عصر الظهور
المؤلف: الشيخ علي الكوراني العاملي
الطبعة السابعة عشرة 1427هـ
الفهرس
مقدمة..................5
صورة عامة لعصر الظهور..................11
الفتنة الغربية والشرقية على المسلمين..................25
الروم ودورهم في عصر الظهور..................33
الترك ودورهم في عصر الظهور..................41
اليهود ودورهم في عصر الظهور..................47
الوعد الإلهي بتدمير اليهود..................47
الوعد الإلهي بالتسليط الدائم عليهم..................52
الوعد الإلهي بإطفاء نار اليهود..................54
خلاصة تاريخ اليهود..................59
عهد موسى ويوشع..................60
عهد القضاة أو الخلفاء وسيطرة الدول المحلية عليهم..................61
عهد داود وسليمان..................62
عهد الانقسام والصراع الداخلي..................64
عهد السيطرة الآشورية..................66
عهد السيطرة البابلية..................67
عهد السيطرة الفارسية..................68
عهد السيطرة اليونانية..................68
عهد السيطرة الرومانية..................69
العرب ودورهم في عصر الظهور..................73
بلاد الشام وحركة السفياني..................77
أحداث بلاد الشام قبل خروج السفياني..................78
فتنة بلاد الشام..................79
هزة أرضية في بلاد الشام..................80
الصراع على السلطة بين الأصهب والأبقع..................81
حركة السفياني..................83
اسمه ونسبه..................83
خبثه وطغيانه وحقده على أهل البيت وشيعتهم..................84
ثقافته وولاؤه السياسي..................86
محاولته إعطاء حركته الطابع الديني..................87
مراحل حركته..................88
بداية حركته..................91
معركة قرقيسيا..................94
دخول جيش السفياني الى العراق..................97
جيش السفياني إلى الحجاز (جيش الخسف)..................103
بداية تراجع السفياني..................109
معركة الأهواز..................109
السفياني في معركة فتح القدس..................112
اليمن ودورها في عصر الظهور..................117
مصر وأحداثها في عصر الظهور..................123
العراق ودوره في عصر الظهور..................129
الفترة الأولى والثانية..................130
الحسني والشيصباني وعوف السلمي..................137
الفترة الثالثة: غزو السفياني، وخراب البصرة..................139
الفترة الرابعة: فتح العراق على يد الإمام المهدي (عجل الله فرجه)..................146
الحرب العالمية في عصر الظهور..................155
الإيرانيون ودورهم في عصر الظهور..................161
أحاديث المصادر السنية في مدح الإيرانيين..................162
الإيرانيون وبداية التمهيد للمهدي (عجل الله فرجه)..................164
حديث: أن أمر المهدي (عجل الله فرجه) يبدأ من إيران..................167
حديث: أتاح الله لأمة محمد (صلى الله عليه وآله) برجل منا أهل البيت..................167
أحاديث قم، والرجل الموعود منها..................169
بعض ما جاء في فضل قم..................170
حديث أهل المشرق والرايات السود..................175
حديث رايات خراسان إلى القدس..................180
حديث كنوز الطالقان..................184
ظهور الخراساني وشعيب في إيران..................185
بداية حركة الظهور المقدس..................191
أزمة الحكم في الحجاز..................205
فخرج منها خائفاً يترقب..................210
يجمع الله له أصحابه..................216
الحركة الإختبارية - شهادة النفس الزكية..................222
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً..................225
تحرير المدينة المنورة والحجاز..................234
الإمام المهدي (عجل الله فرجه) إلى إيران والعراق..................238
الزحف نحو القدس..................245
معركة الإمام المهدي (عجل الله فرجه) مع اليهود..................247
نزول المسيح (عجل الله فرجه) من السماء..................253
اتفاقية الهدنة بين الإمام المهدي (عجل الله فرجه) والغربيين..................256
الشعوب الغربية تدخل في الإسلام..................260
ملامح الدولة العالمية على يد الإمام المهدي (عجل الله فرجه)..................263
تطهير الأرض من الظلم والظالمين..................263
بعث الإسلام مجدداً وتعميم نوره على العالم..................267
العوامل المساعدة للإمام المهدي (عجل الله فرجه) في هداية الشعوب..................269
انفتاح الإمام المهدي (عجل الله فرجه) على الأرضين السبع..................277
الانفتاح على عالم الآخرة والجنة..................278
عقيدة الشيعة في الإمام المهدي (عجل الله فرجه)..................281
مقام الإمام المهدي (عجل الله فرجه) عند الله تعالى..................287
من كلمات الأئمة في الإمام المهدي (عجل الله فرجه)..................288
نماذج من الأدعية له وزيارته (عجل الله فرجه)..................291
عقيدة السنة في المهدي المنتظر (عجل الله فرجه)..................297
ابن القيم الجوزية..................303
ابن حجر الهيثمي..................305
ابن كثير..................305
جلال الدين السيوطي..................306
ابن أبي الحديد المعتزلي..................307
المناوي صاحب فيض القدير..................308
خير الدين الآلوسي..................309
الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر..................309
الشيخ ناصر الألباني..................311
العدوي المصري..................312
سعد الدين التفتازاني..................313
القرماني الدمشقي..................313
محي الدين بن عربي..................314
الشريف البرزنجي..................315
مقطوعات شعرية في مدح الإمام المهدي..................317
قصيدة للسيد الحميري..................317
من تائية دعبل الخزاعي التي أنشدها بحضرة الإمام الرضا..................319
رباعيات للبهائي العاملي المتوفى1031 هـ..................322
وسيلة الفوز والأمان في مدح صاحب الزمان..................324
للمرحوم السيد حيدر الحلي..................328
للمرحوم السيد رضا الهندي..................329
بسم الله الرحمن الرحيم
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد، وآله الطيبين الطاهرين.
بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران ارتفع مؤشر الاهتمام بعقيدة المهدي المنتظر (عليه السلام) في شعوب العالم الإسلامي، بالسؤال عنه، والحديث حوله، والقراءة، والتأليف.. بل وفي غير المسلمين أيضاً، حتى شاعت الطرفة التي تقول إن وكالة المخابرات الأمريكية قد نظمت ملفاً فيه كل المعلومات اللازمة عن الإمام المهدي (عليه السلام) ولم يبق إلا أن تحصل على صورته فقط!
ولعل أكبر حدث سياسي يتعلق بعقيدة المهدي (عليه السلام) في هذه الفترة ثورة الحرم المكي الشريف في مطلع عام1400 هجرية بقيادة محمد عبد الله العتيبي حيث سيطر أنصاره على الحرم، وأذاع معاونه جهيمان من داخله بياناً دعا فيه المسلمين إلى بيعة صاحبه محمد بصفته المهدي المنتظر الذي بشر به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)! واستمر
احتلالهم للحرم عدة أيام، ولم تستطع الحكومة السعودية أن تتغلب عليهم إلا بعد أن استدعت فرقاً خاصة!
كما أن أكبر عمل إعلامي صدر عن أعداء الإمام المهدي (عليه السلام) في هذه المدة يتعلق بعقيدة المهدية مباشرة، هو فيلم (نوسترآداموس) الذي بثته شبكات التلفزيون الأمريكية على مدى ثلاثة أشهر متواصلة! وهو فيلم عن قصة حياة المنجم والطبيب الفرنسي (ميشيل نوستر آداموس) الذي عاش قبل نحو500 سنة وكتب نبوءاته عن المستقبل، وأهمها نبوءته بظهور حفيد للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يوحد المسلمين تحت رايته، وينتصر على الأوربيين، ويدمر المدينة أو المدن العظيمة في الأرض الجديدة!
ويبدو أن اليهود كانوا وراء صناعة هذا الفيلم، وهدفهم منه تعبئة الشعب الأمريكي والشعوب الأوربية ضد المسلمين، باعتبارهم الخطر الذي يهدد الغرب وحضارته، خاصة إذا لاحظنا الإضافة التي زادوها على نبوءة نوستر آداموس، وهي أن أمريكا بعد هزيمة أوربا على يد الإمام المهدي (عليه السلام) وتدمير صواريخه الضخمة لواشنطن وغيرها من مدنها، تتوصل إلى اتفاق مع روسيا لمواجهته، وتتمكنان بالنتيجة من تحقيق الانتصار عليه!
أما القيمة العلمية للكتاب فلا شيء، لأنه تنبوءات كتبها مؤلفه بلغة فرنسية قديمة، وأسلوب رمزي مبهم يقبل تفسيرات مختلفة، ويبدو أنه اطلع على مصادرنا الإسلامية عن المهدي المنتظر (عليه السلام)، أو التقى ببعض علمائنا، فقد عاش فترة من عمره في إيطاليا وجنوب فرنسا، وربما في الأندلس.
لكن كتابه سرعان ما انتشر بعد انتصار الثورة الإسلامية، وظهرت طبعاته
بشروح وتفاسير عديدة، بمئات آلاف النسخ، وقيل بالملايين، ثم تحول إلى فيلم سينمائي عرضته شبكات التلفزيون لملايين المشاهدين!
المسألة عند الغربيين ليست اعتقادهم بعودة المسيح أو بالمهدي (عليه السلام)، ولا اعتقادهم بصحة تنبوءات نوستر آداموس أو غيره من المنجمين، بل اعتقادهم بخطر البعث الإسلامي الذي يهدد تسلطهم على شعوب المسلمين! ولذا تراهم يتلقفون أي مادة إعلامية ليقرعوا بها أجراس الخطر في مسامع شعوبهم، ويشدوا أنظارها إلى الموج الجديد الآتي من إيران ومكة ومصر وبلاد المسلمين، ليغرروا بشعوبهم ويحصلوا على تأييدها لخططهم الاستعمارية التي ينفذونها فعلاً، أو مستقبلاً، لضرب هذا البلد أو ذاك.
والمسألة عند اليهود أن يصعِّدوا مخاوف الغربيين من خطر المسلمين، ويقولوا لهم إن المستهدف حضارتكم، وإنما إسرائيل خط دفاعكم الأول.
فأعداؤنا إذن (مضطرون للدعاية) للإمام المهدي (عليه السلام) وصناعة الأفلام حوله! وسوف يزداد اضطرارهم إلى ذلك لمواجهة المد الإسلامي المتطلع إلى قائده الموعود (عليه السلام)، ومواجهة هذا القائد عندما ينكشف لهم أن أمره كان صحيحاً.
وهم بذلك يمهدون له (عليه السلام) برعبهم منه، ويبعثون فينا التحفز والشوق إلى حفيد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الطالع من عند الكعبة!
ويبلغ المسلم غاية الشوق والتحفز عندما يرى في فيلم نوستر آداموس الإمام المهدي (عليه السلام) يدير معركته مع أئمة الكفر العالمي من غرفة عملياته مع كبار جنرالاته على حد تعبير الفيلم، فتنطلق صواريخه العملاقة من قلب صحراء الحجاز، لتدك معاقل الكفر والظلم.
كل هذه الانعكاسات في الغرب لعقيدة المنتظر المهدي أرواحنا فداه، سببتها هذه الثورة التي قامت بها إيران بإسمه، ومن أجل تهيئة المنطقة والعالم لظهوره السعيد!
ومهما قال القائلون في تقييم الثورة الإيرانية سياسياً، فإن المتفق عليه أنها من ناحية عقيدية حركة ممهدة للإمام المهدي (عليه السلام).
في إيران تشعر أن حضور المهدي المنتظر (عليه السلام)، هو الحضور الأكبر من الثورة وقادتها! فهو القائد الحقيقي للثورة والدولة، الذي يذكر اسمه قادة الثورة والدولة باحترام وتقديس فيقولون: أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، وإنما البلد بلده، وغاية ما نرجوه أن نسلم البلد إلى صاحبه الأصلي (عليه السلام).
وفي ضمائر الناس في إيران، وشعاراتهم، وأسماء أبنائهم ومؤسساتهم وشوارعهم ومحالهم التجارية.. الإمام المهدي (عليه السلام) هو السيد الحاضر بقدسية، وفي ضمير المقاتلين في إيران ولبنان، الذين يذوبون إليه شوقاً ودموعاً، ويرونه في منامهم، ويرون ملائكته في يقظتهم، ويستشرفونه بأرواحهم.
إن مخزون الشوق والحب والتقديس الذي يملكه الإمام المهدي أرواحنا فداه في قلوب الشيعة، وقلوب عامة المسلمين، لا تملكه اليوم شخصية على وجه الأرض! وسوف تزداد هذه الشعبية والاهتمام بأمره، حتى ينجز الله تعالى وعده، ويظهر به دينه على الدين كله.
قبل بضع عشرة سنة كتبت كتاب (عصر الظهور) لتقديم صورة شاملة عن عصر الإمام المهدي (عليه السلام) بأسلوب ميسر، استناداً الى الآيات والأحاديث الشريفة، وقد
اكتفيت غالباً بذكر مصدر أو اثنين، لأن غرض الكتاب عرض الصورة العامة التقريبية عن عصر الظهور وحركته.
وبعد نشر الكتاب وفقنا الله تعالى لإنجاز (معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام)) الذي استغرق عمله خمس سنوات، فكان من اللازم من يومها تجديد النظر في كتاب (عصر الظهور)، لكن: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ).
وفي هذه المراجعة رأيت أنه لابد من إضافة بعض الأفكار حول الظهور المقدس وعصره، وحذف بعض التفاصيل التي تبين لي ضعف روايتها، أو عدم ضرورتها. وبذلك صار الكتاب أقوى بناء والحمد لله.
آمل أن يكون الكتاب خدمة للإسلام وجماهيره المباركة، المتعطشة إلى التعرف على قائدها الموعود على لسان نبيها وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأن يتقبله الله تعالى في أعمال التمهيد لحجته ووليه، صلوات الله عليه، وأرواحنا فداه.
قم المشرفة 25 محرم الحرام 1424
علي الكوراني العاملي
مع أن القرآن الكريم بنفسه معجزة نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) الخالدة في كل عصر، فإن من معجزاته المتجددة أيضاً ما أخبر به (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن مستقبل البشرية ومسيرة الإسلام فيها، إلى أن يجئ عصر الإسلام الموعود، فيظهره الله على الدين كله.
وعصر ظهور الإسلام هو موضوع هذا الكتاب. وهو نفسه عصر ظهور الإمام المهدي الموعود (عليه السلام)، لا فرق بينهما في أحاديث البشارة النبوية التي تبلغ مئات الأحاديث، والتي رواها الصحابة والتابعون، وأصحاب الصحاح والمجاميع، على اختلاف مذاهبهم.
بل نراها تبلغ مئات الأحاديث إذا أضفنا إليها أحاديث الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) لأن ما يحدثون به إنما عن جدهم خاتم النبيين (صلّى الله عليه وآله وسلم).
والصورة التي ترسمها هذه الأحاديث لوضع العالم في عصر الظهور وخاصة لوضع منطقة الظهور، التي تشمل اليمن والحجاز وإيران والعراق وبلاد الشام وفلسطين ومصر والمغرب، صورة شاملة، فيها الكثير من الأحداث الكبرى، والعديد من التفاصيل، وأسماء الأمكنة، والأشخاص.
وقد سعيت أن أستخلصها من النصوص بأكثر ما يمكن من الوضوح والتسلسل والدقة، لتكون في متناول جماهيرنا المسلمة المباركة.
وفي هذا الفصل أعرض خلاصة عامة لعصر الظهور، قبل تفاصيله:
تذكر الأحاديث الشريفة أن حركة ظهور الإمام المهدي أرواحنا فداه تبدأ في مكة المكرمة بعد تمهيدات عالمية وإقليمية.
فعلى صعيد المنطقة تقوم دولتان مواليتان للمهدي (عليه السلام) في إيران واليمن.
أما أنصاره الإيرانيون فتقوم دولتهم قبله بمدة، ويخوضون حرباً طويلة وينتصرون فيها، ثم يظهر فيهم قبيل ظهوره (عليه السلام) شخصيتان هما السيد الخراساني القائد السياسي، وشعيب بن صالح القائد العسكري، ويكون للإيرانيين بقيادتهما دور هام في حركة ظهوره (عليه السلام).
وأما أنصاره اليمانيون فتكون ثورتهم قبل ظهوره (عليه السلام) ببضعة أشهر. ويبدو أنهم يساعدون في ملء الفراغ السياسي الذي يحدث في الحجاز، كما يمهدون لحركة ظهوره (عليه السلام).
وسبب هذا الفراغ السياسي في الحجاز أنه يقتل ملك من آل فلان اسمه (عبد الله) فيكون آخر ملوك الحجاز، ويختلفون بعده على خليفته، ويستمر اختلافهم إلى ظهور المهدي (عليه السلام):
(أما إنه إذا مات عبد الله لم يجتمع الناس بعده على أحد، ولم يتناه هذا الأمر دون صاحبكم إن شاء الله، ويذهب ملك السنين ويكون ملك الشهور والأيام. قال أبو بصير فقلت: يطول ذلك؟ قال: كلا).
ويتحول الخلاف بعد مقتل هذا الملك إلى صراع بين قبائل الحجاز:
(إن من علامات الفرج حدثاً يكون بين الحرمين. قلت وأي شيء يكون الحدث؟ فقال: عصبية تكون بين الحرمين، ويقتل فلان من ولد فلان خمسة عشر كبشاً)
أي يقتل شخص خمسة عشر زعيماً أو شخصية، من القبيلة المعادية له، أو من أبناء زعيم معروف معادين له.
وفي الإمامة والتبصرة ص130: (عن عبد الرحمن بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ولا علم؟ يتبرأ بعضكم من بعض؟! فعند ذلك تميزون وتمحصون وتغربلون، وعند ذلك اختلاف السيفين وإمارة من أول النهار، وقتل وخلع من آخر النهار).
في هذه الأثناء تبدأ آيات ظهور المهدي (عليه السلام)، ولعل أعظمها النداء من السماء باسمه في الثالث والعشرين من شهر رمضان:
(قال سيف بن عميرة: كنت عند أبي جعفر المنصور فقال ابتداء: يا سيف بن عميرة لا بد من مناد ينادي من السماء باسم رجل من ولد أبي طالب.
فقلت: جعلت فداك يا أمير المؤمنين، تروي هذا؟
قال: إي والدي نفسي بيده، لسماع أذني له.
فقلت له: يا أمير المؤمنين إن هذا الحديث ما سمعته قبل وقتي هذا!
قال يا سيف، إنه لحق، فإذا كان ذلك فنحن أول من يجيب، أما إنه نداء إلى رجل من بني عمنا.
فقلت: رجل من ولد فاطمة (عليها السلام)؟
قال: نعم يا سيف، لولا أني سمعته من أبي جعفر محمد بن علي ولو يحدثني به أهل الأرض كلهم ما قبلته منهم، ولكنه محمد بن علي!).
بعد هذا النداء السماوي يبدأ المهدي (عليه السلام) بالاتصال ببعض أنصاره ويكثر الحديث عنه في العالم ويلهج الناس بذكره (ويُشربون حبه) كما تذكر الأحاديث، ويتخوف أعداؤه من ظهوره، فينشطون في البحث عنه.
ويشيع عند الناس أنه يسكن المدينة المنورة، فتستدعي حكومة الحجاز أو القوى الخارجية جيش السفياني من سورية، من أجل ضبط الوضع الداخلي في الحجاز، وإنهاء صراع القبائل فيه على السلطة.
ويدخل هذا الجيش إلى المدينة المنورة فيلقي القبض على كل هاشمي يظن فيه، ويقتل الكثير منهم ومن شيعتهم، ويحبس الباقين.
ويبعث السفياني بعثاً أي جيشاً إلى المدينة فيقتل بها رجلاً، ويهرب المهدي والمنصور منها، ويؤخذ آل محمد صغيرهم وكبيرهم لا يترك منهم أحد إلا أخذ وحبس. كما تقول رواية ابن حماد
ويخرج الجيش في طلب الرجلين، ويخرج المهدي منها على سنة موسى (عليه السلام) خائفاً يترقب، حتى يقدم مكة.
وفي مكة يواصل المهدي (عليه السلام) اتصالاته ببعض أنصاره، حتى يبدأ حركته المقدسة من الحرم الشريف في ليلة العاشر من محرم بعد صلاة العشاء، حيث يلقي بيانه الأول على أهل مكة، فيحاول أعداؤه قتله، ولكن أنصاره يحيطون به ويدفعونهم عنه، ويسيطرون على المسجد ومكة.
وفي صبيحة اليوم العاشر من محرم يوجه الإمام المهدي (عليه السلام) بيانه إلى شعوب العالم بلغاتهم المختلفة، ويدعوهم إلى نصرته.
ويعلن أنه سيبقى في مكة حتى تحدث المعجزة التي وعد بها جده المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وهي الخسف بالجيش الذي يتوجه إلى مكة للقضاء على حركته. وبالفعل تقع المعجزة الموعودة بعد فترة قصيرة حيث يتوجه جيش السفياني إلى مكة:
(حتى إذا انتهى إلى بيداء المدينة خسف الله به. وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ)).
(حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فيرجع من كان أمامهم لينظر ما فعل القوم فيصيبهم ما أصابهم. ويلحق بهم من خلفهم لينظر ما فعلوه فيصيبهم ما أصابهم).
وبعد معجزة الخسف هذه، يتوجه الإمام المهدي (عليه السلام) من مكة بجيشه المكون من بضعة عشر ألفاً إلى المدينة المنورة، فيحررها بعد معركة صغيرة مع القوات المعادية التي تكون فيها.
وبتحرير الحرمين يتم له فتح الحجاز والسيطرة عليه.
وفي طريقه من الحجاز الى العراق يلتحق به جيش الإيرانيين وجمهورهم بقيادة الخراساني وشعيب بن صالح فيبايعونه، ويدخل الإمام بعد ذلك إلى العراق ويصفي أوضاعه الداخلية، فيقاتل بقايا قوات السفياني ويهزمها، ويقاتل فئات الخوارج المتعددة ويقتلهم، ويتخذ العراق مركزاً لدولته، والكوفة عاصمة له.
ويكون بذلك قد وحد اليمن والحجاز وإيران والعراق وبلاد الخليج تحت حكمه.
وتذكر بعض الروايات أن أول حرب يخوضها الإمام المهدي (عليه السلام) بعد فتحه العراق تكون مع الترك: (أول لواء يعقده يبعثه إلى الترك فيهزمهم).
وقد يكون المقصود بهم الأتراك، أو الروس لأنه ورد التعبير عن كل الأمم الشرقية بأمم الترك!
ثم يُعدُّ الإمام المهدي (عليه السلام) جيشه الكبير ويزحف به نحو القدس، فيتراجع أمامه السفياني حتى ينزل جيش المهدي (عليه السلام) في (مرج عذراء) قرب دمشق، وتجري مفاوضات بينه وبين السفياني فيكون موقف السفياني أمامه ضعيفاً، خاصة وأن التيار الشعبي العام يكون إلى جانب الإمام المهدي (عليه السلام)، ويكاد السفياني أن يسلم الأمر إليه كما تذكر بعض الروايات، ولكن الذين وراءه من اليهود والروم ووزرائه يوبخونه، ويعبئون قواتهم ويخوضون معركة كبرى مع الإمام
المهدي (عليه السلام) وجيشه تمتد محاورها من عكا في فلسطين إلى أنطاكية في تركيا ساحلياً، ومن طبرية إلى دمشق والقدس داخلياً. وينزل فيها الغضب الإلهي على قوات السفياني واليهود والروم فيقتلهم المسلمون، حتى لو اختبأ أحدهم وراء حجر لقال الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله. وينزل النصر الإلهي على الإمام المهدي (عليه السلام) فيدخل القدس فاتحاً.
ويتفاجأ الغرب المسيحي بهزيمة اليهود والقوات المساعدة لهم، على يد المهدي (عليه السلام) فيستشيط غضباً ويعلن الحرب على الإمام المهدي والمسلمين ولكنه يتفاجأ بنزول المسيح (عليه السلام) من السماء، ويكون نزوله آية للعالم يفرح بها المسلمون والشعوب المسيحية.
ويبدو أن المسيح (عليه السلام) هو الذي يقوم بالوساطة بين المهدي (عليه السلام) والغربيين، فيتفقون على عقد هدنة سلام مدتها سبع سنوات:
(بينكم وبين الروم أربع هدن، تتم الرابعة على يد رجل من أهل (آل) هرقل، تدوم سبع سنن. فقال له رجل من عبد القيس يقال له المستور بن غيلان: يا رسول الله، من إمام الناس يومئذ؟ قال: المهدي من ولدي، ابن أربعين سنة، كأن وجهه كوكب دري، في خده الأيمن خال، عليه عباءتان قطوانيتان، كأنه من رجال بني إسرائيل. يستخرج الكنوز، ويفتح مدائن الشرك).
ولعل السبب في أن الغربيين ينقضون هذه الهدنة بعد سنتين أو ثلاث كما تذكر الروايات، أنهم يتخوفون من التيار الذي يحدثه المسيح (عليه السلام) في شعوبهم فيدخل كثير منهم في الإسلام، ويؤيدون الإمام المهدي (عليه السلام). لذلك ينقض الروم الهدنة ويقومون بهجوم مباغت على منطقة بلاد الشام وفلسطين بنحو مليون جندي: (ثم يغدرونكم فيأتونكم تحت ثمانين راية كل راية اثنا عشر ألفاً).
ويعلن المسيح موقفه إلى جانب الإمام المهدي (عليه السلام)، ويصلي خلفه في القدس. وتدور المعركة معهم على نفس محاور معركة فتح القدس تقريباً، من عكا إلى أنطاكية، ومن دمشق إلى القدس ومرج دابق، وتكون الهزيمة الساحقة على الروم، والنصر المبين للمسلمين.
وبعد هذه المعركة ينفتح الباب أمام المهدي (عليه السلام) لفتح أوروبا والغرب المسيحي.
ويبدو أن كثيراً من بلادها تفتحها شعوبها التي تقوم بإسقاط حكوماتها المعادية للمسيح والمهدي (عليهما السلام)، وتقيم فيها حكومات موالية لهما (عليهما السلام).
وبعد فتح المهدي الغرب ودخوله تحت حكمه وإسلام أكثر أهله، يتوفى المسيح (عليه السلام) فيصلي عليه الإمام المهدي (عليه السلام) والمسلمون، ويقيم مراسم دفنه دفنه والصلاة عليه على مرأى من الناس ومسمع، كما تذكر الرواية، حتى لا يقول الناس فيه ما قالوا أول مرة، ويكفنه بثوب من نسج أمه الصديقة مريم (عليها السلام)، ويدفنه إلى جانب قبرها الشريف في القدس.
وبعد فتحه العالم وتوحيده في دولة واحدة. يعمل الإمام المهدي (عليه السلام) في تحقيق الأهداف الإلهية في شعوب الأرض، في المجالات المختلفة. فيقوم بتطوير الحياة المادية وتحقيق الغنى والرفاهية لجميع الناس، وتعميم الثقافة، ورفع مستوى الوعي الديني والدنيوي.
وتذكر بعض الأحاديث أن نسبة ما يضيفه إلى معلومات الناس في العلوم نسبة خمس وعشرين إلى اثنين، حيث يضيف الخمس وعشرين جزءا من العلم ويضمها إلى الاثنين ويبثها في الناس سبعاً وعشرين.
كما يتحقق في عصره (عليه السلام) انفتاح سكان الأرض على سكان الكواكب الأخرى،
بل تبدأ مرحلة انفتاح عالم الغيب على عالم الشهادة، فيأتي أناس من الجنة إلى الأرض ويكونون آية للناس، ويرجع عدد من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) إلى الأرض في زمن المهدي (عليه السلام) وبعده، ويحكمون إلى ما شاء الله من الزمان.
ويبدو أن حركة الدجال الملعون وفتنته، تكون حركة استغلال منحرفة لحالة الرفاهية وتطور العلوم الذي يصل إليه المجتمع البشري في عصر الإمام المهدي (عليه السلام)، فيستعمل الدجال أساليب الشعوذة لإغراء الناس، ويتبعه اليهود والنواصب والشاذون والشاذات، ويستعمل الحيل والمخاريق والألاعيب فيصدقه بعض الناس أو يشاركونه في شيطنته فيحدث في العالم فتنة. لكن الإمام المهدي (عليه السلام) يكشف زيفه، ويقضي عليه وعلى أتباعه.
هذه صورة عامة عن حركة المهدي الموعود (عليه السلام) وثورته العالمية.
أما العصر الذي تحدث فيه، فهذه أبرز معالمه وأحداثه:
من ذلك الفتنة التي تذكر الأحاديث أنها تحدث على الأمة الإسلامية وتصفها بأنها تكون آخر الفتن التي تمر عليها وأصعبها، حتى تنجلي بظهور المهدي المنتظر (عليه السلام).
ومن الملفت حقاً أن الأوصاف الكلية والتفصيلية لهذه الفتنة تنطبق على فتنة الغربيين وسيطرتهم على بلاد المسلمين في مطلع هذا القرن، وعلى حلفائهم الشرقيين أيضاً. فهي فتنة تشمل كل بلاد المسلمين وكل عائلة فيها: (حتى لا يبقى بيتٌ إلا دخلته ولا مسلمٌ إلا صكته)!
وتتداعى فيها الأمم الكافرة على بلاد المسلمين كما يتزاحم الجائعون النهمون على مائدة دسمة: (وعندها يأتي قوم من المغرب وقوم من المشرق فيلون أمر أمتي)!
أي يحكمون بلاد المسلمين.
وهي فتنة تبدأ من بلاد الشام، التي بدأ أعداؤنا منها مدهم الإستعماري المظلم، وسموها مركز الإشعاع الحضاري.
وتنتج عنها فتنة تسميها الأحاديث الشريفة باسمها (فتنة فلسطين) وتصفها بأنها تمخض بلاد الشام مخض الماء في القربة:
(إذا ثارت فتنة فلسطين تردد في بلاد الشام تردد الماء في القربة، ثم تنجلي حين تنجلي وأنتم قليل نادمون)!
أي قليلون لكثرة ما يقتل منكم، بيد أعدائكم وبيد أنفسكم.
وتصف الأحاديث أجيال أبناء المسلمين الذين ينشؤون على ثقافة هذه الفتنة حتى لايكادون يعرفون غيرها.
وتصف الحكام الجبابرة الذين يحكمون شعوب المسلمين بأحكام الكفر والأهواء، ويسومونهم سوء العذاب.
وتسمي الروم أصحاب هذه الفتنة، وإخوان الترك الذين يرجح أن يكون المقصود بهم الروس، وأنهم عندما تتفاقم الأحداث في سنة ظهور المهدي (عليه السلام)، ينزلون قواتهم في الرملة بفلسطين وفي أنطاكية على الساحل التركي السوري، وفي الجزيرة عند الحدود السورية العراقية التركية:
(فإذا استثارت عليكم الروم والترك. ويتخالف الترك والروم وتكثر الحروب في الأرض... ستقبل إخوان الترك حتى ينزلوا الجزيرة، وستقبل مارقة الروم حتى ينزلوا الرملة).
وتذكر الأحاديث الشريفة أن بداية ظهور المهدي (عليه السلام) يكون من المشرق: (يكون مبدؤه من قبل المشرق، وإذا كان ذلك خرج السفياني).
أي مبدأ التمهيد له (عليه السلام) على يد قوم سلمان أصحاب الرايات السود، وأن حركتهم تكون على يد (رجل من قم يدعو الناس إلى الحق. يجتمع معه قوم قلوبهم كزبر الحديد، لا تزلهم الرياح العواصف، لا يملون من الحرب ولا يجبنون، وعلى الله يتوكلون. والعاقبة للمتقين).
وأنهم بعد خروجهم وثورتهم يطلبون من أعدائهم (الدول الكبرى) أن يتركوهم وشأنهم فلا يتركونهم:
(يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطون ماسألوا فلا يقبلونه حتى يقوموا. ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم (أي المهدي (عليه السلام)). قتلاهم شهداء).
وتذكر الأحاديث أنهم تظهر فيهم شخصيتان موعودتان يسمى أحدهما الخراساني وهو فقيه مرجع أو قائد سياسي، والثاني شعيب بن صالح وهو قائد عسكري، شاب أسمر خفيف اللحية ورد أنه من أهل الري، وأنهما يسلمان الراية إلى الإمام المهدي (عليه السلام) ويشاركان مع جيشهما في حركة ظهوره ويكون شعيب بن صالح القائد العام لقواته (عليه السلام).
وتصف الأحاديث حركة في سوريا يقوم بها (عثمان السفياني) الموالي للروم والمتحالف مع اليهود، وأنه يوحد سوريا والأردن تحت حكمه: (السفياني من المحتوم، وخروجه من أوله إلى آخره خمسة عشر شهرا. ستة أشهر يقاتل فيها، فإذا ملك الكور الخمس ملك تسعة أشهر ولم يزد عليها يوماً)!
والكور الخمس تشمل بالإضافة إلى سوريا، الأردن كما تدل الأحاديث، ويحتمل أن تشمل لبنان. ولكن هذه الوحدة التي يحققها السفياني لبلاد الشام تكون وحدة غير مباركة، لأن الغرض منها أن تكون خط دفاع (عربي) عن
إسرائيل، وقاعدة مواجهة للإيرانيين الممهدين للمهدي (عليه السلام).
ولذلك يقوم السفياني باحتلال العراق فتدخله قواته:
(ويبعث مئة وثلاثين ألفاً إلى الكوفة، وينزلون الروحاء والفاروق، فيسير منها ستون ألفا حتى ينزلوا الكوفة، موضع قبر هود (عليه السلام) بالنخيلة...
كأني بالسفياني (أو بصاحب السفياني) قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة، فنادى مناديه: من جاء برأس (من) شيعة علي فله ألف درهم. فيثب الجار على جاره ويقول هذا منهم).
ثم يكلفونه أن يملأ الفراغ السياسي الذي يحدث في الحجاز، ويساعد حكومته الضعيفة للقضاء على حركة المهدي (عليه السلام) التي يلهج الناس بها، ويتوقعون بدايتها في مكة، فيرسل السفياني جيشه إلى الحجاز، ويدخل المدينة المنورة ويعيث فيها فساداً، ثم يقصد مكة المكرمة حيث يكون الإمام المهدي (عليه السلام) قد بدأ حركته، فتقع المعجزة الموعودة على لسان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في جيش السفياني فيخسف به قبل وصوله إلى مكة: (يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه جيش، حتى إذا كانوا بالبيداء بيداء المدينة خسف بهم)!
ثم يتراجع السفياني بعد هزيمته في العراق على يد الإيرانيين واليمانيين، وهزيمته في الحجاز بالمعجزة على يد المهدي (عليه السلام)، ويجمع قواته داخل بلاد الشام لمواجهة زحف الإمام المهدي (عليه السلام) بجيشه نحو دمشق والقدس.
وتصف الروايات هذه المعركة بأنها ملحمة كبرى، تمتد من عكا إلى صور إلى أنطاكية في الساحل، ومن دمشق إلى طبرية والقدس في الداخل، وأن الغضب الإلهي ينزل على السفياني وحلفائه اليهود والروم فيهزمون هزيمة ساحقة ويؤخذ السفياني أسيراً ويقتل.
ويدخل الإمام المهدي (عليه السلام) والمسلمون القدس.
كما تذكر الأحاديث حركة أخرى ممهدة للمهدي (عليه السلام) تحدث في اليمن. وتمدح قائدها (اليماني) وتوجب على المسلمين نصرته:
(وليس في الرايات أهدى من راية اليماني، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح على الناس. وإذا خرج اليماني فانهض إليه، فإن رايته راية هدى. ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنه يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم)!
وتذكر بعض الروايات دخول القوات اليمانية إلى العراق لمساعدة الإيرانيين في مواجهة قوات السفياني. كما يبدو أن لهذا اليماني وقواته دوراً هاماً في الحجاز، في نصرة الإمام المهدي (عليه السلام).
وفي مصر تذكر الروايات دخول قوات غربية أو مغربية إلى مصر، وأنه على أثرها يكون خروج السفياني في بلاد الشام.
وتذكر أن الإمام المهدي (عليه السلام) يجعل لمصر مكانة إعلامية خاصة في العالم، ويتخذها منبراً له. وتصف دخوله مع أصحابه إلى مصر: (ثم يسيرون إلى مصر فيصعد منبره فيخطب الناس، فتستبشر الأرض بالعدل. وتعطي السماء قطرها، والشجر ثمارها، والأرض نباتها، وتتزين لأهلها، وتأمن الوحوش حتى ترتعي في طرق الأرض كالأنعام. ويقذف في قلوب المؤمنين العلم فلا يحتاج مؤمن إلى ما عند أخيه من العلم. فيومئذ تأويل هذه الآية: يغني الله كلاً من سعته).
وتذكر أحاديث عصر الظهور أن اليهود في آخر الزمان يفسدون في الأرض ويعلون علواً كبيراً، كما أخبر الله تعالى في كتابه، وأن تدمير علوهم يكون على يد رايات تخرج: (من خراسان فلا يردها شيء حتى تنصب بإيلياء). أي في القدس،
وأن الإيرانيين والشيعة هم القوم الذين سيبعثهم الله تعالى هذه المرة على اليهود: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)، وقد يكون المقصود أن عمدة جيش الإمام المهدي (عليه السلام) الذي يفتح القدس يكون منهم.
ولا تحدد الأحاديث هل يكون هذا التدمير الموعود مرحلة واحدة، أم على مراحل قبل ظهور المهدي (عليه السلام) وبعده. لكنها تصف المرحلة النهائية، وأنها تكون على يد المهدي (عليه السلام) وجيشه، وذلك في معركة كبرى يكون فيها عثمان السفياني حاكم بلاد الشام واجهة اليهود الروم، وخطهم الدفاعي المباشر.
وتذكر أن الإمام المهدي (عليه السلام) يستخرج أسفار التوراة الأصلية من غار بأنطاكية، ومن جبل بفلسطين، ومن بحيرة طبرية، ويحتج بها على اليهود، ويظهر لهم الآيات والمعجزات، فيسلم له بعض من بقي منهم بعد معركة فتح القدس. ثم يخرج من لم يسلم منهم من بلاد العرب.
كما تصف الأحاديث الشريفة حرباً عالمية تكون قبيل ظهور المهدي (عليه السلام)، يكون سببها من المشرق، ويفهم من بعض أحاديثها أنها تكون في سنة الظهور على شكل حروب إقليمية (وتكثر الحروب في الأرض)، وأن خسائرها تتركز على أمريكا وأوروبا:
(وتشب نار في الحطب الجزل في غربي الأرض).
(يختلف أهل الشرق وأهل الغرب نعم وأهل القبلة، ويلقى الناس جهداً شديداً مما يمر بهم من الخوف).
وتذكر أن خسائرها مع الطاعون الذي يكون قبلها وبعدها تبلغ ثلثي سكان العالم، ولاتصل إلى المسلمين إلا بشكل ثانوي:
(لا يكون هذا الأمر حتى يذهب ثلثا الناس. فقلنا: إذا ذهب ثلثا الناس فمن يبقى؟ قال: أما ترضون أن تكونوا في الثلث الباقي).
وتشير بعض الروايات إلى أن هذه الحرب تكون على مراحل، وأن آخر مراحلها تكون بعد ظهور المهدي (عليه السلام) وتحريره الحجاز ودخوله العراق. وأن سببها يكون له ارتباط بالفراغ السياسي وأزمة الحكم في الحجاز.
الى آخر ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
الفتنة الغربية والشرقية على المسلمين
وردت كلمة (الفتنة) في القرآن والسنة بمعنى عام، ومعنى خاص.
فالمعنى العام: كل امتحان وابتلاء يتعرض له الإنسان، سواء كان من نفسه أو من الشيطان أو الناس، فينجح فيه وينجو من الفتنة، أو يسقط فيها.
والمعنى الخاص: الأحداث والأوضاع التي تؤدي إلى افتتان المسلمين عن دينهم. وهذا المعنى هو المقصود بالفتن التي أنذر منها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وقد روى الصحابة والتابعون على اختلاف مذاهبهم أحاديث عديدة حذَّر فيها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من الفتن من بعده، وكان الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) معروفاً بين الصحابة بأنه خبير بأحاديث الفتن، لأنه كان يهتم بسؤال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عنها ويحفظ ما يقوله. ولذا نجد كثيراً من أحاديث الفتن في المصادر مسنداً إلى حذيفة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أو عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث كان حذيفة من خاصة أصحابه أيضاً، وكان (ره) يقول: (ما من صاحب فتنة يبلغون ثلاث مئة إنسان إلا لو شئت أن أسميه باسمه واسم أبيه ومسكنه إلى يوم القيامة. كل ذلك مما علمنيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)).
وكان يقول: (لو حدثتكم بكل ما أعلم ما رقبتم بي الليل!)
أي لقتلتموني فوراً وما انتظرتم بي إلى الليل. (مخطوطة ابن حماد ص1 - 2)، وهذا يدل على أن الأمة بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد دخلت في الفتنة.
وقد بلغ من اهتمام المسلمين بأخبار الفتن أنها غلبت عند بعضهم أحياناً على أخبار المهدي (عليه السلام) وظهوره، لأن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أخبر أن الأمة لا تخرج من الفتنة إلا على يده، فعقد لها أصحاب الموسوعات الحديثية أبواباً وفصولاً بعنوان (الفتن أو الملاحم والفتن) أي الأحداث والمعارك المهمة التي أخبر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بوقوعها.
كما ألف عدد من الرواة والعلماء مؤلفات خاصة باسم الفتن، والملاحم، وما شابه، جمعوا فيها الأحاديث الواردة فيها.
وتتفاوت الأحاديث في تعداد الفتن التي حذرا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الأمة منها، فيذكر بعضها أن عددها خمس فتن، ويذكر بعضها أنها أربع أو ست أو سبع وأكثر، ولعل السبب في اختلاف الرواة أو الروايات في عددها أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان في بعض المقامات يعدد الفتن الداخلية ويصفها، وفي بعضها يعدد الفتن الخارجية ويصفها، أو يذكر الفتن بحسب أنواعها وتأثيرها على المسلمين.
والذي يهمنا هنا ليس البحث في تعدادها وبدايتها وتطبيقها على تاريخ المسلمين، بل معرفة الفتنة الأخيرة منها، التي يتفق الجميع على أنها تنجلي بظهور المهدي (عليه السلام)، والتي تنطبق أوصافها وأحداثها الواردة في الأحاديث الشريفة على الفتنة الغربية التي عظم بلاؤها واشتدت وطأتها على شعوب الأمة في مطلع هذا القرن، حيث غزانا الغربيون في عقر ديارنا، وسيطروا على مقدراتنا وشؤوننا، وشاركهم الشرقيون فغزوا قسماً من بلادنا، وأزالوا منها معالم الإسلام، وضموها إلى دولتهم.
وهذه نماذج من الأحاديث الشريفة.
عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (لتأتين على أمتي أربع فتن: الأولى تستحل فيها الدماء. والثانية تستحل فيها الدماء والأموال. والثالثة تستحل فيها الدماء والأموال والفروج. والرابعة صماء عمياء مطبقة، تمور مور السفينة في البحر، حتى لا يجد أحد من الناس ملجأ. تطير بالشام، وتغشى العراق، وتخبط الجزيرة بيدها ورجلها. يعرك
الأنام فيها البلاء عرك الأديم، لا يستطيع أحد أن يقول فيها مه مه! لا ترفعونها من ناحية إلا انفتقت من ناحية أخرى). (الملاحم والفتن ص17).
وفي رواية: (إذا ثارت فتنة فلسطين تردد في الشام تردد الماء في القربة، ثم تنجلي حين تنجلي وأنتم قليل نادمون). (ابن حماد ص63) وسيأتي ذلك في دور اليهود في عصر الظهور.
وفي رواية: (تطيف بالشام، وتغشى العراق، وتعرك الجزيرة) (ابن حماد: ص9)
وفي رواية أخرى: (ثم تكون فتنة كلما قيل انقطعت تمادت، حتى لا يبقى بيت إلا دخلته ولا مسلم إلا صكته، حتى يخرج رجل من أهل بيتي). (ابن حماد: ص10)
ونلاحظ في هذا الحديث الشريف والأحاديث الكثيرة المشابهة عدة صفات لهذه الفتنة، التي هي الأخيرة بحسب كل الروايات:
أولاً: أن أخبارها بلغت حد التواتر الإجمالي في مصادر الشيعة أو السنة، بمعنى أنه قد رواها رواة عديدون بالمعنى وإن اختلفت ألفاظ رواياتهم، بحيث يحصل العلم للمتأمل أن مضمون هذه الأخبار قد صدر عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام).
ثانياً: أنها فتنة عامة تشمل كل أمور المسلمين الأمنية والثقافية والاقتصادية حيث تستحل فيها المحارم كلها كما في حديث آخر أيضاً، فهي (صماء عمياء) أي لا تسمع حتى تدفع بالكلام، ولا ترى فتميز بين أحد وآخر، بل تشمل الجميع وتطبق عليهم، وتدخل كل بيت وتصك بضربتها شخصية كل مسلم، وتموج بمجتمع المسلمين موجاً شديداً كمور السفينة في البحر المضطرب، ولا يجد أحد ملجأ من خطرها على دينه ودين أسرته، ولا ملجأ من ظلم الحكام
ومن وراءهم.
ثالثاً: أن شرها وبداية موجها يتركز على بلاد الشام (تطير بالشام) أي تبدأ من بلاد الشام، التي سموها بلد الإشعاع وزرعوا فيها إسرائيل، وفي رواية (تطيف بالشام) أي تحيط ببلاد الشام، ثم تمتد إلى بقية بلاد المسلمين.
بل أطلقت إحدى الروايات الشريفة عليها اسم (فتنة فلسطين) التي يتركز موجها على أهل بلاد الشام أكثر من غيرهم.
رابعاً: أن هذه الفتنة تتمادى زمناً طويلاً ولا ينفع معها أنصاف الحلول، لأنها فتنة حضارية أعمق من حلول الترقيع والصلح، ولأن موج المقاومة في الأمة وموج عداوة العدو يفتق الحلول من ناحية أخرى: (لا ترقعونها من ناحية إلا انفتقت من ناحية أخرى) وفي رواية: (لا ترتقونها من جانب إلا انفتقت أو جاشت من جانب آخر) والمعنى واحد، لأن حلها يكون فقط بحركة التمهيد للمهدي (عليه السلام) في الأمة، ثم بظهوره المبارك أرواحنا فداه.
وقد صرحت العديد من رواياتها بأنها متصلة بظهور المهدي (عليه السلام) وأنها آخر الفتن، وبعض رواياتها وإن وردت مطلقة لم يصرح فيها بأنها الفتنة التي قبل ظهور المهدي (عليه السلام)، ولكنها ذكرت أنها الفتنة الأخيرة، ووصفتها بنفس الصفات. فتكون هي المقصودة لا محالة، حملاً للمطلق على المقيد.
هذه الصفات الأساسية في هذه الفتنة، وصفات أخرى وردت في أحاديث أخرى، لا يمكن تطبيقها على أي فتنة داخلية أو خارجية تعرضت لها الأمة من صدر الإسلام إلى عصرنا هذا، سوى الفتنة الغربية. فهي لا تنطبق على الفتن الداخلية في صدر الإسلام وبعده، ولا على فتنة الغزو المغولي، ولا على فتنة
الغزو الصليبي في مراحل حملاته التاريخية التي بدأت قبل نحو تسع مئة سنة، وكانت في مد وجزر متباعدين.
وإنما تنطبق فقط على مرحلته الأخيرة حيث تمكن الغربيون من غزو الأمة غزواً كاملاً، ودخلت جيوشهم كل بلادها وأسقطوها صريعة في فتنتهم، وزرعوا في قلبها قاعدة حلفائهم اليهود.
عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (والذي نفسي بيده ليلين أمتي قوم، إذا تكلموا قتلوهم، وإن سكتوا استباحوهم. ليستأثرن بفيئهم، وليطأن حرماتهم، وليسفكن دماءهم، وليملأن قلوبهم دغلاً ورعباً، فلا تراهم إلا وجلين خائفين مرعوبين.
عندها يجئ قوم من المشرق وقوم من المغرب يلون أمتي، فالويل لضعفاء أمتي منهم، والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيراً، ولا يوقرون كبيراً، ولا يتجافون من شيء. جثثهم جثث الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين). (بشارة الإسلام ص25)
وهذا الحديث الشريف يكشف عن الترابط بين الظلم الداخلي والاستعمار الخارجي، ويجعل السبب في سيطرة الكفار الشرقيين والغربيين على الأمة جور حكامها وظلمهم لشعوبهم المسلمة، وإرهابهم وخنقهم لحرياتهم، لأن ذلك يجعل الناس ناقمين على حكامهم مشغولين بمصيبتهم بهم عن دفع العدو الخارجي، فيستغل العدو ذلك ويغزو بلادهم بحجة إنقاذهم من ظلم الحكام، كما فعل نابليون في غزوه لمصر! فقد وجه رسالة إلى المصريين عندما اقتربت سفنه من الساحل المصري يمدح فيها الإسلام ويظهر حبه له! وأنه إنما جاء لينقذ المصريين من ظلم المماليك!
ثم واصل سياسته هذه بعد احتلاله مصر، حتى أنه لبس الزي المصري وأعلن إسلامه، واحتفل بعيد المولد النبوي!
ثم استعملت بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا أساليب مشابهة، مدعية أنها جاءت لتحرير شعوب المسلمين، وما زالت تستعملها لإدامة سيطرتها على بلاد المسلمين ومقدراتهم.
وعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (لا يزال بكم الأمر حتى يولد في الفتنة والجور من لا يعرف غيرها، حتى تملأ الأرض جوراً فلا يقدر أحد يقول: الله. ثم يبعث الله (عزَّ وجلَّ) رجلاً مني ومن عترتي فيملأ الأرض عدلاً كما ملأها من كان قبله جوراً). (البحار:51/ 68).
وهذا الحديث الشريف يدل على أن الفتنة الأخيرة تستمر أجيالاً حتى يولد فيها الجيل من أبناء المسلمين لا يعرف فكراً غير فكر الانحراف عن الدين، ولا سياسة غير سياسة الظلم والجور. وهو تعبير دقيق عن الأجواء الثقافة المسيطرة، التي ينشأ الطفل المسلم في ظلها وهو لا يعرف شيئاً عن أجواء الإسلام وثقافته وعدله، إلا من هيأ الله تعالى له أسباب الهداية والعصمة.
ومعنى قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (حتى تملأ الأرض جوراً فلا يقدر أحد يقول: الله) أن قوانين الظلم والجور وسياسات الظالمين الجائرين تشمل كل مرافق الحياة ومناطقها.
حتى لا يقدر أحد أن يقول: نحن مسلمون ربنا الله تعالى، وهو يأمرنا برفض الظلم والجور.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إن دولة أهل بيت نبيكم في آخر الزمان، ولها إمارات فإذا استثارت عليكم الروم والترك، وجهزت الجيوش. ويتخالف الترك والروم، وتكثر الحروب في الأرض). (البحار:52/208).
وكلامه (عليه السلام) واضح في أن فتنة الروم والترك وتحركهم لغزو بلادنا من أمارات ظهور المهدي (عليه السلام). وتعبير (استثارت) تعبير دقيق، أي تحركت ذاتياً على بلادنا الإسلامية من أجل التسلط عليها واستثمارها.
وكذلك تعبير (ويتحالف الترك والروم) وذلك في صراعهم على تقاسم النفوذ
والسيطرة بعد أن كانوا متخالفين ولكنهم متفقون في عدائهم لنا.
(وتكثر الحروب في الأرض) كما نرى أنه لا تخلو قارة من حرب أو أكثر، ولا تهدأ حرب حتى تنفتح حرب أخرى أو أكثر، كل ذلك بسبب استثارة الروم، واليهود وراءهم يشعلون فتيل الحروب كلما استطاعوا.
وعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (ينزل بأمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يسمع بلاء أشد منه، حتى تضيق بهم الأرض الرحبة، وحتى تملأ الأرض جوراً وظلماً حتى لا يجد المؤمن ملجأ يلجأ إليه من الظلم. حتى يبعث الله (عزَّ وجلَّ) رجلاً من عترتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً. يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض. لا تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلا أخرجته، ولا السماء من قطرها إلا صبته عليهم مدراراً). (بشارة الإسلام ص 28).
وعن حذيفة بن اليمان عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (ويح هذه الأمة من ملوك جبابرة كيف يقتلون ويطردون المسلمين إلا من أظهر طاعتهم! فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه ويفر منهم بقلبه. فإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يعيد الإسلام عزيزاً قصم ظهر كل جبار عنيد، وهو القادر على ما يشاء، وأصلح الأمة بعد فسادها.
يا حذيفة لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي، يظهر الإسلام، والله لا يخلف وعده وهو على كل شيء قدير). (بشارة الإسلام ص 29).
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم، تداعي الأكلة على قصعتها. وأنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، من حب الدنيا وكراهية الموت). (الملاحم والفتن ص129)
وهي أحاديث واضحة بليغة عليها نور النبوة، تصور حالة الأمة مع عدوها المتسلط، وتبشر بالفرج بظهور المهدي (عليه السلام).
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (يستخدم المشركون المسلمين ويبيعونهم في الأمصار، ولا يتحاشى لذلك بر ولا فاجر. ولا يزال ذلك البلاء على أهل ذلك الزمان، حتى إذا يئسوا وقنطوا وأساؤوا الظن أن لا يفرج عنهم، إذ بعث الله رجلاً من أطايب عترتي وأبرار ذريتي، عدلاً مباركاً زكياً، لا يغادر مثقال ذرة، يعز الله به الدين والقرآن والإسلام وأهله، ويذل به الشرك وأهله. يكون من الله على حذر، لا يغتر بقرابة، ولا يضع حجراً على حجر، ولا يقرع أحداً في ولايته بسوط إلا في حد. يمحو الله به البدع كلها، ويميت الفتن كلها. يفتح الله به باب كل حق، ويغلق به باب كل باطل. يرد به سبي المسلمين حيث كانوا). (الملاحم والفتن ص 108).
وهو حديث يصور حالة استضعاف المسلمين المؤلمة، وبيعهم وشراءهم وسبيهم في البلاد. وهي حالة لا تقتصر على المسلمين الذين يعملون عند المشركين خدماً وموظفين محتقرين، بل تشمل بيع المشركين لشعوبنا الإسلامية وشراءها وتهجيرها وسبيها.
ثم يذكر الحديث الشريف ظهور المهدي المنقذ أرواحنا فداه، فجأة في حالة اليأس والاستضعاف.
المقصود بالروم في الأحاديث الواردة عن آخر الزمان وظهور المهدي (عليه السلام): الشعوب الأوربية وامتدادهم في القرون الأخيرة في أمريكا. فهؤلاء هم أبناء الروم، وورثة إمبراطوريتهم التاريخية.
قد يقال: إن الروم الذين أنزل الله تعالى فيهم سورة من كتابه العزيز وسماها باسمهم، والذين حاربهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون من بعده، هم غير هؤلاء. فأولئك هم البيزنطيون الذين كانت عاصمتهم مدينة روما في إيطاليا، ثم صارت مدينة القسطنطينية، حتى فتحها المسلمون أخيراً قبل نحو500 سنة، وسموها (إسلام بول) ويلفظها الناس استنبول.
والجواب: صحيح أن الروم عند نزول السورة الكريمة باسمهم، وعند صدور الأحاديث الشريفة عنهم، كانوا هم أصحاب الإمبراطورية الرومية أو البيزنطية المعروفة. ولكن الغربيين الفعليين ليسوا غيرهم، بل هم امتدادهم السياسي والحضاري بل أولئك جزء منهم، فإن الشعوب الفرنسية والبريطانية والألمانية وغيرها، كانت أجزاء حقيقية من الإمبراطورية الرومية في ثقافتها وسياستها ودينها، وتسميتها بالمستعمرات الرومانية آنذاك لا يلغي هذه الحقيقة. بل إن أباطرة الروم البيزنطيين أنفسهم الذين كانت عاصمتهم في روما وقسطنطينية على مدى الألفي سنة، لم يكونوا كلهم من أصل إيطالي ولا من عرق واحد، بل من
أصول وأعراق أوربية متعددة، وربما كان فيهم يونانيون أيضاً، بعد أن أصبحت اليونان جزءً من الإمبراطورية الرومانية.
ولعل هذا هو السبب في أنه عندما ضعفت الإمبراطورية الرومية التقليدية، وأصبحت محصورة في القسطنطينية وما حولها ومحاصرة ببحر الشعوب الإسلامية، قام الأوربيون بادعاء وراثتها، وتسمى عدد من ملوكهم في ألمانيا وغيرها بالقياصرة.
إن هذا النوع من التحول في الإمبراطوريات والدول أمر طبيعي، حيث ينتقل الحكم فيها من بلد إلى بلد ومن شعب إلى شعب، ولا ينافي ذلك بقاء اسمها الأساسي وصفاتها الأساسية.
وعلى هذا، فالأحاديث الشريفة التي تخبر عن مستقبل الروم أو بني الأصفر كما كان يسميهم العرب، لا تقصد الروم البيزنطيين الإيطاليين فحسب دون الشعوب والقبائل الفرنجية التابعة لهم.
وهذا هو السبب في أن المسلمين، كما في كتب التاريخ، يعبرون عنهم بالروم الفرنجة أحياناً، ولكنهم في نفس الوقت يطلقون عليهم جميعاً اسم الروم، ويجمعونها فيقولون: (الأروام)
مضافاً إلى ذلك، فإن المفهوم من سورة الروم الشريفة، والحديث فيها عن شركهم بالله تعالى وعن أحزابهم وأشياعهم في الآيات31 - 32، وفي سورة الكهف الآيات12، و21، وغيرها، أن المقصود بهم الأمم والأحزاب المدعية اتباع المسيح (عليه السلام). ومن الواضح أن زعامة الشعوب المسيحية كانت بيد الروم الإيطاليين والقسطنطينيين، ثم ورثها منهم الغربيون.
وقد ورد ذكر الروم في أحاديث كثيرة من أحاديث عصر الظهور:
منها أحاديث فتنتهم وسيطرتهم على بلاد المسلمين التي تقدم ذكرها. ومنها أحاديث تحرك أساطيلهم إلى بلاد العرب قبيل ظهور المهدي (عليه السلام).
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا رأيت الفتنة في بلاد الشام فالموت حتى يتحرك بنو الأصفر فيسيرون إلى بلاد العرب، فتكون بينهم الوقائع). (الملاحم والفتن ص 107).
وفتنة الشام تطلق في أحاديث الظهور على مرحلة الصراعات التي تكون في بلاد الشام بعد فتنة السيطرة الأجنبية على الأمة الإسلامية..
وهذا يعني أن الغربيين - بني الأصفر - يجدون أنفسهم مضطرين للتدخل العسكري المباشر، بعد أن يعجزوا عن السيطرة على منطقة ما حول فلسطين بسبب مقاومة أهلها وتياراتها السياسية المتصارعة. وأن تدخلهم العسكري سوف يواجه مقاومة من مسلمي البلاد العربية.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (وينادي مناد في شهر رمضان من ناحية المشرق عند الفجر: يا أهل الهدى اجتمعوا. وينادي مناد من قبل المغرب بعد ما يغيب الشفق: يا أهل الباطل اجتمعوا. وتقبل الروم إلى ساحل البحر عند كهف الفتية، فيبعث الله الفتية من كهفهم مع كلبهم، منهم رجل يقال له مليخا وآخر خملاها، وهما الشاهدان المسلَمان للقائم). (البحار:52/275).
ولعل هذا التحرك العسكري يكون استمراراً للتحرك السابق أو هو نفسه. ويدل الحديث على أنه يكون قريباً من ظهور المهدي (عليه السلام)، لأن النداء في شهر رمضان يتبعه تسلسل الأحداث إلى محرم، حيث يكون ظهور المهدي (عليه السلام) في ليلة العاشر ويوم العاشر منه.
ويبدو أن الجيش الغربي يقصد سواحل بلاد الشام، فينزل في عكا وصور كما في بعض الروايات، وعند كهف الفتية أصحاب الكهف، أي في أنطاكية من
الساحل السوري التركي، كما في هذا الحديث.
وقد وردت أحاديث عن الفتية أهل الكهف، وأن الله تعالى يظهرهم في آخر الزمان؟ ليكونوا آية للناس، وأنهم يكونون من أصحاب المهدي، كما سنذكره في أصحاب المهدي (عليه السلام).
والحكمة من إظهارهم عند نزول الجيوش الغربية في تلك الفترة الهامة أن يكونوا آية للمسيحيين، خاصة وأن أصحاب المهدي (عليه السلام) يستخرجون من غار في أنطاكية النسخ الأصلية من التوراة والإنجيل كما تذكر الأحاديث، ويحتجون بها على الروم واليهود.
وقد يكون هذا الغار نفس كهف الفتية أو كهفاً آخر.
وجاء في بعض الأحاديث ذكر مارقة الروم الذين ينزلون الرملة في سنة ظهور المهدي (عليه السلام)، فعن جابر الجعفي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:
(وستقبل مارقة الروم حتى ينزلوا الرملة، فتلك السنة يا جابر فيها اختلاف كثير في كل أرض من ناحية الغرب). (بشارة الإسلام ص102).
ومما يلفت في هذا المجال ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير مطلع سورة الروم: (أ. ل. م. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). (سورة الروم: 1 - 5) عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه فسر نصر الله للمؤمنين بظهور المهدي (عليه السلام) وكأنه نصره على الروم. (المحجة للبحراني ص170).
ومنها، أحاديث نزول عيسى (عليه السلام) وأنه يدعوهم إلى الإسلام واتباع المهدي
(عليه السلام)، التي وردت في تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ). (الزخرف:61) وقوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً). (سورة النساء:159) أي: وإنه لآية من آيات الساعة، وما من أحد من أهل الكتاب النصارى واليهود إلا وسيؤمن بعيسى (عليه السلام) عندما ينزله الله إلى الدنيا، فيرونه ويرون آياته ويصدقون به قبل أن يتوفاه الله تعالى.
وقد ورد أن عيسى يحتج على الروم بالمهدي (عليه السلام) والآيات التي تظهر على يديه: (وبه عيسى بن مريم يحتج على الروم). (البحار:52/226).
ولابد أنه سيكون له (عليه السلام) دور أساسي في تغيير الأوضاع السياسية، وتنوير الشعوب الغربية للوقوف في وجه حكوماتها، كما سنذكره في نزوله (عليه السلام).
ومنها، أحاديث الهدنة بين المسلمين والروم، وهي تدل على أنها اتفاقية عدم اعتداء يوقعها معهم الإمام المهدي (عليه السلام).
والمرجح أنها تكون بعد معركة القدس الكبرى التي تدور في مثلث عكا - القدس - أنطاكية، بين جيش المهدي (عليه السلام) وجيوش السفياني ومن وراءه من اليهود والروم، وبعد انتصار المهدي (عليه السلام) ودخوله القدس، ونزول المسيح (عليه السلام).
ونرجح أن يكون للمسيح دور الوساطة فيها. فعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (يا عوف أعدد ستة تكون بين يدي الساعة.. وفتنة لا يكون بيت من العرب إلا دخلته، وهدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر. ثم يغدرونكم فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً). (بشارة الإسلام ص 235).
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (بينكم وبين الروم أربع هدن، الرابعة على يد رجل من آل هرقل،
تدوم سنين (سنتين) فقال له رجل من عبد القيس يقال له السؤدد بن غيلان: مَن إمام الناس يومئذ، فقال: المهدي من ولدي). (البحار:51/80).
وفي بعض الأحاديث أن مدة الاتفاقية تكون سبع سنوات، ولكن الغربيين ينقضونها بعد سنتين فقط ويغدرون بالمسلمين، ويأتون تحت ثمانين غاية أي راية أو فرقة في نحو مليون جندي، فتكون المعركة معهم في سواحل فلسطين وبلاد الشام أيضا، وتكون على أثرها انطلاقة المهدي (عليه السلام) إلى فتح أروبا والعالم غير الإسلامي، كما يأتي في حركة ظهوره المقدس.
ومنها، أحاديث علاقة السفياني بالروم، وهروب من يبقى من أصحابه بعد هزيمته إلى بلاد الروم، ثم مطالبة أصحاب المهدي بهم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إذ قام القائم وبعث بجيشه إلى بني أمية هربوا إلى الروم، فيقولون لهم لا ندخلكم حتى تدخلوا في ديننا فيفعلون ويدخلونهم. فإذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم (أي نزل جيشهم في مواجهة الروم) طلبوا الأمان والصلح فيقول أصحاب القائم لانفعل حتى تدفعوا إلينا أهل ملتنا فيدفعونهم إليهم). (البحار:51/88).
بل تدل أحاديث أخرى أن ثقافة السفياني غربية، وأنه يكون في بلاد الروم ثم يأتي إلى بلاد الشام ويقوم بحركته كما سنذكره، ففي غيبة الطوسي ص278: (يقبل السفياني من بلاد الروم متنصراً في عنقه صليب، وهو صاحب القوم).
ومنها، أحاديث فتح المهدي (عليه السلام) لبلاد الروم، ودخولهم في الإسلام على يده. والمرجح أن يكون ذلك على أثر نقضهم معاهدة الهدنة، وحملتهم العسكرية على ساحل فلسطين وبلاد الشام، التي تنتهي بهزيمتهم.
كما أن المرجح أن تكون هذه أشد معارك الروم مع المهدي (عليه السلام)، وأن يحدث بعدها في شعوبهم تحول نحو الإسلام.
وفي بعض الأحاديث: (يفتح المدينة الرومية بالتكبير في سبعين ألفاً من المسلمين) (بشارة الإسلام ص297) ولا يبعد أن يكون سقوط هذه العاصمة الغربية بتظاهرات الغربيين وتكبيرهم، والتي يشاركهم فيها الإمام المهدي (عليه السلام) وأصحابه.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (ثم تسلم الروم على يده فيبني لهم مسجداً، ويستخلف عليهم رجلاً من أصحابه، ثم ينصرف). (بشارة الإسلام ص251).
والمرجح أن يكون للمسيح (عليه السلام) التأثير الأساسي في تحول الشعوب الغربية وأن يكون ذلك في فترة الهدنة التي تدوم بين الغربيين والمهدي (عليه السلام) سنتين أو ثلاث سنوات، وأن يكون عيسى (عليه السلام) في هذه المرحلة في الغرب، أو يكون أكثر تواجده فيه.
المرجح عندنا أن المقصود بالترك في أحاديث حركة الظهور الشريفة هم الروس ومن حولهم من شعوب أوربا الشرقية. فهم وإن كانوا مسيحيين تاريخياً، ومن شعوب مستعمرات الإمبراطورية الرومية، حتى أنهم ادعوا وراثتها وتسمى ملوكهم بالقياصرة، كما فعل الألمان وغيرهم.
إلا أنهم: أولاً، من قبائل منطقة الشرق الآسيوي الأوربي المتعددة، التي تسمى جميعاً في الأحاديث الشريفة وفي التاريخ الإسلامي (قبائل الترك، وأمم الترك)، فهذا الإسم يشمل بالإضافة إلى ترك تركيا وإيران، قبائل التتار والمغول والبلغار والروس، وغيرهم.
وثانياً، لأن المسيحية وصلتهم متأخرة ولم تتأصل فيهم، بل ظلت قشرة سطحية وأسوأ حالاً منها في شعوب أوربا الغربية، وظلت ماديتهم الوثنية الغالبة عليهم. ولعل هذا هو السبب في خضوعهم لأطروحة الشيوعية المادية الإلحادية، وعدم نهوضهم لمقاومتها.
وثالثاً، لأن الأحاديث الشريفة الواردة في تحرك الترك ضد المسلمين وإن كان بعضها ينطبق على تحرك الترك المغول وزحفهم المعروف على بلادنا في القرن السابع الهجري. إلا أن عدداً منها يصف تحركهم الذي تتصل أحداثه بظهور
المهدي (عليه السلام)، وتعاونهم ضدنا مع الروم، واختلافهم معهم في نفس الوقت، وهو أمر لا ينطبق إلا على الروس، أو إذا طال الأمر، على ورثة دولتهم من الأقوام ذات الأصول التركية في روسيا وأوربا الشرقية.
وهذه نماذج من الأحاديث التي ورد فيها ذكر دورهم في عصر الظهور:
منها، أحاديث الفتنة الأخيرة على المسلمين على يدهم ويد الروم، التي تقدم ذكرها، والتي لا يمكن تفسيرها إلا بهجمة الغربيين والروس على بلاد المسلمين في مطلع هذا القرن، والتي هي مستمرة حتى يكشفها الله تعالى بحركة التمهيد للمهدي في الأمة، ثم بظهوره المبارك أرواحنا فداه.
ومنها، أحاديث حرب السفياني مع الترك، ولم أجد أحاديث عن قتال السفياني للترك في دمشق أو حولها، ولكن وردت أحاديث كثيرة عن معركته معهم في قرقيسيا على الحدود السورية العراقية التركية، وأن سببها صراع على كنز يكتشف في مجرى نهر الفرات أو قرب مجراه في تلك المنطقة.
على أنه يحتمل أن يكون المقصود بالترك في هذه المعركة ترك تركيا وليس الروس، ويحتمل أن تكون روسيا طرفاً في معركة الأتراك مع السفياني. وسيأتي ذكرها في أحداث بلاد الشام وحركة السفياني، إن شاء الله.
ومنها، أحاديث ثورة آذربيجان في مواجهة الترك.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لابد لنا من آذربيجان لا يقوم لها شيء، فإذا تحرك متحركنا فاسعوا إليه ولو حبواً على الثلج). (غيبة النعماني ص170).
وقد يفهم من قوله (عليه السلام): (لابد لنا من آذربيجان لا يقوم لها شيء) أنها حركة هدى
في آذربيجان أو من أهلها، وأنه يجب الانتظار والتريث بعدها حتى تبدأ العلامات القريبة، وقد تكون في مواجهة الروس كما يفهم من الحديث التالي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (للترك خرجتان، خرجة فيها خراب آذربيجان، وخرجة يخرجون في الجزيرة يخيفون ذوات الحجال فينصر الله المسلمين. فيهم ذبح الله الأعظم). (الملاحم والفتن ص 32).
وإذا نظرنا إلى هذا الحديث بمفرده فيحتمل أن يكون من أحاديث الإخبار النبوي بغزو الترك المغول للبلاد الإسلامية حيث وصلوا إلى آذربيجان في المرحلة الأولى وخربوها، ثم وصلوها إلى الفرات، وكان النصر عليهم للمسلمين، وكان فيهم الذبح الأعظم في عين جالوت وغيرها.
ولكن بالجمع بينه وبين الحديث المتقدم وغيره يحتمل أن يكون المقصود بالترك فيه الروس، وتكون خرجتهم الأولى قبل علامات الظهور القريبة في احتلالهم لآذربيجان قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، والثانية خروجهم الى الجزيرة التي هي اسم لمنطقة بين العراق وسوريا قرب منطقة قرقيسيا، فيكون خروجهم إليها في وقت السفياني، ويكون معنى أن النصر للمسلمين فيها النصر غير المباشر بهلاك أعدائهم الجبارين، لأن معركة قرقيسيا ليس في أطرافها راية هدى أو راية يكون في انتصارها نصر للمسلمين، وإنما بشر بها النبي والأئمة (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأن فيها هلاك الجبارين بسيوف بعضهم!
ومنها، أحاديث نزول الترك الجزيرة والفرات. ومن المرجح أن يكون المقصود بهم الروس، لأن الرواية تقارن نزولهم بنزول الروم الرملة بفلسطين والسواحل. وقد ذكرنا أن قرقيسيا على مقربة من الجزيرة التي تسمى ديار بكر وجزيرة ربيعة، وهذا هو المفهوم من لفظ الجزيرة عندما تطلق في كتب التاريخ،
وليس جزيرة العرب، أو جزيرة أخرى.
ولا ينافي ذلك أن الترك المغول نزلوا الجزيرة في زحفهم في القرن السابع الهجري، وقد حسبها بعضهم يومذاك من علامات الظهور القريبة، فإن العلامة القريبة هي نزولهم ثم معركتهم مع السفياني في قرقيسيا.
وبالمناسبة فإن أحاديث فتنة الترك المغول وغزوهم لبلاد المسلمين هي من أحاديث الملاحم ومعاجز النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) التي كان يعرفها المسلمون ويتداولونها في صدر الإسلام، ثم كثرت روايتها وتداولها أثناء الغزو المغولي وبعده، ولكنها تذكر انجلاء فتنتهم وانتصار المسلمين، دون أن تذكر ظهور المهدي (عليه السلام) على أثرهم، كما في أحاديث الترك التي نحن بصددها.
وهذه نماذج من أخبار غزو المغول: فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: كأني أراهم قوماً كأن وجوههم المجان المطرقة، يلبسون السرق والديباج، ويعتقبون الخيل العتاق، ويكون هناك استحرار قتل، حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المفلت أقل من المأسور. فقال له بعض أصحابه: قد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك (عليه السلام) وقال للرجل، وكان كلبياً: يا أخا كلب، ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم. وإنما علم الغيب علم الساعة وما عده الله سبحانه بقوله: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى، وقبيح أو جميل، وسخي أو بخيل، وشقي أو سعيد، ومن يكون من النار حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقاً. فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحدٌ إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطم عليه جوانحي). (نهج البلاغة - الخطبة 128).
ومنها، أحاديث قتال المهدي (عليه السلام) للترك، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أول
لواء يعقده المهدي يبعثه إلى الترك فيهزمهم، ويأخذ ما معهم من السبي والأموال، ثم يسير إلى الشام فيفتحها). (بشارة الإسلام ص 185).
والتعبير بأول لواء يعقده يعني أنه أول جيش يبعثه (عليه السلام) ولا يشارك فيه شخصياً، وقد ورد في الأحاديث أنه يبعثه بعد خوله إلى العراق، وبعد أن يكون خاض عدة معارك لتحرير الحجاز والعراق.
ويحتمل أن يكون المقصود بالترك هنا ترك تركيا، ويحتمل أن يكونوا الروس الذين يحاربهم السفياني في معركة قرقيسيا، ثم لا يكون النصر لطرف منهم على الآخر، ثم يكون استئصالهم على يد المهدي (عليه السلام).
ومنها، أحاديث أن خراب بلاد الترك بالصواعق، أي بالزلازل. ويحتمل أن يقصد بها وسائل الحرب التي تصعق وتزلزل كالصواريخ مثلاً.
ويبدو أن ذلك يكون على أثر حربهم للمهدي (عليه السلام)، وأنه يكون تدميراً واسعاً ينهي قوتهم، حيث لم يرد لهم ذكر بعدها في أخبار الظهور، بل وردت عبارة عنهم بعد خرجتهم الثانية تقول: (فلا ترك بعدها). وهذا مما يرجح أنهم الروس، حيث لم يرد تعبير من هذا النوع عن شعب مسلم في أخبار الظهور.
لو لم يكن عندنا عن دور اليهود في آخر الزمان وعصر ظهور المهدي (عليه السلام) إلا الآيات الشريفة في مطلع سورة الإسراء لكان فيها كفاية، لأنها على اختصارها وحيٌ إلهيٌ بليغ، تكشف خلاصة تاريخهم، وتسلط الضوء على مستقبلهم، بدقة وإعجاز!
على أنه يوجد بالإضافة إليها وإلى آيات القرآن الأخرى، عدة أحاديث شريفة، بعضها يتعلق بتفسير الآيات، وبعضها يتعلق بوضعهم في عصر ظهور المهدي (عليه السلام) وحركته المقدسة.
وسوف نذكرها بعد تفسير الآيات الشريفة.
الوعد الإلهي بتدمير اليهود
قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا. ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا.
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ
وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا.
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا. عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا). (سورة الإسراء:1 - 8)
(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا).
أي حكمنا في القضاء المبرم في التوراة الذي أنزلنا عليهم أنكم سوف تنحرفون عن الصراط المستقيم، وتفسدون في المجتمع مرتين، كما أنكم سوف تستكبرون على الآخرين وتعلون عليهم علواً كبيراً.
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ..).
فإذا جاء وقت عقوبتكم على إفسادكم الأول، أرسلنا عليكم عباداً منسوبين إلينا، أصحاب بطش ومكروه ينزلونه بكم.
(فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا..)
وهو كناية عن سهولة الفتح الأول لفلسطين على يد المسلمين، وأن جنود المسلمين تجولوا خلال بيوتكم يتعقبون بقايا مقاتليكم، وكان ذلك وعداً قطعياً حاصلاً.
(ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا).
ثم أعدنا لكم الغلبة على هؤلاء المسلمين الذين بعثناكم عليكم. وأعطيناكم أموالاً وأولاداً، وجعلناكم أكثر منهم أنصاراً في العالم يستنفرون لكم ضدهم.
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا..).
ثم يستمر وضعكم على هذه الحال فترة من الزمن، لابد ان تكون مستبطنة في الآية، فإن تبتم وعملتم خيراً بما أعطيناكم من أموال وأولاد فهو خير لأنفسكم، وإن أسأتم وطغيتم وعلوتم فهو لكم أيضاً.
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا).
ولكنكم سوف تُسيؤون ولا تحسنون فنمهلكم، حتى إذا جاء وقت العقوبة على إفسادكم الثاني سلطنا عليكم نفس العباد المنسوبين إلينا بأشد من المرة الأولى، فأنزلوا بكم مكروهاً يسوء وجوهكم، ودخلوا المسجد الأقصى فاتحين كما دخلوه عندما جاسوا خلال دياركم في المرة الأولى. ثم يسحقون علوكم وإفسادكم سحقاً.
(عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا).
لعل الله أن يرحمكم بعد هذه العقوبة الثانية بالهداية. وإن عدتم إلى إفسادكم بعد العقوبة الثانية، عدنا إلى معاقبتكم، وحصرناكم عن ذلك في الدنيا، ثم جعلنا لكم جهنم حبساً وحصراً في الآخرة.
والنتيجة الأولى من الآيات الكريمة: أن تاريخ اليهود من بعد موسى (عليه السلام) إلى آخر حياتهم يتلخص بأنهم يفسدون في المجتمع في المرة الأولى، حتى إذا جاء وقت عقوبتهم على ذلك بعث الله تعالى عليهم قوماً فيغلبونهم بسهولة.
ثم يجعل الله تعالى الغلبة لليهود على أولئك القوم لحِكَمٍ ومصالح، ويعطي اليهود أموالاً وأولاداً ويجعلهم أكثر أنصاراً منهم في العالم.
ولكن اليهود لا يستفيدون من أموالهم وأنصارهم بل يسيئون ويفسدون للمرة
الثانية، وفي هذه المرة يضيفون إلى إفسادهم العلو، فيستكبرون ويعلون على الناس كثيراً.
فإذا جاء وعد عقوبتهم على ذلك سلط الله عليهم نفس أولئك القوم مرة ثانية فأنزلوا بهم عقاباً أشد من العقاب الأول على ثلاث مراحل.
والنتيجة الثانية: أن القوم الذين يبعثهم الله عليهم في المرة الأولى يغلبونهم بسهولة ويدخلون المسجد الأقصى، ويتعقبون مقاتليهم في بيوتهم (فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ) ويُنهون قوتهم العسكرية.
ثم يرسلهم الله عليهم ثانيةً على رغم غلبة اليهود عليهم وكثرة أنصارهم ضدهم، فينزلون بهم العقوبة على ثلاث مراحل، حيث يوجهون إليهم أولاً ضربات تسوء وجوههم، ثم يدخلون المسجد فاتحين كما دخلوه أول مرة، ثم يسحقون علوهم على الشعوب سحقاً. كما تدل عليه اللام في قوله تعالى: (لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) وفي قوله تعالى: (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ....وَلِيُتَبِّرُوا..).
والسؤال الأساسي الذي طرحه المفسرون: هل أن هذين الإفسادين - اللذين يرافق أحدهما علو كبير - قد مضيا، ووقعت العقوبتان الموعودتان عليهما، أم لا؟
فقال بعضهم: إنهما مضيا ووقعت العقوبة على الإفساد الأول على يد نبوخذ نصر، وعلى الإفساد الثاني على يد تيطس الروماني.
وقال بعضهم: لم تقع العقوبتان بعد.
والرأي الصحيح: أن العقوبة الأولى على إفسادهم الأول وقعت في صدر الإسلام على يد المسلمين، ثم رد الله الكرة لليهود على المسلمين عندما ابتعد المسلمون عن الإسلام، وأن اليهود أفسدوا مرة ثانية وعلوا في الأرض، وستكون
على أيدي المسلمين أيضاً، عندما يعودون إلى رشدهم مجدداً.
وبهذا التفسير وردت الأحاديث الشريفة عن الأئمة (عليهم السلام)، فقد فسرت هؤلاء القوم الذين سيبعثهم الله تعالى على اليهود في المرة الثانية بأنهم المهدي (عليه السلام) وأصحابه، وبأنهم أهل قم، وأنهم قوم يبعثهم الله تعالى قبل ظهور القائم (عليه السلام).
ففي تفسير العياشي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال بعد أن قرأ قوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ): هو القائم وأصحابه، أولو بأس شديد).
وفي تفسير نور الثقلين عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال في تفسيرها: (قوم يبعثهم الله قبل خروج القائم، فلا يدعون وتراً لآل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلا قتلوه).
وفي بحار الأنوار:60/216عن الإمام الصادق (عليه السلام) (أنه قرأ هذه الآية.. فقلنا: جعلنا فداك من هؤلاء؟ فقال ثلاث مرات: هم والله أهل قم، هم والله أهل قم، هم والله أهل قم).
والروايات الثلاث متفقة في المقصود ولا تعارض بينها، لأن أهل قم بمعنى شيعة أنصار المهدي (عليه السلام) من إيران الذين ورد أنهم ينهضون معه وينصرونه.
ويبدو أن مقاومة اليهود من أتباع المهدي (عليه السلام) تكون على مراحل حتى يظهر المهدي (عليه السلام) فيكون القضاء النهائي على اليهود بقيادته وعلى يده أرواحنا فداه.
ومما يدل على أن العقوبة الثانية الموعودة لليهود ستكون على أيدي المسلمين، أن القوم الذين وعد الله تعالى أن يبعثهم عليهم في المرتين أمة واحدة، والصفات التي ذكرت لهم، وصفات حربهم لليهود لا تنطبق إلا على المسلمين.
فملوك المصريين والبابليين واليونان والفرس والروم وغيرهم، ممن تسلط على اليهود لا يوصفون بأنهم (عباداً لنا)، ولا حدث أنْ غلبهم اليهود بعد العقوبة
الأولى، كما ذكرت الآيات الشريفة.
بينما غلَبَ اليهودُ المسلمين بعد عقوبتهم بأيديهم في صدر الإسلام، وأمدَّ الله اليهود بأموال وبنين وجعلهم أكثر منا أنصاراً في العالم، ونفيراً بمساعدة الدول الكبرى. وهاهم يفسدون في الأرض ويستعلون علينا وعلى الشعوب. وهاهم مجاهدونا بدؤوا يوجهون إليهم ضربات تسئ وجوههم.
ومما يدل على ذلك أيضاً أن مراجعة تاريخ اليهود من بعد موسى (عليه السلام) تدل على أنهم قد تحقق منهم الإفساد في تاريخهم وحاضرهم، ولكن علوهم الموعود لم يتحقق على أيِّ شعب إلا في عصرنا الحاضر، فهو العلو الوحيد الموعود، الذي تأتي على أثره العقوبة الموعودة بتتبيرهم!
وهو أمر واضح لكل ناظر في خلاصة تاريخهم التي سنذكرها.
الوعد الإلهي بالتسليط الدائم عليهم
قال الله (عزَّ وجلَّ):
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). (سورة الأعراف:167 - 168).
معنى الآيتين الشريفتين: أنه تعالى أعلن وقضى بأنه سيسلط على اليهود من يعاقبهم ويعذبهم إلى يوم القيامة، فهو سريع العقوبة وهو الغفور الرحيم. ومن
عقوبته لهم أن شتتهم في الأرض جماعات جماعات، منهم الصالح ومنه الطالح، وامتحنهم بالخير والشر، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى الهدى.
ونجد تصديق هذا الوعد الإلهي بمعاقبة اليهود في كل أدوار تاريخهم ما عدا فترات حكم الأنبياء موسى ويوشع وداود وسليمان (عليهما السلام)، فقد سلط عليهم أنواعاً من الأقوام والشعوب، وساموهم سوء العذاب.
قد يقال: نعم لقد تسلط عليه ملوك المصريين والبابليين واليونان والفرس والرومان وغيرهم فساموهم سوء العذاب، ولكن المسلمين لم يسومونهم سوء العذاب، بل اكتفوا بأن قضوا على قوتهم العسكرية، ثم قبلوا منهم أن يعيشوا في ظل الدولة الإسلامية، ويتمتعوا بحريتهم وحقوقهم ضمن قوانين الإسلام، ويعطوا الجزية.
والجواب: أن سومهم سوء العذاب لا يعني استمرار قتلهم ونفيهم وسجنهم كما كانت تفعل بهم أكثر الدول التي تسلطت عليهم قبل الإسلام. بل تعني إخضاعهم عسكرياً وسياسياً لسلطة من يسلطه الله عليهم.
والمسلمون وإن كانوا أرحم من غيرهم في معاقبة اليهود وتعذيبهم، ولكنه يصدق عليهم أنهم تسلطوا على اليهود وساموهم سوء العذاب.
وقد يقال: نعم، إن تاريخ اليهود يشهد بتطبيق هذا الوعد الإلهي عليهم، ولكن قد مضى عليهم في عصرنا الحاضر قرن من الزمان أو نصف قرن على الأقل، ولم يتسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب، بل مضى عليهم أكثر من نصف قرن من سنة 1936 م. وهم يسومون المسلمين في فلسطين وفي غيرها سوء العذاب، فكيف نفسر ذلك؟
الجواب: أن هذه الفترة من حياة اليهود مستثناة، لأنها فترة رد الكرة، ومرحلة
العلو الكبير الموعود لهم بقوله تعالى في سورة الإسراء: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) (سورة الإسراء:6) فتكون خارجة تخصصاً عن عموم الوعد بالتسليط عليهم، حتى يجئ وعد العقوبة الثانية على يد المسلمين أيضاً.
وقد وردت الأحاديث الشريفة عن الأئمة (عليهم السلام) بأن هذا الوعد الإلهي قد انطبق عليهم أيضاً على أيدي المسلمين.
فقد نقل صاحب مجمع البيان في تفسير هذه الآية إجماع المفسرين على ذلك فقال: (والمعنيُّ به أمة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) عند جميع المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر). أي الإمام الباقر (عليه السلام).
ورواه القمي في تفسيره عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) أيضاً.
الوعد الإلهي بإطفاء نار اليهود
قال الله (عزَّ وجلَّ):
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). (سورة المائدة:64)
وهو وعد إلهي بإطفاء نار الحروب التي يوقدونها، سواء كانوا طرفاً مباشراً فيها أو حركوا لها الآخرين. وهو وعد لا استثناء فيه لأنه بلفظ: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا).
والتاريخ البعيد والقريب يشهد بأنهم كانوا وراء إشعال عدد كبير من الفتن والحروب، ولكن الله تعالى حقق وعده باللطف بالمسلمين والبشرية، وأبطل كيد اليهود وأحبط خططهم، وأطفأ نارهم.
ولعل أكبر نار وفتنة أوقدوها على المسلمين والعالم، نار الحرب الفعلية التي حركوا لها الغرب والشرق، وكانوا طرفاً مباشراً فيها في فلسطين، وطرفاً غير مباشر في أكثر بلاد العالم. ولم يبق إلا أن يتحقق الوعد الإلهي بإطفائها.
ويفهم من الآية الشريفة أن عدوانهم وصراعاتهم الداخلية أحد أبواب اللطف الإلهي لإطفاء نارهم، بقرينة ذكر إطفاء النار في الآية بعدها وكأنه متفرع عليها: (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). (المائدة:64)
أما الأحاديث الشريفة عن دورهم في عصر الظهور:
فمنها، ما يتعلق بتجمعهم في فلسطين قبل المعركة القاضية عليهم تفسيراً لقوله تعالى: (وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَابِكُمْ لَفِيفاً) (سورة الإسراء:104)، أي جئنا بكم من كل ناحية جميعاً، كما في تفسير نور الثقلين.
ومن ذلك، الحديث الشريف عن مجيئهم وغزوهم لعكا، فعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (هل سمعتم بمدينة جانب منها في البحر؟ قالوا نعم. قال لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق). (مستدرك الحاكم:4/476). وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (لأبنين بمصر منبراً، ولأنقضن دمشق حجراً حجراً، ولأخرجن اليهود من كل كور العرب، ولأسوقن العرب بعصاي هذه.
فقال الراوي وهو عباية الأسدي: قلت له يا أمير المؤمنين كأنك تخبر أنك تحيا بعدما تموت؟ فقال: هيهات يا عباية ذهبت غير مذهب. يفعله رجل مني، أي المهدي (عليه السلام)). (البحار:53 /60).
وهذا يدل على أن اليهود يتسلطون أو يتواجدون في كثير من بلاد العرب. وسوف نذكر معركة المهدي (عليه السلام) مع السفياني ومعهم، في أحداث بلاد الشام وأحداث حركة الظهور.
ومنها، حديث كشفهم للهيكل. فقد ورد في تعداد علامات الظهور عبارة: (وكشف الهيكل)، الذي يبدو أنه كشف هيكل سليمان (عليه السلام).
فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ولذلك آيات وعلامات: أولهن إحصار الكوفة بالرصد والقذف. وتخريق الزوايا في سكك الكوفة. وتعطيل المساجد أربعين ليلة. وكشف الهيكل وخفق رايات تهتز حول المسجد الأكبر، القاتل والمقتول في النار). (البحار:52/273).
ويحتمل أن يكون الهيكل أثراً تاريخياً غير هيكل سليمان (عليه السلام)، أو في محل آخر غير القدس، حيث ورد ذكره بصيغة (كشف الهيكل) بنحو مطلق، ولم يذكر من يكشفه.
والفقرات الأولى من الرواية تتحدث عن حالة حرب في الكوفة، التي يرد ذكرها أحياناً بمعنى العراق، وقد تكون هنا بمعنى مدينة الكوفة. وحصارها وقذفها واتخاذ المتاريس في زوايا شوارعها.
أما الرايات المتصارعة حول المسجد الحرام، فهي تشير إلى صراع القبائل في الحجاز على الحكم قبيل ظهور المهدي (عليه السلام)، وفيه أحاديث كثيرة.
ومنها، الأحاديث التي تعين القوم الذين يسلطهم الله تعالى عليهم بعد إفسادهم وعلوهم في العالم. وقد تقدم بعضها في تفسير الآيات الشريفة، ويأتي ذكر بعضها في الحديث عن إيران وشخصياتها في عصر الظهور، من قبيل حديث الرايات السود المستفيض: (تخرج من خراسان راياتٌ سودٌ فلا يردها شيء حتى
تنصب في إيلياء). وغيره.
ومنها، أحاديث استخراج المهدي (عليه السلام) للتوراة الأصلية من غار بأنطاكية، وجبل بالشام، وجبل بفلسطين، ومن بحيرة طبرية، ومحاجته اليهود بها. فعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (يستخرج التوراة والإنجيل من أرض يقال لها أنطاكية) (البحار:51/25)
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (يستخرج تابوت السكينة من غار بأنطاكية، وأسفار التوراة من جبل بالشام يحاج بها اليهود فيسلم كثير منهم). (منتخب الأثر ص 309)
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (يظهر على يديه تابوت السكينة من بحيرة طبرية، يحمل فيوضع بين يديه ببيت المقدس فإذا نظرت إليه اليهود أسلمت إلا قليلاً منهم) (الملاحم والفتن ص57)
وتابوت السكينة هو المذكور في قوله تعالى:
(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (سورة البقرة: 247)
وقد ورد أن هذا الصندوق الذي فيه مواريث الأنبياء (عليهم السلام) كان آية وعلامة لبني إسرائيل على إمامة من يكون عنده، وأن الملائكة جاءت به تحمله بين جموع بني إسرائيل حتى وضعته أمام طالوت (عليه السلام)، ثم سلمه طالوت لداود، وداود لسليمان، وسليمان لوصيه آصف بن برخيا، على نبينا وآله وعليهم السلام. ثم فقده بنو إسرائيل بعد وصي سليمان (عليه السلام) عندما أطاعوا غيره.
ومعنى: (فيسلم كثير منهم) أو (أسلمت إلا قليلاً منهم) من الذين يرون تابوت السكينة، أو الذين يحاجهم المهدي (عليه السلام) بنسخ التوراة الأصلية، أو من الذين يبقيهم المهدي (عليه السلام) في فلسطين بعد تحريرها وهزيمتهم.
وفي رواية أخرى أنه يسلم له من اليهود ثلاثون ألفاً، وهو عدد قليل بالنسبة إلى مجموعهم.
ومنها، أحاديث معارك الإمام المهدي (عليه السلام) وأصحابه مع اليهود، كالحديث الذي تقدم عن إخراج المهدي (عليه السلام) لليهود من جزيرة العرب، ولا يكون ذلك إلا بالانتصار عليهم وطردهم من فلسطين، فقد روت مصادر السنة والشيعة أحاديث معركة المهدي (عليه السلام) الكبرى وأن طرفها المباشر يكون السفياني وخلفه اليهود والروم، ويمتد محورها من أنطاكية إلى عكا، أي على طول الساحل السوري اللبناني الفلسطيني، ثم إلى طبرية ودمشق والقدس. وفيها تحصل هزيمتهم الكبرى الموعودة: حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم هذا يهودي فاقتله.. وسيأتي ذكرها في أحداث حركة ظهور المهدي أرواحنا فداه.
ومنها، أحاديث معركة مرج عكا، وقد تكون جزءً من المعركة الكبرى المتقدمة، ولكن المرجح أنها جزء من المعركة الثانية التي يخوضها المهدي (عليه السلام) مع الغربيين ومن يأتي معهم من اليهود بعد سنتين أو ثلاث سنوات من فتح فلسطين وهزيمة اليهود والغربيين.
فقد ذكرت الأحاديث أن المهدي (عليه السلام) يعقد بعدها اتفاقية هدنة وعدم اعتداء مع الروم أي الغربيين مدتها سبع سنين أو عشر سنين، ويبدو أن عيسى (عليه السلام) يكون الوسيط فيها، ثم يغدر الروم وينقضونها بعد سنتين أو ثلاثة، ويأتون ثمانين فرقة كل فرقة اثنا عشر ألفاً، وتكون هذه المعركة الكبرى التي يقتل فيها كثير من أعداء الله تعالى، وقد وصفت بأنها الملحمة العظمى، ومأدبة مرج عكا، أي
مأدبة سباع الأرض وطيور السماء من لحوم الجبارين! فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يفتح المدينة الرومية بالتكبير مع سبعين ألفاً من المسلمين يشهدون الملحمة العظمى مأدبة الله بمرج عكا). (بشارة الإسلام ص 297).
ومنها، أحاديث تدل على موقع عكا العسكري في عهد المهدي (عليه السلام)، وأنه يجعلها قاعدة بحرية لفتح أوربا، فقد ورد أنه (عليه السلام) (يبني أربع مئة سفينة في ساحل عكا. ويتوجه إلى بلاد الروم فيفتح رومية مع أصحابه). (الزام الناصب ص 224).
وسيأتي ذكر ذلك في أحداث حركة ظهوره (عليه السلام).
خلاصة تاريخ اليهود
نورد في هذه الخلاصة الحالة العامة لليهود من زمن موسى (عليه السلام) الى زمن نبينا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقد اعتمدنا فيها على كتاب (معجم الكتاب المقدس) الصادر عن مجمع الكنائس للشرق الأدنى، وكتاب (تاريخ اليهود من أسفارهم لمحمد عزت دروزة). وينقسم تاريخ اليهود في هذه المدة إلى عشرة عهود:
1 - عهد موسى ويوشع (عليهما السلام) 1270 ق. م 1130 ق. م
2 - عهد القضاة 1130 ق. م 1025 ق. م
3 - عهد داود وسليمان (عليهما السلام) 1025 ق. م 931 ق. م
4 - عهد الإنقسام والصراع الداخلي 931 ق. م 859 ق. م
5 - عهد السيطرة الأشورية 859 ق. م 612 ق. م
6 - عهد السيطرة البابلية 597 ق. م 539 ق. م
7 - عهد السيطرة الفارسية 539 ق. م 331 ق. م
8 - عهد السيطرة اليونانية 331 ق. م 64 ق. م
9 - عهد السيطرة الرومانية 64 ق. م 638 م
10 - عهد السيطرة الإسلامية 638. م 1925. م
عهد موسى ويوشع
عاش النبي موسى (عليه السلام) مئة وعشرين سنة، منها نحو ثلاثين سنة أول عمره الشريف في قصر فرعون مصر. ونحو عشر سنوات عند النبي شعيب (عليه السلام)، في قادش برنيع الواقعة في آخر سيناء من جهة فلسطين، قرب وادي العربة.
وتذكر التوراة الموجودة أن عدد بني إسرائيل الذين خرجوا معه (عليه السلام) ست مئة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد. (سفر الخروج ص12: 37، وسفر العدد ص 33:36) ويقدرهم بعض الباحثين الغربيين بستة آلاف نسمة.
ويرجح المؤرخون أن الخروج من مصر حدث في مطلع القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حدود1230 ق. م. على عهد الفرعون منفتاح.
وفي الجبل عند قادش توفي موسى (عليه السلام) فدفنه وصيه يوشع بن نون (عليه السلام)، وأخفى قبره. وقد تحمل من بني إسرائيل أنواع الأذى في حياته وبعد وفاته!
تقول توراتهم عنه وعن هارون (عليه السلام): (كلم الرب موسى قائلاً: مت في الجبل كما مات أخوك هارون في جبل هور. لأنكما خنتماني. عند ماء برية مريبة قادش في برية سين إذ لم تقدساني. فإنك تنظر الأرض من قبالتها ولكنك لا تدخل إلى هناك إلى الأرض التي أنا أعطيتها لبني إسرائيل) (سفر التثنية ص32: 5 - 53)!!
وتقول: (يوشع بن نون هو يدخل إلى هناك). (سفر التثنية، ص1: 38).
وتولى قيادة بني إسرائيل بعد موسى وصيه النبي يوشع (عليه السلام)، فسار بهم إلى الضفة الغربية لنهر الأردن وبدأ بمدينة أريحا وفتح معها 31 مملكة صغيرة الواحدة منها عبارة عن مدينة أو بلدة قد يتبعها قرى زراعية. وكان السكان من
الوثنيين الكنعانيين. وقسم المنطقة على أسباط بني إسرائيل المتحاسدين!
وقد ذكرت الإصحاحات 15إلى19 من سفر يوشع أسماء مدن وقرى المنطقة، مئتين وستة عشر مدينة، حسب تعبيرها.
وتوفي يوشع (عليه السلام) عن عمر قارب مئة وعشر سنوات، حوالي1130ق.م.
عهد القضاة أو الخلفاء وسيطرة الدول المحلية عليهم
انتقلت قيادة بني إسرائيل بعد يوشع (عليه السلام) إلى القضاة من قبائل اليهود، وهم أشبه بالخلفاء من قبائل قريش، وحكم منهم خمسة عشر قاضياً.
وتميز عهدهم بأمرين سنراهما مرافقين لبني إسرائيل دائما هما: انحرافهم عن خط الأنبياء (عليهم السلام)، وتسليط الله تعالى عليهم من يسومهم سوء العذاب، كما ذكر سبحانه في القرآن.
يتحدث سفر القضاة في الإصحاح الثالث والخامس عن انحراف بني إسرائيل بعد يوشع (عليه السلام) فيقول: (سكنوا في وسط الكنعانيين والحيثيين والأموريين والفرزيين والحيويين واليبوسيين، واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا لبنيهم، وعبدوا آلهتهم).
ويذكر في الإصحاح:3:8 أن أول من تسلط عليهم وأخضعهم كوشان رشتعايم ملك آرام النهرين، مدة ثمان سنين.
ثم هاجمهم بنو عمون والعمالقة واستولوا على مدينة أريحا. قضاة،إصحاح3 - 13.
ثم تسلط عليهم يابين ملك كنعان في حاصور عشر سنين.قضاة،اصحاح4:3.
ثم استعبدهم بنو عمون والفلسطينيون ثمان عشرة سنة. قضاة، اصحاح 1: 8.
ثم نكل بهم الفلسطينيون وتسلطوا عليهم مدة أربعين سنة.قضاة،اصحاح13: 1
وقد امتد حكم القضاة من بعد يوشع (عليه السلام) إلى زمن النبي صموئيل (عليه السلام)، الذي
ذكره الله تعالى في القرآن بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). (سورة البقرة:246)
ويقدر المؤرخون هذه المدة بحوالي قرن، من سنة 1130 ق. م. إلى عهد طالوت وداود (عليهما السلام) 1025 ق. م بينما يفهم من سفر القضاة في التوراة أنها أكثر من ذلك.
عهد داود وسليمان (عليهما السلام)
جعلنا عهد طالوت (شاول) جزءً من عهد داود وسليمان (عليهما السلام)، لأنه كان ملكاً على خط الأنبياء (عليهم السلام) ولم يكن نبياً. ويذكر المؤرخون أنه حكم خمس عشرة سنة 1025 إلى1010 قبل الميلاد، وحكم بعده داود وسليمان (عليهما السلام) من 1010 ق. م. إلى 931 ق. م. سنة وفاة سليمان.
ويلاحظ أن مؤلفي التوراة الموجودة قد أكثروا من ظلمهم وافترائهم على أنبياء الله موسى وداود وسليمان (عليهما السلام)، ورموهم بعظائم التهم الأخلاقية والسياسية والعقائدية! وقد تبعهم في ذلك وزاد عليهم أكثر المؤرخين النصارى الغربيين، ثم تبعهم على ذلك المسلمون أصحاب الثقافة الغربية. صلوات الله على أنبيائه جميعاً، ونبرأ إلى الله ممن اتهمهم بسوء.
لقد أنقذ داود (عليه السلام) بني إسرائيل من الوثنية التي تورطوا فيها، ومن تسلط الوثنيين، ومد نفوذ دولته الإلهية إلى المناطق المجاورة، وعامل الشعوب التي دخلت تحت حكمه بالحسنى، كما وصف الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وأراد داود أن يبني مسجداً في مكان عبادة جده إبراهيم (عليه السلام) في القدس على جبل (المَرِيَّا) وكان المكان بيدراً للحبوب لأحد سكان القدس من اليبوسيين اسمه أرونا، فاشتراه منه بخمسين شاقلاً فضة كما تذكر التوراة الموجودة (سفر صموئيل الثاني: إصحاح 24: 24، وسفر الأخبار الأول: إصحاح 21: 22، 28) وبنى فيه مسجداً أقام فيه الصلاة، وفي جانب منه كانت تذبح الأضاحي لله تعالى. وورث سليمان ملك أبيه (عليه السلام) وبلغ مكة ما ذكره الله تعالى في قرآنه وسنة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وبنى مسجد أبيه داود وإبراهيم، بناء جديداً فخماً عرف باسم هيكل سليمان.
إن فترة حكم سليمان (عليه السلام) هي فترة استثنائية في تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) جسَّد الله تعالى فيها للعالم نموذجاً للإمكانات الهائلة المتنوعة التي يمكن أن يسخرها لحياتهم إذا هم أقاموا كيانهم السياسي بقيادة الأنبياء وأوصيائهم (عليهم السلام)، ولم يستغلوها في البغي على بعضهم: (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ). (سورة الشورى:27).
وتوفي سليمان (عليه السلام) وهو جالس على كرسيه كما وصف القرآن، ويحدد المؤرخون ذلك بسنة 931 ق. م. وبمجرد وفاته وقع الانحراف في بني إسرائيل والانقسام في الدولة، وسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب.
تقول التوراة الموجودة في سفر الملوك الأول: إصحاح11: 1 - 13، بعد أن تفتري على سليمان (عليه السلام) بأنه ترك عبادة الله تعالى وعبد الأصنام: (وقال لسليمان: من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها، فإني أمزق المملكة عنك تمزيقاً).
عهد الانقسام والصراع الداخلي
وقد اشتد صراعهم الداخي حتى استعانوا على بعضهم بالقوى الوثنية المتبقية
حولهم، وبفراعنة مصر وآشور وبابل.
فقد اجتمع اليهود بعد موت سليمان (عليه السلام) في شكيم (نابلس) وبايعت أكثريتهم يربعام بن نباط الذي كان عدواً لسليمان في حياته، وهرب منه إلى فرعون مصر، فلما توفي سليمان رجع ورحب به اليهود، وأقام في الضفة الغربية كياناً باسم دولة إسرائيل وجعل عاصمته شكيم أو السامرة، وبايعت قلة منهم رحبعام بن سليمان وجعل عاصمته القدس، وعرفت دولته باسم يهوذا.
أما وصي سليمان آصف بن برخيا الذي يصفه الله تعالى بأنه (عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) فلم يكن نصيبه من بني إسرائيل إلا التكذيب!
وتذكر التوراة أن الكفر وعبادة الأصنام كان علنياً في أتباع يربعام وأنه: (صنع عجلين من ذهب ووضع أحدهما في بيت إيل والثاني في دان وجعل عندهما مذابح وقال لهم: هذه آلهتكم التي أصعدتكم من مصر فاذبحوا عندها ولا تصعدوا إلى أورشليم، فاستجاب له الشعب)! (سفر الملوك إصحاح12: 26 - 33).
وإلى جانب العجلين أمر يربعام بعبادة آلهة أخرى منها عشتروت إلهة الصيدونيين وكموش إله الموآبيين، ومكلوم إله العمونيين! (سفر أخبار الملوك الأول، إصحاح 12: 31 وأخبار الملوك الثاني، إصحاح 11: 13 - 15 وإصحاح 13: 9).
وبعد ثلاث سنوات سارت مملكة يهوذا في ذات الطريق فعبدت الأصنام! (سفر أخبار الملوك الأول، إصحاح14: 21 - 24 والملوك الثاني، إصحاح11: 13 - 17 وإصحاح 12).
وقد اغتنم شيشق فرعون مصر هذه الفرصة وقام في سنة 926 ق. م. بحملة لمساعدة يربعام، والقضاء على دولة ابن سليمان وجماعته، فاحتل القدس: (وأخذ خزائن بيت الرب وبيت الملك، وأخذ كل شيء، وأخذ أتراس الذهب التي عملها سليمان). (سفر أخبار الملوك، إصحاح14: 25 - 26).
ويبدو أن ظروف فرعون مصر لم تساعده لفرض سيطرته المستمرة أو سيطرة
حليفه يربعام. فبعد انسحاب شيشق استعادت المملكة الصغيرة شيئاً من كيانها، ولكن الحروب استمرت مع يربعام.
كما استغل الأراميون ضعف الدولتين فهاجموا مملكة يهوذا وساقوا رؤساءهم سبايا إلى عاصمتهم دمشق، وفرضوا عليهم الجزية وذلك في عصر الملك الأرامي بن هدد: 879 - 843 ق. م. (سفر الملوك الثاني إصحاح 13: 3 - 13).
ثم فرضوا الجزية والحماية على مملكة يربعام في زمن مملكة آخاب بن عومري 874 ق. م 853 ق. م.
وتذكر التوراة أيضاً غزو الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشسيين لمملكة يهوذا في زمن الملك يهورام، حيث احتلوا القدس واستولوا على الأموال في بيت الملك وسبوا أبناءه ونساءه! (الملوك الثاني ص21: 16 - 17).
و تذكر أن الجيش الأرامي غزا بيت المقدس وأهلك كل الرؤساء وأخذ جميع الخزائن وقدمها إلى حزائيل ملك الأراميين)! (سفر الملوك الثاني، إصحاح 24: 3 وإصحاح 12 - 17 - 18).
وكذلك هجم يوآش ملك إسرائيل على يهوذا وهدم سورها، وأخذ كل الذهب والفضة وجميع الآنية الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك). (سفر الملوك الثاني إصحاح 14: 11 - 14 وإصحاح 25: 21 - 24).
وقد استمرت هذه الحالة من الصراع فيما بينهم، وتسلط الممالك المجاورة عليهم إلى الاحتلال الآشوري!!
عهد السيطرة الآشورية
بدأت السيطرة الآشورية على اليهود بحملة شلمنصر الثالث ملك الآشوريين859 ق.م. - 824 ق. م. على مملكة الأراميين ومملكة إسرائيل حيث أخضع المنطقة
لحكمه وحكم من بعده من الآشوريين، ويبدو أن مملكة يهوذا كانت محافظة على طاعة الآشوريين بعكس مملكة إسرائيل، لأن التوراة تذكر طلب ملكها آحاز بن يوثام من تغلث فلاسر ملك آشور القيام بحملة على مملكة إسرائيل والأراميين فاستجاب له الأخير وقام بحملة في سنة 732 ق.م، وتابع مهمته خلفه شلمنصر الخامس ولكنه توفي أثناء حصاره لعاصمتها شكيم (السامرة) فأكمل خلفه سرجون الثاني احتلال السامرة، وقضى على هذه المملكة نهائياً.
وقد استعمل الآشوريين في القضاء على مملكة إسرائيل خطة الإجلاء لليهود، فقد سباهم تغلث فلا سر إلى بلاده، وأسكن مكانهم آشوريين، كما وورد في سفر أخبار الملوك الثاني إصحاح15: 29. وقام بعده الملك فقح بإكمال الخطة فسبى سبط منسي وغيره، كما في أخبار الأيام، إصحاح 5: 29. وسرجون الثاني الذي أجلى منهم حوالي ثلاثين ألفاً إلى حران وضفة الخابور وميديا، وأسكن مكانهم الأراميين. الملوك الثاني إصحاح17: 5، 6 و18.
ثم خرجت مملكة يهوذا عن طاعة الآشوريين في عهد ملكها حزقيا الذي قام على ما يبدو بالإتصال بالمصريين، فغضب عليه سنحاريب ملك آشور وقام بآخر حملة آشورية لإخضاع مملكة يهوذا حوالي سنة701 ق.م وأخضع المنطقة واحتل القدس ودفع له حزقيا (جميع الفضة الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك)! (سفر أخبار الملوك الثاني، إصحاح 18: 13 - 15).
وتذكر التوراة الموجودة غير من تقدم من ملوك آشور: أسرحدون، وآشور بانيبال آخر ملوكهم، وأنهما نقلا أقواماً من آشور وأسكنوهم في السامرة. سفر عزرا، إصحاح4: 10.
عهد السيطرة البابلية
سقطت عاصمة الآشوريين نينوى سنة612 ق.م. على يد الماذيين والبابليين (الكلدانيين) فتقاسموا ممتلكاتها، وكان العراق وبلاد الشام وفلسطين من حصة البابليين، وأشهر ملوكهم نبوخذ نصر الذي قام بحملتين لإخضاع بلاد الشام وفلسطين، الأولى سنة 597 ق. م والثانية سنة 586 ق.م.
في الحملة الأولى، حاصر القدس وفتحها وأخذ خزائن بيت الملك، وسبى عدداً كبيراً من اليهود من جملتهم الملك يهوياكين ورجاله، وعين صدقيا عم يهوياكين على من بقي من اليهود، وأسكن المسبيين في منطقة نيبور عند نهر الخابور ببابل) (أخبار الملوك الثاني، إصحاح 24: 1 - 6).
وجاءت الحملة الثانية بسبب صراع النفوذ بين نبوخذ نصر وفرعون مصر خوفرا، حيث قام الأخير بتحريض ملوك بلاد الشام وفلسطين ومنهم صدقيا ملك القدس على التحالف معه ضد البابليين فاستجابوا له، فوجه حملته إلى المنطقة، ولكن نبوخذ نصر سارع بإرسال حملة تمكن بها من هزيمة المصريين واحتلال كافة المنطقة، ودخل الجيش البابلي القدس ودمر الهيكل وأحرقه ونهب خزائنه، وكذلك فعل ببيوت كبار اليهود، وسبى منهم حوالي خمسين ألف شخص، وذبح أولاد صدقيا أمامه، ثم فقأ عينيه وحمله مقيداً مع الأسرى، وقضى بذلك على مملكة يهوذا)! (سفر الملوك الثاني، إصحاح 24: 17 - 20 و25 وسفر الأخبار الثاني إصحاح 36: 11 - 21 وسفر أرميا، إصحاح 39:1 - 4).
عهد السيطرة الفارسية
احتل كورش ملك فارس بلاد بابل وقضى على دولتها سنة 539 ق. م، ومضى
في حملته ففتح بلاد الشام وفلسطين، وسمح لمن أراد من أسرى نبوخذ نصر واليهود الموجودين في بابل بالرجوع إلى القدس، وأعاد إليهم كنوز الهيكل، وسمح لهم بإعادة بنائه، وعين زر بابل حاكماً عليهم). (سفر عزرا إصحاح 6: 3 - 7 وإصحاح 1: 7 - 11).
وبدأ الحاكم اليهودي التابع لكورش ببناء الهيكل، ولكن الأقوام المجاورة توجست من ذلك واشتكت إلى قمبيز خليفة كورش، فأمر بايقاف البناء، ثم سمح لهم دارا الأول فأتموا بناءه سنة 515 ق. م.) (سفر عزرا، إصحاح6:1 - 15).
واستمرت السيطرة الفارسية على اليهود من سنة 539 ق. م - 331 ق. م حكم فيها كورش، وقمبيز، وداريوش الأول (دارا)، وأحشوريوش، وأرتحشستا المعاصر لعزير (عليه السلام)، وحكم بعده عدة ملوك منهم داريوس الثاني وأرتحشست الثاني، والثالث، وكان آخر ملوكهم داريوس الثالث الذي قضى عليه الإسكندر اليوناني.وأكثر هؤلاء الملوك ورد ذكرهم في التوراة الموجودة.
عهد السيطرة اليونانية
زحف الإسكندر المقدوني على مصر وبلاد الشام وفلسطين ففتحها، وهزم الحاميات الفارسية والقوى المحلية التي وقفت في وجهه، ودخل القدس وأخضعها فيما أخضع، ثم اتجه الى ايران فقضى على داريوس الثالث وجيشه في معركة أربيل الحاسمة بشمال العراق، وتابع زحفه فاحتل إيران وغيرها.
وبذلك دخل اليهود تحت السيطرة اليونانية سنة 331 ق. م.
وقد تنازع قادة جيش الإسكندر بعد وفاته على امبراطوريته الكبيرة، وبعد صراع دام عشرين سنة سيطر البطالسة في مصر (نسبة إلى بطليموس) على أكثر أجزاء الدولة، والسلوقيون في سوريا (نسبة إلى سلقس) على أجزاء أخرى،
ودخلت القدس تحت سيطرة البطالسة في سنة 312 ق.م. حتى انتزعها منهم انطيوخوس الثالث السلوقي سنة 198ق.م. ثم غلب عليها البطالسة مرة أخرى حتى الفتح الروماني سنة 64 ق. م.
وذكرت التوراة الموجودة ستة من البطالسة باسم بطليموس الأول والثاني. الخ. وأن الأول دخل أورشليم يوم السبت، وسبى عدداً من اليهود إلى مصر (سفر دانيال، إصحاح 11: 5). كما ذكرت خمسة من السلوقيين باسم انطيوخوس الأول والثاني. الخ. وأن الرابع منهم (175ق. م.163 ق. م.) زحف على القدس ونهب جميع النفائس من المعبد، وبعد سنتين ضربها ضربة عظيمة ونهبها وهدم بيوتها وأسوارها، وسبى نساءها وأطفالها، ونصب تمثالاً لإلهه زفس في الهيكل وأمر اليهود بعبادته فاستجاب له كثير منهم. بينما لجأ بعضهم إلى المخابئ والمغاور، فكان ذلك سبب ثورة اليهود المكابيين سنة 168ق.م (سفر المكابيين ص1:41 - 53).
وهذه الثورة التي يفتخر بها اليهود كثيراً أشبه بحرب عصابات قام بها متدينو اليهود ضد اليونانيين الوثنيين، وقد حققت انتصارات محدودة في فترات مختلفة، واستمرت حتى جاءت السيطرة الرومانية.
عهد السيطرة الرومانية
في سنة64ق.م. احتل القائد الروماني بومبي سورية وضمها إلى إمبراطورية روما، وفي السنة الثانية احتل القدس وجعلها تابعة لحاكم سوريا الروماني. وفي سنة 39 ق.م. عين القيصر أغسطس هيرودس الأدومي ملكا على اليهود، وبدأ ببناء الهيكل بناء جديداً واسعاً مزيناً، وتوفي سنة4 ق.م. وقد ذكره إنجيل متى ص2.
كما ذكرت الأناجيل ابنه هيرودس الثاني الذي حكم من سنة 4 ق.م. إلى سنة
39 م. والذي ولد في زمانه المسيح (عليه السلام)، والذي قتل يحيى بن زكريا (عليهما السلام) وأهدى رأسه على طبق من ذهب إلى سالومة إحدى بغايا بني إسرائيل! (إنجيل مرقس 6: 16 - 28).
وتذكر الأناجيل والمؤرخون الإضطرابات التي وقعت في القدس وفلسطين على عهد نيرون54 م - 68 م والتي كانت بين اليهود والرومان، وبين اليهود أنفسهم، فقام القيصر فسبسيان بتعيين ابنه تيطس سنة 70 م. ملكاً على المنطقة وقام تيطس بحملة على القدس، فتحصن فيها اليهود حتى نفدت مؤنهم وضعفوا، واخترق تيطس السور واحتل المدينة وقتل الألوف من اليهود، ودمر بيوتهم ودمر الهيكل وأحرقه وأزاله من الوجود تماماً، بحيث لم يعد يهتدي الناس إلى موضعه، وساق الأحياء الباقين إلى روما.
ويذكر المسعودي في كتابه التنبيه والأشراف ص110 أن عدد القتلى في هذه الحملة بلغ من اليهود والمسيحيين ثلاثة آلاف ألف، أي ثلاثة ملايين! والظاهر أن فيه مبالغة.
وقد اشتدت قبضة الرومان على اليهود بعد هذه الحوادث، ثم بلغت ذروتها عندما تبنى قسطنطين ومن بعده من القياصرة الديانة المسيحية فنكلوا باليهود ولهذا استبشر اليهود بغزو كسرى أبرويز لبلاد الشام وفلسطين وانتصاره على الروم سنة 620 م. في عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وفرح بذلك إخوانهم يهود الحجاز واستفتحوا على المسلمين، فنزل قوله تعالى:
(أ. ل. م. غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهٍ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). (سورة الروم:1 - 5)
ويذكر المؤرخون أن اليهود اشتروا من الفرس عند انتصارهم عدداً كبيراً من الأسرى النصارى الروم بلغ تسعين ألفاً، وذبحوهم!
وعندما انتصر هرقل على الفرس بعد بضع سنين نكَّل باليهود وطرد من بقي في القدس منهم، وأصبحت القدس عند النصارى محرمة اليهود، ولذلك اشترطوا على الخليفة عمر بن الخطاب أن لا يسكن فيها يهودي فأجابهم إلى طلبهم، وكتب ذلك في عهد الصلح لهم كما ذكر الطبري في تاريخه:3/105 وكان ذلك في سنة 638 م.، أي سنة 17 هجرية حيث أصبحت القدس وفلسطين جزءً من الدولة الإسلامية إلى سنة 1343 هـ. 1925 م. عندما سقطت الخلافة العثمانية بأيدي الغربيين.
هذه الخلاصة لتاريخ اليهود تكشف لنا أموراً عديدة، منها تفسير الآيات الشريفة حولهم في سورة الإسراء. وحاصل تفسيرها: أن المقصود بقوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً)، مرة قبل بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومرة بعدها، فهو التقسيم الوحيد المناسب لإفسادهم الكثير المليء به تاريخهم.
وأن المقصود بقوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ): هم المسلمون، حيث سلطهم الله تعالى عليهم في صدر الإسلام فجاسوا خلال ديارهم، ثم دخلوا المسجد الأقصى.
ثم رد الكرة لليهود على المسلمين عندما ابتعدوا عن الإسلام، وأمدهم بأموال وبنين، وجعلهم أكثر نفيراً وأنصاراً علينا في العالم.
ثم يسلطنا الله تعالى عليهم في المرة الثانية في حركة التمهيد للمهدي (عليه السلام) وحركة ظهوره.
ولا نجد في تاريخ اليهود قوماً سلطهم الله عليهم، ثم رد الكرة لليهود عليهم، غير المسلمين.
أما علو اليهود الموعود على الشعوب والأمم الأخرى، فهو مرة واحدة لا مرتين، وهو مقارن لإفسادهم الثاني، أو ناتج عنه.
ولا نجد شيئاً من هذا العلو في أي فترة من تاريخهم إلا في حالتهم الحاضرة بعد الحرب العالمية الثانية.
فاليهود اليوم بحكم نص القرآن في مرحلة الإفساد الثاني والعلو الكبير.
ونحن في بداية تسليط الله تعالى لنا عليهم، في مرحلة إساءة وجوههم ومقاومتهم.. حتى يفتح الله تعالى وندخل المسجد قبل ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) أو معه، كما دخله أسلافنا أول مرة، ونُتَبِّرَ علوهم في العالم تتبيراً، أي نسحقه سحقاً.
أما قوله تعالى: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً) (سورة الاسراء:8) فيدل على أن اليهود يبقى منهم عدد كثير في العالم بعد إزالة إسرائيل واخراج من لم يسلم منهم من بلاد العرب على يد المهدي (عليه السلام) وأنهم قد يعودون إلى الإفساد وذلك في حركة الدجال الأعور كما تذكر الروايات الشريفة فيقضي عليهم الإمام المهدي (عليه السلام) والمسلمون، ويجعل الله تعالى جهنم حصيراً لمن لم يقتل منهم، ويحصر المسلمون من بقي منهم ويمنعونهم من التحرك والإفساد.
وردت أحاديث كثيرة عن العرب وأوضاعهم وحكامهم في عصر ظهور المهدي (عليه السلام)، وفي حركة ظهوره.
منها، أحاديث الدولة الممهدة للمهدي في اليمن، التي وردت فيها أحاديث مدح مطلقة. وسنفردها بالذكر إن شاء الله تعالى.
ومنها، أحاديث تحرك المصريين التي يفهم منها مدحهم، خاصة ما ذكر منها أن من أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام) ووزرائه النجباء من مصر.
وما دل منها على أن مصر تكون منبراً للمهدي (عليه السلام)، أي مركزاً فكرياً وإعلامياً عالمياً للإسلام. وأن المهدي يدخل مصر ويخطب على منبرها.
لذا يمكن عد حركة المصريين في عداد الحركات الممهدة لظهور المهدي (عليه السلام)، والمشاركة في حركة ظهوره.. وسيأتي ذكرها مفردة أيضاً.
ومنها، أحاديث (عصائب أهل العراق) أي مجموعاتهم (وأبدال أهل الشام) أي مؤمنوهم الممتازون، الذين سيأتي ذكرهم في أصحاب المهدي (عليه السلام).
ومنها، أحاديث المغاربة، التي تتحدث عن أدوار متعددة لقوات عسكرية مغربية في مصر وسوريا والأردن العراق، ورواياتها مختلطة بروايات القوات
الغربية وبحركة الفاطميين، ويفهم من الأحاديث ذم هذه القوات.
كما وردت في مصادر الشيعة والسنة أحاديث في ذم حكام العرب بشكل عام، منها الحديث المستفيض: (ويل للعرب من شر قد اقترب، أو ويل لطغاة العرب من شر قد اقترب) فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:
(والله لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد، على العرب شديد. ويلٌ لطغاة العرب من شر قد اقترب) البحار: 52/ 11
وفي مستدرك الحاكم:4/: 239: (ويلٌ للعرب من شر قد اقترب).
والمقصود بالكتاب الجديد: القرآن الذي يكون مهجوراً فيبعثه المهدي (عليه السلام) من جديد.
وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (إذا قام القائم دعا الناس إلى الإسلام جديدا، وهداهم إلى أمر قد دثر فضل عنه الجمهور. وإنما سمي القائم مهديا لأنه يهدي إلى أمر مضلول. وسمي بالقائم لقيامه بالحق) (الإرشاد للمفيد ص 364)
والسبب في أن الإسلام يكون صعباً شديداً على الحكام وكثير من الناس أنهم تعودوا على البعد عنه، فهم يستصعبون العودة إليه ومبايعة المهدي (عليه السلام) على العمل به. وقد يكون المقصود بالكتاب الجديد القرآن الجديد بترتيب سوره وآياته، فقد ورد أن نسخته محفوظة للمهدي (عليه السلام) مع مواريث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأنبياء (عليهم السلام) وأنه لا يختلف عن القرآن الذي في أيدينا حتى في زيادة حرف أو نقصانه، ولكنه يختلف في ترتيب السور والآيات، وأنه بإملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وخط علي (عليه السلام). ولا مانع أن تكون جدة القرآن بالمعنيين معاً.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (ويل لطغاة العرب من شر قد اقترب. فقلت: جعلت فداك كم مع القائم من العرب؟ قال: شيء يسير. فقلت والله إن من يصف هذا الأمر
منهم لكثير، فقال: لا بد للناس أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا ويخرج من الغربال خلق كثير) (البحار: 52/214).
ومنها، أحاديث الاختلافات بين العرب في عصر الظهور، التي تصل إلى الحرب بين بعضهم، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال:
(لا يقوم القائم إلا على خوف شديد وفتنة وبلاء يصيب الناس، وطاعون قبل ذلك، ثم سيف قاطع بين العرب، واختلاف بين الناس، وتشتت في دينهم، وتغير في حالهم. حتى يتمنى المتمني الموت صباحاً ومساءً من عظيم ما يرى من كَلَب الناس وأكل بعضهم بعضاً) (البحار:52/231)
ومن هذا القبيل أحاديث خلع العرب أعنتها، أي الإنفلات من العقائد والقيم، وإخراج كل ذي صيصية صيصيته، أي إظهار كل صاحب فكرة فكرته والدعوة إليها.
ومنها، أحاديث الاختلاف بين العرب والعجم أي الإيرانيين، أو بين أمراء العرب والعجم وأنه اختلاف يستمر إلى ظهور المهدي (عليه السلام)، ما عدا ثورة اليماني الممهدة للمهدي (عليه السلام)، وما عدا الحركات الإسلامية التي تكون مؤيدة للممهدين وللمهدي (عليه السلام).
ومنها، أحاديث قتال المهدي (عليه السلام) للعرب، وقد ورد منها أحاديث قتاله لبقايا حكومة الحجاز جزئياً بعد تحرير مكة المكرمة، والمدينة المنورة وربما عند تحريرها. ثم معركته مع السفياني في العراق، ومعركته الكبرى معه في فلسطين.
وجاء في بعضها قتاله (عليه السلام) للخوارج عليه في العراق، وإباحته دماء سبعين عشيرة
أو عائلة. ولذلك ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) (إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف) (البحار:52/355).
ومنها، أحاديث الخسف والزلازل، في جزيرة العرب، وفي الشام، وفي بغداد وبابل والبصرة. وخروج نار في الحجاز أو في شرقي الحجاز، تدوم ثلاثة أيام، أو سبعة أيام. وهي من علامات الظهور.
يطلق اسم الشام، وبلاد الشام، والشامات في مصادر التاريخ والحديث الشريف على المنطقة التي تشمل سوريا الفعلية ولبنان، ويسمى لبنان أيضاً بر الشام، وجبل لبنان.
ويشمل اسم الشام أيضاً الأردن، وربما يشمل فلسطين. وإن كان يعبر عن المنطقة كلها ببلاد الشام وفلسطين.
والشام في نفس الوقت اسم لدمشق عاصمة بلاد الشام.
وأحاديث بلاد الشام وأحداثها وشخصياتها في عصر الظهور كثيرة، ومحورها الأساسي حركة السفياني الذي يسيطر على بلاد الشام ويوحدها، ويكون لجيشه دور واسع قرب ظهور المهدي (عليه السلام) وفي حركة ظهوره، حيث يبدأ السفياني بعد تصفية خصومه في بلاد الشام بقتال الترك في معركة قرقيسيا، ثم يدخل العراق.
كما يكون له دور في الحجاز في محاولة قواته مساعدة حكومة الحجاز في القضاء على حركة المهدي (عليه السلام)، حيث تقع في جيشه معجزة الخسف الموعودة، قرب الدينة وهو في طريقه الى مكة.
وأكبر معارك السفياني على الإطلاق معركة فتح فلسطين التي تكون مع المهدي (عليه السلام)، ويكون وراء السفياني فيها اليهود والروم، وتنتهي بهزيمته وقتله، وانتصار المهدي أرواحنا فداه فيفتح فلسطين ويدخل القدس. ونذكر هذه
الأحداث فيما يلي بشيء من التفصيل.
أحداث بلاد الشام قبل خروج السفياني
من السهل نسبياً أن نستخرج من أحاديث الظهور شريط أحداث حركة السفياني من بدايتها إلى هزيمته في معركة فتح القدس.
وفي المقابل يصعب استخراج الأحداث التي تكون قبل السفياني لأن الأحاديث حولها موجزة في الغالب، وفي رواياتها تقديم وتأخير في ترتيب الأحداث. ولكن الحاصل من مجموعها الأمور التالية:
1 - وجود فتنة شاملة للمسلمين، وسيطرة الروم والترك عليهم (لعل المقصود الغربيين والروس).
2 - وجود فتنة خاصة ببلاد الشام، تسبب في أهلها الاختلافات والضعف والضائقة الاقتصادية.
3 - صراع بين فئتين رئيسيتين في بلاد الشام.
4 - حدوث زلزلة في دمشق تسبب هدم غربي مسجدها، وبعض ضواحيها.
5 - صراع ثلاثة زعماء على السلطة في بلاد الشام، الأبقع والأصهب والسفياني، وغلبة السفياني وسيطرته على سوريا والأردن، وتوحيد المنطقة تحت حكمه.
6 - دخول قوات أجنبية إلى بلاد الشام.
أما ظهور اليماني الموعود، فقد ورد أنه مقارن لخروج السفياني أو متقارب معه، وكذلك الخراساني قائد الإيرانيين، كما سيأتي.
فتنة بلاد الشام
ذكرت الأحاديث الشريفة فتنة تكون ببلاد الشام قبل السفياني، وقد تكون نفس الفتنة الغربية والشرقية العامة على المسلمين، التي تقدم الحديث عنها.
فعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (يوشك أهل الشام أن لا يصل إليهم دينار ولا مد. قلنا من أين؟ قال: من قبل الروم. ثم سكت هنيهة ثم قال: يكون في آخر الزمان خليفة يحثي المال حثياً لايعده عداً). (البحار:51/92).
فالسبب في هذه الضائقة الاقتصادية المالية والغذائية (منع الدينار والمد) هم الروم، أي الغربيون.
وعن جابر بن يزيد الجعفي عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) فقال: الجوع عام وخاص. فأما الخاص من الجوع فبالكوفة، يخص الله به أعداء آل محمد فيهلكهم. وأما العام فبالشام،يصيبهم خوف وجوع ما أصابهم قط. أما الجوع فقبل قيام القائم، وأما الخوف فبعد قيام القائم). (البحار:52/229).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لابد أن يكون قدام القائم سنة يجوع فيها الناس، ويصيبهم خوف شديد من القتل، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، فإن ذلك في كتاب لبين، ثم تلا هذه الآية: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البحار:52/229).
ووجود هذه الضائقة في سنة الظهور لايمنع أن تكون موجودة قبلها بمدة، ثم تكون في سنة الظهور أشد مما سبقها، ثم يكون الفرج.
أما مدة الفتنة على بلاد الشام، فتذكر الأحاديث أنها طويلة متمادية، كلما قالوا انقضت تمادت وأنهم (يطلبون منها المخرج فلا يجدونه) (البحار:52/298)،
وتصفها بأنها تدخل كل بيت من بيوت العرب، وكل بيت من بيوت المسلمين، وبأنها: (كلما رتقوها من جانب انفتقت من جانب آخر، أو جاشت من جانب آخر) كما في ص9 و10 من مخطوطة ابن حماد، وغيرها.
بل تسميها بعض الأحاديث صراحة باسم: (فتنة فلسطين)! كما تقدم عن مخطوطة ابن حماد ص 63.
هزة أرضية في بلاد الشام
وتحدد رواياتها بعض أماكنها، ووقتها بأنه عند اختلاف فئتين على السلطة، وتسميها أيضاً (الرجفة والخسف والزلزلة) كالحديث المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال:
(إذا اختلف الرمحان بالشام، لم تنجل إلا عن آية من آيات الله. قيل: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: رجفة تكون بالشام، يهلك فيها أكثر من مائة ألف، يجعلها الله رحمة للمؤمنين وعذاباً على الكافرين. فإذا كان ذلك، فانظروا إلى أصحاب البراذين الشهب المحذوفة، والرايات الصفر، تقبل من المغرب حتى تحل بالشام، وذلك عند الجزع الأكبر والموت الأحمر. فإذا كان ذلك فانظروا خسف قرية من دمشق يقال لها حرستا. فإذا كان ذلك خرج ابن آكلة الاكباد من الوادي اليابس، حتى يستوي على منبر دمشق. فإذا كان ذلك فانتظروا خروج المهدي) (غيبة النعماني: 305).
والبراذين الشهب المحذوفة: وصف لوسائل ركوب المغاربة أو الغربيين بأنها شهباء الألوان، ومقطعة الآذان!
وابن آكلة الأكباد: أي ابن هند زوجة أبي سفيان، لأن السفياني من أولاد معاوية، و(الوادي اليابس) يقع في منطقة حوران عند أذرعات (درعا)، في منطقة الحدود السورية الأردنية.
الصراع على السلطة بين الأصهب والأبقع
عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (فتلك السنة فيها اختلاف كثير في كل أرض من ناحية المغرب، فأول أرض تخرب الشام، يختلفون على ثلاث رايات: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني). (البحار:52/212).
ويبدو أن هذا الزعيم الأبقع أي المبقع الوجه يكون في العاصمة، لأن الرواية تذكر أن ثورة الأصهب تكون من خارج العاصمة أو المركز، فيثور عليه الأصهب فلايستطيع أحدهما أن يحقق نصراً حاسماً على الآخر، فيستغل السفياني هذه الفرصة ويقوم بثورته من خارج العاصمة أيضاً فيكتسحهما معاً.
ومن المحتمل أن يكون الأصهب غير مسلم، لأن بعض الأحاديث وصفته بالعلج، وهو وصف للكفار عادة.
كما يبدو أن المرواني الذي ورد ذكره في مصادر الدرجة الأولى، مثل غيبة النعماني، هو الأبقع نفسه، وليس زعيماً منافساً للسفياني.
أما الإتجاه السياسي للأبقع والأصهب فيظهر من أحاديث ذمها أنهما معاديان للإسلام ومواليان لأعدائه من القوى الكافرة.
وعلى هذا، يكون معنى اختلاف رمحين في بلاد الشام الوارد في الأحاديث هو اختلاف زعيمين يمثلان اتجاهين متنازعين، فقد جاء في الحديث المتقدم عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال الجابر الجعفي (ره):
(إلزم الأرض ولا تحرك يداً ولا رجلاً حتى ترى علامات أذكره لك: اختلاف بني فلان، ومناد ينادي في السماء، ويجيؤكم الصوت من ناحية دمشق بالفرج، وخسف قرية من قرى الشام تسمى الجابية. وستقبل إخوان الترك حتى ينزلوا الجزيرة. وستقبل مارقة الروم حتى ينزلوا الرملة. فتلك السنة فيها اختلاف كثير في كل أرض
من ناحية المغرب، فأول أرض تخرب الشام، يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني).
والمقصود باختلاف بني فلان كما ستعرف في حركة الظهور، اختلاف أسرة حاكمة في الحجاز أو غيره، يظهر على أثره المهدي (عليه السلام).
والصوت الذي يجئ من ناحية دمشق لا بد أن يكون صوت الفتنة وبداية الأحداث، وليس النداء السماوي الموعود في شهر رمضان.
وفي رواية أخرى (ومارقة تمرق من ناحية الترك، ويتبعها هرج الروم).
(البحار:52/237)، فقد عبر عنهم من ناحية الترك، فيحتمل أن يكونوا أتراكاً ويحتمل أن يكونوا أقواماً أخرى كالروس يجيئون من جهة الترك.
يبقى أن نشير إلى رواية وصفت الرايات الثلاث التي تختلف في بلاد الشام بأنها راية حسنية وراية أموية وراية قيسية، وأن السفياني يأتي فيقضي عليها. فقد رواها في البحار عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
(يا سدير إلزم بيتك وكن حلسا من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أن السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك.
قلت: جعلت فداك، هل قبل ذلك شيء؟ قال: نعم، وأشار بيده بثلاث أصابعه إلى الشام وقال: ثلاث رايات، راية حسنية، وراية أموية، وراية قيسية. فبينما هم على ذلك إذ قد خرج السفياني فيحصدهم حصد الزرع، ما رأيت مثله قط).
ويشكل قبول هذه الرواية لأنها تعارض الأحاديث الكثيرة التي تحدد الرايات الثلاث بأنها راية الأبقع والأصهب والسفياني، ولأن الكليني (ره) رواها في الكافي:8/264، إلى قوله (عليه السلام): (ولو على رجلك) فقط، فيحتمل أن يكون آخرها إضافة أو تفسيراً لبعض الرواة اختلط بالأصل.
حركة السفياني
السفياني من الشخصيات البارزة في حركة ظهور المهدي (عليه السلام).
فهو العدو اللدود المباشر للإمام المهدي (عليه السلام)، وإن كان بالحقيقة واجهة للقوى المعادية التي تقف وراءه كما ستعرف.
وقد نصت الأحاديث الشريفة على أن خروجه من الوعد الإلهي المحتوم، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (إن أمر القائم حتم من الله، وأمر السفياني حتم من الله، ولا يكون قائم إلا بسفياني). (البحار:53/182).
وأحاديث السفياني متواترة بالمعنى، وقد يكون بعضها متواتراً بلفظه. وفيما يلي جملة من ملامح شخصيته وحركته وأخباره.
اسمه ونسبه
المتفق عليه بين العلماء أن تسميته بالسفياني نسبة إلى أبي سفيان لأنه من ذريته. كما يسمى ابن آكلة الأكباد نسبة إلى جدته هند زوجة أبي سفيان التي سميت بذلك لأنها حاولت أن تأكل كبد الحمزة سيد الشهداء (رضي الله عنه) بعد شهادته في أحد. فعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال:
(يخرج ابن آكلة الأكباد من الوادي اليابس. وهو رجل ربعة (أي مربوع) وحش الوجه، ضخم الهامة، بوجهه أثر الجدري، إذا رأيته حسبته أعور. اسمه عثمان وأبوه عيينة (عنبسة)، وهو من ولد أبي سفيان، حتى يأتي أرض قرار ومعين فيستوي على منبرها) (البحار:52/205).
وفي حديث آخر أنه من ولد عتبة بن أبي سفيان (البحار: 52/213) وأولاد أبي سفيان خمسة: عتبة ومعاوية ويزيد وعنبسة وحنظلة.
ولكن ورد في إحدى رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام) الى معاوية النص على أنه من
أبناء معاوية، جاء فيها: (وإن رجلاً من ولدك مشومٌ ملعون، جلفٌ جاف، منكوسُ القلب، فظٌّ غليظ، قد نزع الله من قلبه الرحمة والرأفة، أخواله كلب، كأني أنظر إليه، ولو شئت لسميته ووصفته وابن كم هو، يبعث جيشاً إلى المدينة فيدخلونها فيسرفون في القتل والفواحش، ويهرب منهم رجل زكي نقي، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. وإني لأعرف اسمه وابن كم هو يومئذ وعلامته).
وفي مخطوطة ابن حماد ص75 عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه: (من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان).
وقد يكون جده الذي ذكرت روايات أنه عنبسة أو عتبة أو عيينة أو يزيد، من ذرية معاوية بن أبي سفيان، فيرتفع الإلتباس.
والمشهور عند علماء السنة أن اسمه عبد الله، وفي مخطوطة ابن حماد ص 74 أن اسمه (عبد الله بن يزيد) وقد ورد أن اسمه عبد الله في رواية في مصادرنا أيضاً (البحار:53/208)، ولكن المشهور أن اسمه عثمان كما ذكرنا.
خبثه وطغيانه وحقده على أهل البيت وشيعتهم
يتفق رواة الأحاديث على نفاقه وسوء سيرته، ومعاداته لله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وللمهدي (عليه السلام).
والأحاديث التي رواها الجميع عن شخصيته وأعماله واحدة أو متقاربة. كما في مخطوطة ابن حماد ص76 عن أبي قبيل قال: (السفياني شر ملك، يقتل العلماء وأهل الفضل ويفنيهم. يستعين بهم، فمن أبى عليه قتله)، وفي ص80 قال: (يقتل السفياني من عصاه، وينشرهم بالمناشير، ويطبخهم بالقدور، ستة أشهر)!
وفي ص84 عن ابن عباس قال: (يخرج السفياني فيقاتل، حتى يبقر بطون النساء ويغلي الأطفال في المراجل) أي القدور الكبيرة!
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنك لو رأيت السفياني لرأيت أخبث الناس. أشقر أحمر أزرق، لم يعبد الله قط، لم ير مكة ولا المدينة. يقول يا رب ثاري والنار) (البحار:52/354).
ومن أبرز صفاته التي تذكرها أحاديثه، حقده على أهل البيت (عليهم السلام). بل يظهر منها أن دوره السياسي هو إثارة الفتنة المذهبية بين المسلمين وتحريك السنة على الشيعة تحت شعار نصرة التسنن. في نفس الوقت الذي يكون عميلاً لأئمة الكفر الغربيين واليهود.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله. قلنا صدق الله وقالوا كذب الله. قاتل أبو سفيان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقاتل معاوية بن أبي سفيان علياً بن أبي طالب (عليه السلام) وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي (عليه السلام) والسفياني يقاتل القائم (عليه السلام)) (البحار:52/90).
وعنه (عليه السلام) قال: (كأني بالسفياني - أو بصاحب السفياني - قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة فنادى مناديه: من جاء برأس (من) شيعة علي فله ألف درهم، فيثب الجار على جاره ويقول هذا منهم، فيضرب عنقه ويأخذ ألف درهم! أما إن إمارتكم يومئذ لا تكون إلا لأولاد البغايا، وكأني أنظر إلى صاحب البرقع! قلت: من صاحب البرقع؟ قال: رجل منكم يقول بقولكم، يلبس البرقع فيحوشكم فيعرفكم ولا تعرفونه، فيغمز بكم رجلاً رجلاً أما إنه لا يكون إلا ابن بغي)! (البحار:52 /215).
وقد رأينا في عصرنا بعض أصحاب البراقع المقنعين من عملاء اليهود يدخلون معهم إلى مناطق المسلمين التي يسيطرون عليها، وقد أخفوا وجوههم السوداء ببراقع سوداء أو غيرها يدلونهم على المؤمنين ويحوشونهم لهم، فيأخذونهم إلى السجن أو يقتلونهم!
والسفياني من تلامذة هؤلاء، وملثموه من نوع ملثميهم.
وفي مخطوطة ابن حماد ص82: (وتقبل خيل السفياني في طلب أهل خراسان، فيقتلون شيعة آل محمد بالكوفة، ثم يخرج أهل خراسان في طلب المهدي).
وقد ذكرت بعض الأحاديث أن رايته حمراء، وهي ترمز إلى سياسته الدموية، كمافي البحار:52/273، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ولذلك آيات وعلامات.. وخروج السفياني براية حمراء، أميرها رجل من بني كلب).
ثقافته وولاؤه السياسي
وتدل الأحاديث على أنه غربي الثقافة والتعليم، وربما تكون نشأته هناك أيضاً، ففي غيبة الطوسي ص278 عن بشر بن غالب مرسلاً قال: (يقبل السفياني من بلاد الروم متنصراً في عنقه صليب. وهو صاحب القوم)، أي مسيحياً بعد أن كان أصله مسلماً. وتعبير: (يقبل من بلاد الروم) يعني أنه يأتي من هناك إلى بلاد الشام ثم يقوم بحركته.
ويدل أيضاً على أن ولاءه السياسي للغربيين واليهود، أنه يقاتل المهدي (عليه السلام) الذي هو عدو الروم أي الغربيين، ويقاتل الترك أو إخوان الترك الذين يحتمل أن يكونوا الروس.
وأنه يلجأ أثناء الحرب أمام زحف جيش المهدي (عليه السلام) من دمشق إلى الرملة بفلسطين التي ورد أنه تنزل فيها مارقة الروم.
بل يظهر أنه يخوض المعركة مع المهدي (عليه السلام) باعتباره خط الدفاع الأمامي عن اليهود والروم، لأن الأحاديث الشريفة تتحدث عن انهزام اليهود بهزيمته.
كما يدل على ولائه للغربيين أن جماعته بعد هزيمته وقتله، يهربون إلى الروم ثم يسترجعهم أصحاب المهدي (عليه السلام) ويقتلونهم.
فعن ابن خليل الأزدي قال: (سمعت أبا جعفر يقول في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَحَسُّوا
بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ. لاتَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ)) (سورة الأنبياء: 12 - 13) قال: إذا قام القائم وبعث إلى بني أمية بالشام هربوا إلى الروم، فيقول لهم الروم لاندخلكم حتى تنصَّروا، فيعلقون في أعناقهم الصلبان ويدخلونهم. فإذا بحضرتهم أصحاب القائم طلبوا الأمان والصلح، فيقول أصحاب القائم: لا نفعل حتى تدفعوا إلينا من قبلكم منا. قال فيدفعونهم إليهم. فذلك قوله تعالى: (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُون). قال: يسألهم عن الكنوز وهو أعلم بها، قال: فيقولون: (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ. فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ). بالسيف). (البحار:52/377).
ومعنى: (إذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم طلبوا الأمان): أن أصحاب المهدي (عليه السلام) يحشدون قواتهم في مواجهة الروم ويهددونهم. والمقصود ببني أمية أصحاب السفياني كما نصت على ذلك أحاديث أخرى.
ويبدو أنهم وزراؤه وقادة جيشه، وأن لهم أهمية سياسية كبيرة، ولذلك تصل قضيتهم إلى حد تهديد المهدي (عليه السلام) وأصحابه للروم بالحرب إذا لم يسلموهم إياهم.
محاولته إعطاء حركته الطابع الديني
وهو أمر طبيعي بملاحظة المد الإسلامي الذي يتعاظم قرب ظهور المهدي (عليه السلام). وبملاحظة أن حركته خطة رومية يهودية لمواجهة المد الإسلامي.
والمتتبع لأخبار السفياني يجد الأدلة والإشارات على محاولته هذه.
منها، ما في مخطوطة ابن حماد ص75 أن السفياني: (شديد الصفرة به أثر العبادة)، مما يعني أنه يظهر بمظهر المتدين، ولكن ذلك يكون أول أمره فقط كما يذكر حديث آخر.
وقد يستشكل في وجه الجمع بين ذلك وبين كونه متنصراً يعلق صليباً في عنقه عندما يأتي من بلاد الروم، ولكن ما نراه من حالة السياسيين العملاء للغرب يرفع الإشكال حيث يعيش بعضهم مع النصارى حتى لا يكاد يتميز عنهم، وقد يتقرب إليهم بلبس الصليب الذهبي في عنقه أو في ساعته وحضور مراسمهم في الكنائس. حتى إذا زعَّموه على المسلمين تظاهر بالصلاة والتدين، لكي يخدع المسلمين بأنه منهم!
بل يدك الحديث المتقدم عن مخطوطة ابن حماد ص76: (يقتل العلماء وأهل الفضل ويفنيهم، ويستعين بهم، فمن أبى عليه قتله)، على أنه يحرص على إعطاء الطابع الإسلامي لحركته والشرعية لحكمه، ويجبر العلماء على ذلك. ولعل تعبير يفنيهم مصحف عن: (يفتنهم).
مراحل حركته
تدل الظروف المذكورة في الأحاديث على أن حركة السفياني عنيفة وسريعة، فالوضع العالمي الذي تصل فيه درجة الصراع بين الدول إلى حد الحرب، ووضع بلاد الشام الذي تمخضه فتنة فلسطين مخض (الماء في القربة) ويعاني من الضعف والإنقسام والتوتر.
لذلك يبادرون إلى اختيار زعيم قوي يستطيع أن يخضع المنطقة المحيطة بإسرائيل لسيطرته إخضاعا كاملاً، ويقوم بدوره في تقوية خط الدفاع عن إسرائيل والغرب، ويطلقون يده في غزو العراق واحتلاله من أجل إيقاف الخطر عليهم.
كما يطلقون يده في إسناد حكومة الحجاز الضعيفة والقضاء على الحركة الأصولية الجديدة حركة الإمام المهدي (عليه السلام) في مكة المكرمة.
هذه الإعتبارات التي تذكرها الأحاديث صراحة أو تشير إليها، تساعد على فهم السرعة والعنف اللذين تتحدث عنهما روايات السفياني.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (السفياني من المحتوم، وخروجه من أوله إلى آخره خمسة عشر شهراً. ستة أشهر يقاتل فيها. فإذا ملك الكور الخمس، ملك تسعة أشهر ولم يزد عليها يوماً). (البحار:52/ 248).
والكور الخمس هي دمشق والأردن وحمص وحلب وقنسرين، التي كانت مراكز لحكم منطقة سوريا. وقد نصت الأحاديث على دخول الأردن فيها.
أما لبنان فقد كان جزءً من بلاد الشام وتابعاً لكورها الخمس، فلا يبعد شمول حكم السفياني له.
ولكن بعض الروايات تستثني من حكم السفياني طوائف من المقيمين على الحق يعصمهم الله من الخروج معه، كما سيأتي، قد يكون أهل لبنان منهم.
وتحدد الأحاديث وقت حركته بأنه يكون في شهر رجب، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ومن المحتوم خروج السفياني في رجب). (البحار:52/ 249).
وهذا يعني أن خروجه يكون قبل ظهور المهدي (عليه السلام) بنحو ستة أشهر، لأنه (عليه السلام) يظهر في مكة في ليلة العاشر أو يوم العاشر من محرم من تلك (السنة). ويعني أيضاً أن سيطرة السفياني على منطقة بلاد الشام تتم قبل ظهور المهدي (عليه السلام)، الأمر الذي يمكنه من إرسال جيشه إلى العراق، ثم إلى الحجاز للقضاء بزعمه على أنصار المهدي وحركته.
وعلى هذا، تكون مراحل حركة السفياني ثلاثة:
مرحلة تثبيت سلطته في الستة أشهره الأولى.
ثم مرحلة غزوه ومعاركه في العراق والحجاز.
ثم مرحلة تراجعه عن التوسع في العراق والحجاز، ودفاعه أمام زحف جيش المهدي عما يبقى في يده من بلاد الشام، وعن إسرائيل والقدس.
ومما يلاحظ في أحاديث السفياني أنها تذكر معاركه بالإجمال في الستة أشهر الأولى، وهي معارك داخلية مع الأصهب والأبقع أولاً، ثم مع القوى الإسلامية وغير الإسلامية المعارضة له، حتى تتم له السيطرة على بلاد الشام. ولكن الطبيعي بالنظر إلى نوع حركته أن تكون هذه الأشهر الستة مليئة بأعمال عسكرية مكثفة، حتى يحكم سيطرته ويستطيع تجنيد قوات كبيرة لمهامه ومعاركه الواسعة في التسعة أشهر التالية.
وقد تكون أطراف معاركه في الستة أشهر الأولى مضافاً إلى الأبقع والأصهب حاكم الأردن ولبنان، وغيرهما من القوى المعارضة.
وتشير رواية إلى عنف معاركه مع الأبقع والأصهب وأنها تسبب دمار الشام، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (وخسف قرية من قرى الشام تسمىالجابية، ونزول الترك الجزيرة، ونزول الروم الرملة. واختلاف كثير عند ذلك فيكل أرض، حتى تخرب الشام (وفي رواية وأول أرض تخرب الشام) ويكون سبب خرابها اجتماع ثلاث رايات فيها: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني). (الإرشاد للمفيد ص359).
أما خراب دمشق المقصود بقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولأنقضن دمشق حجراً حجراً. يفعله رجل مني)، فالظاهر أنه التدمير الذي يكون في معركة فتح القدس الكبرى التي يخوضها الإمام المهدي (عليه السلام) مع السفياني واليهود والروم.
أما في التسعة أشهر الأخيرة من حكم السفياني فيخوض حروباً كبيرة، أهمها حربه مع الترك وأعوانهم في قرقيسيا، ثم معاركه مع الإيرانيين في العراق، ومعهم اليماني كما في بعض الأحاديث.
وقد تكون للسفياني أيضاً قوات في المدينة المنورة تحارب المهدي (عليه السلام) إلى جانب قوات سلطة الحجاز، في المعركة التي يحتمل أن يخوضها الإمام المهدي (عليه السلام) لتحرير المدينة المنورة.
وبعد هزيمة السفياني في العراق والحجاز ينكفئ إلى الشام حتى تكون له مع المهدي (عليه السلام) أكبر معاركه على الاطلاق: معركة فتح القدس الكبرى.
بداية حركته
تكاد تتفق الروايات على أن السفياني يبدأ حركته من خارج دمشق من منطقة حوران أو درعا على الحدود السورية الأردنية.
وقد سمت الروايات منطقة خروجه بالوادي اليابس والأسود.
فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (يخرج ابن آكلة الأكباد من الوادي اليابس، وهو رجل ربعة، وحش الوجه، ضخم الهامة، بوجهه أثر الجدري. إذا رأيته حسبته أعور. اسمه عثمان وأبوه عنبسة (عيينة) وهو من ولد أبي سفيان. حتى يأتي أرض قرار ومعين فيستوي على منبرها). (البحار:52/205). وقد ورد في تفسير الربوة ذات القرار والمعين المذكورة في القرآن الكريم، أنها دمشق.
وفي مخطوطة ابن حماد ص75 عن محمد بن جعفر بن علي قال:
(السفياني من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان، رجل ضخم الهامة، بوجهه آثار جدري، وبعينه نكتة بياض. يخرج من ناحية مدينة دمشق من واد يقال له وادي اليابس. يخرج في سبعة نفر، مع رجل منهم لواء معقود).
وفي ص74 أن بداية حركته (من قرية من غرب الشام يقال لها أندرا في سبعة نفر).
وفي ص 79 عن أرطاة بن المنذر قال: (يخرج المشوه الملعون من عند المندرون شرقي بيسان على جمل أحمر وعليه تاج).
وينبغي التنبيه على أن ابن حماد وغيره رووا روايات عديدة عن التابعين لم يسندوها إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أو أهل بيته (عليهم السلام) تتحدث عن أمور أشبه بالأساطير عن السفياني وبداية حركته. وأنه يؤتى في منامه فيقال له قم، وأنه يحمل بيده ثلاث قصبات لا يقرع بهن أحداً إلا مات. (ابن حماد ص 75). وهي روايات متأثرة بالأمويين، تبالغ في شخصية السفياني أو في دوره، أو تريد إعطاءه كرامة إلهية!
لكن الأحاديث الأخرى تتفق على أن حركته سريعة وعنيفة، وأن شدة بطشه أمرٌ معروفٌ للرواة الشيعة، حتى أن أحدهم يسأل الإمام الصادق عما يفعله الشيعة إذا خرج، فعن (الحسن بن أبي العلاء الحضرمي قال (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) أي الإمام الصادق: كيف نصنع إذا خرج السفياني؟ قال:
تغيب الرجال وجوهها منه. وليس على العيال بأس. فإذا ظهر على الأكوار الخمس، يعني كور الشام فانفروا إلى صاحبكم) (البحار:52/272)
ويبدو أن أقوى معارضيه هم الأبقع وجماعته، وأنهم المقصودون ببني مروان في رواية مخطوطة ابن حماد ص77: (فيظهر على المرواني فيقتله. ثم يقتل بني مروان ثلاثة أشهر. ثم يقبل على أهل المشرق (أي الإيرانيين) حتى يدخل الكوفة).
وتدل بعض الأحاديث على أن الشيعة في منطقة الشام لايكونون هم العدو الأساسي للسفياني عند خروجه، بل جماعة الأبقع والأصهب الذين هم أعداء للشيعة وللسفياني معاً.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (وكفى بالسفياني نقمة لكم من عدوكم، وهو من العلامات لكم، مع أن الفاسق لو قد خرج لمكثتم شهراً أو شهرين بعد خروجه لم يكن عليكم منه بأس، حتى يقتل خلقاً كثيراً دونكم. فقال له بعض أصحابه: فكيف نصنع بالعيال إذا كان ذلك؟ فقال: يتغيب الرجال منكم عنه فإن خيفته وشرته فإنما
هي على شيعتنا، فأما النساء فليس عليهن بأس إن شاء الله تعالى. قيل إلى أين يخرج الرجال ويهربون منه؟ قال: من أراد أن يخرج منهم إلى المدينة أو إلى مكة أو إلى بعض البلدان. ولكن عليكم بمكة فإنها مجمعكم. وإنما فتنته حمل امرأة تسعة أشهر، ولا يجوزها إن شاء الله تعالى) (البحار:52/141) وهذا يدل على أن حملته على الشيعة في بلاد الشام تبدأ في رمضان بعد خروجه.
وتذكر الروايات أن سيطرته على المنطقة تكون قوية مطلقة حيث يتغلب على كل مصاعب الوضع الداخلي: (فينقاد له أهل الشام إلا طوائف من المقيمين على الحق يعصمهم الله من الخروج معه) (البحار:52/252).
ويفهم بعضهم من تعبير هذا الحديث أن الشيعة في لبنان وبلاد الشام سوف لا يشملهم حكم السفياني ولا ينقادون له، وهو محتمل. وأقل ما يدل عليه استثناء طوائف من أهل الشام من الانقياد له، وأن جماعات مؤمنة يمتنعون بعصمة الله تعالى عن المشاركة في حركته وأعماله العسكرية في العراق والحجاز. ولايبعد أن يكون لهم وضع سياسي مميز عن المواطنين العاديين في دولة السفياني، يمكنهم من هذا القدر من الاستقلالية، من قبيل الوضع اللبناني الفعلي بالنسبة إلى سوريا.
على كل، يتفرغ السفياني من أعمال سيطرته على المنطقة، ويبدأ مهمته الخارجية، فيعد جيشه الكبير لمواجهة الإيرانيين الممهدين (فلا يكون له همة إلا الاقبال نحو العراق ويمر جيشه بقرقيسيا فيقتتلون بها) (البحار:52 / 237).
معركة قرقيسيا
قرقيسيا، مدينة صغيرة عند مصب نهر الخابور في نهر الفرات. وهي اليوم أطلال قرب مدينة دير الزور السورية الواقعة عند الحدود السورية العراقية. والقريبة نسبياً من الحدود السورية التركية.
وفي معجم البلدان للحموي:4/328: (وقيل سميت بقرقيسيا بن طهمورث الملك. قال حمزة الاصبهاني: قرقيسيا معرب كركيسيا وهو مأخوذ من كركيس وهو اسم لإرسال الخيل المسمى بالعربية الحلبة. وكثيراً ما يجئ في الشعر مقصوراً). انتهى.
وقد وردت روايات عن معركة عظيمة تقع فيها، وبعضها لم تحدد وقتها، وبعضها حددتها بأنها بين بني العباس وبني أمية، وبعضها ربطتها بالسفياني الذي يكون في زمن الإمام المهدي (عليه السلام)، وبعضها ذكرت أن سببها كنز يظهر في مجرى الفرات ويقع الخلاف عليه بين السفياني والأتراك..
وهذه روايتها العامة:
في الكافي:8/295: عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال لميسر: (يا ميسر كم بينكم وبين قرقيسا؟ قلت: هي قريب على شاطئ الفرات فقال: أما إنه سيكون بها وقعة لم يكن مثلها منذ خلق الله تبارك وتعالى السماوات والأرض ولا يكون مثلها ما دامت السماوات والأرض مأدبة للطير. تشبع منها سباع الأرض وطيور السماء، يهلك فيها قيس ولايدعى لها داعية) قال: وروي غير واحد وزاد فيه وينادي مناد هلموا إلى لحوم الجبارين.
وفي غيبة النعماني ص278: عن حذيفة بن المنصور، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن لله مائدة - وفي غير هذه الرواية مأدبة - بقرقيسياء يطلع مطلع من السماء
فينادي يا طير السماء ويا سباع الأرض هلموا إلى الشبع من لحوم الجبارين)
وهذه الرواية تربطها ببني العباس وبني أمية:
في غيبة النعماني ص303: عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إن لولد العباس والمرواني لوقعة بقرقيسياء، يشيب فيها الغلام الحزور، يرفع الله عنهم النصر، ويوحي إلى طير السماء وسباع الارض اشبعي من لحوم الجبارين، ثم يخرج السفياني)
وهذه الرواية تربطها بالسفياني وظهور الإمام المهدي (عليه السلام):
في الإختصاص للشيخ المفيد ص 255: عن جابر الجعفي قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): يا جابر إلزم الأرض ولا تحرك يداً ولا رجلاً حتى ترى علامات أذكرها لك إن أدركتها:
أولها اختلاف ولد فلان، وما أراك تدرك ذلك ولكن حدث به بعدي، ومناد ينادي من السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق بالفتح، ويخسف بقرية من قرى الشام تسمى الجابية وتسقط طائفة من مسجد دمشق الأيمن، ومارقة تمرق من ناحية الترك، ويعقبها مرج الروم، وستقبل إخوان الترك حتى ينزلوا الجزيرة، وستقبل مارقة الروم حتى تنزل الرملة، فتلك السنة يا جابر فيها اختلاف كثير في كل أرض من ناحية المغرب فأول أرض المغرب [أرض] تخرب الشام يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات راية الأصهب وراية الأبقع، وراية السفياني فيلقي السفياني الأبقع فيقتتلون فيقتله ومن معه ويقتل الأصهب، ثم لايكون همه إلا الإقبال نحو العراق ويمر جيشه بقرقيسا فيقتلون بها مائة ألف رجل من الجبارين، ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة وعدتهم سبعون ألف رجل فيصيبون من أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً.
فبيناهم كذلك إذ أقبلت رايات من ناحية خراسان تطوى المنازل طياً حثيثاً ومعهم نفر من أصحاب القائم، وخرج رجل من موالي أهل الكوفة فيقتله أمير جيش السفياني بين الحيرة والكوفة ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة فينفر المهدي منها إلى مكة،
فيبلغ أمير جيش السفياني أن المهدي قد خرج من المدينة، فيبعث جيشاً على أثره فلا يدركه حتى يدخل مكة خائفاً يترقب على سنة موسى بن عمران (عليه السلام)، وينزل أمير جيش السفياني البيداء فينادي مناد من السماء يا بيداء أبيدي القوم فيخسف بهم البيداء فلا يفلت منهم إلا ثلاثة، يحول الله وجوههم في أقفيتهم وهم من كلب، وفيهم نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا... الآية) قال: والقائم يومئذ بمكة، قد أسند ظهره إلى البيت الحرام مستجيراً به ينادي: يا أيها الناس إنا نستنصر الله ومن أجابنا من الناس فإنا أهل بيت نبيكم ونحن أولى الناس بالله وبمحمد... الخ.
وهذه رواية غير مرفوعة في كتاب الفتن لابن حماد: تربطها بالسفياني، لكنها تجعل أطرافها مقابله الترك والروم، وتجعل لمصر مشاركة مع السفياني! قال في ص170: (عن أرطاة قال: إذا اجتمع الترك والروم وخسف بقرية بدمشق وسقط طائفة من غربي مسجدها رفع بالشام ثلاث رايات الأبقع والأصهب والسفياني ويحصر بدمشق رجل فيقتل ومن معه ويخرج رجلان من بني أبي سفيان فيكون الظفر للثاني فإذا أقبلت مادة الأبقع من مصر ظهر السفياني بجيشه عليهم فيقتل الترك والروم بقرقيسيا حتى تشبع سباع الأرض من لحومهم).
أما الروايات التي تربطها بالكنز المختلف عليه، فهي عديدة، ومن أوضحها ما في مخطوطة ابن حماد ص92 عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (ينحسر الفرات عن جبل من ذهب وفضة، فيقتل عليه من كل تسعة سبعة. فإن أدركتموه فلا تقربوه).
وفيها أيضاً: (الفتنة الرابعة ثمانية عشر عاماً، ثم تنجلي حين تنجلي وقد انحسر الفرات عن جبل من ذهب، تنكب عليه الأمة فيقتل من كل تسعة سبعة).
ولا يعرف المقصود بالفتنة الرابعة في هذا الحديث، فإن الأحاديث التي تعدد الفتن متعارضة، نعم يسهل تمييز الفتنة الأخيرة منها لأن أحاديثها نصت على
ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) بعدها.
ولا يمكن الحكم على نصوص مرسلة من هذا النوع، وإن صحت فيحتمل أن يكون الكنز المذكور مصادر نفط أو مناجم ذهب وفضة تكتشف هناك وتكون موضع خلاف بين الدول الثلاث
أما الطرف المقابل للسفياني في هذه المعركة فأكثر الأحاديث تذكر أنه الترك، ويمكن أن يكون الجيش التركي لأن النزاع على ثروة عند حدود سوريا وتركيا. ويحتمل أن يكون المقصود بالترك هنا الروس فقد ذكرت بعض الأحاديث أنهم قبل خروج السفياني ينزلون الجزيرة التي هي جزيرة ربيعة أو ديار بكر، القريبة من قرقيسيا. وذكرت أحاديث أخرى أن السفياني يقاتل الترك ثم يكون استئصالهم يدل على يد المهدي (عليه السلام)، والمقصود بالجزيرة تلك المنطقة الواقعة قرب الموصل المسماة بهذا الاسم وبإسم ديار ربيعة أيضاً، وليس جزيرة العرب.
وكذا المقصود بنزول قوات الروم في الرملة يحتمل أن يكون رملة فلسطين أو رملة مصر.
دخول جيش السفياني الى العراق
تؤكد الروايات أن السفياني بعد معركة قرقيسيا يوجه جيشه الى العراق، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (فيلتقي السفياني بالأبقع فيقتتلون، يقتله السفياني ومن معه، ويقتل الأصهب، ثم لا يكون له همة إلا الإقبال نحو العراق، ويمر جيشه بقرقيسيا فيقتتلون بها فيقتل من الجبارين مئة ألف، ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة وعدتهم سبعون ألفاً) (البحار:52/237)
وفي مخطوطة ابن حماد ص87 عن علي (عليه السلام) قال: (إذا خرجت خيل السفياني إلى الكوفة، بعث في طلب أهل خراسان. ويخرج أهل خراسان في طلب المهدي).
وعن جابر الجعفي قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن السفياني فقال: (وأنى لكم بالسفياني حتى يخرج قبله الشيصباني، يخرج بأرض كوفان ينبع كما ينبع الماء، فيقتل وفدكم. فتوقعوا بعد ذلك السفياني وخروج القائم). (البحار:52/250).
والشيصبان في اللغة اسم من أسماء الشيطان. وهو في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) كناية عن رجل من أعدائهم سيء أو مغمور.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (لابد لبني فلان أن يملكوا . فإذا ملكوا ثم اختلفوا تفرق ملكهم وتشتت أمرهم حتى يخرج عليهم الخراساني والسفياني هذا من المشرق وهذا من المغرب، يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان: هذا من هنا، وهذا من هنا، حتى يكون هلاك بني فلان على أيديهما، أما إنهما لا يبقون منهم أحداً). (البحار:52/231)
والمقصود ببني فلان هنا قد يكون أسرة آخر حاكم في العراق قبل الإمام المهدي، الشيصبان أو غيره.
وتصف الروايات في مصادر الطرفين أعمال جيش السفياني الفظيعة في العراق ضد شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وبعضها محل شك بسبب سندها أو متنها، أو لأنها إخبارات عن أحداث سابقة لا علاقة لها بخروج السفياني وظهور الإمام المهدي (عليه السلام). وهذه نماذج منها:
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كأني بالسفياني (أو بصاحب السفياني) قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة، فنادى مناديه: من جاء برأس (من) شيعة علي فله ألف درهم. فيثب الجار على جاره ويقول هذا منهم، فيضرب عنقه ويأخذ ألف درهم. أما إن إمارتكم لا تكون يومئذ إلا لأولاد البغايا. وكأني أنظر إلى صاحب البرقع، قلت: ومن صاحب البرقع؟فقال: رجل منكم يقول بقولكم يلبس البرقع فيحوشكم فيعرفكم ولا تعرفونه، فيغمز بكم رجلا رجلا. أما إنه لا يكون إلا ابن بغي) (البحار:52/215).
وفي مخطوطة ابن حماد ص82: (وتقبل خيل السفياني كالليل والسيل فلا تمر بشيء إلا أهلكته وهدمته، حتى يدخلون الكوفة فيقتلون شيعة آل محمد، ثم يطلبون أهل خراسان في كل وجه. فيخرج أهل خراسان في طلب المهدي فيدعون له وينصرونه).
وفي لوائح الأنوار البهية للسفاريني الحنبلي: (يقاتل الترك فيظهر عليهم ثم يفسد في الأرض، ويدخل الزوراء فيقتل من أهلها).
وتذكر الأحاديث فظائع يرتكبها جيش السفياني في غزوه العراق، خاصة بحق شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، كما في مخطوطة ابن حماد ص83، والبحار:52/219).
كما تذكر الرويات أسماء أماكن يتمركز فيها جيش السفياني مثل الزوراء أي بغداد، والأنبار والصراة والفاروق والروحاء. فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ويبعث مئة وثلاثين ألفاً إلى الكوفة. وينزلون الروحاء والفاروق، فيسير منها ستون ألفا حتى ينزلوا الكوفة، موضع قبر هود (عليه السلام) بالنخيلة). (البحار:52/273).
لكن حملة السفياني لاتحقق هدفها في السيطرة على العراق، بل تقرر بعد أسابيع الإنسحاب من العراق والتوجه الى الحجاز لأداء دورها الجديد في القضاء على حركة الإمام المهدي (عليه السلام) في مكة، حيث تذكر بعض الروايات أن السفياني يرسل جيشه إلى الحجاز من العراق، وبعضها يذكر أنه يرسله من الشام، ويمكن أن يكون قسم منه من الشام وقسم من العراق، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة وعدتهم سبعون ألفاً، فيصيبون من أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً، فبينا هم كذلك إذ أقبلت رايات سود من قبل خراسان تطوي المنازل طياً حثيثاً ومعهم نفر من أصحاب القائم) (البحار:52/238).
وفي مخطوطة ابن حماد ص84: (يدخل السفياني الكوفة فيسبيها ثلاثة أيام، ويقتل من أهلها ستين ألفاً، ثم يمكث فيها ثمانية عشرة ليلة. وتقبل الرايات السود حتى تنزل على الماء، فيبلغ من بالكوفة من أصحاب السفياني نزولهم فيهربون. ويخرج قوم من السواد الكوفة ليس معهم سلاح إلا قليل منهم، ومنهم نفر من أهل البصرة فيدركون أصحاب السفياني فيستنقذون مافي أيديهم من سبي الكوفة. وتبعث الرايات السود بالبيعة إلى المهدي).
وتصف الرواية التالية المنسوبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) جانباً من احتلال جيش السفياني للعراق، متزامناً مع فتنة غربية وما يشبه حرباً عالمية، ودخول قوات الخراسانين الممهدة للمهدي (عليه السلام) الى العراق، ويبدو أنها تجميع لبعض الرواة من نصوص متعددة في الموضوع.
ففي البحار:53/ 82، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ألا أيها الناس، سلوني قبل أن تشغر برجلها فتنة شرقية تطأ في خطامها بعد موت وحياة، أو تشب نار بالحطب الجزل غربي الأرض، رافعة ذيلها تدعو ياويلها بذحلة أو مثلها. فإذا استدار الفلك، قلتم مات أو هلك، بأي واد سلك، فيومئذ تأويل هذه الآية: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً).
ولذلك آيات وعلامات: أولهن إحصار الكوفة بالرصد والخندق، وتخريق الزوايا في سكك الكوفة، وتعطيل المساجد أربعين ليلة. وتخفق رايات ثلاث حول المسجد الأكبر يشبهن بالهدى، القاتل والمقتول في النار. وقتل كثير وموت ذريع، وقتل النفس الزكية بظهر الكوفة في سبعين. والمذبوح بين الركن والمقام. وقتل الأسبغ المظفر صبراً في بيعة الأصنام، مع كثير من شياطين الإنس.
وخروج السفياني براية خضراء (حمراء) وصليب من ذهب، أميرها رجل من كلب. واثني عشر ألف عنان من يحمل السفياني متوجهاً إلى مكة والمدينة، أميرها أحد من بني أمية يقال له خزيمة، أطمس العين الشمال على عينه طرفة، يميل بالدنيا فلا ترد
له راية حتى ينزل بالمدينة، فيجمع رجالاً ونساء من آل محمد فيحبسهم في دار بالمدينة يقال لها دار أبي الحسن الأموي. ويبعث خيلاً في طلب رجل من آل محمد قد اجتمع عليه رجال من المستضعفين بمكة أميرهم رجل من غطفان. حتى إذا توسطوا الصفاح الأبيض بالبيداء يخسف بهمه فلاينجو منهم أحد إلارجل واحد يحول الله وجهه في قفاه لينذرهم وليكون آية لمن خلفه. فيومئذ تأويل هذه الآية: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيب).
ويبعث السفياني مئة وثلاثين ألفاً إلى الكوفة فينزلون بالروحاء والفاروق، وموضع مريم وعيسى بالقادسية، ويسير منهم ثمانون ألفاً حتى ينزلوا الكوفة موضع قبر هود (عليه السلام) بالنخيلة فيهجموا عليه يوم زينة، وأمير الناس جبار عنيد يقال له الكاهن الساحر، فيخرج من مدينة يقال لها الزوراء في خمسة آلاف من الكهنة، ويقتل على جسرها سبعين ألفاً، حتى يحتمي الناس الفرات ثلاثة أيام من الدماء ونتن الأجساد. ويسبي من الكوفة أبكاراً لايكشف عنها كف ولا قناع، حتى يوضعن في المحامل يزلف بهن للثوية وهي الغريين.
ثم يخرج من الكوفة مئة ألف بين مشرك ومنافق، حتى يضربون دمشق لايصدهم عنها صاد، وهي إرم ذات العماد.
وتقبل رايات (من) شرقي الأرض ليست بقطن ولاكتان ولا حرير مختمة في رؤوس القنا بخاتم السيد الأكبر، يسوقها رجل من آل محمد، يوم تطير بالمشرق يوجد ريحها بالمغرب كالمسك الأذفر، يسير الرعب أمامها شهراً.
ويخلف أبناء سعد بالكوفة طالبين بدماء آبائهم، وهم أبناء الفسقة، حتى يهجم عليهم خيل الحسين يستبقان كأنهما فرسا رهان. شعث غبر أصحاب بواكي وقوارح، إذ يضرب أحدهم برجله باكية، يقول لاخير في مجلس بعد يومنا هذا، اللهم فإنا التائبون الخاشعون الراكعون الساجدون، فهم الأبدال الذين وصفهم الله (عزَّ وجلَّ): (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ). والمطهرون نظراؤهم من آل محمد.
ويخرج رجل من أهل نجران يستجيب الإمام، فيكون أول النصارى إجابة، ويهدم صومعته ويدق صليبها، ويخرج بالموالي وضعفاء الناس والخيل فيسيرون إلى النخيلة بأعلام هدى.
فيكون مجمع الناس جميعاً من الأرض كلها بالفاروق، وهي محجة أمير المؤمنين، وهي ما بين البرس والفرات، فيقتل يومئذ ما بين المشرق والمغرب ثلاثة آلاف من اليهود والنصارى، فيقتل بعضهم بعضاً، فيومئذ تأويل هذه الآية: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ). بالسيف، وتحت ظل السيف). انتهى.
والفقرة الأولى والأخيرة من هذه الرواية تذكر حرباً عالمية يتركز دمارها على الغرب، ويقتل فيها ثلاثة آلاف ألف أي ثلاثة ملايين، وسيأتي ذكرها في محله.
ومعنى (تخريق الزوايا في الكوفة) إقامة المتاريس لقتال الشوارع في حملة السفياني أو الغربيين.
وسيأتي ذكر الرايات الثلاث حول المسجد الحرام في حركة الظهور في اختلاف القبال على السلطة قبيل ظهور المهدي (عليه السلام).
أما قتل النفس الزكية بظهر الكوفة في سبعين، فيستقرب بعضهم انطباقه على أستاذنا الشهيد الصدر قدس سره، وظهر الكوفة هي النجف.
والمذبوح بين الركن والمقام هو النفس الزكية قبيل ظهور المهدي، وهو رسول المهدي (عليه السلام) إلى أهل مكة.
وفي الرواية عدة أسماء وكلمات لا يعرف معناها مثل الأسبغ المظفر الذي يقتل في بيعة الأصنام أي في معبد الأصنام، وشياطينه الكثيرين. وأبناء سعد السقاء، وأمير الناس الكاهن الساحر، وغيرها، فقد تكون إضافة أو أسماء أشخاص في ذلك العصر.
ويوجد بعض روايات تذكر أو تشير إلى أن مريم وعيسى (عليه السلام) قد زارا العراق ونزلا القادسية، وبقيا مدة في مكان مسجد براثا قرب بغداد، والله العالم.
أما موضع قبر هود (عليه السلام) بالنخيلة فهو معروف قرب النجف في وادي السلام.
ورايات شرقي الأرض هي رايات الخراسانيين الممهدين.
وتفسير الفاروق في الرواية الثانية لابد أن يكون تعليقاً من أحد الرواة دخل في أصل الرواية. وقد يكون مجمع الناس هناك بمعنى أن قوات المهدي (عليه السلام) تتجمع هناك.
واعلم أن أمثال هذه الرواية إما موضوع، أو هي خطب لرواة وعلماء ضمنوها عدداً من الروايات، ثم نسبت الى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام)!
جيش السفياني إلى الحجاز (جيش الخسف)
سنتعرض في حركة الظهور المقدس إن شاء الله إلى حالة الصراع السياسي التي تحدث في الحجاز، على أثر مقتل حاكمه عبد الله، وعدم اتفاقهم على حاكم بعده، وصراع القبائل الحجازية على السلطة، الأمر الذي يضعف حكومة الحجاز، ويسمح للمهدي (عليه السلام) أن يبدأ حركته في مكة ويحررها، ويحكم سيطرته عليها.
ففي هذه المرحلة، وعندما ترى حكومة الحجاز عجزها عن القضاء على حركة المهدي (عليه السلام)، تقوم هي أو تقوم الدول الكبرى بتكليف السفياني بهذه المهمة، فيوجه قواته إلى المدينة المنورة ثم إلى مكة المكرمة، بينما يعلن المهدي (عليه السلام) للمسلمين وللعالم بأنه ينتظر المعجزة الموعودة على لسان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهي الخسف بجيش السفياني بالبيداء قرب مكة، وأنه بعد هذه المعجزة سيتابع حركته المقدسة.
بل تذكر بعض الأحاديث أن استدعاء قوات السفياني إلى الحجاز، والحرمين خاصة، يكون قبل بدء حركة ظهور المهدي (عليه السلام)، وأن جيش السفياني يدخل المدينة المنورة بحثاً عن المهدي وأنصاره ويرتكب فيها الجرائم، وأن المهدي (عليه السلام) يكون عند ذاك في المدينة ثم يخرج منها إلى مكة على سنة موسى (عليه السلام) خائفاً يترقب، ثم يأذن الله له بالظهور.
وتصف الأحاديث في مصادر الشيعة والسنة دخول جيش السفياني إلى المدينة المنورة عن طريق العراق والشام بأنه دخول كاسح، لا يجد أمامه مقاومة، وأنه يستعمل مع أنصار المهدي وشيعة أهل البيت (عليهم السلام) نفس طريقته في العراق في القتل والإبادة للكبير والصغير والرجال والنساء!
بل يبدو أن بطشه في المدينة يكون أشد، ففي مخطوطة ابن حماد ص 88، عن ابن شهاب قال: (يكتب السفياني إلى الذي دخل الكوفة بخيله بعد ما يعركها عرك الأديم، يأمره بالسير إلى الحجاز، فيسير إلى المدينة فيضع السيف في قريش، فيقتل منهم ومن الأنصار أربع مائة رجل، ويبقر البطون، ويقتل الولدان، ويقتل أخوين من قريش رجل وأخته يقال لهما فاطمة ومحمد، ويصلبهما على باب مسجد المدينة).
وتذكر روايات أخرى أن هذا السيد وأخته هم أبناء عم النفس الزكية الذي يرسله الإمام المهدي (عليه السلام) إلى مكة فيقتلونه في المسجد الحرام قبل ظهوره (عليه السلام) بخمسة عشر ليلة. وأنهما يكونان فارين من العراق من جيش السفياني، ويدلهم عليهما جاسوس يكون معهما من العراق.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (ويظهر السفياني ومن معه حتى لايكون له همة إلا آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وشيعتهم، فيبعث بعثاً إلى الكوفة فيصاب بأناس من شيعة آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) قتلاً وصلباً. ويبعث بعثاً إلى المدينة فيقتل بها رجلاً، ويهرب المهدي
والمنصور منها، ويؤخذ آل محمد صغيرهم وكبيرهم لايترك منهم أحد إلا أخذ وحبس، ويخرج الجيش في طلب الرجلين، ويخرج المهدي منها على سنة موسى خائفاً يترقب حتى يقدم مكة). (البحار ج 52 ص 222)
وفي ص 252 عن السفياني أنه يأتي المدينة بجيش جرار. وجاء في مستدرك الحاكم:4/442، أن أهل المدينة يخرجون منها أمام حملة السفياني.
ويبدو أن المنصور الذي يخرج مع المهدي (عليه السلام) هو النفس الزكية محمد، وهو من أصحاب المهدي (عليه السلام)، وهو الذي يرسله إلى المسجد الحرام ليبلغ رسالته فيقتلونه، ويحتمل أن يكون غيره.
ولا تذكر الأحاديث أماكن أخرى من الحجاز تدخلها قواته غير المدينة، ثم محاولة دخولها مكة. ويبدو أن مدة احتلاله للمدينة لا تطول حتى يرسل جيشه كله أو معظمه إلى مكة فتقع فيه الآية الموعودة، ويخسف بهم جميعاً تقريباً قبيل مكة.
وفي بعض الروايات أن بقاء جيشه في المدينة يكون أياماً فقط، ويبدو أن المقصود من دخوله المدينة تخويف أهلها والبحث عن المهدي (عليه السلام)، وليس المرابطة فيها أو قربها.
والأحاديث في جيش الخسف كثيرة متواترة في مصادر المسلمين، ولعل أشهرها في مصادر السنة الحديث المروي عن أم سلمة قالت: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه جيش حتى إذا كانوا بالبيداء بيداء المدينة خسف بهم). (مستدرك الحاكم:4/429 والبحار:52/186).
قال صاحب الكشاف في تفسر قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ) (سورة سبأ:51): (روي عن ابن عباس أنها نزلت في خسف البيداء).
وقال صاحب مجمع البيان: (قال أبو حمزة الثمالي: سمعت علي بن الحسين والحسن بن الحسن بن علي (عليه السلام) يقولان: هو جيش البيداء، يؤخذون من تحت أقدامهم). (البحار:52/ 186).
وعن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه): (أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ذكر فتنة تكون بين أهل مشرق والمغرب وقال: فبينا هم كذلك يخرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فوره ذلك، حتى ينزل دمشق. فيبعث جيشين جيشا إلى المشرق، وآخر إلى المدينة، حتى ينزلوا بأرض بابل من المدينة الملعونة فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويغصبون أكثر من مئة امرأة ويقتلون بها ثلاث مئة كبش من بني (فلان) العباس. ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها. ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فتخرج راية هدى فتلحق ذلك الجيش، فيقتلونهم ولا يفلت منهم مخبر، ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم. ويحل الجيش الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام بلياليها، ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبرئيل فيقول يا جبرئيل اذهب فأبدهم. فيضربها برجله ضربة يخسف بهم عندها، ولا يفلت منهم إلارجلان من جهينة). (البحار:52/ 186).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (المهدي أقبل، جعد، بخده خال. يكون مبدؤه من قبل المشرق، فإذا كان ذلك خرج السفياني فيملك قدر حمل امرأة تسعة أشهر، يخرج بالشام فينقاد له أهل الشام إلا طوائف مقيمين على الحق يعصمهم الله من الخروج معه، ويأتي المدينة بجيش جرار، حتى إذا انتهى إلى بيداء المدينة خسف الله به، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): (وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ)). (غيبة النعماني163 والمحجة للبحراني ص 177).
ومعنى قوله (عليه السلام): (أقبل) أي يقبل عندما يمشي بكل بدنه.
و(جعد) أي في شعره جعد.
و(مبدؤه من قبل المشرق) أي مبدأ أمره بدولة الإيرانيين الممهدين له.
(فإذا كان ذلك) أي فإذا بدأ أمره وقامت دولتهم خرج السفياني. وليس في الحديث تعيين وقت خروجه، وأنه هل يكون مباشرة بعد قيام دولة الممهدين أو بعد سنين طويلة، لكن التعبير يدل على نوع من الترتب والترابط بين دولة الإيرانيين وخروج السفياني، وأن خروجه يكون عملاً موجهاً ضدها كما ذكرنا في أوائل الحديث عن حركته.
وعن حنان بن سدير قال: (سألت أبا عبد الله (أي الإمام الصادق (عليه السلام)) عن خسف البيداء فقال: (أَمَاصِهْرا، على البريد، على اثني عشر ميلاً من البريد الذي بذات الجيش) (البحار:52/181). وذات الجيش واد بين مكة والمدينة، وأما صهرا موضع فيها.
وفي مخطوطة ابن حماد ص90 عن محمد بن علي (الإمام الباقر (عليه السلام)) قال: (سيكون عائذ بمكة يبعث إليه سبعون ألفاً، عليهم رجل من قيس، حتى إذا بلغوا الثنية دخل آخرهم ولم يخرج منها أولهم، نادى جبرئيل: يا بيداء يا بيداء - يسمع مشارقها ومغاربها - خذيهم، فلا خير فيهم! فلا يظهر على هلاكهم أحد إلا راعي غنم في الجبل، ينظر إليهم حين ساخوا فيخبر بهم. فإذا سمع العائذ بهم، خرج).
وفيها ص 91 عن أبي قبيل قال: (لا يفلت منهم أحد إلا بشير ونذير، فأما البشير فإنه يأتي المهدي وأصحابه فيخبرهم بما كان من أمرهم، ويكون شاهد ذلك في وجهه قد حول الله وجهه إلى قفاه، فيصدقونه لما يرون من تحويل وجهه ويعلمون أن القوم قد خسف بهم. والثاني مثل ذلك قد حول الله وجهه إلى قفاه، فيأتي السفياني فيخبره بما نزل بأصحابه فيصدقه ويعلم أنه حق لما يرى فيه من العلامة. وهما رجلان من كلب).
وفيها ص90 عن حفصة قالت: (سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول: يأتي جيش من قبل المغرب يريدون هذا البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فيرجع من كان أمامهم لينظر ما فعل القوم فيصيبهم ما أصابهم، ثم يبعث الله تعالى كل امرئ على نيته).
أي أن المجبور على الخدمة في جيش السفياني وإن كان حسابه في الآخرة
ليس كالمتطوع بإرادته، ولكنه يخسف به أيضاً.
وفي حديث آخر عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (عجبت لقوم مصرعهم واحد ومصادرهم شتى، فقيل كيف ذلك يا رسول الله؟ فقال: (لأن فيهم المجبور والمستكره والمنتفر)
أي يموتون في مكان واحد، لكن الله تعالى يحاسبهم في الآخرة على نياتهم، ومنهم المستكره خوفاً على أهله وما شابه، ومنهم المساق جبراً، ومنهم المتطوع المستنفر برغبته.
وفي رواية أن عدد جيش الخسف اثنا عشر ألفاً، وليس سبعين ألفاً. وفي رواية أخرى أنه يخسف بثلثهم، وتحول وجوه ثلثهم إلى أقفيتهم، ويبقى ثلثهم سالمين. (مخطوطة ابن حماد ص90 - 91).
بداية تراجع السفياني
بعد معجزة الخسف بجيشه في طريق مكة، يبدأ نجم السفياني بالنزول، بينما يأخذ نجم المهدي (عليه السلام) بالصعود والتلألؤ.
ولا تذكر الأحاديث دوراً عسكرياً للسفياني في الحجاز بعد حادثة الخسف بقواته، مما يشير إلى أنها تكون القاضية على دوره في الحجاز.
ولكن من المحتمل أن تبقى له قوات في المدينة المنورة تقاتل إلى جانب قوات حكومة (بني فلان) حيث ذكرت الأحاديث أن المهدي (عليه السلام) يتوجه بعد آية الخسف بجيشه المكون من بضعة عشر ألفاً ويحررها، وقد يخوض معركة مع أعدائه فيها.
ومهما يكن، فإن المهدي (عليه السلام) يفتح المدينة المنورة والحجاز ويقضي على مناوئيه، وينهزم جيش السفياني أمامه من الحجاز إلى العراق والشام، حيث تذكر الأحاديث معركة أو أكثر في العراق بين جيش السفياني وجيش المهدي (عليه السلام) وأنصاره اليمانيين والخراسانيين.
معركة الأهواز
الأمر الطبيعي في العراق أن يدخل تحت حكم المهدي (عليه السلام) وأنصاره، بعد هزيمة قوات السفياني على يد الممهدين الإيرانيين واليمانيين، وأن تكون هزيمة السفياني في الحجاز بطريق المعجزة عاملاً مساعداً لتحكيم سيطرة أنصار المهدي (عليه السلام) على العراق، خاصة أن قوات الممهدين تستقر في العراق بعد أن تهزم قوات السفياني وتبعث ببيعتها إلى الإمام المهدي (عليه السلام) في الحجاز.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (تنزل الرايات السود التي تخرج من خراسان (إلى) الكوفة. فإذا ظهر المهدي بعثت إليه بالبيعة). (البحار:52/217)
ورواه ابن حماد في مخطوطته ص 88: (تنزل الرايات السود التي تقبل من خراسان الكوفة. فإذا ظهر المهدي بمكة بعثت بالبيعة إلى المهدي)
ولكن مع وجود هذه العوامل، توجد روايات تتحدث عن معارك لقوات السفياني في العراق تخوضها هذه المرة مع القوة الموحدة للإمام المهدي (عليه السلام) حيث يعين شعيب بن صالح قائد قوات الإيرانيين قائداً عاماً لقواته (عليه السلام) المتكونة في معظمها من قوات الإيرانيين واليمانيين، والبلاد الأخرى.
وتنفرد بعض الروايات بذكر معركة باب إصطخر، وتصفها بأنها ملحمة بين قوات السفياني وقوات المهدي (عليه السلام).
وإصطخر مدينة قديمة في جنوب إيران في منطقة الأهواز، كانت عامرة في صدر الإسلام، وما زالت آثارها قرب مدينة (مسجد سليمان) النفطية.
بل يروى أن مدينة إصطخر بناها بني الله سليمان (عليه السلام)، وأنه كان يقضي فيها فصل الشتاء. ومسجد سليمان كانت مسجداً بناه هو (عليه السلام).
وتحدد روايتان مكان (بيضاء إصطخر) محلاً لتجمع قوات الإيرانيين، وهي تعني منطقة بيضاء في إصطخر، ويبدو أنها منطقة الربوات القريبة من مسجد سليمان التي تسمى بالفارسية (كوه سفيد) أي الجبل الأبيض.
بل تذكر ثلاث روايات أن الإمام المهدي (عليه السلام) عندما يتوجه من المدينة المنورة إلى العراق ينزل أولاً في بيضاء إصطخر فيبايعه الإيرانيون ويخوضون بقيادته معركتهم مع جيش السفياني ويهزمونه.
وعلى أثرها يدخل الإمام المهدي (عليه السلام) العراق: (في سبع قباب من نور لا يعلم في أيها هو)، كما يأتي في حركة الظهور.
جاء في مخطوطة أن حماد ص86 عن علي (عليه السلام) قال: (إذا خرجت خيل السفياني إلى
الكوفة بعث في طلب أهل خراسان، ويخرج أهل خراسان في طلب المهدي، فيلتقي هو والهاشمي برايات سود على مقدمته شعيب بن صالح. فيلتقي هو وأصحاب السفياني بباب إصطخر فيكون بينهم ملحمة عظيمة، فتظهر الرايات السود وتهرب خيل السفياني. فعند ذلك يتمنى الناس المهدي ويطلبونه).
ومعنى: (فيلتقي هو والهاشمي) يلتقي المهدي (عليه السلام) والهاشمي الخراساني قائد قوات الإيرانيين كما تنص الرواية الآتية. أي أن جماهير الإيرانيين يخرجون في طلب المهدي (عليه السلام) لكي يبايعوه فيتوجهون إلى جنوب إيران القريب من حدود الحجاز البرية عند البصرة، فيلتقي به قائدهم الهاشمي الخراساني وقواته.
وتذكر رواية أخرى في مخطوطة ابن حماد ص86 أن السفياني في غزوه العراق (يبث جنوده في الآفاق) وهو إشارة إلى سعة نشر قواته في العراق وعلى الحدود العراقية الإيرانية، وهو يساعد على افتراض وجود قوات بحرية للسفياني وحلفائه الروم في الخليج.
وتذكر الرواية التالية مجئ المهدي (عليه السلام) إلى جنوب إيران، وتصف معركة باب إصطخر أو بيضاء إصطخر، ولكن في متنها اضطراباً:
(يبث السفياني جنوده في الآفاق بعد دخوله الكوفة وبغداد، فيبلغه فزعة من وراء النهر من أهل خراسان، فيقبل أهل المشرق عليهم قتلاً (أي على جنود السفياني) فإذا بلغه ذلك بعث جيشاً عظيماً إلى إصطخر فيلتقي هو (أي السفياني باعتبار قواته) والمهدي والهاشمي ببيضاء إصطخر فيكون بينهما ملحمة عظيمة حتى تطأ الخيل الدماء إلى أرساغها).
وتذكر الرواية الأولى التأثير الكبير الذي يكون لهزيمة جيش السفياني في معركة الأهواز هذه، في تفجير التيار الموالي للمهدي في شعوب المسلمين، حيث يتحركون للالتحاق بالمهدي (عليه السلام) ومبايعته: (فعند ذلك يتمنى الناس المهدي
ويطلبونه).
وأياً تكن روايات معارك السفياني في العراق بعد الخسف بجيشه في الحجاز، فمما لا شك فيه أنه يدخل في مرحلة التراجع والهزيمة. ويصبح همه المحافظة على منطقة حكمه بلاد الشام، وتقوية خط الدفاع الأخير عن فلسطين والقدس، والإستعداد لمواجهة زحف قوات المهدي (عليه السلام).
ولا تذكر له الروايات معارك أخرى مع المهدي (عليه السلام) وأنصاره سوى معركة الفتح الكبرى، فتح القدس وتحرير فلسطين، التي يكون فيها نهايته وهزيمة حلفائه اليهود والروم.
السفياني في معركة فتح القدس
يظهر من أحاديث هذه المعركة العظيمة أن السفياني يعاني من عدة مشكلات، أولها ضعف شعبيته في بلاد الشام.
فمهما تكن القوى والظروف المساندة لحكمه فإن أهل بلاد الشام مسلمون، وهم يرون آيات المهدي (عليه السلام) وكراماته، ويرون هزائم طاغيتهم السفياني وارتباطه بأعدائهم. لذلك يقوى فيهم تيار حب المهدي (عليه السلام) والميل إليه، والتذمر من السفياني وسياساته.
بل المرجح أن حركة شعبية واسعة النطاق موالية للمهدي (عليه السلام) تتسع في سوريا والأردن ولبنان وفلسطين، لأن الأحاديث تذكر أن المهدي (عليه السلام) يزحف بجيشه إلى بلاد الشام حتى يعسكر في (مرج عذراء) الذي هو ضاحية من ضواحي دمشق لايبعد عنها أكثر من ثلاثين كيلو متراً. وهو يدل على الأقل على أن السفياني يعجز عن حفظ حدوده، وعن مقاومة الزحف المبارك. بل تذكر الأحاديث أن السفياني يخلي عاصمته دمشق نفسها ويتراجع إلى داخل فلسطين،
ويتخذ من (وادي الرملة) عاصمة أو مقرا لقيادته، التي ورد أن قوات الروم أو مارقة الروم تنزل فيها.
كما ذكرت الأحاديث أن المهدي (عليه السلام) يتأنى في خوض المعركة، ويبقى فترة في ضاحية دمشق حيث ينضم إليه أبدال أهل الشام ومؤمنوها من بقي منهم لم يلتحق به، وأنه (عليه السلام) يطلب من السفياني أن يلتقي به شخصياً للحوار، فيلتقيان فيؤثر عليه المهدي فيبايعه السفياني، وينوي أن يستقيل ويسلمه المنطقة ولكن أقاربه، ومن وراءه يوبخونه بعدها ويردونه عن عزمه!
إن هذه الظواهر وغيرها مما نقرؤه في أحاديث المهدي (عليه السلام) قبيل معركة فتح القدس وتحرير فلسطين، لاتفسير لها بالحساب الطبيعي والسياسي إلا ضعف شعبية السفياني في بلاد الشام، ووجود تيار شعبي مؤيد للمهدي (عليه السلام).
بل تشير بعض الروايات إلى أن الأمر يصل إلى حد أن بعض قوات السفياني وقطعات جيشه يبايعون المهدي (عليه السلام) وينضمون إليه، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (ثم يأتي الكوفة (أي المهدي (عليه السلام)) فيطيل بها المكث ما شاء الله أن يمكث حتى يظهر عليها، ثم يأتي (مرج) العذراء هو ومن معه، وقد ألحق به ناس كثير، والسفياني يومئذ بوادي الرملة، حتى إذا التقوا وهو يوم الأبدال يخرج أناس كانوا مع السفياني من شيعة آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ويخرج ناس كانوا مع آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى السفياني، فهم من شيعته حتى يلحقوا بهم، ويخرج كل ناس إلى رايتهم. وهو يوم الأبدال) (البحار:52/224).
وفي مخطوطة ابن حماد ص96 عن علي (عليه السلام) قال: (إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشا فخسف بهم بالبيداء، وبلغ أهل الشام قالوا لخليفتهم: قد خرج المهدي فبايعه وأدخل في طاعته وإلا قتلناك، فيرسل إليه بالبيعة، ويسير المهدي حتى ينزل بيت المقدس). وهي رواية تصور غاية ما يصل إليه التيار الشعبي الموالي للمهدي
(عليه السلام) والمعارض للسفياني.
وفي ص 97 من مخطوطة ابن حماد: (فيقول (أي المهدي) أخرجوا إلى ابن عمي حتى أكلمه، فيخرج إليه فيكلمه، فيسلم إليه الأمر ويبايعه! فإذا رجع السفياني إلى أصحابه ندمته كلب فيرجع ليستقيله فيقيله. ثم يعبئ جيوشه لقتاله، فيهزمه ويهزم الله على يديه الروم).
ومعنى: (ندمته كلب) أي جعلوه يندم على بيعته للمهدي (عليه السلام). وكلب اسم عشيرة وهم أخوال السفياني، وهم تعبير عن متعصبي أهل الشام. والذين يجعلونه يندم في الحقيقة ويحفظون حكمه من السقوط أمام التيار الشعبي ويصرون عليه أن يخوض المعركة مع المهدي، هم من وراءه من اليهود والروم كما تشير إليه الرواية المتقدمة وغيرها.
على أي حال، لايتوفق السفياني للإستفادة من هذا الجو الشعبي، ومن الفرصة التي يمنحه إياها الإمام المهدي (عليه السلام)، ولا يتوفق مسلموا بلاد الشام لإسقاط حكم السفياني وجيشه، فيقوم هو وحلفاؤه بتعبئة قواتهم للمعركة الفاصلة الكبرى التي تمتد محاورها كما تذكر الروايات من عكا إلى صور إلى أنطاكية في الساحل، ومن دمشق إلى طبرية إلى القدس في الداخل، وينزل غضب الله تعالى على السفياني وحلفائه وغضب المهدي وجيشه (عليه السلام)، وتظهر آيات الله على يديه، وتدور الدائرة على السفياني ومن وراءه من اليهود والروم فينهزمون شر هزيمة.
وتكون نهاية السفياني أن يقبض عليه أحد جنود الإمام المهدي (عليه السلام)
وينهون ذلك حياة طاغية استطاع في خمسة عشر شهراً أن يرتكب من الجرائم ما لا يستطيع أن يرتكبه غيره في سنين طويلة.
ملاحظة: زارني في لندن شاب فاضل من آل الحديدي، وقال إنه قرأ كتابي عصر
الظهور عدة مرات، وتتبع أحاديث علامات الظهور وتأمل فيها.. وإنه يرجح أن تكون قوات السفياني التي نصت الأحاديث على أنها تنتشر في بلاد الشام والعراق والحجاز والخليج، إنما هي كناية أو رمز لقوات الغربيين.
وتعليقي: أن ما يقتضيه ظاهر نصوص السفياني هو التفسير الذي قدمته، ومع أنه يفهم منها أن السفياني أداة للغربيين واليهود، لكن تفسير هذا السيد لنصوص تحركاته وقواته بأنها تحركات حلفائه الروم وقواتهم، يبقى احتمالاً يحتاج الى مؤيدات، والله العالم.
وردت في ثورة اليمن الإسلامية الممهدة للمهدي (عليه السلام) أحاديث متعددة عن أهل البيت (عليهم السلام)، منها بضعة أحاديث صحيحة السند، وهي تؤكد حتمية حدوث هذه الثورة وتصفها بأنها راية هدى تمهد لظهور المهدي (عليه السلام) وتنصره.
بل تصفها عدة روايات بأنها أهدى الرايات في عصر الظهور على الإطلاق، وتؤكد على وجوب نصرتها كراية المشرق الإيرانية وأكثر، وتحدد الأحاديث وقتها بأنه مقارن لخروج السفياني في رجب، أي قبل ظهور المهدي (عليه السلام) ببضعة شهور، ويذكر بعضها أن عاصمتها صنعاء.
أما قائدها المعروف في الروايات باسم (اليماني) فتذكر رواية أن اسمه (حسن أو حسين) من ذرية زيد بن علي (عليه السلام).
وهذه نماذج من أحاديث حركة اليماني:
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكية، والخسف بالبيداء) (البحار: 52 /204).
وعنه (عليه السلام) قال: (خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كل وجه، ويل لمن ناواهم. وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية حق لأنه يدعو إلى صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح على الناس، وإذا
خرج اليماني فانهض إليه فإن رايته راية هدى، ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنه يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم) (بشارة الإسلام ص93 عن غيبة النعماني).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال لمن زعم أنه هو المهدي: (قبل هذا الأمر السفياني واليماني والمرواني وشعيب بن صالح، فكيف يقول هذا هذا). (البحار:52/233).
وقال المجلسي (ره): (أي كيف يقول هذا الذي خرج أني القائم، يعني محمد بن إبراهيم، أو غيره). انتهى.
والمراد بالمرواني المذكور في الرواية قد يكون هو الأبقع، أو يكون أصله الخراساني فوقع فيه التصحيف من النساخ.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (خروج الثلاثة الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد وليس فيها راية بأهدى من راية اليماني يهدي إلى الحق) (البحار:52/210).
وعن هشام بن الحكم أنه لما خرج طالب الحق قيل لأبي عبد الله (عليه السلام) (أي الإمام الصادق): (أترجو أن يكون هذا اليماني؟ فقال: لا. اليماني يتوالى علياً، وهذا يبرأ منه) (البحار:52/75)
وفيها أيضاً: (اليماني والسفياني كفرسي رهان)، أي كفرسي السباق يسعى كل منهما أن يسبق الآخر.
وجاء في بعض الروايات عن المهدي (عليه السلام) أنه (يخرج من اليمن من قرية يقال لها كرعة) (البحار: 52/380).
وكرعة قرية في منطقة بني خَوْلان باليمن قرب صعدة، وإن صحت الرواية فلابد أن يكون المقصود فيها أن اليماني يبدأ أمره من هذه القرية، كما ورد أن مبدأ أمر المهدي (عليه السلام) من المشرق، أي مبدأ حركة أنصاره، لأن الثابت المتواتر
في الأحاديث أن المهدي (عليه السلام) يخرج من مكة من المسجد الحرام.
وفي بشارة الإسلام ص187: (ثم يخرج ملك من صنعاء اسمه حسين أو حسن، فيذهب بخروجه غمر الفتن، يظهر مباركاً زاكياً، فيكشف بنوره الظلماء، ويظهر به الحق بعد الخفاء).
وفيما يلي عدة ملاحظات حول ثورة اليماني:
منها، ما يتعلق بدورها، فمن الطبيعي لثورة ممهدة للمهدي (عليه السلام) في اليمن أن يكون لها دور هام في مساعدة حركته ومساندتها في الحجاز. وعدم ذكر هذا الدور لليمانيين في الأحاديث الشريفة لا ينفيه، بل قد يكون من أجل المحافظة عليه وعدم الاضرار به.
وسنذكر في حركة ظهوره (عليه السلام) أن القوة البشرية التي تقوم عليها حركته في مكة والحجاز ويتألف منها جيشه، تتكون بشكل أساسي من أنصاره الحجازيين واليمانيين.
أما دور اليمانيين الممهدين في العراق، فقد ذكرت بعض الروايات أن اليماني يدخل العراق على أثر غزو السفياني له، وأنه يكون لهم دور مساعد في قتال السفياني، لأن الأخبار تشعر بأن الطرف المواجه للسفياني هم أهل المشرق أصحاب الخراساني وشعيب.
أما في منطقة الخليج فمن الطبيعي أن يكون الدور الأساسي فيها لليمانيين مضافاً إلى الحجاز، وإن لم تذكر ذلك الروايات.
بل لعل حكم اليمن والحجاز وبلاد الخليج يكون بعهدة قوات اليمانيين التابعة للمهدي (عليه السلام).
ومنها، في السبب في كون راية اليماني أهدى من راية الخراساني، مع أن راية
الخراساني ورايات أهل المشرق عامة موصوفة بأنها راية هدى، وبأن قتلاهم شهداء، ومع أن عدداً منهم يكونون من وزراء المهدي (عليه السلام) وخاصة أصحابه. ومنهم قائد قواتهم شعيب بن صالح الذي يجعله المهدي (عليه السلام) قائد جيشه العام.
ومع أن دور الإيرانيين في التمهيد للمهدي (عليه السلام) دور واسع وفعال، ولهم فضل السبق والتضحيات حيث يبدأ أمر المهدي (عليه السلام) بحركتهم. إلى آخر ما ذكرته الأحاديث الشريفة وسنذكره في دورهم في عصر الظهور. فما هو السبب في أن ثورة اليماني ورايته أهدى من ثورة الإيرانيين ورايتهم؟
يحتمل أن يكون السبب في ذلك أن الأسلوب الإداري الذي يستعمله اليماني في قيادته السياسية وإدارة اليمن أصح وأقرب إلى النمط الإداري الإسلامي في بساطته وحسمه. بينما لاتخلو دولة الإيرانيين من تعقيد الروتين وشوائبه، فيرجع الفرق بين التجربتين إلى طبيعة البساطة والقبيلة في المجتمع اليماني، وطبيعة الوراثة الحضارية والتركيب في المجتمع الإيراني.
ويحتمل أن تكون ثورة اليماني أهدى بسبب سياسته الحاسمة مع جهازه التنفيذي، سواء في اختياره من النوعيات المخلصة المطيعة فقط ومحاسبته الدائمة والشديدة لهم، وهي السياسة التي يأمر الإسلام ولي الأمر أن يتبعها مع عماله كما في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عامله في مصر مالك الأشتر (رضي الله عنه)، وكما ورد في صفات المهدي (عليه السلام) أنه شديد على العمال رحيم بالمساكين.
بينما لا يتبنى الإيرانيون هذه السياسة، ولا يعاقبون المسؤول المقصر أو الخائن لمصالح المسلمين على ملأ الناس ليكون عبرة لغيره. فهم يخافون أن يؤدي ذلك إلى تضعيف الدولة الإسلامية التي هي كيان الإسلام.
ويحتمل أن تكون راية اليماني أهدى في طرحها الإسلامي العالمي، وعدم
مراعاتها للعناوين الثانوية الكثيرة والمفاهيم والمعادلات المعاصرة القائمة، التي تعتقد الثورة الإسلامية الإيرانية أنه يجب عليها أن تراعيها.
ولكن المرجح أن يكون السبب الأساسي في أن ثورة اليماني أهدى أنها تحضى بشرف التوجيه المباشر من الإمام المهدي (عليه السلام)، وتكون جزءاً مباشراً من خطة حركته (عليه السلام)، وأن اليماني يتشرف بلقائه ويأخذ توجيهه منه.
ويؤيد ذلك أن أحاديث ثورة اليمانيين تركز على مدح شخص اليماني قائد الثورة وأنه: (يهدي إلى الحق، ويدعو إلى صاحبكم، ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو إلى النار).
أما ثورة الإيرانيين الممهدة فالتركيز في أحاديثها على مدح جمهورها بعنوان أصحاب الرايات السود وأهل المشرق وقوم من المشرق، أكثر من مدح قادتها كما سيأتي في أحاديثها، ما عدا شعيب بن صالح، الذي يفهم من أحاديثه أنه متميز عن بقية قادة الرايات السود، ويليه في المدح السيد الخراساني، ثم رجل قم.
ويؤيد ذلك أيضاً أن ثورة اليماني قريبة من حركة ظهوره (عليه السلام) بالنسبة إلى ثورة الإيرانيين الممهدين، حتى لو فرضنا أن اليماني يخرج قبل السفياني أو أنه يماني آخر يمهد لليماني الموعود.
بينما بداية ثورة الإيرانيين على يد رجل من قم تكون مبكرة حيث يبدأ بها أمر المهدي (عليه السلام) (يكون مبدؤه من المشرق) والمدة بين بدايتها وبين الخراساني وشعيب قد تكون عشرين أو خمسين سنة، أو ما شاء الله من الزمان.
ومثل هذه البداية المبكرة إنما تقوم على اجتهاد الفقهاء واجتهاد وكلائهم السياسيين ولا تتوفر لها ظروف النقاء والنصاعة التي تتوفر لثورة اليماني الموجهة
مباشرة من الإمام المهدي (عليه السلام).
ومنها، احتمال أن يكون اليماني متعدداً، ويكون الثاني منهما هو اليماني الموعود. فقد نصت الروايات المتقدمة على أن ظهور اليماني الموعود مقارن لظهور السفياني، أي في سنة ظهور المهدي (عليه السلام).
ولكن توجد رواية أخرى صحيحة السند عن الإمام الصادق (عليه السلام) تقول: (يخرج قبل السفياني مصري ويماني) (البحار:52/210).
وعليه فيكون هذا اليماني الأول ممهداً لليماني الموعود، كما يمهد الرجل من قم وغيره من أهل المشرق للخراساني وشعيب الموعودين.
أما وقت خروج هذا اليماني الأول، فقد حددت الرواية الشريفة أنه قبل السفياني فقط، وقد يكون قبله بمدة قليلة أو سنين طويلة، والله العالم.
ومنها، خبر (كاسر عينه بصنعاء) الذي رواه في البحار:52/ 245 عن عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ذكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) السفياني فقال: أنى يخرج ذلك ولم يخرج كاسر عينه بصنعاء)، وهو من الأحاديث الملفتة الواردة في مصادر الدرجة الأولى مثل غيبة النعماني ولعله صحيح السند.
ويحتمل أن يكون هذا الرجل الذي يظهر قبل السفياني يمانياً ممهداً لليماني الموعود كما ذكرنا، ويحتمل في تفسير (كاسر عينه) عدة احتمالات أرجحها أنه وصف رمزي مقصود من الإمام الصادق (عليه السلام) لا يتضح معناه إلا في حينه.
أحاديث الملاحم التي وردت حول مصر متعددة. ابتداء من أحاديث بشارة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين بفتحهم مصر، إلى أحاديث غلبة المغاربة على مصر في أحداث ثورة الفاطميين إلى أحداث عصر ظهور المهدي (عليه السلام).
وتختلط أحداث ظهور المهدي (عليه السلام) بأحداث إقامة الدولة الفاطمية في مصادر الملاحم، لأن أحاديث المهدي (عليه السلام) تتضمن أيضاً دخول الجيش المغربي إلى مصر.
وطريقة تمييزها وجود النص فيها على اتصالها بظهور المهدي (عليه السلام)، أو اتصالها بحدث معلوم أنه من أحداث عصر ظهوره، مثل خروج السفياني وغيره. ومع أخذ هذه الملاحظة بعين الإعتبار تبقى بأيدينا عدة أحاديث ذكرت أحداثاً في مصر، من المؤكد أنها من أحداث عصر ظهور المهدي (عليه السلام) أو من المرجح أنها منها.
منها، أحاديث عن (قتل أهل مصر أميرهم) وقد ورد هذا الحديث بعنوان إحدى علامات ظهور المهدي (عليه السلام). (كما في بشارة الإسلام ص 175).
ويوجد تعبير آخر كثر تذاكره على ألسنة الناس في عصرنا يقول: (وقتل أهل مصر ساداتهم، وغلبة العبيد على بلاد السادات) (بشارة الإسلام ص 176)، على أساس أنه ينطبق على قتل أنور السادات، ولكنه اشتباه لأن السادات في هذه النصوص
بمعنى الرؤساء وليس اسم علم. ولأن أمير مصر الذي يكون قتله علامة لظهور المهدي (عليه السلام) يتبعه كما يذكر الحديث دخول جيش أو أكثر إلى مصر، وقد يكون هو الجيش الغربي أو المغربي الذي سنذكره.
بل تذكر بعض الروايات أن قتله يترافق مع قتل أهل الشام حاكمهم، ففي بشارة الإسلام ص185 نقلاً عن القول المختصر لابن حجر قال: (السادس عشر: يقتل قبله ملك الشام وملك مصر).
ومن القريب أيضا أن يكون لقتل حاكم مصر علاقة بالرواية التي تتحدث عن رجل مصري صاحب ثورة يخرج قبل السفياني، ففي البحار:52/210 قال: (يخرج قبل السفياني مصري ويماني) وهذا المصري قد يكون أمير الأمراء أي قائد الجيش الذي ذكرت بعض الروايات أنه يتحرك في مصر ويعلن حالة الحرب: (وقام بمصر أمير الأمراء وجهزت الجيوش).
وقد يكون هو أيضاً المذكور في رواية أخرى بأنه يدعو لآل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) قبل دخول القوات الغربية الآتي ذكرها: (ويخرج أهل الغرب إلى مصر، فإذا دخلوا فتلك إمارة السفياني، ويخرج قبل ذلك من يدعو لآل محمد) (البحار:52/208).
وقد يكون الرجل المصري، وأمير الأمراء، والذي يدعو لآل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ثلاثة أشخاص لا شخصاً واحداً.
وعلى أي حال، فإن هذه الأحاديث تدل بمجموعها على قيام تحرك في مصر وحركة إسلامية ممهدة لظهور المهدي (عليه السلام)، أو في الأقل على وجود حالة إسلامية متفاقمة، وأنه يحدث في مصر تغيير داخلي يرتبط بوضع خارجي من الحرب والسلم.
ومنها، حديث غلبة القبط على أطراف مصر، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال
في علامات ظهور المهدي (عليه السلام): (وغلبة القبط على أطراف مصر) (بشارة الإسلام ص 42).
وقد يكون ذلك هو المقصود فيما رواه ابن حماد في مخطوطته ص 78 عن أبي ذر (ره) قال: (ليخرجن من مصر الأمن. قال خارجة قلت لأبي ذر: فلا إمام جامع حين يخرج. قال: لا، بل تقطعت أقرانها).
والحاصل من ذلك أن أقباط مصر يثيرون فتنة فيها ويسيطرون بشكل وآخر على بعض أطرافها، فيسبب ذلك ضعفاً في وضع مصر الأمني والإقتصادي.
ومن الطبيعي أن يكون ذلك بتحريك أعداء المسلمين من الخارج حيث لم يعهد لأقباط مصر في تاريخهم تحرك هام ضد المسلمين إلا بمساعدة خارجية، كما حدث في حملات الصليبيين، وكما هو الحال في عصرنا الحاضر.
أما وقت ذلك فلا تشير له الروايات المذكورة وأمثالها، ولكن تقول رواية أخرى عن حذيفة (ره): (إن مصر أمنت من الخراب حتى تخرب البصرة). (بشارة الإسلام ص28 نقلاً عن ابن عربي في كتابه محاضرة الأبرار).
وفيها أيضاً: (وخراب مصر من جفاف النيل). ولعل خراب البصرة الموعود يقع بعد دخول قوات السفياني للعراق في سنة ظهور المهدي (عليه السلام).
ومنها، حديث دخول القوات المغربية إلى مصر، ويذكر المؤلفون هذه العلامة عادة في علامات طهور المهدي (عليه السلام). والمقصود بالمغرب فيها وفي الروايات الأخرى مغرب البلاد الإسلامية، الذي يشمل دولة المغرب والجزائر وليبيا وتونس. والعديد منها ينطبق بوضوح على دخول قوات المغاربة إلى مصر في الثورة الفاطمية.
لكن في كتاب غيبة الطوسي ص278 الذي هو من أقدم المصادر وأوثقها،
ولكنها تذكر أهل الغرب وليس أهل المغرب. وكذلك نقلها عنه صاحب بحار الأنوار، وصاحب بشارة الإسلام، وقد اشتبه بعضهم غيرهما فنقلها (المغرب)، فقد تكون هذه عن قوات غربية.
وتحدد هذه الرواية وقت دخول أهل الغرب إلى مصر بأنه قبيل خروج السفياني في دمشق، وهي فقرة من رواية طويلة عن عمار بن ياسر (ره) قال: (إن دولة أهل بيت نبيكم في آخر الزمان، ولها إمارات... ويخرج أهل الغرب إلى مصر، فإذا دخلوا فتلك أمارة السفياني).
وبما أن السفياني يخرج قبل ظهور المهدي (عليه السلام) ببضعة أشهر، فيكون مجئ هذه القوات في سنة الظهور أو نحوها.
وينبغي أن نشير الى بعض الروايات التي تذكر أن السفياني يقاتل أهل مصر ويدخلها ويرتكب فيها الجرائم أربعة أشهر، فالأرجح أنها من المبالغة في أمر السفياني ولم يرد منها شيء في مصادر الدرجة الأولى.
كما تذكر بعض أحاديث الأبقع الذي يقتله السفياني في دمشق أنه مصري، أو له علاقة بمصر، والله العالم.
ومنها، حديث أن المهدي (عليه السلام) يجعل مصر منبراً. وقد ورد ذلك في رواية عباية الأسدي عن علي (عليه السلام) قال: (سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو مشتكي (متكٍ) وأنا قائم عليه قال: لأبنين بمصر منبراً، ولأنقضن دمشق حجراً حجراً، ولأخرجن اليهود والنصارى من كل كور العرب، ولأسوقن العرب بعصاي هذه! قال قلت: كأنك تخبر أنك تحيا بعد ما تموت؟ فقال: هيهات يا عباية قد ذهبت في غير مذهب. يفعله رجل مني) (البحار:53/60).
وعن علي (عليه السلام) في المهدي وأصحابه قال: (ثم يسيرون إلى مصر فيصعد منبره
فيخطب الناس، فتستبشر الأرض بالعدل، وتعطي السماء قطرها، والشجر ثمرها، والأرض نباتها، وتتزين لأهلها، وتأمن الوحوش حتى ترتعي في طرق الأرض كالأنعام. ويقذف في قلوب المؤمنين العلم، فلا يحتاج مؤمن إلى ما عند أخيه من العلم. فيومئذ تأويل الآية: يغني الله كلاً من سعته). (بشارة الإسلام ص 71).
ويفهم من هاتين الروايتين أنه سيكون لمصر في دولة المهدي العالمية مركز علمي وإعلامي متميز في العالم، خاصة بملاحظة تعبير (لأبنين بمصر منبراً) وتعبير (ثم يسيرون إلى مصر فيصعد منبره) أي يسير المهدي (عليه السلام) وأصحابه إلى مصر، لا لكي يفتحها أو يثبت أمر حكمه لها، بل لتستقبله هو وأصحابه أرواحنا فداهم، ولكي يصعد منبره الذي يكون اتخذه فيها كما وعد جده أمير المؤمنين (عليه السلام)، وليوجه خطابه من هناك إلى العالم.
وكون مصر منبر علم المهدي (عليه السلام) ومنطلق صوته إلى العالم، لا ينافي المستوى العلمي الذي دلت هذه الرواية وغيرها أن المسلمين يبلغونه في عصره، لأن أمر العلم يبقى نسبياً.
ومنها، أن للمهدي (عليه السلام) في هرمي مصر كنوزاً وذخائر من العلوم وغيرها، وقد ورد خبرها في مصادر الدرجة الأولى كما في كتاب كمال الدين للصدوق قدس سره ص564 في رواية عن أحمد بن محمد الشعراني الذي هو من ولد عمار بن ياسر (رضي الله عنه)، عن محمد بن القاسم المصري، أن ابن أحمد بن طولون شغل ألف عامل في البحث عن باب الهرم سنة، فوجدوا صخرة مرمر وخلفها بناء لم يقدروا على نقضه، وأن أسقفاً من الحبشة قرأها وكان فيها عن لسان أحد الفراعنة قوله: (وبنيت الأهرام والبراني، وبنيت الهرمين وأودعتهما كنوزي وذخائري) فقال ابن طولون: (هذا شيء ليس لأحد فيه حيلة إلا القائم من آل
محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)) وردت البلاطة كما كانت مكانها).
وفي هذه الرواية نقاط ضعف قد تكون من إضافة بعض الرواة، ولكن فيها نقاط قوة تستوجب الإلتفات. والله العالم.
ومنها، حديث (أخنس مصر) الذي رواه صاحب كنز العمال في البرهان ص 200 نقلاً عن تاريخ ابن عساكر عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (سيكون بمصر رجل من قريش أخنس) وفي فيض القدير للمناوي:2/131من بني أمية (يلي سلطاناً ثم يغلب عليه أو ينزع منه، فيفر إلى الروم، فيأتي بهم إلى الإسكندرية فيقاتل أهل الإسلام بها، وذلك أول الملاحم)، فقد يكون المقصود بالملاحم ملاحم ظهور المهدي (عليه السلام)، وببني أمية خطهم، والله العالم.
الأحاديث الواردة حول أحداث العراق وأوضاعه في عصر الظهور كثيرة، يظهر منها أن العراق يكون ساحة صراع لا تهدأ بين قوى متعددة، وأنه تمر عليه أربعة عهود أو فترات:
الفترة الأولى: فترة تسلط الجبابرة على العراق مدة طويلة قبل ظهور المهدي (عليه السلام)، وشمول أهله قتل ذريع وخوف لا يقر لهم معه قرار.
الفترة الثانية: صراع النفوذ فيه بين اتجاه أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، والإتجاه المؤيد للسفياني حاكم بلاد الشام.
الفترة الثالثة: احتلال السفياني العراق وتنكيله بأهله، ثم دخول جيش الإمام المهدي (عليه السلام)، وهزيمته جيش السفياني وطرده من العراق.
الفترة الرابعة: دخول الإمام المهدي (عليه السلام) العراق وتطهيره من مؤيدي السفياني وفئات الخوارج، واتخاذه مقراً له (عليه السلام) وعاصمةً لدولته.
وقد وردت روايات عن أحداث فيه خلال هذه المراحل الأربع مثل: خروج الشيصباني المعادي للإمام المهدي (عليه السلام) قبل السفياني، وشهادة نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين، وخروج عوف السلمي من الجزيرة أو تكريت، ومنع أهل العراق من الحج ثلاث سنين، وخسف البصرة وخرابها قبيل ظهور المهدي (عليه السلام)، وخسف في بغداد والحلة. ودخول قوات مغربية أو غربية
إلى العراق. وخروج أحد الصالحين في مجموعة قليلة لمقاومة جيش السفياني. وخروج عدة فئات من الخوارج على المهدي (عليه السلام) من الشيعة والسنة. وآخر فئة منهم خوارج (رميلة الدسكرة) الواقعة قرب شهربان في محافظة ديالى.
وفيما يلي عرض لأهم أحاديث هذه الفترات:
الفترة الأولى والثانية
وأبرز ما في أحاديثها شدة البلاء على أهل العراق من حكامه الجبابرة، واختلاف هؤلاء الحكام مع أصحاب الرايات السود الإيرانيين.
فعن جابر بن عبد الله الأنصاري (عليه السلام) قال: (يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذلك) (البحار:51/92).
والقفيز كيل للغلات، والمعنى أنه لا يكاد يصل إليهم مواد تموينية أو مساعدات مالية، بسبب الإيرانيين وحربهم معهم.
وقد تكون هذه الأزمة هي الجوع والخوف الموعود الذي وردت فيه رواية عن جابر الجعفي قال: (سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) (أي الإمام الباقر) عن قول الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيءٍْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ)، فقال: يا جابر ذلك خاص وعام. فأما الخاص من الجوع فبالكوفة يخص الله به أعداء آل محمد فيهلكهم. وأما العالم فبالشام يصيبهم خوف وجوع ما أصابهم قط. أما الجوع فقبل قيام القائم. وأما الخوف فبعد قيام القائم). البحار:52/229.
ولا أجد وجهاً لأن يكون الجوع خاصاً بأعداء أهل البيت (عليهم السلام) إلا أن يكون أزمة اقتصادية تعاني منها حكومة الجبابرة في العراق.
وهذا الخوف المذكور في بلاد الشام بعد ظهور المهدي (عليه السلام)،لاينفي وجوده قبل ظهوره، وقد نصت الرواية التالية على أنه يكون شديداً في العراق قبل
الظهور، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (يزجر الناس قبل قيام القائم عن معاصيهم بنار تظهر لهم في السماء، وحمرة تجلل السماء، وخسف ببغداد، وخسف ببلدة البصرة، ودماء تسفك بها، وخراب دورها، وفناء يقع في أهلها. وشمول أهل العراق خوف لا يكون معه قرار) (البحار:52/221)، وليس من الضروري أن تكون هذه العلامات متسلسلة حسب ما وردت في الرواية، بل قد يكون الخوف والخسف قبل الآيات السماوية.
والظاهر أن نار السماء وحمرتها آية ربانية وليست نار انفجارات مثلاً.
وتذكر الرواية التالية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عدة أحداث في العراق في مرحلة حكم الجبابرة قبل السفياني وظهور المهدي (عليه السلام).
فعن أنس بن مالك قال: (لما رجع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من قتال أهل النهروان نزل براثا وكان بها راهب في قلايته وكان اسمه الحباب فلما سمع الراهب الصيحة والعسكر أشرف من قلايته إلى الأرض فنظر إلى عسكر أمير المؤمنين فاستفظع ذلك ونزل مبادراً فقال: من هذا، ومن رئيس هذا العسكر؟ فقيل له: هذا أمير المؤمنين وقد رجع من قتال أهل النهروان. فجاء الحباب مبادراً يتخطى الناس حتى وقف على أمير المؤمنين فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين حقاً حقاً. فقال له: وما علمك بأني أمير المؤمنين حقاً حقاً؟ قال له: بذلك أخبرنا علماؤنا وأحبارنا. فقال له: يا حباب! فقال الراهب: وما علمك باسمي؟! فقال: أعلمني بذلك حبيبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فقال له الحباب: مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك علي بن أبي طالب وصيه. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) وأين تأوي؟ فقال: أكون في قلاية لي هاهنا. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): بعد يومك هذا لا تسكن فيها، ولكن ابن هاهنا مسجداً وسمه باسم بانيه (فبناه رجل اسمه براثا فسمي المسجد ببراثا باسم الباني له) ثم قال: ومن أين تشرب يا حباب؟ فقال: يا أمير
المؤمنين من دجلة هاهنا. قال: فلم لا تحفر عيناً أو بئراً؟ فقال له: يا أمير المؤمنين كلما حفرنا بئراً وجدناها مالحة غير عذبة. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): إحفر هاهنا بئراً فحفر فخرجت عليهم صخرة لم يستطيعوا قلعها، فقلعها أمير المؤمنين (عليه السلام) فانقلعت عن عين أحلى من الشهد، وألذ من الزبد. فقال له: يا حباب يكون شربك من هذه العين. أما إنه يا حباب ستبنى إلى جنب مسجدك هذا مدينة وتكثر الجبابرة فيها، ويعظم البلاء، حتى أنه ليركب فيها كل ليلة جمعة سبعون ألف فرج حرام، فإذا عظم بلاؤهم شدوا على مسجدك بفطوة ثم - وابنه بنين ثم وابنه لايهدمه إلا كافر ثم بيتاً - فإذا فعلوا ذلك منعوا الحج ثلاث سنين، واحترقت خضرهم وسلط الله عليهم رجلاً من أهل السفح لا يدخل بلداً إلا أهلكه وأهلك أهله، ثم ليعد عليهم مرة أخرى، ثم يأخذهم القحط والغلا ثلاث سنين حتى يبلغ بهم الجهد، ثم يعود عليهم، ثم يدخل البصرة فلا يدع فيها قائمة إلا سخطها وأهلكها وأسخط أهلها. وذلك إذا عمرت الخربة وبني فيها مسجد جامع، فعند ذلك هلاك البصرة، ثم يدخل مدينة بناها الحجاج يقال لها واسط، فيفعل مثل ذلك، ويتوجه نحو بغداد فيدخلها عفواً، ثم يلتجئ الناس إلى الكوفة. ولا يكون بلد من الكوفة تشوش الأمر له. ثم يحرج هو والذي أدخله بغداد نحو قبري لينبشه فيتلقاهما السفياني فيهزمهما ثم يقتلهما، ويوجه جيشاً نحو الكوفة فيستعبد بعض أهلها. ويجئ رجل من أهل الكوفة فيلجؤهم إلى سور فمن لجأ إليها أمن. ويدخل جيش السفياني إلى الكوفة فلا يدعون أحداً إلا قتلوه، وإن الرجل منهم ليمر بالدرة المطروحة العظيمة فلا يتعرض لها، ويرى الصبي الصغير فيلحقه فيقتله.
فعند ذلك يا حباب يتوقع بعدها هيهات هيهات وأمور عظام، وفتن كقطع الليل المظلم. فاحفظ عني ما أقول لك يا حباب). (البحار:52/217).
والتشويش في نص الرواية ظاهر، وقد قال المجلسي (ره) بعد نقلها: (إعلم أن النسخة كانت سقيمة فأوردت الخبر كما وجدته).
وأمر سندها ومتنها قابل للمناقشة، ولكن مهما يكن أمر صحتها فهي تتضمن أموراً عما يعانيه أهل العراق من حكم الجبابرة وبطشهم وردت في روايات أخرى بعضها صحيح، وقد يكون الأحداث المذكورة فيها من هدم مسجد براثا، وتفاقم الفساد في بغداد، وتسلط قادة عسكريين عليها من جبال كردستان أو إيران وغيرها.. قد مرت وحدثت في القرون السابقة، ولكن الأحداث المتعلقة بالسفياني لم تحدث.
قال الشيخ المفيد قدس سره: (قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (عليه السلام)، وحوادث تكون أمام قيامه، وآيات ودلالات: فمنها خروج السفياني، وقتل الحسني، واختلاف بني العباس في الملك الدنياوي، وكسوف الشمس في النصف من رمضان، وخسوف القمر في آخره على خلاف العادات، وخسف بالبيداء، وخسف بالمغرب، وخسف بالمشرق، وركود الشمس من عند الزوال إلى أوسط أوقات العصر، وطلوعها من المغرب، وقتل نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين، وذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام، وهدم حائط مسجد الكوفة، وإقبال رايات سود من قبل خراسان، وخروج اليماني، وظهور المغربي بمصر وتملكه الشامات، ونزول الترك الجزيرة، ونزول الروم الرملة، وطلوع نجم بالمشرق يضئ كما يضئ القمر، ثم ينعطف حتى يكاد يلتقي طرفاه، وحمرة تظهر في السماء وتنتشر في آفاقها، ونار تظهر بالمشرق طويلاً وتبقى في الجو ثلاثة أيام أو سبعة أيام، وخلع العرب أعنتها وتملكها البلاد، وخروجها عن سلطان العجم، وقتل أهل مصر أميرهم، وخراب الشام، واختلاف ثلاث رايات فيه. ودخول رايات قيس والعرب إلى مصر، ورايات كندة إلى خراسان، وورود خيل من قبل الغرب حتى تربط بفناء الحيرة، وإقبال رايات سود من المشرق نحوها، وبثق في الفرات حتى يدخل الماء أزقة الكوفة، وخروج ستين كذاباً كلهم يدعي النبوة، وخروج اثني عشر من آل أبي طالب كلهم يدعي الإمامة لنفسه، وإحراق رجل عظيم القدر من بني العباس بين
جلولاء وخانقين، وعقد الجسر مما يلي الكرخ بمدينة السلام، وارتفاع ريح سوداء بها في أول النهار، وزلزلة حتى ينخسف كثير منها، وخوف يشمل أهل العراق وبغداد، وموت ذريع فيه ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وجراد يظهر في أوانه وفي غير أوانه حتى يأتي على الزرع والغلات، وقلة ريع لما يزرعه الناس، واختلاف صنفين من العجم وسفك دماء كثيرة فيما بينهم، وخروج العبيد عن طاعات ساداتهم وقتلهم مواليهم، ومسخ لقوم من أهل البدع حتى يصيروا قردة وخنازير، وغلبة العبيد على بلاد السادات، ونداء من السماء حتى يسمعه أهل الأرض، كل أهل لغة بلغتهم، ووجه وصدر يظهران للناس في عين الشمس، وأموات ينشرون من القبور حتى يرجعوا إلى الدنيا فيتعارفون ويتزاورون.
ثم يختم ذلك بأربع وعشرين مطرة، تتصل فتحيا بها الأرض بعد موتها، وتعرف بركاتها، ويزول بعد ذلك كل عاهة عن معتقدي الحق من شيعة المهدي (عليه السلام)، فيعرفون عند ذلك ظهوره بمكة فيتوجهون نحوه لنصرته، كما جاءت بذلك الأخبار.
وجملة من هذه الأحداث محتومة، ومنها مشروطة. والله أعلم بما يكون، وإنما ذكرناها على حسب ما ثبت في الأصول، وتضمنها الأثر المنقول. وبالله نستعين. (الإرشاد للمفيد ص 336 والبحار:52/219 - 221)
وما ذكره المفيد قدس سره تعدادٌ مجملٌ لعلامات الظهور البعيدة والقريبة، ولا يقصد أنها متسلسلة حسب ما عددها، فمنها علامات قريبة لا يفصلها عن ظهوره (عليه السلام) أكثر من أسبوعين، مثل قتل النفس الزكية بين الركن والمقام. بل هو في الحقيقة جزء من حركة الظهور لأنه رسول المهدي (عليه السلام).
ومنها ما يفصله عن ظهور المهدي (عليه السلام) قرون عديدة مثل اختلاف بني العباس فيما بينهم، وظهور المغربي في مصر وتملكه الشامات في حركة الفاطميين.
وقصده (ره) بالمحتوم والمشروط من هذه العلامات أن منها حتمي الوقوع على
كل حال، كما ورد في عدة علامات النص على حتميتها، مثل السفياني واليماني وقتل النفس الزكية والنداء السماوي والخسف بجيش السفياني وغيرها. ومنها مشروط بأحداث أخرى في علم الله سبحانه ومقاديره، والله الأمر من قبل ومن بعد فيها وفي غيرها.
ويبدو أن المقصود بالحسني النفس الزكية في مكة، أو الغلام الذي يقتله جيش السفياني في المدينة قرب ظهور المهدي (عليه السلام)، وإن كان يحتمل أنه سيد حسني صاحب حركة الإسلامية في العراق، فقد ورد في بعض الروايات (وتحرك الحسني).
أما (قتل نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين) فيحتمل بعضهم أن ينطبق على الشهيد الصدر قدس سره والذين استشهدوا معه حيث كان عددهم نحو سبعين رضوان الله عليهم. وظهر الكوفة هو النجف، وتسمى أيضاً نجف الكوفة، ونجفة الكوفة أي مرتفعها وجبلها.
وقد وردت روايات في خيل المغرب التي تنزل في فناء الحيرة، أي تستقر قرب الكوفة، وأن هذا الحدث يكون في أيام السفياني أو قربه. ولكن الملفت في نص المفيد (ره) قوله: (وورود خيل من قبل الغرب حتى تربط بفناء الحيرة)، فيحتمل أن تكون هذه القوات غربية تدخل العراق لمعاونة السفياني، أو تكون قبل السفياني.
والمقصود برايات المشرق: الرايات السود الخراسانية التي تدخل مع قوات اليماني لمواجهة السفياني عندما يغزو العراق.
أما بثق الفرات وفيضانه في الكوفة، فقد ورد في الأحاديث أنه يكون في سنة
الظهور، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (عام - أو سنة - الفتح ينبثق الفرات حتى يدخل أزفة الكوفة) (البحار:52/217).
وشهادة الشيخ المفيد بأن هذه العلامات والأحداث ثبتت في الأصول الحديثية، تعطي رواياتها قيمة كبيرة لدقته وجلالة قدره، ولأنه أقرب إلى المصادر والتابعين والأئمة (عليهم السلام) فقد توفي (ره) سنة 413 هجرية.
كما تتحدث روايات أخرى عن العراق في فترة ما قبل السفياني:
منها، ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) التي تقول: (ثم يقع التدابر والاختلاف بين أمراء العرب والعجم، فلا يزالون يختلفون إلى أن يصير الأمر إلى رجل من ولد أبي سفيان) (الزام الناصب: 2/160).
ومنها، رواية (تحرك الحسني) الذي توجد قرائن على أنه يكون في العراق، والذي قد يكون قتله بعد حكمه.
ومنها، ما يفهم منها استمرار حكم الجبابرة في العراق إلى ظهور المهدي (عليه السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا هدم حائط مسجد الكوفة مؤخره مما يلي دار عبد الله بن مسعود فعند ذلك زوال ملك القوم (بني فلان) وعند زواله خروج القائم (عليه السلام)) (الإرشاد للمفيد ص360) وفي رواية غيبة الطوسي ص271 (أما إن هادمه لايبنيه) يعني أن هادمه يقتل أو يذهب قبل أن يعيد بناءه.
كما تشير بعض روايات غزو السفياني للعراق إلى أنه يقاتل حكومة عدوة للاسلام والإمام المهدي (عليه السلام)، كما ورد في رواية البحار:52/273: (وأمير الناس يومئذ جبار عنيد يقال له الكاهن الساحر).
الحسني والشيصباني وعوف السلمي
ورد ذكر الحسني في عدة أحاديث تشير إلى أنه يقوم بحركة ثم يقتل،
ولكنها لاتنص على أنه في العراق، فبعضها يذكر حسني المدينة، وحسني مكة، وحسني العراق، والحسيني الخراساني الذي تسميه روايات مصادر السنة (الحسني) والذي يدخل العراق بجيشه في سنة الظهور، فيحتمل أن يكون تحركه هو المقصود في روايات تحرك الحسني في العراق ويحتمل أن يكون حسني قبله.
أما الشيصباني فقد ورد فيه حديث في غيبة النعماني عن جابر بن يزيد الجعفي قال: (سألت أبا جعفر (الإمام الباقر (عليه السلام)) عن السفياني فقال: (وأنى لكم بالسفياني حتى يخرج قبله الشيصباني يخرج بأرض كوفان، ينبع كما ينبع الماء فيقتل وفدكم، فتوقعوا بعد ذلك السفياني وخروج القائم (عليه السلام)). (البحار:52/250)
وقد تضمن عدة نقاط عن شخصيته:
منها، وصفه بالشيصباني نسبة إلى الشيصبان وهو وصف يعبر به الأئمة (عليهم السلام) عن الطواغيت والأشرار، لأنه بالأصل اسم للشيطان، كما في شرح القاموس.
ومنها، أنه يخرج قبل السفياني، ويظهر أنه لايكون بينه وبينه مدة طويلة، أو يكون السفياني بعده مباشرة، بدليل قوله (عليه السلام): (فتوقعوا بعد ذلك السفياني).
ومنها، أنه يخرج في العراق الذي هو أرض كوفان، ويحتمل أن يكون في مدينة الكوفة. ويكون خروجه أي ثورته أو حكمه فجأة بنحو غير متوقع (ينبع كما ينبع الماء) وأنه يكون طاغية سفاكاً يقتل المؤمنين.
والظاهر أن معنى (يقتل وفدكم) أي وجهاء المؤمنين الذي يتقدمون الوفد عادة، حيث يقال وفد القبيلة ووفد المدينة بمعنى وجهائها ورهطها.
ويحتمل أن ينطبق على صدام كما يرى بعضهم لأنه مستجمع للصفات المذكورة. فإن ظهر بعده السفياني في الشام يكون هو شيصباني العراق الموعود.
أما عوف السلمي فقد ورد فيه رواية في غيبة الطوسي، عن حذلم بن بشير عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: (قلت لعلي بن الحسن (عليه السلام) صف لي خروج المهدي وعرفني دلائله وعلاماته فقال: يكون قبل خروجه خروج رجل يقال له عوف السلمي بأرض الجزيرة، ويكون مأواه تكريت وقتله بمسجد دمشق. ثم يكون خروج شعيب بن صالح من سمرقند، ثم يخرج السفياني الملعون من الوادي اليابس، وهو من ولد عتبة بن أبي سفيان، فإذا ظهر السفياني اختفى المهدي، ثم يخرج بعد ذلك) (البحار:52/213).
وما يتعلق بشعيب من هذا الحديث وأنه من سمرقند مخالف لما هو مشهور في مصادرنا الشيعية من أنه من أهل الري، إلا أن يفسر بأن أصله من أهل سمرقند. وكذلك أمر خروجه قبل السفياني كما ذكرنا في محله.
ويبدو أن عوفاً السلمي هذا يخرج على الحكومة السورية وليس العراقية، وأنه إن صحت روايته يكون قبل السفياني بمدة غير طويلة.
أما الجزيرة التي هي مركز حركته فهي اسم لمنطقة عند الحدود العراقية السورية، وهو المعنى المفهوم للجزيرة عندما تطلق بدون إضافة كما نلاحظ في كتب التاريخ والحديث، وتسمى أيضاً جزيرة ربيعة أو ديار بكر، ولا يفهم منها جزيرة العرب إلا بالإضافة.
والظاهر أن معنى مأواه تكريت أنها تكون ملجأه قبل حركته أو بعد فشل حركته وفراره. وهي المدينة المعروفة في العراق.
ويؤيد ذلك أنها قريبة من مركز حركته الجزيرة فيكون ما ورد في بعض النسخ بدلها (ومأواه بكريت أو بكويت) مصحفاً عن تكريت. ويؤيد ذلك أن الموجود في البحار وغيبة الطوسي (تكريت) فقط.
وتشير الرواية إلى أنه بعد ذلك يقتل في مسجد دمشق أي يغتال فيه، أو يقبض
عليه ويقتل عنده. وعلى هذا يكون خروجه من أحداث بلاد الشام، وله صلة بأحداث العراق.
الفترة الثالثة: غزو السفياني، وخراب البصرة
وتصف أحاديثها غزو السفياني العراق واحتلاله، وتنكيله بأهله، خاصة بشيعة المهدي وأهل البيت (عليهم السلام)، وقد تعرضنا لها في حركة السفياني. ويفهم من مجموعها أن السلطة في العراق تكون ضعيفة إلى حد لا تستطيع أن ترد حملة السفياني لا عسكرياً ولا شعبياً، ثم لا تستطيع أن تمنع دخول القوات اليمانية والإيرانية التي تدخل العراق لمواجهة قوات السفياني.
ومن المحتمل أن يكون دخول الجيش السفياني إلى العراق بطلب من حكومته الضعيفة، وأن تكون الروايات عن قتال يخوضه جيش السفياني في الدجيل وبغداد وغيرها تتحدث عن قتاله مع فئات ثائرة عليه.
كما يفهم من الرويات أن القوات اليمانية والإيرانية يكون لها تأييد شعبي من العراقيين، وأنهم يستبشرون بها ويساعدونها في تعقب قوات السفياني.
أما خراب البصرة فرواياته ثلاثة أنواع: خرابها بالغرق. وخرابها بثورة الزنج. و(خرابها) بوقوع خسف وتدمير فيها.
وأكثر كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) الواردة في نهج البلاغة وغيره تقصد الخرابين الأولين اللذين وقعا في زمن العباسيين كما ذكر عامة المؤرخين.
قال (عليه السلام) في الخطبة رقم13: (كنتم جند المرأة، وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم، وعقر فهربتم. أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق. المقيم بينكم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه. كأني بمسجدكم
كجؤجؤ سفينة، وقد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها، وغرق من في ضمنها).
قال ابن أبي الحديد: (فأما إخباره (عليه السلام) أن البصرة تغرق ما عدا المسجد الجامع بها، فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم تدل على أن البصرة تهلك بالماء الأسود ينفجر من أرضها، فتغرق ويبقى مسجدها.
والصحيح أن المخبر به قد وقع. فإن البصرة غرقت مرتين، مرة في أيام القائم بأمر الله، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر، حسب ما أخبر به أمير المؤمنين (عليه السلام) جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام، وخربت دورها وغرق كل ما في ضمنها، وهلك كثير من أهلها، وأحد هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقله خلفهم عن سلفهم). انتهى.
وأما خرابها بسبب ثورة الزنج التي وقعت في زمن العباسيين في منتصف القرن الرابع، فقد أخبر به أمير المؤمنين (عليه السلام) أكثر من مرة، من قبيل الخطبة 128 التي قال فيها: (يا أحنف كأني به وقد سار بالجيش الذي لا يكون له غبار ولا لجب، ولا قعقعة لجم، ولا حمحمة خيل، يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام).
قال الشريف الرضي (ره): (يومئ بذلك إلى صاحب الزنج). ثم قال (عليه السلام): (ويل لسكككم العامرة، والدور المزخرفة، التي لها أجنحة كأجنحة النسور. وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد غائبهم).
وثورة الزنج بدأت في القرن الثالث بقيادة القرمطي الذي ادعى أنه علوي، وهي مدونة في مصادر التاريخ، وقد انطبقت عليها الأوصاف التي وصفها بها أمير المؤمنين (عليه السلام) بشكل دقيق، وكانت ردة فعل للظلم والترف واضطهاد العبيد،
وكان عامة جيشها من الزنوج العبيد الحفاة الذين لا خيل لهم.
وأما (خرابها) الذي هو من علامات ظهور المهدي (عليه السلام)، فقد وردت فيه روايات تذكر أن البصرة من المؤتفكات المذكورة في القرآن الكريم أي المدن المنقلبات بأهلها بالخسف والعقاب الإلهي، وأن البصرة ائتفكت ثلاث مرات وبقيت الرابعة.
ففي شرح النهج لابن ميثم البحراني قال: (لما فرغ أمير المؤمنين (عليه السلام) من أمر الحرب لأهل الجمل (من أمر أهل الجمل) أمر منادياً أن ينادي في أهل البصرة أن الصلاة جامعة لثلاثة أيام (من غد إن شاء الله) ولا عذر لمن تخلف إلا من حجة أو عذر، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً. فلما كان اليوم الذي اجتمعوا فيه خرج (عليه السلام) فصلى بالناس الغداة في المسجد الجامع، فلما قضى صلاته قام فأسند ظهره إلى حائط القبلة عن يمين المصلي فخطب الناس، فحمد الله وأنثى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) واستغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، ثم قال: يا أهل البصرة، يا أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها ثلاثاً وعلى الله تمام الرابعة!
يا جند المرأة وأعوان البهيمة، رغا فأجبتم، وعقر فهربتم، أخلاقكم دقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق، بلادكم أنتن بلاد الله تربة، وأبعدها من السماء، بها تسعة أعشار الشر. المحتبس فيها يذنبه، والخارج منها بعفو الله.
كأني أنظر إلى قريتكم هذه وقد طبقها الماء حتى ما يرى منها إلا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر.
فقام إليه الأحنف بن قيس فقال له: يا أمير المؤمنين ومتى يكون ذلك؟ قال: يا أبا بحر إنك لن تدرك ذلك الزمان، وإن بينك وبينه لقروناً، ولكن ليبلغ الشاهد منكم الغائب عنكم، لكي يبلغوا إخوانهم إذا هم رأوا البصرة قد تحولت أخصاصها دوراً وآجامها قصوراً، فالهرب الهرب فإنه لا بصرة لكم يومئذ. ثم التفت عن يمينه فقال:
كم بينكم وبين الأبلة؟ فقال له المنذرين الجارود: فداك أبي وأمي، أربعة فراسخ. قال له: صدقت، فوالذي بعث محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأكرمه بالنبوة، وخصه بالرسالة، وعجل بروحه إلى الجنة، لقد سمعت منه كما تسمعون مني أن قال: يا علي هل علمت أن بين التي تسمى البصرة والتي تسمى الأبلة أربعة فراسخ، وسيكون بالتي تسمى أبلة موضع أصحاب العشور، يقتل في ذلك الموضع من أمتي سبعون ألف شهيد، هم يومئذ بمنزلة شهداء بدر.
فقال له المنذر: يا أمير المؤمنين ومن يقتلهم، فذاك أبي وأمي؟ قال: يقتلهم إخوان وهم جيل كأنهم الشياطين، سود ألوانهم، منتنة أرواحهم، شديد كلبهم، قليل سلبهم طوبى لمن قتلوه. ينفر لجهادهم في ذلك الزمان قوم هم أذلة عند المتكبرين من أهل ذلك الزمان، مجهولون في الأرض، معروفون في السماء، تبكي عليهم السماء وسكانها، والأرض وسكانها - ثم هملت عيناه بالبكاء ثم قال: ويحك يا بصرة من جيش لارهج له ولاحس. فقال له المنذر: وما الذي يصيبهم من قبل (قبل) الغرق مما ذكرت؟ فقال: هما بابان: فالويح باب الرحمة، والويل باب عذاب.
يا بن الجارود، نعم: ثارات عظيمة. منها عصبة يقتل بعضهم بعضاً. ومنها فتنة يكون فيها إخراب منازل وخراب ديار وانتهاب أموال وسباء نساء يذبحن ذبحاً، يا ويل أمرهن حديث عجيب. ومنها أن يستحل الدجال الأكبر الأعور الممسوح العين اليمنى والأخرى ممزوجة لكأنها في الحمرة علقة، ناتئ الحدقة كهيئة حبة العنب الطافية على الماء، فيتبعه من أهلها عدة من قتل بالأبلة من الشهداء، أنا جيلهم في صدورهم، يقتل من يقتل، ويهرب من يهرب. ثم رجف، ثم قذف، ثم خسف ثم مسخ. ثم الجوع الأغبر، ثم الموت الأحمر وهو الغرق.
يا منذر: إن للبصرة ثلاثة أسماء سوى البصرة في زبر الأول، لا يعلمها إلا العلماء. منها الخريبة، ومنها تدمر، ومنها المؤتفكة.
إلى أن قال: يا أهل البصرة، إن الله لم يجعل لأحد من أمصار المسلمين خطة شرف
ولاكرم إلا وقد جعل فيكم أفضل من ذلك، وزادكم من فضله بمنه ما ليس لهم. أنتم أقوم الناس قبلة، قبلتكم على المقام حيث يقوم الإمام بمكة، وقارؤكم أقرأ الناس، وزاهدكم أزهد الناس، وعابدكم أعبد الناس، وتاجركم أتجر الناس وأصدقهم في تجارته، ومتصدقكم أكرم الناس صدقة، وغنيكم أشد الناس بذلاً وتواضعاً، وشريفكم أكرم الناس خلقاً، وأنتم أكثر الناس جواراً، وأقلهم تكلفاً لما لا يعنيه، وأحرصهم على الصلاة في جماعة، ثمرتكم أكثر الثمار، وأموالكم أكثر الأموال، وصغاركم أكيس الأولاد، ونساؤكم أمنع الناس وأحسنهن تبعلاً، سخر لكم الماء يغدو عليكم ويروح صلاحاً لمعاشكم، والبحر سبباً لكثرة أموالكم، فلو صبرتم واستقمتم لكانت شجرة طوبى لكم مقيلاً وظلاً ظليلاً، غير أن حكم الله ماض، وقضاءه نافذ، لامعقب لحكمه، وهو سريع الحساب، يقول الله: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً). إلى أن قال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال لي يوماً، وليس معه غيري: إن جبرئيل الروح الأمين حملني على منكبه الأيمن حتى أراني الأرض ومن عليها، وأعطاني أقاليدها، وعلمني ما فيها وما قد كان على ظهرها، وما يكون إلى يوم القيامة، ولم يكبر ذلك على كما لم يكبر على أبي آدم، علمه الأسماء كلها ولم تعلمها الملائكة المقربون. وإني رأيت على شاطئ البحر قرية (بلدة) تسمى البصرة، فإذا هي أبعد الأرض من السماء وأقربها من الماء، وأنها لأسرع الأرض خراباً، وأخشنها تراباً، وأشدها عذاباً. ولقد خسف بها في القرون الخالية مراراً، وليأتين عليها زمان وإن لكم يا أهل البصرة وما حولكم من القرى من الماء ليوماً عظيما بلاؤه. وإني لأعلم موضع منفجره من قريتكم هذه. ثم أمور قبل ذلك تدهمكم، عظيمة أخفيت عنكم وعلمناها، فمن خرج عنها عند دنو غرقها فبرحمة من الله سبقت له. ومن بقي فيها غير مرابط فبذنبه، وما الله بظلام للعبيد) (البحار:60/224 - 226)
وقد أضفنا لها فقرة من نهج السعاة في مستدرك نهج البلاغة ص325، وقد
روى فقرة منها عن عيون الأخبار لابن قتيبة عن الحسن البصري، وفيها: (غير أني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول: تفتح أرض يقال لها البصرة أقوم الأرضين قبلة، قارؤها أقرأ الناس، وعابدها أعبد الناس، وعالمها أعلم الناس، ومتصدقها أعظم الناس صدقة، وتاجرها أعظم الناس تجارة. منها إلى قرية يقال لها الأبلة أربعة فراسخ، يستشهد عند مسجد جامعها أربعون ألفا، الشهيد منهم يومئذ كالشهيد معي يوم بدر).
لكن لو صحت هذه الصيغة للخطبة الشريفة فلا تدل على أن هذا الخراب متصل بالظهور لأن بعض صيغها تذكر أنه يكون في الرجعة.
ويظهر من مصادر التاريخ أن خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) في البصرة وحديثه فيها عن الملاحم قطعية ومشهورة، ولكن رواياتها المتعددة تختلف في الطول والقصر وبعض المضامين.
وتنفرد الروايتان اللتان ذكرناهما بأن خرابها يكون بالغرق بعد الخسف، وهو ما لم يحدث في غرقها في المرتين أو في ثورة الزنج.
وتنفردان أيضاً بذكر شهداء البصرة السبعين ألفاً أو الأربعين ألفاً، وأنهم في درجة شهداء بدر، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) بكى عليهم، وفي رواية أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بكى عليهم.
وتحدد الرواية الأولى مكان شهادتهم بين البصرة والأبلة، التي هي اليوم حي من البصرة تقع قربه محطة القطار، بينما تذكر رواية ابن قتيبة أن مكان شهادتهم عند مسجدها الجامع الذي يظهر أن المقصود بمسجد البصرة.
ولابد أن تكون حادثة استشهادهم قبل ظهور المهدي (عليه السلام)، لأنه لا جبابرة ولا مستكبرون بعد ظهوره (عليه السلام) ليكون هؤلاء الشهداء مستضعفين عندهم كما وصفتهم الرواية.
كما لا تحدد الرواية بوضوح من يقتلهم، ولعل كلمة (إخوان) مصحفة عن كلمة أخرى، والدجال المذكور أنه يكون بعدهم وأتباعه السبعون ألفاً من النصارى أصحاب الأناجيل، لا يبعد أن يكون غير الدجال الموعود، لأنه يظهر بعد المهدي (عليه السلام).
على أن رواية ابن قتيبة تقتصر على ذكر شهداء الأبلة فقط ولا تذكر هذا الدجال، ولم يذكر ابن ميثم (ره) المصدر الذي أخذ منه الرواية.
وجاء في تفسير نور الثقلين في قوله تعالى: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) (الحاقة: 9)، أن المؤتفكات هي البصرة.
وفي تفسير قوله تعالى: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) (النجم:53)، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (هم أهل البصرة، وهي المؤتفكة).
وفي تفسير قوله تعالى: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ) (الحاقة:9)، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (أولئك قوم لوط، ائتفكت عليهم: انقلبت عليهم).
وفيه نقلاً عن (كتاب من لا يحضره الفقيه: (عن جويرية بن مسهر العبدي قال: (أقبلنا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) من قتل الخوارج حتى إذ قطعنا في أرض بابل حضرت صلاة العصر، فنزل أمير المؤمنين (عليه السلام) ونزل الناس، فقال علي (عليه السلام): أيها الناس إن هذه الأرض ملعونة قد عذبت في الدهر ثلاث مرات (وفي خبر آخر مرتين) وهي تتوقع الثالثة، وهي إحدى المؤتفكات). انتهى.
هذا، لكن بعد التأمل في روايات أحداث البصرة وخرابها قبل ظهور المهدي (عليه السلام)، نرى أنه يمكن المناقشة في ارتباطها بعلامات الظهور واتصالها بحدثه، ما عدا بعضها مثل رواية المفيد (ره) في الإرشاد ص361 عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: (يزجر الناس قبل قيام القائم (عليه السلام) عن معاصيهم بنار تظهر في السماء، وحمرة
تجلل السماء، وخسف ببغداد، وخسف ببلدة البصرة، ودماء تسفك بها، وخراب دورها، وفناء يقع في أهلها، وشمول أهل العراق خوف لا يكون لهم معه قرار).
وقد أوردنا هذا الحديث في معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام) برقم:1047، وأورده في إعلام الورى ص429 كما في الإرشاد بتفاوت يسير، وفي سنده (الحسن بن يزيد بدل الحسين بن سعيد). وفي إثبات الهداة:3/733 عن إعلام الورى، وفي سنده (الحسين بن يزيد) بدل (الحسين بن سعيد)، وفي: ص742عن الإرشاد، وفي سنده (منذر الخوزي بدل منذر الجوزي)، وفيه: (وخسف بمنارة البصرة). وهذا يعطينا احتمال أن يكون الخسف محدوداً بمكان أو منطقة منها. والله العالم.
الفترة الرابعة: فتح العراق على يد الإمام المهدي (عليه السلام)
وأحاديثه كثيرة جداً في مصادر الجميع، عن دخول المهدي (عليه السلام) إلى العراق، وتحريره من بقايا قوات السفياني، ومن مجموعات الخوارج المتعددة، واتخاذه قاعدة دولته وعاصمتها.
ولم أجد تحديداً دقيقاً لوقت دخوله (عليه السلام) إلى العراق، ولكن يأتي في حركة ظهوره (عليه السلام) أنه يكون بعد بضعة شهور من الظهور المقدس، وبعد تحرير الحجاز، وربما معركة الأهواز أو بيضاء إصطخر التي يهزم فيها قوات السفياني هزيمة ساحقة.
وتصف بعض الروايات دخوله الى العراق جواً بسرب من الطائرات كما في الحديث التالي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ)، قال: ينزل القائم يوم الرجفة بسبع قباب من نور لا يعلم في أيها هو، حتى ينزل ظهر
الكوفة).
وهذه الرواية بالإضافة إلى ما فيها من جانب إعجازي تدل على أن الوضع الأمني يستوجب من الإمام المهدي (عليه السلام) هذا الإحتياط، فبالإضافة إلى معاداة الوضع العالمي له، لا يكون قد أتم تطهير الساحة الداخلية في العراق.
وتعبير (ينزل) وبعده (حتى ينزل ظهر الكوفة) يفهم منه أنه لا ينزل الكوفة أو النجف رأساً، فقد ينزل في العاصمة أولاً، أو في قاعدة عسكرية، أو في كربلاء، كما تذكر بعض الروايات.
وتذكر الأحاديث عدداً كبيراً من أعماله (عليه السلام) في العراق ومعجزاته. وسوف نستعرضها في حركة ظهوره، ونذكر منها هنا ما يتعلق بالوضع العام في العراق، وأهم ذلك تصفيته (عليه السلام) لوضعه الداخلي والقضاء على القوى المضادة الكثيرة، حيث تذكر الأحاديث أنه يدخل الكوفة - أي العراق - وفيه ثلاث اتجاهات متضاربة، يبدو أنها الاتجاه المؤيد له (عليه السلام)، والاتجاه المؤيد للسفياني والثالث اتجاه الخوارج.
فعن عمرو بن شمر عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال ذكر المهدي (عليه السلام) فقال: (يدخل الكوفة وبها ثلاث رايات قد اضطربت فتصفو له. ويدخل حتى يأتي المنبر فلا يدري الناس ما يقول من البكاء!). (الإرشاد للمفيد ص362).
والكوفة في هذا الحديث وأمثاله تعبير عن العراق، ووجود ثلاث رايات فيه لابد أن يكون منها أنصاره الخراسانيون واليمانيون، كما يدل الحديث التالي المستفيض في مصادر الشيعة والسنة عن أمير المؤمنين وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (تنزل الرايات السود التي تخرج من خراسان (إلى) الكوفة، فإذا ظهر المهدي بعثت له بالبيعة) (البحار:52/217).
ويظهر أن الحركات المضادة له (عليه السلام) تكون كثيرة سواء من جماعات الخوارج، أو جماعات السفياني وغيرهم، وأنه (عليه السلام) يستعمل سياسة الشدة والقتل لمن يقف في وجهه، تنفيذاً للعهد المعهود إليه من جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم). فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) سار في أمته باللين، كان يتألف الناس، والقائم يسير بالقتل، بذلك أمر في الكتاب الذي معه، أن يسير بالقتل ولا يستتيب أحداً. ويلٌ لمن ناواه). (البحار:52/353).
والكتاب الذي معه هو العهد المعهود إليه من رسول الله بإملائه (صلّى الله عليه وآله وسلم) وخط علي (عليه السلام) وفيه كما ورد: (أقتل، ثم أقتل، ولا تستتيبن أحداً)!
وعن الباقر (عليه السلام) قال: (يقوم القائم بأمر جديد، وقضاء جديد، على العرب شديد. ليس شأنه إلا السيف ولا يستتيب أحداً، ولا تأخذه في الله لومة لائم). (البحار:52 /354).
والأمر الجديد هو الإسلام الذي يكون قد دثره الجبابرة وابتعد عنه المسلمون، فيحييه المهدي (عليه السلام) ويحيي القرآن، فيكون ذلك شديداً على العرب الذين يطيعون حكامهم المعادين له ويحاربونه (عليه السلام).
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن القائم يلقى في حربه ما لم يلق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لأن رسول الله أتاهم وهم يعبدون الحجارة المنقورة الخشبة المنحوتة، وأن القائم يخرجون عليه فيتأولون عليه كتاب الله ويقاتلونه عليه). (البحار:52/363).
وقد رأينا كيف يتأول الحكام وعلماء السوء التابعين لهم آيات القرآن في معاداة الإسلام وعلمائه.
وتذكر بعض الأحاديث أن بطش الإمام المهدي (عليه السلام) يشمل المنافقين المتسترين الذين قد يكون بعضهم من حاشيته فيعرفهم بالنور الذي جعله الله تعالى في قلبه، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (بينا الرجل على رأس القائم، يأمره
وينهاه، إذ قال: أديروه، فيديرونه إلى قدامه، فيأمر بضرب عنقه! فلا يبقى في الخافقين شيء إلا خافه). (البحار:52/355).
وتذكر بعض الأحاديث أن الأمر يصل أحياناً إلى إبادة فئة بكاملها! فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إذا قام القائم سار إلى الكوفة فيخرج منها بضعة عشر آلاف أنفس يدعون البترية عليهم السلاح، فيقولون له: إرجع من حيث جئت فلا حاجة لنا في بني فاطمة، فيضع فيهم السيف حتى يأتي على آخرهم. ثم يدخل الكوفة فيقتل كل منافق مرتاب، ويقتل مقاتليها حتى يرضى الله عز وعلا). (البحار:52/338).
وتذكر الرواية التالية أنه يقتل سبعين رجلاً هم أصل الفتنة والاختلاف داخل الشيعة، ويبدو أنهم من علماء السوء المضلين، فعن مالك بن ضمرة قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (يا مالك بن ضمرة كيف أنت إذا اختلفت الشيعة هكذا؟ وشبك أصابعه وأدخل بعضها في بعض. فقلت يا أمير المؤمنين ما عند ذلك من خير. قال: الخير كله عند ذلك، يا مالك عند ذلك يقوم قائمنا فيقدم سبعين رجلاً يكذبون على الله ورسوله فيقتلهم، ثم يجمعهم الله على أمر واحد). (البحار: 52 /115).
كما تدل الرواية التالية على بقاء أنصار للسفياني في العراق رغم آية الخسف التي ظهرت في جيشه بالحجاز، ورغم هزيمته في العراق، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: (ثم يسير حتى ينتهي إلى القادسية، وقد اجتمع الناس بالكوفة وبايعوا السفياني). (البحار: 52/387).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ثم يتوجه إلى الكوفة فينزل بها، ويبهرج دماء سبعين قبيلة من قبائل العرب) (غيبة الطوسي ص284)، أي يهدر دماء من التحق من هذه القبائل بأعدائه والخوارج عليه.
وعن ابن أبي يعفور عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن قال له: (وإنه أول قائم يقوم منا أهل البيت يحدثكم بحديث لا تتحملونه، فتخرجون عليه برميلة الدسكرة فتقاتلونه فيقاتلكم فيقتلكم، وهي آخر خارجة تكون). (البحار:52/375).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (بينا صاحب هذا الأمر قد حكم ببعض الأحكام وتكلم ببعض السنة، إذ خرجت خارجة من المسجد يريدون الخروج عليه، فيقول لأصحابه: إنطلقوا، فيلحقونهم بالتمارين فيأتون بهم أسرى، فيأمر بهم فيذبحون. وهي آخر خارجة تخرج على قائم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)) (البحار ج 52 ص 345، والتمَّارين محلة بالكوفة.
ويجمع بين الروايتين بأن خوارج رميلة الدسكرة يكونون آخر خارجة مسلحة، وخارجة مسجد الكوفة يكونون آخر فئة تحاول الخروج (عليه السلام).
وتدل الروايات الشريفة على أن خوارج رميلة الدسكرة يكونون أخطر فئات الخوارج على المهدي (عليه السلام)، وأن قائدهم يكون فرعوناً وشيطاناً.
فعن أبي بصير (ره) قال: (ثم لا يلبث إلا قليلاً حتى تخرج عليه مارقة الموالي برميلة الدسكرة، عشرة آلاف، شعارهم يا عثمان يا عثمان. فيدعو رجلاً من الموالي فيقلده سيفه فيخرج إليهم فيقتلهم حتى لايبقى منهم أحد). (البحار:52/333).
وقد حددت الرواية المتقدمة رميلة الدسكرة بأنها دسكرة الملك، وهي كما في معجم البلدان قرية قرب شهرابان من قرى بعقوبة في محافظة ديالى.
وقد تكون تسميتهم (مارقة الموالي) لأنهم من غير العرب، أو لأن قائدهم من الموالي، أي غير العرب.
وتذكر بعض الروايات نوعاً آخر من عمليات التصفية الكبيرة هذه، وأنه (عليه السلام) يدعو اثني عشر ألف رجل من جيشه من العجم والعرب فيلبسهم زياً خاصاً
موحداً، ويأمرهم أن يدخلوا مدينة فيقتلوا كل من لم يكن لابساً مثلهم فيفعلون. (البحار: 52/ 377).
ولا بد أن تكون تلك المحلة كلها من الكافرين أو المنافقين المعادين له (عليه السلام) حتى يأمر بقتل رجالها، أو يكون قد أخبر المؤمنين من أهلها أن لا يخرجوا من بيوتهم في وقت الهجوم. أو يكون أرسل إليهم ألبسة من نفس الزي الذي ألبسه لجنوده مثلاً.
ولا بد أن تثير هذه التصفيات موجة رعب في داخل العراق وفي العالم، وموجة تشكيك أيضاً.
وقد ورد في بعض الروايات أن بعض الناس يقولون عندما يرون كثرة تقتيله وسفكه دماء أعدائه: (ليس هذا من ولد فاطمة، ولو كان من ولد فاطمة لرحم). بل تقدم أن بعض أصحابه الخاصين (عليه السلام) لا يتحمل بعض أحكامه، وقد ورد أن بعضهم يدخلهم الشك والريب من كثرة ما يرون من قتله لمناوئيه فيفقد أحدهم أعصابه ويعترض على المهدي (عليه السلام)،فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يقبل القائم حتى يبلغ السوق، فيقول له رجل من ولد أبيه: إنك لتجفل الناس إجفال النعم، فبعهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أو بماذا؟ قال وليس في الناس رجل أشد منه بأسا، فيقوم إليه رجل من الموالي فيقول له: لتسكتن أو لأضربن عنقك. فعند ذلك يخرج القائم (عليه السلام) عهداً من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)). (البحار:52/387).
ومعنى من ولد أبيه أنه علوي النسب. وإجفال النعم أي تخويف الغنم. ومعنى (حتى يبلغ السوق) يبلغ مكاناً هو سوق المدينة، أو إسمه السوق.
وقد ورد في رواية أخرى أن هذا الرجل الذي يأمر السيد المعترض بالسكوت هو (المولى الذي يتولى البيعة)، أي المسؤول عن أخذ البيعة من الناس للإمام
المهدي (عليه السلام).
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (حتى إذا بلغ الثعلبية قام إليه رجل من صلب أبيه وهو من أشد الناس ببدنه وأشجعهم بقلبه ما خلا صاحب هذا الأمر، فيقول: يا هذا ما تصنع؟ فوالله إنك لتجفل الناس إجفال النعم، أفبعهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أم بماذا؟ فيقول المولى الذي ولي البيعة: والله لتسكتن أو لأضربن الذي فيه عيناك. فيقول له القائم: أسكت يا فلان. إي والله، إن معي عهدا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم). هات يا فلان العيبة أو الزنفيلجة، فيأتيه بها فيقرؤه العهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيقول: جعلني الله فداك، أعطني رأسك أقبله، فيعطيه رأسه فيقبل بين عينيه، ثم يقول: جعلني الله فداك جدد لنا بيعة، فيجدد لهم بيعة). (البحار:52/343)، والعيبة والزنفيلجة بمعنى الصندوق الصغير. والثعلبية مكان بالعراق من جهة الحجاز.
وبهذا العرض المجمل لمن يقتلهم المهدي (عليه السلام) في العراق، يظهر أنهم فئات متعددة من الشيعة والسنة، من مؤيدي السفياني ومعارضيه، من علماء السوء والمجموعات والأحزاب وعامة الناس.
ومن الطبيعي أن يكون فيهم فئات عميلة للروم وغيرهم أيضاً.
ولكن بعد ذلك، يتنفس العراق الصعداء في ظل سلطة الإمام المهدي (عليه السلام)، ويدخل حياة جديدة في مركزه العالمي بوصفه عاصمة الإمام (عليه السلام) ومحط أنظار المسلمين ومقصد وفودهم. وتصبح الكوفة والسهلة والحيرة والنجف وكربلاء محلات لمدينة واحدة يتردد ذكرها على ألسنة شعوب العالم وفي قلوبهم، ويقصدها القاصدون من أقاصي المعمورة ليلة الجمعة، ويبكرون لأداء صلاة الجمعة خلف المهدي (عليه السلام)، في مسجده العالمي ذي الألف باب فلا يكاد الواحد أن يحصل على موضع صلاة بين عشرات الملايين القاصدة.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (دار ملكه الكوفة، ومجلس حكمه جامعها، وبيت ماله ومقسم غنائم المسلمين مسجد السهلة. وموضع خلواته الذكوات البيض من الغريين. والله لا يبقى مؤمن إلا كان بها أو حواليها (وفي رواية أو يجئ إليها، وفي رواية أخرى أو يحن إليها وهو الصحيح) ولتصيرن الكوفة أربعة وخمسين ميلاً، ولتجاورن قصورها قصور كربلاء، وليصيرن الله كربلاء، معقلاً ومقاماً تختلف إليه الملائكة والمؤمنون، وليكونن لها شأن من الشأن) (البحار:53 /11).
و(مجلس حكمه) أي مجلسه للمراجعات والحكم بين الناس، في مسجد الكوفة الفعلي، أو في مسجد الجمعة الكبير الذي يبنيه.
و(موضع خلواته الذكوات البيض) أي موضع اعتكافه للعبادة الربوات البيضاء قرب النجف وتسمى النجف الغري والغريين.
وأربعة وخمسين ميلاً: أي تصير مساحة الكوفة أو طولها نحو مئة كيلومتر.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يبني في ظهر الكوفة مسجداً له ألف باب، وتتصل بيوت الكوفة بنهري كربلاء والحيرة، حتى يخرج الرجل على بغلة سفواء يريد الجمعة فلا يدركها). (الغيبة للطوسي ص280)، والسفواء الخفيفة السريعة، أي يركب وسيلة خفيفة سريعة فلا يدرك صلاة الجمعة، لأنه لا يجد موقفاً فارغاً ومحلاً للصلاة.
والأحاديث عن التطور المعنوي والمادي في العراق مركز عاصمته (عليه السلام) كثيرة لا يتسع لها المجال.
وبتصفية المهدي (عليه السلام) العراق وضمه إلى دولته وجعله عاصمتها، تكون دولته قد شملت اليمن والحجاز وإيران والعراق، ومعها بلاد الخليج. وبذلك يتفرغ لأعدائه الخارجيين، فيبدأ أولاً بالترك فيرسل لهم جيشاً فيهزمهم.
ثم يتوجه بنفسه على رأس جيشه إلى الشام حتى ينزل (مرج عذراء) قرب دمشق استعداداً لخوض المعركة مع السفياني واليهود والروم، معركة فتح القدس الكبرى، كما سيأتي في أحداث حركة ظهوره (عليه السلام).
تدل أحادث متعددة على وقوع حرب عالمية قرب ظهور المهدي (عليه السلام). ومن المستبعد انطباقها على الحربين العالميتين الأولى والثانية القريبتين من عصرنا، لأن أوصافها المذكورة تختلف عن أوصافهما، فهي تنص على ظهوره (عليه السلام) بعدها أو أثناءها، بل يظهر من بعض أحاديثها أنها تقع في سنة ظهوره، أو بعد بداية حركته المقدسة.
وهذه نماذج من أحاديثها:
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (بين يدي القائم موت أحمر وموت أبيض. وجراد في حينه وجراد في غير حينه كألوان الدم. فأما الموت الأحمر فالسيف. وأما الموت الأبيض فالطاعون). (الإرشاد للمفيد ص 405 والغيبة للطوسي277).
وتدل عبارة (بين يدي القائم) على أن هذه الحرب والموت الأحمر تكون قريبة جداً من ظهور المهدي (عليه السلام). ولا يعين الحديث مكان وقوعها.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (لا يقوم القائم إلا على خوف شديد وزلازل وفتنة وبلاء يصيب الناس، وطاعون قبل ذلك، ثم سيف قاطع بين العرب، واختلاف بين الناس، وتشتت في دينهم، وتغير في حالهم، حتى يتمنى المتمني الموت صباحا ومساء من عِظَم ما يرى من تكالب الناس وأكلهم بعضهم بعضاً). (كمال الدين للصدوق ص 434).
وهو يدل على وقوع الطاعون قبل الخوف الشديد الذي قد يكون الحرب العامة. ولكن يصعب استفادة التسلسل في أحداثه حتى لو فرضنا أن الراوي لم
يقدم ويؤخر فيها، لأن جملة (سيف قاطع بين العرب) المعطوفة بـ (ثم) يصح عطفها على جملة (وطاعون قبل ذلك) المعترضة، فيكون اختلاف العرب هذا بعد الطاعون، ويصح عطفها على جملة (وبلاء يصيب الناس) فيكون قبل الطاعون. مضافا إلى الاجمال في هذه الحوادث.
نعم يفهم منه وجود فترة شديدة على العرب والناس أمنياً وسياسياً واقتصادياً، وقد تكون هي سنة الجوع الموعود في الرواية التالية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لابد أن يكون قدام القائم سنة يجوع فيها الناس ويصيبهم خوف شديد من القتل) (البحار: 52/229).
ويدل الحديث التالي على أن هذه الشدة والحرب، أو حالة الحرب، تستمر حتى يكون النداء السماوي في شهر رمضان قرب ظهور المهدي (عليه السلام)،
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (يختلف أهل الشرق وأهل الغرب، نعم وأهل القبلة. ويلقى الناس جهداً شديداً مما يمر بهم من الخوف. فلا يزالون بتلك الحال حتى ينادي مناد من السماء. فإذا نادى فالنفر النفر) (البحار:52/235).
وهو يدل أيضاً على أن خسائرها تقع أساساً على الأمم غير الإسلامية، فعبارة: (يختلف أهل الشرق وأهل الغرب، نعم وأهل القبلة) عبارة دقيقة تشعر بأن اختلاف أهل القبلة أي المسلمين ثانوي بالنسبة إلى اختلاف الغربين والشرقيين، وكأنه ناتج عنه وتابع له.
وهذا هو الأمر الطبيعي في الحرب العالمية المتوقعة حيث ستكون أهدافها عواصم الدول الكبرى وقواعدها العسكرية ولا تصل إلى المسلمين إلا بشكل غير أساسي، وقد صرحت بذلك بعض الأحاديث فعن أبي بصير قال سمعت أبا عبد
الله (الإمام الصادق (عليه السلام)) يقول: (لا يكون هذا الأمر حتى يذهب ثلثا الناس، فقلنا: إذا ذهب ثلثا الناس فمن يبقى؟ قال: أما ترضون أن تكونوا في الثلث الباقي) (البحار:52/ 113)
ولعل أكثر النصوص تحديداً لوقت هذه الحرب وسببها الخطبة المروية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) التي يذكر فيها عدداً من علامات ظهور المهدي (عليه السلام) وأحداث حركته، وقد ورد فيها فقرتان تتعلقان بالحرب العالمية. قال (عليه السلام):
(ألا أيها الناس، سلوني قبل أن تشغر برجلها فتنة شرقية، تطأ في خطامها بعد موت وحياة، أو تشب نار بالحطب الجزل غربي الأرض، رافعة ذيلها تدعو يا ويلها، بذحلة أو مثلها. ويخرج رجل من أهل نجران (راهب من أهل نجران) يستجيب الإمام فيكون أول النصارى إجابة، ويهدم صومعته ويدق صليبها، ويخرج بالموالي وضعفاء الناس والخيل، فيسيرون إلى النخيلة بأعلام هدى، فيكون مجمع الناس جميعاً من الأرض كلها بالفاروق (وهي محجة أمير المؤمنين (عليه السلام) بين البرس والفرات)، فيقتل يومئذ ما بين المشرق والمغرب ثلاثة آلاف (ألف) من اليهود والنصارى، يقتل بعضهم بعضاً، فيومئذ تأويل هذه الآية: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ). بالسيف) (البحار:53 /82 و84).
وقوله (عليه السلام): (قبل أن تشعر برجلها فتنة شرقية) يدل على أن بداية هذه الحرب من الشرق، أو من نزاع في منطقة الشرق.
وقوله: (أو تشب نار بالحطب الجزل غربي الأرض) يدل على أن مركز تدميرها هو البلاد الغربية، وحطبها الكثير القابل للإشتعال، أي قواعدها العسكرية وعواصمها ومراكزها الهامة.
ويبدو أن معنى قوله (عليه السلام): (فيكون مجمع الناس جميعاً من الأرض كلها بالفاروق) أن الناس يأتون يومئذ من أنحاء الأرض للإلتحاق بالمهدي (عليه السلام)، ويكون مقره في العراق بين الكوفة والحلة، كما يأتيه ذلك الراهب النجراني في وفد من
المستضعفين.
ويظهر أن عبارة (وهي محجة أمير المؤمنين وهي ما بين البرس والفرات) حاشية من الراوي أو الناسخ، دخلت في الأصل.
ولعل معنى المحجة أنها مكان اجتماع قوافل الحج في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام)، أو أنها كانت مكاناً تجتمع فيها رايات الوفود إلى معسكره أو زيارته.
(فيقتل يومئذ ما بين المشرق والمغرب ثلاثة آلاف ألف) أي ثلاثة ملايين، وقد وضعنا كلمة (ألف) بين قوسين لأنها وردت في رواية أخرى في البحار:52 /274، ولعلها سقطت من هذه الرواية.
ولا يعني ذلك أن مجموع قتلى الحرب العالمية هو ثلاثة ملايين فقط، بل قد يكون قتلى ذلك اليوم أو تلك الفترة، وتكون مرحلة من مراحل الحرب العالمية، وآخر مراحلها. فقد تقدم أن مجموع خسائرها مع الطاعون الذي يكون قبلها أو بعدها يبلغ ثلثي سكان العالم، وفي رواية خمسة أسباعهم، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام): (قدام القائم موتان موت أحمر وموت أبيض، حتى يذهب من كل سبعة خمسة) (البحار:52/207)، وفي بعضها تسعة أعشار الناس.
وقد يكون اختلاف الروايات بسبب تفاوت المناطق أو غيره من الأسباب. وعلى كل حال فخسائر هذه الحرب تكون من المسلمين قليلة.
وخلاصة القول: أن الأحاديث الشريفة تدل على أنه يوجد خوف عالمي شامل من القتل قبيل ظهوره (عليه السلام)، في سنة ظهوره مثلاً، وخسائر فادحة جداً في الأرواح، وبشكل أساسي في غير المسلمين.
وهو أمر يصح تفسيره بالحرب العامة ووسائلها التدميرية الحديثة المخيفة لجميع أطرافها وجميع الشعوب. إذ لو كانت حرباً تقليدية لما كان خوفها بهذا
الشمول الذي تصفه الروايات، ولكان منها طرف على الأقل أو مناطق لا يشملها خوف القتل.
ولكن توجد روايات وقرائن ترجح تفسيرها بموجة من الحروب الإقليمية خاصة التعبير الوارد عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن سنة الظهور: (وتكثر الحروب في الأرض)، حيث ينص على أنها حروب متعددة في تلك السنة. وعليه يكون الجمع بينها وبين روايات الاختلاف والحرب بين أهل الشرق والغرب، أن ذلك يأخذ شكل حروب إقليمية بينهم ويتركز دمارها على غربي الأرض.
أما وقتها، فيفهم من الأحاديث أنه قريب جداً من ظهوره (عليه السلام)، في سنة ظهوره مثلاً، وإذا أردنا أن نجمع بين أحاديث هذه الحرب وصفاتها، فالمرجح أنها تكون على مراحل حيث تبدأ قبيل بداية حركة ظهوره (عليه السلام) ثم تكون بقية مراحلها بعد حركة ظهوره، ويكون فتحه للحجاز في أثنائها، ثم تنتهي بعد فتحه العراق.
أما إذا فسرنا أحاديثها بحرب نووية شاملة، وأخذنا بما تكتبه الصحف عن الحرب النووية العالمية فإن مدتها تكون قصيرة جداً، لا تزيد عن شهر واحد كما يذكرون. والله العالم.
الإيرانيون ودورهم في عصر الظهور
قبل الثورة الإسلامية في إيران كانت إيران تعني في أذهان الغربيين قاعدة حيوية في وسط العالم الإسلامي، وعلى حدود روسيا.
وكانت تعني في أذهان المسلمين بلداً إسلامياً عريقاً يتسلط عليه (شاه) موال للغرب وإسرائيل، يسخر بلده لخدمتهم.
وكانت تعني للشيعي مثلي مضافاً إلى ذلك بلدا فيه مشهد الإمام الرضا (عليه السلام)، وحوزة قم العلمية ذات تاريخ عريق في التشيع والعلماء ومؤلفاتهم.
وكنا عندما نمر بالأحاديث التي تمدح الفرس وقوم سلمان أو نتذاكرها نقول لبعضنا: إنها مثل الأحاديث التي تمدح أهل اليمن، أو بني خزاعة، أو تذمهم، وإن كل الأحاديث التي تمدح أو تذم أقواماً أو بلداناً أو قبائل، فهي محل نظر. وإن صحت فهي أحاديث عن التاريخ تخص حالة هذه الشعوب في صدر الإسلام وقرونه الأولى.
كانت هذه هي النظرة السائدة بين المثقفين منا، وأن الأمة اليوم كلها تعيش حالة جاهلية وتخضع لسيطرة الكفر العالمي ووكلائه، ولا أحد من شعوبها أفضل من أحد، بل قد يكون الإيرانيون أسوأ حالاً من غيرهم لأنهم أصحاب حضارة كافرة عريقة، وأمجاد قومية يعمل الغرب والشاه على بعثها فيهم، وتربيتهم على الإعتزاز بها والتعصب لها.
حتى إذا فاجأت المسلمين في العالم أحداث ثورة إيران الإسلامية بانتصارها فرحت قلوبهم المهمومة فرحاً لم تعرفه منذ قرون، وضاعف منه أنه نصر غير محتسب، وعمت أعمال التعبير عن فرحتهم، كل بلادهم، وكان منها أحاديث الناس عن فضل العجم والفرس وقوم سلمان، وكان عنوان مجلة المعرفة التونسية (الرسول يختار الفرس لقيادة الأمة الإسلامية) واحداً من مئات العناوين في منشورات مغرب العالم الإسلامي ومشرقه، التي تعني أننا استعدنا ذاكرتنا عن الإيرانيين، واكتشفنا أن أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عنهم لم تكن تاريخاً فقط، بل مستقبلاً أيضاً.
ورجعنا إلى مصادر الحديث والتفسير نتتبع أخبار الإيرانيين ونتفحصها فإذا بها تخص المستقبل كالماضي، وإذا بها في مصادر السنة أكثر منها في مصادر الشيعة.
ماذا نصنع إذا كانت أحاديث المهدي المنتظر (عليه السلام) والتمهيد لدولته فيها السهم الأوفر للإيرانيين واليمانيين، الذين ينالون شرف التمهيد لدولته والمشاركة في حركته (عليه السلام)؟ وفيها نصيب للنجباء من مصر، والأبدال من الشام، والعصائب من العراق.
وفيها حظ لمؤمنين متفرقين من أطراف العالم الإسلامي، يكونون أيضاً من خاصة أصحابه ووزارئه، أرواحنا فداه وفداهم.
وهذه بعض الأحاديث الواردة في الإيرانيين بشكل عام:
أحاديث المصادر السنية في مدح الإيرانيين
من الأمور الملفتة كثرة الأحاديث النبوية في مدح الفرس في مصادر السنيين، وقلتها في مصادر الشيعة! حتى أن الباحث يستطيع أن يؤلف من صحاح السنة
ومسانيدهم كتاباً في مناقب الإيرانيين وتفضيلهم على العرب!
من نوع حديث (الغنم السود والبيض): الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه ذكر أصبهان ص8، بعدة طرق، عن أبي هريرة، وعن النعمان بن بشير، وعن مطعم بن جبير، وعن أبي بكر، وعن ابن أبي ليلى، وعن حذيفة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) واللفظ لحذيفة: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إني رأيت الليلة كأن غنماً سوداً تتبعني ثم أردفها غنم بيض حتى لم أر السود فيها. فقال أبو بكر: هذه الغنم السود العرب تتبعك، وهذه الغنم البيض هي العجم تتبعك فتكثر حتى لا ترى العرب فيها. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) هكذا عبرها الملك).
وحديث (فارس عصبتنا أهل البيت): رواه أبو نعيم أيضاً عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وذكرت عنده فارس فقال: فارس عصبتنا أهل البيت).
وحديث (لأنا أوثق بهم منكم): الذي رواه أبو نعيم في المصدر المذكور ص 12 عن أبي هريرة قال: (ذكرت الموالي أو الأعاجم عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فقال: والله لأنا أوثق بهم منكم، أو من بعضكم)! (وروى قريباً منه الترمذي:5/382)
وحديث مسلم في صحيحه:7/192، عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذا نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ)، قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله فلم يراجعه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، قال وفينا سلمان الفارسي، قال فوضع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يده على سلمان ثم قال: لو كان الايمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء). انتهى.
وما رواه أحمد:5/11 عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنه قال (يوشك أن يملأ الله تبارك وتعالى أيديكم من العجم ثم يكونون أسداً لا يفرون فيقتلون مقاتلتكم، ولا يأكلون فيأكم). ورواه أبو نعيم في ذكر أصبهان ص13 بعدة طرق عن حذيفة، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن عمر.
وما رواه ابن أبي الحديد في شرح النهج:20/284، قال: (جاء الأشعث إليه (إلىعلي (عليه السلام)) فجعل يتخطى الرقاب حتى قرب منه، ثم قال له: يا أمير المؤمنين غلبتنا هذه الحمراء على قربك، يعني العجم، فركض المنبر برجله حتى قال صعصعة بن صوحان: ما لنا وللأشعث! ليقولن أمير المؤمنين اليوم في العرب قولاً لا يزال يذكر. فقال (عليه السلام): من عذيري من هؤلاء الضياطرة، يتمرغ أحدهم على فراشه تمرغ الحمار، ويهجر قوما للذكر! أفتأمرني أن أطردهم؟! ما كنت لأطردهم فأكون من الجاهلين. أما والدي فلق الحبة وبرأ النسمة، ليضربنكم على الدين عوداً كما ضربتموهم عليه بدءاً). انتهى.
والذي يتصل بموضوعنا هو دورهم في عصر الظهور وحركة الإمام المهدي (عليه السلام). وقد وردت الأحاديث حولهم بتسعة عناوين: قوم سلمان. أهل المشرق. أهل خراسان. أصحاب الرايات السود. الفرس. أهل قم وأهل الطالقان والمقصود فيها غالباً واحد.
الإيرانيون وبداية التمهيد للمهدي (عليه السلام)
تتفق مصادر الحديث الشيعية والسنية حول المهدي (عليه السلام) على أنه يظهر بعد حركة تمهيدية له، وعلى أن أصحاب الرايات السود من إيران يمهدون لدولته ويوطئون له سلطانه. وتتفق أيضاً على الشخصيتين الموعودتين من إيران: الخراساني أو الهاشمي الخراساني، وصاحبه شعيب بن صالح.. إلى آخر ما ورد من أحاديثهم في مصادر الفريقين.
ولكن مصادرنا الشيعية تضيف إلى الإيرانيين ممهدين آخرين لدولة المهدي (عليه السلام) هم اليمانيون.
كما توجد في مصادرنا أحاديث تدل على أنه تقوم قبل ظهوره (عليه السلام) حركة ثائرة،
كالذي ورد في تفسير قوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)، وأنهم قوم يبعثهم الله قبل خروج القائم فلا يدعون وترا لآل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلا قتلوه). (الكافي:8/206)
وحديث أبان بن تغلب عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا ظهرت راية الحق لعنها أهل الشرق وأهل الغرب، أتدري لم ذلك؟ قلت لا. قال: للذي يلقى الناس من أهل بيته قبل ظهوره) (البحار:52/63)، وهو يدل على أنه أهل بيته (عليهم السلام) من بني هاشم وأتباعهم تكون لهم حركة قبله.
وقد نقل صاحب كتاب يوم الخلاص الحديث القائل: (يأتي ولله سيف مخترط) وذكر له خمسة مصادر ولم أجده فيها، وإنما الموجود (ومعه سيف مخترط) ومثله موارد عديدة ذكر لها مصادر ولم نجدها!
فأحاديث التمهيد إذن ثلاث مجموعات: أحاديث دولة أصحاب الرايات السود المتفق عليها عند الفريقين.
وأحاديث دولة اليماني الواردة في مصادرنا خاصة، ويشبهها ما في بعض مصادر السنة عن ظهور يماني بعد المهدي (عليه السلام).
والأحاديث الدالة على ظهور ممهدين قبل ظهوره (عليه السلام) بدون تحديدهم. وسوف ترى أنها بشكل عام تنطبق على الممهدين الإيرانيين واليمانيين.
وقد حددت الأحاديث الشريفة زمان قيام دولة اليمانيين الممهدين بأنه يكون في سنة ظهور المهدي (عليه السلام) مقارناً لخروج السفياني المعادي له في بلاد الشام، أو قريباً منه كما ستعرف.
أما دولة الممهدين الإيرانيين فتقسم إلى مرحلتين متميزتين:
المرحلة الأولى، بداية حركتهم على يد رجل من قم، ولعل حركته بداية أمر المهدي (عليه السلام) حيث ورد أنه (يكون مبدؤه من قبل المشرق).
والمرحلة الثانية، ظهور الشخصيتين الموعودتين فيهم: الخراساني وقائد قواته الذي تسميه الأحاديث شعيب بن صالح.
وقد ورد في بعض الروايات أن الخراساني وشعيباً يكونان قبل ظهور المهدي (عليه السلام) بست سنوات، فعن محمد بن الحنفية قال: (تخرج راية سوداء لبني العباس، ثم تخرج من خراسان سوداء أخرى قلانسهم سود وثيابهم بيض، على مقدمتهم رجل يقال له شعيب بن صالح أو صالح بن شعيب من بني تميم، يهزمون أصحاب السفياني، حتى تنزل ببيت المقدس، توطئ للمهدي سلطانه، يمد إليه ثلاث ماية من الشام، يكون بين خروجه وبين أن يسلم الأمر للمهدي اثنان وسبعون شهراً). (مخطوطة ابن حماد ص 84 و74).
لكن توجد في مقابلها روايات صحيحة من مصادرنا تقول إن ظهور الخراساني وشعيب مقارن لظهور اليماني والسفياني. فعن الإمام الصاق (عليه السلام) قال: (خروج الثلاثة الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة في شهر واحد، في يوم واحد. وليس فيها بأهدى من راية اليماني يهدي إلى الحق) (البحار:52/210).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة في شهر واحد، في يوم واحد. نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضا. فيكون البأس من كل وجه. ويل لمن ناواهم. وليس في الرايات أهدى من راية اليماني، هي راية هدى، لأنه يدعو إلى صاحبكم) (البحار:52/232)
وهذه هي المرجحة لقوة سندها، بل فيها صحيح السند مثل رواية أبي بصير الأخيرة عن الإمام الباقر (عليه السلام).
ويبدو أن المقصود بأن خروج الثلاثة متتابع كنظام الخرز مع أنه في يوم واحد: أن أحداث خروجهم مترابطة سياسياً. وقد تكون بدايتها في يوم واحد ثم تتابع حركتهم واستحكام أمرهم مثل تتابع الخرز المنظوم.
ومهما يكن فهذه هي المرحلة الأخيرة من دولتهم.
حديث: أن أمر المهدي (عليه السلام) يبدأ من إيران
وهو الحديث الذي ينص على أن بداية حركة المهدي (عليه السلام) تكون من المشرق، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (يكون مبدؤه من قبل المشرق، وإذا كان ذلك خرج السفياني) (البحار:52/252).
وبما أن المتفق عليه بن العلماء والمتواتر في الأحاديث أن ظهوره (عليه السلام) يكون من مكة المكرمة، فلا بد أن يكون المقصود أن مبدأ أمره والتمهيد لظهوره يكون من المشرق.
وتدل الرواية أيضاً على أن هذه البداية تكون قبل خروج السفياني، وتشير إلى أنه يكون بينها وبين السفياني مدة ليست قصيرة ولا طويلة كثيراً، لأنها عطفت خروج السفياني عليها بالواو وليس بالفاء أو بثم: (وإذا كان ذلك خرج السفياني)، بل تشير أيضاً إلى نوع من العلاقة السببية بين بداية التمهيد للمهدي (عليه السلام) من إيران وبين خروج السفياني، وقد عرفت في حركة السفياني أنها ردة فعل لمواجهة المد الممهد للمهدي (عليه السلام).
حديث: أتاح الله لأمة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) برجل منا أهل البيت
وهو حديث أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يا أبا محمد ليس ترى أمة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) فرجاً أبداً ما دام لولد بني فلان ملك حتى ينقرض ملكهم. فإذا انقرض ملكهم أتاح الله لأمة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) برجل منا أهل البيت يسير بالتقى، ويعمل بالهدى، ولا يأخذ في حكمه الرشا، والله إني لأعرفه باسمه واسم أبيه. ثم يأتينا الغليظ القصرة، ذو الخال والشامتين، القائد العادل، الحافظ لما استودع، يملؤها عدلاً وقسطاً كما ملأها الفجار ظلماً وجوراً). (البحار:52/ 269).
وهو حديث ملفت لكنه ناقص مع الأسف، فقد نقله صاحب البحار قدس سره عن كتاب الإقبال لابن طاووس قدس سره، وقد قال في الإقبال ص599 إنه رآه في سنة اثنتين وستين وستماية في كتاب الملاحم للبطائني ونقله منه، لكنه نقله ناقصاً وقال في آخره: (ثم ذكر تمام الحديث). والبطائني من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وكتابه الملاحم مفقود النسخة، وقد تكونً في المخطوطات المجهولة في زوايا بلادنا الإسلامية.
والحديث يدل على أنه يظهر سيد من ذرية أهل البيت (عليهم السلام) يحكم قبل ظهور المهدي (عليه السلام) ويمهد لدولته.
أما بنو فلان في قوله: (ما دام لولد بني فلان ملك) فلا يلزم أن يكونوا بني العباس كما فهمه المرحوم ابن طاووس، وكذا الأمر في الأحاديث العديدة التي عبر فيها الأئمة (عليهم السلام) ببني فلان وآل فلان، فأحياناً يكون المقصود بها بني العباس، وأحياناً يكون مقصودهم العوائل والأسر التي تحكم قبل ظهور المهدي (عليه السلام).. مثلاً الأحاديث المتعددة التي تذكر الاختلاف الذي يقع بين بني فلان أو آل فلان من حكام الحجاز، ثم لايتفق رأيهم على حاكم ويقع الخلاف بين القبائل ثم يظهر المهدي (عليه السلام)، فالمقصود فيها ببني فلان فيها ليس بني العباس، بل العائلة التي تحكم الحجاز عند ظهور المهدي (عليه السلام).
وكذا الحديث المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ألا أخبركم بآخر ملك بني فلان؟ قلنا بلى أمير المؤمنين. قال: قتل نفس حرام في بلد حرام عن قوم من قريش، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما لهم ملك بعده غير خمسة عشر ليلة) (البحار:52/234)
وغيره من الأحاديث المتعددة التي تذكر اختلاف بني فلان أو هلاك حاكم منهم وأنه يكون بعده خروج السفياني، أو ظهور المهدي (عليه السلام)، أو بعض
علامات وأحداث ظهوره القريبة، فإنه لا بد من تفسيرها بغير بني العباس، لأن زوال ملك هؤلاء المعنيين متصل بظهور المهدي (عليه السلام).
بل لا بد من التثبت في الروايات التي ورد فيها ذكر بني العباس صراحة، فقد تكون صدرت عن الأئمة (عليهم السلام) بتعبير (بني فلان) و(آل فلان) ورواها الراوي بلفظ بني العباس اعتقاداً منه أنهم المقصودون بقول الأئمة (بني فلان).
وقد يصح تفسير بني العباس الوارد في أحاديث الظهور بأن المقصود به خطهم المناهض للأئمة (عليه السلام)، وليس أشخاصهم وذرياتهم.
ولكن نادراً ما نحتاج إلى هذا التفسير لأن الغالب في روايات الظهور التعبير ببني فلان وآل فلان.
وعلى أي حال، فالمقصود ببني فلان في قوله (ما دام لولد فلان ملك حتى ينقرض ملكهم، فإذا انقرض ملكهم أتاح الله لأمة محمد برجل منا أهل البيت) حكام غير بني العباس يكون زوال ملكهم متصلاً بأحداث ظهور المهدي (عليه السلام)
أما عبارة (ثم يأتينا الغليظ القصرة ذو الخال والشامتين القائد العادل)، فهي تتحدث عمن يأتي بعد هذا السيد الموعود، والمفهوم منها أنه المهدي (عليه السلام) الذي هو ذو الخال والشامتين كما ورد في أوصافه، لكن وصف (الغليظ القصرة) أي البدين القصير لا ينطبق على المهدي (عليه السلام) لأن الروايات تجمع على أنه طويل القامة معتدلها. لذا نرجح وجود سقط في الرواية باستنساخ ابن طاووس (ره) أو غيره من النساخ، ولا يمكن أن نستفيد منها الإتصال بين هذا السيد الموعود وبين ظهور المهدي (عليه السلام).
أحاديث قم، والرجل الموعود منها
ومنها، حديث قيام رجل من قم وأصحابه، فعن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: (رجل
من قم، يدعو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم قلوبهم كزبر الحديد، لا تزلهم الرياح العواصف، لا يملون من الحرب ولا يجبنون، وعلى الله يتوكلون والعاقبة للمتقين) (البحار:60/216 طبعة إيران، وكذا ما بعدها عن قم).
ولم تذكر الرواية متى يكون هذا الرجل المبشر به وأصحابه، ولكن لم يعهد في تاريخ قم وإيران رجل وقومه بهذه الصفات قبل الإمام الخميني وأصحابه. ويحتمل أن تكون الرواية ناقصة وأن يكون فيها ذكر مناسبة قولها على الأقل، وقد نقلها صاحب البحار عن كتاب تاريخ قم لمؤلفه الحسن بن محمد الحسن القمي الذي ألفه قبل أكثر من ألف سنة، ولا توجد نسخته الآن مع الأسف.
قد يقال: نعم لم يعهد في تاريخ قم وإيران ظهور هذا الرجل الموعود وقومه ذوي الصفات العظيمة، ولكن لا دليل على انطباقها على الإمام الخميني وأصحابه، فقد يكون رجلاً آخر وأصحابه يأتون في عصرنا، أو بعد زمان طويل أو قصير.
والجواب، نعم لا يوجد في الرواية تحديد لزمان هذا الحدث، لكن مجموع صفاتها، مضافاً إليها ما ورد في الروايات الأخرى عن قم وإيران ترجح احتمال أن يكون المقصود بها الإمام الخميني وأصحابه.
بعض ما جاء في فضل قم
وقد ورد في قم وفضلها ومستقبلها أحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام) يظهر منها أن قم مشروع أسسه الأئمة في وسط إيران على يد الإمام الباقر (عليه السلام) سنة 73 هجرية، ثم رعوها رعاية خاصة، وأخبروا بما عندهم من علوم جدهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنها سيكون لها شأن عظيم في المستقبل ويكون أهلها أنصار المهدي المنتظر أرواحنا فداه.
وتنص بعض الأحاديث على أن تسميتها بقم جاءت متناسبة مع اسم المهدي
القائم بالحق أرواحنا فداه، وقيام أهلها ومنطقتها في نصرته.
فعن عفان البصري عن أي عبد الله أي الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال لي: أتدري لم سمي قم؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال: إنما سمي قم لأن أهله يجتمعون مع قائم آل محمد صلوات الله عليه ويقومون معه، ويستقيمون عليه وينصرونه). (البحار ص60).
وقد أعطى الأئمة (عليهم السلام) لقم مفهوماً أوسع من مدينتها وتوابعها، فاستعملوا اسمها بمعنى خط قم ونهج قم في الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) والقيام مع مهديهم الموعود (عليه السلام). فقد روى عدة رجال من أهل الري أنهم دخلوا على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (وقالوا: نحن من أهل الري فقال: مرحباً بإخواننا من أهل قم. فقالوا: نحن من أهل الري، فقال: مرحباً بإخواننا من أهل قم. فقالوا: نحن من أهل الري. فأعاد الكلام! قالوا ذلك مراراً وأجابهم بمثل ما أجاب به أولاً، فقال: إن لله حرماً وهو مكة، وإن لرسوله حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة (قال الراوي: وكان هذا الكلام منه (عليه السلام) قبل أن يولد الكاظم (عليه السلام)). (البحار:60/ 216).
يعني أن قماً حرم الأئمة من أهل البيت إلى المهدي (عليه السلام)، وأن أهل الري وغيرها هم من أهل قم لأنهم على خطها ونهجها.
لذلك لا يبعد أن يكون المقصود بأهل قم في الروايات الشريفة، ونصرتهم للمهدي (عليه السلام)، كل أهل إيران الذين هم على خطهم في ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، بل يشمل غيرهم من المسلمين أيضاً.
ومعنى قول الراوي: (وكان هذا الكلام منه قبل أن يولد الكاظم (عليه السلام)) أن الإمام الصادق أخبر عن ولادة حفيدته فاطمة بنت موسى بن جعفر قبل ولادة أبيها الكاظم أي قبل سنة128 هجرية، وأخبر أنها سوف تدفن في قم. ثم تحقق ذلك
بعد أكثر من سبعين سنة.
فقد روى مشايخ قم أنه لما أخرج المأمون علي بن موسى الرضا (عليه السلام) من المدينة إلى مرو سنة مئتين خرجت فاطمة أخته في سنة وإحدى تطلبه، فلما وصلت إلى ساوة مرضت فسألت كم بيني وبين قم؟ فقالوا: عشرة فراسخ. لما وصل الخبر إلى آل سعد - أي سعد بن مالك الأشعري - اتفقوا وخرجوا إليها أن يطلبوا منها النزول في بلدة قم. فخرج من بينهم موسى بن خزرج فلما وصل إليها أخذ زمام ناقتها وجرها إلى قم، وأنزلها في داره. فكانت فيها ستة (سبعة) عشر يوماً ثم قضت إلى رحمة الله ورضوانه، فدفنها موسى بعد التغسيل والتكفين في أرض له وهي التي الآن مدفنها، وبنى على قبرها سقفاً من البواري، إلى أن بنت زينب بنت الجواد (عليه السلام) عليها قبة). (البحار:60/ 219).
ويظهر من الروايات أن فاطمة هذه كانت عابدة مقدسة مباركة شبيهة جدتها فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وأنها على صغر سنها كانت لها مكانة جليلة عند أهل البيت (عليهم السلام). وعند كبار فقهاء قم ورواتها حيت قصدوها إلى ساوه وخرجوا في استقبالها، ثم أقاموا على قبرها بناء بسيطاً، ثم بنوا عليه قبة وجعلوه مزاراً، وأوصى العديد منهم أن يدفنوا في جوارها. ولعل تسمية الإيرانيين لها (معصومة فاطمة) أو (معصومة قم) بسبب صغر سنها، وطهارتها من الذنوب، لأن معصوم بالفارسية بمعنى البريء، ويوصف بها الطفل البريء.
ويظهر من الحديث التالي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أن إعداد الأئمة (عليهم السلام) لأهل قم لنصرة المهدي المنتظر أرواحنا فداه كان من أول تأسيسها، وأن حب القميين للمهدي كان معروفاً عنهم قبل ولادته!
فعن صفوان بن يحيى قال: (كنت يوما عند أبي الحسن (عليه السلام) فجرى ذكر أهل قم
وميلهم إلى المهدي (عليه السلام) فترحم عليهم وقال: (رضي الله عنهم)، ثم قال: إن للجنة ثمانية أبواب، واحد منها لأهل قم، وهم خيار شيعتنا من بين سائر البلاد، خمر الله تعالى ولايتنا في طينتهم) (البحار:60/ 216).
ونلاحظ أن حب أهل قم للإمام المهدي (عليه السلام) حافظ على حيويته وحرارته إلى عصرنا، وهو ظاهر في إيمانهم وعملهم وشعائرهم وتسمياتهم لأبنائهم ومساجدهم ومؤسساتهم بإسم المهدي (عليه السلام) حتى لا يكاد يخلو منه بيت.
وقد تحدثت روايتان عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن مستقبل قم ودورها قرب ظهور المهدي (عليه السلام) إلى أن يظهر. (رواهما في البحار:60/213).
تقول الأولى منها: (إن الله احتج بالكوفة على سائر البلاد، وبالمؤمنين من أهلها على غيرهم من أهل البلاد، واحتج ببلدة قم على سائر البلاد، وبأهلها على جميع أهل المشرق والمغرب من الجن والإنس، ولم يدع قم وأهله مستضعفاً بل وفقهم وأيدهم. ثم قال: إن الدين وأهله بقم ذليل، ولولا ذلك لأسرع الناس إليه فخرب قم وبطل أهله، فلم يكن حجة على سائر البلاد. وإذا كان كذلك لم تستقر السماء والأرض ولم ينظروا طرفة عين. وإن البلايا مدفوعة عن قم وأهله، وسيأتي زمان تكون بلدة قم وأهلها حجة على الخلائق وذلك في زمان غيبة قائمنا إلى ظهوره، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها. وإن الملائكة لتدفع البلايا عن قم وأهله، وما قصده جبار بسوء إلا قصمه قاصم الجبارين، وشغله عنه بداهية أو مصيبة أو عدو، وينسي الله الجبارين في دولتهم ذكر قم وأهله، كما نسوا ذكر الله).
وتقول الثانية: (ستخلو كوفة من المؤمنين، ويأزر عنها العلم كما تأزر الحية في جحرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم، وتصير معدنا للعلم والفضل حتى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتى المخدرات في الحجال، وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فيجعل الله قم وأهل قائمين مقام الحجة، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها ولم يبق في الأرض حجة، فيفيض العلم منه إلى سائر البلاد في المشرق
والمغرب، فتتم حجة الله على الخلق حتى لا يبقى أحد لم يبلغ إليه الدين والعلم، ثم يظهر القائم (عليه السلام) ويصير سبباً لنقمة الله وسخطه على العباد، لأن الله لا ينتقم من العباد، إلا بعد إنكارهم حجة).
ويظهر من هذين النصين عدة أمور:
أولها: أن دور الكوفة في العلم والتشيع لأهل البيت (عليهم السلام) سيصيبه ضعف قرب ظهور المهدي (عليه السلام)، والكوفة تشمل النجف، لأن اسمها بالأصل نجف الكوفة، أو نجفة الكوفة. بل قد يقصد منه الكوفة هنا العراق كما ذكرنا في محله.
وأن دور قم سيبرز ويستمر ويتعاظم قرب ظهور المهدي (عليه السلام) (وذلك في زمان غيبة قائمنا إلى ظهوره.. وذلك عند قرب ظهور قائمنا).
وثانيها: أن دور قم العقائدي قرب ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) سيكون لكل العالم حتى غير المسلمين: (وسيأتي زمان تكون قم وأهلها حجة على الخلائق. حتى لا يبقى مستضعف في الذين... حتى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه العلم والدين)، ولا يعني ذلك أن العلم والدين يصل من قم وأهلها إلى كل فرد من شعوب العالم، بل يعني أن صوت الإسلام وطرحه يصل إلى العالم بحيث إذا أراد أحد أن يتعرف على معالم الإسلام لتمكن من ذلك.
وهذه المعاني المذكورة في النصين الشريفين قد أخذت تتحقق في قم فتصير حجة على الشعوب الإسلامية وشعوب العالم.
ويدل تعبير: (عند قرب ظهور قائمنا) على عدم الطول المديد بين هذا الموقع الموعود لقم في العالم وبين ظهور المهدي (عليه السلام).
حديث أهل المشرق والرايات السود
وقد ورد في مصادر الشيعة والسنة، ويعرف أيضاً بحديث الرايات السود، وحديث أهل المشرق، وحديث مايلقى أهل بيته (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعده. وقد روته المصادر المختلفة عن صحابة متعددين، مع فروق في بعض الألفاظ والفقرات، ونص عدد من العلماء على أن رجاله ثقات.
ومن أقدم المصادر السنية التي روته أو روت قسماً منه ابن ماجة في سننه:2/518 و269، والحاكم:4/464 و553، وابن حماد في مخطوطته الفتن ص84 و85، وابن أبي شيبة في مصنفه:15/235، والدارمي في سننه ص 93، ثم رواه عنهم أكثر المتأخرين.
ولعل الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة وغيرهم: (يخرج ناس من المشرق يوطئون للمهدي سلطانه) جزء منه.
وهذا نص الحديث من مستدرك الحاكم:
(عن عبد الله بن مسعود قال: أتينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فخرج إلينا مستبشرا يعرف السرور في وجهه، فما سألناه عن شيء إلا أخبرنا به، ولا سكتنا إلا ابتدأنا، حتى مرت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين، فلما رآهم التزمهم وانهملت عيناه! فقلنا يا رسول الله، ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه! فقال:
إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد، حتى ترتفع رايات سود في المشرق فيسألون الحق فلا يعطونه، ثم يسألونه فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون! فمن أدركه منكم ومن أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي ولو حبوا على الثلج، فإنها رايات هدى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، فيملك الأرض، فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً). انتهى.
أما من مصادرنا الشيعية فقد رواه ابن طاووس في الملاحم والفتن ص30 و117، ورواه المجلسي في البحار:51/83 عن أربعين الحافظ أبي نعيم، الحديث السابع والعشرين في مجيئه - أي المهدي (عليه السلام) - من قبل المشرق. وروى شبيهاً به في:52/243 عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه. فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم. فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يقوموا. ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم (أي المهدي (عليه السلام)) قتلاهم شهداء. أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر).
ويستفاد من هذا الحديث بصيغة المختلفة عدة أمور.
الأول: أنه متواتر بمعناه إجمالاً، بمعنى أنه روي عن صحابة متعددين بطرق متعددة بحيث يعلم أن هذا المضمون قد صدر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وعمدة مضمونه:إخباره (صلّى الله عليه وآله وسلم) بمظلومية أهل بيته (عليهم السلام) من بعده، وأن إنصاف الأمة لهم يكون على يد قوم من المشرق يمهدون لدولة مهديهم (عليه السلام)،وأنه يظهر على أثر قيام دولة لهؤلاء القوم فيسلمونه رايتهم ويظهر الله به الإسلام على العالم، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
الثاني: أن المقصود بقوم من المشرق وأصحاب الرايات السود: الإيرانيون، وهو أمر متسالم عليه عند جيل الصحابة الذين رووا الحديث الشريف وغيره فيهم، وعند جيل التابعين الذين تلقوه منهم، ومن بعدهم من المؤلفين عبر العصور، بحيث تجده عندهم أمراً مفروغاً عنه، ولم يذكر أحد منهم حتى بنحو الشذوذ أن المقصود بهؤلاء القوم وبهذه الرايات أهل تركيا الفعلية مثلاً، أو أفغانستان، أو الهند، أو غيرها من البلاد. بل نص عدد من أئمة الحديث والمؤلفين على أنهم الإيرانيون. بل ورد اسم الخراسانيين في عدة صيغ أو فقرات رويت من
الحديث، كما سيأتي في حديث رايات خراسان.
الثالث: أن حركتهم تواجه عداء من العالم وحرباً، وأنها تكون خروجاً على حاكمهم ثم قياماً قرب ظهور المهدي (عليه السلام).
الرابع: أن نصرتهم فريضة على كل مسلم من الجيل الذي يعاصرهم، مهما كانت ظروفه صعبة، حتى لو أتاهم حبواً على الثلج.
الخامس: أن الحديث من أخبار المغيبات والمستقبل، وإحدى معجزات النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الدالة على نبوته، حيث تحقق ما أخبر به (صلّى الله عليه وآله وسلم) من مظلومية أهل بيته (عليهم السلام) وتشريدهم في البلاد على مدى العصور، حتى وصلوا الى أربع جهات العالم فلا نجد أسرة في العالم جرى عليهم من الإضطهاد والتشريد والتطريد مثل أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من أبناء علي وفاطمة (عليه السلام).
هذا، وقد تضمنت صيغة الحديث المتقدمة عن الإمام الباقر (عليه السلام) وصفاً دقيقاً لحركتهم، والمرجح عندي أنه يتعلق بحديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) المذكور. (كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق) يدل على أن هذا الحدث من وعد الله المقدر المحتوم، وهو ما يعبر عنه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) بـ (كأني بالشيء الفلاني أو الأمر الفلاني قد حدث) فهو يدل على حتميته ووضوحه في أذهانهم، ويقينهم به حتى كأنهم يرونه.
بل يدل على رؤيتهم له بالبصيرة التي خصهم الله بها،المتناسبة مع مقام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومقام أهل بيته (عليهم السلام).
كما يدل على أن حركة الإيرانيين هذه تكون عن طريق الثورة، لأنه المفهوم من قوله (قد خرجوا) أي ثاروا.
(يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه. فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم، فيعطون ما سألوا فلا يقبلون حتى يقوموا ولا يدفعونها إلا إلى صاحبكم).
وهذا التسلسل في حركتهم يعني أنهم (يطلبون الحق) من أعدائهم أي الدول الكبرى، وهو أن لا يتدخلوا في شؤونهم ويتركوهم مستقلين عن دائرة نفوذهم فلا يعطونهم ذلك، حتى يضطروهم إلى أن يضعوا سيوفهم على عواتقهم أي إلى الحرب فيحاربون وينتصرون، فيعطيهم أعداؤهم ما سألوا أول الأمر فلا يقبلون ذلك، لأنه يصير أمراً متأخراً بعد فوات الأوان وتغير الظروف.
(حتى يقوموا) حيث تبدأ ثورتهم الجديدة المتصلة بظهور المهدي (عليه السلام) الى أن يظهر فيسلمونه الراية.
وقد ذكرت إحدى روايات الحديث أنهم يقاتلون بعد رفض مطالبهم الأولى، وينتصرون فيها، كالحديث المروي في البحار:51/83: (فيسألون الحق فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلون.. الخ.).
وينبغي الإشارة الى أن تكرار قوله (عليه السلام): (يطلبون الحق فلا يعطونه) يدل أن مطالبتهم به تكون على مرحلتين قبل الحرب وبعد الحرب، وأن ثورتهم الشاملة (حتى يقوموا) تكون قرب ظهور المهدي (عليه السلام).
وتعبيره (عليه السلام) عن بداية حركتهم بالخروج، وعن حركتهم المتصلة بالظهور بقوله (عليه السلام) (حتى يقوموا)، يدل على أن هذا القيام أعظم من خروجهم وثورتهم أول الأمر.
ويدل على أنه مرحلة نضج وتطور لهذه الثورة يصل فيها الإيرانيون إلى مرحلة النفير العام والقيام لله تعالى تمهيداً لظهور المهدي (عليه السلام).
وقد يفهم من التعبير بـ (حتى يقوموا) وليس (فيقوموا) مثلاً أنه يوجد فاصل زمني
بين إعطائهم مطالبهم وبين قيامهم الكبير، أو على وجود مرحلة من التأمل والتردد عندهم، بسبب وجود اتجاه في داخلهم يريد القبول بما كانوا يطالبون به فقط، أو بسبب الظروف الخارجية التي تحيط بهم، ولكن الاتجاه الآخر يغلب فيقومون من جديد قياماً شاملاً يتحقق فيه التمهيد للمهدي (عليه السلام).
(قتلاهم شهداء) هذه شهادة عظيمة من الإمام الباقر (عليه السلام) لمن يقتل في حركتهم سواء في خروجهم أو حروبهم أو قيامهم الكبير الأخير..
وقد يقال إن شهادة الإمام الباقر (عليه السلام) بأن (قتلاهم شهداء) إنما تدل على صحة نية مقاتليهم ومظلوميتهم، ولكنها لا تدل على صحة نية قادتهم وخطهم.
ولكن حتى لو سلمنا ذلك جدلاً، وتجاوزنا قاعدة صحة عمل المسلم ونيته، فإن مثل هذا التفسير لا يغير من الموقف شيئاً.
(أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر) يخبر بذلك عن نفسه (عليه السلام) أنه لو أدرك حركتهم لحافظ على نفسه أن يقتل وإن كان قتلاهم شهداء، لأجل أن يبقي نفسه إلى ظهور المهدي (عليه السلام) ونصرته. وفي ذلك دلالة على المقام العظيم للإمام المهدي (عليه السلام) ومن يكون معه، بحيث يحرص على ذلك الإمام الباقر، وهو تواضع عظيم أيضاً منه لولده المهدي الموعود (عليه السلام).
وفيه دلالة أيضاً على أن مدة حركة الإيرانيين إلى ظهور المهدي (عليه السلام) لا تزيد عن عمر انسان، لأن ظاهر كلام الباقر (عليه السلام) أنه لو أدرك حركتهم لأبقى نفسه لنصرة المهدي (عليه السلام) بالأسباب الطبيعية، وليس بالأسباب الإعجازية، وهي دلالة مهمة على دخولنا في عصر الظهور واتصال حركتهم به، وقربها منه.
ومن طريف ما سمعته من التعليق على حديث رايات المشرق وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (فليأتهم ولو حبواً على الثلج) أن أحد كبار علماء تونس وهو عالم جليل متقدم
في السن لانريد الإضرار به بذكر اسمه حفظه الله، زار إيران في فصل الشتاء والثلج، وبينما كان خارجاً من الفندق زلقت قدمه فوقع على الثلج. قال صاحبه: بادرت لأنهضه فقال لي: لا تفعل، إصبر، أريد أن أنهض أنا بنفسي! ونهض على يديه ببطء، حتى إذا استوى واقفاً قال: كنا عندما نقرأ هذا الحديث عن المهدي وأنصاره ونصل إلى قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (فليأتهم ولو حبواً على الثلج) نتساءل: إن المهدي يخرج من الحجاز وأين الثلج في الحجاز أو الجزيرة حتى يأمرنا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بهذا التعبير؟ والآن عرفت معنى قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فأردت ألمس الثلج وأنهض عنه بنفسي!
حديث رايات خراسان إلى القدس
رواه عدد من علماء السنة كالترمذي:3/362 وأحمد في مسنده، وابن كثير في نهايته، والبيهقي في دلائله، وغيرهم. وصححه ابن الصديق المغربي في رسالته في الرد على ابن خلدون. ونصه: (تخرج من خراسان رايات سود فلا يردها شيء حتى تنصب بإيلياء).
وروت شبيهاً به مصادرنا كالملاحم والفتن لابن طاووس ص43 و58 ويحتمل أن يكون جزء من الحديث المتقدم.
ومعناه واضح، فهو يتحدث عن حركة عسكرية وجيش يزحف من إيران نحو القدس التي تسمى إيلياء وبيت إيل.
قال في مجمع البحرين: (إيل بالكسر فالسكون، اسم من أسمائه تعالى، عبراني أو سرياني. وقولهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بمنزلة عبد الله وتيم الله ونحوهما. وإيل هو البيت المقدس. وقيل بيت الله لأن إيل بالعبرانية الله).
وقال صاحب شرح القاموس: (إيلياء بالكسر، يمد ويقصر، ويشدد فيهما. اسم مدينة القدس).
وقد نص علماء الحديث على أن هذه الرايات الموعودة ليست رايات العباسيين. قال ابن كثير في النهاية تعليقاً على هذا الحديث: (هذه الرايات ليست هي التي أقبل بها أبو مسلم فاستلب بها دولة بني أمية. بل رايات سود أخرى تأتي صحبة المهدي). (فيض القدير:1/466، ولم أجده في طبعة ابن كثير الفعلية).
بل وردت عدة أحاديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) تميز بين رايات العباسيين التي هدفها دمشق، وبين رايات أصحاب المهدي (عليه السلام) التي هدفها القدس، منها ما رواه ابن حماد في مخطوطته ص84 و85 وغيرها، عن محمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): تخرج من المشرق رايات سود لبني العباس فتمكث ما شاء الله، ثم تخرج رايات سود صغار تقاتل رجلا من ولد أبي سفيان وأصحابه، من قبل المشرق، يؤدون الطاعة للمهدي).
وقد حاول بنو العباس استغلال أحاديث الرايات السود في ثورتهم على الأمويين، وعملوا لإقناع الناس بأن حركتهم ودولتهم وراياتهم مبشر بها من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأن المهدي الموعود (عليه السلام) منهم، وقد سمى المنصور ولده المهدي، وأشهد القضاة والرواة على أن أوصاف المهدي الواردة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) تنطبق عليه.. الخ. وللعباسيين قصص في ادعائهم المهدية واتخاذهم الرايات السود والثياب السود، وهي مشهورة مدونة في كتب التاريخ.
وقد يكون ذلك نفعهم في أول الأمر، ولكن سرعان ما كشف زيفه الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) والعلماء ورواة الحديث، ثم كشف زيفه الواقع حيث لم يكن أحد منهم بصفات المهدي الموعود (عليه السلام)، ولا تحقق على يده ما وعد به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ولا ملأ أحد منهم حتى قصره عدلاً!
بل تذكر الروايات أن الخلفاء العباسيين المتأخرين قد اعترفوا بأن قضية ادعاء آبائهم للمهدية كانت من أصلها مجعولة ومكذوبة.
ويبدو أن ادعاء المهدية كان أشبه بالموجة في أواخر القرن الأول الهجري، حيث رزح المسلمون تحت وطأة التسلط الأموي، ولمسوا ظلامة أهل البيت (عليهم السلام) فانتشر بينهم تداول أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن ظلامة أهل بيته الطاهرين (عليه السلام) والبشارة بمهديهم. فكان ذلك أرضية لادعاء المهدية لعديدين من بني هاشم، وحتى من غيرهم أيضاً مثل موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي.
ويبدو أن عبد الله بن الحسن المثنى كان أبرع من ادعاها لولده محمد، فقد خطط لذلك منذ طفولة ابنه فسماه محمداً لأن المهدي (عليه السلام) على اسم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ثم رباه تربية خاصة، وحجبه عن الناس وأشاع حوله الأساطير وأنه هو المهدي.
قال في مقاتل الطالبيين ص239: (لم يزل عبد الله بن الحسن منذ كان صبياً يتوارى ويراسل الناس بالدعوة إلى نفسه ويسمى بالمهدي)!!
وقال في ص244: (لهجت العوام بمحمد تسميه بالمهدي)!
بل كان العباسيون أيضاً يروجون لهذا الإدعاء قبل أن ينقلبوا على حلفائهم الحسنيين! فقد روى المصدر في ص239 عن عمير بن الفضل الخثعمي قال: (رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود وأبو جعفر ينتظره، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد، فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداً: من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه وسويت عليه ثيابه؟ قال: أو ما تعرفه؟! قلت: لا. قال: هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، مهدينا أهل البيت)!.
وأكثر الظن أن العباسيين تعلموا ادعاء المهدية من هؤلاء الحسنيين حلفائهم وشركائهم في الثورة على الأمويين. وليس هذا موضع التفصيل.
على أي حال، لا شك عند أهل العلم بالحديث والإطلاع على التاريخ، في أن الرايات السود الموعودة في هذا الحديث الشريف وغيره هي الرايات الممهدة للمهدي (عليه السلام)، وهي غير رايات بني العباس حتى لو فرضنا صحة الروايات التي تخبر برايات بني العباس أيضاً، لما عرفت من وجود أحاديث تميز بينهما، ولشهادة الواقع وعدم انطباقها على مهدي العباسيين وغيرهم، وقد أشرنا من أن هدف رايات العباسيين دمشق، وهدف رايات أنصار المهدي (عليه السلام) القدس.
وبالرغم من اختصار هذا الحديث الشريف في الرايات السود، إلا أن فيه بشارة بوصولها إلى هدفها، مهما كانت العقبات التي تعترض طريقها إلى القدس.
أما زمن هذا الحدث فغير مذكور في هذه الرواية، ولكن تذكر روايات أخرى أن قائد هذه الرايات يكون صالح بن شعيب الموعود، كما في مخطوطة ابن حماد ص84 عن محمد بن الحنفية قال: (تخرج رايات سود لبني العباس، ثم تخرج من خراسان أخرى قلانسهم سود وثيابهم بيض، على مقدمتهم رجل يقال له صالح من تميم، يهزمون أصحاب السفياني، حتى ينزل ببيت المقدس فيوطئ للمهدي سلطانه).
ويبدو أن المقصود بها في هذه الرواية حملة الإمام المهدي (عليه السلام) لتحرير فلسطين والقدس، ويحتمل أن تكون بدايتها قبل ظهوره (عليه السلام).
حديث كنوز الطالقان
وقد وردت له رواية في مصادر السنة عن علي (عليه السلام)، كما في الحاوي للسيوطي: 2/82 وكنز العمال:7/262 تقول: (ويحاً للطالقان، فإن الله (عزَّ وجلَّ) بها كنوزاً ليست من ذهب ولا فضة، ولكنَّ بها رجالاً عرفوا الله حق معرفته. وهم أنصار المهدي آخر الزمان).
وفي رواية ينابيع المودة للقندوزي ص449: (بخ بخ للطالقان).
وورد في مصادرنا الشيعية بلفظ آخر كما في البحار:52/307 عن كتاب سرور أهل الإيمان لعلي بن عبد الحميد بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (له كنز بالطالقان ما هو بذهب ولا فضة، وراية لم تنشر مذ طويت، ورجال كأن قلوبهم زبر الحديد، لا يشوبها شك في ذات الله، أشد من الجمر، لو حملوا على الجبال لأزالوها لا يقصدون براياتهم بلدة إلا خربوها،كأن على خيولهم العقبان، يتمسحون بسرج الإمام يطلبون بذلك البركة، ويحفون به يقونه بأنفسهم في الحروب، يبيتون قياماً على أطرافهم، ويصبحون على خيولهم! رهبان بالليل، ليوث بالنهار. هم أطوع من الأمة لسيدها، كالمصابيح كأن في قلوبهم القناديل، وهم من خشيته مشفقون، يدعون بالشهادة ويتمنون أن يقتلوا في سبيل الله. شعارهم يا لثارات الحسين، إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر، يمشون إلى المولى أرسالاً، بهم ينصر الله إمام الحق).
وقد كنت أتصور أن المقصود بالطالقان في هذه الأحاديث المنطقة الواقعة في سلسلة جبال آلبرز، على بعد نحو مئة كلم شمال غرب طهران. وهي منطقة مؤلفة من عدة قرى تعرف باسم (الطالقان) ليس فيها مدينة، وإليها ينسب المرحوم السيد محمود الطالقاني الذي كان من شخصيات الثورة الإيرانية. وفي أهل منطقة الطالقان خصائص من التقوى والتعلق بالقرآن وتعليمه من قديم، حتى أن أهل شمال إيران وغيرهم يأتون إلى قرى الطالقان ليأخذوا معلمي القرآن يقيمون عندهم بشكل دائم، أو في المناسبات.
لكن بعد التأمل ترجح عندي أن المقصود بأهل الطالقان أهل إيران، وليس خصوص منطقة الطالقان، وأن الأئمة (عليهم السلام) سموهم باسم هذه المنطقة من بلادهم لمميزاتها الجغرافية، أو لميزات أهلها.
وأحاديث الطالقان تتحدث عن أصحاب خاصين للمهدي (عليه السلام) ولا تحدد عددهم، ولا بد أنهم من بين جماهيره الواسعة وجيشه الكبير.
وقد تضمنت صفات عظيمة لهؤلاء الأولياء والأنصار، وشهادات عالية من الأئمة (عليهم السلام) بحقهم بأنهم عرفاء بالله تعالى، وأهل بصائر ويقين، وأهل بطولة وبأس في الحرب، يحبون الشهادة في سبيل الله تعالى، ويدعون الله تعالى أن ينيلهم إياها، وأنهم يحبون سيد الشهداء أبا عبد الله الحسين (عليه السلام) وشعارهم الثأر له وتحقيق هدف وثورته، وأن اعتقادهم بالإمام المهدي (عليه السلام) عميق، وحبهم له شديد. وهي من صفات الشيعة ومنهم الشعب الإيراني.
ظهور الخراساني وشعيب في إيران
تذكر الأحاديث هاتين الشخصيتين من أصحاب المهدي (عليه السلام) وأنهما يظهران في إيران قرب ظهوره (عليه السلام) ويشاركان في حركة ظهوره المقدسة.
ولا تذكر الروايات أن الإيرانيين يرسلون قواتهم لمساعدة الإمام المهدي (عليه السلام) في تحرير المدينة المنورة أو باقي مدن الحجاز، ويبدو أنه لا تكون حاجة إلى ذلك.
ولهذا تكتفي قواتهم التي تدخل العراق بإعلان ولائها وبيعتها للمهدي (عليه السلام): (تنزل الرايات السود التي تخرج من خراسان (إلى) الكوفة، فإذا ظهر المهدي بعثت إليه بالبيعة). (البحار:52/217).
ومن جهة أخرى، تذكر بعض روايات الروايات المصادر السنية حركة الإيرانيين واحتشادهم في جنوب إيران، التي يحتمل أن تكون زحفاً جماهيريا باتجاه الحجاز نحو الإمام المهدي (عليه السلام):
(إذا خرجت خيل السفياني إلى الكوفة بعث في طلب أهل خراسان، ويخرج أهل
خراسان في طلب المهدي) (ابن حماد ص 86).
وأن هذا الإحتشاد يكون بقيادة الخراساني في (بيضاء إصطخر) قرب الأهواز، وأن الإمام المهدي (عليه السلام) يتوجه بعد تحريره الحجاز إلى بيضاء إصطخر ويلتقي بأنصاره الخراساني وجيشه، ويخوضون بقيادته معركة هناك ضد السفياني.
ومن المحتمل أن تكون هذه المعركة المذكورة مع قوات بحرية من الروم إلى جانب قوات السفياني، كما سنذكر في حركة الظهور، ويؤيده أنها تكون معركة فاصلة تفتح الباب أمام المد الشعبي المؤيد للمهدي (عليه السلام): (فعند ذلك يتمنى الناس المهدي ويطلبونه) (ابن حماد ص 86).
ومنذ ذلك الحين يصبح الخراساني وشعيب من أصحاب الإمام المهدي الخاصين، ويصبح شعيب القائد العام لجيش الإمام المهدي (عليه السلام)، وتكون قوات الخراسانيين هي الثقل أو ثقلاً كبيراً في جيش المهدي (عليه السلام) الذي يعتمد عليه في تصفية الوضع الداخلي في العراق من المعادين له والخوارج عليه، ثم في قتال الترك، ثم في زحفه العظيم لفتح القدس وفلسطين.
هذه خلاصة دور هذين الرجلين الموعودين من إيران، كما يستفاد من أحاديثهما الكثيرة في مصادر السنة، والقليلة في مصادرنا.
وقد جعلتني هذه الظاهرة أعيد التتبع والتأمل في أحاديثهما في مصادرنا، آخذاً بعين الإعتبار احتمال أن تكون من موضوعات العباسيين في أبي مسلم الخراساني، لكني وجدت فيها روايات صحيحة السند تذكر الخراساني، مثل رواية أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) في اليماني وغيرها، ووجدت روايات تدل على أن أمر هذا الخراساني الموعود كان معروفاً عند أصحاب الأئمة (عليهم السلام) قبل خروج أبي مسلم الخراساني ومحاولة العباسيين استغلال أحاديث المهدي (عليه السلام).
فأمر الخراساني ثابت في مصادرنا أيضاً، ودوره الذي أشرنا إليه قريب من دوره الذي تذكره الروايات الواردة في مصادر السنة.
وكذلك في الجملة أمر صاحبه شعيب في مصادرنا، وإن كانت روايات الخراساني أقوى من رواياته بكثير.
والأسئلة حول شخصية (الخراساني وشعيب) متعددة، ومن أبرزها:
هل أن المقصود بالخراساني في هذه الأحاديث رجل معين، أم هو تعبير عن قائد إيران الذي يكون في زمن ظهور المهدي (عليه السلام)؟
أما رواياته الواردة في مصادر السنة، وكذا في مصادرنا المتأخرة، فهي تدل بوضوح على أنه رجل من ذرية الإمام الحسن أو الإمام الحسين (عليه السلام) وتسميه الهاشمي الخراساني، وتذكر صفاته البدنية وأنه صبيح الوجه في خده الأيمن خال، أو في يده اليمنى خال. الخ.
وأما رواياته الواردة في مصادر الدرجة الأولى عندنا، كغيبة النعماني وغيبة الطوسي فهي تحتمل تفسيره بصاحب خراسان أو قائد أهل خراسان أو قائد جيشهم، لأنها تعبر بـ (الخراساني) فقط، ولا تنص على أنه هاشمي.
ولكن مجموعة القرائن الموجودة حوله تدل على أنه شخص معين، يكون خروجه مقارناً لخروج السفياني واليماني، وأنه يرسل قواته إلى العراق فتهزم قوات السفياني.
ومنها، هل أن يكون اسم الخراساني وشعيب اسمين رمزيين لا حقيقيين؟
أما الخراساني فليس فيه مجال للرمزية لأن الروايات لم تذكر اسمه، نعم يمكن القول إن نسبته إلى خراسان لا تعني بالضرورة أن يكون من محافظة خراسان
الفعلية، فإن اسم خراسان والنسبة إليها يستعمل في صدر الإسلام بمعنى بلاد المشرق، التي تشمل إيران والمناطق الإسلامية المتصلة بها، التي كانت تحت الإحتلال الروسي، فقد يكون هذا الخراساني من أبناء أي منطقة منها، ويصح تسميته الخراساني.
كما لا يفهم من مصادر الدرجة الأولى عندنا أنه سيد حسني أو حسيني، كما تقول مصادر السنيين.
وأما شعيب بن صالح أو صالح بن شعيب، فتذكر الروايات أوصافه، وأنه شاب أسمر نحيل، خفيف اللحية، وأنه صاحب بصيرة ويقين، وتصميم لا يلين، ورجل حرب من الطراز الأول، لا ترد له راية، ولو استقبلته الجبال لهدها واتخذ فيها طرقاً.. الخ. ومن المحتمل أن يكون اسمه رمزياً من أجل المحافظة عليه حتى يظهر أمر الله فيه، وأن يكون اسمه واسم أبيه مشابهين لشعيب وصالح، أو بمعناهما.
وتذكر بعض الروايات أنه من أهل سمرقند التي هي الآن تحت الاحتلال الروسي، ولكن أكثر الروايات تذكر أنه من أهل الري، وأن له علاقة ببني تميم، أو من تميم محروم، وهم فرع من بني تميم، أو أنه مولى لبني تميم. وإذا صح ذلك، فيمكن أن يكون أصله من جنوب إيران حيث توجد إلى الآن عشائر من بني تميم، أو من بني تميم الذين استوطنوا من صدر الإسلام في محافظة خراسان، وذاب أكثرهم في الشعب الإيراني، وبقي منهم إلى اليوم بضعة قرى قرب مشهد يتكلمون العربية، أو تكون له علاقة نسبية بهم.
ومنها، السؤال عن وقت ظهورهما، وقد تقدم في أول هذا الفصل أن المرجح أن يكون في سنة ظهور المهدي (عليه السلام)، مقارناً لخروج السفياني واليماني، وإن كان
من المحتمل صحة الرواية التي تقول: (يكون بين خروجه - أي شعيب - وبين أن يسلم الأمر للمهدي اثنان وسبعون شهراً). (ابن حماد ص84)، فيكون ظهورهما قبل ظهور المهدي (عليه السلام) بنحو ست سنوات.
أما المدة بين بداية دولة الممهدين الإيرانيين وبين ظهور الخراساني وشعيب، فهي غير محدودة في الروايات كما ذكرنا، ما عدا بعض الإشارات والقرائن التي تصلح دليلاً على التحديد الإجمالي.
منها، ما ورد عن قم وما يحدث لها من موقع ديني وفكري عالمي، وأن ذلك يكون (قرب ظهور قائمنا). (البحار:60/213).
وما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) من قوله: (أما إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر) (البحار:52/243)، الذي يدل على أن المدة بين ظهوره (عليه السلام) وبين قيام دولة أهل المشرق، لا يزيد عن عمر إنسان.
ومنها، حديث: (أتاح الله برجل منا أهل البيت، يشير بالتقى، ويعمل بالهدى، ولا يأخذ في حكمه الرشا، والله إني لأعرفه باسمه واسم أبيه، ثم يأتينا الغليظ القصرة، ذو الخال والشامتين الحافظ لما استودع يملؤها عدلاً وقسطاً) (البحار:52/269) والذي يدل على بداية دولة أنصار المهدي (عليه السلام) أولاً على يد سيد من أبناء أهل البيت (عليهم السلام)، وأنه يكون بعده قبل ظهور المهدي (عليه السلام) شخص أو أكثر، لأن الحديث ناقص كما ذكرنا، فيكون الخراساني في آخر من يحكم إيران قبل المهدي (عليه السلام)، والله العالم.
والسؤال الأخير عن الخراساني، هل يكون مرجع تقليد، أم يكون قائداً سياسياً إلى جانب المرجع، كرئيس الجمهورية مثلاً؟
فالذي يبدو من أحاديثه أنه القائد الأعلى لدولة أهل المشرق، ولكن يبقى احتمال أن يكون قائداً سياسياً بإمرة المرجع والقائد الأعلى، أمراً وارداً، والله العالم.
تدل الأحاديث الشريفة على أن حركة الإمام المهدي وثورته المقدسة أرواحنا فداه، تتم في أربعة عشر شهراً.
وأنه يكون في الستة أشهر الأولى منها خائفاً يترقب، يوجه الأحداث سراً بواسطة أصحابه وأنصاره، وفي الثمانية أشهر التالية يظهر في مكة ويتوجه إلى المدينة فالعراق فالقدس، ويخوض معاركه معه أعدائه، ويوحد العالم الإسلامي تحت حكمه، ثم يعقد الهدنة مع الروم، أي الغربيين. كما سيأتي.
وتؤكد الأحاديث على وقوع حدثين قبل حركة ظهور المهدي (عليه السلام) بنحو ستة أشهر يكونان بمثابة الإشارة الإلهية له بأن يبدأ الإعداد للظهور.
الحدث الأول: انقلاب في بلاد الشام بقيادة عثمان السفياني، يرى فيه أعداء الأمة من اليهود والغربيين، أنه خطوة مهمة في ضبط المنطقة المحيطة بفلسطين بيد زعامة موالية لهم، تمنع العمليات العسكرية ضدهم، وتقف في وجه تهديدات البلاد العربية وإيران للقدس.
أما الذين يعرفون أحاديث السفياني، وأن أمره موعود على لسان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيقولون صدق الله ورسوله (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً)، ويعتبرونه مقدمة لظهور المهدي الموعود، ويستعدون لنصرته (عليه السلام).
والحدث الثاني: نداء من السماء إلى شعوب العالم يسمعونه جميعاً، أهل كل لغة بلغتهم، قوياً عميقاً رخيماً، آتياً من السماء ومن كل صوب.. فلا يبقى نائم إلا استيقظ، ولا قاعد إلا نهض، ويفزع الناس من صيحته ويخرجون من بيوتهم لينظروا ما الخبر! وهو يدعوهم إلى وضع حد للظلم والكفر والصراع وسفك الدماء، واتباع الإمام المهدي (عليه السلام) ويسميه باسمه واسم أبيه!
وتذكر الأحاديث الشريفة أن أعناق البشر تخضع لهذه الآية الإلهية الموعودة، لأنها تأويل قوله تعالى: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) (الشعراء:4) ولا بد أنه يعم العالم سؤال على ألسنة الناس وفي وسائل الإعلام: من هو المهدي؟ وأين هو؟
ولكن ما أن يعرفوا أنه إمام المسلمين، من أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأنه سيظهر في الحجاز حتى يبدؤوا بالتشكيك بالنداء المعجزة، وبالتخطيط لضرب هذا المد الإسلامي الجديد، وقتل إمامه المهدي (عليه السلام)!
أما المؤمنون بالغيب الذين سمعوا بأحاديث هذا النداء، فيعرفون أنه النداء الحق الموعود (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)، وتكثر أحاديثهم عن المهدي (عليه السلام)، والبحث عنه، والاستعداد لنصرته.
وأصل أحاديث هذا النداء، وأنه يدعو الناس إلى اتباع الإمام المهدي (عليه السلام) ويسميه باسمه واسم أبيه، كثيرة في مصادر الشيعة والسنة، ولا يبعد بلوغها حد التواتر المعنوي.
وقد رواها ابن حماد في مخطوطته في الصفحات 59 و60 و92 و93 وغيرها. ورواها المجلسي في البحار ج 52 ص 119 و287 و289 و290 و296 و300 وغيرها.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنه ينادي باسم صاحب هذا الأمر مناد من السماء:
الأمر لفلان بن فلان، ففيم القتال) (البحار:52/396).
وعنه (عليه السلام) قال: (هما صيحتان: صيحة في أول الليل، وصيحة في آخر الليلة الثانية. قال هشام بن سالم فقلت: كيف ذلك؟ قال: واحدة من السماء، وواحدة من إبليس. فقلت كيف تعرف هذه من هذه؟ قال: يعرفها من كان سمع بها قبل أن تكون). (البحار:52/295).
وعن محمد بن مسلم قال: (ينادي مناد من السماء باسم القائم فيسمع ما بين المشرق والمغرب، فلا يبقى راقد إلا قام، ولا قائم إلا قعد، ولا قاعد إلا قام على رجليه من ذلك الصوت، وهو صوت جبرئيل الروح الأمين) (البحار:52/290).
وعن عبد الله بن سنان قال: (كنت عند أبي عبد الله (الإمام الصادق (عليه السلام)) فسمعت رجلاً من همدان يقول له: إن هؤلاء العامة يعيروننا ويقولون لنا: إنكم تزعمون أن مناديا ينادي من السماء باسم صاحب هذا الأمر! وكان متكئاً فغضب وجلس، ثم قال: لا تروه عني، واروه عن أبي ولا حرج عليكم في ذلك. أشهد أني سمعت أبي (عليه السلام) يقول: والله إن ذلك في كتاب الله (عزَّ وجلَّ) بين حيث يقول: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)). (البحار:52/292).
وعن سيف بن عميرة قال: (كنت عند أبي جعفر المنصور فقال ابتداء: يا سيف بن عميرة لا بد من مناد ينادي من السماء باسم رجل من ولد أبي طالب. فقلت: جعلت فداك يا أمير المؤمنين، تروي هذا! قال: إي والذي نفسي بيده لسماع أذني له. فقلت: يا أمير المؤمنين إن هذا الحديث ما سمعته قبل وقتي هذا. قال يا سيف، إنه لحق. فإذا كان ذلك فنحن أول من يجيبه، أما إنه نداء إلى رجل من بني عمنا. فقلت: رجل من ولد فاطمة (عليها السلام)؟ قال: نعم، يا سيف لولا أني سمعته من أبي جعفر محمد بن علي ولو يحدثني به أهل الأرض كلهم ما قبلته منهم. ولكنه محمد بن علي)! (الإرشاد للمفيد ص 404)
وفي مخطوطة ابن حماد ص92 عن سعيد بن المسيب قال: (تكون فتنة كان أولها لعب الصبيان، كلما سكنت من جانب طمت من جانب، فلا تتناهى حتى ينادي مناد من السماء: ألا إن الأمير فلان. وفتل ابن المسيب يديه حتى أنهما لتنتفضان فقال: ذلكم الأمير حقاً، ثلاث مرات).
وفيها: (إذا نادى مناد من السماء أن الحق في آل محمد، فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، ويشربون حبه، ولا يكون لهم ذكر غيره).
وفيها: (حدثنا سعيد عن جابر عن أبي جعفر قال: ينادي مناد من السماء ألا أن الحق في آل محمد، وينادي مناد من الأرض ألا إن الحق في آل عيسى أو قال العباس، أنا أشك فيه، وإنما الصوت الأسفل من الشيطان ليلبس على الناس. شك أبو عبد الله نعيم).
وفي ص60: عن ابن مسعود عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (إذا كانت صيحة في رمضان فإنه يكون معمعة في شوال وتمييز القبائل في ذي القعدة، وسفك الدماء في ذي الحجة. والمحرم وما المحرم، يقولها ثلاثاً. هيهات هيهات يقتل الناس فيها هرجاً هرجاً. قال، قلنا: وما الصيحة يا رسول الله؟ قال هده في النصف من رمضان ليلة جمعة، فتكون هدة توقظ النائم وتقعد القائم، وتخرج العواتق من خدورهن. في ليلة جمعة في سنة كثيرة الزلازل، فإذا صليتم الفجر من يوم الجمعة فادخلوا بيوتكم وأغلقوا أبوابكم وسدوا كواكم ودثروا أنفسكم وسدوا آذانكم، فإذا أحسستم بالصيحة فخروا لله سجدا وقولوا: سبحان القدوس، سبحان القدوس، فإنه من فعل ذلك نجا، ومن لم يفعل ذلك هلك)
إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في مصادر الفريقين.
أما النداء الأرضي المضاد الذي تذكره الأحاديث، قد يكون نداء إبليس حقيقة كما نادى يوم أحد: قتل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ويحتمل أن يكون نداء إبليس
بواسطة أعوانه أبالسة الإعلام العالمي حيث تتوصل عبقرياتهم الى مواجهة الموجة الإسلامية العالمية التي يحدثها النداء بنداء مشابه مضاد.
وأما القتال الذي يدعو النداء السماوي إلى وقفه، فلا يبعد أن يكون الحرب العالمية التي تقدم الحديث فيها، وذكرنا أنها قد تكون على شكل حروب متعددة، وفقاً لما تذكره الأحاديث من أنه في سنة الظهور تكثر الحروب في الأرض.
كما ينبغي الإلفات إلى وجود تفاوت بين الروايات في وقت النداء. فقد ذكر بعضها أنه يكون في شهر رمضان كما رأيت، وذكر بعضها أنه يكون في رجب كما في البحار:52 ص 789، وذكر بعضها أنه يكون في موسم الحج كما في مخطوطة ابن حماد 92، أو في محرم وبعد قتل النفس الزكية كما في ص93، ويفهم من بعض الروايات أنها نداءات متعددة، بل ينص بعضها على ذلك.
وقد أوصل أحد العلماء النداءات الواردة في مصادرنا الشيعية إلى ثمانية، وهي قريب من ذلك في المصادر السنية، لكن المرجح أنها نداء سماوي واحد في شهر رمضان، وأن تصور أنه يكون متعدداً نشأ من تفاوت الروايات في توقيته، والله العالم.
بعد هاتين الآيتين، أي بعد خروج السفياني في رجب، والنداء السماوي في رمضان.. يكون بقي لظهور المهدي (عليه السلام) في محرم نحو ستة أشهر. وتذكر مصادر الحديث السنية عدداً من أعماله (عليه السلام) في هذه الفترة تتلخص باتصاله بأنصاره في المدينة المنورة ثم في مكة المكرمة، والتقائه ببعض الذين يأتون من أقطار العالم الإسلامي يبحثون عنه ليبايعوه على شوق وتخوف، ومنهم سبعة من
العلماء من بلدان شتى يلتقون في مكة على غير ميعاد، ويكون كل واحد منهم أخذ البيعة من ثلاث مئة وثلاثة عشر متديناً مخلصاً في بلده، وجاء يبحث عن المهدي (عليه السلام) ليبايعه عن نفسه وعن جماعته، طمعاً في أن يقبلهم المهدي (عليه السلام)، فيكونون أصحابه الموعودين على لسان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)!
وتعتبر مصادرنا الشيعية هذه الأشهر الستة مرحلة الظهور الخفي بعد الغيبة الكبرى التامة، وهي المقصودة بالحديث الوارد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (يظهر في شبهة ليستبين، فيعلو ذكره، ويظهر أمره) (البحار:52/ 3) والمعنى أنه (عليه السلام) يظهر أولاً بالتدريج، ثم يتضح أمره للناس ويستبين. ويحتمل أن يكون المعنى أنه يظهر بالتدريج لكي يختبر أمره واستجابة الناس له ويستبين ذلك.
ويدل على هذه الفترة أيضاً عدة أخبار أخرى فيها صحيح السند، ومن أوضحها التوقيع الصادر منه (عليه السلام) إلى سفيره علي بن محمد السمري رضوان الله عليه قال: (وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا ومن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) (البحار:51/361). والمقصود بمن يدعي المشاهدة قبل هذين الحدثين من يدعي السفارة لصاحب الأمر (عليه السلام)، وليس مجرد التشرف برؤيته دون ادعاء النيابة أو دون التحدث بذلك، فقد استفاضت الروايات برؤيته (عليه السلام) من قبل العديدين من العلماء والأولياء الثقاة الأصحاء، ولعل هذا سبب التعبير بنفي المشاهدة لا الرؤية.
ويدل التوقيع الشريف على أن الغيبة التامة الكبرى تنتهي بخروج السفياني والصيحة، وأن الغيبة بعدها تكون اختفاء شبيهاً بالغيبة الصغرى مقدمة للظهور،
وأن الإمام (عليه السلام) يتصل فيها بأنصاره، ويتشرف العديد منهم بلقائه، وقد ينصب سفراء يكونون واسطة بينه وبين الناس.
بل يبدو من الرواية التالية أنه يظهر بعد خروج السفياني ثم يختفي إلى وقت ظهوره الموعود في محرم، ففي رواية حذلم بن بشير عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (فإذا ظهر السفياني اختفى المهدي ثم يظهر بعد ذلك) البحار: 52/ 213، ولا تفسير لها إلا أنه (عليه السلام) يظهر للناس بعد خروج السفياني في رجب، ثم يختفي إلى وقت ظهوره في محرم. ولم تذكر الرواية هل يكون هذا الظهور قبل النداء السماوي أو بعده.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لا يقوم القائم حتى يقوم اثنا عشر رجلاً كلهم يجمع على قول إنهم قد رأوه فيكذبونهم) (البحار:52/244)، ويبدو أنهم رجال صادقون بقرينة تعبيره (عليه السلام) عن إجماعهم على رؤيته، وتعجبه من تكذيب الناس لهم، أي عامة الناس.
ويظهر أن رؤيتهم له (عليه السلام) تكون في تلك الفترة التي يظهر فيها في خفاء ليستبين، فيعلو ذكره ويظهر أمره.
وعلى هذا، فمن المرجح أنه يقوم (عليه السلام) في تلك الفترة بدوره القيادي بشكل شبه كامل، ويصدر توجيهاته في تلك الظروف الحساسة إلى دولة الممهدين اليمانيين والإيرانيين،ويتصل بأنصاره أولياء الله تعالى في شتى بلاد المسلمين.
ومن أجل أن نتصور عمله في فترة الظهور الصغرى هذه، نتعرض باختصار لعمله في غيبته. فقد ذكرت بعض الروايات أنه روحي فداه يسكن المدينة المنورة، ويلتقي بثلاثين، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
(لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولا بد له في غيبته من عزلة، ونعم المنزل طيبة، وما بثلاثين من وحشة). (البحار: 52/157).
وتدل روايات أخرى على أنه يعيش مع الخضر (عليه السلام) فعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (إن الخضر شرب من ماء الحياة فهو حي لا يموت حتى ينفخ في الصور، وإنه ليأتينا فيسلم علينا فنسمع صوته ولا نرى شخصه، وإنه ليحضر حيث ذكر، فمن ذكره منكم فليسلم عليه، وإنه ليحضر المواسم فيقضي جميع المناسك ويقف في عرفة فيؤمن على دعاء المؤمنين، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا (عليه السلام) ويصل به وحدته). (البحار:52/152).
ويبدو من الرواية المتقدمة وغيرها أن هؤلاء الثلاثين من أصحاب المهدي (عليه السلام) يتجددون دائماً، فكلما توفي منهم واحد حل محله آخر.
ولعلهم الأبدال المقصودون بالفقرة الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) في دعاء النصف من رجب، بعد الصلاة على النبي وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم):
(اللهم صل على الأبدال والأوتاد والسياح والعباد والمخلصين والزهاد وأهل الجد والاجتهاد). (مفتاح الجنات:3/50).
ومن المرجح أن يكون لهؤلاء الأولياء الثلاثين وأكثر، دور في الأعمال التي يقوم بها المهدي (عليه السلام) في غيبته. فقد دلت الأخبار المتعددة على أنه يقوم بنشاط واسع، ويتحرك في البلاد المختلفة، ويدخل الدور والقصور، ويمشي في الأسواق، ويحضر موسم الحج في كل عام.
وأن سر غيبته لا ينكشف إلا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة في أعمال الخضر إلا بعد أن كشفها لموسى (عليه السلام).
فعن عبد الله بن الفضل قال: (سمعت جعفر بن محمد (الإمام الصادق (عليه السلام)) يقول: (إن لصاحب هذا الأمر غيبة لابد منها يرتاب فيها كل مبطل. فقلت له: ولم
جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم. قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره. إن وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلا بعد ظهوره كما لم ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، لموسى (عليه السلام) إلا وقت افتراقهما.
يا ابن الفضل، إن هذا أمر من أمر الله، وسر من سر الله، وغيب من غيب الله. ومتى علمنا أنه (عزَّ وجلَّ) حكيم صدقنا بأن أفعاله كلها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف لنا). (البحار:52/91).
وعن محمد بن عثمان العمري (ره) قال: (والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة، يرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه). (البحار:51/250).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (وما تنكر هذه الأمة أن يكون الله يفعل بحجته ما فعل بيوسف؟ أن يكون في أسواقهم ويطأ بسطهم وهم لا يعرفونه، حتى يأذن الله (عزَّ وجلَّ) أن يعرفهم نفسه، كما أذن ليوسف حين قال: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ. قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي)) (البحار:51/142).
وبناء على هذه الروايات وأمثالها فإن حالته (عليه السلام) في غيبته تشبه حالة يوسف (عليه السلام)، ونوع عمله فيها من نوع عمل الخضر (عليه السلام) الذي كشف لنا القرآن بعض عجائبه.
بل يظهر منها أنهما يعيشان معاً ويعملان معاً (عليه السلام). والمرجح أن يكون كثير من أعماله بواسطة أصحابه الأبدال وتلاميذهم، الذين تطوى لهم الأرض والمسافات، ويهديهم ربهم بإيمانهم، وبتعليمات إمامهم المهدي (عليه السلام).
بل وردت الأحاديث الشريفة والقصص الموثوقة بطي الأرض والمشي على الماء، وغيرها من الكرامات، لمن هم أقل منهم درجةً ومقاماً، من أولياء الله
وعباده الصالحين.
نعم، إن الله تعالى أجرى الله الأمور والأحداث بأسبابها، من أكبر حدث في هذا العالم إلى أصغره، ولكنه سبحانه يهيمن على هذه الأسباب ويتصرف بها كيف يشاء، بما يشاء، وعلى يد من يشاء من ملائكته وعباده.
وإن كثيراً من الأحداث والأمور التي يبدو لنا أنها حدثت أو تحدث بأسباب طبيعية، لو انكشف لنا الواقع لرأينا فيها يد الغيب الإلهي. فعندما أراد شرطة الملك أن يأخذوا السفينة التي خرقها الخضر (عليه السلام) فوجدوها معيوبة وتركوها، لم يلتفتوا إلى أن في الأمر فعلاً غيبياً!
وكذلك عندما عاش أبوا الغلام حياتهما بالايمان، وقاما بما أراد الله تعالى منهما، لم يعرف أن ابنهما لو بقي حياً لأرهقهما طغياناً وكفراً.
وعندما كبر اليتيمان ووجدا كنزهما محفوظاً تحت الجدار واستخرجاه، لم يعرفا أن الخضر (عليه السلام) لو لم يبن الجدار لانكشف الكنز أو ضاع مكانه.
وإذا كانت هذه الأحداث الثلاثة التي كشف الله تعالى عنها في كتابه، قد صدرت من الخضر في مرافقته القصيرة لموسى (عليه السلام)، فلنا أن نتصور أعماله الكثيرة التي يقوم بها في أيامه الحافلة وعمره المديد.
وقد ورد في الحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قوله: (رحم الله (أخي) موسى، عجل على العالم، أما إنه لو صبر لرأى منه من العجائب ما لم ير). (البحار:13/ 301).
ولنا أن نتصور عمل الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته، وهو أعظم مقاماً من الخضر (عليه السلام) برواية جميع المسلمين، لأنه أحد سبعة روي إنهم سادات أهل الجنة وخيرة الأولين والآخرين، فعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (نحن سبعة ولد عند المطلب سادة
أهل الجنة: أنا، وحمزة، وعلي، وجعفر، والحسن، والحسين، والمهدي) (البحار:51/65 والصواعق المحرقة ص158 وكثير من مصادر الفريقين).
فالله يعلم بما يقوم به المهدي (عليه السلام) ووزيره الخضر وأصحابه الأبدال، وتلاميذهم أولياء الله، من أعمال في طول العالم وعرضه، وفي أحداثه الكبيرة والصغيرة.
ومن الطبيعي أن لا ينكشف وجه الحكمة في غيابهم وعملهم (عليهم السلام)، إلا بعد ظهورهم، وكشفهم للناس بعض ما كانوا يقومون به في عصرنا والعصور السابقة. وقد يكون أحدنا مدينا لهم بعمل أو أكثر قاموا له به في حياته، فضلاً عن مسار التاريخ وأحداثه الكبرى.
وينبغي الإلفات إلى أن هذه العقيدة بغيب الله تعالى وعمل الإمام المهدي والخضر والأبدال (عليه السلام) تختلف عن نظريات المتصوفة وعقائدهم في القطب والأبدال، وإن كانت تشبهها من بعض الوجوه.
بل حاول بعضهم أن يطبقها على المهدي وأصحابه (عليه السلام).
قال الكفعمي (ره) في حاشية مصباحه، كما في سفينة البحار مادة قطب: (قيل إن الأرض لاتخلو من القطب وأربعة أوتاد، وأربعين بدلاً، وسبعين نجيباً، وثلاث مئة وستين صالحاً. فالقطب هو المهدي صلوات الله عليه، ولا تكون الأوتاد أقل من أربعة، لأن الدنيا كالخيمة والمهدي كالعمود، وتلك الأربعة أطناب.
وقد يكون الأوتاد أكثر من أربعة، والأبدال أكثر من أربعين، والنجباء أكثر من سبعين، والصالحون أكثر من ثلاث مئة وستين. والظاهر أن الخضر وإلياس (عليه السلام) من الأوتاد، فهما ملاصقان لدائرة القطب.
وأما صفة الأوتاد، فهم لا يغفلون عن الله طرفة عين، ولا يجمعون من الدنيا إلا البلاغ، ولا تصدر منهم هفوات البشر، ولا يشترط فيهم العصمة. وشرط ذلك في القطب.
وأما الأبدال فدون هؤلاء في المرتبة، وقد تصدر منهم الغفلة فيتداركونها بالتذكر، ولا يتعمدون ذنباً.
وأما الصالحون فهم المتقون الموصوفون بالعدالة، وقد يصدر عنهم الذنب فيتداركونه بالإستغفار والندم، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ).
ثم ذكر الكفعمي (ره) أنه إذا نقص واحد من إحدى المراتب المذكورة، حل محله آخر من المرتبة الأدنى. وإذا نقص من الصالحين، حل محله آخر من سائر الناس.
وما ذكره (ره) عن نبي الله إلياس (عليه السلام)، وأنه من الأحياء الذين مد الله في عمرهم لحكمة يعلمها، مطابق لما ذهب إليه بعض المفسرين في تفسير الآيات الواردة فيه (عليه السلام)، وقد روي ذلك عن أهل البيت (عليهم السلام) وأن قد مد الله في عمره كالخضر (عليه السلام)، وأنهما يجتمعان في عرفات كل سنة، وفي غيرها.
وأيّاً كان، فالذي يفهم من الروايات الشريفة أن فترة الستة أشهر، من خروج السفياني والنداء السماوي إلى ظهوره (عليه السلام) في محرم، تكون حافلة بنشاطه ونشاط أصحابه (عليه السلام)، وتظهر للناس الكرامات والآيات على أيديهم وأيدي من يتصل بهم، وأن ذلك سيكون حدثاً عالمياً يشغل الناس والدول على السواء.
أما الشعوب الإسلامية فتعمها موجة الحديث عن المهدي (عليه السلام) وكراماته واقتراب ظهوره، ويكون ذلك تمهيداً مناسباً لظهوره.
ولكن تلك الفترة تكون أيضاً أرضية خصبة للكذابين والمشعوذين لادعاء المهدية ومحاولة تضليل الناس! فقد ورد أن اثنتي عشرة راية تدعي المهدية ترفع قبل ظهوره (عليه السلام)، وأن اثني عشر شخصاً من آل أبي طالب يرفع كل منهم راية ويدعو إلى نفسه، وجميعها رايات ضلال، ومحاولات دنيوية لاستغلال تطلع العالم إلى ظهوره (عليه السلام).
فعن المفضل بن عمرو الجعفي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال سمعته يقول: (إياكم والتنويه، أما والله ليغيبن إمامكم سنيناً (سبتاً) من دهركم، ولتمحصن حتى يقال مات أو هلك، بأي واد سلك. ولتدمعن عليه عيون المؤمنين. ولتكفؤن كما تكفأ السفن أمواج البحر، فلا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه، وكتب في قلبه الإيمان، وأيده بروح منه. ولترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة، لا يدرى أيٌّ من أي!
قال المفضل: فبكيت، فقال ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ فقلت: كيف لا أبكي وأنت تقول ترفع اثنتا عشرة راية لا يدرى أيٌّ من أي، فكيف نصنع؟ قال، فنظر إلى شمس داخلة في الصفة، فقال: يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس؟ قلت: نعم. قال: والله لأمرنا أبين من هذه الشمس). (البحار:52/281)
أي لا تخشوا أن يشتبه عليكم أمر المهدي (عليه السلام) بأمر من يدعي المهدية، لأن أمره أوضح من الشمس، بآياته التي تكون قبله ومعه، وشخصيته التي لا تقاس بالمدعين والكذابين.
ومن ناحية أخرى، ستأخذ الدولتان الممهدتان له، اليمانية والإيرانية موقعاً سياسياً هاماً في أحداث العالم وتطلعات شعوبه. وتكونان بحاجة أكبر إلى
توجهاته (عليه السلام).
على أنه يفهم من الروايات ومن منطق الأمور أن رد الفعل السياسي الأكبر على هذه الموجة الشعبية للمهدي (عليه السلام)، سيكون من أعدائه أئمة الكفر العالمي وصاحبهم السفياني، وسيتركز عملهم كما تذكر الروايات، على معالجة وضع العراق والحجاز، باعتبارهما نقطة الضعف في المنطقة.
أما العراق فيخشون من نفوذ الممهدين الإيرانيين فيه وضعف حكومته. وأما الحجاز فيخضون من الفراغ السياسي فيه، وصراع القبائل على السلطة، ونفوذ الممهدين اليمانيين فيه.
والأمر الأهم في الحجاز أن أنظار المسلمين تتوجه نحوه، وتنتظر ظهور المهدي منه، حيث ينتشر بين الناس أنه (عليه السلام) يسكن المدينة، وأن حركته ستكون من مكة، فيتركز فعلهم السياسي والعسكري المضاد للمهدي (عليه السلام) على الحرمين، ويبدأ السفياني حملته العسكرية على المدينة، ويقوم باعتقال واسع لبني هاشم على أمل أن يكون المهدي من بينهم!
ولا بد أن يرافق دخول جيش السفياني للعراق والحجاز تحرك عسكري من الغربيين والشرقيين في الخليج والبحر المتوسط، لأهمية المنطقة عالمياً.
والمرجح أن يكون نزول قوات الروم في الرملة، ونزول قوات الترك في الجزيرة المذكورين في الروايات المتعددة، في تلك الفترة، أو قريباً منها. والله العالم.
أزمة الحكم في الحجاز
تتفق أحاديث مصادر الشيعة والسنة، على أن مقدمة ظهور المهدي (عليه السلام) في الحجاز، حدوث فراغ سياسي فيه، وصراع على السلطة بين قبائله.
ويحدث ذلك على أثر موت ملك أو خليفة، يكون عند موته الفرج. وتسميه بعض الروايات (عبد الله) ويحدد بعضها إعلان خبر موته في يوم عرفة ثم تتلاحق الأحداث في الحجاز بعد موته إلى... خروج السفياني، والنداء السماوي، واستدعاء الجيش السوري إلى الحجاز، ثم ظهور المهدي (عليه السلام).
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (من يضمن لي موت عبد الله أضمن له القائم. ثم قال: (إذا مات عبد الله لم يجتمع الناس بعدة على أحد، ولم يتناهَ هذا الأمر دون صاحبكم إن شاء الله. ويذهب ملك السنين، ويصير ملك الشهور والأيام. فقلت: يطول ذلك؟ قال: كلا). (البحار:52/210).
وعنه (عليه السلام) قال: (بينا الناس وقوفاً بعرفات إذ أتاهم راكب على ناقة ذعلبة، ويخبرهم بموت خليفة، عند موته فرج آل محمد وفرج الناس جميعاً). (البحار:52/240)
ومعنى الناقة الذعلبة: الخفيفة السريعة، وهو كناية عن الإسراع في إيصال الخبر وتبشير الحجاج به. والظاهر أن أسلوب إيصال الخبر مقصود في الرواية. وفي رواية أخرى أنهم يقتلون هذا الرجل صاحب الناقة الذعلبة، الذي ينشر الخبر بين الحجاج في عرفات.
ويحتمل أن يكون هذا الخليفة الذي يعلن خبر موته أو قتله يوم عرفة، عبد الله المذكور في الرواية السابقة، ومعنى: (يذهب ملك السنين، ويصير ملك الشهور والأيام)، أنهم كلما نصبوا بعده شخصاًً لا يبقى سنة كاملة، ولا تمضي شهور أو أيام حتى ينصبوا غيره! حتى يظهر الإمام المهدي (عليه السلام).
وتذكر بعض الروايات أن سبب قتل ذلك الملك قضية أخلاقية وأن الذي يقتله أحد خدمه، وأنه يهرب إلى خارج الحجاز فيذهب بعض جماعة الملك في البحث عنه، فيحدث الصراع على السلطة قبل أن يعودوا!
فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (يكون سبب موته أنه ينكح خصياً له فيقوم فيذبحه ويكتم موته أربعين يوماً، فإذا سارت الركبان في طلب الخصي لم يرجع أول من يخرج حتى يذهب ملكهم) (كمال الدين ص 655).
والأحاديث التي تصف الصراع على السلطة في الحجاز بعد قتل هذا الملك كثيرة، وهذه نماذج منها:
عن البزنطي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (إن من علامات الفرج حدثا يكون بين الحرمين. قلت وأي شيء يكون الحدث؟ قال عصبية تكون بين الحرمين، ويقتل فلان من ولد فلان خمسة عشر كبشاً). (البحار:52/210)، أي يقتل أحد الملوك أو الزعماء خمسة عشر شخصية من ذرية ملك أو زعيم معروف.
وعن أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: لقائم آل محمد غيبتان إحداهما أطول من الأخرى. فقال: نعم، ولا يكون ذلك حتى يختلف سيف بني فلان وتضيق الحلقة، ويظهر السفياني، ويشتد البلاء ويشمل الناس موت وقتل يلجؤون فيه إلى حرم الله وحرم رسوله). (البحار:52 /157)، وهذه الرواية تشير إلى أن أصل الصراع يكون بين القبيلة الحاكمة نفسها.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ولذلك آيات وعلامات، أولهن إحصار الكوفة بالرصد والخندق، وخفق رايات حول المسجد الأكبر تهتز، القاتل والمقتول في النار). (البحار:52/273)، والمقصود بالمسجد الأكبر المسجد الحرام، وأن الرايات المتصارعة تتنازع حول مكة، أو في الحجاز وتتقاتل، وليس فيها راية حق.
وقد روى ابن حماد في مخطوطته ص59 أكثر من عشرين حديثاً عن الأزمة السياسية الحجازية، وصراع القبائل على السلطة في سنة ظهور المهدي (عليه السلام)، منها عن سعيد بن المسيب قال: (يأتي زمان على المسلمين يكون منه (فيه) صوت في
رمضان، وفي شوال تكون مهمهة، وفي ذي القعدة تنحاز (فيها) القبائل إلى قبائلها. وذو الحجة ينهب فيه الحاج. والمحرم وما المحرم).
وعن ابن مسعود عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (إذا كانت صيحة في رمضان فإنه تكون معمعة في شوال، وتمييز القبائل في ذي القعدة، وسفك الدماء في ذي الحجة، والمحرم وما المحرم!! يقولها ثلاثاً). (ص 62).
وفي ص60 عن عبد الله بن عمر قال: (يحج الناس معاً ويعرفون معاً على غير إمام، فبينا هم نزول بمنى إذ أخذهم كالكَلَب فسارت القبائل إلى بعض فاقتتلوا حتى تسيل العقبة دماً)، أي أخذتهم حالة مثل داء الكلب المعروف، وجاشت حالة العداء فيهم بعد مناسك الحج دفعة واحدة، فاقتتلوا حتى جرت دماؤهم عند جمرة العقبة!
وروايات ابن حماد هذه تتحدث عن الصراع السياسي في الحجاز بعد الصيحة والنداء السماوي، لكن توجد روايات أخرى تدل على أمرين هامين في هذه الأزمة السياسية:
أولهما، أنها تحدث قبل خروج السفياني، وقد أشرنا إلى ذلك.
وثانيهما، أنه يكون لها علاقة باختلاف أهل الشرق والغرب أي بالحرب العالمية الموعودة. فعن ابن أبي يعفور قال: قال لي أبو عبد الله (الإمام الصادق (عليه السلام)): (أمسك بيدك: هلاك الفلاني، وخروج السفياني، وقتل النفس. إلى أن قال: الفرج كله عند هلاك الفلاني). (البحار:52/234).
وقد يناقش في كون ترتيب هذه الأحداث زمنياً كما جاء في الرواية، ولكن عدداً من الروايات، منها ما تقدم، تدل على أن هلاك الفلاني وصراعهم من بعده يكون قبل خروج السفياني.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (يقوم القائم في سنة وتر من السنين: تسع، واحدة، ثلاث، خمس. وقال: ثم يملك بنو العباس (بنو فلان) فلا يزالون في عنفوان من الملك وغضارة من العيش حتى يختلفوا فيما بينهم، فإذا اختلفوا ذهب ملكهم واختلف أهل الشرق وأهل الغرب، نعم وأهل القبلة، ويلقى الناس جهداً شديداً مما يمر بهم من الخوف، فلا يزالون بتلك إلى الحال حتى ينادي المنادي من السماء فإذا نادى فالنفر النفر). (البحار:52/235).
والملاحظ في هذه الرواية أنها تربط بين اختلاف آل فلان وذهاب ملكهم، وبين اختلاف أهل الشرق وأهل الغرب، وشمول خلافهم لأهل القبلة أي المسلمين، وكأن هذا الصراع العالمي مرتبط أو مترتب على الأزمة السياسية التي تحدث في الحجاز.
والمقصود ببني العباس الذين يقع الخلاف بينهم قبيل ظهور المهدي (عليه السلام)، آل فلان الذين ذكرت عدة روايات أنهم آخر من يحكم الحجاز قبله (عليه السلام).
والحاصل من مجموع الروايات أن تسلسل الأحداث التي هي مقدمات الظهور في الحجاز، يبدأ بنار عظيمة صفراء حمراء تظهر في الحجاز أو في شرقية وتبقى أياماً، ثم يقتل آخر ملوك بني فلان، ويختلفون على من يخلفه، ويمتد هذا الخلاف إلى القوى السياسية الحجازية، وعمدتها القبائل، الأمر الذي يسبب أزمة سياسية في الحكم، يكون لها تأثير على الصراع العالمي بين أهل الشرق والغرب.
ثم يكون خروج السفياني، والنداء السماوي، ثم دخول الجيش السوري السفياني إلى الحجاز وأحداث المدينة، ثم أحداث مكة. إلى حركة ظهوره المقدس (عليه السلام).
ونار الحجاز هذه وردت فيها عدة أحاديث في مصادر السنة، تذكر أنها من علامات الساعة، منها ما في صحيح مسلم:8/180: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار بالحجاز تضئ لها أعناق الإبل ببصرى)، أي يصل نورها إلى مدينة بصرى في سورية.
ومنها عدة أحاديث في مستدرك الحاكم:4/442و443، تذكر أنها تخرج من جبل الوراق أو حبس سيل أو وادي حسيل. وحبس سيل مكان قرب المدينة المنورة، وقد يكون تصحيفاً عن وادي حسيل.
ويذكر بعضها أنها تظهر من عدن بحضرموت، وأنها تسوق الناس إلى المحشر أو إلى المغرب.
ورواية صحيح مسلم كما ترى لا تنص على أنهم من علامات الساعة، بل تذكر حتمية وقوعها في المستقبل.
والمرجح عندي أن النار التي هي من علامات الساعة والقيامة هي نار عدن أو حضر موت، الوارد ذكرها في مصادر السنة والشيعة.
أما نار الحجاز الوارد أنها في المدينة المنورة فقد تكون مجرد إخبار إعجازي من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن وقوعها دون أن تكون علامة لشيء. وقد حدث ذلك ونقل المؤرخون ظهور بركان ناري قرب المدينة، بقي أياماً.
وهاتان الناران غير النار التي هي من علامات الظهور، فقد ورد في الأحاديث تسميتها بنار المشرق، وفي بعضها نار في شرقي الحجاز، ففي مخطوطة ابن حماد ص61 عن ابن معدان قال: (إذا رأيتم عموداً من نار من قبل المشرق في شهر رمضان في السماء فأعدوا مااستطعتم من الطعام، فإنها سنة جوع).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا رأيتم ناراً عظيمة من قبل المشرق تطلع ليال فعندها فرج الناس. وهي قدام القائم بقليل). (البحار:52/240).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إذا رأيتم ناراً من المشرق شبه الهردي العظيم، تطلع ثلاثة أيام أو سبعة، فتوقعوا فرج آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) إن شاء الله (عزَّ وجلَّ)، إن الله عزيز حكيم). (البحار:52/230)، والهردي: الثوب المصبوغ بالأخضر والأحمر.
ويحتمل أن تكون هذه النار بركاناً طبيعياً، أو انفجاراً نفطياً كبيراً.
كما يحتمل أن تكون هي الآية الربانية التي تكون من علامات ظهور المهدي (عليه السلام)، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (يزجر الناس قبل قيام القائم عن معاصيهم بنار تظهر لهم في السماء، وحمرة تجلل السماء). (البحار:52/221)، وتكون هذه النار قبل الأزمة السياسية الحجازية، أو أثنائها. والله العالم.
فخرج منها خائفاً يترقب
ذكرت الأحاديث الشريفة أن جيش السفياني يسيطر على المدينة المنورة، ويستبيحها ثلاثة أيام، ويعتقل كل من تصل إليه يده من بني هاشم ويقتل العديد منهم، بحثاً عن الإمام المهدي (عليه السلام).
ففي مخطوطة ابن حماد ص88: (فيسير إلى المدينة فيضع السيف في قريش، فيقتل منهم ومن الأنصار أربع ماية رجل، ويبقر البطون، ويقتل الولدان، ويقتل أخوين من قريش، رجل وأخته يقال لهما محمد وفاطمة، ويصلبهما على باب المسجد في المدينة)!
وفي نفس الصفحة عن أبي رومان قال: (يبعث بجيش إلى المدينة فيأخذون من قدروا عليه من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ويقتل من بني هاشم رجال ونساء، فعند ذلك يهرب المهدي والمبيض (المنصور) من المدينة إلى مكة فيبعث في طلبهما، وقد لحقا
بحرم الله وأمنه).
وفي مستدرك الحاكم:4/442، أن أهل المدينة يخرجون منها بسبب بطش السفياني وأفاعيله!
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث جابر بن يزيد الجعفي قال: (ويبعث (أي السفياني) بعثاً إلى المدينة فيقتل بها رجلاً، ويهرب المهدي والمنصور منها، ويؤخذ آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) صغيرهم وكبيرهم، ولا يترك منهم أحد إلا حبس. ويخرج الجيش في طلب الرجلين). (البحار:52/223).
وهذا الرجل الذي يقتله جيش السفياني غير الغلام الذي ورد أنه يقتل في المدينة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يا زرارة لابد من قتل غلام بالمدينة. قلت: جعلت فداك أليس يقتله جيش السفياني؟ قال: لا، ولكن يقتله جيش بني فلان، يخرج حتى يدخل المدينة فلا يدري الناس في أي شيء دخل، فيأخذ الغلام فيقتله، فإذا قتله بغياً وعدواناً وظلماً لم يمهلهم الله (عزَّ وجلَّ)، فعند ذلك فتوقعوا الفرج). (البحار:52/147)، وتسمي بعض الروايات هذا الغلام النفس الزكية، وهو غير النفس الزكية الذي يقتل في مكة قبيل ظهور المهدي (عليه السلام).
ويظهر من هذه الأحاديث وغيرها أن سلطة الحجاز الضعيفة تنشط في تتبع الشيعة في الحجاز وفي المدينة خاصة، وتقتل الغلام النفس الزكية، إما لمجرد أن اسمه محمد بن الحسن، الذي يصبح معروفاً عند الناس أنه اسم المهدي (عليه السلام)، وإما لأنه يكون من الأبدال المتصلين بالمهدي (عليه السلام).
ثم يدخل جيش السفياني فيتابع نفس السياسة ولكن بإرهاب وبطش أشد، فيعتقل كل من يحتمل أن يكون له علاقة ببني هاشم، ويقتل الرجل الذي اسمه محمد وأخته فاطمة، لمجرد أن اسمه محمد واسم أبيه حسن أيضاً!
وفي هذه الظروف الملتهبة يخرج الإمام المهدي روحي فداه من المدينة خائفاً يترقب، على سنة موسى (عليه السلام) كما تذكر الروايات، يرافقه أحد أصحابه التي تسميه الرواية المتقدمة المنصور وفي رواية أخرى المنتصر، ولعل اسم المبيض الذي ورد في الرواية المتقدمة تصحيف المنتصر.
وذكرت رواية أخرى أنه يخرج من المدينة بتراث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وفيه سيفه، ودرعه، ورايته، وعمامته، وبردته.
ولم أجد في مصادرنا الشيعية تحديداً لوقت خروجه (عليه السلام) من المدينة إلى مكة، ولكن المنطقي أن يكون ذلك بعد النداء السماوي في رمضان أي في موسم الحج. وأذكر أني رأيت في رواية أن دخول جيش السفياني إلى المدينة يكون في شهر رمضان.
وفي رواية المفضل بن عمرو الطويلة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (والله يا مفضل كأني أنظر إليه دخل مكة، وعلى رأسه عمامة صفراء، وفي رجليه نعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) المخصوفة، وفي يده هراوته، يسوق بين يديه أعنزاً عجافاً حتى يصل بها نحو البيت. ليس ثَمَّ أحد يعرفه). (بشارة الإسلام ص 267).
ومع ضعف سند هذه الرواية، إلا أن استنفار أجهزة الأعداء في البحث عنه (عليه السلام)، وكونه في غيبة واختفاء يشبه الغيبة الصغرى واختفاءها، يجعل هذه الرواية وأمثالها أمراً معقولاً.
ومن الطبيعي أن يكون موسم الحج في سنة الظهور حيوياً ساخناً!
فما تذكره الأحاديث الشريفة عن وضع الصراع العالمي، وأوضاع البلاد الإسلامية، وتوتر الوضع في الحجاز، وإعلان حالة الطوارئ فيه بدخول جيش
السفياني.. كلها تجعل موسم الحج على الحكام عبئاً مخيفاً، فلا بد أنهم سيخفضون عدد الحجاج إلى أقل عدد ممكن، ويحشدون في مكة والمدينة، من القوات والأجهزة الأمنية، كل ما يستطيعون!
ولكن ذلك لا يمنع الشعوب الإسلامية أن تركز أنظارها على مكة المقدسة، تنتظر ظهور المهدي (عليه السلام) منها، فيتحمس مئات الألوف، وربما الملايين من المسلمين لأن يحجوا في ذلك العام، ويتمكن عدد كبير منهم أن يصل إلى مكة، رغم العقبات التي تضعها أمامهم دولهم ودولة الحجاز.
وسيكون السؤال المحبب بين الحجاج: ماذا سمعت عن أمر المهدي؟ ولكنه يكون سؤالاً خطيراً أيضاً يطرحه الحجاج بينهم سراً، ويتناقلون آخر الأخبار والشائعات حوله همساً، وآخر إجراءات حكومة الحجاز وجيش السفياني!
إن الرواية التالية تصور حالة المسلمين في العالم، وحالة الحجاج، في انشغالهم بأمر المهدي (عليه السلام) وبحثهم عنه.
ففي مخطوطة ابن حماد ص95 قال: (حدثنا أبو عمر، عن ابن أبي لهيعة، عن عبد الوهاب بن حسين، عن محمد بن ثابت، عن أبيه، عن الحارث بن عبد الله، عن ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: (إذا انقطعت التجارات والطرق وكثرت الفتن، خرج سبعة رجال علماء من أفق شتى على غير ميعاد، يبايع لكل رجل منهم ثلاثماية وبضعة عشر رجلاً، حتى يجتمعوا بمكة، فيلتقي السبعة فيقول بعضهم لبعض: ما جاء بكم؟ فيقولون جئنا في طلب هذا الرجل ينبغي أن تهدأ على يديه هذه الفتن، ويفتح الله له القسطنطينية، قد عرفناه باسمه واسم أبيه وأمه وحليته، فيتفق السبعة على ذلك فيطلبونه بمكة فيقولون له: أنت فلان بن فلان؟ فيقول: لا، بل أنا رجل من الأنصار، حتى يفلت منهم، فيصفونه لأهل الخبرة والمعرفة به، فيقال هو
صاحبكم الذي تطلبونه وقد لحق بالمدينة، فيطلبونه بالمدينة، فيخالفهم إلى مكة، فيطلبونه بمكة فيصيبونه فيقولون: أنت فلان بن فلان، وأمك فلانة بنت فلان، وفيك آية كذا وكذا، وقد أفلت منا مرة فمد يدك نبايعك. فيقول: لست بصاحبكم، أنا فلان بن فلان الأنصاري، مروا بنا أدلكم على صاحبكم، فيفلت منهم فيطلبونه بالمدينة فيخالفهم إلى مكة فيصيبونه بمكة عن الركن فيقولون: إثمنا عليك ودماؤنا في عنقك إن لم تمد يدك نبايعك، هذا عسكر السفياني قد توجه في طلبنا، عليهم رجل من حرام، فيجلس بين الركن والمقام، فيمد يديه فيبايع له، ويلقي الله في صدور الناس، فيسير مع قوم أسد بالنهار رهبان بالليل).
وفي هذه الرواية نقاط ضعف في سندها ومتنها، من ذلك قضية فتح القسطنطينية التي بقيت لقرون عقدة عسكرية وسياسية أمام المسلمين، ومصدر تهديد لجزء من الدولة الإسلامية، حتى فتحها السلطان محمد الفاتح قبل نحو500 سنة. وقد روى المسلمون عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) روايات تبشر بفتحها، تحتاج إلى تحقيق في صحتها وسقمها.
وما يخص موضوعنا منها الروايات التي تذكر أن فتحها يكون على يد المهدي (عليه السلام) كما في هذه الرواية، فيحتمل أن يكون ذكر فتحها على يد المهدي (عليه السلام) من إضافة بعض الرواة باعتبار أنه (عليه السلام) يحل مشكلات المسلمين الكبرى، وقد كانت القسطنطينية من مشكلاتهم الكبرى.
كما يحتمل أن يكون المقصود بالقسطنطينية في أحاديث المهدي (عليه السلام)، عاصمة الروم التي تكون في زمان ظهوره (عليه السلام)، والمعبر عنها في بعض الروايات بالمدينة الرومية الكبيرة، والتي ورد أنه (عليه السلام) وأصحابه يحاصرونها ويفتحونها بالتكبير.
ولكن، مهما يكن أمر هذه الرواية وحتى لو كانت موضوعة، فهي نص لمؤلف معروف كتبه قبل نحو ألف ومئتي سنة، فوفاة ابن حماد سنة 227، وقد نقله عن تابعين قبله، فهو يكشف على الأقل عن تصور رواته للحالة السياسية العامة في سنة ظهور المهدي (عليه السلام)، وعن انتشار خبره عند المسلمين وتطلعهم إليه وبحثهم عنه.
على أن أكثر مضامينها وردت في روايات أخرى، أو هي نتيجة منطقية لأحداث نصت عليها روايات أخرى.
ومجيء هؤلاء العلماء السبعة إلى مكة في تلك الظروف يدل على شدة تطلع المسلمين إلى ظهوره (عليه السلام) من مكة، وتوافد ممثليهم إليها للبحث عنه، وأخذ كل واحد منهم البيعة من ثلاث مئة وثلاثة عشر من المؤمنين بالمهدي (عليه السلام) في بلده، المستعدين للتضحية معه.. يدل على الموجة الشعبية في المسلمين، وحماسهم لأن يكونوا أنصاره وأصحابه الموعودين، على عدة أهل بدر.
وأما ما تذكره الرواية من إفلات المهدي (عليه السلام) منهم مرة بعد أخرى، فلا يخلو من ضعف، ولعل أصله ما ورد في مصادر الشيعة والسنة من أنه (عليه السلام) يبايع وهو كاره، حتى أن أحد كبار أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) كان في نفسه شيء من هذه البيعة على إكراه، الواردة في حديث النبي وأهل بيته (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى فسر له الإمام الصادق (عليه السلام) معنى الاكراه بأنه غير الإجبار، فاطمأن.
هذا عما يتعلق بحال المسلمين وتطلعهم إلى المهدي (عليه السلام).
أما عن مجريات عمله (عليه السلام) في مكة ومبايعة أصحابه له، فتدل الروايات على أنها تكون بنحو آخر، يختلف عما ورد في هذه الرواية.
يجمع الله له أصحابه
ينبغي أن نلفت إلى عدة أمور في أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام).
منها، أن عددهم الوارد في مصادر الفريقين أنه بعدد أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في بدر، ثلاث مئة وثلاثة عشر، يدل على الشبه الكبير بين بعث الإسلام مجدداً على يده (عليه السلام)، وبعثه الأول على يد جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم). بل ورد أن أصحاب المهدي (عليه السلام) تجري فيهم عدة سنن جرت على أصحاب الأنبياء الأوائل (عليه السلام).
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن أصحاب موسى ابتلوا بنهر، وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): (إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ). وإن أصحاب القائم يبتلون بمثل ذلك). (البحار:52/332).
ومنها، أن المقصود بهؤلاء الأصحاب خاصة أصحابه (عليه السلام) وخيارهم، وحكام العالم الجديد الذي يقوده الإمام المهدي (عليه السلام).
ولكنهم ليسوا وحدهم أنصاره وأصحابه، فقد ورد أن عدد جيشه الذي يخرج به من مكة عشر آلاف أو بضعة عشر ألفاً، وجيشه الذي يدخل فيه العراق ويفتح فيه القدس قد يبلغ مئات الألوف.
فهؤلاء كلهم أصحابه وأنصاره، بل وملايين المخلصين له في عصره، من شعوب العالم الإسلامي.
ومنها، أنهم من حيث التنوع، من أقطار العالم الإسلامي، ومن أقاصي الأرض، ومن آفاق شتى، ومن ضمنهم النجباء من مصر، والأبدال من الشام، والأخيار من العراق، وكنوز الطالقان وقم، كما تذكر الروايات.
قال ابن عربي في الفتوحات المكية عن جنسياتهم: (وهم من الأعاجم ما فيهم عربي، لكن لا يتكلمون إلا بالعربية)، لكن الأحاديث المتعددة تدل على أن
فيهم العديد من العرب، ومنها الحديث المشهور: (فيهم النجباء من أهل مصر، والأبدال من أهل الشام، والأخيار من أهل العراق) (البحار:52/334)، ويشبهه ما في مخطوطة ابن حماد ص95 وغيره من المصادر.
كما تدل روايات أيضاً على أن فيهم العديد من العجم، وأن عمدة جيشه (عليه السلام) من إيران.
ومنها، أن بعض الروايات تذكر أن من بينهم خمسين امرأة كما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) (البحار:52/223) وفي رواية ثلاث عشرة امرأة يداوين الجرحى.
وفي ذلك دلالة على المكانة المهمة والدور العظيم للمرأة في الإسلام وحضارته، التي يقيمها الإمام المهدي (عليه السلام)، وهو دور معتدل مبرأ من الخشونة البدوية في النظرة إلى المرأة ومعاملتها، التي ما زالت موجودة في بلادنا، ومبرأ من إهانة المرأة وابتذالها في الحضارة الغربية.
ومنها، ذكرت بعض الروايات أن أكثرية أصحابه (عليه السلام) شباب، بل ذكر بعضها أن الكهول فيهم قليلون جداً مثل الملح في الزاد، كالحديث المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (أصحاب المهدي شباب لا كهول فيهم إلا مثل كحل العين والملح في الزاد، وأقل الزاد الملح). (البحار:52/334).
ومنها، أنه وردت أحاديث كثيرة في مصادر الفريقين في مدحهم، وبيان مقامهم العظيم ومناقبهم، وأنه يكون مع المهدي (عليه السلام) صحيفة فيها عددهم وأسماؤهم وصفاتهم، وأنهم تطوى لهم الأرض، ويذلل لهم كل صعب، وأنهم جيش الغضب لله تعالى.
وأنهم أولو البأس الشديد الذين وعد الله تعالى أن يسلطهم على اليهود في قوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيد).
وأنهم الأمة المعدودة الموعودة في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ).
وأنهم خيار الأمة مع أبرار العترة، وأنهم الفقهاء والقضاة والحكام، وأن الله يؤلف بين قلوبهم فلا يستوحشون من أحد، ولا يفرحون بأحد دخل فيهم، أي لا تزيدهم كثرة الناس حولهم أنساً ولا إيماناً.
وأنهم أينما كانوا في الأرض يرون المهدي (عليه السلام) وهو مكانه ويكلمونه!
وأن أحدهم يعطى قوة أربعين رجلاً، أو ثلاث مئة رجل!
بل ورد أنهم أفضل من أصحاب جميع الأنبياء (عليهم السلام)، ففي بصائر الدرجات للصفار (ره) ص104: (عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللهم لقني إخواني مرتين، فقال من حوله من أصحابه: أما نحن إخوانك يا رسول الله؟ فقال: لا، إنكم أصحابي، وإخواني قوم من آخر الزمان آمنوا بي ولم يروني، لقد عرفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم، من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، لأحدهم أشد بقية على دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء، أو كالقابض على جمر الغضا. أولئك مصابيح الدجى ينجيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة).
وفي صحيح مسلم النيسابوري:1/150: (وددت أنا قد رأينا إخواننا. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال
عن حوضي كما يذاد البعير الضال! أناديهم ألا هلمَّ، فيقال إنهم قد بدلوا بعدك! فأقول سحقاً سحقاً!). انتهى.
إلى آخر ما ذكرت الأحاديث الشريفة من خصائصهم وكراماتهم.
وذكرت بعض الروايات أن أهل الكهف يبعثون ويكونون منهم، وأن منهم الخضر وإلياس (عليه السلام). وذكرت الروايات أن بعض الأموات يحيون بأمر الله تعالى ويكونون منهم.
ومنها، أن الروايات تدل على أنهم يكونون قرب ظهوره (عليه السلام) ثلاث مجموعات أو فئات: فئة تدخل معه مكة، أو تصل إليها قبل الآخرين. وفئة يسيرون إليه في السحاب أو الهواء، وفئة يبيتون ذات ليلة في بيوتهم في بلادهم فلا يشعرون إلا وهم في مكة.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (يكون لصاحب هذا الأمر غيبة في بعض هذه الشعاب وأشار إلى ناحية ذي طوى (وهي من شعاب مكة ومداخلها)، حتى إذا كان قبل خروجه بليلتين انتهى المولى الذي يكون بين يديه حتى يلقى بعض أصحابه فيقول: كم أنتم هاهنا؟فيقولون:نحو من أربعين رجلاً فيقول كيف أنتم لو قد رأيتم صاحبكم؟ فيقولون: والله لو يأوي الجبال لأوينا معه! ثم يأتيهم من القابلة فيقول لهم: أشيروا إلى ذوي أسنانكم وأخياركم عشرة. فيشيرون له إليهم، فينطلق بهم حتى يأتوا صاحبهم، ويعدهم إلى الليلة التي تليها). (البحار:52/341).
والظاهر أن منظور الرواية غيبته (عليه السلام) في الفترة القصيرة التي تسبق ظهوره. وأن هؤلاء الأصحاب غير الأبدال الذين يكونون معه، أو على صلة به، وغير الاثني عشر الذين يجمع كل منهم على أنه قد رآه فيكذبونهم، بل يكونون من الأخيار
الباحثين عنه، من أمثال العلماء السبعة الذين تقدم ذكرهم.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يقبل القائم (عليه السلام) في خمسة وأربعين رجلاً من تسعة أحياء: من حي رجل، ومن حي رجلان، ومن حي ثلاثة، ومن حي أربعة، ومن حي خمسة، ومن حي ستة، ومن حي سبعة، ومن حي ثمانية، ومن حي تسعة. ولا يزال كذلك حتى يجتمع له العدد). (البحار:52/309).
والمقصود أنه يقبل في مقدمات ظهوره، أو يقبل إلى مكة، ولا يبعد أن تكون المجموعتان المذكورتان في الروايتين مجموعة واحدة، وهي التي تصل إلى مكة قبل بقية الأصحاب.
ويبدو أن أصحابه المفقودين عن أفرشتهم، الذين ينقلون من بلادهم إلى مكة برمشة عين بقدرة الله (عزَّ وجلَّ) أفضل من الذين يصلون قبلهم.
أما الذين يسيرون إليه نهاراً في السحاب كما تذكر الروايات، ويكونون معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم، أي يأتون إلى مكة بشكل طبيعي لا يثير الناس، فهم أفضل أصحابه على الاطلاق!
ولا يبعد أن يكونوا هم الأبدال الذين يعيشون معه، أو يقومون بأعماله في أنحاء العالم، ويعرفون موعد ظهوره بالتحديد، فيصلون في الموعد.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن صاحب هذا الأمر محفوظة له أصحابه، لو ذهب الناس جميعاً أتى الله بأصحابه، وهم الذين قال فيهم الله (عزَّ وجلَّ): (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِين). وهم الذين قال الله فيهم: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) (البحار:52/370)
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (منهم من يفقد عن فراشه ليلاً فيصبح بمكة، ومنهم من يرى يسير في السحاب نهاراً، يعرف باسمه واسم أبيه وحليته ونسبه. قلت: جعلت
فداك أيهم أعظم إيماناً؟ قال: الذي يسير في السحاب نهاراً). (البحار:52/368).
ومعنى سيرهم في السحاب نهاراً أن الله تعالى ينقلهم إلى مكة بواسطة السحاب على نحو الكرامة والإعجاز، كما يحتمل أن يكون معناه مجيؤهم بواسطة الطائرات كسائر المسافرين، بجوازات سفر بأسمائهم وأسماء آبائهم، وتكون الأحاديث الشريفة عبرت بذلك لأن الطائرات لم تكن موجودة.
ولعل السبب في أن هؤلاء أفضل من المفقودين عن فرشهم ليلاً، أنهم الأبدال الذين يعملون معه (عليه السلام) كما أشرنا، أو أصحاب اتصل بهم قبل غيرهم في تلك الفترة وكلفهم بأعمال، بينما المفقودون عن فرشهم يبيتون تلك الليلة وواحدهم لايعلم أنه عند الله تعالى أحد أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام)، ولكن مستوى تقواهم وعقلهم ووعيهم يؤهلهم لهذا المقام العظيم، فيصطفيهم الله تعالى، وينقلهم ليلاً إلى مكة المكرمة، ويتشرفون بخدمة المهدي (عليه السلام).
وقد ورد في بعض الروايات أنهم بينما يكونون نائمين على أسطح منازلهم إذ يفتقدهم ذو وهم وينقلهم الله إلى مكة. وفيها إشارة إلى أن ظهوره (عليه السلام) يكون في فصل الصيف أو بين الصيف والخريف كما سنشير إليه، وإشارة إلى أن عدداً من هؤلاء المفتقدين عن فرشهم يكونون من أهل المناطق الحارة التي ينام أهلها على سطوح منازلهم أو في ساحاتها.
وقد ورد أن اجتماعهم في مكة يكون في ليلة جمعة ليلة التاسع من شهر محرم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يجمعهم الله في ليلة جمعة، فيوافونه صبيحتها إلى المسجد الحرام ولا يتخلف منهم رجل واحد) (بشارة الإسلام ص210). وهو ينسجم مع ما ورد في مصادر الفريقين من أن الله تعالى يصلح أمر المهدي (عليه السلام) في ليلة
واحدة، فعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (المهدي منا أهل البيت يصلح الله أمره في ليلة. وفي رواية أخرى: يصلحه الله في ليلة) (البحار:52/280) لأن تجميع أصحابه من ألطاف الله تعالى في إصلاح أمر وليه.
وينسجم أيضاً مع الروايات المتعددة التي تحدد بداية ظهوره في مساء يوم الجمعة التاسع من محرم، ثم في يوم السبت العاشر من محرم.
الحركة الإختبارية - شهادة النفس الزكية
تكون القوى الفاعلة في مكة عند ظهور المهدي (عليه السلام) كما تذكر الروايات، ويدل منطق الأمور، كما يلي:
الحكومة الحجازية، التي تجمع قواها رغم ضعفها لمواجهة احتمال ظهوره، الذي يتطلع إليه المسلمون من مكة، وتنشط له فعالياتهم في موسم الحج.
ومخابرات الدول الكبرى، التي تعمل في مساعدة حكومة الحجاز وقوات السفياني، أو بشكل مستقل، لرصد الوضع في الحجاز، وفي مكة خاصة.
ومخابرات السفياني، التي تتعقب الفارين من قبضتها من المدينة، وتستطلع الوضع لدخول جيش السفياني عندما يقتضي الأمر، لضرب أي حركة مهدية من مكة.
وفي المقابل: لابد أن يكون لليمانيين دور في الحجاز وفي مكة، خاصة وأن دولتهم الممهدة تكون قامت قبل بضعة شهور.
كما لا بد أن يكون لأنصاره الإيرانيين وجود في مكة أيضاً، بل لابد أن يكون له أنصار أيضاً من الحجازيين والمكيين ومن عباد الله الصالحين في قوات حكومة الحجاز.
في مثل هذا الجو المعادي والمؤيد، يضع الإمام المهدي أرواحنا فداه خطة إعلان حركته من الحرم الشريف وسيطرته على مكة.
ومن الطبيعي أن لا تذكر الروايات تفاصيل عن هذه الخطة، عدا تلك التي تنفع في إنجاح الثورة المقدسة، أو لاتضر بها.
وأبرز ما تذكره أنه (عليه السلام) يرسل شاباً من أصحابه وأرحامه في الرابع والعشرين أو الثالث والعشرين من ذي الحجة، أي قبل ظهوره بخمسة عشر ليلة لكي يلقي بيانه على أهل مكة.
ولكنه ما أن يقف في الحرم بعد الصلاة، ويقرأ عليهم رسالة الإمام المهدي (عليه السلام)، أو فقرات منها، حتى يثبوا إليه ويقتلوه بوحشية، داخل المسجد الحرام بين الركن والمقام. ويكون لشهادته المفجعة أثر في الأرض وفي السماء!
تكون هذه الحادثة حركة اختبارية ذات فوائد متعددة، فهي تكشف للمسلمين وحشية سلطة الحجاز، ومن ورائها القوى الكافرة. وتمهد بظلامتها وتأثيرها لحركة المهدي (عليه السلام)، التي لا تتأخر عنها أكثر من أسبوعين، كما أنها تبعث الندم والتراخي في أجهزة السلطة، بسبب هذا الإقدام الوحشي السريع.
وأخبار شهادة هذا الشاب الزكي في مكة، متعددة في مصادر الفريقين، وكثيرة في مصادرنا الشيعية، وتسميه الغلام، والنفس الزكية، ويذكر بعضها أن اسمه محمد بن الحسن.
فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ألا أخبركم بآخر ملك بني فلان؟ قلنا: بلى يا أمير المؤمنين. قال: قتل نفس حرام، في بلد حرام، عن قوم من قريش. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة مالهم ملك بعده غير خمسة عشر ليلة. قلنا: هل قبل هذا من شيء أو بعده؟ فقال صيحة في شهر رمضان، تفزع اليقطان، وتوقظ النائم، وتخرج الفتاة
من خدرها). (البحار:52/234)
والظاهر أن عبارة: (قوم من قريش) مصحفة، حيث لا يستقيم لها معنى.
وفي رواية طويلة عن أبي بصير عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (يقول القائم لأصحابه: يا قوم إن أهل مكة لا يريدونني ولكني مرسل إليهم لأحتج عليهم بما ينبغي لمثلي أن يحتج عليهم. فيدعو رجلاً من أصحابه فيقول له: إمض إلى أهل مكة فقل: يا أهل مكة أنا رسول فلان إليكم، وهو يقول لكم: إنا أهل بيت الرحمة، ومعدن الرسالة والخلافة، ونحن ذرية محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وسلالة النبيين، وإنا قد ظلمنا واضطهدنا وقهرنا، وابتز منا حقنا منذ قبض نبينا إلى يومنا هذا، فنحن نستنصركم فانصرونا. فإذا تكلم الفتى بهذا الكلام، أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام، وهي النفس الزكية. فإذا بلغ ذلك الإمام قال لأصحابه: أما أخبرتكم أن أهل مكة لا يريدوننا! فلا يدعونه حتى يخرج، فيهبط من عقبة طوى في ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلاً، عدة أهل بدر، حتى يأتي المسجد الحرام فيصلي عند مقام إبراهيم أربع ركعات، ويسند ظهره إلى الحجر الأسود، ثم يحمد الله ويثني عليه، ويذكر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ويصلي عليه، ويتكلم بكلام لم يتكلم به أحد من الناس). (البحار:52/307).
وطُوى: أحد جبال مكة ومداخلها، وما ورد فيها عن النفس الزكية قوي في نفسه، لكن المرجح في كيفية ظهوره (عليه السلام) أنه وأصحابه يدخلون المسجد فرادى، كما يأتي.
وقد أورد ابن حماد ص89 و91 و93 عداة أحاديث حول النفس الزكية الذي يقتل في المدينة، والنفس الزكية الذي يقتل في مكة منها ص93: (إن المهدي لا يخرج حتى تقتل النفس الزكية، فإذا قتلت النفس الزكية غضب عليهم من في السماء ومن في الأرض، فأتى الناس المهدي فزفوه كما تزف العروس إلى زوجها ليلة عرسها، وهو يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وتخرج الأرض نباتها وتمطر المساء
مطرها، وتنعم أمتي في ولايته نعمة لم تنعمها قط). (وابن أبي شيبة:15/199)
وفي ص91 عن عمار بن ياسر قال: (إذا قتل النفس الزكية وأخوه، يقتل بمكة ضيْعةً نادى مناد من السماء: إن أميركم فلان، وذلك المهدي الذي يملأ الأرض حقاً وعدلاً). انتهى.
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً
تتفاوت الروايات بعض الشيء في كيفية بداية حركة الظهور المبارك، وفي وقته. لكن المرجح أنه (عليه السلام) يظهر أولا في أصحابه الخاصين الثلاث مئة وثلاثة عشر، ويدخلون المسجد فرادى مساء التاسع من محرم، ويبدأ حركته المقدسة بعد صلاة العشاء، بتوجيه بيانه إلى أهل مكة، ثم يسيطر أصحابه وبقية أنصاره في تلك الليلة على الحرم وعلى مكة.
وفي اليوم الثاني، أي العاشر من محرم يوجه بيانه إلى شعوب العالم بلغاتها! ثم يبقى في مكة إلى ما بعد آية الخسف بجيش السفياني، ثم يتوجه إلى المدينة المنورة بجيشه البالغ عشر آلاف، أو بضعة عشر ألفاً.
وينبغي الإلفات إلى أن الأحاديث الشريفة تسمي حركته (عليه السلام) من أولها في مكة: (ظهوراً، وخروجاً، وقياماً)، ويبدو أنها تعابير مترادفة.
لكن بعض الروايات تفرق بين الظهور والخروج، فتسمي حركته (عليه السلام) في مكة (ظهوراً) وتحركه منها إلى المدينة (خروجاً) وتذكر أن ظهوره في مكة يكون بأصحابه الخاصين، وخروجه منها إلى المدينة يكون بعد أن يكمل له عشرة آلاف من أنصاره، بعد أن يخسف بجيش السفياني، فعن عبد العظيم الحسني (ره) قال: (قلت لمحمد بن علي بن موسى (الإمام الجواد (عليه السلام)) إني لأرجو أن تكون أنت القائم من أهل بيت محمد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت
ظلماً وجوراً. فقال: يا أبا القاسم، ما منا إلا قائم بأمر الله، وهاد إلى دين الله، ولست القائم الذي يطهر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملؤها عدلاً وقسطاً وهو الذي يخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويحرم عليهم تسميته، وهو سمي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكنيه، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذل له كل صعب، يجتمع إليه من أصحابه عدد أهل بدر ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً من أقاصي الأرض، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الأرض أظهر أمره، فإذا كمل له العقد وهو عشرة آلاف خرج بإذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله تبارك وتعالى. قال عبد العظيم، قلت له: يا سيدي، وكيف يعلم أن الله قد رضي؟ قال: يلقي الله في قلبه الرحمة). (البحار:51/157).
وعن الأعمش عن أبي وائل أن أمير المؤمنين (عليه السلام) نظر إلى ابنه الحسين (عليه السلام) فقال: (إن ابني هذا سيد، كما سماه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) سيداً. وسيخرج الله من صلبه رجلاً باسم نبيكم فيشبهه في الخلق والخلق، يخرج على حين غفلة من الناس، وإماتة من الحق، وإظهار من الجور، والله لو لم يخرج لضرب عنقه، يفرح لخروجه أهل السماء وسكانها، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً) (البحار:51/120).
وقوله (عليه السلام): (لو لم يخرج لضرب عنقه) يدل على أن أجهزة الأعداء قبيل ظهوره تكشف أمره، وتكاد تكشف خطته، بحيث يكون مهدداً بالقتل لو لم يخرج!
وعن إبراهيم الجريري عن أبيه قال: (النفس الزكية غلام من آل محمد اسمه محمد بن الحسن، يقتل بلا جرم ولا ذنب، فإذا قتلوه لم يبق لهم في السماء عاذر ولا في الأرض، فعند ذلك يبعث الله قائم آل محمد في عصبة لهم أدق في أعين الناس من الكحل، فإذا خرجوا بكى لهم الناس، لا يرون إلا أنهم يختطفون يفتح الله لهم مشارق الأرض ومغاربها. ألا وهم المؤمنون حقاً، ألا إن خير الجهاد في آخر
الزمان). (البحار:52/217).
وهذا يدل على أن أول ظهوره (عليه السلام) يكون في عدد قليل من أصحابه بحيث يشفق عليهم الناس، ويتصورون أنهم سيقبض عليهم ويقتلون!
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إن القائم يهبط من ثنية ذي طوى في عدة أهل بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، حتى يسند ظهره إلى الحجر الأسود ويهز الراية المغلبة. قال علي بن أبي حمزة: فذكرت ذلك لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) فقال: وكتاب منشور). (البحار:52/306).
ولا يعني ذلك أنه يعلن ظهوره من ذي طوى مع أصحابه قبل دخوله المسجد، بل يعني أن مجيئهم إلى مكة يكون من ذي طوى، أو بداية حركتهم إلى المسجد من هناك.
والراية المغلبة هي راية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) التي ذكرت الروايات أنها تكون معه (عليه السلام) وأنها لم تنشر بعد حرب الجمل، حتى ينشرها المهدي (عليه السلام).
ومعنى قول الإمام الكاظم (عليه السلام) في تعليقه على الحديث: (وكتاب منشور) أنه يخرج الناس كتاباً منشوراً أيضاً، ولعله العهد المعهود له بإملاء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وخط أمير المؤمنين (عليه السلام) كما تذكر الرواية في نفس المصدر.
وذكرت الروايات أن معه أيضاً مواريث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومواريث الأنبياء (عليهم السلام). فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: (فيهبط من عقبة طوى في ثلاثماية وثلاثة عشر رجلاً، عدة أهل بدر، حتى يأتي المسجد الحرام، فيصلي فيه عند مقام إبراهيم أربع ركعات ويسند ظهره إلى الحجر الأسود، ثم يحمد الله ويثني عليه، ويذكر النبي ويصلي عليه، ثم يتكلم بكلام لم يتكلم به أحد من الناس، فيكون أول من يضرب على يده ويبايعه جبرئيل وميكائيل). (البحار:52/307).
وقد ذكرت الروايات فقرات من خطبته (عليه السلام)، أو بيانه الأول الذي يلقيه على أهل مكة، وبيانه الثاني الذي يوجهه إلى المسلمين والعالم.
من ذلك ما في مخطوطة ابن حماد ص95، عن أبي جعفر قال:
(ثم يظهر المهدي عند العشاء، ومعه راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقميصه وسيفه، وعلامات ونور وبيان. فإذا صلى العشاء نادى بأعلى صوته يقول:
أذكِّركم الله أيها الناس، ومقامكم بين يدي ربكم. فقد اتخذ الحجة وبعث الأنبياء وأنزل الكتاب، وأمركم أن لا تشركوا به شيئاً، وأن تحافظوا على طاعة الله وطاعة رسوله، وأن تحيوا ما أحيا القرآن وتميتوا ما أمات ن وتكونوا أعواناً على الهدى، ووزراً على التقوى، فإن الدنيا قد دنا فناؤها وزوالها وآذنت بوداع، فإني أدعوكم إلى الله وإلى رسوله، والعمل بكتابه، وإماتة الباطل، وإحياء سنته. فيظهر في ثلاثماية وثلاثة عشر رجلاً عدة أهل بدر، على غير ميعاد، قزعاً كقزع الخريف، رهبان بالليل، أسد بالنهار، فيفتح الله للمهدي أرض الحجاز، ويستخرج من كان في السجن من بني هاشم. وتنزل الرايات السود الكوفة، فتبعث بالبيعة إلى المهدي، ويبعث المهدي جنوده في الآفاق، ويميت الجور وأهله، وتستقيم له البلدان).
وقَزَع الخريف: غيومه التي تكون متفرقة في السماء ثم تجتمع. وأول من شبه تجمع أصحاب المهدي (عليه السلام) بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) كما في نهج البلاغة خطبة رقم166، ولعله أخذ ذلك من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).
ويحتمل أن يكون ظهور المهدي (عليه السلام) وتجمع أصحابه في مكة في فصل الخريف، أو آخر الصيف كما أشرنا.
وعن أبي خالد الكابلي قال: قال أبو جعفر (الإمام الباقر (عليه السلام)): (والله لكأني أنظر إلى القائم وقد أسند ظهره إلى الحجر، ثم ينشد الله حقه، ثم يقول: يا أيها الناس: من يحاجني في الله، فأنا أولى الناس بالله.
أيها الناس: من يحاجني في آدم، فأنا أولى الناس بآدم.
أيها الناس: من يحاجني في نوح، فأنا أولى الناس بنوح.
أيها الناس: من يحاجني في إبراهيم، فأنا أولى الناس بإبراهيم.
أيها الناس: من يحاجني في موسى، فأنا أولى الناس بموسى.
أيها الناس: من يحاجني في عيسى، فأنا أولى الناس بعيسى.
أيها الناس: من يحاجني في محمد، فأنا أولى الناس بمحمد.
أيها الناس: من يحاجني في كتاب الله، فأنا أولى الناس بكتاب الله.
ثم ينتهي إلى المقام فيصلي ركعتين). (البحار:52/315).
وجاء في روايات أخرى بعض الإضافات، منها أنه يقول:
(يا أيها الناس: إنا نستنصر الله ومن أجابنا من الناس، وإنا أهل بيت نبيكم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ونحن أولى الناس بمحمد، فأنا بقية من آدم، وذخيرة من نوح، ومصطفى من إبراهيم، وصفوة من محمد.
ألا ومن حاجني من سنة رسول الله، فأنا أولى الناس بسنة رسول الله. فيجمع الله عليه أصحابه، ثلاثمائة وثلاثة عشر، ويجمعهم على غير ميعاد. فيبايعونه بين الركن والمقام. ومعه عهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد توارثته الأبناء عن الآباء). (البحار:52/238).
وتذكر بعض الروايات أن رجلاً من أصحابه (عليه السلام) يقف أولاً في المسجد الحرام فيعرفه الناس، ويدعوهم إلى الإستماع إليه وإجابته، ثم يقف هو (عليه السلام) ويلقي خطبته، فعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: (فيقوم رجل منه فينادي: يا أيها الناس، هذا طلبتكم قد جاء كم، يدعوكم إلى ما دعاكم إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم). قال فيقومون فيقوم هو بنفسه فيقول: أيها الناس، أنا فلان بن فلان ابن نبي الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، أدعوكم إلى ما دعاكم إليه نبي الله، فيقومون إليه ليقتلوه، فيقوم ثلاث مئة ونيف فيمنعونه). (البحار:52/306).
ومعنى رجل منه: أي من نسبه. ومعنى فيقومون: فيقفون ليروا المهدي (عليه السلام) الذي يهلج الناس بذكره وينتظرونه.ويحتمل أن يكون معناه فيقفون ويأخذون بالإنصراف خوفاً من السلطة. والذين يقومون إليه ليقتلوه لابد أنهم من سلطة الحجاز. والرواية بدقتها تصور حالة المسلمين في التشوق إلى الإمام المهدي (عليه السلام) وطلبهم له وبحثهم عنه، وخوفهم من الإرهاب والبطش في نفس الوقت.
وينبغي الإلفات إلى أنه من المستبعد أن يكفي أصحابه الخاصون (عليه السلام) لتحرير الحرم ومكة في مثل ذلك الجو الشديد الذي تذكره الأحاديث الشريفة، والذي يكفي أن نعرف منه حادثة قتل النفس الزكية قبل الظهور بأسبوعين بنحو وحشي لمجرد أنه قال أنا رسول المهدي وبلغهم عنه كلمات لذلك لابد أن يكون الإمام المهدي (عليه السلام) مضافاً إلى ما أعطاه الله تعالى من أسباب غيبية، قد أعد العدة بالأسباب الطبيعية لكي يتمكن من إلقاء خطبته كاملة، ثم ليسيطر أصحابه على الحرم الشريف ثم على مكة، وذلك بواسطة المئات أو الألوف من أنصاره اليمانيين والإيرانيين والحجازيين، بل من المكيين أنفسهم الذين ذكرت الروايات أنه يبايعه عدد منهم.
فهؤلاء هم القوة البشرية والعسكرية الذين يقومون بالأعمال والمهام المتعددة الضرورية لإنجاح حركته المقدسة، والإمساك بزمام الأمر في مكة وتحويل التيار الشعبي المؤيد له إلى حالة حركة متكاملة.
ويكون دور أصحابه الخاصين الثلاث مئة وثلاثة عشر دور القادة والموجهين لفعاليات الأنصار.
ولا يعني ذلك أن حركة ظهوره (عليه السلام) تكون حركة دموية، فإن الروايات لا تذكر حدوث أي معركة أو قتل في المسجد الحرام، ولا في مكة.
وقد كنت سمعت من بعض العلماء أن أصحاب المهدي (عليه السلام) يقتلون إمام المسجد الحرام في تلك الليلة، لكني لم أجد رواية فيه، وغاية ما وجدته ما نقله صاحب الزام الناصب (ره) في:2/166، نقلاً عن بعض العلماء قال: (وفي اليوم العاشر من المحرم يخرج الحجة، يدخل المسجد الحرام يسوق أمامه عنيزات ثمان عجاف (ثماني عجافاً) ويقتل خطيبهم، فإذا قتل الخطيب غاب عن الناس في الكعبة، فإذا جنة الليل ليلة السبت صعد سطح الكعبة ونادى أصحابه الثلاثة مائة وثلاثة عشر، فيجتمعون عنده من مشرق الأرض ومغربها، فيصبح يوم السبت ويدعو الناس إلى بيعته).
ولكن هذا النص ليس رواية، مضافاً إلى ضعف متنه كما أشرنا.
لهذا، فإن المرجح أن حركة ظهوره (عليه السلام) تكون حركة بيضاء لا تسفك فيها دماء، بسبب الإمداد الغيبي وإلقاء الرعب في قلوب أعدائه، وبسبب التيار الشعبي الباحث عنه والمتشوق لظهوره. ثم بسبب الخطة المتقنة للسيطرة على الحرم وعلى مراكز السلطة والمواقع الهامة في مكة بدون سفك دماء.
ولا يبعد أن يكون ذلك مقصوداً بعناية منه (عليه السلام)، لكي يحفظ حرمة المسجد الحرام ومكة المكرمة وقدسيتها.
في تلك الليلة المباركة تتنفس مكة الصعداء، وترف عليها راية الإمام المهدي الموعود (عليه السلام) وتشع منها أنواره.
بينما يبذل الأعداء وإعلامهم العالمي جهدهم لكي يعتموا على نجاح حركته المقدسة، أو يصوروها إذا تسرب خبرها بأنها حركة واحد من المتطرفين المدعين للمهدية، الذي سبق أن قضي على عدد منهم في مكة وغيرها.
وينشطون في تحريك عناصرهم داخل مكة، لجمع المعلومات عن قائد
الحركة وقواته، واكتشاف نقاط الضعف المناسبة، وتقديمها إلى قوات السفياني، التي يصدر إليها الأمر بالتحرك إلى مكة بأسرع وقت ممكن.
وفي اليوم التالي لظهور (عليه السلام) يوم عاشوراء، ويكون يوم سبت كما تذكر بعض الروايات، يدخل الإمام المهدي (عليه السلام) المسجد الحرام ليؤكد عالمية حركته ويخاطب شعوب المسلمين كلها وشعوب العالم بلغاتها، ويطلب منهم النصرة على الكافرين والظالمين.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (يخرج القائم يوم السبت يوم عاشوراء، اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام)). (البحار:52/285).
وقد تقدمت الرواية بأنه يخرج يوم الجمعة بعد صلاة العشاء، ووجه الجمع بينهما ما رجحناه من أن ظهوره (عليه السلام) يكون على مرحلتين، وأن سيطرته على الحرم ومكة ليلة العاشر من محرم تكون مقدمة لإعلان ظهوره للعالم يوم السبت يوم عاشوراء.
ولابد أن يكون لذلك وقع على دول العالم، ودوي كبير في الشعوب الإسلامية، خاصة عندما يخبرهم (عليه السلام) بأن المعجزة الموعودة على لسان جده المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) سوف تقع ويخسف بالجيش السوري السفياني الذي يتوجه إلى مكة للقضاء على حركته.
والروايات عن مدة بقائه في مكة وأعماله فيها قليلة، تقول إحداها: (فيقيم في مكة ما شاء الله أن يقيم) (البحار:52/334)، وتذكر أخرى أنه يقيم الحد على سراق الكعبة الشريفة، وقد يكون المقصود بهم حكام الحجاز قبله، ولا بد أن يكون من أعماله (عليه السلام) مخاطباته للشعوب الإسلامية، وإعلان خطه السياسي العالمي.
وتذكر الروايات أنه يخرج من مكة إلا بعد أن تحصل معجزة الخسف بجيش
السفياني، ولكن هذا الجيش على ما يبدو سرعان ما يتوجه إلى مكة بعد إعلان الإمام حركته، لكي يقضون عليها، فيخسف الله بهم قبل أن يصلوا إلى مكة.
نعم تذكر الروايات ردة الفعل الشديدة عند أئمة الكفر الغربيين والشرقيين على نجاح حركته (عليه السلام)، وأن ذلك سوف يغيظهم كثيراً ويفقدهم أعصابهم!!
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إذا ظهرت راية الحق لعنها أهل الشرق وأهل الغرب. قلت له: مم ذلك؟ قال: مما يلقون من بني هاشم) (البحار:52/363)،
وفي رواية: (مما يلقونه من أهل بيته قبله)، وهذا يشير الى الحركة الممهدة قبله (عليه السلام) وأنه يقودها في الغالب سادات من بني هاشم، وأن الكفر العالمي يلاقي منها ومن تيارها الإسلامي متاعب كثيرة.
ثم يتوجه الإمام المهدي (عليه السلام) من مكة إلى المدينة بجيشه المؤلف من عشرة آلاف أو بضعة عشر ألفاً كما تذكر الروايات، بعد أن يعين والياً على مكة.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (يبايع القائم بمكة على كتاب الله وسنة رسوله. ويستعمل على مكة، ثم يسير نحو المدينة، فيبلغه أن عامله قتل. فيرجع إليهم فيقتل المقاتلة ولا يزيد على ذلك) (البحار:52/308).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة (أي أهل مكة) فيطيعونه، ويستخلف عليهم رجلاً من أهل بيته، ويخرج يريد المدينة، فإذا سار منها وثبوا عليه فيرجع إليهم، فيأتونه مهطعين مقنعي رؤوسهم، يبكون ويتضرعون ويقولون: يا مهدي آل محمد التوبة التوبة! فيعظهم وينذرهم ويحذرهم، ويستخلف عليهم منهم خليفة ويسير). (البحار:53/11)، وهذه الرواية لا تشير إلى وجود حركة مقاتلة في وجهه في مكة، وقد يكون المقصود بأنه يقتل مقاتلتهم في
الرواية الأولى الأفراد الذين قتلوا واليه على مكة.
وفي طريقه إلى المدينة، يمر على مكان الخسف بجيش السفياني كما تذكر رواية تفسير العياشي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (فإذا خرج رجل منهم (من آل محمد) معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ومعه راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عامداً إلى المدينة، فيقول هذا مكان القوم الدين خسف الله بهم، وهي الآية التي قال الله (عزَّ وجلَّ): (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ)). انتهى.
تحرير المدينة المنورة والحجاز
تذكر الروايات أن الإمام المهدي (عليه السلام) يخوض معركة أو أكثر في المدينة المنورة، على عكس الأمر في مكة.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال في حديث طويل: (يدخل المدينة فتغيب عنهم عند ذلك قريش، وهو قول علي بن أبي طالب (عليه السلام): (والله لودت قريش أن لي عندها موقفاً واحداً جزرَ جزور، بكل ما ملكته وكل ما طلعت عليه الشمس). ثم يحدث حدثاً، فإذا هو فعل ذلك قالت قريش: أخرجوا بنا إلى هذا الطاغية، فوالله لو كان محمدياً ما فعل، ولو كان علوياً ما فعل، ولو كان فاطمياً ما فعل. فيمنحه الله أكتافهم، فيقتل المقاتلة ويسبي الذرية، ثم ينطلق حتى ينزل الشقرة فيبلغه أنهم قد قتلوا عامله فيرجع إليهم فيقتلهم مقتله ليس قتل الحرة إليها بشيء! ثم ينطلق يدعو الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلم)). (البحار:52/342).
فهذه الرواية تذكر معركتين في المدينة: الأولى، بعد الحدث الذي يحدثه المهدي (عليه السلام) فيها فتنكره قريش وغيرها، ويبدو أنه يتعلق بهدم مسجد
النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقبره الشريف وإعادة بنائهما، كما تذكر روايات أخرى، فيتخذ أعداؤه ذلك ذريعة لتحريك الناس عليه وقتاله، فيقاتلهم ويقتل منهم مئات كما في بعض الروايات.
وعندها يتمنى القرشيون، أي المنتسبون إلى قبائل قريش لو أن علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) كان حاضراً ولو بمقدار جزر جزور، أي بمقدار ذبح ناقة، لكي يخلصهم من انتقام المهدي (عليه السلام)، لأن سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام) فيهم كانت الحلم والعفو.
والمعركة الثانية، بعد أن يقضي (عليه السلام) على هذه الحركة المضادة، ويعين على المدينة حاكماً من قبله، ويخرج متوجها إلى العراق أو إيران، وينزل في منطقة الشقرة أو الشقرات وهي منطقة في الحجاز باتجاه العراق وإيران، وقد تكون محل معسكر جيشه، فيقوم أهل المدينة مرة أخرى بحركة مضادة ويقتلون الوالي الذي عينه عليهم، فيرجع إليهم ويقتل منهم أكثر مما قتل منهم الجيش الأموي في وقعة الحرة المشهورة ويخضع المدينة مجدداً لسلطته.
وعدد قتلى الحرة كما تذكر مصادر التاريخ أكثر من سبع مئة شهيد رضوان الله عليهم، وقد كانت ثورتهم على يزيد بن معاوية بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهي ثورة مشروعة بعكس ثورة أهل المدينة هذه على الإمام المهدي (عليه السلام). وتشبيه فعل جيشه (عليه السلام) بأهل المدينة بفعل جيش يزيد إنما هو من حيث كثرة القتلى فقط.
وقد أورد صاحب كتاب يوم الخلاص ص265جزءاً من رواية العياشي المتقدمة يفهم منه أن المهدي (عليه السلام) يخوض حرباً في المدينة عند دخولها، ولكنها كما ترى تذكر معركتين بعد دخوله المدينة.
وروايات كتاب يوم الخلاص جميعها تحتاج إلى تدقيق في نسبتها إلى مصادرها، كما أن فيها تقطيعاً للروايات وضماً لأجزاء من بعضها إلى بعض آخر، ثم ينسبها إلى مصدر فيه جزء مما ذكره، أو جزء شبيه به!
ومن المحتمل أن يلاقي الإمام المهدي (عليه السلام) مقاومةً عندما يدخل المدينة من بقية قوات السلطة أو قوات السفياني، وأن يخوض معهم معركة وينتصر عليهم، ولكني لم أجد رواية تدل على ذلك، ووجدت رواية تشير إلى رضا أهل المدينة به (عليه السلام) وعدم مقاومتهم له، ففي الكافي:8/224 عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال في حديث طويل: (ويهرب يومئذ من كان بالمدينة من ولد علي (عليه السلام) إلى مكة فيلحقون بصاحب هذا الأمر، ويقبل صاحب هذا الأمر نحو العراق، ويبعث جيشاً إلى المدينة فيأمن أهلها، ويرجعون إليها).
ويساعد على مضمون هذا الحديث ما كان لاقاه أهل المدينة من جيش السفياني، ثم معجزة الخسف به وضعف حكومة الحجاز، وربما انهيارها بعد حادثة الخسف بجيش السفياني.
ويضاف الى هذا التيار العالم المؤيد للمهدي (عليه السلام) شعور أهل المدينة بأن المهدي (عليه السلام) منهم.
وهذه الرواية تشير كما ترى إلى أنه (عليه السلام) لا يأتي هو إلى المدينة في تلك الفترة رأساً، بل يرسل اليها جيشاً. وهو احتمال قريب.
مهما يكن، فإن الروايات تذكر أن الله تعالى يفتح له الحجاز، ويعني ذلك سقوط بقايا حكومة الحجاز الضعيفة، وانسحاب بقايا قوات السفياني. وقد يتحقق فتح الحجاز ومبايعة أهله له بعد سيطرته (عليه السلام) على مكة، وحدوث معجزة الخسف بجيش السفياني.
وبدخول الحجاز تحت حكم الإمام المهدي (عليه السلام)، تشمل دولته اليمن وإيران والعراق، رغم وجود فئات معارضة له في العراق.
ومن المرجح أن تكون دول الخليج أيضاً دخلت تحت حكمه، بحكم سيطرته على الحجاز، أو بمساعدة شعوبها ومساعدة أنصاره اليمانيين والإيرانيين.
ومن الطبيعي أن يكون لقيام دولة واحدة لهذه السعة بقيادة الإمام المهدي (عليه السلام) ردة فعل كبيرة عند الغرب والشرق، لأنها تمثل خطراً اساسياً عليهم، لسيطرتها على مضيق باب المندب ومضيق هرمز. والأهم من ذلك خطرها الحضاري ومدها الإسلامي الذي ترتعد له فرائض الغرب والشرق واليهود.
وقد تقدمت الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) بأن أهل الشرق والغرب يلعنون راية المهدي (عليه السلام)، أي ثورته ودولته.
كما أن من المرجح أن يحركوا أساطيلهم البحرية في الخليج والبحار القريبة، بعد أن يفقدوا كل أنواع نفوذهم في المنطقة المحررة فلا يبقى أمامهم إلا المرابطة في البحار، والتهديد بقواتهم البحرية والجوية. وربما يكونون هم وراء معركة البصرة وبيضاء إصطخر، الآتي ذكرهما.
الإمام المهدي (عليه السلام) الى إيران والعراق
يوجد تفاوت في الروايات الشريفة حول تحرك الإمام المهدي (عليه السلام) من الحجاز. فروايات مصادرنا الشيعية بشكل عام تذكر أنه يتوجه مباشرة من الحجاز إلى العراق. وبعضها يذكر أنه يتوجه إليه مباشرة من مكة، وهي تؤيد رواية روضة الكافي المتقدمة بأنه يرسل جيشاً إلى المدينة المنورة.
أما روايات مصادر السنة فهي بشكل عام تذكر أنه يتوجه من مكة إلى الشام والقدس، وبعضها يذكر أنه يتوجه إلى العراق ثم إلى الشام والقدس. وتنفرد رواية أو اثنتان في مخطوطة ابن حماد بأنه (عليه السلام) يأتي أولاً إلى جنوب إيران، حيث يبايعه الإيرانيون وقائدهم الخراساني وقائد جيشه شعيب بن صالح، ثم يخوض بهم معركة ضد السفياني في منطقة البصرة، ثم يدخل العراق.
فالأمر المجمع عليه في الروايات أن منطلق حركة ظهوره (عليه السلام) من مكة وأن هدفه القدس، وأنه فيما بين ذلك يشتغل فترة في ترتيب أوضاع دولته الجديدة، خاصة العراق، وفي إعداد جيشه للزحف إلى القدس.
ومن الطبيعي أن أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة والصحابة والتابعين ليست في صدد بيان كل تحركاته وتنقلاته (عليه السلام)، بل بصدد بيان الأحداث الأساسية التي لا تضر بخطة حركته، وتبعث الأمل في نفوس المسلمين، ثم تكون إعجازاً ربانياً يقوي إيمان المسلمين عند ظهوره، ويدفعهم إلى نصرته وتأييده.
ومن المرجح أنه (عليه السلام) يتنقل في هذه الفترة بين الحجاز وإيران والعراق واليمن حسب ما تقتضيه المصلحة، وأنه لا يشارك شخصياً في معارك جيشه إلا عندما يستوجب الأمر ذلك.
وقد رجحنا في فصل إيران رواية مجيئه (عليه السلام) إلى جنوب إيران، لاعتبارات منها أن روايات مصادر الفريقين تذكر معركة البصرة بعد تحريره الحجاز، وأنها تكون معركة كبيرة وحاسمة.
ومنها، أن عمدة جيشه وجمهوره في تلك المرحلة على الأقل هم الإيرانيون، فمن الطبيعي أن يأتي إلى إيران من أجل الاعداد لمعركة البصرة والخليج.
قال ابن حماد في ص86 من مخطوطته: (حدثنا الوليد بن مسلم ورشد بن سعد،
عن أبي رومان، عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: إذا خرجت خيل السفياني إلى الكوفة بعث في طلب أهل خراسان، ويخرج أهل خراسان في طلب المهدي، فيلتقي هو والهاشمي برايات سود على مقدمته شعيب بن صالح، فيلتقي هو وأصحاب السفياني بباب إصطخر، فيكون بينهم ملحمة عظيمة، فتظهر الرايات السود وتهرب خيل السفياني. فعند ذلك يتمنى الناس المهدي ويطلبونه).
ورغم ضعف هذه الرواية واضطراب متنها، لكنها تؤيد ما ورد عن معركة البصرة في فصل العراق.
كما أن روايات ردة فعل أهل الشرق والغرب العنيفة على نجاح ثورة المهدي (عليه السلام) تؤيد ما ورد في بعض روايات حرب البصرة من أن الطرف المقابل للمهدي (عليه السلام) وأنصاره يكونون الغربيين أهل الأناجيل، المرجح أن يكون جيش السفياني المذكور فيها واجهة للقوات الغربية.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة طويلة عن البصرة: (فيتبعه من أهلها عدة من قتل بالأبلة من الشهداء، أناجيلهم في صدورهم) (شرح النهج لابن ميثم خ128).
وإذا صح أن هذه الرواية تقصد معركة البصرة والخليج التي تقصدها رواية ابن حماد في حركة الظهور، فإنها ستكون من الضخامة والأهمية بحيث يتضح بعدها للناس أن ميزان القوة أصبح لمصلحة المهدي (عليه السلام): (فعند ذلك يتمنى الناس المهدي ويطلبونه).
وتذكر رواية في تفسير العياشي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) أن الإمام المهدي (عليه السلام) يدخل العراق في سبع قباب من نور:
(ينزل في سبع قباب من نور، لا يعلم في أيها هو، حين ينزل في ظهر الكوفة فهذا حين ينزل). وفي رواية أخرى: (إنه نازل في قباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة على الفاروق).
وقد تكون هذه الحادثة كرامة ربانية للإمام المهدي (عليه السلام)، وقد تكون تعبيراً عن دخوله العراق في سرب من الطائرات أو وسائل مشابهة عبرت عنها الروايات بقباب من نور، ويساعد عليه ذكرها تفسيراً للآية الشريفة.
والروايات عن أعماله (عليه السلام) في العراق كثيرة، ذكرنا بعضها في فصل العراق ونجمل ما بقي منها هنا.
فمنها، الروايات الكثيرة التي تذكر تصفيته لأوضاع العراق الداخلية وقتله فئات الخوارج عليه، وقد تقدم أكثرها في محله.
ومنها، دخوله الكوفة والنجف وكربلاء، وأنه يتخذ الكوفة عاصمة له ويبني قربها مسجد الجمعة العالمي، الذي يكون له ألف باب كما تذكر الروايات. فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربها، واستغنى العباد عن ضوء الشمس، ويعمر الرجل في ملكه حتى يولد له ألف ذكر لا يولد فيهم أنثى. يبني في ظهر الكوفة مسجداً له ألف باب، وتتصل بيوت الكوفة بنهر كربلاء وبالحيرة، حتى يخرج يوم الجمعة على بغلة سفواء يريد الجمعة فلا يدركها). (البحار:52/330).
وفي ص331عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (فإذا كانت الجمعة الثانية قال الناس: يا ابن رسول الله، الصلاة خلفك تضاهي الصلاة خلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والمسجد لا يسعنا، فيخط مسجداً له ألف باب يسع الناس عليه أصيص) أي بناء محكم. وقد يكون ذكر الألف باب لبيان سعة المسجد، الذي يبدو أنه مسجد الجمعة،
الذي يقصده الناس من أنحاء العالم لصلاة الجمعة خلف الإمام المهدي (عليه السلام). وقد يشمل المسجد مع مطاره ومواقف السيارات كل المساحة بين الكوفة وكربلاء، البالغ طولها نحو ثمانين كيلومتراً.
ومنها، إظهاره لمكانة كربلاء المقدسة وكرامة جده سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، وإعطاء كربلاء مكانتها العالمية، وقد ذكرت ذلك الروايات، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (وليصبرن الله كربلاء معقلاً ومقاماً، تختلف إليه الملائكة والمؤمنون، وليكونن لها شأن من الشأن). (البحار:53/12).
ومنها، الآية التي تظهر منه في نجف الكوفة، حيث يلبس درع جده النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ويركب مركباً خاصاً يضئ للعالم، فيراه الناس في بلادهم وهو في مكانه! فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كأني بالقائم (عليه السلام) على ظهر النجف لابساً درع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيتقلص عليه، ثم ينتفض بها فتستدير عليه، ثم يغشي الدرع بثوب إستبرق، ثم يركب فرساً له أبلق بين عينيه شمراخ، ينتفض به، لا يبقى أهل بلد إلا أتاهم نور ذلك الشمراخ، حتى يكون آية له. ثم ينشر راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فإذا نشرها أضاء لها ما بين المشرق والمغرب). (البحار:52/391).
وفيها عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (كأنني به قد عبر من وادي السلام إلى مسيل السهلة على فرس محجل له شمراخ يزهر، يدعو ويقول في دعائه: لا إله إلا الله حقاً حقاً، لا إله إلا الله تعبداً ورقاً. اللهم معز كل مؤمن وحيد، ومذل كل جبار عنيد، أنت كنفي حين تعييني المذاهب، وتضيق عليَّ الأرض بما رحبت.
اللهم خلقتني وكنت غنياً عن خلقي، ولولا نصرك إياي لكنت من المغلوبين.
يا منشر الرحمة من مواضعها، ومخرج البركات من معادنها، ويا من خص نفسه بشموخ الرفعة فأولياؤه بعزه يتعززون.
يا من وضعت له الملوك نير المذلة على أعناقهم، فهم من سطوته خائفون..الخ.).
وسوف نشير إلى ما يظهره الله تعالى على يده من إمداد غيبي وكرامات ومعجزات، والروايات التي تذكر تطور العلوم في عصره (عليه السلام).
ومنها، أنه يتخذ السهلة مسكناً له ولعياله، وهي قرب الكوفة من جهة كربلاء، وقد وردت بذلك عدة روايات، وهي تشير الى أن يكون له بعد ظهوره زوجة وأولاد (عليه السلام).
ومنها، أنه (عليه السلام) يطيل المكث في العراق قبل توجهه إلى القدس: (ثم يأتي الكوفة فيطيل المكث بها ما شاء الله أن يمكث). (البحار:52/224).
ويبدو أن السبب في ذلك مضافاً إلى تثبيت الوضع داخل العراق واتخاذه مركزاً لحكمه، أنه يجمع نخبة معاونيه وأنصاره من العالم في العراق، ويعد قواته العسكرية ويبعثها إلى البلاد من العراق، ثم يتوجه بجيشه إلى فتح القدس.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إذا دخل القائم الكوفة لم يبق مؤمن إلا وهو بها أو يجيء (يحن) إليها، وهو قول أمير المؤمنين (عليه السلام). ويقول لأصحابه سيروا بنا إلى هذا الطاغية). (البحار:52 /330).
وعنه (عليه السلام) قال: (كأني بالقائم على نجف الكوفة وقد سار إليها من مكة في خمسة آلاف من الملائكة، جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، والمؤمنون بين يديه، وهو يفرق الجنود في البلاد). (البحار:52/337)
وفي رواية: (وشعيب بن صالح على مقدمته)، وهو قائد جيشه.
وتذكر بعض الروايات أن أول جيش يبعثه (عليه السلام) يبعثه إلى قتال الترك، ففي مخطوطة ابن حماد ص58 عن أرطاة قال: (يقاتل السفياني الترك ثم يكون استئصالهم على يد المهدي و(هو) أول لواء يعقده المهدي يبعثه إلى الترك).
وقريب منه في الملاحم والفتن لابن طاووس ص52، وقد نقل (ره) في كتابه من كتاب ابن حماد سبعين صفحة أو أكثر.
ويبدو من مجموع الروايات أنه (عليه السلام) يقوم في العراق بعدة أعمال أساسية تتعلق بترتيب أوضاع دولته الجديدة وترسيخ حكمه فيها، وتأمين حدودها الشرقية من جهة روسيا والصين، ثم بالإعداد الشعبي والسياسي والعسكري لمعركة فتح القدس الكبرى.
ذكرت بعض الروايات أن المهدي (عليه السلام) يرسل جيشاً لقتال الروم عند أنطاكية ويرسل فيه بعض أصحابه فيستخرجون تابوت السكينة من غار بأنطاكية وفيه نسخة التوراة والإنجيل الأصليتين (مخطوطة ابن حماد ص98)، ويبدو أن إظهار هذه الآية للغربيين عملٌ لتحييد قواتهم التي تكون مرابطة عند ساحل أنطاكية، عن المشاركة في معركة فتح القدس.
وقد ورد أن هذه القوات تنزل هناك على أثر النداء السماوي في شهر رمضان، وأن الله تعالى يظهر لهم أهل الكهف آية، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (وتقبل الروم إلى ساحل البحر عند كهف الفتية، فيبعث الله الفتية من كهفهم مع كلبهم، منهم رجل يقال له مليخا وآخر خملاها، وهما الشاهدان المسلمان للقائم). (البحار:52/275)، ولعل المعنى أن مليخا وخملاها يأتيان إلى المهدي (عليه السلام) ويبايعانه، أو يسلمان إليه مواريث تكون مع أهل الكهف.
وعلى هذا، فإن الإمداد الغيبي هو الذي يجعل الغربيين يتريثون في خوض المعركة إلى جانب اليهود والسفياني ضد المهدي (عليه السلام)، وتكون الآية الأولى ظهور أصحاب الكهف، والآية الثانية استخراج أصحاب المهدي (عليه السلام) تابوت السكينة ونسخاً من التوراة والإنجيل من غار بأنطاكية ومحاجتهم بها.
ولذا يستبعد أن تقع بينهم وبين المهدي (عليه السلام) معركة عند أنطاكية.
كما أن نزول قواتهم على الساحل التركي وليس في تركيا، قد يشير إلى أن تركيا تكون خارجة عن نفوذهم، أو يكون تم تحريرها في تلك الفترة بثورة شعبها، أو بجيش المهدي (عليه السلام).
ولكن قوات الروم التي تنزل الرملة على ساحل فلسطين، والتي تصفها بعض الروايات بمارقة الروم تشارك على ما يبدو في معركة القدس إلى جانب اليهود والسفياني.
كما أن بعض الروايات تذكر أنه (عليه السلام) يرسل جيشه إلى الشام لخوض معركة القدس، مما يطرح احتمال أنه لا يشارك بنفسه في المعركة، بل يدخل القدس بعد هزيمة أعدائه، ولكن أكثر الروايات تذكر أنه يسير بنفسه مع جيشه، ويعسكر في (مرج عذراء) القريب من دمشق.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (ثم يأتي الكوفة فيطيل المكث بها ما شاء الله أن يمكث حتى يظهر عليها. ثم يسير حتى يأتي العذراء هو من معه، وقد التحق به ناس كثير، والسفياني يومئذ بوادي الرملة. حتى إذا التقوا وهو يوم الأبدال، يخرج أناس كانوا مع السفياني مع شيعة آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ويخرج ناس كانوا مع آل محمد إلى السفياني، فهم من شيعته حتى يلحقوا بهم، ويخرج كل ناس إلى رايتهم وهو يوم الأبدال. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ويقتل يومئذ السفياني ومن معه حتى لا يدرك منهم مخبر، والخائب يومئذ من خاب من غنيمة كلب). (البحار:52/224).
وتدل هذه الرواية على عدة أمور: منها، الحالة الشعبية العامة المؤيدة للإمام المهدي (عليه السلام) حيث يدخل جيشه سوريا بدون مقاومة مذكورة ويعسكر على بعد ثلاثين كيلو متراً من دمشق. إلى آخر ما ذكرناه في حركة السفياني.
معركة الإمام المهدي (عليه السلام) مع اليهود
حاصل الحالة السياسية في المنطقة التي تفهم من الروايات قبيل معركة القدس: أن الروم الغربيين يكونون في حالة تخوف من مواجهة الإمام المهدي (عليه السلام) بسبب انتصاراته المفاجئة، وانتصارات أصحابه في اليمن والحجاز والعراق، وربما انتصاره عليهم في معركة الخليج. وبسبب الموجة الشعبية العارمة له في الشعوب الإسلامية، وخاصة مسلمي المنطقة.
ولابد أن الآيات الربانية التي تسبق ظهوره (عليه السلام) وترافقه تكون ذات تأثير على الشعوب الغربية أيضاً وتزيد في ارتباك حكوماتها، فلا تقوم بأكثر من إرسال قواتها إلى ساحل أنطاكية وساحل الرملة في فلسطين أو مصر، ويكون دور الغربيين في المعركة بشكل عام مساندة حلفائهم اليهود والسفياني.
أما وضع اليهود فيكون أكثر قلقاً ورعباً، لأن المعركة مصيرية بالنسبة إليهم ولكنهم يفضلون أن لا يواجهوا جيش المهدي مباشرة، بل بواسطة خط دفاعهم (العربي) بقيادة السفياني، وهذه قاعدة وسنة آلهية في الحكومات المترفة أنها تفضل أن يقاتل غيرها نيابة عنها، وأن تبقى في الخط الثاني أو الثالث، كما نشاهد في اليهود عموماً.
أما الحالة الشعبية في المنطقة فتبلغ شدة تأييدها للإمام المهدي (عليه السلام) أنها تكاد تطيح بالسفياني وتضم بلاد الشام إلى دولة الإمام المهدي (عليه السلام)، لولا الإسناد الخارجي القوي للسفياني وجيشه من الروم واليهود.
ولا يبعد أن يرافق تراجع قوات السفياني أمام زحف جيش المهدي (عليه السلام)، أن تكون بلاد الشام في حالة فراغ أو شبه فراغ سياسي.
وقد أورد ابن حماد في مخطوطته نحو عشرين حديثاً تحت عنوان: (خروج المهدي من مكة إلى بيت المقدس) وورد عدد منها في مصادرنا الشيعية أيضاً. منها ص96، عن ابن وزير الغافقي أنه سمع علياً يقول: (يخرج في اثني عشر ألفاً إن قلوا وخمسة عشر ألفاً إن كثروا، يسير الرعب بين يديه، لا يلقاه عدو إلا هزمهم بإذن الله، شعارهم أمت أمت، لا يبالون في الله لومة لائم، فيخرج إليهم سبع رايات من الشام فيهزمهم ويملك، فترجع إلى المسلمين محبتهم ونعمتهم وقاصتهم وبزارتهم، فلا يكون بعدهم إلا الدجال. قلنا: وما القاصة والبزارة؟ قال يقبض الأمر حتى يتكلم الرجل بأشياء لا يخشى شيئاً).
وفيها: (ويسير المهدي حتى ينزل بيت المقدس، وتنقل إليه الخزائن، وتدخل العرب والعجم وأهل الحرب والروم وغيرهم في طاعته).
وفي ص97: (فيقول (أي المهدي) أخرجوا إلي ابن عمي حتى أكمله، فيخرج إليه فيكلمه، فيسلم له الأمر ويبايعه: فإذا رجع السفياني إلى أصحابه ندمته كلب فيرجع ليستقيله، فيقتتل هو وجيش السفياني على سبع رايات، كل صاحب راية منهم يرجو الأمر لنفسه، فيهزمهم المهدي).
وفيها: (فيستقيله البيعة فيقيله، ثم يعبي جيوشه لقتاله فيهزمه، ويهزم الله على يديه الروم). والسفياني في النسب الظاهر ابن عم الإمام المهدي (عليه السلام)، لأن أمية وهاشم كما هو معروف أخوان.
وإذا صح شيء من هذه الروايات فهي سياسة حكيمة وخلق عظيم من الإمام المهدي (عليه السلام)، يريد بها أن يصرفه عن غيه، أو يقيم عليه مزيداً من الحجة، ولكن السفياني سرعان ما يندم على تأثره الموقت بشخصية الإمام المهدي (عليه السلام)، ويُندِّمه أقاربه بنو كلب، بل قادة جيشه السبعة الذين يكون السفياني بالحقيقة قيادة اتحادية لهم، ومن وراء ذلك أسيادهم الروم واليهود.
وفي رواية الملاحم والفتن عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف هذه المعركة قال: (فيغضب الله على السفياني، ويغضب خلق الله لغضب الله تعالى، فترشقهم الطير بأجنحتها، والجبال بصخورها، والملائكة بأصواتها! ولا تكون ساعة حتى يهلك الله أصحاب السفياني كلهم، ولا يبقى على الأرض غيره وحده فيأخذه المهدي فيذبحه تحت الشجرة التي أغصانها مدلاة على بحيرة طبرية).
وتذكر بعض روايات هذه المعركة نوعاً آخر من الإمداد الغيبي للمسلمين فيها، مضافاً إلى ما ذكرته الرواية المتقدمة: (أنه يسمع يومئذ صوت من السماء منادياً ينادي: ألا إن أولياء الله فلان، يعني المهدي، فتكون الدبرة على أصحاب السفياني، فيقتلون حتى لا يبقى منهم إلا الشريد). (ابن حماد ص 97).
والظاهر أن الأحاديث الواردة في مصادر الفريقين عن قتال المسلمين لليهود في آخر الزمان تقصد هذه المعركة، بدليل تشابه مضامينها وتعابيرها، والروايات الواردة في تفسير قوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً). بالإمام المهدي (عليه السلام) وأصحابه.
ومن أشهر أحاديثها في مصادر السنة، الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر يا مسلم هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). (التاج الجامع للأصول:5/356 وأحمد:2/417)، ويشبهه ما رواه مسلم والترمذي في كتاب الفتن، والبخاري في كتاب المناقب: (يقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم).
كما ورد في أحاديث المهدي (عليه السلام) من طرق الفريقين روايات عديدة عن
استخراجه (عليه السلام) تابوت السكينة، وأسفاراً من التوراة ومحاجة اليهود بها. ويبدو أن ذلك يكون بعد انتصاره عليهم ودخوله القدس.
ولم أجد في الروايات تحديداً لعدد القوات التي تشترك في هذه المعركة سواء قوات المسلمين مع المهدي (عليه السلام) أو لعدد قوات السفياني واليهود والروم. وقد ورد في بعضها أن عدد قوات السفياني التي تنزل عند بحيرة طبرية يكون مئة وسبعين ألفاً. ولكن توجد عدة مؤشرات تدل على أن عدد قوات الجانبين تكون كبيرة جداً، منها، ما في الرواية المتقدمة عن الإمام الباقر (عليه السلام): (وقد ألحق به ناس كثير). ومنها، سعة جبهة المعركة التي تمتد من طبرية إلى القدس في أكثر الروايات، وبعضها تذكر مرج عكا وصور ودمشق أيضاً.
أما ما ورد في بعض الروايات من أن جيش المهدي (عليه السلام) يكون بضعة عشر ألفاً فهو جيشه الذي يخرج به من مكة الى المدينة، وربما اشتبه بعض الرواة بينه وبين جيشه الذي يتوجه به من العراق إلى القدس، ويكون قائده شعيب بن صالح قائد قوات الإيرانيين، فهذا الجيش قد يزيد عدده على المليون جندي، لأنه يكون فيه قوات الإيرانيين واليمانيين والعراقيين وغيرهم من بلاد المسلمين، ثم ينضم إليه أعداد من بلاد الشام، وربما من غيرها.
ومع أن ابن حماد أورد روايات البضعة عشر ألفاً في عدد جيش المهدي (عليه السلام) في زحفه نحو القدس ص95 وما بعدها، إلا أنه أورد رواية في ص106 تذكر أن حرسه (عليه السلام) عندما يدخل القدس يكون اثني عشر ألفاً: (ينزل رجل من بني هاشم بيت المقدس يكون حرسه اثنا عشر ألفاً).
ورواية ثانية ص107 تقول: (حرسه ستة وثلاثون ألفاً، على كل طريق لبيت
المقدس اثنا عشر ألفاً). وهذا يدل على ضخامة جيشه (عليه السلام).
كما أورد ص110، رواية عن بناء المهدي (عليه السلام) للقدس تقول: (ينزل خليفة من بني هاشم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، يبني بيت المقدس بناء لم يُبْنَ مثله).
ومن الطبيعي أن يكون لانتصار الإمام المهدي (عليه السلام) المفاجئ والكاسح ودخوله القدس الشريفة وقع الصاعقة على الغربيين، وأن يجن جنونهم لهزيمة حلفائهم اليهود وانهيار كيانهم.
وبمقتضى الحسابات السياسية، وما نعرفه من عنفوانهم الحالي، لابد أن يشنوا حملة عسكرية بحرية وجوية على الإمام المهدي (عليه السلام) وجيشه، وأن يستعملوا كل ما يستطيعون من أسلحة فتاكة.
ولكن يفهم من الأحاديث الشريفة أن عدة عوامل مهدئة تكون موجودة، ولعل من أهمها نزول المسيح (عليه السلام) في القدس، ثم حالة الرعب التي تتعمق في الغربيين من مواجهة الإمام المهدي (عليه السلام).
ويضاف إلى ذلك وسائل الإمداد الغيبي التي يملكها الإمام المهدي (عليه السلام) ويستعمل بعضها في حركة ظهوره، والتي تستحق استعراضها في فضل خاص، وإن كان تأثيرها يكاد ينحصر بالشعوب الغربية، ويكون على حكوماتها ضعيفاً أو معدوماً. وقد يضاف إلى ذلك امتلاك المهدي (عليه السلام) أسلحة متطورة تكافئ أسلحة الغربيين، أو تتفوق عليها.
نزول المسيح (عليه السلام) من السماء
أجمع المسلمون على أن روح الله عيسى المسيح على نبينا وآله وعليه السلام ينزل من السماء إلى الأرض في آخر الزمان، وبذلك فسر أكثر المفسرين قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً). (النساء:159)، وقد نقله صاحب مجمع البيان عن ابن عباس وأبي مالك وقتادة وابن زيد والبلخي، وقال: واختاره الطبري.
وروى تفسيرها بذلك في البحار:14/530، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهله ملة يهودي ولا نصراني إلا آمن به قبل موته ويصلي خلف المهدي).
وأحاديث نزوله في مصادر الفريقين كثيرة منها الحديث المشهور عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (كيف بكم (أنتم) إذا نزل عيسى بن مريم فيكم وإمامكم منكم). (البحار:52/383 ورواه البخاري:2/256، وروى غيره في باب: (نزول عيسى (عليه السلام)).
وأورد ابن حماد في مخطوطته من ص159 إلى ص162نحو ثلاثين حديثاً تحت عنوان: (نزول عيسى بن مريم (صلّى الله عليه وآله وسلم) وسيرته) وتحت عنوان: (قدر بقاء عيسى بن مريم (عليه السلام) بعد نزوله).
منها، ص162الحديث المروي في الصحاح وفي البحار عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً،
ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزيرة، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) وفيها: (إن الأنبياء إخوة لعلات، دينهم واحد وأمهاتهم شتى. أولاهم بي عيسى بن مريم، ليس بيني وبينه رسول، وإنه لنازل فيكم فاعرفوه، رجل مربوع الخلق، إلى البياض والحمرة. يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية. ولا يقبل غير الإسلام، وتكون الدعوة واحدة لله رب العالمين).
وقد ورد في عدد من روايات ابن حماد نزوله (عليه السلام) في القدس، وفي بعضها عند القنطرة البيضاء على باب دمشق، وفي بعضها عند المنارة التي عند باب دمشق الشرقي. وفي بعضها باب لد بفلسطين.
كما أورد في بعضها أنه يصلي خلف المهدي (عليه السلام)، وأنه يحج إلى بيت الله الحرام كل عام، وأن المسلمين يقاتلون معه اليهود والروم والدجال. وأنه يبقى في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفاه الله تعالى ويدفنه المسلمون.
وورد في رواية عن أهل البيت (عليهم السلام) أن الإمام المهدي (عليه السلام) يقيم مراسم دفنه على أعين الناس، حتى لا يقول فيه النصارى ما قالوه، وأنه يكفنه بثوب من نسج أمه الصديقة مريم (عليها السلام) ويدفنه في القدس في قبرها.
والمرجح عندي في أمر نزوله (عليه السلام) أن قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً). (النساء: 159) يدل على أن الشعوب المسيحية واليهود جميعاً يؤمنون به، وأن الحكمة من رفعة إلى السماء وتمديد عمره أن الله تعالى ادخره ليؤدي دوره العظيم في هداية أتباعه وعباده، في مرحلة حساسة من التاريخ يظهر فيها المهدي (عليه السلام) ويكون النصارى أكبر قوة في العالم، ويكونون أكبر عائق أمام وصول نور الإسلام إلى شعوبهم العالم، وإقامة دولته وحضارته الإلهية.
لذا فإن من الطبيعي أن تعم العالم المسيحي تظاهرات شعبية، وفرحة عارمة، ويعتبرون نزوله لهم في مقابل ظهور المهدي (عليه السلام) في المسلمين.
ومن الطبيعي أن يزور المسيح (عليه السلام) بلادهم المختلفة، ويظهر الله تعالى على يديه الآيات والمعجزات، ويعمل لهدايتهم إلى الإسلام بالتدريج والنفس الطويل، وأن تكون أول الثمرات السياسية لنزوله تخفيف حالة العداء في الحكومات الغربية للإسلام والمسلمين وعقد اتفاقية الهدنة بينهم وبين الإمام المهدي (عليه السلام) التي تذكرها الروايات.
وقد تكون صلاته خلف المهدي (عليه السلام) على أثر نقض الغربيين معاهدة الهدنة والصلح مع المهدي (عليه السلام) وغزوهم المنطقة بجيش جرار كما تذكر الروايات، فيتخذ المسيح (عليه السلام) موقفه الصريح إلى جانب المسلمين، ويأتم بإمامهم.
أما كسر الصليب وقتل الخنزير فلا يبعد أن يكون بعد غزو الغربيين للمنطقة وهزيمتهم في معركتهم الكبرى مع المهدي (عليه السلام).
كما ينبغي أن ندخل في الحساب التيار الشعبي الغربي المؤيد للمسيح (عليه السلام) والذي يكون له تأثير ما على الحكومات قبل معركتهم الكبرى مع المهدي، وتأثير حاسم بعدها.
وأما حركة الدجال، فالمرجح عندي من أحاديثها أنها تكون بعد مدة غير قصيرة من قيام الدولة العالمية على يد المهدي (عليه السلام) وعموم الرفاهية لشعوب الأرض، وتطور العلوم تطوراً هائلاً، وأنها حركة يهودية إباحية أشبه بحركة الهيپز الغربية الناتجة عن الترف والبطر. غاية الأمر أن حركة الأعور الدجال
تكون متطورة ذات أبعاد عقيدية وسياسية واسعة، حيث يستعمل الدجال وسائل العلوم في ادعاءاته وشعوذاته، ويتبعه اليهود الذين هم في الحقيقة وراء حركته، ويستغلون المراهقين والمراهقات، وتكون فتنته شديدة على المسلمين.
وينبغي التثبت والتحقيق في الروايات التي تذكر أن المسيح (عليه السلام) هو الذي يقتل الدجال، لأن ذلك من عقائد المسيحيين المذكورة في أناجيلهم، ولأن المجمع عليه عند المسلمين أن حاكم الدولة العالمية يكون الإمام المهدي (عليه السلام) ويكون المسيح (عليه السلام) معيناً له ومؤيداً.
وقد وردت الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) بأن الذي يقتل الدجال هم المسلمون بقيادة الإمام المهدي (عليه السلام).
اتفاقية الهدنة بين الإمام المهدي (عليه السلام) والغربيين
وأحاديث هذه الهدنة كثيرة، تدل على أنها اتفاقية صلح وعدم اعتداء وتعايش سلمي.
ويبدو أن غرض الإمام المهدي (عليه السلام) منها أن يفتح المجال لعمله وعمل المسيح (عليه السلام) أن يأخذ مجراه الطبيعي في هداية الشعوب الغربية وتحقيق التحول العقائدي والسياسي فيها، لتكتشف زيف حكوماتها وحضارتها.
ونلاحظ في روايات هذه الهدنة الشبه الكبير بينها وبين صلح الحديبية الذي عقده النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) مع قريش على عدم الحرب لمدة عشر سنين وسماه الله تعالى الفتح المبين، حيث ما لبث جبابرة قريش أن نقضوا عهدهم مع المسلمين وكشفوا عن نواياهم، فكان ذلك دافعاً للناس أن يدخلوا في الإسلام، ومبرراً للقضاء على قوة المشركين وكفرهم.
وكذلك لا يلبث الرؤساء الغربيون أن ينقضوا عهدهم مع المسلمين ويكشفوا عن طغيانهم، ويغزوا المنطقة بنحو مليون جندي كما تذكر الروايات، فتكون المعركة الكبرى معهم، التي يظهر من وصف الروايات لها أنها أعظم من معركة فتح القدس.
ففي الحديث النبووي الذي رواه الجميع قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): (بينكم وبين الروم أربع هدن، الرابعة على يد رجل من آل هرقل، تدوم سنين (سنتين) فقال له رجل من عبد القيس يقال له السؤدد بن غيلان: من إمام الناس يومئذ؟ فقال: المهدي من ولدي) البحار:51/80)
وعن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (يكون بينكم وبين بني الأصفر هدنة، فيغدرون بكم في حمل امرأة، يأتون في ثمانين غاية في البر والبحر، كل غاية اثنا عشر ألفاً، فينزلون بين يافا وعكا، فيحرق صاحب مملكتهم سفنهم، يقول لأصحابه قاتلوا عن بلادكم، فيلتحم القتال، ويمد الأجناد بعضهم بعضاً، حتى يمدكم من بحضر موت اليمن، فيومئذ يطعن فيهم الرحمان برمحه، ويضرب فيهم بسيفه، ويرمي فيهم بنبله، ويكون منه فيهم الذبح الأعظم) (مخطوطة ابن حماد ص141).
ومعنى: (يطعن فيهم الرحمان برمحه.. الخ.) أنه تبارك وتعالى يمد المسلمين بملائكته وإمداده الغيبي عليهم.
وفي ص142: (ترسي الروم فيما بين صور إلى عكا، فهي الملاحم).
وفي ص115: ((إن) لله ذبحين في النصارى، مضى أحدهما وبقي الآخر).
وفي ص124: (ثم يسلط الله على الروم ريحاً وطيراً تضرب وجوههم بأجنحتها فتفقأ أعينهم، وتتصدع بهم الأرض فيتلجلجوا في مهوى بعد صواعق ورواجف تصيبهم، ويؤيد الله الصابرين ويوجب لهم الأجر كما أوجب لأصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)
وتملأ قلوبهم وصدورهم شجاعة وجرأة).
ويبدو أن هدفهم من إنزال قواتهم البحرية بين يافا وعكا، أو بين صور وعكا، كما في هاتين الروايتين هو استرجاع فلسطين مجدداً وإعطاؤها لليهود، وأن تكون القدس هدفاً عسكرياً مبرراً لحملتهم.
وقد ورد في الرواية التالية أن إنزال قواتهم يشمل طول الساحل من عريش مصر إلى أنطاكية في تركية، فعن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) قال: (فتح لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فتح لم يفتح له مثله منذ بعثه الله تعالى فقلت له: يهنيك الفتح يا رسول الله قد وضعت الحرب أوزارها. فقال: هيهات هيهات، والذي نفسي بيده إن دونها يا حذيفة لخصالاً ستاً.. وذكر آخرها (صلّى الله عليه وآله وسلم) فتنة الروم وغدرهم بالمسلمين بثمانين راية، وأنهم ينزلون ما بين أنطاكية إلى العريش). (ابن حماد ص 118).
وقد ورد في أحاديث نزول عيسى (عليه السلام) أن الحرب تضع أوزارها عند ذلك.
ويؤيده واقع صراعنا وحروبنا مع الروم التي لم تضع أوزارها، ولن تضع أوزارها حتى يظهر المهدي وينزل عيسى (عليه السلام)، وينصرنا الله تعالى على الروم في مرحلة طغيانهم العالمي.
وفي ص136: (في فلسطين وقعتان في الروم، تسمى إحداهما القطاف، والأخرى الحصاد) أي تكون الثانية كاسحة أكثر من الأولى.
وتشير الرواية التالية إلى أن معركة المهدي (عليه السلام) مع الغربيين تكون غير متكافئة، وأن ميزان القوة يكون لصالحهم في الظاهر، ولذلك ينضم إليهم بعض ضعاف القلوب من العرب، ويقف آخرون على الحياد، فقد روى ابن حماد في ص12، عن محمد بن كعب في تفسير قوله تعالى: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)، قال: الروم يوم الملحمة. وقال: قد استنفر الله الأعراب في بدء الإسلام فقالت: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فقال: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ). يوم الملحمة فيقولون كما قالوا في بدء الإسلام، فتحل بهم الآية: يعذبكم عذاباً أليماً.
وقال صفوان: حدثنا شيخنا أن من الأعراب من يرتد يومئذ كافراً، ومنهم من يولي عن نصرة الإسلام وعسكره شاكاً).
فالمرتدون هم الذين يقفون إلى جانب الروم، والمتولون هم الواقفون على الحياد، وعذابهم الأليم على يد المهدي (عليه السلام) بعد انتصاره على الروم.
وروى ابن حماد في ص131 حديثاً يوازن أجر شهداء هذه المعركة بأجر شهداء بدر مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): خير قتلى تحت ظل السماء مذ خلق الله تعالى خلقه، أولهم هابيل الذي قتله قابيل اللعين ظلماً، ثم قتلى الأنبياء الذين قتلهم أممهم المبعوثة إليهم حين قالوا: ربنا الله ودعوا إليه، ثم مؤمن آل فرعون، ثم صاحب ياسين، ثم حمزة بن عبد المطلب، ثم قتلى بدر، ثم قتلى أحد، ثم قتلى الحديبية، ثم قتلى الأحزاب، ثم قتلى حنين، ثم قتلى تكون بعدي تقتلهم خوارج مارقة فاجرة، ثم ارجع يدك إلى ما شاء الله من المجاهدين في سبيله، حتى تكون ملحمة الروم، قتلاهم كقتلى بدر).
ولا بد أن يكون تعبير قتلى الحديبية في الرواية تصحيفاً أو إضافة، لأن مصادر السيرة لم تذكر وقوع حرب وقتلى في الحديبية.
أما في مصادرنا الشيعية عن أهل البيت (عليهم السلام) فقد نصت على أن أفضل الشهداء عنه الله تعالى هم أصحاب سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) والشهداء مع الإمام المهدي (عليه السلام).
أما وقت الحملة الغربية الأخيرة على بلادنا فتذكر الروايات أن مدة الهدنة
معهم تكون سبع سنين، ولكنهم يغدرون وينقضونها بعد سنتين، وبعضها يذكر أنهم يغدرون بعد ثلاث سنين.
ففي مخطوطة ابن حماد ص142 عن أرطاة قال: (يكون بين المهدي وطاغية الروم صلح بعد قتله السفياني ونهب كلب، حتى يختلف تجاركم إليهم وتجارهم إليكم، ويأخذون في صنعة سفنهم ثلاث سنين.. حتى ترسي الروم فيما بين صور إلى عكا، فهي الملاحم).
وقد تقدمت الرواية التي تذكر أنهم يغدرون في حمل امرأة، أي بعد تسعة أشهر من توقيع الهدنة، والله العالم.
الشعوب الغربية تدخل في الإسلام
يكون لهزيمة الغربيين الساحقة على يد الإمام المهدي (عليه السلام) في فلسطين وبلاد الشام آثار كبيرة على شعوب الغرب ومستقبله. ولابد أن الكلمة النافذة في الغرب تصبح للمسيح والمهدي (عليهما السلام)، وللتيار الشعبي المؤيد لهما في الشعوب الغربية، وأن هذا التيار يتولى حركة إسقاط الحكومات الكافرة وإقامة حكومات تعلن انضمامها إلى دولة المهدي (عليه السلام).
وتذكر الروايات في مصادر السنة والشيعة أن الإمام المهدي (عليه السلام) يتوجه إلى الغرب ويفتح هو وأصحابه المدينة الرومية الكبرى، أو المدن الرومية، وبعضها يذكر أنه يفتحها مع أصحابه بالتكبير!
ففي بشارة الإسلام ص258قال: (يفتح قسطنطينية ورومية وبلاد الصين).
وفي الزام الناصب:2/225: (ويتوجه إلى بلاد الروم فيفتح رومية مع أصحابه).
وفي الملاحم والفتن ص64: (رومية التي يفتحها المهدي هي أم بلاد الروم).
وفي بشارة الإسلام ص251 عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ثم تسلم الروم على يده
فيبني لهم مسجداً، ويستخلف عليهم رجلاً من أصحابه وينصرف).
وفي مخطوطة ابن حماد ص136 عن عكرمة وسعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: (لهم في الدنيا خزي: قال مدينة تفتح بالروم).
وفي بشارة الإسلام ص297، قال: (يفتح المدينة الرومية بالتكبير في سبعين ألفاً من المسلمين).
ملامح الدولة العالمية على يد الإمام المهدي (عليه السلام)
تدل الآيات الشريفة المفسرة بظهور الإمام المهدي، والأحاديث الشريفة المبشرة به (عليه السلام)، على أن مهمته ربانية ضخمة، متعددة الجوانب، جليلة الأهداف. فهي عملية تغيير شاملة للحياة الانسانية على وجه الأرض، وإقامة مرحلة جديدة منها بكل معنى الكلمة.
ولو لم يكن من مهمته (عليه السلام) إلا إنهاء الظلم، وبعث الإسلام النبوي الأصيل وإقامة حضارته الربانية العادلة وتعميم نوره على العالم، لكفى.
ولكنها مع ذلك مهمة تطوير الحياة البشرية تطويراً مادياً كبيراً، بحيث لا تقاس نعمة الحياة في عصره والعصور التي بعده (عليه السلام) بالحياة في المراحل السابقة، مهما كانت متقدمة ومتطورة.
وهي أيضاً مهمة تحقيق مستوى هام من الإنفتاح على الكون وعوالم السماء وسكانها، يكون مقدمة للإنفتاح الأكبر على عوالم الغيب والآخرة.
وهذه لمحات عن جوانب مهمته (عليه السلام) بقدر ما يتسع لها هذا الكتاب:
تطهير الأرض من الظلم والظالمين
يبدو بالنظرة الأولى أن تطهير الأرض من الظلم، واستئصال الطواغيت والظالمين، أمر غير ممكن، فقد تعودت الأرض على أنين المظلومين وآهاتهم
حتى لا يبدو لاستغاثتهم مجيب، وتعودت على وجود الظالمين المشؤوم، حتى لا يخلو منهم عصر من العصور.
فهم كالشجرة الخبيثة المستحكمة الجذور، ما أن يقلع منهم واحد حتى ينبت عشرة، وما أن يقضى عليهم في جيل حتى يفرخوا أفواجاً في أجيال.
غير أن الله تعالى الذي قضت حكمته أن يقيم حياة الناس على قانون صراع الحق والباطل والخير والشر، قد جعل لكل شيء حداً، ولكل أجل كتاباً، وجعل للظلم على الأرض نهاية.
جاء في تفسير قوله تعالى: (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ). (الرحمن:41) عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (الله يعرفهم! ولكن نزلت في القائم يعرفهم بسيماهم فيخبطهم بالسيف هو وأصحابه خبطاً). (غيبة النعماني ص 127).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (فليفرجن الله بغتة برجل منا أهل البيت، بأبي ابن خيرة الإماء. لا يعطيهم إلا السيف هرجاً هرجاً (أي قتلاً قتلاً) موضوعاً على عاتقه ثمانية أشهر). (شرح نهج البلاغة:2/178).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في أمته باللين والمنِّ، وكان يتألف الناس، والقائم يسير بالقتل ولا يستتيب أحداً!! بذلك أمر في الكتاب الذي معه، ويل لمن ناواه). (غيبة النعماني ص121).
والكتاب الذي معه هو العهد المعهود له من جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وفيه كما ورد: (أقتل ثم اقتل ولا تستتيبن أحداً)، أي لا تقبل توبة المجرمين.
وعنه (عليه السلام) قال: (وأما شبهه في جده المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) فخروجه بالسيف وقتله أعداء الله تعالى وأعداء رسوله، والجبارين والطواغيت، وأنه ينصر بالسيف والرعب، وأنه لا ترد له راية). (البحار: 51 /218).
وفي رواية عبد العظيم الحسني المتقدمة وهي في نفس المصدر، عن الإمام الجواد (عليه السلام): (فإذا كمل له العقد وهو عشرة آلاف خرج بإذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى الله تعالى. قلت، وكيف يعلم أن الله قد رضي؟ قال: يلقي الله في قلبه الرحمة).
بل جاء في الأحاديث أن بعض أصحابه (عليه السلام) يرتاب ويعترض عليه لكثرة ما يرى من سفكه لدماء الظالمين، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): (حتى إذا بلغ الثعلبية (اسم مكان في العراق) قام إليه رجل من صلب أبيه (أي من نسبه) هو أشد الناس ببدنه وأشجعهم بقلبه ماخلا صاحب هذا الأمر، فيقول: يا هذا ما تصنع؟! فوالله إنك لتجفل الناس إجفال النعم! (أي كما يجفل الراعي أو الذئب قطيع الماشية) أفبعهد من رسول الله، أم بماذا؟! فيقول المولى الذي ولي البيعة (أي المسؤول عن أخذ البيعة للإمام من الناس): أسكت، لتسكتن أو لأضربن الذي فيه عيناك، فيقول القائم (عليه السلام): أسكت يا فلان، إي والله إن معي لعهداً من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، هات يا فلان العيبة (أي الصندوق) فيأتيه بها فيقرأ العهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيقول الرجل: جعلني الله فداك: أعطني رأسك أقبله، فيعطيه رأسه، فيقبل بين عينيه، ثم يقول: جعلني الله فداك، جدد لنا بيعة، فيجدد لهم بيعة). (البحار: 53/343)
ولا بد أن هناك علامات أو آية يعرف بها أصحابه أن تلك الصحيفة هي عهد معهود من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأما طلبهم أن يجددوا مبايعته (عليه السلام) فلأن اعتراضهم عليه يعتبر نوعاً من الإخلال ببيعتهم الأولى له (عليه السلام).
وقد يرى البعض في سياسة القتل والإبادة للظالمين التي يعتمدها الإمام المهدي (عليه السلام)، أنها قسوة وإسراف في القتل، ولكنها في الواقع عملية جراحية ضرورية لتطهير مجتمع المسلمين ومجتمعات العالم من الطغاة والظالمين،
وبدونها لا يمكن إنهاء الظلم من على وجه الأرض، وإقامة العدل خالصاً كاملاً، ولا القضاء على أسباب المؤامرات الجديدة التي سيقوم بها بقاياهم فيما لو استعمل الإمام معهم سياسة اللين والعفو! فالظالمون في مجتمعات العالم كالغصون اليابسة من الشجرة، بل كالغدة السرطانية، لابد من استئصالها من أجل نجاة المريض مهما كلف الأمر.
والأمر الذي يوجب الاطمئنان عند المترددين في هذه السياسة أنها بعهد معهود من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأن الله تعالى يعطي الإمام المهدي (عليه السلام) العلم بالناس وشخصياتهم، فهو ينظر إلى الشخص بنور الله تعالى فيعرف ما هو وما دواؤه، ولا يخشى أن يقتل أحداً من الذين يؤمل اهتداؤهم وصلاحهم، كما أخبر الله تعالى عن قتل الخضر (عليه السلام) للغلام في قصته مع موسى (عليه السلام) حتى لا يرهق أبويه طغياناً وكفراً.
بل تدل الأحاديث على أن الخضر يظهر مع المهدي (عليه السلام) ويكون وزيراً له، ولا بد أن المهدي (عليه السلام) عنده علم الخضر اللدني الذي قال الله عنه: (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف:65)، وأنهما يستعملانه في تنمية بذور الخير، ودفع الشر عن المؤمنين، والقضاء على الفساد والشر وهو بذرة صغيرة قبل أن يصبح شجرة خبيثة.
ومن المرجح أن يكون عمل الخضر وأعوانه في دولة المهدي (عليه السلام) علنياً، وأن يكون لهم حق الولاية على الناس وحق النقض على القوانين والأوضاع الظاهرية.
وقد ورد في الأحاديث الشرية أن الإمام المهدي (عليه السلام) يقضي بين الناس بحكم الله الواقعي الذي يريه إياه الله تعالى، فلا يطلب من أحد شاهداً أو بينة، وكذلك يستعمل علمه الواقعي في قتل الظالمين والفجار، وقد يسير أصحابه في القضاء
بين الناس وقتل الفجار بهذه السيرة، أما في بقية الأمور فقد يتعاملون مع الناس على الظاهر. ولا بد أن يكون للخضر وأمثاله صلاحياتهم الخاصة.
بعث الإسلام مجدداً وتعميم نوره على العالم
جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ). (سورة التوبة:33)، قال: (أظَهَرَ ذلك بعد؟! كلا والذي نفسي بيده، حتى لا تبقى قرية إلا ونودي فيها بشهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بكرة وعشياً). (المحجة للبحراني ص 86).
وعن ابن عباس قال: (حتى لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا صاحب ملة إلا صار إلى الإسلام. وحتى ترفع الجزية ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، وهو قوله تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، وذلك يكون عند قيام القائم) (المحجة 87)، ومعنى ترفع الجزية، أنه لا يقبل من أهل الكتاب إلا الإسلام.
وعن أبي بصير (ره) قال: سألت الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، فقال: والله ما نزل تأويلها بعد. قلت جعلت فداك ومتى ينزل تأويلها؟ قال: حين يقوم القائم إن شاء الله تعالى، فإذا خرج القائم لم يبق كافر ولا مشرك إلا كره خروجه، حتى لو أن كافراً أو مشركاً في بطن صخرة لقالت الصخرة يا مؤمن في بطني كافر أو مشرك فاقتله، فيجيئه فيقتله) (المحجة: 86).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (القائم منصور بالرعب مؤيد بالنصر، تطوى له الأرض وتظهر له الكنوز، ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب، ويظهر الله (عزَّ وجلَّ) به دينه ولو كره المشركون، فلا يبقى في الأرض خراب إلا عمر، وينزل روح الله عيسى بن مريم (عليه السلام) فيصلي خلفه). (البحار:52/191).
وفي تفسير العياشي:2/87 عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال في تفسيرها: (يكون أن لا يبقى أحد إلا أقر بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)).
وفيه:2/56، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (سئل أبي (عليه السلام) عن قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّة ًكَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً... وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ)، فقال: لم يجئ تأويل هذه الآية، ولو قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية ويبلغن دين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما بلغ الليل حتى لا يكون شرك على وجه الأرض، كما قال الله تعالى).
وجاء في تفسير قوله تعالى: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)، عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (يريهم في أنفسهم المسخ، ويريهم في الآفاق انتفاض الآفاق عليهم، فيرون قدرة الله في أنفسهم وفي الآفاق. وقوله: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)، يعني بذلك خروج القائم هو الحق من الله (عزَّ وجلَّ)، يراه هذا الخلق، لابد منه). (غيبة النعماني ص143)
وعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة، يقاتل على سنتي كما قاتلت أنا على الوحي). (البيان للشافعي ص63).
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (ولا يكون ملك إلا للإسلام، وتكون الأرض كفاتور الفضة). (الملاحم والفتن ص66) أي تكون الأرض صافية نقية من الكفر والنفاق، كسبيكة الفضة النقية من المواد المغشوشة.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي. ويريهم كيف يكون عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنة). (نهج البلاغة:4/36) يعني أن المهدي (عليه السلام) يتبع القرآن ولا يحرف تفسيره بالهوى كما فعل المنحرفون قبله.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (كأني بدينكم هذا لا يزال مولياً يفحص بدمه، ثم لا يرده عليكم إلا رجل منا أهل البيت، فيعطيكم في السنة عطاءين، ويرزقكم في الشهر رزقين، وتؤتون الحكمة في زمانه حتى أن المرأة لتقضي في بيتها بكتاب الله تعالى وسنة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)). (البحار:52/ 352).
وقوله (عليه السلام): (مولياً يفحص بدمه) تصوير دقيق مؤثر لحالة الإسلام كطير مجروح يرف بجناحيه ويتخبط بدمه من ضربات الظالمين له، وتحريفهم إياه، حتى ينقذه المهدي (عليه السلام) ويحييه ويرده إلى المسلمين.
والمقصود بالعطاءين في السنة والرزقين في الشهر: العطاء من بيت المال كل ستة أشهر، وتوزيع المواد الغذائية على الناس كل أسبوعين.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (سيميت الله به كل بدعة، ويمحو كل ضلالة، ويحيي كل سنة). (الكافي:1/412).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (ولا يبقى في الأرض خراب إلا قد عمر، ولا يبقى في الأرض معبود من دون الله تعالى من صنم ووثن وغيره، إلا وقعت فيه نار فاحترق). (كمال الدين ص331).
العوامل المساعدة للإمام المهدي (عليه السلام) في هداية الشعوب
من الطبيعي أن يتساءل المرء: كيف سيتمكن الإمام المهدي (عليه السلام) من تعميم الإسلام على الشعوب غير المسلمة، مع ما هي فيه من حياة مادية بعيدة عن الايمان والقيم الروحية، ونظرة سيئة إلى الإسلام والمسلمين؟!
لكن ينبغي الإلتفات إلى عوامل كثيرة عقائدية وسياسية واقتصادية تساعد الإمام المهدي (عليه السلام) في دعوته، تقدم بعضها في حركة ظهوره (عليه السلام).
فمن ذلك أن شعوب العالم تكون قد جربت - وقد جربت - الحياة المادية البعيدة عن الدين، ولمست لمس اليد فراغها وعدم تلبيتها لفطرة الإنسان وإنسانيته. وهي حقيقة يعاني منها الغربيون ويجهرون بها!
ومنها، أن الإسلام دين الفطرة، ولو فسح الحكام لنوره أن يصل إلى شعوبهم على يد علماء ومؤمنين صادقين، لدخل الناس فيه أفواجاً.
ومنها، الآيات والمعجزات التي تظهر لشعوب العالم على يد المهدي (عليه السلام)، ومن أبرزها النداء السماوي كما تقدم.
وهذه الآيات وإن كان تأثيرها على الحكام موقتاً أو ضعيفاً أو معدوماً ولكنها تؤثر على شعوبهم بنسب مختلفة.
ولعل من أهم عوامل التأثير عليهم انتصارات الإمام المهدي (عليه السلام) المتوالية، لأن من طبع الشعوب الغربية أنها تحب القوي المنتصر وتقدسه، حتى لو كان عدوها. فكيف إذا كانت له كرامات ومعجزات.
ومنها، نزول المسيح (عليه السلام) وما يظهره الله تعالى على يده من آيات ومعجزات للشعوب الغربية وشعوب العالم، بل إن دوره الأساسي وعمله الأساسي يكون بينهم، ومن الطبيعي أن تفرح به الشعوب الغربية وحكامها ويؤمن به الجميع أول الأمر، حتى إذا بدأ يظهر ميله إلى الإمام المهدي (عليه السلام) والإسلام تبدأ الحكومات الغربية بالتشكيك والتشويش عليه، وتنحسر موجة تأييده العارمة، ويبقى أنصاره من الشعوب الغربية، ويحدث فيهم التحول العقائدي والسياسي حتى يكونون تياراً في بلادهم.
ومنها، العوامل الإقتصادية، وما يصل اليه العالم من الغنى والرفاهية على يد
الإمام المهدي (عليه السلام) فينعم الناس في زمنه نعمة لا سابقة لها في تاريخ الأرض وشعوبها، كما تذكر الأحاديث الشريفة، ومن الطبيعي أن يكون لذلك تأثير هام على تلك الشعوب.
وهذه لمحات عن الحياة في عصر المهدي (عليه السلام):
تطوير الإمام (عليه السلام) للحياة المادية والرفاهية:
من الأمور البارزة في أحاديث المهدي (عليه السلام) التقدم التكنولوجي في الدولة العالمية التي يقيمها، فإن نوع الحياة المادية التي تتحدث عنها النصوص الشريفة في عصره (عليه السلام)، أعظم من كل ما عرفناه في عصرنا، ومما قد يتوصل اليه تطور العلوم بالجهود البشرية العادية. وفيما يلي بعض ما ورد في ذلك:
يستخرج كنوز الأرض ويقسمها على الناس:
والأحاديث في ذلك كثيرة، منها ما ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (تخرج له الأرض أفلاذ أكبادها، ويحثو المال حثواً ولا يعده عداً). (البحار:51/68).
وأفلاذ أكبادها أي كنوزها،وفي رواية: (حتى يخرج منها مثل الأسطوانة ذهباً).
وحديث يحثو المال حثواً أو حثياً ولا يعده عداً، مشهور في مصادر الفريقين، وهو يدل على الرخاء الإقتصادي الذي لا سابقة له، وعلى نفسية الإمام المهدي (عليه السلام) السخية، المحبة للناس.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إذا قائم أهل البيت قسم بالسوية، وعدل في الرعية. فمن أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، ويستخرج التوراة وسائر كتب الله (عزَّ وجلَّ) من غار بأنطاكية، ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل القرآن بالقرآن.
وتجمع إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء الحرام، وركبتم فيه ما حرم الله (عزَّ وجلَّ). فيعطي شيئاً لم يعطه أحد قبله، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً، كما ملئت ظلماً وجوراً وشراً). (البحار:52/351).
تنعم الأمة في زمانه وتعمر الأرض:
عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (تنعم أمتي في زمن المهدي نعمة لم ينعموا مثلها قط. ترسل السماء عليهم مدراراً، ولا تدع الأرض شيئاً من النبات إلا أخرجته). (ابن حماد ص98)
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (تأويل إليه أمته كما تأوي النحلة الى يعسوبها، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، حتى يكون الناس على مثل أمرهم الأول. لا يوقظ نائماً ولا يهريق دماً) (ابن حماد ص 99).
ولعل معنى (على مثل أمرهم الأول) أي في المجتمع الإنساني الأول عندما كانوا أمة واحدة على صفاء فطرتهم الانسانية، قبل أن يقع بينهم الاختلاف كما قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً). (سورة البقرة:213)
وهو يؤيد ما تشير إليه بعض الأحاديث من أن المجتمع يصل في عصر المهدي (عليه السلام) إلى مجتمع الغنى وعدم الحاجة، ثم إلى مجتمع المحبة وعدم الاختلاف وعدم الحاجة إلى المحاكم، ثم إلى مجتمع اللا نقد، بحيث يعمل أفراده لخدمة بعضهم قربة إلى الله تعالى ويأخذون ما يحتاجونه من بعضهم بالصلاة على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض. لا تدع السماء من قطرها شيئا إلا صبته، ولا الأرض من نباتها شيئاً إلا أخرجته، حتى يتمنى الأحياء
الأموات). (ابن حماد ص99)، أي يتمنى الأحياء أن الأموات كانوا أحياء لينعموا معهم ويروا ما رأوا.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال (ويظهر الله (عزَّ وجلَّ) به دينه ولو كره المشركون، فلا يبقى في الأرض خراب إلا عمر). (البحار:52/191).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (المهدي محبوب في الخلائق، يطفئ الله به الفتنة الصماء) (بشارة الإسلام ص 185).
وعنه (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (مدهامتان.. قال: يتصل ما بين مكة والمدينة نخلاً) (البحار:56/ 49).
وعن سعيد بن جبير قال: (إن السنة التي يقوم فيها القائم تمطر الأرض أربعاً وعشرين مطرة، ويرى آثارها وبركاتها). (كشف الغمة:3/250).
وفي مخطوطة ابن حماد ص98: (علامة المهدي: أن يكون شديداً على العمال، جواداً بالمال، رحيماً بالمساكين).
وفيها: (المهدي كأنما يلعق المساكين الزبد).
يطور العلوم الطبيعية ووسائل المعيشة:
تذكر أحاديث المهدي (عليه السلام) عدداً من الأمور غير المألوفة للأجيال السابقة ولجيلنا المعاصر، في وسائل الإتصال التي تكون في عصره، ووسائل الرؤية، والمعرفة، ووسائل الحرب، وأساليب الإقتصاد، والحكم والقضاء، وغيرها.
ويظهر أن بعضها يكون كرامات ومعجزات يجريها الله على يديه (عليه السلام).
ولكن كثيراً منها تطوير للعلوم الطبيعية واستثمار لقوانين الله تعالى ونعمه، التي
أودعها فيما حولنا من مواد الأرض والسماء.
وتدل أحاديث متعددة وتشير، إلى أن تطويره (عليه السلام) لعلوم الطبيعة سيكون قفزة في تقدم الحياة الانسانية على الأرض في جميع مرافقها. من ذلك الحديث المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (العلم سبعة وعشرون حرفاً. فجميع ما جاءت به الرسل حرفان، فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة وعشرين حرفاً فبثها في الناس، وضم إليها الحرفين حتى يبثها سبعة وعشرين حرفاً). (البحار:52/ 336).
وهو وإن كان ناظراً إلى علوم الأنبياء والرسل (عليه السلام) ولكنها تشمل مضافاً إلى العلم بالله سبحانه ورسالته والآخرة، العلوم الطبيعية التي ورد أن الأنبياء (عليهم السلام) علموا الناس بعض أصولها، ووجهوهم إليها، وفتحوا لهم جزءا من أبوابها، كما ورد من تعليم إدريس (عليه السلام) الخياطة للناس، وتعليم نوح (عليه السلام) صناعة السفن والنجارة، وتعليم داود وسليمان صناعة الدروع، وغيرها.
فالمقصود بالعلم في الحديث أعم من علوم الدين والطبيعة، والمعنى أن نسبة ما يكون في أيدي الناس من العلوم إلى ما يعلمهم إياه (عليه السلام) نسبة اثنين إلى خمس وعشرين.
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (أما إن ذا القرنين قد خير السحابين فاختار الذلول، وذخر لصاحبكم الصعب. قال قلت: وما الصعب؟ قال: ما كان فيه رعد وصاعقة أو (و) برق فصاحبكم يركبه. أما إنه سيركب السحاب، ويرقى في الأسباب، أسباب السماوات السبع والأرضين السبع، خمس عوامر، واثنتان خرابان). (البحار:52/321).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب. وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق). (البحار:52
/ 391.
وعنه (عليه السلام): (إن قائمنا إذا قام مد الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبينه بريد يكلمهم فيسمعونه وينظرون إليه وهو في مكانه) (البحار:52 /236.
وعنه (عليه السلام) قال: (إذا تناهت الأمور إلى صاحب هذا الأمر رفع الله تبارك وتعالى له كل منخفض من الأرض، وخفض له كل مرتفع، حتى تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته. فأيكم لو كانت في راحته شعرة لم يبصرها).
وروي أنه (عليه السلام) ينصب له عمود من نور من الأرض إلى السماء فيرى فيه أعمال العباد، وأن له علوما مذخورة تحت بلاطة في أهرام مصر لا يصل إليها أحد قبله). (كمال الدين ص 565).
إلى غير ذلك من الروايات التي لا يتسع المجال لاستقصائها وتفسيرها. وبعضها يتحدث عن تطور العلوم بشكل عام، وبعضها عن تطور القدرات الذهنية والوسائل الخاصة بالمؤمنين، وبعضها عن وسائل وكرامات خاصة بالإمام المهدي (عليه السلام) وأصحابه.
من ذلك ما عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (كأني بأصحاب القائم وقد أحاطوا بما بين الخافقين، ليس شيء إلا وهو مطيع لهم، حتى سباع الأرض وسباع الطير تطلب رضاهم (في) (و) كل شيء، حتى تفخر الأرض على الأرض وتقول: مرَّ بي اليوم رجل من أصحاب القائم) (البحار: 52 /327).
وفي رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إذا قام القائم بعث في أقاليم الأرض في كل إقليم رجلاً يقول: عهدك في كفك فإذا ورد عليك أمر لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه، فانظر إلى كفك واعمل بما فيها). (غيبة النعماني ص319).
وقد يكون ذلك على نحو الإعجاز والكرامة لهم، وقد يكون على أساس قواعد علمية، أو وسائل متطورة.
ملكه أعظم من ملك سليمان وذي القرنين:
يفهم من أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام) أن الدولة الإسلامية العالمية التي يقيمها أعظم من الدولة التي أقامها نبي الله سليمان وذو القرنين (عليه السلام)، وبعض الأحاديث تنص على ذلك، كالحديث المروي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إن ملكنا أعظم من ملك سليمان بن داود، وسلطاننا أعظم من سلطانه).
والحديث الآتي بأنه تسخر له أسباب لم تسخر لذي القرنين، والأحاديث التي تدل على أن عنده مواريث الأنبياء (عليهم السلام) التي منها مواريث سليمان، وأن الدنيا عنده بمنزلة، راحة كفه...
فدولة سليمان (عليه السلام) شملت فلسطين وبلاد الشام، ولكنها لم تشمل مصر وما وراءها من أفريقيا. كما أنها لم تتجاوز اليمن إلى الهند والصين وغيرها، كما تذكر الأحاديث. بل تذكر أنها لم تتجاوز مدينة إصطخر جنوب إيران.
بينما دولة المهدي (عليه السلام) تشمل كل مناطق العالم، حتى لا يبقى قرية إلا نودي فيها بالشهادتين، ولا يبقى في الأرض خراب إلا عمر، كما تنص الأحاديث الشريفة. بل تنص على شمولها للأرضين الأخرى!
ومن ناحية الإمكانات التي تسخر للمهدي (عليه السلام)، فهي تشمل الإمكانات التي سخرها الله تعالى لسليمان (عليه السلام) وتزيد عليها. سواء ما كان منها على نحو الإعجاز والكرامة الربانية، أو ما كان تطويراً للعلوم واستثماراً لإمكانات الطبيعة.
ومن ناحية مدتها، فقد كانت مدة دولة سليمان (عليه السلام) نحو نصف قرن، ثم وقع الانحراف بعد وفاته سنة931 قبل الميلاد وتمزقت الدولة، ووقعت الحرب بين
مملكتي القدس ونابلس. كما تذكر التوراة والمؤرخون.
أما دولة الإمام المهدي (عليه السلام) في حياته وبعده، فهي تستمر الى آخر الدنيا، ولا دولة بعدها! والمرجح عندنا أنه يحكم بعده المهديون من أولاده، ثم تكون رجعة بعض الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، ويحكمون إلى آخر الدنيا.
إنفتاح الإمام المهدي (عليه السلام) على الأرضين السبع
ويدل على ذلك عدة أحاديث وإشارات، من أوضحها الحديث الوارد عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (أما إن ذا القرنين قد خير السحابين فاختار الذلول وذخر لصاحبكم الصعب. قال سورة: قلت وما الصعب؟ قال: ما كان فيه رعد وصاعقة أو برق فصاحبكم يركبه. أما إنه سيركب السحاب، ويرقى في الأسباب، أسباب السماوات السبع والأرضين السبع، خمس عوامر واثنتان خرابان).
وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (أن الله خير ذا القرنين السحابين الذلول والصعب، فاختار الذلول وهو ما ليس فيه برق ولا رعد، ولو اختار الصعب لم يكن ذلك له، لأن الله ادخره للقائم (عليه السلام)). (البحار:52/321).
فهو ينص على أنه يستعمل الوسائل المتنوعة والأسباب الخاصة في الصعود والتنقل بين كواكب السماوات وعوالمها، وقد نصت الأحاديث على أنه يسخر له. سحاب فيه رعد وصاعقة أو برق. وأنه يرقى في الأسباب أسباب السماوات والأرض، وأن صعوده يشمل عوالم السماوات السبع والأرضين الست غير أرضنا.
ولا يعني ذلك أنه يستعمل هذه المصاعد والمركبات بنفسه فقط، بل قد يصل الأمر في عصره (عليه السلام) إلى أن يكون السفر إلى كواكب السماوات وإلى الأرضين الأخرى، كالسفر في عصرنا من قارة إلى قارة.
ويشير قوله (عليه السلام) بأن خمساً من الأرضين أو منها ومن السماوات معمورة، إلى أنه سيتم الإتصال بمجتمعاتها.
وقد وردت أحاديث شريفة متعددة في أنه توجد في السماوات كواكب كثيرة عامرة بمجتمعات من مخلوقات الله تعالى، من غير نوع الانسان والملائكة والجن. وقد أوردها العلامة المجلسي (عليه السلام) في بحار الأنوار.
كما دلت على إمكانية ذلك عدة آيات قرآنية كقوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لاتَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ). (الرحمن:33)، وهذا يعني أن الحياة على الأرض سوف تدخل في عصره (عليه السلام) مرحلة جديدة، تختلف عن كل ما سبقها من مراحل.
ولا يتسع المجال لبسط الكلام في ذلك.
الإنفتاح على عالم الآخرة والجنة
من أعمق أنواع الحركة التي يعيش فيها عالمنا بزمانه ومكانه وأشيائه، حركة عالم الشهادة نحو عالم الغيب أو العكس، التي يكشف عنها القرآن والإسلام ويؤكد على الإهتمام بها والإنسجام معها، ويسميها حركة رجوع الانسان إلى الله تعالى، ولقائه به، أو ذهابه إلى الملأ الأعلى والآخرة.
ويسميها على مستوى العالم مجيء الساعة، والقيامة، حيث تتحقق الوحدة بين عالمنا وعوالم الغيب الواسعة المحجوبة عنا.
فذروة هذه الحركة بالنسبة إلى الانسان الموت، الذي هو بمفهوم الإسلام دخول في حياة أوسع، وليس كما يتصوره العوام فناءً وعدماً، وذروتها بالنسبة إلى الكون: القيامة، واتحاد عالمي الشهادة والغيب.
وقد ورد في القرآن والسنة أن مجئ القيامة والساعة له مقدمات وأشراط
متسلسلة تحدث في الأرض والسماء، ومجتمع الإنسان.
ودولة المهدي (عليه السلام) آخر مرحلة وأعظم مرحلة في حياة الأرض قبل أشراط الساعة، التي تبدأ بعدها. فكيف تبدأ؟
الذي يترجح في نظري أن الانفتاح على عوالم السماء الذي تتحدث الروايات أنه يتم في عصر الإمام المهدي (عليه السلام)، يكون مقدمة لانفتاح أكبر على الآخرة والجنة. وأن الروايات التي تتحدث عن (الرجعة) وعودة عدد من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الى الأرض وأنهم يحكمون بعد المهدي (عليه السلام)، تقصد هذه المرحلة. وكذا الآيات المتعددة التي ورد تفسيرها بـ (الرجعة).
والاعتقاد بالرجعة وإن لم يكن من ضروريات الإسلام، والشك فيه لا يُخرج الانسان عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، لكن أحاديثها تبلغ من الكثرة والوثاقة ما يوجب الإعتقاد بها.
ويذكر بعضها أن الرجعة تبدأ بعد حكم المهدي (عليه السلام) وحكم أحد عشر مهدياً بعده، ففي غيبة الطوس ص299 عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن منا بعد القائم أحد عشر مهدياً من ولد الحسين (عليه السلام)).
وهذه نماذج من أحاديث الرجعة:
عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)؟ قال: يرجع إليكم نبيكم (صلّى الله عليه وآله وسلم)). (البحار:53/ 56).
وعن أبي بصير قال: (قال لي أبو جعفر، أي الإمام الباقر (عليه السلام): ينكر أهل العراق الرجعة؟ قلت نعم. قال: أما يقرؤون القرآن) (البحار:53/ 40).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ)؟ فقال: ما يقول الناس فيها؟ قلت يقولون إنها في
القيامة. فقال: يحشر الله في القيامة من كل أمة فوجاً ويترك الباقين؟! إنما ذلك في الرجعة، فأما آية القيامة فهذه: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً..) الى قوله: (موعداً)). (البحار:53/40).
وعن زرارة، قال سألت أبا عبد الله أي الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذه الأمور العظام من الرجعة وأشباهها فقال: (إن هذا الذي تسألون عنه لم يجئ أوانه: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)). (البحار:53/40).
وذكرت بعض الروايات أن رجعة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) تكون بعد رجعة الأئمة (عليهم السلام) وأن أول من يرجع منهم الإمام الحسين (عليه السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال:
(أول من يرجع إلى الدنيا الحسين بن علي (عليه السلام) فيملك حتى يسقط حاجباه على عينيه من الكبر). (البحار:53/ 46).
وفي رواية عنه (عليه السلام) قال: (وإن الرجعة ليست بعامة وهي خاصة، لا يرجع إلا من محض الايمان محضاً، أو محض الشرك محضاً). ((البحار:53/ 36).
عقيدة الشيعة في الإمام المهدي (عليه السلام)
الاعتقاد بإمامة الأئمة الإثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) من أصول مذهبنا، بل هو محوره الذي سمي لأجله (المذهب الإمامي، ومذهب التشيع، ومذهب أهل البيت (عليهم السلام). وسمينا لأجله (الإمامية، والشيعة، شيعة أهل البيت (عليهم السلام)).
وأول الأئمة الأوصياء المعصومين عندنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وخاتمهم الإمام المهدي المنتظر محمد بن الحسن العسكري (عليه السلام)، الذي ولد في سنة 255 هجرية في سامراء، ثم مدَّ الله في عمره وغيَّبه إلى أن ينجز به وعده ويظهره، ويظهر به دينه على الدين كله، ويملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوْراً.
فالاعتقاد بأن المهدي الموعود (عليه السلام) هو الإمام الثاني عشر، وأنه حيٌّ غائب جزء من مذهبنا. وبدونه لا يكون المسلم شيعياً اثني عشرياً، بل مسلماً سنياً، أو شيعياً زيدياً، أو إسماعيلياً.
ويستغرب بعض إخواننا اعتقادنا بإمامة الأئمة (عليهم السلام) وبعصمتهم، وبغيبة المهدي المنتظر أرواحنا فداه. ولكن الميزان في الأمور الممكنة ليس هو الإستبعاد ولا الإستحسان، بل ثبوت النص عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وقد ثبتت عندنا النصوص المتواترة القطعية، الدالة على إمامته وغيبته (عليه السلام). ومتى ثبت النص وقام الدليل،
فعلى المسلم أن يقبله ويتعبد به، وعلى الآخرين أن يعذروه أو يقنعوه. ورحم الله القائل: نحن أتباع الدليل... حيث ما مال نميل
وإخواننا السنة وإن لم يوافقونا على انطباق المهدي الموعود على الإمام محمد بن الحسن العسكري (عليه السلام)، إلا أنهم يوافقوننا تقريباً على كل ما ورد بشأنه من الأحاديث الشريفة، من البشارة به، وحركة ظهوره، وتجديد الإسلام على يده وشموله العالم، حتى أنك تجد أحاديثه (عليه السلام) واحدة أو متقاربة في مصادر الفريقين، كما رأيت من مصادرنا، وترى من عقيدتهم.
على أن عدداً من علماء السنة يوافقنا أي على أنه هو الإمام محمد بن الحسن العسكري (عليه السلام)، مثل الشعراني وابن عربي وغيرهم، ممن صرحوا بإسمه ونسبه، وثبت عندهم أنه حيٌّ غائب (عليه السلام). وقد ذكر أسماء مجموعة منهم صاحب كتاب (المهدي الموعود).
وهذا الإشتراك في عقيدة المهدي (عليه السلام) بين جميع المسلمين، يجب أن يستثمره العلماء والعاملون لنهضة الأمة، لأنه عقيدة ذات تأثير حيوي في جماهير المسلمين، من شأنها أن ترفع مستوى إيمانهم بالغيب، وبوعد الله تعالى لهم بالنصر، وترفع معنوياتهم في مقاومة أعدائهم، والتمهيد لإمامهم الموعود (عليه السلام).
ولا يصح أن يكون عدم ثبوت انطباقه عندهم على الإمام محمد بن الحسن (عليه السلام)، موجباً لانتقاد من يعتقد بذلك، ويتقرب به إلى الله تعالى.
وليس غرضنا هنا أن نطرح بحثاً كلامياً في عقيدتنا في الإمام المهدي (عليه السلام). بل أن نعطي فكرة عن هذه الروحية الفياضة التي تعيش بها أوساطنا الشيعية عقيدة المهدي (عليه السلام) التي كونت في ضمير المسلم الشيعي عبر الأجيال وتربية الآباء
والأمهات، مخزوناً عظيماً من الحب والتقديس والتطلع إلى ظهوره (عليه السلام).
فالإمام المهدي أرواحنا فداه هو بقية الله في أرضه من أهل بيت النبوة، وخاتم الأوصياء والأئمة (عليهم السلام)، وأمين الله على قرآنه ووحيه، ومشكاة نوره في أرضه. ففي شخصيته تتجسد كل قيم الإسلام ومثله، وشبَه النبوة وامتداد نورها.
وفي غيبته تكمن معان كبيرة، من الحكم والأسرار الإلهية، ومظلومية الأنبياء والأولياء والمؤمنين، على يد حكام الظلم وسلاطين الجور.
وفي الوعد النبوي بظهوره، تخضرُّ آمال المؤمنين، وتنتعش قلوبهم المهمومة، وتقبض أكفهم على الراية، وإن عتت العواصف، وطال الطريق. فهم وصاحبها على ميعاد.
ولئن كان الشيعة معروفين بغنى حياتهم الروحية مع النبي وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فإن شخصية الإمام المهدي أرواحنا فداه ومهمته الموعودة، بجاذبيتها الخاصة، رافد حيوي في إغناء روح الشيعي بالأمل والحب والحنين.
ينتقد البعض شدة احترام الشيعة لعلمائهم، بينما يعجب به آخرون ويقدرونه. ويزداد الإعجاب أو الإنتقاد إذا رأوا احترام الشيعة لمرجع التقليد نائب الإمام المهدي أرواحنا فداه، وتقديسهم له وتقيدهم بفتواه.
أما إذا وصل الأمر إلى الأئمة المعصومين (عليه السلام) فيتهمنا البعض بالمبالغة والمغالاة، ويفرط في التهمة فيقول إن الشيعة يؤلهون النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) والمراجع.. ويعبدونهم، والعياذ بالله.
لكن المشكلة ليست في شدة احترام الشيعة وإطاعتهم وتقديسهم لعلمائهم وأئمتهم، بل هي في الواقع ابتعادنا جميعاً عن النظرة الإسلامية إلى الإنسان
والتعامل بها معه.
نلاحظ في القرآن الكريم ثلاثة مذاهب في مسألة قيمة الانسان: المذاهب البدوي الذي تذكره آيات الأعراب والمنادين من وراء الحجرات..
والمذهب المادي الذي تذكره آيات أعداء الأنبياء (عليهم السلام) وأصحاب الحضارات المادية.
والمذهب الإسلامي، الذي تذكره آيات تكريم الإنسان والتوجيه إلى عالمه العقلي والروحي والعملي.
وأحسبنا في عالمنا الإسلامي نعيش تأثيرات كثيرة للبداوة وللمادية الغربية في نظرتنا إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) والأولياء والشهداء والمؤمنين، وإلى جمهورنا وشعوبنا الإسلامية. بل إلى أنفسنا أيضاً!
لقد أوجد الإنحطاط الحضاري والتسلط الغربي في مجتمعاتنا ظروفاً قاسية سياسية واقتصادية واجتماعية، لم تعد معها حياة الانسان المسلم في أصلها محترمة، فكيف نطمح إلى احترام أبعاد وجوده الأخرى وتقديسها؟!
كما حول أذهاننا إلى أذهان بدوية تنزع دائماً إلى (السطحية) وتعادي العمق والجمع والتركيب، فترانا نريد الشيء ببعد واحد، ونرفض أن تكون له أبعاد متعددة في آن. ونريد في قلوبنا لوناً واحداً من العاطفة، ولا نسمح لها أن تحمل ألواناً متعددة في آن.
وبهذا صرنا نرى في الأولياء والأئمة والأنبياء صلوات الله عليهم، ظاهر أمرهم وحالهم، ولا نرى قممهم الشامخة، وعوالمهم العقلية والروحية العالية.
فإذا رأى أحد شيئاً من ذلك نقول عنه مغال، وإذا جاش بذلك عقله أو قلبه نقول مجنون أو منحرف!
ويبلغ الأمر أقصى خطورته عندما نلبسه ثوباً دينياً فنقاوم تقديس الأولياء والأئمة والأنبياء (عليهم السلام) بحجة أنه يتنافى مع تقديس الله تعالى وتوحيده!!
فكأن معنى أنهم بشر صلوات الله عليهم أن نفهمهم ببداوة خشنة، ونجعلهم حفنة من رمل الصحراء. وكأن الأمر يدور بين رمل الصحراء والسماء، ولا ثالث. فلا رياض ولا أنهار، ولا روابي ولا قمم!
وكأن مثل النور الإلهي الذي حدثنا عنه الله تعالى في سورة النور: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) موجودة في غير أرضنا، ومتجسد في غير هؤلاء العظماء، صلوات الله عليهم.
أعتقد أنه كلما تقدمت المعرفة بالفلاسفة والمفكرين والعلماء، اكتشفوا أبعاداً جديدة في كلام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، وعرفوا قيمته وقيمتهم أكثر، وعرفوا أن شخصية المعصوم يجب أن تفهم من كلام المعصوم!
صحيح أن الله تعالى قال لنبيه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قل للناس أنا بشر مثلكم: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ). (سورة فصلت:6)، لكنه قال لنا بذلك إن النبي مثلنا وليس مثلنا! وإن شخصيته مركبة من جنبة بشرية يعاملنا بها، وجنبة غيبية يتلقى بها الوحي والعلم من رب العالمين!
وأنى لنا أن نفهم بفكرنا وعقولنا جنبة الغيب في شخصيته، إلا بكلام المعصوم الذي له نافذة مفتوحة على الغيب؟!
بل حتى المثلية في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)، تعني أنه من وسطكم يعرف تفكيركم وشعوركم ويدرك مشكلاتكم، ولا تعني أنه مثلنا بمستوانا ونوع تفكيرنا ومشاعرنا، فإن له (صلّى الله عليه وآله وسلم) تفكيره ومشاعره وعالمه الأعلى الذي لا نرتقي اليه، كما أنه لا ينزل الى عوالمنا الدنيا!
فالنبي إذن بسبب رقيِّ فكره ومشاعره ليس مثلنا، وبسبب أن شخصيته مفتوحة على الغيب، ليس مثلنا!
فماذا بقي من المثلية التي تمكننا من الإحاطة بحقيقة شخصيته (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟!
وكذلك هي شخصيات المعصومين من عترته (عليه السلام).
ومن هنا نعرف لماذا اختار الله تعالى لفظ البشرية للمثلية، دون الإنسانية!
أعتقد أنه قد آن لنا أن نجد ذاتنا الإسلامية وإنساننا المسلم، ونجد من جديد نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأئمتنا (عليه السلام)، وأن نرفض السطحية البدوية التي روج لها المتمسلفون في فهم النبي وآله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأن ونتعامل معهم بما يليق بغنى شخصياتهم الربانية، ومقاماتهم العالية، لتمتلئ قلوبنا مجدداً بمخزون الحب والعشق المقدس لهم، الذي يهيؤنا ويفتح لنا باب الحب والعشق الأكبر لمولاهم ومولانا تبارك وتعالى.
إن على الذي تحجبه الشجرة عن الغابة أن يعذر من يرى الشجرة والغابة معاً، والجبال والسماء فوقها! ومن يتصور أن تقديس الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، والعيش في عوالمهم، مانعاً عن تقديس الله تعالى وتوحيده، عليه أن يعذر من يرى ذلك درجات من التعظيم شرعها الإسلام، لتنتظم بها الحياة، وتفتح الطريق إلى تعظيم وتقديس وتسبيح الذي ليس كمثله شيء، تبارك وتعالى.
مقام الإمام المهدي (عليه السلام) عند الله تعالى
من المناسب قبل أن نقدم مقطوعات من الأحاديث والأدعية والزيارات كنماذج عن عقيدتنا بالإمام المهدي أرواحنا فداه، ومشاعرنا نحوه، أن نذكر شيئاً من الأحاديث التي وردت في مقامه (عليه السلام) عند الله تعالى.
فقد ورد في مصادر الفريقين أن مقامه عظيمٌ عند الله تعالى، وأنه من كبار سادة أهل الجنة، وأنه طاووس أهل الجنة، وأن عليه من نور الله تعالى جلابيب نور تتوقد، وأنه ملهمٌ مهديٌّ من الله تعالى وإن لم يكن نبياً، وأن الله تعالى يجري على يديه كثيراً من الكرامات والآيات والمعجزات.
بل يدل الحديث المعروف الذي صححه علماء الشيعة والسنة، على أنه أرواحنا فداه في مصاف الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم.
فعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة، أنا وحمزة وعلي والحسن والحسين والمهدي) (الغيبة للطوسي 13، وصواعق ابن حجر 158).
وقد وردت في مصادرنا أحاديث مفصلة في فضائل الأئمة الاثني عشر (عليه السلام) ومقامهم العظيم عند الله تعالى، ومنها أحاديث خاصة بالإمام المهدي المنتظر أرواحنا فداه، وأنه نور الله في أرضه، وحجته على خلقه، والقائم بالحق، وخليفة الله في الأرض، وشريك القرآن في وجوب الطاعة، ومعدن علم الله تعالى ومستودع سره. إلى آخر ما فصلته كتب العقائد والتفسير والحديث.
وقال أكثر علمائنا بتفضيله على بقية الأئمة بعد أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليه السلام)، ووردت به الرواية.
وقد ورد عند السنة تفضيله على أبي بكر وعمر، فعن ابن سيرين، قيل له: (المهدي خير أو أبو بكر وعمر؟ قال: أخير منهما ويعدل بنبي) (ابن حماد ص 98).
من كلمات الأئمة في الإمام المهدي (عليه السلام)
من الملفت في هذا المجال أن نجد أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا في طليعة المعبرين عن مشاعرهم وحبهم للإمام المهدي (عليه السلام) قبل ولادته، إيماناً بوعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) به،
وتطلعاً إلى ولدهم الموعود، وما سيحققه الله تعالى على يده.
ونكتفي من ذلك بذكر كلمات عن الإمام علي والإمام الصادق (عليه السلام).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
(ألا إن مثل آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، كمثل نجوم السماء: إذا خوى نجم طلع نجم. فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون). (نهج البلاغة خطبة 100).
وقال (عليه السلام): (فانظروا أهل بيت نبيكم، فإن لبدوا فالبدوا، وإن استنصروكم فانصروهم. فليفرجن الله بغتةً برجل منا أهل البيت، بأبي ابن خيرة الإماء، لا يعطيهم إلا السيف، هرجاً هرجاً موضوعاً على عاقته ثمانية أشهر، حتى تقول قريش لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا)
(يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدي على الهوى. ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي. وتخرج له الأرض أفاليذ أكبادها، وتلقي إليه سلما مقاليدها. فيريكم كيف عدل السيرة. ويحيي ميت الكتاب والسنة) (خطبة 138).
(قد لبس للحكمة جنتها، وأخذ بجميع أدبها، من الإقبال عليها والتفرغ لها، فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها، وحاجته التي يسأل عنها. فهو مغترب إذا اغترب الإسلام، وضرب بعسيب ذنبه، وألصق الأرض بجرانه. بقيةٌ من بقايا حجته، خليفةٌ من خلائف أنبيائه). (خطبة 182).
عن سدير الصير في قال: دخلت أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب، على مولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) فرأيناه جالساً على التراب وعليه مسح خيبري مطوق بلا جيب مقصر الكمين، وهو يبكي بكاء الواله الثكلى، ذات الكبد الحرى، قد نال الحزن من وجنتيه، وشاع التغير في عارضيه،
وأبلى الدموع محجريه، وهو يقول:
سيدي، غيبتك نفت رقادي، وضيقت علي مهادي، وأسرت مني راحة فؤادي. سيدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد، فما أحس بدمعة ترقأ من عيني، وأنين يفتر من صدري..
قال سدير: فاستطارت عقولنا ولهاً وتصدعت قلوبنا جزعاً من ذلك الخطب الهائل والحادث الغائل، وظننا أنه سمة لمكروهة قارعة، أو حلت به من الدهر بائقة، فقلنا: لا أبكى الله يا ابن خير الورى عينيك، من أي حادثة تستنزف دمعتك، وتستمطر عبرتك، وأيه حالة حتمت عليك هذا المأتم؟!
قال: فزفر الصادق (عليه السلام) زفرة انتفخ منها جوفه واشتد منها خوفه وقال: ويلكم إني نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم، وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، الذي خص الله تقدس اسمه به محمداً والأئمة من بعده (صلّى الله عليه وآله وسلم) وتأملت فيه مولد قائمنا وغيبته، وإبطائه وطول عمره وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان، وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته، وارتداد أكثرهم عن دينهم،وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم، التي قال الله تقدس ذكره: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)، الولاية، فأخذتني الرقة، واستولت علي الأحزان.
فقلنا: يا بن رسول الله كرمنا وشرفنا باشراكك إيانا في بعض ما أنت تعلمه من علم.
قال: إن الله تبارك وتعالى أدار في القائم منا ثلاثة أدارها في ثلاثة من الرسل، قدر مولده تقدير مولد موسى (عليه السلام)، وقدر غيبته تقدير غيبة عيسى (عليه السلام)، وقدر إبطاءه تقدير إبطاء نوح (عليه السلام) وجعل من بعد ذلك عمر العبد الصالح أعني الخضر دليلاً على عمره.
فقلت: إكشف لنا يا بن رسول الله عن وجوه هذه المعاني.
قال: أما مولد موسى فإن فرعون لما وقف على أن زوال ملكه على يده أمر بإحضار الكهنة فدلوه على نسبه وأنه يكون من بني إسرائيل، ولم يزل يأمر أصحابه بشق بطون الحوامل من بني إسرائيل حتى قتل في طلبه نيفاً وعشرين ألف مولد، وتعذر
عليه الوصول إلى قتل موسى لحفظ الله تبارك وتعالى إياه.
كذلك بنو أمية وبنو العباس لما وقفوا على أن زوال ملكهم والأمراء والجبابرة منهم على يد القائم منا، ناصبونا العداوة، ووضعوا سيوفهم في قتل آل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى قتل القائم (عليه السلام)، ويأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة، إلى أن يتم نوره ولو كره المشركون.
وأما غيبة عيسى (عليه السلام) فإن اليهود والنصارى اتفقت على أنه قتل، وكذبهم الله (عزَّ وجلَّ) بقوله: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) كذلك غيبة القائم (عليه السلام) فإن الأمة تنكرها لطولها.
وأما إبطاء نوح (عليه السلام) فإنه لما استنزل العقوبة على قومه من السماء، بعث الله (عزَّ وجلَّ) جبرئيل الروح الأمين بسبعة نويات فقال: يا نبي الله إن الله تبارك وتعالى يقول لك: إن هؤلاء خلائقي وعبادي ولست أبيدهم بصاعقة من صواعقي إلا بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجة، فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك فإني مثيبك عليه، واغرس هذا النوى فإن لك في نباتها وبلوغها وإدراكها إذا أثمرت الفرج والخلاص، فبشر بذلك من تبعك من المؤمنين. فلما نبتت الأشجار وتأزرت وتسوقت وتغصنت وأثمرت وزهى الثمر عليها بعد زمن طويل، استنجز من الله سبحانه وتعالى العدة، فأمره الله تبارك وتعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار ويعاود الصبر والإجتهاد، ويؤكد الحجة على قومه، فأخبر بذلك الطوائف التي آمنت به، فارتد منهم ثلاث مائة رجل وقالوا: ولو كان ما يدعيه نوح حقاً لما وقع في وعد ربه خلف.
ثم إن الله تبارك وتعالى لم يزل يأمره عند كل مرة أن يغرسها تارة بعد أخرى، إلى أن غرسها سبع مرات، فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتد منهم طائفة، إلى أن عاد إلى نيف وسبعين رجلاً، فأوحى الله (عزَّ وجلَّ) عند ذلك إليه وقال: يا نوح الآن أسفر الصبح عن الليل لعينك، حين صرح الحق عن محضه وصفي من الكدر، بارتداد كل من كانت طينته خبيثة..
قال الصادق (عليه السلام): (وكذلك القائم (عليه السلام) تمتد أيام غيبته ليصرح الحق عن محضه، ويصفوا الايمان من الكدر). (البحار:51/ 219 - 222).
نماذج من الأدعية له وزيارته (عليه السلام)
(اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة، ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتعه فيها طويلا).
(اللهم وصل على ولي أمرك، القائم المؤمل، والعدل المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده منك بروح القدس يا رب العالمين.
اللهم اجعله الداعيَ إلى كتابك، والقائمَ بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مَكِّنْ له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً، يعبدك لا يشرك بك شيئاً. اللهم أعزه وأعزز به، وانصره وانتصر به، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لدنك سلطاناً نصيراً. اللهم أظهر به دينك وسنة نبيك (صلّى الله عليه وآله وسلم)، حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق.
اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة.
اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه. اللهم الْمُمْ به شعثنا، واشعب به صدعنا، وارتق به فتقنا، وكثر به قلتنا، وأعزز به ذلتنا، وأغن به عائلنا، واقض به عن مغرمنا، واجبر به فقرنا، وسد به خلتنا، ويسر به عسرنا، وبيض به وجوهنا، وفك به أسرنا، وأنجح به طلبتنا، وأنجز به مواعيدنا، واستجب به دعوتنا وأعطنا به سؤلنا، وبلغنا به من الدنيا والآخرة آمالنا، وأعطنا به فوق رغبتنا.
يا خير المسؤولين وأوسع المعطين، إشف به صدورنا، وأذهب به غيظ قلوبنا،
واهدنا به لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وانصرنا به على عدوك وعدونا إله الحق آمين.
اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا صلواتك عليه وآله، وغيبة ولينا، وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصل على محمد وآل محمد، وأعنا على ذلك كله بفتح منك تعجله، وضر تكشفه ونصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها، برحمتك يا أرحم الراحمين.
(اللهم صلِّ على محمد وعليهم صلاةً كثيرةً دائمةً طيبة، لا يحبط بها إلا أنت، ولا يسعها إلا علمك، ولا يحصيها أحد غيرك.
اللهم صلى على وليك المحيي سنتك، القائم بأمرك، الداعي إليك، الدليل عليك، وحجتك على خلقك، وخليفتك في أمرك، وشاهدك على عبادك. اللهم أعزَّ نصره، ومُدَّ عمره، وزيِّنْ الأرض بطول بقائه.
اللهم اكفه بغي الحاسدين، وأعذه من شر الكائدين، وازجر عنه إرادة الظالمين، وخلصه من أيدي الجبارين. اللهم أعطه في نفسه وذريته وشيعته ورعيته وخاصته وعامته وعدوه وجميع أهل الدنيا ما تَقَرُّ به عينه، وتُسَرُّ به نفسه، وبلغه أفضل أمله في الدنيا والآخرة. إنك على كل شيء قدير.
اللهم جدد به ما محي من دينك، وأحي به ما بدل من كتابك، وأظهر به ما غير من حكمك، حتى يعود دينك به وعلى يديه غضاً جديداً خالصاً مخلَصاً، لاشك فيه ولا شبهة معه، ولا باطل عنده ولا بدعة لديه.
اللهم نوره بنوره كل ظلمة، وهد بركنه كل بدعة، واهدم بعزته كل ضلالة واقصم به كل جبار، وأخمد بسيفه كل نار، وأهلك بعدله كل جبار، وأجر حكمه على كل حكم، وأذل لسلطانه كل سلطان.
اللهم أذن كل من ناواه، وأهلك كل من عاداه، وامكر بمن كاده، واستأصل من جحد حقه واستهان بأمره، وسعى في إطفاء نوره، وأراد إخماد ذكره).
(اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك، الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذا اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال، بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به، فقبلتهم وقربتهم، وقدمت لهم الذكر العلي، والثناء الجلي، وأهبطت عليهم ملائكتك، وأكرمتهم بوحيك، ورفدتهم بعلمك، وجعلتهم الذرائع إليك، والوسيلة إلى رضوانك. فبعض أسكنته جنتك إلى أن أخرجته منها. وبعض حملته في فلكك ونجيته ومن آمن معه من الهلكة برحمتك. وبعض اتخذته خليلاً، وسألك لسان صدق في الآخرين فأجبته وجعلت ذلك علياً، وبعض كلمته من جشرة تكليماً، وجعلت له من أخيه ردءاً ووزيراً. وبعض أولدته من غير أب، وآتيته البينات، وأيدته بروح القدس. وكلاً شَرَعْتَ له شريعة، ونهجْت له منهاجاً، وتخيرت له أوصياء، مستحفظاً بعد مستحفظ، من مدة إلى مدة، إقامةً لدينك، وحجةً على عبادك، ولئلا يزول الحق عن مقره، ويغلب الباطل على أهله، ولا يقول أحد: لولا أرسلت إلينا رسولاً منذراً، وأقمت لناً علماً هادياً، فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخرى.
إلى أن انتهيت بالأمر إلى حبيبك ونجيبك محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) فكان كما انتجبته، سيد من خلقته، وصفوة من اصطفيته، وأفضل من اجتبيته، وأكرم من اعتمدته، قدمته على أنبيائك، وبعثته إلى الثقلين من عبادك، وأوطأته مشارقك ومغاربك، وسخرت له البراق وعرجت به إلى سمائك، وأودعته علم ما كان وما يكون إلى انقضاء خلقك.
فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما، فليبك الباكون، وإياهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضج الضاجون، ويعج العاجون.
أين الحسن، أين الحسين، أين أبناء الحسين، صالحٌ بعد صالح، وصادقٌ بعد صادق. أين السبيلُ بعد السبيل، أين الخيرةُ بعد الخيرة، أين الشموسُ الطالعة، أين
الأقمارُ المنيرة، أين الأنجمُ الزاهرة، أين أعلامُ الدين، وقواعدُ العلم.
أين بقيةُ الله التي لا تخلو من العترة الطاهرة، أين المعدُّ لقطع دابر الظلمة، أين المنتظرُ لإقامة الأمْتِ والعِوج، أين المرتجى لإزالة الجور والعدوان، أين المدخر لتجديد الفرائض والسنن، أين المتخير لإعادة الملة والشريعة، أين المؤمّل لاحياء الكتاب وحدوده، أين محيي معالم الدين وأهله، أين قاصم شوكة المعتدين، أين هادم أبنية الشرك والنفاق.
أين معز الأولياء ومذل الأعداء، أين جامع الكلم على التقوى، أين السبب المتصل بين أهل الأرض والسما، أين صاحب يوم الفتح، وناشر رايات الهدى، أين مؤلف الشمل الصلاح والرضا، أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء، أين الطالب بدم المقتول بكربلاء.
بأبي أنت وأمي ونفسي لك الوقاء والحمى، يا بن السادة المقربين، يا ابن النجباء الأكرمين، ياابن الهداة المهتدين يا ابن الخيرة المهديين. عزيزٌ عليَّ أن أرى الخلق ولا ترى، ولا أسمع لك حسيساً ولا نجوى، عزيز علي أن لا تحيط بي دونك البلوى ولا ينالك مني ضجيج ولا شكوى. بنفسي أنت من مغيب لم يخل منا، بنفسي أنت من نازح لم ينزح عنا.
إلى متى أحار فيك يا مولاي وإلى متى. وأي خطاب أصف فيك وأي نجوى. عزيزٌ علي أن أجاب دونك وأناغى. عزيز علي أن أبكيك ويخذلك الورى. عزيزٌ على أن يجري عليك دونهم ما جرى.
هل من معين فأطيل معه العويل والبكا، هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا، هل قذيت عين فتسعدها عيني على القذى، هل إليك يا ابن أحمد سبيل فتلقى، هل يتصل يومنا منك بغده فنحظى؟ ترى أترانا نحف بك وأنت تؤم الملأ، وقد ملأت الأرض عدلاً، وأذقت أعداءك هواناً وعقاباً، واجتثثت أصول الظالمين، ونحن نقول الحمد لله رب العالمين.
اللهم أنت كشاف الكرب والبلوى، وإليك أستعدي فعندك العدوى، وأنت رب الآخرة والأولى.
اللهم ونحن عبيدك التائقون إلى وليك، المذكر بك وبنبيك، الذي خلقته لنا عصمةً وملاذاً، وأقمته لنا قواماً ومعاذاً، وجعلته للمؤمنين منا إماماً، فبلغه منا تحيةً وسلاماً.
اللهم وأقم به الحق، وادحض به الباطل، وأدِلْ به أولياءك، وأذلل به أعداءك، وصل اللهم بيننا وبينه وصلةً تؤدي إلى مرافقة سلفه، واجعلنا ممن يأخذ بحجزتهم، ويكمن في ظلهم، وأعنا على تأدية حقوقه إليه، والإجتهاد في طاعته، والإجتناب عن معصيته، وامنن علينا برضاه، وهب لنا رأفته ورحمته ودعاءه، وخير ما ننال به سعة من رحمتك، وفوزا عندك، واجعل صلواتنا به مقبولة، وذنوبنا به مغفورة، ودعاءنا به مستجاباً، واجعل أرزاقنا به مبسوطة، وهمومنا به مكفية، وحوائجنا به مقضية، وأقبل إلينا بوجهك الكريم، واقبل تقربنا إليك، وانظر إلينا نظرة رحيمة، نستكمل بها الكرامة عندك، ثم لا تصرفها عنا بجودك. واسقنا من حوض جده (صلّى الله عليه وآله وسلم)، بكأسه وبيده رَيَاً روياً، سائغاً هنياً، لا ظمأ بعده. يا أرحم الراحمين).
هذا غيض من فيض من آدابنا الشيعية وأدبنا الشيعي مع الإمام المهدي الموعود أرواحنا فداه.
كما أن للشيعة في مدحه وحبه من الشعر من قبل ولاته الى يومنا هذا، مئات القصائد، وفيها من عيون الشعر العربي، وآيات الشعر الفارسي والتركي والأوردي. وسنختم الكتاب بمقطوعات منها، إن شاء الله.
عقيدة السنة في المهدي المنتظر (عليه السلام)
يتصور البعض أن عقيدة المهدي المنتظر عقيدة خاصة بالشيعة، بينما هي عند السنة أصيلة كأصالتها عند الشيعة، لا فرق بين الجميع في ثبوت البشارة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالمهدي المنتظر (عليه السلام) ولا في مهمته العالمية، ولا في شخصيته المقدسة المتميزة، ولا في علامات ظهوره ومعالم ثورته.
وقد يكون الفرق الوحيد بشأنها أننا نحن الشيعة نعتقد بأنه هو الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري (عليه السلام) المولود سنة 255 هـ. وأن الله تعالى مد في عمره كما مد في عمر الخضر (عليه السلام) فهو حيٌّ غائب حتى يأذن الله له بالظهور.. بينما يرى غالبية علماء السنة أنه لم يثبت أنه مولود وغائب، بل سوف يولد ويحقق ما بشر به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وتظهر أصالة عقيدة المهدي عند السنة في كثرة أحاديثها في مصادرهم وأصولهم الحديثية والعقائدية، وفي فتاوى وآراء علمائهم، وفي التاريخ العلمي والسياسي لهذه العقيدة في أوساطهم عبر الأجيال.
وعلى هذا الأساس، فإن الحركات المهدية في أوساط المسلمين السنة، مثل حركة المهدي السوداني في القرن الماضي، وحركة الحرم المكي الشريف في مطلع هذا القرن، والحركات المتضمنة لأفكار مهدية بشكل بارز كحركة الجهاد والهجرة في مصر، وأمثالها من الحركات، لم تنشأ من فراغ ولا من تأثر
بأفكار الشيعة عن المهدي، كما يتصور بعضهم! فرواة أحاديث المهدي المنتظر من الصحابة والتابعين السنة لايقل عددهم عن الرواة من الشيعة. وكذلك من دونها منهم في الأصول والموسوعات الحديثية، ومن ألف فيها مؤلفاً خاصاً. ولعل أقدم مؤلف سني وصل إلينا في عقيدة المهدي هو كتاب (الفتن والملاحم) للحفاظ نعيم بن حماد المروزي المتوفى سنة 227 هـ. وهو من شيوخ البخاري وغيره من مصنفي الصحاح. وتوجد منه نسخة في مكتبة دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد الهند رقم 3187 - 83، ونسخة في المكتبة الظاهرية بدمشق رقم 62 - أدب، ونسخة في مكتبة المتحف البريطاني تقع في نحو مئتي صفحة مزدوجة، وقدتم نسخها سنة 706 هـ. ويوجد على بعض صفحاتها عبارة (وقف حسين أفندي) مما يشير إلى أنها أخذت من موقوفات تركيا. وقد سجلت في المكتبة البريطانية سنة 1924م. وهي التي نقلنا عنها في هذا الكتاب.
أما بقية المصادر الحديثية والعقائدية السنية التي تعرضت لعقيدة المهدي المنتظر أو عقدت لها فصلاً فتزيد على الخمسين مصدر، بما فيها كتب الصحاح.
وأما المؤلفات والرسائل والبحوث الخاصة بالموضوع فهي تقارب عدد المصادر.
كما أن أقدم مؤلف شيعي وصل إلينا في عقيدة المهدي أيضاً كتاب (الغيبة) أو كتاب (القائم) للفضل بن شاذان الأزدي النيشابوري المعاصر لنعيم بن حماد، والذي ألف كتابه قبل ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وغيبته!
وقد كانت نسخه متداولة بين علمائنا إلى أن فقدت في هذا القرن مع الأسف، ولكن بقي منه ما رواه العلماء في مؤلفاتهم، خاصة ما نقله العلامة
المجلسي (ره) في موسوعته (بحار الأنوار).
وعلى مر العصور كانت عقيدة المهدي المنتظر (عليه السلام) من العقائد الثابتة المتسالم عليها عند علماء السنة وجمهورهم، فإن ظهر رأي شاد ينكرها أو يشكك فيها، تصدى له العلماء والمحققون وردوه وأنكروا عليه أن يشكك في واحدة من عقائد الإسلام ثبتت بالأحاديث المتواترة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وأمامنا نموذجان ممن شكك في عقيدة المهدي فرد عليهما علماء السنة:
الأول: ابن خلدون، من علماء القرن الثامن، صاحب التاريخ المعروف.
قال في مقدمة تاريخه ص311 طبعة دار احياء التراث العربي:. (إعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية،ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته). ثم استعرض ابن خلدون ثمانية وعشرين حديثاً وردت في المهدي وناقش في بعض رجال أسانيدها، وختم مناقشاته بقوله ص322: (فهذه جملة الأحاديث التي خرجها الأئمة في شأن المهدي وخروجه في آخر الزمان، وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل والأقل منه).
ثم استعرض بعض آراء المتصوفة في المهدي المنتظر، وختم مناقشته لها بقوله ص327: (والحق الذي ينبغي أن يتقرب لديك أنه لا تتم دعوة من الدين والملك إلا بوجود شوكة عصبية تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتى يظهر أمر الله فيه. وقد قررنا ذلك من قبل بالبراهين القطعية التي أريناك هناك. وعصبية
الفاطميين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق، ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش إلا ما بقي بالحجاز في مكة وينبع بالمدينة من الطالبيين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر، وهم منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها، وهم عصائب متفرقون في مواطنهم وإماراتهم وآرائهم يبلغون آلافاً من الكثرة. فإن صح ظهور هذا المهدي فلا وجه لظهوره ودعوته إلا بأن يكون منهم ويؤلف الله بين قلوبهم في اتباعه حتى تتم له شوكة وعصبية وافية باظهار كلمته وحمل الناس عليها. وأما على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الآفاق من غير عصبية ولا شوكة إلا مجرد نسبه في أهل البيت فلا يتم ذلك ولا يمكن).
ومع أن ابن خلدون لم يجزم بنفي عقيدة المهدي المنتظر ولكنه استبعدها وناقش في عدد من أحاديثها، فقد اعتبر العلماء ذلك منه شذوذاً وتكذيباً لعقيدة إسلامية استفاضت أحاديثها وتواترت، وانتقدوه بأنه مؤرخ وليس من أهل الإختصاص في الحديث حتى يحق له الجرح والتعديل والاجتهاد.
وأوسع ما رأيت في الرد عليه كتاب (الوهم المكنون من كلام ابن خلدون) للعالم المحدث أحمد بن الصديق المغربي في أكثر من مئة وخمسين صفحة، قدم له مقدمة وافية ذكر فيها جملة من آراء أئمة الحديث في صحة أحاديث المهدي المنتظر وتواترها، ثم فند مناقشات ابن خلدون واحدة واحدة لأسانيد الأحاديث الثمان والعشرين التي ذكرها، ثم أكمل أحاديث المهدي (عليه السلام) إلى مئة حديث.
والنموذج الثاني: كتاب (لا مهدي ينتظر بعد الرسول خبر البشر) الذي نشره مؤلفه الشيخ عبد الله محمود رئيس المحاكم الشرعية في قطر، على أثر حركة المسجد الحرام وادعاء قائدها محمد عبد الله القرشي أنه المهدي المنتظر. فتصدى
لعبد الله محمود عدد من علماء الحجاز وردوا عليه، ومنهم العالم المحدث الشيخ عبد المحسن العباد المدرس بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، الذي رد عليه في بحث واف في أكثر من خمسين صفحة باسم:
(الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي) ونشره في العدد 45 من مجلة الجامعة الإسلامية - محرم 1400 هـ. وأشار في مقدمته إلى بحثه الذي كان نشره في نفس المجلة. قال:
(وعلى أثر وقوع هذا الحادث المؤلم لقلب كل مسلم (...) حصلت بعض التساؤلات عن خروج المهدي في آخر الزمان وهل صح فيه شيء من الأحاديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فأوضح بعض العلماء في الإذاعة والصحف صحة كثيرة من الأحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس إدارة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد، فقد تحدث في الإذاعة وكتب في بعض الصحف مبيناً ثبوت ذلك بالأحاديث المستفيضة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومستنكراً ما قام به هؤلاء المبطلون من الإعتداء على بيت الله الحرام.
ومنهم فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف، فقد ندد في إحدى خطب الجمعة باعتداء هذه الفئة الآثمة الظالمة وبين أنهم ومن زعموه المهدي في واد والمهدي الذي جاء ذكره في الأحاديث في واد آخر.
وحصل في مقابل ذلك أن أصدر فضيلة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود رئيس الحاكم الشرعية في دولة قطر رسالة سماها (لا مهدي ينتظر بعد الرسول خير البشر) نحا فيها منحى بعض الكتاب في القرن الرابع عشر ممن ليست لهم
خبرة بحديث رسول الله صلى الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومعرفة صحيحه وسقيمه، وفيهم من تعويله على الشبهات العقلية، وكذب بكل ما ورد في المهدي، وقال كما قالوا: إنها أحاديث خرافة، وإنها وإنها.. الخ. وقد رأيت كتابة هذه السطور مبيناً أخطاءه وأوهامه في هذه الرسالة، وموضحاً بأن القول بخروج المهدي في آخر الزمان هو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة وهو ما عليه العلماء من أهل السنة والأثر في القديم والحديث، إلا من شذ.
ومن المناسب أن أشير هنا إلى أنني سبق أن كتبت بحثاً بعنوان (عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر) وقد نشر هذا البحث في العدد الثالث من السنة الأولى من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الصادر في شهر ذي القعدة 1388 هـ. يشتمل هذا البحث على عشرة أمور:
الأول: في ذكر أسماء الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم).
الثاني: في ذكر أسماء الأئمة الذي خرجوا الأحاديث والآثار الواردة في المهدي في كتبهم.
الثالث: في ذكر العلماء الذين أفردوا مسألة المهدي بالتأليف.
الرابع: في ذكر العلماء الذي حكموا بتواتر أحاديث المهدي، وحكاية كلامهم في ذلك.
الخامس: في ذكر بعض ما ورد في الصحيحين من الأحاديث التي لها تعلق بشأن المهدي.
السادس: في ذكر بعض الأحاديث الواردة في شأن المهدي في غير الصحيحين مع الكلام على أسانيد بعضها.
السابع: في ذكر بعض العلماء الذين احتجوا بأحاديث المهدي واعتقدوا موجبها، وحكاية كلامهم في ذلك.
الثامن: في ذكر من وقفت عليه ممن حكي عنه إنكار الأحاديث في المهدي أو التردد فيها، مع مناقشة كلامه باختصار.
التاسع: في ذكر بعض ما يظن تعارضه مع الأحاديث الواردة في المهدي، والجواب على ذلك.
العاشر: كلمة ختامية في بيان أن التصديق بخروج المهدي في آخر الزمان من الإيمان بالغيب، وأن لا علاقة لعقيدة أهل السنة في المهدي بعقيدة الشيعة).انتهى.
أقول: إن بحث ابن الصديق المغربي في الرد على ابن خلدون، وبحثي الشيخ العباد المذكورين من أغنى البحوث الحديثية العقائدية عند السنة في عقيدة المهدي المنتظر (عليه السلام)، وقد كنت أرغب في نقل مقتطفات منها لولا أن الأنفع نقل آراء علماء آخرين من كتاب (الإمام المهدي عند أهل السنة) الذي أصدرته أخيراً مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بأصفهان وجمعت فيه فصولاً من كتب الحديث ورسائل مفردةً وبحوثاً حول المهدي المنتظر (عليه السلام) لأكثر من خمسين من أئمة السنة وعلمائهم.
ابن القيم الجوزية
قال في كتابه (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) بعد أن ذكر عدداً من أحاديث المهدي المنتظر: (وهذه الأحاديث أربعة أقسام: صحاح، وحسان، وغرائب، وموضوعة. وقد اختلف الناس في المهدي على أربعة أقوال:
أحدها، أنه المسيح بن مريم، وهو المهدي على الحقيقة. واحتج أصحاب هذا بحديث محمد بن خالد الجندي المتقدم (يقصد حديث لا مهدي إلا عيسى) وقد بينا حاله وأنه لا يصح، ولو صح لم يكن فيه حجة، لأن عيسى أعظم مهدي بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين الساعة.
القول الثاني، أنه المهدي الذي ولي من بني العباس وقد انتهى زمانه. واحتج أصحاب هذا القول بما رواه أحمد في مسنده: (إذا رأيتم الرايات السود قد أقبلت من خراسان فأتوها ولو حبوا على الثلج، فإن فيها خليفة الله المهدي).
وفي سنن ابن ماجة عن عبد الله بن مسعود قال: (بينما نحن عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) اغرورقت عيناه وتغير لونه، فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه! قال: إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بلاءً وتشريداً وتطريداً، حتى يأتي قوم من أهل المشرق ومعهم رايات سود، يسألون الحق فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه، حتى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي، فيملؤها قسطاً كما ملئت جوراً. فمن أدرك ذلك فليأتهم ولو حبواً على الثلج).
وهذا والذي قبله لو صح، لم يكن فيه دليل على أن المهدي الذي تولى من بني العباس هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، بل هو مهدي من جملة المهديين.
وعمر بن عبد العزيز كان مهدياً، بل هو أولى باسم المهدي منه.
فالمهدي في جانب الخير والرشد كالدجال في جانب الشر والضلال. وكما أن بين يدي الدجال الأكبر صاحب الخوارق دجالين كذابين، فكذلك بين يدي المهدي الأكبر مهديون راشدون.
القول الثالث، أنه رجل من أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلاً وأكثر الأحاديث على هذا تدل... الخ). (المصدر المذكور:1/ 289).
ابن حجر الهيثمي
قال في كتابه الصواعق المحرقة: الآية الثانية عشرة قوله تعالى: وإنه لعلَمٌ للساعة، قال مقاتل بن سليمان ومن تبعه من المفسرين إن هذه الآية نزلت في المهدي، وستأتي الأحاديث المصرحة بأنه من أهل البيت النبوي، وحينئذ ففي الآية دلالة على البركة في نسل فاطمة وعلي (رضي الله عنهما)، وأن الله ليخرج منهما كثيراً طيباً، وأن يجعل نسلهما مفاتيح الحكمة ومعادن الرحمة. وسر ذلك أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أعاذها وذريتها من الشيطان الرجيم، ودعا لعلي بمثل ذلك. وشرح ذلك كله يعلم بسياق الأحاديث الدالة عليه). (المصدر:1/420)
ابن كثير
قال في النهاية: (فصل في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان):
وهو أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، فقد نطقت به الأحاديث المروية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأنه يكون في آخر الدهر...
وقال تعقيباً على حديث (تخرج من خراسان رايات سود فلا يردها شيء حتى تنصب بإيلياء): وهذه الرايات ليست هي التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني فاستلب بها دولة بني أمية في سنة سنتين وثلاثين ومئة، بل رايات سود أخرى تأتي صحبة المهدي، وهو محمد بن عبد الله العلوي الفاطمي الحسني (رضي الله عنه)، يصلحه الله في ليلة واحدة، أي يتوب عليه ويوفقه ويلهمه ويرشده، بعد أن لم يكن كذاك. ويؤيده ناس من أهل المشرق ينصرونه، ويقيمون سلطانه ويشيدون أركانه، وتكون راياتهم سوداً أيضاً، وهو زي عليه الوقار لأن راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كانت سوداء يقال لها العقاب). (:1 /296)
جلال الدين السيوطي
قال في كتابه (الحاوي للفتاوي): أخرج ابن جرير في تفسيره، عن السدي في قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)، قال هم الروم، كانوا ظاهروا بخت نصر في خراب بيت المقدس. وفي قوله تعالى: (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ)، قال: فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها. وفي قوله: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ)، قال: أما خزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم، فذلك الخزي) (المصدر:1/354).
وقال في التعليق على حديث (لا مهدي إلا عيسى بن مريم): قال القرطبي في التذكرة: إسناده ضعيف. والأحاديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في التنصيص على خروج المهدي من عترته وأنه من عترته وأنه من ولد فاطمة، ثابتة أصح من هذا الحديث، فالحكم بها دونه. قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم السجزي: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) بمجيء المهدي، وأنه من أهل بيته، وأنه سيملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأنه يخرج معه عيسى فيساعده على قتل الدجال بباب لد بأرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة وعيسى يصلي خلفه، في طول من قصته وأمره). (المصدر:1/396).
ابن أبي الحديد المعتزلي
قال في شرح قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (وبنا يختم لا بكم): إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الزمان، وأكثر المحدثين على أنه من ولد فاطمة (عليها السلام) وأصحابنا المعتزلة لا ينكرونه، وقد صرحوا بذكره في كتبهم واعترف به شيوخهم. إلا أنه عندنا لم يخلق بعد وسيخلق. وإلى هذا المذهب يذهب
أصحاب الحديث أيضاً). (المصدر:1/146).
وقال في شرح قوله (عليه السلام): (لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها. وتلا عقيب ذلك: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
قال: والإمامية تزعم أن ذلك وعد منه بالإمام الغائب يملك الأرض في آخر الزمان. وأصحابنا يقولون إنه وعد بإمام يملك الأرض ويستولي على الممالك ولا يلزم من ذلك أنه لا بد أن يكون موجوداً. وتقول الزيدية: إنه لا بد من أن يملك الأرض فاطمي يتلوه جماعة من الفاطميين على مذهب زيد، وإن لم يكن أحد منهم الآن موجوداً). (المصدر:1/174).
وقال في شرح قوله (عليه السلام): (بأبي ابن خيرة الإماء) (أما الإمامية فيزعمون أنه إمامهم الثاني عشر وأنه ابن أمة اسمها نرجس. وأما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي يولد في مستقبل الزمان لأم ولد وليس بموجود الآن، وأنه يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وينتقم من الظالمين وينكل بهم أشد النكال) (المصدر:1/152) انتهى.
أقول: ولقد وقع فيها ابن أبي الحديد ومثله كل من يثبت هذا النص لأمير المؤمنين (عليه السلام) بأن المهدي (عليه السلام) ابن خيرة الإماء!!
فإذا لم يكن هو ابن الإمام العسكري (عليه السلام) وكان سيولد في عصرنا مثلاً، فأين الإماء، وكيف يكون ابن أم ولد وابن خيرة الإماء؟
وقال ابن أبي الحديد في شرح قوله (عليه السلام) (في سترة من الناس): هذا الكلام يدل على استتار هذا الإنسان المشار إليه، وليس ذلك بنافع للإمامية في مذهبهم، وإن ظنوا أنه تصريح بقولهم. وذلك لأنه من الجائز أن يكون هذا الإمام يخلقه الله
تعالى في آخر الزمان، ويكون مستتراً مدة وله دعاة يدعون إليه ويقررون أمره، ثم يظهر بعد ذلك الإستتار ويملك الممالك ويقهر الدول ويمهد الأرض). (المصدر: 1/ 163).
المناوي صاحب فيض القدير
قال في شرح حديث: المهدي رجل من ولدي وجهه كالكوكب الدري:قال في المطامح: حكي أنه يكون في هذه الأمة خليفة لا يفضل عليه أبو بكر).ا هـ. وأخبار المهدي كثيرة شهيرة أفردها غير واحد في التأليف. قال السمهودي: ويتحصل مما ثبت في الأخبار عنه أنه من ولد فاطمة، وفي أبي داود أنه من ولد الحسن.... ثم قال: تنبيه: أخبار المهدي لا يعارضها خبر لا مهدي إلا عيسى بن مريم، لأن المراد به كما قال القرطبي لا مهدي كاملاً معصوماً إلا عيسى... قال ابن الجوزي، قال ابن أحمد الرازي: حديث باطل ا هـ. وفيه محمد بن إبراهيم الصوري، قال: قال في الميزان عن ابن الجلاب، روى عن رواد خبراً باطلاً منكراً في ذكر المهدي، ثم ساق هذا الخبر وقال، هذا باطل). (المصدر:1/ 54).
خير الدين الآلوسي
قال في غالية المواعظ: فمنها - أي علامات الساعة - خروج المهدي رضي الله تعالى عنه على القول الأصح عند أكثر العلماء، ولا عبرة بمن أنكر مجيئه من الفضلاء. وفي مجئ المهدي أحاديث عديدة...واستعرض قسماً منها وقال: (وهذا الذي ذكرناه في أمر المهدي هو الصحيح من أقوال أهل السنة والجماعة) (المصدر:2/ 158).
الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر
قال في مقال نشرته مجلة التمدن الإسلامي بعنوان (نظرة في أحاديث المهدي): ويلحق بالأحكام العملية في صحة الاحتجاج بخبر الآحاد أشياء يخبر بها الشارع ليعلمها الناس من غير أن يتوقف صحة ايمانهم على معرفتها ومن هذا القبيل حديث المهدي. فإذا ورد حديث صحيح عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بأنه سيقع في آخر الزمان كذا، حصل به العلم، ووجب الوقوف عليه من غير حاجة إلى أن يكثر رواة هذه الحديث حتى يبلغ حد التواتر.
ولم يرد في الجامع الصحيح للإمام البخاري حديث في شأن المهدي، وإنما ورد في صحيح مسلم حديث لم يصرح فيه باسمه، وحمله بعضهم على أن المراد منه المهدي، أو المشار فيها إلى بعض صفاته. أما بقية كتب الحديث فرواها الإمام أحمد بن حنبل، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والطبراني، وأبو نعيم، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى، والدار قطني، والبيهقي، ونعيم بن حماد، وغيرهم. وجمعت هذه الأحاديث في رسائل مستقلة، مثل (العرف الوردي في حقيقة المهدي) للملا علي القاري، و(التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال
والمسيح) للشوكاني.... وقد صرح الشوكاني في رسالته المشار إليها آنفا بأن هذه الأحاديث بلغت مبلغ التواتر، قال: (والأحاديث التي أمكن الوقوف عليها، منها خمسون فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك. بل يصدق وصف التواتر على ما دونها، على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول).
يقول بعض المنكرين لأحاديث المهدي جملة: إن هذه الأحاديث من وضع الشيعة لا محالة. ويرد بأن هذه الأحاديث مروية بأسانيدها، وقد تقصينا رجال سندها فوجدناهم ممن عرفوا بالعدالة والضبط، ولم يتهمهم أحد من رجال التعديل والجرح بتشيع، مع شهرة نقدهم للرجال. وقد اتخذ مسألة المهدي كثير من القائمين لانشاء دول وسيلة إلى الوصول إلى غاياتهم، فادعوا المهدوية ليتهافت الناس على الإلتفاف حولهم. فالدولة الفاطمية قامت على هذه الدعوة، إذ زعم مؤسسها عبيد الله أنه المهدي.
ودولة الموحدين جرت على هذه الدعوة، فإن مؤسسها محمد بن تومرت أقام أمره على هذه الدعوة.
وظهر في أيام الدولة المرينية بفاس رجل يدعى التوزدي واجتمع حوله رؤساء صنهاجة، وقتل المصامتة.
وقام رجل اسمه العباس سنة 690 هـ. في نواحي الريف من المغرب وزعم أنه المهدي، واتبعته جماعة، وآل أمره إلى أنه قتل وانقطعت دعوته.
وبعد ثورة عرابي بمصر ظهر رجل في السودان يسمى محمد أحمد، ادعى أنه المهدي واتبعه قبيلة بقارة من جهينة على أنه المهدي سنة 1300 هـ. وهو الذي خلفه بعد موته التعايشي أحد زعماء البقارة.
وإذا أساء الناس فهم حديث نبوي، أو لم يحسنوا تطبيقه على وجهه الصحيح حتى وقعت جراء ذلك مفاسد، فلا ينبغي أن يكون ذلك داعياً للشك في صحة الحديث أو المبادرة إلى إنكاره، فإن النبوة حقيقة واقعة بلا شبهة، وقد ادعاها أناس كذباً وافتراء وأضلوا بدعواهم كثيراً من الناس، مثل ما يفعله طائفة القاديانية اليوم.
والألوهية ثابتة بأوضح من الشمس في كبد السماء، وقد ادعاها قوم لزعمائهم على معنى أنه جل شأنه يحل فيهم، مثلها يفعل طائفة البهائية في هذا العهد. فليس من الصواب إنكار الحق من أجل ما ألصق به من باطل). (المصدر:2/210 - 214).
الشيخ ناصر الألباني
قال في مقال في مجلة التمدن الإسلامي، في مقالة بعنوان (حول المهدي): وأما مسألة المهدي فليعلم أن في خروجه أحاديث كثيرة صحيحة، قسم كبير منها له أسانيد صحيحة. وأنا مورد هنا أمثلة منها، ثم معقب ذلك بدفع شبهة الذين طعنوا فيها (ثم ذكر أمثلة منها ومن آراء العلماء بتواترها، ثم قال: هذا ثم إن السيد رشيد (رضا) أو غيره لم يتتبعوا ما ورد في المهدي من الأحاديث حديثاً حديثاً، ولا توسعوا في طلب ما لكل حديث منها من الأسانيد. ولو فعلوا لوجدوا منها ما تقوم به الحجة، حتى في الأمور الغيبية التي يزعم البعض أنها لا تثبت إلا بحديث متواتر.
ومما يدلك على أن السيد رشيد ادعى أن أسانيد لا تخلو عن شيعي، مع أن الأمر ليس كذلك على اطلاقه، فالأحاديث الأربعة التي ذكرتها ليس فيها رجل معروف بالتشيع. على أنه لو صحت هذه الدعوى لم يقدح ذلك في صحة
الأحاديث، لأن العبرة في الصحة إنما هو الصدق والضبط، وأما الخلاف المذهبي فلا يشترط في ذلك، كما هو مقرر في مصطلح علم الحديث. ولهذا روى الشيخان في صحيحيهما لكثير من الشيعة وغيرهم من الفرق المخالفة، واحتجا بأحاديث هذا النوع.
وقد أعلها السيد بعلة أخرى وهي التعارض، وهذه علة مدفوعة لأن التعارض شرطه التساوي في قوة الثبوت، وأما نصب التعارض بين قوي وضعيف فمما لا يسوغه عاقل منصف. والتعارض المزعوم من هذا القبيل.
وخلاصة القول أن عقيدة خروج المهدي عقيدة ثابتة متواترة عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) يجب الإيمان بها لأنها من أمور الغيب، والإيمان بها من صفات المتقين كما قال تعالى (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وأن انكارها لا يصدر إلا عن جاهل أو مكابر. أسأل الله أن يتوفانا على الإيمان بها، وبكل ما صح في الكتاب والسنة). (المصدر:2/288).
العدوي المصري
قال في مشارق الأنوار: وجاء في بعض الروايات أنه ينادي عند ظهوره فوق رأسه ملك: هذا المهدي خليفة الله فاتبعوه، فيقبل عليه الناس ويُشربون حبه، وأنه يملك الأرض شرقها وغربها، وأن الذين يبايعونه أولاً بين الركن والمقام بعدد أهل بدر، ثم تأتيه أبدال الشام ونجباء مصر وعصائب أهل الشرق وأشباههم. ويبعث الله جيشاً من خراسان برايات سود نصرةً له، ثم يتوجه إلى الشام، وفي رواية إلى الكوفة، والجمع ممكن، وأن الله تعالى يؤيده بثلاثة آلاف من الملائكة، وأن أهل الكهف من أعوانه.
قال الأستاذ السيوطي: وحينئذ فسر تأخيرهم إلى هذه المدة اكرامهم بشرفهم بدخولهم في هذه الأمة، واعانتهم للخليفة الحق. وأن على مقدمة جيشه جبريل، وميكائيل على ساقته). (المصدر:2/ 62).
سعد الدين التفتازاني
قال في شرح المقاصد: خاتمة. مما يلحق بباب الإمامة خروج المهدي ونزول عيسى وهما من أشراط الساعة.... وعنه (رضي الله عنه)، أي أبي سعيد الخدري، قال: ذكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بلاء يصيب هذه الأمة حتى لايجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم، فيبعث الله رجلاً من عترتي فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. فذهب العلماء إلى أنه إمام عادل من ولد فاطمة (رضي الله عنها) يخلقه الله حين يشاء ويبعثه لنصرة دينه. وزعمت الشيعة الإمامية أنه محمد بن الحسن العسكري اختفى عن الناس خوفاً من الأعداء ولا استحالة في طول عمره كنوح ولقمان والخضر (عليه السلام)، وأنكر ذلك سائر الفرق لأنه ادعاء أمر يستبعد جداً، إذ لم يعهد في هذه الأمة مثل هذه الأعمار من غير دليل ولا أمارة). (المصدر:1/214).
القرماني الدمشقي
قال في أخبار الدول وآثار الأول: واتفق العلماء على أن المهدي هو القائم في آخر الوقت، وقد تعاضدت الأخبار على ظهوره، وتظاهرت الروايات على إشراق نوره. وستسفر ظلمة الليالي والأيام بسفوره، وتنجلي برؤيته الظلم، انجلاء الصبح عن ديجوره، ويسير عدله في الآفاق فيكون أضوء من البدر المنير في مسيره). (المصدر:1/ 463).
محي الدين بن عربي
قال في الفتوحات المكية: إعلم أيدنا الله أن لله خليفة يخرج وقد امتلأت
الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلاً، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد طول الله ذلك اليوم حتى يلي ذلك الخليفة من عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من ولد فاطمة يواطي اسمه اسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)،"يشهد الملحمة العظمى مأدبة الله بمرج عكا، يبيد الظلم وأهله، يقيم الدين فينفخ الروح في الإسلام. يعز الإسلام به بعد ذلة، ويحيا بعد موته. يضع الجزية، ويدعو إلى الله بالسيف، فمن أبى قتل، ومن نازعه خذل. يظهر من الدين ما هو عليه في نفسه ما لو كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لحكم به. يرفع المذاهب من الأرض فلا يبقى إلا الدين الخالص. أعداؤه مقلدة الفقهاء أهل الاجتهاد لما يرونه من الحكم بخلاف ما حكمت به أئمتهم، فيدخلون كرها تحت حكمه خوفاً من سيفه وسطوته، ورغبة فيما لديه.
يفرح به عامة المسلمين أكثر من خواصهم، ويبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود وكشف بتعريف إلهي.
له رجال إلهيون يقيمون دولته وينصرونه، هم الوزراء، يحملون أثقال المملكة، ويعينونه على ما قلده الله.
فشهداؤه خير الشهداء، وأمناؤه أفضل الأمناء، وأن الله يستوزر له طائفة خبأهم له في مكنون غيبه، أطلعهم كشفاً وشهوداً على الحقائق، وما هو أمر الله عليه في عباده. فبمشاورتهم يفصل ما يفصل، وهم العارفون الذين عرفوا ما ثم.
وأما هو نفسه فصاحب سيف حق وسياسة مدنية. يعرف من الله قدر ما تحتاج إليه مرتبته ومنزله، لأنه خليفة مسدد، يفهم منطق الحيوان، يسري عدله في الإنس والجان، من أسرار علم وزرائه الذين استوزرهم الله له لقوله: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، وهم على أقدام رجال من الصحابة، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهم من الأعاجم ما فيهم عربي، لكن لا يتكلمون إلا بالعربية. لهم حافظ
ليس من جنسهم ما عصى الله قط، هو أخص الوزراء وأفضل الأمناء). (المصدر:1/ 106)
الشريف البرزنجي
قال في كتابه الإشاعة في أشراط الساعة: واعلم أن الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر، فقد قال محمد بن الحسن الدستوري في كتابه مناقب الشافعي: قد تواترت الأخبار عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بذكر المهدي وأنه من أهل بيته (صلّى الله عليه وآله وسلم) ا. هـ..... جاء عن ابن سيرين أن المهدي خير من أبي بكر وعمر، قيل يا أبا بكر خير من أبي بكر وعمر!؟ قال: قد كان يفضل على بعض الأنبياء.
وعنه: لا يفضل عليه أبو بكر وعمر. قال السيوطي في العرف الوردي: هذا إسناد صحيح، وهو أخف من اللفظ الأول. قال: والأوجه عندي تأويل اللفظين على ما دل عليه حديث بل أجر خمسين منكم، لشدة الفتن في زمان المهدي.
قلت: التحقيق أن جهات التفاضل مختلفة، ولا يجوز لنا التفضيل في فرد من الأفراد على الإطلاق إلا إذا فضله النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) كذلك، فإنه قد يوجد في المفضول مزية من جهات أخر ليست في الفاضل.
وتقدم من الشيخ في الفتوحات أنه معصوم في حكمه مقتف أثر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا يخطئ أبداً. ولا شك أن هذا لم يكن في الشيخين، وأن الأمور التسعة التي مرت لم تجتمع كلها في إمام من أئمة الدين قبله. فمن هذه الجهات يجوز تفضيله عليهما، وإن كان لهما فضل الصحبة، والمشاهدة والوحي والسابقة، وغير ذلك، والله أعلم.
قال الشيخ علي القاري في المشرب الوردي في مذهب المهدي: ومما يدل على أفضليته أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) سماه خليفة الله، وأبو بكر لا يقال له إلا خليفة رسول الله). (المصدر:1/480).
مقطوعات شعرية في مدح الإمام المهدي (عليه السلام)
قصيدة للسيد الحميري (ره)
بعد عدوله من مذهب الكيسانية إلى مذهب التشيع، يخاطب بها الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وكانت الكيسانية أتباع كيسان يعتقدون أن المهدي الموعود الذي يغيب ثم يظهر هو محمد بن الحنفية.
وتدل هذه القصيدة التي قيلت قبل أكثر من مئة سنة من ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) على أصالة العقيدة فيه، وأنه يغيب مدة طويلة قبل ظهوره:
أيا راكباً نحو المدينة جرةً عَذافرةً يُطوى بها كل سَبْسَبِ
إذا ما هذاك الله عاينت جعفراً فقل لوليِّ الله وابنِ المهذب
ألا يا أمينَ الله وابن أمينه أتوب إلى الرحمان ثم تأوُّبي
إليك من الأمر الذي كنت مطنباً أحارب فيه جاهداً كل مُعْرب
إليك رددتُ الأمر غير مخالف وفِئْتُ إلى الرحمان من كل مذهب
سوى ما تراه يا بن بنت محمد فإن به عقدي وزلفى تقرُّبي
وما كان قولي في ابن خَوْلة مبطناً معاندةً مني لنسل المطيَّب
ولكن روينا عن وصي محمد وما كان فيما قال بالمتكذب
بأن وليَّ الأمر يفقد لا يرى ستيراً كفعل الخائف المترقب
فتقسم أموال الفقيد كأنما تغيُّبَهُ بين الصفيح المنصب
فيمكث حيناً ثم ينبع نبعة كنبعة جدِّي من الأفق كوكب
يسير بنصر الله من بيت ربه على سؤدد منه وأمر مسبب
يسير إلى أعدائه بلوائه فيقتلهم قتلاً كحرَّانَ مغضب
فلما روي أن ابن خولة غائبٌ صرفنا إليه قولنا لم نُكذِّب
وقلنا هو المهدي والقائم الذي يعيش به من عدله كل مُجدب
فإن قلت لا فالحق قولك والذي أمرت فحتمٌ غيرُ ما متعصب
وأشهد ربي أن قولك حجةٌ على الخلق طراً من مطيع ومذنب
بأن وليَّ الأمر والقائم الذي تطلع نفسي نحوه بتطرُّب
له غيبة لا بد من أن يغيبها فصلى عليه الله من متغيِّب
فيمكث حيناً ثم يظهر حينه فيملأ عدلاً كل شرق ومغرب
بذاك أدين الله سراً وجهرةً ولست وإن عوتبت فيه بمعتب
(ديوان السيد الحميري ص 115)
من تائية دعبل الخزاعي (ره)
التي أنشدها بحضرة الإمام الرضا (عليه السلام)
بكيتُ لرسم الدار من عرفاتِ وأذريتُ دمعَ العين بالعبراتِ
وفك عرى صبري وهاجت صبابتي رسومُ ديار أقفرت وعرات
مدارسُ آيات خلت من تلاوة ومنزلُ وحيٍ مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى وبالركن والتعريف والجمرات
ديار عليٍّ والحسينِ وجعفرٍ وحمزةَ والسجادِ ذي الثَّفنات
ديارٌ عفاها جورُ كل منابذ ولم تعفُ للأيام والسنوات
فيا وارثي علم النبي وآلَه عليكم سلامٌ دائمُ النفحات
قفا نسأل الدار التي خفَّ أهلُها متى عهدها بالصوم والصلوات؟
وأين الأولى شطتْ بهم غربةُ النوى أفانينَ في الآفاق مفترقات؟
همُ أهل ميراث النبيِّ إذا اعتزوا وهمْ خيرُ ساداتٍ وخيرُ حماة
مطاعيمُ في الإعسار في كل مشهد لقد شَرُفوا بالفضل والبركات
وما الناس إلا حاسد ومكذب ومضطغنٌ ذو إحنةٍ وترات
أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً وقد مات عطشاناً بشط فرات
إذن للطمت الخد فاطم عنده وأجريت دمع العين في الوجنات
أفاطم قومي يابنة الخير واندبي نجوم سماوات بأرض فلاة
قبور بكوفان وأخرى بطيبة وأخرى بفخٍّ نالها صلواتي
وقبر بأرض الجوزجان محله وقبر بباخمرا، لدى الغربات
وقبر ببغداد لنفس زكية تضمنها الرحمن في الغرفات
فأما الممضات التي لست بالغاً مبالغها مني بكنه صفات
نفوس لدى النهرين من أرض كربلا معرسهم فيها بشط فرات
توفوا عطاشى بالفرات، فليتني توفيت فيهم قبل حين وفاتي
إلى الله أشكو لوعة عند ذكرهم سقتني بكأس الذل والفظعات
ملامك في أهل النبي فإنهم أحباي، ما عاشوا وأهل ثقاتي
تخيرتهم رشداً لأمري فإنهم على كل حال خيرة الخِيَرات
نبذت إليهم بالمودة صادقاً وسلمت نفسي طائعاً لولاتي
فيا رب زدني من يقيني بصيرة وزد حبهم يا رب في حسناتي
سأبكيهم ما حج لله راكب وما ناح قمريٌّ على الشجرات
بنفسيَ أنتم من كهولٍ وفتية لفك عَنَاةٍ أو لحملِ ديات
أحبُّ قصيَّ الرحْمِ من أجل حبكم وأهجر فيكم أسرتي وبناتي
وأكتم حُبِّيكمْ مخافة كاشح عنيد لأهل الحق غير موات
فيا عين بكِّيهم وجودي بعبرةٍ فقد آن للتسكاب والهملات
لقد حَفَّتِ الأيام حولي بشرها وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
ألم تر أني من ثلاثين حجة أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صفرات
بنات زياد في القصور مصونة وآل رسول الله في الفلوات
سأبكيهم ما ذرَّ في الأرض شارق ونادى منادي الخير بالصلوات
وما طلعت شمس وحان غروبها وبالليل أبكيهم وبالغدوات
ديار رسول الله أصبحن بلقعاً وآل زياد تسكن الحجرات
وآل رسول الله نحفٌ جسومهم وآل زياد غلظ القصرات
إذا وتروا مدوا إلى واتريهم أكفا عن الأوتار منقبضات
فلولا الذي أرجوه في اليوم أوغد تقطع قلبي إثرهم حسرات
خروجُ إمام لا محالةَ خارجٌ يقوم على اسم الله والبركات
يُمَيِّزُ فينا كل حقٍ وباطلٍ ويجزي على النعماء والنقمات
فيا نفس طيبي ثم يا نفس أبشري فغير بعيد كل ما هو آت
ولا تجزعي من مُدة الجور إنني أرى قوتي قد آذنت بشتات
فإن قرب الرحمن من تلك مدتي وأخر من عمري بطول حياتي
شفيتُ، ولم أترك لنسيٍ رزيةً وروَّيُت منهم منصلي وقناتي
فإني من الرحمن أرجو بحبهم حياة لدى الفردوس غير بتات
عسى الله أن يأوي لذا الخلق إنه إلى كل قوم دائم اللحظات
(ديوان دعبل الخزاعي ص135)
رباعيات للبهائي العاملي المتوفى1031 هـ.
يا كراماً صبرنا عنهم محالْ إن حالي من جفاكم شر حالْ
إن أتى من حيكم ريحُ الشمال صرتُ لا أدري يميني من شمال
حبذا ريحٌ سرى من ذي سلمْ من رُبى نجدٍ وسَلْعٍ والعَلَمْ
أذهب الأحزانَ عنا والألم والأماني أدركت والهمُّ زال
يا أخلائي بحَزْوى والعقيق ما يطيقُ الهجرُ قلبي ما يطيق
هل لمشتاق إليكم من طريق أم سددتم عنه أبوابَ الوصال
لا تلوموني على فَرْط الضجر ليس قلبي من حديدٍ أو حجر
فاتَ مطلوبي ومحبوبي هجر والحشا في كل آن في اشتعال
من رأي وجدي لسكان الحجون قال ما هذا هوى هذا جنون
أيها اللُّوامُ ماذا تبتغون قلبيَ المضنى وعقلي ذو اعتقال
يا نزولاً بين جمع والصفا يا كرامَ الحيِّ يا أهلَ الوفا
كان لي قلبٌ حمولٌ للجفا ضاع مني بين هاتيك التلال
يا رعاك الله يا ريحَ الصبا إن تَجُزْ يوماً على وادي قُبا
سل أُهَيْلَ الحيِّ في تلك الربا هجرُهم هذا دلالٌ أم ملال
جيرةٌ في هجرنا قد أسرفوا حالنا من بعدهم لا يوصف
إن جَفَوْا أو واصلوا أتلفوا حبُّهُمْ في القلب باق لا يزال
هم كرامٌ ما عليهم من مزيد من يمتْ في حبهم يمضي شهيد
مثلُ مقتول لدى المولى الحميد أحمديُّ الخلْقِ محمودُ الفعال
صاحبَ العصرِ الإمامَ المنتظرْ من بما يأباه لا يجري القدر
حجةُ الله على كل البشر خيرُ أهل الأرض في كل الخصال
من إليه الكون قد ألقى القيادْ مجرياً أحكامه فيما أراد
إن تزل عن طوعه السبع الشداد خرَّ منها كل سامي السَّمْكِ عال
شمسُ أوجِ المجدِ مصباحُ الظلام صفوةُ الرحمن من بين الأنام
الإمامُ بن الإمامِ بن الإمامْ قطبُ أفلاكِ المعالي والكمال
فاق أهلَ الأرض في عزٍّ وجاهْ وارتقى في المجد أعلى مرتقاه
لو ملوكُ الأرض حلُّوا في ذراه كان أعلى صفِّهم صفُّ النعال
ذو اقتدارٍ إن يشأ قلبَ الطباع صيَّرَ الإظلامَ طبعاً للشعاع
وارتدى الإمكانُ برد الإمتناع قدرةٌ موهوبةٌ من ذي الجلال
يا أمينً الله يا شمسً الهدى يا إمامً الخلقِ يا بحرَ الندى
عَجِّلَنْ عَجِّلْ فقد طال المدى واضمحلَّ الدين واستولى الضلال
هاك يا مولى الورى نعمَ المجير من مُواليك البهائيُّ الفقير
مدحةً يعنو لمعناها جرير نظمها يزري على عقد الكلال
يا وليَّ الأمر يا كهفَ الرجا مسني الضرُّ وأنت المرتجى
والكريمُ المستجاب الملتجا غيرُ محتاج إلى بسط السؤال
وسيلة الفوز والأمان في مدح صاحب الزمان (عليه السلام)
وهي قصيدة للبهائي العاملي قدس سره، وقد أعجب بها قاضي القضاة بدمشق فأمر الشيخ أحمد المنيني أن يشرحها، فشرحها سنة1151 هـ. في سبعين صفحة، وطبع شرحه بمصر في آخر كتاب (الكشكول) المنسوب للبهائي، كما طبع مستقلاً.
سرى البرقُ من نجدٍ فجددَ تِذكاري عهوداً بحَزْوى والعذيْب وذي قارِ
وهيَّجَ من أشواقنا كل كامن وأجَّج في أحشائنا لاهبَ النار
ألا يا لُيَيْلاتِ الغوِيرِ وحاجرٍ سُقيتِ بهامٍ من بني المُزْنِ مِدرار
ويا جيرةً بالمأزمين خيامُهم عليكم سلامُ الله من نازح الدار
خليليَّ مالي والزمان كأنما يطالبني في كل آنٍ بأوْتار
فأبعدَ أحبابي وأخلى مرابعي وأبدلني من كل صفو بأكدار
وعادلَ بي من كان أقصى مَرامهِ من المجد أن يسمو الى عُشرِ معشاري
ألم يدر أني لا أزالُ لخطبه وإن سامني خسفاً وأرخص أسعاري
مقامي بفرق الفرقدين فما الذي يؤثره مسعاه في خفض مقداري
وأني امرؤٌ لا يدرك الدهر غايتي ولا تصلُ الأيدي إلى سر أغواري
أخالطُ أبناء الزمان بمقتضى عقولِهِمُ كي لا يفوهوا بإنكاري
وأظهرُ أني مثلهم تستفزني صروف الليالي باحتلاء وإمرار
وأني ضاوِي القلبِ مستوفزُ النهى أُسَرُّ بيُسْر أو أساءُ بإعسار
ويُضجرني الخطبُ المهولُ لقاؤه ويُطربُني الشادي بعودٍ ومزمار
وتُصْمي فؤادي ناهدُ الثدي كاعب بأسمرَ خطارٍ وأحورً سحَّار
وأني أسَخِّي بالدموع لوقفةٍ على طَلل بال ودارسِ أحجار
وما علموا أني امرؤٌ لا يروعني تَوَالي الرزايا في عشي وإبكار
إذا دُكَّ طودُ الصبر من وقعِ حادثٍ فطودُ اصطباري شامخٌ غيرُ مُنهار
وخطبٍ يزيلُ الروع أيسرُ وقعه كؤودٍ كوخزٍ بالأسنة شعَّار
تلقيتُه والحتفُ دون لقائه بقلبٍ وقور في الهزاهز صبَّار
ووجهٍ طليقٍ لا يُمَلُّ لقاؤه وصدرٍ رحيبٍ في وُرودٍ وإصدار
ولم أبدِهِ كي لا يساءَ لوقعه صديقي ويأسَى من تَعَسُّرِهِ جاري
ومعضلةٍ دهماءَ لا يُهتدى لها طريقٌ ولا يُهدى إلى ضوئها الساري
تشيبُ النواصي دون حل رموزها ويُحجمُ عن أغوارها كل مغوار
أجَلْتُ جياد الفكر في حلباتها ووجهتُ تلقاها صوائبَ أنظاري
فأبرزتُ من مستورها كل غامض وثَقَّفْتُ منها كل قسْورِ سوَّار
أأضرعُ للبلوى وأغضي على القذى وأرضى بما يرضى به كلُّ مخوار
وأفرحُ من دهري بلذة ساعة وأقنعُ من عيشي بقرص وأطمار
إذن لا ورى زَندي ولا عزَّ جانبي ولا بزغتْ في قِمَّةِ المجدِ أقماري
ولا بُلَّ كفي بالسماحِ ولا سّرَتْ بطيب أحاديثي الركابُ وأخباري
ولا انتشرتْ في الخافقين فضائلي ولا كان في المهديِّ رائقُ أشعاري
خليفةُ رب العالمين وظلُّهُ على ساكن الغبراءِ من كلِّ ديَّار
هو العروةُ الوثقى الذي من بذيله تمسكَ لا يخشى عظائمَ أوزار
إمامُ هدىً لاذَ الزمانُ بظلِّه وألقى إليه الدهرُ مقودَ خوَّار
ومقتدرٍ لو كَلَّفَ الصمَّ نُطْقَها بأجذارها فاهتْ إليه بأجذار
علومُ الورى في جنب أبحرِ علمِهِ كغَرْفَةِ كفٍّ أو كغمسةِ منقار
فلو زار أفلاطونُ أعتابَ قدسه ولم يُعْشِهِ عنها سواطعُ أنوار
رأى حكمةً قدسيةً لا يشوبها شوائبُ أنظارٍ وأدناسُ أفكار
بإشراقها كل العوالم أشرقت لما لاحَ في الكونينِ من نورها الساري
إمامُ الورى طوْدُ النُّهى منبعُ الهدى وصاحبُ سرِّ الله في هذه الدار
به العالَمُ السفليُّ يسمو ويعتلي على العالم العلويِّ من دون إنكار
ومنه العقولُ العشر تبغي كمالها وليس عليها في التعلم من عار
همامٌ لو السبعُ الطباقُ تطابقت على نقض ما يقضيه من حكمه الجاري
لنكَّسَ من أبراجها كل شامخٍ وسكَّنَ من أفلاكها كلَّ دوَّار
ولا انتشرتْ منها الثوابتُ خيفةً وعاف السرى من سورها كل سيَّار
أيا حجةَ الله ا لذي ليس جارياً بغير الذي يرضاه سابقُ أقدار
ويا من مقاليدُ الزمان بكفه وناهيكَ من مجد به خصُّه الباري
أغث حَوْزةَ الإيمانِ واعمُرْ ربوعَه فلم يبقَ فيها غيرُ دارسِ آثار
وأنقذْ كتابَ الله من يد عُصبة عصوْا وتمادوْا في عتوٍّ وإصرار
وأنعشْ قلوباً في انتظارك قرَّحت وأضجرها الأعداء أيَّةَ إضجار
وخلِّص عبادَ الله من كل غاشم وطهِّر بلادَ الله من كلِّ كفار
وعجِّلْ فداكَ العالمونَ بأسرهم وبادرْ على اسمِ الله من غير إنظار
تجدْ من جنود الله خير كتائب وأكرمَ أعوان وأشرفَ أنصار
بهم من بني همدان أخلصُ فتية يخوضون أغمار الوغى غير فكار
بكل شديدِ البأس عَبْلٍ شَمَرْدَل إلى الحتف مقدام على الهوْل مصبار
تُحَاذرُهُ الأبطال في كل موقف وتَرهبُهُ الفرسانُ في كل مضمار
أيا صفوةَ الرحمن دونك مدحةً كدُرِّ عقودٍ في ترايب أبكار
يهنَّى ابنُ هاني إن أتى بنظيرها ويعنو لها الطائيُّ من بعد بَشَّار
إليك البهائيُّ الحقيرُ يزفُّها كغانيةٍ مياسة القدِّ مِعْطار
تغارُ إذا قيستْ لطافة نظمها بنفحةِ أزهارٍ ونَسْمَةِ أسحار
إذا رُددت زادت قبولاً كأنها أحاديث نجدٍ لا تُمَلُّ بتَكرار
مات التصبر في انتظارك أيها المحيي الشريعهْ
فانهض فما أبقى التحمل غير أحشاء جزوعه
قد مزقت ثوب الأسى وشكت لواصلها القطيعة
فالسيفُ إن به شفاءَ قلوب شيعتِك الوجيعه
فسواهُ منهم ليس يُنعش هذه النفسَ الصريعه
طالت حبال عواتق فمتى تكون به قطيعه
كم ذا القعود ودينكم هدمت قواعده الرفيعة
تنعى الفروعُ أصولَه وأصولُه تنعى فروعَه
فيه تَحَكَّمَ من أباح اليومَ حوزته المنيعة
فاشحذ شَبَا عضبٍ له الأرواح مذعنة مطيعه
إن يدعها خفتْ لدعوته وإن ثقلت سريعه
واطلب به بدم القتيل بكربلا في خير شيعه
ماذا يُهيجُك إن صبرتَ لوقعة الطف الفضيعه
أترى تجيء فجيعةٌ بأمضَّ من تلك الفجيعه
حيث الحسينُ على الثرى خيلُ العدى طحنت ضلوعه
قتلته آلُ أمية ظام إلى جنب الشريعة
ورضيعُهُ بدم الوريد مخضبٌ فاطلب رضيعه
يا غيرة الله اهتفي بحمية الدين المنيعه
وضبا انتقامك جَرِّدي لطَلا ذوي البغي التليعه
ودعي جنود الله تملأ هذه الأرض الوسيعه
(رياض المديح والرثاءص32)
فيا مُغِذّاً على وجناءَ مرتعُها قطعُ الفجاج ولمعُ الآل ما تردُ
حِبْ في المسير هداك الله كلَّ فلا عن الهدى فيه حتى للقطا رصد
حتى يُبَوِّ ءَكَ الترحالُ ناحيةً تُحَلُّ من كَرَبِ اللَّاجي بها العقدُ
وروضةٌ أنجمُ الخضراء قد حسدتْ حصباءها، وعليها يُحمد الحسد
وأرضُ قدس من الأملاك طاف بها طوائفٌ كلما مروا بها سجدوا
فأرخِصِ الدمع من عينين قد غلتا على لهيب جوىً في القلب يَتَّقِدُ
وقل ولم تَدَعِ الأشجان منك سوى قلب الفريسة إذ ينتاشُها الأسد
يا صاحب العصر أدركنا فليس لنا ورد هنئ ولا عيش لنا رغد
طالت علينا ليالي الانتظار فهل يا بن الزكيِّ لليل الانتظار غد
فاكحلْ بطلعتك الغرَّا لنا مُقَلاً يكادُ يأتي على إنسانها الرَّمد
ها نحن مرمى لنبل النائبات وهل يغني اصطبارٌ وهى من درعه الزرد
كم ذا يؤلَّف شملُ الظالمين لكم وشملُكم بيديْ أعدائكم بَدَدُ
فانهض فدتك بقايا أنفسٍ ظفرتْ بها النوائب لما خانها الجلد
هب أن جندك معدودٌ فجدك قد لاقى بسبعين جيشاً ماله عدد
(رياض المدح والرثاء ص91)
تم الكتاب والحمد لله رب العالمين