تاريخ الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) من كتاب منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل (عليهم السلام)
تأليف: الشيخ عباس القمي (قدّس سرّه)
ترجمة وتحقيق: السيد هاشم الميلاني
تقديم: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
الطبعة الثانية (المحققة) 1442هـ
فهرست الموضوعات
مقدّمة المركز
الفصل الأوَّل: في بيان ولادة الإمام الحجَّة (عليه السلام) وأحوال والدته الماجدة وذكر بعض ألقابه وشمائله المباركة
[السيِّدة نرجس]
[في أسمائه وألقابه (عجَّل الله فرجه)]
الأوَّل: بقيَّة الله
الثاني: الحجَّة
الثالث: الخلف والخلف الصالح
الرابع: الشريد
الخامس: الغريم
السادس: القائم
السابع: (مُ حَ مَّ دْ)
الثامن: المهدي (صلوات الله عليه)
التاسع: المنتظَر
العاشر: الماء المعين
شمائله (عليه السلام) المباركة
الفصل الثاني: في ذكر بعض خصائص صاحب الأمر والزمان (عليه السلام)
الفصل الثالث: في إثبات وجود الإمام الثاني عشر (عليه السلام) وغيبته
[المهدي في روايات أهل السُّنَّة]
[تواتر الروايات في المهدي (عجَّل الله فرجه)]
[من اطَّلع على ولادته (عجَّل الله فرجه)]
الفصل الرابع: في المعاجز الحادثة أثناء الغيبة الصغرى
الأولى: [إعطاؤه (عجَّل الله فرجه) الفقير حصاة من ذهب]
الثانية: [حكاية الحسين بن حمدان]
الثالثة: [حكاية عليُّ بن بابويه وطلب الأولاد من الإمام (عجَّل الله فرجه)]
الرابعة: [خبر رشيق والهجوم على دار الإمام (عجَّل الله فرجه)]
الخامسة: [خبر سيماء والهجوم على دار الإمام (عجَّل الله فرجه)]
السادسة: [تشرُّف أحمد بن إسحاق وسعد بن عبد الله برؤية الإمام (عجَّل الله فرجه)]
السابعة: [خبر غانم الهندي]
الثامنة: [إرجاع الحجر الأسود إلى مكانه]
التاسعة: [سبب تشيُّع بني راشد]
العاشرة: [حكاية كامل بن إبراهيم]
الحادية عشرة: [حكاية جعفر بن أحمد]
الثانية عشرة: [حكاية الحسين بن عليٍّ القمّي والسبائك]
الثالثة عشرة: [الحسين بن روح وخبر العجوزة]
الرابعة عشرة: [وفد قم ورؤية الحجَّة (عجَّل الله فرجه)]
الخامسة عشرة: [الحسين بن وجناء ورؤية الحجَّة (عجَّل الله فرجه)]
الفصل الخامس: في ذكر من حاز شرف ملاقاة الإمام الحجَّة (عليه السلام) في الغيبة الكبرى
الحكاية الأُولى: حكاية إسماعيل الهرقلي
الحكاية الثانية: تأثير رقعة الاستغاثة
الحكاية الثالثة: في لقاء السيِّد محمّد جبل عاملي الحجَّة (عليه السلام)
الحكاية الرابعة: في لقاء السيِّد عطوة الحسيني الحجَّة (عليه السلام)
الحكاية الخامسة: في ذكر دعاء العبرات
الحكاية السادسة: حكاية أمير إسحاق الأسترآبادي
الحكاية السابعة: في دعاء الفرج
الحكاية الثامنة: في لقاء الشريف عمر بن حمزة للحجَّة (عليه السلام)
الحكاية التاسعة: حكاية أبي راجح الحمّامي
الحكاية العاشرة: حكاية الكاشاني المريض الذي برأ من مرضه ببركة الإمام المنتظر (عليه السلام)
الحكاية الحادية عشرة: في رُمّانة الوزير الناصبي في البحرين
الحكاية الثانية عشرة: في مناظرة رجل من الشيعة مع رجل من أهل السُّنَّة
الحكاية الثالثة عشرة: في شفاء الشيخ حرِّ العاملي ببركة الإمام (عليه السلام)
الحكاية الرابعة عشرة: في رؤية المقدَّس الأردبيلي الحجَّةَ (عليه السلام)
الحكاية الخامسة عشرة: حكاية المولى محمّد تقي المجلسي
الحكاية السادسة عشرة: حكاية طاقة الورد والخرابات
الحكاية السابعة عشرة: في لقاء الشيخ قاسم للحجَّة (عليه السلام)
الحكاية الثامنة عشرة: في استغاثة رجل من أهل الخلاف به (عليه السلام) وإنقاذ الإمام له
الحكاية التاسعة عشرة: حكاية العلاَّمة بحر العلوم في مكَّة ولقائه الحجَّة (عليه السلام)
الحكاية العشرون: [حكاية أُخرى للسيِّد بحر العلوم]
الحكاية الحادية والعشرون: في اهتمام الإمام (عليه السلام) وتأكيده على احترام الأب الكبير
الحكاية الثانية والعشرون: في تشرُّف الشيخ حسين آل رحيم إلى لقاء الحجَّة (عليه السلام)
الحكاية الثالثة والعشرون: في دفع أعراب عُنَيزة عن طريق الزوّار
الفصل السادس: في ذكر نبذة ممَّا يجب على العباد تجاه إمام العصر (عليه السلام)
الأوَّل: [الحزن لغيبته]
الثاني: [انتظار الفرج]
الثالث: [الدعاء للإمام (عجَّل الله فرجه)]
الرابع: [التصدُّق عنه (عجَّل الله فرجه)]
الخامس: [الذهاب للحجِّ نيابةً عنه (عجَّل الله فرجه)]
السادس: [القيام عند ذكر اسمه (عجَّل الله فرجه)]
السابع: [الدعاء لحفظ الإيمان وعدم تطرُّق الشُّبُهات]
الثامن: [الاستغاثة به (عجَّل الله فرجه) لدفع الشدائد]
الفصل السابع: في بيان بعض علائم ظهور صاحب الزمان (عليه السلام)
[العلائم الحتميَّة]
الأُولى: خروج الدجّال
الثانية: [الصيحة]
الثالثة: [خروج السفياني]
الرابعة: [خسف الأرض]
الخامسة: [قتل النفس الزكيَّة]
السادسة: [خروج السيِّد الحسني]
السابعة: [ظهور كفٍّ في السماء]
الثامنة: [كسوف الشمس]
التاسعة: [ظهور علامات في شهر رجب]
العاشرة: [انقراض دولة بني العبّاس]
[العلائم التي لا تكون حتميَّة]
[ما أصاب المسلمين من الضعف والهوان]
[حديث أشراط الساعة]
الفصل الثامن: في ذكر النوّاب الأربعة
[عثمان بن سعيد العمري]
[محمّد بن عثمان العمري]
[الحسين بن روح النوبختي]
[عليُّ بن محمّد السمري]
المصادر والمراجع
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز:
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على سيِّدنا محمّد وآله الطاهرين.
الاعتقاد بالمهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) من الأُمور المجمع عليها بين المسلمين، بل من الضروريّات التي لا يشوبها شكٌّ(1).
وقد جاءت الأخبار الصحيحة المتواترة عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ الله تعالى سيبعث في آخر الزمان رجلاً من أهل البيت (عليهم السلام) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، وجاء أنَّ ظهوره من المحتوم الذي لا يتخلَّف، حتَّى لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله (عزَّ وجلَّ) ذلك اليوم حتَّى يظهر.
وكيف وأنّى يتخلَّف وعد الله (عزَّ وجلَّ) في إظهار دينه على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون؟! وكيف لا يُحقِّق تعالى وعده للمستضعفين المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وبتمكين دينهم الذي ارتضـى لهم، وإبدالهم من بعد خوفهم أمناً، ليعبدوه تعالى لا يُشركون به شيئاً؟!
وقد أجمع المسلمون على أنَّ المهديَّ المنتظر (عجَّل الله فرجه) من أهل البيت (عليهم السلام)، وأنَّه من ولد فاطمة (عليها السلام). وأجمع الإماميَّة - ومعهم عدد من علماء السُّنَّة - أنَّه (عجَّل الله فرجه) من ولد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فأثبتوا اسمه ونعته وهويَّته الكاملة.
هكذا فقد اعتقد الإماميَّة - ومعهم بعض علماء السُّنَّة - أنَّ المهدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) روي عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أُنزل على محمّد». راجع: لسان الميزان (ج 5/ ص 130/ ح 437)؛ ينابيع المودَّة (ج 3/ ص 295/ ح 1).
المنتظر (عجَّل الله فرجه) قد وُلِدَ فعلاً، وأنَّه حيٌّ يُرزَق، لكنَّه غائب مستور. وماذا تُنكِر هذه الأُمَّة أنْ يستر الله (عزَّ وجلَّ) حجَّته في وقتٍ من الأوقات؟ وماذا تُنكِر أنْ يفعل الله تعالى بحجَّته كما فعل بيوسف (عليه السلام) أنْ يسير في أسواقهم ويطأ بُسُطهم وهم لا يعرفونه، حتَّى يأذن الله (عزَّ وجلَّ) له أنْ يُعرِّفهم بنفسه كما أذن ليوسف: ﴿قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي﴾ (يوسف: 90)(2)؟
أوَلم يخلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أُمَّته الثقلين: كتاب الله وعترته، وأخبر بأنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليه الحوض؟ أوَلم يُخبِر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنْ سيكون بعده اثنا عشـر خليفة كلُّهم من قريش، وأنَّ عدد خلفائه عدد نقباء موسى (عليه السلام)؟ وإذا كان الله تعالى لم يترك جوارح الإنسان حتَّى أقام لها القلب إماماً لتردَّ عليه ما شكَّت فيه، فيقرُّ به اليقين ويبطل الشكَّ، فكيف يترك هذا الخلق كلَّهم في حيرتهم وشكِّهم واختلافهم لا يُقيم لهم إماماً يردُّون إليه شكَّهم وحيرتهم(3)؟ وحقًّا ﴿لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحجّ: 46).
ولا ريب أنَّ للعقيدة الشيعيَّة في المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) - وهي عقيدة قائمة على الأدلَّة القويمة العقليَّة - رجحاناً كبيراً على عقيدة من يرى أنَّ المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) لم يُولَد بعد، يقرُّ بذلك كلُّ من ألقى السمع وهو شهيد إلى قول الصادق المصدِّق (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليَّة»(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) الاستدلال منتزع من الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 4).
(3) راجع محاججة مؤمن الطاق مع عمرو بن عبيد في كمال الدِّين (ص 207 - 210/باب 21/ح 23).
(4) حديث مشهور تناقله علماء الطرفين في مجاميعهم الحديثيَّة بتعابير تتَّفق في مضمونها؛ انظر على سبيل المثال: مسند أبي داود (ص 259)؛ مسند أحمد (ج 4/ ص 96)؛ مسند أبي يعلى (ج 13/ ص 366/ ح 7375)؛ صحيح ابن حبّان (ج 10/ ص 434)؛ المعجم الأوسط للطبراني (ج 6/ ص 70)؛ مجمع الزوائد (ج 5/ ص 218 و225).
ناهيك عن أنَّ من معطيات الاعتقاد بالإمام الحيِّ أنَّها تمنح المذهب غناءً وحيويَّةً لا تخفى على من له تأمُّل وبصيرة(5).
ولا ريب أنَّ إحساس الفرد المؤمن أنَّ إمامه معه يعاني كما يعاني، وينتظر الفرج كما ينتظر، سيمنحه ثباتاً وصلابةً مضاعفةً، ويستدعي منه الجهد الدائب في تزكية نفسه وتهيئتها ودعوتها إلى الصبر والمصابرة والمرابطة، ليكون في عداد المنتظرين الحقيقيِّين لظهور مهديِّ آل محمّد (عليهم السلام). خاصَّة وأنَّه يعلم أنَّ اليُمن بلقاء الإمام لن يتأخَّر عن شيعته لو أنَّ قلوبهم اجتمعت على الوفاء بالعهد، وأنَّه لا يحبسهم عن إمامهم إلَّا ما يتَّصل به ممَّا يكرهه ولا يُؤثِره منهم(6).
ولا يُماري أحد في فضل الإمام المستور الغائب - غيبة العنوان لا غيبة المعنون - في تثبيت شيعته وقواعده الشعبية المؤمنة وحراستها، كما لا يماري في فائدة الشمس وضرورتها وإنْ سترها السحاب. كيف ولولا مراعاته ودعائه (عجَّل الله فرجه) لاصطلمها الأعداء ونزل بها اللأواء(7)، ولا يشكُّ أحد من الشيعة أنَّ إمامه أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء(8).
وقد وردت روايات متكاثرة عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) تنصبُّ في مجال ربط الشيعة بإمامهم المنتظر (عجَّل الله فرجه)، وجاء في بعضها أنَّه (عجَّل الله فرجه) يحضـر الموسم فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه(9)، وأنَّه (عجَّل الله فرجه) يدخل عليهم ويطأ بُسُطهم(10)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) راجع كلام المستشرق الفرنسي الفيلسوف هنري كاربون في مناقشاته مع العلَّامة الطباطبائي (رحمه الله) في كتاب (الشمس الساطعة).
(6) راجع: الاحتجاج للطبرسي (ج 2/ص 325)، عنه بحار الأنوار (ج 53/ص 177/ح 8).
(7) راجع توقيعه (عجَّل الله فرجه) للشيخ المفيد (رحمه الله) في الاحتجاج للطبرسي (ج 2/ ص 323).
(8) قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض». راجع: علل الشـرائع (ج 1/ ص 123/ باب 103/ ح 1)؛ وقريباً منه في المعجم الكبير للطبراني (ج 7/ ص 22).
(9) كمال الدِّين (ص 440/ باب 43/ ح 8)؛ عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 152/ ح 4).
(10) الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 4).
كما وردت روايات جمَّة في فضل الانتظار(11)، وفي فضل إكثار الدعاء بتعجيل الفرج فإنَّ فيه فرج الشيعة(12).
وقد عنى مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهديِّ (عجَّل الله فرجه) بالاهتمام بكلِّ ما يرتبط بهذا الإمام الهمام، سواءً بطباعة ونشـر الكُتُب المختصَّة به (عجَّل الله فرجه)، أو إقامة الندوات العلميَّة التخصُّصيَّة في الإمام (عجَّل الله فرجه) ونشـرها في كُتيِّبات أو من خلال شبكة الإنترنيت، ومن جملة نشاطات هذا المركز نشـر سلسلة التراث المهدويِّ، ويتضمَّن تحقيق ونشـر الكُتُب المؤلَّفة في الإمام المهديِّ (عجَّل الله فرجه)، من أجل إغناء الثقافة المهدويَّة، ورفداً للمكتبة الإسلاميَّة الشيعيَّة، نسأله (عزَّ من مسؤول) أنْ يأخذ بأيدينا، وأنْ يُبارك في جهودنا ومساعينا، وأنْ يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، والحمد لله ربِّ العالمين.
والكتاب الماثل بين يديك عزيزي القارئ مقتبس من السفر العظيم (منتهى الآمال في تواريخ النبيِّ والآل)، لمؤلِّفه المحقِّق الخبير والعلَّامة الكبير الشيخ عبّاس القمّي (طيَّب الله ثراه)، تعرَّض فيه لحياة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فأوفى وأحسن، ونظراً لأهمّيَّة الكتاب والكاتب حرص المركز على إفراد القسم المختصِّ بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لعموم الفائدة.
مدير المركز
السيِّد محمّد القبانچي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) منها ما رواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 287/ باب 25/ ح 6) بسنده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «أفضل العبادة انتظار الفرج».
(12) راجع: كمال الدِّين (ص 485/ باب 45/ ح 4).
قال العلَّامة المجلسي في (جلاء العيون): الأشهر في تاريخ ولادته (عليه السلام) أنَّها كانت في سنة (255 هـ)، وقيل: (256 هـ)، وأيضاً: (258 هـ)، والمشهور أنَّها كانت في ليلة الجمعة الخامس عشر من شهر شعبان، وقيل: في الثامن منه.
وكانت ولادته في سامراء بالاتِّفاق، واسمه وكنيته (عليه السلام) يوافقان اسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكنيته، ولا يجوز ذكر اسمه في زمن الغيبة، والحكمة في هذا التحريم خافية، وألقابه (عليه السلام): المهدي، والخاتم، والمنتظر، والحجَّة، والصاحب(13).
[السيِّدة نرجس]:
روى ابن بابويه والشيخ الطوسي بأسانيد معتبرة عن محمّد بن بحر بن سهل الشيباني، أنَّه قال: قال بشر بن سليمان النخّاس، وهو من ولد أبي أيّوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمّد [(عليهما السلام)](14)، وجارهما بسُرَّ من رأى:
أتاني كافور الخادم فقال: مولانا أبو الحسن عليُّ بن محمّد العسكري [(عليهما السلام)] يدعوك إليه، فأتيته، فلمَّا جلست بين يديه قال لي: «يا بشر، إنَّك من ولد الأنصار، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مزكّيك ومشرِّفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بسـرٍّ أُطلعك عليه، وأُنفذك في ابتياع أَمَة»، فكتب كتاباً لطيفاً بخطٍّ روميٍّ ولغة روميَّة، وطبع عليه خاتمه، وأخرج شُقيقة(15) صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) راجع: جلاء العيون (ص 723).
(14) ما بين المعقوفتين أضفناه من الغيبة؛ وكذلك ما يأتي.
(15) شُقيقة: تصغير شُقَّة، وهي جنس من الثياب، وقيل: شُقيقة نصب ثوب. (راجع: لسان العرب: ج 10/ ص 184/ مادَّة شقق).
فقال: «خذها وتوجَّه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السَّبايا، وترى الجواري فيها، ستجد طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العبّاس، وشرذمة من فتيان العرب، فإذا رأيت ذلك فأشرفْ من البُعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامَّة نهارك، إلى أنْ تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرين صفيقين(16) تمتنع من العرض ولمس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها، وتسمع صرخة روميَّة من وراء ستر رقيق، فاعلم أنَّها تقول: وا هتك ستراه.
فيقول بعض المبتاعين: عليَّ ثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبةً، فتقول له بالعربية: لو برزت في زيِّ سليمان بن داود وعلى شبه مُلكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك، فيقول النخّاس: فما الحيلة ولا بدَّ من بيعكِ، فتقول الجارية: وما العجلة؟ ولا بدَّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى وفائه وأمانته.
فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخّاس وقل له: إنَّ معك كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة روميَّة وخطٍّ روميٍّ، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه، فناولها لتتأمَّل منه أخلاق صاحبه، فإنْ مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك».
قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حدَّه لي مولاي أبو الحسن (عليه السلام) في أمر الجارية، فلمَّا نظرتْ في الكتاب بكتْ بكاءً شديداً، وقالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرَّجة والمغلَّظة(17) أنَّه متى امتنع من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) ثوب صَفِيق : مَتِين بيِّن الصَّفاقة، وقد صَفُقَ صَفاقةً: كثُفَ نسجه، وأَصْفَقَه الحائك، وثوب صَفِيق وسَفِيق: جيِّدُ النسج. (لسان العرب: ج 10/ ص 204/ مادَّة صفق).
(17) المغلَّظة: المؤكَّدة من اليمين، والمحرَّجة: اليمين التي تُضيِّق مجال الحالف بحيث لا يبقى له مندوحة عن برِّ قسمه. (هامش المصدر).
بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أُشاحُّه في ثمنها حتَّى استقرَّ الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (عليه السلام) من الدَّنانير، فاستوفاه [منّي] وتسلَّمت الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى الحجيرة التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتَّى أخرجت كتاب مولانا (عليه السلام) من جيبها، وهي تلثمه وتُطبِقه على جفنها وتضعه على خدِّها وتمسحه على بدنها.
فقلت تعجُّباً منها: تلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه؟ فقالت: أيُّها العاجز الضَّعيف المعرفة بمحلِّ أولاد الأنبياء، أعرني سمعك وفرِّغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر مَلِك الروم، وأُمّي من ولد الحواريِّين تُنسَب إلى وصيِّ المسيح شمعون أُنبّئك بالعجب.
إنَّ جدِّي قيصر أراد أنْ يُزوِّجني من ابن أخيه، وأنا من بنات ثلاث عشـرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريِّين من القسِّيسين والرُّهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار منهم سبعمائة رجل، وجمع من أُمراء الأجناد وقوّاد العسكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهيِّ مُلكه عرشاً مصنوعاً من أصناف الجوهر [إلى صحن الدار]، ورفعه فوق أربعين مرقاة، فلمَّا صعد ابن أخيه وأحدقت الصُّلُب وقامت الأساقفة عُكَّفاً ونُشِـرَت أسفار الإنجيل، تسافلت الصُّلُب من الأعلى فلصقت بالأرض، وتقوَّضت أعمدة العرش فانهارت إلى القرار، وخرَّ الصاعد من العرش مغشيًّا عليه، فتغيَّرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم.
فقال كبيرهم لجدِّي: أيُّها المَلِك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالَّة على زوال دولة هذا الدِّين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطيَّر جدِّي من ذلك تطيُّراً شديداً، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصُّلبان، وأحضروا أخا
هذا المدبر العاثر(18) المنكوس جدُّه لأُزوِّجه هذه الصبية، فيدفع نحوسه عنكم بسعوده.
ولـمَّا فعلوا ذلك حدث على الثاني مثل ما حدث على الأوَّل وتفرَّق الناس، وقام جدِّي قيصر مغتمًّا، فدخل منزل النساء وأُرخيت السُّتور، وأُريت في تلك الليلة كأنَّ المسيح وشمعون وعدَّة من الحواريِّين قد اجتمعوا في قصـر جدِّي، ونصبوا فيه منبراً من نور يباري السَّماء علوًّا وارتفاعاً في الموضع الذي كان نصب جدِّي فيه عرشه، ودخل عليهم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وختنه ووصيُّه (عليه السلام) وعدَّة من أبنائه (عليهم السلام).
فتقدَّم المسيح إليه فاعتنقه، فيقول له محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يا روح الله، إنّي جئتك خاطباً من وصيِّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا - وأومأ بيده إلى أبي محمّد (عليه السلام) ابن صاحب هذا الكتاب -»، فنظر المسيح إلى شمعون وقال له: «قد أتاك الشرف، فصِلْ رحمك رحم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»، قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر فخطب محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وزوَّجني من ابنه، وشهد المسيح (عليه السلام) وشهد أبناء محمّد (عليهم السلام) والحواريُّون.
فلمَّا استيقظت أشفقت أنْ أقصَّ هذه الرؤيا على أبي وجدِّي مخافة القتل، فكنت أُسِرُّها ولا أُبديها لهم، وضرب صدري بمحبَّة أبي محمّد (عليه السلام) حتَّى امتنعت من الطعام والشراب، فضعفت نفسي ودقَّ شخصـي، ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي في مدائن الروم طبيب إلَّا أحضره جدِّي وسأله عن دوائي، فلمَّا برح به اليأس (قال): يا قرَّة عيني، وهل يخطر ببالكِ شهوة فأُزوِّدكِها في هذه الدنيا؟ فقلت: يا جدِّي، أرى أبواب الفرج عليَّ مغلقة، فلو كشفت العذاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18) في هامش المصدر: (في البحار ونسخة (ح): العاهر، وفي نسخة (ف): القاهر). والعاثر: الكذاب كما في لسان العرب (ج 4/ ص 545/ مادَّة عدر).
عمَّن في سجنك من أُسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال، وتصدَّقت عليهم ومنَّيتهم الخلاص، رجوت أنْ يهب لي المسيح وأُمُّه عافية.
فلمَّا فعل ذلك تجلَّدت في إظهار الصحَّة من بدني قليلاً، وتناولت يسيراً من الطعام، فسرَّ بذلك وأقبل على إكرام الأُسارى وإعزازهم، فأُريت بعد أربع عشـرة ليلة كأنَّ سيِّدة نساء العالمين فاطمة (عليها السلام) قد زارتني، ومعها مريم ابنة عمران وألف من وصائف الجنان، فتقول لي مريم: هذه سيِّدة نساء العالمين أُمُّ زوجكِ أبي محمّد (عليه السلام)، فأتعلَّق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمّد (عليه السلام) من زيارتي.
فقالت سيِّدة النساء (عليها السلام): «إنَّ ابني أبا محمّد لا يزوركِ وأنتِ مشركة بالله على مذهب النصارى، وهذه أُختي مريم بنت عمران تبرأ إلى الله تعالى من دينكِ، فإنْ ملتِ إلى رضى الله ورضى المسيح ومريم (عليهما السلام) وزيارة أبي محمّد إيّاكِ فقولي: أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ أبي محمّد رسول الله».
فلمَّا تكلَّمت بهذه الكلمة ضمَّتني إلى صدرها سيِّدة نساء العالمين (عليها السلام)، وطيَّبت نفسـي وقالت: «الآن توقَّعي زيارة أبي محمّد، فإنّي منفذته إليكِ»، فانتبهت وأنا أنول وأتوقَّع لقاء أبي محمّد (عليه السلام).
فلمَّا كان في الليلة القابلة رأيت أبا محمّد (عليه السلام) وكأنّي أقول له: جفوتني يا حبيبي بعد أنْ أتلفت نفسـي معالجة حبِّك، فقال: «ما كان تأخُّري عنكِ إلَّا لشرككِ، فقد أسلمتِ وأنا زائركِ في كلِّ ليلة إلى أنْ يجمع الله تعالى شملنا في العيان»، فما قطع عنّي زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية.
قال بشر: فقلت لها: وكيف وقعتِ في الأُسارى؟ فقالت: أخبرني أبو محمّد (عليه السلام) ليلة من الليالي «أنَّ جدَّكِ سيُسيِّر جيشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا وكذا، ثمّ يتبعهم، فعليكِ باللحاق بهم متنكِّرة في زيِّ الخدم مع عدَّة من الوصائف من طريق كذا»، ففعلت ذلك، فوقعت علينا طلائع المسلمين حتَّى
كان من أمري ما رأيت وشاهدت، وما شعر بأنّي ابنة مَلِك الروم إلى هذه الغاية أحد سواك، وذلك باطِّلاعي إيّاك عليه، ولقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي، فأنكرته وقلت: نرجس، فقال: اسم الجواري.
قلت: العجب أنَّكِ روميَّة ولسانكِ عربي، قالت: نعم من ولوع جدِّي وحمله إيّاي على تعلُّم الآداب، أنْ أوعز إليَّ امرأة ترجمانة لي في الاختلاف إليَّ، وكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربيَّة حتَّى استمرَّ لساني عليها واستقام.
قال بشر: فلمَّا انكفأت بها إلى سُرِّ من رأى دخلت على مولاي أبي الحسن (عليه السلام)، فقال: «كيف أراكِ الله عزَّ الإسلام وذلَّ النصـرانيَّة، وشرف محمّد وأهل بيته (عليهم السلام)؟»، قالت: كيف أصف لك يا بن رسول الله ما أنت أعلم به منّي، قال: «فإنّي أحببت أنْ أُكرمكِ، فما أحبُّ إليكِ عشرة آلاف دينار أم بشـرى لكِ بشـرف الأبد؟»، قالت: بشرى بولد لي، قال لها: أبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً»، قالت: ممَّن؟ قال: «ممَّن خطبك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له ليلة كذا في شهر كذا من سنة كذا بالروميَّة»، قالت: من المسيح ووصيِّه؟ قال لها: «ممَّن زوَّجكِ المسيح (عليه السلام) ووصيُّه؟»، قالت: من ابنك أبي محمّد (عليه السلام)؟ فقال: «هل تعرفينه؟»، قالت: وهل خلت ليلة لم يرني فيها منذ الليلة التي أسلمت على يد سيِّدة النساء (صلوات الله عليها)؟
قال: فقال مولانا: «يا كافور، ادعُ أُختي حكيمة»، فلمَّا دخلت قال لها: «ها هِيَه»، فاعتنقتها طويلاً وسرَّت بها كثيراً، فقال لها أبو الحسن (عليه السلام): «يا بنت رسول الله، خذيها إلى منزلكِ وعلِّميها الفرائض والسُّنَن، فإنَّها زوجة أبي محمّد وأُمُّ القائم (عليه السلام)»(19).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) الغيبة للطوسي (ص 208 - 214/ ح 178)، عنه بحار الأنوار (ج 51/ ص 6 - 10/ ح 12)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 417 - 423/ باب 41/ ح 1).
وروى الكليني، وابن بابويه، والشيخ الطوسي، والسيِّد المرتضى، وغيرهم من المحدِّثين، بأسانيد معتبرة عن حكيمة أنَّها قالت: كانت لي جارية يقال لها: نرجس، فزارني ابن أخي (الإمام العسكري) (عليه السلام) وأقبل يحدُّ النظر إليها، فقلت له: يا سيِّدي، لعلَّك هويتها فأُرسلها إليك؟
فقال: «لا يا عمَّة، لكنّي أتعجُّب منها».
فقلت: وما أعجبك؟
فقال (عليه السلام): «سيخرج منها ولد كريم على الله (عزَّ وجلَّ)، الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً».
فقلت: فأُرسلها إليك يا سيِّدي؟
فقال: «استأذني في ذلك أبي».
قالت: فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن (الهادي) (عليه السلام)، فسلَّمت وجلست، فبدأني (عليه السلام) وقال: «يا حكيمة، ابعثي بنرجس إلى ابني أبي محمّد».
قالت: فقلت: يا سيِّدي، على هذا قصدتك أنْ أستأذنك في ذلك.
فقال: «يا مباركة، إنَّ الله تبارك وتعالى أحبَّ أنْ يُشـرككِ في الأجر، ويجعل لكِ في الخير نصيباً».
قالت حكيمة: فلم ألبث أنْ رجعت إلى منزلي، وزيَّنتها ووهبتها لأبي محمّد (عليه السلام) وجمعت بينه وبينها في منزلي، فأقام عندي أيّاماً، ثمّ مضـى إلى والده، ووجَّهت بها معه.
قالت حكيمة: فمضى أبو الحسن (عليه السلام) وجلس أبو محمّد (عليه السلام) مكان والده، وكنت أزوره كما كنت أزور والده، فجاءتني نرجس يوماً تخلع خُفّي، فقالت: يا مولاتي، ناوليني خفَّك.
فقلت: بل أنتِ سيِّدتي ومولاتي، والله لا أدفع إليكِ خفّي لتخلعيه ولا لتخدميني، بل أنا أُخدمكِ على بصري.
فسمع أبو محمّد (عليه السلام) ذلك، فقال: «جزاكِ الله يا عمَّة خيراً»، فجلست عنده إلى وقت غروب الشمس، فصحت بالجارية وقلت: ناوليني ثيابي لأنصرف، فقال (عليه السلام): «يا عمَّتاه، بيِّتي الليلة عندنا، فإنَّه سيُولَد الليلة المولود الكريم على الله (عزَّ وجلَّ)، الذي يُحيي الله (عزَّ وجلَّ) به الأرض بعد موتها».
فقلت: ممَّن يا سيِّدي، ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحبل؟ فقال: «من نرجس لا من غيرها»، قالت: فوثبت إليها فقلَّبتها ظهراً لبطن، فلم أرَ بها أثراً من حبل، فعدت إليه (عليه السلام) فأخبرته بما فعلت، فتبسَّم ثمّ قال لي: «إذا كان وقت الفجر يظهر لكِ بها الحبل، لأنَّ مَثَلها مَثَل أُمِّ موسى لم يظهر بها الحبل، ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها؛ لأنَّ فرعون كان يشقُّ بطون الحُبالى في طلب موسى، وهذا نظير موسى (عليه السلام).
وفي رواية أُخرى أنَّه قال: «إنّا معاشر الأوصياء لسنا نُحمَل في البطون وإنَّما نُحمَل في الجنوب، ولا نخرج من الأرحام وإنَّما نخرج من الفخذ الأيمن من أُمَّهاتنا، لأنَّنا نور الله الذي لا تناله الدانسات».
قالت حكيمة: فذهبت إلى نرجس وأخبرتها، فقالت: لم أرَ شيئاً ولا أثراً، فبقيت الليل هناك، وأفطرت عندهم ونمت قرب نرجس، وكنت أفحصها كلَّ ساعة وهي نائمة، فازدادت حيرتي، وأكثرت في هذه الليلة من القيام والصلاة، فلمَّا كنت في الوتر من صلاة الليل قامت نرجس، فتوضَّأت وصلَّت صلاة الليل.
ونظرت فإذا الفجر الأوَّل قد طلع، فتداخل قلبي الشكُّ، فصاح بي أبو محمّد (عليه السلام) فقال: «لا تعجلي يا عمَّة، فإنَّ الأمر قد قرب»، فرأيت اضطراباً في نرجس، فضممتها إلى صدري وسمَّيت عليها، فصاح إليَّ أبو محمّد (عليه السلام) وقال: اقرئي عليها: ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، فأقبلت أقرأ عليها وقلت لها: ما حالكِ؟ قالت: ظهر بي الأمر الذي أخبركِ به مولاي.
فأقبلت أقرأ عليها كما أمرني، فأجابني الجنين من بطنها يقرأ كما أقرأ وسلَّم عليَّ، قالت حكيمة: ففزعت لما سمعت، فصاح بي أبو محمّد (عليه السلام): «لا تعجبي من أمر الله (عزَّ وجلَّ)، إنَّ الله تبارك وتعالى يُنطِقنا بالحكمة صغاراً، ويجعلنا حجَّة في أرضه كباراً»، فلم يستتمّ الكلام حتَّى غُيِّبت عنّي نرجس، فلم أرَها كأنَّه ضُرِبَ بيني وبينها حجاب.
فعدوت نحو أبي محمّد (عليه السلام) وأنا صارخة، فقال لي: «ارجعي يا عمَّة، فإنَّك ستجديها في مكانها»، قالت: فرجعت، فلم ألبث أنْ كُشِفَ الحجاب بيني وبينها، وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غشـى بصري، وإذا أنا بالصبيِّ (عليه السلام) ساجداً على وجهه، جاثياً على ركبتيه، رافعاً سبّابتيه نحو السماء وهو يقول: «أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وحده لا شريك له، وأنَّ جدِّي محمّداً رسول الله، وأنَّ أبي أمير المؤمنين»، ثمّ عدَّ إماماً إماماً إلى أنْ بلغ إلى نفسه، فقال: «اللَّهُمَّ أنجز لي وعدي، وأتمم لي أمري، وثبِّت وطأتي، واملأ الأرض بي عدلاً وقسطاً».
وفي رواية عن أبي عليٍّ الخيزراني، عن جارية له عند الإمام الحسن (عليه السلام) أنَّها قالت: لـمَّا وُلِدَ (السيِّد) رأيت له نوراً ساطعاً قد ظهر منه وبلغ أُفق السماء، ورأيت طيوراً بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده، ثمّ تطير.
فناداني أبو محمّد (عليه السلام) وقال: «يا عمَّة هاتي ابني إليَّ»، فكشفت عن سيِّدي (عليه السلام)، فإذا به مختوناً مسروراً طهراً طاهراً، وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: ﴿جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً﴾ [الإسراء: 81].
فأتيت به نحوه، فلمَّا مثلت بين يدي أبيه سلَّم على أبيه، فتناوله الحسن، وأدخل لسانه في فمه ومسح بيده على ظهره وسمعه ومفاصله، ثمّ قال له: «يا بنيَّ، انطق بقدرة الله»، فاستعاذ وليُّ الله (عليه السلام) من الشيطان الرجيم واستفتح:
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القَصص: 5 و6].
وصلّى على رسول الله وعلى أمير المؤمنين والأئمَّة (عليهم السلام) واحداً واحداً حتَّى انتهى إلى أبيه، وكانت هناك طيور تُرفرف على رأسه، فصاح بطير منها، فقال له: «احمله واحفظه وردَّه إلينا في كلِّ أربعين يوماً».
فتناوله الطائر وطار به في جوِّ السماء وأتبعه سائر الطير، فسمعت أبا محمّد يقول: «أستودعك الذي استودعته أُمُّ موسى»، فبكت نرجس، فقال لها: «اسكتي فإنَّ الرضاع محرَّم عليه إلَّا من ثديكِ، وسيُعاد إليكِ كما رُدَّ موسى إلى أُمِّه، وذلك قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ﴾ [القَصص: 13].
قالت حكيمة: فقلت: ما هذا الطائر؟ قال: «هذا روح القُدُس الموكَّل بالأئمَّة (عليهم السلام)، يُوفِّقهم ويُسدِّدهم ويُربِّيهم بالعلم».
قالت حكيمة: فلمَّا أنْ كان بعد أربعين يوماً رُدَّ الغلام، ووجَّه إليَّ ابن أخي (عليه السلام)، فدعاني، فدخلت عليه، فإذا أنا بصبيٍّ متحرِّك يمشـي بين يديه، فقلت: سيِّدي هذا ابن سنتين! فتبسَّم (عليه السلام) ثمّ قال: «إنَّ أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمَّة ينشؤون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وإنَّ الصبيَّ منّا إذا أتى عليه شهر كان كمن يأتي عليه سنة، وإنَّ الصبيَّ منّا ليتكلَّم في بطن أُمِّه، ويقرأ القرآن، ويعبد ربَّه (عزَّ وجلَّ)، وعند الرضاع تطيعه الملائكة، وتنزل عليه كلَّ صباح ومساء».
قالت حكيمة: فلم أزل أرى ذلك الصبيَّ كلَّ أربعين يوماً، إلى أنْ رأيته رجلاً قبل مضيِّ أبي محمّد (عليه السلام) بأيّام قلائل، فلم أعرفه، فقلت لأبي محمّد (عليه السلام): من هذا الذي تأمرني أنْ أجلس بين يديه؟ فقال: «ابن نرجس، وهو خليفتي من بعدي، وعن قليل تفقدوني، فاسمعي له وأطيعي».
قالت حكيمة: فمضى أبو محمّد (عليه السلام) بأيّام قلائل وافترق الناس، وإنّي والله لأراه صباحاً ومساءاً، إنَّه ليُنبِئني عمَّا أسأله، ووالله إنّي لأُريد أنْ أسأله عن الشيء فيبدؤني به.
وفي رواية أنَّ حكيمة قالت: فلمَّا كان بعد ثلاث اشتقت إلى وليِّ الله (عليه السلام)، فصرت إليهم، فسألت عنه، فأجابني (عليه السلام) أنَّه أخذه من هو أحقّ به منكِ، فإذا كان اليوم السابع فأتينا، فذهبت في اليوم السابع إليهم، فرأيت مولاي في المهد يزهر منه النور كالقمر ليلة أربعة عشرة.
فقال أبو محمّد (عليه السلام): «هلمّي ابني»، فجئت بسيِّدي، فجعل لسانه في فمه ثمّ قال له: «تكلَّم يا بني»، فقال (عليه السلام): «أشهد أنْ لا إله إلَّا الله»، وثنّى بالصلاة على محمّد وأمير المؤمنين والأئمَّة حتَّى وقف على أبيه، ثمّ قرأ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ ...﴾ [القَصص: 5]، ثمّ قال له: «اقرأ يا بني ممَّا أنزل الله على أنبيائه ورُسُله»، فابتدأ بصُحُف آدم فقرأها بالسـريانيَّة، وكتاب إدريس، وكتاب نوح، وكتاب هود، وكتاب صالح، وصُحُف إبراهيم، وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى، وفرقان جدِّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ قصَّ قَصص الأنبياء والمرسَلين إلى عهده.
ثمّ قال (عليه السلام): «لـمَّا وهب لي ربّي مهديَّ هذه الأُمَّة أرسل مَلَكين، فحملاه إلى سُرادق العرش حتَّى وقفا به بين يدي الله (عزَّ وجلَّ)، فقال له: مرحباً بك عبدي لنصرة ديني وإظهار أمري ومهديَّ عبادي، آليت أنّي بك آخذ وبك أُعطي، وبك أغفر وبك أُعذِّب، اردداه أيُّها المَلَكان ردّاه ردّاه على أبيه ردًّا رفيقاً، وأبلغاه فإنَّه في ضماني وكنفي وبعيني إلى أنْ أُحقَّ به الحقَّ، وأزهق به الباطل، ويكون الدِّين لي واصباً.
ذكر في (حقِّ اليقين) كيفيَّة ولادته (عليه السلام) بهذا النحو أيضاً، وزاد عليه بعض
الروايات، منها رواية محمّد بن عثمان العمري أنَّه قال: لـمَّا وُلِدَ السيِّد (عليه السلام) قال أبو محمّد (عليه السلام): «ابعثوا إلى أبي عمرو»، فبُعِثَ إليه، فصار إليه، فقال: «اشتر عشرة آلاف رطل خبزاً، وعشرة آلاف رطل لحماً، وفرِّقه»، أحسبه قال: «على بني هاشم، وعُقَّ عنه بكذا وكذا شاة».
وروت نسيم ومارية أَمَتا الحسن بن عليٍّ (عليه السلام)، قالتا: لـمَّا سقط صاحب الزمان من بطن أُمِّه، سقط جاثياً على ركبتيه، رافعاً سبّابته إلى السماء، ثمّ عطس فقال: «الحمد لله ربِّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله، زعمت الظلمة أنَّ حجَّة الله داحضة، ولو أُذِنَ لنا في الكلام لزال الشكُّ».
وروي عن نسيم أنَّها أيضاً قالت: قال لي صاحب الزمان وقد دخلت عليه بعد ميلاده بليلة فعطست، فقال: «يرحمكِ الله»، قالت نسيم: ففرحت بذلك، فقال: ألَا أُبشِّرك بالعطاس؟»، فقلت: بلى، فقال: هو أمان من الموت إلى ثلاثة أيّام(20).
[في أسمائه وألقابه (عجَّل الله فرجه)]:
وأمَّا أسماؤه وألقابه الشـريفة؛ فاعلم أنَّ شيخنا المرحوم ثقة الإسلام النوري (رحمه الله) ذكر في كتابه (النجم الثاقب)(21) اثنين وثمانين ومائة اسم له (عليه السلام)، ونكتفي هنا بذكر بعضها:
الأوَّل: بقيَّة الله:
فقد روي أنَّه (عليه السلام) إذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة، واجتمع إليه ثلاثمائة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20) راجع الروايات الواردة في كيفيَّة ولادته (عجَّل الله فرجه) في: كمال الدِّين (ص 426/ باب ما روي في ميلاد القائم صاحب الزمان...)، الهداية الكبرى (ص 355 - 357)؛ الغيبة للطوسي (ص 229/ فصل الكلام في ولادة صاحب الزمان (عليه السلام)...)؛ الثاقب في المناقب (ص 584/ فصل في بيان ظهور آياته (عليه السلام) في حال ولادته وبعدها).
(21) النجم الثاقب (ج 1/ ص 165 - 268، الباب الثاني).
وثلاثة عشر رجلاً، وأوَّل ما ينطق به هذه الآية: ﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ...﴾ [هود: 86]، ثمّ يقول: «أنا بقيَّة الله في أرضه، وخليفته وحجَّته عليكم، فلا يُسلِّم عليه مسلِّم إلَّا قال: السلام عليك يا بقيَّة الله في أرضه»(22).
الثاني: الحجَّة:
وهذا اللقب من ألقابه الشائعة، الوارد كثيراً في الأدعية والأخبار، وذكره أكثر المحدِّثين، وهذا اللقب مع أنَّه مشترك بين سائر الأئمَّة (عليهم السلام) - فإنَّهم حُجَج الله على خلقه - لكنَّه اختص به (عليه السلام) بحيث لو ذُكِرَ بدون قرينة لكان المقصود هو لا غيره، وقيل: إنَّ لقبه (عليه السلام) (حجَّة الله) بمعنى غلبة الله أو سلطته على خلقه؛ لأنَّ كليهما يتحقَّقان عند ظهوره (عجَّل الله فرجه).
ونقش خاتمه (عليه السلام): (أنا حجَّة الله)(23).
الثالث: الخلف والخلف الصالح:
ذُكِرَ هذا اللقب على ألسنتهم (عليهم السلام) كثيراً، والمراد من الخلف الذي يقوم مقام غيره، فهو (عليه السلام) خلف جميع الأنبياء والأوصياء، ووارث جميع صفاتهم وعلومهم وخصائصهم، وسائر مواريث الله التي كانت لديهم.
وذُكِرَ في حديث اللوح المعروف الذي رآه جابر عند فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعد ذكر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنَّه: «... ثمّ أكمل ذلك بابنه رحمة للعالمين، عليه كمال موسى، وبهاء عيسى، وصبر أيّوب...»(24).
وجاء في رواية المفضَّل المشهورة أنَّ الإمام (عليه السلام) حينما يظهر يدخل الكعبة، ثمّ يُسنِد ظهره إليها ويقول: «يا معشر الخلائق، ألَا ومن أراد أنْ ينظر إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(22) كمال الدِّين (ص 330 و331/ باب 32/ ح 16).
(23) لم نجده في المصادر التي بأيدينا.
(24) كمال الدِّين (ص 308 - 311/ باب 28/ ح 1)؛ الكافي (ج 1/ ص 527 و528/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهم السلام)/ ح 3).
آدم وشيث، فها أنا ذا آدم وشيث...»، ثمّ يذكر (عليه السلام) على هذا النسق سائر الأنبياء من نوح وسام وإبراهيم وإسماعيل وموسى ويوشع وشمعون ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسائر الأئمَّة (عليهم السلام)(25).
الرابع: الشريد:
ذكر الأئمَّة (عليهم السلام) هذا اللقب كثيراً، لاسيّما أمير المؤمنين والإمام الباقر (عليهما السلام)(26)، والشريد بمعنى الطريد من قِبَل هؤلاء الناس الذين ما رعوه حقَّ رعايته، وما عرفوا قدره وحقَّه (عليه السلام)، ولم يشكروا هذه النعمة، بل سعى الأوائل بعد اليأس من الظفر به والقضاء عليه إلى قتل وقمع الذرّيَّة الطاهرة لآل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسعى أخلافهم إلى إنكاره ونفي وجوده باللسان والقلم، وأقاموا الأدلَّة والبراهين على نفي ولادته ومحو ذكره.
وقد قال هو (عليه السلام) لإبراهيم بن عليِّ بن مهزيار: «إنَّ أبي (صلوات الله عليه) عهد إليَّ أنْ لا أُوطِّن من الأرض إلَّا أخفاها وأقصاها، إسراراً لأمري وتحصيناً لمحلّي من مكائد أهل الضلال والمردة...»، إلى أنْ قال: «فعليك يا بنيَّ بلزوم خوافي الأرض وتتبُّع أقاصيها، فإنَّ لكلِّ وليٍّ من أولياء الله (عزَّ وجلَّ) عدوًّا مقارناً(27) وضدًّا منازعاً...»(28).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25) بحار الأنوار (ج 53/ ص 9)؛ مختصر بصائر الدرجات (ص 184).
(26) عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «صاحب هذا الأمر الشريد الطريد الفريد الوحيد» (كمال الدِّين: ص 303/ باب 26/ ح 13).
وعن أبي الجارود، عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ (عليهما السلام) أنَّه قال: «صاحب هذا الأمر هو الطريد الشريد الموتور بأبيه المكنّى بعمِّه المفرد من أهله، اسمه اسم نبيٍّ» (الغيبة للنعماني: ص 184/ باب 10/ فصل 4/ ح 23).
(27) في المصدرين: (مقارعاً).
(28) بحار الأنوار (ج 52/ ص 34 و35/ ضمن الحديث 28)، عن كمال الدِّين (ص 447 و448/ باب 43/ ح 19).
الخامس: الغريم:
وهو من ألقابه الخاصَّة، ويُطلَق عليه (عليه السلام) في الأخبار كثيراً(29)، والغريم بمعنى الدائن والمقرض، ويُستَعمل بمعنى المدين والمقروض أيضاً، والمراد هنا المعنى الأوَّل على الأظهر، ويُستَعمل هذا اللقب تقيَّةً كما يُستَعمل لقب (الغلام) له (عليه السلام)(30)، فكان الشيعة يُطلِقون هذا اللقب عليه إذا أرادوا إرسال الأموال إليه أو إلى أحد وكلائه، وكذا حينما يوصون بشيء له، أو يريدون أخذ المال له من الغير، لأنَّه (عليه السلام) كان له أموال في ذمَّة الزُّرّاع والتُّجّار وأرباب الحِرَف والصناعات.
وقال العلَّامة المجلس (رحمه الله): يحتمل أنْ يكون المراد من الغريم هو المعنى الثاني أي المدين، وذلك لتشابه حاله (عليه السلام) مع حال المديون الذي يفرُّ من الناس مخافة أنْ يطالبوه، أو بمعنى أنَّ الناس يطلبونه (عليه السلام) لأجل أخذ الشـرائع والأحكام وهو يفرُّ عنهم تقيَّةً، فهو الغريم المستتر (صلوات الله عليه)(31).
السادس: القائم:
أي القائم في أمر الله؛ لأنَّه ينتظر أمره تعالى ويرتقب الظهور ليلاً ونهاراً.
وقد روي أنَّه (عليه السلام) سُمّي بالقائم لقيامه بالحقِّ(32)، وفي رواية الصقر بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29) عن محمّد بن صالح، قال: لـمَّا مات أبي وصار الأمر لي كان لأبي على الناس سفاتج من مال الغريم، فكتبت إليه أُعلمه، فكتب: «طالبهم واستقض عليهم...» (الكافي: ج 1/ ص 521 و522/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 15).
(30) عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أنْ يقوم»، قال: قلت: ولِـمَ؟ قال: «يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه -...». (الكافي: ج 1/ص 337/باب في الغيبة/ح 5).
(31) راجع: بحار الأنوار (ج 51/ ص 298/ ذيل الحديث 15).
(32) بحار الأنوار (ج 51/ ص 30/ ح 7)، عن الإرشاد (ص 383).
دلف أنَّه قال لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا (عليه السلام): ... يا بن رسول الله ولِـمَ سمّي القائم؟ قال: «لأنَّه يقوم بعد موت ذكره، وارتداد أكثر القائلين بإمامته»(33).
وروي عن أبي حمزة الثمالي أنَّه قال: سألت الباقر (صلوات الله عليه): يا بن رسول الله، ألستم كلُّكم قائمين بالحقِّ؟ قال: «بلى»، قلت: فَلِمَ سُمّي القائم قائماً؟ قال: «لـمَّا قُتِلَ جدِّي الحسين (صلوات الله عليه) ضجَّت الملائكة إلى الله (عزَّ وجلَّ) بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا وسيِّدنا أتغفل عمَّن قتل صفوتك وابن صفوتك، وخيرتك [وابن خيرتك] من خلقك، فأوحى الله (عزَّ وجلَّ) إليهم: قرُّوا ملائكتي، فوَعزَّتي وجلالي لأنتقمنَّ منهم ولو بعد حين، ثمّ كشف الله (عزَّ وجلَّ) عن الأئمَّة من ولد الحسين (عليهم السلام) للملائكة، فسرَّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائم يُصلّي، فقال الله (عزَّ وجلَّ): بذلك القائم أنتقم منهم»(34).
يقول المؤلِّف: سيأتي في الفصل السادس كلام حول استحباب القيام عند ذكر هذا الاسم المبارك تعظيماً له(35).
السابع: (مُ حَ مَّ دْ):
صلّى الله عليه وعلى آبائه وأهل بيته، وهو اسمه الذي سُمّي به، كما ورد في الأخبار الكثيرة المتواترة من طُرُق الخاصَّة والعامَّة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «المهدي من ولدي اسمه اسمي»(36).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) بحار الأنوار (ج 51/ ص 30/ ح 4)، عن كمال الدِّين (ص 378/ باب 36/ ح 3).
(34) بحار (ج 51/ ص 28 و29/ ح 1)، عن علل الشرائع (ج 1/ ص 160/ باب 129/ ح 1)؛ وليس فيهما ما بين المعقوفتين.
(35) يأتي في (ص 169)، فراجع.
(36) راجع: كمال الدِّين (ص 286/ باب 25/ ح 1)؛ ينابيع المودَّة (ج 3/ ص 386/ ح 16).
وجاء اسمه (عليه السلام) في حديث اللوح المستفيض بهذا الشكل: «أبو القاسم محمّد بن الحسن هو حجَّة الله [تعالى على خلقه] القائم»(37).
ولكن لا يخفى أنَّ مقتضى الأخبار الكثيرة المعتبرة حرمة ذكر هذا الاسم الشـريف في المحافل والمجالس إلى أنْ يظهر (عليه السلام)(38)، وهذا الحكم من خصائصه (عليه السلام)، ومن المسلَّمات عند الإماميَّة والفقهاء والمتكلِّمين والمحدِّثين، بل يظهر من كلام الشيخ الأقدم الحسن بن موسى النوبختي أنَّ هذا الحكم من خصائص مذهب الإماميَّة(39)، ولم يُنقَل عنهم خلاف ذلك إلى زمن الخواجة نصير الدِّين الطوسي الذي قال بالجواز، ثمّ لم يُنقَل خلافه بعد ذلك إلَّا من صاحب (كشف الغمَّة)(40).
وصارت هذه المسألة في زمن الشيخ البهائي مطرحاً للبحث والنقاش بين الفضلاء والعلماء، فكتبوا كُتُباً ورسائل حولها، منها (شرعة التسمية) للمحقِّق الداماد، ورسالة (تحريم التسمية) للشيخ سليمان الماحوزي، و(كشف التعمية) لشيخنا الحُرِّ العاملي (رضوان الله عليهم)، وغير ذلك، وتفصيل الكلام مذكور في كتاب (النجم الثاقب)(41).
الثامن: المهدي (صلوات الله عليه):
من أشهر أسمائه وألقابه عند جميع الفِرَق الإسلاميَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(37) كمال الدِّين (ص 307/ باب 27/ ح 1).
(38) عن أبي أحمد محمّد بن زياد الأزدي، عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) في حديث أنَّه قال: «... ذلك ابن سيِّدة الإماء الذي تخفى على الناس ولادته، ولا يحلُّ لهم تسميته حتَّى يُظهِره الله (عزَّ وجلَّ)، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً». (كمال الدِّين: ص 368 و369/ باب 34/ ح 6).
(39) راجع: فِرَق الشيعة (ص 168).
(40) راجع: كشف الغمَّة (ج 3/ ص 326).
(41) راجع: النجم الثقاب (ج 1/ ص 220 و221).
التاسع: المنتظَر:
أي الذي يُنتَظر، حيث إنَّ جميع الخلائق تنتظر قدوم طلعته البهيَّة.
العاشر: الماء المعين:
روي في (كمال الدِّين) و(غيبة الشيخ) عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30]، فقال: «هذه نزلت في القائم، يقول: إنْ أصبح إمامكم غائباً عنكم لا تدرون أين هو، فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماء والأرض، وحلال الله (جلَّ وعزَّ) وحرامه»، ثمّ قال: «والله ما جاء تأويل [هذه] الآية، ولا بدَّ أنْ يجيء تأويلها»(42).
وهناك عدَّة أخبار بهذا المضمون فيهما، وكذا في الغيبة للنعماني، وتأويل الآيات، ووجه تشبيهه (عليه السلام) بالماء باعتباره سبباً لحياة كلِّ ظاهر، بل إنَّ تلك الحياة قد وُجِدَت وتوجد بسبب وجوده المعظَّم بمراتب أعلى وأتمّ وأدوم من الحياة التي يوجدها الماء، بل إنَّ حياة نفس الماء من وجوده (عليه السلام).
وقد روي في (كمال الدِّين) عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾ [الحديد: 17]، قال: «يُحييها الله (عزَّ وجلَّ) بالقائم [(عليه السلام)] بعد موتها، يعني بموتها كفر أهلها، والكافر ميِّت»(43).
وعلى رواية الشيخ الطوسي أنَّه يُصلِح الأرض بقائم آل محمّد من بعد موتها، يعني من بعد جور أهل مملكتها(44).
ولا يخفى أنَّ الناس ينتفعون من هذه العين الربّانيَّة الفيّاضة في أيّام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(42) كمال الدِّين (ص 325 و326/ باب 32/ ح 3)؛ الغيبة للطوسي (ص 158/ ح 115).
(43) بحار الأنوار (ج 51/ ص 54/ ح 37)، عن كمال الدِّين (ص 668/ باب 58/ ح 13).
(44) الغيبة للطوسي (ص 175/ ح 131).
ظهوره؛ كالعطشان الذي يرى نهراً عذباً، فلا همَّ له سوى الاغتراف منه، فلذا سُمّي (عليه السلام) بالماء المعين، وأمَّا في الغيبة حيث انقطع عن الناس اللطف الإلهي الخاصُّ لسوء أفعالهم وأعمالهم، فلا بدَّ من التعب والمشقَّة والدعاء والتضـرُّع لتحصيل الفيض منه (عليه السلام)؛ كالعطشان الذي يريد إخراج الماء من بئر عميق بواسطة الوسائل القديمة والمتعبة، فلذا قيل له (عليه السلام): (البئر المعطَّلة)، ولا يسع المقام أكثر من هذا الشرح.
شمائله (عليه السلام) المباركة:
روي أنَّه (عليه السلام) كان أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خَلْقاً وخُلُقاً(45)، وكانت شمائله شمائل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(46).
وملخَّص الروايات التي تُبيِّن شمائله (عليه السلام) هي ما يلي:
كان (عليه السلام) أبيضاً، مشرباً حمرة، أجلى الجبين، أقنى الأنف، غائر العينين، مشرف الحاجبين، له نور ساطع يغلب سواد لحيته ورأسه، بخدِّه الأيمن خال، وعلى رأسه فرق بين وفرتين كأنَّ ألفٌ بين واوين، أفلج الثنايا، برأسه حزاز(47)، عريض ما بين المنكبين، أسود العينين، ساقه كساق جدِّه أمير المؤمنين (عليه السلام) وبطنه كبطنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(45) عن أبي بصير، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلْقاً وخُلُقاً، تكون له غيبة وحيرة حتَّى تضلُّ الخلق عن أديانهم، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب، فيملأها قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً» (كمال الدِّين: ص 287/ باب 25/ ح 4).
(46) عن هشام بن سالم، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدِّه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «القائم من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، وشمائله شمائلي، وسُنَّته سُنَّتي...» (كمال الدِّين: ص 411/ باب 39/ ح 6).
(47) الحَزاز - بالفَتْح -: الهِبْرِيَةُ في الرأسِ، وكأنَّه نُخالَةٌ، والحَزازةُ واحدَتُه. (تاج العروس: ج 8/ص 48).
وورد أنَّ المهدي طاوس أهل الجنَّة، وجهه كالقمر الدُّرّي، عليه جلابيب النور، عليه جيوب النور تتوقَّد بشعاع ضياء القدس، ليس بالطويل الشامخ، ولا بالقصير اللّازق، بل مربوع القامة، مدوَّر الهامة، على خدِّه الأيمن خال كأنَّه فتاة مسك على رضراضة عنبر، له سمت ما رأت العيون أقصد منه، صلّى الله عليه وعلى آبائه الطاهرين(48).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(48) راجع: كمال الدِّين (ص 407 و446 و457 و653/ باب 38 و43 و57/ ح 2 و19 و21 و17)؛ الغيبة للنعماني (ص 223 و224/ باب 13/ ح 2 و3)؛ كفاية الأثر (ص 159)؛ الغيبة للطوسي (ص 226 و470/ ح 228 و487)؛ العمدة لابن بطريق (ص 439/ ح 922)؛ الطرائف لابن طاوس (ص 178/ ح 282).
1 - غلبة نور ظلِّه في عالم الملكوت على نور سائر الأئمَّة (عليهم السلام)؛ كما ورد في جملة من الأخبار المعراجيَّة بأنَّ نوره (عليه السلام) يزهر ويسطع من بين أنوار سائر الأئمَّة، كما تزهر النجمة الوضّاءة من بين سائر النجوم: «يتلألأ وجهه من بينهم نوراً كأنَّه كوكبٌ دُرّي...»(49).
2 - شرافة النسب؛ فإنَّه (عليه السلام) قد حاز شرافة نسب جميع آبائه الطاهرين (عليهم السلام)، فإنَّ نسبهم أشرف الأنساب، وينتهي نسبه (عليه السلام) من قِبَل أُمِّه إلى قياصرة الروم، المنتهي نسبهم إلى شمعون الصفا وصيِّ عيسى (عليهما السلام)(50)، المنتهي نسبه إلى كثير من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام).
3 - عروجه (عليه السلام) إلى ملكوت السماوات يوم ولادته بواسطة مَلَكين، وخطاب الله تعالى له: «مرحباً بك عبدي لنصرة ديني، وإظهار أمري، ومهديّ عبادي، آليت أنّي بك آخذ، وبك أُعطي، وبك أغفر، وبك أُعذِّب...»(51).
4 - بيت الحمد؛ وقد روي «أنَّ لصاحب الأمر (عليه السلام) بيتاً يقال له: بيت الحمد، فيه سراج يزهر منذ يوم وُلِدَ إلى يوم يقوم بالسيف، لا يطفأ»(52).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(49) إرشاد القلوب (ج 2/ ص 416).
(50) لا ينتهي نسب القياصرة إلى شمعون، بل أُمِّ نرجس (عليها السلام) من ولد الحواريِّين تُنسَب إلى وصيِّ المسيح شمعون، كما ورد في كمال الدِّين (ص 420/ باب 41/ ح 1).
(51) بحار الأنوار (ج 51/ ص 27/ ح 37).
(52) بحار الأنوار (ج 52/ص 158/ح 21)، عن الغيبة للنعماني (ص 245/باب 13/ح 31).
5 - الجمع بين كنية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واسمه المبارك(53)؛ وروي في (المناقب): «سمُّوا باسمي ولا تكنُّوا بكنيتي»(54).
6 - حرمة ذكر اسمه المبارك، كما مرَّ ذكره(55).
7 - أنَّه خاتم الأوصياء والحُجَج في الأرض(56).
8 - غيبته منذ ولادته واستيداعه عند روح القُدُس، ونموُّه وتربيته في عالم النور وفضاء القُدْس، بحيث لم يتلوَّث أيُّ جزء من أجزائه بقذارات ومعاصي العباد والشياطين، بل كان (عليه السلام) يجالس الملأ الأعلى والأرواح القدسيَّة.
9 - عدم معاشرته ومجالسته الكُفّار والمنافقين والفُسّاق، وذلك للتقيَّة؛ فقد غاب (عليه السلام) منذ ولادته، ولم تصل إليه يد ظالم ولا كافر ولا منافق، ولم يصاحب أحداً منهم.
10 - لم يكن في عنقه بيعة لأحد من الجبّارين؛ وقد روي في (إعلام الورى) عن الإمام الحسن العسكري أنَّه قال: «... ما منّا أحد إلَّا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه، إلَّا القائم الذي يُصلّي روح الله عيسى ابن مريم خلفه...»(57).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(53) عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي...» (كمال الدِّين: ص 286/ باب 25/ ح 1).
(54) مناقب آل أبي طالب (ج 1/ ص 200).
(55) مرَّ في (ص 25)، فراجع.
(56) روى علّان، قال: حدَّثني ظريف أبو نصر الخادم، قال: دخلت عليه - يعني صاحب الزمان (عليه السلام) -، فقال لي: «عليَّ بالصندل الأحمر»، فقال: فأتيته به، فقال (عليه السلام): «أتعرفني؟»، قلت: نعم، قال: «من أنا؟»، فقلت: أنت سيِّدي وابن سيِّدي، فقال: «ليس عن هذا سألتك»، قال ظريف: فقلت: جعلني الله فداك فسِّر لي، فقال: «أنا خاتم الأوصياء، وبي يدفع الله البلاء عن أهلي وشيعتي» (الغيبة للطوسي: ص 246/ ح 215).
(57) إعلام الورى (ج 2/ ص 229 و230)، عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام).
11 - له علامة على ظهره كالعلامة التي على ظهر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التي يقال لها علامة ختم النبوَّة، ولعلَّها فيه (عليه السلام) تدلُّ على ختم الوصاية.
12 - اختصاصه بأنَّ الله تعالى ذكره في الكُتُب السماويَّة والأخبار المعراجيَّة بلقبه، بل بألقاب متعدِّدة من دون ذكر اسمه.
13 - ظهور آيات غريبة وعلامات سماويَّة وأرضيَّة عند ظهوره (عليه السلام)، والتي لم تكن لأحد من الأئمَّة قبله، حتَّى إنَّه روي في (الكافي) عن أبي بصير، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: سألته عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْأَفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...﴾ [فُصِّلت: 53]، قال: «يريهم في أنفسهم المسخ، ويريهم في الآفاق انتقاض الآفاق عليهم، فيرون قدرة الله (عزَّ وجلَّ) في أنفسهم وفي الآفاق»، قلت له: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾، قال: «خروج القائم هو الحقُّ من عند الله (عزَّ وجلَّ)، يراه الخلق لا بدَّ منه»(58).
وهذه الآيات والعلامات كثيرة حتَّى إنَّ البعض عدَّها أربعمائة آية.
14 - سماع نداء من السماء حين ظهوره، كما ورد ذلك في روايات كثيرة، روى عليُّ به إبراهيم في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ [ق: 41]، قال: «ينادي المنادي باسم القائم (عليه السلام) واسم أبيه [(عليه السلام)]»(59).
وروي في (غيبة النعماني) عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «... ينادي منادٍ من السماء باسم القائم (عليه السلام)، فيسمع من بالمشرق ومن بالمغرب، لا يبقى راقد إلَّا استيقظ، ولا قائم إلَّا قعد، ولا قاعد إلَّا قام على رجليه فزعاً من ذلك الصوت، فرحم الله من اعتبر بذلك الصوت فأجاب، فإنَّ الصوت الأوَّل هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(58) الكافي (ج 8/ ص 381/ ح 575)، عنه بحار الأنوار (ج 51/ ص 62 و63/ ح 63).
(59) تفسير القمّي (ج 2/ ص 327).
صوت جبرئيل الروح الأمين»(60)، وهو في شهر رمضان شهر الله ليلة الجمعة في الثالث والعشرين منه.
والأخبار بهذا المضمون كثيرة، بل تجاوزت حدَّ التواتر.
15 - بطء حركة الأفلاك وتقليل سرعتها حين ظهوره (عليه السلام)، كما روى الشيخ المفيد عن أبي بصير، عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) أنَّه قال في خبر طويل يذكر فيه سيرة القائم (عليه السلام)، إلى أنْ قال: «... فيمكث على ذلك سبع سنين كلُّ سنة عشر سنين من سنينكم هذه، ثمّ يفعل الله ما يشاء»، قال: قلت له: جُعلت فداك، فكيف يطول السنين؟ قال: «يأمر الله تعالى الفلك باللبوث وقلَّة الحركة، فتطول الأيّام لذلك والسنون»، قال: قلت له: إنَّهم يقولون: إنَّ الفلك إنْ تغيَّر فسد، قال: «ذلك قول الزنادقة، فأمَّا المسلمون فلا سبيل لهم إلى ذلك، وقد شقَّ الله تعالى القمر لنبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وردَّ الشمس قبله ليوشع بن نون (عليه السلام)، وأخبر بطول يوم القيامة وأنَّه: ﴿كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحجّ: 47]»(61).
16 - ظهور مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي دوَّنه بعد وفاة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من دون تغيير وتبديل، وفيه كلُّ ما نزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على سبيل الإعجاز، إذ بعد ما أكمله الإمام (عليه السلام) عرضه على الصحابة فأبوا أنْ يقبلوه فأخفاه، فالمصحف باقٍ على حاله حتَّى يُظهِره القائم (عليه السلام)، ويأمر الناس بقراءته وحفظه، وهذا الأمر من التكاليف الشاقَّة عليهم، لاختلاف ترتيبه مع المصحف الموجود الذي أنسوا به.
17 - تظليل غمامة على رأسه الشريف دائماً، وصوت منادٍ من تلك الغمامة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(60) الغيبة للنعماني (ص 262 و263/باب 14/ح 13)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ص 230/ح 96).
(61) الإرشاد (ج 2/ ص 385).
بحيث يسمعه الثقلان بأنَّ هذا مهدي آل محمّد (عليهم السلام)، يملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً(62)، وهذا النداء غير الذي مرَّ في الرقم الرابع عشر.
18 - حضور الملائكة والجنِّ في عسكره (عليه السلام) لنصرته.
19 - عدم تغيُّر هيأته وهندامه بمرور الأيّام والسنين، وبقائه على قوَّته ومزاجه وهيأته الأُولى، فإنَّه (عليه السلام) حينما يظهر (مع ما مضى من عمره الشريف إلى حدِّ الآن وهو (1095) سنة والله العالم إلى أين يصل هذا الرقم إلى أنْ يظهر (عليه السلام)) يكون على هيأة الرجل الذي مضى من عمره ثلاثون أو أربعون سنة، وكلُّ طويل عمر من الأنبياء وغيرهم يشكو الشيب، فتارةً يكون معنيًّا ولم يكن كسائر المعمِّرين من الأنبياء وغيرهم حيث رُمي بعضهم بالشيب كما ورد في القرآن: ﴿وَهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: 72]، وآخر يشكو ضعفه: ﴿إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً﴾ [مريم: 4].
روى الشيخ الصدوق عن أبي الصلت الهروي أنَّه قال: قلت للرضا (عليه السلام): ما علامات القائم منكم إذا خرج؟ قال: «علامته أنْ يكون شيخ السنِّ، شابُّ المنظر، حتَّى إنَّ الناظر إليه ليحسبه ابن أربعين سنة أو دونها»(63).
20 - عدم استيحاش الحيوانات بعضها من البعض الآخر، وذهاب خوفها من الإنسان أيضاً، والأُلفة بينها كالحال التي كانت قبل مقتل هابيل.
روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «... ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهب الشحناء من قلوب العباد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(62) عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يخرج المهدي وعلى رأسه غمامة فيها منادٍ ينادي: هذا المهدي خليفة الله». (بحار الأنوار: ج 51/ ص 81/ ضمن الحديث 37، عن كشف الغمَّة: ج 3/ ص 270/ ح 16).
(63) كمال الدِّين (ص 652/ باب 57/ ح 12)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 285/ ح 16).
واصطلحت السباع والبهائم حتَّى تمشـي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلَّا على النبات، وعلى رأسها زينتها لا يُهيِّجها سبع ولا تخافه...»(64).
21 - إحياء بعض الموتى وحضورهم في ركابه؛ وقد روى الشيخ المفيد أنَّه يخرج مع القائم (عليه السلام) من ظهر الكوفة سبعة وعشرون رجلاً، خمسة عشر من قوم موسى (عليه السلام) الذين كانوا يهدون بالحقِّ وبه يعدلون، وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وسلمان، وأبو دجانة الأنصاري، والمقداد، ومالك الأشتر، فيكونون بين يديه أنصاراً وحُكّاماً»(65).
وروي عن الصادق (عليه السلام) أنَّه من دعا إلى الله أربعين صباحاً بهذا العهد وهو: «اللَّهُمَّ ربَّ النور العظيم» كان من أنصار قائمنا، وإنْ مات أخرجه الله إليه من قبره [وأعطاه الله بكلِّ كلمة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيِّئة](66).
22 - إخراج الأرض كنوزها وذخائرها المختبئة فيها(67).
23 - غزارة الأمطار وكثرة الثمار وسائر النِّعَم، بحيث تختلف حال الأرض حينذاك عمَّا كانت قبله، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرضُ غَيْرَ الْأَرضِ﴾ [إبراهيم: 48](68).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(64) الخصال (ص 626/ حديث أربعمائة)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 316/ ح 11).
(65) الإرشاد (ج 2/ ص 386)، عنه بحار الأنوار (ج 53/ ص 90 و91/ ح 95).
(66) راجع: المزار لابن المشهدي (ص 663)؛ بحار الأنوار (ج 53/ ص 95/ ح 111).
(67) عن عليِّ بن عقبة، عن أبيه، قال: «إذا قام القائم (عليه السلام) حكم بالعدل، وارتفع في أيّامه الجور، وأمنت به السُّبُل، وأخرجت الأرض بركاتها، وردَّ كلَّ حقِّ إلى أهله...»، إلى أن قال: »فحينئذٍ تُظهِر الأرض كنوزها وتُبدي بركاتها، فلا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعا لصدقته ولا لبرِّه، لشمول الغنى جميع المؤمنين» (الإرشاد: ج 2/ ص 384 و385).
(68) عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «تتنعَّم أُمَّتي في زمان المهدي نعمةً لم يتنعَّموا مثلها قطُّ، يُرسِل السماء عليهم مداراً، ولا تدع الأرض شيئاً من نباتها إلَّا أخرجته» (الأربعون حديثاً في المهدي: ج 1/ ص 89).
24 - تكامل الناس ببركة ظهوره (عليه السلام)، حيث يضع (عليه السلام) يده على الرؤوس فيذهب الحقد والحسد اللذان أصبحا من جبلَّة الإنسان الثانويَّة منذ قُتِلَ هابيل، وكثرة علومهم وحكمتهم حيث يُقذَف العلم في قلوب المؤمنين فلا يحتاج المؤمن إلى علم أخيه، فيظهر آنذاك تأويل هذه الآية الشـريفة: ﴿يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130](69).
25 - القوَّة الخارقة للعادة في أبصار وأسماع أصحابه (عليه السلام) بحيث يرون الإمام ويسمعون كلامه من مسافة أربعة فراسخ(70).
26 - طول أعمار أصحابه وأنصاره (عليه السلام)، فقد روي أنَّ الرجل يُعمِّر في ملكه (عليه السلام) حتَّى يولد له ألف ولد ذكر لا يُولَد فيهم أُنثى(71).
27 - ذهاب البلايا والعاهات والضعف عن أنصاره وأعوانه(72).
28 - إعطاء قوَّة أربعين رجلاً لكلٍّ من أصحابه وأنصاره، فتصبح قلوبهم كزبر الحديد حتَّى إنَّهم لو أرادوا قلع جبل من مكانه لفعلوا(73).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(69) راجع: بحار الأنوار (ج 53/ ص 86/ ح 86).
(70) عن أبي الربيع الشامي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ قائمنا إذا قام مدَّ الله (عزَّ وجلَّ) لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتَّى [لا] يكون بينهم وبين القائم بريد، يُكلِّمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه» (الكافي: ج 8/ ص 240 و241/ ح 329).
(71) عن مفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربِّها، واستغنى الناس، ويُعمِّر الرجل في ملكه حتَّى يُولَد له ألف ذكر لا يُولَد فيهم أُنثى...» (الغيبة للطوسي: ص 467 و468/ ح 484).
(72) عن الحسن بن ثوير بن أبي فاختة، عن أبيه، عن عليِّ بن الحسين (عليهما السلام)، قال: «إذا قام قائمنا أذهب الله (عزَّ وجلَّ) عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد، وجعل قوَّة الرجل منهم قوَّة أربعين رجلاً، ويكونون حُكّام الأرض وسنامها» (الخصال: ص 541/ ح 14).
(73) عن عبد المَلِك بن أعين، قال: قمت من عند أبي جعفر (عليه السلام) فاعتمدت على يدي فبكيت، فقال: «ما لك؟»، فقلت: كنت أرجو أنْ أدرك هذا الأمر وبي قوَّة، فقال: «أمَا ترضون أنَّ عدوَّكم يقتل بعضهم بعضاً وأنتم آمنون في بيوتكم. إنَّه لو قد كان ذلك أُعطى الرجل منكم قوَّة أربعين رجلاً وجُعِلَت قلوبكم كزبر الحديد، لو قُذِفَ بها الجبال لقلعتها، وكنتم قُوّام الأرض وخُزّانها» (الكافي: ج 8/ ص 294/ ح 449).
29 - استغناء الخلق بنوره (عليه السلام) عن نور الشمس والقمر، كما روي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرضُ بِنُورِ رَبِّها﴾ [الزمر: 69]، بأنَّ ربَّ الأرض هو الحجَّة (صلّى الله عليه وعلى آبائه)(74).
30 - اصطحابه (عليه السلام) راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(75).
31 - لبسه (عليه السلام) درع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّها لا تستقيم إلَّا على بدنه المبارك(76).
32 - أنَّ الله تعالى سخَّر له (عليه السلام) سحاباً فيه الرعد والبرق،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(74) عن صباح المدائني، قال: حدَّثنا المفضَّل بن عمر أنَّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قوله: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرضُ بِنُورِ رَبِّها﴾، قال: «ربُّ الأرض يعني إمام الأرض»، فقلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: «إذاً يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزون بنور الإمام» (تفسير القمّي: ج 2/ ص 253).
(75) عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، يقول: «الزم الأرض لا تُحرِّكن يدك ولا رجلك أبداً حتَّى ترى علامات أذكرها لك في سنة...»، إلى أنْ قال: «فإذا خرج رجل منهم معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ومعه راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عامداً إلى المدينة حتَّى يمرَّ بالبيداء...» (تفسير العيّاشي: ج 1/ ص 64 - 66/ ح 117).
(76) عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: جُعلت فداك، إنّي أُريد أنْ ألمس صدرك، فقال: «افعل»، فمسست صدره ومناكبه، فقال: «ولِـمَ يا أبا محمّد؟»، فقلت: جُعلت فداك، إنّي سمعت أباك وهو يقول: «إنَّ القائم واسع الصدر، مسترسل المنكبين، عريض ما بينهما»، فقال: «يا [أبا] محمّد، إنَّ أبي لبس درع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكانت تستخب على الأرض، وأنا لبستها فكانت وكانت، وإنَّها تكون من القائم كما كانت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مشمَّرة كأنَّه تُرفَع نطاقها بحلقتين...» (بصائر الدرجات: ص 208 و209/ ج 4/ باب 4/ ح 54).
فيجلس الإمام عليه، فيذهب الغمام به إلى طُرُق السماوات السبع والأرضين السبع(77).
33 - زوال التقيَّة والخوف، والتمكُّن من عبادة الله، وتنظيم أُمور الدِّين والدنيا حسب النواميس الإلهيَّة والأوامر السماويَّة، من دون رفع اليد عن بعضها خوفاً من الأعداء والمخالفين، ومن دون ارتكاب الأعمال غير اللائقة طبقاً لهوى الظالمين؛ وذلك كما وعد الله تعالى في قوله: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضـى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ (النور: 55)(78).
34 - اكتساحه (عليه السلام) العالم وسلطنته على الشرق والغرب، البرِّ والبحر، الجبال والصحاري، ولم يبقَ مكان لم يجر حكمه فيه، والأخبار بهذا المضمون كثيرة: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ﴾ [آل عمران: 83](79).
35 - امتلاء الأرض عدلاً وقسطاً، بحيث لم تخلُ - في الأغلب - رواية نبويَّة أو حديث قدسي - سواء كان خاصًّا وعامًّا - عن البشارة بهذه الفقرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(77) عن عبد الرحيم أنَّه قال: ابتداني أبو جعفر (عليه السلام) فقال: «أمَا إنَّ ذا القرنين قد خُيِّر السحابين فاختار الذلول، وذخر لصاحبكم الصعب»، قلت: وما الصعب؟ قال: «ما كان من سحاب فيه رعد وبرق وصاعقة فصاحبكم يركبه، أمَا إنَّه سيركب السحاب ويرقى في الأسباب أسباب السماوات السبع...» (بصائر الدرجات: ص 428 و429/ ج 8/ باب 15/ ح 1).
(78) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير الآية: «... أي يعبدونني آمنين لا يخافون أحداً من عبادي ليس عندهم تقيَّة...» (بحار الأنوار: ج 53/ ص 47/ ح 20، عن مختصر بصائر الدرجات: ص 33).
(79) عن رفاعة بن موسى، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً﴾، قال: «إذا قام القائم (عليه السلام) لا يبقي أرض إلَّا نودي فيها بشهادة أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمّداً رسول الله» (تفسير العيّاشي: ج 1/ ص 183/ ح 81).
36 - حكمه (عليه السلام) بين الناس وقضاؤه فيهم بعلم الإمامة من دون احتاج إلى حضور شاهد أو بيِّنة كحكم داود وسليمان (عليهما السلام)(80).
37 - إتيانه (عليه السلام) بأحكام مخصوصة جديدة لم تكن ظاهرة وجارية من قبل، كقتله الشيخ الزاني، ومانع الزكاة، وأنَّه يُورِّث الأخ أخاه في الأظلَّة(81) أي اللذان عُقِدَ بينهما عقد الأُخوَّة في عالم الذرِّ، وقال الشيخ الطبرسي: إنَّه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقَّه في الدِّين(82).
38 - ظهور جميع مراتب العلوم، كما روى القطب الراوندي في (الخرائج) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «العلم سبعة وعشـرون جزءاً، فجميع ما جاءت به الرُّسُل جزءان، فلم يعرف الناس حتَّى اليوم غير الجزءين، فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشـرين جزءاً، فبثَّها في الناس، وضمَّ إليها الجزءين حتَّى يبثَّها سبعة وعشرين جزءاً»(83).
39 - مجيء سيوف من السماء لأنصاره (عليه السلام)(84).
40 - إطاعة الحيوانات لأنصاره (عليه السلام).
41 - خروج نهرين من ماء ولبن في ظهر الكوفة مقرِّ خلافته(عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(80) عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «... يا أبا عبيدة، إذا قام قائم آل محمّد (عليه السلام) حكم بحكم داود وسليمان لا يسأل بيِّنة» (الكافي: ج 1/ ص 397/ باب في الأئمَّة (عليهم السلام) أنَّهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود.../ ح 1).
(81) راجع: الخصال (ص 169/ ح 223)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 309/ ح 2).
(82) إعلام الورى (ج 2/ ص 310/ المسألة السابعة).
(83) الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 841/ ح 59)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 336/ ح 73)، وفيه: (حرفاً) بدل (جزءاً).
(84) عن ابن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إذا قام القائم نزلت سيوف القتال، على كلِّ سيف اسم الرجل واسم أبيه» (الغيبة للنعماني: ص 251/ باب 13/ ح 45).
من صخرة نبيِّ الله موسى (عليه السلام)، كما روي في (الخرائج) عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «إذا قام القائم بمكَّة وأراد أنْ يتوجَّه إلى الكوفة نادى منادٍ: ألَا لا يحمل أحد منكم طعاماً ولا شراباً، ويحمل معه حجر موسى بن عمران (عليه السلام) الذي انبجست منه اثنتا عشـرة عيناً، فلا ينزل منزلاً إلَّا نصبه، فانبعثت منه العيون، فمن كان جائعاً شبع، ومن كان ظمآناً روي، فيكون زادهم حتَّى ينزلوا النجف من ظاهر الكوفة، فإذا نزلوا ظاهرها انبعث منه الماء واللبن دائماً، فمن كان جائعاً شبع، ومن كان عطشاناً روي»(85).
42 - نزول نبيِّ الله عيسى (عليه السلام) من السماء لنصرته (عليه السلام)، وصلاته خلف المهدي (عليه السلام)، كما ورد ذلك في روايات كثيرة، وعدَّ الله تعالى هذه من مناقبه وفضائله (عليه السلام) كما روي في كتاب المحتضـر للحسن بن سليمان الحلّي في خبر طويل أنَّ الله تعالى قال لرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليلة المعراج: «... وقد جعلت فضيلة له أنْ أخرج من صلبه [أي عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)] أحد عشر مهديًّا كلُّهم من ذرّيَّتك من البكر البتول، وآخر رجل منهم يُصلّي خلفه عيسى بن مريم، يملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، أُنجي به من الهلكة، وأُهدي به من الضلالة، وأُبرئ به الأعمى، وأُشفي به المريض»(86).
43 - قتل الدجّال اللعين الذي هو من عذاب الله على أهل القبلة، كما روى عليُّ بن إبراهيم عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ [الأنعام: 64]، قال: «هو الدخّان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(85) الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 690/ ح 1)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 335/ ح 67).
(86) المحتضر (ص 248/ ح 337)؛ وفي بحار الأنوار (ج 51/ ص 69 و70/ ح 11)، عن كمال الدِّين (ص 251/ باب 23/ح 1).
والصيحة [والدجّال]»(87)، وأضاف أنَّه ما من نبيٍّ مرسَل إلَّا وقد حذَّر الناس من فتنة الدجّال(88).
44 - عدم جواز التكبير على جنازة أحد بسبع تكبيرات بعد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلَّا عليه.
45 - إنَّ تسبيحه (عليه السلام) من اليوم الثامن عشر إلى آخر الشهر؛ واعلم أنَّ للحُجَج الطاهرة (عليهم السلام) تسبيحاً في أيّام الشهر، ففي اليوم الأوَّل تسبيح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وتسبيح أمير المؤمنين (عليه السلام) في اليوم الثاني، وتسبيح الزهراء (عليها السلام) في اليوم الثالث، وهكذا باقي الأئمَّة إلى الإمام الرضا (عليه السلام) فتسبيحه في اليوم العاشر والحادي عشر، وتسبيح الإمام الجواد (عليه السلام) في اليوم الثاني عشر والثالث عشـر، وتسبيح الإمام الهادي (عليه السلام) في يوم الرابع عشـر والخامس عشر، وتسبيح الإمام العسكري (عليه السلام) في اليوم السادس عشر والسابع عشر، وتسبيح الحجَّة (عليه السلام) في اليوم الثامن عشر إلى آخر الشهر، وإليك تسبيحه: «سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله مداد كلماته، سبحان الله زنة عرشه، والحمد لله مثل ذلك»(89).
46 - انقطاع دولة الجبابرة والظالمين بظهوره ووجوده، ودوام دولته (عليه السلام) أو دولة أولاده إلى يوم القيامة أو رجعة سائر الأئمَّة (عليهم السلام)، وقد روي أنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) كان كثيراً ما يُكرِّر هذا البيت:
لكلِّ أُناس دولة يرقبونها * * * ودولتنا في آخر الدهر تظهرُ(90)
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(87) تفسير القمّي (ج 1/ ص 204)، وليس فيها ذكر الدجّال.
(88) راجع: كمال الدِّين (ص 529/ باب 47/ ح 2).
(89) الدعوات للراوندي (ص 94/ ح 228)، عنه بحار الأنوار (ج 91/ ص 207/ ح 3).
(90) أمالي الصدوق (ص 578/ ح 791/4)، عنه بحار الأنوار (ج 51/ ص 143/ ح 3).
ونكتفي هنا بما ذكره العلَّامة المجلسي في كتابه (حقِّ اليقين)(91)، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب (النجم الثاقب).
[المهدي في روايات أهل السُّنَّة]:
قال: اعلم أنَّ الخاصَّة والعامَّة روت أحاديث ظهور المهدي (عليه السلام) وخروجه بطُرُق متواترة، منها ما روي في (جامع الأُصول) عن صحيح البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، عن أبي هريرة، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أنْ ينزل فيكم ابن مريم (صلّى الله عليه) حَكَماً مقسطاً، فيكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية (أي لا يقبل ديناً غير الإسلام) ويفيض المال حتَّى لا يقبله أحد»(92).
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم»(93)، (أي المهدي (عليه السلام)).
وروي في (صحيح مسلم) عن جابر أنَّه قال: سمعت النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «لا تزال طائفة من أُمَّتي يقاتلون على الحقِّ ظاهرين إلى يوم القيامة»، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(91) حقُّ اليقين (فارسي) (ج 1/ ص 294/ المقصد الثامن).
(92) جامع الأُصول (ج 10/ ص 327/ ح 7831)، عن صحيح البخاري (ج 3/ ص 40)، وصحيح مسلم (ج 1/ ص 93)، وسُنَن أبي داود (ج 2/ ص 319/ ح 4324) بتفاوت، وسُنَن الترمذي (ج 3/ ص 344/ ح 2334).
(93) جامع الأُصول (ج 10/ ص 328/ ضمن الحديث 7831)، عن صحيح البخاري (ج 4/ ص 143)، وصحيح مسلم (ج 1/ ص 94).
«فينزل عيسى بن مريم (صلّى الله عليه [وآله] وسلَّم)، فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ لنا، فيقول: لا، إنَّ بعضكم على بعض أُمراء تكرمة الله هذه الأُمَّة»(94).
وروي في مسند أبي داود (والترمذي) عن عبد الله بن مسعود، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم، لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يبعث (الله) فيه رجلاً منّي (أو من أهل بيتي) يواطئ اسمه اسمي...، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً»(95).
وعلى رواية أنَّه: «لا تذهب الدنيا حتَّى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي»(96).
وروي عن أبي هريرة أنَّه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلَّا يوم لطوَّل الله (عزَّ وجلَّ) ذلك اليوم حتَّى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»(97).
وروى في (سُنَن أبي داود) عن عليٍّ (عليه السلام) عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «لو لم يبقَ من الدهر إلَّا يوم، لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما مُلِئَت جوراً»(98).
وروى في (سُنَن أبي داود) أيضاً عن أُمِّ سَلَمة، قالت: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»(99).
وروى أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري أنَّه قال: قال رسول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(94) جامع الأُصول (ج 10/ ص 329 و330/ ح 7832)، عن صحيح مسلم (ج 1/ ص 95).
(95) جامع الأُصول (ج 10/ ص 330/ ح 7833)، عن سُنَن أبي داود (ج 2/ ص 309/ ح 4282).
(96) جامع الأُصول (ج 10/ ص 330/ ضمن الحديث 7833)، عن سُنَن الترمذي (ج 3/ ص 343/ ح 2331).
(97) سُنَن الترمذي (ج 3/ ص 343/ ح 2332).
(98) جامع الأُصول (ج 10 ص 330/ح 7834)، عن سُنَن أبي داود (ج 2/ص 310/ح 4283).
(99) جامع الأُصول (ج 10/ ص 331/ ح 7835)، عن سُنَن أبي داود (ج 2/ ص 310/ ح 4284).
الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «المهدي منّي أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً، يملك سبع سنين»(100).
وروى أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري أنَّه قال: خشينا أنْ يكون بعد نبيِّنا حدث، فسألنا نبيَّ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: «إنَّ في أُمَّتي المهدي يخرج، يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً - زيدٌ [العمّي] الشاكُّ -»، قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: «سنين»، قال: «فيجيء إليه رجل فيقول: يا مهدي، أعطني أعطني»، قال: «فيحثي له في ثوبه ما استطاع أنْ يحمله»(101).
وروي في (سُنَن الترمذي) عن أبي إسحاق أنَّه قال: قال عليٌّ (عليه السلام) - ونظر إلى ابنه الحسن(102) - فقال: «إنَّ ابني هذا سيِّد كما سمّاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسيخرج من صلبه رجل يُسمّى باسم نبيِّكم، يشبهه في الخُلُق و[لا] يشبهه في الخَلْقِ...، يملأ الأرض عدلاً»(103).
وجمع الحافظ أبو نعيم من المحدِّثين المشهورين عند العامَّة أربعين حديثاً من صحاحهم، تشتمل على ذكر صفات وأحوال واسم الإمام المهدي (عليه السلام)، ومن هذه الأحاديث ما رواه عن عليِّ بن هلال عن أبيه أنَّه قال: دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو في الحالة التي قُبِضَ فيها، فإذا فاطمة عند رأسه، فبكت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(100) جامع الأصول (ج 10/ ص 331/ ح 7836)، عن سُنَن أبي داود (ج 2/ ص 310/ ح 4285)، ولم نجده في سُنَن الترمذي.
(101) جامع الأُصول (ج 10/ ص 331/ ضمن الحديث 7836)، عن سُنَن الترمذي (ج 3/ ص 343/ ح 2333)، ولم نجده في سُنَن أبي داود.
(102) الصحيح (الحسين)، كما في العمدة لابن بطريق (ص 434/ ح 912)، وبحار الأنوار (ج 36/ ص 368).
(103) جامع الأُصول (ج 10/ ص 332/ ح 7837)، عن سنن أبي داود (ج 2/ ص 311/ ح 4290)، ولم نجده في سُنَن الترمذي.
حتَّى ارتفع صوتها، فرفع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليها رأسه، وقال: «حبيبتي فاطمة، ما الذي يُبكيكِ؟».
فقالت: «أخشى الضيعة من بعدك».
فقال: «يا حبيبتي، أمَا علمتِ أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) اطَّلع على أهل الأرض اطِّلاعة فاختار منها أباكِ فبعثه برسالته، ثمّ اطَّلع اطِّلاعة فاختار منها بعلكِ وأوحى إليَّ أنْ أُنكحكِ إيّاه. يا فاطمة، ونحن أهل بيت قد أعطانا الله (عزَّ وجلَّ) سبع خصال لم يُعطِ أحداً قبلنا، ولا يُعطي أحداً بعدنا.
أنا خاتم النبيِّين، وأكرم النبيِّين على الله (عزَّ وجلَّ)، وأحبُّ المخلوقين إلى الله (عزَّ وجلَّ)، وأنا أبوكِ، ووصيِّي خير الأوصياء، وأحبُّهم إلى الله (عزَّ وجلَّ) [و]هو بعلكِ، وشهيدنا خير الشهداء، وأحبُّهم إلى الله (عزَّ وجلَّ) وهو حمزة بن عبد المطَّلب عمُّ أبيكِ وعمُّ بعلكِ، ومنّا من له جناحان [أخضران] يطير في الجنَّة مع الملائكة حيث يشاء، وهو ابن عمِّ أبيكِ وأخو بعلكِ، ومنّا سبطا هذه الأُمَّة وهما ابناك الحسن والحسين، وهما سيِّدا شباب أهل الجنَّة، وأبوهما - والذي بعثني بالحقِّ - خير منهما.
يا فاطمة، والذي بعثني بالحقِّ إنَّ منهما مهدي هذه الأُمَّة، إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً، وتظاهرت الفتن، وانقطعت السُّبُل، وأغار بعضهم على بعض، فلا كبير يرحم صغيراً، ولا صغير يُوقِّر كبيراً، فيبعث الله عند ذلك منهما من يفتح حصون الضلالة، وقلوباً غلفاً، يقوم بالدِّين في آخر الزمان كما قمتُ به في أوَّل الزمان، ويملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جوراً.
يا فاطمة، لا تحزني ولا تبكي فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) أرحم بكِ وأرأف عليكِ منّي، وذلك لمكانكِ منّي وموقعكِ من قلبي، وقد زوَّجكِ الله زوجَكِ وهو أعظمهم حسباً، وأكرمهم منصباً، وأرحمهم بالرعيَّة، وأعدلهم بالسويَّة، وأبصـرهم بالقضيَّة، وقد سألت ربّي (عزَّ وجلَّ) أنْ تكوني أوَّل من يلحقني من أهل بيتي».
قال عليٌّ (عليه السلام): «فلمَّا قُبِضَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم تبقَ فاطمة بعده إلَّا خمسة وسبعين يوماً حتَّى ألحقها الله به (عليهما السلام)»(104).
يقول المؤلِّف (أي العلَّامة المجلسي):
إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نسب المهدي (عليه السلام) إلى الحسن والحسين كليهما، وذلك من جهة أنَّ نسبه ينتهي إلى الإمام الحسن (عليه السلام) من قِبَل أُمِّه؛ لأنَّ أُمَّ الإمام محمّد الباقر تكون بنت الإمام الحسن(عليه السلام)، وورد في بعض الأحاديث أنَّه(عليه السلام) من ولد الحسين(105).
وروى الدارقطني - من المحدِّثين المشهورين لدى العامَّة - أيضاً هذا الحديث الطويل عن أبي سعيد الخدري، وقال في آخره ما معناه: إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «منّا مهديُّ هذه الأُمَّة الذي يُصلّي عيسى خلفه»، ثمّ وضع يده على عاتق الحسين (عليه السلام) وقال: «من هذا يكون مهدي هذه الأُمَّة»(106).
وروى أبو نعيم أيضاً عن حذيفة وأبي أمامة الباهلي، بأنَّ المهدي وجهه كوكب دُرّيٌّ، في خدِّه الأيمن خال أسود(107).
وعلى رواية عبد الرحمن بن عوف أنَّه (عليه السلام) أفرق الثنايا(108).
وعلى رواية عبد الله بن عمر أنَّ فوق رأسه غمامة فيها منادٍ ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتَّبعوه(109).
وعلى رواية جابر بن عبد الله وأبي سعيد أنَّ عيسى (عليه السلام) يُصلّي خلفه(110).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(104) الأربعون حديثاً في المهدي (ج 1/ ص 53 - 56/ ح 5).
(105) حقُّ اليقين (فارسي) (ج 1/ ص 296).
(106) راجع: كشف الغمَّة (ج 3/ ص 283).
(107) راجع: الأربعون حديثاً في المهدي (ج 1/ ص 61 و66/ ح 9 و12).
(108) راجع: الأربعون حديثاً في المهدي (ج 1/ ص 67/ ح 13).
(109) راجع: الأربعون حديثاً في المهدي (ج 1/ ص 71/ ح 16).
(110) راجع: الأربعون حديثاً في المهدي (ج 1/ ص 100/ ح 38)، عن أبي سعيد الخدري.
[تواتر الروايات في المهدي (عجَّل الله فرجه)]:
وقد ألَّف محمّد بن يوسف الشافعي صاحب (كفاية الطالب) من علماء العامَّة، كتاباً حول ظهور المهدي (عليه السلام) وصفاته وعلاماته يشتمل على خمس وعشرين باباً، وقال: ([إنّي جمعت هذا الكتاب] وعرَّيته عن طُرُق الشيعة تعرية تركيب الحجَّة؛ إذ كلُّ ما تلقَّته الشيعة بالقبول وإن كانْ صحيح النقل فإنَّما هو خرّيت منارهم(111)، وخدارية ذمارهم(112)، فكان الاحتجاج بغيره آكد)(113).
وورد في كتاب (شرح السُّنَّة) للحسين بن سعيد البغوي - وهذا الكتاب من الكُتُب المشهورة المعتبرة عند العامَّة، وعندي نسخة قديمة منه كُتُب فيها إجازات علمائهم - خمسة أحاديث في أوصاف المهدي (عليه السلام) رواها عن صحاحهم(114).
وروى الحسين بن مسعود الفرّاء في (المصابيح) - المتداول اليوم في أيدي العامَّة - خمسة أحاديث في ظهور المهدي (عليه السلام)(115).
ونقل بعض علماء الشيعة (156) حديثاً من الكُتُب المعتبرة للعامَّة حول المهدي (عليه السلام).
وورد في الكُتُب المعتبرة للشيعة أكثر من ألف حديث حول ولادة المهدي (عليه السلام) وغيبته، وأنَّه الإمام الثاني عشر من نسل الإمام العسكري (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(111) خرّيت منارهم: الخرّيت كسكّيت: الدليل الحاذق، والمنار - بفتح الميم -: موضع النور. (هامش المصدر).
(112) خدارية ذمارهم: والخدارية - بالضمِّ - العقاب، والذمار: ما يلزمك حفظه وحمايته. (هامش المصدر).
(113) البيان في أخبار صاحب الزمان (ج 1/ ص 476).
(114) راجع: شرح السُّنَّة للبغوي (ج 15/ ص 84 - 87/ باب المهدي).
(115) راجع: مصابيح السُّنَّة (ج 3/ ص 492 - 494/ ح 4210 - 4215).
وأكثر هذه الأحاديث مقرونة بالإعجاز؛ لأنَّ فيها الإخبار بالأئمَّة الاثني عشر إلى خاتمهم، وخفاء ولادته، وأنَّ له غيبتين الثانية أطول من الأُولى، إلى غير ذلك من الخصوصيّات، وقد تحقَّق جميعها في عالم الواقع، مع أنَّ الكُتُب المشتملة على هذه الأخبار أُلِّفت بسنين قبل تحقُّق هذه العلائم، فهي مع غضِّ النظر عن تواترها تفيد القطع واليقين من أكثر من جهة.
وكذلك اطِّلاع جمع كثير على ولادته، ورؤية كثير من الثقات والأصحاب له (عليه السلام) منذ ولادته إلى زماننا هذا وهو زمان الغيبة الكبرى، فهذا كلُّه ورد في كُتُب الخاصَّة والعامَّة المعتبرة، كما سنشير إليه فيما بعد إنْ شاء الله.
وأورد صاحب (الفصول المهمَّة)، و(مطالب السؤول)، و(شواهد النبوَّة)، وابن خلِّكان(116)، وجمع كثير من المخالفين في كُتُبهم روايات ولادته (عليه السلام) وسائر خصوصيّاته التي روتها الشيعة، فكما أنَّ ولادة آبائه الطاهرين معلومة فولادته أيضاً معلومة.
واستبعادات وإشكالات المخالفين حول طول غيبته، وخفاء ولادته، وطول عمره الشريف، لا تقوى على ردِّ البراهين القاطعة الثابتة، فهم مثل كُفّار قريش الذين نفوا المعاد بمجرَّد تشكيكهم في إحياء العظام وهي رميم مع وقوع أمثاله في الأُمَم السابقة، وقد ورد في أحاديث الخاصَّة والعامَّة بأنَّ كلَّ ما وقع في الأُمَم السابقة سيقع في هذه الأُمَّة مثله(117).
[من اطَّلع على ولادته (عجَّل الله فرجه)]:
إلى أنْ قال (المجلسي): واطَّلع جمع كثير من المعروفين على ولادته كالسيِّدة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(116) راجع: الفصول المهمَّة (ج 2/ ص 1095/ الفصل 12)؛ مطالب السؤول (ص 479/ باب 12)؛ شواهد النبوَّة (ص 276 - 279)؛ وفيات الأعيان (ج 4/ ص 176/ الرقم 562).
(117) راجع: المسترشد للطبري الشيعي (ص 229/ ح 66)؛ صحيح البخاري (ج 8/ ص 151).
حكيمة، والقابلة التي كانت جارتهم في سُرَّ من رأى، وشاهد الإمام (عليه السلام) جمع كثير منذ ولادته إلى وفاة أبيه، والمعاجز التي تجلَّت في نرجس عند ولادته (عليه السلام) أكثر من أنْ تُعَدَّ أو تُحصى، وقد ذكرتُ في كتاب (بحار الأنوار) و(جلاء العيون)(118).
وقال في (حقِّ اليقين)(119) أيضاً: روى الشيخ الصدوق محمّد بن بابويه بسند صحيح عن أحمد بن إسحاق أنَّه قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري، وأنا أُريد أنْ أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدئاً: «يا أحمد بن إسحاق، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يخلُ الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام)، ولا يُخليها إلى أنْ تقوم الساعة من حجَّة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه يُنزِّل الغيث، وبه يُخرج بركات الأرض».
قال: فقلت له: يا بن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (عليه السلام) مسرعاً، فدخل البيت، ثمّ خرج وعلى عاتقه غلام كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال: «يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حُجَجه ما عرضت عليك ابني هذا، إنَّه سميُّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكنيُّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً.
يا أحمد بن إسحاق، مَثَله في هذه الأُمَّة مَثَل الخضر (عليه السلام)، ومَثَله مَثَل ذي القرنين، والله ليغيبنَّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلَّا من ثبَّته الله (عزَّ وجلَّ) على القول بإمامته، ووفَّقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه».
فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي، فهل من علامة يطمئنُّ إليها قلبي؟ فنطق الغلام (عليه السلام) بلسانٍ عربيٍّ فصيحٍ، فقال: «أنا بقيَّة الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(118) حقُّ اليقين (فارسي) (ج 1/ ص 298).
(119) حقُّ اليقين (فارسي) (ج 1/ ص 305).
فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً، فلمَّا كان من الغد عدت إليه، فقلت له: يا بن رسول الله، لقد عظم سروري بما مننت به عليَّ، فما السُّنَّة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟
فقال: «طول الغيبة، يا أحمد».
قلت: يا بن رسول الله، وإنَّ غيبته لتطول؟
قال: «إي وربّي حتَّى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، ولا يبقى إلَّا من أخذ الله (عزَّ وجلَّ) عهده لولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان وأيَّده بروح منه. يا أحمد بن إسحاق، هذا أمر من أمر الله، وسُرَّ من سَرَّ الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في علِّيين»(120).
وروى أيضاً عن يعقوب بن منقوش أنَّه قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وهو جالس على دُكّان في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مُسبَل، فقلت له: يا سيِّدي، من صاحب هذا الأمر؟
فقال: «ارفع الستر»، فرفعته، فخرج إلينا غلام خماسيٌّ(121) له عشـر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، دُرّي المقلتين، شثن الكفَّين(122)، معطوف الركبتين(123)، في خدِّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمّد (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(120) كمال الدِّين (ص 384 و385/ باب 38/ ح 1).
(121) في لسان العرب (ج 2/ ص 123/ مادَّة ثلث): الثُّلاثيُّ يُنْسَبُ إِلى ثلاثة أشياء، أو كان طُولُه ثلاثةَ أَذْرُع، ثوبٌ ثُلاثيٌّ ورُباعِيٌّ، وكذلك الغلام، يقال: غلام خُماسِيٌّ، ولا يقال: سُداسِيٌّ، لأَنَّه إِذا تَمَّتْ له خَمْسٌ صار رجلاً.
(122) في لسان العرب (ج 13/ ص 232/ مادَّة شثن): شَثْنُ الكفَّين والقدمين أي أنَّهما تميلان إلى الغِلَظِ والقِصَر، وقيل: هو الذي في أنامله غلظ بلا قصـر، ويُحمَد ذلك في الرجال لأَنَّه أَشدُّ لقَبْضِهم، ويُذَمُّ في النساء.
(123) معطوف الركبتين أي كانتا مائلتين إلى القُدّام لعظمهما وغلظهما. (هامش المصدر).
ثمّ قال لي: «هذا صاحبكم»، ثمّ وثب فقال له: «يا بنيَّ، ادخل إلى الوقت المعلوم»، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثمّ قال لي: «يا يعقوب، انظر من في البيت»، فدخلت، فما رأيت أحداً(124).
وروى أيضاً بسند صحيح عن (محمّد بن معاوية)(125) ومحمّد بن أيّوب ومحمّد بن عثمان العمري أنَّهم قالوا: عرض علينا أبو محمد الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً، فقال: «هذا إمامكم من بعدي، وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرَّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أمَا إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا».
قالوا: فخرجنا من عنده، فما مضت إلَّا أيّام قلائل حتَّى مضى أبو محمّد(عليه السلام)(126).
وقال أيضاً في (حقِّ اليقين)(127): [روى الشيخ الصدوق](128) والشيخ الطوسي والطبرسي وغيرهم بأسانيد صحيحة عن محمّد بن إبراهيم بن مهزيار، ورواها البعض عن عليِّ بن إبراهيم بن مهزيار أنَّه قال: حججت عشـرين حجَّة كلّاً أطلب به عيان الإمام، فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فبينا أنا ليلة نائم في مرقدي إذ رأيت قائلاً يقول: يا عليُّ بن إبراهيم، قد أذن الله لك في الحجِّ.
فانتبهت وأنا فرح مسرور، فما زلت في الصلاة حتَّى انفجر عمود الصبح، وفرغت من صلاتي وخرجت أسأل عن الحاجِّ، فوجدت فرقة تريد الخروج، فبادرت مع أوَّل من خرج، فما زلت كذلك حتَّى خرجوا وخرجت بخروجهم أُريد الكوفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(124) كمال الدِّين (ص 407/ باب 38/ ح 2).
(125) كذا في حقِّ اليقين؛ وفي كمال الدِّين: (معاوية بن حكيم).
(126) كمال الدِّين (ص 435/ باب 43/ ح 2).
(127) حقُّ اليقين (فارسي) (ج 1/ ص 326).
(128) ما بين المعقوفتين غير موجود في (حقِّ اليقين).
فلمَّا وافيتها نزلت عن راحلتي وسلَّمت متاعي إلى ثقات إخواني، وخرجت أسأل عن آل أبي محمّد (عليهم السلام)، فما زلت كذلك، فلم أجد أثراً ولا سمعت خبراً، وخرجت في أوَّل من خرج أُريد المدينة، فلمَّا دخلتها لم أتمالك أنْ نزلت عن راحلتي، وسلَّمت رحلي إلى ثقات إخواني، وخرجت أسال عن الخبر وأقفو الأثر، فلا خبراً سمعت ولا أثراً وجدت.
فلم أزل كذلك إلى أنْ نفر الناس إلى مكَّة، وخرجت مع من خرج حتَّى وافيت مكَّة، ونزلت، فاستوثقت من رحلي، وخرجت أسأل عن آل أبي محمّد (عليه السلام)، فلم أسمع خبراً ولا وجدت أثراً، فما زلت بين الأياس والرجاء متفكِّراً في أمري وعائباً على نفسي وقد جنَّ الليل.
فقلت: أرقب إلى أنْ يخلو لي وجه الكعبة لأطوف بها، وأسأل الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يُعرِّفني أملي فيها، فبينما أنا كذلك وقد خلا لي وجه الكعبة إذ قمت إلى الطواف، فإذا أنا بفتى مليح الوجه، طيِّب الرائحة، متَّزر ببردة، متَّشح بأُخرى، وقد عطف بردائه على عاتقه فرعته.
فالتفت إليَّ، فقال: ممَّن الرجل؟
فقلت: من الأهواز.
فقال: أتعرف بها ابن الخصيب؟
فقلت: رحمه الله دُعِيَ فأجاب.
فقال: رحمه الله، لقد كان بالنهار صائماً، وبالليل قائماً، وللقرآن تالياً، ولنا موالياً.
فقال: أتعرف بها عليُّ بن إبراهيم بن مهزيار؟
فقلت: أنا عليٌّ.
فقال: أهلاً وسهلاً بك يا أبا الحسن، أتعرف الصريحين؟
قلت: نعم.
قال: ومن هما؟
قلت: محمّد وموسى.
ثمّ قال: ما فعلت العلامة التي بينك وبين أبي محمّد (عليه السلام)؟
فقلت: معي.
فقال: أخرجها إليَّ، فأخرجتها إليه خاتماً حسناً على فصِّه: (محمّد وعليّ)، [وفي رواية: يا الله، ويا محمّد، ويا عليُّ](129).
فلمَّا رأى ذلك بكى مليًّا ورنَّ شجيًّا، فأقبل يبكي بكاءً طويلاً، وهو يقول: رحمك الله يا أبا محمّد، فلقد كنت إماماً عادلاً، ابن أئمَّة وأبا إمام، أسكنك الله الفردوس الأعلى مع آبائك (عليهم السلام).
ثمّ قال: يا أبا الحسن، صِرْ إلى رحلك وكن على أُهبة من كفايتك حتَّى إذا ذهب الثلث من الليل وبقي الثلثان فالحق بنا، فإنَّك ترى مناك إنْ شاء الله.
قال ابن مهزيار: فصرت على رحلي أُطيل التفكُّر حتَّى إذا هجم الوقت فقمت إلى رحلي وأصلحته، وقدَّمت راحلتي وحملتها وصرت في متنها حتَّى لحقت الشعب، فإذا أنا بالفتى هناك يقول: أهلاً وسهلاً بك يا أبا الحسن، طوبى لك فقد أُذِنَ لك، فسار وسرت بسيره حتَّى جاز بي عرفات ومنى، وصرت في أسفل ذروة جبل الطائف.
فقال لي: يا أبا الحسن، انزل وخذ في أُهبة الصلاة، فنزل ونزلت حتَّى فرغ وفرغت، ثمّ قال لي: خذ في صلاة الفجر وأوجز، فأوجزت فيها، وسلَّم وعفَّر وجهه في التراب، ثمّ ركب وأمرني بالركوب فركبت، ثمّ سار وسرت بسيره حتَّى علا الذروة، فقال: المح هل ترى شيئاً؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(129) ما بين المعقوفتين من (حقِّ اليقين).
فلمحت فرأيت بقعة نزهة كثرة العشب والكلاء، فقلت: يا سيِّدي، أرى بقعة نزهة كثيرة العشب والكلاء.
فقال لي: هل ترى في أعلاها شيئاً؟
فلمحت، فإذا أنا بكثيب من رمل فوق بيت من شعر يتوقَّد نوراً.
فقال لي: هل رأيت شيئاً؟
فقلت: أرى كذا وكذا.
فقال لي: يا بن مهزيار، طب نفساً وقرَّ عيناً، فإنَّ هناك أمل كلِّ مؤمِّل.
ثمّ قال لي: انطلق بنا، فسار وسرت حتَّى صار في أسفل الذروة، ثمّ قال: أنزل فهاهنا يذلُّ لك كلُّ صعب، فنزل ونزلت حتَّى قال لي: يا بن مهزيار خلِّ عن زمام الراحلة.
فقلت: على من أُخلِّفها وليس هاهنا أحد؟
فقال: إنَّ هذا حرم لا يُدخِله إلَّا وليٌّ ولا يخرج منه إلَّا وليٌّ.
فخلَّيت عن الراحلة، فسار وسرت، فلمَّا دنا من الخباء سبقني وقال لي: قف هناك إلى أنْ يُؤذَن لك، فما كان إلَّا هنيئة فخرج إليَّ وهو يقول: طوبى لك قد أُعطيت سؤلك.
قال: فدخلت عليه (صلوات الله عليه) وهو جالس على نمط عليه نطع أديم أحمر متَّكئ على مسورة(130) أديم، فسلَّمت عليه وردَّ عليَّ السلام، ولمحته فرأيت وجهه مثل فلقة قمر، لا بالخرق ولا بالبزق، ولا بالطويل الشامخ ولا بالقصير اللّاصق، ممدود القامة، صلت الجبين، أزج الحاجبين، أدعج العينين، أقنى الأنف، سهل الخدَّين، على خدِّه الأيمن خال، فلمَّا أنْ بصـرت به حار عقلي في نعته وصفته.
فقال لي: «يا بن مهزيار، كيف خلَّفت إخوانك في العراق؟».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(130) المِسوَرة: متَّكأ من أدَم، وسُمّيت مسورة لعلوِّها وارتفاعها. (لسان العرب: ج 4/ ص 388/ مادَّة سور).
قلت: في ضنك عيش وهناة، قد تواترت عليهم سيوف بني الشيصبان(131).
فقال: «قاتلهم الله أنّى يُؤفَكون، كأنّي بالقوم قد قُتلوا في ديارهم وأخذهم أمر ربِّهم ليلاً ونهاراً»، [لتملكونهم كما ملكوكم وهم يومئذٍ أذلّاء](132).
ثمّ قال: «إنَّ أبي (صلوات الله عليه) عهد إليَّ أنْ لا أُوطِّن من الأرض إلَّا أخفاها وأقصاها، إسراراً لأمري وتحصيناً لمحلّي من مكائد أهل الضلال والمردة من أحداث الأُمَم الضوالِّ...».
اعلم... أنَّه قال (صلوات الله عليه): «يا بنيَّ، إنَّ الله (جلَّ ثناؤه) لم يكن ليخلّي أطباق أرضه، وأهل الجدِّ في طاعته وعبادته بلا حجَّة يُستعلى بها، وإمام يُؤتَمُّ به ويُقتدى بسُبُل سُنَّته ومنهاج قصده، وأرجو يا بنيَّ أن تكون أحد من أعدَّه الله لنشر الحقِّ، وطيِّ الباطل، وإعلاء الدِّين، وإطفاء الضلال، فعليك يا بنيَّ بلزوم خوافي الأرض وتتبُّع أقاصيها، فإنَّ لكلِّ وليٍّ من أولياء الله (عزَّ وجلَّ) عدوًّا مقارعاً...، فلا يوحشنَّك ذلك.
واعلم أنَّ قلوب أهل الطاعة والإخلاص نُزَّعٌ إليك مثل الطير إذا أمَّت أوكارها، وهم معشر يطلعون بمخائل الذلَّة والاستكانة، وهم عند الله بررة أعزّاء يبرزون بأنفس مختلَّة محتاجة، وهم أهل القناعة والاعتصام، استنبطوا الدِّين فوازروه على مجاهدة الأضواء...
فاقتبس يا بنيَّ نور الصبر على موارد أُمورك، تفز بدرك الصنع في مصادرها...، فكأنَّك يا بنيَّ بتأييد نصر الله قد آن، وتيسير الفلح وعلوِّ الكعب قد حان، وكأنَّك بالرايات الصفر والأعلام البيض تخفق على أثناء أعطافك ما بين الحطيم وزمزم، وكأنَّك بترادف البيعة وتصافي الولاء يتناظم عليك تناظم الدُّرِّ في مثاني العقود، وتصافق الأكفِّ على جنبات الحجر الأسود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(131) وفي المتن - كما في (حقِّ اليقين) -: بني العبّاس.
(132) ما بين المعقوفتين من (الغيبة).
تلوذ بفنائك مِنْ ملأ برَّأهم الله من طهارة الولاء، ونفاسة التربة، مقدَّسة قلوبهم من دنس النفاق، ومهذَّبة أفئدتهم من رجس الشقاق...
فإذا اشتدَّت أركانهم وتقوَّمت أعمادهم، قُدَّت بمكاثفتهم طبقات الأُمَم إذ تبعتك في ظلال شجرة دوحة بسقت أفنان غصونها على حافّات بحيرة الطبريَّة، فعندها يتلألأ صبح الحقِّ، وينجلي ظلام الباطل، ويقصم الله بك الطغيان، ويعيد معالم الإيمان...
تهتزُّ بك أطراف الدنيا بهجةً، وتهزُّ بك أغصان العزِّ نضرةً، وتستقرُّ بواني(133) العزِّ في قرارها، وتؤوب شوارد الدِّين على أوكارها...».
ثمّ قال: «ليكن مجلسي هذا عندك مكتوماً إلَّا عن أهل الصدق والأُخوَّة الصادقة في الدِّين».
قال إبراهيم بن مهزيار: فمكثت عنده حيناً أقتبس ما أورى من موضِّحات الأعلام ونيِّرات الأحكام...، فلمَّا أزف ارتحالي وتهيَّأ اعتزام نفسـي غدوت عليه مودِّعاً ومجدِّداً للعهد، وعرضت عليه مالاً كان معي يزيد على خمسين ألف درهم، وسألته أنْ يتفضَّل بالأمر بقبوله منّي.
فابتسم وقال: «... استعن به على مصرفك، فإنَّ الشقَّة قذفة، وفلوات الأرض أمامك جمَّة...»، فدعا لي كثيراً وانصرفت إلى وطني(134).
والأخبار في هذا الباب كثيرة.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(133) البواني: في الأصل أضلاع الصدر، وقيل: الأكتاف والقوائم، الواحدة بانية. (لسان العرب: ج 13/ ص 61/ مادَّة بون).
(134) راجع: كمال الدِّين (ص 445 - 453/ باب 43/ ح 19، وص 465 - 470/ باب 43/ ح 23)؛ الغيبة للطوسي (ص 263 - 267/ ح 228).
اعلم أنَّ المعاجز التي ذُكِرَت في أيّام الغيبة الصغرى، وأيّام تردُّد النوّاب والخواصِّ، ومجيئهم إلى الإمام (عليه السلام) كثيرة، وبما أنَّ هذا الكتاب مبنيٌّ على الاختصار لذا نذكر قليلاً منها رعايةً للاختصار:
الأولى: [إعطاؤه (عجَّل الله فرجه) الفقير حصاة من ذهب]:
روى الشيخ الكليني، والقطب الراوندي وغيرهما - واللفظ للكليني - عن رجل من أهل المدائن أنَّه قال: كنت حاجًّا مع رفيق لي، فوافينا إلى الموقف فإذا شابٌّ قاعد عليه إزار ورداء وفي رجليه نعلٌ صفراء، قوَّمتُ الإزار والرداء بمائة وخمسين ديناراً، وليس عليه أثر السفر.
فدنا منّا سائل فرددناه، فدنا من الشابِّ فسأله، فحمل شيئاً من الأرض وناوله، فدعا له السائل واجتهد في الدعاء وأطال، فقام الشابُّ وغاب عنّا، فدنونا من السائل فقلنا له: ويحك ما أعطاك؟ فأرانا حصاة ذهب مضرَّسة قدَّرناها عشرين مثقالاً.
فقلت لصاحبي: مولانا عندنا ونحن لا ندري، ثمّ ذهبنا في طلبه، فَدُرنا الموقف كلَّه فلم نقدر عليه، فسألنا كلَّ من كان حوله من أهل مكَّة والمدينة، فقالوا: شابٌّ علويٌّ يحجُّ في كلِّ سنة ماشياً(135).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(135) الكافي (ج 1/ ص 332/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 15)؛ الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 694 و695/ ح 8).
الثانية: [حكاية الحسين بن حمدان]:
روى القطب الراوندي عن أبي الحسن المسترقِّ الضرير أنَّه قال: كنت يوماً في مجلس الحسن بن عبد الله بن حمدان ناصر الدولة، فتذاكرنا أمر الناحية.
قال: كنت أزري(136) عليها إلى أنْ حضـرت مجلس عمّي الحسين يوماً، فأخذت أتكلَّم في ذلك، فقال: يا بنيَّ، قد كنت أقول بمقالتك هذه إلى أنْ نُدِبْتُ لولاية قم حين استصعبت على السلطان، وكان كلُّ من ورد إليها من جهة السلطان يحاربه أهلها، فسلَّم إليَّ جيش وخرجت نحوها.
فلمَّا بلغت إلى ناحية طزر خرجت إلى الصيد، ففاتتني طريدة فاتَّبعتها وأوغلت في أثرها حتَّى بلغت إلى نهر، فسرت فيه، وكلَّما أسير يتَّسع النهر، فبينما أنا كذلك إذا طلع عليَّ فارس تحته شهباء، وهو متعمِّم بعمامة خزٍّ خضراء لا أرى منه إلَّا عينيه، وفي رجليه خُفّان أحمران.
فقال لي: «يا حسين».
فلا هو أمَّرني ولا كنّاني، فقلت: ماذا تريد؟
قال: «لِـمَ تزري على الناحية؟ ولِـمَ تمنع أصحابي خمس مالك؟».
وكنتُ الرجل الوقور الذي لا يخاف شيئاً، فأرعدت منه وتهيَّبت، وقلت له: أفعل يا سيِّدي ما تأمر به.
فقال: «إذا مضيت إلى الموضع الذي أنت متوجِّه إليه فدخلته عفواً وكسبت ما كسبته، تحمل خمسه إلى مستحقِّه».
فقلت: السمع والطاعة.
فقال: «امض راشداً»، ولوى عنان دابَّته وانصـرف، فلم أدرِ أيَّ طريق سلك، وطلبته يميناً وشمالاً فخُفي عليَّ أمره، وازددت رعباً، وانكفأت راجعاً إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(136) أي أعيب. (هامش المصدر).
عسكري وتناسيت الحديث، فلمَّا بلغت قم وعندي أنّي أُريد محاربة القوم، خرج إليَّ أهلها وقالوا: كنّا نحارب من يجيئنا بخلافهم لنا، فأمَّا إذا وافيت أنت فلا خلاف بيننا وبينك، ادخل البلدة فدبِّرها كما ترى.
فأقمت فيها زماناً وكسبت أموالاً زائدة على ما كنت أُقدِّر، ثمّ وشى القُوّاد بي إلى السلطان وحُسِدْتُ على طول مقامي وكثرة ما اكتسبت، فعُزِلْتُ ورجعت إلى بغداد، فابتدأت بدار السلطان وسلَّمت عليه وأتيت إلى منزلي، وجاءني فيمن جاءني محمّد بن عثمان العمري، فتخطّى الناس حتَّى اتَّكأ على تُكأتي، فاغتظت من ذلك، ولم يزل قاعداً ما يبرح والناس داخلون وخارجون وأنا أزداد غيظاً.
فلمَّا تصرَّم الناس وخلا المجلس دنا إليَّ وقال: بيني وبينك سرٌّ فاسمعه.
فقلت: قل.
فقال: صاحب الشهباء والنهر يقول: «قد وفينا بما وعدنا».
فذكرت الحديث وارتعت من ذلك وقلت: السمع والطاعة، فقمت، فأخذت بيده، ففتحت الخزائن، فلم يزل يُخمِّسها إلى أنْ خمَّس شيئاً كنت قد أُنسيته ممَّا كنت قد جمعته، وانصرف ولم أشكّ بعد ذلك وتحقَّقت الأمر.
فأنا منذ سمعت هذا من عمّي أبي عبد الله زال ما كان اعترضني من شكٍّ(137).
الثالثة: [حكاية عليُّ بن بابويه وطلب الأولاد من الإمام (عجَّل الله فرجه)]:
روى الشيخ الطوسي وغيره عن عليِّ بن بابويه أنَّه كتب عريضة إلى الإمام صاحب الأمر (عليه السلام) وأعطاها للحسين بن روح (رضي الله عنه)، وكان قد سأل الإمام أنْ يدعو له ليرزقه الله ولداً، فأجابه الإمام بأنَّ الله سيرزقه ولدين صالحين.
فرزقه الله بعد قليل ولدين من جارية عنده، فسمّى أحدهما محمّد والآخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(137) الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 472 - 475/ ح 17)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 56 - 58/ ح 40).
الحسين، ولمحمّد تصانيف كثيرة منها كتاب (من لا يحضـره الفقيه)، ولحسين عقب كثير فيهم المحدِّثون والعلماء، وكان محمّد يفتخر بأنَّه وُلِدَ بدعاء الحجَّة (عليه السلام)، وكان أساتذته يمدحونه ويقولون: جدير بالذي وُلِدَ بدعاء الحجَّة (عليه السلام) أنْ يكون هكذا(138).
الرابعة: [خبر رشيق والهجوم على دار الإمام (عجَّل الله فرجه)]:
روى الشيخ الطوسي عن رشيق أنَّه قال: بعث إلينا المعتضد - ونحن ثلاثة نفر -، فأمرنا أنْ يركب كلُّ واحدٍ منّا فرساً، ونُجنِّب آخر ونخرج مخفِّين لا يكون معنا قليل ولا كثير إلَّا على السرج مصلّى(139)، وقال لنا: الحقوا بسامرة، ووصف لنا محلَّةً وداراً، وقال: إذا أتيتموها تجدون على الباب خادماً أسود، فاكبسوا(140) الدار، ومن رأيتم فيها فأتوني برأسه.
فوافينا سامرة، فوجدنا الأمر كما وصفه، وفي الدهليز خادم أسود وفي يده تكَّة ينسجها، فسألناه عن الدار ومن فيها، فقال: صاحبها، فوَالله ما التفت إلينا وقلَّ اكتراثه بنا.
فكبسنا الدار كما أُمرنا، فوجدنا داراً سرّيَّة ومقابل الدار ستر ما نظرت قطُّ إلى أنبل منه، كأنَّ الأيدي رُفِعَت عنه في ذلك الوقت، ولم يكن في الدار أحد، فرفعنا الستر، فإذا بيت كبير كأنَّ بحراً فيه ماء، وفي أقصى البيت حصير قد علمنا أنَّه على الماء، وفوقه رجل من أحسن الناس هيأةً قائم يُصلّي، فلم يتلفت إلينا ولا إلى شيء من أسبابنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(138) راجع: الغيبة للطوسي (ص 308 و309 و320 و321/ ح 261 و266 و267)؛ كمال الدِّين (ص 502 و503/ باب 45/ ح 31)؛ رجال النجاشي (ص 261 و262/ الرقم 684).
(139) مصلّى: أي فرشاً خفيفاً يُصلّى عليه ويكون حمله على السرج. (هامش المصدر).
(140) أي ادخلوها باقتحام. (هامش المصدر).
فسبق أحمد بن عبد الله ليتخطّى البيت، فغرق في الماء، وما زال يضطرب حتَّى مددت يدي إليه، فخلَّصته وأخرجته وغشـي عليه وبقي ساعة، وعاد صاحبي الثاني إلى فعل ذلك الفعل، فناله مثل ذلك، وبقيت مبهوتاً.
فقلت لصاحب البيت: المعذرة إلى الله وإليك، فوَالله ما علمت كيف الخبر وإلى من أجيء، وأنا تائب إلى الله.
فما التفت إلى شيء ممَّا قلنا، وما انفتل عمَّا كان فيه، فهالنا ذلك، وانصـرفنا عنه، وقد كان المعتضد ينتظرنا، وقد تقدَّم إلى الحجاب إذا وافيناه أن ندخل عليه في أيِّ وقتٍ كان.
فوافيناه في بعض الليل، فأُدخلنا عليه، فسألنا عن الخبر، فحكينا له ما رأينا، فقال: ويحكم لقيكم أحد قبلي؟ وجرى منكم إلى أحد سبب أو قول؟
قلنا: لا.
فقال: أنا نفيٌ من جدِّي، وحلف بأشدّ أيمان له أنَّه رجل إنْ بلغه هذا الخبر ليضربنَّ أعناقنا، فما جسرنا أنْ نُحدِّث به إلَّا بعد موته(141).
الخامسة: [خبر سيماء والهجوم على دار الإمام (عجَّل الله فرجه)]:
روى محمّد بن يعقوب الكليني، عن عليِّ بن قيس، عن بعض جلاوزة السواد(142)، قال: شاهدت سيماء(143) آنفاً بسُرَّ من رأى وقد كسـر باب الدار [أي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(141) الغيبة للطوسي (ص 248 - 250/ح 218)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ص 51 و52/ح 36).
(142) الجلاوزة جمع جِلواز - بالكسر -، وهم أعوان الظلمة. (مجمع البحرين: ج 4/ ص 10/ مادَّة جلز).
(143) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 4/ شرح ص 14): (سيماء - بالكسـر والمدِّ - اسم بعض خدم الخليفة بعثه لضبط الأموال لجعفر الكذّاب، أو لتفحُّص أنَّه هل لأبي محمّد (عليه السلام) ولد، أو بعض خدم جعفر. وفي غيبة الشيخ: (نسيم)).
باب دار الإمام العسكري (عليه السلام)] (بعد وفاته (عليه السلام))، فخرج عليه (الإمام صاحب الزمان (عليه السلام)) وبيده طبرزين(144)، فقال له: «ما تصنع في داري؟».
فقال سيماء: إنَّ جعفراً (الكذّاب) زعم أنَّ أباك مضـى ولا ولد له، فإنْ كانت دارك فقد انصرفت عنك، فخرج عن الدار.
قال عليُّ بن قيس: فخرج علينا خادم من خدم الدار، فسألته عن هذا الخبر، فقال لي: من حدَّثك بهذا؟
فقلت له: حدَّثني بعض جلاوزة السواد.
فقال لي: لا يكاد يخفى على الناس شيءٌ(145).
السادسة: [تشرُّف أحمد بن إسحاق وسعد بن عبد الله برؤية الإمام (عجَّل الله فرجه)]:
روى ابن بابويه وغيره أنَّ أحمد بن إسحاق - أحد وكلاء الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) - أخذ سعد بن عبد الله من ثقات الأصحاب معه إلى الإمام، كي يسأله عن أسئلة كانت في نفسه.
قال سعد: فوردنا سُرَّ من رأى، فانتهينا منها إلى باب سيِّدنا، فاستأذنّا، فخرج علينا الإذن بالدخول عليه، وكان على عاتق أحمد بن إسحاق جراب قد غطّاه بكساء طبري فيه مائة وستُّون صُرَّة من الدنانير والدراهم، على كلِّ صُرَّة منها ختم صاحبها.
قال سعد: فما شبَّهت وجه مولانا أبي محمّد (عليه السلام) حين غشينا نور وجهه إلَّا ببدر قد استوفى من لياليه أربعاً بعد عشر، وعلى فخذه الأيمن غلامٌ يناسب المشتري في الخلقة والمنظر، على رأسه فرق بين وفرتين كأنَّه ألف بين واوين، وبين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(144) الطبرزين: آلة معروفة للحرب والضرب. (مرآة العقول: ج 4/ شرح ص 14).
(145) الكافي (ج 1/ ص 331 و332/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 11)؛ الغيبة للطوسي (ص 267/ ح 229)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 13/ ح 7).
يديّ مولانا رُمّانة ذهبيَّة تلمع بدائع نقوشها وسط غرائب الفصوص المركَّبة عليها، قد كان أهداها إليه بعض رؤساء أهل البصـرة، وبيده قلم إذا أراد أنْ يسطر به على البياض شيئاً قبض الغلام على أصابعه، فكان مولانا يُدحرج الرُّمّانة بين يديه ويُشغِله بردِّها كيلا يصدَّه عن كتابة ما أراد(146).
فسلَّمنا عليه، فألطف في الجواب، وأومأ إلينا بالجلوس، فلمَّا فرغ من كتبة البياض الذي كان بيده، أخرج أحمد بن إسحاق جرابه من طيِّ كسائه، فوضعه بين يديه، فنظر العسكري (عليه السلام) إلى الغلام وقال له: «يا بنيَّ، فضَّ الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك».
فقال: «يا مولاي، أيجوز أنْ أمدَّ يداً طاهرة إلى هدايا نجسة وأموال رجسة قد شيب أُحِلُّها بأحرمها؟».
فقال مولاي: «يا بن إسحاق، استخرج ما في الجراب ليُميِّز ما بين الحلال والحرام منها».
فأوَّل صُرَّة بدأ أحمد بإخراجها قال الغلام: «هذه لفلان بن فلان من محلَّة كذا بقم، يشتمل على اثنين وستِّين ديناراً، فيها من ثمن حجيرة باعها صاحبها وكانت إرثاً له عن أبيه خمسة وأربعون ديناراً، ومن أثمان تسعة أثواب أربعة عشر ديناراً، وفيها من أُجرة الحوانيت ثلاثة دنانير».
فقال مولانا: «صدقت يا بنيَّ، دلِّ الرجل على الحرام منها».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(146) قال في هامش البحار: (فيه غرابة من حيث قبض الغلام (عليه السلام) على أصابع أبيه أبي محمّد (عليه السلام)، وهكذا وجود رُمّانة من ذهب يلعب بها لئلَّا يصدَّه عن الكتابة، وقد روي في الكافي (ج 1/ ص 311) عن صفوان الجمّال، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صاحب هذا الأمر، فقال: «إنَّ صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب، وأقبل أبو الحسن موسى وهو صغير ومعه عناق مكّيَّة وهو يقول لها: «اسجدي لربِّك»، فأخذه أبو عبد الله (عليه السلام) وضمَّه إليه وقال: «بأبي وأُمّي من لا يلهو ولا يلعب»).
فقال (عليه السلام): «فتِّش عن دينار رازيِّ السكة، تاريخه سنة كذا، قد انطمس من نصف إحدى صفحتيه نقشه، وقراضة آمليَّة وزنها ربع دينار، والعلَّة في تحريمها أنَّ صاحب هذه الصُّرَّة وزَّن في شهر كذا من سنة كذا على حائك من جيرانه من الغزل منًّا وربع منٍّ، فأتت على ذلك مدَّة وفي انتهائها قيَّض لذلك الغزل سارق، فأخبر به الحائك صاحبه، فكذَّبه واستردَّ منه بدل ذلك منًّا ونصف منٍّ غزلاً أدقّ ممَّا كان دفعه إليه، واتَّخذ من ذلك ثوباً، كان هذا الدينار مع القراضة ثمنه».
فلمَّا فتح رأس الصُّرَّة صادف رقعة في وسط الدنانير باسم من أخبر عنه وبمقدارها على حسب ما قال، واستخرج الدينار والقراضة بتلك العلامة.
ثمّ أخرج صُرَّة أُخرى، فقال الغلام: «هذه لفلان بن فلان من محلَّة كذا بقم، تشتمل على خمسين ديناراً لا يحلُّ لنا لمسها».
قال: «وكيف ذلك؟».
قال: «لأنَّها من ثمن حنطة حاف صاحبها على أكّاره في المقاسمة، وذلك أنَّه قبض حصَّته منها بكيلٍ وافٍ، وكان ما حصَّ الأكّار(147) بكيل بخس».
فقال مولانا: «صدقت يا بنيّ»، ثمّ قال: «يا أحمد بن إسحاق، احملها بأجمعها لتردَّها أو توصي بردِّها على أربابها، فلا حاجة لنا في شيء منها، وائتنا بثوب العجوز».
قال أحمد: وكان ذلك الثوب في حقيبة لي فنسيته، فلمَّا انصـرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إليَّ مولانا أبو محمّد (عليه السلام) فقال: «ما جاء بك يا سعد؟».
فقلت: شوَّقني أحمد بن إسحاق على لقاء مولانا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(147) في البحار: (وكال ما خصَّ).
قال: «والمسائل التي أردت أنْ تسأله عنها؟».
قلت: على حالها، يا مولاي.
قال: «فسَلْ قرَّة عيني - وأومأ إلى الغلام -».
فسأل مسائله وأجاب عنها الإمام حتَّى إنَّ بعض الأسئلة كان الراوي قد نسيها فذكَّره الإمام بها على نحو الإعجاز، إلى آخر الرواية الطويلة(148).
السابعة: [خبر غانم الهندي]:
روى الشيخ الكليني وابن بابويه وغيرهما (رحمة الله عليهم) بأسانيد معتبرة عن غانم الهندي أنَّه قال: كنت بمدينة الهند المعروفة بقشمير الداخلة، وأصحابٌ لي يقعدون على كراسيَّ عن يمين المَلِك أربعون رجلاً كلُّهم يقرأ الكُتُب الأربعة: التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم، نقضي بين الناس ونُفقِّههم في دينهم، ونُفتيهم في حلالهم وحرامهم، يفزع الناس إلينا المَلِك فمن دونه.
فتجارينا ذكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقلنا: هذا النبيُّ المذكور في الكُتُب قد خفي علينا أمره، ويجب علينا الفحص عنه وطلب أثره، واتَّفق رأينا وتوافقنا على أنْ أخرج فأرتاد لهم، فخرجت ومعي مالٌ جليلٌ، فسرت اثني عشر شهراً حتَّى قربت من كابل، فعرض لي قوم من الترك، فقطعوا عليَّ وأخذوا مالي، وجُرحت جراحاتٍ شديدة، ودُفعت إلى مدينة كابل.
فأنفذني مَلِكها لـمَّا وقف على خبري إلى مدينة بلخ، وعليها إذ ذاك داود بن العبّاس بن أبي الأسود، فبلغه خبري وأنّي خرجت مرتاداً من الهند، وتعلَّمت الفارسيَّة وناظرت الفقهاء وأصحاب الكلام، فأرسل إليَّ داود بن العبّاس،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(148) كمال الدِّين (ص 454 - 465/ باب 43/ ح 21)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 78 - 88/ ح 1).
فأحضرني مجلسه وجَمَعَ عليَّ الفقهاء، فناظروني، فأعلمتهم أنّي خرجت من بلدي أطلب هذا النبيَّ الذي وجدته في الكُتُب.
فقال لي: من هو وما اسمه؟
فقلت: محمّد.
فقالوا: هو نبيُّنا الذي تطلب.
فسألتهم عن شرائعه، فأعلموني، فقلت لهم: أنا أعلم أنَّ محمّداً نبيٌّ، ولا أعلمه هذا الذي تصفون أم لا، فأعلموني موضعه لأقصده فأسائله عن علامات عندي ودلالات، فإنْ كان صاحبي الذي طلبت آمنت به.
فقالوا: قد مضى (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فقلت: فمن وصيُّه وخليفته؟
فقالوا: أبو بكر.
قلت: فسمُّوه لي، فإنَّ هذه كنيته.
قالوا: عبد الله بن عثمان، ونسبوه إلى قريش.
قلت: فانسبوا لي محمّداً نبيَّكم، فنسبوه لي.
فقلت: ليس هذا صاحبي الذي طلبت، صاحبي الذي أطلبه خليفته أخوه في الدِّين وابن عمِّه في النسب وزوج ابنته وأبو ولده، ليس لهذا النبيِّ ذرّيَّة على الأرض غير ولد هذا الرجل الذي هو خليفته.
قال: فوثبوا بي وقالوا: أيُّها الأمير إنَّ هذا قد خرج من الشـرك إلى الكفر، هذا حلال الدم.
فقلت لهم: يا قوم، أنا رجل معي دين متمسِّك به، لا أُفارقه حتَّى أرى ما هو أقوى منه، إنّي وجدت صفة هذا الرجل في الكُتُب التي أنزلها الله على أنبيائه، وإنَّما خرجت من بلاد الهند ومن العزِّ الذي كنت فيه طلباً له، فلمَّا
فحصت عن أمر صاحبكم الذي ذكرتم لم يكن النبيُّ الموصوف في الكُتُب، فكفُّوا عنّي، وبعث العامل إلى رجل يقال له: الحسين بن إسكيب [أحد أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)]، فدعاه.
فقال له: ناظر هذا الرجل الهندي.
فقال له الحسين: أصلحك الله عندك الفقهاء والعلماء وهم أعلم وأبصـر بمناظرته.
فقال له: ناظره كما أقول لك، واخلُ به والطف له.
فقال لي الحسين بن إسكيب بعد ما فاوضته: إنَّ صاحبك الذي تطلبه هو النبيُّ الذي وصفه هؤلاء، وليس الأمر في خليفته كما قالوا، هذا النبيُّ محمّد بن عبد الله بن عبد المطَّلب، ووصيُّه عليُّ بن أبي طالب بن عبد المطَّلب، وهو زوج فاطمة بنت محمّد، وأبو الحسن والحسين سبطي محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
قال غانمٌ أبو سعيد: فقلت: الله أكبر، هذا الذي طلبت.
فانصرفت إلى داود بن العبّاس، فقلت له: أيُّها الأمير وجدت ما طلبت، وأنا أشهد أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمّداً رسول الله.
قال: فبرَّني ووصلني وقال للحسين: تفقَّده.
قال: فمضيت إليه حتَّى آنست به، وفقَّهني فيما احتجت إليه من الصلاة والصيام والفرائض.
قال: فقلت له: إنّا نقرأ في كُتُبنا أنَّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاتم النبيِّين لا نبيَّ بعده، وأنَّ الأمر من بعده إلى وصيِّه ووارثه وخليفته من بعده، ثمّ إلى الوصيِّ بعد الوصيِّ، لا يزال أمر الله جارياً في أعقابهم حتَّى تنقضي الدنيا، فمن وصيُّ وصيِّ محمّد؟
قال: الحسن، ثمّ الحسين ابنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ ساق الأمر في الوصيَّة حتَّى انتهى إلى صاحب الزمان (عليه السلام)، ثمّ أعلمني ما حدث، فلم يكن لي همَّة إلَّا طلب الناحية.
فوافى قم وقعد مع أصحابنا في سنة أربع وستِّين ومائتين، وخرج معهم حتَّى وافى بغداد، ومعه رفيق له من أهل السند كان صحبه على المذهب...
قال: وأنكرت من رفيقي بعض أخلاقه، فهجرته، وخرجت حتَّى سرت إلى العبّاسيَّة أتهيَّأ للصلاة وأُصلّى، وإنّي لواقف متفكِّر فيما قصدت لطلبه إذا أنا بآتٍ قد أتاني، فقال: أنت فلان؟ - اسمه بالهند -.
فقلت: نعم.
فقال: أجب مولاك.
فمضيت معه، فلم يزل يتخلَّل بي الطُّرُق حتَّى أتى داراً وبستاناً، فإذا أنا به (عليه السلام) جالس، فقال: «مرحباً يا فلان - بكلام الهند - كيف حالك؟ وكيف خلَّفت فلاناً وفلاناً؟» حتَّى عدَّ الأربعين كلَّهم، فسألني عنهم واحداً واحداً، ثمّ أخبرني بما تجارينا، كلُّ ذلك بكلام الهند.
ثمّ قال: «أردت أنْ تحجَّ مع أهل قم؟».
قلت: نعم يا سيِّدي.
فقال: «لا تحجَّ معهم، وانصرف سنتك هذه وحجَّ في قابلٍ»، ثمّ ألقى إليَّ صُرَّة كانت بين يديه، فقال لي: «اجعلها نفقتك ولا تدخل إلى بغداد إلى فلان سمّاه ولا تُطلِعه على شيء، وانصرف إلينا إلى البلد».
ثمّ وافانا بعض الفيوج، فأعلمونا أنَّ أصحابنا انصرفوا من العقبة، ومضى نحو خراسان، فلمَّا كان في قابل حجَّ وأرسل إلينا بهديَّة من طرف خراسان، فأقام بها مدَّة ثمّ مات (رحمه الله)(149).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(149) الكافي (ج 1/ ص 515 - 517/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 3)؛ كمال الدِّين (ص 495 - 497/ باب 45/ ضمن الحديث 18).
الثامنة: [إرجاع الحجر الأسود إلى مكانه]:
روى القطب الراوندي عن جعفر بن محمّد بن قولويه (أُستاذ الشيخ المفيد (رحمه الله)) أنَّه قال: لـمَّا وصلت بغداد في سنة سبع(150) وثلاثين وثلاثمائة للحجِّ، وهي السنة التي ردَّ القرامطة فيها الحجر إلى مكانه من البيت [وهم من الإسماعيليَّة الملاحدة الذين هدموا الكعبة، وأخذوا الحجر الأسود إلى الكوفة، نصبوه فيها ثمّ أرادوا إرجاعه في تلك السنة إلى مكانه أوائل الغيبة الكبرى...]، كان أكبر همّي الظفر بمن ينصب الحجر، لأنَّه يمضـي في أثناء الكُتُب قصَّة أخذه، وأنَّه ينصبه في مكانه الحجَّة في الزمان، كما في زمان الحجّاج وضعه زين العابدين (عليه السلام) في مكانه فاستقرَّ.
فاعتللت علَّة صعبة خفت منها على نفسـي ولم يتهيَّأ لي ما قصدت له، فاستنبت المعروف بابن هشام وأعطيته رقعة مختومة أسأل فيها عن مدَّة عمري، وهل تكون المنيَّة في هذه العلَّة أم لا؟
وقلت: همّي إيصال هذه الرقعة إلى واضع الحجر في مكانه وأخذ جوابه، وإنَّما أندبك لهذا.
قال: فقال المعروف بابن هشام: لـمَّا حصلت بمكَّة وعُزِمَ على إعادة الحجر، بذلت لسدنة البيت جملة تمكَّنت معها من الكون بحيث أرى واضع الحجر في مكانه، وأقمت معي منهم من يمنع عنّي ازدحام الناس، فكلَّما عمد إنسان لوضعه اضطرب ولم يستقم.
فأقبل غلام أسمر اللون، حسن الوجه، فتناوله ووضعه في مكانه، فاستقام كأنَّه لم يزل عنه، وعلت لذلك الأصوات، وانصرف خارجاً من الباب، فنهضت من مكاني أتبعه، ودفع الناس عنّي يميناً وشمالاً حتَّى ظُنَّ بي الاختلاط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(150) في المصدر هنا وفي آخر الرواية: (تسع)، ولعلَّ الأصحّ ما أثبتناه عن البحار.
في العقل، والناس يفرجون لي، وعيني لا تفارقه حتَّى انقطع عن الناس، فكنت أُسرع السير خلفه وهو يمشي على تؤدة(151) ولا أُدركه.
فلمَّا حصل بحيث لا أحد يراه غيري، وقف والتفت إليَّ فقال: «هاتِ ما معك»، فناولته الرقعة، فقال من غير أنْ ينظر فيها: «قل له: لا خوف عليك في هذه العلَّة، ويكون ما لا بدَّ منه بعد ثلاثين سنة».
قال: فوقع عليَّ الزمع(152) حتَّى لم أطق حراكاً، وتركني وانصرف.
قال أبو القاسم: فأعلمني بهذه الجملة، فلمَّا كان سنة سبع وستِّين اعتلَّ أبو القاسم، فأخذ ينظر في أمره، وتحصيل جهازه إلى قبره، وكتب وصيَّته، واستعمل الجدَّ في ذلك.
فقيل له: ما هذا الخوف؟ ونرجو أنْ يتفضَّل الله تعالى بالسلامة، فما عليك مخوفة.
فقال: هذه السنة التي خُوِّفت فيها، فمات في علَّته(153).
التاسعة: [سبب تشيُّع بني راشد]:
روى الشيخ ابن بابويه عن أحمد بن فارس الأديب أنَّه قال: إنَّ بهمدان ناساً يُعرَفون ببني راشد، وهم كلُّهم يتشيَّعون، [ومذهبهم] مذهب أهل الإمامة، فسألت عن سبب تشيُّعهم من بين أهل همدان، فقال لي شيخ منهم - رأيت فيه صلاحاً وسمتاً -:
إنَّ سبب ذلك أنَّ جدَّنا الذي ننتسب إليه خرج حاجًّا، فقال: إنَّه لـمَّا صدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(151) أي ترزن وتأنّي وتمهُّل. (هامش المصدر).
(152) زمع: دهش، وخاف، وارتعد. (هامش المصدر).
(153) الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 475 - 478/ ح 18)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 58 و59/ ح 41).
من الحج وساروا منازل في البادية، قال: فنشطت في النزول والمشـي، فمشيت طويلاً حتَّى أعييت ونعست، فقلت في نفسي: أنام نومة تريحني، فإذا جاء أواخر القافلة قمت.
قال: فما انتبهت إلَّا بحرِّ الشمس، ولم أرَ أحداً، فتوحَّشت، ولم أرَ طريقاً ولا أثراً، فتوكَّلت على الله (عزَّ وجلَّ)، وقلت: أسير حيث وجَّهني، ومشيت غير طويل، فوقعت في أرض خضراء نضراء كأنَّها قريبة عهد من غيث، وإذا تربتها أطيب تربة، ونظرت في سواء تلك الأرض(154) إلى قصر يلوح كأنَّه سيف.
فقلت: ليت شعري ما هذا القصر الذي لم أعهده ولم أسمع به؟ فقصدته، فلمَّا بلغت الباب رأيت خادمين أبيضين، فسلَّمت عليهما فردّا ردًّا جميلاً، وقالا: اجلس، فقد أراد الله بك خيراً، فقام أحدهما ودخل واحتبس غير بعيد، ثمّ خرج فقال: قم فادخل.
فدخلت قصراً لم أرَ بناءً أحسن من بنائه ولا أضوء منه، فتقدَّم الخادم إلى ستر على بيت فرفعه، ثمّ قال لي: ادخل، فدخلت البيت، فإذا فتى جالس في وسط البيت، وقد عُلِّق فوق رأسه من السقف سيف طويل تكاد ظُبَته تمسُّ رأسه، والفتى كأنَّه بدر يلوح في ظلام، فسلَّمت، فردَّ السلام بألطف كلام وأحسنه.
ثمّ قال لي: «أتدري من أنا؟».
فقلت: لا والله.
فقال: «أنا القائم من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أنا الذي أخرج في آخر الزمان بهذا السيف - وأشار إليه -، فأملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً».
فسقطت على وجهي وتعفَّرت، فقال: «لا تفعل، ارفع رأسك أنت فلان من مدينة بالجبل يقال لها: همدان».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(154) أي وسطها. (هامش المصدر).
فقلت: صدقت يا سيِّدي ومولاي.
قال: «فتُحِبُّ أنْ تؤوب إلى أهلك؟».
فقلت: نعم يا سيِّدي وأُبشِّرهم بما أتاح الله (عزَّ وجلَّ) لي، فأومأ إلى الخادم، فأخذ بيدي وناولني صُرَّة وخرج ومشى معي خطوات، فنظرت إلى طلال وأشجار و[منارة] مسجد.
فقال: أتعرف هذا البلد؟
فقلت: إنَّ بقرب بلدنا بلدة تُعرَف بأسدآباد وهي تشبهها.
قال: فقال: هذه أسدآباد امض راشداً.
فالتفتُ فلم أرَه، فدخلت أسدآباد، وإذا في الصُّـرَّة أربعون أو خمسون ديناراً، فوردت همدان وجمعت أهلي وبشَّرتهم بما يسَّره الله (عزَّ وجلَّ) لي، ولم نزل بخير ما بقي معنا من تلك الدنانير(155).
العاشرة: [حكاية كامل بن إبراهيم]:
روى المسعودي والشيخ الطوسي وغيرهما عن أبي نعيم محمّد بن أحمد الأنصاري أنَّه قال: وجَّه قوم من المفوِّضة والمقصِّرة كامل بن إبراهيم المدني(156) إلى أبي محمّد (عليه السلام) ليناظره في أمرهم.
قال كامل: فقلت في نفسي: أسأله وأنا أعتقد أنَّه لا يدخل الجنَّة إلَّا من عرف معرفتي وقال بمقالتي، قال: فلمَّا دخلت عليه نظرت إلى ثياب بياض ناعمة عليه، فقلت في نفسي: وليُّ الله وحجَّته يلبس الناعم من الثياب ويأمرنا بمواساة الإخوان وينهانا عن لبس مثله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(155) كمال الدِّين (ص 453 و454/باب 43/ح 20)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ 40 - 42/ح 30).
(156) في إثبات الوصيَّة: (المدائني).
فقال متبسِّماً: «يا كامل»، وحسر عن ذراعيه، فإذا مسح أسود خشن... على جلده، فقال: «هذا لله (عزَّ وجلَّ)، وهذا لكم».
فخجلت وجلست إلى باب عليه ستر مسبل، فجاءت الريح فرفعت طرفه، فإذا أنا بفتى كأنَّه فلقة قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها.
فقال لي: «يا كامل بن إبراهيم»، فاقشعررت من ذلك، فألهمني الله أنْ قلت: لبَّيك يا سيِّدي.
فقال: «جئت إلى وليِّ الله وحجَّته وبابه تسأله هل يدخل الجنَّة إلَّا من عرف معرفتك وقال بمقالتك؟».
قلت: إي والله.
قال: «إذن والله يقلُّ داخلها، والله إنَّه ليدخلها قوم يقال لهم الحقّيَّة».
قلت: يا سيِّدي، من هم؟
قال: «قوم من حبِّهم لعليٍّ (صلّى الله عليه) يحلفون بحقِّه ولا يدرون ما حقُّه وفضله».
ثمّ سكت (صلّى الله عليه) عنّي ساعة، ثمّ قال: «وجئت تسأله عن مقالة المفوِّضة، كذبوا بل قلوبنا أوعية الله فإذا شاء الله شئنا، وهو قوله: ﴿وَما تَشاءوُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ...﴾ [الإنسان: 30]».
ثمّ رجع الستر إلى حالته فلم أستطع كشفه، فنظر إليَّ أبو محمّد (عليه السلام) متبسِّماً فقال: «يا كامل بن إبراهيم، ما جلوسك وقد أنبأك الحجَّة بعدي بحاجتك؟».
فقمت وخرجت ولم أُعاينه بعد ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(157) إثبات الوصيَّة (ج 1/ ص 261 و262)؛ الغيبة للطوسي (ص 246 - 248/ ح 216)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 50 و51/ ح 35).
الحادية عشرة: [حكاية جعفر بن أحمد]:
روى الشيخ المحدِّث الفقيه عماد الدِّين أبو جعفر بن محمّد بن عليِّ بن محمّد الطوسي المشهدي المعاصر لابن شهرآشوب في كتابه (الثاقب في المناقب)، عن جعفر بن أحمد [بن متيل] أنَّه قال: دعاني أبو جعفر محمّد بن عثمان، فأخرج لي ثوبين معلَمة وصُرَّة فيها دراهم، فقال لي: تحتاج أنْ تصير بنفسك إلى واسط في هذا الوقت، وتدفع ما دفعته إليك إلى أوَّل رجل يلقاك عند صعودك من المركب إلى الشطِّ بواسط.
قال: فتداخلني من ذلك غمٌّ شديدٌ، وقلت: مثلي يُرسَل في هذا الأمر ويحمل هذا الشيء الوتح(158).
قال: فخرجت إلى واسط وصعدت المركب، فأوَّل رجل لقيته سألته عن الحسن بن قطاة الصيدلاني وكيل الوقف بواسط.
فقال: أنا هو، من أنت؟
فقلت: أبو جعفر العمري يقرأ عليك السلام ودفع إليَّ هذين الثوبين وهذه الصُّرَّة لأُسلِّمهما إليك.
فقال: الحمد لله، فإنَّ محمّد بن عبد الله الحائري قد مات وخرجت لإصلاح كفنه، فحلَّ الثياب، فإذا فيها ما يحتاج إليه من حبرة وثياب وكافور، وفي الصُّرَّة كرى الحمّالين والحفّار.
قال: فشيَّعنا جنازته وانصرفت(159).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(158) الوتح: القليل من كلِّ شيء، التافه. (هامش المصدر).
(159) الثاقب في المناقب (ص 598 و599/ ح 542/6)؛ كمال الدِّين (ص 504/ باب 45/ ح 35)، عنه بحار الأنوار (ج 51/ ص 336 و337/ ح 63).
الثانية عشرة: [حكاية الحسين بن عليٍّ القمّي والسبائك]:
وروى أيضاً عن الحسين بن عليِّ بن محمّد القمّي المعروف بأبي عليٍّ البغدادي أنَّه قال: كنت ببخارى، فدفع إليَّ المعروف بابن جاشير عشـر سبائك (من ذهب)، وأمرني أنْ أُسلِّمها بمدينة السلام إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله سرَّه)، فحملتها معي.
فلمَّا وصلت مفازة آمويَهْ(160) ضاعت منّي سبيكة من تلك السبائك، ولم أعلم بذلك حتَّى دخلت مدينة السلام، فأخرجت السبائك لأُسلِّمها إليه، فوجدتها قد نقصت واحدة منها، فاشتريت سبيكة مكانها بوزنها وأضفتها إلى التسع سبائك، ثمّ دخلت على الشيخ أبي القاسم الروحي ووضعت السبائك بين يديه.
فقال لي: خذ تلك السبيكة التي اشتريتها قد وصلت إلينا وهي ذا هي.
ثمّ أخرج تلك السبيكة التي ضاعت منّي بآمويَهْ، فنظرت إليها وعرفتها(161).
الثالثة عشرة: [الحسين بن روح وخبر العجوزة]:
وروى أيضاً عن الحسين بن عليٍّ المذكور أنَّه قال: سألتني امرأة عن وكيل مولانا (عليه السلام) من هو؟
فقال لها بعض القمّيِّين: إنَّه أبو القاسم بن روح، وأشار لها إليه.
فدخلت عليه وأنا عنده، فقالت له: أيُّها الشيخ، أيّ شيء معي؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(160) آمويه: مدينة مشهورة في غربي جيحون على طريق القاصد إلى بخارى من مرو، ويُطلَق عليها عدَّة أسماء منها: آمل الشطِّ، وآمل المفازة. (هامش المصدر).
(161) الثاقب في المناقب (ص 601 و602/ ح 549/13)؛ كمال الدِّين (ص 518 و519/ باب 45/ ح 47)، عنه بحار الأنوار (ج 51/ ص 341 و342/ ح 69).
فقال: ما معكِ فألقيه في دجلة.
فألقته، ثمّ رجعت ودخلت إلى أبي القاسم الروحي (رضي الله عنه) وأنا عنده، فقال أبو القاسم لمملوكة له: أخرجي إليَّ الحُقَّة.
فأخرجت إليه حُقَّة، فقال للمرأة: هذه الحُقَّة التي كانت معكِ ورميتِ بها في دجلة؟
قالت: نعم.
قال: أُخبرك بما فيها أم تُخبريني؟
فقالت: بل أخبرني أنت.
فقال: في هذه الحُقَّة زوج سوار من ذهب، وحلقة كبيرة فيها جوهر، وحلقتان صغيرتان فيهما جوهر، وخاتمان أحدهما فيروزج والآخر عقيق.
وكان الأمر كما ذكر لم يغادر منه شيئاً، ثمّ فتح الحُقَّة فعرض عليَّ ما فيها، ونظرت المرأة إليه، فقالت: هذا الذي حملته بعينه ورميت به في دجلة.
فغُشي عليَّ وعلى المرأة فرحاً بما شاهدنا من صدق الدلالة.
ثمّ قال الحسين لي بعدما حدَّثنا بهذا الحديث: أشهد عند الله يوم القيامة بما حدَّثت به أنَّه كما ذكرته لم أزد فيه ولم أنقص منه، وحلف بالأئمَّة الاثني عشـر (صلوات الله عليهم) لقد صدق فيه وما زاد ولا أنقص(162).
الرابعة عشرة: [وفد قم ورؤية الحجَّة (عجَّل الله فرجه)]:
وروى أيضاً عن عليِّ بن سنان الموصلي، عن أبيه أنَّه قال: لـمَّا قُبِضَ أبو محمّد (عليه السلام) وقَدِمَ وفد من قم والجبل وفود بالأموال التي كانت تُحمَل على الرسم، ولم يكن عندهم خبر وفاة أبي محمّد الحسن (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(162) الثاقب في المناقب (ص 602 و603/ ح 550/14)؛ كمال الدِّين (ص 519/ باب 45/ ضمن الحديث 47)، عنه بحار الأنوار (ج 51/ ص 342/ ضمن الحديث 69).
فلمَّا أنْ وصلوا إلى سُرَّ من رأى سألوا عنه، فقيل لهم: إنَّه قد فُقِدَ.
فقالوا: ومن وارثه؟
فقالوا: جعفر أخوه.
فسألوا عنه، فقيل: خرج متنزِّهاً، وركب زورقاً في الدجلة يشـرب الخمر ومعه المغنُّون.
قال: فتشاور القوم وقالوا: ليس هذه صفة الإمام.
وقال بعضهم لبعض: امضوا بنا حتَّى نردَّ هذه الأموال على أصحابها.
فقال أبو العباس محمّد بن جعفر الحميري القمّي: قفوا بنا حتَّى ينصـرف هذا الرجل، ونختبر أمره على الصحَّة.
قال: فلمَّا انصرف دخلوا عليه وسلَّموا عليه وقالوا: يا سيِّدنا، نحن من أهل قم، فينا جماعة من الشيعة وغيرهم، وكنّا نحمل إلى سيِّدنا أبي محمّد (عليه السلام) الأموال.
فقال: وأين هي؟
قالوا: معنا.
قال: احملوها إليَّ.
قالوا: إنَّ لهذه الأموال خبراً طريفاً.
فقال: وما هو؟
قالوا: إنَّ هذه الأموال تُجمَع ويكون فيها من عامة الشيعة الدينار والديناران، ثمّ يجعلونها في كيس ويختمون عليها، وكنّا إذا وردنا بالمال إلى سيِّدنا أبي محمّد (عليه السلام) يقول جملة المال كذا دينار، من فلان كذا، ومن عند فلان كذا، حتَّى يأتي على أسماء الناس كلِّهم، يقول ما على نقش الخواتيم.
فقال جعفر: كذبتم، تقولون على أخي ما لم يفعله، هذا علم الغيب.
قال: فلمَّا سمع القوم كلام جعفر جعل بعضهم ينظر إلى بعض، فقال لهم: احملوا هذا المال إليَّ.
فقالوا: إنّا قوم مستأجرون، لا نُسلِّم المال إلَّا بالعلامات التي كنّا نعرفها من سيِّدنا الحسن (عليه السلام)، فإنْ كنت الإمام فبرهن لنا، وإلَّا رددناها على أصحابها يرون فيها رأيهم.
قال: فدخل جعفر بن عليٍّ على الخليفة وكان بسُـرَّ من رأى، فاستعدى عليهم، فلمَّا أُحضروا قال الخليفة: احملوا هذا المال إلى جعفر.
فقالوا: أصلح الله الخليفة نحن قوم مستأجرون، ولسنا أرباب هذه الأموال، وهي لجماعة، وأمرونا أنْ لا نُسلِّمها إلَّا بالعلامة والدلالة، وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمّد (عليه السلام).
فقال الخليفة: وما كانت الدلالة التي كانت مع أبي محمّد؟
قال القوم: كان يصف لنا الدنانير وأصحابها والأموال وكم هي، فإذا فعل ذلك سلَّمناها إليه، وقد وفدنا عليه مراراً، وكانت هذه علامتنا معه، وقد مات، فإنْ يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر فليقم لنا ما كان يُقيمه لنا أخوه، وإلَّا رددناها إلى أصحابها الذين بعثوها بصحبتنا.
قال جعفر: يا أمير المؤمنين، هؤلاء قوم كذّابون يكذبون على أخي، وهذا علم الغيب.
فقال الخليفة: القوم رُسُل، ﴿وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [النور: 54].
قال: فبهت جعفر ولم يرد جواباً.
فقال القوم: يا أمير المؤمنين، تطوَّل بإخراج أمره إلى من يبدرقنا(163) حتَّى نخرج من هذا البلد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(163) يبدرقنا: من البدرقة، وهي الجماعة التي تتقدَّم القافلة وتكون معها، تحرسها وتمنعها من العدوِّ. (هامش المصدر).
قال: فأمر لهم بنقيب، فأخرجهم منها، فلمَّا أنْ خرجوا من البلد خرج إليهم غلام أحسن الناس وجهاً كأنَّه خادم، فصاح: يا فلان، ويا فلان بن فلان، أجيبوا مولاكم.
فقالوا له: أنت مولانا؟
فقال: معاذ الله، أنا عبد مولاكم، فسيروا إليه.
قالوا: فسرنا معه حتَّى دخلنا دار مولانا الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)، فإذا ولده القائم سيِّدنا (عليه السلام) قاعد على سرير كأنَّه فلقة قمر، عليه ثياب خضـر، فسلَّمنا عليه، فردَّ علينا السلام، ثمّ قال: «جملة المال كذا وكذا ديناراً، وحمل فلان كذا»، ولم يزل يصف حتَّى وصف الجميع، ووصف ثيابنا ورواحلنا وما كان معنا من الدوابِّ، فخررنا سُجَّداً لله تعالى، وقبَّلنا الأرض بين يديه.
ثمّ سألناه عمَّا أردنا، فأجاب، فحملنا إليه الأموال، وأمرنا (عليه السلام) أنْ لا نحمل إلى سُرَّ من رأى شيئاً من المال، وأنَّه ينصب لنا ببغداد رجلاً نحمل إليه الأموال وتخرج من عنده التوقيعات.
قالوا: فانصـرفنا من عنده، ودفع إلى أبي العبّاس محمّد بن جعفر الحميري القمّي شيئاً من الحنوط والكفن، فقال له: «أعظم الله أجرك في نفسك».
قال: فلمَّا بلغ أبو العبّاس عقبة همدان حمَّ وتُوفّي (رحمه الله)، وكان بعد ذلك تُحمَل الأموال إلى بغداد إلى نُوّابه المنصوبين، وتخرج من عندهم التوقيعات(164).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(164) الثاقب في المناقب (ص 608 - 611/ ح 555/3)؛ كمال الدِّين (ص 476 - 479/ باب 43/ ح 26)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 47 - 49/ ح 34).
الخامسة عشرة: [الحسين بن وجناء ورؤية الحجَّة (عجَّل الله فرجه)]:
وروى أيضاً عن أبي محمّد الحسن بن وجناء أنَّه قال: كنت ساجداً تحت الميزاب في رابع أربع وخمسين حجَّة بعد العمرة، وأنا أتضرَّع في الدعاء إذ حرَّكني محرِّك، فقال لي: قم يا حسن بن وجناء، فرعشت.
قال: فقمت، فإذا جارية صفراء نحيفة البدن، أقول إنَّها من بنات أربعين فما فوقها، فمشت بين يديَّ، وأنا لا أسألها عن شيء، حتَّى أتت دار خديجة (عليها السلام)، وفيها بيت بابه في وسط الحائط، وله درج ساج يُرتقى إليه، فصعدت الجارية، وجاءني النداء: «اصعد يا حسن».
فصعدت، فوقفت بالباب، فقال لي صاحب الزمان (عليه السلام): «يا حسن، أتراك خفيت عليَّ، والله ما من وقت في حجِّك إلَّا وأنا معك فيه»، ثمّ جعل يعدُّ عليَّ أوقاتي، فوقعت على وجهي، فحسست بيد قد وقعت عليَّ، فقمت: فقال لي: «يا حسن، الزم بالمدينة دار جعفر بن محمّد (عليه السلام)، ولا يهمَّنَّك طعامك ولا شرابك ولا ما تستر به عورتك».
ثمّ دفع إليَّ دفتراً فيه دعاء الفرج وصلاة عليه، وقال: «بهذا فادعُ، وهكذا فصلِّ عليَّ، ولا تُعطِه إلَّا أوليائي، فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُوفِّقك».
فقلت: يا مولاي، لا أراك بعدها؟
فقال: «يا حسن، إذا شاء الله تعالى».
قال: فانصرفت من حجَّتي، ولزمت دار جعفر (عليه السلام) وأنا لا أخرج منها ولا أعود إليها إلَّا لثلاث خصال: إلَّا لتجديد الوضوء، أو النوم، أو لوقت الإفطار، فإذا دخلت بيتي وقت الإفطار فأُصيب وعائي مملوءاً دقيقاً على رأسه، عليه ما تشتهي نفسي بالنهار، فآكل ذلك فهو كفاية لي، وكسوة الشتاء في وقت الشتاء، وكسوة الصيف في وقف الصيف، وإنّي لا أدخل الماء بالنهار وأرشُّ به
البيت، وأدع الكوز فارغاً وآتي بالطعام ولا حاجة لي إليه، فأتصدَّق لئلَّا يعلم به من معي(165).
يقول المؤلَّف: قال شيخنا في (النجم الثاقب): إنَّ أحد ألقاب الإمام (عليه السلام): «مبدئ الآيات»، أي مُظهِر آيات الله أو محلُّ ظهور آيات الله، وذلك أنَّ الله تعالى لـمَّا جعل الخلافة في الأرض، وأرسل الرُّسُل والأنبياء بالآيات والبيِّنات والمعاجز الباهرة لهداية الخلق وإرشادهم، وإعلاء كلمة الحقِّ وإزهاق كلمة الباطل، لم يكرم أو يعزّ أحداً مثلما أكرم وأعزَّ المهدي (صلوات الله عليه)، ولم يُظهِر من الآيات والمعاجز مثلما أظهر على يده المباركة (عليه السلام)، فقد أعطاه عمراً طويلاً - وهو أعلم بانتهائه - وإذا ظهر يكون على هيأة رجل يناهز الثلاثين من العمر، وعلى رأسه غمامة بيضاء تُضِلُّه، وينادي منادٍ بلسان فصيح منها: هذا مهديّ آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وأنَّه (عليه السلام) يضع يده على رأس شيعته فيكمل عقولهم، ومعه عسكر من الملائكة ظاهرين يراهم الناس كما كان في عهد إدريس النبيِّ (عليه السلام)، ومعه أيضاً عسكر من الجنِّ، ولم يكن في عسكره (عليه السلام) طعام ولا شراب إلَّا حجر يُحمَل معهم يتقوَّتون منه.
وتُضاء الأرض بنوره (عليه السلام) حتَّى يُستغنى عن ضوء الشمس والقمر، ويذهب الشرُّ والأذى من الحيوانات والحشرات، ويذهب الخوف والعداوة من بينها، وتُظهِر الأرض كنوزها، ويُبطئ سير الأرض، ويمشي عسكره (عليه السلام) على الماء، ويدلُّ الحجر على الكافر الذي اختفى وراءه، ويُعرَفون بسيمائهم، ويحضـر معه (عليه السلام) جمع من الأموات بعد إحيائهم يقاتلون بين يديه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(165) الثاقب في المناقب (ص 612 و613/ ح 558/6)؛ كمال الدِّين (ص 443 و444/ باب 43/ ح 17)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 31 و32/ ح 27).
وغيرها من الآيات الباهرة، مضافاً إلى المعاجز الحادثة قبل الظهور والتي لا يمكن إحصاؤها، وقد دُوِّن الكثير منها في كُتُب الغيبة، فإنَّها جميعها تكون علامة ظهوره، ولم يحصل عُشر معشار هذه كلِّها لغيره من الحُجَج(166).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(166) راجع: النجم الثاقب (ج 1/ ص 242 - 244).
لقاء الإمام (عجَّل الله فرجه) قد يكون بمعرفته عند رؤيته، أو يعلم بذلك بعد مفارقته له من خلال القرائن القطعيَّة، ويشمل أيضاً من رأى معجزة منه (عليه السلام) في اليقظة أو المنام، أو حصل على أثر من الآثار الدالَّة على وجوده الشريف.
واعلم أنَّ شيخنا (النوري) ذكر مائة حكاية في (النجم الثاقب)(167) لهذا الفصل، ونكتفي في هذا الكتاب المبارك بذكر ثلاث وعشرين حكاية، وقد ذكرنا في كتاب (مفاتيح الجنان) حكايتين: أحدها حكاية الحاجِّ عليٍّ البغدادي، والأُخرى حكاية الحاجِّ السيِّد أحمد الرشتي(168).
الحكاية الأولى: حكاية إسماعيل الهرقلي:
قال العالم الفاضل عليُّ بن عيسى الإربلي في (كشف الغمَّة): حدَّثني جماعة من ثقات إخواني أنَّه كان في البلاد الحلّيَّة(169) شخص يقال له: إسماعيل بن الحسن الهرقلي من قرية يقال لها: هرقل، مات في زماني وما رأيته، حكى لي ولده شمس الدِّين، فقال: حكى لي والدي أنَّه خرج فيه - وهو شباب - على فخذه الأيسـر توثة(170) مقدار قبضة الإنسان، وكانت في كلِّ ربيع تُشقَّق ويخرج منها دم وقَيح، ويقطعه ألمها عن كثير من أشغاله، وكان مقيماً بهرقل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(167) راجع: النجم الثاقب (ج 2/ ص 41 - 330/ الباب 7).
(168) راجع: مفاتيح الجنان (ص 702 - 708، و791 - 794).
(169) في المصدر: (الحلَّة).
(170) (التوثة) وهكذا (التوتة) لحمة متدلّية كالتوت أعني الفرصاد، قد تكون حمراء وقد تصير سوداء، وأغلب ما تخرج في الخدِّ والوجنة، صعب العلاج حتَّى الآن، ويظهر من الجوهري أنَّ الصحيح (التوتة) لا (التوثة). (هامش البحار).
فحضـر الحلَّة يوماً ودخل إلى مجلس السعيد رضي الدِّين عليِّ بن طاوس (رحمه الله)، وشكا إليه ما يجده منها، وقال: أُريد أنْ أُداويها، فأحضـر له أطباء الحلَّة وأراهم الموضع، فقالوا: هذه التوثة فوق العرق الأكحل وعلاجها خطر، ومتى قُطِعَت خيف أنْ ينقطع العرق فيموت.
فقال له السعيد رضي الدِّين (قدَّس روحه): أنا متوجِّه إلى بغداد، وربَّما كان أطباؤها أعرف وأحذق من هؤلاء، فأصحبني، فأُصعد معه وأُحضـر الأطبّاء، فقالوا كما قال أُولئك، فضاق صدره، فقال له السعيد: إنَّ الشـرع قد فسح لك في الصلاة في هذه الثياب، وعليك الاجتهاد في الاحتراس ولا تُغرِّر بنفسك، فالله تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله.
فقال له والدي: إذا كان الأمر على ذلك وقد وصلت إلى بغداد، فأتوجَّه إلى زيارة المشهد الشـريف بسُـرَّ من رأى (على مشـرِّفه السلام)، ثمّ أنحدر إلى أهلي، فحسَّن له ذلك، فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضي الدِّين وتوجَّه.
قال: فلمَّا دخلت المشهد وزرت الأئمَّة (عليهم السلام)، ونزلت السرداب واستغثت بالله تعالى وبالإمام (عليه السلام)، وقضيت بعض الليل في السرداب، وبتُّ في المشهد إلى الخميس، ثمّ مضيت إلى دجلة واغتسلت ولبست ثوباً نظيفاً، وملأت إبريقاً كان معي وصعدت أُريد المشهد.
فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور، وكان حول المشهد قوم من الشـرفاء يرعون أغنامهم، فحسبتهم منهم، فالتقينا، فرأيت شابَّين أحدهما عبد مخطوط(171)، وكلُّ واحد منهم متقلِّد بسيف، وشيخاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(171) رجل مخطَّط: جميل. (لسان العرب: ج 7/ ص 290/ مادَّة خطط).
منقباً بيده رمح، والآخر متقلِّد بسيف وعليه فرجية(172) ملوَّنة فوق السيف، وهو متحنِّك بعَذَبته(173).
[فوقف الشيخ صاحب الرمح يمين الطريق ووضع كعب رمحه في الأرض]، ووقف الشابّان عن يسار الطريق، وبقي صاحب الفرجية على الطريق مقابل والدي، ثمّ سلَّموا عليه، فردَّ عليهم السلام، فقال له صاحب الفرجية: «أنت غداً تروح إلى أهلك؟».
فقال: نعم.
فقال له: «تقدَّم حتَّى أبصر ما يوجعك».
قال: فكرهت ملامستهم، وقلت في نفسـي: أهل البادية ما يكادون يحترزون من النجاسة، وأنا قد خرجت من الماء وقميصـي مبلول، ثمّ إنّي بعد ذلك تقدَّمت إليه، فلزمني بيده ومدّني إليه، وجعل يلمس جانبي من كتفي إلى أنْ أصابت يده التوثة، فعصـرها بيده، فأوجعني، ثمّ استوى في سرجه كما كان.
فقال لي الشيخ: أفلحت يا إسماعيل.
فعجبت من معرفته باسمي، فقلت: أفلحنا وأفلحتم إنْ شاء الله.
قال: فقال لي الشيخ: هذا هو الإمام.
قال: فتقدَّمت إليه، فاحتضنته وقبَّلت فخذه.
ثمّ إنَّه ساق وأنا أمشـي معه محتضنه، فقال: «ارجع».
فقلت: لا أُفارقك أبداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(172) فرجية: نوع من أنواع الملابس. (هامش النجم الثاقب).
(173) أي طرف عمامته؛ عَذَبة السوط: طرفه، والجمع عَذَب. (راجع: لسان العرب: ج 1/ ص 585/ مادَّة عذب).
فقال: «المصلحة رجوعك»، فأعدت عليه مثل القول الأوَّل.
فقال الشيخ: يا إسماعيل، ما تستحي؟ يقول لك الإمام مرَّتين: «ارجع» وتخالفه؟ فجبهني بهذا القول، فوقفت، فتقدَّم خطوات والتفت إليَّ وقال: «إذا وصلت بغداد فلا بدَّ أنْ يطلبك أبو جعفر - يعني الخليفة المنتصـر -، فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئاً، فلا تأخذه وقل لولدنا الرضي ليكتب لك إلى عليُّ بن عوض، فإنَّني أُوصيه يُعطيك الذي تريد».
ثمّ سار وأصحابه معه، فلم أزل قائماً أبصرهم إلى أنْ غابوا عنّي وحصل عندي أسف لمفارقته، فقعدت إلى الأرض ساعة ثمّ مشيت إلى المشهد، فاجتمع القُوّام حولي وقالوا: نرى وجهك متغيِّراً، أأوجعك شيء؟
قلت: لا.
قالوا: أخاصمك أحد؟
قلت: لا ليس عندي ما تقولون(174)، لكن أسألكم: هل عرفتم الفرسان الذين كانوا عندكم؟
فقالوا: هم من الشرفاء أرباب الغنم.
فقلت: لا، بل هو الإمام (عليه السلام).
فقالوا: الإمام هو الشيخ أو صاحب الفرجية؟
فقلت: هو صاحب الفرجية.
فقالوا: أريته المرض الذي فيك؟
فقلت: هو قبضه بيده وأوجعني، ثمّ كشفت رجلي فلم أرَ لذلك المرض أثراً، فتداخلني الشكُّ من الدهش، فأخرجت رجلي الأُخرى فلم أرَ شيئاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(174) في المصدر: (ممَّا تقولون خبر).
فانطبق الناس عليَّ ومزَّقوا قميصي، فأدخلني القُوّام خزانة ومنعوا الناس عنّي، وكان ناظراً بين النهرين بالمشهد، فسمع الضجَّة وسأل عن الخبر، فعرَّفوه، فجاء إلى الخزانة وسألني عن اسمي وسألني منذ كم خرجت من بغداد، فعرَّفته أنّي خرجت في أوَّل الأُسبوع، فمشى عنّي، وبتُّ في المشهد وصلَّيت الصبح وخرجت، وخرج الناس معي إلى أنْ بعدت عن المشهد ورجعوا عنّي، ووصلت إلى (أوانا)(175) فبتُّ بها وبكَّرت منها أُريد بغداد، فرأيت الناس مزدحمين على القنطرة العتيقة يسألون من ورد عليهم عن اسمه ونسبه وأين كان، فسألوني عن اسمي ومن أين جئت، فعرَّفتهم، فاجتمعوا عليَّ ومزَّقوا ثيابي ولم يبقَ لي في روحي حكم.
وكان ناظر بين النهرين كتب إلى بغداد وعرَّفهم الحال، ثمّ حملوني إلى بغداد وازدحم الناس عليَّ، وكادوا يقتلونني من كثرة الزحام، وكان الوزير القمّي قد طلب السعيد رضي الدِّين وتقدَّم أنْ يُعرِّفه صحَّة هذا الخبر.
قال: فخرج رضي الدِّين ومعه جماعة، فوافينا باب النوبي، فردَّ أصحابه الناس عنّي، فلمّا رآني قال: أعنك يقولون؟
قلت: نعم.
فنزل عن دابَّته وكشف عن فخذي، فلم يرَ شيئاً، فغُشي عليه ساعة، وأخذ بيدي وأدخلني على الوزير وهو يبكي ويقول: يا مولانا، هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي، فسألني الوزير عن القصَّة، فحكيت له.
فأحضر الأطبّاء الذين أشرفوا عليها وأمرهم بمداواتها، فقالوا: ما دواؤها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(175) أوانا - بالفتح والنون -: بليدة كثيرة البساتين والشجر نزهة، من نواحي دجيل بغداد، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ من جهة تكريت. (معجم البلدان: ج 1/ ص 274).
إلَّا القطع بالحديد، ومتى قطعها مات، فقال لهم الوزير: فبتقدير أنْ تُقطَع ولا يموت في كم تبرأ؟
فقالوا: في شهرين، وتبقى في مكانها حفيرة بيضاء لا ينبت فيها شعر.
فسألهم الوزير: متى رأيتموه؟
قالوا: منذ عشرة أيّام.
فكشف الوزير عن الفخذ الذي كان فيه الألم وهي مثل أُختها ليس فيها أثر أصلاً.
فصاح أحد الحكماء: هذا عمل المسيح.
فقال الوزير: حيث لم يكن عملكم فنحن نعرف مَنْ عملها.
ثمّ إنَّه أُحضر عند الخليفة المستنصر، فسأله عن القصَّة، فعرَّفه بها كما جرى، فتقدَّم له بألف دينار، فلمَّا حضرت قال: خذ هذه، فأنفقها.
فقال: ما أجسر آخذ منه حبَّة واحدة.
فقال الخليفة: ممَّن تخاف؟
فقال: من الذي فعل معي هذا، قال: «لا تأخذ من أبي جعفر شيئاً».
فبكى الخليفة وتكدَّر، وخرج من عنده ولم يأخذ شيئاً.
قال أفقر عباد الله تعالى إلى رحمته عليُّ بن عيسى...: كنت في بعض الأيّام أحكي هذه القصَّة لجماعة عندي، وكان هذا شمس الدِّين محمّد ولده عندي وأنا لا أعرفه، فلمَّا انقضت الحكاية قال: أنا ولده لصلبه.
فعجبت من هذا الاتِّفاق، وقلت: هل رأيت فخذه وهي مريضة؟
فقال: لا لأنّي أصبو عن ذلك، ولكنّي رأيتها بعدما صلحت ولا أثر فيها وقد نبت في موضعها شعر...
وكان كلَّ أيّام يزور سامراء ويعود إلى بغداد، فزارها في تلك السنة أربعين
مرَّة طمعاً أنْ يعود له الوقت الذي مضى أو يقضي له الحظُّ بما قضى، ومَنْ الذي أعطاه دهره الرضا، أو ساعده بمطالبه صرف القضا، فمات (رحمه الله) بحسرته وانتقل إلى الآخرة بغصَّته(176).
الحكاية الثانية: تأثير رقعة الاستغاثة:
إنَّ العالم الصالح التقي المرحوم السيِّد محمّد ابن السيِّد عبّاس الساكن في قرية جب شيث(177) من قرى جبل عامل، وهو من بني أعمام السيِّد النبيل والعالم المتبحِّر الجليل السيِّد صدر الدِّين العاملي الأصفهاني، صهر الشيخ جعفر النجفي أعلى الله تعالى مقامهما.
كان من قصَّته [أي السيِّد محمّد المذكور] أنَّه (رحمه الله) لكثرة تعدّي [حُكّام] الجور عليه خرج من وطنه خائفاً هارباً مع شدَّة فقره وقلَّة بضاعته، حتَّى إنَّه لم يكن عنده يوم خروجه إلَّا مقداراً لا يسوى قوت يومه، وكان متعفِّفاً لا يسأل أحداً.
وساح في الأرض برهة من دهره، ورأى في أيّام سياحته في نومه ويقظته عجائب كثيرة إلى أنْ انتهى أمره إلى مجاورة النجف الأشرف (على مشـرِّفها آلاف التحيَّة والتحف)، وسكن في بعض الحجرات الفوقانيَّة من الصحن المقدَّس، وكان في شدَّة الفقر، ولم يكن يعرفه بتلك الصفة إلَّا قليل، وتُوفّي (رحمه الله) في النجف الأشرف بعد مضيِّ خمس سنوات من يوم خروجه من قريته.
وكان أحياناً يراودني، وكان كثير العفَّة والحياء يحضـر عندي أيّام إقامة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(176) راجع: النجم الثاقب (ج 2/ ص 78 - 82/ الحكاية 5)؛ كشف الغمَّة (ج 3/ ص 296 - 300)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 61 - 65/ ح 51).
(177) قال النوري (رحمه الله): (جُبُّ شيث) مخفَّف جُبِّ شيث نبيِّ الله، وهي بئر تُنسَب لهذا النبيِّ (صلوات الله عليه).
التعزية، وربَّما استعار منّي بعض كُتُب الأدعية لشدَّة ضيق معاشه، حتَّى إنَّ كثيراً ما لا يتمكَّن لقوته إلَّا على تميرات، يواظب الأدعية المأثورة لسعة الرزق حتَّى كأنَّه ما ترك شيئاً من الأذكار المرويَّة والأدعية المأثورة.
واشتغل بعض أيّامه على عرض حاجته على صاحب الزمان (عليه سلام الله المَلِك المنّان) أربعين يوماً، وكان يكتب حاجته ويخرج كلَّ يوم قبل طلوع الشمس من البلد من الباب الصغير الذي يخرج منه إلى البحر، ويبعد عن طرف اليمين مقدار فرسخ أو أزيد بحيث لا يراه أحد، ثمّ يضع عريضته في بندقة من الطين ويودعها أحد نُوّابه (سلام الله عليه) ويرميها في الماء، إلى أنْ مضـى عليه ثمانية أو تسعة وثلاثون يوماً.
فلمَّا فعل ما يفعله كلَّ يوم ورجع، قال: كنت في غاية الملالة وضيق الخُلُق وأمشي مطرقاً رأسي، فالتفتُّ فإذا أنا برجل كأنَّه لحق بي من ورائي وكان في زيِّ العرب، فسلَّم عليَّ، فرددت عليه السلام بأقلّ ما يُرَدُّ، وما التفتُّ إليه لضيق خُلُقي، فسايرني مقداراً وأنا على حالي، فقال بلهجة أهل قريتي: «سيِّد محمّد ما حاجتك؟ يمضي عليك ثمانية أو تسعة وثلاثون يوماً تخرج قبل طلوع الشمس إلى المكان الفلانيّ وترمي العريضة في الماء، تظنُّ أنَّ إمامك ليس مطَّلعاً على حاجتك؟».
قال: فتعجَّبت من ذلك لأنّي لم أُطلع أحداً على شغلي ولا أحد رآني، ولا أحد من أهل جبل عامل في المشهد الشريف لم أعرفه خصوصاً أنَّه لابس الكفّيَّة والعقال، وليس مرسوماً في بلادنا، فخطر في خاطري وصولي إلى المطلب الأقصى، وفوزي بالنعمة العظمى، وأنَّه الحجَّة على البرايا إمام العصر (عجَّل الله فرجه).
وكنت سمعت قديماً أنَّ يده المباركة في النعومة بحيث لا يبلغها يد أحد من الناس، فقلت في نفسي: أُصافحه فإنْ كان يده كما سمعت أصنع ما يحقُّ
بحضرته، فمددت يدي وأنا على حالي لمصافحته، فمدَّ يده المباركة، فصافحته فإذا يده كما سمعت، فتيقَّنت الفوز والفلاح، فرفعت رأسي ووجَّهت له وجهي وأردت تقبيل يده المباركة، فلم أرَ أحداً(178).
الحكاية الثالثة: في لقاء السيِّد محمّد جبل عاملي الحجَّة (عليه السلام):
وقال أيضاً السيِّد المتَّقي المذكور: وردت المشهد المقدَّس الرضوي (عليه الصلاة والسلام) للزيارة، وأقمت فيه مدَّة، وكنت في ضنك وضيق مع وفور النعمة ورخص أسعارها، ولـمَّا أردت الرجوع مع سائر الزائرين لم يكن عندي شيء من الزاد حتَّى قرصة لقوت يومي.
فتخلَّفت عنهم وبقيت يومي إلى زوال الشمس، فزرت مولاي وأدَّيت فرض الصلاة، فرأيت أنّي لو لم ألحق بهم لا يتيسَّـر لي الرفقة عن قريب، وإنْ بقيت أدركني الشتاء ومتُّ من البرد.
فخرجت من الحرم المطهَّر مع ملالة الخاطر، وقلت في نفسي: أمشـي على إثرهم، فإن متُّ جوعاً استرحت، وإلَّا لحقت بهم، فخرجت من البلد الشـريف وسألت عن الطريق، وصرت أمشي حتَّى غربت الشمس وما صادفت أحداً، فعلمت أنّي أخطأت الطريق، وأنا ببادية مهولة لا يُرى فيها سوى الحنظل، وقد أشرفت من الجوع والعطش على الهلاك، فصرت أكسر حنظلة حنظلة لعلّي أظفر من بينها بحبحب(179)، حتَّى كسرت نحواً من خمسمائة، فلم أظفر بها، وطلبت الماء والكلاء حتَّى جنَّني الليل، ويئست منهما، فأيقنت الفناء واستسلمت للموت، وبكيت على حالي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(178) راجع: النجم الثاقب (ج 2/ ص 88 - 90/ الحكاية 7).
(179) الحبحب: البطّيخ الشامي. (القاموس المحيط: ج 2/ ص 237).
فتراءى لي مكان مرتفع، فصعدته، فوجدت في أعلاه عيناً من الماء، فتعجَّبت وشكرت الله (عزَّ وجلَّ) وشربت الماء، وقلت في نفسي: أتوضَّأ وضوء الصلاة وأُصلّي لئلَّا ينزل بي الموت وأنا مشغول الذمَّة بها، فبادرت إليها.
فلمَّا فرغت من العشاء الآخرة أظلمَّ الليل، وامتلأت البيداء من أصوات السباع وغيرها، وكنت أعرف من بينها صوت الأسد والذئب، وأرى أعين بعضها تتوقَّد كأنَّها السراج، فزادت وحشتي إلَّا أنّي كنت مستسلماً للموت، فأدركني النوم لكثرة التعب، وما أفقت إلَّا والأصوات قد انخمدت، والدنيا بنور القمر قد أضاءت، وأنا في غاية الضعف، فرأيت فارساً مقبلاً عليَّ، فقلت في نفسي: إنَّه يقتلني لأنَّه يريد متاعي، فلا يجد شيئاً عندي فيغضب لذلك فيقتلني، ولا أقلَّ من أنْ تصيبني منه جراحة.
فلمَّا وصل إليَّ سلَّم عليَّ، فرددت عليه السلام وطابت منه نفسـي، فقال: «ما لك؟».
فأومأت إليه بضعفي، فقال: «عندك ثلاث بطّيخات لِـمَ لا تأكل منها؟».
فقلت: لا تستهزئ بي ودعني على حالي.
فقال لي: «انظر إلى ورائك»، فنظرت، فرأيت شجرة بطّيخ عليها ثلاث بطّيخات كبار.
فقال: «سُدَّ جوعك بواحدة، وخذ معك اثنتين، وعليك بهذا الصـراط المستقيم، فامشِ عليه، وكُلْ نصف بطّيخة أوَّل النهار، والنصف الآخر عند الزوال، واحفظ بطّيخة فإنَّها تنفعك، فإذا غربت الشمس تصل إلى خيمة سوداء يوصلك أهلها إلى القافلة»، وغاب عن بصري.
فقمت إلى تلك البطّيخات، فكسرت واحدة منها، فرأيتها في غاية الحلاوة واللطافة كأنّي ما أكلت مثلها، فأكلتها، وأخذت معي الاثنتين، ولزمت الطريق،
وجعلت أمشي حتَّى طلعت الشمس، ومضى من طلوعها مقدار ساعة، فكسرت واحدة منهما، وأكلت نصفها، وسرت إلى زوال الشمس، فأكلت النصف الآخر وأخذت الطريق.
فلمَّا قرب الغروب بدت لي تلك الخيمة، ورآني أهلها، فبادروا إليَّ وأخذوني بعنف وشدَّة، وذهبوا بي إلى الخيمة كأنَّهم زعموني جاسوساً، وكنت لا أعرف التكلُّم إلَّا بلسان العرب ولا يعرفون لساني، فأتوا بي إلى كبيرهم، فقال لي بشدَّة وغضب: من أين جئت؟ تصدقني وإلَّا قتلتك، فأفهمته بكلِّ حيلة شرحاً من حالي.
فقال: أيُّها السيِّد الكذّاب لا يعبر من الطريق الذي تدَّعيه متنفِّس إلَّا تُلِفَ أو أكلته السباع، ثمّ إنَّك كيف قدرت على تلك المسافة البعيدة في الزمان الذي تذكره، ومن هذا المكان إلى المشهد المقدَّس مسيرة ثلاثة أيّام، اصدقني وإلَّا قتلتك، وشهر سيفه في وجهي.
فبدا له البطّيخ من تحت عباءتي، فقال: ما هذا؟ فقَصصت عليه قصَّته، فقال الحاضرون: ليس في هذا الصحراء بطّيخ خصوصاً هذه البطّيخة التي ما رأينا مثلها أبداً، فرجعوا إلى أنفسهم وتكلَّموا فيما بينهم، وكأنَّهم علموا صدق مقالتي، وأنَّ هذه معجزة من الإمام (عليه آلاف التحيَّة والثناء والسلام)، فأقبلوا عليَّ وقبَّلوا يدي وصدَّروني في مجلسهم، وأكرموني غاية الإكرام، وأخذوا لباسي تبرُّكاً وكسوني ألبسة جديدة فاخرة، وأضافوني يومين وليلتين.
فلمَّا كان اليوم الثالث أعطوني عشرة توامين، ووجَّهوا معي ثلاثة منهم حتَّى أدركت القافلة(180).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(180) النجم الثاقب (ج 2/ ص 94 - / الحكاية 8).
الحكاية الرابعة: في لقاء السيِّد عطوة الحسيني الحجَّة (عليه السلام):
قال العالم الفاضل الألمعي عليُّ بن عيسى الإربلي صاحب (كشف الغمَّة): حكى لي السيِّد باقي(181) بن عطوة العلوي الحسيني أنَّ أباه عطوة كان به أدرة(182)، وكان زيدي المذهب، وكان يُنكِر على بنيه الميل إلى مذهب الإماميَّة ويقول: لا أُصدِّقكم ولا أقول بمذهبكم حتَّى يجيء صاحبكم (يعني المهدي) فيُبرئني من هذا المرض.
وتكرَّر هذا القول منه، فبينا نحن مجتمعون عند وقت عشاء الآخرة إذا أبونا يصيح ويستغيث بنا، فأتيناه سراعاً، فقال: الحقوا صاحبكم فالساعة خرج من عندي.
فخرجنا فلم نرَ أحداً، فعدنا إليه وسألناه، فقال: إنَّه دخل إليَّ شخص وقال: «يا عطوة».
فقلت: من أنت؟
فقال: «أنا صاحب بنيك، قد جئت لأُبرئك ممَّا بك».
ثمّ مدَّ يده فعصر قروتي(183) ومشى، ومددت يدي فلم أرَ لها أثراً.
قال لي ولده: وبقي مثل الغزال ليس به قلبة(184).
واشتهرت هذه القصَّة، وسألت عنها غير ابنه، فأخبر عنها فأقرَّ بها(185).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(181) في النجم الثاقب: (باقر).
(182) في هامش البحار: (الأدرة، وهو: انفتاق الصفاق بحيث يقع القصب في الصفن ويكون الخصية منتفخاً بذلك).
(183) القروة: أنْ يعظم جلد البيضتين لريح فيه أو ماء، أو لنزول الأمعاء. (الصحاح للجوهري: ج 6/ ص 2460/ مادَّة قرا).
(184) في النجم الثاقب: (قروة)؛ و(ليس به قلبة) أي ليست به علَّة. (الصحاح للجوهري: ج 1/ ص 205/ مادَّة قلب).
(185) النجم الثاقب (ج 2/ ص 97/ الحكاية 9)، عن كشف الغمَّة (ج 3/ ص 300 و301)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 65/ ضمن الحديث 51).
ثمّ قال الإربلي بعد ذكره لهذه الحكاية وحكاية الهرقلي المتقدِّمة:
والأخبار عنه (عليه السلام) في هذا الباب كثيرة، وإنَّه رآه جماعة قد انقطعوا في طُرُق الحجاز وغيرها، فخلَّصهم وأوصلهم إلى حيث أرادوا، ولولا التطويل لذكرت منها جملة(186).
الحكاية الخامسة: في ذكر دعاء العبرات:
قال العلَّامة الحلّي (رحمه الله) في كتاب (منهاج الصلاح في شرح العبرات): الدعاء المعروف وهو المرويُّ عن الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، وله من جهة السيِّد السعيد رضي الدِّين محمّد بن محمّد بن محمّد الآوي (قدَّس الله روحه) حكاية معروفة بخطِّ بعض الفضلاء في هامش ذلك الموضع، روى المولى السعيد فخر الدِّين محمّد بن الشيخ الأجل جمال الدِّين (يعني العلَّامة)، عن والده، عن جدِّه الفقيه يوسف، عن السيِّد الرضي المذكور، أنَّه كان مأخوذاً عند أمير من أُمراء السلطان جرماغون مدَّة طويلة مع شدَّة وضيق، فرأى في نومه الخلف الصالح المنتظر، فبكى وقال: يا مولاي اشفع في خلاصي من هؤلاء.
فقال (عليه السلام): «ادعُ بدعاء العبرات».
فقال: ما دعاء العبرات؟
فقال (عليه السلام): «إنَّه في مصباحك».
فقال: يا مولاي، ما في مصباحي؟
فقال (عليه السلام): «انظره تجده»، فانتبه من منامه وصلّى الصبح، وفتح المصباح فلقي ورقة مكتوبة فيها هذا الدعاء بين أوراق الكتاب، فدعا أربعين مرَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(186) كشف الغمَّة (ج 3/ ص 301).
وكان لهذا الأمير امرأتان إحداهما عاقلة مدبِّرة في أُموره وهو كثير الاعتماد عليها، فجاء الأمير في نوبتها، فقالت له: أخذت أحداً من أولاد أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)؟
فقال لها: لِـمَ تسألين عن ذلك؟
فقالت: رأيت شخصاً وكأنَّ نور الشمس يتلألأ من وجهه، فأخذ بحلقي بين إصبعيه ثمّ قال: «أرى بعلك أخذ ولدي، ويُضيِّق عليه من المطعم والمشرب».
فقلت له: يا سيِّدي، من أنت؟
قال: «أنا عليُّ بن أبي طالب، قولي له: إنْ لم يخلِّ عنه لأُخَرِّبَنَّ بيته».
فشاع هذا المنام للسلطان، فقال: ما أعلم ذلك، وطلب نُوّابه، فقال: من عندكم مأخوذ؟
فقالوا: الشيخ العلوي أمرت بأخذه.
فقال: خلُّوا سبيله، وأعطوه فرساً يركبها ودلُّوه على الطريق، فمضـى إلى بيته.
وقال السيِّد الأجلّ عليُّ بن طاوس في آخر (مهج الدعوات): ومن ذلك ما حدَّثني به صديقي والمؤاخي لي محمّد بن محمّد [بن محمّد] القاضي الآوي (ضاعف الله (جلَّ جلاله) سعادته وشرَّف خاتمته)، وذكر له حديثاً عجيباً وسبباً غريباً، وهو أنَّه كان قد حدثت له حادثة فوجد هذا الدعاء في أوراق لم يجعله فيها بين كُتُبه، فنسخ منه نسخة، فلمَّا نسخه فقد الأصل الذي كان قد وجده(187)،(188).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(187) مهج الدعوات (ص 338 و339).
(188) راجع: النجم الثاقب (ج 2/ ص 127 و128/ الحكاية 22).
الحكاية السادسة: حكاية أمير إسحاق الأسترآبادي:
وقد ذكرها العلَّامة المجلسي في (البحار) عن والده، ولقد رأيتها بخطِّ والده الآخوند المولى محمّد تقي (رحمه الله) خلف الدعاء المعروف بالحرز اليماني بشـرح أكثر مع الإجازات، فنذكرها عن والده:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة على أشرف المرسَلين محمّد وعترته الطاهرين. أمَّا بعد، فقد طلب منّي السيِّد النجيب الأديب الحسيب، زبدة السادة العظام والنقباء الكرام، أمير محمّد هاشم أدام الله تعالى تأييده بجاه محمّد وآله الأقدسين، أنْ أُجيزه الحرز اليماني المنسوب إلى أمير المؤمنين، وإمام المتَّقين، وخير الخلائق بعد سيِّد النبيِّين (صلوات الله وسلامه عليهما ما دامت الجنَّة مأوى الصالحين).
فأجزت أنْ يروي هذا الدعاء عنّي وبإسنادي عن السيِّد العابد الزاهد أمير إسحاق الأسترآبادي المدفون قرب سيِّد شباب أهل الجنَّة أجمعين، عن مولانا ومولى الثقلين خليفة الله تعالى صاحب العصـر والزمان (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الأقدسين).
وقال السيِّد المذكور: تأخَّرت عن القافلة في طريق مكَّة، فيئست من الحياة، ونمت على قفاي كهيأة المحتضـر، وبدأت بقراءة الشهادتين، فإذا أنا بمولانا ومولى العالمين خليفة الله على الناس أجمعين واقفاً فوق رأسي فقال لي: «قم يا إسحاق»، فقمت، وكنت عطشاناً فأرواني وأردفني معه، فبدأت بقراءة الحرز المذكور، وكان (عليه السلام) يُصلِحه لي حتَّى أتممته، فرأيت نفسـي في الأبطح، فنزلت عن مركبه، فإذا هو قد غاب عنّي.
ووصلت القافلة بعد تسعة أيّام، واشتهر بين أهل مكَّة أنّي جئت بطيِّ الأرض، فاختفيت بعد إتمام المناسك.
وهذا السيِّد حجَّ أربعين مرَّة ماشياً، ولقد رأيته في أصفهان لـمَّا جاء من كربلاء لزيارة مولى الكونين الإمام عليِّ بن موسى الرضا (صلوات الله عليهما)، وكان في ذمَّته مهر زوجته بمقدار سبعة توامين، فرأى في المنام أنَّ أجله قد دنا.
وقال: إنّي جاورت كربلاء خمس سنين كي أموت وأُدفن هناك، وأخاف أنْ يُدركني الموت في غيره، فلمَّا اطَّلع بعض إخواننا على ذلك أدّى عنه ذلك المبلغ وأرسل معه نفراً من إخواننا، فقال: لـمَّا وصل السيِّد إلى كربلاء وأدّى دينه مرض، وتُوفّي في اليوم التاسع، ودُفِنَ في داره.
ولقد رأيت منه أمثال هذه الكرامات مدَّة إقامته بأصفهان (رضي الله عنه)، وعندي لهذا الدعاء إجازات كثيرة، واقتصرت عليه، وأرجو أنْ لا ينساني من الدعاء، وأطلب منه أنْ لا يقرأ هذا الدعاء إلَّا لله تبارك وتعالى، ولا يقرأه على عدوِّه المؤمن وإنْ كان فاسقاً أو ظالماً له، ولا يقرأه لنيل الأهواء الدنيويَّة، بل يجدر أنْ تكون قراءته للقرب من الله تعالى، ولدفع شرِّ شياطين الجنِّ والإنس عنه وعن جميع المؤمنين، وإنْ لم تحصل له نيَّة القربة فالأولى ترك جميع النيّات سوى القرب من الله تعالى.
نمقه بيمناه الداثرة أحوج المربوبين إلى رحمة ربِّه الغنيِّ محمّد تقي المجلسـي الأصفهاني، حامداً لله تعالى ومصلّياً على سيِّد الأنبياء وأوصيائه النجباء الأصفياء. (انتهى)(189).
وذكر هذه الحكاية خاتم العلماء والمحدِّثين الشيخ أبو الحسن تلميذ العلَّامة المجلسي في أواخر مجلَّد (ضياء العالمين)، عن أُستاذه، عن والده، فذكرها إلى ورود السيِّد إلى مكَّة، ثمّ قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(189) النجم الثاقب (ج 2/ ص 143 و144/ الحكاية 29)، عن بحار الأنوار (ج 52/ ص 175 و176) بتفاوت.
قال والد شيخي: ثمّ أخذت هذه النسخة على تصحيح الإمام (عليه السلام) منه، وأجازني روايتها عن الإمام (عليه السلام)، وهو أيضاً أجاز روايتها لابنه - أي شيخي المذكور (طاب ثراه) -، ويُعتَبر ذلك الدعاء في عداد إجازات شيخي لي، وأنا منذ أربعين سنة أقرأ هذا الدعاء، ورأيت منه خيراً كثيراً.
ثمّ ذكر حكاية رؤيا السيِّد التي قيل له فيها: (عجِّل بالذهاب إلى كربلاء فإنَّ أجلك قد دنا)(190)، وهذا الدعاء موجود في المجلَّد التاسع عشـر من (بحار الأنوار) على النحو المذكور(191).
الحكاية السابعة: في دعاء الفرج:
روى السيِّد رضي الدِّين عليُّ بن طاوس في كتاب (فرج المهموم)، والعلَّامة المجلسي في (البحار)، عن كتاب دلائل الشيخ [أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري، عن](192) أبي جعفر محمّد بن هارون بن موسى التلعكبري، قال: حدَّثني أبو الحسين بن أبي البغل الكاتب، قال: تقلَّدت عملاً من أبي منصور بن الصالحان، وجرى بيني وبينه ما أوجب استتاري، فطلبني وأخافني، فمكثت مستتراً خائفاً، ثمّ قصدت مقابر قريش ليلة الجمعة، واعتمدت على المبيت هناك للدعاء والمسألة، وكانت ليلة ريح ومطر، فسألت ابن جعفر القيِّم أنْ يغلق الأبواب، وأنْ يجتهد في خلوة الموضع، لأخلو بما أُريده من الدعاء والمسألة، وآمن من دخول إنسان ممَّا لم آمنه، وخفت من لقائه(193) له.
ففعل وقفل الأبواب وانتصف الليل، وورد من الريح والمطر ما قطع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(190) راجع: ضياء العالمين (ج 5/ ص 238 - 240).
(191) بحار الأنوار (ج 92/ ص 240 - 246/ ح 31)، عن مهج الدعوات (ص 105 - 111).
(192) ما بين المعقوفتين قد سقط من الأصل؛ وأضفناه من النجم الثاقب.
(193) في الدلائل: (لقائي)؛ وهو الأصحّ.
الناس عن الموضع، ومكثت أدعو وأزور وأُصلّي، فبينما أنا كذلك إذ سمعت وطأة عند مولانا موسى (عليه السلام)، وإذا رجل يزور، فسلَّم على آدم وأُولي العزم ثمّ الأئمَّة واحداً واحداً إلى أنْ انتهى إلى صاحب الزمان [فلم يذكره](194)، فعجبت من ذلك وقلت: لعلَّه نسى، أو لم يعرف، أو هذا مذهب لهذا الرجل.
فلمَّا فرغ من زيارته صلّى ركعتين، وأقبل إلى عند مولانا أبي جعفر، فزار مثل الزيارة وذلك السلام وصلّى ركعتين، وأنا خائف منه، إذ لم أعرفه، ورأيته شاباً تامًّا من الرجال عليه ثياب بيض، وعمامة محنَّك بها ذوابة(195) وردى على كتفه مسبل.
فقال لي: «يا أبا الحسين بن أبي البغل، أين أنت عن دعاء الفرج؟».
فقلت: وما هو، يا سيِّدي؟
فقال: «تُصلِّ ركعتين، وتقول: يا مَنْ أَظْهَرَ الْجَميلَ وَسَتَرَ الْقَبيحَ، يا مَنْ لَمْ يُؤاخِذْ بِالْجَريرَةِ وَلَمْ يَهْتِكِ السِّتْرَ، يا عَظيمَ المنِّ، يا كَرِيِمَ الصَّفْحِ، [يا مُبْتَدِئ النِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقاقِها](196)، يا حَسَنَ التَّجاوُزِ، يا واسِعَ المَغْفِرَةِ، يا باسِطَ الْيَدَيْنِ بِالرَّحْمَةِ، يا مُنْتَهى كُلِّ نَجْوى، وَيا غَايَةَ كُلِّ شَكْوى، يا عَوْنَ كُلِّ مُسْتَعِينٍ، يا مُبْتَدِئاً بِالنِّعَمِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهَا، يا رَبَّاهُ (عشر مرّات)، يا سِيِّدَاهُ (عشر مرّات)، يا مَوْلَاهُ (عشـر مرّات)، يا غَايَتَاهُ (عشر مرّات)، يا مُنْتَهى رَغْبَتَاهُ (عشر مرّات)، أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هَذِه الْأَسْمَاءِ، وَبِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ إِلَّا مَا كَشَفْتَ كَرْبِي، وَنَفَّسْتَ هَمّي، وَفَرَّجْتَ غَمّي(197)، وَأَصْلَحْتَ حَالِي».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(194) ما بين المعقوفتين من فرج المهموم.
(195) في الدلائل: (بذؤابة).
(196) ما بين المعقوفتين لا يوجد في الدلائل.
(197) في الدلائل: (عنّي).
وتدعو بعد ذلك بما شئت، وتسأل حاجتك، ثمّ تضع خدَّك الأيمن على الأرض وتقول مائة مرَّة في سجودك: يا مُحَمَّدُ يا عَلِيُّ، يا عَلِيُّ يا مُحَمَّدُ، اكْفِيَانِي (فَإِنَّكُما كَافِيَايَ) وَانْصُرَانِي فَإِنَّكُما نَاصِرَايَ، ولتضع خدَّك الأيسـر على الأرض وتقول مائة مرَّة: أَدْرِكْنِي، وتُكرِّرها كثيراً، وتقول: الْغَوْثَ الْغَوْثَ حتَّى ينقطع نفسك، وترفع رأسك، فإنَّ الله يُكرمه ويقض(198) حاجتك إنْ شاء الله تعالى.
فلمَّا اشتغلت بالصلاة والدعاء خرج، فلمَّا فرغت خرجت لابن جعفر لأساله عن الرجل وكيف قد دخل، فرأيت الأبواب على حالها مغلقة مقفلة، فعجبت من ذلك، وقلت: لعلَّ باب هنا ولم أعلم، فأنبهت ابن جعفر، فخرج إليَّ من بيت الزيت، فسألته عن الرجل ودخوله.
فقال: الأبواب مقفلة كما ترى ما فتحتها، فحدَّثته بالحديث، فقال: هذا مولانا صاحب الزمان، وقد شاهدته مراراً في مثل هذه الليلة عند خلوِّها من الناس.
فتأسَّفت على ما فاتني منه، وخرجت عند قرب الفجر، وقصدت الكرخ إلى الموضع الذي كنت مستتراً فيه، فما أضحى النهار إلَّا وأصحاب ابن الصالحان يلتمسون لقائي، ويسألون عنّي أصدقائي، ومعهم أمان من الوزير، ورقعة بخطِّه فيها كلُّ جميل.
فحضرت مع ثقة من أصدقائي عنده، فقام والتزمني وعاملني بما لم أعهده منه، وقال: انتهت بك الحال إلى أنْ تشكوني إلى صاحب الزمان؟
فقلت: قد كان منّي دعاء ومسألة.
فقال: ويحك رأيت البارحة مولاي صاحب الزمان في النوم - يعني ليلة الجمعة -، وهو يأمرني بكلِّ جميل، ويجفو عليَّ في ذلك جفوة خفتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(198) كذا في الأصل؛ والصحيح كما في الدلائل: (بكرمه يقضي).
فقلت: لا إله إلَّا الله، أشهد أنَّهم الحقُّ ومنتهى الصدق، رأيت البارحة مولانا في اليقظة، وقال لي: كذا وكذا، وشرحت ما رأيته في المشهد، فعجب من ذلك، وجرت منه أُمور عظام حسان في هذا المعنى، وبلغت منه غاية ما لم أظنُّه ببركة مولانا صاحب الزمان (عليه السلام)(199).
يقول المؤلِّف(200):
هناك أدعية تُسمّى بأدعية الفرج، الأوَّل هو المذكور آنفاً.
والثاني هو الدعاء المرويُّ في الكتاب الشريف (الجعفريّات)، وهو أنَّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) جاء إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يشكو إليه الحاجة، فقال: «ألَا أُعلِّمك كلمات أهداهنَّ إليَّ جبرئيل، وهي سبعة عشر حرفاً، مكتوبة على جبهة جبرئيل منها أربعة، وأربعة مكتوبة على جبهة ميكائيل، وأربعة مكتوبة على جبهة إسرافيل، وأربعة مكتوبة حول الكرسي، وثلاثة وثلاثون حول العرش، ما دعا بهنَّ مكروب ولا ملهوف ولا مهموم ولا مغموم ولا من يخاف سلطاناً ولا شيطاناً إلَّا كفاه الله (عزَّ وجلَّ)، وهي:
«يا عِمادَ مَنْ لَا عِمادَ لَهُ، وَيا سَنَدَ مَنْ لَا سَنَدَ لَهُ، وَيا ذُخْرَ مَنْ لَا ذُخْرَ لَهُ، وَيا حِرْزَ مَنْ لَا حِرْزَ لَهُ، وَيا فَخْرَ مَنْ لَا فَخْرَ لَهُ، وَيا رُكْنَ مَنْ لَا رُكْنَ لَهُ، يا عَظِيمَ الرَّجاءِ، يا عِزَّ الضُّعَفَاءِ، يا مُنْقِذَ الغَرْقى، يا مُنْجِيَ الهَلْكى، يا مُجْمِلُ يا مُنْعِمُ يا مُفْضِلُ، أَسْأَلُ اللهَ الَّذِي لَا إِله إلَّا أَنْتَ الَّذِي سَجَدَ لَكَ سَوادُ اللَيْلِ، وَضَؤُءُ النَّهارِ، وَشُعاعُ الشَّمْسِ، وَنُورُ القَمَرِ، وَدَوِيُّ الماءِ، وَحَفِيفُ الشَّجَرِ. يا اللهُ يا رَحْمَنُ، يا ذَا الجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(199) النجم الثاقب (ج 2/ ص 145 - 147/ الحكاية 30)؛ بحار الأنوار (ج 51/ ص 304 - 306/ ضمن الحديث 19)، عن فرج المهموم (ص 245 - 247)، عن دلائل الإمامة (ص 551 - 553/ ح 525/129).
(200) أي النوري (رحمه الله) في النجم الثاقب.
وكان عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) يُسمّي هذا: دعاء الفرج(201).
الدعاء الثالث ما رواه الشيخ إبراهيم الكفعمي في (الجنَّة الواقية)، وهو أنَّ رجلاً جاء إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: يا رسول الله، إنّي كنت غنيًّا فافتقرت، وصحيحاً فمرضت، وكنت مقبولاً عند الناس فصـرت مبغوضاً، وخفيفاً على قلوبهم فصرت ثقيلاً، وكنت فرحاناً فاجتمعت عليَّ الهموم، وقد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، وأجول طول نهاري في طلب الرزق فلا أجد ما أتقوَّت به، كأنَّ اسمي قد مُحي من ديوان الأرزاق.
فقال له النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يا هذا، لعلَّك تستعمل ميراث الهموم».
فقال: وما ميراث الهموم؟
قال: «لعلَّك تتعمَّم من قعود، أو تتسـرول من قيام، أو تقلم أظفارك بسنِّك، أو تمسح وجهك بذيلك، أو تبول في ماء راكد، أو تنام منبطحاً على وجهك».
فقال: لم أفعل من ذلك شيئاً(202).
فقال له النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اتَّق الله وأخلص ضميرك، وادع بهذا الدعاء، وهو دعاء الفرج:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَهِي طُمُوحُ الْآمَالِ قَدْ خَابَتْ إِلَّا لَدَيْكَ، وَمَعَاكِفُ الْهِمَمِ قَدْ تَقَطَّعَتْ إِلَّا عَلَيْكَ، وَمَذَاهِبُ الْعُقُولِ قَدْ سَمَتْ إِلَّا إِلَيْكَ، فَإِلَيْكَ الرَّجَاءُ وَإِلَيْكَ المُلْتَجَأُ، يَا أَكْرَمَ مَقْصُودٍ، وَيَا أَجْوَدَ مَسْؤُولٍ، هَرَبْتُ إِلَيْكَ بِنَفْسِي، يَا مَلْجَأَ الْهَارِبِينَ بِأَثْقَالِ الذُّنُوبِ، أَحْمِلُهَا عَلَى ظَهْرِي، وَلَا أَجِدُ لِي شَافِعاً سِوَى مَعْرِفَتِي بِأَنَّكَ أَقْرَبُ مَنْ رَجَاهُ الطَّالِبُونَ، وَلَجَأَ إِلَيْهِ المُضْطَرُّونَ، وَأَمَّلَ مَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(201) الجعفريّات (ج 1/ ص 248).
(202) هكذا في البحار، وفي المتن الفارسي: (افعل من ذلك شيئاً). (المترجم).
لَدَيْهِ اَلرَّاغِبُونَ، يَا مَنْ فَتَقَ الْعُقُولَ بِمَعْرِفَتِهِ، وَأَطْلَقَ الْأَلْسُنَ بِحَمْدِهِ، وَجَعَلَ مَا اِمْتَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ كِفَايَةً لِتَأْدِيَةِ حَقِّهِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَلَا تَجْعَلْ لِلْهُمُومِ عَلَى عَقْلِي سَبِيلاً، وَلَا لِلْبَاطِلِ عَلَى عَمَلِي دَلِيلاً، وَاِفْتَحْ لِي بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَا وَلِيَّ اَلْخَيْرِ»(203).
الدعاء الرابع ما رواه الفاضل المتبحِّر السيِّد عليّ خان المدني في (الكَلِم الطيِّب) عن جدِّه: دعاءٌ للفرج، وهو:
«اللَّهُمَّ يَا وَدُودُ يَا وَدُودُ [يَا وَدُودُ](204)، يَا ذَا الْعَرْشِ المَجِيدِ، يَا فَعّالاً لِـمَا يُريِدُ، أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي مَلَأَ أَرْكَانَ عَرْشِكَ، وَبِقُدْرَتِكَ الَّتِي قَدَّرْتَ بِهَا عَلَى جَمِيعِ خَلْقِكَ، وَبِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ، يَا مُبْدِئُ يَا مُعِيدُ، لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ، يَا إِلَه الْبَشَرِ، يَا عَظِيمَ الخَطَرِ، مِنْكَ الطَّلَبُ وَإِلَيْكَ الهَرَبُ، وَقَعَ بِالْفَرَجِ، يَا مُغِيثُ أَغِثْنِي، يَا مُغِيثُ أَغِثْنِي، يَا مُغِيثُ أَغِثْنِي»(205).
ودعاء الفرج الخامس ما روي في كتاب (مفاتيح النجاة) للمحقِّق السبزواري، وأوَّله: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللهُ يَا اللهُ يَا اللهُ يَا مَنْ عَلَا فَقَهَرَ...» الخ، وهو دعاء طويل(206).
الحكاية الثامنة: في لقاء الشريف عمر بن حمزة للحجَّة (عليه السلام):
روى الشيخ الجليل والأمير الزاهد ورّام بن أبي فراس في آخر المجلَّد الثاني من كتاب (تنبيه الخواطر)، قال: حدَّثني السيِّد الأجلّ الشريف أبو الحسن عليُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(203) راجع: بحار الأنوار (ج 92/ ص 203 و204/ ح 37)، وفي آخره: (فلمَّا دعا به الرجل وأخلص نيَّته عاد إلى أحسن حالاته).
(204) ما بين المعقوفتين من المصدر.
(205) الكلم الطيِّب (ص 51 و52).
(206) راجع: مهج الدعوات (ص 90 - 92).
ابن إبراهيم العريضي العلوي الحسيني، قال: حدَّثني عليُّ بن نما، قال: حدَّثني أبو محمّد الحسن بن عليِّ بن حمزة الأقساسي(207) في دار الشريف عليِّ بن جعفر بن عليٍّ المدائني العلوي، قال:
كان بالكوفة شيخ قصّار، وكان موسوماً بالزهد منخرطاً في سلك السياحة، متبتِّلاً للعبادة، مقتفياً للآثار الصالحة، فاتَّفق يوماً أنَّني كنت بمجلس والدي، وكان هذا الشيخ يُحدِّثه وهو مقبل عليه، قال: كنت ذات ليلة بمسجد جعفي وهو مسجد قديم وقد انتصف الليل، وأنا بمفردي فيه للخلوة والعبادة، فإذا أقبل عليَّ ثلاثة أشخاص فدخلوا المسجد، فلمَّا توسَّطوا صرحته(208) جلس أحدهم ثمّ مسح الأرض بيده يمنة ويسـرة، فحصحص الماء ونبع، فأسبغ الوضوء منه.
ثمّ أشار إلى الشخصين الآخرين بإسباغ الوضوء فتوضَّئا، ثمّ تقدَّم فصلّى بهما إماماً فصلَّيت معهم مؤتمًّا به، فلمَّا سلَّم وقضـى صلاته بهرني حاله، واستعظمت فعله من إنباع الماء، فسألت الشخص الذي كان منهما إلى يميني عن الرجل، فقلت له: من هذا؟
فقال لي: هذا صاحب الأمر ولد الحسن (عليه السلام).
فدنوت منه وقبَّلت يديه وقلت له: يا بن رسول الله، ما تقول في الشريف عمر بن حمزة هل هو على الحقِّ؟
فقال: «لا، وربَّما اهتدى، إلَّا أنَّه ما يموت حتَّى يراني».
فاستطرفنا هذا الحديث، فمضت برهة طويلة، فتوفّى الشيخ(209) عمر ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(207) في تنبيه الخواطر: (الأقساني).
(208) صرحة الدار: عرصتها.
(209) في المصدرين: (الشريف).
يشع أنَّه لقيه، فلمَّا اجتمعت بالشيخ الزاهد ابن نادية أذكرته بالحكاية التي كان ذكرها، وقلت له مثل الرادِّ عليه: أليس كنت ذكرت أنَّ هذا الشـريف عمر لا يموت حتَّى يرى صاحب الأمر الذي أشرت إليه؟
فقال لي: ومن أين لك أنَّه لم يرَه؟
ثمّ إنَّني اجتمعت فيما بعد بالشريف أبي المناقب ولد الشـريف عمر بن حمزة، وتفاوضنا أحاديث والده، فقال: إنّا كنّا ذات ليلة في آخر الليل عند والدي، وهو في مرضه الذي مات فيه وقد سقطت قوَّته بواحدة وخفت موته والأبواب مغلقة علينا، إذ دخل علينا شخص هبناه واستطرفنا دخوله وذهلنا عن سؤاله.
فجلس إلى جنب والدي وجعل يُحدِّثه مليًّا ووالدي يبكي، ثمّ نهض، فلمَّا غاب عن أعيننا تحامل والدي وقال: اجلسوني، فأجلسناه، وفتح عينيه وقال: أين الشخص الذي كان عندي؟
فقلنا: خرج من حيث أتى.
فقال: اطلبوه، فذهبنا في أثره، فوجدنا الأبواب مغلقة، ولم نجد له أثراً، فعدنا إليه، فأخبرناه بحاله وأنّا لم نجده، ثمّ إنّا سألناه عنه، فقال: هذا صاحب الأمر (عليه السلام)، ثمّ عاد إلى ثقله في المرض وأُغمي عليه(210).
يقول المؤلِّف (أي صاحب النجم الثاقب):
إنَّ أبا محمّد الحسن بن حمزة الأقساسي [المعروف بعزِّ الدِّين](211) من أجلَّة السادة، ومن شرفاء وعلماء الكوفة، وهو شاعر ماهر، وقد جعله الناصر بالله العبّاسي نقيب السادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(210) النجم الثاقب (ج 2/ص 167 - 168/الحكاية 33)، عن تنبيه الخواطر (ج 2/ص 622 - 624).
(211) ما بين المعقوفتين لا يوجد في المصدر.
والأقساسي هذا هو الذي أنشد أبياتاً حينما ذهب مع المستنصـر بالله العبّاسي إلى زيارة سلمان، فقال له المستنصر: كذبت الشيعة الغلاة أنَّ عليًّا جاء من المدينة إلى المدائن في ليلة واحدة لغُسل سلمان ثمّ رجع إلى المدينة في تلك الليلة، فأنشد في جوابه:
أنكرت ليلة إذ سار الوصيُّ [إلى](212) * * * أرض المدائن لـمَّا [أنْ لها] طلبا
وغسَّل الطُّهر سلماناً وعاد إلى * * * عرايض(213) يثرب والإصباح ما وجبا
وقلتَ ذلك من قول الغلاة وما * * * ذنب الغلاة إذا لم يوردوا كذبا
فآصف قبل ردِّ الطرف من سبأ * * * بعرش بلقيس وافى يخرق الحُجُبا
فأنت في آصف لم تغل فيه بلى * * * في حيدرٍ أنا غالٍ إنَّ ذا عجبا
إنْ كان أحمد خير المرسَلين فذا * * * خير الوصيِّين أو كلُّ الحديث هبا
ومسجد جعفي من المساجد المعروفة المباركة، وقد صلّى أمير المؤمنين (عليه السلام) فيه أربع ركعات، ثمّ سبَّح تسبيح الزهراء (عليها السلام)، ثمّ ناجى الله بمناجاة طويلة مذكورة في كُتُب المزار، وذكرتها في الصحيفة الثانية العلويَّة، ولم يبقَ الآن لهذا المسجد أثر(214).
الحكاية التاسعة: حكاية أبي راجح الحمّامي:
حكى العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في (البحار) عن كتاب (السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان) تأليف العالم الكامل السيِّد عليِّ بن عبد الحميد النيلي النجفي، أنَّه قال عند ذكر من رأى القائم (عليه السلام):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(212) ما بين المعقوفتين من المصدر؛ وكذلك المورد التالي.
(213) في المصدر: (عراص).
(214) راجع: النجم الثاقب (ج 2/ ص 168 و169).
فمن ذلك من(215) اشتهر وذاع وملأ البقاع، وشَهِد بالعيان أبناء الزمان، وهو قصَّة أبي راجح الحمّامي بالحلَّة، وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق الأفاضل.
منهم الشيخ الزاهد العابد المحقِّق شمس الدِّين محمّد بن قارون (سلَّمه الله تعالى)، قال: كان الحاكم بالحلَّة شخصاً يُدعى مرجان الصغير، فرُفِعَ إليه أنَّ أبا راجح هذا يسبُّ الصحابة، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه، حتَّى إنَّه ضُرِبَ على وجهه فسقطت ثناياه، وأُخرج لسانه فجُعِلَ فيه مسلة(216) من الحديد، وخرق أنفه ووضع فيه شَركة من الشعر، وشدَّ فيها حبلاً وسلَّمه إلى جماعة من أصحابه وأمرهم أنْ يدوروا به أزقَّة الحلَّة، والضرب يأخذ من جميع جوانبه حتَّى سقط إلى الأرض وعاين الهلاك.
فأُخبر الحاكم بذلك، فأمر بقتله، فقال الحاضرون: إنَّه شيخ كبير وقد حصل له ما يكفيه، وهو ميِّت لما به، فاتركه وهو يموت حتف أنفه ولا تتقلَّد بدمه، وبالغوا في ذلك حتَّى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه، فنقله أهله في الموت ولم يشكّ أحد أنَّه يموت من ليلته.
فلمَّا كان من الغد غدا عليه الناس، فإذا هو قائم يُصلّي على أتمّ حالة، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت، واندملت جراحاته ولم يبقَ لها أثر، والشجَّة قد زالت من وجهه.
فعجب الناس من حاله وسألوه عن أمره، فقال: إنّي لـمَّا عاينت الموت ولم يبقَ لي لسان أسأل الله تعالى به، فكنت أسأله بقلبي، واستغثت إلى سيِّدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(215) كذا في الأصل؛ وفي المصادر: (ما).
(216) المسلة بالكسـر: واحدة المسال، وهي الإبر العظيمة. (الصحاح للجوهري: ج 5/ ص 1731/ مادَّة سلل).
ومولاي صاحب الزمان (عليه السلام)، فلمَّا جنَّ عليَّ الليل فإذا بالدار قد امتلأ نوراً، وإذا بمولاي صاحب الزمان قد أمرَّ يده الشريفة على وجهي وقال لي: «اخرج وكدَّ على عيالك، فقد عافاك الله تعالى»، فأصبحت كما ترون.
وحكى الشيخ شمس الدِّين محمّد بن قارون المذكور، قال: وأُقسم بالله تعالى أنَّ هذا أبو راجح كان ضعيفاً جدًّا، ضعيف التركيب، أصفر اللون، شين الوجه، مقرِّض اللحية، وكنت دائماً أدخل الحمّام الذي هو فيه، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل، فلمَّا أصبحت كنت ممَّن دخل عليه، فرأيت وقد اشتدَّت قوَّته، وانتصبت قامته، وطالت لحيته، واحمرَّ وجهه، وعاد كأنَّه ابن عشرين سنة، ولم يزل على ذلك حتَّى أدركته الوفاة.
ولـمَّا شاع هذا الخبر وذاع طلبه الحاكم وأحضـره عنده، وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة وهو الآن على ضدِّها كما وصفناه، ولم يرَ بجراحاته أثراً وثناياه قد عادت، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم، وكان يجلس في مقام الإمام (عليه السلام) في الحلَّة ويُعطي ظهره القبلة الشـريفة، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها، وعاد يتلطَّف بأهل الحلَّة ويتجاوز عن مسيئهم ويُحسن إلى محسنهم، ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك إلَّا قليلاً حتَّى مات(217).
الحكاية العاشرة: حكاية الكاشاني المريض الذي برأ من مرضه ببركة الإمام المنتظر (عليه السلام):
وروي أيضاً في (البحار) أنَّ جماعة من أهالي النجف أخبروه أنَّ رجلاً من أهل قاشان أتى إلى الغريِّ متوجِّهاً إلى بيت الله الحرام، فاعتلَّ علَّة شديدة حتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(217) النجم الثاقب (ج 2/ ص 219 و220/ الحكاية 41)، عن بحار الأنوار (ج 52/ ص 70 و71/ ح 55)، عن المنتقى من السلطان (ص 29 - 31/ الحكاية الأُولى).
يبست رجلاه ولم يقدر على المشي، فخلَّفه رفقاؤه وتركوه عند رجل من الصلحاء كان يسكن في بعض حجرات المدرسة المحيطة بالروضة المقدَّسة، وذهبوا إلى الحجِّ.
فكان هذا الرجل يغلق عليه الباب كلَّ يوم، ويذهب إلى الصحاري للتنزُّه ولطلب الدراري التي تُؤخَذ منها، فقال له في بعض الأيّام: إنّي قد ضاق صدري واستوحشت من هذا المكان، فاذهب بي اليوم واطرحني في مكان واذهب حيث شئت.
قال: فأجابني إلى ذلك، وحملني وذهب بي إلى مقام القائم (صلوات الله عليه) خارج النجف، فأجلسني هناك، وغسل قميصه في الحوض وطرحها على شجرة كانت هناك وذهب إلى الصحراء، وبقيت وحدي مغموماً أُفكِّر فيما يؤول إليه أمري، فإذا أنا بشابٍّ صبيح الوجه، أسمر اللَّون، دخل الصحن وسلَّم عليَّ وذهب إلى بيت المقام وصلّى عند المحراب ركعات بخضوع وخشوع لم أرَ مثله قطُّ.
فلمَّا فرغ من الصلاة خرج وأتاني وسألني عن حالي، فقلت له: ابتليت ببليَّة ضقت بها لا يشفيني الله فأسلم منها ولا يذهب بي فأستريح.
فقال: «لا تحزن سيُعطيك الله كليهما»، وذهب.
فلمَّا خرج رأيت القميص وقع على الأرض، فقمت وأخذت القميص وغَسلتها وطرحتها على الشجر، فتفكَّرت في أمري وقلت: أنا كنت لا أقدر على القيام والحركة، فكيف صرت هكذا؟ فنظرت إلى نفسي فلم أجد شيئاً ممَّا كان بي، فعلمت أنَّه كان القائم (صلوات الله عليه)، فخرجت فنظرت في الصحراء فلم أرَ أحداً فندمت ندامة شديدة.
فلمَّا أتاني صاحب الحجرة سألني عن حالي وتحيَّر في أمري، فأخبرته بما جرى فتحسَّر على ما فات منه ومنّي، ومشيت معه إلى الحجرة.
قالوا: فكان هكذا سليماً حتَّى أتى الحاجُّ ورفقاؤه، فلمَّا رآهم وكان معهم قليلاً مرض ومات ودُفِنَ في الصحن، فظهر صحَّة ما أخبره (عليه السلام) من وقوع الأمرين معاً(218).
يقول المؤلِّف:
لا يخفى أنَّ هناك بقاعاً مخصوصة تُعرَف بمقام الحجَّة (عليه السلام)، كوادي السلام، ومسجد السهلة، والحلَّة، ومسجد جمكران الواقع في خارج قم وغيره، والظاهر في سبب جعل هذه البقاع من الأماكن المباركة والمتبرِّكة هو ظهور معجزة فيها، أو تشرُّف شخص بلقاء الحجَّة (عليه السلام) فيها، فصارت محلَّ تردُّد الملائكة وقلَّة تردُّد الشياطين، وهذا أحد أسباب إجابة الدعاء وقبول العبادة.
وورد في بعض الأخبار أنَّ لله تعالى بقاعاً يُحِبُّ أنْ يُعبَد فيها(219)، ووجود أمثال هذه الأماكن والبقاع كالمسجد ومشاهد الأئمَّة (عليهم السلام) وقبور أولادهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(218) النجم الثاقب (ج 2/ص 228 و229/الحكاية 48)، عن بحار الأنوار (ج 52/ص 176 و177).
(219) عن أبي هاشم الجعفري، قال: بعث إليَّ أبو الحسن (عليه السلام) في مرضه وإلى محمّد بن حمزة، فسبقني إليه محمّد بن حمزة، وأخبرني محمّد ما زال يقول: ابعثوا إلى الحير، ابعثوا إلى الحير، فقلت لمحمّد: ألَا قلت له: أنا أذهب إلى الحير، ثمّ دخلت عليه وقلت له: جُعلت فداك، أنا أذهب إلى الحير؟ فقال: «انظروا في ذاك»، ثمّ قال لي: «إنَّ محمّداً ليس له سرٌّ من زيد بن عليٍّ، وأنا أكره أنْ يسمع ذلك، قال: فذكرت ذلك لعليِّ بن بلال، فقال: ما كان يصنع [ب] الحير وهو الحير؟ فقَدِمت العسكر، فدخلت عليه، فقال لي: «اجلس حين أردت القيام»، فلمَّا رأيته أنس بي ذكرت له قول عليِّ بن بلال، فقال لي: «ألَا قلت له: إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يطوف بالبيت، ويُقبِّل الحجر، وحرمة النبيِّ والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يقف بعرفة، وإنَّما هي مواطن يُحِبُّ الله أنْ يُذكَر فيها، فأنا أُحِبُّ أنْ يُدعى [الله] لي حيث يُحِبُّ الله أنْ يُدعى فيها»، وذكر عنه أنَّه قال: ولم أحفظ عنه، قال: «إنَّما هذه مواضع يُحِبُّ الله أنْ يُتعبَّد [له] فيها، فأنا أُحِبُّ أنْ يُدعي لي حيث يُحِبُّ الله أنْ يُعبَد، هلَّا قلت له كذا [وكذا]؟»، قال: قلت: جُعلت فداك، لو كنت أحسن مثل هذا لم أرد الأمر عليك - هذه ألفاظ أبي هاشم ليست ألفاظه -. (الكافي: ج 4/ ص 567 و568/ باب بدون العنوان/ ح 3).
وقبور الصلحاء والأبرار في أطراف العالم وأكنافه من الألطاف الإلهيَّة الغيبيَّة لعباده المضطرِّين والمرضى والمظلومين والخائفين والمقروضين والمحتاجين وأمثالهم من ذوي الهموم والأحزان، الممزَّقة للقلوب المشتَّتة للخواطر، كي يذهبوا إليها ويتضرَّعوا ويسألوا الله أنْ يكشف عمَّا بهم ويداوي داءهم، ويدفع أعداءهم ببركة صاحب ذلك المقام أو المشهد.
وكثيراً ما تكون إجابة الدعاء سريعة ومقرونة بالسؤال، كأنْ يذهب مريضاً فيرجع سالماً، أو يذهب متشتِّت الأحوال فيرجع مطمئنَّ الخاطر، أو يذهب مظلوماً فيرجع مغبوطاً، ولا يخفى أنَّه كلَّما أكثر الإنسان في احترام وتعظيم ذلك المقام أو المشهد كثرت البركات التي تظهر له، ويمكن أنْ تكون هذه البقاع هي التي قال الله تعالى فيها:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾ [النور: 36].
الحكاية الحادية عشرة: في رُمّانة الوزير الناصبي في البحرين:
وقال أيضاً في ذلك الكتاب الشريف(220): لـمَّا كان بلدة البحرين تحت ولاية الإفرنج، جعلوا واليها رجلاً من المسلمين، ليكون أدعى إلى تعميرها وأصلح بحال أهلها، وكان هذا الوالي من النواصب، وله وزير أشدّ نصباً منه، يُظهِر العداوة لأهل البحرين لحُبِّهم أهل البيت (عليهم السلام)، ويحتال في إهلاكهم وإضرارهم بكلِّ حيلة.
فلمَّا كان في بعض الأيام دخل الوزير على الوالي وبيده رُمّانة، فأعطاها الوالي، فإذا كان مكتوباً عليها: «لا إله إلَّا الله، محمّد رسول الله، أبو بكر وعمر وعثمان وعليٌّ خلفاء رسول الله».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(220) أي (بحار الأنوار).
فتأمَّل الوالي، فرأى الكتابة من أصل الرُّمّانة بحيث لا يحتمل عنده أنْ يكون [من](221) صناعة بشر، فتعجَّب من ذلك وقال للوزير: هذه آية بيِّنة وحجَّة قويَّة على إبطال مذهب الرافضة، فما رأيك في أهل البحرين؟
فقال له: أصلحك الله إنَّ هؤلاء جماعة متعصِّبون، يُنكِرون البراهين، وينبغي لك أنْ تُحضِرهم وتريهم هذه الرُّمّانة، فإنْ قبلوا ورجعوا إلى مذهبنا كان لك الثواب الجزيل بذلك، وإنْ أبوا إلَّا المقام على ضلالتهم فخيِّرهم بين ثلاث: إمَّا أنْ يُؤدُّوا الجزية وهم صاغرون، أو يأتوا بجواب [عن](222) هذه الآية البيِّنة التي لا محيص لهم عنها، أو تقتل رجالهم، وتسبي نساءهم وأولادهم، وتأخذ بالغنيمة أموالهم.
فاستحسن الوالي رأيه، وأرسل إلى العلماء والأفاضل الأخيار والنجباء والسادة الأبرار من أهل البحرين وأحضرهم وأراهم الرُّمّانة، وأخبرهم بما رأى فيهم إنْ لم يأتوا بجوابٍ شافٍ من القتل والأسر وأخذ الأموال، أو أخذ الجزية على وجه الصَّغار كالكُفّار، فتحيَّروا في أمرها، ولم يقدروا على جواب، وتغيَّرت وجوههم وارتعدت فرائصهم.
فقال كبراؤهم: أمهلنا أيُّها الأمير ثلاثة أيّام لعلَّنا نأتيك بجواب ترتضيه، وإلَّا فاحكم فينا ما شئت، فأمهلهم، فخرجوا من عنده خائفين، مرعوبين، متحيِّرين، فاجتمعوا في مجلس وأجالوا الرأي في ذلك، فاتَّفق رأيهم على أنْ يختاروا من صلحاء البحرين وزُهّادهم عشرة، ففعلوا، ثمّ اختاروا من العشـرة ثلاثة، فقالوا لأحدهم: اخرج الليلة إلى الصحراء، واعبد الله فيها، واستغث بإمام زماننا وحجَّة الله علينا لعلَّه يُبيِّن لك ما هو المخرج من هذه الداهية الدهماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(221) ما بين المعقوفتين من البحار.
(222) ما بين المعقوفتين من المصدرين.
فخرج وبات طول ليلته متعبِّداً خاشعاً داعياً باكياً يدعو الله ويستغيث بالإمام (عليه السلام) حتَّى أصبح ولم يرَ شيئاً، فأتاهم وأخبرهم، فبعثوا في الليلة الثانية الثاني منهم، فرجع كصاحبه ولم يأتِهم بخبر، فازداد قلقهم وجزعهم.
فأحضروا الثالث وكان تقيًّا فاضلاً اسمه محمّد بن عيسى، فخرج الليلة الثالثة حافياً حاسر الرأس إلى الصحراء وكانت ليلة مظلمة، فدعا وبكى وتوسَّل إلى الله تعالى في خلاص هؤلاء المؤمنين وكشف هذه البليَّة عنهم، واستغاث بصاحب الزمان.
فلمَّا كان في آخر الليل إذا هو برجل يخاطبه ويقول: «يا محمّد بن عيسى، ما لي أراك على هذه الحالة، ولماذا خرجت إلى هذه البرّيَّة؟».
فقال له: أيُّها الرجل دعني فإنّي خرجت لأمر عظيم وخطب جسيم، لا أذكره إلَّا لإمامي، ولا أشكوه إلَّا إلى من يقدر على كشفه عنّي.
فقال: «يا محمّد بن عيسى، أنا صاحب الأمر، فاذكر حاجتك».
فقال: إنْ كنت هو فأنت تعلم قصَّتي ولا تحتاج إلى أنْ أشرحها لك.
فقال له: «نعم، خرجت لما دهمكم من أمر الرُّمّانة، وما كُتِبَ عليها، وما أوعدكم الأمير به».
قال: فلمَّا سمعت ذلك توجَّهت إليه، وقلت له: نعم يا مولاي، قد تعلم ما أصابنا، وأنت إمامنا وملاذنا والقادر على كشفه عنّا.
فقال (صلوات الله عليه): «يا محمّد بن عيسى، إنَّ الوزير (لعنه الله) في داره شجرة رُمّان، فلمَّا حملت تلك الشجرة صنع شيئاً من الطين على هيأة الرُّمّانة، وجعلها نصفين وكتب في داخل كلِّ نصف بعض تلك الكتابة، ثمّ وضعهما على الرُّمّانة وشدَّهما عليها وهي صغيرة، فأثَّر فيها وصارت هكذا.
فإذا مضيتم غداً إلى الوالي فقل له: جئتك بالجواب ولكنّي لا أُبديه إلَّا في
دار الوزير، فإذا مضيتم إلى داره فانظر عن يمينك ترى فيها غرفة، فقل للوالي: لا أُجيبك إلَّا في تلك الغرفة، وسيأبى الوزير عن ذلك وأنت بالغ في ذلك ولا ترضَ إلَّا بصعودها، فإذا صعد فاصعد معه ولا تتركه وحده يتقدَّم عليك، فإذا دخلت الغرفة رأيت كوَّة فيها كيس أبيض، فانهض إليه وخذه، فترى فيه تلك الطينة التي عملها لهذه الحيلة، ثمّ ضعها أمام الوالي وضع الرُّمّانة فيها لينكشف له جليَّة الحال.
وأيضاً يا محمّد بن عيسى قل للوالي: إنَّ لنا معجزة أُخرى، وهي أنَّ هذه الرُّمّانة ليس فيها إلَّا الرماد والدخان، وإنْ أردت صحَّة ذلك فأمر الوزير بكسرها، فإذا كسرها طار الرماد والدخان على وجهه ولحيته.
فلمَّا سمع محمّد بن عيسى ذلك من الإمام فرح فرحاً شديداً، وقبَّل الأرض بين يدي الإمام (صلوات الله عليه)، وانصـرف إلى أهله بالبشارة والسرور.
فلمَّا أصبحوا مضوا إلى الوالي، ففعل محمّد بن عيسى كلَّ ما أمره الإمام وظهر كلُّ ما أخبره، فالتفت الوالي إلى محمّد بن عيسى وقال له: من أخبرك بهذا؟
فقال: إمام زماننا، وحجَّة الله علينا.
فقال: ومن إمامكم؟
فأخبروه بالأئمَّة واحداً بعد واحد إلى أنْ انتهى إلى صاحب الأمر (صلوات الله عليه).
فقال الوالي: مُدَّ يدك، فأنا أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمّداً عبده ورسوله، وأنَّ الخليفة بعده بلا فصل أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام)، ثمّ أقرَّ بالأئمَّة (عليهم السلام) إلى آخرهم، وحسن إيمانه، وأمر بقتل الوزير، واعتذر إلى أهل البحرين، وأحسن إليهم وأكرمهم.
قال: وهذه القصَّة مشهورة عند أهل البحرين، وقبر محمّد بن عيسى عندهم معروف يزوره الناس(223).
الحكاية الثانية عشرة: في مناظرة رجل من الشيعة مع رجل من أهل السُّنَّة:
قال العالم الفاضل الخبير الميرزا عبد الله الأصفهاني تلميذ العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في الفصل الثاني من خاتمة القسم الأوَّل من كتاب (رياض العلماء): الشيخ أبو القاسم بن محمّد بن أبي القاسم الحاسمي الفاضل العالم الكامل المعروف بالحاسمي...، وكان من أكابر مشايخ أصحابنا، والظاهر أنَّه من قدماء الأصحاب...
قال الأمير السيِّد حسين العاملي المعروف بالمجتهد المعاصر للسلطان شاه عبّاس الماضي الصفوي في أواخر رسالته المعمولة في أحوال أهل الخلاف في النشأتين عند ذكر بعض المناظرات الواقعة بين الشيعة وأهل السُّنَّة هكذا:
وثانيهما: حكاية غريبة وقعت في بلدة طيبة همذان بين شيعي اثني عشـري وبين سُنّي، رأيت في كتاب قديم يحتمل أنْ يمضي من تاريخ كتابته ثلاثمائة سنة نظراً إلى العادة، وكان المسطور في الكتاب المذكور أنَّه وقع بين بعض من علماء الشيعة الاثني عشريَّة اسمه أبو القاسم بن محمّد بن أبي القاسم الحاسمي، وبين بعض من علماء أهل السُّنَّة رفيع الدين حسين مصادقة ومصاحبة قديمة ومشاركة في الأموال، ويتخالطان في أكثر الأحوال والأسفار، وكلُّ واحدٍ منهما لا يُخفي مذهبه وعقيدته عن الآخر، وعلى سبيل الهزل ينسب أبو القاسم رفيع الدين إلى الناصبي، وينسب رفيع الدِّين أبا القاسم إلى الرافضي.
وبينهما في هذه المصاحبة لا يقع مباحثة في المذهب، إلى أنْ وقع الاتِّفاق في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(223) النجم الثاقب (ج 2/ص 229 - 232/الحكاية 49)، عن بحار الأنوار (ج 52/ص 178 - 180).
مسجد بلدة طيبة همذان يُسمّى ذلك المسجد بالمسجد العتيق، وفي أثناء المكالمة فضَّل رفيع الدِّين حسين أبا بكر وعمر على أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) وردَّ أبو القاسم على رفيع الدِّين وفضَّل عليًّا (عليه السلام) على أبي بكر وعمر، وأبو القاسم استدلَّ على مدَّعاه بآيات عظيمة وأحاديث منزلة، وذكر كرامات ومقامات ومعجزات وقعت منه (عليه السلام)، ورفيع الدِّين يعكس القضيَّة واستدلَّ على تفضيل أبي بكر على عليٍّ (عليه السلام) بمخالطته ومصاحبته في الغار، ومخاطبته بخطاب الصدِّيق الأكبر من بين المهاجرين والأنصار.
وأيضاً قال: إنَّ أبا بكر مخصوص من بين المهاجرين والأنصار بالمصاهرة والخلافة والإمامة، وأيضاً قال رفيع الدِّين: الحديثان عن النبيِّ واقعان في شأن أبي بكر أحدهما: «أنت بمنزلة القميص» الحديث، وثانيهما: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر».
وأبو القاسم الشيعي بعد استماع هذه المقال من رفيع الدِّين قال لرفيع الدِّين: لأيِّ وجه وسبب تُفضِّل أبا بكر على سيِّد الأوصياء، وسند الأولياء، وحامل اللواء، وعلى إمام الإنس والجانِّ، وقسيم الجنَّة والنار، والحال أنَّك تعلم أنَّه (عليه السلام) الصدِّيق الأكبر، والفاروق الأزهر، أخ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وزوج البتول، وتعلم أيضاً أنَّه (عليه السلام) وقت فرار الرسول إلى الغار من الظلمة وفجرة الكُفّار ضاجع على فراشه، وشاركه عليٌّ في حال العسر والفقر، وسدَّ رسول الله أبواب الصحابة من المسجد إلَّا بابه، وحمل عليًّا على كتفه لأجل كسـر الأصنام في أوَّل الإسلام، وزوَّج الحقُّ (جلَّ وعلا) فاطمة بعليٍّ في الملأ الأعلى، وقاتل (عليه السلام) مع عمرو بن عبد ودٍّ، وفتح خيبر، ولا أشرك بالله تعالى طرفة عين بخلاف الثلاثة، وشبَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليًّا بالأنبياء الأربعة حيث قال: «من أراد أنْ ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في فهمه، وإلى موسى في بطشه، وإلى عيسى في زهده، فلينظر إلى عليِّ بن أبي طالب».
ومع وجود هذه الفضائل والكمالات الظاهرة الباهرة، ومع قرابته (عليه السلام) للرسول وردِّ الشمس له، كيف يُعقَل ويجوز تفضيل أبي بكر على عليٍّ؟
ولـمَّا سمع رفيع الدِّين هذه المقالة من أبي القاسم من تفضيله عليًّا (عليه السلام) على أبي بكر، انهدم بناء خصوصيَّته لأبي القاسم، وبعد اللتيا والتي قال رفيع الدِّين لأبي القاسم: كلُّ رجل يجيء إلى المسجد فأيَّ شيء يحكم من مذهبي أو مذهبك نطيع، ولـمَّا كان عقيدة أهل همذان على أبي القاسم ظاهراً كان خائفاً من هذا الشرط الذي وقع بينه وبين رفيع الدِّين، لكن لكثرة المجادلة والمباحثة قبل أبو القاسم الشرط المذكور ورضي به كرهاً.
وبعد قرار الشرط المذكور بلا فصل جاء إلى المسجد فتى ظهر من بشـرته آثار الجلالة والنجابة، ومن أحواله لاح المجيء من السفر، ودخل في المسجد وطاف، ولـمَّا جاء بعد الطواف عندهما قام رفيع الدِّين على كمال الاضطراب والسرعة، وبعد السلام للفتى المذكور سأله وعرض الأُمور المقرَّر بينه وبين أبي القاسم، وبالغ مبالغة كثيرة في اظهار عقيدة الفتى، وأكَّد بالقسم وأقسمه بأنْ يُظهِر عقيدته على ما هو الواقع، والفتى المذكور بلا توقُّف أنشأ هذين البيتين:
متى أقل مولاي أفضل منهما * * * أكن للذي فضَّلته متنقِّصا
ألم ترَ أنَّ السيف يزري بحدِّه * * * مقالك هذا السيف أحدى من العصا
ولـمَّا فرغ الفتى من إنشاء هذين البيتين كان أبو القاسم مع رفيع الدِّين قد تحيَّرا من فصاحته وبلاغته، ولـمَّا أرادا تفتيش حال الفتى غاب عن نظرهما ولم يظهر أثره، ورفيع الدِّين لـمَّا شاهد هذا الأمر الغريب العجيب ترك مذهبه الباطل، واعتقد المذهب الحقَّ الاثني عشري.
انتهت هذه الحكاية كما في تلك الرسالة، وبتلك الحكاية ختم الرسالة أيضاً(224).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(224) النجم الثاقب (ج 2/ص 250 - 252/الحكاية 58)، عن رياض العلماء (ج 5/504 - 506).
واستظهر صاحب الرياض بعد نقل هذه الحكاية أنَّ ذلك الفتى هو الإمام القائم (عليه السلام)، والمؤيِّد لهذا الكلام ما سنقوله في الباب التاسع(225)، وأمَّا البيتان المذكوران فيهما وردا في كُتُب العلماء مع التغيير والزيادة هكذا:
يقولون لي فضِّل عليًّا عليهم * * * فلست أقول التبر أعلى من الحصا
إذا أنا فضَّلت الإمام عليهم * * * اكن بالذي فضَّلته متنقِّصا
ألم ترَ أنَّ السيف يزري بحدِّه * * * مقالة هذا السيف أمضى من العصا(226)
الحكاية الثالثة عشرة: في شفاء الشيخ حرِّ العاملي ببركة الإمام (عليه السلام):
قال المحدِّث الجليل الشيخ حرُّ العاملي في (إثبات الهداة): إنّي كنت في عصر الصبى وسنّي عشر سنين أو نحوها، أصابني مرض شديد جدًّا حتَّى اجتمع أهلي وأقاربي وبكوا وتهيَّأوا للتعزية، وأيقنوا أنّي أموت تلك الليلة.
فرأيت النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة الاثني عشر (صلوات الله عليهم)، وأنا فيما بين النائم واليقظان، فسلَّمت عليهم (صلوات الله عليهم)، وصافحتهم واحداً واحداً، وجرى بيني وبين الصادق (عليه السلام) كلام، [و](227) لم يبقَ في خاطري إلَّا أنَّه دعا لي.
فلمَّا سلَّمت على صاحب الزمان (عليه السلام) وصافحته، بكيت وقلت: يا مولاي، أخاف أنْ أموت في هذا المرض ولم أقضِ وطري من العلم والعمل.
فقال لي: «لا تخف فإنَّك لا تموت في هذا المرض، بل يشفيك الله تعالى وتُعمِّر عمراً طويلاً»، ثمّ ناولني قدحاً كان في يده، فشربت منه، وأفقت في الحال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(225) أي (الباب التاسع من كتاب النجم الثاقب).
(226) الصوارم المهرقة (ص 266)؛ بحار الأنوار (ج 105/ ص 11 و117).
(227) ما بين المعقوفتين لا يوجد في إثبات الهداة.
وزال عنّي المرض بالكلّيَّة، وجلست، فتعجَّب أهلي وأقاربي، ولم أُحدِّثهم بما رأيت إلَّا بعد أيّام(228).
الحكاية الرابعة عشرة: في رؤية المقدَّس الأردبيلي الحجَّةَ (عليه السلام):
قال السيِّد المحدِّث نعمة الله الجزائري في (الأنوار النعمانيَّة): وقد حدَّثني أوثق مشايخي علماً وعملاً، أنَّ لهذا الرجل وهو المولى الأردبيلي تلميذاً من أهل تفرش(229) اسمه مير علَّام، وقد كان بمكان من الفضل والورع، قال ذلك التلميذ: إنَّه قد كانت لي حجرة في المدرسة المحيطة بالقبَّة الشـريفة، فاتَّفق أنّي فرغت من مطالعتي وقد مضى جانب كثير من الليل، فخرجت من الحجرة أنظر حوش الحضرة وكانت الليلة شديدة الظلام، فرأيت رجلاً مقبلاً على الحضـرة الشريفة.
فقلت: لعلَّ هذا سارق جاء ليسرق شيئاً من القناديل، فنزلت وأتيت إلى قربه، فرأيته وهو لا يراني، فمضى إلى الباب ووقف، فرأيت القفل قد سقط وفُتِحَ له الباب الثاني والثالث على هذا الحال، فأشرف على القبر فسلَّم وأتى من جانب القبر ردُّ السلام.
فعرفت صوته فإذا هو يتكلَّم مع الإمام (عليه السلام) في مسألة علميَّة، ثمّ خرج من البلد متوجِّهاً إلى مسجد الكوفة، فخرجت خلفه وهو لا يراني، فلمَّا وصل إلى محراب المسجد سمعته يتكلَّم مع رجل آخر بتلك المسألة، فرجع ورجعت خلفه، فلمَّا بلغ إلى باب البلد أضاء الصبح فأعلنت نفسي له وقلت له: يا مولانا كنت معك من الأوَّل إلى الآخر، فأعلمني من كان الرجل الأوَّل الذي كلَّمته في القبَّة، ومن الرجل الآخر الذي كلَّمك في مسجد الكوفة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(228) النجم الثاقب (ج 2/ ص 256 و257/ الحكاية 61)، عن إثبات الهداة (ج 5/ ص 338 و339/ الرقم 165).
(229) في المصدرين: (تفريش).
فأخذ عليَّ المواثيق أنّي لا أُخبر أحداً بسرِّه حتَّى يموت، فقال لي: يا ولدي، إنَّ بعض المسائل تشتبه عليَّ فربَّما خرجت في بعض الليل إلى قبر مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وكلَّمته في المسألة وسمعت الجواب، وفي هذه الليلة أحالني على مولانا صاحب الزمان وقال لي: «إنَّ ولدنا المهدي هذه الليلة في مسجد الكوفة فامض إليه وسَلْه عن هذه المسألة»، وكان ذلك الرجل هو المهديُّ (عليه السلام)(230).
الحكاية الخامسة عشرة: حكاية المولى محمّد تقي المجلسي:
وهي كما قالها في (شرح من لا يحضره الفقيه) عند ذكره المتوكِّل بن عمير راوي الصحيفة السجّاديَّة الكاملة:
إنّي كنت في أوائل البلوغ طالباً لمرضاة الله [تعالى](231)، ساعياً في طلب رضاه، ولم يكن لي قرار بذكره(232) إلى أنْ رأيت بين النوم واليقظة أنَّ صاحب الزمان (صلوات الله عليه) كان واقفاً في الجامع القديم بأصبهان قريباً من باب الطنبي الذي الآن مدرسي، فسلَّمت عليه وأردت أنْ أُقبِّل رجله، فلم يدعني وأخذني، فقبَّلت يده، وسألت عنه مسائل قد أشكلت عليَّ.
منها أنّي كنت أُوسوس في صلاتي، وكنت أقول: إنَّها ليست كما طُلِبَت منّي، وأنا مشتغل بالقضاء، ولا يمكنني صلاة الليل، وسألت عنه شيخنا البهائي (رحمه الله)، فقال: صلِّ صلاة الظهر والعصر والمغرب بقصد صلاة الليل، وكنت أفعل هكذا، فسألت عن الحجَّة (عليه السلام): أُصلّي صلاة الليل؟ فقال [(عليه السلام)]: «صلِّها، ولا تفعل كالمصنوع الذي كنت تفعل»، إلى غير ذلك من المسائل التي لم يبقَ في بالي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(230) النجم الثاقب (ج 2/ ص 259 - 261/ الحكاية 63)، عن الأنوار النعمانيَّة (ج 2/ ص 264 و265).
(231) ما بين المعقوفتين من الروضة؛ وكذلك الموردان التاليان.
(232) في الروضة: (ولم يكن لي قرار إلَّا بذكر الله تعالى).
ثمّ قلت: يا مولاي، لا يتيسَّر لي أنْ أصل إلى خدمتك كلَّ وقت، فأعطني كتاباً أعمل عليه دائماً، فقال (عليه السلام): «أعطيت لأجلك كتاباً إلى مولانا محمّد التاج»، وكنت أعرفه في النوم، فقال (عليه السلام): «رُحْ وخذ منه».
فخرجت من باب المسجد الذي كان مقابلاً لوجهه [(عليه السلام)] إلى جانب دار البطّيخ - محلَّة من أصبهان -، فلمَّا وصلت إلى ذلك الشخص، فلمَّا رآني قال لي: بعثك الصاحب (عليه السلام) إليَّ؟
قلت: نعم.
فأخرج من جيبه كتاباً قديماً، [فلمَّا](233) فتحته ظهر لي أنَّه كتاب الدعاء، فقبَّلته ووضعته على عيني، وانصرفت عنه متوجِّهاً إلى الصاحب (عليه السلام)، فانتبهت ولم يكن معي ذلك الكتاب.
فشرعت في التضرُّع والبكاء والحوار(234) لفوت ذلك الكتاب إلى أنْ طلع الفجر(235).
فلمّا فرغت من الصّلاة والتعقيب، وكان في بالي أنَّ مولانا محمّد (يعني الشيخ البهائي) هو الشيخ، وتسميته بالتاج لاشتهاره من بين العلماء.
فلمَّا جئت إلى مدرسته وكان في جوار المسجد الجامع، فرأيته مشتغلاً بمقابلة الصحيفة، وكان القارئ السيِّد صالح أمير ذو الفقار الجرفادقانيّ(236)، فجلست ساعة حتَّى فرغ منه.
والظاهر أنَّه كان في سند الصحيفة، لكن للغمِّ الذي كان لي لم أعرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(233) ما بين المعقوفتين لا يوجد في الروضة.
(234) في الروضة: (والجُؤار)؛ وهو الصحيح.
(235) في الروضة: (الصبح).
(236) في الروضة: (الجرپادقاني).
كلامه ولا كلامهم وكنت أبكي، فذهبت إلى الشيخ وقلت له رؤياي وكنت(237) أبكي لفوات الكتاب.
فقال الشيخ: أبشر بالعلوم الإلهيَّة، والمعارف اليقينيَّة، وجميع ما كنت تطلب دائماً. وكان أكثر صحبتي مع الشيخ في التصوُّف، وكان مائلاً إليه، فلم يسكن قلبي، وخرجت باكياً متفكِّراً، إلى أنْ أُلقي في روعي أنْ أذهب إلى الجانب الذي ذهبت إليه في النوم، فلمَّا وصلت إلى دار البطّيخ رأيت رجلاً صالحاً اسمه آقا حسن، وكان يُلقَّب بـ (تاجا)، فلمَّا وصلت إليه وسلَّمت عليه قال: يا فلان، الكتب الوقفيَّة التي عندي كلُّ من يأخذه من الطلبة لا يعمل بشـروط الوقف وأنت تعمل به(238).
وقال(239): وانظر إلى هذه الكُتُب وكلَّما تحتاج إليه خذه.
فذهبت معه إلى بيت كُتُبه، فأعطاني أوَّل ما أعطاني الكتاب الذي رأيته في النوم، فشرعت في البكاء والنحيب، وقلت: يكفيني.
وليس في بالي أنّي ذكرت له النوم أم لا، وجئت عند الشيخ وشرعت في المقابلة مع نسخته التي كتبها جدُّ أبيه مع نسخة الشهيد، وكتب الشهيد نسخته مع نسخة عميد الرؤساء وابن السكون، وقابلها مع نسخة ابن إدريس بواسطة أو بدونها، وكانت النسخة التي أعطانيها الصحاب مكتوبة من خطِّ الشهيد، وكانت موافقة غاية الموافقة حتَّى في النُّسَخ التي كانت مكتوبة على هامشها، وبعد أنْ فرغت من المقابلة شرع الناس في المقابلة عندي، وببركة إعطاء الحجَّة (عليه السلام) صارت الصحيفة الكاملة في جميع البلاد كالشمس طالعة في كلِّ بيت، وسيّما في أصبهان فإنَّ أكثر الناس لهم الصحيفة المتعدِّدة، وصار أكثرهم صلحاء وأهل الدعاء، وكثير منهم مستجابو الدعوة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(237) في الروضة: (وأنا).
(238) كذا في الأصل؛ والصحيح كما في الروضة: (بها).
(239) في المصدر: (تعال).
وهذه الآثار معجزة لصاحب الأمر (عليه السلام)، والذي أعطاني الله [تعالى](240) من العلوم بسبب الصحيفة لا أُحصيها(241).
يقول المؤلِّف(242):
ذكر العلَّامة المجلسي في (البحار) صورة إجازة مختصرة للصحيفة الكاملة عن والده حيث قال: (إنّي أروي الصحيفة الكاملة الملقَّب بزبور آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنجيل أهل البيت (عليهم السلام) والدعاء الكامل بأسانيد متكثِّرة وطُرُق مختلفة، منها ما أرويها مناولةً عن مولانا صاحب الزمان وخليفة الرحمن (صلوات الله وسلامه عليه) في الرؤيا الطويلة)(243).
الحكاية السادسة عشرة: حكاية طاقة الورد والخرابات:
حكى العلَّامة المجلسي في (البحار)، عن جماعة، عن السيِّد السند الفاضل الكامل ميرزا محمّد الأسترآبادي (نوَّر الله مرقده) أنَّه قال: إنّي كنت ذات ليلة أطوف حول بيت الله الحرام إذ أتى شابٌّ حسن الوجه، فأخذ في الطواف، فلمَّا قرب منّي أعطاني طاقة ورد أحمر في غير أوانه، فأخذت منه وشممته، وقلت له: من أين يا سيِّدي؟
قال: «من الخرابات».
ثمّ غاب عنّي، فلم أرَه(244).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(240) ما بين المعقوفتين من الروضة.
(241) النجم الثاقب (ج 2/ص 262 - 264/الحكاية 64)، عن روضة المتَّقين (ج 20/ص 593 - 596).
(242) أي النوري (رحمه الله) في النجم الثاقب.
(243) بحار الأنوار (ج 107/ ص 63/ كتاب الإجازات/ الإجازة رقم 43).
(244) النجم الثاقب (ج 2/ص 268 و269/الحكاية 66)، عن بحار الأنوار (ج 52/ص 176).
يقول المؤلِّف(245):
قال الشيخ الأجل الأكمل الشيخ عليٌّ، ابن العالم النحرير الشيخ محمّد، ابن المحقِّق المدقِّق الشيخ حسن، ابن العالم الربّاني الشهيد الثاني في (الدُّرِّ المنثور) في ضمن أحوال والده الأمجد، وكان مجاوراً بمكَّة حيًّا وميتاً: أخبرتني زوجته بنت السيِّد محمّد بن أبي الحسن (رحمه الله) وأُمُّ ولده أنَّه لـمَّا تُوفّي كنَّ يسمعن عنده تلاوة القرآن طول تلك الليلة.
وممّا هو مشهور أنَّه كان طائفاً فجاء رجل وأعطاه ورداً من ورد شتى(246) ليست في تلك البلاد ولا في ذلك الأوان، فقال له: من أين أتيت؟
فقال: «من هذه الخرابات»، ثمّ أراد أنْ يراه بعد ذلك السؤال فلم يرَه(247).
ولا يخفى أنَّ السيِّد الجليل ميرزا محمّد الأسترآبادي المذكور آنفاً صاحب الكُتُب الرجاليَّة المعروفة وآيات الأحكام المجاور بمكَّة المعظَّمة هو أُستاذ الشيخ محمّد المذكور، وكان يذكر اسمه كثيراً في شرح الاستبصار بتوقير واحترام، وكانا جليليّ القدر ذوي مقامات عالية.
ويحتمل أنْ تكون هذه الحكاية حدثت لكليهما، ويحتمل الاتِّحاد وكون الوهم من الراوي لاتِّحاد الاسم والمكان، والثاني أقرب(248).
الحكاية السابعة عشرة: في لقاء الشيخ قاسم للحجَّة (عليه السلام):
حكى السيِّد الفاضل المتبحِّر السيِّد عليّ خان الحويزاوي [في كتاب (خير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(245) أي النوري (رحمه الله) في النجم الثاقب.
(246) في جنَّة المأوى: (فجاءه رجل بورد من ورد الشتاء).
(247) الدُّرُّ المنثور (ج 2/ ص 675/ الرقم 202).
(248) راجع: النجم الثاقب (ج 2/ ص 269 و270/ ذيل الحكاية 66)؛ جنَّة المأوى (ص 132 و133/ الحكاية 50).
المقال)]، قال: حدَّثني رجل من أهل الإيمان من أهل بلادنا يقال له: الشيخ قاسم، وكان كثير السفر إلى الحجِّ، قال: تعبت يوماً من المشـي، فنمت تحت شجرة، فطال نومي ومضى عنّي الحاج كثيراً، فلمَّا انتبهت علمت من الوقت أنَّ نومي قد طال وأنَّ الحاجَّ قد بَعُد عنّي، وصرت لا أدري إلى أين أتوجَّه.
فمشيت على الجهة وأنا أصيح بأعلى صوتي: يا أبا صالح، قاصداً بذلك صاحب الأمر (عليه السلام)، كما ذكره ابن طاوس في كتاب (الأمان) فيما يقال عند إضلال الطريق.
فبينا أنا أصيح كذلك وإذا براكب على ناقة وهو على زيِّ البدو، فلمَّا رآني قال لي: «أنت منقطع عن الحاجِّ؟».
فقلت: نعم.
فقال: «اركب خلفي لأُلحقك بهم».
فركبت خلفه، فلم يكن إلَّا ساعة وإذا قد أدركنا الحاجُّ، فلمَّا قربنا أنزلني وقال لي: «امض لشأنك».
فقلت له: إنَّ العطش قد أضرَّ بي.
فأخرج من شداده ركوة فيها ماء، وسقاني منه، فوَالله إنَّه ألذّ وأعذب ماء شربته، ثمّ إنّي مشيت حتَّى دخلت الحاجَّ والتفتُّ إليه فلم أرَه، ولا رأيته في الحاجِّ قبل ذلك ولا بعده حتَّى رجعنا(249).
الحكاية الثامنة عشرة: في استغاثة رجل من أهل الخلاف به (عليه السلام) وإنقاذ الإمام له:
حدَّثني العالم الجليل، والحبر النبيل، مجمع الفضائل والفواضل، الصفيُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(249) النجم الثاقب (ج 2/ ص 272 و273/ الحكاية 69).
الوفيُّ المولى عليٌّ الرشتي (طاب ثراه)، وكان عالماً برًّا تقيًّا زاهداً، حاوياً لأنواع العلم، بصيراً ناقداً، من تلامذة [خاتم المحقِّقين الشيخ مرتضى (أعلى الله مقامه) و](250) السيِّد السند الأُستاذ الأعظم (دام ظلُّه)، ولـمَّا طال شكوى أهل الأرض حدود فارس ومن والاه إليه (للسيِّد السند) من عدم وجود عالم عامل كامل نافذ الحكم فيهم، أرسله (المولى عليٌّ الرشتي) إليهم، عاش فيهم سعيداً ومات هناك حميداً (رحمه الله)، وقد صاحبته مدَّة سفراً وحضراً، ولم أجد في خُلُقه وفضله نظيراً إلَّا يسيراً.
قال: رجعت مرَّة من زيارة أبي عبد الله (عليه السلام) عازماً للنجف الأشرف من طريق الفرات، فلمَّا ركبنا في بعض السُّفُن الصغار التي كانت بين كربلاء وطويرج، رأيت أهلها من أهل حلَّة، ومن طويرج تفترق طريق الحلَّة والنجف، واشتغل الجماعة باللهو واللعب والمزاح، رأيت واحداً منهم لا يدخل في عملهم، عليه آثار السكينة والوقار لا يمازح ولا يضاحك، وكانوا يعيبون على مذهبه ويقدحون فيه، ومع ذلك كان شريكاً في أكلهم وشربهم، فتعجَّبت منه إلى أنْ وصلنا إلى محلٍّ كان الماء قليلاً، فأخرجنا صاحب السفينة فكنّا نمشي على شاطئ النهر.
فاتَّفق اجتماعي مع هذا الرجل في الطريق، فسألته عن سبب مجانبته عن أصحابه، وذمِّهم إيّاه، وقدحهم فيه، فقال: هؤلاء من أقاربي من أهل السُّنَّة، وأبي منهم وأُمّي من أهل الإيمان، وكنت أيضاً منهم، ولكنَّ الله منَّ عليَّ بالتشيُّع ببركة الحجَّة صاحب الزمان (عليه السلام)، فسألت عن كيفيَّة إيمانه.
فقال: اسمي ياقوت، وأنا أبيع الدُّهن عند جسر الحلَّة، فخرجت في بعض السنين لجلب الدُّهن من أهل البراري خارج الحلَّة، فبعدت عنها بمراحل إلى أنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(250) ما بين المعقوفتين من المصدر.
قضيت وطري من شراء ما كنت أُريده منه، وحملته على حماري ورجعت مع جماعة من أهل الحلَّة، ونزلنا في بعض المنزل ونمنا، وانتبهت فما رأيت أحداً منهم وقد ذهبوا جميعاً، وكان طريقنا في برّيَّة قفر ذات سباع كثيرة، ليس في أطرافها معمورة إلَّا بعد فراسخ كثيرة.
فقمت وجعلت الحمل على الحمار، ومشيث خلفهم، فضلَّ عنّي الطريق، وبقيت متحيِّراً خائفاً من السباع والعطش في يومه، فأخذت أستغيث بالخلفاء والمشايخ وأسألهم الإعانة، وجعلتهم شفعاء عند الله تعالى، وتضرَّعت كثيراً فلم يظهر منهم شيء، فقلت في نفسي: إنّي سمعت من أُمّي أنَّها كانت تقول: إنَّ لنا إماماً حيًّا يُكنّى أبا صالح يرشد الضالَّ، ويغيث الملهوف، ويعين الضعيف، فعاهدت الله تعالى إنْ استغثت به فأغاثني أنْ أدخل في دين أُمّي.
فناديته واستغثت به، فإذا بشخص في جنبي، وهو يمشي معي وعليه عمامة خضراء، قال (رحمه الله): وأشار حينئذٍ إلى نبات حافَّة النهر، وقال: كانت خضرتها مثل خضرة هذا النبات.
ثمّ دلَّني على الطريق وأمرني بالدخول في دين أُمّي، وذكر كلمات نسيتها، وقال: «ستصل عن قريب إلى قرية أهلها جميعاً من الشيعة».
قال: فقلت: يا سيِّدي، أنت لا تجيء معي إلى هذه القرية؟
فقال ما معناه: «لا، لأنَّه استغاث بي ألف نفس في أطراف البلاد أُريد أنْ أغيثهم»، ثمّ غاب عنّي، فما مشيت إلَّا قليلاً حتَّى وصلت إلى القرية، كان[ت] في مسافة بعيدة، ووصل الجماعة إليها بعدي بيوم.
فلمَّا دخلت الحلَّة ذهبت إلى سيِّد الفقهاء السيِّد مهدي القزويني (طاب ثراه) وذكرت له القصَّة، فعلَّمني معالم ديني، فسألت عنه عملاً أتوصَّل به إلى لقائه (عليه السلام) مرَّة أُخرى.
فقال: زُرْ أبا عبد الله (عليه السلام) أربعين ليلة جمعة.
قال: فكنت أزوره من الحلَّة في ليالي الجُمَع إلى أنْ بقي واحدة فذهبت من الحلَّة في يوم الخميس، فلمَّا وصلت إلى باب البلد، فإذا جماعة من أعوان الظلمة يطالبون الواردين التذكرة، وما كان عندي تذكرة ولا قيمتها، فبقيت متحيِّراً والناس متزاحمون على الباب، فأردت مراراً أنْ أتخفّى وأجوز عنهم فما تيسَّـر لي، وإذا بصاحبي صاحب الأمر (عليه السلام) في زيِّ لباس طلبة الأعاجم عليه عمامة بيضاء في داخل البلد، فلمَّا رأيته استغثت به فخرج وأخذني معه، وأدخلني من الباب فما رآني أحد، فلمَّا دخلت البلد افتقدته من بين الناس، وبقيت متحيِّراً على فراقه (عليه السلام)(251).
الحكاية التاسعة عشرة: حكاية العلاَّمة بحر العلوم في مكَّة ولقائه الحجَّة (عليه السلام):
حكى العالم الجليل المولى زين العابدين السلماسي عن ناظر أُمور العلَّامة بحر العلوم في أيّام مجاورته بمكَّة، قال: كان (رحمه الله) مع كونه في بلد الغربة منقطعاً عن الأهل والإخوة، قويُّ القلب في البذل والعطاء، غير مكترث بكثرة المصارف، فاتَّفق في بعض الأيّام أنْ لم نجد إلى درهم سبيلاً، فعرَّفته الحال وكثرة المؤنة وانعدام المال، فلم يقل شيئاً.
وكان دأبه أنْ يطوف بالبيت بعد الصبح ويأتي إلى الدار، فيجلس في القبَّة المختصَّة به، ونأتي إليه بغليان فيشربه ثمّ يخرج إلى قبَّة أُخرى تجتمع فيها تلامذته من كلِّ المذاهب فيُدرِّس لكلٍّ على مذهبه.
فلمَّا رجع من الطواف في اليوم الذي شكوته في أمسه نفود النفقة وأحضـرت الغليان على العادة، فإذا بالباب يدقُّه أحد، فاضطرب أشدّ الاضطراب، وقال لي: خذ الغليان وأخرجه من هذا المكان، وقام مسرعاً خارجاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(251) النجم الثاقب (ج 2/ ص 280 - 282/ الحكاية 71).
عن الوقار والسكينة والآداب، ففتح الباب ودخل شخص جليل في هيأة الأعراب وجلس في تلك القبَّة، وقعد السيِّد عند بابها في نهاية الذلَّة والمسكنة، وأشار إليَّ أنْ لا أُقرِّب إليه الغليان.
فقعدا ساعة يتحدَّثان، ثمّ قام، فقام السيِّد مسرعاً وفتح الباب، وقبَّل يده وأركبه على جمله الذي أناخه عنده ومضـى لشأنه، ورجع السيِّد متغيِّر اللون وناولني براة، وقال: هذه حوالة على رجل صرّاف قاعد في جبل الصفا واذهب إليه وخذ منه ما أُحيل عليه.
قال: فأخذتها وأتيت بها إلى الرجل الموصوف، فلمَّا نظر إليها قبَّلها وقال: عليَّ بالحماميل، فذهبت وأتيت بأربعة حماميل، فجاء بالدراهم من الصنف الذي يقال له: ريال فرانسة يزيد كلُّ واحدٍ على خمسة قرانات العجم وما كانوا يقدرون على حمله، فحملوها على أكتافهم وأتينا بها إلى الدار.
ولـمَّا كان في بعض الأيّام ذهبت إلى الصرّاف لأسأل منه حاله وممَّن كانت تلك الحوالة، فلم أرَ صرّافاً ولا دُكّاناً، فسألت عن بعض من حضـر في ذلك المكان عن الصرّاف، فقال: ما عهدنا في هذا المكان صرّافاً أبداً وإنَّما يقعد فيه فلان، فعرفت أنَّه من أسرار المَلِك المنّان وألطاف وليِّ الرحمن.
وحدَّثني بهذه الحكاية الشيخ العالم الفقيه النحرير المحقِّق الوجيه صاحب التصانيف الرائقة والمناقب الفائقة، الشيخ محمّد حسين الكاظمي المجاور بالغريِّ (أطال الله بقاه)، عمَّن حدَّثه من الثقات عن الشخص المذكور(252).
الحكاية العشرون: [حكاية أُخرى للسيِّد بحر العلوم]:
حدَّثني السيِّد السند، والعالم المعتمد، المحقِّق الخبير، والمضطلع البصير، السيِّد عليٌّ سبط السيِّد بحر العلوم (أعلى الله مقامه) مصنِّف (البرهان القاطع في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(252) النجم الثاقب (ج 2/ ص 287 - 289/ الحكاية 76).
شرح النافع)، عن الورع التقيِّ النقيِّ الوفيِّ الصفيِّ السيِّد مرتضـى صهر السيِّد (أعلى الله مقامه) على بنت أُخته، وكان مصاحباً له في السفر والحضـر، مواظباً لخدماته في السرِّ والعلانية، قال: كنت معه في سرُّ من رأى في بعض أسفار زيارته، وكان السيِّد ينام في حجرة وحده، وكان لي حجرة بجنب حجرته، وكنت في نهاية المواظبة في أوقات خدماته بالليل والنهار، وكان يجتمع إليه الناس في أوَّل الليل إلى أنْ يذهب شطر منه في أكثر الليالي.
فاتَّفق أنَّه في بعض الليالي قعد على عادته، والناس مجتمعون حوله، فرأيته كأنَّه يكره الاجتماع ويُحِبُّ الخلوة، ويتكلَّم مع كلِّ واحدٍ بكلام فيه إشارة إلى تعجيله بالخروج من عنده، فتفرَّق الناس ولم يبقَ غيري، فأمرني بالخروج، فخرجت إلى حجرتي متفكِّراً في حالته في تلك الليلة، فمنعني الرقاد، فصبرت زماناً، فخرجت متخفّياً لأتفقَّد حاله، فرأيت باب حجرته مغلقاً.
فنظرت من شقِّ الباب وإذا السـراج بحاله وليس فيه أحد، فدخلت الحجرة، فعرفت من وضعها أنَّه ما نام في تلك الليلة، فخرجت حافياً متخفِّياً أطلب خبره وأقفو أثره، فدخلت الصحن الشـريف فرأيت أبواب قبَّة العسكريين مغلقة، فتفقَّدت أطراف خارجها فلم أجد منه أثراً، فدخلت الصحن الأخير الذي فيه السرداب فرأيته مفتَّح الأبواب.
فنزلت من الدرج حافياً متخفِّياً متأنِّياً بحيث لا يسمع منّي حسٌّ ولا حركة، فسمعت همهمة من صُفَّة(253) السرداب، كأنَّ أحداً يتكلَّم مع الآخر ولم أُميِّز الكلمات إلى أنْ بقيت ثلاثة أو أربعة منها، وكان دبيبي أخفى من دبيب النملة في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء، فإذا بالسيِّد قد نادى في مكانه هناك: يا سيِّد مرتضى ما تصنع؟ ولِـمَ خرجت من المنزل؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(253) الصُفّة: الصُفة من البنيان شبه البهو الواسع الطويل السَّمْكِ.
فبقت متحيِّراً ساكتاً كالخشب المسندة، فعزمت على الرجوع قبل الجواب، ثمّ قلت في نفسي: كيف تخفى حالك على من عرفك من غير طريق الحواسِّ؟! فأجبته معتذراً نادماً، ونزلت في خلال الاعتذار إلى حيث شاهدت الصُّفَّة.
فرأيته وحده واقفاً تجاه القبلة ليس لغيره هناك أثر، فعرفت أنَّه يناجي الغائب عن أبصار البشر (عليه سلام الله المَلِك الأكبر)...(254).
الحكاية الحادية والعشرون: في اهتمام الإمام (عليه السلام) وتأكيده على احترام الأب الكبير:
حكى العالم العامل، الفاضل الكامل، قدوة الصلحاء السيِّد محمّد الموسوي الرضوي النجفي المعروف بالهندي من الأتقياء العلماء وإمام جماعة مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن العالم الثقة الشيخ باقر بن الشيخ هادي الكاظمي المجاور للنجف الأشرف، عن رجل صادق اللهجة كان دلّاكاً(255) وله أب كبير مسنٌّ، وهو لا يُقصِّر في خدمته حتَّى إنَّه يحمل له الإبريق إلى الخلاء ويقف ينتظره حتى يخرج فيأخذ[ه] منه، ولا يفارق خدمته إلَّا ليلة الأربعاء فإنَّه يمضـي إلى مسجد السهلة، ثمّ ترك الرواح إلى المسجد.
فسألته عن سبب ذلك، فقال: خرجت أربعين أربعاء، فلمَّا كانت الأخيرة لم يتيسَّر لي أنْ أخرج إلى قريب المغرب، فمشيت وحدي وصار الليل وبقيت أمشي حتَّى بقي ثلث الطريق وكانت الليلة مقمرة.
فرأيت أعرابيًّا على فرس قد قصدني، فقلت في نفسي: هذا سيسلبني ثيابي، فلمَّا انتهى إليَّ كلَّمني بلسان البدو من العرب وسألني عن مقصدي.
فقلت: مسجد السهلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(254) النجم الثاقب (ج 2/ ص 289 و290/ الحكاية 77).
(255) في جنَّة المأوى: (حلَّاقاً).
فقال: «معك شيء من المأكول؟».
فقلت: لا.
فقال: «ادخل يدك في جيبك» (هذا نقل بالمعنى، وأمَّا اللفظ: دورك يدك لجيبك).
فقلت: ليس فيه شيء.
فكرَّر عليَّ القول بزجر حتَّى أدخلت يدي في جيبي، فوجدت فيه زبيباً كنت اشتريته لطفل عندي ونسيته فبقي في جيبي.
ثمّ قال لي الأعرابي: «أُوصيك بالعود، أُوصيك بالعود، أُوصيك بالعود» - والعود في لسانهم اسم للأب المسنِّ -، ثمّ غاب عن بصـري، فعلمت أنَّه المهدي (عليه السلام)، وأنَّه لا يرضى بمفارقتي لأبي حتَّى في ليلة الأربعاء، فلم أعد [إلى المسجد](256)،(257).
يقول المؤلِّف عبّاس القمّي: قد كثرت الآيات والأخبار في الحثِّ على إكرام الوالدين واحترامهم، وتجدر الإشارة هنا إلى بعضها:
روى الشيخ الكليني، عن منصور بن حازم أنَّه قال: قلت [لأبي عبد الله (عليه السلام):] أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها، وبرُّ الوالدين، والجهاد في سبيل الله (عزَّ وجلَّ)»(258).
وروى أيضاً عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «أتى رجلٌ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: يا رسول الله، إنّي راغب في الجهاد نشيط».
قال: «فقال له النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فجاهد في سبيل الله، فإنَّك إنْ تُقتَل تكن حيًّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(256) ما بين المعقوفتين من المصدر.
(257) النجم الثاقب (ج 2/ ص 302/ الحكاية 86)؛ جنَّة المأوى (ص 72 و73/ الحكاية 18).
(258) الكافي (ج 2/ ص 158/ باب البرّ بالوالدين/ ح 4).
عند الله تُرزَق، وإنْ تمت فقد وقع أجرك على الله، وإنْ رجعت رجعت من الذنوب كما وُلِدْتَ.
قال: يا رسول الله، إنَّ لي والدين كبيرين يزعمان أنَّهما يأنسان بي ويكرهان خروجي.
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فقرَّ مع والديك، فوَالذي نفسي بيده لأُنسهما بك يوماً وليلةً خيرٌ من جهاد سنة»(259).
وروى الشيخ الكليني أيضاً عن زكريا بن إبراهيم أنَّه قال: كنت نصـرانيًّا فأسلمت وحججت، فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقلت: إنّي كنت على النصرانيَّة وإنّي أسلمت...، فقلت: إنَّ أبي وأُمّي على النصرانيَّة وأهل بيتي، وأُمّي مكفوفة البصر، فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟
فقال: «يأكلون لحم الخنزير؟».
فقلت: لا، ولا يمسُّونه.
فقال: «لا بأس، فانظر أُمَّك فبرَّها...».
فلمَّا قَدِمْتُ الكوفة ألطفت لأُمّي، وكنت أُطعمها وأفلي ثوبها ورأسها وأخدمها، فقالت لي: يا بنيَّ، ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فما الذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفيَّة؟
فقلت: رجلٌ من ولد نبيِّنا أمرني بهذا.
فقالت: هذا الرجل هو نبيٌّ؟
فقلت: لا، ولكنَّه ابن نبيٍّ.
فقالت: يا بنيَّ، إنَّ هذا نبيٌّ، إنَّ هذه وصايا الأنبياء.
فقلت: يا أُمَّه، إنَّه ليس يكون بعد نبيِّنا نبيٌّ، ولكنَّه ابنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(259) الكافي (ج 2/ ص 160/ باب البرّ بالوالدين/ ح 10).
فقالت: يا بنيَّ، دينك خير دين، أعرضه عليَّ.
فعرضته عليها، فدخلت في الإسلام، وعلَّمتها، فصلَّت الظهر والعصـر والمغرب والعشاء الآخرة، ثمّ عرض لها عارض في الليل، فقالت: يا بنيَّ، أعد عليَّ ما علَّمتني، فأعدته عليها، فأقرَّت به وماتت، فلمَّا أصبحت كان المسلمون الذين غسَّلوها، وكنت أنا الذي صلَّيت عليها ونزلت في قبرها(260).
وروى أيضاً عن عمّار بن حيّان أنَّه قال: خبَّرت أبا عبد الله (عليه السلام) ببرِّ إسماعيل ابني بي، فقال: «لقد كنت أُحِبُّه وقد ازددت له حُبًّا، إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أتته أُخْتٌ له من الرضاعة، فلمَّا نظر إليها سرَّ بها وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها، ثمّ أقبل يُحدِّثها ويضحك في وجهها، ثمّ قامت وذهبت، وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له: يا رسول الله، صنعتَ بأُخته ما لم تصنع به وهو رجل؟! فقال: لأنَّها كانت أبرّ بوالديها منه»(261).
وروى عن إبراهيم بن شعيب أنَّه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ أبي قد كبر جدًّا وضعف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة، فقال: «إنْ استطعت أنْ تلي ذلك منه فافعل، ولقِّمه بيدك، فإنَّه جُنَّة لك غداً»(262).
وروى الصدوق عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: من أحبَّ أنْ يُخفِّف الله (عزَّ وجلَّ) عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه بارًّا، فإذا كان كذلك هوَّن الله عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقر أبداً»(263).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(260) الكافي (ج 2/ ص 160 و161/ باب البرّ بالوالدين/ ح 11).
(261) الكافي (ج 2/ ص 161/ باب البرّ بالوالدين/ ح 12).
(262) الكافي (ج 2/ ص 162/ باب البرّ بالوالدين/ ح 13).
(263) أمالي الصدوق (ص 473/ ح 635/14).
الحكاية الثانية والعشرون: في تشرُّف الشيخ حسين آل رحيم إلى لقاء الحجَّة (عليه السلام):
حكى الشيخ العالم الفاضل الشيخ باقر النجفي(264)، نجل العالم العابد الشيخ هادي الكاظمي المعروف بآل طالب، أنَّ رجلاً مؤمناً كان في النجف الأشرف من البيت المعروف بـ (آل الرحيم) يُسمّى بالشيخ حسين(265) الرحيم.
وأخبرني أيضاً العالم الفاضل والعابد الكامل، مصباح الأتقياء الشيخ طه من قرابة العالم الجليل والزاهد العابد الشيخ حسين نجف إمام جماعة المسجد الهندي حاليًّا، المقبول عند الخاصَّة والعامَّة، والمعروف عندهم بالصلاح والتقوى، أنَّ الشيخ حسين المذكور كان رجلاً سليم الفطرة ذا طينة طاهرة، وكان معه مرض السعال إذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دم، وكان مع ذلك في غاية الفقر والاحتياج لا يملك قوت يومه.
وكان يخرج في أغلب أوقاته إلى البادية إلى الأعراب الذين في أطراف النجف الأشرف ليحصل له قوت ولو شعير، وما كان يتيسَّـر ذلك على وجه يكفيه مع شدَّة رجائه، وكان مع ذلك قد تعلَّق قلبه بتزويج امرأة من أهل النجف، وكان يطلبها من أهلها وما أجابوه إلى ذلك لقلَّة ذات يده، وكان في همٍّ وغمٍّ شديد من جهة ابتلائه بذلك.
فلمَّا اشتدَّ به الفقر والمرض، وأيس من تزويج البنت، عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنَّه من أصابه أمر فواظب الرَّواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة أربعاء، فلا بدَّ أنْ يرى صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) من حيث لا يعلم ويقضي له مراده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(264) في المصدرين: (الكاظمي).
(265) في جنَّة المأوى: (الشيخ محمّد حسن السريرة).
قال الشيخ باقر (قدّس سرّه): قال الشيخ حسين: فواظبت على ذلك أربعين ليلة بالأربعاء، فلمَّا كانت الليلة الأخيرة وكانت ليلة شتاء مظلمة، وقد هبَّت ريح عاصفة فيها قليل من المطر، وأنا جالس في الدكَّة التي هي داخل في باب المسجد، وكانت الدكَّة الشرقيَّة المقابلة للباب الأوَّل تكون على الطرف الأيسر عند دخول المسجد، ولا أتمكَّن الدخول في المسجد من جهة سعال الدم، ولا يمكن قذفه في المسجد، وليس معي شيء أتَّقي فيه عن البرد، وقد ضاق صدري، واشتدَّ عليَّ همّي وغمّي، وضاقت الدنيا في عيني، وأُفكِّر أنَّ الليالي قد انقضت وهذه آخرها، وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شيء، وقد تعبت هذا التعب العظيم، وتحمَّلت المشاقَّ والخوف في أربعين ليلة، أجيء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة، ويكون لي الأياس من ذلك.
فبينما أنا أُفكِّر في ذلك وليس في المسجد أحد أبداً، وقد أوقدت ناراً لأُسخن عليها قهوة جئت بها من النجف، لا أتمكَّن من تركها لتعوّدي بها، وكانت قليلة جدًّا إذا بشخص من جهة الباب الأوَّل متوجِّهاً إليَّ، فلمَّا نظرته من بعيد تكدَّرت وقلت في نفسي: هذا أعرابي من أطراف المسجد، قد جاء إليَّ ليشرب من القهوة وأبقى بلا قهوة في هذا الليل المظلم، ويزيد عليَّ همّي وغمّي.
فبينما أنا أُفكِّر إذا به قد وصل إليَّ وسلَّم عليَّ باسمي وجلس في مقابلي، فتعجَّبت من معرفته باسمي، وظننته من الذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف الأشرف، فصرت أسأله من أيِّ العرب يكون؟
قال: «من بعض العرب».
فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف، فيقول: «لا، لا».
وكلَّما ذكرت له طائفة قال: «لا لست منها».
فأغضبني وقلت له: أجل أنت من طُريطرة مستهزءاً، وهو لفظ بلا معنى.
فتبسَّم من قولي ذلك، وقال: «لا عليك من أينما كنت، ما الذي جاء بك إلى هنا؟».
فقلت: وأنت ما عليك السؤال عن هذه الأُمور؟
فقال: «ما ضرُّك لو أخبرتني؟».
فتعجَّبت من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه، فمال قلبي إليه، وصار كلَّما تكلَّم ازداد حُبّي له، فعملت له السبيل من التتن وأعطيته، فقال: «أنت اشرب فأنا ما أشرب»، وصببت له في الفنجان قهوة وأعطيته، فأخذه وشرب شيئاً قليلاً منه، ثمّ ناولني الباقي، وقال: «أنت اشربه»، فأخذته وشربته، ولم ألتفت إلى عدم شربه تمام الفنجان، ولكن يزداد حُبّي له آناً فآناً.
فقلت له: يا أخي، أنت قد أرسلك الله إليَّ في هذه الليلة تأنسني، أفلا تروح معي إلى أنْ نجلس في حضرة مسلم (عليه السلام) ونتحدَّث؟
فقال: «أروح معك، فحدِّث حديثك».
فقلت له: أحكي لك الواقع أنا في غاية الفقر والحاجة مذ شعرت على نفسي، ومع ذلك معي سعال أتنخَّع الدَّم وأقذفه من صدري منذ سنين ولا أعرف علاجه، وما عندي زوجة وقد علق قلبي بامرأة من أهل محلَّتنا في النجف الأشرف، ومن جهة قلَّة ما في اليد ما تيسَّر لي أخذها.
وقد غرَّني هؤلاء الملّائيَّة وقالوا لي: اقصد في حوائجك صاحب الزمان، وبتّ أربعين ليلة أربعاء في مسجد الكوفة، فإنَّك تراه ويقضـي لك حاجتك، وهذه آخر ليلة من الأربعين وما رأيت فيها شيئاً، وقد تحمَّلت هذه المشاقَّ في هذه الليالي، فهذا الذي جاء بي هنا، وهذه حوائجي.
فقال لي وأنا غافل غير ملتفت: «أمَّا صدرك فقد برأ، وأمَّا الامرأة فتأخذها عن قريب، وأمَّا فقرك فيبقى على حاله حتَّى تموت»، وأنا غير ملتفت إلى هذا البيان أبداً.
فقلت: ألَا تروح إلى حضرة مسلم؟
قال: «قم»، فقمت وتوجَّه أمامي، فلمَّا وردنا أرض المسجد فقال: «ألَا تُصلّي صلاة تحيَّة المسجد؟».
فقلت: أفعل، فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد، وأنا خلفه بفاصلة، فأحرمت الصلاة وصرت أقرأ الفاتحة.
فبينما أنا أقرأ وإذا يقرأ الفاتحة قراءة ما سمعت أحداً يقرأ مثلها أبداً، فمن حسن قراءته قلت في نفسي: لعلَّه هذا هو صاحب الزمان، وذكرت بعض كلمات له تدلُّ على ذلك، ثمّ نظرت إليه بعد ما خطر في قلبي ذلك وهو في الصلاة، وإذا به قد أحاطه نور عظيم منعني من تشخيص شخصه الشـريف، وهو مع ذلك يُصلّي وأنا أسمع قراءته، وقد ارتعدت فرائصي، ولا أستطيع قطع الصلاة خوفاً منه، فأكملتها على أيِّ وجهٍ كان، وقد علا النور من وجه الأرض، فصرت أندبه وأبكي وأتضجَّر وأعتذر من سوء أدبي معه في باب المسجد، وقلت له: أنت صادق الوعد، وقد وعدتني الرواح معي إلى مسلم.
فبينما أنا أُكلِّم النور، وإذا بالنور قد توجَّه إلى جهة مسلم، فتبعته فدخل النور الحضرة، وصار في جوِّ القبَّة، ولم يزل على ذلك ولم أزل أندبه وأبكي حتَّى إذا طلع الفجر عرج النور.
فلمَّا كان الصباح التفتُّ إلى قوله: «أمَّا صدرك فقد برأ»، وإذا أنا صحيح الصدر، وليس معي سعال أبداً، وما مضى أُسبوع إلَّا وسهَّل الله عليَّ أخذ البنت من حيث لا أحتسب، وبقي فقري على ما كان كما أخبر (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين)(266).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(266) النجم الثاقب (ج 2/ ص 308 - 312/ الحكاية 90)؛ جنَّة المأوى (ص 66 - 69/الحكاية 15).
الحكاية الثالثة والعشرون: في دفع أعراب عُنَيزة عن طريق الزوّار:
أخبرني مشافهةً سيِّد الفقهاء وسند العلماء العالم الربّاني السيِّد مهدي القزويني ساكن الحلَّة أنَّه قال: خرجت يوم الرابع عشـر من شهر شعبان من الحلَّة أُريد زيارة الحسين (عليه السلام) ليلة النصف منه، فلمَّا وصلت إلى شطِّ الهنديَّة(267) وعبرت إلى الجانب الغربي منه، وجدت الزوّار الذاهبين من الحلَّة وأطرافها، والواردين من النجف ونواحيه، جميعاً محاصرين في بيوت عشيرة بني طرف من عشائر الهنديَّة، ولا طريق لهم إلى كربلاء؛ لأنَّ عشيرة عُنيزة(268) قد نزلوا على الطريق وقطعوه عن المارَّة، ولا يدعون أحداً يخرج من كربلاء ولا أحداً يلج إلَّا انتهبوه.
قال: فنزلت على رجل من العرب وصلَّيت صلاة الظهر والعصـر، وجلست أنتظر ما يكون من أمر الزوّار، وقد تغيَّمت السماء ومطرت مطراً يسيراً.
فبينما نحن جلوس إذ خرجت الزوّار بأسرها من البيوت متوجِّهين نحو طريق كربلاء، فقلت لبعض من معي: اخرج واسأل ما الخبر؟
فخرج ورجع إليَّ وقال لي: إنَّ عشيرة بني طرف قد خرجوا بالأسلحة الناريَّة، وتجمَّعوا لإيصال الزوّار إلى كربلاء، ولو آل الأمر إلى المحاربة مع عنزة.
فلمَّا سمعت قلت لمن معي: هذا الكلام لا أصل له، لأنَّ بني طرف لا قابليَّة لهم على مقابلة عنزة في البرِّ، وأظنُّ هذه مكيدة منهم لإخراج الزوّار عن بيوتهم؛ لأنَّهم استثقلوا بقاءهم عندهم وفي ضيافتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(267) وهو شعبة من شطِّ الفرات ينفصل من المسيِّب عنه ويصبُّ في الكوفة وتُسمّى القصبة الموجودة عليه بـ (طويرج) الواقعة في طريق الحلَّة إلى كربلاء. (منه (رحمه الله)).
(268) في المصدر: (عنزة).
فبينما نحن كذلك إذ رجعت الزوّار إلى البيوت، فتبيَّن الحال كما قلت، فلم تدخل الزوّار إلى البيوت وجلسوا في ظلالها والسماء متغيِّمة، فأخذتني لهم رقَّة شديدة، وأصابني انكسار عظيم، وتوجَّهت إلى الله بالدعاء والتوسُّل بالنبيِّ وآله، وطلبت إغاثة الزوّار ممَّا هم فيه.
فبينما أنا على هذا الحال إذ أقبل فارس على فرس رابع(269) كريم لم أرَ مثله، وبيده رمح طويل، وهو مشمِّر عن ذراعيه، فأقبل يخبُّ به جواده حتَّى وقف على البيت الذي أنا فيه، وكان بيتاً من شعر مرفوع الجوانب، فسلَّم فرددنا عليه السلام.
ثمّ قال: يا مولانا - يُسمِّيني باسمي - بعثني من يُسلِّم عليك، وهم كنج محمّد آغا وصفر آغا - وكانا من قوّاد العساكر العثمانيَّة - يقولان: فليأت بالزوّار، فإنّا قد طردنا عنزة عن الطريق، ونحن ننتظره مع عسكرنا في عرقوب السليمانيَّة على الجادَّة.
فقلت له: وأنت معنا إلى عرقوب السليمانيَّة؟
قال: «نعم»، فأخرجت الساعة وإذا قد بقي من النهار ساعتان ونصف تقريباً، فقلت بخيلنا فقُدِّمت إلينا، فتعلَّق بي ذلك البدوي الذي نحن عنده وقال: يا مولاي، لا تخاطر بنفسك وبالزوّار وأقم الليلة حتَّى يتَّضح الأمر، فقلت له: لا بدَّ من الركوب لإدراك الزيارة المخصوصة.
فلمَّا رأتنا الزوّار قد ركبنا، تبعوا أثرنا بين حاشر وراكب، فسرنا والفارس المذكور بين أيدينا كأنَّه الأسد الخادر ونحن خلفه، حتَّى وصلنا إلى عرقوب السليمانيَّة، فصعد عليه وتبعناه في الصعود، ثمّ نزل وارتقينا على أعلى العرقوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(269) يعنى أنَّه داخل في السنة الخامسة، يقال: أربع الغنم: دخلت في السنة الرابعة، والبقر وذوات الحافر: دخلت في السنة الخامسة، وذوات الخفِّ: دخلت في السابعة. (هامش جنَّة المأوى).
فنظرنا ولم نرَ له عيناً ولا أثراً، فكأنَّما صعد في السماء أو نزل في الأرض ولم نرَ قائداً ولا عسكراً.
فقلت لمن معي: أبقي شكٌّ في أنَّه صاحب الأمر؟
فقالوا: لا والله.
وكنت - وهو بين أيدينا - أُطيل النظر إليه كأنّي رأيته قبل ذلك، لكنَّني لا أذكر أين رأيته، فلمَّا فارقنا تذكَّرت أنَّه هو الشخص الذي زارني بالحلَّة، وأخبرني بواقعة السليمانيَّة.
وأمَّا عشيرة عنزة، فلم نرَ لهم أثراً في منازلهم، ولم نرَ أحداً نسأله عنهم سوى أنّا رأينا غبرة شديدة مرتفعة في كبد البرِّ، فوردنا كربلاء تخبُّ بنا خيولنا، فوصلنا إلى باب البلاد، وإذا بعسكر على سور البلد فنادوا: من أيم جئتم؟ وكيف وصلتم؟ ثمّ نظروا إلى سواد الزوّار، ثمّ قالوا: سبحان الله هذه البرّيَّة قد امتلأ من الزوّار، أجل أين صارت عنزة؟
فقلت لهم: اجلسوا في البلد وخذوا أرزاقكم، ولمكَّة ربٌّ يرعاها.
ثمّ دخلنا البلد فإذا أنا بكنج محمّد آغا جالساً على تخت قريب من الباب، فسلَّمت عليه، فقام في وجهي، فقلت له: يكفيك فخراً أنَّك ذُكِرْتَ باللسان.
فقال: ما الخبر؟ فأخبرته بالقصَّة.
فقال لي: يا مولاي، من أين لي علم بأنَّك زائر حتَّى أُرسِلَ لك رسولاً، وأنا وعسكري منذ خمسة عشر يوماً محاصرين في البلد لا نستطيع أنْ نخرج خوفاً من عنزة؟ ثمّ قال: فأين صارت عنزة؟
قلت: لا علم لي سوى أنّي رأيت غبرة شديدة في كبد البرِّ كأنَّها غبرة الظعائن، ثمّ أخرجت الساعة وإذا قد بقي من النهار ساعة ونصف، فكان مسيرنا كلُّه في ساعة، وبين منازل بني طرف وكربلاء ثلاث ساعات.
ثمّ بتنا تلك الليلة في كربلاء، فلمَّا أصبحنا سألنا عن خبر عنزة فأخبر بعض الفلَّاحين الذين في بساتين كربلاء قال: بينما عنزة جلوس في أنديتهم وبيوتهم إذا بفارس قد طلع عليهم على فرس مطهَّم، وبيده رمح طويل، فصـرخ فيهم بأعلى صوته: «يا معاشر عنزة، قد جاء الموت الزُّؤام، عساكر الدَّولة العثمانيَّة تجبَّهت عليكم بخيلها ورجلها، وها هم على إثري مقبلون، فارحلوا وما أظنُّكم تنجون منهم».
فألقى الله عليهم الخوف والذلَّ حتَّى إنَّ الرجل يترك بعض متاع بيته استعجالاً بالرحيل، فلم تمضِ ساعة حتَّى ارتحلوا بأجمعهم وتوجَّهوا نحو البرِّ.
فقلت له: صف لي الفارس، فوصف لي، وإذا هو صاحبنا بعينه، وهو الفارس الذي جاءنا، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين، حرَّره الأقلّ ميرزا صالح الحسيني(270).
قلت (المجلسي)(271): وهذه الحكاية سمعتها شفاهاً منه (أعلى الله مقامه)، ولم يكن هذه الكرامات منه ببعيدة، فإنَّه ورث العلم والعمل من عمِّه الأجلّ الأكمل السيِّد باقر القزويني، خاصَّة السيِّد الأعظم، والطود الأشمّ بحر العلوم (أعلى الله تعالى درجتهم)، وكان عمُّه أدَّبه وربّاه وأطلعه على الخفايا والأسرار، حتَّى بلغ مقاماً لا يحوم حوله الأفكار، وحاز من الفضائل والخصائص ما لم يجتمع في غيره من العلماء الأبرار.
منها: أنَّه بعد ما هاجر إلى الحلَّة واستقرَّ فيها، وشرع في هداية الناس وإيضاح الحقِّ وإبطال الباطل، صار ببركة دعوته من داخل الحلَّة وأطرافها من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(270) النجم الثاقب (ج 2/ ص 321 - 324/ الحكاية 95)؛ جنَّة المأوى (ص 121 - 124/ الحكاية 46).
(271) هذا خطأ، بل القائل النوري (رحمه الله).
الأعراب قريباً من مائة ألف نفس شيعيًّا إماميًّا مخلصاً، موالياً لأولياء الله، ومعادياً لأعداء الله.
بل حدَّثني (طاب ثراه) أنَّه لـمَّا ورد الحلَّة لم يكن في الذين يدَّعون التشيُّع من علائم الإماميَّة وشعارهم، إلَّا حمل موتاهم إلى النجف الأشرف، ولا يعرفون من أحكامهم شيئاً حتَّى البراءة من أعداء الله، وصاروا بهدايته صلحاء أبرار أتقياء، وهذه منقبة عظيمة اختصَّ بها من بين من تقدَّم عليه وتأخَّر.
ومنها: الكمالات النفسانية من الصبر والتقوى، وتحمُّل أعباء العبادة، وسكون النفس، ودوام الاشتغال بذكر الله تعالى، وكان (رحمه الله) لا يسأل في بيته عن أحد من أهله وأولاده ما يحتاج إليه من الغداء والعشاء والقهوة والغليان وغيرها عند وقتها، ولا يأمر عبيده وإماءه بشيء منها، ولولا التفاتهم ومواظبتهم لكان يمرُّ عليه اليوم والليلة من غير أنْ يتناول شيئاً منها مع ما كان عليه من التمكُّن والثروة والسلطنة الظاهرة، وكان يُجيب الدعوة، ويحضر الولائم والضيافات، لكن يحمل معه كُتُباً ويقعد في ناحية ويشتغل بالتأليف، ولا خبر له عمَّا فيه القوم، ولا يخوض معهم في حديثهم إلَّا أنْ يُسئَل عن أمر دينيٍّ فيُجيبهم.
وكان دأبه في شهر الصيام أنْ يُصلّي المغرب في المسجد ويجتمع الناس، ويُصلّي بعده النوافل المرتَّبة في شهر رمضان، ثمّ يأتي منزله ويفطر ويرجع ويُصلّي العشاء بالناس، ثمّ يُصلّي نوافلها المرتَّبة، ثمّ يأتي منزله والناس معه على كثرتهم، فلمَّا اجتمعوا واستقرُّوا شرع واحد من القُرّاء فيتلو بصوت حسن رفيع آيات من كتاب الله في التحذير والترغيب والموعظة، ممَّا يذوب منه الصخر الأصمُّ ويرقُّ القلوب القاسية، ثمّ يقرأ آخر خطبة من مواعظ نهج البلاغة، ثمّ يقرأ آخر تعزية أبي عبد الله (عليه السلام)، ثمّ يشرع أحد من الصلحاء في قراءة أدعية
شهر رمضان، ويتابعه الآخرون إلى أن يجيء وقت السحور، فيتفرَّقون ويذهب كلٌّ إلى مستقرِّه.
وبالجملة فقد كان في المراقبة ومواظبة الأوقات والنوافل والسُّنَن والقراءة مع كونه طاعناً في السنِّ آية في عصره، وقد كنّا معه في طريق الحجِّ ذهاباً وإياباً، وصلَّينا معه في مسجد الغدير، والجحفة، وتُوفّي (رحمه الله) الثاني عشر من ربيع الأوَّل سنة (1300هـ) قبل الوصول إلى سماوة بخمس فراسخ تقريباً، وقد ظهر منه حين وفاته من قوَّة الإيمان والطمأنينة والإقبال وصدق اليقين ما يقضـي منه العجب، وظهر منه حينئذٍ كرامة باهرة بمحضر من جماعة من الموافق والمخالف ليس هنا مقام ذكرها.
ومنها: التصانيف الرائقة الكثيرة، في الفقه والأُصول والتوحيد والكلام وغيرها، ومنها كتاب في إثبات كون الفرقة الناجية فرقة الإماميَّة أحسن ما كُتِبَ في هذا الباب، طوبى له وحسن مآب(272).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(272) جنَّة المأوى (ص 124 - 126/ ذيل الحكاية 46)؛ النجم الثاقب (ج 2/ ص 324 - 326/ ذيل الحكاية 95).
ونذكر في هذا الفصل بعضاً من آداب العبوديَّة، ورسوم الطاعة لمن خضع لإمام العصر والزمان (عليه السلام)، وأدرك أنَّه من عبيده والمتطفِّل على مائدة وجوده وإحسانه، واعترف له بالإمامة وأنَّه الواسطة لوصول الفيوضات الإلهيَّة، والنِّعَم غير المتناهية الدنيويَّة والأُخرويَّة على المخلوقات:
الأوَّل: [الحزن لغيبته]:
أنْ يكون مهموماً مغموماً لأجل الإمام (عليه السلام) في زمن الغيبة، وذلك لأُمور:
منها: غيابه (عليه السلام) عنّا بحيث لا نتمكَّن من الوصول إليه، وإنارة أبصارنا بالنظر إلى جماله، فقد روي في (عيون الأخبار) عن الإمام الرضا (عليه السلام) في ضمن حديث يتعلَّق بالحجَّة (عليه السلام) أنَّه قال: ... ثمّ قال: «بأبي وأُمّي سميُّ جدِّي وشبيهي، وشبيه موسى بن عمران (عليه السلام)، عليه جيوب النور تتوقَّد بشعاع ضياء القدس، كم من حرّى مؤمنة، وكم [من](273) مؤمن متأسف حيران حزين عند فقدان الماء المعين...»(274).
ونقرأ في دعاء الندبة: «عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرى الخَلْقَ وَلَا تُرى، وَلَا أَسْمَعُ لَكَ حَسِيساً وَلَا نَجْوى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ تُحِيطَ بِكَ دُونِيَ البَلْوى، وَلَا يَنالُكَ مِنِّي ضَجِيجٌ وَلَا شَكْوى، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنّا، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نازِحٍ مَا نَزَحَ عَنّا، بِنَفْسِي أَنْتَ أُمْنِيَّةُ شائِقٍ يَتَمَنَّى مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ ذَكَرا فَحَنّا، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ عَقِيدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(273) ما بين المعقوفتين لا يوجد في المصدر.
(274) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 9 و10/ ح 14).
عِزٍّ لَا يُسامى...، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الوَرى...»(275) إلى آخر الدعاء الذي هو نموذج لمناجاة من ارتشف من كأس محبَّته.
ومنها: عدم تمكُّنه (عليه السلام) من إجراء الأحكام والحقوق والحدود، وكون حقِّه في يد غيره، فقد روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال لعبد الله بن ظبيان: «يا عبد الله، ما من عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلَّا وهو يتجدَّد فيه لآل محمّد حزن».
قلت: فلِمَ؟
قال: «لأنَّهم يرون حقَّهم في يد غيرهم»(276).
ومنها: ظهور جمع من لصوص الدِّين وقُطّاع طريق المذهب من كمينهم، وبثُّهم الشكوك والشُّبُهات في أفكار العوامِّ، بل والخواصِّ من الناس حتَّى خرج الناس من الدِّين أفواجاً، وعجز العلماء الحقيقيُّون عن إظهار علومهم، وتحقَّق ما وعد الصادقان (عليهما السلام) بوقوعه.
روى الشيخ النعماني عن عميرة بنت نفيل أنَّها قالت: سمعت الحسين بن عليٍّ (عليه السلام) يقول: «لا يكون الأمر الذي تنتظرونه حتَّى يبرأ بعضكم من بعض، ويتفل بعضكم في وجوه بعض، ويشهد بعضكم على بعض بالكفر، ويلعن بعضكم بعضاً».
فقلت له: ما في ذلك الزمان من خير.
فقال الحسين (عليه السلام): «الخير كلُّه في ذلك الزمان، يقوم قائمنا ويدفع ذلك كلَّه»(277).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(275) راجع: المزار لابن المشهدي (ص 581/ الدعاء للندبة).
(276) راجع: الكافي (ج 4/ ص 169 و170/ باب النوادر/ ح 2)، وفيه: (عن عبد الله بن دينار).
(277) الغيبة للنعماني (ص 213/ باب 12/ ح 9).
وروى الشيخ النعماني أيضاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) حديثاً بهذا المضمون(278).
وروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال لمالك بن ضمرة: «يا مالك بن ضمرة، كيف أنت إذا اختلفت الشيعة هكذا - وشبَّك أصابعه وأدخل بعضها في بعض -؟».
فقلت: يا أمير المؤمنين، ما عند ذلك من خير؟
قال: «الخير كلُّه عند ذلك. يا مالك، عند ذلك يقوم قائمنا، فيُقدِّم سبعين رجلاً يكذبون على الله وعلى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقتلهم، ثمّ يجمعهم الله على أمر واحد»(279).
وروى أيضاً عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «لتمحصَنَّ يا شيعة آل محمّد تمحيص الكحل في العين، وإنَّ صاحب العين يدري متى يقع الكحل في عينه ولا يعلم متى يخرج منها، وكذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا ويُمسـي وقد خرج منها، ويمسي على شريعة من أمرنا ويصبح وقد خرج منها»(280).
وروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً أنَّه قال: «والله لتُكسَـرُنَّ تكسُّـر الزجاج، وإنَّ الزجاج ليُعاد فيعود [كما كان](281)، والله لتُكسَرُنَّ تكسُّر الفخار، فإنَّ الفخار ليتكسَّر فلا يعود كما كان، [و]والله لتغربلنَّ، [و]والله لتميزنَّ، [و]والله لتمحِّصُنَّ حتَّى لا يبقى منكم إلَّا الأقلّ - وصعَّر(282) كفَّه -»(283).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(278) الغيبة للنعماني (ص 213 و214/ باب 12/ ح 10).
(279) الغيبة للنعماني (ص 214/ باب 12/ ح 11).
(280) الغيبة للنعماني (ص 214/ باب 12/ ح 12).
(281) ما بين المعقوفتين من المصدر؛ وكذلك الموارد التالية.
(282) صعَّر: أمال. (راجع: الصحاح للجوهري: ج 2/ ص 712/ مادَّة صعر).
(283) الغيبة للنعماني (ص 215/ باب 12/ ح 13).
وهناك أخبار كثيرة بهذا المضمون، فقد روى الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) في (كمال الدِّين) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «كأنّي بكم تجولون جولان الإبل، تبتغون المرعى فلا تجدونه يا معشر الشيعة»(284).
وروى عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال لعبد الرحمن بن سيابة: «كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ولا عَلَم؟ يتبرَّأ بعضكم من بعض، فعند ذلك تُميَّزون وتُمحَّصون وتُغربَلون...»(285).
وروى أيضاً عن سدير الصيرفي أنَّه قال: دخلت أنا والمفضَّل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب على مولانا أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فرأيناه جالساً على التراب، وعليه مسح(286) خيبري، مطوَّق بلا جيب، مقصَّـر الكُمَّين، وهو يبكي بكاء الواله الثكلى، ذات الكبد الحرّى، قد نال الحزن من وجنتيه، وشاع التغيير في عارضيه، وأبلى الدموع محجريه(287)، وهو يقول:
«سيِّدي غيبتك نفت رقادي، وضيَّقت عليَّ مهادي، وابتزَّت منّي راحة فؤادي، سيِّدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد، فما أحسُّ بدمعة ترقى من عيني، وأنين يفتر من صدري، عن دوارج الرزّايا وسوالف البلايا إلَّا مثَّل بعيني عن غوابر أعظمها وأفظعها، وبواقي أشدّها وأنكرها، ونوائب مخلوطة بغضبك، ونوازل معجونة بسخطك».
قال سدير: فاستطارت عقولنا ولهاً، وتصدَّعت قلوبنا جزعاً من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(284) كمال الدِّين (ص 304/ باب 26/ ح 17 و18).
(285) كمال الدِّين (ص 348/ باب 33/ ح 36).
(286) المِسْحُ - بكسر الميم -: الكساء من الشعر. (لسان العرب: ج 2/ ص 596/ مادَّة مسح).
(287) المحجر كمجلس ومنبر من العين ما دار بها وبدا من البرقع. (القاموس المحيط: ج 2/ ص 5).
ذلك الخطب الهائل والحادث الغائل(288)، وظننّا أنَّه سمت(289) لمكروهة قارعة، أو حلَّت به من الدهر بائقة، فقلنا: لا أبكى الله يا بن خير الورى عينيك، من أيَّة حادثة تستنزف دمعتك وتستمطر عبرتك؟ وأيَّة حالة حتَّمت عليك هذا المأتم؟
قال: فزفر(290) الصادق (عليه السلام) زفرة انتفخ منها جوفه، واشتدَّ عنها خوفه، وقال: «ويلكم نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم، وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا، وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة الذي خصَّ الله به محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من بعده [(عليهم السلام)]، وتأمَّلت منه مولد قائمنا وغيبته وإبطاءه وطول عمره، وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان، وتولُّد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته، وارتداد أكثرهم عن دينهم وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم التي قال الله (تقدَّس ذكره): ﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ...﴾ [الإسراء: 13]، - يعني الولاية -، فأخذتني الرقَّة، واستولت عليَّ الأحزان...» الخ(291).
ويكفي هنا هذا الخبر الشريف، فبما أنَّ تفرُّق الشيعة وابتلاءهم في أيّام الغيبة وانقداح الشكوك في قلوبهم كان سبباً لبكاء الإمام الصادق (عليه السلام) ونحيبه وسهره قبل وقوع الغيبة بسنين، فحريٌّ بالمؤمن المبتلى بهذه الداهية والغارق في هذا البحر الموّاج الهائل أنْ يديم البكاء والنوح والنحيب والحزن والهمَّ والغمَّ والتضرُّع إلى الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(288) الغائل: المهلك، والغوائل: الدواهي. (راجع: لسان العرب: ج 11/ص 507 - 510/مادَّة غول).
(289) سمت لهم يسمت: هيَّأ لهم وجه الكلام والرأي. (القاموس المحيط: ج 1/ ص 150).
(290) زفر: أخرج نَفَسه مع مدِّه إيّاه. (القاموس المحيط: ج 2/ ص 39).
(291) كمال الدِّين (ص 352 و353/ باب 33/ ح 50).
الثاني: [انتظار الفرج]:
ومن تكاليف العباد في أيّام الغيبة انتظار فرج آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في كلِّ آنٍ ولحظة، وترقُّب ظهور الدولة القاهرة، والسلطنة الظاهرة لمهدي آل محمّد (عليه السلام)، وامتلاء الأرض بالعدل والقسط، وغلبة الدِّين القويم على سائر الأديان، كما أخبر اللهُ تعالى بذلك النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووعده، بل أخبر جميع الأنبياء والمِلَل بذلك، وبشَّرهم بمجيء يوم لا يُعبَد فيه إلَّا الله، ولا يَبقى شيء من الدِّين مختفياً خوفاً من الأعداء، ويذهب فيه البلاء عن المؤمنين، كما نقرأ في زيارة مهدي آل محمّد (عليه السلام): «اَلسَّلَامُ عَلَى المَهْدِيِّ الَّذي وَعَدَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ الْأُمَمَ أَنْ يَجْمَعَ بِهِ الْكَلِمَ، وَيَلُمَّ بِهِ الشَّعَثَ، وَيَمْلَأَ بِهِ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، [وَيُمَكِّنَ لَهُ](292)، وَيُنْجِزَ بِهِ وَعْدَ المُؤْمِنينَ»(293).
وقد وُعدنا بهذا الفرج في سنة السبعين من الهجرة، كما روى الشيخ الراوندي في (الخرائج) عن أبي إسحاق السبيعي، وهو عن عمرو بن الحمق [وهو من الأربعة الذين كانوا أصحاب سرِّ أمير المؤمنين (عليه السلام)] أنَّه قال: دخلت على عليٍّ (عليه السلام) حين ضُرِبَ الضربة بالكوفة، فقلت: ليس عليك بأس إنَّما هو خدش.
قال: «لعمري إنّي لمفارقكم»، ثمّ قال لي: «إلى السبعين بلاء - قالها ثلاثاً -».
قلت: فهل بعد البلاء رخاء؟
فلم يُجبني وأُغمي عليه، فبكت أُمُّ كلثوم، فلمَّا أفاق قال: «لا تُؤذيني يا أُمَّ كلثوم، فإنَّكِ لو ترين ما أرى لم تبكِ، إنَّ الملائكة من السماوات السبع بعضهم خلف بعض والنبيِّين يقولون لي: انطلق يا عليُّ، فما أمامك خير لك ممَّا أنت فيه».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(292) ما بين المعقوفتين من المصدر.
(293) المزار للشهيد الأوَّل (ص 209/ زيارة صاحب الزمان (عليه السلام)).
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنَّك قلت: «إلى السبعين بلاء»، فهل بعد السبعين رخاء؟
قال: «نعم، وإنَّ بعد البلاء رخاء، ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾ [الرعد: 39]»(294).
وروى الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة)، والكليني في (الكافي) عن أبي حمزة الثمالي أنَّه قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إنَّ عليًّا (عليه السلام) كان يقول: «إلى السبعين بلاء»، وكان يقول: «بعد البلاء رخاء»، وقد مضت السبعون ولم نرَ رخاءً؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام): «يا ثابت، إنَّ الله تعالى كان وقَّت هذا الأمر في السبعين، فلمَّا قُتِلَ الحسين (عليه السلام) اشتدَّ غضب الله على أهل الأرض، فأخَّره إلى أربعين ومائة سنة، فحدَّثناكم فأذعتم الحديث، وكشفتم قناع السـرِّ، فأخَّره الله ولم يجعل له بعد ذلك عندنا وقتاً و﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾ [الرعد: 39]».
قال أبو حمزة: وقلت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام)، فقال: «قد كان ذاك»(295).
وروى الشيخ النعماني في كتاب (الغيبة) عن علاء بن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «من مات منكم على هذا الأمر منتظراً كان كمن هو في الفسطاط الذي للقائم (عليه السلام)»(296).
وروى أيضاً عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال ذات يوم: «ألَا أُخبركم بما لا يقبل الله (عزَّ وجلَّ) من العباد عملاً إلَّا به؟».
فقلت: بلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(294) الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 178/ ح 11).
(295) الغيبة للطوسي (ص 428/ ح 417)؛ الكافي (ج 1/ ص 368/ باب كراهيَّة التوقيت/ ح 1) بتفاوت يسير.
(296) الغيبة للنعماني (ص 206 و207/ باب 11/ ح 15).
فقال: «شهادة أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمّداً عبده [ورسوله]، والإقرار بما أمر الله، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا - يعني الأئمَّة خاصَّة - والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة، والانتظار للقائم (عليه السلام)».
ثمّ قال: «إنَّ لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء».
ثمّ قال: «من سرَّه أنْ يكون من أصحاب القائم فلينتظر، وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإنْ مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدُّوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيَّتها العصابة المرحومة»(297).
وروى الشيخ الصدوق في (كمال الدِّين) عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّ فيهم(298) الورع والعفَّة والصلاح...، وانتظار الفرج بالصبر...»(299).
وروى أيضاً عن عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: أفضل أعمال أُمَّتي انتظار الفرج من الله (عزَّ وجلَّ)»(300).
وروى أيضاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «المنتظر لأمرنا كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله»(301).
وروى الشيخ الطبرسي في (الاحتجاج) أنَّه ورد توقيع من صاحب الأمر (عليه السلام) على يد محمّد بن عثمان، وفي آخره: «... وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإنَّ ذلك فرجكم...»(302).
وروى الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) عن المفضَّل أنَّه قال: ذكرنا القائم (عليه السلام) ومن مات من أصحابنا ينتظره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(297) الغيبة للنعماني (ص 207/ باب 11/ ح 16).
(298) كذا في المصدر، لكن في المتن الفارسي: (إنَّ من دين الأئمَّة).
(299) كمال الدِّين (ص 336 و337/ باب 33/ ضمن الحديث 9).
(300) كمال الدِّين (ص 644/ باب 55/ ح 3).
(301) كمال الدِّين (ص 645/ باب 55/ ح 6).
(302) الاحتجاج (ج 2/ ص 284).
فقال لنا أبو عبد الله (عليه السلام): «إذا قام أُتي المؤمن في قبره، فيقال له: يا هذا، إنَّه قد ظهر صاحبك، فإنْ تشأ أنْ تلحق به فالحق، وإنْ تشأ أنْ تقيم في كرامة ربِّك فأقم»(303).
وروى الشيخ البرقي في (المحاسن) عنه (عليه السلام) أنَّه قال لأحد أصحابه: «من مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كمن هو مع القائم [(عليه السلام)] في فسطاطه»(304).
وفي رواية أُخرى: «كمن كان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(305).
وفي رواية أُخرى: «كان كمن استشهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(306).
وروي أيضاً عن محمّد بن الفضيل، عن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته عن شيء من الفرج.
فقال: «أليس انتظار الفرج من الفرج؟ إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: 71]»(307).
وروي أيضاً عنه (عليه السلام) أنَّه قال: «ما أحسن الصبر وانتظار الفرج، أمَا سمعت قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ [هود: 93]، ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: 71]، فعليكم بالصبر فإنَّه إنَّما يجيء الفرج على اليأس، فقد كان الذين من قبلكم أصبر منكم»(308).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(303) الغيبة للطوسي (ص 458 و459/ ح 470).
(304) المحاسن (ج 1/ ص 174/ ح 151).
(305) المحاسن (ج 1/ ص 173/ ح 146).
(306) المحاسن (ج 1/ ص 172 و173/ ح 144).
(307) راجع: تفسير العيّاشي (ج 2/ ص 138/ ح 50).
(308) كمال الدِّين (ص 645/ باب 55/ ح 5).
الثالث: [الدعاء للإمام (عجَّل الله فرجه)]:
ومن التكاليف الدعاء لحفظ الإمام (عليه السلام) من شرِّ شياطين الجنِّ والإنس، ولتعجيل نصرته وغلبته على الكُفّار والملحدين والمنافقين، فإنَّ هذا قسم من أقسام إظهار المحبَّة وكثرة الشوق، والأدعية في هذا الباب كثيرة، منها ما روي عن يونس بن عبد الرحمن أنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) كان يأمر بالدعاء للقائم (عليه السلام) بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ ادْفَعْ عَنْ وَلِيِّكَ وَخَلِيفَتِكَ وَحُجَّتِكَ...» الخ(309).
وقد ذكرتُ هذا الدعاء في كتاب (مفاتيح الجنان) في باب زيارة صاحب الأمر (عليه السلام)(310).
ومنها الصلوات المنسوبة إلى أبي الحسن الضرّاب الأصفهاني، وقد ذكرتها في (المفاتيح) أيضاً في آخر أعمال يوم الجمعة(311).
ومنها هذا الدعاء الشريف: «اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ (وتقول مكانها: الحجَّة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه) فِي هَذِه السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَلِيًّا وَحَافِظاً وَقَائِدَاً وَنَاصِراً، وَدَلِيلاً وعَيْناً، حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً، وتُمَتِّعَه فِيهَا طَوِيلاً»(312).
وتُكرِّر هذا الدعاء في الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان على كلِّ الأحوال، قياماً وقعوداً، وكذلك تُكرِّره في جميع الشهر وبأيِّ وجهٍ وفي أيِّ وقتٍ كان، فتقرأه بعد تمجيد الله وتحميده، والصلوات على النبيِّ وآله (عليهم السلام)(313).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(309) مصباح المتهجِّد (ص 409).
(310) مفاتيح الجنان (ص 778 - 781).
(311) مفاتيح الجنان (ص 109 - 113)، عن مصباح المتهجِّد (ص 406 - 409)، وجمال الأُسبوع (ص 301 - 306).
(312) الكافي (ج 4/ ص 162/ باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان/ ح 4) بتفاوت يسير.
(313) راجع: مفاتيح الجنان (ص 364/ دعاء الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان).
وهناك أدعية أُخرى لا يسع المقام لذكرها، فليرجع الطالب إلى (النجم الثاقب)(314).
الرابع: [التصدُّق عنه (عجَّل الله فرجه)]:
إعطاء الصدقة عنه (عليه السلام) لحفظه في أيِّ وقتٍ وبأيِّ مقدار كانت، ولا بدَّ من استجلاب كلِّ الوسائل والأسباب التي لها دخل في صحَّته (عليه السلام) وعافيته، ودفع البلاء عنه، كالدعاء والتضرُّع والتصدُّق والتوسُّل، لعدم وجود نفس أعزّ ولا أكرم من نفس إمام العصر (أرواحنا فداه)، بل لا بدَّ أنْ تكون نفسه أعزّ وأحبّ إلينا من أنفسنا، وبخلافه يكون ضعفاً ومنقصةً في الدِّين وخللاً في العقيدة، كما روي بأسانيد معتبرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «لا يؤمن عبد حتَّى أكون أحبّ إليه من نفسه، وأهلي أحبّ إليه من أهله، وعترتي أحبّ إليه من عترته...»(315).
وكيف لا يكون كذلك والحال أنَّ وجود وحياة جميع الموجودات، وكذلك دينها وعقلها وصحَّتها وعافيتها وسائر النِّعَم الظاهريَّة والباطنيَّة إنَّما هي من بركات وجوده المقدَّس ووجود أوصيائه (عليهم السلام)؟!
ولـمَّا كان ناموس العصـر، ومدار الدهر، ومنار الشمس والقمر، وصاحب هذا العالم، وسبب سكون الأرض، وسير الأفلاك، ونظم أُمور الدنيا، والحاضر في قلوب الأخيار، والغائب عن عيون الأغيار، هو الحجَّة بن الحسن (صلوات الله عليهما)، فلا بدَّ لجميع الأفراد الأنانيِّين، الذين أهمَّتهم أنفسهم، وانشغلوا في حفظها وحراستها وسلامتها فضلاً عمَّن يعتقدون بأنَّ غير وجوده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(314) راجع: النجم الثاقب (ج 2/ ص 452 - 470).
(315) أمالي الصدوق (ص 414/ ح 542/9).
المقدَّس لا يليق للوجود، ولا يستحقُّ العافية والسلامة، أنْ يكون غرضهم الأصيل ومقصودهم الأوَّلي، التمسُّك بكلِّ الوسائل والأسباب المقرَّرة والمذكورة التي لها دخل في الصحَّة والسلامة ودفع البلايا وقضاء الحوائج، كالدعاء والتضرُّع والتصدُّق والتوسُّل، من أجل سلامة إمامه، وحفظ وجوده المقدَّس.
الخامس: [الذهاب للحجِّ نيابةً عنه (عجَّل الله فرجه)]:
الحجُّ عنه (عليه السلام) أو الاستنابة له، كما كان ذلك مرسوماً عند الشيعة منذ القِدَم، وأقرَّهم (عليه السلام) بذلك، كما روى القطب الراوندي (رحمه الله) في (الخرائج) أنَّ أبا محمّد الدعلجي كان له ولدان، وكان من خيار أصحابنا، وكان قد سمع الأحاديث، وكان أحد ولديه على الطريقة المستقيمة، وهو أبو الحسن كان يُغسِّل الأموات، وولد آخر يسلك مسالك الأحداث في فعل الحرام، ودُفِعَ إلى أبي محمّد حجَّة يحجُّ بها عن صاحب الزمان (عليه السلام)، وكان ذلك عادة الشيعة وقتئذٍ، فدفع شيئاً منها إلى ابنه المذكور بالفساد وخرج إلى الحجِّ، فلمَّا عاد حكى أنَّه كان واقفاً بالموقف (عرفات)، فرأى إلى جانبه شابًّا حسن الوجه، أسمر اللون، بذؤابتين، مقبلاً على شأنه في الدعاء والابتهال والتضرُّع وحسن العمل، فلمَّا قرب نفر الناس(316) التفت إليَّ وقال: «يا شيخ، ما تستحي؟».
قلت: من أيِّ شيء، يا سيِّدي؟
قال: «يُدفَع إليك حجَّة عمَّن تعلم، فتدفع منها إلى فاسق يشـرب الخمر، يوشك أنْ تذهب عينك هذه - وأومأ إلى عيني -»، وأنا من ذلك إلى الآن على وجل ومخافة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(316) أي انصراف الناس.
[وقيل:] فما مضى عليه أربعون يوماً بعد مورده حتَّى خرج في عينه التي أومأ إليها قرحة، فذهبت(317).
السادس: [القيام عند ذكر اسمه (عجَّل الله فرجه)]:
القيام عند سماع اسمه الكريم سيّما اسم (القائم)، كما كان ذلك سيرة جميع طبقات الإماميَّة كثَّرهم الله تعالى في جميع البلاد من العرب والعجم والترك والهند والديلم، وهذا يدلُّ على وجود مصدر وأصل لهذا العمل، وإنْ لم يُرَ هذا المصدر إلى الآن، لكن سُمِعَ عن بعض العلماء الخبراء بأنَّهم رأوا خبراً يدلُّ عليه، بأنَّ بعض العلماء ذكر أنَّ هذا المطلب قد سُئِلَ عنه العالم المتبحِّر الجليل السيِّد عبد الله سبط المحدِّث الجزائري، فأجاب (رحمه الله) عنه في بعض تصانيفه بأنَّه رأى خبراً مضمونه: أنَّ اسم القائم (عليه السلام) ذُكِرَ يوماً عند الإمام الصادق (عليه السلام)، فقام الإمام تعظيماً واحتراماً لاسمه (عليه السلام).
يقول المؤلِّف: هذا كلام شيخنا في (النجم الثاقب)(318)، لكن العالم المحدِّث الجليل الفاضل الماهر المتبحِّر النبيل، سيِّدنا الأجلّ السيِّد حسن الموسوي الكاظمي (أدام الله بقاءه)، قال في (تكملة أمل الآمل) ما حاصله:
كتب أحد علماء الإماميَّة، وهو عبد الرضا بن محمّد من أولاد المتوكِّل، كتاباً في وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) اسمه (تأجيج نيران الأحزان في وفاة سلطان خراسان)، ومن منفردات هذا الكتاب أنَّه قال: لـمَّا أنشد دعبل الخزاعي قصيدته التائية على الإمام الرضا (عليه السلام)، ولـمَّا وصل إلى قوله:
خروج إمام لا محالة خارج * * * يقوم على اسم الله بالبركاتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(317) الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 480 و481/ ح 21).
(318) راجع: النجم الثاقب (ج 2/ ص 474).
قام الإمام الرضا (عليه السلام) على قدميه، وأطرق رأسه إلى الأرض، ثمّ وضع يده اليمنى على رأسه وقال: «اللَّهُمَّ عجِّل فرجه ومخرجه، وانصـرنا به نصـراً عزيزاً»(319) انتهى.
السابع: [الدعاء لحفظ الإيمان وعدم تطرُّق الشُّبُهات]:
من تكاليف العباد في ظلمات الغيبة التضرُّع إلى الله تعالى ومسألته أنْ يحفظ إيمانهم من تطرُّق شُبُهات الشياطين وزنادقة المسلمين، وقراءة الأدعية الواردة في هذا الباب، منها الدعاء الذي رواه الشيخ النعماني والكليني بأسانيد متعدِّدة عن زرارة أنَّه قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أنْ يقوم».
قال: قلت: ولِـمَ؟
قال: «يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه -».
ثمّ قال: «يا زرارة، وهو المنتظر، وهو الذي يُشَكُّ في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلفٍ، ومنهم من يقول: حملٌ، ومنهم من يقول: إنَّه وُلِدَ قبل موت أبيه بسنتين، وهو المنتظر، غير أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُحِبُّ أنْ يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة».
قال: قلت: جُعلت فداك، إنْ أدركت ذلك الزمان أيَّ شيء أعمل؟
قال: «يا زرارة إذا أدركت هذا الزمان فادع بهذا الدعاء: اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي»(320).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(319) راجع: تكملة أمل الآمل (ج 3/ ص 261 و261/ الرقم 1000).
(320) الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 5) الغيبة للنعماني (ص 170 و171/ باب 10/ فصل 3/ ح 6) بتفاوت يسير.
ومنها دعاء طويل أوَّله هذا الدعاء المذكور، ثمّ بعده: «اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي مِيْتَةً جاهِلِيَّةً، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي...» إلى آخر الدعاء، وقد ذكرناه في ملحقات كتاب (مفاتيح الجنان)(321).
وذكره أيضاً السيِّد ابن طاوس في (جمال الأُسبوع) بعد الأدعية المأثورة بعد صلاة العصر من يوم الجمعة، ثمّ قال: (ذكر دعاء آخر يُدعى له (صلوات الله عليه) به، وأوَّله يشبه الدعاء المتقدِّم عليه، وهو ممَّا ينبغي إذا كان لك عذر عن جميع ما ذكرناه من تعقيب العصـر يوم الجمعة، فإيّاك أنْ تُهمِل الدعاء به، فإنَّنا عرفنا ذلك من فضل الله (جلَّ جلاله) الذي خصَّنا به، فاعتمد عليه)(322).
يقول المؤلِّف: ونُقِلَ ما يقرب من كلام السيِّد ابن طاوس في ذيل الصلوات المنسوبة إلى أبي الحسن (عليه السلام) عن الضرّاب الأصفهاني، فقال: (ويظهر من هذا الكلام الشريف أنَّه حصل للسيِّد شيء من صاحب الأمر (عليه السلام)، وهذا منه غير بعيد).
ومنها الدعاء الذي رواه الشيخ الصدوق عن عبد الله بن سنان أنَّه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «ستصيبكم شبهة فتبقون بلا عَلَم يُرى، ولا إمام هدى، ولا ينجو منها إلَّا من دعا بدعاء الغريق».
قلت: كيف دعاء الغريق؟
قال: يقول: «يَا اللهُ، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ».
فقلت: يَا اللهُ، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(321) مفاتيح الجنان (ص 843 - 848/ الملحق الأوَّل/ السابع: الدعاء في زمان الغيبة).
(322) جمال الأُسبوع (ص 315 - 319).
قال: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) مقلِّب القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول [لك](323): «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»(324).
الثامن: [الاستغاثة به (عجَّل الله فرجه) لدفع الشدائد]:
الاستغاثة والاستعانة به (عليه السلام) في الشدائد والأهوال، والبلايا والأمراض، وحلول الشُّبُهات والفتن من مختلف الجوانب, وطلب حلِّ المشاكل والشُّبُهات ورفع الكُرُبات ودفع البلايا, لأنَّه (عليه السلام) وبحسب القدرة الإلهيَّة والعلوم اللدنّيَّة الربّانيَّة، عالم بأحوال العباد وقادر على إجابة مرادهم, عامُّ الفيض لا ولن يغفل عن النظر في أُمور رعاياه، وهو بنفسه قال في التوقيع الذي خرج إلى الشيخ المفيد: «... فإنّا يحيط علمنا بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالزلل الذي أصابكم...»(325).
وروى الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) بسند معتبر عن أبي القاسم الحسين بن روح النائب الثالث (رضي الله عنه) أنَّه قال: اختلف أصحابنا في التفويض وغيره، فمضيت إلى أبي طاهر بن بلال في أيّام استقامته فعرَّفته الخلاف، فقال: أخِّرني، فأخَّرته أيّاماً، فعدت إليه، فأخرج إليَّ حديثاً بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا أراد [الله] أمراً عرضه على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ أمير المؤمنين (عليه السلام) [وسائر الأئمَّة](326) واحداً بعد واحد إلى أنْ ينتهي إلى صاحب الزمان (عليه السلام)، ثمّ يخرج إلى الدنيا، وإذا أراد الملائكة أنْ يرفعوا إلى الله (عزَّ وجلَّ) عملاً عُرِضَ على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(323) ما بين المعقوفتين من المصدر.
(324) كمال الدِّين (ص 351 و352/ باب 33/ ح 49).
(325) الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 902)، وفيه: (فإنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذلِّ الذي أصابكم).
(326) ما بين المعقوفتين من المصدر؛ وكذلك المورد التالي.
صاحب الزمان (عليه السلام)، ثمّ يخرج على واحد [بعد] واحد إلى أنْ يُعرَض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ يُعرَض على الله (عزَّ وجلَّ)، فما نزل من الله فعلى أيديهم، وما عرج إلى الله فعلى أيديهم، وما استغنوا عن الله (عزَّ وجلَّ) طرفة عين»(327).
ونقل السيِّد حسين المفتي الكركي سبط المحقِّق الثاني في كتاب (دفع المناواة)، عن كتاب (البراهين)، عن أبي حمزة، عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنَّه قال: «ما من مَلَك يُهبِطه الله في أمر إلَّا بدأ بالإمام فعرض ذلك عليه، وإنَّ مختلف الملائكة من عند الله تبارك وتعالى إلى صاحب هذا الأمر»(328).
وفي خبر أبي الوفاء الشيرازي أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال له: «... وأمَّا صاحب الزمان فإذا بلغ السكّين منك هكذا - وأومأ بيده إلى حلقه - فقل: يا صاحب الزمان أغثني، يا صاحب الزمان أدركني»(329). [فإنَّه غياث المستغيثين، وملجأ ومأوى لهم].
روى الشيخ الكشّي والشيخ الصفّار في (البصائر) عن رميلة أنَّه قال: وعكت وعكاً شديداً في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، فوجدت من نفسي خفَّة يوم الجمعة، فقلت: لا أُصيب شيئاً أفضل من أنْ أفيض عليَّ من الماء وأُصلّي خلف أمير المؤمنين (عليه السلام)، ففعلت، ثمّ جئت المسجد، فلمَّا صعد أمير المؤمنين (عليه السلام) المنبر عاد عليَّ ذلك الوعك.
فلمَّا انصرف أمير المؤمنين (عليه السلام) دخل القصـر ودخلت معه، فالتفت إليَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: «يا رميلة، ما لي رأيتك وأنت منشبك بعضك في بعض؟».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(327) الغيبة للطوسي (ص 387/ ح 351).
(328) انظر: بصائر الدرجات (ص 115/ ج 2/ باب 17/ ح 22).
(329) بحار الأنوار (ج 99/ ص 249 و250/ ضمن حديث 10).
فقصصت عليه القصَّة التي كنت فيها، والذي حملني على الرغبة في الصلاة خلفه.
فقال لي: «يا رميلة، ليس من مؤمن يمرض إلَّا مرضنا لمرضه، ولا يحزن إلَّا حزنّا لحزنه، ولا يدعو إلَّا أمنّا له، ولا يسكت إلَّا دعونا له».
فقلت: يا أمير المؤمنين، جُعلت فداك هذا لمن معك في القصـر(330)، أرأيت مَنْ كان في أطرف الأرض؟
قال: «يا رميلة، ليس يغيب عنّا مؤمن في شرق الأرض ولا غربها»(331).
وروى الشيخ الصدوق والصفّار والشيخ المفيد وغيرهم بأسانيد كثيرة عن الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام)، قالا: «إنَّ الله تبارك وتعالى لم يدع الأرض إلَّا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردَّهم(332)، وإذا نقصوا شيئاً أكمله لهم، ولولا ذلك لالتبست على المؤمنين أُمورهم»، وفي رواية: «ولم يُفرَّق بين الحقِّ والباطل»(333).
وروي في (تحفة الزائر) للمجلسي، و(مفاتيح النجاة) للسبزواري: من كانت له حاجة فليكتبها في رقعة ويقذفها في ضريح أحد الأئمَّة (عليهم السلام)، أو يمهرها ويضعها في طين طاهر ويقذفها في نهر أو بئر عميق أو غدير ماء كي تصل إلى يد صاحب الزمان (عليه السلام)، وهو (عليه السلام) يتولّى قضاء حاجته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(330) هكذا في المتن الفارسي وبصائر الدرجات لكن في الاختيار: (هذا لمن معك في المصر).
(331) اختيار معرفة الرجال (ج 1/ ص 319 و320/ ح 162)؛ بصائر الدرجات (ص 279/ ج 5/ باب 16/ ح 1) بتفاوت يسير.
(332) وفي رواية: (طرحها) أي الزيادة.
(333) راجع: كمال الدِّين (ص 203/ باب 21/ ح 11)؛ بصائر الدرجات (ص 351/ ج 7/ باب 10)؛ الاختصاص (ص 288 و289).
وإليك نصَّ الرقعة:
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كَتَبْتُ [إِلَيْكَ] يَا مَوْلَايَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْكَ مُسْتَغِيثاً، وَشَكَوْتُ مَا نَزَلَ بِي مُسْتَجِيراً بِاللهِ (عزَّ وجلَّ) ثُمَّ بِكَ، مِنْ أَمْرٍ قَدْ دَهِمَنِي، وَأَشْغَلَ قَلْبِي، وَأَطَالَ فِكْرِي، وَسَلَبَنِي بَعْضَ لُبِّي، وَغَيَّرَ خَطَرَ نِعْمَةِ اللهِ عِنْدِي، أَسْلَمَنِي عِنْدَ تَخَيُّلِ وُرُودِهِ اَلْخَلِيلُ، وَتَبَرَّأَ مِنِّي عِنْدَ تَرَائِي إِقْبَالِهِ إِلَيَّ الْحَمِيمُ، وَعَجَزَتْ عَنْ دِفَاعِهِ حِيلَتِي، وَخَانَنِي فِي تَحَمُّلِهِ صَبْرِي وَقُوَّتِي، فَلَجَأْتُ فِيهِ إِلَيْكَ، وَتَوَكَّلْتُ فِي المَسْأَلَةِ للهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْكَ فِي دِفَاعِهِ عَنِّي، عِلْماً بِمَكَانِكَ مِنَ اللهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ وَلِيِّ اَلتَّدْبِيرِ، وَمَالِكِ الْأُمُورِ، وَاثِقاً فِي المُسَارَعَةِ فِي الشَّفَاعَةِ إِلَيْهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَمْرِي، مُتَيَقِّناً لِإِجَابَتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِيَّاكَ بِإِعْطَائِي سُؤْلِي، وَأَنْتَ يَا مَوْلاَيَ جَدِيرٌ بِتَحْقِيقِ ظَنِّي وَتَصْدِيقِ أَمَلِي فِيكَ فِي أَمْرِ كَذَا وَكَذَا (وتذكر حاجتك بدل كذا وكذا) فِيما لَا طَاقَةَ لِي بِحَمْلِهِ وَلَا صَبْرَ لِي عَلَيْهِ، وَإِنْ كُنْتُ مُسْتَحِقًّا لَهُ وَلِأَضْعَافِهِ بِقَبِيحِ أَفْعَالِي وَتَفْرِيطِي فِي الْوَاجِبَاتِ اَلَّتِي للهِ (عزَّ وجلَّ) عَلَيَّ، فَأَغِثْنِي يَا مَوْلَايَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْكَ عِنْدَ اَللَّهْفِ، وَقَدِّمِ اَلمَسْأَلَةَ للهِ (عزَّ وجلَّ) فِي أَمْرِي قَبْلَ حُلُولِ التَّلَفِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ، فَبِكَ بَسَطَتِ اَلنِّعْمَةُ عَلَيَّ، وَأَسْأَلُ اللهَ (جلَّ جلاله) لِي نَصْراً عَزِيزاً، وَفَتْحاً قَرِيباً فِيهِ بُلُوغُ الْآمَالِ، وَخَيْرُ المَبَادِي وَخَوَاتِيمِ الْأَعْمَالِ، وَالْأَمْنِ مِنَ اَلمَخَاوِفِ كُلِّهَا فِي كُلِّ حَالٍ، إِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِـمَا يَشَاءُ فَعَّالُ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ فِي اَلمَبْدَأ وَاَلمَآلِ».
ثمّ يأتي الغدير أو النهر ويعتمد على أحد الوكلاء: إمَّا عثمان بن سعيد العمري، أو ابنه محمّد بن عثمان، أو الحسين بن روح، أو عليّ بن محمّد السمري، فينادي أحدهم ويقول:
«يَا فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ سَلاَمٌ عَلَيْكَ، أَشْهَدُ أَنَّ وَفَاتَكَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّكَ حَيٌّ
عِنْدَ اللهِ مَرْزُوقٌ، وَقَدْ خَاطَبْتُكَ فِي حَيَاتِكَ الَّتِي لَكَ عِنْدَ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَهَذِهِ رُقْعَتِي وَحَاجَتِي إِلَى مَوْلاَنَا (عليه السلام)، فَسَلِّمْهَا إِلَيْهِ، وَأَنْتَ الثِّقَةُ اَلْأَمِينُ».
ثمّ يقذفها في النهر أو البئر أو الغدير، فتُقضى حاجته(334).
ويُستفاد من هذا الخبر الشريف أنَّ هؤلاء الأربعة المذكورين كما كانوا الواسطة بين صاحب الزمان (عليه السلام) وبين الناس في الغيبة الصغرى في عرض الحوائج والرقاع وأخذ الجواب وإبلاغه، فكذلك حالهم في الغيبة الكبرى، فهم في ركابه (عليه السلام)، ومن المفتخرين بهذا المنصب الشريف.
فعُلِمَ أنَّ مائدة إحسانه (عليه السلام) وجوده وكرمه وفضله ونِعَمه منتشرة في كلِّ قطر من أقطار الأرض، وباب كرمه مفتوح والطريق إليه واضح لكلِّ آيسٍ ومضطربٍ وضالٍّ ومتحيِّر وجاهلٍ وحيران، الذي جاء بصدق وعزم واضطرار وصفاء مع إخلاص، فإنْ كان جاهلاً عُلِّم، وإنْ كان ضالّاً هُدي، وإنْ كان مريضاً عوفي، كما يظهر هذا من الحكايات والقَصص السالفة.
وخلاصة الحال أنَّ صاحب الأمر (عليه السلام) حاضر بين العباد، وناظر إلى أعمالهم وأحوالهم، وقادر على كشف البلايا عنهم، وعالم بأسرارهم وخفاياهم، ولم يكن معزولاً عن منصب الخلافة بسبب غيبته واستتاره عن الناس، ولم يترك (عليه السلام) الرئاسة الإلهيَّة، ولم يُظهِر العجز عن قدرته الربّانيَّة، وإنْ شاء (عليه السلام) حلَّ مشاكل القلوب من دون أيِّ سعي وفعّاليَّة، وإنْ شاء شوَّق قلب المضطرِّ لكتاب أو لعالم عنده دواء دائه، أو يُلهِمه دعاء أو يُعلِّمه دواءه في المنام.
وما رُئِيَ وسُمِعَ من أنَّ بعض المضطرِّين وأصحاب الحوائج مع صدق الولاء والإقرار بالإمامة، وقد دعوا وتضـرَّعوا وشكوا أمرهم إليه (عليه السلام) ولم تُقْضَ حوائجهم، فهذا - بالإضافة لوجود موانع الدعاء والقبول فيه - إمَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(334) راجع: تحفة الزائر (فارسي) (ص 626/ باب 11/ فصل 2/ الرقم 2).
أنْ يزعم أنَّه مضطرٌّ وليس كذلك، أو يزعم أنَّه ضالٌّ متحيِّر وقد هُدي إلى الطريق وعُلِّم، كالجاهل بالأحكام العمليَّة الذي أُرجع إلى العالم، كما جاء في التوقيع المبارك عن مسائل إسحاق بن يعقوب حيث قال: «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم»(335).
فإذا أمكن وصول الجاهل للعالم وإنْ كان بالهجرة والسفر، أو الحصول على كتابه في الأحكام لم يكن مضطرًّا، وكذلك العالم الذي يمكن أنْ يحلَّ المشاكل ويدفع الشُّبُهات عنه بالرجوع إلى الظواهر ونصوص الكتاب والسُّنَّة والإجماع لا يُسمّى عاجزاً، وهكذا من وسَّع في نفقاته ومعاشه خارج الحدود الإلهيَّة والموازين الشرعيَّة، ولم يكتفِ بالمقدار الممدوح في الشرع، ولم يقنع بما في يده طلباً لما هو زائد عن قوام معاشه لم يكن مضطرًّا، وقس على هذا الموارد التي يعتقد الإنسان بأنَّه مضطرٌّ أو عاجز فيها، فلو تأمَّل بصدق لرأى خلافه.
وحتَّى إذا كان هذا الشخص صادقاً في اضطراره، فلعلَّ قضاء حاجته لا تكون في مصلحته أو مصلحة النظام الكلّي، ولم يرد وعد بإجابة دعاء كلِّ مضطرٍّ، نعم لا يقدر على قضاء الحوائج إلَّا الله أو خلفاؤه، وليس معنى هذا إجابة كلِّ مضطرٍّ، وكثيراً ما كان من أصناف المضطرِّين والعجزة والموالي والمحبِّين في أيّام حضور الحُجَج في مكَّة والمدينة والكوفة يسألون قضاء حوائجهم، فلم تُقْضَ ولم تُجَبْ، ولم يُقدَّر إجابة دعاء كلِّ عاجز وقضائها في أيِّ زمانٍ ومهما كانت، فإنَّ في هذا اختلال النظام، ورفع الأجر والثواب العظيم الجزيل لأصحاب البلاء والمصاب، فإنَّهم إذا رأوا ثوابهم يوم القيامة تمنَّوا أنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(335) كمال الدِّين (ص 484/باب 45/ ح 4).
تتقطَّع لحومهم بالمقاريض في الدنيا كي يصلوا إلى ثواب أكثر وأجر أوفر، ولكن الله تعالى مع قدرته الكاملة، وغنائه المطلق، وعلمه المحيط بذرّات وأجزاء الموجودات لم يؤاخذ خلقه بمثل ذلك.
* * *
ونكتفي هنا بذكر مختصر عمَّا كتبه السيِّد السند، الفقيه المحدِّث الجليل القدر، المرحوم السيِّد إسماعيل العقيلي النوري (نوَّر الله مرقده)، في كتاب (كفاية الموحِّدين)(336)، قال:
وعلامات الظهور على قسمين: علائم حتميَّة وعلائم غير حتميَّة، أمَّا العلامات الحتميَّة فهي على نحو الإجمال:
[العلائم الحتميَّة]:
الأُولى: خروج الدجّال:
ويدَّعي اللَّعين الأُلوهيَّة، وتمتلئ الدنيا بالفتن وإراقة الدماء بسبب وجوده النحس، ويظهر من الأخبار أنَّ إحدى عينيه ممسوحة، وعينه اليسـرى في وسط جبينه تزهر كالنجم، وكأنَّ عينيه امتلأتا دماً، ضخم الهامة، له هيأة غريبة عجيبة، وهو ماهر في السحر، وإلى جنبه جبل أسود يُخيَّل للناس أنَّه جبل من خبز، وخلفه جبل أبيض يُخيَّل للناس من سحره أنَّه ماء جارٍ، ويصيح: (أوليائي أنا ربُّكم الأعلى)(337).
ويجتمع حوله الشياطين وأتباعهم من الظالمين والمنافقين والسحرة والكهنة والكفرة وأولاد الزنا، فيأخذ الشياطين بأطرافه، وينشغلون بأنواع آلات اللهو واللعب والغناء كالعود والمزمار والدفِّ، ويتغنَّون بها كي يشغلوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(336) راجع: كفاية الموحِّدين (فارسي) (ص 620) وما بعدها.
(337) راجع: كمال الدِّين (ص 525 - 528/ باب 47/ ح 1).
قلوب تابعيه بها، حتَّى يرقص لها ضعفاء العقول من الرجال والنساء، فيمشـي الناس خلفه لسماع تلك النغمات والألحان والأصوات كالسكارى.
وفي رواية أبي أُمامة أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال ما معناه: «ليبصق كلُّ مؤمن رأى الدجّال على وجهه، وليقرأ سورة الحمد كي يذهب سحر اللعين».
ولـمَّا يظهر اللعين يملئ الأرض بالفتن، وتقوم معركة بينه وبين جيش القائم (عليه السلام)، ثمّ يُقتَل اللعين على يد الحجَّة (عليه السلام) أو على يد عيسى بن مريم (عليه السلام).
الثانية: [الصيحة]:
الصيحة من السماء التي وردت أخبار كثيرة على حتميتها(338)، وفي حديث المفضَّل بن عمر (رحمه الله) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «[يدخل القائم (عليه السلام) مكَّة، ويظهر في جنب البيت](339) فإذا طلعت الشمس وأضاءت، صاح صائح بالخلائق من عين الشمس بلسان عربي مبين، يسمع من في السماوات والأرضين: يا معشر الخلائق هذا مهديُّ آل محمّد (ويُسمِّيه باسم جدِّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويُكنِّيه، وينسبه إلى أبيه الحسن الحادي عشـر إلى الحسين بن عليٍّ صلوات الله عليهم أجمعين) بايعوه تهتدوا، ولا تخالفوا أمره فتضلُّوا.
فأوَّل من يُقبِّل يده الملائكة ثمّ الجنُّ ثمّ النقباء، ويقولون: سمعنا وأطعنا، ولا يبقى ذو أُذُن من الخلائق إلَّا سمع ذلك النداء، وتقبل الخلائق من البدو والحضر والبرِّ والبحر، يُحدِّث بعضهم بعضاً ويستفهم بعضهم بعضاً ما سمعوا بآذانهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(338) عن عمر بن حنظلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «للقائم خمس علامات: ظهور السفياني، واليماني، والصيحة من السماء، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء». (الغيبة للنعماني/ ص 261/ باب 14/ ح 9).
(339) ما بين المعقوفتين لا يوجد في المصدر.
فإذا دنت الشمس للغروب صرخ صارخ من مغربها: يا معشر الخلائق قد ظهر ربُّكم بوادي اليابس من أرض فلسطين، وهو عثمان بن عنبسة الأُموي من ولد يزيد بن معاوية فبايعوه تهتدوا ولا تخالفوا عليه فتضلُّوا، فيردُّ عليه الملائكة والجنُّ والنقباء قوله ويُكذِّبوه ويقولون له: سمعنا وعصينا، ولا يبقى ذو شكٍّ ولا مرتاب ولا منافق ولا كافر إلَّا ضلَّ بالنداء الأخير»(340).
ويظهر أيضاً نداء آخر من السماء قبل ظهور الحجَّة (عليه السلام)، في الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان، يسمعه جميع سُكّان الأرض من شرقها إلى غربها، والمنادي جبرئيل (عليه السلام) يقول بصوت عالٍ: (الحقُّ مع عليٍّ وشيعته)، وينادي الشيطان عند منتصف النهار وبين السماء والأرض يسمعه كلُّ أحد: (الحقُّ مع عثمان وشيعته)(341).
الثالثة: [خروج السفياني]:
خروج السفياني من وادٍ يابس ليس فيه ماء ولا كلاء يقع بين مكَّة والشام، وهو رجل قبيح الوجه على وجهه أثر جدري، ربع، ضخم الهامة، أزرق العينين، اسمه عثمان بن عنبسة من ولد يزيد بن معاوية، ويملك اللعين خمسَ مُدُن كبيرة: دمشق، وحمص، وفلسطين، والأُردن، وقِنَّسرين(342).
فيرسل جيوشاً كثيرة إلى الأطراف والنواحي، ويأتي قسم كبير من جيشه إلى الكوفة وبغداد، فيقتل وينهب، ويُكثِر من سفك الدماء وقتل الرجال في الكوفة والنجف الأشرف، ثمّ يُرسِل قسماً من جيشه إلى الشام، وقسماً منه إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(340) مختصر بصائر الدرجات (ص 183 و184).
(341) راجع: الإرشاد (ج 2/ ص 371)؛ الغيبة للطوسي (ص 435/ ح 425)؛ الخرائج والجرائح (ج 3/ص 1161 و1162)؛ وفيها جميعاً: (ينادي إبليس في آخر النهار).
(342) راجع: الغيبة للنعماني (ص 316/ باب 18/ ح 13)، وفيه: (حلب) بدل (قِنَّسرين).
المدينة المطهَّرة، وعند وصولهم المدينة يقتلون ويُخرِّبون الكثير من الدور إلى ثلاثة أيّام، ثم يتوجَّهون بعدها إلى مكَّة لكنَّهم لن يصلوا إليها.
أمَّا من ذهب إلى الشام منهم فيظفر بهم جيش الإمام (عليه السلام) في الطريق فيقتلهم عن آخرهم، ويغنمون كلَّ ما كان معهم.
وتعظم فتنة اللعين في أطراف البلاد خاصَّة على محبِّي وشيعة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) حتَّى إنَّ مناديه ينادي: مَنْ أتى برأس رجلٍ محبٍّ لعليِّ بن أبي طالب فله ألف درهم، فيشي حينئذٍ الناس بعضهم على بعض طلباً للدنيا، حتَّى إنَّ الجار يُخبِر عن جاره بأنَّ هذا محبُّ عليِّ بن أبي طالب(343).
ولـمَّا يصل الجيش الذي توجَّه إلى مكَّة إلى أرض بيداء - بين مكَّة والمدينة - فإنَّ الله تعالى يُرسِل مَلَكاً إلى تلك الأرض فيصيح: يا أرض انخسفي بهؤلاء اللعناء، فتنخسف الأرض بهم وبما معهم من السلاح والجياد، وهم حوالي ثلاثمائة ألف نفر، ولا يبقى منهم إلَّا نفران وهما إخوة من الطائفة الجُهَنِيَّة، وتَقلب الملائكةُ وجهيهما إلى الخلف، ويقولون لأحدهما وهو البشير: اذهب إلى مكَّة وبشِّر صاحب الزمان (عليه السلام) بهلاك جيش السفياني، ويقولون للثاني وهو النذير: اذهب إلى الشام وأخبر السفياني بهلاك جيشه وأنذره(344).
فيذهب أحدهما إلى مكَّة والآخر إلى الشام، فإذا سمع السفياني ذلك يتوجَّه من الشام إلى الكوفة ويُفسِد فيها كثيراً، وبعد وصول الإمام الحجَّة (عليه السلام) يهرب اللعين منها إلى الشام، فيُرسِل الإمام (عليه السلام) جيشاً خلفه فيقتلوا السفياني على صخرة بيت المقدس، ويحزُّوا رأسه النحس، وتذهب روحه الخبيثة إلى جهنَّم وبئس المصير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(343) راجع: الغيبة للطوسي (ص 450/ ح 453).
(344) راجع: الهداية الكبرى (ص 398).
الرابعة: [خسف الأرض]:
خسف الأرض بجيش السفياني في البيداء(345)، وقد مرَّ ذكره(346).
الخامسة: [قتل النفس الزكيَّة]:
قتل النفس الزكيَّة، وهو من نسل آل محمّد (عليهم السلام)، فيُقتَل بين الركن والمقام(347).
السادسة: [خروج السيِّد الحسني]:
خروج السيِّد الحسني، وهو شابٌّ حسن الوجه يخرج من ناحية الديلم وقزوين، وينادي بصوتٍ عالٍ: (أغيثوا آل محمّد فإنَّهم يستغيثونكم)، وهذا السيِّد على الظاهر من ولد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، ولا يدَّعي الباطل ولا يدعو الناس لنفسه، بل هو من الشيعة الخُلَّص للأئمَّة الاثني عشـر، ويتَّبع الشريعة الحقَّة ولا يدَّعي النيابة والمهدويَّة، ولكنَّه رئيس مطاع.
وتمتلئ الأرض كفراً وظلماً حين خروجه، والناس في ضيق وأذى من قِبَل الظالمين والفاسقين، وهناك جمع من المؤمنين مستعدِّين لدفع ظلم الظالمين، فهنالك يستغيث السيِّد الحسني لنصرة دين آل محمّد (عليهم السلام)، فيعينه الناس وتجيبه كنوز الله بالطالقان، كنوز وأيّ كنوز ليست من فضَّة ولا ذهب، بل هي رجال كزبر الحديد على البراذين الشُّهُب بأيديهم الحراب.
فيكثر حينئذٍ أعوانه، ويحكم فيهم حُكْمَ سلطان عادل، ويغلب أهل الظلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(345) قد تقدَّم ذكر الخسف في هامش (ص 182)، فراجع.
(346) هذا كلام صاحب كفاية الموحِّدين، وأمَّا في كتابنا هذا فلم يتقدَّم من المؤلِّف (رحمه الله) شيء عن ذلك.
(347) عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليهما السلام)، قال: قلت: يا ابن رسول الله، متى يخرج قائمكم؟ قال: «... وقتل غلام من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين الركن والمقام، اسمه محمّد بن الحسن النفس الزكيَّة...» (كمال الدِّين: ص 330 و331/ باب 32/ ح 16).
والطغيان رويداً رويداً، ويمحو الأرض من لوث الظالمين والكافرين، ولـمَّا يصل إلى الكوفة مع أصحابه يُخبَر بأنَّ المهدي (عليه السلام) قد ظهر وجاء من المدينة إلى الكوفة، فيجيء السيِّد الحسني مع أصحابه إلى الحجَّة (عليه السلام)، ويطلب منه دلائل الإمامة ومواريث الأنبياء.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «ولم يرد ذلك إلَّا أنْ يُري أصحابه فضل المهدي (عليه السلام) حتَّى يبايعوه».
فيريه (عليه السلام) دلائل الإمامة ومواريث الأنبياء، فيبايعه حينئذٍ السيِّد الحسني وأصحابه إلَّا القليل منهم، وهم أربعة آلاف نفر من الزيديَّة، حاملين المصاحف على أعناقهم، وينسبون كلَّ ما رأوه من الإمام (عليه السلام) من الدلائل والمعاجز إلى السحر، ولا تُؤثِّر فيهم نصيحة الإمام وإظهار المعاجر، فيُمهلهم ثلاثة أيّام، ثمّ يأمر (عليه السلام) بضـرب أعناقهم بعد إبائهم عن قبول الحقِّ، وحالهم كحال خوارج نهروان الذين كانوا في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم صفِّين(348).
السابعة: [ظهور كفٍّ في السماء]:
ظهور كفٍّ في السماء(349)، وفي رواية: «يظهر وجهٌ وصدرٌ وكفٌّ عند عين الشمس»(350).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(348) راجع: الهداية الكبرى (ص 403 و404).
(349) عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «النداء من المحتوم، والسفياني من المحتوم، واليماني من المحتوم، وقتل النفس الزكيَّة من المحتوم، وكفٌّ يطلع من السماء من المحتوم» (الغيبة للنعماني: ص 261 و262/ باب 14/ ح 11).
(350) راجع: الإرشاد (ج 2/ ص 369 و373)؛ الغيبة للطوسي (ص 439 و440/ ح 431)؛ وليس فيهما ذكر للكفِّ.
الثامنة: [كسوف الشمس]:
كسوف الشمس في النصف من شهر رمضان، وخسوف القمر في آخره(351).
التاسعة: [ظهور علامات في شهر رجب]:
ظهور آيات وعلامات في شهر رجب، روى الشيخ الصدوق عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال في حديث طويل: «لا بدَّ من فتنة صمّاء صيلم، يسقط فيها كلُّ بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض، وكم من مؤمن متأسِّف حرّان حزين عند فقد الماء المعين، كأنّي بهم أسرّ(352) ما يكونون وقد نودوا نداء يسمعه من بَعُدَ كما يُسمَع من قَرُبَ، يكون رحمةً للمؤمنين وعذاباً على الكافرين».
فقلت: وأيُّ نداء هو؟
قال: ينادون في رجب ثلاثة أصوات من السماء: «صوتاً منها: ألَا لعنة الله على القوم الظالمين، والصوت الثاني: أزفت الآزفة يا معشر المؤمنين، والصوت الثالث يرون بدناً بارزاً نحو الشمس: هذا أمير المؤمنين قد كرَّ في هلاك الظالمين...»(353).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(351) عن بدر بن الخليل الأسدي، قال: كنت عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليه السلام)، فذكر «آيتين تكونان قبل القائم لم تكونا منذ أهبط الله آدم (صلوات الله عليه) أبداً، وذلك أنَّ الشمس تنكسف في النصف من شهر رمضان والقمر في آخره»، فقال له رجل: يا بن رسول الله، لا بل الشمس في آخر الشهر والقمر في النصف، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): «إنّي لأعلم بالذي أقول، إنَّهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم (عليه السلام)» (الغيبة للنعماني: ص 279 و280/ باب 14/ ح 45).
(352) في كمال الدِّين: (آيس).
(353) كمال الدِّين (ص 370 و371/ باب 35/ ح 3) إلى قوله: «وعذاباً على الكافرين»؛ الغيبة للطوسي (ص 439 و440/ ح 431).
العاشرة: [انقراض دولة بني العبّاس]:
اختلاف بني العبّاس وانقراض دولتهم الذي دلَّت عليه الأخبار(354)، وبأنَّهم يختلفون وينقرضون من ناحية خراسان قبل قيام القائم (عليه السلام).
[العلائم التي لا تكون حتميَّة]:
وأمَّا العلامات غير الحتميَّة فهي كثيرة، ظهر بعضها وبقي بعضها الآخر، ونشير هنا إلى بعضها على نحو الإجمال:
الأُولى: هدم جدار مسجد الكوفة.
الثانية: فيضان شطِّ الفرات وجريانه في أزقَّة الكوفة.
الثالثة: عمران الكوفة بعد خرابها.
الرابعة: ظهور الماء في بحر النجف.
الخامسة: جريان نهر من شطِّ الفرات إلى الغريِّ، أي النجف الأشرف.
السادسة: ظهور المذنَّب (نجمة لها ذيل) عند نجمة الجدي.
السابعة: القحط الشديد قبل الظهور.
الثامنة: وقوع زلزلة شديدة، وظهور الطاعون في كثير من البلدان.
التاسعة: القتل البيوح، أي القتل الكثير الذي لم ينقطع(355).
العاشرة: تحلية المصاحف، وزخرفة المساجد، وتطويل المنائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(354) عن محمّد بن عليٍّ الحلبي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «اختلاف بني العبّاس من المحتوم، والنداء من المحتوم، وخروج القائم من المحتوم»، قلت: وكيف النداء؟ قال: «ينادي منادٍ من السماء أوَّل النهار: ألَا إنَّ عليًّا وشيعته هم الفائزون»، قال: «وينادي منادٍ [في] آخر النهار: ألَا إنَّ عثمان وشيعته هم الفائزون» (الكافي: ج 8/ ص 310/ ح 484).
(355) عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «قُدّام هذا الأمر قتل بيوح»، قلت: وما البيوح؟ قال: «دائم لا يفتر» (قرب الإسناد: ص 384/ ح 1353).
الحادية عشرة: هدم مسجد براثا.
الثانية عشرة: ظهور نار ما بين الأرض والسماء من الشـرق إلى ثلاثة أو سبعة أيّام، وتكون سبباً لخوف الناس ودهشتهم.
الثالثة عشرة: ظهور حمرة شديدة تنتشر في السماء حتَّى تملأه.
الرابعة عشرة: كثرة القتل وسفك الدماء في الكوفة بسبب الرايات المختلفة.
الخامسة عشرة: مسخ طائفة إلى صورة القردة والخنازير.
السادسة عشرة: خروج الرايات السود من خراسان.
السابعة عشرة: هطول مطر شديد غزير، في شهر جُمادى الثانية وشهر رجب، لم يُرَ مثله.
الثامنة عشرة: تحرُّر العرب من القيود بحيث أنَّ بإمكانهم الذهاب إلى كلِّ مكان أرادوا، وفعل كلِّ ما أرادوا.
التاسعة عشرة: خروج سلاطين العجم عن الوقار.
العشرون: طلوع نجمة من المشرق تزهر كالقمر وهيأتها هيأة غرَّة القمر، ولطرفيها انحناء يوشك أنْ يتَّصلا، ولها نور شديد يدهش الأبصار من رؤيته.
الحادية والعشرون: امتلاء العالم بالظلم والكفر والفسوق والمعاصي(356).
ولعلَّ الغرض من هذه العلامة غلبة الكفر والفسوق والفجور والظلم في العالم، وانتشاره في جميع البلاد، وميل الخلق إلى أفعال وأطوار الكُفّار والمشركين، والتشبُّه بهم في الحركات والسكنات والمساكن والألبسة، وضعف الحال والتسامح في أُمور الدين وآثار الشريعة، وعدم التقيُّد بالآداب والسُّنَن، كما في زماننا هذا الذي نرى فيه تشبُّه الناس بالكُفّار يزداد يوماً بعد يوم في جميع الجهات الدنيويَّة، بل وفي أخذ قواعد الكفر والعمل بها في الأُمور الظاهريَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(356) راجع: الإرشاد (ج 2/ ص 368 - 370) فقط ذكر أكثر هذه العلامات.
وكثيراً ما يعتقدون ويعتمدون على أقوالهم وأعمالهم، ويثقون تماماً بهم في جميع الأُمور، وقد يسري هذا التشبُّه بالكُفّار إلى العقائد الإسلاميَّة فيتركوها، بل إنَّهم يُعلِّمونها لأطفالهم كما هو المرسوم في يومنا هذا، فإنَّهم ومن البداية لا يدعون الآداب والأُصول الإسلاميَّة تترسَّخ في أذهانهم، فيكون مآل أكثرهم عند البلوغ فساد العقيدة وعدم التديُّن بدين الإسلام، وهكذا يستمرُّ حالهم عند الكبر، وقس على هذا حال الذين يعاشرون هؤلاء الأشخاص، وحال من يتَّبعهم من الزوجة والأطفال.
بل لو تأمَّلت جيِّداً لرأيت أنَّ الكفر مستولٍ على العالم إلَّا أقلّ القليل والنزر اليسير من عباد الله الذين أكثرهم من ضعفاء الإيمان وناقصـي الدِّين، وذلك أنَّ أكثر بلاد المعمورة تقع تحت تصـرُّف الكُفّار والمشـركين والمنافقين، وأكثر أهاليها من أهل الكفر والنفاق والشرك إلَّا النادر.
وأمَّا أهل الإيمان وهم الشيعة الاثنا عشريَّة، فإنَّ تفرُّقهم وتشتُّتهم وصل إلى درجة أنَّ أهل الحقِّ بينهم قليل ونادر؛ لاختلافهم في العقائد الأُصوليَّة الدِّينيَّة والمذهبيَّة، وهذا القليل النادر من أهل الإيمان سواء من العوامِّ أم الخواصِّ أكثرهم لا يعرف من الإسلام والإيمان إلَّا الاسم غير المطابق للمسمّى، وذلك لارتكاب الأعمال القبيحة والأفعال الشنيعة المحرَّمة من أنواع المعاصي والنواهي، كأكل الحرام والظلم وتعدّي بعضهم على بعض في الأُمور الدِّينيَّة والدنيويَّة.
فلا يبقى حينئذٍ من الإسلام ومن الذين ينتحلونه حقًّا أثر إلَّا القليل، وهم مغلوبون على أمرهم ومنكوبون، فلا يترتَّب على وجودهم أثر لترويج الشريعة، فيصبح المعروف عند الناس منكراً والمنكر معروفاً، ولا يبقى من الإسلام إلَّا رسمه واسمه، كأنَّ طريقة أمير المؤمنين (عليه السلام) وسيرة الأئمَّة الطاهرين (سلام الله
عليهم أجمعين) قد تُرِكَت، ويُوشَك - والعياذ بالله - أنْ تُطوى الشـريعة بالمرَّة، ويرى ويسمع جميع الناس أنَّ ما ذكرناه في ازدياد يوماً فيوماً، ويظهر في هذا الزمان ما قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنَّ الإسلام بدئ غريباً وسيعود غريباً»(357).
ويُوشَك أنْ يمتلأ العالم بالظلم والجور، بل هو الآن عين الظلم والجور في الحقيقة، فلا بدَّ لهؤلاء القليل من عباد الله المؤمنين أنْ يسألوا الله تعالى على الدوام ليلاً ونهاراً، ويبتهلوا ويتضرَّعوا كي يُعجِّل الله تعالى فرج آل محمّد (عليهم السلام).
ونُقِلَ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال في بعض خُطَبه: «إذا صاح الناقوس، وكبس الكابوس، وتكلَّم الجاموس، فعند ذلك عجائب وأيَّ عجائب، أنار النار بنصيبين(358)، وظهرت راية عثمانيَّة بوادٍ سودٍ، واضطربت البصرة، وغلب بعضهم بعضاً، وصبا كلُّ قوم إلى قوم...».
إلى أنْ قال (عليه السلام): «وأذعن هرقل بقسطنطنيَّة لبطارقة السفياني(359)، فعند ذلك توقَّعوا ظهور متكلِّم موسى من الشجرة على طور»(360).
وقال أيضاً في بعض كلامه يُخبِر به عن خروج القائم (عليه السلام): «إذا أمات الناس الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلُّوا الكذب، وأكلوا الربا، وأخذوا الرشا، وشيَّدوا البنيان، وباعوا الدِّين بالدنيا، واستعملوا السفهاء، وشاوروا النساء، وقطعوا الأرحام، واتَّبعوا الأهواء، واستخفُّوا بالدماء، وكان الحلم ضعفاً، والظلم فخراً، وكانت الأُمراء فجرة، والوزراء ظلمة، والعرفاء خونة، والقُرّاء فسقة، وظهرت شهادات الزور، واستُعلِنَ الفجور، وقول البهتان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(357) كمال الدِّين (ص 201/ ح 44)؛ صحيح مسلم (ص 90).
(358) في المصدر: (إذا أنارت النار ببصرى).
(359) في المصدر: (سينان).
(360) مشارق أنوار اليقين (ص 265).
والإثم والطغيان، وحُلِّيت المصاحف، وزُخرفت المساجد، وطُوِّلت المنائر، وأُكرم الأشرار، وازدُحِمَت الصفوف، واختلفت الأهواء(361)، ونُقِضَت العقود، واقترب الموعود، وشارك النساء أزواجهنَّ في التجارة حرصاً على الدنيا، وعلت أصوات الفُسّاق واستُمِعَ منهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، واتُّقي الفاجر مخافة شرِّه، وصُدِّق الكاذب، وائتُمِنَ الخائن، واتُّخِذَت القيان والمعازف، ولعن آخر هذه الأُمَّة أوَّلها، وركب ذوات الفروج السـروج، وتشبَّه النساء بالرجال والرجال بالنساء، وشهد الشاهد من غير أنْ يستشهد، وشهد الآخر قضاءً لذمامٍ بغير حقٍّ عرفه، وتُفُقِّه لغير الدِّين، وآثروا عمل الدنيا على الآخرة، ولبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، وقلوبهم أنتن من الجيف وأمرُّ من الصُّبَّر، فعند ذلك الوحا الوحا، العجل العجل، خير المساكن يومئذٍ بيت المقدس، ليأتينَّ على الناس زمان يتمنّى أحدهم أنَّه من سُكّانه»(362).
[ما أصاب المسلمين من الضعف والهوان]:
يقول المؤلِّف: من الجدير أنْ أذكر هنا ملخَّص ما قاله شيخنا المرحوم ثقة الإسلام النوري (طاب الله ثراه) في (الكلمة الطيِّبة)، بعدما أثبت أنَّ الشيعة الاثني عشريَّة هم الفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة، قال:
وفوز هذه الجماعة في هذا العصر في غاية الضعف والوهن؛ لأُمور عديدة أهمُّها كثرة تردُّد الكُفّار إلى بلاد إيران المقدَّسة، وشدَّة مراودة وتحبُّب المسلمين إليهم، وغزو المُدُن والقرى بالآلات والأقمشة والأثاث المستورد من أهل الكفر والشرك، حتَّى لم يبقَ شيء من ضروريّات الحياة وأسباب راحة العيش إلَّا ولهم فيه اسم ورسم وعلامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(361) في المصدر: (القلوب).
(362) كمال الدِّين (ص 525 و526/ باب 47/ ح 1).
ونتيجة هذا العمل، وآثار هذا التصرُّف مفاسد ومضارٌّ كثيرة:
أحدها: ذهاب البغض للكُفّار والملحدين من القلوب (وهو من أركان الدِّين وأجزاء الإيمان)، وحلول الحبِّ لهم محلَّه المضادُّ لحبِّ الله وأوليائه كالضدّيَّة بين الماء والنار، بل أصبح الاختلاط بهم والمراودة معهم سبباً للافتخار والمباهاة، والحال أنَّ الله تعالى يقول: ﴿لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ...﴾ [المجادلة: 22].
هذا مع الأقرباء فكيف بالأجانب، إذاً فلا يكون لمحبِّهم حظٌّ من الإيمان، وقال أيضاً: ﴿لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ...﴾ [الممتحنة: 1].
وروي في (من لا يحضـره الفقيه) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «أوحى الله (عزَّ وجلَّ) إلى نبيٍّ من أنبيائه: قل للمؤمنين لا يلبسوا لباس أعدائي، ولا يطعموا مطاعم أعدائي، ولا يسلكوا مسالك أعدائي، فيكونوا أعدائي كما هم أعدائي»(363).
وورد هذا الحديث في كتاب (الجعفريّات) عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وزاد في آخره: «ولا يتشكَّلوا مشاكل أعدائي»(364).
وروي في (أمالي الصدوق) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «من أحبَّ كافراً فقد أبغض الله، ومن أبغض كافراً فقد أحبَّ الله»، ثمّ قال (عليه السلام): «صديق عدوِّ الله عدوُّ الله»(365).
وروي في (صفات الشيعة) عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّ ممَّن يتَّخذ مودَّتنا أهل البيت لمن هو أشدّ فتنةً على شيعتنا من الدجّال».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(363) من لا يحضره الفقيه (ج 1/ ص 252/ ح 770).
(364) الجعفريّات (ج 1/ ص 234).
(365) أمالي الصدوق (ص 702/ ح 960/8).
فقلت له: يا بن رسول الله، بماذا؟
قال: «بموالاة أعدائنا ومعاداة أوليائنا، إنَّه إذا كان كذلك اختلط الحقُّ بالباطل، واشتُبه الأمر فلم يُعرَف مؤمن من منافق»(366).
وقال (عليه السلام) أيضاً في أهل الجبر والتشبيه والغلاة - كما في (الخصال) -: «... فمن أحبَّهم فقد أبغضنا، ومن أبغضهم فقد أحبَّنا، ومن والاهم فقد عادانا، ومن عاداهم فقد والانا، ومن وصلهم فقد قطعنا، ومن قطعهم فقد وصلنا، ومن جفاهم فقد برَّنا، ومن برَّهم فقد جفانا، ومن أكرمهم فقد أهاننا، ومن أهانهم فقد أكرمنا، ومن قبلهم فقد ردَّنا، ومن ردَّهم فقد قبلنا، ومن أحسن إليهم فقد أساء إلينا، ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا، ومن صدَّقهم فقد كذَّبنا، ومن كذَّبهم فقد صدَّقنا، ومن أعطاهم فقد حرمنا، ومن حرمهم فقد أعطانا. يا بن خالد، من كان من شيعتنا فلا يتَّخذنَّ منهم وليًّا ولا نصيراً»(367).
والثاني من مضارِّ الاختلاط بالكُفّار: البغض للمسلمين في سلوكهم ودينهم والعداوة للملتزمين دينيًّا، وللعلماء والصالحين المتأدِّبين بآداب الشـرع، والمنكرين للتشبُّه بتلك الجماعة الفاسقة بالقلب واللسان، لأنَّ كلَّ شخص ينفر طبيعيًّا عمَّن يخالف طريقته ومنهجه وسيرته التي اختارها لطلب اللذَّة والمنفعة، سيّما لو كان المخالف لهم ناهياً أيضاً ورادعاً لهم بقدر الإمكان عن هذا المسير.
وقد بلغ هذا التنفُّر والبغض حدًّا حتَّى كاد أنْ يُتعامَل مع أهل العلم والدِّين معاملة اليهود، فتشمئزُّ القلوب وتُعبَس الوجوه عند رؤياهم، ولو تمكَّنوا من إيصال الأذى إليهم لفعلوا، بل يُظهِرون التنفُّر والانزجار من كلِّ معمَّم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(366) صفات الشيعة (ص 8).
(367) التوحيد (ص 363 و364/ باب 59/ ح12)؛ عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 130 و131/ ح 45)؛ ولم نجدها في الخصال المطبوع.
حيث أصبح وجوده يُنغِّص عيشهم ولهوهم وطربهم، فيستهزئون ويسخرون ويلمزون ويهمزون به أكثر من غيره، بل يتفكَّهون بتقليد حركات وسكنات أهل العلم في أوقات التحصيل والعبادة كأحد أسباب الضحك في مجالس لهوهم، ويُزيِّنون به محافل طربهم، وتارةً يُلبِسونها لباس الشعر ويجعلونها في مضامين منظومة، كما كان يفعل الكُفّار من أفعال السخرية والاستهزاء بالإشارة واللسان والعين والحاجب والاستحقار والاستخفاف عند رؤية أهل الإيمان، والتي حكاها الله تعالى عنهم وأوعدهم على ذلك العذاب في الدنيا والآخرة.
وهذا البغض والتنفُّر ينافي وجوب تعظيمهم واحترامهم أشدّ المنافاة، وورد حصر الإيمان في كثير من الأخبار بالحُبِّ في الله والبغض في الله، قالوا: «... أوثق عرى الإيمان الحُبُّ في الله والبغض في الله، وتوالي (تولى) أولياء الله والتبرّي من أعداء الله»(368).
وجاء في (نهج البلاغة) أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «لَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللهُ وَرَسُولُه، وَتَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللهُ ورَسُولُه، لَكَفَى بِه شِقَاقاً للهِ وَمُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللهِ...»(369).
وعلى أيَّة حالٍ: وصل الأمر بأُمَّة نبيِّ آخر الزمان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يصبح أغلب عوامِّها يجهلون الضروريّات من مسائل الدِّين، بل أصبحوا بتردُّدهم على مجالس الزنادقة والنصارى والدهريِّين، وأُنسهم بهم وسماعهم لكلمات الكفر والفجور المورثة للارتداد، يخرجون من الدِّين أفواجاً، وهم مع هذا لا يعلمون أو يعلمون ولا يهتمُّون.
وأصبح الأعيان والأشراف يفتخرون بارتكاب المعاصي العظام كالإفطار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(368) الكافي (ج 2/ ص 125 و126/ باب الحُبّ في الله والبغض في الله/ ح 6).
(369) نهج البلاغة (ص 228/ الخطبة 160).
في شهر رمضان على ملأ من الناس، ويهزؤون ويسخرون بالمتديِّنين ويرمونهم بالحماقة والسفه، ويعدُّونهم في سلك الجُهّال والخاملين وقد يسمُّونهم الرجعيِّين، ومن دأبهم الاعتراض على الله تعالى دائماً، وجعلوا مدح ووصف حكماء الإفرنج وصناعاتهم ووفرة عقولهم وعلمهم تسبيحاً لهم وزينةً لمجالسهم، ويزعمون أنَّ صناعاتهم وأعمالهم - التي هي تكملة للعلوم الطبيعيَّة والرياضيَّة - خارجة عن قوَّة البشر، تظاهي معاجز الأنبياء والأوصياء (عليه السلام) وخوارق عاداتهم.
يفرُّون من مجالس العلماء، ويتذمَّرون من الكلام حول الدِّين وذكر المعاد، ولو حضروا اشتباهاً مجلساً من هذا القبيل لأخذهم النعاس، أو يطير طائر خيالهم إلى مكان آخر، ويعتقدون بأنَّ إعانة الفقراء وأهل الدِّين لغو لا فائدة فيه، ويُعظِّمون أنفسهم ويُوجِّبون على الغير احترامهم لما يرون من غنائهم وثروتهم النجسة التي حصلوا عليها من الطُّرُق المحرَّمة ومن دماء الأرامل والأيتام، والتي يصرفونها في الحرام والمعاصي العظام، ومع هذا يتَّهمون العلماء الأتقياء بأكل أموال الناس، ويقولون: إنَّهم أتباع كلِّ ناعٍ غنيٍّ، وإنَّهم شُحّاذ أذلَّة.
استعملوا أواني الذهب والفضَّة، ولبسوا الحرير والذهب، وحلقوا اللحى كهيأة بني مروان وبني أُميَّة، وصار كلامهم المحبوب ولسانهم المرغوب اللسان الفرنسي والإنجليزي، وأصبح جليسهم وأنيسهم كُتُب الضلال والكفر بدل كتاب الله وآثار الأئمَّة (عليهم السلام)، وبينما نجد اليهود الذين جاوروا المسيحيين سنين كثيرة لم يتركوا سُنَنهم وآدابهم ورسومهم، نرى المسلمين يتركون دينهم بالمرَّة عند سفرهم إلى بلاد الكُفّار أشهراً قليلة، ولم تبقَ معصية إلَّا وذهب قبحها في أعين الناس وشاعت عندهم، ولم تبقَ طاعة ولا عبادة إلَّا ودخلها الفساد والخلل بشتّى الطُّرُق، ولم يبقَ منها إلَّا الصورة والرسم، ولقد عجز أهل الحقِّ عن إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأيسوا من التأثير، وبكوا في خلواتهم على ضعف الإيمان وغربة الإسلام وشيوع المنكر.
[حديث أشراط الساعة]:
والحمد لله على ما ظهر من صدق قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما أخبر من وقوع المفاسد وغيرها، كما روى الشيخ الجليل عليُّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره عن ابن عبّاس أنَّه قال: حججنا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حجَّة الوداع، فأخذ بحلقة باب الكعبة، ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال: «ألَا أُخبركم بأشراط الساعة؟»، وكان أدنى الناس منه يومئذٍ سلمان (رحمة الله عليه)، فقال: بلى يا رسول الله.
فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنَّ من أشراط القيامة إضاعة الصلوات، واتِّباع الشهوات، والميل إلى الأهواء، وتعظيم أصحاب المال، وبيع الدِّين بالدنيا، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يُذاب الملح في الماء ممَّا يرى من المنكر فلا يستطيع أنْ يُغيِّره».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال: «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، إنَّ عندها يليهم أُمراء جورة، ووزراء فسقة، وعرفاء ظلمة، وأُمناء خونة».
فقال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسـي بيده، يا سلمان، إنَّ عندها يكون المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ويُؤتَمن الخائن، ويُخوَّن الأمين، ويُصدَّق الكاذب، ويُكذَّب الصادق».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، فعندها تكون إمارة النساء، ومشاورة الإماء، وقعود الصبيان على المنابر، ويكون الكذب طرفاً، والزكاة مغرماً، والفيء مغنماً، ويجفو الرجل والديه ويبرُّ صديقه، ويطلع الكوكب المذنَّب».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، وعندها تشارك المرأة زوجها في التجارة، ويكون المطر قيظاً، ويغيظ الكرام غيظاً، ويُحتَقر الرجل المعسـر، فعندها تقارب الأسواق إذ قال هذا: لم أربح(370) شيئاً، وقال هذا: لم أربح شيئاً، فلا ترى إلَّا ذامًّا لله».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، فعندها يليهم أقوام إنْ تكلَّموا قتلوهم، وإنْ سكتوا استباحوا حقَّهم، ليستأثرون أنفسهم بفيئهم، وليطؤنَّ حرمتهم، وليسفكنَّ دماؤهم، وليملأنَّ قلوبهم دغلاً ورعباً، فلا تراهم إلَّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال: «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، إنَّ عندها يُؤتى بشيء من المشـرق وشيء من المغرب يلون أُمَّتي، فالويل لضعفاء أُمَّتي منهم والويل لهم من الله، لا يرحمون صغيراً، ولا يُوقِّرون كبيراً، ولا يتجاوزون من مسـيء، جثَّتهم جثَّة الآدميِّين وقلوبهم قلوب الشياطين».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، وعندها يكتفي الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، ويُغار على الغلمان كما يُغار على الجارية في بيت أهلها، وتشبَّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، ولتركبنَّ ذوات الفروج السـروج، فعليهنَّ من أُمَّتي لعنة الله».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال: «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، إنَّ عندها تُزَخرف المساجد كما تُزَخرف البِيَع والكنائس، وتُحلّى المصاحف، وتُطوَّل المنارات، وتُكثَر الصفوف بقلوب متباغضة وألسن مختلفة».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسي بيده، إنَّ عندها تُحلّى ذكور أُمَّتي بالذهب، ويلبسون الحرير والديباج، ويتَّخذون جلود النمور صفافاً(371)».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسـي بيده، يا سلمان، وعندها يظهر الربا، ويتعاملون بالعينة(372) والرُّشا، ويُوضَع الدِّين وتُرفَع الدنيا».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، وعندها يكثر الطلاق، فلا يقام لله حدٌّ، ولن يضرُّوا الله شيئاً».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسـي بيده، يا سلمان، وعندها تظهر القينات(373) والمعازف(374)، يليهم أشرار أُمَّتي».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، وعندها تحجُّ أغنياء أُمَّتي للنزهة، وتحجُّ أوساطها للتجارة، وتحجُّ فقراؤهم للرياء والسمعة، فعندها يكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(370) في المصدر: (لم أبع).
(371) أي فُرُشاً. (هامش المصدر).
(372) العينة - بالكسر -: السلف. (القاموس المحيط: ج 4/ ص 252).
(373) القينة: الأَمَة المغنّية أو أعمّ. (القاموس المحيط: ج 4/ ص 262).
(374) المعازف: الملاهي، كالعود والطنبور. (القاموس المحيط: ج 3/ ص 175).
أقوام يتعلَّمون القرآن لغير الله ويتَّخذونه مزامير، ويكون أقوام يتفقَّهون لغير الله، وتكثر أولاد الزنا، ويتغنَّون بالقرآن، ويتهافتون بالدنيا».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، ذاك إذا انتُهِكَت المحارم، واكتُسِبَت المآثم، وتسلَّط الأشرار على الأخيار، ويفشو الكذب، وتظهر اللجاجة، وتغشو الفاقة، ويتباهون في اللباس، ويُمطَرون في غير أوان المطر، ويستحسنون الكوبة(375) والمعازف، وينكرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتَّى يكون المؤمن في ذلك الزمان أذلّ من الأَمَة، ويُظهِر قُرّاؤهم وعُبّادهم فيما بينهم التلاوم، فأُولئك يُدعَون في ملكوت السماوات: الأرجاس الأنجاس».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان، فعندها لا يحضُّ الغنيُّ على الفقير، حتَّى إنَّ السائل يسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحداً يضع في كفِّه شيئاً».
قال سلمان: وإنَّ هذا لكائن، يا رسول الله؟
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إي والذي نفسي بيده، يا سلمان...»(376).
وخلاصة الأمر أنَّ الغيرة للدِّين والعصبيَّة للمذهب قد زالت من القلوب، بحيث لو حصل ضرر كلّي في الدِّين من قِبَل كافر لا ينزعج كما ينزعج لو وصل إليه ضرر ماليٌّ جزئي من قِبَل مسلم، ولا يهمُّه لو خرج الناس كلُّهم عن الدِّين أفواجاً أفواجاً.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(375) الكوبة: الحسرة على ما فات، وبالضمِّ: النرد، أو الشطرنج، والطبل الصغير المخصَّـر، والفهر، والبربط. (القاموس المحيط: ج 1/ ص 126).
(376) تفسير القمّي (ج 2/ ص 303 - 307).
ونكتفي هنا بما ذُكِرَ في كتاب (كفاية الموحِّدين)(377)، قال:
[عثمان بن سعيد العمري]:
الأوّل: عثمان بن سعيد العمري الذي كان الإمام (عليه السلام) يثق به كثيراً، وكان معتمداً عند الإمام عليٍّ النقي والإمام حسن العسكري ووكيلهما في حياتهما، وكان أسديًّا يُنسَب إلى جدِّه جعفر العمري، ويقال له: السمّان أيضاً، أي بيّاع الزيت، واشتغل بهذا الشغل تقيَّةً من أعداء الله وإخفاءً لأمر السفارة، وكانت الشيعة تُسلِّم إليه الأموال التي يأتون بها للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فكان يضعها في ماله ثمّ يأتي بها إلى الإمام الحسن.
وجاء في رواية أحمد بن إسحاق القمّي من أجلَّاء علماء الشيعة، قال: دخلت على أبي الحسن عليِّ بن محمّد (الهادي) (صلوات الله عليه) في يوم من الأيّام، فقلت: يا سيِّدي، أنا أغيب وأشهد، ولا يتهيَّأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كلِّ وقت، فقول من نقبل و[أمر](378) من نمتثل؟
فقال لي (صلوات الله عليه): «هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه إليكم فعنّي يُؤدِّيه».
فلمَّا مضـى أبو الحسن (عليه السلام) وصلت إلى أبي محمّد ابنه الحسن العسكري (عليه السلام) ذات يوم، فقلت له مثل قولي لأبيه، فقال لي: «هذا أبو عمرو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(377) راجع: كفاية الموحِّدين (فارسي) (ص 580) وما بعدها.
(378) ما بين المعقوفتين من المصدر.
الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّى إليكم فعنّي يُؤدِّيه»(379).
ونقل العلَّامة المجلسـي في (البحار) عن جمع من ثقات أهل الحديث، أنَّ جمعاً من أهل اليمن جاؤوا إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ومعهم أموال، فقال (عليه السلام): «امض يا عثمان فإنَّك الوكيل والثقة المأمون على مال الله، واقبض من هؤلاء [النفر](380) اليمنيِّين ما حملوه من المال».
فقال أهل اليمن: يا سيِّدنا، والله إنَّ عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك، وأنَّه وكيلك وثقتك على مال الله [تعالى].
قال: «نعم، واشهدوا على أنَّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي، وأنَّ ابنه محمّداً وكيل ابني مهديّكم»(381).
وروي في (البحار) أيضاً بسنده أنَّه لـمَّا مات الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) حضـر غُسله عثمان بن سعيد (رضي الله عنه وأرضاه)، وتولّى جميع أمره في تكفينه وتحنيطه وتقبيره مأموراً بذلك للظاهر من الحال التي لا يمكن جحدها ولا دفعها إلَّا بدفع حقائق الأشياء في ظواهرها.
وكانت توقيعات صاحب الأمر (عليه السلام) تخرج على يديّ عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان إلى شيعته وخواصِّ أبيه أبي محمّد (عليه السلام) بالأمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(379) الغيبة للطوسي (ص 354 و355/ ح 315).
(380) ما بين المعقوفتين لا يوجد في المصدر؛ وكذلك المورد التالي.
(381) بحار الأنوار (ج 51/ ص 345 و346/ ضمن الحديث 1)، عن الغيبة للطوسي (ص 355 و356/ ح 317).
والنهي، والأجوبة عمَّا تسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلى السؤال فيه بالخطِّ الذي كان يخرج في حياة الحسن (عليه السلام)...(382).
وهكذا كان الأمر في باقي السفراء والوكلاء.
[محمّد بن عثمان العمري]:
الثاني من الوكلاء والسفراء: محمّد بن عثمان بن سعيد العمري الذي وثَّقه ووثَّق أباه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وأخبر شيعته بأنَّه وكيل ابنه المهدي (عليه السلام)، فلمَّا مات أبوه عثمان بن سعيد خرج توقيع من الإمام الحجَّة (عليه السلام) يشتمل على تعزيته لوفاة أبيه، وأنَّه النائب بعده والمنصوب من قِبَله (عليه السلام)، وعبارة التوقيع على ما رواه الصدوق وغيره بهذا النصِّ:
قال (عليه السلام): «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه، عاش أبوك سعيداً ومات حميداً، فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه (عليهم السلام)، فلم يزل مجتهداً في أمرهم، ساعياً فيما يُقرِّبه إلى الله (عزَّ وجلَّ) وإليهم، نضَّر الله وجهه وأقاله عثرته...
أجزل الله لك الثواب، وأحسن لك العزاء، رُزئت ورُزئنا، وأوحشك فراقه وأوحشنا، فسرَّه الله في منقلبه، وكان من كمال سعادته أنْ رزقه الله (عزَّ وجلَّ) ولداً مثلك يخلفه من بعده، ويقوم مقامه بأمره، ويترحَّم عليه، وأقول: الحمد لله، فإنَّ الأنفس طيِّبة بمكانك، وما جعله الله (عزَّ وجلَّ) فيك وعندك، أعانك الله وقوّاك وعضدك ووفَّقك، وكان الله لك وليًّا وحافظاً وراعياً وكافياً ومعيناً»(383).
وهذا التوقيع الشريف خير شاهد على جلالتهما وعلوِّ مقامهما.
وروى العلَّامة المجلسي (رحمه الله) أيضاً في (البحار) عن كتاب (الغيبة) للشيخ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(382) بحار الأنوار (ج 51/ص 346/ضمن الحديث 1)، عن الغيبة للطوسي (ص 356/ح 318).
(383) كمال الدِّين (ص 510/ باب 45/ ح 41)؛ الغيبة للطوسي (ص 361/ ح 323).
الطوسي (رحمه الله)، عن جمع من الأصحاب أنَّه خرج توقيع من الناحية المقدّسة إلى محمّد بن عثمان بن سعيد العمري بعد وفاة أبيه عثمان بن سعيد:
«والابن وقاه الله لم يزل ثقتنا في حياة الأب (رضي الله عنه وأرضاه ونضَّـر وجهه)، يجري عندنا مجراه ويسدُّ مسدَّه، وعن أمرنا يأمر الابن وبه يعمل، تولّاه الله...»(384).
وفي رواية أُخرى عن الكليني أنَّه خرج توقيع بخطِّ الإمام الحجَّة (عليه السلام) فيه: «وأمَّا محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه وعن أبيه من قبل)، فإنَّه ثقتي وكتابه كتابي»(385).
وظهرت على يده دلائل ومعاجز كثيرة للشعية من قِبَل حجَّة الله (عليه السلام)، وكان في زمن الغيبة ملجأ ومأوى للشيعة ونائب الحجَّة (عليه السلام).
وروي عن أُمِّ كلثوم ابنته أنَّها قالت: كان لأبي جعفر محمّد بن عثمان العمري كُتُب مصنَّفة في الفقه ممَّا سمعها من أبي محمّد الحسن (عليه السلام) ومن الصاحب (عليه السلام)...
[ثمّ قالت:] إنَّها وصلت إلى أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه)...(386).
وروى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسنده عن محمّد بن عثمان بن سعيد أنَّه قال: (والله إنَّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلَّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه)(387).
وفي رواية أُخرى أنَّه سُئِلَ عنه: أرأيت صاحب هذا الأمر؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(384) بحار الأنوار (ج 51/ ص 349/ ح 2)، عن الغيبة للطوسي (ص 362/ ح 325).
(385) الغيبة للطوسي (ص 291/ ضمن الحديث 247).
(386) الغيبة للطوسي (ص 363/ ح 328).
(387) كمال الدِّين (ص 440/ باب 43/ ح 8).
فقال: (نعم، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول: «اللَّهُمَّ أنجز لي ما وعدتني»)(388).
و(رأيته (صلوات الله عليه) متعلِّقاً بأستار الكعبة [في المستجار](389) وهو يقول: «اللَّهُمَّ انتقم لي من أعدائي»)(390).
[الحسين بن روح النوبختي]:
الثالث من الوكلاء والسفراء: الحسين بن روح، وقد كان في زمن سفارة محمّد بن عثمان متولّياً بعض الأُمور من قِبَله، فقد كان محمّد بن عثمان يعتمد على بعض إخوانه المؤمنين الثقات والحسين بن روح واحداً منهم، بل كان عند الناس أنَّ اعتماد محمّد بن عثمان على غير الحسين بن روح أكثر من اعتماده عليه، فتصوَّروا أنَّ أمر الوكالة والسفارة بعد محمّد بن عثمان ستنتقل إلى جعفر بن أحمد لكثرة خصوصيَّته بمحمّد بن عثمان، بل كان كلُّ طعام محمّد بن عثمان في آخر حياته من دار جعفر بن أحمد.
روى العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في (البحار) عن كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي أنَّه روي عن جعفر بن أحمد، قال: لـمَّا حضرت أبا جعفر محمّد بن عثمان العمري الوفاة كنت جالساً عند رأسه أُسائله وأُحدِّثه، وأبو القاسم بن روح عند رجليه، فالتفت إليَّ ثمّ قال: أُمرت أنْ أُوصي إلى أبي القاسم بن روح.
قال: فقمت من عند رأسه وأخذت بيد أبي القاسم وأجلسته في مكاني وتحوَّلت إلى عند رجليه(391).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(388) كمال الدِّين (ص 440/ باب 43/ ح 9).
(389) ما بين المعقوفتين من المصدر.
(390) كمال الدِّين (ص 440/ باب 43/ ح 10).
(391) بحار الأنوار (ج 51/ ص 354/ ح 5)، عن الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 339).
وفي الرواية المعتبرة أنَّ أبا جعفر محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه) جمع وجوه الشيعة وشيوخها، فقال لهم: (إنْ حدث عليَّ حدث الموت فالأمر إلى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي، فقد أُمرت أنْ أجعله في موضعي بعدي، فارجعوا إليه وعوِّلوا في أُموركم عليه)(392).
وفي رواية معتبرة أُخرى كما رُويت في (البحار) أنَّ جمعاً من وجوه الشيعة وكبارهم دخلوا على محمّد بن عثمان، فقالوا له: إنْ حدث أمر فمن يكون مكانك؟
فقال لهم: (هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي القائم مقامي، والسفير بينكم وبين صاحب الأمر (عليه السلام)، والوكيل له والثقة الأمين، فارجعوا إليه في أُموركم وعوِّلوا عليه في مهمّاتكم، فبذلك أُمرت وقد بلَّغت)(393).
وورد توقيع من الإمام الحجَّة (عليه السلام) للشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، كما ورد ذلك في (البحار) عن جمع من الأخيار والثقات، وهو:
«نعرفه عرَّفه الله الخير كلَّه ورضوانه وأسعده بالتوفيق، وقفنا على كتابه وهو ثقتنا بما هو عليه، وإنَّه عندنا بالمنزلة والمحلِّ اللذين يسـرّانه، زاد الله في إحسانه إليه إنَّه وليٌّ قدير، والحمد لله لا شريك له، وصلّى الله على رسوله محمّد وآله وسلَّم تسليماً كثيراً»(394).
وذُكِرَ في أحواله أنَّه كان شديد التقيَّة في بغداد، وكان يُحسِن السلوك مع المخالفين من المذاهب الأربعة بحيث نسبه أرباب كلِّ مذهب إليهم، فكانوا يفتخرون بأنَّه منهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(392) الغيبة للطوسي (ص 371/ ح 341).
(393) بحار الأنوار (ج 51/ص 355/ضمن الحديث 6)، عن الغيبة للطوسي (ص 371 و372/ح 342).
(394) بحار الأنوار (ج 51/ص 356/ضمن حديث 6)، عن الغيبة للطوسي (ص 372/ح 344).
[عليُّ بن محمّد السمري]:
الرابع من الوكلاء والسفراء: الشيخ أبو الحسن عليُّ بن محمّد السَّمُريّ، فإنَّ الشيخ الحسين بن روح (عليه الرحمة) لـمَّا حضرته الوفاة جعله مقامه بأمر الحجَّة (عليه السلام)، فكان الإمام (عليه السلام) يجري على يده الكرامات والمعاجز وأجوبة مسائل الشيعة، وكانوا يُسلِّمون الأموال والحقوق إليه بأمره (عليه السلام)، فلمَّا حضـرته الوفاة اجتمع الشيعة عنده وطلبوا منه أنْ يُعيِّن من يقوم مقامه في السفارة، فقال: (لله أمر هو بالغه)(395)، أي لا بدَّ من وقوع الغيبة الكبرى.
وفي رواية الشيخ الصدوق (عليه الرحمة) أنَّ الشيخ أبا الحسن السمري لـمَّا حضرته الوفاة اجتمع عنده الشيعة، فقالوا: من يكون الوكيل بعدك، وأيُّ شخص يقوم مقامك؟
فقال: (إنّي لم أُؤمر بأنْ أُوصي إلى أحد بعدي في هذا الشأن)(396).
وروى الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) والشيخ الصدوق في (كمال الدِّين) أنَّه لـمَّا دنت وفاة الشيخ أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري خرج توقيع إلى الناس:
«بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليُّ بن محمّد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستَّة أيّام، فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامَّة(397)، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله [تعالى ذكره](398)، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(395) كمال الدِّين (ص 432 و433/ باب 42/ ح 12).
(396) الرواية للطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 394/ ح 363).
(397) في كمال الدِّين: (الثانية).
(398) ما بين المعقوفتين من كتاب الغيبة؛ وكذلك المورد التالي.
جوراً. وسيأتي من شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب(399) مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم».
قال الراوي: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمَّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: مَنْ وصيُّك [مِنْ] بعدك؟
فقال: (لله أمر هو بالغه)، وقضى(400)، فهذا آخر كلام سُمِعَ منه (رضي الله عنه وأرضاه)(401).
ونُقِلَ أيضاً عن كتاب (كمال الدِّين) للشيخ الصدوق أنَّ أبا الحسن السمري تُوفّي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة من الهجرة(402)، فيكون على هذا مدَّة الغيبة الصغرى التي كان الوكلاء والسفراء والنوّاب مأمورين بها من قِبَل الإمام (عليه السلام) حوالي (74) عاماً، مضت حوالي (48) عاماً منها في سفارة عثمان بن سعيد العمري وابنه محمّد بن عثمان، ومضت حوالي (26) عاماً منها في سفارة الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح والشيخ أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري، ثم انقطعت السفارة ووقعت الغيبة الكبرى، فمن ادَّعى بعدها السفارة والنيابة الخاصَّة أو ادَّعى المشاهدة مع هذه الدعوى فهو كذّاب مفتر على الحجَّة (عليه السلام).
فيكون المرجع في الدِّين والشـرائع العلماء والفقهاء والمجتهدين بأمر الإمام (عليه السلام)، فإنَّ النيابة ثابتة لهم على سبيل العموم، كما ورد في التوقيع الشـريف لـمَّا سأل إسحاق بن يعقوب - من أجلَّة وأخيار الشيعة وحملة الأخبار - الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(399) في كمال الدِّين: (كاذب).
(400) في كمال الدِّين: (ومضى).
(401) الغيبة للطوسي (ص 395/ ح 365)؛ كمال الدِّين (ص516/ باب45/ ح44).
(402) راجع: كمال الدِّين (ص 503/ باب 45/ ضمن حديث 3)، وفيه: (سنة ثمان وعشـرين وثلاثمائة)؛ وفي الغيبة للطوسي (ص 394/ ح 364) كما في المتن.
أوصلها إلى الحجَّة (عليه السلام) بواسطة محمّد بن عثمان بن سعيد العمري، فسأل مسائل، فأجاب (عليه السلام) عليها، فقال في جملتها:
«وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم»(403).
وفي رواية أُخرى عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبَل منه فإنَّما بحكم الله استخفَّ، وعلينا ردَّ، والرادُّ علينا رادٌّ على الله وهو في حدِّ الشرك بالله»(404).
وفي رواية أُخرى: «مجاري الأُمور [والأحكام](405) بيد العلماء بالله الأُمناء على حلاله وحرامه»(406).
فالمستفاد من أوامر هذين الإمامين (عليهما السلام) أنَّ المكلَّفين لا بدَّ لهم من الرجوع إلى العلماء، وحفظة العلوم والأخبار وآثار الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام)، العارفين بالأحكام الصادرة منهم بالنظر والاستنباط والعقل والتدبُّر، ولا بدَّ للمكلَّفين أنْ يأخذوا مسائل الحلال والحرام منهم، ويرجعوا في قطع المنازعات إليهم، وكلُّ ما يقولونه هو حجَّة عليهم؛ لأنَّهم جمعوا شرائط الفتوى من قوَّة الاستنباط إلى العدالة والبلوغ والعقل وسائر شرائط الاجتهاد، ولهم النيابة العامَّة، فالناس مكلَّفون بالرجوع إليهم اضطراراً، لعدم تعيين نائب مخصوص في زمن الغيبة الكبرى، بل حُكِمَ بانقطاع النيابة الخاصَّة والسفارة. (انتهى).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(403) كمال الدِّين (ص 484/ باب 45/ ضمن الحديث 4).
(404) تهذيب الأحكام (ج 6/ ص 218/ ح 514/6)، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام).
(405) ما بين المعقوفتين من المصدر.
(406) تحف العقول (ص 238)، عن الإمام الحسين (عليه السلام).
1 - القرآن الكريم.
2 - إثبات الهداة: الحرُّ العاملي/ قدَّم له: السيِّد شهاب الدِّين المرعشـي/ خرَّج أحاديثه: علاء الدِّين الأعلمي/ ط 1/ 1425هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
3 - إثبات الوصيَّة: عليُّ بن الحسين المسعودي/ أنصاريان/ 1384هـ/ قم.
4 - الاحتجاج: الطبرسي/ تحقيق: محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386هـ.
5 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
6 - اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مؤسَّسة آل البيت/ 1404هـ/ قم.
7 - الأربعون حديثاً في المهدي: الحافظ أبو نعيم الأصفهاني/ تحقيق: عليّ جلال باقر.
8 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ مؤسَّسة آل البيت/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
9 - إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط 2/ 1415هـ/ مطبعة أمير/ انتشارات الشريف الرضي/ قم.
10 - إعلام الورى: الطبرسي/ ط 1/ 1417هـ/ مطبعة ستارة/ مؤسَّسة آل البيت/ قم.
11 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة البعثة.
12 - الأنوار النعمانيَّة: السيِّد نعمة الله الجزائري/ قدَّم له وعلَّق عليه: محمّد عليّ القاضي الطباطبائي/ ط 1/ 1431هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
13 - بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403هـ/ مؤسَّسة الوفاء.
14 - بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ تحقيق كوچه باغي/ 1404هـ/ مطبعة الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.
15 - البيان في أخبار صاحب الزمان: محمّد بن يوسف الكنجي الشافعي/ نسخة مكتبة مدرسة الفقاهة.
16 - تاج العروس: الزبيدي/ 1414هـ/ دار الفكر/ بيروت.
17 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
18 - تحفة الزائر: العلَّامة المجلسي/ ط 2/ 1391ش/ مؤسَّسة الإمام الهادي (عليه السلام)/ مطبعة اعتماد/ قم.
19 - تفسير العيّاشي: العيّاشي/ تحقيق: هاشم الرسولي المحلاتي/ المكتبة العلميَّة الإسلاميَّة/ طهران.
20 - تفسير القمّي: عليُّ بن إبراهيم القمّي/ تحقيق: طيِّب الجزائري/ ط 3/ 1404هـ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
21 - تكملة أمل الآمل: السيِّد حسن الصدر/ تحقيق: حسين عليّ محفوظ/ ط 1/ 1429هـ/ دار المؤرِّخ العربي/ بيروت.
22 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورّام): ورّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
23 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق: حسن الخرسان/ ط 3/ 1364ش/ مطبعة خورشيد/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
24 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تحقيق: هاشم الحسيني الطهراني/ جماعة المدرِّسين/ قم.
25 - الثاقب في المناقب: ابن حمزة الطوسي/ تحقيق: نبيل رضا علوان/ ط 2/ 1412هـ/ مؤسَّسة أنصاريان/ قم.
26 - جامع الأُصول في أحاديث الرسول: ابن الأثير الجزري/ تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط/ نشر وتوزيع: مكتبة الحلواني، ومطبعة الملّاح، ومكتبة دار البيان.
27 - الجعفريّات: محمّد بن محمّد بن أشعث الكوفي/ ط 1/ مكتبة نينوى الحديثة/ طهران.
28 - جلاء العيون: العلَّامة المجلسـي/ ترجمة السيِّد عبد الله شبَّر/ ط 1/ 1428هـ/ دار المرتضى/ بيروت.
29 - جمال الأُسبوع: ابن طاوس/ تحقيق: جواد القيّومي/ ط 1/ 1371ش/ مطبعة أختر شمال/ مؤسَّسة الآفاق.
30 - جنَّة المأوى: ميرزا حسين النوري/ ط 1/ 1427هـ/ مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ النجف الأشرف.
31 - حقُّ اليقين: العلَّامة المجلسي/ انتشارات إسلاميَّة.
32 - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ ط 1 كاملة محقَّقة/ 1409هـ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
33 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: الغفاري/ 1403هـ/ جماعة المدرِّسين/ قم.
34 - الدُّرُّ المنثور: عليُّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدِّين العاملي/ تحقيق: منصور الإبراهيمي/ ط 1/ 1433هـ/ الناشر: المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميَّة/ الإعداد: مركز إحياء التراث الإسلامي/ طهران.
35 - الدعوات: قطب الدِّين الراوندي/ ط 1/ 1407هـ/ مطبعة أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
36 - دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة البعثة/ قم.
37 - رجال النجاشي: النجاشي/ ط 5/ 1416هـ/ مؤسَّسة النشـر الإسلامي/ قم.
38 - روضة المتَّقين: محمّد تقي المجلسـي/ ط 1/ 1429هـ/ مطبعة ستار/ مؤسَّسة دار الكتاب الإسلامي/ قم.
39 - رياض العلماء: الميرزا عبد الله أفندي الأصفهاني/ باهتمام السيِّد محمود المرعشي/ تحقيق: السيِّد أحمد الحسيني/ 1401هـ/ مطبعة الخيّام/ قم.
40 - سنن أبي داود: ابن الأشعث السجستاني/ ت محمّد اللحّام/ ط1/ 1410هـ/ دار الفكر/ بيروت.
41 - سنن الترمذي: الترمذي/ ت عبد الوهّاب عبد اللطيف/ ط2/ 1403هـ/ دار الفكر/ بيروت.
42 - شرح السُّنَّة: الحسين بن مسعود البغوي/ تحقيق: شعيب الأرناؤوط/ المكتب الإسلامي/ ط 2/ 1403هـ/ بيروت.
43 - شواهد النبوَّة: عبد الرحمن الجامي/ مكتبة الحقيقة/ 1431هـ/ تركيا.
44 - الصحاح : الجوهري/ ت أحمد عبد الغفور العطّار/ ط4/ 1407هـ/ دار العلم للملايين/ بيروت.
45 - صحيح ابن حبّان: ابن حبّان/ تحقيق: الأرنؤوط/ ط 2/ 1414هـ/ مؤسَّسة الرسالة.
46 - صحيح البخاري: البخاري/ 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.
47 - صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
48 - صفات الشيعة: الشيخ الصدوق/ كانون انتشارات عابدي/ طهران.
49 - الصوارم المهرقة: نور الله التستري/ تحقيق: السيِّد جلال الدِّين المحدِّث/ 1367هـ.
50 - ضياء العالمين: العلَّامة الفتوني/ ط 1/ 1434هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ مطبعة الوفاء/ قم.
51 - الطرائف: ابن طاوس/ ط 1/ 1399هـ/ مطبعة الخيّام/ قم.
52 - علل الشـرائع: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.
53 - العمدة: ابن البطريق/ 1407هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
54 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ تحقيق: حسين الأعلمي/ 1404هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
55 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني، عليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
56 - الغيبة: النعماني/ تحقيق: فارس حسّون/ط 1/1422هـ/ مطبعة مهر/ أنوار الهدى.
57 - فرج المهموم: ابن طاوس/ 1363ش/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
58 - فِرَق الشيعة: النوبختي/ منشورات الرضا/ ط 1/ 1433هـ/ بيروت.
59 - الفصول المهمَّة: ابن الصبّاغ/ تحقيق: سامي الغريري/ ط 1/ 1422هـ/ مطبعة سرور/ دار الحديث.
60 - قرب الإسناد: الحميري القمّي/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ قم.
61 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 5/ 1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
62 - كشف الغمَّة: ابن أبي الفتح الإربلي/ ط 2/ 1405هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
63 - كفاية الأثر: الخزّاز القمّي/ تحقيق: عبد اللطيف الكوهكمري الخوئي/ 1401هـ/ مطبعة الخيّام/ انتشارات بيدار.
64 - كفاية الموحِّدين: السيِّد إسماعيل العقيلي النوري/ الطبعة الحجريَّة.
65 - الكَلِم الطيِّب: السيِّد عليّ خان المدني/ تحقيق: قاسم حسين عوض/ ط 1/ 1435هـ.
66 - كمال الدِّين: الشيخ الصدوق/ تحقيق عليّ أكبر الغفاري/ 1405هـ/ مؤسَّسة النشـر الإسلامي/ قم.
67 - لسان العرب: ابن منظور/ 1405هـ/ نشر أدب الحوزة/ قم.
68 - لسان الميزان: ابن حجر/ ط 2/ 1390هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
69 - مجمع البحرين: الشيخ الطريحي/ تحقيق: أحمد الحسيني/ ط 2/ 1408هـ/ مكتب نشر الثقافة الإسلاميَّة.
70 - مجمع الزوائد: الهيثمي/ 1408هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
71 - المحاسن: البرقي/ تحقيق: جلال الدِّين الحسيني المحدِّث/ 1370هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
72 - المحتضر: حسن بن سليمان الحلّي/ 1424هـ/ انتشارات مكتبة الحيدريَّة.
73 - مختصـر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط 1/ 1370هـ/ منشورات المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
74 - مرآة العقول: العلَّامة المجلسـي/ ط2/ 1404هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة.
75 - المزار: ابن المشهدي/ تحقيق: جواد القيّومي/ ط 1/ 1419هـ/ مطبعة مؤسَّسة النشر الإسلامي/ نشر القيّوم/ قم.
76 - المزار: الشهيد الأوَّل/ ط 1/ 1410هـ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
77 - المسترشد: الطبري (الشيعي)/ تحقيق: أحمد المحمودي/ ط 1 المحقَّقة/ 1415هـ/ مطبعة سلمان الفارسي/ مؤسَّسة الثقافة الإسلاميَّة.
78 - مسند أبي داود: سليمان بن داود الطيالسي/ دار المعرفة/ بيروت.
79 - مسند أبي يعلى: أبو يعلى الموصلي/ تحقيق: حسين سليم أسد/ دار المأمون للتراث.
80 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.
81 - مشارق أنوار اليقين: الحافظ رجب البرسي/ تحقيق: عليّ عاشور/ ط 1/ 1419هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
82 - مصابيح السُّنَّة: الحسين بن مسعود البغوي/ تحقيق: يوسف عبد الرحمن المرعشلي ومحمّد سليم إبراهيم سمارة وجمال حمدي الذهبي/ دار المعرفة/ ط 1/ 1407هـ/ بيروت.
83 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411هـ/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.
84 - مطالب السؤول: ابن طلحة الشافعي/ تحقيق: ماجد بن أحمد العطيَّة.
85 - المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415هـ/ دار الحرمين.
86 - معجم البلدان: الحموي/ 1399هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
87 - المعجم الكبير: الطبراني/ تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.
88 - مفاتيح الجنان: الشيخ عبّاس القمّي/ ط 3/ 2006م/ مكتبة العزيزي/ قم.
89 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
90 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ 1376هـ/ المكتبة الحيدريَّة/ النجف.
91 - المنتقى من السلطان: عليُّ بن عبد الكريم النيلي/ ط 1/ 1427هـ/ مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ النجف الأشرف.
92 - مهج الدعوات ومنهج العبادات: ابن طاوس/ كتابخانه سنائي.
93 - النجم الثاقب: النوري/ ط 1/ 1415هـ/ أنوار الهدى/ مطبعة مهر/ قم.
94 - نهج البلاغة: الشريف الرضي/ صبحي صالح/ ط 1/ 1387هـ/ بيروت.
95 - الهداية الكبرى: الخصيبي/ ط 4/ 1411هـ/ مؤسَّسة البلاغ/ بيروت.
96 - وفيات الأعيان: ابن خلِّكان/ تحقيق: إحسان عبّاس/ دار الثقافة/ بيروت.
97 - ينابيع المودَّة: القندوزي/ تحقيق: عليّ الحسيني/ ط 1/ 1416هـ/ دار الأُسوة.
* * *