الإمام المهدي (عليه السلام)
تأليف: السيد علي الحسيني الميلاني
إصدار: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة الأولى 1420هـ
الفهرس
مقدمة المركز.................5
تمهيد.................7
الفصل الأول: فيما يتعلق بأصل الاعتقاد بالمهدي (عليه السلام).................9
الفصل الثاني: في بحوث تتعلق بمسألة المهدي على ضوء كتب السنة.................23
الفصل الثالث: سؤالات.................27
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز:
لا يخفى أنّنا لازلنا بحاجة إلى تكريس الجهود ومضاعفتها نحو الفهم الصحيح والافهام المناسب لعقائدنا الحقّة ومفاهيمنا الرفيعة، ممّا يستدعي الالتزام الجادّ بالبرامج والمناهج العلمية التي توجد حالة من المفاعلة الدائمة بين الأُمّة وقيمها الحقّة، بشكل يتناسب مع لغة العصر والتطوّر التقني الحديث.
وانطلاقاً من ذلك، فقد بادر مركز الأبحاث العقائدية التابع لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ إلى اتّخاذ منهج ينتظم على عدّة محاور بهدف طرح الفكر الإسلامي الشيعي على أوسع نطاق ممكن.
ومن هذه المحاور: عقد الندوات العقائديّة المختصّة، باستضافة نخبة من أساتذة الحوزة العلمية ومفكّريها المرموقين، التي تقوم نوعاً على الموضوعات الهامّة، حيث يجري تناولها بالعرض والنقد والتحليل وطرح الرأي الشيعي المختار فيها، ثم يخضع ذلك الموضوع
ـ بطبيعة الحال ـ للحوار المفتوح والمناقشات الحرّة لغرض الحصول على أفضل النتائج.
ولأجل تعميم الفائدة فقد أخذت هذه الندوات طريقها إلى شبكة الانترنت العالمية صوتاً وكتابةً.
كما يجري تكثيرها عبر التسجيل الصوتي والمرئي وتوزيعها على المراكز والمؤسسات العلمية والشخصيات الثقافية في شتى أرجاء العالم.
وأخيراً، فإنّ الخطوة الثالثة تكمن في طبعها ونشرها على شكل كراريس تحت عنوان (سلسلة الندوات العقائدية) بعد إجراء مجموعة من الخطوات التحقيقية والفنيّة اللازمة عليها.
وهذا الكرّاس الماثل بين يدي القارئ الكريم واحدٌ من السلسلة المشار إليها.
سائلينه سبحانه وتعالى أن يناله بأحسن قبوله.
مركز الابحاث العقائدية
فارس الحسّون
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
بحثنا في هذه الليلة عن الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه).
الإمام المهدي في عقيدتنا نحن الشيعة الامامية الاثني عشرية هو الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
نعتقد بأنّه ابن الحسن العسكري (سلام الله عليه) ومن أولاد الإمام الحسين من أهل البيت سلام الله عليهم.
ونعتقد بأنّه مولود حي موجود، إلاّ أنّه غائب عن الأبصار.
عقيدتنا هذه من ضروريّات مذهبنا، والتشكيك في هذه العقيدة هو الشك في هذه العقيدة لأبناء هذا المذهب، وهو خروج عن المذهب.
ولو أردنا أن نتكلّم مع أبناء غير هذا المذهب وندعو الآخرين إلى هذه العقيدة، لابدّ وأنْ نستدلّ بأدلّة مقبولة عنده، إمّا عنده فقط، وإمّا عند الطرفين.
وبحثنا حول المهدي (سلام الله عليه) يكون في ثلاثة فصول:
الفصل الأوّل: فيما يتعلّق بأصل الاعتقاد، وما عليه الشيعة الاماميّة الاثنا عشريّة.
الفصل الثاني: في بحوث تتعلّق بمسألة المهدي على ضوء روايات أو أقوال موجودة في كتب السنّة تخالف ما عليه الشيعة الاماميّة.
الفصل الثالث: في سؤالات قد تختلج في أذهان أبناء الطائفة أيضاً، وقد تطرح في الكتب، ولربّما يشنّع بها من قبل الكتّاب من أهل السنّة على عقيدة هذه الطائفة وما تذهب إليه الاماميّة في هذا الموضوع.
وفي هذا الفصل نحاول أنْ نستدلّ بأدلة مشتركة بين عموم المسلمين، وأقصد من عموم المسلمين الشيعة الاماميّة الاثني عشريّة وأهل السنّة بجميع مذاهبهم.
في هذا الفصل نقاط وهي نقاط الاشتراك بين الجميع:
النقطة الأولى: لا خلاف بين المسلمين في أنّ لهذه الأُمّة مهدياً، وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أخبر به وبشّر به وذكر له أسماء وصفات وألقاباً وغير ذلك، والروايات الواردة في كتب الفريقين حول هذا الموضوع أكثر وأكثر من حدّ التواتر، ولذا لا يبقى خلاف بين المسلمين في هذا الاعتقاد، ومن اطّلع على هذه الأحاديث وحقّقها وعرفها، ثمّ كذّب أهل هذا الموضوع مع الالتفات إلى هذه الناحية، فقد كذّب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أخبر به.
الروايات الواردة في طرق الفريقين وبأسانيد الفريقين موجودة في الكتب وفي الصحاح والسنن والمسانيد، وأُلّفت لهذه الروايات كتب خاصة دوّن فيها العلماء من الفريقين تلك الروايات في تلك الكتب، وهناك آيات كثيرة من القرآن الكريم مأوّلة بالمهدي سلام الله عليه.
وحينئذ لا يُعبأ ولا يعتنى بقول شاذ من مثل ابن خلدون المؤرّخ، حتّى
أنّ بعض علماء السنّة كتبوا ردوداً على رأيه في هذه المسألة.
ومن أشهر المؤلّفين والمدوّنين لأحاديث المهدي (سلام الله عليه) من أهل السنّة في مختلف القرون:
أبو بكر ابن أبي خيثمة، المتوفى سنة 279 هـ.
نعيم بن حمّاد المروزي، المتوفى سنة 288 هـ.
أبو حسين ابن منادي، المتوفى سنة 336 هـ.
أبو نعيم الأصفهاني، المتوفى سنة 430 هـ.
أبو العلاء العطّار الهمداني، المتوفى سنة 569 هـ.
عبد الغني المقدسي، المتوفى سنة 600 هـ.
ابن عربي الاندلسي، المتوفى سنة 638 هـ.
سعد الدين الحموي، المتوفى سنة 650 هـ.
أبو عبد الله الكنجي الشافعي، المتوفى سنة 658 هـ.
يوسف بن يحيى المقدسي، المتوفى سنة 658 هـ.
ابن قيّم الجوزية، المتوفى سنة 685 هـ.
ابن كثير الدمشقي، المتوفى سنة 774 هـ.
جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911 هـ.
شهاب الدين ابن حجر المكّي، المتوفى سنة 974 هـ.
علي بن حسام الدين المتقي الهندي، المتوفى سنة 975 هـ.
نور الدين علي القاري الهروي، المتوفى سنة 1014 هـ.
محمّد بن علي الشوكاني القاضي، المتوفى سنة 1250 هـ.
أحمد بن صدّيق الغماري، المتوفى سنة 1380 هـ.
وهؤلاء أشهر المؤلّفين في أخبار المهدي منذ قديم الأيام، وفي عصرنا أيضاً كتب مؤلَّفة من قبل كتّاب هذا الزمان، لا حاجة إلى ذكر أسماء تلك الكتب.
وهناك جماعة كبيرة من علماء أهل السنّة يصرّحون بتواتر حديث المهدي والأخبار الواردة حوله، وبصحة تلك الأحاديث في الأقل، ومنهم:
الترمذي، صاحب الصحيح.
محمّد بن حسين الابري، المتوفى سنة 363 هـ.
الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك.
أبو بكر البيهقي، صاحب السنن الكبرى.
الفرّاء البغوي محيي السنة.
ابن الأثير الجزري.
جمال الدين المزّي.
شمس الدين الذهبي.
نور الدين الهيثمي.
ابن حجر العسقلاني.
وجلال الدين السيوطي.
إذن، لا يبقى مجال للمناقشة في أصل مسألة المهدي في هذه الأُمّة.
النقطة الثانية: إنّه لابدّ في كلّ زمان من إمام يعتقد به الناس أي المسلمون، ويقتدون به، ويجعلونه حجة بينهم وبين ربهم، وذلك (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّة)(1) و(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء 4/165.
عَنْ بَيِّنَة)(2) و(قُلْ فَلِلّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ).(3)
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في نهج البلاغة: (اللهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغموراً، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته).(4)
والروايات الواردة في هذا الباب أيضاً كثيرة، ولا أظنّ أنّ أحداً يجرأ على المناقشة في أسانيد هذه الروايات ومداليلها، إنّها روايات واردة في الصحيحين، وفي المسانيد، وفي السنن، وفي المعاجم، وفي جميع كتب الحديث والروايات، وهذه مقبولة عند الفريقين.
فقد اتفق المسلمون على رواية: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة).
هذا الحديث بهذا اللفظ موجود في بعض المصادر، وقد أرسله سعد الدين التفتازاني إرسال المسلّم، وبنى عليه بحوثه في كتابه شرح المقاصد.(5)
ولهذا الحديث ألفاظ أُخرى قد تختلف بنحو الإجمال مع معنى هذا الحديث، إلاّ أنّي أعتقد بأنّ جميع هذه الألفاظ لابدّ وأن ترجع إلى معنى واحد، ولابدّ أن تنتهي إلى مقصد واحد يقصده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فمثلاً في مسند أحمد: (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية)(6)، وكذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) سورة الأنفال 8/42.
(3) سورة الأنعام 6/149.
(4) نهج البلاغة 3/188 رقم 147.
(5) شرح المقاصد 5/239 وما بعدها.
(6) مسند أحمد 5/61 رقم 16434.
في عدّة من المصادر: كمسند أبي داود الطيالسي(7)، وصحيح ابن حبّان(8)، والمعجم الكبير للطبراني(9)، وغيرها.
وعن بعض الكتب إضافة بلفظ: (من مات ولم يعرف إمام زمانه فليمتْ إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً)، وقد نقله بهذا اللفظ بعض العلماء عن كتاب المسائل الخمسون للفخر الرازي.
وله أيضاً ألفاظ أُخرى موجودة في السنن، وفي الصحاح، وفي المسانيد أيضاً، نكتفي بهذا القدر، ونشير إلى بعض الخصوصيات الموجودة في لفظ الحديث:
(من مات ولم يعرف)، لابدّ وأنْ تكون المعرفة هذه مقدمة للاعتقاد، (من مات ولم يعرف) أي: من مات ولم يعتقد بإمام زمانه، لا مطلق إمام الزمان، بإمام زمانه الحق، بإمام زمانه الشرعي، بإمام زمانه المنصوب من قبل الله سبحانه وتعالى.
(من مات ولم يعرف إمام زمانه) بهذه القيود (مات ميتة جاهلية)، وإلاّ لو كان المراد من إمام الزمان أيّ حاكم سيطر على شؤون المسلمين وتغلَّب على أُمور المؤمنين، لا يكون معرفة هكذا شخص واجبة، ولا يكون عدم معرفته موجباً للدخول في النار، ولا يكون موته موت جاهلية، هذا واضح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) مسند أبي داود الطيالسي: 259 ـ دار المعرفة ـ بيروت.
(8) صحيح ابن حبّان 10/434 رقم 4573 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1418 هـ، وفيه: (من مات وليس له إمام).
(9) المعجم الكبير للطبراني 19/388 رقم 910.
إذن، لابدّ من أن يكون الإمام الذي تجب معرفته إمام حق، وإماماً شرعياً، فحينئذ، على الإنسان أن يعتقد بإمامة هذا الشخص، ويجعله حجةً بينه وبين ربّه، وهذا واجب، بحيث لو أنّه لم يعتقد بإمامته ومات، يكون موته موت جاهلية، وبعبارة أُخرى: (فليمت إنْ شاء يهودياً وإنْ شاء نصرانياً).
وذكر المؤرخون: أنّ عبد الله بن عمر، الذي امتنع من بيعة أمير المؤمنين سلام الله عليه، طرق على الحجّاج بابه ليلاً ليبايعه لعبد الملك، كي لا يبيت تلك الليلة بلا إمام، وكان قصده من ذلك هو العمل بهذا الحديث كما قال، فقد طرق باب الحجّاج ودخل عليه في تلك الليلة وطلب منه أن يبايعه قائلاً: سمعت رسول الله يقول: (من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية)، لكن الحجّاج احتقر عبد الله بن عمر، ومدّ رجله وقال: بايع رجلي، فبايع عبد الله بن عمر الحجّاج بهذه الطريقة.
وطبيعي أنّ من يأبى عن البيعة لمثل أمير المؤمنين (عليه السلام) يبتلي في يوم من الأيام بالبيعة لمثل الحجّاج وبهذا الشكل.
وكتبوا بترجمة عبد الله بن عمر، وفي قضاياه الحرة، بالذات، تلك الواقعة التي أباح فيها يزيد بن معاوية المدينة المنورة ثلاثة أيام، أباحها لجيوشه يفعلون ما يشاؤون، وأنتم تعلون ما كان وما حدث في تلك الواقعة، حيث قتل عشرات الآلاف من الناس، والمئات من الصحابة والتابعين، وافتضت الابكار، وولدت النساء بالمئات من غير زوج.
في هذه الواقعة أتى عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع، فقال عبد الله ابن مطيع: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إنّي لم آتك لكي
أجلس، أتيتك لأُحدّثك حديثاً، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من خلع يداً من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، أخرجه مسلم.(10)
فقضية وجوب معرفة الإمام في كلّ زمان والاعتقاد بإمامته والالتزام ببيعته أمر مفروغ منه ومسلّم، وتدلّ عليه الأحاديث، وسيرة الصحابة، وسائر الناس، ومنها ما ذكرت لكم من أحوال عبد الله بن عمر الذي يجعلونه قدوة لهم، إلاّ أنّ عبد الله بن عمر ذكروا أنّه كان يتأسّف على عدم بيعته لامير المؤمنين (عليه السلام)، وعدم مشاركته معه في القتال مع الفئة الباغية، وهذا موجود في المصادر، فراجعوا الطبقات لابن سعد(11) والمستدرك للحاكم(12) وغيرهما من الكتب.
وعلى كلّ حال لسنا بصدد الكلام عن عبد الله بن عمر أو غيره، وإنّما أردت أن أذكر لكم نماذج من الكتاب والسنة وسيرة الصحابة على أنّ هذه المسألة ـ مسألة أنّ في كلّ زمان ولكلّ زمان إمام لابدّ وأنْ يعتقد المسلمون بإمامته ويجعلونه حجةً بينهم وبين ربهم ـ من ضروريات عقائد الإسلام.
النقطة الثالثة: إنّ المهدي من الأئمة الاثني عشر في حديث الأئمة بعدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) صحيح مسلم 3/1478 رقم 1851.
(11) طبقات ابن سعد 4/185 و187، وفيه: (ما أجدني آسى على شيء من أمر الدنيا إلاّ أنّي لم أُقاتل الفئة الباغية، ما آسى عن الدنيا إلاّ على ثلاث ظمأ الهواجر ومكابدة الليل وألاّ أكون قاتلت الفئة هذه الفئة الباغية التي حلّت بنا).
(12) مستدرك الحاكم 3/558 سطر 8، وفيه: (ما آسى على شيء) وتكملتها في الهامش (10): بياض في الأصل، لعلّ هذه العبارة سقطت (إلاّ أنّي لم أُقاتل مع علي (رضي الله عنه) الفئة الباغية).
اثنا عشر، لا ريب ولا خلاف في هذه الناحية، فإنّ القيود التي ذكرت في رواية الأئمة اثنا عشر، تلك القيود كلّها منطبقة على المهدي سلام الله عليه، لانّ هذا الإمام عندما يظهر يجتمع الناس على القول بإمامته، وأنّ الله سبحانه وتعالى سيعزّ الإسلام بدولته، وأنّه سيظهر دينه على الدين كلّه، وجميع تلك القيود والمواصفات التي وردت في أحاديث الأئمة اثنا عشر كلّها منطبقة على المهدي سلام الله عليه.
وببالي أنّي رأيت في بعض الكتب التي حاولوا فيها ذكر الخلفاء بعد رسول الله من بني أُميّة وغيرهم، يعدّون المهدي أيضاً من أُولئك الخلفاء الاثني عشر، الذين أخبر عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الأحاديث التي درسناها في الليلة الماضية.
وإلى الآن عرفنا الاتفاق على ثلاثة نقاط:
النقطة الأولى: أنّ في هذه الأُمّة مهدياً.
النقطة الثانية: أنّ لكلّ زمان إماماً يجب على كلّ مسلم معرفته والإيمان به.
النقطة الثالثة: أنّ المهدي (عليه السلام) الذي أخبر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الأحاديث الكثيرة، نفس المهدي الذي يكون الإمام الثاني عشر من الأئمة الذين أخبر عن إمامتهم من بعده في أحاديث الأئمة اثنا عشر.
وإلى الان عرفنا المشتركات بين المسلمين، فإنّه إلى هنا لا خلاف بين طوائف المسلمين، ويكون المهدي حينئذ أمراً مفروغاً منه ومسلّماً في هذه الأُمّة، والمهدي هو الثاني عشر من الأئمة الاثني عشر، فهو الإمام الحق الذي يجب معرفته والاعتقاد به، وأنّ من مات ولم يعرف المهدي مات ميتة
جاهلية.
وهنا قالت الشيعة الامامية الاثنا عشرية: إنّ الذي عرفناه مصداقاً لهذه النقاط هو ابن الحسن العسكري، ابن الامام الهادي، ابن الامام الجواد، ابن الامام الرضا، ابن الامام الكاظم، ابن الامام الصادق، ابن الامام الباقر، ابن الامام السجاد، ابن الحسين الشهيد، ابن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم أجمعين.
فهذه عقيدة الشيعة، فهم يطبّقون تلك النقاط الثلاثة المتفق عليها على هذا المصداق.
فهل هناك حديث عند الجمهور يوافق الشيعة الاماميّة، ويدلّ على ما تذهب إليه الشيعة الاماميّة في هذا التطبيق؟
هل هناك حديث أو أحاديث من طرق أهل السنّة توافق هذا التطبيق وتؤيّد هذا التطبيق أو لا؟
من هنا يشرع البحث بين الشيعة وغير الشيعة، هذه عقيدة الشيعة ولهم عليها أدلّتهم من الكتاب والسنّة وغير ذلك، وما بلغهم وما وصلهم عن أئمّة أهل البيت الصادقين سلام الله عليهم.
لكن هل هناك ما يدلّ على هذا الاعتقاد في كتب أهل السنّة أيضاً، لتكون هذه العقيدة مؤيَّدة ومدعمة من قبل روايات السنّة، ويمكن للشيعة الاماميّة أنْ تلزم أولئك بما رووا في كتبهم أو لا؟
نعم وردت روايات في كتب القوم مطابقة لهذا الاعتقاد، إذن، يكون هذا الاعتقاد متفقاً عليه حسب الروايات وإن لم يكن القوم يعتقدون بهذا الاعتقاد بحسب الأقوال، إلاّ أنّا نبحث أوّلاً عن العقيدة على ضوء الأدلة، ثمّ
على ضوء الأقوال والآراء، ولنقرأ بعض تلك الروايات:
الرواية الأُولى: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله عزّ وجلّ ذلك اليوم حتّى يبعث فيه رجلاً من ولدي اسمه اسمي، فقام سلمان الفارسي فقال: يا رسول الله، من أيّ ولدك؟ قال: من وَلَدي هذا. وضرب بيده على الحسين).
هذه الرواية في المصادر عن أبي القاسم الطبراني(13)، وابن عساكر الدمشقي، وأبي نعيم الاصفهاني، وابن قيّم الجوزية، ويوسف بن يحيى المقدسي(14)، وشيخ الإسلام الجويني،(15) وابن حجر المكي صاحب الصواعق.(16)
الحديث الثاني: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم)لبضعته الزهراء سلام الله عليها وهو في مرض وفاته: (ما يبكيك يا فاطمة، أما علمت أنّ الله اطّلع إلى الارض إطّلاعة أو اطْلاعة فاختار منها أباك فبعثه نبيّاً، ثمّ اطّلع ثانية فاختار بعلك، فأوحى إليّ فأنكحته إيّاك واتّخذته وصيّاً، أما علمت أنّكِ بكرامة الله إيّاك زوّجك أعلمهم علماً، وأكثرهم حلماً، وأقدمهم سلماً. فضحكت واستبشرت، فأراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يزيدها مزيد الخير، فقال لها: ومنّا مهدي الاُمّة الذي يصلّي عيسى خلفه، ثمّ ضرب على منكب الحسين فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) المعجم الكبير 10/166 رقم 10222 باختلاف.
(14) عقد الدرر في أخبار المنتظر: 56 ـ انتشارات نصايح ـ قم ـ 1416 هـ.
(15) فرائد السمطين 2/325 رقم 575 عن حذيفة بن اليمان ـ مؤسسة المحمودي ـ بيروت ـ 1400 هـ.
(16) الصواعق المحرقة: 249 وما بعدها.
من هذا مهدي الاُمّة).
وهذا الحديث رواه كما في المصادر: أبو الحسن الدارقطني، أبو المظفر السمعاني، أبو عبد الله الكنجي، وابن الصبّاغ المالكي.(17)
الحديث الثالث: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يخرج المهدي من ولد الحسين من قبل المشرق، لو استقبلته الجبال لهدمها واتّخذ فيها طرقاً).
وهذا الحديث كما في المصادر عن نعيم بن حمّاد، والطبراني، وأبي نعيم، والمقدسي صاحب كتاب عقد الدرر في أخبار المنتظر.(18)
هذا بحسب الروايات.
وأمّا بحسب أقوال العلماء المحدّثين والمؤرّخين والمتصوفين، هؤلاء أيضاً يصرّحون بأنّ المهدي ابن الحسين، أي من ذريّة الحسين، ويضيفون على ذلك أنّه ابن الحسن العسكري، وأيضاً مولود وموجود، هؤلاء عدة كبيرة من العلماء من أهل السنّة في مختلف العلوم أذكر أشهرهم:
أحمد بن محمّد بن هاشم البلاذري، المتوفى سنة 279 هـ.
أبو بكر البيهقي، المتوفى سنة 458 هـ.
ابن الخشّاب، المتوفى سنة 567 هـ.
ابن الازرق المؤرخ، المتوفى سنة 590 هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17) البيان في أخبار صاحب الزمان للكنجي الشافعي: 502 (ضمن كفاية الطالب) ـ دار إحياء تراث أهل البيت ـ طهران ـ 1404 هـ. فاصله الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكي: 296 ـ منشورات الاعلمي ـ طهران.
(18) الفتن لنعيم بن حماد 1/371 ح1095، عقد الدرر: 282 عن الطبراني وأبي نعيم، وانظر الحاوي للفتاوي 2/66 عن ابن عساكر.
ابن عربي الاندلسي صاحب الفتوحات المكية، المتوفى سنة 638 هـ.
ابن طلحة الشافعي، المتوفى سنة 653 هـ.
سبط ابن الجوزي الحنفي، المتوفى سنة 654 هـ.
الكنجي الشافعي، المتوفى سنة 658 هـ.
صدر الدين القونوي، المتوفى سنة 672 هـ.
صدر الدين الحموي، المتوفى سنة 723 هـ.
عمر بن الوردي المؤرخ الصوفي الواعظ، المتوفى سنة 749 هـ.
صلاح الدين الصفدي صاحب الوافي في الوفيات، المتوفى سنة 764 هـ.
شمس الدين ابن الجزري، المتوفى سنة 833 هـ.
ابن الصبّاغ المالكي، المتوفى سنة 855 هـ.
جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911 هـ.
عبد الوهاب الشعراني الفقيه الصوفي، المتوفى سنة 973 هـ.
ابن حجر المكي، المتوفى سنة 973 هـ.
علي القاري الهروي، المتوفى سنة 1013 هـ.
عبد الحق الدهلوي، المتوفى سنة 1052 هـ.
شاه ولي الله الدهلوي، المتوفى سنة 1176 هـ.
القندوزي الحنفي، المتوفى سنة 1294 هـ.
فظهر إلى الآن:
أوّلاً: أنّ المهدي (عليه السلام) من هذه الاُمّة.
ثانياً: المهدي (عليه السلام) من بني هاشم.
ثالثاً: المهدي (عليه السلام) من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
رابعاً: المهدي (عليه السلام) من ولد فاطمة (عليها السلام).
خامساً: المهدي (عليه السلام) من ولد الحسين (عليه السلام).
ولكلّ واحد من هذه النقاط: كونه من هذه الأُمّة، كونه من بني هاشم،
كونه من عترة النبي، كونه من ولد فاطمة، كونه من ولد الحسين، لكلّ بند من هذه البنود، روايات خاصة، ولم نتعرض لها لغرض الاختصار.
فانتهينا إذن من الفصل الاول.
هناك بحوث تدور حول روايات في كتب السنّة تخالف هذا الذي انتهينا إليه، ولربّما اتّخذ بعض العلماء من أهل السنّة ما دلَّت عليه تلك الروايات عقيدةً لهم، ودافعوا عن تلك العقيدة، إلاّ أنّنا في بحوثنا حقّقنا أنّ تلك الروايات المخالفة لهذا العقيدة، إمّا ضعيفة سنداً، وإمّا فيها تحريف، والتحريف تارةً يكون عمداً، وتارة يكون سهواً، وتلك البحوث هي:
أوّلاً: الخبر الواحد الذي ورد في بعض كتبهم في أنّ (المهدي هو عيسى ابن مريم)(19)، فليس من هذه الاُمّة، وإنّما المهدي هو عيسى بن مريم، فالمهدي الذي أخبر به رسول الله في تلك الروايات الكثيرة المتواترة التي دوّنها العلماء في كتبهم، وأصبحت روايات موضع وفاق بين المسلمين، وأصبحت من ضمن عقائد المسلمين، المراد من المهدي في جميع تلك الروايات هو عيسى بن مريم.
وهذه رواية واحدة فقط موجودة في بعض كتب أهل السنّة.
وثانياً: الخبر الواحد الذي ورد في بعض كتبهم من أنّ (المهدي من ولد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) المنار المنيف لابن قيم الجوزية: 148، كنز العمال 14/263 ح38656.
العباس)(20)، فليس من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وهذا أيضاً خبر واحد، وكأنّه وضع في زمن بني العباس لصالح حكّام بني العباس.
وثالثاً: الخبر الواحد الذي في كتبهم من أنّه (من ولد الحسن)(21)، لا من ولد الحسين.
وهذا أيضاً خبر واحد.
ورابعاً: الخبر الواحد الذي في بعض كتبهم من أنّ (اسم أبي المهدي اسم أبي النبي)(22)، وأبو النبي اسمه عبد الله، فلا ينطبق على المهدي ابن الحسن العسكري سلام الله عليهم، فتكون رواية مخالفة لما ذكرناه واستنتجناه من الأدلة.
وخامساً: ما عزاه ابن تيميّة إلى الطبري وابن قانع من (أنّ الحسن العسكري قد مات بلا عقب) وإذا كان الحسن العسكري قد مات بلا عقب، فليس المهدي ابن الحسن العسكري.
فهذه بحوثٌ لابدّ من التعرّض لها وإثبات ضعف هذه الاحاديث المخالفة، أو إثبات أنّها روايات محرّفة.
أمّا ما نسبه ابن تيميّة إلى الطبري صاحب التاريخ، وإلى ابن قانع، فهو كذب، وقد حققته بالتفصيل في بعض مؤلفاتي.
وأمّا بالنسبة إلى البحوث الأخرى، فلو أردنا الدخول في تحقيقها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20) المصدر نفسه: 149، كنز العمال: 14/264 ح38663.
(21) المنار المنيف لابن قيّم الجوزية: 151.
(22) كنز العمال 14/268 ح38678.
لاحتجنا إلى وقت إضافي، فإن شاء الله تعالى بعد أن أُكمل البحث في هذه الليلة في الفصل الثالث، إن بقي من الوقت شيء، ندخل في هذه البحوث، وحينئذ نصل إلى الفصل الثالث.
عنوانه سؤالات؟
السؤال الأول: مسألة طول العمر؟
السؤال الثاني: لماذا هذه الغيبة؟
السؤال الثالث: ما الفائدة من إمام غائب؟
السؤال الرابع: أين يعيش المهدي؟
السؤال الخامس: متى يظهر؟
السؤال السادس: ما هو تكليف المؤمنين تجاهه وتجاه الاحكام الشرعية في زمن الغيبة؟
السؤال السابع: ما هي الحوادث الكائنة عند ظهوره وبعد ظهوره؟
السؤال الثامن: مسألة الرجعة؟
وقد تكون هناك أسئلة أُخرى.
ولابدّ من الإجابة على هذه الاسئلة ولو بنحو الإجمال، لئلاّ يبقى البحث ناقصاً.
أقرأ لكم عبارة السعد التفتازاني أوّلاً، وندخل في البحث ونشرع في الجواب عن هذه الأسئلة ولو بنحو الإجمال كما ذكرت.
يقول السعد التفتازاني(23): زعمت الامامية من الشيعة أنّ محمّد بن الحسن العسكري اختفى عن الناس خوفاً من الاعداء، ولا استحالة في طول عمره كنوح ولقمان والخضر (عليه السلام) ـ هذا رأي الشيعة ـ وأنكر ذلك سائر الفرق، لانّه ادّعاء أمر مستبعد جدّاً، ولانّ اختفاء إمام هذا القدر من الانام بحيث لا يذكر منه إلاّ الاسم بعيد جدّاً، ولانّ بعثه مع هذا الاختفاء عبث، ولو سلّم فكان ينبغي أنْ يكون ظاهراً، فما قيل أو فما يقال: إنّ عيسى يقتدي بالمهدي أو بالعكس شيء لا مستند له، فلا ينبغي أنْ يعوّل عليه.
هذا غاية ما توصّل إليه متكلّمهم سعد الدين التفتازاني.
أقول: إن تطرح هذه الأسئلة كبحوث علمية ومناقشات، فلا مانع، ويا حبّذا لو تطرح كذلك ويلتزم فيها بالآداب والأخلاق والمتانة، ولا يكون هناك شتم وسبّ وتهجّم وتهريج واستهزاء، وهكذا فعل بعض العلماء وبعض الكتّاب المعاصرين.
إلاّ أنّنا إذا راجعنا (منهاج السنّة) وجدناه في فصل البحث عن المهدي قد ملا كتابه حقداً وبغضاً وعناداً وسبّاً وشتماً وتهريجاً وتكذيباً للحقائق!!! بحيث لو أنّكم أخرجتم من كتاب منهاج السنّة ما يتعلّق بالمهدي وما اشتمل عليه من السب والشتم لجاء كتاباً مستقلاً.
وقد تبعه أولياءه في هذا المنهج من كتّاب زماننا وفي خصوص المهدي (سلام الله عليه) واعتقاد الشيعة في المهدي، تراهم يتهجّمون ويسبّون وينسبون إلينا الأكاذيب، ويخرجون عن حدود الآداب، ومع الأسف يكون لكتبهم قرّاء ومن يروّج لها في بعض الأوساط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) شرح المقاصد 5/313.
والحقيقة، أنّه تارةً يشك الباحث في أحاديث المهدي، أو يُناقش في أحاديث (الائمّة الاثنا عشر)، أو لا يرتضي حديث (من مات ولم يعرف إمام زمانه)، فهذا له وجه، بمعنى أنّه يقول: بأنّي لا أُوافق على صحّة هذه الأحاديث، فيبقى على رأيه، ولا يتكلّم معه إن لم يقتنع بما في الكتب، لاسيّما بروايات أبناء مذهبه.
وأمّا بناء على أنّ هذه الأحاديث مخرّجة في الصحاح، وفي السنن، والمسانيد، والكتب المعتبرة، وأنّها أحاديث متّفق عليها بين المسلمين، وأنّ الاعتقاد بالمهدي (عليه السلام) أو الاعتقاد بالإمام في كلّ زمان واجب، وأنّ المهدي هو الثاني عشر في الحديث المعروف المتفق عليه، فيكون البحث بنحو آخر، لأنه إنْ كان الباحث موافقاً على هذه الأحاديث، وعلى ما ورد من أنّ المهدي ابن الحسن العسكري، فلا محالة يكون معتقداً بولادة المهدي (عليه السلام)، كما اعتقدوا، وذكرنا أسماء كثيرين منهم.
نعم منهم من يستبعد طول العمر، بأنْ يبقى الإنسان هذه المدة في هذا العالم، وهذا مستبعد كما عبّر سعد التفتازاني، فإن التفتازاني لم يكذّب ولادة المهدي من الحسن العسكري سلام الله عليه، وإنّما استبعد أن يكون الإمام باقياً هذه المدة من الزمان، ولذا نرى بعضهم يعترف بولادة الامام (عليه السلام) ثمّ يقول: (مات)، يعترف بولادته بمقتضى الأدلة الموجودة لكنّه يقول بموته، لعدم تعقّله بقاء الإنسان في هذا العالم هذا المقدار من العمر، لكن هذا يتنافى مع (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) حيث قرّرنا أنّ هذا الحديث يدلّ على وجود إمام في كلّ زمان.
ولذا نرى البعض الآخر منهم يلتفت إلى هذه النواحي، فلا يقول مات،
يمثّل بعض علمائنا ويقول: لو أنّ أحداً ادّعى تمكّنه من المشي على الماء، يكذّبه الحاضرون، وكلّ من يسمع هذه الدعوى يقول: هذا غير ممكن، فإذا مشى على الماء وعبر النهر مرّةً يزول الاستغراب أو الاستبعاد من السامعين بمقدار هذه المرّة، فإذا كرّر هذا الفعل وكرّره وكرّره أصبح هذا الفعل أمراً طبيعياً وسهل القبول للجميع، حينئذ هذا الاستبعاد يزول بوجود نظائر ذلك.
إلاّ انّ ابن تيميّة ملتفت إلى هذه الناحية، فيكذّب أصل حياة الخضر ويقول: بأنّ أكثر العلماء يقولون بأنّ الخضر قد مات، فيضطرّ إلى هذه الدعوى، لانّ هذه النظائر إذا ارتفعت رجع الاستبعاد مرة أُخرى.
لكنّك إذا رجعت مثلاً إلى الإصابة لابن حجر العسقلاني(24) لرأيته يذكر الخضر من جملة الصحابة، ولو رجعت إلى كتاب تهذيب الأسماء واللغات للحافظ النووي(25) الذي هو من علماء القرن السادس أو السابع يصرّح بأنّ جمهور العلماء على أنّ الخضر حي، فكان الخضر حيّاً إلى زمن النووي، وإذا نزلت شيئاً فشيئاً تصل إلى مثل القاري في المرقاة(26) وتصل إلى مثل شارح المواهب اللدنيّة، هناك يصرّحون كلّهم ببقاء الخضر إلى زمانهم، وحتّى أنّهم ينقلون قصصاً وحكايات ممن التقى بالخضر وسمع منه الاخبار والروايات، فحينئذ تكذيب وجود الخضر من قبل ابن تيميّة إنّما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(24) الإصابة 2/114 ـ 115 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.
(25) تهذيب الأسماء واللغات 1/176 رقم 147 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.
(26) مرقاة المفاتيح للقاري 9/692 كتاب الفتن.
هو لعلة ولحساب، وهو يعلم بأنّ وجود الخضر خير دليل على أنّ هذا الاستبعاد ليس في محلّه.
على أنّ الله سبحانه وتعالى إذا اقتضت الحكمة أنْ يبقي أحداً في هذا العالم آلاف السنين إذا اقتضت الحكمة، فقدرته سبحانه وتعالى تطبّق تلك الإرادة، ومشيّته تطبَّق، وهو قادر على كلّ شيء.
فمسألة طول العمر أصبحت الآن مسألة بسيطة الحل، وصار الجواب عن هذا السؤال سهلاً جداً في مثل زماننا.
وأمّا أنّ الامام (عليه السلام) متى يظهر، وأنّه (سلام الله عليه) كيف يستفاد منه في زمن الغيبة؟
يقول ابن تيميّة وأيضاً يقول سعد التفتازاني: بأنّ المهدي لم يبق منه إلاّ الاسم، ولم ينتفع منه أحد حتّى القائلون بوجوده.
وهؤلاء لا يعلمون، لانّ هذه الاُمور لا يتوصّلون إليها ولا يمكنهم الاطّلاع عليها، إنّ الثقات من أبناء هذه الطائفة من علماء وغير علماء، لهم قضايا وحوادث وقصص وحكايات، تلك القضايا الثابتة المروية عن طرق الثقات مدوّنة في الكتب المعنيّة، وكم من قضية رجع الشيعة، عموم الشيعة، أو في قضايا شخصية، رجعوا إلى الامام (عليه السلام) وأخذوا منه حلّ تلك القضية ورفع تلك المشكلة، إلاّ أنّ أعداء الائمّة سلام الله عليهم والمنافقين لا يوافقون على مثل هذه الأخبار، وطبيعي أن لا يوافقوا، ومن حقّهم أن لا يعتقدوا.
مضافاً، إلى أنّ الله سبحانه وتعالى إنّما ينصب الامام في كلّ أُمة، ويرسل الرسول إلى كلّ أُمّة، ليتمّ به الحجة، وكم من نبي قتلوه في أوّل يوم
من نبوّته ودعوته، وكم من رسول صلبوه في اليوم الاوّل من رسالته، وكم من الأنبياء حاربوهم وشرّدوهم وطردوهم، أيمكن أن يقال لله سبحانه وتعالى: بأنّ إرسالك هؤلاء الرسل والأنبياء كان عبثاً.
وأمّا أين يعيش؟
فأين يعيش الخضر؟ نحن نسأل القائلين ببقاء الخضر وغير الخضر ممّن يعتقدون بحسب رواياتهم بقاءهم، هؤلاء أين يعيشون؟ وهذه ليست مسألة، إنّ الامام أين يعيش!
وأمّا الحوادث الكائنة عند ظهوره وبعد ظهوره.
فتلك حوادث وقضايا مستقبلية وردت بها أخبار، وتلك الاخبار مدوّنة في الكتب المعنية.
والشيء الذي أراه مهمّاً من الناحية الاعتقادية والعملية، وأرجو أنْ تلتفتوا إليه، فلربّما لا تجدونه مكتوباً ولا تسمعونه كما أقوله لكم:
لاحظوا إذا كانت غيبة الامام (عليه السلام) لمصلحة أو لسبب، ذلك السبب إمّا وجود المانع وإمّا عدم المقتضي، غيبة الامام (عليه السلام) إمّا هي لعدم المقتضي لظهوره أي لعدم وجود الأرضية المناسبة لظهوره، أو لوجود الموانع عن ظهوره.
وجود الموانع وعدم المقتضي كان السبب في غيبة الامام (عليه السلام)، هذا واضح.
إنّا لا نعلم أنّ المانع متى يرتفع، ولا نعلم أنّ المقتضي متى يتحقق ويحصل، ولذا ورد في الروايات: (إنّما أمرنا بغتة).
فظهور الامام (عليه السلام) متى يكون؟
حيث لا يكون مانع وتتمّ المقدمات والأرضية المناسبة لظهوره.
وهذا متى يكون؟
العلم عند الله سبحانه وتعالى، فيمكن أن يكون غداً، ويمكن أن يكون بعد غد، وهكذا، وهذه نقطة.
والنقطة الثانية: إنّ في رواياتنا أنّ حكومة المهدي ستكون حكومة داود (عليه السلام)، إنّه يحكم بحكم داود (عليه السلام)، رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والإيمان وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، وأيّما رجل قطعت له قطعة فإنّما أقطع له قطعة من نار).(27)
أوضّح لكم هذه الرواية: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا تخاصم إليه رجلان على كتاب مثلاً، على دار، أو على أيّ شيء آخر، يطلب من المدعي البيّنة، وحينئذ إنْ أقام البيّنة أخذ الكتاب من المدعى عليه وسلّمه إلى المدعي، وهذا الحكم يكون على أساس البيّنة، يقول رسول الله إنّما أقضي عليكم إنّما أقضي بينكم بالبيّنة، أمّا إذا كانت البيّنة كاذبة والمدعي أقامها وعن هذا الطريق تملّك الكتاب، فليعلم بأنّ الكتاب هذا قطعة من النار، أنا وظيفتي أنْ أحكم بينكم بحسب البيّنة، لكن أنت المدعي إنْ كنت تعلم بينك وبين ربّك أنّ الكتاب ليس لك، فلا يجوز لك أخذ هذا الكتاب.
إذن، يكون حكم رسول الله والحكم الإسلامي على أساس القواعد المقرّرة، وهذه هي الادلة الظاهرية المعمول بها.
فإذا جاء المهدي سلام الله عليه، لا يأخذ بهذه القواعد والأحكام الظاهرية، وإنّما يحكم طبق الواقع، فإذا جاء ورأى أنّ الكتاب الذي بيدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(27) الكافي 7/414 رقم 1، باختلاف بالألفاظ.
هذا الكتاب الذي بحوزتي هو لزيد، أخذه منّي وأرجعه إلى زيد، وإذا علم أنّ هذه الدار التي أسكنها ملك لعمرو أخذها منّي وأرجعها إلى عمرو، فكلّ حقّ يرجع إلى صاحبه بحسب الواقع.
وعلى هذا، إذا كان الإمام (عليه السلام) ظهوره بغتة، وكان حكمه بحسب الواقع، فنحن ماذا يكون تكليفنا فيما يتعلّق بنا في شؤوننا الداخلية والشخصية؟ في أُمورنا الاجتماعية؟ في حقوق الله سبحانه وتعالى علينا؟ وفي حقوق الآخرين علينا؟ ماذا يكون تكليفنا وفي كلّ لحظة نحتمل ظهور الإمام (عليه السلام)، وفي تلك اللحظة نعتقد بأنّ حكومته ستكون طبق الواقع لا على أساس القواعد الظاهرية؟ حينئذ ماذا يكون تكليف كلّ فرد منّا؟
وهذا معنى (أفضل الأعمال انتظار الفرج).
وهذا معنى ما ورد في الروايات من أنّ الأئمة (سلام الله عليهم) كانوا ينهون الأصحاب عن الاستعجال بظهور الإمام (عليه السلام)، إنّما كانوا يأمرون ويؤكّدون على إطاعة الإنسان لربّه وأن يكون مستعدّاً لظهور الإمام (عليه السلام).
وبعبارة أُخرى: مسألة الانتظار، ومسألة ترقب الحكومة الحقة، هذه المسألة خير وسيلة لإصلاح الفرد والمجتمع، وإذا صَلُحنا فقد مهّدنا الطريق لظهور الإمام (عليه السلام)، ولان نكون من أعوانه وأنصاره.
ولذا أمرونا بكثرة الدعاء لفرجهم، ولذا أمرونا بالانتظار لظهورهم، هذا الانتظار معناه أن يعكس الإنسان في نفسه ويطبّق على نفسه ما يقتضيه الواقع، قبل أن يأتي الإمام (عليه السلام) ويكون هو المطبِّق، ولربّما يكون هناك شخص يواجه الإمام (عليه السلام) ويأخذ الإمام منه كلّ شيء، لانّ كلّ الأشياء التي بحوزته ليست له، وهذا ممكن.
فإذا راقبنا أنفسنا وطبّقنا عقائدنا ومعتقداتنا في سلوكنا الشخصي والاجتماعي، نكون ممهّدين ومساعدين ومعاونين على تحقّق الأرضية المناسبة لظهور الإمام (عليه السلام).
وتبقى كلمة سجّلتها عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذه المناسبة، يقول الإمام (عليه السلام) ـ كما في نهج البلاغة ـ: (ولا تستعجلوا بما لم يعجّله الله لكم، فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته، مات شهيداً).(28)
وعندنا في الروايات: أنّ من كان كذا ومات قبل مجيء الإمام (عليه السلام) مات وله أجر من كان في خدمته وضرب بالسيف تحت رايته.
يقول الإمام (عليه السلام): (فإنّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيداً، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النيّة مقام إصلاته لسيفه، فإنّ لكلّ شيء مدّة وأجلاً).(29)
ففي نفس الوقت الذي نحن مأمورون بالدعاء بتعجيل الفرج، فنحن مأمورون أيضاً لتهيئة أنفسنا، وللاستعداد الكامل لان نكون بخدمته، وإذا عمل كلّ فرد منّا بوظائفه، وعرف حقّ ربّه (عزَّ وجلَّ) وحقّ رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحقّ أهل بيته (عليهم السلام)، فقد تمّت الأرضية المناسبة لظهوره (عليه السلام)، ولا أقل من أنّا أدّينا تكاليفنا ووظائفنا تجاه الإمام (عليه السلام).
وكنت أقصد أن أُلخّص البحث في بعض الجهات الأخرى حتّى أُوفّر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) نهج البلاغة 2/156 خطبة 185.
(29) تأويل الآيات: 642، البحار 52/144 ح63.
وقتاً لهذه النقطة الأخيرة التي بيّنتها لكم، وذكرت لكم الدليل البرهاني العقلي والروائي على وجوب الالتزام العملي على كلّ واحد منّا بوظائفه تجاه ربّه وتجاه رسوله وتجاه أهل بيت الرسول (عليهم السلام).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعرّفنا حقّه، أن يعرّفنا حقّ رسوله، أن يعرّفنا حقّ الأئمة الأطهار، أن يعرّفنا حقّ إمامنا، وأنْ يوفّقنا لأداء الوظائف والتكاليف الملقاة على عواتقنا.
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين