عبير الرّحمة

عبير الرّحمة

مجموعة محاضرات تتناول جانباً من سيرة مولانا الإمام الحجّة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

تأليف: السيد صادق الحسيني الشيرازي

الفهرس

المقدّمة
سيرة الإمام الحجّة (عجل الله فرجه) في الحكم
الأحاديث الموضوعة
الرواية الأولى
الرواية الثانية
الرواية الثالثة
الرواية الرابعة
الرواية الخامسة
الرواية السادسة
المناقشة
آفة الأحاديث، الوضع
أمين الإسلام الطبرسي يرد اعتبار هذه الروايات
الروايات الصحيحة
الرواية الأولى
الرواية الثانية
الرواية الثالثة
الرواية الرابعة
الرواية الخامسة
الرواية السادسة
الرواية السابعة
روايات أُخر
التعارض بين الروايات
نماذج من سيرة النبي والإمام أمير المؤمنين
أسلوب الإدارة عند الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)
العلاقة بين الإمام وعمّاله
قضاء الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)
مسؤوليتنا في عصر الغيبة
الفرق بين الواجب والرغبة
قصة وعبرة
ما يحول دون تشرفنا بلقاء الإمام المهدي (عليه السلام)
الاقتداء بالسلف الصالح
عنصرين وثلاثة مقدمات
رسائل الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) للشيخ المفيد (قدّس سرّه)
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
تدبّر في بعض كلمات الرسالة
كيف تلقى الشيخ المفيد رسائل الإمام؟
عظمة الشيخ المفيد
منزلة الشيخ المفيد عند العامة
الإمام ينعى الشيخ المفيد
تحمل الشيخ المفيد لمسؤوليته
ملاحظات.. وإجابات
الملاحظات
الإجابات

المقدّمة
بسم الله الرحمن الرحيم

من الواجبات العامّة الملقاة على عاتق جميع المسلمين، معرفة إمام زمانهم ثمّ طاعته، وأهمّ ما يُستدلّ به في هذا المجال من الأدلّة النقلية الحديث المتواتر: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)(1).
فمن يرحل عن هذه الدنيا - طبقاً لهذا الحديث - دون معرفة إمام زمانه، فإنّ ميتته تكون كميتة من قضى على عهد الجاهلية، وكأن لم يربطه بالإسلام أيّ رابط.
ومما لا ريب فيه أنّ إمام زماننا هو الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) الذي شُحنت بذكره كتب المسلمين على الإطلاق من خلال الأحاديث والروايات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وهذا الحديث معتبر جدّاً ويرى تواتره كلا الفريقين الشيعة ومخالفوهم. قال عنه الشيخ المفيد - وهو من كبار علمائنا - في كتابه النفيس (الإفصاح: ص 28، قبل ذكره الحديث: (فهو المتواتر عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)).
كما قال في رسالة باسم (الرسالة الأولى في الغَيبة): ج1، ص12، (ط. دار المفيد - بيروت) ردّاً على من شكّك فيه: (بل هو خبر صحيح يشهد له إجماع أهل الآثار).
وقد ورد هذا الحديث في مصادر العامّة بألفاظ مختلفة. راجع: المعجم الكبير للطبراني، ج 19 ص 388 (ط 2. دار إحياء التراث العربي - بيروت)؛ حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني: ج 3 ص 224؛ مجمع الزوائد لأبي بكر الهيثمي: ج 5 ص 218 (ط. دار الكتب العلمية - بيروت)؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 1 ص 103 ح 463 و464 (ط. مؤسّسة الرسالة - بيروت).

(٥)

والآثار التي بيّنت سمته وصفته وحسبه ونسبه؛ فقد صرّحت الأحاديث بأنّ اسمه اسم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، وبأنّه الإمام الثاني عشر، وأنه آخر الأئمة، وأنّه من ولد عليّ وفاطمة (سلام الله عليهما), وأنه ابن الإمام الحسن العسكري (سلام الله عليه)(2)، فهو الوحيد الذي تنطبق عليه مواصفات الإمام المفترض الطاعة. وهو حيّ يُرزق غيّب بأمر الله ومشيئته(3)، وهو شاهد على أعمال البشر وسلوكهم، لاسيّما المؤمنين منهم، وأنّ الله تعالى ادّخره ليستنقذ به المستضعفين، ويهدي الجاهلين، ويضع حدّاً قاطعاً لظلم الظالمين وتجبّر المتجبّرين، إن شاء الله تعالى.
ولكن ممّا يؤسف له أنّ غياب المعرفة الصحيحة في تناول سيرة الإمام المنتظر (سلام الله عليه) بعد ظهوره المشرق، والجهل أو الخلط في تحليل الأحاديث والروايات والآثار الواردة في هذا الشأن، فضلاً عن المكذوب أو المدسوس من الروايات المزعومة، حدت بالبعض إلى تصوّر الأوهام وكيل "ما هي تهمٌ في الواقع" إليه (عجّل الله تعالى فرجه)، والتي لا تصحّ نسبتها حتى إلى الفرد العادي!
من هنا يعرض هذا الكتاب جانباً من رؤى المرجع الجليل آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي دام ظلّه فيما يخصّ السيرة المهدويّة حيث يردّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) انظر شرح إحقاق الحقّ للمرعشي النجفي: ج13(ط. منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي)، ففيه ما يغني.
(3) صرّحت بذلك الأحاديث الكثيرة التي أشارت إلى عمره المديد، وأن المؤمنين فقط سيستقيمون على الإيمان بوجوده (سلام الله عليه). كما صرّحت بأن غيبته (عجّل الله تعالى فرجه) ستطول؛ انظر: دلائل الإمامة للطبري: ص 433-554.

(٦)

سماحته المزاعم التي تصوّر الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) بأنّه رجل قتل ودم، وكأنّ من مهمّته الإبادة والانتقام، ملفتاً النظر إلى دور الروايات التاريخية المدسوسة في بلورة هذا التصوّر المغلوط، عامداً إلى تمحيص أسانيد هذه الروايات وبيان مدى سقمها، ليخرج بتحليل علمي دقيق مفاده أنّ جميع تلك المرويّات إن لم تكن واهية من الأساس، فمطعون في بعض رجال سندها وإن أُقحم فيهم - إلى جنب الكذّابين والمزوّرين - بعض الثقات المعوّل عليهم في صحّة الأخبار ووثاقتها.
كما يلفت سماحته بعد ذلك إلى أهمية أن يعرف الإنسان المؤمن ما هي المسؤولية الملقاة على عاتقه في عصر الغيبة، وينبّهه إلى أنّ معرفة الواجب مقدّمة على الرغبة التي تساور كثيراً من المؤمنين في التشرّف بلقاء الإمام
صلوات الله عليه - فرغم أنّ من نالوا هذا الشرف العظيم هم في الغالب ممن يعون المسؤولية ويعملون بها، إلا أنّ من الأفضل والأكمل القول بضرورة الجمع بين الإصرار على تحمّل المسؤولية وبين الطموح إلى التشرّف بلقائه صلوات الله وسلامه عليه - مشيراً إلى أنّ التزام المحبّين بما تملي عليهم المسؤولية في العمل بالواجبات وترك المحرّمات، سيجعلهم يحظون بلطف ورعاية الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)، كما حظي الشيخ المفيد (رحمه الله) وبعض المؤمنين من قبل بذلك.
لقد تشرّفت مؤسّسة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) الثقافية بنشر بعض هذه الرؤى والبحوث الصادرة عن سماحة آية الله العظمى السيّد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في مناسبات مختلفة، في كتاب أسمته: عبير الرحمة. ولأهميّة

(٧)

هذا الموضوع عمدت المؤسّسة إلى إعادة طبع الكتاب مضيفة إليه بحوثاً أخرى لسماحته تتعلّق بالموضوع نفسه مثل رسائل الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) للشيخ المفيد (رحمه الله) وبيان أنّ - الواجب وهو الالتزام بأوامر الشريعة والعمل بالوظيفة - مقدّم على السعي في التشرّف بلقاء الإمام (عجّل الله تعالى فرجه). فجاء الكتاب في ثلاثة فصول:
الفصل الأوّل: يتعلّق بسيرة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) بعد الظهور في التغيير وبسط النفوذ وتأسيس الدولة، وأسلوبه في الإدارة، ومنهجه في القضاء.
الفصل الثاني: مسؤوليتنا في عصر الغيبة.
الفصل الثالث: رسائل الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) للشيخ المفيد.
وفي الختام ملحق أوردنا فيه بعض الملاحظات التي وردتنا من أحد الإخوة المؤمنين بعد مطالعته الكتاب في طبعته الأولى، مع الإجابات التي تلقّيناها بشأنها من مكتب سماحة السيد المرجع حفظه الله، إتماماً للفائدة، ومن الله تعالى نستمدّ العون والتوفيق.

مؤسسة الرسول الأكرم الثقافية

(٨)

سيرة الإمام الحجّة (عجل الله فرجه) في الحكم ومطابقتها لسيرة النبيّ والإمام أمير المؤمنين صلى الله عليهما وآلهما
لقد دأب كثيرون - مع الأسف - على رسم صورة عنيفة وفظّة عن الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه) في عصر ظهوره، معتقدين أنّه سيؤسّس دولته وينشر سلطانه بإعمال السيف في الناس وإهراق دمائهم، مستندين في ذلك إلى ما تضمّنته بعض الروايات الموضوعة(4) والتي تذكر أنّ الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه) سيأخذ الناس بالشدّة والعنف عند ظهوره لدرجة أنّهم يتمنّون لو كان بينهم وبينه أمد بعيد حتّى لا يتسلّط عليهم!! بينما ثمّة روايات أخرى تذكر أنّه سيشكّك كثير من الناس في انتسابه إلى الدوحة المحمدية بسبب ما يرون من سيرته العنيفة في الحكم.
ولنستعرض جملة من هذه الروايات أوّلاً لمناقشتها، ثمّ نذكر الروايات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) التي ستعرف حالها وحال رواتها لاحقاً.

(٩)

الصحيحة التي تقول بمطابقة سيرة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) مع سيرة أجداده الكرام لاسيّما جدّيه النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، لنخلص بعد ذلك إلى أنّه حتى في حال تعارضها فالأصل المطابقة، وهذا ما ينسجم مع مفاهيم الدين الحنيف.

(١٠)

الأحاديث الموضوعة

كثيرة هي الأحاديث الموضوعة في مجال أسلوب الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) في إقامة دولته، ناهز عددها الخمسين حديثاً، نُسب سند أكثر من ثلاثين منها إلى شخص يُدعى محمد بن علي الكوفي، وهو وضّاع سيّئ الصيت اشتهر بعدم الثقة لدى العلماء.
ويستدلّ على عدم وثاقة محمد بن علي الكوفي هذا من قول الفضل بن شاذان(5) فيه: بأنّه (رجل كذّاب)(6).
وقال فيه في مناسبة أخرى: (كدت أن أقنت عليه)(7) أي أوشكت أن أدعو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) وهو من أعاظم الرواة والشخصيات الشيعية والذي لا تشوب عظمة منزلته وجلال قدره أيّة شائبة، حتّى روي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قوله فيه: (أغبط أهل خراسان لمكان الفضل وكونه بين أظهرهم) راجع ترجمته في اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي: ج2 ص820 رقم 1027 (ط. مؤسّسة آل البيت)، ورجال ابن داود: ص151 رقم 1200 (ط. الحيدرية - النجف الأشرف).
(6) اختيار معرفة الرجال: ج2 ص823 رقم 1033. وعدّه من أشهر الكذّابين.
(7) خلاصة الأقوال للعلامة الحلي: ص398 رقم 29 (ط. الحيدرية - النجف الأشرف).

(١١)

عليه في قنوتي.
وفيما يلي نستعرض بعضاً من هذه الروايات:
الرواية الأولى:
(... بإسناده رفعه إلى أبي بصير عن أبي جعفر (سلام الله عليه) في خبر طويل، إلى أن قال:
وينهزم قومٌ كثير من بني أميّة حتى يلحقوا بأرض الروم فيطلبوا إلى ملكها أن يدخلوا إليه. فيقول لهم الملك: لا ندخلكم حتى تدخلوا في ديننا وتنكحونا وننكحكم وتأكلوا لحم الخنازير وتشربوا الخمر وتعلّقوا الصلبان في أعناقكم والزنانير في أوساطكم، فيقبلون ذلك فيدخلونهم.
فيبعث إليهم القائم (عليه السلام) أن أخرجوا هؤلاء الذين أدخلتموهم.
فيقولون: قومٌ رغبوا في ديننا وزهدوا في دينكم.
فيقول (عليه السلام): إنّكم إن لم تخرجوهم وضعنا السيف فيكم.
فيقولون له: هذا كتاب الله بيننا وبينكم.
فيقول: قد رضيت به.
فيخرجون إليه، فيقرأ عليهم، وإذا في شرطه الذي شرط عليهم أن يدفعوا إليه من دخل إليهم مرتدّاً عن الإسلام ولا يردّ إليهم من

(١٢)

خرج من عندهم راغباً إلى الإسلام.
فإذا قرأ عليهم الكتاب ورأوا هذا الشرط لازماً لهم، أخرجوهم إليه، فيقتل الرجال ويبقر بطون الحبالى ويرفع الصلبان في الرماح...)(8).
الرواية الثانية:
عن كتاب الغيبة للنعماني وطبقاً للأسانيد التالية:
(عن علي بن الحسين(9) عن محمد بن يحيى العطار, عن محمد بن الحسن الرازي (غير معروف) عن محمد بن علي الكوفي, عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي, عن عبد الله بن بكير, عن أبيه, عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (سلام الله عليه): أيسير (الحجّة) بسيرة محمّد (صلّى الله عليه وآله)؟ فقال:
هيهات، هيهات يا زرارة ما يسير بسيرته!
قلت: جُعلت فداك لِمَ؟
قال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سار في أمّته بالمنّ؛كان يتألّف الناس، والقائم يسير بالقتل)(10).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8) بحار الأنوار، ج52، ص388, ح206, باب سيره وأخلاقه وخصائص زمانه (ط. مؤسّسة الوفاء- بيروت).
(9) والد الشيخ الصدوق.
(10) الغيبة للنعماني: ص231 ح 14.

(١٣)

الرواية الثالثة:
وهي عن محمد بن علي الكوفي, عن البزنطي, عن العلاء، عن محمد؛ قال: سمعت أبا جعفر (سلام الله عليه) يقول:
(لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج، لأحبّ أكثرهم أن لا يروه؛ ممّا يقتل من الناس...
... حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد (صلّى الله عليه وآله). لو كان من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) لرحم)(11).
وما ذلك إلّا بسبب إسرافه في القتل! وكأنّ هذه الرواية تتحدّث عن الحجّاج بن يوسف الثقفي!!
الرواية الرابعة:
عن محمد بن علي الكوفي, عن البزنطي, عن عاصم بن حميد الحنّاط, عن أبي بصير قال:
قال أبو جعفر (سلام الله عليه):
(ليس شأنه إلا بالسيف، لا يستتيب أحداً)(12).
الرواية الخامسة:
محمد بن علي الكوفي، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن أبي حمزة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11) الغيبة للنعماني: ص233 ح18.
(12) المصدر نفسه: 233 ح19.

(١٤)

البطائني(13)، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (سلام الله عليه) أنّه قال:
(ما تستعجلون بخروج القائم! فوالله... وما هو إلا السيف، والموت تحت ظلّ السيف)(14).
الرواية السادسة:
عن علي بن أبي حمزة البطائني، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (سلام الله عليه) أنّه قال:
(إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف ما يأخذ منها إلّا السيف)(15).
كان ما تقدّم بعض الروايات الواردة في هذا الشأن تنتهي كلّها إلى محمّد بن علي الكوفي والبطائني، وعدا الكوفي والبطائني، هناك غيرهما من الرواة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13) هو من المنحرفين، وكان شيخَ الواقفية قائلاً بختم الإمامة بالإمام موسى بن جعفر (سلام الله عليهما) وأنّه الإمام الغائب؛ فهو لا يؤمن أساساً بالإمام الثاني عشر. وروايته هذه تشبه روايات الكوفي في ظاهرها، وهذا الرجل هو الذي قال في حقّه أبو الحسن الرّضا (عليه السلام) - لإنكاره إمامته (عليه السلام) -: (ثم ضرباه بمقمعة من نار فألهبا عليه قبره إلى يوم القيامة). انظر مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب: ج3 ص449 (ط. الحيدرية - النجف الأشرف) أي، أنّه يحترق في قبره منذ أكثر من 1200 عام! فكيف نقبل روايته!
(14) غيبة الطوسي: ص459-460, ح 473، في ذكر طرف من العلامات الكائنة قبل الخروج: الخرائج والجرائح للراوندي: ج3، ص1155 ح 61 (ط. مؤسّسة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)).
(15) الغيبة للطوسي: ص277؛ الخرائج والجرائح: ج3، ص1155, ح 61؛ غيبة النعماني: ص234.

(١٥)

لهذا النوع من الروايات، التي لا اعتبار لها.
المناقشة:
بالإضافة للإشكالات الواردة في أسانيد هذه الروايات؛ لوجود أمثال محمد بن علي الكوفي وعلي بن أبي حمزة البطائني فيها، فهي أيضاً تتناقض وأساسيات الدين والشرع، ولا يمكن قبولها وتبريرها.
فمن المعلوم أنّ مهمّة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه) هي إقامة العدل وطيّ بساط الظلم والجور. وعلى هذا الأساس، فمن غير المعقول أن يحقّق الإمام (سلام الله عليه) العدل بسلوك طريق الظلم، أو أن يحيي سنّة جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين علي (سلام الله عليه) بإحياء البدع. فسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تحرّم بوضوح إقامة الحدّ على المرأة الحامل، بينما نرى هذه الروايات تنسب إلى الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) أنّه يفعل ذلك - والعياذ بالله - مع المرأة الحامل التي تضطرّ للدخول في الدين المسيحي خوفاً ورهبة منه! وذلك حسب رواية محمّد بن علي الكوفي.
ينبغي أن نعلم أوّلاً أنّ سيّدنا ومولانا المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه) إمام، وهو أدرى من أيّ فرد آخر بأحكام الإسلام التي تنصّ على أنّه في حال ارتكاب الحامل أية جريمة توجب عليها الحدّ، كأن تكون زنت مثلاً وشهد أربعة شهود عدول على ذلك - فمع هذا - يحرم إقامة الحدّ عليها ما لم تضع حملها. فهل يعقل أن يقوم الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) بهذا الانتهاك الفاضح للشريعة الإسلامية - وهو الأعلم بها والأحرص عليها - فيبقر بطون الحبالى اللواتي اضطررن للدخول في الدين المسيحي؟ أليست هذه الرواية من المصاديق

(١٦)

الواضحة للكذب؟
وهكذا الحال بالنسبة للرواية الثانية - والروايات الأخرى المتقدّمة - إذ علاوة على ضعف سندها، فإنّها تناقض الروايات الصحيحة التي تتحدّث عن محاكاة سيرة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) لسيرة جدّه الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) والتي سنذكرها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
إنّ هذه الافتراءات المنسوبة إلى الإمام المعصوم (سلام الله عليه) من قِبل بعض الوضّاعين مرفوضة جملة وتفصيلاً، لأنّنا لو فرضنا أنّ وضّاعاً افترى على مؤمن بأقلّ من هذا لما قبلناه منه ولا سمحنا بنقله، فكيف إن كان الافتراء بتهمة إعمال القتل الفظيع على يد الإمام المعصوم (سلام الله عليه)؟!
والمسألة المثيرة هنا أنّ محمد بن علي الكوفي هذا كان ينسب أكاذيبه إلى الثقات من الرواة حتى يضفي عليها بعض المصداقية، وهو ما يظهر جلياً من خلال دسّ أسامي بعض الثقات في سلسلة أسانيده، كما ذكر الحسن بن محبوب في الرواية الخامسة، وغيره في غيرها.
آفة الأحاديث، الوضع
من الأساليب التي انتهجها أعداءُ أهل البيت (سلام الله عليهم) تزويرهم للأحاديث وتحريفها أو وضع أحاديث ونسبتها إليهم، ليقع بذلك التحريف في المعارف والمفاهيم الإسلامية الصحيحة، وليسقطوا أيضاً العترة الطاهرة من أعين الناس؛ عبر إلصاق مثل تلك الصور المزيّفة بهم، فيحصل لهم ما يتمنّونه، وهو إبعاد الناس عن التمحور حول آل البيت النبوي الشريف.

(١٧)

وما أكثر الأكاذيب التي افتراها الوضّاعون ونسبوها للأئمة الأطهار (عليهم السلام) وخاصّة للإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام)، والتمعّن في الروايات أدناه يكشف عن ذلك:
روي عن الإمام الصادق (سلام الله عليه) أنّه قال:
(فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فإنّا إذا حدّثنا قلنا: قال الله عزّ وجل، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم))(16).
(قال يونس: وافيت العراق، فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (سلام الله عليه)، ووجدت أصحاب أبي عبد الله (سلام الله عليه) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا (سلام الله عليه)، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله (سلام الله عليه)، وقال لي:
إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبدالله (عليه السلام)، لعن الله أبا الخطّاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب، يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام)...)(17).
وعن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله (سلام الله عليه) يقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16) اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي: ج2 ص 489 رقم 401 ترجمة المغيرة بن سعيد.
(17) المصدر نفسه: ج2 ص 489 رقم 401.

(١٨)

(كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ثمّ يدفعها إلى أصحابه)(18).
هذان نموذجان من المزوّرين والكذّابين الذين ابتُليت بهم الأمّة الإسلاميّة. وما في بطون الكتب من أمثالهما ما لا يسع المجال ذكرهم.
أمين الإسلام الطبرسي يردّ اعتبار هذه الروايات
قال الشيخ الطبرسي(19) في كتابه إعلام الورى:
قالوا: إذا حصل الإجماع على أن لا نبي بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنتم قد زعمتم أنّ القائم (عجّل الله تعالى فرجه) إذا قام لم يقبل الجزية من أهل الكتاب، وأنّه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقّه في الدين، ويأمر بهدم المساجد والمشاهد، وأنّه يحكم بحكم داود (عليه السلام) لا يسأل عن بيّنة، وأشباه ذلك مما ورد في آثاركم، وهذا يكون نسخاً للشريعة وإبطالاً لأحكامها، فقد أثبتّم معنى النبوّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18) المصدر نفسه: ج 2 ص 491 رقم 402.
(19) هو أمين الدين أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل(ت: 548هـ) فقيه ومحدّث ومفسّر ولغويّ إماميّ عرف بالشيخ الطبرسي، وهو أبرز علماء الشيعة في القرن السادس الهجري، ولده الحسن بن الفضل صاحب كتاب (مكارم الأخلاق) وحفيده علي بن الحسن صاحب كتاب (مشكاة الأنوار)، جميعهم جهابذة. راجع ترجمته في روضات الجنات للخونساري: ج 5 ص 342- 349؛ وطبقات أعلام الشيعة: ص 216و217 أعلام القرن السادس.

(١٩)

وإن لم تتلفّظوا باسمها، فما جوابكم عنها؟
الجواب: إنّا لم نعرف ما تضمّنه السؤال من أنّه (سلام الله عليه) لا يقبل الجزية من أهل الكتاب، وأنه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقه في الدين؛ فإن كان ورد بذلك خبر، فهو غير مقطوع به.
فأمّا هدم المساجد والمشاهد؛ فقد يجوز أن يختصّ بهدم ما بُني من ذلك على غير تقوى الله تعالى وعلى خلاف ما أمر الله سبحانه به، وهذا مشروع قد فعله النبي (صلّى الله عليه وآله).
وأما ما روي من أنّه (عجّل الله تعالى فرجه) يحكم بحكم آل داود لا يسأل عن بيّنة؛ فهذا أيضاً غير مقطوع به، وإن صحّ، فتأويله أن يحكم بعلمه فيما يعلمه، وإذا علم الإمام أو الحاكم أمراً من الأمور فعليه أن يحكم بعلمه ولا يسأل عنه، وليس في هذا نسخ الشريعة...)(20).
فالطبرسي - الذي يعدّ من أشهر علماء الحديث - يردّ اعتبار الروايات التي تفيد استخدام الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) للعنف بتلك الصُّور الفظّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(20) بحار الأنوار: ج52، باب 27، ص381 - 382.

(٢٠)

الروايات الصحيحة

ثمّ إنّ هناك أدلّة تدحض تلك الأقاويل، وهي الأحاديث الصحيحة والمعتبرة الواردة في هذا الشأن، والتي تنقل صورة مغايرة تماماً لما أوردته الروايات السابقة، حيث تؤكّد الروايات الصحيحة - بما لا يقبل اللبس والغموض - على مطابقة نهج الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) في الحكم لنهج جدّيه النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين عليّ (سلام الله عليه)، ونستعرض هاهنا بعضاً من هذه الروايات:
الرواية الأولى:
وهي صحيحة حماد بن عثمان التي نقلها الكليني عن البرقي عن أبيه عن محمد بن يحيى الخزاز عن حماد بن عثمان عن الإمام جعفر الصادق (سلام الله عليه) قال:
(إن قائمنا أهل البيت إذا قام لبس ثياب عليٍّ وسار بسيرة [أمير المؤمنين] عليٍّ)(21).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(21) الكافي، ج1، ص411 ح4.

(٢١)

الرواية الثانية:
وهي صحيحة محمد بن مسلم التي نقلها الشيخ الطوسي في (التهذيب) عن محمد بن الحسن الصفّار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن جعفر بن بشير ومحمد بن عبد الله بن هلال، عن العلا بن رزين القلا، عن محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (سلام الله عليه)، حيث سأله:
إذا قام القائم: بأي سيرة يسير في الناس؟ فقال الإمام:
(بسيرة ما سار به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى يُظهر الإسلام)(22).
الرواية الثالثة:
نقلها الشيخ المفيد(23) عن المفضل بن عمر عن الإمام جعفر الصادق (سلام الله عليه)، وكذلك وردت بسند آخر عن أبي عمر عن جميل بن دراج عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(22) تهذيب الأحكام:ج 6ص154 ح1 باب 70.
(23) حيث كان الشيخ المفيد قريب عهد بزمن الأئمة المعصومين (سلام الله عليهم)، فإنّه قد نقل رواياته عن كتب أصحاب الأئمة، وهو تارة يقول: (رَوى) وينسب الرواية إلى أصحاب الأئمة (سلام الله عليهم) مباشرة - هذا في حال نقله من كتبهم المسماة بـ (الأصول الأربعمئة) التي كانت بين أيديهم - وتارة يقول: (رُوي) إشارة منه إلى أنّ نقله غير مباشر. ومن جملة الرواة الذين روى عنهم هو (المفضّل بن عمر) الذي وقع الخلاف في توثيقه، علماً أن عدداً من جهابذة علم الرجال ينسبون بعض ما رواه إلى التقية، كما هو الأمر بالنسبة لبعض روايات زرارة، وعلى أيّة حال، وتبعاً للمشهور، فإنّ المفضّل ثقة اعتمده كثير من الفقهاء. راجع الإرشاد: ج2، ص216؛ اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي: ص248 ح2، ما روي في المفضّل بن عمر.

(٢٢)

ميسّر بن عبد العزيز عن الإمام الصادق (سلام الله عليه) قال:
(إذا أذن الله عزّ اسمه للقائم في الخروج، صعد المنبر، فدعا الناس إلى نفسه، وناشدهم بالله، ودعاهم إلى حقّه، وأن يسير فيهم بسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويعمل فيهم بعمله...)(24).
الرواية الرابعة:
وكذلك ورد وصف دقيق لسيرته (عجّل الله تعالى فرجه) في إحدى زياراته الشريفة التي نقلها السيد ابن طاووس رحمة الله تعالى عليه، حيث جاء فيها:
(السلام على الحقّ الجديد... والصادع بالحكمة والموعظة الحسنة والصدق..)(25).
ولا شكّ أنّ الإنسان إذا طالع هذه العبارة وحدها - دون ملاحظة ما سبقها ولحقها المخصّصَين للإمام (سلام الله عليه) - فإنّه سيظن بأنّ المقصود بها النبيّ الأكرم، لأنه (صلّى الله عليه وآله) ذُكر بمثل هذه العبارة مراراً.
الرواية الخامسة:
وهي رواية موثّقة وحسنة عن كتاب الغيبة للنعماني، وهذا نصّها:
عن ابن عقدة، عن علي بن الحسن (ابن فضّال) عن أبيه، عن رفاعة عن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(24) الإرشاد: ج2، ص382.
(25) مصباح الزائر: ص495 - 498.

(٢٣)

عبد الله بن عطاء قال: سألت أبا جعفر الباقر (سلام الله عليه) فقلت: إذا قام القائم (عجّل الله تعالى فرجه) بأيّ سيرة يسير في الناس؟ فقال (سلام الله عليه):
(يهدم ما قبله كما صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويستأنف الإسلام جديداً)(26).
أي كما أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هدم أركان الشرك واليهودية والنصرانية والمجوسية من قبل، فإنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) كذلك سيزيل عن الدنيا كلَّ ما ينطق ظاهره باسم الإسلام ويستبطن خلافه، ليؤسّس بعد ذلك للإسلام الحقيقي الأصيل دولته الحقّة.
ومن المعروف أنّ الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) وتنفيذاً لأوامر القرآن الكريم، في قوله تعالى: (فَبِما رَحْمَة مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَليظَ القَلْبِ لانْفَضّوا منْ حَوْلكَ)(27) هدّم ما قبله بالحسنى واللين، مستخدماً هذا النهج مع جميع الناس، وليس مع المسلمين وحدهم، وكذلك الأمر بالنسبة للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) الذي سيطبّق النهج ذاته مع المشركين، فكيف بالمسلمين؟!
الرواية السادسة:
رواها بأسانيد عديدة جمهرة من المتقدمين والمتأخرين أمثال الصدوق والخزاز القمي والطبرسي والإربلي وآخرين قدّست أسرارهم:
عن ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(26) كتاب الغيبة للنعماني: ص232 ح17.
(27) سورة آل عمران، الآية 59.

(٢٤)

(التاسع منهم [من أولاد الحسين (سلام الله عليه)] من أهل بيتي ومهديّ أمّتي، أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله)(28).
وهل ثمّة أظهر من كلمة (أشبه الناس بي في أفعاله) تدلّ على شبه الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) النبي (صلّى الله عليه وآله) في أفعاله؟
إذن سيسلك الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) مع الناس سلوك العفو والرحمة التامة في عصر ظهوره المبارك، كما سلك جده النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) مع كفار قريش بعد فتح مكّة المكرّمة، وكما تصرّف أمير المؤمنين (سلام الله عليه) مع مناوئيه.
الرواية السابعة:
عن البرقي، عن أبيه، عن محمد بن يحيى الخزاز، عن حماد بن عثمان، عن الإمام الصادق (سلام الله عليه) قال:
(غير أنّ قائمنا أهل البيت إذا قام لبس ثياب عليّ (عليه السلام) وسار بسيرة علي (عليه السلام))(29).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(28) راجع الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة: ص756 ح1 باب ما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ والشيخ الخزاز في كفاية الأثر: ص10 باب ما جاء عن ابن عبّاس عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في النصوص على الأئمّة الاثني عشر؛ والطبرسي في إعلام الورى بأعلام الهدى: ج2 ص183؛ والشيخ ابن ابي الفتح الأربلي في كشف الغمة: ج3 ص315.
(29) راجع الكافي: ج1 ص411 ح4.

(٢٥)

سند هذه الرواية صحيح لا تعتريه شبهة، وذلك لكون جميع رواتها من الثقات، كما أنّ مضمونها مطابق لسيرة المعصومين (سلام الله عليهم)، وهذا المضمون يشير إلى أنّ لظهور الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) في قلوب الناس عامّهم وخاصّهم، صغيرهم وكبيرهم محبّةً وشوقاً كبيرين.
روايات أُخر:
عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
(أبشّركم بالمهدي يُبعث في أمّتي على اختلاف من الناس وزلازل، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحاً).
فقال رجل: ما صحاحاً؟
قال (صلّى الله عليه وآله):
(بالسوية بين الناس، ويملأ الله قلوب أمّة محمد غنىً، ويسعهم عدله، حتى يأمر منادياً ينادي؛ يقول: من له في المال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل واحد فيقول: أنا. فيقول: إئت السادن "يعني الخازن" فقل له: إنّ المهدي يأمرك أن تعطيني مالاً، فيقول له: احثُ، حتى إذا جعله في حجره وأبرزه، ندم، فيقول: كنت أجشع أمّة محمّد نفساً؛ أعجز عمّا وسعهم. فيردّه ولا يقبل منه. فيقال له: إنّا لا نأخذ

(٢٦)

شيئاً أعطيناه)(30).
كما جاء في رواية أخرى عنه (صلّى الله عليه وآله):
(رجل من ولدي.. يرضى بخلافته أهل الأرض وأهل السماء، والطير في الجوّ)(31).
ومعلومٌ أنّ حبّ أهل الأرض إنّما يجتمع مع الرفق وما أشبه.
وعن أمير المؤمنين (سلام الله عليه) يصف سيرة ولده الحجّة الموعود بعد ظهوره:
(.. وتُخرج الأرض أفاليذ(32) كبدها، وتلقي إليه سلماً مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنّة)(33).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(30) بحار الأنوار: ج 51، ص74 ح23؛ ينابيع المودّة:ج3، ص344، مسند أحمد: ج3، ص37 (ط. دار صادر - بيروت)؛ البيان في أخبار صاحب الزمان: الباب10 ص505.
(31) كشف الخفاء للعجلوني: ج 2، ص288 ح2661؛ (ط. دار الكتب العلمية - بيروت).
(32) أفاليذ وأفلاذ: جمع فلذة، وهي القطعة من الذهب والفضّة وما عزّ.
(33) نهج البلاغة: ج2 ص 21خطبة 138 (ط. دار المعرفة - بيروت).

(٢٧)

التعارض بين الروايات

للعمل بقواعد التعارض، ينبغي أن نعلم أنّه لابدّ من توافر شروط التعارض والتي من أهمّها وثاقة سنديهما(34)، وعلى فرض صحّة سند كلا الحديثين، فإنّ إعمال الترجيح بينهما هو الذي سيكون حاكماً، حيث يتمّ عرضهما على الكتاب الكريم ومقارنتهما به، فيؤخذ بما يتطابق معه(35).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(34) لا أن يكون في سند أحدهما مثل محمد بن علي الكوفي الوضّاع، وفي الآخر علي بن إبراهيم ومحمد بن مسلم اللذان هما من الثقات المعتمدين عند الأئمة (سلام الله عليهم). فالمقارنة بين هذين السندين غير صحيحة عقلاً وشرعاً. وعليه؛ فإنّنا نواجه ومنذ الخطوة الأولى معضلة السند؛ وأيضاً فإنّ محمد بن علي الكوفي يرسم في رواياته عن الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) صورة السفّاح الذي يسرف في القتل ويعمّ الهرج والمرج في زمانه، بينما يقول الفقهاء إنّ الأحكام الشرعية تسقط في حال تسبّبها في إحداث الفوضى، فكيف للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) وهو المحيط بجميع جوانب الدين وأحكامه أن يتسبّب في الهرج والمرج؟ إذن؛ فقد انتفت منذ البداية مسألة التعارض وبطلت، وأنّى لشخصٍ كذّاب أن يعارض فطاحل علم الحديث وثقاته؟
(35) وفي المقام، يكون الرجحان - دون شك - لتلك التي تصرّح بتشابه سيرة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) مع سيرة جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين علي
سلام الله عليه، لأنّها تتماشى مع ما أمر به الرحمن في كتابه الكريم بقوله تعالى لنبيّه الأعظم (صلّى الله عليه وآله): (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَليظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ).

(٢٨)

ولو تجاوزنا هذه المرحلة وتبيّن لنا - على سبيل الفرض - أنّ كلتا الروايتين مطابقتان للكتاب، يأتي دور مطابقة الرواية مع ما ورد من السنّة القطعية. ثم يأتي دور عنصر الدلالة والظهور، فنختار الرواية الأصرح، وإذا كانتا متساويتين في هذين الجانبين أيضاً، نصل إلى مرحلة التساقط، بناءً على قاعدة (إذا تعارضا تساقطا)، فتكون الروايتان كأن لم تكونا من الأساس في هذا الشأن، وهذه قاعدة أُصولية فقهية معمول بها في باب تعارض الروايات عند الفقهاء. وبناءً على ذلك يكون الأخذ بالرواية الصحيحة السند والموافقة للكتاب والسنّة مأموراً به؛ ولذلك نرجع إلى أنّ سيرة الإمام المهدي
عجّل الله تعالى فرجه تطابق سيرة أجداده الكرام (سلام الله عليهم) لأنهم كلّهم نور واحد وأنّ شريعة الله تعالى واحدة، وأنه إذا أريد التعرّف على سيرة الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه)، فينبغي النظر إلى سيرة أجداده الكرام لاسيّما سيرة جدّيه الرسول الكريم والإمام أمير المؤمنين لنرى كيف كانت سيرتهما صلّى الله عليهما وآلهما.
نماذج من سيرة النبيّ والإمام أمير المؤمنين صلّى الله عليهما وآلهما
ما أكثر ما ورد في التاريخ وفي الروايات الشريفة بشأن مكارم أخلاق النبي وسيرته (صلّى الله عليه وآله) وبيان عدله وسموّ مجده، بل ها هو القرآن الكريم ينطق باللسان الأفصح عن سيرة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)، ويرسم له لوحة تعبّر عنها الآية الكريمة أصدق تعبير في قوله تعالى: (فبما رَحمةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ

(٢٩)

لهم ولَو كنتَ فظاً غليظَ القلبِ لانفَضّوا من حولكَ)(36).
وفي آية أخرى: (لقد جاءكُم رسول من أنفسكُم عزيزٌ عليهِ ما عنِتّم حريص عليكم بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيم)(37).
إنّ محبّة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) وشفقته على الآخرين كانت عظيمة لدرجة استغلّها بعض ضعاف النفوس من الأعداء كسلاح لمحاربته به، قال تعالى:
(ومنهم الذين يؤذونَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(36) سورة آل عمران، الآية 59.
(37) سورة التوبة، الآية 128.

(٣٠)

النبيّ ويقولونَ هو أُذُنٌ قل أُذُنُ خيرٍ لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمةٌ للذين آمنوا منكم)(38).
فقد ورد في تفسير هذه الآية الكريمة: أنّه كان سبب نزولها أنّ عبد الله بن نفيل كان منافقاً وكان يقعد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين وينمّ عليه، فنزل جبرئيل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا محمد، إنّ رجلاً من المنافقين ينمّ عليك وينقل حديثك إلى المنافقين. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من هو؟ فقال: الرجل الأسود الكثير شعر الرأس ينظر بعينين كأنّهما قِدران، وينطق بلسان شيطان. فدعاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأخبره. فحلف أنّه لم يفعل. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): قد قبلتُ منك، فلا تقعد. فرجع إلى أصحابه فقال: إنّ محمّداً أذُن؛ أخبره الله إنّي أنمّ عليه وأنقل أخباره فقبل، وأخبرته أنّي لم أفعل ذلك فقبل! فأنزل الله على نبيّه: (ومنهم الذين يؤذون النبيّ ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) أي يصدّق الله فيما يقول له، ويصدّقك فيما تعتذر إليه في الظاهر ولا يصدّقك في الباطن(39).
نعم، هذه هي سيرة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) وفعاله، والإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) يشبه جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله). وعليه، فإنه سيتبع خطى جدّه الكريم لا يحيد عنها قيد أنملة، حيث سيعامل الكافرين بالعدل، فكيف بالمسلمين؟ وهو الذي جاء أصلاً لإقامة أركان العدل، الذي يشكّل تطبيقه مطلباً طبيعياً وفطرياً للإنسان. لذا، فمن غير المعقول أن يسلك نهجاً ينفّر الناس عنه ويجعلهم يتمنّون لو لم يروه، أو أن يدفعهم إلى التشكيك في انتسابه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) بسبب ما يصدر عنه من العنف والشدّة.
كما أنّ المتمعّن في سيرة الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) يجد نفس العدل والرحمة في نهجه عندما يسمع كلمته الرائعة: (أتأمروني أن أطلب النصر بالجور)(40). ولا شكّ في أن يسلك الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) - وهو الثمرة الطيبة لهذه الشجرة المباركة - ذلك النهج ويقتفي آثار أجداده الأطهار الكرام، لا أن يقيم أسس حكمه على قواعد الشدّة والعنف.
إنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) هو امتداد وشبيه لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) في كلّ شيء عدا مقام النبوّة، وللإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) في كلّ شيء عدا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(38) سورة التوبة، الآية 61.
(39) راجع تفسير القمّي: ج1 ص300، مورد الآية.
(40) نهج البلاغة:ج2 ص 6، رقم 126 من كلام له (عليه السلام) لما عوتب على التسوية في العطاء.

(٣١)

مقام أبوّة الأئمّة (سلام الله عليهم)، فجدير بمن يحمل بين جنباته طهر الشجرة المباركة أن يكون الأمثل في تطبيق العدل والرحمة في دولته المباركة.
لقد دعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ربّه تعالى وسأله هدايته للجهلة من قومه. فحينما ترك المسلمون النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله) في معركة أحد وانساقوا وراء جمع الغنائم، واقتنص المشركون هذه الفرصة وحاصروا الرسول الأكرم وانهالوا عليه بسيوفهم ورماحهم حتى كسروا رباعيّته، قال (صلّى الله عليه وآله) داعياً ربّه المتعال: (اللهمَّ اهدِ قومي، فإنّهم لا يعلمون)(41).
وكذلك الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) تعرّض بدوره لأنواع الأذى والمضايقة خصوصاً في أيّام دولته، إذ طالما أصرّ أعداؤه ومناوئوه على انتهاك حرمته، والتظاهر ضدّه، ولكنه (سلام الله عليه) كان يردّ على ذلك بالرحمة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(41) بحار الأنوار: ج20، ص21. وهناك حادثة أخرى دعا النبي (صلّى الله عليه وآله) خلالها لقومه في الصفا، وذلك أثناء مراسم الحج في العصر الجاهلي، حيث كان المشركون عاكفين على تقديس آلهتهم، إذ رأوا محمّداً صلوات الله عليه وآله يبلّغ جموع الحجيج الغفيرة ويقول لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. الأمر الذي أثار غيظهم، فهاجموه يقصدون قتله، ورجموه بالحجارة، حتى سال الدم من جوانب جسده الشريف، وحينما سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) والسيدة خديجة الكبرى بالخبر، أسرعا إلى نجدته ومعالجة جراحاته العميقة والكثيرة.
وبخصوص ذلك، ورد في الرواية عن أمير المؤمنين (سلام الله عليه):
(.. ومحمد (صلّى الله عليه وآله) صبر في ذات الله وأعذر قومه إذ كُذّب وشُرّد وحُصب بالحصى، وعلاه أبو لهب بسلا شاة، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جابيل ملك الجبال: أن شقّ الجبال، وانتهِ إلى أمر محمد (صلّى الله عليه وآله)، فأتاه، فقال له: إنّي قد أمرت لك بالطاعة، فإن أمرتَ أطبقتُ عليهم الجبال فأهلكتهم بها. قال (صلّى الله عليه وآله): إنّما بعثت رحمةً، ربِّ اهدِ أمّتي فإنهم لا يعلمون). بحار الأنوار: ج17، ص275 - 276.

(٣٢)

والكفّ والحوار، ولم يحبّذ أبداً مواجهتهم بالعنف والاعتقال والقتل والإبادة، وكان هذا السلوك الطيّب والحكيم منه (سلام الله عليه) في الوقت الذي كانت فيه مقدّرات أعدائه ومعارضيه الاقتصادية والاجتماعية طوع يديه، ولو أراد قطْعها عنهم لقطعها تحت ذريعة جملة من مبرّرات الدولة واجتهادها في فعل أيّ شيء، ولكنّه أبى إلّا أن يسير في الناس بسيرة أخيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

(٣٣)

أسلوب الإدارة عند الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)

من خصوصيات الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) أنّه ينجح في الإمساك بالسلطة السياسية على العالم كلّه وتشكيل حكومة تسع المعمورة برمّتها، وهذا الأمر يتطلّب أخلاقيّات وأساليب إداريّة حكيمة وخاصّة يبلورها القادة والمسؤولون الرفيعون فيها، وعلى رأسهم الإمام نفسه.
ومن هذه الأساليب أن يكون المسؤول مع الناس والمساكين رؤوفاً رحيماً، بالقدر نفسه الذي يكون فيه حازماً وحسيباً على عمّاله والمسؤولين، فقد روي عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أنّه وصف الإمام الحجة (عجَّل الله تعالى فرجه) فقال:
(المهديّ جواد بالمال، رحيم بالمساكين، شديد على العمّال)(42).
و يقول الإمام أمير المؤمنين علي (سلام الله عليه) في هذا الشأن:
(ألا وفي غد - وسيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(42) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى: ص318 رقم 31.

(٣٤)

عمّالها على مساوئ أعمالها..(43))(44).
وستكون شدّته على نفسه قبل الجميع وفوق الجميع، ورغم أنّ الناس سينعمون بالرفاهية والطمأنينة في ظلّ حكومته، إلّا أنّه (عجّل الله تعالى فرجه) - ومحاكاةً لسيرة جدّه أمير المؤمنين (سلام الله عليه) - سيكتفي بلبس الخشن وأكل الجشب.
(فوالله ما لباسه إلا الغليظ ولا طعامه إلا الجشب)(45).
العلاقة بين الإمام وعمّاله
بيّن الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) في حديث شريف، نوع العلاقة بين الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) وبين عمّاله، واصفاً هذه العلاقة بأنّها عهد ثنائيّ، مؤكّداً أنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) سيمتحن في بداية ظهوره المبارك كلّ واحد من عماله ثلاث، مرّات ليتبيّن له صدق طاعته، ثمّ يقصد المدينة إلى حيث قبر جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فيتبعه أنصاره. ويعاود (سلام الله عليه) الكرّة في الحركة بين مكة والمدينة ثلاثاً حينما يشعرون بوجوده في المدينة.
روي عن الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) أنّه قال:
(وإني لأعرفهم وأعرف أسماءهم... يجمعهم الله عزّ وجلّ من مطلع الشمس إلى مغربها، في أقلّ من نصف ليلة، فيأتون مكّة، فيشرف عليهم أهل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(43) نهج البلاغة: ج2 ص 21 الخطبة 138.
(44) أي أنّ الإمام المهدي (سلام الله عليه) الذي لا ينتمي إلى طائفة الحكّام الظلمة سيؤاخذ ولاتهم على ما اقترفوه من الأعمال السيئة.
(45) الغيبة للنعماني: ص233. بحار الأنوار: ج52، ص354.

(٣٥)

مكّة فلا يعرفونهم. فإذا تجلّى لهم الصبح يرونهم طائعين مصلّين، فينكرونهم، فعند ذلك يقيّض الله لهم من يعرّفهم المهدي (سلام الله عليه) وهو مختفٍ، فيجتمعون إليه فيقولون له: أنت المهدي؟
فيقول: أنا أنصاري.
والله ما كذب، وذلك أنّه ناصر الدين.
ويتغيّب عنهم فيخبرونهم أنّه قد لحق بقبر جدّه (عليهما السلام)، فيلحقونه بالمدينة، فإذا أحسّ بهم رجع إلى مكة، فلا يزالون به إلى أن يجيبهم. فيقول لهم:
إني لست قاطعاً أمراً حتى تبايعوني على ثلاثين خصلة تلزمكم، لا تغيّرون منها شيئاً، ولكم عليّ ثمان خصال.
قالوا: قد فعلنا ذلك، فاذكر ما أنت ذاكر يا بن رسول الله.
فيخرجون معه إلى الصفا، فيقول:
أنا معكم على أن لا تولوا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا محرماً، ولا تأتوا فاحشة، ولا تضربوا أحداً إلا بحقّه، ولا تكنزوا ذهباً ولا فضّة ولا تبراً ولا شعيراً، ولا تأكلوا مال اليتيم، ولا تشهدوا بغير ما تعلمون، ولا تخرّبوا مسجداً، ولا تقبّحوا مسلماً ولا تلعنوا مؤاجراً إلا بحقّه، ولا تشربوا مسكراً، ولا تلبسوا الذهب ولا الحرير ولا الديباج، ولا تبيعوها رباً، ولا تسفكوا دماً حراماً، ولا تغدروا بمستأمن، ولا تبقوا على كافر ولا منافق، وتلبسون الخشن من الثياب، وتتوسدون التراب على الخدود، وتجاهدون في الله حقّ جهاده، ولا تشتمون،

(٣٦)

وتكرهون النجاسة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. فإذا فعلتم ذلك، فعليّ أن لا أتّخذ حاجباً، ولا ألبس إلا كما تلبسون، ولا أركب إلا كما تركبون، وأرضى بالقليل، وأملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وأعبد الله عز وجل حقّ عبادته، وأفي لكم وتفوا لي.
قالوا: رضينا واتّبعناك على هذا.
فيصافحهم رجلاً رجلاً)(46).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(46) شرح إحقاق الحق: ج29 ص 570.

(٣٧)

قضاء الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)
مسألة أخرى ما فتئت تطرح للمناقشة، ألا وهي طبيعة قضاء الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)، فثمة من يرى أنّه سيقضي بين الناس دونما حاجة إلى شهود وبيّنات، بل سيكون دليله ما ألهمه الله من علم الغيب، مستندين في استنتاجهم هذا إلى بعض الشواهد والأدلّة؛ من جملتها الأحاديث التي تفيد بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) سيحكم بين الناس ويبتّ في دعاواهم بعلمه وعلى طريقة حكم النبي داود (عليه السلام).
وفي ما يلي وقفة عند إحدى تلك الروايات:
عن عبد الله بن عجلان عن الإمام الصادق (سلام الله عليه) أنّه قال:
(إذا قام قائم آل محمد (عليهم السلام) حكم بين الناس بحكم داود، لا يحتاج إلى بيّنة، يلهمه الله فيحكم بعلمه)(47).
ويناقش ذلك بما يلي:
أولاً: إنّ حكم داود بدون أيمان وبيّنة كان مرّة واحدة في قصّة مفصّلة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(47) مستدرك الوسائل: ج17 ص364 رقم7 باب أنّ الحكم بالبيّنة واليمين.

(٣٨)

نقلها صاحب (دعائم الإسلام) مرسلةً، وفيها شواهد عديدة على أنّها إمّا موضوعة كلاً، أو بعضاً، ولا يمكن لمثل ذلك أن يكون مستنداً لحكم شرعي واحد، فكيف بجريان سيرة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)، عليها.
وبعد تلك القصّة كان حكم داود (عليه السلام) طول حياته على الأيمان والبيّنات، كما هو صريح أوّل تلك القصة المرسلة وآخرها، ففي أولها:
(فأوحى الله عزّ وجل إليه: يا داود! اقضِ بينهم بالأيمان والبيّنات).
وفي آخرها:
(يا داود!... فلا تسألني تعجيل ما أخّرت، واحكم بين خلقي بما أمرت)(48).
ثانياً: يتباين هذا النهج في الواقع مع قضاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث كان يردّد دائماً:
(إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان)(49).
وأنّه إذا حكم (صلّى الله عليه وآله) في قضية مّا كان يقول:
(إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعت له به

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(48) دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج2 ص 518 رقم 1858 (ط. دار المعارف - مصر).
(49) الكافي: ج 7 ص 414، ح1.

(٣٩)

قطعة من النار)(50).
من هنا، لا يصحّ بالنسبة للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) الذي هو أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتقوم فلسفة ظهوره على مبدأ العدل وإقامة شريعة جدّه وإحياء سنّته، أن يحيد عن نهج رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويقضي بين الناس بغير طريقته.
وإذا جاء في الروايات المعتبرة والمستفيضة أنّه (عجّل الله تعالى فرجه) يحكم بحكم داود، فمعناه أنّه يحكم بالبيّنة واليمين لأنّ النبي داود (عليه السلام) قد تلقّى الأمر من ربه سبحانه وتعالى بأن يحكم بالحقّ، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم في ذلك:
(يا داود إنّا جعلناكَ خليفةً في الأرضِ فاحكمْ بين الناسِ بالحقِّ)(51).
ثم أوحى الله تعالى إليه أن:
(احكمْ بينهمْ بالبيناتِ وأضِفْهم إلى اسمي يحلفون به)(52).
أي: لمن لم تقم لهم بيّنة.
وهكذا نرى أنّ النبي داود (سلام الله عليه) كان ملزماً بالقضاء بناءً على الظاهر.
ونقل الشيخ المفيد (رحمه الله) رواية تشير إلى أنّ الإمام الحجّة المنتظر
عجّل الله تعالى فرجه سيقضي بين الناس على سنّة النبي داود (سلام الله عليه) والرسول المصطفى (صلوات الله عليه وآله). وحسب ما تبيّن، فإن نبيّنا الكريم كان يقضي بين الناس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(50) الوسائل: ج27 ص 232 رقم1 باب أنّه لا يحلّ المال لمن أنكر حقّاً أو ادّعى باطلاً.
(51) سورة ص: 26.
(52) التهذيب: ج6، ص228 ح1 باب 89 - كيفية الحكم والقضاء.

(٤٠)

بالبيّنة واليمين فقط، مما يدلّل - من خلال اقتران وصف النبيين الكريمين - على أنّ قضاء النبي داود كان كقضاء رسول الله.
تقول الرواية:
(إذا قام القائم، حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور وأمنت به السبل وأخرجت الأرض بركاتها... وحكم بين الناس بحكم داود وحكم محمد (صلّى الله عليه وآله))(53).
تجدر الإشارة إلى أنّ المعصومين (سلام الله عليهم) قد عملوا طبقاً للواقع والحقيقة، ولكن عملهم هذا (عليهم السلام) لم يكن ليعكس صورة سيرتهم العامّة وتعاملهم مع الآخرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(53) الإرشاد: ج2، ص384.

(٤١)

مسؤوليتنا في عصر الغيبة

الفرق بين الواجب والرغبة
هناك نقطة تؤرّق بال معظم الشيعة، وهي: كيف السبيل إلى التشرّف بلقاء الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)؟
إنّ مسألة اللقاء بالإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) مسألة خاصّة، وقد زخرت الكتب بقصص الذين تشرّفوا بلقائه، بمن فيهم العلماء والعامّة، الشيوخ والشباب، الرجال والنساء. ولكن أيطلب الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) من شيعته في فترة غيبته الكبرى أن يجدّوا ويجتهدوا ليتشرّفوا بلقائه فقط؟ أم أنّ المسؤولية تحتّم علينا أشياء أخرى؟ أوَ لا توجد مسؤولية أهمّ وأخطر من تلك؟
إنّ أهمّ وسيلة للتقرّب من الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه) هي أداء واجباتنا

(٤٣)

ووظائفنا على أكمل وجه، وأداء الواجب هو الهدف نفسه الذي شرّف الله به الإمام المهدي بالإمامة، وكذلك هدف الرسول الكريم والأئمّة (سلام الله عليهم أجمعين) من قبله.
صحيح أنّ الذين وفّقوا أو سيوفّقون لنيل الشرف العظيم بلقاء الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه) وزيارته في الغيبة الكبرى، هم - في الغالب وحسب القاعدة - ممّن يعرفون الواجب ويعملون به، وإلّا لما حصلوا على هذا الشرف، ولكن هذا - أي الطموح للقائه (عجّل الله تعالى فرجه) - ليس هو الواجب، بل من الأفضل أن نجمع بينهما، وإلّا فإنّ الواجب مقدّم على الرغبة، والواجب هو معرفة الواجبات الشرعية والعمل بها وتشخيص المحرّمات والاجتناب عنها، تجاه النفس والآخرين، وتعليم الجاهلين كلّ حسب قدرته ومعرفته، والسعي لكسب المزيد من المعرفة على هذا الطريق(54).
فمن باب المثال، إذا كان شخصٌ يرغب في زيارةٍ شخص عزيز عليه، يحبّه كثيراً، لكنّ وظائفه في خدمة الناس كانت تمنعه عن تحقيق رغبته أو تؤخّرها، فالزيارة تشكّل رغبة لهذا الشخص، ولكنّ وظيفته شيء آخر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(54) - روي عن الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه) قوله: (إنّ للا إله إلا الله شروطاً، وإنّي وذريّتي من شروطها) غرر الحكم: ص115 رقم 2002 وروي عنه (عليه السلام) أيضاً قوله: (وليس منّا إمام إلا وهو عارف بأهل ولايته) ينابيع المودّة: ج1 ص 89 ح35.
ـ روي عن الإمام الكاظم (سلام الله عليه) قوله: (ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل شيئاً شراً استغفر الله وتاب إليه) الاختصاص: ص26.

(٤٤)

فكذلك الحال بالنسبة لنا تجاه المولى صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه). إنّ لنا في لقائه (سلام الله عليه) رغبة، ولنا إزاءه وظيفة، فإذا كان هذان الأمران قابلين للجمع فما أحسن ذلك! أمّا إذا لم يمكن الجمع بينهما، فما هو الواجب على الفرد؟ أيسعى لتحقيق الرغبة أم العمل بالوظيفة؟ لا شكّ أنّ الواجب هو السعي للعمل بالوظيفة.
إنّ علقتنا الشديدة - جميعاً - بوليّ العصر صلوات الله وسلامه عليه هي التي تدفعنا لأن نهتمّ ونعمل ونجدّ ونجتهد لسلوك الطريق الذي ينتهي بنا إلى التوفيق للانضواء تحت مظلّة رضاه، أمّا الأمل بلقائه (عجّل الله تعالى فرجه) في عصر الغيبة، فهو مطلب مهمّ أيضاً، ويجسّد رغبة عظيمة؛ فمن وُفّق له فقد نال مقاماً شامخاً وشرفاً رفيعاً، ولكنّ الرغبة ليست الوظيفة دائماً.
إنّه لشرف كبير وكرامة عظيمة أن يلتقي الإنسان إمامه (عجّل الله تعالى فرجه) عن قرب ويقبّل يده، لا شكّ في هذا ولا شبهة، ولكن هل هذا هو ما يريده الإمام منّا؟ وهل هذا هو واجبنا ومسؤوليّتنا؟
إنّ مسؤوليّتنا تتمثّل أوّلاً في تعلّم الإسلام والعمل به وتعليمه، وهي تقع على عاتق كلّ فرد مسلم، سواء كان رجلاً أم امرأة، زوجاً أم زوجة، أولاداً أم آباءً وأمّهات، أساتذة أم تلاميذ، وباعة أم مشترين، ومؤجّرين أم مستأجرين، وجيراناً أم أرحاماً، وفي كلّ الظروف والأحوال.
على كلّ فرد منّا أن ينظر ما هي وظيفته تجاه نفسه وتجاه الآخرين؛ وما هي الواجبات المترتّبة عليه، وما هي المحرّمات التي يجب عليه الانتهاء عنها

(٤٥)

قبل أن ينظر إلى أي شيءٍ آخر. فعلى الزوج أن يعرف واجباته تجاه نفسه وتجاه زوجته وعائلته وتجاه الآخرين، وكذا المرأة عليها أن تسعى لمعرفة ما يجب عليها تجاه زوجها وأولادها والمجتمع، وهكذا الأولاد تجاه والديهم، والوالدان تجاه الأبناء، وكذا الإخوة فيما بينهم، وهكذا الجيران والأرحام والمتعاملون بعضهم مع بعض.
فالواجب هو أن يعرف الإنسان أحكام دينه - ولا أقلّ من الواجبات والمحرّمات - ثم يلتزم بها، وعلى رأس تلك الواجبات معرفة المولى صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه وعجّل الله تعالى فرجه. وهذا بحدّ ذاته واجب الجميع، لأنّه (مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية). ولكي لا يموت أحدنا بحكم المشرك، عليه أن يعرف ما هي واجباته وما هي المحرّمات عليه، فيما يخصّ العقائد والعمل.
يقول الفقهاء: إنّ على كلّ شخص أن يسعى للحصول على ملَكة العدالة في نفسه، وهذا من المسلّمات، وهو - على حدّ التعبير العلمي - مقدّمة وجود الواجب المطلق.
إذاً؛ على كلّ فرد، رجلاً كان أم امرأة، شابّاً أم شيخاً، أن يحصل على ملَكة تحصّنه من ارتكاب المحرّمات وتحول دون تخلّفه عن الواجبات، ثمّ عليه بتعليم الآخرين حسب مقدرته ومعرفته. فهذا هو الواجب، وهذا ما يسرّ الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه)، ويجعله يرضى عنّا؛ وفي رضاه رضا الله تعالى. أمّا مَن لم يؤدِّ واجبه، فليتوقّع غير ذلك.

(٤٦)

قصّة وعبرة
أجل، إنّ المطلوب من الفرد المؤمن في علاقته ومحبّته لإمام العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه) أن يسعى جهده لإيجاد السنخية بين طبيعته الأخلاقية وسلوكه اليومي وبين رغبة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، ليرتقي بعد ذلك إلى مستوى مشايعته حقّ المشايعة.
ومن ذلك؛ ما ينقل عن الشيخ مرتضى الأنصاري قدّس الله نفسه الزكية، إذ كان يتتلمذ على شريف العلماء رضوان الله عليه في بدايات شبابه في كربلاء المقدّسة. ولتوفير ما يقتات به، اختار مهنة إصلاح الأقفال، فجمع عدّة أقفال، وجلس فيما يشبه الدكان عند مدخل صحن الإمام أبي عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه، فكان يجلس لهذه الحرفة ساعة أو ساعتين من كلّ يوم.
وفي تلك الأيّام كان هناك جماعة من طلاّب العلوم الدينية قد صمّموا على أن يسلكوا طرقاً معيّنة تمكّنهم - بزعمهم - من رؤية الإمام صاحب الزمان (سلام الله عليه)، فمارسوا جملة من العبادات الخاصّة، وحضروا المساجد، وسألوا العلماء، وتوسّلوا بالأئمة صلوات الله عليهم، وزاروا المراقد الشريفة، وتفحّصوا في الوجوه بما يعرفونه من علامات للإمام، دون أن يصلوا إلى شرف اللقاء.
فصادف ذات يوم أن حضرت تلك المجموعة عند بسطة الشيخ، وكانوا يعرفون الشيخ بحكم الدراسة، وفي أثناء تحاورهم معه لفتت أنظارهم امرأة عجوز كانت قد جاءت إلى الشيخ الأنصاري - ولم يكن معروفاً آنذاك - وهي تحمل قفلاً فقالت له: إنّها أمّ لأيتام جوعى، وتريد منه أن يشتري منها القفل رغم أنّ مفتاحه ضائع؛ دون أن يظلمها أو يغشّها؛ لتبتاع بثمنه خبزاً

(٤٧)

لأيتامها.
فرقّ الشيخ لما سمع منها فحاول أن يعثر لقفلها على مفتاح يناسبه حتى يرفع من ثمنه، ولمّا وجد المفتاح المناسب له قال للمرأة: كان قفلك لا يساوي إلا فلساً واحداً، وحيث أصبح الآن بمفتاح فهو يعادل خمسة فلوس، واقترح عليها أن يبيعها المفتاح بفلس واحد، ثم يشتريه منها مع القفل بخمسة فلوس لتربح بذلك أربعة فلوس، بدلاً من أن تبيع القفل وحده بفلس واحد فقط(55).
وأثناء تلك المحاورة التي جرت بين الشيخ الأنصاري والمرأة، كان رجل بهيّ الطلعة مهاباً جالساً عند الشيخ وكأنّه ينتظر دوره في أمر ما، وحينما انتهى الشيخ من معاملة البيع والشراء مع المرأة، قام الرجل وودّع الشيخ لينصرف. وأثناء انصرافه، التفت إلى الطلبة الذين اجتمعوا عند الشيخ الأنصاري بعد أن اطّلعوا على مجريات هذا التعامل النزيه، ولم يكونوا قد تنبّهوا إلى وجود هذا الرجل الجليل بينهم، قائلاً: كونوا مثل هذا الشيخ ليأتيكم صاحب الزمان بنفسه!!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(55) فرغم حاجة الشيخ الماسّة للمال، إلّا أنّه فضّل التعامل مع تلك المرأة بهذه الطريقة الورعة من خلال أسلوبه الذكي ليحقّق تقديم المساعدة المادية لها؛ الأمر الذي إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على مستوى وعيه للمسائل الشرعية وورعه، فأنصفها من نفسه؛ الأمر الذي يدفع المؤمنين عامة وطلبة العلوم الدينية خاصة إلى إدراك أهمية ما يقف وراء كتب هذا الشيخ الجليل من أخلاق سامية ونفس أبيّة وذوق هو الأرفع، مما يعني ضرورة دراسة تفاصيل حياته الشريفة، لتكون مقدمةً للاقتداء به (رحمه الله تعالى).

(٤٨)

وبعد لحظات من مغادرته المكان، عاد إليهم رشدهم في كيفيّة اطّلاع هذا الرجل على نواياهم في البحث عن إمام الزمان صلوات الله عليه، فألقي في روعهم أنّه هو نفسه الإمام لما تذكّروه من العلامات المأثورة عنه (سلام الله عليه) والتي كانت واضحة كلّ الوضوح لديهم، ولكنهم لم يتنبهوا لها في حينها، فأخذوا يبحثون عنه بين الناس، لكن دون جدوى. فهؤلاء رغم أنّهم رأوا الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) ولكنهم لم يكونوا بعد قد وصلوا إلى المستوى الذي وصله الشيخ الأنصاري الذي نقل مكرراً أنه كان يتشرّف برؤيته (عجّل الله تعالى فرجه).
أقول: إنّ الشيخ الأنصاري حافظ على هذا المستوى الرفيع من الإيمان حتى آخر لحظة من عمره الذي قضاه إخلاصاً وعلماً ويقيناً. ولاشكّ أنّ من يبني حياته على أساس من الإيمان والإخلاص، فإنّ العاقبة الأحسن ستكون من نصيبه، نعمةً من الله وفضلاً، والله يؤتي فضله مَن يشاء.
على كلّ حال؛ إنّ تحملنا لمسؤوليتنا الشرعية هو الذي يُرضي الإمام عنّا إن نحن أتقنّا العمل بها، وإذا أردنا أن نعرف نسبة رضاه عنّا، فلنفكّر مع أنفسنا في مدى معرفتنا للواجب والمسؤولية والعمل بهما - تجاه أنفسنا والآخرين، أقرباء وأرحاماً وسواهم.
إنّ الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه) يرانا ويرى أعمالنا كما ورد في تفسير قول الله تعالى: (وقُلِ اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)(56).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(56) عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عزّ وجلّ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) قال: (هم الأئمة). الكليني: ج1 ص 219 ح 2.

(٤٩)

وفي الروايات أنّه (عجّل الله تعالى فرجه):
(مؤيّد بروح القدس، بينه وبين الله عزّ وجلّ عمود من نور يرى فيه أعمال العباد، وكلّ ما يُحتاج إليه)(57).
فهو يسمع كلامنا ويرى أجسامنا وكلّ ما يظهر منّا، ويرى كذلك ما وراء السطور كالفكر والنوايا، ويعرف فيما إذا كانت نيّاتنا وأفكارنا لله أم لغيره.
ما يحول دون تشرّفنا بلقاء الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)
إنّ موضوع الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) من المواضيع العميقة والواسعة وهو متشعّب الجوانب كثير الفروع، الأمر الذي يتطلّب من كلّ منّا أن يزيد من مطالعاته وتأمّلاته في هذا الموضوع الهام، لكنّ السؤال المهمّ في هذا المجال هو:
إذا كان الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه) موجوداً بين ظهرانينا - كما هو الحقّ - فلماذا لا نراه مع أنّه يرانا صلوات الله وسلامه عليه؟
في جواب هذا السؤال نستعين بالقصّة التي رواها المرحوم والدي والتي تعود إلى الأيّام التي كان يعيش فيها في سامرّاء العراق:
يقول السيد الوالد (رحمه الله): كان أحد العلماء يكثر من ارتياد سرداب الغيبة في أيام الجمع وغيرها، يخلو فيه.. يقرأ دعاء الندبة والعهد وزيارة صاحب الزمان، ويدعو الله بفنون الدعوات على أمل اللقاء بالإمام (عجّل الله تعالى فرجه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(57) بحار الأنوار: ج25، ص117 باب 4 - جامع في صفات الإمام وشرائط الإمامة.

(٥٠)

يحكي والدي عن هذا العالِم أنّه قال:
مرّ زمان وأنا على هذه الحال أرتاد السرداب شوقاً لرؤية صاحب الزمان صلوات الله عليه. وفي أحد الأيام وبينما أنا جالس وحدي منشغلاً بالدعاء والمناجاة، مفكّراً في حالي وأنّ المدّة قد طالت وأنا مواظب على الحضور إلى هذا المكان دون أن أوفّق للقاء الإمام (عجّل الله تعالى فرجه)، متسائلاً مع نفسي عن السبب الذي يحول دون تشرّفي برؤيته، قائلاً: ما هو ذنبي، ولماذا لا يمنّ عليَّ الإمام بشرف رؤية طلعته الرشيدة؟ وبينما أنا ساهم في هذه الحالة إذ أُلهمت بأنّ الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) سيدخل السرداب حالاً، ولقد وقع هذا الموضوع في قلبي على نحو اليقين، لا وقوع تخيّل أو مجرّد تصوّر، بل أرشدني إليه ضميري وأيقنت - بوجداني - أنّ الإمام (سلام الله عليه) سيدخل السرداب الآن، وشعرت أنّي سأوفّق للقائه.
ولكن ما إن دنت ساعة التشرّف والتوفيق للقاء الإمام حتى تملّكتني هيبة عصرتني عصرة لم أشعر معها إلّا وأنا خارج من السرداب متسلّقاً درجات السلّم الذي يفضي إليه. واضطرب وجودي لذلك اضطراباً شديداً. فأدركت أنّه لم يحن بعد الوقت الذي أكون لائقاً ومؤهّلاً للقاء الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه).
ولإلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع نستعين بالرواية القائلة: يحكى أنّ رجلاً شكا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه يحبّ إقراء الضيف لكن زوجته تكره ذلك وتعكّر عليه، فقال (صلّى الله عليه وآله) قل لها: (إنّ الضيف إذا جاء؛ جاء

(٥١)

برزقه، وإذا ارتحل؛ ارتحل بذنوب أهل البيت)(58).
أي، أنّ الله سيبارك ويضيف في رزق أهل ذلك البيت ما ينفقونه في إقرائه، ثم إذا انصرف عنهم بعد ذلك وارتحل ارتحلت ذنوبهم معه.
يقال: إنّ الرجل عاد ثانية إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وأخبره أنّ ذلك لم يُجد نفعاً مع زوجته. فأمره النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يمسح بيده على وجهها إذا حلّ الضيف.
وفعَل الرجل ذلك، فأصبحت المرأة تتمنّى إقراء الضيف بعد ذلك؛ لأنّها رأت الأمور التي أخبرها بها زوجها عن النبي (صلّى الله عليه وآله) على حقيقتها، بعد أن مسح على وجهها بأمر النبي (صلّى الله عليه وآله)، أي رأت الضيف عندما يدخل الدار ترافقه أنواع الأطعمة والفواكه، وعندما يخرج تخرج معه الأوساخ والعقارب والحيّات مثلاً.
نستفيد من هذا الحديث أموراً عديدة؛ منها أمران لهما صلة بموضوعنا، وهما:
الأمر الأوّل: الولاية التكوينية لرسول الله (صلّى الله عليه وآله). فمع أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يقم هنا بفعل، فلم يمسح بيده الشريفة على وجه المرأة مثلاً، بل أمر الزوج أن يمسح هو بيده على وجهها، ولكنه مع ذلك أثّر في تكوين المرأة، أي أنّ أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) وكلامه يكفي لتغيير الكون، ولا حاجة حتى لفعله المباشر، بل تكفي إرادته وقوله. والإمام كالنبيّ في هذا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(58) مستدرك‏ الوسائل: ج16 ص 259 ح 11 باب 23: كراهة كراهة الضيف.

(٥٢)

الأمر الثاني: أنّ الذنوب التي تكبّل الإنسان هي مانع حقيقيّ يحول دون التشرّف بلقاء الإمام صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه)، أي لا يكون الشخص جديراً بلقائه (سلام الله عليه) فيُحرم هذا التوفيق بسببها.
إنّ الأرواح غير المتكاملة غير لائقة للقاء الإمام، والأعين الخطّاءة لا تستحقّ أن تطلّ على حضرته، والآذان المليئة بالذنوب غير جديرة بسماع صوته، وأنّى للشفاه التي صدرت من بينها آلاف المعاصي أن تتشرّف بتقبيل يديه!
وإلّا فلِمَ لا يسمح الإمام لبعض محبّيه بلقائه وهو أهل الكرم والجود! ألم يلتقِ السيدَ الفلاني والشيخَ الفلاني والبقّالَ الفلاني والعطّارَ الفلاني، وأشخاصاً أمّيين لا يعرفون القراءة والكتابة، فلماذا لا يسمح لأشخاص متعلّمين أو من أهل العلم مثلاً، لنيل هذا الشرف! إنّ الذنوب هي التي تحول دون اللقاء بالإمام، فإنّ الإمام لا ينظر إلى أبداننا، بل ينظر إلى قلوبنا وأرواحنا وعقولنا.
فلنعاهد الله سبحانه وتعالى على أن نبدأ سلوك الطريق المنتهي بلقاء الإمام (سلام الله عليه)؛ فلعلّنا نبلغ المقصود بعد زمان طال أو قصر، فإنّ من سلك الطريق لابدّ وأن يصل، وصاحب الزمان عليه الصلاة والسلام يعرف عن قلبك وقلبي إن كنّا سالكي الطريق حقّاً أم لا؛ فإن علم صدقنا فسيأخذ بأيدينا. ولو أنّ أحدنا تقدّم إليه بمقدار خطوة واحدة من الطريق فإنّه (عجّل الله تعالى فرجه) سيتقدّم إليه خطوات ويفتح له ذراعيه، شريطة أن نجعل أنفسنا أهلاً لذلك.

(٥٣)

الإقتداء بالسلف الصالح
ولتكن لنا في أويس القرني قدوة وعبرة، فإنّ هذا العبد الصالح لم يوفّق لأن يلتقي الرسول (صلّى الله عليه وآله)، مع أنّه كان في عصره، فقد كان يعيش في اليمن، وعندما توجّه منها إلى المدينة لرؤية الرسول (صلّى الله عليه وآله) وزيارته لم يسعفه الوقت، فحينها كان (صلّى الله عليه وآله) قد استشهد. وتأثّر أويس لذلك كثيراً. ولكن هل تعلمون أنّ أويساً هذا مقدّم على كثير ممّن صحبوا الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟(59).
نادراً ما تجد إنساناً يؤمن بدين ويعتقده حتى يتفانى من أجل تطبيقه دون أن يشاهد صاحب هذا الدين أو يتشرّف بسماع كلامه رغم معاصرته له، وهذا ما كان لأويس القرني الذي عاصر الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولكنه لم يشاهده أو يسمع كلامه ومع ذلك آمن به وقوي إيمانه اعتماداً على ما وصله عنه بعد أن اطّلع على فحوى الدين الجديد وتأمّل مفرداته. فحالنا في زمن الغيبة كحال أويس في عدم رؤيته النبي؛ فلنقتد بمثل هذا النموذج الصالح لننال - إن شاء الله تعالى - رضا الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله) وأئمّتنا الطاهرين (عليهم السلام) لاسيما مولانا الإمام الحجّة المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(59) إذا أردتم التحقّق من ذلك فانظروا إلى سيرته: يُنقل أنّه كان أحد الأشخاص يسبّ أويساً كلّما مرّ به أو التقاه. وفي إحدى المرّات رآه أويس يقبل من بعيد فغيّر طريقه. ربّما كثير من الناس يتجنّب المواجهة مع مَن يريد سبّه، لأنّه قد تتوتّر أعصابه أو يراق ماء وجهه بين الناس. ولكن أويساً لم يغيّر طريقه لهذه الأسباب - وعندما سئل عن السبب، أجاب قائلاً: لئلاّ يقع ذلك الشخص - السابّ - في المعصية. انظر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج9 ص421 (ط. دار الفكر - بيروت).

(٥٤)

عنصرين وثلاث مقدّمات
هذا، ولأجل الوصول إلى رضا مولانا ومقتدانا الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)، ينبغي لنا أن نحقّق في ذواتنا عنصرين اثنين:
• أن نعاهد الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) بتغيير أنفسنا تدريجياً.
• أن نلتمسه (عجّل الله تعالى فرجه) الدعاء ومدّ يد العون لنا في سبيل التغيير.
ولكي نفلح في تحقيق هذين العنصرين، فلابدّ لنا من مقدّمات ثلاث هي:
1. الطلب الحثيث للعلم، والتأكّد بأنّ من أعظم العبادات التعليم والتعلّم.
2. طرح (الأنا) عن النفس(60).
3. أن نسعى لأن يكون كل منّا راوية حديث - والتاء هنا تاء المبالغة - لنكون مصداق الحديث الشريف: (يشدّ به قلوب شيعتنا)(61).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(60) روي الصدوق في علل الشرائع، عن الإمام جعفر بن محمد (سلام الله عليهما) أنه قال: (... إن أول معصية ظهرت الأنانية عن إبليس اللعين حين أمر الله تعالى ذكره ملائكته بالسجود لآدم، فسجدوا وأبى إبليس اللعين أن يسجد، فقال (عزَّ وجلَّ): ما منعك ألّا تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه؛ خلقتني من نار وخلقته من طين. فكان أول كفره قوله: أنا خير منه...) علل الشرائع: ج1 ص 62 باب 549 (ط. المطبعة الحيدرية - النجف الأشرف).
(61) عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (سلام الله عليه): رجل راوية لحديثكم يبثّ ذلك في الناس ويشدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيّهما أفضل؟ قال: (الراوية لحديثنا يشدّ قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد). الكافي: ج1 ص33 ح9.

(٥٥)

رسائل الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) للشيخ المفيد (قدّس سرّه) (62)

للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) في غيبتيه الصغرى والكبرى رسائل وتوقيعات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(62) هو محمد بن محمد بن النعمان، الشهير بالشيخ المفيد وابن المعلم - كان والده معلماً في تلّ العكبري (على مسافةٍ من بغداد) - ولد عام 336هـ وتوفّي عام 413هـ. فقيه ومتكلّم ومحدّث إماميّ كبير، من تلامذة ابن قولويه والشيخ الصدوق وأبي غالب الرازي، تتلمذ على يديه الكثير من العلماء منهم: الشريف الرضي، الشريف المرتضى، الشيخ الطوسي، وسلار بن عبد العزيز الديلمي. اشتهر الشيخ المفيد بسرعة البديهة، ولمناظرته مع القاضي عبد الجبار المعتزلي قصة معروفة.
ترعرع في أحضان العلم والعقيدة الحقّة حتى بلغ، فكان شابّاً نشيطاً. انتقل به والده إلى بغداد لتلقّي الدروس، فارتقى سلّم العلم حتى بلغ منزلة عظيمة ومكانة اجتماعية رفيعة يشهد لها مستوى التشييع المهيب الذي شهدته جنازته في بغداد رغم أنّ هذه المدينة لم تكن ذات أغلبية شيعية حينذاك، فقد روي أنّه كان تشييعاً لم تر بغداد نظيراً له في ذلك الوقت، وكانت جنازته مشهورة، وشيّعه ثمانون ألفاً من الشيعة.
راجع ترجمته في ريحانة الأدب، ج5، ص361- 365؛ والأعلام: ج7، ص21 (ط. دار العلم للملايين - بيروت)؛ والذهبي في سير أعلام النبلاء: ج17 ص 344 رقم 213 (ط. 9 مؤسّسة الرسالة - بيروت).

(٥٧)

كثيرة يخاطب فيها عدّة من الشخصيات الشيعية، بالإضافة إلى الرسائل الخاصّة إلى نوّابه، والرسائل الجوابية المرسلة لبعض الأفراد أحياناً، والمؤسف أنّه لم يصلنا شيء من هذه الرسائل إلا عدد محدود!
ولكن تبقى رسائل الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) إلى الشيخ المفيد (قدّس سرّه) والعبارات التي تضمّنتها حالة فريدة امتازت بها عن رسائله للآخرين، فلم يعهد عن الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) أنّه أثنى على أحد بهذه الصورة كما حصل مع الشيخ المفيد رضوان الله عليه؛ فلو راجعتم كلّ ما وصلنا من عبارات المدح من الإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه بشأن جملة من الأفراد - باستثناء سفرائه الأربعة الخاصّين، ووكلائه الآخرين(63) - قد لا تجدون في كلّ كلمات المديح والتقريظ التي تفضّل بها الإمام بحقّ هؤلاء الأشخاص ما يرتقي لمستوى ما قاله (سلام الله عليه) بحقّ الشيخ المفيد (قدّس سرّه)؛ وفي هذا دلالة على المقام الرفيع للشيخ (قدّس سرّه) عند أهل البيت (سلام الله عليهم).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(63) إنّ الوكلاء هم غير السّفراء أو النوّاب الأربعة، فقد سمّي غير هؤلاء الأربعة وكلاء، وقد أطلقت النيابة الخاصّة في زمن الغيبة الصغرى على من تمثّلت بهم السفارة، وهم النوّاب أو السفراء الأربعة: عثمان بن سعيد العمري، وأبو جعفر محمد بن عثمان العمري، وأبو القاسم الحسين بن روح النوبختي، وأبو الحسن علي بن محمد السمّري. والنيابة العامّة في زمن الغيبة الكبرى أطلقت على الفقهاء من بعد ذلك. كما كان للإمام وكلاء محدّدون، كمَن كاتبوا الإمام (سلام الله عليه) وأجابهم، وثمّة بعض الكتب التي كتبها الإمام ابتداءً لبعض أصحاب أبيه وجدّه (عليهم السلام) في نفس الفترة من زمن الغيبة الصغرى، وهؤلاء هم غير النوّاب أو السفراء قطعاً.

(٥٨)

الرسالة الأولى (64)
قال العلاّمة الطبرسيّ (رحمه الله): (ذكر كتاب ورد من الناحية المقدسة حرسها الله ورعاها في أيّام بقيت من صفر سنة عشرة وأربعمائة على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدّس الله روحه ونوّر ضريحه، ذكر موصلُه أنّه يحمله من ناحية متّصلة بالحجاز؛ نسخته:
للأخ السديد والوليّ الرشيد، الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان - أدام الله إعزازه - من مستودع العهد المأخوذ على العباد
بسم الله الرحمن الرحيم
أمّا بعد؛ سلام عليك أيها الوليّ المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيّدنا ومولانا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين، ونُعلمك - أدام الله توفيقك لنصرة الحقّ وأجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصدق - أنّه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤدّيه عنّا إلى موالينا قِبَلك، أعزّهم الله بطاعته وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته.
فقف - أيّدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه - على ما أذكره، واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله:
نحن وإن كنّا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(64) على ما نقله العلامة الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج.

(٥٩)

أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شي‏ء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتّقوا الله جلّ جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله، ويحمى عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا، ومباءتكم بأمرنا ونهينا، والله متمّ نوره ولو كره المشركون.
اعتصموا بالتقيّة من شبّ نار الجاهلية يحششها عصب أموية، يهول بها فرقة مهدية، أنا زعيم بنجاة من لم يرمِ فيها المواطن، وسلك في الطعن منها السبل المرْضيّة، إذا حلّ جمادى الأولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه، ستظهر لكم من السماء آية جليّة، ومن الأرض مثلها بالسوية، ويحدث في أرض المشرق ما يُحزن ويُقلق، ويَغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق، ثم تنفرج الغمّة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار، ثم يسترّ بهلاكه المتّقون الأخيار، ويتّفق لمريدي الحجّ من الآفاق ما يؤمّلونه منه على توفيرٍ عليه منهم واتّفاق، ولنا في تيسير حجّهم على الاختيار منهم

(٦٠)

والوفاق شأن يظهر على نظام واتّساق.
فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبّتنا، ويتجنّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنّ أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة، ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة، والله يلهمكم الرشد ويلطف لكم في التوفيق برحمته.
نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام.
هذا كتابنا إليك أيها الأخ الوليّ والمخلص في ودّنا، الصفيّ والناصر لنا الوفيّ، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به ولا تظهر على خطّنا الذي سطّرناه بما له ضمنّاه أحداً وأدّ ما فيه إلى من تسكن إليه، وأوص جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين).
الرسالة الثانية
وورد على الشيخ المفيد كتاب آخر من قبله صلوات الله عليه يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة 412 هـ؛ نسخته:
من عبد الله المرابط في سبيله إلى ملهم الحق ودليله
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام الله عليك أيها الناصر للحقّ، الداعي إليه بكلمة الصدق، فإنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو إلهنا وإله آبائنا الأولين، ونسأله الصلاة على سيّدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى أهل بيته

(٦١)

الطاهرين.
وبعد؛ فقد كنّا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه وحرسك به من كيد أعدائه، وشفعنا ذلك الآن من مستقرّ لنا ينصب في شمراخ من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان، ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان، ويأتيك نبأ منّا يتجدّد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال، والله موفّقك لذلك برحمته.
فلتكن حرسك الله بعينه التي لا تنام - أن تقابل لذلك فتنة تبسل نفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لدمارها المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون، وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالحرم المعظّم من رجس منافق مذمّم مستحلّ للدم المحرّم، يعمد بكيده أهل الإيمان، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فلتطمئنّ بذلك من أوليائنا القلوب، وليتّقوا بالكفاية منه، وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهيّ عنه من الذنوب.
ونحن نعهد إليك أيّها الوليّ المخلص المجاهد فينا الظالمين - أيّدك الله بنصره الذي أيّد به السلف من أوليائنا الصالحين - أنّه من اتقى ربّه من إخوانك في الدين، وأخرج مما عليه إلى مستحقّيه، كان آمناً

(٦٢)

من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلّة، ومن بخل منهم بما أعاره الله من نعمته على من أمره بصلته، فإنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته.
ولو أنّ أشياعنا - وفّقهم الله لطاعته - على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم؛ لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتّصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم، وكتب في غرة شوال من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها:
(هذا كتابنا إليك أيها الوليّ الملهم للحقّ العليّ بإملائنا وخطّ ثقتنا، فاخفهِ عن كلّ أحد، واطوِهِ، واجعل له نسخة تطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا - شملهم الله ببركتنا إن شاء الله - الحمد لله والصلاة على سيّدنا محمد النبي وآله الطاهرين)(65).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(65) الاحتجاج: ج2 ص 318 - 325، توقيعات الناحية المقدّسة (ط. دار النعمان - النجف الأشرف). ونقلهما جمهرة عظيمة من أعلام الأمّة وثقاتها معتمدين عليهما قابلين لهما، كالعلاّمة المجلسي والمحدّث البحراني والشيخ أبي علي الحائري والسيد بحر العلوم والسيد الخونساري والمحدّث النوري والمحدّث القمي والسيد محمد الشيرازي وآخرون قدّست أسرارهم.
ونقل الشيخ البحراني في لؤلؤة البحرين: ص364، عن المحقق الجليل، ابن بطريق الحلي في رسالته (نهج العلوم) أنّه - التوقيع المبارك- ترويه كافّة الشيعة وتتلقّاه بالقبول.
وحكى عنه أيضاً: أن سيّدنا ومولانا صاحب الأمر (عجّل الله تعالى فرجه) كتب إليه ثلاثة كتب، في كلّ سنة كتاباً، وفقد الثالث.
ومثل ذلك يكفي سنداً للحجية.

(٦٣)

أقول: إنّه لشرف كبير ومصدر فخر واعتزاز أن يمثل الشخص بين يدي الإمام ويكون في حضرته؛ يزوره عياناً ويتشرّف برؤيته وتقبيل يده. ولكن - اعلموا أيّها الإخوان - إنّ هذا ليس هو الواجب، فإنّه لم يبلغنا عن الشيخ المفيد أنّه التقى بالحجّة - ولا يُعرف ما هو السبب، وربما التقاه ولم يصلنا خبره - ولكنّه مع ذلك نال هذه الأوسمة منه (سلام الله عليه).
تدبّر في بعض كلمات الرسالة
لقد ذكر الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) في خطابه للشيخ المفيد كلمة الإهمال فقال: - غير مهملين - ولم يقل: غير تاركين، ذلك أنّ هنالك فرقاً بين الإهمال والترك من جهة القصد، فالترك أعمّ وأشمل، أي يكون بقصد وبلا قصد؛ أمّا الإهمال فلا يكون إلّا عن قصد(66).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(66) الهمل: السدى... وما ترك الله الناس هملا، أي: سدى بلا ثواب ولا عقاب... وفي حديث طهفة: ولنا نَعَم هَمَل أَي مهمَلة لا رِعاءَ لها ولا فيها من يُصلحها ويَهديها فهي كالضَّالة. وفي المثل: اختلطَ المَرْعيُّ بالهَمَل، والمَرْعيُّ: الذي له راعٍ. وأَهْمَل أَمرَه: لم يُحْكِمْه. وأَهْمَلْت الشي‏ء: خلَّيت بينه وبين نفسه. لسان العرب لابن منظور: ج11 ص 710، مادّة همل (ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت).

(٦٤)

ومن ثمّ يكون المعنى، إنّنا إذا لم نرعكم، فالإهمال من جانبكم وليس من جانبنا.
وقال (عجّل الله تعالى فرجه): - ولا ناسين لذكركم - نافياً أن يكون النسيان بشكل عام ومطلق، ممّا يعني أنّه يذكر الجميع دائماً وفي كلّ مكان، ولولا ذلك لنزل البلاء بهم.
فليس من شك في أنّ الإمام المعصوم (سلام الله عليه) هو المصداق الأكبر لخليفة الله تعالى في أرضه، قائماً كان أو قاعداً، حيّاً كان أو ميتاً، حاضراً كان أو غائباً، فهو إمام على أيّة حال، ويمارس مهامّه ومسؤوليّاته الموكلة إليه.
والإمام المهدي (عجل الله ظهوره) ليس استثناءً عن هذه الحقيقة، ولا غيابه يدفع به إلى الانزواء والقعود عن أداء دوره الأخطر، وهو دور قيادة المؤمنين في عصر الغيبة المؤلم عليه وعلى شيعته وإلا لكان الإشكال صادقاً وفي محلّه؛ حول الحكمة من ولادته وغيبته.
ولطالما تناهى إلى أسماع المؤمنين ما يجعلهم على ثقة تامّة واطمئنان كامل بما يثبت المرّة بعد الأخرى وجوده المبارك (سلام الله عليه) ودوره القيادي للأمّة المؤمنة، فكما أنعم على الشيخ المفيد رضوان الله عليه بالمراسلة والتوجيه وكشف المحجوب عن بصيرته، كذلك قام (سلام الله عليه) بما يتنبّه إليه هذا العالم المرجع أو ذاك - باعتبارهم نوّابه الشرعيين وفق النيابة العامّة - وهناك من القصص الموثقة والحوادث المشهودة ما يفوق حدَّ الإحصاء عن تفضله وإكرامه للشيعة وعلمائهم.
ولا عجب في ذلك، لأنه غير مهمل لذكرهم ولا ناسٍ لأمرهم. فهو

(٦٥)

يمارس توجيهه المأذون له فيه حتى في القضايا الفردية البادية البساطة.
فممّا نقله السيد الوالد (رحمه الله) قوله:
كنت مواظباً على قراءة دعاء الندبة وحدي في سرداب الغيبة في سامراء المشرّفة. وذات يوم كعادتي كنت أقرأه، ولمّا بلغتُ عبارة: وعرجت به إلى سمائك قرأتها بعبارة (وعرجت بروحه إلى سمائك) - حسب بعض النسخ - وهذا يعني تغيير المعنى تماماً، حينها سمعت بأذني أنّ هناك من يصحّح لي ما قرأته حسب تلك النسخة، ليتمّ المعنى على أنّ المعراج النبوي كان روحياً وبدنياً، وأدركت في الساعة أنّ المتحدّث إليّ ليس إلّا ولي الأمر الإمام الحجّة عليه الصلاة والسلام.
وقد وقع نظير هذا الفعل من الإمام المهديّ (عجَّل الله تعالى فرجه) لعدد من العلماء وفي أماكن مختلفة، مما يشير إلى أنّ الإمام يأخذ بأيدي نوّابه الحقيقيّين إلى جادّة الصواب حتى في الحالات الفردية.
أما قيادة الإمام المهديّ (عجَّل الله تعالى فرجه) لشيعته ومحبّيه؛ فقد أضحت عبر ما ثبت من الوقائع والكرامات المهدوية ما يفوق العدّ والتصنيف، إذ أنقذهم
سلام الله عليه ولا يزال ينقذهم من أشكل المشكلات وأعقد الأزمات.
وقطرة من ذلك؛ ما روي عمّا أصبح يعرف فيما بعد بحادثة (مسجد الرمّانة) في البحرين، وهو المسجد الذي لا يزال قائماً فيها حتى الآن. إذ روي أنّ الوزير الأوّل لأحد ولاة البحرين - إبّان فترة رزوحها تحت سيطرة الاستعمار البرتغالي - كان ينصب العداء لأهل البيت سلام الله عليهم ومحبّيهم؛

(٦٦)

فاختلى ذات يوم بالوالي الذي كان يشاركه بشيءٍ من العداء للشيعة، وأغراه في إلحاق الأذى بالشيعة عبر مؤامرة وسوس له الشيطان بها، إذ جاء برمّانة يبدو منقوشاً عليها عبارة: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ خلفاء رسول الله..) وتحدّاهم بأن يأتوا ببرهان أقوى حجّة من هذه الرمّانة تؤيّد مسلكهم أو يضطرّهم إلى الرجوع عن مذهبهم، أو دفع الجزية كما الكفار، أو قتل رجالهم وسبي نسائهم وأولادهم.
ولكنّ الإمام المهدي صلوات الله عليه أنقذ محبّيه وشيعته من هذه المؤامرة والخطر الداهم، عبر إخباره أحد الفضلاء الأتقياء - بعد أن أعيت الشيعة وضاقت بهم السبل - بما قام به الوزير الناصبي من وضع قوالب نقشت عليها العبارات المذكورة حول الرمانة، لتبدو طبيعية في حال نموّها في الشجرة، بل وأنبأه الإمام بمكان تلك القوالب التي أخفاها الوزير في بيته، وقد قتله الملك بعد اتضاح تفاصيل المؤامرة وأعلن اعتناقه المذهب الحقّ والولاية للأئمّة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين(67).
ومن مصاديق قيادته (سلام الله عليه)؛ اهتمامه بتوفير الإجابات على المسائل العقائدية والشرعية التي يتحيّر فيها العلماء والفقهاء في بعض الأحيان، ومن ذلك ما وقع للعالم التقيّ الفاضل المولى المقدّس الأردبيلي رضوان الله عليه، فقد كان ذا كرامات نادرة لرفيع منزلته لدى الأئمّة الأطهار صلوات الله عليهم. فحيث كان قد فكّر في بعض المسائل وقد أغلقت عليه، أن يذهب إلى الإمام أمير المؤمنين (سلام الله عليه)؛ علّه يلطف بالجواب عليه. وفي هذه الأثناء وبعد طول التماس أوكله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(67) بحار الأنوار:ج52، ص178ـ 180، باب نادر فيمن رآه (سلام الله عليه) قريباً من زماننا.

(٦٧)

إلى إمام العصر والزمان صلوات الله عليه باعتباره الإمام الموكول له أمر قيادة الأمّة والعلماء، فقصد مسجد الكوفة وسأل الإمام (عجَّل الله تعالى فرجه) عن مسائله كلّها، فأجابه بكلّ لطف وإكرام(68).
أقول: هناك الكثير جداً من الشواهد التي لا تقبل الردّ ولا تحتمل الشكّ، في أنّ إمام العصر والزمان (سلام الله عليه) هو صاحب اليد الطولى - بإذن الله تعالى - في المحافظة على كيان الدين والتشيّع وسلامة الشيعة من كثير من الأخطار، ولولا ألطافه وكراماته ومكرماته لساخت الأرض بأهلها ولتناوش الأعداءُ المحبّين والموالين لأهل بيت العصمة والطهارة من كلّ حدب وصوب.
وليست رسالته (عجَّل الله تعالى فرجه) للشيخ المفيد إلا نموذجاً واحداً - وإن كان بارزاً ومميّزاً - لرعايته (سلام الله عليه) لعلماء شيعته الذين يقرّون جميعاً بحاجتهم إلى الألطاف المهدوية أكثر من حاجتهم إلى الماء والهواء(69).
إنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) هو إمامنا الحيّ المنتظر، ومنذ ذاك اليوم الذي غاب فيه - في ربيع الأول عام 260هـ.- وإلى حين فرجه الشريف، والشيعة في ترقّب وانتظار؛ مشرئبّة أعناقهم لوقت ظهوره المبارك، لاعتقادهم بأنّه البقية الخاتمة لحجج الله على خلقه، وأنّ جميع أمورهم موكلة إليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(68) بحار الأنوار: ج52، ص159 - 180، الباب 23 فيمن رآه (سلام الله عليه).
(69) يراجع بهذا الصدد الكتب الخاصة التي دوّنت لقاءات الإمام (عجل الله فرجه) لجملة من العظماء الأتقياء والفقهاء، ومنها الجزء (52) من موسوعة البحار، وكتباً فارسية
المتن دوّنها كبار الكتّاب ونقلوا فيها مئات اللقاءات والكرامات التي تواترت عن ألسن الفقهاء والعلماء ممن رأوه (سلام الله عليه) أو نقلوا أخبار كراماته وألطافه بهم.

(٦٨)

وبالطبع، فهو إمام الممكنات كلّها، وهذا مبحث من مباحث أصول الدين تمّت مناقشته باستفاضة في مظانّه، كما نوقشت الأدلّة الخاصة به، وقد وردت روايات عن الأئمّة المعصومين (سلام الله عليهم) في هذا الصدد(70).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(70) لقد نهض العلامة المجلسي (رحمه الله) بجمع الروايات المرتبطة بالموضوع في كتابه (بحار الأنوار) في باب أصول الدين، وكذلك في أبواب أحوال المعصومين (سلام الله عليهم)، منها ما روي عن: الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي، عن فرات بن إبراهيم الكوفي عن محمد بن أحمد بن علي الهمداني، عن العباس بن عبد الله البخاري، عن محمد بن القاسم بن إبراهيم، عن أبي الصلت الهروي، عن الرضا، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما خلق الله عزّ وجل خلقاً أفضل مني، ولا أكرم عليه مني، قال علي (عليه السلام): فقلت: يا رسول الله فأنت أفضل أو جبرئيل؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): يا علي إن الله تبارك وتعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين، وفضّلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك، وإنّ الملائكة لخدّامنا، وخدّام محبّينا، يا علي، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ولا الجنّة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه، لأنّ أول ما خلق الله عزّ وجل خلق أرواحنا، فأنطقنا بتوحيده وتحميده ثم خلق الملائكة، فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً، استعظموا أمرنا، فسبّحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون، وأنّه منزّه عن صفاتنا، فسبّحت الملائكة بتسبيحنا، ونزّهته عن صفاتنا، فلما شاهدوا عظم شأننا، هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله، وأنا عبيد ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه، أو دونه، قالوا: لا إله إلا الله، فلما شاهدوا كبر محلّنا كبّرنا لتعلم الملائكة أنّ الله أكبر من أن ينال عظم المحلّ إلا به، فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العزّ والقوّة، قلنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله. فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا: الحمد لله، لتعلم الملائكة ما يحقّ لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمته، فقالت الملائكة: الحمد لله، فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده. ثم إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا وإكراماً...) بحار الأنوار: ج 81 ص 345. انظر أيضاً: علل الشرائع: ج 1 ص 5 ح1 باب7 - العلة التي من أجلها صارت الأنبياء والرسل والحجج أفضل من الملائكة (ط. المطبعة الحيدرية - النجف الأشرف)؛ الفصول المهمة: ج1 ص 409 ح10 باب 101ـ أن النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة الاثني عشر (سلام الله عليهم) أفضل من سائر المخلوقات من الأنبياء والأوصياء السابقين والملائكة وغيرهم. حلية الأبرار: ج1 ص 9 ح1 باب1 - في شأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ مستدرك سفينة البحار: ج 8 ص 215 الروايات في أن محمداً وآله صلوات الله وسلامه عليهم أفضل خلق الله تعالى؛ كما ذكره القندوزي في ينابيع المودّة: ج 3 ص 377 باب 93 في ذكر خليفة النبي (صلّى الله عليه وآله) مع أوصيائه (سلام الله عليهم).

(٦٩)

كيف تلقّى الشيخ المفيد رسائل الإمام؟
طبقاً للآثار، فقد تلقّى الشيخ المفيد ثلاث رسائل من الإمام، وصلتنا اثنتان منها، بينما يُعتقد بتلف الثالثة أثناء حوادث حرق المكتبات. إلّا أنّ السيّد بحر العلوم(71) يثير مسألة جديرة في المقام في كتابه (الفوائد الرجالية) وهي: كيف تسلّم الشيخ المفيد الرسالة من الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) مع أنّه لم يتشرّف بلقائه (عجل الله فرجه) ولم يكن هناك نائب للإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) في ذلك الوقت ليسلّمها إليه؟
فيقول: وقد يشكل أمر هذا التوقيع بوقوعه في الغيبة الكبرى مع جهالة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(71) هو السيد محمد مهدي بن مرتضى بحر العلوم (115- 1212هـ) أحد تلامذة الشيخ يوسف البحراني والسيد حسين القزويني والأغا محمد باقر هزار جريبي، رحل عن الدنيا وله من العمر (57) عاماً ودفن إلى جوار الشيخ الطوسي في النجف الأشرف. راجع ريحانة الأدب: ج1، ص234- 235.

(٧٠)

حال المبلّغ ودعواه المشاهدة المنفية بعد الغيبة الكبرى.
ويجيب (رحمه الله) بقوله: ويمكن دفعه باحتمال حصول العلم بمقتضى القرائن واشتمال التوقيع على الملاحم والإخبار عن الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله وأولياؤه بإظهاره لهم، وإنّ المشاهدة المنفية: أن شاهد الإمام ويعلم أنّه الحجة (سلام الله عليه) حال مشاهدته له، ولم يعلم من المبلّغ ادّعاؤه لذلك. وقد يمنع - أيضاً - امتناعها في شأن الخواصّ، وإن اقتضاه ظاهر النصوص بشهادة الاعتبار، ودلالة بعض الآثار(72).
عظمة الشيخ المفيد
تستوقفنا هنا قضيّة مهمّة جدّاً وهي أنّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) لم يخصّ أحداً غير الشيخ المفيد (رحمه الله) بمثل هذه الكلمات التي تحمل معاني العرفان بالإخلاص والولاء.
أجل، لا غرابة في أن يشهد فرد بصلاح فرد آخر وحسن سيرته، ولكن عندما تكون هذه الشهادة صادرة عن إمام معصوم يصبح الأمر مختلفاً تماماً، إنّها شهادة ترجح كفّتها على الدنيا وما فيها، لأنّ هذه الشهادة خالدة في ضمير العقيدة، لا تفنى ولا تزول مع الأيام، ولهذا وغيره نرى أنّ الشيخ المفيد رحل عن هذه الدنيا منذ قرابة الألف عام لكن ذكراه ما زالت حيّة تتجدّد على مرّ العصور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(72) الفوائد: ج3 ص 320.

(٧١)

واللافت للنظر في المقام أيضاً أنّه رغم المكانة الجليلة والمنزلة السامية التي حظي بها الشيخ المفيد إلا أنّي لم أجد في موضع ما أنّه تشرّف بلقاء الإمام المهدي أو كتب رسالة للإمام (عجّل الله تعالى فرجه) ولكن حيث إنّه أدّى واجباته على أتمّ ما كان ينتظره منه الإمام، فقد استحقّ عناية الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) ولطفه بجدارة، حتى أنّ الإمام نفسه خاطبه من خلال مراسلته له والتي ربما يظنّ الظانّ منها رغبته (عجّل الله تعالى فرجه) بالحديث إليه.
منزلة الشيخ المفيد عند العامّة
كان مجلس درس الشيخ المفيد يزخر بفطاحل علماء الخاصّة والعامّة(73)، كما اشتهر عنه أنّه حظي بمكانة رفيعة جعلت حتى أعداءه من الناصبة يثنون عليه لما كان عليه من خطر المكانة ونيافة الإمامة، فكان بحقّ نوراً على علم استضاء به القاصي والداني، الموالف والمخالف.
فمن علماء العامّة الذين ما وسعهم - رغم تعصّبهم - إلّا الثناء عليه الشيخ عبد الله اليافعي(74) صاحب كتاب (مرآة الجنان) المليء بالدسّ(75). فرغم تحامله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(73) وصف مجلسه ابن كثير الدمشقي، قائلاً: وكان مجلسه يحضره كثير من العلماء من سائر الطوائف. راجع البداية والنهاية: ج12 ص 19 ضمن أحوال سنة 413 (ط. دار إحياء التراث العربي - بيروت).
(74) عبد الله بن أسعد اليافعي (698- 768هـ) أحد مشايخ الصوفية، شافعي المذهب. (ريحانة الأدب: ج6، ص386- 387).
(75) ومما يعكس تعصّبه ما أورد في كتابه: أنه يطلق الشيعة على كربلاء اسم حائر؛ لأنّهم يقولون: (أثناء محاولة السلطات العباسية إغراق قبر الإمام الحسين (سلام الله عليه) وصل الماء إلى حافّة القبر ثم غيّر مسيره بعيداً عنه، ولذلك قيل: حار الماء وتوقّف عند القبر). ثم يعلّق (اليافعي) في معرض روايته لهذا الخبر ويسخر من الشيعة متسائلاً: لا أدري هل الماء مكلّف كما البشر، أو هو كالملائكة له إحساس وشعور؟
ولكنّه حين يتعرض لما يسمّيه كرامات أحمد بن حنبل يقول: في إحدى السنوات طغى ماء دجلة وأغرق جميع المنازل، لكنه عندما وصل إلى قبر أحمد بن حنبل انحسر ولم يقترب منه، ليجدوا بعد ذلك حصيراً بالقرب من القبر لا تزال الغبرة تعلوه ولم تصله الرطوبة أبداً (انتهى).
وهذا لعمري، من أغرب المفارقات، فحينما يتعلّق الأمر بالإمام الحسين (سلام الله عليه) يصبح انقياد الماء لإرادة الله تعالى مثيراً للسخرية عند اليافعي، ولكنه مع أحمد بن حنبل يصبح عاقلاً ذا إحساس وشعور!!

(٧٢)

على الشيعة وعلمائهم إلّا أنّه لم يتمالك نفسه في مدح الشيخ المفيد عند تعرّضه لحوادث سنة 413 للهجرة.
أجل؛ لقد قال بعض علماء العامّة بعد رحيل الشيخ المفيد: (أراحنا الله منه)، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فأقام مراسم الاحتفال والسرور وتزيين جدران داره بهذه المناسبة، ولكنهم أيضاً اعترفوا له بالفضل والمنزلة.
الإمام ينعى الشيخ المفيد
نستطيع أن ندرك عظمة منزلة الشيخ المفيد عند الإمام المهدي (عجل الله فرجه) من خلال كلمات النعي التي قالها (عجّل الله تعالى فرجه) بحقّه حين وافته المنية ورحل عن الدنيا:

لا صوّت الناعي بفقدك إنّه * * * يوم على آل الرسول عظيم(76)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(76) ورد في كتاب بحار الأنوار: ج53، ص256 ما يلي:
الحكاية الخامسة والعشرون
قال السيد القاضي نور الله الشوشتري (956- 1019هـ) في (مجالس المؤمنين) ما معناه: إنّه وجد هذه الأبيات بخط الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) مكتوبة على قبر الشيخ المفيد (رحمه الله):

لا صوّت الناعي بفقدك إنّه * * * يوم على آل الرسول عظيم
إن كنت قد غُيِّبت في جدث الثرى * * * فالعدل والتوحيد فيك مقيم
والقائم المهدي يفرح كلّما * * * تليت عليك من الدروس علوم

(٧٣)

وأيّ زهو وفخر أسمى من أن يخاطبه الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) بهذه الكلمات:
(سلام عليك أيّها العبد الصالح الناصر للحق الداعي بكلمة الصدق).
إن صدور هذه الكلمات من إمام معصوم إلى شخص غير معصوم مسألة في غاية الأهمية؛ ترى ما الذي فعله الشيخ المفيد (رحمه الله) ليستحقّ كل هذا الإطراء والثناء من جانب الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه)؟
تحمّل الشيخ المفيد لمسؤوليّته
يقول العالم الباحث آية الله المرعشي النجفي (قدّس سرّه):
لقد نذر الشيخ المفيد نفسه للبحث والمناظرة، فكانت له مناظرات مختلفة مع علماء جميع الأديان، حتى لقد حضرته مجموعة من العلماء وطلبت منه موعداً لمناظرته، فقال الشيخ: لا وقت عندي، فقالوا: يا شيخ، لقد حضرنا من مكان بعيد، ونريد العودة، فتأمّل الشيخ قليلاً وقال: ليس عندي مجال سوى ساعتين تسبقان أذان الصبح، فباستطاعتكم الحضور في هذا

(٧٤)

الوقت لعدّة مرات، فقالوا: لا بأس نهجع في النهار ونأتي سحراً للمناظرة.
سؤال يطرح نفسه: ألم يكن الشيخ يخلد للنوم؟
يذكر التاريخ أنّ مجلس درسه كان يعجّ بكثير من الشخصيات كأبي العلاء المعرّي وكثير من المتصوّفة.
وعرف الشيخ المفيد بقوّة ذاكرته فكان مضرب الأمثال عند العامّة والخاصّة، وبعبارة موجزة لقد رهن حياته لخدمة أهل البيت (سلام الله عليهم)، فكان مصداقاً للآية الكريمة (يَهْدونَ بأمْرِنا)(77) حيث تدور جميع روايات الأئمة (سلام الله عليهم) حول هذا المحور أي هداية الناس من الضلالة والانحراف والجهالة(78).
إنّ ما يريده الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) من شيعته هو أن يسعوا في هداية الناس، حيث يحتاج الأمر إلى بعض الخطوات التمهيدية، منها حسن المعاشرة وطلب العلم وسلوك طريق المداراة مع العدوّ والصديق.
ولذلك يذكر الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) في رسائله للشيخ المفيد كلمة (الصدق) مرّات عدّة، وهي كلمة تحتاج إلى سنوات طويلة لبلوغها. فإذا تراجعت (الأنا) عن الفرد وحلّ محلّها الإيثار، صار حقيقاً أن يصبح اللباس الخشن والناعم، والغذاء الجيد والعادي سيّان عند الإنسان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(77) سورة الأنبياء، الآية 73.
(78) راجع الهامش (2) ص 55، كما قال الإمام علي بن محمد (سلام الله عليهما): (لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه والدالّين والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين...) منية المريد: ص118.

(٧٥)

حقّاً إنّه لأمر صعب أن يسعى المرء ليكون بمستوى الشيخ المفيد، إلا بعد أن يفني ذاته في مرضاة مولاه.
لذا نرى في عصرنا الحالي وبسبب فقدان الثقة بأكثر العلماء أنّ الناس قد توزّعوا فرقاً أشتاتاً، وأكثرهم هائمون في بحر الغفلة، فلو كان العالم محلّ ثقة، لاستطاع أن يهدي كثيراً من الناس إلى دين الله أفواجاً وجماعات، لكنّه فقد حتّى ثقة أهله وولده به، فلا أمل يرجى منه.
في الختام، أسأل الله بحقّ الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) أن يغدق علينا من ألطافه، ويسدّد خطانا لإنجاز كلّ ما يصبّ في السبيل المرضيّ عنده.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

(٧٦)

ملاحظات.. وإجابات

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله ربّ العالمين وصلوات الله على خير خلقه أجمعين محمّد المصطفى وعترته الطاهرين.
وبعد: هذه بعض الملاحظات التي وردت من بعض الإخوة الكرام بعد مطالعته لكتاب (عبير الرحمة)، الأمر الذي حتّم علينا نقلها إلى مكتب سماحة السيّد المرجع حفظه الله تعالى. وبعد أن قُرّر ما استمع عن سماحته من جواب قمنا بإلحاقها والأجوبة معاً بالكتاب؛ إتماماً للفائدة.
نسأل الله القريب المجيب أن يتقبّل ذلك كلّه بقبول حسن، ويكون مورد رضا ودعاء سيّدنا ومولانا الحجّة بن الحسن (عجّل الله تعالى فرجه)، وكفى.

المؤسسة

(٧٧)

الملاحظات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
بكلّ تواضع وإجلال سيّدنا الموقّر، نورد على ساحة موفور علمكم بعضاً ممّا علق في أذهاننا عن معلومات اقترفناها من بعض جهودكم في التأليف والتحقيق، وهي بعض الملاحظات على مناقشاتكم للروايات الواردة عن الإمام خاتم الحجج (عجّل الله تعالى فرجه) والتي ذكرتموها في كتاب (عبير الرحمة)(79) تحت عنوان الروايات الموضوعة.
أما الرواية الأولى
فلنا فيها ملاحظتان، الأولى في السند، والثانية في الدلالة.
1. الملاحظة الأولى: فيما يخصّ محمد بن علي الكوفي.
ـ ذكر أهل الدراية: أن من وُصف بالكذب لنسبة الغلوّ فيه لا من جهة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(79) وهو تقرير لبعض محاضراته دام ظلّه.

(٧٨)

الضعف في نفسه، لا يمنع الاستماع إليه برواية جملة من الأجلاّء عنه (انظر معجم رجال الحديث للخوئي: 17/ 170).
ـ والذي يؤيده ما ذكرتموه في محاضرة (أحسن الأعمال) (في ظلال مكارم الأخلاق) قولكم في الحسن بن محبوب، أنّه من أصحاب الإجماع، حيث قلتم: كما قال جمهرة من الفقهاء إنّ رواية أصحاب الإجماع عن المجهولين لا تضرّ بصحّة السند.
ـ فضلاً عما روي عن الإمام الحسن العسكري (سلام الله عليه) في قوله: (خذوا ما رووا وذروا ما رأوا) والذي كان من مصاديقه بنو فضّال الذين توقّفوا عند الإمام الكاظم (سلام الله عليه) وزعموا فيه أنّه الخاتم من الأئمة (سلام الله عليهم) وقالوا فيه وغالوا وقصّتهم معروفة لديكم، مما يوحي من مفهوم الرواية أنّه يمكن غضّ الطرف عن السند أو التجاوز عند بعض رواته فيما إذا ما ستوفت الرواية شروطها الواقعية أو الحالية بعدم مخالفتها لكتاب الله المجيد؛ بدليل قولهم (سلام الله عليهم): (ما آتاكم عنّا فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوا به وما خالفه فاطرحوه) (الاستبصار: 3/ 158).
ـ أما ما روي عن الفضل بن شاذان في كونه أوشك أن يقنت في صلاته، كما في السياق المرويّ عنه، إنّما كان هذا في خصوص محمد بن علي بن إبراهيم بن موسى أبو جعفر القرشي مولاهم الصيرفي يكنّى أبو سمينة. كما عدّه أيضاً من أشهر الكذّابين (راجع ترجمته في اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي: 2/ 823، رقم 1033).
كما عدّه القهباني في أصحاب الإمام الرضا (سلام الله عليه) (راجع مجمع الرجال: 5/ 263).

(٧٩)

ويذكر غالباً في المسانيد باسم محمد بن علي القرشي أو الصيرفي أو الكوفي ونادراً ما يأتي به. ويكنى أبو سمينة.
وذكره الطوسي في رجاله بصفة القرشي في قوله: محمد بن علي القرشي، حين ذكره في أصحاب الإمام الرضا (سلام الله عليه) (راجع رجال الطوسي: 387).
2. أما فيما يخصّ الدلالة أو متن الرواية، فأقول:
بلا خلاف، إنّها غير معارضة لكتاب الله المجيد. وجملة (يبقر بطون الحبالى) الواردة فيها والتي كان عليها مأخذكم، لا تشكّل إيهاماً البتّة! فهي أحد المصاديق العليا في إئتمار الإمام (عجَّل الله تعالى فرجه) بالكتاب الذي بين يديه، فضلاً عن علمه بضمائر الناس. وهذا الأمر لا يُنكر على آبائه وأجداده الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، فمن باب أولى لا ينكر على خاتم الحجج (عجّل الله تعالى فرجه).
أما عدم معارضتها لكتاب الله المجيد فتظهره الآية بل الآيات المباركة التي تحكي قصة الخضر مع موسى (سلام الله عليهما) في قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال قتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكرا) وهذه الوقائع وبالذات تلك الواقعة المذكورة في الآية الكريمة آنفاً تعدّ مصداقاً حيّاً لمن يأتي من بعد لينكر على الإمام (عجَّل الله تعالى فرجه) عمله بعلمه الذي اُودع فيه.
هذه إذا سلّمنا أنّ مقصود الرواية يراد منه النساء الحوامل. وإن كان هذا بعيداً!
ثم إنّ عبارة (الحبالى) جاءت بمعنى العموم المظهر لإمكان إطلاقها على كل من يضمر في داخله شيئاً ما. لذا يمكن أن يوصف بها آل أمية الذين ما

(٨٠)

فتئوا يضمرون البغض والعداء لمحمد وآل محمد صلوات الله عليهم، والرواية ذاتها تبرز هذا الأمر من خلال هروبهم إلى النصارى، وتنصّرهم وأكلهم لحم الخنزير وشربهم للخمور حتى وصل الأمر أن علّقوا الصلبان وارتدّوا عن دينهم الإسلام - إن كان لهم دين ـ.
وهذا التوجيه للرواية يمكن أن ينهض بوجود الأدلّة أو القرائن، والتي منها:
أ‌. عدم إتيان لفظة النساء أو استبدال الحبالى بالحوامل إلى غير ذلك من المعاني التي يمكن أن لا توجب اللبس.
ب‌. يمكن أن يراد من الحوامل، المطايا والعربات التي تحمل الجنود، وبَقْرها يعني استنزاف ما بداخلها، إلى غير ذلك. ثم بأيهما أخذت سواء بمقصود النساء الحوامل أم غير ذلك فأنت مصيب ولم تكن قد جاوزت بها الحدّ.
أما الرواية الثانية:
وهذا نصّها:
أخبرنا عليّ بن الحسين، قال: ثنا محمّد بن يحيى العطّار، عن محمّد بن حسّان الرازي، عن محمّد بن علي الكوفيّ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن عبد الله بن بكير، عن أبيه، عن زرارة، عن أبي جعفر (سلام الله عليه)، قال: اسمه اسمي. قلت: أيسير بسيرة جدّه (صلّى الله عليه وآله)؟ قال: هيهات، هيهات يا

(٨١)

زرارة، ما يسير بسيرته! قلت: لم؟ قال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سار في أمّته بالمنّ، كان يتألّف الناس، والقائم يسير بالقتل، بذاك أُمر في الكتاب الذي معه، أن يسير بالقتل لا يستتيب أحداً (غيبة النعماني: 231، ح14).
ـ أيضاً رواية أخرى بنفس السياق، تعضد الرواية الثانية من الكتاب (عبير الرحمة) وهي:
عن ابن عقدة، عن علي بن الحسين، عن محمد بن خالد، عن الحسن بن هارون - بيّاع الأنماط - قال: كنت عند أبي عبد الله (سلام الله عليه) جالساً، فسأله المعلى بن خنيس: أيسير القائم (عجَّل الله تعالى فرجه) إذا سار بخلاف سيرة علي (سلام الله عليه)؟ فقال: نعم. وذاك أنّ علياً سار بالمنّ والكفّ لأنّه علم أنّ شيعته سيظهر عليهم من بعده، وأنّ القائم (عجّل الله تعالى فرجه) إذا قام سار فيهم بالسيف والسبي، وذلك أنّه يعلم أنّ شيعته لم يظهر عليهم من بعده أحد. (غيبة النعماني: 232، ح16).
وعلى كل التقادير فإنّ سياسة السيف لم تكن منافية قط لسياسة العدل والحقّ ما دام بقبضة يد العادل الحق، ولنا في طالوت وذي القرنين وخاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عيه وآله وعليهما أسوة حسنة فيما قصّه القرآن الكريم من حال كلّ منهم.
ـ فضلا عن ذاك فقد ورد في كتابكم الموقّر (المهدي في القرآن) أكثر من رواية استدللتم بها تشير إلى وضع السيف في الأمّة ومن خالفها ولم تعلّقوا عليها بالبطلان أو تعالجوها من خلال الحلّ والنقض! انظر الصفحات:
ـ 62 - 64 في قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ...).

(٨٢)

ـ 75 في قوله تعالى: (قال لو أنّ لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد).
ـ 153 في قوله تعالى: (ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى...)
ـ 209 في قوله تعالى: (لو تزيّلوا لعذبنا الذين كفروا...)
ـ 225 في قوله تعالى: (يُعرف المجرمون بسيماهم...)
إلى غير ذلك. إلا أنّا توخّينا عدم الإسهاب.
أما الرواية الثالثة:
فحوى هذه الرواية عدم استراحة القوم من وجود الإمام (عجَّل الله تعالى فرجه) وتمنّيهم عدم لقياه، وهذا لا يخلو عن نظرة سايكلوجية في البنية التربوية والعقائدية التي تجذّرت في نفوسهم واُشربت بها عقولهم فضلاً عن الموروث التكويني الذي انتقل إليهم عن أسلافهم أعداء الحقّ وأنصار الباطل. ونفس الأمر قد جرى على أنبياء الله ورسله (سلام الله عليهم). وليس بمنسيّ ما جرى على المصطفى والمرتضى صلى الله عليهما وآلهما من بغض وشدّة كره من أتباع الشيطان وضلاّل الأمّة.
كما أنّ المقارنة بالمسرف الثقفي ليس لها محلّ في البين، للبون الشاسع بين سيف الحقّ وسيف الباطل الذي كان يحمله ذلك الحجّاج السفاح.
أما الرواية الرابعة:
فإذا كان من أمر المدعوّ محمد بن علي الكوفي أنّه قد دسّ اسم الحنّاط وغيره في مرويّاته تحت أسانيدها، فيا ترى من ذا الذي دسّ اسم علي بن

(٨٣)

الحسين - والد الصدوق - فضلاً عن جملة من الأجلاّء الذين رووا عنه؟!
كما أنّ عدم استتابة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) لأحد، لا يعدو عن كونه ائتماراً بالكتاب الذي معه. وأيضاً لعلمه (عجّل الله تعالى فرجه) بعدم جدوى الاستتابة في البين.
أما الرواية الخامسة:
ووردت عن إمامين معصومين (سلام الله عليهما) بالمثل أو بالنحو.
الأولى: وردت عن الإمام علي بن الحسين (سلام الله عليهما) كما في خرائج الراوندي، حيث قال: وقيل لعلي بن الحسين (سلام الله عليهما): صف لنا خروج المهدي، وعرّفنا دلائله وعلاماته؟
فقال: (يكون قبل خروجه رجل يقال له (عوف السلمي) بأرض الجزيرة، ويكون مأواه تكريت، وقتله بمسجد دمشق... وقال: ما تستعجلون بخروج القائم (عجَّل الله تعالى فرجه)! فوالله ما لباسه الا الغليظ، وما طعامه الا الشعير الجشيب، وما هو الا السيف والموت تحت ظلّ السيف...). (الخرائج والجرائح: 3/ 1155، ح61).
الثانية: عن الإمام الصادق (سلام الله عليه) بطريقين، الأول: كما ورد في الكتاب. والثاني: عن أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، قال: ثنا أحمد بن يوسف بن يعقوب أبو الحسن الجعفي، قال ثنا اسماعيل بن مهران، قال ثنا الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه ووهيب، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله
سلام الله عليه، أنّه قال: (إذا خرج القائم (عجّل الله تعالى فرجه) لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف، ما يأخذ منها إلّا السيف. وما يستعجلون بخروج القائم (عجّل الله تعالى فرجه)! والله ما لباسه إلا الغليظ، وما طعامه إلا الشعير الجشب، وما هو إلّا السيف، والموت تحت ظلّ السيف). (غيبة النعماني: 234، ح21).

(٨٤)

فقد رويت بطريقين إضافة إلى ما ورد في طريق الكتاب.
الأول: عن أبي عبد الله الحسين بن علي (سلام الله عليهما)، أنّه قال:
(إذا خرج المهديّ (عليه السلام) لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف، وما يستعجلون بخروج المهدي! والله ما لباسه إلا الغليظ ولا طعامه إلا الشعير، وما هو إلا السيف، والموت تحت ظلّ السيف). (كلمات الإمام الحسين (سلام الله عليه) للقرشي: 663، ح16، باب 8 - في الأئمة من بعده (سلام الله عليه)، ونصه (سلام الله عليه) على إمامة علي بن الحسين (سلام الله عليهما)، عن عقد الدرر: 228).
الثاني: عن كتاب الفضل بن شاذان، يرفعه إلى عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (سلام الله عليه) أنّه قال: (إذا خرج القائم (عليه السلام) لم يكن بينه وبين العرب والفرس إلا السيف، لا يأخذ منها إلا السيف ولا يعطيها الا به). (عنه بحار الأنوار: 52/ 389، ح210).
أقول قولي هذا بعد شكري وامتناني لموفور حظكم وسعة صدركم والحمد لله رب العالمين.
هذا من فضل الله ورسوله وآل بيت رسوله صلوات الله عليهم أجمعين.

(٨٥)

الإجابات

جواب الملاحظة الأولى على سند الرواية الأولى
أمّا جواب الملاحظة الأولى فيما يخصّ الكوفي: فإنّ الكوفي ليس ممن وصف بالكذب من أجل غلوّه بل من أجل كونه وضّاعاً للحديث أو كونه مجهولاً أو مهملاً، وذلك لأن من كان كذلك أي، بأن كان فاسد العقيدة ولكنه كان ثقة في كلامه وصادقاً في لسانه كان معتبراً - على بعض الأقوال ـ.
وأمّا الذي ذُكر مؤيداً: من أنّ رواية أصحاب الإجماع عن المجهولين لا تضرّ بصحة السند، فهو صريح في اعتبار شيوخهم، لأنه يقول: (رواية أصحاب الإجماع عن المجهولين) لا تلاميذهم المجهولين الذين رووا
ـ بزعمهم - عن أصحاب الإجماع كالذي نحن فيه، فإن الكوفي ليس من شيوخ أحد من أصحاب الإجماع، وإنما روى - حسب زعمه - عنهم.
وأمّا دعم التأييد بقوله: (خذوا ما رووا) فإنّه يصدق على فاسدي العقيدة، الثقات في لسانهم - على بعض الأقوال - ولا يشمل ما نحن فيه وضّاع الحديث أو المجهول أو المهمل. وأما الذي ذكر في كون المقنوت عليه

(٨٦)

إنساناً ثانياً غير ما نحن فيه، فإن هذه الاثنينية لمحمد بن علي الكوفي، لا تجدي لتعديل ما نحن فيه على كل تقدير، وذلك لأنه:
أ‌. هو اجتهاد من البعض، مع أنّ الأصحّ - تبعاً لجمهرة من أهل الخبرة - أنّهما اسمان لشخص واحد.
ب. وعلى فرض الإثنينية، فالجهالة عمّا نحن فيه لا ترتفع بذلك. فيبقى محمد بن علي الكوفي فيما نحن فيه مجهولاً أو مهملاً.
جواب الملاحظة الثانية على متن الرواية الأولى
وأمّا جواب الملاحظة الثانية فيما يخصّ متن الرواية: فإنّ ظهور (يبقر بطون الحبالى) ظهور قاس وجاف، يتجانس مع سيرة الفراعنة والأكاسرة، ولا يتجانس مع سيرة الأنبياء والأوصياء الذين هم سفراء السماء ووسطاء الرحمة الإلهية الواسعة، فهي أجنبية عن قاموس لغات الأحاديث، وبعيدة غاية البعد عن الكلمات والمعاني الرقيقة العذبة التي تتّصف بها روايات أهل البيت
سلام الله عليهم ولذلك لا تصل النوبة في مثلها الى التوجيه والتأويل الذي ذُكر في توجيهها وتأويلها، وعليه: فكما أنّ بقر البطون لا ثبوت له واقعاً، فكذلك لا إثبات له ظاهراً أيضاً، إذ هم (سلام الله عليهم) مبرّؤون عن تطبيق مثل هذه الأمور غير اللائقة بهم.
وأما الغلام الذي كان أبواه مؤمنين في قصّة الخضر مع موسى، فهي قصّة في واقعة، ولها مقام إثبات قطعيّ ولا مقام إثبات هنا، ولا يقاس عليها سيرة خاتم الحجج الإلهية، ومنهج حكومته العادلة التي هي مطلع حكومة الله على

(٨٧)

يد أمنائه في الأرض، والتي تريد استقطاب كل الشعوب والأمم، والبقاء والاستمرار إلى يوم القيامة.
جواب الملاحظة على الرواية الثانية
وأما جواب الملاحظة على الرواية الثانية فيما يخصّ عدم سيره بسيرة جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وما ذكر معاضداً لها من أنّه يسير بخلاف سيرة علي (سلام الله عليه): فإنه مخالف للعصمة، إذ المعصوم هو الصدّيق، وجاء في معنى الصدّيق: أنّه يصدّق المعصوم الذي قبله في سيرته ولا يخطّئ شيئاً منها لا قولاً ولا فعلاً.
وبعبارة أخرى كما في زيارة الجامعة الكبيرة: (أشهد أنّ هذا سابق لكم فيما مضى، وجارٍ لكم فيما بقي، وإنّ أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة) فالسيرة التي مضى عليها الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعلي (سلام الله عليه) هي نفس السيرة التي يجري عليها الإمام المهدي (سلام الله عليه)، وذلك لأن أرواحهم ونورهم وطينتهم واحدة وهم صدّيقون يصدّق اللاحق السابق منهم ويصدق السابق اللاحق منهم أيضاً.
وعليه: فعدم سيره بسيرة جده وأبيه في هذه الروايات سقيم لا مقام إثبات له، بينما سيره بسيرة جدّه وأبيه في روايات أخرى مقام إثباته تامّ وصحيح، ولا تعارض بين الصحيح والسقيم.

(٨٨)

جواب: بذاك أمر
ومنه يُعرف أيضاً ما في: (بذاك اُمر في الكتاب الذي معه) إذ الله تبارك وتعالى لا يأمر إلا بالعدل والإحسان، فهو أيضاً كما أنّه لا مقام ثبوت له لا مقام إثبات له.
جواب: سياسة السيف
القول إنّ سياسة السيف لم تكن منافية لسياسة العدل، والتمثيل له بطالوت وذي القرنين وخاتم الأنبياء والمرسلين (صلّى الله عليه وآله) ففيه ما يلي:
1. إنّ سياسة السيف، يعني: سياسة القمع والإرهاب، لظهورها في ذلك، بينما سياسة العدل، يعني: سياسة المنطق والإقناع، وهما متنافيان.
2. إنّ التمثيل لسياسة السيف بسياسة طالوت وذي القرنين وخاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) تمثيل غير تامّ، إذ المستشكل نفسه يعترف بأنّ سيرة النبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله) كانت سيرة المنّ، وسياسته كانت سياسة المنطق والإقناع (لا إكراه في الدين) وكذلك كان طالوت وذو القرنين حيث أنّه لم يثبت تاريخياً أنّهم تبنّوا سيرة القمع وسياسة الإرهاب.
3. نعم، إنّهم لما كانوا يتواجهون مع العدو الظالم، الشاهر للسيف ليقضي على الرسل وعلى رسالات السماء، كانوا يشهرون السيف في وجهه إعلاماً منهم باستعدادهم للمواجهة والدفاع وليس أكثر، ولذلك كانوا لا يبدأون العدوّ بالقتال مع أنّ الغلبة - بحسب الفنّ العسكري - لمن أطلق الرصاصة الأولى. وهم (سلام الله عليهم) أعرف من غيرهم بالفنون

(٨٩)

العسكرية، فإنه مع ذلك كلّه كانوا يقدّمون للعدوّ النصيحة، ويدعونه للإيمان، ثم للصلح والهدنة، فإذا أصرّ العدو على الحرب وبدأ القتال، تصدّوا له بالردّ دفاعاً واحترازاً ليس أكثر.
وعليه: فأصل السيف (سيف العدل) في حالات الضرورة القصوى ولمجرّد الدفاع والاحتراز، لا كلام فيه، ولكنه - كما ترى - أخصّ من هذه الروايات الضعيفة سنداً، والشاذة في تاريخ جميع المعصومين (سلام الله عليهم) دلالة، حيث أنّها ظاهرة في سياسة القمع والإرهاب المنفية قطعاً عن أهل بيت الرحمة (سلام الله عليهم).
جواب الاستشكال بروايات (المهدي في القرآن)
وأما الجواب على الاستشکال بالروايات التي وردت في كتاب (المهدي في القرآن) ونحوه، فإن الهدف في ذلك الكتاب كان مجرّد سرد الروايات، ولم يكن المقصود: التحليل والتحقيق، بينما في هذه الكلمات الهدف هو التحقيق والتحليل الفقهي، وذلك في ضوء الموازين الدقيقة وبحسب المقاييس المتقنة، الواصلة إلينا عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، والموافقة للعقل والمنطق.
جواب الملاحظة على الرواية الثالثة
وأمّا جواب الملاحظة على الرواية الثالثة فيما يخصّ كراهة أكثر الناس رؤيته، وتنظيره بكراهة معاصري الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعلي (سلام الله عليه) فهو: أنّه

(٩٠)

تنظير مع الفارق، إذ في الصدر الأول كانت الكراهة - كما في التاريخ - من عدل النبي ووصيّه صلوات الله عليهما وآلهما، بينما في هذه الرواية كراهة الأكثر من كثرة قتله (سلام الله عليه) للناس وسفكه للدماء، كما كان الناس يكرهون الحجّاج لعدم سلامتهم من سيفه وبطشه، إذ قد صوّرت الرواية سيرة الإمام (سلام الله عليه) في القتل وسفك الدماء سيرة الحجّاج الثقفي الذي كان الناس يكرهونه خوف القتل، وعليه: فالمقايسة الواردة في عبير الرحمة والمقارنة - بحسب تصوير الرواية - في محلّها، بعكس المقايسة المذكورة في الملاحظة فإنها في غير محلّها.
جواب الملاحظة على الرواية الرابعة
وأمّا الجواب عن الملاحظة على الرواية الرابعة فيما يخص دسّ الكوفي أسماء الثقات ونسبة أكاذيبه إليهم وردّه بنقل الأجلاّء عنه كوالد الصدوق: فإنّه لا يؤخذ بذلك على مثل والد الصدوق وجملة من الأجلاّء الذين رووا عنه، وذلك لأنّ الرواة عنه بذكرهم الكوفي وبقية رجال السند، قد ألقوا عهدة التحقيق والتنقيب عن صحّة الرواية وسقمها إلى المطالعين والقارئين.
وأمّا الجواب عن عدم الاستتباب فقد اتَّضح ممّا سبق: من أنّه لا مقام إثبات له، وليس من دأبهم (سلام الله عليهم) ولا من سيرتهم ذلك.
جواب الملاحظة على الرواية الخامسة
أما جواب الملاحظة على الرواية الخامسة ودعمها بروايتين مشابهتين: فهو أنّ (ما هو إلا السيف) لا مقام إثبات له، مضافاً إلى الروايات الصحيحة

(٩١)

التي تعارضها من أنّه (سلام الله عليه) يسير بسيرة جدّه وأبيه صلوات الله عليهما وآلهما.
جواب الملاحظة على الرواية السادسة
وأما جواب الملاحظة على الرواية السادسة وتأكيدها بروايتين مرفوعتين: فإنه مضافاً إلى أنّ: (ما يأخذ منها إلا السيف) لا مقام إثبات له، أنّ المرفوعة لا تقاوم المسندة الصحيحة السند.

(٩٢)