علامات الظهور جدلية صراع أم تحديات مستقبل؟
السيد محمد علي الحلو (رحمه الله)
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
الطبعة الخامسة 1443هـ
الفهرس
مقدَّمة المركز للطبعة الخامسة
مقدَّمة المركز للطبعة الأُولى
مقدَّمة المؤلِّف
حتميَّة الظهور
المهدي المنتظَر في روايات الفريقين
أوَّلاً: ما رواه الإماميَّة في المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)
ثانياً: ما رواه علماء أهل السُّنَّة
التراث المهدوي لدى علماء أهل السُّنَّة
ما ورد عن علماء أهل السُّنَّة من القول بتواتر أخبار المهدي (عجَّل الله فرجه)
جهود علماء أهل السُّنَّة في الأدب الشيعي
حتميَّة الانتظار
أهل البيت (عليهم السلام) وحتميَّة الانتظار
فلسفة الانتظار لدى المدارس الإسلاميَّة الأُخرى
علائم الظهور
الحثُّ على معرفة علامات الظهور
لماذا التأكيد على علامات الظهور؟
لا بدَّ من التفريق
(1) شروط الظهور
علامات الظهور ودعاوى التضليل
المهدويَّة الإسماعيليَّة
دعوى المهدويَّة في المجتمعات السُّنّيَّة
(2) علامات الظهور
(أ) العلامات من حيث القرب والبُعد الزماني لليوم الموعود
أوَّلاً: علامات بعيدة عن وقت الظهور
ثانياً: علامات الظهور القريبة
1 - علامات قريبة ليوم الظهور نسبيًّا
ملاحم المغيَّبات
علامات الظهور وموازنات القوى السياسيَّة
2 - العلامات المقارنة ليوم الظهور نسبيًّا
3 - العلامات التي لا تنفكُّ عن يوم الظهور
الصيحة أو النداء
الصيحة.. المشهد المرعب لماذا؟
النفس الزكيَّة
(ب) العلامات من حيث حتميَّة التحقُّق وعدمه
القسم الأوَّل: علامات محتومة
أ - علامات محتومة لا يُغيِّرها البداء
السفياني.. التاريخيَّة الموروثة
ب - علامات محتومة معلَّقة
ما هو البداء؟
القسم الثاني: العلامات المشترطة
علامات الظهور في الأدب العربي
المصادر والمراجع
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدَّمة المركز للطبعة الخامسة:
لا يخفى على المتتبِّع ما لعلامات ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من أهمّيَّة عقائديَّة، تتمثَّل في كونها تنفع في أمرين مهمَّين:
الأمر الأوَّل: القطع بكذب وزيف مدَّعي المهدويَّة قبل وقوعها، تطبيقاً للتوقيع الشريف الأخير الذي صدر للسفير الرابع: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليُّ بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستَّة أيَّام، فاجمع أمرك، ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ)، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم»(1).
الأمر الثاني: أنَّ وقوعها مؤشِّر مهمٌّ لقرب ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهذا يعني تكذيب من يدَّعي المهدويَّة قبل وقوع العلامات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كمال الدِّين (ص 516/ باب 45/ ح 44).
ولا يعني هذا أنَّها كانت بمنأى عن الخلاف في التطبيق إزاء بعض الحوادث التي وقعت وتقع، وقد رأينا بعض من حاول تطبيق بعض الحوادث على أنَّها من العلامات الحتميَّة، ولكن الزمن كان كفيلاً بتخطئته.
إنَّ هذا يعني لابدّيَّة الرجوع إلى المتخصِّصين في ذلك، إذ هم الأبصر بالروايات الواردة فيها، والأدرى بتطبيقها على ما يقع من حوادث، رغم أنَّ الحتميَّة منها واضحة الدلالة، كما صرَّحت النصوص بذلك.
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ أهمّيَّتها من جهة، ووقوع التطبيق الخاطئ من جهة أُخرى، يدفع المهتمَّ إلى مزيد من البحث والتنقيب حولها، وإلى تركيز القواعد المعرفيَّة التي تنفع في تحديدها، والطريق النافع في ذلك هو الرجوع إلى المتخصِّصين في هذه القضيَّة، والاستنارة بما تسطره أقلامهم، خصوصاً وأنَّهم يغترفون من بحر روايات أهل البيت (عليهم السلام) الواردة في هذا المجال.
وهذا الكتاب الذي بين يديك - عزيزي القارئ - يضيف معرفة ممنهجة ومتقنة لعلامات الظهور، وبيان أقسامها، بنحو من الإجمال غير المخلِّ، والذي لا يخلو من تفصيل نافع.
نسأل الله تعالى أنْ ينفع به مؤلِّفه المرحوم سماحة العلَّامة السيِّد محمّد عليّ الحلو (طاب ثراه)، وأنْ ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلَّا من أتى الله بقلب سليم.
ونسأله تعالى أنْ يُعجِّل في فرج مولانا صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه)، وأنْ يدفع عنه (عجَّل الله فرجه) كلَّ سوء وبلاء، وأنْ يدفع به عنَّا كلَّ سوء وبلاء، وأنْ يجعلنا من خير أنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه، إنَّه سميع مجيب.
مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدَّمة المركز للطبعة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
أمَّا بعد..
فقد أولى الدِّين الإسلامي الحنيف بعض الأفكار والقضايا العقائديَّة اهتماماً خاصًّا وأولويَّة مميَّزة ولعلَّنا لا نبالغ ولا نذيع سرًّا إذا قلنا بأنَّ الثقافة المهدويَّة تُعَدُّ من أوائل تلك القضايا ترتيباً من حيث الأهمّيَّة والعناية التي أولاها المعصومون (عليهم السلام) من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً وقد سبقهم إلى ذلك الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) فكان ينتهز المناسبة تلو الأُخرى ليطبع في ذهن الأُمَّة وتفكيرها مصطلحات ثقافة انتظار القائد المظفَّر الذي سيرسم ملامح القسط والعدل على ربوع الأرض بعد أنْ تغرق في غياهب الظلم والجور محقِّقاً بذلك الحلم السرمدي الذي نامت البشريَّة حالمة به على مرِّ العصور والذي كان هو الأمل الأكبر الذي سعى إليه الأنبياء كافَّة.
وإذا كانت مقاييس الأهمّيَّة والرفعة والخطر الذي تحظى به كلُّ القضايا تتمثَّل بطرفين هما مبدأ ومآل كلِّ قضيَّة، فإنَّ قضيَّتنا المقدَّسة - التي نحن بصدد الحديث عنها - لا تدانيها قضيَّة في الفكر الإسلامي.
فلو تحقَّقنا في مبدأ هذه القضيَّة وأصلها لوجدنا أنَّ النبيَّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) يعادل بينها وبين مجموع رسالة السماء المباركة الخالدة التي حملها إلى البشريَّة فقد ورد عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: «من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني»(2)، ولا نجد أنفسنا بحاجة إلى مزيد من التوضيح لأهمّيَّة فكرة يُعَدُّ إنكارها إنكاراً لخاتم الأنبياء والمرسَلين (صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين).
بل يمكن القول بأنَّ عدم الإيمان بهذه العقيدة يوازي عدم الإيمان بكلِّ رسائل الأنبياء وهو الذي عُبِّر عنه بالضلالة عن الدِّين فقد ورد في الدعاء في زمن الغيبة: «اللَّهُمَّ عرِّفني نفسك فإنَّك إنْ لم تُعرِّفني نفسك لم أعرف نبيَّك اللَّهُمَّ عرِّفني رسولك فإنَّك إنْ لم تُعرِّفني رسولك لم أعرف حجَّتك اللَّهُمَّ عرِّفني حجَّتك فإنَّك إنْ لم تُعرِّفني حجَّتك ضللت عن ديني»(3) ومن واضحات الأُمور نوع العلاقة والارتباط بين عدم معرفة الحجَّة وبين الضلالة عن الدِّين إذ إنَّ هناك ثوابت ورواسخ لا يمكن أنْ تنفكَّ بحال من الأحوال عن قاموس الفكر العقائدي الشيعي بل الإسلامي بكلِّ أطيافه منها أنَّ الذي يموت دون أنْ يعرف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) كمال الدِّين (ص 412/ باب 39/ ح 8).
(3) الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 5).
إمام زمانه أو دون أنْ تكون في عنقه بيعة لإمام زمانه يموت ميتة جاهليَّة كما ورد في الأحاديث الشريفة التي تناقلها المحدِّثون من كافَّة الطوائف الإسلاميَّة وأيُّ تعبير أفصح وأصرح من التعبير بالميتة الجاهليَّة عن بيان الضلالة في الدِّين؟!
هذا بالنسبة إلى الطرف الأوَّل من طرفي مقياس أهمّيَّة القضايا والذي هو مبدأ هذه القضيَّة وأصلها والإيمان بها.
وأمَّا بالنسبة للطرف الثاني لهذه الفكرة المقدَّسة التي حرص النبيُّ والأئمَّة من أهل بيته (عليهم السلام) على غرسها في صميم أفكار الفرد المسلم وهو المآل الذي تؤول إليه أو الثمرة التي تنتجها فإنَّ فيها تحقيق حلم الأنبياء وهدفهم الذي سعوا لأجله على مرِّ العصور والأُمنية التي رافقت العقل البشري منذ اليوم الأوَّل لترعرعه لأنَّ هذا القائد المؤمَّل هو الذي سينزع عن البشريَّة قيود الظلم والعبوديَّة وهو الذي سيخلع عليها حلَّة العدل والإنصاف فإنَّه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أنْ مُلِئَت ظلماً وجوراً.
وليس بعيداً عن توقُّع كلِّ عاقل أنَّ مثل هذه القضيَّة التي تحمل بين طيَّاتها كلَّ هذا المقدار من الأهمّيَّة والخطورة ستتعرَّض - حالها في ذلك حال كلِّ مفاهيم العدالة الربَّانيَّة - إلى وابل من سهام الغدر والعداوة حيث إنَّها تُمثِّل الخطّ العقائدي الإسلامي الأصيل الذي رسم ملامحه الناصعة نبيُّ الرحمة (صلّى الله عليه وآله وسلم) وواكبه على ذلك الأئمَّة المعصومون (عليهم السلام). فلقد أبت القوانين الدنيويَّة إلَّا أنْ تضع بإزاء كلِّ حقٍّ باطلاً ينازعه
ويناوئه فتكالب أعداء الحقيقة من كلِّ حدب وصوب ليُوجِّهوا نبال التشويه والتشكيك وكلَّ أنواع المحاربة لهذه العقيدة التي هي من مسلَّمات العقل الإسلامي الذي تعامل مع هذه الفكرة منذ أعماق تأريخه على أنَّها أمر لا يمكن الغفلة عنه أو التنكُّر له.
وهذا واحد من أهمّ الأسباب التي حفَّزت فينا الشعور بعظم المسؤوليَّة الملقاة على عاتقنا في الحفاظ والدفاع عن هذه العقيدة المباركة التي حظيت بهذا المقدار العظيم من الرعاية الإلهيَّة. هذا الأمر هو الذي دفعنا للنهوض لتحمُّل جزء من أعباء هذه المسؤوليَّة وإنجاز هذا التكليف الذي لا مناص من تحمُّله وإيصال ما يمكن إيصاله إلى المؤمنين المهتمِّين بشؤون دينهم وعقائدهم وذلك بعون الباري (عزَّ وجلَّ) ورعاية من المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيِّد عليٍّ الحسيني السيستاني (دام ظلُّه الوارف) فكان تأسيس مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وقد عني هذا المركز بالاهتمام بكلِّ ما يرتبط بالإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) ومن هذه الاهتمامات:
1 - طباعة ونشر الكُتُب المختصَّة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بعد تحقيقها.
2 - نشر المحاضرات المختصَّة به (عجَّل الله فرجه) من خلال تسجليها وطبعها وتوزيعها.
3 - إقامة الندوات العلميَّة التخصُّصيَّة في الإمام (عجَّل الله فرجه) ونشرها من خلال التسجيل الصوتي والصوري وطبعها وتوزيعها في كُتيِّبات أو من خلال وسائل الإعلام وشبكة الانترنيت.
4 - إصدار مجلَّة شهريَّة تخصُّصية باسم (الانتظار).
5 - العمل في المجال الإعلامي بكلِّ ما نتمكَّن عليه من وسائل مرئيَّة ومسموعة بما فيها شبكة الانترنيت العالميَّة من خلال الصفحة الخاصَّة بالمركز.
6 - نشر كلِّ ما من شأنه توثيق الارتباط بين الأطفال وإمامهم المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
وقد سعى مركزنا بكافَّة ما يملك من طاقات لأنْ يعمل على أداء ما يقع على عاتقه من مهامٍّ ضمن هذه المحاور من العمل.
فكان من بين ما وفَّقنا الله لإنتاجه سلسلة من الكُتُب المتخصِّصة في ما يتعلَّق بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أسميناها: (سلسلة اعرف إمامك) نُقدِّم بين يديك - عزيزي القارئ - هذا الكتاب كحلقة من هذه السلسة التي نسأل الباري (عزَّ وجلَّ) أنْ يُوفِّقنا للتواصل في العمل بها لتوفير كلِّ ما يمكن أنْ يخدم إخواننا المؤمنين وإعطائهم ما يحتاجون في رفد أفكارهم العقائديَّة المرتبطة بالإمام الغائب (عجَّل الله فرجه).
وإذ يتقدَّم المركز بالشكر الجزيل للمجهود العلمي القيِّم الذي بذله سماحة المؤلِّف السيِّد محمّد عليّ الحلو (دام عزُّه) فإنَّ من دواعي سروره واعتزازه أنْ يُقدِّم للقُرَّاء وللمكتبة العقائديَّة الإسلاميَّة الكتاب الثالث في (سلسلة اعرف إمامك) والذي سبقه كتابان هما (القائد المنتظَر) و(الغيبة والانتظار).
سائلين المولى تعالى أنْ يُوفِّقنا لنيل رضاه ورضا أهل بيته الكرام الميامين.
والحمد لله ربِّ العالمين
مدير المركز
السيِّد محمّد القبانچي
(1426هـ)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدَّمة المؤلِّف:
لم تكن الدعوةُ للكتابةِ في علامات الظهور مسألةَ بحثٍ تقليدي يُظهِر الباحث فيها مقدرته على ممارسة الوعي لتفهُّم واقع علمي، أو توجُّه ثقافي، أو متعة أدبيَّة يستطرد بها الباحث مباراته الفنّيَّة، أو أحاسيسه الوجدانيَّة، أو رغباته الذوقيَّة، بقدر ما هي حالةُ استقصاء مستقبلٍ تُحدِّده جدليَّةُ صراع، أو تقليديَّة تاريخ، أو تركةُ ماضٍ أثقل كاهل إنسانٍ عاش زمناً دائم التوتُّر ليزحف عليه بكلِّ تداعياته فيُأجِّج في وجدانه نزعة التمرُّد على مخلَّفات هذا الماضي العتيد بذكرياته التي أحالته إلى آلةٍ تدخل في معادلات المصالح، أو عيِّنة اختبارٍ ترسمُ معالم توجُّهٍ معيَّن.
ويبقى الماضي شاخصاً في ذاكرة الفرد المسلم كما هو شاخصٌ في ذاكرة الأحداث التي تتدخَّلُ في صنع قرارٍ أو تعملُ على رؤيةٍ معيَّنةٍ أو تعين على توجُّه يُحدِّدُ مساراً ما، وهكذا، فبين ماضٍ ثقيل بتركته وبين حاضرٍ مهزوم بتداعياته تلوحُ آفاقُ مستقبلٍ يساهمُ في شخصيَّة الفرد بكلِّ آماله ومناه ليُحقِّقَ ما تصبو إليه نفسه من العدل والسلام.
إذن كيف يصنعُ إنسانُ الحاضر نفسه من مستقبلٍ منظور؟ وكيف ينفضُ تركة الماضي عن ذاته التي علتها غبار الأحداث الطائشة؟ وكيف تتكامل شخصيَّته وهو في مخاض الانتظار القريب للحدث القادم؟
هذا ما تنطوي عليه علامات الظهور التي ستقرأ فيها الأحداث القادمة من خلال ماضٍ سحيق يرتسمُ فيه المستقبل، فهي ليست تكُّهناتِ احتمالٍ، أو نبوءاتِ تفاؤلٍ، أو توقُّعات إنذارٍ بقدر ما هي علاقة ماضٍ بمستقبلٍ مقروء من خلال تلك العلامات الواردة في أحاديث الأئمَّة (عليهم السلام) لتُقدِّم لنا معادلات تلك الجدليَّة من الصراعات السالفة لترتبط بتحدّيات مستقبلٍ منظور.
ذكرى ولادة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
(1425هـ)
محمّد عليّ السيِّد يحيى الحلو
حتميَّة الظهور:
لا تعني حتميَّة الظهور أُمنيةً مجرَّدةً تُنتزَعُ من دواعي الحاجة الملحَّة للتغيير المجرَّد، بل هي (خلاصة) الغرض الإلهي الذي من شأنه أنْ يخلق الخلق (ليعبدوه)، (ليُوحِّدوه)، (ليعرفوه)، (ليطيعوه)(4)، والعبادة هذه والوحدانيَّة والمعرفة والطاعة لا يمكن الوصول إليها ما لم يكن هناك تبليغٌ عن الله تعالى لأُولئك الخلق الذين هم عباده ومطيعوه، ولا يتسنَّى ذلك إلَّا عن طريق من اصطفاهم من عباده ليكونوا الوسائط بينه وبين خلقه.
فبعث اللهُ النبيِّين، وأنزل كُتُبَه منذرةً ومبشِّرةً، وهاديةً وداعيةً، ولم تنطلق دعوة الهداية دونما هناك قيِّمٌ عليها، متبصِّرٌ بشؤونها، مسدِّدٌ من قِبَل الله تعالى في بيانها، وكلُّ ذلك من لدن رُسُل الله وأوصيائهم حتَّى يختمه الله بنبيِّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ليتوارثه أوصياؤه واحداً بعد واحد مبلِّغين، منذرين، داعين إلى الله وحده، وتركِ كلِّ وليجةٍ دونه..، ولم يئل الأمر إلى ذلك حتَّى يتزايد الصراع بين الحقِّ والباطل، ويسود الظلم ويعمُّ الجور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) راجع: علل الشرائع (ج 1/ ص 9 - 14/ باب 9/ ح 1 - 13).
ولم تزل فوضى الامتهان والهدر لكرامة الإنسان تتصاعد وتائرها بشكل تتفاقم معها الأزمات، وتتضاءل احتماليَّة الحلول، وتُستبعَد إمكانيَّة الإنقاذ من تلك المحن المحدقة بالوجود الإنساني فضلاً عن كرامته.
ومع هذه الانهيارات المهدِّدة لمستقبل الإنسان في ظلِّ الأُطروحات المبثوثة في عالم الصراع السياسي، أو التنظير الحزبي، أو التصنيف الفئوي.. تتزايد الحاجة الملحَّة لانتشالِ العالم من ورطته، وتصبو النفوس المتطلِّعة لإنقاذ الإنسان من محنته، وتتوجَّه (عفويَّة) الفطرة إلى الأمل المنشود بعد أنْ حطَّت رحالها جميع تلك الأُطروحات (المدَّعية) للإصلاح، وسئمت الشعوب المقهورة من محاولات الإصلاح (الماكرة) والشعارات الخادعة التي تَعِدْ الشعوب بإنقاذها ممَّا هي عليه من البؤس والشقاء.. مع هذه الانهيارات الفكريَّة، والانحرافات الأخلاقيَّة، والانتهاكات الإنسانيَّة التي يشهدها عالمٌ (طائشٌ) بأُطروحاته التنظيريَّة، وإصلاحاته الوضعيَّة، تشخصُ الأبصار إلى السماء متطلِّعة إلى حلٍّ ينشرُ معه السلام في ربوع هذه الأرض المقهورة..، أجل تتعلَّقُ هذه النفوس المنكسرةِ بكلِّ شوقٍ إلى من ينقذها..، إلى منْ يصرخُ في وجوه الظلم ليزلزل عروش الطغيان..، إنَّه المنقذ الموعود الذي تتطلَّعُ إليه كلُّ الآهات وزفرات المعذَّبين تحت وطأة أنظمة الجور والعدوان.
إذن لا بدَّ من إنقاذ هذا العالم الممتحن، وانتشال المحرومين والمستضعفين..، وإذا كان الأمر كذلك فسينعم العالم بالسلام، وينتشر العدل بعد معاناة من الصراعات الدامية التي شهدتها الإنسانيَّة على طول تاريخها المضرَّج بالدماء، وستنتهي الفوضى ومعها أعاصير الفتن وتيَّارات المحن الهائجة التي تعصفُ بكلِّ ما هو جميل، وتقتلعُ كلَّ خير..، ومن ثَمَّ تتوطَّدُ قِيَم المحبَّةِ والعدلِ والوئامِ، وينشد الجميع هدفاً واحداً، وهو العدل والسلام، ومن ثَمَّ يتطلَّعُ العالم إلى نظام واحد يكفل طموحاته المشرقة بالأمن والرخاء، أي سيصبو المجتمع الإنساني إلى اتِّجاهٍ واحدٍ ونظرةٍ كونيَّةٍ موحَّدة يضمنها دين واحد، أي الطاعة لنظام واحد، وهو العبوديَّة الخالصة لله تعالى، وسيكون الدِّين لله وحده..، وبهذا سيتحقَّق الهدف الإلهي لهذا الكون، والحكمة من هذا الخلق..، ولا يتمُّ ذلك إلَّا من خلالِ قيادةٍ عالميَّةٍ موحَّدة ضمن نظام إصلاحيٍ عالميٍ موحَّد، وهو ما يعتقده المسلمون بظهور هذا المصلح، وهو المهدي من آل محمّد، الذي يملأها قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئَت ظلماً وجوراً..، أي نهاية كافَّة مظاهر الصراع الدولي، أو الإقليمي، أو القبائلي، أو الفردي، بعد ما تسود أُطروحة الإصلاح التي سيُقدِّمها ذلك المصلح المنتظَر.
* * *
المهدي المنتظَر في روايات الفريقين:
أجل، فإنَّ قضيَّة المهدي حقيقةٌ إسلاميَّة، بل هي ضرورة عقليَّة، وذلك لما ذكرنا من أنَّ الأصل في الفطرة الإنسانيَّة هو العدل والسلام، ورفض الظلم والعدوان، والإنسانيَّة مهما تغايرت وجهات النظر في رؤيتها العامَّة، فإنَّها تسعى إلى رفع الظلم والحيف عن جميع مظاهر الحياة والتعامل مع الجميع بسلام وضمان العيش ضمن حقوقها المدنيَّة العامَّة.
والرؤية الإسلاميَّة تنطلقُ من هذا الواقع - وهو السعي إلى ضمان العدل والسلام ضمن الإطار الإنساني -، وبالتالي فإنَّ الإسلام يدعو إلى رفع الحيف والظلم الذي يطال بني الإنسان نتيجةً لخروقات الأُطروحات الوضعيَّة، فهو يُقدِّم البديل الإنساني الإصلاحي الذي تسعى البشريَّة لتحقيقه، وذلك من خلال الدعوة المهدويَّة التي بشَّرت بها أحاديث النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وقد وردت عن طُرُق الفريقين:
أوَّلاً: ما رواه الإماميَّة في المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه):
1 - روى الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «لُعِنَ المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيًّا،
ومَنْ جادل في آيات الله فقد كفر، قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ [غافر: 4]، ومَنْ فسَّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب، ومَنْ أفتى الناس بغير علم فلعنته ملائكة السماوات والأرض، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة سبيلها إلى النار».
قال عبد الرحمن بن سمرة: يا رسول الله، أرشدني إلى النجاة.
فقال: «يا ابن سمرة، إذا اختلفت الأهواء، وتفرَّقت الآراء، فعليك بعليِّ بن أبي طالب، فإنَّه إمام أُمَّتي، وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يُميَّز به بين الحقِّ والباطل، مَنْ سأله أجابه، ومَنْ استرشده أرشده، ومَنْ طلب الحقَّ عنده وجده، ومَنْ التمس الهدى لديه صادفه، ومَنْ لجأ إليه أمَّنه، ومَنْ استمسك به نجَّاه، ومَنْ اقتدى به هداه. يا ابن سمرة، سلم منكم من سلَّم له ووالاه، وهلك من ردَّ عليه وعاداه. يا ابن سمرة، إنَّ عليًّا منِّي، روحه من روحي، وطينته من طينتي، وهو أخي وأنا أخوه، وهو زوج فاطمة سيِّدة نساء العالمين من الأوَّلين والآخرين، وإنَّ منه إمامَي أُمَّتي وسيِّدَي شباب أهل الجنَّة الحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين، تاسعهم قائم أُمَّتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً»(5).
2 - وروى الصدوق (رحمه الله) بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) كمال الدِّين (ص 256 و257/ باب 24/ ح 1).
قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلْقاً وخُلُقاً، تكون به غيبة وحيرة تضلُّ فيها الأُمَم، ثمّ يقبل كالشهاب الثاقب، يملأها عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً»(6).
3 - وعن محمّد ابن الحنفيَّة، عن أبيه أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «المهدي منَّا أهل البيت، يُصلِح الله له أمره في ليلة»(7).
4 - وعن عليٍّ (عليه السلام) أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: «لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جوراً»(8).
5 - وفي (البحار): عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «لا تقوم الساعة حتَّى يقوم قائم للحقِّ منَّا، وذلك حين يأذن الله (عزَّ وجلَّ) له، ومن تبعه نجا ومن تخلَّف عنه هلك، الله الله عباد الله فأتوه ولو على الثلج، فإنَّه خليفة الله (عزَّ وجلَّ) وخليفتي»(9).
6 - وفي (البحار): عن الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) كمال الدِّين (ص 286/ باب 25/ ح 1).
(7) كمال الدِّين (ص 152/ باب 6/ ح 15).
(8) العمدة لابن بطريق (ص 433/ ح 908).
(9) بحار الأنوار (ج 51/ ص 65/ ح 2)، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 65/ ح 230).
عليٍّ (عليه السلام)، قال: قال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): «لا تذهب الدنيا حتَّى يقوم بأمر أُمَّتي رجل من ولد الحسين يملأها عدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً»(10).
7 - وبسند المجلسي (رحمه الله) عن الصادق (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني»(11).
8 - وعن الصادق (عليه السلام) مسنداً عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «من أنكر القائم من ولدي في زمان غيبته مات ميتةً جاهليَّة»(12).
9 - وعن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «المهدي يخرج في آخر الزمان»(13).
10 - وعن أُمِّ سَلَمة، قالت: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»(14).
11 - وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «لا تذهب الدنيا حتَّى يلي أُمَّتي رجلٌ من أهل بيتي يقال له: المهدي»(15).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) بحار الأنوار (ج 51/ ص 66/ ح 5)، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 71/ ح 293)، وليس فيه: (بأمر أُمَّتي).
(11) بحار الأنوار (ج 51/ ص 73/ ح 20)، عن كمال الدِّين (ص 412/ باب 39/ ح 8).
(12) بحار الأنوار (ج 51/ ص 73/ ح 21)، عن كمال الدِّين (ص 412 و413/ باب 39/ ح 12).
(13) الغيبة للطوسي (ص 178/ ح 135).
(14) الغيبة للطوسي (ص 186/ ح 145).
(15) الغيبة للطوسي (ص 182/ ح 141).
هذا بعض ما رواه الشيعة الإماميَّة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في بشاراته المهدويَّة، فضلاً عمَّا رواه أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) من بشائر تُؤكِّد قضيَّة الظهور المهدوي في خضمِّ ظروفٍ عصيبةٍ تمرُّ بها الإنسانيَّة جمعاء، فضلاً عمَّا يمرُّ به المؤمنون من قِبَل طواغيت عصورهم.
ثانياً: ما رواه علماء أهل السُّنَّة:
ولم تقتصر النظريَّة المهدويَّة على الإماميَّة وحدهم، بل هي تراثٌ إسلاميٌ أكَّدته جميع الطوائف الإسلاميَّة حسبما جاء في رواياتها الصحيحة، بل المتواترة، في مسألة المهدي، ووجوب التصديق به، ومن هذه الروايات:
1 - ما رواه أبو داود في سُنَنه بسنده عن عليٍّ (عليه السلام)، عن النبيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم)، قال: «لو لم يبقَ من الدهر إلَّا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما مُلِئَت جوراً»(16).
2 - وبسنده عن أُمِّ سَلَمة، قالت: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»(17).
3 - وروى ابن ماجة في سُنَنه بسنده عن إبراهيم بن علقمة، عن عبد الله، قال: بينما نحن عند رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلمَّا رآهم النبيُّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) اغرورقت عيناه وتغيَّر لونه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) سُنَن أبي داود (ج 2/ ص 310/ ح 4283).
(17) سُنَن أبي داود (ج 2/ ص 310/ ح 4284).
قال: فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه.
فقال: «إنَّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنَّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاءً وتشريداً وتطريداً، حتَّى يأتي قوم من قِبَل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فيُنصَرون فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتَّى يدفعوها إلى رجلٍ من أهل بيتي، فيملؤها قسطاً كما ملؤوها جوراً، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج»(18).
4 - وبسنده عن عليٍّ (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم): «المهدي منَّا أهل البيت يُصلِحه الله في ليلة»(19).
5 - وبسنده عن سعيد بن المسيَّب، قال: كنَّا عند أُمِّ سَلَمة، فتذاكرنا المهدي، فقالت: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: «المهدي من ولد فاطمة»(20).
6 - وبسنده عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: «نحن ولد عبد المطَّلب سادة أهل الجنَّة: أنا، وحمزة، وعليٌّ، وجعفر، والحسن، والحسين، والمهدي»(21).
7 - وروى الترمذي في صحيحه عن النبيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) مسنداً، قال: «لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18) سُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 1366/ ح 4082).
(19) سُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 1367/ ح 4085).
(20) سُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 1368/ ح 4086).
(21) سُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 1368/ ح 4087).
تذهب الدنيا حتَّى يملك العربَ رجلٌ من أهل بيتي يواطئُ اسمه اسمي»(22).
8 - وفي سندٍ آخر نفس اللفظ إلَّا أنَّ في آخره: عن أبي هريرة، قال: (لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوماً لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يلي...)(23).
9 - وروى المقدسي الشافعي عن أُمِّ سَلَمة (رضي الله عنها)، قالت: سمعتُ رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»(24).
10 - وبسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم): «لا تقوم الساعةُ حتَّى تُملَأ الأرض ظلماً وعدواناً، ثمّ يخرج من عترتي - أو من أهل بيتي - من يملأها قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً»(25).
11 - وروى ابن الصبَّاع المالكي في (الفصول المهمَّة) عن النبيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم)، قال: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة (عليها السلام)»(26).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(22) سُنَن الترمذي (ج 3/ ص 343/ ح 2331).
(23) سُنَن الترمذي (ج 3/ ص 343/ ح 2332).
(24) عقد الدُّرَر (ص 16).
(25) عقد الدُّرَر (ص 15).
(26) الفصول المهمَّة (ج 2/ ص 1109).
التراث المهدوي لدى علماء أهل السُّنَّة:
ولم تقتصر - كما قلنا - الثقافة المهدويَّة على الشيعة وحدهم، بل شارك أهل السُّنَّة في رفد التراث المهدوي بما يُؤكِّد بداهة هذا الأمر وضرورته في تشكيل العقليَّة الإسلاميَّة المتكاملة، من هنا أدرك علماء أهل السُّنَّة ضرورة رفد المكتبة الإسلاميَّة بما وصلهم متواتراً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وعلامات ظهوره حتَّى شارك الكثير منهم في تمتين هذه الثقافة وتنظيرها، منهم:
1 - أبو بكر ابن أبي خيثمة زهير بن حرب، قال ابن خلدون في مقدَّمة تاريخه: (ولقد توغَّل أبو بكر ابن أبي خيثمة - على ما نقل السهيلي عنه - في جمعه للأحاديث الواردة في المهدي)(27).
2 - ومنهم: الحافظ أبو نعيم، ذكره السيوطي في (الجامع الصغير)، وذكره في (العرف الوردي)، بل قد لخَّص السيوطي الأحاديث التي جمعها أبو نعيم في المهدي وجعلها ضمن كتابه (العرف الوردي)، وزاد عليها فيه أحاديث وآثاراً كثيرةً جدًّا.
3 - ومن الذين أفردوا أحاديث المهدي بالتآليف السيوطي، فقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(27) تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 312).
جمع فيه جزءاً سمَّاه (العرف الوردي في أخبار المهدي)، وهو مطبوع ضمن كتابه (الحاوي للفتاوي) في الجزء الثاني منه.
قال في أوَّله: (الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، هذا جزء جمعتُ فيه الأحاديث والآثار الواردة في المهدي، لخَّصتُ فيه الأربعين التي جمعها الحافظ أبو نعيم، وزدتُ على ما فاته، ورمزت عليه صورة: ك)(28).
والأحاديث التي أوردها السيوطي في شأن المهدي تزيد على المائتين، تلك الأحاديث فيها الصحيح والحسن والضعيف والموضوع، وإذا أورد الحديث الواحد أضافه إلى كلٍّ من الذين خرَّجوه، فيقول - مثلاً - في الحديث الواحد: أخرج أبو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم: عن أُمِّ سَلَمة، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول: «المهدي من عترتي من ولد فاطمة»(29).
4 - ومنهم: الحافظ عماد الدِّين ابن كثير، قال في كتابه (الفتن والملاحم): (وقد أفردت في ذكر المهدي جزءاً على حِدَة، ولله الحمد والمنَّة)(30).
5 - ومنهم: الفقيه ابن حجر المكِّي، وقد سمَّى مؤلَّفه: (القول المختصر في علامات المهدي المنتظر)، ذكر ذلك البرزنجي في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) الحاوي للفتاوي (ج 2/ ص 55).
(29) المصدر السابق.
(30) النهاية في الفتن والملاحم (ج 1/ ص 55).
(الإشاعة)، ونقل منه، وكذلك السفاريني في (لوامع الأنوار البهيَّة)، وغيرهما.
6 - ومنهم: عليٌّ المتَّقي الهندي صاحب (كنز العمَّال)، فقد ألَّف في شأن المهدي رسالة ذكرها البرزنجي في (الإشاعة)، وذكر ذلك قبله أيضاً ملَّا عليٌّ القاري الحنفي في (المرقاة في شرح المشكاة)، وذكره شارح (رموز الحديث).
7 - ومن الذين ألَّفوا في شأن المهدي ملَّا عليٌّ القاري، وسمَّى مؤلَّفه: (المشرب الوردي في مذهب المهدي)، ذكره في (الإشاعة)، ونقل جملة كبيرة منه.
8 - ومنهم: مرعي بن يوسف الحنبلي، المتوفَّى سنة ثلاث وثلاثين بعد الألف، وسمَّى مؤلَّفه: (فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظَر)، ذكره السفاريني في (لوامع الأنوار البهيَّة)، وذكره صدِّيق حسن في (الإذاعة)، وغيرهما.
9 - ومن الذين ألَّفوا في شأن المهدي - بالإضافة إلى مسألتي نزول عيسى (عليه السلام)، وخروج المسيح الدجَّال - القاضي محمّد بن عليٍّ الشوكاني، وسمَّى مؤلَّفه: (التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظَر والدجَّال والمسيح)، ذكر ذلك صدِّيق حسن في (الإذاعة)، ونقل جملة منه، والشوكاني ممَّن ألَّف بشأنه، وحكى تواتر الأحاديث الواردة فيه.
10 - ومنهم: الأمير محمّد بن إسماعيل الصنعاني صاحب (سُبُل السلام)، المتوفَّى سنة (1182هـ)، قال صدِّيق حسن في (الإذاعة):
(وقد جمع السيِّد العلَّامة بدر الملَّة المنير محمّد بن إسماعيل الأمير اليماني، الأحاديث القاضية بخروج المهدي، وأنَّه من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّه يظهر في آخر الزمان)، ثمّ قال: (ولم يأتِ تعيين زمنه إلَّا أنَّه يخرج قبل خروج الدجَّال) انتهى(31).
11 - ومنهم: الحافظ نعيم بن حمَّاد بن معاوية بن الحارث الخزاعي المروزي المتوفَّى (229هـ)، جمع في كتابه المسمَّى: (الفتن) الأخبار الدالَّة على ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه)، وذكر علامات ظهوره وما يكون قبلها من فتن وملاحم، والكتاب حقَّقه: أيمن محمّد محمّد عرفة.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31) هذه البيليوغرافيا المختصرة نقلناها عن مقال عقيدة أهل السُّنَّة والأثر في المهدي المنتظر للشيخ عبد المحسن العبَّاد، المدرِّس في جامعة المدينة المنوَّرة في مجلَّة الجامعة الإسلاميَّة/ العدد الثالث/ السنة الأُولى/ شباط (1969م).
ما ورد عن علماء أهل السُّنَّة من القول بتواتر أخبار المهدي (عجَّل الله فرجه):
ولم تكن القضيَّة المهدويَّة طرحاً روائيًّا، أو تنظيراً تاريخيًّا بقدر ما هي قضيَّة تواتر يكاد يُجمِع عليها علماء الفريقين، وربَّما تعرَّضنا إلى ما تواتر لدى الشيعة من (الضرورة) المهدويَّة في بعض بحوثنا، ولم يتسنَّ لنا ما اتَّفق لدى أهل السُّنَّة من تواتر مسألة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لنذكرها في محلِّها من دراسات لنا سابقة، لكن بعد مراجعتنا لمطوَّلاتهم الحديثيَّة وجدنا أنَّ قضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ممَّا لا شبهة فيها حتَّى باتت كالضرورة التي لا مجال للتوقُّف فيها أو التردُّد في البتِّ بحقيقتها، ويكاد المخالف لهذه الضرورة أشبه بالخارج على إجماعهم والمتوقِّف عن ضروراتهم.
ولغرض كشف النقاب عن تواتر القول في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لدى علماء أهل السُّنَّة ينبغي الإشارة إلى من تسنَّى لنا الوقوف على تواتره(32)، والقطع بما أوردوه من مسألة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(32) الخبر المتواتر هو خبر جماعةٍ بلغوا في الكثرة إلى حدٍّ أحالت العادة اتِّفاقهم وتواطئهم على الكذب، ويحصل بإخبارهم العلم. راجع في تفصيل البحث: كتاب ملخَّص مقياس الهداية للشيخ المامقاني (ص 14).
1 - الحافظ أبو الحسن محمّد بن الحسين الآبري السجزِّي صاحب كتاب (مناقب الشافعي) المتوفَّى (363هـ)، قال في محمّد بن خالد الجندي راوي حديث: «لا مهدي إلَّا عيسى بن مريم»: (محمّد بن خالد هذا غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل، وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بذكر المهدي، وأنَّه من أهل بيته، وأنَّه يملك سبع سنين، وأنَّه يملأ الأرض عدلاً، وأنَّ عيسى (عليه السلام) يخرج فيساعده على قتل الدجَّال، وأنَّه يؤمُّ هذه الأُمَّة، ويُصلِّي عيسى خلفه. نقل ذلك عن ابن القيِّم في كتابه (المنار المنيف) وسكت عليه، ونقل عنه أيضاً الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة محمّد بن خالد الجندي وسكت عليه، ونقل عنه ذلك وسكت عليه أيضاً في (فتح الباري) في باب نزول عيسى بن مريم (عليه السلام)، ونقل عنه أيضاً السيوطي في آخر جزء (العرف الوردي في أخبار المهدي) وسكت عليه، ونقل عنه مرعي بن يوسف في كتابه (فوائد الفكر في ظهور المهدي المنتظر)، كما ذكر ذلك صدِّيق حسن في كتابه (الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة))(33).
2 - محمّد بن عبد الرسول البرزنجي الشافعي المتوفَّى (1103هـ)، قال: (في الأشراط العظام والأمارات القريبة التي تعقبها الساعة، وهي أيضاً كثيرة... فمنها المهدي وهو أوَّلها، واعلم أنَّ الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها لا تكاد تنحصر، فقد قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) المصدر السابق.
محمّد بن الحسين الآبري في كتاب (مناقب الشافعي): قد تواترت الأخبار عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بذكر المهدي وأنَّه من أهل بيته (صلّى الله عليه وآله وسلم)، انتهى)(34).
3 - محمّد بن أحمد السفاريني الحنبلي في كتابه (لوامع الأنوار البهيَّة وسواطع الأسرار الأثريَّة)، قال: (قد كثرت الأقوال في المهدي حتَّى قيل: لا مهدي إلَّا عيسى، والصواب الذي عليه أهل الحقِّ أنَّ المهدي غير عيسى، وأنَّه يخرج قبل نزول عيسى (عليه السلام)، وقد كثرت بخروجه الروايات حتَّى بلغت حدَّ التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء السُّنَّة حتَّى عُدَّ من معتقداتهم، وقد روى الإمام الحافظ ابن الإسكاف بسندٍ مرضيٍّ إلى جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم): «من كذَّب بالدجَّال فقد كفر، ومن كذَّب بالمهدي فقد كفر»، وفي حديث حذيفة (رضي الله عنه)، عن النبيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم): «يا حذيفة، لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يملك رجلٌ من أهل بيتي تجري الملاحم على يديه، ويظهر الإسلام، ولا يُخلِف الله وعده، وهو سريع الحساب...»).
إلى أنْ قال: (وغير ما ذكر منهم (رضي الله عنهم) - أي الصحابة الذين رووا أخبار المهدي (عجَّل الله فرجه) - برواياتٍ متعدِّدة، وعن التابعين من بعدهم ما يفيد مجموعه العلم القطعي، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(34) الإشاعة لأشراط الساعة (ص 224/ الطبعة المصريَّة).
مقرَّر عند أهل العلم ومدوَّن في عقائد أهل السُّنَّة والجماعة، وكذا عند أهل الشيعة أيضاً...)(35).
4 - العلَّامة الشيخ مرعي في كتابه (فوائد الفكر)، نقل عن أبي الحسن محمّد بن الحسين أنَّه قال: (قد تواترت الأحاديث واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) بمجيء المهدي، وأنَّه من أهل بيته (صلّى الله عليه [وآله] وسلم)، وأنَّه يملك سبع سنين، وأنَّه يملأ الأرض عدلاً...)(36).
5 - القاضي محمّد بن عليٍّ الشوكاني المتوفَّى (1250هـ) في كتابه (التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظَر والدجَّال والمسيح)، قال: (والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً، فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شكٍّ ولا شبهة، بل يصدق وصف المتواتر على ما هو دونها في جميع الاصطلاحات المحرَّرة في الأُصول. وأمَّا الآثار عن الصحابة المصرِّحة بالمهدي فهي كثيرة جدًّا لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك).
وقال في مسألة نزول المسيح (عليه السلام): (فتقرَّر أنَّ الأحاديث الواردة في الدجَّال متواترة، والأحاديث الواردة في نزول عيسى (عليه السلام) متواترة)(37).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(35) لوامع الأنوار البهيَّة وسواطع الأسرار الأثريَّة (ج 2/ ص 84).
(36) راجع: لوامع الأنوار البهيَّة (ج 2/ ص 86).
(37) مجلَّة الجامعة الإسلاميَّة عن مقالة عقيدة أهل السُّنَّة والأثر في المهدي المنتظر (ص 599).
6 - محمّد صدِّيق القنوجي البخاري في كتابه (الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة)، قال: (والحديث يشدُّ بعضه بعضاً، ويتقوَّى أمره بالشواهد والمتابعات، وأحاديث المهدي بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، وأمره مشهور بين العامَّة من أهل الإسلام على مرِّ الأعصار، وأنَّه لا بدَّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت النبوي يُؤيِّد الدِّين ويُظهِر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلاميَّة ويُسمَّى بالمهدي...، وأحاديث الدجَّال وعيسى أيضاً بلغت حدَّ التواتر والتوالي، ولا مساغ لإنكارها...)(38).
7 - الشيخ محمّد بن جعفر الكتَّاني المتوفَّى (1345هـ) في كتابه (نظم المتناثر من الحديث المتواتر)، قال: (والحاصل أنَّ الأحاديث الواردة في المهدي المنتظَر متواترة، وكذا الواردة في الدجَّال وفي نزول سيِّدنا عيسى بن مريم (عليه السلام))(39).
هذا ما أمكن الوقوف عليه من القول بالتواتر لأحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) عند أهل السُّنَّة، وربَّما لم نذكر إلَّا جزءاً يسيراً ممَّا تسنَّى لنا توفُّره من المصادر.
وخلاصة القول أنَّ الكلام في مسألة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) باتت من ضروريَّات الدِّين غير مقتصرةٍ على فرقةٍ دون فرقة أو مذهبٍ دون مذهبٍ، ومعها فإنَّ البحث في علامات الظهور إحدى ملازمات هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38) الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة (ص 391/ مطبعة المدني/ مصر).
(39) مجلَّة الجامعة الإسلاميَّة (ص 600).
القضيَّة، فبقدر الاعتقاد بصحَّة ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تندرج مسألة البحث في علامات الظهور بنفس الأهمّيَّة والخطورة لدى جميع المذاهب الإسلاميَّة، ولم تقتصر على الفرقة الإماميَّة وحدها.
* * *
جهود علماء أهل السُّنَّة في الأدب الشيعي:
ولم يفت علماء الشيعة من متابعة ما قدَّمه علماء أهل السُّنَّة في دراستهم وتحقيقهم لقضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وجهودهم المتميِّزة في هذا المضمار، وجعلوا هذه الجهود وثائق خطيرة تكشفُ عن واقعيَّة القضيَّة المهدويَّة، وكونها من مسلَّمات الدِّين وضروراته، فضلاً عن كونها إدانةً حقيقيَّةً لمنكرها والمتردِّد فيها.
ومن تلك الملاحم الأدبيَّة التي استقصت استقصاءً موجزاً جهود علماء أهل السُّنَّة وجعلتها خطابها الواقعي مع أهل السُّنَّة فضلاً عمَّا ورد من الأحاديث الصحاح، ملحمة العلَّامة السيِّد محسن الأمين العاملي (رحمه الله)، والذي أحصى ما وقع بيده من هذه الجهود، فقال في قصيدةٍ منها:
وقد قال منكم عدَّة بوجوده(40) * * * ثقات لديكم ما عديدهم نزرُ
فهذا الفقيه الشافعي ابن طلحة(41) * * * الذي لا توازي علمه الأبحر الغزرُ
يقول بما قلنا في مطالب السؤول * * * ببرهان به يشرح الصدرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(40) أي بوجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
(41) هو أبو سالم كمال الدِّين محمّد بن طلحة بن محمّد الشافعي صاحب كتاب (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول)، وقد تُرجِم في طبقات الشافعيَّة وفي مرآة الجنان لليافعي، وغيرهما.
كذاك الفقيه الشافعي ابن يوسف * * * محمّد الكنجي(42) من علمه البحرُ
كفايته(43) تكفي وهذا بيانه(44) * * * لقد بان منه الحقُّ واتَّضح الأمرُ
كذا المالكي الحبر نجل محمّد * * * عليُّ بن صبَّاغ(45) هو الثقة الحبرُ
يقول بهذا في فصول مهمَّة(46) * * * له وعلى فصل الربيع لها الفخرُ
وذا السبط للجوزي(47) قال بقولنا * * * بتذكرة خصَّت وعمَّا لها الذكرُ
وكم من كنوز بالفتوحات(48) فُتِحَت * * * ومنها غدا يستخرج الدُّرُّ والتبرُ
وفي روضة الأحباب(49) أيّ حدائقٍ * * * تفتح فيها من أكمَّته الزهرُ
وكم قد جلا فصل الخطاب(50) مقالة * * * هي الفصل حقًّا لا الخطابة والشعرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(42) هو عبد الله محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي الذي عبَّر عنه ابن الصبَّاغ المالكي بالإمام الحافظ، واحتجَّ بروايته ابن حجر العسقلاني.
(43) إشارة إلى كتابه (كفاية الطالب في مناقب أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)).
(44) إشارة إلى كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان.
(45) هو نور الدِّين عليُّ بن محمّد بن الصبَّاغ المالكي.
(46) إشارة إلى كتابه الفصول المهمَّة في معرفة الأئمَّة.
(47) هو الفقيه الواعظ شمس الدِّين أبو المظفَّر يوسف بن عبد الله البغدادي الحنفي المعروف بـ (سبط ابن الجوزي) صاحب كتاب (تذكرة الخواصِّ).
(48) هي الفتوحات المكّيَّة الكتاب المشهور لمحيِّ الدِّين ابن عربي.
(49) روضة الأحباب كتاب بالفارسيَّة للسيِّد جمال الدِّين المحدِّث المعروف.
(50) فصل الخطاب للحافظ محمّد بن محمّد البخاري المعروف بـ (خاجة بارسا) من أعيان علماء الحنفيَّة وأكابر مشايخ النقشبنديَّة.
ومرآة أسرار(51) الإله بدت لنا * * * ولادته منها كما بزغ البدرُ
وممَّا يقول المولوي(52) معلِّقاً * * * على نفحات الأُنس قد نفح النشرُ
وقد قال عبد الحقِّ(53) والحقُّ قوله * * * بذلك والأقوال من مثله كثرُ
بأنْ غاب في السرداب صاحب عصرنا * * * وأمسى مقيماً فيه ما بقي الدهرُ...
وقد قال سعد الدِّين(54) أيضاً بمثله * * * خليفة نجم الدِّين والعارف الصدرُ...
كذلك شعرانيُّكم(55) من كتابه الـ * * * ـيواقيت تُختار اليواقيتُ والدُّرُّ
وهذا الإمام البيهقي(56) إمامكم * * * روى ذاك عن جمع لهم كشف السترُ
وقال بهذا غير من مرَّ عصبة * * * يطول بهم ذيل الكلام فينجرُّ(57)
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(51) مرآة الأسرار كتاب العارف عبد الرحمن من مشايخ الصوفيَّة، وهو الذي ينقل عنه الشاه وليُّ الله الهندي الدهلوي.
(52) المولوي عليّ أكبر بن أسد الله المودودي من متأخِّري علماء الهند.
(53) هو عبد الحقِّ الدهلوي البخاري العارف المحدِّث الفقيه.
(54) سعد الدِّين محمّد بن المؤيَّد بن أبي الحسين بن محمّد بن حمويه المعروف بالشيخ سعد الدِّين الحموي.
(55) هو الشيخ عبد الوهَّاب بن أحمد بن عليٍّ الشعراني العارف المشهور.
(56) هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن عليٍّ البيهقي الفقيه الشافعي الحافظ.
(57) قالها السيِّد محسن الأمين العاملي رادًّا على قصيدة وردت من بغداد سنة (1317هـ) إلى النجف الأشرف من أحد المنكرين لغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، اُنظر: البرهان على وجود صاحب الزمان (ص 23 و24).
حتميَّة الانتظار:
وبهذا ظهر أنَّ فكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قضيَّة إسلاميَّة، بل من ضرورات الإسلام، لا تختصُّ بها طائفة دون أُخرى، ولا معنى للاعتقاد بأنَّها قضيَّة اختصَّ بها الشيعة الإماميَّة..، نعم إنَّ اهتمام الإماميَّة بقضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أعطت بُعداً آخر، وهو أنَّ الإماميَّة مارسوا فكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ممارسةً حيَّة، وتعاطوا معها بشكلٍ برز على مجمل تحرُّكهم التاريخي، وأنشطتهم الفكريَّة، وجهودهم السياسيَّة، والسعي الحثيث إلى معايشة القضيَّة المهدويَّة بشكل ينسجم وأهمّيَّتها البالغة في أحاديث النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والتأكيد عليها من قِبَل أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، ممَّا دعا الإماميَّة إلى إحياء هذه القضيَّة وإبرازها إلى الخارج بشكلٍ يضمن حيويَّتها، وكونها قضيَّةً مسلَّمةً تجري الاستعدادات للتهيُّؤ لها، حتَّى إنَّ ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه) باتت قضيَّة بديهيَّة في الفكر الشيعي الدِّيني والتنظير السياسي، وكون عمليَّة الظهور مسألة وقت ليس أكثر، وأنَّها على مشارفِ الواقع يتعامل معها الفرد الشيعي تعاملاً حيًّا يُبرزه من خلال تحرُّكاته..، وبمعنى آخر: إنَّ الإماميَّة عمدوا إلى إحياء الأحاديث النبويَّة المبشِّرة بظهور المهدي (عجَّل الله فرجه)، وبعثوا فيها روحيَّةً تضمن عافيتها ونظارتها.
إذن، فالقضيَّة المهدويَّة تنبعثُ أهمّيَّتها من حتميَّتها التي أكَّدتها الأحاديث النبويَّة المتواترة، فضلاً عن الآيات الكريمة، كما أنَّ العقل والفطرة يدعوان إلى الاستجابة للحقيقة المهدويَّة دون ريب، بل أضحت القضيَّة المهدويَّة أمل الإنسان بما هو إنسان يطمح إلى إيجاد مناخٍ حرٍّ سليم يعيش فيه الجميع ضمن الحقوق الإنسانيَّة الداعية لها جميع الأديان السماويَّة، فضلاً عن الإسلام الذي يطمح أنْ يعيش الإنسان حرًّا كريماً..، وإذا كانت أهمّيَّة الظهور تنطلقُ من حتميَّة الاستعداد لمستقبلٍ جديد، فإنَّ ذلك يُعزِّز من شعور المرتقبين لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) بما يضمن لهم أهمّيَّة هذا الترقُّب المتفاءل الذي يُعزّز معه إمكانيَّة العمل في تكاملٍ دائم، وإبداع دؤوب ينفي معه حالات اليأس والتشاؤم، أو أسباب الهزيمة والانكسار..، لأنَّ الانتظار حالة تقويض وحركة بناء، فهو تقويضٌ لتبعاتِ الظلم والاضطهاد التي يعانيها الإنسان وما ينجم عن ذلك من حالاتِ إحباطٍ وانهزام، وفي الوقت نفسه فهو حالة بناء لأملٍ يتطلَّع إليه المضطهِد، ويترقَّبه أُولئك المحرومون، ومعنى هذا فإنَّ الانتظار حالة إيجابيَّة تُحتِّمها شروط انتظار الإمام (عجَّل الله فرجه)، وليس حالةً سلبيَّة كما يظنُّها البعض، فالمنتظِر - بالكسر - يكافح من أجل تشييد مواهبه التي يرقى بها إلى حالات التكامل التي تُؤهِّله من خلالها أنْ يكون فرداً فعَّالاً إبَّان ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، وليس حالة انكسارٍ وهزيمةٍ تمليان على المنتظِر الخنوع لظروفه الجبَّارة الظالمة، بل هو سعيٌ حثيث لإيجاد قاعدةٍ متينة يستند إليها الإمام (عجَّل الله فرجه) عند ظهوره.
فإذا كانت أهمّيَّة الانتظار ترقى إلى حالات بناء الإنسان وتكامله استعداداً لذلك اليوم الموعود، فإنَّ معرفة اليوم الموعود بمكانٍ يُحتِّم على المكلَّف البحث عن علاماته وملامحه، وهذه العلامات لم تغفلها الروايات، بل تظافرت على بيانها أحاديث الفريقين، وعقدت كُتُب الملاحم والفتن من كلا الفريقين فصولاً تنذرُ بهذا اليوم الآتي، وتُبشِّر بالموعود المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
أهل البيت (عليهم السلام) وحتميَّة الانتظار:
ولم تخلُ الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) من الإشارة إلى أهمّيَّة الانتظار، والتأكيد على ضرورة التكامل الروحي الذي يتمتَّع به المنتظِر، وكون الانتظار حالة إعادة بناء لنفوسٍ مضطهدةٍ تحت ظروفٍ قاهرةٍ تستعيدُ النفوس من خلال ممارسة برنامج تربوي هيمنتها على الأحداث المحدقة بها وصمودها للأحداث القادمة المستقبليَّة التي تنتظرها بعد ذلك.
روى الصدوق (رحمه الله) بسندٍ صحيح عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «التاسع من ولدك يا حسين هو القائم بالحقِّ، المظهِر للدِّين، والباسط للعدل».
قال الحسين: «فقلت له: يا أمير المؤمنين، وإنَّ ذلك لكائن؟
فقال (عليه السلام): إي والذي بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالنبوَّة واصطفاه على جميع البريَّة، ولكن بعد غيبة وحيرة فلا يثبت فيها على دينه إلَّا
المخلصون المباشرون لروح اليقين، الذين أخذ الله (عزَّ وجلَّ) ميثاقهم بولايتنا، وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيَّدهم بروح منه»(58).
وعن عليِّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) أنَّه قال: «من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله (عزَّ وجلَّ) أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأُحُد»(59).
وروى جابر بن عبد الله الأنصاري، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان، إنَّ أدنى ما يكون لهم من الثواب أنْ يناديهم الباري (جلَّ جلاله) فيقول: عبادي وإمائي آمنتم بسرِّي، وصدَّقتم بغيبي، فأبشروا بحسن الثواب منِّي، فأنتم عبادي وإمائي حقًّا، منكم أتقبَّل، وعنكم أعفو، ولكم أغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث وأدفع عنهم البلاء، ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي».
قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله، فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان؟
قال: «حفظ اللسان، ولزوم البيت»(60).
والظاهر أنَّ العزلة التي أوصى بها أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) هي العزلة التي يُراد منها حفظ النفس وعدم الزجِّ في متاهات الاتِّجاهات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(58) كمال الدِّين (ص 304/ باب 26/ ح 16).
(59) كمال الدِّين (ص 323/ باب 31/ ح 7).
(60) كمال الدِّين (ص 330/ باب 32/ ح 15).
السطحيَّة، أو الولوج في معترك الحياة المادّيَّة التي لا تصبُّ مصلحتها في خطِّ أئمَّة الهدى (عليهم السلام)، وإلَّا فإنَّ أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) يحثُّون شيعتهم بالتصدِّي في كلِّ ما من شأنه مصلحة مذهبهم وخدمة شيعتهم، بل الحثُّ على ذلك يظهر من روايات ليس هنا محلّ التعرُّض لها.
وقال المفضَّل بن عمر: سمعت الصادق جعفر بن محمّد يقول: «من مات منتظراً لهذا الأمر كان كمن كان مع القائم في فسطاطه، لا بل كان كالضارب بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالسيف»(61).
وعن محمّد بن النعمان، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «أقرب ما يكون العبد إلى الله (عزَّ وجلَّ) وأرضى ما يكون عنه إذا افتقدوا حجَّة الله فلم يظهر لهم، وحُجِبَ عنهم فلم يعلموا بمكانه، وهم في ذلك يعلمون أنَّه لا تبطل حُجَج الله ولا بيِّناته، فعندها فليتوقَّعوا الفرج صباحاً ومساءً، وإنَّ أشدَّ ما يكون الله غضباً على أعدائه إذا أفقدهم حجَّته فلم يظهر لهم، وقد علم أنَّ أولياءه لا يرتابون، ولو علم أنَّهم يرتابون لما أفقدهم حجَّته طرفة عين»(62).
وعن أبي بصير، قال: قال الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام): «طوبى لمن تمسَّك بأمرنا في غيبة قائمنا فلم يزغ قلبه بعد الهداية».
فقلت له: جُعلت فداك، وما طوبى؟
قال: «شجرة في الجنَّة أصلها في دار عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(61) كمال الدِّين (ص 338/ باب 33/ ح 11).
(62) كمال الدِّين (ص 339/ باب 33/ ح 17).
وليس من مؤمن إلَّا وفي داره غصنٌ من أغصانها، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ [الرعد: 29]»(63).
وإذ سردنا بعضاً من هذه الأحاديث فللتذكير باهتمامهم (عليهم السلام) على أهمّيَّة الانتظار وما له من أهمّيَّةٍ في تحديد معالم الظهور وعلاماته، إذ خلق قاعدةٍ واعية بمسؤليَّتها عارفة بتكليفها يضمن (قاعدة الظهور)، والمقصود من (قاعدة الظهور) هي القاعدة التي يستند تحقيق الظهور عليها، فالإمام (عجَّل الله فرجه) لا يمكنه التحرُّك - وهذا على الحسابات المادّيَّة، أمَّا على أساس الإعجاز الغيبي فالأمر يختلف، إذ لا يحتاج بعد ذلك إلى أيَّة آليَّة تُحقِّق ظهوره (عجَّل الله فرجه) - ما لم تكن هناك قاعدة شعبيَّة عريضة تستوعب حركة الإصلاح التي تولِّيها عمليَّة الظهور بالاهتمام، أي لم تستطع حركة الإمام (عجَّل الله فرجه) من النفوذ دون أنْ تجد لها انسيابيَّة (طبيعيَّة) من خلال مجتمع يعي ضرورة التغيير ويتطلَّع إلى أهمّيَّة الإصلاح، ولا يمكن أنْ تتوفَّر هذه الخصوصيَّات لدى مجتمع بعيدٍ عن ثقافة الظهور أو التمدُّن على (حيويَّة) الانتظار وممارسة دور البناء التكاملي الذي يسمو به إلى آفاق النهضة وطموحات التغيير.
فلسفة الانتظار لدى المدارس الإسلاميَّة الأخرى:
ومن الغريب أنْ يتنكَّر البعض لفلسفة الانتظار ويتَّهمها بالانهزاميَّة والنكوص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(63) كمال الدِّين (ص 358/ باب 33/ ح 55).
وإذا كان الانتظار في الفكر الإمامي يُعَدُّ إحدى خصوصيَّاته ومعالمه المتميِّزة وذلك للتراث الروائي الوارد في أهمّيَّة الانتظار، فإنَّ مثل هذه الروايات وردت في كُتُب أهل السُّنَّة تحثُّ على الانتظار، وكونه عبادة يُتقرَّب بها إلى الله تعالى، فقد أخرج الترمذي عن عبد الله، عن رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم): «سلوا الله من فضله، فإنَّ الله يُحِبُّ أنْ يُسئَل، وأفضل العبادة انتظار الفرج»(64).
فقد وصف الحديث أنَّ الانتظار هو أفضل العبادة، والتخلُّف عن هذه العبادة يوجب التقصير في حقِّ الله تعالى، ويُؤكِّد المخالفة التي لا يُعذَر العبد إزاءها.
إنَّ تغييب ظاهرة الانتظار ومسخها إلى حالة تلكُّؤٍ وتراجع هي حالة الانهزاميَّة الحقيقيَّة التي يفرُّ من خلالها هؤلاء من واقع المجابهة الحقيقيَّة مع المستقبل، بل مع التطلُّعات الطامحة للتغيير، وتُحيله إلى حالة انكفاءٍ يتقهقر بسببها عن مسؤوليَّته، بل تحيله إلى أداة يتربَّصُ من خلالها لاتِّهام الآخر بالتقوقع والتخلُّف.
هذه هي الممارسة السلفيَّة التي رسَّخت في مخيَّلة أتباعها عنف المواجهة مع الآخر، والاعتذار بعدم التزامها بفلسفة معيَّنة بأنَّها حالة خروج عن المعقول.
فالانتظار لا يعني سوى حالة ترقُّب وتوثُّب لمحاولات تغيير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(64) سُنَن الترمذي (ج 5/ ص 225/ ح 3642).
تُطال النظام السياسي أوَّلاً، وتتبعه بذلك التركيبة الاجتماعيَّة بما لها من تبعاتِ ظلم وغبنٍ لحقوق المستضعفين - وإنْ كانوا الأكثريَّة -، وهذا يعني أنَّ حالة التغيير ستعصفُ بتقليديَّة الحاكم والمحكوم، أي التقليديَّة التي تجعل أتباع (المذهب الحاكم) حاكماً وغيرهم محكومين كوراثة سياسية تاريخيَّة تنشأ من السقيفة مروراً بالعهدين الأُموي والعبَّاسي وما شاكلهما، وسيكون الآخر مهمَّشاً تابعاً تقليديًّا، وعلى هذا درجت العقليَّة السياسيَّة في الوطن الإسلامي الكبير دون أنْ تنازعه أيَّة أُطروحةٍ معارضةٍ إلَّا وجعلتها خارجةً عن القانون، وبذلك تستحقُّ العقوبة والمطاردة والتنكيل.
إنَّ فلسفة الانتظار تعني حالة تهيُّؤ لمجتمع يترقَّب الثورة وينتظر التغيير والإصلاح على حساب تلك التقليديَّة الحاكميَّة، وبذلك ستُلغى طبقة الحاكم لتتساوى مع طبقات المحكومين تحت قيادة واحدة، ومعنى ذلك أنَّ الانتظار تهديدٌ يتوعَّد الحاكم ومثوله أمام حاكميَّةٍ إلهيَّةٍ عادلةٍ تطالبه بحقوق الآخرين المضيَّعة وكرامتهم المهدورة، وبذلك فالشخصيَّة الحاكمة تتهرَّب عن واقع يلاحقها حقيقةً ويتوعَّدها دائماً، وهو واقع الظهور الموعود الذي حثَّت عليه أحاديث الظهور المتواترة.
من هنا علمنا ما للجهد السياسي من أثرٍ سلبيٍ على تغيير الاتِّجاه المهدوي المرتكز في أعماق الإنسان ووجدانه، وإحالته إلى محاولة تنظير
تختصُّ بها طائفة دون أُخرى، وإبعاد الذهنيَّة الإسلاميَّة عن حقيقة التعلُّق بها، وإهدار قيمتها لمواجهة الأحداث وبناء المجتمع المتكامل من خلالها.
* * *
علائم الظهور:
من خلال ما قدَّمناه تبيَّن لنا أهمّيَّة معرفة علامات الظهور القاضية بمعرفة ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، بل بوجوب معرفتها التي تقضي بمعرفته (عجَّل الله فرجه)، إذ ذلك سيكون ضمن مهمَّة المكلَّف المطالب بالانضمام إلى حركة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ومناصرته، وهذا يتطلَّب سعي الجميع إلى معرفة ملامح يوم الظهور، فبالإضافة إلى مجهوليَّة ذلك اليوم فإنَّ حالات الإرهاص المتواليةِ ستشاركُ في الكشفِ عن أهمّيَّة ذلك الظرف العصيب الذي سيكون المكلَّف فيه بين حالتين: بين حالة الهداية والإرشاد لاتِّباع الحقِّ المتمثِّل في عليٍّ (عليه السلام) ونهجه، وبين دعاوى اتِّباع الضلال ورموزه، وهو ما يُعبَّر عنها في لغة الملاحم والفتن بـ(الصيحة)، فبالإضافة إلى تحقُّق صيحة حقيقيَّة تدعو إلى منهج الحقِّ، فإنَّ صيحةً مخالفةً تدوي في الأرجاء لتزلزل بها المواقف وتُغيّر من خلالها القرارات، وذلك حينما يكون الإنسان قد عاش في خضمِّ متاهاتٍ فكريَّةٍ تفرض عليه حالات التردُّد والتشكيك، أو على الأقلِّ حالات اللَّامبالاة التي تمليها ظروف الاشتغالات المادّيَّة التي يواجهها الإنسان عند ذاك.
كما أنَّ حالات اختلاط الحقِّ بالباطل التي تسعى إليها بعض الدوائر السياسيَّة المتلبِّسة بلباس الدِّين، أو الدِّينيَّة الساعية إلى انتهاج منحى سياسي يقحم السياسة بالدِّين بشكل فجٍّ عميق يُؤدِّي بالرؤية السليمة إلى إحباطاتٍ خطيرةٍ تُسبِّب في العجز عن اتِّخاذ القرارات الصحيحة في خضمِّ معتركٍ فكريٍّ تضطرب معها القِيَم والمبادئ، عند ذلك يشعر الإنسان بأهمّيَّة معرفة المنتظَر الموعود، ويسعى إلى الانضمام إليه، ولكن ذلك لا يتحقَّق إلَّا بعد معرفة علائم ظهوره ليطمئنَّ إلى أنَّ الذي ظهر هو ذلك الموعود وليس غيره.
الحثُّ على معرفة علامات الظهور:
ولم يئل أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) جهداً في توضيح هذه العلامات، فضلاً إلى أنَّهم حثُّوا على معرفتها ومتابعتها ليتسنَّى للجميع الوقوف على حقيقة الظهور ومعرفته دون أنْ يكون الإنسان متحيِّراً بغير هدى، وضالًّا من غير رشاد.
وإلى ذلك أكَّد الأئمَّة (عليهم السلام) إلى معرفة هذه العلامات التي تعين المكلَّف على اتِّخاذ القرار المناسب فور بدء الظهور، وقد أكَّد على معرفتها أهل البيت (عليهم السلام) برواياتٍ عدَّة، منها:
ما رواه عمر بن أبان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في صحيحه، قال: «اعرف العلامة، فإذا عرفتها لم يضرّك تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر»(65).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(65) الكافي (ج 1/ ص 372/ باب من ادَّعى الإمامة.../ ح 7).
وعن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ينادي منادٍ من السماء: إنَّ فلاناً هو الأمير، وينادي منادٍ: إنَّ عليًّا وشيعته هم الفائزون».
قلت: فمن يقاتل المهدي بعد هذا؟
فقال: «إنَّ الشيطان ينادي: إنَّ فلاناً وشيعته هم الفائزون - لرجل من بني أُميَّة -».
قلت: فمن يعرف الصادق من الكاذب؟
قال: «يعرفه الذين كانوا يروون حديثنا، ويقولون: إنَّه يكون، قبل أنْ يكون، ويعلمون أنَّهم هم المحقُّون الصادقون»(66).
وعن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «هما صيحتان: صيحة في أوَّل الليل، وصيحة في آخر الليلة الثانية».
قال: فقلت: كيف ذلك؟
قال: فقال: «واحدة من السماء، وواحدة من إبليس».
فقلت: وكيف تُعرَف هذه من هذه؟
فقال: «يعرفها مَنْ كان سمع بها قبل أنْ تكون»(67).
وبهذا يُعتبَر الحثُّ على معرفة علامات الظهور حالات تعبئةٍ (تثقيفيَّة) تُحصِّن المكلَّف من مخاطر الارتجاجات الفكريَّة التي ستُحدِثها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(66) الغيبة للنعماني (ص 272 و273/ باب 14/ ح 28).
(67) الغيبة للنعماني (ص 273 و274/ باب 14/ ح 31).
قضيَّة الظهور وما يصاحب ذلك من مخاطر انحرافٍ تُسبِّبها محاولات الزيف الفكري الذي ينتاب المجتمعات الإسلاميَّة.
لماذا التأكيد على علامات الظهور؟
يبدو أنَّ معرفة علامات الظهور ستبرز أهمّيَّتها إذا ما عرفنا أنَّ هناك أزمة فكريَّة ستتفاقم إلى الحدِّ الذي يشعر به المرء أنَّه يعيش في حالة ضياع فكري وهوس عقائدي، ومنشأ ذلك مشكلة الانسياقات الحميمة وراء الشهرة وحبِّ الجاه والسعي للحصول على أكبر قدرٍ من العناوين المفتعلة التي يحرص عليها أهل الدنيا..، وهكذا فلا بدَّ إذن من محاولة إفشاء الآراء المنحرفة التي يستطيع من خلالها البعض إغواء أكبر عدد ممكن من الأتباع، وتشكيل قواعد عريضة من خلال الادِّعاءات الباطلة التي سيُطلِقها هؤلاء في التمويه على الحقائق المبثوثة من خلال المعارف الدِّينيَّة التي تتعهَّد بظهور المهدي وعلاماته ومواصفاته.
لذا فدعوى السفارة الكاذبة، أو المهدويَّة الباطلة تنشأ من فراغ فكري وضياع عقائدي تنفذُ من خلالها هذه الحالات إلى الأوساط الساذجة والعقول الخاوية من أيَّة ثقافةٍ، والفارغة من أيَّة معرفةٍ تضمن من خلالها التصدِّي إلى هذه الانحرافات.
إنَّ ما يعتري الساحة الإسلاميَّة من سذاجاتٍ تعين لمثل هذه الدعاوى إلى سرعة النفوذ في أوساط هؤلاء المغرَّر بهم، وهم مع ذلك
توَّاقون للوصول إلى معرفة الحقيقة وحريصون على الانضمام إلى حركة الإنقاذ، ومحاولات الإصلاح التي تعدهم بها فكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كفيلة في أنْ يتلهَّف هؤلاء إلى أيَّة دعوى، منساقين وراء أيَّة حركةٍ إصلاحيَّةٍ ترفع شعارات المهدويَّة، إلَّا أنَّهم يصطدمون عند حالات التطبيق بدعاوى المهدويَّة وأمثالها، فتراهم ينخرطون بسذاجتهم دون تحقيقٍ ومعرفةٍ إلى أباطيل هؤلاء الضالِّين والمضلِّين الذين تغويهم تصوُّراتهم الشيطانيَّة للانصياع إلى إرادة النفس وشهرة الجاه، فيُؤسِّسون على ذلك مبانٍ ضالَّةٍ ليس لها من الحقيقة نصيب.
هذا ما دفع أئمَّتنا (عليهم السلام) إلى التأكيد على معرفة علامات الظهور ومواصفات المدَّعين، ليتسنَّى للجميع التحصُّن من هذه الدعاوى والتصدِّي إلى فضحها وإبطال محاولات مفتعليها، ولئلَّا يسارع هؤلاء إلى التصديق لصيحات الشيطان وإغواءاته من خلال طيش أزلامه ومتَّبعيه.
لا بدَّ من التفريق:
قد يعترض الباحث في مسألة الظهور عنوانان مهمَّان يتردَّدان من خلال قراءاته لروايات أهل البيت (عليهم السلام) وما تسرده أخبار الفتن والملاحم، وهما: شروط الظهور، وعلامات الظهور.
وللإشارة إلى ذلك يجدر القول بالتفصيل التالي: ...
* * *
ولا بدَّ من التفريق بين شرط الظهور وعلاماته، فالشرط هو توقُّف الظهور على تحقُّقه، وعلاقته بالظهور علاقة العلَّة بالمعلول، والسبب بالمسبَّب، والشرط بالنتيجة.
أي دون تحقُّق الشرط يتعذَّر حينئذٍ تحقُّق الظهور.
إنَّ الظهور أمرٌ أراده الله تعالى أنْ يجري بحسب الأسباب الطبيعيَّة بعيداً عن الإعجاز الذي يُلقي معه أيّ احتمالٍ أو سببٍ طبيعي يمكن تحصيله ليتحصَّل بذلك الظهور..، تماماً كما أراد تعالى أنْ تجري دعوات الأنبياء والمصلحين حسب المقتضيات الطبيعيَّة ليكون ذلك أبلغ في التمحيص والامتحان، وإذا تدخَّلت المعجزة في دعوات الأنبياء توقَّفت معها جهودهم، وانتهى بذلك التمحيص والاختبار الذي يتعرَّض إليه أتباعهم أو مناوؤهم، لذا فإنَّ الحكمة في الدعوات الإصلاحيَّة للرسالات السماويَّة لا بدَّ أنْ تتَّصف بالاختبارات المهمَّة لأُمَّة ذلك النبيِّ أو أتباع ذلك المصلح، وهكذا هي دعوة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فإنَّها حصيلة رسالات الأنبياء، ودعاوى الإصلاح جميعاً
معها، فلا بدَّ من أنْ تجري حسب المجريات الطبيعيَّة والأسباب المتعارفة..، نعم لا يمكننا أنْ نُنكِر ما للإعجاز الإلهي من مدخليَّةٍ في تحقُّق الظهور، إلَّا أنَّه بنحو جزء العلَّة وليس العلَّة التامَّة الكاملة.
فالشرط هو ما يتوقَّف في تحقُّقه تحقُّق الظهور، ودونه فلا يمكن أنْ يتحقَّق أيُّ مظهرٍ من مظاهره.
إنَّ شروط الظهور تتعاضد لتجتمع كوحدةٍ متكاملةٍ لا تتخلَّف في إنجاح الظهور وتحقُّقه، وأهمُّها:
أوَّلاً: وجود القائد المصلح الذي سيملأها قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً، وهذا القائد يجب أنْ تتحقَّق فيه مواصفات القيادة العالميَّة، وهي لا يمكن إيجادها إلَّا فيمن اختاره الله واصطفاه، ولا بدَّ من كونه معصوماً منصوصاً عليه، وكلُّ ذلك لا يتحقَّق إلَّا في شخص الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي حاز على كلِّ هذه الشرائط والخصوصيَّات، وبدون ذلك فلا يتسنَّى لأيِّ قائدٍ مصلحٍ أنْ يقوم بمهمَّة الإصلاح العالمي الذي يقود العالم إلى شواطئ العدل والأمان، ويشيع بأُطروحته السلام في ربوع الأرض المقهورة بالظلم والجور والعدوان.
ثانياً: الأُطروحة الإلهيَّة، ومعنى ذلك: أنْ تكون هناك أُطروحة إصلاح عالميَّة إلهيَّة يتكفَّلها طرحٌ سماوي يتيح للعدل أنْ ينتشر في ربوع الأرض، ويستبدل الظلم بالعدل، والجور بالقسط، ويُحقِّق السلام للجميع، وأنْ يعيش العالم تحت مظلَّةٍ واحدةٍ، وهي مظلَّة الإسلام
الذي يتعهَّد بصياغة نظام عالميٍ جديد مبنيٍّ على العدل والسلام، ويُبعِد كلَّ أُطروحةٍ وضعيَّةٍ من شأنها تعزيز مفاهيم السطوة والنزاع من أجل البقاء على حساب كلِّ القِيَم، وبذلك ستغيب مظاهر العنف والقوَّة، وتحلُّ محلَّها مظاهر الحبِّ والوئام بين بني البشر جميعاً. وبالتأكيد فإنَّ ذلك لا تُحقِّقه أيَّة أُطروحةٍ مهما بلغت من التكامل في تحقيق السلام عدا شعاراتها التي ترفعها لاستقطاب مناصرة الآخرين، حتَّى إنَّ كثيراً من هذه الأُطروحات لا تمتلك سوى (لافتات السلام) لتختفي وراءها من أجل تحقيق أغراضها الخاصَّة، وتبقى شعارات العدل مرفوعةً دون أدنى تطبيق.
ومن خلال طرح مفاهيم المهدويَّة واليوم الموعود، فإنَّنا نجد أنَّ أُطروحة النظام العالمي الجديد الذي يُحقّق معه العدل متوفِّراً في هذه الأُطروحة الإلهيَّة، وذلك لتعهُّدها إلى معالجة مواطن الخلل الذي يعتري الرؤية الوضعيَّة لأيَّة أُطروحة أُخرى، والعمل على الحدِّ من مظاهر النزاع المسلَّح والتنافس غير المشروع، والسعي لصهر أيَّة رؤيةٍ إصلاحيَّة في بوتقتها للخروج بصيغة إصلاح موحَّد يضمنُ للجميع العيش بسلام.
ثالثاً: تفشِّي مظاهر الجور والظلم والعدوان وشيوع مفاهيمها، فالأُطروحة الإلهيَّة التي أشرنا إلى شرط توفُّرها لتحقّق الظهور مبنيَّةٌ على أساس حالة العنف والعدوان، وغياب لغة الحوار التي من شأنها
أنْ تُخفِّف من حدَّة هذا الصراع المسلَّح. فالظلم الذي يُشاع في كلِّ الأرض سيكون موجباً لأنْ يتطلَّع الجميع للمصلح العالمي الذي يملأها قسطاً وعدلاً، وستتفاقم المشاكل الإنسانيَّة نتيجةً للتنافس الذي يسود مفاهيم الدول أو المجموعات أو التكتُّلات أو المنظَّمات أو حتَّى على مستوى الأفراد، وبالتأكيد فإنَّ ذلك سيدفع الجميع إلى انتهاج سياسة العنف والإبادة - كما هو معروفٌ اليوم - للحصول على أكبر قدرٍ ممكن من المصالح غير المشروعة، وستكون المبادئ والقِيَم في حالة تسيُّبٍ يتيحُ للجميع ارتكاب كلِّ ما هو محظور، وممارسة كلِّ ما هو غير مشروع تنفيذاً لتوجُّهات المصالح الخاصَّة والشخصيَّة دون مراعاة أدنى قِيَم الإنسانيَّة، وسيكون الإنسان أداة تنفيذ للرغبات الطائشة والمشتهيات الجامحة التي تُطيح بأيَّة أُطروحة يرفعها البعض من أجل السلام، وبذلك ستكون الحاجة إلى الإصلاح هدف الجميع، وهم ينشدون الإنسانيَّة التي سرقتها أُطروحات الأنظمة الوضعيَّة المتاجرة بإنسانيَّة الإنسان، وسيلجأ الجميع إلى أُطروحة إلهيَّة تضمن لهم العدل بدل أُطروحة الجور، والإخاء بدل العنف والعدوان، وهذه الأُطروحة المنشودة هي الأُطروحة المهدويَّة الهادفة للعدل والسلام.
رابعاً: تحقُّق الأنصار، وهذا شرطٌ لا بدَّ من توفُّره لليوم الموعود، إذ إنَّ ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) منوطٌ بمقدار الأنصار المبايعين له على السلم والموت، فتحقُّق أيِّ مشروع إصلاحي لا بدَّ أنْ يكون له من الأنصار ما
يتيح له النجاح، فكيف بمشروع إصلاحي ثوري يقوم على مبدأ التغيير لأكثر مفاصل الحياة، فضلاً عن تغيير لأكثر المفاهيم المتعارفة لدى الجميع، والخروج على العالم بأُطروحاتٍ إصلاحيَّةٍ ثوريَّةٍ تكفل معها قلب القِيَم والمفاهيم التي راجت لدى الجميع، ومعلومٌ أنَّ ذلك سيكون بمثابة صدمة لكلِّ الحركات المنكفئة على مفاهيمها الخاصَّة التي ترتطمُ بالقِيَم الإنسانيَّة المعهودة، وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ مواجهةً تحدث بين أتباع هذه الأُطروحات الوضعيَّة وبين أنصار الأُطروحة المهدويَّة التي من شأنها أنْ تُحقِّق نصراً كاسحاً على جميع الجبهات.
إذن فتحقُّق الأنصار الذين يتمتَّعون بمواصفاتٍ خاصَّة رهينٌ بإنجاح أُطروحة الظهور، وبدونها فستعاني هذه الأُطروحة من الصعوبات التي تودي بها، وسهولة التصدِّي لها واستئصالها، وبذلك فلا يمكن تحقُّق هذا الأمل المنشود مع غياب الذين يستوعبون التغييرات الإصلاحيَّة التي تأتي بها أُطروحة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
خامساً: القواعد الشعبيَّة المناصرة، وهي غير الأنصار المشار إليهم آنفاً، فإنَّ أنصار الإمام (عجَّل الله فرجه) الثلاثمائة والثلاثة عشر - كما أكَّدتها روايات الظهور - هم القيادات العالميَّة التي تقود حركة الإمام (عجَّل الله فرجه)، وهذا لا يتحقَّق إلَّا بوجود قواعد شعبيَّة تترقَّبُ الحدث الجديد، ومعلومٌ أنَّ هذه القواعد الشعبيَّة قد أُعدَّت سلفاً لاستيعاب الأُطروحة
المهدويَّة بمقدارٍ يضمن معه تلقِّي هذه الأُطروحة، وهذا لا يتأتَّى إلَّا بخلق قواعد شعبيَّة تتعاطى مع الأخبار المهدويَّة المبثوثة في صحاح الفريقين، أي التثقيف المسبق للقواعد الشعبيَّة التي ترنو إلى ذلك اليوم الموعود سيجد ضرورته حيال تعزيز الفكرة المهدويَّة المنشودة، ومعلوم أنَّ الشيعة الإماميَّة ستُشكِّل النسبة الكبرى، بل النسبة كلَّها من أجل تعبئتها لهذا اليوم المنشود، والسبب في ذلك كما نرى:
1 - أنَّ الشيعة الإماميَّة أكثر قبولاً لأُطروحة التغيير المهدوي، وذلك للمعاناة التي لاقتها الشيعة الإماميَّة على طول امتداد تاريخهم المضرَّج بالدماء، وإبعادهم عن مراكز الحكم سيخلق لديهم وجداناً مقهوراً، وضميراً مغلوباً على أمره ينصاعُ دائماً لسطوة الحاكم وقهره، وهذا الشعور من شأنه أنْ يُعزِّز التفاؤل باليوم الموعود، اليوم الذي يعمُّ العدل به ربوع الأرض، ويعيش الفرد الشيعي فرداً غير مهمَّش أو ضميراً معذَّباً مقهوراً، بل ستكون له الكلمة كما ستكون له المكانة في هذه الأُطروحة الإلهيَّة، من هنا نجد أنَّ الوجدان الشيعي سيكون متحفِّزاً لهذا التغيير الموعود، وسيكون معبَّئاً بشعوره المقهور إلى تبنِّي أُطروحة الإنقاذ.
وهذا بعكس غير الشيعي، إذ إنَّ الحكومات المتعاقبة منذ السقيفة حتَّى الآن ترعرعت في الوسط الحاكم الذي يرى لنفسه الأولويَّة في الحكم والتسلُّط، وسيكون الفرد غير الشيعي فرداً حاكماً حتَّى لو لم
يكن في خضمِّ القيادات الحاكمة، فمجرَّد انتمائه لهذه الطائفة يرى أنَّ الحقَّ له في الأولويَّة بكلِّ شيء، فالسطوة والغلبة والقوَّة والحكم له، وسيكون غيره ممتهناً مهمَّشاً، وبالتأكيد فإنَّ الأُطروحة المهدويَّة ستعمل على إقصاء هذه الحالة الموروثة والتقليديَّة السلطويَّة، وستتعاطى مع الحكم على أساس العدل، وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ هؤلاء سيجدون أنفسهم مستبعدين عن الموروث الحاكمي، وسيكون أحدهم تابعاً بدل أنْ يكون متبوعاً، فكيف والحال هذه يسعى إلى تحقُّق الأُطروحة المهدويَّة التي من شأنها إقصاء مظاهر التسلُّط والقوَّة التي ينتمي إليها؟!
إذن فسيكون الفرد الشيعي ساعياً وراء هذه الأُطروحة المهدويَّة الإصلاحيَّة، كونها أُطروحة إنقاذ وليس بديلاً لحكومةٍ مغتصبةٍ فقط، بل هي ظاهرة إنسانيَّة يتطلَّع إليها الفرد المعذَّب بسبب الإقصاء والتهميش والاستبعاد في حين غيره سيكون ساعياً إلى التصدِّي لها بالرغم من أنَّ صحاح الفريقين تُؤكِّد لابدّيَّة اليوم الموعود.
2 - أنَّ أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) سعوا إلى تثقيف البنية الشيعيَّة بالتثقيف المهدوي، وحثّوا (عليهم السلام) على متابعة ملامح هذا اليوم الموعود والاستعداد له، وتعبئة جميع طاقات أتباعهم لاستقبال ذلك الأمل المنشود. في حين تسعى الأجهزة الحاكمة إلى تبنِّي الأُطروحة المهدويَّة بشكل معكوس أو محاولة تحريف المفهوم المهدوي، فقد سعى النظام الأُموي من قبل إلى تسييس النصِّ المهدوي لصالحه، ومحاولة
استخدامه أداة لتنفيذ مآربه السياسيَّة الطائشة، فقد أوردت بعض الأحاديث التي تبنَّتها المشاريع الأُمويَّة إلى أنَّ عمر بن عبد العزيز هو المهدي الموعود، حتَّى إنَّهم أوردوا أخباراً عن بعض رواتهم غير مسندةٍ للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، بل هي مجرَّد احتمالات أو آمال يبنيها الراوي ليحاكي التوجُّه الأُموي أو العقليَّة السلفيَّة، منها:
روى السيوطي أنَّ عمر بن الخطَّاب قال: (ليت شعري من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلاً كما مُلِئَت جوراً).
وروي عن الحسن قوله: (إنْ كان مهدي فعمر بن عبد العزيز، وإلَّا فلا مهدي إلَّا عيسى بن مريم).
وعن وهب بن منبه: (إنْ كان في هذه الأُمَّة مهدي فهو عمر بن عبد العزيز).
وأنَّ عمر بن الخطَّاب كان يقول: (من ولدي رجل بوجهه شجَّة يملأ الأرض عدلاً)(68).
هكذا تُصوِّر المخيِّلة السلفيَّة المهديَّ، ولعلَّ خيبة أمل تستشعرها هذه العقليَّة لتبديل النصوص المهدويَّة إلى مفاهيمها. هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإنَّ العقليَّة السلفيَّة عقليَّةٌ حاكمة تأبى أنْ تقرأ النصوص المهدويَّة في غير صالحها، لذا فهي تُمنِّي نفسها دائماً بأنْ تكون لها الحظوة في المهدويَّة القادمة لئلَّا تنقطع أمل النفسيَّة السلفيَّة عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(68) تاريخ الخلفاء (ج 1/ ص 201).
الحكم، وتجد نفسها بعد ذلك حاكمةً ولو من خلال التراث المهدوي للروايات.
هذا هو الفرق بين القراءتين للنصوص المهدويَّة، القراءة الإماميَّة وتعاطيها مع فكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، والقراءة السلفيَّة ومحاولة تحريف، ومن ثَمَّ تدويل النصِّ المهدوي لصالح نزعتها الحاكمة.
إلى هنا أمكننا الوقوف على شروط الظهور، فتحقُّقها يعني تحقُّق الظهور لا محالة، إلَّا أنَّنا لا نتجاهل أهمَّ الشروط، وهو: الإرادة الإلهيَّة التي بإمكانها تقديم أو تأخير الظهور لمصلحةٍ هو يراها (جلَّت قدرته وعظمت إرادته)، فالإمام (عجَّل الله فرجه) يتوقَّف بعد كلِّ ذلك على الأمر الإلهي الذي يأذن به الله تعالى لظهوره (عجَّل الله فرجه)، ودونه لا يمكن تحقيق هذا الغرض مطلقاً.
علامات الظهور ودعاوى التضليل:
وإذا برزت الحاجة إبَّان العهد الأُموي إلى تضليل الرأي العامِّ بدعوى مهدويَّة عمر بن عبد العزيز ومحاولة إظهاره بمظهر المصلح والمنقذ فضلاً عن العادل، فإنَّ العهد العبَّاسي لم يكن بأسعد حظٍّ من الأُمويِّين في التجربة الخاسرة التي حاولها المنصور العبَّاسي ودعا إليها بكلِّ جهده.
فقد تأرجحت المهدويَّة العبَّاسيَّة بين الدعوة إلى محمّد بن عبد الله بن الحسن، وبين مهدويَّة محمّد بن المنصور العبَّاسي الملقَّب بـ(المهدي).
ففي غضون الجهد العبَّاسي حاولت الدعاية السياسيَّة أنْ تُضفي على حركة محمّد النفس الزكيَّة بأنَّه المهدي، وحاولت أنْ تُلقي بهذه الشبهة على لسان رواتها، وبثّ دعوى أنَّ محمّد النفس الزكيَّة دعا لنفسه بالدعوة المهدويَّة، لذا حاولت أنْ تُعزِّز هذه الدعوى برواياتٍ توردها عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) بأنَّ المهدي: (اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي)، أي محمّد بن عبد الله، وبالفعل كان محمّد النفس الزكيَّة اسمه محمّد، وأبوه عبد الله، وذلك محاولة من المنظَّمة السياسيَّة العبَّاسيَّة تعزيز فكرة المهدويَّة في شخص محمّد بن عبد الله، وكون محمّد بن عبد الله هذا قُتِلَ في وقعة أحجار الزيت المشهورة، وبذلك فسينقطع أمل المهدويَّة من نفوس العامَّة، وتتَّجه إلى قراءة النصوص المهدويَّة على أنَّها أخبار تُراثٍ حدثت في مقطع تاريخي وانتهت، لئلَّا تتعلَّق آمال النفوس المنكسرة باليوم الموعود، ولتعيد ذاتها المفقودة، وعند ذاك ستُشكِّل قوَّة معارضةٍ شديدةٍ تُطيح بالنظام ومبتنياته. على أنَّه يجب التنويه إلى أنَّ دعوى ادِّعاء محمّد النفس الزكيَّة مهدويَّته غير ثابتة، إذ يمكننا التشكيك في صحَّة النسبة هذه، ولم تثبت هذه الدعوى على لسانه أو لسان أتباعه، ذلك لأنَّ المهدويَّة واضحة المعالم لدى المسلمين، فما بالك ببني هاشم، ومنهم بني الحسن، الذين رووا أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) بطُرُقٍ صحيحة صريحةٍ، فضلاً عن أتباعهم. نعم، يمكن أنْ يُدَّعى في قضيَّة غير واضحة المعالم، أو في مجتمع يجهل ما ورد عن المهدي (عجَّل الله فرجه) على أساس
الضرورة الدِّينيَّة التي لا تقبل الشكَّ، كما أنَّنا نقطع أنَّ قضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لم تكن غائبة التفاصيل على بني العبَّاس الذين أثاروا هذه الدعوى، خصوصاً أبو جعفر المنصور، الذي عُرِفَ بروايته وحمله الحديث عن آبائه، فكيف يغيب عنه أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) سيُولَد فيما بعد، وهو سلالة الطيِّبين من آل عليٍّ (عليه السلام)، وقد علم نسبه، فهو ابن الحسن ابن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، فقد أودع أبو جعفر المنصور أسرار ذلك عن طريق آبائه دون ريب، إلَّا أنَّ السياسة تدفع بأبي جعفر المنصور أنْ يتجاهل ما علمه وما رواه، ولعلَّ الرواية التالية تكشف مصداقيَّة ما ذكرناه:
عن سيف بن عميرة، قال: كنت عند أبي جعفر المنصور فسمعته يقول - ابتداءً من نفسه -: يا سيف بن عميرة، لا بدَّ من منادٍ ينادي باسم رجلٍ من ولد أبي طالب من السماء.
فقلت: يرويه أحد من الناس؟
قال: والذي نفسي بيده، فسمعُ أُذُني منه يقول: لا بدَّ من منادٍ ينادي باسم رجلٍ من السماء.
قلت: يا أمير المؤمنين، إنَّ هذا الحديث ما سمعت بمثله قطُّ.
فقال: يا سيف، إذا كان ذلك فنحن أوَّل من نجيبه، أمَا إنَّه أحد بني عمِّنا.
قلت: أيّ بني عمِّكم؟
قال: رجلٌ من ولدِ فاطمة (عليها السلام)، ثمّ قال: يا سيف، لولا أنِّي سمعت أبا جعفر محمّد بن عليٍّ [يُحدِّثني به] ثمّ حدَّثني به أهل الدنيا ما قبلت منهم، ولكنَّه محمّد بن عليٍّ (عليهما السلام)(69).
والعجيب أنَّ راوي هذا الحديث - أبو جعفر المنصور - كان مفتوناً بـ(مهدويَّة محمّد بن عبد الله)، وذلك إبَّان حركة العبَّاسيِّين ضدّ بني أُميَّة، فقد حاول المنصور العبَّاسي أنْ يُروِّج سرًّا لمهدويَّة محمّد النفس الزكيَّة، وذلك لفرض إنجاح المهمَّة الخطيرة التي كان يعمل لها بنو العبَّاس وهي الثورة على النظام الأُموي وتحشيد وجدان وعاطفة الرأي العامِّ لصالح حركتهم، فضلاً عن إقصاء المهدويَّة الحقيقيَّة عن الاعتقاد العامِّ السائد بين المسلمين وكما تأتي الإشارة إليه، فقد جهد أبو جعفر إلى (تأسيس) مهدويَّة محمّد بن عبد الله، وذلك من خلال الممارسة التالية التي كان يفتعلها وقتذاك.
عن عمير بن الفضل الخثعمي، قال: رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمّد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود وأبو جعفر ينتظره، فلمَّا خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتَّى ركب، ثمّ سوَّى ثيابه على السرج ومضى محمّد.
فقلت - وكنت حينئذٍ أعرفه ولا أعرف محمّداً -: من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتَّى أخذت بركابه وسوَّيت عليه ثيابه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(69) الغيبة للطوسي (ص 433 و434/ ح 423).
قال: أوَما تعرفه؟
قلت: لا.
قال: هذا محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، مهديُّنا أهل البيت(70).
وعلى هذا لا تنسجم دعوى أبي جعفر المنصور من أنَّ محمّد بن الحسن الثائر هو المهدي، بل هي محاولة إقصاء المهدويَّة المرتكزة في نفوس الناس وتطويقها واحتوائها، فضلاً عن الطعن بالثائر الحسني محمّد بن عبد الله الذي لُقِّب بأنَّه النفس الزكيَّة.
على أنَّنا نُنوِّه إلى أنَّ الجهد الحسني تصدَّى لمثل هذه الادِّعاءات الباطلة في مهدويَّة محمّد بن عبد الله، فقد ردَّ عبد الله بن الحسن على من دعا إلى مهدويَّة ابنه بالقول: (فإنَّ صاحبهم منَّا غلام شابٌّ ابن خمس وعشرين سنة يقتلهم تحت كلِّ حجر، أو تحت كلِّ كوكب)(71).
والعبارة يُستشَفُّ منها أنَّ عبد الله بن الحسن لم يكن يدعو إلى مهدويَّة ولده، أو أنَّه كان يدعو - إذا صحَّ ذلك - في ظرفٍ سياسيٍّ معيَّن محاولاً معها تمرير قضيَّة وقتيَّة، وذلك للسعي إلى إنجاح حركتهم ضدّ الأُمويِّين وقتذاك، أو لمحاولة ضدّ مهدويَّة المهدي العبَّاسي التي أثارها المنصور العبَّاسي، ونحن لسنا في صدد البحث عن عذرٍ ننقذ فيه موقف عبد الله بن الحسن من مهدويَّة ولده التي دعا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(70) مقاتل الطالبيِّين (ص 161 و162).
(71) مقاتل الطالبيِّين (ص 166).
إليها في وقتٍ ما - كما ادَّعت بذلك بعض المرويَّات - فهو من خلال إشارته إلى مهدويَّة الغلام (ابن خمس وعشرين سنة) ينفي بذلك ما تردَّد من مهدويَّة ولده، ولدفع الشبهة التي أحاطت بحركة محمّد ولده الملقَّب بالنفس الزكيَّة.
وإذ حاولت دعوى العبَّاسيِّين (المبطَّنة) على أنَّ محمّد النفس الزكيَّة هو المهدي وصرف الناس عن الفكرة المهدويَّة بعد موته، حتَّى لاقت هذه الدعوة رواجاً شعبيًّا لدى قواعد من العامَّة الذين سئموا الممارسات العبَّاسيَّة الظالمة فاستجابوا (لا شعوريًّا) مع هذه الدعوة وتعاطفوا معها أيّ تعاطفٍ حتَّى كادت أنْ تعصفَ بالعرش العبَّاسي وتقصيه - على الأقلِّ - من نظرة القداسة التي كان العبَّاسيُّون يتشبَّثون فيها بعُلقة النسب مع النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) على حساب الوجود العلوي الذي يُمثِّله أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، ولم يكد المنصور العبَّاسي - مبتكر هذه الدعوة أو المروِّج لها على الأقلِّ - أنْ يعمل شيئاً حتَّى يتدارك ما وقع به من خطأ قضَّ مضجعه، فهو الآن يُمثِّل جهةً مقابلةً للمهدي الذي علق في ذهنيَّة الناس وارتكز في نفوسهم على أنَّه مصلح يأتي على أنقاض عروش الجبابرة وسيصدُّه السفياني الذي يُمثِّل أعتى غايات الجور، ومن خلال هذه المصادمة العسكريَّة بين المنصور العبَّاسي وأتباع النفس الزكيَّة الذي يُمثِّل المهدي المدَّعى، فإنَّ المخيَّلة الشعبيَّة قد استيقظت الآن على هذا التداعي بين دعوى مهدويَّة النفس الزكيَّة التي روَّج لها النظام سرًّا وبين تصدِّيه لهذه الحركة، أي إنَّ غفلة ارتكبها
المنصور العبَّاسي في تعاطيه مع مهدويَّة محمّد بن عبد الله، ولكي يحاول المنصور تصحيح ما ارتكبه من سذاجةٍ مع الحدث المهدوي، فإنَّ محاولة خاسرةً خطَّط لها المنصور لتوجيه الأحداث لصالحه وصرف نظر العامَّة عن محمّد بن عبد الله، ممَّا دعا المنصور إلى إعلان مهدويَّة ولده محمّد فلقَّبه بالمهدي ودعا إليه، مع أنَّ ذاكرة الرواة لا تنسى ما رواه المنصور في أنَّ المهدي من ولد فاطمة ومن ذرّيَّة الحسين (عليهم السلام)، بل كان المنصور مقتنعاً أنَّ ولده لم يكن المهدي الموعود بل هي محاولة كسبٍ سياسي ليس أكثر، فقد روى كثير بن الصلت، قال: أخبرني يوسف بن قتيبة بن مسلم - ولم أرَ بأهلنا قطُّ خيراً منه -، قال: أخبرني أخي مسلم بن قتيبة، قال: أرسل إليَّ أبو جعفر - أي المنصور -، فدخلت عليه، فقال: قد خرج محمّد بن عبد الله وتسمَّى بالمهدي، والله ما هو به، وأُخرى أقولها لك لم أقلها لأحدٍ قبلك ولا أقولها لأحدٍ بعدك: وابني والله ما هو بالمهدي الذي جاءت به الرواية، ولكنَّني تيمَّنت به وتفاءلت به(72).
بيدَ أنَّ هناك اضطراباً بدى واضحاً في موقف أبي جعفر المنصور في الدعوتين المهدويَّتين، ولغرض تفادي هذا الاضطراب في المواقف سخَّر المنصور العبَّاسي جهده وإمكانيَّة الدولة العبَّاسيَّة للترويج إلى هذه الدعوى، وأعدَّ لها ما يمكن أنْ تكون إحدى مقرَّرات النظام السياسيَّة وخطّه الفكري، ومحاولة تسخير الجهود لتلقى هذه الدعوى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(72) مقاتل الطالبيِّين (ص 167).
موضع ترحيب وتلقِّي من قِبَل العامَّة..، إلَّا أنَّ شيئاً من ذلك لم يحدث، فالذهنيَّة العامَّة لا تتردَّد في تقييم شخصيَّة المهدي العبَّاسي العابثة، بل قل: الماجنة، فقد اشتهر المهدي العبَّاسي بالعبث وحبِّ الغناء واللهو، والوثائق التاريخيَّة تُسجِّل لنا ما كان يرتكبه المهدي من ممارساتٍ خليعةٍ مع جواريه وندمائه، ولعلَّ المقاطع الأدبيَّة ترسم صورة المهدي العبَّاسي العابث والماجن، وإليك بعضها:
قال المهدي العبَّاسي في جاريةٍ شغف بها حبًّا:
ظفرت بالقلب منِّي * * * غادةٌ مثل الهلال
كلَّما صحَّ لها ودِّ * * * ي جاءت باعتلال
لا لحبِّ الهجر منِّي * * * والتنائي عن وصال
بل لإبقاء على حـ * * * ـبِّي لها خوف الملال(73)
وقال في نديمه عمر بن بزيع:
ربِّ تمِّم لي نعيمي * * * بأبي حفص نديمي
إنَّما لذَّة عيشي * * * في غناء وكرومِ
وجوار عطرات * * * وسماع ونعيمِ(74)
إلى غير ذلك من الشواهد الفاضحة لسيرة هذا (المهدي) العبَّاسي، ممَّا أصاب العامَّة بخيبة أمل حول تطلُّعاتها لهذه الدعوى التي تُكذِّبها سيرة المهدي العبَّاسي وسلوكيَّاته العابثة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا تنسَ الجهد الأدبي الذي بذله أُدباء البلاط في ترويج هذه الأُحدوثة، وما لدورهم المنافق في تزييف الحقائق ومحاولة اطلائها على العامَّة والتزلُّف للنظام وهو يُروِّج لدعوى المهدويَّة الكاذبة.
قال مروان ابن أبي حفصة في عقد المهدي ولاية العهد لولده موسى:
عقدت لموسى بالرصافة بيعةً * * * شدَّ الإله بها عرى الإسلام
موسى الذي عرفت قريش فضله * * * ولها فضيلتها على الأقوام
بمحمّد بعد النبيِّ محمّد * * * حي الحلال ومات كلُّ حرام
مهدي أُمَّته الذي أمست به * * * للذلِّ آمنة وللأعلام
موسى وليُّ عهد الخلافة بعده * * * جفَّت بذاك مواقع الأقلام(75)
وفي جهدٍ خاسرٍ للترويج لهذه الدعوى قال سلم الخاسر يرثي المهدي:
وباكية على المهدي عبرى * * * كأنَّ بها وما جنَّت جنونا
وقد خمشت محاسنها وأبدت * * * غدائرها وأظهرت القرونا
لئن يلي الخليقة بعد عزٍّ * * * لقد أبقى مساعي ما بلينا
سلام الله عدَّة كلّ يوم * * * على المهدي حيث ثوى رهينا
تركنا الدِّين والدنيا جميعاً * * * بحيث ثوى أمير المؤمنينا(76)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت هذه الجهود في إفشاء دعوى المهدويَّة العبَّاسيَّة جهوداً خاسرة تفتضح من خلال ممارسات العبَّاسيِّين المخالفة لأبسط القِيَم الدِّينيَّة والأخلاقية، فضلاً عمَّا تحفظه الذاكرة الروائية من أحاديث المهدي وعلامات ظهوره.
المهدويَّة الإسماعيليَّة:
ولم تتوقَّف دعوى المهدويَّة حتَّى انبثقت الفلسفة المهدويَّة الإسماعيليَّة، وكان أبو الخطَّاب محمّد بن أبي زينب أو مقلاص بن أبي الخطَّاب من موالي بني أسد صاحب الفكرة المهدويَّة الإسماعيليَّة، وأوَّل من دعا إليها لأسبابٍ لم يذكرها المؤرِّخون، إلَّا أنَّه في تقديرنا كانت لديه محاولات غلوٍّ اشتهر بها، فلعنه الإمام الصادق (عليه السلام) وتبرَّأ منه وحثَّ أتباعه بالبراءة منه - كما هو ديدنهم (عليهم السلام) مع أيَّة جهة مغالية قطعاً للطريق عليها من الانتشار -، ولـمَّا لم يجد بدًّا من انفصاله عن الإمام (عليه السلام) حاول التشبُّث بما يُعكِّر صفوَّ مسيرة الإمام (عليه السلام) التي راجت بتوهُّجها العلمي يوم عكف الإمام الصادق (عليه السلام) على استغلال فرصة نشر الإسلام المحمّدي الأصيل، وكان لهذا العنفوان العلمي الذي مارسه الإمام (عليه السلام) واتَّسم به خطره على توجُّهاتٍ سياسيةٍ عدَّة، ولغرض تحجيم هذا الامتداد وقطع الطريق عليه - كما توهَّمت بعض الجهات - دفعت بأبي الخطَّاب الذي أحبَّ الزعامة وتوجُّهاتها أنْ يخلق منفذاً يعمل من خلاله على جمع الأنصار والمؤيِّدين، فاستغلَّ موت
إسماعيل ودعا إلى مهدويَّته وأنَّه حيٌّ لم يمت حتَّى تبعه بعضهم، واستطاع بذلك أنْ يخلق له أتباعاً من خلال مهدويَّة إسماعيل.
إلَّا أنَّ هذه المهدويَّة أخذت مساراتها واتِّجاهاتها حتَّى تبنَّاها بعضهم وألقى في روع أتباعه أنَّ محمّد بن إسماعيل هو الإمام بعد أبيه، وانقسمت هذه الإسماعيليَّة إلى طائفتين: أحدها الإسماعيليَّة الخاصَّة وهي التي تقول بغيبة إسماعيل وكونه الإمام السابع، والإسماعيليَّة العامَّة التي تقول بموت إسماعيل وأنَّ محمّداً نجله هو الإمام بعد أبيه(77).
ولسنا في صدد الإسماعيليَّة وتوجُّهاتها المهدويَّة إلَّا لغرض إشارةٍ موجزةٍ عن نشوء المهدويَّة الإسماعيليَّة وتوجُّهاتها.
وكان للقرامطة مهدويَّتهم الخاصَّة التي حاول من خلالها أبو سعيد الجنابي الهيمنة على قرامطة البحرين واستمالة أتباعه له واستخدام هذه المهدويَّة وسيلة لإنجاح مخطَّطاته وانتشار حركته وتوغُّلها في أعماق بلدانٍ إسلاميَّة وأغوار مواطن شيعيَّة أُخرى.
دعوى المهدويَّة في المجتمعات السُّنّيَّة:
ولم تقتصر دعوى المهدويَّة في الأوساط الشيعيَّة واتِّهامها وحدها بنشوء مثل هذه الحركات، بل إنَّ الذهنيَّة السُّنّيَّة كذلك كانت على استعداد لنفوذ مثل هذه الدعوى، ممَّا يُدلِّل على ارتكاز الفكرة المهدويَّة في نفوس المسلمين جميعاً دون تمييز بين شيعةٍ وسُنَّةٍ، وهذا ما دعا بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(77) راجع: موسوعة الأديان/ الفِرَق الإسلاميَّة (ص 67).
أهل السُّنَّة من ذوي الحركات الفكريَّة المشوبة بالسياسة والتنظيم أنْ يدَّعي المهدويَّة لنفسه ليحصل على أتباع ومريدين يتمكَّن من خلال دعوته هذه إلى جلب قلوب هؤلاء المتطلِّعين للإنقاذ واستغلال عواطفهم الجيَّاشة بالإصلاح، لذا فلم يتوانَ محمّد أحمد المولود سنة (1844م) في جزيرة لبب السودانيَّة أنْ يُعلِن دعوته المهدويَّة، ولعلَّ المحاولات السياسيَّة التي قام بها محمّد عليّ باشا بإلحاق السودان بمصر أجَّجت روح السيادة والتحرُّر لدى السودانيِّين، وهو ما يُفسِّر قبول السودانيِّين لدعوى مهدويَّة محمّد أحمد الذي انخرط إلى الطريقة (السمانيَّة) وهي طريقة صوفيَّة، حتَّى أصبح رئيس هذه الطريقة بعد وفاة رئيسها القرشي ود الزين، وقد نجح في استمالة الكثير من السودانيِّين، ولاقت دعوته قبولاً كبيراً وانتشاراً واسعاً(78).
ولم يخلُ تاريخنا المعاصر من دعاوى مهدويَّة أُخرى كالتي قام بها رجلٌ سعودي يُدعى: (جهيمان)، وقد اعتصم بالحرم المكِّي وذلك عام (1979م)، ممَّا دعا العلماء في السعوديَّة إلى إصدار فتوى بهدر دمه كون أوصافه لم تكن هي أوصاف المهدي الموعود، فضلاً عن دوافعها السياسيَّة وقتذاك(79).
والذي نريد قوله: إنَّ انتشار دعاوى المهدويَّة طوال التاريخ الإسلامي ناشئٌ من عاملين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(78) راجع: موسوعة الأديان/ الفِرَق الإسلاميَّة (ص 228).
(79) راجع: الأديان والمذاهب بالعراق لرشيد الخيون (ص 261).
الأوَّل: محاولة بعض الحركات السياسيَّة للنفوذ إلى الأوساط العامَّة واستغلال العاطفة والوجدان المهدوي الذي يحمله الفرد داخل المجتمع الإسلامي، وما لهذه الدعوة من قداسةٍ لدى الذهنيَّة العامَّة، حتَّى إنَّك لا تخال دعوةً بهذا العنوان ولم تجد أتباعاً ومؤيِّدين، وذلك لما يحمله المسلمون من تقديس هذه الفكرة، بل ومصداقيَّة الأخبار الواردة للبشارة بها، وكون هذه الفكرة باتت من المسلَّمات الإسلاميَّة وضرورات الدِّين بغضِّ النظر عن الشيعة وأهل السُّنَّة والطوائف الأُخرى.
الثاني: الاحتقان الذي يعاني منه الكثير من المستضعفين الذين يستقبلون هذه الدعوة بكلِّ شوقٍ ولهفةٍ على أنَّها البديل للمعاناة التي يتحمَّلها هؤلاء، وكون هذه البيئات المظلومة أكثر تقبُّلاً لأيَّة دعوة من شأنها إنقاذها من ظلاماتها التي تعاني منها دائماً، لذا فأيّ دعوى مهدويَّة سيتقبَّلها الكثير من أُولئك المحرومين، ومن المؤكَّد أنَّ هذه الدعاوى ستكون أرضها الخصبة في ترعرعها ونشوءها أرض المستضعفين ومواطنهم المحرومة.
وبالرغم من تلقِّي هذه الدعاوى القبول في أوَّل الأمر إلَّا أنَّها سرعان ما يفتضح أمرها وتُمنى بهزيمةٍ منكرةٍ وخسارةٍ فادحةٍ، وذلك لأنَّ آليَّة الكشف عن كذب هذه الدعاوى وتجنِّيها على الواقع تتوفَّر لدى المسلمين، وذلك عن طريق علامات الظهور الواردة في كُتُب
الملاحم والفتن والتي تحول دون تفشِّي ظاهرة المهدويَّة الكاذبة وإيقافها من الامتداد والتوسُّع، بل فضحها كأسرع ما يكون.
من هنا نلمس ضرورة معرفة علامات الظهور والتفقُّه بها، وهي إحدى الأسباب التي دعت أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) لبثِّ مثل هذه العلامات لتكون علامات الظهور صمَّام أمان لأيَّة محاولة عابثة تجعل المهدويَّة أداةً للوصول إلى مآربها وغاياتها الدنيويَّة.
* * *
تقدَّم أنَّ أهمّيَّة معرفة الظهور ومتابعة إرهاصاته أمرٌ لا ينبغي للمكلَّف أنْ يتخلَّف في البحث عنه، وذلك لأنَّ علامات الظهور تعين المكلَّفين على معرفة ملامح اليوم الموعود والتهيُّؤ والاستعداد لاستقباله دون أنْ يعتري النفوس أدنى شكٍّ أو ريبٍ.
بمعنى أنَّ علامات الظهور لطفٌ إلهي تفضَّل به الله تعالى على عباده، فهو إنذارٌ للنفوس أنْ تُعيد حساباتها وتسعى للاستقامة والتكامل، ومحاولة إعادة النظر في رؤيتها للوصول إلى الرؤية الصحيحة، وفي نفس الوقت فهي علامات بشائر إنقاذ وإعادة اعتبار للإنسانيَّة الممتهنة.
إذن فلا بدَّ من الاهتمام بمعرفة هذه الإنذارات والبشائر ليتسنَّى معرفة ما يمكن للمكلَّف القيام به، ومزاولته عندئذٍ.
* * *
(أ) العلامات من حيث القرب والبُعد الزماني لليوم الموعود:
على أنَّ هذه العلامات تنقسم إلى قسمين بحسب بُعدها وقربها عن تاريخ الظهور:
أوَّلاً: علامات بعيدة عن وقت الظهور:
وهي الحوادث التي تُعَدُّ مجرياتٍ لأحداثٍ بعيدة عن وقت الظهور، أخبر بها النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهي مقدَّمات بعيدة عن الظهور، إلَّا أنَّها تُعَدُّ إرهاصاتٍ تُهيِّئ للظهور، وممهِّدات تُلوِّح بحلول اليوم الموعود بشكلٍ يُتيح لأخبار المهدي (عجَّل الله فرجه) أنْ تكون مسألة حقيقيَّة، إلَّا أنَّها على المدى البعيد، أي إنَّ هذه العلامات البعيدة تجعل اليوم الموعود مسألة ارتكازيَّة تُحفِّز الوعي العامَّ لاستيعاب الأُطروحة المهدويَّة، وتُهيِّئ الظروف لأنْ تكون في مستوى الاستجابة لتهيئة ذلك اليوم وأرضيَّة ممهِّدة لاستقباله.
ومن هذه الأحداث التي تُعَدُّ علاماتٍ بعيدةً عن الظهور ما رواه النعماني في غيبته بسنده عن عليٍّ (عليه السلام) أنَّه قال: «يأتيكم بعد الخمسين
والمائة أُمراء كفرة، وأُمناء خونة، وعرفاء فسقة، فتكثر التُّجَّار، وتقلُّ الأرباح، ويفشو الربا، ويكثر أولاد الزنا، وتغمر السفاح، وتتناكر المعارف، وتُعظَّم الأهلَّة، وتكتفي النساء بالنساء، والرجال بالرجال».
فحدَّث رجلٌ عن عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنَّه قام إليه رجلٌ حين تحدَّث بهذا الحديث فقال له: يا أمير المؤمنين، وكيف نصنع في ذلك الزمان؟
فقال: «الهرب الهرب، فإنَّه لا يزال عدل الله مبسوطاً على هذه الأُمَّة ما لم يمل قُرَّاؤهم إلى أُمرائهم، وما لم يزل أبرارهم ينهى فُجَّارهم، فإنْ لم يفعلوا ثمّ استنفروا فقالوا: لا إله إلَّا الله، قال الله في عرشه: كذبتم لستم بها صادقين»(80).
هذه هي علامات الظهور البعيدة، أو مجريات الأحداث التي تجري قبل قيام القائم (عجَّل الله فرجه)، فهي ممهِّدات إذن للتنويه عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لتستقبلها الأوساط بشكل لا يثير التوجُّس في أصل قضيَّة الظهور، وقد تكفَّلتها روايات تشير إلى مجمل الأحداث دون تفاصيلها وجزئياتها.
ثانياً: علامات الظهور القريبة:
وهي العلامات التي تكون قبيل أو مزامنة ليوم الظهور، وتختلف من حيث أهمّيَّتها قرباً وبعداً ليوم الظهور، وستكون كالتالي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(80) الغيبة للنعماني (ص 257/ باب 14/ ح 3).
1 - علامات قريبة ليوم الظهور نسبيًّا:
وهي علامات قريبة نسبيًّا للظهور، وستكون بمثابة مقدَّماته الممهِّدة، أي ستكون بمثابة مقتضيات الظهور، والغالب عليها تفشِّي الظلم، وشياع الجور، وذيوع الفساد إلى غير ذلك من مقتضيات الظهور، بل لعلَّها ستكون إحدى الشروط التي تُسبِّب الظهور.
ومعنى ذلك أنْ تتداخل شرائط الظهور بعلاماته، وستكون عندئذٍ تحقُّق بعض الشروط هي ذاتها إحدى علامات الظهور، وقد ذكرنا في بحث الشروط: توفُّر مقتضى الإصلاح الذي بموجبه يتحقَّق الظهور، أي وجود الظلم وشيوعه عند ذاك يكون مقتضي للإصلاح، ومن ثَمَّ خروج المصلح، وهو الإمام (عجَّل الله فرجه)، ولعلَّ هذه العلائم ستشغل مساحة واسعة من روايات الملاحم والفتن، وسيكون انصباب اهتمام الأخبار على بيانها بشكلٍ ملفتٍ يوقظ معه إحساس المكلَّفين بأنَّ حدثاً ما تتطلَّبه هذه الظروف الطارئة، وذلك على حساب الحالة المتفشّية في أوساط المجتمع، إذ الضمير الإنساني سيجد نفسه بحاجةٍ إلى منقذٍ ينقذه من (أزمة الظلم) المتفشّية في جميع الأوساط، وبالتأكيد فإنَّ ذلك سيوجب توجُّه النفوس إلى محاولات إنقاذ وأُطروحات إصلاح عالميَّة تسود الأرض بإصلاحاتها وعدلها.
ملاحم المغيَّبات:
عمد أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) على تقديم صِيَغ عدَّة تُعَدُّ حالات
إنذار ومحاولات تيقُّظ لمجتمع يترقَّب حالات تغيير سلبي كنتيجة حتميَّة للتراجع الفكري الذي تصاب بها هذه المجتمعات، ومن ثَمَّ هي في حقيقتها نكسات تشارك في محنه ونكباته، وتُعَدُّ هذه على مستويين:
المستوى الأوَّل: علامات لم يتحقَّق منها بعضها، أو تحقَّق البعض الآخر بشكل غير ظاهر، وستكون هذه بمثابة إشارات تتلقَّاها العقليَّة المسلمة لاسترعاء الانتباه ووشوك اليوم الموعود.
المستوى الثاني: علامات تحقَّق بعضها بشكل واضح، وينتظر الآخر التحقُّق إذ ذلك مرهون بالوقت فقط، وستكون هذه حقائق يستسلم إليها المجتمع، وهو يصغي إليها بحالة من التصديق تختلف عن المستوى الأوَّل في القبول والتلقِّي، فضلاً عن كون الظروف الظاهرة ستشارك في صياغتها وتقديمها.
المستوى الأوَّل، مثل الرواية التالية التي سنقرأ من خلالها حالات تفشِّي الفساد، وشيوع الظلم، ومسخ القِيَم، وانحراف الأفكار، واستحلال الدماء، وهتك الحرمات حتَّى إنَّ العالم تسوده حالة الفوضى التي معها يسترعي الجميع انتباههم بأنَّ الأمر لا بدَّ من إنقاذه، وأنَّ الحالة لا تُطاق، لذا فالأمر لا بدَّ من إصلاحه إنقاذاً للقِيَم وانتصاراً للمبادئ.
روى المجلسي (رحمه الله) في (البحار) بسندٍ عن النزال بن سبرة، قال: خطبنا عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «سلوني أيُّها الناس قبل أنْ تفقدوني - ثلاثاً -».
فقام إليه صعصعة بن صوحان، فقال: يا أمير المؤمنين متى يخرج الدجَّال؟
فقال له عليٌّ (عليه السلام): «اقعد فقد سمع الله كلامك وعلم ما أردت، والله ما المسؤول عنه بأعلم من السائل، ولكن لذلك علامات وهيئات يتبع بعضها بعضاً كحذو النعل بالنعل، وإنْ شئت أنبأتك بها».
قال: نعم، يا أمير المؤمنين.
فقال (عليه السلام): «احفظ فإنَّ علامة ذلك إذا أمات الناس الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلُّوا الكذب، وأكلوا الربا، وأخذوا الرشا، وشيَّدوا البنيان، وباعوا الدِّين بالدنيا، واستعملوا السفهاء، وشاوروا النساء، وقطعوا الأرحام، واتَّبعوا الأهواء، واستخفُّوا بالدماء، وكان الحلم ضعفاً، والظلم فخراً، وكانت الأُمراء فجرة، والوزراء ظلمة، والعرفاء خونة، والقُرَّاء فسقة، وظهرت شهادات الزور، واستُعلِنَ الفجور، وقول البهتان، والإثم والطغيان، وحُلِّيت المصاحف، وزُخرفت المساجد، وطُوِّلت المنار، وأُكرم الأشرار، وازدحمت الصفوف، واختلفت الأهواء، ونُقِضَت العقود، واقترب الموعود، وشارك النساء أزواجهنَّ في التجارة حرصاً على الدنيا، وعلت أصوات الفُسَّاق واستُمِعَ منهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، واتُّقي الفاجر مخافة شرِّه، وصُدِّق الكاذب واؤتمن الخائن، واتُّخِذَت القيان والمعازف، ولعن آخر هذه الأُمَّة أوَّلها، وركب ذوات الفروج السروج، وتشبَّه النساء
بالرجال والرجال بالنساء، وشهد شاهد من غير أنْ يُستشهَد، وشهد الآخر قضاء لذمام بغير حقٍّ عرفه، وتفُقِّه لغير الدِّين، وآثروا عمل الدنيا على الآخرة، ولبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب، وقلوبهم أنتن من الجيف، وأمرُّ من الصَّبِر، فعند ذلك الوحا الوحا، العجل العجل، خير المساكن يومئذٍ بيت المقدس(81)، ليأتينَّ على الناس زمان يتمنَّى أحدهم أنَّه من سُكَّانه...»(82).
وإلى ذلك أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155)، فقد فسَّرها الإمام الصادق (عليه السلام) بأنَّها علامات الفرج.
عن الحميري، عن أحمد بن هلال، عن ابن محبوب، عن أبي أيُّوب والعلا معاً، عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ لقيام القائم علامات تكون من الله (عزَّ وجلَّ) للمؤمنين».
قلت: وما هي، جعلني الله فداك؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(81) الظاهر أنَّ ذلك إشارة إلى قرب ظهور الدجَّال أو السفياني الذي سيكون أكبر همِّه القضاء على أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وملاحقتهم، وكون السفياني أو الدجَّال ليس هدفهما التعرُّض لبيت المقدس وسُكَّانه لخلوِّهم من شيعة آل البيت (عليهم السلام) إلَّا ما ندر، لذا فالحثُّ على السكنى في بيت المقدس لا لخصوصيَّة تشريفيَّة فيه، بل إرشادٌ من الإمام عليٍّ (عليه السلام) بأنَّ بيت المقدس لا تطاله ملاحقة السفياني والدجَّال لشيعة أهل البيت (عليهم السلام).
(82) بحار الأنوار (ج 52/ ص 192 - 195/ ح 26)، عن كمال الدِّين (ص 525 - 528/ باب 47/ ح 1).
قال: «قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ يعني المؤمنين قبل خروج القائم (عليه السلام)، ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾»، قال: «نبلوهم ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم، ﴿وَالْجُوعِ﴾ بغلاء أسعارهم، ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ﴾»، قال: «كسادُ التجارات، وقلَّة الفضل، ونقص من الأنفس»، قال: «موت ذريع، ونقص من الثمرات قلَّة ريع ما يزرع، ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ عند ذلك بتعجيل الفرج»(83).
ومعلومٌ أنَّ هذه العلامات لا تحصل إلَّا قبل مدَّةٍ مديدةٍ من الزمن، فهي ليست بالبعيدة التي معها تُعَدُّ من جملة مجريات الحوادث التي تحدث في غيبته بحيث لا تُلفِتْ انتباه الناس، ولا بالقريبة جدًّا، لأنَّ مقتضى حدوثها وترتيبها يتطلَّب مدَّة زمنيَّة لا بأس بها، إذن فهي من ضمن العلامات القريبة نسبيَّا ليوم الظهور.
المستوى الثاني، على أنَّ هذه الرواية كسابقتها ناظرة إلى ثلاث مستويات من العلاقات التي تتحكَّمُ في مصير المجتمع وتوجُّهاته، وفي الحقيقة هي حالة استنطاق لواقع مستقبلي تشير إليه هذه الروايات، آخذة بالاعتبار المظاهر التي ستتحقَّق لتُعدّ أهمّ أُسُس هذه العلاقات، وهي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(83) بحار الأنوار (ج 52/ ص 202 و203/ ح 38)، عن كمال الدِّين (ص 649 و650/ باب 57/ ح 3).
أوَّلاً: العلاقات الاجتماعيَّة، وتشمل كلَّ توجُّهاتها السياسيَّة والدِّينيَّة والثقافيَّة وغيرها.
ثانياً: العلاقات الاقتصاديَّة، وتشمل ما يتعلَّق بالمستوى الاقتصادي والمالي وشؤونه الأُخرى.
ثالثاً: العلاقات العامَّة، ويدخل تحتها كلُّ عنوان ما عدا ما ذُكِرَ في الفقرتين الآنفتين أعلاه.
والرواية التالية تُعَدُّ عيِّنةً لهذه الملاحم المستقبليَّة التي عالجها أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام).
عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن بعض أصحابه. وعليُّ ابن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير جميعاً، عن محمّد بن أبي حمزة، عن حمران، قال: ... قال أبو عبد الله (عليه السلام) وذكر هؤلاء عنده وسوء حال الشيعة عندهم، فقال: «إنِّي سرتُ مع أبي جعفر المنصور وهو في موكبه وهو على فرس وبين يديه خيل ومن خلفه خيل وأنا على حمار إلى جانبه، فقال لي: يا أبا عبد الله قد كان ينبغي لك أنْ تفرح بما أعطانا الله من القوَّة، وفتح لنا من العزِّ، ولا تُخبِر الناس أنَّك أحقُّ بهذا الأمر منَّا وأهل بيتك فتغرينا بك وبهم».
قال: «فقلت: ومن رفع هذا إليك عنِّي فقد كذب.
فقال لي: أتحلف على ما تقول؟
فقلت: إنَّ الناس سحرة يعني يُحِبُّون أنْ يُفسِدوا قلبك عليَّ فلا تُمكِّنهم من سمعك، فإنَّا إليك أحوج منك إلينا.
فقال لي: تذكر يوم سألتك هل لنا ملك؟ فقلت: نعم طويل عريض شديد فلا تزالون في مهلة من أمركم وفسحة من دنياكم حتَّى تصيبوا منَّا دماً حراماً في شهر حرام في بلد حرام، فعرفت أنَّه قد حفظ الحديث.
فقلت: لعلَّ الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يكفيك فإنِّي لم أخصّك بهذا وإنَّما هو حديث رويته، ثمّ لعلَّ غيرك من أهل بيتك يتولَّى ذلك، فسكت عنِّي، فلمَّا رجعت إلى منزلي أتاني بعض موالينا فقال: جُعلت فداك، والله لقد رأيتك في موكب أبي جعفر وأنت على حمار وهو على فرس وقد أشرف عليك يُكلِّمك كأنَّك تحته، فقلت بيني وبين نفسي: هذا حجَّة الله على الخلق وصاحب هذا الأمر الذي يُقتدى به وهذا الآخر يعمل بالجور ويقتل أولاد الأنبياء ويسفك الدماء في الأرض بما لا يُحِبُّ الله وهو في موكبه وأنت على حمار، فدخلني من ذلك شكٌّ حتَّى خفت على ديني ونفسي».
قال: «فقلت: لو رأيت من كان حولي وبين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي من الملائكة لاحتقرته واحتقرت ما هو فيه.
فقال: الآن سكن قلبي(84)، ثمّ قال: إلى متى هؤلاء يملكون - أو متى الراحة منهم -؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(84) نقلنا هذا المقطع لعرض إحدى مظاهر الظلم والجور الذي سيكون داعياً للظهور واسترجاع الحقِّ إلى أهله والإنصاف إلى نصابه.
فقلت: أليس تعلم أنَّ لكلِّ شيء مدَّة؟
قال: بلى.
فقلت: هل ينفعك علمك أنَّ هذا الأمر إذا جاء كان أسرع من طرفة العين؟ إنَّك لو تعلم حالهم عند الله (عزَّ وجلَّ) وكيف هي كنت لهم أشدُّ بغضاً، ولو جهدت أو جهد أهل الأرض أنْ يُدخِلوهم في أشدّ ما هم فيه من الإثم لم يقدروا، فلا يستفزنَّك الشيطان فإنَّ العزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون، ألَا تعلم أنَّ من انتظر أمرنا وصبر على ما يرى من الأذى والخوف هو غداً في زمرتنا(85)؟
فإذا رأيت الحقَّ قد مات وذهب أهله، ورأيت الجور قد شمل البلاد، ورأيت القرآن قد خُلِقَ وأُحدث فيه ما ليس فيه ووُجِّه على الأهواء، ورأيت الدِّين قد انكفى كما ينكفي الماء، ورأيت أهل الباطل قد استعلوا على أهل الحقِّ، ورأيت الشرَّ ظاهراً لا يُنهى عنه ويُعذَر أصحابه، ورأيت الفسق قد ظهر واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، ورأيت المؤمن صامتاً لا يُقبَل قوله، ورأيت الفاسق يكذب ولا يُرَدُّ عليه كذبه وفريته، ورأيت الصغير يستحقر بالكبير، ورأيت الأرحام قد تقطَّعت، ورأيت من يمتدح بالفسق يُضحَك منه ولا يُرَدُّ عليه قوله، ورأيت الغلام يُعطى ما تُعطى المرأة، ورأيت النساء يتزوجنَّ النساء، ورأيت الثناء قد كثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(85) إشارة إلى الانتظار وأهمّيَّته في مدخليَّة الظهور وتحقُّق اليوم الموعود.
ورأيت الرجل ينفق المال في غير طاعة الله فلا يُنهى ولا يُؤخَذ على يديه، ورأيت الناظر يتعوَّذ بالله ممَّا يرى المؤمن فيه من الاجتهاد، ورأيت الجار يؤذي جاره وليس له مانع، ورأيت الكافر فرحاً لما يرى في المؤمن، مرحاً لما يرى في الأرض من الفساد، ورأيت الخمور تُشرَب علانية ويجتمع عليها من لا يخاف الله (عزَّ وجلَّ)، ورأيت الآمر بالمعروف ذليلاً، ورأيت الفاسق فيما لا يُحِبُّ الله قويًّا محموداً، ورأيت أصحاب الآيات يُحتقَرون ويُحتقَر من يُحِبُّهم.
ورأيت سبيل الخير منقطعاً وسبيل الشرِّ مسلوكاً، ورأيت بيت الله قد عُطِّل ويُؤمَر بتركه، ورأيت الرجل يقول ما لا يفعله، ورأيت الرجال يتسمَّنون للرجال والنساء للنساء، ورأيت الرجل معيشته من دُبُره ومعيشة المرأة من فرجها، ورأيت النساء يتَّخذن المجالس كما يتَّخذها الرجال، ورأيت التأنيث في ولد العبَّاس قد ظهر، وأظهروا الخضاب وامتشطوا كما تمتشط المرأة لزوجها، وأعطوا الرجال الأموال على فروجهم، وتنوفس في الرجل وتغاير عليه الرجال.
وكان صاحب المال أعزّ من المؤمن، وكان الربا ظاهراً لا يُعيَّر، وكان الزنى تمتدح به النساء، ورأيت المرأة تصانع زوجها على نكاح الرجال، ورأيت أكثر الناس وخير بيت من يساعد النساء على فسقهنَّ، ورأيت المؤمن محزوناً محتقراً ذليلاً، ورأيت البِدَع والزنى قد ظهر، ورأيت الناس يعتدون بشاهد الزور.
ورأيت الحرام يُحلَّل ورأيت الحلال يُحرَّم، ورأيت الدِّين بالرأي، وعُطِّل الكتاب وأحكامه، ورأيت الليل لا يُستخفى به من الجرأة على الله، ورأيت المؤمن لا يستطيع أنْ يُنكِر إلَّا بقلبه، ورأيت العظيم من المال يُنفَق في سخط الله (عزَّ وجلَّ)، ورأيت الولاة يُقرِّبون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير، ورأيت الولاة يرتشون في الحكم، ورأيت الولاية قبالة لمن زاد.
ورأيت ذوات الأرحام يُنكَحن ويُكتفى بهنَّ، ورأيت الرجل يُقتَل على التهمة وعلى الظنَّة، ويتغاير على الرجل الذَّكَر فيبذل له نفسه وماله، ورأيت الرجل يُعيَّر على إتيان النساء، ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور، يعلم ذلك ويقيم عليه، ورأيت المرأة تقهر زوجها، وتعمل ما لا يشتهي، وتنفق على زوجها، ورأيت الرجل يكري امرأته وجاريته ويرضى بالدنيِّ من الطعام والشراب، ورأيت الأيمان بالله (عزَّ وجلَّ) كثيرة على الزور، ورأيت القمار قد ظهر، ورأيت الشراب يُباع ظاهراً ليس له مانع.
ورأيت النساء يبذلن أنفسهنَّ لأهل الكفر، ورأيت الملاهي قد ظهرت يُمَرُّ بها، لا يمنعها أحد أحداً، ولا يجترئ أحد على منعها، ورأيت الشريف يستذلُّه الذي يخاف سلطانه، ورأيت أقرب الناس من الولاة من يمتدح بشتمنا أهل البيت، ورأيت من يُحِبُّنا يُزوَّر ولا تُقبَل شهادته، ورأيت الزور من القول يُتنافَس فيه.
ورأيت القرآن قد ثقل على الناس استماعه وخفَّ على الناس استماع الباطل، ورأيت الجار يكرم الجار خوفاً من لسانه، ورأيت الحدود قد عُطِّلت وعُمِلَ فيها بالأهواء، ورأيت المساجد قد زُخرفت، ورأيت أصدق الناس عند الناس المفتري الكذب، ورأيت الشرَّ قد ظهر والسعي بالنميمة، ورأيت البغي قد فشا، ورأيت الغيبة تُستملَح ويُبشِّر بها الناس بعضهم بعضاً.
ورأيت طلب الحجِّ والجهاد لغير الله، ورأيت السلطان يُذِلُّ للكافر المؤمن، ورأيت الخراب قد أُديل من العمران، ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان، ورأيت سفك الدماء يُستخَفُّ بها، ورأيت الرجل يطلب الرئاسة لعرض الدنيا، ويشهر نفسه بخبث اللسان ليُتَّقى وتُسنَد إليه الأُمور، ورأيت الصلاة قد استُخِفَّ بها، ورأيت الرجل عنده المال الكثير ثمّ لم يُزكِّه منذ مَلَكَه، ورأيت الميِّت يُنبَش من قبره ويُؤذَى وتُباع أكفانه، ورأيت الهرج قد كثر.
ورأيت الرجل يمشي نشوان ويصبح سكران لا يهتمُّ بما الناس فيه، ورأيت البهائم تُنكَح، ورأيت البهائم يفرس بعضها بعضاً، ورأيت الرجل يخرج إلى مصلَّاه ويرجع وليس عليه شيء من ثيابه، ورأيت قلوب الناس قد قست وجمدت أعينهم وثقل الذكر عليهم، ورأيت السحت قد ظهر يُتنافَس فيه، ورأيت المصلِّي إنَّما يُصلِّي ليراه الناس، ورأيت الفقيه يتفقَّه لغير الدِّين، يطلب الدنيا والرئاسة.
ورأيت الناس مع من غلب، ورأيت طالب الحلال يُذَمُّ ويُعيَّر وطالب الحرام يُمدَح ويُعظَّم، ورأيت الحرمين يُعمَل فيهما بما لا يُحِبُّ الله، لا يمنعهم مانع ولا يحول بينهم وبين العمل القبيح أحد، ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين، ورأيت الرجل يتكلَّم بشيء من الحقِّ ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقوم إليه من ينصحه في نفسه فيقول: هذا عنك موضوع، ورأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشرور، ورأيت مسلك الخير وطريقه خالياً لا يسلكه أحد.
ورأيت الميِّت يُهزَأ به فلا يفزع له أحد، ورأيت كلَّ عام يحدث فيه من الشرِّ والبدعة أكثر ممَّا كان، ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلَّا الأغنياء، ورأيت المحتاج يُعطى على الضحك به ويُرحَم لغير وجه الله، ورأيت الآيات في السماء لا يفزع لها أحد، ورأيت الناس يتسافدون كما يتسافد البهائم لا يُنكِر أحد منكراً تخوُّفاً من الناس، ورأيت الرجل ينفق الكثير في غير طاعة الله ويمنع اليسير في طاعة الله، ورأيت العقوق قد ظهر واستُخِفَّ بالوالدين وكانا من أسوء الناس حالاً عند الولد ويفرح بأنْ يفتري عليهما.
ورأيت النساء وقد غلبن على الملك وغلبن على كلِّ أمر لا يُؤتى إلَّا ما لهنَّ فيه هوى، ورأيت ابن الرجل يفتري على أبيه ويدعو على والديه ويفرح بموتهما، ورأيت الرجل إذا مرَّ به يوم ولم يكسب فيه الذنب العظيم من فجور أو بخس مكيال أو ميزان أو غشيان حرام أو
شرب مسكر كئيباً حزيناً يحسب أنَّ ذلك اليوم عليه وضيعة من عمره، ورأيت السلطان يحتكر الطعام، ورأيت أموال ذوي القربى تُقسَم في الزور ويُتقامَر بها وتُشرَب بها الخمور، ورأيت الخمر يُتداوى بها ويُوصَف للمريض ويُستشفى بها.
ورأيت الناس قد استووا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك التديُّن به، ورأيت رياح المنافقين وأهل النفاق قائمة ورياح أهل الحقِّ لا تُحرَّك، ورأيت الأذان بالأجر والصلاة بالأجر، ورأيت المساجد محتشية ممَّن لا يخاف الله، مجتمعون فيها للغيبة وأكل لحوم أهل الحقِّ ويتواصفون فيها شراب المسكر.
ورأيت السكران يُصلِّي بالناس وهو لا يعقل ولا يشان بالسكر وإذا سكر أُكرم واتُّقي وخيف وتُرِكَ، لا يُعاقَب ويُعذَر بسكره، ورأيت من أكل أموال اليتامى يُحمَد بصلاحه، ورأيت القضاة يقضون بخلاف ما أمر الله، ورأيت الولاة يأتمنون الخونة للطمع، ورأيت الميراث قد وضعته الولاة لأهل الفسوق والجرأة على الله، يأخذون منهم ويخلونهم وما يشتهون.
ورأيت المنابر يُؤمَر عليها بالتقوى ولا يعمل القائل بما يأمر، ورأيت الصلاة قد استُخِفَّ بأوقاتها، ورأيت الصدقة بالشفاعة لا يُراد بها وجه الله ويُعطى لطلب الناس، ورأيت الناس همُّهم بطونهم وفروجهم، لا يبالون بما أكلوا وما نكحوا، ورأيت الدنيا مقبلة عليهم،
ورأيت أعلام الحقِّ قد درست، فكن على حذر واطلب إلى الله (عزَّ وجلَّ) النجاة، واعلم أنَّ الناس في سخط الله (عزَّ وجلَّ) وإنَّما يُمهِلهم لأمر يُراد بهم، فكن مترقِّباً واجتهد ليراك الله (عزَّ وجلَّ) في خلاف ما هم عليه فإنْ نزل بهم العذاب وكنت فيهم عُجِّلت إلى رحمة الله وإنْ أُخِّرت أُبتلوا وكنت قد خرجت ممَّا هم فيه من الجرأة على الله (عزَّ وجلَّ)، واعلم أنَّ الله لا يضيع أجر المحسنين، وأنَّ رحمة الله قريب من المحسنين»(86).
والرواية صحيحة مع وجود إبراهيم بن هاشم وقد درج الأصحاب على قبوله وإنْ لم يرد في توثيقه شيءٌ مصرَّح به، إلَّا أنَّ جلالة قدره ومنزلته ما دعت ولده الثقة عليُّ بن إبراهيم أنْ يروي عنه أكثر رواياته فضلاً عمَّا نقله من حديث الكوفيِّين إلى قم ممَّا دعا الأكثر أنْ يعاملوه معاملة الثقة وأنْ يُدرِجوا رواياته في الصحاح.
ومحمّد بن أبي حمزة فهو مشترك مع محمّد بن أبي حمزة التيملي المجهول من أصحاب الصادق (عليه السلام)، إلَّا أنَّ المشار إليه هو محمّد بن أبي حمزة الثمالي بقرينة رواية ابن أبي عمير وأحمد بن محمّد بن عيسى وغيرهما عنه، والوارد في السند هو ابن أبي حمزة الثمالي وليس غيره، والكشِّي نصَّ على توثيقه بقوله: (قال أبو عمرو: سألت أبا الحسن حمدويه بن نصير، عن عليِّ بن أبي حمزة الثمالي والحسين بن أبي حمزة ومحمّد أخويه وابنه؟ فقال: كلُّهم ثقاة فاضلون)(87).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(86) الكافي (ج 8/ ص 36 - 42/ ح 7).
(87) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 707/ ح 761).
وأمَّا حمران فالظاهر هو ابن أعين الجليل، وإنْ لم ينصُّوا على توثيقه إلَّا أنَّه في منزلة عظيمة عند أبي عبد الله (عليه السلام) فضلاً عن كونه من حواري الباقر (عليه السلام)، فلا يُرتابُ في جلالته وقدره.
إذن فالرواية صحيحة أو بمنزلة الصحاح، ولأهمّيَّة ما ورد فيها فقد أشرنا إلى صحَّة صدورها والاطمئنان من سندها.
والروايتان تستعرضُ مستقبل الأحداث التي ستمرُّ بها الأُمَّة وحالات الانحدار الاجتماعي المتسبَّبة عن انحرافات أخلاقيَّة تنشأ من عدم النضج الفكري، أو التسيُّبات السياسيَّة التي تفرزها حالات عدم الالتزام الدِّيني والأخلاقي التي يُبتلى بها المجتمع بصورةٍ عامَّةٍ.
وبمعنى آخر فإنَّ حالات الظلم والجور تسودُ مجتمعاً تحكمه النظرة الجامحة المجرَّدة عن كلِّ التزام روحي وأخلاقي ليُخيِّم الشعور بالانهزاميَّة التي تلاحق الكثير، ومن ثَمَّ الاستسلام للقلق الناشئ من الخواء الروحي والفكري، عندها فلا بدَّ من منقذٍ ينتشل القِيَم والمبادئ، أو فقل: ينتشل مجتمعاً يفقدُ القِيَم والمبادئ التي تنهار بفعل الانحرافات التي عصفت بالمجتمع جميعاً، إلَّا أنَّ تساؤلاً ينبغي طرحه في هذا المضمار، وهو: هل أنَّ هذه الأحداث التي تشير إليها الرواية هي مقتضٍ للظهور أو هي مجرَّد علامات تُنبئ عن حلول اليوم الموعود؟
والحقيقة أنَّنا نتلمَّسُ من عدَّة روايات أنَّ الأحداث التي أنذر الأئمَّة (عليهم السلام) بوقوعها أكثرها مقتضيات للتعجيل بيوم الظهور، أو هي
بمثابة شرائط لهذا اليوم لا على أساس العلَّة التي يتوقَّف تحقُّق المعلول على أساسها، بل هي داخلة في شرطيَّة التحقُّق وحدوثه، فربَّما الشرط يتخلَّف عن حتميَّة التحقُّق أحياناً في حين أنَّ العلَّة لا بدَّ من إيجاد معلولها، وقد فصَّل الفلاسفة والأُصوليُّون الفرق بين الشرط والعلَّة، فالشرط يُعَدُّ جزء علَّة، ويمكن عند تخلُّف بعض الشروط تحقُّق العلَّة لاعتباراتٍ خاصَّةٍ أو استثنائيَّةٍ، في حين تخلُّف العلَّة بأيِّ حالٍ لا يمكن للمعلول تحقُّقه بعد ذلك. أو كون هذه الشروط بمنزلة شروط الجعل التي هي ملاكات الأحكام المرتبطة بها مصلحة الشارع وإرادته.
إذن فهذه الحوادث لها مدخليَّة الشرط أو بمنزلة الشرط في تحقُّق الظهور، فمعالم الظلم ومظاهر الجور التي أشارت إليها الرواية هي بمنزلة الشرائط التي تُحقِّق الظهور، ففي بحوثٍ سابقةٍ أشرنا إلى أنَّ السبب في ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) هو بسط العدل مكان الظلم وحلول الأمن محلَّ الجور والعدوان، وربَّما يتمُّ ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) لمصلحةٍ خفت على العباد لا يعلمها إلَّا الله تعالى، فلعلَّه لإتمام الحجَّة على العباد، أو لتحقُّق الكمال البشري الذي يطمحُ إليه الخلق وتحثُّ عليه رسالات السماء كذلك، أو لعلَّة مقتضية خفيَّة.
علامات الظهور وموازنات القوى السياسيَّة:
كما أنَّ بعض الروايات تعهَّدت بذكر حالة مثيرة، وهي حالة ضعف ملك بني فلان، إذ لم تُصرِّح بالجهة التي يتعلَّق ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)
على ضعف ملكهم، ومعلوم أنَّ ذلك ما تتطلَّبه تقيَّة الحال التي ستُروى بها الرواية، ولعلَّ ملك بني فلان سيكون في مناطق الظهور التي يظهر منها الإمام (عجَّل الله فرجه)، إذ من غير الممكن أنْ يظهر (عجَّل الله فرجه) في عنفوان الدولة التي يظهر فيها، بل لا بدَّ أنْ يظهر على أساس ضعف تلك الدولة بحيث لا تستطيع معها صدَّ حركة الإمام (عجَّل الله فرجه) ودعوته إبَّان ظهوره.
بل تشدَّدت بعض الروايات وجعلت حتميَّة الظهور متعلِّقةً باختلاف بني فلان فيما بينهم، وهو أمرٌ مقبول ضمن الحسابات المادّيَّة واللوجستيَّة المتعارفة، فإنَّ القوَّة التي ستكون معرقلةً لظهوره (عجَّل الله فرجه) لا بدَّ من صدِّها، وهذا الصدُّ لهذه القوَّة قد لا يتناسب وحجم القوَّة المتاحة لدى الإمام (عجَّل الله فرجه) قبيل ظهوره، بل لعلَّ القوَّة المهيَّئة للإمام (عجَّل الله فرجه) هي حالات استجابة تقترن بقناعات القوى والأفراد التي ستنضمُّ للإمام (عجَّل الله فرجه) فيما بعد، أي بعد ظهوره وإعلان حركته المباركة، في حين قد لا تتهيَّأ تلك القوَّة ابتداءً، وهذا ما يجعلنا أنْ نقتنع أنَّ ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) لا يكون إلَّا على حساب ضعف القوى وشتاتها، وإلَّا من غير المعقول أنْ تكون حركة الإمام (عجَّل الله فرجه) على أساس قوى غير متكافئة.
من هنا نجد أنَّ التشدُّد في لهجة الرواية مبرَّرة على أساس الحسابات المادّيَّة، لذا فقوله (عليه السلام): «ولا ترون ما تُحِبُّون حتَّى يختلف بنو فلان فيما بينهم»، ولعلَّ الرواية ستُعطي انطباعاً معقولاً عن الحالة المتصوَّرة وقتذاك.
ففي رواية أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال في حديثٍ طويل: «إذا اختلف بنو فلان فيما بينهم فعند ذلك فانتظروا الفرج، وليس فرجكم إلَّا في اختلاف بني فلان، فإذا اختلفوا فتوقَّعوا الصيحة في شهر رمضان بخروج القائم، إنَّ الله يفعل ما يشاء، ولن يخرج القائم ولا ترون ما تُحِبُّون حتَّى يختلف بنو فلان فيما بينهم، فإذا كان ذلك طمع الناس فيهم واختلفت الكلمة، وخرج السفياني».
وقال: «لا بدَّ لبني فلان أنْ يملكوا، فإذا ملكوا ثمّ اختلفوا تفرَّق ملكهم وتشتَّت أمرهم حتَّى يخرج عليهم الخراساني والسفياني، هذا من المشرق، وهذا من المغرب، يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان، هذا من هنا، وهذا من هنا، حتَّى يكون هلاك بني فلان على أيديهما، أمَا إنَّهما لا يُبْقُون منهم أحداً»(88).
وروى المجلسي (رحمه الله) بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لا يكون فساد ملك بني فلان حتَّى يختلف سيفي بني فلان، فإذا اختلفوا كان عند ذلك فساد ملكهم»(89).
ولعلَّ بني فلان الأُولى إشارة إلى الحكومة الرسميَّة التي تتشكَّل من جهةٍ عائليَّةٍ معيَّنةٍ، وبني فلان الثانية قوَّة مضادَّة من عائلة أُخرى تعارض الأُولى. وهذا شأن بعض التشكيلات الحكوميَّة ومعارضاتها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(88) الغيبة للنعماني (ص 262 - 265/ باب 14/ ح 13).
(89) بحار الأنوار (ج 52/ ص 210/ ح 55)، عن الغيبة للطوسي (ص 447 و448/ ح 446).
التي تعيشها المنطقة حاليًّا. أو كون بني فلان رمزٌ لجهة واحدة حاكمة فتنشأ من بينها معارضة تحاول الإطاحة بالحكومة القائمة.
وبسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: «مَنْ يضمن لي موت عبد الله أضمن له القائم»، ثمّ قال: «إذا مات عبد الله لم يجتمع الناس بعده على أحد، ولم يتناه هذا الأمر دون صاحبكم إنْ شاء الله، ويذهب ملك سنين ويصير ملك الشهور والأيَّام».
فقلت: يطول ذلك؟
قال: «كلَّا»(90).
واسم عبد الله هل هو الاسم الصريح للحاكم الفعلي لتلك الدولة، أو هو رمزٌ لذلك الحاكم الذي يتعلَّق موته على أسباب الاضطراب والقلق في منطقة الظهور؟ الإجابة تظهر بالتتبُّع الخارجي والاستقصاء الذي يحرص عليه الكثير لمتابعة علامات الظهور المتتابعة، بل المتسارعة في التحقُّق إنْ شاء الله تعالى.
وقوله (عليه السلام): «يذهب ملك سنين ويصير ملك الشهور والأيَّام» دلالة على الاضطرابات السياسيَّة في منطقة الظهور، وحدَّة التنافسات بين الأقطاب الحاكمة، والتوجُّهات السياسيَّة، ولعلَّها تسود حالة الانقلابات العسكريَّة، وغلبة الأجنحة المتصارعة على السلطة بالقوَّة، وعنف التيَّارات المتنافسة، وحالة توالي الانقلابات العسكريَّة يُوحي إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(90) بحار الأنوار (ج 52/ ص 210/ ح 54)، عن الغيبة للطوسي (ص 447/ ح 445).
ضعف الجهات المتنازعة حتَّى إنَّها تكون في شغلٍ عن دعوة الإمام (عجَّل الله فرجه) ومواجهته، أو لكونها ضعيفة غير قادرة أصلاً على مواجهة حركة الإمام (عجَّل الله فرجه) وقت ظهوره.
بل يُعَدُّ اختلاف بني العبَّاس من المحتوم الذي لا بدَّ منه والذي يتوقَّف عليه تحقُّق يوم الظهور أو على الأقلّ التعجيل به.
ففي الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام): «اختلاف ولد العبَّاس من المحتوم...»(91)، وهو مشعر بأهمّيَّة مدخليَّة هذا الاختلاف على توازن القوى السياسيَّة ومعادلاتها، واصطلاح بني العبَّاس لعلَّه إشارة للخطِّ السياسي الحاكم في المنطقة، أو الذي يُمثِّل أهمّ مظاهر القوى السياسية الظالمة المناوئة لأهل البيت (عليهم السلام) بغضِّ النظر عن انتماءاتها السياسيَّة وتلويناتها الحزبيَّة، ولا يمكننا الجزم بأنَّ اصطلاح بني العبَّاس الوارد في الروايات هو الانتساب لبني العبَّاس فعلاً أي الإشارة للعبَّاسيِّين، إذ لم يكن في الأُفُق السياسي ما يشير إلى احتلال بني العبَّاس موقعاً سياسيًّا متميِّزاً عدا ما توقَّعنا أنَّه إشارة إلى التيَّارات الظالمة القائمة في المنطقة.
هذه هي العلامات المقاربة إلى عصر الظهور، والمقتضية لإيجادها كذلك.
2 - العلامات المقارنة ليوم الظهور نسبيًّا:
وهي علامات مقارنة نسبيًّا ليوم الظهور، وستكون أكثر إثارةً من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(91) الكافي (ج 8/ ص 310/ ح 484).
سابقتها، وهي بمثابة تحفيز قريب للإشارة إلى قرب الظهور، كما أنَّها أكثر تنبيهاً، وأشدُّ تأثيراً، ولعلَّها تستثير أكبر عددٍ من الناس من سابقتها التي لا يتَّجه إليها إلَّا الخواصّ، أي إنَّ علامات الظهور القريبة سيقتصر على مراقبتها خاصَّة الشيعة الذين يهتمُّون باليوم الموعود، ويراقبون عن كثب ذلك اليوم وعلاماته، في حين ستكون العلامات المقارنة مسترعية لانتباه الأكثر من الناس، وسينشدُّ إليها العدد الأكبر منهم، وبذلك ستكون من الأهمّيَّة بمكان، وأهمُّها السفياني واليماني والخراساني والصيحة.
أمَّا السفياني فإنَّه قبل قيام القائم (عجَّل الله فرجه) بتسعة شهور أو عشرة كما في صحيحة الفضل، عن ابن أبي عمير، عن ابن أُذينة، عن محمّد بن مسلم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ السفياني يملك بعد ظهوره على الكور الخمس حمل امرأة».
ثمّ قال (عليه السلام): «أستغفر الله حمل جمل، وهو من الأمر المحتوم الذي لا بدَّ منه»(92).
وعن عمَّار الدهني، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «كم تعدُّون بقاء السفياني فيكم؟».
قال: قلت: حمل امرأة تسعة أشهر.
قال: «ما أعلمكم يا أهل الكوفة»(93).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(92) الغيبة للطوسي (ص 449 و450/ ح 452).
(93) الغيبة للطوسي (ص 462/ ح 477).
على أنَّ ذكره (عليه السلام) لمدَّة التسعة أشهر والعشرة ليس من باب التردُّد، كيف وعلمهم اللدنِّي لا يتخلَّف، وإنَّما ذكره بين التسعة والعشرة من باب المحو والإثبات، لقوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 39)، فلعلَّ المصلحة تتعلَّق في الإبقاء إلى تسعة أشهر أو تمديدها إلى العشرة، وكلُّ ذلك موكولٌ إلى إرادته تعالى، ومقتضى حكمته سبحانه.
وقوله (عليه السلام): «ما أعلمكم يا أهل الكوفة» مشعرٌ بالامتداح لهم، وذلك إشارة إلى أنَّهم من المهتمِّين بمعرفة علامات الظهور ومراقبتها، وهو أمرٌ يثير الاعتزاز بأنَّ معرفة علامات الظهور بل الثقافة المهدويَّة عموماً لها منزلتها عند أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) تستحقُّ الثناء لشيعتهم من قِبَلهم (عليهم السلام).
إذن فسيكون السفياني قد مارس سطوته وعنفه خلال المدَّة المقرَّرة، والتسعة أشهر أو العشرة عند ذاك سيُحدِث الله أمراً، وهو قيام القائم (عجَّل الله فرجه).
وسيكون اليماني مقارناً لظهور السفياني والخراساني كما عليه الروايات، حيث سيكونون في سنة واحدة، وفي شهر واحد، وفي يوم واحد.
روى الشيخ (رحمه الله) بسنده عن الفضل بن شاذان، عن سيف بن عميرة، عن بكر بن محمّد الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «خروج
الثلاثة: الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، وليس فيها راية بأهدى من راية اليماني يهدي إلى الحقِّ»(94).
وهكذا ستكون هناك حركات سياسيَّة ثوريَّة بعضها ضالَّة، والأُخرى على هدى، ترتبط حركاتها بعضها بالبعض الآخر ميدانيًّا وفكريًّا، وستأتي الإشارة إلى ذلك.
3 - العلامات التي لا تنفكُّ عن يوم الظهور:
وهي العلامات الحاسمة للإيذان بيوم الظهور، والمعلنة عن حلوله، وهي غير منفكَّة عنه، إذ ستُحدِث تغيُّراً (عنيفاً) في توجُّهات الناس، وهي بمثابة الصدمة للإحساس العامِّ الذي تُرعِبه تلك العلامات، وستُحدِث تزلزلاً عنيفاً في المواقف والمبتنَّيات، وستكون حالة اختبار حاسم لكلِّ التوجُّهات والرؤى على مستوى الأفراد أو التشكيلات.
الصيحة أو النداء:
هذه العلامات ستتقدَّم بين يدي الظهور بشكلٍ سريع لا يمكن معه التواني أو التأخير، أمثال الصيحة التي بينها وبين الظهور ستَّة أشهر أو أربعة أشهر كما في الروايتين التاليتين:
1 - عن الحسن بن المحبوب - كما في غيبة الشيخ - إلى أنْ قال: «ينادون في رجب ثلاثة أصوات من السماء...» إلى آخر الرواية(95).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(94) الغيبة للطوسي (ص 446 و447/ ح 443).
(95) الغيبة للطوسي (ص 439 و440/ ح 431).
2 - وعن الفضل بن شاذان بسنده عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إنَّ القائم (صلوات الله عليه) يُنادى اسمه ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم يوم عاشوراء يوم قُتِلَ فيه الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام)»(96).
وليلة الثالث والعشرين منصرفة إلى ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان (ليلة القدر)، كما هو المشهور.
وتُؤيِّده الرواية التالية: عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «الصيحة التي في شهر رمضان تكون ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين من شهر رمضان»(97).
وقيام القائم (عجَّل الله فرجه) يوم عاشوراء هو الأوفق بسياقات الظهور حيث ينادي بمظلوميَّة الحسين (عليه السلام) مطالباً بثأره الشريف، خصوصاً أنَّ الرواية الثانية ذُيِّلت بقوله (عليه السلام): «يوم عاشوراء يوم قُتِلَ فيه الحسين ابن عليٍّ (عليهما السلام)»، وكأنَّه إشعارٌ بأنَّه (عليه السلام) يظهر ونداءه يومئذٍ بالثأر لجدِّه الحسين (عليه السلام) المقتول ظلماً وعدواناً.
واختلاف الروايتين لا مانع منهما، فلعلَّ النداء يتكرَّر في شهري رجب ورمضان، وذلك لأهمّيَّة النداء وما يترتَّب عليه من ملازماتٍ ليوم الظهور.
على أنَّ الصيحة إحدى العلامات المهمَّة التي تُقارب يوم الظهور، وهي صيحة تحدث في شهر رمضان في ليلة الثالث والعشرين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(96) الغيبة للطوسي (ص 452/ ح 458).
(97) كمال الدِّين (ص 650/ باب 57/ ح 6).
منه توقظ الضمائر الغافلة عن الحقِّ، وفي نفس الوقت توهم الآخرين، وستكون الصيحة أو النداء أنَّ عليًّا مع الحقِّ فاتَّبعوه، ممَّا يعني أنَّ هناك فجوة هائلة بين الأُمَّة وبين الاعتقاد بالحقِّ، ولا ينفع ذلك إلَّا حالات الإعجاز التي تُنبِّه الغافلين أو المتغافلين عن الحقِّ، وليت شعري إلى أيِّ حدٍّ سيصل التجافي عن الحقِّ والتزلزل في الثبات على ذلك حتَّى لا ينفع معه إلَّا هزَّات الضمائر وإفزاع النفوس في إثارة انتباه الناس وتوجيه اهتمامهم؟
وقد حرص أئمَّة الهدى (عليهم السلام) على بيان معالم هذه الصيحة ومواصفاتها ليتبيَّن لنا مدى أهمّيَّتها في تحديد يوم الظهور، وخطورتها في الكشف عن المجهول الذي طالما بقي يترقَّبه العالم جميعاً بمختلف ميوله واتِّجاهاته، وسوف تكون للصيحة أثرها في توجيه معالم الاتِّجاه الذي ينبغي التزامه وقتذاك.
عن ابن محبوب، عن الثمالي - والظاهر أنَّه محمّد بن أبي حمزة الثمالي الثقة -، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: «إنَّ خروج السفياني من الأمر المحتوم».
قال لي: «نعم، واختلاف ولد العبَّاس من المحتوم، وقتل النفس الزكيَّة من المحتوم، وخروج القائم (عليه السلام) من المحتوم».
فقلت له: فكيف يكون النداء؟
قال: «ينادي منادٍ من السماء أوَّل النهار: ألَا إنَّ الحقَّ في عليٍّ
وشيعته، ثمّ ينادي إبليس (لعنه الله) في آخر النهار: ألَا إنَّ الحقَّ في السفياني وشيعته، فيرتاب عند ذلك المبطلون»(98).
وهذا التمييز الذي تحرص على بيانه الصيحة إشارة إلى تعدُّد الاتِّجاهات والمباني المختلفة التي تدَّعي الحقَّ أو المدَّعية بالدفاع عن الحقِّ، إلَّا أنَّ حالة الخلط والتخبُّط الذي تسلكه هذه الاتِّجاهات توهم أتباعها بصحَّة المنهج في حين هي تتعدَّى على المبادئ والقِيَم الحقَّة وتحاول من خلال سلوكيَّاتها إلى إلغاء الآخر، لذا فإنَّ الاضطراب في الفهم والانتماء من قِبَل البعض يُؤدِّي بسلامة منهجهم في تشخيص الحقِّ ومتابعته، لذا فإنَّ الصيحة حالة إنقاذ نهائي يُشخِّص الحقَّ ويهدي الآخرين على متابعته.
في حين ستكون الصيحة الثانية التي تشير إلى السفياني أو غيره وتدعو إليه، إشارة إلى الصراعات الفكريَّة التي تختلج الأُمَّة وتُؤدِّي بأفرادها إلى الضياع والتخليط.
ولعلَّ الصيحة التي ستكون في رجب - وهي إحدى الصيحات الثلاث إذ ستكون الأُخرى في شهر رمضان والثالثة في شهر محرَّم - على ثلاث مراحل وبالترتيب التالي:
المرحلة الأُولى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(98) بحار الأنوار (ج 52/ ص 206/ ح 40)، عن كمال الدِّين (ص 652/ باب 57/ ح 14).
المرحلة الثانية: الإعلان للاستعداد عن حالة التغيير المرتقُّب والحدث الموعود.
المرحلة الثالثة: الإعلان عن الخطِّ الذي يجب اتِّباعه والمتمثِّل في شخص الإمام (عجَّل الله فرجه) الذي ستُصرِّح الصيحة باسمه.
وبهذا ستُكوِّن الصيحة حالة انقلاب وتغيير لدى مستمعيها، وبالتأكيد فهي حجَّة باهرة لإحداث هزَّة عنيفة في الضمائر والوجدان العامِّ.
روى الشيخ (رحمه الله) عن سعد بن عبد الله، عن الحسن بن عليٍّ الزيتوني وعبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد بن هلال العبرتائي، عن الحسن ابن محبوب، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) - في حديثٍ طويل - أنَّه قال: «لا بدَّ من فتنة صمَّاء صيلم يسقط فيها كلُّ بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض، وكم من مؤمن متأسِّفٍ حرَّان حزين عند فقد الماء المعين، كأنِّي بهم أسرُّ ما يكونون وقد نودوا نداءً يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، يكون رحمةً للمؤمنين وعذاباً للكافرين».
فقلت: وأيُّ نداءٍ هو؟
قال: «ينادون في رجب ثلاثة أصوات من السماء: صوتاً منها: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18]، والصوت الثاني: ﴿أَزِفَتِ الْآزِفَةُ﴾ [النجم: 57] يا معشر المؤمنين، والصوت الثالث - يرون
بدناً نحو عين الشمس -: هذا أمير المؤمنين قد كرَّ في هلاك الظالمين»، وفي رواية الحميري: «والصوت [الثالث] بدن يُرى في قرن الشمس يقول: إنَّ الله بعث فلاناً فاسمعوا له وأطيعوا، فعند ذلك يأتي الناس الفرج وتودُّ الناس لو كانوا أحياءً(99)، ويشفي الله صدور قوم مؤمنين»(100).
الصيحة.. المشهد المرعب لماذا؟
ولم تقتصر روايات الصيحة على التراث الإمامي دون أنْ تشاركها روايات أهل السُّنَّة في ذلك. فقد أكَّدت هذه الروايات على أنَّ الصيحة ممَّا لا بدَّ منها، بل تُصوِّر لنا الصيحة بأنَّها حالة من حالات الرعب والفناء بخلاف ما يُصوِّره التراث الإمامي من أنَّ الصيحة هي تحوُّل مهمٌّ يستبشر من خلالها المؤمنون وتكون رحمةً لهم كما في الرواية التي مرَّت عن الرضا (عليه السلام) في قوله: «وقد نودوا نداءً يسمعهُ من بعد كما يسمعهُ من قرب، يكون رحمةً للمؤمنين...»، وورد عن عليٍّ (عليه السلام)، قال: «إذا نادى منادٍ من السماء أنَّ الحقَّ في آل محمّد فعند ذلك يظهر المهدي على أفواه الناس، ويشربون حبَّه، فلا يكون لهم ذكر غيره»(101).
وهذا خلاف ما يرويه أهل السُّنَّة من أنَّ الصيحة تُمثِّل الفناء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(99) الظاهر أنَّ معنى العبارة: يودُّ الأموات لو كانوا أحياءً، أو أنَّ العبارة صحيحة إلَّا أنَّها تعني أنَّ الحياة إشارة إلى صحَّة الاعتقاد الفكري الذي ينتهجه الناس، وأنَّهم يودُّون لو كانوا ممَّن اعتقد بالإمام (عجَّل الله فرجه) ودعا إليه من قبل.
(100) الغيبة للطوسي (ص 439 و440/ ح 431).
(101) الملاحم والفتن لابن طاوس (ص 129/ ح 136).
والهلاك وستكون من قسوة هذه الصيحة أنَّها تُهلِك سبعون ألفاً كما في حديث ابن الديلمي الذي يرويه المقدسي الشافعي في شأن النداء: «يصعقُ له سبعون ألفاً، ويُعمى سبعون ألفاً، ويتيه سبعون ألفاً»(102)، بل تجاوزت (المخيَّلة) الروائيَّة إلى تصوير مشهدٍ مروَّعٍ يفزعُ منه الناس عند سماعهم لذلك النداء، وتتحرَّك من خلال ذلك صوراً مرعبة تنقلها مشاهد الرواية في إحدى لقطاتها:
عن عبد الله بن مسعود، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، قال: «إذا كانت صيحة في رمضان فإنَّه يكون معمعة في شوَّال، وتمييز القبائل في ذي القعدة، وتُسفَك الدماء في ذي الحجَّة والمحرَّم، وما المحرَّم؟ - يقولها ثلاثاً -، هيهاتَ هيهاتَ يُقتَلُ الناس فيها هرجاً هرجاً».
قال: قلنا: وما الصيحة، يا رسول الله؟
قال: «هدَّةٌ في النصف من رمضان ليلة جمعة، وتكون هدَّةً تُوقِظ النائم وتُقعِدُ القائم، وتُخرِج العواتق من خدورهنَّ، في ليلة جمعة من سنة كثيرة الزلازل، فإذا صلَّيتم الفجر من يوم الجمعة فادخلوا بيوتكم وأغلقوا أبوابكم وسدُّوا كواكم، ودثِّروا أنفسكم، وسدُّوا آذانكم، فإذا حسستم بالصيحة فخرُّوا لله تعالى سُجَّداً وقولوا: سبحان القدُّوس، سبحان القدُّوس، ربّنا القدُّوس، فإنَّه من فعل ذلك نجا، ومن لم يفعل ذلك هلك»(103).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(102) عقد الدُّرَر (ص 102).
(103) كتاب الفتن للمروزي (ص 132).
ولم نعهد هذا المشهد المرعب في الروايات الإماميَّة التي تُصوِّر الصيحة، بل تنزع إلى حالة استيثار تتلقَّاها النفس بكلِّ ارتياح، وهو ما يهدينا له تعبير الرواية بأنَّ النداء (يكون رحمةً للمؤمنين)، والرحمة لا تعني إلَّا حالة نصرٍ مترقَّبٍ على صعيد القوَّة التي تفرضُ معها تغييراً لمعادلاتٍ سياسيَّةٍ تكون لصالح التوجُّهات الإماميَّة المنتظرة لليوم الموعود، في حين تُصوِّر روايات أهل السُّنَّة جوًّا من الهلع والفزع في صفوف الناس الذين ستفاجئهم الصيحة، وإذا رجعنا إلى (مكوِّنات) الصيحة ونداءها نجدُ أنَّ اتِّجاهين لا ثالث لهما سيفرضان على الجميع حتميَّة القبول والتعاطي معهما، وهو الالتزام بمنهج عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) أو الالتزام بالخطِّ المغاير له - بغضِّ النظر عن التعبيرات التي تستخدمها الروايات -، وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ تصوير الصدمة التي تُصوِّرها مشهد الروايات السُّنّيَّة في محلِّها، فالمتلقِّي سيكون عند ذاك على نمطين: إمَّا أنْ يكون قد تفاجئ في معرفته للحقِّ وتخطئة انتمائه، وإمَّا أنْ يكون متشدِّداً في قناعاته لا يسمح لنفسه أو لغيره بتغيير توجُّهاته الفكريَّة.
وإذا وقفنا على تعبيرات: يُصعَق، يُعمى، يتيه، فإنَّنا لا نستغرب من فضاعة هذه المصطلحات، إذ الصعقة والعمى والتيه عبارات تنزعُ إلى الرمزيَّة أكثر من كونها واقعيَّة، فالصعقة من أمرٍ مهولٍ يفزع معه السامع لنبأ يفاجئه لا يكون في الحسبان، والعمى بمعنى الإصرار على
عدم الاعتراف بالحقِّ ومحاولات التمويه التي يُظهِرها البعض محاولاً من ذلك إقناع نفسه ولو بشكلٍ ظاهري، والتيه هي حالة التحيُّر في الاختيار واتِّخاذ القرار المناسب، ولعلَّ هذا التصوُّر تُعزِّزه عبارة بعض الروايات السُّنّيَّة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) كالصراع بين القبائل وسفك الدماء والقتل العشوائي المعبَّر عنه: «يُقتَل الناسُ فيها هرجاً هرجاً»، فضلاً عن المعمعة وهي تعني شدَّة الحروب والفتن كما في رواية ابن مسعود آنفة الذكر.
إذن فهناك فارقٌ بين التصويرين للصيحة، التصوير الإمامي الذي يُصوِّر حالة الدلالة والاهتداء للحقِّ والاقتصار على أنَّ الصيحة تهدينا إلى أنَّ هذا الحقَّ أو ذلك الباطل، وتُلخِّصها عبارة: «رحمة للمؤمنين»، في حين تُهوِّل الروايات السُّنّيَّة هذه الصيحة بين سفك الدماء والفتن والصعقة والتيه والعمى، بمعنى أنَّ الصيحة ستكون قراءةً جديدةً لاستكشاف واقع مختبئ خلف محاولات التضليل والتمويه المتَّبع في قرارات الانتماء الفكري.
النفس الزكيَّة:
ومن العلامات التي لا تنفكُّ عن يوم الظهور، قتل النفس الزكيَّة التي ستكون أقرب من سابقتها - وهي الصيحة - حيث أشارت الروايات إلى أنَّ قتل النفس الزكيَّة ستتمُّ مقاربةً جدًّا ليوم الظهور، وهي خمس عشرة ليلة، كما في الرواية التالية:
عن الفضل بن شاذان بسنده عن صالح، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ليس بين قيام القائم وبين قتل النفس الزكيَّة إلَّا خمس عشرة ليلة»(104).
ويمكن أنْ تُطلق على هذه الروايات بـ(المحفِّزات)، أي المحفِّزات للذهنيَّة العامَّة لتلقِّي يوم الظهور واستقبال الحدث الجديد.
واهتمام الروايات بمقتل النفس الزكيَّة ينطلق من اهتمامها بما سيصل إليه المجتمع من حالات اللَّاوعي والانحطاط الفكري التي تُمثِّله ظاهرة التحدِّي للحقِّ والاستخفاف بالقِيَم والمبادئ بسبب ما تسود المجتمع من حالات الإحباط النفسي الناشئ من تقليديَّات العنف والقوَّة بدل السلام والتسامح، وإذا كان المجتمع ضحيَّة التزمُّت والتقوقع التي تعيشه بعض القيادات المدَّعية للإصلاح، فإنَّ شعوراً بالخيبة يسود البعض لما ترتكبه بعض التوجُّهات من ممارسات لا تهدفُ للإصلاح بقدر ما يساورها قلق التهديد لوجودها إذا هي لم تستخدم هذه الأساليب من العنف بدل الحوار، فالحوار - حسب رؤيتها - تهديدٌ حقيقيٌّ لمبانيها وأُسُسها، وإذا استسلمت لأيِّ حوارٍ فإنَّ ذلك يعني بداية النهاية لوجودها، لذا فهي ترفض ابتداءً مبادرات الحوار المطروحة، وستُمثِّل حالة قتل النفس الزكيَّة أقصى حالات التحدِّي والرفض لمبدأ الحوار وستستبدله بالعنف والقوَّة، ولعلَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(104) الغيبة للطوسي (ص 445/ ح 440).
الرواية التالية تُصوِّر لنا شاهد الرفض (التقليدي) للحوار واستبداله بإلغاء الآخر.
روى المجلسي (رحمه الله) بإسناده إلى أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل إلى أنْ قال: «يقول القائم (عليه السلام) لأصحابه: يا قوم، إنَّ أهل مكَّة لا يريدونني، ولكنِّي مرسِلٌ إليهم لأحتجَّ عليهم بما ينبغي لمثلي أنْ يحتجَّ عليهم. فيدعو رجلاً من أصحابه فيقول له: امضِ إلى أهل مكَّة فقل: يا أهل مكَّة، أنا رسول فلان إليكم، وهو يقول لكم: إنَّا أهل بيت الرحمة، ومعدن الرسالة والخلافة، ونحن ذرّيَّة محمّد وسلالة النبيِّين، وإنَّا قد ظُلمنا واضطُهدنا، وقُهرنا وابتُزَّ منَّا حقُّنا منذ قُبِضَ نبيُّنا إلى يومنا هذا، فنحن نستنصركم فانصرونا. فإذا تكلَّم هذا الفتى بهذا الكلام أتوا إليه فذبحوه بين الركن والمقام، وهي النفس الزكيَّة، فإذا بلغ ذلك الإمام قال لأصحابه: ألَا أخبرتكم أنَّ أهل مكَّة لا يريدوننا، فلا يدعونه حتَّى يخرج فيهبط في عقبة طوى في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً عدَّة أهل بدر حتَّى يأتي المسجد الحرام، فيُصلِّي فيه عند مقام إبراهيم أربع ركعات، ويسند ظهره إلى الحجر الأسود، ثمّ يحمد الله ويثني عليه ويذكر النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) ويُصلِّي عليه ويتكلَّم بكلام لم يتكلَّم به أحد من الناس...» إلى آخر الحديث(105).
وكأنَّ الإمام (عليه السلام) أراد أنْ يُذكِّر الناس بمواقف الرفض وأُسلوب العنف التقليدي إبَّان حرب صفِّين حين رفض الشاميُّون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(105) بحار الأنوار (ج 52/ ص 307/ ح 81).
حوارهم مع عليٍّ (عليه السلام) بادئ ذي بدء ورفضهم كذلك حتَّى في اللحظات الحاسمة من المواجهة بين الصفَّين.
فقد روى نصر بن مزاحم في كتابه (وقعة صفِّين): أنَّ عليًّا قال: «من يذهب بهذا المصحف إلى هؤلاء القوم فيدعوهم إلى ما فيه؟»، فأقبل فتى اسمه سعيد فقال: أنا صاحبه، ثمّ أعادها فسكت الناس، وأقبل الفتى فقال: أنا صاحبه، فقال عليٌّ: «دونك»، فقبضه بيده ثمّ أتى معاوية فقرأه عليهم ودعاهم إلى ما فيه، فقتلوه...(106).
ولم تغب مشاهد المحاججات التي بعث بها الحسين (عليه السلام) أصحابه إلى القوم قبل عاشوراء، بل في يوم عاشوراء كذلك، وكان جواب القوم بسهام يرشقونها نحوهم متحرِّين قتالهم، وهكذا فعل الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) عند خروجه لمعاوية، فقد كان الحوار فاتحة عهد المواجهة.
إذن فالنفس الزكيَّة تُمثِّل تقليديَّة الحوار والسلام التي انتهجها أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وقتله يُمثِّل لغة العنف والرفض لمبدأ الحوار.
ولعلَّ رفض حوار النفس الزكيَّة والعمد إلى قتله هي الصورة المروِّعة في سلوكيَّات الكثير الرافض لمبدأ الحقِّ، وستكون المنطقة الممنوعة التي ينطلقُ منها الإمام (عجَّل الله فرجه) في حركته الإصلاحيَّة كما كان آباؤه (عليهم السلام) من قبل، وستُمثِّل مشاهد مقتل النفس الزكيَّة بعد رفض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(106) وقعة صفِّين (ص 244).
الإجابة، هي المرحلة الأخيرة من جدليَّة الصراع التي تُبيح للإمام (عجَّل الله فرجه) التحرُّك من خلالها.
ولعلَّ هذا المشهد المروِّع حرَّك قرائح بعض الشعراء فنعى حالات الإخفاق التي يمرُّ بها البعض وهو في خضمِّ الامتحان الصعب ليراهن على وعيه وتجرُّده عن كلِّ نزعة تجافيه عن الحقِّ فقال:
وفي قتل نفسٍ بعد ذاك زكيَّةٍ * * * أماراتُ حقٍّ عند من يتذكَّرُ
وآخرُ عند البيتِ يُقتَلُ ضيعةً * * * يقومُ فيدعو للإمام فيُنحَرُ(107)
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(107) عقد الدُّرر (ص 119).
(ب) العلامات من حيث حتميَّة التحقُّق وعدمه:
تنقسم علامات الظهور من حيث حتميَّة تحقُّقها وعدمه إلى قسمين: علامات محتومة، وعلامات مشترطة.
قال الشيخ المفيد (رحمه الله) - بعد عدِّه لعلامات الظهور -: (ومن جملة هذه الأحداث محتومة، ومنها مشترطة، والله أعلمُ بما يكون، وإنَّما ذكرناها على حسب ما ثبت في الأُصول وتضمَّنها الأثر المنقول)(108).
وسنبحث في هذين القسمين بشكلٍ موجز ليتَّضح المراد:
القسم الأوَّل: علامات محتومة:
تنقسم هذه العلامات إلى علامات محتومة لا يعتريها البداء، وعلامات محتومة يكون فيها البداء، وسنشير إليها بشكل موجز:
أ - علامات محتومة لا يُغيِّرها البداء:
وهي العلامات الحتميَّة الوقوع التي لا تتخلَّف ولا تتأخَّر، ويلزم من تخلُّفها تكذيب المخبر بها، وهم أجلُّ من ذلك، فإنَّ الله قد طهَّرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(108) الإرشاد (ج 2/ ص 370).
من الرجس، وأذهب عنهم هفوات الدنس، وأماط بهم عن الحقِّ قناع الباطل، وهم أهل بيت النبوَّة، ومعدن الرسالة (عليهم صلوات الله وسلامه)، فقد أخبروا بوقوع المحتوم من العلامات، وتحقُّقها دون أدنى تخلُّف، منها:
خروج السفياني، والصيحة، والاختلاف في مطلع الشمس، وقتل النفس الزكيَّة، وخروج اليماني، وغيرها من المحتومات. وقد حرصوا (عليهم السلام) على بيان المحتومات والإشارة إليها، كما في الروايات التالية:
1 - روى الشيخ (رحمه الله) بسنده عن أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: «خروج السفياني من المحتوم، والنداء من المحتوم، وطلوع الشمس من المغرب من المحتوم»، وأشياء كان يقولها من المحتوم.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «واختلاف بني فلان من المحتوم، وقتل النفس الزكيَّة من المحتوم، وخروج القائم من المحتوم...» إلى آخر الرواية(109).
2 - وروى المجلسي (رحمه الله) بسنده عن عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قبل قيام القائم (عليه السلام) خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء»(110).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(109) الغيبة للطوسي (ص 435/ ح 425).
(110) بحار الأنوار (ج 52/ ص 204/ ح 34)، عن كمال الدِّين (ص 650/ باب 57/ ح 7).
3 - وبسند آخر مثله، إلَّا أنَّ فيه: «والصيحة من السماء»(111).
هذه هي العلامات التي لا بدَّ من حدوثها، وذلك لأهمّيَّتها وتأثيرها على يوم الظهور.
فالسفياني سيُمثِّل عند خروجه أقصى درجات الظلم والعدوان، وهو سيفتك بشيعة عليٍّ (عليه السلام)، ويتابع أتباعه حتَّى يحاول استئصالهم، ويتمادى في ظلمه فيلاحق النساء والأطفال فيسبيهم ويقتلهم، ويعبثُ بكلِّ المقدَّسات، ويُظهِر أقصى غايات التجبُّر والسطوة والبطش، وبذلك ستعمُّ الفوضى بعد صراعاتٍ وتنافساتٍ تُحدِثها رغبة السفياني في السيطرة على دول الجوار لنفوذه، ويسعى في بسط قوَّته على أكثر مناطق الصراع في المنطقة، وبهذا فإنَّ الأنظار تتَّجه إلى منقذٍ ينقذ الجميع من جبروت هذا الطاغي فتأمل بالمصلح الموعود.
وسيكون اليماني من المحتوم كذلك لما له أهمّيَّةٌ في يوم الظهور، حيث يُمثِّل اليماني صحوةً ثوريَّةً رشيدةً تستجيبُ لظروف النزاع، ومقتضيات التوتُّر التي تُحدِثها حركة السفياني، لذا فسيكون توجُّه اليماني لمجابهة السفياني كردَّة فعل للانتهاكات التي تُحدِثها دعوة السفياني وسياساته الطائشة وتهديداته، ولعلَّ السفياني ستكون دعوته سابقة لتحرُّكه ومسيره، وبذلك تُشير الروايات إلى أنَّ الكثير سيلتحق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(111) بحار الأنوار (ج 52/ ص 205/ ذيل الحديث 34)، عن الغيبة للنعماني (ص 261/ باب 14/ ح 9) باختلاف يسير.
بالسفياني وينضمُّ إلى حركته الخطيرة، وبالمقابل ينتفضُ اليماني ليُعلِن نصرته لحقِّ آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ويدعو الناس لمجابهة انتهاكات السفياني وخروقاته.
السفياني.. التاريـخيَّة الموروثة:
لم تقتصر أخبار السفياني على أنَّها قراءات تراثيَّة مجرَّدة لتصطفَّ ضمن تراثيَّات الملاحم والفتن بقدر ما هي حركة تأريخيَّة ممتدَّة من ذلك الحين، أي منذ أنْ أنذر النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أُمَّته بحركة السفياني الحاسمة، وكونها حاسمة لأنَّها تُعَدُّ حقيقةً آخر مظهرٍ من مظاهر الظلم والجور، وستكون الحلقة الأخيرة من حلقات الصراعات العنيفة بين الحقِّ والباطل، بين العدل والجور، بين العنف والسلام..، ومظهر السفيانيَّة التي سيُمثِّل آخر حلقاتها السفياني لم تنشأ من فراغ أو هي مجرَّد توقُّعات مستقبليَّة أو مصادفات اعتباطيَّة، بل هي ناشئة عن الصراعات الأُولى ما قبل الإسلام، ولعلَّ حلقتها الأُولى يُمثِّلها أُميَّة وستكون آخر حلقاتها هو السفياني، أي إنَّ حركة السفياني ستكون حركة صراعٍ موروثةٍ، وعمليَّة تنافسٍ محمومة بين معالم الخير الذي يُمثِّلها هاشم جدُّ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين معالم الشرِّ الذي سيُؤدِّي دورها أُميَّة وقتذاك حين فاخر هاشمُ أُميَّةَ على إطعام أهل مكَّة، فغلبه هاشمٌ وأخرج أُميَّةَ صاغراً من مكَّة إلى بواديها(112).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(112) راجع: النزاع والتخاصم بين بني أُميَّة وبني هاشم للمقريزي (ص 47 - 49).
ونشب النزاع من تنافس محموم إلى صراع حقيقي استأثر فيه الأُمويُّون بالحكم على حساب الهاشميِّين حتَّى وصل الأمر إلى التنكيل بهم وبأتباعهم، أي تحوَّل التنافس الموروث إلى عنفٍ سياسيٍّ، واستأثرت الأنانيَّة الأُمويَّة إلى مطارداتٍ طالت كلَّ التشكيلات الاجتماعيَّة الموروثة من التقليدي الاجتماعي الذي يُعطي الأولويَّة في كلِّ شيء للهاشميِّين أسياد القوم وأساطين المفاخر والمآثر، في حين يجد الأُموي نفسه متأخِّراً حسبما تقتضيه الأعراف من تقديم أهل الشرف والنجدة، وإذا انعدمت هاتان الصفتان لدى الأُموي فإنَّه لا يُتاح له أنْ يتقدَّم في قطار المجد والعزَّة والسؤدد.
ولم يُخفِ الأُموي امتعاضه من حالات الفشل هذه وتأخُّره الدائم عن الوجاهة الاجتماعيَّة والتي سببها الخلل في إمكانيَّاته التي تُؤهِّله للوجاهة تلك، والنقص في قابليَّاته التي ينبغي توافرها فيما إذا كانت القضيَّة تتعلَّق بالمكانة الاجتماعيَّة في الوسط العربي ذي التقاليد القبائليَّة العريقة، وهكذا يبقى الأُموي يرزحُ تحت عقدة الدونيَّة الاجتماعيَّة التي تُهدِّد تحرُّكاته الطموحة في شغل منصب الوجاهة الاجتماعيَّة الحثيثة في المحافظة على التقليديَّة العربيَّة المتشدِّدة في ترشيح المؤهَّل لشغل منصبٍ اجتماعي خطير.
ولم يُخفِ المقريزي الشافعي تعجُّبه من تطاول بني أُميَّة لخلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهم بعدُ لم يُؤهَّلوا لأيِّ منصبٍ يأخذهم إلى مدارج
الشرف ومراقي الكمال، فهم - وحسب رؤية المقريزي - يعيشون في مستوى الحضيض الاجتماعي الذي لا يمكنهم معه أنْ يشمخوا على منافسيهم الهاشميِّين ليُحقِّقوا طموحاتهم.
قال المقريزي الشافعي: (فإنِّي كثيراً ما كنت أتعجَّب من تطاول بني أُميَّة إلى الخلافة مع بعدهم عن جِذم(113) رسول الله وقرب بني هاشم، وأقول: كيف حدَّثتهم أنفسهم بذلك؟ وأين بنو أُميَّة وبنو مروان بن الحَكَم طريد رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) ولعينه من هذا الحديث مع تحكُّم العداوة بين بني أُميَّة وبني هاشم في أيَّام جاهليَّتهما، ثمّ شدَّة عداوة بني أُميَّة لرسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) وبمبالغتهم في أذاه، وتماديهم على تكذيبه فيما جاء به منذ بعثه الله (عزَّ وجلَّ) بالهدى ودين الحقِّ إلى أنْ فتح مكَّة (شرَّفها الله تعالى)، فدخل مَنْ دخل منهم في الإسلام كما هو معروف مشهور، وأُردِّد قول القائل:
كم من بعيد الدار نال مراده * * * وآخرُ داني الدار وهو بعيدُ
فلعمري لا بُعد أبعد ممَّا كان بين بني أُميَّة وبين هذا الأمر، إذ ليس لبني أُميَّة سبب إلى الخلافة ولا بينهم وبينها نسب إلَّا أنْ يقولوا: (إنَّا من قريش)، فيساوون في هذا الاسم قريش الظواهر، لأنَّ قوله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم): «الأئمَّة من قريش» واقع على كلِّ قرشي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(113) الجذم - بالكسر -: أصل الشيء، وقد يُفتَح. (الصحاح: ج 5/ ص 1883/ مادَّة جذم).
ومع ذلك فأسباب الخلافة معروفة، وما يدَّعيه كلُّ جيل معلوم، وإلى كلِّ ذلك قد ذهب الناس: فمنهم من ادَّعاها لعليِّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) باجتماع القرابة والسابقة والوصيَّة بزعمهم. فإنْ كان الأمر كذلك فليس لبني أُميَّة في شيء من ذلك دعوى عند أحد من أهل القبلة. وإنْ كانت إنَّما تُنال الخلافة بالوراثة، وتُستحَقُّ بالقرابة، وتُستوجَب بحقِّ العصبة، فليس لبني أُميَّة في ذلك متعلَّق عند أحد من المسلمين. وإنْ كانت لا تُنال إلَّا بالسابقة، فليس لهم في السابقة قديم مذكور، ولا يوم مشهور، بل لو كانوا إذ لم تكن لهم سابقة ولم يكن فيهم ما يستحقُّون به الخلافة، لم يكن فيهم ما يمنعهم منها أشدّ المنع كان أهون وكان الأمر عليهم أيسر، فقد عرفنا كيف كان أبو سفيان في عداوته النبيَّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) وفي محاربته وفي إجلابه عليه وفي غزوه إيَّاه، وعرفنا إسلامه كيف أسلم، وخلاصه كيف خلص، على أنَّه إنَّما أسلم على يد العبَّاس (رضي الله عنه)، والعبَّاس هو الذي منع الناس من قتله وجاء به رديفاً إلى النبيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) وسأل أنْ يُشرِّفه وأنْ يُكرِمه ويُنوِّه به، وتلك يد بيضاء ونعمة غرَّاء، ومقام مشهور، وخبر غير منكور، فكان جزاء ذلك من بنيه أنْ حاربوا عليًّا، وسمُّوا الحسن، وقتلوا الحسين، وحملوا النساء على الأقتاب حواسر...)(114).
والمقريزي هنا عيِّنة مهمَّة في التصدِّي لكشف واقع بني أُميَّة ولسان حال جميع المسلمين، إذ لا يمكن لأحد منهم إخفاء ما يرتكز في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(114) النزاع والتخاصم (ص 21 - 36).
دواخله من نزعة الدونيَّة التي كان يتعاطى بها مع الأُمويِّين، ولا يختلف في ذلك أصدقاؤهم مع أعدائهم.
والمقريزي يُعَدُّ هنا كاشفاً مهمًّا لرؤية عصره، بل نكاد أنْ نقطع أنَّ رؤيته رؤية موروثة يتعاطاها الفكر الإسلامي بكلِّ اتِّجاهاته.
ولعلَّ الموروث الدِّيني ساهم بشكلٍ فعَّال في إقصاء الأُمويِّين من أيِّ مرتبةٍ تُؤهِّلهم سياسيًّا، بل تتصاعد لهجة الإدانة حين نجد القرآن يتصدَّى إلى التحذير من تسلُّط هؤلاء على الحكم، فقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً﴾ (الإسراء: 60)، حيث فسَّرها أغلب المفسِّرين بأنَّ الشجرة الملعونة هي بني أُميَّة.
ففي (تفسير الفخر الرازي) عن سعيد بن المسيَّب أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) رأى في المنام بني أُميَّة ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك.
وما رواه أيضاً عن ابن عبَّاس: أنَّ الشجرة الملعونة في القرآن هم بنو أُميَّة، وهم الحَكَم بن العاص وأولاده(115).
وتفاسير الفريقين تجمع على ذلك، ويتعدَّى الأمر إلى أخطر من ذلك، فإنَّ القرآن ليس وحده شارك في عمليَّة إقصاء الأُمويِّين وإدانتهم، بل إنَّ الكُتُب السماويَّة السابقة ساهمت في التحذير من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(115) راجع: تفسير الرازي (ج 20/ ص 236 و237).
الأُمويِّين والإسلام لم يأتِ بعد، بل لم يكن وقتذاك شأن لهؤلاء في الحياة العامَّة، وسنقف على ما صرَّح به كعب الأحبار من إخباره عن تحذير التوراة بتسلُّط الأُمويِّين وأطلق عليهم أعداء النبيِّ وأنَّ الأمر سيؤول إليهم.
عن ابن عبَّاس في حديث طويل حين سأل عمر بن الخطَّاب كعباً إلى من سيؤول الأمر، قال عمر: فإلى من يفضي الأمر تجدونه عندكم؟
قال: نجده ينتقل بعد صاحب الشريعة والاثنين من أصحابه إلى أعدائه الذين حاربهم وحاربوه، وحاربهم على الدِّين.
فاسترجع عمر مراراً، وقال: أتستمع يا بن عبَّاس؟ أمَا والله لقد سمعتُ من رسول الله ما يشابه هذا، سمعته يقول: «ليصعدَنَّ بنو أُميَّة على منبري، ولقد رأيتهم في منامي ينزون عليه نزوَ القردة، وفيهم أُنزل: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾ [الإسراء: 60]»(116).
والملفت أنَّ عمر بن الخطَّاب - كبقيَّة المسلمين - قد ارتكز في ذهنه أنَّ بني أُميَّة أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لذا فقد فسَّر (أعداءه) بأنَّهم الأُمويُّون، والغريب أنْ نجد زياد بن أبي سفيان ومعاوية وغيرهما يتقلَّبان في مناصب الدولة الإسلاميَّة إبَّان عهد الخليفة عمر، ثمّ هو يفتح الباب على مصراعيه لبني أُميَّة حينما يكون عثمان سادس ستَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(116) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 12/ ص 81).
الشورى لتستقرَّ الخلافة في آل أبي سفيان، وهذا ما حذَّر منه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وتأسَّف عليه عمر!
هذا التقابل والاثنينيَّة الاجتماعيَّة بين بني هاشم وبني أُميَّة أسدلت على الأحداث العامَّة صفة التنافس السياسي، وجعلت الأُمويِّين ينظرون إلى بني هاشم دائماً منافسهم الأقوى. فالصراع السياسي بين عليٍّ (عليه السلام) وبين معاوية يظهر حين بايع الناس عليًّا، فثارت ثائرة معاوية حرصاً منه على ملكه، في حين لم تُثر حفيظة معاوية إبَّان عهود الخلفاء الثلاثة، وهكذا يتصاعد الصراع الأُموي الهاشمي ليتمثَّل بالتصفية الجسديَّة التي تُطال الهاشميِّين على أيدي النظام الأُموي.
هذه عقدة الدونيَّة التي أثارت حفيظة الأُمويِّين ضدَّ الخطِّ العلوي المتمثِّل في عليٍّ (عليه السلام) وشيعته دائماً وعلى خطٍّ تاريخيٍّ ليس بالقصير، أجَّج دواعٍ نفسيَّة تتأزمُ متى وجدت لها منفذاً، وسيُمثِّل التسلُّط السياسي إحدى دواعي هذا الظهور ليُترجَم إلى حالات بطش وتنكيل (بالعنصر السيِّد) وهو العنصر العلوي الذي ساد حقباً سياسيَّة واجتماعيَّة مهمَّة.
إذن فالنزعة العدوانيَّة الأُمويَّة الموروثة التي سيُمثِّلها السفياني إبَّان ظهوره، وستظهر أبشع صورها في ممارساته مع شيعة عليٍّ (عليه السلام) ومحاولة إجهاض اليوم الموعود المتمثِّل بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
وعلى هذا فالسفيانيَّة القادمة لم تكن دعاوى بقدر ما هي حقيقة ثابتة، ودواعٍ موروثة، وتاريخيَّة تقليديَّة.
ب - علامات محتومة معلَّقة:
أي علامات معلَّقة حتميَّتها على عدم تغيير البداء، فإنَّ للبداء وعدمه مدخليَّة في حتميَّة التحقُّق أو التخلُّف كذلك، ولغرض معرفة أثر البداء على تحقُّق هذه العلامات فلا بأس من معرفة البداء على سبيل الاختصار.
ما هو البداء؟
البداء هو ظهور الشيء بعد خفائه، كما لو بدا للإنسان رأيٌ جديد في شيء، وكان قد عزم على عمله من قبل، ثمّ تجلَّت مصلحة قد غفل عنها لجهله بها، وعدم إحاطته بأسبابها، ثمّ بدا له أنْ يستأنف العمل على حسب ما ظهر من الصلاح والرضا.
وكلُّ هذا غير جائز على الله تعالى، ذلك لمطلق إحاطته بعلل الأشياء وأسبابها، وشرائط الأُمور وعواقبها، فلا نقض في إرادته، ولا تبدُّل في عزمه، ولا فراغ عن الأمر بعد خلقه، ومَنْ نَسَبَ له تعالى خلاف ذلك فإنَّ الإماميَّة منه بُراء، وهو عندهم كافر، وقد تبعوا في ذلك قادتهم الأئمَّة الهداة (عليهم السلام)، فقد أوصوا شيعتهم وشدَّدوا في أمر ذلك، وعلى لسان صادقهم (عليه السلام) بقوله: «إنَّ الله لم يبدُ له من جهل»(117).
وقوله (عليه السلام): «من زعم أنَّ الله بدا له في شيء اليوم لم يعلمه أمس فابرؤا منه»(118).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(117) الكافي (ج 1/ ص 148/ باب البداء/ ح 10).
(118) الاعتقادات للصدوق (ص 41).
وقوله (عليه السلام): «من زعم أنَّ الله بدا له في شيء بداء ندامةٍ فهو عندنا كافر بالله العظيم»(119).
هذا هو قولهم في البداء، وهذه هي فلسفتهم في علم الله، وهذا هو دينهم في مصالح الأُمور وعواقبها، ومَنْ نَسَبَ إليهم خلاف ذلك فقد حاد عن الحقِّ والصواب.
وتعتقد الإماميَّة أنَّ الأشياء مشروطة بشروطها، وموقوفة على تماميَّة عللها، وإيجاد مقتضياتها، يشاركهم في ذلك كافَّة المسلمين - وإنِ اختلفوا معهم في اللفظ، إلَّا أنَّهم اتَّفقوا معهم في المعنى -، وقد فصَّلنا ذلك في كتابنا (عقائد الإماميَّة برواية الصحاح الستَّة)، ولـمَّا كان البداء معناه تعليق أمرٍ على آخر، وحصول المشروط عند تحقُّق شرطه، فإنَّ أُموراً ستحصل عند توفُّر شرائطها، وإيجاد متعلَّقاتها، كما ورد في أخبار النبيِّ والأئمَّة الأطهار (عليهم السلام) بأنَّ مضاعفة الأرزاق وتأخير الأعمار عن آجالها مشروطة بالدعاء وصلة الأرحام، وعلى العكس فإنَّ نقص ذلك مشروطةٌ بقطيعة ما أُمِرَ به أنْ يُوصَل وهو الرحم، وارتكاب ما نُهِيَ أنْ يُرتكَب وهو الظلم، إلى غير ذلك، ولا أظنُّ أنَّ أحداً من المسلمين يخالف الإماميَّة في ذلك، لورود نفس الأخبار عن طرق الفريقين.
من هنا يظهر معنى البداء، ذلك أنَّ الخلق إذا خفي عليهم شرط من شروط تحقُّق أمرٍ ما أو توهَّموه، وظنُّوا خطأً أنَّ هذا الشرط يُحقِّق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(119) المصدر السابق.
المشروط ويكون موجباً لإيجاد القضيَّة الفلانيَّة، وقد اشتبه عليهم أمر معرفة الشرط الواقعي الذي منه سيُحقِّق الله تعالى هذا الشيء، فإذا تحقَّق بعد ذلك أمرٌ موقوفٌ على شرطه الواقعي الذي لا يعلمه إلَّا الله، وبخلاف ما توقَّعه الناس، فإنَّه سيظهر حقيقة هذا الأمر بخلاف ما احتملوه وتوقَّعوه، أي سيكون البداء في علمنا نحن المكلَّفون لا في علم الله تعالى، وبذلك ظهر الأمر على خلاف علمنا وتوقُّعنا.
هذا هو البداء عند الإماميَّة، فالتبدُّل والتغيُّر يطرءان في علم العباد، وليس في علم الله تعالى، فمن قال خلاف ذلك فالإماميَّة منه بُراء.
إذا اتَّضح هذا الأمر فإنَّ في بعض العلامات المحتومة يقع البداء، ولعلَّ إطلاق المحتوم عليها تجوُّزاً، وهو من باب ظنِّ الناس بأنَّ هذه العلامات من المحتومات، وإلَّا في الواقع فإنَّ المحتوم لا يقعُ فيه التبدُّل أو التغيُّر.
أو إنَّ من المحتوم ما يتبدَّل ويتغيَّر بتغيُّر شرطه وتبدُّل مقتضياته المتعلِّقة كلّها بالعباد، فإنَّ لله القدرة البالغة في تغيُّرها وتبدُّلها تبعاً لمتغيِّرات المصلحة المتعلِّقة بالعباد أنفسهم، فالله يداه مبسوطتان، فهو تعالى لم يفرغ من الأمر كما قالت اليهود: ﴿يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ﴾، فأجابهم القرآن: ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ (المائدة: 64)، فأمره تعالى مبسوطٌ حتَّى على ما هو محتوم.
ولهذا أشار أئمَّة الهدى (عليهم السلام) إلى أنَّ الأمر المحتوم وإنْ كان محتوماً إلَّا أنَّ البداء يجري فيه، وليس ذلك على الله بعسير.
روى محمّد بن همَّام، عن محمّد بن أحمد بن عبد الله الخالنجي، عن داود بن أبي القاسم، قال: كنَّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا (عليهما السلام)، فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): هل يبدو لله في المحتوم؟
قال: «نعم».
قلنا له: فنخاف أنْ يبدو لله في القائم.
قال: «القائم من الميعاد»(120).
قال المجلسي (رحمه الله) في بيانه لهذه الرواية: (لعلَّ للمحتوم معانٍ يمكن البداء في بعضها، وقوله: «من الميعاد» إشارة إلى أنَّه لا يمكن البداء فيه، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: 9]، والحاصل: أنَّ هذا شيء وعد الله رسوله وأهل بيته لصبرهم على المكاره، والله لا يُخلِف وعده).
على أنَّ المحتوم المشار إليه، والذي يقع البداء فيه لعلَّ وقوعه في خصوصيَّاته لا في أصل المحتوم، فأصله ثابت وإنَّما طروء التغيُّر والتبدُّل في خصوصيَّات ذلك المحتوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(120) بحار الأنوار (ج 52/ ص 250 و251/ ح 138)، عن الغيبة للنعماني (ص 314 و315/ باب 18/ ح 10).
قال المجلسي (رحمه الله): (ثمّ إنَّه يحتمل أنْ يكون المراد بالبداء في المحتوم، البداء في خصوصيَّاته لا في أصل وقوعه، كخروج السفياني قبل ذهاب بني العبَّاس ونحو ذلك)(121).
وبالرغم من ذلك فلا يمكننا تحديد المحتوم الذي يقع البداء فيه وإدراجه في هذا القسم، لما في ذلك تعلُّقٌ بعلمه المكنون وإرادته المنزَّهة عن أنْ تنالها معارفنا أو تُدرِكها عقولنا، فـ﴿للهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ (الروم: 4).
القسم الثاني: العلامات المشترطة:
بعد أنْ بيَّنَّا العلامات المحتومة وانقسامها إلى محتومة يعتريها البداء ومحتومة لا يعتريها البداء، فإنَّ العلامات المشترطة هي القسم الثاني من العلامات الحتميَّة التحقُّق وعدمه، والمشترطة هي التي يتعلَّق تحقُّقها على تحقُّق غيرها أو إيجاد شروطها ومقتضياتها، فما لم تتحقَّق شروطها لا يتحقَّق وجودها، فهي إذن علامات معلَّقة على دواعيها ومقتضياتها.
على أنَّ هذه الدواعي والشروط لا تكون بمنزلة العلَّة والمعلول، أو السبب والمسبَّب، أي ليست هي علاقات تكوينيَّة ترتبط بعضها بالبعض الآخر، بل هي أُمور شاءت إرادة الله تعالى أنْ تكون موقوفة التحقُّق على دواعٍ ومقتضيات جعلها الله تعالى داعياً أو واقعاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(121) بحار الأنوار (ج 52/ ص 251).
لوجودها، ويُستفاد ذلك من الأخبار الواردة في علامات الظهور بأنَّ الله تعالى جعل تحقُّق بعضها على تحقُّق البعض الآخر، فما لم تتحقَّق بعض العلامات لم تتحقَّق علامات أُخَر أطلقنا عليها العلامات المشترطة أو المعلَّقة، منها:
الصيحة أو النداء، فإنَّه على بعض الروايات متعلِّقٌ على قتل النفس الزكيَّة، وقتل النفس الزكيَّة متعلِّقٌ على إعلان دعوته (عجَّل الله فرجه).
والخسف، فإنَّه متعلِّق على خروج السفياني ووصوله إلى قرب المدينة، فإنَّ الله يخسف بجيشه في البيداء.
والسفياني متعلِّق ظهوره على تحقُّق إمكانيَّة الظروف المتاحة التي تُحدِثها التغيُّرات السياسيَّة في المنطقة.
بل إنَّ يوم الظهور تعلَّق تحقُّقه بظهور الظلم والجور في الآفاق، ليتمَّ ظهوره (عجَّل الله فرجه) ليملأها قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
هذه هي العلامات المشترطة التي تتحقَّق بتحقُّق بعض العلامات المرتبطة بها ارتباطاً موقوفاً على تحقُّقها.
على أنَّ هذه العلامات جميعها تبدو كأنَّها مشترطة، أي تحقُّق كلِّ واحدةٍ منها موقوفٌ على تحقُّق الأُخرى، وإلى ذلك أشارت الروايات بأنَّ هناك نظامٌ لهذه العلامات لا يتخلَّف ولا يتأخَّر.
فعن محمّد بن الصامت، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: قلت له: ما من علامةٍ بين يدي هذا الأمر؟
فقال: «بلى».
قلت: وما هي؟
قال: «هلاك العبَّاسي، وخروج السفياني، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء، والصوت من السماء».
فقلت: جُعلت فداك، أخاف أنْ يطول هذا الأمر.
فقال: «لا، إنَّما هو كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً»(122).
وما أشار إليه الإمام (عليه السلام) هو الموافق لحيثيَّات الظروف التي تنتظر تغيُّراً ما لإمكانيَّة تحقُّق هذه العلامات، أي إنَّ هناك ترابطاً يكاد يكون تكوينيًّا بين علامةٍ وأُخرى، فما لم تتحقَّق أحدها لم تتحقَّق الأُخرى، وهكذا فإنَّ أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) أنبؤوا عن علامات الظهور بما في ذلك من مخزون علومهم وما أفاء الله عليهم من علم لدنِّي لا يكون إلَّا لخاصَّته وحملة أسراره، فضلاً عن أنَّ أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) يتعاملون مع هذه الظروف بكلِّ معطياتها السياسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة، أي إنَّ تعاملهم (عليهم السلام) مع هذه العلامات ينطلقُ عن وعي في توازنات القوى على صعيد الفرد أو الجماعة أو المنظَّمة أو الدولة، و﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: 124).
علامات الظهور في الأدب العربي:
ولم تقتصر علامات الظهور على ما أوردته المدوَّنات الحديثيَّة، بل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(122) الغيبة للنعماني (ص 269 و270/ باب 14/ ح 21).
شارك الأدب العربي بوجدان شاعره في متابعة هذه العلامات والاهتمام بها، حتَّى كأنَّه يُخال إليك أنَّ لهذه العلامات آثارها على نفس الشاعر وتوجُّهاته، بل لعلَّ لهذه العلامات أهمّيَّتها في الشعور العامِّ الذي يعيشه المجتمع الإسلامي وترقُّبه للحدث القادم..، وعلى هذا الأساس فإنَّ علامات الظهور تُحفِّز الذاكرة الأدبية حتَّى أغوارها المديدة بتاريخ مضرَّج بدماء الأبرياء وبملاحم التنكيل والمطاردة من قِبَل الأنظمة الحاكمة، والشاعر العربي يبعثُ بوجدانه المفعم بالشوق لذلك اليوم الموعود أملاً في أنْ يتحقَّق حلم السلام والعدل والأمان في ربوع الأرض المقهورة.
ومن نماذج الأدبيَّات المهدويَّة وما تضمَّنته القريحة الأدبيَّة من نظم علامات الظهور يطالعنا الشاعر شهاب الدِّين الحلواني - وهو من شعراء أهل السُّنَّة - بهذه القصيدة:
مالك الحمد هب صلاةً تطولُ * * * بسلام إلى الرسول تؤولُ
أبهذا السؤال عن نبأ المهد * * * ي ماذا منه أبان الدليلُ
خذه رمزاً يُغني اللبيب وممَّا * * * بسط الناس يطلبُ التفصيلُ
هو ضربٌ من الرجالِ حفيفٌ * * * هو أجلى أقنى أشمّ كحيلُ
أعينٌ أفرقُ أزجّ على * * * أيمن خدَّيه خال حسن جميلُ
أفلج الثغر حين يبسم برَّاق * * * الثنايا وربعةٌ لا يطولُ
عربيٌّ في لونه وكأنَّ الجسم * * * منه يُنمِّيه إسرائيلُ
وجهه في اشتداد سمرته * * * كالكوكب الدُّرِّي المضيِّ جليلُ
وله لحيةٌ غزيرةُ شعرٍ * * * ولسان بالنطق سهل جميلُ
ناعم الكفِّ بين فخذيه بعدٌ * * * خاضعٌ خاشعٌ كريم منيلُ
يُقسم المال بالسويَّة يقفو * * * أثراً قد قفاه الرسولُ
وله كالكليم ينفلقُ البحر * * * ويخضرُّ يابس مستحيلُ
وبوترٍ يقوم في عام إحدى * * * مثلاً في عاشورها فيصولُ
وإذا ساء كان بين يديه الخضر * * * يمشي ونصره موصولُ
وإذا سيل آية طلب الطير * * * فجاءت تهوي له فتنيلُ
وعليه عباءتان وقد حاز * * * قميصاً قد اكتساه الرسولُ
وكذا سيفه ورايته ذات * * * الطراز المسودِّ فيها القبولُ
ثمّ راياته سواها كثير * * * بين بيض زهر وصفرٍ تحولُ
كلُّها الاسم الأعظم انحطَّ فيها * * * فعليها انهزامها مستحيلُ
وعليه الغمام فيه نداء * * * باسمه مع يدٍ إليه تميلُ
ومنادٍ من السماء ينادي * * * باسمه للأنام طرًّا يهولُ
يوقظ النائمين يفقد من قام * * * يقيم القعود بشيءٍ مهولُ
لفظه واحدٌ ويسمع كلٌّ * * * باللسان الذي له إذ يقولُ
وقبيل الظهور تبدوا أُمور * * * فتنٌ جمَّةٌ وخطب جليلُ
وظلامُ على السماء واحمرار * * * مستطيرٌ وكوكب مستطيلُ
واضطرامٌ يبدو من الشرق نارٌ * * * تتلظى ليالياً وتزولُ
وخسوفٌ بالشام يمحو حرستا * * * وتوالي زلازل قد تغولُ
وانحسار الفرات عن جبل من * * * ذهب كم وكم عليه قتيلُ
وطلوع القرن العجيب المرائي * * * ذي السنين الذي دهاها المحولُ
ونداء من السماء بأنَّ الحقَّ في * * * آل أحمد ما يحولُ
ونداء الشيطان في الأرض أنَّ * * * في آل سفيان أو غيره لا يزولُ
ولنصفٍ من شهر صوم تُرَ الشمس * * * بوصف الكسوف حقًّا تحولُ
ولأولاه يخسفُ الطوس أو * * * يخسف فيه ثنتين فيما نقولُ
وبشوَّال اتِّحاد وفي تلويه * * * كرب يليه حرب طويلُ
ثمّ نهب الحُجَّاج والقتل فيهم * * * بمنى فالدماء ثَمَّ تسيلُ
ثمّ يُقضى خليفة فيطول الخلف * * * فيمن له الأُمور تؤولُ
فيقوم المهدي من جهة الشرق * * * ببيت الله ردؤه جبرئيلُ
فهو سور على المقدمة الغرَّاء * * * وسور الوراء ميكائيلُ
إلى أنْ يقول:
وببيداء بين مكَّة والغرَّاء * * * يُدهى بالخسف جيش ضلولُ
ثمّ بعد الأُخرى يسير إلى الشام * * * فيغزو كلباً ومن تستحيلُ
ثمّ يغزو كُفَّار أندلس تتمُّ * * * فروقاً ويكثر التقتيلُ
ويذلُّ الملوك طرًّا فكلٌّ * * * لعُلا عزِّه المنيع ذليلُ
وله يذعن الأنام ويدنو * * * كلُّ قاصٍ ويُعظمُ التعديلُ
وتفيض السماء والأرض خيراً * * * لا يضاهيه حين يجري النيلُ
ثمّ يبقى حتَّى يكمل سبعاً * * * مع ثلاثمائة رواه الفحولُ
ثمّ يأتي المسيح حتَّى يُصلِّي * * * خلفه وليكن كذا التفضيلُ
فعليه السلام في كلِّ آنٍ * * * وبكور الأيَّام ثمّ الأصيل(123)
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(123) بيان الأئمَّة (عليهم السلام) للشيخ محمّد مهدي زين العابدين (ج 5/ ص 623).
1 - القرآن الكريم.
2 - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشِّي): الشيخ الطوسي/ تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي/ 1404هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.
3 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
4 - الإشاعة لأشراط الساعة: محمّد بن رسول البرزنجي الحسيني الشافعي/ ط مصر.
5 - الاعتقادات في دين الإماميَّة: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عصام عبد السيِّد/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
6 - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: العلَّامة المجلسي/ تحقيق: يحيى العابدي الزنجاني وعبد الرحيم الربَّاني الشيرازي/ ط 2/ 1403هـ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
7 - تاريخ ابن خلدون: ابن خلدون/ ط 4/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
8 - تاريخ الخلفاء: السيوطي/ 1371هـ/ مطبعة السعادة/ مصر.
9 - التفسير الكبير: الفخر الرازي/ ط 3.
10 - سُنَن ابن ماجة: أبو عبد الله محمّد بن يزيد القزويني (ابن ماجة)/ تحقيق وترقيم وتعليق: محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.
11 - سُنَن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني/ تحقيق وتعليق: سعيد محمّد اللحَّام/ ط 1/ 1410هـ/ دار الفكر/ بيروت.
12 - سُنَن الترمذي: أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي/ تحقيق وتصحيح: عبد الوَّهاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1403هـ/ دار الفكر/ بيروت.
13 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378هـ/ دار إحياء الكُتُب العربيَّة/ بيروت.
14 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربيَّة): إسماعيل بن حمَّاد الجوهري/ تحقيق: أحمد عبد الغفور العطَّار/ ط 4/ 1407هـ/ دار العلم للملايين/ بيروت.
15 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.
16 - عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب الإمام الأبرار: يحيى ابن الحسن الأسدي الحلِّي المعروف بابن البطريق/ 1407هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
17 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي/ 1404هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
18 - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: فارس حسُّون كريم/ ط 1/ 1422هـ/ أنوار الهدى.
19 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
20 - الفتن: أبو عبد الله نعيم بن حمَّاد المروزي/ تحقيق وتقديم: سهيل زكار/ 1414هـ/ دار الفكر/ بيروت.
21 - الفصول المهمَّة في معرفة الأئمَّة: عليُّ بن محمّد أحمد المالكي المكّي (ابن الصبَّاغ)/ تحقيق: سامي الغريري/ ط 1/ 1422هـ/ دار الحديث/ قم.
22 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 5/ 1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
23 - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1405هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
24 - لوامع الأنوار البهيَّة: السفاريني الحنبلي/ ط 1/ 1324هـ/ مصر.
25 - مقاتل الطالبيِّين: أبو الفرج الأصفهاني/ تقديم وإشراف: كاظم المظفَّر/ ط 2/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.
26 - الملاحم والفتن: ابن طاوس/ ط 1/ 1416هـ/ مؤسَّسة صاحب الأمر/ أصفهان.
* * *