شمعون الصفا وصي المسيح (عليه السلام) وجد الإمام المهدي (عليه السلام) لأُمِّه

شمعون الصفا وصي المسيح (عليه السلام) وجد الإمام المهدي (عليه السلام) لأُمِّه

تأليف: الشيخ علي الكوراني

فهرس موضوعات الكتاب

مقدمة
الفصل الأول: مدخل حول المسيح (ع) والمسيحية
غَيَّرَ الله العالم بعيسى المسيح (ع)!
دور المسيح الواسع بين أدوار الأنبياء (ع)!
غلبة أتباع المسيح (ع) لليهود الى يوم القيامة
جعل الله الرأفة والرحمة في المسيحيين!
كرامة أمه مريم وتميزها (س)
بشارة عيسى (ع) بنبينا (ص)
نهي القرآن عن تأليه عيسى (ع)
سكان فلسطين في زمن المسيح (ع)
الجهاز الديني اليهودي في زمن المسيح (ع)
تكون الجهاز الديني المسيحي
الفصل الثاني: جواهر من سيرة المسيح (ع)
بعض ما روي في مولده (ع)
صلى النبي (ص) في بيت لحم مولد عيسى (ع)
هربت به أمه الى بابل ومصر
بعث الله عيسى (ع) رسولاً قبل السابعة من عمره
وصف أمير المؤمنين لعيسى (ع)
علم النبوة وضعف الصبا!
مناظرة المسيح (ع) مع إبليس
مناظرة المسيح (ع) مع الدنيا
منهج المسيح أفضل من منهج يحيى (ع)
مما وعظ به الله تعالى عيسى (ع)
من مواعظ عيسى (ع) وحكمه
من معجزات عيسى (ع)
مناظرة الإمام الرضا (ع) في نفي ألوهية عيسى (ع)
وداع عيسى (ع) للحواريين الإثني عشر
نزوله من السماء في آخر الزمان!
حواريو عيسى وأوصياؤه (ع)
الفصل الثالث: زكريا ويحيى (ع)
معنى زكريا ويحيى
معجزة ولادة يحيى من أبويه المسنيْن!
رأي المصادر المسيحية
الرأي الصحيح
معنى مواساة زكريا للنبي (ص) في حزنه على الحسين (ع)
ضعف خبر مجيء عيسى الى قبر يحيى (ع)
قبر يحيى بن زكريا (ع)
الفصل الرابع: مريم بنت عمران (س)
نذرتها أمها لله تعالى
اصطفاها الله ووهبها عيسى (ع) من غير أب!
ولدت عيسى (ع) وعمرها ثلاث عشرة سنة
افتراء اليهود على مريم (س)
طعن بعض المسيحيين بمريم (س) تأثراً باليهود!
مقام مريم عظيم ومقام فاطمة أعظم (ع)
كان عيسى (ع) يلبس من غزل أمه مريم
توفيت مريم في حياة ابنها عيسى (ع)
قبر مريم (س)
مريم (س) ستكون زوجة نبينا (ص) في الجنة
الفصل الخامس: بولس الذي نَصَّرَ النصارى!
بولس ضابط مخابرات يهودي
أعطى بولس لنفسه رتبة رسول المسيح!
ذم بولس في مصادرنا وصفته في مصادر المسيحية
الفصل السادس: شخصية شمعون الصفا
شمعون الصفا من بيت صيدا على ساحل طبرية
شمعون الصفا من ذرية ابراهيم (ع)
كان بطرس أكبر من عيسى بعشر سنين (ع)
مكانة بطرس في أحاديث أهل البيت (ع)
نص عيسى على بطرس وصيه وخليفته (ع)
شمعون الصفا رسول المسيح (ع) الى روما
ذهب الى روما وآمنت به زوجة قيصر
من تواضع بطرس ومعجزاته (ع)
رسالتا بطرس (ع) الى أتباعه
ملاحظات على رسالتي بطرس (ع)
معنى: تسلم عليكم جماعة المختارين التي في بابل؟
شمعون الصفا (ع) هو الرسول الثالث في سورة ياسين
بعض الأحاديث وأقوال المفسرين
التعارض الظاهري بين الآيات والروايات
أنطاكية العاصمة الدينية للمسيحية
أراد كسرى بجبروته أن يزيل أنطاكية!
شمعون الصفا في نصوص المؤرخين المسلمين
من اضطهاد اليهود لشمعون الصفا (ع)
أتباع عيسى (ع) فوق اليهود الى يوم القيامة!
الفصل السابع: شهادة شمعون الصفا (ع)
خطبة بطرس (ع) في الهيكل وسجنه ونجاته!
بطرس (ع) في عهد الطاغية نيرون!
بطرس وسيمون الساحر
سيمون الساحر صار مقرباً عند نيرون!
شهادة شمعون الصفا (ع) في مصادرنا
ملاحظات على هذا الحديث
الفصل الثامن: قبر شمعون الصفا قرب الحدود السورية العراقية
ضعف فرضية أن يكون قبره في روما أو في الجليل
معجزات أمير المؤمنين (ع) في طريقه الى صفين
كشف علي (ع) عين راحوما بين هيت وحديثة!
السيد الحميري (رحمه الله) يؤرخ لهذه المعجزة
الشريف المرتضى يشرح بيتاً من قصيدة السيد الحميري
مشهد علي (ع) في صندوديا
المعجزة الثانية: راهب دير قرقيسيا ونهر البليخ
المعجزة الثالثة: خروج شمعون من قبره وسلامه على علي (ع)!
ملاحظات
الفصل التاسع: أولاد شمعون الصفا
المنذر بن شمعون الصفا
راهب دير حديثة وراهب دير البليخ
مليكة أم الإمام المهدي من ذرية شمعون الصفا (ع)
أسرة والدة الإمام المهدي (ع)
قائمة بأسماء الأباطرة البيزنطيين
الفصل العاشر: أصحاب الكهف رضوان الله عليهم
آيات أصحاب الكهف
المسألة الأولى: خلاصة قصة أصحاب الكهف
خلاصة قصتهم برواية علي (ع)
المسألة الثانية: مكان الكهف ومدة نومتهم الأولى
المسألة الثالثة: الرقيم وعددهم آية لظهورهم الثاني
المسألة الرابعة: من صفات أصحاب الكهف
المسألة الخامسة: رأس الحسين (ع) أعجب من أصحاب الكهف!
المسألة السادسة: بعث النبي (ص) أصحابه الى الكهف على بساط!
المسألة السابعة: يستيقظون في عصر المهدي (ع) وينصرونه
الفصل الحادي عشر: سلمان الفارسي من أوصياء عيسى
انتظر سلمان مجيء النبي (ص) أربع مئة سنة!
درجة سلمان (رحمه الله) تلي درجة المعصومين (ع)
من صفات سلمان الفارسي (رحمه الله)
شارك سلمان في حروب النبي (ص)
دور سلمان في الفتوحات الإسلامية
اشتهر تشيع سلمان لعلي (ع)
سلمان الحاكم الإسلامي النموذجي
استهان به السُّرَّاق فسلط عليهم الكلاب
كان المسلمون يستقبلونه كالخليفة
آخى النبي (ص) بينه وبين أبي ذر
علاقة سلمان مع عمر بن الخطاب
تزوج سلمان امرأة عربية
وفاة سلمان الفارسي (رحمه الله)

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، وبعد:
فقد نشأت في جبل عامل في قرية ياطر، وأصل إسمها: ياثر، وهي كلمة سريانية أو عبرية بمعنى البخور، وقربها من جهة صور والبحر قرية شَمَع، وهي كلمة سريانية أو عبرية بمعنى: الخبر، وفيها مقام شمع (ع)، الذي يزوره أهل بلادنا ويقولون إنه قبر النبي شمعون الصفا، وصي عيسى (ع).
وقد ألف أحد الباحثين العامليين، الكاتب الأستاذ علي جابر، كتاباً باسم: شمعون الصفا بين المسيحية والإسلام، أكد فيه بقرائن أن القبر الذي في شمع هو قبر شمعون الصفا (ع)، وأن جبل حامول الذي هو قرب شمع، كان مسكن أبيه، لأنه شمعون بن حمون أو شمعون بن يون.
قال في كتابه: (وكان شمعون يسكن في جبال الجليل، في بلدة كفرناحوم على بحيرة طبريا، وسكن والده بالقرب من الناقورة في منطقة حامول، وهو تل بالقرب من الناقورة يبعد عن مقام شمعون حوالي خمسة كيلو متر من الناحية الجنوبية الغربية، ويُعتقد أن قبر أحد الأنبياء أو الصالحين موجود على سفحه الغربي وأنه حمون، والد شمعون الصفا. وتكون لفظة حمون قد حرفت نونها لاماً، ويؤيد ذلك ما ذكره روبنصون في كتابه يوميات في لبنان تعريفاً لحامول فقال: تحتنا وادي حامول القصيرة، وهو يشق الجبل ويخرج من ثغرة ضيقة إلى الشاطئ شمال الناقورة، وفي هذه الوادي أطلال حامول، وربما كانت حمون).
وأتمنى أن يكون هذا الاستنتاج صحيحاً، لكنه لا يملك دليلاً! لذلك لا يمكن القول إن شمع تعني شمعون، ولا إن حامول تعني حمون!
ففي قاموس الكتاب المقدس المعتمد عند مجمع الكنائس الشرقية/521: (شمع: إسم عبري معناه: خبَر. وهو بنياميني، كان أحد رؤوس الآباء الذين طردوا سكان جت (1 أخبار 8: 13) وأحد الذين عاونوا عزرا الكاتب عند قراءة سفر الشريعة نح 8: 4).
وقال /284: (حامول: إسم عبري معناه: محمول.. أصغر أبناء فارص، ومؤسس أسرة في يهوذا (تكوين 46: 12وعدد 26: 21 و1 أخبار 2: 5) حاموليون: نسل حامول).
وفي مقابل ذلك يوجد القول السائد في المسيحية، وهو أن قبره (ع) في روما، وأن (كنيسة القديس بطرس) التي هي مقر الفاتيكان مبنية على قبره، لأنه قتل في روما ودفن هناك، وتعتقد المسيحية أن البابا هو نائب بطرس (ع).
لكن عدداً من الباحثين المسيحيين والمؤرخين الغربيين ردوا هذه الرواية، وقالوا لا يوجد أي نص ديني أو تاريخي موثوق يثبت أن بطرس (ع) قتل في روما وأن الفاتيكان موضع قبره.
قال في قصة الحضارة (4/4376): (إن مهندسي قسطنطين خططوا كنيسة القديس بطرس الأولى بالقرب من ساحة الألعاب الحيوانية التي أنشأها نيرون على تل الفاتيكان، وجعلوا طولها380 قدماً وعرضها 212. وقد ظلت هذه الكنيسة مدى اثني عشر قرناً أعظم كنائس المسيحية اللاتينية حتى هدمها برامنتي، ليقيم في مكانها كنيسة أكبر منها هي كنيسة القديس بطرس الحالية.
وأعاد فلنتيان الثاني وثيودوسيوس الأول بناء الكنيسة التي أقامها قسطنطين للقديس بولس خارج الأسوار San Paolo fuori le mura في المكان الذي قيل إن الرسول استشهد فيه. وهذه الكنيسة أقل أتساعاً من كنيسة القديس بطرس، فقد كان طولها أربع مائة قدم وعرضها مائتين. ولا تزال كنيسة القديس قنسطنز Santa Constanza التي أقامها قسطنطين ضريحاً لأخته قنسطنطيا في معظم أجزائها بالصورة التي كانت عليها وقت بنائها في سنة 326-330).
وفيما يلي خلاصة مقالة للكاتبة السويدية إيزابيل بنيامين بتاريخ:19/8/2013:
https://www.facebook.com/permalink.php?id=716649008351878

(في سنة 1950فاجأ البابا بيوس الثاني عشر الناس بإعلانه عن اكتشاف ضريح القديس بطرس في روما! التاريخ لا يقول بذلك، ولا أي مرجع آخر يزعم بأن الفاتيكان مكان مقدس أو مدفن لمعتمد يسوع.
 بل إن جميع المراجع التاريخية أجمعت على أن أصل الفاتيكان مكان وثني بامتياز! فقبل ميلاد يسوع المسيح بسنوات أنشأ الإمبراطور الوثني آغريبّا معبد البانتيون في روما، نحو سنة 27 قبل ميلاد يسوع المسيح. ثم أعاد بناءه هادريان نحو سنة 120بعد الميلاد.
جمع الأمبراطورآغريبّا وهادريان فيما بعد كل أصنام الآلهة الوثنية ووضعها في البانتيون لتوحيد العبادة. ثم استعار هادريان مسلة نصب الشيطان، من الوثنيين وهي المسلة الحالية التي تتوسط ساحة الفاتيكان والتي لا تزال على حالها، حيث يؤدي البابا صلاته من شرفته في الفاتيكان أمام الجموع.
في سنة 609 بعد الميلاد، أعاد البابا بونيفاس تدشين هيكل البانتيون بعد إجراء إصلاحات عليه ثم رسمه (كنيسة رسمية لعموم الديانة المسيحية) مع الإبقاء على كل الأصنام والنصب الوثنية، ثم أطلق البابا بونيفاس على البانتيون في بداية الأمر إسم: كنيسة سانتا ماريّا روتُندا.
في سنة 1950، أعلن راديو الفاتيكان البشرى السارة بأنهم عثروا على ضريح القديس بطرس شيخ الرسل ومالك مفاتيح الملكوت، تحت أبنية الفاتيكان. وكان البيان الأول أذاعه البابا بيوس الثاني عشر شخصياً.
أين هي الحقيقة وهل دُفن بطرس في روما؟ إن نسبة عالية من مثقفي المسيحية وعلمائها ينكرون أن يكون بطرس دفن في روما، وهذا ما تؤيده عمليات التنقيب الفاشلة والخائبة التي أجريت تحت الفاتيكان، فقد بدأت عمليات التنقيب للبحث عن ضريح بطرس سنة1940ودامت عشر سنوات، وبعد هذه السنين تفاجأ الآباء المقدسون أنهم وجدوا مدفناً وثنياً يحتوي على ضرائح عديدة وتماثيل مدفونة مع الموتى! واستمر البحث ليجدوا تحت المذبح البابوي الحالي مباشرة أيدكيولا، وهي كوة أو مدفن مصممة لوضع التماثيل والصور. وفي هذا المدفن تم العثور على عظام كثيرة مدفونة، معها تماثيل لآلهة روما.
ولكن في سنة 1968أعلن البابا بولس السادس اكتشاف: البقايا البشرية للقديس بطرس، الجديرة بالتعبد والتوقير.
وكانت المفاجأة الثانية عندما نشر الكردينال الكاثوليكي يوبار تقريراً في دليل روما سنة 1991قال فيه: (إن الفحص العلمي للعظام البشرية الموجودة تحت أساسات الحائط الأحمر، لم يَبدُ أنه يمتُّ بأي صلة إلى الرسول بطرس).
ولكن ظهرت الطبعات الجديدة من كتاب: دليل روما لسنة 1991، وهي خالية من تصريحات الكردينال يوبار، حيث تم حذفها ووضع مكانها جملة تقول: حقيقة ثابتة: بطرس في كاتدرائية القديس بطرس.
ولكن ماهي الحقيقة التي تم إخفائها بأمر من البابا بولس السادس؟!
إضافة إلى كل ما تقدم فإن المؤرخ الدكتور: د. و. اوكونر يقول: لا تذكر المصادر الباكرة والجديرة بالثقة مكان استشهاد بطرس. ولكن المراجع والمصادر الحديثة والتي أشرف على تأليفها الفاتيكان تتفق على أن ضريح بطرس في الفاتيكان. وهذا رأي مؤسس على تقاليد غير جديرة بالثقة.
بل إن مراكز إكليريكية مختلفة من أجل تحقيق فوائد مادية زعمت أن لبقايا جسد بطرس قوى عجائبية، فاندفع الناس بمئات الألوف للحج إلى الفاتيكان وزيارة ضريح بطرس! يقوم الحجاج إلى قبر بطرس في الفاتيكان بشراء قطع قماش خاص يُباع هناك في الفاتيكان، من خاصية هذا القماش أنه يُعين وزن البركة التي سوف يحصل عليها الحاج على قدر إيمانه، حيث يقوم الحجاج برمي قطع القماش هذه على القبر بعد وزنها بعناية وكتابة إسم الحاج عليها! فإذا كان إيمان الحاج راسخاً وقوياً، فستمتلئ قطعة القماش عند استردادها من الفضيلة الإلهية، وسوف يزداد وزنها! يعني إذا كان وزنها قبل رميها على الضريح 100غرام، فعند استردادها سيكون وزونها 250 غراماً أو أكثر، حسب إيمان الشخص. وهناك حكاية تقول بأن البابا عندما رمى خرقته على القبر كان وزنها 100 غراماً ولكن عند محاولة استردادها لم يستطع أربعة من الكرادلة حملها، لثقل البركة التي حلت بها)! انتهى.
كما نشرت وكالة الأنباء الكاثوليكية:
http://www.abouna.org/content/%D8%A7%D

أن الفاتيكان سيعرض للمرة الأولى على الملأ عظاماً تخص القديس بطرس. وقال رئيس الأساقفة رينو فيزيكيلا، رئيس المجلس البابوي لتعزيز الكرازة الجديدة بالإنجيل، أن عرض الذخائر في الفاتيكان ستكون طريقة مناسبة لاختتام سنة الإيمان، في 24 تشرين الثاني المقبل.
يذكر أن عظام القديس بطرس وجدت أثناء الحفريات التي أجريت تحت كاتدرائية القديس بطرس في أربعينيات القرن الماضي، بالقرب من النصب التكريمي للقديس بطرس، الذي أقيم منذ القرن الرابع الميلادي.
ولم يعلن أحد من البابوات أن تكون هذه العظام أصلية، مُحيياً بذلك سجالاً علمياً ولغزاً مثيراً بشأن ما إذا كانت العظام التي عُثر عليها داخل صندوق، هي حقاً عظام أول بابا في تاريخ الكنيسة. وكانت القطع التسع من العظام محفوظة كما تُحفظ الخواتم في علبة مجوهرات داخل صندوق زجاجي بجانب المذبح، وابتهل البابا فرنسيس أمام العظام في بداية قداس الأحد، وظل يحمل الصندوق بمهابة، دقائق عدة، بعد الانتهاء من إلقاء عظته.
وأعرب آثاريون عن شكهم في هوية العظام وصاحبها، وكانت العظام اكتُشفت خلال أعمال حفر بدأت تحت كنيسة القديس بطرس في السنوات التي اعقبت وفاة البابا بيوس الحادي عشر في العام 1939.
وكتبت بارتولوني: لم يسمح أي من البابوات بإجراء دراسة مستفيضة، لأن لعنةً عمرها ألف عام تشهد عليها وثائق سرية ودينونية، تهدد بالويل والثبور كل من يعكر سلام القبر الذي يرقد فيه بطرس)!
إن التأكيد (العاملي) بأن قبر شمعون الصفا (ع) في قرية شمع قرب صور، والتأكيد (الفاتيكاني) بأن قبره في روما، يزيدان الصعوبة على الباحث في الموضوع، فيحتاج الى مدة أطول وقراءة أكثر. وقد شجعني على مواصلة البحث رغبة سيد جليل، حثني على إكمال بحث الموضوع فعسانا نجد دليلاً على مكان قبره. وكنت كلفت الأخ الفاضل البرفيسور رشيد بن عيسى الجزائري أن يبحث في المصادر الغربية، فأخبرني بأن رأي المؤرخين الغربيين أنه لا يوجد دليل على أن قبر بطرس في روما.
وهكذا وصلت الى أنه لا دليل على مكان شهادته وقبره لا في جنوب لبنان ولا في روما حتى فاجأتني روايات صحيحة بأن شمعون الصفا (ع) ظهر من قبره قرب صفين، وكلم علياً (ع) وهو في طريقه الى صفين، ثم رجع الى قبره!
 وقد تأملت في هذه الرواية فظهر لي صحتها، فيكون اليهود والرومان قبضوا على بطرس (ع) على الحدود السورية العراقية، وكانت حدوداً للدولة الرومانية مع بابل وقتلوه هناك قبل أن يدخل بابل، وكان له فيها أتباع، وكان يزورها، وقد كتب منها رسالتيه، ونص في الأولى أنه يكتب من بابل.
ماذا أصنع إذا كانت النتيجة التي توصلت اليها لا ترضي أهلي وقومي في جبل عامل ولا ترضي إخواننا المسيحيين الفاتيكانيين. وعذري اليهم أن الحق أحق أن يتبع.
هذا، وقد رأيت أن أكمل الحديث في هذا الكتاب عن أهم شخصيات المسيحية، لأن قضية المسيح (ع) قضية ضخمة، غيَّرَ الله بها وجه العالم، وشخصيته مميزة محببة الى العقل والنفس، فكتبت باختصار عنه وعن والدته (ع)، وعن أهم شخصيات المسيحية، ليكون الكتاب صورة عامة عن معالم العصور المسيحية، وصورة مفصلة عن شمعون الصفا وصي عيسى (ع).
نفع الله به وجعله ذخراً: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

كتبه: علي الكوراني العاملي
قم المشرفة ربيع المولود 1435

الفصل الأول: مدخل حول المسيح (ع) والمسيحية

غَيَّرَ الله العالم بعيسى المسيح (ع)!
وُلد المسيح (ع) من غير أب، وأنطقه الله تعالى بعد ولادته، فهزَّ مشهده اليهود ثم هز العالم، ثم سكت المسيح (ع). وبعد مدة عاد اليهود الى افترائهم واتهامهم لمريم (س) وحركوا الرومان ليقتلوا المسيح لأن الناس يسمونه ملك اليهود، فأرادوا قتله، فهربت به أمه من القدس الى العراق، ثم الى مصر كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) (المؤمنون:50) ثم رجع الى القدس في السابعة من عمره، ثم رجع في سن الثلاثين ودعا الناس الى الله نحو ثلاث سنوات، فأرادوا قتله، فرفعه الله اليه.
لكن مبعوثيه الى الروم نجحوا نجاحاً باهراً، فسَرَتْ حركة الإيمان بالمسيح في روما وأنطاكية، وبلاد الشام، وغيرها من بلاد الإمبراطورية الرومية!
لقد غيَّر الله خريطة العالم من الوثنية الى المسيحية، في مدة قياسية نسبياً، وبيد الإمبراطورية نفسها التي قاومت المسيحية واضطهدتها في أول الأمر!
قال الإمام الصادق (ع) كما في قصص الأنبياء (ع) للراوندي/267: (وكان يبعث إلى الروم رجلاً لا يداوي أحداً إلا برئ من مرضه، ويبرئ الأكمه والأبرص، حتى ذكر ذلك لملكهم فأدخل عليه فقال: أتبرئ الأكمه والأبرص؟ قال: نعم!
قال: أتيَ بغلام منخسف الحدقة لم ير شيئاً قط، فأخذ بندقتين فبندقهما، ثم جعلهما في عينيه ودعا فإذا هو بصير، فأقعده الملك معه وقال: كن معي ولا تخرج من مصري فأنزله معه بأفضل المنازل. ثم إن المسيح (ع) بعث آخر وعلمه ما به يحيي الموتى، فدخل الروم وقال: أنا أعلم من طبيب الملك!... فركب الملك والناس إلى قبر ابن الملك وكان قد مات في تلك الأيام.. فانشق القبر فخرج ابن الملك.. وأعظموا أمر المسيح (ع) حتى قال فيه أعداء الله ما قالوا، واليهود يكذبونه ويريدون قتله)!
أقول: يقارن الإمام الصادق (ع) بين الروم واليهود، ويتعجب من تكبر اليهود وإصرارهم على قتل المسيح (ع)، بينما عرف الروم قدر تلاميذه وآمنوا بمعجزاتهم!
دور المسيح الواسع بين أدوار الأنبياء (ع)!
فهو معجزة في خلقه من غير أب: (إذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ...) (آل عمران:45-57).
وهو رسول من أولي العزم (ع): (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِى الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
وهو صاحب شريعة وإن أقر أكثر شريعة موسى (ع): (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ).
وهو صاحب كتاب عالمي: (وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً للَّمُتَّقِينَ).
وهو صاحب ولاية تكوينية: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي).
وصاحب معجزات كبرى: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ. قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الله مَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة: 114)، (قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ).
وهو الرسول الوحيد الذي مدَّ الله في عمره ورفعه الى السماء: (إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
وهو يرجع من السماء فيقيم مع الإمام المهدي (ع) دولة العدل وينهيان الظلم من الأرض: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ للَّسَّاعَةِ.. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).
غلبة أتباع المسيح (ع) لليهود الى يوم القيامة
تكفل الله لعيسى (ع) بغلبة أتباعه على الكافرين به، ومعنى أتباعه: المنسوبون اليه عرفاً: (إِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّه كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ للَّحَوَارِيِينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).
أقول: تحقق وعد الله تعالى لعيسى (ع) بأن جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا به: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). فقد غلب أتباع المسيح (ع) أعداءهم اليهود، ثم تبنت الدولة الرومانية المسيحية، وإن حرفت فيها، وغلبت اليهود وبقيت غالبة عليهم الى يومنا هذا، وستبقى غالبة لهم الى نزول المسيح (ع).
جعل الله الرأفة والرحمة في المسيحيين!
من الميزات التي أعطاها الله تعالى لعيسى (ع) في أتباعه: الرأفة والرحمة: (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً).
كرامة أمه مريم وتميزها (س)
(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَمِنْ عِنْدِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ..
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ.. إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ.. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
).
بشارة عيسى (ع) بنبينا (ص)
(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّه إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ...).
نهي القرآن عن تأليه عيسى (ع)
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّه إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّه وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّه إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّه وَكِيلاً.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّه رَبِّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّه فَقَدْ حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ الْجَنَّةَ..
وَإِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ آنْتَ قُلْتَ للَّنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ.
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّه رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ
).
سكان فلسطين في زمن المسيح (ع)
جاء في قصة الحضارة (4/3873): (وكان الذي يجمع بين هذه الأحزاب كلها هو كراهيتها لسيطرة الرومان، التي كانت تتقاضى من البلاد ثمناً باهظاً نظير ميرة السلم (ضريبة) غير المحببة إليهم. وكان يسكن فلسطين وقتئذ نحو مليونين ونصف مليون من الأنفس، يقيم منهم في أورشليم وحدها نحو مائة ألف. وكان معظمهم يتكلمون اللغة الآرامية، وكان كهنتهم وعلمائهم يفهمون العبرية، أما الموظفون والأجانب ومعظم المؤلفين فكانوا يستعملون اللغة اليونانية.
وكان معظم السكان يشتغلون بالزراعة، يحرثون الأرض ويسقون الزرع، ويعنون بالحدائق والكروم، ويرعون الضأن. وكانت فلسطين في حياة المسيح تنتج من القمح ما يكفي أهلها وتبقى منه فضلة تصدر منها إلى الخارج. وكان بلحها، وتينها، وعنبها، وزيتونها، ونبيذها، وزيتها، غالية الثمن يبتاعها الناس في جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط).
الجهاز الديني اليهودي في زمن المسيح (ع)
كان الجهاز الديني اليهودي يضم كبار الحاخامات ورجال الدين، وكان الحاكم الروماني يختار رئيسهم أو يوافق عليه. فكان الجهاز الديني يملك حرية نسبية في عمله، وكانت له محاكم وشرطة دينية تصدر الأوامر والأحكام، بالقبض على المسيح وأتباعه، ويحاكمونهم ويحكمون عليهم بالسجن أو القتل والصلب، ويرسلونهم الى الحكومة الرومانية فتنفذ حكمهم. وتجد ذلك واضحاً في قصص اضطهادهم للمسيحيين ولعيسى المسيح (ع)، وفي قصة اهتداء بولس.
قال في قصة الحضارة (4/3874): (وكان في داخل الهيكل بهو الجازيث، ملتقى السنهدرين أو المجلس الأعظم المكون من كبراء إسرائيل.. وكان الحاخام الأعظم هو الذي يختار في بداية الأمر أعضاء المجلس من بين طبقة الأشراف الكهنوت، ثم أصبح من حقه في عهد الرومان أن يختار أعضاؤه لعضويته عدداً متزايداً من الفريسيين، وعدداً قليلاً من فقهاء الشريعة الموسوية المحترفين. وكان أعضاؤه البالغ عددهم واحداً وسبعين عضواً يُدعون أنهم أصحاب السلطة العليا على جميع اليهود أياً كان موطنهم).
وفي قصة الحضارة (4/2668): (واستولى على بلاد اليهود وظلت خاضعة لسلطان البطالمة أكثر من مائة عام (318-198) كانت تؤدي في خلالها جزية سنوية مقدارها ثمانية آلاف وزنة، ولكنها ازدهرت وعمها الرخاء رغم هذا العبء الثقيل.
وقد ترك البطالمة لبلاد اليهود قسطاً كبيراً من الحكم الذاتي تحت سلطان كاهن أورشليم الأكبر والجمعية الوطنية الكبرى. وأضحت الجروسيا أو مجلس الكبار، التي أنشأها عزرا ونحيما قبل ذلك العهد بمائتي عام، مجلس شيوخ ومحكمة عليا في وقت واحد. وكان أعضاؤها السبعون أو الأكثر من السبعين يُختارون من بين رؤساء الأسر الشهيرة في البلاد، ومن بين أكبر رجال العلم: السفريم Soferim.
وقد ظلت قرارات هذه الجمعية المعروفة باسم: الدبرسفريم Dibre Soferim أساس الدين اليهودي العام، من العصر الهلنستي إلى العصر الحديث).
تكون الجهاز الديني المسيحي
قال ابن خلدون (2/2/148): (فكان برومة بطرس الرسول الذي بعثه عيسى صلوات الله عليه، وكان ببيت المقدس يعقوب النجار، وكان بالإسكندرية مرقص تلميذ بطرس، وكان ببزنطية وهي قسطنطينية أندرواس الشيخ، وكان بأنطاكية أنبياء ومعلمون منهم برنابا وسمعان الملقب بالأسود.
وكان صاحب هذا الدين عندهم والمقيم لمراسمه يسمونه البترك، وهو رئيس الملة وخليفة المسيح فيهم، ويبعث نوابه وخلفاءه إلى من بَعُدَ عنهم من أمم النصرانية، ويسمونه الأسقف أي نائب البطرك، ويسمون القزا بالقسيس، وصاحب الصلاة بالجاثليق، وقَوَمَةَ المسجد بالشمامشة، والمنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب، والقاضي بالمطران. ولم يكن بمصر لذلك العهد أسقف، إلى أن جاء دهدس الحادي عشر من أساقفة إسكندرية، وكان بطرك أساقفة بمصر. وكان الأساقفة يسمون البطرك أباً والقسوس يسمون الأساقفة أباً، فوقع الاشتراك في إسم الأب، فاخترع إسم البابا لبطرك الإسكندرية، ليتميز عن الأسقف في اصطلاح القسوس، ومعناه أبو الآباء، فاشتهر هذا الإسم، ثم انتقل إلى بطرك رومة لأنه صاحب كرسي بطرس كبير الحواريين ورسول المسيح، وأقام على ذلك لهذا العهد يسمى البابا.
ثم جاء بعد فلوديش قيصر نيرون فقتل بطرس كبير الحواريين وبولص اللذين بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة، وجعل مكان بطرس أرنوس برومة وقتل مرقص الإنجيلي تلميذ بطرس وكان بالإسكندرية يدعو إلى الدين سبع سنين، ويبعثه في نواحي مصر وبرقة والمغرب، وقتله نيرون وولى بعده حَنِينْيَا وهو أول البطاركة عليها بعد الحواريين.
وثار اليهود في دولته على أسقف بيت المقدس وهو يعقوب النجار، وهدموا البيعة ودفنوا الصليب، إلى أن أظهرته هيلانة أم قسطنطين كما نذكره بعد، وجعل نيرون مكان يعقوب النجار ابن عمه شمعون بن كيافا، ثم اختلفت حال القياصرة من بعد ذلك في الأخذ بهذا الدين وتركه، كما يأتي في أخبارهم، إلى أن جاء قسطنطين بن قسطنطين باني المدينة المشهورة، وكانت في مكانها قبله مدينة صغيرة تسمى بيزنطية، وكانت أمه هيلانه صالحة فأخذت بدين المسيح لثنتين وعشرين سنة من ملك قسطنطين ابنها، وجاءت إلى مكان الصليب فوقفت عليه وترحمت وسألت عن الخشبة التي صلب عليها بزعمهم فأخبرت بما فعل اليهود فيها، وأنهم دفنوها وجعلوا مكانها مطرحاً للقمامة والنجاسة والجيف والقاذورات، فاستعظمت ذلك واستخرجت تلك الخشبة التي صلب عليها بزعمهم، وقيل من علامتها أن يمسها ذو العاهة فيعافى لوقته فطهرتها وطيبتها وغشتها بالذهب والحرير ورفعتها عندها للتبرك بها، وأمرت ببناء كنيسة هائلة بمكان الخشبة، تزعم أنها قبره وهي التي تسمى لهذا العهد قمامة، وخربت مسجد بني إسرائيل وأمرت بأن تلقى القاذورات والكناسات على الصخرة التي كانت عليها القبة، التي هي قبلة اليهود، إلى أن أزال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه)!
وقال المقريزي في الخطط (4/394): (و لما قتل الملك نيرون قيصر بطرس رأس الحواريين برومية، أقيم من بعده أريوس بطرك رومية، وهو أول بطرك صار على رومية، فأقام في البطركية اثنتي عشرة سنة، وقام من بعده البطاركة بها واحداً بعد واحد، إلى يومنا هذا الذي نحن فيه).
وقال ابن خلدون (1/234): (كان بطرس الرسول رأس الحواريين وكبير التلاميذ برومة، يقيم بها دين النصرانية إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة فيمن قتل من البطارق والأساقفة، ثم قام بخلافته في كرسي رومة آريوس، وكان مرقاس الإنجيلي بالإسكندرية ومصر والمغرب داعياً سبع سنين، فقام بعده حنانيا وتسمى بالبطرك، وهو أول البطاركة فيها، وجعل معه اثني عشر قساً على أنه إذا مات البطرك يكون واحد من الإثني عشر مكانه، ويختار من المؤمنين واحداً مكان ذلك الثاني عشر، فكان أمر البطاركة إلى القسوس، ثم لما وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم وعقائده واجتمعوا بنيقية أيام قسطنطين لتحرير الحق في الدين، واتفق ثلاث مائة وثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدين فكتبوه وسموه الإمام وصيروه أصلاً يرجعون إليه، وكان فيما كتبوه أن البطرك القائم بالدين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسة، كما قرره حنانيا تلميذ مرقاس. وأبطلوا ذلك الرأي).
أقول: أرسل عيسى بطرس الى روما ليدعوهم الى الله تعالى. أما بولس فكان عدواً لعيسى وأتباعه وادعى بعد رفعه بسنتين أنه ظهر له من السماء وبعثه رسولاً! كما أن القدس تحررت بعد هزيمة الروم في معركة اليرموك، لأنهم انسحبوا على أثرها من كل سوريا. وكان بطل اليرموك مالك الأشتر رضي الله عنه. وبعد تحريرها زار عمر القدس، وكان معه كعب الأحبار فجعله يحترم صخرة بيت المقدس التي كانت قبلة اليهود، أما قبلة المسلمين قبل الكعبة، فكانت مدينة القدس، وليس الصخرة.

الفصل الثاني: جواهر من سيرة المسيح (ع)

بعض ما روي في مولده (ع)
في كتاب: من لا يحضره الفقيه (2/89): (عن الحسن بن علي الوشاء قال: كنت مع أبي وأنا غلام فتعشينا عند الرضا (ع) ليلة خمسة وعشرين من ذي القعدة فقال له: ليلة خمسة وعشرين من ذي القعدة ولد فيها إبراهيم (ع)، وولد فيها عيسى بن مريم (ع)، وفيها دحيت الأرض من تحت الكعبة، فمن صام ذلك اليوم كان كمن صام ستين شهراً).
وفي كامل الزيارات/123، عن الإمام الصادق (ع) قال: (لم يولد مولود لستة أشهر إلا عيسى بن مريم، والحسين بن علي (ع)).
وفي الكافي (1/133): (سألت أبا عبد الله (ع) عن الروح التي في آدم (ع) في قوله: فَإِذَا سَوَيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي؟ قال: هذه روح مخلوقة، والروح التي في عيسى مخلوقة. وعن حمران قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قوله الله عز وجل: وَرُوحٌ مِنْهُ؟ قال: هي روح الله، مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى).
وفي التوحيد للصدوق/236: (عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) قال: لما ولد عيسى بن مريم (ع) كان ابن يوم كأنه ابن شهرين، فلما كان ابن سبعة أشهر أخذت والدته بيده وجاءت به إلى الكتاب وأقعدته بين يدي المؤدب، فقال له المؤدب: قل بسم الله الرحمن الرحيم، فقال عيسى (ع): بسم الله الرحمن الرحيم. فقال له المؤدب: قل: أبجد، فرفع عيسى (ع) رأسه فقال: هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرة ليضربه فقال: يا مؤدب لا تضربني، إن كنت تدري وإلا فاسألني حتى أفسر لك! قال: فسره لي، فقال عيسى (ع): الألف آلاء الله، والباء بهجة الله، والجيم جمال الله، والدال دين الله. هوز: الهاء هول جهنم، والواو ويل لأهل النار، والزاي زفير جنهم. حطي: حطت الخطايا عن المستغفرين. كلمن: كلام الله لا مبدل لكلماته. سعفص: صاع بصاع والجزاء بالجزاء. قرشت: قرشهم فحشرهم. فقال المؤدب: أيتها المرأة خذي بيد ابنك، فقد علم ولا حاجة له في المؤدب).
أقول: يظهر من أحاديث النبي (ص) والأئمة (ع) أن جدول الأبجدية (أبجد هوز..) جدول قديم، ولعله من اللغة السريانية، ومنها انتقل الى العربية وغيرها. وقد يكون تفسير عيسى (ع) له باللغة السريانية أو العبرية، وتُرجم في الرواية الى العربية.
صلى النبي (ص) في بيت لحم مولد عيسى (ع)
في تفسير القمي(2/4) في حديث المعراج، قال رسول الله (ص): (ثم قال لي: إنزل وصلِّ، فنزلت وصليت، فقال لي: أتدري أين صليت؟ فقلت لا، فقال صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى تكليماً، ثم ركبت فمضينا ما شاء الله، ثم قال لي: إنزل فصل، فنزلت وصليت فقال لي: أتدري أين صليت؟ فقلت: لا، قال: صليت في بيت لحم بناحية بيت المقدس حيث ولد عيسى بن مريم (ع)).
وفي علل الشرائع (1/79) عن وهب بن منبه: (أن يهودياً سأل النبي (ص) فقال: يا محمد أكنت في أم الكتاب نبياً قبل أن تخلق؟ قال: نعم قال: وهؤلاء أصحابك المؤمنون مثبتون معك قبل أن يخلقوا؟ قال: نعم. قال: فما شأنك لم تتكلم بالحكمة حين خرجت من بطن أمك كما تكلم عيسى بن مريم على زعمك، وقد كنت قبل ذلك نبياً؟ فقال النبي (ص): إنه ليس أمري كأمر عيسى بن مريم إن عيسى بن مريم خلقه الله عز وجل من أم ليس له أبٌ، كما خلق آدم (ع) من غير أب ولا أم، ولو أن عيسى حين خرج من بطن أمه لم ينطق بالحكمة، لم يكن لأمه عذر عند الناس، وقد أتت به من غير أب، وكانوا يأخذونها كما يؤخذ به مثلها من المحصنات، فجعل الله عز وجل منطقه عذراً لأمه).
وفي عيون أخبار الرضا (ع) (2/233): (حدثني ياسر الخادم قال: سمعت أبا الحسن الرضا (ع) يقول: إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد ويخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يبعث فيرى أحكاماً لم يرها في دار الدنيا. وقد سلَّمَ الله عز وجل على يحيى (ع) في هذه الثلاثة المواطن وآمن روعته، فقال: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً)، وقد سلَّمَ عيسى بن مريم على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال: (وَالسَّلامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً).
هربت به أمه الى بابل ومصر:
في معاني الأخبار للصدوق/373: (عن سعد الإسكاف، عن أبي جعفر (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع) في قول الله عزَّ وجلَّ: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، قال: الربوة: الكوفة، والقرار: المسجد، والمعين: الفرات).
أقول: ذهب بعض المفسرين الى تفسير الآية بدمشق ولا يصح ذلك، لأن مريم (س) هربت بابنها من الروم، وكانت دمشق تحت سلطانهم، لكن بابل كانت خارجة عن سلطانهم، فآواهما الله اليها لسنين، ثم آواهما الى مصر لما ناسب الظرف، ثم أعادهما الى القدس عندما لزم ذلك.
روى الصدوق في من لا يحضره الفقيه(1/232): (عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: صلى بنا علي (ع) ببراثا بعد رجوعه من قتال الشراة (الخوارج) ونحن زهاء مائة ألف رجل، فنزل نصراني من صومعته فقال: من عميد هذا الجيش؟ فقلنا: هذا، فأقبل إليه فسلم عليه فقال: يا سيدي أنت نبي؟ فقال: لا، النبي سيدي قد مات، قال: فأنت وصي نبي؟ قال: نعم، ثم قال له: أجلس، كيف سألت عن هذا؟ قال: أنا بنيت هذه الصومعة من أجل هذا الموضع وهو براثا، وقرأت في الكتب المنزلة أنه لا يصلي في هذا الموضع بهذا الجمع إلا نبي أو وصي نبي وقد جئت أسلم، فأسلم وخرج معنا إلى الكوفة، فقال له علي (ع): فمن صلى هاهنا؟ قال: صلى عيسى بن مريم (ع) وأمه. فقال له علي (ع): أفأخبرك من صلى هاهنا؟ قال: نعم، قال: الخليل (ع)).
أقول: قد يكون إبراهيم (ع) صلى في براثا قبل هجرته من بابل. على أنا أثبتنا في سلسلة القبائل العربية، أن إبراهيم (ع) عاد الى بابل بعد تجديده الكعبة وبعد موت نمرود، وأسس لذريته القادسية، والكوفة، والسهلة، والنخيلة، وكربلاء.
وفي أمالي الصدوق/694: (عن ابن عباس قال: كنت مع أمير المؤمنين (ع) في خروجه إلى صفين، فلما نزل بنينوى وهو شط الفرات، قال بأعلى صوته: يا ابن عباس، أتعرف هذا الموضع؟ فقلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين. فقال علي (ع): لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي. قال: فبكى طويلاً حتى اخضلت لحيته وسالت الدموع على صدره، وبكينا معاً وهو يقول: أوه أوه، مالي ولآل أبي سفيان، مالي ولآل حرب حزب الشيطان، وأولياء الكفر! صبراً يا أبا عبد الله فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم، ثم دعا بماء فتوضأ وضوءه للصلاة وصلى ما شاء الله أن يصلي، ثم ذكر نحو كلامه الأول، إلا أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة، ثم انتبه فقال: يا ابن عباس! فقلت: ها أنا ذا. فقال: ألا أحدثك بما رأيت في منامي آنفا عند رقدتي؟ فقلت: نامت عيناك ورأيت خيراً يا أمير المؤمنين. قال: رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء معهم أعلام بيض، قد تقلدوا سيوفهم وهي بيض تلمع، وقد خطوا حول هذه الأرض خطة، ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدم عبيط، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه، يستغيث فلا يغاث، وكأن الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه ويقولون: صبراً آل الرسول، فإنكم تقتلون على أيدي شرار الناس، وهذه الجنة يا أبا عبد الله إليك مشتاقة. ثم يُعَزُّونني ويقولون: يا أبا الحسن، أبشر، فقد أقر الله به عينك يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين، ثم انتبهت هكذا.
والذي نفس علي بيده، لقد حدثني الصادق المصدَّق أبو القاسم (ص) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء، يدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلاً من ولدي وولد فاطمة، وإنها لفي السماوات معروفة، تذكر أرض كرب وبلاء كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس. ثم قال: يا ابن عباس، أطلب لي حولها بعر الظباء، فوالله ما كذبت ولا كُذبت وهي مصفرة لونها لون الزعفران! قال ابن عباس: فطلبتها فوجدتها مجتمعة فناديته: يا أمير المؤمنين قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي! فقال علي (ع): صدق الله ورسوله، ثم قام (ع) يهرول إليها فحملها وشمها وقال: هي هي بعينها، أتعلم يا ابن عباس ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمها عيسى بن مريم (ع) وذلك أنه مر بها ومعه الحواريون، فرأى هاهنا الظباء مجتمعة وهي تبكي، فجلس عيسى (ع) وجلس الحواريون معه، فبكى وبكى الحواريون وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته ما يبكيك؟ قال: أتعلمون أي أرض هذه؟ قالوا: لا. قال: هذه أرض يقتل فيها فرخ الرسول أحمد، وفرخ الحرة الطاهرة البتول شبيهة أمي، ويلحد فيها، طينةٌ أطيب من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء (ع)، فهذه الظباء تكلمني وتقول: إنها ترعى في هذه الأرض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض.
ثم ضرب بيده إلى هذه الصيران (صرر المسك) فشمها وقال: هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها، اللهم فأبقها أبداً حتى يشمها أبوه فتكون له عزاء وسلوة، قال: فبقيت إلى يوم الناس هذا، وقد اصفرت لطول زمنها، وهذه أرض كرب وبلاء. ثم قال بأعلى صوته: يا رب عيسى بن مريم، لا تبارك في قتلته والمعين عليه والخاذل له، ثم بكى بكاء طويلاً وبكينا معه، حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلاً.
ثم أفاق فأخذ البعر فصره في ردائه وأمرني أن أصرها كذلك، ثم قال: يا ابن عباس، إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً ويسيل منها دم عبيط، فاعلم أن أبا عبد الله قد قتل بها ودفن. قال ابن عباس: فوالله لقد كنت أحفظها أشد من حفظي لبعض ما افترض الله عز وجل عليَّ، وأنا لا أحلها من طرف كمي فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً عبيطاً، وكان كمي قد امتلأ دماً عبيطاً، فجلست وأنا باك، وقلت: قد قتل والله الحسين، والله ما كذبني عليٌّ قط في حديث حدثني، ولا أخبرني بشيء قط أنه يكون إلا كان كذلك، لأن رسول الله (ص) كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره.
ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين، ثم طلعت الشمس فرأيت كأنها منكسفة، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط، فجلست وأنا باك، فقلت: قد قتل والله الحسين، وسمعت صوتاً من ناحية البيت، وهو يقول: اصبروا آل الرسول قتل الفرخ النحول. نزل الروح الأمين ببكاء وعويل. ثم بكى بأعلى صوته وبكيت، فأثبت عندي تلك الساعة، وكان شهر المحرم يوم عاشوراء لعشر مضين منه، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره وتاريخه كذلك، فحدثت هذا الحديث أولئك الذين كانوا معه، فقالوا: والله لقد سمعنا ما سمعت، ونحن في المعركة، ولا ندري ما هو، فكنا نرى أنه الخضر (ع)).
بعث الله عيسى (ع) رسولاً قبل السابعة من عمره
في الكافي (1/322): (عن الخيراني قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن (ع) بخراسان فقال له قائل: يا سيدي إن كان كون فإلى من؟ قال: إلى أبي جعفر ابني، فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر (ع)، فقال أبو الحسن (ع): إن الله تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم (ع) رسولاً نبياً، صاحب شريعة مبتدئة، في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر).
أقول: ستعرف في فصل وصية عيسى لشمعون الصفا (ع) أن السلطة أرادت قتله بعد نحو سنتين من ولادة عيسى وقتل يحيى (ع)، فهربت بهما أماهما، وقبضت السلطة على زكريا (ع) يسألونه عن يحيى فأنكر معرفته بمكانه فقتلوه.
فورثه يحيى (ع) على صغر سنة وآتاه الله الحكم صبياً كما قال تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وعليه، فلا يصح القول إن يحيى (ع) قتل في حياة أبيه، ولا في حياة عيسى (ع)، فلو صح ذلك لما أوتي الحكم ولا أخذ الكتاب!
ثم أرسل الله عيسى (ع) وهو صبي أيضاً وأمر يحيى بطاعته فعمل بإمرته، ثم أوصى المسيح الى شمعون الصفا، وعمل يحيى بإمرته ثلاثين سنة الى أن قتل شمعون فأوصى الى يحيى، ثم قتل يحيى فأوصى الى المنذر بن شمعون الصفا (ع).
وصف أمير المؤمنين لعيسى (ع)
قال أمير المؤمنين (ع): (وإن شئتُ قلتُ في عيسى بن مريم (ع)، فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجةٌ تفتنه، ولا ولدٌ يحزنه، ولا مالٌ يلفته، ولا طمعٌ يذله. دابته رجلاه، وخادمه يداه). (نهج البلاغة 1: 293).
علم النبوة وضعف الصبا!
في قصص الأنبياء للراوندي/269: (بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، قال: سأل أبي أبا عبد الله (ع) هل كان عيسى يصيبه ما يصيب ولد آدم؟ قال: نعم. ولقد كان يصيبه وجع الكبار في صغره، ويصيبه وجع الصغار في كبره ويصيبه المرض، وكان إذا مسه وجع الخاصرة في صغره وهو من علل الكبار، قال لأمه: إبغي لي عسلاً وشونيزاً وزيتاً فتعجَّني به، ثم أئتيني به، فأتته به فكرهه فتقول: لم تكرهه وقد طلبته؟ فقال: هاتيه، نعتُّهُ لك بعلم النبوة، وأكرهته لجزع الصبا، ويشم الدواء ثم يشربه بعد ذلك.
 وفي رواية إسماعيل بن جابر، قال أبو عبد الله (ع): إن عيسى بن مريم (ع) كان يبكى بكاءً شديداً، فلما أعيت مريم (ع) كثره بكائه قال لها: خذي من لِحَى هذه الشجرة فاجعليه وُجُوراً ثم اسقينيه، فإذا سقيَ بكى بكاءً شديداً، فتقول مريم (ع): هذا ما أمرتني؟ فيقول: يا أماه علم النبوة وضعف الصبا)!
مناظرة المسيح (ع) مع إبليس
في أمالي الصدوق/272: (عن ابن عباس قال: لما مضى لعيسى (ع) ثلاثون سنة بعثه الله عز وجل إلى بني إسرائيل، فلقيه إبليس على عقبة بيت المقدس وهي عقبة أفيق، فقال له: يا عيسى أنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أن تكونت من غير أب؟ قال عيسى: بل العظمة للذي كَوَّنني، وكذلك كَوَّنَ آدم وحواء (ع). قال إبليس: يا عيسى فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تكلمت في المهد صبياً؟ قال عيسى: يا إبليس بل العظمة للذي أنطقني في صغري ولو شاء لأبكمني! قال إبليس: فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيصير طيراً؟ قال عيسى: بل العظمة للذي خلقني وخلق ما سخر لي.
قال إبليس: فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تشفي المرضى؟
قال عيسى: بل العظمة للذي بإذنه أشفيهم، وإذا شاء أمرضني.
قال إبليس: فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحيي الموتى؟ قال عيسى: بل العظمة للذي بإذنه أحييهم، ولا بد من أن يميت ما أحييت ويميتني.
قال إبليس: يا عيسى فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تعبر البحر فلا تبتل قدماك ولا ترسخ فيه؟
قال عيسى: بل العظمة للذي ذلّله لي ولو شاء أغرقني.
قال إبليس: يا عيسى فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنه سيأتي عليك يوم تكون السماوات والأرض ومن فيهن دونك، وأنت فوق ذلك كله تدبر الأمر وتقسم الأرزاق؟ فأعظم عيسى (ع) ذلك من قول إبليس الكافر اللعين، فقال عيسى: سبحان الله ملء سماواته وأرضه، ومداد كلماته، وزنة عرشه، ورضى نفسه! قال: فلما سمع إبليس لعنه الله ذلك ذهب على وجهه لا يملك من نفسه شيئاً، حتى وقع في اللجة الخضراء)!
وفي قصص الأنبياء (ع) للراوندي/268، عن الإمام الصادق (ع) قال: (صعد عيسى (ع) على جبل بالشام يقال له أريحا، فأتاه إبليس في صورة ملك فلسطين فقال له: يا روح الله أحييت الموتى وأبرأت الأكمه والأبرص، فاطرح نفسك عن الجبل، فقال عيسى (ع): إن ذلك أُذن لي فيه، وهذا لم يؤذن لي فيه). وفي رواية: فقال عيسى: ويلك إن العبد لا يجرب ربه.
وفي التوحيد للصدوق/127، عن الإمام الصادق (ع) قال: (إن إبليس قال لعيسى بن مريم (ع): أيقدر ربك على أن يدخل الأرض بيضة لا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟ فقال عيسى (ع): ويلك إن الله لا يوصف بعجز، ومن أقدر ممن يلطف الأرض ويعظم البيضة).
وفي رواية: فقال له: إن الله تعالى لا يوصف بعجز، والذي قلت لا يكون!
مناظرة المسيح (ع) مع الدنيا
في تحف العقول/396، قال الإمام الكاظم (ع) لهشام بن الحكم: (يا هشام تمثلت الدنيا للمسيح (ع) في صورة امرأة زرقاء فقال لها: كم تزوجت؟ فقالت: كثيراً قال: فكلٌّ طلقك؟ قالت: لا، بل كلاً قتلت! قال المسيح (ع): فويحٌ لأزواجك الباقين، كيف لا يعتبرون بالماضين).
منهج المسيح أفضل من منهج يحيى (ع)
في الكافي (2/665) عن الإمام الكاظم (ع) قال: (كان يحيى بن زكريا (ع) يبكي ولا يضحك، وكان عيسى بن مريم (ع) يضحك ويبكي، وكان الذي يصنع عيسى أفضل من الذي كان يصنع يحيى).
وفي الدروع الواقية /53: (وإن كنت تريد صوم ابن العذراء البتول عيسى بن مريم (ع)، فإنه كان يصوم الدهر كله لا يفطر منه شيئاً، وكان يلبس الشعر، ويأكل الشعير، ولم يكن له بيت يخرب، ولا ولد يموت، وكان رامياً لا يخطئ صيداً يريده، وحيثما غابت الشمس صف قدميه، فلم يزل يصلي حتى يراها. وكان يمر بمجالس بني إسرائيل فمن كانت له حاجة قضاها، وكان لا يقوم مقاماً إلا وصلى فيه ركعتين، وكان ذلك من شأنه حتى رفعه الله عز وجل! وإن كنت تريد صوم أمه (س)، فإنها كانت تصوم يومين، وتفطر يوماً).
مما وعظ به الله تعالى عيسى (ع)
في الكافي (8/131): (يا عيسى، أنا ربك ورب آبائك، إسمي واحد وأنا الأحد المتفرد بخلق كل شيء، وكل شيء من صنعي، وكلٌّ إليَّ راجعون.
يا عيسى، أنت المسيح بأمري وأنت تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، وأنت تحيي الموتى بكلامي، فكن إلي راغباً ومني راهباً، ولن تجد مني ملجأ إلا إلي.
يا عيسى، أوصيك وصية المتحنن عليك بالرحمة حتى حقت لك مني الولاية بتحريك مني المسرة، فبوركت كبيراً وبوركت صغيراً حيثما كنت، أشهد أنك عبدي، ابن أمتي، أنزلني من نفسك كهمك، واجعل ذكري لمعادك، وتقرب إليَّ بالنوافل، وتوكل عليَّ أكفك، ولا توكل على غيري فآخذ لك.
يا عيسى، إصبر على البلاء وارض بالقضاء، وكن كمسرتي فيك، فإن مسرتي أن أُطاع فلا أُعصى. يا عيسى، أحي ذكري بلسانك، وليكن ودي في قلبك.
يا عيسى، تيقظ في ساعات الغفلة، واحكم لي لطيف الحكمة.
يا عيسى، كن راغباً راهباً، وأمت قلبك بالخشية.
يا عيسى، راع الليل لتحري مسرتي، واظمأ نهارك ليوم حاجتك عندي.
يا عيسى، نافس في الخير جهدك، تعرف بالخير حيثما توجهت.
يا عيسى، أحكم في عبادي بنصحي وقم فيهم بعدلي، فقد أنزلت عليك شفاءً لما في الصدور من مرض الشيطان. يا عيسى، لا تكن جليساً لكل مفتون.
يا عيسى، حقاً أقول: ما آمنت بي خليقة إلا خشعت لي، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي، فأشهد أنها آمنة من عقابي ما لم تبدل أو تغير سنتي.
يا عيسى، ابن البكر البتول: إبكِ على نفسك بكاء من ودع الأهل وقلى الدنيا وتركها لأهلها، وصارت رغبته فيما عند إلهه.
يا عيسى، كن مع ذلك تلين الكلام وتفشي السلام، يقظان إذا نامت عيون الأبرار، حذراً للمعاد والزلازل الشداد وأهوال يوم القيامة، حيث لا ينفع أهل ولا ولد ولا مال.
يا عيسى، أكحل عينك بميل الحزن، إذا ضحك البطالون.
يا عيسى، كن خاشعاً صابراً، فطوبى لك إن نالك ما وعد الصابرون.
يا عيسى، رُح من الدنيا يوماً فيوماً، وذُق لما قد ذهب طعمه، فحقاً أقول: ما أنت إلا بساعتك ويومك، فرح من الدنيا ببلغة، وليكفك الخشن الجشب فقد رأيت إلى ما تصير، ومكتوب ما أخذت وكيف أتلفت.
يا عيسى، إنك مسؤول فارحم الضعيف كرحمتي إياك، ولا تقهر اليتيم.
يا عيسى، إبك على نفسك في الخلوات، وانقل قدميك إلى مواقيت الصلوات واسمعني لذاذة نطقك بذكري، فإن صنيعي إليك حسن.
يا عيسى، كم من أمة قد أهلكتها بسالف ذنوب قد عصمتك منها.
يا عيسى، إرفق بالضعيف، وارفع طرفك الكليل إلى السماء وادعني، فإني منك قريب. ولا تدعني إلا متضرعاً إليَّ، وهمك هماً واحداً، فإنك متى تدعني كذلك أجبك.
يا عيسى، إني لم أرض بالدنيا ثواباً لمن كان قبلك، ولا عقاباً لمن انتقمت منه.
يا عيسى، إنك تفني وأنا أبقى، ومني رزقك وعندي ميقات أجلك، وإليَّ إيابك، وعلَّي حسابك، فسلني ولا تسأل غيري، فيحسن منك الدعاء ومني الإجابة.
يا عيسى، ما أكثر البشر وأقل عدد من صبر، الأشجار كثيرة وطيبها قليل، فلا يغرنك حسن شجرة حتى تذوق ثمرها.
يا عيسى، لا يغرنك المتمرد عليَّ بالعصيان، يأكل رزقي ويعبد غيري، ثم يدعوني عند الكرب فأجيبه، ثم يرجع إلى ما كان عليه، فعليَّ يتمرد أم بسخطي يتعرض! فبي حلفت لآخذنه أخذةً ليس له منها منجىً ولا دوني ملجأ، أين يهرب من سمائي وأرضي.
يا عيسى، قل لظلمة بني إسرائيل لا تدعوني والسحت تحت أحضانكم والأصنام في بيوتكم، فإني آليت أن أجيب من دعاني وأن أجعل إجابتي إياهم لعناً عليهم حتى يتفرقوا.
يا عيسى، لتكن في السر والعلانية واحداً، وكذلك فليكن قلبك وبصرك، واطْو قلبك ولسانك عن المحارم، وكُفَّ بصرك عما لا خير فيه، فكم من ناظر نظرة قد زرعت في قلبه شهوة، ووردت به موارد حياض الهلكة.
يا عيسى، كن رحيماً مترحماً، وكن كما تشاء أن يكون العباد لك، وأكثر ذكر الموت ومفارقة الأهلين، ولا تَلْهُ فإن اللهو يفسد صاحبه، ولا تغفل فإن الغافل مني بعيد، واذكرني بالصالحات حتى أذكرك.
يا عيسى، تب إلي بعد الذنب وذكَّر بي الأوابين، وآمن بي وتقرب بي إلى المؤمنين، ومرهم يدعوني معك. وإياك ودعوة المظلوم فإني آليت على نفسي أن أفتح لها باباً من السماء بالقبول، وأن أجيبه ولو بعد حين.
يا عيسى، إعلم أن صاحب السوء يُعدي، وقرين السوء يُردي، واعلم من تُقارن، واختر لنفسك إخواناً من المؤمنين.
يا عيسى، إزهد في الفاني المنقطع، وطأْ رسوم منازل من كان قبلك، فادعهم وناجهم، هل تحس منهم من أحد!
يا عيسى، شمر فكل ما هو آت قريب، واقرأ كتابي وأنت طاهر، واسمعني منك صوتاً حزيناً.
يا عيسى، لا خير في لذاذة لا تدوم، وعيش من صاحبه يزول.
يا ابن مريم، لو رأت عينك ما أعددت لأوليائي الصالحين ذاب قلبك وزهقت نفسك شوقاً إليه، فليس كدار الآخرة دار.
يا عيسى، أهرب إلي مع من يهرب من نار ذات لهب، ونار ذات أغلال وأنكال لا يدخلها رَوْحٌ، ولا يُخرج منها من غم أبداً. هي دار الجبارين والعتاة الظالمين، وكل فظ غليظ، وكل مختال فخور.
يا عيسى، بئست الدار لمن ركن إليها، وبئس القرار دار الظالمين، إني أحذرك نفسك فكن بي خبيراً.
يا عيسى، لا يصلح لسانان في فم واحد، ولا قلبان في صدر واحد، وكذلك الأذهان.
يا عيسى، لا تستيقظن عاصياً ولا تستنبهن لاهياً، وأفطم نفسك عن الشهوات الموبقات، وكل شهوة تباعدك مني فاهجرها، واعلم أنك مني بمكان الرسول الأمين، فكن مني على حذر.
يا عيسى، أطب الكلام وكن حيثما كنت عالماً متعلماً.
يا عيسى، إني إذا غضبت عليك لم ينفعك رضى من رضي عنك وإن رضيت عنك لم يضرك غضب المغضبين.
يا عيسى، اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، واذكرني في ملئك أذكرك في ملاء خير من ملأ الآدميين.
يا عيسى، لا تحلف بي كاذبا فيهتز عرشي غضباً، الدنيا قصيرة العمر طويلة الأمل وعندي دار خير مما تجمعون.
يا عيسى، كيف أنتم صانعون إذا أخرجت لكم كتاباً ينطق بالحق وأنتم تشهدون بسرائر قد كتمتموها وأعمال كنتم بها عاملين.
 يا عيسى، قل لظلمة بني إسرائيل غسلتم وجوهكم ودنستم قلوبكم، أبي تغترون أم علي تجترئون، تطيبون بالطيب لأهل الدنيا وأجوافكم عندي بمنزله الجيف المنتنة، كأنكم أقوام ميتون.
يا عيسى، قل لهم: قلموا أظفاركم من كسب الحرام وأصموا أسماعكم عن ذكر الخنا، وأقبلوا عليَّ بقلوبكم فإني لست أريد صوركم.
يا عيسى، إفرح بالحسنة فإنها لي رضى، وابك على السيئة فإنها شين، وما لا تحب أن يصنع بك فلا تصنعه بغيرك، وإن لطم خدك الأيمن فأعطه الأيسر وتقرب إليَّ بالمودة جهدك وأعرض عن الجاهلين.
يا عيسى، قل لظلمة بني إسرائيل: الحكمة تبكي فرقاً مني، وأنتم بالضحك تهجرون، أتتكم براءتي أم لديكم أمان من عذابي، أم تعرضون لعقوبتي، فبي حلفت لأتركنكم مثلا للغابرين.
ثم أوصيك يا ابن مريم البكر البتول بسيد المرسلين وحبيبي، فهو أحمد صاحب الجمل الأحمر والوجه الأقمر، المشرق بالنور، الطاهر القلب، الشديد البأس، الحيي المتكرم، فإنه رحمة للعالمين وسيد ولد آدم يوم يلقاني، أكرم السابقين علي، وأقرب المرسلين مني، العربي الأمين، الديان بديني، الصابر في ذاتي، المجاهد المشركين بيده عن ديني، أن تخبر به بني إسرائيل وتأمرهم أن يصدقوا به، وأن يؤمنوا به، وأن يتبعون وأن ينصروه.
قال عيسى (ع): إلهي من هو حتى أرضيه فلك الرضا، قال: هو محمد رسول الله إلى الناس كافة، أقربهم مني منزلة وأحضرهم شفاعة، طوبى له من نبي وطوبى لأمته إن هم لقوني على سبيله، يحمده أهل الأرض ويستغفر له أهل السماء، أمين ميمون طيب مطيب، خير الباقين عندي، يكون في آخر الزمان إذا خرج أرخت السماء عزاليها، وأخرجت الأرض زهرتها، حتى يروا البركة وأبارك لهم فيما وضع يده عليه، كثير الأزواج، قليل الأولاد، يسكن بكة موضع أساس إبراهيم.
يا عيسى، دينه الحنيفية وقبلته يمانية وهو من حزبي وأنا معه، فطوبى له ثم طوبى له، له الكوثر والمقام الأكبر في جنات عدن، يعيش أكرم من عاش ويقبض شهيداً، له حوض أكبر من بكة إلى مطلع الشمس من رحيق مختوم، فيه آنية مثل نجوم السماء، وأكواب مثل مدر الأرض، عذب فيه من كل شراب، وطعم كل ثمار في الجنة، من شرب منه شربة لم يظمأ أبداً، وذلك من قسمي له وتفضيلي إياه على فترة بينك وبينهُ، يوافق سره علانيته وقوله فعله، لا يأمر الناس إلا بما يبدأهم به، دينه الجهاد في عسر ويسر تنقاد له البلاد ويخضع له صاحب الروم، على دين إبراهيم يسمى عند الطعام، ويفشي السلام، ويصلي والناس نيام، له كل يوم خمس صلوات متواليات، ينادي إلى الصلاة كنداء الجيش بالشعار، ويفتتح بالتكبير ويختتم بالتسليم، ويصف قدميه في الصلاة كما تصف الملائكة أقدامها، ويخشع لي قلبه ورأسه، النور في صدره والحق على لسانه، وهو على الحق حيثما كان.
يا عيسى، اعقل وتفكر، وانظر في نواحي الأرض كيف كان عاقبة الظالمين.
يا عيسى، أذل قلبك بالخشية، وانظر إلى من هو أسفل منك ن ولا تنظر إلى من هو فوقك ن واعلم أن رأس كل خطيئة وذنب هو حب الدنيا، فلا تحبها فإني لا أحبها.
يا عيسى، أطب لي قلبك، وأكثر ذكري في الخلوات، واعلم أن سروري أن تبصبص إلي، كن في ذلك حياً ولا تكن ميتاً.
يا عيسى، لا تشرك بي شيئاً، وكن مني على حذر، ولا تغتر بالصحة وتغبط نفسك، فإن الدنيا كفيء زائل، وما أقبل منها كما أدبر، فنافس في الصالحات جهدك، وكن مع الحق حيثما كان، وإن قطعت وأحرقت بالنار.
يا عيسى، صب لي الدموع من عينيك، واخشع لي بقلبك.
يا عيسى، إستغث بي في حالات الشدة، فإني أغيث المكروبين، وأجيب المضطرين، وأنا أرحم الراحمين). (ملاحظة: ما أوردناه منتخب من الحديث).
من مواعظ عيسى (ع) وحكمه
(يا معشر الحواريين، بحق أقول لكم: إن الناس يقولون إن البناء بأساسه، وأنا لا أقول لكم كذلك. قالوا: فماذا تقول يا روح الله؟ قال: بحق أقول لكم: إن آخر حجر يضعه العامل هو الأساس). (معاني الأخبار/348).
(اجتمع الحواريون إلى عيسى (ع) فقالوا له: يا معلم الخير أرشدنا، فقال لهم: إن موسى كليم الله (ع) أمركم أن لا تحلفوا بالله تبارك وتعالى كاذبين، وأنا آمركم أن لا تحلفوا بالله كاذبين ولا صادقين، قالوا: يا روح الله زدنا، فقال: إن موسى نبي الله (ع) أمركم أن لا تزنوا، وأنا آمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أن تزنوا، فإن من حدث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق، فأفسد التزاويق الدخان، وإن لم يحترق البيت). (الكافي:5/542).
(قال الحواريون لعيسى (ع):يا معلم الخير علمنا أي الأشياء أشد، فقال: أشد الأشياء غضب الله عز وجل، قالوا: فبم يُتقى غضب الله؟ قال: بأن لا تغضبوا، قالوا: وما بدء الغضب؟ قال: الكبر والتجبر ومَحْقَرة الناس). (الخصال/6).
عن الإمام الصادق (ع) قال: (إن عيسى بن مريم (ع) قال لأصحابه: أرأيتم لو أن أحدكم مرَّ بأخيه فرأى ثوبه قد انكشف عن بعض عورته، أكان كاشفاً عنها كلها، أم يرد عليها ما انكشف عليه منها؟ قالوا: بل نرد عليها.
قال: كلا بل تكشفون عنها كلها! فعرفوا أنه مثل ضربه لهم، فقيل له: يا روح الله وكيف ذلك؟ قال: الرجل منكم يطلع على العورة من أخيه فلا يسترها! بحق أقول لكم: إنكم لا تصيبون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون، ولا تنالون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون). (تحف العقول/305).
عن النبي (ص) قال: (قال المسيح (ع): خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق). (المحاسن:1/229).
(قال المسيح (ع): يا معشر الحواريين ما يضركم من نتن القطران إذا أصابكم سراجه، خذوا العلم ممن عنده، ولا تنظروا إلى عمله). (المحاسن:1/230).
وفي الاختصاص/221، قال الصادق (ع): (من أعجب بنفسه هلك، ومن أعجب برأيه هلك، وإن عيسى ابن مريم (ع) قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن الله وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه، فقيل يا روح الله وما الأحمق؟ قال: المعجب برأيه ونفسه، الذي يرى الفضل كله له لا عليه ويوجب الحق كله لنفسه ولا يوجب عليها حقا فذاك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته).
وفي الكافي (8/345)، عن الإمام الصادق (ع) قال: (كان المسيح (ع) يقول: إن التارك شفاء المجروح من جرحه شريك لجارحه لا محالة، وذلك أن الجارح أراد فساد المجروح والتارك لإشفائه لم يشأ صلاحه، فإذا لم يشأ صلاحه فقد شاء فساده اضطراراً، فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، ولا تمنعوها أهلها فتأثموا، وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي، إن رأى موضعاً لدوائه وإلا أمسك).
عن الإمام الباقر (ع) قال: (المائدة التي نزلت على بني إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب، عليها تسعة ألوان وتسعة أرغفة.. لما أنزلت المائدة على عيسى (ع) قال للحواريين: لا تأكلوا منها حتى آذن لكم، فأكل منها رجل منهم، فقال بعض الحواريين: يا روح الله أكل منها فلان، فقال له عيسى (ع): أكلت منها؟ قال له: لا، فقال الحواريون: بلى والله يا روح الله لقد أكل منها، فقال له عيسى: صدق أخاك، وكذب بصرك). (تفسير العياشي:1/350).
وفي عيون أخبار الرضا (ع) (1/45) عن علي (ع) قال: (قال لي رسول الله (ص): عليكم بالعدس، فإنه مبارك مقدس يرقق القلب ويكثر الدمعة، وقد بارك فيه سبعون نبياً آخرهم عيسى بن مريم (ع)). وقد فُسر العدس بالحمص.
وفي الكافي (8/200) عن الإمام الصادق (ع): (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. قال: الخنازير على لسان داود، والقردة على لسان عيسى بن مريم (ع)).
أقول: معنى ذلك أن الفئة الذين لعنهم داود (ع) يشبهون الخنازير في صفاتهم، والذين دعا عليهم عيسى (ع) يشبهون القردة!
من معجزات عيسى (ع)
في الكافي (8/337): (عن أبي عبد الله (ع) أنه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيا أحداً بعد موته حتى كان له أكلٌ ورزقٌ ومدةٌ وولدٌ؟
فقال: نعم، إنه كان له صديق مؤاخٍ له في الله تبارك وتعالى، وكان عيسى (ع) يمر به وينزل عليه، وإن عيسى غاب عنه حيناً ثم مر به ليسلم عليه، فخرجت إليه أمه فسألها عنه فقالت: مات يا رسول الله، فقال: أفتحبين أن تريه؟ قالت: نعم، فقال لها: فإذا كان غداً آتيك حتى أحييه لك بإذن الله تبارك وتعالى، فلما كان من الغد أتاها فقال لها: إنطلقي معي إلى قبره، فانطلقا حتى أتيا قبره فوقف عليه عيسى (ع) ثم دعا الله عز وجل فانفرج القبر وخرج ابنها حياً، فلما رأته أمه ورآها بكيا، فرحمهما عيسى (ع) فقال له عيسى: أتحب أن تبقي مع أمك في الدنيا؟ فقال: يا نبي الله بأكل ورزق ومدة، أم بغير أكل ولا رزق ولا مدة؟ فقال له عيسى (ع): بأكل ورزق ومدة وتعمر عشرين سنة، وتزوج ويولد لك؟ قال: نعم إذاً، قال: فدفعه عيسى إلى أمه، فعاش عشرين سنة، وتزوج وولد له)!
 وفي الكافي (6/4) عن الإمام الصادق (ع) قال: (قال رسول الله (ص): مرَّ عيسى ابن مريم (ع) بقبر يعذب صاحبه، ثم مرَّ به من قابل فإذا هو لا يعذب، فقال: يا رب مررت بهذا القبر عام أول فكان يعذب، ومررت به العام فإذا هو ليس يعذب؟ فأوحى الله إليه أنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه. ثم قال رسول الله (ص):ميراث الله عز وجل من عبده المؤمن ولدٌ يعبده من بعده، ثم تلا أبو عبد الله آية زكريا: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً. يَرِثُنِ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً).
مناظرة الإمام الرضا (ع) في نفي ألوهية عيسى (ع):
في عيون أخبار الرضا (ع) (2/139) بسنده: (لما قدم علي بن موسى الرضا (ع) على المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق (رئيس الأساقفة) ورأس الجالوت (عالم اليهود) ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر (خادم نار المجوس) وأصحاب زردهشت (زرادشت) ونسطاس الرومي (عالم طب) والمتكلمين (تشمل الفلاسفة) ليسمع كلامه وكلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم المأمون باجتماعهم فقال: أدخلهم عليَّ ففعل، فرحب بهم المأمون ثم قال لهم: إني إنما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم عليَّ، فإذا كان بكرةً فاغدوا ولا يتخلف منكم أحد، فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، نحن مبكرون إن شاء الله. قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا (ع) إذ دخل علينا ياسر الخادم (خادم برتبة وزير) وكان يتولى أمر أبي الحسن (ع) فقال له: يا سيدي إن أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول: فداك أخوك إنه جُمع اليَّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل، فرأيك في البكور إلينا إن أحببت كلامهم، وإن كرهت ذلك فلا تتجشم، وإن أحببت أن نصير إليك خف ذلك علينا. فقال أبو الحسن: أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك بكرةً إن شاء الله.
قال الحسن بن النوفلي: فلما مضى ياسر التفت إلينا ثم قال لي: يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة، فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟! فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك؟ ولقد بني على أساس غير وثيق البنيان، وبئس والله ما بنى!
فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب الكلام والبدعة خلاف العلماء، وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، إن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا صحح وحدانيته! وإن قلت إن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله قالوا أثبت رسالته! ثم يباهتونه وهو يبطل عليهم بحجته، ويغالطونه حتى يترك قوله! فاحذرهم جعلت فداك. قال فتبسم ثم قال لي: يا نوفلي أفتخاف أن يقطعوا عليَّ حجتي؟! فقلت: لا والله ما خفت عليك قط، وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله تعالى. فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت: نعم. قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم، وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم! فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته، وترك مقالته ورجع إلى قولي، علم المأمون الموضع الذي هو سبيله ليس بمستحق له! فعندها تكون الندامة، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
فلما أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك إن ابن عمك ينتظرك وقد اجتمع القوم، فما رأيك في إتيانه؟ فقال له الرضا (ع): تقدمني فإني صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله. ثم توضأ وضوء للصلاة، وشرب شربه سويق وسقانا منه، ثم خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون، وإذا المجلس غاص بأهله: محمد بن جعفر وجماعة من الطالبيين والهاشميين، والقواد حضور، فلما دخل الرضا (ع) قام المأمون وقام محمد بن جعفر وجميع بني هاشم، فما زالوا وقوفاً والرضا جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدثه ساعة.
ثم التفت إلى الجاثليق فقال يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا، وابن علي بن طالب صلوات الله عليهم، فأحب أن تكلمه أو تحاجه وتنصفه. فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلاً يحتج على بكتاب أنا منكره، ونبي لا أؤمن به؟ فقال له الرضا (ع): يا نصراني فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقر به؟
قال الجاثليق: وهل أقدر على رفع ما نطق الإنجيل؟ نعم والله أقرُّ به على رغم أنفي. فقال له الرضا (ع): سل عما بدا لك واسمع الجواب.
فقال الجاثليق: ما تقول في نبوة عيسى وكتابه، هل تنكر منهما شيئاً؟ قال الرضا (ع): أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته، وأقرت به الحواريون وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد (ص) وبكتابه، ولم يبشر به أمته.
قال الجاثليق: أليس إنما نقطع الأحكام بشاهدي عدل؟ قال (ع): بلى.
قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد (ص) ممن لا تنكره النصرانية، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.
قال الرضا (ع): الآن جئت بالنصفة يا نصراني، ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح عيسى بن مريم (ع)؟ قال الجاثليق: ومن هذا العدل؟ سمه لي. قال (ع): ما تقول في يوحنا الديلمي؟ قال: بخ بخ، ذكرت أحب الناس إلى المسيح. قال: فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال: إنما المسيح أخبرني بدين محمد العربي، وبشرني به أنه يكون من بعده، فبشرت به الحواريين فآمنوا به.
قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشر بنبوة رجل، وبأهل بيته ووصيه، ولم يلخص متى يكون ذلك، ولم يسم لنا القوم فنعرفهم.
قال الرضا (ع): فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟ قال: سديداً. قال الرضا (ع): لنسطاس الرومي كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟ قال: ما أحفظني له. ثم التفت (ع) إلى رأس الجالوت فقال: ألست تقرأ الإنجيل؟ قال: بلى لعمري. قال: فخذ عليَّ السفر، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته وأمته فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي! ثم قرأ (ع) السفر الثالث حتى بلغ ذكر النبي (ص) وقف ثم قال: يا نصراني إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟ قال: نعم. ثم تلا (ع) علينا ذكر محمد وأهل بيته وأمته، ثم قال: ما تقول يا نصراني هذا قول عيسى مريم (ع)؟
فإن كذبت بما ينطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى (ع)! ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك القتل لأنك تكون قد كفرت بربك ونبيك وبكتابك!
قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل، وإني لمقر به.
قال الرضا (ع): إشهدوا على إقراره. ثم قال (ع): يا جاثليق سل عما بدا لك؟
قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى بن مريم (ع) كم كان عدتهم؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟
قال الرضا (ع): على الخبير سقطت، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلاً، وكان أعلمهم وأفضلهم ألوقا، وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنا الأكبر بأج (قيل موضع بالبصرة) ويوحنا بقرقيسيا (بلد على الفرات بسوريا) ويوحنا الديلمي برجاز (رجاز واد بنجد) وعنده كان ذكر النبي (ص) وذكر أهل بيته وأمته، وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به، ثم قال له: يا نصراني والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد (ص) وما ننقم على عيساكم شيئاً إلا ضعفه وقلة صيامه وصلاته!
قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعفت أمرك! وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الاسلام! قال الرضا (ع): وكيف ذاك؟ قال الجاثليق: من قولك إن عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قط، ولا نام بليل قط، وما زال صائم الدهر، وقائم الليل!
قال الرضا (ع): فلمن كان يصوم ويصلي؟! قال: فخرس الجاثليق وانقطع!
قال الرضا (ع): يا نصراني أسألك عن مسألة.
قال: سل، فإن كان عندي علمها أجبتك.
قال الرضا (ع): ما أنكرت أن عيسى (ع) كان يحيي الموتى بإذن الله عز وجل؟
قال الجاثليق: أنكرت ذلك من أجل أن من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو رب مستحق لأن يعبد.
قال الرضا (ع): فإن اليسع قد صنع مثل صنع عيسى (ع) مشى على الماء وأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم تتخذه أمته رباً ولم يعبده أحد من دون الله عز وجل! ولقد صنع حزقيل النبي (ع) مثل ما صنع عيسى بن مريم، فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة!
ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة، اختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس، ثم انصرف بهم إلى بابل، فأرسله الله عز وجل إليهم فأحياهم! هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكم! قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه. قال: صدقت.
ثم قال: يا يهودي، خذ عليَّ هذا السفر من التوراة. فتلا (ع) علينا من التوراة آيات، فأقبل اليهودي يترجج لقرائته ويتعجب! ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟ قال: بل كانوا قبله.
فقال الرضا (ع): لقد اجتمعت قريش على رسول الله (ص) فسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجه معهم علي بن أبي طالب (ع) فقال له: إذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك: يا فلان ويا فلان ويا فلان، يقول لكم محمد رسول الله: قوموا بإذن الله عز وجل، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم! فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم، ثم خبروهم أن محمداً بعث نبياً، فقالوا: وددنا أنا أدركناه فنؤمن به! ولقد أبرأ الأكمه والأبرص والمجانين، وكلمه البهايم والطير والجن والشياطين، ولم نتخذه رباً من دون الله عز وجل، ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم، فمتى اتخذتم عيسى رباً جاز لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل رباً، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم (ع) من إحياء الموتى وغيره. وإن قوماً من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت فأماتهم الله في ساعة واحدة، فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة، فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميماً، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم، ومن كثرة العظام البالية، فأوحى الله عز وجل إليه: أتحب أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا رب، فأوحى الله عز وجل إليه: أن ناداهم، فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عز وجل، فقاموا أحياء أجمعون، ينفضون التراب عن رؤوسهم!
ثم إبراهيم خليل الرحمن (ع) حين أخذ الطير فقطعهن قطعاً، ثم وضع على كل جبل منهن جزءً، ثم ناداهن فأقبلن سعياً إليه.
ثم موسى بن عمران (ع) وأصحابه السبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنك قد رأيت الله سبحانه فأرناه، فقال لهم إني لم أره فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيداً فقال: يا رب اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم، وأرجع وحدي فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به؟! فـ(لو شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)، فأحياهم الله عز وجل من بعد موتهم.
وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه، لأن التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به. فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يُتخذ رباً من دون الله، فاتخذ هؤلاء كلهم أرباباً! ما تقول يا يهودي؟!
فقال الجاثليق: القول قولك، ولا إله إلا الله. ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال: يا يهودي أقبل عليَّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران (ع) هل تجد في التوراة مكتوباً بنبأ محمد (ص) وأمته: إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبحون الرب جداً جداً، تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد، فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم، لتطمئن قلوبهم، فإن بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض!
أهكذا هو في التوراة مكتوب؟ قال رأس الجالوت: نعم إنا لنجده كذلك.
ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا (ع)؟
قال: أعرفه حرفاً حرفاً. قال لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر! فقالا: قد قال ذلك شعيا (ع). قال الرضا (ع): يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول عيسى (ع): إني ذاهب إلى ربكم وربي والبارقليطا جاءٍ هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت، وهو الذي يفسر لكم كل شيء، وهو الذي يبدأ فضائح الأمم وهو الذي يكسر عمود الكفر!
فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئاً من الإنجيل إلا ونحن مقرون به.
فقال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتاً يا جاثليق؟ قال: نعم.
قال الرضا (ع): يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأول حين افتقدتموه عند من وجدتموه؟ ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟
فقال له: ما افتقدنا الإنجيل إلا يوماً واحداً حتى وجدناه غضاً طرياً فأخرجه الينا يوحنا ومتى.
فقال له الرضا (ع): ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه؟! فإن كان هذا كما تزعم، فلم اختلفتم في الإنجيل وإنما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أياديكم اليوم، فلو كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه، ولكني مفيدك علم ذلك: إعلم أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى بن مريم (ع) وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم؟ فقال لهم ألوقا ومرقابوس: إن الإنجيل في صدورنا ونحن نخرجه إليكم سفراً سفراً في كل أحد، فلا تحزنوا عليه ولا تخلوا الكنائس، فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفراً سفراً، حتى نجمعه كله. فقعد ألوقا ومرقابوس ويوحنا ومتى فوضعوا لكم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأول، وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأولين! أعلمت ذلك؟ فقال الجاثليق: أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن، وبان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء مما علمته شهد قلبي أنها حق، فاستزدت كثيراً من الفهم.
فقال له الرضا (ع): فكيف شهادة هؤلاء عندك؟
قال: جائزة، هؤلاء علماء الإنجيل وكلما شهدوا به فهو حق.
قال الرضا (ع) للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن غيره: إشهدوا عليه، قالوا: قد شهدنا. ثم قال (ع) للجاثليق: بحق الإبن وأمه هل تعلم أن متى قال إن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب يهوذا بن خضرون، فقال مرقابوس في نسب عيسى مريم: إنه كلمة الله أحلها في جسد الآدمي فصارت إنساناً، وقال ألوقا: إن عيسى بن مريم (ع) وأمه كانا إنسانين من لحم ودم، فدخل فيها الروح القدس.
ثم إنك تقول من شهادة عيسى على نفسه: حقاً أقول لكم: يا معشر الحواريين إنه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها، إلا راكب البعير خاتم الأنبياء فإنه يصعد إلى السماء وينزل. فما تقول في هذا القول؟
قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره.
قال الرضا (ع): فما تقول في شهادة ألوقا ومرقابوس ومتى على عيسى، وما نسبوه إليه؟ قال الجاثليق: كذبوا على عيسى.
فقال: الرضا (ع): يا قوم أليس قد زكاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حق؟ فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين أحب أن تعفيني من أمر هؤلاء.
قال الرضا (ع): فإنا قد فعلنا. سل يا نصراني عما بدا لك؟
قال الجاثليق: ليسألك غيري فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك. فالتفت الرضا (ع) إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك؟
فقال: بل أسألك ولست أقبل منك حجه إلا من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود أو بما في صحف إبراهيم وموسى.
قال الرضا (ع): لا تقبل مني حجة إلا بما تنطق به التوراة على لسان موسى بن عمران، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم، والزبور على لسان داود.
فقال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوة محمد؟
قال الرضا (ع): شهد بنبوته موسى بن عمران، وعيسى بن مريم، وداود خليفة الله عز وجل في الأرض.
فقال له: ثَبِّتْ قول موسى بن عمران، فقال له الرضا (ع): هل تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم: إنه سيأتيكم نبي من إخوانكم فبه فصدقوا، ومنه فاسمعوا! فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل! إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والسبب الذي بينهما من قبل إبراهيم (ع)؟! فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه.
فقال له الرضا (ع): هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد (ص)؟
قال: لا. قال الرضا (ع): أو ليس قد صح هذا عندكم؟
قال: نعم، ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة.
فقال له الرضا (ع): هل تنكر أن التوراة تقول لكم: جاء النور من قبل طور سيناء، وأضاء لنا من جبل ساعير، واستعلن علينا من جبل فاران؟
قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات، وما أعرف تفسيرها!
قال الرضا (ع): أنا أخبرك به: أما قوله جاء النور من قبل طور سيناء، فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على جبل طور سيناء، وأما قوله: وأضاء لنا من جبل ساعير، فهو الجبل الذي أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم (ع). وأما قوله: واستعلن علينا جبل فاران، فذلك جبل من جبال مكة بينه وبينها يوم، وقال شعياء النبي (ع) فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة رأيت راكبين أضاءت لهم الأرض، أحدهما على حمار والآخر على جمل، فمن راكب الحمار، ومن راكب الجمل؟ قال رأس الجالوت: لا أعرفهما فخبرني بهما.
قال: أما راكب الحمار فعيسى (ع)، وأما راكب الجمل فمحمد (ص) أتنكر هذا من التوراة؟! قال: لا ما أنكره.
ثم قال الرضا (ع): هل تعرف حيقوق النبي (ع)؟ قال: نعم إني به لعارف.
قال (ع): فإنه قال: وكتابكم ينطق به جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البر، يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدس، يعني بالكتاب الفرقان! أتعرف هذا وتؤمن به؟
قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حبقوق النبي (ع) ولا ننكر قوله.
قال الرضا (ع): فقد قال داود في زبوره وأنت تقرؤه: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبياً أقام السنة بعد الفترة غير محمد (ص)؟!
قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكر، ولكن عنى بذلك عيسى وأيامه هي الفترة. قال له الرضا (ع): جهلت أن عيسى (ع) لم يخالف السنة وكان موافقاً لسنة التوراة، حتى رفعه الله إليه.
وفي الإنجيل مكتوب: إن ابن البرة ذاهب والبارقليطا جاءٍ من بعده، وهو الذي يحفظ الآصار ويفسر لكم شيء، ويشهد لي كما شهدت له.
أنا جئتكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل، أتؤمن بهذا في الإنجيل؟ قال: نعم. فقال له الرضا (ع):يا رأس الجالوت أسألك عن نبيك موسى بن عمران (ع). فقال: سل. قال: ما الحجة على أن موسى ثبتت نبوته؟
قال اليهودي: إنه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله.
قال له: مثل ماذا؟ قال: مثل فلق البحر وقلبه العصا حية تسعى، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين، وعلاماته لا يقدر الخلق على مثلها. قال له الرضا (ع): صدقت في أنه كانت حجته على نبوته أنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله. أفليس كل من ادعى أنه نبي ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟!
قال: لا، لأن موسى (ع) لم يكن له نظير لمكانه من ربه وقربه منه، ولا يجب علينا الإقرار بنبوة من ادعاها، حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به.
فقال الرضا (ع): فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى (ع) ولم يفلقوا البحر، ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشرة عيناً، ولم يخرجوا أيديهم مثل إخراج موسى يده بيضاء، ولم يقلبوا العصا حية تسعى؟
قال اليهودي: قد خبرتك أنه متى ما جاؤوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله، ولو جاؤوا بما يجيء به موسى، أو كان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم.
قال له الرضا (ع): يا رأس الجالوت، فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم (ع) وقد كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله تعالى؟
قال رأس الجالوت: يقال إنه فعل ذلك ولم نشهده.
قال الرضا (ع): أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته؟ أليس إنما جاءت الأخبار من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك؟ قال: بلى.
قال: فكذلك أيضاً أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم (ع) فكيف صدقتم بموسى ولم تصدقوا بعيسى؟ فلم يَحِرْ جواباً.
قال الرضا (ع): وكذلك أمر محمد (ص) وما جاء به، وأمر كل نبي بعثه الله. ومن آياته أنه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً، لم يتعلم كتاباً ولم يختلف إلى معلم، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء (ع) وأخبارهم حرفاً حرفاً وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة، ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى. قال رأس الجالوت: لم يصح عندنا خبر عيسى ولا خبر محمد، ولا يجوز لنا أن نقر لهما بما لا يصح.
قال الرضا (ع): فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد (ص) شاهد زور؟
فلم يحر جواباً.
ثم دعا بالهربذ الأكبر، فقال له الرضا (ع): أخبرني عن زردهشت...).
وداع عيسى (ع) للحواريين الإثني عشر
وقد سماهم الله تعالى الحواريين أيضاً، ومعناه صباغي الثياب، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّه كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِينَ مَنْ أَنْصَارِى إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه).
وجاء في الكتاب المقدس/17: (وأما أسماء الاثني عشر رسولاً، فهي هذه: الأول سمعان الذي يقال له بطرس، وأندراوس أخوه. يعقوب بن زبدي، ويوحنا أخوه. فيلبس، وبرثولماوس. توما، ومتى العشار. يعقوب بن حلفى، ولباوس الملقب تداوس. سمعان القانوي، ويهوذا الإسخريوطي، الذي أسلمه).
وفي إنجيل مرقس/135: (وصعد الجبل ودعا الذين أرادهم فأقبلوا إليه، فأقام منهم اثني عشر لكي يصحبوه فيرسلهم يبشرون، ولهم سلطان يطردون به الشياطين. فأقام الإثني عشر: سمعان ولقبه بطرس، ويعقوب بن زبدي، ويوحنا أخو يعقوب ولقبهما بوانرجس، أي ابني الرعد، وأندراوس وفيلبس وبرتلماوس ومتى وتوما ويعقوب بن حلفي، وتداوس وسمعان الغيور، ويهوذا الإسخريوطي، ذاك الذي أسلمه).
وفي إنجيل لوقا/208: (لما طلع الصباح دعا تلاميذه فاختار منهم اثني عشر سماهم رسلاً، وهم: سمعان وسماه بطرس، وأندراوس أخوه، ويعقوب ويوحنا، وفيلبس وبرتلماوس، ومتى، وتوما، ويعقوب بن حلفي، وسمعان الذي يقال له الغيور، ويهوذا بن يعقوب، ويهوذا الإسخريوطي، الذي انقلب خائناً).
وفي الكتاب المقدس/332: (العشاء الأخير قبل عيد الفصح: كان يسوع يعلم بأن قد أتت ساعة انتقاله عن هذا العالم إلى أبيه، وكان قد أحب خاصته الذين في العالم، فبلغ به الحب لهم إلى أقصى حدوده في أثناء العشاء، وقد ألقى إبليس في قلب يهوذا بن سمعان الإسخريوطي أن يسلمه، وكان يسوع يعلم أن الآب جعل في يديه كل شيء، وأنه خرج من الله وإلى الله يمضي، فقام عن العشاء فخلع ثيابه وأخذ منديلاً فائتزر به، ثم صب ماء في مطهرة وأخذ يغسل أقدام التلاميذ، ويمسحها بالمنديل الذي ائتزر به. فجاء إلى سمعان بطرس فقال له: أأنت يا رب تغسل قدمي؟ أجابه يسوع: ما أنا فاعل، أنت لا تعرفه الآن ولكنك ستدركه بعد حين. قال له بطرس: لن تغسل قدمي أبداً. أجابه يسوع: إذا لم أغسلك فلا نصيب لك معي. فقال له سمعان بطرس: يا رب، لا قدمي فقط بل يدي ورأسي أيضاً. فقال له يسوع: من استحم لا يحتاج إلا إلى غسل قدميه فهو كله طاهر. وأنتم أيضاً أطهار ولكن لا كلكم. فقد كان يعرف من سيسلمه ولذلك قال: لستم كلكم أطهاراً. فلما غسل أقدامهم لبس ثيابه وعاد إلى المائدة فقال لهم: أتفهمون ما صنعت إليكم؟ أنتم تدعونني المعلم والرب وأصبتم فيما تقولون فهكذا أنا. فإذا كنت أنا الرب والمعلم قد غسلت أقدامكم، فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض. فقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا أنتم أيضاً ما صنعت إليكم.
الحق الحق أقول لكم: ما كان الخادم أعظم من سيده، ولا كان الرسول أعظم من مرسله. أما وقد علمتم هذا، فطوبى لكم إذا عملتم به.
لا أقول هذا فيكم جميعاً، فأنا أعرف الذين اخترتهم، ولكن لا بد أن يتم ما كتب: أن الآكل خبزي رفع علي عقبه. منذ الآن أكلمكم بالأمر قبل حدوثه حتى إذا حدث تؤمنون بأني أنا هو الحق.
الحق أقول لكم: من قبل الذي أرسله قبلني أنا ومن قبلني قبل الذي أرسلني. قال يسوع هذا فاضطربت نفسه فأعلن قال: الحق الحق أقول لكم: إن واحداً منكم سيسلمني. فنظر التلاميذ بعضهم إلى بعض حائرين لا يدرون على من يتكلم. وكان أحد تلاميذه وهو الذي أحبه يسوع، متكئاً إلى جانب يسوع، فأومأ له سمعان بطرس وقال له: سله على من يتكلم. فمال دون تكلف على صدر يسوع وقال له: يا رب، من هو؟ فأجاب يسوع: هو الذي أناوله اللقمة التي أغمسها. فغمس اللقمة ورفعها وناولها يهوذا بن سمعان الإسخريوطي. فما أن أخذ اللقمة حتى دخل فيه الشيطان. فقال له يسوع: إفعل ما أنت فاعل وعجل).
وفي تفسير القمي(1/103) عن الإمام الباقر (ع) قال: (إن عيسى (ع) وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه، فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلاً فأدخلهم بيتاً، ثم خرج عليهم من عين في زاوية البيت، وهو ينقض رأسه من الماء، فقال إن الله أوحى إليَّ انه رافعي إليه الساعة ومطهري من اليهود، فأيكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي، فقال شاب منهم: أنا يا روح الله. قال: فأنت هوذا. فقال لهم عيسى: أما إن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة! فقال له رجل منهم: أنا هو يا نبي الله؟ فقال عيسى: إن تحس بذلك في نفسك، فلتكن هو.
ثم قال لهم عيسى: أما إنكم ستفترقون بعدي على ثلاث فرق، فرقتين مفتريتين على الله في النار، وفرقة تتبع شمعون صادقة على الله في الجنة.
ثم رفع الله عيسى (ع) إليه من زاوية البيت، وهم ينظرون إليه.
ثم قال أبو جعفر: إن اليهود جاءت في طلب عيسى (ع) من ليلتهم فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى إن منكم لمن يكفر بي من قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، وأخذوا الشاب الذي ألقيَ عليه شبح عيسى، فقتل وصلب. وكفر الذي قال له عيسى: تكفر قبل أن تصبح اثنتي عشرة كفرة).
وقال اليعقوبي (1/68): (كان الحواريون اثني عشر من أسباط يعقوب وهم: شمعون بن كنعان من سبط. ويعقوب بن زبدي. ويحيى بن حابر بن فالي من سبط زبلون، وفيلفوس من سبط أشر، ومتى من سبط أشجر بن يعقوب، وسمعي من سبط هرام بن يعقوب، ويهودا من سبط يهوذا بن يعقوب، ويعقوب من سبط يوسف بن يعقوب، ومنشي من سبط روبيل بن يعقوب. وكان دون هؤلاء سبعون رجلاً، وكان الأربعة الذين كتبوا الإنجيل: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، اثنان من هؤلاء الإثني عشر، واثنان من غيرهم).
نزوله من السماء في آخر الزمان!
في عيون أخبار الرضا (ع) (2/56) عن النبي (ص) قال: (أبشروا، ثم أبشروا، ثلاث مرات. إنما مثل أمتي كمثل غيث لا يدرى أوله خير أم آخره؟ إنما مثل أمتي كمثل حديقة أطعم منها فوج عاماً، ثم أطعم منها فوج عاماً، لعل آخرها فوجٌ يكون أعرضها بحراً وأعمقها طولاً وفرعاً، وأحسنها حَبّاً. وكيف تهلك أمة أنا أولها، واثنا عشر من بعدي من السعداء وأولوا الألباب وسطها، والمسيح عيسى بن مريم آخرها! ولكن يهلك من بين ذلك نَتَجُ الهرَج، ليسوا مني ولست منهم).
وفي كمال الدين/280: (عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله (ص): إن خلفائي وأوصيائي، وحجج الله على الخلق بعدي اثنا عشر: أولهم أخي وآخرهم ولدي، قيل: يا رسول الله ومن أخوك؟ قال: علي بن أبي طالب، قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، والذي بعثني بالحق نبياً لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه، وتشرق الأرض بنوره، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب).
وفي غيبة النعماني/146: (ومن نسل عليٍّ القائم المهدي الذي يبدل الأرض غير الأرض، وبه يحتج عيسى بن مريم (ع) على نصارى الروم والصين. إن القائم المهدي من نسل علي أشبه الناس بعيسى بن مريم خلقاً وخلقاً وسمتاً وهيبة).
وفي سعد السعود/191: (إن الحرب تضع أوزارها عند نزول عيسى (ع)).
حواريو عيسى وأوصياؤه (ع)
في قصص الأنبياء (ع) للراوندي/267: (عن أبي عبد الله (ع) قال: كان بين داود وعيسى (ع) أربع مائة سنة وثمانون سنة، وأنزل على عيسى في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود، ليس فيها قصاص ولا أحكام حدود، ولا فرض مواريث، وأنزل عليه تخفيف ما كان نزل على موسى (ع) في التوراة، وهو قوله تعالى حكاية عن عيسى إنه قال لبني إسرائيل: وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. وأمر عيسى من معه ممن تبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة وشرائع جميع النبيين والإنجيل، قال: ومكث عيسى (ع) حتى بلغ سبع سنين أو ثمانياً، فجعل يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، فأقام بين أظهرهم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويعلمهم التوراة، وأنزل الله عليه الإنجيل لما أراد أن يتخذ عليهم حجة.
وكان يبعث إلى الروم رجلاً لا يداوي أحداً إلا برئ من مرضه، ويبرئ الأكمه والأبرص، حتى ذكر ذلك لملكهم فأدخل عليه فقال: أتبرئ الأكمه والأبرص؟ قال: نعم، قال: أتيَ بغلام منخسف الحدقة لم ير شيئاً قط، فأخذ بندقتين فبندقهما، ثم جعلهما في عينيه ودعا فإذا هو بصير، فأقعده الملك معه وقال: كن معي ولا تخرج من مصري، فأنزله معه بأفضل المنازل.
ثم إن المسيح (ع) بعث آخر وعلمه ما به يحيي الموتى، فدخل الروم وقال: أنا أعلم من طبيب الملك؟ فقالوا للملك ذلك، قال: أقتلوه، فقال الطبيب: لا تفعله أدخله فإن عرفت خطأه قتلته ولك الحجة، فأدخل عليه فقال: أنا أحيي الموتى، فركب الملك والناس إلى قبر ابن الملك، وكان قد مات في تلك الأيام، فدعا رسول المسيح وأمَّن طبيب الملك الذي هو رسول المسيح أيضاً الأول، فانشق القبر فخرج ابن الملك، ثم جاء يمشي حتى جلس في حجر أبيه، فقال: يا بني من أحياك؟ قال: فنظر فقال: هذا وهذا، فقاما فقالا: إنا رسول المسيح إليك، وإنك كنت لا تسمع من رسله، إنما تأمر بقتلهم إذا أتوك، فتابع وأعظموا أمر المسيح (ع)، حتى قال فيه أعداء الله ما قالوا، واليهود يكذبونه ويريدون قتله)!
لاحظ تعجب الإمام الصادق (ع) من كفر اليهود بعيسى ورسله (ع) وإيمان الروم!
قال الإمام الصادق (ع) (الكافي:1/37): (قال عيسى بن مريم (ع): يا معشر الحواريين لي إليكم حاجة إقضوها لي، قالوا: قضيت حاجتك يا روح الله، فقام فغسل أقدامهم فقالوا: كنا نحن أحق بهذا يا روح الله!
فقال: إن أحق الناس بالخدمة العالم، إنما تواضعت هكذا، لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم، ثم قال عيسى (ع): بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر، وكذلك في السهل ينبت الزرع لا في الجبل).
وفي الكافي (2/400) عن محمد بن مسلم الثقفي قال: (قلت: إنا لنرى الرجل له عبادة واجتهاد وخشوع ولا يقول بالحق، فهل ينفعه ذلك شيئاً؟ فقال (ع): يا أبا محمد إنما مثل أهل البيت مثل أهل بيت كانوا في بني إسرائيل، كان لا يجتهد أحد منهم أربعين ليلة إلا دعا فأجيب، وإن رجلاً منهم اجتهد أربعين ليلة، ثم دعا فلم يستجب له، فأتى عيسى بن مريم (ع) يشكو إليه ما هو فيه ويسأله الدعاء قال: فتطهر عيسى وصلى ثم دعا الله عز وجل، فأوحى الله عز وجل إليه: يا عيسى إن عبدي أتاني من غير الباب الذي أؤتى منه، إنه دعاني وفي قلبه لشك منك، فلو دعاني حتى ينقطع عنقه وتنتثر أنامله ما استجبت له، قال: فالتفت إليه عيسى (ع) فقال: تدعو ربك وأنت في شك من نبيه؟ فقال: يا روح الله وكلمته، قد كان والله ما قلت، فادع الله أن يذهب به عني، قال: فدعا له عيسى (ع)، فتاب الله عليه وقبل منه، وصار في حد أهل بيته).
وفي الكافي (2/306) (عن داود الرقي قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: إتقوا الله ولا يحسد بعضكم بعضاً، إن عيسى بن مريم كان من شرايعه السيح في البلاد، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير، وكان كثير اللزوم لعيسى (ع)، فلما انتهى عيسى إلى البحر قال: بسم الله، بصحة يقين منه فمشى على ظهر الماء، فقال الرجل القصير حين نظر إلى عيسى (ع) جازه: بسم الله بصحة يقين منه فمشى على الماء ولحق بعيسى (ع)، فدخله العُجب بنفسه، فقال: هذا عيسى روح الله يمشي على الماء، وأنا أمشي على الماء، فما فضله عليَّ؟ قال: فرمس في الماء، فاستغاث بعيسى فتناوله من الماء فأخرجه ثم قال له: ما قلت يا قصير؟ قال قلت: هذا روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء، فدخلني من ذلك عجب، فقال له عيسى: لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله فيه، فمقتك الله على ما قلت، فتب إلى الله عز وجل مما قلت، قال: فتاب الرجل وعاد إلى مرتبته التي وضعه الله فيها، فاتقوا الله ولا يحسدن بعضكم بعضاً)!
في معاني الأخبار/372: (عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): لما أنزل الله تبارك وتعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. والله لقد خرج آدم (ع) من الدنيا وقد عاهد قومه على الوفاء لولده شيث، فما وُفِيَ له! ولقد خرج نوح (ع) من الدنيا وعاهد قومه على الوفاء لوصيه سام، فما وفت أمته! ولقد خرج إبراهيم (ع) من الدنيا وعاهد قومه على الوفاء لوصيه إسماعيل (ع)، فما وفت أمته! ولقد خرج موسى (ع) من الدنيا وعاهد قومه على الوفاء لوصيه يوشع بن نون فما وفت أمته! ولقد رفع عيسى بن مريم (ع) إلى السماء وقد عاهد قومه على الوفاء لوصيه شمعون بن حمون الصفا (ع) فما وفت أمته!
وإني مفارقكم عن قريب وخارج من بين أظهركم، وقد عهدت إلى أمتي في علي بن أبي طالب، وإنها لراكبة سنن من قبلها من الأمم في مخالفة وصيي وعصيانه! ألا وإني مجدد عليكم عهدي في علي: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيماً).
وفي كمال الدين/664: (عن أبي عبد الله (ع) قال: الذي تناهت إليه وصية عيسى بن مريم (ع) رجل يقال له: آبي).

الفصل الثالث: زكريا ويحيى (ع)

معنى زكريا ويحيى
معنى زكر بالعبرية: ذَكَرَ. وبالعربية: امتلأ، ومنه: (الزُّكْرَة بالضم: زقيق للشراب. وتزكَّر بطن الصبي: امتلأ. وزكريا فيه ثلاث لغات: المد والقصر وحذف الألف). (الصحاح: 2/671).
ومعنى زكريا في العبرية: ذاكر الله تعالى. قال في قاموس الكتاب المقدس/427، ملخصاً: (زكريا: إسم عبري معناه: يهوه (الله) قد زكر، وقد تسمى بهذا الإسم اثنان وثلاثون شخصاً في الكتاب المقدس.. أبو يوحنا المعمدان كاهن من فرقة أبيا. وقد ذكرت صفاته وصفات امرأته بأبسط العبارات وأتمها وضوحاً، وكانا كلاهما ورعين بارين، سالكين في جميع وصايا الرب، وباذلين وسعهما ليحصلا على نعمة الروح القدس. أما مولد يوحنا فأعلن له بطريقة عجيبة خارقة للعادة، فلم يصدق بل شك، وطلب علامة غير اعتيادية دفعاً لما في نفسه من الريبة، فكانت آيته أن فقد قوة النطق وبقي صامتاً إلى اليوم الثامن بعد ميلاد الصبي، إذ دعاه يوحنا، وفي الحال انطلق لسانه وعاودته قوة النطق فأخذ يشكر الله ويحمده، مملوءً من الروح، ومسبحاً الرب بنشيد أشبه بالتسابيح العبرانية القديمة.
سفر زكريا: هو السفر الحادي عشر بين مجموعة الأسفار التي تسمى بالأنبياء الصغار، والرأي السائد هو أن هذا السفر كتب في العصر الفارسي، أثناء حكم داريوس الأول أو حوالي عام520 ق.م.).
ومعنى يحيى: يعيش ويمتلئ حياةً وحيويةً. قال الخليل (3/317): (والحياة كتبت بالواو ليعلم أن الواو بعد الياء، ويقال: بل كتبت على لغة من يفخم الألف التي مرجعها إلى الواو، نحو الصلاة والزكاة.. والحيوان: كل ذي روح.. والحيا: ما تحيا به الأرض من الغيث. والحياء ممدود: من الاستحياء.
والمُحَيَّا: الوجه، وقول العرب: حياك الله: يعني الاستقبال بالمحيا.. وتقول: حياك الله وبياك، أي: أفرحك وأضحكك. وقول المصلي في التشهد: التحيات لله، معناه: البقاء لله، ويقال: الملك لله).
وقد سموا يحيى بالعبرية: يوحنا، وهو مركب من يهو حنن، أي حَنَّ الله. وعبر عنه الله تعالى بقوله: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا). ومعناه جعلناه حنوناً وأعطيناه حناناً، وهذا من حنان الله تعالى.
وقوله تعالى: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا). أي احتفظ له بهذا الإسم، ولآخرَ يكون بعده وهو الحسين (ع)، كما ورد في الرواية.
معجزة ولادة يحيى من أبويه المسنيْن!
قال الله تعالى: (كَهَيَعص. ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً. قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِي مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا. يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا. فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَوةً وَكَانَ تَقِيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا. وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا).
ويسمى عند المسيحية يوحنا، وقد اشتهرت بهذا الإسم شخصيتان: يوحنا بن زبدي كاتب الإنجيل، ويعرف بيوحنا الإنجيلي. ويوحنا بن زكريا، ويعرف بيوحنا المعمداني، لأنه كان يُعَمِّد الناس، أي يعلمهم غسل التوبة والتطهر، وقد عَمَّدَ المسيح (ع) في نهر الأردن، أو في بحيرة طبرية.
وفي روايات الشيعة والسنة تفاوتٌ واختلافٌ في تسلسل حياة أنبياء الله زكريا ويحيى وعيسى وشمعون الصفا (ع)، وكيف تسلسلت الوصية فيهم؟ فقد رويَ أن يحيى (ع) استشهد هو وأبوه زكريا، في حياة عيسى (ع)، لكن القرآن ينص على أن يحيى ورث أباه (ع) وروينا أن عيسى أوصى الى شمعون الصفا، وأوصى شمعون الى يحيى، ثم أوصى يحيى الى المنذر بن شمعون الصفا (ع).
وقيل إن يحيى قتل في حياة أبيه ولم يرثه، لأن زكريا طلب أن يفجع بولده ليواسي نبينا (ص) لبفجيعته بولده الحسين (ع). ورويت مقابلها صور أخرى!
وقد أشار السيد الأمين في أعيان الشيعة (2/594) الى هذا التفاوت ولم يبحثه، وبحثه المحقق البحراني (قدس سره) في الدرر النجفية (3/379) فأورد جواب الشيخ أحمد بن عبد السلام البحراني (رحمه الله) على مجيء عيسى الى قبر يحيى (ع) وقال إنه وقع بعد صعود عيسى (ع) الى السماء. ثم صحح المحقق البحراني (قدس سره) حديث الكافي في وصية زكريا الى يحيى (ع). لكنه مع ذلك قوَّى رواية أن يحيى قتل في حياة أبيه، لأنه طلب من الله تعالى أن يفجعه به. فما هو المعتمد في ذلك؟
رأي المصادر المسيحية
ذكرت المصادر المسيحية أن يحيى قُتل في حياة عيسى، ثم قتل أبوه زكريا (ع)، ولا تجد تاريخاً مقنعاً للوقت الذي قتل فيه (ع) مع أن قاتل يحيى معروف وهو هيرودس أنتيباس، فهل قتله في أول حكمه لفلسطين، أو في آخره؟
ففي إنجيل متى (14: 1-12): (ذلك بأن هيرودس كان قد أمسك يوحنا، فأوثقه ووضعه في السجن من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلبس، لأن يوحنا كان يقول له: إنها لاتحل لك، وأراد أن يقتله فخاف الشعب لأنهم كانوا يعدونه نبياً. ولما احتفل هيرودس بذكرى مولده، رقصت ابنة هيروديا في الحفل، فأعجبت هيرودس، فوعدها مؤكداً وعده بيمين أن يعطيها أي شيء تطلبه. فلقنتها أمها فقالت: أعطني هاهنا على طبق رأس يوحنا المعمدان! فاغتم الملك، ولكنه أمر بإعطائها إياه من أجل إيمانه ومراعاةً لجلسائه.
وأرسل فقطع رأس يوحنا في السجن، وأتي بالرأس على طبق فدفع إلى الصبية، فحملته إلى أمها! وأتى تلاميذ يوحنا فحملوا الجثمان ودفنوه، ثم ذهبوا فأخبروا يسوع).
(فالمعمدان هو السابق ليسوع في ولادته ورسالته وحياته وموته. وما حدث للمعمدان سوف يحدث ليسوع. ويبدو أن يسوع يرى كما في مرآة مصيره في حياة يوحنا المعمدان. ففي (4: 12) وبعد أن وُضع يوحنا في السجن اعتزل يسوع، وهنا حين عرف بموت يوحنا المعمدان اعتزل أيضاً: لم تأت ساعته بعد، فهو ينتظر الوقت التي فيها يواجه الآلام التي تنتظره، وستكون مناسبات أخرى فيها يهرب يسوع. في (15: 21) ذهب إلى منطقة صور وصيدا، وفي هذا الخط نجد الوضع ذاته في انجيل يوحنا (8: 59؛ 11: 54)، مات يوحنا ولكن تلاميذه ظلوا أمناء له، وسوف نراهم في سفر الأعمال (19: 1-7).
(http://www.boulosfeghali.org/home/index.php?option=com_content&view)

ثم ذكرت المصادر المسيحية أن الناس نقموا على هيرودس، وأن الأمبراطور غضب عليه، لكن ليس لقتله يحيى (ع) بل لأنه طمع بولاية العهد!
(خبر قطع رأس القديس النبي يوحنا المعمدان ورد في الأناجيل الثلاثة الأولى متى (14: 1– 12) ومرقس (6: 14– 29) ولوقا (9: 7– 9).
الآمر بقطع رأسه كان هيرودوس أنتيباس، رئيس الربع، القَيِّم على الجليل والبيريا، وهو ابن هيرودوس الكبير. حكم كملِك ما بين العامَين:4 ق.م و39 ب.م. وفي التعليقات على قطع رأس المعمدان أيضاً ما أورده القديس غريغوريوس بالاماس في شأن سماع هيرودوس ليوحنا بسرور. قال: ما كان يقوله مرقس إن هيرودوس كان يسمع ليوحنا معناه هو التالي: في الأدوية يحصل ما يناقض التعاليم الروحية، نشعر بمرارة الدواء لكننا نتناوله بداعي فائدته. أما فيما يتعلق بالتعاليم الروحية فهي عذبة ولكن الذين يشتعلون بالرغبات الشريرة لا يتقبّلونها بسبب عداوتها لهم.
ربما كان هيرودوس يسمع له في البداية (مر 6: 20) لكنه كره التوبيخ فنسي النصائح الأولية واتفق مع هيروديا من أجل القتل...
يُذكر أن قطع رأس القديس يوحنا المعمدان كان في قلعة ماخاروس(مكاور) بقرب البحر الميت من الجانب الأردني، وأن هيرودوس الملك جرى نفيه إلى ليون في فرنسا سنة 39 م. وإلى هناك تبعته هيروديا. كما يُشار إلى أن عيد قطع رأس القديس يوحنا المعمدان جرى الاحتفال به أول الأمر في القسطنطينية وبلاد الغال فرنسا، ثم انتقل إلى رومية. وهو يوم صوم بخلاف سائر الأعياد في الاحتفال بعيده اليوم تُرتل الكنيسة الأرثوذكسية فيما ترتّل: إن قطع رأس السابق المجيد صار بتدبير إلهي، ليَكرز للذين في الجحيم بمجيء المخلِّص).
http://www.kaldaya.net/2008/Articles/400/448_Aug29_08_JohnTheBaptist.html
قال في قاموس الكتاب المقدس/1011: (هيرودس أنتيباس: هو الإبن الثاني لهيرودوس الكبير من زوجته الرابعة السامرية ملثاكي، لذلك فإن نصفه أدومي ونصفه سامري. تثقف في روما ثم عاد وعين حاكماً على الجليل، بينما نال أخوه وراثة العرش فتنافس وإياه طويلاً. وفي هذه الأثناء حارب بعض أعدائه، وبنى عدة أماكن أشهرها مدينة طبريا. ولما جلس على العرش اتسعت مطالبه، حتى حملته امرأته على الذهاب إلى روما ليطلب أن يمنح لقب ملك. وهناك غضب عليه الأمبراطور كاليجولا ونفاه إلى ليون، ثم إلى إسبانيا.
وأنباء هيرودس انتيباس ليست قليلة في الكتاب المقدس، فهو الذي تزوج بامرأة أخيه هيروديا، ونال توبيخ يوحنا المعمدان حتى قطع رأسه وقدمه هدية لسالومه ابنة هيروديا (مر 6: 16- 28) وكان هيرودس واحداً من القضاة الذين مثل يسوع أمامهم، وأخذ يجادل يسوع ويسأله (لو23: 7-12 واع 4: 27). وذكر في الكتاب أن هيرودس ظن أن يوحنا قد قام من الأموات (مر 6: 16) وهو الذي سماه يسوع ثعلباً(لو 13: 32) وكان زمن ملكه من4 ق.م. إلى 39 م.).
الرأي الصحيح
الصحيح أن يحيى كان حياً بعد بطرس (ع) لأنه كان وصيه، ثم أوصى الى المنذر بن بطرس. لهذا لا يصح أن يكون هيرودس حاكماً إلا بعد الستين ميلادية. فقوله تعالى: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِي مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا. يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً). نصٌّ على طلب زكريا أن يرثه يحيى، وقد استجاب الله له، فلا بد أن يكون ورثه يحيى (ع) ومات بعده لا قبله. وقد شرح ذلك الإمام الباقر (ع) في الحديث الصحيح عن يزيد الكناسي قال: (سألت أبا جعفر (ع) أكان عيسى بن مريم (ع) حين تكلم في المهد حجةً لله على أهل زمانه؟ فقال: كان يومئذ نبياً حجة لله غير مرسل، أما تسمع لقوله حين قال: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا). قلت: فكان يومئذ حجة لله على زكريا في تلك الحال وهو في المهد؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آيةً للناس ورحمةً من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها، وكان نبياً حجة على من سمع كلامه في تلك الحال، ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان، وكان زكريا الحجة لله عز وجل على الناس بعد صمت عيسى بسنتين. ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير، أما تسمع لقوله عز وجل: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً). فلما بلغ عيسى (ع) سبع سنين تكلم بالنبوة والرسالة حين أوحى الله تعالى إليه فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين، وليس تبقى الأرض يا أبا خالد يوماً واحداً بغير حجة لله على الناس، منذ يوم خلق الله آدم (ع) وأسكنه الأرض. فقلت: جعلت فداك أكان علي (ع) حجة من الله ورسوله على هذه الأمة في حياة رسول الله (ص)؟ فقال: نعم يوم أقامه للناس ونصبه علماً، ودعاهم إلى ولايته وأمرهم بطاعته. قلت: وكانت طاعة علي (ع) واجبة على الناس في حياة رسول الله (ص) وبعد وفاته؟ فقال: نعم، ولكنه صمت فلم يتكلم مع رسول الله (ص) وكانت الطاعة لرسول الله على أمته وعلى علي (ع) في حياة رسول الله (ص)،وكانت الطاعة من الله ومن رسوله على الناس كلهم لعلي (ع) بعد وفاة رسول الله (ص) وكان علي (ع) حكيما عالماً).(الكافي:1/382).
وعليه، فقد استشهد زكريا في حياة عيسى (ع)، فورثه ابنه يحيى (ع) وآتاه الله الحكم صبياً. فلما بلغ عيسى (ع) سبع سنين أرسله الله وأنهى رسالة يحيى (ع)، فصار تابعاً لعيسى يدعو الى الإيمان به وطاعته، وكان عمله في منطقة بحيرة طبرية كما يظهر، لأنه دعا شمعون الصفا وإخوته الى طاعة المسيح فآمنوا به، ثم صار شمعون وصيه.
ويؤيد ذلك احتجاج الزهراء (س) على أبي بكر، كما في الاختصاص/183، عن الإمام الصادق (ع)، بسند صحيح، قال: (لما قبض رسول الله (ص) وجلس أبو بكر مجلسه بعث إلى وكيل فاطمة صلوات الله عليها فأخرجه من فدك، فأتته فاطمة (س) فقالت: يا أبا بكر ادعيت أنك خليفة أبي وجلست مجلسه، وإنك بعثت إلى وكيلي فأخرجته من فدك، وقد تعلم أن رسول الله (ص) صدَّق بها عليَّ، وأن لي بذلك شهوداً، فقال لها: إن النبي لا يورث! فرجعت إلى علي (ع) فأخبرته فقال: إرجعي إليه وقولي له: زعمت أن النبي (ص) لا يورث وورث سليمان داود، وورث يحيى زكريا، وكيف لا أرث أنا أبي؟
فقال عمر: أنت معلَّمة! قالت: وإن كنت معلمة، فإنما علمني ابن عمي وبعلي، فقال أبو بكر: فإن عائشة تشهد وعمر أنهما سمعا رسول الله وهو يقول إن النبي لا يورث، فقالت: هذه أول شهادة زور شهدا بها في الإسلام)!
فهذا نصٌّ على أن يحيى ورث زكريا (ع).
وفي بصائر الدرجات/158: (دخلت على أبي الحسن الرضا (ع) وقد ولد له أبو جعفر (ع) فقال: إن الله قد وهب لي من يرثني ويرث آل داود).
فقد استشهد بالآية التي فيها وراثة يحيى لزكريا (ع).
ويظهر أن يحيى (ع) كان يتحرك في فلسطين وغيرها، لأنه عَرَّفَ شمعون الصفا وإخوته وغيرهم للمسيح (ع) وهم من طبرية وكفرناحوم، ثم حبس في قلعة هناك.
وفي قاموس الكتاب المقدس/832: (ماكيروس: لم تذكر في الكتاب المقدس إلا أن يوسيفوس يذكر أنها الموضع الذي فيه قطع رأس يوحنا المعمدان. وهي قلعة عند المكور، شرقي البحر الميت (مر 6: 21 - 29).

ويظهر أن الصابئة المندائيين أتباع يحيى (ع) يعتبرون أنه كان يعيش على ضفاف طبرية أو نهر الأردن، لأنهم لا يعيشون إلا على ضفاف المياه.
كما يؤيد ما ذكرناه رواية تذكر أن قتل يحيى (ع) كان بعد قتل شمعون الصفا (ع) بثمان سنوات، ففي كمال الدين/226، من حديث النبي (ص): (فلما أراد أن يرفعه أوحى إليه أن يستودع نور الله وحكمته وعلم كتابه شمعون بن حمون الصفا خليفته على المؤمنين، ففعل ذلك، فلم يزل شمعون يقوم بأمر الله عز وجل ويحتذي بجميع مقال عيسى (ع) في قومه من بني إسرائيل ويجاهد الكفار، فمن أطاعه وآمن به وبما جاء به كان مؤمناً، ومن جحده وعصاه كان كافراً، حتى استخلص ربنا تبارك وتعالى وبعث في عباده نبياً من الصالحين، وهو يحيى بن زكريا (ع) ثم قبض شمعون، وملك عند ذلك أردشير بن بابكان أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وفي ثماني سنين من ملكه قتلت اليهود يحيى بن زكريا (ع)، فلما أراد الله عز وجل أن يقبضه أوحى إليه أن يجعل الوصية في ولد شمعون، ويأمر الحواريين وأصحاب عيسى بالقيام معه، ففعل ذلك وعندها ملك سابور بن أردشير ثلاثين سنة حتى قتله الله، وعِلْمُ الله ونوره وتفصيل حكمته في ذرية يعقوب بن شمعون، ومعه الحواريون من أصحاب عيسى (ع)، وعند ذلك ملك بختنصر مائة سنة وسبعاً وثمانين سنة، وقتل من اليهود سبعين ألف مقاتل على دم يحيى بن زكريا، وخَرَّبَ بيت المقدس، وتفرقت اليهود في البلدان).
وفي الرواية مبالغة في مدة حكم بختنصر أو خلل في نسخها، لذلك اعتبرناها مؤيداً، وقد نصت على أن يحيى كان وصي شمعون وأنه عاش بعده ثمان سنوات.
معنى مواساة زكريا للنبي (ص) في حزنه على الحسين (ع)
روى الصدوق في كمال الدين/461، في خبر سعد بن عبد الله الأشعري أنه قال للإمام المهدي (ع): (فأخبرني يا ابن رسول الله عن تأويل كهيعص؟ قال: هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبده زكريا، ثم قصها على محمد (ص) وذلك أن زكريا سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمداً وعلياً وفاطمة والحسن سُرِّيَ عنه همه وانجلى كربه، وإذا ذكر الحسين خنقته العبرة ووقعت عليه البَهْرة، فقال ذات يوم: يا إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعاً منهم تسليتُ بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تعالى عن قصته وقال: كهيعص فالكاف: إسم كربلاء، والهاء: هلاك العترة. والياء: يزيد وهو ظالم الحسين (ع). والعين: عطشه. والصاد: صبره. فلما سمع ذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام، ومنع فيها الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكانت ندبته: إلهي أتفجع خير خلقك بولده! إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه! إلهي أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة!، إلهي أتحل كربة هذه الفجيعة بساحتهما!
ثم كان يقول: اللهمَّ ارزقني ولداً تقرُّ به عيني عند الكبر واجعله وارثاً وصياً، واجعل محلَّه مني محل الحسين (ع)، فإذا رزقتنيه فافتنِّي بحبه، ثم افجعني به كما تفجع محمداً حبيبك بولده. فرزقه الله يحيى (ع) وفجعه به. وكان حمل يحيى ستة أشهر، وحمل الحسين (ع) كذلك).
فقد تقول: هذا يدل على أن يحيى قتل في حياة أبيه، وفجع به أبوه كما طلب!
لكن الصحيح أن الله تعالى فجعه بيحيى كما فجع نبينا (ص) بالحسين (ع)، بأن أخبره بمصيبته وما يجري عليه، كما أخبر نبينا (ص)، ثم توفي زكريا واستشهد قبل شهادة ابنه كنبينا (ص). فالمتعين القول بأن يحيى لم يستشهد في حياة المسيح (ع) بل بقي الى ما بعد قتل شمعون الصفا (ع) فأوصى له، ثم أوصى يحيى الى المنذر بن شمعون الصفا (ع) أو الى يعقوب كما ذكرت رواية أخرى، رواها الصدوق في كمال الدين/226، جاء فيها: (وعندها ملك سابور بن أردشير ثلاثين سنة حتى قتله الله وعِلْمُ الله ونوره وتفصيل حكمته في ذرية يعقوب بن شمعون ومعه الحواريون من أصحاب عيسى (ع)، وعند ذلك ملك بختنصر).
إن رواياتهم المتضاربة في قتل يحيى (ع) في حياة أبيه أو قبل رفع المسيح، لا تنهض معارضاً لحديث يزيد الكناسي الصحيح، بل لا تنهض لمعارضة الآية كما قال الإمام الباقر (ع) فلو قتل في حياة أبيه لم يصل اليه حكم ولا كتاب، ولما صحَّ قوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً).
ويؤيد ما ذكرنا ما رواه ابن خلدون (2ق2/145)، قال: (وفي الإسرائيليات من تأليف يعقوب بن يوسف النجار أن هيردوس قتل زكريا عندما جاء المجوس للبحث عن إيشوع والإنذار به، وأنه طلب ابنه يوحنا ليقتله مع من قتل من صبيان بيت لحم، فهربت به أمه إلى الشقراء واختفت، فطالب به أباه زكريا، وهو كهنون في الهيكل فقال: لا علم لي، هو مع أمه فتهدده وقتله، ثم قال بعد قتل زكريا بسنة يعقوب بن يوسف الكهنوتية، إلى أن مات هيردوس).
ومعناه أن الفرس المجوس جاؤوا ليخوفوا هيرودس من المسيح (ع) بعد سنتين من مولده، فقام بقتل صبيان بيت لحم، وهربت منه مريم بابنها المسيح (ع) كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ).
ورووا أن القرار والمعين دمشق، لكنها ليست قراراً لأنها تحت حكم الرومان ونفوذ اليهود، فلا بد من تفسيرها بالكوفة والفرات كما قال أهل البيت (ع)، لأنها تحت حكم البابليين خارج حكم الروم، ثم انتقلت به مريم (ع) إلى مصر وكانت خارجة عن حكم هيرودس. ثم لما تغيرت الظروف أمره الله تعالى بالعودة الى القدس.
وكذلك هربت أم يحيى بابنها الى الشقراء، وهي اسم قرية في الشام، وقرية في جبل عامل في الجليل كانت عامرة من قديم ونسب إليها الشاعر عدي بن الرقاع العاملي.
ومعناه أن أم يحيى اختبأت بابنها فقبضوا على أبيه زكريا وقتلوه، فكان يحيى وصيه وكان نبياً رسولاً وهو صبي (ع)، كما نص القرآن.
ثم أرسل الله عيسى في السابعة من عمره، وأمر يحيى بطاعته فأطاعه حتى رفعه الله فأوصى الى شمعون، ثم أوصى شمعون الى يحيى، فعادت اليه الرسالة (ع).
وقال ابن حزم في الفِصَل (1/191): (ولي ابن ابنها يواش بن أحزيا، هو وله سبع سنين، فاتصلت ولايته أربعين سنة، وأعلن الكفر وعبادة الأوثان، وقتل زكريا النبي (ع) بالحجارة).
ضعف خبر مجيء عيسى الى قبر يحيى (ع)
وأما خبر مجيء عيسى الى قبر يحيى (ع) الذي روته مصادر السنة، ورويناه في الكافي (3/260) (علي بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن علي بن الحكم، عن ربيع بن محمد، عن عبد الله بن سليم العامري، عن أبي عبد الله (الصادق (ع)) قال: (إن عيسى بن مريم جاء إلى قبر يحيى بن زكريا (ع) وكان سأل ربه أن يحييه له فدعاه فأجابه، وخرج إليه من القبر فقال له: ما تريد مني؟ فقال له: أريد أن تؤنسني كما كنت في الدنيا فقال له: يا عيسى ما سكنت عنى حرارة الموت وأنت تريد أن تعيدني إلى الدنيا وتعود علي حرارة الموت، فتركه فعاد إلى قبره).
فلا يمكن الأخذ به، ولو تم سنده فقد يكون فيه تصحيف ويكون أصله ما رواه القطب الراوندي في قصص الأنبياء/268، قال: (سألوا عيسى أن يحيى سام بن نوح (ع) فأتى إلى قبره فقال: قم يا سام بإذن الله، فانشق القبر ثم أعاد الكلام فتحرك، ثم أعاد الكلام فخرج سام فقال عيسى: أيهما أحب إليك تبقى أو تعود؟ قال: يا روح الله بل أعود، إني لأجد لذعة الموت في جوفي إلى يومى هذا).
وفي الثاقب في المناقب/306: (عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (ص): حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنه قد كانت فيهم الأعاجيب، ثم أنشأ يحدث (ص) فقال: خرجت طائفة من بني إسرائيل حتى أتوا مقبرة لهم، وقالوا: لو صلينا فدعونا الله تعالى فأخرج لنا رجلاً ممن مات نسأله عن الموت، ففعلوا، فبينما هم كذلك، إذ أطلع رجل رأسه من قبر، بين عينيه أثر السجود، فقال: يا هؤلاء، ما أردتم مني، لقد مت منذ عام، وما سكنت عني حرارة الموت، حتى كان الآن فادعوا الله أن يعيدني كما كنت. قال جابر بن عبد الله: وقد رأيت وحق الله وحق رسول الله، من الحسن بن علي أفضل وأعجب منها ومن الحسين بن علي أفضل وأعجب منها). وكنز العمال (15/689). على أن احتمال الشيخ أحمد عبد السلام بأن عيسى جاء من السماء، وزار قبر يحيى (ع)، احتمالٌ واردٌ أيضاً، وإن كان ضعيفاً.
قبر يحيى بن زكريا (ع)
الأقرب أن يكون قبر يحيى (ع) في القدس، وفي تاريخ القدس للحنبلي (2/166): (رأيت منقولاً بخط بعض العلماء أن يحيى وزكريا (ع) مدفونان ببيت المقدس بذيل جبل طور زيتا بمقابر الأنبياء، وهو مما يعضد هذا القول. وقيل إن قبر يحيى وزكريا بقرية سبسطية من أرض نابلس، وقيل بجامع دمشق).
وقيل قبره في نابلس، قال أبو الفداء (1/160): (ثم فتحت قيسارية وصبصطية (سبسطية: قرب نابلس) وبها قبر يحيى بن زكريا). وابن خلدون (2/2/106).
وقيل قبره في أنطاكية، قال ابن العديم في بغية الطلب (1/88): (وبها (أنطاكية) قبر يحيى بن زكريا (ع)، وكنيسة يقال لها القسيان).
وفي الاستيعاب (2/564): (زَكرة بن عبد الله، سمع النبي (ص) يقول: لو أعرف قبر يحيى بن زكريا لزرته. وهو حديث ليس إسناده بالقوي).
أقول: بل هو مكذوب، فلو شاء النبي (ص) لسأل عنه جبرئيل (ع).
وفي مناقب آل أبي طالب (3/237): (كان حمل يحيى ستة أشهر، وحمل الحسين ستة أشهر، وذبح يحيى كما ذبح الحسين (ع)، ولم تبك السماء والأرض إلا عليهما).
لكن في الكافي (1/465): (لم يولد لستة أشهر إلا عيسى بن مريم والحسين بن علي). ويمكن الجمع بينهما بأن هؤلاء الثلاثة (ع) كان حملهم ستة أشهر.
وقال الإمام زين العابدين (ع): (خرجنا مع الحسين (ع) فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلا ذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال يوماً: ومن هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا (ع) أهدي إلى بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل)! (الإرشاد (2/133).

الفصل الرابع: مريم بنت عمران (س)

نذرتها أمها لله تعالى
قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّه إِنَّ اللَّه يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران:33-38).
في الكافي (1/535) عن الإمام الصادق (ع) قال: (إن الله تعالى أوحى إلى عمران أني واهبٌ لك ذكراً سوياً مباركاً، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل، فحدث عمران امرأته حنة بذلك، وهي أم مريم، فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلام، فلما وضعتها قالت: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى.. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى)، أي لا تكون البنت رسولاً، يقول الله عز وجل: (وَاللَّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ)، فلما وهب الله تعالى لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه. فإذا قلنا في الرجل منا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده، فلا تنكروا ذلك).
وفي قصص الأنبياء (ع) للراوندي/216: (عن الحسن بن محمد بن أبي طلحة قال قلت للرضا (ع): أتأتي الرسل (ع) عن الله بشيء ثم تأتي بخلافه؟ قال: نعم إن شئت حدثتك، وإن شئت أتيتك به من كتاب الله، قال الله تعالى جلت عظمته: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّه لَكُمْ...)، فما دخلوها ودخل أبناء أبنائهم، وقال عمران: إن الله وعدني أن يهب لي غلاماً نبياً في سنتي هذه وشهري هذا، ثم غاب وولدت امرأته مريم وكفلها زكريا، فقالت طائفة: صدق نبي الله، وقال الآخرون: كذب، فلما ولدت مريم عيسى قالت الطائفة التي أقامت على صدق عمران: هذا الذي وعدنا الله).
وفي الكافي (3/105) عن الإمام الباقر (ع) قال: (إن امرأة عمران نذرت ما في بطنها محرراً، والمحرر للمسجد يدخله ثم لا يخرج منه أبداً، فلما وضعتها قالت: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى)، فلما وضعتها أدخلتها المسجد، فساهمت عليها الأنبياء، فأصابت القرعة زكريا، وكفلها زكريا).
وفي تفسير العياشي (1/170): (فساهم عليها النبيون فأصابت القرعة زكريا، وهو زوج أختها وكفلها وأدخلها المسجد، فلما بلغت ما تبلغ النساء من الطمث وكانت أجمل النساء، فكانت تصلي ويضيء المحراب لنورها، فدخل عليها زكريا، فإذا عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء فقال: (أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّه)، فهنالك دعا زكريا ربه).
وفي تفسير مجمع البيان (2/283): (وقال ابن عباس: لما بلغت تسع سنين، صامت النهار، وقامت الليل، وتبتلت حتى غلبت الأحبار. وكفَّلها زكريا.. معناه: ضمها زكريا إلى نفسه، وضمن القيام بأمرها. وقالوا: إن أم مريم أتت بها ملفوفة في خرقة إلى المسجد، وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافس فيها الأحبار، لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم. فقال لهم زكريا: أنا أحق بها لأن خالتها عندي، فقالت له الأحبار: إنها لو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها، ولكنا نقترع عليها، فتكون عند من خرج سهمه. فانطلقوا وهم تسعة وعشرون رجلاً إلى نهر جار فألقوا أقلامهم في الماء فارتزَّ قلم زكريا (أي رمست محابرهم الحديدية) ثم ارتفع فوق الماء ورسبت أقلامهم..
فلما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها بيتاً واسترضع لها، فقال محمد بن إسحاق: ضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد، وجعل بابه في وسطها، لا يرقى إليها إلا بسلم مثل باب الكعبة ولا يصعد إليها غيره. وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم. (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً...)).
أقول: الأقرب أن يعطيها زكريا (ع) الى أمها أليشاع، فترضعها وتربيها في بيتها بيت عمران (ع)، ولا موجب لإعطائها الى خالتها أليصابات زوجة زكريا. ويبدو أن أمها توفيت قبل أن تبلغ سن الرشد، فكان زكريا وخالتها زوجته يأتيان لها بالطعام والشراب الى غرفتها في داخل المسجد، أو بقربه.
وبعد نحو سنتين أراد اليهود والرومان قتل عيسى ويحيى، فهربت بهما أماهما، أم يحيى الى داخل فلسطين، ومريم الى العراق ثم الى مصر.
اصطفاها الله ووهبها عيسى (ع) من غير أب!
قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ.
إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّه يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ. وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّى أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِى الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّه وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّه وَأَطِيعُونِ
) (آل عمران:42-50).
في تفسير العياشي (1/172): (عن الحكم بن عيينة قال: سألت أبا جعفر (ع) عن قول الله في الكتاب: (وَإَذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ). اصطفاها مرتين والاصطفاء إنما هو مرة واحدة؟ قال: فقال لي يا حكم إن لهذا تأويلاً وتفسيراً، فقلت له ففسره لنا أبقاك الله.
قال: يعني اصطفاها أولاً من ذرية الأنبياء المصطفين المرسلين، وطهرها من أن يكون في ولادتها من آبائها وأمهاتها سفاحاً. واصطفاها بهذا في القرآن: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي)، شكراً لله، ثم قال لنبيه محمد (ص) يخبره بما غاب عنه من خبر مريم وعيسى (ع): يا محمد: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) في مريم وابنها وبما خصهما الله به وفضلهما وأكرمهما حيث قال: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ)، يا محمد: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)، حين أيتمت من أبيها).
وفي قصص الأنبياء للقطب الراوندي/263، عن الإمام الصادق (ع) قال في قوله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)، قال: فأول من سوهم عليه مريم ابنه عمران، نذرت أمها ما في بطنها محرراً للكنيسة، فوضعتها أنثى فكانت تخدم العُبَّاد تناولهم، حتى بلغت، وأمر زكريا أن يتخذ لها حجاباً دون العباد، فكان زكريا يدخل عليها فيرى عندها ثمرة الشتاء في الصيف وثمرة الصيف في الشتاء، (قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّه...).
وقال الباقر (ع): إنها بشرت بعيسى (ع) فبينا هي في المحراب إذ تمثل لها الروح الأمين بشراً سوياً: (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا). قَالَ (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا)، فتفل في جيبها، فحملت بعيسى (ع) فلم تلبث أن ولدت.. وأتى إبليس تلك الليلة فقيل له: قد ولد الليلة ولد لم يبق على وجه الأرض صنم إلا خرَّ لوجهه، وأتى المشرق والمغرب يطلبه فوجده في بيت دير قد حفت به الملائكة، فذهب يدنو فصاحت الملائكة: تنحَّ، فقال لهم: من أبوه؟ فقالت: فمثله كمثل آدم، فقال إبليس: لأضلن به أربعة أخماس الناس..
عن الحكم بن عيينة قال: قال أبو جعفر (ع): لما قالت العواتق الفرية، وهي سبعون، لمريم (س): (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا)، أنطق الله تعالى عيسى (ع) عند ذلك، فقال لهن: تفترين على أمي، أنا عبد الله آتاني الكتاب، وأقسم بالله لأضربن كل امرأة منكن حداً بافترائكن على أمي! قال الحكم: فقلت للباقر (ع): أفضربهن عيسى (ع) بعد ذلك؟ قال: نعم، ولله الحمد والمنة).
وفي قصص الأنبياء (ع) /316: (عن أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر (ع) عن عمران أكان نبياً؟ فقال: نعم كان نبياً مرسلاً إلى قومه، وكانت حنة امرأة عمران وحنانة امرأة زكريا أختين، فولد لعمران من حنة مريم، وولد لزكريا من حنانة يحيى (ع)، وولدت مريم عيسى (ع)، وكان عيسى ابن بنت خالته، وكان يحيى (ع) ابن خالة مريم، وخالة الأم بمنزله الخالة..
وعن أبي عبد الله (ع) قال: إن الله تعالى جل جلاله أوحى إلى عمران: إني واهبٌ لك ذكراً مباركاً يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله، وإني جاعله رسولاً إلى بني إسرائيل قال: فحدث عمران امرأته حنة بذلك وهي أم مريم فلما حملت كان حملها عند نفسها غلاماً فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً، فوضعتها أنثى فقالت: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى، إن البنت لا تكون رسولاً فلما أن وهب الله لمريم عيسى بعد ذلك، كان هو الذي بشر الله به عمران).
ولدت عيسى (ع) وعمرها ثلاث عشرة سنة
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيّاً. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً للَّنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا. فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا. فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ للَّرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (مريم:16-33).
افتراء اليهود على مريم (س)
قال الله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّه وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّه عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً. وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيماً).
وفي أمالي الصدوق/164: (قال علقمة: فقلت للصادق (ع): يا بن رسول الله إن الناس ينسبوننا إلى عظائم الأمور، وقد ضاقت بذلك صدورنا!
فقال: يا علقمة، إن رضا الناس لا يملك، وألسنتهم لا تضبط، فكيف تسلمون مما لم يسلم منه أنبياء الله ورسله وحججه (ع)؟ ألم ينسبوا يوسف إلى أنه همَّ بالزنا؟ ألم ينسبوا أيوب إلى أنه ابتلى بذنوبه؟ ألم ينسبوا داود إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها، وأنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها؟ ألم ينسبوا موسى (ع) إلى أنه عنين وآذوه حتى برأه الله مما قالوا، وكان عند الله وجيهاً؟ ألم ينسبوا جميع أنبياء الله إلى أنهم سحرة طلبة الدنيا؟ ألم ينسبوا مريم بنت عمران (ع) إلى أنها حملت بعيسى من رجل نجار اسمه يوسف؟ ألم ينسبوا نبينا محمداً (ص) إلى أنه شاعر مجنون؟ ألم ينسبوه إلى أنه هوى امرأة زيد بن حارثة فلم يزل بها حتى استخلصها لنفسه؟ ألم ينسبوه يوم بدر إلى أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء، حتى أظهره الله عز وجل على القطيفة وبرأ نبيه (ص) من الخيانة، وأنزل بذلك في كتابه: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْللَّ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)!
ألم ينسبوه إلى أنه (ص) ينطق عن الهوى في ابن عمه علي (ع)؟ حتى كذبهم الله عز وجل، فقال سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى). ألم ينسبوه إلى الكذب في قوله: إنه رسول من الله إليهم؟ حتى أنزل الله عز وجل عليه: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)، ولقد قال يوماً: عرج بي البارحة إلى السماء. فقيل: والله ما فارق فراشه طول ليلته.
وما قالوا في الأوصياء (ع) أكثر من ذلك، ألم ينسبوا سيد الأوصياء (ع) إلى أنه كان يطلب الدنيا والملك، وأنه كان يؤثر الفتنة على السكون، وأنه يسفك دماء المسلمين بغير حلها، وأنه لو كان فيه خير ما أمر خالد بن الوليد بضرب عنقه؟ ألم ينسبوه إلى أنه أراد أن يتزوج ابنة أبي جهل على فاطمة (س)، وأن رسول الله (ص) شكاه على المنبر إلى المسلمين، فقال: إن علياً يريد أن يتزوج ابنة عدو الله على ابنة نبي الله، ألا إن فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني، ومن سرها فقد سرني، ومن غاظها فقد غاظني؟
يا علقمة، ألم يقولوا لله عز وجل: إنه ثالث ثلاثة؟ ألم يشبهوه بخلقه؟ ألم يقولوا إنه الدهر؟ ألم يقولوا إنه الفلك؟ ألم يقولوا إنه جسم؟ ألم يقولوا إنه صورة؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
يا علقمة، إن الألسنة التي تتناول ذات الله تعالى ذكره بما لا يليق بذاته كيف تحبس عن تناولكم بما تكرهونه! فاستعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، فإن بني إسرائيل قالوا لموسى (ع): (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا). فقال الله عز وجل قل لهم يا موسى: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
طعن بعض المسيحيين بمريم (س) تأثراً باليهود!
جاء في قاموس الكتاب المقدس/856، ملخصاً: (العذراء، مريم أم يسوع المسيح.. جاءت هي ويوسف من سبط يهوذا من نسل داود (قارن لوقا 1: 32 و69 ورومية 1: 3) وقد وردت سلسلة نسب المسيح من ناحية يوسف (مت 1: 16).
 وكان لمريم العذراء أخت واحدة (يوحنا 19: 25) وهذه الأخت هي، على الأرجح، سالومي زوجة زبدي، وأم يعقوب ويوحنا (مت 27: 56 ومر 15: 4).
وكانت العذراء مريم تتصل بصلة القرابة مع أليصابات أم يوحنا المعمدان (لوقا 1: 36) وفي أثناء المدة التي كانت فيها مخطوبة ليوسف، وقد كان المتعارف عليه في ذلك الحين أن الخطبة تعقد لمدة عام واحد قبل الزواج.
وأعلن الملاك جبرائيل لمريم العذراء أنها الأم العتيدة للمسيح المنتظر، ابن الله (لوا: 26 - 35 و2: 21) وقد ذهب يوسف ومريم معا من الجليل، من مدينة الناصرة إلى بيت لحم (لوقا 2: 4 وما يليه) وفي بيت لحم وفي المغارة التي كانت مستعملة كإسطبل وملحقة بالنزل هناك. وفي المكان الذي تقوم كنيسة الميلاد أو المهد عليه أو بالقرب منه، وضعت مريم ابنها البكر.
وقد توالت سلسلة من الحوادث بعد الميلاد ظهرت فيها مريم العذراء بصورة واضحة جلية، منها: تقديم المسيح في الهيكل والقيام بفروض التطهير حسب الشريعة الموسوية (لو 2: 22 - 39) زيارة المجوس (مت 2: 11) والهرب إلى مصر ثم العودة منها إلى فلسطين (مت 2: 14 و20 وما يليه).
ولما كان يسوع في الثانية عشرة من عمره، زار يوسف ومريم والصبي يسوع أورشليم في عيد الفصح على حسب عادتهم، ونحن نعلم ما تم في تلك الزيارة من ذهاب يسوع إلى أورشليم، ومن بقائه هناك من بعد عودة مريم أمه ويوسف، ومن تحدثه إلى الشيوخ في الهيكل، ومن رجوع مريم ويوسف إلى أورشليم ليبحثا عنه إلى أن وجداه في الهيكل.
وقد ذكر الكتاب المقدس أربعة إخوة للرب يسوع (مت 13: 55) كما ذكر إشارة أهل الناصرة إلى أخواته الموجودات عندهم في بلدهم (مر 6: 3).
وقد اختلفت الآراء بصدد هؤلاء فمن قائل إنهم أولاد مريم من يوسف بعد أن ولدت ابنها البكر يسوع وهي عذراء، ومن قائل إنهم إخوته أي أولاد يوسف من زوجة أخرى، قبل أن خطب العذراء مريم، ومن قائل إنهم أبناء عمومته أو أبناء خؤولته (أنظر: إخوة الرب)!
ونرى العذراء مريم في عرس قانا الجليل، ومما تم هناك يظهر أن ابنها الرب يسوع المسيح هو صاحب السلطان الأول والأخير في عمل المعجزات (يوحنا 2: 1 (5) ولما انتقلت الأسرة إلى كفرناحوم (يوحنا 2: 12ومت 4: 13) نجد أن أقرباءه أرادوا أن يحولوا دون استمراره في تأدية رسالته قائلين إنه مختل(مر 3: 21). وجاء أمه وإخوته ووقفوا خارجاً وأرسلوا إليه يدعونه (مر3:31- 35).
أقول: نلاحظ أنهم جعلوا لمريم خطيباً ثم زوجاً، وأنه كان معها لما ولدت عيسى (ع)، أو هربت به الى مصر، ولا صحة لذلك، وزعموا أنها تزوجت به بعد ولادة عيسى (ع)، ولا صحة لذلك.
وذكروا أن عيسى (ع) وبخها لما طلبت منه أن يجعل الماء خمراً في عرس قانا الجليل. وقد برأها الله تعالى من كل هذه التهم، فقال: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ).
وبرأها النبي (ص) وأهل البيت (ع) وبينوا رفعة مقامها، ففي الخصال/225، عن الإمام موسى الكاظم (ع) قال: (قال رسول الله (ص): إن الله تبارك وتعالى اختار من كل شيء أربعة: اختار من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت (ع)، واختار من الأنبياء أربعة للسيف إبراهيم وداود وموسى وأنا، واختار من البيوتات أربعة فقال: (إِنَّ اللَّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ). واختار من البلدان أربعة، فقال عز وجل: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ). فالتين المدينة، والزيتون بيت المقدس، وطور سينين الكوفة، وهذا البلد الأمين مكة. واختار من النساء أربعاً: مريم وآسية وخديجة وفاطمة. واختار من الحج أربعة: الثج والعج والإحرام والطواف، فأما الثج فالنحر، والعج ضجيج الناس بالتلبية. واختار من الأشهر أربعة: رجب وشوال وذو القعدة وذو الحجة. واختار من الأيام أربعة: يوم الجمعة، ويوم التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر).
والنتيجة: أن مريم في عقيدتنا كانت متبتلة عابدة لربها عز وجل، ولم تكن مخطوبة ولم تتزوج، وهي طاهرة مطهرة مصطفاة. نعم ليست نبية ولا رسولة.
قال المفيد في الفصول العشرة/123: (ولم يكن لمريم (س) نبوة ولا رسالة، لكنها كانت من عباد الله الصالحين، المعصومين من الزلات).
وعن الإمام الباقر (ع) في وصف المهدي (ع) قال: (يمسي من أخوف الناس ويصبح من آمن الناس، يوحى إليه هذا الامر ليله ونهاره. قال قلت: يوحى إليه يا أبا جعفر؟ يا أبا جارود إنه ليس وحي نبوة، ولكنه يوحي إليه كوحيه إلى مريم بنت عمران وإلى أم موسى وإلى النحل. يا أبا الجارود: إن قائم آل محمد لأكرم عند الله من مريم بنت عمران وأم موسى والنحل). (البحار:52/389).
مقام مريم عظيم ومقام فاطمة أعظم (ع)
في دلائل الامامة/152: (عن عيسى بن زيد بن علي قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: سميت فاطمة محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما كانت تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، (إِنَّ اللَّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ). يا فاطمة، (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)، فتحدثهم ويحدثونها. فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وإن الله عز وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها، وسيدة نساء الأولين والآخرين)!
ويحاول بعض المخالفين لأهل البيت (ع) أن ينتقصوا من مقام فاطمة (س) فيجعلوا مريم أو غيرها أعلى مقاماً منها! لكن يكفي في ردهم ما رواه البخاري في صحيحه (1/183) من قول النبي (ص) لفاطمة (س): (وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي فبكت، فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة، أو نساء المؤمنين، فضحكت لذلك). فمعنى سيدة نساء أهل الجنة: سيدة المؤمنات جميعاً.
كان عيسى (ع) يلبس من غزل أمه مريم
في تفسير الطبري (18/38): (عن عمرو بن شرحبيل: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً). قال: كان عيسى بن مريم يأكل من غزل أمه).
وقد ورد أنه كان يأكل من بقول الأرض، لكن قد يحتاج الى نفقة لطعامه أو لباسه، أو غير ذلك من شؤونه، فكانت ماليته من غزل أمه مريم (ع).
وقد روى السنة والشيعة حديثاً عجيباً لم نصل الى تفسيره في لباس عيسى (ع) كما في تفسير العياشي (1/175) عن الإمام الصادق (ع) قال: (رُفع عيسى بن مريم (ع) بمدرعة صوف من غزل مريم، ومن نسج مريم ومن خياطة مريم، فلما انتهى إلى السماء نودي: يا عيسى ألقِ عنك زينة الدنيا).
فكيف يكون اللباس العادي زينة الدنيا؟ وهل أن لباس أهل السماء أكثر زهداً منه؟
فلم أجد لهذا الكلام مفهوماً معقولاً، إلا أن يكون القصد: إلبس من لباس أهل السماء الفاخر، وألق عنك ما تعدونه زينةً في الأرض.
توفيت مريم في حياة ابنها عيسى (ع)
قالت المصادر المسيحية إن مريم (س) عاشت ثلاثاً وخمسين سنة، منها ثلاثة عشر حتى ولدت المسيح (ع)، وعاشت معه ثلاثاً وثلاثين سنة معه وبعده ست سنوات. وتبعهم على ذلك كثير من مؤرخي المسلمين ومصادرهم.
قال المسعودي في التنبيه والإشراف (1/109): (كان مولد المسيح (ع) ببيت لحم من بلاد فلسطين، يوم الأربعاء لست بقين من كانون الأول، وكانت مريم يوم ولدته بنت ثلاث عشرة سنة عند النصارى، وكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة، منها بعد رفع المسيح ست سنين).
لكن أهل البيت (ع) قالوا إنها توفيت في قبل رفع المسيح (ع). ففي الكافي(1/459) عن المفضل بن عمر، قال: (قلت لأبي عبد الله (ع): من غسل فاطمة؟ قال: ذاك أمير المؤمنين، وكأني استعظمت ذلك من قوله، فقال: كأنك ضقت بما أخبرتك به؟ قال فقلت: قد كان ذاك جعلت فداك. قال فقال: لا تَضيقن فإنها صديقة ولم يكن يغسلها إلا صديق، أما علمت أن مريم لم يغسلها إلا عيسى (ع)).
وقد وافقتنا بعض الروايات كرواية النويري في نهاية الإرب (14/248)، قال:
(قال الكسائي قال كعب: ماتت مريم بنت عمران أم عيسى (ع) قبل رفعه فدفنها في مشاريق بيت المقدس. وحكى الثعلبي أنها ماتت بعد رفع عيسى (ع) وقال في خبره: إنه لما صلب المشبه بعيسى جاءت مريم ابنة عمران وامرأةٌ كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون، يبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى فقال لهما: على ماذا تبكيان؟ فقالتا عليك. فقال: إن الله تعالى رفعني فلم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم. ثم قال أيضاً في قصة وفاة مريم عن وهب: لما أراد الله تعالى أن يرفع عيسى (ع) آخى بين الحواريين وأمر رجلين منهما وهما شمعون ويوحنا أن يلزما أمه ولا يفارقانها، فانطلقا ومعهما مريم إلى نيرون ملك الروم يدعوانه إلى الله عز وجل، وقد بعث الله اليه قبل ذلك بولس. فلما أتوه أمر بشمعون وبولس فقتلا وصلبا منكَّسين، وهربت مريم ويوحنا حتى إذا كانا في بعض الطريق لحقهما الطلب، فخافا فانشقت لهما الأرض فغابا فيها فأقبل نيرون ملك الروم وأصحابه فحفروا ذلك الموضع فلم يجدوا شيئاً، فردوا التراب على حاله، وعلموا أنه أمر من الله عز وجل. فسأل ملك الروم عن حال عيسى فأُخبر به فأسلم. وقد قيل في إسلامه غير هذا).
لكن الصحيح أن نيرون لم يؤمن بعيسى (ع)، ولا ذهبت مريم الى روما لتدعوه الى الله تعالى، وأن مريم (س) توفيت قبل رفع المسيح (ع) كما روينا عن أهل البيت (ع).
قبر مريم (س)
في رحلة ابن بطوطة/55: (وفي بطن الوادي المذكور (في القدس)كنيسة يعظمها النصارى ويقولون إن قبر مريم (س)).
 وقال الحنبلي في الأنس الجليل (2/61): (قبر مريم (س)، وهو في كنيسة في داخل جبل طور زيتا، تسمى الجيسمانية بخارج باب الأسباط وهو مكان مشهور يقصده الناس للزيارة من المسلمين والنصارى، وهذه الكنيسة من بناء هيلانه أم قسطنطين كما تقدم، وتقدم عند ذكر القلعة لفظ الأثر الوارد في قبر مريم حين أسري بالنبي (ص). وروي أن عمر لما فتح بيت المقدس مر بكنيسة مريم التي في الوادي فصلى بها ركعتين ثم ندم، لقوله (ص): هذا واد من أودية جهنم. ثم قال: وما كان أغنى عمر أن يصلي في وادي جهنم.
 وعن كعب الأحبار أنه قال: لا تأتوا كنيسة مريم التي ببيت المقدس أي كنيسة الجيسمانية والعمودين اللذين في كنيسة الطور فإنهما طواغيت، ومن أتاهما حبط عمله. وبالقرب من قبر مريم في الوادي المعروف بوادي جهنم بذيل جبل طور زيتا قبة من بناء الروم، يسميها الناس طرطور فرعون ويرجمونها بالأحجار، وبالقرب منها بذيل الجبل أيضاً قبة أخرى من الصخر، يقال لها كوفية زوجة فرعون، واشتهر عند الناس ذلك).
مريم (س) ستكون زوجة نبينا (ص) في الجنة
في المعجم الكبير للطبراني (6/52): (عن سعد بن جنادة: قال رسول الله (ص) إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى (ع)).
وروى في مجمع الزوائد (7/126) في تفسير قوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ): (فوعده من الثيبات آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وأخت نوح، ومن الأبكار مريم ابنة عمران، وأخت موسى (ع)).
وفي من لا يحضره الفقيه (1/139) أن النبي (ص) أخبر خديجة بذلك فقالت: (بالرفاء والبنين يا رسول الله). وهذا يدل على تغلبها (س) على غيرة النساء.

الفصل الخامس: بولس الذي نَصَّرَ النصارى!

بولس ضابط مخابرات يهودي
بولس الرسول، أو شاول الطرسوسي، يهودي كان عمره عندما رفع المسيح (ع) خمساً وعشرين سنة، وكان يعمل ضابطاً في الشرطة الدينية اليهودية، وكان عدواً شديداً لعيسى (ع) والمؤمنين، وكان قصيراً دميماً، كما يصف نفسه.
وبعد رفع عيسى بسنتين زعم انه كان ذاهباً الى دمشق ليقبض على بعض المسيحيين ويجلبهم الى القدس للمحاكمة، فتراءى له المسيح (ع) وقال له لا تضطهدني، بل اذهب الى الشام، وستجد هناك من يستقبلك، ويقول لك ماذا تفعل!
جاء في الكتاب المقدس/8: (كان اهتداؤه العجيب سنة 35 للميلاد. وما لبث أن أخذ يكرز في المجامع بأن يسوع هو ابن الله).أي بعد سنتين من رفع المسيح (ع).
وجاء في أعمال الرسل/396: (وعندما كان بولس قريباً من دمشق، فبغتةً أبرق حوله نور من السماء فسقط على الأرض، وسمع صوتاً قائلاً له: شاول شاول لماذا تضطهدني! فقال: من أنت يا سيد؟ فقال الرب: أنا يسوع الذي تضطهده! فقال وهو مرتعد ومتحير: يا رب ماذا تريد أن أفعل؟ فقال له قم وكرز بالمسيحية. ويقول لوقا في ختام هذه القصة جملة ذات بال غيرت وجه التاريخ هي: وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح أن هذا هو ابن الله!
أما شاول فما زال صدره ينفث تهديداً وتقتيلاً لتلاميذ الرب، فقصد إلى عظيم الكهنة، وطلب منه رسائل إلى مجامع دمشق، حتى إذا وجد أناساً على هذه الطريقة رجالاً ونساءً، ساقهم موثقين إلى أورشليم.
وبينما هو سائر وقد اقترب من دمشق، إذا نورٌ من السماء قد سطع حوله فسقط إلى الأرض، وسمع صوتاً يقول له: شاول شاول، لماذا تضطهدني! فقال: من أنت يا رب؟ قال: أنا يسوع الذي أنت تضطهده، ولكن قم فادخل المدينة فيقال لك ما يجب عليك أن تفعل. وأما رفقاؤه فوقفوا مبهوتين يسمعون الصوت ولا يرون أحداً. فنهض شاول عن الأرض وهو لا يبصر شيئاً مع أن عينيه كانتا منفتحتين، فاقتادوه بيده ودخلوا به دمشق، فلبث ثلاثة أيام مكفوف البصر لا يأكل ولا يشرب، وكان في دمشق تلميذ اسمه حننيا. فقال له الرب في رؤيا: يا حننيا، قال: لبيك، يا رب. فقال له الرب: قم فاذهب إلى الزقاق المعروف بالزقاق المستقيم، واسأل في بيت يهوذا عن شاول المسمى الطرسوسي. فهاهوذا يصلي، وقد رأى في رؤياه رجلاً اسمه حننيا يدخل ويضع يديه عليه ليبصر. فأجاب حننيا: يا رب، سمعت بهذا الرجل من أناس كثيرين كم أساء إلى قديسيك في أورشليم، وعنده هاهنا تفويض من عظماء الكهنة ليوثق (يقبض) كل من يدعو باسمك!
فقال له الرب: اذهب فهذا الرجل أداة اخترتها لكي يكون مسؤولاً عن اسمي عند الوثنيين والملوك وبني إسرائيل، فإني سأريه ما يجب عليه أن يعاني من الألم في سبيل اسمي. فمضى حننيا فدخل البيت ووضع يديه عليه وقال: يا أخي شاول، إن الرب أرسلني، وهو يسوع الذي تراءى لك في الطريق التي قدمت منها، أرسلني لتبصر وتمتلئ من الروح القدس! فتساقط عندئذ من عينيه مثل القشور فأبصر! وقام فاعتمد، ثم تناول طعاماً فعادت إليه قواه، وأقام بضعة أيام مع التلاميذ الذين في دمشق، فأخذ لوقته ينادي في المجامع بأن يسوع هو ابن الله!
فكان كل من يسمعه يدهش ويقول: أليس هذا الذي كان في أورشليم يحاول تدمير الذين يدعون بهذا الاسم؟ أوَمَا جاء إلى هنا ليسوقهم موثقين إلى عظماء الكهنة؟ على أن شاول كان يزداد قوة، ويفحم اليهود المقيمين في دمشق، مبيناً أن يسوع هو المسيح. ولما انقضت بضعة أيام تشاور اليهود ليغتالوه، فانتهى خبر مؤامرتهم إلى شاول فكانوا يراقبون الأبواب نهاراً وليلاً ليغتالوه، فسار به تلاميذه ليلاً ودلوه من السور في زنبيل! ولما وصل إلى أورشليم حاول أن ينضم إلى التلاميذ فكانوا كلهم يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ، فأخذ برنابا بيده وسار به إلى الرسل وروى لهم كيف رأى الرب في الطريق وكلمه الرب، وكيف تكلم بجرأة باسم يسوع في دمشق. وكان يذهب ويجيء معهم في أورشليم يتكلم بجرأة باسم الرب. وكان يخاطب اليهود الهلينيين أيضاً ويجادلهم، فحاولوا أن يغتالوه فشعر الإخوة بذلك فمضوا به إلى قيصرية، ثم رحَّلوه منها إلى طرسوس).
أعطى بولس لنفسه رتبة رسول المسيح!
قال المقريزي في المواعظ والاعتبار (2/1994): (وبولص هذا كان يهودياً فتنصر بعد رفع المسيح (ع) ودعا إلى دينه، فقتله الملك نيرون بعد قتله بطرس بسنة).
وفي تاريخ اليعقوبي(1/80): (وكان بولس أشد الناس عليهم، وأعظمهم إيذاءً لهم، وكان يقتل من يقدر عليه منهم، ويطلبهم في كل موضع، فخرج يريد دمشق ليجمع قوماً كانوا بها فسمع صوتاً يناديه: يا بولس، كم تضطهدني! ففزع حتى لم يبصر، ثم جاءه حنانيا، فقدس عليه حتى انصرف، وبرأت عينه، فصار يقوم في الكنائس فيذكر المسيح ويقدسه فأرادت اليهود قتله، فهرب منهم، وصار مع التلامذة يدعو الناس ويتكلم بمثل ما يتكلمون به، ويظهر الزهد في الدنيا والتقليل منها).
وفي قصة الحضارة (4/3945): (وُلِد واضع اللاهوت المسيحي في طرسوس من أعمال كليكيا حوالي السنة العاشرة من التاريخ الميلادي. وكان أبوه من الفريسيين، ونشأ ابنه على مبادئ هذه الشيعة الدينية المتحمسة، وظل رسول الأمم طوال حياته يعد نفسه فريسياً حتى بعد أن نبذ الشريعة اليهودية.
كذلك كان والده مواطناً رومانيّاً، أورث ابنه هذا الحق الثمين. وأكبر الظن أن اسم بولص كان هو اللفظ اليوناني المرادف للاسم العبري شاول، ولهذا ظل الاسمان يطلقان على هذا الرسول منذ طفولته، ولم يتعلم تعليماً راقياً ولم يدرس الكتب اليونانية لأن الفريسيين على بكرة أبيهم لم يكونوا يسمحون بأن يتأدب أبناؤهم بهذا الأدب اليوناني الخالص، ولو أن كاتب الرسائل درس اليونانية لما كتبها بهذا الأسلوب اليوناني الركيك. على أنه عرف كيف يتحدث بهذه اللغة بطلاقة تمكنه من أن يخاطب بها المستمعين له من الأثينيين).
وفي قصة الحضارة (4/3073): (وكان عدد قليل من أثرياء المدن قد منحوا حق مواطني رومه).
وفي قصة الحضارة (4/4086): (ذلك أن إحراق البخور أمام تمثال الإمبراطور كان قد أصبح دليل الولاء للإمبراطورية وتوكيداً لهذا الولاء، فهو من هذه الناحية أشبه ما يكون بيمين الولاء التي تُطب إلى من ينالون حق المواطنية).
وفي قصة الحضارة (4/3089): (في ذلك الوقت يقول شيشرون في عام 69 ق.م. مبالغاً في قوله كعادته: لا يستطيع رجل من الغاليين أن يقوم بعمل تجاري إلا عن طريق مواطن روماني، ولا ينتقل درهم واحد من يد إلى يد، دون أن يمر بسجل أحد الرومان).
وفي قصة الحضارة (4/3953): (ثم أبحر بولس وتيموثاوس ومساعد آخر يدعى سيلاس من ترواس إلى مقدونية، ووطأت أقدامهم لأول مرة أرضاً أوربية. فلما وصلا إلى فلبي، وهي المكان الذي هزما فيه انطونيوس بروتس قبض عليهما بتهمة تكدير السلام، وجلدا، وزجا في السجن، ثم أطلق سراحهما حين عرف أنهما مواطنان رومانيان).
وفي قصة الحضارة (4/3957): (وقبض عليه نفر من الغوغاء، وجروه خارج الهيكل. وبينما هم يطلبون أن يقتلوه إذ أقبلت كتيبة رومانية وأنقذته من القتل بأن قبضت عليه. والتفت بولس ليتحدث إلى الجماهير وأكد لهم أنه يهودي ومسيحي، فنادوا بقتله، فأمر الضابط الروماني بجلده، ولكنه ألغى الأمر حين علم أن بولس يتمتع بحق المواطنية الرومانية.
وجيء بالسجين في اليوم الثاني أمام السنهدرين، فخاطب بولس المجلس وأعلن أنه فريسي، ونال بذلك بعض التأييد، ولكن أعداءه المهتاجين حاولوا مرة أخرى أن يعتدوا عليه، فأخذه الضابط إلى الثكنات، وجاءه في تلك الليلة إبن أخت له يحذره ويقول له إن أربعين من اليهود قد أقسموا ألا يأكلوا أو يشربوا حتى يقتلوه. وخشي الضابط أن يحدث في المدينة اضطراب يضر به فأرسل بولس ليلاً إلى فيلكس وإلى قيصرية).
وفي الكتاب المقدس/438: (هموا أن يبسطوه ليضربوه بالسياط، فقال لقائد المائة وكان قائماً إلى جنبه: أيجوز لك أن تجلدوا رجلاً رومانياً ولم تحاكموه؟ فلما سمع قائد المائة هذا الكلام ذهب إلى قائد الألف وأطلعه على الأمر وقال: ماذا تفعل؟ إن هذا الرجل روماني! فجاء قائد الألف إليه وقال له: قل لي: أأنت روماني؟ قال: نعم. فأجاب قائد الألف: أنا أديت مقداراً كبيراً من المال حتى حصلت على هذه الجنسية. فقال بولس: أما أنا ففيها ولدت. فتنحى عنه وقتئذ من كانوا يريدون استجوابه، وخاف قائد الألف على نفسه لما عرف أنه روماني وقد اعتقله).
وفي قصة الحضارة (4/3966): (يقول إن بولس استشهد في روما في عهد نيرون. ونرجح أنه وهو مواطن روماني قد كُرّم بأن قُتل بمفرده، فلم يختلط بالمسيحيين الذي صلبوا بعد حريق عام 64).
وفي قاموس الكتاب المقدس/754: (وفي أيام نيرون استأنف بولس الرسول دعواه إلى قيصر، لأن اليهود الذين حصلوا على الرعوية الرومانية كان لهم الحق أن يستأنفوا الدعاوي إلى قيصر (اع 25: 11).
ونورد فيما يلي ملخصاً لحياة بولس ونشاطه، من موقع الموسوعة المسيحية العربية:
وُلد بولس في كيليكية (أع 21:39) من عائلة يهوديّة ومن قبيلة بنيامين (رو 11:1؛ غل 3:5) وعندما قتل استفانوس (أع 8:1) سنة33 كان عمره حوالي30 سنة.
كان والداه عبرانيّين (فل 3:5) أي من اليهود الذين يتكلمون الأرامية ومن الفريسيين (أع 23:6؛ فل 3:5) وكان والده مواطناً طرسوسيًّا (أع 21:39) ومواطنًا رومانيًّا (أع 22:28) هذا يعني أنه كان رجلاً ميسوراً (رج فل 3: 8) وإسم شاول يوناني ساولوس أي سأله والداه وطلباه. وتسمّى في الوقت نفسه باسم روماني: بولس. (أع 13:9).
تعلم بولس مهنة صنع الخيام (أع 18:3) وقد عُرفت كيليكية بالكيليكيات أي هذا القماش المنسوج من شعر الماعز.
ولم يكن بولس شخصاً جذَّاباً، وما كان يقدر أن يفرض نفسه على خصومه (2كور 10:10) ويشير هو إلى قصر قامته (2كور 10:12-14) وكانت صحته سيئة، وكان يتألم من مرض يصوّره كشوكة في لحمه، كضربة من الشيطان (1كور 12:7-9) كداء متعب ومذل ومزمن (غل 4:13-15) ولكن طبعه كان طبع قائد، وإرادته حديدية، وثباته يتحدّى التجارب.
كان بولس عدواً للمسيح وأتباعه، وقد حكم اليهود على المسيح كمجدف فالاعتراف بمن لعنه الله تجديف (1كور 1:23) وقد حارب الجماعة المسيحية (أع 8:1، 3؛ 9:1 ي؛ 26:10-12؛ غل 1:13؛ فل 3:6؛ 1كور 15:9). وكان قاسياً عليهم (أع 26:11 ي؛ رج 9:1 ي).
ويروى اهتداؤه الى المسيحية بثلاث روايات! (أع 9:1-19؛ أع 22:5-16؛ 26:12-20). فقد كان يضطهد المسيحيين قرب دمشق (أع 9:3؛ أع 22:6؛ 26:11؛ غل 1:17) ورأى المسيح يظهر عليه (أع 9:4-6، 17؛ 22:6-8؛ 26:13-18؛ 1كور 15:8 ي؛ 9:1؛ غل 1:12-16) فآمن حالاً وصار تلميذ يسوع ورسوله (غل 1:12-15-16؛ أع 22:15، 21؛ 26:17 ي؛ رج 9:15).
فذهب إلى القدس وجادل اليهود بأن يسوع هو المسيح (أع 9:22ي) فعزم اليهود على قتله فهرب إلى طرسوس. وبعد ثلاث سنوات عاد إلى أورشليم ليتعرف على كيفا (بطرس) وظل هناك 15يوماً. ولم يرَ من سائر الرسل سوى يعقوب أخي الرب (غل1:18 ي) حسب أع 9:26-29، واستقبله التلاميذ بحذر، واضطهده اليهود فاعتزل في طرسوس (أع 9:30، غل 1:21) وأقام هناك 4 أو 5 سنوات وأسس جماعات مسيحية (أع 15:23، 41) ومن طرسوس أخذه برنابا إلى أنطاكية في سورية. ثم ذهب مع برنابا ويوحنا مرقس إلى مدينة سلاميس، ثم رجع إلى أنطاكية، واضطر إلى تركها، وعاد إلى أورشليم.
ثم ذهب إلى أيقونية ثم إلى لسترة (أع 14:1-7) وجاء يهود من أنطاكية وأيقونية فألبوا الشعب فرجموه (رج 2كور11:25، 2تم 3:10 ي) فعاد مع برنابا إلى أنطاكية. وجاء بعض المسيحيين من أورشليم وبلبلوا جماعة أنطاكية المسيحية التي فرحت حين سمعت باهتداء وثنيين عديدين قبلَ برنابا وبولس الوثنيين، ولم يفرضا عليهم الختان وشرائع موسى، وكان التلاميذ متعلقين بالشريعة، ويعتبرون أن اللامختون نجس (أع 15:1) هذا اليقين كان معارضاً لتعليم بولس الذي أسقط عنهم الختان.
فأرسل جماعة أنطاكية بولس وبرنابا وتيطس (غل 2:3) وغيرهم إلى أورشليم ليحلوا الخلاف. ونستنتج من (غل 2:15 ي) أنهم حلوه حسب نظرة بولس.
ثم ذهب بولس مع سيلا الى داخل سوريا، ثم إلى فريجية وبلاد غلاطية فاستقبله أهل غلاطية كما لو كان المسيح نفسه (غل 4:13-15) ثم وصلا إلى ترواس (أع 16:6-8) ثم وصلا إلى تسالونيكي في اليونان. وكان يلتقي بالناس في المساء ويعمل بمهتنه في النهار (1تس 2:7-10) ثم توجه إلى بيرية حيث اهتدى إلى المسيحية عددٌ كبيرٌ من الوثنيين واليهود، لكن المعارضة اليهودية أجبرت بولسَ على ترك المدينة فذهب وحده إلى أثينة (أع 17:1-5) ولم يهتدِ إلى المسيحية إلاّ عدد قليل من الوثنيين فسبّب هذا الفشلُ لبولس حزناً عميقاً (1تس 3:3 ي) وأحس باليأس (رج 1كور 2:3) فرجع الى سوريا، ثم زار أورشليم وعاد إلى أنطاكية. ثم ذهب في الرحلة الثالثة (53-58، أع 18:23-21:14) إلى غلاطية وهي في وسط الأناضول (غل 4:13) ثم إلى أفسس (أع 18:23؛ 19:1، 8، 10؛ 20:31) وكرز ثلاثة أشهر في المجمع. وبما أن معظم اليهود رفضوا الإيمان فبشر الوثنيين، وكان من نشاطه شفاء مرضى وطرد شياطين وإحراق كتب سحر (أع 19:11-19) وبقي هناك ثلاث سنوات (أع 19:23-20:1) فانتشرت المسيحية في كل آسية (أع 19:26) وانفتح باب كبير (1كور 16:9) أمام نشاطه ومعاونيه تيموثاوس، تيطس، أرستس، غايوس، أرسترخس، أبفراس: أع 19:22؛ 2كور 12:18؛ كو 1:7) وتأسّست جماعات في كولوسي ولاودكية وهيرابوليس(كو 1:7؛ 2:1؛ 4:12 ي) وترواس (أع 20:5-12؛ 2كور 2:12) وفي إزمير وتياتيرة وسارديس وفيلادلفية في اليونان (رؤ 1:11).
ثم اضطهده اليهود (أع 20:19؛ رج 21:27) فخاف على حياته (2كور 1:8) وذهب إلى في البحر إلى مكدونية. وأراد أن يبحر إلى سورية مع موفدي الجماعة الذين جمعوا الصدقات للمسيحيين لكنه أحس بمؤامرة يدبرها اليهود لقتله، فسار في البر إلى فيلبي حيث انضم إليه لوقا، وأبحر من ميليتس إلى صور وتابع طريقه إلى عكا فاستقبله المسيحيون في أورشليم بفرح (أع 21:17-23:32) لكن هاجمه الشعبُ الهائج ولم يستطع يعقوب أن يفعل شيئاً من أجله، وجاء الجنود الرومان فخلّصوه من أيدي اليهود لأنه روماني، لكنهم سجنوه، وحاكمه اليهود في السنهدرين، وانتهت المحاكمة من دون نتيجة لأنه روماني.
وتآمر40 يهودياً على قتله فأرسله الضابط الروماني برفقة الحامية إلى قيصرية حيث يقيم الوالي فيلكس، فاتهمه اليهود بأنه أحدث القلاقل ودنَّس الهيكل. فأقنع بولس الوالي بكذب اتهاماتهم لكن الوالي حبسه سنتين، ثم عُزل فيلكس وحل محله فستوس فمثُل بولس أمامه فسأله إن كان يقبل أن يحاكَم في أورشليم، فطلب أن يحاكم في رومة، لأنه مواطن روماني.
وسُلّم بولس مع سجناء آخرين إلى ضابط ومجموعة جنود، وسافر معهم لوقا وأرسترخس. وبمحاذاة كريت ودفعتهم عاصفة هوجاء حتى شاطئ مالطة فتفكك المركب من شدة الأمواج(ربيع 62، أع 27:1-28:16) وقضى المسافرون الشتاء في مالطة. ثمّ ذهبوا عبر صقلّية إلى بوطيولي حيث كان بولس ورفاقه ضيوفاً على الجماعة المسيحية هناك، ثم وصل إلى رومة.
وفي رومة كان بحراسة جندي، وبشر بالإنجيل(أع 27:17) وكتب رسائل السجن: وأمل في الرسالتين الأخيرتين أن يُخلى سراحُه قريباً (فلم 22؛ فل 1:26؛ 2:24) لكنه بقي سنتين في بيته. ولا نجد نصّاً يتحدث عن علاقته مع بطرس الذي كان في رومة في ذلك الوقت.
وذكر بعض التلاميذ (2تم 4:10، 12) أنهم حكموا عليه بالقتل فقطع رأسه خارج المدينة قرب مياه سيلفيا، ودفن قرب طريق أوستيا سنة 67.
وكانت لغة بولس اليونانية، وهو يكتب بلغة المثقفين مع عبارات مأخوذة من السبعينية. ومفرداته كثيرة وهو يعطي بعض الكلمات معنى جديداً. وأسلوبه مهمل، وجمله متقطّعة ومبنية بناءً رديئاً، فهو لم يطلب البلاغة وأسلوب الخطباء في عصره (1كور 2:1-4) بل لجأ إلى لغة الجدل عند اليونانيين، يريد أن يدخل بسرعة في قلوب قرائه كما يفعل الخطيب مع سامعيه فيناديهم ويطرح عليهم أسئلة (مثلاً رو 3:1، 3؛ غل 3:19) يُدخل خصمًا يختلقه (رو 9:19؛ 11:19) ويقدم اعتراضاً (رو 2:1، 3؛ 9:20؛ 14:4، 20، 22) ويحبّ النقائض(الله، العالم، الإيمان والشريعة، الروح والجسد، البر والخطيئة، الروح والحرف، الإنسان الأول والإنسان الآخر، الإنسان الجديد والإنسان العتيق).
أما إنجيل بولس فقد لخصه (رو 2:16؛ 16:23؛ 1كور 15:1) بأنه لا يعرف المسيح إلا مصلوباً (1كور 2:2؛ رج غل 6:14) ويبشر بابن الله الذي من نسل داود حسب الجسد (رو 1:3 ي؛ رج 1:9؛ رج 15:19؛ 1كور 9:12؛ 2كو) إن الآب أرسل ابن الله ليخلص بموته البشر جميعاً، وثنيين ويهوداً، من عبودية الخطيئة والموت (رو 3:24 ي؛ 5:6-9؛ 6:22) كلهم كانوا موضوع غضب الله (رو 1:18؛ 2:5) بعد أن قادتهم خطيئة الإنسان الأول إلى الهلاك (رو 5:18).
ويشارك الإنسانُ في فداء المسيح بالإيمان الذي يمنحه غفران الخطايا (رج 1كور 15:17) والمصالحة مع الله (رو 3:25) والتبرير (رو 1:19؛ 9:30، 32؛ غل 2:16). أما شريعة موسى فعاجزة عن ذلك (رو 3:20؛ 9:31).
وقد بالغ بولس في التعميد، وأنه يمنح مغفرة الخطايا، والتبرير، والولادة الجديدة، والحياة الجديدة في المسيح (رو 8:2؛ تي 3:5) أو في الروح (رو 7:6؛ 8:9) ففي المعمودية يموت الإنسان مع المسيح، ويقوم معه لحياة جديدة، لحياة في الروح وبالروح.(رو 6:3-11). قال بولس إن الوحدة بين المؤمنين تتقوى بالإفخارستيا أي العشاء الرباني التي توحد المؤمن بجسد المسيح ودمه (1كور 10:16 ي) لأن الخبز هو جسد المسيح، والخمر هو دمه. (1كور11:23-27).
وفي مقارنة الأديان للشلبي/98: (وانفض أكثر أنصار بولس عنه، وهو يكتب بهذا إلى تلميذه تيموثاوس فيقول: بادر أن تجيء إليَّ سريعاً لأن ديماس قد تركني إذ أحب العالم الحاضر وذهب إلى تسالونيكي، وكريسكيس إلى غلاطية وتيطس إلى دلماطية. لوقا وحده معي. إسكندر النحاس أظهر لي شروراً كثيرة ليجازه الرب حسب أعماله، فاحتفظ منه أنت أيضاً لأنه قاوم أقوالنا جداً. في احتجاجي لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني).
وفي قاموس الكتاب المقدس/125: (وبَّخَ بولس في أنطاكية بطرس لرفضه أن يأكل مع المسيحيين من الأمم (غل 2: 11 و12) وقد جعل مبدأ التحرر من الشريعة الطقسية والفرضية، التبشير بالإنجيل ممكناً بين الأمم).
وفي المواعظ للمقريزى (4/423): (بولص هذا كان يهودياً فتنصر بعد رفع المسيح (ع) ودعا إلى دينه، فقتله الملك نيرون بعد قتله بطرس بسنة).
أقول: من الواضح جداً في شخصية بولس أنه التحق بالمسيحية بعد عدائها الطويل لها، وفرض نفسه في صف تلاميذ عيسى (ع)، وفرض رأيه في عقائد المسيحية، وتشريعاتها. كل ذلك بدون نص ولا مستند من عيسى (ع) ولا من وصيه أو تلاميذه.
وقد يكون نيرون قبل بولس عندما ذهب إلى روما، لكن نيرون متقلب المزاج، فقتله فيمن قتل من المسيحيين واليهود، حيث اتهمهم بحريق روما.
أما بطرس فلا دليل على أن نيرون قتله في روما، بل رجع إلى قومه، والمرجح عندنا أنه قتل وهو ذاهب إلى بابل، عند الحدود السورية البابلية أي العراقية، كما يأتي.
ذم بولس في مصادرنا وصفته في مصادر المسيحية
استفاضت الرواية في مصادرنا أن بولس هو الذي نصَّر النصارى وجعلهم يعبدون المسيح (ع)، فهو كالسامري الذي هوَّد اليهود، وصنع لهم العجل!
ففي الخصال للصدوق/346: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة سبعة نفر: ابن آدم الذي قتل أخاه، ونمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، واثنان من بني إسرائيل هودا قومهم ونصراهم، وفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، واثنان من هذه الأمة).
وفي الخصال/399: (ويهود الذي هوَّد اليهود، وبولس الذي نصَّر النصارى، ومن هذه الأمة أعرابيان).
وجاء في وصف بولس (منتدى الكتاب المقدس): (بولس= هي كلمة لاتينية معناها الصغير، ويقول أغسطينوس أن بولس كان نحيف الجسم قصير القامة. وهذه لابد أن تكون صفات المعلمين فعلاً! كان جبار الذهن ومتوقد العاطفة، قصير القامة، ضعيف البصر. ويقول أحدهم: أنا قصير القامة، وهكذا كان نابليون وفكتور هوغو. في عيني سقم، وهكذا كان بولس الرسول ونيتشة)!
www.abasjern.montadarabi.com

www.forum.ennaharonline.com/thread38964.html‏

(أوضح المؤلف دانيال ويلسون أن صفات وملامح الذكورة تتضمن القوة والنشاط والسرعة. إلى أهل كورنثوس (2كور 12: 7-10) نجد أن القديس بولس كان أيضاً بشكلٍ ما معاق. وكان أعرجاً وأعوراً متراكم الأسنان وصغير الرأس، مائل الذقن قصير القامة).

www.aksalser.com

الفصل السادس: شخصية شمعون الصفا (ع)

شمعون الصفا من بيت صيدا على ساحل طبرية
اتفق المسلمون والمسيحيون على أن شمعون الصفا وصي عيسى (ع)، ويسمى أيضاً بطرس، وبيتروس باليونانية الصخرة، سماه به المسيح (ع) لصلابة إيمانه: (وما أن رأى المسيح سمعان حتى قال له: أَنْتَ سِمْعَانُ بْنُ يُونَا. أَنْتَ تُدْعَى صَفَا) (يوحنا ١: ٤٢). وسماه: كِيفَا، وهي لفظة آرامية معناها الصخرة أيضاً. (قاموس الكتاب المقدس/802). ويسمى شمعون، وسمعان، ومعناه: السميع.
أما شَمَع، فهي كلمة عبرية معناها الخبَر، ولعلها بمعنى المسموع.
وقد وُلد بطرس في بيت صيدا الغربية، وتقع عند مصب نهر الأردن، من جهة اليسار أي الغرب (يوحنا ١: ٤٤) على الشاطئ الشمالي لبحيرة طبرية، ومنها أخواه أندرواس وفيلبس، وكلهم من تلاميذ يحيى ثم المسيح (ع)، وقد زار المسيح بلدهم فآمنوا به واتبعوه، ولازمه شمعون وأندراوس.
وتسمى صيدا طبرية، مقابل صيدا اللبنانية، وقد ورد ذكر اللبنانية في الأناجيل، وأن بطرس زارها، وزار صور وبعض مدن الساحل اللبناني.
شمعون الصفا من ذرية ابراهيم (ع)
ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: (ووَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ وجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ والْكِتابَ)، أن الله لم يبعث نبياً بعد إبراهيم إلا من ذريته (ع)، ومعناه أن شمعون الصفا من ذريته، فهو ابن عمة عيسى، ومن ذرية إبراهيم (ع).
ويؤيد ذلك ما رواه العياشي (1/61) عن الإمام الصادق (ع)، أن أبا عمر الزبيري سأله: (أخبرني عن أمة محمد (ص) من هم؟ قال: أمة محمد بنو هاشم خاصة. قلت: فما الحجة في أمة محمد (ص) أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال: قول الله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:127-128) فلما أجاب الله إبراهيم وإسماعيل وجعل من ذريتهما أمة مسلمة، وبعث فيها رسولاً منها يعني من تلك الأمة، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ردف إبراهيم دعوته الأولى بدعوة الأخرى فسأل لهم تطهيراً من الشرك ومن عبادة الأصنام، ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم، فقال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِي أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). فهذه دلالة على أنه لا تكون الأئمة والأمة المسلمة التي بعث فيها محمد (ص)، إلا من ذرية إبراهيم لقوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ).
كان بطرس أكبر من عيسى بعشر سنين (ع)
فقد رُفع عيسى سنة 33 من ميلاده الشريف، وكان عمر بطرس43 سنة، وعاش بعده نحو ثلاثين سنة، وبعد محاولتهم قتل عيسى (ع) ورفعه الى السماء صار بطرس تحت مراقبة السلطة الدينية اليهودية، والرومانية من ورائها.
قال المفيد في مسار الشيعة/41: (وفيه (ثامن عشر ذي الحجة) نصب موسى يوشع بن نون (ع) وصيه، ونطق بفضله عل رؤوس الأشهاد. وفيه أظهر عيسى بن مريم وصيه شمعون الصفا (ع). وفيه أشهد سليمان بن داود سائر رعيته على استخلاف آصف بن برخيا (ع) وصيه ودل على فضله بالآيات والبينات. وهو يوم عظيم، كثير البركات).
مكانة بطرس في أحاديث أهل البيت (ع)
صحت الرواية عندنا واستفاضت، في أن شمعون الصفا وصي عيسى (ع) وابن عمة والدته مريم (س). من ذلك ما رواه الصدوق (قدس سره) في كمال الدين/26: (فكل وصي قام بوصية حجةٍ تقدمه، من وقت وفاة آدم إلى عصر نبينا (ص)، كان نبياً.. ومثل عيسى كان وصيه شمعون الصفا، وكان نبياً (ع)).
وصحيحة الكافي (1/382) عن يزيد الكناسي قال: (سألت أبا جعفر (ع) أكان عيسى بن مريم حين تكلم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟ فقال: كان يومئذ نبياً حجة لله غير مرسل، أما تسمع لقوله حين قال: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّه آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمْتُ حَيًّا). قلت: فكان يومئذ حجة لله على زكريا في تلك الحال وهو في المهد؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آية للناس ورحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها، وكان نبياً حجة على من سمع كلامه في تلك الحال، ثم صمت فلم يتكلم حتى مضيت له سنتان، وكان زكريا الحجة لله عز وجل على الناس بعد صمت عيسى بسنتين، ثم مات زكريا فورَّث ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير، أما تسمع لقوله عز وجل: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا). فلما بلغ عيسى (ع) سبع سنين تكلم بالنبوة والرسالة حين أوحى الله تعالى إليه فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين، وليس تبقى الأرض يا أبا خالد يوماً واحداً بغير حجة لله على الناس منذ يوم خلق الله آدم (ع) وأسكنه الأرض. فقلت: جعلت فداك أكان علي (ع) حجة من الله ورسوله على هذه الأمة في حياة رسول الله (ص)؟ فقال: نعم يوم أقامه للناس ونصبه علماً ودعاهم إلى ولايته وأمرهم بطاعته. قلت: وكانت طاعة علي (ع) واجبة على الناس في حياة رسول الله (ص) وبعد وفاته؟ فقال: نعم ولكنه صمت فلم يتكلم مع رسول الله (ص) وكانت الطاعة لرسول الله (ص) على أمته وعلى علي (ع) في حياة رسول الله (ص)، وكانت الطاعة من الله ومن رسوله على الناس كلهم لعلي بعد وفاة رسول الله (ص) وكان علي (ع) حكيماً عالماً).
وفي بصائر الدرجات/119، من حديث النبي (ص): (قال فمن كان وصي موسى؟ قال: يوشع بن نون. قال: فمن كان وصى عيسى؟ قال: شمعون بن حمون الصفا، ابن عم [عمة] مريم (س)).
نص عيسى على بطرس وصيه وخليفته (ع)
أوردت الأناجيل نصوص المسيح على وصيه شمعون الصفا (ع) وأنه كان يقول له: إرْعَ غنمي، إرع خرافي، ومنها: (وعند تناول طعام الإفطار على شواطئ بحر الجليل، عَهِدَ يسوع ثلاث مرات إلى بطرس، بأن يرعى خرافه الذين هم جماعة المؤمنين). (يوحنا 21: 9 - 23). (قاموس الكتاب المقدس/99).
(أقول لك: أنت صخر، وعلى الصخر هذا سأبني كنيستي، فلن يقوى عليها سلطان الموت. وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فما ربطته في الأرض رُبِطَ في السماوات، وما حللته في الأرض حُلَّ في السماوات).(الكتاب المقدس/82).
وقد رافق المسيح (ع) في أسفاره، وكان أميناً على أسراره، وجعله رئيس الحواريين، ورئيس كنيسته، وقالوا إنه شاهد قيامة المسيح (ع) من قبره، ونحن نقول إنه شاهد مع الحواريين رفعه الى السماء في تلك الليلة، ثم جاءت الشرطة الدينية اليهودية فاعتقلوا شبيه المسيح، وحكمت عليه محكمة اليهود بالقتل، وسلموه الى السلطة الرومانية لتنفذ فيه الحكم، فصلبوا شبيهه.
شمعون الصفا رسول المسيح (ع) الى روما
قال ابن خلدون (2ق1/201): (قال ابن العميد: وفي أيامه كتب بُطرس رأس الحواريين إنجيله بالرومية ونسبه إلى مُرقص تلميذه. وكتب لوقا من الحواريين إنجيله بالرومية وبعث به إلى بعض الأكابر من الروم، وكان لوقا طبيباً.
ثم عظم الفساد بين اليهود ولحق ملكهم اغرباش برومة، فبعث معه اقلوديش عساكر الروم فقتلوا من اليهود خلقاً وحملوا إلى أنطاكية ورومة منهم سبياً عظيماً، وخربت القدس وانجلى أهلها، فلم يول عليهم القياصرة أحداً لخرابها، وافترقت اليهود على فرق كثيرة أعظمها سبعة. قال: ولسبع من ملك اقلوديش دخلت بَطْريقة من الروم في دين النصارى على يد شمعون الصفا وسمعت منه الصليب، فجاءت إلى القدس لإظهاره ورجعت إلى رومة.
وهلك اقلوديش قيصر لأربع عشرة سنة من ملكه وملك من بعده ابنه نيرون، قال هروشيوش: هو سادس القياصرة وكان غشوماً فاسقاً، وبلغه أن كثيراً من أهل رومة أخذوا بدين المسيح فنكر ذلك وقتلهم حيث وجدوا، وقتل بطرس رأس الحواريين، وأقام أريوش بطركاً برومة مكان بطرس من بعد خمس وعشرين سنة مضت لبطرس في كرسيها، وهو رأس الحواريين ورسول المسيح إلى رومة. وقتل مرقص الإنجيلي بالإسكندرية لثنتي عشرة من ملكه، وكان هنالك سبع سنين بها مساعداً إلى النصرانية بالإسكندرية ومصر وبرقة والمغرب، وولى مكانه حنانيا ويسمى بالقبطية جنبار، وهو أول البطارقة بها).
ذهب الى روما وآمنت به زوجة قيصر
 كان بطرس (ع) يذهب الى روما حسب الحاجة، وكان المؤمنون فيها مرتبطين به. قال المسعودي في التنبيه والإشراف (1/109): (السادس: قلوذيوس بن طيباريوس، ملك أربع عشرة سنة.. وفي السنة الثالثة من ملكه دخل شمعون الصفا مدينة رومية، وسقف بها، ودبرها سنين، ودانت امرأة الملك، وكان اسمها فروطانيقى ويقال لها بطريقية النصرانية، وصارت إلى أورشلم وهي بيت المقدس فأخرجت الخشبة التي تظن النصارى أن المسيح صلب عليها، ويسمونها صليب المسيح، وكانت في أيدي اليهود، قد منعوا النصارى منها فأخذتها منهم وردتها على النصارى، وقوَّت أمرهم).
أقول: أظن أن المسعودي خلط بين هيلانة أم قسطنطين الذي تبنى المسيحية في القرن الثالث الميلادي، وبين هيلانة التي آمنت على يد بطرس (ع) في القرن الأول، وهي ملكة حدياب، وحدياب منطقة بين نهري الزاب على الحدود العراقية السورية.
http://www.godrules.net/library/Arabian/topics/topic4256.htm

وقال ابن الأثير في الكامل (1/125): (ثم ملك قلوديوس بن طيباريوس أربع عشرة سنة وفي ملكه حبس شمعون الصفا، ثم خلص شمعون من الحبس وسار إلى أنطاكية فدعا إلى النصرانية، ثم سار إلى رومية فدعا أهلها أيضاً فأجابته زوجة الملك وسارت إلى بيت المقدس وأخرجت الخشبة وردتها إلى النصارى. ثم ملك نيرون ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر. وفي آخر ملكه قتل بطرس وبولس بمدينة رومية وصلبهما منكسين. وفي أيامه ظفرت اليهود بيعقوب بن يوسف وهو أول الأساقفة بالبيت المقدس فقتلوه، وأخذوا خشبة الصليب. وفي أيامه كان مارينوس الحكيم صاحب كتاب الجغرافيا في صورة الأرض. ثم ملك بعده غلباس سبعة أشهر. ثم ملك أوثون ثلاثة أشهر.
ثم ملك بيطاليس أحد عشرة شهراً. ثم ملك اسباسيانوس سبع سنين وسبعة أشهر وفي أيامه خالف أهل البيت المقدس قيصر، فحصرهم وافتتح المدينة عنوةً وقتل كثيراً من أهلها من اليهود والنصارى، وعمهم الأذى في أيامه).
من تواضع بطرس ومعجزاته (ع)
ينقل الكتاب المقدس/399، صورة عن تواضع بطرس (ع) فيقول: (كان بطرس يسير في كل مكان، فنزل بالقديسين المقيمين في اللد، فلقي فيها رجلاً اسمه أينياس يلزم الفراش منذ ثماني سنوات وكان مقعداً، فقال له بطرس: يا أينياس أبرأك يسوع المسيح، فقم وأصلح فراشك بيدك، فقام من وقته! ورآه جميع سكان اللد وسهل الشارون، فاهتدوا إلى الرب.
وكان في يافا تلميذة اسمها طابيثة، أي ظبية، غنية بالأعمال الصالحة والصدقات التي تعطيها، فاتفق أنها مرضت في تلك الأيام وماتت، فغسلوها ووضعوها في علية. ولما كانت اللد قريبة من يافا سمع التلاميذ أن بطرس فيها، فأرسلوا إليه رجلين وناشدوه: لا تتأخر في المجيء إلينا، فقام بطرس ومضى معهما، فلما وصل صعدوا به إلى العلية، فأقبلت عليه جميع الأرامل باكيات يرينه الأقمصة والأردية التي صنعتها ظبية إذ كانت معهن. فأخرج بطرس الناس كلهم، وجثا وصلى ثم التفت إلى الجثمان وقال: طابيثة قومي! ففتحت عينيها فأبصرت بطرس فجلست، فمد إليها يده وأنهضها ثم دعا القديسين والأرامل فأراهم إياها حية، فانتشر الخبر في يافا كلها، فآمن بالرب خلق كثير. ومكث بطرس بضعة أيام في يافا عند دباغ اسمه سمعان.
كان في قيصرية رجل اسمه قرنيليوس، قائد مائة من الكتيبة التي تدعى الكتيبة الإيطالية، وكان تقياً يخاف الله هو وجميع أهل بيته، ويتصدق على الشعب صدقات كثيرة، ويواظب على ذكر الله. فرأى نحو الساعة الثالثة بعد الظهر في رؤيا واضحة ملاك الله يدخل عليه ويقول له: يا قرنيليوس! فحدق إليه فاستولى عليه الخوف فقال: ما الخبر سيدي؟ فقال له: إن صلواتك وصدقاتك قد صعدت ذكراً عند الله. فأرسل الآن رجالاً إلى يافا وادع سمعان الذي يلقب بطرس فهو نازل عند دباغ اسمه سمعان، وبيته على شاطئ البحر. فلما انصرف الملاك الذي كلمه، دعا اثنين من خدمه وجندياً تقياً ممن كانوا يلازمونه، وروى لهم الخبر كله وأرسلهم إلى يافا، فبينما هم سائرون في الغد وقد اقتربوا من المدينة، صعد بطرس إلى السطح نحو الظهر ليصلي، فجاع فأراد أن يتناول شيئاً من الطعام، وبينما هم يعدون له الطعام أصابه جذب فرأى السماء مفتوحة، ووعاءً كسماط عظيم نازلاً يتدلى إلى الأرض بأطرافه الأربعة، وكان فيه من جميع ذوات الأربع وزحافات الأرض وطيور السماء! وإذا صوتٌ يقول له: قم يا بطرس فاذبح وكلْ، فقال بطرس: حاش لي يا رب لم آكل قط نجساً أو دنساً، فعاد إليه صوت فقال له ثانياً: ما طهره الله لا تنجسه أنت. وحدث ذلك ثلاث مرات، ثم رُفع الوعاء من وقته إلى السماء! فتحير بطرس وأخذ يسائل نفسه ما تعبير الرؤيا التي رآها، وإذا الرجال الذين أرسلهم قرنيليوس، وكانوا قد سألوا عن بيت سمعان، ووقفوا بالباب ونادوا مستخبرين أنازل بالمكان سمعان الملقب بطرس؟
وبينما بطرس يفكر في الرؤيا قال له الروح: هناك ثلاثة رجال يطلبونك، فقم فأنزل إليهم، واذهب معهم غير متردد، فإني أنا أرسلتهم.
فنزل بطرس إلى هؤلاء الرجال وقال لهم: أنا من تطلبون، فما الذي جاء بكم؟ قالوا: إن قائد المائة قرنيليوس رجل صديق يتقي الله، وتشهد له أمة اليهود كلها، أوعز إليه ملاك طاهر أن يدعوك إلى بيته ليسمع ما عندك من أمور.
فدعاهم وأضافهم، وفي الغد قام فمضى معهم ورافقهم بعض الإخوة من يافا فدخل قيصرية في اليوم الثاني. وكان قرنيليوس ينتظرهم وقد دعا أقاربه وأخص أصدقائه، فلما دخل بطرس استقبله قرنيليوس وارتمى على قدميه ساجداً له، فأنهضه بطرس وقال: قم فأنا نفسي أيضاً بشر ودخل وهو يحادثه فوجد جماعة من الناس كثيرة، فقال لهم: تعلمون أنه حرام على اليهودي أن يعاشر أجنبياً، أو يدخل منزله، أما أنا فقد بين الله لي أنه لا ينبغي أن أدعو أحداً من الناس نجساً أو دنساً، فلما دُعيت جئت ولم أعترض، فأسألكم ما الذي حملكم على أن تدعوني؟
فقال له قرنيليوس: كنت قبل أربعة أيام في مثل هذا الوقت أصلي في بيتي عند الساعة الثالثة بعد الظهر، وإذا رجل عليه ثياب براقة قد حضر أمامي وقال: يا قرنيليوس، سمعت صلواتك، وذكرت لدى الله صدقاتك، فأرسل إلى يافا، وادع سمعان الملقب بطرس، فهو نازل في بيت سمعان الدباغ على شاطئ البحر، فأرسلت إليك لوقتي، وأنت أحسنت صنعاً في مجيئك، ونحن الآن جميعاً أمام الله، لنسمع جميع ما أمرك به الرب، فشرع بطرس يقول: أدركت حقاً أن الله لا يراعي ظاهر الناس، فمن اتقاه من أية أمة كانت وعمل البرَّ، كان عنده مرضياً، والكلمة الذي أرسله إلى بني إسرائيل مبشراً بالسلام عن يد يسوع المسيح، إنما هو رب الناس أجمعين...
وكان بطرس لايزال يروي هذه الأمور، إذ نزل الروح القدس على جميع الذين سمعوا كلمة الله، فدهش المؤمنون المختونون الذين رافقوا بطرس! ذلك بأن موهبة الروح القدس قد أفيضت على الوثنيين أيضاً، فقد سمعوهم يتكلمون بلغات غير لغتهم ويعظمون الله! فقال بطرس: أيستطيع أحد أن يمنع هؤلاء من ماء المعمودية، وقد نالوا الروح القدس مثلنا؟ ثم أمر أن يعمدوا باسم يسوع المسيح، فسألوه أن يقيم عندهم بضعة أيام.
وسمع الرسل والأخوة في اليهودية أن الوثنيين هم أيضاً قبلوا كلمة الله، فلما صعد بطرس إلى أورشليم، أخذ المختونون يخاصمونه قالوا: لقد دخلت إلى أناس قلفٍ وأكلت معهم! فشرع بطرس يعرض لهم الأمر عرضاً مفصلاً قال: كنت أصلي في مدينة يافا فأصابني جذب فرأيت رؤياً، فإذا وعاءٌ هابطٌ كسماط عظيم يتدلى من السماء بأطرافه الأربعة حتى انتهى إلي...
فإذا كان الله قد وهب لهم مثل ما وهب لنا، لأننا آمنا بالرب يسوع المسيح، هل كان في إمكاني أنا أن أمنع الله؟ فلما سمعوا ذلك، هدأوا ومجدوا الله وقالوا: قد وهب الله إذاً للوثنيين أيضاً التوبة التي تؤدي إلى الحياة).
أقول: يظهر بذلك أن شمعون (ع) هو الذي كسر حصر الإيمان بالمسيح (ع) باليهود ودعا إليه ديناً عالمياً لكل الشعوب، وقد اعترض عليه اليهود كيف جلس وأكل مع نجسين غير مختونين من الشعوب الأخرى، فأجابهم وشرح لهم أن الله تعالى أمره بهذا، فأخذوا يتفهمون! لكنهم عادوا بعد ذلك وكفَّروا المسيحيين، وشمعون الصفا والمسيح وأمه (ع). وكانت بينهم وبين المسيحيين من أصل يهودي وغيرهم صراعات وحروب، وبلغ حقد اليهود على المسيحيين أنهم اشتروا من الفرس عند انتصارهم على الروم الأسرى النصارى الروم، وبلغوا تسعين ألفاً، وذبحوهم!
رسالتا بطرس (ع) الى أتباعه
رووا عن بطرس أنه أرسل رسالتين إلى أتباعه، ولا نثق بروايتهما، لأنهما تتضمنان أفكاراً عن المسيحية، كما قدمها بولس، وليس كما قدمها بطرس والمسيح (ع):
الرسالة الأولى:
كما في الكتاب المقدس/742: (من بطرس رسول يسوع المسيح إلى المختارين الغرباء المشتتين في البنط وغلاطية وقبدوقية وآسية وبتينية، إلى المختارين بسابق علم الله الآب وتقديس الروح، ليطيعوا يسوع المسيح وينضحوا بدمه. عليكم أوفر النعمة والسلام!
تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، شملنا بوافر رحمته، فولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات، ولميراث غير قابل للفساد والرجاسة والذبول، محفوظ لكم في السماوات، أنتم الذين تحرسهم قدرة الله بالإيمان لخلاص سينكشف في اليوم الأخير. إنكم تهتزون له فرحاً، مع أنه لا بد لكم من الاغتمام حيناً بما يصيبكم من مختلف المحن. فيمتحن بها إيمانكم وهو أثمن من الذهب الفاني الذي مع ذلك يمتحن بالنار، فيؤول إلى الحمد والمجد والتكرمة عند ظهور يسوع المسيح، ذلك الذي لا ترونه وتحبونه، وإلى الآن لم تروه وتؤمنون به، فيهزكم فرح لا يوصف ملؤه المجد، لبلوغكم غاية الإيمان ألا وهي خلاص نفوسكم.
عن هذا الخلاص كان فحص الأنبياء وبحثهم، فتنبئوا بالنعمة المعدة لكم وبحثوا عن الوقت والأحوال التي أشار إليها روح المسيح الذي فيهم، حين شهد من ذي قبل بما عد للمسيح من الآلام وما يتبعها من المجد، وكشف لهم أن قيامهم بهذه الأمور لم يكن من أجلهم، بل من أجلكم. وقد أخبركم الآن بتلك الأمور أولئك الذين بشروكم بها، ويؤيدهم الروح القدس المرسل من السماء، والملائكة يشتهون أن يمعنوا النظر فيها. فنبهوا أذهانكم وكونوا صاحين، واجعلوا كل رجائكم في النعمة التي تأتيكم يوم ظهور يسوع في المجد. وشأنكم شأن الأبناء الطائعين، فلا تتبعوا ما سلف من شهواتكم في أيام جاهليتكم. بل كما أن الذي دعاكم هو قدوس، فكذلك كونوا أنتم قديسين في سيرتكم كلها، لأنه مكتوب: كونوا قديسين، لأني أنا قدوس.
وإذا كنتم تدعون أباً لكم ذاك الذي يدين من غير محاباة كل واحد على قدر عمله، فسيروا مدة غربتكم على خوف، وقد علمتم أنكم لم تفتدوا بالفاني من الفضة أو الذهب من سيرتكم الباطلة التي ورثتموها عن آبائكم، بل بدم كريم، دم الحمل الذي لا عيب فيه ولا دنس، دم المسيح.
وكان قد اصطفي من قبل إنشاء العالم، ثم كشف من أجلكم في الأزمنة الأخيرة، وبفضله تؤمنون بالله الذي أقامه من بين الأموات وأولاه المجد، فيكون إيمانكم ورجاؤكم في الله. أطعتم الحق فطهرتم نفوسكم كيما يحب بعضكم بعضا حباً أخوياً بلا رياء. فليحب بعضكم بعضاً حباً ثابتاً بقلب طاهر، فإنكم ولدتم ولادة ثانية، لا من زرع فاسد، بل من زرع غير فاسد، من كلمة الله الحية الباقية، لأن كل بشر كالعشب وكل مجد له كزهر العشب: العشب ييبس والزهر يسقط، وأما كلمة الله فتبقى للأبد.
هذه هي الكلمة التي بشرتم بها، فألقوا عنكم كل خبث وكل غش وكل أنواع الرياء والحسد والنميمة، وارغبوا كالأطفال الرضع في اللبن الحليب الصافي، لبن كلمة الله، لتنموا بها من أجل الخلاص، إذا كنتم قد ذقتم كيف أن الرب طيب. اقتربوا منه فهو الحجر الحي الذي رذله الناس فاختاره الله، وكان عنده كريماً. وأنتم أيضاً شأن الحجارة الحية، تبنون بيتاً روحياً فتكونون جماعة كهنوتية مقدسة، كيما تقربوا ذبائح روحية يقبلها الله عن يد يسوع المسيح. فقد ورد في الكتاب: ها أنذا أضع في صهيون حجراً للزاوية مختاراً كريماً، فمن اتكل عليه لا يخزى. فالكرامة لكم أيها المؤمنون، أما غير المؤمنين فإن الحجر الذي رذله البناؤون هو الذي صار رأسا للزاوية وحجر صدم وصخرة عثار.
إنهم يعثرون لأنهم لا يؤمنون بكلمة الله: هذا ما قدر لهم، أما أنتم فإنكم ذرية مختارة وجماعة الملك الكهنوتية وأمة مقدسة، وشعب اقتناه الله للإشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب. لم تكونوا بالأمس شعب الله وأما الآن فإنكم شعبه. كنتم لا تنالون الرحمة، وأما الآن فقد نلتم الرحمة.
أيها الأحباء، أحثكم، وأنتم غرباء نزلاء، على أن تتجنبوا شهوات الجسد، فإنها تحارب النفس. سيروا سيرة حسنة بين الوثنيين، حتى إذا افتروا عليكم أنكم فاعلو شر شاهدوا أعمالكم الصالحة، فمجدوا الله يوم الافتقاد.
اخضعوا لكل نظام بشري من أجل الرب: للملك على أنه السلطان الأكبر، وللحكام على أن لهم التفويض منه أن يعاقبوا فاعل الشر، ويثنوا على فاعل الخير، لأن مشيئة الله هي أن تعملوا الخير فتفحموا جهالة الأغبياء.
فسيروا سيرة الأحرار، لا سيرة من يجعل من الحرية ستارا لخبثه، بل سيرة عباد الله. أكرموا جميع الناس، أحبوا إخوتكم، اتقوا الله، أكرموا الملك.
أيها الخدم، اخضعوا لسادتكم خضوعاً ملؤه المخافة، لا للصالحين والحلماء فقط، بل لجفاة الطباع أيضاً. فمن الحظوة أن يتحمل المرء مشقات يعانيها ظلماً في سبيل الله. فأي مفخرة لكم إن أخطأتم وضربتم فصبرتم على الضرب، ولكن إن عملتم الخير وتألمتم وصبرتم على الآلام، كان في ذلك حظوة عند الله. فلهذا دعيتم، فقد تألم السيح أيضاً من أجلكم وترك لكم مثالاً لتقتفوا آثاره، إنه لم يرتكب خطيئة ولم يوجد في فمه غش، شُتم ولم يرد على الشتيمة بمثلها، تألم ولم يهدد أحداً، بل أسلم أمره إلى من يحكم بالعدل، هو الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن خطايانا فنحيا للبر. وهو الذي بجراحه شفيتم، فقد كنتم كالغنم ضالين، أما الآن فقد رجعتم إلى راعي نفوسكم وحارسها.
وكذلك أنتن أيتها النساء، اخضعن لأزواجكن، حتى إذا كان فيهم من يعرضون عن كلمة الله، استمالتهم بغير كلام سيرة نسائهم لما يشاهدون في سيرتكن من عفة ووقار. لا تكن زينتكن زينة ظاهرة من ضفر الشعر والتحلي بالذهب والتأنق في الملابس، بل الخفي من قلب الإنسان، أي زينة بريئة من الفساد لنفس وادعة مطمئنة: ذلك هو الثمين عند الله. كذلك كانت النساء القديسات المتكلات على الله يتزين بالأمس خاضعات لأزواجهن، كسارة التي كانت تطيع إبراهيم وتدعوه سيدها. ولها صرتن بنات تعملن الخير ولا تستسلمن إلى شيء من أسباب الخوف. وكذلك أنتم أيها الرجال، ساكنوهن بالحسنى، علما منكم بأن المرأة أضعف منكم جبلة، وأولوهن حقهن من الإكرام على أنهن شريكات لكم في إرث نعمة الحياة، لكيلا يحول شيء دون صلواتكم.
وآخر الأمر كونوا متفقين في الرأي، مشفقين بعضكم على بعض، متحابين كالأخوة، رحماء متواضعين. لا تردوا الشر بالشر، والشتيمة بالشتيمة، بل باركوا، لأنكم لهذا دعيتم، لترثوا البركة، لأن من شاء أن يحب الحياة ويرى أياماً سعيدة، وجب عليه أن يكف لسانه عن الشر وشفتيه عن كلام الغش، ويبتعد عن الشر ويعمل الخير ويطلب السلام ويتبعه، لأن الرب يراعي بعينه الأبرار ويصغي سمعه إلى دعائهم. ولكن الرب ينظر بوجه مغضب إلى الذين يعملون السيئات. فمن يسيء إليكم إذا كنتم ناشطين للخير، لا، بل إذا تألمتم من أجل البر فطوبى لكم! لا تخافوا وعيدهم ولا تضطربوا، بل قدسوا الرب المسيح في قلوبكم. وكونوا دائماً مستعدين لأن تردوا على من يطلب منكم دليل ما أنتم عليه من الرجاء، ولكن ليكن ذلك بوداعة ووقار، وليكن ضميركم صالحاً، فإذا قال بعضهم إنكم فاعلو شر، يخزى الذين عابوا حسن سيرتكم في المسيح، فخير لكم أن تتألموا وأنتم تعملون الخير، إن شاء الله ذلك من أن تتألموا وأنتم تعملون الشر.
فالمسيح نفسه مات مرة من أجل الخطايا، مات وهو بارٌّ من أجل فجار ليقربكم إلى الله. أميت في جسده ولكنه أحييَ بالروح فذهب بهذا الروح يبشر الأرواح التي في السجن أيضاً، وكانت بالأمس قد عصت، حين قضى لطف الله بالإمهال، وذلك أيام كان نوح يبني السفينة فنجا فيها بالماء عدد قليل، أي ثمانية أشخاص. وهي رمز للمعمودية التي تنجيكم الآن أنتم أيضاً، إذ ليس المراد بها إزالة أقذار الجسد، بل معاهدة الله بضمير صالح، بفضل قيامة يسوع المسيح، وهو عن يمين الله، بعدما ذهب إلى السماء، وقد أخضع له الملائكة وأصحاب القوة والسلطان. أما وقد تألم المسيح في جسده، فتسلحوا أنتم بهذه العبرة، وهي أن من تألم في جسده كف عن الخطيئة ليقضي ما بقي من حياة الجسد، لا في الشهوات البشرية، بل بالعمل بمشيئة الله.
فكفاكم ما قضيتم من الزمن الماضي في العمل بمشيئة الوثنيين، فعشتم في الفجور والشهوات والسكر والقصوف في الطعام والشراب وعبادة الأوثان المحرمة. وإنهم ليستغربون منكم كيف لا تجارونهم فتنغمسوا معهم في هذا السيل الجارف من الفجور، فيشتمونكم، لكنهم سيحاسبون بهذا عند الذي أزمع أن يدين الأحياء والأموات. ولذلك أبلغت البشارة إلى الأموات أيضاً ليكونوا أحياء في الروح عند الله، إذا دينوا في الجسد عند الناس.
اقتربت نهاية كل شيء. فكونوا عقلاء قنوعين لكي تقيموا الصلاة. وقبل كل شيء ليحب بعضكم بعضاً محبة ثابتة، لأن المحبة تستر كثيراً من الخطايا. ليضف بعضكم بعضاً من غير تذمر، وليخدم بعضكم بعضاً، كل واحد بما نال من الموهبة كما يحسن بالوكلاء الصالحين على نعمة الله المتنوعة.
وإذا تكلم أحد فليكن كلامه كلام الله. وإذا قام أحد بالخدمة، فلتكن خدمته بالقوة التي يمنحها الله، حتى يمجد الله في كل شيء بيسوع المسيح، له المجد والعزة أبد الدهور. آمين.
أيها الأحباء، لا تستغربوا الحريق الذي أصابكم لامتحانكم، كأنه أمر غريب حل بكم، بل افرحوا بقدر ما تشاركون المسيح في آلامه، حتى إذا تجلى مجده كنتم في فرح وابتهاج. طوبى لكم إذا عيروكم من أجل اسم المسيح، لأن روح المجد روح الله يستقر فيكم. لا يكونن فيكم من يتألم لأنه قاتل أو سارق أو فاعل شر أو واشٍ، ولكنه إذا تألم لأنه مسيحي فلا يخجل بذلك، بل ليمجد الله على هذا الاسم. فقد حان الوقت الذي فيه تبتدئ الدينونة ببيت الله، فإذا بدأت بنا، فما تكون عاقبة الذين أعرضوا عن بشارة الله؟ وإذا كان البار يخلص بعد جهد، فأياً تكون حالة الكافر الخاطئ؟
وأما الذين يتألمون كما شاء الله، فليستودعوا الخالق الأمين نفوسهم مواظبين على عمل الخير. فالشيوخ الذين بينكم، أعظهم أنا الشيخ مثلهم والشاهد لآلام المسيح، ومن له نصيب في المجد الذي يوشك أن يتجلى: ارعوا قطيع الله الذي وكل إليكم واحرسوه طوعاً لا كرهاً، لوجه الله، لا رغبة في مكسب خسيس، بل لما فيكم من حمية.
ولا تتسلطوا على الذين هم في رعيتكم، بل كونوا قدوة للقطيع. ومتى ظهر راعي الرعاة، تنالون إكليلاً من المجد لا يذبل.
وكذلك أيها الشبان، اخضعوا للشيوخ، والبسوا جميعاً ثوب التواضع في معاملة بعضكم لبعض، لأن الله يكابر المتكبرين وينعم على المتواضعين. فتواضعوا تحت يد الله القادرة ليرفعكم في حينه، وألقوا عليه جميع همكم فإنه يعنى بكم. كونوا قنوعين ساهرين. إن إبليس خصمكم كالأسد الزائر يرود في طلب فريسة له، فقاوموه راسخين في الإيمان، عالمين أن إخوتكم المنتشرين في العالم يعانون الآلام نفسها. وإذا تألمتم قليلاً، فإن إله كل نعمة، الإله الذي دعاكم إلى مجده الأبدي في المسيح، هو الذي يعافيكم ويثبتكم ويقويكم ويجعلكم راسخين. له العزة أبد الدهور. آمين.
كتبت إليكم بهذه الكلمات الوجيزة بيد سلوانس، وهو عندي أخ أمين، لأعظكم بها، وأشهد أن هذه هي نعمة الله الحقيقية التي أنتم عليها ثابتون. تسلم عليكم جماعة المختارين التي في بابل، ومرقس ابني. ليسلم بعضكم على بعض بقبلة المحبة. السلام عليكم جميعاً، أنتم الذين في المسيح).
الرسالة الثانية:
الكتاب المقدس/755: (من سمعان بطرس عبد يسوع المسيح ورسوله، إلى الذين نالوا من فضل بر إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، إيماناً كإيماننا ثميناً. عليكم أوفر النعمة والسلام، بمعرفتكم لله وليسوع ربنا، فإن قدرته الإلهية منحتنا كل ما يؤول إلى الحياة والتقوى، ذلك بأنها جعلتنا نعرف الذي دعانا بمجده وقوته فمنحنا بهما أثمن المواعد وأعظمها، لتصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية في ابتعادكم عما في الدنيا من فساد الشهوة.
من أجل ذلك ابذلوا غاية جهدكم لتضيفوا الفضيلة إلى إيمانكم، والمعرفة إلى الفضيلة، والعفاف إلى المعرفة، والثبات إلى العفاف، والتقوى إلى الثبات، والإخاء إلى التقوى، والمحبة إلى الإخاء، فإذا كانت هذه الخصال فيكم وكانت وافرة، لا تدعكم بطالين، وبغير ثمر لمعرفة ربنا يسوع المسيح.
ومن نقصته هذه الخصال، فهو أعمى قصير البصر، نسي أنه طهر من خطاياه السالفة. فضاعفوا جهدكم يا إخوتي في تأييد دعوة الله واختياره لكم. فإذا فعلتم ذلك لا تزلون أبداً، وبذلك يفسح لكم في مجال الدخول إلى الملكوت الأبدي، ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح.
ذلك سأذكركم هذه الأشياء دائماً، وإن كنتم تعرفونها وتثبتون في الحقيقة الحاضرة، وأرى رأي الحق، ما دمت في هذه الخيمة أن أنبهكم بتذكيري، لعلمي أن رحيلي عن هذه الخيمة قريب، كما أعلمني ربنا يسوع المسيح. فسأبذل جهدي لكي يمكنكم في كل فرصة، أن تتذكروا هذه الأمور بعد رحيلي. قد أطلعناكم على قدرة ربنا يسوع المسيح وعلى مجيئه، لا اتباعاً منا لخرافات سوفسطائية بل لأننا عاينا جلاله، فقد نال من الله الآب إكراماً ومجداً إذ جاءه من المجد جل جلاله صوت يقول: هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت. وذاك الصوت قد سمعناه آتياً من السماء، إذ كنا معه على الجبل المقدس، فازداد كلام الأنبياء ثباتاً عندناً، وإنكم لتحسنون عملاً إذا نظرتم إليه نظركم إلى سراج يضيء في مكان مظلم، حتى يطلع الفجر ويشرق كوكب الصبح في قلوبكم. واعلموا قبل كل شيء أنه ما من نبوءة في الكتاب تقبل تفسيراً يأتي به أحد من عنده، إذ لم تأت نبوءة قط بإرادة بشر، ولكن الروح القدس حمل بعض الناس على أن يتكلموا من قبل الله.
وكما كان في الشعب أنبياء كذابون، فكذلك يكون فيكم معلمون كذابون يحدثون بدعاً مهلكة وينكرون السيد الذي افتداهم فيجلبون لأنفسهم هلاكاً سريعاً. وسيتبع كثير من الناس فواحشهم ويكونون سبباً للتجديف على طريق الحق، ويستغلونكم بكلام ملفق لما فيهم من طمع.
غير أن الحكم عليهم منذ القدم لا يبطل وهلاكهم لا يلحقه فتور، فإذا كان الله لم يعف عن الملائكة الخاطئين، بل أهبطهم أسفل الجحيم وأسلمهم إلى أحابيل الظلمات حيث يحفظون ليوم الدينونة، وإذا كان لم يعف عن العالم القديم فجلب الطوفان على عالم الكفار، ولكنه حفظ نوحا ثامن الذين نجوا وكان يدعو إلى البر، وإذا كان قد جعل مدينتي سدوم وعمورة رماداً فحكم عليهما بالخراب عبرة لمن يأتي بعدهما من الكفار، وأنقذ لوطاً البار وقد شقت عليه سيرة الفجور التي يسيرها أولئك الفاسقون، وكان هذا البار ساكناً بينهم وكانت نفسه الزكية تعذب يوماً بعد يوم لما يرى ويسمع عن أعمالهم الأثيمة، فذلك أن الرب يعلم كيف ينقذ الأتقياء من المحنة ويبقي الفجار للعقاب يوم الدينونة، ولاسيما الذين يتبعون الجسد بشهواته الدنسة ويزدرون العزة الإلهية.
إنهم ذوو جرأة معجبون بأنفسهم لا يخشون التجديف على أصحاب المجد، مع أن الملائكة، وهم أعظم منهم بالقوة والقدرة، لا يدس بعضهم على بعض نمائمه عند الرب. أما أولئك فهم كالحيوانات العجم التي جعلت من طبيعتها عرضة لأن تصاد وتهلك، يجدفون على ما يجهلون. فسيهلكون هلاكها ويلقون الظلم أجراً للظلم. يلتذون بالترف في رائعة النهار، أدناس خلعاء يلتذون بخدائعهم إذا قصفوا معكم. لهم عيون مملوءة فسقاً منهومة بالخطيئة، يفتنون النفوس التي لا ثبات لها، ولهم قلوب تعودت الطمع، وهم بنو اللعنة تركوا الطريق المستقيم وضلوا في سلوكهم، طريق بلعام بن باصر الذي أحب أجر الإثم فناله التوبيخ بمعصيته، إذ نطق حمار أعجم بصوت بشري، فرد النبي عن هوسه. هؤلاء ينابيع جف ماؤها، وغيوم تدفعها الزوبعة، أعدوا للظلمات الحالكة. يتكلمون بعبارات طنانة فارغة فيفتنون بشهوات الجسد والفجور أناساً كادوا يتخلصون من الذين يعيشون في الضلال. يعدونهم بالحرية وهم عبيد للمفاسد، لأن الإنسان عبد لما استولى عليه. فإنهم إذا ابتعدوا عن أدناس الدنيا لمعرفتهم ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، ثم عادوا إليها يتقلبون فيها فغلبوا على أمرهم، صارت حالتهم الأخيرة أسوأ من حالتهم الأولى، فقد كان خيراً ألا يعرفوا طريق البر من أن يعرفوه ثم يعرضوا عن الوصية المقدسة، التي سلمت إليهم. لقد صدق فيهم المثل القائل: عاد الكلب إلى قيئه يلحسه، وما اغتسلت الخنزيرة حتى تمرغت في الطين.
هذه رسالة أخرى كتبت بها إليكم أيها الأحباء، وفيهما أنبه بتذكيري أذهانكم السليمة. فتذكروا الكلام الذي قاله الأنبياء القديسون من قبل ووصية رسلكم، وهي وصية الرب المخلص. فاعلموا أول الأمر أنه سيأتي في آخر الأيام قوم مستهزئون كل الاستهزاء، تقودهم أهواؤهم فيقولون: أين موعد مجيئه؟ مات آباؤنا ولا يزال كل شيء منذ بدء الخليقة على حاله! فهم يتجاهلون أنه كان هناك من زمن قديم سماوات وأرض خرجت من الماء وقائمة بالماء، وقد حدث ذلك بكلمة الله، وأنه بهذه الأسباب نفسها هلك عالم الأمس غرقاً في الماء.
أما السماوات والأرض في أيامنا هذه، فإن الكلمة نفسها أبقت عليها للنار إلى يوم الدينونة وهلاك الكافرين. وهناك أمر لا يصح لكم أن تجهلوه أيها الأحباء وهو أن يوماً واحداً عند الرب بمقدار ألف سنة وألف سنة بمقدار يوم واحد. إن الرب لا يبطئ في إنجاز وعده كما اتهمه بعض الناس، ولكنه يصبر عليكم لأنه لا يشاء أن يهلك أحد، بل أن يبلغ جميع الناس إلى التوبة.
سيأتي يوم الرب كما يأتي السارق، فتزول السماوات في ذلك اليوم بدوي قاصف وتنحل العناصر مضطرمة، وتحاكم الأرض وما فيها من الأعمال.
إذا كانت جميع هذه الأشياء ستنحل على ذلك الوجه، فكيف يجب عليكم أن تكونوا في قداسة السيرة والتقوى، تنتظرون وتستعجلون مجيء يوم الله الذي فيه تنحل السماوات مشتعلة وتذوب العناصر مضطرمة.
غير أننا ننتظر، كما وعد الله، سماوات جديدة وأرضاً جديدة يقيم فيها البر. فاجتهدوا أيها الأحباء وأنتم تنتظرون هذه الأمور، أن تكونوا لديه لا دنس فيكم ولا لوم عليكم، لتوجدوا في سلام. وعدوا طول أناة ربنا وسيلة لخلاصكم، كما كتب إليكم بذلك أخونا الحبيب بولس على قدر ما أوتي من الحكمة، شأنه في جميع الرسائل كلما تناول هذه المسائل.
وقد ورد فيها أمور غامضة يحرفها الذين لا علم عندهم ولا ثبات، كما يفعلون في سائر الكتب، وإنما يفعلون ذلك لهلاكهم.
أما أنتم أيها الأحباء فقد بلغتم من قبل، فتنبهوا لئلا تنقادوا إلى ضلال الفاسقين فيهوي عنكم ثباتكم، وانموا في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، له المجد الآن ومدى الأبد. آمين).
ملاحظات على رسالتي بطرس (ع)
الإشكالات على الرسالتين كثيرة، وأولها: الشك في نسبتهما إلى بطرس (ع). وثانيها: أن مستواهما العلمي والروحي دون مستوى بطرس (ع)، والمرجح أن يد التحريف امتدت إلى رسائله، كما امتدت إلى بقية سيرته (ع).
وثالثها: أنهما تضمنتا مدح بولس، وفي اعتقادنا أن بولس كان برأي بطرش منحرفاً ومحرفاً للمسيحية، فلا يمكن أن يمدحه.
ورابعها: أنها تعبر عن المسيح بالرب، وتصفه بأنه ابن الله، وهي تعابير من بولس، ولا يمكن أن تصدر عن بطرس (ع) حسب اعتقادنا.
وخامسها: أن أسلوب الرسالتين مختلف، يوجب الشك بأن كاتبهما واحد.
وسادسها: في الرسالتين تكرارٌ للأفكار وتطويل في الكلام، مما يشير إلى قلق الكاتب وقلة يقينه، وهذا لا يتناسب مع يقين بطرس (ع).
وسابعها: جاء في الكتاب المقدس/735، ملخصاً: (لا تلقى رسالة بطرس الأولى اهتماماً كبيراً من قبل اللاهوتيين، لأنها لا تحوي شرحاً لاهوتياً بعيد الغور، ولا تأتي بتعليم خاص، بالنظر إلى مجمل العهد الجديد... ولكن بعض أهل الاختصاص شكُّوا في صحة نسبة الرسالة إلى بطرس، وهذه أهم البراهين التي يأتون بها، والردود التي يمكن أن يرد بها عليهم:
1. اللغة اليونانية جيدة، وهذا يجعل من العسير نسبتها إلى بطرس الصياد الجليلي وقد أجابوا بأن اليونانية كانت منتشرة، وقد يكون أحدٌ ترجمتها له، لكنه غير مقنع.
2. لا تكشف رسالة بطرس الأولى عن معرفته بيسوع كما تصفه الأناجيل، ولم يتكلم الكاتب إلا كلاماً مجملاً على آلام المسيح وموته. وهو يغفل إغفالاً تاماً معاني أساسية من تعليم يسوع: ملكوت الله وابن الإنسان، على سبيل المثال. فلو كان كاتب الرسالة بطرس التلميذ القريب جداً من يسوع، لتكلم بشكل آخر!
3. يقال إن في الرسالة تلميحاً إلى الاضطهادات الرسمية الأولى العامة لا المحلية فحسب، التي لا يمكن تحديد تاريخها قبل عهد الإمبراطور دوميثيانس من سنة81 إلى 96 م. أي بعد موت بطرس بوقت كثير.
4. تنبه كثير من النقاد إلى المعمودية، فليس في الرسالة ذكر واضح لحفلة المعمودية إلا مرة واحدة، ولكن في فقرة تتناول أول التوافق بين العهدين القديم والجديد.
5. الشكر على طريقة البركات اليهودية...الخ.
معنى: تسلم عليكم جماعة المختارين التي في بابل؟
فسر بعض شراح الأناجيل بابل في رسالة بطرس بروما! ولعله معذور لأنه لم ينتبه الى أن المضطهدين في الدولة الرومانية كانوا يبحثون عن منطقة ليس عليها سلطان للرومان، مثل بابل أو فارس. ولذلك أخذت مريم ابنها (ع) الى بابل لأنها خارج سلطة الروم واليهود، ثم الى مصر عندما سمح الظرف.
قال الإمام الصادق (ع) (كامل الزيارة/107): (في قول الله عز وجل: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، قال: الربوة نجف الكوفة، والمعين الفرات). وقال أمير المؤمنين (ع) (معاني الأخبار/373): (الربوة: الكوفة، والقرار: المسجد، والمعين: الفرات). واليك تبريرهم لتفسير بابل بروما:
http://katamars.avabishoy.com/bible/dictionary/2/16.htm

(تستخدم بابل في العهد الجديد بمعنيين مختلفين على الأقل:
1- بابل بين النهرين: فواضح أن المقصود بها في إنجيل متي(1: 11و12 و17) وفي أعمال الرسل (7: 43) هو مدينة بابل التي في بلاد النهرين، فالإشارة هنا هي قطعاً إلى السبي البابلي، فلا مجال لأي جدل في ذلك.
2- المعني الرمزي: واضح أيضاً أن الإشارات إلى بابل في سفر الرؤيا، جميعها إشارات رمزية، وأهم هذه الإشارات (14: 8، 16:19، 17: 5، 18: و10و21).
ففي (17: 5) يظن عدد قليل من المفسرين أن المقصود بها مدينة أورشليم، ولكن أغلب العلماء يرون أن رومية هي المعنية، وقد أقره جيروم وأوغسطينوس، وقبلته الكنيسة بصورة عامة. وهناك بعض الحقائق تؤيد أن رومية المقصودة ببابل هنا:
أ- الأوصاف المنسوبة لبابل في هذا النص تنطبق على رومية أكثر مما تنطبق على أي مدينة أخرى: لها مٌلك على ملوك الأرض(17: 18) جالسة على سبعة جبال(17: 9) مركز تجارة العالم (18: 3) مفسدة الأمم(17: 2، 18: 3، 19: 2) مضطهدة القديسين (17: 6).
ب - توصف روما بأنها بابل، في الأقوال السبليانية(5: 143) والكتابات الرؤيوية.
جـ – كان اليهود المسيحيون ينظرون إلى روما كعدو لملكوت الله، ويتوقعون سقوطها(رؤ 14: 8، 18: 2 و10 – 21) لأن كل مدينة مقاومة لشعب الله مصيرها كبابل.
3- بابل في رسالة بطرس الرسول الأولى: قال أرازمس وكلفن، إنها بابل بين النهرين، ويؤيد الكثيرون من العلماء هذا الرأي، بينهم فايس وتاير، ولكن ليس من دليل على أن بطرس قد ذهب إلى بابل، أو على وجود كنيسة في بابل في القرن الأول).
ج أقول: لا يصح استبعاد ذهاب بطرس (ع) الى العراق، بعد أن كان مهدداً بإلقاء القبض عليه، فمن الطبيعي أن يبحث عن مكان خارج سلطة الروم. كما أن صرف اللفظ عن ظاهره يحتاج الى دليل قوي، ولا يكفي فيه الاستبعاد!
شمعون الصفا (ع) هو الرسول الثالث في سورة ياسين
ذكر الله تعالى في سورة ياسين قريةً أرسل لها رسولين فكذبتهما فعزز بثالث، وقد أجمع المفسرون على أنها أنطاكية، وأن عيسى (ع) أرسل الرسولين فكذبوهما وحبسوهما، فأرسل الثالث وهو شمعون الصفا (ع) فعالج الموقف، وآمن الملك وبعض الناس. لكن بعد مدة تغير أهل أنطاكية وكفروا وأرادوا قتل الرسل، فجاء حبيب النجار المؤمن ينصح الناس بأن يؤمنوا بالرسل، فقتلوه، فانتقم الله من الكافرين وأهلكهم بصيحة جبرئيل (ع).
قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ. إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شيء إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ. قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ.
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ. وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أاتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونَ. إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ.
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّى وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ. وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ. إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ. يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ
) (يس:13-32).
بعض الأحاديث وأقوال المفسرين
1. في تفسير القمي(2/212) عن الإمام الباقر (ع) قال: (بعث الله رجلين إلى أهل مدينة أنطاكية فجاءاهم بما لا يعرفون، فغلظوا عليهما فأخذوهما وحبسوهما في بيت الأصنام، فبعث الله الثالث فدخل المدينة فقال: أرشدوني إلى باب الملك، قال: فلما وقف على باب الملك قال: أنا رجل كنت أتعبد في فلاة من الأرض وقد أحببت أن أعبد إله الملك معه، فأبلغوا كلامه الملك، فقال: أدخلوه إلى بيت الآلهة، فأدخلوه فمكث سنة مع صاحبيه، فقال: بهذا ينقل قوم من دين إلى دين، بالخرق! أفلا رفقتما. ثم قال لهما: [إذا رأيتماني] لا تقران بمعرفتي. ثم أدخل على الملك فقال له الملك بلغني أنك كنت تعبد إلهي فلم أزل وأنت أخي، فاسألني حاجتك! قال: ما لي حاجة أيها الملك، ولكن رأيت رجلين في بيت الآلهة فما بالهما؟ قال الملك: هذان رجلان أتياني ببطلان ديني ويدعواني إلى إله سماوي، فقال: أيها الملك فمناظرة جميلة، فإن يكن الحق لهما اتبعناهما وإن يكن الحق لنا دخلا معنا في ديننا، فكان لهما ما لنا وما عليهما ما علينا.
قال: فبعث الملك اليهما فلما دخلا إليه قال لهما صاحبهما: ما الذي جئتما به؟ قالا: جئنا ندعو إلى عبادة الله الذي خلق السماوات والأرض، ويخلق في الأرحام ما يشاء ويصور كيف يشاء، وأنبت الأشجار والأثمار، وأنزل القطر من السماء. قال فقال لهما: إلهكما هذا الذي تدعوان إليه والى عبادته إن جئنا بأعمى يقدر أن يرده صحيحاً؟ قالا: إن سألناه أن يفعل فعل إن شاء، قال: أيها الملك عليَّ بأعمى لم يبصر قط، قال فأتيَ به فقال لهما: أدعوا إلهكما أن يرد بصر هذا، فقاما وصليا ركعتين، فإذا عيناه مفتوحتان وهو ينظر إلى السماء، فقال: أيها الملك عليَّ بأعمى آخر، قال فأتي به قال: فسجد سجدة ثم رفع رأسه فإذا الأعمى الآخر بصير، فقال: أيها الملك حجة بحجة، عليَّ بمقعد، فأتي به فقال لهما مثل ذلك فصليا ودعوا الله، فإذا المقعد قد أطلقت رجلاه وقام يمشي، فقال: أيها الملك عليَّ بمقعد آخر فأتيَ به فصنع به كما صنع أول مرة، فانطلق المقعد.
فقال: أيها الملك قد أوتينا بحجتين وأتينا بمثلهما، ولكن بقي شيء واحد فإن هما فعلاه دخلت معهما في دينهما، ثم قال: أيها الملك بلغني أنه كان للملك ابن واحد ومات، فإن أحياه إلههما دخلت معهما في دينهما، فقال له الملك: وأنا أيضاً معك. ثم قال لهما: قد بقيت هذه الخصلة الواحدة، قد مات ابن الملك فادعوَا إلهكما فيحييه، قال فخرَّا إلى الأرض ساجدين لله وأطالا السجود، ثم رفعا رأسيهما وقالا للملك: إبعث إلى قبر ابنك تجده قد قام من قبره إن شاء الله! قال: فخرج الناس ينظرون فوجدوه قد خرج من قبره، ينفض رأسه من التراب، قال: فأتي به الملك فعرف أنه ابنه، فقال له: ما حالك يا بني؟
قال: كنت ميتاً فرأيت رجلين من بين يدي ربي الساعة ساجدين يسألانه أن يحييني فأحياني! قال: تعرفهما إذا رأيتهما؟ قال: نعم. قال: فأخرج الناس جملة إلى الصحراء فكان يمر عليه رجل رجل فيقول له أبوه: أنظر فيقول: لا، لا، ثم مروا عليه بأحدهما بعد جمع كثير، فقال: هذا أحدهما وأشار بيده إليه، ثم مروا أيضاً بقوم كثيرين حتى رأى صاحبه الآخر فقال: وهذا الآخر!
قال فقال النبي صاحب الرجلين: أما أنا فقد آمنت بإلهكما، وعلمت أن ما جئتما به هو الحق. قال فقال الملك: وأنا أيضاً آمنت بإلهكما ذلك وآمن أهل مملكته كلهم.. وقوله: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ). قال: نزلت في حبيب النجار إلى قوله: (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ). وقوله: (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ). أي ميتون).
2. في الكافي (2/259) عن الإمام الصادق (ع) قال: (كان مؤمن آل فرعون مُكَنَّعَ الأصابع فكان يقول هكذا ويمد يديه، ويقول: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)).
ومعنى مُكنع: أن أصابعه معقوفة من الجذام.
3. وفي تفسير الطبري(22/190): (كان من حديث صاحب يس فيما حدثنا محمد بن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وعن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه اليماني، أنه كان رجلاً من أهل أنطاكية وكان اسمه حبيباً، وكان يعمل الجرير، وكان رجلا سقيماً، قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند باب من أبوب المدينة قاصياً، وكان مؤمناً ذا صدقة، يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون فيقسمه نصفين فيطعم نصفاً عياله ويتصدق بنصف، فلم يهمه سقمه ولا عمله ولا ضعفه، عن عمل ربه، قال: فلما أجمع قومه على قتل الرسل، بلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم يذكرهم بالله، ويدعوهم إلى اتباع المرسلين، فقال: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
4. عن جابر بن عبد الله: (قال رسول الله (ص): ثلاثة لم يكفروا بالوحي طرفة عين: مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب، وآسية امرأة فرعون).
وعن محمد بن أبي ليلى: (قال رسول الله (ص): الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل يس الذي يقول: إتبعوا المرسلين، وحزقيل مؤمن آل فرعون، وعلي بن أبي طالب، وهو أفضلهم».(ابن ماجة:1/44، والحاكم: 3 /111 وصححاه).
5. في تفسير عبد الرزاق (3/141): (قال فرجموه بالحجارة، قال فجعل يقول: رب اهد قومي، أحسبه قال: فإنهم لا يعلمون. قال: فلم يزالوا يرجمونه حتى قتلوه، فدخل الجنة فقال: (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّى). حتى بلغ: (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً). قال: فما نوظروا بعد قتلهم إياه حتى أخذتهم: (صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)).
6. في تفسير الطبري (22/186): (عن قتادة.. ذكر لنا أن عيسى بن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية مدينة بالروم فكذبوهما، فأعزهما بثالث).
وفي تفسير الطبري (22/192): (هذا رجل دعا قومه إلى الله، وأبدى لهم النصيحة فقتلوه على ذلك).
وفي تفسير الطبري (23/4): (أن عبد الله بن مسعود، قال: غضب الله له يعني لهذا المؤمن لاستضعافهم إياه، غضبةً لم تبق من القوم شيئاً، فعجل لهم النقمة بما استحلوا منه، وقال: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ). يقول: ما كاثرناهم بالجموع: أي الأمر أيسر علينا من ذلك: (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)، فأهلك الله ذلك الملك وأهل أنطاكية، فبادوا عن وجه الأرض، فلم تبق منهم باقية).
أقول: هذه مبالغة من الراوي لأن أنطاكية بقيت وكان الهلاك خاصاً بأناس كذبوا الرسل (ع) وهم قلة بحسب الظاهر.
7. في تفسير الثعلبي (8/123): (قالت العلماء بأخبار الأنبياء: بعث عيسى (ع) رسولين من الحواريين إلى أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات، وهو حبيب صاحب ياسين فسلما عليه، فقال الشيخ: من أنتم؟ قالا: رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرَّحْمن. فقال: أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله. فقال الشيخ: إن لي ابناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين. قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله. فأتى بهما إلى منزله، فمسحه ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على يديهما كثيراً من المرضى، وكان لهم ملك يقال له سلاحين، وقال وهب: اسمه ابطيحيس، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، قالوا: فانتهى الخبر إليه فدعاهما فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى. قال: وما آيتكما؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص، ونُشفي المرضى بإذن الله. قال: وفيمَ جئتما؟ قالا: جئناك ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يُبصر إلى عبادة من يسمع ويُبصر. فقال الملك: أوَلنا إلهٌ سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما. فتتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق.
وقال وهب بن منبه.. فأتياها ولم يصلا إلى ملكها فطالت مدة مقامهما، فخرج الملك ذات يوم: فكبرا وذكرا الله، فغضب الملك وأمر بهما فأُخذا وحُبسا، وجلد كل واحد منهما مئة جلدة. قالوا: فلما كُذب الرسولان وضُربا، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما لينصرهما.
فدخل شمعون البلدة متنكراً وجعل يُعاشر حاشية الملك حتى أنَسوا به، فرُفع خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته وآنس به وأكرمه، ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل كلمتهما وسمعت قولهما... وذكر الحديث بنحو تفسير القمي.
وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب: بل كفر الملك، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل، فبلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم ويذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين.. وقال الحسن: خرقوا خرقاً في حلقة فعلقوه من سوق المدينة، وقبره في سور أنطاكية فأوجب الله له الجنة..
عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن أبيه قال: قال رسول الله (ص): سُبَّاق الأُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب آل يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون وعلي أفضلهم).
التعارض الظاهري بين الآيات والروايات
اتفق المفسرون إلا من شذ، على أن القرية المذكورة في سورة ياسين هي أنطاكية، وتظافرت الرواية بأن ملكها آمن على يد شمعون الصفا (ع). لكن الإشكال: متى كذب أهل أنطاكية الرسل، وجاء الرجل المؤمن وقتلوه، فأهلكهم الله بالصيحة؟ فهل كفر الملك بعد إيمانه، أم مات الملك وكفر الذين بعده؟
ثم متى وقع العذاب على أنطاكية الذي وصفته الآيات: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ. إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ). وهل كان عاماً لكل أهل المدينة، أم خاصاً بجماعة؟
والجواب: أولاً: أن بعض الأحاديث تدل على أن المسيح (ع) أرسل شمعون الصفا في آخر أيامه فلا بد أن يكون العذاب نزل عليهم بعد رفع عيسى (ع) بمدة.
ففي قصص الأنبياء للراوندي/273: (بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن إسماعيل بن جابر، عن الصادق (ع) قال: إن عيسى (ع) لما أراد وداع أصحابه جمعهم، وأمرهم بضعفاء الخلق، ونهاهم عن الجبابرة، فوجه اثنين إلى أنطاكية، فدخلا في يوم عيد لهم، فوجداهم قد كشفوا عن الأصنام وهم يعبدونها، فعجلا عليهم بالتعنيف، فشُدَّا بالحديد وطُرحا في السجن، فلما علم شمعون بذلك أتى أنطاكية حتى دخل عليهما في السجن، وقال: ألم أنهكما عن الجبابرة. ثم خرج من عندهما وجلس مع الناس مع الضعفاء، فأقبل فطرح كلامه الشيء بعد الشيء، فأقبل الضعيف يدفع كلامه إلى من هو أقوى منه، وأخفوا كلامه خفاءً شديداً، فلم يزل يتراقى الكلام حتى انتهى إلى الملك، فقال: منذ متى هذا الرجل في مملكتي؟ فقالوا: منذ شهرين، فقال: عليَّ به، فأتوه، فلما نظر إليه وقعت عليه محبته فقال: لا أجلس الا وهو معي، فرأى في منامه شيئاً أفزعه، فسأل شمعون عنه فأجاب بجواب حسن فرح به، ثم ألقى عليه في المنام ما أهاله، فأولها له بما ازداد به سروراً، فلم يزل يحادثه حتى استولى عليه.
ثم قال: إن في حبسك رجلين عابا عليك؟ قال: نعم، قال: فعليَّ بهما، فلما أتيَ بهما قال: ما إلهكما الذي تعبدان؟ قالا: الله. قال: يسمعكما إذا سألتماه ويجيبكما إذا دعوتماه؟ قالا: نعم، قال شمعون: فأنا أريد أن أستبرئ ذلك منكما، قالا: قل: قال هل يشفي لكما الأبرص؟ قالا: نعم، قال: فأتيَ بأبرص فقال سلاه أن يشفيَ هذا، قال فمسحاه فبرئ! قال: وأنا أفعل مثل ما فعلتما، قال: فأتيَ بآخر فمسحه شمعون فبرئ. قال: بقيت خصله إن أجبتماني إليها آمنت بإلهكما قالا: وما هي؟ قال: ميت تحييانه؟ قالا: نعم، فأقبل على الملك وقال: ميت يعنيك أمره؟ قال: نعم، إبني. قال: اذهب بنا إلى قبره فإنهما قد أمكناك من أنفسهما، فتوجهوا إلى قبره فبسطا أيديهما فبسط شمعون يديه، فما كان بأسرع من أن صدع القبر وقام الفتى فأقبل على أبيه، فقال أبوه: ما حالك؟ قال: كنت ميتاً ففزعت فزعه، فإذا ثلاثة قيام بين يدي الله باسطوا أيديهم يدعون الله أن يحييني وهما هذان وهذا، فقال شمعون: أنا لإلهكما من المؤمنين، فقال الملك: وأنا بالذي آمنت به يا شمعون من المؤمنين، وقال وزراء الملك: ونحن بالذي آمن به سيدنا من المؤمنين، فلم يزل الضعيف يتبع القوى، فلم يبق بأنطاكية أحد الا آمن به).
ثانياً: ليس في آيات إنزال العذاب نصٌّ على تعميمه، فلا بد أنه كان عذاباً خاصاً ببعضهم، وهو في السورة محدود بآية: (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ).
وقد روي أنها صيحة جبرئيل، فلا بد أنها وقعت على جماعة المكذبين خاصة فهلكوا ولا يصح قول ابن مسعود أو غيره إن المدينة أبيدت وفنيت بكامل أهلها! لأنه لم يقل أحد إن أنطاكية أهلكت بعذاب، بل بقيت قاعدة الإيمان بالمسيح (ع).
ثالثاً: يمكن القول إن ملك أنطاكية وبعض أهلها آمنوا على يد شمعون الصفا (ع) ثم مات الملك أو جاء حاكم آخر، فكفر أهلها وأرادوا قتل الرسل، وقتلوا الرجل المؤمن حبيب النجار، فأنزل الله العذاب على جماعة الكافرين. فقد عاش شمعون بعد المسيح أكثر من ثلاثين سنة، وهي مدة كافية لوقوع تقلبات متضادة في أنطاكية.
رابعاً: لأوجه لتشكيك بعضهم فيما أجمع عليه الرواة والمفسرون من أن القرية في سورة ياسين هي أنطاكية. كقول صاحب تفسير الميزان (17/83): (سياق آيات القصة لا يلائم بعض هذه الروايات) وقد بينا الوجه فيما يبدو تعارضاً.
خامساً: شذ ابن كثير عن عامة المفسرين، فأنكر أن تكون القرية في سورة ياسين أنطاكية. واستدل بأن قوله تعالى: (أرْسَلْنَا اليهُمُ اثنيْن)، يعني أنه هو أرسل وليس عيسى! وأن العذاب الذي قال عنه الله تعالى: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ. إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ).
يعني أنه أهلك القرية وأبادها، ولم يحدث ذلك في أنطاكية!
قال في النهاية (1/265): (اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية أنطاكية. رواه ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه، وكذا روى عن بريدة بن الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري وغيرهم، قال ابن إسحاق فيما بلغه عن أن ابن عباس وكعب ووهب أنهم قالوا: وكان لها ملك اسمه انطيخس بن انطيخس وكان يعبد الأصنام، فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صادق وصدوق وشلوم فكذبهم. وهذا ظاهر أنهم رسل من الله عز وجل، وزعم قتادة أنهم كانوا رسلاً من المسيح، وكذا قال ابن جرير عن وهب، عن ابن سليمان، عن شعيب الجبائي: كان إسم المرسلين الأوليين شمعون، ويوحنا، واسم الثالث بولس، والقرية أنطاكية.
وهذا القول ضعيف جداً لأن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تَكُونُ فيها بَتاركة (بطاركة) النصارى، وهن أنطاكية والقدس وإسكندرية ورومية، ثم بعدها إلى القسطنطينية. ولم يهلكوا، وأهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا، كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صِدِّيق المرسلين: (إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ).
لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن بعثوا إلى أهل أنطاكية قديماً فكذبوهم وأهلكهم الله، ثم عمرت بعد ذلك، فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم فلا يمنع هذا، والله أعلم. فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة أصحاب المسيح فضعيف لما تقدم، ولأن ظاهر سياق القرآن يقتضي من هؤلاء الرسل من عند الله).
ثم قال ابن كثير في تفسيره (3/576): (وفي ذلك نظر من وجوه: أحدها: أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل لا من جهة المسيح، كما قال تعالى: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ...) ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح (ع). والله أعلم. الثاني: أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح (ع).. فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم. والله أعلم.
الثالث: ذكر أبو سعيد الخدري وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم.. فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية.. فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك).
أقول: كلامه مجرد استبعاد لا يقوم على دليل، فعيسى (ع) مرسلٌ من ربه، والمرسل منه مرسلٌ من الله تعالى. وآيات العذاب في السورة لا تنص على عموم العذاب، بل تقول إنه صيحة، ويمكن أن تصيب أناساً مخصوصين، كالملك ومن حوله.
هذا، وقد رد ابن كثير حديث ابن عباس: (السُّبَّق ثلاثة: فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب يس، والسابق إلى محمد (ص) علي بن أبي طالب) رده بقوله: (فإنه حديث منكر لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر، وهو شيعي متروك، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب).
وقال في مجمع الزوائد (9/102): (رواه الطبراني وفيه حسين بن حسن الأشقر، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور، وبقية رجاله حديثهم حسن أو صحيح).
ولا يصح قوله إن الأشقر تفرد به، فقد رواه الحاكم الحسكاني (2/294) عن ابن أبي السري، وقال: فذكرته لحسين الأشقر فقال: سمعناه من ابن عيينة).
وبذلك يتضح تحيز ابن كثير، وهو تحيز يلازمه ويصل به أحياناً الى النصب.
أنطاكية العاصمة الدينية للمسيحية
في معجم البلدان (1/267): (أنطاكية: بلد عظيم ذو سور وفصيل، ولسوره ثلاث مائة وستون برجاً يطوف عليها بالنوبة أربعة آلاف حارس ينفذون من القسطنطينية من حضرة الملك يضمنون حراسة البلد سنة، ويستبدل بهم في السنة الثانية، وشكل البلد كنصف دائرة، قطرها يتصل بجبل والسور يصعد مع الجبل إلى قُلَّته فتتم دائرة، وفي رأس الجبل داخل السور قلعه تبين لبعدها من البلد صغيرة، وهذا الجبل يستر عنها الشمس فلا تطلع عليها إلا في الساعة الثانية، وللسور المحيط بها دون الجبل خمسة أبواب، وفي وسطها بيعة القسيان، وكانت دار قسيان الملك الذي أحيا ولده فطرس رئيس الحواريين، وهو هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون، وعليه كنيسة على أساطين، وكان يدور الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة للحكومة ومتعلمو النحو واللغة، وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة فنجان للساعات يعمل ليلاً ونهاراً دائماً اثنتي عشرة ساعة، وهو من عجائب الدنيا، وفي أعلاه خمس طبقات في الخامسة منها حمامات وبساتين ومناظر حسنة تخر منها المياه، وعلة ذلك أن الماء ينزل عليها من الجبل المطل على المدينة..
وهناك من الكنائس ما لا يحد، كلها معمولة بالذهب والفضة والزجاج الملون والبلاط المجزع، وفي البلد بيمارستان يراعي البطريك المرضى فيه بنفسه، ويدخل المجذمين الحمام في كل سنة، فيغسل شعورهم بيده، ومثل ذلك يفعل الملك بالضعفاء كل سنة، ويعينه على خدمتهم الأجلاء من الرؤساء والبطارقة التماس التواضع، وفي المدينة من الحمامات ما لا يوجد مثله في مدينة أخرى لذاذة وطيبة، لأن وقودها الآس ومياهها تسعى سيحاً بلا كلفة، وفي بيعة القسيان من الخدم المسترزقة ما لا يحصى، ولها ديوان لدخل الكنيسة وخرجها).
أراد كسرى بجبروته أن يزيل أنطاكية!
كانت أنطاكية عاصمة المسيحية من زمن المسيح وبطرس (ع). وقد ورد في روايات أهل البيت (ع) أنه سيكون لها شأن في زمن المهدي والمسيح (ع)، وأنه يستخرج من غار فيها نسخ التوراة، ويحيي الله منها أو من قربها أهل الكهف.
وعندما انتصر كسرى على الروم واحتل القدس وبلاد الشام وأنطاكية، سبى أهلها وأراد إذلال الروم، وإثبات قدرته وقدرة مهندسيه، فبنى لهم قرب بغداد: «مدينة على مثال أنطاكية، بأسواقها وشوارعها ودورها، وسماها رند خسره، وهي التي يسميها العرب الرومية، وأمر أن يدخل إليها سبي أنطاكية فلما دخلوها لم ينكروا من منازلهم شيئاً، فانطلق كل رجل منهم إلى منزله، إلا رجل إسكاف كان على باب داره بأنطاكية شجرة فَرْصَاد، فلم يرها على بابه ذلك، فتحير ساعة ثم دخل الدار، فوجدها مثل داره»!
(تاريخ حلب:1/91، والروض المعطار/276، ومعجم البلدان:2/170).
وقال الطبري (1/528): «ثم قصد لمدينة هرقل (القسطنطينية) فافتتحها، ثم الإسكندرية وما دونها، وخلف طائفة من جنوده بأرض الروم، بعد أن أذعن له قيصر وحمل إليه الفدية، ثم انصرف من الروم فأخذ نحو الخزر، فأدرك فيهم تَبَله (ثأره) وما كانوا وتروه به في رعيته، ثم انصرف نحو عدن فسكَّرَ ناحية من البحر هناك بين جبلين مما يلي أرض الحبشة بالسفن العظام والصخور وعمد الحديد والسلاسل، وقتل عظماء تلك البلاد، ثم انصرف إلى المدائن وقد استقام له ما دون هرقلة من بلاد الروم وأرمينية، وما بينه وبين البحرين من ناحية عدن، وملَّك المنذر بن النعمان على العرب وأكرمه، ثم أقام في ملكه بالمدائن، وتعاهد ما كان يحتاج إلى تعاهده، ثم سار بعد ذلك إلى الهياطلة (مشارف الصين) مطالباً بوتر فيروز جده».
وقال الطبري (1/466): (وجهه إلى بلاد الشام فدوخها حتى انتهى إلى أرض فلسطين، وورد مدينة بيت المقدس فأخذ أسقفها ومن كان فيها من القسيسين وسائر النصارى بخشبة الصليب، وكانت وضعت في تابوت من ذهب وطمر في بستان وزرع فوقه مبقلة، وألح عليهم حتى دلوه على موضعها فاحتفر عنها بيده واستخرجها، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين من ملكه).
وقال الطبري (1/493): (ثم ملكت بوران بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنو شروان، فذكر أنها قالت يوم ملكت: البرَّ أنوي وبالعدل آمر.. وكانت كتبها جماعة لكل ما يحتاج إليه، وإنها ردت خشبة الصليب على مَلِك الروم، مع جاثليق يقال له: إيشوعهب).
شمعون الصفا في نصوص المؤرخين المسلمين
عندما تقرأ للمؤرخين العرب، تعجبك دقة ابن واضح اليعقوبي، وقد كان رحالةً دقيق الملاحظة والكلام. وسعة اطلاع المسعودي نسبة الى جده عبدالله بن مسعود، وكان رحالةً متخصصاً في أخبار الروم.
كما تعجبك خبرة ابن خلدون بتاريخ الروم والمسيحية، بحكم أنه مغربي خالط الروم، لكنه يأخذ بمشهور كلامهم، بدون تدقيق وتمحيص.
وقد استفاد المؤرخون المسلمون من مصادر المسيحيين، ومؤرخي الدولة الرومانية، وهذه نماذج من تأريخهم لفترة شمعون الصفا (ع).
1. قال المسعودي في التنبيه والإشراف (1/110) عن القيصر أوغسطس: (أول ملك من ملوك الروم خرج عن مدينة رومية دار مملكته، وسير جنوده براً وبحراً، فاستولى على ملك اليونانيين ومصر والشام، وقتل قلوبطرة آخر ملوك اليونانيين، فاجتمع له ملك الروم واليونانيين، وزالت رسوم اليونانيين فسمى الجميع روما، وذلك لاثنتي عشرة سنة خلت من ملكه، وولى هيرودس بن أنطيقوس على أورشلم وهي بيت المقدس وجبل يهودا وجبل الجليل. ولاثنتين وأربعين سنة خلت من ملكه كان مولد المسيح (ع) ببيت لحم من بلاد فلسطين، يوم الأربعاء لست بقين من كانون الأول، وكانت مريم يوم ولدته بنت ثلاث عشرة سنة عند النصارى، وكان جميع عمرها إحدى وخمسين سنة، منها بعد رفع المسيح ست سنين. فكان من آدم إلى مولده عندهم خمسة آلاف سنة وخمس مائة سنة وست سنين، ومن زوال ملك قلوبطرة آخر من ملك اليونانيين على ما قدمنا في هذا الكتاب إلى مولده ثلاثون سنة.
الرابع: طيباريوس قيصر، ملك ثلاثاً وعشرين سنة، وهو الذي بنى مدينة طبرية من بلاد الأردن من أرض الشام، والى اسمه أضيفت فعربتها العرب حين افتتحت البلاد فقالت طبرية. ولخمس عشرة سنة خلت من ملكه عُمِّدَ ايشوع الناصري عند النصارى في نهر الأردن، وكان المعمِّد له ابن خالته يحيى بن زكريا، ولذلك سمى يحيى المعمداني، واسم أمه صابات وكان أكبر من ايشوع بستة أشهر. ولسبع عشرة سنة خلت من ملكه وهي سنة 342 للإسكندر بن فيلبس الملك كان عند النصارى صلب إيشوع الناصري، وذلك في يوم الجمعة الثالث والعشرين من آذار.
وهو عندهم منه في مثل اليوم الذي أهبط فيه آدم من الجنة، ومات عندهم ودفن، وقام وانبعث من بين الموتى حياً، وصعد إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة، ولا يصعد عندهم إلى السماء إلا من نزل منها..
السادس: قلوذيوس بن طيباريوس، ملك أربع عشرة سنة، وفي أول سنة من ملكه قتل أغريفوس عامله على الإسرائيليين يوحنا بن زبدي أحد التلاميذ وحبس شمعون الصفا، ثم خَلُصَ شمعون الصفا من الحبس، وصار إلى مدينة أنطاكية، والنصارى يدعونها مدينة الله، ومدينة الملك، وأم المدن، لأنها أول بلد أظهر فيه دين النصرانية، وبها كرسي بطرس، ويسمى شمعون وسمعان، وهو خليفة إيشوع الناصري والمرأس على سائر التلاميذ الاثني عشر والسبعين وغيرهم، فشرع بطرس في بناء الكنيسة المعروفة في أنطاكية بالقسيان إلى هذا الوقت.
وفي السنة الثالثة من ملكه، دخل شمعون الصفا مدينة رومية، وسقف بها ودبرها سنين، ودانت امرأة الملك وكان اسمها فروطانيقي، ويقال لها بطريقية النصرانية، وصارت إلى أورشلم وهي بيت المقدس، فأخرجت الخشبة التي تظن النصارى أن المسيح صلب عليها ويسمونها صليب المسيح، وكانت في أيدي اليهود، قد منعوا النصارى منها فأخذتها منهم وردتها على النصارى، وقوَّت أمرهم.
السابع: نيرون بن قلوذيوس، ملك ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، ولثلاث عشرة سنة خلت من ملكه قتل بطرس وبولس بمدينة رومية، وصلبهما منكسين، وذلك بعد ايشوع باثنتين وعشرين سنة..
وفي السنة الثامنة من ملكه وثبت اليهود بأورشلم، فيما ذكرت النصارى على يعقوب بن يوسف أخي ايشوع الناصري عندهم في الجسمية، وكان أول أساقفة بيت المقدس، وألقوه على رأسه من أعلى الهيكل فمات لامتناعه من الرجوع إلى مذهبهم ومقامه على دين النصرانية، ودفن إلى جانب الهيكل. وهدموا البيعة وأخذوا خشبة الصليب وخشبتي اللصين فدفنوها).
2. قال ابن خلدون (2ق2/148): (وأما بطرس كبير الحواريين وبولص، اللذان بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة (لم يبعث بولس) فإنهما مكثا هنالك يقيمان دين النصرانية، ثم كتب بطرس الإنجيل بالرومية ونسبه إلى مرقص تلميذه، وكتب متى إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس، ونقله من بعد ذلك يوحنان بن زبدى إلى رومة، وكتب لوقا إنجيله بالرومية وبعثه إلى بعض أكابر الروم، وكتب يوحنا بن زبدي إنجيله برومة.
ثم اجتمع الرسل الحواريون برومة، ووضعوا القوانين الشرعية لدينهم وصيروها بيد اقليمنطس تلميذ بطرس، وكتبوا فيها عد الكتب التي يجب قبولها: فمن القديمة التوراة خمسة أسفار وكتاب يوشع بن نون وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب يهوذا، وأسفار الملوك أربعة كتب وسفر بنيامين وسفر المقباسين ثلاثة كتب، وكتاب عزرا الإمام وكتاب أشير، وكتاب قصة هامان وكتاب أيوب الصديق، ومزامير داود النبي، وكتب ولده سليمان خمسة ونبوات الأنبياء الصغار والكبار، ستة عشر كتاباً، وكتاب يشوع بن شارخ.
ومن الحديثة كتب الإنجيل الأربعة وكتب القتال يقون سبع رسائل، وكتاب بولس أربع عشرة رسالة، والإيركسيس وهو قصص الرسل ويسمى إفليمد ثمانية كتب، تشتمل على كلام الرسل، وما أمروا به ونهوا عنه.
وكتاب النصارى الكبار إلى أساقفتهم الذين يسمون البطارقة ببلاد معينة يعلمون بها دين النصرانية، فكان برومة بطرس الرسول الذي بعثه عيسى صلوات الله عليه، وكان ببيت المقدس يعقوب النجار، وكان بالإسكندرية مرقص تلميذ بطرس، وكان ببزنطية وهي قسطنطينية اندرواس الشيخ، وكان بأنطاكية..(بياض) وكان صاحب هذا الدين عندهم والمقيم لمراسمه يسمونه البترك، وهو رئيس الملة وخليفة المسيح فيهم، ويبعث نوابه وخلفاءه إلى من بعد عنهم من أمم النصرانية، ويسمونه الأسقف أي نائب البطرك، ويسمون القزا بالقسيس، وصاحب الصلاة بالجاثليق، وقَوَمَة المسجد بالشمامشة، والمنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب، والقاضي بالمطران. ولم يكن بمصر لذلك العهد أسقف إلى أن جاء دهدس الحادي عشر من أساقفة إسكندرية، وكان بطرك أساقفة بمصر، وكان الأساقفة يسمون البطرك أباً والقسوس يسمون الأساقفة أباً، فوقع الاشتراك في اسم الأب فاخترع اسم البابا لبطرك الإسكندرية ليتميز عن الأسقف، في اصطلاح القسوس ومعناه أبو الآباء، فاشتهر هذا الإسم، ثم انتقل إلى بطرك رومة، لأنه صاحب كرسي بطرس كبير الحواريين ورسول المسيح. وأقام على ذلك لهذا العهد يسمى البابا.
ثم جاء بعد فلوديش قيصر نيرون قيصر فقتل بطرس كبير الحواريين وبولص اللذين بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة، وجعل مكان بطرس أرنوس برومة، وقتل مرقص الإنجيلي تلميذ بطرس، وكان بالإسكندرية يدعو إلى الدين سبع سنين ويبعثه في نواحي مصر وبرقة والمغرب، وقتله نيرون وولى بعده حنينيا، وهو أول البطاركة عليها بعد الحواريين.
وثار اليهود في دولته على أسقف بيت المقدس وهو يعقوب النجار وهدموا البيعة ودفنوا الصليب إلى أن أظهرته هيلانة أم قسطنطين كما نذكره بعد. وجعل نيرون مكان يعقوب النجار ابن عمه شمعون بن كيافا).
3. وقال ابن خلدون (2/239): (ثم عظم الفساد بين اليهود ولحق ملكهم أغرباس برومة، فبعث معه أقلوديش عساكر الروم فقتلوا من اليهود خلقاً، وحملوا إلى أنطاكية ورومة منهم سبياً عظيماً، وخربت القدس وانجلى أهلها فلم يول عليهم القياصرة أحداً لخرابها، وافترقت اليهود على فرق كثيرة أعظمها سبعة. ولسبع من ملك أقلوديش دخلت بطريقة من الروم في دين النصارى على يد شمعون الصفا، وسمعت منه بالصليب، فجاءت إلى القدس لإظهاره، ورجعت إلى رومة. وهلك أقلوديش قيصر لأربع عشرة سنة من ملكه، وملك من بعده ابنه نيرون.
قال هروشيوش: هو سادس القياصرة، وكان غشوماً فاسقاً، وبلغه أن كثيراً من أهل رومة أخذوا بدين المسيح فنكر ذلك وقتلهم حيث وجدوا، وقتل بطرس رأس الحواريين، وأقام أريوس بطركاً برومة مكان بطرس من بعد خمس وعشرين سنة مضت لبطرس في كرسيها، وهو رأس الحواريين ورسول المسيح إلى رومة، وقتل مرقص الإنجيلي بالإسكندرية لاثنتي عشرة من ملكه وكان هنالك منذ سبع سنين بها مساعداً إلى النصرانية بالإسكندرية ومصر وبرقة والمغرب، وولي مكانه حنانيا، ويسمى بالقبطية جنبار وهو أول البطارقة بها، واتخذ معه الأقسة الاثني عشر).
4. وقال ابن خلدون (2ق1/202): (قال ابن العميد عن المسبحي: وفي الثانية من ملك نيرون عزل بلخس القاضي كان على اليهود من جهة الروم، وَوَليَ مكانه قسطس القاضي، وقتل بوثار رئيس الكهنونية بالمقدس...
وقال هروشيوش: إن نيرون قيصر انتقض عليه أهل مملكته فخرج عن طاعته أهل برطانية من أرض الجوف، ورجع أهل أرمينية والشأم إلى طاعة الفرس، فبعث صهره على أخته وهو يشبشيان ابن لوجيه فسار إليهم في العساكر وغلبهم على أمرهم، ثم زحف إلى اليهود بالشأم وكانوا قد انتقضوا فحاصرهم بالقدس وبينما هو في حصاره، إذ بلغه موت نيرون لأربع عشرة سنة من ملكه ثار به جماعة من قواده فقتلوه، وكان قد بعث قائداً إلى جهة الجوف والأندلس فافتتح برطانية ورجع إلى رومة بعد مهلك نيرون قيصر، فملكه الروم عليهم، وإنه قتل أخاه يشبشيان فأشار عليه أصحابه بالانصراف إلى رومة وبشره رئيس اليهود وكان أسيراً عنده بالملك، ويظهر أنه يوسف بن كريون الذي مرذكره، فانطلق إلى رومة وخلف ابنه طيطش على حصار القدس فافتتحها وخرب مسجدها.. وكانت له حروب مع أهل فارس بعد أن غلبوا على أرمينية وسورية من ممالكه، فدفعهم عنهما وغلبهم).
وذكر المسعودي في التنبيه والأشراف/110، أن اليهود استبشروا بحملة كسرى على بلاد الشام وفلسطين وانتصاره على الروم سنة 620 م. في عهد النبي (ص)، وفرح بذلك إخوانهم يهود الحجاز واستفتحوا على المسلمين، فنزل قوله تعالى: (أ. ل. م. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي بِضْعِ سِنِينَ للهٍ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
من اضطهاد اليهود لشمعون الصفا (ع)
في كمال الدين/159، من حديث النبي (ص) قال: (ولد يحيى بن زكريا (ع) وترعرع فظهر وله سبع سنين، فقام في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وذكرهم بأيام الله، وأخبرهم أن محن الصالحين إنما كانت لذنوب بني إسرائيل وأن العاقبة للمتقين، ووعدهم الفرج بقيام المسيح (ع) بعد نيف وعشرين سنة من هذا القول، فلما ولد المسيح أخفى الله عز وجل ولادته وغيب شخصه، لأن مريم (س) لما حملته انتبذت به مكانا قصياً، ثم إن زكريا وخالتها أقبلا يقصان أثرها حتى هجما عليها وقد وضعت ما في بطنها وهي تقول: (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيّاً)، فأطلق الله تعالى ذكره لسانه بعذرها وإظهار حجتها. فلما ظهرت اشتدت البلوى والطلب على بني إسرائيل، وأكب الجبابرة والطواغيت عليهم حتى كان من أمر المسيح ما قد أخبر الله عز وجل به، واستتر شمعون بن حمون والشيعة، حتى أفضى بهم الاستتار إلى جزيرة من جزائر البحر فأقاموا بها، ففجَّر لهم فيها العيون العذبة، وأخرج لهم من كل الثمرات، وجعل لهم فيها الماشية. وبعث إليهم سمكة تدعى القمد لا لحم لها ولا عظم، وإنما هي جلد ودم، فخرجت من البحر فأوحى الله عز وجل إلى النحل أن يركبها فركبها، فأتت النحل إلى تلك الجزيرة، ونهض النحل وتعلق بالشجر فعرَّش وبنى وكثر العسل، ولم يكونوا يفقدون شيئاً من أخبار المسيح).
أقول: يفهم من هذه الرواية أن الشدة على المسيحيين وبني إسرائيل، وقعت في حياة المسيح (ع)، وأن تخفي شمعون الصفا (ع) واستتاره، كان بعد رفع عيسى (ع).
وإذا صحت الرواية فقد تكون الجزيرة التي لجؤوا اليها قبرص. وفي آخر الرواية خللٌ لأنها ذكرت أن لجوءهم الى جزيرة كان بعد رفع المسيح، فكيف تقول: ولم يكونوا يفقدون شيئاً من أخبار المسيح!
أتباع عيسى (ع) فوق اليهود الى يوم القيامة!
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّه كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف:14).
قال الصدوق في كمال الدين/160: (وكانت للمسيح (ع) غيبات يسيح فيها في الأرض، فلا يعرف قومه وشيعته خبره ثم ظهر فأوصى إلى شمعون بن حمون، فلما مضى شمعون غابت الحجج بعده، واشتد الطلب وعظمت البلوى ودُرس الدين وضُيعت الحقوق، وأُميتت الفروض والسنن، وذهب الناس يميناً وشمالاً، لا يعرفون أياً من أي، فكانت الغيبة مائتين وخمسين سنة).
كما روى الصدوق عن معاوية بن عمار، أن الإمام الصادق (ع) قال: (بقي الناس بعد عيسى بن مريم (ع) خمسين ومائتي سنة بلا حجة ظاهرة.. كان بين عيسى وبين محمد (ع) خمس مائة عام، منها مائتان وخمسون عاماً ليس فيها نبي ولا عالم ظاهر. قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسكين بدين عيسى (ع). قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا مؤمنين، ثم قال: ولا تكون الأرض إلا وفيها عالم. وكان ممن ضرب في الأرض لطلب الحجة سلمان الفارسي، فلم يزل ينتقل من عالم إلى عالم، ومن فقيه إلى فقيه، ويبحث عن الأسرار ويستدل بالأخبار، منتظراً لقيام القائم سيد الأولين والآخرين محمد (ص) أربع مائة سنة، حتى بُشِّر بولادته، فلما أيقن بالفرج، خرج يريد تهامة، فسبيَ). (كمال الدين/160).
وروى في الاحتجاج (2/59) أن نافعاً النصراني سأل الإمام الباقر (ع): (أخبرني كم بين عيسى ومحمد من سنة؟ قال: أجيبك بقولك أم بقولي؟ قال: أجبني بالقولين! قال: أما بقولي فخمس مائة سنة، وأما بقولك فست مائة سنة).
أقول: لا منافاة بين قول الإمام الباقر (ع) إن المدة خمس مئة كما في هذه الرواية، وبين رواية أبي رافع أنها 480 سنة، فقد يعبر بالخمس مئة لقربها منها.
ففي كمال الدين (227) من حديث أبي رافع، أن النبي (ص) قال: (وكانت الفترة بين عيسى وبين محمد (ص) أربع مائة وثمانين سنة).
وفي هذه المدة كانت قصة أهل الكهف، ورحلة سلمان الفارسي، ودخول قسطنطين في المسيحية، وتبنيه مقولة: المسيح ابن الله، وفرضه ذلك على الكنيسة!
ويوجد إشكال مهم هنا: أن الروايات تتحدث عن تحريف المسيحية واضطهاد القائلين بأن المسيح (ع) عبدالله ورسوله، والقرآن يتحدث عن انتصار المؤمنين بعيسى (ع) على عدوهم الكافرين به، في قوله تعالى: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).
وجوابه: أن القرآن استعمل أتباع المسيح بمعنيين: المعنى الأخص والمعنى الأعم. فاعتبر أن الروم آمنوا بعيسى (ع) ولو ألهوه، وانتصروا على اليهود الذين افتروا على أمه وكفروا به (ع). واعتبر المؤمنين به كأهل الكهف مؤمنين بالمعنى الأخص.
قال تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
فالمسيحيون بمن فيهم الذين ألهوا المسيح (ع) فوق الكفار، وسماهم الله أتباعه.

الفصل السابع: شهادة شمعون الصفا (ع)

خطبة بطرس (ع) في الهيكل وسجنه ونجاته!
ذكر الإنجيل أن سبب سجنه أنه خطب في المسجد، وظهرت منه معجزة!
قال في الكتاب المقدس/381: (وبينما هو يلزم بطرس ويوحنا، أخذ الشعب كله وقد استولى عليه الدهش، يُسرع إليهم نحو الرواق المعروف برواق سليمان، فلما رأى بطرس ذلك كلم الشعب قال: يا بني إسرائيل لماذا تعجبون من ذلك؟ ولماذا تحدقون إلينا، كأننا بذات قوتنا أو تقوانا جعلناه يمشي. إن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب، إله آبائنا، قد مجد عبده يسوع الذي أسلمتموه أنتم..
وإني أعلم، أيها الإخوة، أنكم عملتم ذلك بجهالة وهكذا رؤساؤكم أيضاً..
وبينما بطرس ويوحنا يخاطبان الشعب، أقبل إليهما الكهنة وقائد حرس الهيكل والصدوقيون، وهم مغتاظون لأنهما كانا يعلمان الشعب، ويبشران في الكلام على يسوع بقيامة الأموات، فبسطوا أيديهم إليهما ووضعوهما في السجن إلى الغد، لأن المساء كان قد حان. وآمن كثير من الذين سمعوا كلمة الله، فبلغ عدد الرجال نحو خمسة آلاف. فلما كان الغد اجتمع في أورشليم رؤساؤهم والشيوخ والكتبة، وكان في المجلس حنان عظيم الكهنة وقيافا ويوحنا والإسكندر وجميع الذين كانوا من سلالة عظماء الكهنة، ثم أقاموهما في الوسط وسألوهما: بأي قوة أو بأي إسم فعلتما ذلك؟ فقال لهم بطرس وقد امتلأ من الروح القدس: يا رؤساء الشعب ويا أيها الشيوخ، إذا كنا نستجوب اليوم عن الإحسان إلى عليل ليعرف بماذا نال الخلاص، فاعلموا جميعاً وليعلم شعب إسرائيل كله، أنه باسم يسوع المسيح الناصري [الذي صلبتموه أنتم فأقامه الله من بين الأموات، بهذا الاسم يقف أمامكم ذاك الرجل معافى].
فلما رأوا جرأة بطرس ويوحنا وقد أدركوا أنهما أميان من عامة الناس أخذهم العجب، وكانوا يعرفونهما من صحابة يسوع، وهم إلى ذلك يرون الرجل الذي شفي قائماً قربهما فلم يكن عندهم ما يردون به، فأمروهما بالانصراف من المجلس ثم تشاوروا وقالوا: ماذا نصنع بهذين الرجلين، فقد جرت عن أيديهما آية مبينة، أمرها واضح لسكان أورشليم أجمعين، فلا نستطيع الإنكار.
لكن يجب ألا يزداد الخبر انتشاراً بين الشعب، فلنهددهما بألا يعودا إلى الكلام على هذا الاسم أمام أحد من الناس.
ثم أمروا بإحضارهما ونهوهما نهياً قاطعاً أن يذكرا اسم يسوع أو يُعَلِّمَا به، فأجابهم بطرس ويوحنا: أمن البر عند الله أن نسمع لكم، أم الأحرى بنا أن نسمع لله؟ أحكموا أنتم، أما نحن فلا نستطيع السكوت عن ذكر ما رأينا وما سمعنا! فهددوهما ثانية ثم أطلقوا سراحهما، لأنهم لم يجدوا سبيلاً إلى معاقبتهما وإنما فعلوا ذلك مراعاة للشعب، فقد كان جميع الناس يمجدون الله على ما جرى، لأن الرجل الذي جرت فيه آية الشفاء هذه جاوز حد الأربعين.
فلما أطلق سراحهما رجعا إلى أصحابهما وأخبراهم بكل ما قال لهما عظماء الكهنة والشيوخ، وعند سماعهم ذلك رفعوا أصواتهم إلى الله بقلب واحد فقالوا: يا سيد أنت صنعت السماء والأرض والبحر وكل شيء فيها، أنت قلت على لسان أبينا داود عبدك بوحي الروح القدس: لماذا ضجت الأمم وإلى الباطل سعت الشعوب. ملوك الأرض قاموا وعلى الرب ومسيحه تحالف الرؤساء جميعاً، تحالف حقاً في هذه المدينة هيرودس وبنطيوس بيلاطس والوثنيون وشعوب إسرائيل، على عبدك القدوس يسوع الذي مسحته، فأجروا ما خطته يدك من ذي قبل وقضت مشيئتك بحدوثه، فانظر الآن يا رب إلى تهديداتهم، وهب لعبيدك أن يعلنوا كلمتك بكل جرأة باسطاً يدك ليجري الشفاء والآيات والأعاجيب باسم عبدك القدوس يسوع).
وفي قاموس الكتاب المقدس/398، في كلمة: أرابع: (إن بطرس كان مُسَلَّماً إلى أربعة أرابع من العسكر: أنه كان مسلماً إلى أربع جماعات، كل جماعة مكونة من أربعة عساكر، فتكون الجملة ستة عشر جندياً. وكانت الجماعة تتناوب الحراسة كل ثلاث ساعات. وفي أثناء حراسة الليل كان جنديان ينامان مع بطرس في سجنه، والاثنان الآخران يلبثان قدام الباب). (ا ع 12: 4 و6).
وفي الكتاب المقدس/406: (في ذلك الوقت قبض الملك هيرودس على بعض أهل الكنيسة ليوقع بهم الشر، فقتل بحد السيف يعقوب أخا يوحنا. فلما رأى أن ذلك يرضي اليهود، قبض أيضاً على بطرس، وكانت تلك الأيام أيام الفطير، فأمسكه ووضعه في السجن، ووكله إلى أربعة أرهاط ليحرسوه، كل رهط أربعة جنود، وقصده أن يحضره أمام الشعب بعد عيد الفصح. فكان بطرس محفوظاً في السجن، ولكن الصلاة كانت ترتفع من الكنيسة إلى الله بلا انقطاع من أجله، وأوشك هيرودس أن يحضره أمام الشعب، وكان بطرس في تلك الليلة راقداً بين جنديين، مشدوداً بسلسلتين، وعلى الباب حرس يحرسون السجن، إذا ملاك الرب يَمْثُل فيُشرق النور في الحبس فضرب الملاك بطرس على جنبه فأيقظه وقال له: قم على عجل، فسقطت السلسلتان عن يديه فقال له الملاك: أشدد وسطك بالزنار واربط نعليك ففعل، ثم قال له: إلبس رداءك واتبعني، فخرج يتبعه وهو لا يدري أنَّ فعل الملاك شيء حقيقي، بل ظن أنه يرى رؤيا. فاجتازا الحرس الأول والثاني وبلغا إلى الباب الحديد الذي ينفذ إلى المدينة، فانفتح لهما من نفسه، فخرجا وقطعا زقاقاً واحداً، ففارقه الملاك من وقته، فرجع بطرس إلى نفسه فقال: الآن أيقنت أن الرب أرسل ملاكه فأنقذني من يد هيرودس، ومن كل ما يتوقع شعب اليهود.

ثم تحقق أمره فمضى إلى بيت مريم أم يوحنا الملقب مرقس، وكانت هناك جماعة من الناس تصلي، فقرع باب الدهليز فأقبلت جارية اسمها روضة تتسمع فعرفت صوت بطرس، فلم تفتح الباب من فرحها، بل أسرعت إلى الداخل وأخبرتهم بأن بطرس واقف على الباب فقالوا لها: قد جننت! فأكدت لهم أن الأمر كما ذكرت فقالوا لها: هذا ملاكه! أما بطرس فظل يَقرع، فلما فتحوا رأوه فدهشوا فأشار لهم بيده أن يسكتوا، ثم أخذ يروي لهم كيف أخرجه الرب من السجن، ثم قال: أخبروا يعقوب والأخوة بهذه الأمور، وخرج فذهب إلى مكان آخر، فلما طلع الصباح وقعت بلبلة كبيرة في الجند: ترى ماذا كان من أمر بطرس! ولما طلبه هيرودس فلم يجده استجوب الحرس وأمر بسوقهم إلى الموت، ثم نزل من اليهودية وأقام في قيصرية).
بطرس (ع) في عهد الطاغية نيرون!
نقتبس من موقع الموسوعة الحرة (wikipedia.org):
(أنفق الأمبراطور كاليغولا، عم نيرون، أمواله في الخلاعة والمجون والملذات وكانت عنده رغبه جامحه في تعذيب معارضيه، فكان يسومهم صنوف العذاب، ثم يلقي بهم إلى الحيوانات لتأكلهم. وبعد أن استغرق نيرون في ليالي المجون والعربدة، ازداد انحطاطاً يوماً بعد يوم، فكان إذا حل الليل انغمس مع العاهرات في حفلات ماجنة، وتنكر في زي العبيد، ونزل إلى الطرقات يسرق ويقطع الطرق.
وقد قتل نيرون أقرب المقربين منه كقائد جيشه بوروس، وأصدقاءه وأقاربه وضباطه. وكان السم هو الوسيلة السهلة التي استخدمها في اغتيالاته!
ثم سيطرت عليه فكرة أنه بارع في الغناء والتمثيل، فكان يخرج إلى اليونان ويطوف مدنها يحصد الجوائز في التمثيل والغناء! كان يسير في جيش من الممثلين والمغنيين يحملون أوسمته وجوائزه، ويدخل بها إلى روما دخول الجيش المظفر العائد من ميدان المعركة!
في هذه الأثناء تذكر نيرون معلمه وفيلسوفه سينيك، وكان هو الوحيد الباقي ممن قاموا بتربيته وساعدوه هو وأمه حتى وصلوا إلى ما يحلمون به، فأصدر الحكم عليه بالإعدام، وأمر جنوده أن يذهبوا إلى قصره ويخبروه بأنه يأمره أن يقتل نفسه، ويقطع عروقه حتى الموت! وبالفعل ضرب الحصار حول قصر سينيك، ثم ما لبث أن نفذ الرجل العجوز حكم نيرون وقطع عروقه بنفسه، وقتل نفسه! أما أعظم جرائمه على الإطلاق فهو حريق عاصمته روما سنة 64م. حيث تخيل أن يعيد بناء روما، فأشعل النيران في القاعدة الخشبية للسيرك الكبير، وانتشرت بشدة لمدة أسبوع في أنحاء روما، والتهمت عشرة أحياء من أحياء المدينة الأربعة عشر، وكانت النيران تتصاعد والأجساد تحترق، والضحايا يصرخون، ونيرون جالسٌ في برج مرتفع يتسلى بمنظر الحريق وبيده آلة الطرب، وهو يغنى أشعار هوميروس التي يصف فيها حريق طروادة! وهلك في هذا الحريق آلاف من سكان روما، وتهامس أهل روما بأنه هو الذي أحرق المدينة، وتزايدت كراهية الشعب له، وكان أمامه اختيار اليهود أو المسيحيين ليتهمهم بإحراق روما، لكن اليهود كانوا تحت حماية بوبياسبينا إحدى زوجاته، فألصق التهمة بالمسيحيين، وبدأ يقبض عليهم ويضطهدهم ويسفك دمائهم، بتقديمهم للوحوش الكاسرة، أو حرقهم بالنيران في ستاديوم العاصمة، وفي جميع أنحاء الإمبراطورية! وصارت مؤهلات الولاة الذين يوليهم الأقاليم مدى قسوتهم في قتل المسيحيين حتى عاش قسم منهم في سراديب وفي الكهوف، وما زالت كنائسهم إلى الآن يزورها السياح. واستمر اضطهادهم أربع سنوات ذاقوا فيها كل ما يخطر في الذهن من تعذيب وحشي. وقيل إنه قتل بولس وبطرس عام 68م.
وبعد هذه الحادثة أمر نيرون ببناء روما، وبنى له قصراً ضخما سماه: القصر الذهبي. ثم سادت الإمبراطورية الرومانية الفوضى والجريمة، فأعلنه مجلس الشيوخ السناتو أنه أصبح عدو الشعب فمات منتحراً سنة 68م. مخلفاً وراءه الإفلاس بسبب بذخه الشديد والفوضى، لكثرة الحروب الأهلية في عهده)!
وقال في قصة الحضارة (4/3370): (وأحاط نيرون بعدئذ نفسه بطائفة جديدة من القرناء، معظمهم من قرناء السوء ذوي الغلظة والفظاظة، فأصبح تجلينس رئيس شرطة المدينة مستشاره الأول ويسر للزعيم كل سبيل الملذات.
وفي عام62 طلق نيرون أكتافيا بحجة أنها عقيم، ولم يمض على طلاقها اثنا عشر يوماً حتى تزوج بوبيا، واحتج الشعب على هذا العمل احتجاجاً صامتاً بتحطيم التماثيل التي أقامها نيرون لبوبيا، وتتويج ثماثيل أكتافيا بالزهور. وغضبت بوبيا من ذلك العمل وأقنعت حبيبها أن أكتافيا تعتزم الزواج مرة أخرى، وأن مؤامرة تُدبر لخلعهِ وإحلال زوج أكتافيا الجديد مكانه... ودافعت [أكتافيا] عن نفسها أمام قاتليها وقالت لهم إنها لم تعد إلا أخت نيرون وإنها عاجزة عن الإساءة إليه، ولكنهم قطعوا رأسها وجاءوا بهِ إلى بوبيا يطلبون إليها مكافأتهم على عملهم هذا. ولما أبلغ الشيوخ أن أكتافيا قد توفيت شكروا للآلهة مرة أخرى أن قد حفظوا الإمبراطور وأنجوه من السوء. وكان نيرون وقتئذ إلهاً من تلك الآلهة).
وقال ابن خلدون (2/1/203): (وكان شديداً على اليهود وقتل أبناء ملوكهم وقيل له أن النصارى يزعمون أن المسيح يأتي ويملك، فأمر بقتلهم وبعث عن أولاد يهوذا بن يوسف من الحواريين، وحملهم إلى رومة مقيدين، وسألهم عن شأن المسيح، فقالوا: إنما يأتي عند انقضاء العالم. فخلى سبيلهم).
بطرس وسيمون الساحر
في قاموس الكتاب المقدس/497: (وردت قصة سيمون في الإصحاح الثامن من سفر الأعمال (9 - 24) وكان يدهش شعب السامرة بسحره، فكانوا يقولون إن سحره شيء عظيم، واعتقدوا أن قوة الله العظيمة حلت فيه!
وجاء فيلبس المبشر والشماس يكرز بالإنجيل في السامرة، ورأى سيمون المعجزات التي تجري على يد فيلبس، فأيقن أنها تجري بقوة أعظم من سحره، فآمن واعتمد، ولازم فيلبس مندهشاً من المعجزات التي يجريها. ويبدو أن إيمانه لم ينشأ عن توبة، إنما عن ثقة في قوة سحرية أقوى من قوة سحره.
وسمع بطرس ويوحنا عن عمل الله في السامرة فنزلا إليها، وأجرى الرب بهما معجزات أخرى شبيهة بتلك التي حدثت يوم الخمسين (أعمال 2) فاندهش سيمون أكثر، وأسرع طالباً معرفة تلك القوة السحرية العظيمة مقدماً المال ثمناً لذلك، فوبخه بطرس بشدة وطلب منه أن يتوب.
وقد عرفت الكنيسة شناعة هذه الخطيئة فأطلقت اسم السيمونية على كل من يتاجر في الوظائف الكنسية. وقد واجه الكارزون الأولون بالمسيحية مقاومة من السحرة، مثلما جرى مع عليم الساحر الذي قاوم بولس الرسول (أعمال 13: 6و7). ولكن قوة معجزات التلاميذ هزمت السحرة الكاذبين.
وقد كان لسيمون أتباع اسمهم السيمونيون اعتبروا سيمون مسيحهم وفاديهم، وهم شيعة صغيرة من شيع الغنوسيين، يقول أوريجانوس عنهم أنهم ليسوا مسيحيين، لأنهم يعتبرون سيمون مظهر قوة الله.
ويقول إيريناوس أن سيمون هذا هو أبو الغنوسبين، ولكن أصل ومصدر الهرطقة الغنوسية غير معروف تماماً. ولعل الصواب جانب الآباء المسيحيين الأولين الذين ربطوا بين سيمون الساحر (أعمال 8) مع فكرة الغنوسية).
وفي التنبيه والإشراف (1/112): (وقد أتينا على خبر بطرس بمدينة رومية مع سيمن المصري، الذي تسميه النصارى جميعاً إلا الإريوسية: الساحر، وكان صحب إيشوع، ثم خالفهم).
وفي قاموس الكتاب المقدس/394: (كان في المدينة رجل اسمه سمعان يفتري السحر، ويدهش أهل السامرة زاعماً أنه رجل عظيم. فكانوا يصغون إليه بأجمعهم من صغيرهم إلى كبيرهم ويقولون: هذا هو قدرة الله التي يقال لها القدرة العظيمة. وإنما كانوا يصغون إليه لأنه كان يدهشهم بأساليب سحره من زمن طويل. فلما صدقوا فيلبس الذي بشرهم بملكوت الله واسم يسوع المسيح اعتمدوا رجالاً ونساء. وصدقه سمعان أيضاً فاعتمد، ولزم فيلبس، وكان يرى ما يجري من الآيات والمعجزات المبينة فتأخذه الدهشة.
وسمع الرسل في أورشليم أن السامرة قبلت كلمة الله، فأرسلوا إليهم بطرس ويوحنا فنزلا وصليا من أجلهم، لينالوا الروح القدس، لأنه لم يكن قد نزل بعد على أحد منهم، بل كانوا قد اعتمدوا باسم الرب يسوع فقط، فوضعا أيديهما عليهم فنالوا الروح القدس!
فلما رأى سمعان أن الروح القدس يوهب بوضع أيدي الرسولين، عرض عليهما شيئاً من المال وقال لهما: أعطياني أنا أيضاً هذا السلطان لكي ينال الروح القدس من أضع عليه يدي. فقال له بطرس: تباً لك ولمالك لأنك ظننت أنه يمكن الحصول على هبة الله بالمال، فلا حظَّ لك في هذا الأمر ولا نصيب، لأن قلبك غير مستقيم عند الله، فاندم على سيئتك هذه واسأل الرب لعله يغفر لك ما قصدت في قلبك. فإني أراك في مرارة العلقم وشرك الإثم.
فأجاب سمعان: اشفعا لي أنتما عند الرب، لئلا يصيبني شيء مما ذكرتما. أما هما فبعد ما أديا الشهادة وتكلما بكلمة الرب رجعا إلى أورشليم).
وقال ابن الوردي(1/51): (ثم ملك بعده قلوذبوس أربع عشرة سنة.. وفي أيام قلوذبوس كان سيمون الساحر برومية، وفي مدة ملكه حبس شمعون الصفا، ثم خلص وسار إلى أنطاكية ودعا إلى النصرانية. ثم سار إلى رومية ودعاهم فأجابته زوجة الملك. ومات قلوذبوس لمضي ثلاث وخمسين وثلاث مائة للإسكندر، ثم ملك بعده نارون).
سيمون الساحر صار مقرباً عند نيرون!
تدل نصوص المسيحية على أن سيمون الساحر المشعوذ أثر على بعض الناس فكشفه بطرس ووبخه كما تقدم، فأعلن إيمانه وتوبته، لكنه عاد بعد ذلك الى السحر وتضليل الناس وذهب الى روما، وتقرب الى نيرون الطاغية، واستعمله نيرون في سحر من يريد من النساء!
وكان سيمون يدعو الى الغنوسية التي كانت تعادي المسيحية، ومعناها المعرفة أو الثقافة، وهي في نظر لاهوتيين أمثال إيرانيوس وترتليانوس وهيبوليتس هرطقة جاءت من مزج الفكر المسيحي بالفلسفة الوثنية وعلم التنجيم، وكانت موجودة في الفكر اليوناني قبل المسيحية، وهي تحاول التوفيق بين آراء اليهودية والوثنية في الوحي والخير والشر ومصير الإنسان.
وتذكر بعض الروايات أن سيمون سافر الى روما بعد ذهاب بطرس اليها، ولعله كان جاسوساً عليه لنيرون، وقد ادعى في روما أنه قوة الله العظيمة وأفسد بعض المسيحيين، وقام بأعمال سحر عديدة وكان يكسب من سحره وشعوذته، وكان بطرس يكشف سيمون ويبطل سحره وشعوذته، ويثبت الإيمان بالمسيح (إشارة إلى 1 كو 4: 20، اتس1: 5) وبناء على طلب المؤمنين ذهب بطرس لمقابلة سيمون في بيت رجل يدعي مارسلوس كان قد أضله الساحر، وعندما رفض سيمون مقابلته أطلق بطرس كلباً وأمره أن يبلغ سيمون الرسالة، وكانت نتيجة هذه المعجزة أن تاب مارسلوس. وفي تلك الأثناء كان الكلب قد ألقى موعظة على سيمون وأصدر عليه حكم الدينونة بنار لا تطفأ، واختفى الكلب عند قدمي الرسول، فتقوى إيمان مارسلوس وهو يرى العجائب التي يصنعها بطرس، فطرد سيمون من بيته بكل احتقار، فاغتاظ سيمون جداً لذلك، فذهب إلى بطرس يتحداه، وكان ذلك في الساحة العامة في محضر أعضاء مجلس الشيوخ والولاة. وبدأ الجانبان في المبارزة بالكلام ثم بالأفعال التي برزت فيها قوة بطرس وتفوقت في إقامة الموتى على قوة سيمون، وهكذا خسر سيمون شهرته في رومية، وفي محاولة أخيرة لاسترداد نفوذه، أعلن أنه سيصعد إلى الله وطار أمام الجموع المحتشدة فوق المدينة، ولكن استجابةً لصلاة بطرس للمسيح، وقع سيمون وانكسرت ساقه في ثلاثة مواضع، فنقل من رومية، وبعد أن بترت ساقه مات! وقالت رواية: نتج عن ذلك أن بطرس اضطر الى الهرب من رومية عندما استشعر الخطر، ولكنه قابل المسيح الذي قال له إنه ذاهب إلى رومية ليصلب ثانية، فعاد بطرس، وحكم عليه بالموت! راجع:
http://others.rabelmagd.com/Sha5seyat/99.html

وأصدر بطرس أمره بعد مقتل سيمون وهو: (أيما أسقف أو قس أو شماس اقتنى درجة من درجات الكهنوت بالمصانعة ورشى فيها رشوة أو وعد برشوة، لكي يقبل الدرجة بالمكر والخديعة أو الخبث، فلا تُقبل رياسة منه ولا يكون عندكم إلا بمثابة وثني، وهو محروم وملعون، ويُنفى من كنيسة الله ويُتجنب كلامه وخلطته كما منعت أنا بطرس خلطة سيمون، ونفيته من كنيسة الله بأمر الروح القدس).
http://www.copts-united.com/Article.php?I=1762&A=111486

ومهما قلنا في هذا النص فلا شك أن مضمونه مفهوم من منازلة بطرس لسيمون!
وفي قصة الحضارة (4/3990): (وأكبر الظن أن سمعان المجوسي السامري الذي عاب عليه بطرس اتجاره بالرتب الكهنوتية، كان هو نفسه مؤلف كتاب المعرض الأكبر، الذي جمع فيه طائفة لا حصر لها من الأفكار الشرقية، عن الخطوات المعقدة التي يستطيع بها العقل البشري أن يصل إلى العلم اللدني بالأشياء كلها).
وفي قاموس الكتاب المقدس/177: (غير أنه يكفينا الترجيح أن بطرس ذهب إلى رومية واستشهد فيها، حسبما ذكر بابياس وايرونيموس واكليمندس الإسكندري وترتوليانوس وكايوس وأوريجانوس ويوسابيوس. فإن هؤلاء لم يزيدوا على قولهم أن الرسول ذهب إلى رومية حيث استشهد).
أقول: عرفت أن أصل قولهم بشهادته في روما قول شخص واحد، هو اوزابيوس، وقد رواه عن جايوس! كما قال البروفيسور هايم كابي!
شهادة شمعون الصفا (ع) في مصادرنا
اتفقت مصادرنا على أن شمعون الصفا (ع) قتل في ليلة 21رمضان، فظهرت لأهل الأرض آية، كما ظهرت عند شهادة أمير المؤمنين (ع).
ففي كامل الزيارات/158، عن أبي بصير عن الإمام الصادق (ع) قال: (بعث هشام بن عبد الملك إلى أبي فأشخصه إلى الشام فلما دخل عليه قال له: يا أبا جعفر أشخصناك لنسألك عن مسألة لم يصلح أن يسألك عنها غيري، ولا أعلم في الأرض خلقاً ينبغي أن يعرف أو عرف هذه المسألة إن كان إلا واحداً. فقال أبي: ليسألني أمير المؤمنين عما أحب، فإن علمت أجبت ذلك، وإن لم أعلم قلت لا أدري وكان الصدق أولى بي. فقال هشام: أخبرني عن الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب (ع) بما استدل به الغائب عن المصر الذي قتل فيه على قتله، وما العلامة فيه للناس، فإن علمت ذلك وأجبت فأخبرني هل كان تلك العلامة لغير على (ع) في قتله؟
فقال له أبي: يا أمير المؤمنين إنه لما كان تلك الليلة التي قتل فيها أمير المؤمنين (ع) لم يرفع عن وجه الأرض حجر إلا وجد تحته دم عبيط (صاف) حتى طلع الفجر، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها هارون أخو موسى (ع)، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها يوشع بن نون (ع) وكذلك كانت الليلة التي رفع فيها عيسى بن مريم إلى السماء (ع) وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها شمعون بن حمون الصفا (ع)، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها علي بن أبي طالب (ع)، وكذلك كانت الليلة التي قتل فيها الحسين بن علي (ع). قال: فتربد وجه هشام حتى انتقع لونه وهمَّ أن يبطش بأبي! فقال له أبي: يا أمير المؤمنين الواجب على العباد الطاعة لإمامهم والصدق له بالنصيحة، وإن الذي دعاني إلى أن أجبت أمير المؤمنين فيما سألني عنه، معرفتي إياه بما يجب له عليَّ من الطاعة، فليحسن أمير المؤمنين عليَّ الظن!
فقال له هشام: انصرف إلى أهلك إذا شئت، قال: فخرج فقال له هشام عند خروجه: أعطني عهد الله وميثاقه أن لا توقع هذا الحديث إلى أحد حتى أموت، فأعطاه أبي من ذلك ما أرضاه.. وذكر الحديث بطوله).
ملاحظات على هذا الحديث
1. معنى هذه الآية عند قتل أمير المؤمنين وقبله شمعون الصفا ويوشع (ع):
(لم يرفع عن وجه الأرض حجر إلا وجد تحته دم عبيط (صاف) حتى طلع الفجر)
أن قتل هؤلاء الأوصياء (ع) بيد المجرمين الخونة من أممهم، جريمةٌ موصوفة، لها حسابها الشديد عند الله تعالى، وأن ظهور الدم تحت كل حجر ليلة قتلهم، آيةٌ لأمة موسى وأمة عيسى (ع) وأمة محمد (ص)، ليعرفوا أن المقتول الشهيد هو الخط الصحيح والإمام الشرعي الذي يجب عليهم أن يتبعوه!
وأن المجرمين الذين قتلوه وأخذوا الحكم بعده معتدون غير شرعيين. وقد اكتفى الله تعالى بليلة واحدة لهذه الآية، ليفهم منها الحق من يريد، ويضل من لا يريده!
2. ويدل اهتمام الخليفة الأموي هشام بهذا الموضوع على أنه استوعب أن علياً (ع) هو الخليفة الشرعي الذي أظهر الله تعالى حقه وظلامته بهذه الآية! وأن خصومه ومخالفيه معتدون، ولذلك غضب من جواب الإمام الباقر (ع) وأراد أن يبطش به، ثم اكتفى بأن أخذ عليه تعهداً بأن لا يحدث بذلك في حياته!

الفصل الثامن: قبر شمعون الصفا قرب الحدود السورية العراقية

ضعف فرضية أن يكون قبره في روما أو في الجليل
إن الباحث في المصادر العربية والغربية في حياة شمعون الصفا (ع) يخرج بنتيجة قطعية هي ضعف الأدلة التي تقول إن قبره في روما، أو في جنوب لبنان، أي في جبال الجليل. فمستند القائلين بأنه قتل ودفن في روما رواية واحدة فقط، قال فيها هايم ماكبي البروفوسور في الدراسات التاريخية في كتابه: بولس وتحريف المسيحية/60: (إن قتله (بطرس) في روما أسطورة شاعت بعد القرن الثاني، ولقد ارتبطت هذه المسألة (كنيسة بطرس) بأسطورة شاعت في القرن الثاني بعد المسيح تقول إنَّ بطرس مات في روما).
أما القائلون بأن قبره في لبنان في القرية المعروفة بشمع، فمستندهم قول بعض العامة إن شمع تعني شمعون، وشمعون تعني شمعون الصفا! ومن الواضح أنه لا يمكن بناء تاريخ، ولا حكمٍ على مثل هذه المقولة.
وأما الروايات الأخرى فلو أخذنا بحديث كمال الدين/226، عن ابن أبي رافع، عن النبي (ص) قال: (لما رفع الله عيسى بن مريم (ع) واستخلف في قومه شمعون بن حمون، فلم يزل شمعون في قومه يقوم بأمر الله عز وجل، حتى استخلصه ربنا تبارك وتعالى، وبعث في عباده نبياً من الصالحين، وهو يحيى بن زكريا).
فهو يدل على أنه (ع) بقي في قومه، لكن قومه قد يشملون أتباعه في روما، ولو فسرناهم بقومه في منطقة فلسطين، وقلنا بقي فيهم حتى استشهد، فلا يدل الحديث على مكان قبره (ع)، وهل هو في فلسطين، أو لبنان، أو سورية، أو أنطاكية.
أمام ذلك، تبقى عندنا أحاديث خروجه من قبره قرب صفين بنحو المعجزة، وسلامه على أمير المؤمنين (ع)، بلا معارض. وهي أحاديث صحيحة، لا يمكن تجاهلها ولا تأويلها، فيتعين القول بأن قبره (ع) في صفين مقابل مدينة الرقة.
وتقع صفين على الحدود العراقية السورية التاريخية، وهي حدود الدولة الرومانية مع بابل، وهي المنطقة التي أخذوا فيها العُشر (الجمرك) من إبراهيم (ع) عندما عبر من بابل الى سورية، التي كان يحكمها يومها فرعون مصر.
وهي المنطقة التي عبرت منها مريم (س) لما هربت بابنها المسيح (س) من قبضة اليهود والروم، وقال فيها الله تعالى: وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ. والربوة الكوفة والمعين الفرات، ثم آواهما إلى مصر، ثم أعادهما إلى القدس. ويظهر أن شمعون الصفا كان في طريقه إلى بابل، فقبض عليه جنود نيرون وقتلوه هناك (ع).
معجزات أمير المؤمنين (ع) في طريقه الى صفين
1. كان طريق أمير المؤمنين (ع) إلى صفين: من الكوفة إلى كربلاء، ثم إلى الرمادي أو الأنبار، ثم إلى هيت، ثم حديثة، ثم عانات، ثم البو كمال، ثم الميادين أو الرحبة، ويقابلها في غربي الفرات قرقيسيا، ثم مراط، ثم زلبية، ثم الرقة، ومنها عبر الإمام (ع) بجيشه الفرات إلى صفين في الضفة الأخرى.
فأرض صفين متصلة بالرقة، وهي وادي صفين وجبل صفين، وهي قريبة نسبياً من حلب، يفصلها عن حلب بلدان هما: بالس ومسكنة حلب.
أما صندوداء التي فيها مشهد أمير المؤمنين (ع) فتقع بين هيت وعانة. وأما عين راحوما التي كشفها أمير المؤمنين (ع) وسقى منها جيشه فتقع بعد صندوداء باتجاه صفين، وبقربها دير فيه راهب من ذرية شمعون الصفا (ع).
وأما البليخ فهو نهر قرب الرقة يصب في الفرات، وكان يقع عليه دير فيه راهب من ذرية شمعون الصفا (ع)، عنده الكتاب بخط شمعون الصفا.
2. في سفر أمير المؤمنين (ع) إلى صفين، ظهرت له معجزات، أهمها ثلاثة:
أولاها: عين راحوما التي كشفها وسقى جيشه منها، وتقع بعد صندوداء بين هيت وحديثة، وورد أنها عين من الجنة، وقد أعاد أمير المؤمنين (ع) الصخرة التي عليها وعفى مكانها، فلم يجدوها ثانية.
والمعجزة الثانية: أن راهب دير نهر البليخ قرب الرقة، جاءه بكتاب توارثه من آبائه فيه بشارة بالنبي (ص) وفيه ذكر أوصيائه، واسم أمير المؤمنين (ع) خاصة.
والمعجزة الثالثة: خروج شمعون الصفا من قبره من جبل صفين، وسلامه على الإمام (ع)، وتأييده له ضد أعدائه.
3. كانت الحيرة قبل الإسلام مهد النصرانية، وقد وصل بعض الباحثين المعاصرين الى أن النجف وحدها كان فيها أكثر من ثلاثين ديراً وكنيسة:
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=565802.0;wap2

ونلاحظ في نصوص صفين وجود أديرة في طريق العراق- الشام، كالذي بين هيت وحديثة، والذي عند الرقة، وفيهما راهبان من ذرية شمعون، وهذا يدل على عراقة المسيحية في العراق، وتأثير شمعون الصفا (ع) فيها.
4. في مراصد الإطلاع (2 /853): (صندوداء: قرية كانت في غربي الفرات، فوق الأنبار، خربت، وبها مشهد لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه).
وفي الخرائج (2/864): (وصندوداء: بلدة في الطريق ما بين الشام والعراق. راجع معجم البلدان (3/425) ووقعة صفين/528.
وفي معجم البلدان (1/493): (البليخ، الخاء معجمة: اسم نهر بالرقة يجتمع فيه الماء من عيون، وأعظم تلك العيون عين يقال لها الذهبانية في أرض حران، فيجري نحو خمسة أميال ثم يسير إلى موضع قد بنى عليه مسلمة بن عبد الملك حصناً، يكون أسفله قدر جريب وارتفاعه في الهواء أكثر من خمسين ذراعاً، وأجرى ماء تلك العيون تحته، فإذا خرج من تحت الحصن يسمى بليخا، ويتشعب من ذلك الموضع أنهار تسقي بساتين وقرى، ثم تصب في الفرات تحت الرقة بميل، قال ابن دريد: لا أحسب البليخ عربياً).
5. في معجم البلدان (3/414): (صِفِّين: بكسرتين وتشديد الفاء.. وهو موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس، وكانت وقعة صفين بين علي رضي الله عنه، ومعاوية في سنة 37 في غرة صفر).
6. وقال ابن حوقل في كتابه: صورة الأرض (1/34): (بَرَّيَّة خَسَّاف: فيما بين الرقة وبالس عن يسار الذاهب الى الشام، وصفين أرض من هذه البادية بقرب الفرات، ما بين الرقة وبالس، وهو الموضع الذي كان به حرب علي (ع) ومعاوية. ورأيت هذا الموضع فرأيت عجباً! وذلك أنا كنا سائرين من تحته في الفرات وهو ربوة عظيمة، فعددنا عليها ثمانية قبور أو تسعة، ومن فوقها ربوة أعلى منها، فعددنا عليها بضعة عشر قبراً ظاهرة بيِّنة لمن يتأملها، ولم تختلف جماعة كنت فيهم في عدد قبور الموضعين، ثم صعدنا المكان الذي عددنا فيه هذه القبور، فلم نر فيه ولا لقبر واحد أثراً)!
وقال ابن حوقل أيضاً (1/226): (وفي غربي الفرات بين الرقة وبالس أرض صفين، وبها قبر عمار بن ياسر وأكثر أصحاب علي (ع). وصفين أرض على الفرات مطلة من شرف عالي السَّمْك، ويرى من كان بالفرات منه عجباً، وذلك أنه يرى قبوراً في موضعين أحدهما أعلى من الآخر، ويَعُدُّ في أحد الموضعين دون العشرة قبور، وفي الآخر نحو عشرين قبراً، ويصعد الى المكان فلا يرى لذلك أثراً، ولا يحس منه خبراً!
وإني لأستقبح أن أحكي هذه الحكاية ولكن بلغتني فكذبتها، ثم رأيتها فلزمني حكايتها تصديقاً لمن تقدم بالحكاية اليَّ، وإن عَرَّضت نفسي للتهم. على أن أكثر من قتل من أصحاب علي هناك معروفة قبورهم، وخبرني من رأى هنالك بيتاً ينسب أنه كان بيت مال علي بن أبى طالب (ع).
وحَرَّان مدينة تلي الرقة في الكبر، وهي مدينة الصابئين وبها سدنتهم، ولهم بها طربال كالطربال(علم مبني) الذي بمدينة بلخ، عليه مصلى الصابئين، يعظمونه وينسبونه إلى إبراهيم).
أقول: يقصد ابن حوقل أن أرض صفين مرتفعة ونهر الفرات منخفض كثيراً عندها، فهي كالجبل، والراكب في سفينة في الفرات ينظر إليها فوقه فيرى عليها قبوراً في موضعين أحدهما أعلى من الآخر، على أحدهما عشرة قبور وعلى الثاني أكثر، فإذا صعد إليها لا يجد أثراً لأي قبر! ويصر ابن حوقل وهو عالم موثوق أن ذلك حقيقة، وأنه لم يصدقه حتى رآه بعينه، واعتبره معجزة، وأن الله تعالى يخفي قبور الشهداء من كبار أصحاب علي (ع) ليحفظها من الإهانة والتخريب من أعدائها.
وإذا صح ما ذكره فهو في الماضي، أما اليوم فقد رأينا قبر عمار بن ياسر وأويس القرني رضي الله عنهما قبل بضع عشرة سنة، ولم نلاحظ المعجزة المذكورة.
كشف علي (ع) عين راحوما بين هيت وحديثة!
ظهرت لأمير المؤمنين (ع) هذه المعجزة في سفره الى صفين، فشف عين ماء ذات صفات مميزة، وسقى جيشه منها، ثم غطاها بصخرتها. وقد استفاضت رواية هذه المعجزة كما في أمالي الصدوق/250: (حدثنا محمد بن علي ما جيلويه (رحمه الله) قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، قال: حدثني أبو الصلت عبد السلام بن صالح، قال: حدثني محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن حبيب بن الجهم، قال: لما رحل بنا علي بن أبي طالب (ع) إلى بلاد صفين، نزل بقرية يقال لها صندوداء، ثم أمرنا فعبرنا عنها ثم عرَّسَ بنا في أرض بلقع، فقام إليه مالك بن الحارث الأشتر فقال: يا أمير المؤمنين، أتنزل الناس على غير ماء! فقال: يا مالك إن الله عز وجل سيسقينا في هذا المكان ماء أعذب من الشهد، وألين من الزبد الزلال، وأبرد من الثلج، وأصفى من الياقوت! فتعجبنا، ولا عجب من قول أمير المؤمنين (ع). ثم أقبل يجر رداءه وبيده سيفه حتى وقف على أرض بلقع، فقال: يا مالك، إحتفر أنت وأصحابك، فقال مالك: إحتفرنا فإذا نحن بصخرة سوداء عظيمة فيها حلقة تبرق كاللجين، فقال لنا: روموها، فرمناها بأجمعنا ونحن مائة رجل، فلم نستطع أن نزيلها عن موضعها، فدنا أمير المؤمنين (ع) رافعاً يده إلى السماء يدعو، وهو يقول: طاب طاب مريا عالم طيبوا ثابوثه شمثيا كوبا حاحانو ثاتو ديثابر حوثا، آمين آمين رب العالمين، رب موسى وهارون. ثم اجتذبها فرماها عن العين أربعين ذراعاً!
قال مالك بن الحارث الأشتر: فظهر لنا ماء أعذب من الشهد، وأبرد من الثلج، وأصفى من الياقوت، فشربنا وسقينا، ثم رد الصخرة وأمرنا أن نحثو عليها التراب، ثم ارتحل، فما سرنا إلا غير بعيد، قال: من منكم يعرف موضع العين؟ فقلنا: كلنا يا أمير المؤمنين فرجعنا فطلبنا العين فخفي مكانها علينا أشد خفاء، فظننا أن أمير المؤمنين (ع) قد رهقه العطش فأومأنا بأطرافنا، فإذا نحن بصومعة راهب فدنونا منها، فإذا نحن براهب قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فقلنا: يا راهب، عندك ماء نسقي منه صاحبنا. قال: عندي ماء قد استعذبته منذ يومين، فأنزل إلينا ماء مُرّاً خشناً، فقلنا: هذا قد استعذبته منذ يومين! فكيف لو شربت من الماء الذي سقانا منه صاحبنا؟ وحدثناه بالأمر فقال: صاحبكم هذا نبي؟ قلنا: لا، ولكنه وصي نبي. فنزل إلينا بعد وحشته منا، وقال: إنطلقوا بي إلى صاحبكم، فانطلقنا به فلما بصر به أمير المؤمنين (ع)، قال: شمعون! قال الراهب: نعم شمعون، هذا اسم سمتني به أمي، ما اطلع عليه أحد إلا الله تبارك وتعالى، ثم أنت، فكيف عرفته، فأتمَّ حتى أتمه لك؟
قال: وما تشاء يا شمعون؟ قال: هذه العين واسمها. قال: هذه عين راحوما وهي من الجنة، شرب منها ثلاث مائة وثلاثة عشر وصياً، وأنا آخر الوصيين شربت منه. قال الراهب: هكذا وجدت في جميع كتب الإنجيل، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك وصي محمد (ص).
ثم رحل أمير المؤمنين (ع) والراهب يقدمه، حتى نزل صفين، ونزل معه بعابدين، والتقى الصفان، فكان أول من أصابته الشهادة الراهب، فنزل أمير المؤمنين (ع) وعيناه تهملان، وهو يقول: المرء مع من أحب، الراهب معنا يوم القيامة، ورفيقي في الجنة).
ورواه في مختصر البصائر /119، وفيه: (قال الراهب: هكذا وجدت في جميع الكتب: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنك وصي محمد (ص). ثم قال علي (ع): والله لو أن رجلاً منا قام على جسر ثم عُرضت عليه هذه الأمة، لحدثهم بأسمائهم وأنسابهم). ورواه بمثله ابن حمزة في الثاقب/258.
ورواه النيسابوري في روضة الواعظين/114، بنحوه، والراوندي في الخرائج (2/864) بنحوه وفيه: (فلم نستطع أن نزيلها، فقال علي (ع): اللهم إني أسألك أن تمدني بحسن المعونة، وتكلم بكلام حسبناه سريانياً، ثم أخذها فرمى بها..).
ورواه ابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب (2/122) قال: (أهل السير عن حبيب بن الجهم، وأبي سعيد التميمي، والنطنزي في الخصايص، والأعثم في الفتوح، والطبري في كتاب الولاية، بإسناد له عن محمد بن القاسم الهمداني، وأبو عبد الله البرقي، عن شيوخه عن جماعة من أصحاب علي أنه نزل أمير المؤمنين (ع) بالعسكر عند وقعة صفين عند قرية صندودياء فقال مالك الأشتر: ينزل الناس على غير ماء؟ الحديث.. بنحوه، وقال: (وفي رواية عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثنا أبو محمد الشيباني، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي سعيد التميمي قال: فسرنا فعطشنا فقال بعض القوم: لو رجعنا فشربنا، قال فرجع أناس وكنت فيمن رجع قال: فالتمسنا فلم نقدر على شيء..).
ورواه الطبرسي في إعلام الورى (1/346) بتفاوت، وقال: (والخبر بذلك مشهور بين الخاص والعام.. لحق أصحابه عطش، فأخذوا يميناً وشمالاً يطلبون الماء فلم يجدوه، فعدل بهم أمير المؤمنين عن الجادة وسار قليلاً، فلاح لهم دير فسار بهم نحوه وأمر من نادى ساكنه بالاطلاع إليهم، فنادوه فاطلع فقال له أمير المؤمنين (ع): هل قرب قائمك ماء؟ فقال: هيهات، بينكم وبين الماء فرسخان، وما بالقرب مني شيء من الماء! فلوى (ع) عنق بغلته نحو القبلة وأشار بهم إلى مكان يقرب من الدير فقال: إكشفوا الأرض في هذا المكان، فكشفوه بالمساحي فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هاهنا صخرة لا تعمل فيها المساحي، فقال (ع): إن هذه الصخرة على الماء، فاجتهدوا في قلعها، فاجتمع القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، واستصعبت عليهم، فلوى (ع) رجله عن سرجه حتى صار إلى الأرض، وحسر ذراعيه ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحركها ثم قلعها بيده ودحا بها أذرعاً كثيرة، فلما زالت عن مكانها ظَهَرَ لهم بياض الماء، فتبادروا إليه فشربوا منه، فكان أعذب ماء وأبرده وأصفاه، فقال لهم: تزودوا وارتووا ففعلوا ذلك. ثم جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها حيث كانت، وأمر أن يعفى أثرها بالتراب، والراهب ينظر من فوق ديره، فلما علم ما جرى نادى: يا معشر الناس أنزلوني أنزلوني فأنزلوه فوقف بين يدي أمير المؤمنين فقال له: أنت نبي مرسل؟ قال: لا، قال: فملك مقرب؟ قال: لا، قال: فمن أنت؟ قال: أنا وصي رسول الله محمد بن عبد الله (ص) خاتم النبيين.
قال: أبسط يدك أسلم لله على يدك، فبسط (ع) يده وقال له: إشهد الشهادتين فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أنك وصي رسول الله، وأحق الناس بالأمر من بعده، وقال: يا أمير المؤمنين إن هذا الدير بني على طلب قالع هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها، وقد مضى عالم كثير قبلي ولم يدركوا ذلك، وقد رزقنيه الله عز وجل، إنا نجد في كتاب من كتبنا مآثر عن علمائنا أن في هذا الصقع عيناً عليها صخرة، لا يعرف مكانها إلا نبي أو وصي نبي، وإنه لا بد من ولي لله يدعو إلى الحق، آيته معرفة مكان هذه الصخرة وقدرته على قلعها، وإني لما رأيتك قد بلغت ذلك تحققت ما كنا ننتظره، وبلغت الأمنية منه، فأنا اليوم مسلمٌ على يدك ومؤمنٌ بحقك، ومولاك. فلما سمع بذلك أمير المؤمنين بكى حتى اخضلت لحيته من الدموع وقال: الحمد لله الذي كنت في كتبه مذكوراً، الحمد لله الذي لم أك عنده منسياً، ثم دعا الناس وقال: إسمعوا ما يقوله أخوكم المسلم، فسمع الناس مقالته وشكروا الله على ذلك، وساروا والراهب بين يديه حتى لقي أهل الشام، فكان الراهب في جملة من استشهد معه، فتولى الصلاة عليه ودفنه، وأكثر من الاستغفار له، وكان إذا ذكره يقول: ذاك مولاي).
أقول: يظهر أن هذه الرواية هي المشهورة بين السنة والشيعة، لأن السيد الحميري (رحمه الله)، أخذ بعض ألفاظها في قصيدته الآتية.
ورواه ابن الأعثم في الفتوح (2/555) بفروق عن رواية الصدوق، قال: (وأقام علي رضي الله عنه بالأنبار يومين، فلما كان في اليوم الثالث سار بالناس في برية ملساء، وعطش الناس واحتاجوا إلى الماء، قال: وإذا براهب في صومعته، فدنا منه علي رضي الله عنه وصاح به فأشرف عليه، فقال له علي رضي الله عنه: هل تعلم بالقرب منك ماء نشرب منه؟ فقال: ما أعلم ذلك، وإن الماء ليحمل إلينا من قريب من فرسخين. قال: فتركه علي رضي الله عنه وأقبل إلى موضع من الأرض فطاف به، ثم أشار إلى مكان منه فقال: احفروا ههنا، فحفروا قليلاً وإذا هم بصخرة صفراء كأنما طليت بالذهب وإذا هي على سبيل الرحى لا ينتقلها إلا مائة رجل، فقال علي رضي الله عنه: إقلبوها فالماء من تحتها، فاجتمع الناس عليها فلم يقدروا على قلبها، قال: فنزل علي رضي الله عنه عن فرسه، ثم دنا من الصخرة وحرك شفتيه بشيء لم يسمع، ثم دنا من الصخرة وقال: باسم الله، ثم حركها ورفعها فدحاها ناحية، قال: فإذا بعين من الماء لم تر الناس أعذب منها ولا أصفى ولا أبرد، فنادى في الناس أن هلموا إلى الماء، قال: فورد الناس فنزلوا وشربوا وسقوا ما معهم من الظهر، وملأوا أسقيتهم، وحملوا من الماء ما أرادوا، ثم حمل على الصخرة وهو يحرك شفتيه بمثل كلامه الأول حتى رد الصخرة إلى موضعها. ثم سار حتى نزل في الماء الذي أرادوا وإذا ماؤه متغير، فقال علي رضي الله عنه لأصحابه: أفيكم من يعرف مكان الماء الذي يتم عليه؟ فقالوا: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فانطلقوا إليه، فطلبوا مكان الصخرة فلم يقدروا عليه، فانطلقوا إلى الراهب فصاحوا به: يا راهب! فأشرف عليهم، فقالوا: أين هذا الماء الذي هو بالقرب من ديرك؟ فقال الراهب: إنه ما بقربي شيء من الماء، فقالوا: بلى! قد شربنا منه نحن وصاحبنا، وهو الذي استخرج لنا الماء وقد شربنا منه، فقال الراهب: والله ما بُني هذا الدير إلا بذلك الماء، وإن لي في هذه الصومعة منذ كذا سنة ما علمت بمكان هذا الماء، وإنها عين يقال لها عين راحوما، ما استخرجها إلا نبي أو وصي نبي، ولقد شرب منها سبعون نبياً وسبعون وصياً. قال: فرجعوا إلى علي رضي الله عنه، فأخبروه بذلك، فسكت ولم يقل شيئاً.
ثم رجعنا إلى الخبر، قال: ثم سار من منزله ذلك حتى نزل بمدينة هيت، ورحل منها حتى نزل بموضع يقال له الأقطار، فبنى هنالك مسجداً، والمسجد ثابت إلى يومنا هذا. ثم إنه عبر الفرات وشق البلاد حتى خرج إلى بلاد الجزيرة، ثم سار يريد الرقة حتى نزل بموضع يقال له البليخ، فنزل هنالك على شاطئ نهر البليخ. قال: ونظر إليه راهب قد كان هنالك في صومعة له فنزل من الصومعة وأقبل إلى علي رضي الله عنه، فأسلم على يده، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن عندنا كتاباً توارثناه عن آبائنا، يذكرون أن عيسى ابن مريم (ع) كتبه، أفأعرضه عليك؟ قال علي رضي الله عنه: نعم، فهاته. فرجع الراهب إلى الصومعة وأقبل بكتاب عتيق قد كاد أن يندرس، فأخذه علي وقبله ثم دفعه إلى الراهب، فقال: إقرأه علي! فقرأه الراهب على علي رضي الله عنه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: الذي قضى فيما قضى، وَسَطَّرَ فيما سطر، أنه باعث في الأميين رسولاً منهم، يعلمهم الكتاب والحكمة، ويدلهم على سبيل الرشاد، لا فظٌّ ولا غليظٌّ ولا صَخَّابٌ في الأسواق، لا يجزي السيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، أمته الحامدون الذين يحمدون الله على كل حال، في هبوط الأرض وصعود الجبال، ألسنتهم مذللة بالتسبيح والتقديس والتكبير والتهليل. ينصر الله هذا النبي على من ناواه، فإذا توفاه الله اختلفت أمته من بعده، ثم يلبثون بذلك ما شاء الله، فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا النهر، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يقضي بالحق ولا يرتشي في الحكم، الدنيا عليه أهون من شرب الماء على الظمآن، يخاف الله عز وجل في السر وينصح لله في العلانية، ولا يأخذه في الله لومة لائم.
فمن أدرك ذاك النبي فليؤمن به، فمن آمن به كان له رضوان الله والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإنه وصي خاتم الأنبياء، والقتل معه شهادة. قال: ثم إنه أقبل هذا الراهب على علي (ع) فقال: يا أمير المؤمنين! إني صاحبك لا أفارقك أبداً حتى يصيبني ما أصابك، قال: فبكى علي رضي الله عنه ثم قال: الحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار.
قال: ثم سار وهذا الراهب معه، فكان يتغدى ويتعشى مع علي، حتى صار إلى صفين، فقاتل فقتل، فقال علي لأصحابه: أطلبوه فطلبوه فوجدوه، فصلى عليه علي رضي الله عنه ودفنه واستغفر له، ثم قال: هذا منا أهل البيت.
قال: ثم سار علي رضي الله عنه حتى دخل الرقة، وجد أهلها يومئذ العثمانية وهواهم مع معاوية، فلما نظروا إلى خيل علي رضي الله عنه قد وافتهم غلقوا باب المدينة وتحصنوا فيها..
قال: ثم دعا عليٌّ أهل الرقة فقال: أعقدوا لي جسراً على هذا الفرات حتى أعبر عليه أنا وأصحابي إلى قتال معاوية، فأبوا ذلك! وعلم علي رضي الله عنه هوى
أهل الرقة في معاوية، فتركهم ونادى في أصحابه: نمضي لكي نعبر على جسر منبج. قال: فخرج الأشتر إلى أهل الرقة مغضباً وقال: والله يا أهل الرقة! لئن لم تعقدوا لأمير المؤمنين جسراً لأجردن فيكم السيف ولأقتلن الرجال ولأحوين الأموال، فلما سمع أهل الرقة ذلك قال بعضهم لبعض: إن الأشتر والله يوفي بما يقول! ثم إنهم ركبوا خلف علي بن أبي طالب فردوه وقالوا: إرجع يا أمير المؤمنين فإننا عاقدون لك جسراً، قال: فرجع عليٌّ إلى الرقة، وعقدوا له جسراً على الفرات، ونادى في أصحابه أن اركبوا، فركبت الناس وعبرت الأثقال كلها، وعبر الناس بأجمعهم وعلي واقف في ألف فارس من أصحابه، ثم عبر آخر الناس).
السيد الحميري (رحمه الله) يؤرخ لهذه المعجزة
قال الشريف الرضي (رحمه الله) في: خصائص الأئمة/50: (روي أن أمير المؤمنين (ع) لما أقبل من صفين، مرَّ في زهاء سبعين رجلاً بأرض ليس فيها ماء، فقالوا له: يا أمير المؤمنين ليس هاهنا ماء، ونحن نخاف العطش، قالوا: فمررنا براهب في ذلك الموضع فسألناه هل بقربك ماء؟ فقال: ما من ماء دون الفرات، فقلنا يا أمير المؤمنين العطش وليس قربنا ماء، فقال: إن الله تعالى سيسقيكم، فقام يمشي حتى وقف في مكان ودعا بمساح، وأمر بذلك المكان فكنس فأجلى عن صخرة، فلما انجلى عنها قال (ع): إقلبوها فرمناها بكل مرام فلم نستطعها فلما أعيتنا دنا منها فأخذ بجانبها فدحا بها فكأنها كُرَة، فرمى بها فانجلت عن ماء لم ير أشد بياضاً ولا أصفى ولا أعذب منه، فتنادى الناس الماء فاغترفوا وسقوا وشربوا وحملوا، ثم أخذ (ع) الصخرة فردها مكانها.
ثم تحمل الناس فسار غير بعيد، فقال: أيكم يعرف مكان هذه العين؟ فقالوا: كلنا يعرف مكانها، قال: فانطلقوا حتى تنظروا! فانطلق من شاء الله منا فدرنا حتى أعيينا فلم نقدر على شيء فأتينا الراهب فقلنا له: ويحك ألست زعمت أنه ليس قبلك ماء، ولقد استثرنا هاهنا ماءً، فشربنا واحتملنا، قال: فوالله ما استثارها إلا نبي أو وصي نبي! قلنا: فإن فينا وصي نبينا (ع)، قال: فانطلقوا إليه فقولوا له: ماذا قال له النبي حين حضره الموت؟ قال: فأتيناه فقلنا له إن هذا الراهب قال: كذا، وكذا، قال: فقولوا له إن خبرناك لتنزلن ولتسلمن، فقلنا له فقال: نعم، فأتينا أمير المؤمنين فقلنا قد حلف ليسلمن، قال: فانطلقوا فأخبروه أن آخر ما قال النبي: الصلاة الصلاة، إن النبي (ص) كان واضعاً رأسه في حجري فلم يزل يقول: الصلاة الصلاة، حتى قبض. قال فقلنا له ذلك فأسلم. وفي ذلك يقول السيد الحميري من قصيدته البائية المعروفة بالمذهبة:

ولقد سرى فيما يسير بليلةٍ * * * بعد العشاء مغامراً في موكبِ
حتى أتى متبتلاً في قائم * * * ألقى قواعدَه بقاعٍ مُجدبِ
فدنا فصاحَ به فأشرف ماثلاً * * * كالنسر فوق شظيةٍ من مَرقب
هل قرب قائمك الذي بُوِّأته * * * ماءٌ يصاب فقال ما من مشرب
إلا بغاية فرسخين ومن لنا * * * بالماء بين نقا وق سبسب
فثنى الأعنة نحو وعثٍ فاجتلى * * * بيضاء تبرق كاللجين المذهب
قال: إقلبوها إنكم إن تفعلوا * * * ترووا ولا تروون إن لم تُقلب
فاعصوصبوا في قلعها فتمنعتْ * * * منهم تمنعَ صعبةٍ لم تُركب
حتى إذا أعيتهم أهوى لها * * * كفٌّ متى تَرد المغالبَ تَغلب
فكأنها كرةٌ بكفِّ حَزَوَّرٍ * * * عَبْلِ الذراع دحا بها في مَلعب
فسقاهمُ من تحتها متسلسلاً * * * عذباً يزيد على الألذِّ الأعذب
حتى إذا شربوا جميعاً ردَّها * * * ومضى فخِلْتَ مكانها لم يُقْرَب
ذاك ابن فاطمةِ الوصيُّ ومن يقلْ * * * في فضله وفعاله لا يَكذب

يعني فاطمة بنت أسد أمه رضي الله عنها. وفي هذه القصيدة يذكر رد الشمس على أمير المؤمنين (ع) وسيرد ذكره فيما بعد بمشية الله).
الشريف المرتضى يشرح بيتاً من قصيدة السيد الحميري
قال الشريف المرتضى (رحمه الله) في رسائله (4/84):

(حتى أتى متبتلاً في قائمٍ * * * ألقى قواعدَه بقاعٍ مجُدبِ

أراد بالمتبتل الراهب، من البتل وهو القطع، ومثله البت والبلت. وإنما سمي الراهب متبتلاً لقطعه نفسه عن الناس وعن اللذات.
ومنه امرأة متبتلة: كل جزء منها يقوم بنفسه في الحسن.
والعذراء البتول: التي انقطعت عن الأزواج. وصدقة بتلة على هذا المعنى.
وإذا انفردت الفيلة واستغنت عن أمهاتها، فهي البتول وأمها مبتل.
وتبرت الشيء مثل بتلته وبتكته أيضاً: قطعته.
وأما القائم فهو صومعة الراهب. والقاع: الأرض الحرة الطين التي لا حزونة فيها ولا انهباط، والجمع: القيعان، وقاعة الدار: ساحتها.
والقواعد: جمع قاعدة، وهي أساس الجدار وكل ما يبنى.
ويجدب: مأخوذ من الجدب الذي هو ضد الخصب. والجدب: العيب، يقال جدبه يجدبه فهو جادب إذا عابه. قال ذو الرمة:

فيا لك من خَدٍّ أسيلٍ ومنطقٍ * * * رخيمٍ ومن خُلقٍ تعلل جادبه

وهذه قصة مشهورة، قد جاءت الرواية بها، فإن أبا عبد الله البرقي روى عن شيوخه عمن خبرهم قال: خرجنا مع أمير المؤمنين نريد صفين، فمررنا بكربلا فقال (ع): أتدرون أين نحن؟ ها هنا مصرع الحسين (ع) وأصحابه.
ثم سرنا يسيراً فانتهينا إلى راهب في صومعة، وقد انقطع الناس من العطش، فشكوا ذلك إلى أمير المؤمنين (ع) وذلك لأنه أخذ بنا على طريق البر وترك الفرات عياناً، فدنا من الراهب فهتف به، فأشرف من صومعته، فقال: يا راهب هل قرب صومعتك من ماء؟ قال: لا. فسار قليلاً حتى نزل بموضع فيه رمل، فأمر الناس فنزلوا، فأمرهم أن يبحثوا في ذلك الرمل فأصابوا تحت ذلك الرمل صخرة بيضاء، فاقتلعها أمير المؤمنين (ع) بيده ونحاها، فإذا تحتها ماء أرق من الزلال وأعذب من كل ماء، فشرب الناس وارتووا وحملوا منه ورد الصخرة والرمل كما كان. قال: فسرنا قليلاً وقد علم كل واحد من الناس مكان العين، فقال أمير المؤمنين (ع): بحقي عليكم إلا رجعتم إلى موضع العين فنظرتم هل تقفون عليها؟ فرجع الناس يقفون الأثر إلى موضع الرمل، فبحثوا ذلك الرمل فلم يصيبوا العين فقالوا: يا أمير المؤمنين لا والله ما أصبناها، ولا ندري أين هي. قال: فأقبل الراهب فقال: أشهد يا أمير المؤمنين أن أبي أخبرني عن جدي وكان من حواريي عيسى (ع) أنه قال: إن تحت هذا الرمل عيناً من ماء أبرد من الثلج وأعذب من كل ماء عذب، وإنه لا يقع عليها إلا نبي أو وصي نبي، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً (ص) عبده ورسوله، وأنك وصي رسول الله وخليفته والمؤدي عنه.
وقد رأيت أن أصحبك في سفرك فيصيبني ما أصابك من خير وشر. فقال له خيراً ودعا له بالخير، وقال: يا راهب إلزمني وكن قريباً مني ففعل. فلما كانت ليلة الهرير والتقى الجمعان واضطرب الناس فيما بينهم، قُتل الراهب فلما أصبح أمير المؤمنين قال لأصحابه: إنهضوا بنا فادفنوا قتلاكم وأقبل أمير المؤمنين (ع) يطلب الراهب حتى وجده فصلى عليه ودفنه بيده في لحده، ثم قال أمير المؤمنين (ع):والله لكأني أنظر إليه وإلى زوجته وإلى منزلته ودرجته التي أكرمه الله بها!
ليس لأحد أن ينكر هذا الخبر من حيث كان خارقاً للعادة ولاحقاً بالمعجزات، لأنا قد بينا في مواضع من كتبنا، وفي كتاب الشافي في الإمامة خاصة، أن المعجزات يجب ظهورها على أيدي الأئمة (ع)، وتكلمنا على شُبه من امتنع من ذلك).
أقول: في رواية الشريف المرتضى (رحمه الله) فروق عن غيرها، وأنا أثق بها لجلالة راويها ودقته، ولأن عنده مصادر لم تصل الينا. ومن فروق روايته: أن الحادثة كانت في سفر أمير المؤمنين (ع) الى صفين. وأن الأرض فوق الصخرة كانت رملية، ولم تحتج إلا الى حفر كثير فظهرت الصخرة. وأن الراهب أسلم على يد الإمام (ع) وذهب معه واستشهد في صفين. وقوله عن جده: وكان من حواريي عيسى (ع)، يقصد أنه هو من ذرية شمعون الصفا (ع)..الخ.
مشهد علي (ع) في صندوديا
تقدم قول ابن الأعثم: (ثم سار من منزله ذلك حتى نزل بمدينة هيت، ورحل منها حتى نزل بموضع يقال له الأقطار [الأنطار] فبنى هنالك مسجداً، والمسجد ثابت إلى يومنا هذا). ولم أجد معنى مناسباً هنا للأقطار أو الأنطار، ولا عرفت السبب في بناء أمير المؤمنين (ع) مسجداً في ذلك المكان.
وقول ابن الأعثم إنه ما زال موجوداً الى عصره وقد توفي سنة314، يدل على تعاهد المسلمين لذلك المسجد، مع أنه في طريق بري من العراق الى الشام قلما يسلك.
والظاهر أنه المسجد المعروف بمشهد علي (ع) بصندوديا أو صندوداء.
وقد عدَّ ابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب (2/45) مجموعة مساجد ومشاهد لعلي (ع) تدل على أن المسلمين اتخذوا كل مكان صلى فيه أو أقام فيه مسجداً، قال: (ومنازله كلها لما توجه إلى البصرة، مساجد: النخيلة، وزواطة، والشرط، ومذار، ومطاراة، وزكية، وعند مشهد عزير فوق البصرة على أربع فراسخ، وعند قلعة البصرة، وأيلة، وبلجان، والمحرزي، وعبادان، ودقلة، وقرية عبد الله، وكرخ زادو. ومن طريق العراق: في المداين، وبغداد، والأنبار، وتحت الحديثة، وعند الجب، وصندوديا، وعانة، وبين الرحبة وعانة، وفي الرحبة، وزيلبيا، ويلنج، ورقة وصفين).
أقول: كان مشهد علي (ع) في صندوديا مزاراً الى القرن السابع، وقد زاره اثنان من خلفاء بني العباس: الخليفة المقتفي، ثم الناصر، زاره مع والدته.
قال أسامة بن مرشد المتوفي 584، في كتابه: الاعتبار/176، لمؤيد الدولة أسامة بن مرشد، قال: حدثني الأجل شهاب الدين أبو الفتح المظفر بن أسعد بن مسعود بن نجتكين ابن سبكتكين، مولى معز الدولة بن بويه بالموصل في ثامن عشر شهر رمضان سنة خمس وستين وخمس مأة قال: زار المقتفي بأمر الله أمير المؤمنين (رحمه الله) مسجد صندوديا بظاهر الأنبار على الفرات الغربي، ومعه الوزير وأنا حاضر، فدخل المسجد وهو يعرف بمسجد أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه، إلى أن قال: فجعل قيم المسجد يدعو للوزير(البويهي الشيعي): ويحك! أدع لأمير المؤمنين، فقال له المقتفي: سله عما ينفع، قل له: ما كان في المرض الذي كان في وجهه، فإني رأيته في أيام مولانا المستظهر وبه مرض في وجهه، وكان في وجهه سلعة (جلدة) قد غطت أكثر وجهه، فإذا أراد الأكل سدها بمنديل حتى يصل الطعام إلى فمه! إلى أن قال: ضاق صدري فنمت الليلة في المسجد فرأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عنه، فشكوت إليه ما بي فأعرض عني، ثم راجعته وشكوت إليه فقال: أنت ممن يريد العاجلة، ثم استيقظت والسلعة مطروحة إلى جانبي وقد زال ما كان بي. فقال المقتفي (رحمه الله): صدق! ثم قال لي: تحدث معه وأبصر ما يلتمسه واكتب به توقيعاً وأحضره، لأعلم عليه. فتحدث معه فقال: أنا صاحب عائلة وبنات، وأريد في كل شهر ثلاثة دنانير، فكتب عنه مطالعة وعنونها الخادم قيم مسجد علي، فوقع عليها بما طلب وقال: لي إمض ثبتها في الديوان، فمضيت ولم أقرأ منها سوى يوقع له بذلك. وكان الرسم أن يكتب لصاحب المطالعة توقيع ويؤخذ منه ما فيه خط أمير المؤمنين، فلما فتحها الكاتب لينقلها وجد تحت قيم مسجد علي، بخط المقتفي أمير المؤمنين. ولو كان طلب أكثر من ذلك لوقع له به).
وقال الأيوبي المتوفى سنة 617، في كتابه: مضمار الحقائق (1/177): (وفي هذه السنة580 سألت أم الخليفة (الناصر) أن يؤذن لها في زيارة مشهد سر من رأى على ساكنه السلام، ومشهد صندوديا، فتقدم الخليفة إلى المخزن المعمور، أن يعمل لها ما تحتاج من الإقامة، وتقدم إلى ابن يونس الوكيل بباب الحجرة الشريفة أن يكون على عزم السفر، وأن يتسلم جميع ما عمل للسفر وأن يتقدم إلى جميع العسكر والمماليك أن يكونوا في الخدمة، وأن ينادي في جميع العسكر أن الخليفة في الصحبة للزيارة، فأخرجت الخيم والمضارب والنوتيات وخرج الخليفة وأمه إلى الزيارة، وكان يركب ويتصيد والعسكر في خدمته وهو غير متظاهر...وكان الخليفة قد تقدم إلى أستاذ الدار أن يعمر مشهد سر من رأى، وأن يشيده وينفذ إليه فرشاً وبسطاً وجميع ما يحتاج إليه، وكذلك فعل بمشهد صدوديا، وأن يعطى جميع المجاورين بهذين المشهدين ثلاثة ألاف دينار، وأعطى مشهد موسى بن جعفر على ساكنه السلام ألف دينار لعمارته، وخمس مائة دينار تُفرق على ساكنيه).
المعجزة الثانية: راهب دير قرقيسيا ونهر البليخ
قال ابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب (2/92): (إبراهيم النخعي عن علقمة بن عباس في خبر، أنه أتيَ براهب قرقيسيا إلى أمير المؤمنين (ع) فلما رآه قال: مرحباً ببحيراء الأصغر، أين كتاب شمعون الصفا؟ قال: وما يدرك يا أمير المؤمنين! قال: إن عندنا علم جميع الأشياء، وعلم جميع تفسير المعاني، فأخرج الكتاب وأمير المؤمنين واقف، فقال (ع): أمسك الكتاب معك، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: قضى فيما قضى وسطَّر فيما كتب، أنه باعث في الأميين رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة، ويدلهم على سبيل الله، لا فظٌّ ولا غليظ، وذكر من صفاته واختلاف أمته بعده إلى أن قال: ثم يظهر رجل من أمته بشاطئ الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضي بالحق، وذكر من سيرته، ثم قال: ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن نصرته عبادة والقتل معه شهادة. فقال أمير المؤمنين (ع): الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسياً. الحمد لله الذي ذكر عبده في كتب الأبرار. فقتل الرجل في صفين..
أمالي أبي الفضل الشيباني، وأعلام النبوة، عن الماوردي، والفتوح عن الأعثم، في خبر طويل أن أمير المؤمنين (ع): لما نزل ببليخ من جانب الفرات نزل إليه شمعون بن يوحنا، وقرأ عليه كتاباً من إملاء المسيح (ع) وذكر بعثة النبي (ص) وصفته، ثم قال: فإذا توفاه الله اختلفت أمته، ثم اجتمعت لذلك ما شاء الله، ثم اختلفت على عهد ثالثهم فقتل قتلاً، ثم يصير أمرهم إلى وصي نبيهم فيبغون عليه وتسل السيوف من أغمادها، وذكر من سيرته وزهده، ثم قال: فإن طاعته لله طاعة، ثم قال: ولقد عرفتك ونزلت إليك، فسجد أمير المؤمنين (ع) وسمع منه يقول: شكراً للمنعم شكراً عشراً، ثم قال: الحمد لله الذي لم يخملني ذكري ولم يجعلني عنده منسياً، فأصيب الراهب ليلة الهرير).
وقال الموفق الخوارزمي في المناقب (1/241): (رُويَ أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) كان يقول أيام صفين: والله ما سمعت بأمة قد آمنت بنبيها وقاتلت أهل بيت نبيها غيركم!
ورويَ عن حبة العرني قال: لما نزل علي (ع) بمكان يقال له البليخ على جانب الفرات، نزل راهب من صومعته فقال لعلي (ع): إن عندنا كتاباً توارثناه من آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم (ع) أعرضه عليك؟ فقال علي (ع): نعم، فما هو قال الراهب: بسم الله الرحمن الرحيم. الذي قضى فيما قضى، وسطر فيما كتب، أنه باعثٌ في الأميين رسولاً منهم يعلمهم الكتاب والحكمة، ويدلهم على سبيل الله، لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشز، ألسنتهم بالتهليل والتكبير، وينصره الله على كل من ناواه، فإذا توفاه الله اختلفت أمته، ثم اجتمعت فلبثت بذلك ما شاء، ثم يمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقضي بالحق، ولا يوكس الحكم، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح، والموت أهون عليه من شرب الماء على الظمأ، يخاف الله في السر وينصح له في العلانية لا يخاف في الله لومة لائم، فمن أدرك ذلك النبي من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضوان والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة، فأنا مصاحبك لا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك قال: فبكى عليٌّ (ع) وقال: الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسياً، الحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار. فمضى الراهب معه، وكان فيما ذكر يتغدى مع أمير المؤمنين (ع) ويتعشى حتى أصيب بصفين. فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم، قال أمير المؤمنين (ع): أطلبوه فلما وجده صلى عليه ودفنه، وقال: هذا منا أهل البيت، واستغفر له مراراً). ورواه العقد النضيد/85، ونحوه محمد بن سليمان في المناقب: 1/144، بسنده عن نصر بن مزاحم. ورواه بنحوه أبو جعفر الإسكافي في المعيار والموازنة/134، وابن أبي الحديد في شرح النهج:3/205.
ورواه القاضي النعمان في شرح الأخبار (2/367) وفيه: (وانتهى إلى البليخ عن شاطئ الفرات من أرض الجزيرة، نزل بأصحابه بقرب دير فيه راهب يقال له شمعون بن الصفا بن يحيى، فلما أن رآه نزل إليه وسلم عليه وقال: يا أمير المؤمنين إن عندنا كتاباً يقال إنه من كتب حواري عيسى بن مريم، فإن شئت أتيتك به فقرأته. فقال: قد شئت.. بنحو ما تقدم في...وفيه: (قال حبة العرني: فكان ذلك الديراني رفيقي. وكان أمير المؤمنين (ع) إذا تغدى غداه معه وإذا تعشى عشاه معه، حتى إذا كانت ليلة الهرير أصبح الناس يطلبون قتلاهم، وخرج أمير المؤمنين (ع) فوجد شمعون بن يحيى الديراني بين القتلى قتيلاً، فصلى عليه ودفنه وترحم عليه. وقال: هذا منا أهل البيت).
وفي كتاب سليم بن قيس/252: (أبان عن سليم قال: أقبلنا من صفين مع أمير المؤمنين (ع) فنزل العسكر قريباً من دير نصراني، فخرج إلينا من الدير شيخ كبير جميل حسن الوجه حسن الهيئة والسمت، ومعه كتاب في يده، حتى أتى أمير المؤمنين (ع) فسلم عليه بالخلافة. فقال له علي (ع): مرحباً يا [ابن] أخي شمعون بن حمون، كيف حالك رحمك الله؟ فقال: بخير يا أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووصي رسول رب العالمين، إني من نسل رجل من حواري أخيك عيسى بن مريم (ع) وأنا من نسل شمعون بن يوحنا وصي عيسى بن مريم. وكان من أفضل حواري عيسى بن مريم (ع) الإثني عشر وأحبهم إليه وآثرهم عنده، وإليه أوصى عيسى بن مريم (ع) وإليه دفع كتبه وعلمه وحكمته، فلم يزل أهل بيته على دينه متمسكين بملته، فلم يكفروا ولم يبدلوا ولم يغيروا. وتلك الكتب عندي إملاء عيسى بن مريم وخط أبينا بيده، وفيها كل شيء يفعل الناس من بعده ملك ملك، وكم يملك وما يكون في زمان كل ملك منهم، حتى يبعث الله رجلاً من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، من أرض تدعى تهامة، من قرية يقال لها مكة، يقال له أحمد، الأنجل العينين المقرون الحاجبين، صاحب الناقة والحمار والقضيب والتاج- يعني العمامة له اثنا عشر إسماً. ثم ذكر مبعثه ومولده وهجرته ومن يقاتله ومن ينصره ومن يعاديه، وكم يعيش، وما تلقى أمته من بعده من الفرقة والاختلاف. وفيه تسمية كل إمام هدى وإمام ضلالة، إلى أن ينزل الله عيسى بن مريم (ع) من السماء. فذكر في الكتاب ثلاثة عشر رجلاً من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، هم خير من خلق الله وأحب من خلق الله إلى الله. وإن الله ولي من والاهم وعدو من عاداهم، من أطاعهم اهتدى ومن عصاهم ضل، طاعتهم لله طاعة ومعصيتهم لله معصية. مكتوبة فيه أسماؤهم وأنسابهم ونعتهم، وكم يعيش كل رجل منهم واحداً بعد واحد، وكم رجل منهم يستسر بدينه ويكتمه من قومه، ومن يظهر منهم ومن يملك وينقاد له الناس، حتى ينزل الله عيسى بن مريم (ع) على آخرهم فيصلي عيسى خلفه ويقول: إنكم أئمة لا ينبغي لأحد أن يتقدمكم، فيتقدم فيصلي بالناس وعيسى خلفه في الصف الأول. أولهم أفضلهم، وآخرهم له مثل أجورهم وأجور من أطاعهم واهتدى بهداهم).
ورواه النعماني في الغيبة/74، عن سليم بن قيس الهلالي قال: (لما أقبلنا من صفين مع أمير المؤمنين (ع) نزل قريباً من دير نصراني إذ خرج علينا شيخ من الدير جميل الوجه؟ حسن الهيئة والسمت معه كتاب حتى أتى أمير المؤمنين (ع) فسلم عليه، ثم قال: إني من نسل حواري عيسى بن مريم (ع) وكان أفضل حواري عيسى الإثني عشر وأحبهم إليه وآثرهم عنده، وإن عيسى أوصى إليه ودفع إليه كتبه، وعلمه حكمته، فلم يزل أهل هذا البيت على دينه، متمسكين بملته لم يكفروا ولم يرتدوا ولم يغيروا، وتلك الكتب عندي إملاء عيسى بن مريم وخط أبينا بيده، فيها كل شيء يفعل الناس من بعده، وإسم ملك ملك من بعده منهم، وأن الله تبارك وتعالى يبعث رجلاً من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله من أرض يقال لها تهامة، من قرية يقال لها مكة، يقال له: أحمد، له اثنا عشر إسماً.. وذكر مبعثه ومولده ومهاجرته..
باسمه جرى القلم في اللوح المحفوظ: محمد رسول الله، وبصاحب اللواء يوم الحشر الأكبر أخيه ووصيه ووزيره وخليفته في أمته، ومن أحب خلق الله إلى الله بعده: علي ابن عمه لأمه وأبيه، وولي كل مؤمن بعده، ثم أحد عشر رجلاً من ولد محمد وولده، أولهم يسمى باسم ابني هارون شبر وشبير، وتسعة من ولد أصغرهما، واحد بعد واحد، آخرهم الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه).
أقول: هذا الراهب غير الراهب الذي عند عين راحوما. وهو من ذرية شمعون الصفا (ع)، وبعض الروايات خلطت بينهما، لكن ذلك لا يمنع تعددهما، ولا مانع أن يكون كلاهما من ذرية شمعون الصفا (ع).
المعجزة الثالثة: خروج شمعون من قبره وسلامه على علي (ع)!
وقد رويت هذه الحادثة العجيبة عندما نزل أمير المؤمنين (ع) بجيشه في صفين، فظهر له من الجبل شمعون الصفا (ع) وكلمه، ثم رجع الى قبره!
روى ذلك الصفار في بصائر الدرجات/300، بسنده قال: (حدثني الحسن بن علي بن عبد الله، عن علي بن حسان، عن عمه عبد الرحمن بن كثير الهاشمي مولى محمد بن علي، عن أبي عبد الله (ع) قال: خرج أمير المؤمنين (ع) بالناس يريد صفين حتى عبر الفرات فكان قريباً من الجبل بصفين، إذ حضرت صلاة المغرب، فأمعن بعيداً ثم توضأ وأذن، فلما فرغ من الأذان انفلق الجبل عن هامة بيضاء، بلحية بيضاء، ووجه أبيض، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، مرحباً بوصي خاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين، والأعز المأثور، والفاضل والفايق بثواب الصديقين، وسيد الوصيين.
قال له: وعليك السلام يا أخي شمعون بن حمَوُّن، وصي عيسى بن مريم روح القدس، كيف حالك؟ قال: بخير يرحمك الله، أنا منتظر روح الله ينزل.
فلا أعلم أحداً أعظم في الله بلاءً، ولا أحسن غداً ثواباً، ولا أرفع مكاناً منك! إصبر يا أخي على ما أنت عليه، حتى تلقى الحبيب غداً، فقد رأيت أصحابك بالأمس أقواماً لقوا ما لاقوا من بني إسرائيل، نشروهم بالمناشير، وحملوهم على الخشب، فلو تعلم هذه الوجوه الغريرة الشائهة (أعداؤك) ما أعد الله لهم من عذاب ربك وسوء نكاله لأقصروا. ولو تعلم هذه الوجوه المضيئة (أنصارك) ماذا لهم من الثواب في طاعتك، لتمنت أنها قُرضت بالمقاريض.
والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. والتأم الجبل!
وخرج أمير المؤمنين (ع) إلى عسكره، فسأله عمار بن ياسر وابن عباس ومالك الأشتر وهاشم بن عتبه بن أبي وقاص وأبو أيوب الأنصاري وقيس بن سعد الأنصاري وعمرو بن الحمق الخزاعي وعبادة بن صامت وأبو الهيثم بن التيهان، عن الرجل، فأخبرهم أنه شمعون بن حمون وصي عيسى بن مريم. وسمعوا كلامهما فازدادوا بصيرةً، فقال له عبادة بن الصامت وأبو أيوب: لا هَلِعَ قلبك يا أمير المؤمنين، بأمهاتنا وآبائنا نفديك. يا أمير المؤمنين، فوالله لننصرنك كما نصرنا أخاك رسول الله (ص)، ولا يتخلف عنك من المهاجرين والأنصار إلا شقي! فقال لهما معروفاً، وذكرهما بخير).
ورواه المفيد في أماليه/104، بسند آخر عن قيس مولى علي بن أبي طالب (ع) قال: (حدثني أبو الحسن علي بن بلال المهلبي قال: حدثنا علي بن عبد الله بن أسد الإصفهاني قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الثقفي قال: حدثنا إسماعيل بن يسار قال: حدثنا عبد الله بن ملح، عن عبد الوهاب بن إبراهيم الأزدي، عن أبي صادق، عن مزاحم بن عبد الوارث، عن محمد بن زكريا، عن شعيب بن واقد المزني، عن محمد بن سهل مولى سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، عن أبيه، عن قيس مولى علي بن أبي طالب (ع) قال: إن علياً أمير المؤمنين (ع) كان قريباً من الجبل بصفين، فحضرت صلاة المغرب، فأمعن بعيداً، ثم أذن، فلما فرغ من أذانه إذا رجل مقبل [من] نحو الجبل، أبيض الرأس واللحية والوجه، فقال.. ثم غاب من موضعه! فقام عمار بن ياسر، وأبو الهيثم بن التيهان، وأبو أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وخزيمة بن ثابت، وهاشم المرقال في جماعة من شيعة أمير المؤمنين (ع) وقد كانوا سمعوا كلام الرجل فقالوا: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل؟ فقال لهم أمير المؤمنين (ع): هذا شمعون وصي عيسى (ع) بعثه الله يُصَبِّرُني على قتال أعدائه. فقالوا له: فداك آباؤنا وأمهاتنا، والله لننصرنك نصرنا لرسول الله (ص) ولا يتخلف عنك من المهاجرين والأنصار إلا شقي، فقال لهم أمير المؤمنين (ع) معروفاً). ورواه ابن حمزة في الثاقب/225، بنحو رواية البصائر. ومحمد بن سليمان في المناقب (1/172) بسنده عن قنبر مولى علي (ع). وابن ميثم في شرح مئة كلمة/254، باختصار، والقطب الراوندي في الخرائج (2/743) بنحوه.
ملاحظات
1. قد يقال: هذه النصوص تدل على ظهور شمعون الصفا، وقد تكون روحه هي التي ظهرت، فما هو الدليل على أن جسده دفن هناك؟ والجواب: أن النصوص ظاهرة في أن قبره (ع) هناك، كقوله في رواية البصائر: (انفلق الجبل عن هامة بيضاء بلحية بيضاء ووجه أبيض.. قال: بخير يرحمك الله، أنا منتظر روح الله ينزل). وقوله في رواية ابن سليمان:1/172، وأمالي المفيد/105: (إذا هو برجل مقبل من نحو الجبل أبيض الرأس واللحية والوجه.. ثم غاب من موضعه) وقوله في رواية البصائر /301: (انفلق الجبل عن هامة بيضاء بلحية بيضاء ووجه أبيض.. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، والتأم الجبل). وفي رواية الثاقب/226: (ثم التأم الجبل). وفي رواية الخرائج (2/744) والإيقاظ/178: (والتأم عليه الجبل.. ثم التأم الجبل عليه). وقوله في رواية ابن ميثم: (فتحدثا ملياً ثم ودعه شمعون، والتأم الجبل). وفي رواية المفيد: (هذا شمعون وصي عيسى (ع) بعثه الله يُصَبِّرُني على قتال أعدائه). فهي تعابير تدل على أن قبره هناك، وأنه ينتظر أن يبعث من قبره عندما ينزل عيسى المسيح (ع). ولو كان الذي زار أمير المؤمنين (ع) روح شمعون الصفا (ع) دون جسده، لما قالت الرواية انفلق الجبل والتأم الجبل، فانشقاق الأرض عنه ثم التئامها عليه، يعني أنه خرج من قبره لغرض ثم عاد اليه.
2. وهذه النصوص أقوى سند علمي نملكه، لتعيين قبر شمعون الصفا (ع)، وهي أقوى من النصوص التي تقول إن قبره في روما، أو في جبل عامل. ولو أن البابوية قامت بحفريات في منطقة صفين قرب الجبل، لكان ذلك أولى من حفرياتها تحت كنيسة القديس بطرس، والتي لم تصل الى نتيجة!

الفصل التاسع: أولاد شمعون الصفا (ع)

المنذر بن شمعون الصفا
عاش شمعون الصفا بعد رفع المسيح (ع) ثلاثين سنة، بقدر ما عاش أمير المؤمنين (ع) بعد رسول الله (ص). واستشهد مثله في ليلة الحادي والعشرين من رمضان، وأوصى الى يحيى بن زكريا (ع). ولم تذكر الروايات عدد أولاده، لكنها ذكرت منهم المنذر بن شمعون الصفا الذي أمر الله يحيى أن يوصي اليه (ع)، ويظهر أن يحيى عاش بعد شمعون (ع) مدة قليلة ثم أوصى اليه. وسمته بعض الروايات يعقوب بن شمعون الصفا.
كما ذكرت الرواية رجالاً ونساءً من ذرية شمعون الصفا (ع) منهم الراهبان في دير صندوديا ودير نهر البليخ، ومن النساء جدة الإمام المهدي (ع).
قال الطبري في نوادر المعجزات /79: (ودانيال كان وصي منذر بن شمعون (ع) فأخذه وأصحابه من المؤمنين بختنصر، وكان ملكا كافراً عنيداً خبيثاً، وأمر أن يتخذ لهم أخدودٌ فيه النار، ثم أمر بدانيال (ع) وأصحابه المؤمنين أن يلقوا في النار فلم تحرقهم النار، فلما رأى أن النار لا تحرقهم أمر أن يطرحوا في جُب فيه السباع، فلاذت السباع بهم وتبصبصت حولهم. فلما رأى تلك الحال عذبهم بأنواع العذاب فخلصهم الله منه، وأدخلهم جنته، وضرب الله تعالى مثلهم في كتابه فقال: قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ. النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ).
أقول: المعروف أن أصحاب الأخدود هم نصارى من نجران، وأن الذي عذبهم بالأخدود ملك اليمن ذو نواس، ويمكن أن يكون نبوخذ نصر سبقه فشق أخدوداً ليعذب به النبي دانيال وجماعته، أو المنذر وجماعته (ع).
راهب دير حديثة وراهب دير البليخ
تقدم أن هذين الراهبين من ذرية شمعون الصفا (ع)، وأن أحدهما اختار دير حديثة أو صندوديا لأن بقربه عيناً شرب منها الأنبياء والأوصياء (ع) وسيشرب منها آخر الأوصياء (ع).
والثاني في ديرٍ على نهر البليخ الذي هو بجوار قبر شمعون الصفا (ع)، وعنده كتاب توارثه يبشر بالنبي الخاتم (ص) ووصيه الذي سيأتي الى هذه الأرض، ويقاتل عدوه فيها، ويظهر شمعون من قبره ليسلم عليه!
قال كما في رواية سليم بن قيس الهلالي/252: (إني من نسل رجل من حواري أخيك عيسى بن مريم (ع) وأنا من نسل شمعون بن حمون وصي عيسى بن مريم.. وإليه أوصى عيسى بن مريم (ع) وإليه دفع كتبه وعلمه وحكمته، فلم يزل أهل بيته على دينه متمسكين بملته فلم يكفروا ولم يبدلوا ولم يغيروا. وتلك الكتب عندي إملاء عيسى بن مريم (ع) وخط أبينا (ع) بيده، وفيها كل شيء يفعل الناس من بعده ملك ملك، وكم يملك وما يكون في زمان كل ملك منهم، حتى يبعث الله رجلاً من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، من أرض تدعى تهامة، من قرية يقال لها مكة..).
وهذا يؤيد أن شمعون (ع) وجه ذريته ليكون منهم في تلك المناطق الدينية المميزة، عند عين راحوما، وعند قبره بصفين، ويؤيد أنه كان في بابل وقد يكون له فيها ذرية.
مليكة أم الإمام المهدي من ذرية شمعون الصفا (ع)
صحت الرواية عندنا أن الله تعالى جعل أم الإمام المهدي (ع) حفيدة قيصر الروم، وأن أمها من ذرية شمعون الصفا (ع). وتقول روايتنا إن شمعون (ع) سافر الى روما مرات، وآمنت على يده زوجة قيصر، لكنه رجع الى قومه، وليس عندنا رواية عن أولاده، ومن بقي منهم في روما وصار من أهلها. لكن ذكرت النصوص المسيحية أن زوجته كانت معه في روما، وأنها قُتلت معه فمن القريب أن يكون له فيها ذرية.
قال في قصة الحضارة (4/3944): (ويحدثنا لكتانتيوس Lactantius عن قدوم بطرس إلى روما في عهد نيرون، وأكبر الظن أن الرسول زار روما عدة مرات.. وتقول النصوص القديمة إن زوجته قتلت معه وإنه أرغم أن يراها تساق للقتل).
فطبيعي أن يكون له أولاد في روما وغيرها، وأن تكون بعض بناته وحفيداته تزوجن في روما، وأن يكون مستواهن من مستوى أبناء القياصرة.
روى في إثبات الهداة (3/569) عن الفضل بن شاذان (رحمه الله): (عن محمد بن عبد الجبار قال قلت لسيدي الحسن بن علي (ع): يا ابن رسول الله جعلني الله فداك: أحب أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك؟ فقال: إن الإمام وحجة الله من بعدي ابني سميُّ رسول الله (ص) وكنِيُّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه. قلت: ممن هو يا ابن رسول الله؟ قال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم. ألا إنه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة، ثم يظهر).
أقول: سند الرواية صحيح بامتياز، لأن الفضل بن شاذان الثقة يرويها عن الإمام الهادي (ع) بواسطة واحدة، هو محمد بن عبد الجبار، وهو ثقة.
وهي تدل على أن والدة الإمام (ع) مليكة من ذرية شمعون الصفا (ع)، وتُقَوِّي الرواية التالية المفصلة، على أنها بذاتها صحيحة.
كيف جاء الله بمليكة الى الإمام العسكري (ع)؟
روى الصدوق (قدس سره) في كمال الدين (2/417): (عن محمد بن بحر الشيباني قال: وردت كربلا سنة ست وثمانين ومائتين قال: وزرت قبر غريب رسول الله (ص) ثم انكفأت إلى مدينة السلام متوجهاً إلى مقابر قريش في وقت قد تضرمت الهواجر وتوقدت السمائم، فلما وصلت منها إلى مشهد الكاظم (ع) واستنشقت نسيم تربته المغمورة من الرحمة، المحفوفة بحدائق الغفران، أكببت عليها بعبرات متقاطرة، وزفرات متتابعة، وقد حجب الدمع طرفي عن النظر، فلما رقأت العبرة وانقطع النحيب، فتحت بصري فإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه وتقوس منكباه، وثفنت جبهته وراحتاه، وهو يقول لآخر معه عند القبر: يا ابن أخي لقد نال عمك شرفاً بما حَمَّلَهُ السيدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم، التي لم يحمل مثلها إلا سلمان، وقد أشرف عمك على استكمال المدة وانقضاء العمر، وليس يجد في أهل الولاية رجلاً يفضي إليه بسره. قلت: يا نفس لايزال العناء والمشقة ينالان منك بإتعابي الخف والحافر في طلب العلم، وقد قرع سمعي من هذا الشيخ لفظ يدل على علم جسيم وأثر عظيم، فقلت: أيها الشيخ ومن السيدان؟ قال: النجمان المغيبان في الثرى بسر من رأى. فقلت: إني أقسم بالموالاة وشرف محل هذين السيدين من الإمامة والوراثة إني خاطب علمهما، وطالب آثارهما وباذل من نفسي الإيمان المؤكدة على حفظ أسرارهما، قال: إن كنت صادقاً فيما تقول، فأحضر ما صحبك من الآثار عن نَقَلة أخبارهم، فلما فتش الكتب وتصفح الروايات منها قال: صدقت، أنا بشر بن سليمان النخاس، من ولد أبي أيوب الأنصاري، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد وجارهما بسر من رأى، قلت: فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما، قال: كان مولانا أبو الحسن علي بن محمد العسكري فقهني في أمر الرقيق فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلا بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات، حتى كملت معرفتي فيه، فأحسنت الفرق بين الحلال والحرام. فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسر من رأى، وقد مضى هوي من الليل إذ قرع الباب قارع فعدوت مسرعاً، فإذا أنا بكافور الخادم رسولٌ مولانا أبي الحسن علي بن محمد (ص) يدعوني إليه، فلبست ثيابي ودخلت عليه فرأيته يحدث ابنه أبا محمد وأخته حكيمة من وراء الستر، فلما جلست قال: يا بشر إنك من ولد الأنصار، وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، فأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها شأو الشيعة في الموالاة بها: بسرٍّ أطلعك عليه وأنفذك في ابتياع أمَة.
فكتب كتاباً ملصقاً بخط رومي ولغة رومية، وطبع عليه بخاتمه، وأخرج شستقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً فقال: خذها وتوجه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوة كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وبرزن الجواري منها، فستحدق بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس وشراذم من فتيان العراق، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس، عامة نهارك إلى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرتين صفيقتين، تمتنع من السفور ولمس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها، ويشغل نظره بتأمل مكاشفها من وراء الستر الرقيق، فيضربها النخاس فتصرخ صرخة رومية، فأعلم أنها تقول: واهتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين علي بثلاث مائة ديناراً، فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول بالعربية: لو برزت في زي سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة، فأشفق على مالك، فيقول النخاس: فما الحيلة ولا بد من بيعك. فتقول الجارية: وما العجلة ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى أمانته وديانته، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس وقل له: إن معي كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه، فَنَاوِلْهَا لتتأمل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته، فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان النخاس: فامتثلت جميع ما حَدَّهُ لي مولاي أبو الحسن (ع) في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديداً، وقالت لعمر بن زيد النخاس: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرجة المغلظة إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحُّهُ في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (ع) من الدنانير في الشستقة الصفراء، فاستوفاه مني وتسلمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولاها (ع) من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدها، وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، فقلت تعجباً منها: أتلثمين كتاباً، ولا تعرفين صاحبه؟
قالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء (ع)، أعرني سمعك وفرغ لي قلبك: أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون (ع)، أنبؤك العجب العجيب: إن جدي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه، وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسيسين والرهبان ثلاث مائة رجل ومن ذوي الأخطار سبع مائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقواد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من به وملكه عرشاً مصوغاً من أصناف الجواهر، إلى صحن القصر فرفعه فوق أربعين مرقاة، فلما صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان، وقامت الأساقفة عُكَّفاً ونُشرت أسفار الإنجيل، تسافلت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض، وتقوضت الأعمدة فانهارت إلى القرار، وخر الصاعد من العرش مغشياً عليه! فتغيرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدي: أيها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطير جدي من ذلك تطيراً شديداً، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان، واحضروا أخا هذا المدبر العاثر المنكوس جده، لأزوج منه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم بسعوده، فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول!
وتفرق الناس وقام جدي قيصر مغتماً ودخل قصره، وأرخيت الستور! فأُرِيتُ في تلك الليلة كأن المسيح وشمعون وعدة من الحواريين، قد اجتمعوا في قصر جدي ونصبوا فيه منبراً يباري السماء علواً وارتفاعاً، في الموضع الذي كان جدي نصب فيه عرشه، فدخل عليهم محمد (ص) مع فتية وعدة من بنيه، فيقوم إليه المسيح (ع) فيعتنقه فيقول: يا روح الله إني جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمد صاحب هذا الكتاب فنظر المسيح إلى شمعون فقال له: قد أتاك الشرف فصل رحمك برحم رسول الله (ص) قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر وخطب محمد (ص) وزوجني، وشهد المسيح (ع) وشهد بنو محمد والحواريون، فلما استيقظت من نومي أشفقت أن أقص هذه الرؤيا على أبي وجدي مخافة القتل، فكنت أسرُّها في نفسي ولا أبديها لهم. وضرب صدري بمحبة أبي محمد حتى امتنعت من الطعام والشراب، وضعفت نفسي ودق شخصي ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي من مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدي وسأله عن دوائي، فلما برَّحَ به اليأس قال: يا قرة عيني فهل تخطر ببالك شهوة فأزودكها في هذه الدنيا؟ فقلت: يا جدي أرى أبواب الفرج عليَّ مغلقة، فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال وتصدقت عليهم ومننتهم بالخلاص، لرجوت أن يهب المسيح وأمه لي عافية وشفاء.
فلما فعل ذلك جدي تجلدت في إظهار الصحة في بدني، وتناولت يسيراً من الطعام فسر بذلك جدي، وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم، فرأيت أيضاً بعد أربع ليال كأن سيدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران، وألف وصيفة من وصائف الجنان فتقول لي مريم: هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمد، فأتعلق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمد من زيارتي، فقالت لي سيدة النساء (س): إن ابني أبا محمد لا يزورك وأنت مشركة بالله وعلى مذهب النصارى، وهذه أختي مريم تبرأ إلى الله تعالى من دينك، فإن ملت إلى رضا الله عز وجل ورضا المسيح ومريم عنك، وزيارة أبي محمد إياك فتقولي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله (ص).
فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها فطيبت لي نفسي وقالت: الآن توقعي زيارة أبي محمد إياك، فإني منفذته إليك. فانتبهت وأنا أقول: وا شوقاه إلى لقاء أبي محمد، فلما كانت الليلة القابلة جاءني أبو محمد (ع) في منامي، فرأيته كأني أقول له جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبك! قال: ما كان تأخيري عنك إلا لشركك، وإذ قد أسلمت فإني زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان، فما قطع عني زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية!
قال بشر: فقلت لها وكيف وقعت في الأسر؟ فقالت: أخبرني أبو محمد ليلة من الليالي أن جدَّك سيسرب جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا ثم يتبعهم، فعليك باللحاق بهم متنكرة في زي الخدم، مع عدة من الوصائف من طريق كذا، ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين حتى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت، وما شعر أحد بي بأني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك باطلاعي إياك عليه. وقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته وقلت نرجس، فقال: إسم الجواري.
فقلت: العجب أنك رومية ولسانك عربي. قالت: بلغ من ولوع جدي وحمله إياي على تعلم الآداب أن أوعز إلي امرأة ترجمان له في الاختلاف إلي، فكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربية، حتى استمر عليها لساني واستقام.
قال بشر: فلما انكفأت بها إلى سر من رأى دخلت على مولانا أبي الحسن العسكري (ع) فقال لها: كيف أراك الله عز الإسلام وذل النصرانية وشرف أهل بيت محمد (ص)؟ قالت: كيف أصف لك يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به مني. قال: فإني أريد أن أكرمك، فأيما أحب إليك عشرة آلاف درهم أم بشرى لك فيها شرف الأبد؟ قالت: بل البشرى، قال: فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
قالت: ممن؟ قال: ممن خطبك رسول الله (ص) له من ليلة كذا من شهر كذا من سنة كذا بالرومية. قالت: من المسيح ووصيه؟ قال: فممن زوجك المسيح ووصيه؟ قالت: من ابنك أبي محمد. قال: فهل تعرفينه؟ قالت: وهل خلوت ليلة من زيارته إياي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيدة النساء أمه؟
فقال أبو الحسن (ع): يا كافور أدع لي أختي حكيمة، فلما دخلت عليه قال لها: ها هيه، فاعتنقتها طويلاً وسرت بها كثيراً، فقال لها مولانا: يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك وعلميها الفرائض والسنن، فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم (ع)).
ووراه بنحوه دلائل الإمامة /262، بتفاوت يسير، وروضة الواعظين: 1/252 ومناقب ابن شهرآشوب: 4/440 مختصراً، ومنتخب الأنوار/51، وإثبات الهداة: 3/363، و365، و409 و495، والبحار: 51/6 و10.
ملاحظات
1. راوي هذه الرواية العالم المؤلف الأديب محمد بن بحر الشيباني (رحمه الله)، وقد تقدم توثيقه، وأن الصدوق (رحمه الله) استشهد على عقائد المذهب بفقرات من كتبه.
أما سيدنا الخوئي (قدس سره) فطبَّقَ منهجه المتشدد وَضَعَّفَ الرواية! قال (4/224): (لكن في سند الرواية عدة مجاهيل، على أنك قد عرفت فيما تقدم أنه لا يمكن إثبات وثاقة شخص برواية نفسه) يقصد بذلك قول الإمام الهادي (ع) لبشر بن سليمان الأنصاري: فأنتم ثقاتنا أهل البيت. ويقصد أنه لا يُثبت وثاقة سليمان لأنه هو الذي رواه. لكن يكفي لصحة الرواية اعتضادها برواية محمد بن عبد الجبار الصحيحة المتقدمة، ثم يكفي في توثيق الشيباني ارتضاء الصدوق والقميين لروايته رغم تشددهم. على أن دواعي الوضع هنا منتفية.
وقد ارتضى هذا المبنى الشيخ الأنصاري (قدس سره) وصحح به رواية استشارة عمر لأمير المؤمنين (ع) في الفتوحات وإذنه بها. قال في المكاسب (2/243): «والظاهر أن أرض العراق مفتوحة بالإذن كما يكشف عن ذلك ما دل على أنها للمسلمين. وأما غيرها مما فتحت في زمان خلافة الثاني، وهي أغلب ما فتحت، فظاهر بعض الأخبار كون ذلك أيضاً بإذن مولانا أمير المؤمنين (ع) وأمره، ففي الخصال في أبواب السبعة في باب أن الله تعالى يمتحن أوصياء الأنبياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن، وبعد وفاتهم في سبعة مواطن.. الى أن قال: فإن القائم بعد صاحبه، يعني عمر بعد أبي بكر كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظر في ذلك غيري...
ثم قال: وفي سند الرواية جماعة تُخرجها عن حد الاعتبار، إلا أن اعتماد القميين عليها وروايتهم لها، مع ما عُرف من حالهم لمن تتبعها من أنهم لا يخرجون في كتبهم رواية في راويها ضعف إلا بعد احتفافها بما يوجب الاعتماد عليها جابرٌ لضعفها في الجملة). فهذا كافٍ في تصحيح رواية مليكة رضي الله عنها، فكيف إذا أضفنا اليه الصحيحة المتقدمة عن محمد بن عبد الجبار، وهي وحدها كافية لتصحيحها.
2. تدل الرواية على المستوى العلمي والعقلي الجيد لبشر الأنصاري (رحمه الله) لأنه لم يحدث الشيباني حتى امتحنه واطمأن الى أنه عالم موالٍ: (قال: إن كنت صادقاً فيما تقول فأحضر ما صحبك من الآثار عن نَقَلة أخبارهم، فلما فتش الكتب وتصفح الروايات منها قال: صدقت. أنا بشر بن سليمان..).
3. ما وصفته مليكة من سقوط المنصة والزينة والصلبان والعريس، وتكرار ذلك مع العريس الثاني الذي أرادوها لها، كان آيةً ربانية لقيصر ليفهم أن هذا العمل نحسٌ فيتركه، وقد فَهم ذلك وتركه. وقد رأيتُ بعض النواصب يسخر من قصة نرجس رضي الله عنها، وفي نفس الوقت يؤمن بكراماتٍ لابن تيمية أعظم منها، ويأتمُّ بمن لا يعقل الخطاب والجواب!
4.كانت تسمى مليكة، ونرجس، وسوسن، وريحانة، وصقيل. (كشف الحق/33). وسبب تعدد التسمية أن الخليفة وظف جاسوسات يأتينه بأخبار بيت الإمام (ع) ومن هي حامل من نسائه. وقد زادت رقابتهم على الأئمة (ع) لما اقترب الأمر من الإمام الثاني عشر (ع)، لأنه الموعود الذي يُنهي دولة الظالمين.
أسرة والدة الإمام المهدي (ع)
حسب النصوص التي عندنا، لابد أن تكون السيدة مليكة أم المهدي (ع) قد ولدت نحو235 هجرية، أي نحو850 ميلادية، لأن جدها القيصر أراد تزويجها من ابن عمها وعمرها ثلاث عشرة سنة، فحدثت المعجزة وسقطت منصة العرس بزينتها وصلبانها ومن عليها، ففهم القيصر أن في الأمر سراً فألغى العرس!
وأصابت مليكة الحمى وخاف جدها عليها، فجاء بالأطباء.. ثم رأت فاطمة الزهراء (س) في منامها، فأسلمت على يدها وصار يأتيها أبو محمد (ع) في المنام، فوجهها الإمام (ع) في منامها أن تخرج مع جواريها وتتبع جيشاً أرسله جدها لقتال المسلمين، وكان الجيش الرومي يتجه عادة الى ديار بكر على حدود العراق مع الروم أو الى منطقة أرض روم، وهي حدود آذربيجان المسلمة مع الروم.
 وتعمدت مليكة ووصائفها أن يسلكن طريقاً يوقعهن في قبضة الجيش الإسلامي، فأخذوهن مع الأسرى الى بغداد، ولا بد أن عمرها يومها كان دون العشرين سنة. فتكون ولادتها نحو237هجرية يساوي 852 م. لأنها رزقت بابنها المهدي (ع) في: 15شعبان/255، هجري، وهو يساوي يوم الجمعة: 2/8/869، ميلادي، كما في تحويل التاريخ الهجري الى ميلادي.
أما جدها القيصر الذي ولدت في عهده، فيصح أن يكون تيوفيل أو ثيوفئيل من حيث العمر، لكن لم أجد ذكراً لابنه يشوعا والدها، وقد ذكروا أن تيوفيل ورثه ابنه ميخائيل الثالث، ثم ذكروا أن تيوفيل مات سنة 227، أي قبل ولادة مليكة!
قال الطبري (7/318): (بويع في يوم توفي المعتصم، ابنُهُ هارون الواثق بن محمد المعتصم وذلك في يوم الأربعاء لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة 227.. وهلك هذه السنة توفيل ملك الروم، وكان ملكه اثنتي عشرة سنة).
وقال الطبري (7/348): (وفيها (سنة 233) وثب ميخائيل بن توفيل على أمه تذورة، فشمَّسها وأدخلها الدير، وقتل اللغثيط لأنه اتهمها به. وكان مُلكها ست سنين). أي خاف ابنها أن تتزوج اللغثيط وتنقل الملك من ابنها الى زوجها.
وقال الطبري (7/608): (وفيها (سنة254) وثب بسيل المعروف بالصقلبي.. على ميخائيل بن توفيل ملك الروم فقتله، وكان ميخائيل منفرداً بالمملكة أربعاً وعشرين سنة. وتملك الصقلبي بعده على الروم).
أقول: يظهر بذلك أن الأمبراطور ثيوفيلوس حكم من سنة 842 ميلادية الى سنة 866 ميلادية. وهو الوقت الذي نشأت فيه أم الإمام (ع) وجاءت الى سامراء. فيصح أن يكون توفيل جدها، لكن لم نجد له ابناً إسمه يشوعا.
وفي قصة الحضارة (5/4973): (ثيوفيلس(829- 842) المشترع المصلح، والملك البناء، والإداري الحي الضمير، الذي أحيا سنه اضطهاد محطمي التماثيل وقضى عليه الزحار. وأرملته ثيودورا التي حكمت البلاد نيابة عنه حكماً قديراً (842- 856) وأنهت عهد الاضطهاد. وميخائيل الثالث السكير (842- 867) الذي أسلم الإمبراطورية بعجزه اللطيف إلى أمه أولاً، ثم إلى قيصر بارداس caesar Bardas عمه المثقف القدير بعد وفاتها.
ثم تظهر على المسرح على حين غفلة شخصية فذة لم تكن منتظرة تخرج على كل سابقة عدا سابقة العنف، وتؤسس الأسرة المقدونية القوية، فقد ولد باسل المقدوني (862؟) بالقرب من هدريانوبل Hadriaople من أسرة أرمنية من الزراع. وأسره البلغار وهو صغير وقضى شبابه بينهم وراء الدانوب، في البلاد التي كانت وقتئذ معروفة باسم مقدونية. ثم فر منهم وهو في الخامسة والعشرين من عمره، واتخذ سبيله إلى القسطنطينية، واستأجره أحد رجال السياسة ليكون سائساً لخيوله، لأنه أعجب بقوة جسمه وضخامة رأسه، وصحب سيده في بعثة إلى بلاد اليونان، وهناك استلفت نظر الأرملة دنيليس Danielis وحصل على بعض ثروتها.
ولما رجع إلى العاصمة روَّضَ جواداً جموحاً يملكه ميخائيل الثالث، فأدخله الإمبراطور في خدمته. وظل يرتقي فيها حتى صار رئيس التشريفات، وإن لم يكن يعرف القراءة والكتابة. وكان باسيل على الدوام قديراً فيما يوكل إليه من الأعمال، سريع الاستجابة لها، فلما طلب ميخائيل زوجاً لعشيقته، طلق باسيل زوجه القروية، وأرسلها إلى تراقية مع بائنة طيبة، وتزوج يودوسيا Eudocia التي ظلت في خدمة الإمبراطور. وهكذا حبى ميخائيل باسيل بعشيقته ولكن المقدوني ظن أنه يستحق العرش جزاء له على فعلته، فأقنع ميخائيل بأن بارداس يأتمر به ليخلعه، ثم قتل بارداس بيديه الضخمتين (866) وكان ميخائيل قد اعتاد من زمن طويل أن يملك دون أن يحكم فجعل باسيل إمبراطوراً وترك له جميع شئون الحكم. ولما هدده ميخائيل بعزله، دبر باسيل اغتياله وأشرف على هذا الاغتيال بنفسه، وانفرد هو بالإمبراطورية (867) وهكذا كانت المناصب مفتحة الأبواب لذوي الكفاية حتى في عهد الملكيات الوراثية المطلقة. وهكذا أنشأ ابن الفلاح الأمي غير المثقف بتذلّله وجرائمه أطول الأسر الحاكمة البيزنطية عهداً، وبدأ حكماً دام تسع عشرة سنة امتاز بالإدارة الحازمة، والقوانين الصالحة، والقضاء العادل، والخزانة الغاصة بالمال، وببناء الكنائس والقصور الجديدة في المدينة التي استولى عليها).
أقول: خلاصة ما ذكره هذا المؤرخ الغربي الكبير: أن القيصر ثيوفيلس حكم من سنة 829- 842 ميلادية. وأرملته ثيودورا التي حكمت البلاد نيابة عنه، من سنة 842- 856. وابنه ميخائيل الثالث الذي حكم من سنة 842- 867.
ثم عمه قيصر بارداس. ثم جاء القيصر باسل المقدوني، وأسس الأسرة المقدونية التي حكمت نحو 200 سنة.
وعلى هذا التسلسل، وعلى فرضية أن أم الإمام (ع) ولدت نحو850، يكون القيصر الذي هو جدها: تيوفيل، وقد يكون ميخائيل الثالث، لأنه كان حاكماً الى سنة 267 أي الى أن صار عمرها سبع عشرة سنة، فتكون تركت القسطنطينية في عصره.
قال المسعودي (التنبيه والإشراف/145): (ميخائيل بن توفيل ملكَ ثمانياً وعشرين سنة، بقية أيام الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين. وكانت أمه تدورة تدبر الملك معه، ثم أراد قتلها لأمر كان منها، فهربت ولحقت بالدير فترهبت.
ونازعه في الملك رجل من أهل عمورية من أبناء الملوك السالفة، يعرف بابن بقراط، فلقيه ميخائيل وقد أخرج من في سجونه من المسلمين للقتال معه وقواهم بالخيل والسلاح، فظفر بابن بقراط فشوه بخلقه ولم يقتله، لأنه لم يلبس ثياب الفرفير والخف الأحمر.
وقَتَلَ ميخائيلَ بسيلُ الصقلبي جدُّ قسطنطين بن لاون بن بسيل، الملك على الروم في هذا الوقت، المؤرخ به كتابنا وهو سنة 345). يقصد أنه من ذريته.
فالمرجح أن يشوعا ابن ميخائيل الثالث، هو جد مليكة أم الإمام (ع) وكان له ابن أخ، فأراد أن يزوجه حفيدته مليكة فحدثت الآية.
وفي مكتبة التاريخ، وفي مصادره: تاريخ الدولة البيزنطية د/محمد حسنين ربيع:

http//مكتبة التاريخ.com/2011/07/theodora-wife-of-emperor-theophilus.html

أن الإمبراطور ثيوفيليوس بعد موت زوجته، تزوج بثيودورا وأنجب منها خمس بنات وولد، هو ميخائيل الثالث، وتوفى الإمبراطور ثيوفيليوس سنه 842م. وترك ابنه ميخائيل ووريثه الوحيد وعمره لم يتجاوز السادسة، وأوصى أن تتولى الإمبراطورة ثيودورا أمه الوصاية عليه، وعاونها في الوصاية مجلس مكون من كبار رجال الدولة، وكان أشهرهم ثيوكتيستوس عم ثيودورا، وكانت ثيودورا هي الحاكمة للدولة البيزنطية لمده 14سنة، وقام على تنشئة الإمبراطور ميخائيل الثالث، عمه برداس فأهمل في تربيته وتنشئته، فساء خلقه وأدمن شرب الخمر والمقامرة، حتى أطلق عليه البيزنطيون لقب السكير ويبدو أن خاله برداس تعمد هذا ليبعده عن الحكم، وفعلاً حصل برداس على درجة كبيرة من النفوذ والتصرف في شئون الحكم.
وحدث فى عهد ثيودورا المفاوضات لفداء الأسرى مع المسلمين، وتم الفداء على ضفاف نهر اللامس سنه 845 م.
وفي سنه 846 م. أرسلت ثيودورا جيشاً الى صقلية لاستعادتها، لكن جيوشها هزمت على يد الأغالبة.
وفي مايو853 م. أرسلت ثيودورا أسطولاً الى دمياط وبلاد الشام، ولم تكن في دمياط حامية، لأن حاميه دمياط غادرت المدينة للاشتراك في عرض حربي بمناسبه عيد الأضحى، فتعرضت المدينة للسلب والنهب من قبل البيزنطيين واخذو 600 أسيراً من أهل المدينة، وكثيراً من المؤن.
كانت نهاية ثيودورا على يد أخيها برداس الذي حدثت مشادة بينه وبين ثيوكتيسوس عم ثيودورا وعشيقها، فقام برداس بالوشاية عند الإمبراطور ميخائيل الثالث أن ثيوكتيسوس ينوي الزواج من ثيودورا، فأمر الأمبراطور ميخائيل الثالث بسجن ثيوكتيسوس، وقتل سنه 854م.
وعندما ادعى أحد الرهبان أنه ابن ثيودورا، وأنه الأحق في تولى الحكم، أمر برداس بالقبض عليه وقتله، وأكره الإمبراطور ميخائيل الثالث أمه الإمبراطورة ثيودورا وإخوته على الترهب).
ورغم ما تقدم فلا بد من القول إن معلوماتنا شحيحة عن أسرة مليكة (س)، لكن مصادرها في اللغة اللاتينية والإيطالية وافرة، تحتاج الى تتبع واستقصاء.
ونذكر فيما يلي قائمة بأسماء الأباطرة الذين حكموا بيزنطة الشرقية لتكون عوناً للباحث الذي يريد متابعة الموضوع، لأن ما رأيته من بحوث كلها ضعيفة.
قائمة بأسماء الأباطرة البيزنطيين
كما ورد في موقع:
http://www.startimes.com/?t=8134241

(ثبت بأسماء أباطرة الدولة البيزنطية من قسطنطين الأول حتى سقوط الدولة البيزنطية عام 1453م. على يد السلطان العثماني محمد الفاتح:
*قسطنطين الأول 337 م.
*قنسطنطينوس 361 م.
*يوليانوس المرتد 363 م.
*يوفيانوس 364 م.
*والنس 378 م.
*ثيودوسيوس الأول 395 م.
*اركاديوس 408 م.
*ثيودوسيوس الثاني 450 م.
*مرقيانوس 457 م.
*لاوون الأول 474 م.
*لاوون الثاني 474 م.
*زينون 491 م.
*انسطاسيوس الأول 518 م.
*يوستينوس الأول 527 م.
*يوستنيانوس الأول 565 م.
*يوستنيوس الثاني 578 م.
*طيباريوس الثاني 582 م.
*موريقيوس 602 م.
*ثيودسيوس الشريك 602 م.
*فوقاس 610 م.
*هرقل الأول 641 م.
*قسطنطين الثالث 641 م.
*هرقليون 641 م.
*قسطنطين الثالث 641 م.
*هرقليون 641 م.
*قسطنس الثاني 668 م.
*قسطنطين الرابع 668 م
*هرقليوس 681 م
*طيباريوس 681 م
*قسطنطين الرابع 685 م.
*يوستيانوس الثاني 695 م.
*لاونديوس 698 م.
*طيباريوس الثالث 705 م.
*يوستنيانوس الثاني 711 م.
*طيباريوس 711 م.
*فيليبيكوس البرداني 713 م.
*انسطاسيوس الثاني ارتيموس715 م.
*ثيودسيوس الثالث 717 م.
*لاوون الثالث الأيسورى 740 م.
*قسطنطين الخامس 740 م.
*كوبرونيموس الزبلي 775 م.
*لاوون الرابع 775 م.
*لاوون الخرز 780 م.
*قسطنطين السادس 780 م.
*ايرينة 802 م.
*نيقفوروس الأول 811 م.
*استوراقيوس 811 م.
*ميخائيل الأول 813 م.
*لاوون الخامس 820 م.
*ميخائيل الثاني 829 م.
*ثيوفيلوس 842 م.
*ميخائيل الثالث (السكير) 866 م.
*باسيليوس الأول 867 م.
*باسيليوس المقدوني 886 م.
*لاوون السادس 886 م.).
*الاسكندر 912 م
*لاوون الحكيم 912 م
*قسطنطين السابع 913 م
*بورفير وجنيتوس 919م
*كريستوفر ليكابينوس 931 م
*رومانوس الأول 944 م
*قسطنطين السابع 944 م
*استيفن ليكابينوس 945 م
*قسطنطين ليكابينوس 945 م
*قسطنطين بورفيروجينتوس 959 م
*رومانوس الثاني 963 م
*باسيلوس الثاني 963 م
*نيقفوراس الثاني فوقاس 969 م
*يوحنا الأول جيمسكى 976 م
*باسيلوس جلاد البلغار 1025 م
*قسطنطين الثامن 1028 م
*رومانوس الثالث أرجيروس1034 م
*ميخائيل الرابع 1041 م
*ميخائيل الخامس الشماع 1042 م
*زوية 1042 م
*قسطنطين التاسع 1055 م
*ثيودورا 1056 م
*ميخائيل السادس 4057 م
*اسحق الأول 1059 م
*قسطنطين العاشر دوقاس 1067 م
*ميخائيل السابع 1071 م
*رومانوس ديوجينيس 1071 م
*ميخائيل بارابيناكس 1078 م
*نيقفوروس الثالث بوتنياس 1081 م
*قسطنطين دوقاس 1090 م
*يوحنا الثاني 1118 م
*الكسيوس الأول كوممنينوس1118 م
*الكسيوس 1142 م
*يوحنا كاليوهانيس 1143 م
*عمانويل الأول 1180 م
*الكسيوس الثاني 1183 م
*اندرينوكس الأول 1185 م
* اسحق انجيلوس 1195 م
*الكسيوس الثالث 1203 م
*الكسيوس الرابع 1204 م
*اسحق الثاني 1204 م
*الكسيوس الخامس مورتزفيلوس 1204
*ثيودور الأول لاسكارس 1222 م.
*يوحنا الثالث دوقاس فاتاتزيس 1254 م
*ثيودورالثانيلاسكارس فاتاتزيس1258م
*يوحنا الرابع دوقاس 1258 م
*ميخائيل باليوجيس الثامن 1282 م
*اندرينوكوس الثاني 1328 م
*اندرينوكس الثالث 1341 م
*يوحنا الخامس 1347 م
*يوحنا السادس 1355 م
*ماثيو كانتا كوزينى 1355 م
*يوحنا الخامس (مرة ثانية) 1376 م
*اندرينيكوس الرابع 1379 م
*يوحنا السابع 1390 م
*عمانويل الثاني 1425 م
*يوحنا السابع 1412 م
*يوحنا الثامن 1448 م
*قسطنطين الحادي عشر 1453 م
وأول من أسس استانبول بحارة من ميجارا عام 657 ق.م. وكان إسمها مدينة بيزنطة.
وأول من بناها ومصَّرها الأمبراطور قسطنطين 324م. وسماها باسمه، واحتفل بافتتاحها بحفل مهيب في 11 مايو 330 م. وفي سنة1453م. فتحها السلطان العثماني محمد الفاتح، وأنهى الدولة البيزنطية وسماها إستامبول، واتخذها عاصمة للدولة العثمانية.

* * *

الفصل العاشر: أصحاب الكهف رضوان الله عليهم

آيات أصحاب الكهف
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا. فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا. ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى. وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَاْ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا. هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَاوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيّئ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْللَّ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا. وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَداً.
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا. سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا.
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّى لاقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا. وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا. قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً
) (الكهف:9-26).
المسألة الأولى: خلاصة قصة أصحاب الكهف
في تفسير القمي (2/31): (قوله: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً: يقول قد آتيناك من الآيات ما هو أعجب منه، وهم فتية كانوا في الفترة بين عيسى بن مريم ومحمد (ص). وأما الرقيم فهما لوحان من نحاس مرقوم، أي مكتوب، فيهما أمر الفتية وأمر إسلامهم، وما أراد منهم دقيانوس الملك، وكيف كان أمرهم وحالهم.
قال علي بن إبراهيم: فحدثني أبي، عن ابن عمير، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) قال: كان سبب نزولها يعني سورة الكهف أن قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران، النضر بن الحارث بن كلدة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل السهمي، ليتعلموا من اليهود والنصارى مسائل يسألونها رسول الله (ص)، فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود، فسألوهم، فقالوا: سلوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق، ثم سلوه عن مسألة واحدة فإن ادعى علمها فهو كاذب! قالوا: وما هذه المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول، فخرجوا وغابوا وناموا، وكم بقوا في نومهم حتى انتبهوا، وكم كان عددهم، وأي شيء كان معهم من غيرهم، وما كان قصتهم؟
واسألوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه من هو، وكيف تبعه، وما كان قصته معه؟ واسألوه عن طايف طاف من مغرب الشمس ومطلعها، حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج، من هو، وكيف كانت قصته؟
ثم أملوا عليهم أخبار هذه الثلاث مسائل، وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه.
قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قال: سلوه متى تقوم الساعة؟ فإن ادعى علمها فهو كاذب، فإن قيام الساعة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.
فرجعوا إلى مكة واجتمعوا إلى أبي طالب (ع) فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه، ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق، وإن لم يجبنا علمنا أنه كاذب، فقال أبو طالب: سلوه عما بدا لكم. فسألوه عن الثلاث مسائل، فقال رسول الله (ص): غداً أخبركم ولم يستثن، فاحتبس الوحي عليه أربعين يوماً حتى اغتم النبي (ص)، وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به، وفرحت قريش واستهزؤوا وآذوا، وحزن أبو طالب، فلما كان بعد أربعين يوماً نزل عليه بسورة الكهف، فقال رسول الله (ص): يا جبرئيل لقد أبطأت؟ فقال: إنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله، فأنزل: (أَمْ حَسِبْتَ - يا محمد- أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً). ثم قص قصتهم: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا...).
فقال الصادق (ع): إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبار عات، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام، فمن لم يجبه قَتَله، وكان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عز وجل، ووكل الملك بباب المدينة وكلاء، ولم يَدَع أحداً يخرج حتى يسجد للأصنام، فخرج هؤلاء بحيلة الصيد، وذلك أنهم مروا براع في طريقهم، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم، وكان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب وخرج معهم. فقال الصادق (ع): فلا يدخل الجنة من البهائم إلا ثلاثة، حمار بلعم بن باعوراء، وذئب يوسف، وكلب أصحاب الكهف. فخرج أصحاب الكهف من المدينة بحيلة الصيد هرباً من دين ذلك الملك، فلما أمسوا دخلوا ذلك الكهف، والكلب معهم فألقى الله عليهم النعاس، كما قال الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، فناموا حتى أهلك الله ذلك الملك وأهل مملكته، وذهب ذلك الزمان، وجاء زمان آخر وقوم آخرون، ثم انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا هاهنا؟ فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت، فقالوا: نمنا يوماً أو بعض يوم. ثم قالوا لواحد منهم: خذ هذا الورق وادخل المدينة متنكراً لا يعرفوك فاشتر لنا طعاماً، فإنهم إن علموا بنا وعرفونا يقتلونا أو يردونا في دينهم، فجاء ذلك الرجل فرأى مدينة بخلاف الذي عهدها، ورأى قوماً بخلاف أولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغته ولم يعرف لغتهم، فقالوا له: من أنت ومن أين جئت، فأخبرهم! فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف، وأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة وسادسهم كلبهم. وقال بعضهم: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وحجبهم الله عز وجل بحجاب من الرعب، فلم يكن أحد يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنه لما دخل إليهم وجدهم خائفين أن يكون أصحاب دقيانوس شعروا بهم، فأخبرهم صاحبهم أنهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، وأنهم آيةٌ للناس، فبكوا وسألوا الله تعالى أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا.
ثم قال الملك: ينبغي أن نبني هاهنا مسجداً ونزوره، فإن هؤلاء قومٌ مؤمنون فلهم في كل سنة نقلتان: ينامون ستة أشهر على جنوبهم اليمنى، وستة أشهر على جنوبهم اليسرى، والكلب معهم قد بسط ذراعيه بفناء الكهف، وذلك قوله: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)، أي بالفناء.
(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيء إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ): أخبره أنه إنما حبس الوحي عنه أربعين صباحاً، لأنه قال لقريش غداً أخبركم بجواب مسائلكم، ولم يستثن. فقال الله: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا) - إلى قوله: (رَشَدا).
وفي تفسير الثعلبي (6/147) عن محمد بن إسحاق بن يسار قال: (مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا، وطغت فيهم الملوك، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح ابن مريم (ع) متمسكين بعبادة الله عز وجل وتوحيده، وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يُقال له دقيانوس، كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه في ذلك، ممن أقام على دين المسيح... فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان في مساكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت، فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأصنام والذبح للطواغيت..
وقال ابن عباس: هربوا ليلاً من دقيانوس بن جلانوس حيث دعاهم إلى عبادة الأصنام، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب وكان على دينهم، فخرجوا من البلد فأووا إلى الكهف، وهو قريب من البلدة، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والتسبيح والتكبير والتحميد ابتغاء وجه الله تعالى، فجعلوا نفقتهم إلى فتىً منهم يُقال له تمليخا، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً وكان من أجملهم وأجلدهم).
خلاصة قصتهم برواية علي (ع)
في كتاب التحصين لابن طاووس /642، وقصص الأنبياء للراوندي/256، وغيرهما: (لما جلس عمر بن الخطاب في الخلافة أتاه قوم من أحبار اليهود من بلد الشام فقالوا: أنت خليفة رسول الله؟ قال: نعم. قالوا: نحن رسل أحبار اليهود يهود الشام جئناكم لنسألكم مسائل، فإن أجبتمونا بما هو مكتوب في التوراة علمنا أن دينكم حق وأن نبيكم صادق، وإن لم تجيبونا علمنا أن نبيكم كان كاذباً وأن دينكم باطل! قال: سلوني عما بدا لكم. قالوا أخبرنا أي شيء لم يخلقه الله وأي شيء لا يعلمه الله وأي شيء ليس لله، وأي شيء ليس من الله، وأي قبر سار بأهله، وأي موضع طلعت عليه الشمس مرة ولم يطلع بعد هناك ولا تطلع بعده إلى يوم القيامة؟ فأطرق عمر ملياً ثم قال: لا عيب على عمر إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم! فقالت اليهود: ألست تزعم أنك خليفة رسول الله؟ وقد علمنا أن نبيكم كان كاذباً وأن دينكم باطلاً!
فقام سلمان الفارسي حتى أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فقال له: يا أبا الحسن، أغث الإسلام، فقام علي (ع) فارتدى وانتعل وأقبل حتى دخل على عمر. فلما رآه عمر قام اليه فاعتنقه فقال: لكل شديدة تدعى يا أبا الحسن. فجلس علي (ع) فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله صلوات الله عليه ثم قال: سلوني معاشر اليهود، فإن أخي رسول الله علمني ألف باب من العلم يخرج من كل باب ألف حديث، وما أنزل الله شيئاً في التوراة والإنجيل إلا أخبرني به. ثم ذكر أن علياً (ع) أجابهم على أسئلتهم فأسلم اثنان من اليهود وبقي الثالث فقال:
بقيت لي مسألة واحدة فإن أخبرتني بها علمت أنك أعلم أصحاب محمد. فقال علي (ع): هات. فقال اليهودي: أخبرني عن أناس ماتوا أكثر من ثلاث مائة سنة ثم أحياهم الله، ما هم؟ فقال علي (ع): قد أنزل الله على نبينا (ص) سورة في شأنهم فإن شئت قرأتها عليك. فقال: ما أكثر ما سمعت قرآنكم، ولكن أخبرنا إن كنت عالماً بخبرهم، وأسمائهم، وإسم مدينتهم، وإسم ملكهم، وإسم كلبهم، وإسم جبلهم، وإسم كهفهم؟
قال علي (ع): لا حول وقوة إلا بالله العلي العظيم، أخبرني حبيبي محمد (ص) أنه كانت بالروم مدينه يقال لها أفسوس، وكان عليها ملك يقال له دقيوس وكان كثير المال، وجمع من الجنود ما لم يكن لأحد من ملوك الروم، فعاش أربع مائة لم يوعك ولم يُحَمّ ولم يمرض ولم يمت، فادعى الربوبية وكفر بربه، ودعا الناس إلى عبادته، فمن أجابه أكرمه وحباه وألبسه وأعطاه، ومن عصاه ولم يطعه فيما أمره أهانه وعذبه وحبسه وأذاقه ألوان العذاب.
فعاش ذلك دهراً طويلاً، ثم إنه أمر أهل مملكته أن يجعلوا له مجلساً من مرمر عرضه أربع مائة ذراع في طول مثله، مشبك باللئالئ واليواقيت والجواهر، وصور عليها تصاوير جميع ما خلق الله تعالى ووضع سريره عليه. وجعل عن يمينه مائتي كرسي للبطارقة وعن شماله مائتي كرسي للهراقلة، وبين يديه أربع مائة رجل من خاصته، وقوفاً على أعمدة الذهب والفضة.
واختار من أولاد الحكماء ثلاثة فأجلسهم عن يمينه، ومن أولاد الملوك ثلاثة أجلسهم عن شماله، وكان لا يقطع أمراً دون رأيهم. وكان إذا جلس في مجلسه في كل يوم يدخل من باب المجلس ثلاثة غلمان، بيد أحدهم جام من ذهب مملواً بالمسك، وفي يد الثاني جام من ذهب فيه ماء الورد، وفي يد الثالث طائر.
قال اليهودي: كيف كان لون الطائر؟ قال علي (ع): كان لونه أخضر، أحمر المنقار والرجلين، وكان دون الحمامة وأكبر من العصفور، وكان يقف الغلام عند الملك فيصيح بالطير ويكلمه بلسانه، فيطير الطائر حتى يقع في الجام الذي فيه ماء الورد فيغمس نفسه فيه فيأخذ المسك بجناحه، ثم يصيح به الغلام الثالث فيطير حتى يكون فوق رأس الملك فينتفض حتى ينثر ذلك المسك وماء الورد عليه! وكان هذا دأبهم دهراً طويلاً.
فكان من أولئك الفئة ستة من خيار أصحابه وأعلمهم، وكانوا كبني أم في التعاطف، وكان الملك يثق بهم ويصدر أموره بقولهم. وكانوا كل يوم إذا خرجوا من عند الملك يجتمعون عند واحد منهم وكانت النوبة تدور عليهم.
ثم إنه أتى الملك خبر من بعض مسالحه، خروج خارجي، وأخذ بعض مملكته فاغتم الملك واهتم حتى عرف ذلك في وجهه ودخل على أهل مملكته من ذلك غم شديد وحزن لأجل ذلك الملك، وكان ذلك نوبة كبيرهم، وأن يكونوا عنده وكان إسمه تمليخا فصنع لأصحابه من أنواع الطعام والشراب والفواكه والطرائف، وفرش لهم اللين من الفراش، فلما دخلوا وقعدوا، قدم إليهم المائدة وقال: إخواني، كلوا مما رزقتم واشربوا. فقالوا: ما لك لا تأكل معنا؟ قال: نزل بي أمر يعوقني عن الأكل والشرب. قالوا: يا تمليخا قد علمت إنه لا يطيب لنا العيش ولا الطعام ولا الشراب إلا معك.
قال: إخواني، كلوا فإنه أمر لا أقدر أن آكل شيئاً معه! قالوا: يا تمليخا، أخبرنا بعلتك، فإن كنت مغتماً من أجل الملك وما نزل به فإنا شركاؤك في ذلك، وإن كان لعلة مرض فإنا علماء بالطب، وإن كان أمراً دون ذلك فلا ينبغي لك أن تغتم ولا أن تغمنا، فأخبرنا بأمرك فرب أمر هو شديد على صاحبه عسر عليه، وعند غيره كشف له وفرج منه. فقال: إخواني، إن الذي منعني من الطعام فكرة فكرت ليلتي هذه فيها. فقالوا: أخبرنا. فقال: إخواني، فكرت في الهنا دقيوس فقلت: لو كان دقيوس إلاهاً كما زعم ما كان له أن يغتم ولا أن يفرح ولا أن يمسه هم. فأنا أراه كأحدنا يأكل ويشرب ويتغوط ويقوم ويقعد ويركب ويحتاج إلى الأهل وينام، فكيف يكون دقيوس إلهاً؟! وفكرت في نفسي فقلت: من أخرجني جنيناً ومن خلقني في بطن أمي من ماء أبيض سوياً؟ ومن رباني، ومن غذاني إذ كنت طفلاً رضيعاً، ثم فطيماً، ثم أمرد، ثم إلى الشباب، ثم أصير كهلاً، وشيخاً، ثم الموت لا بد منه؟
ثم فكرت في نفسي: من سوى فوقنا سقفاً مرفوعاً بلا عمد هواه ولا علاقة ولا متكأ، ومن زينها بالكواكب الطالعات؟ ومن أجرى الشمس والقمر؟ ومن يأتي بالليل المظلم والنهار المبصر؟ ومن يأتي بالسحاب فيسقى البلاد والعباد منه؟ ومن ينبت الحب في الثرى؟ هو الذي خلقنا وخلقه.
وقلت: ما دقيوس إلا بشر مثلنا وخلقٌ من خلقه وعبد من عبيده، ملَّكه إله السماوات وأعطاه النعمة السابغة والعمر الطويل والجند الكثير والمال المزيد، فكفر به وعصاه وطغى، وادعى الربوبية ودعا الناس إلى نفسه.
فقالوا: يا تمليخا، إن الأمر كما ذكرت والفكرة ما فكرت، ما دقيوس إلا عاص وكافر بإله الخلق أجمعين، ما الإله إلا خالق السماوات والأرض.
فقال تمليخا: فكيف الحيلة بالكفر به فالطاعة لإله السماء والأرض؟ فقالوا: لا نعلم، والرأي رأيك. فقال تمليخا: لا أرى لنفسي ونفسكم إلا الفرار من دقيوس الكافر إلى إله السماء الذي خلقنا وخلقه. فقالوا: نعم الرأي ما رأيت، فباتوا تلك الليلة. فلما كان نصف الليل قال تمليخا: إخواني، قوموا إلى عبادة ربكم. فقاموا: (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَاْ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا). وجعلوا يدعون ربهم بقية ليلتهم. فلما أصبحوا ركبوا خيولهم وخرجوا هراباً من دقيوس الكافر متثابتين عن ثلاثة أميال من المدينة. فقال تمليخا: أنزلوا عن خيولكم ليخفى أثركم، فنزلوا وخلوا خيولهم ومشوا على أرجلهم حتى قطر الدم من أرجلهم فشكوا ذلك اليه فقال: إخواني إن هذا في الله قليل...ثم أورد قصتهم وذكر في آخر الرواية أن اليهودي أسلم على يد علي (ع)، وذكر أسامي أصحاب الكهف: فرطالوس، أميوس، دانيوس، واسرافيون، واسطاطانوس، ومكساميس وتمليخا).
المسألة الثانية: مكان الكهف ومدة نومتهم الأولى
الرأي السائد عند عامة المسلمين أن بلد أهل الكهف هو مدينة أفسوس، وهي الآن مكان خرب جنوب مدينة أزمير التركية على بعد نحو خمسين كيلو متراً منها. ويظن بعضهم أن الكهف في إفسوس، قرب قرية أياصولوك، بسفح جبل ينايرداغ. وهو كهف وسيع، فيه مئات القبور مبنية من الطوب وهو في سفح الجبل وبابه متجه الى الجهة الشمالية الشرقية وليس عنده أثر لمسجد أو صومعة أو كنيسة. ولكنه ظن وليس يقيناً.
قال في معجم البلدان (1/231): (أُفسوس: بضم الهمزة وسكون الفاء والسينان مهملتان والواو ساكنة: بلد بثغور طرسوس، يقال إنه بلد أصحاب الكهف).
وقال ابن حبيب في المحبر/174: (قال ابن الكلبي هم: مكسملينا، ويمليخا، ومرطولس، وذنوانس، وديودنس، وساربيونس، وكشفوطد بيوس، وبطينوسوس. وإسم الملك الذي هربوا منه دقيانوس، والملك الذي ظهروا في زمانه تيديسوس. وكان رسولهم يمليخا. وإسم القاضيين اللذيين رفع إليهما يمليخا، مارنوس وأسطوس. وإسم الكلب قطمير وكان خلنجياً. وإسم الراعي دلس، وإسم المدينة إفسوس، وإسم الرستاق الذي كانوا منه أنوس، واسم الكهف أنجلوس. وكانت لهم في السنة تقليبتان: واحدة في الشتاء وواحدة في الصيف، وكان باب الكهف بحذاء بنات نعش).
وقال القطب في الخرائج (2/942): (لما فروا إلى الله تعالى، وخرجوا من عند دقيانوس وآووا إلى الغار، ركب الملك مع جماعة خلفهم، فلما وصلوا إلى باب الغار ورآهم نياماً فيه، تحير ولم يتعرض لهم بسوء، وانصرفوا مدهوشين).
أما مدة نومهم فقال الله تعالى فيها: «وَلِبثوا في كهفِهِم ثَلاثَ مِائةٍ سِنينَ وازدادوا تِسعاً. لأن مدة نومهم 300 سنة شمسية، وهي تُعادل 309 سنوات قمرية، لأن السنة الشمسية 365 يوماً، والقمرية 354 يوماً و8 ساعات و48 دقيقة. والسنة الثانية والخامسة والسابعة والعاشرة كبيسة. فتكون300 سنة شمسية 309 سنة قمرية.
وجاء في الموسوعة العالمية الحرة:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%B5%D8%AD%D8%A7%D8%A8

(في خطاب أرسله الحاكم الروماني: بيلونيوس(690-113 ميلادية) بشمال غرب الأناضول، إلى الإمبراطور: تريانيوس، أشار بيلونيوس إلى أصحاب المسيح الذين أوذوا لرفضهم عبادة تمثال الإمبراطور. ويعد هذا الخطاب أحد الوثائق الهامة التي تتحدث عن الظلم والقهر الذي تعرض له المسيحيون الأوائل آنذاك.
وفي ظل تلك الظروف رفض هؤلاء الفتية الخضوع لهذا النظام الكافر، وعبادة الإمبراطور إلهاً من دون الله: (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَّقَد قُلْنَا إِذاً شَطَطاً. هَؤُلاءِ قَومُنا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّولا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً) (الكهف: 14-15).
أما بالنسبة للمكان الذي كان يعيش فيه أصحاب الكهف، فإن الآراء تتعدد وتتباين، ولكن أكثر هذه الآراء اعتدالاً هو مدينتي: إفسوس وطرسوس. ويمكن القول إن جميع المصادر المسيحية على وجه التقريب تعتبر مدينة إفسوس هي مكان الكهف الذي التجأ إليه هؤلاء الفتية المؤمنين...
ويعد القديس السوري: جيمز (وُلد452 ميلادية) أقدم المصادر في ذلك الصدد، واستشهد جيبون المؤرخ الشهير في كتابه: تدهور وسقوط الدولة الرومانية، بالكثير من دراسة جيمز. ووفقاً لما جاء في هذا الكتاب فإن الإمبراطور الذي عذب الفتية السبعة المسيحيين المؤمنين هو دِقيوس، وقد حكم دقيوس الإمبراطورية الرومانية في الفترة ما بين 249 و251 ميلادية. واشتهرت فترة حكمه بألوان العذاب التي مارسها ضد أتباع النبي عيسى...
ويرى الباحثون المسلمون أن الإمبراطور الذي كان يحكم البلاد في الفترة التي قام فيها أصحاب الكهف من رقدتهم، إسمه تيزوسيوس، في حين يرى جيبون أن اسمه ثيودسيوس الثاني، وقد حكم هذا الإمبراطور البلاد في الفترة من 408 إلى 450 ميلادية بعدما دانت الإمبراطورية الرومانية بالمسيحية.
وفي بعض التفسيرات المتعلقة بالآية قيل إن باب الكهف كان من نحو الشمال وعليه فإن ضوء الشمس كان لا يصل إلى الداخل، ولهذا فإن من يمر على الكهف كان لا يستطيع أن يرى ما بداخله، والآية توضح هذا المعنى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا).
وأشار عالم الآثار دكتور موسى باران في كتابه: إفسوس، إلى مدينة إفسوس باعتبارها المكان الذي كان يعيش فيه مجموعة الفتية، وأضاف قائلاً: في عام 250ميلادية، كان يعيش سبعة فتية في إفسوس وقد اختاروا المسيحية ديناً لهم وتركوا عبادة الأوثان، وفيما هم يبحثون عن مكان للهروب بدينهم، عثروا على كهف بالمنحدر الشرقي لجبل بيون. وقد رأى ذلك جنود الرومان فبنوا حائطاً ليسدوا به مدخل الكهف...
وقد حدد الطبري، وهو واحد من أهم مفسري القرآن الكريم، إسم الجبل الذي يوجد به الكهف على أنه بينسيلوس وذلك في كتابه: تاريخ الأمم، وأضاف أن الجبل في طرسوس.. بالإضافة إلى ذلك، فإنه في شروح كل من: القاضي البيضاوي والنسفي وتفسير الجلالين والتبيان وتفسير العاملي، وغيرهم من العلماء، تم تحديد المكان على أنه طرسوس.
وكذلك كان مُقام أصحاب الكهف موضعاً للاهتمام أيام الخلافة العثمانية، وقد أُجريت بعض الأبحاث بهذا الشأن، وتمت بعض المراسلات وتبادل المعلومات حول هذا الموضوع في مخازن السجلات العثمانية برئاسة الوزراء، فعلى سبيل المثال اشتمل خطاب بعثته إدارة طرسوس المحلية إلى رئيس خزانة الدولة العثمانية طلباً رسمياُ بإعطاء مرتبات لهؤلاء المسؤولين عن تنظيف الكهف والحفاظ عليه. ونص الرد على أنه لكى تُخَصص مرتبات لهؤلاء الأشخاص لابد من التأكد أن هذا المكان هو بالفعل المكان الذي أقام به أصحاب الكهف. والبحث الذي أُجرى بهذا الصدد قد ساعد كثيراً في تحديد المكان الحقيقي للكهف، وبعد التحقيقات التي أجراها المجلس القومي تم إعداد تقرير ينص على الآتي: إلى الشمال من مدينة طرسوس، في بلدة عَدَنة، يوجد كهف على جبل يبعد ساعتين عن المدينة، ومدخله يتجه ناحية الشمال كما أخبر القرآن الكريم. وكثيراً ما كانت المناظرات حول هوية أصحاب الكهف وأين ومتى كانوا يعيشون حافزاً للسلطات لكي تجري المزيد من البحوث بهذا الشأن).
أقول: المتفق عليه في مصادر الشيعة والسنة، وعامة المفسرين والمحدثين، أن مكان الكهف قرب أفسوس، فهو المعتمد. أما القول إنه في طرطوس أو في الأردن شرق عمان، أو في غيرها، فهو مخالف للمشهور، ولا دليل عليه.
المسألة الثالثة: الرقيم وعددهم آية لظهورهم الثاني
في تفسير العياشي (2/321) عن الإمام الصادق (ع) قال في أهل الكهف: (كتب ملك ذلك الزمان أسمائهم وأسماء آبائهم وعشايرهم في صحف من رصاص، فهو قوله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً).
وتقدم من تفسير القمي (رحمه الله) (2/31): (يقول قد آتيناك من الآيات ما هو أعجب منه.. وأما الرقيم فهما لوحان من نحاس مرقوم أي مكتوب، فيهما أمر الفتية وأمر إسلامهم، وما أراد منهم دقيانوس الملك). وتفسير الثعلبي (6/147).
المسألة الرابعة: من صفات أصحاب الكهف
في الكافي (8/395): (قال أبو عبد الله (ع) لرجل: ما الفتى عنكم؟ فقال له: الشاب. فقال: لا، الفتى: المؤمن، إن أصحاب الكهف كانوا شيوخاً فسماهم الله عز وجل فتية بإيمانهم).
وفي الكافي (1/448، و2/218) عن الإمام الصادق (ع): (إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين.
ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف، إن كانوا ليشهدون الأعياد ويشدون الزنانير، فأعطاهم الله أجرهم مرتين).
وفي الأصول الستة عشر/114: (الكاهلي: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: صلوا في مساجدهم واتبعوا جنائزهم وعودوا مرضاهم، وقولوا لقومكم ما يعرفون ولا تقولوا لهم مالا يعرفون، إنما كلفوكم من الأمر اليسير، فكيف لو كلفوكم ما كلف أصحاب الكهف قومهم، كلفوهم الشرك بالله العظيم، فأظهروا لهم الشرك وأسروا الإيمان، حتى جاءهم الفرج. وأنتم لا تكلفون هذا).
وفي تفسير العياشي (2/231): (عن أبي عبد الله (ع): إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الكفر، وكانوا على إجهار الكفر أعظم أجراً منهم على الإسرار بالإيمان.. قال قلت له: قد فهمت نقصان الإيمان وتمامه، فمن أين جاءت زيادته وما الحجة فيها؟ قال: قول الله: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا). الى قوله: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ). وقال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى). ولو كان كله واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان، لم يكن لأحد منهم فضل على أحد، ولاستوت النعمة فيه، ولاستوت الناس وبطل التفضيل، ولكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عند الله، وبالنقصان منه دخل المفرطون النار).
وفي الكافي (5/113): (عن سدير الصيرفي قال: قلت لأبي جعفر (ع): حديث بلغني عن الحسن البصري فإن كان حقاً فإنا لله وإنا إليه راجعون، قال: وما هو؟ قلت بلغني أن الحسن البصري كان يقول: لو غلى دماغه من حر الشمس ما استظل بحائط صيرفي ولو تفرث كبده عطشاً لم يستسق من دار صيرفي ماء! وهو عملي وتجارتي، وفيه نبت لحمي ودمي، ومنه حجي وعمرتي، فجلس ثم قال: كذب الحسن خذ سواءً وأعط سواءً، فإذا حضرت الصلاة فدع ما بيدك، وانهض إلى الصلاة. أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة).
المسألة الخامسة: رأس الحسين (ع) أعجب من أصحاب الكهف!
في الإرشاد (2/118): (لما أصبح عبيد الله بن زياد بعث برأس الحسين (ع) فدير به في سكك الكوفة كلها وقبائلها.
فروي عن زيد بن أرقم أنه قال: مُرَّ به عليَّ وهو على رمح وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً)، فقفَّ والله شعري وناديت: رأسك والله يا ابن رسول الله أعجب وأعجب! ولما فرغ القوم من التطواف به بالكوفة ردوه إلى باب القصر فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه وسرحه إلى يزيد بن معاوية).
وفي تاريخ دمشق(60/369): (عن المنهال بن عمرو قال أنا والله رأيت رأس الحسين بن علي حين حمل وأنا بدمشق، وبين يدي الرأس رجل يقرأ سورة الكهف حتى بلغ قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً). قال فأنطق الله الرأس بلسان ذرب فقال: أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي)!
المسألة السادسة: بعث النبي (ص) أصحابه الى الكهف على بساط!
روت مصادرنا بشكل واسع، ومعها عدد من مصادر السنة، أن النبي (ص) أرسل بعض أصحابه على بساط طار بهم الى الكهف، فسلموا على أصحاب الكهف فلم يجيبوهم، وسلم عليهم علي (ع) فأجابوه، فسألوهم: لماذا لم تجيبونا؟ فقالوا: نحن لا نجيب إلا نبياً أو وصي نبي.
روى القطب الراوندي في الخرائج (1/210): (أن الصحابة سألوا النبي (ص) أن يأمر الريح فتحملهم إلى أصحاب الكهف ففعل، فلما نزلوا هناك سلم عليهم أبو بكر وعمر وعثمان فلم يردوا عليهم، ثم قام القوم الآخرون كلهم فسلموا فلم يردوا عليهم أيضاً، فقام علي (ع) فقال: السلام عليكم يا أصحاب الكهف والرقيم، الذين كانوا من آياتنا عجبا. فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أبا الحسن. فقال أبو بكر: سل القوم: ما لنا سلمنا عليهم ولم يجيبوا؟ فسألهم علي (ع) فقالوا: إنا لا نكلم إلا نبياً أو وصي نبي، وأنت وصي خاتم الأنبياء. ثم قال علي (ع): يا ريح إحملينا، قالوا: فإذا نحن في الهواء، فلما أن كان في جوف الليل، قال علي (ع): يا ريح ضعينا. ثم قام فركض برجله، فإذا نحن بعين ماء فتوضأ ثم قال: فتوضأوا فإنكم مدركون بعض صلاة الصبح مع رسول الله (ص). ثم قال: يا ريح إحملينا، فأدركنا آخر ركعة مع رسول الله (ص)، فلما أن قضينا ما سبقنا به، التفت إلينا وأمرنا بالإتمام.
فلما فرغنا قال: يا أنس أحدثكم أو تحدثونا؟ قلت: يا رسول الله من فيك أحسن، فحدثنا كأنه كان معنا، ثم قال: إشهد بهذا لعلي يا أنس. قال أنس: فاستشهدني علي (ع) وهو على المنبر فداهنت في الشهادة!
فقال: إن كنت كتمتها مداهنةً من بعد وصية رسول الله (ص) فأبرصك الله، وأعمى عينيك، وأظمأ جوفك. فلم أبرح من مكاني حتى عميت وبرصت.
وكان أنس لا يستطيع الصوم في شهر رمضان ولا في غيره من شدة الظمأ! وكان يطعم في شهر رمضان كل يوم مسكينين حتى فارق الدنيا، وهو يقول: هذا من دعوة علي). وفي رواية: من دعوة العبد الصالح علي!
المسألة السابعة: يستيقظون في عصر المهدي (ع) وينصرونه
في تفسير العياشي (2/32): عن الإمام الصادق (ع) قال: (إذا قام قائم آل محمد استخرج من ظهر الكعبة سبعة وعشرين رجلاً: خمسة عشر من قوم موسى الذين يقضون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أصحاب الكهف، ويوشع وصي موسى، ومؤمن آل فرعون، وسلمان الفارسي، وأبا دجانة الأنصاري، ومالك الأشتر).
وفي دلائل الإمامة/463: (قال أبو عبد الله (ع): إذا ظهر القائم (ع) من ظهر هذا البيت، بعث الله معه سبعة وعشرين رجلاً، منهم أربعة عشر رجلاً من قوم موسى (ع) وهم الذين قال الله تعالى: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. وأصحاب الكهف ثمانية، والمقداد وجابر الأنصاري، ومؤمن آل فرعون، ويوشع بن نون وصي موسى (ع)).
وفي الإرشاد (2/386): (عن أبي عبد الله (ع) قال: يُخرج القائم (ع) من ظهر الكوفة سبعة وعشرين رجلاً، خمسة عشر من قوم موسى (ع) الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبا دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالكاً الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً وحكاماً).
وفي الدر المنثور (4/215): (وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): أصحاب الكهف أعوان المهدي).
أقول: من الطبيعي أن يساعد أهل الكهف الإمام المهدي (ع) في حركته، لأن مشكلته الأساسية مع الروم المسيحيين، وقد ادخر الله المسيح (ع) لهذا الغرض.

الفصل الحادي عشر: سلمان الفارسي من أوصياء عيسى (ع)

انتظر سلمان مجيء النبي (ص) أربع مئة سنة!
ولد سلمان (رحمه الله) بعد المسيح (ع) بنحو مئة عام، ونشأ في أصفهان على المجوسية ثم أعجبته المسيحية فهاجر إلى الشام، وعاش مع كبير علماء النصارى، ولما توفي ذلك العالم ذهب سلمان إلى العراق، الى كبير علمائهم، ثم إلى تركيا، وأخبره العالم بأنه قَرُبَ ظهور نبي في بلاد العرب، فجاء سلمان بعد وفاته إلى أرض العرب ينتظر ظهوره، فوجد جماعة من اليهود ينتظرونه أيضاً.
روى في كمال الدين/161، عن الإمام الصادق (ع): «كان بين عيسى وبين محمد (ص) خمس مائة عام، منها مائتان وخمسون عاماً ليس فيها نبيٌّ ولا عالمٌ ظاهر. قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسكين بدين عيسى (ع). قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا مؤمنين، ثم قال: ولا تكون الأرض إلا وفيها عالم. وكان ممن ضرب في الأرض لطلب الحجة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فلم يزل ينتقل من عالم إلى عالم ومن فقيه إلى فقيه، ويبحث عن الأسرار ويستدل بالأخبار، منتظراً لقيام القائم سيد الأولين والآخرين محمد (ص) أربع مائة سنة، حتى بُشِّرَ بولادته، فلما أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي».
ومعنى سَبْي سلمان أن القافلة الذين جاء معهم من عمورية، ادعوا أنه غلامهم وباعوه الى يهود خيبر، ثم جاء الله به الى المدينة قبل بعثة النبي (ص).
ووجد امرأة فارسية جاءت قبله تنتظر النبي الموعود (ص)! «قال سلمان: لما قدمت المدينة رأيت امرأة إصبهانية كانت قد أسلمت قبلي، فسألتها عن رسول الله (ص) فهي التي دلتني على رسول الله». (الإصابة لابن حجر: 8/29).
وكان لعيسى في هذه الفترة أوصياء ولعل بعضهم من ذرية شمعون غير المنذر (ع).
وفي إعلام الورى (1/60): «وكان آخر من أتى: آبي، (عالم نصراني) فمكث عنده ما شاء الله، فلما ظهر النبي (ص) قال آبي: يا سلمان إن صاحبك الذي تطلبه بمكة قد ظهر، فتوجه إليه سلمان».
وقال له الراهب: «أي بني والله ما أعلمه بقيَ أحد على مثل ما كنا عليه. ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل. وإن فيه علامات لا تخفى: بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل، فإنه قد أظلك زمانه. فلما واريناه أقمت على خير حتى مر بي رجال من تجار العرب من كلب، فقلت لهم: تحملوني معكم حتى تقدموني أرض العرب وأعطيكم غنمتي هذه وبقراتي؟ قالوا: نعم، فأعطيتهم إياها وحملوني حتى إذا جاءوا بي وادي القرى ظلموني فباعوني عبداً من رجل من يهود بوادي القرى».
ثم باعه الخيبري الذي اشتراه إلى بني قريظة في المدينة، وبقي نحو سنتين حتى هاجر النبي (ص)، فقد روى عنه ابن إسحاق في سيرته (2/68) وأحمد (5/443): «فوالله إني لفي رأس عذق إذ جاء ابن عم له فقال: قاتل الله بني قَيْلَة، والله إنهم الآن لفي قباء مجتمعون على رجل جاء من مكة يزعمون أنه نبي! فوالله ما هو إلا أن سمعتها فأخذتني العرواء يقول الرعدة حتى ظننت لأسقطن على صاحبي، ونزلت أقول: ما هذا الخبر وما هو؟ فرفع مولاي فلكمني لكمة شديدة وقال: ما لك ولهذا، أقبل قبل عملك! فقلت: لا شيء، إنما سمعت خبراً وأحببت أعلمه فلما أمسيت وكان عندي شيء من طعام فحملته وذهبت إلى رسول الله (ص) وهو بقبا فقلت: إنه بلغني أنك رجل صالح وأن معك أصحاباً لك غرباء، وقد كان عندي شيء للصدقة فرأيتكم أحق من بهذه البلاد به فها هو هذا فكل منه، فأمسك رسول الله (ص) يده وقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، فقلت في نفسي: هذه خلة مما وصف لي صاحبي.. فاستدرت لأنظر إلى الخاتم في ظهره فلما رآني رسول الله (ص) استدير عرف أني أستثبت من شيء قد وصف لي، فوضع رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه كما وصف لي صاحبي، فأكببت عليه أقبله وأبكي! فقال: تحول يا سلمان هاكني، فتحولت فجلست بين يديه، وأحب أن يسمع أصحابه حديثي فحدثته».
 وقال سلمان: «فكنت أسقي كما يسقي البعير، حتى دَبَر (جُرِحَ) ظهري وصدري من ذلك، ولا أجد أحداً يفقه كلامي، حتى جاءت عجوز فارسية تستقي فكلمتها ففهمت كلامي، فقلت لها: أين هذا الرجل الذي خرج دُليني عليه؟ قالت: سيمر بك بكرةً إذا صلى الصبح». (أخبار أصبهان: 1/76).
درجة سلمان (رحمه الله) تلي درجة المعصومين (ع)
وصل سلمان رضي الله عنه الى أعلى درجات الإيمان بعد المعصومين (ع). ففي الخصال/447، عن الإمام الصادق (ع) قال: «يا عبد العزيز، إن الإيمان عشر درجات، بمنزلة السلَّم يُصعد منه مِرْقاةٌ بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الواحدة لصاحب الإثنتين لست على شيء، حتى تنتهي إلى العاشرة. ولا تسقط من هو دونك فيسقطك الذي هو فوقك. وإذا رأيت من هو أسفل منك فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإنه من كسر مؤمناً فعليه جبره. وكان المقداد في الثامنة وأبو ذر في التاسعة وسلمان في العاشرة».
وقال الإمام الصادق (ع): «أدرك سلمان العلم الأول والعلم الآخر، وهو بحرٌ لا يُنزح، وهو منا أهل البيت. وكان عنده الاسم الأعظم». (الكشي:1/52 و56).
وقال الإمام الصادق (ع): «كان سلمان مُحَدَّثاً. قال قلت: فما آية المحدث؟ قال: يأتيه مَلَكٌ فينكت في قلبه كيت وكيت». (بصائر الدرجات/342).
وكان سلمان (رحمه الله) صاحب كرامات، فلم يرو المسلمون لأحد بعد النبي (ص) وأهل بيته المعصومين (ع)، كما رووا لسلمان الفارسي رضوان الله عليه، فشخصيته شبيهةٌ بشخصيات الأنبياء (ع) في علمه، ومنطقه، وسيرته.
فقد أعده الله تعالى ليكون من آيات رسوله (ص)، وعاش عمراً طويلاً، ليكون شاهداً على وراثة النبي (ص) لعيسى المسيح (ع).
وأعطاه الله من العلم والأسرار ما يعجز عن حمله أكثر الناس، ومن العقلانية والحكمة والصبر ما جعل النبي (ص) يشترط على أبي ذر عندما آخى بينهما، أن يطيعه ولا يعصيه، وكان حذيفة وأمثاله تلاميذ بين يديه!
وأعطاه الله من قوة الإرادة والأعصاب أنه كان يحمل الإسم الأعظم، فلا تردُّ له دعوة لكنه لا يدعو لأغراضه الشخصية، بل لتبليغ الدين وهداية الناس!
وقد جعل الله مع سلمان (رحمه الله) ملكاً يحدثه ويوجهه فيقول له: إعمل كذا، ولا تعمل كذا، وقل كذا، أو لا تقل! وكان الملائكة يسمعون كلامه ويطيعونه!
ففي أمالي الطوسي/128: «مرض رجل من أصحاب سلمان فافتقده فقال: أين صاحبكم؟ فقالوا: مريض. قال: إمشوا بنا نعوده فقاموا معه، فلما دخلوا على الرجل إذا هو يجود بنفسه، فقال سلمان: يا ملك الموت إرفق بولي الله. قال ملك الموت بكلام يسمعه من حضر: يا أبا عبد الله، إني أرفق بالمؤمنين، ولو ظهرت لأحد لظهرت لك»!
وكرامات سلمان ومعجزاته كثيرة، كإخباره بغيبٍ، وردِّه السهام بآية عندما كان يفاوض الرماة من أبراج مدائن كسرى، وتكليمه الظباء ومجيئها إليه طائعة، وتسخيره الكلاب لحراسة المدائن ودفع السراق.. الخ.
من صفات سلمان الفارسي (رحمه الله)
كان سلمان أبيض اللون، بهيَّ الطلعة والشيبة، قويَّ البنية، عاش طويلاً، وروي أنه عاش نحو 500 سنة، وأدرك حواريي المسيح (ع). وروي أنه اسمه رُوزْ بِهْ (الواقدي: 2/204) أي النهار الحسن، وفي ذكر أخبار إصبهان (1/48) إسمه ماهويه بن بدخشان بن آذرجشنس، من ولد منوشهر الملك.
وقد آمن بالنبي (ص) عند هجرته، واشتراه النبي (ص) من مالكه وأعتقه، فهو مولى رسول الله (ص)، وكان من خواص أصحابه وحوارييه.
ففي مسند أحمد (5/354): (كان لليهود فاشتراه رسول الله (ص) بكذا وكذا درهماً، على أن يغرس نخلاً فيعمل سلمان فيها حتى تطعم. قال: فغرس رسول الله (ص) النخل إلا نخلة واحدة غرسها عمر، فحملت النخل من عامها ولم تحمل النخلة، فقال رسول الله (ص): ما شأن هذه؟ قال عمر: أنا غرستها يا رسول الله. قال فنزعها رسول الله (ص) ثم غرسها فحملت من عامها».
وتميز سلمان (رحمه الله) بقوته البدنية فكان يعمل في حفر الخندق بقدر عشرة أشخاص، فأصابوه بالعين فعالجه النبي (ص)!
 قال في الإمتاع (1/226) وسبل الهدى (4/365): «وجعل لسلمان خمس أذرع طولاً وخمساً في الأرض ففرَّغها وحده وهو يقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة. وكان سلمان يعمل عمل عشرة رجال، حتى عَانَهُ قيس بن أبي صعصعة فلُبِطَ به (أصابه بالعين فصرع) فقال رسول الله (ص): مروه فليتوضأ له وليغتسل به سلمان، وليكفئ الإناء خلفه، ففعل فكأنما حُلَّ من عقال». ولُبِطَ به الأرض: «صرع من عين أو حمى أو أمر يغشاه شبه مفاجأة».(العين: 7/431).
ومروه فليتوضأ له: أي مروا الذي أصابه بالعين أن يغسل يديه في إناء، فيصبه سلمان على بدنه، ويلقي ما بقي منه خلفه. ففعلوا ذلك فصح سلمان ونهض.
وروى البيهقي(9/351) في حادثة مشابهة قول النبي (ص): (على مَ يقتل أحدكم أخاه! إذا رأى ما يعجبه فَلْيَدْعُ بالبركة).
هذا، وقد أتقن سلمان العربية لكن بقيت عنده لُكْنَةٌ فارسية، فكان يقدم أحد الصحابة الفصحاء ليخطب الجمعة ويصلي بالناس.
ففي الطبقات (6/124) عن أبي قدامة: «أنه كان في جيش عليهم سلمان الفارسي فكان يؤمهم زيد بن صوحان، يأمره بذلك سلمان».
وقال ابن أبي شيبة (8/17): «كان سلمان أمير المدائن، فإذا كان يوم الجمعة قال لزيد: قم فذكر قومك».
أقول: من فقه سلمان رضي الله عنه وتقواه، أنه كان يقدم من هو أفصح منه للخطبة والصلاة. وفي قوله لزيد: ذكِّر قومك، إلفاتٌ إلى حسن كون القارئ والخطيب من نفس القوم الذين يذكرهم، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، وقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ).
لكن سلمان رضي الله عنه كان يعرف دقائق القرآن وأحكامه أفضل من زيد.
روى ابن أبي شيبة (7/152): «عن خليد العصري قال: لما قدم علينا سلمان أتيناه ليستقرئنا القرآن فقال: القرآن عربي فاستقرؤوه رجلاً عربياً، فاستقرأنا زيد بن صوحان، فكان إذا أخطأ أخذ عليه سلمان، فإذا أصاب قال: أيم الله».
وفي تاريخ دمشق(19/439): «كان يُقرؤنا زيد بن صوحان، ويأخذ عليه سلمان، فإذا أخطأ رد عليه سلمان. هذا لفظ المحاملي، وقال الجروي: فإذا أخطأ غير علته، فإذا أصاب قال: إي والله».
وخُلَيْد بن حسان العصري، شيخ قتادة، وبنو عصر بطن من عبد القيس، وكان خليد في البصرة، وسكن بخاري. (تاريخ دمشق: 47/104).
فمعنى قوله: لما قدم علينا سلمان، أي إلى البصرة، ولعل ذلك في فتح الأهواز لما استأسر الهرمزان وفتحت تستر، وقد يكون له دور مهم في ذلك.
وفي مناقب آل أبي طالب(1/75): «كان الناس يحفرون الخندق وينشدون سوى سلمان فقال النبي (ص): اللهم أطلق لسان سلمان ولو على بيتين من الشعر، فأنشأ سلمان:

مالي لسانٌ فأقول شعرا * * * أسأل ربي قوةً ونصرا
على عدوي وعدو الطهرا * * * محمد المختار حاز الفخرا
حتى أنال في الجنان قصرا * * * مع كل حوراء تحاكي البدرا

فضج المسلمون، وجعلت كل قبيلة تقول: سلمان منا، فقال النبي (ص): سلمان منا أهل البيت).
شارك سلمان في حروب النبي (ص)
تحرر سلمان من العبودية بعد حرب أحُد، فشهد حروب النبي (ص)، ثم شارك في فتوحات العراق وإيران والشام ومصر، وكان داعية المسلمين ورائدهم، أي المفاوض عنهم، وكان وجوده مؤثراً في إقناع بعض قادة الفرس بالتسليم وعدم الحرب، أو إقناعهم بالإسلام. قال الطبري في تاريخه (3/124): «عن عطية بن الحارث وعطاء بن السائب، عن أبي البختري قال: كان رائد المسلمين سلمان الفارسي، وكان المسلمون قد جعلوه داعية أهل فارس.
قال عطية: وقد كانوا أمروه بدعاء أهل بهرسير، وأمروه يوم القصر الأبيض فدعاهم ثلاثاً، قال عطية وعطاء: وكان دعاؤه إياهم أن يقول: إني منكم في الأصل، وأنا أرقُّ لكم، ولكم في ثلاث أدعوكم إليها ما يصلحكم: أن تسلموا فإخواننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإلا فالجزية، وإلا نابذناكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. قال عطية: فلما كان اليوم الثالث في بهرسير أبوا أن يجيبوا إلى شيء، فقاتلهم المسلمون حين أبوا، ولما كان اليوم الثالث في المدائن، قَبِلَ أهل القصر الأبيض وخرجوا، ونزل سعد القصر الأبيض واتخذ الإيوان مصلى، وإن فيه لتماثيل جص فما حركها».
وفي الترمذي (3/52) وذكر أخبار إصبهان (1/55): «عن أبي البختري: أن جيشاً من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي، فحاصروا قصراً من قصور فارس فقيل: يا أبا عبد الله ألا تنهد إليهم؟ قال: دعوني أدعوهم كما سمعت رسول الله (ص) يدعوهم. قال: فأتاهم سلمان فقال لهم: إنما أنا رجل منكم فارسي ترون العرب تطيعني، فإن أسلمتم فلكم مثل الذي لنا وعليكم مثل الذي علينا، وإن أبيتم إلا دينكم تركناكم عليه، وأعطيتمونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون وأنتم غير محمودين. وإن أبيتم نابذناكم على سواء. قال: فرطن لهم بالفارسية. فقالوا: وما الجزية؟ قال: درم وخاكت بسر».
أي تعطي المال وأنت ذليل. وهذا يدل على أن سلمان كان قائداً في الفتح، وله أدوارٌ غير معلنة، ونرجح أن يكون أقنع الهرمزان بالإسلام، والهرمزان كان حاكم الأهواز وهو خال شيرويه بن كسرى، وكان قائداً في القادسية، ثم استأسر للمسلمين في معركة تستر، وأخذه عمار إلى المدينة، وأسلم على يد علي فصار مولى علي (ع).
ورووا: «أن قوماً من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئاً من القرآن، فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية». (مجموع النووي: 3/380، ومناهل العرفان: 2/115).
ولعله ترجم لهم كل القرآن، أو قسماً منه، فهو أول مترجم للقرآن إلى غير العربية ولا بد أن يكون لذلك تأثير كبير في اقتناع الفرس بالإسلام.
دور سلمان في الفتوحات الإسلامية
لم يبرز رواة السلطة دور سلمان في الفتوحات وفي المفاوضات مع الفرس! بل ذكروا غيره مكانه، فصرت تقرأ في معركة القادسية أن الملك يزدجرد طلب من المسلمين أن يرسلوا له ممثلاً ليتفاوض معه، فأرسلوا المغيرة بن شعبة، أو وفداً من فلان وفلان، ووصفوا حديثهم مع يزدجرد ورستم، ولم يذكروا سلمان مع أنه كان: «رائد المسلمين وداعيتهم» الرسمي، وغاية ما قالوا فيه: «كان رائد المسلمين، وكان المسلمون جعلوه داعية أهل فارس». (الطبري:3 /124).
وقال الطبري (3/121): «فانتهينا إلى القصر الأبيض وفيه قوم قد تحصنوا، فأشرف بعضهم فكلَّمَنا، فدعوناهم وعرضنا عليهم فقلنا: ثلاث تختارون منهن أيتهن شئتم. قالوا: وما هن؟ قلنا: الإسلام فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا. وإن أبيتم فالجزية، وإن أبيتم فمناجزتكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم. فأجابنا مجيبهم: لا حاجة لنا في الأولى ولا في الآخرة، ولكن الوسطى.. والسفير سلمان».
نعم، رووا نموذجاً من عمل سلمان، وأنه أقنع كتيبة المرازبة باعتناق الإسلام! قال الواقدي في فتوح الشام (2/204): «خرجنا بعد فتح القصر الأبيض وكان قد تحصن به رجال من المرازبة، وكانوا أشد جلداً وأقوى عزيمة من جميع الفرس وتحالفوا أنهم لا يسلمون أبداً، والذين حصلوا وتولوا حصارهم كتيبة الأهوال وهي كتيبة القعقاع، فلما رأينا عزمهم على الموت بَعُدْنَا عن نَشَّابهم وحجارة مجانيقهم، وطال علينا ذلك وشكونا ذلك إلى سعد وقلنا له: قد حرمنا الجهاد بحصارنا لهؤلاء الأعلاج. فقال سعد لسلمان: تقدم إليهم ودبِّر شيئاً فيه مصلحة المسلمين وأمنهم. فتقدم إليهم سلمان رضي الله عنه وكلمهم بالفارسية فأمسكوا عن رميه وقالوا له: من أنت؟ فقال: أنا رسول من المسلمين، إعلموا أن الرجل يقاتل عن نفسه وماله وولده إذا رجا الخلاص، وما أرى لكم من خلاص قط، وهذا الملك قد انهزم وأخذنا مملكته وخزائنه، وما بقي في المدائن أحد غيركم فاتقوا الله في أنفسكم ولا تهلكوها، وسلموا لنا هذا الحصن، ولكم الأمان إلى أي جهة توجهتم، لا يعارضكم منا أحد!
قال: فلما سمعوا قوله قالوا: لا نسلم حتى نهلك عن آخرنا، ثم رموا سلمان بالنشاب فقرأ: (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا)، وأشار إلى النشاب بيده فذهبت السهام يميناً وشمالاً ولم يصبه منها شيء! قال: فلما رأوا ذلك قالوا: زنهار (انتبه وأمسك) فبحق ما تشير إليه: من أنت؟ قال: أنا روزبه، وقد عمرت أربع مائة سنة ولحقت آخر أيام عيسى بن مريم، وطفت الأرض حتى لحقت بنبي هذه الأمة، فلما أتيته أكرمني وخدمته، فعظمني حتى أنه جعلني من أهل بيته فقال: سلمان منا أهل البيت. فلما سمعوا قوله وحققوا معرفته علموا أنه كان من عظماء أهل دينهم، قال: فصقعوا له وقالوا: والله ما نخفي عليك شيئاً من أمرنا، وسبب قتالنا ليس بسبب مال ولا متاع، وإنما الملك قد مضى يريد نهاوند، ولم يقدر على أخذ ابنته معه وهي مريضة، وقد سلمها إلينا فلزمنا من أمرها ما لزم.
فإن كنتم تعطون الأمان عليها سلمنا لكم، وإلا نموت يداً واحدة! فلما سمع سلمان منهم ذلك قال: دعوا هذا الأمر حتى أشاور الأمير، ثم عاد وحدث سعداً بما سمعه فقال: يا أبا عبد الله إن المسلمين قد انتشروا في العراق ونخاف أن يقع بهم أحد فلا يُبقي عليهم. ولكن قل لهم: لكم علينا أن نذب عنكم وتكونوا في ذمامنا حتى تجاوزوا أي جهة تريدونها، وبعد ذلك لا نضمن لهم ما يأتي عليهم. قال: فحدثهم سلمان بما قاله الأمير فقال العقلاء منهم: لولا أن العرب على حق ما نصروا علينا، ومن الرأي أن نرجع إلى دين هؤلاء العرب ونعيش في ظلهم، وإن القوم لا يريدون ملكاً، وقد رأيتم هذا الرجل وما ظهر لكم من كرامته. قال: ففتحوا باب السر وخرجوا إلى العسكر، وأتوا إلى سلمان فأتى بهم إلى سعد، وأسلموا على يديه.
 فلما جرى ذلك بكى سعد وقال: اللهم انصر الإسلام، وقرأ قوله تعالى: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ). وبعث إلى صاحب الأقباض فأخذ جميع ما في القصر الأبيض من الأموال وخزانة الملك، فلما قسم الغنائم على المسلمين، أعطى أولئك أوفى نصيب، وأنزلهم منازل كسرى وسائر دور المدائن».
أقول: تلاحظ أن رواية الواقدي عن المتحصنين في القصر، نفس رواية الطبري التي طمسوا فيها دور سلمان رضي الله عنه، حيث حوَّل المرازبة (كتيبة حرس الحدود) من أعداء مقاتلين إلى مسلمين مؤمنين.
أما حضور سعد يومها فلا يصح، لأن حصارهم للمدائن طال، وكان سعد في الكوفة، وقد حضر في آخر الحصار أو بعد الفتح!
وكان سلمان في فتح المدائن أمين المسلمين على أموال قصور كسرى!
ففي تاريخ الطبري (3/125): «وكل بالأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن، وأمره بجمع ما في القصر والإيوان والدور وإحصاء ما يأتيه به الطلب، وقد كان أهل المدائن تناهبوا عند الهزيمة غارة، ثم طاروا في كل وجه فما أفلت أحد منهم بشيء لم يكن في عسكر مهران بالنهروان ولا بخيط، ألح عليهم الطلب فتنقذوا ما في أيديهم ورجعوا بما أصابوا من الأقباض فضموه إلى ما قد جمع، وكان أول شيء جمع يومئذ ما في القصر الأبيض ومنازل كسرى، وسائر دور المدائن».
وفي الإصابة (3/192): «عن غلام لسلمان يقال له سويد وأثنى عليه خيراً، قال: لما فتحت المدائن أصبت سلة فقال سلمان: هل عندك شيء؟ قلت: سلة، قال: هاتها فإن كان طعاماً أكلناه، أو مالاً رفعناه إلى هؤلاء. قال: ففتحناها فإذا أرغفة حواري وجبنة، فكان أول ما رأت العرب الحواري».
كما شارك سلمان رضي الله عنه في فتح إرمينيا والقفقاز. قال ابن الأثير في الكامل (4/42): «وكان زهير بن القين البجلي قد حج، وكان عثمانياً، فلما عاد جمعهما الطريق وكان يساير الحسين (ع) من مكة، إلا أنه لا ينزل معه، فاستدعاه يوماً الحسين (ع) فشق عليه ذلك ثم أجابه على كره، فلما عاد من عنده نقل ثقله إلى ثقل الحسين (ع) ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد، وسأحدثكم حديثاً: غزونا بَلَنْجَر ففُتح علينا وأصبنا غنائم ففرحنا، وكان معنا سلمان الفارسي فقال لنا: إذا أدركتم سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم اليوم من الغنائم! فأما أنا فأستودعكم الله، ثم طلق زوجته وقال لها إلحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك في سببي إلا خير، ولزم الحسين (ع) حتى قتل معه».
وروى نحوه الحميري في الروض المعطار/94، والطبري في تاريخه:4/298، لكنه جعل القائل سلمان الباهلي. ومن المؤكد أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان في تلك الغزوة، فقد ذكر في الطبقات (4/92) أنه غنم فيها عطراً، أما سلمان بن ربيعة الباهلي فكان فيها قائداً وقتل فيها.
وقال البكري في معجمه (1/276): «بَلَنْجَر.. مدينة ببلاد الروم، شهد فتحها عدد من الصحابة، قال زهير بن القين البجلي: غزوت بلنجر وشهدت فتحها فسمعت سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول: أفرحتم بفتح الله لكم، فإذا أدركتم شباب آل محمد، فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم.. الخ.».
وكان فتح بلنجر سنة 22 هجرية، وذكرت بعضهم أنها تقع في أرمينيا وبعضهم أنها في بلاد الروم. ولا توجد اليوم مدينة بهذا الإسم.
 وقال بعضهم إنها كانت مكان مدينة بُويْنَاكْس الفعلية، الواقعة جنوبي بحر الخزر. وقيل تقع في دولة داغستان في شرق آسيا، قرب نهر سولاك.
والمهم في القصة أن سلمان رضي الله عنه كان عنده من علم النبي (ص) أن الحسين (ع) سيقتل، وأن بعض الذين كانوا معه في فتح بلنجر كزهير بن القين سيدركون خروجه، فدعاهم إلى الجهاد معه! ولا بد أن الحسين (ع) ذكَّره به!
وكان سلمان (رحمه الله) وهو والٍ على المدائن يخرج إلى الجهاد قائداً، ويرجع إلى المدائن، ففي تاريخ دمشق (21/429): «مرَّ بجسر المدائن غازياً وهو أمير الجيش، وهو ردف رجل من كندة على بغل موكوف، فقال أصحابه: أعطنا اللواء أيها الأمير نحمله عنك فيأبى ويقول: أنا أحق من حمله، حتى قضى غزاته ورجع، وهو ردف ذلك الرجل الكندي، على ذلك البغل الموكوف»!
وفي الطبقات (4/87): «عن رجل من عبد القيس قال: كنت مع سلمان الفارسي وهو أمير على سرية، فمرَّ بفتيان من فتيان الجند فضحكوا وقالوا: هذا أميركم! فقلت: يا أبا عبد الله، ألا ترى هؤلاء ما يقولون؟ قال: دعهم، فإنما الخير والشر فيما بعد هذا اليوم»!
اشتهر تشيع سلمان لعلي (ع)
وذلك بمواقفه واحتجاجه عند وفاة النبي (ص)، فقد رووا استنكاره على أهل السقيفة إقصاءهم علياً (ع) وبيعتهم لأبي بكر، قال: كرديد ونكرديد، حق علي را برديد! أي فعلتم وما فعلتم، حقَّ علي غصبتم!
وقال: «أما والله لقد فعلتم فعلةً أطمعتم فيها الطلقاء ولعناء رسول الله (ص)! ولو بايعتم علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم! قال ابن عمر: فلما سمعت سلمان يقول ذلك أبغضته وقلت: لم يقل هذا إلا بغضاً منه لأبي بكر. فأبقاني الله حتى رأيت مروان بن الحكم يخطب على منبر رسول الله (ص) فقلت: رحم الله أبا عبد الله، لقد قال ما قال بعلم كان عنده». (أنساب الأشراف: 1/591).
وفي الاحتجاج (1/151) عن الإمام الصادق (ع): «خطب سلمان الفارسي بعد أن دفن النبي (ص) بثلاثة أيام فقال: ألا يا أيها الناس: إسمعوا عني حديثي ثم اعقلوه عني، ألا وإني أوتيت علماً كثيراً، فلو حدثتكم بكل ما أعلم من فضايل أمير المؤمنين (ع) لقالت طائفة منكم هو مجنون، وقالت طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان! ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا، ألا وإن عند علي (ع) علم المنايا والبلايا وميراث الوصايا، وفصل الخطاب، وأصل الأنساب، على منهاج هارون بن عمران من موسى إذ يقول له رسول الله (ص): أنت وصيي في أهل بيتي وخليفتي في أمتي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى! ولكنكم أخذتم سنة بني إسرائيل، فأخطأتم الحق فأنتم تعلمون ولا تعلمون! أما والله لتركبن طبقاً عن طبق، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة!
أما والذي نفس سلمان بيده لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أقدامكم، ولو دعوتم الطير لأجابتكم في جو السماء، ولو دعوتم الحيتان من البحار لأتتكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله.
ولكن أبيتم فوليتموها غيره، فأبشروا بالبلايا، واقنطوا من الرخاء، وقد نابذتكم على سواء، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء! عليكم بآل محمد فإنهم القادة إلى الجنة، والدعاة إليها يوم القيامة. عليكم بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين مراراً جمة مع نبينا، كل ذلك يأمرنا به ويؤكده علينا! فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه وقد حسد هابيل قابيل فقتله! وكفاراً قد ارتدت أمة موسى بن عمران، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائيل، فأين يُذهب بكم!
أيها الناس: ويحكم ما لنا وأبو فلان وفلان؟! أجهلتم أم تجاهلتم؟ أم حسدتم أم تحاسدتم؟ والله لترتدن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة!
ألا وإني أظهرت أمري وسلمت لنبيي (ص)، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة علياً أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين، وإمام الصديقين، والشهداء والصالحين».
أقول: ركز سلمان في احتجاجه على نص النبي (ص) على علي (ع) وعلى علم علي وجهل الذين عزلوه. وعلى الرخاء والرفاهية التي سيحققونها لو ولوا علياً (ع).
سلمان الحاكم الإسلامي النموذجي
صار سلمان الفارسي المشرد (رحمه الله) حاكماً لعاصمة كسرى، ونموذجاً للحاكم المسلم. وكان يتصدق براتبه من بيت المال، وينفق من كسب يده، ويعيش كأدنى مستوى في الذين يحكمهم، في مأكله وملبسه ومسكنه، فكان له بيت متواضع وقطعة أرض صغيرة يزرع فيها الخضروات.
قال ابن الأعثم (1/220): «كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره أن يولي سلمان الفارسي المدائن وما والاها، ويرجع هو إلى الكوفة».
وروى في تاريخ دمشق (21/435) أنه كتب إلى عمر يعتذر عن تولي المدائن فلم يقبل منه، فقد قال لمن سأله لماذا قبلت الولاية: إن عمر أكرهني، فكتبت إليه فأبى مرتين، وكتبت إليه فأوعدني»!
ومهدوا له قصر الإمارة فقال: إستأجروا لي حانوتاً في السوق أحكم بين الناس، فاستمر على هذا حتى فاضت دجلة وخربت المنازل». (فضائل سلمان/551).
وفي تاريخ دمشق (21/436): «قال حذيفة لسلمان: ألا نبني لك مسكناً يا أبا عبد الله؟ قال: لمَ تجعلني مَلِكاً، أوَ تجعلُ لي بيتاً مثل دارك التي بالمدائن؟ قال: لا، ولكن نبني لك بيتاً من قصب ونسقفه بالبردي، إذا قمت كاد أن يصيب رأسك، وإذا نمت كاد أن يمس طرفيك! قال: فكأنك كنت في نفسي»!
وفي الطبقات (4/90): «كان سلمان يقول لنفسه: سلمان بمير. يقول: مُتْ»!
وكان يتصدق براتبه، وكان أربعة آلاف درهم في السنة (البلاذري:3/559) أو ستة آلاف درهم (ابن أبي شيبة: 7/ 616) ويصنع من الخوص حصراً وزنابيل، ويقول: «أشتري خُوصاً بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهماً فيه وأنفق درهماً على عيالي، وأتصدق بدرهم. ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهيت». (الطبقات:4/89). و«كان إذا سَجَدَت له العجم طأطأ رأسه وقال: خشعت لله». (الطبقات:4/88).
وكان لباسه متواضعاً، يحسبه الناس فقيراً أو حمالاً، ففي الطبقات (4/88): «عن شيخ من بني عبس: أتيت السوق فاشتريت علفاً بدرهم، فرأيت سلمان ولا أعرفه فسخرته فحملت عليه العلف، فمر بقوم فقالوا: نحمل عنك يا أبا عبد الله. فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا سلمان صاحب رسول الله (ص) فقلت: لم أعرفك ضعه عافاك الله، فأبى حتى أتى منزلي، فقال: قد نويت فيه نية فلا أضعه حتى أبلغ بيتك». وقيل له: «ما يُكرهك الإمارة؟ قال: حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها». (الطبقات: 4 / 88). أي أكره الإمارة لمرارة عاقبتها.
وقد توفيت زوجته الكِنْدية فتزوج أمةً له: «وتزوج مولاة له يقال لها بَقِيرة). «كان يأكل من عمل يده ويطحن مع الخادمة، ويعجن عنها إذا أرسلها في حاجة ويقول: لا تجمع عليها عملين. وكان يعمل من الخوص قفافاً، فيبيع ذلك بثلاثة دراهم فيرد درهماً في الخوص وينفق على عياله درهماً ويتصدق بدرهم، وكان لا يأكل من صدقات الناس ويقول: إن رسول الله (ص) قال: سلمان منا أهل البيت». (الدرجات الرفيعة/261).
(فأتاه يطلبه فأخبره أنه في مبقلة له، فتوجه إليه فلقيه معه زبيل فيه بقل، قد أدخل عصاه في عروة الزبيل وهو على عاتقه». (مسند أحمد: 5/439).
وفي الطبقات (4/90): «أن رجلاً دخل على سلمان وهو يعجن قال فقال: أين الخادم؟ قال: بعثناها لحاجة فكرهنا أن نجمع عليها عملين. قال: إن فلاناً يقرؤك السلام. فقال له سلمان: منذ كم قدمت؟ قال: منذ ثلاثة أيام. قال: أما إنك لو لم تؤدها لكانت أمانة لم تؤديها».
استهان به السُّرَّاق فسلط عليهم الكلاب!
«لما أرسل سلمان إلى المدائن والياً على أهلها جلس في مسج، وجعل يسفُّ الخوص بيده لأجل قوته فلما علم به الرعية إن مثل هذا حاكم عليهم، لم يعبؤوا به، وكثرت السرقة والفساد فيهم، فخرج من المسجد فرأى كلباً فأومى إليه فجاء الكلب فتكلم معه، فرجع الكلب مسرعاً وصعد على مرتفع وعوى بصوت مرتفع، فاجتمعت عليه كلاب البلاد فسارَّها، ثم تفرقت في البلاد، ثم إن سلمان أرسل رجلاً ينادي في البلاد: من خرج بعد ساعة كذا من الليل فإنه يقتل، فخرجت اللصوص ولم يبالوا بأمر حاكمهم، فمزقتهم الكلاب، ولم تبق منهم أحداً». (نفس الرحمن في فضائل سلمان / 358).
كان المسلمون يستقبلونه كالخليفة
كان سلمان يزور الشام، فيستقبلونه بإجلال، فقد روى البخاري في التاريخ الصغير:1/98، وابن عساكر في تاريخ دمشق:12/374، عن القاسم أبي عبد الرحمن قال: «زارنا سلمان وخرج الناس يتلقونه كما يُتلقى الخليفة فلقيناه وقد صلى بأصحابه العصر وهو يمشي، فتوقفنا نسلم عليه، فلم يبق فيها شريف إلا عرض عليه أن ينزل به، فقال: جعلت في نفسي مرتي هذه أن أنزل على بشير بن سعد. فلما قدم سأل عن أبي الدرداء فقالوا هو مرابط، فقال: وأين مرابطكم؟ فقالوا: بيروت. قال فتوجه قِبَلَه فقال لهم سلمان: يا أهل بيروت، ألا أحدثكم حديثاً يذهب الله به عنكم غرض الرباط: سمعت رسول الله (ص) يقول: رباط يوم وليلة كصيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجير من فتنة القبر، وجرى له صالح ما كان يعمل إلى يوم القيامة».
أقول: هذا النص يدلنا على المكانة العظيمة لسلمان رضي الله عنه عند المسلمين، ولا عجب في ذلك، لأنهم رأوا منه معجزات وسلوكاً لم يروه من غيره من الصحابة، فسلمان بعد المعصومين (ع) أكثر الصحابة كرامات ومعجزات!
كما يدل هذا النص على أنه ذهب إلى الشام عدة مرات، وقد أقام فيها مدة في أول شبابه، وكان يزور الثغور ليقوي إيمان المسلمين وعقيدتهم، ويحدثهم بأحاديث النبي (ص) رغم منع الخلافة التحديث وتدوين الحديث.
روى عبد الله بن المبارك في كتابه الجهاد/160، أن سلمان زارهم وهم محاصرون لحصن في بلاد الروم. قال شرحبيل بن السمط الكندي: طال رباطنا وإقامتنا على حصن، فاعتزلت من العسكر أنظر في ثيابي لما آذاني منه، قال فمر بي سلمان فقال: ما تعالج يا أبا السمط؟ فأخبرته فقال: إني لأحسبك تحب أن تكون عند أم السمط، فكانت تعالج هذا منك. قلت: إي والله. قال: لا تفعل فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: رباط يوم وليلة أو يوم أو ليلة كصيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً أجريَ عليه مثل ذلك من الأجر، وأجريَ عليه الرزق، وأمن من الفتَّان، واقرؤوا إن شئتم: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا، وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ). ورواه في فتح القدير: 3/466، وفيه: حصن بأرض الروم.
آخى النبي (ص) بينه وبين أبي ذر
«واشترط على أبي ذر أن لا يعصي سلمان» (الكافي:8/162) كما آخى بينه وبين أبي الدرداء، فكانا يتراسلان ويتزاوران: «كتب أبو الدرداء إلى سلمان: أما بعد فإني أدعوك إلى الأرض المقدسة وأرض الجهاد، فكتب إليه سلمان: أما بعد فإنك قد كتبت إلى تدعوني إلى الأرض المقدسة وأرض الجهاد، ولعمري ما الأرض تقدس أهلها، ولكن المرء يقدسه عمله». (ابن أبي شيبة: 8/182).
 وكتب له سلمان: «إنما العلم كالينابيع فينفع به الله شاء، ومثل حكمة لا يتكلم بها كجسد لا روح له، ومثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل العالم كمثل رجل أضاء له مصباح في طريق، فجعل الناس يستضيئون به وكل يدعو له بالخير». (مصنف ابن أبي شيبة: 8/1179).
علاقة سلمان مع عمر بن الخطاب
مرَّتْ علاقة سلمان بعمر في مراحل، من عداء إلى صداقة، ثم إلى عداء، فقد: «دخل مجلس رسول الله (ص) ذات يوم فعظموه وقدموه وصدروه، إجلالاً لحقه وإعظاماً لشيبته، فدخل عمر فنظر إليه فقال: من هذا العجمي المتصدر فيما بين العرب؟! فصعد رسول الله (ص) المنبر فخطب فقال: إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى. سلمان بحرٌ لا ينزف، وكنزٌ لا ينفد، سلمان منا أهل البيت، سلسل يمنح الحكمة ويؤتى البرهان». (الاختصاص للمفيد/341).
وعن الإمام الباقر (ع): «جلس عدة من أصحاب رسول الله (ص) ينتسبون وفيهم سلمان الفارسي، وإن عمر سأله عن نسبه وأصله، فقال: أنا سلمان بن عبد الله كنت ضالاً فهداني الله بمحمد وكنت عائلاً فأغناني الله بمحمد (ص)، وكنت مملوكاً فأعتقني الله بمحمد (ص). وهذا حسبي ونسبي.
ثم خرج رسول الله (ص) فحدثه سلمان وشكى إليه ما لقي من القوم وما قال لهم. فقال النبي (ص): يا معشر قريش إن حسب الرجل دينه، ومروته وأصله عقله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ). يا سلمان ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل». (الكافي: 8/181).
ورووا أن سعد بن أبي وقاص هو الذي عيَّر سلمان بنسبه، فانتصر له عمر! ففي تاريخ دمشق (21/424): «كان بين سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي شيء فقال سعد وهم في مجلس: إنتسب يا فلان فانتسب، ثم قال للآخر انتسب، ثم قال للآخر حتى بلغ سلمان فقال: إنتسب يا سلمان. فقال: ما أعرف لي أباً في الإسلام، ولكني سلمان بن الإسلام. فنمي ذلك إلى عمر فقال عمر لسعد ولقيه: إنتسب يا سعد. فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين. قال: وكأنه عرف، فأبى أن يدعه حتى انتسب. ثم قال للآخر، حتى بلغ سلمان فقال: إنتسب يا سلمان. فقال: أنعم الله عليَّ بالإسلام فأنا سلمان بن الإسلام. فقال عمر: قد علمت قريش أن الخطاب كان أعزهم في الجاهلية، وأنا عمر بن الإسلام، أخو سلمان بن الإسلام».
وقد ساءت علاقة سلمان مع عمر عند وفاة النبي (ص) وأيام السقيفة، فقد خطب سلمان، وقال: «فأين يذهب بكم؟!ما أنا وفلان وأبو فلان! ويحكم والله ما أدري أتجهلون أم تتجاهلون، أم نسيتم أم تتناسون! أنزلوا آل محمد (ص) منكم منزلة الرأس من الجسد، بل منزلة العينين من الرأس، والله لترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف، يشهد الشاهد على الناجي بالهلكة ويشد الناجي على الكافر بالنجاة، ألا اني أظهرت أمري وآمنت بربي وأسلمت بنبيي، واتبعت مولاي ومولى كل مسلم».(رجال الكشي/88).
ثم اصطدم بهم كما في (الاحتجاج: 1/105): «وقام إليه سلمان الفارسي فقال: الله أكبر الله أكبر! سمعت رسول الله (ص) بهاتين الأذنين وإلا صُمَّتَا يقول: بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه، إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله وقتل من معه فلست أشك إلا وإنكم هم! فهمَّ به عمر بن الخطاب، فوثب إليه أمير المؤمنين (ع) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض، ثم قال: يا ابن صهاك الحبشية! لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله (ص) تقدم، لأريتك أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً!
ثم التفت إلى أصحابه فقال: انصرفوا رحمكم الله، فوالله لا دخلت المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون إذ قال له أصحابه: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ). والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله (ص) أو لقضية أقضيها، فإنه لا يجوز لحجة أقامها رسول الله (ص) أن يترك الناس في حيرة»!
وكان ذلك آخر احتجاجات أمير المؤمنين (ع) عليهم.
ثم خف التوتر بين عمر وسلمان في عهد أبي بكر وعمر، وساعد على ذلك جلالة سلمان واحترام المسلمين له. وكان يحضر في مجلس عمر في دار الخلافة، وكان عمر يزوره: ففي مجمع الزوائد (8/174) عن أنس: «دخل عمر على سلمان الفارسي فألقى له وسادة فقال: ما هذا يا أبا عبد الله؟ فقال سلمان الفارسي: سمعت رسول الله (ص) يقول: ما من مسلم يدخل عليه أخوه المسلم فيلقى له وسادة إكراماً وإعظاماً إلا غفر الله له».
وكان علي (ع) يرسله في الأمور المهمة إلى عمر، ففي الخرائج (1/233) قال سلمان: «دعاني علي (ع) فقال: صر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق ولم يعلم به أحد، وقد عزم أن يحتبسه، فقل له: يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من جعل لهم، ولا تحبسه فأفضحك! قال سلمان: وأديت إليه الرسالة فقال: حيرني أمر صاحبك فمن أين علم هو به؟ قلت: وهل يخفى عليه مثل هذا. فقال: يا سلمان إقبل مني ما أقول لك: ما عليٌّ إلا ساحرٌ وإني لمشفق عليك منه، والصواب أن تفارقه وتصير في جملتنا. قلت: بئس ما قلت، لكن علياً قد ورث من آثار النبوة ما قد رأيت منه وما هو أكبر منه. قال: إرجع إليه فقل له: السمع والطاعة لأمرك...».
وروينا أن سلمان خطب من عمر ابنته: «فرده، ثم ندم فعاد إليه، فقال: إنما أردت أن أعلم ذهبت حمية الجاهلية عن قلبك، أم هي كما هي»! (الكشي:1/62).
ورووا في ذلك روايات مضطربة، منها أن عمر وافق لكن ابنه عبد الله: «شكاه إلى عمرو بن العاص فقال: أنا أردُّه عنك. فقال: إن رددته بما يكره أغضبت أمير المؤمنين، قال: عليِّ أن أردّه عنك راضياً، فأتى سلمان فضرب بين كتفيه بيده ثم قال: هنيئاً لك أبا عبد الله هذا أمير المؤمنين يتواضع بتزويجك! فالتفت إليه مغضباً وقال: أبي يتواضع! واللَّه لا أتزوّجها أبداً».(عيون ابن قتيبة:1/380).
ثم رووا أن سلمان قال: «إنكم معشر العرب لا نتقدمكم في صلاتكم، ولا ننكح نساءكم. إن الله فضلكم علينا بمحمد (ص)»(إرواء الغليل: 6/278، وجَوَّدَهُ).
وقد أرادوا بذلك الدفاع عن عمر، وعن رأيه في تحريم زواج العربية من غير عربي، لأنه بزعمه ليس كفؤاً لها! فقد روى في سبل السلام (3/130): «عرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على سلمان الفارسي».
أي قبل أن يعرضها على النبي (ص) ويقبلها. لكن هذه الأحداث لم تؤثر كثيراً على علاقة سلمان بعمر، فقد كانت مكانته وأخلاقه وليونته الفارسية، تفرض على عمر احترامه والطمع فيه. وقد عينه والياً على المدائن.
ولما جاء سلمان إلى المدينة خرج عمر مع المسلمين لاستقباله. ففي شعب الإيمان للبيهقي(7/378): «كتب عمر بن الخطاب إلى سلمان أن زرني. قال فخرج سلمان إليه، فلما بلغ عمر قدومه قال لأصحابه: هذا سلمان قد قدم فانطلقوا نتلقاه. قال: فلقيه عمر فالتزمه وساءله، ثم رجعا إلى المدينة».
وكان عمر يسأل سلمان عن بعض الأمور، قال له يوماً: «بلغني أن رسول الله قال: ما من والٍ يلي شيئاً من أمور الناس إلا يأتي به يوم القيامة يده مغلولة إلى عنقه، فيوقف على جسر من النار ينتفض ذلك الجسر انتفاضة يزيل كل عضو منه عن موضعه، ثم يعاد فيحاسب، فإن كان محسناً نجاه إحسانه، وإن كان مسيئاً انحرف به ذلك الجسر فهوى به في النار سبعين خريفاً!
قال له: ممن سمعت هذا؟ قال من أبي ذر وسلمان، فأرسل إليهما عمر فسألهما فقالا: نعم سمعناه من رسول الله (ص). فقال عمر: واعمراه، من يتولاها بما فيها؟ فقال أبو ذر: من أرغم الله أنفه وألصق خده بالأرض! قال: فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني»(شعب الإيمان:6/32).
وكان عند عمر سؤال يسأله دائماً: هل أنا ملك من ملوك الدنيا، أم خليفة لرسول الله (ص)؟ فقد روى الطبري(3/279) أن عمر سأله: «أمَلِكٌ أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة. فاستعبر عمر».
وفي تاريخ المدينة (2/702) أن عمر سأله عندما خرج من المدينة لاستقباله: «فقال عمر لسلمان: أبا عبد الله أتراني مستحقاً لهذا الإسم؟ قال: نعم، ما لم تستأثر على الناس بتمرة، فقال عمر: الله أكبر».
ثم ساءت علاقة سلمان بعمر في أواخر حياته، كما تدل رسالة سلمان إليه، وقد روى نصها في الاحتجاج (1/185): «بسم الله الرحمن الرحيم. من سلمان مولى رسول الله (ص) إلى عمر بن الخطاب: أما بعد، فإنه أتاني منك كتاب يا عمر تؤنبني وتعيرني، وتذكر فيه أنك بعثتني أميراً على أهل المدائن، وأمرتني أن أقصَّ أثر حذيفة وأستقصي أيام أعماله وسيرته، ثم أعلمك قبيحها، وقد نهاني الله عن ذلك يا عمر في محكم كتابه حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَابٌ رَحِيمٌ). وما كنت لأعصي الله في أثر حذيفة وأطيعك. وأما ما ذكرت أني أقبلت على سفِّ الخوص وأكل الشعير، فما هما مما يعيَّرُ به مؤمن ويؤنَّب عليه، وأيم الله يا عمر لأكل الشعير وسفُّ الخوص والاستغناء به عن رفيع المطعم والمشرب، وعن غصب مؤمن حقه وادعاء ما ليس له بحق، أفضل وأحب إلى الله عز وجل وأقرب للتقوى. ولقد رأيت رسول الله (ص) إذا أصاب الشعير أكل وفرح به ولم يسخطه!
وأما ما ذكرت من عطائي، فإني قدمته ليوم فاقتي وحاجتي، ورب العزة يا عمر ما أبالي إذا جاز طعامي لهواتي وانساغ في حلقي، ألباب البر ومخ المعز كان أو خشارة الشعير! وأما قولك: إني ضعَّفْتُ سلطان الله ووَهَّنْتُهُ وأذللت نفسي وامتهنتها، حتى جهل أهل المدائن إمارتي واتخذوني جسراً يمشون فوقي ويحملون عليَّ ثقل حمولتهم، وزعمت أن ذلك مما يوهن سلطان الله ويذله.
فاعلم أن التذلل في طاعة الله أحب إليَّ من التعزز في معصيته، وقد علمت أن رسول الله (ص) يتألف الناس ويتقرب منهم ويتقربون منه في نبوته وسلطانه، حتى كأنه بعضهم في الدنو منهم، وقد كان يأكل الجشب ويلبس الخشن، وكان الناس عنده قرشيهم وعربيهم وأبيضهم وأسودهم سواء في الدين!
وأشهد أني سمعته يقول: من وليَ سبعة من المسلمين بعدي ثم لم يعدل فيهم، لقي الله وهو عليه غضبان. فليتني يا عمر أسلم من إمارة المدائن مع ما ذكرت أني أذللت نفسي وامتهنتها، فكيف يا عمر حال من ولي الأمة بعد رسول الله وإني سمعت الله يقول: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). إعلم أني لم أتوجه، أسوسهم وأقيم حدود الله فيهم إلا بإرشاد دليل عالم، فنهجت فيهم بنهجه، وسرت فيهم بسيرته.
واعلم أن الله تبارك وتعالى لو أراد بهذه الأمة خيراً، أو أراد بهم رشداً، لولى عليهم أعلمهم وأفضلهم. ولو كانت هذه الأمة من الله خائفين، ولقول نبي الله متبعين، وبالحق عالمين، ما سموك أمير المؤمنين، فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا! ولا تغتر بطول عفو الله عنك وتمديده ذلك، من تعجيل عقوبته. واعلم أنه سيدركك عواقب ظلمك في دنياك وآخرتك، وسوف تسأل عما قدمت وأخرت، والحمد لله وحده».
أقول: يظهر أن هذه الرسالة كانت قبيل وفاة سلمان ووفاة عمر، ولم أجد رواية عن ردة فعل عمر على هذه الرسالة الصريحة القوية، ويبدو أن عمر تحملها في الظاهر ولم يعزله، فقد توفي سلمان رضي الله عنه وهو والي المدائن.
تزوج سلمان امرأة عربية
يبدو أن النبي (ص) أمره أن يتزوج امرأة عربية ليثبت مبدأ الكفاءة بالإيمان، فتزوج امرأة من كندة ورزق منها أولاداً، ذكروا منهم محمداً وعبد الله وعبد الرحمن.
روى الكشي (1/68) عن الإمام الصادق (ع) قال: «تزوج سلمان امرأة من كندة فدخل عليها، فإذا لها خادمة وعلى بابها عباءة، فقال سلمان: إن في بيتكم هذا لمريضاً، أوقد تحولت الكعبة فيه؟ فقيل: المرأة أرادت أن تستر على نفسها فيه. قال: فما هذه الجارية؟ قالوا: كان لها شيء فأرادت أن تُخدم. قال: إني سمعت رسول الله (ص) يقول: أيما رجل كانت عنده جارية، فلم يأتها أو لم يزوجها من يأتيها ثم فجرت، كان عليه وزر مثلها».
وعاشت معه الكندية حتى توفيت في المدائن، فكتب له أمير المؤمنين (ع) يعزيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، قد بلغني يا أبا عبد الله مصيبتك بأهلك، وأوجعني بعض ما أوجعك. ولعمري لمصيبة يتقدم أجرها خير من نعمة يسأل عن شكرها ولعلك لا تقوم بها، والسلام عليك».(تاريخ دمشق:21/429).
ورزق من زوجته الكندية أولاداً، فقد رووا عن ابنه عبد الله، كما في تاريخ دمشق(21/403) وذكر أخبار إصبهان (1/52) والمنفردات لمسلم/105.
وذكر في فهرست منتجب الدين/52، ذريةً لسلمان من ابنه محمد هو: الشيخ بدر الدين الحسن بن علي بن سلمان بن أبي جعفر بن أبي الفضل.. بن محمد بن سلمان الفارسي رضي الله عنه صاحب رسول الله (ص)، نزيل أشناباد السد من الري، واعظ فصيح صالح. وقال في مستدركات رجال الحديث: 2/454: (ينتهي إلى إبراهيم بن سلمان بن محمد بن سلمان الفارسي بعشرين واسطة». وفي نفس الرحمن في فضائل سلمان/561: «قيل إنه (سلمان) عاد إلى إصفهان في زمان عمر، وقيل: كان له أخ بشيراز له نسل ثَمَّ، وبنت بإصفهان لها نسل، وبنتان بمصر، وقيل كان له ابن يقال له: كثير».
ورووا عن ابنه عبد الرحمن، كما في أسد الغابة (5/440)، وعن ابنه يحيى بن سلمان، كما في تاريخ دمشق (5/227)، ورووا عن ابنه زاذان بن سلمان، كما في الدر النظيم/321.
وتزوج سلمان بعد زوجته الكندية أمةً له اسمها بقيرة وكانت عنده حتى توفي، ولم يذكروا أنه رزق منها أولاداً.(الطبقات: 4/92).
وفاة سلمان الفارسي (رحمه الله)
من كرامة سلمان على ربه أنه عرف وقت وفاته، وأن علياً (ع) جاء من المدينة الى المدائن وصلى عليه ورجع من يومه. روى الكشي (1/66) عنه (رحمه الله) أنه قال: «قال لي رسول الله (ص): إذا حضرك أو أخذك الموت، حضر أقوامٌ يجدون الريح ولا يأكلون الطعام، ثم أخرج صرة من مسك فقال: هبةٌ أعطانيها رسول الله (ص) قال: ثم بلها ونضحها حوله، ثم قال لامرأته: قومي أجيفي الباب، فقامت وأجافت الباب، فرجعت وقد قُبض رضي الله عنه»!
وفي رواية الطبقات(4/92): «أصاب سلمان صُرَّة مسك يوم فتحت جلولاء فاستودعها امرأته، فلما حضرته الوفاة قال: هاتي هذه المسكة فمرسها في ماء، ثم قال: إنضحيها حولي فإنه يأتيني زوار الآن. قال ففعلت، فلم يمكث بعد ذلك إلا قليلاً حتى قبض». وفي رواية: أصاب مسكاً عند فتح مدينة بلنجر في أرمينيا، وهي اليوم في داغستان. وربما كان يجمع أفضل العطر ليوم وفاته (رحمه الله)!
وفي الطبقات (4/92): «لما حضرته الوفاة دعاني وهو في عِلِّيَّةٍ له لها أربعة أبواب فقال: إفتحي هذه الأبواب يا بقيرة، فإن لي اليوم زواراً لا أدري من أي هذه الأبواب يدخلون عليِّ، ثم دعا بمسك له فقال أديفيه في تنور ففعلت، ثم قال: إنضحيه حول فراشي، ثم انزلي فامكثي، فسوف تطلعين فتريني على فراشي. فاطلعت فإذا هو قد أخذت روحه، فكأنما هو نائم على فراشه». وفي رواية: يحضرني خلق من خلق الله يجدون الريح ولا يأكلون الطعام، ثم اجفئي عليَّ الباب وانزلي. قالت: ففعلت وجلست هنيهة فسمعت هسهسة. قالت: ثم صعدت فإذا هو قد مات».
وقد توفي سلمان في خلافة عمر، وقيل في خلافة عثمان. (الطبقات: 4/93).
وروى في الخرائج (2/562): «أن علياً (ع) دخل المسجد بالمدينة غداة يوم وقال: رأيت في النوم رسول الله (ص) البارحة، وقال لي: إن سلمان توفي ووصاني بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وها أنا خارج إلى المدائن لذلك فقال عمر: خذ الكفن من بيت المال. فقال علي (ع): ذاك مكفيٌّ مفروغٌ منه. فخرج والناس معه إلى ظاهر المدينة، ثم خرج وانصرف الناس، فلما كان قبل الظهيرة رجع وقال: دفنته، وكان أكثر الناس لم يصدقوه، حتى كان بعد مدة ووصل من المدائن مكتوب: إن سلمان توفي ليلة كذا، ودخل علينا أعرابي فغسله وكفنه وصلى عليه ودفنه، ثم انصرف! فتعجبوا كلهم».
وفي الدرجات الرفيعة/219، أن جابر بن عبد الله الأنصاري وغلامه قنبر ذهبا مع علي (ع) إلى المدائن لتغسيل سلمان، فدخل علي (ع) وكشف الرداء عن وجهه فتبسم سلمان وهمَّ أن يجلس، فقال له أمير المؤمنين (ع): عد إلى موتك. فلما صلى عليه كنا نسمع تكبيراً شديداً، وكنت رأيت معه رجلين فسألته عنهما فقال: أحدهما أخي جعفر والآخر الخضر، ومع كل واحد منهما سبعون صفاً من الملائكة. وقد أشار إلى هذه الحكاية أبو الفضل اليمنى في قوله:

سمعت مني يسيراً من عجائبه * * * وكل أمر عليٍّ لم يزل عجبَا
دَرَيْتَ عن ليلةٍ سار الوصيُّ بها * * * إلى المدائن لما أن لها طلبَا
فَأَلْحَدَ الطهرَ سلماناً وعاد إلى * * * عِراص يثربَ والإصباح ما قربا
كآصفٍ قبل رَدِّ الطرف من سبأٍ * * * بعرش بلقيس وافى يخرق الحجبا
أراك في آصفٍ لم تَغْلُ فيه بِلىً * * * بحيدرٍ أنا غالٍ أوردُ الكذبا!
إن كان أحمدُ خيرُ المرسلين فذا * * * خيرُ الوصيين أو كلُّ الحديث هَبَا).

انتهى الكتاب.