دعوى السفارة في الغيبة الكبرى

دعوى السفارة في الغيبة الكبرى ج (1 و2)

تأليف: سماحة الشيخ محمّد السند
إعداد وتقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام

فهرست الموضوعات

الجزء الأوّل
مقدمة المركز
تمهيد
الغيبة الصغرى والنيابة الخاصة
خطورة النيابة الخاصة
المدّعون للسفارة مع باقي الأئمّة عليهم السلام
الضرورة على انقطاع السفارة
التشرف باللقاء والنيابة
محدوديّة صلاحية النيابة
الانقطاع ومعنى الغيبة
عقيدة الانتظار
التفقه في الدين اعتصام من الضلال
نماذج قرآنيّة في القدرة التكوينيّة لروّاد الضلال
مفهوم العدالة يقلب إلى العصمة المكتسبة وذريعة التأويل
تنويع البحث
الفصل الأوّل: في الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة
الفصل الثاني: في كون انقطاع النائب الخاص للإمام عليه السلام عقيدة من ضروريات مذهب الإمامية الإثني عشرية
الأمر الأوّل: معنى النيابة لغة
الأمر الثاني: كلمات علماء الطائفة
الأمر الثالث: النيابة العامة للفقهاء
الأمر الرابع: منابع الشريعة
الأمر الخامس: الرؤيا ليست مصدراً للتشريع
جواب شبهة: (من رآني في منامه فقد رآني)
الأمر السادس: نبذة من أحوال النواب الأربعة في الغيبة الصغرى
الأمر السابع: ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية لعنهم الله
أوّلهم: المعروف بالشريعي
محمّد بن نصير النميري
أحمد بن هلال الكرخي
أبو طاهر محمّد بن علي بن بلال
الحسين بن منصور الحلاج
ابن أبي العزاقر
نسخة التوقيع الخارج في لعنه
التوقيع
ذكر أمر أبي بكر البغدادي
الأمر الثامن: ثواب الثبات والتمسّك بالدين في الغيبة الكبرى وشدّة المحنة
الأمر التاسع: تفسير الكتاب الوارد من الناحية المقدّسة على الشيخ المفيد وتشرّف عدّة من أساطين الفقه والعلم بلقائه عليه السلام
الأمر العاشر: من هم الأبدال والأوتاد؟
الفصل الثالث: في الفِرق التي انحرفت عن الطائفة الإمامية
(الغلاة)
(الخطابية)
(الحارثية)
(المنصورية)
(أصحاب السري)
(البيانية)
(أصحاب حمزة بن عمارة الزبيدي البربري)
(المغيرية)
(أصحاب بزيع بن موسى الحائك)
(البشيرية)
(أصحاب معمر بن خيثم)
الفصل الرابع: في تاريخ البابية في إيران
الخاتمة
الأمر الأوّل: في خروج الدجّال
الأمر الثاني: في علامات ظهور الحجة عليه السلام وعدّة أصحابه
الأمر الثالث: في مدح العلم وذم الجهل
الجزء الثاني
الفصل الأوّل: العقول والخواطر
عبادة العقل
مرتبة ومساحة حجية العقل
الخواطر ومسؤولية بناء الذات
فلسفة استعراض الماضي
الفصل الثاني: منظومة المعارف الدينية
المحور الأوّل: الدين
موالاة أهل البيت عليهم السلام من الدين
المحور الثاني: الملّة
المحور الثالث: الشريعة
المحور الرابع: المنهاج
المحور الخامس: الطريقة
المحور السادس: الحكمة
مساحات التشريع
بعض شبه العلمانية
الفصل الثالث: فتنة البصيرة
فتنة البصيرة أشد الفتن
تفاوت البصائر
اليهود وفتنة العجل
الحكمة من فتن البصائر
النصارى وفتنة قتل عيسى عليه السلام
الفتنة محك البصيرة
التوسل بالنبي وآله من الاختبارات في البصيرة
تعدد الرؤى والأنظار ينمي البصيرة
تنوع الآيات امتحان للبصائر
أصحاب الكساء ركن المهدوية
طريق تخطي فتن البصائر
حقيقة التباس الحجج
اتّباع بقية الأنبياء في زمن سيد الرسل ضلال
جميع الأنبياء على دين الخاتم
الفصل الرابع: حقيقة ومراتب الحجج
حقيقة معرفة الحجج
معنى المتشابَه
الحس يقين وظن
لا تقاطع ولا إقصاء في الحجج
حجية الفقهاء في دولة الظهور
اُمومة بديهيات العقل في المعرفة
أنواع الحجج مفتاح البصائر
مراتب الحجج
تراتب حجية الأئمّة
الفصل الخامس: القواعد الرقابية في المعرفة
بديهيات العقل أولى القواعد
ضروريات دين الله ثاني القواعد
سنن الأنبياء ثالث القواعد
مواقف الزهراء عليها السلام رابع القواعد الرقابية
منهاج الأئمّة خامس القواعد الرقابية
الواقع والاستكشاف في الحجج
أهمية الحورات العلمية الدينية
بين البصيرة والتمرد
الغلو والتقصير تعريف آخر
القواعد الرقابية وحفظ ثقافة أهل البيت عليهم السلام
القواعد الرقابية والشلمغاني والعبرتائي
بواعث الانحراف
الفصل السادس: النيابة الخاصة
أصحاب السر
التأويل مع الظاهر لا الضروري
تطابق الشريعة ظاهراً وباطناً
سقوط الحجية
إمكانية الانحراف والنائب الخاص
السفير والنائب قد يفقد حجيته
دعوة للتوازن
ضرورة الدراسات العقائدية
الدليل الإثباتي للنيابة الخاصة
خطورة السفارة ودليلها
انضباط قنوات الحجية للغيب
شبهات عنكبوتية واهية
في عصر المهديين الاثني عشر
الفصل السابع: حقيقة النيابة الخاصة والسفارة
أدلّة انقطاع النيابة الخاصة والسفارة
ضابطة صارمة علامة لعصر الظهور
منابع الشريعة
عدم حجية تلقي غير المعصوم
افتراق الريب عن الفحص العلمي
رفع اليد عن أدلّة اليقين مقابل توهمات
عدم حجية إلهام أو رؤية غير المعصوم
الارتباط بالغيب نبوة أم إمامة أم للكل
تفاوت درجات الصدق
ضعف ومحدودية الإدراك القلبي لغير المعصوم
كشف المعصوم القرآن والسُنّة
سبب اختلاف المعصوم في التلقي مع غيره
العدالة تغاير العصمة
العلوم الغريبة المكتسبة ووهم إعجازها
توصية روايات الظهور بخطورة الدجل
التشرف برؤية الإمام المهدي عليه السلام لا يعني الحجية
رياضات النفس وفعل الأعاجيب
حدود النيابة الخاصة والسفارة
ثبات فقه مدرسة أهل البيت ومصادره
ضرورة الموازين في قراءة الدين
كفر مُدّعي السفارة
عناوين دعوى السفارة
حركات ونهضات رايات سنة الظهور
الخلط بين أحوال الرجعة وما قبل الظهور
حقيقة السفارة والنيابة الخاصة
الفصل الثامن: مفهوم الغيبة بين الافراط والتفريط
الافراط والتفريط في الغيبة
حقيقة الغيبة والظهور
شواهد التصدي للإمامة الفعلية
الغيبة والتقية وقمّة النشاط
لولا إدارة الإمام لشؤون الحياة على الأرض لساخت
جهاز تدبير الإمام
معنى أعمق للغيبة
الفصل التاسع: التوقيت والظهور
كيف ننصر الإمام المهدي عليه السلام
التوقيت والتفاؤل
مصادر التحقيق

الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز:
دأب مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام ومنذ تأسيسه بعد سقوط النظام في النجف الأشرف على وضع اللبنات الأولى لتأصيل الفكر المهدوي وتعميق ثقافة الانتظار بين أبناء مدرسة أهل البيت عليهم السلام في العراق وخارجه وذلك من خلال الأطر العامة والخطط المعرفية التي وضعها منهاجاً يسير على خطاه، وكان من جملة هذه البرامج هي إقامة دورات علمية تخصصية تهتم ببيان الجوانب المعرفية في الثقافة المهدوية وذلك باستضافة الشخصيات العلمائية وفضلاء الحوزة العلمية وأساتذتها ممن تشهد لهم الساحة العلمية بطول الباع وعمق النظر والإحاطة المستوعبة في مختلف جانب قضية الإمام عليه السلام وكان ممن تشرف المركز بدعوته سماحة الفقيه المحقق الشيخ محمّد السند (دام عزه) حيث عقد المركز لسماحته دورة تخصصية حضرها العشرات من طلبة الحوزة العلمية وذلك في شهر صفر سنة (1427هـ) في النجف الأشرف في جامع الهندي ولما كانت الحاجة ماسة والساحة العلمية بحاجة إلى أمثال هذه البحوث القيّمة التأصيلية في الفكر الشيعي وذلك لوجود الشبهات الفكرية في القضايا العقيدية بشكل عام وقضية عقيدة الإمام المهدي عليه السلام بشكل خاص قامت لجنة التحقيق في المركز وبجهود مباركة لكل من الإخوة الفضلاء سماحة الشيخ حازم الحدراوي وسماحة الشيخ حميد الوائلي بتحرير الدرس وتقويم النصّ وربط الأبحاث وتوحيدها وتخريج المصادر والتعليق على الكثير من البحوث لبيان إيضاح أو تأييد فكرة ودعم معلومة أو غير ذلك مما له دخل في شمولية البحث واستيعابه وعرضه بأسلوب يحصّل أكثر قدر ممكن من الفائدة العلمية. وأسميناه (دعوى السفارة في الغيبة الكبرى الجزء الثاني) كما ارتأى المركز _ بعد استحصال موافقة المؤلف _ طباعة الجزء الأوّل من دعوى السفارة مع الجزء الثاني باعتبار وحدة الموضوع فيهما وأن أحدهما مكمل للآخر فقامت اللجنة الموقرة بإعادة تحقيق الجزء الأوّل وإخراج مصادر الروايات والأحاديث وتصحيح الأخطاء المطبعية وغيرها من الأمور الفنية.
فكان نتاج هذا الجهد المشكور أن خرج هذا الكتاب بجزئيه الأوّل والثاني بمثل هذه الحُلة القشيبة، راجين من الله تعالى القبول والتوفيق ومن صاحب الأمر عليه السلام الرعاية والرضا.

مدير المركز
السيد محمّد القبانچي

تمهيد
الحمد لله باعث الرسل، وجاعل الخلفاء لكي لا تخلو الأرض من حجّة لله بالغة على الناس، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين للنّاس كافّة، رحمة للعالمين، المبشّر بأنّ المهدي من ذرّيّته من نسل البتول المطهّرة، وعلى آله الأوصياء حجج الله على الخلق.
وبعد.. فإنّ نجوم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، لا يغيب منهم نجم إلى الدار الآخرة إلاّ ويطلع آخر، حتّى انتهى الأمر إلى بقية الله في الأرضين، صاحب الأمر المهدي الحجة ابن الحسن العسكري، الذي يملؤها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وقد وقعت المشيئة الإلهيّة أن يكون هذا العلم المنصوب، والعلم المصبوب، والغوث، والرحمة الواسعة في ستار الخفاء، والحجاب المسدول عن التعرّف على شخصه وهويّته من قِبل معسكر الظالمين والمستكبرين، يمارس مهامه ودوره المرسوم من قِبل الباري تعالى، وهو صاحب ليلة القدر في عصورنا هذه.
الغيبة الصغرى والنيابة الخاصة:
لقد هيّأ الباري عزَّ اسمه المؤمنين لغيبة وليّه عليه السلام الطويلة المتمادية قروناً بغيبة صغرى قد نصب فيها نوّاباً وسفراء له أربعة، أوّلهم: عثمان بن سعيد العمري، والثاني: ابنه محمّد بن عثمان العمري، والثالث: الحسين بن روح النوبختي، والرابع: علي بن محمّد السمري، ابتدأت من عام وفاة الإمام أبي محمّد الحسن بن علي العسكري (8/ ربيع الأوّل 260هـ) إلى (15/ شعبان/ 329هـ) تاريخ وفاة السمري، فطاولت ما يزيد على 69 عاماً، وكانت لهؤلاء الأربعة مكانة خاصّة، ونيابة خاصّة يلتقون من خلالها مع الإمام عليه السلام، ويوصلون أوامره وتوجيهاته إلى الطائفة الناجية وعلمائها.
وهذه النيابة الخاصة لم تعهدها _ على الصعيد الرسمي والعلني _ الطائفة قبل ذلك مع الأئمّة السابقين عليهم السلام، وإن كان لديهم وكلاء ونوّاب خاصون، إلاّ أنّ هذه النيابة الخاصة للأربعة كانت تمتاز بصلاحيّات خاصّة للنائب تتّصل بشؤون غيبيّة نظير ما لأصحاب القائم عليه السلام الـ (313) في عصر الظهور من صلاحيات غيبيّة، ومقامات معنوية فائقة، ويكفي في الإشارة إلى ذلك تسميتها بالسفارة.
خطورة النيابة الخاصة:
وبالنظر لخطورة هذا الموقع السامي فقد كانت الطائفة وعلماؤها يقومون بامتحان هؤلاء الأربعة بنحو مستمرّ، مع أنّ الإمام العسكري عليه السلام قد نصَّ لدى وجهاء الطائفة وعلمائها على نيابة العمري وابنه عن الناحية المقدّسة عليه السلام، كما ذكر ذلك الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة(1)، وهذا المنطق ليس غريباً عند أتباع أئمّة أهل البيت عليهم السلام، حيث إن المسار الديني لديهم قائم على الدليل والبرهان والبيّنات، بدءً من ضرورة المعجزة على نبوّة الأنبياء، وعلى إمامة الأئمّة، مضافاً إلى النصوص الإلهية الواردة من كلّ نبيّ سابق على النبي اللاّحق، ومن سيد الأنبياء على سيد الأوصياء وولده، ومن الإمام السابق على الإمام اللاحق، ويتصل بخطورة مقام النيابة الخاصة ملاحظة ظاهرة فقهية لدى علمائنا المعاصرين للغيبة الصغرى، ولأوائل الغيبة الكبرى، وهو اللعن والبراءة من المدّعين الكاذبين، والطرد لهم عن الطائفة، وهذا الموقف تبعاً لما صدر من التوقيعات من الناحية المقدّسة حول بعضهم.
وفي هذا السياق أيضاً ما يلاحظ في زيارة قبورهم التي رواها الشيخ في التهذيب: (جئتك مخلصاً بتوحيد الله وموالاة أوليائه، والبراءة من أعدائهم ومن الذين خالفوك يا حجة المولى، وبك إليهم توجهي، وبهم إلى الله توسلي)(2).
ونظير هذا المفاد ما ذكره الشيخ في الغيبة في باب ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية والسفارة كذباً وافتراءً.. قال: (ومنهم أحمد بن هلال الكرخي، قال أبو علي بن همام: كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي محمّد، فاجتمعت الشيعة على وكالة أبي جعفر محمّد بن عثمان رحمه الله بنصّ الحسن عليه السلام في حياته، ولمّا مضى الحسن عليه السلام قالت الشيعة الجماعة له: ألا تقبل أمر أبي جعفر محمّد بن عثمان وترجع إليه، وقد نصَّ عليه الإمام المفترض الطاعة؟ فقال لهم: لم أسمعه ينصُّ عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه يعني عثمان بن سعيد، فأما أن أقطع أن أبا جعفر وكيل صاحب الزمان، فلا أجسُر عليه، فقالوا: قد سمعه غيرك، فقال: أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر، فلعنوه وتبرّأوا منه. ثمّ ظهر التوقيع على يد أبي القاسم بن روح رحمه الله بلعنه والبراءة منه في جملة من لعن)(3).
فإن لعن وبراءة الطائفة من ابن هلال بمجرّد إنكاره لسفارة النائب الثاني يدلُّ على خطورة مقام النيابة الخاصّة المسمّاة بالسفارة في مذهب أهل البيت عليهم السلام، ومما يعزز كونه مقاماً معنوياً خاصاً ما ورد في زيارتهم التي تقدمت: (أشهد أن الله اختصك بنوره حتّى عاينت الشخص فأدّيت عنه وأدّيت إليه)(4).
ولذلك يشاهد من المدّعين الكذّابين لهذا المقام في الغيبة الصغرى أنهم تمخرقوا وتبهرجوا بادّعاء مقامات غيبيّة باطلة، وشؤون ملكوتية زائفة، والملفت لنظر الباحث المتتبّع أن مقالات هؤلاء المدعين للنيابة كذباً في القرن الثالث وبداية الرابع، تبنّاها في القرون اللاحقة كثير من فِرَق الصوفية وروّاد التصوّف، سواء على صعيد نظريات التصوّف النظري والتصوّف العملي، أو على صعيد التأويلات الخيالية الوهمية البعيدة عن الحقائق الغيبية، في مجال المعارف والآداب والسنن(5).
المدّعون للسفارة مع باقي الأئمّة عليهم السلام:
ويشاهد أيضاً أنّ هؤلاء المدعين للسفارة لم يقتصروا على ادّعائها مع الحجة المهدي عليه السلام، بل ادعوها أيضاً مع أرواح الأئمّة السابقين عليهم السلام، وبعبارة أخرى: أن مقام ومنصب السفارة _ حيث كان معناه _ وساطة معنوية بين الناحية المقدسة عليه السلام وبين الناس، تمادوا في ادعائها معنوياً مع بقيّة الأئمّة الماضين عليهم السلام، وهذا يقرَّر أن تحديد إطار معنى النيابة الخاصة والسفارة أنها وساطة معنوية، وتمثيل رسمي بين أيّ معصوم عليه السلام وبين الناس.
الضرورة على انقطاع السفارة:
وقد قامت الضرورة لدى الطائفة الإمامية على انقطاعها بعد الغيبة الصغرى بعد النائب الرابع علي بن محمّد السمري، حيث ورد التوقيع من الناحية المقدسة على يده: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك، ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية (التامة)، فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله عز وجل، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفترٍ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم)(6).
إذ المراد بالمشاهدة هي الوساطة والتمثيل والاتصال الرسمي بالناحية المقدسة؛ لأنها ذُكرت في سياق قوله عليه السلام: (لا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية).
التشرف باللقاء والنيابة:
ويحصل الخلط بين تشرف جملة من علماء الطائفة، كالسيد ابن طاووس والعلامة بحر العلوم، وغيرهم من الصالحين الأتقياء، كما ذكر ذلك كلٌّ من الكليني في (أصول الكافي)، والصدوق في (كمال الدين)، والطوسي في (الغيبة) والنوري في (جنّة المأوى في من رأى الحجة الكبرى)، وبين ضرورة انقطاع السفارة والوساطة والتمثيل الرسمي بين الطائفة وبين الناحية المقدّسة، أي انقطاع التأدية منه إلى الناس، والتأدية من الناس إليه، أي لا يوجد شخص له صلاحية أن يؤدّي إلى الحجة عليه السلام رسائل الناس وأسئلتهم، ولا أن يؤدّي من الحجة عليه السلام كلامه إلى الناس، فليس هناك من له صلاحية هذه الموقعية من الوساطة والتمثيل الرسمي تحت أيّ عنوان كان، وتحت أيّ اسم، لا سفير ولا وسيط ولا نائب خاص، ولا يلتقي بالحجة، ولا على ارتباط به، ولا يحظى برؤيته، فيوصل الرسائل له، ولا غيرها من العناوين التي يتقمّصها الكثير من الدجّالين وذوي النصب والحيلة والأراجيف، طلاّب الرئاسة الباطلة الطامعين في حطام الدنيا، فلا صلة بين ظاهرة التشرف بلقاء الحجة عليه السلام، وبين صلاحية الوساطة وصلاحية الارتباط، فإن التشرف ليس له أيّ اعتبار شرعي للآخرين كطريق إلى البابية وغيرها من المسميات، ولا يتصف بأيّ سمة من معاني الحجية للآخرين، كباب ارتباط بالناحية المقدسة، فالتشرف ليس له أيّ أثر شرعي يترتب عليه عند الآخرين، كما أن الذي يتشرف به عليه السلام في الغيبة ينبغي أن لا يغلب على ظنه وخياله أن يخصص بتشريع غير ما هو عليه ظاهر الشرع المحمّدي عند الطائفة الإمامية، كما قال هو عليه السلام وآباؤه ما مضمونه: ما وافق كتاب الله تعالى وسُنّة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقد قلناه، وما لم يوافق كتاب الله وسُنّة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فلم نقله(7).
وكما أرجع هو عليه السلام في كثير من التوقيعات الصادرة منه في فترة الغيبة الصغرى، أرجع الرواة في أسئلتهم إلى ما روي عن المعصومين عليهم السلام من آبائه مما هو مودع في أصول ونسخ وكتب رواة الحديث لدى الطائفة الإمامية.
محدوديّة صلاحية النيابة:
إنّ هذا الحدّ والميزان ليس خاصاً بمن يتشرّف باللقاء فقط. بل هو يسري على النواب الأربعة في فترة الغيبة الصغرى أيضاً، فقد روى الشيخ في كتاب الغيبة(8) أن النائب الثالث الحسين بن روح النوبختي جمع ما رواه عن رواة الأصحاب عن الأئمّة الماضين عليهم السلام، فعرض الكتاب على علماء ومحدّثي قم، فصحّحوا ما فيه عدا موضع واحد نبّهوه على الخلل فيه، وهو ما رواه في حدّ زكاة الفطرة.
فليس دأبه عليه السلام أن يظهر تأويل الكتاب قبل ظهوره عليه السلام على يد أحد، سواء في الغيبة الصغرى أو الكبرى، بل هذا مدّخر ومؤجّل إلى ظهوره، كما هو مفاد التوقيعات في الغيبة الصغرى الصادرة عنه عليه السلام، ومفاد الروايات المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن الأئمّة عليهم السلام من آبائه، أنه يحيي الكتاب ويقيمه بعد ظهوره، وكذلك سُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودارس حكم النبيين.
الانقطاع ومعنى الغيبة:
ولا يظنّن ظانّ أنّ معنى هذه العقيدة الضرورية عند الطائفة الإمامية من انقطاع الاتصال الرسمي المعتبر بالحجة عليه السلام يعني جمود الحجة بن الحسن عليه السلام عن مهامه ودوره في قيادة البشرية ومواصلة مهامه الرسالية، وأنه عليه السلام ناءٍ في أقاصي البلاد لا يتصدى للأمور تاركاً الحبل على الغارب بينما يعبث بالأمر قوى الطغيان البشري، بل لو ترك التصدي للأمور يوماً واحداً لساخت الأرض فساداً بأهلها، ولوقعت الحروب والبلايا في الأصعدة المختلفة على البشرية، كما قال عليه السلام في التوقيع الشريف: (فإنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم.. إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم الأعداء)(9)، بل هو عليه السلام يدبّر ويدير أمور البشرية جميعاً عبر أساليب خفية وأدوات غيبية منتظمة تحت الستار، لكن المقرر لتلك الإدارة أن لا تظهر إلى السطح والعلن في عصر الغيبة قبل ظهوره عليه السلام، وأيّ مدّع في العلن والعلانية يدّعي الاتصال به والارتباط معه عليه السلام، فهو دجل وألاعيب واحتيال للتغرير بالسذّج من الناس، فالغيبة والانقطاع لا تعني انعدام حضوره عليه السلام، في الساحة الاجتماعية والسياسية البشرية، بل تعني انقطاع الاتصال من طرفنا ومن قبلنا باتجاهه عليه السلام لا انقطاعه هو عليه السلام عن التصرف في أمورنا وأمور البشرية وفي المجتمعات المختلفة، كما قال تعالى: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً(10) أي يحول أمام الفساد في الأرض وسفك الدماء.
عقيدة الانتظار:
لا ريب أن عقيدة انقطاع النيابة والسفارة في الغيبة الكبرى لا تعني الانقطاع القلبي والمعنوي عنه عليه السلام، بل اللازم على المؤمن دوام قراءة الزيارات المختلفة الواردة في الروايات التي يزار بها هو عليه السلام، والإكثار من الدعاء بالفرج، والقيام بالوظائف الشرعية في فضاء وجو الاعتقاد بإمامة المهدي عليه السلام، والتولي له، والتبرؤ من خصومه ومناوئيه ومنكريه، ومعايشة هذا الاعتقاد والأمل بظهوره الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنه عليه السلام ولي الأمر كله، وبقية الله التي يقيم تعالى بها الحجة والهداية.
ولأجل ذلك فإن عقيدة الطائفة الإمامية في صلاحية المرجعية للفقهاء، هي كونها نيابية عنه عليه السلام نيابة لا بالخصوص، يستمد منها المجتهد والفقيه الأحكام من الكتاب وسُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام عبر الروايات والأحاديث المروية عنهم عليهم السلام، كما يستمد بعض الصلاحيات للتصدي لبعض الأمور من المأذونية من قبله عليه السلام في التوقيع الشريف: (أما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)(11).
التفقه في الدين اعتصام من الضلال:
قال تعالى: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(12).
وقال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: (تفقّهوا في دين الله، فإن الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومن لم يتفقّه في دينه لم يرضَ الله له عملاً)(13).
وقال عليه السلام: (اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنّا)(14).
وقال أبو عبد الله عليه السلام: (تفقّهوا في الدين، فإنه مَن لم يتفقّه في الدين فهو أعرابي)(15).
وفي حديث آخر: (لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزكّ له عملاً)(16).
وفي صحيح أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله عليه السلام: (لوددت لو أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا)(17).
وروى بشير الدهان عنه عليه السلام: (لا خير فيمن لا يتفقّه من أصحابنا. يا بشير، إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم، فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم)(18).
وقال عليه السلام: (الرواية لحديثنا يشدُّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد)(19).
وقال عليه السلام: (إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين)(20).
وفي حديث آخر: (الكمال كل الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة)(21).
وفي آخر أيضاً: (كمال الدين طلب العلم والعمل به)(22).
وفي حديث قال عليه السلام: (ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها)(23).
وقال عليه السلام: (ما من أحد يموت أحبُّ إلى إبليس من موت فقيه)(24).
فمفاد هذه الأحاديث الشريفة أنّ الذي يدّعي الوصول إلى المقامات الروحيّة عبر الرياضات النفسيّة والاستعداد النفسي أو نحو ذلك، مهما كان متنسّكاً وأنه طوى الأوراد والأذكار والرياضات والختوم في دورات عديدة وأربعينيّات كثيرة، إذا لم يتفقّه في الدين والشريعة فهو أعرابي لا يزكّي الله تعالى له عملاً، كيف وهو لم يتعرّف على حدود الله، ومواطن رضاه، وموارد سخطه، إذ أنه ليس بنبيّ ولا رسول، فمن لا يتقيّد بحدود الشريعة كيف يتصور أنه على قرب منه تعالى، ومن ثَمَّ كان الفقيه _ وهو المبيّن والموضّح لحدود الشريعة من الكتاب والسُنّة _ أبغض شيء لإبليس؛ لأنه ببيان حدود الشريعة تفشل خطط وحيل إبليس وشبكات تسويلاته الروحية؛ ولأنّ التقيد بالشريعة هو ميزان الاستقامة، وأنّ مرمى ومطمع إبليس في غوايته لكثير من الفِرَق والجماعات التي تتقمّص السلك الروحي وتدّعي الارتباط بمنابع الغيب، هو فسخ تلك الجماعات عن الالتزام بحدود الشريعة بارتكاب المحرّمات والتنصّل عن أداء الواجبات شيئاً فشيئاً، وبالتالي إغراؤها في الانسلاخ عن دين خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن هنا كان الفقه والتفقّه يوضّح معالم الدين وحدود الشريعة وحدود الطريق إلى الله تعالى وتمايزه عن حدود الطريق إلى الغواية والضلال، كما أن الفقه يقف سدّاً منيعاً أمام التأويلات الباطلة الضالّة لنصوص القرآن والحديث، فإنّ تلك الجماعات تعتمد ضمن وسائلها الإقناعيّة لجذب الناس إلى مسيرها على تأويلات لنصوص الدينية لا تستند إلى ميزان وضابطة سوى الدعاوى وميول الأهواء وادعاء المقامات الغيبية والارتباط بالغيب كي تنطلي على أفراد الجماعة، أن كل ما يقولونه هو إلهام غيبي وإيحاء لدني لا يقبل النقاش والمسألة، وهو فوق الاستدلال والبحث والنقد..
نماذج قرآنيّة في القدرة التكوينيّة لروّاد الضلال:
على سبيل النبذة لا الاستقصاء:
منها: إبليس اللعين، فإنه كما يصفه القرآن الكريم بالتمكين الذي أعطاه الله له: (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)(25).
وقال تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الأَْمْوالِ وَالأَْوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً)(26).
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)(27)، (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ)(28).
وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)(29).
وقال تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)(30)، وغيرها من الآيات التي تتحدّث عن المكنة والقدرة التي أعطاها الباري تعالى لإبليس من التأثير على نفوس بني آدم إلاّ المخلَصين، وهي درجة من الملكوت لم ترقَ إليها القوى العظمى للدول البشرية عبر التاريخ إلى يومنا الحاضر، هذا مضافاً إلى تسخيره لمردة الشياطين والعفاريت جنوداً له ليسترقوا السمع ويراقبوا جمع البشرية من لدن آدم عليه السلام إلى يوم الوعد المعلوم.
ويبيّن أمير المؤمنين عليه السلام أن هذه المكنة والقدرة لم تُعطَ لإبليس اللعين جزافاً واعتباطاً، قال عليه السلام: (فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة، لا يدرى أمن سِني الدنيا أم من سِني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة. فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟ كلاّ)(31).
فهذه الستة آلاف سنة التي لا يُدرى أنها من سِني الأرض أو من سِني السماء التي عبد الله تعالى فيها، هي التي أوجبت الجزاء له بهذا التمكين، فهو قد ارتاض هذه المدّة ومضى حقباً في الرياضة الروحية لكن ابتغى بها نتيجة بخسة، وهي التمكين في دار الدنيا من سلطان الملكوت النازل، وهو في الآخرة من الأخسرين.
ومنها: العفريت من الشياطين، قال تعالى: (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي)(32)، فبيّن تعالى أن القدرة التي تمكّن منها العفريت نظير المكنة التي كانت لدى آصف بن برخيا وصي النبي سليمان عليه السلام صاحب علم من الكتاب في بعض جهاتها، وإن كانت دونها بعض الشيء، مع أن العفريت هو من الشياطين المسخّرين للنبي سليمان عليه السلام، وهذه القدرة لم تكن سحراً وتخييلاً، بل قدرة حقيقية تتجلى بأن يأتي في بضع دقائق بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين.
ومنها: بلعم بن باعورا، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ * وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(33).
والآية التي أوتيها بلعم بن باعورا هي حرف من الاسم الأعظم، كما وردت بذلك الروايات، والاسم الأعظم ليس قولاً باللسان يصوّت، بل هو الروح الأعظم، وإعطاء حرف منه يعني الارتباط الروحي بدرجة من التأييد منه، ومع كلّ ذلك لم تكن نفس بلعم بن باعورا وشهوتها قد خمدت، بل تغلّبت في النهاية عليه، وأرادت تسخير هذا الارتباط الروحي بالاسم الأعظم تحت إمرتها، فكانت العاقبة أن انسلخت نفس بلعم عن هذا الارتباط والتأييد، فرغم القدرة التكوينية والمقام الذي وصل إليه، إلاّ أن ذلك لم يضمن عدم وقوعه في الخطأ والمعصية، ولم يمنعه من الشطط والخطل.
ومن ثَمَّ قال جملة من المحققين من أهل المعرفة من الإمامية أن الشطط والشطحات التي تصيب وتعتور وتعرض على أهل الرياضات الروحية دالّة وكاشفة عن عدم سيطرتهم على جبل النفس وأنانية الذات، ففرعونيته بدل أن تموت تزداد قوة بقوة الرياضات الخاطئة أو غير المتقيّدة بالشريعة، فالطريقة تكون بدون الشريعة طريقة شيطانية بدل أن تكون رحمانية، ومن ثَمَّ كان الفقه أمان من الزيغ والضلال لأصحاب الرياضات الروحية، كما هو أمان لبقية شرائح الأمّة عن الانحراف، وهو من معاني أن التمسك بالثقلين أمان عن ضلال الأمّة.
وفي الحقيقة أن دفائن طبقات النفس على تركيب غامض، فتجتمع ظواهر من الصفات الفضيلية العالية مع هذه الرذائل ذوات السوء الشديد، وإلى ذلك يشير ما رواه في الاحتجاج عن الرضا عليه السلام، قال: قال علي بن الحسين عليه السلام: (إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه، وتماوت في منطقه، وتخاضع في حركاته، فرويداً لا يغرنَّكم، فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب المحارم منها؛ لضعف نيته ومهانته، وجبن قلبه، فنصب الدين فخاً لها، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره، فإن تمكّن من حرام اقتحمه، وإذا وجدتموه يعف عن المال الحرام فرويداً لا يغرنَّكم، فإن شهوات الخلق مختلفة، فما أكثر من ينبو عن المال الحرام، وإن كثر، ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرّماً، فإذا وجدتموه يعف عن ذلك فرويداً لا يغرنَّكم حتّى تنظروا ما عقدة عقله، فما أكثر من ترك ذلك أجمع، ثمّ لا يرجع إلى عقل متين، فيكون ما يفسده بجهله أكثر مما يصلحه بعقله، وإذا وجدتم عقله متيناً فرويداً لا يغرنَّكم حتّى تنظروا أمع هواه يكون عقله، أو يكون مع عقله على هواه، وكيف محبّته للرئاسات الباطلة وزهده فيها، فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة بترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتّى إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد، فهو يخبط خبط عشواء ويقوده أوّل باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمدّه ربه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يحلُّ ما حرَّم الله، ويحرّم ما أحلَّ الله، لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته التي قد يتقي من أجلها، فأولئك الذين غضب الله عليهم وأعدّ لهم عذاباً مهيناً...) إلى أن قال: (ولكن الرجل كل الرجل، نعم الرجل، هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر الله، وقواه مبذولة في رضا الله، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عزّ الأبد من العزّ في الباطل، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد، وإن كثير ما يلحقه من سرائها إن اتّبع هواه يؤدّيه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول، فذلكم الرجل نعم الرجل، فتمسكوا به، وبسُنّته فاقتدوا، وإلى ربكم به فتوسلوا، فإنه لا ترد له دعوة، ولا تخيب له طلبة)(34).
فمن ذلك ينبغي الالتفات إلى أن الرياضات الروحية تكسب النفس قدرات خارقة، كطي الأرض، وقراءة الضمير، والترائي في منام الآخرين، والتصرّف في تلك الرؤى، وقراءة الأعمال الماضية أو المستقبلية، وغيرها من قدرات النفس التي قد يطلق عليها علماء الروح والنفس الجدد المحدّثون: قوة التخاطر، والجلاء البصري والسمعي، والتنويم المغناطيسي، وغيرها من قدرات وحركات الروح والاتصال مع أرواح الموتى، وأنه لتحكى أفعال خارقة عن مرتاضي الهند أو فِرَق الصوفية المختلفة في الصين وشرق آسيا وغيرها من المناطق، إلاّ أن كل ذلك ليس علامة النجاة ورضا الرب تعالى، فإن موطن ذلك التقوى والطاعة له تعالى.
مفهوم العدالة يقلب إلى العصمة المكتسبة وذريعة التأويل:
ومن الأغاليط التي يردّدها مدّعو المقامات والمنازل الروحية، هو تفسير العدالة التي هي ملكة الاجتناب عن المعاصي في السلوك العملي، بأن هذه الماهيّة هي عصمة مكتسبة، فيقلب عنوان العدالة إلى العصمة، وحيث لا يمكنهم دعوى أنها لدنّية بنصب من الشريعة، يختلقون لها مخرجاً كونها مكتسبة وأن العصمة قابلة للاكتساب، وليس بالضرورة أن تكون وهبية لدنية منه تعالى، وأن العصمة وإن كانت شرطاً في المعصومين الأربعة عشر (النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام)، إلاّ أن ذلك لا يعني حصرها فيهم، بل هي عامة قابلة للتحقق في نوع البشر بالاكتساب، وأن العصمة الاكتسابية يكفي فيها العصمة في العمل وإن لم تكن عصمة في العلم، أي يكفي فيها العصمة العملية دون أن تكون عصمة علمية، إلى غير ذلك من الإطارات التي يصيغونها قوالب لا تنطلي إلاّ على السذّج وعلى قليلي البضاعة العلمية.
مع أنه لو فرض اجتناب شخص عن المعاصي من لدن بلوغه إلى مماته فليس ذلك يخرجه عن حدَّ العدالة، ويتجاوز به إلى حدَّ العصمة، وأيّ فرق بين الماهيّتين والمعنيين حينئذٍ، ثمّ أنه كيف يعقل انفكاك العصمة العملية عن العلمية، وهل يعقل لمن يضلُّ الطريق أن تكون له عصمة يمتنع عليه الخطأ في العمل، مع أن علماء الإمامية في علم الكلام قد أشبعوا البحث في أن العصمة العملية وليدة العصمة العلمية، والعصمة تعني امتناع صدور المعصية من المعصوم وقوعاً، وإن لم تكن ممتنعة منه إمكاناً، وهذا بخلاف العدالة، فإنه وإن اجتنب المعاصي طيلة حياته إلاّ أنه لا يمتنع منه وقوع وصدور المعصية.
هذا مع أن العصمة تلازم الحجية الرسمية على الآخرين، فكيف يكون الشخص معصوماً ولا يكون حجة بذاته على الآخرين وينصُّ الشرع الحنيف على لزوم اتّباعه.
ومن هذه الدعوى يتطوّر الحال عند مدّعي المنازل الروحيّة إلى دعاوى أكثر فأكثر، ويتطوّر بهم الحال إلى مزالق يخالفون بها الضرورات الشرعيّة تحت ذريعة التأويل الذي يفتحون بابه تغطية لتلك المخالفات، كما حصل ذلك لكلّ الفِرَق التي انحرفت عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
روى الكشّي بسنده عن الصادق قوله عليه السلام: (قوم يزعمون أنّي لهم إمام، ما أنا لهم بإمام، ما لهم لعنهم الله كلّما سترت ستراً هتكوه، هتك الله ستورهم، أقول كذا، يقولون إنما يعني كذا، إنما أنا إمام من أطاعني)(35).
وروي عنه عليه السلام(36) أنه قال عن أبي الخطّاب _ الذي انحرف بعد أن كان من أصحاب السرّ كبلعم بن باعورا، حين دخل ومعه سبعون رجلاً _: (ألا اُخبركم بفضائل المسلم)، فلا أحسب أصغرهم إلاّ قال: بلى جُعلت فداك، فقلت: (من فضائل المسلم أن يقال: فلان قارئ لكتاب الله عز وجل، وفلان ذو حظّ من ورع، وفلان يجتهد في عبادته لربّه، فهذه من فضائل المسلم، ما لكم وللرياسات، إنما المسلمون رأس واحد، إيّاكم والرجال، فإن للرجال مهلكة، فإن أبي يقول: إن شيطاناً يقال له المذهب يأتي في كل صورة، إلاّ أنه لا يأتي في صورة نبي ولا وصي نبي، ولا أحسب إلاّ وقد تراءى لصاحبكم، فاحذروه، فبلغني أنهم قتلوا معه فأبعدهم الله وأسحقهم إنّه لا يهلك على الله إلاّ هالك).

محمّد السند (11/ ذي القعدة/ 1424هـ)
يوم ميلاد الإمام الرضا عليه السلام

تنويع البحث

الحمد لله الذي يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء وله الحجة البالغة، والصلاة والسلام على محمّد خاتم أنبيائه وسيد رسله الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وعلى آله الأوصياء الهداة وخاتمهم المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
وبعد، فقد قال جلَّ وعلا: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(37)، (يفتنون كما يفتن الذهب ويخلصون كما يخلص الذهب)(38) كما قال الكاظم عليه السلام، (ولا بدَّ للناس من أن يمحّصوا ويميّزوا ويغربلوا، وسيخرج من الغربال خلق كثير)(39)، كما جاء عن الصادق عليه السلام.
وعن الباقر عليه السلام أنه قال: (لتمحّصنَّ يا شيعة آل محمّد تمحيص الكحل في العين، وإن صاحب العين يدري متى يقع الكحل في عينه ولا يعلم متى يخرج منها، وكذلك يصبح الرجل على شريعةٍ من أمرنا ويمسي وقد خرج منها، ويمسي على شريعة من أمرنا، ويصبح وقد خرج منها)(40). وفي خبر آخر: (والله لتمحّصنَّ، والله لتطيرن يميناً وشمالاً حتّى لايبقى منكم إلاّ كل امرئ أخذ الله ميثاقه، وكتب الإيمان في قلبه وأيّده بروح منه). وفي رواية أخرى عنهم عليهم السلام: (حتّى لا يبقى منكم على هذا الأمر إلاّ الأندر فالأندر)(41). وفي رواية: (ولا يكون الذي تمدّون إليه أعناقكم (وهو ظهور الحجة عليه السلام) حتّى يشقى من شقي ويسعد من سعد)(42).
وإن من تلك الفتن العمياء هي توالي المدّعين للنيابة الخاصة (الوساطة) والسفارة في الغيبة الكبرى بأساليب وأشكال مختلفة وتسميات متعدّدة يموّهون بها على مختلف أصناف الناس. فتارة تحت غطاء التشرف والفوز بلقاء الحجة، وأخرى التظاهر بالتقى والورع والوصول إلى مقام الأبدال والأوتاد، وثالثة الرؤيا في المنام، ورابعة السحر والشعبذة وإظهاره كمعجزة وكرامة، وخامسة المكاتبة و... و...
ومن ثَمَّ انتظم البحث في هذه الصفحات بعداد تلك الشُبَه(43)، تنبيهاً على زيفها وإبانة لزيغها وإلاّ فانقطاع السفارة في الغيبة الكبرى كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار، حتّى أن الشيخ أبا القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه(44) قال: (إنّ عندنا (أي الطائفة الإمامية) أن كل من ادّعى الأمر (أي السفارة) بعد السمري(45) (آخر النواب الأربعة في الغيبة الصغرى) فهو كافر منمّس (محتال) ضال مضل)(46)، فلولا التلبيس بالأقنعة المتلوّنة والالتواء بالطرق المعوجّة لما كانت حاجة للخوض في ذلك. ومنوال الجزء الأوّل من الكتاب كما يلي:
الفصل الأوّل: في الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة.
الفصل الثاني: في كون انقطاع النائب الخاص للإمام الحجة عليه السلام عقيدة من ضروريات الإمامية الإثني عشرية، وفيه عشرة أمور:
الأمر الأوّل: معنى النيابة.
الأمر الثاني: كلمات علماء الطائفة رضوان الله عليهم.
الأمر الثالث: النيابة العامة للفقهاء.
الأمر الرابع: منابع الشريعة.
الأمر الخامس: الرؤيا ليست مصدراً للتشريع.
الأمر السادس: نبذة من أحوال النواب الأربعة رضي الله عنهم في الغيبة الصغرى.
الأمر السابع: ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية(47) لعنهم الله.
الأمر الثامن: ثواب الثبات والتمسّك بالدين في الغيبة الكبرى وشدّة المحنة.
الأمر التاسع: تفسير الكتاب الوارد من الناحية المقدسة على الشيخ المفيد وتشرف عدّة من أساطين الفقه والعلم بلقائه عليه السلام.
الأمر العاشر: من هم الأبدال والأوتاد؟
الفصل الثالث: في الفِرَق التي انحرفت عن الطائفة الإمامية وكيفية ذلك.
الفصل الرابع: في تاريخ البابية في إيران.
الخاتمة: وفيها ثلاثة أمور:
الأمر الأوّل: في خروج الدجّال.
الأمر الثاني: ظهور الحجة عليه السلام وأصحابه.
الأمر الثالث: في ذم الجهل ومدح العلم.
هذا ما وسع المجال لسطره وبالله التوفيق.
أما الجزء الثاني فهو كما يلي:
الفصل الأوّل: العقول والخواطر.
الفصل الثاني: منظومة المعارف الدينية.
الفصل الثالث: فتنة البصيرة.
الفصل الرابع: حقيقة ومراتب الحجج.
الفصل الخامس: القواعد الرقابية في المعرفة.
الفصل السادس: النيابة الخاصة.
الفصل السابع: حقيقة النيابة الخاصة والسفارة.
الفصل الثامن: مفهوم الغيبة بين الافراط والتفريط.
الفصل التاسع: التوقيت والظهور.

* * *
الفصل الأوّل: في الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة

لمّا كان طريق إثبات النبوة هي المعجزة التي هي من قِبل الله تعالى وهي تفترق عن السحر كان من اللازم معرفة كلٍ منهما بنحو عميق ودقيق، كي لا يلتبس الأمر ويعلم المحق من المبطل والصادق من الكاذب، سأل ابن السكيت، الرضا عليه السلام بعدما بيّن له علل وجه معجزات الأنبياء: فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال عليه السلام: (العقل تعرف به الصادق على الله فتصدّقه والكاذب على الله فتكذّبه)، فقال ابن السكيت: هذا والله الجواب(48).
وسأل أبو بصير، الصادق عليه السلام: لأيّ علّة أعطى الله عز وجل أنبياءه ورسله وأعطاكم المعجزة؟ فقال: (ليكون دليلاً على صدق من أتى به والمعجزة علامة لله لا يعطيها إلاّ أنبياءه ورسله وحججه ليُعرف به صدق الصادق من كذب الكاذب)(49).
قال المحقق الطوسي(50) في التجريد: (وطريق معرفة صدقه (النبي صلى الله عليه وآله وسلم) ظهور المعجزة على يده وهو ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى)(51).
وقال العلامة الحلّي(52) في شرحه للتجريد في ذيل العبارة: (الثبوت والنفي سواء في الإعجاز فإنه لا فرق بين قلب العصا حيّة وبين منع القادر عن رفع أضعف الأشياء، وشرطنا خرق العادة لأن فعل المعتاد ونفيه لا يدلُّ على الصادق، وقلنا: مع مطابقة الدعوى لأن من يدّعي النبوة ويسند معجزته إلى إبراء الأعمى فيحصل له الصمم مع عدم برء الأعمى لا يكون صادقاً.
ولا بدَّ في المعجزة من شروط أحدها: أن يعجز عن مثله أو عمّا يقاربه الأمّة المبعوث إليها. الثاني: أن يكون من قِبل الله تعالى أو بأمره. الثالث: أن يحدث عقيب دعوى المدّعي للنبوة أو جارياً مجرى ذلك ونعني بالجاري مجرى ذلك أن يظهر دعوة النبي في زمانه...(53) الخامس: أن يكون خارقاً للعادة)(54).
وقال المحقق الطوسي في التجريد أيضاً: (المسألة الخامسة في الكرامات: وقصة مريم وغيرها تعطي جواز ظهورها (أي المعجزة) على الصالحين)(55)، وقال العلامة الحلّي في شرحه للعبارة: (استدلَّ المصنف قدس سره بقصة مريم، فإنّها تدلُّ على ظهور معجزات عليها وغيرها مثل قصة آصف وكالأخبار المتواترة المنقولة عن علي وغيره من الأئمّة عليهم السلام).
وقال المحقق الطوسي بعد ذلك: (ولا يلزم خروجه عن الإعجاز ولا النفور ولا عدم التميز ولا إبطال دلالته ولا العمومية).
وقال العلامة في شرحه: (إن المعجزة مع الدعوى مختصٌّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا ظهرت المعجزة على شخص فإما أن يدّعي النبوة أو لا، فإن ادّعاها علمنا صدقه إذ إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلاً، وإن لم يدّع النبوة لم يحكم بنبوته، فالحاصل أن المعجزة لا تدل على النبوة ابتداءً، بل تدلُّ على صدق الدعوى فإن تضمّنت الدعوى النبوة دلَّت المعجزة على تصديق المدّعي في دعواه ولا يلزم إظهار المعجزة على كل صادق إذ نحن إنما نجوّز إظهارها على مدعي النبوة أو الصالح إكراماً لهما وتعظيماً وذلك لا يحصل لكل مخبر بصدق وإنّ امتياز النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحصل بالمعجزة واقتران دعوى النبوة، وهذا شيء يختصُّ به دون غيره ولا يلزم مشاركة غيره له في المعجز مشاركته له في كل شيء، وكما لا يلزم الإهانة وانحطاط مرتبة الإعجاز مع ظهور المعجز على جماعة من الأنبياء كذا لا يلزم الإهانة مع ظهوره على الصالحين)(56).
وقال المحقق القمي قدس سره(57) في رسالة أصول الدين: (الإمام يعرف بالمعجزة فكل من ادّعى الإمامة وأتى بالمعجزة فإنّما تدلُّ على صدقه مثل ما مضى في بعث النبوة)(58).
وقال العلامة الحلّي في كتاب أنوار الملكوت ما حاصله: (المعجز أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي، والتقييد بخارق للعادق ليتميّز المعجز عن غيره، وهذا القيد يُكتفى به عن التقييد بعدم المعارضة ليتميز به عن السحر والشعبذة إذ السحر والشعبذة ليس بخارق للعادة وإن كانت خفية على أكثر الناس. وقيّدنا الخارق للعادة بالاقتران بالتحدي ليتميز المعجز عن الكرامات)(59).
وقال الحكيم المتبحّر محمّد مهدي النراقي(60) في كتابه (أنيس الموحدين): (كل من ادّعى النبوة أو الإمامة وصدر منه أمر خارق فهو صاحب كرامة)(61)، ثمّ قال: (والفرق بين المعجزة والسحر والشعبذة هو أن السحر والشعبذة من الأمور العادية، ولكن أسبابهما تخفى على أكثر الناس، وهذا بخلاف المعجزة فهي ليست من الأمور العادية ولا يوجد لها سبب مطلقاً)(62).
وتوضيح الكلام في هذا المقام، أن الأمور العادية التي جرت عادةُ الله تعالى على وقوعها على قسمين:
الأوّل: ما سببه ظاهر وهو يحصل إمّا من أسبابٍ أرضية مثل تأثير بعض الأغذية والأدوية، وصيرورة النطفة إنساناً ونحو ذلك من الأسباب الأرضية التي تتفق، وإما تحصل من أسباب سماوية مثل الحرارة الحاصلة من الشمس، وإما تحصل من تركّب الأسباب مثل تأثير الدواء المتناول في جو هوائي خاص، ومثل تأثير الدعاء المكتوب في وقت خاص، أو الذي يقرأ في وقت خاص، وهذه كلها من الأمور التي جرت عادة الله تعالى على وقوعها بأسبابٍ متوفرة ومتهيّئة لأكثر الناس.
الثاني: هي التي تحصل أيضاً إما من أسبابٍ أرضية أو سماوية أو كليهما، ولكن أسبابها مخفية على أكثر الناس، مثل السحر والشعبذة والطلسمات وعلم الحيل، والنيرنجات، وحيث إن لها أسباباً فالتعلّم والتعليم حاصل فيها، أي إن كل من يعلم تلك العلوم يمكن له أن يعلّمها غيرَه، بخلاف المعجزة، التي ليس لها سبب مطلقاً، لأنه من المعلوم أن شقّ القمر _ مثلاً _ لم يقع بسبب وحيلة ما، بل هو عطية إلهية يعطيها الله تبارك وتعالى لمن يشاء، ومن ذلك لا يستطيع صاحب المعجزة أن يعلّمها غيرَه حيث إنه ليس لها علّة غير إرادة الله تعالى، فالتعليم في المعجزة لا مجال له.
إذاً اتضح أن المعجزة خارقة للعادة.
وأما السحر والكهانة(63) والشعبذة فليست بخارقة للعادة، بل هي أمور عادية أسبابها تخفى على أكثر الناس.
والتفريق بين المعجزة والسحر والشعبذة على من له غَرفة من المعارف والعلوم في نهاية السهولة حيث إنه يتمكن من العلم بأن الأمر له سبب أم لا، وأرباب السحر أسرع معرفة لذلك من بقية المتعلّمين، ولذلك أوّل من آمن بالنبي موسى عليه السلام هم السحرة. ولكن هذا الفرق يشكل على عامة الناس الاهتداء إليه فعليهم بمتابعة العلماء كي يشرق نور الحقيقة في قلوبهم.
نعم، هنالك فرق آخر بين صاحب المعجزة والساحر يمكن لعامة الناس معرفته وهو أن صاحب المعجزة مهما طلب منه(64) أمر خارق للعادة للاحتجاج به فإنه قادر على إظهاره مثلما طلب جماعة من المعاندين من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً من الأمور الخارقة للعادة فأظهرها لهم، وكذلك بقية الأنبياء عليهم السلام.
وهذا بخلاف الساحر، فإن عمله منحصر في فعل خاص قد تعلّمه، وإذا طلب منه أمر _ خارق للعادة _ آخر فإنه يعجز عن ذلك، ومن ذلك لم يرَ ولم يسمع أن ساحراً كان يأتي بكل ما يطلب منه.
أقول: فتحصّل مما تقدّم من كلمات الأعلام أن المعجزة أمر خارق للعادة يأتي بها من يدّعي النبوّة أو الإمامة إثباتاً لصدقه، وأن معجزات الأنبياء تتحدّى البشرية على مرَّ العصور إلى يوم القيامة بأن يأتوا بمثلها، فإخراج النبي صالح عليه السلام للناقة من الجبل بانشقاقه تعجز البشرية مهما تطوّرت علومهم عن ذلك، وكذلك قلب العصا حيّة تسعى تلتقم سحر وإفك كل ساحر من النبي موسى عليه السلام، وكذلك إحياء الموتى وإبراء الأعمى والأكمه والأبرص من النبي عيسى عليه السلام، وكذلك شقّ القمر والقرآن الخالد لنبينا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً لا بدَّ من ادّعاء، وأمر خارق للعادة، كي يتحقق معنى المعجزة، ومن هنا يتضح أن كرامات أولياء الله الصالحين لا تسمى معجزةً، لأنهم لا يدّعون لأنفسهم شيئاً، ولو ادعوا ما ليس لهم لما أعطاهم الله تلك الكرامات، وهذه السُنّة من الله تعالى حكمة بالغة كي لا تبطل حججه على عباده، ويتم الاحتجاج عليهم ببعث الرسل وبإقامة الأوصياء خلفاء الرسل.
قال العلامة الطباطبائي(65) في تفسيره _ عند الكلام حول قدرة الأنبياء والأولياء _: (الناس في جهل بمقام ربهم وغفلة عن معنى إحاطته وهيمنته، فهم مع ما تهديهم الفطرة الإنسانية إلى وجوده وأحديته يسوقهم الابتلاء بعالم المادة والطبيعة والتوغل في الأحكام والقوانين الطبيعية ثمّ السنن والنواميس الاجتماعية والأنس بالكثرة والبينونة إلى قياس العالم الربوبي بما ألفوا من عالم المادة، فالله سبحانه عندهم مع خلقه كجبار من جبابرة البشر مع عبيده ورعيته... لكن البراهين اليقينية تقتضي بفساد ذلك كله، فإنها تحكم بسريان الفقر والحاجة إلى الموجودات الممكنة في ذواتها وآثار ذواتها وإذا كانت الحاجة إليه تعالى في مقام الذات استحال الاستقلال عنه والانعزال منه على الإطلاق، إذ لو فرض استقلال لشيء عنه تعالى في وجوده أو شيء من آثار وجوده _ بأيّ وجه فرض في حدوث أو بقاء _ استغنى عنه من تلك الجهة وهو محال.
فكل ممكن غير مستقل في شيء من ذاته وآثار ذاته، والله سبحانه هو الذي يستقل في ذاته وهو الغني الذي لا يفتقر في شيء ولا يفقد شيئاً من الوجود وكمال الوجود كالحياة والقدرة والعلم فلا حدَّ له يتحدد به...
وعلى ما تقدم كل ما للممكن من الوجود والحياة والقدرة والعلم متعلق الوجود به تعالى غير مستقل منه بوجه، والاستقلال يبطل الحاجة الإمكانية ولا فرق فيه بين الكثير والقليل كما عرفت، هذا من جهة العقل.
وأما من جهة النقل فالكتاب الإلهي وإن كان ناطقاً باختصاص بعض الصفات والأفعال به تعالى كالعلم بالمغيبات والإحياء والإماتة والخلق كما في كثير من الآيات ولكنها جميعها مفسّرة بآيات أخر كقوله: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)(66)، (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ)(67)، (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي)(68)، وانضمام الآيات إلى الآيات لا يدع شكاً في أن المراد بالآيات النافية اختصاص هذه الأمور به تعالى بنحو الأصالة والاستقلال والمراد بالآيات المثبتة إمكان تحققها في غيره تعالى بنحو التبعية وعدم الاستقلال.
فمن أثبت شيئاً من العلم المكنون أو القدرة الغيبية أعني العلم من غير طريق الفكر والقدرة من غير مجراها العادي الطبيعي لغيره تعالى من أنبيائه وأوليائه كما وقع كثيراً في الأخبار والآثار ونفى معه الأصالة والاستقلال بأن يكون العلم والقدرة مثلاً له تعالى وإنما ظهر ما ظهر منه بالتوسيط ووقع ما وقع منه بإفاضته وجوده فلا حجر عليه، ومن أثبت شيئاً من ذلك على نحو الأصالة والاستقلال طبق ما يثبته الفهم العامي وإن أسنده إلى الله سبحانه وفيض رحمته لم يخل من غلو وكان مشمولاً لمثل قوله تعالى: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ)(69)).
وقال رحمه الله في تفسيره في ذيل قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)(70): (إن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شؤون اليهود وهو تداول السحر بينهم وأنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين... أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق فلا يؤمنون ولا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرّفة مغيّرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل.
وفيما يلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر وينسبونه إلى سليمان زعماً منهم أن سليمان عليه السلام إنما ملك الملك وسخّر الجن والإنس والوحش والطير وأتى بغرائب الأمور وخوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم وينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت وماروت.
فردَّ عليهم القرآن بأن سليمان عليه السلام لم يكن يعمل بالسحر، كيف والسحر كفر بالله وتصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحية وحواسها؟ ولم يكفر سليمان عليه السلام وهو نبي معصوم وهو قوله تعالى: (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(71)، وقوله تعالى:(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الآْخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(72).
فسليمان عليه السلام أعلى كعباً وأقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر والكفر وقد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدّة من السور المكّية النازلة قبل هذه السورة... إلى أن قال:
وفيها أنه كان عبداً صالحاً ونبياً مرسلاً آتاه الله العلم والحكمة ووهب له من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده فلم يكن بساحر، بل هو من القصص الخرافية والأساطير التي وضعتها الشياطين وتلوها وقرأوها على أوليائهم من الإنس وكفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر وردَّ عليهم القرآن في الملكين ببابل هاروت وماروت بأنه وإن نزل عليهما ذلك ولا ضير في ذلك لأنه فتنة وامتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر والفساد فتنة وامتحاناً وهو من القدر، فهما وإن أنزل عليهما السحر إلاّ أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلاّ ويقولان له: إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله وهم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به أصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة... إلى أن قال: لأن العقل لا يرتاب في أن السحر أشأم منابع الفساد في الاجتماع الإنساني)(73).
وفي تفسير العياشي والقمي في قوله تعالى: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ)(74)، عن الإمام الباقر عليه السلام في حديث: (فلمّا هلك سليمان وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ثمّ طواه وكتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا، ثمّ دفنه تحت سريره ثمّ استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلاّ بهذا، وقال المؤمنون: بل هو عبد الله ونبيّه، فقال الله جلَّ ذكره: (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ)...)(75).
(وإسناد الوضع والكتابة والقراءة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن والإنس لانتهاء الشر كله إليه، وانتشاره منه لعنه الله إلى أوليائه بالوحي والوسوسة وذلك شائع في لسان الأخبار)(76).
ثمّ قال قدس سره تحت عنوان (بحث فلسفي): (من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة والنقل، فقلّما يوجد منّا من لم يشاهد شيئاً من خوارق الأفعال أو لم ينقل إليه شيء من ذلك _ قليل أو كثير _ إلاّ أن البحث الدقيق في كثير منها يبين رجوعها إلى الأسباب الطبيعية العادية، فكثير من هذه الأفعال الخارقة يتقوّى بها أصحابها بالاعتياد والتمرين كأكل السموم وحمل الأثقال والمشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك، وكثير منها تتكي على أسباب طبيعية مخفية على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار ولا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتاباً لا خط عليه ولا يقرأه إلاّ صاحبه وإنما كتب بمائع لا يظهر إلاّ عرض لكتاب على النار إلى غير ذلك.
وكثير منها يحصل بحركات سريعة تخفى على الحس لسرعتها فلا يرى الحس إلاّ أنه وقع من غير سبب طبيعي كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة فهذه كلّها مستندة إلى أسباب عادية مخفية على حسَّنا أو غير مقدورة لنا، لكن بعض هذه الخوارق لا يحلل إلى الأسباب الطبيعية الجارية على العادة كالإخبار عن بعض المغيبات، وخاصة ما يقع منها في المستقبل وكأعمال الحب والبغض والعقد والحل والتنويم والتمريض وعقد النوم والإحضار والتحريكات بالإرادة مما يقع من أرباب الرياضات وهي أمور غير قابلة للإنكار، شاهدنا بعضاً منها ونُقل إلينا بعض آخر نقلاً لا يطعن فيه، وهو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند وإيران والغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق.
والتأمل التام في طرق الرياضات المعطية لهذه الخوارق والتجارب العملية في أعمالهم وإرادتهم يوجب القول بأنها مستندة إلى قوة الإرادة والإيمان بالتأثير على تشتت أنواعها، فالإرادة تابعة للعلم والإذعان السابق عليه، فربما توجد على إطلاقها وربما توجد عند وجود شرائط خاصة ككتابة شيء خاص بمداد خاص في مكان خاص في بعض أعمال الحب والبغض أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاص عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصة إلى غير ذلك فجميع ذلك شرائط لحصول الإرادة الفاعلة.
فالعلم إذا تم علماً قاطعاً أعطى للحواس مشاهدة ما قطع به ويمكنك أن تختبر صحة ذلك بأن تلقن نفسك أن شيئاً كذا أو شخصاً كذا حاضر عندك تشاهده بحاستك ثمّ تتخيله بحيث لا تشكّ فيه ولا تلتفت إلى عدمه ولا إلى شيء غيره فإنك تجده أمامك على ما تريد وربما توجد في الآثار معالجة بعض الأطباء الأمراض المهلكة بتلقين الصحة على المريض، وإذا كان الأمر على هذا فلو قويت الإرادة أمكنها أن تؤثر في غير الإنسان المريد نظير ما توجده في نفس الإنسان المريد إما من غير شرط وقيد أو مع شيء من الشرائط.
ويتبيّن بما مرَّ أمور: أحدها: أن الملاك في التأثير تحقق العلم الجازم من صاحب خرق العادة وأما مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الأرواح المتعلق بالأجرام الفلكية ويمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة والشياطين الذي يستخرج أصحاب الدعوات والعزائم أسماءهم ويدعون بها على طرق خاصة عندهم، وكذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الأرواح من حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسهم دون الخارج وإلاّ لرآه كل من حضر عندهم وللكل حس طبيعي.
وبه تنحل شبهة أخرى في إحضار روح من هو حي في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به والواحد من الإنسان ليس له إلاّ روح واحدة، وبه تنحل أيضاً شبهة وهي أن الروح جوهر مجرد لا نسبة له إلى زمان ومكان دون زمان ومكان، وبه تنحل أيضاً شبهة أخرى ثالثة وهي أن الروح الواحدة ربما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر، وبه تنحل شبهة رابعة وهي أن الأرواح ربما تكذب عند الإحضار في أخبارها وربما يكذب بعضها بعضاً. فالجواب عن الجميع: أن الروح إنما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حدَّ ما نحسُّ بالأشياء المادية الطبيعية.
ثانيها: أن صاحب هذه الإرادة المؤثرة ربما يعتمد في إرادته على قوة نفسه وثبات أنيته كغالب أصحاب الرياضات في إراداتهم فتكون لا محالة محدودة القوة مقيدة الأثر عند المريد وفي الخارج، وربما يعتمد فيه على ربه كالأنبياء والأولياء من أصحاب العبودية لله وأرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئاً إلاّ لربهم وبربهم وهذه إرادة ظاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الإرادة منها بوجه ولم تتلوَّن بشيء من ألوان الميول النفسانية ولا اتكاء لها إلاّ على الحق فهي إرادة ربانية غير محدودة ولا مقيّدة والقسم الثاني إن أثرت في مقام التحدي كغالب ما ينقل من الأنبياء سمّيت آية معجزة وإن تحققت في غير مقام التحدي سمّيت كرامة أو استجابة دعوة إن كانت مع دعاء، والقسم الأوّل إن كان بالاستخبار والاستنصار من جن أو روح أو نحوه سمّي كهانة وإن كان بدعوة أو عزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمّي سحراً.
ثالثها: إن الأمر حيث كان دائراً مدار الإرادة في قوتها وهي على مراتب من القوة والضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر والمعجزة أو أن لا يؤثر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوة وهو مشهود في أعمال التنويم والإحضار)(77).
ثمّ قال قدس سره تحت عنوان (بحث علمي): (العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثير والقول الكلي في تقسيمها وضبطها عسيرة جدّاً، وأعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره:
منها: السيمياء وهو العلم الباحث عن تمزيج القوى الإرادية مع القوى الخاصة المادية للحصول على غرائب التصرف في الأمور الطبيعية ومنه التصرف في الخيال المسمى بسحر العيون، وهذا الفن من أصدق مصاديق السحر.
ومنها: الليمياء وهو العلم الباحث عن كيفية التأثيرات الإرادية باتصالها بالأرواح القوية العالية كالأرواح الموكلة بالكواكب والحوادث وغير ذلك بتسخيرها أو باتصالها واستمدادها من الجن بتسخيرهم وهو فن التسخيرات.
ومنها: الهيمياء وهو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير وهو الطلسمات فإن للكواكب العلوية والأوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما أن العناصر والمركبات وكيفياتها الطبيعية كذلك، فلو ركبت الأشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان وحياة فلان وبقاء فلان مثلاً مع الصورة المادية المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد وهذا معنى الطلسم.
ومنها: الريمياء وهو العلم الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقة بنحو من الأنحاء وهو الشعبذة، وهذه الفنون الأربعة مع فن خامس يتلوها وهو الكيمياء الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية.
قال شيخنا البهائي: أحسن الكتب المصنّفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات اسمه (كلّه سر) وقد ركّب اسمه من أوائل أسماء هذه العلوم الكيمياء والليمياء والهيمياء والسيمياء والريمياء، انتهى ملخص كلامه. ومن الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس ورسائل الخسر وشاهي والذخيرة الإسكندرية والسر المكتوم للرازي والتسخيرات للسكاكي وأعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي.
ومن العلوم الملحقة بما مرَّ علم الأعداد والأوفاق وهو الباحث عن ارتباطات الأعداد والحروف للمطالب ووضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة أو مربعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص.
ومنها: الخافية وهو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الأسماء واستخراج أسماء الملائكة والشياطين الموكلة بالمطلوب والدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب، ومن الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العبّاس التوني والسيد حسين الأخلاطي وغيرهما.
ومن الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي وإحضار الأرواح وهما كما مرَّ من تأثير الإرادة والتصرف في الخيال، وقد اُلّف فيها كتب ورسائل كثيرة واشتهار أمرها يغني عن الإشارة إليها ههنا والغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة)(78)، انتهى كلامه.
أقول: والغرض من هذا التطويل في النقل التنبيه على مدى وكثرة العلوم الغريبة الباحثة حول الأفعال التي بظاهرها خارقة للعادة ولكنها في الحقيقة عادية لمن مارس وتعلّم تلك العلوم أو تلك الرياضات الباعثة على تقوية الإرادة وتأثيرها وأن لهذه الأفعال أسباباً عادية ولكنها خفية على أكثر الناس فيتوهّم الجاهل أنها معاجز أو كرامات لصاحب تلك الأفعال والأمور.
وفي هذا العصر قد خصصت الجامعات والمعاهد العلمية الحديثة كليات وتخصصات مرتبطة بهذه العلوم كالتنويم المغناطيسي وعلم التسخير وإحضار الأرواح والتنبّؤ والإخبار بالمغيبات المستقبلية الأرضية ونحو ذلك كثير ومن أراد الإطلاع فليراجع النشرات الدورية الصادرة من مختلف الجامعات الأكاديمية في البلدان المختلفة.
وفي الختام لهذا الفصل نتعرّض لما قاله المحقق السيد الخوئي قدس سره في الإعجاز وفرقه مع السحر والشعبذة ونحوها قال: (وهو في الاصطلاح أن يأتي المدّعي لمنصبٍ من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهداً على صدق دعواه)(79).
أقول: ولا يخفى أن التعميم في التعريف لكل منصب إلهي أتقن مما تقدم من التعريفات حيث لا ينحصر إظهار الفعل الخارق بمدّعي النبوة والإمامة بل يعمُّ النواب والسفراء للإمام المعصوم عليه السلام كما نصَّ على ذلك الشيخ المفيد(80) في أوائل المقالات قال: (القول في ظهور المعجزات على المنصوبين من الخاصة والسفراء... إلى أن قال:
أقول: إن ذلك جائز لا يمنع منه عقل وسُنّة ولا كتاب)(81)، انتهى كلامه رفع مقامه.
ونصَّ على ذلك السيد المرتضى في كتاب (الذخيرة) في فصل عقده لذلك بعد الفصول التي ذكرها في معجزات الأنبياء وسيأتي ذكر بعض ما ظهر على أيديهم من الكرامات.
وقال السيد الخوئي قدس سره تتمة لما سبق: (وإنما يكون المعجز شاهداً على صدق ذلك المدّعي إذا أمكن أن يكون صادقاً في تلك الدعوى وأما إذا امتنع صدقه في دعواه بحكم العقل أو بحكم النقل الثابت عن نبي أو إمام معلوم العصمة فلا يكون ذلك شاهداً على الصدق ولا يسمّى معجزاً في الاصطلاح وإن عجز البشر عن أمثاله).
مثال الأوّل: ما إذا ادّعى أحد النبوة بعد نبي الإسلام، فإن هذه الدعوى كاذبة قطعاً بحكم العقل المقطوع بثبوته الوارد عن نبي الإسلام وعن خلفائه المعصومين بأن نبوّته خاتمة النبوّات وإذا كانت الدعوى باطلة قطعاً، فماذا يفيد الشاهد إذا أقامه المدّعي؟ ولا يجب على الله جلَّ شأنه أن يبطل ذلك بعد حكم العقل باستحالة دعواه أو شهادة النقل ببطلانها)(82).
أقول: تقييد دعوى صاحب الأمر أو الفعل الخارق للعادة بكون دعواه مما يحتمل صدقها عقلاً ونقلاً، أي لا يقوم دليل عقلي أو نقلي قطعيين على كذبه قد يوهّم أن الأمر الخارق للعادة ليس شاهداً قطعياً على الصدق وبالتالي لا تكون المعجزة شاهداً على الصدق، ولكن هذا الوهم فاسد فإن المراد أن قيام الدليل العقلي أو النقلي القطعي كاشف عن عدم كون هذا الأمر خارقاً للعادة ومن قبل الله عز وجل ودليل على كون هذا الأمر خارقاً للعادة صورةً وظاهراً لا واقعاً أي إنه مخفي سببه لا أنه يعجز عنه البشر أجمع بل من يطلع على سببه يتمكن من ذلك.
وقال قدس سره: (وليست من الإعجاز المصطلح عليه ما يظهره الساحر والمشعوذ أو العالم ببعض العلوم النظرية الدقيقة وإن أتى بشيء يعجز عنه غيره ولا يجب على الله إبطاله إذا علم استناده في عمله إلى أمر طبيعي من سحر أو شعبذة أو نحو ذلك، وإن ادّعى ذلك الشخص منصباً إلهياً وقد أتى بذلك الفعل شاهداً على صدقه فإن العلوم النظرية الدقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها وتلك القواعد لا بدَّ من أن توصل إلى نتائجها وإن احتاجت إلى دقّة في التطبيق وعلى هذا القياس تخرج غرائب علم الطب المنوطة بطبائع الأشياء وإن كانت خفيّة على عامة الناس بل وإن كانت خفيّة على الأطباء أنفسهم وليس من القبيح أن يختص الله أحداً من خلقه بمعرفة شيء من تلك الأشياء وإن كانت دقيقة وبعيدة عن متناول أيدي عامة الناس، ولكن القبيح أن يغرى الجاهل بجهله وأن يجري المعجز على يد الكاذب فيضل الناس عن طريق الهدى)(83).
أقول: فبعد وضوح الموارد التي لا بدَّ أن يبطلها الله تعالى والموارد التي ليست كذلك فلا يتوقع ذو الذهن الساذج أن كل مورد يقصر ذهنه ولم يبطله الله تعالى فهو معجز، بل عليه التحري بنفسه أو بتوسط ذوي الخبرة والإطلاع كما مرَّ في كلام الحكيم النراقي قدس سره(84).
وتابع السيد الخوئي قائلاً: (تكليف عامة البشر واجب على الله سبحانه وتعالى وهذا الحكم قطعي قد ثبت بالبراهين الصحيحة والأدلّة العقلية الواضحة فإنهم محتاجون إلى التكليف في طريق تكاملهم وحصولهم على السعادة الكبرى والتجارة الرابحة فإذا لم يكلفهم الله سبحانه فإما أن يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم إلى التكليف وهذا جهل يتنزّه عنه الحق تعالى وإما لأن الله أراد حجبهم عن الوصول إلى كمالاتهم وهذا بخل يستحيل على الجواد المطلق، وإما لأنه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك وهو عجز يمتنع على القادر المطلق، وإذن فلا بدَّ من تكليف البشر ومن الضروري أن التكليف يحتاج إلى مبلّغ من نوع البشر يوقفهم على خفي التكليف وجليه: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(85))(86).
ومن الضروري أيضاً أن السفارة الإلهية من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدّعون ويرغب في الحصول عليها الراغبون، ونتيجة هذا أن يشتبه الصادق بالكاذب ويختلط المضلّ بالهادي.
وإذن فلا بدَّ لمدّعي السفارة أن يقيم شاهداً واضحاً يدلُّ على صدقه في الدعوى وأمانته في التبليغ، ولا يكون هذا الشاهد من الأفعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها فينحصر الطريق بما يخرق نواميس الطبيعة.
وإنما يكون الإعجاز دليلاً على صدق المدّعي، لأن المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلاّ بعناية الله تعالى وإقدار منه، فلو كان مدّعي النبوة كاذباً في دعواه كان إقداره على المعجز من قبل الله تعلى إغراءً بالجهل وإشارة بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى... وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في كتابه الكريم: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأَْقاوِيلِ * لأََخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)(87).

* * *
الفصل الثاني: في كون انقطاع النائب الخاص للإمام عليه السلام عقيدة من ضروريات مذهب الإمامية الإثني عشرية

ونذكر فيه أموراً:
الأمر الأوّل: معنى النيابة لغة
ففي مجمع البحرين للطريحي: (ناب فلان عنّي قام مقامي، وناب الوكيل عنّي في كذا ينوب نيابة فهو نائب)(88)، ومثله في تاج العروس(89). ومن هنا عرّف الفقهاء الوكالة بالنيابة أو الإستنابة والغالب في استعمال النيابة هو فيما كان مورد النيابة محدوداً ومقيّداً أي إن النائب ينوب عن المنوب عنه في متعلق محدود معيّن، وأما إذا كان المورد غير محدود وذا شؤون عديدة فذلك نحو من إعطاء الولاية من المنوب عنه إلى النائب، فيقال: ولاّه أو نصبه والياً في كذا، وإذا اتّسعت الدائرة أكثر من ذلك فيقال: استخلاف وقد جعل خليفة.
وعلى أيّة حال في موارد النيابة والوكالة المتعلق يكون محدوداً ومعيّناً.

* * *

الأمر الثاني: كلمات علماء الطائفة
قال بعض الحكماء: إنه لا يستدل على الضروري وإنما ينبّه عليه، فما ظاهره استدلال إنما هو تنبيه، إذ بمجرد التنبه يحصل الالتفات إلى ضرورته، وهكذا ما نحن فيه وهو انقطاع النائب الخاص للإمام الحجة عليه السلام عند الإمامية، فما نسطره من كلمات العلماء الأعلام ووجوه الطائفة الإثني عشرية إنما هو تنبيه على التسالم والضرورة عندهم.
وليعلم أن معنى النائب الخاص هو استنابة الإمام عليه السلام شخصاً بخصوصه في شيء معيّن كما في قول الإمام الحسن العسكري عليه السلام: (العمري (عثمان بن سعيد) وابنه (محمّد) ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان)(90) ومعنى النائب العام والمرجع الديني هو استنابة الإمام عليه السلام كل من توفّرت فيه صفات معيّنة في أمر معين كما في قول الصادق عليه السلام: (من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً)(91)، وهو تنصيب للفقهاء العارفين بالأحكام عن طريق روايات الأئمّة عليهم السلام أن يقضوا بين الناس.
وكذلك قول الحجة المنتظر عليه السلام في رواية الطبرسي في كتابه الاحتجاج: (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم، فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً، ولا كرامة)(92)، وهو تنصيب للفقهاء العدول كمرجع ديني لبيان الأحكام الشرعية وتعلّم الشيعة ذلك منهم وسيأتي تفصيل ذلك.
ومجمله أن النيابة الخاصة في المقام هي استنابة الإمام عليه السلام شخصاً لإيصال أقواله وأوامره للشيعة وأخذ الحقوق الشرعية كالخمس والزكاة، ولذا أطلق لفظ السفير على النواب الأربعة وهم: عثمان بن سعيد العمري، ومحمّد ابنه، والحسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمّد السمري في الغيبة الصغرى (260 _ 329هـ)، حيث إن الأربعة كان عملهم كالوسيط بين الإمام عليه السلام والشيعة، ويقرب من هذا المعنى استعمال لفظة السفير في يومنا هذا على مملثي الدولة في البلدان المختلفة. وذلك يطلق على هذا النحو من النيابة السفارة.
وأما النيابة العامة فهي استنابة الإمام عليه السلام كل من وجدت فيه صفات كما مرَّ لمنصب القضاء والإفتاء ونحو ذلك مما سيأتي بالأخذ والاستنباط من كتاب الله العزيز والروايات المأثورة عن الأئمّة عليهم السلام، أي لا بالأخذ المباشر منه عليه السلام لوقوع الغيبة الكبرى حتّى يظهر ويخرج بإذن الله تعالى وذلك حين تقع علامات الظهور كالصيحة من السماء والخسف بالبيداء وخروج السفياني وقتل النفس الزكية بمكّة.
ولنذكر كلمات العلماء الذين هم أمناء الأئمّة عليهم السلام على الحلال والحرام والفرائض والسنن:
قال الشيخ أبو القاسم بن محمّد بن قولويه _ صاحب كتاب (كامل الزيارات) أستاذ الشيخ المفيد في الفقه والذي قال النجاشي فيه: كلّما يوصف به الناس من جميل وفقه فهو فوقه _: (إن عندنا _ أي الطائفة الإمامية الشيعية _ أن كل من ادعى الأمر _ أي السفارة والباب _ بعد السمري _ آخر النواب الأربعة في الغيبة الصغرى _ فهو كافر منمّس _ محتال _ ضال مضلّ)(93).
قال الشيخ سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي _ الذي قال عنه النجاشي(94): يكنّى أبا القاسم جليل القدر واسع الأخبار شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها _ في كتاب (المقالات والفرق)(95):
(فنحن متمسكون بإمامة الحسن بن علي عليه السلام مقرّون بوفاته موقنون مؤمنون بأن له خلفاً من صلبه متديّنون بذلك وأنه الإمام من بعد أبيه الحسن بن علي وأنه في هذه الحالة مستتر خائف مغمور مأمور بذلك حتّى يأذن الله عز وجل له فيظهر ويعلن أمره، كظهور من مضى من آبائه إذ الأمر لله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء ويأمر بما يريد من ظهور وخفاء ونطق وصموت كما أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في حال نبوّته بترك إظهار أمره والسكوت والإخفاء من أعدائه والاستتار وترك إظهار النبوة التي هي أجلّ وأعظم وأشهر من الإمامة، فلم يزل كذلك سنين إلى أن أمره بإعلان ذلك وعند الوقت الذي قدّره تبارك وتعالى فصارع بأمره وأظهر الدعوة لقومه.
ثمّ بعد الإعلان بالرسالة وإقامة الدلائل المعجزة والبراهين الواضحة اللازمة بها الحجة وبعد... قريش وسائر الخلق من عرب وعجم وما لقي من الشدة ولقيه أصحابه من المؤمنين أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وأقام هو مع قومه حتّى توفّي أبو طالب فخاف على نفسه وبقية أصحابه، فأمره الله عند ذلك بالهجرة إلى المدينة المنورة وأمره بالاختفاء في الغار والاستتار من العدو، فاستتر أياماً خائفاً مطلوباً حتّى أذن الله له وأمره بالخروج.
وكيف بالغريب الوحيد الشريد الطريد المطلوب الموتور بأبيه وجدّه هنا مع القوم المشهور من أمير المؤمنين على المنبر: (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة. إما ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً. لئلاّ تبطل حجج الله وبيناته)(96) وبذلك جاءت الأخبار الصحيحة المشهورة عن الأئمّة.
وليس على العباد أن يبحثوا عن أمور الله ويقفوا أثر ما لا علم لهم به ويطلبوا إظهاره فستره الله عليهم وغيّبه عنهم قال الله عز وجل لرسوله: (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(97) فليس يجوز لمؤمن ولا مؤمنة طلب ما ستر الله ولا البحث عن اسمه وموضعه ولا السؤال عن أمره ومكانه حتّى يؤمروا بذلك، إذ هو عليه السلام غائب خائف مغمور مستور بستر الله متبع لأمره عز وجل ولأمر آبائه.
بل البحث عن أمره وطلب مكانه والسؤال عن حاله وأمره محرّم لا يحل ولا يسع، لأن في طلب ذلك وإظهاره ما ستره الله عنّا وكشفه وإعلان أمره والتنويه باسمه معصية الله والعون على سفك دمه عليه السلام ودماء شيعته وانتهاك حرمته أعاذ الله من ذلك كل مؤمن ومؤمنة برحمته وفي ستر أمره والسكوت عن ذكره حقنها، وصيانتها سلامة ديننا والانتهاء إلى أمر الله وأمر أئمّتنا وطاعتهم، وفّقنا الله وجميع المؤمنين لطاعته ومرضاته بمنّه ورأفته.
ولا يجوز لنا ولا لأحد من الخلق أن يختار إماماً برأيه ومعقوله واستدلاله، وكيف يجوز هذا وقد حظّره الله جلَّ وتعالى على رسله وأنبيائه وجميع خلقه، فقال في كتابه إذ لم يجعل الاختيار إليهم في شيء من ذلك: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(98)، وقال: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)(99)، وإنما اختيار الحجج والأئمّة إلى الله عز وجل وإقامتهم إليه فهو يقيمهم ويختارهم ويخفيهم، وإذا شاء يقيمهم فيظهرهم ويعلن أمرهم إذا أراد ويستره إذا شاء فلا يبديه، لأنه تبارك وتعالى أعلم بتدبيره في خلقه وأعرف بمصلحتهم، والإمام أعلم بأمور نفسه وزمانه وحوادث أمور الله منّا... إلى أن قال:
فهذه سبيل الإمامة وهذا المنهاج الواضح والغرض الواجب اللازم الذي لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإمامية المهتدية رحمة الله عليها، وعلى ذلك كان إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن علي رضوان الله عليه).
وقال أبو محمّد الحسن بن موسى النوبختي المتكلم الفيلسوف من أكابر الطائفة وعظماء سلالة بني النوبخت في كتابه (فرق الشيعة)(100): (فنحن مستسلمون بالماضي (العسكري) وإمامته مقرّون بوفاته معترفون بأن له خَلَفاً قائماً من صلبه وأن خَلَفه هو الإمام من بعده حتّى يظهر ويعلن أمره كما ظهر وعلن أمر من مضى قبله من آبائه... إلى أن قال:
وبه جاءت الأخبار الصحيحة عن الأئمّة الماضين، لأنه ليس للعباد أن يبحثوا عن أمور الله ويقفوا بلا علم ويطلبوا آثار ما ستر عنهم...
وقد رويت أخبار كثيرة أن القائم تخفى عن الناس ولادته ويخمل ذكره ولا يعرف... إلى أن قال:
فهذا سبيل الإمامة والمنهاج الواضح اللاحب الذي لم تزل الشيعة الإمامية الصحيحة التشيّع عليه).
وقال الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد) في باب ذكر القائم وتاريخ مولده ودلائل إمامته(101): (وكان الخبر بغيبته ثابتاً قبل وجوده، وبدولته مستفيضاً قبل غيبته، وهو صاحب السيف من أئمّة الهدى عليهم السلام والقائم بالحق المنتظر لدولة الإيمان، وله قبل قيامه غيبتان إحداهما أطول من الأخرى، كما جاءت بذلك الأخبار.
فأما القصرى منهما منذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة.
وأما الطولى فهي بعد الأولى وفي آخرها يقوم بالسيف، قال الله عز وجل: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَْرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)(102)، وقال جلَّ اسمه: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَْرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(103)، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لن تنقضي الأيام والليالي حتّى يبعث الله رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً)(104)).
وقال قدس سره في الرسائل الخمس التي ألّفها في الغيبة في الرسالة الثانية(105): (فإن قال: إذا كان الإمام عندكم غائباً ومكانه مجهولاً فكيف يصنع المسترشد، وعلى ماذا يعتمد الممتحن فيما ينزل به من حادث لا يعرف له حكماً وإلى من يرجع المتنازعون لاسيّما والإمام إنما نصب لما وصفناه؟ قيل له: هذا السؤال مستأنف لا نسبة له بما تقدم ولا صلة بينه وبينه وقد مضى السؤال الأوّل في معنى الخبر وفرض المعرفة.
وجوابه على انتظام ونحن نجيب عن هذا المستأنف بموجز لا يخل بمعنى التمام وبالله التوفيق فنقول: إنما الإمام نصب لأشياء كثيرة، أحدها: الفصل بين المختلفين.
الثاني: بيان الحكم للمسترشدين. ولم ينصب لهذين دون غيرهما من مصالح الدنيا والدين، غير أنه إنما يجب عليه القيام فيما نصّب له مع التمكن من ذلك والاختيار وليس يجب عليه شيء لا يستطيعه، ولا يلزمه فعل الإيثار مع الاضطرار، ولم يؤت الإمام في التقيّة من قبَل الله عز وجل ولا من جهة نفسه وأوليائه المؤمنين، وإنما أتى ذلك من قبل الظالمين الذين أباحوا دمه ونفوا نسبه وأنكروا حقّه وحملوا الجمهور على عداوته ومناصبة القائلين بإمامته، وكانت البلية فيما تتضيّع من الأحكام وتتعطّل من الحدود ويفوت من الصلاح متعلقة بالظالمين، وإمام الأنام بريء منها وجميع المؤمنين.
فأما الممتحن بحادث يحتاج إلى علم الحكم فيه فقد وجب عليه أن يرجع ذلك إلى العلماء من شيعة الإمام وليعلم ذلك من جهتهم مما استودعوه من أئمّة الهدى المتقدمين، وإن عدم ذلك والعياذ بالله ولم يكن فيه حكم منصوص على حال فيعلم أنه على حكم العقل، لأنه لو أراد الله أن يتعبّد فيه بحكم سمعي لفعل ذلك ولو فعله لسهل السبيل إليه.
وكذلك القول في المتنازعين يجب عليهم ردّ ما اختلفوا فيه إلى الكتاب والسُنّة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهة خلفائه الراشدين من عترته الطاهرين ويستغنوا في معرفة ذلك بعلماء الشيعة وفقهائهم، وإن كان _ والعياذ بالله _ لم يوجد فيما اختلفوا فيه نصٌّ على حكم سمعي فليعلم أن ذلك مما كان في العقول مثل أن من غصب إنساناً شيئاً فعليه ردُّه بعينه إن كانت عينه قائمة فإن لم تكن عينه قائمة كان عليه تعويضه بمثله وإن لم يوجد له، مثل: كان له أن يرضي خصمه بما تزول معه ظلامته، فإن لم يستطع ذلك أو لم يفعله مختاراً كان في ذمته إلى يوم القيامة، فإن كان جان جنى على غيره جناية لا يمكن تلافيها كانت في ذمته وكان المجني عليه ممتحناً بالصبر إلى أن ينصفه الله تعالى يوم الحساب، فإن كان الحادث مما لا يعلم بالسمع إباحته من حظره فإنّه على الإباحة إلاّ أن يقوم دليل سمعي على حظره.
وهذا الذي وصفناه إنما جاز للمكلف الاعتماد عليه والرجوع إليه عند الضرورة بفقد الإمام المرشد، ولو كان الإمام حاضراً ما وسعه غير الردّ والعمل على قوله، وهذا قول خصومنا كافة: إن على الناس في نوازلهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجتهدوا فيها عند فقدهم النصّ عليها، ولا يجوز لهم الاجتهاد واستعمال الرأي بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قال: فإذا كانت عبادتكم تتمّ بما وصفتموه مع غيبة الإمام فقد استغنيتم عن الإمام.
قيل له: ليس الأمر كما ظننت في ذلك، لأن الحاجة إلى الشيء وقد تكون قائمة مع فقد ما يسدّها، ولولا ذلك ما كان الفقير محتاجاً إلى المال مع فقده، ولا المريض محتاجاً إلى الدواء وإن بعد وجوده، والجاهل محتاجاً إلى العلم وإنْ عدم الطريق إليه، والمتحير إلى الدليل وإن لم يظفر به.
ولو لزمنا ما ادّعيتموه وتوهّمتموه للزم جميع المسلمين أن يقولوا: إن الناس كانوا في غيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للهجرة وفي الغار مستغنين عنه، وكذلك حالهم في وقت استتاره بشعب أبي طالب عليه السلام، وكان قوم موسى عليه السلام أغنياء عنه في حال غيبته عنهم لميقات ربه، وكذلك أصحاب يونس عليه السلام أغنياء عنه لما ذهب مغضباً والتقمه الحوت وهو مليم، وهذا مما لا يذهب إليه مسلم ولا ملّي فيُعلم بذلك بطلان ما ظنّه الخصوم وتوهّموه على الظنّة والرجوم وبالله التوفيق).
وقال طيّب الله رمسه في الرسالة الرابعة في الغيبة(106): (المهدي الذي يظهر الله به الحق، ويبيد بسيفه الضلال، وكان المعلوم أنه لا يقوم بالسيف إلاّ مع وجود الأنصار واجتماع الحفدة والأعوان، ولم يكن أنصاره عليه السلام عند وجوده متهيّئين إلى هذا الوقت موجودين، ولا على نصرته مجتمعين، ولا كان في الأرض من شيعته طراً من يصلح للجهاد وإن كان يصلحون لنقل الآثار وحفظ الأحكام والدعاء له بحصول التمكن من ذلك إلى الله عز وجل لزمته التقية ووجوب فرضها عليه كما فرضت على آبائه عليهم السلام، لأنه لو ظهر بغير أعوان لألقى نفسه بيده إلى التهلكة، ولو أبدى شخصه للأعداء لم يألوا جهداً في إيقاع الضرر به واستئصال شيعته وإراقة دمائهم على الاستحلال، فيكون ذلك أعظم للفساد في الدين والدنيا).
وقال الشيخ الصدوق(107) رضوان الله تعالى عليه في كتابه (إكمال الدين وإتمام النعمة) في الباب الثاني والأربعين ما روي في ميلاد القائم عليه السلام(108): بسنده إلى غياث بن أسيد قال: ولد الخلف المهدي عليه السلام يوم الجمعة، واُمّه ريحانة ويقال لها: نرجِس، ويقال لها: صقيل، ويقال: سوسن، إلاّ أنه قيل لسبب الحمل: صقيل، وكان مولده عليه السلام لثمان خلون من شعبان سنة ست وخمسين ومائتين، ووكيله عثمان بن سعيد، فلمّا مات عثمان أوصى إلى ابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمّد السمري رضي الله عنهم، قال: فلمّا حضرت السمري الوفاة سئل أن يوصي فقال: لله أمر هو بالغه، فالغيبة التامة هي التي وقعت بعد مضي السمري رضي الله عنه).
وقال رفع الله درجته في أعلى عليين في الكتاب المزبور في الباب الخامس والأربعين في ذكر التوقيعات(109): (حدّثنا أبو محمّد الحسن بن محمّد المكتّب(110)، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفى فيها الشيخ علي بن محمّد السمري _ قدس الله روحه _ فحضرته قبل وفاته بأيام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك، ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله عز وجل، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلب وامتلاء الأرض جوراً.
وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).
قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه، ومضى رضي الله عنه، فهذا آخر كلام سمع منه).
وقال عطر الله مرقده في مقدمة كتابه المزبور: (إن الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا: أنّي لما قضيت وطري من زيارة علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه رجعت إلى نيسابور وأقمت بها فوجدت أكثر المختلفين إليَّ من الشيعة قد حيّرتهم الغيبة ودخلت عليهم في أمر القائم عليه السلام الشبهة وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقاييس، فجعلت أبذل مجهودي في إرشادهم إلى الحق وردّهم إلى الصواب بالأخبار الوارد في ذلك عن النبي والأئمّة صلوات الله عليهم).
وقال الشيخ الطوسي(111) في كتاب الغيبة(112): (ذكر أمر أبي الحسن علي بن محمّد السمري بعد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه وانقطاع الاعلام به وهم الأبواب: أخبرني جماعة عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه، (قال): قال: حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق، عن الحسن بن علي بن زكريا بمدينة السلام، قال: حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن خليلان، قال: حدّثني أبي، عن جدّه عتاب _ من ولد عتاب بن أسيد _، (قال): ولد الخلف المهدي صلوات الله عليه يوم الجمعة واُمّه ريحانة، ويقال لها: نرجِس، ويقال: صقيل، ويقال لها: سوسن، إلاّ أنه قيل بسبب الحمل: صقيل.
وكان مولده لثمان خلون من شعبان سنة ست وخمسين ومائتين ووكليه عثمان بن سعيد أوصى إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان رحمه الله، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمّد السمري رضي الله عنه، فلمّا حضرت السمري الوفاة سئل أن يوصي فقال: (لله أمر هو بالغه)، فالغيبة التامة هي التي وقعت بعد مضي السمري رضي الله عنه.
(وأخبرني) محمّد بن محمّد بن النعمان (الشيخ المفيد)، والحسين بن عبيد الله (الغضائري)(113)، عن أبي عبد الله محمّد بن أحمد الصفواني(114)، قال: أوصى الشيخ أبو القاسم رضي الله عنه إلى أبي الحسن علي بن محمّد السمري رضي الله عنه فقام بما كان إلى أبي القاسم، فلمّا حضرته الوفاة حضرت الشيعة عنده وسألته عن الموكل بعده ولمن يقوم مقامه، فلم يظهر شيئاً من ذلك، وذكر أنه لم يؤمر بأن يوصي إلى أحد بعده في هذا الشأن.
(وأخبرني) جماعة، عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، قال: حدّثنا أبو الحسن صالح بن شعيب الطالقاني رحمه الله في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم بن مخلد، قال: حضرت بغداد عند المشايخ رحمهم الله فقال الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري قدس سره ابتداء منه: (رحم الله علي بن الحسين بن بابويه القمي)، قال: فكتب المشايخ تاريخ ذلك اليوم، فورد الخبر أنه توفي في ذلك اليوم، ومضى أبو الحسن السمري رضي الله عنه بعد ذلك في النصف من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
(وأخبرنا) جماعة، عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه، قال: حدّثني أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتّب(115)، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري قدس سره فحضرته قبل وفاته بأيام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته:
(بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك، ولا توصِ إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).
(قال): فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: (لله أمر هو بالغه) وقضى، فهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه.
(وأخبرني) الحسين بن إبراهيم، عن أبي العبّاس بن نوح عن أبي نصر هبة الله بن محمّد الكاتب، أن قبر أبي الحسن السمري رضي الله عنه في الشارع المعروف بشارع الخلنجي من ربع باب المحول قريب من شاطئ نهر أبي عتاب(116)، وذكر أنه مات رضي الله عنه في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة). انتهى كلام الشيخ الطوسي في كتابه (الغيبة).
وقال الشيخ الأجل ابن أبي زينت محمّد بن إبراهيم النعماني من أعلام القرن الرابع، والتلميذ الخصّيص بالشيخ الكليني صاحب كتاب (الكافي)، قال في كتابه الغيبة في فصول ما روي في غيبة الإمام المنتظر عليه السلام(117): (هذه الروايات التي قد جاءت متواترة تشهد بصحة الغيبة وباختفاء العلم والمراد بالعلم الحجة للعالم، وهي مشتملة على أمر الأئمّة عليهم السلام للشيعة بأن يكونوا فيها على ما كانوا عليه ولا يزالون ولا ينتقلون، بل يثبتون ولا يتحولون ويكونون متوقعين لما وعدوا به، وهم معذورون في أن لا يروا حجتهم وإمام زمانهم في أيام الغيبة، وضيق عليهم في كل عصر وزمان قبله أن لا يعرفوه بعينه واسمه ونسبه، ومحظور عليهم الفحص والكشف عن صاحب الغيبة والمطالبة باسمه أو موضعه أو غيابه أو الإشادة بذكره، فضلاً عن المطالبة بمعاينته، وقال لنا: إيّاكم والتنويه، وكونوا على ما أنتم عليه، وإيّاكم والشكّ، فأهل الجهل الذين لا علم لهم بما أتى عن الصادقين عليهما السلام من هذه الروايات الواردة للغيبة وصاحبها يطالبون بالإرشاد إلى شخصه والدلالة على موضعه، ويقترحون إظهاره لهم، وينكرون غيبته، لأنهم بمعزل عن العلم وأهل المعرفة، مسلّمون لما اُمروا به، ممتثلون له، صابرون على ما ندبوا إلى الصبر عليه، وقد أوقفهم العلم والفقه مواقف الرضا عن الله والتصديق لأولياء الله والامتثال والانتهاء عمّا نهوا عنه، حذرون ما حذّر الله في كتابه من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الذين هم في وجوب الطاعة بمنزلته لقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(118)، ولقوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ)(119)، ولقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(120).
وفي قوله في الحديث الرابع من هذا الفصل _ حديث عبد الله بن سنان _: (كيف أنتم إذا صرتم في حال لا ترون فيها إمام هدى ولا علماً يرى)، دلالة على ما جرى وشهادة بما حدث من أمر السفراء الذين كانوا بين الإمام عليه السلام وبين الشيعة من ارتفاع أعيانهم وانقطاع نظامهم، لأن السفير بين الإمام في حال غيبته وبين شيعته هو العلم، فلمّا تمّت المحنة على الخلق ارتفعت الأعلام ولا ترى حتّى يظهر صاحب الحق عليه السلام ووقعت الحيرة التي ذكرت وآذننا بها أولياء الله. وصحَّ أمر الغيبة الثانية التي يأتي شرحها وتأويلها فيما يأتي من الأحاديث بعد هذا الفصل، نسأل الله أن يزيدنا بصيرة وهدى ويوفقنا لما يرضيه برحمته).
ثمّ إنه قدس الله لطيفه روى في الفصل اللاحق عدّة أحاديث في أن للقائم عليه السلام غيبتين نذكر نبذة منها: قال بعد ذكر سنده إلى إبراهيم بن عمر اليماني، قال: سمعت أبا جعفر (الباقر) عليه السلام يقول: (إن لصاحب هذا الأمر غيبتين)، وسمعته يقول: (لا يقوم القائم ولأحد في عنقه بيعة).
وروى بسنده إلى أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق) عليه السلام: كان أبو جعفر عليه السلام يقول: (لقائم آل محمّد غيبتان، إحداهما أطول من الأخرى)، فقال: (نعم، ولا يكون ذلك حتّى يختلف سيف بني فلان، وتضيق الحلقة، ويظهر السفياني، ويشتد البلاء، ويشمل الناس موت وقتل يلجأون فيه إلى حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى بسنده إلى المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (إن لصاحب هذا الأمر غيبتين، يرجع في إحداهما إلى أهله، والأخرى يقال: هلك، في أيّ وادٍ سلك؟)، قلت: كيف نصنع إذا كان ذلك؟ قال: (إن ادّعى مدّع فاسألوه عن تلك العظائم التي يجيب فيها مثله).
ثمّ قال الشيخ النعماني(121): هذه الأحاديث التي يذكر فيها أن للقائم عليه السلام غيبتين أحاديث قد صحّت عندنا بحمد الله وأوضح الله قول الأئمّة عليهم السلام وأظهر برهان صدقهم فيها، فأما الغيبة الأولى فهي الغيبة التي كانت السفراء فيها بين الإمام عليه السلام وبين الخلق قياماً منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص والأعيان يخرج على أيديهم غوامض العلم وعويص الحكم والأجوبة عن كل ما كان يسأل عنه من المعضلات والمشكلات وهي الغيبة القصيرة التي انقضت أيامها وتصرّمت مدّتها، والغيبة الثانية هي التي ارتفع فيها أشخاص السفراء والوسائط للأمر الذي يريده الله تعالى والتدبير الذي يمضيه في الخلق، ولوقوع التمحيص والامتحان والبلبلة والغربلة والتصفية على من يدّعي هذا الأمر، كما قال الله تعالى: (ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)(122)، وهذا زمان قد حضر جعلنا الله فيه من الثابتين على الحق وممن لا يخرج في غربال الفتنة، فهذا معنى قولنا: (له غيبتان)، ونحن في الأخيرة نسأل الله أن يقرّب فرج أوليائه منها ويجعلنا في حيّز خيره وجملة التابعين لصفوته).
وروى قدس سره في الباب الرابع عشر في العلامات التي تكون قبل قيامه عليه السلام(123) بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (لا يقوم القائم حتّى يقوم اثنا عشر رجلاً كلهم يجمع على قول أنهم قد رأوه فيكذّبهم).
وقال الشيخ العلامة زين المحدّثين محمّد بن الفتال النيسابوري(124) الشهيد في سنة (508هـ) في كتابه (روضة الواعظين)(125): (وروي أنه ولد يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة سبع وخمسين ومائتين قبل وفاة أبيه بسنتين وسبعة أشهر والأوّل هو المعتمد (أي سنة خمس وخمسين)، وبابه عثمان بن سعيد، فلمّا مات عثمان أوصى إلى ابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمّد السمري، فلمّا حضرت السمري الوفاة سُئل أن يوصي، فقال: إن الله بالغ أمره، وقد انتظر عليه السلام لدولة الحق).
وقال الشيخ أمين الإسلام(126) أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي قدس سره في كتابه (إعلام الورى بأعلام الهدى)(127) عند ذكره الدلائل على إمامة الإمام الثاني عشر عليه السلام في الباب الثالث، وبعد ذكره لرواية أبي بصير التي تقدم ذكرها وفيها الأخبار بالغيبتين قال: (فانظر كيف قد حصلت الغيبتان لصاحب الأمر على حسب ما تضمّنت الأخبار السابقة لوجوده عن آبائه وجدوده.
أما غيبته الصغرى منهما فهي التي كان فيها سفراؤه موجودين وأبوابه معروفين لا تختلف الإمامية القائلون بإمامة الحسن بن علي فيهم، فمنهم(128): أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، ومحمّد بن علي بن بلال، وأبو عمرو عثمان بن سعيد السمّان (العمري)، وابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان، وعمر الأهوازي، وأحمد بن إسحاق، وأبو محمّد الوجناني، وإبراهيم بن مهزيار، ومحمّد بن إبراهيم، في جماعة أخرى ربما يأتي ذكرهم عند الحاجة إليهم في الرواية عنهم.
وكانت مدّة هذه الغيبة أربعاً وسبعين سنة، وكان أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري باباً لأبيه وجدّه(129) من قبل وثقة لهما، ثمّ تولّى الباقية من قبله وظهرت المعجزات على يده ولما مضى لسبيله قام ابنه أبو محمّد مقامه رحمهما الله بنصّه عليه، ومضى على منهاج أبيه في آخر جمادي الآخرة من سنة أربع أو خمس وثلاثمائة وقام مقامه أبو القاسم الحسين بن روح من بني نوبخت بنصّ أبي جعفر محمّد بن عثمان عليه وأقامه مقام نفسه ومات في شعبان سنة ست وعشرين وثلاثمائة وقام مقامه أبو الحسن علي بن محمّد السمري بنصّ أبي القاسم عليه وتوفّى لنصف من شعبان سنة ثمان وعشرون وثلاثمائة).
ثمّ ذكر رواية أبي محمّد الحسن بن أحمد المكتّب التي سبق ذكرها والتي فيها وقوع الغيبة التامة وانقطاع السفراء وكذب من يدّعي المشاهدة أي السفارة والنيابة حتّى يظهر بعلامات الصيحة وخروج السفياني، ثمّ قال: (ثمّ حصلت الغيبة الطولى التي نحن في أزمانها والفرج يكون في آخرها بمشيئة الله تعالى)(130).
وقال رحمه الله في الباب الخامس في حل الشبهات في غيبته عليه السلام(131): (فإن قالوا: الحق مع غيبة الإمام كيف يدرك؟ فإن قلتم: يدرك ولا يوصل إليه فقد جعلتم الناس في حيرة وضلال مع الغيبة، وإن قلتم: يدرك الحق من جهة الأدلّة المنصوص بها عليه فقد صرّحتم بالاستغناء عن الإمام بهذه الأدلّة، وهذا يخالف مذهبكم.
الجواب: إن الحق على ضربين: عقلي وسمعي، فالعقلي يدرك ولا يؤثر فيه وجود الإمام ولا فقده، والسمعي عليه أدلّة منصوبة من أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصوصه وأقوال الأئمّة الصادقين عليهم السلام قد بيّنوا ذلك وأوضحوه غير أن ذلك وإن كان على ما قلناه فالحاجة إلى الإمام مع ذلك ثابتة، لأن جهة الحاجة مستمرة في كل عصر وعلى كل حال هي كونه لطفاً لنا في الفعل الواجب العقلي من الإنصاف والعدل واجتناب الظلم والبغي، وهذا مما لا يقوم غيره مقامه فيه).
وقال الشيخ أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي وهو من الأعلام في القرن الخامس في كتاب (الاحتجاج)(132): (وأما الأبواب المرضيون والسفراء الممدوحون في زمان الغيبة فأوّلهم: الشيخ الموثوق به أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري نصّبه أوّلاً أبو الحسن علي بن محمّد العسكري ثمّ ابنه أبو محمّد الحسن، فتولّى القيام بأمورهما حال حياتهما عليهما السلام، ثمّ بعد ذلك قام بأمر صاحب الزمان عليه السلام وكان توقيعاته وجواب المسائل تخرج على يديه.
فلمّا مضى لسبيله قام ابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان مقامه وناب منابه في جميع ذلك، فلمّا مضى هو قام أبو القاسم حسين بن روح من بني نوبخت، فلمّا مضى هو قام مقامه أبو الحسن علي بن محمّد السمري.
ولم يقم أحد منهم بذلك إلاّ بنصّ عليه من قِبل صاحب الأمر عليه السلام ونصب صاحبه الذي تقدّم عليه ولم تقبل الشيعة قولهم إلاّ بعد ظهور آية معجزة على يد كل واحد منهم من قبل صاحب الأمر عليه السلام تدلُّ على صدق مقالتهم وصحة بابيتهم، فلمّا حان سفر أبي الحسن السمري من الدنيا وقرب أجله، قيل له: إلى من توصي؟ فأخرج إليهم توقيعاً نسخته...) ثمّ ذكر التوقيع الذي مرَّ ذكره.
وقال العلامة الحلي قدس سره في كتاب (الرجال)(133) في ترجمة محمّد بن عثمان العمري: (يكنّى أبا جعفر وأبوه أبا عمرو جميعاً وكيلان من جهة صاحب الزمان عليه السلام ولهما منزلة عظيمة جليلة عند الطائفة... إلى أن قال:
وقال عند موته: اُمرت أن أوصي إلى أبي القاسم بن روح وأوصي إليه، وأوصي أبو القاسم بن روح إلى أبي الحسن علي بن محمّد السمري، فلمّا حضرت السمري الوفاة سئل أن يوصي، فقال: لله أمر هو بالغه، والغيبة الثانية هي التي وقعت بعد السمري).
وذكر ابن داود الحلي في كتاب (الرجال)(134) عين ذلك بألفاظه في الترجمة المذكورة.
وقال الخواجه نصير الدين الطوسي في كتاب (تجريد الاعتقاد) في المقصد الخامس في الإمامة(135): (المسألة الأولى في أن نصب الإمام واجب على الله تعالى. و... وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء ووجوده لطف وتصرفه لطف آخر وعدمه منّا).
وشرح العلامة الحلي قدس سره العبارة بقوله: (لطف الإمامة يتم بأمور منها: ما يجب على الله تعالى وهو خلق الإمام وتمكينه بالتصرف والعلم والنصّ عليه باسمه ونسبه، وهذا قد فعله الله تعالى، ومنها: ما يجب على الإمام وهو تحمله للإمامة وقبوله وهذا قد فعله الإمام، ومنها: ما يجب على الرعية وهو مساعدته والنصرة له وقبول أوامره وامتثال قوله، وهذا لم يفعله الرعية فكان منع اللطف الكامل منهم لا من الله تعالى ولا من الإمام)(136).
وقال العلامة المجلسي رفع الله درجته في (شرح كتاب الكافي) في ذيل الأحاديث المتعرضة لوقوع الغيبتين قال: (واعلم أنه كان له عليه السلام غيبتان أوّلهما: الصغرى، وهي زمان وفاة أبي محمّد العسكري عليه السلام وهو لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأوّل سنة ستين ومائتين إلى وقت وفاة رابع السفراء أبي الحسن علي بن محمّد السمري وهو النصف من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة فتكون قريباً من سبعين.
والعجب من الشيخ الطبرسي والسيد ابن طاووس أنهما وافقا في التاريخ الأوّل وقالا في وفاة السمري توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ومع ذلك ذكرا أن مدّة الغيبة الصغرى أربع وسبعون ولعلَّهما عدّا ابتداء الغيبة من ولادته عليه السلام.
وأما سفراؤه عليه السلام فأوّلهم أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري فلمّا توفي رضي الله عنه نصَّ على ابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان فقام مقامه وهو الثاني من السفراء وتوفي رضي الله عنه سنة أربع وثلاثمائة، وقيل: خمس وثلاثمائة وكان يتولّى هذا الأمر نحو من خمسين سنة، فلمّا دنت وفاته أقام أبا القاسم الحسين بن روح النوبختي مقامه وتوفى أبو القاسم قدس الله روحه في شعبان سنة ستٍ وعشرين وثلاثمائة، فلمّا دنت وفاته نصَّ على أبي الحسن علي بن محمّد السمري، فلمّا حضرت السمري رضي الله عنه الوفاة سئل أن يوصي، فقال: لله أمر هو بالغه، ومات روّح الله روحه في النصف من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، كل ذلك ذكره الشيخ رحمه الله(137)).
وقال الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد(138): (وكان الخبر بغيبته ثابتاً قبل وجوده وبدولته مستفيضاً قبل غيبته وهو صاحب السيف من أئمّة الهدى عليهم السلام والقائم الحق المنتظر لدولة الإيمان وله قبل قيامه غيبتان إحداهما أطول من الأخرى كما جاءت بذلك الأخبار، فأما القصرى فمنذ وقت ولادته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة، وأما الطولى فهي بعد الأولى وفي آخرها يقوم بالسيف).
وروى الصدوق في كمال الدين(139) قال: كان مولده صلوات الله عليه لثمان ليال خلون من شعبان سنة ست وخمسين ومائتين، ووكيله عثمان بن سعيد رضي الله عنه، فلمّا مات عثمان أوصى إلى ابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن علي بن محمّد السمري رضي الله عنهم، فلمّا حضرت السمري رضي الله عنه الوفاة سئل أن يوصي، فقال: لله أمر هو بالغه، فالغيبة التامة هي التي وقعت بعد مضي السمري رضي الله عنه).
وقال السيد عبد الله الشبر(140) في كتابه (حق اليقين في معرفة أصول الدين) في المقصد الثالث من أحوال الغائب المستتر عليه السلام: (في بعض معجزاته وأحوال سفرائه: قال الطبرسي قدس سره في الاحتجاج: أما الأبواب المرضيون...)، وذكر كل ما تقدم ذكره عن الطبرسي في كتاب الاحتجاج.
ومن وضوح انقطاع السفارة وانقطاع النائب المباشر المتصل بالحجة عليه السلام أخذ علماء العامة بالتشنيع على الشيعة بأنكم تستدلّون على ضرورة وجود المعصوم لهداية الأنام ولتدبير الأمور وإقامة العدل والقسط فكيف تناقضون ذلك بالالتزام بالغيبة والاستتار والانقطاع، ولكن علماء الإمامية لم يتركوا لهذه الأوهام مجالاً وأخذوا بالجواب عنها، وقد تقدّم طرفاً من ذلك في الكلمات التي نقلناها وأن الحرمان من ظهور المعصوم وتصرّفه وتدبيره سببه راجع إلى الرعية والمكلفين من الخذلان وعدم الوقوف إلى جانب الحق والعدل، وأنه حين يكتمل نصاب الأنصار والأعوان يكتب الله تعالى فرجه الشريف.
ومن شاء مراجعة هذه السجالات بين علماء الفريقين فليسرح النظر في ما ألّفه علماء الإمامية من الكتب باسم الغيبة أو التي تبحث عن حياة الحجة عليه السلام، وكل ذلك مما ينبّه على كون انقطاع النائب الخاص والسفير من ضروريات المذهب حتّى عرفه علماء أهل السُنّة ولنذكر بعض كلماتهم، وعلى القارئ مراجعة البقية في مظانّها إن شاء الاطلاع عليها.
قال الشهرستاني(141) في كتاب (الملل والنحل)(142): (ومن العجب! أنهم قالوا: الغيبة قد امتدّت مائتين ونيفاً وخمسين سنة، وصاحبنا قال: إن خرج القائم وقد طعن في الأربعين فليس بصاحبكم. ولسنا ندري كيف تنقضي مائتان ونيف وخمسون سنة في أربعين سنة، وإذا سُئل القوم عن مدّة الغيبة كيف تتصور؟ قالوا: أليس الخضر وإلياس عليهما السلام يعيشان في الدنيا من آلاف السنين لا يحتاجان إلى طعام وشراب، فلِمَ لا يجوز ذلك في واحد من آل البيت؟ قيل لهم: ومع اختلافكم هذا كيف يصحُّ لكم دعوى الغيبة؟ ثمّ الخضر عليه السلام ليس مكلّفاً بضمان جماعة، والإمام عندكم ضامن مكلّف بالهداية والعدل، والجماعة مكلّفون بالاقتداء به والاستنان بسُنّته، ومن لا يرى كيف يقتدى به؟)، انتهى كلامه.
ولا يخفى تخبّطه وتحريفه في النقل كعادته في كتابه، إذ قول الشيعة عن أئمّتهم عليهم السلام: إن القائم عليه السلام حين يظهر يكون في سنّ الشيوخ وشاب المنظر حتّى أن الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة فلا يصيبه الهرم بمرور الليالي والأيام، وليس ذلك من قدرة الله تعالى ببعيد.
وأما الجواب عن إشكاله الآخر فقد تقدّم، وقد ذكرت في الروايات فوائد وجوده وانتفاع الناس منه في غيبته، منها: أن قلوب المؤمنين مثبتة به فهم بها عاملون، وأنه كالشمس إذا غيّبها عن الأبصار السحاب، وأن المعصوم عليه السلام أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، وبه يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبه ينزَّل الغيث، وتنشر الرحمة، وتخرج بركات الأرض، ولولا وجوده على الأرض لساخت بأهلها، ولولاه لم يعبد الله.
وقال الخواجه كلان(143) في كتابه (ينابيع المودة)(144) عن كتاب (المحجّة فيما نزل في القائم الحجة) في قوله تعالى: (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(145): عن ثابت الثمالي، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جدّه علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: (فينا نزلت هذه الآية وجعل الله الإمامة في عقب الحسين إلى يوم القيامة، وأن للقائم منّا غيبتين إحداهما أطول من الأخرى، فلا يثبت على إمامته إلاّ من قوى يقينه وصحّت معرفته))، انتهى كلامه.
وقد عرفت سابقاً أن الغيبة الصغرى إشارة إلى مدّة النواب الأربعة والكبرى إلى الغيبة التامة وانقطاع النواب والسفراء.
وقال علاء الدين المشهور بالمتقي الهندي(146) في كتاب (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان) في الباب الثاني عشر(147): (عن أبي عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام، قال: (لصاحب هذا الأمر _ يعني المهدي عليه السلام _ غيبتان إحداهما تطول حتّى يقول بعضهم: مات، وبعضهم: ذهب...) الحديث)، انتهى كلامه.
ومضمون هذه الرواية موجود في الروايات التي وردت بطرقنا، ومن الواضح أن قول البعض المشار إليه في الرواية بأنه عليه السلام مات أو ذهب أو في أيّ وادٍ سلك؟ أو هلك _ كما في الروايات الأخرى _، لا يكون إلاّ بعد انقطاع النائب الخاص والسفير للحجة عليه السلام وشدّة الامتحان بالغيبة التامة.
أقول: هذا غيض من فيض من كلمات علماء الإمامية، وتركنا الأكثر مخافة التطويل والملال، وكلّها على كون انقطاع النيابة الخاصة من معتقدات المذهب وضرورياته.

* * *

الأمر الثالث: النيابة العامة للفقهاء
قد عرفت انقطاع النيابة الخاصة والسفارة، ولكن ليس ذلك يعني بقاء المؤمنين والمكلفين في حيرة من أمرهم، بل قد نصَّب الأئمّة عليهم السلام وإمام زماننا عليه السلام لهم من يرجعون إليه في كل ما ينزل بهم من الحوادث والوقائع، وفي تعلم الأحكام الشرعية وفصل الخصومات واستيفاء الحقوق وغيرها من حاجاتهم الدينية.
وهو الفقيه الجامع لشرائط معيّنة، كالعلم بالأحكام الشرعية من الكتاب والسُنّة وهي الروايات المعتبرة المأثورة عن المعصومين عليهم السلام، وكالعدالة، والتقوى، وغيرها من الشروط.
فقد قال الصادق عليه السلام: (من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردَّ، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حدّ الشرك بالله)(148).
وقال عليه السلام: (اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر)(149).
وروى الشيخ الصدوق في كتاب (إكمال الدين وإتمام النعمة)(150) عن محمّد بن محمّد بن عصام، عن محمّد بن يعقوب (الشيخ الكليني)، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري (النائب الثاني في الغيبة الصغرى) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام: (أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك...)، إلى أن قال: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم. وأما محمّد بن عثمان العمري فرضي الله عنه وعن أبيه من قبل فإنّه ثقتي، وكتابه كتابي).
وروى هذا الحديث الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة)(151) عن جماعة عن جعفر بن محمّد بن قولويه (صاحب كتاب كامل الزيارات وأستاذ الشيخ المفيد الذي قال المفيد عنه: أفقه أهل زمانه) وأبو غالب الرازي (من أحفاد زرارة بن أعين ومن شيوخ الطائفة الأجلاّء) وغيرهم كلهم عن محمّد بن يعقوب (الشيخ الكليني)، ورواه أيضاً الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج.
وروى الطبرسي في كتاب (الاحتجاج)(152) عن الحجة عليه السلام: (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم، فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئاً، ولا كرامة).
وروى الكشي في كتاب (الرجال)(153) بسنده عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد).
وروى بسنده إلى أحمد بن ماهويه قال: كتبت إليه _ يعني أبا الحسن الثالث (الهادي) عليه السلام _، أسأله عمّن آخذ معالم ديني وكتب أخوه أيضاً بذلك فكتب إليهما: (فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبّنا، وكل كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إنشاء الله تعالى)(154).
وروى الطبرسي في كتاب (الاحتجاج)(155) عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: (فنحن القرى التي بارك الله فيها، وذلك قول الله عز وجل، فمن أقرَّ بفضلنا حيث أمرهم بأن يأتونا فقال: (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها)(156) أي: جعلنا بينهم وبين شيعتهم القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، والقرى الظاهرة الرسل، والنقلة عنّا إلى شيعتنا وفقهاء شيعتنا إلى شيعتنا، وقوله تعالى: (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ)(157) فالسير مثل للعلم سير به ليالي وأياماً، مثل لما يسير من العلم في الليالي والأيام عنّا إليهم في الحلال والحرام والفرائض والأحكام، آمنين فيها إذا أخذوا منه، آمنين من الشكّ والضلال والنقلة من الحرام إلى الحلال، لأنهم أخذوا العلم ممن وجب لهم أخذهم إيّاه عنهم بالمعرفة...) الحديث.
وروى البرقي في كتاب (المحاسن)(158) عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي بصير(159)، قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: أرأيت الراد على هذا الأمر كالراد عليكم؟ فقال: (يا أبا محمّد من ردَّ عليك هذا الأمر فهو كالراد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
هذا مع أن بيان الأحكام الشرعية وجوبه على الفقيه كان منذ صدر الشريعة قال تعالى: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(160)، فأوجب على الطائفة المتفقّهة في الدين الإنذار، كما أوجب على غيرهم من عامة الناس قبول قولهم في بيان الأحكام الشرعية، وهو يستفاد من الآية الشريفة، حيث إن حذر الناس بعد الإنذار مطلوب وراجح بدلالة الآية، ولا يترتّب الحذر إلاّ عند وجوب قبول ما أنذروا به.
ولهذا كانت طوائف تلو الأخرى تنهال على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ على الأئمّة المعصومين عليهم السلام من بعده للتفقّه ومعرفة الفرائض والسنن والآداب وأركان العقيدة والإيمان.
ثمّ تذهب الطوائف وتنشر وتبيّن ذلك لعامة الناس، وهذا مما يقتضيه طبيعة النظام البشري، حيث إنه ليس من الممكن عادةً أن ينهال كل المكلفين والناس بأجمعهم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المعصومين عليهم السلام بالسؤال عن معالم الدين، فهذا الممشى والسلوك عند العقلاء دأبوا عليه وأقرَّه الشرع المقدس في نشر الأحكام.
وقد روى عبد المؤمن الأنصاري عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام: (قول الله عز وجل: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(161) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيتعلموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم...)(162) الحديث.
وروى النجاشي في كتابه (الرجال)(163) عن الباقر عليه السلام أنه قال لأبان بن تغلب وهو أحد الفقهاء من تلامذته: (اجلس في مسجد المدينة وافت الناس، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك).
وسأل عبد العزيز بن المهتدي الرضا عليه السلام قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: (نعم)(164).
وكذلك سأل علي بن المسيب الهمداني قال: قلت للرضا عليه السلام: شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فممن آخذ معالم ديني؟ قال: (من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا)(165).
وسأل عبد الله بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (الصادق) عليه السلام: إنه ليس كل ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه، فقال: (ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً)(166).
وسأل شعيب العقرقوفي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ربما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: (عليك بالأسدي يعني أبا بصير رحمه الله)(167).
والأخبار المشتملة على إرجاع الناس إلى تلامذتهم عليهم السلام كثيرة، ومن هنا حثَّ الأئمّة المعصومون عليهم السلام على التفقّه في الدين وحفظ الروايات المأثورة عنهم وبينوا فضل ذلك.
فقد روى الصدوق قال: قال علي عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم ارحم خلفائي) ثلاثاً، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: (الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسُنّتي)(168).
وروى الكشي عن جميل بن درّاج قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (بشّر المخبتين بالجنّة: بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمّد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه ولولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست)(169).
وروى عن أبي بصير أن أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام قال له في حديث: (لولا زرارة ونظراؤه لظننَّ أن أحاديث أبي عليه السلام ستذهب)(170).
وفي رواية أخرى عن الصادق عليه السلام قال: (أحبُّ الناس إليَّ أحياءً وأمواتاً أربعة: بُريد بن معاوية العجلي، وزرارة، ومحمّد بن مسلم، والأحوال، وهم أحبُّ الناس إليَّ أحياءً وأمواتاً)(171)، وهؤلاء الأربعة كانوا من أفقه أصحابه وأصحاب الباقر عليه السلام.
وروى سليمان بن خالد عن الصادق عليه السلام أنه قال: (ما أجد أحداً أحيى ذكرنا وأحاديث أبي عليه السلام إلاّ زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمّد بن مسلم، وبُريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفّاظ الدين وأمناء أبي عليه السلام على حلال الله وحرامه وهم السابقون إلينا في الدنيا والسابقون في الآخرة)(172).
وروى جميل بن درّاج عن الصادق عليه السلام أنه ذكر أقواماً وقال: (كان أبي عليه السلام ائتمنهم على حلال الله وحرامه وكانوا عيبة(173) علمه، وكذلك اليوم هم عندي مستودع سري وأصحاب أبي حقاً، إذا أراد الله بأهل الأرض سوءً صرف بهم عنهم السوء، هم نجوم شيعتي أحياءً وأمواتاً هم الذين أحيوا ذكر أبي عليه السلام، بهم يكشف الله كل بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتأويل الغالين) ثمّ بكى، فقلت: من هم؟ فقال: (من عليهم صلوات الله وعليهم رحمته أحياءً وأمواتاً: بُريد العجلي، وأبو بصير، وزرارة، ومحمّد بن مسلم)(174).
وعن الصادق عليه السلام قال: (اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنّا)(175).
وعنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا إن الله يحبُّ بغاة العلم)(176).
وعنه عليه السلام قال: (عليكم بالتفقّه في دين الله ولا تكونوا أعراباً(177)، فإنه من لم يتفقّه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزكّ له عملاً)(178).
وقال عليه السلام: (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا)(179).
وقال عليه السلام: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أن الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت في كل عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)(180).
وقال الصادق عليه السلام: (إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدين)(181).
وعن الباقر عليه السلام قال: (من علم باب هدى فله مثل أجر من عمل به ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئاً، ومن علم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً)(182).
وقال الصادق عليه السلام: (احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها)(183)، وقال للمفضل بن عمر: (اُكتب وبث علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كتبك بنيك فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون إلاّ بكتبهم)(184).
والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّاً لا يسع المقام ذكرها.
والسرُّ في هذا الحثّ الشديد هو أن الفقهاء حصون الإسلام يدفعون عنه بدع الباطل ودعاته وكذب المفترين كما تقدّم في الروايات.
وقال الكاظم عليه السلام: (إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله وثَلُمَ في الإسلام ثَلمة لا يسدّها شيء، لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها)(185).
وقال الصادق عليه السلام: (ما من أحد يموت من المؤمنين أحبُّ إلى إبليس من موت فقيه)(186).
وقال عليه السلام: (إن أبي كان يقول: إن الله عز وجل لا يقبض العلم بعدما يهبطه، ولكن يموت العالم فيذهب بما يعلم، فتليهم الجفاة(187) فيضلّون ويضلّون، ولا خير في شيء ليس له أصل)(188).

* * *

الأمر الرابع: منابع الشريعة
إن منابع الشريعة هما الكتاب العزيز والسُنّة المطهرة من أقوال وأفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال الأئمّة المعصومين عليهم السلام وأفعالهم وتقريراتهم، وقال الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم في الوصية المعروفة: (يا هشام إن لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة وحجّة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول)(189).
وقال الصادق عليه السلام لعبد الله بن سنان: (حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل)(190).
وفي حديث طويل للصادق عليه السلام حيث بيّن فيه أن بالعقل مبدأ الأمور وقوّتها وعمارتها وبه عرف الله وصفاته الكمالية وبه عرفت الكمالات، قيل له: فهل يكفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: (إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته علم أن الله هو الحق وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة وأن له كراهية وأن له طاعة وأن له معصية، فلم يجد عقله يدلّه على ذلك، وعلم أنه لا يوصل إليه إلاّ بالعلم والأدب وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي لا قوام له إلاّ به)(191).
وقد روى السُنّة والشيعة بالطرق المستفيضة المتواترة حديث الثقلين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتّى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما).
وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من ثلاثين صحابياً وما لا يقلُّ عن مائتي عالم من كبار علماء السُنّة بألفاظ مختلفة في كتبهم(192) فضلاً عن الشيعة.
وروى الشيخ الصدوق في (معاني الأخبار)(193) عن الباقر عليه السلام قال: (خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة بعد منصرفه من النهروان، وبلغه أن معاوية يسبّه ويلعنه ويقتل أصحابه، فبعد حمد الله والثناء عليه قال عليه السلام: يا أيها الناس إنه بلغني ما بلغني وإني أراني قد اقترب أجلي، وكأني بكم وقد جهلتم أمري، وإني تارك فيكم ما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاب الله وعترتي، وهي عترة الهادي إلى النجاة خاتم الأنبياء وسيد النجباء والنبي المصطفى).
وقال الصادق عليه السلام: (الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتّى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا اُنزل في القرآن، إلاّ وقد أنزله الله فيه)(194).
وقال عليه السلام: (ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّ وله حدّ كحدّ الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار، حتّى أرش الخدش فما سواه والجلدة ونصف الجلدة)(195).
وقال: (ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سُنّة)(196).
وقال زين العابدين عليه السلام: (إن أفضل الأعمال عند الله ما عمل بالسُنّة وإن قلَّ)(197).
وقال الباقر عليه السلام: (كل من تعدّى السُنّة رُدَّ إلى السُنّة)(198).
وقال الصادق عليه السلام: (من خالف كتاب الله وسُنّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كفر)(199).
وعن الباقر عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا قول إلاّ بعمل، ولا قول ولا عمل إلاّ بنية، ولا قول ولا عمل ولا نية إلاّ بإصابة السُنّة)(200).
وقال عليه السلام: (من دان الله بغير سماع من صادق ألزمه الله التيه يوم القيامة)(201)، أي من تديّن وعمل بحكم بغير المأثور من المعصوم جعل الله حاله يوم القيامة وهو يوم الفزع الأكبر في تيه، مع كونه ذلك اليوم في أشدّ الحاجة إلى الأمان والقرار، أو أن التيه كناية عن الضلال وعاقبة السوء.
وفي الرسالة المشهورة للإمام الصادق عليه السلام إلى أصحابه والتي أمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها فكانوا يضعونها في مساجد بيوتهم فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها، والتي رواها الكليني قدس سره في كتاب (الروضة من الكافي)(202) بطرق معتبرة نذكر موضعاً منها مما يهمُّ الكلام في المقام.
قال عليه السلام: (أيتها العصابة المرحومة المفلحة، إن الله أتمَّ لكم ما آتاكم من الخير، واعلموا أنه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كل شيء، وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلاً، لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصّهم به ووضعه عندهم كرامة من الله أكرمهم بها، وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الأمّة بسؤالهم، وهم الذين من سألهم _ وقد سبق في علم الله أن يصدقهم ويتبع أثرهم _ أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى الله بإذنه وإلى جميع سبل الحق.
وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم الله به وجعله عندهم إلاّ من سبق عليه في علم الله الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلة(203) فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر والذين آتاهم الله علم القرآن ووضعه عندهم وأمر بسؤالهم، وأولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقاييسهم حتّى دخلهم الشيطان، لأنهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند الله كافرين، وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند الله مؤمنين، وحتّى جعلوا ما أحلَّ الله في كثير من الأمر حراماً، وجعلوا ما حرَّم الله في كثير من الأمر حلالاً، فذلك أصل ثمرة أهوائهم، وقد عهد إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل موته، فقالوا: نحن بعد ما قبض الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعدما قبض الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد عهده الذي عهده إلينا وأمرنا به مخالفاً لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
فما أحد أجرأ على الله ولا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك وزعم أن ذلك يسعه، والله إن لله على خلقه أن يطيعوه ويتّبعوا أمره في حياة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته، هل يستطيع أولئك أعداء الله أن يزعموا أن أحداً ممن أسلم مع محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بقوله ورأيه ومقاييسه؟ فإن قال: نعم، فقد كذب على الله وضلَّ ضلالاً بعيداً، وإن قال: لا، لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقاييسه فقد أقرَّ بالحجة على نفسه، وهو ممن زعم أن الله يطاع ويتبع أمره بعد قبض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال الله وقوله الحق: (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)(204) وذلك لتعلموا أن الله يطاع ويتبع أمره في حياة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد قبض الله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم، وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه خلافاً لأمر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فكذلك لم يكن لأحد من الناس بعد محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه...).
إلى أن قال عليه السلام: (أيتها العصابة الحافظ الله لهم أمرهم عليكم بآثار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وآله وسُنّته وآثار الأئمّة الهداة من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بعده وسُنّتهم، فإنه من أخذ بذلك فقد اهتدى، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلَّ لأنهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم، وقد قال أبونا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المداومة على العمل في اتّباع الآثار والسنن وإن قلَّ أرضى لله وأنفع عنده في العاقبة من الاجتهاد في البدع واتّباع الأهواء، إلاّ أن اتّباع الأهواء واتّباع البدع بغير هدى من الله ضلال وكل ضلالة بدعة وكل بدعة في النار، ولن ينال شيء من الخير عند الله إلاّ بطاعته والصبر والرضا، لأن الصبر والرضا من طاعة الله...).
إلى أن قال عليه السلام: (فإن من لم يجعل الله من أهل صفة الحق فأولئك هم شياطين الإنس والجن، وإن لشياطين الإنس حيلة ومكراً وخدائع ووسوسة بعضهم إلى بعض يريدون إن استطاعوا أن يردّوا أهل الحق عمّا أكرمهم الله به من النظر في دين الله الذي لم يجعل الله شياطين الإنس من أهله إرادة أن يستوي أعداء الله وأهل الحق في الشكّ والإنكار والتكذيب فيكونون سواء كما وصف الله تعالى في كتاب من قوله: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً)(205)، ثمّ نهى الله أهل النصر بالحق أن يتّخذوا من أعداء الله وليّاً ولا نصيراً، فلا يهولنكم ولا يردّنكم عن النصر بالحق الذي خصّكم الله به من حيلة شياطين الإنس ومكرهم من أموركم...).
إلى أن قال: (هذا أدبنا أدب الله، فخذوا به وتفهّموه واعقلوه، ولا تنبذوه وراء ظهوركم).
وروى الكليني في كتاب (الكافي) في أبواب الحجة باب الغيبة(206) بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام: (اللهم إنه لا بدَّ لك من حجج في أرضك، حجة بعد حجة على خلقك، يهدونهم إلى دينك، ويعلّمونهم علمك، كي لا يتفرق أتباع أوليائك، ظاهر غير مطاع، أو مكتتم يترقب، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مبثوث علمهم، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون).
ويقول عليه السلام في هذه الخطبة في موضع آخر: (فيمن هذا؟ ولهذا يأرز(207) العلم إذا لم يوجد له حملة يحفظونه ويروونه كما سمعوه من العلماء ويصدّقون عليهم فيه، اللهم فإني لأعلم أن العلم لا يأرز كله ولا ينقطع مواده، وإنّك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك ظاهر ليس بالمطاع، أو خائف مغمور كيلا تبطل حجتك ولا يضل أولياؤك بعد إذ هديتهم بل أين هم؟ وكم هم؟ أولئك الأقلّون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً).
وفي كلامه عليه السلام إشارة إلى غيبة الحجة عليه السلام، حيث قال: (أو مكتتم مترقب إن غاب عن الناس) والاكتتام إشارة إلى عدم نصب الحجة الغائب النائب الخاص في غيبته وهي الطولى الكبرى، وأشار عليه السلام بقوله: (إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مبثوث علمهم، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة فهم بها عاملون) إلى الوظيفة في الغيبة الكبرى، وهي الرجوع إلى أحاديث الأئمّة الحجج عليهم السلام المثبتة في كتب المؤمنين الرواة منذ قديم أيام الأئمّة عليهم السلام، وأن هذه الأحاديث المأثورة عنهم هي علم الأئمّة وآدابهم، وهي منبع الدين والشريعة والهداية.
وأشار عليه السلام بقوله: (ولهذا يأرز العلم إذا لم يوجد له حملة يحفظونه ويروونه كما سمعوه من العلماء ويصدقون عليهم فيه) إلى أن العلم بالشريعة بين الناس يذهب ويقلُّ بذهاب الفقهاء والحفّاظ والرواة عن الأئمّة عليهم السلام، وهذا وجه قول الصادق عليه السلام الذي سبق حول زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير وبُريد.
وروى الصدوق في كتابه (إكمال الدين)(208) بسنده عن الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام قال: (يا علي، أعجب الناس إيماناً وأعظمهم يقيناً قوم يكونون في آخر الزمان لم يلحقوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحجب عنهم الحجة، فآمنوا بسوادٍ على بياض).
وروى الكشّي في كتاب (الرجال)(209) بسنده إلى أبي هاشم الجعفري (داود بن القاسم من ذرية جعفر الطيّار رضوان الله تعالى عليه) قال: أدخلت كتاب يوم وليلة الذي ألّفه يونس عبد الرحمن (وهو من أصحاب الرضا عليه السلام وكان من أفقه أصحابه) على أبي الحسن العسكري عليه السلام فنظر فيه وتصفّحه كله، ثمّ قال: (هذا ديني ودين آبائي كلّه وهو الحق كلّه).
وروى الكليني بسنده عن محمّد بن الحسن بن أبي خالد شينو له قال: قلت لأبي جعفر الثاني (الجواد) عليه السلام: جُعلت فداك، إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر (الباقر) وأبي عبد الله (الصادق) عليه السلام وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم، فلمّا ماتوا صارت تلك الكتب إلينا، فقال: (حدّثوا بها فإنها حق)(210).
وروى الشيخ الجليل الأقدم ابن شعبة الحراني في كتابه (تحف العقول)(211) عن الكاظم عليه السلام أنه كان لأبي يوسف (تلميذ أبي حنيفة وقاضي العبّاسيين) معه كلام في مجلس الرشيد، فقال الرشيد بعد كلام طويل لموسى بن جعفر عليه السلام: بحق آبائك لما اختصرت كلمات جامعة لما تجاريناه(212)، فقال: (نعم)، وأتى بدواة وقرطاس فكتب:
(بسم الله الرحمن الرحيم، جميع أمور الأديان أربعة: أمر لا اختلاف فيه وهو إجماع الأمّة على الضرورة التي يضطرّون إليها، والأخبار المجمع عليها وهو الغاية المعروض عليها كل شبهة والمستنبط منها كل حادثة وأمر يحتمل الشكّ والإنكار فسبيله استيضاح أهله لمنتحليه بحجة من كتاب الله مجمع على تأويلها وسُنّة مجمع عليها لا اختلاف فيها، أو قياس تعرف العقول عدله ولا تسع خاصة الأمّة وعامتها الشكّ فيه والإنكار له، وهذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه، وأرش الخدش فما فوقه، فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين، فما ثبت لك برهانه اصطفيته، وما غمض عليك صوابه نفيته.
فمن أورد واحدة من هذه الثلاث فهي الحجة البالغة التي بيّنها الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله لنبيّه: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(213) تبلغ الحجة البالغة الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلم العالم بعلمه، لأن الله عدل لا يجور يحتجّ على خلقه بما يعلمون يدعوهم إلى ما يعرفون لا إلى ما يجهلون وينكرون).
ومضمون كتاب الكاظم عليه السلام هو مضمون ما تقدّم في بداية هذا الأمر الرابع عن الصادق عليه السلام من أن العقل وإن كان حجة يدرك به التوحيد وصفات الخالق والكمالات وحسن العدل وقبح الظلم وإحالة اجتماع النقيضين ونحوها، ولكن لا يكتفى به في معرفة مراضي الله ومعاصيه وأوامره ونواهيه، بل لا بدَّ من العلم وهو الكتاب العزيز والسُنّة المطهرة للنبي وآله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، فهذه هي الحجج الثلاث المشار إليها في قوله عليه السلام: (فمن أورد واحدة من هذه الثلاث وهي الحجة البالغة).
كما أن المشار إليه بقوله عليه السلام: (وهذان الأمران من أمر التوحيد فما دونه، وأرش الخدش فما فوقه، فهذا المعروض الذي يعرض عليه أمر الدين) هو ما تقدم في صدر كلامه عليه السلام من إجماع الأمّة على الضرورة والأخبار المجمع عليها أو الأمر الذي لا اختلاف فيه والذي فيه الشكّ سواء كان من الأصول أو الفروع، والمراد من العرض هو ملاحظة الأمر المشكوك سواء في أصول الدين أو فروعه ومقارنته مع الضروريات والسُنّة القطعية والمستفيضة عنهم عليهم السلام، فما وافقها اصطفى وارتضى، وما نافاها أنكر ونفي.
وهذه ضابطة وردت بها أحاديث مستفيضة كما في قول الباقر عليه السلام: (الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه)(214).
وقال الصادق عليه السلام: (إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإلاّ فالذي جاءكم به أولى به)(215)، وقال: (كل شيء مردود إلى الكتاب والسُنّة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)(216).
وقال الرضا عليه السلام: (إن الله حرَّم حراماً وأحلَّ حلالاً وفرض فرائض، فما جاء في تحليل ما حرَّم الله أو في تحريم ما أحلَّ الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك فذلك ما لا يسع الأخذ به، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليحرَّم ما أحل الله ولا ليغيَّر فرائض الله وأحكامه، كان في ذلك كلّه متبعاً مسلّماً مؤدّياً عن الله، وذلك قول الله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ)(217)، فكان عليه السلام متّبعاً لله مؤدّياً عن الله ما أمره به من تبليغ الرسالة...)، إلى أن قال: (إنّا لا نرخّص فيما لم يرخّص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...)، إلى أن قال: (فإما أن نستحلَّ ما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو نحرَّم ما استحلَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يكون ذلك أبداً، لأنّا تابعون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مسلّمون له كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تابعاً لأمر ربّه مسلّماً له، وقال الله عز وجل: (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(218))(219).
وقال الصادق عليه السلام: (حلال محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره، ولا يجيء غيره)(220)، وقال: (قال علي: ما أحد ابتدع بدعة إلاّ ترك بها سُنّة)(221).
وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه إلى مالك الأشتر قال: (واردد إلى الله ورسوله ما يظلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله سبحانه لقوم أحبَّ إرشادهم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)(222) فالردّ إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والردّ إلى الرسول الأخذ بسُنّته الجامعة غير المتفرقة)(223).
وفي (تفسير العيّاشي)(224) عن سدير قال: قال أبو جعفر الباقر وأبو عبد الله (الصادق) عليهما السلام: (لا يُصدّق علينا إلاّ ما وافق كتاب الله وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد تقدّم قول الحجة عليه السلام: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)(225) وهي الأحاديث المعتبرة المأثورة عن آبائه المعصومين عليهم السلام وعنه في الغيبة الصغرى.
وقد تكرّر إرجاع الحجة عليه السلام في التوقيعات الصادرة في الغيبة الصغرى إلى الروايات المأثورة عن آبائه عليهم السلام المدوّنة في الكتب المشهورة بين الطائفة، ففي الكتاب(226) لمحمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري(227) إلى الحجة عليه السلام بتوسط النواب الأربعة سأله عن المصلّي إذا قام من التشهد الأوّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإن بعض أصحابنا قال: (لا يجب عليه التكبير، ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوته أقوم وأقعد)؟
الجواب توقيع الحجة عليه السلام: (إن فيه حديثين: أما أحدهما: فإنه إذا انتقل من حالة إلى حالة أخرى فعليه التكبير، وأما الآخر: فإنه روي: أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية فكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير، وكذلك في التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى، وبأيّهما أخذت من جهة التسليم كان صواباً)(228).
فأرجع عليه السلام السائل وهو محمّد بن عبد الله الحميري إلى الحديثين المرويين عن آبائه عليهم السلام، ثمّ أكّد على السائل الأخذ بأيّ واحد منهما والعمل به من باب التسليم والردّ في كل ما ينوبه إلى الأحاديث المنقولة عنهم عليهم السلام.
وسأل الحميري أيضاً في ضمن المسائل التي في كتابه: وروي في ثواب القرآن في الفرائض وغيرها أن العالم (هو لقب للإمام الكاظم عليه السلام)(229) قال: (عجباً لمن لم يقرأ في صلاته: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(230) كيف تقبل صلاته؟).
وروي: (ما زكّت صلاة من لم يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)).
وروي: (أن من قرأ في فرائضه: (الهُمَزة) أعطي من الثواب قدر الدنيا)، فهل يجوز أن يقرأ: (الهُمَزة) ويدع هذه السور التي ذكرناها مع ما قد روي أنه لا تقبل صلاة ولا تزكوا إلاّ بهما؟.
التوقيع: (الثواب في السور على ما قد روي وإذا ترك سورة مما فيها الثواب وقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) لفضلهما أعطي ثواب ما قرأ وثواب السور التي ترك ويجوز أن يقرأ غير هاتين السورتين وتكون صلاته تامة، ولكن يكون قد ترك الفضل)(231).
وسأل عن التوجّه للصلاة أن يقول: على ملّة إبراهيم ودين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فإن بعض أصحابنا ذكر أنه إذا قال: على دين محمّد فقد أبدع لأنّا لم نجده في شيء من كتب الصلاة خلا حديثاً في كتاب القاسم بن محمّد عن جدّه عن الحسن بن راشد أن الصادق عليه السلام قال للحسين (أي بن راشد): (كيف تتوجّه؟)، فقال: أقول: لبّيك وسعديك، فقال له الصادق عليه السلام: (ليس عن هذا أسألك، كيف تقول وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً؟)، قال الحسن: أقول، فقال الصادق عليه السلام: (إذا قلت ذلك فقل: على ملّة إبراهيم ودين محمّد ومنهاج علي بن أبي طالب والإئتمام بآل محمّد، حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين).
فأجاب عليه السلام: (التوجّه كلّه ليس بفريضة، والسُنّة المؤكّدة فيه التي هي كالإجماع الذي لا خلاف فيه: وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم ودين محمّد وهدى أمير المؤمنين وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك اُمرت وأنا من المسلمين، اللهم اجعلني من المسلمين، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ثمّ اقرأ الحمد). قال الفقيه الذي لا يشكّ في علمه: (إن الدين لمحمّد والهداية لعلي أمير المؤمنين لأنها له صلى الله عليه وآله وسلم وفي عقبه باقية إلى يوم القيامة، فمن كان كذلك فهو من المهتدين، ومن شكّ فلا دين له، ونعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى)(232).
وسأل عن سجدة الشكر بعد الفريضة: فإن بعض أصحابنا ذكر أنها (بدعة) فهل يجوز أن يسجدها الرجل بعد الفريضة؟ وإن جاز ففي صلاة المغرب هي بعد الفريضة أو بعد الأربع ركعات النافلة؟
فأجاب عليه السلام: (سجدة الشكر من ألزم السنن وأوجبها ولم يقل: إن هذه السجدة بدعة إلاّ من أراد أن يحدث بدعة في دين الله، فأما الخبر المروي فيها بعد صلاة المغرب والاختلاف في أنها بعد الثلاث أو بعد الأربع، فإن فضل الدعاء والتسبيح بعد الفرائض على الدعاء بعقيب النوافل كفضل الفرائض على النوافل، والسجدة دعاء وتسبيح، فالأفضل أن تكون بعد الفرائض، فإن جعل بعد النوافل أيضاً جاز)(233).
وكتب إليه عليه السلام أيضاً في سنة (308هـ) كتاباً سأله فيه عن مسائل أخرى سأل: إن قبلنا مشايخ وعجائز يصومون رجباً منذ ثلاثين سنة وأكثر ويصلون بشعبان وشهر رمضان. وروى لهم بعض أصحابنا: أن صومه معصية؟
فأجاب عليه السلام: (قال الفقيه: يصوم منه أياماً إلى خمسة عشر يوماً إلاّ أن يصومه عن الثلاثة الأيام الفائتة، للحديث: إن نعم شهر القضاء رجب).
وسأل عن الركعتين الأخراوين قد كثرت فيها الروايات فبعض يروي: أن قراءة الحمد وحدها أفضل، وبعض يروي: أن التسبيح فيهما أفضل. فالفضل لأيّهما لنستعمله؟ فأجاب عليه السلام: (قد نسخت قراءة اُمّ الكتاب في هاتين الركعتين التسبيح، والذي نسخ التسبيح قول العالم عليه السلام: كل صلاة لا قراءة فيها فهو خداج إلاّ للعليل أو يكثر عليه السهو فيتخوف بطلان الصلاة عليه).
وسأل: عن الرجل يعرض له الحاجة مما لا يدري أن يفعلها أم لا، فيأخذ خاتمين فيكتب في أحدهما: (نعم أفعل) وفي الآخر: (لا تفعل) فيستخير الله مراراً ثمّ يرى فيهما، فيخرج أحدهما فيعمل بما يخرج، فهل يجوز ذلك أم لا؟ والعامل به والتارك له هو مثل الاستخارة أم هو سوى ذلك؟
فأجاب عليه السلام: (الذي سَنَّه العالم(234) عليه السلام في هذه الاستخارة بالرقاع والصلاة).
وسأل عن الرجل ينوي إخراج شيء من ماله وأن يدفعه إلى رجل من إخوانه ثمّ يجد في أقربائه محتاجاً أيصرف ذلك عمّن نواه له أو إلى قرابته؟
فأجاب: (يصرفه إلى أدناهما وأقربهما من مذهبه فإن ذهب إلى قول العالم عليه السلام: لا يقبل الله الصدقة وذو رحم محتاج، فليقسم بين القرابة وبين الذي نوى حتّى يكون قد أخذ بالفضل كله)(235).
أقول: فكل هذا الإرجاع من الحجة عليه السلام لأحاديث آبائه المعصومين عليهم السلام مع أنه معصوم أيضاً وقوله كقولهم حجة على العباد ليس إلاّ لتعليم الشيعة على الرجوع إلى الأحاديث المأثورة عن آبائه عليهم السلام في الغيبة الكبرى.
والأئمّة الإثنا عشر كلهم نور واحد ومشكاة واحدة، قال هشام بن سالم وهو من أجلاّء أصحاب الصادق عليه السلام، وكذلك قال حماد بن عثمان وغيره قالوا: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول صلى الله عليه وآله وسلم، وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله عز وجل)(236).
وقال جابر الجعفي (وهو من حواري الباقر عليه السلام): قلت لأبي جعفر عليه السلام: إذا حدّثتني بحديث فأسنده لي، فقال: (حدّثني أبي، عن جدّي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن جبرئيل، عن الله تبارك وتعالى، وكلّ ما أحدّثك بهذا الإسناد، وقال: يا جابر لحديث واحد تأخذه عن صادق(237) خير لك من الدنيا وما فيها)(238).
وروى الكليني عن الصادق عليه السلام أنه قال: (ليس يخرج شيء من عند الله عز وجل حتّى يبدأ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ بأمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ بواحد بعد واحد، لكيلا يكون آخرنا أعلم من أوّلنا)(239).
وروى الكليني عن الحكم بن أبي نعيم قال: أتيت أبا جعفر (الباقر) عليه السلام وهو بالمدينة فقلت له: عليَّ نذر بين الركن والمقام إن أنا لقيتك أن لا أخرج من المدينة حتّى أعلم أنك قائم آل محمّد أم لا؟ فلم يجبني بشيء، فأقمت ثلاثين يوماً، ثمّ استقبلني في طريق فقال: (يا حكم وإنك لههنا بعد)، فقلت: نعم، إني أخبرتك بما جعلت لله عليَّ فلم تأمرني ولم تنهني عن شيء ولم تجبني بشيء، فقال: (بكّر عليَّ غدوة المنزل)، فغدوت عليه، فقال عليه السلام: (سل عن حاجتك؟)، فقلت: إني جعلت لله علي نذراً وصياماً وصدقة بين الركن والمقام إن أنا لقيتك أن لا أخرج من المدينة حتّى أعلم أنك قائم آل محمّد أم لا؟ فإن كنت أنت رابطتك، وإن لم تكن أنت، سرت في الأرض فطلبت المعاش، فقال: (يا حكم كلّنا قائم بأمر الله)، قلت: فأنت المهدي؟ قال: (كلّنا نهدي إلى الله)، قلت: فأنت صاحب السيف؟ قال: (كلّنا صاحب السيف ووارث السيف)، قلت: فأنت الذي تقتل أعداء الله ويعزُّ بك أولياء الله ويظهر بك دين الله؟ فقال: (يا حكم كيف أكون أنا وقد بلغت خمساً وأربعين سنة؟ وإن صاحب هذا الأمر أقرب عهداً باللبن منّي وأخفُّ على ظهر الدابة)(240).

* * *

الأمر الخامس: الرؤيا ليست مصدراً للتشريع
إن الرؤيا بعنوان الوحي النبوي ليست مصدراً للتشريع إلاّ للأنبياء والرسل خاصة.
قال تعالى: (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)(241).
وروى السيد البحراني في تفسيره عن الصدوق بسنده عن الحسن بن علي بن فضال، قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام عن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا ابن الذبيحين)؟ قال: (يعني إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام وعبد الله بن عبد المطلب، أما إسماعيل فهو الغلام الحليم الذي بشَّر الله تعالى به إبراهيم عليه السلام (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ولم يقل له: يا أبتِ افعل ما رأيت...)(242) الحديث.
وبهذا المضمون عدّة روايات.
وقال تعالى: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً)(243).
أي يريد كل واحد من هؤلاء الذين لم يؤمنوا أن يكون رسولاً يوحى إليه أو لعلَّه تفسير لقوله تعالى: (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأَْرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَْنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً)(244).
وروى الكليني بسنده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا)(245) ما الرسول وما النبي؟ قال: (النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك)، قلت: الإمام ما منزلته؟ قال: (يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك)، ثمّ تلا هذه الآية: ((وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ)(246))(247).
وروى أيضاً بسنده عن الحسن بن العبّاس المعروفي أنه كتب إلى الرضا عليه السلام: جُعلت فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟ قال: فكتب أو قال: (الفرق بين الرسول والنبي والإمام أن الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي، وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه السلام، والنبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص)(248).
وبهذا المضمون عدّة روايات أخرى.
وروى المجلسي عن أمالي الشيخ الطوسي بسنده عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (رؤيا الأنبياء وحي)(249).
وروى الكليني بسنده عن ابن أذينة عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال: قال: (ما تروي هذه الناصبة؟)، فقلت: جعلت فداك فيما ذا؟ فقال: (في أذانهم وركوعهم وسجودهم)، فقلت: إنهم يقولون: إن اُبي بن كعب رآه في النوم، فقال: (كذبوا فإن دين الله عز وجل أعز من أن يرى في النوم) قال: فقال له سدير السيرفي: جُعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكراً، فقال أبو عبد الله عليه السلام: (إن الله عز وجل لمّا عرج بنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى سماواته السبع...)(250) الحديث، ثمّ ذكر عليه السلام تفصيل ذلك.
وقال العلامة المجلسي قدس سره: قد ورد بأسانيد صحيحة عن الصادق عليه السلام في حديث الأذان أن (دين الله تبارك وتعالى أعزُّ من أن يرى في النوم) وقال: المراد أنه لا يثبت أصل شرعية الأحكام بالنوم بل إنما هي بالوحي الجلي(251).
وقد اتّضح أن المقصود من أن الرؤيا ليست مصدراً للشريعة إلاّ للأنبياء خاصة أن الرؤيا المشتملة على الأمر والنهي هي أحد أقسام الوحي الإلهي للأنبياء، ومن المعلوم أنه مخصوص بمن ينبئ من الله عز وجل.
أما الرؤيا الصادقة المشتملة على حكاية وقائع مستقبلية أي التي يكون مضمونها الأخبار _ بخلاف الرؤيا الأولى التي يكون مضمونها الإنشاء التشريعي الإلهي _ فهذه أيضاً تحصل للأنبياء والرسل وهي تكون صادقة دائماً لديهم.
قال تعالى: (إِذْ قالَ يُوسُفُ لأَِبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ * قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ...)(252) الآية، وهذه التي فيها التأويل والتعبير.
قال تعالى على لسان يعقوب عليه السلام مخاطباً يوسف عليه السلام: (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَْحادِيثِ)(253).
وقال تعالى: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ)(254)، وقال: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ).(255)
حيث رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك عام الحديبية وهي سنة الست من الهجرة وصدقت العام الذي بعده.
هذا وقد بحث علماء الكلام (وهو العلم الباحث عن أصول العقائد) عن طريق معرفة النبي أنه مبعوث واطمئنانه بذلك وعن كيفية العصمة في الوحي وتلقيه ومجمل الأدلّة العقلية في ذلك هي بعينها الأدلّة الدالة على ضرورة بعث الله عز وجل الرسل والأنبياء لهداية عباده فهي على ضرورة تأييد الأنبياء وحفظهم وعصمتهم وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: (وقد قرن الله به صلى الله عليه وآله وسلم من لدن إن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره)(256).
واستفاضت الروايات بأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يزل مؤيّداً بروح القدس يكلّمه ويسمع صوته ويرى الرؤيا الصادقة حتّى بعثه الله نبياً ورسولاً.
وقد سأل أصحاب الأئمّة عن ذلك، فعن زرارة بن أعين قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف لم يخف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأتيه من قبل الله أن يكون مما ينزغ به الشيطان؟ فقال: (إن الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل ما يراه بعينه)(257).
وروى الكليني بسنده عن بُريد أنه سأل أبا جعفر (الباقر) وأبا عبد الله الصادق عليهما السلام قال: قلت: فما الرسول والنبي والمحدّث؟ قال: (الرسول الذي يظهر له الملك فيكلمه، والنبي هو الذي يرى في منامه، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد، والمحدّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة)، قال: قلت: أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في النوم حق وأنه من الملك؟ قال: (يوفق حتّى يعرفه، لقد ختم الله بكتابكم الكتب، وختم بنبيّكم الأنبياء)(258).
وروي عن محمّد بن هارون، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (ما علم رسول الله أن جبرئيل من عند الله إلاّ بالتوفيق)(259).
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)(260). فالوحي إنزال حق ومعصوم، وفي تلقي الرسول إيّاه حق ومعصوم، وقال عزَّ من قائل: (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ)(261).
إذا تنبّهت إلى مجمل ما سبق يتّضح لك أن غير المعصوم من سائر الناس ليس له أيّ حظّ من الرؤيا من النحو الأوّل وهي ما يكون فيها إنشاء أيّ أوامر ونواهي إلهية ونحوها من الأحكام الشرعية، وإن توهم ذلك متوهم فليستيقن بأن ذلك من الشياطين وقد أشار القرآن الكريم إلى عدّة من أفعال الشياطين.
فمنها: الهمز كما في قوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ)(262).
ومنها: النزول على الأفّاك (أي الكذّاب المفتري) الآثم كما في قوله تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ * تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)(263).
ومنها: الاستهواء كما في قوله تعالى: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الأَْرْضِ حَيْرانَ)(264).
ومنها: النزغ كما في قوله تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)(265).
ومنها: المسّ كما في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا)(266).
ومنها: الأز كما في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)(267).
ومنها: الإلقاء كما في قوله تعالى: (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)(268).
ومنها: الإيحاء كما في قوله تعالى: (إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(269)، وغير ذلك من الآيات.
وعن الباقر عليه السلام قال: (لمّا ترون من بعثه الله عز وجل للشقاء على أهل الضلالة من أجناد الشياطين وأرواحهم أكثر مما ترون مع خليفة الله الذي بعثه للعدل والصواب للملائكة)، قيل: يا أبا جعفر، وكيف يكون شيء أكثر من الملائكة؟ قال: (كما يشاء الله عز وجل). قال السائل: يا أبا جعفر إنّي لو حدّثت بعض أصحابنا الشيعة بهذا الحديث لأنكروه، قال: (كيف ينكرونه؟)، قال: يقولون: إن الملائكة أكثر من الشياطين. قال: (صدقت افهم عنّي ما أقول لك: إنه ليس من يوم ولا ليلة إلاّ وجميع الجن والشياطين تزور أئمّة الضلالة، وتزور أئمّة الهدى عددهم من الملائكة، حتّى إذا أتت ليلة القدر فيهبط فيها من الملائكة إلى ولي الأمر قيض الله عز وجل من الشياطين بعددهم، ثمّ زاروا ولي الضلالة فأتوه بالإفك والكذب حتّى لعلَّه يصبح فيقول: رأيت كذا وكذا، فلو سئل ولي الأمر عن ذلك لقال: رأيت شيطاناً أخبرك بكذا وكذا حتّى يفسّر له تفسيراً ويعلّمه الضلالة التي هو عليها)(270).
والهمز كالعصر، والنزغ الجذب للشيء من مقره، والمسّ كاللمس، والأز كالهز، وهذه الأفعال توردها الشياطين في القلوب بتوسط الخواطر والواردات والميول والتجاذب النفسي.
وعن كتاب (مجالس الصدوق)(271) بسنده عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول: (إن لإبليس شيطاناً يقال له: (هزع) يملأ المشرق والمغرب في كل ليلة يأتي الناس في المنام، ولهذا يرى الأضغاث).
نعم، الرؤيا من القسم الثاني وهي المتضمنة للأخبار والحكاية عن الوقائع المستقبلة، فلغير المعصوم حظّ يسير منها بحسب تقواه وصدق حديثه ولسانه وصفاء قلبه، فعن الصدوق (علي بن بابويه) بسند عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الرؤيا ثلاثة: بشرى من الله، وتحزين من الشياطين، والذي يحدّث به الإنسان نفسه فيراه في منامه)(272)، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)(273).
ولا تخفى دلالة الرواية على أن الرؤيا الصادقة التي هي نصيب غير المعصوم هي ما تكون بشرى، أي حاكية ومخبرة، أي من القسم الثاني لا الأوّل، وهي المتضمنة للإنشاء والتشريع.
ومثل ذلك مفاد الرواية عن الباقر عليه السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أتى رجل من أهل البادية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآْخِرَةِ)(274)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما قوله: (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشّر بها في دنياه، وأما قوله: (وَفِي الآْخِرَةِ) فإنها بشارة للمؤمن عند الموت إن الله غفر لك ولمن يحملك إلى قبرك)(275).
وروى الكليني بسنده عن أبي الحسن عليه السلام قال: (إن الأحلام لم تكن في ما مضى في أوّل الخلق وإنما حدثت)، فقلت: وما العلّة في ذلك؟ فقال: (إن الله عزَّ ذكره بعث رسولاً إلى أهل زمانه فدعاهم إلى عبادة الله وطاعته، فقالوا: إن فعلنا ذلك فما لنا؟ فوالله ما أنت بأكثرنا مالاً ولا بأعزّنا عشيرة، فقال: إن أطعتموني أدخلكم الله الجنّة وإن عصيتموني أدخلكم الله إلى النار. فقالوا: وما الجنّة وما النار؟ فوصف لهم ذلك فقالوا: متى نصير إلى ذلك؟ فقال: إذا متّم. فقالوا: لقد رأينا أمواتنا صاروا عظاماً ورفاتاً، فازدادوا له تكذيباً وبه استخفافاً، فأحدث الله عز وجل فيهم الأحلام، فأتوه فأخبروه بما رأوا وما أنكروا من ذلك. فقال: إن الله عزَّ ذكره أراد أن يحتجَّ عليكم بهذا، هكذا تكون أرواحكم إذا متّم، وإن بليت أبدانكم تصير الأرواح إلى عقاب حتّى تبعث الأبدان)(276).
وإذا عرفت أن الرؤيا التي هي من نحو الأخبار على ثلاثة أقسام: صادقة، وكاذبة، وتخيّلات، يتّضح لك عدم دوام الصدق فيها ففي كتاب (التوحيد)(277) للمفضل بن عمر الجعفي قال له الإمام الصادق عليه السلام: (فكّر يا مفضل في الأحلام كيف دُبّر الأمر فيها، فمزج صادقها بكاذبها، فإنها لو كانت كلّها تصدق لكان الناس كلّهم أنبياء، ولو كانت كلّها تكذب لم يكن فيها منفعة، بل كانت فضلاً لا معنى له، فصارت تصدق أحياناً فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدى لها، أو مضرّة يتحذر منها، وتكذب كثيراً لئلاّ يعتمد عليها كل الاعتماد).
وعن كتاب (بصائر الدرجات)(278) في قصة الحسن بن عبد الله الرافقي (الواقفي) الزاهد العابد، حيث كان يلقاه السلطان فيستقبله بالكلام الصعب يعظه ويأمره بالمعروف، وكان يحتمله لصلاحه، فلم يزل حاله حتّى اهتدى للمعرفة على يد الإمام الكاظم عليه السلام في لقاءات متعددة، وكان يرى الرؤيا الحسنة وترى له، ثمّ انقطعت عنه الرؤيا، فرأى ليلة أبا عبد الله عليه السلام فيما يرى النائم فشكى إليه انقطاع الرؤيا، فقال: (لا تغتم فإن المؤمن إذا رسخ في الإيمان رفع عنه الرؤيا).
ولعلَّ ذلك مراد ما حكاه الشيخ المفيد قال: (وقد كان شيخي رضي الله عنه قال لي: إن كل من كثر علمه واتّسع فهمه قلَّت مناماته)(279).
وعن كتاب (ثواب الأعمال)(280) للصدوق قدس سره بسنده عن هشام بن أحمد، وعبد الله ابن مسكان، ومحمّد بن مروان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (ثلاثة يعذّبون يوم القيامة: من صوَّر صورة من الحيوان حتّى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها، والذي يكذب في منامه يعذّب حتّى يعقد بين شعيرتين وليس بعاقدهما، والمستمع من قوم وهم له كارهون يصبُّ في أذنيه الإنك وهو الأسرب (الرصاص)).
جواب شبهة: (من رآني في منامه فقد رآني):
وبعد هذا كلّه لعلَّ قائلاً يقول: أليس قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من رآني في منامه فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثّل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من شيعتهم)(281) وحينئذٍ كانت رؤيا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد أوصيائه صادقة لا محالة، وهي لا يفرق فيها بين أن تكون من القسم الأوّل وهي ما كان فيها أمر ونهي، أو من القسم الثاني وهي الأخبار عن ما يستقبل من الأمور.
وهذه المقالة وَهْمٌ فاسد لجهات عدّة:
الأولى: أن أكثر ما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من رآني في منامه فقد رآني) فهو بطرق العامة لا بطرق الخاصة الإمامية، وأما ما روي بطريق الخاصة فالمرحوم العلاّمة المجلسي على سعة باعه وتوغله في الرواية لم يذكر في كتاب البحار، في باب رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأوصياء عليهم السلام إلاّ رواية واحدة بهذا المضمون، ثمّ ذكر أنه روى المخالفون (أهل السنّة) ذلك بأسانيد عندهم، ولذا قال السيد المرتضى رحمه الله عندما سئل عن هذا الخبر: (هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد، ولا معوَّل على مثل ذلك)(282).
وهي ليست على درجة من الاعتبار، وبعبارة أخرى أن حجية الرواية يشترط فيها أمور منها ما يتعلق بالسند والطريق وهو الأشخاص الذين ينقل كل منهم عن الآخر حتّى يصل إلى المعصوم عليه السلام، فإنهم لا بدَّ أن يكونوا عدولاً أو ثقاتاً قد اطمئن إلى صدق لهجتهم، فلا يقبل من غير العادل والثقة، قال تعالى: (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(283)، وكذلك مجهول الحال فإنه لا يمكن الاعتماد عليه في النقل والحديث.
الثانية: أن هذه المسألة وهي كون الرؤيا مصدراً لاستقاء أحكام الشريعة من سلك مسائل الأصول الاعتقادية فكيف يعوّل فيها على خبر واحد ظنّي، إذ لا بدَّ فيها من اليقين والقطع، ولذلك قال العلامة المجلسي تغمّده الله برحمته: (أن الظاهر إن هذا من مسائل الأصول، ولا بدَّ فيه من العلم، ولا يثبت بأخبار الآحاد المفيدة للظن)(284).
الثالثة: لو فرضنا اعتبار طريق الرواية وفرضنا إمكان إثبات مثل هذه المسألة بخبر واحد ظنّي فإن ذلك يتم لو كنّا نحن والرواية على تقدير صحة هذه الاستفادة من معنى الرواية، وأما مع ما تقدّم من الآيات القرآنية والسُنّة المستفيضة المتواترة معنى في أن الرؤيا المتضمنة للأمر والنهي من خصائص الأنبياء والمرسلين فلا يمكن الاعتماد على هذه الاستفادة من الرواية ولا برفع اليد عن الدليل القطعي بخبر واحد، ولا يوسوس في ذلك إلاّ من ليس يتحرّج في دينه ومن لا يركن إلى أوّليات عقله وفطرته.
الرابعة: توجد روايتان معتبرتان بل أكثر تدلُّ بالخصوص على عدم صحة أن من رآهم في المنام مطلقاً ودوماً فقد رآهم عليهم السلام، فقد روى الشيخ الجليل الكشّي رحمه الله في كتابه (معرفة الرجال)(285) عن جبريل بن أحمد أنه حدّثه محمّد بن عيسى (العبيدي اليقطيني)، عن علي بن الحكم، عن حمّاد بن عثمان، عن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام: (أخبرني عن حمزة(286) أيزعم أن أبي آتيه؟)، قلت: نعم. قال: (كذب والله ما يأتيه إلاّ المتكوّن، إن إبليس سلّط شيطاناً يقال له: المتكوّن يأتي الناس في أيّ صورة شاء، إن شاء في صورة صغيرة وإن شاء في صورة كبيرة، ولا والله ما يستطيع أن يجيء في صورة أبي عليه السلام).
وروي عن سعد بن عبد الله الأشعري قال: حدّثني أحمد (بن عيسى الأشعري)، عن أبيه، والحسين بن سعيد (الأهوازي)، عن ابن أبي عمير، عن محمّد بن عمر بن أذينة، عن بُريد بن معاوية العجلي، وبطريق آخر عن سعد بن عبد الله، قال: حدّثني محمّد بن عيسى (العبيدي)، عن يونس بن عبد الرحمن، ومحمّد بن أبي عمير، عن محمّد بن عمر بن أذينة، عن بُريد بن معاوية العجلي، قال: كان حمزة بن عمارة الزبيدي (البربري) لعنه الله يقول لأصحابه أن أبا جعفر (الباقر) عليه السلام يأتيني في كل ليلة ولا يزال إنسان يزعم أنه قد رآه فقدّر لي أني لقيت أبا جعفر عليه السلام فحدّثته بما يقول حمزة، فقال: (كذب، عليه لعنة الله ما يقدر الشيطان أن يتمثل في صورة نبي ولا وصي نبي)(287).
وهاتان الروايتان وإن كان يحتمل منهما الرؤية في اليقظة، ولكن ذلك لا يخدش في المطلوب وهو عدم دوام المطابقة بين ما يعتقده الرائي سواء في المنام أو اليقظة أنه قد رأى الأئمّة مع الواقع والحقيقة، وذلك لتلبيس وخداع الشيطان للرائي وتشكّل الشيطان (الذي يسمى المتكوّن) بصور مختلفة يغري الرائي أن تلك الصور هم الأئمّة عليهم السلام، مع أن تلك الصور ليست بصورهم عليهم السلام، لأنه لا يستطيع التمثّل والتشكّل بصورهم عليهم السلام، وستأتي في الفصل اللاحق نقل عدّة روايات بهذا المضمون.
الخامسة: لو رفعنا اليد فرضاً عن ما سبق فإنما يتبع ما يرى في الشيء الذي علم من الشريعة المقدسة صحته، أي كان المرئي موافقاً لظاهر الشريعة لا ما كان مخالفاً لها، وذلك لكون منشأ ودليل حجيّة الرؤية هي هذه الرواية التي هي واصل لنا من الشريعة، فكيف تعارض الشريعة، وهل يمكن للفرع أن يستأصل ويبيد الأصل.
قال الكراجكي رحمه الله في كتابه (كنز الفوائد)(288): (وجدت لشيخنا المفيد رضي الله عنه في بعض كتبه: أن الكلام في باب رؤيا المنامات عزيز، وتهاون أهل النظر به شديد، والبلية بذلك عظيمة، وصدق القول فيه أصل جليل... إلى أن قال:
وأما رؤية الإنسان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لأحد الأئمّة عليهم السلام في المنام فإن ذلك عندي على ثلاثة أقسام:
قسم أقطع على صحته، وقسم أقطع على بطلانه، وقسم أجوّز فيه الصحة والبطلان فلا أقطع فيه على حال.
فأما الذي أقطع على صحته فهو كل منام رأى فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد الأئمّة عليهم السلام وهو الفاعل لطاعة أو آمر بها، وناهٍ عن معصية أو مبيّن لقبحها، وقائل لحق أو داع إليه، وزاجر عن باطل أو ذام لمن هو عليه.
وأما الذي أقطع على بطلانه فهو كل ما كان ضد ذلك، لعلمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام صاحبا حق، وصاحب الحق بعيد عن الباطل.
وأما الذي أجوّز فيه الصحة والبطلان فهو المنام الذي يرى فيه النبي والإمام عليهما السلام وليس هو آمراً ولا ناهياً ولا على حال يختص بالديانات(289) مثل أن يراه راكباً أو ماشياً أو جالساً ونحو ذلك.
وأما الخبر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (من رآني فقد رآني، فإن الشيطان لا يتشبّه بي) فإنه إذا كان المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في كل حال، ويكون المراد به القسم الأوّل من الثلاثة الأقسام، لأن الشيطان لا يتشبّه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في شيء من الحق والطاعات... إلى أن قال:
وجميع هذه الروايات أخبار آحاد، فإن سلمت فعلى هذا المنهاج، وقد كان شيخي رحمه الله يقول:
إذا جاز من بشر أن يدّعي في اليقظة أنه إله كفرعون ومن جرى مجراه مع قلّة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة فما المانع من أن يدّعي إبليس عند النائم بوسوسة له أنه نبي؟ مع تمكّن إبليس مما لا يتمكن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام.
ومما يوضح لك أن من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول الله والأئمّة منها ما هو حق ومنها ما هو باطل إنك ترى الشيعي يقول: رأيت في المنام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يأمرني بالاقتداء به دون غيره، ويعلمني أنه خليفته من بعده وأن أبا بكر وعمر وعثمان ظالموه وأعداؤه وينهاني عن موالاتهم ويأمرني بالبراءة منهم ونحو ذلك مما يختص بمذهب الشيعة، ثمّ يرى الناصبي يقول: رأيت رسول الله في النوم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وهو يأمرني بمحبتهم وينهاني عن بغضهم ويعلمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة، وأنهم معه في الجنّة ونحو ذلك مما يختصُّ بمذهب الناصبية، فنعلم لا محالة أن أحد المنامين حق والآخر باطل فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت الدليل في اليقظة على صحة ما تضمنه، والباطل ما أوضحت الحجة عن فساده وبطلانه، وليس يمكن الشيعي أن يقول للناصبي: إنك كذبت في قولك إنك رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه.
وقد شاهدنا ناصبياً يتشيّع وأخبرنا في حال تشيّعه بأنه يرى منامات بالضد مما كان يراه حال نصبه، فبان بذلك أن أحد المنامين باطل، وأنه من نتيجة حديث النفس أو من وسوسة إبليس ونحو ذلك، وأن المنام الصحيح هو لطف من الله تعالى بعبده على المعنى المتقدم وصفه.
وقولنا في المنام الصحيح: إن الإنسان رأى في نومه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما معناه أنه كأن قد رآه، وليس المراد به التحقق في اتصال شعاع بصره بجسد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأيّ بصر يدرك به في حال نومه؟ وإنما هي معاني تصورت، وفي نفسه تخيّل له فيها أمر لطف الله تعالى له به قام مقام العلم، وليس هذا بمناف للخبر الذي روي من قوله: (من رآني فقد رآني)، لأن معناه: فكأنما رآني، وليس يغلط في هذا المكان إلاّ من ليس له من عقله اعتبار).
ولهذا بحث الكثير في علم ما اصطلح عليه بـ (العرفان) عن الفارق بين الإلهام الرحماني والإلهام الشيطاني، وبين الكشف الحقيقي والكشف الكاذب غير الحقيقي، وبين الواردات الرحمانية والملكية والواردات القلبية الشيطانية والجنية.
فقد ذكر الشارح القيصري في شرحه على (فصوص الحكم) لابن العربي في الفصل السادس والسابع من الفصول التي ذكرها في المقدمة، قال: (وكما أن النوم ينقسم بأضغاث أحلام وغيرها كذلك ما يرى في اليقظة ينقسم إلى أمور حقيقية محضة واقعة في نفس الأمر وإلى أمور خيالية صرفة لا حقيقة لها شيطانية، وقد يخلطها الشيطان بيسير من الأمور الحقيقية ليضلّ الرائي، لذلك يحتاج السالك إلى مرشد يرشده وينجّيه من المهالك والأوّل إما أن يتعلّق بالحوادث أو لا.
فإن كان متعلقاً بها فعند وقوعها كما شاهدها أو على سبيل التعبير وعدم وقوعها حصل التمييز بينهما وبين الخيالية الصرفة وعبور الحقيقة عن صورتها الأصلية إنما هو للمناسبات التي بين الصور الظاهرة هي فيها وبين الحقيقة، ولظهورها فيها أسباب كلّها راجعة إلى أحوال الرائي وتفصيله يؤدّي إلى التطويل.
وأما إذا لم يكن كذلك (أي الرؤيا غير الأخبارية بالمستقبليات) فللفرق بينها وبين الخيالية الصرفة موازين يعرفها أرباب الذوق والشهود بحسب مكاشفاتهم، كما أن للحكماء ميزاناً يفرّق بين الصواب والخطأ وهو المنطق.
منها: ما هو ميزان عام، وهو القرآن والحديث المنبئ كل منهما على الكشف التام المحمّدي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها: ما هو خاص، وهو ما يتعلق بحال كل منهم القابض عليه من الاسم الحاكم والصفة العالية عليه، وسنومي في الفصل التالي (أي السابع) بعض ما يعرف به إجمالاً)(290).
أقول: فترى أن الميزان عندهم لكون ما يرد على القلب وما ينكشف له _ سواء بالرؤية في المنام أو في اليقظة أو بغير الرؤية من الإلهام القلبي وغيره _ الميزان بين الحق والحقيقي منه وبين الباطل والشيطاني والخيالي الذي لا واقعية له هو القرآن الكريم والسُنّة المطهرة.
وقد برهن الشارح القيصري على ذلك بحسب مصطلح علم العرفان بقوله في الفصل السابع:
(ولمّا كان من الكشف الصوري والمعنوي على حسب استعداد السالك ومناسبات روحه وتوجّه سرّه إلى كل من أنواع الكشف، وكانت الاستعدادات متفاوتة والمناسبات متكثرة صارت مقامات الكشف متفاوتة بحيث لا يكاد ينضبط، وأصحُّ المكاشفات وأتمّها إنما يحصل لمن يكون مزاجه الروحاني أقرب إلى الاعتدال التام كأرواح الأنبياء والكمل من الأولياء صلوات الله عليهم)(291).
ولذا تقرر عندهم أن كل كشف فهو يعرض على كشف الأنبياء والرسل عليهم السلام، فإن وافقه فيعلم صحته وإلاّ فيعلم فساده، وأن الكشف المعصوم من الباطل هو كشف الأنبياء المتجلّي في الكتب السماوية التي يبعثون بها، وكذلك أقوالهم وأفعالهم.
وذكر أيضاً السيد حيدر بن علي الحسيني الأملي _ والذي وصفه القاضي التستري (في مجالس المؤمنين) بالعارف المحقق الأوحد من أصحابنا الإمامية المتألهين _(292) (في كتابه جامع الأسرار ومنبع الأنوار)(293):
(وأما الإلهام العام فيكون بسبب وغير سبب، ويكون حقيقياً وغير حقيقي، فالذي يكون بالسبب ويكون حقيقياً فهو بتسوية النفس وتحليتها وتهذيبها بالأخلاق المرضية والأوصاف الحميدة موافقاً للشرع ومطابقاً للإسلام لقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها)(294) والذي يكون بغير السبب ويكون غير حقيقي فهو يكون لخواص النفوس واقتضاء الولادة والبلدان كما يحصل للبراهمة والكشايش (القساوسة) والرهبان.
والتمييز بين هذين الإلهامين محتاج إلى ميزان إلهي ومحك ربّاني، وهو نظر الكامل المحقق والإمام المعصوم والنبي المرسل المطلع على بواطن الأشياء على ما هي عليه واستعدادات الموجودات وحقائقها، ولهذا احتجنا بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام إلى الإمام والمرشد لقوله تعالى: (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(295)، لأن كل واحد ليس له قوة التمييز بين الإلهامين الحقيقي وغير الحقيقي، وبين الخاطر الإلهي والخاطر الشيطاني، وغير ذلك. والذكر هو القرآن أو النبي، وأهله هم أهل بيته من الأئمّة المعصومين المطّلعين على أسرار القرآن وحقائقه ودقائقه، ولقوله تعالى أيضاً تأكيداً لهذا المعنى: (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)(296)، أي إلى أهل الله تعالى وأهل رسوله، والآيات الدالة على متابعة الكامل والمرشد الذي هو الإمام المعصوم أو العلماء الورثة من خلفائهم كثيرة فارجع إليها لأن هذا ليس موضعها.
فنرجع ونقول: وإن تحققت عرفت أيضاً أن الخواطر التي قسّموها إلى أربعة أقسام: إلهي، وملكي، وشيطاني، ونفساني كان سببه ذلك، أي عدم العلم بالإلهامين المذكورين، أعني الحقيقي وغير الحقيقي، لأنها كلّها من أقسام الإلهام وتوابعه).
ونقل المتقي الهندي صاحب كنز العمال في كتابه (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان)(297) عن الشيخ الحسن الشاذلي المالكي رئيس الطريقة الشاذلية (الصوفية) أنه قال: (إن الله تعالى ضمن العصمة في جانب الكتاب والسُنّة، ولم يضمنها في جانب الكشف والإلهام).
ونقل عن أبي القاسم القشيري النيشابوري الأشعري الشافعي (الصوفي المفسر المحدّث الفقيه العارف) أنه قال: (لا ينبغي للمريد أن يعتقد في المشايخ العصمة من الخطأ والزلل).
هذا وقد عقد الشيخ الكليني في أصوله تحت عنوان: أن للقلب أذنين ينفث فيهما الملك والشيطان، وروى عن الصادق عليه السلام:
(ما من قلب إلاّ وله أذنان على إحداهما ملك مرشد وعلى الأخرى شيطان مفتن هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها وهو قول الله عز وجل: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ * ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(298))(299).
وقال عليه السلام: (ما من مؤمن إلاّ ولقلبه أذنان في جوفه أذن ينفث فيهما الوسواس الخنّاس وأذن ينفث فيهما الملك فيؤيّد الله المؤمن بالملك فذلك قوله: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)(300))(301).
و(سأل) السيد مهنا بن سنان العلاّمة الحلّي قدس سره عن مفاد هذه الرواية وأنه لو فرض أن الرؤية متضمنة للأمر بالشيء أو النهي عن شيء، فهل يتمثل ذلك الأمر ويجتنب المنهي أم لا، سيّما إذا كان خلاف ظاهر الشريعة؟
(فأجابه) نوّر الله ضريحه: (أما ما يخالف الظاهر فلا ينبغي المصير إليه، وأما ما يوافق الظاهر فالأولى المتابعة من غير وجوب، ورؤيته صلى الله عليه وآله وسلم لا يعطي وجوب الاتّباع في المنام)(302).
الخامسة: ما هو مفاد الرواية ودلالتها؟ فقد تعدّدت الآراء في ذلك:
أ _ ما حكي عن الفيض الكاشاني أن معنى الرواية هو من رآني أي تحقق وتيقّن من رؤية صورتي، لأنه قد رآه في اليقظة. فقد رآه تحقيقاً وحقيقة لأن الشيطان لا يتمثل بصورته صلى الله عليه وآله وسلم.
وحينئذٍ يكون مفاد الحديث مخصوص بمن شهد زمانه صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد الأئمّة في ظهورهم عليهم السلام أو من عرف أوصافهم عليهم السلام وشمائلهم المنقولة في الكتب بدقّة.
وهذا الإلحاق والتتمة من بعض المتأخّرين، ويشهد له التعليل في الرواية، لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي، فإن ذلك يعني حصر الرؤية بصورهم المختصة بهم عليهم السلام، وهي التي كانوا عليها في حياتهم من شمائلهم الخاصة بهم.
ب _ ما أفاده السيد المرتضى رحمه الله في كتاب (الغرر والدرر)(303) وهو: (من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة، لأن الشيطان لا يتمثل بي لليقظان)، فقد قيل: إن الشياطين ربما تمثّلت بصورة البشر، وهذا التشبيه أشبه بظاهر ألفاظ الخبر، لأنه قال: (من رآني فقد رآني)، فأثبت غيره رائياً له ونفسه مرئية، وفي النوم لا رائي له في الحقيقة ولا مرئي وإنما ذلك في اليقظة، ولو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام من اعتقد أنه يراني في منامه، وإن كان غير راءٍ له على الحقيقة فهو في الحكم كأنه قد رآني، وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر وتبديل لصيغته) انتهى.
أقول: ما أفاده السيد يفهم من الكلام المتقدم للشيخ المفيد، ولكن هذا المفاد ينسجم مع بعض الروايات المنقولة بطرق العامة، حيث لم يقيّد فيها الرؤية بكونها في المنام.
ج _ أن المراد هو الزيارة بالزاي المنقوطة المعجمة، إذ في كتاب عيون الشيخ الصدوق(304) وهي الرواية التي نقلها العلامة المجلسي في كتاب البحار(305) ونقلها أيضاً عن مجالس (أمالي)(306) الصدوق: (من زارني في منامه فقد رآني) بالزاي المعجمة، نعم في (الأمالي) بالراء غير المعجمة، وحينئذٍ يكون المعنى أن الزيارة في المنام تعدل الزيارة في اليقظة في الثواب، ويمكن أن تقرب هذه النسخة بأن الكلام في ابتداء الرواية كان حول ثواب زيارة الإمام الرضا عليه السلام.
ولكن نسخة الراء غير المعجمة أنسب بمجموع الرواية.
د _ أن المراد هو بيان فضيلة هذه الرؤية والتشرف بهم عليهم السلام وصدق ما يخبرون به في المنام إذا رآهم النائم بصورهم الخاصة بهم، ويشهد ذلك مورد الرواية التي بطرقنا والروايات التي بطرق العامة، فإن الاستشهاد بـ (من رآني في منامه فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل في صورة أحد من أوصيائي) في الرواية وقع للإستدلال بصدق ما أخبر به النائم في الرؤيا من قبلهم عليهم السلام.
ثمّ ليتنبّه إلى أن الأمر والنهي في الرؤية (تارة) يكون كتشريع حكم كلّي وأنه لا يختص بالنائم بل لسائر المكلفين، فهذا ليس إلاّ وحي يختص به الأنبياء.
(وتارة) يكون أمر جزئي شخصي للنائم خاصة لمرّة واحدة فقط مثل: ابن مسجداً، أو تصدق بكذا من مالك، ونحو ذلك. فهذا الذي تقدّم أنه إن وافق الشريعة فلا حرج في المتابعة من دون وجوب شرعي كما أفاده العلامة الحلّي قدس سره وجزم بصحة (الرؤية) الشيخ المفيد، وإن عارض وخالف الشريعة فلا ينبغي المصير إليه، كما عبّر بذلك العلاّمة الحلّي، وقطع ببطلانه الشيخ المفيد.
ولنختم هذا الأمر برواية عن الإمام الصادق عليه السلام أخرجها المجلسي رحمه الله عن كتاب (مصباح الشريعة)(307) قال:
(إن الله عز وجل مكّن أنبياءه من خزائن لطفه وكرمه ورحمته، وعلّمهم من مخزون علمه، وأفردهم من جميع الخلائق لنفسه، فلا يشبه أخلاقهم وأحوالهم أحد من الخلائق أجمعين، إذ جعلهم وسائل سائر الخلق إليه، وجعل حبّهم وطاعتهم سبب رضاه، وخلافهم وإنكارهم سبب سخطه، وأمر كل قوم باتّباع ملّة رسولهم، ثمّ أبى أن يقبل طاعة أحد إلاّ بطاعتهم ومعرفة حقّهم وحرمتهم ووقارهم وتعظيمهم وجاههم عند الله، فعظّم جميع أنبياء الله. ولا تنزلهم بمنزلة أحد من دونهم، ولا تتصرّف بعقلك في مقاماتهم وأحوالهم وأخلاقهم إلاّ ببيان محكم من عند الله وإجماع أهل البصائر بدلائل تتحقق بها فضائلهم ومراتبهم، وأنى بالوصول إلى حقيقة ما لهم عند الله؟ وإن قابلت أقوالهم وأفعالهم بمن دونهم من الناس أجمعين فقد أسأت صحبتهم وأنكرت معرفتهم وجهلت خصوصيتهم بالله، وسقطت عن درجة حقيقة الإيمان والمعرفة، فإيّاك ثمّ إيّاك).
وليعلم أن من خواص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأوصياء أنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، ووردت بذلك الروايات المستفيضة.
كما وللسيد المرتضى _ رفع الله درجته _ تحقيقاً في المقام يكون نهاية للمطاف قال في كتاب (الغرر والدرر)(308):
(إعلم أن النائم غير كامل العقل، لأن النوم ضرب من السهو والسهو ينفي العلوم، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة لنقصان عقله وفقد علومه، وجميع المنامات إنما هي اعتقادات يبتدئها النائم في نفسه، ولا يجوز أن تكون من فعل غيره فيه، لأن من عداه من المحدّثين سواء كانوا بشراً أو ملائكة أو جناً أجسام والجسم لا يقدر أن يفعل في غيره اعتقاداً ابتداء بل ولا شيئاً من الأجناس على هذا الوجه، وإنما يفعل ذلك في نفسه على سبيل الابتداء وإنما قلنا: إنه لا يفعل في غيره جنس الاعتقادات متولّداً، لأن الذي يعدي الفعل من محل القدرة إلى غيرها من الأسباب إنما هو الاعتمادات، وليس جنس الاعتمادات ما يولد الاعتقادات، ولهذا لو اعتمد أحدنا على قلب غيره الدهر الطويل ما تولّد فيه شيء من الاعتقادات، وقد بيّن ذلك وشرح في مواضع كثيرة، والقديم تعالى هو القادر أن يفعل في قلوبنا ابتداء من غير سبب أجناس الاعتقادات.
ولا يجوز أن يفعل في قلب النائم اعتقاداً، لأن أكثر اعتقادات النائم جهل، ويتأول الشيء على خلاف ما هو به، لأنه يعتقد أنه يرى ويمشي وأنه راكب وعلى صفات كثيرة، وكل ذلك على خلاف ما هو به، وهو تعالى لا يفعل الجهل، فلم يبقَ إلاّ أن الاعتقادات كلّها من جهة النائم، وقد ذكر في المقالات أن المعروف (بصالح قبه) كان يذهب إلى ما يراه النائم في منامه على الحقيقة، وهذا جهل منه يضاهي جهل السوفسطائية، لأن النائم يرى أن رأسه مقطوع وأنه قد مات وأنه قد صعد إلى السماء ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك كلّه، وإذا جاز عند صالح هذا أن يعتقد اليقظان في السراب أنه ماء وفي المردي (خشبة يدفع بها الملاّح السفينة) إذا كان في الماء أنه مكسور وهو على الحقيقة صحيح لضرب من الشبهة واللبس، فألا جاز ذلك في النائم وهو من الكمال أبعد ومن النقص أقرب)، انتهى كلامه.
وللحكماء والفلاسفة تحقيقات حول أقسام الرؤية بلحاظ عالم الخيال والعقل والقوة والواهمة وغير ذلك لا يسع المقام لها.
وفي الروايات المأثورة عن أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ما يهتدى به إلى كثير من أبحاث المقام.

* * *

الأمر السادس: نبذة من أحوال النواب الأربعة في الغيبة الصغرى
قال الصدوق: حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رضي الله عنه، قال: كنت عند الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح قدس سره مع جماعة فيهم علي بن عيسى القصري، فقام إليه رجل فقال له: إنّي اُريد أن أسألك عن شيء؟ فقال له: سل عمّا بدا لك. فقال الرجل: أخبرني عن الحسين بن علي عليهما السلام أهو ولي الله؟ قال: نعم.
قال: أخبرني عن قاتله أهو عدو الله؟ قال: نعم، قال الرجل: فهل يجوز أن يسلّط الله عز وجل عدوّه على وليّه؟ فقال له أبو القاسم الحسين بن روح (قدس الله روحه): افهم عنّي ما أقول لك، اعلم أن الله عز وجل لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان ولا يشافههم بالكلام، ولكنه جل جلاله يبعث إليهم رسلاً من أجناسهم وأصنافهم بشراً مثلهم، ولو بعث إليهم رسلاً من غير صنفهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم، فلمّا جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قالوا لهم: أنتم بشر مثلنا ولا نقبل منكم حتّى تأتوننا بشيء نعجز أن نأتي بمثله فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه، فجعل الله عز وجل لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها.
فمنهم من جاء بالطوفان بعد الإنذار والأعذار، فغرق جميع من طغى وتمرّد.
ومنهم من ألقي في النار فكانت برداً وسلاماً.
ومنهم من أخرج من الحجر الصلد ناقة وأجرى من ضرعها لبناً.
ومنهم من فلق له البحر وفجر له من الحجر العيون، وجعل له العصا اليابسة ثعباناً تلقف ما يأفكون.
ومنهم من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله، وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.
ومنهم من انشق له القمر، وكلّمته البهائم مثل البعير والذئب، وغير ذلك.
فلمّا أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق عن أمرهم، وعن أن يأتوا بمثله كان من تقدير الله عز وجل ولطفه وحكمته أن جعل أنبياءه عليهم السلام مع هذه القدرة والمعجزة في حالة غالبين وأخرى مغلوبين وفي حال قاهرين وفي أخرى مقهورين، ولو جعلهم الله عز وجل في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون الله عز وجل، ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والمحن والاختبار.
ولكنه عز وجل جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم، ليكونوا في حال المحنة والبلاء صابرين، وفي حال العافية والظهور على الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين.
وليعلم العباد أن لهم عليهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبّرهم فيعبدوه ويطيعوا رسله، وتكون حجة الله ثابتة على من تجاوز الحدّ فيهم وادّعى لهم الربوبية، أو عاند أو خالف وعصى وجحد بما أتت به الرسل والأنبياء عليهم السلام، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(309).
قال محمّد بن إبراهيم بن إسحاق رضي الله عنه، فعدّت إلى الشيخ أبي القاسم بن روح قدس سره من الغد وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر ما ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟ فابتدأني فقال لي: يا محمّد بن إبراهيم لإن أخّر من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله عز وجل برأيي أو من عند نفسي، بل ذلك عن الأصل ومسموع عن الحجة صلوات الله عليه وسلامه(310).
قال الشيخ الطوسي: أخبرني الحسين بن عبيد الله (أستاذه)، عن أبي الحسن محمّد بن داود القمي، قال: حدّثني سلامة بن محمّد قال: أنفذ الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه كتاب التأديب إلى قم وكتب إلى جماعة الفقهاء بها، وقال لهم: اُنظروا في هذا الكتاب واُنظروا فيه شيء يخالفكم؟ فكتبوا إليه أنه كلّه صحيح وما فيه شيء يخالف إلاّ قوله: الصاع في الفطرة نصف صاع من طعام والطعام عندنا مثل الشعير من كل واحد صاع(311).
وقال الشيخ الصدوق: أخبرنا محمّد بن علي بن متيل، قال: كانت امرأة يقال لها زينب من أهل (آبة) وكانت امرأة محمّد بن عبديل الأبي معها ثلاثمائة دينار، فصارت إلى عمّي جعفر بن محمّد بن متيل وقالت: أحبُّ أن اُسلّم هذا المال من يدي إلى يد أبي القاسم بن روح، قال: فأنفدني معها أترجم عنها، فلمّا دخلت على أبي القاسم رضي الله عنه أقبل يكلّمها بلسان آبي فصيح، فقال لها: (زينب! جونا، خوبذا، كوبذا، جون استه)(312). ومعناه كيف أنت؟ وكيف كنت؟ وما خبر صبيانك؟ قال: فاستغنت عن الترجمة وسلّمت المال ورجعت(313).
وقال الشيخ الطوسي: أخبرني الحسين بن إبراهيم، عن أيّوب بن نوح، عن أبي نصر هبة الله بن محمّد ابن بنت اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (النائب الثاني في الغيبة الصغرى)، قال: حدّثتني اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر رضي الله عنه، قالت: كان أبو القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه وكيلاً لأبي جعفر رضي الله عنه سنين كثيرة ينظر له في أملاكه ويلقى بأسراره الرؤساء من الشيعة، وكان خصّيصاً به حتّى أنه كان يحدّثه بما يجري بينه وبين جواريه لقربه منه واُنسه.
قالت: وكان يدفع إليه في كل شهر ثلاثين ديناراً رزقاً له، غير ما يصل إليه من الوزراء والرؤساء من الشيعة مثل آل الفرات وغيرهم لجاهه ولموضعه وجلالة محلّه عندهم، فحصل في أنفس الشيعة محصلاً جليلاً لمعرفتهم باختصاص أبي إيّاه وتوثيقه عندهم ونشر فضله ودينه وما كان يحتمله من هذا الأمر، فمهّدت له الحال في طول حياة أبي إلى أن انتهت الوصية إليه بالنصّ عليه.
فلم يختلف في أمره ولم يشكّ فيه أحد إلاّ جاهل بأمر أبي أولاً، مع ما لست أعلم أن أحداً من الشيعة شكَّ فيه، وقد سمعت هذا من غير واحد من بني نوبخت رحمهم الله مثل أبي الحسن بن كبرياء وغيره(314).
وبنو النوبخت هو البيت الذي ينتمي إليه النائب الثالث في الغيبة الصغرى، وهو أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي (رضوان الله تعالى عليه)، وهذا البيت خرج منه العلماء في الفنون المختلفة سيّما علم الكلام، فقد تصدّر هذا البيت رئاسة هذا العلم في الشيعة سنين طويلة، وكذلك في علم النجوم والعلوم الأخرى.
وقال الطوسي: أخبرني جماعة عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن بابويه القمي (أخي الصدوق محمّد بن علي بن بابويه وكلا الأخوين ولدا بدعاء الإمام العسكري عليه السلام وأبوهما كان وكيلاً له)، قال: حدّثني جماعة من أهل قم منهم عمران الصفار، وقريبه علوية الصفار، والحسين بن أحمد بن علي بن أحمد بن إدريس رحمهم الله، قالوا: حضرنا بغداد في السنة التي توفي فيها أبو علي بن الحسين بن موسى بن بابويه _ وكان أبو الحسن علي بن محمّد السمري قدس سره _ (وهو النائب الرابع في الغيبة الصغرى) يسألنا كل قريب عن خبر علي بن الحسين رحمه الله، فنقول: قد ورد الكتاب باستقلاله، حتّى كان اليوم الذي قبض فيه فسألنا عنه، فذكرنا له مثل ذلك، فقال: آجركم الله في علي بن الحسين، فقد قبض في هذه الساعة، (قالوا): فأثبتنا تاريخ الساعة واليوم والشهر، فلمّا كان بعد سبعة عشر يوماً أو ثمانية عشر يوماً ورد الخبر أنه قبض في تلك الساعة التي ذكرها الشيخ أبو الحسن (السمري) قدس سره(315).
ورواه أيضاً عن جماعة، عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه (الصدوق)، قال: حدّثنا أبو الحسن صالح بن شعيب الطالقاني رحمه الله في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم بن مخلد، قال: حضرت بغداد عند المشايخ رحمهم الله (وجهاء وعلماء الطائفة) فقال الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري قدس سره ابتداءً منه: رحم الله علي بن الحسين بن بابويه القمي، (قال): فكتب المشايخ تاريخ ذلك اليوم فورد الخبر أنه توفي في ذلك اليوم، ومضى أبو الحسن السمري رضي الله عنه في النصف من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة(316).
وروى الصدوق بسنده عن أحمد الداودي قال: كنت عند أبي القاسم الحسين بن روح (قدس الله روحه)، فسأله رجل ما معنى قول العبّاس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن عمّك أبا طالب قد أسلم بحساب الجمل _ وعقد بيده ثلاثة وستين _)، فقال: عني بذلك إله أحد جواد. وتفسير ذلك أن الألف واحد، واللام ثلاثون، والهاء والألف واحد، والحاء ثمانية، والدال أربعة، والجيم ثلاثة، والواو ستة، والألف واحد، والدال أربعة، فذلك ثلاثة وستون(317).
وقال الصدوق: حدّثنا الحسين بن علي بن محمّد القمي المعروف بأبي علي البغدادي قال: كنت ببخارى فدفع إليَّ المعروف بابن جاوشبر عشرة سبائك ذهباً وأمرني أن اُسلّمها بمدينة السلام إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدس الله روحه) فحملتها معي، فلمّا بلغت آمويه(318) ضاعت منّي سبيكة من تلك السبائك ولم أعلم بذلك حتّى دخلت مدينة السلام.
فأخرجت السبائك لاُسلّمها فوجدتها قد نقصت واحدة، فاشتريت سبيكة مكانها بوزنها وأضفتها إلى التسع السبائك، ثمّ دخلت على الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدس الله روحه) ووضعت السبائك بين يديه.
فقال لي: خذ تلك السبيكة التي اشتريتها _ وأشار إليها بيده _ وقال: إن السبيكة التي ضيّعتها قد وصلت إلينا وهو ذا هي، ثمّ أخرج إليَّ تلك السبيكة التي كانت ضاعت منّي بآمويه فنظرت إليها فعرفتها.
قال الحسين بن علي بن محمّد المعروف بأبي البغدادي: ورأيت تلك السنة بمدينة السلام امرأة فسألتني عن وكيل مولانا عليه السلام من هو؟ فأخبرها بعض القميين أنه أبو القاسم الحسين بن روح وأشار إليها، فدخلت عليه وأنا عنده، فقالت له: أيها الشيخ أيّ شيء معي؟ فقال: ما معك فألقيه في الدجلة، ثمّ ائتيني حتّى اُخبرك.
قال: فذهبت المرأة وحملت ما كان معها فألقته في الدجلة، ثمّ رجعت ودخلت إلى أبي القاسم الروحي (قدس الله روحه)، فقال أبو القاسم لمملوكة له: أخرجي إليَّ الحُقّ، فأخرجت إليه حُقّه، فقال للمرأة: هذه الحُقّة التي كانت معك ورميت بها في الدجلة اُخبرك بما فيها أو تخبريني؟ فقالت له: بل أخبرني أنت، فقال: في هذه الحُقّة زوج سوار ذهب وحلقة كبيرة فيها جوهرة وحلقتان صغيرتان فيهما جوهر وخاتمان أحدهما فيروزج والآخر عقيق، فكان الأمر كما ذكر لم يغادر منه شيئاً.
ثمّ فتح الحُقّة فعرض علي ما فيها، فنظرت إليه فقالت: هذا الذي حملته بعينه ورميت به في الدجلة، فغشي عليَّ وعلى المرأة فرحاً بما شاهدناه من صدق الدلالة، ثمّ قال الحسين لي بعدما حدّثني بهذا الحديث: أشهد عند الله عز وجل يوم القيامة بما حدّثت به أنه كما ذكرته لم أزد فيه ولم أنقص منه، وحلف بالأئمّة الإثني عشر (صلوات الله عليهم) لقد صدق فيما حدّث به وما زاد فيه وما نقص منه(319).
وروى الشيخ الطوسي عن مشايخه، عن أبي الحسن علي بن محمّد الدلاّل القمي قال: دخلت على أبي جعفر محمّد بن عثمان (النائب الثاني) رضي الله عنه يوماً لاُسلّم عليه، فوجدته وبين يديه ساجة ونقّاش ينقش عليها ويكتب آياً من القرآن وأسماء الأئمّة عليهم السلام على حواشيها، فقلت له: يا سيدي، ما هذه الساجة؟ فقال لي: هذه لقبري تكون فيه اُوضع عليها (أو قال: اُسند إليها) وقد عرفت منه، وأنا في كل يوم أنزل فيه فأقرأ جزءً من القرآن فيه فأصعد.
وأظنه (قال): فأخذ بيدي وأرانيه، فإذا كان يوم كذا من شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا صرت إلى الله عز وجل ودفنت فيه وهذه الساجة معي، فلمّا خرجت من عنده أثبت ما ذكره، ولم أزل مترقباً به ذلك، فما تأخّر الأمر حتّى اعتل أبو جعفر فمات في اليوم الذي ذكره من الشهر الذي قاله من السنة التي ذكرها ودفن فيه(320).
وروي بسنده عن محمّد بن علي بن الأسود القمي أن أبا جعفر العمري قدس سره حفر لنفسه قبراً وسواه بالساج فسألته عن ذلك فقال: للناس أسباب. وسألته عن ذلك فقال: قد اُمرت أن أجمع أمري فمات بعد ذلك بشهرين (رضي الله عنه وأرضاه)(321).
وقال الشيخ الطوسي: وأخبرنا عن أبي محمّد هارون بن موسى (شيخ الطائفة في زمانه)، قال: أخبرني أبو علي محمّد بن همام (أشهر من أن يعرف) (رضي الله عنه وأرضاه) أن أبا جعفر محمّد بن عثمان العمري (قدس الله روحه) جمعنا قبل موته _ وكنّا وجوه الشيعة وشيوخها _ فقال لنا: إن حدث علي حدث الموت فالأمر إلى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي، فقد اُمرت أن أجعله في موضعي بعدي، فارجعوا إليه وعوّلوا في أموركم عليه(322).
وروى أيضاً بسنده إلى أبي إبراهيم جعفر بن أحمد النوبختي (قال): قال لي أبو أحمد ابن إبراهيم، وعمّي أبو جعفر عبد الله بن إبراهيم، وجماعة من أهلنا _ يعني بني نوبخت _:
أن أبا جعفر العمري لمّا اشتدت حاله اجتمع جماعة من وجوه الشيعة، منهم أبو علي بن همام، وأبو عبد الله بن محمّد الكاتب، وأبو عبد الله الباقطاني، وأبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي، وأبو عبد الله بن الوجناء وغيرهم من الوجوه والأكابر، فدخلوا على أبي جعفر رضي الله عنه فقالوا له: إن حدث أمر فمن يكون مكانك؟ فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر عليه السلام والوكيل والثقة والأمين، فارجعوا إليه في أموركم، وعوّلوا عليه في مهمّاتكم فبذلك اُمرت وقد بلغت(323).
وقال الشيخ (قال ابن نوح): أخبرني أبو نصر هبة الله ابن بنت اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر، (قال): كان لأبي جعفر العمري محمّد بن عثمان العمري كتب مصنّفة في الفقه مما سمعها من أبي محمّد الحسن (العسكري) عليه السلام ومن الصاحب عليه السلام ومن أبيه عثمان بن سعيد عن أبي محمّد وعن أبيه علي بن محمّد عليهم السلام فيها كتب ترجمتها كتب الأشربة ذكرت الكبيرة اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر رضي الله عنه أنها وصلت إلى أبي القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه عند الوصية إليه كانت في يده.
(قال أبو نصر): وأظنّها قالت: وصلت بعد ذلك إلى أبي الحسن السمري (رضي الله عنه وأرضاه)(324).
وقال (قال أبو العبّاس): وأخبرني هبة الله بن محمّد بن بنت اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري رضي الله عنه عن شيوخه قالوا: لم تزل الشيعة مقيمة على عدالة عثمان بن سعيد ومحمّد بن عثمان (رحمهما الله تعالى) إلى أن توفي أبو عمرو عثمان بن سعيد (رحمه الله تعالى)، وغسّله ابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان وتولّى القيام به وجعل الأمر كلّه مردوداً إليه، والشيعة مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته لما تقدم له من النصّ عليه بالأمانة والعدالة والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن (العسكري) عليه السلام وبعد موته في حياة أبيه عثمان بن سعيد لا يختلف في عدالته ولا يرتاب بأمانته.
والتوقيعات تخرج على يده إلى الشيعة في المهمّات طول حياته بالخط الذي كانت تخرج في حياة أبيه عثمان لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره ولا يرجع إلى أحد سواه، وقد نقلت عنه دلائل كثيرة ومعجزات الإمام ظهرت على يده وأمور أخبرهم بها عنه زادتهم في هذا الأمر بصيرة، وهي مشهورة عند الشيعة، وقد قدمنا طرفاً منها فلا نطول بإعادتها فإن ذلك كفاية للمنصف إن شاء الله تعالى(325).
وقال الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة)(326): فأما السفراء الممدوحون في زمان الغيبة فأوّلهم: من نصّبه أبو الحسن علي بن محمّد (الهادي) العسكري، وأبو محمّد الحسن بن علي بن محمّد ابنه عليهم السلام وهو الشيخ الموثوق به أبو عمر عثمان بن سعيد العمري رحمه الله وكان أسدياً... إلى أن قال:
فأخبرني جماعة، عن أبي محمّد هارون بن موسى، عن أبي علي محمّد بن همام الإسكافي، قال: حدّثنا عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدّثنا أحمد بن إسحاق بن سعد القمي(327)، قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمّد (الهادي) صلوات الله عليه في يوم من الأيام فقلت: يا سيدي أنا أغيب وأشهد ولا يتهيّأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كل وقت فقول من نقبل وأمر من نمتثل؟ فقال لي (صلوات الله عليه): (هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّيه).
فلمّا مضى أبو الحسن (الهادي) عليه السلام وصلت إلى أبي محمّد ابنه الحسن العسكري عليه السلام مثل قولي لأبيه، فقال لي: (هذا أبو عمرو الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّى إليكم فعنّي يؤدّيه).
(قال أبو محمّد هارون): قال أبو علي: قال أبو العبّاس الحميري: فكنّا كثيراً ما نتذاكر هذا القول ونتواصف جلالة محل أبي عمرو.
وروى بسنده إلى محمّد بن إسماعيل، وعلي بن عبد الله الحسنيان، قالا: دخلنا على أبي محمّد الحسن عليه السلام بسر من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته، حتّى دخل عليه بدر خادمه فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن...
(في حديث طويل يسوقانه) إلى أن ينتهي، إلى أن قال الحسن (العسكري) عليه السلام لبدر: (فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري).
فما لبثنا إلاّ يسيراً حتّى دخل عثمان فقال له سيدنا أبو محمّد عليه السلام: (امض يا عثمان فإنّك الوكيل والثقة المأمون على مال الله، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال...)، (ثمّ ساق الحديث) إلى أن قالا: ثمّ قلنا بأجمعنا: يا سيدنا، والله إن عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك وأنه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى، قال: (نعم واشهدوا على أن عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأن ابنه محمّداً وكيل ابني مهديكم)(328).
وروى بسنده عن جماعة من الشيعة منهم محمّد بن معاوية بن حكيم، والحسن بن أيّوب بن نوح (في خبر طويل مشهور) قالوا جميعاً:
اجتمعنا إلى أبي محمّد الحسن بن علي (العسكري) عليه السلام نسأله عن الحجة من بعده وفي مجلسه عليه السلام أربعون رجلاً، فقام إليه عثمان بن سعيد بن عمرو العمري فقال له: يا بن رسول الله، اُريد أن أسألك عن أمر أنت أعلم به منّي، فقال له: (اجلس يا عثمان)، فقام مغضباً ليخرج فقال: (لا يخرجنَّ أحد)، فلم يخرج منّا أحد، إلى أن كان بعد ساعة فصاح عليه السلام بعثمان، فقام على قدميه فقال: (أخبركم بما جئتم؟)، قالوا: نعم يا بن رسول الله، (قال): (جئتم تسألوني عن الحجة من بعدي)، قالوا: نعم. فإذا غلام كأنه قطع من قمر أشبه الناس بأبي محمّد عليه السلام، فقال: (هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، ألا وأنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتّى يتمّ له عمر، فاقبلوا من عثمان ما يقوله، وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه...)(329) (في حديث طويل).
وقال (وأخبرنا جماعة)، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد قولويه، وأبي غالب الزراري، وأبي محمّد التلعكبري، كلّهم عن محمّد بن يعقوب الكليني (رحمه الله تعالى)، عن محمّد بن عبد الله، ومحمّد بن يحيى عن عبد الله بن جعفر الحميري(330).
قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو عند أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري القمي، فغمزني أحمد أن أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمر إني اُريد أن أسألك وما أنا بشاكّ فيما اُريد أن أسألك عنه، فإن اعتقادي وديني أن الأرض لا تخلو من حجة إلاّ إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رفعت الحجة واغلق باب التوبة فلم يكن ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، فأولئك أشرار من خلق الله عز وجل، وهم الذين تقوم عليهم القيامة.
ولكن أحببت أن أزداد يقيناً، فإن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى فقال: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(331).
وقد أخبرنا أحمد بن إسحاق أبو علي عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته فقلت له: لمن أعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له: (العمري ثقتي فما أدّى إليك فعنّي يؤدّي وما قال لك فعنّي يقول فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون).
(قال): وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمّد الحسن بن علي عن مثل ذلك، فقال له: (العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنهما الثقتان المأمونان)، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.
(قال): فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى ثمّ قال: سل، فقلت له: أنت رأيت الخلف من أبي محمّد عليه السلام؟ فقال: إي والله ورقبته مثل ذا وأومأ بيديه، فقلت له: فبقيت واحدة، فقال لي: هات هات، فالاسم؟ قال: محرَّم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي، وليس لي أن اُحلل واُحرم ولكن عنه عليه السلام فإن الأمر عند السلطان أن أبا محمّداً عليه السلام مضى ولم يخلف ولداً وقسّم ميراثه وأخذه من لا حقَّ له وصبر على ذلك، وهو ذا عياله يجولون، وليس أحد يجسر أن يتعرف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتقوا الله وأمسكوا عن ذلك(332).
وروي عن جماعة، عن الصدوق، عن ابن هارون الفامي، عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبي قال: خرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري (قدس الله روحه) _ في التعزية بأبيه _ رضي الله عنه وفي فصل من الكتاب:
(إنا لله وإنا إليه راجعون، تسليماً لأمره، ورضاءً بقضائه، عاش أبوك سعيداً ومات حميداً فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه عليه السلام، فلم يزل مجتهداً في أمرهم ساعياً فيما يقربه إلى الله عز وجل وإليهم، نضَّر الله وجهه وأقاله عترته...).
وفي فصل آخر: (أجزل الله لك الثواب وأحسن لك العزاء رزيت ورزينا وأوحشك فراقه وأوحشنا فسرَّه الله في منقلبه، كان من كمال سعادته أن رزقه الله تعالى ولداً مثلك يخلفه من بعده ويقوم مقامه بأمره ويترحم عليه.
وأقول: الحمد لله، فإن الأنفس طيبة بمكانك، وما جعله الله عز وجل فيك وعندك أعانك الله وقوّاك وعضدك ووفّقك وكان لك ولياً وحافظاً وراعياً وكافياً)(333).
أقول: هذا طرف يسير مما ورد في النواب الأربعة في الغيبة الصغرى (260_ 3290هـ)، ومنه تتنبه لمراد الشيخ الطوسي حيث يقول:
(وقد نقلت عنه (أي النائب الثاني) دلائل كثيرة ومعجزات الإمام ظهرت على يده وأمور أخبرهم بها عنه زادتهم (أي زادت الشيعة) في هذا الأمر بصيرة وهي مشهورة عند الشيعة)(334).
ولمراد الشيخ الطبرسي حيث يقول:
(ولم يقم أحد منهم (أي من الأربعة) إلاّ بنصّ من قبل صاحب الأمر عليه السلام ونصب صاحبه الذي تقدّم عليه، ولم تقبل الشيعة قولهم إلاّ بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحد منهم من قبل صاحب الأمر عليه السلام تدلُّ على صدق مقالتهم وصحة بابيتهم)(335).
أقول: بل النائب الأوّل والثاني نصَّ عليهما الإمام الحسن العسكري عليه السلام كما تقدّمت الرواية التي رواها الطائفة عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام، والنائب الأوّل كان وكيلاً خاصاً للإمام الهادي عليه السلام ثمّ للإمام الحسن العسكري عليه السلام ثمّ سفيراً للصاحب عليه السلام.
فلينتبه اللبيب إلى كيفية ثبوت سفارة النواب الأربعة وبدئها وانتهائها لدى الشيعة وأعلامها وشيوخها، وأن ذلك كان بحضور الإمام العسكري عليه السلام، ثمّ تنصيص كل على الآخر مع ما ظهر من البراهين والدلائل على أيديهم ومع مكانتهم العلمية والفقهية وجلالة محلّهم لدى علماء الطائفة.

* * *

الأمر السابع: ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية لعنهم الله
قال الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة)(336): ذكر المذمومين الذين ادّعوا البابية لعنهم الله:
أوّلهم: المعروف بالشريعي:
(أخبرنا) جماعة، عن أبي محمّد التلعكبري (هارون بن موسى)، عن أبي علي محمّد بن همام، (قال): كان الشريعي يكنّى بأبي محمّد.
(قال) هارون: وأظنُّ اسمه كان الحسن وكان من أصحاب أبي الحسن علي بن محمّد (الهادي)، ثمّ الحسن بن علي بعده عليهما السلام وهو أوّل من ادّعى مقاماً لم يجعله الله فيه، ولم يكن أهلاً له، وكذب على الله وعلى حججه عليهم السلام ونسب إليهم ما لا يليق بهم، وما هم منه براء، فلعنته الشيعة، وتبرّأت منه وخرج توقيع الإمام بلعنه والبراءة منه.
(قال هارون): ثمّ ظهر منه القول بالكفر والإلحاد، (قال): وكل هؤلاء المدّعين إنما يكون كذبهم أوّلاً على الإمام وأنهم وكلاؤه فيدعون الضعفة بهذا القول إلى موالاتهم، ثمّ يترقى الأمر بهم إلى قول الحلاجية (وهو القول بالحلول أي حلول الله عز وجل والعياذ بالله فيهم) كما اشتهر من أبي جعفر الشلمغاني ونظرائه عليهم جميعاً لعائن الله تترى(337).
ومنهم: محمّد بن نصير النميري:
(قال ابن نوح): أخبرنا أبو نصر هبة الله بن محمّد، (قال): كان محمّد بن نصير النميري من أصحاب أبي محمّد الحسن بن علي عليهما السلام فلمّا توفي أبو محمّد ادعى مقام أبي جعفر محمّد بن عثمان أنه صاحب إمام الزمان وادعى البابية، وفضحه الله تعالى بما ظهر منه من الإلحاد والجهل، ولعن أبي جعفر محمّد بن عثمان له وتبريه منه واحتجابه عنه وادعى ذلك الأمر بعد الشريعي.
(قال أبو طالب الأنباري): لما ظهر محمّد بن نصير بما ظهر لعنه أبو جعفر (النائب الثاني أبو جعفر العمري) رضي الله عنه _ وتبرأ منه فبلغه ذلك فقصد أبا جعفر _ ليعطف بقلبه عليه أو يعتذر إليه فلم يأذن له وحجبه وردّه خائباً.
(وقال) سعد بن عبد الله: كان محمّد بن نصير النميري يدعي أنه رسول نبي وأن علي بن محمّد (الهادي) عليه السلام أرسله، وكان يقول بالتناسخ (أي أن أرواح الأموات تحلُّ في أجسام الأحياء) ويغلو في أبي الحسن ويقول فيه بالربوبية، ويقول بالإباحة للمحارم وتحليل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، ويزعم أن ذلك من التواضع والإخبات والتذلل في المفعول به وأنه من الفاعل إحدى الشهوات والطيبات وأن الله عز وجل (تعالى الله) لا يحرَّم شيئاً من ذلك، وكان محمّد بن موسى بن الحسن بن الفرات يقوي أسبابه ويعضده (أي كان داعية له وناشراً لأكذوبته).
(أخبرني) بذلك عن محمّد بن نصير أبو زكريا يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان أنه رآه عياناً وغلام له على ظهره، (قال): فلقيته فعاتبته على ذلك، فقال: إن هذا من اللذات وهو من التواضع لله وترك التجبر.
قال سعد: فلمّا اعتل محمّد بن نصير العلّة التي توفي فيها، قيل له وهو مثقل اللسان: لمن هذا الأمر من بعدك؟ فقال بلسان ضعيف ملجلج: أحمد، فلم يدر من هو؟ فافترقوا بعده ثلاث فرق: قالت فرقة: إنه أحمد ابنه، وفرقة قالت: هو أحمد بن محمّد بن موسى بن الفرات، وفرقة قالت: إنه أحمد بن أبي الحسين بن بشر بن يزيد فتفرقوا فلا يرجعون إلى شيء.
ومنهم: أحمد بن هلال الكرخي:
قال أبو علي بن همام: كان أحمد بن هلال من أصحاب أبي محمّد (العسكري) عليه السلام فاجتمعت الشيعة على وكالة أبي جعفر محمّد بن عثمان رحمه الله بنصّ الحسن عليه السلام في حياته، ولمّا مضى الحسن عليه السلام قالت الشيعة الجماعة له: ألا تقبل أمر أبي جعفر محمّد بن عثمان وترجع إليه وقد نصَّ عليه الإمام المفترض الطاعة (أي الإمام العسكري عليه السلام)؟ فقال لهم: لم أسمعه ينصُّ عليه بالوكالة، وليس أنكر أباه _ يعني عثمان بن سعيد _ فأمّا أن أقطع أن أبا جعفر وكيل صاحب الزمان فلا أجسر عليه، فقالوا: قد سمعه غيرك.
فقال: أنتم وما سمعتم، ووقف على أبي جعفر فلعنوه وتبرؤا منه ثمّ ظهر التوقيع على يد أبي القاسم بن روح رحمه الله بلعنه والبراءة منه في جملة من لعن.
ومنهم: أبو طاهر محمّد بن علي بن بلال:
وقصته معروفة فيما جرى بينه وبين أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (نضَّر الله وجهه) وتمسكه بالأموال التي كانت عنده للإمام وامتناعه من تسليمها وادّعاؤه أنه الوكيل حتّى تبرأت الجماعة منه ولعنوه وخرج من صاحب الزمان عليه السلام ما هو معروف.
(وحكى أبو غالب الزراري)، قال: حدّثني أبو الحسن محمّد بن محمّد بن يحيى المعاذي، (قال): كان رجل من أصحابنا قد انضوى إلى أبي طاهر بن بلال بعدما وقعت الفرقة، ثمّ إنه رجع عن ذلك وصار في جملتنا، فسألناه عن السبب؟ (قال): كنت عند أبي طاهر يوماً وعنده أخوه أبو الطيب وابن خزر وجماعة من أصحابه إذ دخل الغلام فقال: أبو جعفر العمري على الباب، ففزعت الجماعة لذلك وأنكرته للحال التي كانت جرت وقال: يدخل، فدخل أبو جعفر رضي الله عنه فقام له أبو طاهر والجماعة وجلس في صدر المجلس وجلس أبو طاهر كالجالس بين يديه فأمهلهم إلى أن سكتوا.
(ثمّ قال): يا أبا طاهر نشدتك الله أو نشدتك بالله ألم يأمرك صاحب الزمان عليه السلام بحمل ما عندك من المال إليَّ؟ فقال: اللهم نعم، فنهض أبو جعفر رضي الله عنه منصرفاً ووقعت على القوم سكتة، فلمّا تجلَّت عنهم قال له أخوه أبو الطيب: من أين رأيت صاحب الزمان؟ فقال أبو طاهر: أدخلني أبو جعفر رضي الله عنه إلى بعض دوره فأشرف علي من علو داره فأمرني بحمل ما عندي من المال إليه، فقال له أبو الطيب: ومن أين علمت أنه صاحب الزمان عليه السلام؟ قال: وقع علي(338) من الهيبة له، ودخلني من الرعب منه ما علمت أنه صاحب الزمان عليه السلام فكان هذا سبب انقطاعي عنه.
ومنهم: الحسين بن منصور الحلاج:
(أخبرنا) الحسين بن إبراهيم، عن أبي العبّاس أحمد بن علي بن نوح، عن أبي نصر هبة الله بن محمّد الكاتب ابن بنت اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري (قال):
لمّا أراد الله تعالى أن يكشف أمر الحلاج ويظهر فضيحته ويخزيه، وقع له (أي اعتقد) أن أبا سهل ابن إسماعيل بن علي النوبختي رضي الله عنه ممن تجوز عليه مخرقته (أي ممن تنطلي عليه أكذوبته)، وتتم عليه حيلته، فوجّه إليه يستدعيه، وظنَّ أن أبا سهل كغيره من الضعفاء في هذا الأمر بفرط جهله، وقدر (أي ظن) أن يستجره إليه فيتمخرق ويتصوف بانقياده على غيره (أي ظن أن يجره إليه فيتخذه عضداً وشاهداً على ادّعائه)، فيستتب له ما قصد إليه من الحيلة والبهرجة على الضعفة لقدر (أي لمكانة) أبي سهل في أنفس الناس ومحلّه من العلم والأدب أيضاً عندهم، ويقول له في مراسلته إيّاه: إنّي وكيل صاحب الزمان عليه السلام _ وبهذا أوّلاً كان يستجر الجهّال ثمّ يعلو منه إلى غيره _ وقد اُمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك، لتقوى نفسك، ولا ترتاب بهذا الأمر.
فأرسل إليه أبو سهل رضي الله عنه يقول لك: إني أسألك أمراً يسيراً يخف مثله عليك في جنب ما ظهر على يديك من الدلائل والبراهين، وهو أنّي رجل اُحبّ الجواري وأصبو إليهن ولي منهن عدة أتخطاهن والشيب يبعدني عنهن وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة وأتحمل منه مشقة شديدة لأستر عنهن ذلك وإلاّ انكشف أمري عندهن، فصار القرب بعداً والوصال هجراً، واُريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفينى مؤنته، وتجعل لحيتي سوداء، فإنني طوع يديك وصائر إليك، وقائل بقولك، وداع إلى مذهبك، مع ما لي في ذلك من البصيرة، ولك من المعونة.
فلمّا سمع ذلك الحلاج من قوله وجوابه علم أنه قد أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه وأمسك عنه ولم يرد إليه جواباً ولم يرسل إليه رسولاً، وصيّره أبو سهل رضي الله عنه اُحدوثة وضحكة ويطنز به عند كل أحد، وشهر أمره عند الصغير والكبير، وكان هذا الفعل سبباً لكشف أمره وتنفير الجماعة عنه.
(وأخبرني) جماعة عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه أن ابن الحلاج صار إلى قم وكاتب قرابة أبي الحسن (أخي الصدوق) يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضاً ويقول: أنا رسول الإمام ووكيله، (قال):
فلمّا وقعت المكاتبة في يد أبي رضي الله عنه (أي أبي الحسن بن علي بن بابويه القمي والذي كان وكيلاً للعسكري عليه السلام) خرقها وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات؟ فقال له الرجل _ وأظن أنه قال: إنه ابن عمّته أو ابن عمّه _ فإن الرجل قد استدعانا فلِمَ خرقت مكاتبته؟ وضحكوا منه وهزؤوا به، ثمّ نهض إلى دكانه ومعه جماعة من أصحابه وغلمانه.
(قال): فلمّا دخل إلى الدار التي كان فيها دكّانه نهض له من كان هناك جالساً غير رجل رآه جالساً في الموضع فلم ينهض له ولم يعرفه أبي فلمّا جلس وأخرج حسابه ودواته كما تكون التجّار أقبل على بعض من كان حاضراً فسأله عنه فأخبره فسمعه الرجل يسأل عنه فأقبل عليه وقال له: تسأل عنّي وأنا حاضر؟ فقال له أبي: أكبرتك أيها الرجل وأعظمت قدرك أن أسألك، فقال له: تخرق رقعتي وأنا اُشاهدك تخرقها؟ فقال له أبي: فأنت الرجل إذاً.
(ثمّ قال): يا غلام برجله وبقفاه، فخرج من الدار العدو لله ولرسوله، ثمّ قال له: أتدعي المعجزات؟ عليك لعنة الله، (أو كما قال)، فاُخرج بقفاه فما رأيناه بعدها بقم.
ومنهم ابن أبي العزاقر:
(وهو محمّد بن علي الشلمغاني يكنّى بأبي جعفر) أخبرني الحسين بن إبراهيم، عن أحمد بن علي بن نوح، عن أبي نصر هبة الله بن محمّد بن أحمد الكاتب ابن بنت اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري رضي الله عنه، قال: حدّثتني الكبيرة اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري رضي الله عنه.
(قال): كان أبو جعفر ابن أبي العزاقر وجيهاً عند بني بسطام، وذاك أن الشيخ أبا القاسم رضي الله عنه وأرضاه كان قد جعل له عند الناس منزلةً وجاهاً فكان عند ارتداده يحكي كل كذب وبلاء وكفر لبني بسطام ويسنده عن الشيخ أبي القاسم فيقبلونه منه ويأخذونه عنه، حتّى انكشف ذلك لأبي القاسم فأنكره وأعظمه ونهى بني بسطام عن كلامه وأمرهم بلعنه والبراءة منه، فلم ينتهوا وأقاموا على توليه، وذاك أنه كان يقول لهم:
إنني أذعت السر وقد اُخذ علي الكتمان فعوقبت بالإبعاد بعد الاختصاص، لأن الأمر عظيم لا يحتمله إلاّ ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن، فيؤكّد في نفوسهم عظم الأمر وجلالته، فبلغ ذلك أبا القاسم رضي الله عنه فكتب إلى بني بسطام بلعنه والبراءة منه وممن تابعه على قوله، وأقام على توليه، فلمّا وصل إليهم أظهروه عليه فبكى بكاءً عظيماً.
ثمّ قال: إن لهذا القول باطناً عظيماً، وهو أن اللعنة الإبعاد، فمعنى قوله: لعنه الله، أي باعده الله عن العذاب والنار، والآن قد عرفت منزلتي، ومرّغ خديه على التراب وقال: عليكم بالكتمان لهذا الأمر.
قالت الكبيرة رضي الله عنها: وقد كنت أخبرت الشيخ أبا القاسم أن اُمّ أبي جعفر بن بسطام قالت لي يوما وقد دخلنا إليها فاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتّى انكبّت على رجلي تقبلها، فأنكرت ذلك وقلت لها: مهلاً يا ستّي فإن هذا أمر عظيم، وانكببت على يدها فبكت.
ثمّ قالت: كيف لا أفعل بك هذا وأنت مولاتي فاطمة؟ فقلت لها: وكيف ذاك يا ستي؟ فقالت لي: إن الشيخ يعني أبا جعفر محمّد بن علي خرج إلينا بالسر، قالت: فقلت لها: وما السر؟ قالت: قد أخذ علينا كتمانه وأفزع إن أنا أذعته عوقبت، قالت: وأعطيتها موثقاً أني لا أكشفه لأحد واعتقدت في نفسي الاستثناء بالشيخ رضي الله عنه يعني أبا القاسم الحسين بن روح.
قالت: إن الشيخ أبا جعفر (ابن أبي العزاقر) قال لنا: إن روح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتقلت إلى أبيك _ تعني أبا جعفر محمّد بن عثمان رضي الله عنه _، وروح أمير المؤمنين علي عليه السلام انتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وروح مولاتنا فاطمة عليها السلام انتقلت إليك، فكيف لا اُعظمك يا ستّنا!
فقلت لها: مهلاً لا تفعلي، فإن هذا كذب يا ستنا. فقالت لي: سر عظيم، وقد اُخذ علينا أن لا نكشف هذا لأحد، فالله الله فيَّ، لا يحل بي العذاب، ويا ستّي لولا أنك حملتني على كشفه ما كشفته لك ولا لأحد غيرك.
قالت الكبيرة اُمّ كلثوم رضي الله عنها: فلمّا انصرفت من عندها دخلت إلى الشيخ أبي القاسم بن روح رضي الله عنه فأخبرته بالقصة وكان يثق بي ويركن إلى قولي، فقال لي: يا بنية إيّاك أن تمضي إلى هذه المرأة بعدما جرى منها، ولا تقبلي لها رقعة إن كاتبتك، ولا رسولاً إن أنفذته إليك، ولا تلقيها بعد قولها، فهذا كفر بالله تعالى وإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقاً إلى أن يقول لهم: بأن الله تعالى اتحد به، وحلَّ فيه، كما تقول النصارى في المسيح عليه السلام ويعدو إلى قول الحلاج (لعنه الله).
قالت: فهجرت بني بسطام، وتركت المضي إليهم ولم أقبل لهم عذراً ولا لقيت اُمّهم بعدها، وشاع في بني نوبخت الحديث فلم يبقَ أحد إلاّ وتقدم إليه الشيخ أبو القاسم وكاتبه بلعن أبي جعفر الشلمغاني والبراءة منه ومن يتولاه ورضي بقوله أو كلّمه فضلاً عن موالاته.
ثمّ ظهر التوقيع من صاحب الزمان عليه السلام بلعن أبي جعفر محمّد بن علي والبراءة منه وممن تابعه وشايعه ورضي بقوله، وأقام على توليه بعد المعرفة بهذا التوقيع.
وله حكايات قبيحة وأمور فظيعة ننزّه كتابنا عن ذكرها، ذكرها ابن نوح وغيره.
(وكان) سبب قتله أنه لما أظهر لعنه أبو القاسم بن روح واشتهر أمره وتبرأ منه وأمر جميع الشيعة بذلك، لم يمكنه التلبيس، فقال في مجلس حافل فيه رؤساء الشيعة وكل يحكي عن الشيخ أبي القاسم لعنه والبراءة منه: أجمعوا بيني وبينه حتّى آخذ يده ويأخذ بيدي، فإن لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه وإلاّ فجميع ما قاله فيَّ حق، ورقي ذلك إلى الراضي لأنه كان ذلك في دار ابن مقلة فأمر بالقبض عليه وقتله، فقتل واستراحت الشيعة منه.
(وقال) أبو الحسن محمّد بن أحمد بن داود: كان محمّد بن الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر (لعنه الله) يعتقد القول بحمل الضد، ومعناه أنه لا يتهيأ إظهار فضيلة للولي إلاّ بطعن الضد فيه، لأنه يحمل السامع طعنه على طلب فضيلته فإذن هو أفضل من الولي إذ لا يتهيأ إظهار الفضل إلاّ به، وساقوا المذهب من وقت آدم الأوّل إلى آدم السابع، لأنهم قالوا: (سبع عوالم وسبع أوادم، ونزلوا إلى موسى وفرعون ومحمّد وعلي مع أبي بكر ومعاوية).
وأما في الضد فقال بعضهم: الولي ينصب الضد ويحمله على ذلك كما قال قوم من أصحاب الظاهر: إن علي بن أبي طالب نصب أبا بكر في ذلك المقام، وقال بعضهم: لا، ولكن هو قديم معه لم يزل، قالوا: والقائم الذي ذكروا أصحاب الظاهر أنه من ولد الحادي عشر فإنه يقوم، معناه إبليس، لأنه قال: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ)(339) ولم يسجد، ثمّ قال: (لأََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)(340) فدلَّ على أنه كان قائماً في وقت ما اُمر بالسجود ثمّ قعد بعد ذلك، وقوله: يقوم القائم إنما هو ذلك القائم الذي اُمر بالسجود فأبى وهو إبليس لعنه الله.
وقال شاعرهم لعنهم الله:

يا لاعناً بالضد من عدي * * * ما الضد إلاّ ظاهر الوليَّ
والحمد للمهيمن الوفي * * * لست على حال كحمامي
ولا حجامي ولا جغدي * * * قد فقت من قول على الفهدي
نعم وجاوزت مدى العبدي * * * فوق عظيم ليس بالمجوسي
لأنه الفرد بلا كيفي * * * متحد بكل أوحدي
مخالط للنوري والظلمي * * * يا طالباً من بيت هاشمي
وجاحداً من بيت كسروي * * * قد غاب في نسبة أعجمي
في الفارسي الحسب الرضي * * * كما التوى في العرب من لوي

(وقال الصفواني): سمعت أبا علي بن همام يقول: سمعت محمّد بن علي العزاقري الشلمغاني يقول: الحق واحد وإنما تختلف قمصه فيوم يكون في أبيض ويوم يكون في أحمر، ويوم يكون في أزرق، (قال ابن همام): فهذا أوّل ما أنكرته من قوله لأنه قول أصحاب الحلول.
(وأخبرنا) جماعة، عن أبي محمّد هارون بن موسى، عن أبي علي محمّد بن همام، أن محمّد بن علي الشلمغاني لم يكن قط باباً إلى أبي القاسم، ولا طريقاً له ولا نصبه أبو القاسم بشيء من ذلك على وجه ولا سبب ومن قال بذلك فقد أبطل وإنما كان فقيهاً من فقهائنا فخلط وظهر عنه ما ظهر، وانتشر الكفر والإلحاد عنه، فخرج فيه التوقيع على يد أبي القاسم بلعنه والبراءة منه وممن تابعه وشايعه وقال بقوله.
(وأخبرني) الحسين بن إبراهيم، عن أحمد بن علي بن نوح، عن أبي نصر هبة الله بن محمّد بن أحمد، قال: حدّثني أبو عبد الله الحسين بن أحمد الحامدي البزاز المعروف بغلام أبي علي بن جعفر المعروف بابن رهومة النوبختي _ وكان شيخاً مستوراً _ قال: سمعت روح بن أبي القاسم بن روح يقول: لما عمل محمّد بن علي الشلمغاني كتاب التكليف قال الشيخ _ يعني أبا القاسم رضي الله عنه _: اُطلبوه إليَّ لأنظره، فجاؤا به فقرأه من أوّله إلى آخره فقال: ما فيه شيء إلاّ وقد روى عن الأئمّة إلاّ موضعين أو ثلاثة فإنه كذب عليهم في روايتها (لعنه الله).
(وأخبرني) جماعة عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود، وأبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه أنهما قالا: مما أخطأ محمّد بن علي في المذهب في باب الشهادة أنه روى عن العالم (الكاظم) عليه السلام أنه قال: إذا كان لأخيك المؤمن على رجل حق فدفعه عنه، ولم يكن له من البيّنة عليه إلاّ شاهد واحد وكان الشاهد ثقة رجعت إلى الشاهد فسألته عن شهادته فإذا أقامها عندك شهدت معه عند الحاكم على مثل ما يشهد عنده لئلاّ يتوى (يهلك) حق امرئ مسلم، (واللفظ لابن بابويه) وقال: هذا كذب منه ولسنا نعرف ذلك، وقال في موضع آخر: كذب فيه.
نسخة التوقيع الخارج في لعنه:
(أخبرنا جماعة) عن أبي محمّد هارون بن موسى، (قال): حدّثنا محمّد بن همام قال: خرج على يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة في ابن أبي العزاقر والمداد رطب لم يجف.
(وأخبرنا جماعة)، عن ابن داود قال: خرج التوقيع من الحسين بن روح في الشلمغاني وأنفذ نسخته إلى أبي علي بن همام في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة.
(قال ابن نوح): وحدّثنا أبو الفتح أحمد بن ذكا مولى علي بن محمّد بن الفرات رحمه الله قال: أخبرنا أبو علي بن همام بن سهيل بتوقيع خرج في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة.
قال محمّد بن الحسن بن جعفر بن إسماعيل بن صالح الصيمري: أنفذ الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه من مجلسه في دار المقتدر إلى شيخنا أبي علي ابن همام في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وأملاه أبو علي علي وعرفني أن أبا القاسم رضي الله عنه راجع في ترك إظهاره فإنه في يد القوم وحبسهم فأمر بإظهاره وأن لا يخشى ويأمن فتخلص وخرج من الحبس بعد ذلك بمدة يسيرة والحمد لله.
التوقيع:
(عرّف عرفك الله الخير أطال الله بقاءك وعرّفك الخير كله وختم به عملك من تثق بدينه وتسكن إلى نيته من إخواننا أسعدكم الله بأن محمّد بن علي المعروف بالشلمغاني وهو ممن عجّل الله له النقمة ولا أمهله قد ارتد عن الإسلام وفارقه، وألحد في دين الله وادّعى ما كفر معه بالخالق جلَّ وتعالى وافترى كذباً وزوراً وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، كذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراناً مبيناً وإننا قد برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله وآله صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليهم بمنّه ولعنّاه عليه لعائن الله تترى في الظاهر منّا والباطن في السرّ والجهر وفي كل وقت وعلى كل حال وعلى من شايعه وبايعه أو بلغه هذا القول منّا وأقام على توليه بعده.
وأعلمهم تولاّكم الله أنّا من التوقي والمحاذرة منه على ما كنّا عليه ممن تقدمه من نظرائه من الشريعي والنميري والهلالي والبلالي وغيرهم وعادة الله جلَّ ثناؤه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة وبه نثق وإيّاه نستعين وهو حسبنا في كل أمورنا ونعم الوكيل).
(قال هارون): وأخذ أبو علي هذا التوقيع ولم يدع أحداً من الشيوخ إلاّ وأقرأه إيّاه وكوتب من بعد منهم بنسخته في سائر الأمصار فاشتهر ذلك في الطائفة فاجتمعت على لعنه والبراءة منه، وقتل محمّد بن علي الشلمغاني في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.
ذكر أمر أبي بكر البغدادي ابن أخي الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري رضي الله عنه وأبي دلف المجنون:
(أخبرني) الشيخ أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان عن أبي الحسن علي بن بلال المهلبي (قال): سمعت أبا القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه يقول: أما أبو دلف الكاتب (لا حاطه الله) فكنّا نعرفه ملحداً ثمّ أظهر الغلو ثمّ جنَّ وسلسل ثمّ صار مفوضاً وما عرفناه قط _ إذا حضر في مشهد _ إلاّ استخف به ولا عرفته الشيعة إلاّ مدة يسيرة والجماعة تتبرأ منه وممن يومي إليه وينمس به(341).
وقد كنّا وجهنا إلى أبي بكر البغدادي _ لما ادّعى له هذا ما ادّعاه _(342) فأنكر ذلك وحلف عليه فقبلنا ذلك منه فلمّا دخل بغداد مال إليه وعدل من الطائفة وأوصى إليه لم نشكّ أنه على مذهبه فلعناه وبرئنا منه لأن عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس(343) ضال مضل وبالله التوفيق.
(وذكر أبو عمرو) محمّد بن محمّد بن نصر السكري (قال): لمّا قدم ابن محمّد بن الحسن ابن الوليد القمي من قبل أبيه والجماعة وسألوه عن الأمر الذي حكي فيه من النيابة أنكر ذلك وقال: ليس إليَّ من هذا الأمر شيء ولا ادعيت شيئاً من هذا وكنت حاضراً لمخاطبته إيّاه بالبصرة.
(وذكر ابن عياش) قال: اجتمعت يوماً مع أبي دلف فأخذنا في ذكر أبي بكر البغدادي فقال لي: تعلم من أين كان فضل سيدنا الشيخ (قدّس الله روحه وقدّس به) على أبي القاسم الحسين بن روح وعلى غيره؟ فقلت له: ما أعرف. قال: لأن أبا جعفر محمّد بن عثمان قدم اسمه على اسمه في وصيته قال: فقلت له: فالمنصور (أي الخليفة العبّاسي) أفضل من مولانا أبي الحسن موسى عليه السلام، قال: وكيف؟ قلت: لأن الصادق قدم اسمه على اسمه في الوصية.
فقال لي: أنت تتعصب على سيدنا وتعاديه، فقلت: الخلق كلهم تعادي أبا بكر البغدادي وتتعصب عليه، غيرك وحدك، وكدنا نتقاتل ونأخذ بالأزياق(344).
وأمر أبي بكر البغدادي في قلة العلم والمروءة أشهر وجنون أبي دلف أكثر من أن يحصى لا نشغل كتابنا بذلك ولا نطول بذكره وذكر ابن نوح طرفاً من ذلك.
(وروى) أبو محمّد هارون بن موسى عن أبي القاسم الحسين بن عبد الرحيم الأبرارورى قال: أنفذني أبو عبد الرحيم إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري رضي الله عنه في شيء كان بيني وبينه فحضرت مجلسه وفيه جماعة من أصحابنا وهم يتذاكرون شيئاً من الروايات وما قاله الصادقون عليهم السلام حتّى أقبل أبو بكر محمّد بن أحمد بن عثمان المعروف بالبغدادي ابن أخي جعفر العمري فلمّا بصر به أبو جعفر رضي الله عنه قال للجماعة: أمسكوا (أي توقفوا عن محادثتكم) فإن هذا الجائي ليس من أصحابكم.
وحكى أنه توكل لليزيدي بالبصرة فبقي في خدمته مدة طويلة وجمع مالاً عظيماً فسعي به إلى اليزيدي فقبض عليه وصادره وضربه على اُمّ رأسه حتّى نزل الماء في عينيه فمات أبو بكر ضريراً.
وقال أبو نصر هبة الله بن محمّد بن أحمد الكاتب ابن بنت اُمّ كلثوم بنت أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري رضي الله عنه: إن أبا دلف محمّد بن مظفر الكاتب كان في ابتداء أمره مخمّساً(345) مشهوراً بذلك لأنه كان تربية الكرخيين وتلميذهم وصنيعتهم وكان الكرخيون مخمسة لا يشكّ في ذلك أحد من الشيعة، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به ويقول: نقلني سيدنا الشيخ الصالح (قدّس الله روحه ونوَّر ضريحه) عن مذهب أبي جعفر الكرخي إلى المذهب الصحيح يعني أبا بكر البغدادي.
وجنون أبي دلف وحكايات فساد مذهبه أكثر من أن تحصى فلا نطول بذكره هاهنا، انتهى ما ذكره الشيخ الطوسي.
ونقلناه كلّه مع طوله لأن ما ذكره من قصص المدّعين للسفارة والوكالة والبابية الكاذبين على الله وعلى حججه عليهم السلام، تتكرّر بين فترة وأخرى في عصر الغيبة التامة الكبرى. كما يقال التاريخ يعيد نفسه، بل من تأمّل بعبرة فيما مرَّ من الوقائع التي ذكرها الشيخ يجد أن ما يحدث في زمننا هذا من ادّعاء البابية هو بحذافيره مسلسل الوقائع السابقة من نسبة الأباطيل إلى الأئمّة عليهم السلام ومن سرقة الأموال واتخاذ الضعفاء والجهلة أنصاراً والنساء مسرحاً للخرافات والخزعبلات، ومن ينتسب إلى العلم واجهة للغواية و... و... و...
وكما قال شيخ الطائفة في زمانه أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري(346): وكل هؤلاء المدّعين إنما يكون كذبهم أوّلاً على الإمام وأنهم وكلاؤه فيدعون الضعفة بهذا القول إلى موالاتهم ثمّ يترقّى الأمر بهم إلى قول الحلاجية (القائلين بالحلول أي الكفر والإلحاد) كما اشتهر من أبي جعفر الشلمغاني ونظرائه عليهم جميعاً لعائن الله تترى.

* * *

الأمر الثامن: ثواب الثبات والتمسّك بالدين في الغيبة الكبرى وشدّة المحنة
روى الصدوق بسنده عن الجواد عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (للقائم منّا غيبة أمدها طويل، كأنّي بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة)، ثمّ قال عليه السلام: (إن القائم منّا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة، فلذلك تخفى ولادته ويغيب شخصه)(347).
وروي عن الأصبغ بن نباتة قال: ذكر عند أمير المؤمنين عليه السلام القائم عليه السلام، فقال: (أما ليغيبنَّ حتّى يقول الجاهل: ما لله في آل محمّد حاجة)، وفي حديث آخر: (بعد غيبة وحيرة، فلا يثبت فيها على دينه إلاّ المخلصون المباشرون لروح اليقين الذين أخذ الله عز وجل ميثاقهم بولايتنا وكتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه)(348).
وروى توقيعاً من صاحب الزمان عليه السلام كان خرج إلى العمري (النائب الأوّل) وابنه (النائب الثاني في الغيبة الصغرى) رضي الله عنهما عن سعد بن عبد الله، قال الشيخ أبو عبد الله جعفر رضي الله عنه: وجدته مثبتاً عنه رحمه الله: (وفّقكما الله لطاعته، وثبّتكما على دينه، وأسعدكما بمرضاته، انتهى إلينا ما ذكرتما أن الميثمي أخبركما عن المختار ومناظراته من لقي واحتجاجه بأنه لا خلف غير جعفر بن علي(349) وتصديقه إيّاه، وفهمت جميع ما كتبتما به مما قال أصحابكما عنه، وأنا أعوذ بالله من العمى بعد الجلاء ومن الضلالة بعد الهدى ومن موبقات الأعمال ومرديات الفتن، فإنه عز وجل يقول: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(350).
كيف يتساقطون في الفتنة، ويترددون في الحيرة، ويأخذون يميناً وشمالاً، فارقوا دينهم أم ارتابوا أم عاندوا الحق أم جهلوا ما جاءت به الروايات الصادقة والأخبار الصحيحة، أو علموا ذلك فتناسوا ما يعلمون أن الأرض لا تخلو من حجة إما ظاهراً وإما مغموراً.
أوَلم يعلموا انتظام أئمّتهم بعد نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم واحداً بعد واحد إلى أن أفضى الأمر بأمر الله عز وجل إلى الماضي _ يعني الحسن بن علي عليهما السلام _ فقام مقام آبائه عليهم السلام يهدي إلى الحق والى طريق مستقيم، كانوا نوراً ساطعاً، وشهاباً لامعاً، وقمراً زاهراً، ثمّ اختار عز وجل له ما عنده فمضى على منهاج آبائه عليهم السلام حذو النعل بالنعل على عهد عهده ووصية أوصى بها إلى وصي ستره الله عز وجل بأمره إلى غاية، وأخفى مكانه بمشيئة للقضاء السابق والقدر النافذ، وفينا موضعه، ولنا فضله، ولو قد أذن الله عز وجل فيما قد منعه عنه وأزال عنه ما قد جرى به من حكمه لأراهم الحق ظاهراً بأحسن حلية وأبين دلالة وأوضح علامة، ولأبان عن نفسه وقام بحجّته.
ولكن أقدار الله عز وجل لا تغالب، وإرادته لا ترد، وتوفيقه لا يسبق، فليدعوا عنهم اتّباع الهوى، وليقيموا على أصلهم الذي كانوا عليه، ولا يبحثوا عمّا ستر عنهم فيأثموا ولا يكشفوا ستر الله عز وجل فيندموا، وليعلموا أن الحق معنا وفينا ولا يقول ذلك سوانا إلاّ كذّاب مفتر، ولا يدّعيه غيرنا إلاّ ضال غوي، فليقتصروا منّا على هذه الجملة دون التفسير، ويقنعوا من ذلك بالتعريض دون التصريح إن شاء الله)(351).
وروى بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (من مات منكم على هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان في فسطاط القائم عليه السلام)(352).
وروي عن عبد الحميد الواسطي أنه سأل الباقر عليه السلام قال: قلت: فإن متُّ قبل أن أدرك القائم؟ قال: (القائل منكم: أن لو أدركت قائم آل محمّد نصرته كان كالمقارع بين يديه بسيفه، لا بل كالشهيد معه)(353).
وروى عن أبي الحسن عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عز وجل)(354).
وروى عن الصادق عليه السلام: (ما أحسن الصبر وانتظار الفرج أما سمعت قول الله عز وجل: (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ)(355)، (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(356)، فعليكم بالصبر، فإنه إنما يجيء الفرج على اليأس، فقد كان الذين من قبلكم أصبر منكم)(357).
وقال عليه السلام: (المنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله)(358).
وروى بسنده عن عمّار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: العبادة مع الإمام منكم المستتر في دولة الباطل أفضل أم العبادة في ظهور الحق ودولته مع الإمام الظاهر منكم؟ فقال: (يا عمّار، الصدقة والله في السر أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك عبادتكم في السر في دولة الباطل أفضل؟ لخوفكم من عدّوكم في دولة الباطل، وحال الهدنة ممن يعبد الله عز وجل في ظهور الحق مع الإمام الظاهر في دولة الحق، وليس العبادة مع الخوف وفي دولة الباطل مثل العبادة مع الأمن في دولة الحق.
اعلموا أن من صلّى منكم صلاة فريضة وحداناً مستتراً بها من عدّوه في وقتها فأتمّها كتب الله عز وجل له بها خمساً وعشرين صلاة فريضة وحدانية، ومن صلّى منكم صلاة نافلة في وقتها فأتمّها كتب الله عز وجل له عشرين حسنة ويضاعف الله حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله ودان الله عز وجل على دينه وعلى إمامه وعلى نفسه وأمسك من لسانه أضعافاً مضاعفة كثيرة إن الله عز وجل كريم).
قال: فقلت: جُعلت فداك، قد رغبتني في العمل وحثثتني عليه، ولكن اُحبُّ أن أعلم كيف صرنا اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام منكم الظاهر في دولة الحق ونحن وهم على دين واحد وهو دين الله عز وجل؟
فقال: (إنكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله عز وجل وإلى الصلاة والصوم والحج وإلى كل فقه وخير وإلى عبادة الله سراً مع عدّوكم مع الإمام المستتر مطيعون له صابرون معه منتظرون لدولة الحق خائفون على إمامكم وأنفسكم من الملوك، تنظرون إلى حق إمامكم وحقكم في أيدي الظلمة قد منعوكم ذلك واضطروكم إلى حرث الدنيا وطلب المعاش مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوّكم، فبذلك ضاعف الله أعمالكم، فهنيئاً لكم هنيئاً).
قال: فقلت له: جُعلت فداك، فما نتمنى إذاً أن نكون من أصحاب الإمام القائم في ظهور الحق ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالاً من أعمال أصحاب دولة الحق؟
فقال: (سبحان الله! أما تحبون أن يظهر الله عز وجل الحق والعدل في البلاد، ويحسن حال عامة العباد ويجمع الله الكلمة ويؤلّف بين قلوب مختلفة، ولا يعصى الله عز وجل في أرضه، ويقام حدود الله في خلقه، ويرد الله الحق إلى أهله فيظهروه حتّى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق، أما والله يا عمّار لا يموت منكم ميّت على الحال التي أنتم عليها إلاّ كان أفضل عند الله عز وجل من كثير ممن شهد بدراً وأحداً فأبشروا)(359).
وروى عن الصادق عليه السلام: (المنتظر للثاني عشر كالشاهر سيفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذب عنه، هو (الإمام الثاني عشر)... هو المفرج للكرب عن شيعته بعد ضنك شديد وبلاء طويل وجور، فطوبى لمن أدرك ذلك الزمان)(360).
وروى الكليني بسنده عن يمان التمّار قال: كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام جلوساً فقال لنا: (إن لصاحب هذا الأمر غيبة المتمسك فيها بدينه كالخارط للقتاد _ ثمّ قال هكذا بيده(361) _ فأيّكم يمسك شوك القتاد بيده؟)، ثمّ أطرق ملياً، ثمّ قال: (إن لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتق الله عبد وليمسك بدينه)(362).
وروى عن الكاظم عليه السلام أنه قال: (إذا فُقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم لا يزيلكم عنها أحد، يا بني إنه لا بدَّ لصاحب هذا الأمر من غيبة حتّى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنما هي محنة من الله عز وجل امتحن بها خلقه، لو علم آباؤكم وأجدادكم ديناً أصحُّ من هذا لاتّبعوه)(363).
أقول: المقصود من ذيل الرواية ليس التقليد للآباء والأجداد، بل هو التنبيه إلى أن من الآباء والأجداد من كان همّه وسعيه في البحث عن الحق والدين الصحيح، واختيار مثلهم لهذا الدين يكون مؤشراً لصحة هذا الدين، وليس ذلك دعوة للتقليد كما قد يتوهم.
وروى أن سائلاً سأل الصادق عليه السلام قال: قلت: إذا أصبحت وأمسيت لا أرى إماماً ائتمُّ به ما أصنع؟ قال: (فأحبّ من كنت تحبّ، وابغض من كنت تبغض حتّى يظهره الله عز وجل)(364).
وروى النعماني في كتاب (الغيبة) عن الصادق عليه السلام أنه قال: (أقرب ما يكون العباد من الله عز وجل وأرضى ما يكون عنهم إذا افتقدوا حجة الله جلَّ وعزَّ ولم يظهر لهم ولم يعلموا بمكانه وهم في ذلك يعلمون أنه لم تبطل حجة الله جلَّ ذكره ولا ميثاقه، فعندها فتوقعوا الفرج صباحاً ومساءً فإن أشدّ ما يكون غضب الله عز وجل على أعدائه إذا افتقدوا حجة الله فلم يظهر لهم، وقد علم الله أن أولياءه(365) لا يرتابون، ولو علم أنهم يرتابون ما غيّب حجّته عنهم طرفة عين، ولا يكون ذلك إلاّ على رأس شرار الناس)(366).
وروى عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام أنه قال: (لتمحّصنَّ يا شيعة آل محمّد تمحيص الكحل في العين، وإن صاحب العين يدري متى يقع الكحل في عينه ولا يعلم متى يخرج منها، وكذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا ويمسي وقد خرج منها، ويمسي على شريعة من أمرنا ويصبح وقد خرج منها)(367).
وروى عن الصادق عليه السلام أنه قال: (والله لتكسّرنَّ تكسّر الزجاج وإن الزجاج ليعاد فيعود كما كان، والله لتكسرنَّ تكسّر الفخار، وإن الفخار ليتكسّر فلا يعود كما كان، ووالله لتغربلنَّ ووالله لتمحّصنَّ حتّى لا يبقى منكم إلاّ الأقل) وصعر كفه(368).
ثمّ قال النعماني: فتبيّنوا يا معشر الشيعة هذه الأحاديث المروية عن أمير المؤمنين ومن بعده من الأئمّة عليهم السلام واحذروا ما حذّروكم وتأمّلوا ما جاء عنهم تأمّلاً شافياً، وفكّروا فيها فكراً تنعمونه، فلم يكن في التحذير شيء أبلغ من قولهم: (إن الرجل يصبح على شريعة من أمرنا ويمسي وقد خرج منها، ويمسي على شريعة من أمرنا ويصبح وقد خرج منها)، أليس هذا دليلاً على الخروج من نظام الإمامة وترك ما كان يعتقد منها على غير طريق.
وفي قوله: (لتكسّرنَّ تكسّر الزجاج...) الخ، فضرب ذلك مثلاً لمن يكون على مذهب الإمامية فيعدل عنه إلى غيره بالفتنة التي تعرض له ثمّ تلحقه السعادة بنظرة من الله فتبيّن له ظلمة ما دخل فيه وصفاء ما خرج منه فيبادر قبل موته بالتوبة والرجوع إلى الحق فيتوب الله عليه ويعيده إلى حاله في الهدى كالزجاج الذي يعاد بعد تكسّره فيعود كما كان، ولمن يكون على هذا الأمر فيخرج عنه ويتمّ على الشقاء بأن يدركه الموت وهو على ما هو عليه غير تائب منه ولا عائد إلى الحق، فيكون مثله كمثل الفخار الذي يكسّر فلا يعاد إلى حاله، لأنه لا توبة له بعد الموت ولا في ساعته، نسأل الله الثبات على ما منَّ به علينا، وأن يزيد في إحسانه، فإنما نحن له ومنه)(369) انتهى.
وروى عن الكاظم عليه السلام أنه قال: (ما يكون ذلك (أي ظهور الحجة عليه السلام) حتّى تميّزوا وتمحّصوا، وحتّى لا يبقى منكم إلاّ الأقل)، ثمّ صعر كفه(370).
وعن الرضا عليه السلام: (والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتّى تمحّصوا وتميّزوا، وحتّى لا يبقى منكم إلاّ الأندر فالأندر)(371)، وفي رواية: (حتّى يشقى من شقي ويسعد من سعد)(372).
هذا والروايات في هذا المجال كثيرة جدّاً تطلب من مظانها.

* * *

الأمر التاسع: تفسير الكتاب الوارد من الناحية المقدّسة على الشيخ المفيد وتشرّف عدّة من أساطين الفقه والعلم بلقائه عليه السلام
لعلَّ قائل يقول: ما تفسير ما وقع من خروج كتاب ورد من الناحية المقدّسة حرسها الله ورعاها على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان (قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه)؟
وما تفسير ما شاع نقله واستفاض من تشرّف عدّة من أساطين الفقهاء والعلماء بلقائه عليه السلام، حتّى أن ثُلّة منهم نقل عنه عليه السلام بعض الأدعية المسطورة في كتب الشيعة؟
وكيف يتّفق مع ما تسالمت عليه الطائفة من انقطاع السفار، وأن (من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر)(373) كما ورد في التوقيع الذي خرج على يد النائب الرابع.
فتفسير ذلك: أنه التبس على القائل معنى السفارة والنيابة الخاصة والوكالة والبابية مع ما ذكره من الموارد، ولنوضّح الفرق بمثال موجود في يومنا هذا.
وهو الفرق بين سفير دولة ما وبين مواطن كأحد المواطنين لتلك الدولة قد أبلغ من قبلها بإيصال رسالة ما إلى جهة معينة، فالسفير للدولة له منصب دائم من قبلها لإيصال والقيام بنيابة الدولة وتمثيلها، بخلاف ذلك المواطن الذي اتّفق أن اُمر بإيصال رسالة ما، فإنه لم ينصب لمقام معين، ولم يجعل ممثلاً دائمياً.
ومن ثَمَّ نقول: الفرق بين الباب والسفير وبين مثل المكاتبة التي تشرّف بها المفيد رضوان الله تعالى عليه هو أن السفير كالنواب الأربعة في الغيبة الصغرى هو الذي ينصب بنحو دائم كحلقة وصل بين الشيعة والإمام، ويكون على اتصال دائم بحيث يوصل من وإلى الحجة عليه السلام، وهو يأتمر في كل صغيرة وكبيرة من أعماله وإجراءاته وتنفيذه في المهام الدينية من قبل الحجة عليه السلام، وتظهر على يديه دلائل وبراهين على النيابة الخاصة من قبل الحجة عليه السلام، مع إظهار السفير سفارته لأجلاء الطائفة الإمامية، وأين هذا من مثل المكاتبة المذكورة؟
وقد تقدّم ذكر عدّة ممن كانوا يكتبون الأسئلة ويبعثون بها إلى الحجة عليه السلام عبر النواب في الغيبة الصغرى، كأبي جعفر محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري المعروف بمكاتبته للحجة عبر النواب الأربعة، ومع ذلك فلم يكن سفيراً ولا نائباً خاصاً ولا وكيلاً بالمباشرة ولا بالواسط بل كسائر الفقهاء.
وكذلك عدّة كثيرة من الفقهاء كاتبوا في الغيبة الصغرى عبر النواب الأربعة أو كتب إليهم.
منهم محمّد بن صالح(374)، وإسحاق بن يعقوب(375)، ومحمّد بن الصالح(376)، والحسن بن الفضل اليماني(377)، وعلي بن محمّد الشمشاطي(378)، وأبو رجاء المصري(379)، ومحمّد بن هارون(380)، وأبو القاسم بن أبي جليس(381)، وهارون بن موسى بن الفرات، ومحمّد بن محمّد البصري، ومحمّد بن يزداد، ومحمّد بن كشمرد(382)، وعلي بن محمّد بن إسحاق الأشعري، وإبراهيم بن محمّد بن الفرج وغيرهم كثير جدّاً، ومع ذلك لم يكونوا وكلاء بالمباشرة ولا بالواسطة.
هذا مع أن الشيخ المفيد كتب إليه من الحجة عليه السلام لأنه أرسل كتاباً ثمّ أتاه الجواب، وكيف يتوهّم أن الشيخ المفيد يدّعي أنه سفير مع أنه نفسه رحمه الله ذكر في (الرسائل الخمس في الغيبة)(383) انقطاع السفارة والنواب بموت النائب الرابع في الغيبة الصغرى، وذكر ذلك في كتاب الإرشاد في الفصل الذي عقده للإمام الثاني عشر عليه السلام(384) وفي بقية كتبه، ومع أن الشيخ المفيد نفسه ذكر عن شيخه أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه: (أن عندنا أن كل من ادّعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمّس ضال مضل)(385).
نعم، الشيخ المفيد كبقية الفقهاء العدول له النيابة العامة، وهي المرجعية، والتي يستقي الفقيه علمه بالأحكام الشرعية من الكتاب والأخبار المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام كما تقدّم شرح ذلك في الأمر الثالث من هذا الفصل.
هذا مع أنه يصعب الجزم بصدور هذا الكتاب من الناحية المقدسة ووروده للشيخ المفيد، وذلك لأن الشيخ الطبرسي رضي الله عنه تفرّد بذكر ذلك في كتابه (الاحتجاج) ولم يذكر طريقه وسنده إلى الشيخ المفيد.
أما تفرّده فلأن الشيخ الطوسي وهو تلميذ الشيخ المفيد ومن خواصه المقرّبين إليه لم يذكر ذلك في كتابه الرجال والفهرست عند ترجمة شيخه المفيد، مع أنه أثنى عليه بأبلغ الثناء والمدح، ولو كان مثل هذا الكتاب من الناحية المقدسة لناسب ذكره في الترجمة، لأنه أبلغ شيء في التعريف بمكانة شيخه، كما لم يذكر الشيخ الطوسي هذه الواقعة في بقية كتبه.
وكذلك الشيخ الجليل أبو العبّاس أحمد بن علي النجاشي تلميذ الشيخ المفيد لم يذكر ذلك في ترجمة شيخه في رجاله مع أنه أطرى عليه بأحسن الثناء.
وكذلك لم يعثر في كتب السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي على ذكر لهذه الواقعة، مع أن السيد يأتي بشيء من الاطراء والمدح لأستاذه الشيخ المفيد عند تصادف ذكر شيخه في كتبه.
وكذلك لم يذكر ذلك ابن الحلّي في سرائره في المستطرفات في ما استطرفه من كتاب العيون والمحاسن تصنيف المفيد، حيث أتى بترجمة للمفيد في البدء فيها من المدح والثناء الجميل.
وكذلك لم يذكر ذلك العلاّمة الحلّي في كتاب الرجال عند ترجمة الشيخ المفيد مع أنه أطرى عليه بالمدح الجزيل، مع أن العلاّمة الحلّي رضي الله عنه من أعلام الطائفة في القرن السابع فهو متأخر عن الشيخ الطبرسي الذي هو من أعلام القرن السادس.
وكذلك لم يذكر ذلك تقي الدين بن داود الحلّي في كتاب الرجال المعاصر للعلاّمة الحلّي.
وكذلك لم يذكر ذلك الشيخ أبو الفتح الكراجكي تلميذ المفيد مع أنه كرّر ذكره في كتابه كنز الفوائد.
نعم، ذكر ابن شهرآشوب السروي رحمه الله في معالم العلماء: (ولقّبه بالشيخ المفيد صاحب الزمان (صلوات الله عليه)، وقد ذكرت سبب ذلك في مناقب آل أبي طالب)، ولكن لم يعثر على ذلك في كتابه المناقب، وقد ذكر المصحح الذي أشرف على طبع كتاب المناقب(386): (وليعلم أن الموجود من المناقب في أحوال الأئمّة عليهم السلام إلى العسكري، ولم نعثر على أحوال الحجة عليه السلام منه، ولا نقله من تقدّمنا من سدنة الأخبار كالمجلسي قدس سره والشيخ الحر وأمثالهما، وربما يتوهّم أنه لم يوفق لذكر أحواله عليه السلام، إلاّ أنه قال في معالم العلماء في ترجمة المفيد قدس سره (أنه لقّبه بالشيخ، والظاهر أنه كتبه في جملة أحواله عليه السلام في هذا الباب سقط من هذا الكتاب).
وعلى أيّة حال فابن شهرآشوب تلميذ الشيخ الطبرسي كما ذكر هو ذلك(387) فالمظنون قويّاً أنه نقله عن الطبرسي رحمه الله.
وكذلك ما يحكى عن رسالة نهج العلوم ليحيى بن بطريق الحلّي صاحب كتاب (العمدة في عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار) المتوفى سنة ستمائة هجرية أنه ذكر التوقيعات المذكورة إلى الشيخ المفيد قدس سره، فالمظنون قويّاً أنه نقله عن ابن شهر آشوب لأنه الراوي عنه(388) أو نقله عن الشيخ الطبرسي قدس سره.
هذا مع أن ابن إدريس ذكر في كتاب السرائر في ما استطرفه من كتاب العيون والمحاسن تصنيف الشيخ المفيد أن الذي سمّاه بهذا اللقب علي بن عيسى الرماني عندما أفحمه المفيد وكان في بداية نشوه العلمي، لا أن هذا اللقب اشتهر به في آخر عمره كما هو مقتضى تاريخ التوقيع، إلاّ أن يريد ابن شهر آشوب جرى هذا اللقب على لسانه الشريف عليه السلام وما في ذلك من المدح للمفيد (رضوان الله تعالى عليه).
وأما عدم ذكر الطريق فلأن الشيخ الطبرسي لا يروي مباشرة عن المفيد، بل لا بدَّ من الواسطة، ولم تذكر في كلامه (رفع الله مقامه).
وهو وإن ذكر في أوّل كتاب الاحتجاج حيث يقول: (ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلَّت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف).
لكن شيء من الأقسام الثلاثة غير متحقق لدينا.
أما الإجماع والاتفاق، فقد عرفت خلو كتب التراجم والرجال المصنّفة ممن هو أقرب زمناً من الشيخ الطبرسي من ذلك، ومن ذلك لا يتحقق لدينا وجود الشهرة أيضاً في تلك الأعصار(389).
وأما الموافقة للدليل العقلي، فلا دليل عقلي في البين على وقوع ذلك.
نعم، الشيخ الطبرسي لا محالة قد تحقق لديه أحدها، ولكن لم يتحقق لدينا كما عرفت، وهنا إشكال آخر ذكره السيد المحقق الخوئي قدس سره في المعجم(390) بقوله: (هب أن الشيخ المفيد جزم بقرائن أن التوقيع صدر من الناحية المقدسة، ولكن كيف يمكننا الجزم بصدوره من تلك الناحية؟).
ووجه هذا الإشكال أن المفيد قدس سره ليس سفيراً خاصاً وباباً للحجة عليه السلام كي يجزم بما قد جزم به المفيد أنه من الناحية، إذ قد لا يحصل الجزم من تلك القرائن فيما لو علمنا بها.
وهذا بخلاف الحال في السفير والباب الخاص بالحجة عليه السلام، فإنه مقتضى سفارته حجية قوله فيما يؤدّيه عن الحجة من دون احتمال الخطأ والغفلة كما ورد في قول الإمام العسكري عليه السلام عند تنصيصه على نيابة العمري وابنه: (العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان)(391)، (فاقبلوا من عثمان (النائب الأوّل العمري) ما يقوله وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه)(392).
ومن ذلك كلّه يظهر لك تفسير تشرف عدّة من أكابر العلماء والفقهاء والأتقياء بلقاء الحجة عليه السلام وسعادتهم بجمال محضره الشريف، فإن ذلك ليس يعني سفارتهم وبابيتهم وأنهم منصوبون لذلك.
بل إن ذلك نتيجة الطهارة من الذنوب ومن النزعات الشيطانية والحيوانية، إذ قد ورد في بعض الروايات(393): أن الحاجب بيننا وبين نور مطلعه الباهر عليه أفضل صلوات الملك القادر هي ذنوبنا وسيئات أعمالنا، وقد ذكر الصدوق في إكمال الدين عدّة كثيرة ممن تشرّف بلقائه عليه السلام في الغيبة الصغرى فترة النواب الأربعة(394)، ولم تكن تلك العدّة التي تشرّفت بلقائه عليه السلام سفراء ونواباً.
وأما توافق ذلك مع ما خرج من التوقيع على يد علي بن محمّد السمري النائب الرابع والأخير: (من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر)(395).
فلأن معنى التوقيع المبارك كما هو الراجح لدى العلماء هو ادّعاء النيابة الخاصة والسفارة، بقرينة أن التوقيع صدر قرب وفاة السمري، حيث أن في أوّله تعزية الإمام عليه السلام المؤمنين بموت السمري ما بينه وبين ستة أيام، ثمّ أمره عليه السلام بعدم الوصاية إلى أحد يقوم مقامه بعد وفاته، إذ قد وقعت الغيبة التامة، وأنه لا ظهور حتّى يأذن الله تعالى ذكره. هذه كلّها قرائن أن سياق الكلام دالٌّ على تكذيب ادّعاء النيابة والسفارة بعد السمري رضوان الله تعالى عليه.
ونصَّ التوقيع كما ذكره الشيخ في (الغيبة)(396) قال: وأخبرنا جماعة (وهم مشايخه)، عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه (الصدوق)، قال: حدّثني أبو محمّد الحسين بن أحمد المكتّب (الذي ترحَّم عليه الصدوق في كمال الدين)، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفى فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري رضي الله عنه، فحضرته قبل وفاته بأيام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري عظَّم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميّت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله _ تعالى ذكره _ وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).
وقد أنبأ عليه السلام شيعته بمجيء المدّعين الكذّابين المفترين، وقد حصل مجيئهم كرّات ومرّات ولا زال في يومنا هذا، وهذا الإنباء بالمستقبل من معجزاته عليه السلام. وواضح أن من يدّعي المشاهدة للحجة عليه السلام ليس غرضه إلاّ إظهار نفسه كوسيط وسفير للحجة عليه السلام، وهذه قرينة أخرى على أن المعنى المراد في التوقيع المبارك هو ادّعاء النيابة والسفارة.

* * *

الأمر العاشر: من هم الأبدال والأوتاد؟
ولعلَّ سؤالاً يطرح وهو: أليس الأبدال والأوتاد على درجة من القرب إلى الناحية المقدسة، ولعلَّ المقدمين منهم على اتصال، فكيف يلتئم ذلك مع انقطاع النيابة الخاصة؟
فالجواب يتّضح من خلال استعراض ما ورد من الروايات في ذلك:
منها: ما رواه الصدوق رضي الله عنه بإسناده عن أبي سعيد الخدري في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام قال: (يا علي، عليك بالجماع ليلة الإثنين فإنه إن قضى بينكما ولد يكون حافظاً لكتاب الله راضياً بما قسّم الله عز وجل وإن جامعت أهلك... إلى أن قال صلى الله عليه وآله وسلم:
وإن جامعتها في ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة فإنه يرجى أن يكون الولد من الأبدال إن شاء الله)(397)، وقد رواه الطبرسي في (مكارم الأخلاق)(398).
منها: ما رواه الطبرسي رضي الله عنه عن الخالد بن الهيثم الفارسي قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إن الناس يزعمون أن في الأرض أبدالاً، فمن هؤلاء الأبدال؟ قال: (صدقوا، الأبدال هم الأوصياء، جعلهم الله عز وجل في الأرض بدل الأنبياء إذ رفع الأنبياء وختمهم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم)(399).
وقال المجلسي رضي الله عنه في بيان هذا الحديث: ظاهر الدعاء المروي من اُمّ داود عن الصادق عليه السلام في النصف من رجب:
قل: (اللهم صل على محمّد وآل محمّد، وارحم محمّداً وآل محمّد، وبارك على محمّد وآل محمّد، كما صلّيت وترحمت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم صل على الأوصياء والسعداء والشهداء وأئمّة الهدى، اللهم صل على الأبدال والأوتاد والعباد المخلصين والزهاد وأهل الجد والاجتهاد...) إلى آخر الدعاء، يدلُّ على مغايرة الأبدال للأئمّة عليهم السلام لكن ليس بصريح فيها فيمكن حمله على التأكيد ويحتمل أن يكون المراد به في الدعاء خواص أصحاب الأئمّة عليهم السلام، والظاهر من الخبر نفي ما تفتريه الصوفية من العامة كما لا يخفى على المتتبع العارف بمقاصدهم عليهم السلام.
ومنها: ما رواه الكليني عن الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّي وإثني عشر(400) من ولدي وأنت يا علي زر الأرض يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا)(401)، وهذه الرواية مطابقة في المضمون للرواية السابقة، ولكن هذا المضمون لا يعارض ما دلَّ على أن الأوتاد والأبدال هم غير الأئمّة عليهم السلام وذلك لإمكان عموم معناهما غاية الأمر أنه تشكيكي (متفاوت الأفراد) ذو درجات الأعلى والأشرف من أفراده هم الأئمّة عليهم السلام ولهم آثار تخصّهم بخلاف بقية أفراد ومصاديق ذلك المعنى العام فإن لهم آثاراً أقل شأناً.
وحكى الشيخ القمي في كتابه (سفينة البحار) في عنوان (قطب):
ثمّ اعلم أنه قال الكفعمي في حاشية مصباحه: قيل: إن الأرض لا تخلو من القطب وأربعة أوتاد وأربعين بدلاً وسبعين نجيباً وثلاثمائة وستين صالحاً، فالقطب هو المهدي عليه السلام، ولا تكون الأوتاد أقل من أربعة لأن الدنيا كالخيمة والمهدي عليه السلام كالعمود وتلك الأربعة أطناب وقد تكون الأوتاد أكثر من أربعة والأبدال أكثر من أربعين والنجباء أكثر من سبعين والصالحون أكثر من ثلاثمائة وستين، والظاهر أن الخضر وإلياس عليهما السلام من الأوتاد فهما ملاصقان لدائرة القطب.
وأما صفة الأوتاد فهم قوم لا يغفلون عن ربهم طرفة عين ولا يجمعون من الدنيا إلاّ البلاغ ولا تصدر منهم هفوات البشر ولا يشترط فيهم العصمة وشرط ذلك في القطب.
وأما الأبدال فدون هؤلاء في المرتبة، وقد تصدر منهم الغفلة فيتداركونها بالتذكر ولا يتعمدون ذنباً.
وأما النجباء فهم دون الأبدال.
وأما الصالحون فهم المتّقون الموصوفون بالعدالة، وقد يصدر منهم الذنب فيتداركونه بالاستغفار والندم، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)(402).
ثمّ ذكر أنه إذا نقص واحد من أحد المراتب المذكورة وضع بدله من المرتبة الأدنى وإذا نقص من الصالحين وضع بدله من سائر الناس والله العالم(403).
وحكى في عيون إلياس: روى الثعلبي عن رجل من أهل عسقلان أنه كان يمشي بالأردن عند نصف النهار فرأى، إلياس النبي فسأله كم من الأنبياء أحياء اليوم؟ قال: أربعة، اثنان في السماء واثنان في الأرض، ففي السماء عيسى وإدريس، وفي الأرض إلياس والخضر، قلت: كم الأبدال؟ قال: ستون رجلاً، خسمون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات ورجلان بالمصيصة ورجل بعسقلان وسبعة في سائر البلاد كلّما ذهب الله تعالى بواحد منهم جاء سبحانه بآخر، بهم يدفع الله عن الناس وبهم يمطرون(404).
ومنها: ما في نهج البلاغة(405) من خطبة له عليه السلام في صفات المتّقين:
(عباد الله إن من أحبَّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن... إلى أن قال عليه السلام: (قد أخلص لله فاستخلصه فهو من معادن دينه، وأوتاد أرضه).
وقال الشارح البحراني في ذيله:
كونه من أوتاد أرضه استعار له لفظ الوتد، ووجه المشابهة كون كل منهما سبباً لحفظ ما يحفظ به، فبالوتد يحفظ الموتود وبالعارف يحفظ نظام الأرض واستقامة أمور هذا العالم.
ويشهد هذا المدلول لهذه الرواية لعموم المعنى الذي ذكرناه سابقاً وأنه تشكيكي ذو درجات، وأيضاً يفسّر مقام الأبدال بأن لهم نتيجة التقوى آثاراً تكوينية مختلفة لا أن غير الأئمّة من الأبدال له منصب شرعي وديني خاص ومعين.
ويؤيّد ذلك ما ورد في قوله تعالى: (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)(406) وما ورد في ذيله عن الباقر والصادق عليهما السلام قالا: (يحفظ الأطفال بصلاح آبائهم كما حفظ الله الغلامين بصلاح أبويهما)(407).
وفي رواية أخرى: (أن الله يحفظ ولد المؤمن إلى ألف سنة وأن الغلامين كان بينهما وبين أبيهما سبعمائة سنة)(408).
وفي رواية ثالثة: (أن الله ليفلح بفلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده ويحفظه في دويريه ودويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله)، ثمّ ذكر الغلامين فقال عليه السلام: ((وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) ألم ترَ أن الله شكر صلاح أبويهما لهما؟)(409).
وفي رواية رابعة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله ليخلف العبد الصالح من بعد موته في أهله وماله وإن كان أهله أهل سوء) ثمّ قرأ الآية(410).
ومن هذا القبيل ما روي عن الباقر عليه السلام، عن أبيه، عن جدّه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: (ضاقت الأرض بسبعة بهم ترزقون وبهم تنصرون وبهم تمطرون منهم سلمان الفارسي والمقداد وأبو ذر وعمّار وحذيفة (رحمة الله عليهم))، وكان علي عليه السلام يقول: (وأنا إمامهم وهم الذين صلّوا على فاطمة عليها السلام)(411) أي ببركتهم ويمنهم.
وفي رواية أخرى: قال عليه السلام: (هؤلاء (المقداد وأبو ذر وسلمان) هم الذين دارت عليهم الرحا وأبوا أن يبايعوا لأبي بكر حتّى جاءوا بأمير المؤمنين عليه السلام مكرهاً فبايع)(412).
وبهذا التفسير وردت روايات:
منها: ما رواه المجلسي رحمه الله عن مصباح الشريعة أنه قال الصادق عليه السلام: (التقوى على ثلاثة أوجه: تقوى بالله في الله وهو ترك الحلال فضلاً عن الشبهة وهو تقوى خاص الخاص.
وتقوى من الله وهو ترك الشبهات فضلاً عن حرام وهو تقوى الخاص.
وتقوى من خوف النار والعقاب وهو ترك الحرام وهو تقوى العام.
ومثل التقوى كماء يجري في نهر ومثل هذه الطبقات الثلاث في معنى التقوى كأشجار مغروسة على حافة ذلك النهر من كل لون وجنس وكل شجرة منهما يستمص الماء من ذلك النهر على قدر جوهره وطعمه ولطافته وكثافته ثمّ منافع الخلق من ذلك الأشجار والثمار على قدرها وقيمتها قال الله تعالى: (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الأُْكُلِ...)(413) الآية.
فالتقوى للطاعات كالماء للأشجار ومثل طبايع الأشجار والثمار في لونها وطعمها مثل مقادير الإيمان فمن كان أعلى درجة في الإيمان وأصفى جوهراً بالروح كان أتقى ومن كان أتقى كانت عبادته أخلص وأطهر ومن كان كذلك كان من الله أقرب.
وكل عبادة غير مؤسسة على التقوى فهو هباء منثور قال الله عز وجل: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ...)(414) الآية، وتفسير التقوى ترك ما ليس بأخذه بأس حذراً عمّا به بأس وهو في الحقيقة طاعة وذكر بلا نسيان وعلم بلا جهل مقبول غير مردود)(415).
وروى الشيخ الحرّاني في (تحف العقول)(416): أنه دخل على الصادق عليه السلام رجل فقال: (ممن الرجل؟)، فقال: من محبيكم ومواليكم، فقال له جعفر: (لا يحبّ الله عبداً حتّى يتولاه ولا يتولاه حتّى يوجب له الجنّة). ثمّ قال له: (من أيّ محبّينا أنت؟) فسكت الرجل.
فقال له سدير: وكم محبّوكم يا ابن رسول الله؟ فقال: (على ثلاث طبقات: طبقة أحبّونا في العلانية ولم يحبّونا في السر، وطبقة يحبّونا في السر ولم يحبّونا في العلانية، وطبقة يحبّونا في السر والعلانية هم النمط الأعلى شربوا من العذب الفرات وعلموا تأويل الكتاب وفصل الخطاب وسبب الأسباب فهم النمط الأعلى، الفقر والفاقة وأنواع البلاء أسرع إليهم من ركض الخيل مستهم البأساء والضرّاء وزلزلوا وفتنوا فمن بين مجروح ومذبوح متفرقين في كل بلاد قاصية، بهم يشفي الله السقيم، ويغني العديم، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون، وبهم ترزقون، وهم الأقلون عدداً، الأعظمون عند الله قدراً وخطراً...) الحديث.
وروى الكليني عن الباقر عليه السلام قال: (إن الله تعالى ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء)(417)، وقال: (لا يصيب قرية عذاب وفيها سبعة مؤمنين)(418).
وروى الشيخ المجلسي في (البحار)(419) عن كتاب زيد الزراد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: نخشى أن لا نكون مؤمنين، قال: (ولِمَ ذاك؟)، قلت: وذلك أننا لا نجد فينا من يكون أخوه عنده آثر من درهمه وديناره، ونجد الدينار والدرهم آثر عندنا من أخ قد جمع بيننا وبينه موالاة أمير المؤمنين عليه السلام.
قال: (كلا، إنكم مؤمنون ولكن لا تكملون إيمانكم حتّى يخرج قائمنا فعندها يجمع الله أحلامكم فتكونوا مؤمنين كاملين، ولو لم يكن في الأرض مؤمنون كاملون إذاً لرفعنا الله إليه وأنكرتم الأرض وأنكرتم السماء(420)، بل والذي نفسي بيده أن في الأرض في أطرافها مؤمنين ما قدر الدنيا كلّها عندهم تعدل جناح بعوضة).
ثمّ ذكر عليه السلام أوصافهم بنحو ما ذكر أمير المؤمنين عليه السلام أوصاف المتّقين في خطبة لهمام ثمّ قال عليه السلام: (وا شوقاه إلى مجالستهم ومحادثتهم، يا كرباه لفقدهم، ويا كشف كرباه لمجالستهم، اطلبوهم فإن وجدتموهم واقتبستم من نورهم اهتديتم وفزتم بهم في الدنيا والآخرة هم أعزُّ في الناس من الكبريت الأحمر، حليتهم طول السكوت وكتمان السر والصلاة والزكاة والحج والصوم والمواساة للإخوان في حال اليسر والعسر...) الحديث.
ومن ذلك يظهر بوضوح أن الأبدال والأوتاد هم الذين على درجة من الإيمان وببركتهم ويمنهم، ينشر الله تعالى أنواع الخير على أهل الأرض وهم أحبُّ المؤمنين لدى المعصومين عليهم السلام وأرفعهم منزلة عندهم وكرامة، ولكن أين ذلك من جعل المنصب والنيابة الخاصة والوساطة بين الإمام المعصوم وبين سائر الناس.
نعم هم قدوة وأمثال حيّة للمؤمن الكامل والمتقي الكريم على الله تعالى ورسوله والأوصياء صلوات الله عليهم.
وكم فرق بين الاهتداء بهم في طاعاتهم وورعهم وتقواهم وبين الائتمار والانتهاء لأقوالهم والسماع لأخبارهم عن المعصوم.
وهذا المقام للإبدال والأوتاد مفتوح بابه لمن أراد بأن يجاهد نفسه وهواه، فقد روى الكليني عن الباقر عليه السلام أنه قال: (إن أصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: يا رسول الله نخاف النفاق. قال: فقال: ولِمَ تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنّا عندك فذكّرتنا ورغّبتنا وجلنا ونسينا الدنيا وزهدنا كأنّا نعاين الآخرة والجنّة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل يكاد أن نحول عن الحال التي كنّا عليها عندك وحتّى كأنّا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلا، إن هذه خطوات الشيطان فيرغّبكم في الدنيا، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة، ومشيتم على الماء...)(421) الحديث.
وهذا بخلاف مقام النيابة والسفارة فإنه باختيار وإرادة من الإمام المعصوم عليه السلام.
ويجدر التنبيه مع ذلك إلى ما قاله الصادق عليه السلام إلى أن الأبدال والكاملين هم أعزُّ من الكبريت الأحمر، أي إنهم في منتهى الندرة والقلّة فكيف يعثر عليهم مع إخفاءهم لحالهم لكيلا يذهب خلوص نياتهم، ولئلاّ يحصل لأنفسهم الاغترار وغير ذلك من مفاسد الاشتهار.
وهذا من الشواهد على اختلاف مقامهم لمقام النيابة والسفارة.

* * *
الفصل الثالث: في الفِرق التي انحرفت عن الطائفة الإمامية وكيفية انحرافها

وهي كثيرة حتّى قيل: إن الشيخ الجليل سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي ذكر في كتابه (المقالات والفِرق)(422) ما يقرب من مائة وأربع عشرة فرقة وبدعة.
وسر ذلك هو ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام عندما خطب الناس فقال: (أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله، يتولّى فيها رجال رجالاً، فلو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ولو أن الحق خلص لم يكن اختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معاً فهناك استحوذ الشيطان على أوليائه ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى)(423).
وعن الصادق عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)(424).
(الغلاة):
ومن هذه الفرق (هم الذين غلوا في أمير المؤمنين عليه السلام) وزعموا أنه ربهم فأمر عليه السلام بقتلهم.
وقد رواه الكشي في كتاب (الرجال)(425) في ترجمة (محمّد بن أبي زينب)(426) بإسناده عن عبد الله بن شريك، عن أبيه، قال: بينا علي عليه السلام عند امرأة من عنزة وهي اُمّ عمرو إذ أتاه قنبر فقال: إن عشرة نفر بالباب يزعمون أنك ربهم، قال: (أدخلهم)، قال: فدخلوا عليه، فقال: (ما تقولون؟)، فقالوا: إنك ربنا وأنت الذي خلقتنا وأنت الذي ترزقنا.
فقال لهم: (ويلكم لا تفعلوا إنما أنا مخلوق مثلكم)، فأبوا أن يقلعوا، فقال لهم: (ويلكم ربي وربكم الله إنما أنا مخلوق مثلكم)، فأبوا أن يقلعوا، فقال لهم: (ويلكم ربي وربكم الله توبوا وارجعوا).
فقالوا: لا نرجع عن مقالتنا أنت ربنا وأنت خلقتنا، فقال: (يا قنبر آتني بالفعلة)، فخرج قنبر فأتاه بعشر رجال مع الزبل والمرور، فأمرهم أن يحفروا لهم في الأرض فلمّا حفروا خداً أمرنا بالحطب والنار فطرح فيه حتّى صار ناراً تتوقد، قال لهم: (ويلكم توبوا وارجعوا!)، فأبوا وقالوا: لا نرجع، فقذف علي عليه السلام بعضهم ثمّ قذف بقيتهم في النار، ثمّ قال لي عليه السلام: (إنّي إذا بصرت شيئاً منكراً، أوقدت ناري ودعوت قنبراً).
وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: (هلك فيَّ رجلان: محب غال، ومبغض قال)(427).
ومنها (الخطابية):
أصحاب أبي الخطاب محمّد بن أبي زينب الأسدي الأخدع(428) الزراد البزاز يكنّى تارة أبا الخطاب، وأخرى أبا الظبيات(429)، وأبا إسماعيل لعنه الله، وكانوا قد أظهروا الإباحات وتحليل المحرّمات وآل أمرهم إلى الدعوة إلى نبوّة أبي طالب، وكانوا يدعون الناس إلى أمرهم سراً فبلغ خبرهم عيسى بن موسى وكان عاملاً للمنصور العبّاسي على الكوفة فبعث إليهم رجلاً من أصحابه في خيل ورجالة.
فكانت بينهم حرب شديدة بالقصب والحجارة والسكاكين كانت مع بعضهم وجعلوا القصب مكان الرماح وقد كان أبو الخطاب قال لهم: قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح وسائر السلاح ورماحهم وسيوفهم لا يضركم ولا يعمل فيكم ولا يحتك في أبدانكم فجعل يقدمهم عشرة عشرة للمحاربة فلمّا قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً صاحوا إليه: يا سيدنا ما ترى في ما يحلُّ بنا من هؤلاء القوم؟ ولا ترى قصبنا يعمل فيهم ولا يؤثر وقد يكسر كلّه؟ وقد عمل فينا وقتل من ترى منّا.
فقال لهم: يا قوم إن كان بدا لله فيكم فما ذنبي، يا قوم قد بليتم وامتحنتم واُذن في قتلكم وشهادتكم فقاتلوا على دينكم وأحسابكم ثمّ إنهم قتلوا وقتل هو وصلب، فقال بعض أصحابه: إن أبا الخطاب لم يقتل ولا أسر ولا قتل أحد من أصحابه وإنما لبس على القوم وشبه عليهم وأنه قد صير بعد حدث هذا الأمر من الملائكة(430).
وزعموا أنه لا بدَّ من رسولين في كل عصر ولا تخلو الأرض منهما: واحد ناطق وآخر صامت، فكان محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ناطقاً وعلي صامتاً وتأوّلوا في ذلك قول الله: (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا)(431) ثمّ ارتفعوا عن هذه المقالة إلى أن قال بعضهم: هما آلهة، وتشاهدا بالزور.
ثمّ إنهم افترقوا لمّا بلغهم أن جعفر بن محمّد (الصادق) عليه السلام لعنهم ولعن أبا الخطاب وبرئ منه ومنهم فصاروا أربع فِرق وكان أبو الخطاب يدّعي أن جعفر بن محمّد عليه السلام قد جعله قيّمه ووصيّه من بعده وأنه علّمه اسم الله الأعظم.
ثمّ ترقى إلى أن ادّعى النبوة ثمّ ادّعى الرسالة ثمّ ادّعى أنه من الملائكة وأنه رسول الله إلى أهل الأرض والحجة عليهم وذلك بعد دعواه أنه جعفر بن محمّد وأنه يتصور في أيّ صورة شاء.
وذكر بعض الخطابية أن رجلاً سأل جعفر بن محمّد عن مسألة وهو بالمدينة فأجابه فيها ثمّ انصرف إلى الكوفة فسأل أبا الخطاب عنها فقال له: أوَلم تسألني عن هذه المسألة بالمدينة فأجبتك فيها؟
ومنها (الحارثية):
أصحاب عبد الله بن الحارث وكان أبوه زنديقاً من أهل المدائن فأبرز لأصحاب عبد الله بن معاوية _ الذي قتله أبو مسلم والذي هو صاحب إحدى الفِرق الكيسانية وقد مال إليه شذاذ صنوف الشيعة _ فأدخلهم في الغلو والقول بالتناسخ والأظلة والدور وأسند ذلك إلى (جابر بن عبد الله الأنصاري) ثمّ إلى (جابر بن يزيد الجعفي) فخدعهم بذلك حتّى ردّهم عن جميع الفرائض والشرائع والسنن وادّعى أن هذا مذهب جابر بن عبد الله وجابر بن يزيد رحمهما الله فإنهما قد كانا من ذلك بريئين(432).
ومنهم ومن الكيسانية والعبّاسية والخرمدينية كان بدء الغلو في القول حتّى قالوا: إن الأئمّة آلهة وأنهم أنبياء وأنهم رسل وأنهم ملائكة وهم الذين تكلّموا بالأظلة في التناسخ في الأرواح.
وهم أهل القول بالدور في هذا الدار وإبطال القيامة والبعث والحساب وزعموا أن لا دار إلاّ الدنيا وأن القيامة إنما هي خروج الروح من بدن ودخوله في بدن آخر غيره (وهو معنى الدور) إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشراً.
وأنهم مسرورون في هذه الأبدان أو معذّبون فيها، والأبدان هي الجنّات وهي النار وأنهم منقولون في الأجسام الحسنة الأنسية المنعمة في حياتهم ومعذبون في الأجسام الروية المشوهة من كلاب وقردة وخنازير وحيّات وعقارب وخنافس وجعلان محولون من بدن إلى بدن معذّبون فيها هكذا أبد الأبد فهي جنّتهم ونارهم، لا قيامة ولا بعث، ولا جنّة ولا نار غير هذا على قدر أعمالهم وذنوبهم وإنكارهم لأئمّتهم ومعصيتهم لهم فإنما تسقط الأبدان وتخرب إذ هي مساكنهم فتتلاشى الأبدان وهذا معنى الرجعة عندهم(433).
ومنها (المنصورية):
أصحاب أبي منصور العجلي الذي لعنه الإمام الصادق عليه السلام ثلاثاً، وهو الذي ادّعى أن الله عز وجل عرج به إليه فأدناه منه وكلّمه ومسح يده على رأسه وقال له بالسرياني: أي بني، وذكر أنه نبي ورسول وأن الله اتخذه خليلاً.
وكان منصور من أهل الكوفة من عبد القيس وله فيها دار وكان منشأه بالبادية وكان اُمّياً لا يقرأ فادّعى بعد وفاة أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين (الباقر) عليه السلام أنه فوّض إليه أمره وجعله وصيّه من بعده ثمّ ترقّى به الأمر إلى أن قال: كان علي بن أبي طالب عليه السلام نبيّاً ورسولاً وكذا الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي، وأنا نبي ورسول، والنبوة في ستة من ولدي يكونون بعدي أنبياء آخرهم القائم.
وكان يأمر أصحابه بخنق من خالفهم وقتلهم بالاغتيال ويقول: (من خالفكم فهو كافر مشرك فاقتلوه فإن هذا جهاد خفي)، وزعم أن جبرئيل عليه السلام يأتيه بالوحي من عند الله عز وجل وأن الله بعث محمّداً بالتنزيل وبعثه هو (يعني نفسه) بالتأويل.
فطلبه خالد بن عبد الله القسري فأعياه ثمّ ظفر عمر الخناق بابنه الحسين بن أبي منصور وقد تنبّأ وادّعى مرتبة أبيه وجبيت إليه الأموال وتابعه على مذهبه ورأيه بشر كثير وقالوا بنبوته فبعث به للمهدي العبّاسي فقتله في خلافته وصلبه بعد أن أقرَّ بذلك وأخذ منه مالاً عظيماً وطلب أصحابه طلباً شديداً وظفر بجماعة منهم فقتلهم وصلبهم(434).
ومنهم (أصحاب السري):
قالوا: إنه رسول مثل أبي الخطاب أرسله جعفر. وقال: إنه قوي أمين وهو موسى القوي الأمين وفيه تلك الروح وجعفر هو الإسلام والإسلام هو السلام وهو الله عز وجل ونحن بنوا الإسلام كما قالت اليهود: (نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)(435).(436)
ومنها (البيانية):
أصحاب بيان بن سمعان الهندي الذي كان يبيع التبن بالكوفة، ثمّ ادّعى أن محمّد بن علي بن الحسين (الباقر) عليه السلام أوصى إليه فأخذه خالد بن عبد الله القسري فقتله وصلبه مدّة ثمّ أحرقه وأخذ معه خمسة عشر رجلاً من أصحابه فشدّهم في أطبان القصب وصبَّ عليهم النفط في مسجد الكوفة وألهب فيهم النار فأفلت منهم رجل فخرج يشتد ثمّ التفت فرأى أصحابه تأخذهم النار فكرّ راجعاً فألقى نفسه في النار فاحترق معهم، وكان بيان يقول هو وأصحابه: إن الله تبارك وتعالى يقول يشبه الإنسان وهو يفنى ويهلك جميع جوارحه إلاّ وجهه وتأوّلوا في ذلك قوله الله: (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ)(437).
وزعمت البيانية أن الوصية لعبد الله بن محمّد بن الحنفية بعد غيبة أبيه وأنها وصية استخلاف على الخلق كما استخلف رسول الله على المدينة علياً وغيره عند خروجه منها في غزواته لا استخلاف بعد الموت وأنه حجة على الخلق وعلى الناس تقديمه وطاعته.
وزعموا أن أبا هاشم (عبد الله بن محمّد) لمّا قال: أنا الوصي على بني هاشم وسائر الناس، طاعتي فرض واجب أردنا قتله فلمّا رأى إنكارنا ما ادّعاه وإنكار الناس ذلك دعا ربه أن يعطيه آية. وقال: اللهم إن كان صادقاً فلتقع الزهرة في كفي فسقطت في كفه، ولقد نظرناها أنها في حقة توقد وإن مكانها من السماء فارغ ما فيه كوكب ولا دونه وذكرت هذه الفرقة أن أبا شجاع الحارثي قال له حين دخل عليه الجوسق(438) وفيه خطاطيف كثيرة وخفافيش: (إن كنت صادقاً فأتِ بآية اجعل الخفافيش كاسياً بايضاً والخطاف أصرط ولوداً) فدعا ربّه فجعلهما كذلك.
وإنه لم يزل من ذلك الخفاش والخطاطيف بقية إلى أن خرج السودان قالوا: (فاستغرب أبو شجاع ضحكاً تعجباً وسروراً فضحك لضحكه أبو هاشم ثمّ بصق في وجهه فملأ وجهه دراً منظوماً) قالوا: (وشكا إليه الخلوف وضعف الباه فتفل في لهاته ففاح منه كلطيمة العطار ونفخ في أحليله فكان يجامع في الليل مائة امرأة)(439). وقالوا: (إن أبا هاشم عبد الله بن محمّد نبي بياناً عن الله عز وجل فبيان نبي، وتأوّلوا في ذلك قول الله عز وجل: (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)(440) وادّعى (بيان) بعد وفاة أبي هاشم النبوة وكتب إلى أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين (الباقر) عليه السلام يدعوه إلى نفسه والاقرار بنبوته ويقول له: (أسلم تسلم وترتق في سلم وتنج وتغنم فإنك لا تدري أين يجعل الله النبوة والرسالة وما على الرسول إلاّ البلاغ وقد أعذر من أنذر) فأمر أبو جعفر (الباقر) عليه السلام رسول بيان فأكل قرطاسه الذي جاء به وقتل (بيان) على ذلك وصلب(441).
ومنها (أصحاب حمزة بن عمارة الزبيدي البربري):
الذي كان في بدء أمره من الكيسانية (أي الذين قالوا بإمامة محمّد بن الحنفية) ففارقهم وكان من أهل المدينة وادّعى أنه نبي وأن محمّد بن الحنفية هو الله وأن حمزة هو الإمام والنبي وأنه ينزل عليه سبع أسباب من السماء فيفتح بهن الأرض ويملكها فتبعه على ذلك أناس من أهل المدينة وأهل الكوفة ولعنه أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين (الباقر) عليه السلام وبرئ منه وكذّبه وبرأت منه الشيعة وتبعه على رأيه رجلان من نهد من أهل الكوفة يقال لأحدهما: (صائد)، والآخر: بيان بن سمعان (الذي تقدّم ذكره).
وكان حمزة بن عمارة نكح ابنته وأحلَّ جميع المحارم وقال: (من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه)، فأصحاب أبي (ابن) كرب وأصحاب حمزة وأصحاب صايد وبيان ينتظرون رجوعهم ورجوع الماضين من أسلافهم ويزعمون أن محمّد بن الحنفية يظهر نفسه بعد الاستتار عن خلقه فينزل إلى الدنيا ويكون فيها بين المؤمنين، فهذا معنى الآخرة عندهم(442).
ومنها (المغيرية):
أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي مولى بجيلة الذي خرج بظاهر الكوفة في إمارة خالد بن عبد الله القسري فظفر به وأحرقه وأحرق أصحابه سنة (119هـ) وكان يكذب على الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام وقد لعنه الإمام الصادق عليه السلام _ وهم من الفِرق التي انشعبت من الزيدية _ وقالوا بإمامة محمّد بن عبد الله بن الحسن وتولّوه وأثبتوا إمامته، فلمّا قتل صاروا لا إمام لهم ولا وصي ولا يثبتون لأحد إمامة بعده وكان المغيرة قال بهذا القول لمّا توفى الإمام الباقر عليه السلام وأظهر المقالة بذلك فبرئت منه الشيعة أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ورفضوه فزعم أنهم رافضة وأنه هو الذي سمّاهم بهذا الاسم، ونصب بعض أصحاب المغيرة المغيرةَ إماماً، ثمّ تراقى الأمر بالمغيرة إلى أن زعم أنه رسول، وأن جبرئيل يأتيه بالوحي من عند الله، وكان يدّعي أنه يحيي الموتى، وقال بالتناسخ(443).
ومنها (أصحاب بزيع بن موسى الحائك):
الذي لعنه الإمام الصادق عليه السلام قالوا: إن بزيعاً رسول مثل أبي الخطاب أرسله جعفر بن محمّد وشهد بزيع لأبي الخطاب بالرسالة وبرئ أبو الخطاب وأصحابه من بزيع(444).
ومنها (البشيرية):
أصحاب محمّد بن بشير مولى بن أسد من أهل الكوفة وهم فرقة انشقّت من الواقفة _ وهي التي وقفت على الإمام الكاظم عليه السلام بعد وفاته وقالت أنه لم يمت وأنه المهدي الموعود، وأنه قد غاب _ وقالوا: إن موسى بن جعفر عليه السلام لم يمت ولم يحبس وأنه حي غائب وأنه القائم المهدي، وأنه في وقت غيبته استخلف على الأمر محمّد بن بشير وجعله وصياً وأعطاه خاتمه وعلمه جميع ما يحتاج إليه رعيته وفوّض إليه أموره وأقامه مقام نفسه فمحمّد بن بشير الإمام بعده.
وأن محمّد بن بشير لمّا توفي أوصى إلى ابنه سميع بن محمّد بن بشير فهو الإمام، ومن أوصي إليه (سميع) فهو الإمام المفترض الطاعة على الأمّة إلى وقت خروج موسى وظهوره فما يلزم الناس من حقوقه في أموالهم وغير ذلك مما يتقرّبون به إلى الله عز وجل فالفرض عليهم أداؤه إلى هؤلاء إلى قيام القائم.
وكَفَّرُوا القائلين بإمامة الإمام الرضا عليه السلام واستحلوا دماءهم وأموالهم.
وقالوا بإباحة المحارم من الفروج والغلمان واعتلوا في ذلك بقول الله عز وجل: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً)(445) وقالوا بالتناسخ(446) وكان محمّد بن بشير صاحب شعبذة ومخاريق معروفاً بذلك وكان سبب قتله أنه يستعمل الشعبذة والمخاريق للدلالة على أنه نبي وكان يقول في موسى بالربوبية.
وكان عنده صورة قد عملها وأقامها شخصاً كأنه صورة أبي الحسن الكاظم عليه السلام في ثياب حرير وقد طلاها بالأدوية وعالجها بحيل عملها فيها حتّى صارت شبيهاً بصورة إنسان وكان يطويها فإذا أراد الشعبذة نفخ فيها فأقامها.
وكان يقول لأصحابه: إن أبا الحسن عليه السلام عندي فإن أحببتم أن تروه وتعلموا أنّي نبي فهلمّوا أعرضه عليكم، فكان يدخلهم البيت والصورة مطوية معه. فيقول لهم: هل ترون في البيت مقيماً أو ترون فيه غيري وغيركم؟ فيقولون: لا، وليس في البيت أحد، فيقول: أخرجوا، فيخرجون من البيت فيصير هو وراء الستر ويسبل بينه وبينهم.
ثمّ يقدّم تلك الصورة ثمّ يرفع الستر بينه وبينهم فينظرون إلى صورة قائمة وشخص كأنه شخص أبي الحسن لا ينكرون منه شيئاً ويقف هو منه بالقرب فيريهم من طريق الشعبذ أنه يكلّمه ويناجيه ويدنو منه كأنه يساره.
ثمّ يغمزهم أن يتنحّوا فيتنحّون ويسبل الستر بينه وبينهم فلا يرون شيئاً.
وكانت معه أشياء عجيبة من صنوف الشعبذة ما لم يروا مثلها فهلكوا بها، فكانت هذه حاله مدّة حتّى رفع خبره إلى بعض الخلفاء العبّاسيين أنه زنديق فأخذه وأراد ضرب عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين استبقني فإني أتخذ لك أشياء يرغب الملوك فيها فأطلقه. فكان أوّل ما اتخذ له الدوالي فإنه عمد إلى الدوالي فسوّاها وعلّقها وجعل الزيبق بين تلك الألواح فكانت تعمل من غير أمره وظهر عليه التعطيل والإباحات، وقد كان الصادق والكاظم عليهما السلام يدعوان الله عليه ويسألانه أن يذيقه حر الحديد، فأذاقه الله حر الحديد بعد أن عذّب أنواع العذاب(447).
ومنها (أصحاب معمر بن خيثم):
الذي لعنه الإمام الصادق عليه السلام، قالوا: إن جعفر بن محمّد هو الله عز وجل _ وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً _ وإنما هو نور يدخل في أبدان الأوصياء فيحلُّ فيها، فكان ذلك النور في جعفر ثمّ خرج منه فدخل في (أبي الخطاب) فصار (جعفر) من الملائكة ثمّ خرج من (أبي الخطاب) فدخل في (معمر) وصار أبو الخطاب من الملائكة.
فمعمر هو الله عز وجل فخرج (بان اللبان) يدعو إلى معمر وقال إنه الله عز وجل وصلّى له وصام وأحلَّ الشهوات كلّها ما حلَّ منها وما حرم وليس عنده شيء محرَّم، وقال: (لم يخلق الله هذا إلاّ لخلقه فكيف يكون محرّماً؟)، وأحلَّ الزنا والسرقة وشرب الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ونكاح الاُمّهات والبنات والأخوات ونكاح الرجال ووضع عن أصحابه غسل الجنابة، وقال: (كيف أغتسل من نطفة خلقت منها؟).
وزعم أن كل شيء أحلَّه الله في القرآن وحرَّمه فإنما هو أسماء الرجال(448).
وروى الكشي في رجاله بإسناده عن الصادق عليه السلام قال: عندما سئل عن قول الله عز وجل: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ * تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)(449)، قال: (هم سبعة: المغيرة بن سعيد، وبيان، وصائد الهندي، والحارث الشامي، وعبد الله بن الحارث، وحمزة بن عمارة البربري، وأبو الخطاب)(450).
وروي عن عنبسة بن مصعب قال: قال لي الصادق عليه السلام: (أيّ شيء سمعت من أبي الخطاب؟)، قال: سمعته يقول إنك وضعت يدك على صدرك وقلت له: عه ولا تنس!، وأنك قلت له: هو عيبة (مخزن) علمنا وموضع سرنا أمين على أحيائنا وأمواتنا. قال: (لا والله ما مسَّ شيء من جسدي جسده إلاّ يده، وأما قوله: إنّي قلت له هو عيبة علمنا وموضع سرنا أمين على أحيائنا وأمواتنا، فلا آجرني الله في أمواتي ولا بارك في أحيائي إن كنت قلت له شيئاً من هذا قط).
وروي عن علي بن عقبة عن أبيه قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام قال: فسلَّمت وجلست. فقال لي: (كان في مجلسك هذا أبو الخطاب ومعه سبعون رجلاً كلّهم إليه ينالهم منهم شيء رحمتهم، فقلت لهم: ألا أخبركم بفضائل المسلم؟ فلا أحسب أصغرهم إلاّ قال: بلى جُعلت فداك. قلت: من فضائل المسلم أن يقال: فلان قارئ لكتاب الله عز وجل، وفلان ذو حظٍ من ورع، وفلان يجتهد في عبادته لربه، فهذه فضائل المسلم، ما لكم وللرياسات؟ إنما المسلمون رأس واحد، إيّاكم والرجال فإن الرجال للرجال مهلكة.
فإنّي سمعت أبي يقول: إن شيطاناً يقال له: المذهب يأتي في كل صورة إلاّ أنه لا يأتي في صورة نبي ولا وصي ولا وصي نبي ولا أحسبه إلاّ وقد تراءى لصاحبكم فاحذروه، فبلغني أنهم قتلوا معه فأبعدهم الله وأسحقهم إنه لا يهلك على الله إلاّ هالك).
وروى عن عبد الله بن بكير الرجاني قال: ذكرت أبا الخطاب ومقتله عند أبي عبد الله عليه السلام قال: فرققت عند ذلك فبكيت، فقال: (أتأسى عليهم؟)، فقلت: لا، وقد سمعتك تذكر أن علياً قتل أصحاب النهر فأصبح أصحاب علي عليه السلام يبكون عليهم فقال علي عليه السلام لهم: (أتأسون عليهم؟)، قالوا: لا، إلاّ أنا ذكرنا الألفة التي كنّا عليها والبلية التي أوقعتهم فلذلك رققنا عليهم، قال: (لا بأس).
وروي عن الكاظم عليه السلام أنه قال: (إن أبا الخطاب أفسد أهل الكوفة فصاروا لا يصلّون المغرب حتّى يغيب الشفق ولم يكن ذلك إنما ذاك للمسافر وصاحب العلّة).
وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: (أما أبو الخطاب فكذب علي وقال إني أمرته أن لا يصلي هو وأصحابه المغرب حتّى يروا كوكب كذا يقال له: القنداني والله إن ذلك الكوكب ما أعرفه)(451).
وروي عن المفضل قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (اتق السفلة واحذر السفلة فإني نهيت أبا الخطاب فلم يقبل منّي).
وروى عيسى عنه عليه السلام: (إيّاك ومخالطة السفلة فإن السفلة لا تؤل إلى خير).
وروى عمران بن علي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (لعن الله أبا الخطاب، ولعن من قتل معه ولعن من بقي منهم، ولعن الله من دخل قلبه رحمة لهم).
وروي عن الكاظم عليه السلام أنه قال عندما سئل عن أبي الخطاب: (إن الله خلق الأنبياء على النبوة فلا يكونون إلاّ أنبياء وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلاّ مؤمنين واستودع قوماً إيماناً فإن شاء أتمّه لهم وإن شاء سلبهم إيّاه، وإن أبا الخطاب كان ممن أعاره الله الإيمان، فلمّا كذب على أبي سلبه الله الإيمان).
وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال للمفضل بن مزيد عندما ذكر أصحاب أبي الخطاب والغلاة قال له: (يا مفضل لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ولا تشاربوهم ولا تصافحوهم ولا تؤاثروهم).
وقال عند ذكره الغلاة(452): أن فيهم من يكذب حتّى أن الشيطان ليحتاج إلى كذبه.
وقال للغالية: (توبوا إلى الله فإنكم فسّاق كفّار مشركون).
وعن أبي بصير قال: قال لي الصادق عليه السلام: (يا أبا محمّد (كنية أبي بصير) إبرأ ممن يزعم أنّا أرباب). قلت: برئ الله منه، قال: (ابرأ ممن يزعم أننا أنبياء)، قلت: برئ الله منه.
وقال عليه السلام: (إن ممن ينتحل هذا الأمر لمن هو شر من اليهود والنصارى والمجوس الذين أشركوا) والمعنى أن بعض من يدّعي التشيع لهو شر من أولئك، وذلك بسبب الانحراف والضلال الذي يبتدعه من تلقاء نفسه، ويقال: انتحل الشيء وتنحّله ادّعاه لنفسه وهو لغيره. ويقال: فلان ينتحل مذهب كذا إذا انتسب إليه.
وروي عن عنبسة قال: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: (لقد أمسينا وما أحد أعدى لنا ممن ينتحل مودّتنا).
وروى الكشي أيضاً عن المفضل بن عرم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (لو قام قائمنا بدأ بكذّابي الشيعة فقتلهم).
وقال الكاظم عليه السلام: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: (ما أنزل الله سبحانه آية في المنافقين إلاّ وهي فيمن ينتحل التشيع).
وروي عن الصادق عليه السلام قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السلام عليك يا ربي! فقال: ما لك لعنك الله، ربي وربك الله، أما والله لكنت ما علمت لجباناً في الحرب لئيماً في السلم).
وروي عن مصادف قال: لمّا أتى القوم الذين أتوا بالكوفة (أي الخطابية والغلاة) دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فأخبرته بذلك: فخرَّ ساجداً وألزق جؤجؤه (الصدر أو مجتمع رؤوس عظام الصدر) بالأرض، وبكى، وأقبل يلوذ بإصبعه ويقول: (بل عبداً لله قن داخر) مراراً كثيرة ثمّ رفع رأسه ودموعه تسيل على لحيته فندمت على إخباري إيّاه، فقلت: جُعلت فداك وما عليك أنت من ذا (أي ما يقول الغلاة)؟ فقال: (يا مصادف إن عيسى عليه السلام لو سكت عمّا قالت النصارى فيه لكان حقّاً على الله أن يصمَّ سمعه ويعمي بصره، ولو سكتُّ عمّا قال فيَّ أبو الخطاب لكان حقاً على الله أن يصمَّ سمعي ويعمي بصري).
ولذا قال عليه السلام عندما ذكر أبا الخطاب: (اللهم العن أبا الخطاب فإنه خوّفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي اللهم أذقه حرَّ الحديد).
وقال عليه السلام: (تراءى والله إبليس لأبي الخطاب على سور المدينة أو المسجد فكأني أنظر إليه وهو يقول له: إيهاً تظفر الآن إيهاً تظفر الآن(453)).
وروي عن حفص بن عمرو النخعي قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله عليه السلام فقال رجل: جُعلت فداك إن أبا منصور حدّثني أنه رفع إلى ربه وتمسح على رأسه وقال له بالفارسية: يا پسر (يا بني). فقال له أبو عبد الله الصادق عليه السلام: (حدّثني أبي، عن جدّي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن إبليس اتخذ عرشاً فيما بين السماء والأرض واتخذ زبانية كعدد الملائكة، فإذا دعا رجلاً فأجابه ووطئ عقبه وتخطت إليه الأقدام (كناية عن الرئاسة للرجال)، تراءى له إبليس ورفع إليه، وأن أبا منصور كان رسول إبليس، لعن الله أبا منصور ولعن الله أبا منصور ثلاثاً).
وروي عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: (إن بناناً والسري وبزيعاً (لعنهم الله) تراءى لهم الشيطان في أحسن ما يكون صورة آدمي من قرنه إلى سرته). قال: فقلت: إن بناناً يتأوّل هذه الآية: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الأَْرْضِ إِلهٌ)(454)، إن الذي في الأرض غير إله السماء وإله السماء غير إله الأرض، وأن إله السماء أعظم من إله الأرض وأن أهل الأرض يعرفون فضل إله السماء ويعظّمونه. فقال: (والله ما هو إلاّ الله، ما هو إلاّ الله وحده لا شريك له، إله من في السماوات وإله من في الأرضين).
قال: (هو الإمام، فقال أبو عبد الله عليه السلام: (لا والله لا يأويني سقف بيت أبداً هم شر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا والله ما صغر عظمة الله تصغيرهم شيء قط أن عزيراً جال في صدره ما قالت فيه اليهود فمحا الله اسمه من النبوة، والله لو أن عيسى أقرَّ بما قالت النصارى لأورثه الله صمماً إلى يوم القيامة، والله لو أقررت بما يقول فيَّ أهل الكوفة لأخذتني الأرض وما أنا إلاّ عبد مملوك لا أقدر على شيء ضر ولا نفع)(455) كذب بنان عليه لعنة الله، لقد صغَّر الله جلَّ وعزَّ وصغَّر عظمته).
وروى الكشي عن ابن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: (إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه عند الناس.
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصدق البرية وكان مسيلمة يكذب عليه.
وكان أمير المؤمنين عليه السلام أصدق من برأ الله من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه بما يفتري عليه من الكذب عبد الله بن سبأ (لعنه الله).
وكان أبو عبد الله الحسين بن علي عليه السلام قد ابتلى بالمختار). ثمّ ذكر أبو عبد الله الحارث الشامي وبنان فقال: (كانا يكذبان على علي بن الحسين عليه السلام)، ثمّ ذكر المغيرة بن سعيد وبزيعاً والسري وأبا الخطاب ومعمراً وبشراً الأشعري وحمزة الزبيدي وصائد الهندي فقال: (لعنهم الله، إنّا لا نخلو من كذّاب يكذب علينا أو عاجز الرأي، كفانا الله مؤنة كل كذّاب وأذاقهم الله حرَّ الحديد).
وعن زرارة عن الباقر عليه السلام قال: سمعته يقول: (لعن الله بنان البيان، وأن بناناً (لعنه الله) كان يكذب على أبي أشهد أن أبي علي بن الحسين كان عبداً صالحاً).
وعن الصادق عليه السلام قال: (لعن الله المغيرة بن سعيد أنه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حرَّ الحديد، لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا).
وعن أبي يحيى الواسطي قال: قال أبو الحسن الرضا عليه السلام: (كان بنان يكذب على علي بن الحسين عليه السلام فأذاقه الله حرَّ الحديد، وكان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر عليه السلام فأذاقه الله حرَّ الحديد، وكان محمّد بن بشير يكذب على أبي الحسن موسى عليه السلام فأذاقه الله حرَّ الحديد، وكان أبو الخطاب يكذب على أبي عبد الله عليه السلام فأذاقه الله حرَّ الحديد، والذي يكذب عليَّ محمّد بن فرات).
وقال أبو يحيى: وكان محمّد بن فرات من الكتّاب (أي الذين يعملون في ديوان العبّاسيين) فقتله إبراهيم بن شكله).
وروي عن ابن أبي يعفور قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال: (ما فعل بزيع؟)، فقلت له: قتل. فقال: (الحمد لله، أما أنه ليس لهؤلاء المغيرية شيء خيراً من القتل، لأنهم لا يتوبون أبداً).
وعن سدير الصيرفي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن قوماً يزعمون أنكم آلهة يتلون علينا بذلك قرآناً: (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(456)، قال: (يا سدير سمعي وبصري وشعري ولحمي ودمي من هؤلاء براء برء الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ودين آبائي والله لا يجمعني وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو عليهم ساخط). قال: قلت: فما أنتم جُعلت فداك؟
قال: (خُزّان علم الله، وتراجمة وحي الله، ونحن قوم معصومون أمر الله بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض).
وعن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (إيّاك والسفلة إنما شيعة جعفر من عفَّ بطنه وفرجه واشتد جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه).
وعن ابن المغيرة قال: كنت عند أبي الحسن الكاظم عليه السلام أنا ويحيى بن عبد الله بن الحسن فقال يحيى: جُعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب؟ فقال: (سبحان الله سبحان الله، ضع يدك على رأسي، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلاّ قامت)، قال: ثمّ قال: (لا والله ما هي إلاّ وراثة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
وعن الصادق عليه السلام سئل عن الناسخ؟ قال: (فمن نسخ الأوّل؟).
أقول: شرح الحديث المحقق الفيلسوف الميرداماد قدس سره قال:
(قوله عليه السلام: (فمن نسخ الأوّل؟) أشار إلى برهان إبطال التناسخ على القوانين الحكمية والأصول البرهانية، تقريره: أن القول بالتناسخ إنما يستتب لو قيل بأزلية النفس المدبرة للأجساد المختلفة المتعاقب على التناقل والتناسخ وبلا تناهي تلك الأجساد المتناسخة بالعدد في جهة الأزل، كما هو المشهور من مذهب الذاهبين إليه.
والبراهين الناهضة على استحالة اللانهاية العددية بالفعل مع تحقيق الترتب والاجتماع في الوجود (أي البراهين القائمة على إبطال التسلسل وامتداد الأشياء المعدودة التي بينها رابطة العلّية والمعلولية) قائمة هناك بالقسط (أي قائمة بعينها) بحسب متن الواقع المعبر عنه بوعاء الزمان، أعني الدهر وإن لم يتصحح إلاّ الحصول التعاقبي بحسب ظرف السيلان والتدريج والفوت واللحوق أعني الزمان.
فإذن لا محيص لسلسلة الأجساد المترتبة من مبدأ متعيّن هو الجسد الأوّل في جهة الأزل يستحق باستعداده المزاجي أن يتعلق به نفس مجردة تعلق التدبير والتصرف فيكون ذلك مناط حدوث فيضانها عن جود المفيض الفياض الحق جل سلطانه، وإذا انكشف ذلك فقد انصرح أن كل جسد هيولاني بخصوصية مزاجه الجسماني واستحقاقه الاستعدادي يكون مستحقاً لجوهر مجرد بخصوصه يدبّره ويتعلّق به ويتصرّف فيه ويتسلطن عليه فليتثبت).
أقول: حاصل كلامه أن بعد قيام الأدلّة البرهانية على إبطال امتداد الأمور المتسلسلة التي بينها علّية وسببية ومعلومية ومسببية فلا محالة هناك بداية وجسد أوّل كانت له قابلية وخصوصية يتأهّل بها لإفاضة الروح والنفس وخلقها متعلقة به من الله جلَّ وعلا، وإذا كان هذا حال الجسد الأوّل فهذه القابلية هي بعينها موجودة في الأجساد كلّها فتكون كلٌّ منها متأهّلة لإفاضة وخلق نفس بعدد تلك الأجساد.
وبذلك(457) تبطل نظرية التناسخ القائلة بأن أرواح الأموات تحلُّ في الأجساد الحيّة الموجودة من الأطفال أو الكبار أو الحيوانات على تفاصيل كثيرة للقائلين بهذه النظرية الباطلة، فقوله عليه السلام نقض لتلك النظرية وبرهان أيضاً على إبطالها.
وعن الصادق عليه السلام أنه قيل له: روي عنكم أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال؟ فقال: (ما كان الله عز وجل ليخاطب خلقه بما لا يعلمون)(458)، والمعنى أن رواية ذلك عن الأئمّة عليهم السلام إنما هي من وضع الكذّابين عليهم.
ومن الغلاة في وقت أبي محمّد العسكري عليه السلام علي بن مسعود حسكة الحوار وتلميذه القاسم بن يقطين الشعراني القميان، وقد روى الكشي عن سهل بن زياد الآدمي، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي العسكري عليه السلام:
جُعلت فداك يا سيدي إن علي بن حسكة يدّعي أنه من أوليائك وأنك أنت الأوّل القديم، وأنه بابك ونبيك أمرته أن يدعو إلى ذلك ويزعم أن الصلاة والزكاة والحج والصوم كل ذلك معرفتك ومعرفة من كان في مثل حال ابن حسكة فيما يدّعي من البابية والنبوة فهو مؤمن كامل سقط عنه الاستعباد بالصلاة والصوم والحج وذكر جميع شرائع الدين أن معنى ذلك كلّه ما ثبت لك ومال الناس إليه كثيراً فإن رأيت أن تمنَّ على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة.
قال: فكتب عليه السلام: (كذب ابن حسكة (عليه لعنة الله) وبحسبك أنّي لا أعرفه في موالي، ما له (لعنه الله) فوالله ما بعث محمّداً والأنبياء قبله إلاّ بالحنيفية والصلاة والزكاة والصيام والحج والولاية، وما دعا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ إلى الله وحده لا شريك له وكذلك نحن الأوصياء من ولده عبيد الله لا نشرك به شيئاً، إن أطعناه رحمنا وإن عصيناه عذبنا، ما لنا على الله من حجة بل الحجة لله عز وجل علينا وعلى جميع خلقه، أبرأ إلى الله ممن يقول ذلك وانتفى إلى الله من هذا القول، فاهجروهم (لعنهم الله) والجؤوهم إلى ضيق الطريق فإن وجدت من أحد منهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخر)(459).
ومن هذا القبيل الفهري والحسن بن محمّد بن بايا(460) وفارس بن حاتم القزويني وقد لعنهما الهادي عليه السلام.
فروى الكشي عن سعد بن عبد الله قال: حدّثني العبيدي (محمّد بن عيسى) قال: كتب إليَّ العسكري ابتداءً منه: (أبرأ إلى الله من الفهري والحسن بن محمّد بن بابا القمي، فابرأ منهما فإني محذّرك وجميع مواليَّ وأنّي ألعنهما (عليهما لعنة الله)، مستأكلين يأكلان بنا الناس، فتّانين مؤذيين آذاهما الله وأركسهما في الفتنة ركساً. يزعم ابن بابا أنّي بعثته نبياً وأنه باب عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه فلعن الله من قبل منه ذلك، يا محمّد إن قدرت أن تشدخ رأسه بالحجر فافعل فإنه قد آذاني آذاه الله في الدنيا والآخرة).
وروى عن محمّد بن عيسى قال: قرأنا في كتاب الدهقان وخط الرجل في (القزويني) وكان كتب إليه الدهقان يخبره باضطراب الناس في هذا الأمر وأن الموادعين قد أمسكوا عن بعض ما كانوا فيه لهذه العلّة من الاختلاف فكتب عليه السلام: (كذّبوه وهتّكوه أبعده الله وأخزاه فهو كاذب في جميع ما يدّعي ويصف، ولكن صونوا أنفسكم عن الخوض والكلام في ذلك وتوقوا مشاورته ولا تجعلوا له السبيل إلى طلب الشر كفى الله مؤنته ومؤنة من كان مثله).
وروى عن أبي محمّد الرازي أنه ورد منه عليه السلام كتاب فيه: (وأن تجتنبوا القزويني أن تدخلوه في شيء من أموركم فإنه قد بلغني ما يموّه به عند الناس فلا تلتفتوا إليه إن شاء الله).
ومن هذا القبيل أبو السمهري وابن أبي الزرقاء فقد روى الكشي عن إسحاق الأنباري قال: قال لي أبو جعفر الثاني عليه السلام: (ما فعل أبو السمهري (لعنه الله) يكذب علينا، ويزعم أنه وابن أبي الزرقاء دعاة إلينا، أشهدكم إني أتبرأ إلى الله عز وجل منهما إنهما فتّانان ملعونان...) الحديث.
وأما المغيرة بن سعيد العجلي الذي كان يكذب على الباقر عليه السلام وقد تقدّم شطر من حاله فقد روى الكشي في ترجمته عن الصادق عليه السلام أنه قال يوماً لأصحابه: (لعن الله المغيرة بن سعيد ولعن يهودية كان يختلف إليها (أي يتردد بالمجيء والذهاب إليها) يتعلّم منها السحر والشعبذة والمخاريق.
إن المغيرة كذب على أبي عليه السلام فسلبه الله الإيمان وأن قوماً كذبوا علي ما لهم أذاقهم الله حرَّ الحديد، فوالله ما نحن إلاّ عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضر ولا نفع، وإن رحمنا فبرحمته وإن عذبنا فبذنوبنا والله ما لنا على الله من حجة ولا معنا من الله برائة، وإنا لميّتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسئولون.
ويلهم ما لهم لعنهم الله فلقد آذوا الله وآذوا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في قبره وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي (صلوات الله عليهم) وها أنا ذا بين أظهركم لحم رسول الله وجلد رسول الله، أبيت على فراشي خائفاً وجلاً مرعوباً، يأمنون وأفزع وينامون على فراشهم وأنا خائف ساهر وجل أتقلقل بين الجبال والبراري أبرأ إلى الله مما قال فيَّ الأجدع البراد عبد بني أسد أبو الخطاب (لعنه الله).
والله لو ابتلوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجب ألاّ يقبلوه فكيف وهم يروني خائفاً وجلاً، أستعدي الله عليهم وأتبرأ إلى الله منهم. أشهدكم أنّي امرؤ ولدني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما معي براءة من الله، وإن أطعته رحمني وإن عصيته عذّبني عذاباً شديداً أو أشدّ عذابه).
وروى عن سليمان الكناني قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: (هل تدري ما مثل المغيرة؟)، قال: قلت: لا، قال: (مثله مثل بلعم). قلت: ومن بعلم؟ قال: (الذي قال الله عز وجل: (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ)(461)).
وروى الكشي عن محمّد بن قولويه القمي (الشيخ الجليل ووالد أستاذ المفيد)، قال: حدّثني سعد بن عبد الله (أحد أعلام وشيوخ الطائفة مرَّ ذكره)، قال: حدّثني محمّد بن عيسى (العبيدي اليقطيني الثقة الجليل)، عن يونس (بن عبد الرحمن من أصحاب الرضا وثقاته)، قال: سمعت رجلاً من الطيارة (الغلاة) يحدّث أبا الحسن الرضا عليه السلام عن يونس بن ظبيان أنه قال: كنت في بعض الليالي وأنا في الطواف فإذا نداء من فوق رأسي: يا يونس إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري، فرفعت رأسي فإذا ج (كناية عن جبرئيل عليه السلام).
فغضب أبو الحسن الرضا عليه السلام غضباً لم يملك نفسه ثمّ قال للرجل: (اُخرج عنّي لعنك الله ولعن من حدّثك ولعن يونس بن ظبيان ألف لعنة يتبعها ألف لعنة، كل لعنة منها تبلغك قعر جهنم، أشهد ما ناداه إلاّ شيطان أما أن يونس مع أبي الخطاب في أشدّ العذاب مقرونان، وأصحابهما إلى ذلك الشيطان مع فرعون وآل فرعون في أشدّ العذاب، سمعت ذلك من أبي عليه السلام).
قال يونس (بن عبد الرحمن): فقام الرجل من عنده، فما بلغ الباب إلاّ عشر خطاً حتّى صرع مغشياً عليه وقد قاء رجيعه وحمل ميّتاً. فقال أبو الحسن عليه السلام: (أتاه ملك بيده عمود فضرب على هامته ضربة قلب فيها مثانته حتّى قاء رجيعه وعجّل الله بروحه إلى الهاوية وألحقه بصاحبه الذي حدّثه بيونس بن ظبيان ورأى الشيطان الذي كان يتراءى له).
وفي ختام هذا الفصل نذكر ما رواه الكليني في باب البدع والمقاييس(462) بإسناده عن الصادق عليه السلام أنه قال: (إن من أبغض الخلق إلى الله عز وجل لرجلين:
رجل وكّله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدى من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته حمّال خطايا غيره رهن بخطيئه.
ورجل قمش جهلاً في جهال الناس، عان بأغباش الفتنة قد سمّاه أشباه الناس عالماً ولم يغن فيه يوماً سالماً، بكر فاستكثر ما قلَّ منه خير مما كثر حتّى إذا ارتوى من آجن واكتنز من غير طائل.
جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره وإن خالف قاضياً سبقه، لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان قبله وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيّأ لها حشواً من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ لا يحسب العلم في شيء مما أنكره ولا يرى أن وراء ما بلغ فيه مذهباً، إن قاس شيئاً بشيء لم يكذب نظره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له: لا يعلم.
ثمّ جسر فقضى فهو مفتاح عشوات ركاب شبهات خبّاط جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء، يستحل بقضائه الفرج الحرام، ويحرم بقضائه الفرج الحلال، لا ملئ بإصدار ما عليه ورد، ولا هو أهل لما منه فرط من ادّعائه علم الحق).
ولنعم ما قال بعض الأجلّة: (أن تلك الفرق كانت تتراوح بين شكوك وأوهام عرت بعض البسطاء وانقرضت بموتهم ومطامع وشهوات، صبّت إليها آحاد استهوتهم النهمة والشرة لاختلاس مال أو حيازة جاه وهؤلاء بين من ثوّب إلى الحق بعد الحصول على غايته أو يأسه منها أو توقفه للتوبة، ومن قطع معرته حمامه.
واُناس ديف إليهم السم في العسل من قبل السياسات الوقتية روماً لتشتيت كلمة الإمامية ومحق روعتهم، فاستخفهم الجهل بالغايات مع ما جبل به الإنسان من حب الفخفخة، فقاموا بدعايات باطلة واستحوذوا على نفوس خائرة القوى، لكن سرعان ما قلب عليهم الدهر ظهر المجن لما تمكنت الساسة من الحصول على ضالتهم المنشودة، ولم يبقَ لهم في القوم فاُخذوا وقتلوا تقتيلاً وكانت هناك مجزرة بدعهم وأهوائهم.
إلى غير هذه من غايات وأغراض وقتية أسفت بالنفوس الضئيلة إلى هوّة المذلّة واللعنة ولم يعد في الأكثر أن يكون المعتنقون لها أفراداً من ساقة الناس أو عشرات الذنابي أو لمة ممن لم يقم المجتمع الديني والبشري له وزناً وعم الجميع أن طوتهم مع عيثهم الأيام وطحنهم بكلكلة الجديدان فعادوا كحديث أمس الدابر).

* * *
الفصل الرابع: في تاريخ البابية في إيران

فقد ادّعى السيد علي محمّد بن السيد رضا الشيرازي المتولد سنة (1235هـ)، في مدينة شيراز البابية والوساطة بين الإمام الحجة الغائب عليه السلام والناس، ثمّ ترفّع وادّعى أنه المهدي المنتظر، ثمّ ادّعى النبوة، ثمّ الألوهية. وهي سُنّة من تقدّمه في دعوى البابية حيث ترفّع بهم الأمر إلى الألوهية.
وكان قد توفي عنه والده وهو في السنة الأولى من عمره فاهتمَّ به خاله الذي كان يدير تجارة متوسطة الحال وأرسله إلى المكتب _ وهو الموضع الذي يتعلّم فيه القراءة والكتابة في تلك السنين وهو بمثابة المدرسة في اليوم الحاضر _ وكان الذي يشرف عليه الشيخ عابد وكان من الجماعة الشيخية التي تهتمُّ بكثرة بالعلوم الغريبة(463) والرياضات النفسية المتنوعة ومسائل علم العرفان، ولم يكن الباب الشيرازي يميل إلى التعلّم، ولكن تحت وطأة خاله واصل الحضور لدى ذلك الشيخ.
وبعد عدّة سنين اصطحبه خاله إلى مدينة بوشهر وأوكل إليه بعض الأعمال التجارية.
وكان مع ذلك يزاول الرياضات النفسية الشاقّة، حيث كان يصعد يومياً إلى سطح المنزل الذي قطنه في بوشهر المعروفة بشدّة الحرارة في الصيف _ لكونها من المناطق الحارة وقد تصل درجة حرارتها إلى ما يقرب من خمسين درجة فوق الصفر في شهر تموز _ عدّة ساعات من الظهيرة يزاول الصلاة والأذكار(464)، بل قيل: كان ذلك طوال النهار واقفاً مكشوف الرأس.
وقد سبب ذلك إلى نوع من الاختلال وفقد التوازن العصبي لديه مما حدا بخاله إلى التفكير بجد في معالجة هذه الحالة فلاح له إرسال ابن أخته في سفر إلى العراق لعلَّ تغيير الهواء يورثه سلامة المزاج وبإصرار شديد استجاب الباب الشيرازي لذلك وسافر إلى كربلاء وهناك حضر بتداوم درس السيد كاظم الرشتي الذي كان زعيم جماعة الشيخية حينذاك.
ولم يقطع الباب رياضاته الشاقة مدّة إقامته هناك ويحكي الميرزا التنكابني في كتاب (القصص)(465) أنه كان يحلق لحيته آنذاك وربما نتفها بالمقراض (الملقط).
ومكث على ذلك ما يقرب من أربع سنين ثمّ رجع إلى شيراز وكان يعتقد أن أستاذه باب الله المقدّم كما يعبّر بذلك الباب في كتبه.
وما أن توفي أستاذه أخذ تلاميذه في البحث عن من يقوم مقامه ومن يكون الركن الرابع وهذا العنوان يعني لديهم الأصل الرابع في أصول الدين التي جعلوا أوّلها التوحيد وثانيها النبوة وثالثها الإمامة ورابعها النائب الخاص الذي يجب توليه والتبرؤ من أعدائه، وكان التنافس يدور بين عدّة منهم مثل ميرزا حسن جوهر وميرزا محيط كرماني وحاج محمّد كريم دخان وملا محمّد مامقاني.
ولكن السيد الباب أخذ في التطلّع إلى ذلك المقام وبدأ في دعوة تلاميذ أستاذه إلى نفسه وسارع إلى الإعلان بأنه باب الحجة الغائب. وعلى أثر ذلك نشب بينه وبين تلك العدّة المذكورة سابقاً صراع احتدَّ شيئاً فشيئاً، وحاولت تلك العدّة ابتداءً أن تثني الباب عن ادّعائه ولكنّه قابلهم بل حاول أن يجذبهم إلى بابيته إلى أن آل الأمر إلى تبريتهم منه.
وواصل الباب الشيرازي في دعوة البسطاء والسذّج من الناس إلى بابيته وكان يظهر إليهم جانباً كبيراً من الزهد والتقشف والرياضات النفسية مما يجذب قلوب الكثير من تلك النماذج نحوه. وكان إذا اطمئن بانجذاب شخص إليه يقول له: (فادخلوا البيوت من أبوابها)، وغالباً ما يقرأ الحديث المشهور: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(466)، ويكنّى بذلك مع إضافة شيء من التلويح إلى أن لكل شيء باب وواسطة وأنه هو الواسطة الكبرى وهو الباب.
كما وبدء في تفسير سورة يوسف بمنهج تأويلي من الخيالات والأوهام المركّبة اصطلح عليها بالتأويل الباطن للسورة والتي لا تنضبط مع أيّ ميزان من قواعد اللغة العربية أو القواعد العقلية المنطقية ولا تتفق بوجه مع مسلّمات الدين الحنيف.
ثمّ إنه نجح في اكتساب ثمانية عشرة من تلامذة أستاذه وجعلهم دعاة ومبلغين لبابيته وكانت منهم امرأة تدعى زرين تاج وسمّوها (قرّة العين) وكان لها النصيب الأوفر في نشر البابية في إيران بسبب جمالها وبيانها الرائق وإنشادها للشعر المطرب وبتوسطها انتهجت الفرقة البابية في إيران إباحة المحرّمات من الزنا والخمر والربا.
ثمّ إنه ترفّع في ادّعائه من الباب إلى أنه المهدي الموعود وأخذ أصحابه في نشر ذلك وحبك مسرحية الظهور وعلاماته.
فبدأوا بإشاعة أن الباب الشيرازي قد سافر إلى مكّة وأنه من هناك يعلن عن ظهوره وسافر أحدهم إلى خراسان وهو ملا بشرويه الذي كان أحد الدهاة في هذه الفرقة(467) ومن ورائه السكرتير في السفارة الروسية في طهران (كينيازدالكوركي)(468) الذي تظاهر بالإسلام وتزوّج من امرأة مسلمة ولبس زيّ رجال الدين والذي كان يتابع بدقّة حالات الميرزا علي محمّد الشيرازي (الباب) ويخطط لبرامجه حيث كانت الدولة الروسية تتطلع آنذاك إلى حدوث الفتن والضوضاء في إيران كي ما يسهل عليها احتلال المناطق التي هي مطمع لها إذ لم تتوفق في أخذ كل تلك المناطق من خلال الحرب التي خاضتها مع الدولة القاجارية في إيران حين ذاك، ولذا كانت السفارة الروسية وبعض السفارات الأجنبية الأخرى كالسفارة البريطانية في تمام الأشواط مساندة لتلك الفرقة البابية ومحامية عن زعمائها الذين توالوا زعامة البابية كما سيأتي ذكر ذلك.
وسبب سفر ملاّ بشرويه إلى خراسان هو تطبيق أحد علامات الظهور وهي خروج الخراساني ويكون (بشرويه) حينئذٍ هو الخراساني.
وكان بدء دعوتهم في مدينة شيراز ثمّ إلى أصفهان وثمّ باقي المدن الإيرانية وممن دعوه إلى فرقتهم في شيراز الشيخ أبو تراب رضي الله عنه الذي كان صدر فقهاء شيراز في ذلك الوقت.
وما أن سمع بذلك منهم ثارت ثائرته واشتعل هيجانه لما عرف من مدى البلية والطامة التي حلَّت عن قرب، فدعا الشيخ أبو تراب علماء وفقهاء المدينة إلى الاجتماع، ليطلعهم بالفتنة التي كشفت عن رأسها.
وتمَّ الاجتماع وحصل الاتفاق على رفع التوصية إلى والي المنطقة حسين خان نظام الدولة التبريزي الذي كان ماضي العزم ذي حنكة وتدبير، وهو بدوره أيضاً أقام مجلساً جمع فيه العلماء ودعاة الباب فاستنطقهم وأجابوا حينها بكل صراحةٍ وجرأة أنهم يدعون إلى الباب، وأبرزوا للملأ الحاضر في المجلس كتاباً للباب الشيرازي التي زعم أنها وحي سماوي، فحينها ضجَّ المجلس وارتفعت الأصوات وأفتى العلماء على أثر ذلك بكفرهم ووجوب قتلهم، ولم يتباطأ الوالي في تنفيذ الحكم عليهم. وأرسل شرحاً مفصّلاً للقضية إلى الحكومة في طهران.
وكان الباب الشيرازي حينها في بوشهر، فاستدعاه الوالي إلى الحضور في شيراز برفقة من الحرس. وأمهله عدّة أيام بعد وصوله حتّى يسكن روعه ويهدأ خوفه.
وكان الباب الشيرازي في مدّة إقامته في بوشهر قد كتب عدّة من المؤلفات منها كتاب (البيان)، زاعماً أنه المراد من قوله تعالى: (الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِْنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(469).
وأن كتابه البيان ناسخ للقرآن _ والعياذ بالله _ وأن ما فيه هو الشريعة الناسخة الجديدة، وتعمّد فيه إلى اقتباس النصوص القرآنية مع التغيير بما تشهّاه من الأحكام والبدع والضلالات التي سيأتي ذكرها والمضحك المبكي أنه مملوء بالأغلاط النحوية والصرفية وغيرها من قواعد علوم الأدب العربي.
وهذا الأسلوب الاقتباسي مارسه بكثرة زعماء الفرقة البابية سواء مع النصوص القرآنية أو مع الأحاديث النبوية والمروية عن الأئمّة عليهم السلام.
ثمّ إن الوالي أحضر الباب ليلاً لديه، وأظهر له عذره في قتل أعوانه وأنه كان مخطئاً في ذلك _ وكل هذه المسرحية التي قام بها الوالي استدراج لأخذ الإقرار من الباب على دعاويه _ وأخبره بأن هذا التحوّل المفاجئ بسبب رؤية رآها في المنام وكأن الباب قد أتاه وأمسك على رجله اليمنى فاستوى جالساً وأخذ الباب يخاطبه بأن نور الإيمان يسطع من جبهتك وبعد ذلك انتبه من النوم.
وما أن سمع الباب ذلك من الوالي _ الذي تمثّل بنحو من الارتعاد الجسمي والدموع المفتعلة _ قال: هنيئاً لك يا أمير، إن الذي رأيته لم يكن مناماً بل يقظة، وأنّي أتيتك في موضع نومك وخاطبتك بذلك، وذلك لمعرفتي بسلامة فطنتك وصفاء شعورك.
وقام الوالي بتقبيل يد الباب والتذلل أمامه، وقال له: (إن كل ما أملك من عدّة وعتاد هو قيد أمرك ورهن إشارتك، وما أنا إلاّ ظل يتبعك). فقال له الباب: (هنيئاً لك لاتّباعك الحق، فقد وصلت إلى مقام كريم وموهبة عظيمة، وإنّي أعدك بولاية ممالك الروم في المستقبل).
وأخذ الوالي في إظهار السرور والقشعريرة وقال: (يا سيدي إنّي أتبعك لا لمطمع دنيوي من مال أو جاه وعزّة، بل للجهاد بين يديك لألتحق بالشهداء الصالحين).
ثمّ إن الوالي بعدما اطمئن إلى وثوق الباب الشيرازي به قرَّر مع العلماء والفقهاء عقد مجلس يحضر الباب فيه ويتمُّ المسرحية كي يستخرج من الباب بلسانه أمام الملأ دعاويه، ومن جانب آخر قال للباب: (يا سيدي إنّي قد أعددت مجلساً يحضره علماء المدينة وتحضره أنت كي تدعوهم إلى الإيمان بك وبما تدعو إليه، ومن لا يستجيب منهم لذلك أضرب عنقه بالسيف)، فاستطار الباب لذلك فرحاً.
واستعدَّ لذلك المجلس وذهب برفقة أحد أعوانه السيد يحيى بن السيد جعفر الدارابي المعروف بالكشفي الذي كان من كبار الفرقة البابية ووالده كان من أعاظم علماء عصره ذي المؤلفات المهمّة.
فابتدأ الباب بالخطاب في المجلس الحافل:
(يا علماء، ألم يئن لكم أن تتحرّروا من الهوى وتتّبعوا الهداية وتتركوا الضلالة، فاسمعوا قولي وأطيعوا أمري، إن نبيكم لم يترك لكم غير القرآن، وهذا كتابي (البيان) فتعالوا واقرأوه واتلوه لتعلموا أنه أفصح من القرآن وأحكامه ناسخة للقرآن، فاستمعوا لي واقبلوا نصيحتي ما دام السيف في الغماد وقبل أن تقطع الرؤوس، واحفظوا دماءكم وأموالكم وأطفالكم، فأطيعوا أمري وعوا كلامي فهذه نصيحتي لكم).
هذا والعلماء منصتون لا يحرّكون ساكناً ولا ينطقون ببنت شفّة كما متّفق عليه مسبقاً.
ثمّ قام الوالي أمام الباب والتمس منه أن يكتب دعاويه على ورقة ليعرضها بيّنة وبرهان على أهل المجلس لتتم الحجة. فكتب الباب عدّة أسطر بأسلوب الدعاء ونهج المناجاة كما هي عادته في كتاباته. فدارت الورقة على أيدي العلماء، ولاحظوا فيها أخطاء شنيعة في الأسلوب والصياغة الأدبية والأغلاط النحوية والصرفية.
وأخذ الباب الشيرازي في الدفاع عن نفسه وتبرير ذلك بأن ذلك ليس من تقصيري، وإنما هو من الإلهامات الغيبية والوحي السماوي فالجهالة ليست فيَّ، فوقعت في المجلس الضوضاء.
وارتفعت الأصوات، فمن قائل يفتي بقتله وكفره وخسرانه، ومن قائل يحكم بجنونه واختلال عقله وأنه يعزر ويؤدّب، وقام الوالي مخاطباً الباب:
(يا جاهل، يا مغرور، ما هذه البدعة التي أحدثتها، كيف تدّعي النبوّة والرسالة أو المهدوية وأنت لا تقدر على التعبير عن مرادك بلفظ عربي مستقيم منتظم، ومع هذا الحال تدّعي أن كلامك أفصح من القرآن وأبلغ؟!، وإنّي اُفكر أن قتلك واجب في شريعة الإسلام، ولكن أرى بقرائن حالك أنك مختل العقل وفاسد الدماغ فلا يصحُّ قتلك، ولكنك رجل سفيه أبله، ولهذا يجب تعزيرك وتأديبك لعلَّك ترجع عن الضلالة وتعود إلى الهداية).
ثمّ أمر بإخراجه من المجلس وضربه بالفلقة، فأخذ يستغيث ويتوسل بالناس لينقذوه، ولكن الضرب المبرح تواصل حتّى أظهر التوبة والاستغفار.
ثمّ حُمل على حمار طيف به الأسواق والطرقات تشهيراً به _ ولكن الباب كان يتوخّى ويحرص على ذلك ويحبُّ الشهرة أيّاً كانت _ وأرجع مرة أخرى إلى المجلس المحتشد، فأخذ الباب بتقبيل يد الشيخ أبي تراب وكرّر التوبة والاستغفار، ولكن العلماء أصرّوا على صعوده المنبر أمام الناس وإعلانه التوبة والرجوع عن الدعاوي السابقة والضلال الذي كان يدعو إليه.
فصعد المنبر قائلاً: (لست أنا وكيل القائم الموعود، ولست أنا الواسطة بين الإمام الغائب وبين الناس).
وثمّ طلب منه إمام الجمعة أن يحضر يوم الجمعة في مسجد وكيل وأن يعلن ذلك مرة أخرى أمام الناس، وطلب الوالي ضامناً للباب أن لا يعود إلى بِدَعِهِ السابقة، فضمنه خاله السيد علي، وفي يوم الجمعة حضر الباب مسجد وكيل وقال: (لعن الله من يرى أنّي وكيل الإمام الغائب، لعن الله من يرى أنّي أنكر وحدانية الله تعالى، لعن الله من يرى أنّي أنكر رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لعن الله من يرى أنّي أنكر إمامة الأئمّة عليهم السلام).
ثمّ نزل عن المنبر وذهبوا به إلى السجن، ومكث فيه ستة أشهر في رفاهية من العيش مع الحدّ من أيّ نشاط أو اتصال.
وفي تلك السنة انتشر وباء وطاعون أتى من الهند وأفغانستان جعل الأوضاع في شيراز مضطربة، وفرَّ الكثير إلى القرى النائية خوفاً من العدوى، وكذلك لجأ الوالي ومعاونوه إلى أطراف المدينة، فساد البلد الهرج والمرج وحينها أهملت الرقابة على السجن.
فقام والي أصفهان ويدعى منوچهر خان القرجي الأرمني النصراني باستغلال الفرصة وأرسل إلى السجن في شيراز بعض معاونيه مع عدد من دعاة البابية الذين كانوا على ارتباط وثيق معه في أصفهان لنشر البابية، وكان يهيّئ لهم مختلف الطرق والوسائل لذلك.
وهذا الوالي النصراني الأرمني كان قد وقع أسيراً لدى الدولة الإيرانية آنذاك مع عدد من إخوته في الحروب التي وقعت لها في أرمينيا والقفقاز وكان هو من الأمراء هناك.
وبعد وقوعه أسيراً حاول مع إخوته التسلل إلى الحكومة والوصول إلى مناصب حساسة فيها كي يتم له الوصول إلى مآربه الحاقدة الدفينة على الإسلام، وأما ارتباطه مع الأيدي الأجنبية فعلى قدم وساق.
وفي هذه الأثناء استفحل نشر البابية في أصفهان من دعاتها، فثارت الغيرة الدينية لدى الناس والعلماء في مدينة أصفهان والتي كانت تعجُّ آنذاك بفحول الفقهاء والعلماء في مختلف الفنون من الحكمة والأصول والهيأة والكلام وغيرها.
فاجتمع العلماء على أثر تصاعد فتنة البابية للبحث عن التصدي لها. وأثناء ذلك حضر الوالي المجلس وخاطب الحضّار بأن الباب قد وجّه أحد العلماء إليه دعوة للحضور إلى أصفهان وإنّي أخاف من اشتداد الفتنة من ذلك (وكان يظهر حاله في منتهى الغم والحزن والتأثر)، وإنّي أقترح لتفادي ذلك بأن يستعدّ إلى استقباله على باب المدينة عدّة منكم كي يحتووه ويخمدوا بدعته، وهو على أيّ حال من الفقهاء الذين قدموا من المشاهد المشرفة من العراق.
(ويقصد من ذلك أنه من المرسوم عندكم الاستقبال في مثل هذه الموارد، حيلة منه لإجلال مقدم الباب، مع أنه ليس له هذه الصفة الذي يطلقها عليه الوالي).
وكان يكثر من لا حول ولا قوة إلاّ بالله في كلامه، وقال: (وليقوم الناس بزيارته من مختلف الطبقات كي يعلم جهله وكونه صفر اليدين من الفضل والعلم _ وهو يقصد بذلك حصول الترويج والدعاية للباب _ ثمّ اقترح تشكيل ندوة يحضرها المقدمين منكم فضلاً كي يحسموا شبهاته وتنقضوا ضلالته وتثبتوا مروقه من الدين الإسلامي وتفتوا بقتله أو حرقه أو تبعيده، وإني لن أمهله إلاّ بضربة السيف تطهر عنقه). والوالي بهذا التمثيل والصنع حاول إغراء أكثر الحضّار مع شيء من التهديد لمن لا يوافق فيهم بالوقوف بجانب الباب، كما اتّهم في بادئ كلامه أحد العلماء بأنه الذي وجّه الدعوة للحضور إلى أصفهان، ويكون بذلك قد خطّط للدعاية والنشر ببرنامج وسيع النطاق.
وما أن وصل الباب إلى مشارف أصفهان استقبلته هيأة منتخبة تمثل العلماء، وذهبوا به إلى بيت الميرزا السيد محمّد الملقب بسلطان العلماء، ولكن الباب التزم الصمت عدّة أيام ولم يظهر شيئاً من دعاويه، ولكن العلماء دفعوا الناس إلى الإصرار عليه بإظهار مقالته وكتابتها كي يتمُّ معرفة عقائده.
وقبل الباب الشيرازي فكتب رسالة طويلة في تفسير سورة الكوثر، وكعادته خبط وخلط في الأسلوب العربي بتركيب متدافع الأطراف معوجُّ البيان مختل نحواً وصرفاً.
وفوق ذلك استدل فيها على أنه المهدي الموعود، وسرعان ما تناقلتها الأيدي وانتشرت، فازداد الصخب والغيض لدى الناس وواجهوا الوالي بأن يفي بما وعد من الإجراءات بحقه ومجازاته.
ولكن الوالي احتال مرة أخرى وأخذ يماطل ويؤخّر، وسبب ذلك توقع الوالي متابعة بعض الناس للفرقة البابية، أو لا أقل من إحداث الشكّ في صفوفهم.
ولكن الهيجان ازداد حماساً، وحذر العلماء الوالي بأن يفي بما وعده من عقد ندوة للنقاش مع الباب حول شبهاته وادعائه، وإلاّ فلن يملك الوالي زمام الأمور أمام الصخب الشعبي.
فاضطر الوالي إلى عقد الندوة بعد مماطلة كثيرة، لمعرفته أن عاقبتها فضيحة الباب وضياع للمجهود الذي قام به لنشر البابية.
وحضر الندوة جمع كثير من العلماء في مقدمتهم الميرزا السيد محمّد والشيخ محمّد مهدي كلباسي اللذان كانا متفوقين على البقية في الفقه والأصول، والميرزا حسن بن الملا علي نوري الذي كانت له الصدارة في الحكمة والفلسفة، وأجلس الباب في صدر المجلس، وأخذ العلماء بالكلام حول دعواه المهدوية والباب ظلَّ صامتاً لا يحرّك ساكناً، فبادره الشيخ محمّد مهدي الكلباسي قائلاً:
(يا سيد، لا يخفى عليك أن المسلمين على صنفين: الأوّل: وهم الذين يستنبطون أحكام الشريعة الإسلاميّة من القرآن الحكيم والسُنّة النبوية لخاتم النبيين والمأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وهذا الصنف يسمون بالمجتهدين.
والثاني: هم أولئك الذين يقلّدون المجتهدين في معرفة الأحكام ويسألونهم عمّا يجهلونه ويحتاجون إليه كي يرشدوهم، والآن أنت من أيّ القسمين، وبعبارة أخرى أنت مجتهد أم مقلّد؟).
فأجاب الباب: (إنّي لم اُقلد أحداً بتاتاً، والعمل بالظن أراه حراماً).
فقال له الشيخ: (يا سيد ألا تعرف أن الطائفة الشيعية تعتقد أن الإمام الحجة عليه السلام غائب ولا محالة طريق العلم بالأحكام الشرعية مسدود.
ولا بدَّ لنا في كل عصر من الأعصار من تقليد المجتهد الجامع لشرائط الفتوى على طبق القواعد المقررة من الصدر الأوّل إلى عصرنا الحاضر، حتّى يظهر حجة الله قائم آل محمّد المنتظر فيزيل المفاسد ويميت البِدَع ويعيد الشريعة المحمّدية التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه وظيفتنا، فكيف أنت لا تقلد ولا تعمل بالظنون (الخاصة التي قام الدليل على حجّيتها لاستنباط الحكم الشرعي)؟
الآن وحيث لا أراك تأتي بحجة قبال استدلالي ولا أراك قد سمعت بأحكام الشريعة الإسلاميّة، إذاً من أين تعلّمت الدين، ومن أين حصل لك اليقين بالأحكام؟).
فاشتعل الباب غيظاً وقال: (إنّك تعلّمت علم المنقول وبمنزلة الطفل المبتدئ الذي يتعلم (أ ب جـ د)، ولكن مقامي مقام الذكر والفؤاد، فلا يصحُّ لك الدخول في هذا البحر اللامتناهي ومناقشتي والمناظرة معي في شيء لا تعلمه).
فانبرى له الميرزا حسن النوري الحكيم المشهور قائلاً: (يا سيد اثبت في مكانك وإيّاك والرجوع عن ادّعائك، إن الحكماء قد عيّنوا وقرّروا للذكر وللفؤاد مقاماً ومنزلة إذا وصل إليها شخص ما يكون محيطاً بكل الأشياء ولا يخفى عليه شيء، فالآن هل قد وصلت إلى هذا المقام والمنزلة؟ وهل وجودك يحيط بكل الأشياء؟).
فأجاب الباب بثبات وجرأة: (نعم، وجودي هكذا، سل ما بدا لك).
فقال له: (يا سيد، بيّن لنا كيفية معجزات الأنبياء، وحصول طي الأرض للأولياء، وكيفية سرعة سير الزمان في عصر السلطان الجائر، وبطؤه في زمان الإمام المهدي الذي وردت به الروايات، نحن وإيّاك نعدُّ بني أمية وبني العبّاس حكّاماً جائرين وملوكاً ظالمين، وأئمّة أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة أئمّة هادين، وفي هذا الحال يلزم أن يكون للزمان سيرين سريع وبطيء وكيف يمكن ذلك!؟
وأيضاً بعض أئمّة الجور والعدل كانوا في عصر واحد، ولازم ذلك وقوع سيرين متضادين سريع وبطيء في زمان واحد، وكيف يمكن ذلك؟
وأيضاً نحن المسلمون نعتقد أن الأرض تطوى لأولياء الله وحججه، يعني أن المسافة الطويلة تنطوي لهم (كطي السجل) بطرفة عين مثل ما نقل آصف بن برخيا وزير سليمان بطرفة العين عرش ملك بلقيس من سبأ إلى محل إقامة سليمان (فلسطين) كما قال تعالى: (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا)(470).
فالآن يا ترى كيف وقع ذلك؟ هل المدن والصحارى بين المبدأ والمنتهى للمسير تهبط (خسفاً أو ابتلاعاً)؟
وحينها يتصل المبدأ والمنتهى (للسير) وفي هذه الصورة يلزم انعدام عباد الله والحيوانات والنبات والجمادات حيث الأرض (التي طويت) قد خسفت بهم أو أن القطع الأرضية تجتمع وتتداخل؟ وفي هذه الصورة لا بدَّ من اطّلاع العالم على مثل هذه الحادثة مع أن حتّى هذه الساعة لم يسمع أحد بهذا ولم ينتشر خبر بذلك وفي المستقبل سوف لن ينتشر، أو أن طي الأرض يحصل بنحو الطيران والتحليق؟ وهذا الوجه أيضاً لا يطابق العقل الإنساني ولا يؤيّده برهان عقلي أو نقلي (شرعي)، أجب عن هذه الأسئلة).
فتبسَّم الباب وأجاب: (يا حكيم، هل تريد أن أرفع النقاب عن وجه المشكل باللسان والبيان، أو بالقلم والبنان أكشف عن هذا السر؟).
فقال له: (اصنع ما شئت؟).
فتناول الباب القلم والورقة وأخذ يكتب مدّة من الوقت، حتّى أتى بالطعام فوضع الورقة على سفرة الغذاء وشرع في الأكل.
فلمح الميرزا حسن بطرف عينه الورقة فتناولها فقرأها على الحضور، وإذا فيها البسملة وحمد الله والصلاة على النبي وبعد ذلك دعاء مطوّل بسبك المناجات من دون أيّ إشارة إلى موضوع المناقشة والأسئلة.
فسكت أهل المجلس حتّى يحصل الفراغ من الأكل، ثمّ حكم بعضهم بجنونه وفقد توازنه، ومن ذلك البعض الميرزا السيد محمّد سلطان العلماء، وحكم البعض الآخر بكفره وارتداده عن الدين ووجوب القتل، ومن ذلك البعض الشيخ محمّد مهدي الكلباسي وسائر الفقهاء، ولكن تردد مع تمايل إلى الباب مدرّسان للفقه مشهوران كانا على ارتباط مع الوالي واتفاق مسبق معه.
وبعد حكم الأكثر بقتله استدعوا من الوالي إجراءه، فتظاهر بأن تنفيذ هذا الحكم خارج عن صلاحياته، وأن القضية يجب أن يعلم بها الحكومة المركزية في طهران وينتظر الأوامر منها بقتله أو لا، ولكي يقل الضغط عليه من العلماء أمر بتقييد الباب بالسلاسل.
وذهب به إلى السجن، ولكنه أخرجه من السجن ليلاً في الخفاء وأحضره بيته مع المبالغة في الاحترام والتجليل، ثمّ بعث برسالة إلى طهران صاغ عبارتها كما أراد، وذيّلها بقوله: (قتل الباب في هذا الوقت في أصفهان مع تمايل أكثر أهاليها إليه يستوجب خطر الثوران والهيجان، والرأي الصائب أن يبقى في السجن حتّى تنطفئ نائرة الصديق والعدو له، ثمّ تنظر هيأة الدولة في ما هو الصالح وتأمرنا به).
وقد نجحت خطّته وانطوت خدعته على هيأة الوزراء واستصوبت رأيه.
ومن جانب آخر تزايد دعم الحاكم منوچهر خان القرجي لعلي محمّد الشيرازي (الباب) وظهرت نواياه الهادفة إلى ضرب المذهب الشيعي ومحاربة العلماء، فحمل ذلك العلماء على الكتابة إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) حاجي ميرزا آغاسي وطالبوه بقمع الفتنة التي تتقنّع بالإسلام والتي تدّعي البابية تارة، وأخرى التوبة وإنكار البابية وإنها في توسّع وانتشار.
فأجابهم برسالة بعثها: (أنا في خدمة العلماء الأعلام والفضلاء ذوي العزّ والاحترام، والمعذرة في تصديعكم حول هذا الشخص الشيرازي الذي سمى نفسه باب ونائب (خاص) الإمام عليه السلام الذي كتبتم عنه. فلأنه ضال مضلّ بحسب مقتضيات الدين والدولة.
فالمورد ضروري التعقيب ليكون عبرة في المستقبل طبقاً للسياسة الملكية.
وهذا المجنون الجاهل الجعّال (المفتعل) لم يدّع النيابة فحسب، بل ادّعى النبوة، حيث إنه مع كمال الجهل والسخافة كتب كتاباً جمع فيه المزخرفات وسمّاه قرآناً، مع أن الآية الشريفة: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(471) دالة على استحالة الإتيان بمثل أقصر سورة و(لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِْنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(472) فكيف بالقرآن!؟
هذا الجاهل مثلاً بدل (كهيعص)(473) كتب: كاف، ها، جيم، دال، وبهذا النمط من المزخرفات والأباطيل لفق كتابه. نعم، إنّي أكثر اطّلاعاً على حقيقة حاله لأن أكثر هذه الجماعة الشيخية تداوم على الطنطنة والشعارات (الهتافات).
وهذا الشقي قد وقع في تلك الخيالات الباطلة والذي قرّرت في شأنه أن يحبس في قلعة (ماكو) حبس الأبد، وأما الذين اتّبعوه وتمايلوا إليه فهم مقصّرون وأطلعوني بهم كي يعزرون وينبهون. دام فضلكم وإفاضاتكم).
ومع ذلك فلم يبعث الحاكم منوچهر خان بالباب إلى قلعة (ماكو) التي تقع في شمال إيران طيلة عدّة أشهر والتي مات الحاكم بعدها وخلّفه حاكم آخر يدعى جرجين الذي سارع بإرسال الباب إلى ماكو، ولكن لجهات سياسية تحيط بذلك الظرف توسط دالكوركي السفير الروسي في طهران بنقله من (ماكو) التي هي مدينة على الحدود الروسية إلى قلعة (جهريق)، وأرسل السفير إلى وزير الخارجية الروسي نسلرد مكتوباً قال فيه: (باب هو الذي أبعد عن ماكو الحدودية بوساطتي في العام الماضي)(474).
ولم ينقطع ارتباط البابية بالسيد الباب في القلعة فقد كانوا يبذلون الرشاوي الكثيرة لإقامة الاتصال، وكان على رأسهم المدبّر النشط ملا بشرويه وحاج بار فروشي ويحيى الدارابي وقرة العين، فالأوّل في خراسان، والثاني في مازندران (طبرستان)، والثالث في شيراز، والرابعة في قزوين، فكانوا بذلك يقيمون دائرة محيطة بأكثر أرجاء إيران للنشر والدعاية للفرقة البابية.
ثمّ إن الشاه محمّد القاجاري طلب من ولي عهده ناصر الدين ميرزا أن يجمع العلماء والفقهاء والفضلاء والأعيان الأشراف والقوّاد وبقية الشخصيات المهمّة في تبريز (المدينة المركزية في منطقة آذربايجان والتي كانت مقراً له)، وأن يعقد مجلساً يديره بنفسه لينظر ما يقوله الباب ويدّعيه كي يتقرّر الإجراء اللازم بحقه.
وأوصاه بعدم الاستعجال في إصدار الحكم، وعليه الانتظار إلى صدوره من طهران على ضوء التقرير المرسل.
وعقد المجلس بحضور الجموع المختلفة، فمن العلماء الحاج محمود الملقّب بنظام العلماء، والملا محمّد المامقاني الملقّب بحجة الإسلام، والذي كان رئيس الشيخية في تبريز ومرَّ سابقاً أنه من تلامذة السيد كاظم الرشتي. والملا باشي الحاج ميرزا عبد الكريم والميرزا علي أصغر شيخ الإسلام، والميرزا محسن قاضي، والملا باشي ميرزا حسن زنوزي، ومن الشخصيات السياسية للدولة محمّد خان زنكنة أمير نظام، ووزير الأمن ميرزا فضل الله علي آبادي نصير الملك، ووزير الخارجية ميرزا جعفر خان معير الدولة، ووزير المالية ميرزا موسى تفرشي، ووزير الداخلية ميرزا مهدي خان بيان الملك، وعدّة كثيرة من هذا الصنف، ثمّ اُتي بالباب علي محمّد الشيرازي وأجلس صدر المجلس.
وأوّل من افتتح النقاش والبحث نظام العلماء، فخاطب الباب قائلاً:
(يا سيد، اُنظر إلى هذا الكتاب والأوراق التي أضعها الآن بين يديك، والتي كتبت بأسلوب قرآني ووحي سماوي(475)، ونشرت في بلاد إيران في متناول الناس، تأمّل فيها وأمعن النظر في صفحاتها ثمّ أخبرنا أهي من قولك أنت حقيقة؟ أو من اُناس أعداء لك افتروها عليك وكذباً نسبوها إليك؟).
ثمّ وضع الكتب والأوراق بجانب الباب.
فأجاب علي محمّد الشيرازي: (نعم هذه كتب من قبل الله).
فقال له نظام العلماء: (هل سمّيت نفسك شجرة طوبى في هذه الكتب؟ ومعنى ذلك أن كل ما جرى على لسانك أو يجري فهو كلام الله، وبعبارة أخرى: أنت تعتقد أن كلامك كلام الله وقول الله؟).
فأجاب: (الله يرحمك، نعم، أقسم بالله هو كما تقول).
فقال نظام العلماء: (هل تسميتهم لك بـ (الباب) صادرة منك، أو أن الناس خاطبوك بذلك من أنفسهم؟).
فأجاب: (لا، هي صادرة منّي، والناس لا يقولون من أنفسهم، هذا الاسم من الله، وأنا باب العلم).
فقال له: (في أين، في بيت الكعبة، بيت المقدس، والبيت المعمور؟).
فأجاب: (في كل مكان إله).
وفي هذه اللحظة نهض ولي العهد ناصر الدين شاه وقال: (يا سيد، اعلم أنّي عاهدت الله أنك إن قدرت أن تثبت لنا أنك باب العلم فإنّي سأترك لك منصبي ومقامي، ونفسي سأكون مطيعاً ومنقاداً لك).
ثمّ قال نظام العلماء: (يا سيد أحسنت، هذا الذي تدّعيه هو اسم لأمير المؤمنين عليه السلام والذي سمّاه بذلك هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)(476)، وقال علي عليه السلام: (سلوني قبل أن تفقدوني)(477)، وقال: (ها إن بين جنبي علماً جمّاً)(478).
فالآن لديَّ بعض من المسائل المعضلة اُريد حلّها منك، وجملة منها مرتبطة بعلم الطب(479)).
فأجاب علي محمّد الشيرزاي: (إني لم أتعلّم الطب).
فقال له: (أسألك عن العلوم الدينية، ولكن معرفة جملتها مشروط بفهم معاني الأحاديث والآيات، وذلك الفهم متوقف على معرفة علوم منها النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع (علم البلاغة) والمنطق وعلوم أخرى، فإذاً أسأل عن هذه العلوم المقدمية، وابتدأ من علم الصرف).
فأجاب: (إنّي قرأت علم الصرف في صغري).
فقال له: (فسَّر لنا هذه الآية الشريفة: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً)(480)، وبيّن لنا إعرابها النحوي، وقل لنا شأن نزول سورة الكوثر، ولأيّ سبب سلّى الله تعالى نبيّه بهذه السورة؟).
فأجاب: (أمهلني).
فقال: (ما معنى كلام الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في مجلس المأمون جواباً لسؤاله: ما الدليل لك على خلافة جدّك علي بن أبي طالب؟ فقال عليه السلام: (آية أنفسنا)، فقال المأمون: لولا أبنائنا، فقال عليه السلام: (لولا نسائنا)(481)؟).
فأجاب: (هذا ليس بحديث).
فقال له: (أيّاً ما كان هو، أليس من أقوال العرب أيضاً فسّره وبيّنه).
فأجاب: (الرخصة والمهلة).
فقال له: (ما معنى الحديث القائل: (لعن (الله) له الأعين ظلمت العين الواحدة)؟).
فأجاب: لا أعرف.
فقال له: (ماذا يعني: إذا دخل الرجل على الخنثى والخنثى على الأنثى وجب الغسل على الخنثى دون الرجل والأنثى؟).
سكت الباب ولم يحر بشيء، فقال له نظام العلماء: (مؤلّفاتك تظن أنك قد صغتها على وجه فصيح وبليغ، فالآن قل أيّ نسبة من النسب الأربع بين الفصاحة والبلاغة، ولماذا الشكل الأوّل (من الأشكال الأربعة في القياس الاقتراني المنطقي) بديهي الإنتاج؟).
سكت الباب أيضاً وعجز عن الجواب.
فقال له: (يا سيد، سؤال آخر وليس عندي بعده سؤال، لو ظننا وسلّمنا أن هذه العلوم الموجودة لدى البشر كلّما قيل وقال (مجرد ألفاظ) ولا تنفع البشر بقدر فلس، وها نحن صرفنا النظر عن تلك العلوم، فالعادة التي جرى عليها من قديم الزمان واتّبعها عقلاء العالم نتّبعها نحن... وحيث قد اتّضحت هذه المقدّمة، فنسألك الآن حيث يعلم من كتبك وحالاتك أنك تدّعي تارة الرسالة وأخرى المهدوية وثالثة الولاية، نحن حضرنا ههنا لنسألك هل عندك معجزة أو كرامة تكون حجة لك على الناس؟).
فأجاب: (اُطلب أيّ شيء تريده).
فقال له: (يا سيد، لا يخفى عليك أن ملك إيران مصاب بمرض النقرس، وهذا المرض صعب العلاج عجز عنه الأطباء والآن نريد منك أن تشافيه من هذا المرض المستعصي).
فأجاب: (هذا الفعل غير ممكن).
فقال له ناصر الدين شاه: (يا سيد هذا الشيخ الذي يناظرك معلّمي وهو شخص أدّبني بالأدب الجميل، ولكنّه الآن قد ذهبت منه حيوية الشباب ولا يقدر على ملازمتنا في السفر والحضر فهل تقدر على إعادته شاباً؟).
فأجاب: (هذا أيضاً محال).
فقال نظام العلماء: (أيها الناس اعلموا أن هذا الرجل (يشير إلى الباب الشيرازي) وعاءه خال ومحتواه فارغ من كل شيء من معقول أو منقول، هو مغرور بالباطل وسفيه وجاهل، وليس عنده أيّة معجزة أو كرامة وغير لائق لأدنى احترام).
فأجاب علي محمّد الشيرازي وهو غضبان مما قال: (يا نظام، ما هذا الكلام الذي تقول! أنا الرجل الذي مكثتم ألف سنة تنتظرونه!).
فقال له نظام العلماء: (هل أنت المهدي والإمام القائم؟).
فأجاب: (نعم، أنا هو).
فقال له: (المهدي النوعي أنت أم المهدي الشخصي؟).
فأجاب: (أنا عين المهدي الشخصي).
فقال له: (ما اسم أبيك، واُمّك، وأين مكان ولادتك؟).
فقال له: (اسمي علي محمّد، واسم أبي ميرزا رضا البزّاز، اُمّي خديجة، محل ولادتي شيراز خمسة وثلاثون سنة مضت من عمري).
فقال له: (اسم مهدينا المنتظر مهدي، واسم أبيه حسن، واسم اُمّه نرجس، ومحل ولادته سر من رأى (سامراء) فكيف تنطبق عليك تلك المشخصات؟).
فأجاب: (الآن أريك كرامة كي يتضح أنّي صادق فيما أدّعي).
فقال الحضور بأجمعهم: (حبّاً وكرامة، أظهر كرامتك).
فأجاب: (إنّي أكتب في اليوم ألف بيت _ البيت في علم الخط آنذاك خمسين حرفاً _).
فقال الحضور: (على فرض أن ما تقوله صحيح، ولكن ذلك ليس بكرامة لأن كثيراً من الخطّاطين يشتركون معك في ذلك).
وقال نظام العلماء: (إنّي عند زيارتي للعتبات العاليات (المشاهد المشرّفة) صادفت كاتباً يكتب في اليوم ألفي بيت وانتهى أمره إلى العمى. البتة أنت أيضاً اُترك هذا العمل وإلاّ فستعمى)، ثمّ جرى بين بقية العلماء وبينه أخذ ورد على هذا المنوال.
وبعد ذلك استدعى ناصر الدين ميرزا من العلماء رأيهم في شأن الباب، فأفتى بعضهم بكفره ووجوب قتله، وبعض حكم بسفاهته وجنونه.
ثمّ أمر ناصر الدين ميرزا أعوانه بربط الباب وضربه على أقدامه ضرباً مبرحاً حتّى يتوب ويظهر الاستغفار من تلك الدعاوي وبعد ذلك كتب علي محمّد الشيرازي ورقة التوبة وقال فيها: (... إنّي موقن بتوحيد الله جلَّ ذكره، ونبوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وولايته ولساني مقرٌّ بكل ما نزل من عند الله وآمل رحمته ولم أرد بتاتاً ما يخالف رضاه وإذا جرى من قلمي كلمات خلاف رضاه فلم أتعمّد العصيان وعلى أيّ حال فإنّي مستغفر تائب... أستغفر الله ربي وأتوب إليه من أن ينسب إليَّ أمر وبعض المناجاة والكلمات التي جرت على لساني ليست دليلاً على أيّة أمر وأعتقد أن مدّعي النيابة الخاصة لحضرة حجة الله عليه السلام مدّع مبطل، وهذا العبد لم يكن له ادّعاء ذلك ولا ادّعاء آخر...)(482).
وأجاب رسالته علماء تبريز، وجاء فيها: (... أقررت بمطالب متعدّدة كلٌّ منها توجب وتبعث على ارتدادك وتوجب قتلك، وتوبة المرتد الفطري لا تقبل، والذي أوجب تأخير قتلك هو شبهة خبط دماغك (اختلاله) وإذا ارتفعت تلك الشبهة فلا تأمل في إجراء أحكام المرتد الفطري عليك).
ثمّ إنه بعد موت محمّد شاه ومجيء ناصر الدين شاه على سدنة الملك ونصبه للميرزا محمّد تقي الملقّب بأمير كبير بدل ميرزا آغاسي الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) وازدياد حدّة البابية وتشكيلهم لعصابات تهاجم القرى والمدن وارتكابهم لجرائم فظيعة يقشعر الإنسان عند قراءتها مثل الأحداث والوقائع في مازندران (طبرستان) والوقائع في قلعة الشيخ الطبرسي والوقائع في زنجان مما لا يدعوا منكراً وحشية إلاّ أتوها بعد التزامهم الإباحات وتحليلهم كل المحرمات.
وجعلوا أهالي تلك المناطق تعيش حالة من الخوف والرعب من الإرهاب والسفك للدماء التي مارسوها تخيّلاً منهم لإنشاء دويلة يوسعون نطاقها شيئاً فشيئاً أقدم أمير كبير _ والذي كان على درجة من الحزم وفطانة التدبير بعكس سابقه آغاسي _ على إعدام علي محمّد الشيرازي بعد أن أعاد الباب إصراره على دعاويه السابقة.
وكان الباب الشيرازي قد نصّب ميرزا يحيى النوري خليفة له مع معاونة أخيه حسين علي النوري ولقّب الأوّل عندهم بالأزل والثاني ببهاء وكانا قد اعتقلا من قبل الدولة فتوسّطت السفارة الروسية والبريطانية لإطلاق سراحهما وإخراجهما مع جماعة من البابية إلى بغداد.
ومكثوا هناك عشر سنين وأخذوا شيئاً فشيئاً يبتدعون الأحكام كبقية الفرق المنحرفة.
ثمّ إن السلطات اضطرّت إلى إبعادهم إلى جزيرة قبرص وهناك تنازع الإخوان فانقسمت البابية إلى الأزلية والبهائية(483).

* * *
الخاتمة

وفيها ثلاثة أمور:
الأمر الأوّل: في خروج الدجّال:
فقد روى الصدوق عن النزال بن سبرة أنه قال: قام الأصبغ بن نباتة إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين من الدجّال؟
فقال: (ألا إن الدجّال صائد بن الصيد فالشقي من صدّقه والسعيد من كذّبه يخرج من بلدة يقال لها: أصفهان من قرية تعرف باليهودي عينه ممسوخة والعين الأخرى في جبهته تضيء كأنها كوكب الصبح فيها علقة كأنها ممزوجة بالدم بين عينيه مكتوب كافر يقرؤه كل كاتب واُمّي، يخوض البحار وتسير معه الشمس، بين يديه جبل من دخان، وخلفه جبل أبيض يرى الناس أنه طعام، يخرج حين يخرج في قحط شديد تحته حمار أقمر، خطوة حماره ميل، تطوى له الأرض منهلاً منهلاً. لا يمرُّ بماء إلاّ غار إلى يوم القيامة، ينادي بأعلى صوته، يسمع ما بين الخافقين من الجن والإنس والشياطين يقول: (إليَّ أوليائي، أنا الذي خلق فسوّى، وقدَّر فهدى، أنا ربكم الأعلى) وكذب عدو الله، إنه أعور يطعم الطعام ويمشي في الأسواق وإن ربكم عز وجل ليس بأعور ولا يطعم ولا يمشي ولا يزول تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ألا وإن أكثر أتباعه يومئذٍ أولاد الزنا وأصحاب الطيالسة الخضر، يقتله الله عز وجل بالشام على عقبة تعرف بعقبة أفيق لثلاث ساعات مضت من يوم الجمعة على يد من يصلي عيسى بن مريم عليه السلام خلفه)(484).
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال عن الدجّال: (أيها الناس ما بعث الله عز وجل نبياً إلاّ وقد أنذر قومه الدجّال وإن الله عز وجل قد أخره إلى يومكم هذا، فمهما تشابه عليكم من أمره فإن ربكم ليس بأعور، إنه يخرج على حمار عرض ما بين أذنيه ميل، يخرج ومعه جنّة ونار وجبل من خبز ونهر من ماء، أكثر أتباعه اليهود والنساء والأعراب، يدخل آفاق الأرض كلها إلاّ مكّة ولا بتيها والمدينة ولا بتيها)(485).
وروى الأربلي في (كشف الغمة)(486) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (في حديث الدجّال): (يأتي وهو محرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذٍ رجل وهو خير الناس أو من خير الناس فيقول له: أشهد أنّك الدجّال الذي حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثمّ أحييته أتشكّون في الأمر؟ فيقولون: لا).
قال: (فيقتله ثمّ يحييه (وذلك خداعاً بالسحر كما ورد في روايات أخرى) فيقول حين يحييه: والله ما كنت فيك قط أشدّ بصيرة منّي الآن). قال: (فيريد الدجّال أن يقتله ثانياً (أي حقيقة) فلا يسلّط عليه).
ونقل في (منتخب الأثر)(487) عن أربعين الخاتون آبادي، عن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث فيه خروج الدجّال وقرية يخرج منها وبعض أوصافه وأنه يدّعي الألوهية وأن في أوّل يوم من خروجه يتبعه سبعون ألفاً من اليهود وأولاد الزنا والمدمنين بالخمر والمغنين وأصحاب اللهو والأعراب والنساء قال عليه السلام في آخره: (فيبيح الزنا واللواط وسائر المناهي حتّى يباشر الرجال النساء والغلمان في أطراف الشوارع عرياناً وعلانية والفجور ويسخر آفاق الأرض إلاّ مكّة والمدينة ومراقد الأئمّة عليهم السلام فإذا بلغ في طغيانه وملأ الأرض من جوره وجور أعوانه يقتله من يصلّي خلفه عيسى بن مريم عليه السلام).
وروى السيد ابن طاووس رضي الله عنه عن الصادق عليه السلام في حديث خروج الدجّال: (من بعد ذلك يخرج الدجّال من ميسان نواحي البصرة، فيأتي سفوان، ويأتي سنام فيسحرهما ويسحر الناس، فيكونان كالثريد وما هما بثريد من الجوع والقحط إذ ذلك لشديد)(488).
الأمر الثاني: في علامات ظهور الحجة عليه السلام وعدّة أصحابه:
قد حدّد الأئمّة عليهم السلام أمد الغيبة الكبرى التي انقطع الشيعة فيها عن الحجة عليه السلام بانقطاع النيابة الخاصة بموت النائب الرابع علي بن محمّد السمري في نهاية الغيبة الصغرى.
والتحديد هو بوقوع علامات للظهور وانتهاء الغيبة، وهذه العلامات كثيرة:
منها: ما يقارن عام ظهوره عليه السلام والسنة التي يخرج فيها بدءاً من مكّة من بيت الله الحرام يوم العاشر من محرم يوم قتل فيه جدّه الحسين سيد الشهداء وسبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويخطب تلك الخطب التي طالما تعطّشت إليها البشرية جمعاً والشيعة خصوصاً ويبدأ بعقد البيعة له وأوّل من يبايعه جبرئيل عليه السلام وثمّ عدّة أصحابه التي هي عدّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر.
ومنها: ما لا يقارن عام الظهور وإنما تشير إلى الاقتراب ليس إلاّ.
والمهم هو القسم الأوّل وهي العلامات التي اُطلق عليها في الروايات المأثورة بالعلامات الحتمية التي لا بدء فيها.
فقد روى الصدوق رضي الله عنه عن الصادق عليه السلام أنه قال: (خمس قبل قيام القائم عليه السلام: اليماني، والسفياني، والمنادي ينادي من السماء، وخسف بالبيداء، وقتل النفس الزكية)(489).
وهذه العلامات الخمس:
الأولى: وهي خروج سيد حسيني من نسل الإمام الحسين عليه السلام من ناحية اليمن ولذا اُطلق عليه اليماني.
الثانية: وهي خروج شخص يدعى عثمان بن عنبسة من بني أميّة من سلالة أبي سفيان، ولذا اُطلق عليه السفياني من ناحية الشام.
الثالثة: المنادي وهو جبرئيل عليه السلام يصيح بصيحة من السماء ونداء يسمعه كل العالم كل قوم بلسانهم أن الحجة قد ظهر وأن الحق مع علي وآله.
الرابعة: الخسف الذي يقع بأرض البيداء قرب المدينة المنورة والذي يقع بجيش السفياني الذي يرسله من الشام لمقاتلة الحجة.
الخامسة: قتل النفس الزكية وهو الشاب السيد الحسني الذي يبعثه الحجة بعد عقد البيعة سراً مع العدّة المخصوصة من أصحابه ليدعو أهل مكّة ولكنهم يقومون بقتله، وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: (ليس بين قيام قائم آل محمّد وبين قتل النفس الزكية إلاّ خمسة عشر ليلة)(490).
وروي عن ميمون البان قال: كنت عند أبي جعفر (الباقر) عليه السلام في فسطاطه، فرجع جانب الفسطاط، فقال: (إن أمرنا قد كان أبين من هذه الشمس)، ثمّ قال: (ينادي منادٍ من السماء: فلان بن فلان هو الإمام باسمه)، وينادي إبليس (لعنه الله) من الأرض كما نادى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة)(491).
وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: (إن أمر السفياني من الأمر المحتوم وخروجه في رجب)(492).
وقال عليه السلام: (الصيحة التي في شهر رمضان تكون ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين من شهر رمضان)(493)، وقال عليه السلام: (ينادي منادٍ باسم القائم عليه السلام)، قلت: خاص أو عام؟ قال: (عام يسمع كل قوم بلسانهم)، فسأله زرارة: فمن يخالف القائم عليه السلام وقد نودي باسمه؟ قال: (لا يدعهم إبليس حتّى ينادي ويشكّك الناس)(494).
وقال عليه السلام: (صوت جبرئيل من السماء وصوت إبليس من الأرض فاتبعوا الصوت الأوّل وإيّاكم والأخير أن تفتنوا به)(495). وقال: (ينادي منادٍ من السماء أوّل النهار: ألا إن الحق في علي وشيعته، ثمّ ينادي إبليس (لعنه الله) في آخر النهار: ألا أن الحق في السفياني وشيعته فيرتاب عند ذلك المبطلون)(496).
وروى الصدوق عن الصادق عليه السلام أنه سأله رجل من أهل الكوفة: كم يخرج مع القائم عليه السلام فإنهم يقولون: إنه يخرج معه مثل عدّة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً؟ قال: (وما يخرج إلاّ في أولي قوة وما تكون أولوا القوة أقل من عشرة آلاف)(497).
وروي عن الباقر عليه السلام أنه قال: (اثنان بين يدي هذا الأمر: خسوف القمر لخمس وكسوف الشمس لخمس عشرة ولم يكن ذلك منذ هبط آدم عليه السلام إلى الأرض وعند ذلك يسقط حساب المنجمين)(498).
وروى النعماني في كتاب (الغيبة)(499) عن الصادق عليه السلام أنه قال: (النداء من المحتوم والسفياني من المحتوم، وقتل النفس الزكية من المحتوم، وكف يطلع من السماء من المحتوم)، قال: (وفزعة في شهر رمضان توقظ النائم وتفزع اليقظان وتخرج الفتاة من خدرها).
وفي هذه الرواية علامة سادسة من العلامات الحتمية مضافاً إلى الخمس التي تقدّمت، وهي طلوع كف من السماء.
وروي عن الباقر عليه السلام أنه قال: (لا بدَّ لبني فلان من أن يملكوا فإذا ملكوا ثمّ اختلفوا تفرّق ملكهم وتشتت أمرهم حتّى يخرج عليهم الخراساني والسفياني هذا من المشرق وهذا من المغرب يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان (أي السباق) هذا من هنا وهذا من هنا، حتّى يكون هلاك بني فلان على أيديهما أما إنهم لا يبقون منهم أحداً).
ثمّ قال عليه السلام: (خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد، نظام كنظام الخرز (أي كخرز السبحة أو ما شابهه) يتبع بعضه بعضاً فيكون البأس من كل وجه، ويل لمن ناوأهم وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى لأنه يدعو إلى صاحبكم)(500).
وروي عن الباقر عليه السلام أنه قال: (السفياني والقائم في سنة واحدة)(501).
الأمر الثالث: في مدح العلم وذم الجهل:
فقد روى الكليني رضي الله عنه عن الصادق عليه السلام: (إن أوّل الأمور ومبدأها وقوّتها وعمارتها التي لا ينتفع شيء إلاّ به العقل الذي جعله الله زينة لخلقه ونوراً لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون، وأنه المدبّر لهم، وأنهم المدبَّرون، وأنه الباقي وهم الفانون، واستدلّوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه من سمائه وأرضه وشمسه وقمره وليله ونهاره، وبأن له ولهم خالقاً ومدبّراً لم يزل ولا يزول، وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظلمة في الجهل، وأن النور في العلم، فهذا ما دلَّهم عليه العقل).
قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟
قال: (إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله قوامه وزينته وهدايته علم أن الله هو الحق وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبّة، وأن له كراهية، وأن له طاعة، وأن له معصية، فلم يجد عقله يدلّه على ذلك، وعلم أنه لا يوصل إليه إلاّ بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي لا قوام له إلاّ به)(502).
وروى عن الصادق عليه السلام أنه قال: (لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقّهوا)(503).
وروى عن الكاظم عليه السلام أنه قال: (لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال أن أمقت عبيدي إليَّ الجاهل المستخف بحق أهل العلم التارك للاقتداء بهم وأن أحبّ عبيدي إليَّ التقي الطالب للثواب الجزيل اللازم للعلماء التابع للحلماء القابل عن الحكماء)(504).
وروى عن الصادق عليه السلام أنه قال: (إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون)(505).
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أف لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده ويسأل عن دينه)(506).
وقال عليه السلام: (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلاّ بعداً)(507).
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح)(508).
وقال عليه السلام: (الناس ثلاثة: عالم ومتعلم وغثاء)(509).
هذا والحمد لله رب العالمين على كل حال، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.
تمَّ الفراغ منه يوم السابع عشر من رجب الأصب (1411هـ)، في جوار السيدة الطاهرة فاطمة المعصومة بقم المقدسة. بيد العبد الآثم محمّد بن الحاج حميد سند البحراني عفا الله عنهما.

* * *

الجزء الثاني
الفصل الأوّل: العقول والخواطر

عبادة العقل:
الوجود هو الكمال وله مراتب متفاوتة وأعلى مراتبه هي مرتبة الكمال المطلق والوجود اللامتناهي وهو الحق سبحانه وتعالى الغني المطلق مفيض الوجود لما عداه، فكل ما عداه مخلوق له محتاج إليه، وإن كل ما عدا الكمال المطلق لا بدَّ أن يكون طالباً للكمال الأعلى والأشد.
وقد رسم الحق تعالى طريق تحصيل الكمال لمخلوقاته، وهو طريق حصري لا بديل عنه ولا استثناء فيه وهو طاعته تعالى والخضوع والانقياد له، فكل ما عدا الله تعالى لا بدَّ أن يخضع ويتضعضع ويطيع وينقاد إليه تعالى، والعقل من مخلوقاته تعالى فهو محتاج إليه ولا بدَّ أن يكون سالكاً لطريق العبادة والطاعة والانقياد، ففي الحديث عن أبي جعفر عليه السلام قال: (لما خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك ولا أكملتك إلاّ فيمن أحب، أما أني إيّاك آمر، وإيّاك أنهى، وإيّاك أعاقب، وإيّاك أثيب)(510)، لكن ما هي عبادة العقل؟ وما هو سجود وركوع العقل؟ هل هو هذا الانحناء الهندسي؟ أم له نوع خضوع خاص؟
لما كان العقل من الموجودات المجردة فليست عبادته كعبادة الموجودات المادية، إذ ليس له حركات كحركات البدن من الانحناءات الهندسية ونحوها، بل عبادة العقل خضوعه.
وما هو خضوع العقل؟
هو تسليمه للحقائق، وإذعانه لها واستجابته لها وعدم تمرده وعدم طيشه على ما هو الحقيقة، بل يسلم لها أي يخبت لها فهذه عبادة العقل، فإذا سلم وخضع لما هو حقيقة وواقعية حينئذٍ يكون العقل قد عبد الواقعية المطلقة وهو الباري تعالى وهو الحق، فعبادة العقل خضوعه وتسليمه للحق!
لذلك مُدِح المخبتون في القرآن الكريم حيث قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)(511) فالاخبات نوع تسليم وإذعان، فعبادة العقل أن يسلم ويعرف الحقيقة والواقعية، وكما أن الإسلام والتسليم يعمُّ شأن البدن وشأن الجوارح والجوانح والقوى وما شابه ذلك، فكذلك التسليم والإسلام والقبول يعمُّ شأن العقل أيضاً.
فإسلام العقل وتسليمه هو إذعانه للحقائق! إذن فللعقل عبادة، وللعقل تسليم، وللعقل سجود وهو منتهى خضوعه، وللعقل ركوع وهو انحناؤه أمام الحقائق وعدم تمرده وعدم طيشه عليها، ومن ذلك يظهر معنى قوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(512)، أي لتعبد أبدانهم ولتعبد قواهم النفسية ولتعبد أرواحهم ولتعبد عقولهم المعبود الواحد، لذا فإنّ التمرد على الحقائق وعدم التسليم لنتائج البراهين يعتبر عصياناً من العقل وعدم طاعة لخالقه، فإنّ الله تعالى اعتبر تسليم العقل لما وصل إليه بالدليل والبرهان هو عبادته وطريق كماله.
وقد يستبعد البعض هكذا عصيان من العقل ولا يتصور أن العقل يصل لحقيقة ولا يسلم لها، ولكن هذا الاستبعاد ناشئ من الغفلة، فقد ذكر القرآن الكريم ذلك بقوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(513) فعلموا بأنه الحق والحقيقة ولكنهم لم يسلموا بها، والأعجب أن في الأزمنة المتأخرة هناك من أنكر الحقائق بعد الاستدلال عليها، كما عن الرازي في تفسيره لقوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ في‏ كُلِّ أُمَّةٍ شَهيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهيداً عَلى‏ هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى‏ لِلْمُسْلِمينَ)(514) بعدما وصل إلى حتمية ولابدّية وجود شخص شهيد وشاهد على أعمال العباد في كل أمّة وقرن، ومن الواضح أن ذلك اعتراف بعصمة خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن كذلك إلاّ علي عليه السلام فبعد اعترافه بكل ذلك يقول: (نحن نعترف بأنه لا بدَّ من معصوم في كل زمان إلاّ أنّا نقول إن ذلك المعصوم هو مجموع الأمّة وأنتم تقولون ذلك المعصوم واحد منهم)(515).
وكما عن الطبري بعد أن ثبت له أن المهدي عليه السلام أفضل من الأنبياء _ عدا سيد الرسل _ وأنه يقودهم، بل بعضهم يصلي خلفه بعد الظهور المبارك، فبعد كل ذلك لم يقبل ولم يسلم بأنه عليه السلام أفضل من الأوّل والثاني، حيث يقول: (لا تقل: إنه أفضل من الشيخين، بل قل: إن الشيخين ليسا بأفضل منه)(516) وهذا بعد استدلاله للأفضلية بقوله: (إنه خليفة الله وأنهما خليفتا رسول الله)(517).
فالعقل قد يعصي خالقه ويترك عبادته وذلك عندما يجحد الحق والحقيقة ولا يسلم لها ولا يخضع بل يتمرد.
مرتبة ومساحة حجية العقل:
قال الإمام الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم في الوصية المعروفة: (يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام وأما الباطنة فالعقول)(518).
وقال الصادق عليه السلام لعبد الله بن سنان: (حجة الله على العباد النبي والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل)(519).
فإنّ لله على الناس حجتين حجةٌ باطنة أو رسول باطن وهو العقل وحجةٌ أو رسول ظاهر وهو النبي ثمّ تأتي مراتب الحجج الأخرى ولا يمكن لحجة أن ترقى وتعلو إلى مرتبة أعلى من مرتبتها فإنّ مراتب الحجج والدلائل متسلسلة ولا يمكن تخطيها، كما سيأتي بيان ذلك.
فضمن لابدّية معرفة مراتب ومنظومة الحجج هو معرفة مرتبة حجية العقل، ونتيجة عدم الالتفات لتلك المراتب وعدم معرفة حقيقة حجية الحجج وقع البعض في إفراط وبعض آخر في تفريط.
فهناك من ارتكب الغلو والافراط في العقل البشري وقال بأن العقل يدرك كل شيء كما هو حال العلمانيين أو الغربيين، والحال أنه لو كان يدرك كل شيء لما احتاج للوحي ولما احتاج لتواصل سلسلة الأبحاث العلمية!
فلعدم إدراك العقل لكل شيء وعدم الاحاطة بالحقيقة الوسيعة احتاج الإنسان للسعي والاستمرار والتواصل في البحث والدراسة ليحصل الادراك شيئاً فشيئاً للحقائق فهي حركةُ ادراكٍ بطيئةٍ كحركة النمل، وهذه المسيرة متواصلة ولا تقف دائماً وأبداً، وهذا يكشف ويدلل على أن البشر لا يستطيعون ولا يصلون إلى الاحاطة بالحقيقة الواسعة، وهو اعترافٌ بأن العقل لا يمكن أن يدرك كل شيء ويكذب على نفسه ويخدعها من ادّعى أنه يدرك كل شيء.
وهناك من فرط بالعقل وأنكر إدراكه أي ذهب إلى أن العقل لا يدرك شيئاً كالحشويين(520) وهناك من الفِرَق الضالة في الغيبة الصغرى فضلاً عن الغيبة الكبرى قديماً وحديثاً إذ شطبوا العقل فأجازوا ارتكاب المحرمات والفواحش واستباحة الدماء وقتل الأنبياء وغير ذلك.
فإنّ العقل البديهي يحكم بالعدل وهؤلاء لما شطبوا العقل استباحوا كل تلك المحرمات، وكيف نتصور إلغاء حجيته فإنّ العقل هو مبدأ الأمور وأن أسس الدين مستندة ومبتنية على بديهيات العقل فلا يمكن أن نتصور شريعة من شرائع السماء تناهض وتناقض وتخالف بديهة العقل، فإنّه باتفاق كل علماء المسلمين وعلماء الكلام وكل الأديان والملل أن معرفة الله إنما تتم ببديهة العقل.
فلا يعقل أن تكون هناك شريعة من شرائع السماء تلغي ضروريات الكتاب أو ضروريات السُنّة وتستحل القبائح أو تنهى عن المحاسن كيف ذلك والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِْحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(521) والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إنما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق)(522) فالعقل يحكم بالعدل والإحسان و...
وعليه فالحق أنه لا إفراط ولا تفريط فلا نقول بأن العقل يدرك كل شيء كما لا ننكر إدراك العقل للأشياء، وهذا ما يظهر من سمو الدين الإسلامي ومدرسة أهل البيت عليهم السلام كما ذكر ذلك الإمام الصادق عليه السلام في آخر رواية يرويها الكليني في كتاب العقل والجهل عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل: (... إن أوّل الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شيء إلاّ به، العقل الذي جعله الله زينةً لخلقه ونوراً لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم...)(523).
فلا نغلو في العقل المحدود الذي لدينا فإنّ له مساحة في الاعتبار محدودة وهي مساحة البديهيات دون النظريات إلاّ أن تستند إلى الأولى بسداد، وإن بديهيات العقل رأس مال خطير، فإنّ مبدأ الأمور هو معرفة الله وهي تحصل بتوسط العقل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق) أي باعتبار محدودية مساحة العقل المحدود فهو لا يعرف تمام مكارم الأخلاق لذلك تتولّد الحاجة إلى الوحي ليرشد إليها فالعقل يحكم بحسن العدل وبقبح الظلم ولكنه لا يدرك مواقعه بتفاصيلها فمثلاً لا يدرك المفاسد التي في زواج المحارم فيحتاج للوحي في بيان ذلك لأنه خارج مساحة حكمه، فيأتي الشارع ويقول بحرمة الزواج بالاُمّ وبالأخت وبالخالة... الخ، فهناك مكارم أو مفاسد لا يدركها العقل من نفسه فيأتي دور الوحي ويهدي العقل إليها، فالعقل يدرك أصل الفاحشة والرذيلة لأنها قبيحة، أما دوائرها الوسيعة فلا يدركها إلاّ بهداية الوحي.
فللعقل البشري دائرة إدراك محدودة وهو حجة فيها وهي دائرة البديهيات ولا يمكن إنكار اعتبار حكم العقل في هذه الدائرة المحدودة.
لاحظ عبارة الإمام الرضا عليه السلام التي رواها الشيخ الصدوق في اعتقاداته حيث كان عليه السلام يقول في دعائه: (... اللهم إني أبرأ إليك من الذين ادعوا لنا ما ليس لنا بحق، اللهم إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا... اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأوّلين وآبائنا الآخرين، اللهم لا تليق الربوبية إلاّ بك ولا تصلح الآلهية إلاّ لك، فالعن النصارى الذين صغروا عظمتك والعن المضاهين لقولهم من بريتك، اللهم إنّا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، اللهم من زعم أننا أرباب فنحن إليك منه براء، ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن إليك منه براء كبراءة عيسى عليه السلام من النصارى، اللهم إنّا لم ندعهم إلى ما يزعمون فلا تأخذنا بما يقولون واغفر لنا مما يزعمون)(524)، يشير الرضا عليه السلام إلى أن هناك بديهة عقلية وهي أن الله هو الواحد الأحد الفرد الصمد وحجية هذه البديهة لا يمكن أن تقتلع أو تقصى أو أن تزال، وإنما حجية العقل في دائرة البديهيات لا في دائرة النظريات التي لا تستند إلى البديهيات فضلاً عن التي تصادمها فبعض الحجج هي في صدارة الحجج والقمة، لكن في أيّ مساحة هي لها الصدارة في القمة؟ كما يقول الإمام الصادق عليه السلام في آخر رواية يرويها الكليني في كتاب العقل والجهل عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل: (... إن أوّل الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شيء إلاّ به، العقل الذي جعله الله زينةً لخلقه ونوراً لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم...)(525) فكيف يتسنى للإنسان ببديهة العقل أن يؤمن بتوحيد الله؟! ثمّ يتابع الإمام الصادق عليه السلام لكن العاقل علم بأن عقله محدود ولا يهديه إلى كل مراضي الله ولا يجنبه عن كل ما يسخط الله فمن ثَمَّ اضطر وأذعن بضرورة إرسال الله للرسل كي يهدونه، لأن مساحة ومنطقة حجية عقل الإنسان محدودة، كما يستفاد ذلك من بعض الروايات، ففي حديث طويل للإمام الصادق عليه السلام حيث بين فيه أن بالعقل مبدأ الأمور وقوتها وعمارتها وبه عرف الله وهكذا عرفت صفاته الكمالية وبه عرفت جميع الكمالات قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: (ان العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته علم ان الله هو الحق وأنه هو ربه وعلم أن لخالقه محبة وأن له كراهية وأن له طاعة وأن له معصية فلم يجد عقله يدله على ذلك، وعلم أنه لا يوصل إليه إلاّ بالعلم والأدب وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب بعلمه فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي لا قوام له إلاّ به)(526) فهذه ملحمة معرفية عظيمة يثيرها الإمام الصادق عليه السلام وهي أن بديهة العقل مبدأ الأمور أي في مساحة البديهيات وهي منطقة محدودة، وتعديها إلى دائرة النظريات دون وحي السماء فيه إضلال.
فحجية العقل في البديهيات مبدأ يتقدم على الإيمان بالله وعلى المعرفة بالله.
والفرق الضالة والمنحرفة لما أقصت ولم تعتبر بديهيات العقل ولم تقم لها وزناً وقعت في الزيغ والشطط والضلال وانتشار الأباطيل... وما ذلك إلاّ لأنهم ضيّعوا هذا الركن الركين وهو منطقة بديهيات العقل، فإنّ الدين لا يقصي ولا يلغي العقل بتاتاً، أي حجيته في منطقةٍ ودائرة محدودة وهي البديهات.
أما في دائرة النظريات فادراكه ليس قوياً فيحتاج إلى الوحي وهداية السماء ولا يمكن ادعاء أنه يدرك كل الحقائق والأشياء، فالعقل هو الحجة الباطنة التي يستند عليها لمعرفة مبدأ الأمور وهو الله ثمّ يتمم ذلك بالحجة الظاهرة وهي الرسل والأنبياء فهذه مساحة حكم وادراك العقل ومرتبة حجيته ثمّ تأتي مراتب الحجج الأخرى.
الخواطر ومسؤولية بناء الذات:
عندما وصل إلى مسامع الإمام الصادق عليه السلام أن جماعة يؤلهونه كان على الدوام يخرّ لله باكياً شاكياً متبرماً متبرئاً من هذه الفرق المنحرفة الخارجة عن الجادة والصراط المستقيم وفي كل حالاته يخضع لله عز وجل باكياً بكاءً شديداً، فيخاطبه أصحابه: يا أبا عبد الله يا جعفر بن محمّد إن هذه مقولة أولئك وما عليك أنت منها، فيقول عليه السلام كما روي عن مصادف قال: لما أتى القوم الذين أتوا بالكوفة دخلت على أبي عبد الله عليه السلام (فأخبرته) بذلك فخر ساجداً وألزق جؤجؤه _ أي أعلى صدره _ وبكى وأقبل يلوذ باصبعه ويقول: (بل عبدٌ لله قن داخر (صاغر)) مراراً كثيرة، ثمّ رفع رأسه ودموعه تسيل على لحيته فندمت على إخباري إيّاه فقلت: جعلت فداك وما عليك أنت من ذا؟ فقال: (يا مصادف إن عيسى لو سكت عما قالت النصارى فيه لكان حقاً على الله أن يصم سمعه ويعمي بصره، ولو سكتُّ عما قال فيَّ أبو الخطاب لكان حقاً على الله أن يصم سمعي ويعمي بصري)(527).
فعلى الإنسان تجاه الفكرة والخاطرة مسؤولية، وهذا مثال لامتحانات الأنبياء والأولياء مع كونهم معصومين، ولكن المقصود بيان مسؤولية الخاطرة والفكرة.
كما يؤيد ذلك الفقرة الأخيرة في رواية الرضا عليه السلام المتقدمة (اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون فلا تأخذنا بما يقولون واغفر لنا مما يزعمون) إذ فيها إشارة واضحة للمسائلة والحساب على الخاطرة.
والاعتراض بأن الحساب والمسائلة إنما على العمل دون مجرد النيّة فضلاً عن الخاطرة، ومجرد الفكرة لا حساب عليها. قال تعالى: (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(528).
جوابه: أنه قد ذكر علماء الأصول في بحث التجري أن التجري القلبي قبيح ومذموم عقلاً والإنسان محاسب عليه وإن كان الباري تعالى يعفو عن نية السوء ما لم تخرج إلى صعيد العمل فضلاً عمّا لو أصبحت الفكرة عقيدة إذ تتحول إلى عمل جوانحي.
العمل من جوارح البدن ولا عقاب على مجرد فكرة وخاطرة، أما إذا كان العمل نفس الاعتقاد والاعتقاد ليس عملاً جوارحياً، فالحساب والعقاب حينئذٍ على نفس ذلك الاعتقاد أي على الفكرة.
فالمسألة إن كانت اعتقادية فهي ميدان ومجال العمل والتطبيق فيها نفس الخاطرة ونفس الفكرة وفي هذا بحثٌ، فهل المراد بها الميول أم الانجذاب أم التشبث؟
فالإعتقاد والخاطرة عملٌ جوانحي وقلبي وبالتالي فهو نوعٌ من الاعتقاد والإيمان قال تعالى: (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(529) فأفعال القلب يحاسب عليها الإنسان إذا كانت المسألة اعتقاديةً.
نعم إن كانت المسألة من الأمور الجوارحية التي يأتي بها البدن فالخاطرة مع ذلك يتعلّق بها الذم وكذا استحقاق العقوبة إذا كانت هناك نية معصية، كما يقرّر ذلك أكثر الأصوليين من باب التجري.
وفعل عيسى عليه السلام أو الإمام الصادق عليه السلام من الشكاية والتبرم والبكاء له تفسير على وفق القواعد الفقهية أيضاً لأن أحد مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الموقف القلبي والفكري، فحتّى الفكرة نحن مسؤولون عن الموقف تجاهها.
فلسفة استعراض الماضي:
ومن هنا نعلم وجه ذكر الأحداث الماضية للأمم السابقة، فالقرآن كأنما يستدرجنا لامتحان موقفنا تجاه تلك الأحداث كقتل قابيل هابيل وغيرها، فالذي يعنينا هو أن نحدد موقفاً ندين قابيل في قتله لهابيل أي نتضامن مع هابيل وندين قابيل فمع أن الموقف قلبي إلاّ أن سعته أوسع من المقطع الزماني الذي نعيشهُ، فوجود الإنسان ذو درجات وطبقات (روح وعقل وقلب) وجود الإنسان لا يحبس ولا يسجن في بيئة البدن الزمانية، بل له بيئة وسيعة تستشرف الماضي والمستقبل بتوسط المعرفة والادراك، لذلك يطالبنا القرآن الكريم دوماً بموقف حتّى تجاه الأفكار والخواطر، فهو (هذا الموقف) داخل في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القلبي، الذي لا يسقط لأنه لا يمكن أن يخضع لإرهاب أو إرعاب أو ضغط ونحوه، فهو واجب فكري قلبي روحي لا يسقط بحال ويُمتحن به الإنسان ويفتتن به.
وبعبارة أخرى نحن مسؤولون عن الموقف القلبي والميولات والأفكار، هل نتضامن فيها مع قابيل فيما فعلهُ أم مع هابيل، هل نتضامن ونؤيد جانب الحق أم جانب الباطل؟!
فتلك القصص يذكرها القرآن من ظلامات المظلومين لنكتة وهي أنّا مطالبون بموقف ولو قلبي نحاسب ونسأل عنه.
فهذه الأحداث وإن كانت في غابر الأزمان إلاّ أنها تنخر في جسد الأمّة وفي عقل البشرية وتعمل في تكوين هويتها لأنّ البشرية تعيش كأنما في بيئة واحدة وفي سطح واحد وإن تقاسمتها الأزمان والأجيال لكنها بيئة واحدة مجتمعة في الهوية الإنسانية في مرتبة العقل وفي مرتبة الروح فكأن البيئة واحدة وكأن الزمان واحد وكأن المقطع واحد.
إذن القرآن الكريم يخاطب قوة الفكر وامتحان الفكر والعقل كما يحدّثنا عن أصحاب الأخدود وغيرهم من ظلامات المظلومين في سلسلة التاريخ.
فالقرآن الكريم يربي المسلمين في كل سورة وكل آية يقرءونها من خلال اتخاذ موقف تجاه الأحداث الماضية وحتّى اتجاه الأحداث اللاحقة بل حتّى فيما وراء الدنيا لأن الذي يصنع هوية الإنسان ومركز التحكم فيه هو العقل، وموقف العقل يستشرف الأزمان فلا تحده الفترات الزمانية ولا البقع الجغرافية ولا عالم من العوالم، فالعقل يستشرف عوالم عظيمة.
فبالعقل تكون الهوية والبطاقة الشخصية للشخص وللأمم وللشعوب وللملل، فصياغة الهوية مرهونة بصياغة العقل والمعرفة والبصيرة، فتلك الأمّة هل هي أمّة فاتكة أم مسالمة، وظالمة أم عادلة... ذلك مرهون بمعرفة تلك الأمم وصياغة البصيرة عند أفرادها.
وهذا ليس بمنهج قرآني فحسب بل موجود في ثقافة الشعوب والمجتمعات وإنما يشير إليه القرآن.
فمثلاً في الآونة الأخيرة برزت بين اليابان والصين أزمة علاقة شديدة شعباً ودولة بناءً على موقف رئيس الوزراء الياباني من زيارة قبور قيادات الجيش الياباني الذين قاموا بمذبحة ومجزرة في الحرب العالمية الأولى تجاه الشعب الصيني حيث إن الزيارة تعتبر تضامناً وتأييداً.
فبناءً على هذا الموقف من تلك القضية تتحدد طبيعة العلاقات بين الدولتين والشعبين مع أنها قضية تاريخية ماضية في غابر التاريخ وأنهم يرون بأن الموقف الياباني تجاه تلك القضية التاريخية يحدد الوضع الحالي بين الشعبين، هل هو عدواني أم لا؟ وهل هذه الدولة والشعب دولة عدل وإنصاف أم لا؟
فالتاريخ يصنع ويكوّن عقلية ونفسية الأمّة البشرية وهذا هو الذي يركز عليه القرآن.
من هنا نفهم كيف أن قول الإمام الحسين عليه السلام: (كونوا أحراراً في دنياكم)(530) هي صرخة ونداء لكل الأجيال.
فالذين يتسائلون: لماذا أنتم تحيون ذاكرة التاريخ في عاشوراء؟ فنجيبه: إنّا لسنا ممن يدعو إلى ذلك من أنفسنا بل هي دعوة القرآن لنا.
إذ القرآن يدعونا إلى استعراض كل سلسلة المظلومين والتضامن معهم والتنديد والادانة للظالمين وعبر تلك الأحداث التي يدعونا القرآن لذكرها كواقعة كربلاء، فنحن لا زلنا نُمتحَن بواقعة كربلاء من خلال إبراز موقف منها، لأنّ القرآن الكريم والفقه يطالب بتحديد موقف قلبي وفكري من معسكرات الحق والباطل وهو كله امتحان فإحياؤنا لعاشوراء ليس إلاّ لدعوة القرآن الكريم لذلك.
وفي السُنّة كذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (المرء يحشر مع من أحب حتّى لو أحب أحدكم حجراً حشر معه)(531)، عن عطية سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من أحب قوماً حشر معهم، ومن أحب عمل قوم اُشرك في عملهم...)(532) الخبر، وهلم جراً.
وهذا ما سيأتي بيانه من كونه أحد معاني الامتحان والافتتان الفكري والقلبي فنحن دوماً في امتحان مع تلك الهواجس العقلية والنفسية ولا يظن أنه قد شط بنا التاريخ عن الأمم السابقة بل لا زلنا نعيش معهم في بيئة وجودية واحدة، كل ما أصيبت به الأمم السابقة من امتحانات وتجاذبات وصراعات يكلفنا الدين الإسلامي بموقف منها بضرورة الفقه وقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان قلبياً.
فنحن في امتحان مستمر من هذا الجانب وهو منهج قرآني تربوي حيث يكرس القرآن الكريم ويربينا على ندبة ونصرة المظلوم ورثاءه والتنفر من الظالم، ويعتمد القرآن الكريم في هذه التربية على عقل وفكر الإنسان لأن صنع الإنسان وتربيته ومركز التحكم فيه هو عقله ودركه ومعرفته.
وبتوسط هذه المعرفة يستشرف الإنسان الدنيا من أوّل وجودها إلى يوم القيامة، بل يستشرف العوالم الأخرى لا الدنيا فقط، وبذلك تترقى مسؤولية الإنسان، ويربينا القرآن الكريم على الانجذاب إلى الجنّة والخوف من النار، فمطالبة القرآن لنا بالانجذاب للجنّة والنعيم والخشية من النار ونقمة الله وسطوته هي في حين كونها تربيةً قرآنية فهي طريقة معرفية إيمانية، فإنّ الإيمان عمل يتقوّم بالمعرفة وهو من أعظم أعمال المخلوق.
ثمّ إن عصارة الامتحانات وتكريسها من أوّل الدنيا إلى يومنا هذا تقع في كيفية الثبات بشكل مستقيم وسديد في الاعتقاد بالإمام المهدي عليه السلام ومنظومة هذا الاعتقاد وما يلابسها من إثارات وشبهات والتباسات وتعويمات ونحوها.

* * *
الفصل الثاني: منظومة المعارف الدينية

إذا كانت لدينا مجموعة حجج فلا بدَّ من تنظيمها بحيث لا تتقاطع مع أن لكل مرتبة منها حق التشريع والاتّباع فكيف تنظم وما هي مساحة حجية كل منها؟!
لو لاحظنا جملة من الآيات والروايات يتضح لدينا أن في منظومة التشريع والمعرفة الدينية ستة محاور هي: الدين والملة والشريعة والمنهاج والطريقة والحكمة، ونحتاج لتصوير وبيان مبسط لكل واحد من هذه المحاور الستة:
المحور الأوّل: الدين:
الدين هو ضرورات وفرائض الله تعالى، أي أصول الأركان وضروريات فرائض الله تعالى، فدائرة الدين هي العقائد وأركان الفروع اُمّهات وأصول الواجبات وأصول اُمّهات المحرّمات، وهذه الدائرة موحدة بين جميع الأنبياء والرسل إذ بُعِثَ جميع الأنبياء بدين واحد، كما في قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)(533)، وهذا الدين هو الدين الإسلامي كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلامُ)(534) فكل الأنبياء كانوا على دين الإسلام، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(535) فكل الأنبياء والرسل جاءوا بتوحيد الله ونبوة سيد الرسل ووصاية سيد الأوصياء والمعاد، ومن ثَمَّ الكل مأمورون باتّباع دين الله، قال تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(536) أي التسليم لله بالتوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد.
وهذا الدين يتجاوز محيط النشأة الأرضية ودار الدنيا فيرتبط بعوالم أوسع سرمدية إلهية كعالم ما قبل الدنيا وعالم البرزخ وعالم الآخرة، فالدين ثابت لا يتغير ولا يُنسخ إنما النسخ في الشرائع _ كما سيتبين _ هذا في الدين الصحيح بغض النظر عن تحريف بعض أتباع الأنبياء لذلك الدين كما حُرّفَ عند اليهود إلى اليهودية وعند النصارى إلى النصرانية...، فقد يُنسب النسخ مسامحة للدين بعد تحريفه كاليهودية والنصرانية، وإلاّ فإنّ تغيير بعض الأحكام في الدين من الفرائض والضروريات كانكار نبوة سيد الرسل، ومن أركان الفروع كانكار بعض الواجبات وغيرها، فإنّ هذا لا يعد نسخاً وإنما تحريفاً للدين، فإنّ أصول الأركان وضرورات فرائض الله دائرة موحدة بين جميع الأنبياء والرسل وليس من صلاحيات أي نبي أو رسول أن يتخطى هذه الدائرة فضلاً عن غيرهم فهي دائرة ليست قابلة للنسخ فلا يتصور نسخ التوحيد ولا نسخ المعاد ولا نسخ لنبوة سيد الرسل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولا نسخ لوصاية سيد الأوصياء علي بن أبي طالب عليه السلام ووصاية الأئمّة من بعده عليهم السلام، فإنّ رسالة سيد الرسل ووصاية سيد الأوصياء عقيدة في دين الله وليست مختصة بشريعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
فإنّ ولاية أمير المؤمنين عليه السلام والأئمّة الطاهرين عقيدة في الدين قد بشَّر بها جميع الرسل السابقين، لذا قال تعالى في يوم غدير خم: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً)(537) فهو يوم إكمال الدين وليس إكمال الشريعة لأنّ ولاية علي عليه السلام من العقيدة وليست من تفاصيل فروع الدين الجزئية، فولاية أمير المؤمنين لما كانت عقيدة والعقيدة من الدين والدين واحد وقد بُعِثَ كل الأنبياء به لذا فإنّ جميع الأنبياء بُعثوا بولاية علي عليه السلام، فهذه دقائق لطيفة في الآيات يجب أن نلتفت إليها.
ولذا كان جميع الأنبياء يبلغون بنبوة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ووصاية علي عليه السلام والأئمّة عليهم السلام، بل يبشرون بدولة الحق والعدل للمهدي عليه السلام قبل تبليغ شرائعهم لأنها من الدين والدين واحد وهو لله، فالأنبياء يبلّغون دين الله تعالى ثمّ يبلغون شرائعهم، من هنا يتضح لنا لماذا كان جميع الأنبياء يتقربون لله تعالى بطاعة ومحبة ومودة محمّد وآله، ولِمَ كانوا يبكون على مصاب الحسين عليه السلام قبل واقعة الطف، فما ذلك منهم إلاّ لأنّ محبة ومودة أهل البيت عليهم السلام من الدين وهو الإسلام، وأن جميع الخلق لا بدَّ أن يدينوا لله تعالى بهذا الدين الواحد بما فيه من العقائد والأركان والتي منها محبة ومودة محمّد وآله عليهم السلام وأن عقيدة الإمام المهدي عليه السلام من الدين وليست من الشريعة تبعاً لولاية أمير المؤمنين، فإنّ جميع الأنبياء السابقين عليهم السلام كانوا يعتقدون به، بل وإن تبليغهم وإرشادهم الناس كان تمهيداً لدولته المنشودة.
ومن ضعاف العقول أو ممن يدجل في الدين من يحاول عبثاً أن يجعل عقيدة الإمام المهدي عليه السلام عند الناس عقيدة وليدة الأزمنة المتأخرة، وأنه بعد أن عانت بعض المجتمعات من الظلم والطغيان فكانوا يؤملون ويمنون أنفسهم بوجود مخلص ومنقذ، حيث يقول بعض ضعاف النفوس: إن عقيدة الإمام المهدي عليه السلام استحدثتها حركات التحرر التي تعبيء وتنهض الساحة الجماهيرية من خلال هذه الأفكار.
ولكن الصحيح أنه لا يمكن الاتيان بعقيدة أو فكرة في الدين لم تكن مقبولة سلفاً عند المجتمعات ذات الاتجاه الديني، فالحركات الثورية حتّى لو أرادت تعبئة الجماهير من خلال الدين فلا بدَّ أن تستخدم مسلمات موجودة سلفاً في الثقافة الإسلاميّة، وحينئذٍ نقول: إن الأمر بالعكس، فإنّ اعتماد الحركات الثورية التحررية على عقيدة الإمام المهدي لاستنهاض الجماهير يكشف عن رسوخ هذه الفكرة في عقيدة الناس وتدل على أن هذه عقيدة مسلمة ومتلقاة من الأنبياء وخصوصاً سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم وأن استخدامها في أدبيات حركات التحرر إنما كان اعتماداً على هذه المفروغية وإلاّ لما آمن بذلك أحد منهم.
وقد يتوهم البعض أن عقيدة الإمام المهدي عليه السلام ضمن عقائد مدرسة أهل البيت عليهم السلام دون بقية المدارس الدينية بناءاً على وجود خلاف في هذه المسألة ولكن الصحيح أن كل المدارس الدينية وخصوصاً الإسلاميّة تعتقد بالإمام المهدي، نعم هناك خلاف في بعض الجزئيات والمشخصات له عليه السلام كاسمه الشريف أو اسم أبيه ونحو ذلك، فالكل يعتقد بأن المهدي يظهر في آخر الزمان وهو من ولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل ومن ولد علي وفاطمة عليهما السلام وأنه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما مُلِئت ظلماً وجوراً، كما هو الحال في حديث خلفاء الرسول الاثني عشر وأن كلهم من قريش الواردة عن العامة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم إثنا عشر خليفة)، قال: ثمّ تكلم بكلام خفي علي، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: (كلهم من قريش)(538).
وهذا بيان نظري لدفع مثل هذه الشبهة من هذا الجانب وإلاّ فإنّه قد ثبت من طريق الشرع وبالروايات المتواترة عند كل من الفريقين أن مسألة الإمام المهدي عليه السلام مسألة عقدية أي من الدين ومما لا بدَّ أن تثبت بأدلّة قطعية لا بالظن والاحتمالات.
موالاة أهل البيت عليهم السلام من الدين:
في القرآن الكريم والسُنّة النبوية منهجة تربوية لبيان أن مودة ومحبة والاعتقاد بأفضلية أهل البيت عليهم السلام من الدين وليس من تفاصيل فروع الشريعة قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالآْصالِ)(539)، (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)(540).
يذكر السيوطي وهو من أهل السُنّة في كتاب الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: (بيوت الأنبياء)، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها _ لبيت علي وفاطمة _ قال: (نعم من أفاضلها)(541).
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: (نعم منها) بل قال: (من أفاضلها)، والملفت للانتباه أن علياً وفاطمة لم يتوهم متوهم أنهما من الأنبياء، فما الذي دعا أبا بكر أن يسأل هذا السؤال؟ وما العلقة بين بيت علي وفاطمة وبين بيت الأنبياء؟
وما ذلك إلاّ كاشف ودال على أن القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم تربية خاصة للمجتمع الإسلامي ولوسط المسلمين بأن أهل البيت عليهم السلام حجج معصومون، فبالتالي هناك مناسبة أنه إذا قيل شيء في الأنبياء قيل شيء أيضاً في الأوصياء.
فهذا الحديث دال على المرتكز في عقلية المسلمين أن علياً وفاطمة حجج، بل لهم أفضلية على الأنبياء _ طبعاً إلاّ سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم _، والملفت للانتباه أن هذه الرواية ليست من طرقنا بل من طرق العامة، وعلى ضوء مفادها لا بدَّ أن يلتزموا بأفضلية أهل البيت عليهم السلام وإلاّ فماذا يعني أن بيت علي وفاطمة من أفضل بيوت الأنبياء؟
وعليه فإنّ بيوت أهل البيت عليهم السلام بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فهي ليست مساجد فقط، بل من المشاعر التي شعرها الله تعالى فإنّ مراقدهم عليهم السلام من المشاعر بروايات أهل السُنّة فضلاً عن رواياتنا، والمشاعر أعظم من المساجد، إذ المسجد ربما تنتهي وقفيته أو يزال لسبب ما كضرورة إقامة شارع ونحوه، فإنّ الضرورات تقدر بقدرها، أما المشعر فلا فإنّه كالمزدلفة ومنى وغيرها من مناسك الحج.
يقول الشيخ كاشف الغطاء رحمه الله: (هذه بيوت شعَّرها الله فهي أعظم من المساجد)(542) فهذه المراقد الشريفة يجب أن تعمر وتعظم بنص كل المسلمين، وكذا أفضليتهم على الأنبياء بنصّ الرواية عند المسلمين وهذه من الدين.
المحور الثاني: الملّة:
الملّة باختصار هي الأعراف الحسنة التي يجذرها الأنبياء، فمن ملّة إبراهيم عليه السلام التوحيد الحنيف لذا لا نتصور نسخ الملّة في جملة من مواردها لأنّ الملّة تتضمن أعرافاً حسنة مسلمة عند كل الأنبياء فلا تقبل النسخ في تلك الموارد، فالنبي إبراهيم عليه السلام بنى أعرافاً تبقى حتّى لو فرضنا نسخ ما جاء به من شريعة، كما أن النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بنى أعرافاً لم يكن النبي إبراهيم عليه السلام قد بناها، وعليه فللنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ملّة أيضاً، ولكنها ليست ملّة أخرى غير ملّة إبراهيم عليه السلام بل هي مكملة ومتممة لها، حيث يقول سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(543)، فإنّ المجتمع آنذاك كان لديه الكثير من الأعراف الحسنة التي ورثها عن إبراهيم عليه السلام، ثمّ جاء نبي الرحمة ليجذرها ويكملها ويتممها فيكون هو النبي الخاتم بحق حيث أكمل كل المحاور الستة في منظومة علاقة المخلوق بالخالق.
فعندما يقال: إن النبي محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم على ملّة إبراهيم أي ليست ملته مخالفة لملّة إبراهيم لأنها ملّة واحدة جاء ببعضها إبراهيم عليه السلام ثمّ تممها سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم، وإلاّ فإن إبراهيم عليه السلام تابع لدين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
المحور الثالث: الشريعة:
الشريعة هي عبارة عن تفاصيل أحكام الأصول كتفاصيل أحكام الصلاة وتفاصيل أحكام الصوم و... وهذا المعنى مناسب جدّاً لأصل معنى اللفظة لغة.
قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(544) فكل نبي له شريعة تخصه يبين فيها ما يناسب قومه من تفاصيل أحكام الدين وينسخ ما لا يناسبهم من تفاصيل الأحكام التي بيّنها من سبقه من الأنبياء، فتسمى تلك التفاصيل شريعة وتنسب لذلك النبي وتسمى باسمه فيقال شريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذن حجية الرسول محدودة في الشرائع وليست في فرائض الدين، فليس للنبي أن يبدل فرائض وضرورات دين الله، وإنما يثبتها أوّلاً ثمّ يغير في تفاصيل الأحكام بما يناسب قومه، أي ينسخ الشريعة السابقة ويأتي بشريعة جديدة، وهذا من صلاحيات وشأن الأنبياء عليهم السلام.
المحور الرابع: المنهاج:
المنهاج هو ما يخطه الأوصياء تبعاً لشرائع الأنبياء وقد مرَّ قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً)(545)، لذلك نقول في دعاء التوجه: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم ودين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وهدي علي _ وفي بعض النقول _ ومنهاج علي)(546).
المحور الخامس: الطريقة:
الطريقة هي الاستقامة على تلك المحاور الأربعة قال تعالى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأََسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً)(547)، فالدين لله والشريعة للأنبياء والمنهاج للأوصياء والأئمّة.
المحور السادس: الحكمة:
وهي حسن التدبير في تطبيق كليات الفرائض والشرائع على الموارد الجزئية كما في قوله تعالى: (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)(548)، وقوله تعالى: (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)(549).
مساحات التشريع:
ليس من صلاحيات الأنبياء نسخ الأديان أو تغييرها، بل إن الدين واحد مطلقاً، ولهم نسخ الشرائع السابقة والاتيان بشريعة جديدة، وليس من صلاحيات الأوصياء نسخ الشرائع، نعم لهم بيانها ومنهجتها.
ومن باب التشبيه والتمثيل لتقريب المعنى وبيان علاقة المساحات التشريعية في الدين والشريعة والمنهاج نذكر هذا المثال، وهو علاقة وارتباط التشريعات الدستورية ثمّ النيابية ثمّ الوزارية ثمّ البلدية حسب ما هو موجود في القوانين الوضعية، فهذه المراتب التشريعية الأربع في القانون الحديث لا يحصل فيها تجاوز ونسخ من الداني للعالي، فالتشريع النيابي في ضمن هيمنة التشريع الدستوري والتشريع الوزاري في ضمن هيمنة التشريع النيابي والتشريع البلدي في ضمن هيمنة التشريع الوزاري، فالتشريع النيابي امتداد وانحدار وتنزل للتشريع الدستوري، والتشريع الوزاري امتداد وانحدار للتشريع النيابي وهكذا، فطبيعة علم القانون وعلم الأحكام طبيعة توالدية تنزلية انحدارية تشعبية أي تتشعب كلما انحدرت وتنزلت فهي عبارة عن معادلات ودوائر تتوالد منها دوائر ومعادلات أخرى.
فالدين هو فرائض الله، يأتي بعده سنن الأنبياء وشرائعهم، وهي ليست بديلة ولا رافعة ولا ناسخة لتشريعات فرائض الله بل هي امتداد وانحدار وتوالد وتنزيل لفرائض الله لمرتبة أقرب للمصاديق، ثمّ تأتي مناهج الأوصياء ويعبر عنها سنن وطرائق الأئمّة وهي أيضاً تشريعات تأتي بالمرتبة الثالثة بعد تشريعات الله والأنبياء.
فتشريعات الأنبياء محكومة ومحدودة وفي ظل هيمنة التشريعات الإلهية، وتشريعات الأئمّة محدودة وفي ظل هيمنة التشريعات الإلهية وتشريعات الأنبياء وسننهم.
ومن هنا نفهم لِمَ ينسب دين الإسلام وهو دين الله للنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم أكمل كل تلك المحاور الستة، فأثبت كل ضرورات وفرائض الله وأكمل تجذير جميع الأعراف الحسنة أي أكمل الملّة هذا فضلاً عن إكمال شريعته كما أن أوصياءه عليهم السلام أكملوا المنهاج والطريقة.
فلما كانت أمّة سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة الأمم فشريعته بمقتضى ذلك لا بدَّ أن تكون خاتمة الشرائع ولا بدَّ أن تكون تفاصيل الأحكام المبينة من قبله صلى الله عليه وآله وسلم تناسب هذه الأمّة التي وصل فيها العقل البشري والكمال الإنساني إلى أعلى مراتبه من حيث الاستعداد والقابلية، فلا بدَّ أن تعطى هذه الأمّة أحكاماً تامة كاملة موصلة لغاية الكمال الفعلي من خلال القرب الإلهي بما تبين من أحكام في الشريعة الخاتمة، وبناءً على ذلك فإنّ المنهاج والطريقة لأوصياء سيد الرسل عليهم السلام لا بدَّ أن تتناسب مع تلك الشريعة الكاملة فتكون مناهجهم أكمل وأرقى وأعلى المناهج، من هنا نفهم لِمَ ورد على لسان سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم: (علماء أمّتي خير أو أفضل من أنبياء بني إسرائيل)(550) لأن علماء أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم اتبعوا أكمل الأحكام في الدين وفي الشريعة الخاتمة وأتوا وطبقوا أكمل المناهج وهو منهاج أهل البيت عليهم السلام، لذا حصلوا على الكمال والقرب الإلهي ما لم يحصل عليه غيرهم في بقية الأمم من الأنبياء فضلاً عن غيرهم حيث صار سير أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعملهم في المحاور الستة _ الدين، الملّة، الشريعة، المنهاج، الطريقة، الحكمة _ على أكمل وجه وأعلى مرتبة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أكملها وتممها.
بعض شبه العلمانية:
قد يتوهم البعض أن هذه الفرائض في الدين والسنن إنما شرعت لتناسب زمان وظرف خاص وليس هذا زمانها فلا يصح للمسلمين الاهتمام بتلك الفرائض والسنن، نعم لا بأس بالحفاظ عليها كموروث ديني لا لأجل العمل بها، وبالتالي نحتاج لتشريعات جديدة تناسب هذا الزمان وهذا الظرف.
وهذه في الحقيقة هي بعض شبهات العلمانيين، وقد تسربت لمدعي المهدوية، بل مع الأسف هناك من الأقلام الرخيصة في الوسط العلمي من يشيع هكذا شبهات، ولكنها ترتفع بالتأمل والالتفات لحقيقة الحجج فإنّ دين الله تعالى من فرائض وسنن شرعها الله تعالى بمقتضى علمه بما يصلح البشر ولما كان علمه تعالى أبدياً سرمدياً وليس علماً مؤقتاً، فإنّ ما يشرعه لا بدَّ أن يكون فيه صلاح وإصلاح البشر في جميع الظروف والأزمان والأحوال، فإنّه تعالى خالق البشر وهو اللطيف الخبير العليم الذي لا يعزب عنه شيء إلاّ ويعلم بما يصلح البشر عبر كل الأجيال إلى يوم القيامة، فإنّ علمه لا محدود، فكيف تكون شريعته وفرائضه محدودة، فمن يحد ويحصر فرائض الله في ظرف محدود ليس ذلك منه إلاّ لقصور عقله عن إدراك حقيقة حجية الله تعالى، وإما لجحده ومكابرته وتبنيه لمثل تلك الأفكار البائدة والأراجيف، وإلاّ كيف يكون البشر وهم خلق الله يستطيعون في سعيهم في العلوم التجريبية اكتشاف أشياء تناسب وتنفع البشر لا يعلمها خالقهم، قال تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)(551).
فما ذلك إلاّ هلوسات وإيهامات يحاولون الاستهزاء بها على العقول القاصرة إذ كيف نتصور خالق الكون والدنيا والآخرة والجنّة والنار و... لا يعلم ويشرع تشريعات وقتية؟!
فإنّ فرائض الله وسننه مبنية على عدم مخالفة البديهية العقلية، وقد حرم الله تعالى الزنا واللواط والسحاق والربا والسرقة والقتل وسفك الدماء والاعتداء...
وأوجب الصلاة والصوم وصلة الرحم والاحسان والرأفة والمحبة و...
وهذه كلها يحكم العقل بثباتها وعدم تغيرها، فهي تناسب طبيعة الإنسان على مدى أجياله المتعاقبة، وفيها إصلاح الفرد والمجتمع الإنساني وتنظيم حياته، نعم هناك في الإنسان جوانب متغيرة كما أن فيه جوانب ثابتة، وهذه الأحكام والتشريعات كانت بمقتضى الجوانب الثابتة، فإنّ الإنسان على مدى أجياله المتعاقبة لا يختلف من جهة حاجته للأكل والنكاح والروابط والعلاقات الاجتماعية و... وما شرعه الله تعالى مناسب لهذا الجانب.
أما العلمانيون فيتشبثون بأمور متغيرة، ويدعون الحاجة لنسخ تلك الأحكام من خلال بحوثهم في العلمانية الحديثة أو الحداثويات من الفلسفات الغربية فيحاولون القفز والتمرد على ثوابت الشريعة المقررة لثوابت الطبيعة الإنسانية والبيئية المحيطة، سواء أكان ذلك بواسطة الفرق الضالة أم نشر أفكار علمانية أم فكر حداثوي مستورد و...
وقد تأثر بهذه الشبهات البعض وصار يدعو لتحديث الشريعة ونسخ ما جاء به الأنبياء، وغفل أو تغافل أن تلك التخرصات من العلمانيين لأجل نشر ثقافتهم فحسب ونشر الفساد والاباحية و... وإلاّ كيف يعقل أن تفشي انتشار الزنا واللواط والسحاق فيه حياة المجتمع ورقي الفرد الإنساني بحسب دعواهم بالنسبة للمجتمعات الحديثة مع أن الله تعالى حكم وكذا العقل بأن هذه الأمور من الفساد والاباحية فيها هلاك المجتمعات، إذ الاباحية تفتك بالمجتمعات وتفقدها تنظيمها، سواء أكانت في الماضي أم الحاضر أم المستقبل، ولكنهم لم يعرفوا الله ولم يعرفوا الرسول، فإنّهم لو عرفوا الله وصفاته من القدرة والعظمة والعلم والسناء و... لما وقعوا في هذه التوهمات قال تعالى: (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً)(552) فإنّه تعالى يعلم بخلقه وأجيالهم وأطوارهم وقد شرع كل ما فيه الصلاح والخير والبناء.
ولكنهم قصرت معرفتهم بالله فقصرت معرفتهم بتشريعاته، فظنوا أن عقولهم كاملة ويستطيعون نسخ شريعة الله والاتيان بشريعة جديدة، فاستباحوا المحرمات وتركوا الواجبات، وانخدع معهم بذلك السذج والبسطاء فوقعوا في الفتنة والضلال، وما ذلك إلاّ لعدم انضباط منظومة الحجج وعدم الوعي في البصيرة والمعرفة فبوغتوا وغُدِرَ بعقولهم ومعرفتهم.

* * *
الفصل الثالث: فتنة البصيرة

فتنة البصيرة أشد الفتن:
الامتحان الإلهي للعباد عموماً وللإنس والجن خصوصاً هو حكمة إلهية بالغة ليتكاملوا به في خطى لقاء الله عز وجل، والتبحبح في رحاب جناته.
وهذا الامتحان لا ريب أنه على أشكال وأنواع وألوان، إذ يختلف شدةً وضعفاً بحسب موازين وضوابط معينة ومحدودة.
وربما يخالجنا أن الامتحان والافتتان الذي ينتاب البشر في جانب الشهوات والغرائز والنزوات وبقية صفات النفس ونزعاتها أمر عصيب شديد.
ولكن المشاهد في لسان القرآن الكريم ومنطقه الحكيم أن الفتنة والامتحان في البصيرة هي من أشد الامتحانات وأشد الفتن، فربما تكون النزوات شديدة، والغرائز ملحة، والقوى التي يزود بها الإنسان تأخذه يميناً وشمالاً وتتجاذبه بشدة، حتّى البيئات المختلفة المحيطة بالإنسان تتجاذبه يميناً وشمالاً، ومن الشهوات والنزوات ما ربما فيها عاصفة جارفة للإنسان، ولكنها حسب بيان ومفاد الآيات القرآنية الكثيرة هي في كفة أو في جانب والفتنة والامتحان في البصيرة، وفي معرفة الإنسان لطريق الهداية في جانب وكفةٍ أخرى.
وبعبارة أخرى أنه في جملة من الآيات الكريمة أن الامتحان في البصيرة، وفي المعرفة من أعظم وأشد الامتحانات ومن أثمنها وأثمرها، حتّى أن البشر بل المعصومين من الأنبياء والرسل يتفاضلون في نفاذ البصيرة وإن كان المعصومون من الأنبياء والأوصياء لا كلام في عصمتهم وسدادهم، إلاّ أنهم يتفاضلون في درجات السداد وفي درجات الحكمة، قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ)(553) فإذا كان المعصومون خاضعين لقانون الامتحان والاختبار والافتتان وأنهم يتفاضلون بذلك فكيف بغير المعصومين، فهم خاضعون لذلك بلا ريب، وإن كانت درجات الافتتان والاختبار متفاوتة وليست على وتيرة واحدة!
فالامتحان في البصيرة وفي المعرفة أمر بالغ الأهمية، بالغ الصعوبة تفتتن به الأمم ويفتتن به الأفراد، ويأخذ ألواناً وأشكالاً عديدة وكثيرة.
ومن ثَمَّ أن البنية المعرفية أو البنية في البصيرة هي دعامة الإيمان والفلاح والنجاح وحسن العاقبة، ولأجل هذا تكرر في القرآن الكريم قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(554)، لأنه بلحاظ نفس حكمة ومركزية الامتحان في المعرفة وفي البصيرة يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم بهذا اللحاظ قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(555)، حيث يحدّثنا القرآن الكريم أيضاً أن المخاطب في الرعيل الأوّل في القرآن الكريم هم ذوو الألباب قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَْلْبابِ)(556) أو الذين يعقلون، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لآَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(557)، فالمخاطب في القرآن الكريم هم أولوا الألباب أو الذين يعقلون أو الذين يعلمون أو الذين آمنوا وغيرها من التعابير في آيات عديدة تشير إلى نفس المركز ونفس النقطة والناحية وهي أن المسار في المعرفة مسار خطير كما ورد(558) في تفسير قوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(559)، أي ليعرفوا حكمة الخلقة، فالمعرفة قمتها العالية وسنامها الرفيع، يعني الامتحان في الحكمة وفي المعرفة.
وما ذكره أهل البيت عليهم السلام دللوا عليه بالبرهان فقوله: (لِيَعْبُدُونِ)، بمعنى ليعرفون؛ لأن العبادة ليست شأن البدن فقط، فالعبادة أيضاً تخص وتتأتّى من الروح وتخص وتتأدّى من النفس وتخص وتصدر من كل قوى الإنسان بما فيها العقل كما تقدم في الفصل الأوّل، فبيان أهل البيت عليهم السلام هو على مفاد برهاني بديهي واضح.
وبعبارة أخرى أن الامتحان في المعرفة، والفتنة في المعرفة والبصيرة هو من أعظم مراحل الامتحان الإلهي.
إذ يحدّثنا القرآن الكريم عن ملاحم خطيرة في الأمم أشدها في افتتان الأمم وانحرافها أو استقامتها هي في البصائر والتبصر، أي في الفتنة المعرفية.
تفاوت البصائر:
مما لا شكّ فيه أن عقول الناس وبصائرهم وإدراكاتهم مختلفة وليست على مستوى واحد، وبالتالي إدراك الحجج أيضاً يختلف تبعاً لذلك.
فمثلاً في واقعة الطف كل من الحر الرياحي وحبيب بن مظاهر الأسدي أدرك حجية الحسين عليه السلام وأنه على حق، ولكن الحر لم يدرك ذلك إلاّ بعد كلام الحسين عليه السلام وإلقاء الحجج عليهم وما ذكره من بيان، في حين أن حبيباً رضوان الله عليه أدرك ذلك لمجرد أنه الحسين عليه السلام.
لذا فبعض البصائر تحصل لها يقظة وإبصار ولو من حجج نازلة بل ويحصل لها تمييز الحجج العالية من المتوسطة والنازلة فضلاً عن التمييز للمزيف من الحجج، في حين أن هناك بصائر لا يحصل لها إدراك والتفات إلاّ مع الحجج القوية، وليست لها قدرة إدراك الحجج المتوسطة أو النازلة بل قد تنخدع بالمزيف منها.
لذا نجد من أوصاف أبي الفضل العبّاس عليه السلام أنه نافذ البصيرة(560) كما وصف بعض أصحاب الحسين عليه السلام بأنهم ذووا بصائر.
لذا فإنّ اختلاف الفتن وشدتها تختلف باختلاف البصائر، فإنّ الله لا يكلف إلاّ بمقدار قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها)(561)، من هنا لا بدَّ أن يكون الدعاء لله تعالى بأن يفتح بصائرنا وأن يمكننا من تخطي ما نبتلي به من فتن، فقد ورد أن رجلاً قال عند أمير المؤمنين عليه السلام: أعوذ بالله من الفتن، فقال له الإمام عليه السلام: (لا تقل ذلك، الفتنة لا بدَّ منها، الله خلق الإنسان ليختبره ويفتتنه ويمتحنه)، قال الرجل: إذن ما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: (قل: أعوذ بالله من مضلات الفتن، فاستعن بالله واستجر بالله)(562) أي اللهم نور بصيرتي لئلاّ أضل في الفتن، وإلاّ نفس الفتن لا بدَّ منها، نعم يكون الدعاء لتنوير البصيرة أو أن تكون الفتن بحسب بصائرنا.
اليهود وفتنة العجل:
من امتحانات وفتن البصيرة التي ذكرها القرآن الكريم قصة قوم موسى عليه السلام قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(563)، فإنّ السامري كان من حواري النبي موسى عليه السلام وليس من سقطة الناس أو عاديي البشر، بل كانت له مكانة وجاه، وكان ذا مهارات وذا فنون وكان صائغاً من الصاغة الماهرين والمتمرسين، ومن شدة دراية السامري أنه عندما سأله النبي موسى عليه السلام ماذا صنعت حتّى فتنت القوم؟
قال قبضت قبضةً من أثر الرسول، قال تعالى: (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(564) أي أخذت تربة من أثر الرسول فنبذتها في جسد العجل الذي صنعته وكذلك سولت لي نفسي.
ولكن السؤال في المقام: ما هي قصة أثر الرسول؟ وما المراد بالرسول؟
المراد بالرسول هو جبرئيل عليه السلام إذ لما أراد جبرئيل عليه السلام أن ينجي بني إسرائيل من بطش فرعون وسار بهم في البحر يبساً كان جبرئيل عليه السلام على فرس من الملكوت كما في الروايات(565)، وطبيعة عالم الملكوت عندما يماسس عالم المادة أنه يفرز لها ينبوع الحياة، ويشير القرآن الكريم لذلك في قوله تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الآْخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ)(566) يعني أن عنفوان الحياة هناك في الآخرة وليس هنا في الدنيا، وهذا شبيه ضعف الطاقة وقصر الطاقة، ونحوه وشبيه الممات، فالناس نيام إذا ماتوا انتبهوا(567).
فالسامري شاهد أن ذلك الفرس الملكوتي كلما يماسس أرضاً فإنّ التربة تنبع منها الزراعة والأشجار أي الحياة في نفس الآن، أي في نفس زمان المماسة، كما تحدّثنا روايات ظهور الإمام المهدي عليه السلام أن الرقي البشري والازدهار في عهد دولته عليه السلام يصل إلى هذا الحد يعني أنه تتفجر الحياة بينبوع وعنفوان(568).
وهذا بيان قرآني لتكوينية التوسل والتبرك، وأنه أمر له حقيقة وله واقعية، حيث يستفاد ذلك من نفس الآية الكريمة (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) يعني التراب الذي وطأه فرس جبرائيل له هذا الأثر، فتراب فرس جبرائيل وليس جبرائيل وليس فرس جبرائيل بل تراب فرس جبرائيل، فكيف بتراب سيد الرسل، أو كيف بتراب بضعة الرسول، أو تراب أخي الرسول علي بن أبي طالب، أو تراب سبط الرسول، وهذا بحث آخر يأتي الحديث عنه لاحقاً إن شاء الله تعالى.
فأخذ السامري هذا التراب وعرف أن فيه كبريتاً وإكسير الحياة، ومن ثَمَّ نبذه في العجل الذي صاغه كجسد مجسم، فأصبح لذلك الجسد خوار أي (صوت) كأنما بعثت فيه شبه الحياة، فافتتن به بنوا إسرائيل، قال تعالى: (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ)(569).
ثمّ في كلام النبي موسى عليه السلام مع الله تعالى قال: ربي الفتنة بدأت من السامري لكن من أحدث الصوت في العجل (إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ)(570)، فإنّ الله تعالى أراد بذلك الامتحان والافتتان لبني إسرائيل ليضل به من يشاء ويهدي من يشاء.
فأين وقعت هذه الفتنة؟ وقعت في البصيرة والمعرفة، فرؤيتهم الجسد ينطق وله صوت ليست فتنة في شهوة، وليست في غرائز، وليست في نزوات، بل هذه الفتنة فتنة في المعرفة وفتنة في البصيرة، وهي أعظم فتنة مرت على بني إسرائيل كما يحدّثنا بها القرآن الكريم. فما هي الحكمة من ذلك؟

الحكمة من فتن البصائر:
مما لا شكّ ولا ريب فيه أن الله تعالى ميّز الإنسان عن بقية المخلوقات بنطقه العقلي أي بعقله الذي هو أعظم شيء في وجود الإنسان، قال تعالى: (الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِْنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(571)، فإنّ استبيان المعلومات والادراك من أعظم الميزات التي أتحف الله عز وجل بها الإنسان عن بقية المخلوقات ومن ثَمَّ تكون أعظم الامتحانات هي من نصيب العقل الإنساني وهو امتحان المعرفة وامتحان البصيرة فهذه ميزة مهمة.
فما يسطره لنا القرآن الكريم من تشابه الدلائل وتشابه البينات من محكم ومتشابه كي يُصْحِح بصيرة الإنسان، فالقرآن الكريم نور البصيرة في الإنسان فيجب على الإنسان أن يتبع نور البصيرة.
وبعبارة أخرى يجب أن يُفَعِّل الإنسان قوة عقله وقوة دركه وقوة تمييزه ويكون في يقظةٍ تامة دوماً دؤوباً وبشكل مستمر كي لا تجذبه الفتن يميناً ويساراً ويقع في الزيغ والضلال.
فالعقل أعظم تحفة أنالها الله عز وجل الإنسان، فلا يمكن أن تظل معطلة راكدة، بل يجب أن تكون دوماً مُفَعَّلة كبرج مراقبةٍ.
ولذلك فالامتحانات كثيرةٌ لهذه القوة، وهي قوة العقل في الإنسان وبأشكال وألوان وتلوينات وصور قد لا يكون الإنسان عهدها من قبل.
وإنما يتمّ النجاح في الامتحان والافتتان مثمراً وناجحاً إذا كان الإنسان دوماً في حالة إعداد لنفسه، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)(572).
وحتّى الشعوب تفتتن وتضلل وتُعَوم، وذلك من خلال الهجوم الثقافي أي التضليل الثقافي والغسيل الثقافي، يعني أن الشعوب تستقوي أو تستضعف من خلال الثقافة والمعرفة.
والمنهج القرآني والإسلامي ومدرسة أهل البيت مفعمة بمحورية البيان والبرهان والدلائل والتعقل فهي حكمة مهمة، وهذا ما لم يُعهد عند بني إسرائيل ومع ذلك امتحنهم الله به، ألم يخاطبهم الله عز وجل: (أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً)(573) أن هذا لا يرجع لكم قولاً أي جواباً، وإن سمعتم منه صوتاً ولكن بقية كمالات الالوهية غير موجودة فيه. كيف إذاً استجبتم مع أنه نوع من الطلسم الملكوتي ونوع من المسحة الخلابة ونوع من التشويش في الادراك.
ولذا انتابت بني إسرائيل الفتنة، مع أن الله عز وجل أعطى كل بني البشر قدرة تمييز، فلماذا لم يميّزوا؟ فهو امتحان في أصعب وأحلك بحوث الادراك.
النصارى وفتنة قتل عيسى عليه السلام:
مثال آخر يذكره لنا القرآن الكريم امتحن الله به النصارى وبني إسرائيل وهي قضية قتل النبي عيسى عليه السلام، قال تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً)(574).
في كلمات المفسّرين كالفخر الرازي صاحب التفسير الكبير والآلوسي وغيرهما، وحتّى مفسري مدرسة أهل البيت عندما يصلون إلى هذه الآية التي فيها ملاحم معرفية خطيرة جدّاً فإنّهم يتسائلون ماذا يريد أن يسطر لنا القرآن؟، هل يريد أن يقول: إن الحس ليس بحجة؟! حيث أن النصارى أو بني إسرائيل بتوسط إدراك الحس والبصر رأوا شبيه النبي عيسى عليه السلام باعتبار أن الله عز وجل جعل شبه النبي عيسى على أحد أنصاره كما في رواية أهل البيت(575)، أو على عدوه يهوذا كما في روايات المدارس الإسلاميّة الأخرى(576)، أيّاً ما كان فإنّ الباري تعالى شبه النبي عيسى عليه السلام على شخصٍ آخر، فَقُتِل ذلك الشخص الآخر أمام مرأى وعين اليهود والنصارى.
واليهود هم الذين قاموا بتدبير هذه المؤامرة. قال تعالى: (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ... * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(577).
القرآن يقول بأن الاعتقاد بقتل النبي عيسى وعدم الاعتقاد بحياة النبي عيسى هذا كفرٌ وضلالٌ.
هذا الامتحان في العقيدة الذي امتحن الله عز وجل به النصارى واليهود مع أنهم استندوا إلى الحس والحس من البديهيات، كما أن الأجيال المتأخرة لليهود والنصارى أيضاً يعتقدون بقتل النبي عيسى عليه السلام وصلبه بحسب ما نقل إليهم بالتواتر، فكيف القرآن يفند التواتر مع أن مستند التواتر هو الحس؟
والمفسرون تبلبلوا هنا تبلبلاً وحارت أفهامهم وأبحاثهم في هذه الآية، ماذا يريد أن يسجل ويسطر لنا القرآن الكريم فيها؟ يعني أن المفسرين الإسلاميين في حالة حيص وبيص في تبيان مفاد هذه الآية، إذ كيف القرآن الكريم يذم ويندد استناد بني إسرائيل والنصارى إلى الحس؟ فلم يعطوا جواباً شافياً عن هذه الأبحاث، وكأنما الآية لا زالت من ضمن الطلسمات في نظام المعرفة أو نظام البصيرة أو نظام المنهج المنطقي الذي يريد أن يسطره وينظمه القرآن الكريم بحيث يدين انحرافاً رئيسياً أساسياً عند النصارى واليهود وكأنه مبتني على نوع من الغموض، وحاشا لله أن يغمض الحجة البالغة.
ولكن المقصود أن هذا الامتحان يحتاج إلى نوع من البصيرة ويحتاج إلى نوع من نفاذ المعرفة ونافذية الادراك، وهذا الجواب موجود في ذيل هذه الآية بحسب روايات أهل البيت عليهم السلام ولو راجع المفسرون من الفريقين النكات المعرفية في روايات أهل البيت في التفسير لرأوا أن الأجوبة موجودة.
فرواية أهل البيت تشير إلى أن الموازنة في الامتحان المعرفي الذي هو من أعظم الامتحانات التي امتحن بها اليهود والنصارى في هذه الواقعة هي أن النبي عيسى عليه السلام قد أتى بالمعجزات والبينات وأخبر اليهود والنصارى أنه باقٍ حي إلى دولة الإمام الثاني عشر عليه السلام وسوف يكون وزيراً من وزرائه ويصلي خلفه. فهو أنبأهم بتوسط إعجاز الوحي والمعجزات التي ظهرت على يديه، وهم تركوا تلك المعاجز واستمسكوا بالحس، والحس لا ينهض ولا يناهض المعجزة.
فالقرآن يفند الحس إذا كان ينكر ما ثبت بالمعجزة، فتلك الأمم باتّباعها الحس كبني إسرائيل وعبادة العجل أو النصارى وشبهة قتل وصلب عيسى عليه السلام وغيرها استندت إلى يقين محدود داني فيه سفل وتركهم لما فيه علو، وهذا افتتان وامتحان ويا له من امتحان وافتتان صعب غامض دقيق. مع أن لله الحجة البالغة دائماً وحججه بيّنة أبين من الشمس ولكن الإنسان عندما تعتوره الكدورات نتيجة الأعمال والأفكار المنحرفة يقع في اللبس والغموض.
ولا يقال: إن هذا الامتحان باعتباره أعمق من الحس يكون خروجاً عن طاقة البشر، وذلك: لأن الله عز وجل زوّد الإنسان بقوة العقل وهي قوة جبارة يقدر بمقتضاها تمييز الأبتلاءات الإلهية من مثل هذه الامتحانات الكبيرة.
الفتنة محك البصيرة:
يقول منبع البراهين والبينات والدلائل علي بن أبي طالب عليه السلام عن ما جرى في حرب الجمل وصفين والنهروان في إحدى خطبه عليه السلام: (أما بعد أيها الناس فأنا فقأت عين الفتنة ولم تكن ليجرأ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها واشتد كلبها فاسألوني قبل أن تفقدوني)(578)، لنفهم ماذا يريد أن يقول عليه السلام.
ولو تأملنا جيّداً لعلمنا أنه يقول: إن حرب الجمل أو حرب صفين أو حرب النهروان فتحت فتوحات في بصائر ووعي الأمّة الإسلاميّة وأسست فتوحاً بيّنةً في وعي الأمّة الإسلاميّة وما كان لغير أمير المؤمنين ليجترئ على فتح تلك الأبواب العظيمة في البصيرة ووعي الأمّة.
ففي حرب الجمل مثلاً كان الطرف الآخر ربما يتوهم أنه يتمتع ببعض الأوصاف القرآنية التي يُحسب أنها تعطيه صلاحيات كبيرة والتي من خلالها يريد أن يوسع أو يؤسس صلاحيات له في مشروع الدين الإسلامي على طول التاريخ، فمَنْ الذي أيقظ في الأمّة ذلك الوعي وقال: إن تلك الأوسمة القرآنية ليس لها مؤدى إعطاء الصلاحية لذلك الطرف أبداً؟ وكذلك مواجهة من يرفع شعاراً حقاً لكنه يؤسس لبناء باطل كالخوارج، أو مقاتلة من يتمترس بالانتماء إلى الإسلام لكنه يبغي على ولي الحق كما في صفين. ومن كان يستطيع أن يُوجِدَ ويبني في وعي الأمّة مثل هذه البصائر لولا علي عليه السلام، ولولا ما قام به في حرب الجمل، أو حرب صفين أو حرب النهروان، من كشف الاغتشاش والالتباس، والايهام، واللبس، والتشابه الواقع في وعي البشر نتيجة التباس ما ليس بحجة مع ما هو حجة، أي إلتباس ما ربما له درجة من درجات الحجية مع ما له درجة حجية كبيرة.
وكذا الخوارج الجدد _ التكفيريون _ تركوا محكمات القرآن ومحكمات السُنّة وضروريات الإسلام وتشبثوا بدلائل ظنية واهية وجعلوها محوراً للدين فأقصوا ما هو محور وتشبثوا بما هو متشابه وبما لا تقوم له قائمة إذ الفرع والرافد لا يمكن أن يكون نهراً كبيراً ولا يمكن أن يكون منبعاً للنهر الكبير وإنما يبقى رافداً وفرعاً.
التوسل بالنبي وآله من الاختبارات في البصيرة:
القرآن الكريم يأمرنا بأن نتوسل بالنبي وأهل بيته عليهم السلام قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(579) لنرى ماذا تقول الآية هل تقول استغفروا أم تشترط شرطاً، نعم هناك شرط (جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) فجاءوك باللغة الدارجة تعني: (دخيلك يا رسول الله) أي القرآن يقول التجيء، لذ، استعذ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(580) فالرسول وأهل بيته عليهم السلام معاذ، ولواذ، وأمان بصريح الآية، وهذه فريضة عظيمة من فرائض الدين، ومع ذلك فإنّ الخوارج الجدد يحرمونه ويجحدونه ويكفرون به ويكفرون من عمل به، يقول الله تعالى في وصف المنافقين: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ)(581) فنرى الدعوة (تَعالَوْا) إلى أين؟ ليلوذوا وليلتجئوا، بمن؟ يقول الله تعالى: يستغفر لكم الرسول.
ولكنهم لووا رؤوسهم ويعرضون ويصدون وهم مستكبرون. فهذه آيات بيّنة على فريضة ومشروعية التوسل، بل الآيات تدلل على ركنية التوسل، ولكن الجاحدين يتشبثون بالمتشابه ضالين مضلين، وقد وصف الخوارج بأنهم كلاب أهل النار لأنهم بلا هداية ولا نور وعدم رؤية منظومة الحجج وعدم ارتسامها عندهم بالشكل الصحيح، فالتوجه والالتجاء للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل البيت عليهم السلام من الامتحانات والاختبارات المهمّة في البصيرة يمتحن الله بها الأمّة على مدى الأزمان والدهور.
وفاروق هذه الأمّة قسيم الجنّة والنار عليه السلام فرّق بين الحق والباطل فبَيّن الحق للأمّة، فإنّ واقعة صفين والنهروان رسمت في وعي الأمّة أن المسلمين أرادوا أن يفككوا في التمسك بالقرآن الصامت ويتركوا القرآن الناطق، ولكن فاروق الأمّة فتح فتحاً مبيناً وبنى وأسّس _ ولله الحمد _ في وعي الأمّة أن القرآن الكريم ذو مراتب وحجج مترتبة، والتفكيك في التمسك بالقرآن الصامت وترك القرآن الناطق ليس إلاّ ضلالاً.
فصرف كون الشيء دليلاً لا يكون مبرراً لاتّباعه منعزلاً عن بقية الأدلّة إلاّ أن يكون ضمن كتلة ومجموعة دلائل ومراتب تحفظ حقيقة الدليل، فاتّباع البعض دون البعض ضلال وانحراف وغواية، واتّباع المجموع ضمن المراتب هداية.
يقول صاحب الجواهر: لو أراد فقيه أن يتبع ظواهر العمومات بلا أن يرتب الأدلّة كمجموعة واحدة لكانت تلك العمومات تضره وتضله، وهل يفكك أحدٌ من المسلمين في اتّباع بعض الكتاب وترك الآخر بعد أن ندد القرآن بالتجزئة والتفكيك، قال تعالى: (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(582) أي لم يجعلوا القرآن كمجموعة وكتلة واحدة.
فلم ينسقوا ولم يناسقوا ولم ينسبوا، ولم يناسبوا، مجموعات الأدلّة بعضها مع البعض الآخر لتكون ككيان هرمي منظومي يشرف فيها الحجة والدليل الأقوى على الحجة والدليل الأضعف، قال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)(583)، فالإيمان بالبعض دون البعض الآخر ضلال عن الحقيقة.
فلو أراد فقيه أن يحكّم البعض دون البعض من قواعد الدين وسار على النظرة التجزئية كما ابتليت بذلك هذه الأمّة والأمم السابقة لتهدمت أركان الدين، واختل التوازن والتعادل واضطربت القواعد.
تعدد الرؤى والأنظار ينمي البصيرة:
ومن ذلك الظاهرة الواقعة في المسار العلمي لدى أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام بل حتّى المذاهب الإسلاميّة الأخرى وهو ما يعرف بالنزعة الإخبارية والنزعة الأصولية _ ونحن لسنا هنا بصدد تصويب طرف دون طرف _ إلاّ أن هاتين الظاهرتين خلقت حالة توازن في النظرة العلمية، فأصحاب المسلك الإخباري كانت لديهم تحفظات وكذا المسلك الأصولي فخلق هذا نوعاً من النضج في الرؤية المتكاملة وإن استهلكت جهوداً وطاقات بل ربما فتن اجتماعية، وكذا أصحاب النظرة الفلسفية والكلامية والعرفانية والصوفية في قبال نظرة الفقهاء والمفسرين وما نجم عن ذلك من مطارحات ومصارعات فكرية شديدة، فقرون مرت كانت هذه التجاذبات مؤثرة في الفكر والرؤية ولكنها خلقت نظرة متوازنة محيطة ومجموعية وسطية، وولدت رؤى متكاملة لمجموع دلائل الدين كما ورد عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الدين متين فأغلوا (فأوغلوا) فيه برفق ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفراً انقطع ولا ظهراً أبقى)(584) فالدين بحر غير متناهي والايغال فيه بسرعة وبحدة ودون نظرة متوازنة متكاملة فيه خطورة وإضلال للبصيرة، كما أن الايغال فيه برفق مع وجود تلك الفتن والامتحانات يقوي وينضج البصائر.
فالمعادلة المهمّة جدّاً هي الاستفادة من الفتن والامتحانات والاختبارات الإلهية لزيادة الوعي والبصيرة وإعمال القواعد العقلية وتحكيمها ووضع الأمور في مواضعها، لئلاّ نقع في الضلال والزيغ.
تنوع الآيات امتحان للبصائر:
لننظر تعبير القرآن الكريم في سورة آل عمران: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(585) فإنّه يصنف الآيات القرآنية إلى آيات لها اُمومة ومحورية ومركزية وأخرى متشابهات ليس لها اُمومة، فالذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه، فذمهم القرآن لاتّباعهم هذا، وهذا من بديع حكمة القرآن أن يذم اتّباع الآيات التي أنزلها الله وحياً على نبيه لتكون قرآناً خالداً إلى يوم القيامة، ولكن ذلك لا لمطلق الاتّباع بل لاتّباع الآيات المتشابهة حيث جعلت لها الريادة والقيادة والاُمومة والمركزية، فإنّ جعل ذلك لها فيه إضلال، فإذا كان القرآن يذم اتّباع تلك الآيات فماذا نتبع؟
نتبع (آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) اُمّ الكتاب أي اُمومة ومحورية الآيات المحكمات، وإلاّ فاتّباع الصنف الداني دون اتّباع الصنف العالي الذي له المحورية يضل الطريق والمنهاج، فالقرآن يقول بأن اتّباع الآيات المتشابهة دون المحكمات يكون إضلالاً.
وهذا منهج قرآني يبين لنا معادلة خطيرة وعظيمة، وهي أن منظومة الحجج منظمة في درجات وسلم هرمي يجب ألاّ يفقد الأعلى باتّباع الأسفل، فيجب التمسك بالداني في ظل وهيمنة العالي، فإنّ اتّباع الداني في غير هيمنة ما هو أعلى يكون إضلالاً، لأنّ طبيعة القرآن عبارة عن حقيقة ومنظومة متماسكة وليست متشتتة ومبددة، وإن اتّباع المتشابه دون الاستمساك بالمحكم تبديد لمنظومة وحقيقة القرآن الكريم، كما يقول عزّ من قائل في محكم كتابه الكريم (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)(586) فالحفاظ على تلك المنظومة متماسكة هو إبقاء هيمنة ومحورية ما هو أقوى حجية على ما هو أضعف، فإنّ رايات الضلال والإضلال والزائفات والفرق المنحرفة تنشأ بسبب فقد البصيرة في هذه المعادلة المهمّة، وهي أن الحجج ذات مراتب يجب حفظ محورية المحكمات والاُمهات ومراتب الدلائل.
ومن هذا الذم ذم النصارى واليهود في اتّباعهم الحس مع أنه من مصادر اليقين البديهي، لأنهم اتّبعوا الداني وتركوا ما هو أعلى وهو الاعجاز الذي بينه القرآن الكريم على يد النبي عيسى عليه السلام حيث أخبرهم أنه سيبقى حيّاً ويكون وزيراً وتابعاً للإمام الثاني عشر الخليفة والوصي لخاتم الأنبياء، فتركوا ما هو أكثر برهانيةً ويقيناً ودلالة واتّبعوا ما هو أضعف يقيناً، ومما يشهد لتراتبية الحجج ما نلمسه ونشاهده من إعداد وتعبئة للقاعدة الجماهيرية المهدوية من خلال تجنيد الكوادر الأيمانية الملتهبة والمتلهفة في مسار أهل البيت لا ما روي فقط من أن الإمام المهدي عليه السلام هو الذي ينصر الإمام الحسين عليه السلام، فإنّ سيد الشهداء عليه السلام كما روي أيضاً هو السفينة الأوسع والأسرع في لجج البحار وهداية القاعدة الجماهيرية لتحقيق دولة العدل الإلهية دولة ابنه الإمام المهدي عليه السلام، هذا التجنيد الحسيني للبشر في كل مكان وحتّى من غير المسلمين تهوى قلوبهم انعطافاً وانجذاباً لقضية سيد الشهداء، ولهذا فإن التلألؤ الشفاف والجمال لسيد الشهداء عليه السلام هو الذي يعد العدة لابنه وهو الذي ينصره.
أصحاب الكساء ركن المهدوية:
فإنّه لا تقوم للإمام المهدي قائمة دولة ولا عمود دولة بلا سيد الشهداء ولا يمكن استبعاد مشروع سيد الشهداء، فالذي يعّد ويبني ويحفظ قاعدة وأساس دولة الإمام المهدي عليه السلام، هو قضية سيد الشهداء عليه السلام، فمعنى أفضلية الإمام الحسين على الإمام المهدي، بل وأفضلية الخمسة أصحاب الكساء على الإمام المهدي هو أن مشروع الإمام المهدي عليه السلام العظيم والعالمي لا يمكن فيه استبعاد سيد الشهداء ولا يمكن استبعاد الخمسة أصحاب الكساء.
فلا يمكن لأدبيات الدولة المهدوية العالمية أن يستبعد فيها منهاج وهدى ونور علي بن أبي طالب ونور الزهراء ونور الحسن المجتبى ونور الحسين عليهم السلام.
فهذه هي البصيرة في مراتب الحجج، فالدين كتلة واحدة متماسكة إنْ حَكَمَ ما هو أعلى إلى ما هو أدون رست وانضبطت وتمنهجت منظومة الدين ككتلة واحدة وكجسم واحد.
فالفتن والامتحانات على اختلاف أشكالها وأنواعها وشدتها توقض في الأمّة الوعي والبصيرة، وبالنتيجة يتبين من خلالها البصيرة المستقيمة والوعي العالي كما تتبين الانحرافات والزيغ وإلاّ فمن دون توسط الفتن والامتحانات لا مائز بين أنحاء البصائر ومراتب الوعي فالفتن محك البصيرة.
طريق تخطي فتن البصائر:
من الأمور المهمّة جدّاً والمصيرية والحساسة أن نعرف طريق التخطي والتخلص من زلة الافتتان والنجاح في امتحان البصائر أو انزلاق الافتتان في المعرفة.
وهو بنحو إجمالي الركون إلى الدليل وإلى ما هو حجة، وأما بنحو تفصيلي فالأمر يحتاج إلى الكثير من التأمل والتدبر والمحاسبة إذ كيف يميّز الإنسان بين ما هو دليل وحجة وبين ما ليس هو دليلاً وحجةً وهذا الأمر يتطلب تثبتاً وتحرياً ودراسةً ومعرفةً وسعياً فكرياً حثيثاً لأن الالتباس والزيغ والتشابه إنما ينجم ويحصل من تشابه ما ليس بدليل في مرحلة ما مع ما هو دليل في نفس تلك المرحلة، وتشابه ما ليس بحجة في مرتبة ما مع ما هو حجة في نفس المرتبة، وكما مرت بعض الأمثلة من تشابه الأدلّة في مراحلها المختلفة كاعتماد الحس في قبال الإعجاز وغيرها مما استعرضها لنا القرآن الكريم، وليس هذا التشابه بالتشابه السهل اليسير.
حقيقة التباس الحجج:
ربما لا يتصور البعض كيف يتشابه ويلتبس الدليل مع ما ليس بدليل أصلاً؟
وفي الحقيقة ليس الأمر كذلك، فكثيراً ما يتشابه ما يكون دليلاً في بعض الأحوال وفي بعض المراتب وفي بعض المراحل مع ما هو دليل بدرجة أرفع ودرجة أعلى وأقوى بلحاظ نفس تلك الأحوال والمراتب والمراحل.
أما تشابه الدليل مع ما ليس بدليل أصلاً أي ما ليس فيه شأنية واقتضاء الدليلية فهذا ليس بالأمر الصعب وليس بالأمر الشائك ولا بعسير التمييز وإنما الصعوبة تكمن وتنجم من التباس ما هو دليل في بعض حالاته وليس بدليل في بقية الحالات مع ما هو دليل بدرجة أرفع وأعلى، فينجم الاشتباه والالتباس والتعمية بين ما هو دليل من درجة دانية مع ما هو دليل من درجة عالية، ويحصل الالتباس بين ما هو دليل بدرجة متوسطةٍ وضعيفةٍ، مع ما هو دليل من درجة قوية وشديدة وعالية، فيستبدل الضعيف بالشديد، ويستبدل الداني بالعالي وهذا هو الذي يقع فيه الالتباس.
فليس المنقذ من ظلامية الفتن والاثارات في البصيرة والمعرفة هو فهم ومعرفة أصل حجية الحجة بل هو معرفة منظومة الحجج وتراتبيتها ومرتبة كل حجة في تلك المنظومة.
وربما يقال: كيف يكون الدليل الضعيف ليس بدليلٍ بقولٍ مطلق، والدليل الذي هو بدرجة متوسطة كيف لا يكون دليلاً بقول مطلق؟
ما هو دليل بدرجة دانية أو دليل بدرجة وحجة متوسطة لو جعل فوق مرتبته لكان فيه غواية وإضلال وعماية.
إذ بعض الظُلمَ والمسارات المظلمة لا يكفي فيها نور خفيف، بل لا بدَّ من نور مجهز مسلح ونور شديد، فإنّ بعض الظلم والمتاهات الحالكة شديدة الستار وشديدة الظلمة لا يمكن أن يقتحمها إلاّ نور شعشعاني شديد، وهو الحجة القوية والبرهان القوي بحيث أن الاهتداء بالنور الضعيف يتسبب بالغواية والضلال والزيغ عن الصراط المستقيم فلأنه نور ضعيف فهو يُشِبه ويشبَّه ويلبس الطريق، فإنّ النور الضعيف يري ما ليس بجادة جادة ويري ما ليس بطريق طريقاً فيلبس المسار ويعمي السائر!
اتّباع بقية الأنبياء في زمن سيد الرسل ضلال:
في رواية رواها الفريقان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنّهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حيّاً بين أظهركم ما حل له إلاّ أن يتبعني)(587)، وفي بعض الأحاديث: (لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلاّ اتّباعي)(588) وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثمّ اتّبعتموه وتركتموني لضللتم)(589) فإن موسى في هذه الفقرة الحساسة (لما حلّ له إلاّ أن يتبعني)، (لضللتم) فإنّه نبي من أولي عزم كيف لا يتبع ما يوحى إليه، بل اتّباعه ضلال إذا لم يكن ضمن ما يوحى لسيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم!
فهو معصوم ومرسل ونبي وليس في الأنبياء زلل ولا خطل فلا ريب أن الأنبياء متبعون ولكنهم هل يتبع بعضهم بعضاً؟
جميع الأنبياء على دين الخاتم:
بعبارة أخرى يذكر المختصون أن الأنبياء بعد إبراهيم عليه السلام كانوا على ملّة إبراهيم عليه السلام، والكثير يبحث أن سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم من أوّل حياته إلى الأربعين من عمره على أيّ ملّة كان؟
يذهب البعض أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان على ملّة إبراهيم عليه السلام وهذا التعبير مجحف في حق سيد الأنبياء فكل الأنبياء كانوا على دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وليس هو صلى الله عليه وآله وسلم على دينهم بل هم على دينه، قال تعالى: (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(590)، فالرسل أوّل ما يبلغون اُممهم بعد توحيد الله نبوة سيد الأنبياء ووصاية سيد الأوصياء، هذا البحث دلَّت عليه آيات فضلاً عن الروايات، وقد أشار إليها أهل البيت عليهم السلام أن جميع الأنبياء بُلّغوا بنبوة سيد الأنبياء وبوصاية سيد الأوصياء، فكانت الأنبياء جميعاً على دينه صلى الله عليه وآله وسلم، وأوّل أصل من أصول الدين الذي بلغت به الأنبياء هو التوحيد، وثاني أصل ليس الاقرار بنبوتهم بل الاقرار بنبوة سيد الأنبياء وبوصاية سيد الأوصياء ثمّ بنبواتهم، فلا يستبدون بما يوحى إليهم عن اتّباع سيد الأنبياء، لذا جاء هذا التعبير في الحديث الشريف: (لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلاّ اتّباعي)(591) إذ كان ما يوحى إليهما في الواقع يقودهما إلى اتّباع سيد الأنبياء.
هذا يرسم لنا أن حجية سيد الانبياء تعلو وتعظم حجية موسى وعيسى عليهما السلام بل حجية جميع الرسل، وفي إحدى الزيارات لسيد الشهداء عليه السلام(592) والأدعية وأيضاً بعض الزيارات لأمير المؤمنين أن الحكمة أقرّت بنبوة سيد الأنبياء قبل أن تثبت وتدلل المعاجز على نبوته، والتعبير بالدعاء يعني برهانية وبيانية ودلائل نبوة سيد الأنبياء، وهي بدرجة مفعمة ومركزة من قبل الباري تعالى بحيث لا يستطيع أيّ حكيم أو عاقل أن ينكرها، فإنّه يشاهد المعجزات من سيد الأنبياء ودلائل نبوته ذات مساحة عظيمة جدّاً قال تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)(593).
والمستفاد من الأدلّة كما سيأتي بيانه أن للحجج مراتب بحيث لو استعملت حجية _ التي هي في دائرتها المحدودة حجة _ خارج تلك المحدودية والدائرة ووضعت في غير مكانها لكانت ضلالاً، ولكانت تشريعاً محرماً، ولكانت بدعة في الدين، نعم لو أزيلت وأقصيت عن مقرها ومنطقتها وعن درجتها لكانت خطأ أيضاً، فإنّه لا إفراط ولا تفريط في الحجج بل كل من الحجج بحسب مرتبتها.
هذا هو عصب البحث وبيت القصيد، فالحجج كمجموعة لها منظومة تسلسلية ذات حلقات ودرجات إن لم يحافظ ويتحفظ عليها تكون الفوضوية في تلك المنظومة، ويختل نظامها فإنّ أحد الاشتباهات الكبيرة والعميقة التي وقع فيها الخوارج _ خوارج ذلك الزمان معروفون وخوارج العصر هم التكفيريون _ هو تمسكهم ببعض الحجج ذات المراتب الدانية، وتركهم الحجج العالية، وهذا يسبب ضلالاً ويا له من ضلال، فهم رفعوا شعاراً (لا حكم إلاّ لله) وهو شعار صحيح ولكن كيف يدبلج ويترجم ليكون تطبيقه في محله، فإنّ حاكمية الله في التشريع هي الاقرار بالنبوة وحاكمية الله في السياسة والقيادة هي الأقرار بالإمامة، لأن الإمامة عبارة عن توحيد الله في الحاكمية فإنّنا نقول بأن الإمام شخص منصوب من قبل الله تعالى يتلقى أوّلاً بأوّل برامج الحكم والإمامة عن الله عز وجل، وحيث أنهم تمسكوا بظاهر الكتاب وتركوا كثيراً من المحكمات ضلّ بالخوارج الطريق.
فلكي نكون في خلاص ومأمن من الفتن في البصيرة ولا نقع في التباسات وتخالطات الحجج لا بدَّ أن تكون منظومة الحجج لدينا واضحة ومفهومة ومرتبة بالترتيب الصحيح، كما لا بدَّ من الالتفات إلى مدى حجية كل حجة، أي مساحة حجيتها، لكي تحكم في تلك المساحة وتحكم غيرها في مساحة أخرى، وهكذا، فحينئذٍ نكون في مأمن من الفتن ولا نقع في الزيغ والعياذ بالله.

* * *
الفصل الرابع: حقيقة ومراتب الحجج

حقيقة معرفة الحجج:
الحكمة هي وضع الشيء في محله وموضعه، وهذا فرع معرفة محل وموضع ذلك الشيء وإلاّ لما أمكن وضعه فيه، وبعد معرفة موضع ومحل الشيء فإنّ الحق هو عدم مخالفة ذلك وعدم التقصير والغلو فيه، فإنّ الغلو آفة كما أن التقصير آفة أيضاً، فكل من الافراط والتفريط زيغ.
إذاً لا بدَّ من معرفة أصل حجية الحجة ولا بدَّ من معرفة مرتبة حجية الحجة في منظومة الدين وهذه من المعادلات المصيرية المهمّة في دفع غائلة الافتتان في البصيرة والمعرفة وهو معرفة مراتب الحجية، وأن معرفة مراتب الحجية هو في الحقيقة مساوٍ ومساوق لأصل معرفة حجية الحجج، فإنّ معرفة أن الشيء حجة من الحجج غير كافٍ للاعتماد والاستناد عليه كدليل وحجة، بل لا بدَّ في حقيقة معرفة حجية الحجة معرفة مرتبة حجيتها من بين منظومة الحجج، يعني هل أنها في مرتبة حجية أولى أم ثانية أم ثالثة... وحقيقة ذلك _ أي حقيقة معرفة مرتبة الحجة _ أن يُعلمَ أن كل دليل ودلالة وحجة هي حجة في مرتبتها ولا ترقى لتكون دلالة وحجة في المراتب الصاعدة، فهي ليست بحجة في غير مرتبتها.
فمثلاً حجة وبينة من المرتبة الرابعة لا يمكن أن يصاعد بها إلى المرتبة الثالثة، أو لو كانت من المرتبة الثالثة لا يمكن أن يصاعد بها إلى المرتبة الثانية وهلم جراً، وما ذلك إلاّ لأنّ مراتب الحجية في الحقيقة هي من قوام ذوات الحجج نفسها.
وبعبارة أخرى إن مراتب الحجية تساوق وتساوي أصل اعتبار حجية الحجة ضمن منظومة الحجج.
مثلاً خبر الآحاد حجة من الحجج، ولكن مرتبة حجيته لا تنهض في الحجية لمقاومة الخبر المستفيض لأن الخبر المستفيض أقوى حجية، أي أن الخبر المستفيض ذو مرتبة أعلى من خبر الآحاد في الحجية وإن كان خبر الواحد صحيحاً، وكذلك الخبر المستفيض لا ينهض ولا يمكن أن يتصاعد في حجيته لمقاومة ومناهضة ومجاذبة الخبر المتواتر لأن الخبر المستفيض ذو مرتبة أدون من مرتبة الخبر المتواتر، في الحجية وهلم جراً، وهذا معنى تراتبية الحجج.
معنى المتشابَه:
ومن هذا القبيل وصف القرآن التمسك بالمتشابَه بأنه زيغ أو سبب للزيغ لأن التمسك بالمتشابَه في مرتبة حجية المحكم هو تصاعد بالمتشابَه إلى مرتبة أعلى وهي مرتبة المحكم.
ربما يُظن أن المتشابه هو الذي ليس لديه دلالة أو حجية في نفسه، مع أن الحال ليس كذلك فإنّ التمسك بالمتشابه هو تمسك بالحجية الأضعف في مرتبة دليل وحجية أقوى.
وبعبارة أخرى إن نبذ الدليل في مرتبته والعمل بدليل وحجة من مرتبة أدون هو تمسك بالمتشابه، إذن المحكم والمتشابَه أمرٌ نسبي وليس أمراً ذاتياً، فالمحكم هو كل دليل وحجة أقوى ومهيمنة ومشرفة على حجة أضعف وأن التمسك بالمحكم هو العمل بالحجة والدليل في مرتبته والتمسك بالمتشابه هو عمل بالحجة والدليل في غير مرتبته أي في مرتبة أعلى من مرتبته.
فذم القرآن النصارى لتمسكهم بالحس مع أنهم رأوا قتل وصلب النبي عيسى عليه السلام لأن الحس لا يناهض ولا يصاعد به لمقاومة الاعجاز، فالتمسك بالحس في قبال الاعجاز هو تمسك بالمتشابه في قبال المحكم.
ومن اتّباع المتشابه ما وقع فيه بنوا إسرائيل من اتّباعهم للحس وهو العجل الذي له خوار وتركهم للبديهة العقلية اليقينية وهي أن الإله لا يكون جسماً ولا يكون مغلوباً على أمره وأنه مؤثر مطلقاً، وإن كان الحس يقينياً إلاّ أن المحسوس مؤثراته ضعيفةٌ في قبال مؤثرات المعلوم من الأوّليات والفطريات العقلية.
الحس يقين وظن:
بل إن القرآن الكريم يعبر عن الحس في مثل ذلك بالظن وهذا من الظرائف العلمية للقرآن الكريم إذ كيف يصف القرآن الحس بأنه ظن مع أن الحس من البديهيات واليقينيات؟
وما وصف القرآن للحس بأنه ظن إلاّ لأنه صوعد به إلى درجة أعلى من مستواه فيعبر القرآن الكريم عنه حينئذٍ بأنه تمسكٌ بالظن.
ثمّ يقول القرآن الكريم إن الظن لا يغني من الحق شيئاً (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً)(594) فالقرآن الكريم سماه اتّباعاً للظن مع أنهم رأوه باُمّ أعينهم مقتولاً مصلوباً.
نعم الحس يقين ضمن دائرته المحدودة، وأما لو حاولنا توسيع هذه الدائرة لنتمسك بالحس في تلك الدائرة الوسيعة فحينئذٍ يكون التمسك تمسكاً بالظن وليس تمسكاً باليقين.
وبمثال حسي مقرب لو كان عندنا مصباح ذو درجة (100 واط) فإذا أريد له أن يضيء فإنّ إضاءته في دائرته المحدودة إضاءة جيدة، ويمكن أن تستعلم الأشياء في ضمن تلك الدائرة بذلك الضوء، أما إذا أريد له أن يضيء مساحة أكبر ودائرة أوسع فإنّ نوره يكون متشابكاً مع الظلام فيضعف نوره والنور عندما يضعف يصير كالظلمة، فالاستصباح بمصباح ليس ذا قوة شديدة لا يري إلاّ مساحة قريبة، أما البعد الشاسع فلا يرى بالنور الضعيف، ونفس ذلك النور يلبس ويشبه الأشياء في البعد الشاسع والدائرة الأوسع، بل في دائرته المحدودة أيضاً لو اُريد الإبصار به للأشياء النواعم الظريفة لكان خارج عن قدرته وصلاحيته.
إذاً المتشابه في المفهوم القرآني للحجج ليس بمعنى أن الشيء بما هو هو ليس بحجةٍ، وليس الظن المريب بالمفهوم القرآني وأن الشي بما هو هو ليس بيقين، إنما الشيء في نفسه ليس بحجة أو ليس بيقين إذا كان التمسك به في مقابل حجة أقوى منه فيكون ظناً ويكون متشابهاً أي يجعل الحقائق متشابهة، كما أن النور الضعيف يشبه الأشياء عندما يستضاء به في طريق يحتاج لنور قوي لنفس النكتة وهي الحفاظ على تراتبية الحجج.
لا تقاطع ولا إقصاء في الحجج:
منظومة الحجج هي مجموعة من الحجج مرتبة ومنظمة بشكل خاص ووفق موازين خاصة وبهندسة إلهية محكمة، ولهذه المنظومة عدة خصائص وميزات من أهمها أن لكل حجة مساحة خاصة تكون هي المحكمة فيها دون غيرها من الحجج الأخرى، وبالتالي فاعطاء الحجية لحجة ما لا يعني سلب الحجية عن أخرى، ولا يعني أنهما قد يتقاطعان أو يتضاربان، بل بمقتضى هذا النظم الخاص في الحجج ليس هناك إقصاء لأيّ حجة وإن كانت هناك حجة أعلى منها، وما ذلك إلاّ لتعدد المساحات.
فمثلاً حجية النواب الخاصين لا تقصي حجية الفقهاء أو النواب العامين، فضلاً عن كونها لا ترقى ولا وتعلو حجية المعصوم، فالسفراء الأربعة للإمام المهدي عليه السلام وهم العمري وابنه والحسين بن روح ومحمّد بن علي السمري رضي الله عنهم كانت لهم حجية بلا إشكال وهذه الحجية تأتي بعد حجية الإمام فهم الباب للإمام وهذا واضح.
ومما يشهد لعدم التقاطع والإقصاء ما ذكره الشيخ الطوسي رحمه الله في كتاب الغيبة حيث قال: (أنفذ الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه كتاب التأديب إلى قم وكتب إلى جماعة الفقهاء بها وقال لهم: أنظروا في هذا الكتاب، وانظروا فيه شيء يخالفكم؟
فكتبوا إليه إنه كله صحيح، وما فيه شيء يخالف إلاّ قوله: في الصاع في الفطرة نصف صاع من طعام، والطعام عندنا مثل الشعير من كل واحد صاع)(595).
فإنّ النائب الثالث الحسين بن روح النوبختي رضي الله عنه كتب مجموع الروايات التي رواها عن رواة أصحاب الأئمّة في الفقه في كتاب ثمّ عرضها على فقهاء ورواة ومحدّثي قم، لأنّ قم كانت مركزاً للأشاعرة الذين نزحوا من الكوفة بايعاز من الإمام الصادق عليه السلام كي تكون هناك تعدد دوائر ومنابع لمدارس أهل البيت عليهم السلام.
وبعد عرض كتابه عليهم خطّأوه فيما رواه في زكاة الفطرة، حيث روى أن زكاة الفطرة نصف صاع، فقال فقهاء قم له: إن الفطرة في مذهب أهل البيت عليهم السلام هي صاع وليست نصف صاع.
وهذه الروايات التي جمعها النائب الثالث في كتابه وعرضها على رواة ومحدّثي قم لم يكن قد نقلها عن الإمام الثاني عشر عليه السلام، وإنما هي مجموع الروايات التي رواها عن أصحاب الأئمّة السابقين، وإلاّ فما ينقله عن الإمام الثاني عشر كيف يصححه غيره، فهو سفير الحجة ولا يعقل عرض روايات الإمام الثاني عشر على غير السفير ليصححها، وإنما تلك الروايات نقلها عن الرواة والصحابة للأئمّة السابقين، ومن هذه الجهة أي كون النائب الثالث يؤدي عن رواة الأئمّة فإنّه كشأن بقية الرواة قد يصيب وقد يخطئ لذلك خطّأه فقهاء قم.
وهذا حصل من النائب الثالث لأن دائرة حجية النواب والسفراء في دائرة ومساحة لا تتقاطع مع دائرة حجية الفقهاء ولا تلغيها، كما أن حجية الفقهاء في الغيبة الصغرى لم تكن تتقاطع وتتنافى وتتصادم مع حجية السفراء والنواب الأربعة فكل له دائرته ومساحته، فمساحة حجية النواب مساحة غير مساحة حجية الفقهاء ولا تلغي إحداهما الأخرى ولا تقاطعها.
كما أن حجية النواب لا تعلو المساحة والدائرة المحدودة الخاصة بهم، فهم وإن كانوا نواباً خاصين بحق وصدق لا بزيف كما هو الحال في الدعوات الباطلة إلاّ أن دائرة حجيتهم محدودة.
حجية الفقهاء في دولة الظهور:
والكثير ربما تسوّل له نفسه أن حجية الفقهاء ملغاة في دولة الظهور للإمام المهدي عليه السلام، وهو تفكير عجيب وغريب!!
فإنّ صلاحيات الفقهاء وحجيتهم وإن كانت محدودة لكنها تبقى في ظل وهيمنة دائرة حجية المعصوم، لذا لم يكن دور الفقهاء ملغياً في دولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ قوله تعالى: (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(596) تشير إلى دور ومنصب الفقهاء في زمن دولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من الإمام، فإذا لم يلغَ دور الفقهاء في دولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كيف نتصور إلغاءه في دولة المهدي عليه السلام.
وهكذا لم يلغَ دور الفقهاء في دولة أمير المؤمنين عليه السلام وهو أعظم من الإمام المهدي عليه السلام، ولم يلغَ دور الفقهاء في دولة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وهو أعظم من المهدي عليه السلام، وهكذا جميع الأئمّة من الإمام الحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنّة إلى الإمام الحسن العسكري عليهم السلام لم يكن هناك أيّ إلغاء وإقصاء لدور الفقهاء، فكيف نتصور إلغاء أو إقصاء في دولة الإمام المهدي عليه السلام، فإنّ الكوفة في عهد الإمام الصادق عليه السلام كانت تعج وتضج بالفقهاء، بل ويكثر فيها بيوت المرجعية كزرارة حيث كان بيتاً من بيوت المرجعية في الكوفة، وهكذا محمّد بن مسلم وعمّار بن موسى الساباطي وهشام بن الحكم وبريد بن معاوية العجلي، فإنّ الباقر عليه السلام يقول لأبان بن تغلب: (إني أحب أن يُرى في أصحابي مثلك، أجلس في المجالس وافتِ الناس)(597).
فإنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمعصومين عليهم السلام عموماً وإن كانوا على أعلى مستويات العصمة والقيادة والعلم و... ولكنه بحكم الحياة البشرية لا يرتبطون حساً مع كل فرد بشري من أفراد المجتمع؛ لذا لا بدَّ من جهاز وذراع وأيدي لاتصالهم بالقواعد الجماهيرية، وهذا الجهاز قد حدّده الله تعالى وهو الفقهاء، فهم أيدي وسواعد المعصوم، فمن يتفقه للدين ويكون ورعاً تقياً فهذا هو دوره بنص وفريضة من الله، أي يجعل عوناً من أعوان المعصوم وإصبعاً من أصابع المعصوم وخادماً من خدام المعصوم، وهذا فرض من الله عز وجل وأن هذه الآية _ آية النفر _ لا تنسخ بل ستظل خالدة إلى يوم القيامة، فمن ذا الذي تسوّل له نفسه أن يقول: إن هناك قطيعة بين الفقهاء الصالحين العدول وبين مسار المعصومين، وإلاّ لو لم يعتمد المعصوم على الفقهاء والعلماء و... فمن يكون المعين له ومن يكون ساعده وذراعه وواسطته للناس؟! أيعقل أن يكون الجهال والعياذ بالله هم سواعد المعصوم ورابطته بالناس، وإنما أمره الله تعالى باتخاذ العلماء ومن يكون ذا كفاءة في الفقه والتفقه لا الجهل والجهالة أمناء على شريعتهم ودين الله.
لذلك قال جعفر بن محمّد عليه السلام: (علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا، وذلك يدفع عن أبدانهم)(598) أي ثغور المعرفة وثغور البصيرة، فلا يستطيع أصحاب الدجل والعداء والحيل والزيف والباطل أن ينفذوا إلى حومة الدين ما دام جنود المعصومين موجودين وهم الفقهاء، فإنّهم وإن كانت حجيتهم نقطة في محيطات سماء المعصومين عليهم السلام ولكن هذه النقطة هي نظام جهاز المعصومين بهندسة وتخطيط من الله عز وجل، لأن الله عز وجل أراد لهذا الجهاز أن لا يخترق وأن يكون حصيناً، لذلك قال أئمّة أهل البيت: (الفقهاء حصون الإسلام)(599).
فالمعصوم لا بدَّ أن يتخذ حصناً وأعواناً له يعينوه بنص الآية الكريمة _ آية النفر _ قال تعالى: (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(600) لذلك لم تلغ حجية الفقهاء في الغيبة الصغرى وفي ظل نيابة السفراء الأربعة، إذ هو نظير الدائرة أو الوزارة فيها مدير ورؤساء شعب وموظفون وعمال وكل له دائرة عمل خاصة لا تتقاطع مع دوائر عمل الآخرين، أو نظير الوزارات والدوائر المتعددة تحت ظل رئاسة موحّدة للوزراء.
فإنّ السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى نظير الوزير والوزارة فلهم مسؤوليات معينة لا تتقاطع مع مسؤوليات الإمام عليه السلام ولا تتقاطع مع مسؤوليات الفقهاء الباقين، فإنّ حجية النواب والسفراء في الغيبة الصغرى لم تكن حجية مطلقة بل هي محدودة، أما في الغيبة الكبرى فقد قامت الدلائل والبراهين على بطلان كل مدّعي للسفارة والنيابة الخاصة، وإنْ كان للمهدي عليه السلام في دولة الظهور ولاة ونواب خاصون وهم أصحابه الثلاثمائة والثلاثة عشرة كما سيأتي بيان ذلك.
وهكذا الفقهاء الباقون من غير السفراء سواء كانوا في الغيبة الصغرى أو الكبرى، وحتّى في زمن الظهور فإنّ لهم مهاماً ومسؤوليات غير مهام ومسؤوليات الإمام عليه السلام وغير مسؤوليات السفراء، ولا يُتصور إلغاء أيّ من الحجج لحجة أخرى، فكما لا تقاطع في النظم الإدارية كذلك لا تقاطع في مراتب الحجية وتراتب الحجج.
ولذلك نلاحظ ترحم الإمام المهدي عليه السلام على علي بن بابويه والد الصدوق رضي الله عنهما وعلى غيره من الفقهاء مع أنهم لم يكونوا سفراء ولا نواباً خاصين وإنما كانوا فقهاء فحسب.
وهكذا لم نلاحظ أحداً من السفراء رضي الله عنهم حاول إلغاء دور الفقهاء، بل على العكس كما لاحظنا موقف الحسين النوبختي رضي الله عنه في عرض كتابه على فقهاء قم، وما ذلك إلاّ لعدم تقاطع الأدوار والمسؤوليات والحجج وأن الفقهاء وزراء معيّنون من قبل الله تعالى كخدام وأنصار للأئمّة عليهم السلام، إذ لما كان الأئمّة عليهم السلام يحتاجون للمعين والناصر في نشر وإرساء الدين الإسلامي، فمما لا ريب فيه أن يكون الناصر والمعين لهذه المهمة من الشرفاء النجباء الحلماء العلماء الاتقياء الصلحاء... لا من أيّ جنس ونوع كان، قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَْلْبابِ)(601).
اُمومة بديهيات العقل في المعرفة:
نعم، لو قلبت المقاييس وألغينا العقل أمكن كون أعوان وأنصار الأئمّة من المفضولين والجهّال...
ولكن كيف ذلك؟ فإذا كان الله تعالى يستدل على ألوهيته بأنه ليس بظلام للعبيد أي كأنه يقول استشرفوا واستكشفوا الوهيتي بعدالتي وعدم مخالفتي لبديهيات العقل! فكيف نلغي العقل ونعمل خلاف الموازين العقلية في اختيار وانتخاب أنصار وأعوان الأئمّة عليهم السلام في نشر دين الله تعالى؟!، وإلاّ فإنّ جعل أعوان الإمام عليه السلام من غير الفقهاء بأن يكونوا جهّالاً هو عين المخالفة لبديهيات العقل، إذ العقل حاكم بوجوب تقديم العالم وأهل الاختصاص والخبرة والنخبة ووجوب الاعتماد على الفقهاء في نشر الفقه.
من هنا نفهم سذاجة البعض المتشبّث بمتشابه دلالة الروايات والتي لا سند لها، حيث يقول بأن المهدي المنتظر عليه السلام عندما يظهر يقتل الفقهاء والعلماء...(602) فهو ظن في ظن وتخبط لعدم معرفة الحجج، وبالتالي فهو زيغ وضلال.
كما يتضح اندفاع توهم المتوهم بأنه مع ظهور الإمام عليه السلام لا تبقى حاجة ولا دور للفقهاء ولا للاستنباطات الظنية لأنه يمكن حينئذٍ للناس تحصيل العلم بالأحكام الواقعية من الإمام عليه السلام مباشرةً، لاسيّما وأن الإمام عليه السلام يقوم بإكمال عقول وعلوم الناس فلا يبقى هناك جهل؟
أنه مع تكامل علوم الناس وعقولهم فذلك لا يعني كونهم أنبياء كما لا يعني أن الطريق الذي يتلقون منه العلم هو قناة الوحي كما لا يعني صيرورتهم في مستوى علمي واحد، بل يبقى بينهم تفاوت وفوارق في المستوى العلمي والعقلي حتّى مع حصول تطور علمي وتكنلوجي هائل وتوفر وسائل الاتصال السريعة بحيث يكون بامكان كل شخص الاتصال بالإمام مباشرةً ليأخذ الحكم الشرعي القطعي الواقعي منه، فإنّه مع كل ذلك تبقى الفوارق العلمية والعقلية بين الناس، ومن ثَمَّ لا يكونون كلهم بدرجة حواريي وأصحاب الإمام عليه السلام الـ (313) وإذا وجدت الفوارق العلمية والعقلية بين عموم الناس فبالتالي يحتاجون إلى من هو أعلم منهم وأكثر إحاطة ليرجعوا إليه فيما قد جهلوه، أي ليكون واسطة بينهم وبين الإمام عليه السلام لايصال الأحكام ونحوها.
كما أن السُنّة التكوينية لقيام دولة الظهور ودولة الرجعة ليست قائمة على إيصال العلم لعموم الناس عبر قناة واحدة، بل تبقى القنوات الظنية على حالها ويبقى الدور المناسب في كل مجال لأهل التخصص والخبرة، وبالتالي يرجع الأقل علماً إلى من هو أكثر علماً، وهذا هو معنى رجوعهم إلى الفقهاء.
وبعبارة أخرى إن قوله تعالى: (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(603) لا يطرأ عليها النسخ، فهي تبين ترسيماً من الله تعالى لكيفية جهاز عمل المعصوم بعد قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(604)، فلا بدَّ للإمام من جهاز عمل وواسطة بينه وبين الناس، وإلاّ بمقتضى طبيعة البشر لا يمكن اتصال ملايين الناس بشخص واحد على درجة واحدة من الارتباط والفهم والتلقي، نعم تحدد قنوات تشعبية تنازلية الأكثر علماً في الأعلى ثمّ الأقل فالأقل ويكون الإمام عليه السلام على رأس الهرم، وهذا التنظيم في الشريعة لا ينسخ حتّى عند ظهور الإمام عليه السلام لاسيّما أن مفاد آية النفر في سورة التوبة متطابق مع مفاد آية الحكم: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذينَ أَسْلَمُوا لِلَّذينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتي‏ ثَمَناً قَليلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(605). في سورة المائدة كما تقدم بيان ذلك.
كما أن أصل حكم رجوع الجاهل للعالم يحكم به العقل ويشير إليه قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(606) فإنّ مفاد هذه الآية أشار إلى نفس هذا الحكم العقلي الفطري.
فإنّ الناس بالتالي يأخذون من الفقهاء الأحكام والتي تكون ظاهرية بلحاظ علم الإمام عليه السلام لأن ما عند الإمام عليه السلام أكثر واقعية، وقد ثبت في محله من علم الأصول أن الحكم وإن كان في رتبته واقعياً ولكنه بلحاظ حكم واقعي أكبر يكون ظاهرياً(607).
فما يعطيه ويبينه الفقهاء حينئذٍ حكم واقعي في رتبته ولكنه ظاهري بلحاظ ما عند الإمام عليه السلام، وهكذا من جهة كونه ظنياً أو يقينياً فإنّه تقدم أن اليقيني بلحاظ يقيني أعلى يكون ظناً _ كما أن الحس يقيني واعتبره القرآن ظناً في قبال المعجزة في فتنة بني إسرائيل والنصارى _ فما يبينه الفقهاء حينئذٍ هو حكم يقيني في مرتبته ولكنه ظني بلحاظ ما عند الإمام عليه السلام.
فما دام هناك تفاوت وفوارق في استقاء العلم فلا محالة يبقى لأهل التخصص والاختصاص دور وشأن، وهذا من ضروريات طبيعة الحياة والنظام الاجتماعي والنظام المعيشي البشري في عيشه العلمي والمعلوماتي.
وما هذه الشبه والإشكالات على الفقهاء ودورهم إلاّ لأجل استهدافهم وبالتالي استهداف النخبة في الدين لتحصل الفوضى فيه وهو مراد الأعداء، إذ من الطبيعي أن استهداف أيّ مجال من مجالات الحياة إنما يكون بالنيل من المتخصصين فيه لتحصل الفوضى حينئذٍ بذلك الاستهداف، فمثلاً من يريد النيل من مجال الطب لتعم الفوضى فيه وبالتالي يستغل الموقف في تحقيق مآربه إنما يبدأ باستهداف الأطباء الماهرين وبذلك يكون الطب فوضى، وهكذا في مجال الهندسة لمن يريد أن تحصل الفوضى فيها وذلك بالنيل من المهندسين الماهرين، وهكذا الكلام في بقية المجالات، لأنه في كل مجال من هذه المجالات هناك ترتب ونظم متسلسلة، وبمقتضى هذا النظم والتراتبية تحصل الحماية من التسويف واللصوصية والتدجيل.
فإنّ الرجوع لأهل الخبرة والاختصاص في كل مجال هو من فطرة البشر وضمن حدود معينة، وإلاّ فالبديهيات محافظ عليها في كل المجالات.
وعليه فاستهداف الفقهاء إنما هو من هذا القبيل، إذ يسلك الأعداء هذا الطريق لتحصل الفوضى في الدين والمناصب الدينية ليكون بإمكانهم الدجل والاختراق والتلصص في مناصب الدين، لذلك نجد أن أهل البيت عليهم السلام وضعوا قوانين خاصة وضوابط في تحديد المرجعيات والمناصب الدينية لا يمكن تجاوزها إذا حافظنا على أصول ثقافة الدين بالشكل الصحيح ونشر هذه الثقافة بين أتباع أهل البيت، وإلاّ فمن البساطة جدّاً التدجيل على الجهال وخداع السذج.
أنواع الحجج مفتاح البصائر:
مما لا ريب ولا شكّ فيه أن العاصم والمانع من التأثر بالشبهات وأن قوام استكشاف البصيرة في الفتن المعرفية أو العقائدية هو بمعرفة مراتب الحجج ويجب أن تكون مبيَّنة وبيِّنة لدى المكلف والمؤمن، فإنّه إذا استبانت واتضحت مراتب الحجية فسوف يفوِّت الفرصة على الشبهة والمتشابهات، فإنّما تدب وتنتشر الشبه والاستناد للمتشابهات إذا ضاعت والتبست مراتب الحجية ومدارجها وتسلسلها، لذا تقدم أن المنقذ من ظلامية الفتن والاثارات في البصيرة والمعرفة هو معرفة مراتب الحجية ومنظومة الحجج، ولا يكفي معرفة أصل حجية الحجة.
ثمّ بعد معرفة أصل حجية الحجة ومعرفة مرتبة تلك الحجة في منظومة الحجج لا بدَّ من قواعد رقابية استكشافية تبين علاقة الحجج بين بعضها البعض ونظامها ومحدودية كل حجة وأن تلك الحجة لا زالت في مرتبتها وحدودها، وأيضاً تكشف زيف وبطلان المدعي لحجية حجة في غير مرتبتها.
أما منظومة وسلسلة الحجج ففي أعلى مراتبها بديهيات وضرورات العقل، ثمّ توحيد الله تعالى، ثمّ بعده لسيد الأنبياء، ثمّ لسيد الأوصياء، ثمّ الأئمّة عليهم السلام، ثمّ الفقهاء والنواب بالنيابة العامة أو الخاصة، فهذه السلسلة الهرمية لكل منها حجية في مدى وحدود معينة ومساحة خاصة.
فمن روائع القرآن الكريم أنه يجذر ويبني ويؤسس مثل هذه النظم في منهج المعرفة، فكم من الأمم تضلل وتغش عقليتها ويصادر وعيها إذا حسبت أن الحجة حجةٌ بالاطلاق والتعميم، يعني بالاعتماد على الحجج بنحو اطلاقي غير محدود بحدود، فالآفة تنجم وتنشأ من ذلك الاطلاق والتعميم.
مراتب الحجج:
نقرأ في الدعاء في الحديث الشريف: (اللهم عرفني نفسك، فإنّك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك، اللهم عرفني رسولك، فإنّك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك، فإنّك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني)(608)، فهذه أربعة محاور وليست ثلاثة:
1 _ معرفة الله عز وجل.
2 _ معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
3 _ معرفة الحجة والإمام عليه السلام.
4 _ معرفة الدين.
فمعرفة الدين وليدة لمعارف ثلاث متراتبة متسلسلة متدرجة، والذي لا تستتب ولا تتم لديه معرفة الله تعالى بشكل توحيدي سديد وصائب لا تتم لديه معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّه إذا لم تعرف قدرة وحكمة وعظمة وصفات الله سبحانه وتعالى لم يعرف مقام النبوة والرسالة لأن مقام النبوة والرسالة ليس مقام خلافة وتبليغ عن مخلوق ما، بل هو مقام خلافة وتبليغ عن خالقٍ جبارٍ متكبرٍ عظيم حكيم عزيز...، فبقدر معرفة عظمة الله سبحانه وتعالى نستطيع أن نتفهم من ينسب وينتسب إليه في الخلافة والتبليغ.
فمن الجهالات التي ترى في جملة من الرؤى في المدارس الإسلاميّة حول مقام النبوة ما يكون منبعها جهالات في معرفة الله، لأنه لو عظم الخالق في كل شيء عظم من يستخلفه، لأنه يبلغ عمن نصبه وأرسله، فإذا عرفنا وعظمنا صفات المرسِل عرفنا عظم صفات المرسَل.
وإذا عرفنا عظمة وصفات المرسل والخليفة والمبلغ ومقاماته العظيمة وشؤونه العالية فلا محالة سوف نعرف عظمة الإمام وخليفة الرسول.
فهذه المعارف الثلاث متراتبة يعني لا يمكن أن تتم معرفة النبي بسداد وصواب إلاّ بعد معرفة الله سبحانه وتعالى بسداد وصواب، فمعرفة الله تعالى متقدمة على معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعرفة النبي متقدمة على معرفة الإمام، أي أن مراتب الحجية متراتبة متسلسلة متدرجة، ولذلك نلاحظ أن البينات والحجج العقلية وغير العقلية على توحيد الله تعالى أكثر بياناً وبرهاناً وجلاءً من البراهين والحجج التي على نبوة الأنبياء أو على نبوة سيد الأنبياء، وكذلك البراهين والبينات والحجج القائمة على نبوة سيد الأنبياء أكثر من البراهين والبينات القائمة على إمامة ووصاية سيد الأوصياء، وكذلك البراهين والبينات والحجج القائمة على إمامة سيد الأوصياء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أكثر من البراهين والبينات القائمة على إمامة الحسنين عليهما السلام، والبراهين القائمة على إمامة الحسنين عليهما السلام أكثر من البينات والبراهين القائمة على إمامة الأئمّة التسعة من ولد الحسين عليهم السلام. نعم، الإمام المهدي عليه السلام أفضل التسعة المعصومين كما في بعض الروايات، وكذا في خطبة الغدير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (... تاسعهم هو باطنهم وهو ظاهرهم وهو أفضلهم...)(609)، فيكون مقام الإمام المهدي عليه السلام بعد الخمسة أصحاب الكساء عليهم السلام، لأن الأدلّة على إمامته أكثر من الأدلّة القائمة على إمامة التسعة عليهم السلام، فلا بدَّ من الالتفات لتلك المراتب، فإنّه كلما ازدادت البيانات ازدادت الحجية فإنّ الحجية تشتد وتضعف تبعاً لزيادة البيانات والدلائل وقلتها، وكلما ازدادت شدة ودرجة الحجية ازداد وارتفع وعلا مقام تلك الحجية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الفضائل والصلاحيات مختلفة أيضاً، ولذلك فإنّ سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم هو إمام أيضاً إلاّ أنه إمام للأئمّة الاثني عشر، فإنّ لسيد الرسل مقام النبوة والرسالة والإمامة، لذا فإنّ الأئمّة تابعون مطيعون مسلمون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أنه صلى الله عليه وآله وسلم تابع ومطيع ومسلم لله تعالى.
يقول الإمام الرضا عليه السلام: (... لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليحرم ما أحلّ الله، ولا ليحلل ما حرم الله، ولا ليغير فرائض الله وأحكامه في ذلك كله متبعاً مسلماً مؤدياً عن الله وقول الله عز وجل: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ)(610) فكان متبعاً لله مؤدياً عن الله ما أمره به من تبليغ الرسالة)، قلت: فإنّه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما ليس بالكتاب وهو في السُنّة ثمّ يرد خلافه، فقال: (وكذلك قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء نهي حرام فوافق في ذلك نهيه نهي الله، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجباً لازماً كعدل فرائض الله تعالى، ووافق في ذلك أمره أمر الله تعالى، فما جاء في النهي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهي حرام ثمّ جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به، لأنّا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نأمر بخلاف ما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ لعلّة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو نحرّم ما استحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون ذلك أبداً، لأنّا تابعون لرسول الله)(611).
فهذه السلسلة محفوظة، فلا يمكن للرسول صلى الله عليه وآله وسلم _ والعياذ بالله _ أن يرد على الله تعالى أو يتخلف عن تبعية أوامره تعالى، فالأسس والأساس في التشريع من الله عز وجل وسُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تابعة لفرائض وأوامر وتشريعات الله وليست هي في عرض تشريعات الله بل هي تابعة وتأتي في الدرجة الثانية لفرائض الله، ولا يمكن أن نتصور ونفرض بأن سنن النبي ترفع فرائض الله، وكذلك سنن المعصومين عليهم السلام من أئمّة أهل البيت تابعة لسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفرائض الله تعالى، ولا يمكن حينئذٍ أن تكون سنن الأئمّة المعصومين عليهم السلام رافعة أو مضاددة لسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفرائض الله _ والعياذ بالله _.
وكذلك فتاوى الفقهاء تابعة وفي كنف فرائض الله وسنن النبي وسنن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، ولا يمكن لفتاوى الفقهاء أن تخرج عن فرائض الله ولا عن سنن النبي ولا عن سنن الأوصياء، فإنّ جميع فقهاء مدرسة أهل البيت يذكرون أن التقليد واتباع الفقيه في الفتاوى إنما هو في غير الضروريات المعلوم حكمها من فرائض الله وسنن النبي وسنن الأوصياء.
يعني أن فتوى الفقيه لها دائرة محدودة معلمة ومخطوطة بخطوط حمراء، وتلك الخطوط الحمراء هي ضرورات فرائض الله وضرورات سنن النبي وضرورات سنن الأوصياء، فبالتالي ما علم أنه من فرائض الله بالضرورة وما علم أنه من سنن النبي بالضرورة وما علم أنه من سنن الأوصياء بالضرورة لا يمكن للفقيه أن يتجاوزه، فهو يستنبط ويستكشف ما هو نظري في دائرة النظريات من أحكام الله وأحكام الرسول وأحكام أئمّة أهل البيت، كل ذلك في كنف فرائض الله وسنن النبي والأوصياء، ولا تخرج تلك الاستنباطات عند الفقهاء عن دائرة تلك الضروريات.
وربما يتوهم البعض وجود تهافت في كلام علماء الأصول، حيث إنهم من جهة يقولون: إن إجماع الفقهاء من غير دخول المعصوم فيه ليس بحجة، ومن جهة أخرى يقولون بأن فتوى الفقيه حجة، فكيف تكون فتوى الفقيه منفرداً حجة مع أن مجموع الفقهاء من غير المعصوم لا قيمة له في الحجية، فهل هذا تهافت أم ماذا؟!
ويرتفع توهم التهافت إذا دققنا في مساحة حجية الفقهاء، فإنّ فتوى الفقيه إذا كانت في غير العقائد وغير الضروريات وكان الفقيه مستنداً للموازين الشرعية المقررة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام أي إذا كانت فتواه وفق الموازين الشرعية وفي مجال النظريات والمتشابهات من الفقه فإنّ فتواه حجة.
أما فتوى الفقيه بل لو أجمع الفقهاء على الافتاء فيما يخالف الضروريات أو العقائد الأصلية أو ما لم يكن على الموازين بحسب البحث الاستدلالي لدى فقيه آخر فحينئذٍ فتواهم ليست بحجة، فإنّ هكذا قضايا وموازين ليست ضمن مساحة حجية الفقهاء ولا لأهل الخبرة وإنما لا بدَّ من إعمال البراهين والرجوع للبديهيات والضروريات، والتمييز بين هاتين المساحتين واضحة وسهلة مع وجود الوعي في البصيرة.
فلا يمكن لفقيه أن يرفع فرضاً كوجوب الصلاة بل حتّى لا يمكن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرفع مثل هذا الوجوب لمحدودية سنن النبي وكونها في كنف فرائض الله، فإنّ أصل وجوب الصلاة والصوم وباقي الفرائض الضرورية هي من فرائض الله، كما أن زيادة الركعتين في الصلاة الرباعية عند كل المسلمين من سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه سُنّةٌ للنبي في كنف وظل وتابعية فريضة من فرائض الله وهي وجوب الصلاة، وكذلك سنن الأئمّة المعصومين عليهم السلام هي في كنف وظل فرائض الله وسنن النبي، يعني أنها لا تتجاوز وجود الفرائض الإلهية والسنن النبوية، كذلك فتوى الفقهاء في حرمة الزنا وحرمة اللواط والربا مثلاً لا تتجاوز فرائض الله وسنن النبي ومناهج الأئمّة.
ومن لم يحافظ على هذه التراتبية والمحدودية وقع في زيغ وفهم خاطيء لبعض الروايات كرواية الدين الجديد، حيث قال أبو جعفر عليه السلام: (يقوم القائم بأمر جديد، وكتاب جديد، وقضاء جديد، على العرب شديد، ليس شأنه إلاّ السيف، ولا يستتيب أحداً، ولا تأخذه في الله لومة لائم)(612) حيث فهم أن الإمام المهدي عليه السلام عند ظهوره يأتي بدين جديد وقرآن جديد ويدعو إلى شيء غريب... فيفهم أن الإمام _ والعياذ بالله _ يرفع وجوب الصلاة ووجوب الزكاة والحج ويرفع حرمة الفواحش والربا ويأمر بقطع الرحم... الخ، وهذا مستحيل، لأنّ صلاحيات الإمام لا تخرج عن صلاحيات الله وصلاحيات رسوله.
بل إن هذا هو معنى الغلو لأنّ معنى عدم الغلو في الأئمّة أن لا نعتقد أنهم يأتون بشريعة جديدة تناهض وترد على شريعة الرسول _ والعياذ بالله _ بل نقول هم مسلمون وتابعون ومطيعون لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فالاعتقاد الصحيح بإمامة أهل البيت عليهم السلام هو أنهم أئمّة منصوبون من الله تعالى وهم خلفاء الله ورسوله ومرتبطون بالغيب وليسوا بأنبياء، فلا يأتون بشريعة غير شريعة الرسول، ولا يخرجون عن دائرة شريعة سيد الرسل وخاتم الأنبياء.
كيف نتصور أن شخصاً يتشبث برواية أو روايتين أو حتّى عشرة أو مئة، ويتوهم بحسب هذا الفهم والتفسير الخاطيء أن المهدي عليه السلام يأتي بدين جديد بمعنى أنه يأتي بدين غير منضبط ضمن قوالب الحجية، وأنه _ والعياذ بالله _ يأمر باستباحة المحرمات التي حرمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ويأمر بترك الواجبات التي فرضها الله تعالى، كيف يتصور ذلك وأيّ عاقل يقبل به.
بل حتّى لو فرضنا أنه يأتي بدين جديد فلا بدَّ أن يكون ذلك الدين منظماً ومنضبطاً ضمن مراتب وقوالب الحجية، وإلاّ كان الضلال والاضلال كما هو الحال في الفرق الضالة والمنحرفة والمدعية للزيغ في الغيبة الصغرى، كما يذكرها الشيخ الطوسي رحمه الله(613) في كتاب الغيبة كالشلمغانية والشريعية وغيرها، وما ذلك إلاّ لاختلاط وعدم ترتب منظومة الحجج عندهم فضلوا وأضلوا جماهيرهم بتصويرهم أن حجية الإمام عليه السلام فوق حجية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وكيف نتصور أو يعقل أن تأتي مدرسة من المدارس الإسلاميّة بخبر أو رواية حتّى لو فرضنا صحتها ينسبونها للرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيها ردّ على القرآن الكريم وتحريم ما أوجبه الله تعالى فيه، فمثلاً بعد أن ثبت أن القرآن الكريم يدعو إلى التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجعله من الأركان ومن أصول الإيمان في قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(614) فيأتي البعض ويحرم التوسل اعتماداً على روايات ينسبها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن التوسل باب معنوي لطلب الاستغفار من الله تعالى، بل التوسل بالنبي وآله من أركان الدين كما تقدم بنص القرآن حيث يأمر: توسلوا وتوجهوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقوله: (جاؤُكَ) معناه بالعامية الدارجة (دخيلك يا رسول الله) فهو توجه وتوسل بالله تعالى، لكن لا مباشرةً، بل من طريق الباب وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لذا يأمر القرآن بالتوجه والتوسل ولو عن بعد المسافات، أليس كل المسلمين يقولون في صلاتهم: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) مخاطبين الرسول بذلك، و(الكاف) في اللغة العربية للمخاطب الحاضر، وهو تشريع في ضروري من ضروريات المسلمين، بل في فعل توحيدي وهو الصلاة، حيث شرع فيها خطاب وتوسل وتوجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
كما أن فقهائنا كالشيخ الطوسي والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الصدوق والشيخ الحلبي والشيخ ابن إدريس والشيخ ابن زهرة والشيخ سلار وكافة القدماء رحمهم اللهيفتون باستحباب السلام على الأئمّة عليهم السلام بعد التسليم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقبل (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) حيث يقولون: يستحب أن تقول: (السلام على الأئمّة الراشدين المهديين من آل طه وياسين)(615).
إذن كافة المسلمين يتوجهون في الصلاة بالتسليم على النبي وهم لم يخرجوا من الصلاة وهذا من ضروريات المسلمين فقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ)(616) يعني لا يتوجهون إلى الله إلاّ بأن يطرقوا باب الله الأعظم وهو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فطرق الباب أوّلاً ثمّ التمكن من الولوج في الساحة الربوبية، قال تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(617) والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو باب الله الأعظم، وباب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو علي بن أبي طالب عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تواتر عنه: (أنا مدينة الحكمة وأنت يا علي بابها)(618)، فمن أراد المدينة والحكمة فلا بدَّ أن يأتيها من بابها.
فمن وفودنا على وصي النبي نستطيع أن نفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن وفودنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتجائنا وتوجهنا وتوسلنا ولواذنا به نكون قد وفدنا على الساحة الربوبية وتوجهنا إلى الله عز وجل.
وأيضاً في قوله تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)(619)، فلم يقل: تعالوا إلى الله مباشرةً، إذ الباري لا يباشر ولا يتباشر ببشرة، بل لا بدَّ من الوفود على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أوّلاً فهو الشافع المشفع، ولكن ما هو فعل المنافقين؟ (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ)، فالقرآن الكريم يبيّن أنهم ليسوا موحدين، بل هم مستكبرون.
والاستكبار صفة وسُنّة إبليس اللعين إذ استكبر ولم يسجد لآدم عليه السلام حيث يقول: (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً)(620) فسُنّة إبليس الاستكبار عن التوسل والتوجه.
قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(621) هذه الآيات من سورة آل عمران يحدّثنا القرآن فيها أن نبوات الأنبياء نالوها بشفاعة سيد الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهكذا الآيات من سورة الأعراف: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)(622) تبيّن لنا بأنه من دون التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخل المسلم الجنّة ولا ترتفع لديه عقيدة، حيث يقول: (كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها) أي تكذيب واستكبار وليس تكذيباً فقط، وإنما تكذيب واستكبار على الأنبياء والرسل والأولياء الصالحين، وهم آيات من آيات الله تعالى، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)(623) وأكبر وأعظم آيات الله هو الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم السلام.
ثمّ إن القرآن عبّر: (اسْتَكْبَرُوا عَنْها) ولم يعبر: (استكبروا عليها)، فما الفرق بين استكبروا عليها وبين استكبروا عنها؟
ذكر في كتب الأدب واللغة أن فعلاً ما قد يضمن معنى فعل آخر ثمّ يؤتى بأداة تناسب المعنى المتضمن، فالمعنى حينئذٍ استكبروا وصدوا عنها، فيقول القرآن: إن أولئك استكبروا وصدوا عن التوسل والتوجه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولووا رؤوسهم ويصدون وهم يستكبرون، أي كما فعل إبليس اللعين إذ استكبر عن آيات الله.
وأكبر آيات الله هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فالتوجه والتوسل والخضوع لآيات وحجج الله شرطٌ وركن ركين كي تنفتح أبواب السماء لعملك ولعقيدتك (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(624) فالصعود والرفع مشروط بالخضوع والتوجه والتوسل لنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ولحجج وآيات الله.
والمستكبر عن آيات الله محالٌ أن يدخل الجنّة كما يعبر القرآن (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ)(625) إذن لا ننجو ولا يقبل ولا يصح إيماننا إلاّ بالاتيان بفريضة إيمانية من فرائض القرآن الكريم وهي التوسل والتوجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذن لا بدَّ أن نقرأ رواية الدين الجديد الذي يأتي به المهدي عليه السلام في ظل هذه المسلّمات، يعني في منطقة غير الضروريات من فرائض الله تعالى وسُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهاج الأئمّة عليهم السلام أي في تلك المنطقة الوسيعة وهي منطقة النظريات التي اكتنفها تشابه وريب واختلاط عبر القرون، ومع ذلك لا يأتي عليه السلام في تلك المنطقة إلاّ بما هو حق حقيق.
لذا نقرأ في دعاء الندبة:
(أين المدخر لتجديد الفرائض والسنن، أين المتخير لإعادة الملّة والشريعة، أين المؤمل لإحياء الكتاب وحدوده، أين محي معالم الدين وأهله)(626).
وكذا في دعاء العهد:
(واجعله اللهم... ومجدداً لما عطل من أحكام كتابك ومشيداً لما ورد من أعلام دينك وسنن نبيك صلى الله عليه وآله وسلم)(627).
وهكذا في دعاء الافتتاح أيضاً:
(اللهم اجعله الداعي إلى كتابك والقائم بدينك)(628).
وهكذا في دعاء يدعى به في زمن الغيبة والمروي عن صاحب الزمان عليه السلام: (... وجدد به ما امتحى من دينك وأصلح به ما بدل من حكمك وغُيِّر من سُنّتك حتّى يعود دينك به وعلى يديه غضاً شديداً صحيحاً لا عوج فيه ولا بدعة فيه)(629).
وغيرها من الأدعية.
ففي دعواتنا والتزاماتنا وتوجهاتنا أنه عليه السلام يحي دين الله ويعمل بكتابه وسُنّة رسوله ويسير على نهج الأئمّة السابقين، لا كما يذكر من الفهم المعوج المزعوم استظهاره من آحاد الروايات _ والعياذ بالله تعالى وحاشاه عليه السلام _ من أنه يميت القرآن وسُنّة النبي ونحو ذلك.
فبالاعتماد على انحفاظ تراتبية الحجج ومعرفة مراتب الصلاحيات نفهم الرواية بالفهم الصحيح، أما إذا اختلطت علينا مراتب الحجج ودلائل الدين وصارت فوضى وفوضوية في البصيرة والمعرفة نصل لفهم واستنتاج خاطئ ومعوج وننزلق في متاهات وظلمات ونخرج من الدين.
إذاً هناك تراتبية في منظومة الحجج لا يمكن هدمها ولا تقديم شيء منها على غيره، فإنّ توحيد الله تعالى إنما يتم وفق الموازين العقلية وبديهياته فتكون بديهيات العقل في أعلى مراتب الحجج ثمّ توحيد الله، وأن نبوة أيّ نبي لا بدَّ أن تكون من خلال توحيد الله، فنبوة الأنبياء لا بدَّ أن تكون في كنف وظل وهيمنة توحيد الله، وهكذا إمامة أيّ إمام بالنسبة لنبوة الأنبياء، وهكذا بالنسبة للفقهاء مع الأئمّة عليهم السلام، فتكون الحجج مرتبة بالترتيب الهرمي هكذا بديهيات العقل ثمّ توحيد الله تعالى ثمّ نبوة الأنبياء ثمّ وصاية الأوصياء ثمّ النواب الخاصون والنواب العامون.
وسيتضح هذا الترتيب جلياً من خلال بيان كيفية إعمال القواعد الرقابية في الفصل الآتي (الخامس).
تراتب حجية الأئمّة:
قد يستفهم البعض عن لابدّية الضبط والانضباط في الحجج ضمن نظام خاص ومنظومة خاصة؟
ولكن بالالتفات لما تقدم والاغراض والحِكَم التي لأجلها أوجد الله تعالى هذا الخلق العظيم فإنّه تعالى أراد لهذا الخلق التكامل والسير في طرق تحصيل الرضا منه تعالى.
ولما كان الشيطان قد وضع حبائله وعمل بأساليبه الخبيثة لايجاد طرقٍ مزيفة لإضلال الناس وإيقاعهم في الزيغ ليتركوا الطريق الذي رسمه الله تعالى لهم.
من هنا جاءت الحاجة لطريق وقناة اتصال بالحق وبعالم الغيب ولابدَّ أن تكون قناة يقينية الصدق وهي قناة المعصومين عليهم السلام فكان سيد الرسل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم القناة الوحيدة الذي له القدرة على الاتصال بعالم الحق ومن خلاله يتصل عالم الإمكان بعالم الحق تعالى، فإنّ ما يتلقاه سيد الرسل عن الله تعالى يعظم حتّى ما يتلقاه جبرائيل عليه السلام ليوصله للنبي ويعظم ما يتلقاه روح القدس ليوصله للنبي، وهذا مؤيد ومدلل عليه بروايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم حيث نقل أنه صلى الله عليه وآله وسلم تعرضه الغشية، وفي بعض الروايات أن ذلك حينما لا يكون بينه وبين الله تعالى ملك ولا وسيط، وكما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (لي مع الله حالات لا يسعها لا ملك مقرب ولا نبي مرسل)(630) وفي بعض الروايات (لنا) بدل (لي) أي أن قناة الاتصال من العظمة والشأن بحيث لا يتحملها إلاّ محمّد وأهل بيته عليهم السلام.
ومما يؤيّد ذلك ما ورد في آية الإسراء وروايات أهل البيت عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآى في المنام بني أمية وبني مروان ينزون على منبره فغم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، فنزل عليه جبرائيل وسأله عن سبب اغتمامه فأخبره الرسول بما رآى، فقال جبرائيل: إن ذلك شيء لم أعلمه فعرج إلى الله تعالى فأنزل هذه الآية من قوله تعالى: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)(631) أي أن هناك من عالم الحق وعالم الغيب ما يوصله الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرةً من دون المرور بجبرائيل ولا غيره.
لذلك تقدمت حجية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصارت بعد حجية الله تعالى، ثمّ جاءت حجية الأئمّة عليهم السلام بعد حجية الرسول وقبل حجية جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، ويشير لذلك ما في الزيارة الجامعة (... حتّى لم يبق نبي مرسل ولا صديق... إلاّ عرفتهم جلالة أمرهم حتّى لا يطمع...)(632) من هنا تبيّن قول أمير المؤمنين عليه السلام: (نزّهونا عن الربوبية وقولوا فينا ما شئتم)(633) وما عن الصادق عليه السلام قال بعد أن سُئل ما أنتم: (خزان علم الله وتراجمة وحي الله، ونحن قوم معصومون أمر الله بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض)(634).
فحجية الرسول بعد حجية الله، ثمّ حجية الأئمّة عليهم السلام، ثمّ حجية الفقهاء، ولكن حجية الأئمّة أيضاً لها تراتبية خاصة بحيث لا يمكن للإمام اللاحق تجاوز حجية الإمام السابق، فإنّهم عليهم السلام قناة واحدة متصلة ذات تراتب طولي يبتدئ بالرسول الأعظم وينتهى بالمهدي المنتظر عليه السلام.
فإنّه ورد في الكافي: (لا يتنزل شيء من الله تعالى إلاّ ويتنزل أوّلاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ على علي أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين حتّى الإمام المهدي سلام الله عليهم أجمعين)(635).
فهم عليهم السلام قناة واحدة ويكون الإمام الأخير فيها له الإمامة الفعلية فقد روي عن الصادق عليه السلام قال: (حب ولايتي لجدّي علي بن أبي طالب أحب إليَّ من نسبي إليه)(636) ونظيره روي عن الكاظم عليه السلام، يعني أنه عليه السلام يتولى الطاعة لأمير المؤمنين والولاية له مع أن كلاً منهما حجة وإمام معصوم.
وبالتالي فإنّ هرم القيادة والإمامة والولاية تبقى محفوظة في هذه السلسلة فإنّ إمامة وقيادة وولاية وحجية الأئمّة السابقين مفعلة دائماً كما أن حجية الله تعالى مفعلة حتّى مع وجود الأنبياء والأوصياء فكذلك الأئمّة السابقون، وهذه قاعدة في الحجج، فإنّ الحجة الأعلى تبقى مفعلة دائماً حتّى مع فعلية الحجة الأقل والأدون.
من هنا يندفع توهم البعض بأنه كيف يتفق في دولة الرجعة رجوع أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام مع أن الإمامة الفعلية للمهدي عليه السلام، إذ من المعلوم أن أمير المؤمنين والحسنين أفضل من المهدي عليه السلام، فكيف نتصور وجود الأفضل مع أن الإمامة الفعلية للأقل فضلاً؟
فإنّ هذا مندفع إذا التفتنا إلى أن كون الإمامة الفعلية هي للإمام المهدي لا يعني عدم إشراف أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام على إمامة المهدي، وذلك لما قرر في جملة من الروايات وغيرها من الدلائل القرآنية أن ولاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وولاية أمير المؤمنين والحسنين لم تنقطع بانتقالهم إلى البرزخ وعالم الآخرة، فسلسلة مراتب الولاية محفوظة وأن طاعة الرسول لزومها فعلي على كل إمام من الأئمّة عليهم السلام كما ورد عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (كأني أنظر إلي القائم عليه السلام على منبر الكوفة وحوله أصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدة أهل بدر، وهم أصحاب الألوية، وهم حكّام الله في أرضه على خلقه، حتّى يستخرج من قبائه كتاباً مختوماً بخاتم من ذهب، عهد معهود من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيجفلون عنه إجفال الغنم البكم، فلا يبقى منهم إلاّ الوزير وأحد عشر نقيباً، كما بقوا مع موسى ابن عمران عليه السلام، فيجولون في الأرض ولا يجدون عنه مذهباً فيرجعون إليه، والله إني لأعرف الكلام الذي يقوله لهم فيكفرون به)(637).
وهذا نظير التشكيلات الحكومية في هذه الأزمنة فإنّ رئيس الوزراء هو المباشر للقيادة الفعلية والإدارة، مع أن رئيس الجمهورية يعد رسمياً له المنصب الأعلى ولا بدَّ لرئيس الوزراء أن يطيعه، بل إن قرارات رئيس الوزراء لا تسري ما لم يقرّها رئيس الجمهورية.
لذا لا بدَّ أن نفهم الإمامة بمعنى الجهاز المنظومي وليس بمعنى الفرد الواحد البشري، بل هي كتلة جهاز واحد متكامل عبارة عن سلسلة حجج مرتبة الأعلى فالأعلى، وأن الإمام المباشر والفعلي لا يعني كونه الأفضل، بل يكون للإمام الأعلى حجية ودور الإشراف في مرحلة فعلية إمامة الأقل حجية.

* * *
الفصل الخامس: القواعد الرقابية في المعرفة

بعد أن علمنا أن هناك أنواعاً من الحجج وأنها مرتبة ومنظمة وفق هندسة إلهية خاصة، وأن من الحجج ما هو محكم ومنها ما هو متشابه، وأن المحكم والمتشابه في الحجج أمر نسبي وليس ذاتياً لها إذ العمل بالحجة في مرتبتها محكم والعمل بها في غير مرتبتها متشابه، وعليه فإنه من ضمن هندسة إحكام منظومة الحجج لا بدَّ من ضوابط وقواعد معينة يعرف من خلالها أن العمل بتلك الحجة هل هو في مرتبتها ليكون العمل بها عملاً بالمحكم، أم صوعد بها لغير مرتبتها فيكون العمل بها عملاً بالمتشابه؟
وهذه القواعد هي نفس تحديد مرتبة كل مرتبة من تلك الحجج بحيث إن نفس تلك الحجة من جهة العمل بها في مرتبتها يكون عملاً بالمحكم، ومن جهة هيمنتها على الحجة الأدون منها تكون قاعدة رقابية تبيّن لنا نوع العمل بغيرها من كونه عملاً بالمتشابه.
ولذا يمكن أن تكون عندنا القواعد الرقابية التالية:
بديهيات العقل أولى القواعد:
أولى القواعد الرقابية هي بديهيات العقل، فلا يمكن لله تعالى أن يطالبنا بخلاف تلك البديهيات، فإنّه تعالى حيث يخاطبنا ويطالبنا بالتوحيد إلاّ أن ذلك ليس خلافاً لبديهيات العقل، فإنّه تعالى يقول: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)(638) فإنّ الله تعالى يرشد العقل السليم إلى بديهة من بديهياته وأنه لا بدَّ لهذا الكون والعالم من إله واحد وإلاّ لوقع الاضطراب والتنافر وبالتالي يقع الفساد، فإنه تعالى بهذه الآية لا يستدل على وحدانيته لأن الوحدانية من البديهيات وقد ثبت في محله أن البديهي ينبه عليه ولا يستدل له.
وهو بديهية عقلية كما أنه تعالى لا يأمر بالظلم ولا ينهى عن العدل والاحسان التي هي بديهيات العقل فقول الله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(639)، (وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(640)، (وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(641)، فلِمَ ينفي الله عز وجل عن نفسه الظلم ولِمَ يدافع عن نفسه؟ فهل يقع الريب أو الشكّ في الله تعالى أو في أمانته أو لكي يبيّن لنا أن بديهيات العقل لا يخالفها من قبح الظلم ونحوها؟
إنما ذلك منه تعالى لكي يبين لنا أن قُبح الظلم وحُسن العدل قواعد رقابية معرفية لمعرفة إلوهيته تعالى فيقول: لا تقصوا ولا تغلقوا ولا تُلغوا عقولكم فإنّ بديهيات العقل صرح مشيد لا يمكن تجاوزها، وأن أوامر الإله لا يمكن بحالٍ أن تتجاوز ذلك الصرح، فإنّ مساحة شأن صلاحيات الله وحجيته لا تناقض ولا تتعدى بديهيات العقل في إدراك الكمال لذا قال تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(642)، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)(643).
من هنا يتضح أن من يدعي الإلوهية والربوبية لا بدَّ أن لا يتجاوز بديهيات العقل السليم وإلاّ لو تجاوز أيّ بديهة منها فذلك كاشف عن بطلان دعواه، بل إنه بمجرد ثبوت إلهية الله تعالى ببديهة العقل لا بدَّ أن يكون الإله واحداً، فتضاف حينئذٍ بديهة لبديهيات العقل وهي بطلان دعوة أيّ مدعي للإلوهية.
ضروريات دين الله ثاني القواعد:
وثاني القواعد الرقابية يُبيّنها لنا القرآن الكريم من أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكل الرسل وكل الأنبياء حجيتهم وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى من دونهم إلاّ أنها بالنسبة إلى حُجية الله هي محدودة لأنّ حجية الباري تعالى فوق حجية الأنبياء بل إن حجية الأنبياء متفرعة على حجية الله، فحجية الأنبياء لا بدَّ أن تقع تحت ظل وهيمنة حجية الله تعالى، قال الله تعالى: (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ)(644) فمضمون الآية وعدة آيات أخرى تبيّن حدود طاعة أيّ رسول من الرسل ونبي من الأنبياء بأنها محدودة باطار وقانون ونظام التوحيد، قال صادق آل محمّد عليه السلام: (لم يبعث نبي إلاّ بتحريم أصول المحرمات)(645) فالمحرمات والفواحش لا يمكن لنبي أن لا يحرمها كما لا يمكنه أن لا يوجب الواجبات كالصلاة والصوم فهذه أصول لا يمكن لنبي أن يتجاوزها ولا يمكن له أن يرفعها لأنها من فرائض الله وأن دين الله واحد، فلو افترضنا جدلاً _ وإن كان محالاً وحاشى لساحة الأنبياء والرسل ذلك _ أن نبياً من الأنبياء أو رسولاً من الرسل دعا الناس إلى ما يخالف وحدانية الله تعالى أو لمخالفة ضرورة من ضروريات دين الله تعالى لسقطت حجيته والذي يكشف عن عدم نبوته أساساً أي يكون مدعياً للنبوة كذباً وليس هو بنبي حقيقةً، فإنّ توحيد الله قاعدة رقابية معرفية على حجية الرسل كما أنه لو فرضنا أن نبياً أباح محرماً إلهياً أو لم يوجب واجباً من ما قد فرضه الله تعالى في أصول الديانة فهو أيضاً كاشف عن سقوط حجيته وبالتالي عن عدم نبوته أساساً أيضاً لأن ذلك ليس من صلاحيات الأنبياء والرسل.
فالقرآن الكريم وبديهيات العقل تضع لنا نصاباً وضابطة لحجية الرسل والأنبياء وذلك أن مشروعية الرسل ورسالة الرسل وشرائع الرسل يجب أن لا تخرج عن التوحيد والتنزيه والتعظيم لله تعالى، وأن منتهى العلو والعلياء إنما هو للباري تعالى لا غيره وأن المبدأ والمعاد إليه جلّ وعلا، فضروريات الدين قاعدة رقابية على الرسل وعلى حجية الرسل لو تخطوها _ وحاشاهم ذلك _ لانكشف أنهم ليسوا برسل ولسلبت صلاحياتهم من النبوة والرسالة وبهذه القاعدة الرقابية نميز ونفرق ونستكشف صدق الرسول المحق من زيف المدعي للرسالة كمسيلمة الكذاب، فمن خلال تجاوزه لحدود توحيد الله أو لضرورات دين الله اتضح بطلان ما يدعيه لنفسه من النبوة.
فالرسل وإن كانوا معصومين ومنزهين يصطفيهم الله تعالى في غابر علمه إلاّ أن الله تعالى يقول: لا تلغوا ولا تقصوا عقولكم، بل إن الرقابة والفحص مستمر ولا بدَّ منها، لأن دين الله هو دين النور والهداية ودين المناهج والشرائع المنضبطة ودين البصائر لا دين العماية، فحجية الرسل تتلو حجية الله عز وجل فهي محدودة بحجية الله.
سنن الأنبياء ثالث القواعد:
وحجية الرسل بدورها ضابطة وقاعدة رقابية لمعرفة الناس لإمامة الأئمّة عليهم السلام أي أن حجية الأئمّة لا تخرج من هيمنة حجية سيد الرسل، فهم عليهم السلام لا يتجاوزون ضروريات سنن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام: (إني قاتلت على تنزيل القرآن وستقاتل أنت يا علي على تأويله)(646) فإنّ الأمير عليه السلام لم يكن ليتجاوز شريعة سيد الرسل بل مطبق لها وسائر على نهجها فهو حارب على تأويلها أي على تطبيق ما جاء به سيد الرسل.
لذا نقرأ في زيارة أمين الله: (أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده وعملت بكتابه...)(647) فهو عليه السلام تابع لضرورات فرائض الله وعامل بكتابه تعالى ومطبق لسنن سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم، فمن العلامات الكبرى لحقانية سيد الأوصياء أنه عمل بسُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس مبدلاً لها.
وهكذا كثير من الزيارات لأمير المؤمنين عليه السلام فيها نعوت كثيرة ومتميزة لسيد الأوصياء عليه السلام بأنه منفذ متقيد تابع لضرورات الدين ولسُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فبديهيات العقل وضرورات الدين وسُنّة سيد المرسلين قواعد رقابية تكشف للأمّة الإسلاميّة من هو علي عليه السلام ومن هو غيره، من هو إمام الهدى ومن هو إمام الضلالة، من سار على دين الله وسُنّة نبيه ومن خالف وأحدث وبدل في السُنّة الشريفة لسيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذا الزهراء عليها السلام وما أدراك ما الزهراء الصديقة الطاهرة بضعة الرسول سيدة نساء أهل الجنّة وهي تسود كل النساء الصالحات المؤمنات نزلت بحقها العديد من الآيات، التطهير، المباهلة، وسورة الإنسان وما اُسند إليها من صلاحيات الفيء وهي أقرب قربى النبي، والنصوص مفعمة في حقها عليها السلام ومع كل ذلك فإنّها في خطبتها ومحاججتها مع السلطة لم تطلب شيئاً من ذلك، وإنما قالت: (أفخصكم الله بآية أخرج أبي صلى الله عليه وآله وسلم منها أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان أوَلست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة)(648) ومفاد ذلك منها عليها السلام أنها تقول للعقول: إن دين الإسلام ليس دين عماء وعماية بل دين بصيرة، فابصروا بعقولكم هل خرجت عن ملّة أبي كي لا أرثه، أي أني لا زلت تحت القواعد الرقابية الواجب علي عدم تجاوزها فإنّي لم أتجاوزها فلم أخالف ضروريات الدين ولا سُنّة سيد المرسلين.
إذاً حجية الزهراء عليها السلام مع عصمتها وما لها من المقامات الأخروية والتكوينية وعلو شأنها مع كل ذلك هي في ظل ضرورات الدين وفرائض الله وضرورات سُنّة أبيها سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ومنهاج أمير المؤمنين عليه السلام، فحجية الله وحجية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحجية سيد الأوصياء عليه السلام فوق حجية الزهراء أي أن حجية الزهراء منضبطة ضمن إطار حجية الله وحجية الرسول، فلحجية الله والرسول الهيمنة على حجية الزهراء والأئمّة الأطهار عليهم السلام.
فمن هذا القبيل كلام سيد الشهداء عليه السلام يوم عاشوراء: (يا ويلكم أتقاتلوني على سُنّة بدلتها أم على شريعة غيرتها...)(649) فإنّ معنى ومؤدى هذه العبارة من الإمام الحسين عليه السلام أن إمامته وحجيته دون حجية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأن هناك قاعدة رقابية تحده إذا تجاوزها، فللغير أن يعرفه بتلك الحدود والمقررات ويحاسبه ويقاتله، وأما مع عدم تجاوزه دائرته وحجيته وأنه ما زال ضمن مرتبته فلا يحق للغير من العامة والناس مُسائلته ومقاتلته، بل اللازم اتّباعه وطاعته، وتلك القاعدة الرقابية هي دين الله وشريعة سيد الرسل، فضرورات وفرائض دين الله وضرورات وسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قواعد رقابية معرفية للناس على استقامة أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وهو أمر عظيم فالإمام الحسين لا يطالب الناس بالالتفات إلى عصمته وأنه ريحانة الرسول وأن الكثير من الآيات نازلة بحقه وأنه سيد شباب أهل الجنّة و... فإنّ كل ذلك مفروغ عنه ولا شكّ فيه، كما أنه لم يطالب بالالتفات إلى ما نُص عليه من إمامته وخلافته، بل طالب بالالتفات إلى أنه لم يخالف القواعد الرقابية المعرفية وهي دين الله وسُنّة رسوله فيقول: إني لم أخرج عن ضرورات فرائض الله ولا ضرورات سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّه ليس لي صلاحية ذلك، وإلاّ فلو خرجت عن ذلك لاستحللتم تكفيري وقتلي وسفك دمي.
فلننظر إلى الدين الإسلامي ومذهب أهل البيت كم هو رائع، فإنّه دين التثبت والعقل والبصيرة لا دين العماية، لو افترى على الله والعياذ بالله لأخذنا منه باليمين أو لقطعنا منه الوتين قال تعالى: (لأََخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)(650).
لذا فإنّ حجية الأئمّة عليهم السلام في ظل هيمنة حجية الله ورسوله وتابعه لها، كما يقول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: (إن الله حرم حراماً وأحل حلالاً وفرض فرائض، فما جاء في تحليل ما حرم الله أو في تحريم ما أحل الله أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك فذلك ما لا يسع الأخذ به، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليحرم ما أحل الله ولا ليحلل ما حرم الله ولا ليغير فرائض الله وأحكامه، كان في ذلك كله متبعاً مسلماً مؤدياً عن الله، وذلك قول الله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ)(651) فكان عليه السلام متبعاً لله مؤدياً عن الله ما أمره به من تبليغ الرسالة)، قلت: فإنه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما ليس في الكتاب وهو في السُنّة ثمّ يرد خلافه، فقال: (كذلك قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء نهى حرام فوافق في ذلك نهيه نهى الله، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجباً لازماً كعدل فرائض الله فوافق في ذلك أمره أمر الله، فما جاء في النهي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى حرام ثمّ جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به، لأنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ لعلة خوف ضرورة، فأما أن نستحل ما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو نحرم ما استحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يكون ذلك أبداً، لأنّا، تابعون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلمون له كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تابعاً لأمر ربه مسلماً له، وقال الله عز وجل: (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(652) وإن الله نهى عن أشياء ليس نهى حرام بل إعافة وكراهة، وأمر بأشياء ليس بأمر فرض ولا واجب بل أمر فضل ورجحان في الدين، ثمّ رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول، فما كان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى إعافة أو أمر فضل فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه، إذا ورد عليكم عنا الخبر فيه باتفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره وكان الخبران صحيحين معروفين باتفاق الناقلة فيهما يجب الأخذ بأحدهما أو بهما جميعاً أو بأيّهما شئت وأحببت، موسع ذلك لك من باب التسليم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والردّ إليه وإلينا، وكان تارك ذلك من باب العناد والإنكار وترك التسليم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشركاً بالله العظيم، فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله، فما كان في كتاب الله موجوداً حلالاً أو حراماً فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فما كان في السُنّة موجوداً منهياً عنه نهى حرام ومأموراً به عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر إلزام فاتبعوا ما وافق نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره، وما كان في السُنّة نهى إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكرهه ولم يحرمه، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والإتباع والردّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما لم تجدوه في شيء من هذا الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكم بالكف والتثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا)(653).
فكما أن الدين قاعدة رقابية على حجية الرسل، كذلك شريعة الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وسُنّة سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم قاعدة رقابية على حجية الأئمّة عليهم السلام، فليس من صلاحيات الأئمّة تبديل ضرورات سنن سيد الرسل، لذا قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة)(654)، فالأئمّة لما لم يكونوا أنبياء فهم لم يأتوا بشريعة غير شريعة سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه قاعدة رقابية أعطاها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم للأمّة الإسلاميّة لتمييز الإمام المحق من الإمام الباطل المبطل.
وهذا معنى تراتبية الحجج، أي أن بعض الحجج أكبر من البعض الآخر.
مواقف الزهراء عليها السلام رابع القواعد الرقابية:
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي أنا كالشمس، وأنت كالقمر، والزهراء كالزهرة، والحسنان كالفرقدين)(655)، فهذا التشبيه والفوارق منه صلوات الله عليه يذكرها لبيان تراتبية الحجج وأن بعض الحجج فوق بعض، فإنّ حجية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فوق حجية سيد الأوصياء، وحجية سيد الأوصياء فوق حجية الزهراء، وحجية الزهراء فوق حجية الحسنين عليهم السلام، فلا يمكن لسيد الأوصياء عليه السلام أن يتخطى مواقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يمكن للزهراء عليها السلام أن تتخطى مواقف سيد الأوصياء عليه السلام، ولا يمكن للحسنين عليهما السلام أن يتخطيا مواقف الزهراء عليها السلام في الأحداث التي جرت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما لا يمكن لإمام من أئمّة أهل البيت الأحد عشر أن يتخطوا الزهراء عليها السلام، لأن حجيتها فوق حجيتهم، كما ينسب إليه عليه السلام: (... وجدّتنا الزهراء حجة علينا...)(656) وهو مضمون أن نورهم اشتق من نورها كما في روايات النور المستفيضة، ومضمون أن من مصادر علمهم عليهم السلام مصحف فاطمة عليها السلام.
كما أن حجية الحسنين فوق حجية الأئمّة التسعة، فلا يمكن أن نتصور ونتعقل ما قد يذكر من الفهم المعوج من أن الإمام المهدي يدعو لمعاداة آباءه من الأئمّة وأنه يهدم قبورهم ومراقدهم وعدم تعظيمهم...(657).
فإنّ ذلك خلاف صلاحياته ورتبة حجيته عليه السلام فلا يمكنه نبذ اتّباع روايات آبائه وسننهم وضرورات الدين وسُنّة سيد المرسلين فله دائرة حجية لا يتعداها ولا يتجاوزها، ويؤكد ذلك ما يذكره الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة والشيخ الصدوق في كتاب كمال الدين وما في كتاب الغيبة للنعماني وغيرها من كتب الأصحاب أنه عليه السلام حينما وجهت إليه أسئلة على يد النواب الأربعة رضي الله عنهم فإنّه أكثر من تسعين بالمائة من الأجوبة وتوقيعاته الشريفة كانت إرجاعات لضرورات سنن آبائه السابقين عليهم السلام من رواياتهم وتراثهم الشريف لأن ذلك التراث من آبائه يمثل ضرورات سنن الرسول والأئمّة الصالحين الطاهرين، فهو عليه السلام بذلك يؤكد ويُشدد يد الناس عليها لأنها قاعدة رقابية معرفية لاستقامة الإمام الثاني عشر عليه السلام، لأن اعتقادنا بالإمام الثاني عشر فرع وتابع لاعتقادنا برسول الله ولاعتقادنا بالإمام علي بن أبي طالب ولأنّا اعتقدنا بالزهراء ومظلوميتها عليها السلام ولأنّا اعتقدنا بالحسنين عليهما السلام، فكيف يتصور أن الإمام الثاني عشر عليه السلام يتخطى إمامة أئمّة أهل البيت عليهم السلام لأنهم قاعدة رقابية على معرفة حجيته.
وحتّى لو فرضنا في عصر الظهور وبويع الإمام عليه السلام عند ركن الكعبة وحشدت أنصاره وهزم جيش السفياني وأقام الإمام الدولة المباركة على أرض العراق و...، فهل يمكن الاستغناء عن تراث أهل البيت عليهم السلام؟
كلا وحاشى، لأن تراث أهل البيت عليهم السلام فيه ضرورات سُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضرورات سنن المعصومين، والإمام المهدي عليه السلام وإن كان في الحقيقة ينبوع كل شيء ولكن لا يمكن أن يستغني عن ضرورات الدين وسنن النبي والأئمّة، وهو لا يتخطى ذلك لأن ضرورات الدين وسنن النبي والأئمّة من آبائه الطاهرين قواعد رقابية على حجيته.
فلو ادعى مدعي أنه الإمام المهدي، ثمّ تجاوز ذلك التراث لكشف ذلك عن زيف دعواه، فلا يتوهم متوهم أنه عليه السلام لأجل أن عنده علم كل شيء وبالتالي يتخطى ويقفز على شريعة جدّه حاشاه ذلك، بل هو يحيي شريعة جدّه في دائرة المتشابهات وما هو منسي من سُنّة النبي، لذلك فإنّ أحد المهام العظيمة للحوزات العلمية هو إبقاء دور الفقهاء كجهاز وأيدي وسواعد وأعوان للإمام المعصوم في دولة الظهور ودولة الرجعة وإن كان للإمام في دولته نواب خاصون.
ولا يتوهم أن الإمام عليه السلام بعد ظهوره حيث تتكامل العلوم والعقول فلا تبقى حاجة لتراث أهل البيت عليهم السلام، لأن الاعتقاد بالإمام والإمامة وحجيته لا تعني الغلو بأن يعتقد بأن صلاحية الإمام هي صلاحيات النبوة، لأن المجيء بشريعة جديدة ناسخة لشريعة سيد المرسلين باطل بالضرورة.
كما لا يعتقد في الإمام الألوهية بأن ينسخ ضروريات وفرائض الله تعالى وضرورات الدين الإلهي، فلا نسخ في ضروريات الدين ولا ضروريات سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن بديهيات العقل، فلا محالة تكون هذه الضروريات بمنزلة قاعدة يستكشف بها صدق الإمام وأنه إمام الحق الموعود.
فكيف يفرض ويتوهم رفعه لمثل تلك الضروريات وقد وصف عليه السلام في كثير من الروايات أنه يحيي كتاب الله وسُنّة النبي ومنهاج آبائه الأطهار لا أنه يُميتها، فمع هذه الأوصاف كيف يُتخيل أو يُتعقل أنه يقصي ويشطب على تراث أهل البيت عليهم السلام الذي هو متضمن لضروريات الدين وسنن النبي وسنن الأوصياء ومناهجهم، وما أشبه هذا التوهم بتوهم من يتوهم أن القرآن يُقصى ويبعد ويستغنى عنه عند ظهور الإمام، فإنّ المتوهم يُعلل ذلك بأنه مع وجود القرآن الناطق وهو الإمام فلا حاجة للقرآن الصامت، وكأن هذا المتوهم يحسب أن ارتباط كل الناس بالقرآن الناطق خط مفتوح على مصراعيه في كل الأوقات والأحوال، ولو صح هذا التوهم لصرنا كلنا أنبياء! بوجود هذا الارتباط.
وكذلك الفقهاء والنواب سواء بالنيابة الخاصة أم العامة ليس من صلاحياتهم التعدي على سنن ومناهج الأئمّة عليهم السلام، فإنّ حجية الفقهاء متفرعة عن حجية الأئمّة، ولو جاز تعديهم لزاد الفرع على الأصل، إذاً حجية الأئمّة ودائرة سنن وضرورات الأئمّة عليهم السلام قاعدة رقابية معرفية على حجية الفقهاء.
لذلك لم تفتأ شيعة أهل البيت عليهم السلام من إعمال القواعد الرقابية حتّى على النواب الأربعة في الغيبة الصغرى رغم ما نص عليهم من قبل الأئمّة الأطهار عليهم السلام فإنّ القواعد الرقابية والفحص والتثبت وإعمال العقل لم تلغ حتّى في معرفة الله تعالى وحتّى في معرفة الرسل والأوصياء فكيف تلغى بحق النواب والسفراء والفقهاء، وهذا لا ينافي احترامهم وتبجيلهم، إذ هذه القواعد ضوابط معرفية في معرفة الرسل والأوصياء فكيف بمن دونهم، وإنما ذلك لأن حجيتهم محدودة وواقعة تحت حجية الأئمّة عليهم السلام فإنّ خروجهم منها يكشف عن إلغاء حجيتهم.
وهذا من روائع الإسلام أنه لا يقصي المعرفة والعقل، فالقرآن الكريم يعرفنا بأن معرفة الله تعالى لو تخطت العدل والاحسان والعياذ بالله لكانت معرفتنا بالله باطلة، وهكذا في معرفتنا وتصديقنا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنّه لا يخرج عن التوحيد، وإلاّ لو خرج بطلت حجيته ولانكشف أنه مسيلمة الكذّاب وأنه ليس رسولاً لله حاشاه من ذلك، ونحن إنما نذكر ذلك للتوضيح وإلاّ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حجيته ثابتة ويقينية ومعاذ الله أن نشكّك في ذلك.
وهكذا الإمامة لو خرج مدع لها وبدّل سُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لانكشف أنه ليس بالإمام المحق، لذا لم يفتأ علماء الإمامية ومدرسة أهل البيت عليهم السلام من تسجيل المؤآخذات على من بدّل سُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأن ذلك ليس بالأمر المنفلت وغير تابع لضوابط وقواعد وإنما أمر عظيم ومنضبط، قال تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ)(658).
فإنّ تبديل سُنّة النبي يعني عدم التبعية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وخروج عن الحق وعن الصراط المستقيم، فليس الأمر خيارياً يعمل أو لا يعمل ويتبع أو لا يتبع، وإنما هو أمر محتوم قال تعالى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(659) فهذا أمر موجه للكل بأن يطيعوا الله بما فيهم الرسول في الدرجة الأولى والإمام فضلاً عن عامة الناس وقوله: (أَطِيعُوا الرَّسُولَ) أمر موجه للكل بما فيهم الإمام في الدرجة الأولى فضلاً عن عامة الناس، فأوّل من أطاع الرسول هو علي بن أبي طالب عليه السلام، كما أن أوّل من أطاع الله هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو السابق على جميع الأنبياء والمرسلين والمخلوقين في طاعة رب العالمين.
وعلي بن أبي طالب هو السابق لطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ (أَطِيعُوا الرَّسُولَ) أمر موجه للكل بما فيهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام، بل ولعامة الأنبياء والمرسلين في الدرجة الأولى، ثمّ لسائر الخلق من الجن والإنس.
وقال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(660) فقوله: وأطيعوا أولي الأمر أمر موجه لعامة الفقهاء والنواب الخاصين بل حتّى للنبي عيسى عليه السلام، أوَلا يكون عيسى وزيراً للمهدي عليه السلام ويصلي خلفه(661)؟ فإنّ هذه الآية عامة، والنبي عيسى عليه السلام حي وكذا الخضر حي، فهما مشمولان بوجوب طاعة أولي الأمر من أهل البيت عليهم السلام.
منهاج الأئمّة خامس القواعد الرقابية:
فإنّ حجية الأئمّة عليهم السلام مهيمنة على حجية الفقهاء، لذلك نجد في أوّل الرسائل العملية للفقهاء يقولون: إن صلاحيتنا في الفتوى محدودة أي في غير الضروريات وفي غير العقيدة، فإنّ العقيدة من الدين الذي لا يغيّر باختلاف الآراء فهي ليست ضمن دائرة حجية الفقهاء.
لذلك نجد مدرسة أهل البيت عليهم السلام تؤكد وتحث عامة الناس على متابعة ومراقبة النواب والفقهاء.
فإنّ ما تقدم ذكره من جمع الروايات في كتاب من قبل النائب الثالث الحسين بن روح النوبختي رضي الله عنه وعرضها على فقهاء قم تؤكد ذلك، فإنّ النائب وإن كان يحظى بمنزلة خاصة وتبجيل الإمام الثاني عشر عليه السلام ولكنه من جهة روايته لروايات الأئمّة السابقين عليهم السلام فهو خاضع للقواعد الرقابية المعرفية وهي عدم تجاوزه لضرورات سُنّة الأئمّة المعصومين السابقين، فحتّى لو كان نائباً خاصاً يبقى تحت المراقبة والمتابعة ليعلم كونه ضمن دائرة حجيته ولم يتعدها وإلاّ سقطت حجيته، وانكشفت عدم نيابته وسفارته أساساً.
فإنّ حجية الأئمّة قاعدة رقابية معرفية على حجية السفراء والفقهاء، وإن حجيتهم تحت ظل وهيمنة حجية الأئمّة عليهم السلام، بل إن حجيتهم قطرة أو نقطة في محيطات وسماء المعصومين عليهم السلام.
لذلك فإنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كان يجعل مراقبين على كل والٍ من الولاة الذين يولّيهم في دولته، فأيّ والٍ منهم يتجاوز أو يتخطى الاستقامة وطريق العدل ويرتكب جوراً والعياذ بالله فإنّه عليه السلام يعزله مباشرةً، لأن صلاحيات الوالي عن علي بن أبي طالب عليه السلام لا تتجاوز حدود حجية علي بن أبي طالب عليه السلام ولا تتجاوز حجية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
فهكذا هي منظومة الدين، وهكذا يجب أن نعيها ونعرفها ونبصرها كي لا تشتبه وتلتبس علينا الفتن واللوابس، فإنّها منظومة محكمة في دين الله تعالى ودين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفي مذهب أهل البيت عليهم السلام إحكاماً تاماً، لذا لم يُلغَ دور الفقهاء في الغيبة الصغرى ولن يلغَ في دولة الظهور، لأن دولة الظهور هي دولة الإسلام الصحيح والتطبيق الواقعي لدين الله، فهي دولة العلم والعلماء لا دولة الجهل والجهلاء، ودولة الفضل والفضيلة لا دولة الرذيلة والرذائل، ودولة المكارم لا دولة السفاسف.
فباعتبار أن أصعب الامتحانات والفتن _ كما مرَّ _ هي في قوة العقل والفكر والبصيرة في الإنسان فلا بدَّ أن تلحظ منظومة الحجج والأدلّة ومراتب الحجج وإلاّ كان الأمر صعباً مستصعباً.
فإنّ الله تعالى في قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَْلْبابِ)(662) يخبرنا بأنه لا بدَّ أن تكون لنا منهجية في التفكير وفي المعرفة والبصيرة وألاّ نتبّع العشوائية والفوضوية.
وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَْحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ)(663) ليس خاصاً بالتوراة، بل هو من الدين الذي يعم كل بعثات الأنبياء ليحكموا بها حكم قضاء وسلطة تنفيذ وحكومة سياسية وقضائية وتشريعية وفتوائية، فقوله تعالى: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) أي الأنبياء، (وَالرَّبَّانِيُّونَ) أي الأوصياء والأئمّة المعصومون عليهم السلام، (وَالأَْحْبارُ) أي العلماء الفقهاء، فإنّ رتبة الفقهاء تأتي بعد رتبة الأنبياء والأوصياء، وإن كان الفقهاء قطرة من سماء الأنبياء ولا يقاسون بأحد من الأئمّة ولكن هذا لبيان عدم إلغاء دور الفقهاء وأن لهم مرتبة حجية على الناس وهذه المرتبة تحت ظل وهيمنة الأوصياء، وقوله: (بِمَا اسْتُحْفِظُوا) أمر للأنبياء بحفظ كتاب الله، والحفظ يكون بالعمل به وتعليمه وإقامته في البشرية، وبالتالي فهو أمرٌ للأوصياء بذلك أيضاً أي بأن يحفظوا كتاب الله، وهكذا الأحبار العلماء، وهذه الآية فريضة في كل الشرائع لأنها من فرائض دين الله عز وجل.
وإلاّ فإنّ اتّباع المتشابه ونبذ المحكم وعدم الوعي في المعرفة والبصيرة مرض عقلي والعياذ بالله ناشئ من الانحراف في السلوك والتطبيق، أي من ارتكاب المحرمات والفواحش، والتساهل في واجبات دين الله.
الواقع والاستكشاف في الحجج:
عندما نرتب وننظم هذه المراتب من الحجج ثبوتاً، أي ندركها ثبوتاً فإنّ لها ترتيباً ونظماً إثباتياً كذلك، والتفريق بين المقامين دقيق ويجب أن لا يكون هناك فصل إذ أن التغاير بينهما تغاير حيثي، ولا يمكن الفصل بين هاتين الحيثيتين.
فعندما نضع بديهيات العقل في رأس الهرم لمراتب الحجج فإنّا لا نفرط فيه ونجعله شاملاً حتّى لنظريات ومتشابهات العقل، وإنما العقل حجة وله هذه المرتبة في ضمن البديهيات من الأوّليات والفطريات ونحوها.
فالبديهيات العقلية جعلت قاعدة معرفية استكشافية حتّى في معرفة التوحيد إنما ذلك إذا كانت في دائرة مسلمة وواضحة وهي البديهيات، وأما في حدود الادراك العقلي النظري والذي يكون محل اختلاف الأنظار فلا يمكن أن يكون العقل في هذه الدائرة قاعدة محكّمة ومحكَّمة وميزان فصل، لأن هذه الدائرة من إدراكات العقل ليست مسلمة وليست واضحة وإنما هي محل اختلاف الأنظار!
وهكذا فرائض دين الله تعالى إنما كانت في المرتبة الثانية للحجج ثبوتاً إذا كانت في دائرة الضروريات، فهذه الدائرة هي القاعدة الاستكشافية والرقابية لحجية الرسول وتمييز الرسول المحق ممن يدعي الرسالة كذباً فذلك إنما يكون في حدود ما ثبت بالضرورة أنه من دين وفرائض الله تعالى، فلا يمكن لإله أن يأمر بغير العدل، لكن في ضمن الدائرة الضرورية من العدل وليس في الدوائر المتشابه منه، فإنّ حجية الباري تعالى وصلاحياته مهيمنة على حجية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ظل دائرة ما أدركناه بالضرورة أنه من تشريعات الله، أما في دائرة النظريات والمتشابهات من فرائض الله فإنّ حجية الرسول محكَّمة، فالرسول هو المبين للتشريعات التي لم ندركها بالضرورة.
فإنّا نستكشف الرسول المحق من المدعي كذباً من خلال تمرده وعدم تمرده على دائرة توحيد الله ودائرة ضروريات فرائض الله.
وهكذا نستكشف إمام الحق ونميزه من إمام الجور من خلال اتّباع سُنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في دائرة الضروريات، فليس للإمام تجاوز دائرة حجية الرسل فضلاً عن دائرة حجية العقل وضروريات فرائض الله تعالى.
فإنّ الإمام مشمول بقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(664) لذا فالأئمّة عليهم السلام في مناهجهم وطرائقهم المعصومة من الزلل والخلل لا يتجاوزون ولا يتمردون على دائرة ضروريات سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ثبوتاً وواقعاً، وأما إثباتاً واستكشافاً فمن خلال استمرار الرقابة والمتابعة للإمام وأنه في دائرة حجيته ولم يتجاوز ضروريات العقل وضروريات فرائض الله وضروريات سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه المتابعة لأجل تصحيح وسداد معرفتنا للإمام المحق وزيادة الإيمان به ولنميّزه عن إمام الجور، وبعبارة أدق نراقب معرفتنا للأئمّة من أوّل حياتهم إلى استشهادهم هل كان عملهم ضمن دائرة حجيتهم ولم يتجاوزوا ضرورات العقل والدين وسُنّة الرسول فهم أئمّة حق وإلاّ فنعلم أنّا لم نكن نتبع إمام حق، لذلك كانت من أبرز صفات أمير المؤمنين عليه السلام في أكثر الزيارات الواردة: (أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده وعملت بكتابه...)(665)، (اللهم اجعله الداعي إلى كتابك والقائم بدينك...)(666) فإنّ علامة إمام العدل وإمام الحق أنه محيي لسنن النبي ومقيم لفرائض الله تعالى ولا يتمرد عليها والعياذ بالله.
أهمية الحورات العلمية الدينية:
لذلك فإنّ من أحد الانجازات العظيمة للحوزة العلمية أنها تُبقي وتحافظ على درجة الادراك الضروري لضروريات الدين وسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنهاج أئمة أهل البيت عليهم السلام، تبقيها على مستوى الضرورة، لأنه بالنشر العلمي والتكريس والتركيز العلمي تبقى الأدلّة بديهية ومعلومة وبيّنة لدى عموم المؤمنين والمسلمين.
وأما لو طرأ النسيان والغفلة والابتعاد والهجران للدين والكتاب والسنة حينئذٍ تعود البديهيات والضروريات نظريات، وهذا أمرٌ خطيرٌ جدّاً، لأن حومة الدين تصبح فريسة وضحية لكل عابث ومُتلصص، لأن الضرورة صفة إدراكية في عقول البشر قد تتأثر بعوامل الزمن والهجران والنسيان وغيرها.
من هنا نفهم أن أعداء أهل البيت لماذا سعوا كثيراً لتدمير الحوزات العلمية واستهداف طلبة العلوم الدينية، فإنّ هؤلاء يقومون بدور مهم ومسؤولية خطيرة وهي حفظ الدين في بيئته الادراكية لدى العقول والمحافظة على حياة الدين فهما ضمان لامتداد مسار وخط الأنبياء من خلال إبقاء الحالة العلمية والادراكية وحالة البداهة في البديهيات وحالة الضرورة في الضروريات، وهذا سدٌ منيع عن عوامل التآكل وعوامل الهدم والإبادة، فإنّ بقاء الدين ليس بوجوده الثبوتي الواقعي في بطون الأدلة، وإنما في بقاءه الإثباتي الادراكي في العقول أيضاً وبقاءه معلوماً لدى النسل البشري إذ العلم يموت بموت أهله، وإن الأعداء يعلمون بخطورة بقاء الدين في بيئته العلمية فضلاً عن بقاءه الثبوتي، فإنّ ما سنذكره لاحقاً من مفاد بعض التقارير الصادرة من بعض الجهات الغربية حيث صرحت بأنهم فشلوا في إبادة مدرسة أهل البيت وبالخصوص حوزة النجف الأشرف بحسب تصريحهم رغم ما قدموه من إمكانيات هائلة للنظام البعثي(667) في العراق، فإنّ المقصود من الفشل ليس الفشل في إبادة الأبنية وتهديمها، ولا الفشل في استئصال وتصفية الأجسام والدماء، ولا غير ذلك، وإنما هم فشلوا في إبادة هذه الحالة الوجودية العلمية من تراث أهل البيت، فإنّ بقاء الدين في بيئته العلمية بفضل طلبة العلوم الدينية فشلٌ ذريعٌ لهم لعلمهم بأن بقاء الدين بهذا النحو يكون ذا حصون وقلاع تمنعهم من تمرير ثقافاتهم الالحادية والانحرافية والمادية...
لأن هذه القواعد في الحجج هي قواعد رقابية استكشافية تتقوم بجنبة ثبوتية وبجنبة إثباتية، أما الثبوتية فهي واقع الدين، وأما الإثباتية فهي كون الدين بحالة ادراكية واصلة إلى درجة الضرورة والبداهة.
بين البصيرة والتمرد:
من هنا فإنّ من اعترض وتمرّد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عهده فذلك لا يمكن تبريره بأنه كان تحكيماً لفرائض الله على سنن النبي، لأن ذلك الاعتراض والتمرّد لم يكن في دائرة الضروريات، بل كان في دائرة المتشابهات والنظريات، وفي هذه الدائرة ليس لأحد أن يحكم فهمه القاصر ويجتهد في قبال النص، فإنّ فرائض الله التي هي في درجة النظرية أو الجزم النظري فضلاً عن مراتب النظريات الأخرى لا يمكن أن تجعل محكّمة للاعتراض والتمرّد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك نحن ننتقد وندين أولئك الذين تمردوا على طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصوه وإن كانت ذريعتهم الاجتهاد أو تحكيم فرائض الله، لأن تلك الدائرة التي اعترضوا فيها هي دائرة المتشابهات والنظريات، والنبي أعلم بذلك في تلك الدائرة، فكما لا افراط فلا تفريط في معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (المتقدم لكم مارق والمتأخر عنكم زاهق)(668) أي لا غلو ولا تقصير.
الغلو والتقصير تعريف آخر:
فإنّا لا نقول بأن صلاحيات النبي تتجاوز ضروريات فرائض الله، وهذا معنى عدم الغلو إذ الغلو _ وهذا معنى جديد نذكره للغلو _ إعطاء صلاحيات فوق دائرة حجية تلك الحجة، فإنّ القائل بالغلو في النبي يعطي للنبي صلاحيات تغيير فرائض وضرورات دين الله، أما عدم الغلو في النبي وعدم التقصير فيه هو أنه لا يتجاوز ضرورات وفرائض دين الله وأنه تحت هيمنة وطاعة الله تعالى في دائرة الضروريات، أما النظرية من فرائض وأحكام دين الله فنتعلمها ونستبينها من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمعنى عدم التقصير في حجية النبي أن له الصلاحية في دائرة النظريات والمتشابهات.
وهذا رسم لحجية النبي ثبوتاً وإثباتاً، فثبوتاً أنها بعد فرائض ودين الله وأنها محدودة ومهيمن عليها من قبل حجية الله وصلاحياته، وإثباتاً أي أن حجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم محدودة بغير الضروريات الفطرية والأوّلية وبغير الضروريات الدينية التي اجتمعت عليها كل أديان السماء.
وهذا نظير قول الفقهاء في أوّل رسائلهم العملية أنه لا تقليد في ضرورات الدين، لأنه لا حجية للفقيه أصلاً في دائرة الضروريات.
فإنّ صلاحيات الأنبياء إنما في غير دائرة الضروريات من فرائض الله تعالى بأن لا يتجاوزوا ولا يتعدوا على التوحيد والعدل وضرورات الفرائض من الصلاة والصوم... قال تعالى: (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ)(669) وقال تعالى: (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(670) أي أن صلاحيات الأنبياء لا تمثل ولا تتسع لدائرة ضروريات وفرائض الله تعالى.
وهكذا حجية الأئمّة تحدد إثباتاً وثبوتاً بما دون سننه صلى الله عليه وآله وسلم، فحجية الأئمّة عليهم السلام تأتي بعد منطقة ودائرة ودرجة فرائض الله وسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإثباتاً فحجية الأئمّة عليهم السلام في غير ضروريات سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي في النظريات والمتشابهات من سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
لذلك فإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشرع شيئاً لم يشرعه الله، وهكذا الأئمّة عليهم السلام لم يشرعوا شيئاً لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، بل إن الله تعالى يشرع أسساً، ثمّ الأنبياء يوالدوا ويشعبوا منها تلك المنظومات، ثمّ تأتي تشريعات الأئمّة عليهم السلام امتداداً وتطبيقاً وتنزيلاً وتشعيباً لها.
لذا فإنّ بديهات العقل وفرائض الله وسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي قواعد محكمة استكشافية للتمييز بين الإمام الحق وبين المدعي للإمامة باطلاً.
ولا يتوهم أن في المقام دوراً، لأن كون بديهيات العقل وفرائض الله وسنن النبي قاعدة استكشافية لتمييز إمام الحق عن مدعي الإمامة في دائرة الضروريات، وأما في نظريات العقل ونظريات ومتشابهات الكتاب ومتشابهات سنن النبي فإنّ المحكم في ذلك هو نفس الإمام، فللإمام حجية وصلاحية أن يبين مجهولات ومبهمات العقل ومجهولات ومبهمات الكتاب ومتشابهات ومبهمات سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من هنا جاءت الحاجة والضرورة الملحة للاهتداء والاقتداء بالإمام عليه السلام، فإنّ في كل مرتبة حجية منطقتين منطقة ضروريات ومنطقة نظريات متشابهات، فمنطقة الضروريات تكون قاعدة استكشافية، رقابية، ومنطقة المتشابهات تكون تلك الحجة الأخرى في المنطقة الضرورية محكمة فيها، بل بضميمة الضروري من نفس الحجة أيضاً.
إذن من بركات هذه المعادلة وهي لابدّية المحافظة على منظومة الحجج ووجوب تحكيم الحجة الأعلى على الأدون أنه لا بدَّ من إعمال المراقبة في طول الطريق وليس ابتداءً فقط، فمن يأتي بمعجزة ليثبت الحجية له لا يعني ثبوتها مطلقاً، بل لا بدَّ من كونه في طول الطريق لا يتجاوز الحجج الأعلى منه، وهذا هو الحاصل مع الأئمّة عليهم السلام، فرغم ثبوت إمامتهم إلاّ أن الفقهاء والشيعة لم يفارقوا المتابعة والمراقبة لهم.
من هنا يتضح عدم التصادم مع رواية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (علي مع الحق والحق مع علي يدور الحق معه حيثما دار)(671)، فإنّ المقصود بهذه الرواية أنه عليه السلام حق بالنسبة لما دونه في الحجج في دائرة المتشابهات وليس بالنسبة لما فوقه من الحجج، فإنّ علياً عليه السلام هو يدور مدار حجية وأحقية بديهيات العقل وضروريات دين الله وسنن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فهو تابع لهذه الحجج الأعلى، لا أن بديهات العقل أو ضروريات الدين والسُنّة تدور مدار علي، بل لا بدَّ لعلي أن يدور مدارها، ويشير إلى ذلك ذيل الحديث النبوي (لا يفترقان حتّى يردا عليَّ الحوض) فجعل صلى الله عليه وآله وسلم نفسه الشريفة مداراً ابتدأ منه الثقلان ومنتهى يصلان إليه.
نعم، بالنسبة للدوائر الأخرى التي هي دون تلك الحجج العليا فإنّ الحق يدور مع علي عليه السلام، فهناك موازين ومقاييس لا يمكن تركها أو تجاوزها في تحديد الإمام، فإنّ الاعتقاد بالإمام نشأ من تلك الموازين والمقاييس.
إذاً في ثبوت إمامة الإمام لا بدَّ من ملاحظة أمرين: أمر إثباتي إبتدائي كالمعجزة ونحوها، وأمر إثباتي بقائي استمراري وهو عدم تجاوز الحجج الأعلى والبقاء في هيمنتها وظلها، والأمر الأوّل لا بدَّ أن يكون واضحاً جلياً يفهمه عامة الناس كالصيحة بالنسبة لظهور الإمام المهدي عليه السلام، ولا يحصل القطع بالإمامة إلاّ بتحقق الأمرين معاً، لذا نلاحظ الفقهاء والشيعة بشكل عام يطبقون على الإمام الموازين والثوابت من البداية إلى النهاية.
مما يدلل على أن أتباع أهل البيت عليهم السلام يثبتون معرفة إمامهم دوماً عن بصيرة وعلم وبرهان، ولا يكتفون بالإثبات الأوّلي دون الاستمراري، فلا يمكن إلغاء الموازين العقلية لا في أوّل الطريق ولا في وسطه ولا في آخره، فالإمام لا بدَّ أن يكون طهراً طاهراً مطهراً ليس فقط في أوّل الطريق بل على طوله، وهذا من إعجاز الدين الإسلامي في تبيان مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
وإلاّ فلو ادعى مدّع الإمامة مع دليل إثبات ابتدائي كالمعجزة ولكن لم يتم دليل استمراري، كأن خالف ضروريات العقل أو الدين أو سُنّة النبي، فإنّ ذلك يكشف عن توهم المعتقد بإمامة ذلك المدعي.
وباختصار إن تحكيم الدلائل والبراهين حول أيّ شخصية كمقام سماوي أو منصب من مناصب الدين يجب أن يظل تحت مجهر الموازين، وإن القرآن والدين لا يسد عقل الإنسان عن تحكيم ورصد المجهر العقلي من أوّل الطريق إلى آخره، فلا يمكن مصادرة العقل ولا الثوابت ولا الموازين، بل لا بدَّ أن تظل محكمة في كل صغيرة وكبيرة، من هنا نفهم لماذا نادى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عندما رآه البعض واقفاً مع امرأة في أحد الشوارع فنادى الناظر هذه صفية زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم(672) فإنّه صلى الله عليه وآله وسلم يعطي درساً للناس بأن المراقبة في المعرفة لا بدَّ أن تبقى مستمرة حتّى على الأنبياء.
وكذلك من هذا البيان نفهم لم كان طغاة بني أميّة وبني العبّاس يختبرون الأئمّة عليهم السلام بالأسئلة العلمية والمناظرات، لأنهم كانوا يريدون التأكد من إمامتهم فضلاً عن أهدافهم الأخرى، فإنّهم لما كانوا الأفضل والأعلم بمقتضى الإمامة، فلا بدَّ أن تكون الأفضلية والأعلمية متحققة باستمرار وليس في أوّل الطريق فقط.
ثمّ تأتي في المرتبة الرابعة صلاحيات الفقهاء وهم الذين لهم نيابة عامة، أي ليس لهم ارتباط واتصال بأهل البيت إلاّ عبر الكتاب والسُنّة والمصادر الدينية فلم ينب أحدٌ منهم بالخصوص وإنما صارت له النيابة وفق شرائط وموازين بيّنها الله والنبي والأئمّة، وهكذا في نفس المرتبة أي الرابعة حجية النواب بالنيابة الخاصة وهم السفراء، فإنّ الفقهاء والسفراء في مرتبة واحدة إذ تقدم أنه لا منافاة بين حجية كل منهما ولا تلغي حجية كل منهما حجية الآخر حيث بينّا بحسب مفاد آية (النفر)(673) وآية (الحكم)(674)، أن الفقهاء لهم دور في دولة الرسول وفي دولة أمير المؤمنين، وهكذا حتّى في دولة الرجعة ودولة الظهور للإمام الحجة عليه السلام لأن هذه الآيات فرائض من الله لرسم جهاز العمل للمعصومين.
وهذه المرتبة الرابعة _ للفقهاء عموماً _ أيضاً محدودة بضروريات دين الله وسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنن أحكام وتعاليم المعصومين عليهم السلام فضلاً عن ضروريات العقل، فهذه المراتب والتراتبية والقواعد الاستكشافية لا بدَّ من معرفتها وإلاّ وقعنا فيما وقعت فيه الفرق الضالة في الغيبة الصغرى أو الكبرى، حيث جوزوا أن يكون للإمام صلاحيات أن يشرع ويفعل ما يشاء فاتبعوا أدعياء الإمامة، كما أنا ذكرنا بأن الشبهة العقائدية لا يمكن أن تزاح ويتخلص منها إلاّ بالمداقة في المراتب للحجج، فلا يكفي معرفة أصل حجية الحجة، وإنما لا بدَّ من معرفة حقيقة الحجة وذلك بمعرفة مرتبة حجية تلك الحجة وأنها حجة في أيّ دائرة دون غيرها، ولا بدَّ من معرفة منطقتيها الثبوتية والإثباتية.
القواعد الرقابية وحفظ ثقافة أهل البيت عليهم السلام:
يذكر الشيخ الطوسي رحمه الله في كتاب الغيبة والشيخ الصدوق رحمه الله في كمال الدين والنعماني رحمه الله وغيرهم أن فقهاء الشيعة وعلمائهم وعامة الشيعة لم يفتأوا دوماً من المراقبة، فعامة الناس من الشيعة يراقبون الفقهاء والنواب، ثمّ الفقهاء والنواب والعامة يراقبون الأئمّة عليهم السلام، وهكذا...(675).
فالعامة يراقبون الفقهاء ويستمرون في المراقبة هل أنهم لا زالوا على التقوى والثبات والسير على ضرورات دين الله وسُنّة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام وإلاّ اُسقطت حجيتهم، لذلك نِعْمَ ما قيل: (إنا لا نجد انتخاباً حراً نزيهاً سديداً لقيادات تقود المجتمعات كنظام الانتخاب في طائفة أتباع أهل البيت عليهم السلام) وهو انتخابهم للفقهاء والمراجع، فحتّى النظام الديمقراطي في الغرب وفي أمريكا تتدخل فيه الأموال والمافيات والدعايات والاعلان وتتدخل فيه وفيه... إلى ما شاء الله.
فمثلاً رئيس الجمهورية في أمريكا لا يُنتخب مباشرة من الشعب أبداً، وإنما نواب المحافظات هم الذين ينتخبون الرئيس، ونواب المحافظات ورئيس المحافظة لكل ولاية هو الذي يكون له ثراء ومال معين، فلا بدَّ أن يصعد رأس ماله إلى سقف معين كي يحق له أن يرشح ليكون رئيساً لمحافظة أو رئيساً لولاية، فالمال أوّل شيء في هذه المعادلة الانتخابية، وإذا انتخب هؤلاء رؤساء الولايات فمن بينهم ينتخب رئيس الجمهورية.
فحواجز المال وحواجز القوة هي الحاكمة والمهيمنة في الانتخابات، فأين الشفافية، وأين النزاهة، هذا فضلاً عن بقية الدول الغربية.
فلا تجد نظاماً حرّاً نزيهاً تشترك فيه كل طبقات المجتمع على الرقابة والبصيرة لا العماية كنظام المرجعية الذي أسسه أئمّة أهل البيت عليهم السلام، مرجعية الفقهاء كأعوان ونصراء وخدام لأئمّة أهل البيت عليهم السلام هذا النظام أقامه وأسسه أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وهو نظام إعجازي وليس هو من نظم وإنشاء الفقهاء والمراجع، بل بناه الباقر عليه السلام، ووضع له الصادق عليه السلام ضوابط وحواجز نظمية إدارية لا يمكن أن تخترق.
صدر كتاب (desnoighlte of The theology) بعد سقوط الطاغية صدام عن دائرة الاستخبارات الأمريكية يقول بأن أتباع أهل البيت هم الجماعة الوحيدة في المسلمين الذين لم يذوبوا في الغرب إلى الآن!
يقول: استطعنا أن نذوّب أغلب المسلمين في الغرب والثقافة الغربية إلاّ أتباع أهل البيت، وإنما ذلك لسببين مهمين، الأوّل هو الحسين عليه السلام، فهو الذي يدفق في أتباع أهل البيت العزّة والإباء والصمود والاستقامة والبطولة والاعتزاز بالهوية، فكيف يمسخ هكذا مجتمع أو تغير هويته وهو يتغذى وينهل الهوية والشخصية من الحسين عليه السلام، لذلك نلاحظ محاولات الطعن والتشكيك في قضية الحسين عليه السلام والاستهانة والتحقير لخطباء مؤسسة الحسين عليه السلام، وهكذا الرواديد (واللطامة) نجد التشكيك فيهم بأقلام مريبة من داخل أوساط المذهب لتخريب مثل هذا الباب والصرح العظيم وهو مؤسسة سيد الشهداء عليه السلام.
ويذكر هذا الكتاب _ وقد ترجم فصول منه _، السبب الثاني وهو المراجع والفقهاء، ويذكر حوزة النجف بالاسم يقول أيضاً: كنّا نزوّد النظام البعثي معدل كل سنتين أو ثلاث بأحدث النظم الأمنية لكي يفتك بالحوزة وبالشيعة إلاّ أنه فشل.
وربما يُسائل كيف لم يستطع النظام البعثي أن يخترق الحوزة ولم يفتك بها؟ وكيف فشل النظام البعثي أن يخترق الفقهاء والمرجعية بأن يجعل مرجعاً مزيفاً للشيعة، وهذا هو الذي يريدون الوصول إليه؟
وما ذلك إلاّ لأن الأئمّة وضعوا لها نظاماً ذا حواجز وأستار وستور مختبرية يفشل من تطمع نفسه أو تسول نفسه _ ولو كان من الدول والقوى العظمى _ أن تخترق هذا الستر، فإنّ الفقيه والمرجع يبقى تحت الرقابة الشعبية من أوّل عمره إلى آخر نفس في حياته، فأيّ أمّة من البشر وأيّ طائفة من البشر عندهم هكذا رقابة نزيهة وشفافة على القيادة، وفي انتخاب القيادة كهذا النظام الذي وضعه أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وهذا من إعجازهم عليهم السلام، وبالتالي فلا يمكن لشخص مزيف أو لشخص كارتوني مهما أوتي من حيل وأساليب أن يخترق هذا المقام _ المرجعية والفقهاء _ لأنه نظام منيع، فلو كان فقيه من الفقهاء تقياً ورعاً طول حياته ولا سمح الله في بعض حياته ابتعد عن التقوى أو العلم لاُبعد عن هذا المنصب.
القواعد الرقابية والشلمغاني والعبرتائي:
التاريخ يحدّثنا أن فقهاء صلحاء أجلاء في بداية أمرهم كابن أبي العزاقر الشلمغاني وأحمد بن هلال العبرتائي كانا من الفقهاء الكبار، لكن في فترة من حياتهم زاغوا عن الطريق وادعوا لأنفسهم ما ليس لهم، فاُسقطت حجيتهم لعدم مراعاتهم للحجج الأعلى.
فالشلمغاني كان من أفقه فقهاء الشيعة في الغيبة الصغرى، وإن كتابه في الفقه أو رسالته العملية والتي تسمى بكتاب التكليف منتشرة في كل بيوت الشيعة في العراق وفي إيران وفي الخليج وغيرها، فلم يخلُ بيت من بيوت الشيعة من هذا الكتاب، فهو فقيه نحرير تقي ورع في العهد الأوّل من عمره!؟ إلاّ أنه _ والعياذ بالله _ في أخريات حياته طمع في أن يكون نائباً خاصاً أو سفيراً فخرج عن الموازين، ولذلك أقصي من قبل أتباع أهل البيت وصار مصيره إلى أسفل الأسفلين(676).
وأما العبرتائي فهو أيضاً من كبار الفقهاء وأدرك أربعة من المعصومين عليهم السلام (الجواد والهادي والعسكري والمهدي عليهم السلام)، وقد حجّ بيت الله أكثر من خمسين حجة عشرين منها مشياً على الأقدام من الكوفة إلى مكّة، ومع ذلك ما أن أدعى لنفسه النيابة الخاصة والسفارة أسقط عن الاعتبار وصدر في حقه اللعن، لأنه تجاوز الموازين وانكشف بطلانه لوجود القواعد الرقابية التي سنّها أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
وهذا لا نجده في أي أمّة أو نحلةٍ أو ملّةٍ أو مذهبٍ غير مذهب أهل البيت عليهم السلام، فإنّه مذهب قائم على نظم إعجازي، فإنّ تاريخ هذا المذهب نيّر وبديع ويسطر لنا أحدث النظم الاعجازية الربانية للرقابة، فابن أبي العزاقر الشلمغاني تسنم واحتل مرتبة كبيرة، وهكذا العبرتائي، إلاّ أن الرقابة باقية بضمانة التقوى والموازين والعلم، وقد كان لهذا النظام الاعجازي الأثر الأقوى في حفظ الدين والمذهب والهوية الشيعية.
فكم فقيه من الفقهاء من أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام كان فقيهاً تقياً إلاّ أنه عرض عليه النسيان _ مثلاً _ فمن تقواه قال: قلدوا غيري، كالوحيد البهبهاني رحمه الله مثلاً رئيس الحوزة العلمية في كربلاء، عندما عرض عليه النسيان قال: قلدوا السيد بحر العلوم والشيخ جعفر كاشف الغطاء، لأنه ضمن موازين رقابة التلاميذ والخبراء وأهل الخبرة من الفقهاء في الحوزة العلمية، فهذه كلها مختبرات وضمانات.
لذلك يستهدف الأعداء والمغرضون الحوزات العلمية لأنها مختبرات وضمانات للرقابة العلمية وللرقابة في الانتخاب ونزاهة القيادة، ومن ثَمَّ يستهدفون طلبة العلوم الدينية لكي تضيع الموازين فيكون باستطاعتهم حينئذٍ التغلغل والنفوذ في جسد المذهب والعبث فيه، فإنّهم بعد أن شخصوا هذين السببين العظيمين _ الحسين عليه السلام ونظام اختيار الفقهاء _ شنوا أعتى أنواع الحروب والفتك بهما لتسهيل الطريق لانتشار الثقافة الغربية وتمييع الهوية الإسلاميّة لأتباع أهل البيت عليهم السلام بعد ما ذابت الجماعات الإسلاميّة في ذلك المد الغربي العلماني والالحادي.
ولكن تبقى ثورة الحسين عليه السلام وقّادة، ويبقى هذا النظام الاعجازي لاختيار الفقهاء سدّاً منيعاً وصرحاً مشيداً عظيماً كقواعد رقابية معرفية في ردع جميع محاولات الهدم والتضليل إلى ظهور الإمام المهدي عليه السلام ليقيم دولة الحق وينشر الإسلام الصحيح ويثبت أركان وأصول دين الله وشريعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ونهج آبائه الأئمّة الهداة المهديين الصالحين.
بواعث الانحراف:
من البديهي أن يتوقف كل عاقل عند المواقف والأحداث الغريبة ليتساءل ويتأمل في أسبابها ومناشئها وبواعثها، وثمرة ذلك التوقف والتأمل أن تلك الأحداث الغريبة إن كانت حسنة حاول إيجادها بايجاد وتوفير أسبابها وبواعثها، وإلاّ تجنبها قبل وقوعها والتلبس بها، فإنّه كما يقال (الوقاية خير من العلاج).
فمن تلك المواقف والأحداث المستحقة للوقوف عندها انحراف فقهاء كبار كالشلمغاني والعبرتائي، فما هي أسباب وبواعث هذا الانحراف؟
مما لا شكّ فيه إن أسباب ومناشيء ذلك كامنة في نفس الإنسان وفي سلوكه عموماً ونوع وطبيعة علاقته مع الله تعالى خصوصاً!
فإنّ النفس إذا لم تخضع وتوقن بوجود طريق ومسلك واحد انحصاري لله تعالى وهو طريق المعصومين فإنّها لا محالة عرضة بل آيلة للزيغ والانحراف، فإنّ المعصومين هم الذين صفاهم واصطفاهم الله تعالى ليكونوا قناة أمان للخلق، وإلاّ فما عدا هذه القناة يكون الشيطان هو المتبع!
ويمكن استفادة ذلك من قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ * وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(677).
فالاخلاد للأرض يعني اتّباع الشيطان، أي استحباب الهوى والغرائز والملاذ، فالله تعالى يبيّن لنا أنه تعالى رسم لنا طريقاً ومسلكاً منه يعبد ويطاع ويتقرب إليه، حيث يقول: (آتَيْناهُ آياتِنا)، ولكن الإنسان إذا انسلخ عن ذلك الطريق وأخلد للهوى والغرائز فقد سمح للشيطان أن يتلاعب به.
فالنفس إذا لم تُروض بالطاعة والمرارة وشيء من القسوة والقطيعة عن الشهوات والأهواء فإنّها لا محالة تشط ويتلاعب بها الشيطان، إذ روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)(678) وما ذلك إلاّ لأنّ الشيطان عدو مبين للإنسان، فلابدَّ من سدَّ كل الثغرات والمنافذ لئلاّ يوسوس للنفس، بل لو وسوس فلا بدَّ أن تكون النفس مطمئنة متيقنة مستقرة، يقول الله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(679).
ولكن الأزمة والمشكلة في الإنسان أنه لا ينظر للنفس كدابة يمتطيها في مرحلة من مراحل وجوده بل يجعلها كجزء ثابت ويراها ذاته، وهذا خطأ معرفي سلوكي تعايشي يقع فيه الإنسان حيث يظن النفس جزء ذاته بينما هي دابة ووسيلة ومركوب تركبه روح الإنسان أي عقله.
فلما كانت النفس دابة يركبها عقل الإنسان فلا بدَّ أن لا تعطى كل ما تريد وإنما تعطى مقدار الحاجة.
ولكن الإنسان لما جعل النفس جزء ذاته فَحَسِبَ متطلبات النفس هي متطلبات الذات، فراح يطلق لها العنان في مراداتها ومتطلباتها وهذا بالتالي يضر بذاته لأن النفس ستقوى وتتنفر عليه ولا تؤدي وظيفتها بالشكل المطلوب والصحيح، بل إن متطلباتها وحوائجها لا تقف عند حدٍ فيكون هو دابتها! ففي رواية عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (إيّاك والسفلة، إنما شيعة جعفر من عفّ بطنه وفرجه واشتد جهاده وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه)(680).
وبمثال حسي لو كانت لشخص فرس يحتاجها عند التنقل والترحال والحروب لصد الأعداء وكوسيلة تخدمه لتلبية أغراضه ومتطلبات حياته ولكنه يوفر لها المأكل لدرجة أنه صار خادماً لها في تلبية جميع متطلباتها حتّى الراحة والنوم فضلاً عن الطعام، فبالنتيجة صارت الفرس تقضي حوائجها بواسطة ذلك الشخص، فلو أرادها للحرب والتنقل طلبت الراحة والنوم، ولو أراد هو الراحة والنوم طلبت هي الطعام والشراب، فصار الأمر بعكس المطلوب!
أما لو كان يعطيها بقدر الحاجة ويجبرها على تأدية متطلباته هو حتّى لو كان في ذلك عناء ومشقة الدابة فإنّ ذلك هو السبيل الوحيد والترتيب المنطقي والعلاقة الطبيعية بين الشخص ودابته، وهكذا الإنسان ونفسه، فلو جعلها جزء ذاته وأعطاها كل ما تريد وتشتهي امتطته وقضت حوائجها وشهواتها به ومنه، وخسر هو ذاته وكانت وبالاً عليه بدلاً من أن تكون عوناً له.
وبالتالي تكون النفس أميرة عليه فيحسبها ويستغفل عقله.
وعلاج ذلك أن يجعلها دابة له ويتعامل معها على هذا الأساس تعاملاً عملياً تعايشياً وليس تعاملاً فكرياً تجريدياً فحسب.
فلا بدَّ للإنسان من ترويض نفسه لا أن يطيعها كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: (هي نفسي أروضها...)(681) أي أجعلها مأمورة خادمة.
كما يستفاد ذلك من الدرس العظيم الذي أوصلته لنا العقيلة عليها السلام من القرآن الكريم حينما ردّت على يزيد لعنه الله، حيث قالت: قال الله تعالى: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ)(682) والذي يعني أن الإنسان إذا توحّل في الرذائل فإنّ الله تعالى يُعمي بصيرته وعقله، فإنّ الإنسان مجموعة قوى تؤثر بعضها في البعض الآخر، فإذا كان الإنسان يرتكب المحرمات سوف تنعدم وتضيع منه البصيرة وبالتالي يحكّم المتشابهات على المحكمات، والإنسان الطاهر العفيف والذي أدمن السلوك النيّر وأدمن ورابط على التقوى والعفاف والطهارة والصلاح فإنّ ذلك يوجب قوة العقل والبصيرة والتمييز عنده.
لأنَّ سبب انحراف بعض الذين ادعوا النيابة الخاصة والسفارة _ مع أنه كان في البداية مؤمناً مستقيماً _ أنهم مع ما وصلوا إليه لم تكن نفوسهم راضخة ومتيقنة أن الطريق والمسلك إنما يُحدد من قبل الله تعالى والمعصومين، بل هم رضخوا لمطالب النفس في طلب السيادة والرئاسة و...
واللطيف أن الإمام الثاني عشر عليه السلام لما أخرج اللعن بحق العبرتائي ذكر سبب انحرافه حيث قال: إنه لم يدع الله أن يجعل إيمانه مستقراً، فعن علي بن محمّد بن قتيبة، قال: حدّثني أبو حامد أحمد بن إبراهيم المراغي، قال: ورد على القاسم بن العلاء نسخة ما خرج من لعن ابن هلال وكان ابتداء ذلك أن كتب عليه السلام إلى قوّامه بالعراق: (احذروا الصوفي المتصنع)، قال: وكان من شأن أحمد بن هلال أنه قد كان حج أربعاً وخمسين حجة، عشرون منها على قدميه.
قال: وكان رواة أصحابنا بالعراق لقوه وكتبوا منه، وأنكروا ما ورد في مذمته، فحملوا القاسم بن العلا على أن يراجع في أمره.
فخرج إليه: (قد كان أمرنا نَفَذَ إليك في المتصنع ابن هلال لا رحمه الله، بما قد علمت لم يزل، لا غفر الله له ذنبه، ولا أقاله عثرته يداخل في أمرنا بلا إذن منّا ولا رضى يستبد برأيه، فيتحامي من ديوننا، لا يمضي من أمرنا إيّاه إلاّ بما يهواه ويريد، أرداه الله بذلك في نار جهنم، فصبرنا عليه حتّى بتر الله بدعوتنا عمره.
وكنّا قد عرفنا خبره قوماً من موالينا في أيامه لا رحمه الله، وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاص من موالينا، ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال لا رحمه الله، وممن لا يبرأ منه.
واعلم الإسحاقي سلمه الله وأهل بيته مما أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه من أهل بلده والخارجين، ومن كان يستحق أن يطلع على ذلك، فإنه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤديه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأننا نفاوضهم سرنا، ونحمله إيّاه إليهم وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء الله تعالى).
وقال أبو حامد: فثبت قوم على إنكار ما خرج فيه، فعاودوه فيه، فخرج: (لا شكر الله قدره، لم يدع المرء ربه بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه وأن يجعل ما منَّ به عليه مستقراً ولا يجعله مستودعاً)(683) اللهم اجعل إيماننا مستقراً بحق محمّد وآله الأطهار.
ولا ينحصر هذا الكلام بمدعي السفارة، بل بكل الدعوات الباطلة من دعوى الألوهية والنبوة والإمامة والسفارة والفقاهة والسيادة و... وكل ما هو عالي وشريف، فإنّ النفس ببواعثها الشيطانية تطمح لها، ولكن العقل يحكم موازينه وضوابطه ويضع نفسه في محله الصحيح، ولكن أين الذي يجعل النفس دابة العقل ليكون في جادة الحق والصراط المستقيم؟!
فإنّ بعض أولئك الفقهاء مع ما وصلوا إليه من العلم والعبادة لم تكن نفوسهم طوع عقولهم، بل كانوا يأملون أكثر مما تستحق نفوسهم، ولم يكونوا يعتقدون بالأئمّة تمام الاعتقاد، بل أحياناً يرون الرجحان في أقوالهم أو أفعالهم كما روي عن المفضل، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (اتق السفلة، واحذر السفلة، فإنّي نهيت أبا الخطاب فلم يقبل مني)(684) وروى عيسى عن أبي عبد الله عليه السلام: (إيّاك ومخالطة السفلة فإنّ السفلة لا تؤل إلى خير)(685) فإنّ أبا الخطاب لم يمتثل كلام الصادق عليه السلام، لأنه كان يرى فعله ورأيه أرجح، وما ذلك إلاّ لسوء سريرته الحاصل من عدم السيطرة على أهواء النفس، فإنّ الرواية تفيد أنه كان يرافق السفلة مع أن الإمام ينهاه، بمعنى أنك تتبع هواك فإيّاك من ذلك.
وقد روي عن الكاظم عليه السلام أنه قال عندما سُئل عن أبي الخطاب: (إن الله خلق الأنبياء على النبوة فلا يكونون إلاّ أنبياء، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلاّ مؤمنين، واستودع قوماً إيماناً فإن شاء أتمه لهم وإن شاء سلبهم إيّاه، وأن أبا الخطاب كان ممن أعاره الله الإيمان، فلما كذب على أبي سلبه الله الإيمان)(686) أي فيهم استعداد رسوخ الإيمان، فإنّ عصوا لم يرسخ، وهذا العصيان من النفوس إذا كانت لها السيادة على العقول.

* * *
الفصل السادس: النيابة الخاصة

أصحاب السر:
قد نجد في بعض الروايات أوصافاً خاصة لبعض الأصحاب كوصف أصحاب السر(687) لميثم التمار ورشيد الهجري وحبيب بن مظاهر الأسدي رضي الله عنهم وجملة من أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث أتحفهم الإمام عليه السلام بعلوم وحباهم بها، وهكذا باقي الأئمّة عليهم السلام مع بعض أصحابهم فإنّ لهم علم المنايا والبلايا وأسراراً وغوامض العلوم وغيرها.
ولكن ذلك لا يعني أنهم يرفعون اليد عن بديهيات العقل أو ضروريات الدين أو سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام ولا بدَّ أن نلتفت لهذه النكتة المهمة وهي قاعدة رقابية عقائدية معرفية، إذ مهما كان عند أولئك من علوم وأسرار و... فإنّها لا تناقض ولا تخالف ولا تصطدم ولا تصطك في حال من الأحوال ولا في زمان من الأزمان مع ضروريات وبديهيات العقل وفرائض الله وسُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام سواء أكانت تلك العلوم والأسرار عند الأصحاب أم عند الأئمّة عليهم السلام، فحتّى الأئمّة عليهم السلام عندما نقول عندهم علم الباطن ولديهم أسرار و... فلا يعني ذلك أبداً التنازل عن أيّ ضرورة من ضروريات العقل ودين الله وسُنّة النبي والأئمّة عليهم السلام.
فلا نستغفل ولا نغرر ولا نتوهم في بريق هذه العناوين (علوم الباطن، أسرار، معارف، علم البلايا والمنايا...) فحينئذٍ نتهاون عن التمسك بالضرورات والبديهيات، وإنما تبقى هذه الضروريات وتبقى تراتبية الحجج وتبقى القواعد الرقابية المعرفية في كل الأحوال والأزمان.
ومما يشهد ويؤيد ذلك قصة موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام، قال الله تعالى: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ‏ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ‏ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(688).
فإنّ الخضر عليه السلام بعظمته وما عنده من علوم وأسرار وتوثيق من الله سبحانه وتعالى وإنه من رجال الغيب ومن رجال السر وعنده علم لدني وتزكية من الله فهو بذلك فوق اليقين وليس رواية ظنية أو تحليلاً أو تأويلاً، حيث كانت مرافقة موسى عليه السلام له بإرشاد وتوجيه وتوثيق من الله سبحانه وتعالى، فمع كل ذلك عندما ارتكب ما يخالف ظاهر الشريعة _ وليس ضروري الشريعة وإنما ظاهر الشريعة _ لم يكن موسى عليه السلام ليتجاوز من ذلك ويستمر في صحبته معه على عمايةٍ وإنما اعترض عليه موسى عليه السلام ووقف أمامه لأن هناك حججاً فوق حجية الخضر وضوابط ونظماً إلهية لا يمكن للنبي موسى عليه السلام أن يتخلى عنها، ولقد بُعث بها جميع الأنبياء ولا يمكن لا لنبي ولا لوصي ولا لولي ولا لزكي ولا لملك مقرب أن يتخطاها فهي فرائض الله تعالى وأنها فوق الجميع، لذلك اعترض موسى على الخضر مع أن الخضر مُزّكى من الله عز وجل وموسى عليه السلام لم يغرر بذلك من أنه توثيق وتزكية ووحي، بل عندما شاهد مُخالفةً للقواعد والضوابط اعترض وحكَّم القواعد الرقابية وموازين البصيرة في تعامله، فحتّى لو كان الخضر ذا علم لدني وأن الله أمر موسى عليه السلام باتّباعه فذلك لا يمنع من إعمال تراتبية الحجج وتحكيم القواعد العامة، فإنّه بحسب الموازين العامة وظاهر الشريعة أن قتل النفس وخرق السفينة وبناء الجدار لقوم جفاة أمرٌ فيه فساد في الأرض حتّى لو كان من ولي أو وصي أو نبي فكيف بمن دونهم، فإنّ الدماء والنفوس يراد لها محلل وولي من أولياء الله فحتّى الأطفال من أبناء الكفار ليس لنا مسوغ لقتلهم في الحالات العادية باجماع الديانات ومذاهب المسلمين إلاّ الخوارج الذين يمرقون من الدين ويستحلون دماء الأطفال ودماء الأبرياء ودماء الشيوخ والنساء، إذ من ثوابت كل الأديان حرمة الدماء ولم يجترئ على استحلاله أحد حتّى لو كانت هناك حالات استثنائية كتترس الكفار بالأطفال والتدرع بهم فإنّها حالات استثنائية لا تعدو بحالٍ لأن تكون دائمية استمرارية، فالاستثنائي لا ينقلب أوّلياً أبداً.
وكما يقول علي بن أبي طالب عليه السلام: (والله إني لأهتدي للغدر، لكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة مآلها النار)(689).
وكذلك نلاحظ مسلم بن عقيل عليه السلام سفير الحسين لم يفتك غيلةً وغدراً لأنها ليست من أعراف الأديان السماوية أبداً.
يعني أن هناك ثوابت لدين السماء لا يمكن لولي مهما كان أن يتجاوزها.
لذلك فإنّ الخضر مهما عُرِّف وزكي بوحي من الله لموسى عليه السلام فإنّ عند موسى وحياً بحجج أعظم من تزكية الخضر لا بدَّ من تحكيمها على حجية الخضر، فإنّه قال بعد الاعتراف: (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً)(690) ورغم ذلك عاد واعترض ثانياً فقال: (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ‏ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً)(691) ولكنه مع ذلك يعترض مرة ثالثة، ولو لاحظنا الاعتراض الثالث لوجدناه ليس شيئاً واجباً ولا محرماً إذ قال له بعد إقامة الجدار: (قالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)(692) فهو أمر ندبي أوّلي فيه رُجحان عقلي وشرعي، إذ من الراجح أن يُدبر الإنسان أموره وفي ذلك الحال، كان الخضر وموسى عليهما السلام جائعين وقد استطعما أهل المدينة فأبوا أن يُضيّفوهما لذلك يقول موسى عليه السلام للخضر من باب تدبير الأمر بأن يأخذ أجراً على إقامة الجدار، فهو أمر تدبيري راجح وليس فيه إلزام اتخذه النبي موسى عليه السلام قاعدة رقابية على أفعال الخضر.
وهذه الاعتراضات من النبي موسى عليه السلام لم تكن هباءً أو خطأ في مرحلة التنظير وإنما كانت اعتراضات صحيحة يُسطر لنا القرآن من خلالها ملاحم معرفية وبصائر نورية تُنير لنا الدرب وتكون درساً في تحكيم القواعد الرقابية لعدم مخالفة ظواهر الشريعة فضلاً عن ضرورياتها، فإنّ موسى عليه السلام لم ينخدع ولم يتنازل عن الحجج العليا والضوابط والقواعد الرقابية لمجرد تزكية الله تعالى للخضر وإرشاده باتّباعه، فلم يتأول مخالفة الضوابط والاستمرار في مصاحبته، لأن تلك الضوابط والقواعد لا يمكن رفع اليد عنها ولا يمكن الاصطدام بها، لذا فإنّ الخضر عندما أراد أن يجيب النبي لم يُفند تلك الاعتراضات من حيث المبدأ، فلم يجوّز سفك الدم البريء فإنّه حرام بأيّ حالٍ، وإنما أتى بوجوه علمية لدنية موحاة له من قبل الله تعالى، فالخضر أقرَّ موسى على تلك المبادئ والقواعد، وأقرّه على عدم إمكان رفع اليد عنها، وإنما بيّن له أن هذه مصاديق لقواعد أخرى.
التأويل مع الظاهر لا الضروري:
ولنلتفت إلى أن ما فعله الخضر هو مخالف للظواهر وليس للضروري، وإلاّ لو كان مخالفاً للضروري فلا مجال للتأويل، كما أن الاحتياج للتأويل في تصحيحه إذا كان مخالفةً للظاهر وأن ذلك التأويل من الله تعالى وليس من أيّ كان، فالخضر على ما كان عليه لم يكن ليتأول من نفسه، وإنما اعتمد على ما عنده من علم لدني ليوصله إلى وجوه متينة.
إذن هذه الضوابط وهذه القواعد مُحكَّمة دائماً، فحينما نقول أسراراً وأسراراً فلا نتعقل أن هناك أسراراً تخالف الشريعة أي أن باطن الشريعة يناقض ظاهرها.
تطابق الشريعة ظاهراً وباطناً:
لذلك تخطّأ دعاوى الصوفية أو بعض العرفاء عندما يتمحلون لأنفسهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الباري تعالى لديه دين باطن هذا الدين عميق ويناقض ظاهر الشريعة، فإنّ هذا باطل، لأنه لا يمكن أن تكون ضرورات الشريعة تُخالف ثوابت باطن الشريعة، بل لا بدَّ من التلائم والانسجام والتناسق والتناسب والامتداد بين ظاهر الشريعة وباطنها، وإلاّ كان كله من الزيف الباطل _ والعياذ بالله _ وإن احتمال أن يتوهم متوهم أن ظاهر الشريعة ليس إلاّ سراباً _ أعوذ بالله _ فإنّ هذه سفسطة وليست حقيقة.
وهذه القاعدة المهمة دائماً ما تحاول الفرق الضالة الاحتيال عليها أو تزييفها لعقول المؤمنين باسم هذه العناوين والذرائع من أسرار وبواطن و... وأنها تناقض ضروريات الدين، فإنّ ضروريات وبديهيات العقل وضروريات الدين وضروريات سُنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضروريات سُنّة المعصومين عليهم السلام قواعد رقابية معرفية سواء على ما دونها من الحجج أم على الأسرار والأعماق والبواطن، لأن باطن المعارف يعني الأمور النظرية والمتوغلة في النظرية، وأن إدراكها نظري وغامض، ومما لا خلاف فيه أن النظري إنما يتسع وينبني ويتوالد وينشعب ويأخذ سلسلة حلقات مترابطة مبتني على البديهيات.
كما في علم الرياضيات وبقية العلوم فلا نتصور وجود أسرار تناقض قاعدة أن (2 + 2 = 4) ولا غير ذلك، فإنّ كل قواعد الرياضيات وعلومه المستجدة المتداولة المكتشفة جيلاً بعد جيل إنما تبتني على بديهيات الرياضيات لا أنها تهدمها وتناقضها وإلاّ لانهدم أساسها وجذرها وبنيتها، وهكذا أسرار الفيزياء وأسرار الكيمياء وأيّ علم كان فإنّ معنى أن له أسراراً أي متوغلاً في النظرية والابهام والغموض لكنه مبني وفق حلقات ومعادلات تبتني على بديهيات وضروريات ذلك العلم.
وهكذا الكلام في معارف الشريعة وضرورياتها، فإنّ باطن الشريعة وأسرارها يجب أن لا يناقض ضرورياتها، بل أن أسرار وغوامض الشريعة والنظري فيها لا بدَّ أن يبتنى على الضروري منها، فإنّ ضرورة التوحيد وبقية صفات الله وأن الباري تعالى هو الغني المطلق وأن كل ما عدا الباري تعالى مخلوق مفتقر ومحتاج إليه تعالى ونبوة الأنبياء وولاية الأوصياء و...(693).
فهذه ضروريات الشريعة يجب المحافظة عليها وعدم مخالفتها، ولا بدَّ أن يبتني النظري والسر والغامض عليها كما هو الحال في كل العلوم، وإلاّ لو كان النظري مخالفاً أو مناقضاً للضروري والبديهي لأدى ذلك إلى نسف نفس النظري فيكون النظري مناقضاً لنفسه، لأن النظري في كل علم يجب أن يكون مبنياً على بديهي وضروري ذلك العلم.
فإنّ كل العلوم النظرية إنما تكون متحصلة من صغرى وكبرى أو استقراء أو... وهذه تنتهي للبديهيات، والإنسان إنما ينطلق لايجاد وتحصيل علوم وقواعد ودوائر معرفية جديدة من تلك الدوائر والمساحات البديهية، فإنّ دوائر الضروريات والبديهيات رأس مال ثمين وكنز لا يُقدَّر، منحه الله تعالى للإنسان (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)(694)، إذن لا يمكن أن تكون هناك أشياء تناقض الفطرة، فهذه قوى قوامية وقيومية واستقامة وفطرة قيّمة وهي قاعدة من القواعد المعرفية.
لذا فلو أردنا الوصول لباطن الشريعة فلا بدَّ أن يكون من الظاهر فإنّ الظاهر هو جسر وطريق الباطن ولا نتصور التناقض بينهما.
وما يحصل من توهم واشتباه في هذا المجال إنما هو لأن الغوامض والأسرار والنظرية متشابهة قد يشتبه الأمر فيها لدى الإنسان فلا يعلمها فيجعلها غامضة لديه دوماً ولا يرجعها إلى محورية واسطوانية ومركزية المحكم وهو ضروريات الدين، والبعض نتيجة هذا التوهم يقع في مصيدة ومسرحية الدجل والتحايل ومصادرة العقول والألباب والبصائر بعناوين مختلفة كأسرار وبواطن وغوامض و... فيرفع اليد عن الضروريات فيستبيح ارتكاب الفواحش وترك الصلاة والصوم ونصب العداء للأئمّة عليهم السلام ولشيعة أهل البيت وغير ذلك، وهو من العجيب، فإنّ من ضروريات الدين محبة محبي أهل البيت فكيف يكون من الدين بعنوان الأسرار ونحوه معاداتهم، وكيف أن معاداة فاطمة ومعاداة محبيها يكون من الدين بعنوان الأسرار والبواطن مع أن محبة فاطمة من ضروريات الدين وأنها عليها السلام تنجي محبيها يوم القيامة بل ومحبي محبيها فضلاً عن من تولاها عليها السلام، وما ذلك إلاّ تحايلات وتدليسات وهلوسات.
وبعبارة أخرى كيف تترك ضروريات الدين الواصلة إلينا بتمويهات من الغرب أو الشرق، بل لنلتزم ونلتفت لحقيقة الدين وحقيقة الحجج التي أسسها الله والرسول والأئمّة من القواعد الرقابية المعرفية المهمة.
سقوط الحجية:
تقدم أن إعمال القواعد الرقابية وتطبيقها أمر مهم ولا بدَّ منه في بناء نظم الحجج وتراتبيتها، وذكرنا أن من نتائج تطبيق تلك القواعد الرقابية إسقاط حجية بعض الفقهاء الكبار كابن أبي العزاقر والعبرتائي، وهذه ظاهرة عظيمة في تراتبية الحجج، فالكل تحت مجهر المراقبة ومختبر التجربة، وما أن يتجاوز دائرة حجيته حتّى يكون نتيجة عملية تلقائية للقواعد الرقابية بأن تنكشف عدم الحجية لذلك المتجاوز.
وكما تبيّن أن هذا البحث ليس منحصراً على حجية الفقهاء بل لكل الحجج على اختلاف مراتبها والتي منها النيابة الخاصة والسفارة، فإنّ هناك من كان سفيراً أو نائباً خاصاً وقد تجاوز دائرة حجيته فاسقطت لإعمال تلك القواعد الرقابية.
فإنّ محمّد بن أبي زينب المقلاص أو أبا الخطاب _ له عدة ألقاب اشتهر بها _ كان من أصحاب السر للإمام الصادق عليه السلام، وكان من القدر والجلالة والاستقامة بمكان زرارة بن أعين الفقيه، بل لعلَّه كان أكثر حظوة عند الإمام الصادق عليه السلام من زرارة أو محمّد بن مسلم أو أبي بصير أو بريد بن معاوية العجلي، مع أن هؤلاء هم الأوتاد الأربعة من الفقهاء والذين قال عنهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام: (بهم انتشر حديث وعلوم أهل البيت عليهم السلام)(695) مع كل ذلك كان أبو الخطاب أكثر حظوة منهم عند الإمام عليه السلام، وكان حمران بن أعين يروي عنه _ أي عن محمّد بن أبي زينب المقلاص في فترة استقامته _ مع أن حمران أحد الرواة المهمين في القراءات العشر، وكان من علماء علم التفسير، وشهد له الإمام الصادق عليه السلام بالجنّة بعد وفاته، فهذا حمران على عظمته كان كذلك يستفهم من محمّد بن أبي زينب المقلاص.
إمكانية الانحراف والنائب الخاص:
بل إن محمّد بن أبي زينب المقلاص قد يستظهر من بعض الروايات أنه كان نائباً خاصاً وباباً وسفيراً للإمام الصادق عليه السلام _ وهناك شواهد على ذلك ويمكن مراجعة الكشي فيه _ لكن قد نستغرب أن هناك نائباً خاصاً بهذا القدر ثمّ ينحرف! ولكن ذلك لعدم تسليط الضوء على ذلك الحدث من قبل علمائنا ولم يبلوروا البحث فيه بشكل دقيق.
ورد في ترجمة المفضل بن عمر الجعفي أن الشيعة أتت الإمام الصادق عليه السلام وأرادت منه أن يقيم المفضل مقام ومكان ابن أبي زينب المقلاص بعدما انحرف وتبرأت منه الشيعة وأن يقيمه باباً له، وهذا التعبير موجود في غير واحد من الروايات من قبيل ما حكى نصر بن الصباح، عن ابن أبي عمير بإسناده أن الشيعة حين أحدث أبو الخطاب ما أحدث: خرجوا إلى أبي عبد الله عليه السلام فقالوا: أقم لنا رجلاً نفزع إليه في أمر ديننا وما نحتاج إليه من الأحكام؟ فقال: (لا تحتاجون إلى ذلك متى ما أحتاج أحدكم عرج إليَّ وسمع منيّ وينصرف)، فقالوا: لا بدَّ، فقال: (قد أقمت عليكم المفضل اسمعوا فيه واقبلوا عنه، فإنه لا يقول على الله وعلي إلاّ الحق)، فلم يأت عليه كثير شيء حتّى شنعوا عليه وعلى أصحابه، وقالوا: أصحابه لا يصلّون ويشربون النبيذ وهم أصحاب الحمام يقطعون الطريق، والمفضل يقربهم ويدنيهم(696)، مما يدلل أن محمّد بن أبي زينب المقلاص كانت له نوع من السفارة والنيابة الخاصة ولكنه لما انحرف وزلت به القدم لُعن وطُرد وتُبرئ منه، وهذا يعطينا نموذجاً أنه من الممكن أن تسقط حجية النائب الخاص أو السفير الخاص، فإنّ النيابة الخاصة وإن كانت مقاماً عظيماً جليلاً وموقعاً حساساً جدّاً وإن الشخص الذي يتولاها لا بدَّ أن يكون من أهل التقوى واليقين وأن يكون صدّيقاً، فمع كل ذلك الشأن لمقام النيابة والنائب إلاّ أن ذلك لا يعني العصمة للنائب الخاص، كما أنه لو بحثنا ولاحظنا في كتب علماء الإمامية لا نجد منهم من يفسر النيابة الخاصة والسفارة بأنها عصمة أو كون النائب معصوماً لا نجد ذلك في كلماتهم مطلقاً، بل إن السفارة مع جلالها وعلو مقامها ليست إلاّ منصباً ومقاماً يشغله من يختاره الإمام ليوصل الأحكام للناس ما دام مستقيماً وما دام ضمن دائرة حجيته ولا يتجاوز ولا يقفز على ضروريات الدين وسُنّة النبي والأئمّة عليهم السلام كما تقدم ذلك في عرض كتاب الحسين بن روح النوبختي على فقهاء قم.
وأمثال الحسين بن روح النوبختي جملة أخرى كانوا نواباً وأبواباً للأئمّة عليهم السلام ولكن لم تعرف عنهم العصمة لا في روايات أهل البيت عليهم السلام ولا في كلام علماء الإمامية، مع أن أولئك السفراء والنواب عظماء أمثال سلمان المحمدي وحبيب بن مظاهر الأسدي وميثم التمار ورشيد الهجري رضي الله عنهم، فمع ما لهم من المكانة والقدر الجليل والشأن العظيم وأنهم سفراء ونواب إلاّ أنه لم تعرف عنهم العصمة أبداً، فإنّ العصمة لأهلها، فهذه العصمة لا يصلها الإنسان مهما بلغ من مقامات عظيمة إلاّ أهلها.
فإنّ هؤلاء السفراء والنواب على عظمتهم وما عندهم من علم البلايا والمنايا وعلوم الباطن والأسرار... كانوا مستضعفين في معارفهم بالنسبة للإمام عليه السلام كما ورد ذلك في شأن رشيد الهجري من معرفته بعلم المنايا والبلايا، والمستضعف باصطلاح الآيات والروايات هو الذي لم يصل إلى كمال الإيمان ولم تبلغ معارفه الإيمانية ما بلغته معارف المعصوم، فهو من هذه الناحية والجهة مستضعف يعني لا يدري أين طريقه لولا هداية ونور المعصوم وعنايته وإشرافه وإرشاده وإن كان بالنسبة لمن دونه من عامة الناس هو كامل الإيمان ومن الأفذاذ، فإنّ مثل ميثم التمار رضي الله عنه بالنسبة لعامة الناس من الأفذاذ والكُمل وصاحب إيمان كامل إلاّ أنه بالنسبة للإمام عليه السلام هو مستضعف أي يحتاج لهداية ونور وإرشاد المعصوم في معرفة طريقه وسبيله لله تعالى.
السفير والنائب قد يفقد حجيته:
لذا فالسفير والنائب لا بدَّ أن يبقى على هدي المعصوم وضمن دائرة حجيته وإلاّ بمجرد أن يتجاوزها تسقط تلك الحجية كما في محمّد بن أبي زينب المقلاص.
وربما يطرأ في المقام سؤال: إن الإمام عليه السلام لِمَ جعل مثل هذا الشخص سفيراً ونائباً مع علمه بأنه سينحرف ويلعن ويطرد، أليس هذا خلافاً للحكمة؟
ولكن الحق أن هذا هو عين الحكمة، والقرآن يضرب لنا مثلاً في ذلك، فإنّ بلعم بن باعورا آتاه الله تعالى بعض حروف الاسم الأعظم وليس كله وإنما هدب شعاعي منه أو خيط مما لا يحصى من خيوط النور قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ)(697).
فكيف يعطي الله تعالى بعض الاسم الأعظم لمثل هذا الذي يعلم به أنه سينحرف، فإنّ ذلك لم يخرج عن موازين الحكمة فإنّ الباري تعالى عادل لا يجور وقد قال في كتابه العزيز: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(698).
فإنّ الإنسان ما دام يجاهد نفسه ويتقي ويتورع ويزهد في الدنيا ونحو ذلك، فإنّ الله تعالى يعطيه ويجازيه لقاء عمله هذا حيث روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه وبصّره عيوب الدنيا دائها ودوائها وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام)(699).
لكن الحكمة تكون على الكافر حجة وتكون للمؤمن حجة، أي الحكمة تكون بنفع المؤمن وبضرر الكافر، فإنّ الحكمة والمقام الذي يعطيه الله تعالى للإنسان الزاهد العامل في الدنيا جزاء زهده وعمله تلك المقامات من السفارة أو بعض حروف الاسم الأعظم لا تعني ضماناً ولا حسن عاقبة له ولا سداداً له وإنما حسن العاقبة والسداد والضمان يحصل عليها من استمرار العمل المستحق لذلك لا أنه يعمل ما يشاء وكيف يشاء لأنه ضمن السداد وحسن العاقبة بحصوله على النيابة أو السفارة أو بعض حروف الاسم الأعظم، فإنّ السداد والصراط المستقيم أمر دقيق أحدّ من السيف وأرفع من الشعر وهو أمر صعب عصيب، لأنه تحت الرقابة الشديدة والمتابعة المستمرة وبمجرد أن يتخلى عن الضروريات والحجج الأكبر والعليا واستمسك بالحجج الدون فإنّ منظومة الحجج لديه تنهدم وتنفصم وبالتالي يقع في الفتن والزيغ، وأما لو استقام واستمسك بالعروة الوثقى _ وهي الحجج الأقوى _ فإنّه ينجو ويهتدي لانتظام منظومة الحجج لديه قال تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الأُْمُورِ)(700)، (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لاَ انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(701).
فإنّ مثل بلعم بن باعورا ومحمّد بن أبي زينب المقلاص وإن كان لهم ما لهم من المنزلة والحبوة والحظوة و... فإنّ ذلك لا يعد ضماناً ولا صيانة لمستقبلهم ما لم يكن العمل الصحيح والتمسك بالحجج الأعلى من قبلهم والحفاظ على دائرة الحجية لكلٍ منهما، إذ ليس في منهاج الدين والمعرفة الدينية اعتمادٌ على أن هذا كان مستقيم العمل أو أنه مستجاب الدعوة ونحو ذلك، وإنما منهاج الدين منضبط ومبني وفق مراتب الحجج وقواعدها الرقابية.
وإن من أوتي علم المنايا والبلايا والأسرار والباطن ونحو ذلك لا يعني أنه أوتي الحجية والعصمة سواءً بقي على الصلاح كسلمان المحمّدي وحبيب بن مظاهر وميثم التمار وغيرهم رضي الله عنهم أم انحرف عن الحق كابن أبي المقلاص وغيره، وإنما يعني أنّا نتربى على أيديهم في حدود النظريات لكن في إطار ومسار وصراط وجادة ضروريات وثوابت الشارع المقدس، فلنا الشرف أن نتربى ونتتلمذ على ميثم التمار ورشيد وغيرهم رضي الله عنهم، شرف لنا ولآبائنا وأجدادنا أن نتتلمذ على أيديهم ولا نصل إلى درجتهم، فإنّا يوم القيامة مسؤولون إلى من أولينا زمام أنفسنا ورقابنا في ظل الضروريات فإنّ أمثال سلمان وحبيب وميثم ورشيد وغيرهم من الأكابر والأعاظم عرّفوا لنا الأئمّة والكتاب وسُنّة النبي، فتلك الحجج الأكبر وهي ضروريات الكتاب والسُنّة النبوية وثوابت منهاج الأئمّة عليهم السلام لا يمكن تركها تحت ذريعة اتّباع الصلحاء وأهل اليقين ورفع اليد عنها فهي الطريق اللائح والمنهاج الواضح.
فهذا نموذج جيّد موجود في النواب والسفراء الخاصين بقوا واستمروا وحافظوا على دائرة حجيتهم واستمسكوا بالحجج الأعلى وتركوا الحجج الأدون فثبتت حجيتهم، وهناك نماذج أخرى كمحمّد بن أبي زينب المقلاص والمغيرة بن سعيد العجلي تعدّوا دائرة حجيتهم وتركوا الحجج الأعلى واستمسكوا بالحجج الأدون فسقطت حجيتهم ببركة القواعد الرقابية.
كما تقدم مثل ذلك في الفقهاء كابن أبي العزاقر وأحمد بن هلال العبرتائي.
دعوة للتوازن:
من خلال ما تقدم تتضح الصعوبة في فهم معارف الدين، وأن الابتلاء والامتحان في المعرفة والبصيرة أعظم الامتحانات الإلهية، وأن امتحان الله تعالى لنا في الغرائز والشهوة والغضب ونحوها هي امتحانات سهلة هيّنة يسيرة بالقياس إلى امتحانات البصائر والعقائد.
فإنّ منعطفات تاريخ الأمم والبشر في الاستقامة ونحوها إنما هي بسبب الامتحانات والاختبارات والفتن في البصيرة والمعرفة، لأن مركز التحكم في الإنسان والمميّز له عن بقية المخلوقات وعن الملائكة أيضاً هو عقله ولُبه وذهنه ودركه، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: (إن الله عز وجل رَكَّبَ في الملائكة عقلاً بلا شهوة، ورَكَّبَ في البهائم شهوة بلا عقل، ورَكَّبَ في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم)(702) فإنّ النمط العام من الملائكة عنده قوة عقل فقط، أما الإنسان فإنَّ درجة القوة عنده بحيث تستطيع أن تتحكم وتجابه الشهوة والغضب، وهذا غير موجود عند الملائكة _ هذا الكلام ليس مع الملائكة المقربين، بل المقصود عموم الملائكة من غير المقربين _.
ضرورة الدراسات العقائدية:
فإذن إذا كانت هذه القوة وهذه النعمة الوجودية التي هي رأس مال خطير أعطاها الله عز وجل للإنسان وهي قوة العقل والتي بتوسطها يمتحن الله الإنسان أعظم الامتحانات وبها امتاز عن بقية المخلوقات، فلا بدَّ للإنسان أن لا يقف عن تحريكها وتطويرها ولا يعطلها ولا يتوهم أنه اكتفى في مرحلة ما في دراسة المعارف وتعلمها، لأن معارف الدين بحر واسع، وإن قلنا أن التمسك بالضروريات هو تمسك بالعروة الوثقى، ولكن لكي يكون الإنسان أكثر فطنة وبصيرةً ونفاذاً فالحذر كل الحذر من تعطيل بحث المعارف والعقائد، إذ به نجاة الدين، فإنّه مما رواه الفريقان وهو مدار ملاحم تفسيرية علمية بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (العلوم كلها فضلة إلاّ ثلاث: آية محكمة، وسُنّة قائمة، وفريضة عادلة)(703) فالآية المحكمة يعني العقائد، والسُنّة القائمة يعني تهذيب الأخلاق أو العلوم التي تبحث عن النفس والتي تؤدي لمعرفة النفس فإنّه (من عرف نفسه عرف ربه)(704) و(من ملك نفسه هُدي واستقام)(705)، فهذه العلوم التي تبحث عن النفس وأخلاقها وبالتالي عن رياضات النفس هي سُنّة قائمة، والفريضة العادلة هي الفقه، أي فقه الفروع.
فإذن العلوم المهمة التي يجب على الإنسان أن يتعلمها هي ثلاثة محاور تكمل بعضها البعض ولا ينبغي التقصير والتماهل في واحد منها، فإذا استطاع طالب العلم أن يشبع البحث والمعرفة ويدأب إلى آخر عمره في السير فيها فإنّه لن يُباغت ولن يُغدر به ولن تتكأده القيام بالمسؤولية لأن وظيفة طلبة العلوم الدينية هي المرابطة في الثغور الخطيرة الأساسية وحماية الدين في تلك الثغور الثلاثة، فإذا أحكمنا المرابطة فيها لن يستطيع العدو أن يباغت حِمى الدين وذلك بأن تتكامل عندنا هذه المحاور الثلاثة من العلوم، إذ بها نحمي الدين فإنّ هذه وصية إعجازية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القدرة على حفظ الدين وعجز العدو طوال تاريخ البشرية، إذن فمن الضروري عدم حصر التكثيف في فقه الفروع وعلم أصول الفقه على حساب المحورين الآخرين، وهذا لا يعني عدم الاهتمام بعلم الفقه وأصوله ولكنّا نقول لا بدَّ من توازنه مع العقائد لأنهما _ كما يقول العلماء الأكابر المتقدمون _ جناحان يطير بهما العالم، فقه الفروع والفقه الأكبر وهو العقائد، بل وحتّى الفقه الأوسط وهو تهذيب النفس.
فهذه مراتب ثلاث إذا أحكمها طالب العلم آية محكمة وسُنّة قائمة وفريضة عادلة فإنّه سوف تكون له أجنحة يطير بها إلى ما شاء الله، وإلاّ فإنّ تكثيف وإشباع أحدهما على حساب الآخر يكون المسير كمسير الأعرج برجل واحدة، فلا بدَّ من الموازنة في الدراسة والمواظبة على هذين الخطين المتوازيين.
الدليل الإثباتي للنيابة الخاصة:
ثبت في محله أن الأدلّة الإثباتية على أنواع ودرجات تختلف باختلاف المثبت والمدعي، فهناك الأدلّة العقلية، والأدلّة النقلية، والنقلية منها القطعي ومنها الظني، وكل منهما ربما يكون نصاً في المراد وربما يكون استظهاراً ظنياً وهكذا، فالنبوة مثلاً لما كانت مقاماً مهماً ومنصباً خطيراً لم يسلّم الناس للنبي لمجرد الدعوى من دون دليل إثباتي يقيني، فمثلاً في قصة إمامة طالوت لم يكن ليسلموا له لمجرد دعواه بل لا بدَّ من القطع، وقد بين ذلك القرآن الكريم حيث قال تعالى: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(706) أي شاهد ملكوتي إعجازي فإنّ التابوت في بني إسرائيل كان مثل عصا موسى من جهة أنه أمر إعجازي، فإنّه لا يأتي متحركاً بنفسه إلاّ في سكينة، والسكينة لها شكل وصورة وريح من الجنّة وله شكل جميل مثل وجه الإنسان، وهذه الصورة يشاهدها بنو إسرائيل فقط في تعيين كل نبي نبي من أنبياء بني إسرائيل وقد رأوه عندما (قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ * وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(707)، فكان مجيء التابوت هو الدليل القطعي عندهم على ذلك، وقد أتى ذلك التابوت فكان آية ملكه.
فقد ورد عن الرضا عليه السلام قال: (السكينة ريح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان، وكان التابوت إذا وضع بين يدي المسلمين والكفار فإنّ تقدم التابوت رجل لا يرجع حتّى يقتله أو يغلب، ومن رجع عن التابوت كفر وقتله الإمام)(708).
وعن أبي الحسن عليه السلام قال: (السكينة ريح تخرج من الجنّة لها صورة كصورة الإنسان ورائحة طيبة، وهي التي أنزلت على إبراهيم صلوات الله عليه فأقبلت تدور حول أركان البيت وهو يضع الأساطين، وهذه السكينة، كانت في التابوت وكانت فيها طشت يغسل فيها قلوب الأنبياء، وكان التابوت يدور في بني إسرائيل مع الأنبياء عليهم السلام)(709).
خطورة السفارة ودليلها:
والسفارة والنيابة الخاصة لما كانت مقاماً إجرائياً خطيراً وحساساً ومهماً لأنه يرتبط بالإمام المعصوم ارتباطاً خفياً ويؤدي عنه، وإن كانت صلاحياته وحجيته محدودة وليست مطلقة وأنه خاضع للمتابعة والمراقبة من الفقهاء والعوام من خلال إعمال القواعد الرقابية المعرفية وأنه خاضع لحجج أعلى وأقوى منه ومحكمة عليه، إلاّ أنه لخطورة وأهمية هذا الموقع لم يكن لأحد في زمن حضور الأئمّة عليهم السلام أو في الغيبة الصغرى أن يقبل ويقر هذا المنصب لأحد إلاّ بدليل قطعي نصي، أي بالدليل اليقيني دون غيره من الأدلّة الإثباتية فلا اعتداد بالاستظهارات الظنية حتّى لو كانت ظنوناً معتبرة ولا بالحدس، فلم يقبل شيعة أهل البيت عليهم السلام ولم يسلموا على طول فترات الحضور والغيبة للأئمّة عليهم السلام بنيابة أيّ نائب ولا سفارة أيّ سفير إلاّ بالدليل اليقيني دون غيره من الأدلّة وإن كانت في نفسها معتبرة كالظنون المعتبرة من الاستظهارات ونحوها ولا بالبينة ولا بغيرها من هذا المستوى من الأدلّة لأنها مراتب إثباتية دانية نازلة لا تناسب المقام الخطير للسفير والنائب لأنه يؤدي عن المعصوم فلا بدَّ من إثباته بالقطع واليقين.
كما أن ديدن شيعة أهل البيت عليهم السلام في إثبات نيابة أو سفارة النواب والسفراء سواء أكان في عصر الأئمّة عليهم السلام أم في الغيبة الصغرى للإمام المهدي عليه السلام، إذ ليس بصحيح ما في كثير من الأذهان من أن ظاهرة النيابة والسفارة في فترة الغيبة الصغرى فقط، بل إن الصحيح حسب الروايات العديدة أن هناك نواباً وسفراءً خاصين للمعصومين قبل الإمام المهدي عليه السلام، بل إن ذلك أحد الطرق اليقينية في إثبات سفارة ونيابة العمريين من خلال نص الإمام الظاهر وتصريحه بكونهما سفيرين فإنّ العمريين حسب مفاد الدليل كانا سفيرين ونائبين خاصين للإمام الهادي والإمام الحسن العسكري عليهما السلام فعهدت الشيعة وفقهاء الإمامية هذا المنصب للعمريين في زمن العسكريين وأن تنصيبهما كان بنص من الإمام الهادي عليه السلام ثمّ العسكري عليه السلام، فقد ورد: (اسمع لهما وأطع لهما فإنّهما الثقتان المأمونان)(710) ثمّ في تتمة بعض النصوص الواردة في شأنهما أنهما كذلك لابن الحسن عليه السلام يعني الإمام المهدي عليه السلام والذي يعني أن العمريين لهما نفس السمة التي شغلاها وكانت لهما في عهد الإمام العسكري والهادي عليهما السلام، فإنّ الشيعة والفقهاء في تلك الفترة مع ما ورد من تنصيصه عليه السلام على توثيق العمريين لم يكتفوا بذلك في ما بعد ما لم يصدر عن العسكري عليه السلام ما يثبت استمرار السفارة والنيابة لهما في عهد المهدي عليه السلام وإن ذلك الصادر خبر قطعي فيكونون قد أثبتوا السفارة والنيابة لهما بالأدلّة القطعية، وهكذا في عصر الإمام الصادق عليه السلام، فهناك روايات ونصوص تشير إلى ثبوت مقام وسمة السفارة والنيابة الخاصة لمثل جابر بن يزيد الجعفي، وكما هو الحال عند أصحاب الإمام الصادق بعد ثبوت انحراف محمّد بن أبي زينب المقلاص، فإنّهم جاؤوا وطلبوا من الإمام عليه السلام تنصيب المفضل بن عمر الجعفي مما يعني أنهم لا يكتفون بالظنون في منصب السفارة والنيابة، بل لا بدَّ من الأدلّة اليقينية القطعية والتي هي التصريح المباشر من قبل الإمام عليه السلام في مثل تنصيب المفضل بن عمر الجعفي، فإنّ تلك المراتب الأخرى من الأدلّة كالظهورات والظنون المعتبرة والشاهدين العدلين ونحوها إنما لها مجالها ومساحتها الإثباتية الخاصة، أما مثل إمامة أمير المؤمنين عليه السلام أو أيّ أصل من أصول الدين أو قواعد الفقه الأصولية و... ونيابة النواب لا يمكن إثباتها بهذا النحو من الأدلّة الظنية ونحوها بل لا بدَّ من اليقين، نعم هذه تنفع في إثبات أمور أخرى أهون من الإمام والنيابة كالقواعد الفقهية الفرعية وتفاصيل أمور الفقه ونحوها وإلاّ لو عكسنا وأثبتنا الإمامة والنيابة بالأدلّة الظنية أو أثبتنا الفروع الفقهية بالأدلّة القطعية لكان ذلك من الخلط في الحجج ومنظومة الحجج.
وهو نظير المستندات في الدوائر الحكومية فإنّ كل وزارة لها مستندات معينة خاصة بها، فلوزارة الصحة مستندات معينة وللجامعة والتعليم مستندات معينة وللحوزة العلمية مستندات معينة، فالمستندات أنواع وأنماط وأصناف مختلفة ودرجات متفاوتة، فليس المستند مطلقاً في كل مكان وفي كل حال يكون مؤدياً ومفيداً للغرض، فالرواية الظنية حتّى لو كان الظن معتبراً لا يمكن إثبات نيابة نائب خاص أو سفير لخطورة هذا المقام.
انضباط قنوات الحجية للغيب:
وحفاظاً على تراتبية الحجج، فإنّ الحجج وتراتبيتها لها نظام خاص فأيّ مخالفة له ونقضه يوقع في الزيغ، كما لو فرضنا أن شخصاً رأى ملكاً حتّى لو كان من السماء الأولى ونقل له بعض الأوامر فهل ذلك يكون حجة على ذلك الشخص دون أن يكون عن طريق نبي أو رسول؟
بلا إشكال ليس حجة عليه ولا يجوز لذلك الشخص أن يعمل بتلك الأوامر بدعوى أنه سمعها من ذلك الملك لأن ذلك الملك ليس حجة علينا إلاّ بتوسط النبي أو الرسول أو وصي أو... أما الملك فلم يكن منصوباً من الله تعالى ليكون حجة علينا بل إن الله تعالى نصب علينا حججاً يجب علينا اتباعها كالرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام لذا _ وكما بينّا ذلك سابقاً _ لا يمكن لنا اتّباع النبي موسى أو عيسى عليهما السلام إلاّ فيما أقره النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في دائرة الحجية لا الشرائع(711).
فإنّ الدين ومراتب الحجج ليس العوبة في الأيدي، أي سواء أكان من البشر أم من الملائكة كمالك خازن النيران أو رضوان خازن الجنّة وحتّى عزرائيل عليه السلام بل وحتّى جبرائيل عليه السلام فلو أدلوا لنا بشيء ليس لنا الأخذ منهم مطلقاً، لأن الله تعالى لم ينصبهم حججاً علينا وإنما جبرائيل عليه السلام نصبه الله لإنباء الأنبياء والرسل ونحن لسنا بأنبياء يقيناً فليست الملائكة حججاً علينا وإنما نحن نتلقى من الرسول الأعظم إذ أمرنا باتّباعه صلى الله عليه وآله وسلم واتّباع الأئمّة عليهم السلام فهم جهاز الله لدخول الأبواب السماوية والرقي والتقرب لله تعالى أما من غيرهم فليس لنا الدخول بها على الساحة الإلهية ولا يصح التقرب، وهذا ضمن النظام الإلهي وتراتبية الحجج، نظير النظام الإداري الوضعي فليس للموظف أن يأخذ الأوامر والتوجيهات إلاّ من خلال مسؤوله المباشر، وما ذلك إلاّ لحفظ المقامات والسيطرة على الأجهزة العاملة بشكل مرتب ومنظم، لذلك نهى رسول الله بشدة كثيراً من الصحابة عندما أرادوا التمسك ببعض ما روي عن النبي عيسى أو موسى عليهما السلام فإنّه ليس لهم إلاّ اتّباع سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم أو المقدار الذي أقره سيد الرسل من باقي الأنبياء والرسل عليهم السلام كما روى أبو عبيد في (غريب الحديث)(712): في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أتاه عمر فقال: إنّا نسمع أحاديث اليهود تعجبنا فترى أن نكتب بعضها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتّباعي)، وروى الطبرسي في (الاحتجاج)(713) عن الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال _ في احتجاجه على يهودي _: (يا يهودي إن موسى لو أدركني ثمّ لم يؤمن بي وبنبوتي لم ينفعه إيمانه شيئاً ولا نفعته النبوة، يا يهودي ومن ذريتي (المهدي) إذا خرج نزل عيسى بن مريم عليه السلام لنصرته فيقدمه ويصلي خلفه)، وإلاّ فإنّ الأمر ليس فوضى وإنما فيه تنظيم لأنه جهاز إلهي كامل، وهذا من أشرف ما أنعم الله به علينا وهو اتّباع أفضل خلائق الله تعالى وسيد الرسل على الاطلاق وأهل بيته الطاهرين، فنحن أمرنا باتّباع والاقتداء والاهتداء بأفضل الخليقة وهو شرف لنا، فلا يتاه بنا ونضيّع هذه النعمة العظيمة ونتخبط في الحجج ونتبع عناوين أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.
فشرف لنا أنّا خلقنا في مثل هذا الزمان وهو زمان سيد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه النجباء ولم نخلق في أزمنة أخرى لنتبع بقية الرسل في شرائعهم فإنّا اُمرنا باتّباع من أمر جبرائيل وعزرائيل وإسرافيل وميكائيل ومالك وكل الكون بل وحتّى باقي الأنبياء والرسل باتّباعهم وطاعتهم وولايتهم ووصايتهم... فلا نقع في الزيغ والتيه ونرفع اليد عن تلك الحجج العظيمة ونتبع زعيق كل زاعق ونعيق كل ناعق ونطبل لكل راية ترفع.. فإنّا عندنا ضروريات وبديهيات لا يشوبها شيء وعندنا منهج لائح وأعلام واضحة من مذهب أهل البيت عليهم السلام، فلا نستبدل ما هو خير بما هو دون وما هو عالي بما هو سفل.
فلنكن على بصيرة وهداية ولا نتبع هلوسات وظنون وأدلّة حدسية لإثبات أدعياء النيابة الخاصة والسفارة، وبالتالي نتعامل معه على أنه مرتبط بالأئمّة الصالحين عليهم السلام.
فإنّ أهل البيت عليهم السلام نجوم وأسرار الخلق فلا يمكن أن نصدق من يدعي الالتصاق بهم إلاّ بأدلّة قطعية يقينية وبراهين بيّنة محكمة. بل إن الشيعة مع من ثبتت سفارتهم ونيابتهم بالأدلّة القطعية اليقينية لم يكتفوا بذلك، بل راحوا يراقبونهم ويحكمون القواعد الرقابية عليهم حتّى مماتهم لأن ذلك المقام المعطى لهم ليس بالأمر السهل والهيّن بل أمر خطير وهم ليسوا بمعصومين ولا مسددين، فكم هو عظيم وعي الشيعة وأتباع أهل البيت عليهم السلام حيث أدركوا أن أولئك السفراء ليسوا بمعصومين فلا بدَّ أن تثبت سفارتهم بالأدلّة القطعية كما لا بدَّ من استمرار المراقبة لهم فلا يكفي الدليل القطعي، بل لا بدَّ من إخضاعهم للرقابة والمتابعة ووضعهم تحت مجهر مراقبة الضروريات والحجج الأكبر، فكم الأمر عصيب وخطير ودقيق فلا نتساهل نحن فيه ونخلط الأمور بعضها بالبعض الآخر ولا نزيلها عن مواضعها ولنتذكر دائماً مثال الخضر عليه السلام، مع موسى عليه السلام فمع ما له من المكانة كان موسى عليه السلام يعمل القواعد الرقابية عليه.
إذاً أوّلاً: النيابة الخاصة لا تثبت إلاّ بدليل قطعي، وثانياً: مع أن صلاحيات النائب محدودة وليست مطلقة، وثالثاً: أن القواعد الرقابية وهي ضروريات الدين جارية ومطبقة عليه على طول المسار.
فهذه ثلاث قواعد مهمة في دائرة النيابة الخاصة والسفارة لا بدَّ من الالتفات إليها وتمييزها بشكل دقيق؛ لأن أهميتها مترشحة من أهمية منصب النائب والسفير الخاص.
شبهات عنكبوتية واهية:
من هنا يتضح بطلان ما يستدل به البعض على كونه ابناً للإمام عليه السلام وأن له حجية الوساطة بينه وبين الناس لأنه يعتمد في إثبات ذلك على رواية يفهم منها فهماً خلاف ظاهرها وهي رواية الاصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث ورد عن الاصبغ بن نباتة، قال: أتيت أمير المؤمنين علياً عليه السلام ذات يوم فوجدته مفكراً ينكث في الأرض، فقلت: يا أمير المؤمنين رأيتك تنكث في الأرض أرغبة منك فيها؟ فقال: (والله ما رغبت فيها ولكن فكري في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من ولدي)(714).
فيستدل البعض على أنه ابن الإمام المهدي عليه السلام بناءً على أن المتكلم هو أمير المؤمنين عليه السلام والمولود الحادي عشر هو المهدي عليه السلام وقد قال: (يكون من ظهر الحادي عشر) أي أن ذلك المولود يولد من الإمام المهدي ويفكر فيه أمير المؤمنين عليه السلام.
وبعبارة أخرى كأن أميرالمؤمنين عليه السلام يقول أولادي أحد عشر ومن ظهر الحادي عشر يكون مولودٌ أفكر فيه، وبالتالي يكون مجموع الأئمّة عليهم السلام ثلاثة عشر، أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر والمولود من ظهر الحادي عشر.
وهذا التفسير مبني على جعل لفظ (الحادي عشر) تمييزاً لقوله (ولدي) وهو خطأ لأن قوله: (من ولدي) صفة لقوله: (الحادي عشر).
فيكون المعنى أن أمير المؤمنين عليه السلام يقول: (الحادي عشر من الأئمّة من ولدي يكون من ظهره مولود أفكر فيه) والحادي عشر منهم هو الحسن العسكري عليه السلام ومن ظهره يكون المهدي عليه السلام.
مثلاً لو نذكر نحن العبارة بشكل آخر للتوضيح: (فكري في مولود يكون من ظهر الحادي عشر من أئمّة أهل البيت شديد السمرة ويلقب بالعسكري وهو من ولدي) فنذكر مجموع صفات، ولكن الأمير عليه السلام ذكر صفة واحدة للحادي عشر وهو كونه من ولده.
وبالتالي فالتمييز لقوله: (الحادي عشر) هو اللفظ المقدر المعهود وهو (من الأئمّة) وليس هو اللفظ المذكور (من ولدي) بل قوله: (من ولدي) صفة لـ (الحادي عشر)، أي الحادي عشر من الأئمّة والذي هو الحسن العسكري موصوف بأنه من ولدي، فمن ظهر الحسن العسكري يكون المولود وهو المهدي عليه السلام، فالإمام علي عليه السلام يفكر في المهدي نفسه وليس في ابن المهدي كما يدعي هذا البعض.
فإنّ لفظ الحادي عشر عندما يرد في الروايات كأنه اصطلاح خاص بالترتيب لخلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهم الأئمّة الاثنا عشر عليهم السلام. فكيف يحتج بإيهام في الدلالة على أمر لا بدَّ أن يكون يقينياً لا وهمياً، ثمّ كيف يعتمد على رواية آحاد واحدة في مسألة لا بدَّ فيها من اليقين، وثالثاً من أين الدليل اليقيني على أصل الولادة في الخارج المحسوس. فكل هذه الأمور وهن في وهن واهي.
في عصر المهديين الاثني عشر:
وهناك مجموعة من الروايات بمفاد واحد تقريباً وهو (منّا بعد القائم أحد عشر مهدياً)(715).
وفي رواية أبي حمزة أنه قال: (يا أبا حمزة، إن منّا بعد القائم عليه السلام إحدى عشر مهدياً من ولد الحسين)، ورواية كمال الدين (ج 2/ ص 358)، وبعض الأدعية كذلك (... اللهم صل على ولاة عهده والأئمّة من بعده...)(716) وغيرها بنفس المضمون.
ولكن هذه الروايات صاغ مفادها البعض، بل حبك الإيهام في مفادها وأدعى أنه من أبناء المهدي عليه السلام وهو مهدي أيضاً.
مع أن هذه الروايات لم تذكر نعت الإمام لما بعد الإمام الثاني عشر، وإنما النعت الذي ذكرته لهم أنهم مهديون وفي بعضها نفي أنهم أئمّة، كما في الرواية عن الصادق عليه السلام وهو يفسر كلام الباقر عليه السلام أني سمعت من أبي الباقر عليه السلام قال: (يكون بعد القائم اثناعشر مهدياً) وهذا كلام الباقر، فقال الصادق: (إنما قال أبي اثنا عشر مهدياً ولم يقل اثنا عشر إماماً، ولكنهم قوم من شيعتنا)، وفي رواية أبي بصير: (وإنما هم مهديون)(717) فلم تصفهم مجموع هذه الروايات أنهم رواد الأرض وقطب القيادة فيها وإنما غاية ما تدل عليه أنها تعزى وتسند إليهم جملة من المسؤوليات ما بعد وفاة الإمام المهدي عليه السلام أي في عصر ومرحلة الرجعة لا مرحلة الظهور فضلاً عن مرحلة ما قبل الظهور مع أن ما صرح في رواية أبي بصير بأنهم يدعون الناس إلى موالاة ومعرفة حقنا. أي إن القيادة ليست بأيديهم ومركزية الإمامة هي للاثني عشر في عصر الرجعة بعد عصر دولة الإمام المهدي عليه السلام.
ومن ثَمَّ لا تعارض هذه الروايات ما ورد في روايات الرجعة أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام يرجعان قبل استشهاد الإمام المهدي وأن الذي يجهز ويدفن الإمام المهدي هو جدّه الحسين(718) عليه السلام ويدفنه في موضع قبره في كربلاء، أي إن ما بعد الإمام المهدي لا تخلو الأرض من الأئمّة الاثني عشر، بل يبدأون بالعودة والرجعة ودولة الرجعة غاية الأمر أن هؤلاء المهديين الاثني عشر سواء أكانوا من ولد الإمام الثاني عشر أم من ولد الحسين تكون لهم أدوار ومهام تحت قيادة وإمامة وفي ظل قيادة الأئمّة الاثني عشر وليست لهم مناصب الإمامة والقيادة وما هو من هذا القبيل.
وأما ما في رواية مختصر البصائر فلا تدل على خلو الأرض من الأئمّة الاثني عشر بعد الإمام الثاني عشر بسنة وقانون الرجعة، غاية الأمر أن المهديين الاثني عشر من ولد الإمام الثاني عشر سيكون لهم دور الأعوان والأنصار في دولة الأئمّة في الرجعة، لاسيّما بعد تواتر أن الأرض لا تخلو من الحجة الإمام، وإلاّ لساخت الأرض(719)، وهي نفس عموم القاعدة المستفادة من قوله تعالى: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً)(720).
إذاً هؤلاء ليسوا بأئمّة، فالأرض لا تخلو من إمام أو خليفة لله في الأرض، إذن هم في دولة الرجعة.
وأما ما في رواية غيبة الشيخ الطوسي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: (ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه أوّل المقربين، له ثلاث أسامي)(721)، فهي مضافاً إلى ضعف السند ورواية آحاد واحدة ظنية لا يصح الاعتماد عليها بمفردها في مسألة لا بدَّ فيها من رقي الدليل إلى درجة اليقين أنه ليس فيها تصريح بأنه يسلم الإمامة وقيادة الأرض إلى ابنه كيف وقد صرّح في الروايات الأخرى بأنهم ليسوا بأئمّة فكيف يسلم الإمامة إليهم، بل في روايات الرجعة أن الذي يلي تجهيز الإمام الثاني عشر هو الحسين، فلا بدَّ أن يكون الضمير في (ليسلمها) عائداً إلى بعض المسؤوليات وبعض الوظائف التي يقوم بها أولاده في ظل إمامته أي عود الضمير إلى الصحيفة التي ذكرت في صدر الرواية.
فلا بدَّ أن يكون الضمير عائداً إلى المهمة والمسؤولية المعينة لا إلى الإمامة، مضافاً إلى أن كلمة (بعده أو بعدهم) تدلُّ بصراحة على أنه لا دور لهؤلاء قبل ظهور الإمام الثاني عشر ولا في أثناء دولته وإنما دورهم سيكون في عصر الرجعة بعد دولة الظهور واستشهاد الإمام عليه السلام.
فمفاد الروايات يقطع الطريق أمام ادّعاء النيابة الخاصة قبل الظهور كما أن هذه الروايات لا تعطي لهؤلاء المهديين نعت الحجية ولا نعت النيابة الخاصة ولا نعت السفارة ولا نعت الإمامة وإنما غاية ما تدل عليه هو أن لهم بعض المسؤوليات.
مع أن كلمة (من بعدهم) أيضاً بمعنى دون مقام الأئمّة الاثني عشر أي لهم مسؤوليات في ظل إمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام.
وأما ما رواه السيد بن طاووس في المصباح عن الرضا في أعمال يوم الجمعة عن يونس بن عبد الرحمن عن الرضا عليه السلام دعاء وفي ذيله: (اللهم صل على ولاة عهده والأئمّة من بعده)(722) فالتعبير بالأئمّة من بعده لا تأبى الانطباق على رجوع الأئمّة عليهم السلام لاسيّما وأنه قد غاير عليه السلام بين عنوان الولاة من بعده والأئمّة من بعده مما يدل على أن له ولاة عهدٍ ليسوا بأئمّة هو لا يأبى الانطباق على المهديين الاثني عشر وهم غيره مع تنصيص الرواية على وجود أئمّة من بعده يغايرون ولاة عهده من بعده دلالة على تغاير الأئمّة بعد المهدي عليه السلام تغايرهم مع المهديين الاثنى عشر، والحاصل فإنّه لا دلالة في الدعاء على أن هناك أئمّة من بعده يغايرون الأئمّة الاثني عشر لاسيّما وأن كون عدة الأئمّة الاثني عشر من ضروريات المعتقد عند أهل البيت بل في روايات المسلمين أن خلفاء النبي اثنا عشر والمهم الالتفات إلى إمامة الاثنى عشر ثبتت بنصوص الآيات القرآنية وتواتر الأحاديث فكيف يقف في مصافها ودرجتها روايات آحاد لم تصح سنداً فضلاً عن أن تبلغ اليقين مع أن دلالتها أجنبية عن مدّعى أدعياء السفارة والنيابة قبل الظهور؟

* * *
الفصل السابع: حقيقة النيابة الخاصة والسفارة

أدلّة انقطاع النيابة الخاصة والسفارة:
الدليل الأوّل:
إن انقطاع النيابة بات من الأمور الواضحة عند علماء الإمامية وعامة شيعة وأتباع أهل البيت عليهم السلام بل أصبحت بديهية وضرورية عندهم بل حتّى لدى أهل السُنّة، فإنّ فِرَق أهل السُنّة _ في نظرتهم إلى أتباع مدرسة أهل البيت _ بات واضحاً لديهم علماءً وعواماً أن من معتقدات وضروريات مذهب أهل البيت عليهم السلام هو انقطاع النيابة الخاصة والسفارة، بمعنى انقطاع الاتصال بالإمام، ومن ثَمَّ بناءً على ذلك بدءوا بسلسلة من الشبهات والاعتراضات والإشكالات على أصل عقيدة الإمامة _ وهذه الإشكالات والاعتراضات قد أجيب عنها تفصيلاً في محلها وسنتعرض لاحقاً لجملة منها إن شاء الله _.
فإنّ الأمر عندهم بلغ مرتبة من الوضوح والبداهة والضرورة بحيث أن نفس العامة على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم نسبوا لأتباع أهل البيت عليهم السلام مسألة انقطاع النيابة وأنها لديهم كمسألة عقيدة الغيبة للإمام عليه السلام في الوضوح والبداهة، فكما أن عقيدة غيبة الإمام ضرورية كذلك انقطاع النيابة الخاصة وبالتالي فإنّ تفسير عقيدة الغيبة الكبرى بانقطاع النيابة الخاصة والسفارة أمران مقرونان إلى بعضهما البعض، ومن ثَمَّ جعلوا هذا الاعتقاد عند الإمامية أمراً مفروغاً عنه بل بديهياً ضرورياً وراحوا يعترضون ويشكلون عليهم على أساسه.
بل إن أبرز إشكالاتهم حول ذلك أن الإمام المهدي عليه السلام إذا كان غائباً وليس له نوابٌ خاصون ولا سفراء فهو بالتالي منقطع عن المسلمين أي لا اتصال بينه وبين أتباعه وشيعته ومن يأتم به؟ وهذا الإشكال مذكور في أغلب كتب العامة الكلامية حيث يشكلون به على أصل الإمامة، فكيف يكون إماماً ولا اتصال له بقاعدته وكيف يدبر أمور الأمّة؟ فأيّ كتاب كلامي من كتب العامة عندما يبحث عن الإمامة ويناقش فيها أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام وعقيدتهم في الإمامة فإنّ أوّل نقاش يطرحه هو هذا الإشكال المبتني على انقطاع السفارة والنيابة عند الإمامية فيفهم من خلال ذلك أنَّ انقطاع السفارة عند الإمامية عقيدة وضرورة كعقيدة أصل الإمامة وكعقيدة الرجعة و... وإلاّ لم يوردوا إشكالهم لو لم يكن انقطاع السفارة من أوّليات وبديهيات وضروريات مذهب أتباع أهل البيت عليهم السلام.
الدليل الثاني:
التوقيع المبارك المروي بتوسط النائب الرابع علي بن محمّد السمري رحمه الله حيث ذكر الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة في (ص 365) عند ذكره أبي الحسن علي بن محمّد السمري فقال (تحت الرقم 365) وأخبرنا جماعة عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه قال: حدّثني أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتب، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري قدس سره فحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمّد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنّك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم). قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه وقضى. فهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه(723).
حيث أنه خطاب للنائب الرابع أن يجمع أمره ويبلغ أتباع أهل البيت عليهم السلام أنه ميت بعد الستة أيام _ وهذا في نفسه إعجاز بأن يحدد الإمام موت السمري بالتاريخ الصحيح _ وأن لا يوصي إلى أحد من بعده وأن الغيبة الكبرى أو الغيبة التامة قد وقعت وأن مدعي المشاهدة فهو مفتر كذّاب.
والمقصود بالمشاهدة بقرينة وقوعها في سياق وفاة النائب الرابع والأمر له بعدم الوصية لأحد هو إبراز المشاهدة لافهام الناس بأنه على اتصال وارتباط بالإمام عليه السلام وأن له مقام الوساطة معه.
ولا يشترط أن تكون المشاهدة المنهي عنها مزعومة ومعنونة بالسفارة أو النيابة كما سيأتي بيانه تحت عنوان (عناوين دعوى السفارة)، وكذلك لا مانع من أصل المشاهدة من دون إبراز دعوى الاتصال والارتباط أي دعوى منصب ومقام، كما سيأتي تحت عنوان (التشرف برؤية الإمام المهدي عليه السلام لا يعني الحجية).
فمضمون التوقيع أن الإمام عليه السلام ينفي دعوى السفارة والنيابة والارتباط والوساطة بعد السمري رضي الله عنه فإنّ هذا المنصب والمقام بابه مسدود حتّى ظهور الإمام عليه السلام وإتمام البيعة له، وإن كان الإمام المهدي عليه السلام في التوقيع الشريف قد ذكر حدّاً وغايةً لوقت الصيحة، ولكن بحسب الروايات المستفيضة والمتواترة التي تبيّن شؤون الظهور ذكرت بأنّ انقطاع النيابة الخاصة يمتد حتّى بيعة الإمام عليه السلام بين الركن والمقام وأوّل من يبايع هو جبرائيل عليه السلام، فإنّ هناك صيحة أخرى لجبرائيل بعد الظهور يوم البيعة، فعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (ينادى باسم القائم عليه السلام فيؤتى وهو خلف المقام، فيقال له: قد نودي باسمك فما تنتظر؟ ثمّ يؤخذ بيده فيبايع). (قال) وقال لي زرارة: الحمد لله قد كنّا نسمع أن القائم عليه السلام يبايع مستكرها فلم نكن نعلم وجه استكراهه، فعلمنا أنه استكراه لا إثم فيه(724). ثمّ بعد جبرائيل يبايعه الثلاثمائة وثلاثة عشر من أنصاره.
فإنّ المستفاد من الروايات أن النيابة الخاصة والسفارة عن المهدي عليه السلام لا يشغلها أحد ولا تعطى لأحد حتّى تنعقد البيعة للإمام عليه السلام عند الكعبة وليس أمد ومنتهى ذلك مجرد الصيحة، أو للصيحة، ولكن المراد بها حينئذٍ التي تقع بعد الظهور، وهذا لأجل التوفيق بين الروايات، وحتّى الروايات الواردة في الخراساني أو الحسني أو اليماني أو شعيب بن صالح أو النفس الزكية أو... فإنّها لا تعطيهم أيّ تمثيل رسمي أو نيابة أو أيّ صفة أخرى بل تنفي ذلك عنهم بل تنفي أيّ صفة وتمثيل رسمي حتّى عن الثلاثمائة والثلاثة عشر حتّى تعقد وتتم البيعة للإمام عليه السلام ويتشكل الجهاز الرسمي والحكومي للإمام عليه السلام، بشكل معلن فمن ثَمَّ تبدأ الأدوار أي بعد البيعة.
ضابطة صارمة علامة لعصر الظهور:
فإن الروايات الواردة جعلت الصيحة أكبر علامة حتمية لسنة الظهور ولنجوم أصحاب رايات سنة الظهور، فلا يمكن مجيء السفياني بدون الصيحة لأنّها من المحتوم وإن كان يمكن أن تقع الصيحة بدون السفياني كما لا يمكن أن يجيء اليماني بدون السفياني وإن كان يمكن مجيء السفياني بدون اليماني والخراساني، فأشدّ العلامات حتميةً هي الصيحة، ثمّ السفياني، وهذه العلامة كاشفة عن دجل أدعياء هذه الأسماء مع عدم وقوعها.
أما السند للتوقيع المبارك فإنّه بات مُسلّماً لدى الإمامية، والراوي الأخير الحسن بن أحمد المكتب فهو قمي من مشايخ الصدوق، وقد ذكر في ترجمته أنه من فقهاء قم الكبار بغض النظر عن ترحم الصدوق عليه(725) مع أن الصدوق الذي هو من أكابر زعماء الطائفة لا يتخطّى ديدن علماء الإمامية من عدم الاعتماد على رواية التوقيع عن النواب الأربعة إلاّ بواسطة الوكلاء والأبواب الذين ذكرهم الشيخ الطوسي في الغيبة أنهم أبواب ووكلاء للنواب الأربعة، وهذا التشدّد من علماء الإمامية في توقيعات الناحية نظراً لخطورتها وحساسية الوضعية الأمنية بخلاف الحال في الأئمّة عليهم السلام آبائه.
الدليل الثالث:
إن أصل معنى عدم الظهور، أي الغيبة الكبرى يتضمن عدم البروز وعدم التمثيل الرسمي عن الإمام عليه السلام حتّى عقد البيعة، أما قبل البيعة فإنّ نفس عنوان الغيبة ينفي ذلك، ومعنى الظهور أن جهاز الإمام يظهر ويبرز بشكل رسمي بالنيابة أو الوكالة أو السفارة ونحو ذلك، فإذن الدليل الثالث هو أن مُدعي النيابة الخاصة أو السفارة ينافي ضرورة عنوان الظهور فإنّ ظهور دولته وجهازها الرسمي ليس إلاّ بعد عقد البيعة.
الدليل الرابع:
إن أدلّة الظهور والروايات التي ترسم لنا سنين الظهور وأيام الظهور كلها مفادها وبيانها أنه لا صفة رسمية ولا تمثيل رسمي ولا تنويب ولا توكيل من الإمام عليه السلام لأيّ من الأسماء اللامعة التي ستظهر وتقود التيارات في الظهور فليس هناك أيّ تمثيل رسمي لشخصيات الظهور فضلاً عن غيرها حتّى تعقد البيعة.
الدليل الخامس:
إن مقتضى وقوع غيبتين له عليه السلام أحدهما صغرى والأخرى كبرى أن بين الغيبتين فرق وأن الكبرى أشدّ في الخفاء والانقطاع عنه ولا يتم الفرق وأشدّية الخفاء إلاّ بانقطاع النواب والسفراء.
ويشير لهذا الدليل النعماني في الغيبة والصدوق والطوسي والكليني رضي الله عنه ويذكرها أيضاً جميع محدّثي ورؤساء علماء الإمامية حيث يذكرون روايات متواترة مروية من زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أمير المؤمنين عليه السلام وكلها بأسانيد متصلة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أمير المؤمنين عليه السلام وإلى الزهراء ثمّ الحسن ثمّ الحسين ثمّ زين العابدين ثمّ الباقر ثمّ الصادق ثمّ الكاظم... وهكذا بمعنى أن طرق الرواة إلى الصادق مثلاً دون أن يقع فيها موسى بن جعفر عليه السلام أو إلى السجاد دون أن يقع فيها الباقر والصادق عليهما السلام وهكذا... وحتّى عن نفس الإمام المهدي عليه السلام في زمن الغيبة الصغرى يعني مروية عن أربعة عشر معصوماً بطرق متعددة بل عشرات الطرق فهو تواتر بلا شكّ.
حاصل هذا التواتر أن للإمام المهدي عليه السلام غيبتين غيبة صغرى وغيبة كبرى، وأن التفريق أو الفارق بينهما أن الغيبة الصغرى يكون الخفاء فيها ليس تاماً لوجود تمثيل رسمي للإمام عليه السلام من خلال السفراء والنواب الخاصين وأن الغيبة الكبرى يكون الخفاء فيها تاماً، أي الانقطاع تاماً وقد أشير لذلك في التوقيع الشريف حيث قال: (فقد وقعت الغيبة التامة) كما أن انتهاء الغيبة الصغرى يكون بانقطاع السفارة والنيابة الخاصة في حين انتهاء الغيبة الكبرى يكون بالبيعة للإمام عليه السلام وظهوره وإقامة دولته وبروز جهاز إدارته.
الدليل السادس:
إجماع الفقهاء على انقطاع النيابة حتّى أنهم أجمعوا على كفر وضلال مدعي السفارة والنيابة كما تأتي الإشارة لذلك تحت عنوان كفر مدعي السفارة.
إذاً الأدلّة متوافرة ومتكاثرة وقد أشرنا إلى العديد من ألوانها وأنواعها في الجزء الأوّل من كتاب (دعوى السفارة) وكتاب (فقه علائم الظهور) وفي كتب أخرى، وهناك أدلّة أخرى لا نريد أن نستوعبها كلها هنا لضيق المقام، فيمكن مراجعة الكثير من المصادر في ذلك ككتب الحديث والروايات كالغيبة للطوسي أو النعماني وكتاب الفرق للنوبختي وكتب سعد بن عبد الله الأشعري وغيرها، فإنّ دلالات كثير من الروايات المتواترة على انقطاع النيابة الخاصة والسفارة في الغيبة الكبرى بل كما ذكرنا بات انقطاع النيابة عند الإمامية ليس فقط ضرورة فقهية وإنما ضرورة عقائدية، وذلك لأهمية وخطورة مقام حجية النيابة الخاصة والسفارة حيث ينطوي على منبع ومصدر للتشريع وللولاية، فادعاء هكذا منصب مرتبط بأصل الاعتقاد بالإمام المعصوم.
منابع الشريعة:
بعد أن ثبت أن الله تعالى رسم وحدد للخلق طريق التكامل والتقرب إليه وهو العبادة، فإنّه تعالى حدد مع ذلك مصدر تحديد تلك العبادة المطلوبة، فليس صحيحاً بل قد يعد من الكفر أن يحدد الشخص طرقاً للعبادة غير الطرق التي بينها الشارع، قال الصادق عليه السلام: (من خالف كتاب الله وسُنّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كفر)(726) وعليه فلا بدَّ لعباد الله أن يتعبدوا بما يريد الله لا بما يريد العبد، ففي الحديث: (إنما اُريد أن اُعبد من حيث اُريد لا من حيث تريد)(727) ولذا نجد الشارع المقدس عيّن منابع خاصة منحصرة لأخذ التشريعات وما عدا ذلك باطل، وسميت بمنابع الشريعة وهي:
1 _ القرآن الكريم.
2 _ السُنّة المطهرة من أقوال وأفعال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال وأفعال وتقريرات الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
وهذا ثابت بحديث الثقلين المروي عند العامة والخاصة بطرق مستفيضة ومتواترة، حيث ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي ألا وهما الخليفتان من بعدي ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض)(728).
وفي خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام قال: (يا أيها الناس إنه بلغني ما بلغني وإني أرَ أني قد اقترب أجلي وكأني بكم وقد جهلتم أمري وإني تارك فيكم ما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاب الله وعترتي وهي عترة الهادي...)(729) فإنّ القرآن الكريم والسُنّة المطهرة فيها كل ما أراده الله من عباده وفيه أحكام كل الحوادث التي يتلقاها الإنسان في حياته الدنيا.
قال الصادق عليه السلام: (الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتّى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا اُنزل في القرآن إلاّ وقد أنزله الله فيه)(730)، وقال عليه السلام: (ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سُنّة)(731) وعليه فأيّ عمل لم يكن مستنداً لكتاب أو السُنّة فلا يقبل ويعد فاعله خارجاً عن جادة الصواب.
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا قول إلاّ بعمل ولا قول ولا عمل إلاّ بنية ولا قول ولا عمل ولا نية إلاّ باصابة السُنّة)(732) ومن هذه الروايات وغيرها نستخلص أن أيّ طريق للعمل أو العبادة يؤخذ من غير المعصومين فهو باطل، بل صاحبه خارج ضال مضل كما في الرواية عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: (من دان الله بغير سماع من صادق ألزمه الله التيه يوم القيامة)(733) أي من تدين وعمل بحكم بغير المأثور من المعصومين جعل الله حاله يوم القيامة وهو يوم الفزع الأكبر في تيه مع كون ذلك اليوم في أشد الحاجة إلى الأمان والقرار أو أن التيه كناية عن الضلال وعاقبة السوء.
وما ذلك إلاّ لأنّ منابع الشريعة فيها تبيان كل شيء وأن أخذ أيّ حكم من طريق آخر يلزمه ترك طريق شرعي، وترك حكم شرعي قال الصادق عليه السلام: (قال علي: ما أحد ابتدع بدعة إلاّ ترك بها سُنّة)(734) والحاصل أن طريق معرفة أحكام وتكاليف الله تعالى منحصرة بالقرآن والسُنّة وكل منهما راجع للمعصومين عليهم السلام فهم الحجة فقط فإنّ الله تعالى أمرنا بأخذ ما يأتينا به هؤلاء المطهرون دون غيره من الطرق والأساليب الأخرى، فإنّ الحجية لطريق المعصومين وما عداه من طرق حتّى لو كانت تكشف الغيب وتصل لمعرفة الأحكام أو غيرها فلا حجية لها.
عدم حجية تلقي غير المعصوم:
بعد أن ثبت انقطاع النيابة الخاصة بالأدلّة القطعية، بل إن انقطاع النيابة الخاصة والسفارة هو من ضروريات مذهب أهل البيت عليهم السلام، يتضح بطلان ما قد يتوهمه جملة من دعوات الأدعياء المتقمصين المتوهمين وبعض الادعاءات والتخيلات من أنه نائب خاص للإمام أو سفير له أو يتوهم ويتخيل ذلك لغيره من المدعين ونحو ذلك من الرؤى في المنام أو مشاهدة بعض الأفعال الخارقة بدعوى أنها معاجز أو أي دعوى للارتباط والاتصال بالغيب، اتضح بطلان كل ذلك لأنه بناءً على ما تقدم من تراتبية الحجج وأن تحكيم الحجة الأضعف في مرتبة الأقوى هو ظنٌ وزيغ وتحكيمٌ للمتشابه على المحكم واليقيني، فانقطاع السفارة ثبت بالأدلّة القطعية بل صار من الضروري، فلا يعارض ذلك توهمات المتوهمين بوجود بعض الأدلّة على نيابة أو سفارة أيّ كان، فإنّ المشاهدات وبعض الأفعال الغريبة لا تداني الأدلّة القطعية وأنها أدلّة دون بالنسبة لأدلّة انقطاع السفارة الأعلى.
وهو نظير ما مرَّ من تفنيد القرآن وذمه النصارى واليهود لاستنادهم إلى الحس لحكمهم بقتل وصلب النبي عيسى عليه السلام، إذ بينّا أن وجه الحكم بالبطلان وذم القرآن لهم مع أن الحس دليل يقيني هو أن الحس دليل يقيني في نفسه أو بالقياس لما دونه أما بالقياس لما هو أعلى منه كاخبارات النبي الاعجازية فيكون ظناً وتحكيماً للمتشابه على المحكم فإنّ كشف الدليل الأقوى أثبت وأبين من الدليل الأضعف، فبالتالي ما يترآى من الدليل الأضعف يكون وهماً وظناً وليس بيقين بل تشابه وشبهة وهو اصطلاح قرآني خاص كما بينّا.
لذا فإنّ تلك الأدلّة القطعية واليقينية لانقطاع السفارة لا تضاهيها ولا تناهضها أدلّة المُدعين، بل لا يوجد أيّ احتمال لصحة أدلّة المُدعين ولا يوجد أيّ ريب في دجلهم وزيفهم.
افتراق الريب عن الفحص العلمي:
فمن الغريب أن بعض الباحثين بدعوى البحث الموضوعي يقول لا بدَّ من الفحص في أدلّة المدعين للنيابة الخاصة أو السفارة والتثبت من صدقها أو كذبها، وهذا الكلام وإن كان منطقياً بشكل عام كميزان وضابطة في التثبت والبحث لكنه ليس بصحيح وليس بمنطقي إذ تلك الأدلّة المُدّعاة في قبال أدلّة يقينية عالية، فليس من الصحيح ولا من المنطقي أساساً توهم واحتمال الصحة في أدلّة مُدّعي النيابة الخاصة بعدما ثبت انقطاعها بالأدلّة اليقينية العالية.
فمثلاً بعد أن ثبتت عقيدة التوحيد بالأدلّة اليقينية العالية فلو ادعى مدعي أن هناك إلهاً آخر وذكر بعض الأدلّة فهل من المنطقي التردد والاسترابة في تلك الأدلّة بدعوى احتمال تماميتها وصدقها؟!
بل إن من يتوهم ذلك هو مريض أو متمارض في الادراك فلا ريب ولا شكّ في عدم موضوعية هكذا بحث وأن من يحتمل صحة البحث فيه فليس بسليم العقل إذ أن التردد والريب في هكذا اعتقادات ثبتت بالأدلّة القطعية اليقينية كما قال تعالى: (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)(735) فإنّ التردد في الريب والاسترابة حالة مرضية في الادراك والعقل فليس من المعقول الاعتداد بالسفاسف والتفاهات واعتبارها أدلّة في مواجهة أدلّة يقينية قوية شديدة، نعم الفحص فيها لكشف المغالطات والزيف فيها منهج علمي لمن لديه القدرة العلمية والفنية.
رفع اليد عن أدلّة اليقين مقابل توهمات:
فمن التوصيات المنطقية ما جاء في وصية أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: (إذا استيقنت فامض على يقينك)(736)، وهكذا الكثير من الروايات التي دعت إلى الاعتماد والاعتداد باليقين والسير عليه حتّى لو كان في قباله شكّ أو ريب إذ ما دام الإنسان استثبت من اليقين ومن مناشئه فعليه السير دون الاعتداد بالتشكيك، فمن تلك الروايات (لا تنقض اليقين بالشكّ)(737) نعم قبل الاستثبات من اليقين فإنّ البحث والفحص منطقي ومعقول جدّاً لئلاّ يبقى متردداً في البيان والبرهان فيكون كمن يعشو في سيره، لذا لا بدَّ من الالتفات إلى جميع الاحتمالات لإثبات الصحيح والمنطقي فيها ليصل للبرهان اليقيني ويتثبت فيه ليسير عليه، أما إذا استيقن الإنسان فلا بدَّ من المضي على ذلك اليقين وعدم نقضه بشكًّ، فقوله: (لا تنقض اليقين بالشكّ)(738) يعني الشكّ الذي ليس له منشأ علمي يناهض ويقاوم اليقين ولا يساعد على رفع اليد عن الأدلّة السابقة اليقينية، وإلاّ فإنّ رفع اليد عن اليقين بذريعة البحث في أدلّةٍ ضعيفة وهمية ليس حالة فحص علمي سليم سديد بل مرض في العقل والادراك فهو لا يبصر البراهين اليقينية بما أعطاه الله من قدرة الادراك وفطرة الركون لليقين، فهو كمن لا يستنير ولا يستصبح بالنور، بل دوماً يسير في جانب الظلمة تاركاً النور فهي حالة مرضية لعدم استثماره البصر وعدم استعانته بالنور.
فمع وجود الأدلّة اليقينية على انقطاع النيابة الخاصة والسفارة في عقيدة الغيبة لا معنى للريب والشكّ ولا معنى لاحتمال صحة التوهمات والهلوسات كأدلّة للمدعين بها.
كما أنّا لو تنزلنا ونظرنا في مناشيء تلك المُدعيات كالرؤية أو الأفعال الغريبة و... نجد أنها في نفسها ليست بحجة فضلاً عن مناهضتها للأدلّة اليقينية.
وبعبارة أخرى لنا معالجتان لهذه الدعاوى:
الأولى: أنها لو كانت حجة فهي أضعف من أن تناهض البراهين اليقينية المثبتة لانقطاع السفارة.
عدم حجية إلهام أو رؤية غير المعصوم:
والمعالجة الثانية: أن تلك الأدلّة في نفسها ليست بحجة لأن مناشيء تلك المدعيات من قبيل الرؤية والإلهام اللدني والاطلاع على الغيب من قناةٍ ما لا يكون ذلك صحيحاً وتاماً ومُعتبراً إلاّ للأنبياء والأوصياء، فإنّ الوحي عبارة عن قناة روحية تربط وتوصل وتنفتح على الغيب وأما العلم اللُدني فلا يكون إلاّ عند الأنبياء والأوصياء أما بقية البشر من غير المعصومين فليس لهم طريق مضمون للغيب يرتبطون وينفتحون ويتصلون به على الغيب، فقد ذكر القرآن أن سبب انكار الأمم هو أن كل رجل منهم يريد أن تتنزل عليه صحف مُنشّرة وبالتالي فكلٌ منهم يريد أن يكون نبياً ليكون منفتحاً على الغيب فيطمئن به، قال تعالى: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً)(739).
الارتباط بالغيب نبوة أم إمامة أم للكل:
ولكن واقع الحال عدم وجود القابلية لأيّ شخص أن يكون نبياً أو إماماً أو لديه ارتباط بالغيب، فإنّ ذلك تابع لمدى القوة الروحية والاستعداد الروحي للانكشاف على الغيب فإنّ أرواحنا لا شكّ ولا ريب متصلة بعوالم أخرى ولنا قنوات توصلنا إلى الغيب ولا شكّ في ذلك ولكن الكلام كل الكلام في عدم وجود قدرة ضامنة لصواب وواقعية هذا الاتصال والارتباط بتلك العوالم وما تصلنا من معلومات من ذلك الغيب كيف نطمئن على صحتها وأنها عن إرادة الله وقضاءه وقدره ومشيئته؟
فإنّ كل ما نستلمه من خواطر وإلهامات وتخيلات وصور منامية أو صور في اليقظة ومكاشفات وسلوكيات وغيرها ليس لها أيّ ضمانة في الصواب والسداد، وليس لها أيّ مدار في الحجية بل لا اطمئنان على صحتها، لأنها تلقّي غير المعصوم، ولو فرض أنه من قبل المعصوم فإنّ التلقي والارتباط بالغيب ليس فيه زللٌ ولا خللٌ ولا خطل ولا أيّ احتمال الانحراف إذا كان تلقي معصوم من معصوم فحينئذٍ يكون التلقي معصوماً، كما هو الحال في تلقي المعصومين عليهم السلام لذا كان تلقيهم حجة واعتبر هو منبع الشريعة الوحيد.
أما تلقي غير المعصوم فهو وإن فرض كونه من المعصوم لكن ما الدليل على أن ذلك المتلقى بتناول غير المعصوم صحيحاً وليس من أفاعيل الشياطين؟! ومثال ذلك ما يشاهد من الرواة الذي يروون الروايات عن المعصومين عليهم السلام السابقين فإنهم رغم تلقيهم ألفاظ الحديث سماعاً من فم ولسان المعصوم إلاّ أن تلقيهم مختلف وفهمهم مراد المعصوم مختلف كما ورد: (ربّ حامل علم ليس بفقيه وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)(740) أي لا يفهم ولا يعي المراد مما سمعه من ألفاظ، بل إن ضبط ألفاظ الكلام الذي يسمعونه من لسان المعصوم مختلف من راوي لآخر، ومن ثَمَّ كانت درجة حجيّة الرواية التي يرويها الراوي درجة ظن وليس بيقين، فإذا كان هذا حال تلقي الراوي غير المعصوم عن المعصوم عليه السلام في حال اليقظة فكيف بحال النوم ورؤيا المنام مع الشكّ في أن تلقيه هل هو عن المعصوم أم عن الشياطين والجن أو أحاديث النفس؟
فإنّ الشياطين تنفث في النفوس ويتخيل أن ذلك من الله تعالى ولا قدرة لتمييز ذلك إلاّ للأنفس الطاهرة المطهرة، فإنّ غير المعصوم من سائر الناس ليس له حظ من الرؤيا الإلهية ونحوها للأحكام الشرعية وإن توهم ذلك متوهم فليستيقن بأن ذلك من الشياطين، فقد أشار القرآن الكريم إلى عدة من أفعال الشياطين التي تقع على العباد منها:
قال تعالى: (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ)(741).
وقال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ * تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)(742).
وقال تعالى: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الأَْرْضِ حَيْرانَ)(743).
وقال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(744).
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)(745).
وقالى تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)(746).
وقال تعالى: (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(747).
وقال تعالى: (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(748).
وغيرها من الآيات التي تبيّن أن الشياطين يوحون وبطرق مختلفة كالخواطر والميول والرؤى و... للنفوس المريضة والضعيفة والتي على طريق الزيغ، وعن الباقر عليه السلام قال: (لما ترون من بعثه الله عز وجل للشقاء على أهل الضلالة من أجناد الشياطين وأرواحهم أكثر مما ترون مع خليفة الله الذي بعثه للعدل والصواب من الملائكة) قيل: يا أبا جعفر وكيف يكون شيء أكثر من الملائكة؟ قال: (كما يشاء الله عز وجل)، قال السائل: يا أبا جعفر، إني لو حدّثت بعض أصحابنا الشيعة بهذا الحديث لأنكروه، قال: (كيف ينكرونه؟)، قال: يقولون إن الملائكة أكثر من الشياطين، قال: (صدقت افهم عنّي ما أقول لك، إنه ليس من يوم ولا ليلة إلاّ وجميع الجن والشياطين تزور أئمّة الضلالة، وتزور أئمّة الهدى عددهم من الملائكة، حتّى إذا أتت ليلة القدر فيهبط فيها من الملائكة إلى ولي الأمر قيض الله عز وجل من الشياطين بعددهم ثمّ زاروا ولي الضلالة فأتوه بالإفك والكذب حتّى لعلَّه يصبح فيقول: رأيت كذا وكذا، فلو سأل ولي الأمر عن ذلك لقال رأيت شيطاناً أخبرك بكذا وكذا حتّى يفسر له تفسيراً ويعلمه الضلالة التي هو عليها)(749).
فبعد كل ذلك أيّ مجال يبقى للاطمئنان لرؤى ومكاشفات غير المعصوم الذي لا يميز نفث الشياطين من عالم الغيب الحق.
لذلك فإنّ مكاشفة المكاشفين والعرفاء والصوفية من إلهامات وخواطر ليست ذا مدار وضابطة في الحجية فإنّ كثيراً من أصحاب السير والسلوك والتصوف والرياضات يقعون في انحرافات وأخطاء نتيجة تعويلهم على ما يتلقونه من خواطر والهامات ومكاشفات، فإنّ نفس الصوفية والعرفاء ذكروا ذلك مثلاً القيصري في شرح كتاب ابن عربي وكذلك الغزالي وابن عربي نفسه وغيرهم ذكروا بأن مكاشفات غير المعصوم ليست بمعصومة فلا بدَّ أن توزن وتعرض على محك كشف المعصوم وهو القرآن والسُنّة لأن القرآن والسُنّة هو تلقي المعصوم عن الله تعالى وعن الغيب، ولا ريب ولا شكّ في عصمة هذا التلقي والمتلقى، لأن قدرة المعصوم معصومة وغير محدودة في تلقيها عن الغيب كما يصف القرآن الكريم ذلك، قال تعالى: (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(750) بيان لاحاطة المعصوم.
وبعبارة أخرى بمثال حسّي: إن درجة استقبال وتلقي المعصوم كالرادار في الكشف وغير المعصوم كالمايكروفونات البسيطة التي تشوش بأدنى ضغط وتكدس من الأمواج، فللمعصوم روح واسعة محيطة فيها استعداد الكشف والابصار القلبي لكل زوايا العرش والكرسي والسماوات وجهنم والصراط والميزان والبرزخ والموت وتطاير الكتب والحور والملائكة، فإنّ أرواح المعصومين ليس كأرواحنا إذ لها قدرة الاطلاع على عوالم أخرى دون أن تضعف أو تتردد كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً)(751) أي إنه مطّلع على تلك العوالم غير عالم الدنيا فلا يؤثر على اعتقاده وروحه إذا كشف له الغطاء وليس كبقية البشر الذين لم يطلعوا على شيء من تلك العوالم، وأن الله لم يطلعهم على شيء منها لضعف نفوسهم وأرواحهم.
وفي رواية أخرى أن شخصاً كان يسير مع الإمام الصادق عليه السلام فمروا بمقبرة بين مكّة والمدينة فسأل الشخص الإمام عليه السلام عن حالهم فقد روي عن عبد الله بن بكير الأرجاني، قال: صحبت أبا عبد الله عليه السلام في طريق مكّة من المدينة، فنزلنا منزلاً يقال له: عسفان، ثمّ مررنا بجبل أسود عن يسار الطريق موحش، فقلت له: يا بن رسول الله ما أوحش هذا الجبل ما رأيت في الطريق مثل هذا، فقال لي: (يا بن بكير أتدري أيّ جبل هذا)، قلت: لا، قال: (هذا جبل يقال له الكمد، وهو على واد من أودية جهنم، وفيه قتلة أبي الحسين عليه السلام، استودعهم فيه، تجري من تحتهم مياه جهنم من الغسلين والصديد والحميم، وما يخرج من جب الجوى، وما يخرج من الفلق، وما يخرج من آثام، وما يخرج من طينة الخبال، وما يخرج من جهنم، وما يخرج من لظي ومن الحطمة، وما يخرج من سقر، وما يخرج من الحميم، وما يخرج من الهاوية، وما يخرج من السعير، وما مررت بهذا الجبل في سفري فوقفت به إلاّ رأيتهما يستغيثان إليَّ، وإني لأنظر إلى قتلة أبي وأقول لهما: هؤلاء فعلوا ما أسستما، لم ترحمونا إذ وليتم، وقتلتمونا وحرمتمونا، ووثبتم على حقنا، واستبددتم بالأمر دوننا، فلا رحم الله من يرحمكما، ذوقا وبال ما قدمتما، وما الله بظلام للعبيد، وأشدهما تضرعا واستكانة الثاني، فربما وقفت عليهما ليتسلى عنّي بعض ما في قلبي، وربما طويت الجبل الذي هما فيه، وهو جبل الكمد).
قال: قلت له: جعلت فداك فإذا طويت الجبل فما تسمع، قال: (أسمع أصواتهما يناديان: عرج علينا نكلمك فإنّا نتوب، واسمع من الجبل صارخاً يصرخ بي: أجبهما، وقل لهما: (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)(752)).
قال: قلت له: جعلت فداك ومن معهم؟ قال: (كل فرعون عتى على الله وحكى الله عنه فعاله وكل من علم العباد الكفر).
فقلت: من هم، قال: (نحو بولس الذي علم اليهود إن يد الله مغلولة، ونحو نسطور الذي علم النصارى إن المسيح ابن الله، وقال لهم: هم ثلاثة، ونحو فرعون موسى الذي قال: أنا ربكم الأعلى، ونحو نمرود الذي قال: قهرت أهل الأرض وقتلت من في السماء، وقاتل أمير المؤمنين عليه السلام، وقاتل فاطمة ومحسن، وقاتل الحسن والحسين عليهما السلام، فأما معاوية وعمرو فما يطمعان في الخلاص، ومعهم كل من نصب لنا العداوة، وأعان علينا بلسانه ويده وماله).
قلت له: جُعلت فداك فأنت تسمع ذا كله ولا تفزع، قال: (يا بن بكير إن قلوبنا غير قلوب الناس، إنّا مطيعون مصفون مصطفون، نرى ما لا يرى الناس ونسمع ما لا يسمعون، وإن الملائكة تنزل علينا في رحالنا وتتقلب في فرشنا، وتشهد طعامنا، وتحضر موتانا، وتأتينا بأخبار ما يحدث قبل أن يكون، وتصلي معنا وتدعو لنا، وتلقي علينا أجنحتها، وتتقلب على أجنحتها صبياننا، وتمنع الدواب أن تصل إلينا، وتأتينا مما في الأرضين من كل نبات في زمانه، وتسقينا من ماء كل أرض نجد ذلك في آنيتنا.
وما من يوم ولا ساعة ولا وقت صلاة إلاّ وهي تنبهنا لها، وما من ليلة تأتي علينا إلاّ وأخبار كل أرض عندنا وما يحدث فيها، وأخبار الجن وأخبار أهل الهوى من الملائكة، وما من ملك يموت في الأرض ويقوم غيره إلاّ أتانا خبره، وكيف سيرته في الذين قبله، وما من أرض من ستة أرضين إلى السابعة إلاّ ونحن نؤتي بخبرهم)(753) يعني نحن غير المعصومين لو سمعنا ذلك لصعقنا ولما بقيت أرواحنا في أجسامنا، أي لوقع الموت لنا لعدم إمكان تحمل ذلك، أما المعصومون عليهم السلام فلهم القدرة على أن يروا تلك العوالم.
وإنَّ قابليات غير المعصومين الروحية أيضاً تختلف في قوتها واستعدادها للاطلاع على العوالم الأخرى والأسرار كما في الفرق بين سلمان وأبي ذر حيث ورد: (لو علم أبو ذر بما في قلب سلمان لكفره أو لقتله)(754) أي إن أبا ذر لا يتحمل ما يتحمله سلمان من علوم وأسرار، وهكذا فإنّ أعلى حالات النفوس القوية موجودة عند المعصوين عليهم السلام فلهم عدسة قوية دقيقة لا يخفى عليها شيء، في حين أن القرآن يصف الشياطين أو الجن بقوله تعالى: (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإَِ الأَْعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(755) فللشياطين والعفاريت قوة كشف أيضاً ولكنها لا تُقاس بقوة كشف المعصوم إنما هي حاصلة من خطفة بسيطة أي قبسة فإنّ غير المعصوم حتّى لو كانت عنده خواطر وتمثلات وانكشافات ويرى ما لا يراه الناس مع أنها كالقطرة في المحيطات اللامتناهية، فما الكاشف له أن تلك الرؤى والخواطر والغيبيات التي هي كالقطرة أنها من الله تعالى أم من الشياطين والعفاريت؟، فإنّ بعض الرؤى والانكشافات قد تصدق لأنه هناك خطفة من الغيب ولكن الخطفة الشيطانية أو من الجن شيء والوحي النبوي شيء آخر فكثير من عموم الناس وآحادهم إما يغتر أو يُغرر به أنه انكشف له شيء وعلم أموراً غريبة فيرى أن تلك الانكشافات انكشافاتٌ بوحي أو علم لدني أو... الخ، لكنه لا يُميّز أن الموصل إليه هل هو الشيطان أم من...؟ لأن روحه ليس فيها استعداد التلقي، فإنّ نفوس غير المعصوم لم تطلع على تلك العلوم والمباحث، فبمجرد اتصاله بقناةٍ غيبية يرتبك وتضطرب عنده الموازين، فلعله نتيجة ذلك يبتدع شريعة جديدة وعقيدة جديدة وبعثة جديدة.
فإنّ التعامل مع الانكشاف الغيبي مختلف حتّى بالنسبة للمعصومين فكيف بغير المعصومين، فإن المعصومين يختلفون بحسب مراتبهم وقوة وشدة استعدادهم للتعامل مع تلك الغيبيات ودقة موازينهم في التثبت والتعامل مع ما يلقى إليهم، قال تعالى: (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدينَ * فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً)(756)، فبيّن تعالى تفاوت علم داود عن علم سليمان مع أن كلاً منهما آتاه الله العلم والحكم إلاّ أن ما أوتي سليمان ناسخ لما أوتي داود وأرفع منه، وكذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ولو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتّباعي)(757).
فإنّ نفوس المعصومين على عظمتها وقوتها لهم مواقف مختلفة في التعامل مع الغيبيات، فرغم علمهم بالغيب فإنّ تعاملهم معه يختلف بحسب اختلاف أرواحهم ونفوسهم فإنّ أرواحهم لما لها من الاستعداد فإنّها ترقى وتعرج إلى عوالم أخرى غيبية مهولة دون أيّ ارتباك ولا أيّ اضطراب لأنها نفوسٌ عظيمة معدّة للوحي والنبوة والانكشاف على الغيب، أما غير المعصوم من نفوس البشر الأخرى فبمجرد اختلاف المشاهد تضطرب عنده الموازين فقد لا يحتاج غير المعصوم لانزلاقه وانخداعه إلى أكثر من إثارة بسيطة وجمالٍ خداع ولو كان زائفاً، إذ لا يستطيع التثبت أمام هذه الإثارات البسيطة، فما بالك لو تمثلت له بعض صفحات الدنيا بجمالها وقالت له: أنا الدنيا، فهل يبقى على تثبته وتمييزه ويقول إليها إليك عنّي أم ماذا؟!
فإنّ غير المعصوم لعدم استعداده وعدم قوة نفسه بل لضعف نفوس غير المعصومين فبمجرد اختلاف المشاهد يحصل الهلع والجزع والفزع والرعب والاضطراب، ففي تلك الحالة إذا ألقي له شيء من الغيب هل له أن يميّزه أنه من الله أم من الشيطان؟، فإنّه قد تظافرت الروايات في أن الرؤى سواء أكانت رؤى في المنام أم في اليقظة أم غيرها منها ما هو حديث الشيطان وإفكه وتنزيله، ومنها ما هو حديث النفس ومنها ما يكون رؤى صادقة سواء أكانت في اليقظة أم في المنام.
أما ما هو حديث الشيطان؟ فإنّ الشيطان يلقي لأوليائه الإفك والإثم قال تعالى: (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ)(758) وقال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ * تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)(759) فإنّ الشياطين يلقون لأوليائهم الإفك والإثم.
وأما حديث النفس، فإنّ النفس بما أودعت من قوى وغرائز فهي كأنما ذوات متعددة وليست ذاتاً واحدة، فالنفس البشرية بسبب ما جهزت به من غرائز وقوى فكأنما كل قوة هي ذات من الذوات وجوهر من الجواهر وهذه النفس إذا طاشت أو جمحت تسول للإنسان من تساويل ورؤى حتّى في اليقظة، والإنسان لخلوه من قدرة التمييز يحسب ذلك من الغيب وكشف الستور في حين أنها من ألاعيب النفس الإنسانية.
تفاوت درجات الصدق:
وأما الرؤى الصادقة فهي وإن كانت ممكنة وقد تحصل سواء في المنام أم في اليقظة لكنها إضاءة ضيقة جزئية محدودة من بحر فضاء لا متناهي لا يمكن التعويل عليها، لأن الصدق له مراتب، فصدق المعصوم كالمحيطات أما غير المعصوم فضعيف يتبدد بأدنى شيء، لذا ورد في القرآن الكريم: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)(760) فأصدقية الله تعالى لا تضاهيها أيّ مصداقية لأنه يحيط بكل الواقعيات وكل المخلوقات، أما نحن فاحاطتنا صغيرة إذ نحن لا نحيط حتّى بكيفية ولادتنا ونشأتنا وإنّا من أين جئنا وإلى أين نتجه حتّى لو كنّا صادقين وعدولاً، فاحاطتنا ضعيفة قليلة فكيف ندعي علمنا بالاطلاع على ذلك.
أما إحاطة المعصوم فواسعة فإنّهم هم الصدّيقون بعد الله تعالى، بل إن الأئمّة عليهم السلام هم كبراء الصديقين، كما في بعض الزيارات(761) يعني يحيطون بالكتاب المبين واللوح المحفوظ، والقرآن نفسه شهد لهم بالطهارة ثمّ شهد لهم بأنهم هم الذين يدركون ويفهمون القرآن قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)(762) ثمّ قال تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(763).
لذا فلا اعتداد ولا اعتبار بتلقي غير المعصوم وليس له أيّ مدار في الحجية لعدم الاطمئنان بكونه تلقياً صادقاً إذ هم أنفسهم يخطئ بعضهم بعضاً، فكم من الصوفية والعرفاء وحتّى أصحاب السير والسلوك وحتّى أصحاب الرياضات نجد بينهم تضارباً لا ينتهي ولا يرتفع، فكل منهم يخطيء الآخر لأنهم غير معصومين.
ضعف ومحدودية الإدراك القلبي لغير المعصوم:
وبمثال حسي لتضارب الأقوال عن الغيب كما يقال: إن أشخاصاً وجدوا فيلاً في ظلام فاعتمدوا على اللمس في تشخيصه، فلمس أحدهم ذنبه فقال: إنه مخلوق صغير، ولمس بعضهم خرطومه فقال: إنه متوسط، وآخر لمس رجله فقال: إنه مخلوق كبير، ولمس الآخر بطنه فقال: إنه عظيم بل إنه سينفجر...
وما ذلك إلاّ لعدم الاطلاع والكشف التام وإنما اعتمد كل منهم على ما انكشف له واطلع عليه من طريق ضيق وحكم بموجبه حكماً عاماً.
فهكذا غير المعصوم وأصحاب النفوس الضيقة و... فإنّهم إن حصل لهم كشف للغيب فهو كشف ناقص لا يصلح ليكون حكماً صادقاً حقاً يعتمد عليه ويطمئن له.
أما المعصوم فله الاحاطة التامة والانكشاف التام، فمثلاً كأنه يرى ذلك المخلوق بتمامه، يرى ذلك المخلوق فيحكم بأنه فيل على ما هو في الحقيقة لأنه مطلع على تمام حجمه لأنه يراه ببصيرته بل يكون له نور يكشف له فيرى ببصره، لأن كشف ورؤية المعصوم فيها إحاطة قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)(764)، (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالأَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(765)، (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(766).
لا مثل غيره يعيش في ظلمة وكدورات النفس ويريد الاطلاع وإيجاد قناة غيبية.
كشف المعصوم القرآن والسُنّة:
ومن العجيب أن غير المعصوم يدعي التلقي والكشف ويحاول اتّباع ما تلقاه مع علمه بضعف نفسه وعدم استعدادها ويترك تلقي المعصوم الذي هو الكتاب والسُنّة المطهّرة من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام فأيّ قناعة له أو لمن يتبعه بترك تلقي المعصوم واتّباع ما عنده من هلوسات أو خواطر أو رؤى منامية لا اطمئنان بصحتها فعندنا القرآن والسُنّة التي هي كشف حقاني لأنها وصلت إلينا بتلقي المعصوم عن المعصوم فلا حاجة حينئذٍ للاعتماد على تلقي غير المعصوم وإن توهم وارتسم له أنه عن المعصوم، فإنّ المشكلة في المتلقى (الرادار أو اللاقطة أو الساحب) فهل لديه نفس قوية ترى الملقى إليه على ما هو عليه أم نفسه ضعيفة لا استعداد لها فتقلبه وتزيفه، لذلك تكرر في القرآن قوله تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً)(767) أي ما أنزل من الغيب والكشف هو في نفسه حقٌ وجاء ونزل في طريقٍ حقاني غير مشوب بعبث الشياطين وكدورات النفوس الضعيفة وضيق وتلوث أوعية الاستقبال، فهو نظير المرآة فهناك نوع منها سليمة صحيحة غير مشوبة تعكس الصور على ما هي عليها كنفوس المعصومين مثلاً، في حين هناك نوع آخر من المرايا مشوب وليس منتظماً فتعكس الصور بشكل مقلوب أو تضخمها وتكبرها أو تضعفها وتصغرها أو تعطيها ألواناً أخرى بل أحياناً بعض الصور تمسخ عن حقيقتها أصلاً فتري صورة الإنسان كأنه جنّي وقد تظهر القبيح جميلاً، كما قد تظهر الجميل قبيحاً.
فهكذا نفوس البشر قد ترى الغيب كهذه المرآة، فإنّ الغيب واحدٌ بالنسبة للمعصوم ولغير المعصوم ولكن الكلام في المستقبل إذ لا ضمان لأن تكون تلك النفوس ترى الغيب على ما هي عليه، هذا لو كان الملقى صادقاً فتكون المشكلة في المتلقي الذي يتلقّى، أما إذا كان التلقي من إيحاء الشياطين فكما أن أولياء الله تتنزل عليهم أنوار إلهية فإنّ أولياء الشياطين تتنزل عليهم الآثام والإفك، فإنّ الإثم في نفسه كذبٌ، فأولياء الشياطين يحسبون ما اُلقي لهم ملائكة ورسل غيب من الله في حين أنها شياطين إذ ليس له قدرة التمييز والتفريق بين إيحاءات الشياطين وبين الأنوار الإلهية.
سبب اختلاف المعصوم في التلقي مع غيره:
لذلك فإنّ علماء الرؤية يقولون: كلما ازداد الإنسان صدقاً في قوله وتعبيره وأمانته ووفائه وسلوكه وتعاملاته وتوجهاته لله وقربه للحق والحقيقة فإنّه يرى الرؤى الصادقة، وكلما زل لسانه وارتكب المعاصي وابتعد من طريق الحق والحقيقة وابتعد عن الله رأى أموراً خاطئة وباطلة، أما المعصوم فحيث إنه لا يرتكب أيّ معصية وأيّ ذنب فإنّه لا يرى إلاّ الحق والصدق والرؤى الصادقة، لذا تكون مرآته صافية جلية ويرى بإحاطة شمولية الأمور على ما هي عليه، من هنا كانت رؤى الأنبياء رؤى صادقة وحيانية كقوله تعالى: (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(768) بالنسبة لرؤية النبي إبراهيم عليه السلام وكقوله تعالى: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ)(769) بالنسبة للنبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعليه فإنّ رؤيا الأنبياء والأوصياء حجة لأنهم بلغوا من الصدق مقاماً عالياً جدّاً ولما لم يكن عندهم أيّ إثم ولا إفك فلا تتنزل عليهم الشياطين ولا تكون قنوات كشفهم عن الغيب إلاّ قنوات سليمة صحيحة يرون من خلالها الحق فقط.
العدالة تغاير العصمة:
أما غير المعصوم فمهما يكن من الاستقامة لا يُؤمَّن كشفه حتّى العادل لا يمكن الاطمئنان لقناته الغيبية إذ العدالة غير العصمة فإنّ العدالة وإن كانت هي الاستقامة على جادة الشريعة وعدم ارتكاب المعاصي إلاّ أن ذلك لا يعني عدم ارتكاب المعاصي والأخطاء من دون شعور وبالتالي فإنّ ذلك يكدر نفسه وروحه من حيث لا يشعر حتّى لو لم تسجل عليه عقوبة فإنّه يعذر عن العقوبة لعدم علمه أي لجهله بذلك الفعل أنه يسبب غضب الله والكدورات النفسية ولكن ذلك لا يمنع من تكدر وتلوث النفس بتلك الأعمال وبالتالي لا تكون قناته للغيب سليمة صافية.
فلا بدَّ للإنسان غير المعصوم أن لا يغتر ولا ينخدع ببعض الانكشافات والرؤى فيعتبرها غيباً ما بعده غيب، ووحياً ليس فوقه وحي وأنه صار نبياً أو نحو ذلك ويتأول الضروريات والحقائق الدينية بالباطل ويتمرد عليها.
فقد يكون للإنسان شيء من التقوى فيحسب أن تقواه وورعه سبب انكشاف الغيب له فيؤمن به ولكنه ليس صحيحاً فإنّ تلك لو كانت تقوى وورعاً لاتّبع القرآن الكريم والسُنّة لأنها تلقّي معصوم عن معصوم، فهي كشف صادق وحق لا ريب فيه في حين أن ما تلقَّاه غير المعصوم هو تلقي لا يتحصن أن يكون من الشيطان أو الجن أو العفاريت... فلا ضمانة فيه.
فليس من العقل ولا من المنطق ترك ما هو برهاني ويقيني وهو كتاب الله الذي لا يغادر كبيرة ولا صغيرة واتّباع خطفة مكاشفة أو رؤيا أو نحو ذلك ظانين أنها قطرة صادقة.
فلا نمني أنفسنا بمقامات المعصومين من الأنبياء والأوصياء فتسول لنا أنفسنا أن تنفتح لنا قنوات الغيب ولا نتوهم ذلك لغير المعصومين عليهم السلام فأين نحن من سيد الأنبياء وأين نحن من سيد الأوصياء وأين نحن من الأئمّة المعصومين فإنّ الغيب شاسع مهول ودخوله والتوسط فيه ليس موفوراً ميسوراً، فلا يمكن لغير المصطفين الأخيار الذين اصطفاهم الله تعالى بعلمه ليكونوا هم القنوات السليمة والحقانية لارتباط جميع المخلوقات بالواحد الأحد الله سبحانه وتعالى وذلك لما لهم من قوة النفس والاستعداد الحاصل من طهارة النفس فهم عليهم السلام ليس كبقية البشر روحاً بل حتّى جسداً فإنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم عرج بجسده فضلاً عن روحه إلى سبع سماوات فهو ليس بالإنسان العادي حتّى تسوّل نفوس البعض الانكشاف على الغيب لمجرد أنه اتقى أو عمل صالحاً أو قام برياضة عبادية أو روحية أخرى... فإنّ لكل ذلك أجراً عند الله وآثاراً حسنة على الروح، لكن ليس للحد الذي نغتر به وندعي الاتصال بالغيب بمجرد أن تحصل لنا رؤيا أو ومضة مكاشفة أو... فإيّانا إيّانا أن نقع في حبائل الشيطان، ونغوي أنفسنا ونغوي الآخرين ونترك الثوابت والبراهين والضروريات مما حصل عن طريق معصوم وهو القرآن والسُنّة.
العلوم الغريبة المكتسبة ووهم إعجازها:
فالقرآن هو البرهان الواضح والمحجة البيضاء وقد أعجز البشر أربعة عشر قرناً بما ضمن من علوم معجزة ودلائل إعجازية متنوعة ومتكثرة فلا يعقل ولا من المنطقي ترك هذا الوحي وسُنّة المعصومين من الأنبياء والأوصياء واتّباع الهلوسة والمهلوسين والجن والمجننين والشيطان والمتشيطنين سواء أكانت من رؤى أم مكاشفات، وتنويم مغناطيسي أو تحضير أرواح أو تحضير جن أو علوم غريبة كعلم الجفر أو علم الرمل أو علم التوسم أو علم الحروف أو علم الطلسمات أو علم العزائم أو علم البيوت أو علم التنجيم أو علم الكيمياء وغيرها من العلوم التي لا تكون كاملة وتامة إلاّ عند المعصومين أما عند غيرهم فهي ناقصة منقوصة، فنحن لا ننفي هذه العلوم وقدرتها الجزئية المحدودة وإمكانها المتواضع في كشف بعض يسير من شؤون بعض الأشياء لكنها لا تعطي البرهان المحيط القاطع ولا تكشف كشفاً مفيداً للحجية.
نعم قد تكشف لصاحبها بعض الأشياء لكن يجب أن لا يغتر بذلك فليس هو الغيب ولا الواقع ولا هو كل العوالم فمثلاً فلان كتب بعض القضايا في الجفر أو علم الحروف أو... فعلم أن فلاناً سيموت أو سيولد له كذا أو غير ذلك، لكن ثمّ ماذا بعد ذلك؟ هل صار بذلك نبياً، هل به علم طريق الجنّة وطريق النار، هل صار عنده علم الأوّلين والآخرين وهل...؟
توصية روايات الظهور بخطورة الدجل:
قد أكّدت الروايات الواردة في علامات الظهور على أنه يتميز زمان الظهور بأنه زمان يبلغ فيه التحايل والحيلة والدجل والمكر والخديعة والتزوير والشيطنة حدّاً لم تبلغه عصور البشرية كلها ومن ثَمَّ فإن ما يعرف بالدجّال هو من سمات عصر الظهور، وكون رأس الشر في عصر الظهور موسوم بالدجل يبيّن أن السمة البارزة للناس في ذلك العصر هو الخداع والمكيدة، وقد بيّنت الروايات الواردة عند الفريقين أن الدجّال عمدة أدواته السحر والشعبذة وهو مؤشر على كثرة تعاطي السحر في عصر الظهور لاسيّما من أدعياء المقامات الدينية نظير الدجّال الذي يدعو إلى طاعته والولاء له بنحو مطلق ولا يخفى أن للسحر تأثيراً يشتبه فيه الكثير مع المعجزة والكرامة، فها هو القرآن يحدّثنا عن النبي موسى عليه السلام وهو نبي من أولي العزم والذي لا يتسلط الشيطان على عقله ولا قلبه لعصمة الوحي ولكن رغم ذلك ورغم حصانة العصمة قال تعالى: (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى‏ * فَأَوْجَسَ في‏ نَفْسِهِ خيفَةً مُوسى‏ * قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى‏ * وَأَلْقِ ما في‏ يَمينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى)(770)، وقال تعالى في شأن النبي أيّوب: (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى‏ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ)(771)، فالنبي وإن لم يسيطر عليه الشيطان والسحر إلاّ أن التخييل والإخافة ومسّ بدنه بالضرّ والمرض، وكيد السحر يكابده النبي ويصارعه كما يكابد قتال الكفار في ميادين الحرب بالسيوف والرماح، فكيف الحال في غير الأنبياء وغير المعصومين، ولاسيّما مواجهة السحر واستخدام الشياطين كما قال تعالى: (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً)(772)، أن هناك من الرجال والبشر يلوذون ويستعينون بالجن والشياطين لمآربهم وخداعهم ومكيدتهم.
ماذا يعني هذا في قبال علم المعصومين بكل ما كان وبكل ما يكون وما لهم من الاحاطة بكل العوالم الغيبية كما في قوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ في‏ إِمامٍ مُبينٍ)(773)، وقال: (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ في‏ كِتابٍ مُبينٍ)(774)، وقال: (حم * وَالْكِتابِ الْمُبينِ * إِنَّا أَنْزَلْناهُ في‏ لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرينَ)(775)، وقال: (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)(776) وغيرها لكن للأسف بعض النفوس المريضة والضعيفة تنخدع وتغتر بذلك فيهتمون بمثل هذه السفاسف ويتركون ما هو خير لهم من ذلك فإنّ القرآن الكريم والروايات تؤكد أن الصلاة والصوم والحج وزيارة المعصومين عليهم السلام وغيرها من العبادات لها آثار أعظم مما يتخيل هذا البعض المنخدع بتلك التفاهات والسفاسف فضلاً عن نور معارف القرآن والروايات، فليس من العقل ترك تلك العبادات والمعارف التي فيها كشف كل العوالم بتوسط الوحي وعدم الاهتمام بها وإعطاء شيء من الاهتمام لمثل هذه العلوم الغريبة أو غيرهما بتوهم وظن أنها تكشف لنا الواقع أو تعطينا طريقاً للواقع.
التشرف برؤية الإمام المهدي عليه السلام لا يعني الحجية:
قلنا: إن مصادر التشريع منحصرة بتلقي المعصوم عن الحق تعالى، أما تلقي غير المعصوم فليس له حجية لأن الله تعالى أمرنا بالأخذ من ذلك الطريق وهو التلقي الحسي من المعصوم وكل ما عداه غير معتبر عنده تعالى.
ولكن هذا لا يعني عدم إمكان الإطلاع مثل الجن والشياطين والكهنة على بعض قطرات من الغيب كما قال تعالى: (إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(777) ولكن كل ذلك لا حجية له ولا يوجب علماً صحيحاً تاماً.
ونفس هذا الكلام نقوله في انقطاع السفارة فإنّه بعد أن ثبت بالدليل وصار من ضروريات مذهب أهل البيت عليهم السلام فإنّ ذلك لا يعني عدم إمكان التشرف برؤية الإمام المهدي عليه السلام، بل هو ممكن ولكن ذلك لا يعني أيّ منصب أو عنوان من عناوين الحجية بل غاية ما فيه أنه يتشرف بالرؤية فحسب، وهذا التشرف من الأمور الواقعة لكثير من العلماء وغيرهم من المؤمنين وقد ذكرت المئات بل الآلاف من القصص والحكايات والمواقف والمشاهدات من هذا القبيل وما ذلك إلاّ لأن المناصب الدينية والحجية لها أنظمة خاصة ومراتب خاصة لا تحصل بمجرد الرؤيا.
رياضات النفس وفعل الأعاجيب:
يذكر أحد وكلاء المراجع والفقهاء وكان في باكستان والهند يذكر ذكريات السنين التي كان يعيشها هناك في الهند وباكستان عن جملة من المرتاضين غير المسلمين بل من الكفار والهندوس فإنّهم كانوا يستطيعون ببعض الرياضات أن يوقفوا قطاراً ومنعه من السير وتعطيل طائرة عن الطيران، وقدرة على قراءة الخاطر والضمير وقراءة أعمال الأشخاص الماضية منذ طفولته أو قراءة بعض الحوادث المستقبلية وغير ذلك الكثير من الأعاجيب، أو يسخر جملة من الشياطين والجن كفعل الكهانة والكاهن، لكن هذا لا يعني أن هذا الشخص المرتاض له وحي أو له ولاية تكوينية أو...، بل هذه نتيجة رياضات النفس، فإنّ للنفس قدرات عجيبة إذا روضها الشخص برياضات خاصة يستطيع فعل الأعاجيب، فإنّ أحد المرتاضين مثلاً _ كما يذكر ذلك من ذهب للهند _ يستطيع أن يبقى في القبر ستة أشهر من دون أيّ طعام ولا شراب بل حتّى من دون تنفس فإنّه بالتنويم المغناطيسي استطاع ترويض نفسه على ذلك وغيرها من الأفعال التي يفعلها البعض كبلع المسامير وإدخال السيف في الجسد أو يخبر عن مواقف وأفعال الآخرين الماضية من خلال الكلام مع الجن أو القرين ممن قد يخطف الخطفة كما ذكر ذلك القرآن الكريم، فإنّ مثل هذه الأفعال الخارقة والعجيبة ليست ببعيدة عن السحرة والجن والعفاريت كما يقول القرآن الكريم في عرش بلقيس: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)(778) فهذا عفريت من الجن من الشياطين وليس من الملائكة وليس من المهتدين وليس من الطائعين بل عفريت من الشياطين وعد بأن يأتي بعرش بلقيس من اليمن قبل قيام النبي سليمان عليه السلام من مجلسه أي في ظرف ربع أو نصف ساعة، ولكن هذا هل يعني أن ذلك العفريت صار جبرائيل أو صار وحياً أو نحو ذلك؟ كلا فإنّه عفريت من الشياطين ليس إلاّ، فكل ذلك ليس وحياً ولا نوراً يكتشف به الواقع والغيب كما يتصور بعض السذج والمغرر بهم، بل هي من امتحانات الله التي يبتلي بها الناس ليمتحن بصائرهم فإنّ مثل هذه الأعمال قد تكون للعفاريت والجن والكفار المرتاضين و... ولا تكون لبعض المؤمنين وليس له القدرة على إنجاز شيء أبسط من ذلك، ولكن مع كل هذا فإنّ المؤمن الضعيف الذي ليس له أيّ قدرة يكون ناجياً في الآخرة ومن أصحاب الجنّة ورضوان الله تعالى في حين يكون ذلك الفاعل للأعاجيب من أهل النار وممن غضب الله تعالى عليهم، وليس هذا بالغريب فإنّ إبليس زوّده الله تعالى بقدرات عظيمة فإنّه يستطيع أن يوسوس ويخترق كل النفوس البشرية وهذه قدرة جبارة ليست عند أعظم القوى البشرية كالدول الكبرى بما لها من علوم وطاقات وقدرات و... كما أن لإبليس قدرة التشكل بأشكال وألوان مختلفة وله قدرة تزيين الأعمال ويحدث الخواطر في النفس ويجذب الناس إلى حيث يشاء وربما له قدرة الذهاب إلى قرب السماء الأولى، فإنّ قدرات إبليس قدرات هائلة وليست بالسهلة ولكنها لا تدل على ألوهيته ولا مكانته عند الله تعالى، بل هو إبليس على ما هو عليه من اللعن والطرد.
والقرآن الكريم يسطر لنا هذه الأمثلة كي لا ننخدع بل لا بدَّ من الرجوع للعقل وضروريات الدين والسُنّة، فالقرآن الكريم يعتبر المعارف والعقائد الحقة أعظم من تلك الأعاجيب والمظاهر من طي الأرض والزمان والرؤى والمكاشفات و... فبحسب المفهوم القرآني هذه ليست ميزان هداية بل حتّى مثل الحصول على بعض الاسم الأعظم كبلعم بن باعورا ليس لها قيمة في الحجية، فقال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ)(779) وقد ورد أنه لو قرئ على ميت سبعين مرة سورة الفاتحة وردت له الحياة فليس ذلك بغريب(780)، بل حتّى من خلال العلوم الحديثة فإنّهم توصلوا لنتائج عجيبة غريبة من خلال إعمال العلوم الأكاديمية من كيمياء وفيزياء ومراتب الطاقة وعلم النانو والكوانتم(781) وغيرها بحيث أصبح لهم قدرة أن يكون الشخص موجوداً في مكان ثمّ فجأة يختفي ولا يرى.
فإنّ بعض الكرامات التي يحصل عليها بعض الزهّاد والأولياء والصالحين والمتقين أو نتائج العلوم الأكاديمية... ما هي إلاّ كرامات يعطيها الله تعالى لهم ولا تدل على العصمة ولا على السداد بقول مطلق، فعلينا أن لا نفقد قدرة التمييز بين العصمة والسداد والتي تفيد الحجية وبين هذه الكرامات من الله تعالى أو نتائج وأفعال النفس نتيجة الرياضات.
فإنّ بعض أولئك _ أصحاب الكرامات أو الرياضات _ على ما هم عليه من الزهد والتقوى أو الرياضات إذا نظروا في مسألة في العقائد أو الفقه تجدهم يخطأون ويتخبطون بجهلهم، بل ربما بعضهم يعتقد بمسألة عقائدية أو فقهية بشكل معكوس فيرى الحلال حراماً أو الحرام حلالاً.
فالقرآن الكريم يريد أن يبيّن لنا أن التقوى والزهد والصلاح والعفاف والأخلاق الحسنة النبيلة فإنّ كل ذلك شيء والعصمة شيء آخر، فالعصمة فوق ذلك ولها ضوابطها الخاصة وموازينها وقنواتها.
فلا ننخدع بذلك إذا حصل لنا أو لغيرنا، فإنّها امتحانات يمتحننا الله تعالى بها في المعرفة والبصيرة، فسبحان الله كيف يمتحن الخلق بالحق وبالباطل، بل يمتحن حتّى بالحبوة الإلهية، فينعم الله تعالى على عبد بصلاح أو تقوى ونحوها ليرى هل ينغر أو ينخدع؟ فلا بدَّ من التواضع والخضوع والتذلل لله تعالى وعدم الانحراف والانجراف وراء مكاشف أو رؤية أو علم غريب أو نحو ذلك.
فهذا بلعم بن باعورا خصه وحباه الله تعالى بحرف من الاسم الأعظم وجعله بذلك تحت الامتحان والاختبار كما ورد ذلك في الروايات ولكنه لم يكبح جماح نفسه، بل راح يطلب ما ليس له فوقع في الانحراف قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ * ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَْرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(782) وقد مرَّ ذكره في الجزء الأوّل.
حدود النيابة الخاصة والسفارة:
اتضح أن النيابة الخاصة والسفارة لا تعني العصمة والسداد وإنما لها دائرة حجية من الحجج، كالفقيه فإنّ الفقيه مرجع ويُتّبع وفق منهج ومدرسة أهل البيت عليهم السلام من دون أن يعطى درجة العصمة وعدم الخطأ، وإنما له حجية في ضمن غير الضروريات ما دام محافظاً على الضروريات وما دام واجداً للشرائط من العلمية والفقاهة وكون الاستنباط من مصادر أهل البيت عليهم السلام لا من القياس والاستحسان ونحوها وإلاّ لم يكن له ذلك المنصب ولا ذلك الدور ولا تلك الحجية، إذاً فحجية الفقيه متولدة من حجج أرفع منه وما دام محافظاً على الارتباط مع تلك الحجج الأرفع والأعلى تبقى له الحجية.
كذلك الحال في النائب الخاص والسفير، فإنّما دوره في غير الضروريات وفي غير دائرة الفقهاء، فإنّ مجال ودائرة حجية الفقهاء والسفراء لا تتقاطع ولا تلغي أحدهما الأخرى كما تقدم بيان ذلك، فإنّ مساحة ودائرة كل منها غير مساحة ودائرة الأخرى.
ثبات فقه مدرسة أهل البيت ومصادره:
وفي هذا البحث نلفت النظر إلى نكتة وظاهرة مهمّة جدّاً في الغيبة الصغرى ونيابة النواب الأربعة رضي الله عنهم وهي أن فقه أهل البيت عليهم السلام في فترة الغيبة الصغرى لم يتغيّر عمّا كان عليه من مسار الإمامية في حضور الأئمّة عليهم السلام من العقائد والفقه والسنن والثوابت الأخرى، ومما لا إشكال فيه أن ذلك ببركة وجود الإمام المهدي عليه السلام، فإنّ ما نقله السفراء رضي الله عنهم عنه عليه السلام من روايات وأحاديث يكشف عن تبعيته لمنهج آبائه وأجداده الأئمّة عليهم السلام ولضروريات وفرائض الله تعالى وسُنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث تقدم وذكرنا بأنّ نسبة كبيرة مما كان يصدر من توقيعاته الشريفة كانت تتضمن إرجاعاً إلى تراث آبائه من الروايات والسنن، لأن ذلك التراث فيه ضروريات سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضروريات سنن آبائه ولا يتوهم متوهم أن يصدر توقيعاً منه عليه السلام فيه مخالفة لتلك الضروريات.
وهذه ملامح مهمة ونكتة جوهرية في مسيرة عقائد الإمامية ومسيرة فقه أهل البيت عليهم السلام فإنّ تلك العقائد وذلك الفقه ظل بنفس الطابع واللون الذي كان عليه قبل الغيبة الصغرى، وهذا إنما يدلل على أن دائرة النواب والسفراء الخاصة هي دائرة محدودة، فهم بمثابة مدير شعبة إدارية لتنفيذ جملة من البرامج والإداريات والسياسات التي يعهدها الإمام المعصوم إليهم لا أن دورهم يقصي الفقهاء ولا يتطاول على التراث الضروري لأهل البيت عليهم السلام، ومن ذلك تتضح لنا دائرة نيابتهم وحجيتهم وأنه ليس فيها أيّ غموض فدورهم جمع الحقوق وتنفيذ بعض السياسات الإدارية في نظام الشيعة.
هذه ملامح الغيبة الصغرى نتيجة عدم تقاطع وعدم تطاول دائرة حجية النواب مع دائرة الفقهاء ودائرة الأئمّة عليهم السلام وهي نظير تعيين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسامة بن زيد قائداً للجيش، فإنّ ذلك لا يتوهم منه أنه أصبحت لأسامة حجية مطلقاً أي له مطلق الصلاحيات، بل إن صلاحيات أسامة فقط في حدود قيادة الجيش.
ونظير قول أمير المؤمنين عليه السلام في مالك الأشتر رضي الله عنه: (كان لي مالك كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(783) ولا يتوهم من ذلك أن مالكاً صار وصياً بعد أمير المؤمنين بدلاً من الحسنين فليس الأمر كذلك فإنّ الأمير عليه السلام أراد بيان مدى خلوص ومحبة وتفاني مالك رضي الله عنه في نصرة أمير المؤمنين ولم يرد بذلك تسجيل العصمة والحجية لمالك فليس الأمر كذلك، فإنّ الاستدلال والاستنباط له موازين والاستظهار له موازين، فإنّ التشبيه باب في علم البلاغة من اللغة العربية، والتشبيه أيضاً له قواعد وموازين، فإنّ التشبيه دائماً يكون فيه جهة شبه وليس في كل وجوه الشبه فهذه قواعد في اللغة العربية، والقرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّة أهل البيت عليهم السلام إنما يتكلمون بلغة العرب وليس بلغة أخرى جديدة أو جفر أو غيرها مما يكون فيها غموض على السامع، لذا فلا بدَّ من إعمال موازين اللغة من الصرف والنحو والبلاغة و... لأجل منع المهلوسين والطامعين وأصحاب الرايات الضالة...
ضرورة الموازين في قراءة الدين:
فإنّ تحكيم تلك الضوابط والموازين فيه خلاص من الزيغ والانحراف وعن الوقوع في مثل تلك التوهمات، فإنّ الله تعالى ورسوله الكريم وآله الأطهار حدّثونا بحسب قوانين اللغة العربية، وإلاّ لو أرادوا الحديث بلغة جديدة مشفرة فإنّه بحسب الموازين تكون سفسطة، بل هذه الموازين يعملها الإنسان بدقة وعمق أكثر فأكثر ليصل للنتائج الصحيحة، ومع إعمال الموازين بالشكل الصحيح لا مجال للوقوع في الغموض وأما لو رفع اليد عن الموازين في استنطاق الأدلّة فإنّ ذلك باب لتدمير الدين والقفز والتمرد على ضرورياته، فإنّ أحد النوافذ التي يستخدمها أصحاب الفرق الضالة هو التذرع بالتأويل بدون موازيين أو التفسير أو الاستظهار والاستنباط والاستنطاق الذوقي بالقريحة والتشهي، فإنّ ذلك يؤدي إلى تكلفات وتمحلات وسفسطات ونحوها ما أنزل الله بها من سلطان، وكل ذلك بدعوى وذريعة معرفة الأسرار والمعارف، فتستخدم تلك الفرق الضالة الهلوسة ونوعاً من غسل الدماغ ونحو ذلك للوصول إلى مآربهم وأطماعهم، مع أن الأنبياء والمرسلين والأئمّة يحاجون بحجج ومنطق وموازين وأدلّة كي تثبت نبوتهم وإمامتهم ومن دون ذلك يكتشف عدم حجيتهم، فكيف يتوهم متوهم ويستجيب لتلك الدعاوى الضالة والهلوسات والاستظهارات واستنطاق الأدلّة بخلاف الموازين، فإنّ فتح مثل هذا الباب على مصراعيه بحيث يصح لكل مهلوس وكيفما يكون لرائق ومتأول أن يُحدث ما يريد و... فإنّ ذلك يؤدي إلى خراب الدين واضطراب منظومة حجية وموازين وطرق استنطاقه واستدلالاته، وإلاّ لِمَ استعمل الله عز وجل اللغة لغة اللسان العربي بالذات فما ذلك إلاّ لأجل تحكيم ضوابط وموازين وقواعد اللغة لمعرفة مُرادات الله منّا ولا يُتصور أنه تعالى يبيّن مراداته بألغاز غير منضبطة وإلاّ كانت سفسطة وإنكار الضروريات والبديهيات والعياذ بالله.
أما إذا توسطت الموازين الصحيحة والأدلّة الرصينة فمهما ترامت وتعمقت النتائج وازدادت غموضاً فلا بدَّ من الوصول إلى صحتها ولو بحسب الظاهر كما في علم الرياضيات أي معادلة بعد معادلة ومرحلة بعد مرحلة حتّى لو أدّى ذلك إلى اكتشاف شيء عجيب لم تعرفه البشرية فإنّه يكون مقبولاً، لأنه ناتج خطوات ومراحل وفق موازين صحيحة وإلاّ من دون الموازين الصحيحة نضل الطريق المستقيم ونقع فريسة للطامعين والمضلين.
كفر مُدّعي السفارة:
يذكر الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة وفي كتب الشيعة الروائية الأخرى التي تحفل بذكر أحداث الغيبة الصغرى وبداية الغيبة الكبرى يذكرون فتوى لابن قولويه وهي: (من ادّعى النيابة الخاصة والسفارة بعد السمري فهو كافر مُنمس (محتال) ضال)(784) وهذه الفتوى لم يتبناها ابن قولويه فقط وإنما الكثير من المتقدمين من فقهاء الغيبة الصغرى والكبرى تبنوها كالشيخ الطوسي إذ يتضح ذلك من كلامه في الفرق البابية أو التي ادّعت النيابة في الغيبة الصغرى.
والسؤال في المقام أن أولئك الفقهاء لِمَ حكموا بكفر المُدّعي للسفارة أو النيابة الخاصة، وهل هناك تخريج صناعي لهذه الفتوى ولِمَ لم يقل الفقهاء عن المدّعين إنهم أهل ضلال وما داموا على الشهادتين فهم مسلمون، إذ لا مانع أن تكون بعض الفرق داخلة في الإسلام ولكنها ضالة أي ضلت عن إصابة الإيمان أي زاغوا ولم يهتدوا للإيمان؟
يتبيّن ويتجلى التخريج الصناعي لحكم الفقهاء بالكفر بناءً على ما ذكرناه ووضحناه من منظومة الحجج، إذ أن أولئك الذين اعتقدوا بنيابة هؤلاء النواب المدّعين زيفاً حكّموا حجية هؤلاء المدّعين على ضرورات الدين، وهذا بغض النظر عن زيف دعواهم لأنه قد يحكم عليهم بالضلال والافتراء والكذب كما ورد في التوقيع المبارك، ولكن الأمر الذي دائماً ما يُبتلى به هؤلاء المدّعون زيفاً وحيلة ودجلاً ونصباً للنيابة الخاصة وأتباعهم كذلك، أنهم يتبنون تحكيم قولهم على ضروريات الدين لأنهم يأخذون قولهم بنحو محتم ويتأولون ويلتوون ويلتفون ويقفزون حتّى على ضروريات سنن أهل البيت فضلاً عن سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضرورات فرائض الله، ومن الواضح أن الذي يلتف أو يعتقد في شخص أن له حجية تهيمن على حجية أئمّة أهل البيت وحجية النبي وحجية الله، فإنّ هذه هي التنبأ أو الألوهية فأولئك المدّعون إما أن يبتلوا بالألوهية وإن لم يقولوا نحن آلهة وإما أن يدّعوا بأنّ لهم صلاحيات في تغيير ضروريات دين الله وسُنّة نبيه وبالتالي فإنّ التمرد _ ولو بالتأويل _ على ضروريات دين الله فهو تأليه وكفر وخروج عن الإسلام، والتمرد على ضروريات سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً خروج عن الإسلام وأما التمرد على ضروريات سنن الأئمّة عليهم السلام فهو ليس بمؤمن وبالتالي هو كافر بمعنى الكفر المقابل للإيمان وإن لم يكن كافراً بمعنى الكفر المقابل للإسلام.
وعليه فإنّ أولئك المُدّعين للنيابة أو السفارة أو أتباعهم يتبنون كون حجية المدّعين تعلو ضرورات الدين، فهو تأليه أو تنبأ وإن لم يُسموه إلوهية ونبوة ولذلك كفرهم فقهاء الغيبة الصغرى، فإنّه لا بدَّ من التمسك والانقياد والتخضع لضروريات الدين من قبل الجميع حتّى الرسول ولابدَّ من التمسك والانقياد والتخضع لضرورات سنن النبي من قبل الجميع حتّى الأئمّة.
ومن يحاول الالتفاف والقفز والتمرد إعتقاداً وتنظيراً وتشريعاً على صلاحيات الله الضرورية أو صلاحيات النبي الضرورية فهو خروج عن الإسلام.
وبالتالي فإنّ كل من يدعي النيابة الخاصة والسفارة بعد السفراء الأربعة رضي الله عنهم فهو كافر إما كفر في قبال الإسلام فيما لو تصدى المدّعي والعياذ بالله من خلال نيابته للقفز أو التمرد على ضروريات الدين وفرائض الله وضروريات سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون خارجاً من ربقة الإسلام، لأن هؤلاء المدّعين للنيابة عموماً يدّعون النيابة زيفاً لعدم علمهم بمدى وحقيقة وخطورة هذا المنصب فتكون دعواهم بالنتيجة مخالفة لضروريات فرائض الله وضروريات سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإما أن تكون دعواه للنيابة تمرداً وقفزاً على ضروريات سنن الأئمّة ومنهاجهم عليهم السلام فهم مارقون من الإيمان فهو كفر في قبال الإيمان.
وكيف كان فإنّ مدّعي النيابة زيفاً وبطلاناً محكوم عليه بالكفر لأنه خالف الضرورة والبديهية على أحد قسميها.
عناوين دعوى السفارة:
لا يقتصر عنوان دعوى السفارة على خصوص السفير أو النائب الخاص بل هناك عدة أوجه وعناوين وأقنعة قد يتلبس بها المدّعي فمنذ أكثر من اثني عشر قرناً ظهرت عدة وجوه ومدّعيات وهلوسات أخذت ألواناً ونماذج عديدة جدّاً كلها بالتالي تصب في حقيقتها إلى ادعاء النيابة أو السفارة ومن تلك العناوين على سبيل المثال:
1 _ سفير خاص أو نائب خاص.
2 _ دعوى الاتصال أو القدرة على الاتصال بالإمام عليه السلام والقدرة على إيصال الأسئلة وإرجاع الأجوبة للناس من دون عنوان السفير أو النائب.
3 _ دعوى القدرة والمكنة من التشرف برؤية الإمام في أيّ وقت يشاء.
4 _ دعوى تلقي الأوامر والنواهي من الإمام مباشرةً.
5 _ دعوى أن الإمام عليه السلام له عناية خاصة به ويرعاه و...
6 _ دعوى أن الإمام عليه السلام يأتيه في المنام ويتحدّث معه.
7 _ دعوى أنه جسر من وإلى المعصوم للاتيان بتوصيات وتعاليم منه عليه السلام.
وغيرها من العناوين(785) كلها تصب في دعوى السفارة أو النيابة الخاصة وإن لم يتسمَ بها، وهذه كلها سواء أكانت على نحو التصريح أم الكناية بالتعريض أم غيرها فإنَّ المهم أن المدعي لها يريد أن يُفهم ويوصل معنى لعموم الناس أني على ارتباط خاص بالإمام عليه السلام يريد بذلك إبراز الشأنية لنفسه وجمع ما أمكن من السذج والعمياويين حوله كأتباع ويكوّنوا لأنفسهم الرئاسات الباطلة ليسود في متاع هذه الدنيا الدنية.
وفقهاء الإمامية أتباع مذهب أهل البيت قد حكموا بالبراءة واللعن والطرد لكل تلك العناوين وغيرها وبطلان وكفر مدّعيها ومروقهم من الدين على اختلاف الدرجات في ذلك ضلالاً إذا كانوا يريدون بها ذلك المعنى من الرئاسة والمنصب ونحوها، وليراجع في ذلك كلام الشيخ الطوسي في الغيبة والصدوق في كمال الدين والنعماني والنوبختي وسعد بن عبد الله وغيرهم من فقهاء ومراجع الشيعة ورؤساء الطائفة.
وهذا لا ينافي أصل التشرف بلقاء ورؤية الإمام عليه السلام فلعلَّ بعض العلماء الأتقياء الصلحاء يتشرف في العمر مرة أو مرتين أو أكثر برؤية ولقاء الإمام عليه السلام ولكن من دون إبراز ذلك بصيغة المقام والمنصب والوساطة لأن منصب الوساطة والارتباط لا يعطى لأحد مهما كان فإنّ الإمام عليه السلام نفاه ومنعه.
فإنّ التشرف بالرؤية غير ممتنع وقد ذكرت حول ذلك مئات بل آلاف الموارد التي تشرف فيها أعلام متقون صلحاء، ولكن لو افترضنا أن أحد أولئك المتشرفين بالرؤيا أبرز تلك الرؤيا وأظهرها ليدّعي لنفسه تقلد منصب رسمي وتمثيل عن الإمام عليه السلام فإنّ ذلك دجّال وكذّاب وإن كان حقيقة قد تشرف بالرؤيا فإنّ التشرف بالرؤيا شيء وصلاحيات التمثيل شيء آخر.
وبمثال أكثر وضوحاً أنه لو فرضنا راوٍ من الرواة في زمن أحد الأئمّة عليهم السلام ويروي عنهم ثمّ يدّعي أنه له الوكالة عنهم عليهم السلام فإنّ ذلك ليس بحجة ولا كاشف عن صحة دعواه، فإنّ الرواية شيء والوكالة شيء آخر، وهذا طبعاً من باب التنظير وإلاّ فالفارق كبير بين دعوى الوكالة ودعوى السفارة والتمثيل الرسمي والنيابة، كما أن الأمر حتّى مع الرواية في زمن الغيبة مختلف فإنّ أصل الرواية عن الإمام المهدي في زمن الغيبة لا حجية لها فضلاً عن ادعاء شيء آخر؟!
حركات ونهضات رايات سنة الظهور:
وهذا لا ينافي القيام بحركات تحررية كما في سنة الصيحة من السماء لو كانت بعنوان نصرة المذهب أو نصرة الإمام المهدي عليه السلام لكن بشرط عدم ادعاء أيّ نحو من الحجية فإنّ مفاد الروايات نفي حجية الاتصال أو النيابة الخاصة عن الإمام بل حتّى مثل شخصيات الظهور كاليماني والخراساني وغيرهم فإنّ مفاد الروايات ليس فيه إعطاءهم أي نحو من الحجية، نعم غاية ما تثبته الروايات لمثل هذه الشخصيات أنهم على الحق وأنهم يدعون لنصرة الإمام المهدي عليه السلام أو لرفع الظلم أو نحو ذلك من دون أيّ منصب ومقام خاص إلاّ أنهم على الحق.
نعم الدّعوة لنصرتهم ومؤازرتهم باعتبار حقانية دعوتهم وحجية الثوابت والموازين التي يرفعونها ويطالبون بها إذ الحق بما هو حق يجب أن يتبع بغض النظر عمّن طلبه وكيف طلب ممن هو غير معصوم ما دام متقيداً بالموازيين وملتزماً بالأحكام الشرعية، وهذه الشخصيات هناك دعوى لنصرتهم بشرط سماع الصيحة من السماء وظهور قيام دولة السفياني لا لشخصهم بل لأنهم يدعون للرضا من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وإلاّ فالموجود في الروايات من المدح والثناء وكَيل الصفات على اليماني مثلاً لم يبلغ ما هو مذكور في حق زيد بن علي بن الحسين رضوان الله عليه، ومع كل ذلك لم تكن له أيّ نحو من الحجية وإنما ذلك المدح له باعتبار أنه كان يدعو للرضا من آل محمّد وهي دعوة حق، فالمدح والثناء كان باعتبار دعوته.
لذا فإنّ بعض الروايات تفيد أن الدعوة إن وافقت الموازين وكانت متقيّدة بأحكام الشرع المبين وكان المطلوب فيها هو الحق فلا بدَّ من دعمها وتأييدها قدر الإمكان كما عن المجلسي رحمه الله حيث جزم أن دعوة الصفويين كانت دعوة تدعو إلى التمسّك بأحكام ومنهاج أهل البيت عليهم السلام ليست لأنها سياسية أو عسكرية أو... بل لأنهم طلبوا الحق وأرادوا رفع الظلم وإقامة الدين من دون أن يدّعوا أيّ منصب ديني كالسفارة أو النيابة الخاصة أو العصمة أو غيرها وإنما قالوا: نحن عبيد الله ومطيعون للأئمّة عليهم السلام وتابعون لفقهاء الإمامية، لذلك فإنّ مجموعة من أساطين وأعلام الفقه الشيعي وظفوا كل إمكاناتهم لنصرتهم كالشيخ جعفر كاشف الغطاء والشيخ الكركي وغيرهم.
وما ذلك إلاّ لأنها دعوة سعت إلى التقيّد بأحكام الشرع ووفق الموازين، فالنصرة كانت وتكون للدعوة لا للأشخاص سواء أكان الشخص اليماني أم الخراساني أم غيره، نعم لو كان الشخص هو الإمام المعصوم فالنصرة تكون له بما هو بعد أن يثبت أنه الإمام حقاً لأنّا مأمورون باتّباعه هو، وهكذا الحال في أيّ واحد من أنصار الإمام المهدي عليه السلام الـ (313) فإنّه بحسب الروايات ليس لهم أيّ نحو من النيابة ولا السفارة ولا أيّ حجية قبل ظهوره.
والحاصل أن أيّ عنوان من هذه العناوين ليس له أيّ حجية حتّى عنوان السفارة أو النيابة الخاصة أو غيره في فترة الغيبة، نعم بعد الظهور قد تكون لهذه العناوين الحجية التي تعطى حينئذٍ من قبل الإمام عليه السلام.
الخلط بين أحوال الرجعة وما قبل الظهور:
ثمّ لا بدَّ من الالتفات إلى أن بعض الروايات وخصوصاً روايات الملاحم إنما تبيّن أحوال الرجعة وليس أحوال ما قبل الظهور فمثلاً المهديون الاثنا عشر فإنّ الروايات تعطيهم بعض الأدوار ولكن ليس قبل الظهور بل ولا بعده وإنما في فترة الرجعة، فلا بدَّ من التمييز بين هذه المراحل وإلاّ وقعنا في خلط بين بعض العناوين التي لا حجية لها وبين البعض الآخر الذي له نحو من الحجية وبعض الأدوار لكن في مراحل أخرى.
وبهذا الفهم والادراك والالتفات للمراحل نسد الباب أمام الدجالين والمضلين ولا ينخدع بألاعيبهم حينئذٍ إلاّ السذج وقليلوا الفهم والادراك وضعاف البصيرة.
حقيقة السفارة والنيابة الخاصة:
قد يتوهم البعض أن السفارة والنيابة الخاصة هي مجرد تمثيل وتنويب عن الإمام عليه السلام فينقل السفير عنه ما يسمعه من حديث سماعاً حسياً وينقل الأسئلة والأجوبة الخطية من وإلى الإمام عليه السلام وهكذا المعنى والمتصور.
وليس كذلك فإنّ حقيقة السفارة ليس ارتباطاً حسياً وإنما السفارة في الروايات ذكرت باصطلاح ومفهوم خاص وهي النقل بتوسط عالم الملكوت فهي ارتباط ملكوتي روحي غيبي.
وقد ورد في الروايات أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سفير الله تعالى، ونقرأ في بعض الزيارات أن الإمام عليه السلام سفير الله تعالى مثلاً ما ورد في زيارة ليلة ويوم المبعث لأمير المؤمنين عليه السلام: (السلام عليك يا خاصة الله وخالصته و... وعيبة علم الله وخازنه وسفير الله في خلقه...)(786) فالرسول عندما ينقل عن الله تعالى لم يكن ينقل نقلاً حسياً عنه تعالى وإنما بتوسط الملكوت، فعندما يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: قال جبرائيل عليه السلام عن الله تعالى فليس هو عن سماع بدني وإنما عن طريق الوحي بارتباط روحي ملكوتي غيبي، وهكذا نقل الأئمّة عليهم السلام عندما يقال: إنهم عليهم السلام محدّثون وتقول: قال الصادق عليه السلام عن أبيه الباقر عن السجاد عن سيد الشهداء عن أمير المؤمنين عن النبي عن جبرائيل عن الله، أو قال الرسول عن الله في حديث قدسي، فليس المراد بهذه العنعنة أن أحدهم ينقل عن الآخر حساً وإنما بالارتباط الملكوتي، فإنّ الأئمّة عليهم السلام يحدّثون عن الرسول عن الله ولو بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأن ارتباطهم الملكوتي الروحي الغيبي برسول الله لم ينقطع بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فمثلاً سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام عند اعتراض عبد الله بن عبّاس أو محمّد بن الحنفية أو عبد الله بن جعفر في خروجه ومسيره للعراق فأجابهم عليه السلام بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: (اُخرج يا حسين فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً)(787) وهكذا عندما اعترض عليه في اخراج النساء والعيال معه في مسيره وخروجه فإنّه عليه السلام قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرني أن الله شاء أن يراهُنَّ سبايا)(788) فإنّ ذلك من سيد الشهداء ليس إلاّ لأن ارتباطه برسول الله غير منقطع بل مُفعل عن طريق الملكوت والارتباط الروحي الغيبي، كما أنه عليه السلام عندما أجاب بذلك لم يعترض عليه ابن عبّاس ولا ابن جعفر ولا محمّد بن الحنفية لأنهم يعلمون أن الحسين من أهل آية التطهير ومن أهل آية المباهلة إذ احتج به الله عز وجل وجعله مطهراً ويعلم الكتاب كله والقرآن شهد بأن المطهرين من هذه الأمّة يعلمون علم الكتاب الذي لا يمسّه إلاّ المطهرون والكتاب المبين كتاب مكنون فيه كل شيء من رطبٍ ويابس، قال الله تعالى: (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(789).
وهكذا الإمام الرضا عليه السلام عندما يذكر قصيدة الحميري(790) هذه القصيدة العظيمة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرضا عليه السلام أن يأمر شيعة أهل البيت بحفظها وأن الرسول يضمن لمن حفظها وتداولها الجنّة على الله فهذه الرواية نقلها الإمام الرضا عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الحميري ألّف هذه القصيدة في زمن الإمام الكاظم أو الصادق عليه السلام ومن الواضح أن الأمر للإمام الرضا عليه السلام في زمن الإمام الرضا عليه السلام فكيف حصل هذا الأمر، فليس ذلك إلاّ لأن الارتباط بين الأئمّة عليهم السلام والرسول صلى الله عليه وآله وسلم ارتباطٌ مُفعّل لم ينقطع بانتقال الرسول أو الأئمّة السابقين إلى البرزخ أو إلى الآخرة، لذلك فهم سفراء الله لأن قناة علمهم وحديثهم هي بتوسط الملكوت.
وعندما يقال: نائب خاص أو سفير عن الإمام المهدي فإنّ ذلك يعني أنه ينقل بتوسط قناة ملكوتية نازلة روحية غيبية لكن عن الإمام المهدي عليه السلام، فهذا هو المراد بالسفارة والنيابة الخاصة وإن كان لا يمنع ذلك من الرؤية الشخصية كما جاء في زيارة النواب الأربعة هذه العبارة التي رواها الشيخ الطوسي في التهذيب: (أشهد أن الله اختصك بنوره حتّى عاينت الشخص فأديت عنه وأديت إليه)(791) الذي يعني أنه بلطف الله هناك ارتباط ملكوتي بينه وبين المعصوم وإن لم يكن السفير معصوماً ولم تكن حجيته مطلقة كما مرَّ بيان ذلك لكن السفارة مقام خطير لم يفهمها ولم يعها ولم يفقه حقيقتها أولئك الأدعياء المُدّعون لها زيفاً ودجلاً، فبيان حقيقتها في المقام أمرٌ لا بدَّ منه في المعرفة والبصيرة للتحصن ممن تستهويه نفسه للخوض في الباطل والأفاعيل بسوء الاستفادة منها وهذا البيان ينفع في تعرية الصوفية وبعض العرفاء الذي تقمصوا مثل هذا المقام فإنّ جملة منهم ادّعوا هذه المقامات لأن التصوف والصوفية اقتبسوا جملة معارفهم ونظامهم من الفرق الباطنية الشيعية، فالصوفية نشأةً وتاريخاً وتولداً في كثير من مبانيهم ومسالكهم متخذة من الفرق الباطنية الشيعية التي انحلت أو انحرفت بعد اطلاعها على بعض الأسرار.

* * *
الفصل الثامن: مفهوم الغيبة بين الإفراط والتفريط

الافراط والتفريط في الغيبة:
لدينا ثلاثة مذاهب في تفسير وفهم الغيبة الكبرى للإمام عليه السلام كما هو الحال في أغلب المسائل الاعتقادية فهناك الافراط وهناك التفريط وهناك الوسطية.
فالبعض أفرط في معنى الغيبة لحد الغلو فيها فصّور الغيبة بمعنى مزايلة الإمام عن موقع المسؤولية وابتعاده وإقصائه وعدم التصدي الفعلي ولو بسبب الظالمين، فتصور أنها غيبة حضور أي انقطاع الإمامة في فترة الغيبة الكبرى وبذلك يكون الإمام عليه السلام والعياذ بالله قد تخلى عن ساحة المسؤولية والتصدي للولاية الإلهية، فلما كان الإمام غائباً فهو منقطع ومبتعد وقاصي عن الناس والرعية ولما كانت النيابة الخاصة والسفارة منقطعة بالأدلّة القطعية فلا تمثيل للإمام، فبالتالي ليس الإمام موجوداً ولا يوجد من يمثله وليس هناك أيّ طريق يدل عليه ولا أيّ باب يُنفذ منه إليه _ من هنا سمي النائب باباً إذ منه يُنفذ للإمام عليه السلام _ فالغيبة تعني انعدام وجود الإمامة وابتعاد الإمام عن مسؤولياته وتصديه وبالتالي فإنّ مهام ووظائف وواجبات الإمام عليه السلام معطّلة لحين ظهوره وتصديه للقيام بها، ومن تبنى هذا التفسير صار في حيرة في توجيه نيابة الفقهاء في فترة الغيبة الكبرى وكيفية رسم صلاحياتهم بعد أن عطل _ بحسب مبناه _ دور الإمام تماماً، فذهب بعض منهم إلى الشورى وبعض إلى إجماع الأمّة وبعض إلى الضرورة والمصلحة وغيرها.
ومن الواضح أن هذا التفسير خاطيء فإنّ الإمامة والإمام لا يمكن انعدامها، وهو إفراط في تفسير معنى الغيبة، وهذا المعنى الافراطي يُناقض أصل معتقد الإمامية بالإمامة لأنه بالتالي يؤدي بنا _ هذا التفسير _ إلى وجود فترة زمنية ليس فيها إمام فإنّ آخر الأئمّة هو الحسن العسكري عليه السلام وباستشهاده انعدمت الإمامة إلى ظهور المهدي عليه السلام وبالتالي ففي فترة الغيبة الكبرى ليس هناك إمام يقوم بأعباء الإمامة ومسؤولياتها، فنتساوى حينئذٍ في تلك الفترة مع المدارس الإسلاميّة الأخرى في القول بعدم وجود الإمامة وكأنما أصبحنا كالواقفية يعني من وقف على إمامة أحد الأئمّة عليهم السلام، وبحسب هذا القول والتفسير نكون قد وقفنا على إمامة الحسن العسكري عليه السلام ولم نقل بإمامة المهدي عليه السلام، إذ لا تكون إمامة المهدي إلاّ في الظهور، وهذه الفترة وهي الغيبة الكبرى خلت من أيّ حجةٍ فلا رسل فيها ولا أنبياء ولا أئمّة.
وهذا المعنى الخاطئ صوّرته بعض المذاهب الإسلاميّة الأخرى بل بعض الكتابات في وسطنا أيضاً حيث رسمت معنى الغيبة بما يؤدي إلى وجود هذه الفترة الخالية من الإمام عليه السلام، نعم لا مانع من وجود فترة ليس فيها ظهور للإمام كما هو الصحيح في الغيبة لكن من غير الصحيح القول بفترة لا يوجد فيها إمام.
وبالتالي أشكل عليهم بأن هذا المعنى يلزمه عدم التوافق مع الحديث المروي عند الفريقين (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(792) بل في روايات الفريقين ما هو أعظم من ذلك وهي رواية (من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية)(793) فليس عدم معرفة الإمام بل عدم بيعته إذ قد يعرفه لكن لا يتضامن مع مساره أي لا يتضامن مع أتباع أهل البيت الذين هم على منهاج أهل البيت بل يتبع منهاج غيرهم وهو في الواقع فسخ البيعة مع الإمام المعصوم، فعلى أيّ تقدير فقد ورد أن من مات وليس في عنقه بيعة للإمام فإنّه مات ميتة جاهلية، وبالتالي على هذا القول والتفسير للغيبة كل من مات في الغيبة الكبرى حيث ليس في عنقه بيعة للإمام مات ميتة جاهلية، هذا هو لازم قولهم وهل يمكن الالتزام بذلك؟
وقد حاول البعض الآخر التخلص من هذا الإشكال فصوّر الغيبة بمعنى آخر حيث اعتقد بأنه من غير الصحيح تصوير انقطاع الإمامة بهذا المعنى وهو تفسير باطل وفيه زيغ في الاعتقاد بالإمام فلا بدَّ أن يكون الإمام ناشطاً قائماً بالأمر وبأعباء المسؤولية وذلك من خلال التمثيل الرسمي له، فصور هذا القائل أن للإمام عناصر تمثله في العلن، وبالتالي فهو معنى تفريطي حيث إن هذا التفسير يُنافي حقيقة الغيبة كما سيأتي، فهذا القائل بالمعنى الثاني اعتقد أنه إذا لم نقل بالتمثيل الرسمي للإمام فإنّ ذلك يعني عدم النشاط للإمام وعدم تصديه للإمامة والمسؤولية والاصلاح.
فلكي يحافظ هذا القائل على الدور الفعلي للإمام لا بدَّ من تصدي الإمام مباشرة أو من يمثله، ولما كانت فترة غيبة فليس المتصدي هو الإمام بل من يمثله سواء أكان سفيراً أم نائباً خاصاً ونحوه.
وهذا المعنى التفريطي أيضاً باطل ومنحرف لأن النشاط والدور الفاعل والتصدي للإمام لا يستلزم أيّ بروز وإعلان فلو عدنا لقصة موسى والخضر عليهما السلام وما يقوم به من مسؤوليات، فعندما تفارقا ولم يكن فعل الخضر ظاهراً لأحد فهل هذا يعني أن ليس له أدوار بعد ذلك وأن دوره فقط الذي كشف عنه القرآن وإلاّ فقبل التقائه بموسى وبعد فراقهما ليس له أيّ دور وهذا واضح البطلان فإنّ له ولغيره من رجال الغيب أدواراً ومسؤوليات لا يعلم بها إلاّ الله والأئمّة.
ففي رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لو صبر النبي موسى مع الخضر أكثر لرأى عجائب عظيمة من الخضر)(794) فعدم ظهور وبروز نشاط الإمام عليه السلام وعدم وجود نائب خاص أو سفير لا يعني الجمود وعدم النشاط، وهذا المعنى للأسف ارتكز خطأ عند كثير من الكتابات الإسلاميّة سواء من المذاهب الأخرى أم في وسطنا إذ ارتكز أن النشاط والحيوية والفاعلية والقيام بالمسؤولية تلازم الاعلان والبروز والظهور، وليس كذلك فإنّه كما سيأتي من أن أجندة التنظير في العلوم الاستراتيجية والسياسية والاجتماعية تؤكد على أنه كلما كانت السرية والخفاء أكثر كان النشاط والعمل والدور أكثر حيويةً وقوةً ونفوذاً واختراقاً وتأثيراً وانسيابيةً واندفاعاً وسيولةً وبلا أيّ معوق وممانع والعكس بالعكس، فالنشاط يرتبط بالانجاز في الميدان الخارجي ولا ربط له بالظهور والاعلان، فليس لازم النشاط الكشف والاعلان والاعلام والهرج والمرج والصخب، فالبعض وللأسف عندما يقرأ تاريخ بعض المصلحين من أولاد الأئمّة عليهم السلام كزيد الشهيد أو يحيى بن زيد رضي الله عنهما وغيرهم من الثوار يحسبون أن معنى النشاط والعمل والتغيير لا بدَّ أن يكون معلناً ومكشوفاً وإلاّ كان جموداً، وهذا من أخطاء الزيدية حيث اعتبروا الإمام هو من يقوم بنهضة إصلاحية معلنة ساخنة في حين أن سيرة أهل البيت عليهم السلام على عدم ضرورة الكشف والاعلان للنهضة والتغيير والقيام بأعباء المسؤولية والاصلاح وهداية المجتمع لئلاّ يمنعهم ويعرقلهم العدو عن ذلك.
وأنه بات واضحاً إذا أراد الرواد المصلحون الاصلاح والعمل الاصلاحي فكثيراً ما يكون في الظل والستار والخفاء ليكونوا أكثر نشاطاً وتأثيراً فإنّ الغيبة والتستر من مصاديق التقية ومع ذلك لم تفسر التقية بالجمود والابتعاد وعدم ممارسة المسؤولية.
إذن الغيبة لا تعني عدم الإمامة بمعنى ترك ساحة المسؤولية والأحداث وعدم وجود الإمام، فإنّ الإمامة في الواقع ولاية فعلية وتصدي فعلي لهذه الراية الكبرى من نور الله تعالى ومسؤوليات الإمامة وإلاّ صار المعتقد بذلك واقعياً أو مذهباً مناقضاً لأصل الإمامة.
كما أن الغيبة لا تقتضي لابدّية التمثيل والتصدي العلني والبروز لأجل قيام الإمام بمسؤولياته ومهامه وإلاّ صار المعتقد بذلك زيدياً أو بابياً أو مدعياً للسفارة والنيابة الخاصة كذباً وزوراً وإنما الغيبة أمرٌ وسطي بين المعنيين فهي معنى بين عدم ظهور الإمام مع حضوره فهو موجود بين الناس لكنه غير معروف عندهم بإنه الإمام فيعبر عنه بإنه غائب، فالغيبة إذن غيبة ظهور الإمام وليست بمعنى عدم حضوره وهي انقطاع ظهور وتمثيل لا انقطاع إمامة أي عدم ظهور الإمام عليه السلام علناً وعدم ظهور أيّ نشاط له في العلن وعدم بروز أيّ تمثيل رسمي له، فالانقطاع للسفارة وليس انقطاع الإمامة، فإنّ انقطاع النيابة لا يعني انقطاع الإمامة، وعدم انقطاع الإمامة وفعليتها واستمرارها لا يقتضي ولا يوجب ولا يحتم استمرار النيابة والتصدي المعلن وإلاّ فمن الخطأ ما فعله البعض من الربط بين انقطاع النيابة وانقطاع الإمامة والبعض من أن فهم بالعكس استمرار الإمامة بمعنى استمرار النيابة، إذ هناك عدة أنواع للتصدي لا تنحصر بالسفارة، كما أن عدم أحد أنواع التصدي لا يعني انقطاع جميع أنواع التصدي.
وإلاّ فإنّ الإمام عليه السلام موجود حاضر متصدي وقائم بمسؤوليات وأعباء خلافته تماماً إذ له عليه السلام تمام الفاعلية وتمام النشاط وتمام القيام بأعباء المسؤولية والولاية والإمامة من دون أن يكون له ظهور أو تمثيل أو نيابة.
ففي كثير من روايات أهل البيت عليهم السلام أن الإمام المهدي عليه السلام فيه سُنّة من النبي يوسف عليه السلام حيث كان يتكلم مع الناس ويباشرهم ويديرهم ويدبرهم وهم لا يعلمون أنه النبي يوسف عليه السلام بل وفي كثير من الروايات أن المهدي عليه السلام عند ظهوره يقول الكثير من الناس: هذا الذي كنّا نعهده، فعن سدير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (إن في القائم شبه من يوسف عليه السلام)، قلت: كأنك تذكر خبره أو غيبته؟ فقال لي: (ما تنكر من ذلك هذه الأمّة أشباه الخنازير، إن إخوة يوسف كانوا أسباطاً أولاد أنبياء، تاجروا يوسف وبايعوه وهم إخوته وهو أخوهم فلم يعرفوه حتّى قال لهم: (أَنَا يُوسُفُ) فما تنكر هذه الأمّة أنه يكون الله عز وجل في وقت من الأوقات يريد أن يستر حجته، لقد كان يوسف عليه السلام إليه ملك مصر، وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوماً، فلو أراد الله عز وجل أن يعرفه مكانه لقدر على ذلك، والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة مسيرة تسعة أيام من بدوهم إلى مصر، فما تنكر هذه الأمّة أن يكون الله عز وجل يفعل بحجته ما فعل بيوسف أن يكون يسير في أسواقهم ويطأ بسطهم وهم لا يعرفونه، حتّى يأذن الله عز وجل أن يعرفهم بنفسه كما أذن ليوسف حتّى قال لهم: (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ * قالُوا أَ إِنَّكَ لأََنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي)(795))(796).
وهذا يعني أن له حضوراً تاماً في ساحة الحدث والمسؤولية غاية الأمر أنه عليه السلام غير معروف، فالغيبة تعني عدم علمنا ومعرفتنا به عليه السلام وانعدام النيابة والتمثيل لا انعدام وجوده.
وهذه مسألة عقدية مهمّة في أحوال وشؤون الإمامة لا بدَّ من الالتفات إليها وفهمها بشكل صحيح ودقيق، فإنّ الجادة الوسطى هي جادة النجاة فلا إفراط ولا تفريط، وإلاّ وقعنا في الزيغ والانحراف وتركنا المذهب الحق مذهب أهل البيت عليهم السلام والعياذ بالله.
حقيقة الغيبة والظهور:
قد مرَّ أن من ميزات الغيبة الكبرى للإمام عليه السلام هو انقطاع النيابة الخاصة والسفارة وإن للغيبة معنى وسطياً بين الحضور وبين عدم الظهور ولكن عدم ظهور الإمام هل هذا يعني أن الإمام عليه السلام بعيد وغائب عن البشرية، أي هل أن معنى الغيبة يقابل الحضور أم لا، إنما الإمام حاضر دائماً فيكون معنى الغيبة مقابلاً للظهور؟
لو لاحظنا الروايات المروية في هذا المجال من الفريقين الخاصة والعامة نجد أن انتهاء أمد الغيبة الكبرى يكون بالظهور وليس بالحضور فيكون معنى الغيبة في مقابل الظهور فالغيبة تعني الخفاء والسرية وعدم الاعلان وعدم البروز وأما الظهور فهو عدم الخفاء أي البروز والاعلان، وتقدم أن من أدلّة انقطاع النيابة الخاصة والسفارة أن نفس لفظ الغيبة يتضمن عدم التمثيل وعدم التوكيل وعدم التنويب وهذا يعني أنه عليه السلام حاضر وموجود لكن ليس على نحو العلن والبروز.
ونجد هذا المعنى أيضاً في كثير من الأدعية كدعاء الندبة (بنفسي أنت من مغيب لم يخلُ منّا)(797) وعدة فقرات في هذا الدعاء يتضح منها أنه عليه السلام حاضر وإنما التأسف في البحث عنه باعتبار غيبته، أي خفاؤه وسريته!
ومن الغريب أن هذا المعنى فهمه وحققه واكتشفه ووصل إليه بعض الباحثين الاستراتيجيين الغربيين في حين غاب بل استهزء به وسخر منه بعض الكتاب الإسلاميين، وما ذلك منهم إلاّ لأنهم لم يفهموا معنى الغيبة وفسرّوها بتفسير خاطئ.
فهذا المعنى الخفي الدقيق الخطير للغيبة فهمه أمثال الباحث الاستراتيجي الخطير والمُنظّر الدولي فرانسوا توال الفرنسي(798) في كتاب كتبه حول الجغرافيا السياسية للشيعة، وهذا الكتاب خطير جدّاً وقد نسخ وتُرجم للوقوف بدقة على أبحاثه لأن البحوث الاستراتيجية أشبه بالسرية، وقد ذكر هذا الباحث في كتابه أن معنى غيبة الإمام المهدي عليه السلام عند الشيعة بمعنى الخفاء والسرية ليكون الإمام المهدي عليه السلام أنشط في حركته وحيويته في تدبير الأمور في العلوم الاستراتيجية والأمنية، فإنّ السرية رمز القدرة، والدول ترى في السرية قدرة وقوة.
فهؤلاء الكتاب وصلوا لهذه المعاني الدقيقة وراء غيبة الإمام عليه عليه السلام في حين كتابات من المذاهب الإسلاميّة الأخرى تستخف بعقيدة الغيبة عند الإمامية، بل إن الكثير من الروايات والجماعات الضالة تستخف بالغيبة الكبرى بمعنى السرية الكاملة حيث لا سفارة ولا نيابة خاصة، حيث ظنوا أن معنى هذه العقيدة الضرورية عند الطائفة الإمامية من انقطاع الاتصال الرسمي المعتبر بالحجة عليه السلام يعني جمود الحجة بن الحسن عليه السلام عن مهامه ودوره في قيادة البشرية ومواصلة مهامها الرسالية، وأنه عليه السلام نائي في أقاصي البلاد لا يتصدى للأمور وتاركاً الحبل على الغارب، بينما يعبث بالأمر قوى الطغيان البشري، بل الحق أنه لو ترك التصدي للأمور يوماً واحداً لساخت الأرض فساداً بأهلها، ولوقعت الحروب والبلايا في الأصعدة المختلفة على البشرية، كما قال عليه السلام في التوقيع الشريف: (نحن وإن كنّا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء أو اصطلمكم الأعداء فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو كره المشركون.
اعتصموا بالتقية! من شب نار الجاهلية، يحششها عصب أموية، يهول بها فرقة مهدية، أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن، وسلك في الطعن منها السبل المرضية، إذا حل جمادى الأولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه)(799) بل هو عليه السلام يدبّر ويدير الأمور البشرية جميعاً عبر أساليب خفية وأدوات غيبية منتظمة تحت الستار، لكن المقرر لتلك الإدارة أن لا تظهر إلى السطح والعلن في عصر الغيبة قبل الظهور، فالغيبة والانقطاع لا تعني انعدام حضوره عليه السلام، في الساحة الاجتماعية والسياسية البشرية بل تعني انقطاع الاتصال من طرفنا ومن قبلنا باتجاهه عليه السلام لا انقطاعه هو عليه السلام عن التصرف في أمورنا وأمور البشرية وفي المجتمعات المختلفة، كما قال تعالى: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً)(800) أي يحول أمام الفساد في الأرض وسفك الدماء.
ففي الوقت الذي يستخف بعض المسلمين بالغيبة والسرية، فإنّ أولئك الباحثين يفهمونها ويعتبرونها مصدراً للقوة والقدرة والتدبير.
وما بينّاه من التفسير الصحيح للغيبة لا يمنع أن له أعواناً خاصين ونشطاء بل وجهاز عمل كامل إلاّ أن المهم أنه ليس له أيّ بروز وإعلان وتمثيل رسمي في الظاهر وإنما تمام العمل والنشاط والتدبير في السر والخفاء وليس لجهازه وأعوانه صلاحيات الاعلان والبروز والظهور، لذا فمن يدعي ذلك في العلن فهو كذّاب ودجّال.
يقول أولئك الباحثون الستراتيجيون: إن السرية في العلوم الستراتيجية والعلوم السياسية والعلوم العسكرية والعلوم الأمنية هي تمام القدرة، فكلما قلت السرية والخفاء كلما قلت القدرة والمقدرة والقوة، لأن الذي هو في السر والخفاء يتواجد ويعيش في سياج وحماية أمنية فلا يمكن لأيّ أحد أن يصل إليه فليست القضية حينئذٍ فيزيائية لوجستية حسية بدنية وإنما هي خفاء وسرية بمعنى عدم إمكان معرفة وكشف المختفي فلا يمكن عرقلته أو قطع الطريق عليه أو مواجهته أو مصادمته أو الحول بينه وبين تدبيراته.
شواهد التصدي للإمامة الفعلية:
وعليه فمن الخطأ أن تفسر الغيبة في مقابل الحضور لأن معناها حينئذٍ أن الإمام عليه السلام في فترة الغيبة الكبرى غير حاضر فما يذكر من تعابير نحو عصر الحضور أو زمن الحضور وغيرها تعابير خاطئة، فإنّ الإمام عليه السلام حاضر بيننا ولم تخل منه الديار وإن كان غائباً إذ كونه غائباً يعني مستتراً ومختفياً وإلاّ فالكثير من روايات أهل البيت عليهم السلام تذكر هذا الأمر على أنه واضح وضروري وأنه عليه السلام يعيش في وسط وكبد الحدث، ففي روايات الفريقين في بيان وتفسير ليلة القدر أن هناك برامج وملفات لإدارة الأرض من صغير الأمور وكبيرها تتنزل عليه من إحصائيات الأرزاق والآجال وإحصائيات البركات التي تزدهر بها الأرض والآفات.
وهذه الاحصائيات لا تدري حتّى الدول العظمى أيّ تأثير وأثر لمحاسبات مثل هذه الاحصائيات، فإنّ علم الاحصائيات بات من الواضح أنه هو الذي يرسم استراتيجية المستقبل، فكلما كانت الدول أكبر وأعظم كانت أقدر وأكثر استطاعة لأن ترسم لنفسها تدابير أكثر.
وهذه الملفات والبرامج التي تنزل على ولي الأمر الإمام المهدي عليه السلام كل عام في ليلة القدر هي ملفات ومعلومات مُذهلة هائلة مهولة إلى الآن ليست هي في الوعي العلمي للبشر والتي يعبر عنها في العلوم الاستراتيجية أو علم القيادة والإدارة بالتدبير وإمساك الأرض باليد واختراق الأنظمة، وهذا المعنى رواه الفريقان من الشيعة والسُنّة في بيان ليلة القدر(801) وفي ذيل سورة الدخان وسورة النحل وقد ذكرنا بيان ذلك في كتاب الإمامة الإلهية(802) كما ذكرنا فيه مقتطفات من أقوال الفريقين.
وهناك آيات أخرى دالة على ذلك كقوله تعالى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً)(803) فلم يعبر بالرسول أو النبي بل قال: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً) فهي معادلة كلية دائمية دائبة إلى نهاية حياة البشرية في الأرض، فخلافة الله على الارض ابتدأت من أول الحياة للبشرية إلى انتهائها فحجة الله على الأرض كما ورد في الروايات قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق(804)، وأوّل مهمّة بيّنها الله للخليفة والحجة على الأرض هي دفع الإفساد والقيام بالاصلاح فأحد تسميات الإمامة في القرآن هو الخليفة لأنه يستخلف في التدبير والتصرف في الأمور فهو عنده قدرة التدبير، ومن ثَمَّ أورد تعالى أوّل تفسير لمعنى الخليفة قول الملائكة بعد ذلك: (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)(805) ذكر اعتراض الملائكة لأنه يريد أن يتحدّث عن إحدى وظائف الخليفة المهمة فبيّن شأن ومقام وصلاحيات الخليفة من خلال الجواب على اعتراض الملائكة بالافساد في الأرض وسفك الدماء إذ قال تعالى: (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني هذان المحذوران اللذان يخشى الملائكة منهما يتم تفاديهما ودرؤهما وعلاجهما بتوسط الخليفة في الأرض كأبرز مهمّة له فيها وهي دفع الافساد والحيلولة دون سفك الدماء والقيام بالاصلاح.
والمقصود من الافساد أي الفساد الأكثر بأن تكون نسبة الفساد إلى الخير والصلاح أكثر من (50%) وإلاّ لو كانت (50%) أو أقل لم تصلح كمادة نقض للملائكة إذ سيكون الخير والاصلاح هو الأكثر.
فالقرآن الكريم يذكر لنا أن الخليفة هو الذي يحول دون الفساد الأكثر في الأرض سواء أكان ذلك الفساد أخلاقياً أم صحياً أم سياسياً أم إدارياً أم زراعياً... بل إنه سيعمل على عمارة الأرض وإصلاحها في جوانب شتى فيحول بين الأنظمة المتحكمة المتغلبة على البشر وبين وقوع الفساد فإنّ له قدرة إدارة الأرض لأن الله استخلفه فيها وعلمه الأسماء (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَْسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(806) فهذا العلم الذي يعطيه الله عز وجل للخليفة يمكنه من إدارة وتدبير الأرض، وإن هذه الإدارة والتدبير خفية سرية وهي مصدر القوة والقدرة لأجل الاصلاح النسبي وإلاّ فإنّ الاصلاح التام الكامل سيكون في الظهور ودولة المهدي عليه السلام أما الاصلاح النسبي فهو الواقع والممارس منذ آدم عليه السلام إلى نبينا الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام فإنّ هذه النسبة من الاصلاح والتدبير كانت لدى كل الأئمّة عليهم السلام وإن لم تكن معلنة.
فالباري تعالى يقول للنبي إبراهيم عليه السلام: (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)(807) مع أن التاريخ لم يحدّثنا أن النبي إبراهيم عليه السلام قد ملك العراق أو الشام أو فلسطين أو مصر أو الجزيرة العربية، وهكذا أخبرنا الباري تعالى في القرآن أن يعقوب وإسحاق جعلهما الله أئمّة يهدون بأمره (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ * وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)(808) وأيضاً لم يحدّثنا التاريخ أبداً عن أنهما تصديا إلى ملك في العلن.
فإنّ ابراهيم ويعقوب وإسحاق عليهم السلام نُسِبت لهم الإمامة والقيادة والتدبير والاصلاح مع أنهم كانوا يعيشون كالرعية لأنظمة أخرى حسب صورة ظاهر السطح، ولكن التاريخ سجل لنا أن النبي إبراهيم عليه السلام استطاع أن يُبِّدل عقائد وعبادة شعوب وأقوام الشرق الأوسط من عباد وثنية إلى ملّة توحيدية حنيفية.
ومعلوم ومذكور في العلوم الاجتماعية والعلوم السياسية والعلوم الحضارية والعلوم الاستراتيجية أن تبديل العقيدة والدين ليس من قدرة الحكومات أبداً لأنّ العقيدة حكومة فوق الحكومات، فكيف استطاع إبراهيم عليه السلام كفرد تبديل عقائد تلك الأمم ولم تكن وسائط إعلام كما للغربيين الآن ولا غير ذلك، وقد نجد في التاريخ الحديث دولاً عظمى كالاتحاد السوفيتي لم يستطع تغيير دين وعقائد بعض الدول الإسلاميّة مثل أوزبكستان وتركمانستان وأذربيجان فبكل ما أوتي من جبروت وغطرسة وسفك دماء وإرهاب وإعلام... خلال مائة سنة حكم الروس هذه الدول بالتعسف والدم والإرهاب لم يتمكّنوا من تغيير الدين والاعتقاد.
وما قام به إبراهيم عليه السلام ليس صدفة أو اتفاقاً أو فجأة أو طفرة وإنما هناك شبكة وإدارة خطيرة كان يتحكم فيها النبي إبراهيم في تلك الشعوب من خلال ذلك استطاع أن يقيم وينجز التغيير العظيم، وهكذا النبي يعقوب أو النبي إسحاق عليهما السلام.
فالقرآن الكريم يطلعنا على أن الإمامة لها جهاز خفي نعرفه لو تأملنا سورة الكهف وقصة الخضر وموسى عليهما السلام فالقرآن يريد أن يبيّن لنا أن الخضر كان في ضمن مجموعة خفية لديها مأموريات ومهمّات وأدوار لا تنافي ضروريات عقائد وأحكام الشريعة، قال تعالى: (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)(809) فإنّ تلك الأدوار والمأموريات كما حدّث الخضر النبي موسى أنها على قسطاس وصراط الشريعة وذلك عندما اعترض عليه النبي موسى عليه السلام وحاججه بظواهر الشريعة كما مرَّ ذلك.
الغيبة والتقية وقمّة النشاط:
فإنّ الخضر كان يقوم بتلك الأدوار وفق الموازين الشرعية ولكن في السر والخفاء من دون أن يعوقه الظالمون أو المفسدون أو أهل البغي والفجور، فالخفاء والسرية عامل أمني مصيري مهم خطير وهو أحد المعاني الصحيحة للتقية فالغيبة من مصاديق التقية، وهو من معاني التقية المغفول عنه للأسف، فإنّ الإنسان لما يتقي يعني عنده برنامج أمني وبرنامج ستاري خفي، وليس معنى التقية أنه يترك المسؤولية ويلتزم الجمود وعدم النشاط والانكفاء والتقوقع، فهذا معنى خاطئ للتقية، بل التقية تعني مفهوماً أمنياً وإخفاء المسيرة والمسار والقدرة والنشاط والحركة التي يقوم بها ليكون بفضل ذلك الخفاء والسرية في قمة النشاط والحركة والحيوية، إذ الخفاء والسرية نوع من التقية تكون كدرع حصين لحيوية النشاط والحركة والقيام بالمهام والمسؤوليات والواجبات على أتم وجه في مأمن ومنأى عن العدو.
وإلاّ لو كانت البرامج مكشوفة علنية فمن السهل للعدو عرقلة تلك البرامج.
فهذه مقولات متشابكة مختلطة في معاني التقية والغيبة قد تعمي الحقيقة إن لم نعمل الدقة فيها، فقد تفهم التقية بعدم العمل وقد تفهم الغيبة بعدم الحضور والوجود أصلاً، وإلاّ فلا بدَّ من العلن، أي قد يخفى كيف يمكن تصوير تقية وغيبة مع عمل ونشاط وقيام بتمام المهام والمسؤوليات.
وهذا البيان من الله في سورة الكهف عن الخضر وأن هناك مجموعة إلاهية عاملة لكي يبيّن الباري تعالى أن للإمام في الأرض مثل هذه الأعوان والأنصار، فليس معنى سرية وخفاء وغيبة الإمام عدم الحضور وأنه نائي بعيد قاصي وليس موجوداً في الساحة وفي الحدث، بل بمعنى عدم الظهور، فالغيبة لا بدَّ من فهمها في مقابل الظهور لا في مقابل الحضور وأن تعبير زمن الحضور تعبير خاطئ، فإنّه لا يوجد زمن حضور وزمن غير حضور، بل حضور الإمام دائم، فالصحيح عقائدياً أن نطلق عليه زمن الظهور في قبال زمن الغيبة، بمعنى أنه عليه السلام موجود بين أظهرنا وفي كبد وساحة الحدث إلاّ أنه ليس بظاهر بل مستتر مُختف غائب.
ومن خلال ذلك تبطل الكثير من الإشكالات المثارة من المدارس والمذاهب الإسلاميّة الأخرى ضد مدرسة أهل البيت حيث فسروا وفهموا الغيبة في مقابل الحضور فقالوا بما أنه غائب أي ليس بحاضر فكيف يكون إماماً ويتحمل مسؤولياته ويدبر أمور الأمّة؟
اتّضح أن الإشكال مبتني على تصوير خاطئ لمعنى الغيبة، فليس الإمام غير حاضر بل هو حاضر وموجود وإلاّ لساخت الأرض بأهلها(810).
لولا إدارة الإمام لشؤون الحياة على الأرض لساخت:
ومعنى لولا الحجة لساخت الأرض ليس إعجازاً محضاً وجبراً تكوينياً إذ أبى الله إلاّ أن يجري الأمور بأسبابها، بل المعنى الصحيح أنه لولا تدبير الحجة من خلال المعلومات التي تتنزل عليه من الله عز وجل لكانت الأرض تنزلق في الفساد في مختلف المجالات الصحية والبيئية وغيرها كانتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة التي تفتك بالبشرية، فكثير من الأنظمة والقوى العظمى لا تستطيع أن تحول دون انتشار وباء يعصف بكل البشرية بل هم غارقون في غفلتهم مهما تطورت علومهم وآلياتهم الصحية والمختبرية وغيرها فتلك الأنواع من الفساد كأنما جيوش لا يستطيعون التصدي لها، وإنما المتصدي والمانع دون وقوع ذلك الفساد الكبير في مختلف المجالات البيئية والصحية والزراعية والحيوانية والأخلاقية والحقوقية والسياسية والأمنية و... إنما هو الإمام، فهو الحائل دون قطع النسل البشري ووقوع الكوارث الزراعية والحيوانية بل وحتّى يحول دون انقطاع النسل الهوائي أي في مقابل التلوث الهوائي، فهناك مخاطر عجيبة تحدق بالبشرية وأولئك مهما أوتوا من علوم فهم يجربونها دون العلم بعواقبها ولا يلتفتون للوازمها كالطفل الذي يفجر شيئاً لا يعلم تداعياته ونتائجه، فنلاحظهم رغم كل ذلك يعانون ويهولون لأنفسهم أعمالهم وما يقومون به من معالجات غير مجدية لبعض المشاكل من ثقوب الأوزون والتلوث البيئي والانقراض وغيرها من التداعيات الخطيرة ولا يعلمون كيف علاجها الواقعي.
إذن لا بدَّ لله تعالى من حاكم يحفظ أمن البشر الصحي والاقتصادي والأخلاقي والخلقي، ضد الأعمال والأساليب الشيطانية من خلال التدبير والإدارة، بحيث لا يمكن للعدو إعاقة إدارته وتدبيره، لذا لا بدَّ أن تكون تلك التدابير ونحوها خفية سرية في الأرض، فيكون ذلك الحاكم المدبر خفياً مستتراً.
فهناك آثار وظواهر عجيبة في الغرب يشاهدونها ولا يعلمون أسبابها ولا كيفية علاجها مثلاً انتشار الإسلام في الغرب وأميركا وأماكن كثيرة وذلك من خلال إحصائيات سجلت في العام الماضي والذي قبله، فإنّها إحصائيات مذهلة، ظنوا أن السبب بعض الفضائيات الإسلاميّة فأغلقوها ولم يكن ذلك منطقياً فإنّ بعض الفضائيات على قلتها ما هو تأثيرها في قبال سيل هائل جارف وأسطول عظيم مهول من الاعلام من فضائيات وغيرها الموظفة للتأثير على الشعب الغربي، ثمّ ظنوا أن السبب هو الجاليات الإسلاميّة القليلة المغلوب على أمرها فضايقوها وقللوها قدر ما استطاعوا ولم تحل معضلتهم وهي انتشار الإسلام، فمهما سعوا وعملوا لن يكتشفوا سبب ذلك لأنه ليس بالأمر المكشوف كما يتصورون وإنما هو من تدبير الإمام وجهازه وأعوانه في السر والخفاء لاصلاح الأرض ودفع فسادها.
جهاز تدبير الإمام:
كما تقدم فإنّ جهاز تدبير الإمام لا ينحصر بالنواب والسفراء كي يتوهم متوهم أنه بانقطاع السفارة والنيابة الخاصة يتعطل تدبير الإمام ونشاطه وإنما الأمر أوسع من ذلك.
فإنّ من الأمر الظاهر الذي لا يتوقف على ظهور الإمام هناك جهاز عام وهم النواب بالنيابة العامة والفقهاء والإمام يرعاهم ويتابعهم ويشرف على عملهم وإن لم يكن الفقهاء يرون الإمام كما أن هناك جهازاً خفياً من الملائكة وغيرها قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ)(811) فإنّ ذلك أمرٌ منه تعالى للجميع دون استثناء، فالمطلوب من كل الخلق السجود والخضوع والإطاعة والتبعية لخليفة الله في الأرض، والقرآن الكريم تعرض في سبع سور(812) إلى أن الملائكة خاضعون متبعون للخليفة ولم يُستثن أحد من الملائكة، والذي يعني شمول الجميع بأمر الطاعة والخضوع فحتّى جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل ودردائيل ومالك خازن النار ورضوان خازن الجنّة وجميع الملائكة المقربين أو غير المقربين.
قال تعالى: (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً)(813)، (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً)(814) فالقرآن الكريم يستعرض الكثير من القدرات التكوينية في عدة آيات ثمّ يعزوها ويسندها إلى الملائكة على اختلافهم وتنوعهم ثمّ أمرهم جميعاً بالسجود لآدم عليه السلام أي لخليفة الله في الأرض، فالمراد من المأمور بالسجود كل جموع وقبائل الملائكة عظيمهم وبسيطهم مقربهم وغيره، والمراد بالخليفة ليس فقط آدم، بل جميع الأنبياء والأوصياء، أي كل من تؤول إليه الولاية فيكون السجود والخضوع والانقياد بأمر الله للملائكة جميعاً لآدم ونوح وإبراهيم ومحمّد صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام والحسن والحسين عليهما السلام وللخلف الإمام المهدي عليه السلام، فالمراد من الخليفة الذي يستخلفه الله وهو الوالي الذي قلنا أن الله بيّن أبرز مهامه في الأرض وهي دفع الافساد وإقامة الصلاح وأن الله قد رسم وعيّن لوليه جهاز عمله العظيم بهندسةٍ متقنةٍ فكما بينّا هندسة اختيار الفقهاء لارتباط الإمام بالناس كذلك له تعالى هندسة عظيمة في ترتيب وتنظيم جهاز الإمام الخفي فإنّه تعالى أتبع الملائكة لخليفته في الأرض وجعله والياً عليهم لأن علمه يفوق علمهم إذ قال تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَْسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)(815) فمن يكون ذا علم أكثر يكون صاحب قدرة أكبر، فتدبير خليفة الله في الأرض بالعلم الذي يصله ويستلمه من الله تعالى وأن ذلك التدبير من الإمام ينفذه ويمررّه عبر جهاز خاص ليس من البشر فقط، كما يستعرض ذلك لنا القرآن الكريم في سورة الكهف، إذ هو مطاع من كل مخلوق قال تعالى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)(816) فلم يقل: فاسجدوا بل قال: (فَقَعُوا) فهو أمرٌ انضباطي معجل سريع، أما فاسجدوا ففيه شيء من التراخي.
فهذه القدرة لخليفة الله في الأرض وآدم عليه السلام أوّل نموذج في سلسلة أولياء وخلفاء الله الذين يعملون لاصلاح الأرض على رأس جهاز خاص من جميع الخلق.
وبهذا تندفع الكثير من الإشكالات والاعتراضات على جملة من عقائد الإمامية من الغيبة وغيرها والتي منها أن علي بن أبي طالب عليه السلام كيف يكون خليفة الله في الأرض وهو جالس في بيته خمساً وعشرين سنة، فقد اتضح أن عمل خليفة الله في إصلاح الأرض ليس موقوفاً على توليه السلطة والحكم في الظاهر والسطح المعلن وإنما للإمام أنماط وأشكال من الحكومات يديرها لاصلاح الأرض ودفع الافساد، ومن أعظم أساليب النفوذ والحكومات التي يديرها هي الحكومات الخفية، فللإمام تدبيرات سرية خفية لم يطلع عليها ولم يفهمها أصحاب العقول الصغيرة والنظرة الضيقة فرأوا أنه عليه السلام جليس البيت خمساً وعشرين سنة.
ونفس الإشكال أوردوه على الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وهو في السجن والجواب بات واضحاً فللإمام تدبيرات وفق ما بينّاه وهكذا في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذ نقرأ في دعاء الندبة: (أوطأته مشارق الأرض ومغاربها)(817) فمع أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام لم تتجاوز أسفارهم الشام والعراق والجزيرة بشكل عام فكيف وطأوا مشارق الأرض ومغاربها؟
وما ذلك إلاّ بتدبيرات خفية لهم عليهم السلام، فالرسول حتّى قبل بعثته كان نبياً وإماماً فإنّ نبوة وإمامة الرسول لم تتأخر إلى سن الأربعين، نعم بعثته الرسمية كرسول تأخرت إلى الأربعين، فلا تخلو الأرض من الإمامة فإنّ النبي والإمام وطأ مشارق ومغارب الأرض ليس في أسفاره وتنقلاته المتعارفة عندنا، وإنما ذلك بتدبيراتهم ونحوها في موارد طي الأرض ونحو ذلك.
معنى أعمق للغيبة:
فعندما نقول الغيبة مقابل الظهور يعني أن في فترة الغيبة لا بدَّ أن تكون جميع عناصر جهاز الإمام غير ظاهرة أي سرية مخفية فلا نغلو في معنى الغيبة وانقطاع النيابة الخاصة، فلا يأتي متقمص مُنتحل كذاب دجال مزور ذو ألاعيب يدعي التمثيل الرسمي للإمام وأنه من شبكته الأمنية أو جهازه التدبيري أو غير ذلك، فإنّ ذلك ينافي الغيبة ويخالف السرية والخفاء، إذ لا نتصور أنه عنصر أمني إلهي وليس أمناً بشرياً ويكشف السر الإلهي إذ كونه من جهاز الإمام السري سراً إلهياً وأن كشفه أوّل الدجل والكذب، فإنّ هؤلاء الأوتاد أو الأبدال ونحوهم لو شم منهم رائحة النشاط الإلهي العلني أتاهم عزرائيل وأطلق عليهم رصاصة الموت، أي نزع أرواحهم، فالتاريخ يحدّثنا عن كثير من الأوتاد والأبدال فما أن حصلت نوع من الريبة حوله يأتيه الأجل بسرعة، لم ذلك؟ لأن ذلك تصفية وهي مطلوبة وحالة طبيعية في طبيعة النظام الأمني، فأيّ عنصر يبرز ويظهر لا بدَّ من تصفيته، لذا فالذي يدعي أنه من جهاز الإمام أو له تمثيل رسمي من الإمام ونحو ذلك فهو أوّل الدجل لمخالفته السرية إذ لا يتصور الخفاء مع العلن.
فمع أن للإمام دوائر وشعباً إدارية مختلفة وجهاز عمل وتدبير كامل عجزت الدول العظمى كالعبّاسية والأموية عن اكتشاف فردٍ أو عنصر منه لأن مقتضى عمله السرية.
وهكذا النبي موسى عليه السلام عندما أراد أن يلتقي مع الخضر فلما كان الخضر من عناصر هذه الشبكة السرية لم يلتق به في البيت الفلاني أو المكان الفلاني أي لم يكن موعده معه موعداً وفق الموازين المتعارفة وإنما أعطاه الله شفرتين لمعرفته ذكرت شفرة في القرآن وذكرت الأخرى في الروايات، فالأولى: (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً * قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً)(818) فالعلامة أن يضيع منه السمك فالله تعالى قال لموسى عليه السلام إذا ضاع منك السمك ستلقى العنصر الإلهي في الشبكة الخفية.
والعلامة الثانية أن ذلك العنصر يكون مستلقياً ومغطى بلحاف والنبي عليه السلام لما وجد هاتين العلامتين المنحصرتين رأى الخضر فقال: (هَلْ أَتَّبِعُكَ) وبدأت القصة.
فموسى عليه السلام نبي من أولي العزم لم يستأمنه الله إلاّ مع إعمال تلك الدقة الأمنية الاستتارية لأن الخضر كان في ضمن شبكة أمنية خطيرة مخفية وهذه القضايا الأمنية الخطيرة هي سر الله التي عجزت عنه الدول العظمى فلم يتمكنوا من اختراقها لشدة نظمها وخفائها وصعوبة تدبيرها.
وقد تقدم وبيّنا أن كل ذلك من الخضر لم يكن ليتجاوز الضوابط والضروريات واعتراض النبي موسى عليه السلام إنما هو لإعمال القواعد الرقابية.
فإذا كان الله لا يكشف أحد أفراد تلك الشبكة السرية لنبي من أولي العزم، بل وبعد ما عرفه ورافقه لم يستطع الاستمرار (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(819) أي انقطع الاتصال بين النبي وبين الخضر وعادت السرية التامة، فإذا كان ذلك مع موسى عليه السلام فكيف بآحاد الناس والعاديين منهم، فالقرآن الكريم يقول نبي من أولي عزم لم يعرف فرداً من الشبكة السرية إلاّ بشفرتين ولم تدم مرافقتهما وانقطع الاتصال وعادت السرية، فكيف نقبل ونتصور أن يأتي إنسان عادي وفرد بشري يدّعي أنه من الشبكة السرية، فلنتعظ ولنأخذ العبر والدروس من القرآن بأنه لا كشف للشبكة السرية فهي سر الله الأعظم ولا ننخدع بألاعيب وتفاهات المغرضين فإنّ أولئك دجالون مزورون مسيئون قال تعالى: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ)(820) فمن يحاول الدخول من الدجالين على خط خطير وشبكة أمنية سرية أخفاها الله ويكون دخولكم بدعاوى باطلة مغرضة أولئك مصيرهم الهاوية ومنزلقات خطيرة عجيبة.

* * *
الفصل التاسع: التوقيت والظهور

كيف ننصر الإمام المهدي عليه السلام:
المؤمنون بمقتضى إيمانهم واتّباعهم لأهل البيت عليهم السلام ينجذبون ويساهمون في نصرة الإمام المهدي عليه السلام وينبغي أن يعلم أن الطريق الوحيد لنصرة الإمام عليه السلام هو نشر مذهب أهل البيت عليهم السلام، لأن الظهور هو إعلان مشروع الإمام المهدي عليه السلام من قبله عليه السلام بشكل علني أمام البشرية، فإذا كانت البشرية كلها عاصية ومتمردة على مشروع الإمام عليه السلام، فهل يمكن للإمام عليه السلام أن ينتصر؟
مما لا شكّ فيه أن البشرية إذا كانت متمرّدة على مشروع الإمام لا يمكن للإمام عليه السلام حينئذٍ أن ينتصر، لأن الظهور من سنن الله تعالى وأنه تعالى أبى إلاّ أن يجري الأمور بأسبابها وليس بالإعجاز فقط ومحض الغيب، كما بيّن ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(821).
فإنّ الله تعالى كتب لدولة العدل أن تقام على الأرض لكن متى توفرت الشرائط والمعدات لذلك، وهذه توفرها البشرية بأن تستعد وتتقبل ذلك وتقوم به ومن أهم ذلك نشر مذهب أهل البيت عليهم السلام والقيام به بشكله الصحيح وإلاّ استمر تأخير إقامة تلك الدولة.
وهناك عدّة روايات يظهر منها أن ظهور وإقامة دولة العدل ودولة أئمّة أهل البيت عليهم السلام كان مقدّراً في زمن الإمام الحسين عليه السلام وكذا في زمن الصادق عليه السلام أو الكاظم عليه السلام(822)، ولكن بدا لله تعالى تأخير ذلك، لأن أتباع أهل البيت عليهم السلام توانوا في القيام بالدور المناسب، وما ذلك إلاّ لأن الظهور ليس أمراً جبرياً ولا تفويضياً بل هو أمر بين أمرين، فإنّ قاعدة الأمر بين أمرين جارية حتّى في الفعل الاجتماعي والحضاري والسياسي.
وعليه فلما كان الأمر كذلك فلا نتوقع الظهور وقيام دولة الحق مع عدم النصرة وأن النصرة له عليه السلام لا بدَّ أن تكون من الأفراد ومن المجتمعات والدول ولا نتصور حصول النصرة له من الأفراد والمجتمعات والدول إلاّ إذا انتشر الاعتقاد بمشروع ومنهاج أهل البيت عليهم السلام وهو مشروع الظهور ومشروع الإمام المهدي عليه السلام.
وقد ورد في الدعاء: (مؤمن بإيابكم، مصدق برجعتكم، منتظر لأمركم، مرتقب لدولتكم)(823)، فإنّ هذا ترتب تصاعدي، مؤمن، ثمّ مصدّق، ثمّ منتظر، ثمّ مترقّب، ولكل درجة ومرتبة من هذه العناوين شرائط ووظائف خاصة كما له مفهومه الخاص، فالمنتظر هو الذي يباشر العمل أي من يقوم بإيجاد مقدمات تتوقف عليها تحقيق نتيجة معينة، والمترقب هو من أنجز العمل ووفر وحقق ما مطلوب منه كمقدمات لذلك العمل ولم يبقَ له إلاّ الحصول على هدفه وأخذ النتيجة.
فإذا كنّا منتظرين لظهور الأمر وتحققه لا بدَّ من تحمل المسؤولية والعمل على تحقق مقدمات الظهور وهي نشر مذهب أهل البيت عليهم السلام لنكون بعد ذلك مترقبين للظهور وإقامة دولة العدل والحق، فالانتظار نوع من التفاعل مع عقيدة الظهور وعقيدة إمامة الإمام المهدي وليس إبقاؤها عقيدة تجريدية بل لا بدَّ من تفعيل تلك العقيدة من خلال تفاعل الإنسان بأن عنده مشروع مهدوي.
فإنّ عقائد أهل البيت عليهم السلام دوماً واستمراراً تترجم بمشاريع عملية ميدانية اجتماعية سياسية وليست عقائد أهل البيت عقائد تجريدية تظل في السطور والكتب وتحمل في القلوب دون تفعيلها وليست هي عقيدة فردية يعيشها الفرد في نفسه أو في ظرفه وميدانه الخاص وإنما هي عقائد تقتضي الارتباط بالمجتمع وتحمل المسؤولية بالموقف السياسي والاجتماعي فهي عقائد لها تداعيات وتوجهات وتأثيرات خارجية فعلية، فمثلاً العقيدة بالإمام الحسين عليه السلام تعني تحمل مسؤولية النهي عن المنكر الاجتماعي والنهي عن المنكر السياسي والنهي عن المنكر المالي وهكذا...
وكذا تحمل مسؤولية الأمر بالمعروف الاجتماعي والسياسي والمالي و...
لذلك تقول بعض الدراسات الغربية: إن عقيدة الإمام الحسين عقيدة خطرة لأنها تمنع وتمانع وتقاوم الذوبان في الثقافات الأخرى فإنّ هذه العقيدة فيها خصائص وصفات تمنع التأثر بالغير حيث إن كل المسلمين ذابوا في الغرب إلاّ أتباع أهل البيت عليهم السلام _ وقد تقدّم بيان هذا المطلب _ والسبب الرئيسي هو الاعتقاد بالإمام الحسين عليه السلام ووجود المرجعيات الدينية المتعاقبة الحاملة لهذا الفكر والناشرة والعاملة به، فهو منهج مفعل وعقائد وثقافة تطبيقية لا يمكن القفز عليها، لذا فهي مبادئ غير قابلة للتأثر بالغير لأنها مبادئ عملية تطبيقية.
إذاً مشروع الإمام الحسين عليه السلام خطر عليهم ويقلقهم لأنه مشروع حيوي ميداني.
وهكذا الكلام في العقيدة بالإمام المهدي عليه السلام فهي إحدى عقائد مدرسة أهل البيت المهمّة وعموم المسلمين، فليست هي عقيدة قلبية بين الفرد ونفسه أو تبقى حبيسة السطور وإنما هي عقيدة فعلية عملية اجتماعية لها تداعياتها وتموجاتها التي تبني صرح الدولة الإسلاميّة الصحيحة المستقيمة وفي نفس الوقت تهدم كل مخططات الكفر والكافرين.
وقد ذكرنا سابقاً أن هناك كتاباً خطيراً للخبير والباحث الستراتيجي فرانسوا توال باسم الجغرافية السياسية للشيعة إذ يتعرّض فيه لعقيدة الإمام المهدي عليه السلام ويقول فيه: (إن عقيدة الإمام المهدي عند الشيعة ليست عقيدة تجريدية جمودية بل هي عقيدة مشروع دولي عولمي اُممي) ويضيف هذا الكاتب القول: (والمشكلة أن هذا الطموح الخطير لا نجده في أيّ ملّة ولا نحلة ولا جماعة أخرى) ثمّ يحذّر بالقول: (فلذلك يجب على المراقبين الدوليين أن يلتفتوا إلى خطورة هذه العقيدة فإنّها ليست عقيدة وحسب، بل هي مشروع عالمي متكامل. لاسيّما أن هذا المشروع أكبر شعار لكل مؤمن بالعدالة وهو العدالة المطلقة)، ومعلوم أن العدالة هي أنشودة كل البشرية على طول التاريخ، إذ مذهب أهل البيت يحمل شعار العدالة المطلقة وينفي العرقية والعشائرية والتمييز الطبقي والاجتماعي... والمقياس هو: (كلكم لآدم وآدم من تراب)(824)، و(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ)(825) وهذه ليست موجودة في المدارس الإسلاميّة، الأخرى بل ولا الملل والنحل الأخرى.
إذاً نحن لا بدَّ أن نتحمّل المسؤولية إذا كنّا ننتظر الظهور، وذلك بأن نسعى للاعداد للظهور وهذا الإعداد لا يكون إلاّ بوسيلة وحيدة وهي الأولى والأخيرة في تحقيق الظهور وهي نشر مذهب وعقائد أهل البيت، لأن نشر مذهب أهل البيت يعني نشر شروط وقواعد العدل ونظم العدل الحقيقي وكيفية برمجة العدل والعدالة والحرية والقسط والقسطاس فإنّ أبرز مهام الإمام عليه السلام عند ظهوره ونهضته وإقامة دولته هي أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
فإنّ هذه الميزات هي من خصائص ومنهاج آبائه وأجداده الأئمّة الطاهرين عليهم السلام وهنا أكبر برهان قانوني واجتماعي على كون نشر مذهب أهل البيت هو طريق الإعداد للظهور حيث يقول علماء القانون وعلماء الاجتماع وعلماء العلوم السياسية الأكاديمية أنه إذا اُريد تطبيق نظام معيّن وإقامته على الواقع الخارجي فلا بدَّ أوّلاً وفي الدرجة الأساس من تثقيف المجتمع على تعاليم ذلك النظام، بل لا بدَّ من التشدد في تعليمهم ذلك النظام نظرياً أي لا بدَّ من التهيئة النظرية والتي هي عبارة عن الاعتراف والاعتقاد بذلك النظام أوّلاً ومعرفة بنوده وإرشاداته...
وهكذا في دولة الإمام عليه السلام فإنّ المنشود منها هو إقامة دولة الحق والتي هي على طبق منهج أهل البيت فلا بدَّ أوّلاً من التهيئة والإعداد لذلك بأن يعتنق الناس مذهب الحق ومعرفة عقائده وإرشاداته وبنوده وأمثليته وأمثولته الموجودة في الكمال كي تأتي المرحلة الثانية وهي التطبيق العملي وإنجاز العمل وهو الظهور.
إذاً مرتبة الإعداد والتهيئة وطلب وانتظار الظهور هي المعرفة النظرية لكافة البشر بأن مشروع الإمام المهدي ودولة الظهور هو الأحق والأكفأ والأجدر والأمثل في معالجة مشاكل البشر من الظلم والفساد، فحينئذٍ بهذه الطريقة نمهد لظهور الإمام عليه السلام وإقامة الدولة المباركة وبسطها على العالم ولا نتصور من دون ذلك تحقق انتصار الإمام وإقامة الدولة إلاّ بالمعجزة أو الطفرة، ولكن الله تعالى أبى إلاّ أن تكون الأمور بأسبابها ومسبباتها وليس بالمعجزة، كما أن الطفرة باطلة ومخالفة للقوانين والقواعد العقلية، وقد تقدم أن أولى القواعد الرقابية على الحجج هي بديهيات العقل وبديهة العقل تقضي أن لكل مسبب سبباً فلا بدَّ أن تكون دولة الإمام عليه السلام وفق أسبابها ومقدماتها لا بالطفرة.
وعليه فمسؤولية الانتظار هي الإسهام والعمل والنصرة المؤكّدة للإمام عليه السلام من خلال نشر مذهب ومنهج أجداده المعصومين لأنه عليه السلام سيكون مقيماً لكتاب الله ومحيياً لسُنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومطبقاً لمنهاج وسنن الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وهذه المهمّة لا تكون إلاّ بتقديم المعرفة النظرية لمذهب أهل البيت عليهم السلام وهذه الخطوة من التثقيف والإعداد بنشر عقائد أهل البيت هي التي يحذّر منها فرانسوا توال في كتابه (الجغرافية السياسية للشيعة) الذي كتبه قبل ست سنوات حيث يقول: (إن أخطر ما في هذه العقيدة أنها بالإمكان أن تنتشر بين الشعوب والدول بين ليلة وضحاها وأخوف ما أنبه عليه المسؤولين الدوليين أن هذه العقيدة لا تحتاج في انتشارها إلى مؤونة لأنها تحمل شعاراً تنشده كل الأمم والشعوب وهو الحرية والعدالة المطلقة).
ويضيف هذا الكاتب: (إنّي اُقدّر سرعة انتشار هذه الدعوة بأن تكون أسرع من انتشار الشيوعية والاشتراكية) فهو يخاف من سرعة انتشارها لأنها دعوة حق وعدل، والناس متعطّشة لذلك فما أسرع اعتناق الشعوب لهذه المبادئ السامية والنبيلة في مذهب أهل البيت، وهذا يحتاج للعمل وتحمل المسؤولية في النشر والتثقيف وإيصال العقائد للشعوب كي ينخرطوا في اعتناق مذهب الحق.
ولذلك فإنّ الغربيين والملحدين وأصحاب الفكر المنحرف من بعض الديانات لما اكتشفوا مكامن الخطر المحدق بهم وبرئاساتهم وعروشهم بدأوا الحرب ضد دولة الإمام عليه السلام قبل قيامها وذلك من خلال عرقلة مقدمات إقامتها فحاولوا ويحاولون تبديد طاقات المؤمنين في دعاوى ضالة تحيد بهم عن الطريق ونشر الخزعبلات والأساطير والخرافات والهلوسات التي لا تمتّ بأيّ صلة لمذهب أهل البيت عليهم السلام فيروجون كل تلك المعرقلات للحدّ من انتشار مذهب أهل البيت عليهم السلام بل ويدخل عملهم أحياناً في مسار التثقيف السلبي لفكر أهل البيت عليهم السلام وهذا أخطر عدو.
فإذاً الأمر مهم جدّاً وحساس وخطير، وهناك ألاعيب وتدابير خلف الكواليس تحاك، وهناك نشر لتعاليم زائفة باطلة عن الإمام ودولته وثقافته وحكمه. ولكن لا بدَّ لنور الله أن يشع ويملأ الأرض، قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(826).
وهذه الآية تعتبر دليلاً آخر على أن طريق تمهيد الظهور هو نشر مذهب أهل البيت عليهم السلام فإنّ معنى انتشار نور الله هو انتشار لمعتقدات أهل البيت، وهكذا في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(827) فإنّ الاظهار يحصل باعتناق الناس للإسلام بحقيقته وهي الإيمان وهو مذهب أهل البيت وليس الإسلام بظاهره القشري، وهذا لا يكون إلاّ بانتشار تعاليم مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
فإنّ قمّة إنجازات دولة الإمام عليه السلام هو نشر الهداية في كافة أرجاء الأرض، فالنتيجة تعتمد على استراتيجية دولة الإمام المهدي عليه السلام ونحن إذا أنجزنا هذه الخطوة وهي نشر التعاليم النظرية في العالم، فكأنما نحن أنجزنا غاية الإنجازات للدولة بعد الظهور فكيف لا يسهم نشر مذهب أهل البيت في الظهور وهو يعتمد على نفس استراتيجية دولة ما بعد الظهور بل نشر تعاليمهم ومناهجهم هو عمدة العماد للظهور.
وقد يتوهّم البعض استناداً إلى فهم خاطئ من بعض الروايات التي تقول كما يشيع ويساعد على ذلك أعداء أهل البيت تقول: إن الإمام يظهر ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملأت ظلماً وجوراً(828).
فإنّهم يتوهّمون أن الإمام عليه السلام يظهر إذا امتلأت الأرض بالفساد والجور والظلم و... فلا بدَّ من انتشار الفساد لا الصلاح والهداية وهذه من المغالطات التي يروّج لها الأعداء.
وإنما المراد بذلك أمر بين أمرين فمعنى امتلاء الأرض بالفساد والجور يعني مجتمع معسكر الفساد في قطب مقابل تجمع معسكر الإعداد للظهور في قطب آخر، أي فإنّ الأرض كما ملئت ظلماً وجوراً فهي مستعدّة بعد نشر العقائد الحقّة لكي تكون أرضاً خصبة للظهور وامتلائها عدلاً وقسطاً وإلاّ فلو امتلأت الأرض كلها بالفساد فكيف ينتصر الإمام وكيف تكون له القيادة والريادة، فهو نظير إرادة انتخاب شخص للرئاسة ونحن نقول لجميع الناخبين لا تنتخبوه؟!
ومما يؤيّد ويساعد على أن الإعداد إنما يكون بنشر المذهب الحق ما ورد من روايات تبيّن أماكن ظهور أنصار الإمام عليه السلام الـ (313) فإنّها تبيّن أماكن مختلفة من الهند والصين وأوربا واليابان فهم من كل نقاط العالم وليس من الشرق الأوسط فقط، فكيف يخرج أولئك ما لم ينتشر عندهم مذهب أهل البيت عليهم السلام.
كما يؤيّد ذلك روايات الملاحم حيث تذكر أن هناك راية فساد معادية واحدة وهي راية السفياني في قبال عدّة رايات إصلاح وتمهيد ونصرة كاليماني والخراساني وراية من المغرب وأن هناك رايات متعدّدة موالية لأهل البيت عليهم السلام فإنّ درجات الموالاة تختلف، وهذا يدلل على أن أكثر العالم يكونون على وعي وإدراك واقتناع بتعاليم دولة الظهور، نعم هناك قلّة تبقى على الضلال وتدخل في راية السفياني وتكون معادية لمذهب أهل البيت.
فمقتضى الضروريات ومقتضى الإصلاح والمنطق السليم هو أن الإعداد للظهور هو نشر العقائد الحقّة وليس الفساد، فإنّ ما ينشده العالم اليوم من الحداثة والعولمة وحقوق الإنسان والإصلاح والسلم والمساواة و... كل ذلك تحت عنوان مشروع إصلاحي عالمي منقذ هذا لا ينسجم ولا يتوافق إلاّ مع مذهب أهل البيت دون غيره من الأديان والمذاهب الأخرى قاطبة، فهذه المضامين في العناوين المطروحة على الساحة العالمية عبارة عن دروس ومضامين لا تتّفق مع المسيحية ولا اليهودية ولا المذاهب الإسلاميّة الأخرى فضلاً عن البوذية والهندوسية وكل الأديان المنحرفة الأخرى، وهذا من الملاحم الأديانية الإعجازية أن تنتشر هذه الثقافات والعناوين التي تحتوي بنود منهاج الإسلام عند أهل البيت عليهم السلام، لكن لا بدَّ من الإعانة والإسهام في انتشارها الصحيح وليس الانتشار السلبي والتوظيف المصلحي الهدّام، كما تفعل الدول العظمى حيث تستغل هذه العناوين في تحقيق أهدافها وأغراضها التي هي في حقيقتها مخالفة لواقع هذه العناوين.
فالأنظمة الدكتاتورية والمنحرفة والمادية و... في نفس الوقت الذي تنشر الفساد هم مضطرون للترويج لهذه الثقافات على نحو المطالب المستقبلية والتأمل في المستقبل المنشود و... وهذا ما يساعد على استغلال ذلك لنشر الثقافة الصحيحة وبيان أن المشروع الإصلاحي والمنقذ الوحيد المحقق لتلك العناوين المنشودة، والمطبَّق لها على الواقع هو منهاج أهل البيت عليهم السلام.
والحاصل أنه لا بدَّ لنصرة الإمام من إعداد القاعدة الجماهيرية وليس الكلام عن وزرائه الثلاثمائة وثلاثة عشر وإنما الكلام عن القاعدة الواسعة على الأرض وهي الجماهير فلا بدَّ أن يكونوا على مستوى من الوعي والثقافة المهدوية والعلم ببنود وأهداف دولة الإمام ليكونوا عمود قيام تلك الدولة ضد الظلم والظالمين.
لذا فإنّ الانتظار الحقيقي والانتصار والعون الأكبر في نصرة الإمام المهدي عليه السلام وطريق الإعداد الوحيد لمشروع الظهور هو نشر منهاج وطريقة وعقيدة أهل البيت عليهم السلام.
ومن يحاول التحايل على ذلك فليعلم أنه إما يدجّل أو دُجل به وإما يكذب أو كُذب عليه وإما ضل أو ضلل به، لأن إعاقة نشر مذهب أهل البيت عليهم السلام هي إعاقة لمشروع الظهور لا محالة في حين أن أكبر وأقوى سلاح لعون ونصرة الإمام عليه السلام ولمشروع الظهور هو نشر معارف وعقائد وتعاليم مذهب أهل البيت عليهم السلام بسداد وصواب وشفافية وبلا أيّ تحريف وتلويث، لأن مشاريع وعقائد أهل البيت عليهم السلام هي مشاريع مناهضة للظلم، وهكذا هو مشروع دولة الإمام عليه السلام.
إذاً عقيدة أهل البيت عليهم السلام هي عقيدة مشاريع وهي في المآل ومنتهى المطاف هي مشروع الإصلاح وإقامة العدل والحريّة أما إذا لم نستطع أن ننشر تعاليم أهل البيت عليهم السلام في أرجاء الأرض فلا نتوقع الظهور ولا يمكن أن نوقّت له فإنّه كلما تلكّأ انتشار مذهب أهل البيت عليهم السلام كلما تلكّأ وتأخّر الظهور ولا ريب ولا شكّ بذلك حسب الروايات، فإنّ أصل معنى راية اليماني وراية الخراساني وغيرها رايات مناصرة لأهل البيت عليهم السلام في قبال راية واحدة معادية وهذا يعني أن القاعدة الجماهيرية تهتف بأهل البيت عليهم السلام والعالم بأكمله قد استجاب لنداء أهل البيت عليهم السلام وصاروا محبّين لهم ومتبعين لتعاليمهم وأن هناك قلّة قليلة ترفع راية ضد مشروع الظهور والذي يعني أن عقيدة ومنهج أهل البيت عليهم السلام انتشر في جميع العالم.
وعليه فهذه علامة واضحة وتوقيت لا لبس فيه، بل وعلامة حتمية من الأئمّة عليهم السلام وهي أنه إذا انتشر منهاج أهل البيت وعقائدهم وتعاليمهم فقد حان وأزف الظهور فإذا والى المسلمون أهل البيت عليهم السلام لاسيّما في بقاع المسلمين لأنها هي منطلق الظهور فقد حان الظهور.
وأما إذا لم ينتشر مذهب أهل البيت بل كان الناس على عداء لهم والعياذ بالله، أو كانوا على قطيعة وبعد من أهل البيت عليهم السلام وكانوا يبغضونهم وينفرون من مذهبهم عليهم السلام فهذا يعني تأخّر الظهور قطعاً.
وعليه فهذه علامة حتمية بأيدي الناس يستطيعون تحقيقها وإنجازها ومن خلالها العلم واستعلام الظهور.
فعندما تذكر الروايات أن من أفضل العبادات انتظار الفرج كما عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل العبادة انتظار الفرج)(829)، وعن علي بن الحسين عليه السلام قال: (تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة بعده، يا أبا خالد إن أهل زمان غيبته، القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان لأن الله تعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً)(830).
وإن الانتظار صفة المؤمنين الموالين فإنّ للانتظار أدبيات وواجبات فقد اتّضح أنه من واجبات الانتظار والمنتظر هو السعي لنشر منهاج أهل البيت عليهم السلام وأن يكون مترقّباً من خلال نصرة الإمام والنصرة لا تكون إلاّ بنشر عقائد وتعاليم سبيل الحق من مذهب أهل البيت عليهم السلام.
لذا فالذي يكون ناصراً ومنتظراً ومترقباً لأهل البيت ولدولتهم وللمهدي عليه السلام هو من ينشر مذهب الحق وليس من يحرّف ويعرقل مذهب أهل البيت ويدخل الأساطير والخزعبلات والخرافات و... فإنّ ذلك لا تستجيب له الفطرة البشرية وعليه فأعداء أهل البيت من الظلمة والطواغيت و... تجدهم يمنعون نشر مذهب أهل البيت عليهم السلام وذلك من خلال خلق التيارات المنحرفة ونشر الأساطير الباطلة ونحوها.
وهذا لا ينطلي إلاّ على السذج والبسطاء وإلاّ فإنّ منهاج أهل البيت عليهم السلام هو مذهب المنطق والبرهان والدليل والبيان والعقل والعقلانية الذي تهتف به كل فطرة البشر وهو الذي يخافه أعداء أهل البيت عليهم السلام.
إذاً طريق الظهور والتوقيت له بعلاماته الحتمية، ومسؤولياته هي الانتظار والوظيفة العملية للمؤمنين في زمن الغيبة هو السعي لتثقيف البشرية بثقافة السداد والصواب والحق والهداية والنور وذلك بنشر عقائد مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
فهذا هو السبيل الوحيد لتقريب الظهور وتوقيته وهو العلامة الحتمية على ذلك، فإنّ الروايات بيّنت أن ضابط الظهور هو مناصرة غالب المسلمين وموالاتهم لأهل البيت عليهم السلام، فإنّ ذلك هو أرضية الظهور وهي مسؤولية الانتظار.
وليس كما يبيّن بعض الدجّالين والمضلّين بأن يعيثوا في الأرض فساداً في مقابل السداد والتقوى في منهاج أهل البيت عليهم السلام فيذكر بعض المزيّفين والدجّالين أساليب وألاعيب في الدين ويترك كل تعاليم الدين والعبث بالضروريات والسنن بدعوى أنه إذا انتشر الفساد في الأرض فإنّ الإمام يظهر لدفع ذلك.
ولكن من الواضح والجلي جدّاً أن هذا من ألدّ أعداء أهل البيت وأشدّ المعوقين والمانعين للظهور وإقامة دولة الحق وإلاّ فقد بيّنا أن تأويل مغزى الروايات هو أن أغلب الرايات التي تظهر هي مناصرة للإمام عليه السلام وما ذلك إلاّ بمعنى انتشار عقيدة أهل البيت عليهم السلام وكون أغلب البشرية من الموالين والمحبين لهم عليهم السلام.
فلا بدَّ أن تكون الأرضية مؤاتية للظهور ولا تكون كذلك إلاّ بنشر مذهب أهل البيت عليهم السلام لا بنشر الفساد والضلال ومعاداة أهل البيت عليهم السلام.
التوقيت والتفاؤل:
الإنسان تارة يعتقد بشيء فيه الخير له ولعموم الناس فلا بأس أن يتفائل به، بمعنى أن يرجوه ويطلبه من الله تعالى ويتوقّع وينتظر قرب تحققه، ولا ريب أنّا نعتقد الخير بل كل الخير في ظهور الإمام صاحب العصر والزمان لينشر الحق والعدل وإقامة دولته الكريمة المباركة، فلا بأس أن نتفائل بذلك ونرجوه من الله تعالى.
ولكن إيّانا أن يكون ذلك الطلب منّا بالتوقيت بمعنى أن نحتّم ادّعاء شيء على الله تعالى، فإنّ ذلك ممنوع بنصّ كثير من الروايات منها:
عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري رضي الله عنه أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ فورد(ت في) التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام: (أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك...)، إلى أن يقول: (وأما ظهور الفرج فإنه إلى الله تعالى ذكره، وكذب الوقّاتون)(831)، وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: جُعلت فداك متى خروج القائم عليه السلام؟ فقال: (يا أبا محمّد إنّا أهل بيت لا نوقّت وقد قال محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: كذب الوقّاتون، يا أبا محمّد إن قدام هذا الأمر خمس علامات أولاهن النداء في شهر رمضان، وخروج السفياني، وخروج الخراساني، وقتل النفس الزكية وخسف بالبيداء)(832)، لأن الظهور أمر استأثر به الله تعالى وادّعاء العلم به كذب وافتراء وتعدّي لحدود الله.
وببيان آخر: أنه عندنا قيامة صغرى وهي ظهور الإمام وقيامة وسطى وهي دولة الرجعة وقيامة كبرى وهي المعهودة للأذهان، لذلك فإنّ ظهور الإمام عليه السلام نوع من الغيب قال تعالى: (هُوَ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَدينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(833)، وقال تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(834)، وهذه الساعة لها ثلاث مراحل: صغرى ووسطى وكبرى.
وهذا لا يمنع التوقيت من المعصومين عليهم السلام سواء أكان التوقيت بمعنى الحالة أم بمعنى التوقيت الزماني المشروط أو المعلق لأنهم عليهم السلام خارجون تخصصاً عن هذا المنع إذ هذا المنع من التوقيت هو منع شرعي وعقلي، أما الشرعي فبمقتضى الروايات، وأما العقلي فلأن الظهور أمر غيبي استأثره الله لنفسه، نعم ذكر لذلك علامات حتمية وغير حتمية لكن البداء يمنع ذكر زمان معيّن محدّد له، فالظهور أمر تابع ومرتبط باللوح والقضاء والقدر وما ينزل من بداء... لذا لم نجد في الروايات المؤقّتة أيّ تحديد زماني تقويمي ولا يمكن لأحد ادّعاءه والأئمّة عليهم السلام لم يوقّتوا بالتوقيت الزماني المطلق بل بالتوقيت العلامي أي هناك علامات إذا تحقّقت بقيت إرادة الله فقط.
أما التوقيت من غير المعصوم فممنوع وغير مقبول بجميع أنواعه وأشكاله لأن الظهور المبارك يبقى في علمه تعالى ومن أطلعه عليه وهم فقط الأئمّة المعصومون، وهذا نظير الكثير من الأسباب والمسببات التي بينها في منظومة دينه ولكنه تعالى احتفظ بتقسيم ذلك كالأعمار والأرزاق و... فإنّها تتأثّر وتتغيّر وفق معادلات دقيقة من الصدقة وصلة الرحم و... و... فإنّه تعالى يقول: (يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ اُمُّ الْكِتابِ)(835) إذ لم يبعث الله نبياً من الأنبياء إلاّ وأخذ عليه الإيمان بالبداء لكن لا بمعنى الجهل في الساحة الربوبية وإنما بمعنى أنه لله أن يفعل ما يشاء قضاءً مبرماً وينسخ الله ما يشاء ضمن حكمته تعالى وعلمه الغالب فلا يمكن أن تحتّم شيئاً على الله تعالى ما دام البداء موجوداً.
وهذا لا يمنع من تحقيق مقتضيات الانتظار والترقب كما تقدّم بل لا مانع من متابعة العلامات المبيّنة في الروايات فإن تحقّقت فنتوقّع ونتأمل الظهور بإرادته تعالى لا بالتوقيت إذ لا بأس بأن نتفائل بشيء بعد تحقيق أسبابه ومقدماته وأن لا نحتّم شيئاً عليه تعالى أو ادّعاء العلم به، أما من يدّعي العلم به فإما أن يدّعي أنه عنده علم الله وإما أن يدّعي الألوهية من حيث يشعر أو لا يشعر والعياذ بالله من الضلال والمضلّين وقد تقدّم أن أكبر أسباب الظهور هو انتشار منهاج أهل البيت عليهم السلام بين الأمم.
وفقنا الله وإيّاكم لأن نكون من أنصاره ومنتظريه والمترقّبين لدولته عليه السلام وممن يقوم بالواجب والمسؤولية تجاهه ويحمل على عاتقه مثل هذه العقيدة ببصيرة نافذة وصلى الله على محمّد وآله الطاهرين(836).

* * *
مصادر التحقيق

القرآن الكريم.
الاختصاص: الشيخ المفيد/ ت عليّ أكبر غفاري/ جماعة المدرسين/ قم.
الأمالي: الشيخ المفيد/ ت أستاد ولي/ عليّ أكبر غفاري/ جماعة المدرسين/ قم.
الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ قم/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسسة البعثة.
الأمالي: السيد المرتضى/ نشر مكتبة المرعشي النجفي/ قم/ 1403هـ.
أعيان الشيعة: السيد محسن الأمين/ دار التعارف للمطبوعات/ بيروت.
الاعتقادات في دين الإمامية: الشيخ الصدوق/ ط 2/ نشر دار المفيد/ 1414هـ.
أجوبة المسائل المهنائية: العلاّمة الحلي.
الإختصاص: الشيخ المفيد/ جماعة المدرسين/ قم.
إختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مؤسسة آل البيت عليهم السلام/ قم/ 1404 هـ.
الإحتجاج: الطبرسي/ مطبعة النعمان/ النجف الأشرف / 1368 هـ.
إعلام الورى: الطبرسي/ مؤسسة آل البيت لإحياء التراث/ قم/ ط 1/ 1417هـ.
الإرشاد: الشيخ المفيد/ مؤسسة آل البيت لإحياء التراث/ قم.
الأسرار الفاطمية: المسعودي/ رابطة الثقافة الإسلامية/ لندن/ 1420 هـ.
أنوار الملكوت في شرح الياقوت: العلاّمة الحلي.
أنيس الموحدين: الملاّ مهدي النراقي.
أوائل المقالات: الشيخ المفيد: دار المفيد/ الطبعة الثانية/ بيروت 1414هـ.
البابيون والبهائيون: د. همتي.
بحار الأنوار: المجلسي/ مؤسسة الوفاء/ بيروت/ 1403 هـ..
البرهان في علامات مهدي آخر الزمان: المتقي الهندي/ مطبعة الخيام/ قم.
البداية والنهاية: ابن كثير الدمشقي/ ط 1/ 1408هـ/ مط دار إحياء التراث العربي.
البيان في تفسير القرآن: السيد الخوئي/ دار الزهراء/ بيروت/ ط4/ 1975م.
تاج العروس: محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي.
تاريخ أصفهان: الحافظ الأصفهاني.
تجريد الإعتقاد: نصير الدين الطوسي/ ط: مؤسسة النشر الإسلامي/ قم/ 1407هـ.
تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ابن شعبة الحراني/ ت عليّ أكبر غفاري/ ط 2/ 1404هـ/ جماعة المدرسين/ قم.
التفسير الكبير: الفخر الرازي.
تفسير البحر المحيط: محمّد بن يوسف الأندلسي الجياني.
تفسير العياشي: العياشي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران/ 1380هـ.
تفسير القمي: علي بن إبراهيم/ مؤسسة دار الكتاب/ قم/ الطبعة الثالثة/ 1404هـ.
تفسير البرهان: البحراني.
تفسير ابن كثير: ابن كثير الدمشقي/ دار المعرفة/ بيروت/ 1412هـ.
تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
جامع أحاديث الشيعة: السيد البروجردي/ المطبعة العلمية/ قم/ 1399هـ.
الجغرافية السياسية للشيعة: فرانسو توال.
خاتمة المستدرك: النوري الطبرسي/ ت مؤسسة آل البيت/ قم/ ط1/ 1415هـ..
الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.
الدر المنثور: جلال الدين السيوطي/ ط 1/ 1365هـ/ مط الفتح جدة/ دار المعرفة.
دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ مؤسسة البعثة/ قم/ 1413 هـ.
رجال النجاشي: النجاشي/ ت الزنجاني/ ط 5/ 1416هـ/ جماعة المدرسين/ قم.
رجال الكشي: الكشي/ طبع مؤسسة أهل البيت عليهم السلام.
رسائل في الغيبة: الشيخ المفيد/ تحقيق: علاء آل جعفر.
رسائل المرتضى: الشريف المرتضى/ نشر دار القرآن الكريم/ قم/ 1405 هـ..
رسالة في أصول الدين: المحقق القمي.
روضة الكافي: الكليني/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران (الطبعة الثالثة)/ 1388هـ.
روضة الواعظين: محمد بن الفتال النيسابوري/ منشورات الرضي/ قم.
رجال أبي داود: الحسن بن علي بن داود الحلي/ المطبعة الحيدرية/ النجف 1392هـ.
رجال النجاشي: النجاشي/ جماعة المدرسين/ قم/ 1407 هـ.
سر السلسلة العلوية: أبو نصر البخاري/ المطبعة الحيدرية/ النجف 1381هـ.
شرح إحقاق الحق: السيد المرعشي النجفي/ مكتبة آية الله المرعشي/ قم.
شرح الأخبار: القاضي النعماني المغربي/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
شرح الفصوص: القيصري.
شرح أصول الكافي: المازندراني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت/ 1421هـ.
صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري/ مط دار الفكر بيروت.
صحيح مسلم: مسلم ابن الحجاج النيسابوري/ دار الفكر بيروت.
صحيفة المهدي: جواد القيومي الأصفهاني/ مؤسسة النشر الإسلامي/ ط2/ قم.
الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة: ابن حجر العسقلاني.
عيون أخبار الرضا عليه السلام: الصدوق/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت/ 1404 هـ.
العرائس: الثعلبي.
عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الاحسائي/ الطبعة الأولى/ 1403هـ/ قم.
عمدة القارئ: العيني.
عيون أخبار الرضا عليه السلام: الصدوق/ الأعلمي/ بيروت 1404/ ت حسين الأعلمي.
الغيبة: الطوسي/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ الطبعة المحققة الأولى/ 1411هـ..
الغيبة: النعماني/ مكتبة الصدوق/ طهران.
غريب الحديث: الهروي/ دائرة المعارف العثمانية/ ط1/ 1384هـ..
الغرر والدرر: السيد المرتضى.
فرق الشيعة: النوبختي.
فقه الرضا: المنسوب للإمام الرضا/ مؤسسة آل البيت/ قم/ ط الأولى 1406هـ..
القصص: الميرزا التنكابني.
كامل الزيارات: ابن قولويه القمي/ ت القيومي/ ط 1/ 1417/ مؤسسة النشر الإسلامي.
كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم/ 1405هـ.
كشف الغمة في معرفة الأئمة: الأربلي/ ط 2/ 1405هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: العلامة الحلي/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم/ 1417هـ.
كشف الغطاء: الشيخ جعفر كاشف الغطاء/ منشورات مهدوي/ إصفهان.
كنز الدقائق: الميرزا محمد المشهدي/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم/ 1407هـ.
كنز الفوائد: أبو الفتح الكراجكي.
لؤلؤة البحرين: الشيخ يوسف البحراني.
اللهوف في قتلى الطفوف: السيد عليّ بن طاووس/ ط 1/ 1417 هـ/ مط مهر.
المحاسن: أحمد بن محمّد البرقي/ ت جلال الدين الحسيني/ دار الكتب الإسلاميّة.
المزار: الشهيد الأوّل/ تحقيق ونشر مدرسة المهدي عليه السلام/ قم/ ط: الأولى 1410 هـ.
المزار: الشيخ المفيد/ ط 1/ مط مهر/ قم/ تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهدي عليه السلام.
المزار: محمد بن المشهدي/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم/ الطبعة الأولى/ 1419 هـ.
مشارق أنوار اليقين: رجب البرسي/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت/ 1419 هـ.
معجم رجال الحديث: السيد الخوئي/ الطبعة الخامسة/ 1413 هـ.
معجم أحاديث الإمام المهدي: مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم/ ط1/ 1411هـ.
مفاتيح الجنان/ الشيخ عبّاس القمي/ الطبعة الأولى/ قم/ 1421 هـ.
مجمع البحرين: فخر الدين الطريحي.
مجمع البيان: الطبرسي/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت/ الطبعة الأولى/ 1415هـ.
معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت عليّ أكبر غفاري/ ط 1361هـ/ انتشارات إسلامي.
معجم رجال الحديث: السيد الخوئي/ ط 5/ 1413هـ/ ت لجنة.
معالم العلماء: ابن شهر آشوب.
مجمع الزوائد: الهيثمي/ دار الكتب العلمية/ بيروت/ 1408 هـ.
مصباح الشريعة: الإمام جعفر الصادق عليه السلام/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت/ 1400 هـ.
مصباح المتهجد: الشيخ الطوسي/ مؤسسة فقه الشيعة/ بيروت/ 1411 هـ.
مصباح البلاغة: حسن المير جهاني الأصفهاني/ 1388 هـ.
مستدرك الوسائل ومستنبط الوسائل: النوري/ مؤسسة آل البيت/ ط 1/ 1408هـ.
مسند أحمد: الإمام أحمد بن حنبل/ طبع ونشر دار صادر/ بيروت.
مشكاة الأنوار: أبو الفضل علي الطبرسي/ دار الحديث/ قم/ الأولى.
من لا يحضره الفقيه: الصدوق/ جماعة المدرسين/ قم/ ط2/ 1392 هـ.
المقالات والفرق: سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي.
الملل والنحل: الشهرستاني/ دار المعرفة/ بيروت.
مكارم الأخلاق: الشيخ الحسن بن الفضل الطبرسي/ الطبعة السادسة/ 1392هـ.
الملاحم والفتن: ابن طاووس/ مؤسسة صاحب الأمر/ قم/ ط: الأولى 1416 هـ.
مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت مجموعة ط 1376/ مط الحيدرية/ النجف.
منتخب الأثر: لطف الله الصافي الكلبايكاني/ مكتب المؤلف/ ط1/ 1422 هـ.
الميزان في تفسير القرآن: السيد الطباطبائي/ مؤسسة النشر الإسلامي/ جماعة المدرسين/ قم.
ميزان الحكمة: محمّد الري شهري/ دار الحديث/ قم/ الطبعة الأولى.
نهج البلاغة: خطب الإمام عليّ عليه السلام/ ت محمّد عبده/ الناشر دار المعرفة/ بيروت.
النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين: نعمة الله الجزائري.
وسائل الشيعة: الحر العاملي/ ط 2/ 1414/ مؤسسة آل البيت عليهم السلام/ مط مهر/ قم.
ينابيع المودة: سليمان القندوزي الحنفي/ ت عليّ الحسيني/ ط 1/ 1416هـ/ دار الأسوة.

* * *



 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهوامش:

ــــــــــــــــــــــ

(1) راجع: ص 355/ ح 317.
(2) التهذيب 6: 118.
(3) الغيبة: 399/ ح 374.
(4) تهذيب الأحكام: 118.
(5) ومن أبرز تلك المعاني الإمامة النوعية والولاية العامة، وبشكل عام إن كثيراً مما يوجد لدى الفِرَق الصوفية وروّادها في القرون اللاحقة التي تمَّ تشكّلها يلاحظ أن أصله ومرجعه إلى فِرَق الغلاة المنحرفة عن مذهب الإمامية، سواء في عهد الغيبة الصغرى، أو في عهد الأئمّة السابقين عليهم السلام.
(6) كمال الدين 2: 516؛ غيبة الطوسي: 242 و243.
(7) أو فهو زخرف، أو باطل، وغير ذلك، راجع: الكافي 1: 69/ باب الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب.
(8) ص 390/ ح 357.
(9) الاحتجاج 2: 596.
(10) البقرة: 30.
(11) غيبة الطوسي: 290/ ح 247.
(12) التوبة: 122.
(13) تحف العقول: 410، عنه: بحار الأنوار 10: 247.
(14) رجال الكشّي 1: 6/ طبع مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
(15) أصول الكافي 1: 31/ باب فرض العلم ووجوبه/ ح 6.
(16) أصول الكافي 1: 31/ باب فرض العلم ووجوبه/ ح 7.
(17) أصول الكافي 1: 31/ باب فرض العلم ووجوبه/ ح 8.
(18) أصول الكافي 1: 33/ باب صفة العلم والعلماء/ ح 6.
(19) أصول الكافي 1: 32/ باب صفة العلم والعلماء/ ح 8.
(20) أصول الكافي 1: 30/ باب صفة العلم والعلماء/ ح 3.
(21) أصول الكافي 1: 32/ باب صفة العلم والعلماء/ ح 4.
(22) أصول الكافي 1: 30/ باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه/ ح 4.
(23) أصول الكافي 1: 36/ باب صفة العلماء/ ح 3.
(24) أصول الكافي 1: 38/ باب فقد العلماء/ ح 1.
(25) الأعراف: 27.
(26) الإسراء: 64.
(27) مريم: 83.
(28) الأنعام: 121.
(29) الزخرف: 36.
(30) النمل: 24؛ العنكبوت 38.
(31) نهج البلاغة 2: 137/ الخطبة القاصعة: الرقم 192.
(32) النمل: 38 - 40.
(33) الأعراف: 175 و176.
(34) الاحتجاج 2: 53.
(35) رجال الكشي 2/ 576 - 595/ طبع مؤسسة آل البيت عليهم السلام.
(36) المصدر السابق.
(37) العنكبوت: 2.
(38) رواها في الكافي 1: 370/ باب التمحيص والامتحان/ ح 5.
(39) رواها في الكافي 1: 370/ باب التمحيص والامتحان/ ح 2، ولكن الموجود (ويستخرج) بدل (وسيخرج).
(40) غيبة النعماني: 214/ باب 12/ ح 12.
(41) غيبة النعماني: 33.
(42) غيبة النعماني: 217/ باب 12/ ح 16.
(43) الشُبَه، جمع شبهة وتجمع على شبهات أيضاً.
(44) صاحب كتاب كامل الزيارات، وأستاذ الشيخ المفيد في الفقه، قال عنه النجاشي: من ثقات أصحابنا وأجلائهم في الحديث والفقه: قرأ عليه شيخنا أبو عبد الله الفقه، كل ما يوصف به الناس من جميل وفقه فهو فوقه.
(45) وربما أثبت البعض السيمري، أو الصيمري بالصاد؛ وهو أبو الحسن علي بن محمّد السيمري، كما يأتي في الأمر السادس من الفصل الثاني من هذا الكتاب.
(46) غيبة الطوسي: 412/ ح 385.
(47) البابية: نسبة إلى الباب، وهم من كانوا يدّعون أنهم الباب إلى الحجة عليه السلام. بمعنى أن من يريد أمراً ما من الحجة، فلا بدَّ أن يعود إليهم، وهم بدورهم يؤدّون ذلك إلى الحجة حتّى يبيّن الحق، وكل من ادّعى ذلك سوى السفراء الأربعة الذين كانوا في عصر الغيبة الصغرى، ادّعى باطلاً، كما سيأتي ذلك مفصّلاً في الأمر السابع من الفصل الثاني.
(48) البحار 11: 70، نقلاً عن علل الشرائع، وعيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق.
(49) المصدر السابق.
(50) المحقق نصير الدين الطوسي من أكابر علماء الإمامية وله خدمات كبيرة للمذهب، وقد برع في علوم كثيرة كالفلسفة وعلم الكلام والفلك والهيأة والهندسة وغيرها، وقد بنى المرصد الفلكي المشهور بمراغة.
(51) تجريد الاعتقاد: 350/ طبعة جماعة المدرسين/ (1407هـ).
(52) العلامة الحلّي هو الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر، شيخ الطائفة وعلاّمة وقته وصاحب التحقيق والتدقيق، كثير التصانيف، انتهت الإمامية إليه، برع في العلوم العقلية والنقلية.
(53) أي إلى أن قال.
(54) شرح تجريد الاعتقاد: 350.
(55) تجريد الاعتقاد: 351.
(56) شرح تجريد الاعتقاد: 351.
(57) المحقق الميرزا (أبو القاسم القمي قدس سره) من كبار فقهاء الشيعة له كتاب (قوانين الأصول) في أصول الفقه، و(جامع الشتات)، و(غنائم الأيام) في الفقه وغير ذلك، واشتهر بالمحقق القمي.
(58) رسالة في أصول الدين/ المحقق القمي.
(59) أنوار الملكوت في شرح الياقوت/ العلامة الحلّي: 184.
(60) هو العلامة الجامع للفنون والعلوم العقلية والنقلية ذو الفضائل الأخلاقية والملكات النورانية، صاحب كتاب (جامع السعادات).
(61) أنيس الموحّدين/ العلامة النراقي.
(62) المصدر السابق.
(63) الكهانة الإخبار عن المستقبل بتوسط الجن بعد انصياعهم للكاهن بسبب نمطٍ من الأعمال وهي قريبة من السحر.
(64) هذا إذا لم يكن الطلب بداعي العناد واللجاج، بل لاستكشاف حقيقة الحال، كما كان يتفق ذلك مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما كانت قريش تطلب منه بعض المعجزات.
(65) هو العلاّمة السيد محمّد حسين الطباطبائي قدس سره (صاحب تفسير الميزان) من بيت العلم والفضل، له تاريخ طويل في خدمة الشريعة حيث إن أربعة عشر من أجداده كانوا من العلماء المبرزين، كان واحد هذا العصر في العلوم العقلية والتفسير.
(66) الجن: 26 و27.
(67) السجدة: 11.
(68) المائدة: 110.
(69) النساء: 171.
(70) البقرة: 102.
(71) الآية السابقة.
(72) الآية السابقة.
(73) تفسير الميزان 1: 234 و235.
(74) البقرة: 102.
(75) تفسير القمي 1: 55، وذلك نقلاً عن تفسير الميزان 1: 237، بحث روائي.
(76) تفسير الميزان 21: 337.
(77) تفسير الميزان 1: 244.
(78) البيان في تفسير القرآن: 33/ المدخل.
(79) المصدر السابق.
(80) هو فخر الشيعة أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المتوفي (413هـ)، ويعرف بابن المعلّم، أجلّ مشايخ الشيعة ورئيسهم وأستاذهم وكل من تأخّر عنه استفاد منه، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية، أوثق أهل زمانه وأعلمهم، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته.
(81) أوائل المقالات: 80/ الطبعة الثانية.
(82) البيان: 33/ المدخل.
(83) البيان: 34/ المدخل.
(84) في الصفحة (36) من هذا الكتاب.
(85) الأنفال: 42.
(86) البيان: 35/ المدخل.
(87) الحاقة: 44 - 46.
(88) مجمع البحرين 2: 178.
(89) تاج العروس 4: 315.
(90) الكافي 1: 330/ باب في تسمية من رآه/ ح 1.
(91) الكافي 1: 67/ باب اختلاف الحديث/ ح 10.
(92) الاحتجاج 2: 263.
(93) غيبة الطوسي: 255.
(94) في رجاله: 177.
(95) ص 102.
(96) نهج البلاغة 4: 27/ رقم 147.
(97) الإسراء: 36.
(98) الأحزاب: 36.
(99) القصص: 68.
(100) ص 109.
(101) الإرشاد 2: 340.
(102) القصص: 5 و6.
(103) الأنبياء: 105.
(104) الإرشاد 2: 340؛ مسند أحمد 1: 376؛ سنن الترمذي 3: 343.
(105) رسائل في الغيبة 1: 13.
(106) رسائل في الغيبة 4: 13.
(107) هو الشيخ أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي المشتهر بالصدوق، أحد أعلام الإمامية الإثني عشرية في القرن الرابع، ولد بدعاء الصاحب عليه السلام وصدر فيه من ناحيته المقدسة بأنه: (فقيه خير مبارك)، وأما والده علي بن بابويه فأشهر من أن يعرف وكان وكيلاً للأئمّة عليهم السلام في قم.
(108) ص 424.
(109) ص 482.
(110) من مشايخ الصدوق، ترحّم عليه في كتابه كمال الدين.
(111) هو الشيخ أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي نسبة إلى طوس من مدن خراسان، شيخ الطائفة الإمامية، صاحب التصانيف في أكثر العلوم والفنون والتي تعدُّ أصلاً في بابها، وهو مؤسس الحوزة العلمية في النجف الأشرف، تتملذ على الشيخ المفيد والسيد الشريف المرتضى، توفى (460هـ).
(112) ص 393.
(113) جليل القدر، أستاذ الشيخ الطوسي والشيخ النجاشي، صاحب الرجال. قال الأوّل فيه: (كثير السماع عارف بالرجال، وله تصانيف ذكرناها في الفهرست)، وقال الثاني فيه: (شيخنا رحمه الله له كتب) ثمّ ذكر كتبه.
(114) قال عنه النجاشي: (شيخ الطائفة ثقة فقيه فاضل)، وهو محمّد بن أحمد كما في مشيخة التهذيب والاستبصار وفي كتب الرجال، ويروي عنه المفيد والغضائري.
(115) تقدم أنه من مشايخ الصدوق وأنه ترحّم عليه في كتابه إكمال الدين.
(116) وفي يومنا هذا قبره معروف في بغداد، وكذلك بقية النواب الأربعة.
(117) ص 161.
(118) النور: 63.
(119) النساء: 59.
(120) المائدة: 92.
(121) الغيبة: 178.
(122) آل عمران: 179.
(123) ص 255.
(124) وهو أستاذ صاحب معالم العلماء الحافظ محمّد بن علي بن شهر آشوب السروي.
(125) روضة الواعظين: 266.
(126) هو صاحب (مجمع البيان) كتاب التفسير المعروف، وهو من أعلام القرن السادس في علماء الطائفة.
(127) ج 2: ص 259.
(128) هؤلاء الجماعة فيهم الوكلاء المباشرون وهم السفراء الأربعة والآخرون وكلاء بالواسطة أي بواسطة الأربعة، وهذا الذي ذكره الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة قال: (وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قِبل المنصوبين للسفارة من الأصل)، ثمّ ذكر عدّة كثيرة منهم، ومعناه أن الوكلاء بالواسطة كانوا كثيرين تصلهم التوقيعات عبر النواب الأربعة الذين هم وكلاء بالمباشرة.
(129) أي لأبي الإمام الثاني عشر وجدّه.
(130) وقد ذكر صاحب كشف الغمة في معرفة الأئمّة العلاّمة المحقق أبي الحسن علي بن عيسى الإربلي قدس سره عين ما ذكره الطبرسي بألفاظه.
(131) إعلام الورى 2: 301.
(132) ج 2: ص 297.
(133) ص 148/ الرقم 57.
(134) ص 178.
(135) ص 362/ ط جماعة المدرسين/ سنة (1407هـ).
(136) شرح التجريد: 363/ ط جماعة المدرسين.
(137) ويعني به الشيخ الطوسي قدس سره، وقد سمّيت تلك السنة بسنة تناثر النجوم تارة، وبسنة تهافتت فيها الكواكب، كما ذكر ذلك الشيخ الطوسي في رجاله في ترجمة الصدوق الأب (علي بن الحسين)، وذكر ذلك النجاشي في رجاله في ترجمته، وسبب التسمية هو كثرة من مات فيها من أعلام الطائفة كالنائب الرابع والصدوق الأب والكليني.
(138) ج 2: ص 340.
(139) ص 432/ باب 42/ ح 12.
(140) هو السيد العلاّمة عبد الله بن السيد محمّد رضا صاحب المؤلفات منها جامع الأحكام في الأخبار وهو قرابة (20) مجلداً وغيرها مما يقارب (70) كتاباً وهو من أعلام القرن الثالث عشر.
(141) أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني، توفي سنة (548هـ) وهو شافعي الفروع وأشعري الأصول.
(142) ج 1: ص 172.
(143) هو الشيخ سليمان بن الشيخ إبراهيم المعروف بخواجه كلان الحسيني البلخي القندوري المتوفى سنة (1294هـ) من علماء أهل السُنّة.
(144) ج 3: ص 248/ باب 71/ ح 43.
(145) الزخرف: 28.
(146) هو صاحب كتاب كنز العمال علاء الدين علي بن حسام، نزيل مكّة المشرّفة، المتوفى سنة (975هـ).
(147) ص 171/ باب 12/ ح 4.
(148) كما في كتاب الكافي للشيخ الكليني قدس سره 1: 67، و7: 412؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق 3: 5؛ وكتاب التهذيب للشيخ الطوسي 6: 301؛ وكتاب الاحتجاج للطبرسي: 194.
(149) التهذيب للطوسي 6: 303.
(150) ص 484/ باب 45/ ح 4.
(151) ص 290/ ح 247.
(152) ج 2: ص 263.
(153) رجال الكشي 1: 10/ ح 5.
(154) رجال الكشي 1: 4/ ح 7.
(155) ج 2: ص 63.
(156) سبأ: 18.
(157) الآية السابقة.
(158) ج 1: باب 47/ ح 194.
(159) وسند الرواية كلّه من وجهاء الرواة وأجلاّئهم الفقهاء، ولا تخفى منزلة أبي بصير ليث المرادي في الوثاقة والفقاهة، وهو أحد الفقهاء الأربعة الذين قال عنهم الصادق عليه السلام: (أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، ولولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست).
(160) التوبة: 122.
(161) التوبة: 122.
(162) معاني الأخبار: 157/ باب معنى قوله عليه السلام: (اختلاف أمّتي رحمة)/ ح 1؛ وسائل الشيعة 27: 147/ باب 11/ ح 10.
(163) ص 10/ رقم 7.
(164) وسائل الشيعة 27: 147/ باب 11/ ح 27 و33.
(165) وسائل الشيعة 27: 146/ ح 27.
(166) وسائل الشيعة 27: 144/ ح 23.
(167) وسائل الشيعة 27: 142/ ح 15.
(168) من لا يحضره الفقيه 4: 420/ ح 5919.
(169) رجال الكشي: 170/ الرقم 286.
(170) رجال الكشي: 136/ الرقم 217.
(171) رجال الكشي: 135/ الرقم 215.
(172) رجال الكشي: 136/ الرقم 218.
(173) أي صندوق وخزانة علمه.
(174) وسائل الشيعة 27: 145/ باب 11/ ح 25.
(175) وسائل الشيعة 27: 79/ باب 8/ ح 7.
(176) وسائل الشيعة 27: 25/ باب 4/ ح 15.
(177) أي أهل البادية الجاهلين بأحكام الدين.
(178) الكافي 1: 31/ باب فرض العلم ووجوب طلبه/ ح 7.
(179) الكافي 1: 31/ باب فرض العلم ووجوب طلبه/ ح 8.
(180) الكافي 1: 32/ باب صفة العلم وفضله/ ح 2.
(181) الكافي 1: 32/ باب صفة العلم وفضل العلماء/ ح 3.
(182) الكافي 1: 35/ باب ثواب العالم والمتعلم/ ح 4.
(183) الكافي 1: 52/ باب رواية الكتب والحديث/ ح 10.
(184) الكافي 1: 52/ باب رواية الكتب والحديث/ ح 11.
(185) الكافي 1: 38/ باب فقد العلماء/ ح 3.
(186) الكافي 1: 38/ باب فقد العلماء/ ح 1.
(187) أي أهل النفوس الغليظة والقلوب القاسية التي ليست قابلة لاكتساب العلم والكمال.
(188) الكافي 1: 38/ باب فقد العلماء/ ح 5.
(189) الكافي 1: 16/ كتاب العقل والجهل/ ح 12.
(190) الكافي 1: 25/ كتاب العقل والجهل/ ح 22.
(191) الكافي 1: 28/ كتاب العقل والجهل/ ح 34.
(192) راجع: صحيح مسلم 4: 110؛ ومسند أحمد 4: 366، و5: 181؛ وفيض القدير للمناوئ 3: 14؛ والصواعق لابن حجر: 136؛ والزمخشري في كتاب المناقب: 213 مخطوط؛ والحمويني في الفرائد؛ وجمال الدين الحنفي في درر بحر المناقب: 116 مخطوط؛ والحافظ محمّد بن أبي الفوارس في الأربعين: 14 مخطوط؛ كما في إحقاق الحق 4: 288، و9: 198؛ والخوارزمي في مقتل الحسين: 59؛ والشيخ سليمان في ينابيع المودة: 82.
(193) ص 58.
(194) الكافي 1: 59/ باب الردّ إلى الكتاب والسُنّة/ ح 1.
(195) الكافي 1: 59/ باب الردّ إلى الكتاب والسُنّة/ ح 3.
(196) الكافي 1: 59/ باب الردّ إلى الكتاب والسُنّة/ ح 4.
(197) الكافي 1: 70/ باب الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب/ ح 7.
(198) الكافي 1: 70/ باب الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب/ ح 11.
(199) الكافي 1: 70/ باب الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب/ ح 6.
(200) الكافي 1: 70/ باب الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب/ ح 9.
(201) الكافي 1: 377/ باب من مات وليس له إمام من أئمّة الهدى/ ح 4.
(202) الكافي 8: 2/ ح 1.
(203) تحتمل إرادة عالم الأرواح أو التقرر العلمي للأشياء.
(204) آل عمران: 144؛ والخطاب في الآية الشريفة يشملنا نحن أبناء هذا الزمن أيضاً، ويهتف بنا عن تبديل الدين الحق والرجوع إلى العقب وإلى الضلالة.
(205) النساء: 89.
(206) ج 1: ص 339.
(207) أي: ينقبض ويرتفع، كناية عن ذهابه.
(208) ص 288/ باب 26/ ح 8.
(209) رجال الكشي: 484/ الرقم 915.
(210) الكافي 1: 53/ باب رواية الكتب والحديث/ ح 15.
(211) ص 407.
(212) أي: لما وقع الكلام والمحادثة حوله.
(213) الأنعام: 149.
(214) الكافي 1: 50/ باب النوادر/ ح 9.
(215) الكافي 1: 69/ باب الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب/ ح 2.
(216) الكافي 1: 69/ باب الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب/ ح 3.
(217) الأنعام: 50.
(218) الحشر: 7.
(219) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 23/ باب ما جاء في الحديثين المختلفين/ ح 45.
(220) الكافي 1: 58/ باب البدع والرأي والقياس/ ح 19.
(221) المصدر السابق.
(222) نهج البلاغة 3: 93/ الرقم 53.
(223) النساء: 59.
(224) ج 1: ص 8/ ح 6.
(225) كمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4.
(226) أي: مكتوب.
(227) قال عنه العلاّمة الحلّي: (أبو جعفر القمي كان ثقة وجيهاً كاتب صاحب الأمر عليه السلام وسأله مسائل في أبواب الشريعة). وقال عنه النجاشي: قال لنا أحمد بن الحسين الغضائري (ابن أستادة): (وقعت هذه المسائل إليَّ في أصلها والتوقيعات بين السطور).
(228) غيبة الطوسي: 379/ ح 346.
(229) للكاظم عليه السلام عدّة ألقاب، لشدّة التقية في زمانه عليه السلام، فكانت الشيعة تكنّي عنه بالعالم والفقيه والعبد الصالح وغيرها من الألقاب خوفاً من سلطات بني العبّاس.
(230) القدر: 1.
(231) غيبة الطوسي: 377/ ح 345.
(232) الاحتجاج 2: 307.
(233) المصدر السابق.
(234) قد ذكر المجلسي الأوّل قدس سره في موضع من روضته أن لقب العالم هو لكل المعصومين عليه السلام لا خصوص الكاظم عليه السلام وأن هذا التخصيص اشتباه من بعض المتأخّرين فتأمل.
(235) الاحتجاج 2: 314.
(236) كما قال تعالى: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (النجم: 43)، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ) (الأنعام: 50)، راجع الحديث في: الكافي 1: 53/ باب رواية الكتب والحديث/ ح 14.
(237) إشارة إلى المعصوم عليه السلام كما قال تعالى: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119) أي المعصومين عليهم السلام.
(238) أمالي المفيد: 42/ المجلس 5: ح 10.
(239) الكافي 1: 255/ باب لولا أن الأئمّة عليهم السلام يزدادون لنفد ما عندهم/ ح 4.
(240) الكافي 1: 536/ باب أن الأئمّة عليهم السلام كلهم قائمون بأمر الله تعالى هادون إليه/ ح 1.
(241) الصافات: 102.
(242) تفسير البرهان 4: 31.
(243) المدثر: 52.
(244) الإسراء: 90 - 93.
(245) مريم: 51 و54.
(246) الحج: 52.
(247) الكافي 1: 176/ باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث/ ح 1.
(248) الكافي 1: 176/ باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث/ ح 2، وقد ورد تحديث الملائكة أولياء الله والمعصومين في القرآن في موارد قال تعالى: (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ * يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالآْخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (آل عمران: 42 - 47).
وقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) (مريم: 16 - 19).
وقال تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص: 7)، (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (القصص: 13).
وقال تعالى: (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ * قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عَجِيبٌ * قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هود: 69 - 73).
فهذه مريم واُمّ موسى عليه السلام وسارة زوجة إبراهيم عليه السلام حدّثن من قِبل الملائكة.
(249) بحار الأنوار 11: 61 و181.
(250) الكافي 3: 482/ باب النوادر/ ح 1.
(251) بحار الأنوار 61: 237.
(252) يوسف: 4 و5.
(253) يوسف: 6.
(254) الإسراء: 60.
(255) الفتح: 27.
(256) نهج البلاغة 2: 157/ الخطبة 192.
(257) تفسير العياشي 2: 201.
(258) الكافي 1: 177/ باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث/ ح 4.
(259) تفسير العياشي 2: 201.
(260) الإسراء: 105.
(261) الشعراء: 210 و211.
(262) المؤمنون: 97.
(263) الشعراء: 221 و222.
(264) الأنعام: 71.
(265) الأعراف: 200.
(266) الأعراف: 201.
(267) مريم: 83.
(268) الحج: 53.
(269) الأنعام: 121.
(270) تفسير البرهان 4: 485.
(271) أمالي الصدوق: 210؛ بحار الأنوار 58: 159.
(272) بحار الأنوار: 58: 191.
(273) المصدر السابق.
(274) يونس: 64.
(275) من لا يحضره الفقيه 1: 134/ ح 353.
(276) روضة الكافي: 90/ ح 57.
(277) ص 43.
(278) ص 275؛ بحار الأنوار 58: 189.
(279) بحار الأنوار 58: 210.
(280) ص 223؛ بحار الأنوار 58: 183.
(281) أمالي الصدوق: 120/ ح 111/ 10.
(282) رسائل المرتضى 2: 13؛ عنه بحار الأنوار 58: 216.
(283) الحجرات: 6.
(284) بحار الأنوار 58: 238.
(285) ص 193 و194، في ترجمة محمّد بن أبي زينب أبي الخطاب (مقلاص).
(286) هو حمزة بن عمارة الزبيدي البربري، وسيأتي حاله في الفصل الثالث.
(287) المصدر السابق.
(288) ص 210، عنه بحار الأنوار 58: 209.
(289) يريد بعبارته هذه أن الرؤيا ليس من القسم الأوّل، وهو ما تضمن إنشاء أمر أو نهي أو حكماً شرعياً.
(290) شرح الفصوص للقيصري: 32.
(291) شرح القيصري: 36، وهو يشير إلى ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام عندما سأله بعض اليهود عن تعلم الفلسفة. راجع الكلمات المكنونة للفيض: 78.
(292) وقد اجتمع في سفره من آمل إلى العراق بفخر المحققين ابن العلامة الحلي فأجاز له رواية المسائل المدنية (المهنائية) كما ذكر ذلك في أعيان الشيعة.
(293) ص 455.
(294) الشمس: 7 و8.
(295) النحل: 43؛ الأنبياء: 7.
(296) النساء: 59.
(297) ص 66.
(298) ق: 17 و18.
(299) الكافي 2: 266/ ح 1.
(300) المجادلة: 22.
(301) الكافي 2: 266/ ح 3، والمراد من القلب ههنا هو المعنوي (الروح) لا الصنوبري.
(302) أجوبة المسائل المهنائية: 97/ مسألة: 159.
(303) ج 2: ص 13؛ عنه بحار الأنوار 58: 216.
(304) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 288/ باب 66/ ح 11.
(305) بحار الأنوار 58: 234.
(306) أمالي الصدوق: 120/ ح 111/ 10.
(307) ص 61؛ عنه بحار الأنوار 11: 37.
(308) ج 2: ص 9؛ عنه بحار الأنوار 58: 214.
(309) الأنفال: 42.
(310) كمال الدين: 507/ باب 45/ ح 37.
(311) الغيبة: 240/ ح 357.
(312) لسان آوجي محلي.
(313) كمال الدين: 503/ باب 45/ ح 34.
(314) الغيبة: 227/ ح 343.
(315) الغيبة: 395/ ح 366.
(316) الغيبة: 394/ ح 364.
(317) كمال الدين: 519/ باب 45/ ح 48.
(318) مدينة آمل في شمال إيران.
(319) كمال الدين: 518/ باب 45/ ح 47.
(320) الغيبة: 364/ ح 332.
(321) الغيبة: 365/ ح 333.
(322) الغيبة: 371/ ح 341.
(323) الغيبة: 371/ ح 342.
(324) الغيبة: 363/ ح 328.
(325) الغيبة: 362/ ح 327.
(326) ص 353/ ح 313.
(327) السند والطريق كلّهم من أعلام وأجلاّء الطائفة.
(328) الغيبة: 356/ ح 317.
(329) الغيبة: 357/ ح 319.
(330) والطريق كلّه من أعلام الطائفة وشيوخها.
(331) البقرة: 260.
(332) الغيبة: 359/ ح 322.
(333) الغيبة: 361/ ح 323.
(334) الغيبة: 363.
(335) الاحتجاج 2: 297.
(336) ص 397 - 414.
(337) أقول: وهذا المسير بعينه سار فيه الملعون مدّعي البابية في إيران في القرن الثالث عشر الهجري فادّعى أوّلاً الوكالة ثمّ المهدوية ثمّ إلى الأباطيل الأخرى التي سنوافيك بها في فصل لاحق.
(338) أقول: فليتنبه المؤمنين (رعاهم الله) إلى العبرة من حال المبطل أبي طاهر ابن بلال فإنه مع رؤيته للصاحب عليه السلام فلم يرتدع عن كذبه وباطله.
وهكذا الخوارج فإنهم شاهدوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وعاشوا في عصره ومع ذلك لم يتبعوه ويطيعوه عليه السلام فالعبرة بالإيمان لا بالرؤية لهم عليهم السلام، ولذا تلهّف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على إخوانه في الخطبة المعروفة فسأل أصحابه أوَلسنا إخوانك؟ فقال: لا، بل هم قوم يأتون في آخر الزمان يؤمنون بسواد على ورق وسيأتي في الأمر الثامن ما له صلة بذلك.
(339) الحجر: 30 و31.
(340) الأعراف: 16.
(341) نمس بالشيء خدع واحتال به.
(342) أي إن أبا دلف المجنون ادّعى البابية ونحو ذلك لأبي بكر البغدادي.
(343) محتال صاحب حيلة ومكر.
(344) زيق القميص بالكسر ما أحاط بالعنق.
(345) أي الذين يقولون: إن الخمسة سلمان، وأبا ذر، والمقداد، وعمّار، وعمرو بن أميّة الضمري، هم الموكلون بمصالح العالم من قِبل الرب.
(346) أحد مشايخ الشيخ المفيد.
(347) كمال الدين: 303/ باب 26/ ح 14.
(348) كمال الدين: 303 و304/ باب 26/ ح 15 و16.
(349) أي لا خلف في الإمامة بعد العسكري غير جعفر الذي كان يدّعي بالكذب.
(350) العنكبوت: 1 و2.
(351) كمال الدين: 510/ باب 45/ ح 42.
(352) كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 1.
(353) كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 2.
(354) كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.
(355) هود: 93.
(356) الأعراف: 71.
(357) كمال الدين: 645/ باب 55/ ح 5.
(358) كمال الدين: 645/ باب 55/ ح 6.
(359) كمال الدين: 646/ باب 55/ ح 7.
(360) كمال الدين: 647/ باب 55/ ح 5.
(361) أي أشار بيده، والخارط من يضرب بيده على الغصن ثمّ يمدّها إلى الأسفل ليسقط ورقه، والقتاد شجر له شوك.
(362) الكافي 1: 335/ باب في الغيبة/ ح 1.
(363) الكافي 1: 336/ باب في الغيبة/ ح 2.
(364) الكافي 1: 342/ باب في الغيبة/ ح 28.
(365) أي الذين كتب لهم الإيمان في قلوبهم وأخذ عليهم ميثاق الولاية للأئمّة عليهم السلام في غابر علم الله تعالى.
(366) الغيبة: 162/ باب 10/ ح 2.
(367) الغيبة: 214/ باب 12/ ح 12.
(368) صعر كفه: أي أمالها تهاوناً بالناس، أي الذين جناح البعوضة أرجح من التزامهم بالدين.
(369) الغيبة: 215/ باب 12/ ح 13.
(370) الغيبة: 216/ باب 12/ ح 14.
(371) الغيبة: 216/ باب 12/ ح 15.
(372) الغيبة: 216/ باب 12/ ح 16.
(373) كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44؛ غيبة الطوسي: 395/ ح 365؛ الاحتجاج 2: 297.
(374) كمال الدين: 483/ باب 45/ ح 2.
(375) كمال الدين: 483/ باب 45/ ح 4.
(376) كمال الدين: 489/ باب 45/ ح 12.
(377) كمال الدين: 490/ باب 45/ ح 13.
(378) كمال الدين: 491/ باب 45/ ح 14.
(379) كمال الدين: 491/ باب 45/ ح 15.
(380) كمال الدين: 492/ باب 45/ ح 17.
(381) كمال الدين: 493/ باب 45/ ح 18.
(382) المصدر السابق.
(383) وقد تقدّم نقل كلامه.
(384) راجع الإرشاد 2: 340.
(385) راجع كتاب الغيبة للشيخ الطوسي، تلميذ الشيخ المفيد (ص 412/ ح 385).
(386) المناقب 4: 446، وإلى ذلك أشار الميرزا النوري قدس سره في خاتمة المستدرك في ترجمة المفيد رضي الله عنه.
(387) معالم العلماء: 25.
(388) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 15: 334.
(389) نعم، حكى صاحب لؤلؤة البحرين قدس سره: (ص 367)، عن ابن بطريق الحلّي قدس سره في رسالة نهج العلوم أن التواقيع ترويها كافة الشيعة وتتلقاها بالقبول، فلاحظ.
(390) ج 17: ص 209.
(391) غيبة الطوسي: 243/ ح 290.
(392) غيبة الطوسي: 357/ ح 319.
(393) مثل الرواية التي أخرجها الطبري في (دلائل الإمامة) من مشاهدة ابن مهزيار له عليه السلام (ص 297) عند قوله عليه السلام: (فما الذي أبطأ بك علينا؟).
(394) راجع كمال الدين: 434/ باب 43 في ذكر من شاهد القائم عليه السلام ورآه وكلّمه.
(395) كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44.
(396) ص 395/ ح 365.
(397) الوسائل 20: باب 151/ ح 1.
(398) ص 211.
(399) الاحتجاج 2: 231.
(400) وفي غيبة الطوسي (ص 92): (إنّي وأحد عشر من ولدي) ويمكن توجيه نسخة الكافي أي فاطمة عليها السلام، وأحد عشر من ولدها، أو يكون عطف وأنت من عطف الخاص على العام حيث إنه عليه السلام ربيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(401) الكافي 1: 534/ باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم عليهم السلام/ ح 17.
(402) الأعراف: 201.
(403) وقد ذكر السيد حيدر الأملي في المقدمات من كتاب نصَّ النصوص (ص 155) في التمهيد الثالث بحث الأقطاب والأوتاد والأبدال عند العرفاء والصوفية.
(404) عرائس الثعلبي: 146.
(405) ج 1: ص 151/ الخطبة (87).
(406) الكهف: 82.
(407) تفسير العياشي 2: 338، عنه بحار الأنوار 68: 236.
(408) تفسير العياشي 2: 339، عنه بحار الأنوار 68: 236.
(409) تفسير العياشي 2: 337، عنه بحار الأنوار 68: 237.
(410) تفسير العياشي 2: 337 - 339.
(411) رجال الكشي: 6/ ح 13.
(412) رجال الكشي: 6/ ح 12.
(413) الرعد: 4.
(414) التوبة: 109.
(415) بحار الأنوار 70: 295.
(416) تحف العقول: 325.
(417) الكافي 2: 247/ باب فيما يدفع بالمؤمن/ ح 1.
(418) الكافي 2: 247/ باب فيما يدفع بالمؤمن/ ح 2.
(419) ج 67: ص 351.
(420) أي لأنكرتم حالهما، وأنكر الشيء يقال عندما لا يراه على حاله السابق وهو كناية عن (لساخت الأرض والسماء).
(421) الكافي 2: 423/ باب في تنقل أحوال القلب/ ح 1.
(422) أنظر: مقدمة الكتاب المزبور، ص (د).
(423) الكافي 1: 54/ باب البدع والرأي والمقائيس/ ح 1.
(424) الكافي 1: 57/ باب البدع والرأي والمقائيس/ ح 12.
(425) ص 198.
(426) الروايات التي نقلها في هذه الفِرق جلّها ذكرها الكشي في تلك الترجمة.
(427) نهج البلاغة: قصار الحكم (117).
(428) وقيل: الأجدع بالجيم.
(429) وقيل: أبا الظبيان بالنون.
(430) المقالات والفِرق: 81.
(431) المؤمنون: 44.
(432) الفِرق للنوبختي: 34.
(433) الفِرق للنوبختي: 36.
(434) الفِرق للنوبختي: 38.
(435) المائدة: 18.
(436) الفِرق للنوبختي: 43.
(437) القصص: 88.
(438) الجوسق: الصقر أو الحصن.
(439) المقالات والفِرق: 33 و34.
(440) آل عمران: 138.
(441) فِرق الشيعة: 34.
(442) المقالات والفِرق: 32 و34؛ أيضاً وكتاب الفِرق للنوبختي: 44.
(443) الفِرق للنوبختي: 59 و62.
(444) الفِرق للنوبختي: 43.
(445) الشورى: 50.
(446) الفِرق للنوبختي: 83.
(447) الكشي في ترجمة محمّد بن بشير: 297.
(448) الفِرق للنوبختي: 44.
(449) الشعراء: 221 و222.
(450) الروايات التي نذكرها تباعاً عن رجال الكشي في ترجمة محمّد بن أبي زينب.
(451) خصوص هذه الرواية ذكرها الكشي في ترجمة المغيرة بن سعيد.
(452) غلا في الأمر غلواً جاوز حدّه قال تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ) (النساء: 171) ومنه غلاء الأسعار. والغلاة فِرق كثيرة تذهب غالباً إلى وصف الأئمّة عليهم السلام بصفات الألوهية والعياذ بالله وقد شدّد الأئمّة على شيعتهم التبري من الغلاة وتكفيرهم والبعد عنهم.
(453) قيل: (والظاهر أن إبليس قال له ذلك عندما أتى العسكر لقتله أي لا تتكلم بكلمة توبة) أو لعلَّ ذلك في أوائل ضلاله فوعده بالظفر والرئاسة كي يدفعه في غيّه بسرعة.
(454) الزخرف: 84.
(455) إدراج ما بين المعقوفتين هنا وإن كان من رواية أخرى ولكنها تضمّنت نفس السؤال عن ذلك حيث قالت به الخطابية منهم جعفر بن واقد ونفر من أصحاب أبي الخطاب فقال عليه السلام: (لا والله لا يأويني...).
(456) المؤمنون: 51.
(457) أقول: يمكن تقرير معنى الحديث بنحو لا تتأتى شبهة التناسخ أيضاً في المعاد الجسماني بالجسم العنصري، إذ لو كان الاستعداد والقابلية موجبة لاستحقاق نفس جديدة فكيف الحال في المعاد، والتقرير بنحو يدفع تلك الشبهة أيضاً هو أن الباري تعالى لمّا كان ذا قدرة غير محدودة وهي متعلّقة بما هو ممكن إذ المحال باطل الذات ولا شيء ووقوع الشيء دليل إمكانه كما في الجسد الأوّل إذ الجسد الأوّل لا يمكن للخصم فرض التناسخ فيه فحينئذٍ الباري تعالى أيضاً قادر على خلق نفوس جديدة لبقية الأجساد هذا في الدار الأولى كما أنه قادر على إعادة تلك النفوس لأجسادها الأولى في الدار الآخرة، هذا ويمكن تتميم التقرير الأوّل بنحو يدفع تلك الشبهة بأن كل استعداد يستحق نفسا‎ً خاصة به وعند الإعادة لذلك البدن يحصل مسانخ الاستعداد السابق المستحق لعين تلك النفس.
(458) وسائل الشيعة 17: 167/ باب تحريم كسب القمار/ ح 13.
(459) رجال الكشي في ترجمة بن حسكة، ووجه هدر دم أصحاب ابن حسكة ارتدادهم عن الإسلام كما لا يخفى.
(460) وهذا كان من تلامذة ابن حسكة كما في رجال الكشي.
(461) الأعراف: 175.
(462) الكافي 1: 54/ ح 6.
(463) من قبيل علم الحروف والعزائم والتسخير للأرواح والجن.
(464) وكان يكثر من كتابة الأدعية والمناجات ونحوها.
(465) ص 56.
(466) أمالي الصدوق: 425/ ح 560/ 1.
(467) بشرويه من توابع مدينة مشهد بخراسان وإليها ينسب هذا، وقد درس ثماني سنوات لدى السيد كاظم الرشتي ولكنّه كان بليد الذهن فلم يترقَّ في الجانب النظري ولكن في الجانب العلمي كان متفّوقاً.
(468) وقد ذكر د. همّتي في كتابه البابيون والبهائيون أن كتاب (البرنس دالكوركي) تمّت طباعته فيمكن قراءة تفاصيل هذه القصة وتأريخ زعماء البهائية (وهي الفرقة التي تولّدت من البابية) وأثرهم السياسي والطريقة التي استعملها السياسيون الروس في الإتيان بالباب وأصحابه.
(469) الرحمن: 1 - 4.
(470) النمل: 40.
(471) البقرة: 23.
(472) الإسراء: 88.
(473) مريم: 1.
(474) ذكر في كتاب تاريخ جامع بهائيت (ص 152) رقم السند المسلسل بتمامه لتلك الرسالة.
(475) يشير إلى كتاب البيان الذي ألّفه الباب بتلفيق من الآيات القرآنية ومن الحشو الذي زخرفه فجعله بين الاقتباس والحشو، وسيأتي نماذج من كتابه.
(476) أمالي الصدوق: 425/ ح 560/ 1.
(477) نهج البلاغة 2: 130/ الرقم 189.
(478) شرح نهج البلاغة 6: 134.
(479) كان ديدن أكثر علمائنا القدامى قدس سرهم لا يقتصر على دراسة الفقه وأصوله وما يتعلّق بطرق الاستنباط، بل كانوا إلى جانب ذلك يلمّون وبشكل معمق ببعض العلوم الأخرى، كالفلك والرياضيات وعلم الكلام والفلسفة والتاريخ والطبيعة... الخ. كالمحقق الطوسي والعلاّمة الحلّي قدس سرهما.
(480) الرعد: 12.
(481) تفسير الميزان 3: 230.
(482) الرسالة بخط يده كانت حتّى سنة (1315هـ) في مكتبة المجلس في طهران معلّقة في قاب وبعد ذلك فقدت، عن كتاب جامع تاريخ بهائيت (ص 170).
(483) للإطلاع أكثر على تاريخ البابية والبهائية نشير إلى كتب منها: (كشف الحيل)، و(تاريخ جامع بهائيت)، و(ظهور الحق)، و(فتنه باب) باللغة الفارسية.
(484) كمال الدين: 526/ باب 47/ ح 1، أي على يد الحجة عليه السلام وهو الذي يصلّي خلفه عيسى بن مريم عليه السلام كما جاء في روايات الفريقين.
(485) كمال الدين: 528/ باب 47/ ح 2.
(486) ص 489.
(487) ص 480.
(488) الملاحم والفتن: 266/ باب 54/ ح 386.
(489) كمال الدين: 649/ باب 57/ ح 1.
(490) كمال الدين: 649/ باب 57/ ح 2.
(491) كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 4.
(492) كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 5.
(493) كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 6.
(494) كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 8.
(495) كمال الدين: 652/ باب 57/ ح 13.
(496) كمال الدين: 652/ باب 57/ ح 14.
(497) كمال الدين: 654/ باب 57/ ح 20.
(498) كمال الدين: 655/ باب 57/ ح 25.
(499) ص 262/ باب 14/ ح 11.
(500) المصدر السابق.
(501) المصدر السابق.
(502) الكافي 1: 29/ باب العقل والجهل/ ح 34، ورواه الصدوق في التوحيد عن الكليني رضي الله عنه.
(503) الكافي 1: 31/ باب فرض العلم ووجوب طلبه/ ح 8.
(504) الكافي 1: 35/ باب ثواب العالم والمتعلم/ ح 5.
(505) الكافي 1: 40/ باب سؤال العلم وتذاكره/ ح 2.
(506) الكافي 1: 40/ باب سؤال العلم وتذاكره/ ح 5.
(507) الكافي 1: 43/ باب من عمل بغير علم/ ح 1.
(508) الكافي 1: 44/ باب من عمل بغير علم/ ح 3.
(509) الكافي 1: 34/ باب أصناف الناس/ ح 2.
(510) الكافي 1: 10/ كتاب العقل والجهل/ ح 1.
(511) الحج: 34.
(512) الذاريات: 56.
(513) النمل: 14.
(514) النحل: 89.
(515) قال الرازي في تفسير قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ في‏ كُلِّ أُمَّةٍ شَهيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهيداً عَلى‏ هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى‏ لِلْمُسْلِمينَ):
اعلم أن هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلفين عن المعاصي.
واعلم أن الأمّة عبارة عن الفرد والجماعة. إذا ثبت هذا فنقول:
في الآية قولان: الأوّل: أن المراد أن كل نبي شاهد على أمّته.
والثاني: أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا فلا بدَّ وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيداً عليهم. أما الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو الرسول بدليل قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
وثبت أيضاً أنه لا بدَّ في كل زمان بعد زمان الرسول من الشهيد فحصل من هذا أن عصراً من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس وذلك الشهيد لا بدَّ وأن يكون غير جائز الخطأ، وإلاّ لافتقر إلى شهيد آخر ويمتد ذلك إلى غير النهاية وذلك باطل، فثبت أنه لا بدَّ في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمّة حجة. قال أبو بكر الأصم: المراد بذلك الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتّى أنها تشهد عليه وهي: الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان. قال: والدليل عليه أنه قال في صفة الشهيد أنه من أنفسهم وهذه الأعضاء لا شكّ أنها من أنفسهم. أجاب القاضي عنه من وجوه: الأوّل: أنه تعالى قال: (شَهِيداً عَلَيْهِمْ) أي على الأمّة فيجب أن يكون غيرهم. الثاني: أنه قال: (فِي كُلِّ أُمَّةٍ) فوجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمّة وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمّة، وأما حمل هؤلاء الشهداء على الأنبياء فبعيد، وذلك لأن كوهم أنبياء مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضرورة فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه. (تفسير الرازي 20: 98 و99).
(516) إشارة إلى جملة من الأحاديث وردت عن طرق العامة بألفاظ مختلفة منها: (حتّى تسمعوا على الناس بخير من أبي بكر وعمر)، ومنها: (قد كان يفضل على بعض الأنبياء)، ومنها: (هو خير منهما ويعدل بنبي)، للوقوف على مصادر الروايات يراجع معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام 1: تحت الرقم 115 - 117.
(517) المصدر السابق.
(518) الكافي 1: 16/ كتاب العقل والجهل/ ح 12.
(519) الكافي 1: 25/ كتاب العقل والجهل/ ح 22.
(520) الحشوية: مصطلح يراد به كل مذهب يعتمد الآثار والروايات ويقصي العقل إقصاءاً تاماً فلا يقرر عقائده وأصوله على أساس العقل وكان مما ينبز به الحنابلة والمشبهة من قبل المعتزلة لشدة التصاقهم بالأخبار واعتمادهم عليها فهم من كثرة ما يعتمدون الأخبار يقولون: نجري في الصفات ما جاء كما هو، فيقولون: إن لله يداً على نحو الحقيقة وإن له لهوات وإنه يسير وينزل ويهرول وهكذا.
(521) النحل: 90.
(522) مكارم الأخلاق: 8؛ بحار الأنوار 16: 210.
(523) الكافي 1: 28/ كتاب العقل والجهل/ ح 34.
(524) اعتقادات في دين الإمامية/ الصدوق: 99/ باب الاعتقاد في نفي الغلو والتفويض.
(525) الكافي 1: 28/ كتاب العقل والجهل/ ح 34.
(526) الكافي 1: 28/ ح 34/ كتاب العقل والجهل، قال الشيخ: (أ) هذا الحديث وضع تحت الرقم (أ) ويليه حديث آخر تحت الرقم (ب) وهذان الحديثان هما آخر ما رواهما الشيخ الكليني أعلى الله مقامه الشريف في كتاب العقل والجهل الذي ينتهي بأربع وثلاثين رواية، عدة من أصحابنا عن عبد الله البزاز عن محمّد بن عبد الرحمن بن حماد عن الحسن بن عمّار عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل جاء فيه: قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟
قال: (إن العاقل بدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته علم أن الله هو الحق وأنه هو ربه وعلم أن لخالقه محبة وأن له كراهية وأن له طاعة وأن له معصية فلم يجد عقله يدله على ذلك وعلم أنه لا يوصل إليه إلاّ بالعلم وطلبه وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه فوجب على العاقل طلب العلم والأدب الذي لا قوام له إلاّ به).
(527) خاتمة المستدرك 5: 268، عن رجال الكشي.
(528) ق: 18.
(529) التوبة: 45.
(530) البداية والنهاية لابن كثير 8: 203/ صفة مقتله مأخوذ من كلام أئمّة الشأن، فقال لهم الحسين: (ويلكم إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا في دنياكم أحراراً وذوي أحساب امنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم)؛ ومن مصادرنا جاء في لواعج الأشجان للسيد محسن الأمين: 185، فصاح الحسين عليه السلام: (ويلكم يا شيعة آل بني سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم).
(531) تفسير ابن عربي 1: 42؛ وصحيح البخاري 7: 113/ كتاب الأدب؛ وصحيح مسلم 8: 43؛ ومسند أحمد 4: 240، 395، 425.
(532) مستدرك الوسائل/ النوري 12: 108.
(533) الشورى: 13.
(534) آل عمران: 19.
(535) آل عمران: 102.
(536) آل عمران: 83.
(537) المائدة: 3.
(538) صحيح مسلم النيسابوري 6: 3/ كتاب الإمارة/ باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.
(539) النور: 36.
(540) النور: 37.
(541) الدر المنثور 5: 50/ تفسير سورة النور.
(542) كشف الغطاء: 54/ عند قراءة الفاتحة بعد الطعام ورجحان الشعائر الحسينية، عن كتاب الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد للمصنف.
(543) جامع أحاديث الشيعة/ السيد البروجردي 14: 214/ الباب 63 باب مكارم الأخلاق/ ح 2309(25)؛ مجمع البيان 9 و10: 333، روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
(544) المائدة: 48.
(545) الآية السابقة.
(546) ذكر الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد في فصل في سياقة الصلوات في (ص 36) 41/14: ثمّ يكبر تكبيرتين أخرين على ما وصفناه ويقول: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملّة إبراهيم ودين محمّد ومنهاج علي حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
(547) الجن: 16.
(548) الإسراء: 39.
(549) البقرة: 129.
(550) المزار/ الشيخ المفيد: 6/ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (علماء أمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل).
(551) آل عمران: 83.
(552) نوح: 13 و14.
(553) البقرة: 253.
(554) الزمر: 9.
(555) المجادلة: 11.
(556) البقرة: 269.
(557) النحل: 12.
(558) تفسير البحر المحيط/ أبي حيان الأندلسي 1: 660.
(559) الذاريات: 56.
(560) جاء في كتاب سرّ السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري قال المفضل بن عمر: قال الصادق عليه السلام: (كان عمنا العبّاس نافذ البصيرة صلب الإيمان جاهد مع أبي عبد الله الحسين عليه السلام وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً).
(561) البقرة: 286.
(562) في جامع أحاديث الشيعة/ البروجردي 15: 335/ باب ما ورد في الدعاء بقوله: (اللهم اجعلني ممن تنتصر به لدينك)/ ح 1076؛ نهج البلاغة: ح 1117/ قال عليه السلام: (لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة لأنه ليس أحد إلاّ وهو مشتمل على فتنة ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن فإنّ الله سبحانه يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)) وفي حديث آخر تحت الرقم 1075 أمالي الشيخ 2: 192/ فيه: قال وسمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، قال: (أراك تتعوذ من مالك وولدك يقول الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ولكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن).
(563) الأعراف: 148 و149.
(564) طه: 96.
(565) وذكر هذا المعنى العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان 14: 195 إذ قال: (ففسره الجمهور وفقاً لبعض الروايات الواردة في القصة أن السامري رآى جبرائيل وقد نزل على موسى للوحي أو رآه وقد نزل راكباً على فرس من الجنّة قدام فرعون وجنوده حين دخلوا البحر فاغرقوا فأخذ قبضةً من تراب أثر قدمه أو أثر حافر فرسه ومن خاصة هذا التراب أنه لا يلقى على شيء إلاّ حلت فيه الحياة ودخلت فيه الروح فحفظ التراب حتّى إذا صنع العجل ألقى فيه من التراب فحي وتحرك وخار، فالمراد بقوله: (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) ابصاره جبرائيل حين نزل راجلاً أو راكباً... (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً...) من تراب أثر جبرائيل أو من تراب أثر فرس جبرائيل والمراد بالرسول جبرائيل).
(566) العنكبوت: 64.
(567) قال الإمام علي عليه السلام: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) عوالي اللائالي/ ابن أبي جمهور الاحسائي 4: 73.
(568) قد ورد في جملة من مصادرنا أن عصر الإمام المهدي عليه السلام يتسم بالتكامل الفكري للبشر والرقي العلمي وتسخير قوى الطبيعة للإمام عليه السلام فمما جاء في بيان هذا المضمون ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص (ص 326) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الله تبارك وتعالى خيّر ذا القرنين السحابتين الذلول والصعب فاختار الذلول وهو ما ليس فيه برق ولا رعد ولو اختار الصعب لم يكن له ذلك لأن الله ادخره للقائم عليه السلام)؛ ومن ذلك ما رواه قطب الدين الراوندي في الخرائج والجرائح 2: 841، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (العلم سبعةٌ وعشرون جزءً فجميع ما جائت به الرسل جزئان فلم يعرف الناس حتّى اليوم غير الجزئين فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين جزءً فبثها للناس وضم إليها الجزئين حتّى يبثها سبعة وعشرين جزءً)؛ وفي بحار الأنوار للعلامة المجلسي 52: 391، عن أبي عبد الله عليه السلام يقول: (إن المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي بالمغرب وكذا الذي بالمغرب يرى أخاه الذي بالمشرق). وغيرها من المضامين التي تدل على أن القائم عليه السلام يضع يده على رؤوس العباد فيجمع بها عقولهم ويكمل بها أحلامهم.
(569) طه: 88.
(570) الأعراف: 155.
(571) الرحمن: 1 - 4.
(572) الأنفال: 60.
(573) طه: 89.
(574) النساء: 157.
(575) راجع: تفسير كنز الدقائق/ الميرزا محمّد المشهدي 2: 674، تفسير الآية 160- 164 من سورة النساء.
(576) عمدة القارئ/ العيني 12: 35، حيث صرح العيني بأن اسم شبيه عيسى يهوذا.
(577) النساء: 153 - 157.
(578) نهج البلاغة 1: 182/ الخطبة 93.
(579) النساء: 64.
(580) الأنفال: 33.
(581) المنافقون: 5.
(582) الحجر: 91.
(583) البقرة: 85.
(584) شرح أصول الكافي/ المولى المازندراني 8: 271/ باب الاقتصاد في العبادة.
(585) آل عمران: 7.
(586) البقرة: 85.
(587) مسند أحمد 3: 338؛ سنن البيهقي 2: 11؛ كنز العمال 1: 200.
(588) تفسير ابن كثير 1: 386، الرواية مروية عن الشعبي عن جابر.
(589) المصدر السابق.
(590) البقرة: 132 و133.
(591) في مجمع الزوائد/للهيثمي 1: 174/ باب اتّباعه في كل شيء، جاء فيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لو أن موسى كان فيكم حيّاً ما وسعه إلاّ أن يتّبعني).
(592) تفسير ابن كثير 1: 386.
(593) الأنبياء: 107.
(594) النساء: 157.
(595) الغيبة: 390/ ح 357.
(596) التوبة: 122.
(597) قال الحر العاملي في وسائل الشيعة 20: 116: أبان بن تغلب بن رياح أبو سعيد البكري، ثقة جليل القدر، عظيم المنزلة في أصحابنا، لقي علي بن الحسين، والباقر، والصادق عليهم السلام وروى عنهم وكان له عندهم خطوة وقدم، وقال له أبو جعفر عليه السلام: (أجلس في مجلس المدينة وافتِ الناس فإنّي أحب أن أرى (يرى) في شيعتي مثلك)، وكان قارياً فقيهاً لغوياً قاله النجاشي والشيخ والعلامة، وزاد النجاشي: وكان مقدماً في كل فن من العلم في القرآن والفقه والحديث والأدب واللغة والنحو وله كتب، وروي أنه روى عن أبي عبد الله عليه السلام ثلاثين ألف حديث، وروي في مدحه أحاديث كثيرة ووثقه علماء المخالفين أيضاً.
(598) الاحتجاج/ الطبرسي 2: 155.
(599) روى الشيخ الكليني في 1: 38/ باب فقد العلماء من الكافي/ ح 3، محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن علي بن أبي حمزة قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام يقول: (إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها).
(600) التوبة: 122.
(601) الزمر: 9.
(602) جاء في كمال الدين وتمام النعمة: 251؛ وفي بحار الأنوار 51: 70، وكذلك 52: 277 واللفظ لكمال الدين كما في باب نص الله تبارك وتعالى على القائم عليه السلام وأنه الثاني عشر من الأئمّة عليهم السلام/ ح 1، حيث جاء فيه: وكثر القراء وقلَّ العمل وكثر القتل وقلَّ الفقهاء الهادون وكثر فقهاء الضلالة والخونة، وقد جاء في أحاديث أخرى كما في الغيبة للنعماني والكافي للكليني وغيره من المصادر الأخرى وأن القائم يخرجون عليه فيتأولون عليه كتاب الله ويقاتلونه عليه، وجاء في روايات أخرى على ما في الكافي للشيخ الكليني 8: 308 حديث عيسى بن علي وأبي جعفر المنصور/ حديث رقم 49 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سيأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلاّ رسمه ومن الإسلام إلاّ اسمه يسمعون به وهم أبعد الناس منه مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود)، وجاء في بعض المصادر: أعدائه مقلدة العلماء أهل الاجتهاد، وجاء في كتاب مستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي الشاهرودي: 143 ولولا أن السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله.
وهذه النصوص على اختلافها في البيان وتعدد مصادرها لم نقف فيها على إسناد معتبر يقاوم ما ثبت من دليل حجية الفقهاء في عصر الأئمّة وما بعده بل وحتّى في عصر الإمام عليه السلام، فإنّ هذه الأخبار التي حاولنا استقصاء ألفاظها فضلاً عن أن دلالتها لا تفيد علماً بل ولا حتّى ظناً في قبالة نصّ آية النفر ومتواتر الحديث في دور الفقهاء إلى يوم القيامة، إلاّ أنها لا تدل على ما يرمي إليه البعض من أن الإمام المهدي عليه السلام يقصي الفقهاء ويمر السيف عليهم بل إن أقصى ما تدل عليه أن هناك جملة ممن يتسمون بالفقهاء يجري فيهم حكم الإمام العادل عليه السلام وهناك عدة محامل يمكن أن نحمل عليها هذه الأخبار إذا قلنا باعتبارها وهو (بعيد) فمن هذه المحامل:
1 - أنها تحمل على فقهاء العامة.
2 - أنها تحمل على فقهاء السوء دون فقهاء الهدى بقرينة النص الأوّل.
3 - أنها تحمل على من يسمي نفسه فقيهاً ويحصل اعتياد على ذلك لدى السذج كما هو المشاهد في أيامنا هذه ممن يزج أنفه في نوادي العلم والفقاهة ويسمي نفسه فقيهاً.
وعلى أيّة حال فإنّ الروايات غير ثابتة سنداً ومجملة دلالة فهي لا تفيد ظناً فضلاً عن علم.
(603) التوبة: 122.
(604) النحل: 43.
(605) المائدة: 44.
(606) الزمر: 9.
(607) يقسم الأصوليون الحكم إلى واقعي وظاهري والأوّل ما كان ثابتاً للشيء لا في ظرف الشكّ بخلاف الثاني الذي يثبت للشيء في ظرف الشكّ والحكم الظاهري ينقسم بحسب ملاكه ودرجة كشفه إلى أقسام ثانوية أخرى وكل حكم منها له ملاكه الخاص من قوة الكشف والمنكشف، وكل حكم من هذه الأحكام بلحاظ ما هو أدون منه مرتبة يكون واقعياً وبما هو أعلى منه يكون ظاهرياً، وهناك تقسيم آخر حاصله أن الحكم الواقعي إذا كان أعظم وأهم ملاكاً فإنه يكون حكماً واقعياً فعلياً بخلاف الحكم الواقعي لنفس الموضوع ولكن ملاكه أضعف فإنه يكون في هذه الحالة ظاهرياً، فالواقعية والظاهرية هنا ليست بلحاظ ثبوت الحكم للشيء في ظرف الشكّ أو عدمه بل هي بلحاظ الملاك الأهم، فالحكم الواقعي في الملاك الأقل أهمية من حكم واقعي آخر يكون ظاهرياً بهذه النسبة وإن كان واقعياً بلحاظ نفسه.
(608) في الكافي للشيخ الكليني 1: 335/ باب في الغيبة، عن علي بن إبراهيم، عن الحسن بن موسى الخشاب بن عبد الله بن موسى، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (إن للغلام غيبة قبل أن يقوم)، قال: قلت: ولِمَ؟ قال: (يخاف) - وأومأ بيده إلى بطنه - ثمّ قال: (يا زرارة وهو المنتظر، وهو الذي يشكّ في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنه ولد قبل موت أبيه بسنتين، وهو المنتظر غير أن الله عز وجل يحب أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون، يا زرارة إذا أدركت هذا الزمان فادع بهذا الدعاء: اللهم عرفني نفسك فإنّك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنّك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنّك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني) ثمّ قال: (يا زرارة لا بدَّ من قتل غلام بالمدينة)، قلت: جعلت فداك أليس يقتله جيش السفياني؟ قال: (لا ولكن يقتله جيش آل بني فلان يجيء حتّى يدخل المدينة فيأخذ الغلام فيقتله، فإذا قتله بغياً وعدواناً وظلماً لا يمهلون، فعند ذلك توقع الفرج إن شاء الله).
(609) ذكر الشيخ محمّد بن إبراهيم النعماني في كتابه الغيبة: 73/ باب ما روي بأن الأئمّة اثنا عشر إماماً وأنهم من الله وباختياره/ ح 7، أخبرنا محمّد بن همام قال: حدّثنا أبي وعبد الله بن جعفر الحميري، قال: حدّثنا أحمد بن هلال، قال: حدّثنا محمّد بن أبي عمير سنة أربع ومائتين، قال: حدّثني سعيد بن غزوان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل اختار من كل شيء شيئاً فاختار من الأرض مكّة واختار من مكّة المسجد واختار من المسجد الموضع الذي فيه الكعبة واختار من الأنعام اناثها ومن الغنم الضأن واختار من الأيام يوم الجمعة واختار من الشهور شهر رمضان ومن الليالي ليلة القدر واختار من الناس بني هاشم واختارني وعلياً من بني هاشم واختار منّي ومن علي الحسن والحسين وتكملة اثني عشر إماماً من ولد الحسين تاسعهم باطنهم وهو ظاهرهم وهو أفضلهم وهو قائمهم).
(610) الأنعام: 50.
(611) وسائل الشيعة 27: 114/ باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفية العمل بها/ ح 21.
(612) كتاب الغيبة/ النعماني: 238/ باب سيرته عليه السلام.
(613) غيبة الطوسي: 267 وما بعدها/ ط 1/ ت علي أكبر الغفاري.
(614) النساء: 64.
(615) فقه الرضا: 115.
(616) النساء: 64.
(617) البقرة: 189.
(618) الأمالي/ الصدوق: 472.
(619) المنافقون: 5.
(620) الإسراء: 61.
(621) آل عمران: 81 و82.
(622) الأعراف: 40.
(623) المؤمنون: 50.
(624) فاطر: 10.
(625) الأعراف: 40.
(626) دعاء الندبة، مفاتيح الجنان: 537/ الطبعة الأولى (1421هـ)/ ستارة قم.
(627) دعاء العهد، مفاتيح الجنان: 539/ الطبعة الأولى (1421هـ)/ ستارة قم.
(628) دعاء الافتتاح، مفاتيح الجنان: 179/ الطبعة الأولى (1421هـ)/ ستارة قم.
(629) دعاء يدعى به زمن الغيبة، مفاتيح الجنان للقمي.
(630) في بحار الأنوار 18: 360/ الباب 3 من أبواب أحواله صلى الله عليه وآله وسلم من البعثة إلى نزول المدينة/ باب إثبات المعراج ومعناه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لي مع الله وقت لا يسعه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان).
(631) الإسراء: 60.
(632) الزيارة الجامعة، مفاتيح الجنان للقمي.
(633) مشارق أنوار اليقين: 101.
(634) في الكافي 1: 269/ باب في أن الأئمّة عليهم السلام بمن يشبهون ممن مضى وكراهية القول فيهم بالربوبية جاء في الحديث السادس عن سدير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن قوماً يزعمون أنكم آلهة يتلون بذلك علينا قرآناً (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الأَْرْضِ إِلهٌ) فقال: (يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء وبرء الله منهم ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم) قال: قلت: وعندنا قوم يزعمون أنكم رسل يقرأون علينا بذلك قرآناً (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فقال: (يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء وبرء الله منهم ورسوله ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم).
قال: قلت: فما أنتم؟
قال: (نحن خزان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة على من دون السما وفوق الأرض).
(635) عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: (ليس يخرج شيء من عند الله عز وجل حتّى يبدأ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ بأمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ بواحد بعد واحد، لكيلا يكون آخرنا أعلم من أوّلنا). الكافي 1: 255/ باب لولا أن الأئمّة عليهم السلام يزدادون لنفد ما عندهم/ ح 4.
(636) جاء في مشكاة الأنوار لعلي الطبرسي: 575/ الفصل الرابع نوادر الحب والبغض والتوفيق، قال الصادق عليه السلام: (ولايتي لآبائي أحب إليَّ من نسبي وولايتي لهم تنفعني من غير نسب ونسبي لا ينفعني من غير ولاية)، وفي بحار الأنوار 39: 299/ فيما رواه ابن أبي الحديد في شرحه/ ح 105، الروضة: قال الصادق عليه السلام: (ولايتي لعلي بن أبي طالب عليه السلام أحب إليَّ من ولادتي منه لأن ولايتي لعلي بن أبي طالب فرض وولادتي منه فضل).
(637) كمال الدين وتمام النعمة: 672 و673/ باب 58/ ح 25.
(638) الأنبياء: 22.
(639) الحج: 10.
(640) فصلت: 46.
(641) ق: 29.
(642) الأنعام: 149.
(643) الأنفال: 42.
(644) آل عمران: 79.
(645) أبواب الأطعمة المحرمة/ باب 1.
(646) بحار الأنوار/ المجلسي 31: 375/ باب 26 الشورى والاحتجاج.
(647) ذكر الشيخ عبّاس القمي في كتابه مفاتيح الجنان هذه العبارة ضمن مجموعة زيارات أمير المؤمنين عليه السلام المطلقة وعنونها بعنوان الزيارة الثانية هي الزيارة المعروفة بأمين الله وهي في غاية الاعتبار ومروية في جميع كتب الزيارات والمصابيح وقال العلامة المجلسي رحمه الله أنها أحسن الزيارات متناً وسنداً وينبغي المواظبة عليها في جميع الروضات المقدسة وهي كما روي باسناد معتبر عن جابر، عن الباقر عليه السلام أنه زار الإمام زين العابدين عليه السلام أمير المؤمنين عليه السلام فوقف عند القبر وبكى وقال: (السلام عليك يا أمين الله في أرضه وحجته على عباده، السلام عليك يا أمير المؤمنين، أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده وعملت بكتابه واتبعت سنن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم...) إلى آخر الزيارة وهي مروية في الصفحة 350 من كتاب مفاتيح الجنان الطبعة الأولى.
(648) في شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي 3: 37 ذكر تحت عنوان خطبة الزهراء عليها السلام جاء فيها هذا المقطع: (وزعمتم أن لا حظّ لي ولا أرث من أبي أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها أم تقولون إن أهل ملتين لا يتوارثان أوَلست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة أم أنتم بخصوص القرآن وعمومه أعلم ممن جاء به؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمّد والموعد يوم القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم).
(649) ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي 3: 80/ الباب 61 مقتل الحسين عليه السلام.
(650) الحاقة: 45 و46.
(651) الأنعام: 50.
(652) الحشر: 7.
(653) وسائل الشيعة/ (الإسلاميّة) 18: 81 و82/ ب 9/ ح21.
(654) وسائل الشيعة للحر العاملي 27: 169/ باب وجوب التوقف والاحتياط في القضاء والفتوى.
(655) فقد ورد قريب من هذا المضمون هذا النص: قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا كالشمس وعلي كالقمر وأهل بيتي كالنجوم) ورد ذلك في عوالي اللآلي لابن أبي جمهور الاحسائي 4: 86.
(656) جاء في كتاب الأسرار الفاطمية للشيخ محمّد فاضل المسعودي: ورد عن الإمام العسكري عليه السلام: (نحن حجج الله على الخلائق واُمّنا فاطمة حجة الله علينا).
(657) تقدم في (ص 358) بيان وتوضيح الفهم المعوج لرواية الدين الجديد.
(658) النور: 15.
(659) النور: 54.
(660) النساء: 59.
(661) ذكر الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة: 191/ باب الأخبار الدالة على أن المهدي من ولد الحسين عليه السلام/ ح 154 قال: وبهذا الإسناد عن أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد الأهوازي، عن الحسين بن علوان، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخُدري في حديث له طويل اختصرناه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام: (يا بنية إنّا أعطينا أهل البيت سبعاً لم يعطها أحد قبلنا نبينا خير الأنبياء وهو أبوك، ووصينا خير الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا خير الشهداء وهو عمّ أبيك حمزة، ومنّا من له جناحان خضيبان يطير بهما في الجنّة وهو ابن عمّك جعفر، ومنّا سبطا هذه الأمّة وهما ابناك الحسن والحسين، ومنّا والله الذي لا إله إلاّ هو مهدي هذه الأمّة الذي يصلي خلفه عيسى بن مريم).
(662) آل عمران: 7.
(663) المائدة: 44.
(664) آل عمران: 132.
(665) في مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: 738/ باب زيارة أمير المؤمنين يوم الغدير.
(666) جاء في دعاء الندبة المشهور كما في صحيفة المهدي عليه السلام جمع الشيخ جواد القيومي: 242، (اللهم اجعله الداعي إلى كتابك والقائم بدينك).
(667) حزب البعث العربي الاشتراكي: حزب تأسس في دمشق في سوريا في عام (1945م) و(1947م) من قبل أشخاص متأثرين بثورة رئيس الوزراء العراقي الأسبق رشيد عالي الكيلاني ضد الانكليز والحكومة العراقية وهذا الحزب هو الحزب الحاكم في الجمهورية العربية السورية الآن وهو الحزب الحاكم قبل انهيار النظام السابق في العراق وسقوط أعتى دكتاتور عرفته البشرية بعد النازية (صدام) وهذا الحزب تبنى المبدأ العلماني إلاّ أنه يمزج بينها وبين الدين، وهذا الحزب هو حركة قومية قادها ميشيل عفلق وصلاح بيطار من باريس إلى دمشق سنة (1932م) ويتهم الحزب رغم أنه يرفع شعارات الحرية من القيود الغربية والأوربية إلاّ أنه ذو ولاء مطلق لهذه الدول خصوصاً حزب البعث العراقي الذي يعتبر من أهم الأحزاب ذات الولاء للنظام الغربي والأمريكي.
لم يحقق الحزب أيّاً من أهدافه التي نادى بها بل جعل هذه الأهداف وسائل للابتزاز والسيطرة، ويعيش الحزب الآن في الأوساط العربية والقومية أزمة ثقة كبيرة لأنه أعطي فرصة لم يعطها أيّ حزب من قبله إلاّ أنه فشل فشلاً ذريعاً في استقطاب الجماهير بل وحتّى مؤيديه.
(668) ورد في كتاب المزار لمحمّد بن المشهدي: 401/ الباب 16 تحت عنوان: ما يقال كل يوم منه/ ح 1، عن علي بن الحسين عليه السلام جاء فيها: (اللهم صل على محمّد وآل محمّد شجرة النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومعدن العلم وأهل بيت الوحي، اللهم صل على محمّد وآل محمّد الفلك الجارية في اللجج الغامرة يأمن من ركبها ويغرق من تركها المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق...) إلى آخر قوله.
(669) المؤمنون: 32.
(670) البقرة: 129.
(671) في الأمالي للشيخ الصدوق: 150: وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (علي مع الحق والحق معه لا يفترقان حتّى يردا علي الحوض).
(672) روى الحافظ الأصفهاني في تاريخ أصفهان 2: 211 بسنده إلى علي بن الحسين عليه السلام عن صفية قالت: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجئت لاُحدّثه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقلّبني (ليودعني)، فلمّا بصر كان في بعض الطريق بصر برجلين من الأنصار، فدعاهما فقال: (أتدريان من هذه؟)، قالا: لا يا رسول الله، قال: (هذه صفية زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإني خشيت أن يوقع في أنفسكما شيئاً)، قالا: أوَعليك يا رسول الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق وإني خشيت أن يوقع في أنفسكما شيئاً).
(673) (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122).
(674) (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَْحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ) (المائدة: 44).
(675) حدّث أبو الأديان قال: كنت أخدم الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت عليه في علته التي توفي فيها عليه السلام، فكتب معي كتباً وقال: (امض بها إلى المدائن فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل إلى سر من رأى يوم الخامس عشر وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل).
قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي فإذا كان ذلك فمن؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم من بعدي، فقلت: زدني، فقال: من يصلي علي فهو القائم بعدي، فقلت: زدني، فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي، ثمّ منعتني هيبته أن أسأله عمّا في الهميان.
وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي عليه السلام، فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار والشيعة من حوله يعزونه ويهنونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة، لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور، فتقدمت فعزيت وهنيت فلم يسألني عن شيء، ثمّ خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كفن أخوك فقم وصل عليه فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة.
فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي عليه السلام على نعشه مكفناً فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: (تأخر يا عمّ فأنا أحق بالصلاة على أبي)، فتأخر جعفر، وقد أربد وجهه وأصفر.
فتقدم الصبي وصلى عليه ودفن إلى جانب قبر أبيه عليهما السلام ثمّ قال: (يا بصري هات جوابات الكتب التي معك)، فدفعتها إليه، فقلت في نفسي: هذه بينتان بقي الهميان، ثمّ خرجت إلى جعفر بن علي وهو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي من الصبي لنقيم الحجة عليه؟ فقال: والله ما رأيته قط ولا أعرفه.
فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي عليهما السلام فعرفوا موته فقالوا: فمن (نعزي)؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي فسلموا عليه وعزّوه وهنوه وقالوا: إن معنا كتباً ومالاً، فتقول ممن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منّا أن نعلم الغيب، قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان (وفلان) وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال وقالوا: الذي وجه بك لأخذ ذلك هو الإمام، فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته وإدعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين. (كمال الدين: 475 و476).
وعن هشام بن سالم قال: كنّا بالمدينة بعد وفات أبي عبد الله عليه السلام أنا وصاحب الطاق والناس مجتمعون على عبد الله بن جعفر أنه صاحب الأمر بعد أبيه، فدخلنا عليه أنا وصاحب الطاق والناس عنده وذلك أنهم رووا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (إن الأمر في الكبير ما لم تكن به عاهة)، فدخلنا عليه نسأله عمّا كنّا نسأل عنه أباه، فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟ فقال: في مائتين خمسة، فقلنا: ففي مائة؟ فقال: درهمان ونصف فقلنا: والله ما تقول المرجئة هذا، قال: فرفع يده إلى السماء فقال: والله ما أدري ما تقول المرجئة، قال: فخرجنا من عنده ضلالاً لا ندري إلى أين نتوجه أنا وأبو جعفر الأحول، فقعدنا في بعض أزقة المدينة باكين حيارى لا ندري إلى أين نتوجه ولا من نقصد؟ ونقول: إلى المرجئة؟ إلى القدرية؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى الخوارج؟ فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه، يومي إليَّ بيده فخفت أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر المنصور وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون إلى من اتفقت شيعة جعفر عليه السلام عليه، فيضربون عنقه، فخفت أن يكون منهم فقلت للأحول: تنح فإني خائف على نفسي وعليك، وإنما يريدني لا يريدك، فتنح عنّي لا تهلك وتعين على نفسك، فتنحى غير بعيد وتبعت الشيخ وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلص منه فما زلت أتبعه وقد عزمت على الموت حتّى ورد بي على باب أبي الحسن عليه السلام ثمّ خلاني ومضى، فإذا خادم بالباب فقال لي: أدخل رحمك الله، فدخلت فإذا أبو الحسن موسى عليه السلام فقال لي ابتداء منه: (لا إلى المرجئة ولا إلى القدرية ولا إلى الزيدية ولا إلى المعتزلة ولا إلى الخوارج إلي إليَّ) فقلت: جُعلت فداك مضى أبوك؟ قال: (نعم). قلت: مضى موتاً؟ قال: (نعم)، قلت: فمن لنا من بعده؟ فقال: (إن شاء الله أن يهديك هداك)، قلت: جُعلت فداك إن عبد الله يزعم أنه من بعد أبيه. قال: (يريد عبد الله أن لا يعبد الله)، قال: قلت: جُعلت فداك فمن لنا من بعده؟ قال: (إن شاء الله أن يهديك هداك)، قال: قلت: جُعلت فداك فأنت هو؟ قال: (لا، ما أقول ذلك)، قال: فقلت في نفسي: لم أصب طريق المسألة، ثمّ قلت له: جُعلت فداك عليك إمام؟ قال: (لا)، فداخلني شيء لا يعلم إلاّ الله عز وجل إعظاماً له وهيبة أكثر مما كان يحل بي من أبيه إذا دخلت عليه، ثمّ قلت له: جُعلت فداك أسألك عمّا كنت أسأل أباك؟ فقال: (سل تخبر ولا تذع، فإنّ أذعت فهو الذبح)، فسألته فإذا هو بحر لا ينزف، قلت: جُعلت فداك شيعتك وشيعة أبيك ضلال فألقي إليهم وأدعوهم إليك؟ وقد أخذت علي الكتمان؟ قال: (من آنست منه رشداً فالق إليه وخذ عليه الكتمان فإن أذاعوا فهو الذبح) وأشار بيده إلى حلقه، قال: فخرجت من عنده فلقيت أبا جعفر الأحول فقال لي: ما وراءك؟ قلت: الهدى فحدّثته بالقصة قال: ثمّ لقينا الفضيل وأبا بصير فدخلا عليه وسمعا كلامه وسألاه وقطعا عليه بالإمامة، ثمّ لقينا الناس أفواجاً فكل من دخل عليه قطع إلاّ طائفة عمّار وأصحابه وبقي عبد الله لا يدخل إليه إلاّ قليل من الناس، فلما رأى ذلك قال: ما حال الناس؟ فأخبر أن هشاماً صد عنك الناس، قال هشام: فأقعد لي بالمدينة غير واحد ليضربوني. (الكافي 1: 351 و352).
(676) ذكر السيد الخوئي في معجم رجال الحديث 18: 50/ تحت الرقم 11411، محمّد بن علي الشلمغاني:
قال الشيخ: محمّد بن علي الشلمغاني ويكنى أبا جعفر ويعرف بابن أبي العزاقر له كتب وروايات، كان مستقيم الطريقة، ثمّ تغيّر وظهرت منه مقالات منكرة إلى أن أخذه السلطان فقتله وصلبه ببغداد، وله من الكتب التي عملها في حال الاستقامة كتاب التكليف.
وقال النجاشي: محمّد بن علي بن الشلمغاني أبو جعفر المعروف بابن العزاقر كان متقدماً في أصحابنا، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب والدخول في المذاهب الردية، حتّى خرجت فيه توقيعات فأخذه السلطان وقتله وصلبه، وله كتب منها كتاب التكليف، ورسالة إلى ابن همام، وكتاب ماهية العصمة، وكتاب الزاهر للحجج العقلية، وكتاب المباهلة، وكتاب الأوصياء، وكتاب المعارف، وكتاب الايضاح، وكتاب فضل النطق على الصمت، وكتاب فضل العمرتين، وكتاب الأنوار، وكتاب التسليم، وكتاب البرهان، الزهاد والتوحيد، وكتاب البداء والمشيئة، وكتاب نظم القرآن، وكتاب الإمامة الكبير، وكتاب الإمامة الصغير.
ثمّ قال السيد الخوئي قدس سره: والتوقيع الذي ذكره الشيخ ذكره الطبرسي في الجزء الثاني من الاحتجاج مبسوطاً، وفيه: (إن محمّد بن علي المعروف بالشلمغاني عجل الله تعالى له النقمة ولا أمهله وقد ارتد عن الإسلام وفارقه والحد في دين الله، وادعى ما كفر معه بالخالق جلّ وتعالى، وافترى كذباً وزوراً، وقال بهتاناً واثماً عظيماً، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً، وإنّا برئنا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلوات الله عليه وسلام ورحمته وبركاته منه، ولعنّاه عليه لعائن الله تترا في الظاهر منها والباطن في السر والجهر وفي كل وقت وعلى كل حال وعلى كل من شايعه وبلغه هذا القول منّا فأقام على تولاه (توليه) بعده).
(677) الأعراف: 175 و176.
(678) بحار الأنوار للعلامة المجلسي 67: 64 الباب 45/ ح 1، عن عدّة الداعي.
(679) يس: 60.
(680) في الكافي للشيخ الكليني 2: 233/ باب المؤمن وعلامته وصفاته/ ح 9، قال أبو عبد الله عليه السلام: (إيّاك والسفلة، فإنّما شيعة علي من عف بطنه وفرجه واشتد جهاده وعمل لخالقه ورجى ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت أولئك فأولئك شيعة جعفر).
(681) في نهج البلاغة 3: 71/ 45 من كتاب له عليه السلام إلى عثمان بن حنيف: (بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث تقطع في ظلمة آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يد حافرها لأضغطها الحجر والمدر وسدّ فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر وتثبت على جوانب المزلق).
(682) الروم: 10.
(683) اختيار معرفة الرجال/ الطوسي 2: 816 و817.
(684) إختيار معرفة الرجال 2: 584.
(685) في الكافي للشيخ الكليني 5: 158/ باب من تكره معاملته ومخالطته/ ح 7، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (إيّاك ومخالطة السفلة، فإنّ السفلة لا يؤولوا إلى خير).
(686) في بحار الأنوار 66: 222 في ترجمة أبي الخطاب وأنه كافر ملعون/ ح 5؛ رجال الكشي عن عيسى شلقان قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام وهو يومئذٍ غلام قبل أوان بلوغه: جُعلت فداك، ما هذا الذي يسمع من أبيك أنه أمرنا بولاية أبي الخطاب ثمّ أمرنا بالبراءة منه؟ قال: قال أبو الحسن عليه السلام من تلقاء نفسه: (إن الله خلق الأنبياء على النبوة فلا يكونون إلاّ أنبياء، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلاّ مؤمنين، واستودع قوماً إيماناً فإن شاء أتمه وإن شاء سلبهم إيّاه، وإن أبا الخطاب كان ممن أعاره الله الإيمان، فلما كذب على أبي سلبه الله الإيمان)، قال: فعرضت هذا الكلام على أبي عبد الله عليه السلام قال: فقال: (لو سألتنا عن ذلك ما كان ليكون عندنا غير ما قال).
(687) موسوعة الإمام علي/ الريشهري: 81، في نور البراهين عن كميل لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين ما الحقيقة؟ فقال: (ما لك والحقيقة؟)، فقال: أوَلست صاحب سرك يا أمير المؤمنين؟ فقال: (بلى، ولكن أخاف أن يطفح عليك ما يترشح منّي)، وتجد في ترجمة جملة من أصحاب الأئمّة عليهم السلام عبارة أنه صاحب السر أو صاحب سر الإمام، للوقوف على موارد ذلك يراجع: الفوائد الرجالية 2: 162؛ أعيان الشيعة 4: 594؛ الكنى والألقاب 3: 173؛ ومعجم مصطلحات الرجال والدراية: 85.
(688) الكهف: 65 - 82.
(689) جاء في نهج البلاغة 2: 180 من كلام له في تنزهه عن الغدر/ 200، (والله ما معاوية بأدهى منّي ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة. والله ما استغفل بالمكيدة ولا استغمز بالشديدة).
(690) الكهف: 72 و73.
(691) الكهف: 75 و76.
(692) الكهف: 77.
(693) الضروري يعني ما لا اختلاف فيه بين المسلمين فهو أمر مسلّم عندهم، وضروري العقل يعني الأمر الواضح ولا خلاف فيه بين العقلاء، وضروري المذهب هو ما لا خلاف فيه بين أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
(694) الروم: 30.
(695) إشارة إلى ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (بشّر المخبتين بالجنّة، بريد بن معاوية العجلي، وأبو بصير بن ليث البختري المرادي، ومحمّد بن مسلم، وزرارة، أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست) الذي رواه الشيخ الطوسي في اختيار معرفة الرجال 1: 398.
(696) إختيار معرفة الرجال 2: 612.
(697) الأعراف: 175.
(698) الزلزلة: 7 و8.
(699) الكافي 2: 128/ باب ذم الدنيا والزهد فيها/ ح 1.
(700) لقمان: 22.
(701) البقرة: 256.
(702) ميزان الحكمة 1: 223.
(703) جاء في تحف العقول لابن شعبة الحراني: 334 ما روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، كلامه عليه السلام سماه بعض الشيعة نثر الدرر: (العلم ثلاثة آية محكمة، وفريضة عادلة، وسُنّة قائمة).
(704) في ميزان الحكمة 3: 1877 (من عرف نفسه فقد عرف ربه)، 2598/ الإمام علي عليه السلام: (من عرف نفسه عرف ربه).
(705) ورد قريب منه في جامع أحاديث الشيعة السيد البروجردي 13: 248/ أبواب جهاد النفس وتهذيبها وفضائل الأخلاق ورذائلها وهي (87) باباً/ 598 (21) ففيه 62894 وروى الحسن بن علي بن فضال عن غالب بن عثمان عن شعيب العقرقوفي عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام قال: (من ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا اشتهى وإذا غضب وإذا رضي حرّم الله جسده (من) على النار).
(706) البقرة: 248.
(707) البقرة: 247 و248.
(708) النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين: 374؛ تفسير القمي 1: 82؛ بحار الأنوار 13: 440.
(709) النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين: 375 و376؛ الكافي 3: 472؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام: 278.
(710) جاء في غيبة الشيخ الطوسي في الفصل الذي جعله للكلام في ولادة صاحب الزمان عليه السلام وإثباتها بالدليل والأخبار ص 229: وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمّد عليه السلام عن مثل ذلك فقال له: (العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك فعنّي يؤديان وما قالا فعنّي يقولان فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان)، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك، قال: فخر أبو عمرو ساجداً وبكى...
(711) فإنّ لكل رسول شريعة كما بين المصنف ذلك ضمن عنوان (الدين والشريعة والمنهاج) وبالتالي فإنّ كل شريعة في نفسها وبلحاظ مشرعها حجة ولا تحتاج أو تتوقف على اقرار أيّ نبي أو رسول آخر، كما أن لكل شريعة ثوابت عامة مشتركة مع الشرائع الأخرى وهي فرائض الدين وثوابت الملّة وهذه تحتاج لاقرار من الرسول اللاحق لتكون حجة على أمّة الرسول اللاحق، وهذا الاقرار من الرسول اللاحق دليل إثباتي لتلك الفرائض والثوابت وإلاّ فإنّها ثبوتاً واحدة وتقدم للمصنف أنها ضروريات وخارجة عن دائرة حجية حتّى الرسل والأنبياء لذا فالرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم له أن يقر لأمّته ما هو في دائرة الحجج أي ضروريات وفرائض الله فضلاً عن بديهيات العقل، أما ما في دائرة الشريعة وكل الشرائع السابقة لشريعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ليس له إثباتها وإلاّ انتقض الغرض من بعثته صلى الله عليه وآله وسلم لأنه بعث بشريعة جديدة وإثبات شيء من الشرائع السابقة ينافي ذلك.
(712) ج 3: ص 28، عنه بحار الأنوار 2: 99.
(713) ج 1: ص 107.
(714) غيبة النعماني: 69/ باب 4/ ح 4.
(715) في الغيبة للشيخ الطوسي: 478/ الفصل 8 فصل ذكر بعض منازله وصفاته وسيرته/ ح 504 عن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل أنه قال: (يا أبا حمزة إن منّا بعد القائم أحد عشر مهدياً من ولد الحسين عليه السلام).
(716) مصباح المتهجد: 411.
(717) مختصر بصائر الدرجات للحسين بن سليمان الحلي: 211/ تحت عنوان في وجوب التقية في زمن حكام الجور.
(718) راجع معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام 3: 329/ الرقم 874 و875/ تحت عنوان رجعة الحسين وأمير المؤمنين عليهما السلام.
(719) أنظر: الكافي 1: 178 و179/ باب أن الأرض لا تخلو من حجة/ ح 1 - 13.
(720) البقرة: 30.
(721) غيبة الطوسي: 151.
(722) بحار الأنوار 92: 332.
(723) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: 395.
(724) بحار الأنوار 52: 294/ ح 43.
(725) وذلك من أمارات الصحة والوثاقة، راجع: معجم رجال الحديث للسيد الخوئي 5: 272/ رقم 2726.
(726) في الكافي 1: 70/ باب الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب.
(727) بحار الأنوار 11: 141.
(728) الأمالي/ الصدوق: 500/ ح 686/15.
(729) معاني الأخبار: 58.
(730) الكافي 1: 59/ باب الردّ إلى الكتاب والسُنّة وأنه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلاّ وقد جاء فيه كتاب أو سُنّة/ ح 1.
(731) الكافي 1: 59/ باب الردّ إلى الكتاب والسُنّة/ ح 4.
(732) في الكافي 1: 70/ في باب الأخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب/ ح 9.
(733) في الكافي 1: 377/ باب فيمن عرف الحق من أهل البيت عليهم السلام ومن أنكر/ ح 4.
(734) في الكافي 1: 58/ باب البدع والرأي والمقاييس/ ح 19، قال علي عليه السلام: (ما أحد ابتدع بدعة إلاّ ترك بها سُنّة).
(735) التوبة: 45.
(736) في مصباح البلاغة مستدرك نهج البلاغة الميرجهاني 1: 236، (من كان على يقين فأصابه ما يشكّ فليمض على يقينه فإنّ الشكّ لا يدفع اليقين ولا ينقضه).
(737) الوسائل 5: 321/ باب 10 من أبواب الخلل/ ح 3.
(738) في وسائل الشيعة (آل البيت) للحر العاملي 1: 247/ أبواب نواقض الوضوء الباب الأول أنه لا ينقض الوضوء إلا اليقين/ (636) 6؛ وفي الخصال بإسناده عن علي عليه السلام/ ح 400، قال: (من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين).
(739) المدثر: 52.
(740) دعائم الإسلام/ القاضي النعماني: 80/ باب ذكر الرغائب في العلم.
(741) المؤمنون: 97.
(742) الشعراء: 221 و222.
(743) الأنعام: 71.
(744) الأعراف: 200.
(745) الأعراف: 201.
(746) مريم: 83.
(747) الحج: 53.
(748) الأنعام: 121.
(749) تفسير البرهان 4: 485.
(750) الأنعام: 59.
(751) مناقب آل أبي طالب 1: 317؛ بحار الأنوار 40: 153.
(752) المؤمنون: 108.
(753) كامل الزيارات/ جعفر بن محمد بن قولويه: 539 - 542.
(754) في الكافي للشيخ الكليني 1: 401/ باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب/ ح 2، عن علي بن الحسين عليهما السلام: (والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله ولقد آخا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهما فما ظنكم بسائر الخلق).
(755) الصافات: 8 - 10.
(756) الأنبياء: 78 و79.
(757) بحار الأنوار 2: 99.
(758) الأنعام: 121.
(759) الشعراء: 221 و222.
(760) النساء: 122.
(761) إشارة إلى ما رواه الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد: 742 في زيارة لأمير المؤمنين عليه السلام جاء فيها: (السلام عليك أيها النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون وعنه مسؤولون، السلام عليك أيها الصديق الأكبر).
(762) الواقعة: 77 - 79.
(763) الأحزاب: 33.
(764) الواقعة: 77 - 79.
(765) النمل: 75.
(766) آل عمران: 7.
(767) الإسراء: 105.
(768) الصافات: 104 و105.
(769) الإسراء: 60.
(770) طه: 66 - 69.
(771) ص: 41.
(772) الجن: 6.
(773) يس: 12.
(774) النمل: 75.
(775) الدخان: 1 - 3.
(776) الواقعة: 79.
(777) الصافات: 10.
(778) النمل: 40.
(779) الأعراف: 175.
(780) في الكافي 2: 723/ باب فضل القرآن/ ح 16: عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: (لو قرءت الحمد على ميت سبعين مرة ثمّ رُدّت فيه الروح ما كان ذلك عجباً).
(781) علم النانو والكوانتم من العلوم الفيزيائية الجديدة والتي تهتم بدراسة أصغر الجسيمات الإلكترونية الحاملة للطاقة.
(782) الأعراف: 175 و176.
(783) في أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين 9: 41 في حديثه عن مالك بن حارث الأشتر: ولقد سر معاوية بمقتله، فقال: كانت لعلي يمينان قطعت إحداهما بصفين (يقصد عمّار بن ياسر) وقطعت الأخرى بمصر (ويقصد مالكاً). أما الإمام علي المحب المفجوع بمحبة الأمين فقد قال فيه: (كان لي مالك كما كنت لرسول الله).
(784) في الغيبة للشيخ الطوسي في باب ذكر المذمومين الذين ادعوا البابية: 421، قال تحت الرقم 385: أخبرني الشيخ أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان، عن أبي الحسن علي بن بلال المهلبي قال: سمعت أبا القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه يقول: أما أبو دلف الكاتب - لا حاطه الله - فكنّا نعرفه ملحداً ثمّ أظهر الغلو، ثمّ جنَّ وسلسل، ثمّ صار مفوضاً وما عرفناه قط إذا حضر في مشهد إلاّ استخف به، ولا عرفته الشيعة إلاّ مدة يسيرة، والجماعة تتبرأ منه وممن يومي إليه وينمس به، وقد كنّا وجهنا إلى أبي بكر البغدادي لما ادّعى له هذا ما ادّعاه، فأنكر ذلك وحلف عليه، فقبلنا لذلك منه، فلما دخل بغداد مال إليه وعدل عن الطائفة وأوصى إليه، لم نشكّ أنه على مذهبه، فلعناه وبرئنا منه، لأن عندنا أن كل من ادّعى الأمر بعد السمري رحمه الله فهو كافر منمس ضال مضل، وبالله التوفيق.
(785) في بحار الأنوار 52: 226/ ح90، قال أمير المؤمنين عليه السلام: (لا يقوم القائم حتّى تفقأ عين الدنيا وتظهر الحمرة في السماء، وتلك دموع حملة العرش على أهل الأرض، وحتّى يظهر فيهم قوم لا خلاق لهم، يدعون لولدي وهم براء من ولدي. تلك عصابة رديئة لا خلاق لهم، على الأشرار مسلطة، وللجبابرة مفتنة وللملوك مبيرة، يظهر في سواد الكوفة، يقدمهم رجل أسود اللون والقلب، رث الدين، لا خلاق له، مهجن زنيم، عتل: تداولته أيدي العواهر من الأمهات (من شر نسل لا سقاها الله المطر) في سنة إظهار غيبة المتغيب من ولدي صاحب الراية الحمراء، والعلم الأخضر، أي يوم للمخيبين بين الأنبار وهيت. ذلك يوم فيه صيلم الأكراد والشراة، وخراب دار الفراعنة، ومسكن الجبابرة، ومأوى الولاة الظلمة، واُمّ البلاء، وأخت العار، تلك ورب علي يا عمر بن سعد بغداد ألا لعنة الله على العصاة من بني أمية وبني فلان الخونة الذين يقتلون الطيبين من ولدي، ولا يراقبون فيهم ذمّتي، ولا يخافون الله فيما يفعلونه بحرمتي. إن لبني العبّاس يوماً كيوم الطموح، ولهم فيه صرخة كصرخة الحبلى، الويل لشيعة ولد العبّاس من الحرب التي سنح بين نهاوند والدينور، تلك حرب صعاليك شيعة علي، يقدمهم رجل من همدان اسمه على اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. منعوت موصوف باعتدال الخلق، وحسن الخلق، ونضارة اللون، له في صوته ضحك، وفي أشفاره وطف، وفي عنقه سطع فرق الشعر، مفلج الثنايا، على فرسه كبدر (تمام)، تجلى عنه الغمام، تسير بعصابة خير عصابة، آوت وتقربت ودانت لله بدين تلك الأبطال من العرب الذين يلحقون حرب الكريهة، والدبرة يومئذٍ على الأعداء إن للعدو يوم ذاك الصيلم والاستئصال). أقول: إنما أوردت هذا الخبر مع كونه مصحفاً مغلوطاً وكون سنده منتهياً إلى شر خلق الله عمر بن سعد لعنه الله لاشتماله على الاخبار بالقائم عليه السلام ليعلم تواطؤ المخالف والمؤالف عليه عليه السلام.
(786) مزار الشهيد الأوّل: 101/ زيارة الأمير عليه السلام ليلة ويوم المبعث.
(787) بحار الأنوار 44: 364.
(788) جاء في اللهوف في قتل الطفوف للسيد ابن طاووس في الصفحة (40) في معرض حديثه عن خروج الحسين من مكّة إلى العراق، فقال له ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال فقال له: (قد قال لي إن الله قد شاء أن يراهن سبايا) وسلم عليه ومضى.
(789) الأنعام: 59.
(790) قال الفاضل الهندي في شرح العينية الحميرية: 83، فصل في ذكر ما يتعلق بالقصيدة التي نحن بصدد شرحها وروى بعض أصحابنا بسنده عن سهل بن ذبيان قال: دخلت على الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في بعض الأيام قبل أن يدخل عليه أحد من الناس فقال لي: (مرحبا بك يا ابن ذبيان، الساعة أراد رسولي أن يأتيك لتحضر عندنا)، فقلت: لماذا يا ابن رسول الله؟ فقال: (لمنام رأيته البارحة، وقد أزعجني وأرقني). فقلت: خيراً يكون إن شاء الله تعالى؟ فقال: (يا ابن ذبيان، رأيت كأني نصب لي سلم فيه مائة مرقاة، فصعدت إلى أعلاه). فقلت: يا مولاي أهنئك بطول العمر، ربما تعيش مائة سنة، لكل مرقاة سنة، فقال لي عليه السلام: (ما شاء الله كان). ثمّ قال: (يا ابن ذبيان، فلما صعدت إلى أعلى السلم رأيت كأني دخلت قبة خضراء يرى ظاهرها من باطنها، ورأيت جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً فيها وإلى يمينه وشماله غلامان حسنان يشرق النور من وجههما، ورأيت امرأة بهية الخلقة، ورأيت بين يديه شخصاً بهي الخلقة جالساً عنده، ورأيت رجلاً واقفاً بين يديه وهو يقرأ هذه القصيدة: (لاُمّ عمرو باللوى مربع). فلما رآني النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لي: مرحباً بك يا ولدي يا علي بن موسى الرضا سلم على أبيك علي، فسلمت عليه. ثمّ قال لي: سلم علي اُمّك فاطمة الزهراء، فسلمت عليها. ثمّ قال لي: وسلم على أبويك الحسن والحسين، فسلمت عليهما. ثمّ قال لي: وسلم على شاعرنا ومادحنا في دار الدنيا السيد إسماعيل الحميري، فسلمت عليه; وجلست فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السيد إسماعيل وقال: أعد إليَّ ما كنّا فيه من إنشاد القصيدة، فأنشد يقول:

لاُمّ عمرو باللوى مربع * * * طامسة أعلامه بلقع

فبكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما بلغ إلى قوله: ووجه كالشمس إذ تطلع بكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة عليها السلام معه ومن معه، ولما بلغ إلى قوله:

قالوا له لو شئت أعلمتنا * * * إلى من الغاية والمفزع

رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه وقال: إلهي أنت الشاهد علي وعليهم أني أعلمتهم أن الغاية والمفزع علي بن أبي طالب، وأشار بيده إليه، وهو جالس بين يديه عليه السلام). قال علي بن موسي الرضا عليهما السلام: (فلما فرغ السيد إسماعيل الحميري من إنشاد القصيدة التفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليَّ وقال لي: يا علي بن موسى احفظ هذه القصيدة ومُرْ شيعتنا بحفظها، وأعلمهم أن من حفظها وأدمن قراءتها ضمنت له الجنّة على الله تعالى). قال الرضا عليه السلام: (ولم يزل يكرّرها علي حتّى حفظتها منه. (بحار الأنوار 47: 328).
(791) تهذيب الأحكام 6: 118.
(792) جاء في الكافي للشيخ الكليني 1: 371/ باب أنه من عرف إمامه لم يضرّه تقدم هذا الأمر أو تأخر/ 5، عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد عن علي بن النعمان عن محمّد بن مروان عن فضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: (من مات وليس له إمام فميتته ميتة جاهلية، ومن مات وهو عارف لإمامه لم يضرّه، تقدّم هذا الأمر أو تأخر، ومن مات وهو عارف لإمامه كان كمن هو مع القائم في فسطاطه).
(793) في صحيح مسلم 6: 22/ باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).
(794) في بحار الأنوار للعلامة المجلسي 13: 301/ الباب العاشر قصص موسى وخضر عليهما السلام، وفي رواية: (رحم الله موسى عجل على العالم أما أنه لو صبر لرأى منه من العجائب ما لم يرَ).
(795) يوسف: 89 و90.
(796) كمال الدين وتمام النعمة: 341/ باب 33/ ح 21.
(797) في كتاب المزار لمحمّد بن المشهدي في الباب التاسع تحت عنوان دعاء الندبة في ص 581 جاء: (بنفسي أنت من مغيب لم يخلُ منّا، بنفسي أنت من نازح ما نزح عنّا، بنفسي أنت أمنية شائق يتمنى، من مؤمن ومؤمنة ذكرا فحنّا، بنفسي أنت من عقيد عزّ لا يسامى، بنفسي أنت من أثيل مجد لا يجارى، بنفسي أنت من تلاد نعم لا تضاها، بنفسي أنت من نصيف شرف لا يساوى).
(798) كتاب الجغرافية السياسية للشيعة تأليف فرانسو توال وهو نائب رئيس الكتلة الوسط في مجلس الشيوخ الفرنسي وأيضاً هو من مركز الدراسات الاستراتيجية الفرنسية.
(799) الاحتجاج 2: 322.
(800) البقرة: 30.
(801) الإمامة الإلهية 3: 276/ الفصل السابع ليلة القدر حقيقة الإمامة (أسّس المعرفة) و3: 401 الفصل الثامن معتقدات الإمامة والمهدي (حاضر المعرفة).
(802) كتاب الإمامة الإلهية مجموعة بحوث استغرقت العامين الدراسيين 1417 و1418هـ في الجزء الأوّل وقد قام بتحرير وضبط هذه المباحث ثلة من ذوي البصيرة والمعرفة من تلامذة المصنف والكتاب يعتبر من أهم روافد المكتبة الإسلاميّة في باب العقيدة والمعرفة حسب منهج أهل البيت عليهم السلام في الإمامة الإلهية، ويقع الكتاب في أربعة أجزاء وثلاثة مجلدات ويحوي في طياته ثمانية فصول فضلاً عن فصول الجزء الرابع اشتملت على عدة مباحث ومقالات وفوائد ونماذج وتطبيقات تضمنت بمجالها أبحاث ذات قيمة علمية عالية جدّاً وبعد تخصصي نوعي في بابها بل الكثير من مطالب الكتاب لم تخرج من قبل بهكذا أسلوب علمي وبعد تخصصي رصين، فجاء هذا الكتاب القيم فريداً في بابه، ومن بين تلك الفصول المهمة التي لا ينبغي للقارئ إهمالها الفصل السابع والثامن الذين تجلى فيهما البعد التخصصي الفريد للمصنف في هذا الباب حيث أكسب البحث المهدوي بعداً تخصصياً وطابعاً عصرياً لا يستغني عنه المتخصص فضلاً عن غيره.
(803) البقرة: 30.
(804) في الرواية عن الصادق عليه السلام قال: (الحجة قبل الخلق، ومع الخلق، وبعد الخلق) الكافي 1: 177/ باب أن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلاّ بإمام/ ح 4.
(805) المصدر السابق.
(806) البقرة: 31.
(807) البقرة: 124.
(808) السجدة: 23 و24.
(809) الكهف: 65.
(810) في الكافي للشيخ الكليني 1: 179/ باب أنه لو لم يبق في الأرض إلاّ رجلان لكان أحدهما الحجة/ ح 10: علي بن ابراهيم عن محمّد بن عيسى عن محمّد بن الفضيل عن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال: (لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت).
(811) البقرة: 34.
(812) قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَْسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (البقرة: 31).
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (الأعراف: 11).
وقوله تعالى: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (الحجر: 28 و29).
وقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (الإسراء: 61).
وقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (الكهف: 50).
وقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى) (طه: 116).
وقوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (سبأ: 40).
(813) النازعات: 2.
(814) النازعات: 5.
(815) البقرة: 31 - 33.
(816) الحجر: 28 و29.
(817) في مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمي: 533 في دعاء الندبة المبارك جاء هذا المقطع الشريف: (أوطأته مشارقك ومغاربك وسخرت له البراق وعرجت بروحه إلى سمائك وأودعته علم ما كان وما يكون إلى انقضاء خلقك).
(818) الكهف: 62 - 64.
(819) الكهف: 78.
(820) الروم: 10.
(821) الرعد: 11.
(822) روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة: 427/ ح 416 و417، عن أبي بصير قال: قلت له - الإمام الصادق عليه السلام -: ألهذا الأمر أمد نريح إليه أبداننا وننتهي إليه؟ قال: (بلى، ولكنكم أذعتم فزاد الله فيها). وعن الباقر عليه السلام قال: (إنَّ الله تعالى كان وقّت لهذا الأمر في السبعين، فلما قتل الحسين عليه السلام اشتد غضب الله على أهل الأرض، فأخّره إلى أربعين ومائة سنة، فحدّثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم قناع السر، فأخّره الله...).
(823) من لا يحضره الفقيه 1: 305/ باب ما يجزي من القول عند زيارة جميع الأئمّة عليهم السلام/ ح 1.
(824) بحار الأنوار 67: 287.
(825) الحجرات: 13.
(826) التوبة: 32.
(827) التوبة: 33.
(828) في كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق في الباب الرابع والعشرين في الحديث السابع والعشرين جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن (خلفائي وأواصيائي وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر أوّلهم أخي وآخرهم ولدي)، قيل: يا رسول الله ومن أخوك؟ قال: (علي بن أبي طالب)، قيل: ومن ولدك؟ قال: (المهدي الذي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملأت ظلماً وجوراً والذي بعثني بالحق نبياً لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه وتشرق الأرض بنوره ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب).
(829) كمال الدين: 287/ باب 25/ ح 6.
(830) بحار الأنوار 52: 122.
(831) كمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4.
(832) كتاب الغيبة للنعماني: 301/ باب 16/ ح 6.
(833) الأحزاب: 33.
(834) الأعراف: 187.
(835) الرعد: 39.
(836) انتهى تقرير ما أفاده سماحة الشيخ السند في الرابع من شهر رمضان المبارك في سنة (1428هـ) في النجف الأشرف بتوفيق من الله تعالى ودعوات المؤمنين.