الإمام المهدي عليه السلام أمل الشعوب
محاضرة ألقيت بمناسبة ميلاد الإمام المهدي عليه السلام في مدينة سيهات بتاريخ 15/ 8/ 1398هـ
تأليف: الشيخ حسن موسى الصفار
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة الأولى: 1399 هـ - 1379 م
المحتويات
أمل الشعوب
أوراق التاريخ القديم
سجلات التاريخ الحديث
الواقع المعاصر
وماذا عن مستقبل الإنسانية؟
كيف الخلاص؟
الإسلام رسالة أمل؟
مستقبل الإنسانية في القرآن
كيف يتحقق الأمل؟
اهتمام الأمة
شيء ما عن القائد المنتظر
وأشرق الأمل
أهل البيت ـ معارضة صامدة
الإمام العسكري ـ القائد الحكيم
تباشير الفجر
وأشرق النور
إعلام هادئ
عمره الآن 1143 سنة؟
إلى متى؟
وفي الانتظار
أمل الشعوب
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)
للّه آلام هذا الإنسان، كم عانى عبر التاريخ من الحروب والاضطهاد والمشاكل والمصاعب؟؟
هذا الإنسان الذي خلقه اللَّه ليكون خليفته في أرضه:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ)(1)، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ)(2).
الإنسان الذي منحه اللَّه السيادة على هذا الكون، وسخر كل أنظمة الكون لمصلحته وسعادته:
(اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)(3).
الإنسان الذي رفعه اللَّه إلى أعلى درجات الكرامة والإجلال:
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(4).
هذا الإنسان الكريم على اللَّه… كم عانى من الآلام والمحن في تاريخه الطويل؟!
كما عانى من الاستعباد والاستغلال والتفرقة والعنصرية والتعصب الطائفي والنزاعات القومية والظلم والطغيان؟!
حتى أننا لو تصفحنا تاريخ هذا الإنسان من يوم وطأت قدماه الأرض إلى يومنا هذا لما وجدنا في ذلك التاريخ الطويل صفحة واحدة تدعونا إلى الاطمئنان بأن هذا الإنسان مر عليه يوم سعادة وهناء. فصفحات تاريخ البشرية كلها مصبوغة بلون الألم مكتوبة بحروف الشقاء التي أملاها بقلم الظلم والاضطهاد والانحراف.. اللهم إلا بعض السطور القصيرة التي تتميز حروفها بالراحة والسعادة التي وفرتها الرسالات السماوية في فترات ضئيلة متباعدة لا تكاد تشكل شيئاً في سجل التاريخ الأليم.
أوراق التاريخ القديم:
فحينما نتصفح أوراق التاريخ القديم تطالعنا فصوله بمشاهد الألم وظروف البؤس والشقاء.. ففي إحدى صفحات التاريخ القديم نجد المشاهد التالية:
فئة كبيرة من الناس سئمت حياة العبودية والاستغلال وبدأت تعيد النظر في قناعاتها وعقائدها حل الكون والحياة فتوصلت إلى قناعة سلمية هي الإيمان بوجود اللَّه تعالى والكفر بالسلطة التي فرضت نفسها إلهاً حاكماً متصرفاً تستعبد الناس كما تشاء.. فماذا كان مصير هذه المجموعة البشرية؟
لقد حفرت السلطة لها خندقاً (أخدوداً) كبيراً، وجمعت فيه الكثير من الحطب وأضرمت فيه النار وساقت أفراد تلك المجموعة المؤمنة إلى ذل الأخدود الملتهب لتصبح أجسامنا رماداً في ناره!! لا لشيء إلاّ لأن هذه المجموعة تعتنق عقيدة معينة هي الإيمان باللّه!!
يا له من مشهد مؤلم فظيع إذ تتساقط نفوس بريئة طيبة في لهيب النار ورجال الجريمة يتفرجون عليهم ببسمة وارتياح!!
حتى السماء قد غضبت لهذه الجريمة النكراء فخلدتها في قرآنها الحكيم وبأسلوب يفيض بالارتياع والدهشة.
يقول تعالى: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(5).
ونقرأ في صفحة أخرى من التاريخ القديم: أن ملكاً طاغية يقال له (فرعون) رأى طيفاً ذات ليلة في منامه فانزعج منه فسأل الكهنة والسحرة عن تفسير ذلك الحلم المزعج الذي عكّر على جلالته صفو النوم والارتياح!!
ففسروا له طيفه بمجيء غلام من فئة ضعيفة من الشعب (بني إسرائيل) يكون على يديه انتهاء ملك فرعون وطغيانه.
أتدرون ماذا صنع الطاغية بتلك الفئة المستضعفة من أجل المحافظة على بقاء ملكه واستمرار حكمه؟
لقد عمد إلى جميع الأولاد الذكور من بني إسرائيل فأعدمهم صبراً ثم جمع النساء الحوامل وجعلهن تحت المراقبة، وأصدر أوامره السامية التي تنص على أن أي امرأة تلد ولداً ذكراً فلا يجوز أن يعطى له حق الحياة أكثر من اللحظات التي تستغرقها عملية الذبح!! وتطبيقاً للأوامر الملكية الطاغوتية قتل مئات الأطفال الأبرياء حفاظاً على كرسي الحكم وتاج الملك الطاغية فرعون!!
وهكذا تستقبلنا مشاهد الظلم والألم والعذاب التي عاشها الإنسان في أعماق التاريخ كلما فتشنا في صفحات وقلبنا أوراقه.. ففي إحدى الأوراق نقرأ المآسي الأليمة التالية:
فرضت السلطات الأموية الحجاج بن يوسف الثقفي أميراً على العراق لمدة عشرين سنة، ولما مات الحجاج سنة 95 هجرية يقول المؤرخ المسعودي في مروج الذهب إنه: (أحصي من قتله صبراً سوى من قتل في عساكره وحروبه فوجد مائة وعشرين ألفاً (120.000)، وفي حبسه خمسون ألف رجل (50.000) وثلاثون ألف امرأة (30.000) منهن ستة عشر ألفاً مجردةً - بلا ثياب (16.000).
وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس من الشمس في الصيف ولا من المطر والبرد في الشتاء!!
وركب يوماً يريد الجمعة، فسمع ضجة فقال: ما هذا؟ فقيل له: المحبوسون يضجون ويشكون ما هم فيه من البلاء، فالتفت إلى ناحيتهم، وقال: اخسؤوا فيها ولا تكلمون)(6).
سجلات التاريخ الحديث:
هذا في فصول التاريخ القديم، فماذا عن سجلات التاريخ الحديث؟
هل تروي لنا أبناءً سعيدة تسرّنا بتجاوز الإنسان فترة الشقاء والألم؟ أو على الأقل هل تبشّرنا بانخفاض درجة العذاب وحرارة الشقاء؟ أما ماذا؟
إن التاريخ ليحدثنا بمضض عميق عن معاناة الإنسان في مطلع التاريخ الحديث!! فقد تراكمت عليه سحب الشقاء وازدادت حدة الألم، وتوالت عليه خناجر العذاب.. فقد شهدت تلك الفترة تقدماً هائلاً وتطوراً ملموساً في آلات الدمار ووسائل العذاب وأسلحة الشقاء. وكان الضحية الأولى لذلك التقدم هو هذا الإنسان الممتحن.
وإليكم بعض السطور من تاريخ الشقاء الحديث الذي عاشته الإنسانية المعذّبة:
قامت الحرب العالمية الأولى وانتهت مجازرها البشعة بعد أن بلغ عدد قتلى الإنسانية فيها (22) مليون إنسان، أما المصابون فلا عدّ لهم!
وبعد سنوات قليلة سجّرت نار الحرب العالمية الثانية التي التهمت ما يزيد على (70) مليون إنسان!
وأما أضرار التدمير فلا يزال الإنسان يعاني منها إلى الآن وبعد مرور أكثر من ثلاثين سنة؛ فقد أصدرت السلطات المختصة في مدينة هيروشيما اليابانية إحصاءات تقول فيها: إن (19) ألف شخص لا يزالون مسجلين لديها بأنهم متضررون من القنبلة التي ألقيت فوق المدينة في مثل هذا الشهر من العام 1945.
والسبب في ذلك يعود إلى المطر الأسود الذي هطل فوق المدينة بعد مرور (45) دقيقة فقط على إلقاء القنبلة، وهو مطر مشحون بالشعاع الذري! إلا أن هؤلاء غير محسوبين رسمياً من المتضررين، لأنهم كانوا يقيمون في ضاحية هيروشيما عند إلقاء القنبلة عليها. والأمراض التي يشكو منها هؤلاء منذ 29 سنة هي الضعف الجسدي العام، والشعور بالدوار، وكذلك التقيؤ الدوري(7).
وبلغ عدد الذين أبادتهم بريطانيا العظمى (…) من أجل إخضاع الصين لتاجها أكثر من عشرين (20) مليون إنسان، وكانت فرنسا تستعمر الجزائر رغم إرادة شعبها الذين قاوموا الاستعمار بعنف، ولم تستجب فرنسا لنداء الحرية المدوي في صفوف الشعب الجزائري، إلا بعد أن قتلت من ذلك الشعب المضطهد ما يقارب المليونين نسمة وبصورة بشعة قاسية.
ففي أثناء حرب الجزائر طلب حكام فرنسا من القائد العام للجيش: أن يحول أجمل مسجد في الجزائر إلى كنيسة، فوقع اختياره على مسجد الحي الأورلي في القشارة فتقدمت مجموعة من آلية الهندسة للسلاح الفرنسي إلى المسجد، وكان الوقت وقت صلاة المغرب، وكان المسجد غاصاً بالمصلين الذي قدر عددهم بـ(1400) مصلٍّ، فدخلوا عليهم وقتلوا فيهم إلى منتصف الليل، حيث أبادوهم جميعاً(8).
واندلعت الحرب العنيفة في الهند الصينية بين شطري فيتنام واستمرت لمدة ثلاثين عاماً، ثم كانت النتائج الأليمة التي تحملها الإنسان من رواء حرب الاستعمار والمصالح كالتالي:
أكثر من ثلاثة ملايين ومائتين ألف قتيل (3.200.000) بين مدني وعسكري. وسبعة ملايين وأربعمائة وثلاثة وخمسين ألف جريح (7.453.000) بين مدني وعسكري. وأربعمائة ألف عاجز (400.000).
كما ألقى الطيران الأميركي من سنة 1961 إلى سنة 1972م زهاء ستة ملايين وسبعمائة وسبعة وعشرين ألف طن من القنابل (6.727.000) على منطقة الهند الصينية!
وألقت الطائرات الأميركية واحد وسبعين مليون لتراً (000 ,000 ,71) من المواد الكيمياوية السامة على منطقة في جنوب فيتنام توازي مساحة إيرلندا الشمالية!(9)
الواقع المعاصر:
وماذا عن واقع الإنسان المعاصر؟
إنه واقع البؤس والدمار، فكم من شعب يعيش الاستعمار والتشريد والحرمان على مسمع العالم ومرآه؟
فهذا الشعب الفلسطيني المضطهد، وقد تواطأت الدول الكبرى على سلب أرضه وتشريده من وطنه، وإحلال فلول الصهيونية مكانه، ليبنوا لهم دولة الحلم والأمل في فلسطين المقدسة!
وهكذا يحتل اليهود الغرباء فلسطين ويحولونها إلى ترسانة سلاح، بينما يعيش الشعب الفلسطيني مشرداً بعيداً عن أرضه ووطنه رغم إصرار هذا الشعب وكفاحه من أجل استرداد أرضه السليبة.
فمنذ سنة 1948م وإلى الآن سنة 1978م لا يزال هذا الشعب يقدم الضحايا والشهداء والقرابين داخل فلسطين وخارجها بيد أن إرادة الاستعمار لا تزال تفرض عليه حياة التشريد والعذاب! إنها لجريمة العصر التي لا تغتفر.
ولكن القضية الفلسطينية ليست هي الجريمة الوحيدة التي تشهد على شقاء إنسان هذا العصر ومآسيه، فهناك جرائم أخرى لا تقل بشاعة.. فهذا الشعب الأرتيري لا يزال يعاني من الاستعمار والتسلط الأثيوبي الظالم، والذي يجيد فن المذابح والمجازر الجماعية للسكان الأبرياء.
(وقد شهدت ميدينة (حرقيقو) الواقعة على بعد 12كم إلى الجنوب من ميناء (مصرع) مجزرة بشعة في 10 نيسان 1975م ذهب ضحيتها أكثر من (500) شخصاً معظمهم من العجزة والنساء والأطفال! حيث أغارت القوات الأثيوبية على المدينة فجراً، وبدأت بالقتل الجماعي، ثم تركت الجثث لمدة أسبوع كامل دون مواراة مع مرابضة القوات الظالمة!)(10).
وفي روديسيا وجنوب أفريقيا لا يزال الحكم العنصري يصادر حقوق الإنسان هناك ويسلب كرامته.
هذا ويعلم اللَّه كم عدد المعتقلين والأسارى في سجون هذا العالم.
فالولايات المتحدة الأمريكية تقول صحفها:
إن السجون مكتظة بالنزلاء الذي يصل عددهم إلى نحو (35) ألف شخص(11). وقبل أيام قليلة احتفلت إحدى الدول التي لا يزيد عدد سكانها عن (7) ملايين نسمة، احتفلت بأحد أعيادها وذكرت أنها أصدرت العفو عن (7) آلاف سجين من معتقلاتها بتلك المناسبة. ترى كم سجين تضم تلك الدولة الصغيرة؟
ثم هل تعرفون الأوضاع التي يعيشها المساجين والمعتقلون، إنها أوضاع قاسية بشعة مؤلمة إلى أبعد الحدود، في أكثر سجون العالم.
فمع التقدم العلمي والصناعي حدث تقدم وتطور فظيع في أساليب تعذيب الإنسان وسحق كرامته وتحطيم أعصابه.
فمن الضرب بالسياط إلى حد الإدماء والإغماء، إلى التعذيب بتعليق الإنسان المعتقل كالشاة من يديه ورجليه، ثم الانهيال عليه بالسياط والكرباج إلى أن تتفجر كل أنحاء جسمه بالدمن إلى إجباره على شرب الماء المالح جداً ومياه القذارات والبالوعات!
إلى إرغام الشخص على الجلوس بقوة على قنينة (كوكا كولا) حتى تدخل دبره وتمزّق أطرافه إلى تسليط أسلاك الكهرباء على المناطق الحساسة من جسم الإنسان المعذّب. إلى شد جهاز التناسل بعنف وتجريحه!(12)
وإلى ما هنالك من الوسائل الجهنمية البشعة التي يعاني منها الإنسان المعاصر في معتقلات العالم.
وماذا عن مستقبل الإنسانية؟
من الجميل جداً ومما يريح النفس أن تتفاءل للإنسانية بمستقبل سعيد، وأن نعقد آمالنا على غدٍ مشرق، تسطع فيه على الإنسان شمس الراحة والأمن والسلام..
بيد أن أنباء التنافس الحادّ على إنتاج الأسلحة الفتاكة المدمرة وأخبار التجارب النووية الرهيبة وتقليعات القنابل الذرية والهيدروجينية والنيترونية الحديثة..
هذه الأنباء تعصف أي بارقة أمل يزرعها التفاؤل في النفس بمستقبل السعادة والهناء.. وتنسف كل ذرة اطمئنان تلوح في أفق الضمير.. وتقضي على أي نسمة ارتياح تهب على شاطئ الخيال..
فأي تفاؤل تقبله النفس ويرتاح إليه الضمير الإنساني في ظل أبناء الرعب التي سننقل بعضاً منها:
تمتلك البشرية اليوم من القنابل الذرية والهيدروجينية ما يكفي لتدمير الأرض كلها(12) مرة ونصف!(13).
وكان في حوزة الاتحاد السوفييتي عام 1974م (1520) صاروخاً عابر القارات، و(270) صاروخاً نووياً خاصاً بالغواصات، و(700) صاروخاً متوسطة المدى، و(200) صاروخاً قصيرة المدى!!
أما أميركا فقد كان لديها (1054) صاروخاً عابر القارات، و(544) صاروخاً خاصاً بالغواصات، و(1000) من الصواريخ المتوسطة المدى، و(1000) من الصواريخ القصيرة المدى(14).
ولا أدري لمن تعد هذه الأسلحة الفتاكة وضد من ستوجه هذه الصورايخ؟ هل إلا إلى قلب حياة هذا الإنسان المعذب، وإلى صميم سعادته وجوده؟!
ويقول معهد الدراسات الاستراتيجية بلندن، في دراسة نشرها عام 1972م: إن المخزون النووي لكل شخص على وجه الأرض يبلغ خمسة عشر طناً من مادة (ت. ن. ت.) في حين أن مخزون المواد الغذائية لا يزيد عن نصف طن للشخص الواحد!!
ويضيف التقرير: إن حجم الإنفاقات العسكرية في العالم يساوي الدخل القومي لدول العالم الثالث، وأن الدول المتخلفة تنفق ما بين 30 و60 بالمائة من مزانيتها على السلاح(15).
والأبشع والأغرب من كل ذلك هو هذا الاختراع الجديد: (قنبلة النيترون) والتي لا تصيب العمارات والمصانع والآلات بأي سوء يذكر، ولكنها تفني الإنسان والأحياء وتسلبهم الحياة في لحظات قصيرة.
أرأيتم مدى عذاب الإنسان ومعاناته في هذا العالم!
فوجوده بكل صراحة غير مهم ولا قيمة له ولكن المهم هو سلامة العمارات والمصانع!! وهناك سلاح سام رهيب كيماوي بيولوجي، يستخرج من جرثومة اسمها: Ghlostridium Botulinus، وهي تسبب عادة تسمماً غذائياً مميتاً، ويكفي ما مقداره 8 أونس أي حوالي (225) غراماً لقتل كل سكان العالم(16).
أما مادة (ال - اس - دي L. S. D.) فيكفي أن نضع منها كيلوغراماً واحداً في خزان مياه لتعطيل سكان مدينة بأسرها بالتأثير على الأجسام والعقول معاً. ويقول الدكتور (جرودن تيلور) البريطاني:
(لقد أوصى الجنرالات الأميركان باستعمال (L. S. D.) في الحرب لأنها تؤثر على عزيمة وإرادة المقاومة عند الأعداء مدعين - أي الجنرالات الأميركان - أن هذا السلاح هو سلاح إنساني!! لا يسبب إراقة الدماء!!!).
وتقول بعض المصادر: إن الولايات المتحدة الأميركية تملك كمية مخزون من غازات الأعصاب القاتلة تكفي لإبادة سكان العالم جميعاً.. حتى ولو كان عددهم أكثر مما هو الآن بثلاثين مرة. وأن روسيا تملك قدرة تفوق قدرة العالم الغربي بسبع أو ثمان مرات في مجال الأسلحة الكيماوية والجرثومية(17).
فباللّه عليكم في ظل هذه الأوضاع المأساوية والأنباء المؤلمة كيف يمكن للأمل أن ينمو وللتفاؤل أن يمكث في النفس..
كيف الخلاص؟
مع ملاحظة لها أهمية بالغة وهي: أن الأمل لا يمكن أن يوجد في فراغ من التصوير والتفكير.. والتفاؤل ما لم تدعمه مبررات واحتمالات تجعله شيئاً وارداً ومقبولاً في فكر الإنسان.
فهل هناك تصور متكامل لتحقيق حلم الإنسانية السعيد ببناء حياة الأمن والاستقرار والسلام؟
هل توجد فكرة شاملة يمكن للإنسان أن يؤمن بأن تطبيقها سيوفر له ما حرمته منه سنون التاريخ وعصوره من السعادة والكرامة والارتياح؟
وبعبارة أخرى: ما هي الخطة المستقبلية المحتملة التي يمكن للإنسان أن يعلق عليها آمال الخلاص والإنقاذ؟؟
لفترة خلت كانت أنظار الإنسانية متجهة صوب المؤسسات الدولية التي تبنت الدفاع عن قضايا الإنسانية ورفعت شعارات حقوق الإنسان وأمن الإنسان واستقلاليته: كالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي أو كتلة عدم الانحياز أو منظمة العفو الدولية التي استقطبت أنظار الناس المعذبين المضطهدين فترة طويلة من الوقت.. ولكن هل استطاعت هذه المؤسسات أن تكنس الألم والحروب والاستعمار والمشاكل من حياة الإنسان؟ وهل بقي للإنسان فيها شيء من الأمل أمر أصبح أمام طريق مسدود من اليأس؟
يكفي أن نقول: إن الإنسان قد تأكد وتوفرت لديه القناعة الكافية بأن هذه المؤسسات لم تفلح في توفير السعادة والأمن والاستقرار لشعوب العالم.. وقد انقطع ظنه منها وخاب أمله فيها!!
إذن فما هي الخطة المحتملة لإصلاح العالم وإنقاذ الإنسانية؟ وإلا فهل كتب على الإنسان أن يعيش حياة الفناء والألم من أول يوم وطأ فيه أرض هذا الكوكب وإلى أن يرحل منه عند قيام الساعة؟
أسوف لا يسعد الإنسان بلحظات سعادة وهناء على سطح الكرة الأرضية؟
الإسلام رسالة أمل؟
إننا نتحدى أي إنسان معاصر يعلن تفاؤله وأمله في مستقبل الإنسانية أن يقنعنا بخطة ممكنة وفكرة محتملة للإصلاح العالمي والتغيير الشامل.
والمنبع الوحيد لروافد الأمل والتفاؤل هو الإسلام فقد والذي يؤكد في نصوصه وتعاليمه ضرورة انبثاق فجر السعادة في تاريخ الإنسانية، ويصر على حتمية انتصار واقع العدالة والأمن والاستقرار على جحافل الظلم والشقاء والألم الذي يؤطر حياة الإنسان عبر التاريخ.
الإسلام، والإسلام وجده يحمل للإنسان رسالة أمل وفكرة تفاؤل تنقذ الإنسان من قلق اليأس القاتل تدعمها خطة إصلاحية شاملة وتصور تغييري متكامل.
مستقبل الإنسانية في القرآن:
مجموعة كبيرة من آيات القرآن الحكيم تؤكد هذه الحقيقة، وتبشر بعهد سعيد، لابد وأن يسود العالم وتنعم البشرية بالأمن والرخاء والعدالة والحرية وجميع مستلزمات الحياة الكريمة.
يقول القرآن الحكيم:
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(18).
فالإسلام ما هو إلا امتداد للرسالات السماوية السابقة والتي تبشر كلها بمستقبل سعيد للإنسانية فلابد وأن يكون حكم الأرض وسيادة العالم للطليعة المؤمنة الصالحة.. وحينما يكون الحكم بيد طليعة مؤمنة صالحة فتلك هي فرصة السعادة وعهد الرخاء.
ويقول تعالى:
(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ)(19).
فالرسل هم دعاة السعادة والعدالة والحرية وأتباعهم الذين نذروا أنفسهم لخدمة تلك الأهداف المقدسة.
هؤلاء الرسل وأتباع الرسل كم عانوا من الأذى والألم والاضطهاد!
إن معاناة الرسل والأتباع أشد من معاناة سائر الناس، لأن الرسل وأتباعهم كانوا يتزعمون جبهة النضال والجهاد من أجل سعادة البشرية وكرامتها، ولذلك فقد اتجهت حراب الظلم والطغيان نحو صدورهم السامية، مما صيّر حياة الأنبياء وأتباعهم قطعة من الألم والعذاب في سبيل اللّه. ولكن اللَّه تعالى يتعهد لجميع الرسل والمؤمنين بأهدافهم النبيلة.. يتعهد لهم بإتاحة الفرصة لهم في هذه الحياة ليقطفوا ثمار جهادهم وجودهم وليتذوقوا حلاوة النصر العاجلة في الدنيا بالإضافة إلى ثواب اللَّه الآجل في الآخرة.
ويقول اللَّه سبحانه وتعالى:
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(20).
وقد تكررت هذه الآية ثلاث مرات في القرآن الكريم لتؤكد وعد اللَّه بسيطرة الدين الإسلامي على ربوع المعمورة وظهوره الفعلي والتطبيقي بعد فشل جميع المبادئ والأديان الأخرى.
ويقول تبارك وتعالى:
(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)(21).
فالفئات المضطهدة المستضعفة المحرومة في الأرض والتي من أظهر مصاديقها أئمة الحق أهل بيت محمد صلوات اللَّه عليهم أجمعين… سيمن اللَّه عليهم وسيتيح لهم المجال ليكونوا أئمة العالم وقادته عملياً وليرثوا مكاسب وثروات الكون في ظل دولة العدالة والإيمان.
إنها لآيات صريحة كلها تؤكد انتصار الحق أخيراً، وأخذه بزمان العالم إلى شاطئ الأمن والإيمان.
ولاشك أن هذه الوعود لم تتحقق فيما مضى من تاريخ الإنسان وليس هي الآن متحققة في واقع الإنسان. فليس أمامنا إذن إلا التشكيك بصدق هذه الوعود - والعياذ باللّه - أو الإيمان بأنها ستحقق في المستقبل. وإذا كان لا يمكننا التشكيك في صحة هذه الوعود وصدقها لأنها (وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ)(22)، و(إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)(23) فلابد لنا إذن من الاطمئنان بأن هذه الوعود ستصبح حقيقة واقعة في مستقبل الحياة وإن طال الأمد.
كيف يتحقق الأمل؟
ولكن كيف يتحقق ذلك الأمل العظيم الذي تشرئب إليه أعناق البشرية وخاصة كلما لسعتها سياط الظلم ونالت منها حراب الجور والطغيان؟
ومتى يتحقق؟ وما هي خطة الإصلاح والتغيير المرتقبة؟ وعلى يد من تكون؟
هذه أسئلة ملحة تشغل بال الإنسانية منذ عصور وعصور.. ولأهمية هذه الأسئلة وخطورتها في حياة الإنسان لتعلقها بمصير الإنسانية ككل، فقد تكفلت السنة الشريفة عبر أحاديث الرسول محمد صلى اللَّه عليه وآله والقادة من أهل بيته المعصومين تكفلت بوضع الإجابات المفصلة الكاملة على جميع الأسئلة الخطيرة. حتى بلغت الأحاديث الواردة حول هذه القضية أكثر من (6000) حديث. وقلّ أن يتوفر في قضية إسلامية مثل هذا العدد الضخم من الأحاديث.
فماذا تقول تلك الأحاديث؟
إنها تؤكد بإصرار شديد ذلك الوعد القرآني المقدس ببناء مجتمع العدالة والإيمان والتقدم في هذه الحاية وبإشادة دولة الحق العالمية في ربوع الكرة الأرضية.
وخطة الإصلاح والتغيير هي شريعة الإسلام المجيدة، وتوقيتها نهاية هذه الحياة وقبيل قيام الساعة وحلول القيامة. فهي نهاية مطاف البشرية وآخر خطوة في مسيرة الإنسان في هذه الحياة.
أما رائد هذه الثورة العالمية، وقائد عملية الإنقاذ والتغيير الشامل فهو رجل من ذرية رسول الإسلام محمد صلى اللَّه عليه وآله لا يفصل بينه وبين الرسول الأعظم إلا اثنا عشر أب.
فهو الإمام محمد المهدي بن الإمام الحسن العسكري بن الإمام علي بن محمد الهادي بن الإمام محمد بن علي الجواد بن الإمام علي بن موسى الرضا بن الإمام موسى بن جعفر الكاظم بن الإمام جعفر بن محمد الصادق بن الإمام محمد بن علي الباقر بن الإمام علي بن الحسين السجاد بن الإمام الحسين بن علي الشهيد بن الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
اهتمام الأمة:
لأهمية القضية وخطورتها فقد اهتمت بها أجيال الأمة من العلماء ورواة الأحاديث منذ كشف الرسول الكريم صلى اللَّه عليه وآله النقاب عن تفاصيلها وإلى الآن.
فعشرات من صحابة الرسول محمد صلى اللَّه عليه وآله نقلت ما سمعته عن النبي القائد حول خروج الإمام المهدي وإنقاذ العالم على يديه. ومئات من التابعين تلقوا تلك الأحاديث من الصحابة الكرام ونقلوها إلى الأجيال التي بعدهم. وجميع أئمة الحديث والمهتمين بحفظ السنة المقدسة خرجوا تلك الأحاديث وأثبتوها في صحاحهم وكتبهم..
ومجموعة كبيرة من علماء الأمة كتبت دراسات خاصة وكتباً قيّمة في تحقيق هذه القضية وإثباتها وذكر تفصيلاتها، كل ذلك يدلنا على أهمية القضية وخطورتها، ويسد الطريق على أي محاولة تريد التنكر لهذه القضية الإسلامية، لتسلب من الإنسانية أملها العظيم، وتلفها برداء اليأس الأسود القاتل. حتى قال الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه البيانات:
(إنها - روايات خروج المهدي - تحمل حقيقة أساسية هي القدر المشترك فيها، وهي أن النبي صلى اللَّه عليه وآله أخبر أنه سيظهر في آخر الزمان زعيم عامل بالسنة يملأ الأرض عدلاً، ويمحو عن وجهها أسباب الظلم والعدوان، ويعلن فيها كلمة الإسلام، ويعم الرفاه في خلق اللَّه)(24).
وقد ذكرنا في هذا الباب نوعين من الأحاديث:
أحاديث ذكر المهدي فيها بالصراحة، وأحاديث إنما أخبر فيها بظهور خليفة عادل بدون تصريح المهدي.
ولما كانت هذه الأحاديث من النوع الثاني تشابه الأحاديث من النوع الأول في موضوعها، فقد ذهب المحدثون إلى أن المراد بالخليفة العادل فيها هو المهدي)(25).
ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز (وهو أبرز علماء المملكة العربية السعودية حالياً):
(إن أمر المهدي أمر معلوم والأحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة… فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به، أمره ثابت وخروجه حق)(26).
ومن أواخر البحوث المهتمة بهذه القضية، بحث جميل للعالم السلفي المعاصر الشيخ عبدالمحسن العباد المدرّس بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، بعنوان (عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر) ألقاه كمحاضرة في الجامعة،ثم نشر في مجلة (الجامعة الإسلامية) السنة الأولى 1389هـ، العدد الثالث من صفحة 126 إلى صفحة 164.
وقد ذكر الشيخ العباد في بحثه الممتع الإحصائيات والحقائق التالية:
أسماء الصحابة الذين رووا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله أحاديث المهدي: جملة ما وقفت عليه من أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله ستة وعشرون، وهم:
علي بن أبي طالب عليه آلاف التحية والسلام
عثمان بن عفان
طلحة بن عبيداللّه
عبدالرحمن بن عوف
الحسين بن علي
أم سلمة
أم حبيبة
عبداللّه بن عباس
عبداللّه بن مسعود
عبداللّه بن عمر
عبداللذه بن عمرو
أبو سعيد الخدري
جابر بن عبداللّه
أبو هريرة
أنس بن مالك
عمار بن ياسر
عوف بن مالك
ثوبان مولى رسول اللَّه
قرة بن إياس
علي الهلالي
حذيفة بن اليمان
عقداللّه بن الحارث بن حمزة
عمران بن حصين
عوف بن مالك
أبو الطفيل
جابر الصدفي
أسماء الأئمة الذين خرجوا الأحاديث والآثار الواردة في المهدي في كتبهم:
وأحاديث المهدي خرجها جماعة كثيرون من الأئمة في الصحاح والسنن والمعاجم والمسانيد وغيرها، وقد بلغ عدد الذين وقفت على كتبهم أو اطلعت على ذكر تخريجهم لها ثمانية وثلاثين.
ذكر لبعض الذين ألفوا كتباً في شأن المهدي:
وكما اعتنى علماء هذه الأئمة بجمع الأحاديث الواردة عن نبيهم صلى اللَّه عليه وآله تأليفاً وشرحاً، كان للأحاديث المتعلقة بأمر المهدي قسطها الكبير من هذه العناية، فمنهم من أدرجها ضمن المؤلفات العامة كما في السنن والمسانيد وغيرها، ومنهم من أفردها بالتأليف كل ذلك حصل منهم - رحمهم اللَّه وجزاهم اللَّه خيراً - حماية لهذا الدين وقياماً بما يجب من النصح للمسلمين، فمن الذين أفردوها بالتأليف: (وذكر عشرة من كبار العلماء الذين ألفوا كتباً خاصة بالمهدي).
ذكر بعض الذين حكوا تواتر أحاديث المهدي ونقل كلامهم في ذلك: (وقد أحصى ستة من كبار علماء الحديث الذين أثبتوا تواتر أحاديث المهدي عن النبي محمد صلى اللَّه عليه وآله).
نماذج من الأحاديث:
ومن تلك الأحاديث المتواترة المشهورة نقتبس الأحاديث التالية:
قال صلى اللَّه عليه وآله: (لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث اللَّه رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
عنه صلى اللَّه عليه وآله: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث اللَّه فيه رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً).
قال صلى اللَّه عليه وآله: (أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض).
قال صلى اللَّه عليه وآله: (يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته ككنيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، فذلك هو المهدي).
عنه صلى اللَّه عليه وآله: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول اللَّه ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي تجري الملاحم على يديه، ويظهر الإسلام، لا يخلف اللَّه وعده وهو سريع الحساب)(27).
شيء ما عن القائد المنتظر..
وأشرق الأمل..
أهم شيء يرهب الطغاة ويقلق الحكام المستبدين هو وجود الفكرة المناهضة لتسلطهم واستبدادهم، فهم يريدون استعباد الناس والتحكم بمصايرهم والتلاعب بثرواتهم، ويريدون من الناس أن يتقبلوا ذلك بكل سرور وارتياح! وأن لا يسمحوا لأنفسهم حتى بالتفكير المعارض للسلطة الحاكمة. فهي تحكم لا على أجسامهم فقط، وإنما على عقولهم وتفكيرهم ومشاعرهم. وإذا أحست السلطة الظالمة بوجود فكرة معارضة تختمر في ذهن فرد أو جماعة فلا مكان لهم إلا بطن الأرض بعد أن يمروا بمرحلة قاسية من التأديب على تمردهم الفكري على السلطة التي ترى نفسها قد استملكتهم! فالمعارض لا حق له في الحياة.
أهل البيت - معارضة صادمة:
وأهل البيت عليهم السلام وهم الذرية الطاهرة للرسول محمد صلى اللَّه عليه وآله والذين أعدهم اللَّه لقيادة الأمة وتحمل مسؤولية الرسالة وصيانة نقائها وطهارتها عن التلويث والتشويه والتحريف لابد وأن يشكلوا أهم جبهة معارضة بمجرّد وجودهم وممارستهم لدور التوجيه والتوعية وحماية الرسالة، فهم الشبح المرعب للحكام الطغاة من الأمويين والعباسيين الذين تسلطوا على الأمة بدون حق ولا جدارة، وهم العقبة الكأداء في طريق تضليل الناس وتحذيرهم بأعلام الاستبداد والتسلط المزيّف.
فلابد إذاً من أن يكون لهم النصيب الأوفر من تنكيل السلطات واضطهادها.
وتحمل أهل البيت والصفوة من أتباعهم كل وسائل التنكيل وأساليب الاضطهاد التي كانت تمارسها السلطات ضدهم.
واستطاعوا بصمودهم وسياستهم المرنة الحكيمة وخططهم الرسالية الصائبة أن يتجاوزوا برسالتهم تلك الفترات الحالكة وأن يتغلبوا على تلك الظروف القاسية وأن يخترقوا كل الحجب والحواجز التي اصطنعتها السلطة للفصل بين جماهير الأمة وبين جوهر دينها العظيم وقادتها الحقيقيين الصادقين.
فبعد أكثر من قرنين من الصراع العنيف الذي استخدمت فيه السلطة كل إمكاناتها وجهودها ضد فكرة الحق وأئمة الهدى. بعد ذلك ورغم كل ذلك فقد امتدت جبهة الحق واتسعت رقعة المعارضة في صفوف جماهير الأمة وشعوبها الإسلامية، وازدادت ثقة الناس وقوي التفاهم حول القادة الرساليين من أهل البيت عليهم السلام.
ففي منتصف القرن الثالث كان أتباع أهل البيت منتشرين في جميع أنحاء البلاد الإسلامية وأرجائها فلهم دولة عظيمة في المغرب استطاعت أن تقتطع جزءاً مهماً من الدولة الإسلامية، من سلطة العباسيين الطغاة. وهناك في طبرستان لهم ثورة قوية حققت النصر على جحافل السلطة وأعلنت انفصال المنطقة عن الحكم العباسي وقيام دولة علوية معادية للعباسيين.
وهناك في الكوفة إرهاصات ثورة، وفي الحجاز محاولات تمرّد، وفي اليمن فلول معارضة، كل ذلك من تأثير الفكر الرسالي الثوري الذي يبثه أهل البيت في صفوف الأمة الإسلامي.
الإمام العسكري - القائد الحكيم:
وكان الإمام القائد لطلائع الأمة في ذلك العصر هو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت الإمام الحسن بن علي العسكري، والذي فرضت عليه السلطة إقامة جبرية في عاصمة الخلافة العباسية آنذاك (سامراء).
ولكنه ورغم ضغوط السلطة ورقابتها الدقيقة التي كانت تلاحق الإمام حتى في فترات سجنه ومعتقلاته. رغم ذلك كان يمارس دوره في توجيه الأمة وتزريق جماهيرها بالوعي وقيادة طلائعها المؤمنة.
فكانت الحقوق الشرعية من الأخماس والزكوات ترد على الإمام العسكري بصورة سرية رائعة، عبر أحد وكلائه الثقاة: عثمان بن سعيد العمري والذي كان من كبار العلماء، ولكن الإمام دفعه للاتجار بالسمن (الزيت) ليصنع من ذلك تغطية ظاهرية لدوره الهام في إيصال الأموال إلى الإمام بسرية كافية.. فباعتباره بيّاعاً للمسن كان يملأ بعض أجربة السمن بالأموال المتوفرة لديه من الحقوق الشرعية ثم يبعثها إلى بيت الإمام العسكري وظاهرها ملطخ بالسمن، وطبعاً لا يثير شبهة الجواسيس دخول جراب سمن لبيت الإمام!(28)
كما عهد الإمام العسكري إلى أحد أصحابه وهو محمد بن مسعود العياشي أن يقوم بمهمة جمع تراث الأئمة من أهل البيت بعد أن فرقته ظروف الكبت والإرهاب، فأنفق العياشي ثروة أبيه الضخمة على ذلك حتى كانت داره كالمسجد تجمع العشرات ما بين ناسخ ومقابل وقارئ ومعلق.. فاجتمع لديه نتيجة ذلك النشاط العظيم ما يزيد على مائتين كتاب تحوي أحاديث أهل البيت وتعاليمهم في مختلف المجالات(29).
إذن فقد كان النشاط على أشده في صفوف الجماهير المسلمة بيد أن الشيء الذي يقلق طلائع الإيمان والوعي هو مستقبل هذا النشاط ومصير حركة الوعي الديني السليم بعد الإمام الحسن العسكري، والذي لابد وأن تصادر السلطة حياته كما صادرات حياة آبائه من قبل، فمن هو القائد بعد ذلك؟ ومن هو الإمام الذي سيتحمل مسؤولية الرسالة ويقوم بقيادة طلائع الأمة؟
وتثور الأسئلة ملحة في أذهان المؤمنين وتفرض نفسها على خواطرهم.. وما أسرع أن يتذكروا الأحاديث المؤكدة المتواترة عن رسول اللَّه محمد صلى اللَّه عليه وآله والتي تنص بصراحة ووضوح على أن اللَّه تعالى قد أعد لهذه الأمة اثني عشر إماماً ينذرون أنفسهم لحماية الشريعة ونشر الرسالة الإسلامية العظيمة.
ففي صحيح البخاري (الجزء الرابع، ص175، طبعة مصر سنة 1355) عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله أنه قال: (يكون اثنا عشر أميراً كلهم من قريش).
ومثله في صحيح مسلم والترمذي وجميع كتب الحديث(30).
ومن هؤلاء الأئمة القادة الاثني عشر عاصرت الأمة عشرة أئمة وها هي في ظل الإمام الحادي عشر.. فيا ترى من هو الإمام الثاني عشر والذي اختارته السماء ليكون خاتم أوصياء محمد وآخر قادة أمة الإسلام؟
إن الإمام العسكري لم يولد له ولد لحد الآن، والسلطة حذرة جداً ومتشائمة من الإمام الثاني عشر الذي بشرت به الأحاديث ووعدت أن يكون على يديه استئصال شأفة الظلم وقلع جذور الطغيان وإقامة حكم الأمن والإيمان.
تباشير الفجر:
وجاءت سنة 255 هجرية لتعطي الإجابة الحاسمة على كل هذه التساؤلات…
فالإمام العسكري تزوج من جارية شريفة تنحدر من أسرة قيصر ملك الروم وتنتمي إلى وصي المسيح شمعون…
وشاء اللَّه أن تكون هذه الجارية (التي أطنبت الروايات في وصف عفتها ومعرفتها وإيمانها) أُمًّا لخاتم أوصيائه ومنقذ عباده ومظهر دينه الإمام الحجة الثاني عشر.
وحملت بالإمام المنتظر في عهد المعتز ا لعباسي والذي كان شديد القسوة على الإمام العسكري ومهتماً جداً بالقضاء على الإمام قبل أن يجب القائد المنتظر.. ولكن أنى له ذلك ما دام اللَّه يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فكان الحمل مستوراً لا يظهر له أي أثر في بطن أمه التي كانت مراقبة من السلطة كسائر نساء الإمام العسكري.
وقبيل الولادة تلبدت سماء سياسة الدولة بالغيوم الموسمية التي تغشى أجواء السلطة كلما ثارت شهوة الحكم والسيادة عند أحد أفراد الأسرة العباسية الحاكمة… فيتآمر مع قادة الجيش للإطاحة بالخليفة الحاكم حتى يتسنم مقامه..
وهذا ما حصل بالفعل في 27 رجب سنة 255 هجرية حيث تآمر محمد المهتدي العباسي على ابن عمه المعتز بن المتوكل العباسي وبتشجيع من قادة الجيش الأتراك، وخلع ابن عمه المعتز وبويع للمهتدي بالخلافة، وكان من الطبيعي أن يترك هذا الحادث ذيولاً سياسية تجعل الخليفة الجديد مشغولاً بمعالجتها فترة من الوقت مما يؤمن فترة من الهدوء النسبي لبيت الإمام العسكري عليه السلام ريثما تتم ولادة الإمام المنتظر، وفعلاً تمت الولادة وبشكل هادئ جداً في ليلة النصف من شعبان، وبعد ثمانية عشر ليلة من استيلاء المهتدي على السلطة.
وأشرق النور:
وكانت للولادة قصة طريفة نحرص على نقلها للقراء:
تتحدث (حكيمة) بنت الإمام محمد الجواد، أخت الإمام علي الهادي عمة الإمام الحسن العسكري عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام - عن تلك المناسبة السعيدة فتقول:
بعث إليَّ أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام.
فقال: يا عمة اجعلي إفطارك عندنا هذه الليلة فإنها الليلة النصف من شعبان.. فإن اللَّه تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة، وهو حجته في أرضه.
قالت: فقلت له: ومن أمه؟
قال لي: نرجس.
قلت له: جعلني اللَّه فداك واللّه ما بها أثر!!
فقال الإمام: هو ما أقول لك.
قالت: فجئت فلما سلمت وجلست، فجاءت نرجس تنزع خفي! وقالت لي: يا سيدتي وسيدة أهلي كيف أمسيت؟
فقلت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي.
قالت: فأنكرت قولي، وقالت: ما هذا يا عمة؟
فقلت لها: يا بنية إن اللَّه تعالى سيهب لك في ليلتك هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة.. فخجلت واستحيت.
فلما فرغت من صلاة العشاء الآخرة، أفطرت وأخذت مضجعي فلما أن كان في جوف الليلة، قمت إلى الصلاة وفرغت من صلواتي وهي نائمة ليس بها حادثة!! ثم جلست معقبة ثم اضطجعت، ثم انتبهت فزعة وهي نائمة.
وقامت نرجس وصلَّت نوافل الليل ثم نامت.
قالت حكيمة: وخرجت أتفقد الفجر، فإذا أنا بالفجر الأول كذنب السرحان، وهي نائمة! فدخلني الشك، فصاح بين أبو محمد عليه السلام من المجلس: لا تعجلي يا عمة فهناك الأمر قد قرب!
فجلست وقرأت ألم السجدة ويس، فبينما أنا كذلك، انتبهت نرجس فزعة، فوثبت إليها وقلت له:
بسم اللَّه عليك، أتحسين شيئاً؟
قالت: نعم يا عمة.
قلت لها: اجمعي نفسك واجمعي قلبك فهو ما قلت لك.
قالت حكيمة: وأخذتني فترة، وأخذتها هي أيضاً فترة.. وانتبهت بحس سيدي الإمام المنتظر!
فكشفت عنها فإذا أنا به عليه السلام ساجداً يتلقى الأرض بمساجده، فضممته، فإذا أنا به نظيف منظف!
فصاح بي أبو محمد الحسن عليه السلام: هلمي إليَّ بابني يا عمة.
فجئت به غليه، فوضع يديه تحت إليته وظهره ووضع قدمه في صدره، ثم أدلى لسانه في فيه، وأَمَرَّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله.
وبعد أ أجرى عليه مراسيماً خاصة، قال لعمته حكيمة: يا عمة اذهبي إلى أمه ثم ائتني به.
ثم قال: يا عمة إذا كان يوم السابع فأتينا.
قالت حكيمة: فلما أصبحت جئت لأسلّم على أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام وكشفت الستر لأتفقد المنتظر فلم أره.
فقلت: جعلت فداك ما فعل سيدي؟
قال الإمام العسكري: يا عمة استودعناه الذي استودعت أم موسى(31)!
وهكذا تمت ولادة الإمام القائد المنتظر في جو من السرية والهدوء والأمن النسبي الذي أتاحته التغيرات السياسية.
إعلام هادئ:
وإذا كانت الظروف الأمنية تفرض اختفاء الإمام المهدي أثناء حمله، وفي أول يوم من ولادته حتى عن عمته حكيمة التي شهدت لحظات الولادة.. فكيف إذن تطمئن الجماهير المؤمنة التي يشغلها التفكير في مستقبل الرسالة ويسودها القلق على مصير حركة التوعية والتغيير الخطيرة.
وهي تتلهف وتحترق شوقاً لقدوم الإمام الثاني عشر الذي أكدت عليه الأحاديث وبشرت به الرسالات السماوية.
لقد كان على الإمام الحسن العسكري عليه السلام أن يوفق بين الأمرين المهمين: كتمام الأمر وإخفائه عن السلطة وعيونها وإعلام الجماهير المؤمنة بولادة قائدها المنتظر.
لذلك فقد قام الإمام العسكري عليه السلام بدور الإعلام الهادئ الحكيم.. وذلك حسب الوسائل التالية:
1 - كلف أحد أصحابه الثقاة بتوزيع كمية كبيرة من الخبز واللحم على شخصيات بني هاشم ووجهاء الفئة المؤمنة وبطريقة عير مثيرة، وذلك للاستبشار بمولد الإمام المنتظر.
فقد ورد عن أبي جعفر العمري قال: لما ولد السيد (إشارة إلى الإمام المهدي) قال أبو محمد العسكري: ابعثوا إلى أبي عمرو فبعث غليه فصار إلى الإمام.
فقال له الإمام العسكري عليه السلام: اشتر عشرة آلاف رطل خبز وعشرة آلاف رطل لحم وفرقه حسبة على بني هاشم وعقّ عنه بكذا وكذا شاة(32).
وعن محمد بن إبراهيم الكوفي: أن أبا محمد الحسن العسكري بعث إلى بعض من سماه لي شاة مذبوحة وقال: هذه من عقيقة ابني محمد(33).
وعن الحسن بن المنذر عن حمزة بن أبي الفتح قال: كان يوماً جالساً فقال لي: البشارة ولد البارحة مولود لأبي محمد عليه السلام وأمر بكتمانه، وأمر أن يعقّ عنه ثلاثمائة شاة، فقلت: وما اسمه؟ فقال: يسمى محمد(34).
ويتحدث إبراهيم صاحب الإمام العسكري عليه السلام فيقول: وجّه إليَّ مولاي أبو محمد بأربعة أكبش وكتب إليّ:
(بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذه عن ابني محمد المهدي، وكُلْ هنيئاً وأطعم من وجدتَ من شيعتنا)(35).
2 - أخبر بعض أصحابه الموثوقين شفوياً بولادة الإمام المهدي، فقد أعلم أبا هاشم الجعفري، كما أخبر أبا طاهر البلالي، وصرّح أما أحمد بن إسحاق بن سعد بقوله: الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول اللَّه، خُلقاً وخَلقاً، يحفظه اللَّه في غيبته، ويظهره فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً(36).
3 - كتب عليه السلام رسائل إلى زعماء المجتمعات الإسلامية التي تدين بالولاء لأهل البيت يخبرهم بولادة الإمام المنتظر، بمختلف بلدانهم ومناطقهم.
فقد كتب رسالة إلى موسى بن جعفر بن وهب البغدادي جاء فيها: (زعموا أنهم يريدون قتلي فيقطعون هذا النسل، وقد كذّب اللَّه عزّ وجلّ قولهم والحمد للّه)(37).
وبعث عليه السلام رسالة إلى كبير علماء قم - إيران - أحمد بن إسحاق قال له فيها: (ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والولي لولايته، أحببنا إعلامك ليَسُرَّك اللَّه به مثل ما سرَّنا به، والسلام)(38).
وعن علي بن بلال: خرج إليَّ مرة من أبي محمد الحسن بن علي العسكري قبل مضيه بسنتين يخبرني بالخلف من بعده، ثم أخرج إليَّ مرة قبل مضيه بثلاثة أيام يخبرني بالخلف من بعده)(39).
كما كتب عليه السلام إلى أمه يعلمها بولادة القائم(40).
4 - كان عليه السلام يغتنم فرصة تواجد خواص أتباعه أو يتعمد جمعهم في مجلسه ليعرّفهم على الإمام المهدي مباشرة ويؤكد لهم أنه هو إمامهم الثاني عشر.
يقول معاوية بن حكيم ومحمد بن أيوب بن نوح ومحمد بن عثمان العمري، قالوا: عرض علينا أبو محمد الحسن بن علبي عليه السلام ولده ونحن في منزله وكنا أربعين رجلاً، فقال: هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم لتهلكوا أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا.
قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلا أيام قلائل حتى مضى أبو محمد(41).
وعن عمر الأهوازي قال: أراني أبو محمد بابنه وقال: هذا إمامكم من بعدي(42).
ويتحدث أبو غانم الخادم عن أحد هذه المواقف فيقول: ولد لأبي محمد عليه السلام مولود فسمّاه محمداً، فعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال: هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتد عليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً(43).
وهكذا انتشر الخبر في صفوف الجماهير المؤمنة ليزرع الأمل في قلوبها بمستقبل الرسالة المشرق على يد الإمام الثاني عشر، وليبدد غيوم القلق والتشكيك من نفوسها.
عمره الآن 1143 سنة؟
يتاح للإنسان أن يعيش في هذه الحياة فترة محدودة، يغادر الدنيا بعدها، وينتقل عبر جسر الموت إلى عالم آخر.
ومتوسط عمر الفترة التي يقضيها أي إنسان في هذه الدار الدنيا يتراوح ما بين ستين إلى سبعين سنة، وفي بعض الحالات القليلة قد يتجاوزها إلى المائة سنة، أما إذا تخطّى المائة سنة وبدأ يصارع عقود المائة الثانية فهذا يعتبر حالة استثنائية نادرة قد يسجلها التاريخ تحت عنوان: المعمرين.
بناءً على ذلك كيف صح لنا إذن أن نؤمن بوجود الإمام القائد المهدي الذي ولد سنة 255هـ ونحن الآن في سنة 1397هـ فيكون عمره الشريف 1143 سنة، فهل يمكن للإنسان أن يعيش هذا العمر الطويل؟
في الواقع لكي نستطيع التعرف على إمكانية هذه الحياة الطويلة يجب أن نتساءل ونبحث عن سبب الموت، فلماذا الموت؟
(هناك ما يقرب من مائتي إجابة عن هذا السؤال الخطير الذي كثيراً ما يطرح في المجالس العلمية، منها: (فقدان الجسم لفاعليته)، (انتهاء عملية الأجزاء التركيبية)، (تجمد الأنسجة العصبية)، (حلول المواد الزلالية القليلة الحركة، محل الكثرة الحركة منها)، (ضعف الأنسجة الرابطة)، (انتشار سموم بكتريا الأمعاء في الجسم).. وما إلى ذلك من الإجابات التي تتردد كثيراً ظاهرة الموت.
إن القول بفقدان الجسم لفاعليته جذاب للعقل.. فإن الآلات الحديدية والأحذية والأقمشة كلها تفقد فاعليتها بعد أجل محدود، فأجسامنا أيضاً تبلى وتفقد فاعليتها كالجلود التي نلبسها في موسم الشتاء. ولكن العلم الحديث لا يؤيدنا، لأن المشاهدة العلمية للجسم الإنساني تؤكد: أنه ليس كالجلود الحيوانية والآلات الحديدية، وليس كالجبال.. وإن أقرب شيء يمكن تشبيهه به هو ذلك (النهر) الذي لا يزال يجري منذ آلاف السنين على ظهر الأرض، فمن ذا الذي يستطيع القول بأن النهر الجاري يبلى ويهن ويعجز؟ أبناء على هذا الأساس يعتقد الدكتور (لنس بالنج) (وهو حائز على جائزة نوبل للعلوم): إن الإنسان أبدي إلى حد كبير، نظرياً، فإن خلايا جسمه تقوم بإصلاح ما فيه من الأمراض ومعالجتها تلقائياً! وبرغم ذلك فإن الإنسان يعجز ويموت، ولا تزال علل هذه الظاهرة أسراراً تحير العلماء.
إن جسمنا هذا في تجدد دائم، وإن المواد الزلالية التي توجد في خلايا دمائنا تتلف كذلك ثم تتجدد، ومثلها جميع خلايا الجسم، تموت وتحل مكانها خلايا جديدة، اللهم إلا الخلايا العصبية، وتفيد البحوث العلمية إن دم الإنسان يتجدد تجدداً كلياً خلال ما يقرب من أربع سنوات كما تتغير جميع ذرات الجسم الإنساني في بضع سنين. ونخرج من هذا بأن الجسم الإنساني ليس كهيكل، وإنما كالنهر الجاري، أي أنه (عمل مستمر) ومن ثم تبطل جميع النظريات القائلة بأن علة الموت هي وهن الجسم أيام الطفولة أو الشباب قد خرجت من الجسم منذ زمن طويل، ولا معنى لأن نجعلها سبب الموت، فسبب الموت موجود في مكان آخر، وليس في الأمعاء والأنسجة البدنية والقلب.
ويدعي بعض العلماء أن الأنسجة العصبية هي سبب الموت لأنها تبقي في الجسم إلى آخر الحياة ولا تتجدد، ولو صح هذا التفسير القائل بأن النظام العصبي هو نقطة الضعف في الجسم الإنساني فمن الممكن أن نزعم أن أي جسم خال من (النظام العصبي) لابد أن يحيا عمراً أطول من الأجسام ذات النظام العصبي، ولكن المشاهدة العلمية لا تؤيدنا، فإن هذا النظام لا يوجد مثلاً في الأشجار، وبعضها يعيش لأطول مدة، ولكن شجرة القمح التي لا يوجد بها هذا النظام العصبي لا تعيش أكثر من سنة، وليس في كائن (الأميبا) أكثر من نصف ساعة، ومقتضى هذا التفسير أيضاً أن تلك الحيوانات التي تعد من (نسل أعلى) والتي تتمتع بنظام عصبي أكمل وأجود، لابد أن تعيش مدة أطول من تلك التي هي أحقر نسلاً وأضعف نظاماً ولكن الحقائق لا تؤيدنا في هذا أيضاً، فإن السلحفاة والتمساح وسمكة (باتيك) أطول عمراً من أي حيوان آخر. وكلها من النوع الثاني حقير النسل ضعيف النظام)(44).
وما دام في جسم الإنسان استعداداً للبقاء والخلود، وليس فيه أي مكمن مبدئياً للموت، وما دام الإنسان أبدياً على الصعيد النظري والعلمي، فلماذا يموت الإنسان السليم الذي لا يعترضه عارض خارجي يسبب له الموت والفناء؟
إن الجواب الوحيد والواقعي هو أن الموت يأتي بقرار من اللَّه خالق الإنسان والذي يحدد للإنسان أجله وإقامته في الحياة (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا)(45).
ولما كانت مسألة الموت متعلقة بقرار اللَّه سبحانه وتعالى ومشيئته، فإن حكمته هي التي تحدد مسافة عمر كل فرد حسب الحكمة والمصلحة.
فقد تقتضي حكمة اللَّه تعالى مصادرة حياة شخص وإنهاء إقامته في الدنيا وهو في عهد الطفولة أو ريعان الشباب…
وقد تقتضي حكمته جلّ وعلا استمرار حياة شخص ما لمئات السنين والأعوام.. كما يتحدث القرآن عن حياة نبي اللَّه نوح عليه السلام فيقول: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا)(46) أي 950 سنة.
من هنا تبدو لنا قضية الإمام المهدي بعيدة عن الغرابة والاستنكار منسجمة مع النظرة العلمية مؤيدة بشواهد التاريخ.
وحتى لو لم تسعفنا النظرية العلمية بأدلة مقنعة، أو لم يقدم لنا التاريخ نماذج مشابهة، فيمكننا أن نلجأ في تفسير هذه الظاهرة (إطالة عمر الإمام المهدي) إلى قانون الإعجاز الإلهي والذي تنسحب أمامه جميع القوانين الطبيعية المألوفة ونترك له المجال ليتصرف بحرية لإنجاز أي قضية تتعلق بها حكمة السماء وتصطدم معها سنن الحياة المعروفة.
وهذه حقيقة لا يناقش فيها المؤمن بشرائع السماء فحماية إبراهيم الخليل من النار المضطرمة التي أُلقي في أتونها، وولادة مريم بعيسى، وتصلب ماء البحر لموسى لها قضايا تؤكد الكتب السماوية حدوثها مع تعارضها المبدئي للقوانين الثابتة.
إلى متى؟
كلما أوجعت الإنسان سياط الظلم، وأرهقته عهود الجور والطغيان، وسلبت كرامته ظروف الفساد والانحراف.. شحّ بصره واشرأب عنقه تجاه الإمام المنقذ صاحب العصر والزمان.. وتوجه إليه من أعماق نفسه، وأطلق آهات الاستغاثة.. ورفع أنات الشكوى وآهات الألم.. يستعجل ظهور الإمام المنقذ..
وكلما شاهد المؤمن مظاهر الكفر والنفاق، ورأى تكاتف أنظمة الجور على سحق مبادئ الإسلام، وأزعجته معاملة الكبت والإرهاب التي يعيشها المؤمنون المخلصون في ظل سلطات الانحراف…
كلما حدث ذلك التجأ المؤمن إلى اللَّه يدعوه ويطلب إليه الإسراع في خروج أمل الإنسانية وإمام الحق صاحب العصر والزمان..
فتارة تكون آهات الاستغاثة على شكل دعاء يتوجه به المؤمن إلى ربه الحكيم جلّ وعلا لينجز وعده بإظهار دين الحق والعدل وخروج إمام العصر والزمن:
(اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا - صلواتك عليه وآله - وغيبة إمامنا، وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصلِّ على محمد وآله محمد، وأعنا على ذلك بفتح منك تعجله، وضرّ تكشفه، ونصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها برحمتك يا ارحم الراحمين)(47).
وفي دعاء آخر تمتزج فيه مآسي الواقع بآمال المستقبل المشرق ويختلط فيه الطلب من اللَّه بالاستثارة المباشرة للإمام المنتظر..
(هل إليك يا بن أحمد سبيل فتلقى؟
هل يتصل يومنا منك بغده فنحظى؟
متى نرد مناهلك الروية فنروى؟
متى ننتجع من عذب مائك فقد طال الصدى؟
متى نغاديك ونراوحك فتقرّ منا عيوننا؟
متى ترانا ونراك وقد نشرت لواء النصر؟
أترانا نحف بك وأنت تؤم الملأ وقد ملأت الأرض عدلاً وأذقت أعداءك هواناً وعقاباً، وأبرت العتاة وجحدة الحق وقطعت دابر المتكبرين واجتثثت أصول الظالمين، ونحن نقول الحمد للّه رب العالمين…
اللهم أنت كشّاف الكرب والبلوى، وإليك أستعدي فعندك العدوى، وأنت رب الآخرة والأولى، فأغث يا غياث المستغيثين عبيدك المبتلى، وأره سيده يا شديد القوى، وأزل عنه به الأسى والجوى، وبرّد غليله يا من على العرش استوى، ومن إليه الرجعى والمنتهى.
اللهم ونحن عبيدك التائقون إلى وليك، المذكر بك وبنبيك خلقته لنا عصمة وملاذاً، وأقمته قواماً ومعاذاً وجعلته للمؤمنين منا إماماً، فبلغه منا تحية وسلاماً)(48).
وتارة تنفجر أحاسيس الألم، في قلب المؤمن، فتتدفق في قنوات الشعر الحماسي المثير، الذي يتقاطر شوقاً وتلهفاً لظهور دولة العدل والأمان التي ينتقم اللَّه فيها من جبابرة الأرض، وطغاة التاريخ ويمن بها على المستضعفين والمحرومين والمؤمنين، فهذا أحدهم يقول:
يا صاحب العصر أدركنا فليس لنا * * * وردٌ هنيءٌ ولا عيش لنا رغد
طالت علينا ليالي الانتظار فهل * * * يا بن الزكي لليل الانتظار غد؟
فاكحل بطلعتك الغرا منا مقلاً * * * يكاد يأتي على إنسانها الرمد
ها نحن مرمى لنبل النائبات وهل * * * يغني اصطبار وهي من درعة الزرد
كم ذا يؤلف شمل الظالمين لكم * * * وشملكم بيدي أعدائك بدد
فانهض فدتك بقايا أنفس ظفرت * * * بها النوائب لما خانها الجلد(49)
وهذا آخر يستغيث الإمام المهدي ويستحثه الخروج باسم العدالة والدين والإنسانية فقد حزّ في قلبه أن يتحكم في مصير الشعوب مجموعة من الخمارين الذين سلبوا حرية رعاياهم وكرامتهم:
يا صاحب العصر أترضى رحى * * * عصارة الخمر علينا تدار
قد ذهب العدل وركن الهدى * * * قد هدّ والجور على الدين جار
أغث رعاك اللَّه من ناصر * * * رعيةً ضاق عليها القفار
فهاك قلبها قلوب الورى * * * إذا بها الوجد من الانتظار
متى تسل البيض من غمدها * * * وتشرع السمر وتحمى الذمار(50)
وتارة أخرى: يعرب الإنسان عن تضايقه من واقع الطغيان والانحراف، وتلهفه لحياة السعادة والأمان بتساؤله عن سبب تأخر ظهور الإمام المهدي إلى آخر الزمان؟ فلماذا لم يخرج حتى الآن؟ أما يكفي ما عاشته الإنسانية من مشاكل وآلام عبر التاريخ؟ أما آن بوضع حد لمعاناة هذا الإنسان المحروم؟
وسنحاول الآن الإجابة على هذه الأسئلة الحائرة التي تنبع من ضمير الإنسان وتفرضها معاناته.
(1)
إنما خلق اللَّه الحياة لتكون مسرح ابتلاء، وقاعة امتحان للإنسان عن طريق احتدام معركة الصداع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، يقول تعالى:
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(51).
(إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(52).
(وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)(53).
وما دامت الحياة دار ابتلاء، وامتحان، وميدان معركة وصراع، فقد منح اللَّه الإنسان حريته الكاملة في اختيار الجبهة التي يناضل ضمن خطوطها في ميدان الحياة..
واقتصر دور السماء على توجيه الإنسان وتوعيته بحقيقة الجبهتين العريضتين في الحياة.. ودعوة الإنسان للانضمام إلى جبهة الحق ومقاومة إغراءات الباطل وجحافل الشر.
ودارت رحى المعركة الخطيرة بين دواعي الخير ونوازع الشر في الحياة منذ نعومة أظفار الإنسان وبداية وجوده ولا تزال مستمرة.. تمر على كل جيل من أجيال البشرية فتفرز عناصره وتكشف عن اتجاهات أفرادنا، وتميز بين رواد الحق وأتباع الباطل..
وقد شاء اللَّه تعالى أن تكون المعركة أبدية ترافق استمرار الإنسان في الحياة (لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(54)، (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(55) من جميع الأجيال وكل العصور.
وقد كشفت هذه المعركة الدائمة عن سقوط الأغلبية الساحقة من الناس في أوحال الباطل ومزالق الشر، وثبوت أقلية مؤمنة صمدت في مواقع الخير، وأصرّت على مواقف الحق.. لذلك ان النصر غالباً وفي أكثر فترات التاريخ، ومناطقه حليف جبهة الباطل وعصابات الشر..
وقد توعد اللَّه الباطل بهزيمة نكراء، ينتقم بها للحق وأتباعه من الباطل وفلوله. وذلك في معركة حاسمة لا تبقى للباطل بعدها باقية..
ولكن هل يصح أن يكون توقيت تلك المعركة الحاسمة أثناء مسيرة الحياة وفي وسط طريقها؟
كلا! لأن ذلك يعني حينئذٍ إنهاء معركة الصراع وتوقف فرصة الابتلاء والامتحان.. حينما يتوارى ظلام الجور والكفر في العالم وتشرق شمس الهداية والخير على الحياة.. حينما يولي الظالم مدحوراً لا يجد له مقراً في الأرض التي سيملؤها القسط والعدل.
إذن فلابد أن تؤجل تلك المعركة الحاسمة الفاصلة إلى أواخر مسيرة الحياة وخاتمة مطاف الدنيا.. عند اقتراب الساعة وقبيل مجيء القيامة..
وقد اختارت مشيئة اللَّه الأمام المهدي ليكون قائد تلك المعركة الحاسمة.. وبطل تلك الجولة الأخيرة في ميدان الصراع بين الحق والباطل.
فكان لابد وأن يتأخر خروجه إلى نهاية الحياة ليتاح للإنسان أن يمارس امتحانه بظروف طبيعية وبحريته الكاملة.
لذلك تحرص أكثر الأحاديث الإسلامية التي تتحدث عن ظهوره عليه السلام بالتأكيد على أن ظهوره لا يكون إلا في آخر الزمان.. وآخر يوم من الدنيا.. وقبيل قيام الساعة كقوله صلى اللَّه عليه وآله: (أبشروا بالمهدي فإنه يأتي في آخر الزمان على شدة وزلزال يسع اللَّه له الأرض عدلاً وقسطاً)(56).
(ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول للَّه ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي…)(57).
(لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت قبله جوراً)(58).
(2)
المشكلة الرئيسية في تاريخ الإنسان هي مشكلة إيجاد النظام الأفضل للحياة الاجتماعية.. فالإنسان إنما كان يعاني من اعتداء بعضه على بعض، لتعارض المصالح وتناقض الحقوق، وضياع الحدود فيما بين أفراد المجتمع البشري.
ولكن هل يستطيع الإنسان أن يوفر لنفسه النظام الصالح للحياة، والذي يضمن لكل فرد حقوقه ويحمي مصالحه ويرسم له حدوده؟
لقد أثبت الواقع الإنساني بتجاربه التاريخية الكثير عجز الإنسان عن توفير النظام الاجتماعي الأصلح لحياته.
وذلك لمحدودية معارف الإنسان وقوة أنانيته وشهواته واختلاف مداركه ومستوياته، بيد أن السماء لم تترك الإنسان يتخبط في صحراء الجهل والظلام، بل تحملت عنه المهمة وكفته المسؤولية فأعدت له خير نظام يوفر له السعادة، ويعالج كل قضاياه ومشاكله بأفضل طريقة وخير أسلوب.
غير أن الإنسان قد ضلله الغرور، واستهوته الإغراءات والشهوات، فلم يخضع لرسالة السماء والنظام الأفضل الذي وضعته لحياته، وطفق يبحث يميناً وشمالاً، ويفتش شرقاً وغرباً، ويحاول بوحي من غروره وشهواته أن يوفر لنفسه بديلاً آخر يغنيه عن رسالة السماء ويضمن له السعادة بشكل أفضل!
ورغم المآسي التي أعقبت تجاربه القاسية والمضاعفات التي أنتجتها محاولاته الفاشلة، إلا أنه لا يزال سادراً في غيه ممعناً في غروره وتمرده.. ظاناً أنه يمكنه العثور على نظام أفضل للحياة الاجتماعية بعيداً عن تعاليم السماء ورسالتها.
ولابد وأن يتيح اللَّه للإنسان الفرصة الكاملة ليجرب كل محاولاته في هذا المجال، وليطبق كل أفكاره وأوهامه.
إلى أن يصل الإنسان إلى طريق مسدود ويستسلم لليأس، ويفقد الأمل ويعترف على نفسه بالعجز والفشل، حينئذٍ تكون الأجواء مهيأة جداً لظهور شريعة الإسلام وتطبيق رسالة السماء وذلك على يد الإمام القائد المنتظر.
من هذا المنطلق كان من الطبيعي أن يتأخر خروج الإمام المهدي إلى أن يستفيد الإنسان كل ما في جعبته من الأطروحات والإيديولوجيات والأنظمة والقوانين، و(حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ)(59).
هنالك يخرج الإمام القائد ليسعد الإنسانية بتطبيق شريعة اللَّه وتنفيذ رسالته.
ولهذا الأمر يشير الإمام الصادق سلام اللَّه عليه في قوله: (ما يكون هذا الأمر - يعني دولة المهدي - حتى لا يبقى صنف من الناس إلاّ وقد ولوا من الناس، حتى لا يقول قائل: إنا لو ولينا لعدلنا. ثم يقوم القائم بالحق والعدل)(60).
وفي حديث آخر قال عليه السلام: (إن دولتنا آخر الدول، ولم يبق أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: لو ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء..)(61).
(3)
أيُّ مهمة تنتظر الإمام المهدي عند خروجه؟ إنها مهمة خطيرة لم يتحمل نقلها ولم يستوعبها تاريخ الإنسان على امتداده وسعته، ولم يتأت لها التحقيق في تاريخ البشرية.
إنها إقامة دولة عالمية تخضع لها جميع الشعوب والمجتمعات حيث يصبح البشر كلهم رعية لقائد واحدة، وفي ظل حكومة مركزية واحدة، ويسود العالم نظام واحد هو النظام الإسلامي.
يقول الإمام الصادق عليه السلام وهو يتحدث عن عالمية دولة الإمام المنتظر: (إذا قام القائم المهدي لا تبقى أرض إلا نودي فيها بشهادة لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه)(62).
وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام: (المهدي وأصحابه يُمَلِّكهم اللَّه مشارق الأرض ومغاربها، ويظهر الدين ويميت اللَّه عزّ وجلّ به وبأصحابه البدع والباطل، كما أمات السفهة الحق حتى لا يرى أثر من الظلم)(63).
وقد مرت علينا بعض الأحاديث التي تؤكد على أنه يملأ الأرض - كلها - قسطاً وعدلاً. ولكن كيف يستطيع قائد واحد أن يتحمل مسؤولية رعاية جميع أقطار العالم وشعوبه ومجتمعاته وأفراده؟ وهل تتمكن حكومة واحدة أن تلبي متطلبات وحوائج كل أفراد العالم؟
وكيف يمكن تطبيق شريعة واحدة على عالم مختلف القوميات والعادات والمشاكل؟
صحيح أن خضوع العالم وتسلميه سيجعل المهمة سهلة، ولكن هناك مشاكل طبيعية يجب أن نحسب لها حساباً في تصورنا لذلك المستقبل السعيد.. منها اختلاف اللغات وبعد المسافات، وكثرة متطلبات الحياة، وصعوبة اتصال الجميع بقائد واحدة وتعقيد قضايا الحياة.. وقد يبادر البعض إلى إلقاء المسؤولية على الإعجاز، فالإمام مؤيد من قبل اللَّه ويمكنه أن يستعين بالمعجزة لعلاج كل هذه المشاكل! ولكنها حينئذ ستكون دولة يحكمها الغيب، وتديرها المعجزة.. مع أن الغيب لا يتدخل في قضايا الحياة إلا عبر السنن والقوانين الطبيعية اللهم إلا في بعض الحالات الاستثنائية المؤقتة حيث يحدث هناك التدخل المباشر وتكون المعجزة.
أما أن تتحول المعجزة إلى قانون يحكم العالم كله، فهذا خلاف سنة اللَّه التي لن تجد لها تحويلاً ولن تجد لها تبديلاً.
إذن فيجب أن نعتقد أن الدولة ستدار وتحكم بشكل مركزي وطبيعي - وليس عن طريق المعجز - من قبل الإمام المهدي. وإذا كان كذلك فيجب أن تتوفر كل الوسائل اللازمة التي تمكّن حكومة واحدة من إدارة العالم كله.. والنصوص الإسلامية التي بين أيدينا تلمح إلى توفر هذه الوسائل في عصر الإمام المهدي، فالصعوبات كلها ستكون سهلة، وثروات الكون تكتشف وتتفجر جميعها، والمسافات ستصبح قريبة وتنتهي مشكلة المواصلات، والاتصال بالإمام أو بأي مسؤول في حكومته أمر ممكن لتوفر الوسائل المساعدة.
يقول الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: (الثاني عشر منا، يسهِّل اللَّه تعالى له كل عسر، ويذلل كل صعب، ويظهر له كنوز الأرض، ويقرّب عليه كل بعيد)(64).
وعن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن أبيه سلام اللَّه عليه: (يبعث اللَّه رجلاً في آخر الزمان، وكلب من الدهر، وجهل من الناس، يؤيده اللَّه بملائكة ويعصم أنصاره، وينصره بآياته، ويظهره على أهل الأرض حتى يدينوا طوعاً أو كرهاً، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً وبرهاناً، يدين له عرض البلاد وطولها، لا يبقى كافر إلا آمن، ولا طالح إلا صلح، وتصطلح في ملكه السباع، وتخرج الأرض نبتها، وتنزل السماء بركتها، وتظهر له الكنوز)(65).
وعن الإمام الرضا عليه السلام: (هو الذي ستطوى له الأرض)(66).
أما الإمام الصادق عليه فيقول: (إن قائمنا إذا قام مدّ اللَّه لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم، حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد، يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه)(67).
وقال أيضاً: (إن المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي بالمشرق)(68).
إن هذه الظروف المساعدة على نجاح مهمة الإمام المهدي إذا كانت لا تعتمد كلها على المعجزة، ويكون تحققها بشكل طبيعي فلابد وأن تكون بفضل الخبرات والمكاسب البشرية التي تمكن الإنسان من توفير تلك الوسائل.
وها نحن نشهد توفر بعض تلك الوسائل التي أشارت إليها بعض الأحاديث، كتقليص المسافات المعبر عنه بـ(يقرب له لك بعيد أو تطوى له الأرض). وكذلك مشكلة الاتصال فليس صعباً الآن وبإنجازات العلم الباهرة: أن يتكلم قائد فيسمعه أفراد رعيته في كل أنحاء العالم، كما أنه أصبح من المعتاد أن يسمع أهل المشرق صوت أهل المغرب، وبالعكس ولعل هناك اختراعات واكتشافات أخرى ستفتق عنها عقل الإنسان في مستقبل التاريخ ولتكون عوناً ودعماً لحكومة الإمام الواحدة القائدة لجميع العالم. من هنا يحق لنا أن نحتمل أن من بين أسباب تأخر خروج الإمام المهدي هو انتظار يهيؤ الأجواء والظروف المادية والآلية والاجتماعية، ليستطيع الإمام عندها من إنجاز مهمته وتنفيذ دوره الخطير على أحسن وجه مستعيناً بإنجازات العلم الحديث ومكاسب الإنسانية الجبارة.
وفي الانتظار
ونحن نعيش الآن في عصر الغيبة، حيث اقتضت حكمة اللَّه تعالى أن يحتجب عنا الإمام القائد وأن يتأجل خروجه.
ولكن هل تعني غيبة الإمام عقد هدنة بين الحق والباطل، وتجميد الصراع ووقف إطلاق النار في ساحة المعركة بينهما؟
هل أنهى الباطل نشاطه، وتنازل الحق عن دوره في هذه الفترة الطويلة؟ أم أن الصراع لا يزال مستمراً بين جبهتي الحق والباطل؟
لا يستطيع أحد أن يدّعي توقف الصراع، فالباطل لا يزال يواصل اعتداءاته، ويوسع نطاق عمله، ويجدد وسائله وأساليبه.
فهل يجوز أن يقف الحق أمامه مكتوف الأيدي معدوم النشاط يتفرج على انهيار مواقعه وتدمير قواه وطاقاته؟
وإذا كان الصراع بين الحق والباطل إنما يتم عبر اتباع كل منهما، فإن علينا أن نطرح السؤال بالشكل التالي:
هل أن أتباع الباطل متوقفون عن نصرة باطلهم ونشره ومدّ سيطرته ونفوذه؟ أم أنهم في عمل دائب مستمر لمقاومة الحق وإظهار الباطل في جميع الحقول وعلى كافة المستويات؟
وإذا كان أهل الباطل نشطين في خدمة باطلهم، والعمل من أجلهم، فهل يصح لأهل الحق أن يعلنوا الهدنة، وإنهاء المعركة من طرف واحد، ويستقبلون رماح الباطل وطعناته، ويسكنون عن اعتداءاته إلى ظهور القائد المنتظر؟
لا يمكن أبداً أن يكون هذا هو معنى الانتظار، ولا أن تكون هذه هي وظيفة المؤمنين في عصر الغيبة!
فمبادئ الإسلام التي تأمر بالدعوة إلى اللَّه وتوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحت على هداية الناس، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. هذه المبادئ مبادئ عامة وشاملة تسري على كل زمان، وتلزم كل جيل. وغيبة الإمام المهدي عليه السلام لا تعني نسخ هذه المبادئ ولا تجميد مفعولها.
يقول العلامة المظفر: (ومما يجدر أن نذكره في هذا الصدد، ونذكر أنفسنا به. أنه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهدي) أن يقف المسلمون مكتوفي الأيدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والأخذ بأحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بل المسلم أبداً مكلّف بالعمل بما أنزل من الأحكام الشرعية، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة. وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ما تمكن من ذلك وبلغت إليه قدرته (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). فلا يجوز له التأخر عن واجباته بمجرّد الانتظار للمصلح المهدي، والمبشر الهادي، فإن هذا لا يسقط تكليفاً، ولا يؤجل عملاً، ولا يجعل الناس هملاً كالسوائم)(69).
فما هو واجبنا في عصر الغيبة وفي انتظار الإمام القائد؟
1 - أن نجعل من أنفسنا شخصيات إسلامية واعية، على مستوى مواجهة التحديات المناوئة، وذلك بتعميق الوعي العقائدي، والالتزام بالسلوك الإسلامي الصحيح.
وإذا ما عرفنا قوة التحديات الفكرية المادية المعاصرة وحدة المغريات والمرغبات المتوفرة، أدركنا مدى مسؤولية الإنسان المؤمن وقيمة تمسكه والتزامه.
لذلك تعتبر الروايات الواردة عن الأئمة القادة (عليهم السلام) التزام المؤمن بإيمانه ومواجهته للتحديات المناوئة في عصر الغيبة. تعتبر ذلك جهاداً ونضالاً لا يقل عن جهاد صحابة الرسول الأعظم صلى اللَّه عليه وآله، فعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام: (من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا، أعطاه اللَّه عزّ وجلّ أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأحد).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: (طوبى لمن تمسك بأمرنا في غيبة قائمنا فلم يزغ قلبه بعد الهداية)(70).
وقد أكّد الإمام القائد المهدي عليه السلام في رسالة وجهها لأوليائه المؤمنين، عبر الشيخ المفيد (رحمه اللَّه)، أهمية الالتزام بالسلوك الصحيح، وعدم الانسياق خلف المغريات والشهوات المنحرفة. قال: (فليعمل كل امرئ منكم بما يقربه من محبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كل كراهتنا وسخطنا)(71).
وحينما يرفع الإنسان المؤمن وعيه إلى مستوى المواجهة، ويجعل سلوكه في مستوى المسؤولية في هذه الظروف الحرجة. فإنه بذلك يتفوق في فضله ومكانته على جميع الأجيال المؤمنة السابقة. كما ينص على ذلك الإمام زين العابدين عليه السلام بقوله: (إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته، والمنتظرين لظهوره، أفضل من أهل كل زمان، لأن اللَّه تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة، ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة العيان، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول اللَّه بالسيف، أولئك المخلصون حقاً والدعاة إلى دين اللَّه سرًّا وجهراً)(72).
2 - تهيئة النفس وتربيتها على التضحية والبذل والجهاد في سبيل اللّه.
فإن نفس الإنسان لا تتغير فجأة، ولا تتحول في لحظة واحدة لتصبح نفسية باذلة معطاءة مستعدة للجهاد والتضحية، بل على الإنسان على أن يربي نفسه ويهيئها مبكراً لينجح في لحظة الامتحان وفي وقت الحاجة، وإلا فسيخسر نفسه ويضيع الفرصة، ويكون من الهالكين.
والمؤمن الذي يعيش في عصر الغيبة، منتظراً لخروج الإمام القائد وظهوره لابدّ وأن يهيئ نفسه لاستقبال الإمام، والانضمام إلى جبهته، والعمل تحت لوائه.
وهذا لا يتأتى للإنسان إذا لم يرب نفسه ويهيئها من الآن للساعة المنتظرة قبل أن تأتي تلك الساعة وهو يفقد زمام نفسه وتخونه إرادته.
ولأن موعد الظهور مجهول لدى الإنسان المؤمن فيجب أن يكون على أُهبة الاستعداد دائماً وأبداً، ويتوقع الأمر في كل لحظة.
فقد سئل الرسول الأكرم صلى اللَّه عليه وآله: يا رسول اللَّه متى يخرج القائم من ذريتك؟
فقال صلى اللَّه عليه وآله: (مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلاّ الله عزّ وجلّ، لا تأتيكم إلا بغتة)(73).
وفي حديث للإمام الصادق عليه السلام: (عندها تتوقعون الفرج صباحاً ومساءً)(74).
وعن الإمام المهدي المنتظر عليه السلام: (إن أمرنا بغتة فجأة)(75).
ولكن كيف يهيئ الإنسان نفسه للتضحية والجهاد استعداداً لخروج الإمام المنتظر؟
أ - تغذية النفس بالثقافة الدينية الواعية، التي تحث الإنسان وتجند كل مشاعره وأحاسيسه باتجاه البذل والتضحية والعطاء، كالقرآن الكريم ونهج البلاغة، وأحاديث أهل البيت عليه السلام، وتعاليهم.
فهاك - مثلاً - أدعية رائعة يستحب للمؤمن أن يكررها في عصر الغيبة، كدعاء (العهد) الذي يكرس في نفس الإنسان حب التضحية وإرادة البذل والجهاد، ولذلك يستحب قراءته كل يوم صباحاً.
واقرأ معي هذه الفقرات المقتطفة من هذا الدعاء العظيم:
(اللهم بلّغ مولانا الإمام الهادي المهدي القائم بأمرك (صلوات اللَّه عليه وعلى جميع آبائه الطاهرين) عن جميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها، سهلها وجبلها وبرها وبحرها. وعني وعن والديّ من الصلوات زنة عرش اللَّه، ومداد كلماته، وما أحصاه علمه، وأحاط به كتابه.
اللهم إني أجدد في صبيحة يومي هذا، وما عشت من أيامي عهداً وعقداً وبيعة له في عنقي، لا أحول عنها ولا أزول أبداً.
اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه، والمسارعين إليه في قضاء حوائجه، والمتمثلين لأوامره، والمحامين عنه، والسابقين إلى إرادته، والمستشهدين بين يديه.
اللهم إن حال بيني وبينه الموت الذي جعلته على عبادك حتماً مقضياً فأخرجني من قبري مؤتزراً كفني، شاهراً سيفي، مجرّداً قناتي، ملبياً دعوة الداعي في الحاضر والبادي.
اللهم أرني الطلعة الرشيدة، والغرة الحميدة، وأكحل ناظري بنظرة مني إليه، وعجل فرجه وسهل مخرجه وأوسع ومنهجه واسلك بي محجته وأنفذ أمره واشدد أزره)(76).
وفي دعاء الافتتاح الذي تستحب قراءته كل ليلة من ليالي شهر رمضان المبارك، مناطق تهز وجدان المؤمن وتشعره بسوء الواقع الأليم الذي يعيشه في غياب سلطة الحق والعدل، وتجعله يتشوق إلى التضحية والعطاء في سبيل اللَّه، كما يتضح ذلك من تأمل الجمل التالية:
(اللَّهُمَّ إِنَّا نَرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ تُعِزُّ بِها الإسْلامَ وَأِهْلَهُ وَتُذِلُّ بِها النِّفَاقَ وَأَهْلَهُ وَتَجْعَلُنَا فِيْهَا مِنَ الدُّعَاةِ إلَى طَاعَتِكَ والْقَادَةِ إلَى سَبِيلِكَ وَتَرْزُقُنَا بِها كَرَامَةَ الدُّنْيا والآخِرَةِ.
اللَّهُمَّ ما عَرَّفْتَنَا مِنَ الْحَقِّ فَحَمِّلْنَاهُ ومَا قَصُرْنَا عَنْهُ فَبَلِّغْنَاهُ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنَا صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وآلِهِ وَغَيْبَةَ وَلِيِّنَا وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا وَقِلَّةَ عَدَدِنَا وَشِدَّةَ الْفِتَنِ بِنَا وَتَظَاهُرَ الزَّمَانِ عَلَيْنَا فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَعِنَّا عَلى ذَلِكَ بِفَتْحٍ مِنْكَ تُعَجِّلُهُ وَبِضُرٍّ تَكْشِفُهُ وَنَصْرٍ تُعِزِّهُ وَسُلْطَانِ حَقٍّ تُظْهِرُهُ وَرَحْمَةٍ مِنْكَ تُجَلِّلُنَاهَا وَعَافِيَةٍ مِنْكَ تُلْبِسْنَاهَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.
اللهم برحمتك في الصالحين فأدخلنا… وقَتْلاً في سَبِيْلِكَ فَوَفِّقْ لَنَا)(77).
أرأيت كيف أن هذه الأدعية تربي المؤمن وتشوقه للتضحية حتى تصبح الشهادة في سبيل اللَّه أمنية يدعو اللَّه لتحقيها؟!
ب - الممارسة الفعلية للعطاء والتضحية في سبيل اللَّه حسب الإمكانات والظروف، بالتبرع بالمال للفقراء والمحرومين.
فبالمساهمة في الأعمال والنشاطات الخيرية الإسلامية، وبالدفاع عن قضايا الحق والعدل في المجتمع، وبالاهتمام بشؤون الأمة وأحداث العالم.
وإلاّ فمن يبخل الآن بشيء من ماله، فسيصعب عليه غداً أن يجود بنفسه، ومن يتهرب اليوم عن المشاركة في مشاريع الخير، فسيكون أول المنهزمين فيما بعد عن ساحة النضال، والذي لا تهمه الأوضاع المعاصرة ولا يفكر في واقع أمته، سوف لا يتوقف في ذلك الوقت للعمل من أجل توحيد العالم تحت راية الإسلام.
ولا يكفي الرجاء والتمني بديلاً عن الممارسة الفعلية، فإن القرآن الكريم يحدثنا عن قوم اعتذروا عن البذل في سبيل اللَّه في ظرف ما، على أمل أن يتوفقوا للبذل في المستقبل، وحينما تتغير ظروفهم وتتحسن أحوالهم المادية. ولكنهم لم يتوفقوا لذلك فيا بعد، لأن نفسيتهم لم تمارس البذل، ولم تتشرب على العطاء.
يقو تعالى:
(وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّآ آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ)(78).
3 - التمهيد لظهور الإمام المهدي:
فالمهمة الأساسية للإمام المهدي حين خروجه هي: نشر الحق والعدل، وبناء دولة إسلامية عالمية لجميع البشر.
فعلى المؤمن أن يقوم بدور التمهيد لإنجاز هذه المهمة الخطيرة، وذلك ببث الوعي الإسلامي الصحيح على أوسع نطاق في العالم، وبتكوين نواة المجتمع الإسلامي الذي يهدف الإمام إلى تحقيقه.
فإذا ما بدأ المؤمنون مسيرة العمل والنضال من أجل تطبيق رسالة الله وترجمتها إلى واقع اجتماعي حيّ، فإن الإمام المهدي عليه السلام حيث خروجه سيكمل تلك المسيرة، ويتوجه بانتصاراته العالمية الحاسمة.
وهناك مجموعة روايات تشير إلى هذه الحقيقة، فقد روي عن النبي صلى اللَّه عليه وآله: (يأتي قوم من قبل المشرق ومعهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوه، فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطاً كما ملئت جوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج)(79).
وعن الإمام الباقر عليه السلام: (وكأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطونه ما سألوا، فلا يقبلون حتى يقيموا، ولا يدفعونها إلاّ إلى صاحبكم (يعني الإمام المنتظر) قتلاهم شهداء).
ومرّ علينا في رواية سابقة عن الإمام زين العابدين عليه السلام وهو يتحدث عن المؤمنين في عصر الغيبة قوله عليه السلام: (أولئك هم المخلصون حقاً، والدعاة إلى اللَّه سرًّا وجهراً).
اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم.
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(1) سور البقرة، الآية 30.
(2) سورة الأنعام، الآية 65.
(3) سورة إبراهيم، الآية 32 - 34.
(4) سورة الإسراء، الآية 70.
(5) سورة البروج، الآية 1 - 80.
(6) مروج الذهب، للمسعودي.
(7) الحوادث، عدد 926، ص29.
(8) نعم للإسلام، السيد هادي المدرسي، ص25.
(9) النهار، 1975م.
(10) السياسة الكويتية، 25/ 4/ 1975م.
(11) القبس الكويتية، 24 أغسطس 1975م.
(12) راجع كتاب: العقوبات في الإسلام، للعلامة الحجة السيد صادق الشيرازي دام تأييده.
(13) مهمة الأنبياء في عصر الفضاء، للسيد هادي المدرسي، ص8.
(14) الروس قادمون، ص273.
(15) الحوادث اللبنانية، 9/ 5/ 1975م.
(16) الأسلحة الكيماوية والجرثومية، ص19.
(17) المصدر السابق.
(18) سورة الأنبياء، الآية 105.
(19) سورة غافر، الآية 51.
(20) سورة التوبة، الآية 33.
(21) سورة القصص، الآية 5.
(22) سورة الروم، الآية 6.
(23) سورة آل عمران، الآية 9.
(24) البيانات، ص116.
(25) المصدر السابق، ص161.
(26) مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد الثالث، ص161 - 162.
(27) الإمام المهدي، علي محمد علي الدخيل.
(28) الغيبة الصغرى، للسيد محمد الصدر، ص227.
(29) سيرة الأئمة وتأسيس الشيعة لعلوم الإسلام.
(30) جمع العلامة الصافي في كتابه القيم (منتخب الأثر) ما يزيد على ثلاثمائة حديث تدل على أن الأئمة بعد الرسول صلى اللَّه عليه وآله اثنا عشر.. من مختلف صحاح الحديث ومجاميعه ومسانيده.
(31) منتخب الأثر، ص322.
(32) منتخب الأثر، ص341.
(33) المصدر نفسه، ص343.
(34) المصدر نفسه، ص343.
(35) الإمام المهدي، ص126.
(36) منتخب الأثر، ص342.
(37) المصدر السابق، ص342.
(38) المصدر السابق، ص344.
(39) الإمام المهدي، ص127.
(40) المصدر السابق، ص127.
(41) منتخب الأثر، ص355.
(42) المصدر السابق، ص356.
(43) الإمام المهدي، ص132.
(44) الإسلام يتحدى، ص80.
(45) سورة المنافقون، الآية 11.
(46) سورة العنكبوت، الآية 14.
(47) دعاء الافتتاح.
(48) دعاء الندبة.
(49) للسيد رضا الهندي.
(50) للسيد صالح الحلي.
(51) سورة الملك، الآية 1 - 2.
(52) سورة الإنسان، الآية 2 - 3.
(53) سورة الأنبياء، الآية 35.
(54) سورة الأنفال، الآية 37.
(55) سورة العنكبوت، الآية 3.
(56) الإمام المهدي، ص104.
(57) الإمام المهدي، ص69.
(58) المصدر السابق، ص106.
(59) سورة التوبة، الآية 118.
(60) تاريخ الغيبة الكبرى، ص389.
(61) المصدر السابق.
(62) في انتظار الإمام، ص66.
(63) منتخب الأثر، ص47.
(64) منتخب الأثر، ص239.
(65) المصدر السابق، ص487.
(66) المصدر السابق، ص220.
(67) المصدر السابق، ص483.
(68) المصدر السابق، ص483.
(69) الشيخ محمد رضا المظفر، عقائد الإمامية.
(70) المصدر السابق، ص514.
(71) الغيبة الكبرى، ص427.
(72) المصدر السابق، ص448.
(73) الغيبة الكبرى، ص427 - 428.
(74) الغيبة الكبرى، ص427 - 428.
(75) الغيبة الكبرى، ص427 - 428.
(76) كتاب (الدعاء والزيارة) لآية اللَّه الإمام السيد محمد الشيرازي دام ظله.
(77) المصدر السابق.
(78) سورة التوبة، الآية 75 - 76.
(79) في انتظار الإمام، ص145.