح كتاب لديكم بعد كتاب الله، فرواية اثنا عشر خليفة موجودة في البخاري (باب الاستخلاف)(٦٩) وهي موجودة في مسلم (كتاب الإمارة)(٧٠)، وسنكتفي بهذا ناهيك عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦٨) المخاطب بهم هم أبناء العامة.
(٦٩) روى البخاري:ج٨ ص١٢٧ باب الاستخلاف من كتاب الأحكام عن جابر بن سمرة: سمعت
النبي يقول: «يكون اثنا عشر أميرا»، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: «كلهم
من قريش».
(٧٠) روى مسلم بأسانيد عدة عن جابر بن سمرة بألفاظ متعددة والمعنى واحد فقد جاء
فيها: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة» أو «لايزال أمر الناس
ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً» أو «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة» أو
«لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» أو «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعا
إلى اثني عشر خليفة» أو «لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا
عشر خليفة» وفي كل هذه الرواية لفظ: «كلهم من قريش»، انظر (صحيح مسلم): ج٦ ص٣ - ٤
كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.
بقية الكتب، يقول كاتب المقالة الذي يريد أن يغمض عينيه: (أخبر النبي صلى الله عليه (وآله) - وآله طبعاً مني - أنه سيكون من بعدي اثنا عشر خليفة من قريش، فعن جابر قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»، قال: ثم رجع إلى منزله فأتته قريش فقالوا: ثم ماذا سيكون؟ قال: «ثم يكون الهرج»(٧١) - كما ينقل الراوي - حسناً، يريد كاتب المقالة أن يفسر هذه الرواية فيقول: (تحققت نبوءة رسول الله، اثنا عشر خليفة - لاحظوا التفسير - حيث كان بعده اثنا عشر خليفة، أحصوهم: إنهم الخلفاء الأربعة الأوائل، وهؤلاء متفق عليهم، والخامس سيدنا الحسن والسادس معاوية والسابع ابنه يزيد، - الذي يقول عنه (رضي الله عنه) - هؤلاء الذين - كما جاء في روايات أُخر في مسلم وغيره - يقوم بهم الدين، لا يزال الدين عزيزاً منيعاً بهم - وغيرها من هذه الأوصاف - والثامن حفيده معاوية بن يزيد أو معاوية الثاني، والتاسع عبد الله بن الزبير، لماذا؟ لأنه حكم مكة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧١) مسند أحمد: ج٥ ص٩٢ حديث جابر بن سمرة، سنن أبي داود: ج٢ ص٣٠٩ ح٤٢٨٠وح٤٢٨١، وغيرها من المصادر.
لمدة من الزمن، والعاشر مروان بن
الحكم، والحادي عشر عبد الملك بن مروان، والثاني عشر هو الوليد بن عبد الملك،
وعددهم اثنا عشر خليفة، وقد توفي آخرهم الوليد بن عبد الملك سنة ٩٦ للهجرة) وفي
بقية الرواية، ثم يكون من بعد ذلك الهرج، فمتى حدث الهرج وأين؟
إنه يريد أن يطبق الحديث، فيقول: (ووقع بعد ذلك بست وثلاثين سنة هرج وقتال شديد
إبان انتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس)، لكن أين صار البقية؟ إذ لم يكتمل
العدد اثنا عشر خلال مدة الستة وثلاثين عاماً، فكيف قفزتم على هذه المدة؟ فأنتم
وصلتم إلى الوليد وهو الثاني عشر، طيب من هو الذي جاء بعد الوليد؟ جاء بعده سليمان
بن عبد الملك وبعده جاء عمر بن عبد العزيز وبعده جاء يزيد بن عبد الملك وبعده جاء
هشام بن عبد الملك وبعده جاء الوليد بن يزيد بن عبد الملك وبعده جاء يزيد بن الوليد
بن عبد الملك، ثم جاء إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ثم جاء مروان بن محمد، ثم
حدث الهرج والمرج خلال الثورة العباسية ضد الأمويين، فكم خليفة كان على النبي (صلّى
الله عليه وآله) أن يقول في الحديث؟: يكون بعدي عشرون خليفة، أي إلى مروان، ثم يكون
الهرج، لكنه يقفز لأن ليس هنالك حل آخر للكاتب، إذ يقول: اثنا عشر خليفة، أي بلغ
بهم إلى الوليد، ثم وقع بعد ذلك بست وثلاثين
سنة ومع هذه الطفرة هنالك هرج وقتال
وشديد إبان انتقال الخلافة من بني أمية إلى بني العباس!! إنه لا يريد أن يعترف
بالحقيقة، لأن هذا الحديث ليس له إلا تفسير واحد، وهو حديث الأئمة الاثني عشر
الموجود في البخاري وفي مسلم وفي مسند أحمد وفي كتب المسلمين من الفريقين، فليس له
أي تفسير آخر.
ويمكنكم أن تبحثوا الكرة الأرضية حول هذا، لاحظوا ما قاله علماؤهم، إذ ليس لديهم أي
تفسير لذلك يضطرون لكي يلتفّون على الحديث.
والآن جربوا واسألوا عشرة من علمائهم عن معنى حديث الأئمة الاثني عشر، فكل واحد
منهم سيقول تفسيراً مختلفاً (٧٢)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٢) قالوا في تفسيره جملة كبيرة من
التفسيرات، منها:
١. الولاة من يستحق الخلافة من أئمة العدل وقد مضى أربعة ولا بد من إتمام العدة قبل
قيام الساعة.
٢. يشترط أن يكونوا في زمن واحد يفترق الناس عليهم وقد وقع في المائة الخامسة في
الأندلس فادعى الخلافة فيها فقط ستة أنفس فضلاً عن الخليفة العباسي والخليفة
الفاطمي وغيرهم من العلوية والخوارج.
٣. الاثنا عشر في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والاجتماع على من
يقوم بالخلافة، وقد اجتمعوا إلى زمن الوليد بن يزيد، ويكون الخلفاء على هذا الرأي
الثلاثة (وأمير المؤمنين (عليه السلام)) ثم معاوية ويزيد وعبد الملك بن مروان
وأولاده الوليد ثم سليمان وعمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام والثاني عشر هو
الوليد بن يزيد.
٤. الاثنا عشر كلهم من بني أمية ماعدا عثمان ومعاوية ومروان فمن يزيد بن معاوية إلى
مروان الحمار.
٥. الاثنا عشر يكون بعد ظهور المهدي.
٦. الاثنا عشر حسب الترتيب ماعدا من لم تصح ولايته ولم تطل مدته وهم: الثلاثة
(وأمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما السلام)) ومعاوية ويزيد بن معاوية وابن
الزبير وعبد الملك بن مروان والوليد وسليمان ولداه وعمر بن عبد العزيز حفيده.
٧.هم الثلاثة (وأمير المؤمنين (عليه السلام)) وعمر بن عبد العزيز وبعض بني العباس
ومنهم المهدي المبشر بالروايات.
٨. هم إما بالتتابع فيبتدأ من الثلاثة (وأمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما
السلام)) ومعاوية ويزيد بن معاوية ومعاوية ابنه ومروان وعبد الملك ابنه والوليد
وسليمان وإما بالمعنى فهم الأربعة وعمر بن عبد العزيز وتوقف في البقية.
٩. الثلاثة (وأمير المؤمنين والإمام الحسن (عليهما السلام)) ومعاوية وابن الزبير
وعمر بن عبد العزيز ويحتمل شمول المهدي العباسي والظاهر العباسي ويبقى اثنان احدهما
المهدي والآخر لا يعلمه.
١٠. من اجتمعت الأمة عليه فهم الثلاثة ومعاوية ويزيد ابنه ثم عبد الملك والوليد
وسليمان وعمر بن عبد العزيز ويزيد وهشام والوليد بن يزيد.
(علماً بأن ما سبق ذكره لم يتجاوز ذكر الأقوال، ولم تتم مناقشتها للاختصار ولأنها
من السخف بمكان تنقض نفسها بنفسها).
وكيف تحقق هذا الهرج الذي تقولون
به؟
إذن لو كان لدينا هذا الحديث فقط لكان كافياً في إثبات الإمام المهدي (عليه
السلام)، فكيف إذا كان لدينا آلاف الأحاديث.
ذكر المرجع المعروف الشيخ الصافي
(٧٣) (حفظه الله) مجموعة من هذه الأحاديث في كتابه، وذكر السيد العم (٧٤) (حفظه
الله) في كتابه (المهدي (عليه السلام) في القرآن) و(المهدي (عليه السلام) في السنة)
مجموعة من هذه الأحاديث، ولكن دعك عن تلك الأحاديث، فهذا الحديث وحده كافٍ. إذن
فقضية الإمام المهدي صلوات الله عليه في عين بطونها، هذا البطون الذي جعله الله
للاختبار وللامتحان الذي يٌمتحن الجميع به، وفي عين الوقت هذه القضية واضحة تمام
الوضوح.
امتحان الغيبة يُظهر الكوامن:
وفي بعدٍ آخر كما كانت القضية واضحة فيما يخص بني إسرائيل، ولكن من يريد أن لا يرى
الحقيقة، فإن امتحان الغيبة يُظهر الكوامن، وإذا بأحدهم يذهب إلى الدرك الأسفل
وآخر، إذا حفظ إيمانه يتحول إلى أعلى عليين.
إن المؤمنين في زمان الغيبة لهم ثواب فوق ما نتصور، لاحظوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٣) المرجع الديني آية الله العظمى
لطف الله الصافي الكلبايكاني (دام ظله) من المراجع الدين المعاصرين في مدينة قم
المقدسة ولد سنة ١٣٣٧هـ درس عند كبار الفقهاء في عصره منهم السيد الكلبايكاني
والسيد حسين البروجردي، له عدة مؤلفات فقهية وغيرها ومن أهمها كتابه (منتخب الأثر
في الإمام الثاني عشر) وقد جمع فيها كل ما يرتبط بأحاديث الإمام المهدي من أكثر من
ستين مصدراً من كتب العامة (هداهم الله تعالى) وأكثر من تسعين مصدراً من كتب
الإمامية (أعزهم الله تعالى).
(٧٤) المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) وقد
مرّت ترجمته فراجع.
الأحاديث التي وردت في بحار
الأنوار: إن الذي يُؤمن بالإمام المهدي صلوات الله عليه في زمان الغيبة ويثبت(٧٥) -
والعبارات الأُخر المذكورة في الروايات - له أجر ألف شهيد، ليس الشهداء العاديين،
بل من شهداء بدر وأُحد، كحمزة سيد الشهداء صلوات الله عليه وهو من شهداء أحد، وكم
هو كبير مقام شهداء بدر؟ ولكن أولئك لم يتعرضوا لامتحان الغيبة، بل تعرضوا لشكل آخر
من أشكال الامتحان.
أما نحن الآن فمعرضون لامتحان الغيبة ولوازمها والغموض الذي يحدث أحياناً مما يمكن
للشيطان أن يلبّس على من لا يريد أن يرى الحقيقة، أما إذا يفتح الإنسان عينه، ويصمم
على أن لا يفشل في هذا الامتحان، يكون له أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأُحد.
إذن ففي الوقت الذي يُعد فيه هذا الامتحان صعباً ولكنه مرقاة من مراقي الكمال إلى
فوق ما نتصور.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصابرين والثابتين وأن ننجح في هذا الامتحان
العسير.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٥) روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قوله: «من ثبت على ولايتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأحد»، انظر(بحار الأنوار): ج٥٢ ص١٢٥ ب٢٢ ح١٣، عن (كمال الدين) للشيخ الصدوق.
(٣) عوالم نجاح غيبة الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه)
إن الإمام المهدي (عليه السلام) هو الذي يحقق الحلم الذي كانت تحلم به جميع الرسالات الإلهية، وهو إقامة دولة العدل.
الفقيه الشيرازي
في المحاضرة السابقة دار الكلام حول السبب الكامن وراء غيبة الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله تعالى فرجه) وكيف يمكن تفسير هذه الغيبة المحيّرة؟ وذكرنا إن هذا السؤال لا يختص بغيبة الإمام المهدي (عليه السلام) بل يعمّ غيبة كثير من الأنبياء والأولياء، فلماذا غاب نبي الله موسى(عليه السلام) أربعين ليلة؟ ولماذا غاب نبي الله المسيح ابن مريم (عليه السلام) حوالي ألفي عام؟ ولماذا غاب ذو النُّون (عليه السلام) في بطن الحوت أربعين يوماً؟ ولماذا غاب أهل الكهف ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً؟
الإجابة الرابعة:
وفي هذه المحاضرة سنطرح الإجابة الرابعة، وقد ذكرها بعض مراجع التقليد الماضين قبل
حوالي ثلاثين عاماً، وسنحاول أن نوضح هذه الإجابة كإجابة محتملة عن السؤال المذكور
سلفاً، فنقول: إنَّ غيبة الإمام صلوات الله وسلامه عليه من العوامل والأسباب التي
تهيّئ الأجواء العامة لنجاح الحركة، وبداية ينبغي أن نعرف أن النجاح على نحوين:
النحو الأول: النجاحُ بمنطق المعادلات الغيبية.
النحو الثاني: النجاحُ بمنطق المعادلات المادية.
إنَّ النجاحَ بمنطق المعادلات الغيبية هو مضمون للحركة الإلهية في كل تقدير، حيث لا
يمكن أن يتطرق الفشل إلى الحركة الإلهية، كذلك كل عمل نعمله لأجل الله لا يمكن أن
يتعرض للفشل، يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: ﴿إِحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ﴾(٧٦) فالانتصار حسنى والشهادة في سبيل الله حسنى أيضا، فإذن
سيكون المؤمن المجاهد بين إحدى الحُسنيين.
قال (عمرو بن ود) لعلي أمير المؤمنين صلوات الله عليه: أما خاف ابن عمك حين بعثك
إليّ أن أضربك برمحي هذا فأجعلك معلقاً بين السماء والأرض لا أنت حي ولا أنت ميت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٦) سورة التوبة: ٥٢.
فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه
كما جاء في البحار: «لقد علم ابن عمي أنك إن قتلتني فأنا في الجنة وأنت في النار
وإن قتلتك فأنت في النار وأنا في الجنة». فقال عمر بن ود: كلتاهما لك يا علي، تلك
إذاً قسمةٌ ضيزى(٧٧).
فإذا كان المؤمن حاكماً على كل الكرة الأرضية فهذا نجاح له، وإذا كان مُبعَّضاً تحت
سنابك(٧٨) الخيول فهذا نجاحٌ له أيضا ما دام سائراً في خط الله، إذاً فلا يتطرق
الفشل للحركة الإلهية بمنطق المعادلات الغيبية أبداً، ولذلك ينبغي أنْ يعرف المؤمن
الحقيقي أن كل شيء يعمله لله ولأجله تعالى مهما كانت نتائجه فهو ناجحٌ وفق كل
تقدير.
ولكن هنالك نجاحٌ آخر وهو النجاح بمنطق المعادلات المادية، أو ما يُسمى بالنجاح
الظاهري، والمقصود في العنوان هو المعنى الثاني للنجاح وليس المعنى الأول، إن تهيئة
الأجواء العامة لنجاح الحركة، تعني النجاح المادي مضافاً إلى النجاح الغيبي.
بعد هذه المقدمة نطرح السؤال الآتي: هل تحتاج حركة النبي أو الوصي أو الولي إلى
وجود أجواء توفر له النجاح بمنطق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٧) انظر(بحار الأنوار): ج٢٠ ص٢٢٦
ب١٧ ضمن ح٣، عن كتاب تفسير القمي، وقسمة ضيزى: أي قسمة جائرة.
(٧٨) السنابك جمع سنبك وهو طرف مقدم الحافر.
المعادلات المادية، أم أنَّ الولي
أو النبي يقوم بالحركة مهما كانت النتائج، فلا تهمنا النتيجة وإنما أداء الوظيفة،
إننا غالباً ما نقول ليس لنا شأن بالنتيجة بل علينا بالوظيفة، فهل يحتاج النبي أو
الوصي أو الولي إلى تهيئة الأجواء العامة لضمان نجاح حركته الإلهية؟.
يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بطبيعة المهمة التي أُنيطت بالنبي أو الولي،
فما هي هذه المهمة؟ فإذا كانت المهمة هي إقامة الحجة فقط، حيث يأتي النبي لئلا يكون
للناس حجة على الله، إن إقامة الحجة لا تحتاج إلى تهيئة الأجواء العامة للنجاح
بمنطق المعادلات المادية، لأنها تتم بإبلاغ الدعوة، مهما كانت النتيجة فالنتيجة
الظاهرية غير مهمة.
ولكن إذا كانت المهمة التي أُنيطت بالنبي أو بالولي مصحوبة بتضحية تهزّ وجدان الأمة
وتوقظها من نومها العميق، فلا يحتاج في هذه الحالة إلى تهيئة الأجواء العامة، فإن
الولي يقوم بهذه العملية ذات التضحية الكبيرة مهما كانت النتائج.. لصالح إقامة
الدولة، أو الشهادة.
لكن - دقق في هذه النقطة - إذا كانت المهمة التي أُنيطت بالولي هي إقامة دولة العدل
التي تعم الكرة الأرضية كلها، وتبقى إلى ما شاء الله، ألا يحتاج القيام بهذه المهمة
إلى تهيئة أجواء عامة
للنجاح في هذا الهدف؟ وهل يوجد بديل
عن تهيئة الأجواء العامة؟
الجواب: نعم، يوجد هنالك بديل، وهو تحكيم منطق القوة، أو منطق الفرض، فإذا كانت
الأجواء العامة غير مهيئة لمنطق الفرض، فالنتيجة الطبيعية هي الرفض.
وهنالك قاعدتان للفرض:
القاعدة الأولى: إنَّ الفرض غير دائم، فإذا كان للشيء المعرض للفرض طبيعةٌ معينةٌ
وحصل عامل ضغط خارجي خلاف طبيعته، فهذا الضغط لا يكون دائماً، حيث طالما أنَّ عامل
الضغط القسري القاهر موجودٌ فإنَّه سيُعيق الشيء عن حركته الطبيعية، ولكن بمجرد أنْ
يزول الضغط يعود الشيء إلى حالته الأولى، بل يقول العلماء في الحكمة أن القسر لا
يكون أغلبياً.
ويمثّل العلماء بمثال معروف هو: إن طبيعة أي حجر هي الانشداد إلى الأسفل بفعل
الجاذبية الأرضية، فلو رمينا الحجر إلى الأعلى بالقوة وبالضغط سيرتفع إلى الأعلى،
إنَّ الحجر هنا يعاكس طبيعته الأولى، لماذا؟ لأنه يوجد عامل ضغط يرفعه إلى الأعلى
وسيرتفع الحجر ما دام الضغط موجوداً، ولكن بمجرد ما ينتهي الضغط ويزول يعود الحجر
إلى طبيعته الأولى ويهبط إلى الأسفل.
ولذلك فإن الضغط غير دائم في عمق الزمن، وليس أكثرياً كما يقول العلماء، فلو تم فرض
نظام ما على مجتمع لا يريد ذلك
النظام وغير مقتنع به، فالمجتمع
سيقاوم، وقد رأينا تجارب كثيرة في التاريخ عن ذلك، حيث يقاوم المجتمع بمختلف أنواع
المقاومة، هذا من جانب.
ومن جانب ثانٍ، إذا أردنا أن نقيم دولة العدل، والنخبة المتنورة فئة محدودة، فكيف
تقام دولة العدل والحق إذا كانت غالبية الأمة غير مهيّأة لذلك، ولنفرض أن هذه
الدولة دامت وبقيت، وحاكمها الأعلى متقٍ إلى أبعد الحدود، ولديه عشرة أو عشرون أو
ثلاثون أو مئة من أعوانه، وهؤلاء قمة في التقوى والإخلاص والأخلاق، ولكن تبقى
الدولة دائماً وكما يقول العلماء مؤسسة صغيرة في بحر، فإذا كان جميع الموظفين غير
مهيّئين، وجميع الوزراء والمدراء كذلك، فمَنْ الذي يدير الدوائر؟ إنه الموظف الذي
يسيّر معاملات المواطنين، ولكن إذا كان هذا الرجل غير مهيّأ لذلك فسيظلم الناس.
لماذا رفض الإمام الصادق (صلوات الله عليه) الحكم كما ذكر التأريخ؟ لو قيل للمؤمن:
تعال، وكن حاكماً على الدولة الكافرة؛ وزراؤها ومدراؤها وموظفوها كلهم كفار، ما
الذي استطيع أنْ يعمله في مثل هذه الدولة؟ لقد بعث أبو سلمة الخلّال(٧٩) - في
الظاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧٩) حفص بن سليمان الهمداني الخلال الكوفي المكنى بأبي سلمة وهو أول من لقب بالوزارة الملقب بوزير آل محمد، وكان من الداعمين لثورة العباسيين بالأموال وغيرها، توزر للسفاح أول خليفة عباسي واستمر بعمله أربعة أشهر ثم قتل بعدما علموا ميله لأهل البيت (عليهم السلام).
- مكتوباً للإمام الصادق (عليه
السلام) وقال فيه: تعال، وكن أنت قائداً للدولة العباسية، ولنفترض أن الإمام الصادق
(صلوات الله عليه) صار قائداً للدولة العباسية حيث إن جميع وزرائها ومدراؤها
وموظفيها غير مهيّئين لإقامة العدل والحق وحكم الله، فكيف سيحكم الإمام دولة كهذه؟
ولذلك اخذ الإمام الصادق (صلوات الله عليه) تلك الرسالة، وكان هنالك سراج مُضاء
فوضعها عليه فاحترقت، فسأل المبعوث الإمام (صلوات الله عليه) ما هو جوابك؟ فقال له
الإمام (عليه السلام): «هذا، هو الجواب»(٨٠).
إنَّ أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) كان بإمكانهم أنْ يحكموا في بعض المراحل
التاريخية، ولكن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) رفض أن يكون حاكماً، لأن الحكم في
حدِّ ذاته لم يكن هدفاً له، لأنه إذا أصبح حاكماً في تلك الدولة، فهذا يعني إبدال
فرد بفرد، وسيبقى النظام كما هو، وعندما أُجبرَ الإمام الرضا (صلوات الله عليه) على
ولاية العهد، شرطَ أن لا يتدخل في أي أمر من الأمور، ربما كان لا يستطيع أنْ يعمل
في مثل نظام المأمون لأنه محاصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٠) راجع (ينابيع المودة): ج٣ ص١٦٠ - ١٦١.
ولذلك لابد أن تكون الأجواء العامة
مهيّأة، إن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) هو الذي يحقق الحلم الذي كانت تحلم
به جميع الرسالات الإلهية، وهو إقامة دولة العدل، ومن اجل تحقيق مثل هذا الهدف هناك
حاجة إلى تهيئة عامة، حيث تحتاج البشرية الوصول إلى درجة تتقبل فيها مثل هذا الحكم،
إذن الإجابة الرابعة هي تهيئة الأجواء العامة لنجاح الحركة الإلهية.
كيف تتهيأ الأجواء العامة؟
لكي يظهر الإمام (صلوات الله عليه) لابد أن تكون الأجواء العامة مهيأة لذلك، فكيف
تتهيأ الأجواء العامة؟
إن الجواب عن ذلك يأتي في كلمة واحدة، لعلها تمثل جواباً أو جانباً من الجواب، وهو
الشعور بالضعف والعجز والانقطاع، إن هذا يُعدّ بمثابة مقدمة للتهيؤ العام، وسنأتي
بمثالين أحدهما فردي والآخر على صعيد الأمة.
المثال الفردي:
إن الله سبحانه وتعالى خلقنا: ﴿مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا﴾(٨١)،
فالإنسان في شبابه يتميز بحالة من الغرور والاعتماد على ذاته وقوته وقدرته وطاقته،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨١) سورة الروم: ٥٤.
ولكنْ شيئاً فشيئاً يجعل الله
سبحانه وتعالى الحياة بصورة تصفع هذا الشاب، فكلما تقدم به العمر وإذا بالضعف
والعجز يسري إليه، إن الضعف والفقر موجودان في الإنسان منذ البداية، ولكن المشكلة
أن الفرد لا يشعر بهما، على العكس من أولياء الله سبحانه وتعالى حيث يشعرون منذ
البداية بالضعف والفقر، ولذلك يتميزون بحالة انقطاع إلى الله سبحانه وتعالى في أيام
شبابهم.
لكن المشكلة بصورة عامة تتعلق في الشعور والإدراك؛ وإلا ما أضعفَ وأفقرَ البشرَ
لكنه لا يشعر، فالشاب يحتاج إلى صفعة، وهنالك بعض الأفراد في حالة نوم ولا ينتبهون
فلابد من أن يُصفعوا لكي ينتبهوا، حيث الأمراض والمشاكل الاجتماعية والمعوقات تلمّ
بهم من كل جانب، أما الشاب فهو يقاوم المشكلة ويقاوم المرض أيضا، ولكن شيئاً فشيئاً
يبدأ باليقظة ويتنبّه حتى يصل إلى منتهى درجات الضعف.
هنالك بعض كبار السن لا يتمكن من تناول حتى الأكل أو الحركة، ولا يستطيع فتح عينه
في بعض الأحيان، بل لا يستطيع التنفس مع أننا لا نشعر بقيمته، ولكي يتنفس فقط فإنه
يحتاج إلى جهاز يُسلّط عليه ويضخ الهواء إلى رئته، وحين نذهب أحياناً إلى المستشفى
نرى أمثال هؤلاء فنرى مستقبلنا أيضا، باستثناء أن يموت الإنسان فجأةً، وإلا فمسيرة
حياة الإنسان الطبيعية تذهب به من
ضعف إلى الضعف حتى يصل إلى منتهى
درجات الضعف، لماذا؟
إن الله سبحانه وتعالى سلّط علينا هذه الحالة نحن البشر، حتى نشعر بضعفنا، إذن هذه
نعمة من نعم الله علينا، طبعاً يختلف الأفراد في تعاملهم مع هذا الأمر، فبعضهم من
يتنبّه بسرعة وآخرون يتنبهون ببطء وغيرهم قد لا ينتبهون إلى النهاية، فعلى الإنسان
أن يشعر بأنه ضعيف وعاجز، كما في الأدعية حيث يوجد إلفات نظر عجيب، لنقرأ الأدعية
المختلفة بهذا المنظار، فإنها تلفت إلى أنك أيها البشر ضعيف فقير بائس إلى أبعد
الحدود، ومسكين مستكين لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا
نشوراً.
هناك تركيز في الأدعية على معنى الضعف البشري، فعندما يشعر الإنسان بالضعف يلتجئ
إلى الله سبحانه وتعالى، فلا يعتمد بَعدُ على قوته وحوله، وإنما يبرأ منهما، ويلجأ
إلى قوة الله وحوله، فحين نقول كلمة: لا حول ولا قوة إلا بالله، نعني أننا لا نملك
أي شيء، إذن هناك تركيز على هذا المعنى، أي التحول من حالة إلى حالة.
فربما يكون الإنسان جالساً لكنه فجأة لا يتمكن من الوقوف إلا بقوة الله، فهذه هي
قدرة الله وإرادته سبحانه التي أعطت للإنسان القوة والإرادة، في تلك اللحظات يشعر
الإنسان بالضعف والفاقة والفقر ويلتجئ إلى الله سبحانه وتعالى، فمثل هذا الشعور
مهم جداً لأنه يهيئ الأرضية لنزول
الرحمة الإلهية على الإنسان.
جاء في الحديث: «شيوخٌ خشّع أو رُكّع»(٨٢) فالشيوخ الخشع أو الركع لهم أهمية معينة،
ينقل لنا أحد الخطباء الكرام حفظهم الله قضية عن فرعون، يقول فيها: إن فرعون ذهب
إلى الله سبحانه وتعالى وقال: يا الله إن النيل قد جفّ وتوقف جريانه(٨٣)، وقد ذهب
فرعون إلى الصحراء ووضع الأغلال في عنقه ويديه وهو يبكي ويتضرع إلى الله سبحانه
وتعالى من الليل حتى الصباح، قد يعلّق احد فيقول: وإذا جاء باكياً، قد يأتي فقير
باكياً أو طفل يبكي وما أهمية ذلك؟ ولكن لنفترض أنَّ هذا الطفل كان مسيئاً لكنه
جاءكم الآن باكياً، فماذا ستفعلون أمام بكاء طفلكم؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٢) الكافي: ج٢ ص٢٧٦ باب الذنوب
ح٣١، وفيه: عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «إن لله (عزَّ وجلَّ) في كل يوم وليلة
منادياً ينادي: مهلاً مهلاً عباد الله عن معاصي الله فلولا: بهائم رُتع، وصبية رُضع
وشيوخ رُكع لصُب عليكم العذاب صبّا ترضّون به رضّا».
(٨٣) انظر(علل الشرائع): ج١ ص٥٨ ب٥٣ ح١، وفيه: (غار النيل على عهد فرعون.. قال:
اخرجوا إلى الصعيد فخرجوا فتنحى عنهم حيث لا يرونه ولا يسمعون كلامه فالصق خده
بالأرض وأشار بالسبابة، وقال: اللهم إني خرجت إليك خروج العبد الذليل إلى سيده وإني
أعلم أنك تعلم أنه لا يقدر على إجرائه أحد غيرك فأجره...).
المثال الثاني: على صعيد الأُمَّة:
هنالك أمة كتب الله سبحانه وتعالى العذاب عليها، لأنهم لم يعتنوا بنبيّهم، فكم
عاماً أنذرهم هذا النبي وبلّغهم لكن من دون فائدة، فتركهم النبي (عليه السلام)
وجاءهم العذاب حتى وصل إلى أيديهم، بمعنى صار قريباً منهم، وقد أنذرهم النبي (عليه
السلام) ونبههم من هذا العذاب، فركضوا إلى عالمهم الذي يقال له: (روبيل) وسألوه:
ماذا نفعل؟ فقال لهم: اذهبوا إلى الصحراء وتفرقوا فيها فالعذاب قادم، فرّقوا بين
النساء والرجال وبين النساء وأطفالهن وليكن كل منهم مفترقاً عن الآخر وفرّقوا بين
البهائم وصغارها.
مضوا إلى الصحراء وتضرعوا إلى الله سبحانه، الأطفال والأمهات يبكين والبهائم الصغار
تبكي أو تتضرع، فرحم الله سبحانه وتعالى ضعفهم وعجزهم، وقد قال الله سبحانه: ﴿فَلَوْلَا
كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا
آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾(٨٤) فقد رحمهم الله تعالى لضعفهم بعد أن
التجئوا إليه وكشف عنهم العذاب ومتعهم إلى حين(٨٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٤) سورة يونس: ٩٨.
(٨٥) انظر(مجمع البيان): ج٥ ص٢٣٠ سورة يونس: ٩٨، عن تفسير القمي بإسناده عن أبي عبد
الله (عليه السلام): «.. فلما كان اليوم الذي نزل بهم العذاب قال لهم العالم
(روبيل): افزعوا الى الله فلعله يرحمكم، ويرد العذاب عنكم فاخرجوا إلى المفازة
(الصحراء) وفرّقوا بين النساء والأولاد وبين سائر الحيوان وأولاده ثم ابكوا وادعوا.
ففعلوا فصرف عنهم العذاب وكان قد نزل بهم...».
إنَّ بعض الناس يعيشون حالة غرور
فيشعرون أنهم لا يحتاجون لأحد، وعندما لا يشعر الإنسان بالاحتياج سيتضاعف لديه
الغرور، كما لو أنَّ مريضاً يحتاج إلى دواء ولكنه لا يشعر بحاجته هذه.. هنا سوف
يستفحل المرض حتى يصل إلى مرحلة الشعور بأنه لا بديل له إلا الرجوع إلى الطبيب،
وسوف يعمل بأي شيء يوجهه به.
لقد علّم العالم (روبيل) أولئك القوم الذين ينتمي إليهم، فنادوا الله سبحانه
وتعالى: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(٨٦) يقولون:
إننا سننتهي من الوجود، و ستصل البشرية إلى هذا الشعور وإلى هذه المرحلة.
ففي يوم ما كانت البشرية تعيش غرور الشيوعية ولعلّ كبار السن عايشوا هذه الفترة،
جاءت الشيوعية بإعلامها وقوتها وقنابلها الذرية التي يمكن أن تدمر الكرة الأرضية
أكثر من مرة، ليس في بلاد الغرب فقط بل حتى في بلادنا، كم مليوناً وكم مائة مليون
خُدعوا بهذا السراب الكاذب، فبعد ثمانين عاماً وإذا بالزيف ينكشف، ولكن بعد ذلك
الدَّوي والبريق للشيوعية فقد انحسرت بل انتهت،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٦) سورة الأعراف: ٢٣.
ومن يقول الآن: أنا شيوعي سيُنظر له
بامتهان، لقد انتهى كل شيء ولم يعد لهم أمل.
لكن ماذا خلّفت الشيوعية بعدها؟ لقد خلّفت الرأسمالية بشعاراتها وقوتها التي ربما
لم تُتَحْ لِفئةٍ أخرى في التاريخ، وشعاراتها البراقة التي خدعت بعض شبابنا حين
رأوا هذه الشعارات من بعيد، كالحرية والديمقراطية، إنَّ المريض الذي لا يريد أن
يراجع الطبيب ماذا تفعلون معه؟ في حالة كهذه سيأتي الطبيب يجبره ويفرض عليه الدواء.
في الآية التي تلي الأولى من سورة يونس يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(٨٧) لا يمكن الإكراه، لأن
سنة الله لم تقم على الإكراه، ولكنْ شيئاً فشيئاً ينكشف لنا أن الرأسمالية سراب
أيضاً.
هنالك حديث مرويٌ في (كتاب الغيبة للنعماني ص٢٧٤)(٨٨) عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٧) سورة يونس: ٩٩.
(٨٨) كتاب الغيبة للشيخ الجليل أبي عبد الله محمد بن أبي إبراهيم بن جعفر الكاتب
المعروف بابن أبي زينب النعماني، من شيوخ الطائفة وكان عظيم القدر شريف المنزلة
صحيح العقيدة كثير الحديث والرواية وهو من تلامذة الشيخ الكليني وكاتبه والراوي عنه
توفي في الشام في حدود سنة ٣٦٠هـ وله جملة من المؤلفات من أهمها كتاب الغيبة وقد
حواه المصنف بمروياته عن أهل بيت العصمة بما يتعلق بالإمام المهدي (عليه السلام) من
ذكر النصوص على إمامته وما شابه والكتاب يحتوي على ستة وعشرين باباً وكل باب يحتوي
على جملة من الأحاديث.
الإمام الصادق صلوات الله عليه وهو
أحد الأئمة الذين أكثروا الحديث حول الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله تعالى فرجه)
يقول: «ما يكون هذا الأمر - ويقصد قيام الإمام المهدي صلوات الله عليه - حتى لا
يبقى صنفٌ من الناس إلا وقد وُلّوا على الناس»(٨٩) فالكل حكموا، ومن كل الأصناف،
فقد حكم الشيوعيون والبعثيون والرأسماليون والديمقراطيون والقوميون، لأنه لا يزال
يوجد بريق في هذا المجتمع وهو لا يشعر بالحاجة على الرغم من أنها موجودة فيه.
فشل النظام العالمي:
إننا حتى في بحوثنا العلمية نشعر بالحاجة، فنحن نشعر بالحاجة في كل يوم، فعندما
نفتح الكتاب ونقرأ نشعر ونقول لقد اكتفينا بهذا، ولكن عندما نخوض بالميدان مرة أخرى
نشعر بالحاجة، فهل هي وظيفة وتوجب على الإنسان أن يعمل؟ ولكن ما هو الشعور بالحاجة؟
إذا أُدخل ابن رجل ما في غرفة الإنعاش - إن الأمهات والآباء يفهمون ما أعني - وإنَّ
هذا الابن يعيش في حالة غيبوبة ما بين الموت والحياة، فما هي حالة الأب والأم،
إنهما لا ينامان الليل ولا يمكنهما ذلك، فيقصد مسجد (جمكران)(٩٠) أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨٩) كتاب الغيبة، للنعماني: ص٢٨٢
ب١٤ ح٥٣، وتكملة الحديث: «حتى لا يقول قائل: إنا لو ولينا لعدلنا، ثم يقوم القائم
بالحق والعدل».
(٩٠) مسجد يقع على مسافة (٥) كم تقريبا جنوب مدينة قم المقدسة، ويرجع تاريخ تأسيسه
إلى عام ٣٩٢ هـ بأمر من الإمام صاحب الزمان (عليه السلام).
يذهب إلى حرم السيدة معصومة (عليها
السلام)، ويدعو ويتضرع وينهض ليصلي عند منتصف الليل، لماذا؟ لأنه يشعر بالحاجة
نتيجة الخطر الذي يحيق بابنه.
فهل نحن ندعو للإمام المهدي (عليه السلام) كما ندعو لولدنا بالمقدار نفسه، وهل ندعو
للإمام (عليه السلام) كما ندعو لحاجة من حاجاتنا الدنيوية الصغيرة، على أي شيء يدل
هذا؟ فقد ندعو بألفاظ يقولها الإنسان في أي وقت، غير تلك الألفاظ التي يدعو بها
الإنسان وهو يمرّ في حالة خطر، من جرب ركوب السفينة في عرض البحر، يعرف ما هي حالة
الركاب عندما تتعرض السفينة للخطر، حيث تكون في طريقها إلى الغرق، فما هي حالة ركاب
هذه السفينة؟ يقول الإمام صلوات الله عليه: «حيث لا سباحة تغنيك ولا سفينة
تنجيك»(٩١) بمعنى لا أمل هناك، فكيف ستكون حالة الإنسان في تلك اللحظات؟ وكيف سيكون
انقطاعه إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول القرآن الكريم: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩١) انظر (التوحيد، للشيخ الصدوق): ص٢٣١ باب معنى (بسم الله الرحمن الرحيم) ح٣، وفيه: قال رجل للصادق (عليه السلام): يا ابن رسول الله دلني على الله ما هو؟ فقد أكثر المجادلون وحيروني، فقال له (عليه السلام): «يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟» قال: نعم، قال(عليه السلام): «فهل كسر بك حث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟» قال نعم قال (عليه السلام): «فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟» قال: نعم قال الصادق (عليه السلام): «فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجى وعلى الإغاثة حيث لا مغيث».
دَعَاهُ﴾(٩٢)
هذه هي حالة الاضطرار، لا أعلم من منكم كان موجودا بمنى في عام الحريق الذي اشتعل
في المخيمات وقد أخذت حاويات الغاز تنفجر وتتطاير في الهواء لتحرق خيما أخرى، إن
النار لها رعب عجيب كما أن الماء له رعبٌ عجيب، لقد كنت أنا في ذلك العام بمنى، حيث
التهبت النار في الخيام وفر الحجاج، بعضهم إلى الجبل، وبعضهم ذهبوا في اتجاه
الخيام، وقد احترق كثير منهم، أما نحن فقد صعدنا فوق الجبل، وكنا نرى الخيام وهي
تحترق ورأينا خيمتنا تحترق كذلك فأنها كانت ذات علامة مميزة.
وقد بدأ الدعاء والتضرع، يا الله اغفر لنا فلقد أخطأنا ولن نعود إلى الخطأ، لا أدري
إذا كان بإمكان أحد أن يتصور حالة الإنسان وتضرعه في تلك اللحظات: ﴿فَلَوْلا
إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾(٩٣). إننا كأفراد، ولا أقول كلنا، لم
نصل إلى هذه الحالة مما يدل على أننا لا نشعر بالاحتياج، والبشرية ككل لم تصل حالة
الاحتياج بعد - ولو إنها تتململ الآن - فالأنظمة الوضعية لم تقدم للبشرية إلا
الدمار الذي يزداد يوماً بعد يوم، ولكن البشر بشكل عام لا يزال لم يشعر بالحاجة،
وعنده أمل في غير الله سبحانه وتعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩٢) سورة النمل: ٦٢.
(٩٣) سورة الأنعام: ٤٣.
يقول الإمام (عليه السلام): «ما
يكون هذا الأمر حتى لا يبقى صنفٌ من الناس إلا وقد وُلّوا على الناس، حتى لا يقول
قائل: إنا لو وُلّينا لعدلنا» أنا لا أقول على الإنسان أن لا يدرس أو لا يعمل،
فالوظيفة شيء آخر، لكن قلب الإنسان يجب أن لا يكون مشدوداً لدرجة أنَّ الفرج يكمن
في عمله، فيقول لو أننا حكمنا لكنّا حوّلنا الدنيا إلى جنة، فلا تفضلوا هذا القول،
إن حكمتم لحوّلتم الدنيا إلى جنة أم لا تحوّلونها، لقد حكم الشيوعيون والبعثيون
والقوميون والديمقراطيون والرأسماليون، فهل لا يزال لدى شبابنا أمل في هذه الأنظمة؟
ثم يقوم الإمام المهدي صلوات الله عليه بلفظه الآخر الذي يُقام لأجله بالحق والعدل.
لقد تعب الجميع وهم يشعرون بأن لا أمل في هذه الأنظمة الوضعية التي دمرتهم وحطمتهم.
لاحظ كم بقعة من العالم تمتلئ بالقتل والتدمير في ظل النظام العالمي الحالي؟ فأي
فشل هذا للنظام العالمي؟ وكم نقطة ملتهبة يغصّ بها العالم حالياً؟ ألا يدل هذا على
فشل هذا النظام العالمي الذي يبشرون به؟ والى أين تصل مسيرته؟ فالكوارث التي
يصبّونها على البشرية لا تعد، ولا نعلم ما الذي يخبئه لنا القدر في ظل هذه الأنظمة
الحاكمة؟
في رواية مذكورة في (كمال الدين: المجلد الثاني ص٦٥٥) سمعت أبا عبد الله (عليه
السلام) يقول: «قُدّام المهدي (صلوات الله عليه) موتان: موت
أحمر وموت أبيض»(٩٤)، إن هذا
النظام العالمي يجر البشرية كلها نحو الهاوية: ﴿وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾(٩٥) فنحن لا
نعيش حالة الأمن والنظام: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى
آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ﴾(٩٦) إن الآثار الوضعية لا
تفرق بل تشمل الجميع.
إن «قُدّام المهدي صلوات الله عليه موتان: موت أحمر وموت أبيض» فالموت الأحمر هو
الحروب بالسيف، فهذه القنابل الذرية لمن هيّؤوها؟ لقتل البشر طبعاً، فما الذي سيحدث
إذا قامت حرب عالمية ثالثة؟ لقد قتلت القنبلة الذرية الصغيرة التي ألقوها على
(هيروشيما) في لحظات أكثر من مائة ألف إنسان، وقد بخّرتهم وتحولوا إلى عدم.. أما
القنبلة الثانية التي ألقوها على (ناكازاكي)، فربما قتلت أكثر من سبعين ألف إنسان،
والمجموع هو مائة وسبعين ألف، فماذا تفعل هذه القنابل التي صنعوها بالبشرية(٩٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩٤) انظر (كمال الدين): ص٦٥٥ ب٥٧
ح٢٧ وفيه: «قدام القائم موتتان: موت أحمر وموت أبيض، حتى يذهب من كل سبعة خمسة،
الموت الأحمر: السيف، والموت الأبيض: الطاعون».
(٩٥) سورة الأنفال: ٢٥.
(٩٦) سورة الأعراف: ٩٦.
(٩٧) في ٦ أغسطس سنة١٩٤٥م أمر الرئيس الأمريكي (ترومان) بإلقاء قنبلة ذرية على
مدينة (هيروشيما) وقد أدى ذلك إلى مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص، وفي التاسع من نفس
الشهر أمر كذلك بإلقاء القنبلة الأخرى على مدينة (ناكازاكي) فقتلت كذلك عشرات
الآلاف، فضلاً عن عشرات آلاف الجرحى والمشوهين مع إبادة كل حيوان وحشرة وإلى الآن.
إن الموت الأحمر بمعنى الموت
بالسيف، أما الموت الأبيض فيكون بالطاعون، إن ابتعاد الأنظمة الحديثة والبشر عن
الله تعالى هو الذي يولد هذه الأوبئة والأمراض، فكم مليون إنسانٍ مصابون بمرض نقص
المناعة المكتسبة الخطير المعدي الذي طال الملايين من الأبرياء أيضا، وتشير
الإحصائيات إلى موت خمسة من كل سبعة مصابين، بمعنى أن خمسة أسباع البشرية تنتهي على
أثر هذه الأنظمة الوضعية وابتعادها عن الله سبحانه وتعالى.
جاء في (دلائل الإمامة ص٢٤٩)(٩٨) عن النبي (صلّى الله عليه وآله): «أبشروا بالمهدي،
فإنه سيأتي في آخر الزمان على شدةٍ وزلازل»(٩٩)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٩٨) دلائل الإمامة أو دلائل الأئمة
أو الإمامة أو غيرها للشيخ الجليل محمد بن جرير بن رستم الآملي أبو جعفر الصغير من
أعلام القرن الخامس الهجري وكان معاصراً للشيخ الطوسي والنجاشي بل أعلى منهما طبقة،
وثقه السيد ابن طاووس واعتمد على كتابه، له جملة من المصنفات منها نوادر الإمامة
ونوادر المعجزات، ألف كتابه الدلائل بعد سنة ٤١١هـ وقد جمع جملة من الأحاديث حول
أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم وقد سقطت من النسخة المعتمد عليها باب أخبار
أمير المؤمنين فابتدأت النسخة المطبوعة باب أخبار فاطمة الزهراء (عليها السلام)
وانتهى بذكر أخبار الإمام الحجة عجل الله فرجه، وقد ألحق في المطبوع من الكتاب
مستدركاً في أول الكتاب نقلوا فيها الأخبار التي رواها السيد ابن طاووس المتوفى سنة
٦٦٤هـ عن نسخته التامة التي كانت عنده والمتعلقة بباب بأمير المؤمنين (عليه
السلام).
(٩٩) دلائل الإمامة: ص٤٦٧ في معرفة وجود القائم (عليه السلام) وأنه لا بد أن يكون
ح٥٨ وتكملة الحديث: «يسع الله له الأرض عدلاً وقسطاً».
فلماذا تحدث الزلازل؟ إنها رعب
عجيب، بغتة تشعر بأن البناء الذي بنيته لحمايتك هو يهدد حياتك، قبل فترة حدث زلزال
في قم، وكنا حينها في الغرفة، فلاحظنا البناء يتحرك، وفي ثوان لا يعلم الإنسان ماذا
يفعل، يتحيّر لماذا تحدث هذه الزلازل، ربما هو فعل البشر، حيث يخبّئ إحدى القنابل
الذرية تحت الأرض فتخل بالمعادلات الطبيعية، فماذا يفعل الإنسان في تلك الحالة، ليس
له ملجأ آخر، إن ملجأه هو الله وهو المنجي سبحانه.
جاء في (كتاب غيبة النعماني ص٢٦٩)(١٠٠) عن الإمام الباقر صلوات الله عليه في تفسير
قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾(١٠١) «يعني بذلك
خروج المهدي، حيث: ﴿يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾
فهو من عند الله (عزَّ وجلَّ) ولابد أن يراه الخلق»، وربما تعني هذه الجملة أن
الخلق سيدركون أنْ لا ملجأ ولا ملاذ لهم إلا الإمام المهدي (عليه السلام)، في ذلك
الحين سيأتي الإمام المهدي صلوات الله عليه كمنقذ ومنجي.
وهنا لا بأس أن نقرأ الحديث المذكور في (كمال الدين ج١ ص٣١٨) عن الباقر صلوات الله
عليه: «ثم يضع السيف على عاتقه»(١٠٢) فكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٠) انظر (الغيبة للنعماني): ص٢٧٧
ب١٤ ح٤٠.
(١٠١) سورة فصلت: ٥٣.
(١٠٢) انظر (كمال الدين): ص٢٣٩ ب٣٢ ح١١، وقد روى هذا المعنى الشيخ الصدوق عن الإمام
الحسين (عليه السلام) في: ص٣١٨ ب٣١ ح٥، وقد رواه غير الصدوق عن أمير المؤمنين
انظر(كنز العمال): ج١٤ ص٥٨٩ ح٣٩٦٧٠.
سيحارب الإمام؟ إنها حرب محدودة
سيثيرها الظالمون ضد الإمام ثمانية أشهر فقط، ثم بعد ذلك ينتهي كل شيء، ولعلّ الجو
العام يكون مهيّأ لذلك.
ولا بأس أيضاً أن نذكر هذه الحادثة، فقد اجتاحت قبل سنوات موجة من الفيضانات بعض
دول أوربا وقتلت وشرّدت الآلاف، فلم تشهد أوربا مثل هذه الموجة من الفيضانات منذ
مئة وخمسين عاما حتى حدوث موجة الفيضانات هذه، لماذا؟ إن السبب هو ظلم البشر،
والسبب أيضا هو رفض الدولة الفلانية التوقيع على بندٍ يتعلق بالشركات الكبرى التي
توجه الآن سياسات الدول العظمى، فالحاكم هو الشركات الكبرى التي تحكم وتفرض على
الآخرين ما ترغب به، فضغطت على تلك الدولة لكي لا توقع هذا البند، مما قاد إلى ظهور
الخطر العظيم للاحتباس الحراري الذي زاد من درجة الحرارة فأدى بدوره إلى زيادة
ذوبان الثلوج وغزارة الأمطار فحدثت هذه الفيضانات(١٠٣).
نأمل قريباً أن يأتي اليوم الذي تشعر فيه البشرية أن لا ملجأ لها إلَّا الإمام
المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه)، ولذلك عندما يخرج هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٣) المراد هنا رفض الولايات المتحدة الأمريكية التوقيع على معاهدة (كيوتو) الخاصة بالشأن البيئي العلمي وتم التوقيع عليها من قبل ١٩٥ دولة.
المنقذ، ستقبل البشرية به ويؤمن به
المسيحيون ويلجأ إليه المسلمون، ويمكننا أيضا في هذا العهد أن نسرّع من نضج الناس
ووعيهم، لأن العالم تحوّل إلى قرية صغيرة، ففي هذه الغرفة توجد الآن كل الأديان
والمبادئ والمذاهب، ويمكن أن يصل التشيّع الآن إلى كل غرفة، ويمكن أن تدخل فكرة
المهدي المنتظر (عليه السلام) إلى كل غرفة.
فالحال ليس كما كان في السابق حين كانت توضع علينا الحدود، لا تتكلمون ولا تذهبون
إلى مجالسهم ولا تسمعون كلماتهم، فليس هناك حدود بعد الآن، حيث يمكن للشاب أن يدخل
في غرفته ويغلق الباب ويرى كل شيء، في هذا العهد يمكننا دفع البشرية وتسريعها إلى
الإيمان بالمهدي وانتظاره والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى للتعجيل في ظهوره.
ختاماً نذكر هذه الرواية التي وردت في (مكيال المكارم)(١٠٤) حيث أوصي الأخوة القراء
جميعاً وأوصي نفسي بقراءة هذا الكتاب، فهو بحر من المعرفة والعلم، نذكر مضمون
الرواية في (المجلد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٤) كتاب مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم (عليه السلام) تأليف العلامة آية الله الفقيه السيد محمد تقي الموسوي الأصفهاني المعروف بـ (فقيه أحمد آبادي) ولد سنة ١٣٠١هـ في أصفهان وتوفي سنة ١٣٤٨هـ وله قرابة ستة عشر مؤلفاً أهمها هذا الكتاب المبارك والذي يحتوي على ثمانية أبواب ويحتوي كل باب على جملة من المقاصد اللطيفة والتحقيقات الرشيقة فضلاً عن ما يحتويه هذا الكتاب من الأحاديث الشريفة وعددها: (١٧٥٣) حديثاً.
الأول ص٤٦٧) إن الله سبحانه كتب
العذاب على بني إسرائيل فترة طويلة بسبب موقف لا نتطرق إلى تفصيله الآن، فلما طال
عليهم العذاب ضجّوا - نحن أيضا جميعاً نعيش الآن عذاب الغيبة، وإذا لم يشعر الإنسان
بعذاب الغيبة فذلك لقصور فيه، لقد حُرمنا من بركات ظهور الإمام - فلما طال العذاب
على بني إسرائيل ضجّوا وبكوا وتضرعوا إلى الله أربعين صباحاً، فأوحى سبحانه إلى
موسى وهارون أن يخلّصاهم من فرعون، فحطّ عنهم عذاب مائة وسبعين عاماً(١٠٥)وخُفّض
عنهم على أثر تضرعهم.
وصل الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٥) انظر (مكيال المكارم): ج١
ص٤٦٧ المكرمة٢٢ من الباب الخامس ح٧٨٣، وفيه: عن الفضل بن أبي قرة، قال: سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: «أوحى الله إلى إبراهيم: أنه سيولد لك، فقال لسارة،
فقالت: ﴿أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ﴾ فأوحى الله إليه:
إنها ستلد، ويعذّب أولادها أربعمائة سنة، بردّها الكلام عليّ)، قال (عليه السلام):
فلمّا طال على بني إسرائيل العذاب، ضجّوا وبكوا إلى الله أربعين صباحاً، فأوحى الله
إلى موسى وهارون أن يخلصهم من فرعون فحط عنهم سبعين ومائة سنة. قال: وقال أبو عبد
الله: هكذا أنتم لو فعلتم لفرّج الله عنّا فأمّا إذا لم تكونوا فإن الأمر ينتهي إلى
منتهاه».
علماً بأن مدة العذاب كانت أربعمائة سنة من زمن أولادها وهم إسحق ويعقوب كما نصّت
عليه الرواية لا من زمن النبي إبراهيم، فيكون ما روي عن ابن عباس: إنه كان بين
إبراهيم وموسى (٥٧٥ سنة) ويكون قول محمد ابن إسحاق: كان بينهما (٥٦٥ سنة)، له نوع
قوة.
(٤) تفسير ظاهرة غيبة الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه)
إنَّ هذه الروايات تؤكد بأن هنالك بعداً طبيعياً في حركة الإمام (عليه السلام) فلابد أن يكون هنالك عددٌ كافٍ من الرجال ويجب أن يكونوا في درجة رفيعة وراقية جدا من التقوى والإيمان والإخلاص والإطاعة، فهل وُجد هذا العدد الذي يتمكن من أن ينهض بهذه المهمة؟
الفقيه الشيرازي
هذه هي حلقة أخرى نتناول فيها ظاهرة
غيبة الإمام الحجة (عجَّل الله تعالى فرجه)، وتتضمن الإجابة الخامسة التي يشير
إليها الشيخ المفيد(١٠٦) (رحمة الله تعالى عليه) في كتاب (رسائل في الغيبة(١٠٦*) في
المجلد الثالث ص١١)، وتأتي هذه الإجابة قريبة من الإجابة الرابعة حيث يمكن أن تكون
تفسيراً لاستمرار ظاهرة الغيبة وليس لأصل حصول هذه الظاهرة، وهي انتظار تمام العدة.
ربما لا تكون الصفات التي يجب توفرها في هذين النوعين متطابقة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٦) الشيخ الجليل شيخ الطائفة
ورئيسها وناظم علومها وناشرها الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان من أبناء
الصحابي الجليل سعيد بن جبير، فقيه متكلم محدث عالم مضطلع بشتى العلوم النقلية
والعقلية شيخ من أتى بعده والراوي لتراث من قبله، من علماء الشيعة وحذّاقها له من
المؤلفات ما تجاوزت حدود الواصفين كثرة ومتانة وفضائله كثيرة، توفي ليلة الجمعة
لثلاث ليال خلون من شهر رمضان سنة ٤١٣هـ ودفن جنب الإمامين الكاظمين (عليهما
السلام).
(١٠٦*) هي مجموعة من الرسائل للشيخ المفيد وهي عبارة عن أربعة رسائل: تدور الأولى:
في إثبات لزوم وجود الإمام (عليه السلام)، والثانية: أثبت بالدليل وجود الإمام
المهدي(عليه السلام)، والثالثة: بين الفرق بين الأئمة والإمام المهدي (عليه
السلام)، والرابعة: أجاب عن سؤالين: الأول: لماذا لا يظهر الإمام المهدي؟ ومتى
سيظهر؟ فضلاً عن جوابه لجملة من الشبهات التي تدور حوله (عليه السلام).
فقد يوجد هنالك نوع من الاختلاف،
ويشير لنا القرآن الكريم فيما يبدو إلى بعض صفات هذين النوعين، مثلاً يبيّن الله
إنَّ الحركة الإصلاحية التي تهدف إلى تغيير الواقع القائم تحتاج إلى رجال على نوعين
ولابد أن تتوفر لكل منهما صفات معينة وهما: النوع الأول: رجال مرحلة التكوين،
والنوع الثاني: رجال مرحلة البناء.
النوع الأول: رجال مرحلة التكوين:
يستفاد من قضية طالوت وجالوت: إن الرجال الذين يهدفون إلى التكوين من خلال هدم
الواقع القائم وبناء واقع جديد على أنقاضه، يجب أن تتوفر فيهم صفة نكران الذات
وتجاوزها،
فهناك الفرد الذي لا يستطيع أن
يتجاوز ذاته ولا يتمكن أن يضحي ببعض شهواته ومثله لا يمكن أن يكون من رجال هذه
المرحلة.
لقد أجرى طالوت اختباراً، فجيشه يريد أن يحارب العمالقة وهم قوة كبيرة، فمن يتمكن
من أن يحارب هؤلاء العمالقة، إن محاربتهم تحتاج إلى صفات نفسية معينة وهي أهم شيء
ينبغي أن يتصف به رجال المرحلة الأولى، ولذلك أجرى قائد الجيش طالوت اختباراً
لرجاله وقال لهم: يا من تريدون دخول ميدان المعركة، إن أمامكم امتحاناً صغيراً -
وكان جيشه عطشاناً - فقال لجيشه:﴿إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ
مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾(١٠٧) أي غرفة واحدة فقط،
لكن حين يأتي الجيش وقد بلغ به العطش أشده ويرى الماء أمامه فماذا يفعل؟ لقد دخل
الجيش النهر وارتوى من الماء ارتواءً تاماً.
لذلك فإن من لا يتمكن أن يتجاوز حالة العطش، هل يتمكن أن يتجاوز حبه للحياة ويضحي
بحياته؟ إنَّ هذه القضية واضحة، فقط جماعة قليلة من الجيش اغترفوا غرفة واحدة
بأيديهم عندما عبروا النهر، وإذا بأكثرية الجيش تقول: ﴿لاَ
طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ﴾(١٠٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٧) سورة البقرة: ٢٤٩.
(١٠٨) سورة البقرة: ٢٤٩.
فمن يفشل في الامتحان الصغير قطعاً
سيفشل في الامتحان الكبير، ومن يفشل في امتحان الدينار قطعاً سيفشل في امتحان
القنطار، إذن تحتاج المرحلة الأولى، وهي مرحلة هدم الواقع القائم لبناء واقع جديد
على أنقاضه، إلى رجال معينين وإلى صفات نفسية معينة.
النوع الثاني: رجال مرحلة البناء:
نأتي إلى المرحلة الثانية وهي مرحلة البناء والإدارة، إن البيت له مرحلة هدم وله
مرحلة بناء، ويحتاج رجال هذه المرحلة أيضاً إلى صفات معينة، ربما تلتقي مع صفات
رجال المرحلة الأولى ولكن ربما يحتاج رجال هذه المرحلة إلى صفات أخرى إضافية، فليس
كل من يخوض في الميدان يتمكن من إدارة الحكم والمجتمع لأن هذا الأمر يحتاج إلى صفات
أخرى.
يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى
خَزَائِنِ الْأَرْضِ﴾ ربما تعني الآية الكريمة، اجعلني وزيراً للمالية ﴿إِنِّي
حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾(١٠٩) ولعلّ المقصود بحفيظ هو الأمانة، فمن تكون جميع
الأموال تحت يده، يجب أن يكون على درجة عالية من الأمانة والحفظ، وإلاّ فالأموال
تغري الإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠٩) سورة يوسف: ٥٥.
يُنقل عن السيد البروجردي(١١٠)
(رحمة الله تعالى عليه) أنه كان يقول: (إن الأموال لا تغريني والمال ليس قضية مهمة
لدي)، ولذلك عاش السيد زاهداً إلى آخر حياته، لأن المال لا يمكن أن يؤثر على صفته
الأُخرى، ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ فيجب أن تكون
لوزير المالية الخبرة والمعرفة في هذا المجال.
حركة غيبية أم حركة طبيعية؟
هل إنَّ حركة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) تستند إلى الإمداد الغيبي؟ أم هي
حركة تعتمد على منطق المعادلات الطبيعية، بمعنى أنها حركة غيبية أم حركة طبيعية؟
إن الإجابة عن ذلك وحسب ما جاء في الروايات المتعلقة بهذا المجال: إنَّ هذه الحركة
تشبه حركة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، فهي حركةٌ (طبيعيةٌ - غيبيةٌ) في آن
واحد، صحيح أنَّ النبي الأعظم كان يعتمد ويستند إلى الإمداد الغيبي، لكن حركته كانت
تعتمد على منطق المعادلات الطبيعية أيضاً.
نذكر هنا روايتين تدلان على وجود البعدين الطبيعي والغيبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١٠) آية الله العظمى السيد حسين بن السيد علي الطباطبائي البروجردي (رحمه الله) من زعماء الطائفة ومن مراجعها الكبار، تتلمذ على صاحب الكفاية وصاحب العروة وغيرهما وانتقلت إليه المرجعية بعد وفاة السيد أبو الحسن الأصفهاني (رحمه الله) والسيد حسين القمي (رحمه الله) وُلد سنة ١٢٩٢هـ وتوفي سنة ١٣٨٠ هـ.
في حركة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، فالرواية الأولى تشير إلى البعد الغيبي: حيث جاء في (تفسير العياشي(١١١) المجلد الأول ص١٩٧) عن الإمام الباقر (صلوات الله وسلامه عليه): «إن الملائكة الذين نصروا محمداً (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر هم خمسة آلاف»(١١٢) فقد نصروا النبي (صلّى الله عليه وآله) في الأرض وهم موجودون فيها، فليس نحن فقط نعيش حالة الانتظار، بل أولئك الملائكة يعيشون حالة الانتظار أيضا ولم يصعدوا بعد، حتى عهد الإمام الباقر (عليه السلام) فهم باقون في الأرض حتى ينصروا صاحب هذا الأمر وهم خمسة آلاف إذ إنَّ عدَدَهُم مذكورٌ في القرآن الكريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١١) هو الشيخ الجليل محمد بن
مسعود بن محمد بن عياش السلمي السمرقندي أبو النضر المعروف بالعياشي من عيون
الطائفة وكان واسع الأخبار بصير بالروايات وكان فقيهاً محدثاً رجالياً وكان من أكثر
الناس علماً وفضلاً وأدباً وفهماً ونبلاً في زمانه وله كتب كثيرة تزيد على مائتي
مصنف، ومن تلك المصنفات تفسيره الشهير الذي يعد من الأصول المعتمد عليها في تفسير
القرآن بما ورد من روايات أهل بيت النبوة (عليهم السلام) ولكن الذي يحزّ في النفس
أن بعض الناسخين قام بحذف أسانيد التفسير للاختصار، وفقدان الجزء الثاني منه، وعلى
كل حال: فإن المطبوع منه على جزئين: الأول: ويبتدأ بمجموعة من المقدمات المتعلقة
بالتفسير ثم يبتدأ التفسير بسورة الفاتحة إلى سورة الأنعام، ويبدأ الجزء الثاني
المطبوع: بسورة الأعراف وينتهي بنهاية سورة الكهف، ومجموع الأحاديث في المطبوع
منه:(٢٧١٨) حديثاً.
(١١٢) تفسير العياشي: ج١ ص١٩٧ ح١٣٨.
إذن فهذا الجانب يمثل إمداداً
غيبياً للإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه)، ولكن وكما يبدو من روايات أخرى، أنَّ
الإمداد الغيبي هو جزء من القضية، إن الروايات تنفي التصور الموجود لدى بعضنا بأن
الإمام المهدي (صلوات الله عليه) سيأتي ومن دون أية مقدمات أو مئونة و تصبح الكرة
الأرضية كلها خاضعة له، فهنالك جبابرة وطغاة يحكمون في هذا العالم وهنالك أفراد
ستتعرض مصالحهم للخطر، ألم ينكر بعض علماء اليهود والنصارى النبي الأعظم (صلّى الله
عليه وآله) عندما جاء وهم ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ﴾(١١٣)، ولكن هنالك مصالح في القضية، فهناك جماعة يخرجون إلى
الإمام المهدي (عليه السلام) ويقولون له: (لا حاجة لنا بك، فارجع من حيث أتيت)، ألم
يحارب الطواغيت النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله)؟ وكذلك سيحاربون الإمام المهدي
(عجل الله تعالى فرجه).
إن الخط الأموي ما يزال موجودا ولم يَنْتَهِ، وقد لاحظتم في العراق بعض آثار ومظاهر
هذا الخط ، حيث كانوا يأخذون المؤمنين ويأمرونهم بأن يشتموا أمير المؤمنين علي ابن
أبي طالب (صلوات الله عليه)، رغم إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الخليفة
الرابع على الأقل - كما يقولون - لكنهم يهددون الناس، إما تشتم أو نذبحك! وهؤلاء هم
الذين يقفون أمام الإمام المهدي (صلوات الله عليه).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١٣) سورة البقرة: ١٤٦، سورة الأنعام: ٢٠.
إن الإمام المهدي (صلوات الله عليه)
لا ينتصر على هؤلاء بالمعجزة أو بالإمداد الغيبي فقط، هناك رواية مذكورة في كتاب
(الغيبة للنعماني ص٢٨٤)، ومذكورة في (بحار الأنوار) أيضا، يقول الراوي: لما قدمت
إلى المدينة قلت لأبي جعفر الباقر (عليه السلام): إنهم يقولون - الناس: إن المهدي
لو قام (صلوات الله عليه) لاستقامت له الأمور عفواً - بمعنى من دون تعب أو مئونة -
فقال الإمام الباقر (عليه السلام): «كلا، والذي نفسي بيده لو استقامت لأحد عفواً
لاستقامت لرسول الله حين أُدميت رباعيّته، وشُج في وجهه»، وكما هو معروف فأنَّ
أسنان النبي الأعظم الأمامية قد كُسرت في معركة أحد، وكان الوالد(١١٤) (رحمه الله)
ينفي ذلك ويقول: لم تُكسَرْ رباعية النبي الأعظم، لكن هذه الرواية تقول: أدميت
إدماءً وشُجّ وجهه.
إذن، كان الإمداد الغيبي للنبي (صلى الله عليه وآله) جزءً من المعادلة ولم يكن
كلها، وكانت هنالك معاناة: «كلا والذي نفسي بيده حتى نمسح وأنتم العرق والعلق، ثم
مسح جبهته»(١١٥)، يقول العلامة المجلسي (رحمه الله) في البحار: إن العلق هو الدم
الغليظ وهذه(١١٦) كناية عن ملاقاة الشدائد التي تُسيل العرق والعلق وتُحدث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١٤) المجدد الثاني آية الله
العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله).
(١١٥) راجع (كتاب الغيبة، للنعماني): ص٢٩٤ - ٢٩٥ ب١٥ ح٢.
(١١٦) أي قوله (عليه السلام): «حتى نمسح وأنتم العرق والعلق».
الجروح المسيلة للدم(١١٧)، فهناك
عرق وجهاد ميدان، نحن وأنتم.
تحقيق حلم دولة العدل والحق:
في المراحل الأُولى لحركة الإمام المهدي (صلوات الله عليه) يُقتل بعض الولاة الذين
يعيّنهم في بعض البلدان من قبل جماعة يقومون ضدهم، فيرجع الإمام المهدي إليهم(١١٨).
وفي رواية أخرى موجودة في (تفسير العياشي المجلد الأول ص١٠٣) يقول الإمام الباقر
(صلوات الله عليه فيها): «ينزل المهدي يوم الرجفة بسبع قباب من نور لا يُعلم في
أيّها هو، حتى ينزل ظهر الكوفة»(١١٩)، وربما تعني كلمة: «ينزل» في ظاهرها، أن
الإمام الحجة (عجل الله فرجه) ينزل من السماء في قباب من نور لا يُعلم في أيّها هو،
ولكن لماذا لا يُعلم في أيّها هو؟ إنَّ هذا يحدث في المراحل الأولى، ربما تحفظاً من
بطش الأعداء، فإذا عرف الخط الأموي بظهور الإمام المهدي، وهم خط الجبابرة ربما
يقتلونه، أو يحاولون ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١٧) انظر (بحار الأنوار): ج٥٢
ص٣٥٨ ب٢٧ ذيل ح١٢٢.
(١١٨) انظر (بحار الأنوار): ج٥٢ ص٣٤٢ ب٢٧ ضمن ح٩١.
(١١٩) انظر (تفسير العياشي): ج١ ص١٠٣ ح٣٠١، وفيه: قال أبو جعفر (عليه السلام) في
قوله تعالى: ﴿فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ
وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾، قال (عليه السلام): «ينزل في سبع من نور لا يعلم في
أيّها هو حين ينزل في ظهر الكوفة فهذا حين ينزل».
إذن فالقضية ليست غيبية فقط، نعم
الجانب الغيبي وإمداد الله وعنايته موجودة قطعاً، وينزل خمسة آلاف من الملائكة
لنصرة الإمام (عليه السلام)، ولكن تدل هذه الروايات أيضا على أن هنالك بعداً
طبيعياً في حركة الإمام المهدي (صلوات الله عليه) كما كان هذا البعد الطبيعي
موجوداً في حركة رسول الله (صلى الله عليه وآله).
حسنا، كم تحتاج من الرجال مثل هذه الحركة التي يجب أن تعتمد على منطق المعادلات
الطبيعية أيضا؟ فالمرحلة الأولى وهي مرحلة الهدم تمتد ثمانية أشهر، فهي مرحلة الحرب
كما ذكرناها، إذن نحتاج من الرجال لإدارة هذه المرحلة، أما المرحلة الثانية فهي
تتعلق بصفات هؤلاء الرجال، فما هي صفاتهم؟
إنَّ المرحلة الثانية هي مرحلة البناء، ولكن أي بناء؟ إنه بناء دولة عالمية لم يأت
لها نظير على وجه الكرة الأرضية حتى الآن، إنها دولة العدل الإلهية.
فالقضية تتطلب الدقة في اختيار الرجال، حيث لا يجوز الاعتماد على ظاهر الرجل لوضعه
في أحد المناصب، ثم يتبيّن أنه لم يكن كما ينبغي، فنحن كثيراً ما نعتمد على الظاهر،
وغير مكلفين بالنتائج أيضا، إنَّ حركتنا حركة ظاهرية، فيكون خالد ابن الوليد قائداً
للجيش ويقتل الأبرياء ويريق الدم، أو ربما يكون فلان والياً ثم يخون ويهرب بالأموال
ويكتب رسالة شديدة اللهجة إلى
أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)،
فيقول له الإمام: إنك تخون المسلمين فتسرق أموالهم، ألا تخاف من فعلتك هذه؟ فيرد هو
أيضا ردّاً قاسياً وشديداً على الإمام، راجع نهج البلاغة(١٢٠).
إذن يراد لهذه الدولة أن تحقق ذلك الأمل والحلم الذي بشرت به رسالات السماء، في
تحقيق دولة العدل والحق، فكم تحتاج إدارة هذه الدولة من رجال وفي أي مرتبة يجب أن
يكونوا؟ وإذا كان التوقع الأقرب أنَّ الإمام المهدي (صلوات الله عليه) سيدير كل
الأمور بالقضايا الطبيعية، إذن ألا يحتاج الأمر إلى تهيئة وذراع تدير الأمور؟
إنَّ هذه الروايات، وروايات أخرى تؤكد بأن هنالك بعداً طبيعياً في حركة الإمام،
فلابد أن يكون هنالك عددٌ كافٍ من الرجال ويجب أن يكونوا في درجة رفيعة وراقية جدا
من التقوى والإيمان والإخلاص والإطاعة، فهل وُجد هذا العدد الذي يتمكن من أن ينهض
بهذه المهمة؟
يؤسفنا أن نقول: كلا، لا يوجد، وقد يستغرب البعض من هذا الكلام، فهل ينتظر الإمام
المهدي (صلوات الله عليه) إتمام العدد؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٠) انظر (نهج البلاغة): ج٣ من كتاب له (عليه السلام) إلى بعض عماله في نكثه لعهده وتناوله لشيء من بيت المال، والظاهر أن المقصود به هو عبيد الله بن العباس واليه على اليمن والذي مال في الآخر إلى معاوية في القضية المعروفة.
الجواب عن هذا السؤال، يشير إليه
الشيخ المفيد (رحمه الله)، ولا بأس أن أذكر عبارة الشيخ المفيد رحمة الله عليه حيث
يقول: (ولو علم الله تعالى أن العدد المذكور على ما شرطنا موجود في جملتهم لظهر
الإمام لا محالة، ولم يغب بعد اجتماعهم طرفة عين)(١٢١)، بمعنى أنَّ هذا العدد لو
اكتمل كما يقول الشيخ المفيد لظهر الإمام (عليه السلام) في لحظة اكتماله نفسها.
فهل يبدو هذا القول غريباً؟ نعم، ربما يبدو المنطق الذي يقوله الشيخ المفيد غريباً،
كلا انه ليس غريباً، يشير أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) إلى نظيره في نهج
البلاغة، لاحظ الخطبة الشقشقية، يبدأ الإمام (صلوات الله عليه) بهذا المقطع: «فما
راعني إلا والناس...» أي عندما هجم الناس على الإمام صلوات الله عليه لمبايعته.
ثم يقول (عليه السلام): «لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله
على العلماء أن لا يقارُّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها
ولسقيت آخرها بكأس أولها»، وهذا هو الفرق بين الأول والآخر، كما يقول الإمام في
الخطبة الشقشقية: «حضور الحاضر».
يقول شارح نهج البلاغة: بأن حضور هؤلاء الذين هجموا نحو الإمام (عليه السلام) لم
يكن في اليوم الأول، ولذلك ألقى حبلها على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢١) رسائل في الغيبة: ج٣ ص ١٢.
غاربها في ذلك اليوم، أي ألقى حبل
الخلافة على غاربها، وبمعنى على عاتقها، وترك الأمر، ولكن بعد حضور الحاضر اختلف
الأمر لدى الإمام(١٢٢).
لماذا أذكر هذا الكلام؟
الجواب: لأن ذلك ربما يدفع البعض كي
يتأمل في جواب الشيخ المفيد (رحمه الله)، فلولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود
الناصر لما رضي الإمام بالخلافة الظاهرية بعد أن كانت له الخلافة الواقعية من
البداية.
إذن فإن العدد المطلوب لنصرة الحجة (عجَّل الله تعالى فرجه) لم يكتمل، نعم يوجد
مؤمنون كثيرون، ولكن ما هو العدد؟ وما هي الصفات المطلوبة؟ إن الصفات التي ينبغي
أنْ تكون متوفرة في هذا العدد صفات رفيعة جدا لكن هذا غير متوفر، ولذلك جاء في شرح
التجريد على ما أتذكر: (وعدمه منا)، أي أننا السبب الذي يقف وراء ظاهرة الغيبة:
(وجوده لطفٌ وتصرفه لطفٌ آخر وعدمه منا)(١٢٣).
هنا أذكر بعض الروايات التي تبيّن صفات هؤلاء المناصرين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٢) قال الشيخ الطوسي في كتابه
(الاقتصاد): ص٢١٠: (فبين (عليه السلام) لأصحابه أنه قابل من قابل من أهل البصرة
وغيرهم لقيام الحجة عليه بحضور الناصر، وكان في ذلك بيان أنه لم يقاتل الأولين لعدم
الناصر).
(١٢٣) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص٤٩٠ - ٤٩١ المسألة الأولى من المقصد
الخامس.
وفي أي مرحلة من الاستعداد ينبغي أن
يكونوا؟ لكي تعرفوا أن القضية تحتاج إلى عمل كثير، وثمة ملاحظة أشير إليها، وهي أن
هذا لا يعني أن نصل إلى اليأس، وهذه نقطة محورية.
فحين تضع أمامك نموذجاً رفيعاً - دقّق في هذه النقطة - فإن هذا النموذج يحرك كل
طاقاتك، لذلك جعل الله سبحانه وتعالى مراتب، المرتبة الأولى أن تبدأ، وليس هنالك
سقفا معينا، مثالا على ذلك، إن أوقات الصلاة متحركة وليست ثابتة كما نعرف، فيمكننا
أداء صلاة المغرب والعشاء عند منتصف الليل، لقد قمنا بهذه الوظيفة قبل منتصف الليل
بدقائق لكن يمكن أن نؤديها أول وقت الصلاة: (الصلاة في أول الوقت جزور وفي آخره
عصفور) حيث يكون ثوابها لو أقيمت بهذه الصورة قليلا، هذا ما يخص ناحية الوقت، أما
من ناحية التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الصلاة تبدأ من لحظة الصعود إلى فوق،
وتُلف ثم يرمى بها رأس صاحبها(١٢٤)، إن صلاتك لا تفيدنا بل هي لك أنت، ولا يكتب في
ديوانه ولا ركوع ولا سجود ولا تكبير، إنها ستكون مُسقطة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٤) راجع: (بحار الأنوار): ج٨١ ص٢٦٠ ب١٦ ح٥٩، وفيه: عن النبي: «إن من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها إلى العشر، وإن منها لما يلف كما يلف الثوب لخلق فيضرب بها وجه صاحبها، وإنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه بقلبك».
للوظيفة طبعاً، أي انك تؤدي الفرض،
ولكن كل شيء لا يُكتب، هذه إحدى المراتب.
لكن اذهب إلى مرتبة صلاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وصلاة وأمير المؤمنين
(عليه السلام) الذي يُنزع السهم من رجله أثناء صلاته وهو لا يشعر بذلك، فإذا وضعت
أمامك احد الأهداف المحدودة ستذهب إليه بحركة متئدة، وربما تصل إلى ذلك الهدف
المحدود أو لا تصل، لكن الدين سيجعل أمامك هدفاً لا حدَّ له - وهذه إحدى نقاط قوة
الدين - فكم لديك من طاقة ستركض إليه، وستذكر الله سبحانه وتعالى بكل ما لديك من
مجال؟
بعض المؤمنين يذكرون الله حتى في حالة النوم لأنهم معتادون على ذلك، وكان الشيخ
الكعبي(١٢٥) (رحمة الله عليه) يؤدي الخطبة والمجلس الحسيني حتى أثناء نومه في بعض
الأحيان، فكانت أمه تستيقظ وتبكي بسبب خطبته، فيستيقظ هو أيضا فيرى أمه تبكي
ويسألها عن السبب، فتقول له: لأنك كنت تقرأ عن مصاب الحسين (صلوات الله عليه).
فليس هنالك حدّ للذكر ولروح التقوى النفسية الرفيعة، أُدرس وابحث في الفقه ثمانين
عاماً فلا ينتهي، كذلك ليس هنالك حد لقراءة القرآن الكريم أو مفاتيح الجنان: ﴿وَأَنَّ
إِلَى رَبِّكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٥) الخطيب الحسيني المعروف الشيخ عبد الزهراء الكعبي (رحمه الله).
الْمُنْتَهَى﴾(١٢٦)،
لذلك يفجّر الإيمان جميع طاقات المؤمن.
ليس لدينا في التاريخ على ما أظن عالم من علماء الشرق والغرب ألّف (١٠٠٠) كتاب
كالعلامة الحلي (رحمه الله)(١٢٧)، إن تأليف مثل هذا العدد من الكتب قضية ليست
هيّنة، فالإيمان هو الذي فجر طاقات العلامة الحلي (رحمه الله)، فيبحث قدر ما يستطيع
في هذا المجال، وحين نقول أن هؤلاء يجب أن يكونوا في المرتبة الأولى، ألا يسأل
أحدنا ما هي المرتبة التي أستحقها؟ وهل يمكن أن أكون من هؤلاء أو لا يمكن؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٦) سورة النجم: ٤٢.
(١٢٧) جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن مطهر الاسدي الحلي ولد في
الحلة سنة ٦٤٨هـ وقرأ فيها على أعلامها ومنها والده سديد الدين وخاله: المحقق الحلي
والسيد أحمد بن طاووس وعند المحقق الطوسي في العقليات وغيرهم من علماء الخاصة
والعامة وأصبح في وقته شيخ الطائفة وزعميها بلا منازع حيث انتهت إليه رئاسة
الامامية في المعقول والمنقول وكان كثير التأليف والتحقيق والتدقيق فضلاً عن
مناظراته التي ملئت الخافقين ذكراً وشهرة وكان جامعاً للفنون فكتب في التفسير
والحديث والكلام والفقه والأصول والرجال والنحو والمنطق وغيرها من العلوم، وربت
مؤلفاته على ما قيل: الألف وكانت في غاية الجودة والمتانة، توفي سنة ٧٢٦ هـ.
رجال لا ينامون الليل:
إن هذا الهدف الكبير يجب أن تضعه في الحسبان، وتتعب وتركض وتجهد نفسك في العلم
والعبادة لعلك تكون واحدا منهم، وربما يكون تمام العدد المناصر بهذا الجهاد
والإيمان والعبادة، أذكر هنا قضية الخادم المعروفة للمؤمن، حيث تحول في إحدى الأيام
إلى واحد من تلك الجماعة المحيطة بالإمام المهدي (صلوات الله عليه) في قضية طويلة
التفاصيل.
ونذكر هنا بعض الروايات التي تبيّن صفات هؤلاء المناصرين، ونذكر عددهم لاحقا، وكيف
يجب أن يكونوا، هذه رواية مذكورة في (بحار الأنوار المجلد ٦٨ ص١٦٤)، وربما تشير هذه
الرواية إلى ما نحن عليه - دقق في الرواية - :
دخل أحدهم على الإمام أبي عبد الله الصادق (صلوات الله عليه) فقال له: جُعلت فداك،
إني والله أحبك، وأحب من يحبك يا سيدي، ما أكثر شيعتكم؟ فقد انتشر التشيع في عهد
الإمام الصادق (عليه السلام) بعد الضغط الشديد.
فقال له الإمام (عليه السلام): «اذكرهم كم عددهم». فقال: كثيرون. فسأله الإمام
(عليه السلام): «هل تستطيع أن تحصيهم كم فرداً؟» فقال: لا، هم أكثر من ذلك. أي أكثر
من عددهم.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «أما لو كمُلت العدة الموصوفة ثلاثمائة وبضعة عشر»(١٢٨) - إن هذا العدد هو العدد الأولي، فهنالك أعداد أُخر سنذكرها إنشاء الله - فعددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، وفي بعض الروايات الأخر العدد المذكور هو ثلاثمائة وثلاثة عشر، ثم يذكر الإمام (صلوات الله عليه) صفات هؤلاء، كما جاء في هذه الرواية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٨) انظر (بحار الأنوار): ج٦٥ ص١٦٤ ١٦٥ ب١٩ ح١٦ عن كتاب الغيبة للنعماني، وفيه: (إنه دخل عليه بعض أصحابه فقال له: جعلت فداك إني والله أحبك وأحب من يحبك، يا سيدي ما أكثر شيعتكم؟ فقال له (عليه السلام): «أذكرهم»، فقال: كثير، فقال (عليه السلام): «تحصيهم؟» فقال: هم أكثر من ذلك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «أما لو كملت العدة الموصوفة ثلاثمائة وبضعة عشر كان الذي تريدون ولكن شيعتنا: من لا يعدو صوته سمعه، ولا شحناؤه بدنه ولا يمدح بنا غاليا، ولا يخاصم لنا واليا، ولا يجالس لنا عائباً ولا يحدث لنا ثالباً ولا يحب لنا مبغضا، ولا يبغض لنا محبا». فقلت: فكيف أصنع بهذه الشيعة المختلفة الذين يقولون إنهم يتشيعون؟ فقال (عليه السلام): «فيهم التمييز وفيهم التمحيص، وفيهم التبديل، يأتي عليهم سنون تفنيهم وسيوف تقتلهم، واختلاف تبددهم، إنما شيعتنا من لا يهر هرير الكلب، ولا يطمع طمع الغراب ولا يسأل الناس بكفه وإن مات جوعا» قلت: جعلت فداك فأين أطلب هؤلاء الموصوفين بهذه الصفة؟ فقال (عليه السلام): «اطلبهم في أطراف الأرض أولئك الخشن عيشهم، المنتقلة دارهم، الذين إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن خطبوا لم يزوجوا، وإن ماتوا لم يشهدوا، أولئك الذين في أموالهم يتواسون، وفي قبورهم يتزاورون، ولا يختلف أهواؤهم وإن اختلفت بهم البلدان».
الرواية الثانية جاءت في (البحار
المجلد ٥٢ ص٣٠٧) عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في صفات أصحاب الإمام المهدي
(عجل الله تعالى فرجه): «ورجالٌ كأن قلوبهم زبر الحديد، لا يشوبها شكٌ في ذات
الله»، فلا يوجد لديهم أي نوع من الشك، لأن قضية اليقين مهمة، وإنهم: «أشد من الحجر
يتمسّحون بسرج الإمام (عليه السلام)، يطلبون بذلك البركة» وعقيدتهم وولاؤهم قوي،
«ويحفّون به ويقونه بأنفسهم في الحروب ويكفونه ما يريد فيهم، رجال لا ينامون
الليل»، فالمؤمن لا يستطيع النوم، لأنه محب، والمحب لا يتمكن من النوم، لكن لماذا
ينام بعضهم من أول الليل إلى الصبح؟ لأن هذا الحب غير موجود في القلب كما ينبغي،
أما المحب فلا يستطيع النوم، فمن يدرك عظمة الله سبحانه وتعالى وعظمة الآخرة لا
يتمكن أن ينام إلا مضطراً، احد العلماء قال لابنه: ينبغي أن تنام هكذا، أخذ الدفتر
والقلم ووضعهما جانبا وأطرق برأسه قليلاً، نام دقائق معدودة ثم استيقظ، فالإنسان
إذا كان منهكا كثيرا، بمجرد ما يغمض عينيه سينام.
وهناك رجال لا ينامون الليل، ففي رواية عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) تذكر
صفات أصحاب الإمام المهدي، «لهم دويّ في صلاتهم كدويّ النحل»، فماذا يعني هذا
الدوي؟ انه بكاؤهم وأنينهم، يقرأ بعضنا: (بسم الله الرحمن الرحيم) بسرعة وعجالة،
ولكن للمحب صلاة من نوع آخر:
«يبيتون قياماً على أطرافهم»، وتعني الأطراف أما الأرجل أو أطرافها: «ويصبحون على
خيولهم» ، فطيلة الليل لم ينم وفي الصباح ينهض ليجاهد، لماذا لأنه مكدودٌ في ذات
الله.
إن كلمة مكدود تعني: منهك، ﴿يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ
كَادِحٌ﴾(١٢٩): «رهبانٌ بالليل ليوثٌ بالنهار» فهم في قمة العبادة، كأنه
راهب في الليل وأسد في النهار، هم أطوع له من الأَمَةِ لسيدها، إن التسليم المطلق
صفة مهمة ويجب أن نتحدث عنها في وقت آخر، حتى مالك الأشتر على عظمته وجلاله، مالك
وما أدراك ما مالك؟ لم يصل إلى درجة التسليم المطلق، إنهم كالمصابيح: «كأن قلوبهم
القناديل» قلوبهم مضيئة مشرقة «وهم من خشية الله مشفقون» والإشفاق من الخوف، وجاء
في الآية الكريمة: ﴿فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾(١٣٠).
إنهم يدعون بالشهادة ويطلبون من الله أن يُستشهدوا بين يدي الإمام المهدي (صلوات
الله عليه) و«يتمنّون أن يقتلوا في سبيل الله وشعارهم: (يا لثارات الحسين)»، وهم
يتمسّحون بالسرج، وولائهم للإمام الحسين (صلوات الله عليه): «بهم ينصر الله الإمام
المهدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢٩) سورة الانشقاق: ٦.
(١٣٠) سورة الطور: ٢٦.
إمام الحق»(١٣١)، والباء سببية، فهل
فينا هذه الصفات، نحن نطمح في ذلك، قلوبنا لا يشوبها شك كزبر الحديد، أشد من الحجر
لا ينامون الليل يبيتون قياماً على أطرافهم، إنه تسليم محض للإمام الحجة (عليه
السلام).
التسليم المحض والتطهير التام:
أنقل هذه القضية المذكورة في بعض الكتب، هناك رجل طاعن في السن عاشق أو محب للإمام
المهدي (صلوات الله عليه)، إنه يبكي ويتضرع في كل ليلة ويطلب من الله سبحانه وتعالى
أن يتشرف بلقاء الإمام المهدي، في إحدى الليالي وهو في حالة السجود حيث كان يبكي
ويتضرع لله تعالى، وإذا برجل يحضر قربه ويقول له ارفع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣١) انظر (بحار الأنوار): ج٥٢ ص٣٠٧ - ٣٠٨ ب٢٦ ح٨٢، وفيه: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «.. ورجال كأن قلوبهم زبر الحديد لا يشوبها شك في ذات الله أشد من الحجر، لو حملوا على الجبال لأزالوها، لا يقصدون براياتهم بلدة إلا خربوها، كأن على خيولهم العقبان يتمسحون بسرج الإمام (عليه السلام) يطلبون بذلك البركة، ويحفون به يقونه بأنفسهم في الحروب، ويكفونه ما يريد فيهم. رجال لا ينامون الليل، لهم دوي في صلاتهم كدوي النحل، يبيتون قياما على أطرافهم، ويصبحون على خيولهم، رهبان بالليل ليوث بالنهار، هم أطوع له من الأمة لسيدها، كالمصابيح كأن قلوبهم القناديل، وهم من خشية الله مشفقون يدعون بالشهادة، ويتمنون أن يقتلوا في سبيل الله شعارهم: يا لثارات الحسين، إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر يمشون إلى المولى إرسالا، بهم ينصر الله إمام الحق».
رأسك، فيرفع رأسه وإذا به يرى
الحجرة وقد امتلأت نوراً والرجل يقف أمامه، فسأله الرجل الطاعن في السن: من أنت؟
فَكِّرْ وضع نفسك في مكان هذا الرجل المسن.
فقال له: أنا الذي كنت تدعوه، وهي هذه القضية مذكورة في الكتب، فيقول له الرجلُ
المسن: وهل أنت المهدي؟
فيجيبه: نعم ماذا تريد؟ إنك أقسمت على الله سبحانه وتعالى بأغلظ الأيمان لكي ترى
الإمام المهدي (عليه السلام)، فماذا تريد؟
فقال الرجل المسن: إنني أتمنى أن أكون من أنصارك وأن أجاهد بين يديك وأن أقتل في
ركابك وأن أدخل الجنة على أثر ذلك بدون حساب، هذه هي أمنيتي. فقال له الإمام (صلوات
الله عليه): إن أصحابي صفَّوا ما عليهم، فهل صفّيت أنت ما عليك؟ بمعنى تطهروا طهرا
كاملا. فقال الرجل المسن: نعم أنا صفّيت ما علي، ولكن إذا بقي شيء عليّ فأنا حاضر،
بأي شيء تأمرني. طبعاً كل شخص له امتحان معيّن، وليس شرطا أن يكون الامتحان في شكل
معين، إن الله سبحانه يمتحننا جميعا في نقطة حيوية، فقال الإمام للرجل الطاعن في
السن: أولاً إنَّ هذا البيت الذي تسكن فيه مغصوب لأنه بيت أيتام، فخال هؤلاء
الأيتام غصب هذا البيت منهم وباعه لك، دون وجه حق، فيجب عليك أن تعيد البيت إلى
الأيتام وتأخذ ثمنه من خالهم.
وهذه المشكلة موجودة الآن في بعض
البلاد، وقد ولدّت مشكلات اجتماعية، فهذا الرجل المتديّن قد اشترى البيت ولا يعرف
بقصته وإذا به يكتشف بأن البيت مغصوب، فأين يسكن؟ هل يسكن في الشارع؟ لقد فشل
كثيرون في هذا الامتحان، أين يسكن هو وعائلته؟ إننا إذا اكتشفنا الآن أنَّ البيت
الذي نسكنه مغصوب فأين نسكن؟ لاحظ درجة إيمان الرجل المسن، لقد قال للإمام (صلوات
الله عليه): أنا حاضر، سأخرج من هذا البيت وأعيده فوراً يبدو أن هذا الرجل مشتغل
على نفسه في الإيمان والتدين، وإلا لا يمكن أن يقوم بإعادة البيت إلى الأيتام، ثم
قيل له إن ملكية البيت لم تنتقل إليك، فلك حق أن تأخذ ثمنه ممن باعه لك.
ثم هنالك مشكلة ثانية صعبة جدا، فقد قال الإمام (عليه السلام) للرجل المسن: إن
زوجتك هذه أختك من الرضاعة، فقد أرضعت أمك هذه المرأة رضعات كاملة، إذن هي أختك
وعليك أن تنفصل عنها فوراً!!.
إنه رجل مسن ولابد أن يكون له أولاد وبنات وأصهار، وإذا بأعصابه تنهار تماما، فلم
يتمكن أن يقوم بأكثر مما قام به، إذ يبدو انه تصور ما الذي سيحدث بعد ذلك، وماذا
سيقول للناس، ومن سيقبل قضية الانفصال عن زوجته، وإذا به يخرج إلى ساحة البيت، وأخذ
يصرخ ويصيح بالجيران، فاجتمعوا كي يفهموا ماذا حدث؟
فقال لهم الرجل الطاعن في السن:
هنالك رجل في غرفتي. وحين ذهبوا للغرفة لم يجدوا أيَّ شخص!
وتوجد قضايا مماثلة أيضا، لكن الرجل المسن فشل في امتحان الزوجة، وشخص آخر فشل في
امتحان الحورية وآخر فشل في امتحان القتل، فيجب أن يكون هنالك تسليم محض.
سأنقل باختصار بعض الروايات الأخرى وأنهي الموضوع: وسوف لا اذكر هنا مصادر الروايات
بدقة لضيق الوقت، جاء في كتاب (كمال الدين) عن الإمام الجواد (صلوات الله عليه):
«إنه يجتمع بالإمام ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه عدة أهل بدر ومن أقاصي
الأرض، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا
يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾»(١٣٢)
- لاحظ هذه الجملة الشرطية التي يستوحش منها البعض - «فإذا اجتمعت له العدة من أهل
الإخلاص التام والكامل اظهر الله أمر» - هذه إذن هي الجملة الشرطية، بمعنى أن
الظهور معلق بوجود هذه العدة - «فإذا اكتمل له العقد» - هذه هي المرحلة الثانية -:
وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله (عزَّ وجلَّ)»(١٣٣) حيث توجد مرحلتان هما:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٢) سورة البقرة: ١٤٨.
(١٣٣) راجع (كمال الدين وتمام النعمة): ص٣٧٨ ب٣٦ ح٢، وفيه: عن عبد العظيم بن عبد
الله الحسني قال: قلت لمحمد بن علي بن موسى (عليهم السلام): إني لأرجو أن تكون
القائم من أهل بيت محمد الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، فقال
(عليه السلام): «يا أبا القاسم: ما منا إلا وهو قائم بأمر الله (عزَّ وجلَّ)، وهاد
إلى دين الله، ولكن القائم الذي يطهر الله (عزَّ وجلَّ) به الأرض من أهل الكفر
والجحود، ويملأها عدلا وقسطا هو الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه،
ويحرم عليهم تسميته، وهو سمي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكنيه، وهو الذي تطوي
له الأرض، ويذل له كل صعب ويجتمع إليه من أصحابه عدة أهل بدر: ثلاثمائة وثلاثة عشر
رجلا، من أقاصي الأرض، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ
مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ﴾ فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره، فإذا كمل
له العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله (عزَّ وجلَّ)...».
مرحلة الظهور. والثانية: مرحلة
القيام والنهضة.
على أي شيء يتوقف ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه)؟
إنه متوقف على ثلاثمائة وثلاثة عشر من أهل الإخلاص الذين لا شائبة فيهم، ولكن
المرحلة الثانية وهي مرحلة القيام تتوقف على عشرة آلاف رجل، فلابد أن يوجد هذا
العدد.
في تفسير القمي(١٣٤) لقوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ
بِقَوْمٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٤) تفسير القمي: يعد أصلاً من الأصول المعتمد والمعول عليها من قبل المفسرين، ومن أقدم التفاسير المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) وبالخصوص الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام)، قسّم مصنفه الكتاب إلى مقدمة قيمة ذكر فيها جملة من الروايات المروية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان أنواع علوم القرآن، وبعد ذلك ساق الروايات الواردة في تفسير الآيات القرآنية لكل سورة سورة، ولهذا الكتاب مزية اعتمدها جملة من محققي علم الرجال وهي استفادة التوثيق العام لجميع رواته أو لخصوص مشايخه من عبارة وردت في مقدمة الكتاب، نعم ذهب جمع من المحققين كالشيخ المتتبع آقا بزرك الطهراني إلى أن التفسير في الحقيقة عبارة عن مجموع تفسيرين هما تفسير القمي المروي في غالب رواياته عن الإمام الصادق (عليه السلام) وتفسير أبي الجارود عن الإمام الباقر (عليه السلام) المروي هذا الأخير عن طريق راوي تفسير القمي (أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن الإمام الكاظم (عليه السلام)) حيث روى أبو الفضل تفسير أبي الجارود عن طريق الحافظ الثقة ابن عقدة بإسناده عن أبي الجارود عن الإمام الباقر (عليه السلام) وليس الراوي عن ابن عقدة مصنف الكتاب لعدم إمكان رواية علي بن إبراهيم عن ابن عقدة لأن الأخير توفي سنة ٣٣٣هـ وعلي بن إبراهيم وإن لم يعلم تاريخ وفاته بالضبط إلا أن تلميذه الشيخ الكليني قد توفي سنة ٣٢٩هـ انتهى ملخص كلامه أعلى الله مقامه وهو متين وإن كان احتمال رواية القمي التفسير عن ابن عقدة موجود كما ذهب إليه جملة من المحققين لجملة من القرائن منها: إمكانية الملاقاة بين الشيخين والرواية عنه ولو بالاجازة لأنه كان حياً سنة ٣٠٧هـ، ورواية الأكابر عن الأصاغر ليست بنادرة، ويؤيده تصريح الذهبي في ميزانه برواية علي بن ابراهيم عن ابن عقدة، ولغيرها من القرائن، وعلى كل حال فلا يضر بالتوثيق العام المستفاد من عبارة مؤلف التفسير لأن تفسير أبا الجارود لم يُرو إلا من خلال سند واحد ثم عُلّق عليه في بقية روايات التفسير، فيتوجه التوثيق العام إلى ما خلا السند الخاص بتفسير أبي الجارود.
يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ﴾(١٣٥).
إن هذه الآية الكريمة نزلت في المهدي (صلوات الله عليه) وأصحابه وهم ﴿يُجَاهِدُونَ
فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٥) سورة المائدة: ٥٤.
لاَئِمٍ﴾(١٣٦)،
أما كلمة: لا يخافون لومة لائم فهي من أعقد الأمور، ويحتاج هذا الموضوع إلى شرح في
مقامٍ آخر.
جاء في (البحار) عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه): «كأني أنظر إلى المهدي صلوات
الله عليه وأصحابه في نجف الكوفة قد أثرّ السجود بجباههم ليوثٌ بالنهار رهبانٌ
بالليل»(١٣٧).
وفي تفسير العياشي: «يجيء الإمام (عليه السلام) ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، من
بينهم خمسون امرأة»(١٣٨)، منهن فقط بلغت ذلك المقام.
وجاء في البحار عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه): «إذا قام المهدي (باللفظ
الآخر)(١٣٩) بعث في أقاليم الأرض»، فيعين على كل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣٦) تفسير القمي: ج١ ص١٧٠ سورة
المائدة.
(١٣٧) راجع (بحار الأنوار): ج٥٢ ص٣٨٦ - ٣٨٧ ب٢٧ ح٢٠٢، وفيه عنه (عليه السلام):
«كأني أنظر إلى القائم (عليه السلام) وأصحابه في نجف الكوفة كأن على رؤوسهم الطير
قد فنيت أزوادهم وخلقت ثيابهم، قد أثر السجود بجباههم، ليوث بالنهار رهبان بالليل،
كأن قلوبهم زبر الحديد، يعطى الرجل منهم قوة أربعين رجلاً، لا يقتل أحداً منهم
إلَّا كافر أو منافق وقد وصفهم الله تعالى بالتوسم في كتابه العزيز بقوله:﴿إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ للمُتَوسّمِينَ﴾».
(١٣٨) تفسير العياشي: ج١ ص٦٥ ضمن ح١١٧، وفيه: «.. ويجيء والله ثلاثمائة وبضعة عشر
رجلاً، فيهم: خمسون امرأة...».
(١٣٩) أي لفظ (القائم) وقد ذكر السيد محمد تقي الأصفهاني في مكيال المكارم: ج٢ ص١٩٨
ب٨ الأمر١٣: (القيام عند ذكر اسمه أو ألقابه الشريفة: واستقر على ذلك سيرة الإمامية
الاثني عشرية، ويشهد لذلك مضافاً إلى ما فيه من التعظيم والاحترام المطلوب في كل
مقام، ما رواه بعض الأعلام في النجم الثاقب عن السيد عبد الله سبط السيد نعمة الله
الجزائري (رحمه الله) أنه جد في بعض الروايات أنه ذكر الصاحب (عليه السلام) يوماً
في مجلس الصادق (عليه السلام) فقام (عليه السلام) تعظيماً واحتراماً لاسمه الشريف).
إقليم رجلاً للإدارة، وهؤلاء الرجال
القادة يجب أن يكونوا في قمة القمة، في الصفات النفسية والأخلاقية، «يقول: عهدك في
كفك»(١٤٠)، وهنالك روايات أخر في هذا المجال.
إذن تتوقف المرحلة الأولى على: ثلاثمائة وثلاثة عشر، منهم خمسونَ امرأة يحملن هذه
الصفات بهذه الدرجة التي ذكرناها، ثم يُستند إلى: عشرة آلاف في المرحلة الثانية وهي
مرحلة القيام، فكما ذكرنا يجب أن نضع هذا الطموح أمام أعيننا، فالإنسان يستطيع أن
يصّعد نفسه ويقويها ويبدلها من حال إلى حال، حتى لو كان يعاني من مشكلات لأن الله
سبحانه وتعالى أعطى لهذه النفس قدرة كبيرة على التبديل والتغيير.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم، وأن يعجل لوليّه الفرج ويسهل له المخرج،
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٠) راجع (بحار الأنوار): ج٥٢ ص٣٦٥ ب٢٧ ح١٤٤، وفيه: عن الصادق (عليه السلام): «إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض في كل إقليم رجلاً يقول: عهدك في كفك، فإذا ورد عليك ما لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه، فانظر إلى كفك واعمل بما فيها...».
(٥) عوامل غيبة الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه)
إن نظام الإمام (صلوات الله عليه) يجب أن يكون نظام العدل والإيمان والاستقرار والأمن، وإن وجود الخط الأموي وأمثاله يمنع تحقيق هذا الهدف الذي تحلم به البشرية
الفقيه الشيرازي
سادساً: مفهوم التَّزَيُّل:
العامل السادس من العوامل الكامنة وراء استمرار غيبة الإمام المهدي المنتظر (عجل
الله تعالى فرجه) يرتبط بمفهوم قرآني له أهميته في المجالات العقائدية أو العقدية،
كما له أهميته في المجالات الاجتماعية، وهذا المفهوم هو (مفهوم التزيّل).
بدايةً نتطرق على نحو الإجمال لهذا المفهوم، فهنالك آيةٌ في القرآن الكريم من سورة
الفتح وهي الآية رقم ٢٥، يقول الله سبحانه وتعالى في هذه
الآية المباركة: ﴿هُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ
مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ
مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ
بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
التزيّل في اللغة:
تعني هذه المفردة التفرّق والبينونة، ويدل مفهوم هذه الآية الكريمة ولو بقرينة بعض
الروايات الواردة في هذا المقام، أن إحدى السنن الإلهية الحاكمة في هذا الكون تبحث
في قضية الاختلاط بين مجتمع وآخر ومن منهما يستحق العذاب ومن منهما لا يستحقه، إنَّ
السُّنَّةَ الإلهية تؤكد بأن النقمة لا تنزل على هذا المجتمع، فقد سبقت رحمةُ الله
تعالى غضبَه، وهذه شعبةٌ من شعب الرحمة الإلهية، لكن قد تتدخل عوامل أخرى فتحل
النقمة ولكن هذا بحثٌ آخر يرتبط بتقاطع السنن الحاكمة في هذا الكون.
فقد اختلط في أهل مكة من يستحق العذاب ومن لا يستحقه، لقد كان لكلمات النبي (صلى
الله عليه وآله) ودعوته من القوة والتأثير والفاعلية ما أثّر في القلوب، فلم يأت
رجل في التأريخ عبر ألف وأربعمائة عام له تأثير كالذي كان للنبي الأعظم (صلى الله
عليه وآله).
يقول مؤلف كتاب (المائة الأوائل)
وهو رجل مسيحي(١٤١)، ليس لدينا شخصية في التاريخ كالنبي محمد (صلى الله عليه وآله)
أثّرت كتأثير هذا الرجل الأميٍ الذي عاش في تلك الصحراء القاحلة، ويضيف: (أنا مسيحي
ولكن المسيح لم يكن له هذا التأثير العظيم).
أحد الأخوة كان عائدا من بلاد الغرب، فذكر أن الغربيين يستغربون لشيئين:
الشيء الأول: الحج، حيث كان هنالك رجل أمي في صحراء مكة وأمر بالحج وإذا بملايين
الناس يندفعون عبر مئات الأعوام لأداء الحج مع متاعبه المعروفة للجميع، حيث يبذل
الحجاج أموالهم ويتحملون جهود السفر من بلد إلى آخر وكلهم يقولون: (لبيك اللهم
لبيك)، فكم أثرّ ذلك الرجل في هذه الملايين، فهل يمكن أن نفسر ذلك بغير نبوة النبي
(صلى الله عليه وآله)؟ إنه نبي مرتبط بالله تعالى، فالشخص الأميّ لا يؤثر كلامه حتى
في أولاده أو زوجته.
الشيء الثاني: شهر رمضان، وحين أمر النبي بالصوم فإذا بملايين الناس يمتنعون شهراً
كاملاً من الفجر حتى المغرب عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤١) للمؤلف (مايكل هارت) ويتناول فيه أعظم مائة شخصية في التاريخ ويضع على رأسهم النبي الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله).
الطيبات التي ألفوها.
إن هذا مثار لاستغراب شديد عند الغربيين أيضا، لذا فإن حقائق وبراهين النبي الأعظم
كانت تؤثر حتى في قلوب ألَدِّ الأعداء، ولذلك مع كل تلك الأجواء المضادة للنبي (صلى
الله عليه وآله) الموجود في مكة كان النبي حاكماً للقلوب.
وحين كان النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في المدينة، كان أهل مكة قد حفظوا
كلماته في الظاهر بكل قوة، ولكن في الباطن كان كثير منهم قد نفذت كلماته في قلوبهم
وآمنوا بها، ولكن الجو العام كان يمنعهم من أن يظهروا إيمانهم وولاءهم، فكان هنالك
في الواقع رجال قد آمنوا في مكة، ونساء كنّ قد آمنّ كذلك، وفي الوقت الراهن يوجد
كثير من الأفراد يؤمنون حتى الكبار منهم ولكن يخفون إيمانهم لأن الجو العام قد يضغط
عليهم، فكانت لهم مثل هذه القوة وهذه القدرة.
﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ
مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا
أَلِيماً﴾(١٤٢).
إذن فالمجتمع المكّي كان خليطاً من المؤمنين والكفار، وهؤلاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٢) سورة الفتح: ٢٥.
الكفار يستحقون حلول النقمة الإلهية
عليهم، ولكن ماذا يقول القرآن الكريم؟ يقول: ﴿هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ فالجريمة الأولى هي
الكفر بل هو أعظم جريمة، فمع أن الله تعالى أنعم علينا بوجودنا وكياننا وكل النعم
الأخرى التي انعم بها علينا، لكن هنالك من يكفر فهل يجوز هذا؟ ﴿إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(١٤٣) فهو الجريمة الأولى، ﴿هُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
وهذه هي الجريمة الثانية: ﴿وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ﴾ أي منعوا المسلمين من أن يذهبوا إلى المسجد الحرام
وهي الجريمة الثالثة.
إن هذه الجرائم تستحق حلول النقمة الإلهية عليهم، ولكن ﴿وَلَوْلاَ
رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ﴾، حيث يوجد هنالك رجال مؤمنون ونساء مؤمنات في مكة،
ولكن هؤلاء مختفون غير ظاهرين، إذ لا تسمح لهم الأجواء العامة بان يظهروا إيمانهم،
﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ
تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾
وتعني المعرّة: التبعية، فحين يفهم احدهم بأنه قتل أخاه المؤمن، يجب عليه أن يعطي
الدية، فهم يشمتون بالمؤمنين فيقولون: إنكم قتلتم إخوانكم لأن القضايا ستنكشف في
آخر المطاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٣) سورة لقمان: ١٣.
﴿لِيُدْخِلَ
اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ إن الشاهد في هذه الكلمة: ﴿لَوْ
تَزَيَّلُوا﴾ فحين حصلت البينونة، وصار المؤمنون في مكان والكفار في مكان
آخر، فحدث التزيّل أو البينونة والتفرق والتميّز، حيث تنص الآية الكريمة: ﴿لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيماً﴾،
وهنالك رواية مذكورة ربما يظهر من معناها، أن هذه سنةٌ إلهية عامة وليست قضية شخصية
محدودة، إن هذا التفسير هو المعنى الظاهر لهذه الآية المباركة.
أصالة الرحمة الإلهية:
وهنالك معنىً باطن أشار إليه أهل البيت (صلوات الله عليهم) في الروايات المأثورة
عنهم لا ينافي المعنى الظاهر وإنما يضيف إليه بعداً آخر، إما من حيث استخدام اللفظ
الواحد في معنيين، أو من حيث باب البطون، فالكلمة لها ظاهر ولها بطن، وإنما يعرف
البطون من خوطبَ بالقرآن الكريم، أو من باب أن هذه السنة الإلهية تعتمد على ملاك
معين موجود في المعنى الآخر، ويعني: إن العلة الكامنة لها سبب كامن، فما هو السبب
الكامن في هذه السنة الإلهية؟ هنا لابد من التدقيق، فلا يمكن أن نعبّر عن السبب
الكامن بأصالة الرحمة الإلهية، فهذا الملاك هو أصالة الرحمة مثلما يوجد ذلك في
مجتمعٍ اختلط فيه المؤمن والكافر ومن يستحق العذاب ومن لا يستحقه أيضا.
كذلك يوجد ملاك الرحمة في موضعٍ آخر
ومنطقة أخرى وهي إذا افترضنا أن هنالك من يستحق العذاب ومن لا يستحقه ولم يكونا
متعاصرين في زمن معين، وإنما تفصل بينهما الأزمنة، أي يوجد بينهما فاصلٌ زمني، ولكن
من يستحق العذاب كان واقعاً في سلسلة العلل الوجودية لمن لا يستحق العذاب، بمعنى أن
الجد الأعلى كان يستحق العذاب ولكن يوجد في أصلابه البعيدة من لا يستحق العذاب، إذ
ربما يوجد منهم رجل مؤمن، فهل تجري السنة الإلهية حتى إذا افترضنا أن ظاهر هذه
الآية المباركة لا يشمل هذه الحالة؟ ولكن ملاك الآية المباركة يشمل هذه الحالة، فما
هو ملاك الآية؟ إنه: (أصالة الرحمة)، حيث إنها موجودة في المقام بطريقة أولى، لأنه
إذا كان العذاب كما في مثال أهل مكة ينزل على الجميع، فما الذي كان يحدث؟
إن الشيء الذي كان سيحدث، هو أن مجموعة من المؤمنين كانوا سيُقتلون ويُحرمون من
نعمة محدودة مؤقتة، ولكن من جهة ثانية، إذا نزل العذاب فهذا يعني حرمان أولئك من
نعمة الوجود المطلقة، إن العدم الجزئي موحش فكيف إذا كان عدماً كُليّاً، بمعنى أن
حرمان الإنسان من نعمة البصر موحش، وحرمانه من نعمة السمع موحش أيضا، أما العدم
الكلي فهو يعني الفناء المحض أو الانعدام المطلق، ولا يمكن أن تُقارن وحشته بوحشة
الانعدام
الجزئي.
فالإنسان الذي يستحق أن يفيض الله سبحانه وتعالى عليه بنعمة الوجود بعد ألف عام لا
يأخذه بذنب جده الأعلى، لأنه أُستأصل بالعذاب الإلهي، ولا تتواصل هذه السلسلة حتى
يصل الدور إلى ذلك الحفيد المنتظر، إن الله سبحانه وتعالى يبقي الجد ويبقي الأب،
كرامةً لذلك الحفيد المنتظر بعد ألف عام، وهذا من مصاديق أصالة الرحمة الإلهية.
وتوجد في القرآن الكريم إشارة خفية إلى هذه المسألة في سورة نوح، وفي هذه الآية: ﴿وَقَالَ
نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ
إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّاراً﴾(١٤٤)
فماذا تعني هذه الآية؟ إنها تعني انتهاء الفائدة منهم جميعا، فلا يوجد أمل ليس فيهم
فحسب وإنما في أحفادهم وأولادهم أيضاً، يا الله دع العذاب ينزل عليهم، لنلاحظ الآية
الكريمة: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ
مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا
يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾(١٤٥) إذن لقد انتهى الأمر، فلن يكون
هنالك مؤمن في ذريتهم إلى الأبد.
هنالك رواية وردت في تفسير البرهان (المجلد رقم ٨ ص١٣٣)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٤) سورة نوح: ٢٦ - ٢٧.
(١٤٥) سورة نوح: ٢٦ - ٢٧.
عن صالح ابن ميثم(١٤٦): قلت للإمام
الباقر أبي جعفر (عليه السلام): ما كان علِمَ نوح (عليه السلام)حين دعا على قومه
أنهم لا يلدون إلا فاجراً كفّاراً؟ فقال الإمام الباقر (عليه السلام): «أما سمعت
قول الله (عزَّ وجلَّ) لنوح كما جاء في سورة هود: ﴿وَأُوحِيَ
إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا
تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ﴾(١٤٧)»(١٤٨)،
هنا تأتي مقدمات العذاب، فليس هناك أمل.
ولعل هذه إشارةٌ خفية لهذه السُنة الإلهية في شكلها الثاني، أما الشكل الأول فيخصّ
جماعة يجمعهم زمانٌ واحد، إذن الشكل الثاني للسنة الإلهية يخص جماعة تفصل بينهم
فاصلة زمنية ولكن بعضهم يقع في سلسلة العلل الوجودية للآخر، وهنالك بعض الروايات في
هذا المجال تصّرح بوضوح بهذه السنة الإلهية في شكلها الثاني، إحداها مذكورة في
البحار (المجلد ٢٩ في ص٢٢٨) ولكن في بعض الطبعات الأخرى مذكورة في (ص٤٢٨)، تقول
الرواية التي جاءت عن الكرخي، قال رجلٌ لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): ألم
يكن عليٌ قوياً في بدنه، قوياً في أمر الله؟ - إذ إن أمير المؤمنين صلوات الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٦) صالح بن ميثم التمار الأسدي
الكوفي من أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) والصادق (عليه السلام) كان من
الممدوحين والمحبوبين عند أهل البيت (عليهم السلام) وهو من رواة كتاب كامل الزيارات
وتفسير القمي.
(١٤٧) سورة هود: ٣٦ - ٣٧.
(١٤٨) انظر(تفسير القمي): ج٢ ص٣٨٨ سورة نوح.
وسلامه عليه كان قوياً من الناحية
البدنية والروحية أيضا: «لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليّت عنها»(١٤٩) - فقال له
(عليه السلام):
«بلى، فسأله الرجل: فما منعه عندما تحركت الأحداث بعد شهادة النبي الأعظم (صلى الله
عليه وآله) من أن يقف ضد الخط الذي يختلف مع ما خطّ رسول الله (صلّى الله عليه
وآله)، مع أنه يستطيع أن يقوم بذلك؟
فأجابه الإمام (عليه السلام): «قد سألت فافهم الجواب»: هنالك آيةٌ من كتاب الله
تعالى منعت علياً من ذلك، فقال الرجل: وأية آية؟ تقصد، لا توجد آية في القرآن بهذه
الصورة، - إن النظرة العادية للقرآن الكريم تكون قاصرة، ولكن أهل البيت صلوات الله
عليهم يستخرجون من بطونه ووفق النحو الذي شرحناه، فقد طرحنا ثلاث فرضيات، أما من
باب استخدام اللفظ في معنيين، أو من باب البطون، أو من باب الملاك والعلة الكامنة -
فقرأ له الإمام (عليه السلام): هذه الآية الكريمة من سورة الفتح: ﴿لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيماً﴾،
«لقد كان لله ودائع مؤمنون في أصلاب قومٍ كافرين ومنافقين»، فلم يكن عليٌ (عليه
السلام) ليقتل الآباء، خوفاً على ما في أصلابهم، فإذا كانت قد حدثت معركة شديدة ألا
يُقتل فيها الآباء ضمن مجموعة من الرجال؟ فهناك عوامل كثيرة تغذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤٩) نهج البلاغة: ج٣ ص٧٣ من كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف والي البصرة يوبخه على حضور وليمة دعي إليها.
المعركة، فالمشركون كأبي سفيان
وغيره كانوا يغذّون هذه المعركة والروم كذلك، وإذا كان سيُقتل هؤلاء الآباء ضمن
رجال المعركة ستنتهي الودائع التي أودعها الله سبحانه وتعالى في أصلاب أولئك
الآباء، فإذا قُتل الأب سينتهي نسله إلى يوم القيامة.
فكل إنسان منّا له خط من نسله يمتد من أبينا آدم (عليه السلام) حتى يصل إلينا، هذا
الخط ممتد، فكل فرد يعتبر مُعِدّاً للوجود اللاحق وهناك خط يبدأ منّا بإذن الله
تعالى ليتواصل في ذرياتنا إلى يوم القيامة، فإذا حدث خلل في مكان ما من سلسلة النسل
ستنقطع كل هذه السلسلة، «فلما خرجت، ظهر على من ظهر وقتل».
لنفترض أن الأب خلّف ولدا فإنه سيمثل الامتداد الوجودي له، هنا انتهت القضية وجاء
الإذن الإلهي، «وكذلك مهدينا أهل البيت (باللفظ الآخر الذي يقام لأجله صلوات الله
وسلامه عليه)(١٥٠) فانه لن يظهر أبداً حتى يُخرج ودائع الله»(١٥١).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٠) المراد هنا لفظ: (القائم
(عليه السلام)).
(١٥١) انظر (بحار الأنوار): ج٢٩ ص٤٢٨ ب١٣ ح١٣، عن كتاب تفسير القمي.
ودائع الله:
ماذا نعني بذلك؟ لقد وصلنا إلى الجواب، إن الإمام المهدي (صلوات الله عليه) عندما
يظهر ولم تكن هذه الودائع قد ظهرت أو خرجت من الأصلاب، فما الذي سيحدث؟
هنالك طريقان:
لقد قام الخط الأموي ضد الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، كما حصل في العراق،
حيث لاحظنا ماذا فعل هذا الخط في هذا البلد؟ من عمليات الاغتيال والقتل الجماعي
بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، وهنا أمام الإمام المهدي (صلوات الله عليه)
طريقان:
الطريق الأول: أن يترك هؤلاء يفعلون ما يشاءون، وحينها ما الذي سيحدث؟ إن النظام
الذي يهدف إليه الإمام لن يكون، فنظام الإمام (صلوات الله عليه) يجب أن يكون نظام
العدل والإيمان والاستقرار والأمن، وإن وجود الخط الأموي وأمثاله يمنع تحقيق هذا
الهدف الذي تحلم به البشرية.
الطريق الثاني: أن يدخل الإمام في معركة مع هذه العناصر المفسدة، ومع كل نظام وفي
كل دولة، فعندما تعلن جماعة ما في بلد معين بتمرد، هل تقف الدولة مكتوفة الأيدي
أمام هؤلاء؟ أو إذا هوجمت من قبل قوة خارجية هل تقف متفرجة؟ كلا، إنما ستدافع عن
نفسها قطعاً، وهذا أمر طبيعي ومنطق مشروع في كل
العالم، فإذا قُتل هؤلاء الآباء،
هذا يعني أن أولئك الأبناء الذين يتوقف وجودهم على وجود الآباء، سيحكم عليهم بالعدم
والفناء، وإذاً لابد أن يوّقت الظهور بالنحو الذي لا يؤدي إلى الاصطدام بأحد هذين
المحذورين.
وهنالك مجموعة من الروايات أيضا تدور حول هذا الموضوع يمكن مراجعتها في (البحار:
ج٢٩ ص٢٣٣ حديث رقم٢٤ وحديث٢٥ وحديث ٢٦)، وربما يدل على أن هذا الأمر هو سُنّة إلهية
وليست قضية شخصية خاصة، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: في قول الله
(عزَّ وجلَّ): ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيماً﴾: «فلو أخرج الله ما في أصلاب المؤمنين
من الكافرين وما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذب الذين كفروا»(١٥٢).
ثلاث حقائق في مفهوم التزيّل:
ويبدو أن هذه سنّة إلهية عامة، وإن فكرة التزيّل ترشدنا إلى ثلاث حقائق:
الحقيقة الأولى: أصالة الرحمة الإلهية وأن رحمة الله سبحانه وتعالى سبقت غضبه.
الحقيقة الثانية: وهي قضية اجتماعية مهمة تختلف عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٢) بحار الأنوار: ج٢٩ ص٤٣٧ ب١٣ ح٢٦، عن كتاب كمال الدين وعلل الشرائع.
الحقيقة الأولى التي تعتبر قضية
عقائدية أو عقدية، حيث لا يوجد هنالك تشابه حتمي بين الأب أو الجد مهما ابتعد
الفاصل الزمني بينهما، فهل يُشترط بالابن أو الحفيد أن يكون على خطى أجداده وآبائه؟
كلا ليس هنالك حتمية أبداً، فالوراثة لا تمثل حتمية، والبيئة كذلك لا تمثل حتمية،
فالفرد له الاختيار الكامل والحرية الكاملة.
الحقيقة الثالثة: وهي التي ترشدنا إليها فكرة التزيّل الواردة في القرآن الكريم،
حيث لا يوجد هنالك يأس إطلاقاً، فهل يمكن أن يتحول رجل يهودي إلى مسلم؟ هذه القضية
هي إحدى الأشياء التي غفل عنها المسلمون، وهي دعوة اليهود إلى الإسلام، فهل يمكن
ليهودي أن يُسلم؟ فربما لا يتحول هو إلى رجل مسلم، لكن قد يتحول ابنه أو حفيده إلى
الإسلام.
للوالد(١٥٣) (رحمه الله) كتاب بعنوان: (هؤلاء اليهود) ربما كتبه قبل أكثر من خمسة
وأربعين عاما ، ومما ورد في هذا الكتاب، هي دعوة اليهود إلى الإسلام، فاليهود بشر؛
فيهم المجرمون ولكنهم بشر، فكم أسلم من اليهود في عهد النبي الأعظم (صلى الله عليه
وآله)؟
جاء في حديث في (الكافي) أن عامة اليهود أسلموا على أثر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٣) المجدد الثاني آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله مقامه).
تشريع من النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)(١٥٤)، وفي حوار بحر العلوم (رحمة الله تعالى عليه) وهو مذكور في هامش (الفرائد)(١٥٥)، انه على أثر هذا الحوار أسلم مائة ألف يهودي، وإذا كانت هناك مبالغة في الرقم، لنفترض عشرة آلاف أو مائة أو شخص واحد، إذن فالتحول من اليهودية إلى الإسلام أمر ممكن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٤) الكافي: ج١ ص٤٠٦ باب ما يجب
من حق الإمام على الرعية وحق الرعية على الإمام (عليه السلام)، وفيه: عن أبي عبد
الله (عليه السلام): «إن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: أنا أولى بكل مؤمن من
نفسه وعلي أولى به من بعدي»، فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال (عليه السلام): «قول النبي
(صلّى الله عليه وآله) من ترك دينا أو ضياعا فعليّ، ومن ترك مالا فلورثته، فالرجل
ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال، وليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم
يجر عليهم النفقة والنبي وأمير المؤمنين (عليهما السلام) ومن بعدهما ألزمهم هذا،
فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم، وما كان سبب إسلام عامة اليهود إلا من بعد هذا
القول من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنهم أمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم».
(١٥٥) الهامش على عبارة الشيخ الأنصاري في كتابه (فرائد الأصول أو ما يعرف
بالرسائل) وهو من أهم المتون الدراسية في الحوزات العلمية لمرحلة السطوح العليا،
قال (رحمه الله): (فعلم مما ذكرنا أن ما يحكى: من تمسك بعض أهل الكتاب في مناظرة
بعض الفضلاء السادة..) حيث قال المحقق تعليقاً على هذه العبارة: (هو السيد باقر
القزويني.. وقيل.. وقيل.. وفي أوثق الوسائل (٥١٦): عن رسالة لبعض تلامذة العلامة
بحر العلوم: إن المناظرة جرت بين السيد بحر العلوم وبين عامل يهودي حين سافر إلى
زيارة أبي عبد الله (عليه السلام) في بلدة ذي الكفل، وكانت محل تجمع اليهود آنذاك).
راجع (فرائد الأصول): ج٣ ص٢٦٠.ط. باقري - قم تحقيق وإعداد: لجنة تحقيق تراث الشيخ
الأعظم (رحمه الله).
إذا لاحظنا التحولات التاريخية هل
نستنتج بأن الغربيين قد يُسلمون يوماً؟ الجواب: نعم، إن البلاد الغربية يمكن أن
تصبح كلها بلاد إسلامية في يوم ما وهذا هو الشيء الذي تخشى منه الصهيونية العالمية،
يُقال: إن معظم أوربا ستتحول بحدود عام (٢٠٥٠) ميلادية إلى الإسلام، أو الطابع
العام لها، وهذا الأمر هو ما تخشاه الصهيونية وتتحرك ضده.
ونذكر هنا نماذج من التحوّلات التاريخية التي تعطينا الأمل في حدوث ذلك وتبيّن لنا
أن تحول الغربيين إلى الإسلام ممكن.
كلنا نعرف الحجاج بن يوسف الثقفي هذا الرجل السفّاح، حيث يُقال: لو جاءت كل أمةٍ
بطواغيتها وجئنا بالحجاج لرجح عليهم جميعاً(١٥٦)، ومع ذلك فقد أبقى الله الحجاج،
لماذا؟ لأنه يوجد من ذريته رجل موالي لأهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم)، قيل
فيه: إنه كان رجل زمانه في المدح والولاء لأهل البيت، وهو شاعر ومعروف بـ(ابن
الحجاج)(١٥٧)، وصاحب القصيدة المعروفة التي نقرأ منها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٦) تاريخ مدينة دمشق: ج١٢ ص١٨٦:
(قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل امة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم).
(١٥٧) أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحجاج النيلي
البغدادي الثقفي المتوفى في ٢٧ جمادى الثانية سنة ٣٩١ هـ راجع ترجته في كتاب
الغدير: ج٤ ص٨٨ - ١٠٠.
يا صاحب القبة البيضاء في النجف * * * من زار قبرك واستشفى لديك شُفي
هذا الشاعر هو حفيد الحجاج، وحين
قارب أن يموت أوصى بأن يُدفن عند رجل الإمام الكاظم (صلوات الله عليه)، وأن يُكتب
على قبره: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾(١٥٨)،
هذا هو الرجل الذي كان جده سفّاكاً لدماء شيعة أهل البيت، يقول: أنا كلب أهل البيت،
وهو الآن مدفون عند رجل الإمام الكاظم (صلوات الله عليه).
كان (السندي بن شاهك) كما يقول الخطباء رجلاً حقوداً جدّاً ومعروفاً بمواقفه ضد
الإمام الكاظم (صلوات الله عليه)، أما حفيده فهو أحد الشعراء الموالين لأهل البيت،
والمجاهدين في سبيلهم ويُعرف في التاريخ بكشاجم، لاحظ ترجمة كشاجم في الغدير(١٥٩).
أما سعد بن عبد الملك، فقد سمّاه الإمام الباقر (عليه السلام) بـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥٨) سورة الكهف: ١٨.
(١٥٩) أبو الفتح محمود بن محمد بن الحسين بن سندي بن شاهك الرملي المعروف بكشاجم،
المتوفى سنة ٣٦٠ هـ انظر ترجمته في الغدير: ج٤ ص٣ - ٢٣ وفي ص١٥ قال العلامة الأميني
(رحمه الله): (وكان من مصاديق الآية الكريمة: (يخرج الحي من الميت) فإن نصب جده
السندي ابن شاهك وعدائه لأهل البيت الطاهر وضغطه واضطهاده الإمام موسى بن جعفر
صلوات الله عليه في سجن هارون مما سار به الركبان، وسوده به صحيفة تاريخه إلا أن
حفيده هذا باينه في جميع نزعاته الشيطانية فهو من شعراء أهل البيت المجاهرين
بولائهم المتعصبين لهم الذابين عنهم ولا بدع فإن الله هو الذي يخرج من بين الحصى
وينبت الورد محتفاً بالأشواك).
(سعد الخير)، وهو من الشجرة
الملعونة، والشجرة الملعونة في القرآن هم بنو أمية، إنه من أحفاد مروان.
جاء في (البحار: ج ٤٦ ص٧٣٧):
إن سعد بن عبد الملك دخل على الإمام أبي جعفر الباقر (صلوات الله عليه)، فأخذ يبكي
وينشج كما تنشج النساء، فسأله الإمام: «ما يبكيك يا سعد؟» قال: وكيف لا أبكي وأنا
من الشجرة الملعونة في القرآن.
فقال له الإمام (عليه السلام): «أنت لست منهم، أنت أمويٌ ولكنك منّا أهل البيت، أما
سمعت قول الله (عزَّ وجلَّ) يحكي عن إبراهيم (عليه السلام): ﴿فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾(١٦٠)»(١٦١)، إذن فأنت منا يا سعد الخير.
يذكر التأريخ بأن صلاح الدين الأيوبي مجرم، ليس بحق أهل البيت (عليهم السلام) فقط
بل بحق الإسلام والعروبة والوطن، فأي خيانات فعلها؟!
وهو ما يؤكده تاريخه الذي يقول: بأنه قتل وسفك دماء كثيرة، كتب بعض المحققين كتباً
تحقيقية في تأريخ صلاح الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٠) سورة إبراهيم: ٣٦.
(١٦١) انظر (بحار الأنوار): ج٤٦ ص٢٢٧ - ٢٢٨ ب٨ ح٢٥، عن كتاب الاختصاص للشيخ المفيد
(رحمه الله).
الأيوبي ليس من باب الهجوم عليه بل
من باب الواقعية التاريخية.
لكن نلاحظ أن علياً، الابن المباشر لصلاح الدين الأيوبي كان من شيعة أهل البيت
(عليهم السلام) ومن مواليهم، فقد حكم دمشق بعد أبيه، وقال فيه ابن الأثير، كما جاء
في كتاب (الأعلام: ج٥ ص٣٣):
(من محاسن الزمان أن علي بن صلاح الدين الأيوبي كان خيّراً عادلاً فاضلاً حليماً
كريماً لم يكن في الملوك مثله)(١٦٢).
وهنالك قصيدة(١٦٣) لعلي بن صلاح الدين يقول في آخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٢) قال ابن الأثير في كتابه
الكامل في التاريخ: ج١٢ ص٤٢٨ - ٤٢٩: (في هذه السنة أي سنة٦٢٢هـ في صفر توفي الملك
الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب فجأة بقلعة سميساط وكان عمره نحو سبع وخمسين
سنة.. وكان (رحمه الله) من محاسن الزمان لم يكن في الملوك مثله كان خيراً عادلاً
فاضلاً حليماً كريماً، قلّ أن عاقب على ذنب ولم يمنع طالباً.. فاجتمع فيه من
الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك، فلا جرم حُرم الملك والدنيا وعاداه
الدهر، ومات بموته كل خلق جميل وفعل حميد فرحمه الله ورضي عنه).
(١٦٣) ذكر جمع منهم الذهبي في كتابه (سير أعلام النبلاء): ج٢١ ص٢٩٥: قد كتب من نظمه
إلى الخليفة الناصر، وفي الناصر تشيع:
مولاي إن أبا بكر وصاحبه * * *
عثمان قد غصبا بالسيف حق علي
وهو الذي كان قد ولاه والده * * * عليهما واستقام الأمر حين ولي
فخالفاه وحلا عقد بيعته * * * والأمر بينهما والنص فيه جلي
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي * * * من الأواخر ما لاقي من الأول
فأجابه الخليفة الناصر:
وافى كتابك يا ابن يوسف معلناً * *
* بالود يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا عليا حقه إذ لم يكن * * * بعد الرسول به بطيبة ناصر
فابشر فإن غدا عليه حسابهم * * * واصبر، فناصرك الإمام الناصر
ملاحظة: المراد من أبي بكر وصاحبه عثمان في القطعة الشعرية للأفضل ابن صلاح الدين، هما: عمه وأخوه اللذان غصبا حقه وسلطانه.
بيت منها:
فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقي * * * من الأواخر ما لاقي من الأول
ويذكر لنا التأريخ قضايا كثيرة في
هذا المضمار، ويبقى الأمل للعاملين في سبيل الله سبحانه وتعالى على التغيير.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
(٦) التربية الإلهية للإنسان في عهد الغيبة
نحن نعيش حالياً (عهد الغيبة)، ويعني عهد الفقدان، فيقوم الله سبحانه وتعالى بتربية
البشر وينمّي فيهم الكمالات النفسية والفكرية والعملية بالغيبة.
الفقيه الشيرازي
يوجد هنالك مقطعٌ في دعاء كميل الذي
علّمه مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لكميل بن زياد النخعي، جاء في
مقطع من هذا الدعاء: «... ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين».
نلاحظ أن هذا المقطع والمقاطع المتقدمة والمتأخرة من الدعاء، مصدرةٌ بـ(إنْ)،
الشرطية ومن المعروف في علم العربية أنَّ (إنْ) الشرطية تفيد التعليق، فمثلا نقرأ
في بداية هذه المقاطع:
«لئنْ تركتني ناطقاً لأضجنَّ إليك
بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين
ولأنادينّك أين كنت يا ولي المؤمنين»، فـ(إنْ) كما يبدو هنا تفيد التعليق: «إنْ
تركتني ناطقاً».
وهذا يعني: إنه من المحتمل ألا يُترك أهل جهنم ولو في بعض الحقب والفترات ناطقين،
وجاء في بعض الكتب أن آخر كلمة يقولها أهل جهنم وهم يخاطبون الله تعالى: ﴿رَبَّنَا
أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾(١٦٤)، فيقول الله
تعالى لهم: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾(١٦٥)،
ثم بعد ذلك يُختم على أفواههم ولا يُسمع منهم إلا الشهيق والزفير والعواء، فلا
يَفهمون ولا يُفهِمون.
فتُسلب منهم النعمة الكبيرة للنطق والإفهام والتفهّم، فلا يفهم أحدٌ منهم ماذا يقول
له الآخر، ولا يستطيع أحدٌ أن يُفهم الآخرين أيضا، ولعلّ (إنْ) الشرطية التعليقية
الواردة في دعاء كميل هي بمثابة إشارةٍ إلى هذه القضية: «لأن تركتني ناطقاً لأضجنَّ
إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينَّ عليك بكاء
الفاقدين»، فما هو بكاء الفاقدين؟
إن بكاء الفاقدين يمثل مظهراً لثلاثة أمور تكتنف وتتعقب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٤) سورة المؤمنون: ١٠٧.
(١٦٥) سورة المؤمنون: ١٠٨.
الفقدان، فعندما يفقد الإنسان
شيئاً، ستعقب ذلك ثلاث حالات أو آثار هي: الأثر النفسي، والأثر الفكري، والأثر
العملي.
الأثر الأول: الحالة النفسية:
ما هي الحالة النفسية؟
لعله - ونكرر مفردة (لعله) - والله أعلم، فهو تعالى أعلم بمراده.
ربما يمكن أن يكون في قوله تعالى: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ
مُوسَى فَارِغًا﴾(١٦٦) إِشارة إلى هذا المعنى، حيث هنالك فراغات في النفس
البشرية تحتاج إلى ملء، فعندما يجد الإنسان ما يحتاجه سيُملأ الفراغ ولكن عندما
يفقد الإنسان ما ينبغي أن يجده سيشعر بفراغ.
نضرب مثالاً واضحاً لتقريب هذه الفكرة، فهنالك فراغٌ في النفس البشرية يمكن أن نطلق
عليه بفراغ الأبوة، فالأطفال الذين لهم آباء وأمهات، يكون فراغ الأبوة والأمومة
لديهم مملوءاً، تذكر بعض الكتب الجديدة: إن الطفل لا يكتفي بسماع صوت أمه، لنفترض
أن هناك طفلا في الأشهر الأولى وله من العمر ثمانية أشهر، فحين تناديه أمه وتناغيه
وهي في المطبخ لا يكتفي بهذا الصوت بل يريد أن يراها وينظر إلى عينيها ووجهها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٦) سورة القصص: ١٠.
إذن مثل هذا الفراغ يجب أن يُملأ،
فالطفل اليتيم الذي فقد أباه أو أمه يوجد لديه فراغ نفسي كبير، لكننا لا نشعر بذلك،
لا أدري إذا كنتم لاحظتم الأطفال الأيتام أم لا؟ ويُقال: إن هناك خمسة ملايين يتيم
في العراق في الوقت الحاضر، ستشعر من نظرات الطفل اليتيم وحركاته بأنه يعاني من
فراغ نفسي، تماما مثل طفل عنده بيت فيشعر أن لديه ملجأ أمين يأوي إليه، وآخر ليس له
بيت فيشعر أنه من دون ملجأ يحميه.
نذكر هنا هذه القضية - بين قوسين - يُنقل أن المرجع المعروف المرعشي النجفي (رحمه
الله)(١٦٧) كان ذاهبا في شبابه إلى الحمام ومعه أطفاله، فقال لأطفاله: لا تنادوني
بالحمام: بابا، يا بابا.
فسألوه: لماذا؟
قال لهم: لأنه يوجد في الحمام مجموعة من الأطفال اليتامى، فإذا ناديتموني كأب
ستتحرك مشاعر الأبوة لديهم فيشعرون بالألم، فالأطفال الآخرون لديهم آباء وهؤلاء
اليتامى لا آباء لهم.
أحياناً إذا سافر إنسان عزيز علينا سنشعر بوحشة في البيت وفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٧) أبو المعالي السيد شهاب الدين بن محمود الحسيني المرعشي النجفي المولود سنة ١٣١٨ هـ والمتوفى سنة ١٤١١ هـ. كان من أكابر علماء قم ومراجعها، وهو صاحب المكتبة المعروفة باسمه التي تضم الآلف من الكتب والمخطوطات.
النفس، كأننا نفتقد شيئا مهما ولا
نعرف ماذا نعمل؟ فلا نستطيع النوم ليلاً، فقد يبكي الإنسان على أثر هذا الشعور،
«ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين»، لكن هنالك إنسان يفقد الله تعالى، إننا كم نتألم
حين نفقد كمالاً محدوداً؟ فكيف إذا فقد الإنسان مصدر كل الكمالات؟
لعلّ هذا أشد عذاباً من أي شيء لأهل جهنم، حين يشعر الإنسان أن الله طرده بعيداً عن
رحمته وعنايته، ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَمَحْجُوبُونَ﴾(١٦٨).
فإذا امتعض الأب من ابنه يوماً ما على أثر قضية ما، ولم يعاتبه وجهاً لوجه ولم
يكلّفه بشيء ولم يكلمه أيضا بل أخذ يكلف أخاه، فكم سيتألم ويتأثر هذا الابن؟ فإذا
قال الأب لابنه: أنا لن انظر إليك ثانية، ويطرق رأسه ويغض بصره عن ابنه فكم سيشعر
بالألم؟ كل ذلك مصاديق لحالة الفقدان.
ويمكن أيضاً أن يكون الإنسان فاقداً لربه في هذه الدنيا، ونحن يجب أن نبكي في هذه
الدنيا، فالذين يفقدون الله تعالى سيفقدون عنايته أيضاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٨) سورة المطففين: ١٥.
الأثر الثاني: الحالة الفكرية:
وهو ما يحدث في منطقة الفكر، وهذا الأثر يعني بأن الإنسان لا يعرف قيمة الأشياء
الموجودة لديه بل وربما لا يشعر بوجودها، بمعنى لا يشعر بوجوده لأنه متوفر لديه،
هنالك مثال عجيب حول هذا الموضوع، يُقال لو أننا نعيش في ظلام دائم فلن نعرف قيمة
النور ومراتبه، وربما لم نكن نشعر بوجوده، نحن نرى كل شيء، نرى الجدار والأفراد
والأشياء، ونرى هذا الفراش، لكن أين النور؟! إننا نرى هذا الجدار وها أنا أرى جسدي،
لكن أين النور؟ إنه غير موجود! فالنور الذي هو أوضح الأشياء وبه نرى كل الأشياء، لا
نعرف بوجوده لأنه متوفر، وعندما يُفقد النور، سنشعر بوجوده وقيمته.
الأثر الثالث: الحالة العملية:
إن الإنسان يحاول بقدر الإمكان أن يصل إلى ما فقده، ويحاول أن يوفر مقومات ومقدمات
الوصول إلى ذلك الكمال المفقود، إذا كان الأمر يحتاج لهذه المقومات، ومنها الشعور
بالفراغ والشعور بقيمة الشيء المفقود وتعميق الرابطة النفسية والروحية، ثم السير
لتحصيل الكمال المفقود.
وثمة مثال واضح حول هذا الموضوع،
وهو أبونا آدم (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام)، فلعل أبانا آدم (عليه
السلام) وكما يبدو خُلق للدنيا ولم يُخلق للجنة، والدليل على ذلك قول الله تعالى: ﴿إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾(١٦٩) لا في الجنة، فلعله كما يبدو من هذا
الآية الكريمة، أن آدم (عليه السلام) خُلق للدنيا ولم يُخلق للجنة، ولكنه عاش فترة
في الجنة وعرف بركاتها وخيراتها، ثم بعد ذلك خرج منها وفقد ذلك الكمال الذي تتصف به
الجنة، فماذا فعل آدم؟ وبماذا أثّر هذا الفقدان؟
إن الأثر النفسي الخارجي واضح، فقد جاء في الأحاديث وبعضها مذكورة في (البحار)
وأخرى في (معاني الأخبار) بخصوص رواية آدم (عليه السلام)، عن الإمام الصادق (صلوات
الله عليه) أنه: «طاف حول الكعبة مائة عام»(١٧٠)، فمن أين جاءته تلك الطاقة؟ إن من
يعيش كمالاً ثم يفقده، فسوف يدفعه الشوق إلى ذلك الكمال لمضاعفة العمل. تذكر بعض
الروايات أن الفاصلة الزمنية بين أكل آدم (عليه السلام) من الشجرة وقبول الله تعالى
توبته هي ثلاثمائة عام(١٧١)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦٩) سورة البقرة: ٣٠.
(١٧٠) انظر(معاني الأخبار): ص٢٦٩ باب معنى قول جبرئيل (عليه السلام) لآدم صلى الله
عليه "حياك" ح١.
(١٧١) راجع (الأمالي، للشيخ الصدوق): ص٢٦٧ المجلس٣٥ ح١.
فكيف كانت حالة آدم (عليه السلام)
في هذه الفترة؟ تقول هذه الرواية: «إنه طاف بالبيت مائة عام ولم ينظر خلالها في وجه
حواء»(١٧٢)، لأن الفرد حين يعيش حالة الفقدان، فلن يفكر في الملذات المادية.
وجاء في حديث آخر في كتاب (الخصال) للشيخ الصدوق (رحمه الله) باب الخمسة، «إن
البكّائين خمسة وهم: آدم ويعقوب ويوسف والصديقة الكبرى فاطمة والإمام زين العابدين
(صلوات الله عليهم أجمعين)».
وقد جاء في الحديث: «فأما آدم فبكى على الجنة»، ليس لكونها مظهرا للنعم المادية
فقط، وإنما لكونها مظهرا للنعم المعنوية أيضا، ولأنها دار كرامة الله تعالى ودار
قرب إليه سبحانه، ولا تعني إخراج آدم من جنة النعيم فقط وإنما كان إخراجاً من جنة
الرضوان أيضا، ولعل البعد الثاني في القضية هو الذي كان يُؤذي ويؤلم أبانا آدم
أكثر، فيقول الحديث: «فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خدّيه أمثال
الأودية»(١٧٣)، والوادي هو: المنخفض بين جبال، ويبدو من هذا الحديث ظاهراً أن الدمع
قد أثر في خدّه تأثيراً كبيراً، لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٢) جاء في نص الرواية: عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: «لقد طاف آدم (عليه السلام) بالبيت مائة عام ما ينظر
إلى حواء ولقد بكى على الجنة حتى صار على خديه مثل النهرين العجاجين يقال: نهر عجاج
أي لمائه صوت العظيمين من الدموع...». انظر (بحار الأنوار): ج١١ ص١٧٥ - ١٧٦ ح٢١.
(١٧٣) الخصال: ص٢٧٢ باب الخمسة ح١٥.
الخد عضو رقيق جداً، وماء الدمع
يحتوي على أملاح فيؤثر على الخد حين تجري فوقه.
وجاء في حديث آخر أن آدم (عليه السلام) بكى على الجنة أربعين صباحاً وهو في حالة
السجود(١٧٤).
إن هذا التوجه وهذه الحالة حدثت أثر الفقدان، نحن أيضا نركض وراء الجنة مع أننا لم
نرَها ولكننا سمعنا ببركاتها وخيراتها، فكما ركض آدم (عليه السلام) وراء جنة النعيم
والرضوان، نحن أولاده أيضا نركض وراء جنة النعيم وجنة الرضوان.
إن احد العوامل المحتملة للغيبة واستمرارها، هو سَوق البشر نحو التكامل النفسي
والفكري والعملي من خلال الفقدان، إن الله سبحانه وتعالى هو الرب ﴿الْحَمْدُ
للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فماذا تعني مفردة رب؟
إن من معاني الرب هي: المربي وهو المنمّي من الإنماء، فالله تعالى هو رب العالمين،
جمع عالم، فيوجد لدينا عالم النبات وعالم الجماد وعالم الحيوان، إن الله تعالى يربي
النبات، وقبلها يربي البذرة وينمّيها بالعناصر الموجودة في التربة، وبالأملاح
والأشعة والحرارة، فهذه المجموعة من العوامل هي التي تساعد في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٤) انظر (مستدرك الوسائل): ج٩ ص٣٢٩ ب٩ من أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها ح١.
نمو الشجرة، ويُقال: توجد في ظهر
نواة التمر - إذا لاحظت ذلك - حفرة تطلع منها النخلة فتنمو لتصبح بهذا الحجم
الكبير، ويعبر القرآن الكريم عن هذه الحفرة بالنقير(١٧٥): ﴿وَلاَ
يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾(١٧٦).
نحن البشر من العالمين أيضا، والله تعالى رب العالمين، فأحد عوامل تربيتنا
وتكاملنا، هو التربية بالفقدان، فقد جاء النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى
البشرية ووضع لهم منهجا متكاملا، ثم عيّن من بعده أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت
(صلوات الله عليهم) لكي يكونوا القيّمين على تطبيق هذا المنهج، لكن بعض البشر لم
يعرفوا قيمة النبي الأعظم وقيمة أئمة أهل البيت، ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ﴾، حيث كان بعض الناس يأتون إلى النبي الأعظم (صلى الله عليه
وآله) وهو أشرف الأولين والآخرين ويرفعون صوتهم فوق صوته ﴿لَا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾(١٧٧) فقد كان
بعضهم ينام ويتمدد على بطنه أمام النبي (صلّى الله عليه وآله) كما في بعض الروايات
التاريخية ثم يقولون: حدثنا يا محمد!
وقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله) في فراش المرض وهم يقولون: إن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٥) النقير: نقرة على ظهر النواة،
راجع (صحاح الجوهري): باب (نقر).
(١٧٦) سورة النساء: ١٢٤.
(١٧٧) سورة الحجرات: ٢.
الرجل ليهجر(١٧٨)! وهذا وارد هذا في صحيح البخاري، أو أن النبي (صلّى الله عليه وآله) غلب عليه الوجع(١٧٩)، فلم يعرفوا قيمة أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) الذين منَّ الله بهم على البشرية وبالنبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، لكن هنالك صفوةٌ مُستثناة من الناس المؤمنين، فلا شك في ذلك وهو أمر واضح، ولكن الطابع العام ليس طابع معرفة الناس بقيمة النبي وأهل بيته فلقد قتلوهم وشرّدوهم:
بعضٌ بطيبة مدفون وبعضهم * * *
بكربلاء وبعض بالغريينِ
وأرض طوس وسامراء * * * وقد ضمنت بغداد بدرين(١٨٠)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧٨) قال الجوهري: (الهجر أيضاً:
الهذيان)، وعن مجاهد وأبو عبيد وإبراهيم وابن قتيبة: (إن الهجر هو قول غير الحق
واستشهدوا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا
الْقُرَآنَ مَهْجُوراً﴾ فقال بعضهم: ألم تر إلى المريض إذا تكلم بغير عقل،
قيل: إنه ليهجر)، وقال الزجاج: (الهجر: مالا ينتفع به من القول).
(١٧٩) جاء في صحيح البخاري: ج٥ ص٧٥، في إسناده الأول عن ابن عباس في القضية
المعروفة: (قالوا: ما شأنه أهجر استفهموه)، وفي ص٧٦: بسنده الآخر عنه أيضاً:
(فقالوا: إن رسول الله يهجر)، وفي نفس الصفحة بسند ثالث عنه: (فقال عمر: إن رسول
الله قد غلب عليه الوجع).
(١٨٠) من قصيدة المحدث العالم شاعر أهل البيت أبو الحسن علي بن حماد العدوي العبدي
البصري، المتوفى سنة ، وقد روي عن بعض الصادقين (عليهم السلام) قوله: (تعلموا شعر
العبدي فإنه على دين الله)، وطلع قصيدته هذه التي يرثي فيها سيد الشهداء (عليه
السلام):
لله ما صنعت فينا يـد البين * * * كم من حشا أقرحت منا ومن عين
التربية بسوط الغيبة:
نحن نعيش حالياً (عهد الغيبة)، ويعني عهد الفقدان، فيقوم الله سبحانه وتعالى بتربية
البشر وينمّي فيهم الكمالات النفسية والفكرية والعملية بالغيبة، وبتعبير موجع
بـ(سوط الغيبة)، وهي بحد ذاتها تُعد تربية، فنحن نشعر في الزمن الحالي بالفقدان،
وهذا نوع من أنواع الأثر نفسي، في صبيحة يوم الجمعة يجتمع ملايين المؤمنين في شرق
الدنيا وغربها عبر العصور المختلفة ويقرؤون (دعاء الندبة)، وهذا يعني أنهم يبكون
على فقدانهم لإمامهم، كما يفعل الأبناء حين يجتمعون ويبكون على فقدانهم لأبيهم،
اقرأ مقاطع من دعاء الندبة، مقاطع التوجع والتفجّع والتألّم، أتعلم كم ينمّي مثل
هذا العمل النفس البشرية؟ وكم يعمّق الارتباط بإمام زماننا؟
إن قضية الارتباط ليست هيّنة بل مهمة جداً، فهنالك مقياس للارتباط في الأمور
المعنوية ومقياسها في الأمور المادية، فحين تكون جالسا في الغرفة فإن بركات الشمس
ستشملك، فهي موجودة في كل مكان، ولكن عندما تقيمون علاقة مباشرة مع أشعة الشمس
وتتعرضون لها مباشرة، ستنالون بركاتها في الجانب المادي، ومن العجائب الموجودة في
الطب أن الأطباء ينصحون الإنسان بوجوب التعرض مباشرة للأشعة وأن لا يكون بينهما
حاجز حتى لو كان من
وراء الزجاج، ومن العجائب أيضا أنهم
يقولون في الفقه بأن الشمس مطهّرة شريطة أن تشرق على الشيء مباشرة. فالتعرض غير
المباشر للشمس غير مطهّر كما يقول الأطباء، أما التعرض المباشر فيختلف عن التعرض
غير المباشر.
لذا عندما يرتبط الإنسان بإمام زمانه سيكون هذا الارتباط مهماً جداً، فأحد الأشياء
التي يقولها بعض العلماء في السيدة رقية (صلوات الله عليها)، إن الله تعالى أعطاها
مقاماً عظيماً، فكم مليونٍ من الزوار زاروا السيدة رقية (عليها السلام) بنت الإمام
الحسين (عليه السلام) من ألف عام حتى اليوم؟ لقد لاحظ كثيرون منّا كيف يأتي الناس
إلى مقامها كي يتقربوا إلى الله تعالى بحبها، ويجعلونها شفيعة لهم إلى الله تعالى.
إن مرقد السيدة رقية (١٨١)(عليها السلام) عظيم مع أنها كانت طفلة تبلغ من العمر بين
ثلاثة أو أربع أعوام، وكانت للإمام الحسين (صلوات الله عليه) بنات متعددات، لكن
رقية متميّزة بينهنَّ، ويرى بعض العلماء أن هذه المكانة جاءت على أثر علاقة رقية
بإمام زمانها وهو سيد الشهداء، فينقل لنا الخطباء الكرام (حفظهم الله) عن هذه
العلاقة ومظاهرها، سواء في حياة الإمام أو بعد موته (عليه السلام)، حيث كانت
العلاقة مهمة جداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨١) هذا المرقد يقع في محلة العمارة بالقرب من مدينة دمشق.
كان هنالك رجلان أحدهما يملأ القلوب
والأسماع حتى الآن، فيُذكر في البحوث العلمية وفي المنابر والكتب وهو السيد مهدي
بحر العلوم(١٨٢)، لكن لماذا يُذكر؟ إنه يذكر بسبب علاقته المعروفة بالإمام سيد
الشهداء وبالإمام الحجة (صلوات الله عليهما)، وهنالك أخ لبحر العلوم وهو رجل عالم
ومؤمن أيضا وله مقامه وجلاله ولكن ربما لم يسمع كثيرون باسمه لأنه لم تُنقل عنه تلك
العلاقة المهمة.
إن العلامة الأميني(١٨٣) (رحمة الله عليه) كان مجتهداً وله إجازة اجتهاد كما ذكرت
بعض الكتب من المحقق النائيني والسيد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ عبد الكريم
الحائري، فقد دفعه حُبه لأهل البيت لأن يسخّر نفسه لأهل البيت، ولأمير المؤمنين
(صلوات الله عليه)، لا بأس أن ننقل هذه القضية التي تخص هذا الموضوع: يُنقل أن
اثنين من العلماء ذهبا إلى عيادته في طهران حين كان يعاني من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٢) السيد محمد مهدي بن السيد
مرتضى بن السيد محمد الحسني البروجردي المعروف ببحر العلوم الطباطبائي، ولد بكربلاء
سنة ١١٥٥ هـ من كبار علماء الإمامية، درس فيها على كبار علماءها كالوحيد البهبهاني
والشيخ يوسف البحراني ثم انتقل إلى النجف الأشرف وتوفي بالنجف سنة ١٢١٢ هـ.
(١٨٣) العلامة الشيخ عبد الحسين احمد الأميني من فقهاء الإمامية والمؤرخين الأدباء
ولد سنة١٣٢٠هـ وتوفي سنة ١٣٩٠ هـ ومن أهم مؤلفاته موسوعة الغدير التي لم يعمل مثلها
في بابه، فلله دره وعليه أجره.
المرض الذي مات فيه، وحين وصلا إليه
كان نائما، ثم حين دخلا إليه واطمأنّا على صحته سأله أحدهما: هل تأذن لي أن أسألك
عن مسألة علمية؟
فقال العلامة الأميني: حول أي شيء يدور سؤالك؟
فقال العالم: حول الصديقة الكبرى فاطمة (صلوات الله عليها)، وكان العلامة الأميني
مضطجعا لكن بمجرد أن سمع بهذا الاسم المبارك وإذا به يحاول النهوض من منامه، فطَلبَ
منه العالمان أن يظل راقداً كما هو، لكنه رفض ذلك وقال: إن هذا يخالف الأدب أن
تُذكر فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) وأبقى نائماً، ثم حاول أن يجلس بصعوبة،
وجاء احد أفراد عائلته وذكّره قائلا: شيخنا لقد منعك الأطباء من التحرك، فالحركة لا
تناسب وضعك الصحي.
لكنه قال: لا يمكن أن تُذكر الصديقة الزهراء وأنا نائم، فهو خلاف الأدب، ثم جلس
بصعوبة وقال للعالم الزائر: ما هي مسألتك؟ فسأله العالم عن مصدر هذا الحديث: «ولولا
فاطمة لما خلقتكما»(١٨٤)، فقال له: إن هذا الحديث موجود في (كذا...) كتاب من كتب
العامة، إذ ليس الخاصة فقط من رووا هذا الحديث، بل السُنة أيضا رووه، إذن هذا هو
معنى الارتباط بأهل البيت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٤) مستدرك سفينة البحار: ج٣ ص١٦٩ باب (خلق).
ألم الفقدان وروحية التكامل:
لذلك فإن دعاء الندبة مهم جداً، فهو يعني ندبة الغائب والمفقود، فعندما يقرأ ملايين
المسلمين في شرق الدنيا وغربها وعلى مرّ القرون في يوم الجمعة دعاء الندبة يستشعرون
ألم الفقدان، ويتعمق الارتباط في نفوسهم، فعلى مرّ التأريخ يذهب مئات الألوف من
الناس إلى مسجد السهلة ليحظوا بلقاء الإمام الحجة (صلوات الله عليه)، حيث أن من
يذهب إلى مسجد السهلة أربعين ليلة الأربعاء كما هو معروف سينال لقاء الإمام، فكم
يعمّق هذا الفعل قضية الارتباط؟ وكم يربي هذا العمل روحية العلاقة بالإمام (عليه
السلام)؟
إن ملايين الناس يواظبون على زيارة ليالي الأربعاء، وملايين منهم يأتون إلى
(جمكران)(١٨٥) على مرّ الأعوام، لأن هذا المسجد له نوع من الارتباط بالإمام الحجة
(صلوات الله عليه)، فكل هذه المفردات تسوق البشر نحو التكامل، حيث يجب أن يتكامل
البشر نفسياً لأنه يشعر بالألم، «اللهم إنا نشكو إليك فقد نبيّنا وغيبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٥) مسجد يبعد عن مدينة قم المقدسة حوالي (٥) كم ويرجع تاريخ تأسيسه إلى عام ٣٩٢ هـ بأمر من الإمام صاحب الزمان (عليه السلام).
وليّنا»(١٨٦) فشكوانا هذه يوّلده
الفقدان، بمعنى أن أحدنا حين يشعر بألم الفقدان سيشكو من ألمه فتبدأ النفس البشرية
تتكامل نفسياً، ويشعر الإنسان بالألم وهو يعمّق العلاقة فيبكي ويستمر في البكاء.
هنالك روايات كثيرة تؤكد على أهمية البكاء كما في (البحار)، وبالإمكان مراجعة
(مستدرك سفينة البحار) حول بكاء المعصومين والأنبياء (عليهم السلام) (١٨٧)، حيث
يوجد تأكيد كبير على البكاء لأنه يطهّر النفس ويرفع من جوهرها، إن جمود العين وعدم
البكاء من علامات شقاء الإنسان، كما جاء في الروايات.
في أول الأمر يَحار الإنسان لأنه لا يفهم ألم الفقدان، ولكن كلما اصطدم بالمشكلات
الفكرية والعملية والعلمية للحياة أكثر، كلما شعر بمرارة الفقدان حتى يصل إلى حالة
التضرع، حيث تترك آثارها النفسية والفكرية، وسيشعر الإنسان بقيمة الإمام الغائب
والآثار العملية لهذه الغيبة أيضا، ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ﴾(١٨٨)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٦) مقطع من دعاء الافتتاح الخاص
بشهر رمضان المبارك، راجع كتاب (مفاتيح الجنان) وكتاب (الدعاء والزيارة).
(١٨٧) قال: الشيخ علي النمازي مؤلف مستدرك سفينة البحار في: ج١ ص٣٩٤ باب(بكى):
(الروايات الدالة على فضل البكاء من خشية الله تعالى كثيرة لا تحصى نتبرك بذكر
بعضها) وساق جملة من الروايات في أبواب منها: باب فضل البكاء وذم جمود العين، باب
آدم، نوح، إبراهيم...).
(١٨٨) سورة الروم: ٤١.
حيث يشعر الإنسان أنه محروم ويمكنه
أن يُزيل هذا الحرمان، ولكن يحتاج إلى جهد، فالإنسان إذا شعر بأنه قد تطهّر فيمكن
أن يصل إلى ذلك الفيض والكمال المطلوب، وكم من الأفراد حتى العاديين منهم تجدهم
قمماً روحية، ناهيك عن العلماء الذين كان لديهم هذا التوجه فأصبحوا قمماً روحية
أيضاً.
هنالك قضية معروفة في التاريخ لا أريد أن أفصّلها، وهي أن (علي بن مهزيار)(١٨٩) كان
يفكر بأن يلتقي بالإمام الحجة (عجل الله فرجه)، فهذا الإنسان كان يفكر بأن يبدل
الغيبة إلى حضور، فكم سيحتاج إلى جهد، لأنه ليس ظاهرا وإنما باطن، فالإمام لا ينظر
إلى الظاهر وإنما ينظر إلى الباطن، فكم يحتاج الإنسان إلى تطهير باطني لكي يصل إلى
هذه الدرجة، فيذهب علي بن مهزيار إلى الحج - يمكن مراجعة تفاصيل هذه القضية في كتاب
(كمال الدين)(١٩٠) للشيخ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٨٩) علي بن إبراهيم بن مهزيار
والمعروف: بعلي بن مهزيار نسبة إلى الجد وعلي هذا هو ابن أخ علي بن مهزيار المشهور
وهو أبو الحسن الثقة الجليل الذي كان من أصحاب الرضا والجواد والهادي (عليهم
السلام) وكان من خواصهم ووكلائهم المقربين، وأما والده إبراهيم بن مهزيار أبو إسحاق
فكان من أصحاب أبي جعفر وأبي الحسن (عليهما السلام) ووردت بعض الروايات أنه بقي إلى
زمن الحجة وكان من وكلائه، وله ابن آخر اسمه محمد بن إبراهيم وكان من أصحاب الإمام
العسكري (عليه السلام) وكان وكيلاً لصاحب الأمر (عليه السلام).
(١٩٠) رواها الشيخ الصدوق في كمال الدين: ص٤٦٥ - ٤٧٠ ب٤٣ ح٢٣، عن علي بن إبراهيم بن
مهزيار.
الصدوق (رحمه الله) - لكي يلتقي
بالإمام (عليه السلام)، وهذا أمل كثير من العلماء والمؤمنين وكثير منهم وفقوا لذلك،
إن بحث اللقاء بالإمام (عليه السلام) بحث مستقل، وقد نالت كثيرا منهم عناية الإمام،
أما نحن فكثير منا محرومون لأننا لا نمتلك القابلية المطلوبة.
فكم يحتاج علي بن مهزيار الذي كان يفكر في لقاء الإمام (عليه السلام) إلى مواظبة
ومراقبة في علم الأخلاق وباب المراقبات وكم يحتاج من جهد ليطهّر نفسه؟ فقد ذهب إلى
الحج في العام الأول والثاني حتى تكرر حجه تسعة عشر عاما، ثم بعد ذلك في العام
العشرين نال توفيق اللقاء بالإمام (عليه السلام) (١٩١)، فحين نرى امتلاك أتباع أهل
البيت (صلوات الله عليهم) لهذه القمم الروحية الأخلاقية، فلأنهم يمتلكون هذا
التوجه.
إذن؛ يمكن تلخيص العامل السابع من عوامل الغيبة، بأن الغيبة تمثل مفردةً من مفردات
سَوق البشر إلى التكامل فكرياً ونفسياً وعملياً، وهي مظهر من مظاهر التربية الإلهية
للإنسان، وإن أحد النماذج التأريخية الموجودة في هذا الجانب هو أمير المؤمنين
(صلوات الله عليه)، فقد أعرض الناس عن أمير المؤمنين بعد وفاة النبي الأعظم (صلى
الله عليه وآله) ولكن لمسوا الواقع وأدركوا مرارته، فحين ذهب الإمام (عليه السلام)
إلى الصحراء واشتغل بغرس النخيل، كان سبب ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩١) انظر (كتاب الغيبة، للشيخ الطوسي): ص٢٦٣ - ٢٦٧ الفصل٢ ح٢٢٨.
كما جاء في نهج البلاغة على ما
أتذكر، أن الإمام (صلوات الله عليه) قال: «لا يريدني فلان إلا أن أكون كالجمل
الناضح، فيقول لي: أقبل فأقبل وأدبر فأدبر»(١٩٢).
لقد أبعدوا الإمام (عليه السلام)، وقد لاحظ الناس نتائج إبعاد الإمام وغيبته، ولذلك
انهال الناس بعد قتل عثمان على أمير المؤمنين، فقال الإمام (صلوات الله عليه): «فما
راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ» لأن عرف الضبع يحتوي على شعر كثيف «ينثالون عليّ
من كل جانب. حتى لقد وُطئ الحسْنان» الحسنان هما الإبهامان، فداسوا قدم أمير
المؤمنين صلوات الله عليه من شدة زحامهم، «وشُقّ عطفاي» أي شُقّ رداء الإمام (عليه
السلام) بسبب زحام الناس، «مجتمعين حولي»(١٩٣)، إذن فقد ربّت هذه الغيبة الناس
وجعلتهم يشعرون بقيمة الإمام الغائب، وإننا أيضا يمكن أن نتخذ من الغيبة وسيلة من
وسائل تربية أنفسنا نفسياً وفكرياً وعملياً.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩٢) انظر (نهج البلاغة): ج٢ ص٢٣٣.
من كلام له (عليه السلام) قاله لابن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان وهو محصور يسأله
فيها الخروج إلى ماله بينبع...، وفيه: «يا ابن عباس، ما يريد عثمان إلا أن يجعلني
جملاً ناضحاً بالغرب - بالفتح ثم السكون الدلو العظيمة - أقبل وأدبر، بعث إلي أن
أخرج، ثم بعث إليّ أن أقدم، ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج...».
(١٩٣) نهج البلاغة: ج١ ص٣٥ ، مقطع من الخطبة الشقشقية.
نبذة عن حياة الفقيه المقدس:
هو الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته)
وُلد في كربلاء المقدسة سنة ١٣٧٩هجرية، النجل الأكبر للمرجع الديني الراحل المجدد
الثاني آية الله العظمى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته).
نشأ وترعرع بجوار أبي الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام) فتعلم منه درس الولاء
والتضحية والفداء في سبيل الله (عزَّ وجلَّ).
* بدأ دراسته الأولية في مدرسة حفّاظ القرآن الكريم ثم التحق بالحوزة العلمية في
كربلاء المقدسة حيث درس مقدمات العلوم الدينية لدى أساتذتها الكبار. وهاجر بصحبة
والده إلى الكويت وذلك بعد الضغوط الكبيرة التي لاقتها أسرة الإمام الشيرازي من قبل
طغاة البعثيين في العراق.
* كان من أساطين الأساتذة في حوزة قم المقدسة حيث بدأ بتدريس المقدمات والسطوح
العالية ومن عام ١٤٠٨ هـ شرع بتدريس بحث خارج الفقه والأصول على فضلاء الحوزة وكان
مستمراً في تدريسه وعطائه العلمي حتى وافته المنية.
* كان (رحمه الله) قمة في الأخلاق والتواضع والبسمة على وجهه
وحزنه في قلبه كما ورد في صفات
المؤمنين، تربى في مدرسته العلمية عدد كبير من التلامذة الفضلاء وهم اليوم من
المدرسين في الحوزات العلمية في مختلف أرجاء العالم.
* ترك محاضرات علمية وأخلاقية عديدة تبث عبر عدد من القنوات الفضائية الدينية، كان
لها الأثر الكبير في تحقيق الاستقرار والإصلاح والتسامح في كثير من الأسر
والمجتمعات.
* كما ترك كتباً علمية قيمة نال عنها عدة إجازات في الاجتهاد.
* وقد تم مؤخراً استحداث مؤسسة ثقافية حملت اسم الفقيه الراحل وهي (مؤسسة الفقيه
الشيرازي الثقافية) وتعنى بالثقافة ونشر فكر أهل البيت عليهم السلام في عموم أرجاء
العالم وبدأت مشروعها الثقافي بتوثيق جميع محاضرات السيد (أعلى الله درجاته) وذلك
من خلال تحويل مضامينها الصوتية إلى كتب تضم محاضراته القيمة.
* توفي (رحمه الله) في ظروف غامضة، صبيحة يوم الأحد ٢٦ جمادى الأولى من سنة ١٤٢٩
هجرية الموافق ١/٦/٢٠٠٨م في قم المقدسة، ونقل جثمانه الطاهر إلى العراق ودُفن في
الصحن الحسيني الشريف.
تعريف بمؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية:
* تهتم المؤسسة بدراسة ونشر الفكر الإسلامي المعاصر من خلال القرآن الكريم وسنة
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، ومن خلال
نشر أفكار ورؤى الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (أعلى الله
درجاته).
تهدف المؤسسة إلى:
- دراسة العقائد الإسلامية وفق منهج أهل البيت عليهم السلام والعمل على تحليل وحل
الإشكالات والشبهات وفق منهجية علمية وموضوعية.
- استشراف أفكار ورؤى آية الله الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي (أعلى الله درجاته)
من خلال ما تركه للبشرية من ثروة معرفية وعلمية كبيرة متمثلة في آرائه ونظرياته
وطروحاته الفكرية التي تناولت الكثير من مفاصل الحياة وخصوصاً في الجوانب العقائدية
والاجتماعية والأخلاقية.
- تحرير وتحقيق وإعداد المحاضرات التي ألقاها الفقيه المقدس آية الله السيد محمد
رضا الشيرازي (أعلى الله درجاته).
- إعداد دراسات وبحوث في مجال الفكر الإسلامي عامة, ضمن أفكار ورؤى الفقيه المقدس
الشيرازي (قدّس سرّه).
توصيات مرجعية:
مقتبسات من رؤى المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام
ظله):
* إن من أبسط وأقلّ ما يمكن القيام به لخدمة الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله
تعالى فرجه الشريف) هو أن يخصّص كل واحد منكم مقداراً من المال يطبع فيه كتاباً عنه
(عليه السلام)، ولا يشترط أن يكون الكتاب ضخماً بل كل حسب سعته.
* إن اقتران ميلاد سيدنا ومولانا بقية الله في الأرض الإمام المهدي المنتظر (صلوات
الله عليه وعجل الله فرجه) مع النصف من شهر شعبان المعظم، الذي جعل الله تعالى في
ليلته تقسيم الأرزاق وتثبيت الآجال لعباده، ثم تأكيد الأئمة الأطهار(عليهم السلام)
على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في هذه المناسبة العظيمة وبهذا التعبير: «من
أحب أن يصافحه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي فليزر قبر الحسين (عليه السلام) في
النصف من شعبان، فإن أرواح النبيين تستأذن الله في زيارته، فيؤذن لهم». هذا
الاقتران ليس صدفة، والجامع المشترك بينها هو (تقرير المصير) فليلة النصف من شعبان
ليلة تقرير الآجال والأرزاق، ونهضة الإمام الحسين (عليه السلام) قررت مصير الأمة
الإسلامية وأنقذتها من السقوط في مهاوي التحريف والضلال، والإمام المهدي(عليه
السلام) سيقرر مصير البشرية بظهوره الشريف.
* من مسؤولية الآباء العراقيين حفظ
أبنائهم وتوعيتهم، وإنقاذهم من المخاطر الداهمة، في ظلّ انخفاض معدّلات الزواج، وفي
ظلّ السهام القاتلة التي ترميها الفضائيات في كلّ لحظة نحو أدمغة الشباب وغرائزهم،
فاللازم على الجميع خاصة ذوي المناصب الاجتماعية والروحية أن يبذلوا قصارى جهودهم
لملء الفراغ وبالطرق الصحيحة والمجدية، ليجد الشاب العراقي البريء بديلاً عن كل
المساوئ والتفاهات، وليكون عامل بناء لمستقبل العراق، بدلاً من أن يتحول إلى وسيلة
هدم وتخريب.
* العراق بلد أمير المؤمنين والإمام الحسين (عليهما السلام) وهو مقبل على مستقبل
مشرق لهذا الشعب المظلوم والمجاهد الصابر. فيلزم على جميع قطاعات الشعب العراقي
الكريم التكاتف في سبيل استتباب الأمن - الكامل والشامل - الذي هو من أهمّ
المقدّمات لبناء العراق على شتى الأصعدة بالشكل المطلوب، والاهتمام بالحوزات
العلمية والجامعات الأكاديمية، التي تشكل القاعدة المهمّة لثقافة الأمّة.
* إنّ الكتل والأحزاب والهيئات الموجودة اليوم، يجب أن توظّف في عملية البناء لا
عملية الهدم، كما رأينا ذلك في ظلّ حكومة رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله
وسلامه عليهما وآلهما.
* عراق اليوم والمستقبل يحتاج إلى الملايين من الكتب والمجلات الدينية، وإلى
المدارس والحوزات العلمية، وإلى الخطباء والمربّين، كما هي حاجة العراق إلى ألوف
المستشفيات والمراكز الصحية
والاجتماعية والتعليمية والتثقيفية
وغير ذلك.. وهذا يُلزمنا ويدفعنا إلى الإمساك بزمام المبادرة، والعمل بالمستوى من
المسؤولية إزاء أسرنا وأبنائنا، لضمان مستقبل العراق.
* على السياسيين الترفع عن النزاع على المناصب وتقديم مصلحة الجماهير المؤمنة على
كل شيء.
* على كل زائر وزائرة أن يستلهم من حياة الإمام الحسين (عليه السلام) المزيد مما
كان عليه الإمام سيرة وعطاءً، فيتعلم الإخلاص في العمل، والاجتهاد والنشاط في سبيل
الله، والأخلاق الفاضلة، فقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) مثلاً أعلى في
الأخلاق الفاضلة مع الكبير والصغير، والصديق والعدوّ، والمؤمن والمنافق. فعلى
السائرين على خطاه (عليه السلام) أن يتحلّوا بالأخلاق النبيلة، من التعايش
بالمداراة والسلم، والتعاون، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة
الحسنة، وجمع الكلمة، والصدق والأمانة، والحلم والإيثار والمواساة، والوفاء وغيرها.
* إن رجوع المسلمين إلى العمل بالقران الكريم كله وبالأخص المتناسى من آياته! كآية
الشورى والأخوة والأمة الواحدة والعلم والتقوى وغيرها، كفيل بحلّ مشاكلهم وتجديد
عزّهم.
* حذار حذار من التشكيك في قضايا الحسين (عليه السلام) وشعائره، فكما أن الأجر
والمقام والأمل والثواب عظيم لمن يقف في صف الحسين (عليه السلام) وشعائره، فكذلك
العقاب عظيم لمن يشكك فيها أو
يعرقل إجراءها. واعلموا أن ما يجري
في السماوات من تعظيم هذه الشعائر لهو أعظم بكثير مما يجري في الأرض في بلاد الشيعة
وغيرهم.
* علينا أن نعلم بأنّ كلّ حسينية هي بيت من بيوت الإمام سيّد الشهداء (عليه
السلام)، فلنحاول تجنيب هذه الحسينيات من أن تتحوّل إلى مسرح لطرح الخلافات
والنزاعات، بل على العكس، لنجعل منها أماكن للاجتماعات والوحدة والوئام.
* يمكنكم أن تضيئوا مصباح الإمام الحسين (عليه السلام) في بيوتكم، وذلك من خلال
إقامة مجلس العزاء الحسيني في البيت. ولهذا العمل بركات دنيوية جليّة، تسبق بركاته
الأخروية.
* لقد أراد الإمام الحسين (عليه السلام) أن ينجي العباد - كلّ العباد - من الجهل
والضلال والتيه، لذلك إذا أردنا أن نتقرّب منه (عليه السلام) أكثر علينا أن نبذل
كلّ ما نملك في خدمة هداية الناس إلى راية الحسين (عليه السلام).
* إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) استشهد من أجل: أصول الدين، والأحكام الشرعية،
والأخلاق الإسلامية. فمن أراد أن يكون على ولائه لسيّد الشهداء (عليه السلام)
وأهدافه السامية، عليه أن يسعى في الحفاظ على هذه الأهداف الثلاثة التي استشهد من
أجلها الإمام (عليه السلام) وأن يضعها على رأس أولوياته.