الغيبة
تأليف: الشيخ محمد رضا الجعفري
إصدار: مركز الأبحاث العقائدية
الفهرس
مقدمة المركز..................5
تمهيد..................7
موضوع البحث..................9
النقطة الأولى: أن مسألة الغيبة أمر قدّره الله..................9
النقطة الثانية: الكلام عن المهدي في عقائد الشيعة الإمامية..................12
المهدي (عليه السلام) لا يمكن أن ينفصل عن الغيبة..................15
المسلك الأول: وعد الله بظهور دينه على الدين كلّه..................19
المسلك الثاني: الأئمة اثنا عشر..................31
المسلك الثالث: أحاديث الثقلين..................35
المسلك الرابع: فيما يرويه غير الإمامية..................39
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز:
لا يخفى أنّنا لازلنا بحاجة إلى تكريس الجهود ومضاعفتها نحو الفهم الصحيح والافهام المناسب لعقائدنا الحقّة ومفاهيمنا الرفيعة، ممّا يستدعي الالتزام الجادّ بالبرامج والمناهج العلمية التي توجد حالة من المفاعلة الدائمة بين الاُمّة وقيمها الحقّة، بشكل يتناسب مع لغة العصر والتطوّر التقني الحديث.
وانطلاقاً من ذلك، فقد بادر مركز الابحاث العقائدية التابع لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني - مدّ ظلّه - إلى اتّخاذ منهج ينتظم على عدّة محاور بهدف طرح الفكر الاسلامي الشيعي على أوسع نطاق ممكن.
ومن هذه المحاور: عقد الندوات العقائديّة المختصّة، باستضافة نخبة من أساتذة الحوزة العلمية ومفكّريها المرموقين، التي تقوم نوعاً على الموضوعات الهامّة، حيث يجري تناولها بالعرض والنقد والتحليل وطرح الرأي الشيعي المختار فيها، ثم يخضع ذلك الموضوع - بطبيعة
الحال - للحوار المفتوح والمناقشات الحرّة لغرض الحصول على أفضل النتائج.
ولأجل تعميم الفائدة فقد أخذت هذه الندوات طريقها إلى شبكة الانترنت العالمية صوتاً وكتابةً.
كما يجري تكثيرها عبر التسجيل الصوتي والمرئي وتوزيعها على المراكز والمؤسسات العلمية والشخصيات الثقافية في شتى أرجاء العالم.
وأخيراً، فإنّ الخطوة الثالثة تكمن في طبعها ونشرها على شكل كراريس تحت عنوان (سلسلة الندوات العقائدية) بعد إجراء مجموعة من الخطوات التحقيقية والفنيّة اللازمة عليها.
وهذا الكرّاس الماثل بين يدي القارئ الكريم واحدٌ من السلسلة المشار إليها.
سائلينه سبحانه وتعالى أن يناله بأحسن قبوله.
مركز الابحاث العقائدية
فارس الحسّون
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيّد رسله وخاتم أنبيائه محمد وآله الطيبين الطاهرين الائمة الهداة المعصومين، لا سيما أولهم مولانا أمير المؤمنين وسيد الوصيّين، وخاتمهم مولانا الامام الثاني عشر المهدي المنتظر عجّل الله فرجه وجعلنا من أنصاره وأعوانه، ولعنة الله على أعدائهم والموالين لاعدائهم والمعادين لاوليائهم من الاوّلين والاخرين، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
اللّهم صلّ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والعن من آذى نبيّك فيها من الاولين والاخرين.
السلام عليكم أيّها الاخوة ورحمة الله وبركاته.
يسعدني أن أكون ممّن أمكنه الله أن يلبّي حاجة في نفوس المعتنقين لولاء أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين، في أمسّ مسائل العقيدة التي يواجهها إيمانهم، والتي قد يجد أعداؤهم الثغرة للطّعن في إيمانهم، وهو ما يرجع إلى مولانا الامام الحجّة المهدي المنتظر (عجَّل الله تعالى فرجه)، خاصّة فيما يرجع إلى غيبته.
يسعدني أن أكون ممّن وفّقهم الله تعالى لكي ألبّي هذه الحاجة في بحث أطرحه وأؤطِّره بإطارين:
الاطار الاوّل: الوقت الذي حدّد لي أن يكون البحث يكتمل إلى حدّ ما، ضمن هذا الوقت.
والثاني: الايجاز الذي تتطلبه مثل هذه البحوث التي تلقى مباشرة على السامعين، فالبحوث إن كانت طويلة وجاءت في كتاب فللقارئ أن يتجاوز صفحات أو أن يغفل صفحات ويكتفي بما يحاول أو يتلذّذ بقراءته، وأما السامع المسكين الذي لا يملك إلاّ أن يعصر أذنيه كي لا يسمع، فهذا من الصعب جداً أن يكون البحث بالنسبة إليه ممتعاً، إلاّ إذا كان إلى حدٍّ لا يجد السامع منه مللاً ولا يرى فيه نقصاً في الاداء أو إيجازاً مخلاً، فلا تكون الاسئلة التي كانت تدور في ذهنه قد بقي منها مالم يجد الاجابة عليه فيما سمعه.
ومن الله سبحانه وتعالى ومن وليّه وحجّة عصره مولانا الامام المهدي المنتظر - الذي يرانا ولا نراه والذي يعلم بحالنا ولا نعلم بحاله إلاّ ما أخبرنا الوحي به - أستمدّ أن يعينني على حسن الاداء وأن يعينكم أو يحقق لكم حسن الاستماع، إنه نعم المولى ونعم النصير.
الموضوع الذي طلب منّي أن يكون بحثي يدور في فلكه: هو ما يرجع إلى الامام المهدي (سلام الله عليه) في غيبته، وما انتهى إليه هذا العنصر الاعتقادي الهامّ الذي يميّز الشيعة في عددهم المبارك، يعني في العدد الاعتقادي للائمة الذي يعبّر عنه بالشيعة الاثني عشرية.
الكلام حول المهدي (سلام الله عليه) فيما أنا فهرستُ ووضعتُ المنهج له، وأنا أقرأ نقاط البحث، فإن وفقني الله سبحانه وتعالى كي أكمل هذه النقاط في جلستنا هذه فنعمت النتيجة للمتكلّم والسامع، وإن بقي شيء فأرجوا الله سبحانه وتعالى أن لا يكون الفاصل بين هذه الحلقة والحلقة التي تستدعيها فيما بعد، أن لا يكون الفاصل بحيث يُنسي الاولى أو لا يمكن المستمع إلى الاخرى من استماعها للفاصل الزمني الطويل.
البحث عن غيبة الامام المهدي (سلام الله عليه) يرتبط بالبحث عن إمامته كأحد الائمة، ولا يمكن أن يستغني عنه الباحث عن إمامة المهدي (سلام الله عليه) وعن البحث في غيبته، وقبل هذا نقاط أوجزها:
النقطة الاولى:
إن غيبة المهدي (سلام الله عليه) وظهوره كموت الخليقة وحشرها أمرٌ
قدّره الله سبحانه وتعالى - حسب رأينا نحن الامامية الاثنا عشرية - ولم يستشر فيه أحداً ولم يوكّل أمره إلى أحّد غيره.
يعني أن الله سبحانه وتعالى حينما خلق الخلق قدّر لهم النشأة الاولى هذه، وقدّر لهم النشأة الاخرى، شئنا أم أبينا، كنّا في رضىً من ذلك أم كرهناه، وذلك لحبنا لهذه العاجلة، أو مع الاسف الشديد لاننا أسأنا العمل فنكره المواجهة مع آثام العمل وآثاره.
إنّ الله سبحانه وتعالى قدّر للخلق أن تكون لهم نشأتان: نشأة في حياتهم الدنيا، ونشأة أخرى في حياتهم الاخرى، وهكذا أيضاً قدّر الله سبحانه وتعالى أن يكون عدد أوليائه إثني عشر، لا يزيدون واحداً ولا ينقصون واحداً، وقدّر لهذا الثاني عشر أن يغيب من بيننا وهو حي وأن يظهر في الزمن الذي اختاره الله سبحانه وتعالى بحكمته وقدّره بعلمه، شئنا أم أبينا.
وأعني أنّنا لسنا مختارين، ولم يجعل الله سبحانه خياراً لنا في أن نحيا ونحشر بعد أن نموت، بحيث أننا إذا وجدنا في حياتنا الاخرى تلك منشأ لذّة أحببنا الحياة، وإن وجدنا فيها آثاماً وسوء نتائج لسوء أعمالنا في هذه الحياة اخترنا أن يكون موتنا موتاً دائماً.
والذين قرأوا جداول أبي ماضي يعلمون بأن شبهة المعاد عنده أساسها هذه، هذه الشبهة لو أردنا أن ننظر إليها من ناحية تندّر وظَرَفْ، لابدّ وأنكم سمعتم أن هناك من يتندر فيقول: بأن الجوزة إن كان لابدّ لها من حامل ولا يكون إلاّ شجرة باسقة سامقة كبيرة طويلة العمر، فكيف بالبطيخة، البطيخة لابدّ أن تكون شجرتها أكبر من شجرة الجوزة، مع العلم بأن هذا تندّر أو تغفّل أو شيء آخر أسوء من هذين، لماذا؟ لاننا واجهنا في الحياة أنّ الله سبحانه
وتعالى قدّر للجوزة أن تكون ثمرة لشجرة باسقة، وأن لا يكون للبطيخ إلاّ هرش صغير.
فالعالم هو الذي يأخذ الحقائق كما هي ثم يستعين بها في حياته، يعني بحيث أننا لو أردنا أن نستحصل الجوزة علينا أن نهيء أو نغرس شجرتها وننتظر وقد يكون انتظارنا يستمر سنين إلى أن نحصل على الثمرة، وإذا أردنا أن نحصل على البطيخة، فالبطيخة أهون بكثير في استحصالها من حيث الزمن ومن حيث الغرس ومن حيث العناية بالغرس، وأسهل بكثير من الجوزة وشجرتها.
حقائق الحياة لا نملكها نحن ولا يملكها إلاّ الله سبحانه وهو الذي قدّرها واستمرّ عليها ويستمر عليها لحكمته، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
الامام المهدي (سلام الله عليه) قدّر الله بحكمته أن يكون آخر الائمة، وأن يكون مهدي هذه الامّة، وأن يكون هو الذي يملا الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، أو بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، ولا فرق بين العبارتين، إلاّ ما يتخيله الانسان من أنّ كاف التشبيه قد تكون أهون من البعدية، ولا فرق بين الاثنين بحسب الواقع، وأنا أشير إلى مناقشات حصلت في الموضوع.
فالامام المهدي (سلام الله عليه) إرادة الله في عالم الشريعة، كما أنّ حشره سبحانه وتعالى لخلقه إرادته في عالم الخليقة والتكوين، لا فرق بين الاثنين، لم يستشر أحداً في الاولى أي في الحشر بعد الموت، ولا يستشير أحداً في
الثانية، أي إنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي قدّر أن يكون لهذه الامّة مهدي يظهر في آخر الزمان، وأن يكون من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ولد أمير المؤمنين (عليه السلام) والصديقة الكبرى سلام الله عليها، وأن يكون من ولد
الحسين (عليه السلام)، (إنّ الله تعالى عوّض الحسين من قتله أن جعل الامامة في ذريّته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره...).(1)
وهذه حقيقة هامّة يجب أنْ لا نغفل عنها، وهي أن إيماننا بالمهدي لا يرتبط بأنفسنا من ناحية ذاتية، بحيث أني لو أحببت المهدي أؤمن به، ولو لم أُحبّ لا أؤمن، إيماني بالمهدي خضوع وتسليم لارادة الله كإيماني بكل ما أراه من سنّة الله تبارك وتعالى في هذا الكون وسنّته في الخلق، عليّ أن أنسجم وأن أجعل نفسي وحياتي ملائمة ومنسجمة مع سنّة الله، سنن الله سبحانه وتعالى لا تكون بحيث يرضى بها أحد فتكون سنّة ويكرهها آخر فلا تكون سنّة بالنسبة إليه.
النقطة الثانية:
إنّني حينما أتكلم عن المهدي (سلام الله عليه) أتكلّم عن موقع المهدي والمهدوية في عقائدنا نحن الشيعة الامامية الاثنا عشرية، وتفسير هذا أنّ المهدي (سلام الله عليه) قد يختلف عن باقي الائمة، ومنهم أمير المؤمنين سلام الله عليه، فله جانبان: جانب اختصصنا به نحن الامامية، وجانب ثان اشترك فيه معنا غيرنا من فرق المسلمين، وحتّى أمير المؤمنين (سلام الله عليه) له جانبان، جانب أقرّ به غيرنا من فرق المسلمين، وخاصة الفرق التي لها جانب رواية للسنّة وعناية بالحديث.
فلا أتكلم هنا عن المهدي والمهدوية عند المعتزلة، لان المعتزلة أطّروا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الامالي للطوسي 317 ج 644.
مذهبهم باطار عقلي لا أقول بأنه صادق كلّه أو لا، مائل عن الحق أو لا، هذا خارج عن بحثي هنا، أما فِرق المسلمين التي جعلت من السنّة أساساً لعقائدها فلا تشترك معنا في الايمان بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكنها تشترك معنا في القول بالمهدي وأنه يخرج في آخر الزمان.
وأنا أملك نصوصاً كثيرة تدلّ بوضوح على أنّ علماءهم في الحديث والمعنيين بالدراسات الحديثية قالوا بأن أحاديث المهدي متواترة، فقد رواها أكثر من ثلاثين صحابي وصحابية، بل وبعض الحديث الذي جاء عن بعض الصحابة كعبد الله بن مسعود، السند إلى عبد الله عندهم متواترة لكثرة مَن يرويه من رواتهم عن عبد الله.
ولكنهم حينما يجمعون أحاديثهم ويفسّرون بعضها ببعض قد يكون منهج التفسير عندهم يختلف عن منهج التفسير عندنا نحن الامامية، وقد تكون النتيجة عندهم تنتهي إلى ما لا تنتهي إليه بحوثنا العقائدية.
مثلاً نجدهم يقولون بأن الاصح أنّ المهدي (سلام الله عليه) من ولد الحسن (عليه السلام)، وهذا عندنا غير وارد.
أو أنّ المهدي الذي بشّر به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)كيف عرّفه؟ يقولون بأنه جاء في كثير من الاحاديث: يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي(2) وبهذا يكون اسم أبيه الكريم عبد الله، لا الامام الحسن بن علي العسكري سلام الله عليهما.
أو أنه يخرج من أين؟ في بعض رواياتهم - وإن كانت غريبة عندهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) سنن أبي داود 4: 106 - 107 ح4282.
ويستغربونها ويقولون بأنها من غريب الاحاديث - أنه يخرج من المغرب.
أنا حينما أتكلم عن المهدي سلام الله عليه، أتكلم عن موقعه الخاص في عقيدتنا نحن الامامية الاثنا عشرية خاصة، فاذا استعنت بحديث غيرنا أستعين به فيما يؤكد ويقوّي نظرتنا نحن الامامية، لا أنّي أتناول حديث غيرنا تناولاً مباشراً فأحل العقد وأبيّن جهة الاشكال وأشرح جهة النقض وحلّ هذه المشكلة، هذه كلّها اتجنبها في حديثي هذا.
وإن كنت قد ذكرت في كتابي الّذي جمعت فيه أحاديث المهدي (عليه السلام) من طرق غير الامامية كل ما يرجع إليه (عليه السلام)، وهذه الاحاديث لو قدّر أن تطبع لكانت أكثر من أربعمائة أو خمسمائة صفحة بترتيب خاص، والبحوث التي تأتي بعدها قد تفوقه بصفحات وصفحات.
المهدي (عليه السلام) لا يمكن أن ينفصل عن الغيبة:
أصل الدعوى التي عليّ أن أقيم الحجة على صحتها: أنّ المهدي والمهدوية - لا يمكن في حكمة الله سبحانه وتعالى وعلمه بحاجة عباده وأنه اللطيف الخبير يفعل ما يشاء ولكنه لا يفعل إلاّ لحكمة، ويحكم بما يريد ولكنه لا يحكم إلاّ بما كان فيه رأفة ورحمة لعباده والتزام بالعدل الذي ألزم الله به نفسه - لا يمكن أن ينفصل عن الغيبة.
وهذه الحجة أذكرها إن شاء الله بصورة عدّة مسالك، كلّ مسلك ينتهي الى أنّ المهدي (سلام الله عليه) قدّر الله له أن يكون أحد الائمة، فيستحيل أن لا تكون له غيبة.
فالامام العسكري (سلام الله عليه) ولد سنة مائتين واثنين وثلاثين من الهجرة، وجاءته الامامة (سلام الله عليه) بعد استشهاد أبيه الامام الهادي علي ابن محمد (عليهما السلام) سنة مائتين وأربع وخمسين من الهجرة، وفي أشهر الاقوال عند الامامية استشهد في يوم الجمعة الثامن من شوال سنة مائتين وستّين من الهجرة.
فلو حذفنا الجهات الخاصة بالفكرة عن الامام العسكري (سلام الله عليه) عند الامامية وقلنا: إن الامام (سلام الله عليه) جاءته الامامة في سنة 254 هـ بعد موت أبيه موتاً طبيعياً، وأنه جاءته الوفاة التي قدرها الله لكل أحد بصورة
طبيعية، ولم تكن هناك جريمة اشترك في إيجادها بالنسبة إلى الامام العسكري أحد لا بصورة مباشرة ولا غير مباشرة، فكانت إمامته ست سنوات.
قد نقول: بأن الله سبحانه وتعالى وجد من الحكمة أنّ الامامة للامام العسكري كافية لمدة ست سنوات، فالله سبحانه وتعالى جعله إماماً واستوفى حاجة الناس إلى إمامته ضمن ست سنوات، فست سنوات كافية في أننا نملك إماماً وضعه الله إماماً علينا، وبهذا نستفيد ما أراد الله سبحانه وتعالى من نصبه إماماً في ضمن ست سنوات.
أما الامام المهدي (سلام الله عليه) فلم يملك مدّة الامامة ولا يوماً واحداً، لماذا؟ لانه مادام والده الامام العسكري حي فالامامة خاصة بأبيه، وإن كان هناك إمامان لابدّ وأن يكون أحدهما صامتاً عندما يكون بقضاء الله سبحانه وتعالى غيره ناطقاً بالامامة، ويوم أن مات الامام العسكري سلام الله عليه، غاب، فما هي الحاجة إلى إمامته؟
لا أقول ما هي الحاجة بأن نكون نحن نتدخل في حكمة الله سبحانه وتعالى بفضول لا يرتضيه الله، لا، نحن نستفهم من الله سبحانه وتعالى بأنه حينما قدّر للمهدي (سلام الله عليه) أن تكون له إمامة آنذاك، قدرها لكي يستفيد الخلق من إمامته، وإلاّ فالله سبحانه وتعالى في غنى عن رسله وأنبيائه وعن أئمته وحججه، وإنما يرسل رسله وينصب حججه لكي يستفيد الخلق منهم، لا لحاجة من الله سبحانه وتعالى في الخلق ولا لهداية للخلق برسول يرسله إليهم أو بحجة ينصبه عليهم، وإنّما الذي يحتاج هو الخلق والعباد، والله رأفةً بعباده يؤمِّن لهم ما يحتاجون إليه في هدايتهم كما أمّن لهم ما يحتاجون إليه في حياتهم.
أرجو أن تكونوا قد استوعبتم الدعوى، كي أقوم بسلوك الطرق المختلفة
لاثبت أنّ هذه الدعوى هي التي لابدّ وأن تكون الصحيحة في المجال الاعتقادي عند الامامية الاثني عشرية، الذين لهم تفسير خاص للامامة لا يتجاوزونه، وعدد خاص للائمة لا يتجاوزونهم، ليس لهم أن يحذفوا واحداً، ولا أن يضيفوا واحداً، ولا أن يؤخروا من قدّمه الله سبحانه وتعالى، ولا أن يقدّموا من أخّره الله سبحانه وتعالى.
فالعقيدة الصحيحة لاستمرار حاجة الناس إلى النبوة وكون النبي مدّة حياته لا تتناسب مع الابدية لشريعته، لابدّ لهذا النبي من أئمة يكونون مثله في العصمة في الاداء، والعصمة في الهداية، والعصمة في قيادة الخلق.
فعقيدة الامام المهدي (سلام الله عليه) عند الامامية لا يمكن أن تكون بلا غيبة، لماذا؟
لانه في مقتبل عمره لم يتمكن ولا يوماً واحداً من هداية الامة حتى بالقدر الذي كان يتمكن منه آباؤه، ولم يتمكن لغيبته من اتّصال الشيعة به قدر ما كان يتمكن آبائه حتى في أحلك الظروف وأشدّها عليهم، فإذن لابد وأن تكون إمامته المتصرفة في خلقه بعد تلك الفترة، أي بعد الغيبة، فلابدّ لنا وأن نلتزم بأن الانتفاع بالامام المهدي كإمام الذي يكون مشابهاً للانتفاع بآبائه الطاهرين كأئمة لابدّ وأن يأتي في فترة أخرى بعد الغيبة.
هذه خلاصة الدعوى، وأنا إن شاء الله أبدأ بالطرق التي استخلصتها نتيجة بحثي وجمعي لمواد كثيرة من جهات شتى:
المسلك الاول: وعد الله بظهور دينه على الدين كلّه
إن الله سبحانه وتعالى وعد وعداً قاطعاً صريحاً بظهور دينه على الدين كلّه، لا يقصد بذلك دينه الذي بدأ به من أول مَن أرسله رسولاً إلى خلقه وانتهى بمن أرسله رسولاً وسيداً على المرسلين وخاتم النبيين، بل الدين الذي جاء به نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعد الله سبحانه وعداً قاطعاً بأن يظهره على الدين كلّه.
وهذا الوعد جاء ضمن آيات ثلاث، ومن غريب الامر أن آيتين منها متماثلتان، ولا أقول متشابهتان، بل متماثلتان تماماً من أول حرف من الاية إلى آخر حرف منها، وجاءتا في سورتين بينهما فاصل زمني وإن كانت السورتان كلتاهما مدنيتين.
الاولى: قوله تعالى في سورة التوبة(3):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) سورة التوبة من آخر ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم تنزل بعدها سورة سوى المائدة، وهي آخر السور التي نزلت في عرفة في ذي الحجة من السنة العاشرة من هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة المنورة، وبعدها لم يعش إلاّ أقل من ثلاثة شهور، إن أقربنا وفاته بالثامن والعشرين من صفر، أم أبعدنا الى الثاني عشر من ربيع الاول، ولكن في تلك السنة التي تلت الشهر الثاني عشر من السنة العاشرة وشهر ذي الحجة لم يعش بعدها.
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ).(4)
مفهوم الاية واضح، (هو الذي)، هذا كلّه تأكيد، (أرسل رسوله)، فلو قال سبحانه وتعالى: الله أرسل رسوله، كان أوجز، لكن هنا (هو الذي أرسل رسوله)، يعني أن الذي أرسل عليه لحكمته وعلمه وموقع رسوله هذا وموقع شريعته هذه التي جاء بها رسوله هذا، يقتضي أن يكون هو الذي يظهر هذا الدين على الدين كلّه ولو كره المشركون.
وهنا نكتة أشير إليها، وهي قوله تعالى: (بالهدى ودين الحق)، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسله السابقين على رسولنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالهدى ودين الحق، فلماذا سبحانه وتعالى يصف دينه هذا ورسوله هذا أنّه أرسله بالهدى ودين الحق؟ والموجز في الجواب أن الاديان السابقة لم تكن هادية هداية عامة لجميع الخلق بالقياس إلى الهداية التي جاء بها نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا لانها ناقصة، بل لانها تهدي الانسانية في فترة قصيرة جداً من عمرها الطويل، فتلك لا تقاس بالنسبة الى الهداية التي جاء بها نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك على ما يقولون: الفرد الاكمل الابرز الاوضح للهدى الذي جاء به نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهكذا دين الحق، لماذا؟ لان هذا الدين دين شرعه الله سبحانه وتعالى للبشرية إلى آخر أيام حياتها على ظهر هذا الكوكب، كم تطول؟ لا نعلم، كم ألوف من السنن؟ لا نعلم، كم عصور تتوالى عليها، لا نعلم، ولكننا نعلم شيئاً واحداً: أنّ البشرية إن كانت قد اكتملت واكتسبت مافيه كمالها، سواء أكان هذا الكمال من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) سورة التوبة: 33.
ناحية مادية، أم كمالاً من ناحية معنوية، فانها لم تكتسبه إلاّ في عصور حياتها الاخيرة، لا حياتها البدائية، سواء أقلنا: إن الحياة البشرية البدائية بدأت برسول من الله سبحانه وتعالى كما تقوله الاديان السماوية، أو قلنا: إن الانسان قد مرّ بأشواط وأشواط طويلة قد يؤرّخونها بملايين السنين، وقد يؤرّخون أسلاف الانسانية، وأنا أستميحكم عذراً حينما أقول بأسلاف الانسانيّة، سواءً أكانوا يشبهون مثلاً القردة أو نفس القردة أنفسهم أو موجودات أخر، فقد مرّ على الانسانية شوط طويل إن لخصناه بامكاننا أن نقول كل ما امتدّ بها الزمن تكاملت عندها خصائصها الخاصة بها.
فكما يقولون - لا أقول: بأن هذا صحيح مائة بالمائة، ولكني أحكي ما يقولون - بأن الانسانية بدأت على ظهر هذا الكواكب تعيش من حيث المأكل كما يعيش سائر الاحياء، فقد كانت تشترك مع القردة أو الدببة التي كانت تأتي إلى الساحل المائي، فكان الدبّ يستعين بمخالبه فيصيد سمكة ويأكل كما يقولون، وأن الانسان البدائي كان يأخذ حجراً فيقف راصداً سمكة تمر عليه فيرميها بحجر ويصطادها.
والان حينما نأتي إلى أواخر عصور الانسانيّة حتى في التاريخ المجمل المبهم لها، نجد أن الانسانيّة تستقبل الكمال ولا تستدبره.
فالتكامل يكون في مستقبل حياة الانسانيّة، والدين الذي يكون لمستقبل حياة الانسانيّة وحتى الشوط الاخير من هذه الحياة التي لا ندري متى يأتي ذلك الشوط الاخير ومتى يكون، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماوات ومَنْ فِي الارْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيْهِ اُخْرَى فَإذَا هُمْ قِيَامٌ
يَنْظُرُونَ).(5)
فالدين الذي جاء لتلبية حاجة الانسانية في أكمل صورها وأوفى استكمالها لكمالها الانساني، ولا أدعي بأن هذا الكمال يكون في سنين عديدة ويقابله نقص في ملايين من السنين، إن هذا شيءٌ أنا شخصيّاً أستبعده ولا أطلب الان من غيري أن يؤمن به مائة بالمائة، ولكن من البعيد جداً أن الحكمة الالهيّة تجعل من الشوط الكامل للانسانيّة أقصر أشواطها مدّة، وكيفيةً، وزمناً، ولا يأتي في ذهنكم أنّ الروايات التي تقول بأن الامام المهدي (سلام الله عليه) إذا خرج يملك سبعاً أو تسعاً، لا أتكلم عن هذا، فهذه كلها إن وردت لا يُقصد بها العدد الخاص من جهة، والجهة الثانية أن رجعة الائمة هي التي تكمل هذا الشوط من حياة الانسانيّة، وهو أعلى أشواطه كمالاً وإنسانيةً وتلالؤاً وامتلاءاً بأحب الصفات الالهية التي يريدها الله سبحانه وتعالى أن تتمثل في خلقه كالرحمة والمحبة و...، ولا أقصد تلك الصفات التي يذكرها العارفون بالمعنى المصطلح للعرفان، الذي يرجع إلى أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق على هيأته وأن الله خلق آدم على صورته، لا أقصد هذا.
وإنّما أقول: إنّ من البعيد جداً أن تكون الانسانية لا تكتمل إلاّ في آخر لحظات حياتها، وإذا أردتُ أن أشبّه فكرتي هذه فأقول: بأن الله سبحانه وتعالى إن وعد فرداً معيناً منّا بأني سوف استوفي لك كل حاجة تحتاجها في حياتك الدنيا هذه، وفي هذا الكوكب، وفي هذه الحياة التي تسبق الموت، أستوفي لك كل حاجاتك وأؤمّن وألبّي كل رغباتك، ولكن في ساعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) سورة الزمر: 68.
واحدة قبل موتك، أنا واثق بأن أيّ واحد منّا لو أن الله سبحانه وتعالى خيّره بين هذه وبين أن يعيش عيشةً متواضعةً لا أمل فيها ولا ألم، لاختار هذه العيشة المتواضعة دون أن يختار حياة مليئة بالالام تزول آلامها في آخر ساعة من حياته هذه، وأمّا أنها تعوض في الحياة الاخرى، فذاك حديث آخر.
الانسانية أيضاً هكذا، من غير المعقول لحكمة الله سبحانه وتعالى أن يقدّر لخلقه برحمته أن يخلقهم، وبرأفته أن يهديهم، وبحكمته وعلمه أن يفتح أمامهم مسلكاً يبلغون بسلوكه ما يريد الله سبحانه وتعالى منهم حينما خلقهم أن يجعل هذا في أقصر فترات حياتهم.
فأنا واثق من أن الحياة الكريمة التي تأتينا في دولة كريمة يُعزّ بها الاسلام وأهله ويضمحلّ فيها النفاق وأهله، لا أنه يخذل، بل يضمحل فيها النفاق وأهله، وأن نكون سعداء كما أراد الله سبحانه وتعالى، أن يكون دور الانسانية هذا، هي أقصر أدوار حياته على ظهر هذا الكوكب. إذن فما وعد الله سبحانه وتعالى وَعْداً قاطعاً وهو أن يظهر دينه على الدين كله، لابدّ وأن يكون على يد مهدي هذه الامة، لماذا؟ لان عدد الائمة عندنا عدد معين، اثنا عشر إماماً، استوفى أحد عشر منهم مدّته.
ومع أسف الانسانية وبؤسها وشقائها ومحنتها بل من أعظم محنها أن هذه المدّة لم تستوف كما أراد الله، يعني بإرادة من الله سبحانه وتعالى أن تكون مدّة حياتهم الطبيعية وهم بين أظهر أمتهم يهدونهم، فأمير المؤمنين (عليه السلام) لا نعلم بأن أشقى الاخرين لو لم يضربه على هامته كم كان يعيش؟ وأن الامام الحسن (سلام الله عليه) الذي لم تدم إمامته إلاّ عشر سنين أو أقل لو لم يُسم كم كان
يعيش؟ وأن سيد الشهداء (سلام الله عليه) لو لم يكن يُقتل تلك القتلة الفجيعة(6) كم كان يعيش؟ هؤلاء لو لم يواجهوا من طاغية زمانهم بما جاء عليهم كم كانوا يعيشون؟ ولكن مع هذا لا يصحّ لنا أن نقول بأن الله سبحانه وتعالى أظهر دينه على الدين كلّه، فالوعد الالهي لم يأت بعد.
ولو قلنا بأن الوعد الالهي يكون على أيدي الهداة الالهيين، لماذا؟ لان الانسانية جرّبت أحسن من يقودها إن لم يكن ممن أخذ الله العهد على نفسه بأن يرقبه بحيث لا يحيد (وَمَا اُبرِئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لامّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي)(7)، فالذين رحمهم الله سبحانه وتعالى لا يتجاوزون عمّا يريده الله سبحانه وتعالى منهم، فالوعد الالهي للانسانيّة إن لم يكن من شخص يجري الوعد على يديه كفوءاً صحيحاً، تقع الانسانيّة في مآسي ويقع الوعد في مجافيات وفي تناقضات، بحيث أن الوعد يفقد حكمته بل يفقد مصداقيّته.
فلا يكون الوعد إلاّ على يد معصوم، يكون الله سبحانه وتعالى مراقباً له، بحيث أن الله سبحانه وتعالى لو أراد أن يجري الوعد بنفسه لا يختلف عما يجريه وليّه.
فالاية الكريمة يكفي ورودها مرة واحدة، مع أنها جاءت بهذا المضمون في ضمن ثلاث آيات كريمة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) التي لم ترد في أي أمّة من الامم بالنسبة إلى أقل من يمثل حقوقاً إيجابية في تلك الامة، فمن يملك أبسط الحقوق لاي فرد كان من أي أمة لم يواجه بجريمة كما واجهها سيد الشهداء وأصحابه سادة الشهداء من الاولين والاخرين.
(7) سورة يوسف: 53.
الاولى: قوله في سورة البراءة أو التوبة: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ).(8)
ونفس هذه الاية بما بدأت به وبما انتهت به حتى من حيث الحرف، لا الكلمة وحدها، جاءت في سورة الصف: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ).(9)
فالله سبحانه وتعالى - من باب التندر أقول - ليس كبعض شعرائنا الذي ينظم القصيدة فيجدها قصرت عما يريدها من عدد الابيات فيأتي بأبيات قالها سابقاً في قصيدة أخرى يضمّنها، يضمّن قصيدته هذه تلك الابيات حتى تطول، وهذا كثيراً ما يكون، ولا يؤاخذه مؤاخذ بما فعل، لانه قول قاله، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يعيد الاية كي تطول السورة، يجلّ عن ذلك، يعيد الاية كي يؤكّد لنا بأن هذا وعدٌ قاطعٌ صريحٌ لا خلف له، ولن يخلف الله وعده.
وبالاضافة إلى ذلك نفس المعنى يرد في آية كريمة أخرى، تختلف من حيث الانتهاء، وهي قوله تعالى في سورة الفتح: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بالله شَهِيداً).(10)
هذا المقطع: (وكفى بالله شهيداً) حسب فهمنا أقوى بالدلالة على قوله تعالى حينما ختم به آيتيه الكريمتين: (ولو كره المشركون)، فـ: (وكفى بالله شهيداً) معناه: أن الله سبحانه وتعالى الذي وعد هو الذي يشهد، لا أنه وعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وغاب أو مات، وكان الوعد وصية منه ينجزها غيره، فيكون ذلك الذي ينجّز من الممكن أنْ يتساهل ويتكاسل أو يتغافل أو يغفل أو ينسى أو يجهل، (وكفى بالله شهيدا) الله سبحانه وتعالى الذي يشهد الخلق، فان وعد وعداً فهو الذي يجعل وعده لا خلف فيه.
فهذا الوعد القاطع الذي لا يصح لمسلم أن لا يؤمن به ولا يصح لغير مسلم أن يغفله في تأريخ الفكر الاسلامي، يعني غير المسلم قد لا يؤمن بالقرآن الكريم ككتاب منزل من قبل الله سبحانه وتعالى، بل قد لا يؤمن بأن لهذا الكون خالقاً، أو يشرك الله بغيره من أنداد يجعلها لله سبحانه وتعالى، ولكنه حينما يقرأ القرآن الكريم يجد هذا الوعد وعداً قاطعاً صريحاً لا لبس فيه ولا إبهام فيه.
فإذن هذا الوعد وعدٌ يؤمن به كل مسلم ووعدٌ يأخذ به كلّ من يؤرّخ الدين الاسلامي، ولا يتحقق هذا الوعد إلاّ إذا قلنا بأن أئمة الهدى سوف يتحقق بهم في شوطهم الاخير أكمل أشواط الانسانيّة في تأريخها الطويل، وخاتمهم وهو مهديهم سلام الله عليهم أجمعين سوف يكون هو الذي يحقق الله سبحانه وتعالى على يديه هذا الوعد الذي وعد به وعداً صريحاً أكده في ثلاث آيات كريمة.
وأيضاً قوله تعالى: (كَتَبَ الله لاغلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي إنَّ الله قَوِيّ عَزِيزٌ).(11)
(كتب الله لاغلبن أنا ورسلي) أي غلبة؟ غلبة مادية؟ الله سبحانه وتعالى لم يعد رسله ولا خلقه بأنه هو ورسله يغلبون غلبة ماديّة كما يعبر في هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) سورة المجادلة: 21.
العصر غلبة فيزيائية، فالله سبحانه وتعالى يقول: (أفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ) يخاطب اليهود (بِمَا لا تَهْوَى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(12)، أمن الصحيح لكم هذا الخُلُق الذي سرتم عليه أيها اليهود بأنكم تحبون أن يكون الله سبحانه وتعالى هو الذي يؤمّن رغباتكم، لا أنه هو الذي يهيمن عليكم، (أفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيْقاً تَقْتُلُونَ) يؤكدها في آية اخرى: (كُلَّما جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)(13)، (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أنْبِيَاءَ الله مِنْ قَبْل إنْ كُنْتُم مُؤمِنِين)(14)، آيات كثيرة تؤكد أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسلاً، كُذِّبوا، كُذِّب بعض وكُذِّب آخرون وقتلوا، لا أنّ اليهود كانوا يقتلون الذين يصفونهم بالصدق من الانبياء الصادقين الذين يؤمنون بصدقهم، والذين يبقون على حياتهم كانوا يكذّبونهم.
إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لليهود بأنكم إن جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم أنتم تجدون أنفسكم أكبر من الله سبحانه وتعالى، فإنكم تَرَوْن أنّ أنفسكم هي التي تفرض على الله سبحانه وتعالى أن يلبّي رغباتكم كما تشتهون، لا أن الله سبحانه وتعالى يكون هو المهيمن عليكم كما يحب ويحكم به عدله وحكمته، ففريقاً اكتفيتم بتكذيبهم لانكم لم تتمكنوا من قتلهم أو لعوامل أخرى، وفريقاً آخرين كذبتم وقتلتم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12) سورة البقرة: 87.
(13) سورة المائدة: 70.
(14) سورة البقرة: 91.
الله سبحانه وتعالى لم يعد رسله ولا خلقه المؤمن منهم والكافر، لم يعدهم بأنه يحمي رسله جسدياً بحيث لا تنالهم اليد الاثمة بأذى أو بقتل وهو أشد أنواع الاذى.
إذن، فالله سبحانه وتعالى كتب (لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز)، يعني أنّ الله إذا يعد لا يخلف، لان الخلف إما أن يكون لضعف والله سبحانه وتعالى قويّ لا ضعف له، أو لان هناك من هو أقوى منه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فهذا الوعد متى يأتي؟ لابدّ وأن يكون هذا الوعد هو الذي يأتي على يد مهدي هذه الامة في آخر حياة الانسانية، وهو أكمل أشواط حياتها بصورة قطعية، وتملك هذه الحياة من الزمن والمدة ما تقرّ بها عين الانسانيّة، وإلاّ لكانت الانسانية لا تكون إلاّ كمن يأتي الله سبحانه وتعالى بأمنيته بعدما عاش مائة سنة في آخر لحظة من لحظات حياته، هذه الامنية سوف تكون عليه حسرة ولا تكون ممن يستمتع بها.
وأيضاً قوله تعالى: (نَتْلُوا عَلَيْك مِنْ نَبَأ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالحَقِّ إنَّ فِرْعَونَ عَلا فِي الارْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْي نِسَاءَهُمْ.... وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِيْنَ اسْتُضْعِفُوا).(15)
(نريد أن نمن) معنى ذلك أن هذه سيرة الله، لا تختص بموسى وفرعون لان الله سبحانه وتعالى يأتي بـ (نريد أن نمن) لا: أردنا أن نمن، كما قال عزّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15) سورة القصص 3 - 5.
مِنْ قائل: (وكذلك مكّنا ليوسف في الارض)(16)، أما هنا يقول: (ونريد أن نمن)، يعني: أن الله سبحانه وتعالى جرت سنته أن الذين واجهوا طواغيت البشرية، لا طواغيت الامة فحسب، والطواغيت غلبوهم على أمرهم، فالله سبحانه وتعالى جرت إرادته التي لا خلف فيها والتي لا يمنع منها مانع أن يأتي دور يغلب هؤلاء على طواغيت زمانهم (ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) إلى آخر الآيات الكريمة.
إذن، المسلك الاول الوعد الالهي في القرآن الكريم، هذا الوعد الالهي إما أن نقول: بأن الله سبحانه وتعالى حينما وعد به أراد أن يقوّي قلوبنا وأن يملا نفوسنا أملاً وأن يرينا في أسوء التعابير سراباً يتخيّله الضمآن ماءاً، فالله سبحانه وتعالى أجل من هذا، حينما وعد، وعد وعداً قاطعاً وهو أصدق القائلين ولن يخلف الله وعده وهو أصدق من قال.
فالمسلك الاوّل أنّ وعد الله سبحانه في قرآنه الكريم، هذا الوعد الذي جاء ضمن وعود مختلفة في صيغها، متّفقة في معناها، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه)(17)، (كَتَبَ اللهُ لاغلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي)(18)، (وَنُرِيْدُ أَنْ نَمُنَّ عَلى الَّذِينَ استُضْعِفُوا فِي الارْضِ وَنَجْعَلهُمْ أئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارِثِينَ).(19)
هذا الوعد جاء في صيغ مختلفة تختلف في التعبير وتتفق في المغزى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) يوسف: 21.
(17) سورة التوبة: 33.
(18) سورة المجادلة: 21.
(19) سورة القصص: 5.
والهدف، هذا الوعد لا يمكن أن يتحقّق إلاّ على يد آخر حجج الله، وهذا الاخر الذي ولد قبل ألف وحدود المائة أو يقرب من المائتين، هذا الوعد لابد أن يتحقق على يد هذا، لانه آخر الحجج، ولن يرسل الله رسولاً، لان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين، ولن يأتي بإمام يعيش عيشته الاولى في هذه الارض، لا العيشة بعد الرجعة لمن آمن بالرجعة، يعيش عيشته الاولى في هذه الارض لن يأتي به، لماذا؟ لان عدد الائمة عنده اثنا عشر إمام، ومهدي هذه الامة آخر الائمة، فهذا الوعد لا يمكن أن يكون وعداً صادقاً، وهو مما نقطع بصدقه، إلاّ أن يكون لمهدي هذه الامة غيبة تفصل بين مولده وبين ظهوره وإنجاز وعد الله سبحانه وتعالى على يده، سواء في ذلك طالت الغيبة أم قصرت، كوعد الله سبحانه وتعالى: (قَالَ مَنْ يُحْي العِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ قل يُحْيِيهَا الَّذِي أنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة)(20)، أما بعد مضي كم فترة؟ قد تكون مليون سنة، نحن لا ندري الفاصل بين أول نسل للانسانية وبين آخر عصور الانسانية وبين حشرها بعد موتها وهو حشر تحشر فيه الانسانية كلها، كم مدّة من الزمن؟ الف سنة؟ مائة ألف سنة؟ مليون سنة؟ لا ندري، ولكن وعد الله صادق (لن يخلف الله وعده).
إذن فغيبة مهدي هذه الامة غيبة لابدّ منها، لانه مهدي هذه الامة، ولان وعد الله سبحانه وتعالى صادقٌ صريحٌ قاطع، الذي أكده في آيات كريمة مختلفة وبألفاظ وتعابير مختلفة قد تختلف باللفظ وتتّفق في المغزى، هذا الوعد لن يكون وعداً منجزاً إلاّ إذا كان لمهدي هذه الامة غيبةٌ تفصل بين ولادته وبين ظهوره بما وعد الله سبحانه وتعالى به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20) سورة يس: 78 - 79.
المسلك الثاني: الائمة اثنا عشر
هذا المسلك أيضاً خاصٌ بالامامية الاثني عشرية، يعني من لا يقول بالامامة الالهية لا أقول إن هذا المسلك يلزمه، ومن يقول بأن الائمة لا يحصرون في عدد معين.(21)
أيضاً هؤلاء أنا لا ألزمهم بهذا، وأنا لا أتكلّم مع الذين قالوا بالامامة وأنّ الامامة منصب الهي على الله سبحانه وتعالى ألزم نفسه بأن يكون هو الذي يعيّن الامام (وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَار مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ) لكنّ الله سبحانه وتعالى لم يلزم نفسه بعدد معيّن كعدد الاثني عشر(22)، وأيضاً أنا لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) كما ينسب إلى بعض إخواننا الزيديّة: أن الله سبحانه وتعالى أخبر على لسان رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإمامة ثلاثة، أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسن (عليه السلام) والحسين (عليه السلام)، وباقي الائمة أخبرهم بالوصل ولا يحصرون في عدد، بل من كان فاطمياً وقام بالسيف ودعا الى الجهاد وإحياء دين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو إمام علينا أن نبايعه وأن نطيعه.
(22) كما يقال مثلاً: إن الاسماعيلية يشتركون معنا في أئمة ستة، ولهذا قد يعبر عنهم بأنهم الذين يلتزمون بإمامة الستة، وهذا خطأ، لانهم يلتزمون بامامة عدد طويل جداً، ستة من أئمتهم هم نفس أئمتنا الاثني عشرية، لا أنهم يلتزمون بامامة الستة مع قطع النظر عن فرقهم بين البهرة الداودية والنزارية أتباع جماعة آغا خان، أولئك يقولون بأن الامام مستور وأن الداعية داعية مطلق لامام غائب لا يتصل به إلاّ الداعية نفسه، وأن الاغا خانية وهم الاسماعيلية النزارية أي الاسماعيلية الشرقية، هؤلاء يقولون: بأن هؤلاء الذين نراهم ولو كانوا في حجم آغا خان - الذي مات - جد كريم خان، ولو كان في حجم آغا خان في شحمه ولحمه وإلى آخر وثقته في ميزان العيارات المادية، كلهم أئمة.
أتكلم مع الذين قالوا بأن الامام السابع (سلام الله عليه) غاب ولم يمت بالسمّ في سجنه.
وإنما أتكلّم مع الذين يقولون بأن الائمة اثنا عشر لا يزيدونهم واحداً ولا ينقصونهم، وهم نحن أعني من آمن، ومن أقرّ على نفسه والتزم بأنه إمامي اثنا عشري.
وهذا لا يمكنه إلاّ أن يقرّ بغيبة الثاني عشر وظهوره بعد غيبته، والابواق التي تنعق بما لا تعقل - وإن كان هذا التعبير فيه لذعة، ولكني مع الاسف الشديد قد أجد نفسي ملجأً إلى أن أقول قولاً لاذعاً، لان الذين يعارضون، لا يعارضون بما تسنّه الانسانيّة من أصول وقواعد للمعارضات الفكريّة، ينعقون كالذي ينعق بما لا يسمع كما يقول القرآن الكريم - فهم يأتون بأقوال قالتها فرقٌ أخرى غير الشيعة وبأقوال قالها غير الاثني عشريّة من الشيعة، فيردّون بها على الشيعة ويجعلونها مأخذاً عليهم ومطعناً فيهم، هذا أقل ما يقال فيه أنه ليس من الانصاف ولا من العقل في البحث ولامن حسن النيّة في النقاش الفكري، فمن يلتزم بأنه إمامي إثنا عشري لا يسعه إلاّ أن يؤمن بأن
هذا العدد قد اكتمل، لان الائمة متناسلون إمامٌ من إمام، وأن الثاني عشر هو الذي يكون إدامةً بحياته للامامة الالهيّة ومنجزاً ما وعد الله به خلقه ونبيّه، وعن طريق نبيه وعدنا نحن أمته - ونفتخر بذلك - وعداً قاطعاً بأن يظهر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يحقّق الحكم الالهي العادل الذي لا يميل والرحيم الرؤوف الذي لا يتجاوز الرأفة والرحمة على الخلق.
فحصر عدد الائمة بالاثني عشر حصر يلزمه لزوماً قطعياً واضحاً صريحاً أن يكون الثاني عشر له ظهور، وأن هذا الظهور قطعاً يكون بعد الغيبة، لانه لم يكن له ظهور قبل الغيبة.
المسلك الثالث: أحاديث الثقلين
كلكم سمعتم بها، وهذه الاحاديث أيضاً متواترة.
ولا أتكلم عن قول القائل الذي قال بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنتي)(23)، إن صح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال وسنتي فهو أراد أن يلقم من قال: حسبنا كتاب الله(24) حجراً لا يقول به بعده، ولكن مع ذلك قال ما قال ومنع الامة من كتاب نبيها الذي يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أصدق قائل بعد الله سبحانه وتعالى: (لن تضلوا بعده أبداً) وإلاّ إيماننا بالامامة والائمة واتّباعنا للائمة واهتداؤنا بهديهم واقتداؤنا بسنتهم من العمل بسنته (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتاب ربّه، قال عزّ من قائل: (إنَّما وَلِيُّكمُ الله)(25)، آمنّا وصدّقنا وإن شاء الله نحن ممّن يتولّى الله (وَمَنْ يَتَولَّ اللهَ وَرَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ)(26)، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث أحرف بين أن يكون ثاني الثقلين أهل بيته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) المستدرك للحاكم 1: 93.
(24) صحيح البخاري 6: 318 ح872 مرض النبي، وأيضاً 1: 120 ح112 باب كتابة العلم.
(25) سورة المائدة: 55.
(26) سورة المائدة: 56.
سلام الله عليهم أجمعين، أو تكون سنّته، نعم لو ورد سنّته، فهو لكي يلقم من قال: حسبنا كتاب الله، حجراً لا يقوله، ولكن مع الاسف الشديد قالها في أسوء الظروف وأنكاها: حسبنا كتاب الله.
فحديث الثقلين يقول: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ألا وإنه قد نبّأني اللّطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض).
هذه جملة ما معناها؟
الذي انطبعت عليه نفوسنا أننا نقول بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي كل فرد من أفراد أمته بأنّ من أخذ بالكتاب العزيز عليه أن يأخذ بعدل الكتاب العزيز وهو الائمة الذين ذكرهم وعيّنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالامة اختلفت، وقد يقول قائل بأن البعض أخذ بالعترة وترك الكتاب والبعض الاخر أخذ بالكتاب وترك العترة، لكن رسول الله لا يقول هذا، لا يقول لا تفرّقوا بينهما فتأخذوا بأحدهما وتتركوا الاخر، (لن يفترقا) يعني القرآن مع العترة والعترة مع القرآن، لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض، لا أنه لا تفرقوا بينهما حتّى يرد على أحدكم الموت، يعني: لا تفرقوا بينهما حتّى يأتيكم الموت، يقول: (لن يفترقا)، معنى ذلك: أن من أخذ بالكتاب أخذاً كما يريده الله لا يمكن أن لا يأخذ بأهل البيت، ومن أخذ بأهل البيت (عليهم السلام) كما أرادوه له أخذ بالكتاب كما أراد الله سبحانه وتعالى.
فالقضية ليست قضية اختيار منّا حتّى يكون الامر الالهي بأن نجمع بين العدلين، لا أن نأخذ بواحدة سواء أكان الكتاب العزيز أم العترة الطاهرة، وأن نترك الاخر سواءً أكان الكتاب العزيز ام العترة الطاهرة لا، أنهما لن يفترقا، وذلك كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (علي مع الحق والحق مع علي لن يفترقا حتى يردا عليّ
الحوض)(27)، يعني أن عليّاً (سلام الله عليه) لا يمكن أن يكون في جانب ويكون الحق في الجانب الاخر، فإن رأيتم علياً يسير سيراً خاصّاً فاعلموا أن الحقّ يسير معه.
إذن فحديث الثقلين لا مورد له إلاّ أن يكون للاخذ بالقرآن من قبل الامة المسلمة ولو كانت بعد الف وأربعمائة وعشرين سنة من هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم)، والف وأربعمائة وعشر سنين من رحلته (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة لنا كلنا نحن الاخوة المجتمعون هنا يوصينا: (إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي الا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما).(28)
فنحن أيضاً القرآن الكريم ماثل أمامنا لا في طبعته الحاضرة، وإنما بصورته الاصلية التي تمثلها طبعات القرآن الكريم إن شاء الله كاملةً غير منقوصة ولا مزادة، فأين العترة التي نأخذهم؟ الذين ماتوا؟ فهم (عليهم السلام) قد انتهت أيام إمامتهم، فلابد وأن يكون للثقل الاخر وجودٌ حي كوجود القرآن الكريم، فعلينا نحن الامة المسلمة أن نأخذ به كما نأخذ بالقرآن الكريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(27) تاريخ بغداد 14: 321، المستدرك للحاكم 3: 119.
(28) انظر: صحيح الترمذي 5: 663 ح 3788، مسند أحمد 3: 17 ح 10747، نوادر الاصول 1: 258.
المسلك الرابع: فيما يرويه غير الامامية
وهنا أستعين بما يرويه إخواننا غير الاماميّة.
قلت بأن أحاديث المهدي كما هي متواترة عند الامامية متواترة عند غيرهم، بحيث أنهم يرون أن الايمان بالمهدي وظهوره ايمان بما أخبر الله به خبراً قاطعاً صريحاً جاءت به الرواية أو السنة المتواترة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا أجدني بحاجة إلى أن أحكي نصوصهم بتواتر الحديث وأنّ من أنكره فقد أنكر أمراً ثبت ثبوتاً قاطعاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أخبر به، وإنما أحكي نصوصاً مختارة من نصوصهم، هذه النصوص تدلّ على أن المهدي (سلام الله عليه) خليفة من نوع آخر، لا من نوع خلفائهم الذين التزموا بصحة خلافتهم وصحة إمامتهم وأنهم خلفاء هدى وسمّوهم الخلفاء الراشدين واختصّوا بثلاثة منهم تقدّموا على مولانا أمير المؤمنين سلام الله عليه.
أنا أحكي النصوص ثم آتي بالجهة التي أريد أن أستدلّ بها، طبعاً المجموعة طويلة، وأنا حذفتُ الاسانيد وحذفت المصادر المتكثرة واكتفيت بمصدر واحد أو مصدرين: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً منّي أو
من أهل بيتي يملا الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً).(29)
أيضاً بمثله: عن عبد الله بن مسعود بلفظ يقرب من هذا، وعن علي بن أبي طالب، وعن حذيفة بن اليمان، وعن قرة بن أياس المزني، وعن عبد الرحمن بن عوف.
كل هؤلاء اتّفقوا في بعض ماورد من لفظ الحديث عندهم، وبعضهم اكتفى بذلك اللفظ وحده، نعم عبد الله بن مسعود جاء الحديث عنه بألفاظ مختلفة وفيها نوع من التناقض أو المجافاة أو عدم الملائمة بين الفاظها، وهذا أيضاً أتركه إلى مجال آخر.
المهم هذه الكلمة: (حتى يبعث الله)، معنى ذلك: أن قيام المهدي (سلام الله عليه) وظهوره بإرادة مباشرة من الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى حينما يريد أن يخبر عن رسالة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف يقول؟ (هوَ الَّذي بَعَثَ فِي الاُْمّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ)(30) إلى آخر الايات الكريمة، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا يأتي بكلمة: (يبعث) كما قال الله سبحانه وتعالى عن رسالته ونفسه (هُوَ الَّذِي بَعَثَ)، وكلمة بعث جاءت للتعبير عن إرسال الرسول في آي كثيرة من آي الذكر الحكيم، لا للدّلالة على أن المهدي (سلام الله عليه) رسول بعد رسول الله، بل للدّلالة على أن العمل عملٌ مباشر قام به الله سبحانه وتعالى.
وقد يقول قائل: بأن حق الاختيار للامّة يشمل حق اختيار خليفة عليها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويقول أيضاً: بأن هذا الخليفة وإن كان قد احتل منصب الزعامة عليهم باختيار منهم وأساس الاختيار بيعتهم له ورضاهم بأن يكون هو الذي يتأمر عليهم، ولكن حيث أن الله سبحانه وتعالى - هنا أحكي أقوالاً ولا أناقشها - قد رضي بهذه الخيرة ورضي بها رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فنكون قد نسبنا منصب من اخترناه إلى أنه خلف نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أمّا هنا، فالله سبحانه وتعالى إن أسندنا إليه الرضا، فيكون الخليفة خليفة من قبل الله بصورة غير مباشرة، حيث أن الله سبحانه وتعالى لم يرشدنا إلى أحد ولم يأمرنا أن ندين لاحد ولم يأمرنا بالبيعة اللازمة لمن له منصب الهي، علينا أن نلتزم بالايمان بمنصبه والايمان بما يأتيه (يا أيُّها النَّبي إذا جَاءَك المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك عَلى أنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ)(31) إلى آخر الاية الكريمة.
فالبيعة في القرآن الكريم جاءت كتأكيد من قبل المؤمن بإيمانه لا اختيار حرٍّ يقوم به في عالم المنافسات السياسية.
ولاجل هذا حينما يريد أن يعبّر عن إرسال رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (هوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الامِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ)(32)، هنا أيضاً يقول: (حتى يبعث الله فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي)، يعني إماماً قدّر الله سبحانه وتعالى له الامامة، مباشرة وأن الله سبحانه وتعالى قد غيّبه عن خلقه بأمر منه مباشر، وأنه يريد له الغيبة بحكمته كما يريد، طال الزمن أو قصر، عاشت الامة في أمل أو خفّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندها الامل، ولكن هذا الوعد، وعدٌ قاطعٌ بأنه لابدّ وأن يكون هذا المغيّب الذي غيّبه الله سبحانه وتعالى بأمر منه أن يكون هو الذي يأمر بظهوره حتى يملا الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
فإذن إمامة المهدي إمامة إلهية، لان كلمة يبعث تدلّ عليها، وظهور المهدي ظهورٌ إلهي، لا ظهورٌ الهي بالمعنى العرفاني، يعني ظهوراً بأمر خاص من الله سبحانه وتعالى، كما يعبر عنه الحديث الذي يروى عن أمير المؤمنين سلام الله عليه: (المهدي منّا أهل البيت يصلحه الله في ليلة)(33)، معنى (يصلحه الله في ليلة) يعني حوائجه - وليس معناه: أن الله سبحانه وتعالى يهيّء له عرش السفر في ليلة واحدة ويأخذ له تذاكر السفر!! - أي بعد أن يكون عليه الصلاة والسلام لا يأمل بقرب ظهوره وانتهاء أمد غيبته في ليلة يأمر الله سبحانه وتعالى له فيظهر في صبيحتها، هذا معنى يصلح الله أمره في ليلة.
إذن فالمهدي هذا إمامٌ إلهي لا إمام اخترناه فرضي الله لنا ما اخترنا بخيرتنا نحن، وغيبته غيبة الهية وظهوره ظهور إلهي، ومثل هذا الامام لا يكون إلاّ من جنس أئمتنا نحن الامامية.
وهنا كلمة فسّرها إخواننا حيث يقولون في عدد الائمة (الائمة بعدي اثنا عشر)، يقولون: إن الذين يخلفون على الامة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم عدول لا يجورون ولا يظلمون اثنا عشر، ويجمعون الخلفاء الراشدين، ومعاوية هم يجرجرون به إلى الخلافة لا إلى النار وبعد ذلك يحتارون مَن؟ قد يصلون إلى السفاح والمنصور وكذا وكذا، هؤلاء لا تربطهم رابطة سوى أنهم انتزعوا من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) مسند أحمد 1: 84 ح646، كنز العمال 14: 264 ح 38664.
ضمن قائمة الخلافة الراشدة وغير الراشدة عندهم، انتزعوا انتزعاً لهوى في نفوس المنتزعين، لا لميزة في الاشخاص الذين انتزعوا وفصلوا عمّن سبقهم وهو الذي عينهم وعمّن جاء بعدهم، وهو الذي عيّنوه هم وحكّموه على رقاب الامة. عمر بن عبد العزيز اختاره الخليفة الذي قبله هو راشد والذي اختاره غير راشد، عمر بن عبد العزيز استخلف فلاناً، ذلك المستخلف من قبل عمر بن عبد العزيز غير راشد، ولكن عمر بن عبد العزيز نفسه راشد، فان كان راشداً فمن استخلفه كان أيضاً راشداً في استخدامه، والذي استخلفه هو على الامة ومكّنه من رقاب الامة أيضاً خليفة راشد وإن كان غير راشد، فالحكم لكم أنتم.
معنى ذلك: أن أحاديث المهدي عندهم فيها نص، هذا النص يؤكد بصورة قاطعة أن المهدي (عليه السلام) ليس من جنس الخلفاء الذين استخلفوا على هذه الامة بعد وفاة نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنما هو إمامٌ إلهي.
وهذا لا ينسجم إلاّ مع رأي الامامية في الامامة، ومعنى ذلك أنّ أحاديث المهدي عندهم تشير إلى أنّ إمامة المهدي (سلام الله عليه) إمامة إلهية وإن لم يقولوا بها في أحد غيره ممن جاؤا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)كخلفاء على الامة، حتى في حق أمير المؤمنين سلام الله عليه، وهو الخليفة الالهيّ عندنا نحن الامامية.
إذن فإمامة المهدي إمامة إلهية، هذه الامامة الالهية لا تتمّ إلاّ في ضمن سلسلة منتظمة انتظاماً إلهياً، على النحو الذي نقول به نحن الامامية.
فأحاديث المهدي (سلام الله عليه) عند إخواننا فيها ما يدل دلالةً قاطعةً على النظرة التي تنظر بها الامامية إلى المهدي سلام الله عليه.
ويؤكّده حديث يروونه هم عن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) قال: (قلت: يا رسول الله المهدي منّا أئمة الهدى أم من غيرنا؟) فإذن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) يفرض مسبقاً أن هناك أئمة هم أئمة هدى وهدايتهم لا بالانتخاب، لانه يسألها في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه وبعد لم يمت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يكون هناك انتخاب للخليفة ويكون الخليفة منتخباً انتخاباً شرعياً فاز في المنافسة السياسية التي كانت حرّةً قائمة لم يزيف فيها رأي ولم يفتعل فيها رأي، ففي حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل أمير المؤمنين (سلام الله عليه) يقول: (قلت: يا رسول الله المهدي منا أئمة الهدى أم من غيرنا؟ قال: بل منّا، بنا يُختم الدين كما بنا فُتح).(34)
إلى هنا والحديث بعد طويل، والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطيّبين الطاهرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(34) كتاب الفتن لنعيم بن حماد 1 / 370 ح1089، وانظر: الحاوي للفتاوي للسيوطي 2/61.