اليمانيون قادمون
بقلم: علي الكوراني العاملي
الطبعة الأولى: 1436هـ-2015م
فهرس الموضوعات
مقدمة..................3
الفصل الأول: اليمن في عهد الملكة بلقيس والنبي سليمان (عليه السلام)..................9
دلالة قصة سليمان وبلقيس (عليهما السلام)..................9
ملاحظات في تفسير الآيات..................10
الفصل الثاني: من تاريخ اليمن قبل الإسلام..................17
قتل أصحاب الأخدود..................17
محاولة قيصر أن يبني كعبة مقابل كعبة إبراهيم (عليه السلام)..................18
قيصر يبعث أبرهة بجيش الفيل..................20
تحرير اليمن من الحبشة وعودة ملك حِمْيَر..................23
عبد المطلب يهنئ سيف بن ذي يزن..................26
الفصل الثالث: تفضيل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أهل اليمن على غيرهم..................27
أحاديث نبوية لا شك فيها..................27
محاولة القرشيين إبطال أحاديث مدح اليمن..................30
العموم والاستثناء في تفضيل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأهل اليمن..................33
عداء معاوية وبني أمية لأهل اليمن..................34
الفصل الرابع: بشارة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بفتح اليمن..................36
انهيار حكم الفُرس في اليمن وبداية الحكم الإسلامي..................36
رسالة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى كسرى..................37
أسلم باذان الفارسي وصار حاكم اليمن..................39
الأسود العنسي يدعي النبوة ويقتل باذان..................40
الفصل الخامس: فُتحت اليمن برسائل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجهاد علي (عليه السلام)..................45
رسائل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أهل اليمن ووفودهم إليه..................45
جهاد علي (عليه السلام) في فتح اليمن..................49
ادعى كعب الأحبار أنه لقي علياً (عليه السلام) في اليمن..................54
أهدى علي (عليه السلام) إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أفراساً من اليمن..................54
وأرسل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً (عليه السلام) لما ارتد عمرو بن معد يكرب..................54
وأرسل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً (عليه السلام) قاضياً إلى اليمن..................58
وثيقة صلح كتبها علي (عليه السلام) بين القبائل..................59
كذبوا على علي (عليه السلام) أنه ذم اليمنيين..................59
وبالغوا في دور معاذ وأبي عبيدة وأبي موسى في اليمن..................61
الفصل السادس: وفود أهل اليمن على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)..................66
موجز عن وفودهم برواية ابن سعد..................66
الفصل السابع: وفد نجران وقصة المباهلة..................74
كانت ولاية نجران فاتيكان الجزيرة العربية..................74
الفصل الثامن: أهل اليمن أبطال فتح القدس وسوريا وإيران..................80
مالك الأشتر جاهد مع علي (عليه السلام) في فتح اليمن..................80
أبو عامر الأشعري قائد مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حنين..................83
النخعيون أبطال النصر في القادسية..................85
مالك الأشتر بطل النصر في اليرموك..................86
بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ..................92
تفسير آيات العباد الموعودين..................94
إعلان هرقل الانسحاب من سوريا وفلسطين..................95
مطاردة الأشتر جيش الروم المنسحب..................95
دور البطل عمر بن معدي كرب في الفتوحات..................98
الفعل لهؤلاء الأبطال والاسم لسعد بن أبي وقاص!..................104
الفصل التاسع: بشارة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بدور اليمن في مستقبل العالم..................108
أحاديث اليماني من مصادر السنيين..................108
الحديث الأول: حديث اليماني الذي محاه معاوية!..................108
الحديث الثاني: توبة عبد الله بن عمرو العاص!..................109
الحديث الثالث: توبة عبد الله بن عمرو ثانيةً!..................110
الحديث الرابع: تأييد كعب الأحبار لتوبة ابن عمرو!..................110
الحديث الخامس: أبشركم بطاغية يماني!..................110
الحديث السادس: أن اليماني بعد المهدي (عليه السلام)..................111
الحديث السابع: أحاديث ورد فيها اسم المنصور اليماني..................113
أحاديث اليماني من طريق أهل البيت (عليهم السلام)..................115
الحديث الأول: اليماني أحد المحتومات الخمس..................115
الحديث الثاني: اليماني من المحتومات الست..................116
الحديث الثالث: المنصور اليماني..................116
الحديث الرابع: الفرَج إذا اختلف آل فلان وأقبل اليماني..................117
الحديث الخامس: اليماني يوالي علياً (عليه السلام)..................119
الحديث السادس: وخروج اليماني من اليمن..................120
الحديث السابع: السفياني واليماني والمرواني..................122
الحديث الثامن: اليماني والسفياني كفرسي رهان..................123
الحديث التاسع: أهدى الرايات راية اليماني..................123
الحديث العاشر: الترابط بين السفياني واليماني والخراساني..................124
الحديث الحادي عشر: قبل اليماني كاسر عينه بصنعاء..................125
الحديث الثاني عشر: يخرج قبل السفياني مصري ويماني..................126
مسائل حول اليماني..................126
المسألة الأولى: مكانة اليماني عند الإمام المهدي (عليه السلام)..................126
المسألة الثانية: المحتوم محتومٌ من الله وليس محتوماً على الله..................127
المسألة الثالثة: ماذا سيكون موقف المرجعية وإيران من اليماني؟..................129
المسألة الرابعة: دور اليماني في دولة المهدي (عليه السلام)..................131
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.
وبعد، فقد قرأت عن اليماني الموعود، فأحببت أن أتعرف على قومه ومعدنه، فكنت في الحج والعمرة ألتقي باليمانيين في الفندق والسوق والطريق، فأتحدث معهم عن المهدي الموعود وصاحبه اليماني، وأسألهم عن رأيهم به، فأجد نبضهم له مرتفعاً واستبشارهم به قوياً.
كما كنت أسأل عن اليمانيين محيطهم، فرأيت وسمعت عنهم العجب. قال أحد التجار السعوديين إنه يعيش في أوروبا هو وعائلته، ولا يحضر إلى المملكة إلا في موسم الحج، وعنده موظفون يمانيون يديرون تجارته، فمدير أعماله يستورد البضاعة باسمه ويبيعها، ويودع المال في حسابه، ويأخذ راتبه ورواتب الموظفين، وهو لا يتجاوز حقه ريالاً واحداً، وفي يده الملايين، ولا رقيب عليه إلا الله تعالى!
وإذا ظهرت لك من امرئ فضيلة فانتظر أخواتها، لأن الفضائل عوائل، كالرذائل. فإذا كان اليماني أميناً فهو صادق، وإذا كان صادقاً فهو شجاع وإذا كان شجاعاً، فلا يخشى عليه الضعف والانهيار.
هؤلاء هم أهل اليماني، ناصر الإمام المهدي (عليه السلام) ووزيره الموعود!
ثم زرت اليمن قبل نحو عشرين سنة، ورأيت بعض فنادقها وسوقها ومساجدها وعلماءها. وقد زرت مفتيها المرحوم العلامة زَبَارة، وذكرني بضخامته بمالك الأشتر، وعمرو بن معدي كرب، وسألت نفسي: إذا ركب الحصان هل تخط إبهاما رجليه الأرض مثلهما؟ ربما. وتحدثت معه عن اليمن، فوجدته يتخوف من الوهابية المسيطرين.
وحضرت بعض دروس المشايخ في الجامع الكبير، وتحدثت مع المدرسين، وأجبت دعوة أحدهم إلى بيته.
وزرت آخرين من علماء صنعاء منهم السيد مرتضى بن زيد المحطوري في مركز بدر الثقافي، الذي يجمع بين التدريس التقليدي والأكاديمي.
* * *
ثم زرت مدينة مأرب عاصمة بلقيس وآثار قصرها، فرأيتها عادية، والظاهر أن أحجار قصر بلقيس أخذت من قديم وبنيت بها كنيسة القليس.
وزرت سدها الصغير الذي بناه الشيخ زايد حاكم الإمارات، في مكان السد الكبير القديم، لأن أصل قبيلة نْهَيَّان من مأرب.
وكنت في اليمن أتأمل المؤشرات التي تدل على علاقتنا نحن العامليين، أي سكان جنوب لبنان، المنسوبين إلى عاملة بن سبأ، باليمانيين، فوجدت ثلاثة أمور: أنهم يستعملون إلا بمعنى بلى، مثلنا. وأن إمالتهم للكلمات مثلنا. وأنهم يتصفون بصفاء النفس إلى حد البساطة، مثلنا. فهذه مؤشرات على أن أصلنا من اليمن، على أن أبناء عاملة منهم من ترك بلاد عاملة، وجاء اليها آخرون من أصول أخرى، لكن الطابع العاملي بقي الحاكم في بلادنا.
ثم زرت مدينة صعدة العاصمة الدينية لليمن وقبر الهادي الإمام (رحمه الله) ورأيت فيها مقبل الوادعي، فقد كنت جالساً في مكتبة السيد محمد قاسم الهاشمي فجاء. وهو طالب
ارتد عن الزيدية إلى الوهابية، وتلمذ على الألباني فصار أسوأ منه وأشد تكفيراً لمن خالفه وللشيعة خاصة! ولم أفتح معه نقاشاً لأنه شرس والبلد محكوم للوهابية، فكانت بيننا عبارات تعارف عادية.
قال لي السيد محمد قاسم: نحن نداري الوهابية لأن الحكومة لهم، وهم يداروننا قليلاً لأن الجمهور لنا. وأراني في طريقنا إلى المنزل بيت مقبل الوادعي وهو يشبه القلعة. ثم أراني في الطريق إلى صنعاء مدرسته في دماج، وقد أنفقت عليها السعودية وجمعت لها ألوف الطلبة العوام من الأفارقة وبعض العرب، وليس فيهم من اليمن إلا القليل، وليس فيهم من يفهم حتى القليل، وهم يدرسونهم فتاوى ابن تيمية شيخ الإسلام والمسلمين من عصره إلى يوم الدين، وكتب الإمام العبقري المجدد ابن عبد الوهاب، ويعبؤونهم ضد من خالفهم، خاصة الشيعة، ويدربونهم على الأسلحة!
* * *
وفي صعدة جاءني المجاهد الشهيد السيد حسين الحوثي (رحمه الله) من خولان، وأبلغني سلام والده المرجع السيد بدر الدين الحوثي (رحمه الله) وعذره بسبب وضعه الصحي وظرفه السياسي، فشكرته وحَمَّلته مزيد تحياتي وسلامي. وكنت أعرف السيد بدر الدين من زيارته إلى الحوزة العلمية في قم قبل سنين.
* * *
وفي جلسة مع ثلة من علماء صعدة في ضحيان، فارَ علينا أحدهم غفر الله له وقال: نحن مشاكلنا منكم أنتم الجعفرية، لم تساعدونا على النواصب والآن تأتون إلى اليمن لتجعفروا أبناءنا، وتزيدوا مشاكلنا! ثم قال: أريد أن أكتب كتاباً عن الفروقات بين الزيدية والجعفرية!
فقلت له: إذا كان قصدك العتب على الجعفرية لأنهم الأخ الأكبر فأنا معك، لأن
الجعفرية عندهم إمكانات واسعة، ويجب عليهم أن يساندوكم في مواجهة الغزو الوهابي. ونحن أيها الأخ المحترم لم نأت إلى اليمن لندعو إلى المذهب الجعفري، بل أتينا لنبحث كيف نتعاون معكم لرد هذا الغزو!
ثم قلت له: بالأمس حدثني السيد مرتضى المحطوري أنه رأى شاباً فسأله: منذ مدة لم نرك، أين كنت؟ قال: كنا في الجهاد. قال له: أين الجهاد، لقد انتهت قضية البوسنة، فقال: في البحرين، نعمل شرطة ونجاهد الروافض المساجين! قال له كيف تذهبون إلى البحرين: قال بكتاب تزكية من الشيخ مقبل، فيعطوننا الجنسية البحرانية، ويوظفونا!
قلت لهم: ما ذنب هذا الشاب حتى نتركه للذين يجردونه من ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، ويجعلونه ناصبياً يعذب الشيعة ويقتلهم؟!
وأمّا قولك يا شيخنا أريد تأليف كتاب في الفروقات بين المذهب الزيدي والجعفري، فأنا أؤلف كتاباً في المشتركات بينهما، وفي وحدة أصولهما وجذورهما ومنبعهما، وسترى أن كتابي ينتشر أكثر من كتابك!
فانتبه الشيخ واعتذر هو والحاضرون، وجرى حديثنا في مساره الصحيح في مواجهة نشاط الوهابية فقالوا: منذ قتلت السعودية المرحوم إبراهيم الحمدي، فتحوا على اليمن أبواب جهنم. وقال أحدهم: سبحان الله لا تجد اسماً جميلاً في الذين قتلوا الشهيد إبراهيم الحمدي: فالملحق العسكري السعودي اسمه محمد الهذيان، وكان هو المحرك والممول. والثاني رئيس الأركان رجل السعودية في الجيش اليمني: أحمد الغشمي، وبالفعل هو غشمي. والثالث: ابن الأحمر العينين أسود القلب! وأضاف أحدهم: لا تنس ابن صالح العفاش!
ثم استفاض الحديث في القبضة الوهابية على اليمن، وكيف يمتصون ثروات البلد، والأخطر من ذلك أنهم أنشأوا ألف مركز لنشر الوهابية، وأخذوا منا مساجدنا، ومنعونا من تدريس مذهبنا ورفع أذاننا، وسيطروا على وزارة التربية، فهم يدرسون
أطفالنا تجسيمهم وعداءهم لأهل البيت الطاهرين (عليهم السلام).
ثم تبادلنا الحديث حول خطوات التعاون اللازمة والممكنة بيننا.
اليمانيون قادمون في مطلع الإسلام:
هذه بشارة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مطلع الإسلام، فقد أخبر أصحابه أن الإسلام بحاجة إلى طاقة اليمانيين. قال سلمان (رحمه الله) كما في سيرة ابن هشام «3/704»: «فضرب به (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ضربة لمعت تحت المعول بَرْقَة، قال: ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته بَرْقَةٌ أخرى، قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قال قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: أوَقد رأيت ذلك يا سلمان؟ قال قلت: نعم، قال: أما الأولى فإن الله فتح عليَّ بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح عليَّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح عليَّ بها المشرق».
فطاقة اليمانيين كانت ضرورة يومها لامتداد الإسلام وتحقيق عالميته، وبدونهم يبقى الإسلام محصوراً في الجزيرة ويتنازع عليه الفدَّادون كما يتنازعون على شياهٍ وأباعر، ويدفنونه في صحرائهم!
واليمانيون قادمون ثانيةً:
وهم قادمون هذه المرة لتعميم نور الإسلام في العالم، على يد المهدي الموعود (عليه السلام)، بعد أن تضعف أمته وتتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأَكَلة على قصعتها، فيبعث الله المهدي كما قال جده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «كمال الدين/231»: «منا الهداة إلى يوم القيامة، بنا استنقذهم الله من ضلالة الشرك، وبنا يصبحون إخواناً بعد ضلالة الفتنة، كما أصبحوا إخواناً بعد ضلالة الشرك، وبنا يختم الله كما بنا فتح».
وسيكون في مقدمة المهدي (عليه السلام) وزيره اليماني، كما قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «جاءكم أهل اليمن
يَبُسُّون بَسيساً. قوم رقيقةٌ قلوبهم راسخٌ إيمانهم، منهم المنصور يخرج في سبعين ألفاً، ينصر خلفي».
فهم قادمون في المرة الثانية، طليعةً للمهدي الموعود (عليه السلام)، يمهدون له حتى يظهر، وينصرونه بعد ظهوره.
وفي هذه الدراسة، قدمنا صورة موجزة لماضي اليمن، من زمن بلقيس وسليمان (عليه السلام). وعرضنا دورها المميز في الإسلام والفتوحات الإسلامية.
ثم استشرفنا البشارة النبوية بدورها الثاني في إقامة دولة العدل الإلهي مع الإمام المهدي (عليه السلام)، والذي بدأت بشائره الواعدة، والحمد لله.
حرره: علي الكوراني العاملي
بقم المشرفة في العشرين من ربيع الثاني 1436
* * *
الفصل الأول: اليمن في عهد الملكة بلقيس والنبي سليمان (عليه السلام)
دلالة قصة بلقيس في القرآن
تدل قصة نبي الله سليمان وبلقيس (عليهما السلام) في القرآن، على أن الله تعالى أدخل اليمن في اهتمامات أنبيائه الكبار (عليهم السلام)، قبل ميلاد المسيح بألف عام.
فقد كشفها هدهد سليمان (عليه السلام) وكان رسوله إلى ملكتها بلقيس، فجاءت إلى سليمان وأسلمت على يده، وأسلمت اليمن بإسلامها. وكان ذلك إشارة ربانية إلى مكانة اليمن، ودورها في مستقبل الإسلام والعالم.
قال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ * وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للَّشَّمْسِ مِنْ دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلا يَسْجُدُوا للهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * الله لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ *
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اِذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلا إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلا أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَةٍ وَأُولُو بَاسٍ شَدِيدٍ وَالأمر إِلَيْكَ فَانْظُرِي مَاذَا تَأمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلا أَيُّكُمْ يَأتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي اشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). «النمل: 15- 44».
ملاحظات في تفسير الآيات
1. ذكر المؤرخون أن سليمان (عليه السلام) حكم أربعين سنة، من971 إلى931 ق.م. وأنه تزوج بالملكة بلقيس، وعاشت بعده قليلاً. «المعارف/629».
وفي قاموس الكتاب المقدس/452: «بلاد سبأ: في جنوب جزيرة العرب، ويرد ذكرها في الكتاب مع مصر الحبشة. «مزمور 72: 10 وإشعياء 43: 3».
أما سبا، أو سبأ، في: ملوك، الأول: 10: 1 و4 و10 و13 و2 أخبار 9: 1 و3 و9 و12وأيوب 6: 19، فهي شبأ في الأصل العبراني، رغم أنها مترجمة سبا.
يروي السفر المقدس أن ملكة سبا قد زارت الملك سليمان بعد أن سمعت عن حكمته «ملوك الأول 10» ويسميها المسيح ملكة التيمن، بمعنى ملكة الجنوب «متى 12: 42». وتقول التقاليد العربية إن اسمها بلقيس، وإنها ولدت ابناً من سليمان، ولكن لا يوجد دليل تاريخي صحيح يبرهن هذه التقاليد».
وفي تاريخ اليعقوبي «1/196» والمحبر لابن حبيب/367، أن الهدهاد زيد مَلَكَ اليمن، ثم مَلك بعده تُبَّعُ الأول بن نَيْكف وطال عمره وطغى وبغى، فقتلته بلقيس بنت الهدهاد وملكت مكانه. وكانت من أعقل النساء، وبقيت ملكة سبأ حتى توفيت بعد وفاة سليمان (عليه السلام) بقليل، فملك بعدها الحارث بن شرحبيل ذو جدن، ثم ملك ذو رداع يهنعم ذو الملاحي، فسار إليه ملكيكرب فقتله. ثم ملك ملكيكرب، وهو أبو مالك الذي قال فيه الأعشى:
وخان الزمان أبا مالك * * * وأي امرئ صالحٍ لم يُخَنْ
ثم ملك أسعد وهو تُبَّع الأصغر، وهو تبان بن ملكيكرب بن قيس بن زيد بن عمرو، وهو ذو الأذعار، بن أبرهة ذي المنار، بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ، وهو أبو كرب، وهو الذي جاء باليهود من أرض الحجاز إلى اليمن... ثم ملك زرعة ذو نواس، ثم تهوَّدَ ولم يرض من الناس إلا باليهودية أو القتل، وتَسمى يوسف، وهو صاحب الأخدود، وكان خَدَّ بنجران أخاديد فأوقد فيها النار ودعا أهلها إلى اليهودية، وكانوا على إرث دين من دين عيسى فلما أبوا عليه ألقاهم في النار وحرق الإنجيل، وقتل منهم زهاء عشرين ألفاً بالسيف، سوى من أحرق بالنار ومن مَثَّل به منهم. وبسببه جاءت الحبشة إلى اليمن فغلبت عليها لما فعل بالنصارى، وإن ذا نوس لما واقع الحبشة ففضوا جيشه اعترض بفرسه البحر فغرق خوفاً من أن يؤسر».
وهو الذي نزل فيه قوله تعالى في سورة البروج: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِالله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).
2. في أمالي الصدوق/241، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيم آيةٌ من فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات. إن الله (عزَّ وجلَّ) قال لي يا محمد: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) فأفرد الامتنان علَّي بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم، وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش. وإن الله (عزَّ وجلَّ) خص محمداً وشرفه بها ولم يشرك معه فيها أحداً من أنبيائه ما خلا سليمان فإنه أعطاه منها: بِسْمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيم».
3. في تفسير القمي «2/126» ملخصاً: «قعد على كرسيه وحملته الريح فمرت به على وادي النمل، وهو وادٍ يُنبت الذهب والفضة، وقد وكل الله به النمل، وهو قول الصادق (عليه السلام): إن لله وادياً ينبت الذهب والفضة، وقد حماه الله بأضعف خلقه وهو النمل، لو رامته البخاتي من الإبل ما قدرت عليه! فلما انتهى سليمان إلى وادي النمل: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ) الخ. وكان سليمان إذا قعد على كرسيه جاءت جميع الطير التي سخرها الله له فتظلل الكرسي والبساط ومن عليه من الشمس، فغاب عنه الهدهد من بين الطير، فوقعت الشمس من موضعه في حجر سليمان فرفع رأسه: (فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ..) فلم يمكث إلا قليلاً إذ جاء الهدهد فقال له سليمان: أين كنت؟ قال: (فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ). أي بخبر صحيح.. قال سليمان (عليه السلام): (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ). ألقِ الكتاب على قبتها، فجاء الهدهد فألقى الكتاب في حجرها فارتاعت من ذلك، وجمعت جنودها وقالت لهم كما حكى الله: (يَا أَيُّهَا الْمَلا إِنِّي أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ). ثم قالت إن كان هذا نبياً من عند الله كما يدعي فلا طاقة لنا به فإن الله لا يُغلب، ولكن سأبعث إليه بهدية
فإن كان ملكاً يميل إلى الدنيا قبلها وعلمنا أنه لا يقدر علينا، فبعثت إليه حقة فيها جوهرة عظيمة، وقالت للرسول: قل له يثقب هذه الجوهرة، بلا حديد ولا نار!
قال سليمان لرسولها: (فَمَا آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا..) فرجع إليها الرسول فأخبرها بذلك وبقوة سليمان (عليه السلام) فعلمت أنه لا محيص لها، فارتحلت نحو سليمان، فلما علم سليمان بإقبالها نحوه قال للجن والشياطين: (أَيُّكُمْ يَأتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ..) قال سليمان: أريد أسرع من ذلك، فقال آصف بن برخيا: (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ)! فدعا الله باسمه الأعظم..
وكان سليمان قد أمر أن يتخذ لها بيتٌ من قوارير ووضعه على الماء، ثم قيل لها أدخلي الصرح، فظنت أنه ماء فرفعت ثوبها وأبدت ساقيها فإذا عليها شعر كثير، فقيل لها: (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). فتزوجها سليمان، وهي بلقيس بنت الشرح الحميرية.. وقال الصادق (عليه السلام): وأُعطيَ سليمان بن داود (عليهما السلام) مع علمه معرفة المنطق بكل لسان ومعرفة اللغات، ومنطق الطير والبهايم والسباع، فكان إذا شهد الحروب تكلم بالفارسية، وإذا قعد لعماله وجنوده وأهل مملكته تكلم بالرومية وإذا خلا بنسائه تكلم بالسريانية والنبطية، وإذا قام في محرابه لمناجاة ربه تكلم بالعربية، وإذا جلس للوفود والخصماء تكلم بالعبرانية.
وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: (فَهُمْ يُوزَعُون): قال: يحبس أولهم على آخرهم. وقوله: (لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيداً): يقول لأنتفن ريشه. وقوله: (ألَّا تَعْلُوا عَلَيَّ): يقول لا تَعَظَّمُوا عليَّ. وقوله: (لَا قِبَلَ لهمْ بِهَا): يقول لا طاقة لهم بها. وقول سليمان: (لِيَبْلُوَنِي أشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ): لما آتاني من الملك أم أكفر إذا رأيت من هو أدونُ مني، أفضل مني علماً».
4. في التهذيب «3/154» والكافي«8/246» عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن الناس
أصابهم قحط شديد على عهد سليمان بن داود (عليهما السلام) فشكوا ذلك إليه وطلبوا إليه أن يستسقي لهم، فقال لهم: إذا صليت الغداة مضيت. فلما صلى الغداة مضى ومضوا، فلما أن كان في بعض الطريق، إذا هو بنملة رافعة يدها إلى السماء واضعة قدميها إلى الأرض، وهي تقول: اللهم إنا خلقٌ من خلقك ولا غنى بنا عن رزقك، فلا تهلكنا بذنوب بني آدم، قال فقال سليمان: إرجعوا فقد سقيتم بغيركم! قال: فسقوا في ذلك العام ما لم يسقوا مثله قط».
5. في كامل الزيارة/128، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إن جبرئيل (عليه السلام) أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والحسين (عليه السلام) يلعب بين يديه، فأخبره أن أمته ستقتله قال: فجزع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: ألا أريك التربة التي يقتل فيها؟ قال: فخسف ما بين مجلس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى المكان الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام) حتى التقت القطعتان فأخذ منها، ودحيت في أسرع من طرفة عين، فخرج وهو يقول: طوبى لك من تربة وطوبى لمن يقتل حولك! قال: وكذلك صنع صاحب سليمان، تكلم بإسم الله الأعظم فخسف ما بين سرير سليمان وبين العرش من سهولة الأرض وحزونتها حتى التقت القطعتان فاجترَّ العرش! قال سليمان: يخيل إليَّ أنه خرج من تحت سريري! قال: ودحيت في أسرع من طرفة العين».
6. كان باستطاعة سليمان (عليه السلام) أن يجلب بنفسه عرش بلقيس، لكنه أراد أن يري الناس مقام وصيه آصف بن برخيا، الذي وصفه الله تعالى بأنه: (عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ). ونحن نعتقد أن عترة نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أفضل من عترة كافة الأنبياء (عليهم السلام)، وأن علياً (عليه السلام) أفضل من آصف بن برخيا، لأن الله تعالى وصفه بقوله: (قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) «الرعد: 43».
والذي عنده علم الكتاب علي (عليه السلام) وقد اشتهر أنه أعلم الصحابة، وشهد بذلك عمر بن الخطاب فقال: أقضانا علي. «البخاري: 5/149».
وفي تفسير العياشي «2/220»: «قال عبد الله بن عطاء: قلت للباقر (عليه السلام): هذا ابن عبد الله بن سلام يزعم أن أباه الذي يقول الله فيه: (قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ). قال (عليه السلام): كَذِبَ.. نزلت في علي بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفي الأئمة بعده».
وقال الإمام محمد الباقر (عليه السلام) «الكافي: 1/230»: «إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً، وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفاً، وحرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
7. عرش بلقيس: كرسي الملك، وقد ورد في وصفه: «له أربع قوائم، قائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أصفر، وقائمة من زمرّد أخضر، وقائمة من درّ أصفر. وصفائح السرير من ذهب. وكان ثمانين ذراعاً في ثمانين ذراعاً، وطوله في الهواء ثمانون». «نهاية الإرب: 14/123».
وقد رويت مبالغات في عرش بلقيس (رضي الله عنه)، لكن قول الهدهد: ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، يدل على أنه منبرٌ كبير مميز.
وروي أنه جيء به إلى إصطخر في الأهواز، لأن سليمان (عليه السلام) كان يُشَتِّي هناك، وقد يكون العرش بقي في قصر سليمان هناك، ويوجد إلى عصرنا في الأهواز منطقة اسمها: مسجد سليمان، وقد روي حولها روايات، لكن الأرجح أن يكون سليمان (عليه السلام) أرجع العرش إلى بلقيس إلى مملكتها في اليمن.
وفي معجم البلدان «4/100» عن ابن الريحان قال: «شاهدت موضعاً، بينه وبين ذمار يوم، وقد بقي من آثاره ستة أعمدة رخام عظيمة فوقها أربعة منها أربعة، ودون ذلك مياه كثيرة جارية وحفائر، ذكر لي أهل تلك البلاد أنه لا يقدر أحد على خوض تلك المياه إلى تلك الأعمدة، وأنه ما خاضها أحد إلا عُدم. وأهل تلك البلاد متفقون على أنه عرش
بلقيس».
أقول: رأيت آثاراً في مأرب في آخر وادي سبأ، قالوا إنها قصر بلقيس، وهي صغيرة، وما ورد في صفة قصرها أعظم من ذلك، وقد ذكروا أن أبرهة الحبشي نقل أحجار قصرها، واستعملها في بناء كنيسة القُلَّيس العظيمة، بصنعاء.
* * *
الفصل الثاني: من تاريخ اليمن قبل الإسلام
قتل أصحاب الأخدود
قال الطبري «1/403»: «إن الملك باليمن صار بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر، الذي كان يقال له ياسر أنعم، قال: وإنما سموه ياسراً نِعم، لإنعامه عليهم بما قوَّى من ملكهم وجمع من أمرهم.
قال: ثم ملك من بعده تُبَّع وهو تبان أسعد وهو أبو كرب بن ملكي كرب.. وهابته الملوك وعظمته وأهدت إليه فقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا والتحف، من الحرير والمسك والعود وسائر طرف بلاد الهند...
لم يزل ملك اليمن متصلاً لا يطمع فيه طامع، حتى ظهرت الحبشة على بلادهم في زمن أنو شروان. قال: وكان سبب ظهورهم أن ذا نواس الحميري ملك اليمن في ذلك الزمان، كان يهودياً فقدم عليه يهودي يقال له دوس من أهل نجران، فأخبره أن أهل نجران قتلوا ابنين له ظلماً واستنصره عليهم، وأهل نجران نصارى، فحمي ذو نواس لليهودية فغزا أهل نجران فأكثر فيهم القتل! فخرج رجل من أهل نجران حتى قدم على ملك الحبشة فاعلمه ما ركبوا به، وأتاه بالإنجيل قد أحرقت النار بعضه، فقال له: الرجال عندي كثير وليست عندي سفن، وأنا كاتب إلى قيصر في البعثة إليَّ بسفن أحمل فيها الرجال، فكتب إلى قيصر في ذلك وبعث إليه بالإنجيل المحرق، فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة».
ثم ذكر الطبري أن النجاشي أرسل أرباط وأبرهة في سبعين ألفاً، فخاف الملك ذو
نواس، وهرب بفرسه وغرق في البحر، فحكم اليمن أبرهة وأذل أهلها.
محاولة قيصر أن يبني كعبة مقابل كعبة إبراهيم (عليه السلام)
في معجم البلدان «4/394» ملخصاً: «سميت القُلَّيْس لارتفاع بنيانها وعلوها، ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس. لما ملك أبرهة بن الصباح اليمن، بنى بصنعاء مدينة لم يُرَ الناس أحسن منها، ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء، وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر، وجعل فيها خشباً له رؤوس كرؤوس الناس، ولَكَّكها بأنواع الأصباغ، وجعل لخارج القبة بُرنساً، فإذا كان يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها حتى تكاد تلمع البصر.
واستذل أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة، وجشمهم فيها أنواعاً من السخرة، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس صاحبة سليمان (عليه السلام)، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ. وكان أراد أن يرفع في بنيانها حتى يشرف منها على عدن. وكتب على بابها بالمسند: بنيت هذا لك من مالك، ليذكر فيه اسمك، وأنا عبدك. ولما استتم بنيانها كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يُبن مثلها لملك كان قبلك ولست بِمُنْتَهٍ حتى أصرف إليها حج العرب. فكانت قصة الفيل المذكورة في القرآن.
فلما هلك ومزقت الحبشة كل ممزق وأقفر ما حول هذه الكنيسة ولم يعمرها أحد، كثرت حولها السباع والحيات، وكان كل من أراد أن يأخذ منها أصابته الجن! فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والآلات من الذهب والفضة ذات القيمة الوافرة، والقناطير من المال لا يستطيع أحد أن يأخذ منه شيئاً، إلى زمان أبي العباس السفاح، فذكر له أمرها فبعث إليها خاله الربيع بن زياد الحارثي عامله على اليمن، وأصحبه رجالاً من أهل الحزم والجلد، حتى استخرج ما كان فيها من الآلات والأموال، وخربها حتى عفى
رسمها وانقطع خبرها».
وفي أخبار مكة للأزرقي «1/137»: «فبنى القُلَّيْس وَجَدَّ في بنائه وكان مربعاً مستوي التربيع، وجعل طوله في السماء ستين ذراعاً، وكَبْسُهُ من داخله عشرة أذرع في السماء، وكان يصعد عليه بدرج الرخام، وحوله سور بينه وبين القليس مائتا ذراع مطيفٌ به من كل جانب، وجعل بين ذلك كله بحجارة تسميها أهل اليمن الجروب، منقوشة مطابقة، لا يدخل بين أطباقها الإبرة مطبقة به، وجعل طول ما بنى به من الجروب عشرين ذراعاً في السماء.
ثم فَصَلَ ما بين حجارة الجروب بحجارة مثلثة تشبه الشُّرف مداخلةٌ بعضها ببعض، حجراً أخضر، وحجراً أحمر، وحجراً أبيض، وحجراً أصفر، وحجراً أسود، وفيما بين كل سافين خشب ساسم مدور الرأس غلظ الخشبة حضن الرجل، ناتئةٌ على البناء. فكان مفصلاً بهذا البناء في هذه الصفة، ثم فُصِلَ بإفريز من رخام منقوش طوله في السماء ذراعان، وكان الرخام ناتئاً على البناء ذراعاً.
ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بريق، من حجارة نَقَم جبل صنعاء المشرف عليها، ثم وضع فوقها حجارة صفر لها بريق، ثم وضع فوقها حجارة بيضاً لها بريق، فكان هذا ظاهر حايط القليس.
وكان له باب من نحاس عشرة أذرع طولاً، في أربعة أذرع عرضاً، وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه طوله ثمانون ذراعاً في أربعين ذراعاً، معلق العمل بالساج المنقوش ومسامير الذهب والفضة، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعاً عن يمينه وعن يساره، وعقوده مضروبة بالفسيفساء، مشجرة، بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة، ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثون ذراعاً في ثلاثين ذراعاً، جدرهما بالفسيفساء، وفيها صُلُبٌ منقوشة بالفسيفساء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشرة أذرع في عشرة أذرع، تُغشى عين من نظر إليها من بطن القبة تؤدي
ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة، وكان تحت الرخامة منبر من خشب اللبخ، وهو عندهم الأبنوس مفصل بالعاج الأبيض. ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهباً وفضة.
وكان في القبة سلاسل فضة، وكان في القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعاً، يقال لها كعيب، وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها امرأة كعيب، كانوا يتبركون بهما في الجاهلية، وكان يقال لكعيب الأحوزي. والأحوزي بلسانهم: الحر».
ثم ذكر الأزرقي أن القُليس بقيت سالمة حتى وليَ المنصور العباسي، المعروف بحرصه وبخله حتى عرف بالدوانقي، والدانق جزء الدرهم، فاستفتى وهب بن منبه الحاخام اليهودي (المسلم) فأفتاه، فهدمها وأخذ ذهبها وفضتها!
قيصر يبعث أبرهة بجيش الفيل
قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأكُولٍ).
ذكر الرواة أن سبب غزو أبرهة للكعبة أن رجلاً من العرب دخل إلى كنيسة القُلَّيْس كعبة أبرهة، وأحدث فيها، فغضب وحلف أن يهدمَ كعبة العرب وخرج بجيشه إلى مكة. لكني أرجح أنها رواية مكذوبة لتبرير غزوه الكعبة. فقد أعلن وهو يبني كنيسته أنه سيجبر الناس على الحج اليها، ويهدم كعبتهم.
قال الطبري «1/551»: «ثم إن أبرهة تَوَّجَ محمد بن خزاعي وأمَّره على مضر، وأمره أن يسير في الناس يدعوهم إلى حج القُلَّيس الكنيسته التي بناها، فسار محمد بن خزاعي حتى إذا نزل ببعض أرض بني كنانة وقد بلغ أهل تهامة أمره وما جاء له، بعثوا إليه رجلاً من هذيل يقال له عروة بن حياض الملاصي فرماه بسهم فقتله، وكان مع محمد بن خزاعي أخوه قيس فهرب حين قتل أخوه، فلحق بأبرهة فأخبره بقتله، فزاد ذلك أبرهة غضباً وحنقاً، وحلف ليغزون بني كنانة وليهدمنَّ البيت».
وفي الكافي «4/216» عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «لما أقبل صاحب الحبشة بالفيل يريد هدم الكعبة مرُّوا بإبل لعبد المطلب فاستاقوها، فتوجه عبد المطلب إلى صاحبهم يسأله رد إبله عليه، فاستأذن عليه فأذن له وقيل له: إن هذا عظيم قريش، وهو رجل له عقل ومروة، فأكرمه وأدناه ثم قال لترجمانه: سله ما حاجتك؟ فقال له: إن أصحابك مروا بإبل لي فاستاقوها فأحببت أن تردها عليَّ، قال: فتعجب من سؤاله إياه رد الإبل وقال: هذا الذي زعمتم أنه عظيم قريش وذكرتم عقله، يدع أن يسألني أن أنصرف عن بيته الذي يعبده! أما لو سألني أن أنصرف عن هذه لانصرفت له عنه! فأخبره الترجمان بمقالة الملك فقال له عبد المطلب: إن لذلك البيت رباً يمنعه، وإنما سألتك رد إبلي لحاجتي إليها! فأمر بردها عليه ومضى عبد المطلب حتى لقي الفيل على طرف الحرم فقال له: محمود! فحرك رأسه فقال له: أتدري لما جيء بك؟ فقال برأسه: لا، فقال: جاؤوا بك لتهدم بيت ربك أفتفعل؟ فقال برأسه: لا. قال: فانصرف عنه عبد المطلب. وجاؤوا بالفيل ليدخل الحرم، فلما انتهى إلى طرف الحرم امتنع من الدخول فضربوه فامتنع، فأداروا به نواحي الحرم كلها، كل ذلك يمتنع عليهم فلم يدخل! وبعث الله عليهم الطير كالخطاطيف في مناقيرها حجر كالعدسة أو نحوها، فكانت تحاذي برأس الرجل ثم ترسلها على رأسه فتخرج من دبره، حتى لم يبق منه أحد إلا رجل هرب! فجعل يحدث الناس بما رأى إذ طلع عليه طائر منها فرفع رأسه فقال: هذا الطير منها! وجاء الطير حتى حاذى برأسه ثم ألقاها عليه، فخرجت من دبره فمات»!
ووصف المؤرخون إيمان عبد المطلب لما فرَّ أهل مكة منها: «قالوا لعبد المطلب: ما يمنعك أن تهرب مع الناس؟ قال: أستحيي من الله أن أهرب عن بيته وحرمه، فوالله لا برحت من مكاني، ولا نأيت عن بيت ربي حتى يحكم الله بما يشاء.. قال: فلما نظر عبد المطلب إلى الكعبة خالية قال: اللهم أنت أنيس المستوحشين ولا وحشة معك، فالبيت بيتك والحرم حرمك والدار دارك، ونحن جيرانك تمنع عنه ما تشاء». «البحار: 15/66».
وقال الطبري «1/557»: «وأوفى عبد المطلب على حراء، ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، ومطعم بن عدي وأبو مسعود الثقفي، فقال:
لاهُمَّ إن المرءَ يمنعُ * * * رحله فامنع حلالك
لا يغلبنَّ صليبهم * * * ومحالهم عدواً محالك
ونزل عبد المطلب من حراء، فأقبل عليه رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا له: أنت كنت أعلم».
أقول: ذهابه إلى حراء بعد هزيمة أصحاب الفيل، لأنه بقي في مكة ولم يخرج. وفي كنز الفوائد/81، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن قائدي جيش الحبشة أرباط وأبرهة اختلفا فقتله أبرهة، وأن عبد المطلب سمع هاتفاً يهتف، فأنشأ يقول:
أيها الداعي لقد أسمعتني * * * كلَّمَا قُلْتَ وما بي من صَمَمْ
إن للبيت لرباً مانعاً * * * من يُرده بأثامٍ يصطلم
رامهُ تُبَّعُ في أجناده * * * حميرٌ والحيُّ من آل إرم
هلكت بالبغي فيه جرهمٌ * * * بعد طَسْمٍ وجَديسٍ وجُثَمْ
وكذاك الأمر فيمن كاده * * * ليس أمر الله بالأمر الأَمَم
نحن آلُ الله فيما قد خلا * * * لم يزل ذاك على عهد ابْرَهَمْ
لم يزل لله فينا حجةٌ * * * يدفع الله بها عنها النقم
نعرف الله وفينا شيمة * * * صلة الرحم ونوفي بالذمم
ولنا في كل دور كرة * * * نعرف الدين وطوراً في العجم
فإذا ما بلغ الدور إلى * * * منتهى الوقت أتى طيْرُ القدم
فلما أصبح دعا ولده عبد الله فقال له: إذهب فداك أبي وأمي فَاعْلُ أبا قبيس وانظر ماذا ترى يجيء من البحر؟ فنزل مسرعاً فقال: يا سيد النادي رأيت سحاباً من قبل البحر مقبلاً، يُسْفِلُ تارة ويرتفع أخرى! إن قلت غيماً قلته، وإن قلت جهاماً خلته، يرتفع تارة وينحدر أخرى!
فنادى عبد المطلب: يا معشر قريش، أدخلوا منازلكم فقد أتاكم الله بالنصر من عنده، فأقبلت الطير الأبابيل في منقار كل طير حجر وفي رجليه حجران، فكان الطائر الواحد يقتل ثلاثة من أصحاب أبرهة!
كان يلقي الحجر في قمة رأس الرجل فيخرج من دبره! وقد قص الله تبارك وتعالى نبأهم فقال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ..) الآيات».
والسجيل الحجر الصلب، والعصف ورق الزرع.
وفي البحار «62/233»: «وأصيب أبرهة حتى تساقط أنملةً أنملة، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر! حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره، وطائرٌ يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما انتهى وقع عليه الحجر فخرَّ ميتاً بإذن الله بين يديه»!
تحرير اليمن من الحبشة وعودة الملك إلى حِمْيَر
قال الطبري «1/561» ملخصاً: إن ذا يزن وفد مع النعمان بن المنذر على كسرى، وقال له: أيها الملك إن السودان قد غلبونا على بلادنا وركبوا منا أموراً شنعة أجل الملك عن ذكرها، فإن رأى الملك أن يوجه معي جيشاً ينفون هذا العدو عن بلادنا فيزدادها إلى ملكه، فإنها من أخصب البلدان وأكثرها خيراً وليست كما يلي الملك من بلاد العرب، فعل. فأمره كسرى أن يصبر وأمر بإكرامه، وطال انتظاره حتى توفي عند كسرى، فجاء ابنه سيف بن ذي يزن واعترض كسرى وقد ركب فصاح به أيها الملك إن لي عندك ميراثاً،
فدعا به كسرى لما نزل وقال: من أنت وما ميراثك؟ قال: أنا ابن الشيخ اليماني ذي يزن الذي وعدته أن تنصره فمات ببابك وحضرتك! فأمر له كسرى بمال فخرج الغلام فجعل ينثر الدراهم فانتهبها الناس، فأرسل إليه كسرى: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: إني لم آتك للمال إنما جئتك للرجال، ولتمنعني من الذل، فأعجب ذلك كسرى، فبعث إليه أن أقم حتى أنظر في أمرك. ثم إن كسرى استشار وزراءه في توجيه الجند معه، فقال له الموبذان: إن لهذا الغلام حقاً بنزوعه وموت أبيه بباب الملك وحضرته، وما تقدم من عدته إياه، وفي سجون الملك، رجال ذو نجدة وبأس، فلو أن الملك وجههم معه، فإن أصابوا ظفراً كان له وإن هلكوا كان قد استراح وأراح أهل مملكته منهم، ولم يكن ذلك ببعيد من الصواب.
قال كسرى: هذا الرأي، وأمر بمن كان في السجون من هذا الضرب فأحصوا فبلغوا ثمان مائة نفر فقوَّد عليهم قائداً من أساورته يقال له وهرز، كان كسرى يعدله بألف أسوار، وقواهم وجهزهم وأمر بحملهم في ثماني سفائن في كل سفينة مائة رجل، فركبوا البحر فغرفت من الثماني السفن سفينتان وسلمت ست، فخرجوا بساحل حضر موت وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب، ولحق بابن ذي يزن بشر كثير، ونزل وهرز على سيف البحر وجعل البحر وراء ظهره، فلما نظر مسروق إلى قلتهم طمع فيهم».
ثم ذكر الطبري أنهم أجلوا الحرب لمدة، فلما انتهت أمر وِهْرِز بالسفن التي كانوا فيها فأحرقت، وقال لجنوده: إن كنتم تقاتلون معي وتصبرون أعلموني ذلك، فقالوا له: نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا أو نظفر، فعبأ أصحابه وأمرهم أن تكون قسيهم موترة وقال: إذا أمرتكم أن ترموا فارموهم رشقاً بالبنجكان (الخماسي) ولم يكن أهل اليمن رأوا النشاب قبل ذلك، وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه على فيل على رأسه تاج، بين عينيه ياقوتة حمراء مثل البيضة لا يرى أن دون الظفر شيئاً. وكان وهرز قد كل بصره فقال أروني عظيمهم، فقالوا هو صاحب الفيل، ثم لم يلبث مسروق أن نزل فركب
فرساً فقالوا قد ركب فرساً، فقال إرفعوا لي حاجبي وقد كانا سقطا على عينيه من الكبر فرفعوهما بعصابة، ثم أخرج نشابة فوضعها في كبد قوسه وقال: أشيروا لي إلى مسروق فأشاروا له إليه حتى أثبته، ثم قال لهم: إرموا فرموا، ونزع في قوسه حتى إذا ملأها سرَّح النشابة فأقبلت كأنها رشاء «حبل متصل» حتى صكت جبهة مسروق، فسقط عن دابته.
وقتل في ذلك الرشق منهم جماعة كثير، وانفض صفهم لما رأوا صاحبهم صريعاً، فلم يكن دون الهزيمة شيء، وغنم من عسكرهم مالا يحصى ولا يعد كثرة، وجعل الأسوار يأخذ من الحبشة ومن حمير والأعراب الخمسين والستين فيسوقهم مكتفين لا يمتنعون منه، فقال وهرز: أما حِمير والأعراب فكفوا عنهم، واقصدوا قصد السودان فلا تبقوا منهم أحداً، فقتلت الحبشة يومئذ حتى لم يبق منهم كثير أحد».
وفي رواية أخرى في الطبري «1/560»: «ثم أوتر قوسه وكانت فيما زعموا لا يوترها غيره من شدتها، ثم أمر بحاجبيه فعصبا، ثم وضع في قوسه نشابة فمغط فيها حتى إذا ملأها أرسلها فصك بها الياقوتة التي بين عينيه فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه، وتنكس عن دابته! واستدارت الحبشة ولاثت به، وحملت عليهم الفُرس وانهزمت الحبشة فقتلوا، وهرب شريدهم في كل وجه، فأقبل وهرز يريد صنعاء يدخلها حتى إذا أتى بابها قال لا تدخل رايتي منكسة أبداً، إهدموا الباب فهدم باب صنعاء ثم دخلها ناصباً رايته يسار بها بين يديه، فلما ملك اليمن ونفى عنها الحبشة كتب إلى كسرى: إني قد ضبطت لك اليمن وأخرجت من كان بها من الحبشة، وبعث إليه بالأموال فكتب إليه كسرى يأمره أن يُمًلِّك سيف بن ذي يزن على اليمن وأرضها، وفرض كسرى على سيف بن ذي يزن جزيةً وخَرْجاً، يؤديه إليه في كل عام».
* * *
عبد المطلب يهنئ سيف بن ذي يزن
جاءت وفود العرب لتهنئة سيف بن ذي يزن، وكان وفد قريش برئاسة عبد المطلب (عليه السلام) سبعةً وعشرين زعيماً منهم الوليد بن المغيرة، وعتبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف». «كمال الدين/176» فاحتفى سيف بن ذي يزن بعبد المطلب خاصة وآثره، ثم خلا به وبشره بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووصفه له، وقال له سيف: هل أحسست لما قلت نبأ؟ فقال له: نعم، ولد لابني غلام على مثال ما وصفت أيها الملك. قال: فاحذر عليه اليهود، وقومك أشد من اليهود والله متمم أمره». «تاريخ اليعقوبي: 2/12».
وروى ابن سعد«1/86» أن عبد المطلب (عليه السلام) كان إذا جاء إلى اليمن قَبْلَ سيف بن ذي يزن، نزل على عظيم من عظماء حمير، فنزل عليه مرة فوجد عنده رجلاً من أهل اليمن قد أُمهل له في العمر وقرأ الكتب فقال له: يا عبد المطلب أرى نبوة وأرى ملكاً، وأرى أحدهما في بني زهرة، فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وزوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)».
ولم تطل أيام سيف بن ذي يزن مع الأسف حتى اغتاله عبيده الأحباش فتولى وهرز اليمن بعده، وبعده أولاده، حتى جاء الإسلام وعلى اليمن رجل منهم يدعى باذان، فأسلم وأقره النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عاملاً على اليمن». «تاريخ اليمن/164».
وبقي حكم اليمن بعد سيف في الفُرس وانتهى ملك حمير، مما يوجب الشك!
* * *
الفصل الثالث: تفضيل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أهل اليمن على غيرهم
أحاديث نبوية لا شك فيها
روى الجميع أحاديث مدح النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأهل اليمن، وتفضيلهم على غيرهم.
1. ومن أشهرها ما رواه البخاري «5/122»: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أتاكم أهل اليمن، هم أرقُّ أفئدةً، وألْيَنُ قلوباً، الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية، والفخر والخُيَلاءُ في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم! وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الإيمان هاهنا وأشار بيده إلى اليمن. والجفاء وغلظ القلوب في الفدَّادين عند أصول أذناب الإبل، من حيث يطلع قرنا الشيطان، ربيعة ومضر.
2. وما رواه مسلم «1/51»: عن أبي هريرة قال: «إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل، الفدَّادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم».
3. وما رواه في الكافي «8/70»: عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) قال: «خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعرض الخيل فمر بقبر أبي أحيحة، فقال أبو بكر: لعن الله صاحب هذا القبر، فوالله إن كان ليصد عن سبيل الله، ويكذب رسول الله، فقال خالد ابنه: بل لعن الله أبا قحافة، فوالله ما كان يقري الضيف ولا يقاتل العدو، فلعن الله أهونهما على العشيرة فقداً. فألقى رسول الله خطام راحلته على غاربها، ثم قال: إذا أنتم تناولتم المشركين فعموا ولا تخصوا، فيغضب وُلْدُهُ. ثم وقف فعُرضت عليه الخيل فمر به فرس، فقال عيينة بن حصن: إن من أمر هذا الفرس كيت وكيت، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ذرنا، فأنا أعلم بالخيل
منك، فقال: عيينة وأنا أعلم بالرجال منك! فغضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى ظهر الدم في وجهه فقال له: فأي الرجال أفضل؟ فقال عيينة بن حصن: رجال يكونون بنجد يضعون سيوفهم على عواتقهم، ورماحهم على كواثب خيلهم، ثم يضربون بها قدماً قدماً. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كذبت، بل رجال أهل اليمن أفضل، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، ولولا الهجرة لكنت امرءً من أهل اليمن، الجفا والقسوة في الفدَّادين أصحاب الوبر ربيعة ومضر، من حيث يطلع قرن الشمس. ومذحج أكثر قبيل يدخلون الجنة، وحضرموت خير من عامر بن صعصعة».
4. وفي شرح النووي لمسلم «2/29»: «أشار النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيده نحو اليمن فقال: ألا إن الإيمان هاهنا، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرنا الشيطان، في ربيعة ومضر.
وفي رواية: رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء، في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم.
وفي رواية: الإيمان يمان والكفر قبل المشرق، والسكينة في أهل الغنم، والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر.
وفي رواية: أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوباً، وأرق أفئدةً، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق.
وفي رواية: الإيمانُ يمانٍ، والفقه يمانٍ والحكمةُ يمانية.
وفي رواية: هم أضعف قلوباً، وأرق أفئدة. الفقه يمان، والحكمة يمانية.
وفي رواية: دعائم أمتي أهل اليمن.
وفي رواية: أتاكم أهل اليمن كقطع السحاب خير أهل الأرض.
وفي رواية: قوم نقية قلوبهم، حسنة طاعتهم. الإيمان يمان والفقه يمان.
وفي رواية: هم ألين قلوباً وأرق أفئدة. الإيمان يمان، ورأس الكفر قبل المشرق.
وفي رواية: أشار بيده نحو اليمن فقال: إن اليُمْنَ ها هنا، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين، عند أصول أذناب الإبل، في ربيعة ومضر.
وفي رواية: أجد نَفَس ربكم من قبل اليمن، ألا إن الكفر والفسوق وقسوة القلب في الفدادين أصحاب الشعر والوبر، يغشاهم الشيطان.
وفي رواية: من أحب أهل اليمن فقد أحبني، ومن أبغض أهل اليمن فقد أبغضني. الإيمان يمان إلى لخم وجذام وعاملة، ومأكول حمير (محكومها) خير من آكلها، وحضرموت خير من بني الحار.
وفي رواية: زينُ الحاج أهل اليمن. الإيمان يمان، ومضر عند أذناب الإبل.
وفي رواية: من أحب أهل اليمن فقد أحبني، ومن أبغض أهل اليمن فقد أبغضني.
وفي رواية: جاءكم أهل اليمن يَبُسُّون بَسيساً. قومٌ رقيقةٌ قلوبهم، راسخٌ إيمانهم، ومنهم المنصور يخرج في سبعين ألفاً، ينصر خلفي وخلف وصيي. حمائل سيوفهم المسك.
وفي رواية: خير الرجال رجال أهل اليمن، الإيمان يمان إلى لخم وجذام وعاملة، ومأكول حمير خير من آكلها، وحضرموت خير من بني الحارث وقبيلة خير من قبيلة، وقبيلة شر من قبيلة، والله ما أبالي أن يهلك الحارثان كلاهما، لعن الله الملوك الأربعة: جمداء ومخوساء ومشرحاء وأبضعة، وأختهم العمردة، ثم أمرني ربي (عزَّ وجلَّ) أن ألعن قريشاً مرتين فلعنتهم، ثم أمرني ربي أن أصلي عليهم مرتين فصليت عليهم.
6. في كتاب البلدان لابن الفقيه الهمذاني/91: «لما جاء أهل اليمن قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): قد جاءكم أهل اليمن أرق قلوباً منكم، وهم أول من جاءنا بالمصافحة. وقال: الإيمان يمان والحكمة يمانية والإسلام يمان وقال: أهل اليمن زين الحاج. وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا تعذّر على أحدكم الملتمس فعليه بهذا الوجه، وأشار إلى اليمن».
7. في رواية الكافي «4/205» عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إن الله (عزَّ وجلَّ) أمر إبراهيم (عليه السلام) ببناء الكعبة وأن يرفع قواعدها، ويُرِي الناس مناسكهم، فبنى إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) البيت كل يوم سافاً حتى انتهى إلى موضع الحجر الأسود. قال: أبو جعفر (عليه السلام): فنادى أبو قبيس إبراهيم (عليه السلام): إن لك عندي وديعة، فأعطاه الحجر فوضعه موضعه. ثم إن إبراهيم (عليه السلام) أذَّنَ في الناس بالحج فقال: أيها الناس إني إبراهيم خليل الله، إن الله يأمركم أن تحجوا هذا البيت، فحجوه. فأجابه من يحج إلى يوم القيامة، وكان أول من أجابه من أهل اليمن».
وفي عمدة القاري في شرح البخاري «9/128»: «قيل أول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً، وهذا قول الجمهور».
وفي عون المعبود «5/175»: «فسمعه من بين السماء والأرض.. فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأول من أجابه أهل اليمن، فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة، إلا من كان أجاب إبراهيم يومئذ».
محاولة القرشيين إبطال أحاديث مدح اليمن
مدح النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أهل اليمن كما رأيت وفضلهم على غيرهم، وذم أهل نجد والحجاز! فعظم ذلك على علماء السلطة القرشية وحاولوا إبعاد أهل نجد والحجاز من الذم، وقالوا إن معنى الفدَّادين الذين يحرثون على فدَّان البقر وهو يشمل اليمنيين! مع أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نصَّ على أن الفدَّادين أهل نجد والحجاز، فقال كما في البخاري: الإيمان هاهنا، وأشار بيده إلى اليمن. والجفاء وغلظ القلوب في الفدَّادين، عند أصول أذناب الإبل، من حيث يطلع قرنا الشيطان، ربيعة ومضر.
وقال لعيينة بن حصن لما فضَّل أهل نجد: بل رجال أهل اليمن أفضل، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، ولولا الهجرة لكنت امرءً من أهل اليمن، الجفا والقسوة في الفدَّادين
أصحاب الوبر ربيعة ومضر، من حيث يطلع قرن الشمس. ومذحج أكثر قبيل يدخلون الجنة، وحضرموت خير من عامر بن صعصعة. فالفدادون أهل صحراء، وأصحاب إبل، وأهل الشعر والوبر، وأهل الخيل والوبر، وليسوا أهل زراعة.
لذلك يتعين أن تكون كلمة الفدادين في كلامه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من فَدَدَ بمعنى صرَّخ، وليس من فَدَنَ بمعنى فدَّان الحراثة.
فالمعنى أن الجفاء وغلظ القلوب في الفدَّادين أهل الصراخ والصياح على إبلهم وحيواناتهم وأنفسهم.
وهم الذين صرخوا على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خارج بيته وقالوا: أخرج الينا يا محمد! فقال الله عنهم: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ).
فالفَدَّادون هم الذين يتكلمون بالصراخ: هاه، هوه، هاي. وهذه صفة النجديين في حياتهم اليومية إلى يومنا.
قال في الصحاح «2/518»: «الفديد: الصوت. وقد فدَّ الرجل يفدُّ فديداً. ورجل فَدَّاد: شديد الصوت. وفي الحديث: إن الجفاء والقسوة في الفدادين بالتشديد، وهم الذين تعلوا أصواتهم في حروثهم ومواشيهم».
وقال في مجمع البحرين«3/119»: «في الحديث: الجفاء والقسوة في الفدادين. الفدادون يفسر بوجهين: أحدهما أن يكون جمعاً للفداد، وهو شديد الصوت من الفديد، وذلك من دأب أصحاب الإبل. وهذا إذا رويته بتشديد الدال من فَدَّ يَفِدُّ: إذا رفع صوته. والوجه الآخر أنه جمع الفدان مشدداً، وهي البقر التي يحرث عليها أهلها وذلك إذا رويته بالتخفيف».
وفي الطراز «6/134»: «فد فديداً كحنَّ حنيناً: صاح وأجلب وعدا».
محاولة ثانية لعلماء السلطة إبطال مدح اليمن
ومن محاولات علماء السلطة القرشية لتخريب معنى الحديث، وجعله مدحاً لأهل الحجاز ونجد! ما قاله النووي في شرح مسلم «2/32»: «اختلف في مواضع من هذا الحديث وقد جمعها القاضي عياض، ونقحها مختصرة بعده الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وأنا أحكي ما ذكره، قال: أما ما ذكر من نسبة الإيمان إلى أهل اليمن فقد صرفوه عن ظاهره من حيث إن مبدأ الإيمان من مكة ثم من المدينة حرسهما الله تعالى! فحكى أبو عبيد إمام الغرب ثم مَن بعده في ذلك أقوالاً:
أحدها: أنه أراد بذلك مكة فإنه يقال أن مكة من تهامة وتهامة من اليمن.
والثاني: أن المراد مكة والمدينة، فإنه يروى في الحديث أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال هذا الكلام وهو بتبوك ومكة والمدينة حينئذ بينه وبين اليمن، فأشار إلى ناحية اليمن، وهو يريد مكة والمدينة فقال: الإيمان يمان، ونسبهما إلى اليمن لكونهما حينئذ من ناحية اليمن، كما قالوا الركن اليماني وهو بمكة لكونه إلى ناحية اليمن!
والثالث: ما ذهب إليه كثير من الناس وهو أحسنها عند أبي عبيد، أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمانون في الأصل فنسب الإيمان إليهم..
ولو جمع أبو عبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث بألفاظه كما جمعها مسلم وغيره، وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه، ولما تركوا الظاهر، ولقضوا بأن المراد اليمن وأهل اليمن على ما هو المفهوم من إطلاق ذلك إذ من ألفاظه: أتاكم أهل اليمن، والأنصار من جملة المخاطبين بذلك فهم إذن غيرهم، وكذلك قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): جاء أهل اليمن، وإنما جاء حينئذ غير الأنصار، ثم إنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصفهم بما يقضى بكمال إيمانهم، ورتب عليه الإيمان يمان، فكان ذلك إشارة للإيمان إلى من أتاه من أهل اليمن، لا إلى مكة والمدينة. ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره، وحمله على أهل اليمن حقيقة، لأن من اتصف بشيء وقوي
قيامه به وتأكد اطلاعه منه، ينسب ذلك الشيء إليه، إشعاراً بتميزه به وكمال حاله فيه.
وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذ في الإيمان، وحال الوافدين منه في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفى أعقاب موته، كأويس القرني وأبي مسلم الخولاني، وشبههما ممن سلم قلبه وقوى إيمانه، فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك إشعاراً بكمال إيمانهم، من غير أن يكون في ذلك نفيٌ له عن غيرهم. فلا منافاة بينه وبين قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الإيمان في أهل الحجاز.
ثم المراد بذلك الموجودون منهم حينئذ لا كل أهل اليمن في كل زمان فإن اللفظ لا يقتضيه! هذا هو الحق في ذلك».
أقول: حاول النووي أن يكون منصفاً ولم يستطع، فقد خالف من تمحل وقال إن اليمن في هذه الأحاديث بمعنى الحجاز أو الأنصار، لأنه أحس أن ذلك تزوير لا يتحمله اللفظ، فأقر أنها بمعناها المتبادر الظاهر، لكنه حصرها بأهل ذلك الزمان، ثم تمحل فصحح رواية: الإيمان في أهل الحجاز. وهي في بعض معانيها مقابل: الإيمان يمانٍ، وتوجب نسبة التناقض إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحاشاه.
العموم والاستثناء في تفضيل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأهل اليمن
تدل أحاديث مدح اليمانيين على أنهم الأول إيماناً، والأفضل نسبياً من غيرهم، وبالتعبير الأصولي هناك استثناءات لُبِّيَّة من هذا الإطلاق، فهو لا ينفي الإيمان عن غيرهم، كما لا ينفي تفضيل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعترته عليهم لأنهم آمنوا قبلهم، ولأنهم لا يقاس بهم أحد. كما لا ينفي أن يكون أفراد آخرون من الأمة أفضل منهم، بقانون التفضيل بالتقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ).
وكما في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) «الكافي: 2/83»: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبها بقلبه وباشرها بجسده وتفرغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا، على عسر أم على يسر».
وقال علي (عليه السلام) «نهج البلاغة: 2/6»: «إن أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه وكَرَثه من الباطل وإن جر إليه فائدة وزاده».
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) «المحاسن: 1/37»: «من سبح الله مائة مرة، كان أفضل الناس ذلك اليوم، إلا من قال مثل قوله».
لذلك لا يصح أن يخاف أحد من هذا التفضيل كما خافت قريش. كما أنه تفضيل لعموم شعب اليمن وليس لكل فرد فرد فيه، ففي اليمن أفراد منافقون أعداء لله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أهل النار.
كما أن التفضيل لا يختص بالجيل الذي كان في عصر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما ادعاه بعض علماء السلطة، بل يشمل كل أجيالهم إلى يوم القيامة.
كما أن ذكر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عاملة من جملة اليمن، يدل على عموم المدح لفروع اليمانيين كالأنصار والعامليين وغيرهم. وهو فخر للعامليين نحسبه ذخراً.
عداء معاوية وبني أمية لأهل اليمن
روى البلاذري في أنساب الأشراف «5/215» قال الشعبي: «كتب زياد إلى معاوية: إن رأى أمير المؤمنين أن يكتب إليَّ بسيرة أسيرها في العرب. فكتب إليه معاوية: يا أبا المغيرة قد كنت لهذا منك منتظراً، أنظر أهل اليمن فأكرمهم في العلانية وأهنهم في السر، وانظر هذا الحيّ من ربيعة فأكرم أشرافهم وأهن سفلتهم، فإن السفلة تبع للأشراف، فأما هذا الحي من مضر فإن فيهم فظاظة وغلظة، فاحمل بعضهم على رقاب بعض، ولا ترض بالظن دون اليقين، وبالقول دون الفعل، واترك الأمور بينك وبين الناس على أشدها، والسلام».
وفي التذكرة الحمدونية «7/181»: «قال معاوية لرجل من أهل اليمن: ما كان أحمق قومك حين ملَّكوا عليهم امرأة! قال: قومك أشدُّ حماقةً إذ قالوا (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ
الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ)، هلَّا قالوا: فاهدنا له».
وروى الطبراني في الأوسط «5/57»: «أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أعرابي فقال: يا رسول الله إلعن أهل اليمن ثلاثاً، فسكت عنه ثم قال: أين هذا السائل الذي سألني أن ألعن أهل اليمن؟ فقام إليه الرجل، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن الإيمان يمان والحكمة يمانية، وأجد نَفَس ربكم من قبل اليمن، ألا إن الكفر والفسوق وقسوة القلب في الفدَّادين، أصحاب الشعر والوبر، يغشاهم الشيطان على أعجاز الإبل! فقام الرجل مغضباً، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إرجع عليَّ أزيدك»!
وسيأتي في حديث اليماني الذي ينصر المهدي (عليه السلام) الذي رواه البخاري أن عبد الله بن عمرو أخبر اليمانيين بخبره عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فغضب معاوية وصعد المنبر وكذب عبد الله، وقال إنه لا يوجد ملك لغير قريش إلى أن تقوم القيامة!
* * *
الفصل الرابع: بشارة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بفتح اليمن
بشارة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمسلمين بفتح اليمن:
في سيرة ابن هشام «3/704»: «قال ابن إسحاق: حدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليَّ صخرة ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قريب مني، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان عليَّ، نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربةً لمعت تحت المعول برقةٌ، قال: ثم ضرب به ضربة أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، قال: ثم ضرب به الثالثة فلمعت تحته برقة أخرى.
قال قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: أوَقد رأيت ذلك يا سلمان؟ قال قلت: نعم، قال: أما الأولى فإن الله فتح عليَّ بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح عليَّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح عليَّ بها المشرق».
انهيار حكم الفُرس في اليمن وبداية الحكم الإسلامي
كانت اليمن تحت حكم كسرى، وكان عامله عليها بعد موت سيف بن ذي يزن: وِهرز، وبعده المرزبان بن وهرز، وبعده البينجان بن المرزبان بن وهرز، وبعده خرخسرة بن البينجان، وآخرهم باذان بن ساسان من غير آل وهرز.
فبعد هلاك كسرى أسلم باذان فنصبه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على اليمن كلها، حتى خرج الأسود العنسي وادعى النبوة وقتل باذان وسبى زوجته المرزبانة، ففرق النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عمله
بين شهر بن باذان، وعامر بن شهر الهمداني، وأبي موسى الأشعري، وخالد بن سعيد، ويعلى بن أمية، وعمرو بن حزم، وزياد بن لبيد والطاهر بن أبي هالة، وعكاشة بن ثور المهاجر». «ابن هشام: 1/45».
وسبب هذه التجزئة في حكم اليمن أن زعماء القبائل بعد انهيار حكم الفرس استقلوا في مناطقهم، فلزم لكل منطقة حاكم قوي مقبول من أهلها. ثم تمكن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يجمع اليمن على خمسة أمراء، كما قال العيني«8/235»: «خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر بن أبي أمية على كندة، وزياد بن لبيد على حضرموت، ومعاذ على الجندل، وأبي موسى على زبيد وعدن والساحل».
رسالة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى كسرى
كتب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام: من محمد.. إلى كسرى، فاستشاط كسرى غضباً لأنه قدم اسمه على اسمه، وأمر بتمزيق الرسالة ولم يقرأها، وقال: «من يلي هذا من عمالي؟ قالوا: باذان صاحب اليمن، فدعا الكاتب فأملى عليه: من كسرى إلى باذان، أما بعد فيا ابن الخبيثة إني لم أستعملك على اليمن لتأكل خيرها ولتلبس حريرها، وإنما استعملتك لتقاتل من عاداني، وإنه بلغني أن رجلاً من أهل تهامة خرج عن دين قومه ومنسكهم، ويزعم أنه رسول الله يقال له أحمد، فإذا جاءك كتابي فاختر رجلين من أهل فارس ممن ترضى عقله، فابعثهما إليه واكتب معهما إليه أن يرجع إلى دين قومه ومنسكهم أو تواعده يوماً تلقاه فيه، فإنه يزعم أنه نبي يغلبني على ملكي». «الإمتاع للمقريزي: 12/131».
وفي مناقب آل أبي طالب «1/71»: «إن كسرى كتب.. أن احمل إلي هذا الذي يذكر أنه نبي، وبدأ باسمه قبل اسمي، ودعاني إلى غير ديني».
وفي البدء والتاريخ للبلخي «4/228»: «كتب إلى باذان عامل اليمن بأن يبعث بمحمد إليه مربوطاً»!
وجاء في رسالة باذان إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إن شاهنشاه كسرى كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليه من يأتيه بك، فإن أجبت كتبت معك ما ينفعك عنده وإن أبيت فإنه مهلكك ومهلك قومك، ومخرب بلادك».«الإصابة«1/464».
«بعث كسرى رسولاً إلى باذان عامله في أرض العرب: بلغني أنه خرج رجل قبلك يزعم أنه نبي، فلتقل له فليكفف عن ذلك، أو لأبعثن إليه من يقتله ويقتل قومه. فبعث باذان إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذلك فقال: لو كان شيء قلته من قبلي لكففت عنه، ولكن الله بعثني».«الخرائج: 1/133».
وقال الطبري«2/297»: «كتب كسرى إلى باذان: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جَلِدين فليأتياني به. فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه، وكان كاتباً حاسباً بكتاب فارس، وبعث معه رجلاً من الفرس يقال له خرخسرة، وكتب معهما إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى وقال لبابويه: إئت بلد هذا الرجل وكلمه وأتني بخبره، فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجالاً من قريش بنخب من أرض الطائف فسألاهم عنه فقالوا هو بالمدينة، واستبشروا بهما وفرحوا، وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل! فخرجا حتى قدما على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكلمه بابويه فقال: إن شاهنشاه ملك الملوك كسرى، قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.
ودخلا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما ثم أقبل عليهما فقال: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا يعنيان كسرى، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لكن ربي قد أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي. ثم قال لهما: إرجعا حتى تأتياني غداً، وأتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخبر من السماء أن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه
فقتله في شهر كذا وكذا، ليلة كذا وكذا من الليل، ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى، من سنة سبع لست ساعات مضت منها..
فقالا: هل تدري ما تقول؟! إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا أفنكتب هذا عنك ونخبره الملك؟ قال: نعم أخبراه ذلك عني وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهى إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك من الأبناء. ثم أعطى خرخسره منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبياً كما يقول، ولننظرن ما قد قال، فلئن كان هذا حقاً ما فيه كلام إنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا. فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد فإني قد قتلت كسرى ولم أقتله إلا غضباً لفارس، لما كان استحل من قتل أشرافهم وتجميرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك، فلا تُهِجْهُ حتى يأتيك أمري فيه. فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسول، فأسلم وأسلمت الأبناء معه من فارس، من كان منهم باليمن».
أسلم باذان الفارسي وصار حاكم اليمن
الظاهر أن رسالة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى باذان كانت شفهية، فلم أجد نصاً عن كتاب إلا رواية شرف المصطفى«3/376»: «وكتب إلى باذان: إن أسلمت استعملتك. وانصرف الرسولان بما كتب، وقال: فقدما على باذان فأخبراه بما قاله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن شيرويه وقتله كسرى، فأسلم باذان، وأسلمت الأبناء من آل فارس».
وفي عصرنا يوجد الفرس في اليمن، باسم عشيرة الأبناء، وسمعت أنها كبيرة وهم
شرعاً موالي أهل البيت (عليهم السلام). والمرجح عندي أن قبيلة الزنداني من الفرس، وهم اليوم متحالفون مع أرحب.
وبموت كسرى طمع مشايخ القبائل وأخذوا يستقلون بمناطقهم، فاحتاج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أن ينصب على كل منطقة حاكماً.
ويظهر أن نفوذ باذان اقتصر على صنعاء وبعض مناطق اليمن فقط!
وقد ضعف الفرس بعد هلاك كسرى حتى احتاجوا إلى التحالف مع القبائل: «فقالت الرسل من الفرس لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إلى من نحن يا رسول الله؟ قال: أنتم منا وإلينا أهل البيت». «ابن هشام: 1/45».
الأسود العنسي يدعي النبوة ويقتل باذان
دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المسلمين ليحج معهم حجة الوداع، وأخبرهم أنه سيدعى إلى ربه عن قريب فيجيب. ففرح بذلك المنافقون، وأخذوا يعدون خططهم لما بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسارع عدد منهم، فلم ينتظروا وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل أظهروا مشاريعهم بمجرد أن سمعوا بمرضه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد حجة الوداع!
وكان من أولهم ثلاثة ادعوا النبوة، وهم: الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة الكذاب في نجد، وطليحة الأسدي في حائل.
قال الطبري «2/430» ملخصاً: «عن الضحاك بن فيروز بن الديلمي عن أبيه قال: إن أول ردة كانت في الإسلام باليمن كانت على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على يدي ذي الخمار عبهلة بن كعب، وهو الأسود، في عامة مذحج. خرج بعد الوداع، وكان الأسود كاهناً شعباذاً، وكان يريهم الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه! وكان أول ما خرج أن خرج من كهف خَبَّان، وهي كانت داره وبها وُلد ونشأ، فكاتبته مذحج وواعدهم نجران، فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم، وخالد بن سعيد بن العاص، وأنزلوه منزلهما.
ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد، فأجلاه ونزل منزله. فلم ينشب عبلهة بنجران أن سار إلى صنعاء فأخذها، وكتب بذلك إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، من فعله ونزوله صنعاء.
وكان أول خبر وقع به عنه من قبل فروة بن مسيك، ولحق بفروة من تمَّ على الإسلام من مذحج فكانوا بالأحسية، ولم يكاتبه الأسود ولم يرسل إليه لأنه لم يكن معه أحد يشاغبه، وصفى له ملك اليمن...
عن هشام بن عروة عن أبيه قال: حاربهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «المرتدين» بالرسل، قال فأرسل إلى نفر من الأبناء رسولاً وكتب إليهم أن يحاولوه وأمرهم أن يستنجدوا رجالاً قد سماهم من بنى تميم وقيس، وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم ففعلوا ذلك، وانقطعت سبل المرتدة وطعنوا في نقصان وأغلقهم واشتغلوا في أنفسهم، فأصيب الأسود في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقبل وفاته بيوم أو بليلة. ولظَّ «واصل» طليحة ومسيلمة وأشباههم بالرسل، ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله (عزَّ وجلَّ) والذب عن دينه، فبعث وبر بن يحنس إلى فيروز وجشيش الديلمي وداذويه الإصطخري، وبعث جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع وذي ظليم، وبعث الأقرع بن عبد الله الحميري إلى ذي زود وذي مران، وبعث فرات بن حيان العجلي إلى ثمامة بن أثال، وبعث زياد بن حنظلة التميمي ثم العمري، وإلى قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، وبعث صلصل بن شرحبيل إلى سبرة العنبري، ووكيع الدارمي، وإلى عمرو بن المحجوب العامري، وإلى عمرو بن الخفاجي من بنى عامر، وبعث ضرار بن الأزور الأسدي إلى عوف الزرقاني، من بني الصيداء، وسنان الأسدي ثم الغنمي، وقضاعي الديلمي، وبعث نعيم بن مسعود الأشجعي إلى ابن ذي اللحية، وابن مشيمصة الجبيري».
وقال الطبري «2/465»: «عن عبيد بن صخر قال: فبينا نحن بالجَنَد قد أقمناهم على ما ينبغي، وكتبنا بيننا وبينهم الكتب، إذ جاءنا كتاب من الأسود: أيها المتوردون علينا
أمسكوا علينا ما أخذتم من أرضنا، ووفروا ما جمعتم، فنحن أولى به وأنتم على ما أنتم عليه، فقلنا للرسول: من أين جئت؟ قال: من كهف خبان. ثم كان وجهه إلى نجران حتى أخذها في عشر لمخرجه، وطابقه عوام مذحج. فبينا نحن ننظر في أمرنا ونجمع جمعنا، إذ أتينا فقيل هذا الأسود بشعوب وقد خرج إليه شهر بن باذام وذلك لعشرين ليلة من منجمه، فبينا نحن ننتظر الخبر على من يكون الدبرة إذ أتانا أنه قتل شهراً «باذان» وهزم الأبناء وغلب على صنعاء، لخمس وعشرين ليلة من منجمه، وخرج معاذ هارباً حتى مر بأبي موسى وهو بمأرب فاقتحما حضرموت، فأما معاذ فإنه نزل في السكون، وأما أبو موسى فإنه نزل في السكاسك مما يلي المفور، والمفازة بينهم وبين مأرب، وانحاز سائر أمراء اليمن إلى الطاهر إلا عمراً وخالداً، فإنهما رجعا إلى المدينة. والطاهر يومئذ في وسط بلاد عك بحيال صنعاء، وغلب الأسود على ما بين صهيد مفازة حضرموت إلى عمل الطائف إلى البحرين قِبَلَ عدن، وطابقت عليه اليمن. وعكٌّ بتهامة معترضون عليه، وجعل يستطير استطارة الحريق. وكان معه سبع مائة فارس يوم لقي شهراً سوى الركبان، وكان قواده قيس بن عبد يغوث المرادي ومعاوية بن قيس الجنبي، ويزيد بن محرم، ويزيد بن حصين الحارثي، ويزيد بن الأفكل الأزدي.
وثبت ملكه واستغلظ أمره، ودانت له سواحل من السواحل: حاز عثر والسرجة، والحردة، وغلافقة، وعدن، والجند، ثم صنعاء إلى عمل الطائف إلى الأحسية وعليب. وعامله المسلمون بالتقية، وعامله أهل الردة بالكفر والرجوع عن الإسلام.
وكان خليفته في مذحج عمرو بن معدي كرب، وأسند أمره إلى نفر، فأما أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث وأسند أمر الأبناء إلى فيروز ودازويه، فلما أثخن في الأرض استخف بقيس وبفيروز وداذويه، وتزوج امرأة شهر، وهي ابنة عم فيروز. فبينا نحن كذلك بحضرموت ولا نأمن أن يسير إلينا الأسود، أو يبعث إلينا جيشاً أو يخرج بحضرموت خارج يدعى بمثل ما ادعى به الأسود، فنحن على ظهر، تزوج معاذ إلى بني بكرة حي
من السكون امرأة أخوالها بنو زنكبيل، يقال لها رملة فحدبوا لصهره علينا، وكان معاذ بها معجباً فإنه كان ليقول فيما يدعو الله: اللهم ابعثني يوم القيامة مع السكون، ويقول أحياناً: اللهم اغفر للسكون، إذ جاءتنا كتب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يأمرنا فيها أن نبعث الرجال لمحاولته أو لمصاولته، ونبلغ كل من رجا عنده شيئاً من ذلك عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقام معاذ في ذلك بالذي أمر به، فعرفنا القوة ووثقنا بالنصر».
وفي عمدة القاري «7 /283»: «حوشب بن طخنة وقيل طخمة الحميري الألهاني يعرف بذي ظليم، أسلم على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعداده في أهل اليمن وكان مطاعاً في قومه. كتب إليه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قتل الأسود العنسي».
وقال الطبري «2/467»: «عن جشيش بن الديلمي قال: قدم علينا وبر بن يحنس بكتاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يأمرنا فيه بالقيام على ديننا، والنهوض في الحرب والعمل في الأسود، إما غيلةً وإما مصادمةً، وأن نُبلغ عنه من رأينا أن عنده نجدة وديناً...وكتب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أهل نجران إلى عربهم وساكني الأرض من غير العرب فثبتوا... ثم روى الطبري أن ثلاثة اشتركوا في قتل المتنبئ الكذاب العنسي، فيروز وداذويه وقيس. قال فيروز: فدخلت على آزاد «المرزبانه» وهي امرأته فقلت: يا ابنة عم قد عرفت بلاء هذا الرجل عند قومك، قتل زوجك وطأطأ في قومك القتل، وسفل بمن بقي منهم، وفضح النساء، فهل عندك من ممالأة عليه؟ فقالت: على أي أمره؟ قلت: إخراجه قلت أو قتله، قالت: أو قتله؟ نعم والله، ما خلق الله شخصاً أبغض إليَّ منه، ما يقوم لله على حق، ولا ينتهى له عن حرمة، فإذا عزمتم فأعلموني أخبركم بمأتي هذا الأمر..
ثم ذكر كيف ساعدته، فدخل خفيةً إلى بيت الأسود وهو نائم، وقتله.
وروى الطبري عن ابن عمر قال: أتى الخبر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي ليبشرنا، فقال: قتل العنسي البارحة، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين، قيل: ومن؟ قال: فيروز، فاز فيروز».
وهذه شهادة مهمة لفيروز الفارسي (رحمه الله) وفرس اليمن.
ثم قال الطبري: «عن الضحاك بن فيروز قال: كان ما بين خروجه بكهف خّبَّان، ومقتله، نحواً من أربعة أشهر، وقد كان قبل ذلك مستسراً بأمره».
* * *
الفصل الخامس: فُتحت اليمن برسائل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجهاد علي (عليه السلام)
رسائل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أهل اليمن ووفودهم اليه
من فضائل اليمن أنها أسلمت طوعاً، استجابةً لرسائل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين العام السادس للهجرة وعام الوفود في السنة العاشرة، إلا بعض مناطقها التي أعلنت العداء أو ارتدت، فعالجها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعلي (عليه السلام).
ومن أدلة قوة إيمان اليمنيين أن الأسود العنسي ادعى النبوة وكثر أتباعه، فلم يحتج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى إرسال قوة لمعالجة أمره، بل عالجه ونسَّق بالرسائل بين الرؤساء لمحاربته، حتى تم القضاء عليه.
لقد أثمرت رسائل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى اليمن فاستجابت له استجابة واسعة، وتوالت وفودها إليه معلنة إسلامها، وبعضهم ساق معه زكاة أنعامه. وحفلت مصادر السيرة برسائله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أهل اليمن، ووفودهم إليه، وذكرت من ذلك أن قبيلة همدان الكبيرة وأنها أسلمت في يوم واحد، عندما جاءها علي (عليه السلام) وقرأ عليها رسالة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
قال الأحمدي في مكاتيب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «2/587»: «والذي يظهر بعد التتبع أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتب إلى جميع أذواء اليمن وأقيالهم، ممن ذكر وغيرهم، فلبوه وأجابوه إلى الإسلام، ووفدت إليه وفودهم، وكتب لكل من الوافدين كتاباً بإسلامهم، وأمنهم على دورهم وزروعهم وأموالهم، وأنفسهم.. وكانت ملوك اليمن تسكن صنعاء وما حولها من مخاليف اليمن: كأبين ولحج وبيحان وغيرها. وصنعاء كانت قاعدة اليمن منذ فتح الأحباش اليمن، والملك يجلس في قصر غمدان. فلما وصلت كُتُب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أسلم
أبناء عبد كلال وزرعة بن سيف بن ذي يزن، وعمير ذو مران، والنعمان قيل ذي رعين، ومعافر، وكتبوا بإسلامهم، وأرسلوا الكتاب مع وافدهم مالك بن مرارة، فأتى المدينة مع وفد همدان مالك بن نمط وغيره، فلقوه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَقْفَلَهُ من تبوك بالمدينة، فأكرم رسولهم كما كان يكرم وفود العرب ورسلهم».
وقال الأحمدي «2/683»: «قال الدكتور غوستاف لوبون في كتابه تاريخ حضارة العرب: إن أهل اليمن سمعوا بظهور النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فسارعوا إلى تصديقه، وأنه النبي الموعود».
وقال اليعقوبي «2/80»: «كتب إلى أهل اليمن: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله إلى أهل اليمن، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. وقع بنا رسولكم مقدمنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة فبلَّغنا ما أرسلتم به، وأخبرنا ما كان قبلكم، ونبأنا بإسلامكم وأن الله قد هداكم.
إن أصلحتم وأطعتم الله وأطعتم رسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من الغنائم خمس الله وسهم النبي والصفي وما على المؤمنين من الصدقة، عشر ما سقي البعل وسقت السماء، وما سقي بالغرب نصف العشر وإن في الإبل من الأربعين حقة قد استحقت الرحل وهي جذعة، وفي الخمس والعشرين ابن مخاض... فمن أعطى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على الكافرين فإنه من المؤمنين، له ذمة الله وذمة رسوله محمد رسول الله.
وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يغير عنها، وعليه الجزية في كل حالم من ذكر أو أنثى حر أو عبد، دينار وافٍ من قيمة المعافري أو عرضه. فمن أدى ذلك إلى رسول الله فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، وإن رسول الله مولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لاتحل لمحمد ولا أهله، إنما هي زكاة تؤدونها إلى
فقراء المؤمنين في سبيل الله.
وإن مالك بن مرارة قد أبلغ الخبر وحفظ الغيب فآمركم به خيراً. إني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي «أي علياً (عليه السلام)» وأولي كتابهم وأولي علمهم، فآمركم به خيراً، فإنه منظور إليه، والسلام».
وروى البيهقي «8 /73» وابن حبان «14/501»: «أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتب إلى اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم:
من محمد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى شرحبيل بن عبد كلال، والحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، قيل ذي رعين ومعافر وهمدان: أما بعد، فقد رجع رسولكم وأعطيتم الغنائم خمس الله، وما كتب الله على المؤمنين من العشر في العقار، وما سقت السماء أو كان سيحاً أو بعلاً ففيه العشر إذ بلغ خمسة أوسق، وما سقي بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر إذ بلغ خمسة أوسق، وفي كل خمس من الإبل سائمة شاة، إلى أن تبلغ أربعاً وعشرين، فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها ابنة مخاض، فإن لم توجد بنت مخاض فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ خمساً وثلاثين، فإذا زادت على خمس وثلاثين ففيها ابنة لبون إلى أن تبلغ خمساً وأربعين، فإذا زادت على خمس وأربعين ففيها حقة طروقة، إلى أن تبلغ ستين، فإن زادت على ستين واحدة ففيها جذعة، إلى أن تبلغ خمسة وسبعين، فإن زادت على خمس وسبعين واحدة ففيها ابنتا لبون، إلى أن تبلغ تسعين، فإن زادت على تسعين واحدة ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى أن تبلغ عشرين ومئة، فما زاد ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل. وفي كل ثلاثين باقورة بقر، وفي كل أربعين شاة سائمة، إلى أن تبلغ عشرين ومئة، فإن زادت على عشرين ومئة واحدة ففيها شاتان، إلى أن تبلغ مئتان فإن زادت واحدة فثلاثة شياه، إلى أن تبلغ ثلاث مائة فما زاد ففي كل مائة شاة شاة. ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا عجفاء ولا ذات عوار ولا تيس الغنم، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، خيفة الصدقة. وما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان
بينهما بالسوية.
وفي كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهم، وليس فيها دون خمس أواق شيء، وفي كل أربعين ديناراً دينارٌ.
وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته، وإنما هي الزكاة تزكى بها أنفسهم في فقراء المؤمنين أو في سبيل الله.
وليس في رقيق ولا مزرعة ولا عمالها شيء إذا كانت تؤدى صدقتها من العشر وليس في عبد المسلم ولا فرسه شيء.
وإن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله، وقتل النفس المؤمنة بغير الحق، والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم.
وإن العمرة الحج الأصغر، ولا يمس القرآن إلا طاهر، ولا طلاق قبل إملاك، ولا عتق حتى يبتاع، ولا يصلين أحدكم في ثوب واحد ليس على منكبه منه شيء، ولا يحتبين في ثوب واحد ليس بينه وبين السماء شيء، ولا يصلين أحدكم في ثوب واحد وشقه باد، ولا يصلين أحدكم عاقصاً شعره.
وإن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فهو قَوَدٌ إلا أن يرضى أولياء المقتول. وإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس. وإن الرجل يقتل بالمرأة. وعلى أهل الذهب ألف دينار».
* * *
جهاد علي (عليه السلام) في فتح اليمن
صعدنا درج صنعاء ودخلنا في ساحة كبيرة قبل سوقها، فقالوا هذه الساحة إسمها «الحلقة». وسألنا عن معناها فقالوا: هنا وقف علي (عليه السلام) وقرأ كتاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأهل اليمن فتحَلَّقُوا حوله!
وزرنا بعد الساحة مسجد علي (عليه السلام) وهو بيت كانت لامرأة استأجره علي (عليه السلام) وسكن فيه مدة عمله في اليمن، فحولوه إلى مسجد.
في الكافي«5/28» عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى اليمن وقال لي: يا علي لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه». وقال ابن هشام «4/1028 و1056»: «غزوة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلى اليمن، غزاها مرتين، وتوغل في مناطقها».
أقول: يظهر أن الغزوة الأولى كانت في السنة الثامنة، والثانية في العاشرة.
قال ابن حجر في فتح الباري «8/52» إن إرسال خالد: «كان بعد رجوعهم من الطائف وقسمة الغنائم بالجعرانة» أي في السنة الثامنة.
وقال الطبري «2/389»: «وفيها «السنة العاشرة» وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علي بن أبي طالب في سرية إلى اليمن في رمضان.. قال البراء.. فلما انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر فجمعوا له فصلى بنا عليٌّ الفجر، فلما فرغ صفنا صفاً واحداً، ثم تقدم بين أيدينا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلما قرأ كتابه خرَّ ساجداً، ثم جلس فقال: السلام على همدان، السلام على همدان، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام».
وروى الصفار في بصائر الدرجات /521، أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرسله إلى اليمن بمعجزة!
قال: «دعاني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فوجهني إلى اليمن لأصلح بينهم، فقلت له يا رسول الله إنهم قوم كثير وأنا شاب حدث. فقال لي: يا علي (عليه السلام) إذا صرت بأعلى عقبة فيق فناد بأعلى صوتك: يا شَجَر يا مَدَر يا ثرى، محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقرؤكم السلام! قال: فذهبت فلما صرت بأعلى عقبة فيق أشرفت على اليمن، فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوي مشرعون أسنتهم، متنكبون قسيهم شاهرون سلاحهم، فناديت بأعلى صوتي: يا شجر يا مدر يا ثرى، محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقرؤكم السلام، قال: فلم يبق شجرة ولا مدرة ولا ثرى إلا ارتجت بصوت واحد: وعلى محمد رسول الله وعليك السلام! فاضطربت قوايم القوم وارتعدت ركبهم، ووقع السلاح من أيديهم، وأقبلوا مسرعين فأصلحت بينهم وانصرفت».
وقال الصالحي في سبل الهدى «6/235»: «روى البيهقي في السنن والدلائل والمعرفة، عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا.
ثم إن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث علي بن أبي طالب مكان خالد وأمره أن يُقْفِلَ خالداً، وقال: مُرْ أصحاب خالد من شاء منهم أن يُعَقِّب معك فليعقب ومن شاء فليقبل... إلى آخره، وفيه: «فافتتح عليُّ حصناً فغنم أواقي ذوات عدد وأخذ علي منه جارية، قال: فكتب معي خالد إلى رسول الله يخبره. قال الترمذي: يعني النميمة! قال: فلما قدمت على رسول الله وقرأ الكتاب رأيته يتغير لونه فقال: ما ترى في رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله تعالى ورسوله؟ فقلت: أعوذ بالله من غضب الله تعالى وغضب رسوله، إنما أنا رسول! فسكت.
وفي رواية: فكتب خالد إلى رسول الله، فقلت: إبعثني فبعثني، فجعل يقرأ الكتاب وأقول صدق، فإذا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد احمر وجهه، فقال: من كنت وليه فعلي وليه! ثم قال: يا بريدة أتبغض علياً؟ فقلت: نعم. قال: لا تبغضه، فإن له من الخمس أكثر من ذلك.
وفي رواية: والذي نفسي بيده لنصيب عليٍّ في الخمس أفضل من وصيفة، وإن كنت
تحبه فازدد له حباً. وفي رواية: لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي! قال بريدة: فما كان في الناس أحدٌ أحب إلي من علي!
سرية علي بن أبي طالب إلى اليمن المرة الثانية:
قال الواقدي «2/1079» وابن سعد واللفظ للأول: «بعث رسول الله علياً إلى اليمن في رمضان، وأمره أن يعسكر بقناة، فعسكر بها حتى تتامَّ أصحابه، فعقد له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لواء وأخذ عمامته فلفها مثنية مربعة، فجعلها في رأس الرمح ثم دفعها إليه، وعممه بيده عمامة ثلاثة أكوار، وجعل له ذراعاً بين يديه وشبراً من ورائه، وقال له: إمض ولا تلتفت. فقال علي: يا رسول الله ما أصنع؟ قال: إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، وادعهم إلى أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن قالوا نعم فمرهم بالصلاة، فإن أجابوا فمرهم بالزكاة، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك. والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت.
فخرج علي في ثلاث مائة فارس، فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد. فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد من مذحج، فرق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم وسبايا، نساء وأطفالاً ونعماً وشاءً وغير ذلك، فجعل عليٌّ على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي، فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقى لهم جمعاً. ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا أصحابه بالنبل والحجارة، فلما رأى أنهم لا يريدون إلا القتال، صف أصحابه ودفع اللواء إلى مسعود بن سنان السلمي فتقدم به، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز، فبرز إليه الأسود بن خزاعي فقتله الأسود وأخذ سلبه. ثم حمل عليهم عليٌّ وأصحابه فقتل منهم عشرين رجلاً فتفرقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائماً، وكفَّ عليٌّ عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله تعالى. وجمع عليٌّ ما أصاب من تلك الغنائم، فجزأها خمسة أجزاء فكتب في سهم
منها: لله، ثم أقرع عليها فخرج أول السُّهمان سهم الخمس، وقسم عليٌّ على أصحابه بقية المغنم، ولم ينفل أحداً من الناس شيئاً، وكان من كان قبله يعطون خيلهم الخاص دون غيرهم من الخمس، ثم يخبرون رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذلك فلا يرده عليهم، فطلبوا ذلك من علي فأبى وقال: الخمس أحمله إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرى فيه رأيه.
وأقام فيهم يقرؤهم القرآن ويعلمهم الشرائع، وكتب إلى رسول الله كتاباً مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يخبره الخبر، فأتى رسول الله فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يوافيه الموسم، فانصرف عبد الله بن عمرو بن عوف إلى علي بذلك، فانصرف علي راجعاً فلما كان بالفتق «مكان» تعجَّل إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخبره الخبر، وخلف على أصحابه والخمس أبا رافع، فوافى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمكة قد قدمها للحج، وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن أحمال معكومة، ونِعَمٌ وشاء مما غنموا، ونعمٌ من صدقة أموالهم، فسأل أصحاب علي أبا رافع أن يكسوهم ثياباً يحرمون فيها، فكساهم منها ثوبين ثوبين. فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج علي ليتلقاهم ليَقدم بهم، فرأى على أصحابه الثياب فقال لأبي رافع: ما هذا؟ فقال: كلموني ففرقت من شكايتهم وظننت أن هذا ليسهل عليك، وقد كان من قبلك يفعل هذا بهم. فقال: قد رأيت امتناعي من ذلك ثم أعطيتهم، وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلفت فتعطيهم! فنزع عليٌّ الحُلَلَ منهم! فلما قدموا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شكوه فدعا علياً فقال: ما لأصحابك يشكونك؟ قال: ما أشكيتهم، قسمت عليهم ما غنموا وحبست الخمس حتى يقدم عليك فترى فيه رأيك. فسكت رسول الله».
أقول: نصت رواياتهم على أن علياً (عليه السلام) أعطى جنوده أربعة أخماس الغنيمة فطمعوا في خمس النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واستغلوا مسارعته إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وضغطوا على أبي رافع وأخذوا من الخمس الذي للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بغير حق، فلما رجع نزعه منهم! وقد ظلم الرواة علياً (عليه السلام) فصوروا أنه أخطأ ولم يخطئ!
وكانت هذه القصة في السنة العاشرة، لكن إرسال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لخالد كان كما في فتح
الباري «8/52»: «بعد رجوعهم من الطائف وقسمة الغنائم بالجعرانة».
وقد يكون الرواة خلطوا بين المرتين، ومهما يكن فالذي يبدو أن خالداً لم يطع أمر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالقُفُول أي الرجوع! وبقي يتتبع عمل علي (عليه السلام) ويتحين عليه شيئاً ليشكوه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)! وشكايته ضد علي (عليه السلام) من الأحاديث الصحيحة في مصادر الجميع وطرقها عديدة، وفيها قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): علي وليكم من بعدي.
قال الصالحي في سبل الهدى: «روى البيهقي بإسناد صحيح من حديث ابن إسحاق عن البراء: أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث خالد.. إلى آخر ما تقدم.
ومن روايتها عن أبي رافع: «بعث رسول الله علياً أميراً على اليمن، وبعث خالد بن الوليد على الجبل فقال: إن اجتمعتما فعليٌّ على الناس، فالتقوا وأصابوا من الغنائم ما لم يصيبوا مثله وأخذ علي جارية من الخمس، فدعا خالد بن الوليد بريدة فقال: إغتنمها فأخبر النبي ما صنع! فقدمت المدينة ودخلت المسجد ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في منزله وناس من أصحابه على بابه، فقالوا: ما الخبر يا بريدة؟ فقلت: خيراً فتح الله على المسلمين، فقالوا: ما أقدمك؟ قلت: جارية أخذها علي من الخمس فجئت لأخبر النبي! فقالوا: فأخبر النبي فإنه يسقط من عين النبي! ورسول الله يسمع الكلام فخرج مغضباً فقال: ما بال أقوام ينتقصون علياً! من تَنَقَّصَ علياً فقد تنقصني، ومن فارق علياً فقد فارقني! إن علياً مني وأنا منه خُلق من طينتي وخُلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ). يا بريدة: أما علمت أن لعلي أكثر من الجارية التي أخذ، وأنه وليكم بعدي؟! فقلت: يا رسول الله بالصحبة إلا بسطت يدك فبايعتني على الإسلام جديداً! قال: فما فارقته حتى بايعته على الإسلام»! «أوسط الطبراني: 6/163». وفي تاريخ دمشق«42/191»: «إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال له: أنافقت بعدي يا بريدة؟!».
وقد بحثنا شكاية خالد ومحاولتهم تحريفها في العقائد الإسلامية «4/91».
ادعى كعب الأحبار أنه لقي علياً (عليه السلام) في اليمن
ادعى كعب أنه لقي علياً (عليه السلام) باليمن وأسلم! ففي مغازي الواقدي/668: «لما قدم علي بن أبي طالب اليمن خطب به، وبلغ كعب الأحبار قيامه بخطبته، فأقبل على راحلته في حلة، معه حبر من أحبار اليهود حتى استمعا له.. قال كعب الأحبار: لما قدم عليٌّ اليمن لقيته فقلت: أخبرني عن صفة محمد، فجعل يخبرني عنه وجعلت أتبسم، فقال: ممَّ تتبسم؟ فقلت: مما يوافق ما عندنا من صفته.. قال: فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله وتوفي أبو بكر، فقدمت في خلافه عمر ويا ليت أني كنت تقدمت في الهجرة»!
لكن كعباً قال إنه أسلم، في أواسط خلافة عمر، وهذا متفق عليه في ترجمته.
أهدى علي (عليه السلام) إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أفراساً من اليمن
في الكافي «6/535» عن الإمام الرضا (عليه السلام): «أهدى أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أربعة أفراس من اليمن فقال: سمها لي، فقال: هي ألوان مختلفة قال: ففيها وضح؟ فقال: نعم، فيها أشقر به وضح، قال: فأمسكه عليَّ، قال: وفيها كميتان أوضحان، فقال: أعطهما ابنيك. قال: والرابع أدهم بهيم. قال: بعه واستخلف به نفقة لعيالك، إنما يمن الخيل في ذوات الأوضاح».
وأرسل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً (عليه السلام) لما ارتد عمرو بن معد يكرب
قال المفيد الإرشاد «1/145»: «لما عاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معد يكرب، فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أسلم يا عمرو يؤمنك الله من الفزع الأكبر، قال: يا محمد وما الفزع الأكبر، فإني لا أفزع! فقال يا عمرو: إنه ليس كما تظن وتحسب! إن الناس يصاح بهم صيحة واحدة، فلا يبقى ميت إلا نُشر ولا حيٌّ إلا مات، إلا ما شاء الله، ثم يصاح بهم صيحة أخرى فينشر من مات، ويُصَفُّونَ جميعاً، وتنشق السماء وتُهَدُّ الأرض،
وتخرُّ الجبال هداً، وترمي النار بمثل الجبال شرراً، فلا يبقي ذو روح إلا انخلع قلبه وذكر ذنبه وشغل بنفسه، إلا من شاء الله! فأين أنت يا عمرو من هذا؟
قال: ألا إني أسمع أمراً عظيماً، فآمن بالله ورسوله، وآمن معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم. ثم إن عمرو بن معدي كرب نظر إلى أبيّ بن عثعث الخثعمي، فأخذ برقبته ثم جاء به إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: أُعْدُني على هذا الفاجر الذي قتل والدي، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية، فانصرف عمرو مرتداً، فأغار على قوم من بني الحارث بن كعب، ومضى إلى قومه! فاستدعى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علي بن أبي طالب وأمره على المهاجرين وأنفذه إلى بني زبيد، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب، وأمره أن يعمد لجعفى، فإذا التقيا فأمير الناس أمير المؤمنين.
فسار أمير المؤمنين (عليه السلام) واستعمل على مقدمته خالد بن سعيد بن العاص واستعمل خالد على مقدمته أبا موسى الأشعري، فأما جعفى فإنها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين: فذهبت فرقة إلى اليمن، وانضمت الفرقة الأخرى إلى بني زبيد، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) فكتب إلى خالد بن الوليد: أن قف حيث أدركك رسولي، فلم يقف! فكتب إلى خالد بن سعيد بن العاص: تعرض له حتى تحبسه، فاعترض له خالد حتى حبسه، وأدركه أمير المؤمنين فعنفه على خلافه! ثم سار حتى لقي بني زبيد بواد يقال له كثير، فلما رآه بنو زبيد قالوا لعمرو: كيف أنت يا با ثور إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الإتاوة؟ قال: سيعلم إن لقيني! قال: وخرج عمرو فقال: من يبارز؟ فنهض إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقام إليه خالد بن سعيد وقال له: دعني يا أبا الحسن بأبي أنت وأمي أبارزه، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): إن كنت ترى أن لي عليك طاعة فقف مكانك، فوقف.
ثم برز إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فصاح به صيحة فانهزم عمرو! وقتل أخاه وابن أخيه، وأُخِذَت امرأته ركانة بنت سلامة، وسبي منهم نسوان، وانصرف أمير المؤمنين (عليه السلام) وخلف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم، ويؤمِّن من عاد إليه من هُرَّابهم مسلماً،
فرجع عمرو بن معد يكرب، واستأذن على خالد بن سعيد فأذن له، فعاد إلى الإسلام فكلمه في امرأته وولده فوهبهم له! وقد كان عمرو لما وقف بباب خالد بن سعيد وجد جزوراً قد نُحرت فجمع قوائمها ثم ضربها بسيفه فقطعها جميعاً، وكان يسمى سيفه الصمصامة، فلما وهب خالد بن سعيد لعمرو امرأته وولده، وهب له عمرو الصمصامة.
وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد اصطفى من السبي جارية، فبعث خالد بن الوليد بريدة الأسلمي إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال له: تقدم الجيش إليه فأعلمه بما فعل علي من اصطفائه الجارية من الخمس لنفسه، وقَعْ فيه!
فسار بريدة حتى انتهى إلى باب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلقيه عمر بن الخطاب فسأله عن حال غزوتهم وعن الذي أقدمه، فأخبره أنه إنما جاء ليقع في علي، وذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه فقال له عمر: إمض لما جئت له فإنه سيغضب لابنته مما صنع علي! فدخل بريدة على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومعه كتاب من خالد بما أرسل به بريدة، فجعل يقرأه ووجه رسول الله يتغير فقال بريدة: يا رسول الله إنك إن رخصت للناس في مثل هذا ذهب فيؤهم!
فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ويحك يا بريدة أحدثت نفاقاً؟ إن علي بن أبي طالب يحل له من الفيء ما يحل لي، إن علي بن أبي طالب خير الناس لك ولقومك، وخير من أخلف بعدي لكافة أمتي! يا بريدة إحذر أن تبغض علياً فيبغضك الله!
قال بريدة: فتمنيت أن الأرض انشقت لي فسخت فيها، وقلت: أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسول الله. يا رسول الله إستغفر لي، فلن أبغضن علياً أبداً ولا أقول فيه إلا خيراً، فاستغفر له النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)».
أقول: نلاحظ أن خالد بن الوليد كان مأموراً من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بطاعة علي (عليه السلام)، ولكنه لم يطعه، فتركه علي (عليه السلام) حتى إذا خشي الضرر من تصرفه أمر خالداً بن سعيد أن يمنعه بالقوة من مواصلة مسيره، فمنعه! وهذا يثبت شجاعة خالد بن سعيد وخوف خالد بن الوليد منه ومن علي (عليه السلام) لأنهما أشجع منه، مضافاً إلى أن مكانتهما في قريش ومكة أعلى
من مكانته!
وقد يكون علي (عليه السلام) منعه من التقدم إلى زبيد خوفاً من انهزامه أمام عمرو بن معدي كرب، فتكون هزيمة على المسلمين، خاصة وأنه أعد خطة لهزيمة ابن معد يكرب بدون أن يقتله، فهو يريد أن يستبقيه!
ولا بد أن ابن الجيشين بُهتوا لفزع عمرو من صرخة علي (عليه السلام)! ويبدو أن تلك الصرخة الحيدرية بأمر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفيها سرٌّ من أسراره! لأنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما أنذر عمرواً من فزع الآخرة قال له عمرو: «يا محمد وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع»!
فأراه الله الفزع على يد علي (عليه السلام)، وأبقاه حياً لأنه سينفع في الفتوحات.
هذا، ويضرب المثل بسيف عمرو المسمى: الصمصامة، قال ابن عبد ربه في العقد الفريد/153: «بعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن معد يكرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة، فبعث به إليه، فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه، فكتب إليه في ذلك، فرد عليه: إنما بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث بالساعد الذي يضرب به»!
وفي معاهد التنصيص «2/242»: «وعن الشعبي قال جاءت زيادةٌ من عند عمر يوم القادسية، فقال عمرو بن معدي كرب لطليحة: أما ترى أن هذه الزعانف تُزاد ولا نُزاد، إنطلق بنا إلى هذا الرجل حتى نكلمه. فقال: هيهات والله لا ألقاه في هذا أبداً، فلقد لقيني في بعض فجاج مكة فقال: يا طليحة أقتلت عكاشة (عندما كان متنبئاً)! فتوعدني وعيداً ظننت أنه قاتلي، ولا آمنه.
قال عمرو: ولكنني ألقاه، قال: أنت وذاك، فخرج إلى المدينة فقدم على عمر وهو يغدي الناس وقد جَفَّنَ لعشرة عشرة، فأقعده عمر مع عشرة، فأكلوا ونهضوا، ولم يقم عمرو، فأقعد معه تكملة عشرة، حتى أكل مع ثلاثين، ثم قام فقال: يا أمير المؤمنين إنه
كانت لي مآكل في الجاهلية منعني منها الإسلام، وقد صررت في بطني صرتين، وتركت بينهما هواء فَسُدَّهُ. فقال: عليك حجارة من حجارة الحرة فسده بها! يا عمرو، إنه بلغني أنك تقول إن لي سيفاً يقال له الصمصامة، وعندي سيف اسمه المصمم، وإني إن وضعته بين أذنيك لم أرفعه حتى يخالط أضراسك»!
أقول: هذه خشونةٌ وقسوةٌ من عمر في معاملة بطل من أبطال الفتوحات الإسلامية، وأي قيمة لألف درهم أو خمسين ألفاً يعطاها عمرو، وقد زاد من هو دونه. لكن عمر لا يحب عمرواً لأنه لا يتملق له، بل يحسده!
وأرسل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً (عليه السلام) قاضياً إلى اليمن
في البصائر/472، عن عبد العزيز القراطيسي قال: «قلت لأبي عبد الله: جعلت فداك إن الناس يزعمون أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجه علياً (عليه السلام) إلى اليمن ليقضي بينهم، فقال علي (عليه السلام): فما وردت عليَّ قضية إلا حكمت فيها بحكم الله وحكم رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)! فقال: صدقوا. قلت: وكيف ذاك ولم يكن أنزل القرآن كله، وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غائباً عنه؟ فقال: يتلقاه به روح القدس».
وروى الحاكم«3/135» وصححه على شرط الشيخين: «قال علي رضي الله عنه: بعثني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى اليمن قال فقلت: يا رسول الله إني رجل شاب وإنه يرد علي من القضاء ما لا علم لي به؟ قال: فوضع يده على صدري وقال: اللهم ثبت لسانه: واهد قلبه. فما شككت في القضاء، أو في قضاءٍ بعدُ».
وفي أمالي الصدوق/428: «عن الباقر (عليه السلام) قال: بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علياً إلى اليمن فانفلت فرس لرجل من أهل اليمن فنفح رجلاً برجله فقتله، وأخذه أولياء المقتول فرفعوه إلى علي، فأقام صاحب الفرس البينة أن الفرس انفلت من داره فنفح الرجل برجله، فأبطل علي دم الرجل، فجاء أولياء المقتول من اليمن إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يشكون علياً (عليه السلام)
فيما حكم عليهم فقالوا: إن علياً ظلمنا وأبطل دم صاحبنا! فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن علياً ليس بظلام ولم يُخلق علي للظلم، وإن الولاية من بعدي لعلي، والحكم حكمه والقول قوله، لا يرد حكمه وقوله وولايته إلا كافر، ولا يرضى بحكمه وقوله وولايته إلا مؤمن. فلما سمع اليمانيون قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في علي (عليه السلام) قالوا: يا رسول الله، رضينا بقول علي وحكمه. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): هو توبتكم مما قلتم».
وثيقة صلح كتبها علي (عليه السلام) بين القبائل
«ومن حِلْفٍ له (عليه السلام) كتبه بين ربيعة واليمن: هذا ما اجتمع عليه أهل اليمن: حاضرها وباديها، وربيعة: حاضرها وباديها، أنهم على كتاب الله يدعون إليه ويأمرون به ويجيبون من دعا إليه وأمر به، لا يشترون به ثمناً ولا يرضون به بدلاً، وأنهم يد واحدة على من خالف ذلك وتركه، أنصارٌ بعضهم لبعض، دعوتهم واحدة، لا ينقضون عهدهم لمعتبة عاتب ولا لغضب غاضب ولا لاستذلال قوم قوماً، ولا لمسبة قوم قوماً. على ذلك شاهدهم وغائبهم، وحليمهم وسفيههم، وعالمهم وجاهلهم. ثم إن عليهم بذلك عهد الله وميثاقه إن عهد الله كان مسؤولا. وكتب علي بن أبي طالب». «نهج البلاغة: 3/134».
كذبوا فقالوا إن علياً (عليه السلام) ذم اليمنيين
قال في أعيان الشيعة «1/410»: «بَعْثُ عليٍّ إلى همدان لم يكن سنة عشر، إنما كان سنة عشر، بعثه إلى بني مذحج، وأما بعثه إلى همدان فكان سنة ثمان بعد فتح مكة، فيكون بعث عليٍّ إلى اليمن حصل مرتين».
وفي المستجاد/111: «لما أراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تقليده قضاء اليمن وإنفاذه إليهم ليعلمهم الأحكام ويبين لهم الحلال من الحرام، ويحكم فيهم بأحكام القرآن، قال له: تندبني يا رسول الله للقضاء وأنا شاب ولا علم لي بكل القضاء. فقال له: أدنُ مني فدنا
منه، فضرب على صدره وقال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك المقام».
وروى في كنز العمال «13/113» عن الطبري، قال: «أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ناس من اليمن فقالوا: إبعث فينا من يفقهنا في الدين ويعلمنا السنن ويحكم فينا بكتاب الله، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنطلق يا علي إلى أهل اليمن ففقهم في الدين وعلمهم السنن، واحكم فيهم بكتاب الله. فقلت: إن أهل اليمن قوم طُغَام يأتوني من القضاء بما لا علم لي به، فضرب النبي صدري ثم قال إذهب فان الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك. فما شككت في قضاء بين اثنين حتى الساعة».
وقولهم إنه (عليه السلام) وصف أهل اليمن بالطغام، أي أوغاد الناس مكذوب عليه.
قال ابن فارس «3/413»: «كلمة ما أحسبها من أصل كلام العرب يقولون لأوغاد الناس: طغام». بل هي تشبه كلام النجديين والقرشيين في ذم اليمنيين، وقد وردت على لسان عائشة في مسند ابن راهويه «3/894» قالت: «لكن قومك أهل اليمن قوم طغام، يصلون الظهر ثم يصلون ما بين الظهر والعصر ويصلون العصر ثم يصلون ما بين الظهر والعصر فضربهم عمر وقد أحسن».
ويؤيد قولنا أنه روي في مصادر كثيرة جداً بدون هذا اللفظ السيئ: ففي سنن النسائي «5/117»: «عن علي رضي الله تعالى عنه قال بعثني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى اليمن وأنا شاب، فقلت: يا رسول الله تبعثني وأنا شاب إلى قوم ذوي أسنان لأقضي بينهم، ولا علم لي بالقضاء؟ فوضع يده على صدري ثم قال: إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك. يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء. قال علي: فما شككت في قضاء بين اثنين». ونحوه: ومسند زيد/295، وسنن أبي داود: 2/160، وأحمد: 1/156، والبيهقي: 10/86 و140، وخصائص النسائي/69 و71، ومسند أبي يعلى: 1/323، وأوسط الطبراني: 4/ 172.
وبالغوا في دور معاذ وأبي عبيدة وأبي موسى في اليمن
نلاحظ في مصادر السيرة والحديث تضخيماً لدور معاذ بن جبل في اليمن، وأبي موسى الأشعري، وأبي عبيدة بن الجراح، وكأن الهدف التقليل من دور علي (عليه السلام)، أو إثبات فضائل لهؤلاء. وعند التحقيق تجد أن أدوارهم في اليمن كانت في آخر سنة من حياة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا تصل إلى جزء من دور علي (عليه السلام).
قال البخاري «5/120» تحت عنوان: باب قصة أهل نجران: «إبعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً. فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله: هذا أمين هذه الأمة».
وفي صحيح مسلم «7/139»: «فقال: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين حق أمين، قال: فاستشرف لها الناس، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح».
ومعناه أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعثه ليقبض الجزية التي اتفق عليها مع نصارى نجران، وكان ذلك في السنة العاشرة. أما عندنا فتعبير أمين الأمة جاء استنكاراً من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما كتب القرشيون صحيفة لإبعاد عترته عن الخلافة، وأودعوها عند أبي عبيدة، فعرف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذلك وقال له مستنكراً: يا أبا عبيدة أصبحت أمين هذه الأمة؟! فرووا الحديث إخباراً، وليس استنكاراً!
وأما معاذ بن جبل، فأرسله النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى اليمن جابياً وليس قاضياً ولا والياً حتى على الجَنَد، فقد اتفقوا على أنه أفلس حتى أراد غرماؤه أن يتخذوه عبداً لهم، فمنعهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبعثه إلى اليمن ليجمع الصدقات ويجبر إفلاسه. وكان ذلك سنة عشر. كما روى الحاكم بسند صحيح «3/274»: «عن جابر بن عبد الله قال: كان معاذ بن جبل من أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً وأسمحهم كفاً، دانَ دَيْناً كثيراً فلزمه غرماؤه حتى
تغيب عنهم أياماً في بيته، حتى استعدى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غرماؤه، فأرسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى معاذ يدعوه فجاء ومعه غرماؤه فقالوا: يا رسول الله خُذْ لنا حقنا منه. فقال رسول الله: رحم الله من تصدق عليه، فتصدق عليه ناس وأبى آخرون وقالوا: يا رسول الله خذ لنا بحقنا منه. قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إصبر لهم يا معاذ، قال فخلعه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ماله فدفعه إلى غرمائه، فاقتسموه بينهم فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم، قالوا: يا رسول الله بعه لنا! قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): خلوا عليه فليس لكم عليه سبيل، فانصرف معاذ إلى بني سلمة، فقال له قائل: يا أبا عبد الرحمن لو سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد أصبحت اليوم معدماً، فقال: ما كنت لأسأله. قال: فمكث أياماً ثم دعاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فبعثه إلى اليمن وقال: لعل الله أن يجبرك ويؤدي عنك دينك. قال: فخرج معاذ إلى اليمن، فلم يزل بها حتى توفي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فوافى السنة التي حج فيها عمر بن الخطاب مكة فاستعلمه أبو بكر على الحج، فالتقيا يوم التروية بها فاعتنقا، وعزى كل واحد منهما صاحبه برسول الله، ثم أخلدا إلى الأرض يتحدثان فرأى عمر عند معاذ غلماناً فقال: ما هؤلاء؟ قال أصبتهم في وجهي هذا. قال عمر: من أي وجه؟ قال: أهدوا إليَّ وأكرمت بهم. فقال عمر: أذكرهم لأبي بكر».
وفي مصنف عبد الرزاق «4/56»: «فجاء معاذ يوم عرفة ومعه وُصَفَاء قد عزلهم، فلقيهم عمر فقال: ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء لأبي بكر من الجزية وهؤلاء أهدوا لي هدية، فقال عمر: أطعني وسلمهم لأبي بكر..».
وفي عمدة القاري للعيني «8/235»: «بعث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معاذاً وأبا موسى عند انصرافه من تبوك سنة تسع، وزعم ابن الحذاء أن ذلك كان في شهر ربيع الآخر سنة عشر». ومعناه أنه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرسله قبل وفاته بأقل من سنة، ولم يكن في مهمته قضاء. ثم قال العيني: وبعثه أيضاً قاضياً وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد قسم اليمن على خمسة رجال: خالد بن سعيد على صنعاء، والمهاجر
بن أبي أمية على كندة، وزياد بن لبيد على حضرموت، ومعاذ على الجَنَد، وأبي موسى على زبيد وعدن والساحل».
فالمؤكد أن معاذاً كان جابياً، فقد رووا: «أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين بعثه إلى اليمن قال: خذ من كل حالم دينار. أخرجه أصحاب السنن». «فتح الباري: 6/185».
وفي البخاري «8 /164»: «فخذ منهم، وتوقَّ كرائم أموال الناس».
وقال في الصحيح من السيرة «26 /310»: «ولهم في معاذ مبالغات تزيد على مبالغاتهم في أبي موسى الأشعري. وقد زعموا هنا: أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد كتب لمعاذ بن جبل وهو في اليمن: إني عرفت بلاءك في الدين، والذي ذهب من مالك حتى ركبك الدين، وقد طيبت لك الهدية، فإن أهدي لك شيء فاقبل. وقد زعموا: أن السبب في هذا السماح هو: أن معاذاً كان رجلاً سمحاً، فركبه الدين فلزمه غرماؤه حتى تغيب عنهم أياماً في بيته، فأرسله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى اليمن، وقال له: لعل الله يجبرك ويؤدي عنك.
قال عمر: وكان أول من اتجر في مال الله هو، فمكث حتى أصاب وحتى قُبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فلما قدم قال عمر لأبي بكر: أرسل إلى هذا الرجل فدع له ما يعيِّشه وخذ سائره منه.. إلى آخر ما ذكره، فراجعه».
فذكروا أنه كان أميراً على الجند وهي بلد صغير، وليس على أحد المخاليف. وقد بالغوا في مدحه كما ترى في الحاكم: 3/ 271: «قال رسول الله: معاذ بن جبل أعلم الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين، وإن الله يباهي به الملائكة». «وقال الذهبي «سيره: 1/459» إنه موضوع وضعه عبيد!
ومن الموضوعات قولهم إن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال له: «بم تقضي؟ قال: بما في كتاب الله قال: فإن لم تجد. قال: بما في سنة رسول الله. قال: فإن لم تجد. قال: أجتهد رأيي فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الحمد لله الَّذي وفق رسول رسول الله لما يحب رسول الله». «الاستيعاب: 3/1403».
ومن الموضوعات أنهم شبهوا ابن جبل بخليل الله إبراهيم (عليه السلام) وجعلوه أعلم الصحابة بالحلال والحرام، وقال فيه عمر عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ. وأنه كان شاباً جميلاً لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه! «الإصابة: 6 /108».
أقول: توفي معاذ سنة 17 وعمره 33 سنة، ومعناه أن عمره كان عند هجرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) 14سنة. وعندما أفلس وأراد غرماؤه شراءه بدينهم نحو 21 سنة مثلاً، وأرسله في تلك السنة إلى اليمن.
أما سبب مبالغة الرواة القرشيين في مدحه، بينما لا يمدحون من هو أكبر منه وأعلم، كأبيّ بن كعب! فهو أن معاذاً كان في السقيفة مع الحزب القرشي ضد بني هاشم وضد قومه الأنصار، وكانت له فعاليات عديدة لمصلحة خلافة أبي بكر، ولا يصح قولهم إنه كان في اليمن. فقد كان أحد الذين هاجموا بيت علي وفاطمة (عليهما السلام) وهددوهم بإحراق البيت عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا أبا بكر!
وكان من المجموعة الذين أخرجوا أبا بكر إلى المسجد، بعد أن خطب ضده اثنا عشر من المهاجرين والأنصار في المسجد، فاعتزل في بيته، وقال: أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم، فذهب عمر ومعاذ وجماعة فوبخوه وأخرجوه!
بل ورد عندنا أن معاذاً كان شريكاً مع القرشيين في الصحيفة التي كتبوها في حجة الوداع، أنه إن قتل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو مات، لا نرد الأمر في أهل بيته أبداً!
وأما أبو موسى فكان أميراً على عدن وزبيد والساحل، وكان مجيؤه مع معاذ إلى اليمن بعد فتحها. ولا يتسع المجال لنقد دوره وشخصيته.
هذا، وقد ذكر الكتاني «1/43» أدواراً لعدد من الصحابة في اليمن: منهم عمرو بن حزم الخزرجي النجاري، وذكر أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استعمله على نجران ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم وذلك سنة عشر، بعد أن بعث إليهم أبا عبيدة،
وخالد بن الوليد فأسلموا، وكتب له كتاباً في الفرائض والسنن والصدقات والديات. وهذا أمر عجيب لأن نجران لم تسلم!
ثم ذكر أشخاصاً بعثهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليفقهوا أهل نجران، مع أنهم لم يسلموا!
الفصل السادس: وفود أهل اليمن على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
موجز عن وفودهم برواية ابن سعد
عقد ابن سعد في الطبقات «1/321» باباً بعنوان: وفادات أهل اليمن، وروى غيره شبيهاً به، وتبلغ أحاديث وفود اليمن إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صفحات كثيرة، نكتفي منها بخلاصة مما ذكره ابن سعد:
قدم وفد طيء على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خمسة عشر رجلاً، رأسهم وسيدهم زيد الخير، وهو زيد الخيل بن مهلهل من بني نبهان، وفيهم وزر بن جابر بن سدوس بن أصمع النبهاني، وقبيصة بن الأسود بن عامر من جرم طيء، ومالك بن عبد الله بن خيبري من بني معن، وقعين بن خليف بن جديلة، ورجل من بني بولان، فدخلوا المدينة ورسول الله في المسجد فعقدوا رواحلهم بفناء المسجد، ثم دخلوا فدنوا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعرض (عليهم السلام) فأسلموا، وجازهم بخمس أواق فضة كل رجل منهم، وأعطى زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشاً، وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما ذكر لي رجل من العرب إلا رأيته دون ما ذكر لي إلا ما كان من زيد، فإنه لم يبلغ كل ما فيه، وسماه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) زيد الخير، وقطع له فيد وأرضين، فكتب له بذلك كتاباً..
قدم عمرو بن المُسَبِّح بن كعب بن عمرو بن عصر بن غنم بن حارثة بن ثوب بن معن الطائي، على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يومئذ بن مائة وخمسين سنة فسأله عن الصيد، فقال: كل ما أصميت ودع ما أنميت.
«أي: كل ما قتلته وأنت تراه، ولا تأكل ما غاب عنك خبره».
قدم وفد تَجيب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة تسع وهم ثلاثة عشر رجلاً وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ رسول الله بهم وقال: مرحباً بكم، وأكرم منزلهم وحباهم، وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم وجوائزهم، وأعطاهم أكثر مما كان يجيز به الوفد، وقال: هل بقي منكم أحد؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سناً، قال: أرسلوه إلينا، فأقبل الغلام إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال إني أمرؤ من بني أبناء الرهط الذين أتوك آنفاً فقضيت حوائجهم فاقض حاجتي. قال: وما حاجتك؟ قال: تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني ويجعل غناي في قلبي. فقال: اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الموسم بمنى ستة عشر فسألهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن الغلام فقالوا: ما رأينا مثله أقنع منه بما رزقه الله. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إني لأرجو أن نموت جميعاً..
قدم وفد خولان وهم عشرة نفر في شعبان سنة عشر، فقالوا: يا رسول الله نحن مؤمنون بالله ومصدقون برسوله، ونحن على من وراءنا من قومنا، وقد ضربنا إليك آباط الإبل، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما فعل عمُّ أنس، صنمٌ لهم؟ قالوا: بِشَرٍّ وعَرّ، أبدلنا الله به ما جئت به، ولو قد رجعنا إليه هدمناه. وسألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن أشياء من أمر دينهم فجعل يخبرهم بها، وأمر من يعلمهم القرآن والسنن، وأنزلوا دار رملة بنت الحارث، وأمر بضيافة فأجريت عليهم، ثم جاؤوا بعد أيام يودعونه، فأمر لهم بجوائز اثنتي عشرة أوقية ونش، ورجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس، وحرموا ما حرم عليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأحلوا ما أحل لهم.
قدم منهم «صداء» على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خمسة عشر رجلاً فأسلموا وبايعوا على من وراءهم من قومهم، ورجعوا إلى بلادهم، ففشا فيهم الإسلام، فوافى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مائة رجل منهم في حجة الوداع.
قدم فروة بن مسيك المرادي وافداً على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مفارقاً لملوك كندة
ومتابعاً للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنزل على سعد بن عبادة، وكان يتعلم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه، وأجازه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) باثنتي عشرة أوقية، وحمله على بعير نجيب، وأعطاه حلة من نسج عمان، واستعمله على مراد وزبيد ومذحج، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقات.
قدم عمر بن معد يكرب الزبيدي في عشرة نفر من زبيد المدينة فقال: مَن سيد أهل هذه البحرة من بني عمرو بن عامر؟ فقيل له: سعد بن عبادة، فأقبل يقود راحلته حتى أناخ ببابه، فخرج إليه سعد فرحب به..
قدم الأشعث بن قيس على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بضعة عشر راكباً من كندة فدخلوا على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مسجده قد رجَّلوا جُممهم واكتحلوا، وعليهم جباب الحبرة قد كفوها بالحرير، وعليهم الديباج ظاهر مخوط بالذهب..
قدم وفدنا «بنو صدف» على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم بضعة عشر رجلاً على قلائص لهم في أزر وأردية فصادفوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيما بين بيته وبين المنبر فجلسوا ولم يسلموا، فقال: مسلمون أنتم؟ قالوا: نعم. قال: فهلا سلمتم؟ فقاموا قياماً فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله..
قدم أبو ثعلبة الخشني على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يتجهز إلى خيبر، فأسلم وخرج معه فشهد خيبر، ثم قدم بعد ذلك سبعة نفر من خشين، فنزلوا على أبي ثعلبة فأسلموا وبايعوا، ورجعوا إلى قومهم.
قدمت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وافداً في نفر من قومي «سعد هذيم» فنزلنا ناحية من المدينة، ثم خرجنا نؤم المسجد، فنجدُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصلي على جنازة في المسجد، فانصرف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: من أنتم؟ قلنا من بني سعد هذيم، فأسلمنا وبايعنا ثم انصرفنا إلى رحالنا، فأمر بنا فأنزلنا وضيفنا فأقمنا ثلاثاً ثم جئناه نودعه، فقال: أمروا عليكم أحدكم، وأمَّر بلالاً، فأجازنا بأواق من فضة ورجعنا إلى قومنا، فرزقهم الله الإسلام.
قدم وفد قومي «بلي» في شهر ربيع الأول سنة تسع فأنزلتهم في منزلي ببني جديلة، حتى انتهينا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو جالس مع أصحابه في بيته في الغداة، فقدم شيخ الوفد أبو الضباب فجلس بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فتكلم وأسلم القوم..
قدم وفد بهراء من اليمن وهم ثلاثة عشر رجلاً، فأقبلوا يقودون رواحلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد بن عمرو ببني جديلة، فخرج إليهم المقداد فرحب بهم وأنزلهم في منزل من الدار، وأتوا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأسلموا وتعلموا الفرائض..
وقدم وفد بني عذرة في صفر سنة تسع، اثنا عشر رجلاً فيهم حمزة بن النعمان العذري، وسليم وسعد ابنا مالك، ومالك بن أبي رياح، فنزلوا دار رملة بنت الحارث النجارية، ثم جاؤوا إلى النبي فسلموا بسلام أهل الجاهلية وقالوا: نحن إخوة قصي لأمه، ونحن الذين أزاحوا خزاعة وبني بكر عن مكة، ولنا قرابات وأرحام، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مرحباً بكم وأهلاً، ما أعرفني بكم، ما منعكم من تحية الإسلام؟ قالوا قدمنا مرتادين لقومنا، وأسلموا.
قدمنا وفد سلامان على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونحن سبعة فقال: وعليكم مَن أنتم؟ قلنا نحن من سلامان قدمنا لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا. فالتفت إلى ثوبان غلامه فقال: أنزل هؤلاء الوفد حيث ينزل الوفد. وأسلمنا، وأعطى كل رجل منا خمس أواق..
وفد إليه عبد العزى بن بدر بن زيد بن معاوية الجهني، من بني الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة، ومعه أخوه لأمه أبو روعة، وهو ابن عم له فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من أنتم؟ قالوا: بنو غَيَّان. قال: أنتم بنو رشدان..
قال عمرو بن مرة الجهني: كان لنا صنم وكنا نعظمه وكنت سادنه، فلما سمعت بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كسرته وخرجت حتى أقدم المدينة، على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأسلمت وشهدت شهادة الحق وآمنت، بما جاء به من حلال وحرام..
قال عبد عمرو بن جبلة: بن وائل بن الجلاح الكلبي: شخصت أنا وعاصم من بني رقاش من بني عامر ف أتينا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعرض علينا الإسلام فأسلمنا.
كان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رجلين يرتادان وينظران فأخبرهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بملتقاهم وظفر صرد بهم، فقدم رجلان على قومهما فقصا عليهم القصة، فخرج وفدهم حتى قدموا على رسول الله فأسلموا، فقال: مرحباً بكم، أحسن الناس وجوهاً وأصدقه لقاء وأطيبه كلاماً وأعظمه أمانة. أنتم مني وأنا منكم، وجعل شعارهم مبروراً، وحمى لهم حمى حول قريتهم، على أعلام معلومة.
قدم وفد همدان على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليهم مقطعات الحبرة، مكففة بالديباج، وفيهم حمزة بن مالك من ذي مشعار، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): نعم الحي همدان، ما أسرعها إلى النصر، وأصبرها على الجهد، ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام، فأسلموا وكتب لهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتاباً بمخلاف خارف ويام وشاكر وأهل الهضب وحقاف الرمل، من همدان لمن أسلم.
قدم وفد غامد على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شهر رمضان، وهم عشرة فنزلوا ببقيع الغرقد، ثم لبسوا من صالح ثيابهم، ثم انطلقوا إلى رسول الله فسلموا عليه وأقروا بالإسلام وكتب لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتاباً فيه شرائع الإسلام، وأتوا أبي بن كعب فعلمهم قرآناً، وأجازهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما يجيز الوفد.
بعث النخع رجلين منهم إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وافدين بإسلامهم: أرطاة بن شراحيل بن كعب من بني حارثة بن سعد بن مالك بن النخع، والجهيش، واسمه الأرقم من بني بكر بن عوف بن النخع، فخرجا حتى قدما على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعرض (عليهما السلام) فقبلاه، فبايعاه على قومهما فأعجب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شأنهما وحسن هيئتهما فقال: هل وراءكما من قومكما مثلكما؟ قالا: يا رسول الله قد خلفنا من قومنا سبعين رجلاً كلهم أفضل منا، وكلهم يقطع الأمر وينفذ الأشياء ما يشاركوننا في الأمر إذا كان، فدعا لهما
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولقومهما بخير وقال: اللهم بارك في النخع. وعقد لأرطاة لواء على قومه، فكان في يديه يوم الفتح.
وكان آخر من قدم من الوفد على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفد النخع، وقدموا من اليمن للنصف من المحرم سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، فنزلوا دار رملة بنت الحارث، ثم جاؤوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مقرين بالإسلام.
وقدم الأشعرون على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهم خمسون رجلاً، فيهم أبو موسى الأشعري وإخوة لهم، ومعهم رجلان من عك، وقدموا في سفن في البحر وخرجوا بجدة، فلما دنوا من المدينة جعلوا يقولون: غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه، ثم قدموا فوجدوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في سفره بخيبر ثم لقوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فبايعوا وأسلموا، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): الأشعرون في الناس كصُرَّةٍ فيها مِسْك.
وقدم وفد حضرموت مع وفد كندة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهم بنو وليعة ملوك حضرموت: حمدة، ومخوس، ومشرح، وأبضعة، فأسلموا، وقال مخوس: يا رسول الله أدع أن يذهب عني هذه الرتة من لساني، فدعا له وأطعمه طُعمة من صدقة حضرموت.
حدثني عمرو بن مهاجر الكندي قال: كانت امرأة من حضرموت ثم من تنعة، يقال لها تهناةٌ بنت كليب صنعت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كسوة، ثم دعت ابنها كليب بن أسد بن كليب فقالت: انطلق بهذه الكسوة إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأتاه بها وأسلم، فدعا له فقال رجل من ولده يعرض بناس من قومه:
لقد مسح الرسول أبا أبينا * * * ولم يمسح وجوه بني بحير..
أسلم أهل عُمان فبعث إليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) العلاء بن الحضرمي ليعلمهم شرائع الإسلام، ويصدق أموالهم، فخرج وفدهم إلى رسول الله فيهم أسد بن يبرح الطاحي، وسألوه أن يبعث معهم رجلاً يقيم أمرهم..
قدم جليحة بن شجار بن صحار الغافقي على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في رجال من قومه فقالوا: يا رسول الله نحن الكواهل من قومنا، وقد أسلمنا وصدقاتنا محبوسة بأفنيتنا، فقال: لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم. فقال عوز بن سرير الغافقي: آمنا بالله، واتبعنا الرسول.
وقدم وفد بارق على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا وبايعوا وكتب لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): هذا كتاب من محمد رسول الله لبارق: لا تُجَزُّ ثمارهم، ولا تُرعى بلادهم في مربع ولا مصيف إلا بمسألة من بارق. ومن مرَّ بهم من المسلمين في عَرك أو جدب، فله ضيافة ثلاثة أيام، وإذا أينعت ثمارهم فلابن السبيل اللقاط يوسع بطنه، من غير أن يقتشم. شهد أبو عبيدة بن الجراح وحذيفة بن اليمان. وكتب أبي بن كعب. ويقتشم: ينتقي الجيد ويرمي الردي.
قدم وفد مَهْرة عليهم مهري بن الأبيض، فعرض عليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الإسلام فأسلموا ووصلهم، وكتب لهم هذا كتاب من محمد رسول الله لمهري بن الأبيض على من آمن به من مهرة: ألا يُؤكلوا ولا يُعركوا وعليهم إقامة شرائع الإسلام، فمن بدل فقد حارب، ومن آمن به فله ذمة الله وذمة رسوله. اللقطة مؤداة، والسارحة منداة، والتفث السيئة والرفث الفسوق، وكتب محمد بن مسلمة الأنصاري.
لا يؤكلوا: لا يغار عليهم. يعركوا: يؤكل نباتهم. السارحة منداة: الماشية تشرب قليلاً.
قدم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مالك بن مرارة الرهاوي، رسول ملوك حمير بكتابهم وإسلامهم، وذلك في شهر رمضان سنة تسع، فأمر بلالاً أن ينزله ويكرمه ويضيفه، وكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال، وإلى النعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان:
فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنه قد وقع بنا رسولكم مَقْفَلَنا من أرض الروم، فبلغ ما أرسلتم، وخبَّر عما قبلكم وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، فإن الله تبارك وتعالى قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغنم خمس الله وخمس نبيه وصفيه.
* * *
الفصل السابع: وفد نجران وقصة المباهلة
كانت ولاية نجران فاتيكان الجزيرة العربية
كانت نجران ولاية يحكمها أسقف تحت نفوذ هرقل وحمايته، وبعث لهم بصليب كبير من ذهب. وعندما كتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى ملوك العرب والعجم، أرسل عتبة بن غزوان، وعبد الله بن أبي أمية، والهدير بن عبد الله، وصهيب بن سنان، إلى نجران وحواشيها، وكتب معهم إلى أساقفة نجران يدعوهم إلى رفض الأقانيم والأنداد، والالتزام بتوحيد الله تعالى.
ورووا نص كتابه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أسقف نجران:
«باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران: أسِلْمٌ أنتم، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، وإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب، والسلام. وقيل: إنه تضمن قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). «آل عمران: 64».
والأسقف كلمة معربة من أبيسكوبوس اليونانية ومعناها الناظر، وكان الأسقف الشخص الأول والباقون دون رتبته، وهو أبو حارثة بن علقمة.
فلما قرأ الأسقف الكتاب فزع وارتاع وقام وقعد، وشاور أهل الحجى والرأي منهم، فقال شرحبيل وكان ذا لب ورأي بنجران: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل
من النبوة، فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل، وليس لي في النبوة رأي، ولو كان أمر من أمور الدنيا أشرت عليك فيه، وجهدت لك. فبعث الأسقف إلى كل واحد واحد من أهل نجران، فتشاوروا، وكثر اللغط وطال الحوار والجدال، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً يأتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيرجع بخبره. فوفدوا إليه في ستين راكباً، وفيهم ثلاثة عشر رجلاً من أشرافهم وذوي الرأي والحجى منهم، وثلاثة يتولون أمرهم: العاقب واسمه عبد المسيح أمير الوفد وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد واسمه الأيْهم وهو ثمالهم وصاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم الأول وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم، وهو الأسقف الأعظم، قد شرفه ملك الروم ومولوه وبنوا له الكنائس وبسطوا له الكرامات، لما بلغهم من علمه واجتهاده في دينه.
فلما توجهوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جلس أبو حارثة على بغلة وإلى جنبه أخ له يقال له كرز إذ عثرت بغلته، قال: تعس الأبعد، يريد محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)! فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست! فقال له: ولم يا أخ؟
فقال: والله إنه النبي الذي كنا ننتظره! فقال كرز: فما يمنعك وأنت تعلم هذا أن تتبعه؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا كل ما ترى! فأضمر عليه منه أخوه كرز حتى أسلم بعد ذلك، وكان كرز يرتجز ويقول:
إليك يغدو قلقاً وضينها * * * معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً دين النصارى دينها
فجاءوا حتى دخلوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقت العصر، فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرات وأردية الحرير، مختمين بخواتيم الذهب، وأظهروا الصليب، وأتوا
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسلموا عليه، فلم يرد (عليهم السلام) ولم يكلمهم، فانطلقوا يبتغون عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وكانا لهم معرفة بهم، فوجدوهما في مجلس من المهاجرين فقالوا: إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه وسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ولم يكلمنا، فما الرأي؟ فقالا لعلي بن أبي طالب: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ قال: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثم يعودوا، ففعلوا ذلك فسلموا عليه فرد عليهم سلامهم، ثم قال: والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم. وكانوا قد أتوا بهدية معهم وهي بُسط فيها تماثيل ومسوح، فصار الناس ينظرون للتماثيل فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أما هذه البسط فلا حاجة لي فيها، وأما هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها، فقالوا: نعم نعطيكها، ولما رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزي الحسن تشوقت نفوسهم، فأنزل الله تعالى: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ..) ثم أرادوا أن يصلوا بالمسجد بعد أن حان وقت صلاتهم وذلك بعد العصر، فأراد الناس منعهم فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم، فلما قضوا صلاتهم ناظروه، فعرض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (عليهم السلام) فامتنعوا، فكثر الكلام وطال الحوار والجدال وجعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتلو عليهم الآيات، إلى أن نزل قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ). فرضوا بالمباهلة». «مكاتيب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): 2/489، و494 ملخصاً».
وفي الاختصاص/112: «فلما قدموا المدينة قال من رآهم من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ما رأينا وفداً من وفود العرب كانوا أجمل منهم، لهم شعور وعليهم ثياب الحبر.. فلما قضوا صلاتهم جلسوا إليه وناظروه، فقالوا: يا أبا القاسم حاجنا في عيسى، قال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فقال أحدهما: بل هو ولده وثاني اثنين، وقال آخر: بل هو ثالث ثلاثة: أب وابن وروح القدس، وقد
سمعناه في قرآن نزل عليك يقول: فعلنا وجعلنا وخلقنا، ولو كان واحداً لقال: خلقت وجعلت وفعلت، فتغشى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الوحي فنزل عليه صدر سورة آل عمران إلى قوله رأس الستين منها: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ...) إلى آخر الآية. فقص عليهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القصة، وتلا عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض: قد والله أتاكم بالفصل من خبر صاحبكم. فقال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن الله (عزَّ وجلَّ) قد أمرني بمباهلتكم، فقالوا: إذا كان غداً باهلناك.
فقال القوم بعضهم لبعض: حتى ننظر بما يباهلنا غداً بكثرة أتباعه من أوباش الناس، أم بأهله من أهل الصفوة، فإنهم وشيج الأنبياء وموضع نهلهم! فلما كان من غد غدا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيمينه علي وبيساره الحسن والحسين ومن ورائهم فاطمة صلى الله عليهم، عليهم النمار النجرانية، وعلى كتف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كساء قطواني رقيق خشن ليس بكثيف ولا لين، فأمر بشجرتين فكسح ما بينهما ونشر الكساء عليهما، وأدخلهم تحت الكساء، وأدخل منكبه الأيسر معهم تحت الكساء معتمداً على قوسه النبع، ورفع يده اليمنى إلى السماء للمباهلة واشرأب الناس ينظرون، واصفرَّ لون السيد والعاقب، وكرَّا حتى كاد أن يطيش عقولهما، فقال أحدهما لصاحبه: أنباهله؟ قال: أوَما علمت أنه ما باهل قوم قط نبياً فنشأ صغيرهم أو بقي كبيرهم؟! ولكن أره أنك غير مكترث وأعطه من المال والسلاح ما أراد، فإن الرجل محارب، وقل له: أبهؤلاء تباهلنا لئلا يرى أنه قد تقدمت معرفتنا بفضله وفضل أهل بيته، فلما رفع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يده إلى السماء للمباهلة، قال أحدهما لصاحبه: وأي رهبانية؟! داركِ الرجلَ فإنه إن فاه ببهلة لم نرجع إلى أهل ولا مال! فقالا: يا أبا القاسم أبهؤلاء تباهلنا؟ قال: نعم، هؤلاء أوجه من على وجه الأرض بعدي إلى الله (عزَّ وجلَّ) وجهة، وأقربهم إليه وسيلة! قال: فبصبصا، يعني ارتعدا وكرَّا وقالا له: يا أبا القاسم نعطيك ألف سيف، وألف درع، وألف حجفة، وألف دينار كل عام، على أن الدرع والسيف والحجفة عندك إعارة، حتى يأتي من وراءنا من قومنا فنعلمهم بالذي
رأينا وشاهدنا، فيكون الأمر على ملأ منهم، فإما الإسلام وإما الجزية وإما المقاطعة في كل عام.
فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): قد قبلت ذلك منكما. أما والذي بعثني بالكرامة لو باهلتموني بمن تحت الكساء لأضرم الله (عزَّ وجلَّ) عليكم الوادي ناراً تأجج، حتى يساقها إلى من وراءكم في أسرع من طرفة العين».
وفي الإرشاد «1/168»: «فقال الأسقف: يا أبا القاسم إنا لا نباهلك ولكنا نصالحك، فصالحنا على ما ننهض به. فصالحهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على ألفي حلة من حلل الأواقي، قيمة كل حلة أربعون درهماً جياداً، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك، وكتب لهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتاباً بما صالحهم عليه وكان الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لنجران وحاشيتها في كل صفراء وبيضاء وثمرة ورقيق، لا يؤخذ منهم شيء غير ألفي حلة من حلل الأواقي ثمن كل حلة أربعون درهماً، فما زاد أو نقص فبحساب ذلك، يؤدون ألفاً منها في صفر، وألفاً منها في رجب، وعليهم أربعون ديناراً مثواة رسولي فما فوق ذلك، وعليهم في كل حدث يكون باليمن من كل ذي عدن، عارية مضمونة ثلاثون درعاً وثلاثون فرساً وثلاثون جملاً مضمونة، لهم بذلك جوار الله وذمة محمد بن عبد الله، فمن أكل الربا منهم بعد عامهم هذا فذمتي منه بريئة».
وفي مكاتيب الرسول «3/152»: «كتابه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأهل نجران: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتب النبي رسول الله محمد لنجران، إذ كان له عليهم حكمه في كل ثمرة وصفراء وبيضاء وسوداء ورقيق، فأفضل عليهم وترك ذلك: ألفي حلة حلل الأواقي، في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة، كل حلة أوقية، وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، وما قصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب. وعلى نجران مثواة رسلي شهراً فدونه، ولا يحبس رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً، إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة،
وما هلك مما أعاروا رسلي من خيل أو ركاب فهم ضُمَّنٌ يردوه إليهم، ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله، على أنفسهم وملتهم، وأرضهم وأموالهم، وبِيَعهم، ورهبانيتهم، وأساقفتهم، وغائبهم وشاهدهم، وكلما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وعيرهم وبعثهم وأمثلتهم، لا يُغَيَّر ما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم وأمثلتهم».
* * *
الفصل الثامن: أهل اليمن أبطال فتح القدس وسوريا وإيران
مالك الأشتر جاهد مع علي (عليه السلام) في فتح اليمن
أول من جاهد في سبيل الله من أهل اليمن مالك الأشتر (رحمه الله) فقد أسلم على من زمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وجاهد معه في فتح بعض مناطق اليمن.
وقال الواقدي في مغازيه «1/68» يصف جواب مالك على رسالة علي (عليه السلام) إليه يستنجده لمعركة اليرموك: «فما تمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي يريد الشام، فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي، فنزل عند الإمام علي (عليه السلام) بأهله، وكان مالك يحب سيدنا علياً (عليه السلام) وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد عزم على الخروج مع الناس إلى الشام...
واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف، فلما تم أمرهم، كتب أبو بكر كتاباً إلى خالد بن الوليد.. وقد تقدم إليك أبطال اليمن وأبطال مكة، ويكفيك ابن معد يكرب الزبيدي، ومالك بن الحارث».
ووصفه المؤرخ ابن حبيب في المحبر/113، بأنه كان قويَّ البنية، طويل القامة، وكذلك عَديُّ بن حاتم: «يركب الفرس الجسام فتخط إبهاماه في الأرض».
كان الأشتر (رحمه الله) طويل القامة، تام القناة، مهيب الطلعة، إذا ركب الفرس المُطَهَّمَ خَطَّتْ إبهاما رجليه الأرض! وعرف بالبأس وبالجود والفصاحة.
قال ابن أبي الحديد«15/98»: «لو أقسم أحدٌ بأن الله لم يخلق في العرب والعجم شخصاً أشجع من مالك، إلا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لم يأثم».
ومن عجيب بطولاته (رحمه الله) أنه طلب من معاوية أن يبرز إليه فخاف: «دعا معاوية جندب بن ربيعة، وكان خطب إلى معاوية ابنته فرده، فقال له عمرو بن العاص: إن قتلت الأشتر زوجك معاوية ابنته رملة! فبرز إليه جندب فقال له الأشتر: من أنت وكم ضمن لك معاوية على مبارزتي؟ قال: يزوجني ابنته بقتلك، فأنا الآن آتيه برأسك فضحك الأشتر! وحمل عليه جندب برمحه فأخذه الأشتر تحت إبطه، فجعل جندب يجتهد في جذبه فلم يمكنه، حتى ضرب الأشتر رمحه فقده نصفين! وهرب جندب فضربه الأشتر بسيفه فصرعه! ثم حمل الأشتر فضاربهم حتى أزال عمرو بن العاص عن موقفه وانكشف أهل الشام. وأفضى الأشتر إلى معاوية فخرج رجل من بني جمع فضارب عن معاوية حتى أنقذه، وكاد الأشتر يصل إليه وحجز بينهم الليل». «المناقب للخوارزمي/232».
وبكى مالك يوماً عند علي (عليه السلام) فقال له: ما يبكيك لا أبكى الله عينك؟ فقال: أبكي يا أمير المؤمنين لأني أرى الناس يقتلون بين يديك وأنا لا أرزق الشهادة!! فقال (عليه السلام): أبشر بالخير يا مالك. «الفتوح: 3 / 179».
لكن رغم كل هذه الفضائل والإنجازات، فإن رواة الخلافة لا يحبون مالك الأشتر، ولهذا حذفوا اسمه من وفد النخع على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعدُّوه في التابعين لا في الصحابة. «أسد الغابة: 1/61».
وقد ألَّف بعض العلماء رسالة في إثبات صحبته للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم). «الذريعة: 7 /37». ويدل عليه جوابه لبطل الروم: «فقال له ماهان: أنت صاحب خالد؟ قال: لا أنا مالك النخعي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)! «الواقدي: 2/224 وابن الأعثم: 1/ 208».
«وعده ابن شهرآشوب في المناقب من وجوه الصحابة». «لسيد الخوئي: 15/167».
* * *
ودبَّر معاوية قتل مالك الأشتر على أبواب القاهرة، وزوَّر على أهل الشام فقال لهم
«تاريخ دمشق: 56/376»: «يا أهل الشام إنكم منصورون ومستجاب لكم الدعاء، فادعوا الله على عدوكم! فرفع أهل الشام أيديهم يدعون عليه، فلما كانت الجمعة الأخرى خطب فقال: يا أهل الشام إن الله قد استجاب لكم وقتل عدوكم! وإن لله جنوداً في العسل، فرفع أهل الشام أيديهم حامدين الله على كفايتهم إياه».
* * *
وقال ابن أبي الحديد «شرح النهج: 15/99»: «روى المحدثون حديثاً يدل على فضيلة عظيمة للأشتر (رحمه الله) وهي شهادة قاطعة من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنه مؤمن، روى هذا الحديث أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في حرف الجيم في باب جندب، قال أبو عمر: لما حضرت أبا ذر الوفاة وهو بالربذة بكت زوجته أم ذر فقال لها: ما يبكيك؟ فقالت: ما لي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، وليس عندي ثوب يسعك كفناً ولا بد لي من القيام بجهازك! فقال: أبشري ولا تبكي فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان أو ثلاثة، فيصبران ويحتسبان فيريان النار أبداً، وقد مات لنا ثلاثة من الولد. وسمعت أيضاً رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن أحدكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد مات في قرية وجماعه فأنا لا أشك ذلك الرجل، والله ما كذبت ولا كذبت، فانظري الطريق. قالت أم ذر: فقلت أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق! فقال: إذهبي فتبصري. قالت: فكنت أشتد إلى الكثيب فأصعد فأنظر، ثم أرجع إليه فأمرضه، فبينا أنا وهو على هذه الحال إذ أنا برجال على ركابهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم، فأسرعوا إليَّ حتى وقفوا عليَّ وقالوا: يا أمة الله ما لك؟ فقلت: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه؟ قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذر، قالوا: صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قلت: نعم، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه فقال لهم: أبشروا فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لنفر أنا فيهم: ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين، وليس من
أولئك النفر إلا وقد هلك في قرية وجماعة، والله ما كذبت ولا كذبت، ولو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب لي أو لها، وإني أنشدكم الله ألا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً! قالت: وليس في أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال، إلا فتى من الأنصار قال له: أنا أكفنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين معي في عيبتي من غزل أمي، فقال أبو ذر: أنت تكفنني، فمات فكفنه الأنصاري وغسله النفر الذين حضروه وقاموا عليه ودفنوه، في نفر كلهم يمان». هذا، وستأتي بقية أخبار مالك الأشتر رضي الله عنه.
أبو عامر الأشعري قائد من قبل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حنين
وثاني من جاهد في سبيل الله منهم: أبو عامر الأشعري: قال النجاشي/81: «وكان السائب بن مالك وفد إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).. وإسمه عبيد وأبو عامر، له صحبة. وقد روي أنه لما هزمت هوازن يوم حنين عقد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأبي عامر الأشعري على خيل فقتل، فدعا له فقال: اللهم أعط عبيدك عبيداً أبا عامر، واجعله في الأكبرين يوم القيامة».
وقال ابن عبد ربه في الاستيعاب «4/1704»: «أبو عامر الأشعري، عم أبي موسى الأشعري. اسمه عبيد بن سليم بن حضّار بن حرب، من ولد الأشعري بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ... قال أبو عمر: كان أبو عامر هذا من كبار الصحابة قتل يوم حنين أميراً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على طلب أوطاس، فلما أخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقتله رفع يديه يدعو له أن يجعله الله فوق كثير من خلقه.. لما فرغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي ابن الصمة، فقُتل وهزم الله أصحابه، ورميَ أبو عامر في ركبته، رماه رجل من بني جشم بسهم فأثبته في ركبته».
وقال في فتح الباري «8/35»: «ذكر ابن إسحاق في المغازي أن أبا عامر لقي يوم أوطاس
عشرة من المشركين إخوة فقتلهم واحداً بعد واحد، حتى كان العاشر فحمل عليه وهو يدعوه إلى الإسلام، وهو يقول: اللهم اشهد عليه. فقال الرجل: اللهم لا تشهد عليَّ، فكف عنه أبو عامر ظناً منه أنه أسلم فقتله العاشر، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه فكان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يسميه شهيد أبي عامر».
وقال ابن حجر في الإصابة «7/210»: «فرُمِيَ أبو عامر في ركبته، رماه رجل من بني جشم بسهم، فأشار فقال إن ذاك قاتلي. قال فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولى فقلت: ألا تستحي ألا تثبت فالتقيت أنا وهو فقتلته، ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت قد قتل الله صاحبك، قال فانزع هذا السهم فنزعته فنزى منه الماء، فقال: يا بن أخي انطلق إلى رسول الله فأقرئه مني السلام، وقل له يقول لك استغفر لي».
أقول: أبو عامر صحابي جليل توفق للشهادة بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد دعا له بهذا الدعاء العظيم: اللهم أعط عبيدك عبيداً أبا عامر، واجعله في الأكبرين يوم القيامة. بينما ذم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلي (عليه السلام) ابن أخيه أبا موسى!
هذا، وتدل شهادة أبي عامر في حنين في السنة الثامنة أن الإسلام دخل اليمن قبلها، وربما في السنة السادسة، أما مشاركة الأشتر في فتح اليمن مع علي (عليه السلام) فهي في الثامنة أو العاشرة، وقد يكون إسلام أبي عامر قبله، رضي الله عنهما.
هذا، ولا يصح قول ابن قتيبة إن أبا عامر هاجر إلى الحبشة، لأنه أشعري لا يحتاج إلى الهجرة، فقبيلته في اليمن تحميه وهو من رؤسائها. فالمرجح أن يكون وفد إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في السفينة مع المهاجرين العائدين من الحبشة في السنة السابعة للهجرة، فتصور البعض أنهم منهم، كما وقع في أبي موسى الأشعري.
هذا، وتقدم مدح النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للأشعريين بقوله: الأشعرون في الناس كصرة فيها مسك. وورد وصف حجهم في لامية أبي طالب، بقوله رضي الله عنه:
وَأَحْضَرْت عِنْدَ البَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي * * * وَأَمْسَكْت مِنْ أَثْوَابِهِ بِالوَصَائِلِ
قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ * * * لَدَى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلّ نَافِلِ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ * * * بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافَ وَنَائِلِ
مُوَسّمَةُ الأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتِهَا * * * مُخَيّسَةٌ بَيْنَ السّدِيسِ وَبَازِلِ
تَرَى الوَدْعَ فِيهَا وَالرّخَامَ وَزَبْنَةً * * * بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً كَالعَثَاكِلِ
أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مِنْ كُلّ طَاعِنٍ * * * عَلَيْنَا بِسُوءِ أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ
* * *
النخعيون أبطال النصر في القادسية
قال ابن أبي شيبة في المصنف «8/15» إن النخع كانوا في القادسية ألفين وأربع مئة، أي ربع جيش المسلمين على رواية العشرة آلاف! «فقال عمر: ما شأن النخع أصيبوا من بين سائر الناس، أفرَّ الناس عنهم؟ قالوا: لا، بل وَلُوا أعظم الأمر وحدهم»! «ابن أبي شيبة: 8/14، والإصابة: 1/196».
وفي مصنف ابن أبي شيبة «7/718»: «عن الأعمش قال: كنت لا تشاء أن تسمع يوم القادسية: أنا الغلام النخعي، إلا سمعته».
وفي تاريخ الطبري «3/82» أنهم هاجروا من اليمن مع عوائلهم، وزوجوا سبع مائة بنت إلى المسلمين، وخاصة الأنصار.
ونزل النخع قبلي مسجد الكوفة: «وأنزل في قبلة الصحن بني أسد على طريق، وبين بني أسد والنخع طريق، وبين النخع وكندة طريق، وبين كندة وأزد طريق». «تاريخ الكوفة/156».
وفي تاريخ الطبري «3/76»: «عن عبد الرحمن بن الأسود النخعي، عن أبيه قال: شهدت القادسية فلقد رأيت غلاماً منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلاً من أبناء الأحرار، فقلت: لقد أذلَّ الله أبناء الأحرار»!
وفي المنتظم لابن الجوزي «4/174»: «لما اجتمع الناس بالقادسية دعت خنساء بنت عمرو النخعية بنيها الأربعة فقالت: يا بنيَّ، إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم، والله ما نبَتْ بكم الدار ولا أقحمتكم السنة، ولا أرداكم الطمع. والله الَّذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنتُ أباكم ولا فضحت خالكم، ولا عَمَوْتُ نسبكم، ولا أوطأت حريمكم ولا أبحت حماكم. فإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا لقتال عدوكم مستنصرين الله مستبصرين. فإذا رأيتم الحرب قد أبدت ساقها وقد ضربت رواقها، فتيمموا وطيسها وجالدوا خميسها، تظفروا بالمغنم والسلامة، والفوز والكرامة، في دار الخلد والمقامة».
وفي نفس الوقت الذي كان النخعيون يسجلون بطولات في القادسية كان نخبة منهم مع الأشتر في اليرموك يكتبون النصر للمسلمين، فقد طارد الروم في جبال تركيا بعد المعركة، ومعه فرسان من قومه النخعيين! «الكلاعي: 3 /273».
* * *
مالك الأشتر بطل اليرموك
معركة اليرموك أم المعارك في فتح الشام والقدس:
أخذ هرقل يحشد قواته لمعركة اليرموك، فخاف أبو عبيدة وانسحب من حمص فدخلها الروم. واعترض المسلمون على هذا التراجع، فكتب عمر لأبي عبيدة: «بلغني خروجك من أرض حمص وترككم بلاداً فتحها الله (عزَّ وجلَّ) عليكم، فكرهت هذا من رأيكم وفعلكم». «ابن الأعثم: 1/178».
وقال ابن الأعثم في الفتوح «1/172»: «ثم دعا [هرقل] بوزيره الأعظم واسمه ماهان فتوَّجه بتاج، ووصله بمائة ألف درهم، وضم إليه مائة ألف من خواص جيشه، ومن الذين يعتمد عليهم، ثم قال له: اعلم يا ماهان أني اخترتك مقدماً على جميع أهل دين النصرانية، فاعمل بما أوصيك به في حق أجنادك، وعليك بالعدل فيهم والإشفاق عليهم.. قال: فلما سمع ماهان وصية هرقل خرج من بين يديه، واستعرض الجيش الذي قدمه هرقل عليه، وعسكر بهم ظاهر مدينة أنطاكية لتكامل عدتهم، فكان عدة القوم مائة ألف من النصرانية».
وقال الواقدي في «1/163»: «فلما سمع أبو عبيدة ذلك عظم عليه وكبر لديه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وبات قلقاً لم تغمض له عين خوفاً على المسلمين.. قال عطية بن عامر: فوالله ما شبهت عساكر اليرموك إلا كالجراد المنتشر إذْ سدَّ بكثرته الوادي! قال: ونظرت إلى المسلمين قد ظهر منهم القلق وهم لا يفترون عن قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأبو عبيدة يقول: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)».
وحشد الروم مئة وعشرين ألف مقاتل، وكان المسلمون أربعة وعشرين ألفاً. «تاريخ دمشق: 2/143». وقال الكلاعي الأندلسي «3/279»: «وقد استمدوا أبا بكر وأعلموه الشأن في صفر من سنة ثلاث عشرة».
قال الواقدي «1/68»: «فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الأشتر النخعي.. وقد عزم على الخروج مع الناس إلى الشام.. واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف، فلما تم أمرهم كتب أبو بكر كتاباً إلى خالد بن الوليد... وقد تقدم إليك أبطال اليمن وأبطال مكة، ويكفيك ابن معد يكرب الزبيدي، ومالك بن الحارث»!
ثم توفي أبو بكر واستمر تحشيد الروم فكتب أبو عبيدة إلى عمر يستنجده: قال الواقدي في فتوح الشام «1/177»: «فاسترجع عمر وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، ثم قرأ عمر: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). ثم قال: ما تشيرون به عليَّ رحمكم الله تعالى؟ فقال له علي بن أبي طالب: أبشروا رحمكم الله تعالى، فإن هذه الوقعة يكون فيها آية من آيات الله تعالى، يختبر بها عباده المؤمنين لينظر أفعالهم وصبرهم، فمن صبر واحتسب كان عند الله من الصابرين. واعلموا أن هذه الوقعة هي التي ذكرها لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التي يبقى ذكرها إلى الأبد! هذه الدائرة المهلكة. فقال العباس: على مَن هي يا ابن أخي؟ فقال: يا عماه على من كفر بالله واتخذ معه ولداً، فثقوا بنصر الله (عزَّ وجلَّ). ثم قال لعمر: يا أمير المؤمنين، أكتب إلى عاملك أبي عبيدة كتاباً وأعلمه فيه أن نصر الله خير له من غوثنا ونجدتنا».
وإخبار علي (عليه السلام) بوعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): بأنه سيكون فيها آية لله تعالى، يقصد بها مالك الأشتر (رضي الله عنه)، حيث قتل ماهان القائد العام لجيوش هرقل، وعشرة من قادتهم في مطلع المعركة، فهز أركانهم وألقى الرعب في قلوبهم!
قال الكلاعي في الاكتفاء «3/273» عن مالك: «كان من جُلَدَاء الرجال وأشدائهم، وأهل القوة والنجدة منهم، وإنه قتل يوم اليرموك قبل أن ينهزموا أحد عشر رجلاً من بطارقتهم، وقتل منهم ثلاثة مبارزة»! وقال ابن عساكر «56/379»: «وكان الأشتر الأحسن في اليرموك! قالوا لقد قتل ثلاثة عشر».
وقال الواقدي «1/224» يصف نصيحة البطاركة لبطلهم ماهان أن لا يبرز:
«أيها الملك لا تخرج إلى الحرب حتى نخرج نحن إلى القتال قبلك، فحلف ماهان بالكنائس الأربع لا يبرز أحد قبله.. وقُدِّم لماهان عُدَّتُه فأفرغت عليه. قال الواقدي: بلغنا أن عدته التي خرج بها إلى الحرب تقومت بستين ألف دينار، لأن جميعها كان مرصعاً بالجوهر...
وخرج ماهان إلى القتال وهو كأنه جبل ذهب يبرق، وأقبل حتى وقف بين الصفين
ودعا إلى البراز وخوَّف باسمه، فكان أول من عرفه خالد بن الوليد فقال: هذا ماهان هذا صاحب القوم قد خرج.. وماهان يرعِّبُ باسمه، فخرج إليه غلام من الأوس وقال: والله أنا مشتاق إلى الجنة، وحمل ماهان وبيده عمود من ذهب كان تحت فخذه فضرب به الغلام فقتله وعجل الله بروحه إلى الجنة.. قال: فجال ماهان على مصرعه وقوي قلبه ودعا إلى البراز.. وكان أول من برز مالك النخعي الأشتر وساواه في الميدان، فابتدر مالك ماهان بالكلام وقال له: أيها العلج لا تغتر بمن قتلته، وإنما اشتاق صاحبنا إلى لقاء ربه، وما منا إلا من هو مشتاق إلى الجنة، فإن أردت مجاورتنا في جنات النعيم فانطق بكلمة الشهادة أو أداء الجزية، وإلا فأنت هالك لا محالة! فقال له ماهان: أنت صاحب خالد بن الوليد؟ قال: لا أنا مالك النخعي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)..
ثم حمل على مالك وكان من أهل الشجاعة فاجتهدا في القتال، فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكاً على البيضة التي على رأسه فغاصت في جبهة مالك فشترت عينه، فمن ذلك اليوم سمي بالأشتر.. قال والدم فائرٌ من جبهته وعدو الله يظن أنه قتل مالكاً وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه! وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين يا مالك استعن بالله يعنك على قرينك، قال مالك: فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وضربته ضربة عظيمة.. فلما أحس ماهان بالضربة ولى ودخل في عسكره «في الطبري: 3/74، أنه قُتل بضربة مالك» صاح خالد بالمسلمين: يا أهل النصر والبأس إحملوا على القوم ما داموا في دهشتهم.. وحمل كل الأمراء بمن معهم، وتبعهم المسلمون بالتهليل والتكبير، فصبرت لهم الروم بعض الصبر حتى إذا غابت الشمس وأظلم الأفق، انكشف الروم منهزمين بين أيديهم، وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون كيف شاءوا، فقتلوا منهم زهاء من مائة ألف وأسروا مثلها، وغرق في الناقوصة منهم مثلها وأمم لا تحصى، وتفرق منهم في الجبال والأودية وخيول المسلمين من ورائهم يقتلون ويأسرون، ويأتون من الجبال بالأسارى. ولم يزل المسلمون يقتلون ويأسرون إلى أن راق
الليل فقال أبو عبيدة: أتركوهم إلى الصباح، فتراجعت المسلمون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والسرادقات وآنية الذهب والفضة، والزلازل «السجَّاد» والنمارق والطنافس. ووكل أبو عبيدة رجالاً من المسلمين بجمع الغنائم وبات المسلمون فرحين بنصر الله حتى أصبحوا فإذا ليس للروم خبر».
وكان هذا اليوم الأول، وقد استمرت الحرب أربعة أيام.
ومما نلاحظه هنا، أن رواة السلطة لا يحبون الأشتر ولذا نسبوا بطولاته في اليرموك إلى ضرار بن الأزور، مع أنه قُتل قبل سنين في معركة اليمامة!
قال ابن سعد في الطبقات «6/39»: «مكث ضرار بن الأزور باليمامة مجروحاً قبل أن يرحل خالد بن الوليد بيوم، فمات».
ونلاحظ ثانياً، أنه لم يبرز أحد لماهان وأمثاله من أبطال الروم كجرجيس والصقلار، إلا مالك ورفاقه من شيعة علي (عليه السلام)، فأين كان خالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وبقية قادة الجيوش، فقد خافوا جميعاً وكاعوا! فتقدم اليه مالك (رضي الله عنه) مالك الأشتر وقتله، ثم برز اثنان من قادتهم فقتلهما، ثم حمل على قادتهم أصحاب رايات الصلبان حملةً حيدرية فقتل ثمانية أو عشرة! وكان ذلك كافياً لضعضعة جيشهم الذي يعتمد فيه الجندي على قائده أكثر من اعتماده على نفسه. فعندما رأوا قادتهم مجندلين انذعروا، فاغتنم المسلمون الفرصة وحملوا عليهم، فانهزمت الروم في اليوم الأول من المعركة!
ونلاحظ ثالثاً، أن الرواة أهملوا أخبار زملاء الأشتر في معركة اليرموك، كعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وهاشم المرقال الزهري، وخالد بن سعيد الأموي، وأخيه أبان بن سعيد، وحجر بن عدي، وأمثالهم، لأنهم شيعة علي! فلا تجد من أخبارهم إلا نتفاً قليلة، لكنها تدل على أدوارهم العظيمة!
بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
لا شك أن الأشتر وزملاؤه هم العباد الموعودون في الآية، فقد سماهم علي (عليه السلام) آية من آيات الله، فكان فتح سوريا وفلسطين والقدس على أيديهم.
ذلك أن أهم معركة في فتح فلسطين معركة أجنادين، كان بطلها الذي قطف النصر للمسلمين خالد بن سعيد بن العاص، وزميله هاشم المرقال قائد الميسرة، وهما من شيعة علي (عليه السلام)، وصاحبه القائد العام شرحبيل بن حسنة قائد الجيش، فطمس رواة السلطة أدوارهم، أو نسبوها إلى ابن الوليد!
وقد افتتح معركة أجنادين حفيدان لعبد المطلب، ثأراً لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهما عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وكان من الثابتين مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حنين. وفي يوم أجنادين برز بطريق مُعَلَّم ودعا إلى المبارزة، وكانوا يعطون للفارس الشجاع درجة بطريق، فبرز إليه عبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، فاختلفا ضربات ثم قتله عبد الله بن الزبير، ولم يتعرَّض لسلبه مع أنهم كانوا يحرصون على سلب هذا النوع من الفرسان، لأنه يلبس قلنسوة مُذَهَّبة، وحزاماً عريضاً مُذهباً يسمى مَنطقة.
لكن حفيد عبد المطلب (رضي الله عنه) أعرض عنه لأنه رأى رومياً آخر جاء يطلب المبارزة فبرز إليه، فتشاولا بالرمحين، ثم صارا إلى السيفين، وكان الرومي مُدَرَّعاً، فحمل عليه عبد الله فضربه على عاتقه، وهو يقول: خذها وأنا ابن عبد المطلب! فشقت ضربته الدرع، وأسرع السيف في منكب الرومي فولى منهزماً، ثم سقط. وقيل لعبد الله كفاك هذا فلا تقاتل!
فقال: لا أجدني أصبر، وحمل على الروم وقتل عدداً من فرسانهم.
ووجده المسلمون بعد المعركة في وجهه ثلاثون ضربة سيف، وحوله عشرة من الروم مجندلين، ووجدوا سيفه بيده لاصقاً، فعالجوه حتى نزعوه.
«الاستيعاب: 3 /904، والإصابة: 4/78، وتاريخ دمشق: 8 /138».
والحفيد الثاني لعبد المطلب: طُلَيب بن عمير بن وهب من بني عبد بن قصي: «أمّه أروى بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، شهد بدراً، وكان من خيار الصحابة». «الاستيعاب: 2/772».
وبعد أجنادين تجمعت قوات الروم في مرج الصُّفَّر بين دمشق والجولان، ثم في فِحْل بالأردن، واعترف الرواة بأن أبا عبيدة وخالد بن الوليد وشرحبيل وابن العاص أعطوا القيادة فيها إلى خالد بن سعيد، وهاشم المرقال، فحققا النصر! لكن السلطة نسبت بطولتهما إلى ابن الوليد وابن العاص مع أنهما لم يقاتلا أبداً ولا بضربة سيف ولا رمي حجر!
تفسير آيات العباد الموعودين:
قال الله تعالى: (وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا).
أي: حكمنا في القضاء المبرم لليهود أنكم ستفسدون في المجتمع البشري مرتين، وتستكبرون على الناس، وتعلون علواً كبيراً مرة واحدة.
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا: وقت عقوبتكم على إفسادكم الأول، على يد رسولنا وأمته، أرسلنا عليكم عباداً منهم، أصحاب قوة وبطش بكم.
فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا: أي دخلوا فلسطين بسهولة، وجاس
جنودهم بين البيوت يتعقبون المقاتلين من الروم وعملائهم اليهود.
(ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ): أي أعدنا لليهود الغلبة على المسلمين، وأعطيناكم أيها اليهود أموالاً وأولاداً، وجعلناكم أكثر منهم أنصاراً في العالم.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ: أي يستمر وضعكم على هذه الحال زمناً، فإن تبتم وعملتم خيراً فهو لكم، وإن أسأتم وطغيتم وعلوتم فهو لكم أيضاً.
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ): أي ستُسيؤون، حتى يجيء وقت العقوبة الثانية فنسلط عليكم نفس العباد، فيسوؤوا وجوهكم، ثم يدخلوا المسجد فاتحين، كما دخلوه أول مرة، ويسحقوا علوكم سحقاً.
وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا: أي لعل الله يرحمكم بعد العقوبة الثانية، وإن عدتم إلى إفسادكم عاقبناكم في الدنيا، ثم حصرناكم في جهنم حصراً.
فتاريخ اليهود من بعد موسى (عليه السلام) إلى آخر حياتهم، يتلخص بإفسادهم في المرة الأولى وعقوبتهم بيد المسلمين، ثم غلبتهم عليهم وكثرة أنصارهم في العالم، ثم علوهم حتى يجيء وعد العقوبة الثانية على يد المسلمين أيضاً. فالمبعوثون في العقوبة الثانية نفسهم المبعوثون في الأولى، وقد أخطأ من جعلهم قومين!
وقد فسرتهم الأحاديث بأصحاب علي (عليه السلام)، ثم أصحاب المهدي (عليهما السلام). «راجع المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي (عليه السلام) /640».
فالصحابي الجليل مالك الأشتر (رضي الله عنه)، هو الآية الربانية، وهو ورفقاؤه الأبطال: العباد الموعودون أصحاب البأس الشديد، الذين بعثهم الله على اليهود في المرة الأولى، فهزموهم في اليرموك بهزيمة الروم، فانسحبوا من فلسطين وسوريا، ودخل المسلمون مدنهم بما فيها القدس منتصرين، يجوسون خلال ديار الروم واليهود، بدون مقاومة.
وشيعة علي أيضاً هم الذين يبعثهم في الثانية فيسوؤوا وجوه اليهود ويغلبوهم.
هذا، وكم من بطولاتٍ في اليرموك وغيرها أخفاها رواة السلطة، لأولي البأس الذين بعثهم الله على اليهود، كخالد بن سعيد بن العاص وابنه، وإخوته، وهاشم المرقال، وسلمان، وأبي ذر، والمقداد، وحذيفة، وأبي أمامة وعبادة بن الصامت، وعشرات الأبطال الآخرين.
إعلان هرقل الانسحاب من سوريا وفلسطين
قال البلاذري «1/162»: «ولما بلغ هرقل خبر أهل اليرموك وإيقاع المسلمين بجنده، هرب من أنطاكية إلى قسطنطينية. فلما جاوز الدرب قال: عليك يا سورية السلام! ونعم البلد هذا للعدو. يعنى أرض الشام لكثرة مراعيها. وكانت وقعة اليرموك في رجب سنة خمس عشرة».
وقال الحموي في معجم البلدان «3 /280»: «فلما هُزم الروم وجاءه الخبر وبلغه أن المسلمين قد بلغوا قنسرين، خرج يريد القسطنطينية، وصعد على نَشْزٍ وأشرف على أرض الروم وقال: سلام عليك يا سورية، سلام مودع لا يرجو أن يرجع إليك أبداً! ثم قال: ويحك أرضاً ما أنفعك أرضاً! ما أنفعك لعدوك لكثرة ما فيك من العشب والخصب! ثم إنه مضى إلى القسطنطينية».
أقول: بمجرد هزيمة الروم في اليرموك قرر هرقل الانسحاب الكامل من سوريا وفلسطين ومصر وقبرص، وفتحت كل مدنها أمام المسلمين، فلم تحتج إلى قتال، بل كان يكفي أن يذهب رسول من القائد بكتاب إلى القدس أو أي مدينة، فيدعوهم فيجيئون، أو يكتب معهم عهد صلح فيقبلون.
وكل ما رواه رواة السلطة من معارك بعد اليرموك لفتح القدس وقبرص ومصر، فهو مكذوب، والدليل على كذبه أنك لا تجد فيه جندياً رومياً واحداً!
فالحقيقة أنه بمجرد أن جندل الأشتر بطلهم ماهان القائد العام لجيش الروم، وزملائه
قادة الفرق، فقد تم فتح القدس وكل سوريا، بل ومصر أيضاً، لأن هرقل قرر الانسحاب منها جميعاً، وودعها!
مطاردة الأشتر جيش الروم المنسحب!
روى الكلاعي«3/273»: «عن الحسن بن عبد الله أن الأشتر قال لأبي عبيدة: إبعث معي خيلاً أتبع آثار القوم، فإن عندي جزاءً وغَنَاءً. فقال له أبو عبيدة: والله إنك لخليق بكل خير، فبعثه في ثلاث مائة فارس وقال له: لا تتباعد في الطلب وكن مني قريباً. فكان يغير على مسيرة اليوم منه واليومين ونحو ذلك. ثم إن أبا عبيدة دعا ميسرة بن مسروق فسرحه في ألفي فارس، فمضى في آثار الروم حتى قطع الدروب، وبلغ ذلك الأشتر فمضى حتى لحقه، فإذا ميسرة مواقف جمعاً من الروم أكثر من ثلاثين ألفاً، وكان ميسرة قد أشفق على من معه وخاف على نفسه وعلى أصحابه، فإنهم لكذلك إذ طلع عليه الأشتر في ثلاث مائة فارس من النخع، فلما رآهم أصحاب ميسرة كبروا وكبر الأشتر وأصحابه، وحمل عليهم من مكانه ذلك، وحمل ميسرة فهزموهم وركبوا رؤوسهم وأتبعتهم خيل المسلمين يقتلونهم، حتى انتهوا إلى موضع مرتفع من الأرض فَعَلَوْا فوقه، وأقبل عظيم من عظمائهم معه رجالة كثيرة من رجالتهم، فجعلوا يرمون خيل المسلمين من مكانهم المشرف فإن خيل المسلمين لمواقفتهم، إذ نزل رجل من الروم أحمر عظيم جسيم، فتعرض للمسلمين ليخرج إليه أحدهم! قال: فوالله ما خرج إليه رجل منهم، فقال لهم الأشتر: أما منكم من أحد يخرج لهذا العلج؟ فلم يتكلم أحد! قال: فنزل الأشتر ثم خرج إليه، فمشى كل واحد منهما إلى صاحبه وعلى الأشتر الدرع والمغفر، وعلى الرومي مثل ذلك، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه شد الأشتر عليه فاضطربا بسيفيهما فوقع سيف الرومي على هامة الأشتر فقطع المغفر وأسرع السيف في رأسه، حتى كاد ينشب في العظم، ووقعت ضربة الأشتر على عاتق الرومي فلم تقطع شيئاً من الرومي،
إلا أنه ضربه ضربة شديدة أوهنت الرومي وأثقلت عاتقه. ثم تحاجزا فلما رأى الأشتر أن سيفه لم يصنع شيئاً انصرف فمشى على هيئته حتى أتى الصف وقد سال الدم على لحيته ووجهه فقال: أخزى الله هذا سيفاً، وجاءه أصحابه فقال عليَّ بشيء من حناء، فأتوه به من ساعته، فوضعه على جرحه ثم عصبه بالخرق، ثم حرك لحيته وضرب أضراسه بعضها ببعض، ثم قال: ما أشد لحيتي ورأسي وأضراسي. وقال لابن عم له: أمسك سيفي هذا وأعطني سيفك، فقال: دع لي سيفي رحمك الله، فإني لا أدري لعلي أحتاج إليه، فقال: أعطنيه ولك أم النعمان يعني ابنته. فأعطاه إياه فذهب ليعود إلى الرومي فقال له قومه: ننشدك الله ألا تتعرض لهذا العلج فقال: والله لأخرجن إليه فليقتلني أو لأقتلنه فتركوه فخرج إليه، فلما دنا منه شد عليه وهو شديد الحنق، فاضطربا بسيفيهما فضربه الأشتر على عاتقه فقطع ما عليه حتى خالط السيف رئته، ووقعت ضربة الرومي على عاتق الأشتر فقطعت الدرع، ثم انتهت ولم تضره شيئاً، ووقع الرومي ميتاً وكبر المسلمون، ثم حملوا على صف رجالة الروم، فجعلوا يتنقضون ويرمون المسلمين وهم من فوق، فما زالوا كذلك حتى أمسوا وحال بينهم الليل وباتوا ليلتهم يتحارسون. فلما أصبحوا أصبحت الأرض من الروم بلاقع فارتحل الأشتر منصرفاً».
وفي تاريخ اليعقوبي «2/141» قصد الأشتر الى: «جَمْعٍ للروم قطعوا الدرب، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم انصرف وقد عافاه الله وأصحابه».
وفي تاريخ حلب «1/156»: «وأول من قطع جبل اللكام وصار إلى المصيصة: مالك بن الحارث الأشتر النخعي، من قبل أبي عبيدة بن الجراح».
والمصيصة بعد إسكندرونة بمئة كيلو متر. وتبعد عن دمشق 500 كم.
وذكر البلاذري «1/194» أن مالك الأشتر كان قائداً في فتح أنطاكية.
وذكر في «1/630» أن أبا ذر والأشتر قادا محاصرة مدينة ساحلية.. الخ.
وذكر في «1/302» وما بعدها كيف خطط مالك لفتح حلب، ثم فتح حصن عزاز، واستخلف عليه سعيد بن عمرو الغنوي، ورجع إلى أبي عبيدة، فكتب أبو عبيدة إلى عمر بالنصر».
وقال الواقدي «1/462» في فتح الموصل: «التقى الأشتر بيورنيك الأرمني فلما عاين زيَّه علم أنه من ملوكهم، فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره».
وقال ابن الأعثم «1/258» في فتح آمد وميافارقين في تركية: «ثم أرسل عياض مالك الأشتر النخعي وأعطاه ألف فارس، وأرسله إلى ناحية آمد وميافارقين، وحين وصل مالك مع الجيش إلى آمد تبين له أن القلعة حصينة جداً فأخذ يفكر بالأمر وأن مقامه سيطول هناك، ولما اقترب من آمد وعاين بنفسه قوة الحصن، أمر الجيش بأن يكبروا معاً تكبيرة واحدة بأعلى صوت! فخاف أهل آمد وتزلزلت أقدامهم وظنوا أن المسلمين يبلغون عشرة آلاف، وأنهم لا قِبَلَ لهم بحربهم، فأرسلوا شخصاً إلى الأشتر فأجابهم الأشتر إلى الصلح، وتقرر أن يدفعوا خمسة آلاف دينار نقداً، وعلى كل رجل أربعة دنانير جزية، ورضي حاكم البلد بهذا الصلح وفتحوا الأبواب ودخلها المسلمون صباح يوم الجمعة، فطافوا فيها ساعة ثم خرجوا، وأقاموا على بوابة البلدة».
ولا يتسع المجال للتفصيل، فنكتفي بهذه النقاط المختصرة عن بطولاته!
وقد روت المصادر دوراً لمالك في فتح مصر، فقال الواقدي «2/66»: «فقال يزيد بن أبي سفيان: أنا والله رأيت مالكاً الأشتر النخعي، وعرفته بطول قامته وركبته على فرسه».
وذكر في «2/242» أنه كان في قلب جيش الفتح المصري مقابل الروم.
وفي «2 /272» مشاركته في فتح البهنسا، وقال: «ونزل المسلمون بجانب الجبل عند الكثيب الأصفر قريباً من البياض الذي على المغارة نحو المدينة...فلما أصبحوا خرج
أعداء الله للقائهم فقال مالك الأشتر: يا قوم إن أعداء الله خرجوا للقائكم فاشغلوهم بالقتال وأرسلوا جماعة منكم يملكون الجسر واستعينوا بالله».
لكن لا يصح ذلك، لأنه لم تكن حرب في مصر، فقد أسلمت طوعاً وسلمت الحكم للمسلمين بعد انسحاب الروم. راجع كتابنا: مصر وأهل البيت (عليهم السلام).
نعم قد يكون مالك دخل إلى مصر مع الجيش الإسلامي، لكن لم يكن قتال.
* * *
دور البطل عمر بن معد يكرب في الفتوحات
قال الطبري «3/214»: «فبعث «القائد النعمان بن مقرن» من الطزر طليحة وعمراً وعمراً طليعة، ليأتوه بالخبر، وتقدم إليهم أن لا يغلوا «يبتعدوا» فخرج طليحة بن خويلد، وعمرو بن أبي سلمى العنزي، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، فلما ساروا يوماً إلى الليل رجع عمرو بن أبي سلمى، فقالوا: ما رجعك؟ قال: كنت في أرض العجم، وقَتَلَت أرضٌ جاهلها وقَتَل أرضاً عالمُها. قال: سرنا يوماً وليلة لم نر شيئاً وخفت أن يؤخذ علينا الطريق. ونفذ طليحة فقال الناس: ارتد الثانية! ومضى طليحة حتى انتهى إلى نهاوند. وبين الطزر ونهاوند بضعة وعشرون فرسخاً «نحو200 كيلومتر» فعلم عِلْمَ القوم واطلع على الأخبار، ثم رجع حتى إذا انتهى إلى الجمهور وكبر الناس، فقال: ما شأن الناس؟ فأخبروه بالذي خافوا عليه، فقال: والله لو لم يكن دينٌ إلا العربية ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة! فأتى النعمان فدخل عليه فأخبروه الخبر، وأعلمه أنه ليس بينه وبين نهاوند شيء يكرهه، ولا أحد.
فنادى عند ذلك النعمان بالرحيل فأمرهم بالتعبية، وبعث إلى مجاشع بن مسعود أن يسوق الناس. وسار النعمان على تعبيته، وعلى مقدمته نعيم بن مقرن، وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن».
ومعنى كلام طليحة: أنه لو لم يكن دين، فإن قوميتي تمنعني أن أمكن العجم أصحاب الرطانة من رقاب العرب الأقحاح!
ووصف البلاذري بطولة عمرو بن معدي كرب، فقال «2/316»: «فالتحمت الحرب بينهم، وذلك بعد الظهر، وحمل عمرو بن معدي كرب الزبيدي فاعتنق عظيماً من الفرس فوضعه بين يديه في السرج وقال: أنا أبو ثور، إفعلوا كذا! ثم حطم فيلاً من الفيلة وقال: إلزموا سيوفكم خراطيمها، فإن مقتل الفيل خرطومه».
«قال عمرو بن معدي كرب: إني حامل على الفيل ومن حوله، لفيل بإزائهم، فلا تدعوني أكثر من جزر جزور، فإن تأخرتم عني فقدتم أبا ثور فأنى لكم مثل أبي ثور، فإن أدركتموني وجدتموني وفي يدي السيف! فحمل فما انثنى حتى ضرب فيهم وستره الغبار، فقال أصحابه: ما تنتظرون ما أنتم بخلقاء أن تدركوه وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم! فحملوا حملة فأفرج المشركون عنه بعد ما صرعوه وطعنوه وإن سيفه لفي يده يضاربهم وقد طعن فرسه! فلما رأى أصحابه وانفرج عنه أهل فارس، أخذ برِجل فرس رجلٍ من أهل فارس فحركه الفارسي فاضطرب الفرس، فالتفت الفارسي إلى عمرو فهمَّ به وأبصره المسلمون فغشوه، فنزل عنه الفارسي وحاضر «ركض» إلى أصحابه، فقال عمرو: أمكنوني من لجامه فأمكنوه منه فركبه». «تاريخ الطبري: 3 /61».
أقول: حمل عمرو مثل هذه الحملة في نهاوند وغاص في أوساطهم، ويظهر أن المسلمين تأخروا عن نجدته، فأدركوه وقد استشهد رضي الله عنه!
قال حازم البجلي كما في الطبري «3 / 78»: «كنا ربع الناس، فوجهوا إلينا ستة عشر فيلاً وإلى سائر الناس فيلين، وجعلوا يلقون تحت أرجل خيولنا حسك الحديد ويرشقوننا بالنشاب فكأنه المطر علينا، وقرنوا خيلهم بعضها إلى بعض لئلا يفروا. قال: وكان عمرو بن معد يكرب يمر بنا فيقول: يا معشر المهاجرين كونوا أسوداً، فإنما الأسد من أغنى شأنه، فإنما الفارسي تيس إذا ألقى نيزكه (رمحه). قال: وكان إسوار منهم لا يكاد تسقط
له نشابة فقلنا له: يا أبا ثور إتق ذلك الفارسي فإنه لا تقع له نشابة! فتوجه إليه ورماه الفارسي بنشابة فأصاب قوسه، وحمل عليه عمرو فاعتنقه فذبحه، واستلبه سوارين من ذهب، ومنطقة من ذهب، ويلمقاً من ديباج». واليلمق: القباء المحشو المبطن.
وقال البلاذري «2/324»: «فلقوهم وحجر بن عدي الكندي على الميمنة، وعمرو بن معدي كرب على الخيل، وطليحة بن خويلد على الرجال، وعلى الأعاجم يومئذ خرزاد أخو رستم. فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يقتتلوا مثله، رمياً بالنبل وطعناً بالرماح حتى تقصفت، وتجالدوا بالسيوف حتى انثنت.
ثم إن المسلمين حملوا حملة واحدة قلعوا بها الأعاجم عن موقفهم وهزموهم فولوا هاربين، وركب المسلمون أكتافهم يقتلونهم قتلاً ذريعاً حتى الظلام».
وروي أن بعض فرسان المسلمين كحجر بن عدي (رضي الله عنه) عبر بفرسه: «فتقدم حِجْر وقرأ: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ). وأقحم فرسه وهو يقول: باسم الله، فعبر وعبر المسلمون على أثره!
فلما رآهم العدو قالوا: ديوان ديوان «جمع دِيو: الغول» يعني جِن جِن! فهربوا فدخلنا عسكرهم. «تفسير ابن كثير: 1/419».
وروي أن عامر بن مالك الأشعري أول من عبر بفرسه نهر دجلة إلى المدائن، وقال في ذلك مرتجزاً: «تاريخ قم / 268، وأسد الغابة: 4 / 282»:
إمضوا على البحر إن البحر مأمورْ * * * والأول القاطع منكم مأجورْ
قد خاب كسرى وأبوه سابورْ * * * ما تصنعون والحديث مأثورْ
وقال ابن الأعثم «1/210»: «فبينما المسلمون كذلك في أشد ما يكون من الحرب وذلك في وقت العصر إذا هم بكتيبة للفرس جامَّة «مرتاحة» حسناء قد خرجت إليهم،
فكأن الناس هالتهم تلك الكتيبة فاتقوها، فقال عمرو بن معدي كرب: يا معشر المسلمين لعله قد هالتكم هذه الكتيبة؟ قالوا: نعم والله يا أبا ثور لقد هالتنا! وذلك أنك تعلم أنا نقاتل هؤلاء القوم من وقت بزوغ الشمس إلى وقتنا هذا، فقد تعبنا وكَلَّت أيدينا ودوابنا، وكاعت رجالنا، وقد والله خشينا أن نعجز عن هذه الكتيبة، إلا أن يأتينا الله بغياث من عنده، أو نرزق عليهم قوة ونصراً.
قال فقال عمرو: يا هؤلاء! إنكم إنما تقاتلون عن دينكم، وتذبون عن حريمكم، وتدفعون عن حوزة الإسلام، فصفوا خيولكم بعضها إلى بعض وانزلوا عنها والزموا الأرض، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، فإنكم بحمد الله صُبراء في اللقاء، ليوثٌ عند الوغى، وهذا يوم كبعض أيامكم التي سلفت، ووالله إني لأرجو أن يعز الله بكم دينه ويكبت بكم عدوه.. قال: ثم نزل عمرو عن فرسه ونزل معه زهاء ألف رجل من قبائل اليمن ما فيهم إلا فارس مذكور قال: ثم تقدم عمرو حتى وقف أمام المسلمين شاهراً صمصامته وضعها على عاتقه وهو يقول:
لقد علمت أقيال مذحج أنني * * * أنا الفارس الحامي إذا القوم أضجروا
صبرتُ لأهل القادسية معلماً * * * ومثلي إذا لم تصبر الناس يصبر
وطاعنتهم بالرمح حتى تبددوا * * * وضاربتهم بالسيف حتى تكسروا
بذلك أوصاني أبي وأبو أبي * * * بذلك أوصاه فلست أقصر
حمدت إلهي إذ هداني لدينه * * * فلله أسعى ما حييت وأشكر
قال: وحملت تلك الكتيبة الجامَّة على عمرو بن معد ي كرب الزبيدي وأصحابه، فلم يطمعوا منهم في شيء. قال: وحمل جرير بن عبد الله من الميمنة، وحجر بن عدي من الميسرة، والمكشوح المرادي من الجناح، وعمرو بن معد يكرب من القلب، وصدقوهم الحملة فولوا مدبرين، ووضع المسلمون فيهم السيف، فقتل منهم من قتل وانهزم الباقون
حتى صاروا إلى خانقين. وأمسى المسلمون فلم يتبعوهم، لكنهم أقاموا في موضعهم حتى أصبحوا وأقبلوا حتى دخلوا جلولاء، فجعلوا يجمعون الأموال والغنائم، حتى جمعوا شيئاً كثيراً لم يظنوا أنه يكون هناك».
قال ابن الأعثم في الفتوح «2/303»: «رجعت إليهم الفرس كأنهم السباع الضارية في جموع لم يروا مثلها قبل ذلك، فصاح عمرو بن معد يكرب: يا معاشر العرب والموالي، ويا أهل الإسلام والدين والقرآن! إنه لا ينبغي لكم أن يكون هؤلاء الأعاجم أصبر منكم على الحرب، ولا أحرص منكم على الموت، فتناسوا الأولاد والأزواج، ولا تجزعوا من القتل فإنه موت الكرام ومنايا الشهداء.
قال: ثم نزل عمرو عن فرسه ونزل معه أبطال بني عمه، قال: والأعاجم في الآلة والأسلحة وبين أيديهم ثلاثون فيلاً، على كل فيل منهم جماعة من أساورة الفرس، قال: ونظر عامة المسلمين إلى عمرو بن معد يكرب وأصحابه، وقد ترجلوا فنزل الناس وترجلوا، ثم تقدموا نحو الخيل والفيلة، فلم يكن إلا ساعة من أول النهار حتى احمرت الأرض من دماء الفرس، وقتلت الفيلة بأجمعها، فما أفلت منها واحد..
فلما كان من غد وذلك في اليوم الرابع من حروبهم، ثار القوم بعضهم إلى بعض، وزحف أهل نهاوند في جميع عظيم حتى صافوا المسلمين، قال: وصف المسلمون صفوفهم كما كانوا يصفونها من قبل، ودنت الخيل من الخيل والرجال من الرجال فتناوشوا ساعة، وتقدم مرزبان من مرازبتهم يقال له النوشجان بن بادان على فيل له، وقد شهره بالتجافيف المذهبة، وصفرة الذهب تلمع على سواد الفيل حتى وقف بين الجمعين، قال: ونظر إليه عمرو بن معدي كرب فتهيأ للحملة عليه، ثم أقبل على بني عمه من زبيد فقال: ألا تسمعون؟ فقالوا: قل يا أبا ثور نسمع قولك وننتهي إلى أمرك، فقال: إني حامل على هذا الفيل وقاصد إليه، فإن قطعت خرطومه فقد هلك وذاك الذي أريد، وإن أخطأته ورأيتم الفُرس قد حملوا عليَّ وتكاثروا فأعينوني.
فقالوا: نفعل أبا ثور! فاستخر الله (عزَّ وجلَّ) وتقدم. قال فتقدم عمرو نحو الفيل الذي على ظهره النوشجان، قال: وجعل النوشجان يرميه بالنشاب من فوق الفيل حتى جرحه جراحات كثيرة، ونظر إليه من كان من بني عمه فخرجوا إليه ليعينوه، وصاح النوشجان بالفُرس فحملوا على عمرو وأصحابه، فاقتتل القوم وحمل عمرو من بين أيديهم فضرب خرطوم الفيل فقطعه، وولى الفيل منهزماً ثم سقط ميتاً، ووضع المسلمون السيف في النوشجان وأصحابه، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وقتل النوشجان فيمن قتل، وانهزم الباقون بشر حالة تكون..
ونادى عمرو بن معدي كرب قال: يا معاشر المسلمين ما أشبه هذا اليوم إلا بيوم القادسية، فيا معشر بني مذحج، ويا فتيان بني زبيد، ويا معشر النخع، إعلموا أن الذكر غداً بالمدينة لمن صبر اليوم، ألا فاحملوا ولا تفشلوا رحمكم الله. قال: فما بقي أحد من بني مذحج ولا من النخع ولا من بني زبيد إلا وحمل، ونظر إليهم عمرو وقد حملوا فحمل معهم، فاقتتلوا ساعة حتى أزالوا الفرس عن أماكنهم وقتلوا منهم بشراً كثيراً...
قال: ثم نزل عمرو عن فرسه وجعل يستوثق من حزامه وثفره ولببه، ثم استوى عليه وضرب بيده إلى الصمصامة فجعل يهزها، قال: ثم كبر عمر وحمل وحمل معه فرسان بني مذحج على جموع الأعاجم، فلما خالطهم عمرو عثر به فرسه فسقط إلى الأرض، وغار فرسه وأحاطت به الفرس من كل جانب، فلم يزل يقاتل حتى انكسرت الصمصامة في يده، ثم ضرب بيده إلى السيف ذي النون فلم يزل يضرب به حتى انكسر في يده، فعند ذلك علم أنه مقتول، قال: وجعل المسلمون يحملون على الفرس فيقاتلون وليست لهم بهم طاقة لكثرة جمعهم، وحمل رجل من الفرس يقال له بهرزاد على عمرو بن معد يكرب فضربه على يافوخه، فخرَّ عمرو صريعاً، وتكاثرت عليه الفرس بالسيوف فقطعوه إرباً إرباً، رحمة الله ورضوانه عليه».
وفي الاستيعاب «3/1202»: «وأثبتته الجراحات يومئذ فحُمِل فمات بقرية من قرى
نهاوند يقال لها روذة، فقال بعض شعرائهم:
لقد غادر الركبان يوم تحمّلوا * * * بروذة شخصاً لا جباناً ولا غمرا
فقل لزبيد بل لمذحج كلَّها * * * رزئتم أبا ثور قريع الوغى عمرا»
ونسب ابن حجر هذين البيتين إلى دعبل الخزاعي. «الإصابة: 4 / 572».
وفي مروج الذهب «2/324»: «وقتل هنالك خلق كثير: منهم النعمان بن مقرن، وعمرو بن معد يكرب، وغيرهما. وقبورهم إلى هذا الوقت بَيِّنَة معروفة، على نحو فرسخ من نهاوند، فيما بينها وبين الدِّينَورِ».
* * *
الفعل لهؤلاء الأبطال والاسم لسعد بن أبي وقاص!
كان قائد جيش المسلمين المفترض في القادسية سعد بن أبي وقاص، لكنه كان كخالد بن الوليد لا يقاتل بنفسه، فلم يشارك في معركة القادسية، ولا غيرها! والذين قادوا المعركة هم: ابن أخيه هاشم بن عتبة المرقال، وحجر بن عدي، وعمرو بن معدي كرب، وعدد من تلاميذ أمير المؤمنين (عليه السلام). وعندما رأى سعد المعركة اقتربت منه، ذهب إلى قصر العذيب، وهو يبعد عن القادسية بضع عشرة كيلومتراً!
وزعموا أنه كان يدير المعركة من العذيب، فكيف يديرها وهو بعيد عنها ثلاث ساعات مشياً، أو ساعة للفارس المُجِدّ!
قال في الأخبار الطوال/121: «وكانت بسعد علة من خراج في فخذه قد منعه الركوب، فولى أمر الناس خالد بن عرفطة، وولى القلب قيس بن هبيرة، وولى الميمنة شرحبيل بن السمط، وولى الميسرة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وولى الرجالة قيس بن خريم، وأقام
هو في قصر القادسية مع الحرم والذرية»! وخالد بن عرفطة مراسل عنده من بني عذرة.
وقال البلاذري «2 / 316»: «كان مقيماً في قصر العذيب، فجعلت امرأته وهي سلمى بنت حفصة من بنى تيم الله بن ثعلبة، امرأة المثنى بن حارثة، تقول: وامثنياه، ولا مثنى للخيل! فلطمها، فقالت: يا سعد أغيرةً وجُبناً»!
وقد حفظ التاريخ شعر المسلمين في جبن سعد بن أبي وقاص!
ففي الطبري «3 /81» ومعجم البلدان «4 / 291»: «قاتل المسلمون يومئذ وسعد في القصر ينظر إليهم، فنُسب إلى الجبن، فقال رجل من المسلمين:
ألم ترَ أن الله أنزل نصره * * * وسعدٌ بباب القادسية مُعصمُ
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة * * * ونسوةُ سعدٍ ليس فيهنَّ أيِّمُ».
وقال بشر بن ربيعة في ذلك اليوم:
ألمَّ خيالٌ من أميمة موهناً * * * وقد جعلتْ أولى النجوم تغورُ
ونحن بصحراء العذيب ودوننا * * * حجازيةٌ، إن المحل شطير
فزارت غريباً نازحاً جلُّ ماله * * * جوادٌ ومفتوقُ الغِرار طرير
وحلَّت بباب القادسية ناقتي * * * وسعدٌ بن وقاص عليَّ أمير
تذكر هداك الله وقع سيوفنا * * * بباب قُدَيْسٍ والمُكرُّ ضرير
عشية ودَّ القوم لو أن بعضهم * * * يُعار جناحي طائر فيطير
إذا برزت منهم إلينا كتيبةٌ * * * أتونا بأخرى كالجبال تمور
فضاربتهم حتى تفرق جمعهم * * * وطاعنتُ إني بالطعان مهير
وعمرو أبو ثور شهيدٌ وهاشمٌ * * * وقيس ونعمان الفتى وجرير».
كما روى المؤرخون نفاق أبي سفيان وهروب ابن العاص في اليرموك!
قال الواقدي «1/212»: «كان اليوم الثالث من اليرموك يوماً شديداً انهزمت فيه فرسان المسلمين ثلاث مرات! كل مرة تردهم النساء بالحجارة والعُمُد ويلوحون بالأطفال إليهم فيرجعون إلى القتال! ولم يزل القتال قائماً إلى أن أقبل الليل بسواده ورجعت الروم إلى مواضعها، والقتل فيهم كثير، وفي المسلمين قليل، إلا أن الجراح فيهم فاشية من النشاب، فلما دخل الليل بسواده، رجعت كل فرقة إلى أماكنها، وباتوا تحت السلاح».
قال ابن عبد البر في الاستيعاب «4/1679»: «وفي خبر ابن الزبير أنه رآه يوم اليرموك قال: فكانت الروم إذا ظهرت قال أبو سفيان: إيهٍ بني الأصفر، فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان:
وبنو الأصفر الملوكُ ملوكُ * * * الرومِ لم يبقَ منهمُ مذكورُ
فحدث به ابن الزبير أباه لما فتح الله على المسلمين، فقال الزبير: قاتله الله يأبى إلا نفاقاً، أوَلسنا خيراً له من بني الأصفر»!
وفي فتوح ابن الأعثم «1/203» أن زوجته هنداً كانت في اليرموك: «ونظرت إلى أبي سفيان وهو منهزم فضربت وجه حصانه بعمودها، وقالت: إلى أين يا ابن صخر؟ إرجع إلى القتال وابذل مهجتك حتى يمحص الله عنك ما سلف من تحريضك على رسول الله»!
وهدف الراوي أن يمدح هنداً، ولو بذم زوجها!
وفي نهاية ابن كثير «7/18»: «وانهزم عمرو بن العاص في أربعة «ولم يسمهم» حتى وصلوا إلى النساء، ثم رجعوا حين زجرهم النساء، وانكشف شرحبيل بن حسنة وأصحابه، ثم تراجعوا حين وعظهم الأمير، بقوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ..)».
وقال في تاريخ دمشق «2/143»: «شهد اليرموك ألف رجل من أصحاب
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيهم نحو من مائة من أهل بدر».
ودامت المعركة أربعة أيام، كما روى الواقدي. «فتوح الشام: 1/211».
وفي الختام:
لا بد من التنبيه على أن ما أوردناه ليس إلا نبذة من مشاركات اليمانيين في الفتوحات، وهو يدل على أن المسلمين مدينون لهم في أكثرها.
* * *
الفصل التاسع: بشارة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بدور اليمن في مستقبل العالم
أحاديث اليماني من مصادر السنيين
الحديث الأول: حديث اليماني الذي محاه معاوية!
روى عبد الله بن عمرو بن العاص يوماً لليمانيين حديث اليماني الموعود من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فاستبشروا به، لأنه سيكون منهم ملك.
وعرف بذلك معاوية فاستشاط غضباً، وصعد المنبر وصبَّ غضبه على عبد الله بن عمرو، ووبخه وسماه جاهلاً، مع أن عبد الله خبير بالحديث كان يكتب أحاديث النبي في حياته (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بينما كان معاوية هارباً في اليمن حتى توسط له العباس قبيل وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعفا عنه وجاء إلى المدينة!
قال البخاري في صحيحه «4/155، و: 8/105»: «كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش، أن عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث أنه سيكون ملك من قحطان، فغضب معاوية فقام خطيباً، فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله، ولا تُؤثر عن رسول الله، فأولئك جهالكم! فإياكم والأماني التي تضل أهلها! فإني سمعت رسول الله يقول: إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبَّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين».
وبهذا الغضب محا معاوية حديث اليماني، فأطاعه الرواة وغيبوه أو حرفوه! لكنه كان معروفاً للناس، وأن إسم اليماني ثلاثة أحرف!
قال البلاذري عن ثورة عبد الرحمن بن الأشعث الكندي اليماني: «فلما عظمت جموعة ولحق به كثير من أهل العراق ورؤسائهم وقراؤهم ونساكهم عند قربه منها، خلع عبد الملك وذلك بإصطخر فارس وخلعه الناس جميعاً وسمى نفسه ناصر المؤمنين، وذكر له أنه القحطاني الذي ينتظره اليمانية، وأنه يعيد الملك فيها، فقيل له إن القحطاني على ثلاثة أحرف! فقال: اسمي عبد، وأما الرحمن فليس من اسمي»! «التنبيه والأشراف/272».
وقال البلخي في البدء والتاريخ «2/184» عن عبد الله بن عمر قال: «لما خرج سمي بالقحطاني وكتب إلى العمال: من عبد الرحمن ناصر أمير المؤمنين، يقصد بذلك المهدي المنتظر (عليه السلام). فقيل له: إن اسم القحطاني على ثلاثة أحرف، فقال: اسمي عبد، وليس الرحمن من اسمي»!
أقول: يدل ذلك على أن حديث اليماني كان متسالماً عليه عند الناس، وأن اسمه ثلاثة حروف، وأنه ناصر الإمام المهدي (عليه السلام).
ونلاحظ أن المصادر السنية بعد هذه الحادثة روت توبة عبد الله بن عمرو العاص، وروت في اليماني أحاديث متضاربة، بعضها يقول يأتي مع المهدي وبعضها يقول بعده، وأكثرها يذمه ولا يمدحه!
وهذا يدلك على سيطرة القرشيين على رواية الحديث، وأنهم منعوا رواية أي حديث يبشر بظهور قائد يماني، لأنه يمس بقيادة قريش للعالم إلى يوم الدين!
الحديث الثاني: توبة عبد الله بن عمرو العاص!
روى ابن حماد في «1/382»: «حدثنا الوليد، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمي، عن الفضل بن عفيف الدؤلي، عن عبد الله بن عمرو، أنه قال: يا معشر اليمن، تقولون: إن المنصور منكم، والذي نفسي بيده إنه لقرشي أبوه، ولو أشاء أن أسميه إلى أقصى جد هو له لفعلت»!
أقول: أراد أن يرضي معاوية والقرشيين فجعل المنصور اليماني قرشياً وأمه يمانية! وهو يناقض حديثه الذي أغضب معاوية، فلو كان قرشياً لما غضب!
الحديث الثالث: توبة عبد الله بن عمرو ثانيةً!
روى عنه ابن حماد «1/394» أن المهدي يُخرج أهل اليمن من الشام إلى بلادهم! «جلس في مسجد دمشق، في جماعة ليس فيهم إلا أهل اليمن فقال: يا أهل اليمن كيف أنتم إذا أخرجناكم من الشام، واستأثرنا بها عليكم؟ قالوا: أوَ يكون ذلك؟ قال: نعم ورب الكعبة. فقال: مالكم لا تَكلمون! فقال بعض القوم: أفنحن أظلم فيه أم أنتم؟ قال: بل نحن. فقال اليماني: الحمد لله، (وَسَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)».
الحديث الرابع: تأييد كعب الأحبار لتوبة ابن عمرو!
فقد روى ابن حماد «1/395» عن كعب أنه قال: «ما المهدي إلا من قريش، وما الخلافة إلا في قريش، غير أن له أصلاً ونسباً في اليمن».
الحديث الخامس: أبشركم بطاغية يماني!
روى البخاري «4/159»: «عن أبي هريرة أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان، يسوق الناس بعصاه»!
فهو رجل طاغية يسوق الناس بعصاه، ويكون قبيل قيام الساعة بقليل! ولذا رواه أحمد ومسلم بعد الحبشي نحيف الساقين، الذي يهدم الكعبة ومكة!
قال أحمد «2/417»: «عن أبي هريرة أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: ذو السويقتين من الحبشة يخرب بيت الله (عزَّ وجلَّ). وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه»!
ثم هونوا الخطب على أنفسهم بأن الطاغية اليماني المزعوم يكون قريب القيامة! وقد
أطال ابن حجر وحرر صفحات كثيرة في تحليل حديث ابن عمرو، وتبرير إنكار معاوية له! ومحاولات توجيه الأحاديث المكذوبة في اليماني!
قال في فتح الباري «13/102»: «لم أقف على لفظ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في ذلك، وهل هو مرفوع أو موقوف.. فإن كان حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً موافقاً لحديث أبي هريرة فلا معنى لإنكاره أصلاً! وإن كان لم يرفعه وكان فيه قدر زائد يشعر بأن خروج القحطاني يكون في أوائل الإسلام، فمعاوية معذور في إنكار ذلك عليه»!
أما العيني فكان أكثر اختصاراً، قال في عمدة القاري «16/87»: «لم يرد إسمه عند الأكثرين لكن القرطبي جزم أنه جهجاه، الذي وقع ذكره في صحيح مسلم من طريق آخر عن أبي هريرة بلفظ: لا تذهب الأيام والليالي حتى يملك رجل يقال له: الجهجاه.. وفي التوضيح: حديث القحطان يدل على أنه خليفة ولكنه يحمل على تغلبه.
وروى نعيم بن حماد في الفتن عن أرطأة بن المنذر أحد التابعين من أهل الشام: أن القحطاني يخرج بعد المهدي ويسير على سيرة المهدي. وأخرج أيضاً من طريق عبد الرحمن بن قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جده مرفوعاً: يكون بعد المهدي القحطاني، والذي بعثني بالحق ما هو دونه..
قلت: إذا كان القحطاني في زمن عيسى، كيف يسوق الناس بعصاه وكيف يملك مع وجود عيسى عليه الصلاة والسلام؟ على أن في رواية أرطأة ابن المنذر: أن القحطاني يعيش في الملك عشرين سنة»!
وستعرف من مجموع النصوص أن المنصور اليماني ممدوح على لسان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وليس مذموماً، كما زعم الرواة القرشيون!
الحديث السادس: أن اليماني بعد المهدي (عليه السلام)
روى ابن حماد في «1/28، 105، 109» عن كعب: «يكون بعد الجبابرة رجل من أهل بيتي
يملأ الأرض عدلاً، ثم القحطاني بعده»!
وروى الطبراني في الكبير«22/375»: «أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: سيكون من بعدي خلفاء، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثم يؤمر القحطاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه».
ورواه بصيغ متقاربة وفي أكثرها: «والذي بعثني بالحق ما هو دونه». ورووا في هذا المعنى أحاديث ظاهرة الضعف والحشو، وأنها من تصور الرواة!
وبعضها نقلتها مصادرنا فتصور البعض أنه من أحاديثنا، مثل: رواية ابن طاووس في الملاحم والفتن/77: «عن أرطأة قال: أمير العصب ليس من ذي ولا ذه، ولكنهم يسمعون صوتاً ما قاله إنس ولا جان: بايعوا فلاناً باسمه ليس من ذي ولا ذه ولكنه خليفة يماني. قال الوليد: وفي علم كعب أنه يماني قرشي، وهو أمير العصب، والعصب: أهل اليمن ومن تبعهم من سائر الذين أخرجوا من بيت المقدس».
وروى في الملاحم والفتن أيضاً/168: «عن أرطأة قال: فيجتمعون وينظرون لمن يبايعون، فبيناهم كذلك إذا سمعوا صوتاً ما قاله إنس ولا جان: بايعوا فلاناً باسمه، ليس من ذوي ولا ذو، ولكنه خليفة يماني».
ومن الواضح أن الراوي أخذ النداء السماوي باسم المهدي (عليه السلام) وجعله لغيره!
ومن أحاديثنا المتأثرة بهم ما رواه الطوسي في الغيبة/463: «عن أبي زرعة، عن أبي عبد الله بن رزين، عن عمار بن ياسر أنه قال: إن دولة أهل بيت نبيكم في آخر الزمان، ولها إمارات، فإذا رأيتم فالزموا الأرض وكفوا حتى تجيء إماراتها. فإذا استثارت عليكم الروم والترك، وجهزت الجيوش، ومات خليفتكم الذي يجمع الأموال، واستخلف بعده رجل صحيح، فيخلع بعد سنين من بيعته، ويأتي هلاك ملكهم من حيث بدأ ويتخالف الترك
والروم، وتكثر الحروب في الأرض، وينادي مناد من سور دمشق: ويل لأهل الأرض من شر قد اقترب، ويخسف بغربي مسجدها حتى يخر حائطها، ويظهر ثلاثة نفر بالشام كلهم يطلب الملك، رجل أبقع، ورجل أصهب، ورجل من أهل بيت أبي سفيان يخرج في كلب، ويحضر الناس بدمشق، ويخرج أهل الغرب إلى مصر. فإذا دخلوا فتلك إمارة السفياني، ويخرج قبل ذلك من يدعو لآل محمد (عليهم السلام)، وتنزل الترك الحيرة، وتنزل الروم فلسطين، ويسبق عبد الله عبد الله، حتى يلتقي جنودهما بقرقيسياء على النهر ويكون قتال عظيم، ويسير صاحب المغرب فيقتل الرجال ويسبي النساء، ثم يرجع في قيس حتى ينزل الجزيرة السفياني، فيسبق اليماني ويحوز السفياني ما جمعوا. ثم يسير إلى الكوفة فيقتل أعوان آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقتل رجلاً من مسميهم.
ثم يخرج المهدي على لوائه شعيب بن صالح، وإذا رأى أهل الشام قد اجتمع أمرها على ابن أبي سفيان فألحقوا بمكة، فعند ذلك تقتل النفس الزكية وأخوه بمكة ضيعة، فينادي مناد من السماء: أيها الناس إن أميركم فلان، وذلك هو المهدي الذي يملأ الأرض قسطا وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً».
الحديث السابع: أحاديث ورد فيها إسم المنصور اليماني:
وهي تدل على صحة البشارة النبوية بالمنصور اليماني بقطع النظر عن مضمون هذه الأحاديث وسقمها. وقد ادُّعى العباسيون أن المنصور منهم، وسموا به أبا جعفر المنصور، وادُّعي لغيرهم، وهذه نماذج منها:
عن ابن عباس: «والله إن منا بعد ذلك السفاح والمنصور والمهدي، يدفعها إلى عيسى بن مريم (عليه السلام)». «الفتن: 1/96».
وقد طبقوا المنصور على خليفتهم الدوانيقي وابنه المهدي!
وعن ابن عمرو العاص «1/117»: «يكون بعد الجبارين الجابر، يجبر الله به أمة
محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثم المهدي، ثم المنصور، ثم السلام، ثم أمير العصب، فمن قدر على الموت بعد ذلك فليمت».
وعن جابر، عن أبي جعفر، قال: «إذا ظهر السفياني على الأبقع، والمنصور اليماني، خرج الترك والروم فظهر عليهم السفياني». «1/223».
«عن أبي جعفر قال: إذا ظهر الأبقع مع قوم ذوي أجسام، فتكون بينهم ملحمة عظيمة، ثم يظهر الأخوص السفياني الملعون فيقاتلهما جميعاً، فيظهر عليهما جميعاً، ثم يسير إليهم منصور اليماني من صنعاء بجنوده». «1/290».
«ثم يخرج المهدي ومنصور من الكوفة هاربين، ويبعث السفياني في طلبهما، فإذا بلغ المهدي ومنصور مكة نزل جيش السفياني البيداء، فيخسف بهم. ثم يخرج المهدي حتى يمر بالمدينة فيستنقذ من كان فيها من بني هاشم»«1/308».
وروى ابن حماد «1/223»: «عن جابر، عن أبي جعفر، قال: إذا ظهر السفياني على الأبقع، والمنصور اليماني، خرج الترك والروم فظهر عليهم السفياني».
وروى ابن حماد «1/384»: «عن ذي مخبر، عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله تعالى منهم وصيره في قريش، وسيعود إليهم»!
وروى ابن حماد «1/410»: «عن أرطاة، قال: على يدي ذلك الخليفة اليماني الذي تفتح القسطنطينية ورومية على يديه، يخرج الدجال وفي زمانه ينزل عيسى بن مريم (عليه السلام) على يديه تكون غزوة الهند، وهو من بني هاشم».
ورووا أحاديث في معناه كرواية ابن حماد «1/383» عن أرطاة، قال: «على يدي ذلك الخليفة اليماني وفي ولايته تفتح رومية».
ومن الواضح أن أكثر هذه الأحاديث من تخيلات الرواة، لكن شاهدنا منها أن اسم المنصور اليماني تردد فيها وكان معروفاً، وهو يدل على صحة حديثه.
أحاديث اليماني من طريق أهل البيت (عليهم السلام)
روت مصادرنا أحاديث صحيحة السند عن اليماني، وأنه يظهر قبل الإمام المهدي (عليه السلام) ويمهد له، ويكون ناصره ووزيره.
الحديث الأول: اليماني أحد المحتومات الخمس:
في كتاب الإمامة والتبصرة للصدوق الأب (رحمه الله) /128: «عبد الله بن جعفر الحميري، عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه علي، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن محمد بن حكيم، عن ميمون البان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: خمس قبل قيام القائم: اليماني، والسفياني، والمنادي ينادي من السماء، وخسف بالبيداء، وقتل النفس الزكية».
وفي الكافي «8 /310»: «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن أبي أيوب الخزاز، عن عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة، والسفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية، واليماني. فقلت: جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أنخرج معه؟ قال: لا، فلما كان من الغد تلوت هذه الآية: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)، فقلت له: أهي الصيحة؟ فقال: أما لو كانت خضعت أعناق أعداء الله (عزَّ وجلَّ)».
ونحوه غيبة الطوسي/436، والنعماني/252، وفيه: للقائم خمس علامات: السفياني واليماني والصيحة من السماء، وقتل النفس الزكية، والخسف بالبيداء. ومثله كمال الدين: 2/649، عن ميمون البان، وعمر بن حنظلة.
أقول: يدل هذا الحديث على أن لظهور الإمام المهدي (عليه السلام) أركاناً وضرورات أحدها اليماني. فالصيحة علامة موعودة لإثبات أنه مبعوث رباني.
والسفياني يعني ضرورة وجود العدو، بميزان صراع الخير والشر.
واليماني يعني ضرورة وجود قوة تهيئ الأرضية لظهوره المقدس (عليه السلام).
والنفس الزكية ضرورة لإظهار طغيان الحكومة المعادية له في الحجاز.
وخسف البيداء، علامة وقف في مكانها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهي تعني اليقين بأن مهمة المهدي (عليه السلام) جزء لا يتجزأ من رسالة جده (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
الحديث الثاني: اليماني من المحتومات الست:
قال النعماني في الغيبة/261: «أخبرنا علي بن أحمد البندنيجي قال: حدثنا عبيد الله بن موسى العلوي، عن يعقوب بن يزيد، عن زياد بن مروان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: النداء من المحتوم، والسفياني من المحتوم، واليماني من المحتوم، وقتل النفس الزكية من المحتوم، وكف يطلع من السماء من المحتوم. قال: وفزعة في شهر رمضان توقظ النائم وتفزع اليقظان وتُخرج الفتاة من خدرها».
أقول: المحتوم: الذي لا بد أن يقع. والظاهر أن الفزعة هي النداء السماوي، ولعل في النص تقديماً وتأخيراً والواو في فزعة زائد. وقد وردت فيه علامة كفٌّ تطلع من السماء بدل خسف البيداء، فصارت المحتومات ستاً.
الحديث الثالث: المنصور اليماني:
في الغيبة للنعماني/46، حدثنا محمد بن عبد الله بن المعمر الطبراني بطبرية سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مائة، وكان هذا الرجل من موالي يزيد بن معاوية ومن النصاب، قال: حدثني أبي، قال: حدثني علي بن هاشم والحسين بن السكن معاً، قالا: حدثنا عبد الرزاق بن همام، قال: أخبرني أبي، عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: «وفد على رسول الله أهل اليمن فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): جاءكم أهل اليمن يبسون بسيساً «يسوقون إبلهم سريعاً» فلما دخلوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: قوم رقيقة
قلوبهم، راسخٌ إيمانهم، منهم المنصور يخرج في سبعين ألفاً ينصر خلفي وخلف وصيي، حمائل سيوفهم المسك!
أقول: قَبِلَ النعماني رواية هذا الناصبي لأنه يشترط الوثاقة في الراوي فقط بقطع النظر عن مذهبه، ويظهر أنه وثق به لأنه روى ما يرد مذهبه!
وقال عدد من علماء الجرح والتعديل إن المطلوب في الراوي الوثاقة والاطمئنان بصدقه فقط، ولذلك يأخذون من اللغوي والطبيب غير المسلم.
الحديث الرابع: الفرَج إذا اختلف آل فلان وأقبل اليماني:
في الكافي «8/224»: «وعنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن يعقوب السراج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): متى فرج شيعتكم؟ قال فقال: إذا اختلف ولد العباس ووهى سلطانهم، وطمع فيهم من لم يكن يطمع فيهم، وخلعت العرب أعنتها، ورفع كل ذي صيصية صيصيته، وظهر الشامي، وأقبل اليماني، وتحرك الحسني، وخرج صاحب هذا الأمر من المدينة إلى مكة بتراث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فقلت: ما تراث رسول الله؟ قال: سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ودرعه وعمامته وبرده وقضيبه ورايته ولأمته وسرجه، حتى ينزل مكة فيخرج السيف من غمده ويلبس الدرع وينشر الراية والبردة والعمامة، ويتناول القضيب بيده، ويستأذن الله في ظهوره، فيطَّلع على ذلك بعض مواليه فيأتي الحسني فيخبره الخبر فيبتدر الحسني إلى الخروج، فيثب عليه أهل مكة فيقتلونه ويبعثون برأسه إلى الشامي، فيظهر عند ذلك صاحب هذا الأمر فيبايعه الناس ويتبعونه. ويبعث الشامي عند ذلك جيشاً إلى المدينة فيهلكهم الله (عزَّ وجلَّ) دونها، ويهرب يومئذ من كان بالمدينة من ولد علي (عليه السلام) إلى مكة فيلحقون بصاحب هذا الأمر. ويقبل صاحب هذا الأمر نحو العراق، ويبعث جيشاً إلى المدينة فيأمن أهلها ويرجعون إليها». وبعضه النعماني/278.
أقول: عَدَّت الرواية من العلامات: اختلاف بني العباس، وضعف دولتهم وطمع
الناس فيهم، وفوضى في البلاد العربية «وظهر الشامي، وأقبل اليماني، وتحرك الحسني» ثم وصفت حركة الإمام المهدي (عليه السلام).
وبنو العباس في هذه الروايات كناية عن حكومة تكون قبل الإمام (عليه السلام)، لأن أهل البيت أخبروا أن ملك بني العباس سيزول على يد المغول بني قنطوراء. فالمقصود بهم هنا: الذين هم على خطهم، ولذا سمتهم روايات: بني فلان: «فقال أبو عبد الله (عليه السلام): واختلاف بني فلان من المحتوم، وقتل النفس الزكية من المحتوم، وخروج القائم من المحتوم». «غيبة الطوسي/435».
وقد اتفقت الرواية على أن أول الفرج هلاك الفلاني واختلاف آل فلان، كما في غيبة النعماني/234: «قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): أمسك بيدك: هلاك الفلاني وخروج السفياني، وقتل النفس، وجيش الخسف، والصوت. قلت: وما الصوت هو المنادي؟ قال: نعم، وبه يعرف صاحب هذا الأمر، ثم قال: الفرج كله هلاك الفلاني [من بني العباس]».
وكلمة من بني العباس في الرواية بين قوسين، لأن الراوي احتمل أنها زيادة من راوٍ آخر وأصلها آل فلان. وإذا كانت من تعبير المعصوم (عليه السلام) فهي كناية.
فاختلاف بني فلان قبل السفياني واليماني، وهو من المحتوم، وقد عدت الروايات تسعة أشياء من المحتومات.
ففي الكافي«8/310»: «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن أبي جميلة، عن محمد بن علي الحلبي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اختلاف بني العباس من المحتوم، والنداء من المحتوم، وخروج القائم من المحتوم، قلت: وكيف النداء؟ قال: ينادي مناد من السماء أول النهار: ألا إن عليا وشيعته هم الفائزون. قال: وينادي مناد آخر النهار: ألا إن عثمان وشيعته هم الفائزون». ولعل المقصود بعثمان هنا: عثمان السفياني حاكم سوريا يومها.
وفي النعماني/264: «ثم قال «الإمام الباقر (عليه السلام)»: إذا اختلف بنو فلان فيما بينهم فعند ذلك فانتظروا الفرج، وليس فرجكم إلا في اختلاف بني فلان، فإذا اختلفوا فتوقعوا الصيحة في شهر رمضان وخروج القائم، إن الله يفعل ما يشاء، ولن يخرج القائم ولا ترون ما تحبون حتى يختلف بنو فلان فيما بينهم، فإذا كان كذلك طمع الناس فيهم، واختلفت الكلمة وخرج السفياني».
والحديث التالي يوضح المقصود من هلاك الفلاني واختلاف آله:
في غيبة الطوسي/271، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من يضمن لي موت عبد الله أضمن له القائم، ثم قال: إذا مات عبد الله لم يجتمع الناس بعده على أحد، ولم يتناه هذا الأمر دون صاحبكم إن شاء الله، ويذهب ملك السنين، ويصير ملك الشهور والأيام. فقلت يطول ذلك؟ قال: كلا». فهو حاكم في الحجاز يختلف ورثته بعده، ويكون بينهم صراع على الملك حتى يضعف ملكهم ويضمحل. ويكون بعدهم السفياني.
أما تحرك الحسني المذكور في أكثر من رواية، فهو غير النفس الزكية، وهو حسني يخرج مدعياً أنه المهدي الموعود، فيقتلونه في مكة.
وأما النفس الزكية فهو شاب حسني يرسله الإمام المهدي (عليه السلام) برسالة ليقرأها في المسجد الحرام، فيقتلونه، فيبدأ غضب الله عليهم.
الحديث الخامس: اليماني يوالي علياً (عليه السلام):
قال الطوسي في الأمالي/661: «وبهذا الإسناد «أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم القزويني قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن وهبان الهنائي البصري قال: حدثني أحمد بن إبراهيم بن أحمد قال: أخبرني أبو محمد الحسن بن علي بن عبد الكريم الزعفراني قال: حدثني أحمد بن محمد بن خالد البرقي أبو جعفر قال: حدثني أبي، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: لما خرج طالب الحق قيل لأبي عبد الله (عليه السلام):
نرجو أن يكون هذا اليماني؟ فقال: لا، اليماني يوالي علياً (عليه السلام)، وهذا يبرأ».
وطالب الحق كما في الأعلام «4/144»: عبد الله بن يحيى الكندي الحضرمي: إمام إباضي خلع طاعة مروان بن محمد وبويع له بالخلافة، واستولى على صنعاء ومكة بعد حروب. وبعث اليه مروان بجيش فالتقيا على مقربة من صنعاء، فقتل طالب الحق، وأرسل رأسه إلى مروان بالشام.
ويدل الحديث على أن اليماني يحكم اليمن، ولذا قال هشام: نرجو أن يكون هذا اليماني، وذلك بعد حكمه اليمن، أو ثورته ليحكم اليمن. وفَهْمُ هشامٍ حجة على أن اليماني يحكم اليمن، ويدل هذا على دوره في ظهور الإمام بحكم جوار اليمن للحجاز، وأن الحجاز يومها يعمه فراغ سياسي وفوضى.
الحديث السادس: وخروج اليماني من اليمن:
قال الصدوق في كمال الدين/328: «وحدثنا محمد بن محمد بن عصام (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن يعقوب قال: حدثنا القاسم بن العلاء قال: حدثنا إسماعيل بن علي القزويني قال: حدثني علي بن إسماعيل، عن عاصم بن حميد الحناط، عن محمد بن مسلم الثقفي الطحان قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلى الله عليه وعليهم، فقال لي مبتدئاً: يا محمد بن مسلم إن في القائم من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شبهاً من خمسة من الرسل... إلى أن قال: وأما شبهه من عيسى (عليه السلام) فاختلاف من اختلف فيه حتى قالت طائفة منهم ما ولد، وقالت طائفة مات، وقالت طائفة قتل وصلب.
وأما شبهه من جده المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فخروجه بالسيف، وقتله أعداء الله وأعداء رسوله، والجبارين والطواغيت، وأنه ينصر بالسيف والرعب، وأنه لا ترد له راية. وإن من علامات خروجه: خروج السفياني من الشام، وخروج اليماني من اليمن، وصيحةٌ
من السماء في شهر رمضان، ومناد ينادي من السماء باسمه واسم أبيه (عليهما السلام)».
وفي كمال الدين/330: «حدثنا محمد بن محمد بن عصام قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني قال: حدثنا القاسم بن العلاء قال: حدثني إسماعيل بن علي القزويني قال: حدثني علي بن إسماعيل، عن عاصم بن حميد الحناط، عن محمد بن مسلم الثقفي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) يقول: القائم منا منصور بالرعب، مؤيد بالنصر، تطوى له الأرض، وتظهر له الكنوز، يبلغ سلطانه المشرق والمغرب، ويظهر الله (عزَّ وجلَّ) به دينه على الدين كله ولو كره المشركون، فلا يبقى في الأرض خراب إلا قد عُمِّر، وينزل روح الله عيسى بن مريم (عليه السلام) فيصلي خلفه.
قال قلت: يا ابن رسول الله متى يخرج قائمكم؟ قال: إذا تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وركب ذوات الفروج السروج، وقبلت شهادات الزور، وردت شهادات العدول، واستخف الناس بالدماء، وارتكب الزنا، وأكل الربا، واتقيَ الأشرار مخافة ألسنتهم، وخروج السفياني من الشام، واليماني من اليمن، وخسف بالبيداء، وقتل غلام من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين الركن والمقام اسمه محمد بن الحسن النفس الزكية، وجاءت صيحة من السماء بأن الحق فيه وفي شيعته، فعند ذلك خروج قائمنا.
فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة، واجتمع إليه ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً. وأول ما ينطق به هذه الآية: (بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ثم يقول: أنا بقية الله في أرضه، وخليفته وحجته عليكم، فلا يسلم عليه مسلم إلا قال: السلام عليك يا بقية الله في أرضه، فإذا اجتمع إليه العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج، فلا يبقى في الأرض معبود دون الله (عزَّ وجلَّ) من صنم ووثن وغيره إلا وقعت فيه نار فاحترق. وذلك بعد غيبة طويلة، ليعلم الله من يطيعه بالغيب ويؤمن به».
أقول: قوله (عليه السلام) في الرواية المتقدمة وغيرها: وإن من علامات خروجه: خروج
السفياني من الشام، وخروج اليماني من اليمن، دليل على أنه من أهل اليمن، وأنه يخرج في اليمن ويحكمها. وقد حاول بعضهم جعله من غير اليمن، وأغرب فجَعَل اليماني من اليُمن، وادعى بعضهم أنه هو اليماني الموعود، وهو غير يماني. وكلها محاولات مردودة، لأنها مخالفة لظهور النص والمتبادر منه.
الحديث السابع: السفياني واليماني والمرواني:
روى النعماني/262: «أخبرنا محمد بن همام قال: حدثني جعفر بن محمد بن مالك، قال: حدثني علي بن عاصم، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه قال: قبل هذا الأمر السفياني، واليماني، والمرواني، وشعيب بن صالح، فكيف [وكفٌّ] يقول هذا وهذا».
وروى ابن جرير الطبري «الشيعي» في دلائل الامامة/487: «وعنه، عن أبيه، عن محمد بن همام، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مالك الفزاري، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن خالد التميمي، قال: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيوب، عن عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قبل القائم (عليه السلام) خمس علامات: السفياني، واليماني، والمرواني، وشعيب بن صالح، وكفٌّ تقول: هذا هذا».
أقول: رواية دلائل الإمامة: وكفٌّ تقول: هذا هذا، أي تشير إلى المهدي (عليه السلام)، هي الصحيحة، وكلمة فكيف تصحيف لكف. ويدل عليه رواية فتن ابن حماد «1/238»: «عن ابن المسيب قال: تكون فتنة بالشام كأن أولها لعب الصبيان، ثم لا يستقيم أمر الناس على شيء ولا تكون لهم جماعة حتى ينادي مناد من السماء: عليكم بفلان، وتطلع كف تشير».
وروى بمعناها: ينادي مناد من السماء: أميركم فلان». فهي كف تشير إلى المهدي (عليه السلام)، ومنادٍ باسمه يدعو الناس إلى بيعته، وذلك بعد اليماني والسفياني. والسفياني يحكم الشام، واليماني يحكم اليمن، وشعيب القائد العام في إيران.
أما المرواني فتدل روايةٌ في النعماني/316، عن الإمام الباقر (عليه السلام) على أنه في خط السفياني، وأنه قائد الجهة المقابلة للخط العباسي في قرقيسيا، ووقته قبيل السفياني أو هو ممهد له، قال (عليه السلام): «إن لولد العباس والمرواني لوقعة بقرقيسياء يشيب فيها الغلام الحَزَوَّر «اليافع» ويرفع الله عنهم النصر، ويوحي إلى طير السماء وسباع الأرض: إشبعي من لحوم الجبارين، ثم يخرج السفياني».
فالمرواني قائد في قرقيسيا، يكون قبيل اليماني. والمروانيون في العراق كثرة وفيهم شيعة وسنة. فقد يكون المرواني مع أمير داعش، أو خليفته.
الحديث الثامن: اليماني والسفياني كفرسي رهان:
روى النعماني/317: «أخبرنا علي بن أحمد قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: اليماني والسفياني كفرسي رهان».
ورواه الطوسي في أماليه «2/275» بسند صحيح أيضاً. ومعناه أن اليماني والسفياني ضدان يتنافسان. وقد ورد أن الخراساني والسفياني أيضاً كفرسي رهان «النعماني/264» لكن اليماني قبل الخراساني، فهو عِدْل السفياني الأول.
الحديث التاسع: أهدى الرايات راية اليماني:
قال الطوسي في الغيبة /446، والقطب الراوندي في الخرائج «3 /1163»: «وعنه «محمد بن أبي عمير» عن سيف بن عميرة، عن بكر بن محمد الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خروج الثلاثة الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، فليس فيها راية بأهدى من راية اليماني، تهدي إلى الحق». ومثله مختصر إثبات الرجعة/ 17، مجلة تراثنا عدد 15/216. وفي رواية الإرشاد «2/375»: «لأنه يدعو إلى الحق».
والسبب في أن راية اليماني أهدى: أنه مبعوث مباشرة من الإمام المهدي (عليه السلام) فهو وكيل خاص ونائب خاص، تجب طاعته على المؤمنين كافة، كما يأتي.
الحديث العاشر: الترابط بين السفياني واليماني والخراساني:
قال النعماني/262: «أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة قال: حدثني أحمد بن يوسف بن يعقوب أبو الحسن الجعفي من كتابه قال: حدثنا إسماعيل بن مهران قال: حدثنا الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه ووهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام) أنه قال: إذا رأيتم ناراً من المشرق شبه الهردي العظيم، تطلع ثلاثة أيام أو سبعة، فتوقعوا فرج آل محمد إن شاء الله (عزَّ وجلَّ)، إن الله عزيز حكيم. ثم قال: الصيحة لا تكون إلا في شهر رمضان لأن شهر رمضان شهر الله، والصيحة فيه هي صيحة جبرائيل إلى هذا الخلق.
ثم ذكر (عليه السلام) عدداً من الأحداث والعلامات وقال: «إذا اختلف بنو فلان فيما بينهم، فعند ذلك فانتظروا الفرج، وليس فرجكم إلا في اختلاف بني فلان، فإذا اختلفوا فتوقعوا الصيحة في شهر رمضان وخروج القائم، إن الله يفعل ما يشاء، ولن يخرج القائم ولا ترون ما تحبون حتى يختلف بنو فلان فيما بينهم، فإذا كان كذلك طمع الناس فيهم، واختلفت الكلمة وخرج السفياني...
ثم قال (عليه السلام): خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كل وجه، ويل لمن ناواهم، وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى لأنه يدعو إلى صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح على الناس وكل مسلم، وإذا خرج اليماني فانهض إليه فإن رايته راية هدى، ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنه يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم. ثم قال لي: إن ذهاب ملك بني فلان
كقصع الفخار وكرجل كانت في يده فخارة وهو يمشي، إذ سقطت من يده وهو ساه عنها فانكسرت، فقال حين سقطت: هاه شبه الفزع، فذهاب ملكهم هكذا أغفل ما كانوا عن ذهابه». ومثله الإرشاد/360، وغيبة الطوسي/271، وعنه الخرائج: 3 / 1163.
ومعنى أن الثلاثة كنظام الخرز: أن أحداث خروجهم مرتبطة بحدث واحد، أو محور واحد. وقد يكون معنى في يوم واحد مجرد التزامن.
الحديث الحادي عشر: قبل اليماني كاسر عينه بصنعاء
قال النعماني/285، حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثنا محمد بن حسان الرازي، عن محمد بن علي الكوفي قال: حدثنا محمد بن سنان، عن عبيد بن زرارة قال: عن عبيد بن زرارة قال: ذُكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) السفياني فقال: أنَّى يخرج ذلك؟ ولما يخرج كاسر عينيه بصنعاء.
أقول: جعل الإمام (عليه السلام) خروج كاسر عينه بصنعاء قبل السفياني، ولم يجعله قبل اليماني، مع أنهما في وقت واحد، يشير إلى أنه في خط السفياني! في مقابل اليماني وزير المهدي (عليه السلام). ويشير إلى أن كاسر عينه لا ينجح، أو يحكم قليلاً.
ومعنى كاسر عينه أنه ينظر وعينه شبه مطبقة، وتسمى العين المكسورة.
قال ابن عبد ربه في الاستيعاب «2/524»: «وكان زياد [ابن أبيه] طويلاً جميلاً يكسر إحدى عينيه، وفي ذلك يقول الفرزدق للحجاج:
وقبلك ما أعييت كاسر عينه * * * زياداً فلم تعلق عليَّ حبائلُه»
وقال الخليل في العين «6/300»: «يقال: طَرْفَشَ، إذا نظر وكسر عينيه».
وفي معجم الأفعال المتعدية بحرف للأحمدي/312: «كسر عينه من السهر: غلبه النعاس، وكسر كسراً من طرفه، وكسر على طرفه، غض منه شيئاً».
الحديث الثاني عشر: يخرج قبل السفياني مصري ويماني:
رواه الطوسي في الغيبة/271، بسند صحيح: «عن الفضل بن شاذان، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن محمد بن مسلم الثقفي: «يخرج قبل السفياني مصري ويماني». ومعناه أنهما في خط السفياني يمهدان له. وينطبق على الظواهري المصري وابن لادن اليمني. وتقديم الظواهري يدل على أن دوره أكبر.
* * *
مسائل حول اليماني
المسألة الأولى: مكانة اليماني عند الإمام المهدي (عليه السلام):
روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة/445: «عن الفضل بن شاذان، عن محمد بن أبي عمير، عن سيف بن عميرة، عن بكر بن محمد الأزدي، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «خروج الثلاثة: الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، وليس فيها راية بأهدى من راية اليماني يهدي إلى الحق» ورواه في مختصر إثبات الرجعة: حـ 17 «مجلة تراثنا عدد 15/216».
وسنده صحيح، فقد نص علماء الرجال على توثيق رجاله، وهو صريح في أن المعصوم (عليه السلام) حكم بأن راية اليماني أهدى الرايات قبل ظهور المهدي (عليه السلام).
وهذا مقام عظيم لليماني، يوجب على الأمة طاعته والانضواء تحت رايته. فقوله (عليه السلام): يهدي إلى الحق، إشارة إلى قاعدة: (أَفَمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدّيِ إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
وفي بعض النسخ: تهدي إلى الحق، أي رايته، وهدايتها بصاحبها.
فاليماني قائم مقام الإمام المهدي (عليه السلام)، وإليه تنتهي المرجعية العليا، وولاية الفقيه. وهو نائب خاص، والنائب الخاص مقدم على النائب العام.
وقد فصلت ذلك رواية النعماني/262، قال (عليه السلام): «وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى لأنه يدعو إلى صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح على الناس وكل مسلم، وإذا خرج اليماني فانهض إليه فإن رايته راية هدى، ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنه يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم».
ويؤيدها ما رواه النعماني/316، بسند صحيح: «اليماني والسفياني كفرسي رهان». أي أنه في الهدى عِدْلُ السفياني في الضلال، وروي ذلك في الخراساني أيضاً، لكن اليماني متقدم زمناً عليه.
المسألة الثانية: المحتوم محتومٌ من الله وليس محتوماً على الله:
1. ورد في أحاديث المهدي (عليه السلام) وصف تسعة أشياء بأنها محتومة: اختلاف بني فلان، والسفياني، واليماني، وقتل النفس الزكية، والنداء السماوي، وكفٌّ تظهر في السماء، وخسف البيداء، وطلوع الشمس من مغربها، كما ورد أن القائم من المحتوم. وتصور بعضهم أن المحتوم يقع فيه البداء بمعنى التغيير، والصحيح أنه لا بداء فيه، وهو رأي الصدوق، والمفيد، والطوسي، من علمائنا القدماء، والنائيني، والخوئي، والبلاغي وغيرهم، من المتأخرين.
أما حديث أبي هاشم الجعفري «النعماني/315» قال: «كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أن أمره من المحتوم فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: نعم. قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم. فقال: إن القائم من الميعاد، والله لا يخلف الميعاد».
فالجواب عنه أولاً: أن الرواية ضعيفة السند، فلا يستدل بها.
وثانياً: لو صحت فالمحتوم له معانٍ، والمقصود هنا أنه محتومٌ منه تعالى، وليس محتوماً عليه كما زعم اليهود: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ).
وهذا معنى قول الإمام الصادق (عليه السلام) عن جده عبد المطلب «الكافي: 1/447»: «يبعث عبد المطلب أمة وحده، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء. وذلك أنه أول من قال بالبداء، قال: وكان عبد المطلب أرسل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى رعاته في إبل قد ندَّت له، فجمعها فأبطأ عليه، فأخذ بحلقة باب الكعبة وجعل يقول: يا رب أتهلك آلك؟ إن تفعل فأمرٌ ما بدا لك! فجاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإبل وقد وجه عبد المطلب في كل طريق وفي كل شعب في طلبه، وجعل يصيح: يا رب أتهلك آلك، إن تفعل فأمر ما بدا لك. ولما رأى رسول الله أخذه فقبله وقال: يا بني لا وجهتك بعد هذا في شيء فإني أخاف أن تغتال فتقتل».
2. من يستنكر البداء لا ينتبه إلى معناه، فمعنى قولك: بدا لله أن يفعل كذا: قرر أن يفعله، وليس معناه ظهر له بعد خفائه. قال تعالى: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ). فالذي بدا لهم ليس خفياً عليهم.
بل يستعمل فيما لا ظهور فيه أبداً كقوله تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ). قال الإمام الصادق (عليه السلام): «ما بدا لله في شيء، إلا كان في علمه قبل أن يبدو له». «الكافي: 1/148». وفي البخاري «4/146» «إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع، بدا لله (عزَّ وجلَّ) أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً».
3. لأفعله تعالى أصول وقواعد وقوانين، فلا يصح أن نُبَسِّطَها ونُصدر عليها أحكاماً بلا علم، لاحظ قول الإمام الكاظم (عليه السلام): «لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بسبع: بقضاء وقدر وإرادة ومشيئة وكتاب وأجل وإذن، فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله». «الكافي: 1/150».
4. (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ..) أي زعموا أنه تعالى فرغ من الخلق والأمر ولا يستطيع تغيير شيء! ووافقهم بعض المسلمين، روى أحمد «2/52»: «قال عمر: يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أفي أمر قد فرغ منه أو مبتدأ أو مبتدع؟ قال: فيما فرغ منه فاعمل يا ابن الخطاب فإن كلاً ميسر لما خلق له». ونحوه البخاري: 4/131.
وروينا نحن: «أنحن في أمر فرغ أم في أمر مستأنف؟ فقال (عليه السلام): في أمر فرغ وفي أمر مستأنف». «شرح الأسماء الحسنى: 2/84». وهذا معنى: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ).
5. في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) «2/160»: «قال سليمان المروزي للرضا (عليه السلام): ألا تخبرني عن (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، في أي شيء أنزلت؟ قال (عليه السلام): يا سليمان ليله القدر يقدر الله (عزَّ وجلَّ) فيها ما يكون من السنة إلى السنة من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق، فما قدره في تلك الليلة فهو من المحتوم. قال سليمان: الآن قد فهمت جعلت فداك، فزدني. قال (عليه السلام): يا سليمان إن من الأمور أموراً موقوفة عند الله (عزَّ وجلَّ)، يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء.
يا سليمان إن علياً (عليه السلام) كان يقول: العلم علمان، فعلم علمه الله وملائكته ورسله، فما علمه ملائكته ورسله فإنه يكون ولا يكذب نفسه، ولا ملائكته ولا رسله (عليهم السلام). وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه، يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء. قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا البداء ولا أكذب به، إن شاء الله».
المسألة الثالثة: ماذا سيكون موقف المرجعية والدولة من اليماني؟
عندما يبعث الإمام المهدي (عليه السلام) اليماني ليحكم اليمن، ويتخذها قاعدة للدعوة له ونصرته، فمن الطبيعي أن يعطيه القدرات والمعلومات والمعجزات التي يحتاجها في
عمله العظيم. وهذه سيرة الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام).
وقد أرسل الأنبياء (عليهم السلام) أشخاصاً لمهمات أقل من مهمة اليماني وأعطوهم قدرات ومعجزات، فقد أرسل عيسى (عليه السلام) بعض الرسل وأعطاهم قدرة شفاء المرضى، ثم أرسل شمعون الصفا (عليه السلام) إلى روما، وأعطاه القدرة على شفاء المرضى وإحياء الموتى. وأرسل الإمام الباقر (عليه السلام) جابر بن يزيد الجعفي (رضي الله عنه) إلى الكوفة لينشر حديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأعطاه كرامات ومعجزات.
ومهمة اليماني أعقد وأضخم من تلك المهمات، فلا بد أن يعطيه الإمام (عليه السلام) من العلم والمعجزات ما يكفي ليقتنع به الناس المنصفون ويطيعوه.
هذا، مضافاً إلى أن الإمام (عليه السلام) سيكون بعد خروج السفياني واليماني ظاهراً جزئياً، ويشاهده العديد من الناس، فيُرجعهم إلى اليماني.
ومع ذلك لابد أن نقدر أن أوساطاً من الشيعة في إيران والعراق وغيرهما سترفض طاعة اليماني، لأنهم يرون أنفسهم أعلى منه مقاماً، وأقدم حضارة ومدنية، لكن المعجزات وتأكيدات الإمام (عليه السلام) ستكون عوناً له في مهمته.
والظاهر أن المخاض الذي ذكرت الأحاديث أنه سيكون في إيران قرب الظهور، سببه الخلاف بينهم في الدخول في طاعة المهدي واليماني.
فقد روى النعماني/200 و271، تحرك آذربيجان سنة الظهور عن أبي بصير: «قال الإمام الصادق (عليه السلام): لا بد لنا من آذربيجان لا يقوم لها شيء، وإذا كان ذلك فكونوا أحلاس بيوتكم والْبُدُوا ما لبدنا، فإذا تحرك متحركنا فاسعوا إليه ولو حبواً، والله لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد على العرب شديد».
والنتيجة: أن الشيعة في العالم سيُمتحنون باليماني، لأنه قيادة جديدة سياسية وعلمية فيطيعه أكثرهم، ومنهم من لا يطيعه! والسبب أن من الأمور الصعبة على العلماء
والحوزات أن يقبلوا ما يخالف ما درسوه واعتادوا عليه من مفاهيم وأحكام شرعية! ومن الصعب على الإيرانيين أصحاب الحضارة والمدنية العريقة، أن يطيعوا اليماني، وهم يرون أنهم أقدم منه حضارة وثقافة!
والذي يهون الخطب أن مدة الامتحان سبعة أشهر فقط، ثم يظهر الإمام (عليه السلام).
المسألة الرابعة: دور اليماني في دولة المهدي (عليه السلام):
أول مهمات اليماني أن يحكم اليمن ويدعو العالم إلى اتباع الإمام المهدي (عليه السلام) والتبشير بأنه قادم عن قريب. وقد وردت إشارة إلى حركة عسكرية لليماني، والظاهر أنها نحو مكة «الكافي: 8/224» قال (عليه السلام): «وظهر الشامي، وأقبل اليماني، وتحرك الحسني» وطبيعي أن يطلب الإمام (عليه السلام) من اليماني أن يدخل بجيشه ويحرر مكة، لأن حكومة الحجاز رغم ضعفها تكون شرسة!
فعندما يخرج الحسني مدعياً أنه المهدي الموعود يثورون في وجهه ويقتلونه، ثم يرسل الإمام (عليه السلام) قبل أسبوعين من ظهوره شاباً حسنياً، ليقرأ رسالة منه في المسجد، فيبتدرون إليه ويقتلونه بوحشية.
لذلك كان طبيعياً أن تدخل قوات اليماني وتحرر مكة، وأوسع من مكة أيضاً. والظاهر أن الإمام (عليه السلام) لا يواجه معركة مهمة في مكة ولا المدينة ولا في الخليج، بسبب خوفهم جميعاً من الجيش اليماني، فيأتون إليه خاضعين.
ولذلك ورد أن المهدي (عليه السلام) ينشر راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في العراق عندما يريد التوجه إلى الشام، وليس قبله.
وذكرت بعض الروايات دوراً عسكرياً لليماني في العراق، وهو بعيد، لأن الإمام (عليه السلام) لا يحتاج إليه هناك، نعم يحتاج إليه في معركته الكبيرة مع السفياني ومن ورائه اليهود. لكن لم أجد رواية معتبرة تذكر جيش اليماني فيها.
ومهما يكن، فإن اليماني سيكون حاكم اليمن والحجاز والخليج من قبل المهدي (عليه السلام) ويتوجه المهدي إلى العراق فيبقى فيه أشهراً قليلة، ثم يتوجه إلى معركته الموعودة في دمشق، وبانتصاره فيها يدخل القدس ويخطب في اليهود بالعبرية، ويستخرج لهم أسفاراً من التوراة من جبل بالشام، وجبل بفلسطين، فيؤمن له منهم ثلاثون ألفاً.
ثم يتحرك الغرب ضده، ويعلن الحرب عليه، فينزل الله عيسى بن مريم (عليه السلام) ويقنع الغرب بهدنة واتفاقية سلام مع المهدي (عليه السلام).. الخ.
* * *