أربع رسالات في الغيبة
الرسالة الرابعة في الغيبة
تأليف: الامام الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان
ابن المعلم ابي عبد الله العكبري البغدادي (336 - 413هـ)
تحقيق: علاء آل جعفر
(لو اجتمع على الامام عدة أهل بدر لوجب عليه الخروج)
بسم الله الرحمن الرحيم
لماذا لم يظهر المهدي؟ ومتى سيظهر؟
سؤال كثيرا ما يسمع من المعتقدين بالإمام صاحب الزمان (عليه السلام) عند ما يمتلئون غيظا من الاعداء، فيحسبون أن الدنيا ملئت ظلما وجورا، وقد عين ذلك وقتا لظهوره (عليه السلام) كي يملاها عدلا ورحمة.
ويبدو أن توقيتا اخر كان معروفا في زمان الشيخ المفيد، حيث قد روي حديث عن الامام الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: انه لو اجتمع على الامام عدة أهل بدر، ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، لوجب عليه الخروج بالسيف.
وقد طرح على الشيخ المفيد سؤال عن هذا الحديث، فأقر الشيخ أنه حديث مروي.
فحاول صاحب السؤال أن يناقش الشيخ حول الغيبة وشؤونها من خلال هذا الحديث، وقد ضمهما مجلس في بيت السائل الذي عبر عنه ب (رئيس من الرؤساء).
قال السائل: إنا نعلم - يقينا - أن الشيعة في هذا الوقت أضعاف عدة أهل
بدر، فكيف تجور للإمام الغيبة مع تلك الرواية؟
أجاب الشيخ: إن الشيعة وإن كانت كثيرة من حيث العدد والكم، لكن العدد المذكور في الرواية ليس المراد بهم العدد والكم فقط، وإنما هم على كيفية خاصة، وتلك الكيفية لم نعلم حصولها بعد بصفتها وشروطها، حيث أنه يجب ان يكونوا على حالة مأمونة من الشجاعة، والصبر على اللقاء، والاخلاص في الجهاد، إيثارا للآخرة على الدنيا، ونقاء السرائر من العيوب، وصحة الا بدان والعقول، وأنهم لا يهنون، ولا يفترون عند اللقاء، ويكون العلم من الله لعموم المصلحة في ظهورهم بالسيف.
ولم نعلم أن كل الشيعة بهذه الصفات وعلى هذه الشروط.
ولو علم الله أن في جملتهم من هذه صفته على العدد المذكور، ولم يكن معذورا عن حمل السيف، لظهر الامام (عليه السلام) لا محالة، ولم يغب بعد اجتماعهم طرفة عين.
لكن من الواضح عدم حصول مثل هذا الاجتماع، فلذلك استمرت الغيبة.
واعترض السائل: ومن أين عرفت لزوم هذه الصفات والشروط مع خلو النص المذكور عن شيء منها؟
أجاب الشيخ: إن مسلمات الامامة تفرض علينا إثبات هذه الصفات الاصحاب الامام (عليه السلام)، فحيث ثبت لنا وجوب الامامة، وصحت عندنا عصمة الائمة بحججها القويمة، فلا بد أن نشرح الحديث المذكور بما يوافق تلك الثوابت، حتى يصح عندنا معناه.
فتلك الاصول وصحة الخبر المذكور تقتضي أن يكون العدد المذكور موصوفا بتلك الصفات.
وقد مثل الشيخ لما ذكر، بما ثبت من جهاد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر ب (٣١٣) رجلا من أصحابه، لكنه يوم الحديبية أعرض عن الحرب، وقعد، مع أن أصحابه يومئذ كانوا أضعاف أهل بدر في العدد.
وبما أنا نعلم عصمة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأنه لا يقوم بأمر الا ما هو الصواب، علمنا أن اصحابه في الحديبية لم يتصفوا بما اتصف به أصحابه يوم بدر وإلا لما وسعه (صلّى الله عليه وآله وسلم) القعود عن جهاد المشركين، ولوجب عليه كما وجب عليه في بدر، ولو وجب عليه لما تركه لما نعلم من عصمته وصوابه.
وحاول السائل: أن يفرق بين النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وبين الامام (عليه السلام)، بأن النبي يوحى إليه، ويعرف وجه المصلحة في الامور من خلال الوحي، ولكن ما طريق الامام إلى معرفة ذلك؟
أجاب الشيخ: إن الامام - عند الشيعة - معهود إليه، واقف على ما يأتي وما يذكر، منصوبة له أمارات تدل على العواقب في التدبيرات والمصالح في الافعال، بعهد من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي يوحى إليه ويطلع على علم السماء.
ولو كان الامام (عليه السلام) كسائر العقلاء معتبرا ذلك بغلبة الظن والحدس، وما يظهر له من الصلاح لكفى وأغنى، وقام مقام التحقيق بلا ارتياب، لاسيما على مذهب المخالفين في جواز الاجتهاد حتى للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم). وإن كنا لا نرى ذلك.
واعترض السائل: لِمَ لم يظهر الامام (عليه السلام) وان كان ظهوره يؤدي إلى قتله، فيكون البرهان له، والحجة في إمامته أوضح، ويزول الشك في وجوده
والارتياب؟
أجاب الشيخ: لم يجب ذلك على الامام (عليه السلام) بعد أن كان الناس هم سبب الغيبة والمسؤولين عن عواقبها، كما أن الله تعالى لا يجب عليه تعجيل النقمة على العصاة والمفسدين، مع أن في ذلك توضيحا لقدرته، وتأكيدا في حجته، وزجرا للناس عن معاصيه.
مع أن العلم بترتب الفساد على ظهوره يمنع من ايجاب ذلك عليه، وهو الدليل على كون اقتراحه عليه خطأ، وإنما يكون صوابا إذا ترتب عليه الصلاح والاصلاح، والامام (عليه السلام) لو علم في ظهوره مصلحة لما بقي في الغيبة طرفة عين، ولا فتر عن المسارعة إلى الظهور.
والدليل على عصمته، مع عدم ظهوره، هو الدليل على معرفته لعدم المصلحة في الظهور في هذا الزمان.
والحاصل ان الالتزام بمسلمات الامامة واصولها الثابتة، يؤدي إلى الالتزام بالواقع حقا لا ريب فيه.
ولابد أن يجعل هذا أساسا لما يدور من بحوث حول الغيبة، والا فالبحث عن الغيبة بدون ذلك لغو غير منتج.
أقول: وقد اتبع هذا النهج من الاستدلال السيد الشريف المرتضى في كتاب (المقنع في الغيبة) تماما.
ثم ان الشيخ المفيد عارض المعتزلة:
حيث أنهم من المتصلبين في التشنيع على الامامية بالقول في الغيبة، ومرور الزمان بغير ظهور الامام؟!
مع أنهم يوافقون على الاصول المسلمة للإمامة: فهم يقولون بوجوب
الامامة، ويقولون بالحاجة إلى الامام في كل زمان، وهم يقطعون على خطأ من يقول بالاستغناء عن الامام!
ومع هذا فهم يعترفون بانهم لم لا إمام لهم بعد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى هذا الزمان! بل، لا يرجون إقاسة إمام لهم في هذا الاوان.
فلو صحّت تلك الاصول التي نقول بها نحن وهم، فنحن أعذر منهم بقولنا بإمامة - ولو في الغيبة - والقول بوجوده ومعرفتنا له، وهذا موافق لأصول الامامة وللخبر المجمع عليه: (من مات...).
ولكن المعتزلة لا عذر لهم في الاعراض عن اصول الامامة التي وافقوا عليها وسلموا بها.
ودافع بعض الحاضرين عنهم: بأنهم معذورون من جهة اخرى، في عدم إقامة الاحكام والحدود، لكن الشيعة - مع ظهور أئمتهم من وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى زمان الغيبة، فما عذرهم في ترك إقامة الاحكام: في تعطيل الحدود؟
فأجاب الشيخ؟ إن عدم وجود امام لهم، ليس عذرا لهؤلاء في تعطيل الحدود وترك الاحكام، لان من مذهبهم أن في كل زمان طائفة من أهل الحل والعقد تكون إقامة الامام إليهم، فبإمكانهم - في كل وقت - نصب الامام، ولا يعذرون في كفهم عن نصبه، وهم موجودون - في زمان الشيخ - معروفون ظاهرون، فإذا تركوا ذلك كانوا عاصين ضالين.
أفهل يعترفون بالعصيان والضلال؟ كلا طبعا.
فإن كانوا معذورين في إقامة الاحكام وتنفيذ الحدود، مع إمكانهم نصب الامام القائم بذلك، فكذلك أئمة الشيعة معذورون من إقامتها وتنفيذها مع
الظهور.
على أن لأئمتنا (عليهم السلام) عذر أو صح في ترك إقامة الحدود والاحكام وأظهر، وهو ما لا يعذر المعتزلة به في ترك نصبهم لإمام (عليه السلام)، وهو: أن الائمة من أهل البيت (عليهم السلام) كانوا دائما مطاردين من قبل السلطان يعيشون الخوف والفزع لاحتمال الظالمين أنهم يرون الخروج بالسيف، وأنهم ممن يعتقد جماعة فيهم الامامة، وأنهم مراجع لإقامة الاحكام وتنفيذ الحدود.
وهذا أمر واضح لا يشك فيه أحد.
لكن المعتزلة وغيرهم من المعتزلة لم يتعرض واحد منهم لسفك دمه ولا للتشريد والتعذيب والمطاردة، ولا خيف ولم يؤخذ على التهمة، ولا على التحقق، مع أن المعتزلة يصارحون بآرائهم في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبهما، ويتظاهرون بأنهم أصحاب الحق في الولاية والحكم والاختيار، وأن منهم أهل الحل والعقد، وينكرون طاعة الخلفاء، وهم مع ذلك امنون من السلطان غير خائفين من سطوته.
فلا عذر لهم في ترك ما يجب عليهم من نصب الامام لإقامة الاحكام وتنفيذ الحدود.
وأما أئمتنا فهم في تلك الاحوال معذورون بلا ريب.
والله الموفق للصواب.
وكتب السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلاته على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
سأل بعض الخالفين فقال: ما السبب الموجب لا ستتار امام الزمان (عليه السلام) وغيبته التي قد طالت مدتها وامتدت بها الايام، ثم قال: فان قلتم: ان سبب ذلك صعوبة الزمان عليه بكثرة اعدائه وخوفه منهم على نفسه، قيل لكم: فقد كان الزمان الاول على ابائه (عليهم السلام) اصعب، واعداؤهم فيما مضى اكثر، وخوفهم على نفسهم اشد واكثر، ولم يستتروا مع ذلك ولا غابوا عن اشياعهم، بل كانوا ظاهرين حتى أتاهم اليقين، وهذا يبطل اعتلالكم في غيبة صاحب الزمان عنكم واستتاره فيما ذكرتموه، وسألتك ادام الله عزك.
الجواب عن ذلك:
الجواب وبالله التوفيق: ان اختلاف حالتي صاحب الزمان وابائه عليه وعليهم السلام فيما يقتضيه استتاره اليوم وظهوره، إذ ذاك يقضي بطلان ما
توهمه الخصم وادعاه من سهولة هذا الزمان على صاحب الامر (عليه السلام) وصعوبته على ابائه (عليهم السلام) فيما سلف، وقلة خوفه اليوم وكثرة خوف ابائه فيما سلف، وذلك انه لم يكن احد من ابائه (عليهم السلام) كلف القيام بالسيف مع ظهوره، ولا الزم بترك التقية، ولا الزم الدعاء إلى نفسه حسبما كلفه امام زماننا، هذا بشرط ظهوره (عليه السلام)، وكان من مضى من أبائه صلوات الله عليهم قد ابيحوا التقية من اعدائهم، والمخالطة لهم، والحضور في مجالسهم واذاعوا تحريم اشهار السيوف على انفسهم، وخطر الدعوة إليها. واشاروا إلى منتظر يكون في اخر الزمان منهم يكشف الله به الغمة، ويحيي ويهدي به الامة، لا تسعه التقية، عند ظهوره ينادي باسمه في السماء الملائكة الكرام، ويدعوا إلى بيعته جبرئيل وميكائيل في الانام، وتظهر قبله امارات القيامة في الارض والسماء، ويحيا عند ظهوره اموات، وتروع آيات قيامه ونهوضه بالأمر الابصار.
فلما ظهر ذلك عن السلف الصالح من ابائه (عليهم السلام)، وتحقق ذلك عند سلطان كل زمان وملك كل اوان، وعلموا انهم لا يتدينون بالقيام بالسيف، ولا يرون الدعاء إلى مثله على احد من اهل الخلاف، وان دينهم الذى يتقربون به إلى الله عز وجل التقية، وكف السيد، وحفظ اللسان، والتوفر على العبادات، والانقطاع إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحات، امنوهم على انفسهم مطمئنين بذلك إلى ما يدبرونه من شأنهم، ويحققونه من دياناتهم، وكفوا بذلك عن الظهور والانتشار، واستغنوا به عن التغيب والاستتار.
ولما كان امام هذا الزمان (عليه السلام) هو المشار إليه بسل السيف من اول الدهر في تقادم الايام المذكورة، والجهاد لأعداء الله عند ظهوره، ورفع التقية عن
اوليائه، والزامه لهم بالجهاد، وانه المهدي الذي يظهر الله به الحق، ويبيد بسيفه الضلال، وكان المعلوم انه لا يقوم بالسيف الا مع وجود الا نصار واجتماع الحفدة والاعوان، ولم يكن انصاره (عليه السلام) عند وجوده متهيئين إلى هذا الوقت موجودين، ولا على نصرته مجمعين، ولا كان في الارض من شيعته طرا من يصلح للجهاد وان كانوا يصلحون لنقل الاثار وحفظ الاحكام والدعاء له بحصول التمكن من ذلك إلى الله عز وجل، لزمته التقية، ووجب فرضها عليه كما فرضت على ابائه (عليهم السلام)، لأنه لو ظهر بغير اعوان لألقى بيده إلى التهلكة، ولو ابدى شخصه للأعداء لم يألوا جهدا في ايقاع الضرر به، واستئصال شيعته، واراقة دمائهم على الاستحلال، فيكون في ذلك اعظم الفساد في الدين والدنيا، ويخرج به (عليه السلام) عن احكام الدين وتدبير الحكماء.
ولما ثبت عصمته، وجب استتاره حتى يعلم يقينا - لاشك فيه - حضور الاعوان له، واجتماع الانصار، وتكون المصلحة العامة في ظهوره بالسيف، ويعلم تمكنه من اقامة الحدود، وتنفيذ الاحكام، وإذا كان الامر على ما بيناه سقط ما ظنه المخالف من مناقضة اصحابنا الامامية فيما يعتقدونه من علة ظهور السلف من ائمة الهدى (عليهم السلام) وغيبة صاحب زماننا هذا عليه التحية والرضوان وافضل الرحمة والسلام والصلاة.
وبان مما ذكرناه فرق ما بين حاله واحوالهم فيما جوز لهم الظهور، واوجب حليه الاستتار.
(فصل)
ثم يقال لهذا الخصم: اليس النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد اقام بمكة ثلاثة عشر سنة يدعو الناس إلى الله تعالى ولا يرى سل السيف ولا الجهاد، ويصبر
على التكذيب له والشتم والضرب وصنوف الاذى، حتى انتهى امره الي ان القوا على ظهره (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو راكع السلى(1) وكانوا يرضخون قدميه بالأحجار، ويلقاه السفيه من اهل مكة فيشتمه في وجهه ويحثو فيه التراب، ويضيق عليه احيانا، ويبلغ اعداؤه في الاذى بضروب النكال، وعذبوا اصحابه انواع العذاب، وفتنوا(2) كثيرا منهم حتى رجعوا عن الاسلام، وكان المسلمون يسألونه الاذن لهم في سل السيف ومباينة الاعداء فيمنعهم عن ذلك، ويكفهم، ويأمرهم بالصبر على الاذى.
وروي: ان عمر بن الخطاب لما اظهر الاسلام سل سيفه بمكة وقال: لا يعبد الله سرا، فزجره رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك. وقال له عبد الرحمن بن عوف الزهري: لو تركنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأخذ كل رجل بيده رجلين إلى جنب رجل منهم فقتله. فنهاه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) عما قال(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السلى: الجلف الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن امه ملفوفا فيه، وقيل: هو في الماشية السلى، وفي الناس المشيمة.
لسان العرب 14: 396.
(2) في نسخة (ق): ونفوا.
(3) تروي كتب التأريخ ان عمر بن الخطاب عندما اعلن عن اسلامه شهر سيفه وقاتل قريشا رغم تأكيد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) له ولأصحابه بضرورة التكتم في اسلامهم وعلم الاصطدام مع قريش، والغريب في الامر ان عمر اعرض عن ذلك الامر صفحا وكانه يريد ان يظهر للناس وللمسلمين بانه اجرأ المسلمين، واعزهم شأنا، والاغرب من ذلك انه امتنع عن مراجعة قريش بعد ذلك عند توجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) نحو مكة عام الحديبية زائرا لا يريد قتالا واراد ان يبعث من يبلغ اشراف قريش ذلك، حيث قال (وكما ذكرته المصادر المتعددة): يا رسول الله انني اخاف قريشا على نفسي... انظر: السيرة النبوية (لابن كثير) 2: 32 و3: 318، السيرة النبوية (لابن هشام) 1: 374، الكامل في التاريخ (لابن الاثير) 2: 86، تفسير القرآن العظيم (لابن كثير) 4: 200، التفسير الكبير (للرازي) 26: 54.
ولم يزل ذلك حاله الي ان طلب من النجاشي - وهو ملك الحبشة - ان يخفر اصحابه من قريش ثم اخرجهم إليه واستتر عليه وآله السلام خائفا على دمه في الشعب ثلاث سنين، ثم هرب من مكة بعد موت عمه ابي طالب مستخفيا بهربه، واقام في الغار ثلاثة ايام ثم هاجر عليه وآله والسلام إلى المدينة ورأى النهي منه للقيام واستنفر اصحابه وهم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر، ولقى بهم الف رجل من اهل بدر، ورفع التقية عن نفسه إذ ذاك.
ثم حضر المدينة متوجها إلى العمرة، فبايع تحت الشجرة بيعة الرضوان على، الموت، ثم بدا له عليه وآله السلام فصالح قريشا ورجع عن العمرة ونحر هديه في مكانه، وبدا له من القتال، وكتب بينه وبين قريش كتابا سألوه فيه محو (بسم الله الرحمن الرحيم) فأجابهم إلى ذلك، ودعوا إلى محو اسمه من النبوة في الكتاب لاطلاعهم إلى ذلك، فاقترحوا عليه ان يرد رجلا مسلما إليهم حتى يرجع إلى الكفر أو يتركوه فأجابهم إلى ذلك هذا وقد ظهر عليهم في الحرب(4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في ذي القعدة من عام ست هجرية معتمرا لا يريد حربا، وقد استنفر العرب ومن حوله من اهل البوادي من الاعراب ليخرجوا معه وساق معه الهدي واحرم بالعمرة ليعلم الجميع انه انما خرج زائرا لهذا البيت. وعندما بلغ عسفان لقيه بسر (أو بشر) بن سفيان الكعبي واخبره بخروج قريش واستعدادهم لمنازلة المسلمين ومنعهم من دخول مكة، فاضطر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى تغيير مسيره نحر الحديبية، فلما رأت قريش تحول مسير المسلمين ركضوا راجعين نحو مكة. وبعد ذلك ارسلوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) رسلهم لترى لأي امر قدم وما هي بغينه، واراد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان يوضح الامر لسادات قريش في مكة فطلب من عمر الذهاب لكنه امتنع من ذلك خوفا من قريش، فارسل بدله عثمان بن ابي عفان إلى ابي سفيان، فاحتبسته قريش عن العودة، وشاع ان قريش قتلته، عندها دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى قتال القوم، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فانزل الله فيها قرآنا.
الا ان قريش بعثت سهيل بن عمرو إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في طلب الصلع فصالحهم.
انظر: تأريخ الطبري 2: 620، السيرة النبوية (لابن كثير) 3: 312، السيرة النبوية (لابن هشام) 3: 321، التفسير العظيم (لابن كثير) 4: 200.
فإذا قال الخصم: بلى ولابد من ذلك ان كان من اهل العلم والمعرفة بالأخبار.
قيل له: فلم لم يقاتل بمكة وما باله صبر على الاذى، ولم منع اصحابه عن الجهاد وقد بذلوا انفسهم في نصرة الاسلام، وما الذي اضطره إلى الاستجارة بالنجاشي واخراج اصحابه من مكة إلى بلاد الحبشة. خوفا على دمائهم من الاعداء، وما الذي دعاه إلى القتال حين خذله اصحابه وتثاقلوا عليه فقاتل بهم مع قلة عددهم، وكيف لم يقاتل بالحديبية مع كثرة انصاره وبيعتهم له على الموت، وما وجه اختلاف افعاله في هذه الاحوال؟ فما كان في ذلك جوابكم فهو جوابنا في ظهور السلف من أباء صاحب الزمان واستتار. وغيبته فلا تجدون من ذلك مهربا.
والحمد لله المستعان، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.