دراسة في علامات الظهور
تأليف: السيد جعفر مرتضى الحسيني العاملي
فهرس المطالب
الانتظار المّر
تقديم
الفصل الأول: نظرة في شؤون الإمامة والأمة
ركنان تقوم الإمامة عليهما
التأكيد على الركن الأول
التأكيد على الركن الثاني
النموذج الأول: علي (عليه السلام) وإخباراته الغيبية
علي (عليه السلام) في العراق
التفسير المعقول
التوضيح والربط
النموذج الثاني: الإمام الرضا (عليه السلام) والجفر والجامعة
النموذج الثالث: المهدية وعلامات الظهور
الاخبارات المستقبلية في دائرتين
الاخبارات صادقة رغم الموانع
الإمام، وإدارة شؤون الأمة
لماذا إثنا عشر إماماً فقط؟!
المهدية في موقعها الطليعي والطبيعي
علامات الظهور في خدمة الهدف
الفصل الثاني: علائم الظهور في تقييم عام
الظاهرة المألوفة
الانحراف الخطير
الانحراف يتضاعف
الأئمة واقفون على سلبيات الأمر
ما هو الحل؟!
الفرق بين ما وقع وبين ما سيقع
الحل الأفضل
العلامات التي هي من المحتوم
ألف: الطائفة الأولى من الروايات
المجلسي: والبداء في المحتوم
رأينا: البداء في المحتوم!!
ب: الطائفة الثانية من الروايات
الانتظار المر
مزجاة إلى ولي الله الأعظم الحجة بن الحسن (عجل الله تعالى ظهوره الشريف)
صفوَةَ الخلق معدن المكرماتِ * * * سابقَ السابقين بالخيراتِ
يا إمام الأحرار يا ذروة المجـ * * * ـدِ ويا نجدةَ السراةِ الكُفاة
يا ملاذ العُفاة في ضَنكِ المحـ * * * ـل وغوثَ الملهوفِ في النائبات
قولُك الفصلُ حكمُك العدلُ يا من * * * لك عزم أمضى من المرهفات
لك ذاتٌ قدسيةٌ وصفاتٌ * * * قد تعالت على جميع الصّفات
لك مجد أدنى الذُّرى منه أوْفَتْ * * * في علاها على ذُرى النَّيرات
لا تَنال العقولُ أدنى مداها * * * وبلوغُ الأقصى من المعجزات
قد تحدّرْت من أرومة عزّ * * * ومن الطاهرين والطاهرات
قد زكا محتدٌ وطاب نجارٌ * * * وصفا العرْق من هَناً وهَنات
كل ما في الوجود ما زال يتلو * * * بعضَ آيات فضلك البينات
هي وحيُ القرآن وهي نثار * * * من معاني الإنجيل والتوراة
سيدي أنت رحمةٌ للبرايا * * * أنت رمزُ البقاء للكائنات
أنت للمؤمنين واحة أمن * * * أنت سيفٌ على رقاب الطغاة
أنت في ظلمة الجهالات نورٌ * * * بل منار الهدى لكل الهداة
أنت أغنيت بل وأحييت دنياً * * * بالندى والهدى وبالمكرمات
أنت قدَّست كلَّ صاحب قدس * * * وغمرت الوجود بالبركات
أنت إما بنا ادلهمّت خطوبٌ * * * ورمانا الزمان بالقاصمات
وإذا الكفر عاث في الأرض بغياً * * * ودهى الكونَ حندسُ الظلمات
دفقة النور نهلة الماء للصادي * * * ربيع المنى وسرُّ الحياة
* * *
سيدي أنت أنت عزِّي وذخري * * * فاستمع سيدي لبعض شكاتي
زهرة العمر إن تكن تتلاشى * * * بمرور الساعات واللحظات
فلماذا ـ يا حسرتا ـ نصب عيني * * * تتلاشى في إثرها أُمنياتي
ولماذا أرى الأناشيد ترْتـ * * * ـدُّ نياحاً يطفو على النغماتِ
وأرى الخصب والربيع فآتيـ * * * ـه فألقى الربيعَ محضَ مواتِ
والضنى ماجَ في الأزاهير حتى * * * صوَّحَت في شبابها زهراتي
وأرى الأُفقَ طافحاً زخرت في * * * فيض وكاف غيثه واحاتي
فأحثُّ الخطى إليه، ولكن * * * أثقلت كظةُ الظَّما خُطواتي
ثمّ إذ جئْته ولم أرَ شيئاً * * * غيرَ لَمع السراب في الفلوات
يتلاشى قلبي، وقد بُحَّ صوتي * * * ثم مات الصدى على لهَواتي
* * *
سيدي عاثتِ الهموم بقلبي * * * ورمتني بأعظم النكبات
ودهتني دهيا الفراق فأصبحـ * * * ـت أسيرَ الهموم والكربات
مزَّقَتْني سيوفه، وأحاطتْ * * * بي أفاعيه من جميع الجهات
عصفتْ بي رياحه فَسَمومٌ * * * لَفْحُ ما هبَّ من صَبا النّسمات
ورمتني في مَهْمه التْيه يُلهيني * * * ضياعي أجترُّ فضلَ شتاتي
أتلَظى بالوجد أقْتاتُ دمعي * * * وكأني أسْتافُ بعض رُفاتي
وعلى الجمرِ رُحتُ أمْشي ولكن * * * ذاك جمر الآهات والحسرات
تتوالى الآهات حرَّى بَواك * * * آه ماذا تفيدني آهاتي
زَفرَة الوجد وهي تَلفحُ قلبي * * * صهَرَته بها لظى الزفرات
فالجحيم التي بها سوف يُجزى * * * كل باغ و كل طاغ وعات
وَمْضَةٌ من لهيب وجدي وشوقي * * * أوقدتها فكيف بالوَمضات
* * *
سَرْمَدِيّاً ـ يا سيدي ـ صار حُزني * * * غصصاً مرَّةً غدت لذّاتي
بسمتي لوعةٌ، حنيني شجوٌ * * * ونشيدي ثواكلُ العَبَراتِ
أشَتاتي أم غُربتي لك أشكو * * * أنت أدرى بغربتي وشتاتي
ضاق صدري وعيلَ صبري وإني * * * خائفٌ من ذنوبي الموبقات
فلو أني أحظى بِنَظرَةِ عطف * * * منك لم أخْشَ كل ما هو آت
ليس إلاّك من يداوي جراحي * * * فجراحي أعْيَتْ جميع الأساةِ
هب لقلبي حياته وتعاهد * * * بالندى كل زهرة في حياتي
وازرع الأُفق بالورود يغشي * * * فوْحُ أطيابها جميع الجهات
وامسح البؤس عن عيوني وهَدْهِدْ * * * بالسنا خاطري وبالبسمات
وبفيض الحنان والحب فلتُمـ * * * ـرعْ رحابي وليفعم الطّهرُ ذاتي
* * *
سيدي جئت أطلب الرِّفْدَ فاعطف * * * واستجب لي بحق ذي الثَّفنات
أتمنى رضاك فهو نجاة * * * لي، فأنتم ـ والله ـ فُلْكُ النجاة
أتراني أحظى بقربك يوماً * * * أتراني أراك قبل وفاتي
آه يا ليتني أراك وأني * * * منك قد نلت أعظم البركات
أمنيات عزيزة وعذابٌ * * * حبذا لو تحققت أمنياتي
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد..
فإن هذا الكتاب قد جاء ليعالج ظاهرة قد اعتبرت سلبيةً إلى حد كبير. وهي ظاهرة التعامل مع علامات الظهور من زاوية معينة لا تنسجم مع الأهداف الحقيقية.
فقد عالج هذا الكتاب موضوع الإخبارات الغيبية للأئمة (عليهم السلام) بعلامات الظهور والموقف المتخذ، والذي ينبغي أن يتخذ منها. ثم تقسيمها إلى ما هو من المحتوم وما ليس من المحتوم.
وأهداف هذا التقسيم ودوافعه بصورة عامة.
ومهما يكن من أمر: فإن ما نرمي إليه في هذه الدراسة الموجزة إنما هو مجرد إعطاء الرأي بصراحة وبموضوعية وتسجيل الموقف على أساس علمي رصين وليس هو الاستقصاء والاستعياب.
والله نسأل: أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يلهمنا النية الصادقة وصواب القول والعمل الصالح إنه ولي قدير.
21 شهر رمضان المبارك سنة 1411 هـ. ق
جعفر مرتضى العاملي
ركنان تقوم الإمامة عليهما:
إن من المعلوم والمفهوم: أن الإمامة أصل أصيل عند الشيعة الإمامية، فهي وفقاً للأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة ـ امتداد للنبوة ـ لا يمكن تحقيق الأهداف الإلهية بإسعاد البشر، وإيصالهم إلى كمالهم، ونيلهم درجات القرب والرضا الإلهي بدونها.
وهي كذلك، منصب إلهي، لابد من الرجوع فيه إلى الله العالم الحكيم والمدبر الرحيم سبحانه وتعالى.
فهو وحده الذي يعين الإمام، ويدلّ عليه بواسطة النص، حيث يكون هذا الإمام قد تربى تربية إلهية خالصة في مهبط الوحي، ومعدن الرسالة ثم بعد ذلك في حجر الإمامة، حيث إن ذلك من شأنه أن يمنحه الفرصة لاكتساب علومه ومعارفه الشاملة من مقام النبوة، ومصدر المعرفة الأول. أو من وارث علمه، والإمام الحاضر والقائم بالأمر من بعده في كل عصر وزمان.
ونستخلص من ذلك:
أن الإمامة تقوم على ركنين أساسين:
أحدهما: النص القاطع لكل عذر.
الثاني: العلم الخاص، الذي يتلقاه الإمام (عليه السلام) من مقام النبوة مباشرة، أو بالواسطة هذا بالإضافة إلى الملكات والخصائص القيادية، وكل ما
من شأنه أن يحفظ المسيرة، ويضمن سلامة الاتجاه، مثل صفة العصمة، والتدبير، والحنكة، والشجاعة، والكرم، وغير ذلك مما يساعده على النهوض بأعباء المسؤولية على النحو الأكمل والأفضل والأمثل.
التأكيد على الركن الأول:
ونلاحظ هنا: أن الأئمة (عليهم السلام) قد اهتموا بالتأكيد على هذين الركنين الذين أشرنا إليهما. حتى إن علياً (عليه السلام) قد استشهد لحديث الغدير بالصحابة والبدريين منهم خاصة في أكثر من مورد، وأكثر من مناسبة، في رحبة الكوفة، وفي صفين وفي الجمل، وفي يوم الشورى، فشهد جم غفير منهم بسماعهم ذلك مباشرة منه (صلّى الله عليه وآله وسلم).
كما أن الإمام الحسين (عليه السلام) قد جمع الصحابة في موسم الحج، وذكرهم بفضائل أبيه، وبحديث الغدير، وبأفاعيل معاوية(1).
تتبع كتب الحديث والأثر، والتاريخ والسير يوضح هذا الإصرار منهم (عليهم السلام)، لكثرة ما روي عنهم (عليهم السلام) في هذا المجال.
التأكيد على الركن الثاني:
أما بالنسبة للعلم الخاص فإن تأكيداتهم عليه تفوق حد الحصر، ونحن نكتفي بذكر نماذج ثلاثة ظهر فيها هذا الأمر بصورة جلية وواضحة، وهي التالية:
النموذج الأول: علي (عليه السلام) وإخباراته الغيبية:
وقد بلغت الاخبارات عما سيحدث، الصادرة من قبل أمير المؤمنين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع على سبيل المثال: كتاب الغدير ج1 ص159 و213 ودلائل الصدق، وكتابنا الحياة السياسية للإمام الحسن (عليه السلام) ص90 فما بعدها.
(عليه السلام) حداً جعل البعض ـ حسداً، أو حقداً، أو جهلاً أو سياسة يتهمونه ـ والعياذ بالله ـ بالكذب، وحديث الخرافة(2) وما ذلك إلا من أجل أن يُفهِم الناس أنه يأخذ علمه من الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي اختصه بما لم يخص أحداً سواه. وذلك لأن الله سبحانه هو (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ)(3) من يرتضيه من أفراد الأمة، ومَنْ غير الأئمة يفوز بهذا الحظ العظيم والشرف الباذخ.
علي (عليه السلام) في العراق:
والأمر الذي لابد من الإلماح إليه ولو بإيجاز هو: أنه لم يكن أهل العراق يعرفون أمير المؤمنين (عليه السلام) حق معرفته، ولا كانوا قد تربّوا على نهجه، ولا اطلعوا على أطروحته، وإنما عرفوا الإسلام من قبل آخرين، ممن هم في الخط الأخر المناوئ له (عليه السلام).
وحتى معرفتهم هذه للإسلام، فإنها كانت ظاهرية وقشرية، وإنما تعمقت وتأصلت بفضل جهوده هو (عليه السلام)، حتى ليقول مخاطباً لهم:
"وركزت فيكم راية الإيمان، وعرفتكم حدود الحلال والحرام"(4).
ولأجل ذلك، فقد كان من الطبيعي أن يشدّد عليه الصلاة والسلام كثيراً على أمر النص، ويركّز على أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد اختصه بعلوم لم تكن لدى أحد من الناس غيره (عليه السلام) وهي علوم الإمامة.
ولكن الملفت للنظر هو أننا نجده (عليه السلام) يهتم بإظهار علومه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) ذكرنا نبذة عن هذا الأمر في كتاب علي (عليه السلام) والخوارج.
(3) الآيتين 26 و27 من سورة الجن.
(4) نهج البلاغة، بشرح محمد عبده ج1 ص153. وراجع: ما قاله أبو أيوب الأنصاري لأهل العراق في كتاب: الإمامة والسياسة ج1 ص152/153.
الخاصة بصورة إخبارات غيبية ـ عما سيحدث في المستقبل ـ بصورة أكبر، وأشد إباّن حروبه مع الخوارج، حسبما ألمحنا إليه في كتابنا: (علي (عليه السلام) والخوارج)، أما في حربي الجمل وصفين، فقد كان اهتمامه بذلك أقل كما يظهر للمتتبع.
التفسير المعقول:
ولعل التفسير المعقول والمقبول لهذه الظاهرة هو: أن حروبه (عليه السلام) مع الخوارج كانت هي الأصعب، والأقسى، والأشد مرارة، ولكن لا من حيث: أنه قد كانت لدى الخوارج قدرات قتالية فائقة!! إذ إنهم من هذه الناحية ليس كما يشاع عنهم، بل إن أمرهم كان أهون من غيرهم فقد قتل منهم في معركة واحدة من معارك النهروان، أربعة آلاف رجل ـ على ما قيل ـ ولم ينج منهم عشرة، ولم يقتل من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) عشرة(5) بسبب الخطة القتالية الناجحة التي رسمها علي (عليه السلام) ولأسباب أخرى لا مجال لبحثها الآن(6).
ولكن السر في صعوبة ومرارة هذه الحرب يعود إلى الأمور التالية:
1ـ إن الخوارج كانوا في ظاهر الأمر من القرَّاء المسلمين، الذين يتظاهرون بالتقوى، والصلاح، والنسك، وقد عرف ذلك عنهم وشاع.
إذن.. فقتل هؤلاء بأيدي إخوانهم المسلمين لم يكن بالأمر المستساغ ولا المقبول لدى عامة الناس، الذين لم يعرفوا بواطن الأمور، ولا اطلعوا على خلفياتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) راجع: كتاب علي (عليه السلام) والخوارج.
(6) راجع: كتاب علي (عليه السلام) والخوارج.
2ـ إن الخوارج كانوا ـ من جهة ثانية ـ جزءاً من هذا الجيش الذي حارب إلى جانبه (عليه السلام) أعداءه في الجمل وصفين فكانوا ـ إذن ـ رفقاء السلاح والجهاد لهذا الجيش الذي يحاربونه اليوم، ويقتلهم، ويقتلونه، وكانت لهم به علاقات شخصية، وروابط، وذكريات، حلوة ومرة.
3ـ لقد كانت هناك وشائج قربى ونسب، تربط بين هاتين الفئتين المتناحرتين، حيث إن القوم كانوا أبناء القوم، وآبائهم، وإخوانهم، وأبناء عمهم.
ومن الطبيعي أن تترك الحرب فيما بين هؤلاء آثاراً سلبية بليغة على البنية الاجتماعية، وعلى العلاقات العشائرية والقبلية في داخل جسم الأمة.
هذا بالإضافة إلى الصعوبات العاطفية، والصدمات الروحية، والعقد النفسية التي تنشأ ـ عادة ـ عن قتل وقتال المرء لأخيه، وصديقه، وابن عمه. ولا ندري حقيقة المشاعر التي كانت تنتاب عدي بن حاتم حينما دفن ولده بعد انتهاء المعركة. وكذا غيره، حينما دفن رجال من الناس قتلاهم بإذنه (عليه السلام)(7).
4ـ إن الشعارات التي رفعها الخوارج كانت خداعة وبراقة إلى حد كبير، وكانت تستهوي أولئك الذين ينساقون وراء مشاعرهم، وعواطفهم، دونما تأمل أو تعقل، أو تمحيص لحقيقة ما يجري وما يحدث، ودونما دراسة واعية لدوافعه وخلفياته. ولم تكن لديهم معرفة كافية تخولهم تمييز الحق من الباطل والهدى من الضلال.
وهذا الواقع الذي كان يعاني منه مجتمع أمير المؤمنين (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) راجع: تاريخ الأمم والملوك ج4 ص66 والكامل في التاريخ ج3 ص348 وتذكرة الخواص ص105 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 قسم2 ص181.
يجعل من الشعارات البراقة والخداعة وسيلة فعالة في تخفيف هيمنة العقل والتقليل من زنته ورجاحته وجعل الأهواء، والمشاعر هي الطاغية والمسيطرة، وهذا هو السبب في أن فرعون قد استخف قومه ـ أي عقولهم ـ فأطاعوه حتى عبدوه.
وهو السبب في أن يتمكن الشيطان من أن يزين القبيح للإنسان ويظهره بصورة أحسن، حتى يقع فيه. ولو كان ثمة أثارة من علم لعرف الصحيح من الزائف والحسن من القبيح، والحق من الباطل.
5ـ إننا إذا درسنا واقع المجتمع الذي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يتعامل معه، ولاسيما بعد حربي الجمل وصفين، فلسوف نخرج بنتيجة مثيرة، وقد يرى البعض أنها تستند إلى نظرة مفرطة في التشاؤم.
فأما بالنسبة لفريق الخوارج، فإن أمرهم واضح، إذ يعلم كل أحد: أنهم كانوا أعراباً جفاةً، أخفاء الهام، سفهاء الأحلام.
وحتى بعد مرور قرنين من الزمن وفشوا العلم بين الناس، وظهور الفرق والنحل، حتى نحلة الاعتزال المفرطة في الاعتماد على العقل، وكذلك بعد ترجمة الكتب اليونانية، وبعد أن صار كل فريق يحاول تقديم آرائه، بقوالب علمية، وبصيغ حضارية ـ نعم، حتى بعد هذا وذاك وذلك، فإن حالة الخوارج الثقافية قد بقيت في منتهى السوء، حتى لقد قال فيهم بشر بن المعتمر:
ما كان من أسلافهم أبو الحسن * * * ولا ابن عباس ولا أهل السنن
غر مصابيح الدجى مناجب * * * أولئك الأعلام لا الأعارب
كمثل حرقوص، ومن حرقوص * * * فقعة قاع حولها قصيص
ليس من الحنظل يشتار العسل * * * ولا من البحور يصطاد الورل
هيهات ما سافلة كعالية * * * ما معدن الحكمة أهل البادية(8)
وأما بالنسبة لمن عدا الخوارج من أصحابه وأعوانه (عليه الصلاة والسلام)، فإن حربي الجمل وصفين، والاغتيالات التي قام بها أعداؤه، قد أفقدته الكثير من خلّص أصحابه، ولم يبق معه إلا القليل. وقد قال الأشتر لهؤلاء الناس بعد انتهاء حرب صفين: "قتل أماثلكم، وبقي أراذلكم"(9).
وقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يتلهف على أصحابه المخلصين، الذين فقدهم(10).
وقد قال (عليه السلام) حين تكلّموا حول مدى طاعة الأشتر لأوامره (عليه السلام): "ليت فيكم مثله إثنان، وليت فيكم مثله واحد"(11).
ويقول (عليه السلام): "ذهب والله أولوا النهى، والفضل والتقى، الذين كانوا يقولون فيصدقون، ويدعون فيجيبون، ويلقون عدوهم فيصبرون وبقيت لي حثالة قوم لا يتعظون بموعظة ولا يفكرون في عاقبة لقد هممت أن أشخص عنكم فلا أطلب نصركم ما اختلف الجديدان"(12).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) الحيوان ج6 ص455. والفقعة: الرخ من الكمأة. والقصيص: شجرة تنبت في أصلها الكمأة. والورل: دابة على خلقة الضب إلا أنه أعظم منه. وقال القزويني: إنه العظيم من الوزغ، وسام أبرص، طويل الذنب، سريع السير، خفيف الحركة.
(9) صفين للمنقري ص491 والمعيار والموازنة ص164 وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص219.
(10) نهج البلاغة ج2 ص130/131 بشرح عبدة، ونقله عن مصادر نهج البلاغة ج2 ص450/451 عن الزمخشري في ربيع الأبرار، باب التفاضل والتفاوت. وراجع: الفتوح لابن أعثم ج4 ص102.
(11) المعيار والموازنة ص183/184.
(12) الفتوح لابن أعثم ج4 ص66/67.
وكل ذلك يوضح: أنه (عليه السلام) لم يعد بإمكانه تحريك الساحة بنفس الفاعلية وبنفس الحماس، إذ إن مراكز الثقل قد تلاشت، والكوادر الفاعلة التي كان لها تأثير كبير في توجيه الفكر، وبلورة الرؤية السياسية لدى الجماهير قد فقدت، فليس لعلي (عليه السلام) بعد اليوم، لا عمار، ولا أبو الهيثم بن التيهان، ولا الأشتر، ولا، ولا..
أما من تبقى معه من المخلصين، فقد كان عليهم أن يمسكوا بالمفاصل الحساسة للدولة التي تتناوشها ذؤبان معاوية، ويعبث فيها الأخطبوط الأموي، وغيره من فلول الحاقدين فساداً وإفساداً.
التوضيح والربط:
على ضوء ما تقدم وبعد أن عرفنا الحالة التي كان يعاني منها المجتمع فإن من الطبيعي أن تهيمن حالة من التردد والشك والريب على مواقف الناس، وعلى مواجهتهم لظاهرة الخوارج، وشعاراتهم، فكان لابد من اللجوء إلى أسلوب الصدمة، لإحداث اليقظة الضميرية والوجدانية لدى عامة الناس، اعتماداً على المنطلقات العامة فيما يرتبط بالإيمان بالغيب.
وقد ظهرت هذه الصدمة والهزة الضميرية عل شكل إخبارات غيبية، يشاهد الناس تحقق مضمونها بأم أعينهم. من أجل إعطاء الشحنة المحركة، وتسجيل الموقف الحاسم، لكي يمكن بعد ذلك ملاحقة ومتابعة العلم التربوي، والتثقيف والتوعية، ليكون ذلك ضمانة لبقاء القناعات، وتجذيرها في عقل وفكر، ووجدان الإنسان بصورة كافية..
وتمثل هذه الهزة أو فقل الصدمة الضميرية الأسلوب الأمثل لإظهار علم الإمامة، الذي استقاه (عليه السلام) من مهبط الوحي، ومعدن الرسالة محمد (صلى الله عليه وآله) ولم يشاركه فيه أحد.
ثم يأتي دور التركيز على عنصر النص، وتأكيده بصورة قاطعة، حتى لا يبقى عذر لمعتذر، ولا حيلة لمتطلب حيلة.
ويكون تعاضد هذين العنصرين، وهما: علم الإمامة، والنص على الإمام، هو الطريقة المثلى لنقل عنصر المبادأة والمبادرة إلى يد الإمام (عليه السلام).
وهكذا.. يتضح: أن هذه الصدمة من شأنها أن تفتح كوة في الجدار المضروب حول عقل وفكر مجتمع يعاني من حالة مزرية من الجهل بالدين وأحكامه، وبالإمامة والإمام، وقد زين جدار الجهل هذا بأصباغ براقة من الشعارات الخادعة، التي تتلبس له باسم الإسلام، ويجد فيها وسيلة تساعده على تحقيق مآربه في الغنائم والأموال. وفي الجاه، والهيمنة على الآخرين، وغير ذلك. من دون أن يكون للإسلام وتعاليمه تأثير يذكر على مواقفه وممارساته العملية..
نعم.. لقد كانت هذه الهزة الوجدانية ضرورية لأناس يتعاملون ـ في الأكثر ـ مع إمامهم المنصوص عليه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كخليفة له في أعناقهم بيعة، يلزمهم الوفاء بها، لا من منطلق الاعتقاد بإمامته، وتنصيبه من قبل الله على يد رسوله.
ولم يكونوا وقد عرفوا الشيء الكثير عن هذا الإمام الخليفة، ولا عن سوابقه، وأثره في الإسلام وفي الدين.
ولم يكن بوسعه (عليه السلام) أن ينتظر إلى أن تؤدي وسائل الإقناع دورها في بث روح الإيمان وتعميقه، ولا إلى أن تؤدي التربوية التي تحتاج إلى كثير من الوقت والجهد ثمارها في مجال التزكية والتهذيب للنفوس.
والخلاصة: إنه إذا كان حربه (عليه السلام) مع الخوارج على درجة كبيرة من الحساسية، لما كان يمكن أن يؤدي إليه من سلبيات خطيرة في
البنية الداخلية للمجتمع، فيما يرتبط بروحيات الناس، ومشاعرهم وقناعاتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية، ومجمل أوضاعهم، فإن التركيز على عنصر الغيب، وإظهار علم الإمامة يصبح ضرورة ملحة، من أجل تلافي كثير من تلك السلبيات، بالإضافة إلى ما سوف يتركه هذا الأمر من آثار إيجابية في مجال الفكر والعقيدة للمجتمع الإسلامي في الأدوار اللاحقة.
النموذج الثاني: الإمام الرضا (عليه السلام) والجفر والجامعة:
لقد طال بنا الحديث حول النموذج الأول إلى الحد الذي ربما يجعل القارئ يجد بعض الصعوبة في الربط بين حلقات الموضوع، والتنسيق بين فقراته، ولأجل ذلك فقد رأينا أن نختصر الكلام حول النموذج الثاني والثالث، ونكتفي بالقول:
إن من الواضح: أن المأمون قد أجبر الإمام الرضا (عليه السلام) على قبول ولاية الأمر بعده. وقد أوضحنا في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) جوانب وحيثيات هذا الموضوع، وذكرنا أيضاً نبذة عن دوافع المأمون في إقدامه على هذا الأمر الخطير.
وقد بيّنا أيضاً بعض ما يرتبط بخطة الإمام (عليه السلام) لتضييع الفرصة على المأمون، ومنها إخباراته الغيبية (عليه السلام) عن عدم تمامية هذا الأمر، ونلفت النظر إلى خصوص ما كتبه (عليه السلام) على الوثيقة الرسمية لولاية العهد ولاسيما قوله: "والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك"(13).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) البحار ج49 ص153 والمناقب لابن شهر آشوب ج4 ص365 وكشف الغمة ج3 ص127 ونور الأبصار ص157 ومآثر الأنافة ج2 ص189 و الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 245 ومعادن الحكمة ج2 ص189 ومسند الإمام الرضا ج1 ص106 والمجالس السنية ج5 ص585.
حيث أشار (عليه السلام) في قوله هذا إلى أحد الركنين الذين تقوم عليهما الإمامة، ألا وهو العلم الخاص الذي تلقاه (عليه السلام) عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد أسند ذلك إلى الجفر والجامعة الذين لا يملكهما أحد سواه حتى الخليفة المأمون.
النموذج الثالث: المهدية وعلامات الظهور:
لقد روى المسلمون على اختلاف طوائفهم أحاديث كثيرة جداً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تبلغ المئات وربما الألوف حول المهدي من أهل البيت (عجل الله تعالى فرجه)، وأحواله، وعلامات ظهوره، وما يجري في أيامه.
وقد روي عن الأئمة الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام) الشيء الكثير والكثير جداً من ذلك أيضاً.
ويكفي أن نذكر: أنه قد ادّعى الكثيرون المهدية لأنفسهم في حياة الصحابة والتابعين، ثم من بعدهم، ولم ينكر عليهم أحد، ولا ناقشهم أي من الناس في أصل الاعتقاد بالمهدية.
وإنما انصب النقاش حول تطبيق هذا اللقب على هذا الشخص أو ذاك، بل إن بعض من ادّعى هذا الأمر قد بايعته الأمة بمختلف فئاتها في معظم الأقطار والأمصار، ولم يمتنع عن بيعته سوى الإمام الصادق (عليه السلام) وشيعته(14).
بل إن المعتزلة الذين أفرطوا في الاعتماد على العقل وقياس أحكام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14) راجع كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) ص82 و83 ودراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج1 ص47 / 56.
الشريعة وتعاليمها عليه، لم يصدر منهم آية بادرة في نطاق الاعتراض أو التشكيك في هذا الأمر الخطير والهام. كما أن الحكام الذين يرون: أن هذا الاعتقاد إنما يعني إدانة لهم، واعتبارهم غاصبين لمواقع ليست لهم، لم يستطيعوا أن يثيروا أية شبهة حول هذا الأمر، فاضطروا إلى التسليم به، والتعامل معه على أنه أمر قطعي وثابت، كما كان الحال بالنسبة للمنصور الذي حاول الالتفاف على الموضوع بتسمية ولده بالمهدي.
لكنّه لم يفلح كما هو معروف ومشهور(15).
الاخبارات المستقبلية في دائرتين:
ومن المفيد الإلماح هنا إلى أنّ ما ورد عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وعن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، من اخبارات عن أحداث مستقبلية، وظواهر اجتماعية، قد عُرِفَت باسم: أخبار الملاحم، أو أخبار المنايا والبلايا، يمكن أن يجعل ضمن دائرتين:
إحداهما: دائرة التوقيف: وما سبيله النقل عن مصدر الغيب فالنبي (صلى الله عليه وآله) ينقل لنا عن جبرائيل، عن الله (تعالى)، والأئمة (عليهم السلام) ينقلون لنا عن آبائهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) عن جبرائيل عن الله (تعالى).
وقد يعرض البداء لبعض المفردات من هذه الاخبارات، كما سيأتي تفصيله في الفصل التالي أن شاء الله (تعالى).
الثانية: دائرة الخبرة: وما سبيله المعرفة الدقيقة بالظروف والأحوال، ثم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15) راجع كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا (عليه السلام) ص82 و83 ودراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج1 ص47 / 56.
بالآثار والنتائج. من دون أن يكون ثمة حاجة إلى التوقيف.
فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) هو الأعرف والأدرى بحقيقة الظروف والأحوال التي تمرُّ بها الأمة، وقد عَرَّفَ الناس، بظروفهم وحالاتهم، ووقف على حقيقة خصائصهم ومستوياتهم، وطريقة تفكيرهم، ونوع طموحاتهم، وطبيعة تحركاتهم، فإنه سوف يكون بمقدروه رسم آثارها، ونتائجها بحسب ما لها من تدرُّج طبيعي، وفق المعايير الواقعية، التي يعرفها (عليه السلام) ويدركها أكثر من أي إنسان آخر، ويكون إخباره (عليه السلام) بذلك على حدّ إخبار الطبيب الخبير بما ستكون عليه حالة رجلٍ قد جلس في حرّ الهاجرة ثلاث ساعات مكشوف الرأس، تصهره أشعة الشمس.
فإذا أخبر بصورة قاطعة بالحالات والعوارض التي ستنتاب هذا الشخص، فسوف يتحقق ما يخبر به جزماً وحتماً.
ولتكون إخبارات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان من أعرف الناس بزمانه وأهله عمّا ستكون عليه الحال لو حكم الأمة بنو أمية ـ لتكن ـ من هذا القبيل، فقد قال (عليه السلام):
".. وأيم الله، لتجدُنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي، كالنّاب الضروس، تعذم بفيها، وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع ردّها. لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلاّ نافعاً لهم، أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم، حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلاّ كانتصار العبد من ربّه، والصاحب من مستصحبه، ترد فتنتهم شوهاء مخشية، وقِطَعاً جاهلية. ليس فيها منار هدى ولا علم يرى"(16).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) نهج البلاغة ج1 ص183 و184 والبحار ط قديم ج8 ص558 والغارات ج1 ص10 فما بعدها.
وقال لما رفع أهل الشام المصاحف:
(أيها الناس، إني أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية، وابن أبي معيط، وابن أبي سرح، وابن مسلمة، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إني أعرف بهم منكم، صحبتهم صغاراً ورجالاً، فكانوا شر صغارٍ وشر رجالٍ.. الخ..)(17).
إلى غير ذلك من كلماته (عليه السلام) الكثيرة جداً فليراجع نهج البلاغة، فقد جاء فيه من ذلك الشيء الكثير والشافي. مما يخبر فيه (عليه السلام) عن طبيعة هؤلاء الناس الذين عاش معهم، وعرف أحوالهم وطموحاتهم، ومفاهيمهم، وطريقتهم في التفكير، ونظرتهم للأمور، وعرف أنهم لا يملكون من المبادئ والقيم ما يردعهم عن ارتكاب العظائم والجرائم..
الإخبارات صادقة رغم الموانع:
ولكن ذلك لا يمنع من أن تحدث بعض التحولاّت والوقائع التي تمنع هؤلاء الناس من تحقيق مآربهم، وتحد من قدرتهم على إجراء سياستهم، فيتغير سير الأحداث، وتعطف اتجاهها، رغماً وقهراً وجبراً، من دون أن تتغير الحقيقة الراهنة التي أخبر (عليه السلام) عنها.. بل هي تبقى كامنة بانتظار الفرصة السانحة ـ فأمثال هذه العوارض والموانع ليست من قبيل البداء، لأن المقصود هو الإخبار عن طبيعة هؤلاء الناس، وهذه الطبيعة لم تتغير، بل حدث مانع من تأثيرها على صعيد الواقع فليست هي من قبيل ما لو حدث زلزال أو جفاف وقحط، مثلاً يزعزع الحالة القائمة، ويدفع بالناس إلى مواجهة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17) البحار ج32 ص532، شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص216 وصفين للمنقري ص489، وينابيع المودة ج2 ص13، وراجع نظائر ذلك في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص332 والثقات ج2 ص 351 والبحار ج32 ص 546.
أزمات عاطفية، أو إنسانية، أو اقتصادية، وحتى اجتماعية وسياسية تترك آثارها على مجمل حياة الناس، وعلى واقعهم في المجالات المختلفة، ويحدث من ثَمَّ خلل في حالات التوازن القائمة وتحدث تغييرات رئيسية في كثير من الطموحات، والتوجهات، والمواقف، والخطط على الصعيدين الخاص والعام على حد سواء.
فاتضح مما تقدم: أن حدوث هذه المفاجآت لا يقلّل من قيمة تلك الإخبارات، التي جاءت نتيجة طبيعية لعملية رصدٍ دقيقة وعميقة لكل الواقع الذي يعيشه الناس، ويتعاملون معه ويتحركون فيه..
حيث لابدّ من أخذها بعين الاعتبار في كل تخطيط مستقبلي هادف إلى إحداث تغيير جذري لصالح الاتجاهات السليمة والخيّرة على صعيد الأمة بأسرها.
بل ليس من قبيل المجازفة القول: إنّ تلك المفاجآت التي ألمحنا إليها، تؤكد قيمة تلك الاخبارات المستقبلية وتعززها إذا كان من شأنها أن تعالج بعض الآثار السلبية التي تتمثل في حدوث ارتكاز عفوي نشأ عن محض العادة والألفة بالمحكومية والخضوع للتيار العام، من دون أن يملك هذا الارتكاز المبررات الكافية له في متن الواقع. وتكون نتيجة ذلك هي أن يسير الإنسان في صراط الاستسلام إلى تيار يشعر أنه لا يملك معه أي خيار. في حين أنه يملك كل الخيارات في صنعه وفي تحويل اتجاهه. وليس ما يحس به إلاّ شعور كاذب، ومحض سراب.
وعلى هذا فإن تلك المفاجآت تأتي لتؤكد للإنسان أن كل شيء قابل للتغيير، وأن عليه أن لا يستسلم ولا يستكين، وليكتشف ـ من ثم ـ أنه إنما كان أسير خيال زائف وأوهام بالية وأنه يملك من القدرات والخيارات ما يجعله قادراً على التأثير في كل ما يحيط به، وعلى توجيه الأمور أنى شاء وحيثما يريد.
الإمام، وإدارة شؤون الأمة:
وبعد ما تقدم نقول: إذا نظرنا إلى أمر الإمامة والإمام من زاوية أخرى.
فإننا نجد من جهة: أن من مهمات الإمام: تعليم وتربية الأمة، وله وحده حق الحاكمية عليها وإدارة شؤونها، والهيمنة على مسيرتها. والإمام هو ذلك الإنسان الحاضر، والناظر، والراصد لحركة الإسلام في الناس، والشاهد على الناس في مدى استجابتهم للإسلام، وتفاعلهم معه، ووفائهم أو عدم وفائهم، للحق وللدين، والمثل العليا.
وكلّ ذلك يؤكّد على أنّ وجود الإمام في كلّ عصر وزمان يصبح ضرورة لابُدّ منها، ولا غنى عنها، لتحقيق الأهداف الإلهيّة، بحصول الإنسان على السّعادة، ووصوله إلى درجات القرب والرضى منه سبحانه وتعالى.
ومن جهة ثانية: فإنّ الأئمة حين يمارسون دورهم، ويقومون بأعباء الإمامة ومهمّاتها، فإنّما يفعلون ذلك في دائرة السنن الإلهية الجارية، وبالطّرق الطبيعيّة، ولم يكونوا ليفرضوا سلطتهم، وهيمنتهم، وحاكميّتهم على الناس بأسلوب إعجازي قاهر. لأن هذا من شأنه أن يضيّع الكثير من الأهداف الإلهية المتوخاة في نطاق مسيرة الإنسان نحو الكمال بصورة طوعيّة، واختياريّة، متجاوزاً كلّ ما يعترض طريقه من أشواك وعوائق.
وإذا كان كذلك فإن من الطبيعي أن تعرض لهم (عليهم السلام) المحن والرزايا، والهموم، والبلايا، وأن تعترضهم المشكلات والمصائب، وتعتورهم النوائب والمتاعب، ثم أن يواجهوا ذلك بما توفّر لديهم من وسائل يمكن أن تساعدهم على تجاوز المحنة، وتذليل الصعاب، فينجحون في ذلك، وقد تحجب الظروف ذلك النجاح.
ومن جهة ثالثة: فإن مجرّد وجود الأئمة (عليهم السلام)، وحاكميّتهم
المنصوصة، وطبيعة دعوتهم ورسالتهم كل ذلك يتناقض بصورة أساسية مع حاكمية الطّواغيت والجبابرة، وأصحاب الأهواء والمطامع، ولذا.. فقد كان من المألوف والطبيعي أن نجد هؤلاء القادة والطغاة والمنحرفين يبغون للأئمة والأنبياء الغوائل، ويحاولون إطفاء نور الله، بشتى الوسائل ومختلف الأساليب.
ولقد قتلوا بعضهم بالسيف، كما كان الحال بالنسبة لأمير المؤمنين علي، وولده الحسين (صلوات الله وسلامه عليهما)، ومن قبلهما يحيى بن ذكريّا، وغيره من الأنبياء، وأوصيائهم.
وقتلوا فريقاً آخر بالسم، كما كان الحال بالنسبة للإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) وغيره من الأئمة المعصومين، (صلوات الله عليهم أجمعين). حتى إذا عجزوا عن ذلك لجأوا إلى زجهم بالسجون، وإلحاق أنواع الأذى بهم والتضييق عليهم وعلى شيعتهم ومحبّيهم، بكلّ قسوة وجفاء.
لماذا إثنا عشر إماماً فقط؟!
وإذ عرفنا ضرورة الإمامة، وضرورة وجود الإمام في كلّ عصر وزمان. وعرفنا أيضاً السنّة الإلهيّة في طبيعة عمل الإمام في الأمّة، فإننا نذكّر هنا بالشيء الذي تدخلت فيه الإرادة الإلهيّة واقتضته المشيئة الربانيّة وهو أن لا يزيد عدد الأئمّة الأطهار على الاثني عشر إماماً، ولا ينقص عن عدد نقباء بني إسرائيل.
ولم تُترك هذه القضيّة للزمن، بحيث كلّما مات إمام أو قتل، خَلَفَهُ إمامٌ آخر، لأن تركها إلى الزمن لسوف يزيد الأمر تعقيداً، ويجعل الأطروحة الإلهيّة الإسلامية في معرض الخطر الأكيد، وذلك حينما يكون ذلك سبباً في بلبلة أذهان الناس، وتحيّرهم، وفي ضياعهم وتمزّقهم، ثم في ظهور الكثير من الجهالات والأباطيل باسم الدين والإسلام، وعلى حساب الصواب والحق..
وحيث تصبح الفرصة في متناول أيدي أصحاب الأطماع، وطلاب اللبانات، لادّعاء الإمامة، وتضليل الناس، والتّلاعب بالدّين وأحكامه، وظهور البدع، وضياع الحق، حتى ليصير الوصول إليه أمراً مستحيلاً أو يكاد.
ولا ننسى: أنّه إذا شعر الحكّام أنّه ليس ثمة ما يجبرهم على اتّخاذ جانب المرونة والحذر(18)، وأنّهم يمتلكون القوة الكافية للقضاء على مصدر الخطر عليهم، واستئصاله بصورة نهائية وقاطعة، فإنّهم سوف يبادرون إلى ذلك ـ حسبما ألمحنا إليه ـ ولسوف تعصف رياح حقدهم لتقتلع كل المنجزات التي هي حصيلة جهد وجهاد الأنبياء والأوصياء، وكل الناس الذين أخلصوا لله سبحانه من جذورها حتى وكأن شيئاً لم يكن..
ولأجل هذا وذاك، ووفقاً لمقتضيات الحاجة، وانسجاماً مع الضّرورات التي يفرضها هذا الواقع وغير ذلك من حيثيات تربويّة وغيرها، فقد حدّد النص الوارد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عدد الأئمة من بعده وبيّن أسماءهم. وخرجت السنّة الإلهيّة عما هو المألوف.
فاقتضت الحكمة أن يطول عمر الإمام الثاني عشر بانتظار أن تسنح الفرصة للقيام بالحركة الإصلاحيّة الشاملة، وعلى مستوى العالم بأسره.
وحتى مع هذا التّحديد، وذلك النص الصريح فإنّ الساحة الإسلامية لم تسلم من ادّعاءات كاذبة لمقام الإمامة، فقد ادّعيَ هذا المقام لزيد بن علي بن الحسين (عليه السلام)، ولمحمّد بن الحنفية، ولإسماعيل بن الإمام الصادق (عليه السلام)، وادّعاه أيضاً جعفر الموسوم "بالكذّاب"، بالإضافة إلى آخرين..
ولكن ذلك لم يكن من الخطورة بحيث يخشى منه على المسار العام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18) كما كان الحال في صدر الإسلام، حينما كانوا يحكمون الناس باسم الإسلام، وبعنوان الخلافة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وهو أمر قابل للتحمل في مقابل المفاسد الأكبر والأخطر، التي سوف تنشأ عن ترك الأمر مستمرّاً عبر المقاطع التاريخية المختلفة، من دون تحديده بعددٍ معيّن، وبأشخاص بأعيانهم وأسمائهم.
وباستطاعتنا أن ندرك: أنّ الحصر باثني عشر إماماً كان ضروريّاً من خلال تطابقه مع الحاجة التي كانت قائمة على صعيد الواقع، فإننا إذا درسنا بعمق طبيعة الفترة التي عاشها الأئمة في القرون الثلاثة التي تلت وفاة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فإننا سوف ندرك: أن الأمة قد استطاعت في هذه الفترة أن تستوعب عملياً جميع مناحي التشريع، ومختلف مراميه وأهدافه على مستوى الاتجاه العام، وأن تعيش التجربة في شتى المجالات، ومختلف الأبعاد، حيث مرورها بالأدوار المختلفة، وتشعّب مناحي الحياة التي تعيشها، ثم تشبُثها بأسباب المدنية، والحضارة، واتصالها بغيرها من الأمم المختلفة ونموّها وتكاملها في المجالات الفكريّة، والسياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية وغيرها ـ إن ذلك كلّه، كان عاملاً مساعداً إلى درجة كبيرة على فهم أعمق للإسلام ولمفاهيمه السياسية، والتربويّة والتشريعيّة، وغيرها.
المهدية في موقعها الطليعي والطبيعي:
وبملاحظة جميع ما تقدم: وبعد وصول الأمة إلى درجة النضج، وبلوغها مرحلة سن الرشد، فكريّاً واجتماعياً و.. و.. ولو بواسطة تربية شريحة من أبنائها، تكفي في تحقق إمكانية معرفة الناس للحق، والحقيقة، وعن طريق التفاعل مع هذه الشريحة، والمراودة الفكرية لها.
وكذلك بعد أن يستشعر الطغيان الخطر الذي يتهدده من قِبَل ذلك الذي يعرف أنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فإن غيبة هذا الإمام، واتخاذه موقعاً
آخر يمكنه فيه مواصلة الاتصال بالأمة، والتعامل معها، ولو من خلال سفرائه ووكلائه الخاصّين والعامّين، وغير ذلك من وسائل تقع تحت اختياره ـ إن هذه الغيبة ـ تصبح هي الأمر الواقع الذي لابد من قبوله، والتعامل معه بطريقة ليس فقط تجعل هذه الغيبة لا تؤثر سلباً على مسيرة الصلاح والإصلاح، وإنما تكون عاملاً لاستمرار هذه المسيرة بقوة أشد، وفاعلية وحيوية أكثر.
ولولا هذه الغيبة فإن فرص العمل، والحفاظ على المنجزات التي هي ثمرة جهاد وجهود الأنبياء والمخلصين عبر التاريخ البشري، لسوف تتقلص وتصل إلى درجة الصفر، ليس فقط من حيث وضع العراقيل والعوائق في وجه العمل والعاملين. من حيث إن الحكام والمستبدين سيواجهونهم بكل الوسائل المتاحة لهم لتدمير كل شيء ومحاولة القضاء على الأطروحة بأسرها من خلال القضاء على محورها ومصدرها الأول، وقلبها النابض، المتجسد في الإمام والرمز.
علامات الظهور في خدمة الهدف:
وأخيراً.. فإن مما يساعد على حفظ الهدف الكبير، وتحقيق النتائج المتوخاة وله دوره في الحفاظ على الروح والحيوية الفاعلة والمؤثرة، هو إبلاغ الناس بعلامات الظهور، حيث لابد أن ترهق المشكلات والمتاعب والمصاعب روح كثير من العاملين، وتُمْنى بالإحباط عزائمهم وبالخور هِممهم، وتصاب بالأذى مشاعرهم، وتذبل شيئاً فشيئاً زهرة أملهم.
فرؤية بعض تلك العلامات يتحقق على صفحة الواقع ستشحذ العزائم، وتستنهض الهمم، وتثير المشاعر، وتكون بمثابة ماء الحياة، الذي يعيد لتلك الزهرة الذابلة نموها، ويسبغ عليها رواءها، ورونقها، ويزيد في بهجتها.
وهذا ما حصل بالفعل عبر التاريخ.. ودراسة حياة الأمة الإسلامية عبر عصورها المختلفة خير شاهد على ما نقول..
الظاهرة المألوفة:
إن من الأمور التي أصبحت مألوفة لنا: أن نجد كثيرين من الناس حين يواجهون الأزمات، ويجدون أنفسهم وجهاً لوجه مع الأحداث الكبيرة، والخطيرة ـ نجدهم ـ يظهرون اهتماماً متزايداً بقضية الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وبعلائم الظهور، ويبحثون عن المزيد مما يمنحهم بصيص أمل، ويلقي لهم بعض الضوء على ما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد.
ومن هنا.. فإننا نجد عدداً من الكتاب والمؤلفين يحاولون الاستجابة لهذه الرغبة الظاهرة، ويبذلون جهوداً كبيرة لترسيم مستقبل الأحداث وفق ما يتيسر لهم فهمه من النصوص الحاضرة لديهم. تلك النصوص التي جاء أكثرها غامضاً وغائماً، اختلط غثها بسمينها، وصحيحها بسقيمها، وتعرض كثير منها للتحريف، وزِيدَ فيه أو نُقِّصَ منه، هذا عدا عن الكثير مما اختلقته يد الأطماع والأهواء..
وستأتي الإشارة إلى بعض منه في ثنايا هذه البحث إن شاء الله (تعالى).
الانحراف الخطير:
وإننا وإن كنا نعتبر لجوء الناس إلى الدين وإلى النصوص الدينية، وشعورهم بأنه هو الذي يملك الإجابات الصحيحة على كثير من تساؤلاتهم، ولديه الحلول الجذرية لما يعانون منه، من مشكلات، وبلايا. إلا أن تعاملهم في خصوص الاخبارات الغيبية، وبالأخص مع قضية الإمام المهدي (عجل
الله فرجه)، قد جاء لينذر بانحراف خطير في المجال العقائدي، فضلاً عن المجال العلمي، وذلك حينما اقتصر على زاوية واحدة منه، وهي تلك التي تشغل بال الناس، وتستأثر باهتمامات الكثرة الكاثرة منهم، ألا وهي علامات ظهوره (عليه السلام) وما رافق ذلك من إخبارات غيبية بما سيحدث في آخر الزمان. أو في طول الزمان الممتد من عصرهم صلوات الله وسلامه عليهم إلى حين ظهور الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه)..
وقد استبطن ذلك إهمال سائر مفردات ومجالات التعامل مع هذه القضية حتى أصبحت في عالم النسيان، لا تكاد تخطر لأحد منهم على بال، ولا تمّر له في خاطر، رغم أنها هي الأهم والأكثر مساساً بحياتهم وبوجودهم، وعلى رأسها التعامل معه كقائد للمسيرة، ومهيمن على السلوك، والموقف، وموجّه لها..
وهكذا.. لم يعد الإمام المهدي بالنسبة إلى الكثيرين منا هو ذلك الإمام الحاضر والناظر، الذي يعيش من أجل قضية، ويعمل ويضحّي، ويدعونا إلى العمل والجهاد والتضحية من أجلها وفي سبيلها.
كما أننا لم نعد نحمل هُمومه كما يحمل هو هُمومنا، ولا نشعر معه كما يشعر هو معنا، ولا نرقب حركتنا معه كما يرقب هو حركتنا، ولا نتوقع منه، ولا نريد أن يتوقع منا أي عمل إيجابي تجاه القضية الكبرى التي يعيشها، ويجاهد ويعاني في سبيلها وفي قضيتنا قضية الإسلام والإنسان، وهي القضية الأكثر أهمية وحساسية بالنسبة لنا، لأنها تمس وجودنا ومستقبلنا ومصيرنا في الصميم.
وطبيعي أن يترك هذا التعامل منا مع موضوع الإمام المهدي (عجل الله فرجه) آثاره السلبية، والخطيرة على مجمل الحياة التي نعيشها لأنه يمثل انفصالاً حقيقياً عن القيادة، وعن القائد من جهة، ولأنه يضع المزيد من
العقبات والمصاعب في طريق القائد نفسه.
هذا.. بالإضافة إلى أنه يسلب منه عنصر المبادأة والمبادرة في معالجة الأحداث، ومواجهة التحديات، من جهة أخرى.
الانحراف يتضاعف:
وحتى فيما يختص بذلك الجانب الخاص ويرتبط بتلك الزاوية المحدودة التي آثرناها على كل ما هو سواها وهي الاخبارات المستقبلية وعلامات الظهور فإن تعاملنا معها قد جاء بصورة خاطئة بدرجة كبيرة، وذلك حينما نجد أنفسنا في موقع المستسلم الخاضع لأمور يراها حتمية ولا مناص منها، فهي القضاء المبرم، والقدر اللازم. الأمر الذي من شأنه أن يرسخ فينا الشعور بالإحباط والانهزام، والعجز، ما دمنا نجد أنفسنا في مواجهة أمر خارج عن اختيارنا، لا نملك دفعه، ولا التأثير فيه.
ومن جهة ثانية: فإن ذلك يبعث فينا الشعور بالرضى، وببراءة الذمة حيث لم نعد نتحمل أية مسؤولية، ولا يطلب منا، أو فقل ليس من الصحيح أن يطلب منا تسجيل أي موقف تجاه الأحداث، والمستجدات مهما كانت.
وإذن.. فلا مكان بعد هذا للشعور بالذنب، ولا بالتقصير، إذا تركنا الفساد يستشري والظلم يسود ويهيمن. بل يكون التصدي لذلك حتى في أدنى درجاته، وأسلم عواقبه هو الذنب وهو الجريمة حيث إنه يمثل اعتراضاً على إرادة الله سبحانه، وهو من ثم إلقاء للنفس في التهلكة، أو إهدار للطاقات بلا مبرر ظاهر، ولا سبب وجيه.
وقد نشعر أن من مسؤولياتنا بث هذا النوع من الفهم وتعميمه حرصاً منا على مصلحة المسلمين، وعملاً بالتكليف الشرعي الموهوم!!.
ولا نجد حرجاً بعد هذا في أن نتتبع الروايات لنستخلص منها بعض ما
يفيد في معرفة بعض ما سيحدث عن قريب، ونوزع الاخبارات الغيبية والتنبؤات هنا وهناك ونبثها بين الناس، لتثير بعضاً من فضولهم، وتستأثر بشيء من عجبهم أو إعجابهم..
الأئمة واقفون على سلبيات الأمر:
وفي اعتقادنا: أن أئمتنا (صلوات الله عليهم) كانوا يدركون: أن هذا النوع من الأخبار التي تصدر عنهم، وإن كانت له إيجابياته الكبرى إلا أن له أيضاً سلبيات من نوع آخر، لابد من التصدي لها ومعالجتها، والحد من تأثيراتها قدر الامكان.
وذلك لأن هذا الموضوع جذاب، يستهوي أصحاب الأهواء والطموحات، خصوصاً أصحاب الدعوات الباطلة والزائفة منهم، ممن يريدون تكريس دعواتهم تلك بالأساليب الملتوية وبالادعاءات المثيرة لفضول الناس العاديين، وتستأثر باهتماماتهم. شريطة أن لا يجرؤ أحد على تكذيبها بصورة صريحة ولا حتى التشكيك فيها، وذلك بسبب ما تثيره فيهم من شعور مبهم بالخوف والوجل تجاهها. فإن أصحاب الطموحات والدعوات الباطلة يدركون جيداً أن الإنسان العادي لا يملك إلا الاستسلام للغيب، والانهزام أمام المجهول، ومحاولة التحرز منه ومن أخطاره المحتملة..
وهذا بالذات هو ما يضعف مقاومة الناس العاديين أمام تلك الدعوات مهما كانت غائمه، وغير واضحة المعالم، أو غير منسجمة مع أحكام العقل، ومقتضيات الفطرة. كما أن ذلك من شأنه أن يبعدهم ويصرفهم عن التفكير في ماهيتها الحقيقية، وفي صلاحها وفسادها..
وبعد ما تقدم.. فإنه يصبح من الطبيعي أن يكثر الاختلاق والوضع في مجال الاخبارات الغيبية المستقبلية، وفي علامات آخر الزمان، التي يرصد
الناس فيها مستقبلهم ومصيرهم.
ولسوف تصاغ بقوالب خادعة ومطاطة وغامضة ليمكن الاستفادة منها في الموقع المناسب.
ما هو الحل؟!:
وكل ما تقدم يحتّم ويُلزم بوضع حلّ لهذا المشكل، تُتَلافى معه تلك السلبيات مع الحرص على أن تؤدي تلك الاخبارات الغيبية الصادرة عن المعصومين (عليهم السلام) دورها الذي كانت من أجله..
وقد بادروا (عليهم السلام) إلى وضع حل يضمن ذلك بصورة تامة ودقيقة وقد جاء منسجماً تماماً مع الهدف الذي ترمي إليه الاخبارات الصادرة عنهم (عليهم السلام).
وقبل التعرض لهذا الحل نشير إلى حقيقة هامة، إذا أدركناها فإنه يسهل علينا معرفة صوابية ذلك الحل الذي قدموه (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
الفرق بين ما وقع وبين ما سيقع:
وهذه الحقيقة هي: أن المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) ما كانوا باخباراتهم تلك يريدون ربط الناس بما سيقع، من أجل أن يستغرقوا فيه. أو ليكون ذلك عذراً أو مبرراً للوقوف على هامش الساحة في موقع المتفرج.
إن لم يصبح عبئاً يثقل كاهل العمل المخلص والجاد، ويثقل خطب العاملين كذلك.
هذا كله.. عدا عما يمارسه الكثيرون ممن لديهم هذا الفهم من دور سلبي في مجال التثبيط، وإيجاد حالة من الفشل والإحباط. وقد يتعدى ذلك إلى إيجاد الانقسامات والاختلافات التي تستهلك الطاقات، وتستنفد الهمم
والعزائم، ليصبح العدو ـ من ثم ـ أقدر على توجيه الضربات الساحقة، والماحقة، لكل جهد مخلص، أساسي وبنّاء.
نعم.. إنهم (عليهم السلام) ما كانوا يريدون ربط الناس بما سيقع، وإنما بما وقع. أي أنهم يريدون للناس أن يستفيدوا مما وقع ومضى لينعش بهم الأمل، ويشحذ الهمم والعزائم ليمنحهم اليقين، ويهب لهم حالة السكون والركون إلى الحق، والارتباط العاطفي والشعوري بقائد المسيرة ورائدها، بعد الانتهاء من مرحلة الارتكاز العقائدي المستند إلى القناعات الناشئة عن وسائل الإثبات للأصول والمنطلقات الأوليّة في مسائل الإمامة على صعيد مفاهيمها الأساسية من جهة، وعلى صعيد التجسيد الحي في المثل الحي للإمامة الحاضرة، من جهة أخرى.
ولا شك في أن وجود هذا الارتباط العاطفي والشعوري، وذلك السكون والركون يصبح ضرورة ملحة، حينما يبدو أن الناس قد بدأوا يتعاملون مع قضية الإمام المهدي كمرتكز عقائدي، لا يملك من الروافد الشعورية والعاطفيّة إلا القليل القليل، الذي لا أثر له في موقع الحركة، وتسجيل الموقف.
فالمطلوب إذن، هو أن يسهم ما وقع في بعث الأمل ورفع درجة الإحساس، والشعور والارتباط بالقائد وبالقيادة إلى مستوى أعلى وأكثر حيوية وفاعلية فيه الكثير من الجدّية، والمزيد من العطاء. ويعمق في الإنسان المسلم المزيد من الشعور بالمسؤولية، والإحساس بالرقابة، ليعيش في رحاب الإمامة بكل ما فيها من معان، وكل ما تمثله من عطاء، في مجال الحركة والعمل والسلوك والموقف، وفي جميع مفردات حياته التي يعيشها.
الحل الأفضل:
وبعد هذا التوضيح الذي ذكرناه نقول:
أن هذا الحل يتلخص في إعطاء ضابطة عامة للأحاديث التي تتحدث عن المستقبل، وعن علامات الظهور للإمام الحجة (عجل الله فرجه)، تشير إلى أنها جميعاً حتى ما صح سنده منها إنما تتحدث عن أمور ليست بأجمعها حتمية الوقوع، فمن الجائز أن لا يقع بعض منها، ولكن هذا البعض لا يمكن لنا تحديده بالدقة.
والسبب في ذلك هو: أن الإمام (عليه السلام) أو النبي (صلى الله عليه وآله)، إنما يتحدث ويخبر عن تحقق المقتضي لوجود ظاهرة، أو حدث مّا وفق ما هو مخزون في علم الغيب. بحيث لو سارت الأحداث على طبيعتها لتحقق ذلك المقتضي.
ولكنه (عليه السلام) لم يخبر عن شرائط تأثير تلك المقتضيات هل سوف توجد أم لا؟ كما أنه لم يخبر عن الموانع التي قد تعرض للمقتضي، وتمنعه من التأثير.
وإذن.. فإذا تحقق شيء مما أخبر عنه (عليه السلام)، فإن ذلك يكشف عن تحقق شرائطه، وفقد موانعه، وتمامية عناصر علته، وإذا لم يتحقق، فإن ذلك يكشف عن عروض مانع، أو فقد شرط تأثير ذلك المقتضي.
فهو (عليه السلام) إذن إنما يخبر عن أمور قد تختلف في المآل والنتيجة، ولكنها متحدة، وذات طبيعة واحدة، وفي نسق واحد من حيث تحقق مقتضياتها.
وهذا بالذات هو ما تعنيه الروايات التي نصت على حتمية بعض علامات الظهور، وأوضحت أن سائر ما يُذكَر في الروايات مما عدا ذلك قد
لا يقع بعض منه إما لاحتمال أن لا يوجد شرط تأثير مقتضيه، أو لوجود المانع من التأثير.
وذلك يعني: أن يصبح ضعيف السند، وصحيحه من تلك الروايات بمنزلةٍ واحدة، من حيث عدم إمكانية التنبوء بحتمية حصوله في المستقبل، فإن كل ما أخبرت عنه تلك الروايات يصبح في معرض أن لا يتحقق ولا يكون. وإن كان احتمال الحصول في الروايات الصحيحة أقوى منه في غيرها.
فلا مجال بعد لرسم خريطة للأحداث المستقبلية، ولا يصح صرف الجهد في التعرف على ما سيحدث، ومحاولات من هذا القبيل لن يكون لها الأثر المطلوب في ترغيب الناس، أو ترهيبهم، ما دام أنه لم يعد ثمة مجال للاستفادة من الأخبار صحيحها وسقيمها إلا بعد وقوع الحدث. فيأتي حينئذ دور المقارنة بين ما هو مذكور في الرواية، وبين ما وقع فعلاً ويكون الإيمان به، أو عدمه على هذا الأساس.
العلامات التي هي من المحتوم:
ولأجل تتميم البحث، فإننا نذكر فيما يلي طائفة من الروايات التي بينّت العلامات التي هي من المحتوم.
وسوف يلاحظ القارئ: إذا راجع ـ كتب الرجال ـ أن من بين هذه الروايات ما هو معتبر من حيث السند، مع عدم وجود ما يقتضي التشكيك في متنه.
وقد جاء ما اخترناه على قسمين(19):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) اعتمادنا في العلامات المذكورة على مصادر محدودة ولم نحاول الاستقصاء لها في سائر المصادر مع أنها من الكثيرة بمكان.
أحدهما:
قد قسّم العلامات إلى قسمين: محتوم وغير محتوم، مع ذكره لبعض الخصوصيات.
الثاني:
اكتفى بتعداد العلامات التي هي من المحتوم كما سيظهر من الصفحات التالية:
ألف: الطائفة الأولى من الروايات:
ونذكر من القسم الذي فَصلَ بين المحتوم وغيره وذكر بعض الخصوصيات لهما.
الرويات التالية:
1ـ أحمد بن محمد بن سعيد، عن محمد بن سالم بن عبد الرحمن الأزدي، عن عثمان بن سعيد الطويل، عن أحمد بن سليم، عن موسى بن بكر، عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "إن من الأمور أموراً موقوفة، وأموراً محتومة، وأن السفياني من المحتوم الذي لابد منه"(20).
2ـ أحمد بن محمد بن سعيد، عن القاسم بن الحسن بن حازم من كتابه عن عيسى بن هشام، عن محمد بن بشر الأحول، عن عبد الله بن جبلة، عن عيسى بن أعين، عن معلى بن خنيس، قال:
"سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من الأمر محتوم، ومنه ما ليس محتوم ومن المحتوم خروج السفياني في رجب"(21).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20) الغيبة للنعماني ص301 وراجع ص282.
(21) الغيبة للنعماني ص300.
3ـ أحمد بن محمد بن سعيد، عن علي بن الحسن، عن محمد بن خالد الأصم، عن عبد الله بن بكير، عن ثعلبة بن ميمون، عن زرارة، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) في قوله تعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ)(22) فقال:
"إنهما أجلان: أجل محتوم، وأجل موقوف.
فقال له حمران: ما المحتوم؟
قال: الذي لله فيه مشيئة.
قال حمران: إني لأرجو أن يكون أجل السفياني من الموقوف.
فقال أبو جعفر: لا والله، إنه لمن المحتوم"(23).
4 ـ محمد بن همام، عن محمد بن أحمد بن عبد الله الخالنجي، عن داود بن القاسم:
"كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام)، فجرى ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أن أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟.
قال: نعم.
قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم.
قال: إن القائم من الميعاد، والله لا يخلف الميعاد"(24).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(22) الآية 2 من سورة الأنعام.
(23) الغيبة للنعماني ص301.
(24) الغيبة للنعماني ص303 والبحار ج52 ص250/251.
المجلسي: والبداء في المحتوم:
قال المجلسي (رحمه الله): يُحتمل أن يكون المراد بالبداء في المحتوم: البداء في خصوصياته، لا في أصل وجوده، كخروج السفياني قبل ذهاب بني العباس ونحو ذلك(25).
ولكننا لا نوافق العلامة المجلسي (رحمه الله) على جوابه هذا، فإن سياق الرواية التي تتحدث عن حتمية نفس الحدث، وعروض البداء فيه نفسه، يأبى عن صرف البداء إلى الخصوصيات. ولا أقل من أنه خلاف الظاهر.. فلابد من البحث عن إجابة أخرى تكون أوضح، وأتم.
ونحن نجمل رأينا في هذه الرواية فيما يلي:
رأينا: البداء في المحتوم!!:
إن أساس الإشكال الذي أثار تعجب السائل، وحاول العلامة المجلسي الإجابة عليه هو:
أن البداء في المحتوم ينافي حتميته، لأن معنى البداء في شيء هو العدول عنه، فحتمي الوجود يصبح ـ بواسطة البداء ـ غير حتمي، وكذلك العكس.
وعلى هذا.. فلا يبقى ثمة فرق بين المحتوم وغيره، فلا معنى لهذا التقسيم.
ولعل الجواب الأتم والأوفى هو:
أن هناك أمور ثلاثة يمكن استفادتها من الروايات:
الأول:
ما قدمناه، من أن الإخبار يكون عن تحقّق المقتضيات للأحداث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25) البحار ج52 ص251.
والوقائع من دون تعرض لشرائطها وموانعها. فقد تتحقق تلك، وتفقد هذه، فيوجد الحدث وقد لا فلا.
وقد قدمنا الحديث عن هذا القسم ونعزّزه هنا بالمثال التقريبي.
فنقول:
أما بالنسبة للمانع، فهو نظير بيت بُنِيَ على ساحل البحر، وكان البناء من القوة بحيث يستطيع البقاء مئة سنة.
ولكن إذا ضربته مياه البحر، أو تعّرض لعاصفة عاتية، أو لزلزال، فلسوف ينتهي عمره في أقل من نصف هذه المدة فيصحّ الإخبار عن المدة الأولى من دون تعرض لذلك المانع المعارض، أو الذي يعرض له.
وكذلك الحال لو كان للإنسان حقل زرعه قمحاً، وقد استحصد، فإنه يصح له أن يقول: إن لدي مقدار ألف كيلو من القمح، ولكنه لا يدري: أن طفلاً سيلقي فيه عود ثقاب فيحرق، أو سوف يأتي سيل فيقضي عليه.
وأما بالنسبة إلى الشرط، فهو نظير شجرة خضراء غرست في الموقع وفي المكان المناسب، ولكنّ شرْطَ نموّها وحياتها هو إيصال الماء إليها، فإذا لم يتحقق هذا الشرط، امتنعت عليها الحياة. فيخبر عن حياة الشجرة، وعن عمرها، من دون الأخذ بنظر الاعتبار عدم تحقق ذلك الشرط كما قلنا.
ومن الأمثلة التي وردت في القرآن وفي السنة، على لسان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والأئمة الأطهار (عليهم السلام) نذكر:
1ـ أن بعض الروايات قد صرحت بأن الرجل ليصل رحمه، وقد بقي من عمره ثلاث سنين، فيصّيرها الله عز وجل ثلاثين سنة، ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثين سنة، فيصّيرها الله ثلاث سنين. ثم تلا: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء
وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)(26).
2ـ ما روي من أن إذاعة الناس، وعدم كتمانهم قد أوجب تأخُّر ظهور ذلك الرجل الذي سوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، إلى وقت آخر(27).
3ـ لقد استشهدت بعض الروايات على حصول البداء في وقت ظهور القائم (عجل الله فرجه) بأن موسى قد واعد قومه ثلاثين يوماً، وكان في علم الله عز وجل زيادة عشرة أيام، لم يخبر موسى قومه بها فكفروا بعد مرور الثّلاثين، وعبدوا العجلَ.
4ـ واستشهدت على ذلك أيضاً بأن يونس قد أوعد قومه بالعذاب، "وكان في علم الله أن يعفو عنهم، وكان من أمر الله ما قد علمت"(28).
وقد عبرت الروايات عن هذا القسم تارة بـ "الموقوف" وأخرى بـ "ما ليس بمحتوم" كما سبق..
الثاني:
ما يكون الإخبار فيه عن تحقق العلة التامة، بجميع أجزائها وشرائطها، وفقد الموانع، بحيث يصبح وجود المعلول ـ الحدث ـ أمراً حتمياً، لا يغيّره سوى تدخّل الإرادة الإلهية.
وذلك.. لأن تمامية العلة، لا يلغي قدرة الله سبحانه، وحاكميته المطلقة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(26) ميزان الحكمة ج4 ص80 والروايات الدالة على ذلك كثيرة فراجع الكتاب المذكور.
(27) راجع: الغيبة للشيخ الطوسي ص263 و265 والغيبة للنعماني ص288 و292 و293 والكافي ج1 ص300 وبشارة الإسلام ص283و285 عنهما وعن الكافي وإلزام الناصب ص78.
(28) راجع في هذا وفي الذي سبقه: الغيبة للنعماني ص292 و294 وبشارة الإسلام ص286 و284 عنه وعن الكافي وراجع الكافي ج1 ص301.
ولا حقه في التدخل، حينما لا يصطدم ذلك التدخل بأي مانع آخر سوى ذلك، فهو لا ينافي عدله سبحانه، ولا حكمته، ولا رحمته، ولا غير ذلك من صفاته الربوبية جل وعلا..
ولا ينافي هذا: أنه قد جرت عادته تعالى، فيما نشاهده ونعيشه على عدم التدخل للحيلولة بين العلل ومعلوماتها، وعلى تسيير أمور الكون والحياة وِفْقَ طريقة معينة، وقانون عام، ونظام تام.
فمثلاً قد اعتدنا: أن يسير توالد الناس، والموت، والحياة، على وتيرة واحدة، ويتم بالأسباب المعروفة.
كما أن ثبات الأرض والجبال، وتماسكها، وثقلها، واستقرارها هو السنّة التي ألفناها وعرفناها في جميع مقاطع حياتنا.
ولكن مشيئة الله سبحانه، قد تلغي ذلك كما في قضية ولادة عيسى ـ بل هي سوف تلغي حتماً ـ هذه الحالة عند انتهاء أمد الدنيا ـ وبذلك تكون نفس مشيئته، وليس فقد الشرط، ولا وجود الموانع سبباً في وقف التوالد، وفي صيرورة الجبال كالعهن(29) المنفوش. كما أنها لسوف تمّر مرّ السحاب، ولسوف يموت الناس بنفخ الصور. ثم تكون نفخة أخرى، فإذا هم قيام ينظرون.
نعم، إن ذلك كله سيكون، من دون أن يحدث أي خلل أو نقص في العلة التامة.
وقد سمّي هذا القسم بـ "المحتوم" وعبّر عن تدخل المشيئة الإلهية فيه بـ "البداء" كما تقدم في الرواية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29) العهن: هو الصوف.
وقد صرحت الرواية الثالثة المتقدمة بهذا حيث قالت:
(فقال له حمران: ما المحتوم؟
قال: الذي لله فيه المشيئة".
أما الرواية الرابعة التي هي موضع البحث فقد أشارت إلى هذا القسم وإلى القسم الثالث الآتي بيانه وهي تفسر المراد من الرواية الثالثة.
الثالث: ما يكون الإخبار فيه عن أمور حتمية الوقوع، ولا يتدخل الله سبحانه للتغيير فيها، مع قدرته على ذلك، إذ إن ذلك يتنافى مع صفاته الربوبية.
فمثلاً: الله قادر على فعل القبيح، وعلى الظلم، ولكن يستحيل صدورها منه:
(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)(30)، لأن ذلك يتنافى مع عدل الله سبحانه، ومع كونه لا يفعل القبيح.
وكذا الحال بالنسبة إلى كل ما يتنافى مع حكمته ورحمته.
وخلف الوعد أيضاً من هذا القبيل، فيستحيل منه تعالى، وقد صرحت الرواية السابقة بأن قيام القائم (عجل الله فرجه) من هذا القبيل، أي من الميعاد، والله سبحانه لا يخلف الميعاد.
ومما تقدم نعرف:
1ـ أن البداء في علامات الظهور إنما هو من القسم الأول.
2ـ أن البداء في العلامات التي هي من المحتوم، إنما هو من القسم الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(30) الآية 49 من سورة الكهف.
وأما البداء في قيام القائم (عجل الله فرجه) فهو من القسم الثالث.
ب: الطائفة الثانية من الروايات:
من الروايات التي اكتفت بالإشارة إلى حتمية بعض العلامات، نذكر ما يلي:
1ـ محمد بن موسى بن المتوكل، عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، قال: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول:
(إن خروج السفياني من الأمر المحتوم؟
قال: نعم، واختلاف ولد العباس من المحتوم، وقتل النفس الزكية من المحتوم، وخروج القائم من المحتوم الخ.."(31).
2ـ عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن عيسى بن أعين، عن المعلِّى بن خنيس، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
(إن أمر السفياني من المحتوم، وخروجه في رجب).
وذكره النعماني بسند آخر فراجع(32).
3ـ عن محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رض)، عن الحسين بن الحسن بن أبان عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن أبي عمير، عن عمر بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31) إكمال الدين ـ ج2 ـ ص652 والغيبة للشيخ الطوسي ـ ص282 والبحار ـ ج52 ـ ص206 وراجع منتخب الأثر ـ ص457.
(32) إكمال الدين ج2 ص652 و650 والبحار ج52 ص204 والغيبة للنعماني ص300 ومنتخب الأثر ص457.
حنظلة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
(قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، السفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكية، والخسف بالبيداء).(33)
4ـ أحمد بن إدريس، عن علي بن محمد بن قتيبة، عن الفضل بن شاذان، عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي، قال: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
(إن أبا جعفر كان يقول: خروج السفياني من المحتوم، والنداء من المحتوم، وطلوع الشمس من المغرب من المحتوم، وأشياء كان يقولها من المحتوم. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): واختلاف بني فلان (في الإرشاد: بني العباس في الدولة) من المحتوم، وقتل النفس الزكية من المحتوم، وخروج القائم من المحتوم الخ..)(34).
5ـ عن ابن فضال، عن حماد بن الحسين بن المختار، عن أبي نصر، عن عامر بن واثلة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(عشر قبل الساعة لابد منها: السفياني، والدجال، والدخان، والدابة، وخروج القائم، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى، وخسف بالمشرق، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من مقر عدن تسوق الناس إلى المحشر)(35).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) إكمال الدين ج2 ص650 والبحار ج52 ص204 وإلزام الناصب ص181 عنه.
(34) الغيبة للشيخ الطوسي ـ ص266 وراجع: إلزام الناصب ـ ص184 عن الإرشاد. وعبارته هكذا: "واختلاف بني العباس في الدولة من المحتوم الخ..".
(35) الغيبة للشيخ الطوسي ص267 والبحار ج52 ص209.
6ـ عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
(إن السفياني يملك بعد ظهوره على الكور الخمس. حمل امرأة، ثم قال: أستغفر الله، حمل جمل وهو الأمر المحتوم، وهو من الأمر المحتوم الذي لابد منه).(36)
7ـ ابن عيسى، عن ابن أسباط، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك، إن ثعلبة ابن ميمونة حدثني عن علي بن المغيرة، عن زيد العمي، عن علي بن الحسين قال:
(يقوم قائمنا لموافاة الناس سنة.
قال: يقوم القائم بلا سفياني! إن أمر القائم حتم من الله، وأمر السفياني حتم من الله، ولا يكون قائم إلا بسفياني)(37).
8 ـ محمد بن همام، عن جعفر بن محمد بن مالك الفزاري، عن الحسن بن علي بن يسار، عن الخليل بن راشد، عن البطائني، قال: رافقت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) من مكة إلى المدينة فقال لي يوماً:
(لو أن أهل السماوات والأرض خرجوا على بني العباس لسقيت الأرض دماءهم، حتى يخرج السفياني.
قلت له: يا سيدي، أمره من المحتوم.
قال: من المحتوم الخ..)(38).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(36) الغيبة للشيخ الطوسي ص273 والبحار ج52 ص215.
(37) البحار ج52 ص182 عن قرب الإسناد.
(38) الغيبة للنعماني ص301 وإلزام الناصب ص180.
ولكن هذا الحديث محل نظر وتأمل، فإن ملك بني العباس لم يدم إلى حين خروج السفياني، كما هو ظاهر.
إلا أن يقال إنهم ستعود دولتهم في آخر الزمان، ثم يزيلها السفياني آنئذٍ.
9ـ أحمد بن محمد بن سعيد عن علي بن الحسن، عن العباس بن عامر، عن عبد الله بن بكير، عن زرارة بن أعين، عن عبد الملك بن أعين، قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام)، فجرى ذكر القائم، فقلت له:
(أرجو أن يكون عاجلاً، ولا يكون سفياني.
فقال: لا والله، إنه من المحتوم، الذي لابد منه)(39).
10ـ علي بن أحمد البندنيجي، عن عبد الله بن موسى العلوي، عن يعقوب بن يزيد، عن زياد بن مروان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال:
(النداء من المحتوم والسفياني من المحتوم، واليماني من المحتوم، وقتل النفس الزكية من المحتوم، وكف يطلع من السماء من المحتوم.
قال: وفزعة في شهر رمضان، توقظ النائم، وتفزع اليقظان، وتخرج الفتاة من خدرها)(40).
11ـ وقد ذكرت بعض الروايات:
(أنه لابد من صوتين قبل خروج القائم، صوت من السماء وهو صوت جبرائيل باسم صاحب هذا الأمر، وصوت آخر من الأرض، وهو صوت إبليس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(39) الغيبة للنعماني ص252.
(40) الغيبة للنعماني ص264 ومنتخب الأثر ص455.
اللعين الخ..)(41).
12ـ أحمد بن محمد بن سعيد بن علي بن الحسين، عن يعقوب بن يزيد، عن زياد القندي، عن غير واحدٍ من أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال:
(قلنا له: السفياني من المحتوم!.
فقال: نعم، وقتل النفس الزكية من المحتوم، والقائم من المحتوم، وخسف البيداء من المحتوم، وكف تطلع من السماء من المحتوم.
فقلنا له: وأي شيء يكون النداء.
فقال: منادٍ ينادي باسم القائم واسم أبيه)(42).
13ـ أحمد بن محمد بن سعيد، بإسناده عن هارون بن مسلم، عن أبي خالد القماط، عن حمران بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:
(من المحتوم الذي لابد أن يكون قبل قيام القائم، خروج السفياني، وخسف البيداء، وقتل النفس الزكية، والمنادي من السماء)(43).
14ـ محمد بن همام، عن جعفر بن محمد بن مالك، عن عباد بن يعقوب، عن خلاد الصائغ (الصفار صح) عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أنه قال:
(السفياني لابد منه، ولا يخرج إلا في رجب)(44).
15ـ محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(41) الغيبة للنعماني ص203.
(42) البحار ج52 ص305 ومنتخب الأثر ص458 عن الكافي.
(43) الإرشاد للمفيد ص358 وأعلام الورى ص455 ومنتخب الأثر ص457.
(44) الغيبة للنعماني ص203.
جميلة، عن محمد بن علي الحلبي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
(اختلاف بني العباس من المحتوم، وخروج القائم من المحتوم.
قلت: وكيف النداء.
قال: ينادي منادٍ من السماء أول النهار الخ..)(45).
16ـ الفضل بن شاذان عمن رواه عن أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام):
(خروج السفياني من المحتوم.
قال: نعم والنداء من المحتوم، وطلوع الشمس من مغربها من المحتوم، واختلاف بني العباس في الدولة من المحتوم، وقتل النفس الزكية محتوم.
وخروج القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله) محتوم.
قلت وكيف يكون النداء الخ..)(46).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(45) البحار ج52 ص305 ومنتخب الأثر ص458 عن الكافي.
(46) الإرشاد للمفيد ص358 وأعلام الورى ص455 ومنتخب الأثر ص457.