الإمام المهدي (عليه السلام) نظرة في التاريخ ورؤية للمستقبل

الإمام المهدي (عليه السلام) نظرة في التاريخ ورؤية للمستقبل

تأليف: كمال السيد

الفهرس

كلمة المركز..................7
بشارة القرآن والكتب السماوية الأخرى..................9
المهدي في بشارات العهدين..................11
الإمام المهدي والنداء السماوي..................15
ما معنى (اثني عشر رئيساً)؟..................18
الميلاد: ولادة الإمام المهدي وظروف الغيبة الصغرى...................23

المشكلة التاريخية..................23
في صميم البحث..................24
قدر من التفصيل..................29
القصور في سامراء.. الجوسق الخاقاني نموذجاً..................32
المقطع الاخير من مسلسل البشارة..................34
الموقف العام في الجبهات والعلاقات الدولية..................35
نيرون العرب..................36
وصول الإمام الهادي إلى سامراء..................37
دار الإمام..................40
اوراق من تاريخ الرومان..................44
رواية تاجر الرقيق بشر بن سليمان النخاس..................44
لنسجل بعض النقاط المفيدة باختصار..................47
سامرا.. مشهد ما قبل الولادة..................50
ولادة الإمام المهدي لماذا 15 شعبان 256هـ؟..................57
مشهد الولادة كما تصوره السيدة حكيمة..................58
حياة الإمام الحسن.. أشعة الغروب..................69
عشية الرحيل..................74
مشاهد أخرى حتى عام 263 هـ..................87
المعتضد السفاح الثاني..................92
كلمة أخيرة..................109
ظاهرة الانتظار...................111

الإشعاع الأخلاقي..................111
الانتظار السلبي..................112
المخزون الايجابي للانتظار..................114
عالم الغد..................123
المستقبل.. تأملات في حشد من المؤشرات..................138
الدائرة الإسلامية..................144
العصر الجديد..................146
الحرب والسلام: لصراع الإسلامي الاسرائيلي، المسألة اليهودية..................153
الشخصية الصهيونية..................153
العدوان..................160
جذور الارهاب..................161
آفاق الحل..................164
المسيح الدجال... نبوءة أخرى..................169
العالم الاخضر..................173

كلمة المركز

بين يديك - قارئي العزيز - كتاب الإمام المهدي نظرة في التاريخ ورؤية للمستقبل وهو - كما يبدو من عنوانه - محاوله لدراسة موضوعة المهدي الموعود والإشارة إلى موقعه علي خريطة الوجود الانساني.. وقد سعي الكاتب خلال فصول الكتاب، ونجح في ذلك إلى لفت نظر القارئ إلى أهمية المصلح الموعود الذي تنتظره البشرية، ليملا الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً مرجعاً في ذلك جذور التفكير المهدوي إلى عمق التاريخ البشري من خلال البشارات الاولى بظهور المصلح في الكتب السماوية السابقة حيث عقد الكاتب فصلاً كاملاً للحديث عن هذا الموضوع وتطرق بالتفصيل لما ورد في التوراة والانجيل من الاشارات والرموز المتعلقة بأهل البيت: وظهور الإمام المهدي. ويعتبر هذا التناول امتيازاً يسجل للكاتب أذ أبرز اهتماماً خاصاً بالنصوص العبرية التي اعتبرها تتحدث عن شخص الإمام محمد بن الحسن العسكري بوصفه المهدي الموعود الذي سيظهر آخر الزمان وقرن بين العديد من هذه النصوص وما وردمن الإشارات في القرآن الكريم التي رأى فيها الكاتب أيضاً اشارة إلى ظهور المهدي وقد اقتطع للتدليل علي وجهة نظره نصوصاً كثيرة من الكتب السماوية السابقة بلغتها الاصلية مع ترجماتها العربية.
كما سلط الكاتب الضوء علي الظروف السياسية والاجتماعية والعقائدية التي رافقت ولادة الإمام المهدي في زمن الدولة العباسية وكذلك التطورات التي حصلت في الدولة الرومانية وعلاقاتها مع الدولة العباسية تلك الفترة وقد رمي الكاتب من خلال ذلك إلى الربط بين الأوضاع المضطربة التي عاشتها الدولة العباسية بسبب النزاعات التي أثارها القادة الاتراك المتنفذون وبين الظروف الصعبة التي أحاطت بالولادة المباركة للإمام المهدي (عجل الله فرجه) واضطراره (عليه السلام) إلى الاختفاء والغيبة عن الانظار. كما أنه قصد من الحديث عن الدولة الرومانية وما عاشته من الاحداث الداخلية ابان تلك الفترة

(٧)

إلى تقرير حقيقة تاريخية اشارت أليها الروايات والاخبار وهي ان السيدة نرجس والدة الإمام المهدي كانت تنحدر في نسبها من الاسرة العمورية النبيلة الحاكمة في الدولة الرومانية آنذاك. وقد وفق الكاتب إلى حد بعيد في رسم صورة دقيقة وأمينة عن الظروف المحيطة بعصر الولادة والغيبة وما تخلل ذلك من ارهاصات وتداعيات جعلت من ولادة الإمام الحجة وتسنمه قيادة الامة الروحية ومن ثم غيبته امراً طبيعياً محتملاً يمكن تجنبه وانكاره.
ولا يملك القارئ وهو يتابع أحداث التاريخ الإسلامي وتحليل المؤلف لوقائع هذا التاريخ ومفرداته ألاّ أن يبدي اعجابه البالغ بالأسلوب الادبي المتدفق والحس الانساني الرفيع الذي تنطق به عبارات الكتاب وكلماته ولا غرو فالكاتب روائي اسلامي معروف طالما رسم بريشته الصادقة احداث هذا التاريخ وصور بقلمه الامين سيرة شخصياتنا الإسلامية الرائدة وما جري عليها من الأحداث ونهضت به من الأدوار. ويلاحظ أن المؤلف حاول طيلة فصول الكتاب مخاطبة الحس الوجداني والفني لدي القارئ لاستيعاب الحقيقة المهدوية ولم يقصر كتابه علي المناقشات العقلية وحدها لتقرير هذه الحقيقة.
لقد مزج الكاتب بين المنهجين بنجاح يدعو للإعجاب في الفصل الاخير من الكتاب والمعنون بـ (عالم الغد) حيث عرض تحليله للظروف الاستثنائية التي تعيشها البشرية اليوم مشيراً إلى الظلم الذي تمارسه القوي المهيمنة علي مقدرات الإنسانية والدور القذر الذي تقوم به الصهيونية لتكريس السيادة اليهودية علي العالم والتحكم بمصير الإنسان في الارض.
ليخلص بعد هذا كله إلى النتيجة التي قصدها من بحوث الكتاب وهي انه لابد للعالم من مصلح يطفئ ظمأ البشرية المحرق للعدالة ويجسد كلمة الله سبحانه (وَلَقَدْ كتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).

مركز الغدير للدراسات الإسلامية

(٨)

بشارة القرآن والكتب السماوية الاخرى

يتضمن القرآن الكريم والروايات المعتبرة المتواترة والكتب السماوية بشكل عام بل وحتى كتابات بعض من مدّعي النبوّات بشائر بمستقبل مشرق ينتظر البشرية.
فهناك في صميم البشائر يوم موعود تستحيل فيه الأرض الخراب إلى جنة وارفة الظلال يغمرها السلام.
وفي ذلك المنتظر تتطهر الأرض من الظلم والقهر والاضطهاد، وتنعم الانسانية بالعدالة، حيث يظهر انسان الهي يرفع راية الحق والعدالة وينشر الخير في ربوع العالم، وهو لدي طائفة كبرى من العالم يتمثل في شخص الإمام المهدي قائم آل محمد ونجل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
ويتضمن القرآن اشارات إلى اليوم الموعود نشير إلى بعض الآيات:
ـ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ امَنُوا مِنكمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاْرْضِ كمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَي لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكونَ بِي شَيْئاً وَمَن كفَرَ بَعْدَ ذلِك فَاُولئِك هُمُ الْفَاسِقُونَ).
وتتضمن هذه الآية الكريمة نقاطاً هامّة هي مسألة الاستخلاف وتحكيم الدين في الحياة وانتشار الطمأنينة والامن والسلام.
وقد ورد في الاثر ان الإمام علياً زين العابدين قرأ هذه الآية وقال: (هم والله

(٩)

شيعتنا أهل البيت، يفعل الله ذلك بهم علي يد رجل منا وهو مهدي هذه الامة وهو الذي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): لو لم يبق من الدنيا ألاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملا الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً).
ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كلِّهِ) وقد ورد في الاثر عن الإمام علي (عليه السلام) أنه فسر هذه الآية بظهور المهدي (عليه السلام) وانتشار كلمة لا أله ألاّ الله في ربوع العالم كما فسرها الإمام الباقر بذلك أيضاً.
ـ (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكنَ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كانُوا يَحْذَرُونَ).
يقول الإمام علي (عليه السلام) في مناسبة وهو يشير إلى تنكر الدنيا له وغدر الزمان: (لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس علي ولدها) ثم تلا قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَي الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكنَ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كانُوا يَحْذَرُونَ) ويقول ابن أبي الحديد في شرحه: (ان اصحابنا يقولون: انه وعد بأمام يملك الأرض ويستولي علي الممالك).
ـ (وَلَقَدْ كتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).
روي عن الإمام الباقر في تفسير الآية قوله: (أن ذلك وعد الله للمؤمنين بأنهم يرثون جميع الارض).

(١٠)

علي أن الآية الكريمة التي ذكرت آنفا وهي قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كلِّهِ) تعدّ من أقوي الاشارات لان انتصار الإسلام علي جميع الاديان لم يتحقق بشكل كامل منذ صدوع سيدنا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة وحتى يومنا هذا، ولذا فان امكانية تحقق هذا الوعد الإلهي ستتم بظهور الإمام المهدي وانتصار حركته العالمية.
عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: (يظهره على جميع الاديان عند قيام القائم).
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): (والله ما أنزل تأويلها بعد... حتى يقوم القائم انشاء الله، فإذا خرج القائم لم يبق مشرك ألاّ كره خروجه، ولا يبقي كافر ألاّ قتل).
وهناك مجموعة آيات أخرى يشير المفسرون فيها إلى ظهور الإمام المهدي في آخر الزمان وتشكيله الدولة العالمية كقوله تعالى: (بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكمْ أِن كنتُم مُؤْمِنِينَ).
المهدي في بشارات العهدين
(ستخرج من القدس بقية من جبل صهيون غيرة رب الجنود ستصنع هذا).
(ابتهجي كثيراً يا بنت صهيون هو ذا ملكها سيأتي اليك عادل ومنصور).
ونورد هنا مقطعاً هامّاً من كتاب أهل البيت في الكتاب المقدس وتحت عنوان

(١١)

أشعيا يبشر بالقائم:
2 - قي ناحا علاف روح يهْقا قي روح حُخْما وقينا روح عيتسا قي گقورا رُوح دَعَت في يرْأت يهقا
3 - قي هَر يحو بيرْأت يِهْقا. قي لا لمرئيه عيناف قي لا لمشمع وزناف يشْفوط
4 - قي هو خيّح بميشور لِعنقي آرتس. قي هِكا آرِتس بشيفط بيف قي بروّح سافاتاف يا ميت راشاع.
6 - قي گار زئيف عم كيقس قي نامار عِم گدي يرباتس

(١٢)

قي عيگل في كفير قي مري ياحدو قي نَعَر قِاطان نوهيك بام
8 - قِي شِعْشَع يونيق عَل حرباتن قِي عَل مِئورَت تِسْقعوني گامول يادوهادا
9 - لو يار يعوا في لو يشحيتوا بخُل هار قُدْشي كي ما لاي هآرتس ديعا أت يِهْقا گميمِ لِيَم مِخِسَيم.
10 - قي هايا بيوم هَهُو يَسيّ أشير عوميد لنيسس عميم أيلاف گوييم يَدْرشوا في هايتا مِنوحا توكا فود.
وهذا النص الذي أخبر به (أشعيا النبي) يعني:
2 - ويحلُّ عليه روح الرب وروح الحكمة والفهم وروح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب.
3 - ولذته في مخافة الربّ، ولا يقضي بحسب مرأى عينيه، ولا بحسب مسمع أذنيه
4 - ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ويضرب الأرض بقضيب فمه، ويميت المنافق بنفخة شفتية.
6 - ويسكن الذئب والخروف، ويربض النمر مع الجدي

(١٣)

والعجل والشبل معا، وصبي صغير يسوقها.
8 - ويلعب الرضيع علي سَرَب الصلّ ويمد الفطيم يده علي جُحرْ الافعوان.
9 - لا يسيئون ولا يفسدون في كل جبل قدسيّ. لان الأرض تمتلئ من معرفة الربّ كما تغطيّ المياه البحر.
وأما في الفقرة (10) فقد جات الاشارة إلى الإمام بأحد القابه وهو (القائم):
10 - وفي ذلك اليوم سيرفع (القائم) رايةً للشعوب والامم التي تطلبه وتنتظره ويكون محله مجدا.
وتجدر الاشارة في هذه الفقرة إلى أمرين:
الاول: ان لفظة (يسّسي) في الفقرة (10) من النص العبري.
تعني: سيرفع، وقد جاءت بصيغة الاستقبال لدخول حرف (الياء) عليها، والماضي منه (ناسا) بمعني: (رفع)، ومترجم (العهد القديم) في النسخة العربية لم يترجم لفظة (يسّي) العبرية والتي تعني: (سيرفع)، بل أبقاها بدون ترجمة إلى العربية محاولة منه لبس المعني وإثارة الغموض حول مفهوم (القائم) (عليه السلام).
وأما الامر الثاني: أنّ لفظة (عوميد) جاءت (كأسم فاعل).
وتعني: (القائم) (عاقد) و(هِعْميد) بمعني (قام وأقام).
لذا فإن هذه (البشارة) تنطبق علي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وآل محمد: لأنه لم يكن في

(١٤)

(بني اسرائيل) ولا في ولد اسماعيل (عليه السلام) رؤساء بهذا العدد، وان البركة والخير الكثير لا يناسب إلاّ الشجرة المحمدية المباركة، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (إنّا أَعْطَيْنَاك الْكوْثَرَ) أي: الخير الكثير وكثرة النسل من الصديقة الطاهرة (فاطمة الزهراء) سلام الله عليها.
الإمام المهدي والنداء السماوي
يمكن أن نلحظ من خلال بشارة (يوحنا) الاشارة إلى الإمام المهدي (عليه السلام) حيث جاء في (سفر يوحنا).
قا اءِيريه مَلاخ معوفيف بحتسي هشاميم وبفيف بسوْرَت عولام لِبّسَير اءِت يوشقيه هآرتس قي لا شون قاعم

(١٥)

قِيَقْرا بقول گدول:
يرْؤا اءت ها اءيلوهيم قا هابوا لو كابود كي باءي عيت مشفاطو قي هشتحفوا الا عوسيه شامايم قا آرتس اءت هيّام وقعينوت همايم
ويعني هذا النص:
ثم رأيت مَلاكا طائرا في وسط السماء. معه بشارة أبدية ليبشّر الساكنين علي الأرض وكل أمة وقبيلة ولسان وشعب منادياً بصوتٍ عظيم: خافوا الله وأعطوه مجداً لأنه قد جاءت ساعة حكمه واسجدوا لصانع السماء والأرض والبحر وينابيع المياه نجد في هذا النص الذي أخبر عنه (يوحنا) إشارة إلى (الصيحة الحق)، قال تعالى: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَكانٍ قَرِيبٍ. يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِك يَوْمُ الْخُرُوجِ).
فالقائم (عليه السلام) ينادي باسمه واسم أبيه حسب ما جاء في أية (41) وما جاء في آية(42) (الصيحة بالحق) هي صيحة القائم من السماء وذلك يوم الخروج، ونلاحظ بعد تحليل (النص العبري) من الناحية اللغويّة أنّ المنادي الذي ينادي في السماء حيث عُبِّر عنه (بالملاك الطائر) يحمل بشارة أبدية للعالم: (بسوْرَت عْولام)، ولفظه

(١٦)

(بسورت) اسم مضافة إلى (عولام): أي العالم وهي مشتقة من الفعل (بِسيَر): أي: (بَشَر، نبّأ).
وهذه البشارة الابدية لجميع سكان الارض: (يوشقيه هارتس) ولفظة يوشقيه: سكان مشتقه من الفعل (ياشف): (سكن وأقام) وأما (هآرتس) فتعني: (الارض). ثمَّ هناك تفصيل آخر بأن هذه (البشارة الابدية) حسب النص العبر يتشمل: (كل گوي): كل أمة، و(كل مشبحا): كل قبيلة، و(كل لاشون): كل لغة، و(كل عام): كل شعب.
ثمّ نجد تأكيداً علي مسألة مهمة أخرى وهي الأخبار بقرب ساعة حكم الرب. بواسطة دولة الإمام (عجل الله فرجه): (باءي عيت مشفاطو) أي: (قَرُب وقت حكمه)،(فباءي) مشتقة من الفعل (با) أي: (قَرُب، جاء)، وعيت: تعني: (وقت، مدة) وأمّا (مشفاطو) فجاء هنا كاسم بمعني (حكم، قضاء) والفعل منه (شافَطْ): (حَكمَ، قضي)).
وهناك اشارة لها مغزاها في هذا الموضوع وهي ما وعد الله سبحانه ابراهيم الخليل:
(واما اسماعيل فقد سمعت قولك فيه وها أنا ذاك اباركه وأنمّيه واكثره جداً جداً ويلد اثني عشر رئيساً واجعله أمّةَ عظيمة).
يقول الاستاذ عودة مهاوش في شرح هذا النصوص ونصوص أخرى:

(١٧)

أضف إلى ذلك أن مراجعة بسيطة للنصوص السابقة تُظهر أن الله تعالى لم يعد ابراهيم (عليه السلام) بأن يجعل العهد مع إسحاق، بل أن صيغة العبارات التوراتية تظهر أن ذلك لم يكن وعداً بل قضاءاً نافذاً علي عكس ما ورد حول اسماعيل (عليه السلام) حين وعد الله تعالى أن يجعل ذريته عظيمة ويجعل منه اثني عشر رئيسا.
ما معنى (اثني عشر رئيساً)؟
لقد أوضحنا فيما سبق أنّ النبيّ المعزّي الذي وعد به الانبياء هو اسماعيليّ وهو محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبيّنا أيضاً أن الله تعالى سيبارك اُمم الأرض بذرية ابراهيم (عليه السلام) من خلا لابنه اسماعيل (عليه السلام).
والملاحظ من النصّ الذي اوردنا حسب (أعمال الرسل) ان ثمة صلة موجودة بين الاثني عشر رئيسا وذاك النبي المبشر به، فإننا نجد أن صاحب السفر يذكر أوّلاً أن جميع الانبياء بشّروا به، ثم انه يربط بين أيام ذاك الرسول، وبين الايفاء بعهد الله لإبراهيم بمباركة جميع عشائر الأرض بنسله.
وبما أنّ النبي المعزي إسماعيلي، وبما أن عهد الله لإبراهيم كان هو أن يبارك جميع عشائر الأرض بنسل ابنه اسماعيل بتكثيره جداً ويجعل 12 رئيساً من ذريّته، ولان الايفاء بعهده تعالى لإبراهيم يبدأ في أيّام ذاك النبي الاسماعيلي المعزي، لذلك فالاثنا عشر رئيسا لابد وان يكون زمان مجيئهم بعد مجيء ذاك النبي المعزي.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإننا نجد أن المسيح (عليه السلام) قد وعد الحواريين أصحابه بانه سيدعو الله تعالى ليرسل لهم المعزّي ليبقي معهم إلى الابد.
(يوحنا 14: 16).
فالأبدية هذه لابّد لها من أن تتبلور في وجهين:

(١٨)

أولاً: بخلود رسالته، ودعوته، ثانياً بخلود ذريّة النبي المعزي، فنحن نجد أن اليهود يعتبرون خلودهم وبقاءهم الابدّي من خلال وجود أولادهم وذرياتهم من بعدهم.
فالبقاء الابديّ هنا لابدّ وأن يكون له نفس المعني الذي تبنّاه الكتاب المقدّس في أغلب أسفاره، وعلي هذا فبقاء هذا النبي المعزي بين بني البشر إلى الابد يكون لا محالة من خلال بقاء نسله وذريته.
وبما أن عهد الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) كان بأن يلد ابنه اسماعيل اثني عشر رئيس ابعد مجيء النبي المعزي - كما أوضحنا - فان هؤلاء الرؤساء في أزمنة تمتد من بعد مجيء ذلك النبي إلى يوم القيامة حتى يصدّق الانجيل بقوله: انه سيبقي معهم (أي المعزي) إلى الابد. وعند التفحص والتطبيق نجد أن المقصود من هؤلاء الرؤساء الاثني عشر هم الأئمة الاطهار من آل الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وبهذا يكون قد تبيّن لك عزيزي القارئ أن التوراة والانجيل قد بشرا - بدون شك - بمجيء النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وبقيام اثني عشر رئيسا، وإماما من بعده من آله وذريّته، يباركون جميع عشائر الأرض لما يجلبونه عليهم من هداية وقيادة إلى طريق الرحمن جل ذكره.
ونختتم هذا الفصل بما أورده الاستاذ سعيد أيوب في دراسته القيمة عن المسيح الدجال: إن المعسكر الذي سيواجه المسيح الدجّال وأتباعه ورجال الكنيسة المرتدة هو الإسلام وإن القائد الذي سيكون علي رأس هذا العسكر هو: (المهدي المنتظر).

(١٩)

يقول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): (المهدي يواطئ اسمه اسمي...).
فهل يقابل هذا الاسم في الإنجيل المتداول معالم له؟ لقد جاء في سفر الرؤيا أن القائد الذي سيخوض معارك آخر الزمان اسمه: (... الامين الصادق...)!!!؟
وجاء في مصادر الإسلام أن منهج المهدي: (... يملا الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجوراً...).

(٢٠)

ويقابل هذه الصفات في سفر الرؤيا أنه هو: (... الذي يقضي ويحارب بالعدل...).
وجاء في مصادر الإسلام عن نسل المهدي: (... المهدي من عترتي. من ولد فاطمة...).
ويقابل هذه الصفات في سفر الرؤيا:
(امرأة متسربلة بالشمس والقمر، تحت رجليها وعلي رأسها اءكليل من اثني عشر كوكباً... ولدت ابناً ذكراً عتيداً أن يرعي جميع الامم بعصا من حديد...).
قالوا في التفسير: (إنها امرأة فاضلة.. وقور... ويأتي النسل من هذه المرأة!!).
وإن نسل هذه المرأة سيواجه المخاطر، والتنين سيقاتل باقي نسلها الذين يعملون بوصايا الله والإكليل الذي علي رأس المرأة إشارة للقيادة، والاثنا عشر كوكباً، هم أسماء الرسل.
قلت: إذا كان المهدي من ولد فاطمة، والمهدي هو آخر القادة، فمن الطبيعي أن يكون جميع أخوته هم المذكورين عند أهل الكتاب، أي أصحاب الشجرة

(٢١)

الواحدة، التي خرجت من المرأة المتسربلة بالشمس والقمر. فإذا كانت بعض التفاسير قد أشارت إلى الشمس بأنها تمثل والد المرأة وهذا الوالد كالشمس لأنه يملا الأرض نوراً، فيكفي أن نقول إن والد المرأة هو محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم). وإذا كانوا قد قالوا إن القمر يرمز إلى زوجها لأنه يضيء الليل فيكفي أن نقول إن زوجها هو علي بن أبي طالب. ولقد كان بحق قمراً ينير في ليل فتنة هي في الحقيقة أحزنتنا كثيراً. وهذه الفتن أدت إلى اضطهاد نسل المرأة وبنظرة واحدة لعلماء أهل الكتاب في كتاب (مقاتل الطالبيين) لابي الفرج الاصفهاني، ستجعلهم يعلمون أن نبوءة سفر الرؤيا التي قال تبأن هذا النسل سيضطهد صحيحة!.

(٢٢)

الميلاد: ولادة الإمام المهدي وظروف الغيبة الصغرى

المشكلة التاريخية
تبرز المشكلة التاريخية في دراسة كثير من الافكار والتيارات التي كان لها دور في الحضارة الإسلامية واسهاماً في بنائها، غير أن مشكلات التاريخ تكاد تكون معضلات فيما يخص دراسة ولادة الإمام المهدي التي تؤكدها بعض المدونات التاريخية المحدودة في مقابل صمت للمدوّنات الكبرى في تاريخ الإسلام.
وهذه المسألة تعود إلى طبيعة الدور الذي اضطلع به ائمة أهل البيت وموقف الحكومات المتعاقبة ازاءهم.
وليس هناك من جدل حول أهمية كونهم أئمة وأن طرحهم أنفسهم بهذا العنوان جعلهم يمثلون خط المقاومة المستمرة للخلفاء الذين تسنموا مناصبهم واعتبارهم خلفاء للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) وفي هذا تكمن حالة من التهديد الدائم والمستمر فإذا اضفنا إلى ذلك أن اضطلاع الائمة وبأساليب مختلفة ومستويات متعددة بمهام الامر بالمعروف والنهي عن المنكر قد جعلهم في حال لا يحسدون عليها من الحصار والتضييق والاعتقال في بعض الاحيان.
ولان رسالة الائمة: كانت هي قيادة عملية التغيير الحقيقية وهي تغيير الذات والاعماق ايماناً منهم بقوله تعالى: (إن اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ) فقد دفعهم ذلك إلى الاهتمام بمنطقة التغيير الحقيقية، وهي صياغة الاعماق ولذا نجدهم: لا ينفعلون بما يطفو علي سطح الحياة من زبد الحوادث وكان همهم الدائم الاعماق

(٢٣)

الهادئة في بحر الحياة، أما سطح البحر الذي يزخر بالأمواج المتلاطمة، فقد كان يحرّك السياسيين وذوي الطموح من الذين ينفعلون بوقائع الاحداث غافلين عن الحقائق الكامنة في الاعماق.
فيما الائمة ينظرون إلى المديات البعيدة في نظرة شمولية لحركة التاريخ والتجربة الانسانية، انهم يمثلون مركز الاعصار الذي ينعم بالسكينة مع ان موقعه في القلب.
وهناك نقطة جديرة بالاهتمام منذ تسنم المأمون الخلافة بعد حرب أهلية مدمّرة، فقد عمد إلى خطوة مثيرة اكتسبت ظاهرياً مشروع المصالحة بين البيتين العباسي والعلوي، لكنها انطوت علي فكرة احتواء الائمة من خلال سياسة التقريب إلى البلاط والتي تنطوي علي عملية اقصائية عن قواعدهم الشعبية من الامّة.
بل أن هذه السياسة تدخل مرحلة جديدة وحساسة بعد صعود الطاغية العباسي (أبي جعفر المتوكل) وخطوته في استدعاء الإمام الهادي جدّ الإمام المهدي إلى سامراء والتي لم تكن مدينة كبغداد وانما كانت ثكنة عسكرية كبرى بناها المعتصم لإسكان فرقه العسكرية وقوّاته حيث يشكل العنصر التركي المستقدم عماده الكبير.
كما أن اهتمام المؤرخين وفي طليعتهم الطبري كان محصوراً بالوقائع التسجيلية وتاريخ الخلفاء مما جعلهم لا يلتفتون إلى غيرهم فالوقائع تعد ثروة التأريخ الوحيدة.
وما عقد المشكلة ان الشيعة بشكل عام لم يكونوا ميالين إلى تدوين تاريخ الائمة بسبب حساسية الوضع وكونهم جميعاً في قائمة المعارضين.
في صميم البحث
ان من شروط دراسة مثل هذا الموضوع الذي ينطوي علي أبعاد متعددة تتصلب التاريخ والحاضر والمستقبل أن يأخذ الباحث بنظر الاعتبار ثلاث نقاط تنسجم مع منطق الانصاف وبدونها سيكون الباحث تعسفياً في منهجه:

(٢٤)

الاولى: بحث الموضوع في ظروفه التاريخية والجغرافية والظروف الاخرى.
الثانية: المسلسل الطويل والمتناسق في البشارة.
الثالثة: حساسية الاسم ومسألة الغيبة.
وفيما يخص النقطة الاولى يستلزم بحث ودراسة الحقبة السامرائية والظروف التي أدت إلى تأسيس مدينة سامراء ومسار الاحداث فيها أي دراسة تستوعب حوالي نصف قرن من الزمن من سنة 220ه إلى سنة 275ه.
اما النقطة الثانية فإننا سنجد بشارة واضحة بظهور الإمام المهدي تنتقل منذ عهد الرسالة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وفي اطار متوحد يشير ويؤكد هويته:
من ولد فاطمة
التاسع من ولد الحسين
الإمام الثاني عشر
يقول الإمام الشهيد محمد باقر الصدر حول الاثني عشرية في أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم):
ونصل الان إلى السؤال الرابع وهو يقول: هَبْ أنّ فرضية القائد المنتظر ممكنة بكلّ ما تستبطنه من عمر طويل، وإمامة مبكرة، وغيبة صامتة، فإن الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً.
فكيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي؟ وهل تكفي بضع روايات تُنقل في بطون الكتب عن الرسول الاعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) للاقتناع الكامل بالإمام الثاني عشر علي الرغم مما في هذا الافتراض من غرابة وخروج عن المألوف؟ بل كيف يمكن أن نثبت انّ للمهدي وجوداً تاريخياً حقّاً وليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته في نفوس عدد كبير من الناس؟
والجواب: إن فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلى الافضل قد جاءت في احاديث الرسول الاعظم عموماً، وفي روايات أئمة أهل البيت خصوصاً،

(٢٥)

وأكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقي إليها الشك. وقد أُحصي أربعمائة حديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من طرق إخواننا أهل السُنّة، كما أُحصي مجموع الاخبار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسُنّة فكان أكثر من ستة آلاف رواية، وهذا رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة.
وأما تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر عليه الصلاة والسلام فهذا ما توجد مبررات كافية وواضحة للاقتناع به.
ويمكن تلخيص هذه المبررات في دليلين:
أحدهما إسلامي.
والاخر علمي.
فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائد المنتظر.
وبالدليل العلمي نبرهن علي انّ المهدي ليس مجرد أُسطورة وافتراض، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية.
أما الدليل الإسلامي:
فيتمثل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والائمة من أهل البيت: والتي تدلُّ علي تعيين المهدي وكونه من أهل البيت..
ومن ولد فاطمة..
ومن ذرية الحسين..
وانه التاسع من ولد الحسين..
وانّ الخلفاء اثنا عشر. فإن هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة وتشخيصها في الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت، وهي روايات بلغت درجة كبيرة من

(٢٦)

الكثرة والانتشار علي الرغم من تحفّظ الائمة: واحتياطهم في طرح ذلك علي المستوي العام، وقايةً للخلف الصالح من الاغتيال والإجهاز السريع علي حياته. وليست الكثرة العددية للروايات هي الاساس الوحيد لقبولها، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن علي صحتها، فالحديث النبوي الشريف عن الائمة والخلفاء والامراء بعده وانهم اثنا عشر إماماً وخليفةً وأميراً - علي اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة - قد أحصي بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مائتين وسبعين رواية مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسُنّة بما في ذلك البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود ومسند أحمد ومستدرك الحاكم على الصحيحين، ويلاحظ هنا أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري، وفي ذلك مغزيً كبير؛ لأنه يبرهن علي انّ هذا الحديث قد سُجّل عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يتحقق مضمونه وتكتمل فكرة الائمة الاثني عشر فعلاً، وهذا يعني انه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثراً بالواقع الإمامي الاثني عشري وانعكاساً له؛ لانّ الاحاديث المزيفة التي تنسب إلى النبي صلي الله عليه وآله وسلم وهي انعكاسات وتبريرات لواقع متأخر زمنياً لا تسبق في ظهوره وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكل انعكاساً له، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي علي انّ الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للائمة الاثني عشر، وضُبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري، أمكننا أن نتأكد من أنّ هذا الحديث ليس انعكاساً لواقع وإنما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوي، فقال: (إن الخلفاء بعدي اثنا عشر).
وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءً من الإمام عليٍّ وانتهاءً بالمهدي؛ ليكون التطبيق الوحيد المعقول لذلك الحديث النبوي الشريف.

(٢٧)

وأقل عمر لمسلسل البشارة يمكن أن يكون في حدود قرنين ونصف، واستعراض نصوص البشارة يؤكد توحدها في هوية واحدة.
فيما نجد في النقطة الثالثة ارثاً ثقيلاً يضع اسم الإمام المهدي ضمن الممنوعات المؤكدة والمحرّمات الأكيدة فيما يخص التصريح باسمه (لانهم لو وقفوا علي الاسم اذاعوه) فمعلومات مثل الاسم والعنوان تعدّ أمانة كبرى في عنق المؤمن هي المحك الحقيقي لإيمانه وصدقه.
وهذه النقاط الثلاث هي التي ستنقل البحث من أجواء المختبر حيث درجة الحرارة الثابتة والسكون فلا رياح ولا مطر ولا صواعق وكل شيء هادئ تماماً كالأجواء في سطح القمر!! إن أية محاولة لتقييم ومحاكمة موضوع بالغ الحساسية كهذا الموضوع وبأدوات وظروف مختبرية تعد ذروة في التعسّف والظلم.
ذلك أن محاكمة موضوع بهذه الطريقة السطحية وبأدوات تشكيكية قاصرة هو مصادره لتاريخ طويل ومرير مليء بالعذابات والدموع زاخر بالطموحات والآمال بغد أفضل كما انها طعنة نجلاء في قلوب الذين ينتظرون ذلك الامل، مع التأكيد علي ان الانتظار السلبي لا يشكل إلاّ مقطعاً عابراً ومحدوداً في طريق مليء بشموع الكفاح والجهاد الذي يستمد زيته من شجرة الامل.

(٢٨)

قدر من التفصيل
سامراء ظروف التأسيس والنسيج العام:
تكاد المصادر التاريخية تجمع علي أن تاريخ بناء سامراء يعود إلى سنة 220هوهي فكرة افرزتها هواجس سياسية دفعت بالمعتصم إلى انتخاب هذا المكان على ضفاف دجلة شمالي بغداد وعلي مسافة 60 ميلاً عربياً عنها.
وبالرغم من أن الموضوع سوف يدفعنا إلى بحث شخصية المعتصم الذي يعد نهاية لعصر وبداية لعصر ثان في الخلافة العباسية، لكننا سوف نكتفي بمعلومات سريعة قد تفسر وتوضح قرارات وسياسات ومواقف في مسار الحكم العباسي واتجاهاته السياسية والادارية.
فالمعتصم هو أبو اسحاق محمد بن الرشيد وأخو المأمون. أمه تركية تدعي(ماردة) ولعل الوراثة قد لعبت دوراً كبيراً في تكوين شخصيته فقد عزف منذ طفولته عن الدراسة واتجه إلى فنون الفروسية والحرب جعلته أقرب في الشبه لسكان الصحاري القاسية في بردها وجفافها.
كما أن اعتبار أخواله من الاتراك قد أثر في اختيار عنصر جديد يعتمد عليه في ادارة دولته الكبيرة، خاصة في ظل استمرار التحديات التي ورثها مع مملكته، فثورة بابك الخرّمي ما تزال تقلق أمن الدولة اضافة إلى الوضع المتوتر علي امتداد الحدود مع دولة الروم واستمرار الاشتباكات المحدودة، وأحيانا الغارات الوحشية التي يشنها

(٢٩)

الروم كلما سنحت فرصة.
وسنري وفي غضون فترة قياسية ظهور عناصر جديدة غير عربية ولا فارسية عناصر تنتمي إلى سكان مناطق وأقاليم قاسية في مناخها وظروفها، فضلها المعتصم لأسباب كثيرة في مطلعها بعدها عن الترف والمدنية التي تسلب المرء في رأيه امتيازات المحارب الشجاع، اضافة إلى جهلها بالإسلام فهي مهيأة إلى أن تكون قوّات مرتزقة لا تعرف غير الطاعة وتنفيذ الاوامر وحراسة الحكم العباسي.
سوف نري ظهور (المغاربة) الذين سيؤلفون قوّات الحرس الخاص و(الفراغنة) لمهمات أمنية أخرى اضافة إلى الجيش الجرّار المؤلف من 000/ 250جندي تركي. وقد سنّت قوانين تحظر علي الجنود الاتراك التزوج من غير التركيات ومنعت أيضاً الطلاق. وقد شهدت بغداد تدفق آلاف الفتيات التركيات إلى أسواق الرقيق.
ومن هنا انبعثت هواجس المعتصم في الحفاظ علي هذه العناصر التي عوّل عليها في حكمه فجاءت فكرة تأسيس عاصمة بعيدة عن بغداد مصدر الترف والقلق السياسي والامني.
فمدينة سامراء في الاصل ثكنة عسكرية كبرى تم بنائها بأسلوب الاوامر العسكرية.
ولذا فان اسم سامراء الذي شاع منذ البداية هو (العسكر) والذي اضحى لقباً للإمامين علي ونجله الحسن فالعسكر ليس محلّة في سامراء نسب اليها الإمامان انما هو اسم المدينة، فالنسيج العام الذي طبعها هو نسيج العسكر، يكفي أن نتصوّر وجود أكثر من 000/ 250 جندي ووجود أكثر من 000/ 160 حصان في اسطبلات كبيرة لنتصور طابعها العام.

(٣٠)

وبالرغم من تدفق آلاف العمال وظهور الاسواق واسكان الجنود الاتراك في أحياء سكنية خاصّة مع أسرهم وعوائلهم ألاّ أن كل ذلك لم يغير من صورة سامراء العسكرية فظل اسم (العسكر) متداولاً إلى جانب الاسم الرسمي (سر من رأي.
وعلي مدي شهور كانت حمّي البناء مستعرة فقد وزع المعتصم مسؤوليات التنفيذ علي أركان دولته، إذ اسند تنفيذ الجوسق الخاقاني قصر الخليفة العام إلى (أبو الفتح خاقان).
كما اسند تنفيذ بناء القصر (العمري) إلى عمر بن فرج، والي (ابن الوزير) بناء (القصر الوزيري)، كما وزع المعتصم أسناد الاراضي الشمالية علي القادة الاتراك لبناء أحياء مستقلة تمنعهم من الاختلاط ببقية الاجناس الاخرى، وكان اهتمامه بالعنصر التركي واضحاً في سياسته فالأتراك في تلك الفترة لا يعرفون سوى السيوف والخيول ولا يتحدثون إلاّ عن القلاع والحروب..
وظهرت شخصيات تركية في المؤسسة العسكرية كانت تمارس وظائف خدمية باعتبارهم غلماناً ورقيقاً.
ف (أشناس) الضابط الكبير ظهر فجأة وظهر (وصيف) الذي كان يعمل زرّاداً فاصبح هو الاخر قائداً عسكرياً يقود آلاف الجنود وظهرت شخصية هامة هي شخصية (الافشين) الذي اعتنق الإسلام وهو الوحيد الذي ينحدر من أسرة كانت تحكم اقليم اشروسنة.
ويتمتع هذا الرجل بموهبة عسكرية فذّة وهو الذي هزم تمرّد بابك الخرمي الذي استمر عشرين سنة، ويعدّ الفاتح الحقيقي لعمورية وما تزال قصّة محاكمته في تهم لمتثبت ومن ثم اعدامه تثير أسئلة عديدة!
وقراءة في هذه الحقبة تعرّفنا علي شخصية أخرى هي (دليل بن يعقوب النصراني) الذي أشرف علي مشاريع هندسية كبرى في طليعتها شق القنوات الجوفية وامداد القصور الكبرى بها ومشروع شق النهر الذي اخفق وهو مشروع جبار عمل 

(٣١)

فيه 000/ 12 عامل ليل نهار.
وتهمنا هذه المعلومة فيما بعد عندما نتطرق إلى الدار التي اشتراها الإمام الهادي سنة (232 - 234)ه وهي سنة وصوله إلى سامراء في ظروف أقرب إلى الاستدعاء القسري منه إلى دعوة قابلة للاعتذار.
ولا ننسي الاشارة في هذه العجالة إلى شخصية أخرى هي (ايتاخ) الطباخ والذي تدرج في مسؤوليات أخرى فانتقل من ذبح الغنم والبقر إلى ذبح الإنسان فقد نفذ عمليات اغتيال دموية وكان يقوم بها ببرود قاتل.
أما (بغا) وهو قائد تركي فما يزال في غضون هذه السنوات مشتبكاً مع قوّات التمرّد بقيادة بابك وقد مني بهزيمة مريرة.
وسيكون دور ايتاخ في تلك الفترة دور (مسرور) خادم الرشيد وهو دور اتسم بالغموض والبوليسية في ادارة شؤون الحكم والدولة.
القصور في سامراء.. الجوسق الخاقاني نموذجاً
كشفت التنقيبات في سنة 1907 وما بعدها عن اطلال قصر عظيم، ويكفي أن نشير إلى المدرّج الذي يرتفع من الحوض الواسع وعرضه الذي يبلغ ستين متراً لنعرف فخامة هذا القصر.
وهذا المدرج يؤدي إلى أكبر واضخم أبواب القصر وهو (باب العامّة) الذي يرتفع إلى اثني عشر متراً في الفضاء.

(٣٢)

ونحاول هنا استعراض بعض ما أشارت إليه التنقيبات بما يوضح صورة عن القصور في سامراء وهي تشترك جميعاً في كثير من المرافق، ونذكر باعتمادها في الغالب خرائط رومية وسنتابع بعض التفاصيل ابتداءً من باب العامة المؤلفة من جبهة ثلاثية العقود يبلغ ارتفاعها 12م وتمتد من ورائها ثلاث غرف مسقفة بعقادات متوازية تطل على نهر دجلة.
ويقع في الجبهة الجنوبية جناح الحريم الذي يمتد منه ملحق جنوبي، فيما يمتد إليه ومن باب العامة في طريق مستقيم إلى قاعة الشرف أو البلاط المؤلف من ثلاثة اجنحة تشبه الحرف (T) وهو طراز روماني في البناء..
ومساحة البهو الشرقي وحده 38 - 40/ 10م تنفتح شرفاته علي ساحة واسعة350 - 180م تتوسطها نافورتان تستمدان مياههما من دجلة عبر كهريز (قناة جوفية).
(واذا سار المرء متجهاً إلى شرقي الشرفة الكبيرة يأتي السرداب الصغير الكائن علي محور القصر الاصلي. ويؤلف مدخل السرداب غرفة مربعة الشكل يوجد على جدرانها أفريز مزين بجمال ماشية من ذوات السنامين منحوتة بالجص الملوّن مع نافورة دائرية الشكل.
ويقع سلّم السرداب في الجانب الغربي من البناء الفوقاني. أما السرداب نفسه فهو عبارة عن مغارة في داخل القصر بعمق 8م وطول 21م، ويوجد في كل جدار من جدران المغارة ثلاثة كهوف تصلها ببعض ممرات خاصة كما يوجد في قاعها حوض ماء..
وقد ثبتنا هذا النص من موسوعة العتبات المقدسة كتاب سامراء ومعلوماته من مراجع اجنبية اشرفت بنفسها علي التنقيبات وسجلت مشاهداتها بدّقة متناهية.
ان مفردات مثل حوض المياه والسرداب ونوافير الماء والقنوات الجوفية سيكون تذكرها مفيداً عندما يصل الحديث عن بيت الإمام الهادي.

(٣٣)

المقطع الاخير من مسلسل البشارة
نحاول هنا أن نثبت ولو اشارة إلى بشارة ثلاثة ائمة عاصروا الحقبة السامرائية وهم الجواد الذي توفي في ظروف غامضة وهو شاب في الخامسة والعشرين وهناك مرويّات وقرائن تؤكد اغتياله.
فمن يقرأ مطلع خلافة المعتصم ومسلسل التصفيات وامّية الخليفة واستجابته السريعة لأي هاجس سيميل إلى أن المعتصم قد دبّر عملية الاغتيال باقناع جعفر بن المأمون والاخير أغري أخته (زوجة الإمام الجواد) بتنفيذ المؤامرة.
فذلك الشاب كان يشكل تهديداً لسلطة المعتصم فالتاريخ ذكر صراحة أميّة الخليفة وأشار إلى شخصية الإمام الجواد العلمية.
هناك روايتان عن عبد العظيم الحسني تشير الاولى إلى أنّه الثالث من ولده هو المهدي الموعود وتؤكدان معاً غيبته ووجوب انتظاره فيما تؤكد الثانية نقطة سنأخذ أهميتها بعد ذلك بنظر الاعتبار وهي حرمة تسميته.
أما الإمام الهادي فقد مارس اضافة إلى تأكيده البشارة شكلاً من اشكال الغيبة واعطاء دور هام للوكلاء وهي خطوة عملية علي صعيد التمهيد ومحاولة اقناع العقل الإسلامي والضمير بهذا اللون من الارتباط الذي تمليه ظروف سياسية قاهرة.
والرواية التي ينقلها أبو دلف تقول عن الإمام الهادي: (الإمام بعدي الحسن ابني، وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملا الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً).

(٣٤)

ومسلسل البشارات يؤكد بشكل مركز علي غيبة المهدي الموعود وعلي خفاء ولادته علي الناس ولهذا دلالات كثيرة جداً علي الصعيد النفسي في ترشيد الوجود الشيعي كقاعدة شعبية تؤمن بقيادة أهل البيت وتدين بولائهم.
الموقف العام في الجبهات والعلاقات الدولية
سنحاول باختصار استعراض الموقف العام علي الحدود الدولية ليس لإضاءة خلفيات المسرح السياسي في سامراء فحسب بل اننا سنجد بحث ذلك مجدياً عندما نجد في المدّونات الإمامية تأكيداً عي أن أم المهدي هي فتاة من القسطنطينية وأنه إحدى أميرات القصر وهي رواية بشر بن سليمان النخاس تاجر الرقيق الذي تولّي مهمة شرائها من بغداد، فالي أي مدي يمكن الركون إلى هذه الرواية الوحيدة والتي تضمنت تفاصيل مثيرة؟!
شهدت خلافة المعتصم انتصارات هامّة جداً وأول انتصار اقترن ببدء خلافته هو القضاء التام علي تمرّد بابك الخرّمي وبالرغم من الغارات التي شنّها الروم والتي اكتسبت طابع الهجوم العام بجيوش جرّارة لتخفيف الضغط عن قلاع بابك في ارمينيا واذربيجان إلاّ أن (الافشين) نجح في احراز نصر ساحق ونهائي علي بابك الذي اقتيد أسيراً مع أخيه ليعدم في مكان عرف فيما بعد ب (خشبة بابك).
أما الانتصار الثاني فهو توغل الجيوش الإسلامية في الجبهة الشمالية وتحرير المدن المحتلة والزحف علي مدينة عمورية مسقط رأس الاباطرة الروم الحاكمين.
وهذا الانتصار الذي تكلّل في فتح المدينة يوازي سقوط العاصمة إلى حدّ ما ويستنتج من يقرأ تفاصيل المعارك الضارية أن هذا الفتح يعود إلى القائد العسكري الموهوب الافشين، وما يهمنا هنا هو أن الهزيمة التي مني بها الروم سيكون لها آثار علي مستقبل الاسرة العمورية الحاكمة.
ولا ننسي هنا أيضاً اكتشاف المعتصم لخطة انقلابية خطيرة تزعمها العباس بن

(٣٥)

المأمون وبتأييد وحماس الضباط العرب والتي عالجها المعتصم بدموية وقسوة بالغة.
وفي تلك الفترة تفاقم النفوذ التركي، وقراءة في تفاصيل كيفية الانسحاب إلى سامراء ومسلسل التصفيات تكشف عن الجانب الدموي في شخصية المعتصم وأمّيته إلى حدٍّ كبير.
كما ان الاشارة إلى محاكمة الافشين وتنفيذ حكم الاعدام بحقه واشراف قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد تشير إلى تطور سيء في تجربة المعتزلة في ادارة دفّة الحكم منذ محنة خلق القرآن.
وقد شهد حكم الواثق محاكمات ظالمة ابرزها محاكمة نصر بن أحمد الخزاعي الزعيم الشعبي البغدادي والتي كشفت عن سوءات الحكم وعرّت أخلاقيته التي وصلت حدّ النذالة خاصّة في مفاوضات تبادل الاسرى مع الروم حيث تم افتداء الاسرى المسلمين الذين يقولون بفكرة خلق القرآن أما الذين رفضوا ذلك فقد تركوا يواجهون مصيرهم المسوى تحت رحمة تيودورا زوجة الامبراطور وعضوة مجلس الوصاية علي العرش بعد وفاة زوجها تيوفئيل وجلوس ابنها القاصر ميخائيل الثالث (6 سنوات) علي العرش، وذكر هذه المعلومة ليس من قبيل الاسترسال بل انها اضاءة لبحث مصير الاسرة العمورية بعد عقدين من الزمن.
نيرون العرب
ستكون دراسة فترة (المتوكل) (232 - 247)م مفيدة في فهم كثير من الملابسات لان الطريقة التي وصل فيها إلى الحكم تحتاج إلى دراسة نفوذ الضباط الاتراك وموقف الرأي العام من تجربة المعتزلة في الحكم خاصة في ظل تنامي نفوذ
 

(٣٦)

رئيس السلطة القضائية القاضي أحمد بن أبي دؤاد واستغلاله لمنصبه وأحكامه التعسفية التي ذهب فيها إلى مديات لا تطاق.
بل إن دراسة شخصية جعفر المتوكل ووقوعه تحت تأثير محظيته اليونانية الحسناء وطلاقه لزوجته (ريطة) التي رفضت طلبه في السفور وارتداء زي الغلمانس تكشف هي الأخرى نقاطاً معتمة وتلقي الضوء علي حوادث تاريخية.
فقد سجل المؤرخون للمتوكل اهتماماً استثنائياً بالأخبار أي أخبار جواسيسه المنتشرين في كل مكان وقد شهدت فترة حكمه تشكيل شبكة رهيبة ومخيفة للجاسوسية وقد أثري الجواسيس من خلال ادراكهم لتوجهات وتوجسات المتوكل خاصّة عدائه الشديد لأهل البيت (عليهم السلام).
يكفي أن نشير إلى أوامره بهدم مرقد سيدنا الحسين (عليه السلام) وهدم الدور المحيطة به وحرث المنطقة بأسرها وفتح مياه الفرات واغراقها، وهي مهمة امتنع المسلمون والنصارى عن تنفيذها ونفذها اليهود بتعهد (ابراهيم الديزج) اليهودي الذي سن راهيتولي منصباً حساساً في الدولة فيما بعد.
ومن الافضل أن نواكب وبشكل سريع بعض الحوادث التي أدّت في النهاية إلى صعود المتوكل واطاحته بمؤسسات العهد البائد بل واقصائه المذهب المعتزلي وابعاد شخصياته عن مؤسسة الدولة وفسح المجال أمام مذهب جديد ساعد إلى حدّ ما علي تثبيت أركان حكمه.
وصول الإمام الهادي إلى سامراء
لعل من الافضل مواكبة بعض الاحداث التي قد تلقي ضوءً كشّافاً يفيد في تفسير حوادث أخرى في صميم البحث.
قد يعجز الباحث عن اماطة اللثام عن الظروف التي مهدت الطريق إلى صعود المتوكل فقد كان قبل ليالي موضعاً لتأنيب أخيه الواثق واحتقار رئيس الوزراء

(٣٧)

الزيات بسبب شعره الطويل وظهوره في هيئة أقرب إلى المخنثين منه إلى الامراء، ولذا قام رئيس الوزراء بقصّ شعره وضرب بها وجهه وطرده.
ان من يطّلع علي تفاصيل تلك الفترة خاصّة فترة احتضار الواثق وانعقاد مجلس ضم شخصيات الدولة سيكتشف نفوذ الضباط الاتراك.
لقد حاول الزيات المستحيل في ترشيح ابن الخليفة الطفل ولكن دون جدو يفقد فرض ايتاخ وبغا ووصيف رأيهم في انتخاب جعفر (المتوكل).
ومن الملفت للنظر ان جعفر كان حين تداول مسألة مصير الخلافة جالساً في الجناح الخاص بالحرس مع بعض الشبان الاتراك.
وقد حمل القائد بغا حلّة الخلافة اليه، وفي لحظات رأى نفسه الحاكم المطلق لبلاد تمتد من غرب افريقيا إلى تخوم أرمينيا والي شواطئ المحيط الهندي.
وأول شيء نطالعه هو التقارير التي رفعت إلى المتوكل مباشرة في خطورة الإمام علي الهادي. يقول المسعودي: (وكتب بريحة العباسي صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكل: إن كان لك في الحرمين حاجة فاخرج علي بن محمد منها، فانه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير).
ونجد أن زوجة المتوكل تؤكد علي زوجها ذلك، وكما ذكرنا أنها كانت جارية ثم اصبحت زوجته الاولى عرفت بحسنها الباهر ولم يذكر التاريخ سوى انها من أصل يوناني وانها استحوذت علي قلب المتوكل واسمها غير معروف لكنها اشتهرت باسم(قبيحة) من باب تسمية الشيء بضده.
وقد استدعي ذلك أن يكذّب الإمام التقارير في رسالة إلى سامراء لكن ذلك لم يبدد هواجس المتوكل فصدرت عن القصر أخيراً رسالة موجهة للإمام تدعوه إلى الحضور وقد سطر الرسالة الكاتب العربي البليغ ابراهيم الصولي فجاءت مهذبة إلى حدٍّ كبير.
ويذكر الطبري وصول الإمام الهادي إلى سامراء في سنة 234ه فيما تشير

(٣٨)

مدونات الإمامية ان رسالة الصولي موقعة بتاريخ 243ه ولعل في كتابة التاريخ الاخير خطأ في تقديم وتأخير عدد الاحاد والعشرات.
وكجملة اعتراضية نسجل ظهور تيارات فكرية تبتعد وبنسبة ما عن جوهر التوحيد الذي جاء به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).
فهناك داخل الكيان الشيعي تفكير انحرافي يحاول طرح الائمة كأرباب أو على الاقل ان الله سبحانه فوضهم قدرة الخلق والرزق وهو تيار حاربه الإمام علي الهادي بكل ما أوتي من قوّة.
كما تصدّي لتيار المجسمة الذي يصوّر الله بصورة البشر له جسم وأطراف.
والتيار الاخير سيكون تحت مظلّة الاتجاه الفكري الذي تدعمه الدولة الجديدة بعد اقصاء المذهب المعتزلي.
ان طريقة استقبال المتوكل للإمام الهادي تكشف حقيقة ونوايا السلطات ازاءه فقد تعمد المتوكل عدم استقباله بالرغم من اطلاعه علي وصوله واضطرّ الإمام ليمضي ليلة وربّما أكثر في خان الصعاليك، بل ان الرواية التاريخية التي سجلت ذلك تشير بقوّة إلى أن نزول الإمام في خان الصعاليك كان بأمر من المتوكل، فالإمام لا يعد موجود شيعي يستقبله في منزله، وربّما يمكنه العودة إلى بغداد فهي ليست بعيدة ولكن الإمام في جميع الاحوال لم تكن لديه خيارات.
ونحن نذكر ذلك لنثبّت من الان سياسة رهيبة سوف تتطور من سيء إلى أسوأ وأن حياة الإمام الهادي لم تكن عادية علي الاطلاق بل تحكمها قوانين الاقامة الجبرية والحصار والجو الجاسوسي والتآمر ومحاولات دنيئة للانتهازيين من الذين يهمهم الارتقاء والاثراء ولو علي جماجم الاحرار والابرياء.
وعلي أية حال حصل اللقاء المرتقب ودار فيه هذا الحوار:
قال المتوكل:
ـ ما يقول أبناء علي في العباس؟

(٣٩)

أجاب الإمام:
ـ ماذا تريدهم يقولون في رجل أمر الله الناس بإطاعة أولاده وينتظر من أولاده أن يطيعوا الله!
دار الإمام
ونعبر هذا الحوار إلى أول معلومة هامّة وردت في التاريخ حول الدار التي قطنها الإمام في سامراء.
فقد أورد الخطيب البغدادي في تاريخه وفي ترجمته لحياة الإمام الهادي (أنه اشتراها من دليل بن يعقوب النصراني) ولم ينتقل منها وتوفي فيها ودفن.
ويورد التاريخ معلومة أخرى هي أنه دفن في وسط الدار ودفن إلى جانبه فيما بعد نجله الحسن ثم نرجس وحكيمة وزوجته التي هي جدّة الإمام المهدي.
ومن المفيد أن نورد نصاً من كتاب رحلات السيد محسن الامين العاملي ما يعيننا في تصوّر عام لدار الإمام:
(.. وسميت في أول الامر (سر من رأي) ثم خففت فقيل سامراء وتسمي أيضاً(العسكر) لإقامة عسكر المعتصم فيها، وفيها قبر الإمام علي بن محمد الهادي وابنه الحسن بن علي العسكري. كان استدعاهما ملوك بني العباس اليها واجبراهما على الاقامة فيها خوفاً منهما أن ينازعاهم في الخلافة لاعتقاد جمع من الناس بامامتهما وميل جميع الناس اليهما فماتا بها ودفنا في دارهما. وفيها قبرا حليمة أخت علي الهادي ونرجس زوجة الحسن العسكري وأم المهدي وعلي الجميع قبة عظيمة كسيت بالذهب الإيريز كأنها الجبل الشاهق. وفيها السرداب المسمى بسرداب الغيبة وهو سرداب الدار التي سكنها العسكريان (عليهما السلام) وذلك ان اتخاذ السراديب أمر متعارف في العراق، يتقي به الائمة الحرّ في وقت الظهيرة ويقيمون فيه ذلك الوقت.
وكان له طريق تحت الأرض من دار الإمامين التي هي محل دفنهما وبقي هذا

(٤٠)

الطريق بعد دفنهما فيها فكان الزوار يخرجون من الحفرة الشريفة في ذلك الطريق حتى يصلوا إلى باب السرداب فيدخلوه، كما تدلّ علي ذلك بعض كتب المزارات، سدّ ذلك الطريق وفتح للسرداب باب ملاصق له، وصار يمشي إليه من الحضرة الشريفة على وجه الارض.
والسرداب اظنه لفظ مركب من (سرد) وهي بالفارسية بمعني بارد و(آب) بمعني ماء أي مبرد الماء).
فالمصادر التاريخية والجغرافية تؤكد أن قبور أهل الدار كانت في حجرة في الدار وأن السرداب جزء من مرافق الدار.

وأنه بدأ الاهتمام بالدار كأثر مقدس بعد وفاة المعتضد (279 - 289) بل أن الاخير ورد اسمه في مدونات الإمامية باعتباره الخليفة الوحيد الذي نظم حملتين للقبض على الإمام المهدي أو اغتياله.
وما يهمنا أن نعرف أن المسافة بين السرداب وضريح الإمامين تقدّر (80 ـ90)م والمسافة يمكن قياسها بدقة.
وبناء علي فرضية أن السرداب أيضاً لا يوجد في الطرف القصي بل أن خرائط القصور السامرائية تجعله في مكان علي محور وسط الدار.
وهنا نذكر بالمعلومة التي وردت في كتب التاريخ حول (دليل بن يعقوب) الذي اسند إليه المتوكل مشروعه الجبار في شق نهر من دجلة لمدينة المتوكلية شمال سامراء على مسافة أربعة أميال عربية (8 كم) تقريباً.
كما أن شق القنوات الجوفية (الكهاريز) من دجلة لتغذية القصور والمساجد بالمياه أمر يتفق عليه الجميع.
ونتصوّر من خلال دراسة بعض الروايات التي تصوّر الحفلات الصيفية التي تقام

(٤١)

في القصر السامرائي بهذه الهيئة.
ان الباب الرئيسة تفضي إلى رواق وبهو واسع والي ستائر وحجرات في منعطفات موزعة بعدها يأتي مدرج يهبط إلى باحة الدار حيث الحديقة وربما بركة مياه ومصطبة صخرية يجلس عليها أهل الدار.
وتكون الحديقة بمستوي أرضية السرداب تقريباً والسرداب يجهز في الغالب ب(كهريز) (خاص بالقصور الكبيرة) ولان صاحب دار الإمام الاصلي هو دليل ابن يعقوب فمن المنطقي جداً وجود كهريز يدخل السرداب من خلال سدّاد متحكم ثم يفضي الماء بعد ذلك إلى الحديقة.
ونحن نجد في ترجمة الإمام الهادي أنه عنّف غلاماً لأنه دفأ له ماء الوضوء والرواية تورد في طياتها صعوبة في احضار الماء.
كما نجد في ترجمة معز الدولة البويهي انه استكمل بناء الحمداني ناصر الدولة في عمارة القبة والسرداب وملا البئر التي كان العسكري يتوضأ بها أحياناً.
ومن المحتمل أن يكون البئر حوضاً صغيراً داخل السرداب يستمد مياهه من القناة الجوفية.
فتقديرات أولية لمساحة الدار قد تصل به إلى أكثر من 000/ 15م2.
ومع أن هذه الدار تعدّ من القصور ولكن السيرة الذاتية للإمام والتي تؤكد زهده وتسجل أحياناً خلو الحجرات حتى من البُسط والسجّاد تكاد تصرّح بأن الإمام انما اشترى هذه الدار الفخمة جداً لأهداف تختلف تماماً عن غايات سكان القصور فما هي أهداف الإمام؟

(٤٢)

ولنسجل في هذه المناسبة ثلاث علامات تعزز الفكرة هي:
أولاً: أن الإمام لم يتحول عنها برغبة منه أو استجابة لضغوط أخري، وما تزال كما هي الان باسم الإمام بعد أن استحالت إلى قباب ومنائر وآثار خالدة.
ثانياً: ان الإمام قاوم بشكل يلفت النظر ضغوط المتوكل وتهديداته بإخلاء الدار والانتقال إلى المتوكلية، بل أن الإمام لم يشرع ببناء داره الجديدة في المتوكلية بالرغم من تهديدات المتوكل التي توعدته بالقتل ومن المحتمل أن يكون تاريخ ذلك بين 245 ـ247ه أي منذ انتقال المتوكل إلى قصره الجديد (الجعفري) والي مصرعه في الخامس من شوال 247ه.
ثالثاً: أن الإمام قاوم وبشدّة أيضاً ضغوط أحمد بن الخصيب رئيس الوزراء في حكومة المستعين.
وقد قام الاتراك بطرده من رئاسة الوزراء ونفيه إلى جزيرة كريت في البحر الابيض المتوسط واسناد المنصب إلى ضابط تركي هو (أوتامش) وذلك في سنة248ه وقبل أيام فقط من اقدام الخصيب علي تنفيذ تهديداته بشأن الدار واجبار الإمام علي بيعها.
ونشير هنا إلى أن مثل هكذا دار كبيرة ستكون جاهزة لاستحداث ممرات تحت الأرض وانفاق.
وسنري الطبري عندما يؤرخ سنة 255ه وهي السنة التي شهدت الانقلاب العسكري علي الخليفة المعتز وهو ابن المتوكل من زوجته اليونانية (قبيحة) وعندما حوصرت قصور الخلافة وبالتحديد القصر التي تقطنه هذه المرأة الغامضة بغية القاء القبض عليها ومصادرة كنوزها الاسطورية أنها افلتت من قبضة الجنود الاتراك عبر نفق تحت الأرض يبدأ من غرفة نومها إلى مكان خارج اسوار القصر بعيد عن العيون.
وسوف نتوقف أيضاً لدي هذه النقطة عندما نستعرض بعض النقاط في حياة الإمام الحسن العسكري.

(٤٣)

اوراق من تاريخ الرومان
هناك أكثر من علاقة تربط بين مسألة المهدي والمسيح والمسيحية والرومية.
ونحن نسجل باختصار ما يتعلق بصميم البحث:
رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): (... لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج ولدي المهدي فينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه وتشرق الأرض بنور ربّها).
عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): (المهدي من ولدي وجهه يتلألأ كالقمر الدري اللون لون عربي والجسم جسم اسرائيلي).
وفي هذا اشارة ضمنية إلى أن المهدي يرث عن والدته صفات بني اسرائيل في القامة.
ومدوّنات الإمامية تؤكد ان والدة الإمام المهدي هي السيدة (مليكا) التي اخفت اسمها الحقيقي وعرفت باسم (نرجس) وأنها إحدى أميرات الرومان في القصر الامبراطوري في القسطنطينية.
رواية تاجر الرقيق بشر بن سليمان النخاس
الرواية وردت في كتب الإمامية المعتبرة في اكمال الدين للشيخ الصدوق وكتاب الغيبة للشيخ، الطوسي، وسنشير إلى أهم المعلومات فيها:
بشر بن سليمان النخاس من أصول أنصارية يقطن سامراء وهو جار للإمام الهادي تعلم علي يديه فقه الرقيق والتجارة المشروعة فيه.
الإمام يرسل كافوراً في المساء لاستدعاء تاجر الرقيق ويحضر الرجل في الوقت المناسب.

(٤٤)

الإمام يكلّفه شراء جارية بمواصفات محددة، ان جوّ الروايات التي أشارت إلى هذا الموضوع توحي بأن الإمام الهادي قام بذلك بُعيد انتهاء الحرب الاهلية (251 ـ252)ه ومن المحتمل أن يكون ذلك بين عامي 253 - 254ه.
أي في الوقت الذي استأنفت فيه بغداد حياتها العادية من جديد بعد حرب أهلية مدمّرة.
وتم الشراء في مكان قرب معبر الصراة وهو نهر يتفرع من دجلة في بغداد وهنا تأتي رواية الفتاة للنخاس في قصتها المثيرة.
ـ اسمها الحقيقي (مليكة) بنت يشوعا ابن قيصر الروم وأمها من نسل الحواريين وبالتحديد من نسل شمعون وصي السيد المسيح.
ـ أراد جدّها تزويجها إلى أمير من أمراء القصر وحدث ما الغي الزواج.
ـ ترى الفتاة رؤيا عجيبة إذ يخطبها النبي العربي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) لاحد أبنائه من السيد المسيح.
ـ تصاب بالحمّي بسبب تلك الرؤيا المثيرة وبسبب حبها للفتي الاسمر الذي خُطبت له.
ـ انها فتاة عاقلة ومثقفة تعرف العربية وتتعاطف إلى حدّ ما مع الاسرى المسلمين.
ـ تخطط الفتاة للسفر إلى بغداد عن طريق الاشتراك في الحرب ووقوعها ضمن أسرى الحرب وهذا ما حصل وعندما سُئلت عن اسمها قالت.. (نرجس) وهو اسم الجواري وهكذا أخذت طريقها إلى سوق الجواري وهي سوق رائجة آنذاك.
ونورد هنا بعض التفاصيل علي الجبهة الشمالية والشمالية الشرقية حيث تتبادل الجيوش الإسلامية والرومية الغارات والهجمات.
ويمكن متابعة مسلسل الغارات والاشتباكات منذ فتح عمورية لتأخذ شكلاً عنيفاً في عهد الامبراطورة تيودورا الوصية علي عرش ابنها القاصر ميخائيل الثالث

(٤٥)

ونحن نركز على اشتباكات السنوات 249 - 253 وهي مثبتة في التاريخين الإسلامي والرومي.
وفي سنة 253ه 867م وقع حادث هام له أكثر من دلالة وهو قيام (باسيل) بمحاولة انقلابية خطيرة انهي فيها حكم الاسرة العمورية ومؤسساً لحكم اسرة جديدة هي (الاسرة المقدونية) فلنقرأ هذه الصفحات من تاريخ الرومان:
(وهكذا نمرّ بنقفور الاول (802 - 811) وحروبه مع هارون الرشيد، وميخائيل الاول (811 - 813) وقد ثل عرشه وجز شعره لان البلغار هزموه، ولي والخامس الارمني (813 - 820) الذي حرّم مرة أخرى عبادة الصور التماثيل والذي اغتيل وهو ينشد ترنيمة للكنيسة، وميخائيل الثاني (820 - 829) الامي (المتلجلج) الذي عشق راهبة وحمل مجلس الشوخ علي أن يتوسل إليه أن يتزوجها، وثيوفليس (829 - 842) المشرع المصلح، والملك البناء، والاءداري الحي الضميرى الذي أحيا سنّة اضطهاد محطمي التماثيل وقضي عليه الزحار، وأرملته ثيودورا التي حكمت البلاد نيابة عنه حكما قديراً (842 - 856) وأنهت عهد الاضطهاد، وميخائيل الثالث (السكير) (842 - 867) الذي أسلم الإمبراطورية بعجزه اللطيف إلى أمه أولا ثم إلى قيصر بارداس Caesar Bardas عمه المثقف القدير بعد وفاتها. ثمتظهر علي المسرح علي حين غفلة شخصية فذة لم تكن منتظرة تخرج علي كل سابقة عدا سابقة العنف، وتؤسس الاسرة المقدونية القوية.
فقد ولد باسيل المقدوني بالقرب من هدريا نوبل Hadriaople من أسرة أرمنية من الزراع. وأسره البلغار وهو صغير وقضي شبابه بينهم وراء الدانوب في

(٤٦)

البلاد التي كانت وقتئذ معروفة باسم مقدونية. ثم فر منهم وهو في الخامسة والعشرين من عمره، واتّخذ سبيله إلى القسطنطينية، واستأجره أحد رجال السياسة ليكون سائسا لخيوله لانه أعجب بقوة جسمه وضخامة رأسه. وصحب سيده في بعثة إلى بلاد اليونان، وهناك استلفت نظر الارملة دنيليس Danielis وحصل على بعض ثروتها. ولما رجع إلى العاصمة روض جوادا جموحا يملكه ميخائيل الثالث، فأدخله الإمبراطور في خدمته، وظل يرتقي فيها حتى صار رئيس التشريفات وإن لميكن يعرف القراءة والكتابة. وكان باسيل علي الدوام قديرا فيما يوكل إليه من الاعمال، سريع الاستجابة لها؛ فلما أن طلب ميخائيل زوجا لعشيقته، طلق باسيل زوجته القروية، وأرسلها إلى تراقيه مع بائنة طيبة، وتزوج يودوسيا Eudocia التي ظلت في خدمة الإمبراطور. وهكذا حبا ميخائيل باسيل بعشيقته، ولكن المقدوني ظن أنه يستحق العرش جزاء له علي فعلته، فأقنع ميخائيل بأن بارداس يأتمر به ليخلعه، ثم قتل بارداس بيديه الضخمتين (866)، وكان ميخائيل قد اعتاد من زمن طويل أن يملك دون أن يحكم فجعل باسيل امبراطوراً وترك له جميع شئون الحكم. ولما هدده ميخائيل بعزله، دبر باسيل اغتياله وأشرف علي هذا الاغتيال بنفسه، وانفرد هو بالإمبراطورية (867).
لنسجل بعض النقاط المفيدة باختصار
ـ وفاة تيوفئيل سنة 227ه - 841م وهي سنة وفاة المعتصم أيضاً وتيوفئيل ولدفي عمورية التي سقطت في قبضة الجيش الإسلامي 223ه - 837م.
ـ يتربع علي العرش ابنه القاصر ميخائيل الثالث (6 سنوات) فيتألف مجلس للوصاية برئاسة أمه تيودورا وخاله قيصر باراداس (Caesar Bardas).

(٤٧)

وتنفرد الام بالحكم مدّة 14 سنة تشن خلالها حروباً عنيفة ضد الدولة الإسلامية وتقدم علي ارتكاب مذبحة مروعة بحق الاسرى المسلمين راح ضحيتها000/ 12 مسلم.
في عام 856م قام أخوها قيصر بارادس باعتقالها واجبرها علي دخول الدير..
ويسجل التاريخ وفاتها في سنة 867م أي في سنة الانقلاب العسكري بقيادة باسيل الذي ذكر التاريخ الروماني جانباً من أخلاقه فهل كانت الوفاة طبيعية وحدثت تصادفاً في نفس العام؟!
ـ ان بارداس بعد اعتقاله اخته وزجها في الدير أصبح هو الحاكم الفعلي للامبراطورية يعني اصبح هو القيصر ولا ننسي ان التاريخ ذكره بهذا الاسم أيضاً.
يمكن اجراء تطبيق بين هذه المعلومات ومفادات رواية السيدة نرجس.
ـ وجود شخصية أسمها قيصر باراداس وهو الامبراطور الفعلي للبلاد وهو ما تذكره رواية السيّدة صراحة.
ـ في عام 867م 253ه يقوم باسيل المقدوني بقتل قيصر باراداس ثم اغتيل الميخائيل الثالث واعلان نفسه امبراطورا جديداً منهياً بذلك حكم الاسرة العمورية؛ وباسيل كما سجل التاريخ شخصية أمية، عنيفة ودموية.

(٤٨)

إن تشتت الاسرة العمورية يعزز من تشرّد وفرار أميرات القصر.. كما ان ظهور السيدة نرجس في نفس عام الانقلاب العسكري وفي نفس الفترة التي شهدت اشتباكات ضارية وفي نفس الفترة التي تشير اليها رواية (بشر بن سليمان النخاس) وتعرف الإمام الحسن علي الفتاة في منزل عمته يعزز من مفاد رواية السيدة نرجس باعتبارها إحدى سيدات القصر وأميراته وانها وصلت بغداد علي قدر.
وقصّة الإمام المهدي ليست عادية بل أنها وحسب ادبيات هذه المسألة خلاصة لقصص الانبياء بكل ما تتضمنه من معجزات واثارات وقد اشارت كثير من الاحاديث إلى أوجه الشبه بين الإمام المهدي وعدّة من الانبياء.
ونستطيع أن نناقش رؤيا السيدة نرجس في ضوء ما ورد في القرآن الكريم من قصص مثيرة جداً تشكل الرؤيا فيها ركناً مهمّا وليس هناك ما هو أجلى من سورة يوسف التي تشكل الرؤيا فيها الخيط المحوري على امتداد القصة والسورة، فالقصّة تبدأ برؤيا الكواكب وتنتهي بتفسير هذه الرؤيا وخلالها ترد رؤيا الملك التي وضعت الاحداث في مسار أكثر إثارة.
فرؤيا السيدة نرجس اذا ما وضعت في الجوّ العام الذي يؤطر حركة الرسالات الالهية ستبدو أكثر انسجاماً، والقرآن الكريم يزخر بالشواهد المتألقة في هذا المضمار، فموسى (عليه السلام) ولد وعاش وترعرع في أجواء مثيرة لا تحتاج إلى شرح والسيدة مريم جاءت إلى الدنيا بلطف الهي.
وعيسى ابنها ولد عند جذع النخلة معجزة في الخلق..
وسيدنا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) هو ابن الذبيحين فلم يكن بين اسماعيل والذبح إلاّ لحظات انفتحت فيها السماء، وكاد أبوه عبد الله أن يذبح، وكاد هو أن يقتل في هجرته ولم يكن بينه وبين سيوف قريش سوى خيوط العنكبوت.
ومن قبل هوي ابراهيم وهو أبو الانبياء في قلب النار فجعلها الله برداً وسلاماً.

(٤٩)

وشاء الله أن تكون السيدة مليكة أو نرجس أماً للمصلح العالمي.. دفع الله عنها زواجاً لم تكن راغبة فيه وقدّر لها زواجاً آخر بعد حين، وشاء الله لها النجاة من القتل في حوادث الانقلاب العسكري الذي راحت ضحيته الاسرة العمورية الحاكمة، وشاء الله لها أن تصل بغداد ثم سامراء في رحلة مثيرة لا نعرف تفاصيلها.
فالإمام الهادي انتخب لابنه فتاة نبيلة من سلالة الحواريين ومع ذلك فيجب ألاّ يكون للصبي الموعود أخوال يسألون عنه، ولذا ستعيش الفتاة في الظل كأية جارية أجنبية مع انها سيّدة الاماء كما ورد في الروايات.
سامرا.. مشهد ما قبل الولادة
البلاط في مطلع عام 253ه تقوده قدره غامضة مؤلفة من أم الخليفة المعتز (قبيحة) وهي زوجة الخليفة الذي لقي مصرعه في انقلاب سنة 247ه، يعاونها الوزير النصراني الاصل ابن اسرائيل وأبو نوح وهو غلام نصراني كانت له علاقة قوية بالمتوكل واستطاع الفرار عشية مصرع المتوكل.
كانت سياسة المعتز تنهض علي أساس تصفية أعداء والده وخصومه أيا كانت اتجاهاتهم، ولذا قام بترقية الضباط المغاربة الذين اصبحوا عماد حرسه الخاص.
فيما عمّت موجة من الاعتقالات بغداد وسامراء طالت عشرات العلويين أو ممّن تُشمّ فيهم رائحة الولاء لأهل البيت (عليهم السلام) وكان في طليعة من اعتقل أبو هاشم الجعفري بأوامر شخصية من المعتز بذريعة أن البلاط يفكرّ في ارساله إلى (طبرستان) للتفاوض مع الثائر العلوي (الحسن بن زيد) وتهدئة القلاقل هناك، فنقل مخفوراً إلى سامراء وزجّ به في سجن خاص في تلك الفترة كما قلنا وصلت السيدة نرجس سامراء واستقبلت من قبل الإمام الذي ارسل وراء اخته حكيمة

(٥٠)

واطلعها علي وصول الفتاة وطلب منها أن تأخذها إلى منزلها لتعلّمها شريعة الإسلام.
ومكثت الفتاة في منزل السيدة حكيمة شهوراً ويراها الإمام الحسن في أخريات عام 253ه أو مطلع عام 254ه وتورد الروايات تفاصيل عن لقاء غير عادي بين سيدنا الحسن (عليه السلام) والسيدة نرجس.
وتستأذن السيدة حكيمة أخاها في اجراء مراسم الزواج في منزلها وبعد أيام يصطحب الإمام الحسن زوجته الرومية إلى منزل والده الكبير.
ونستطيع أن نحدس موقف البلاط من العلويين من خلال تعيين ابن أبي الشوارب رئيساً لسلطة القضاء وهو رجل معروف بموقفه العدائي التقليدي للعلويين.
في 25 جمادي الاخرة توفي الإمام علي الهادي وحضر مراسم العزاء نائباً عن الخليفة طلحة بن المتوكل الذي عرف بالموفق منذ سقوط بغداد بعد حصارها سنة251ه وطلحة سيكون هو الحاكم العسكري العام منذ مصرع المهتدي في سنة 256هوسيتولّي ابنه الخلافة وسيعرف فيما بعد ب (المعتضد) سنة 279 والاخير هو الذي ذكرته مدوّنات الإمامية بتنظيمه حملتين لاعتقال أو اغتيال من يوجد في بيت الإمام الهادي.
افرزت الحرب الاهلية وضعاً قلقاً متوتراً في سامراء اتسم بالقلاقل التي عادة ما يثيرها الضباط الاتراك الذين شهدت جبهتهم انشقاقات خطيرة وتناحر من أجل أسلاب الحكم والمزيد من النفوذ.
وفي سنة 255 شهدت ميزانية الدولة عجزاً في صرف مرتبات الجيش ويعود هذا في الاصل إلى اختلاسات الطغمة الحاكمة بقيادة زوجة المتوكل التي تعد الحاكم

(٥١)

الفعلي للبلاد يعاونها كما ذكرنا مجموعة من الاداريين الغامضين مثل ابن اسرائيل وأبي نوح عيسى بن ابراهيم الذي ظل مصرّاً علي نصرانيته.
في جمادي الاخرة سنة 255ه قام صالح بن وصيف بعملية انقلابية وسيطرت قواته علي قصر الخليفة المعتز الذي نقل إلى مكان مجهول فيما فرض الحصار الشديد على قصر والدته الثرية جدّاً.
وعقد صالح بن وصيف تحالفاً مع ضابط تركي قوي هو (بايكباك) وفي تلك الفترة انتشرت في أوساط الشيعة شائعات قوية عن نيّة السلطات في اصطحاب الإمام الحسن إلى الكوفة واغتياله في الطريق.
سنحاول متابعة تفاصيل هامّة منذ يوم 26 رجب 255ه، فقد انفجرت أزمة خطيرة هددت حكومة المعتز بسبب العجز والتسويف في دفع مرتبات قطعات من الجيش واستنجد المعتز بوالدته التي امتنعت من دفع مبلغ 000/ 50 دينار وتذرّعت بأنها لا تملك هذا المبلغ، وتعللت بأن أموال الدولة لم تصل بعد من الاقاليم، لكنها في الحقيقة كانت قد ارسلت رسالة مستعجلة إلى موسى بن بغا في وقف العمليات الحربية في ايران والعودة بأقصى سرعة لمعالجة الوضع الخطير المتفجّر في سامراء.
وقبل أن يصل موسى بن بغا كان الوضع قد تدهور والقي القبض على المعتز وتعرّض للتعذيب والاهانة ثم وقع وثيقة التنازل عن الخلافة باكياً.
وتم تنظيم المحضر بإشراف رئيس سلطة القضاء ابن أبي الشوارب..
وتضمنت الوثيقة تعهداً من الضباط الاتراك بالحفاظ علي حياته وحياة والدته وشقيقته.

(٥٢)

وضرب الحصار علي قصر (قبيحة) ورابطت قوة من الجنود الاتراك على بوابات القصر.
واعلن في الثاني من شعبان عن وفاة الخليفة المخلوع وقبل الاعلان كان قد تم تسمية محمد بن الواثق خليفة.
وعندما صدرت الاوامر باقتحام قصر قبيحة لمصادرة ممتلكاتها فوجئ الجميع باختفائها وفرارها عبر نفق.
وهكذا اختفت عن الانظار، فانتشر رجال الشرطة للبحث عنها كما رصدت جوائز مغرية لمن يدلّ عليها أو يقدّم معلومات تفيد في القبض عليها، وأُنذر الذين يساعدونها في الاختباء بأقسى العقوبات.
علي أن الشبهات كانت تحوم حول منزل تقطنه احدي زوجات القائد العسكري موسى بن بغا فوضع المنزل تحت المراقبة، ولكن القائد وصيف كان يتهيب اقتحام المنزل خوفاً من خطوة انتقامية يقوم بها القائد موسى بن بغا الذي قد يصل سامراء بين لحظة وأخرى.
وانفجرت أزمة الجيش مرّة أخرى بسبب عجز صالح بن وصيف عن دفع مرتبات الجنود، ولذا أقدم القائد العسكري الذي يحكم البلاد بقوّة بتعريض ابن اسرائيل وأبي نوح وابن مخلد للتعذيب فانهار الاخير واعترف بوجود خطة لاغتيال صالح بن وصيف بإشراف قبيحة وابن اسرائيل وأبي نوح (عيسى بن ابراهيم) وشاء القدر أن يتقدم أحدهم ليدلي بمعلومات حول وجود كنوز سرّية تعود لقبيحة فعثر عليها ووجدت أموال أسطورية دفعت صالح بن وصيف للتصريح قائلاً:
ـ قبّح الله قبيحة عرّضت ابنها للقتل في خمسين الف دينار وعندها هذه الاموال في خزانة واحدة من خزائنها!

(٥٣)

وتم تنفيذ حكم الاعدام بحق ابن اسرائيل وأبي نوح فيما قرّرت قبيحة الظهور وارسلت من مخبئها وسيطاً للتفاوض مع صالح بن وصيف.
ونسجّل هنا عدّة حوادث منها اندلاع ثورة الزنج في أهوار العراق واقتحام مدينة البصرة، وتقدّم قوّات الصفّار باتجاه العراق، واستمرار الاشتباكات مع قوات الحسن بن زيد العلوي الذي أسس دولة طبرستان في الشمال الايراني.
وقام الخليفة المهتدي (محمد بن الواثق) بإجراءات لكسب التأييد الشعبي منها ترحيل المطربين والمطربات إلى بغداد واعدام بعضهن. وطرد الكلاب وتعطيل الملاهي، كما ترأس بنفسه محكمة الاستئناف وقد برّر كل ذلك بانه غيرة على العباسيين لأنه لا يوجد بينهم من يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز.
ولا ننسى أيضاً انه بإشرافه وبمباركته صودرت كل ممتلكات قبيحة وابنائها والمقرّبين منها وتم ترحيلها إلى مكة وقد سجل الطبري صرخاتها الهستيرية وهي تودّع سامراء دون رجعة:
ـ اللهم اخز صالح بن وصيف كما هتك سترى وقتل ولدي وبدّد شملي وغرّبني عن بلدي، وركب الفاحشة مني.
والى جانب هذه الاجراءات قام المهتدي بخطوات احترازية لتثبيت حكمه منها ابعاد بعض الشخصيات العباسية في طليعتها طلحة بن المتوكل الذي اكتسب لقب (الموفق) منذ احتلال بغداد في الحرب الاهلية سنة 252ه.
كما قام باعتقال الإمام الحسن وزجّه في سجن خاص مع تأكيدات بمعاملته معاملة قاسية، وقد سلّم صالح بن وصيف الإمام إلى علي بن أوتامش المعروف بفظاظته وقسوته وعدائه للعلويين.

(٥٤)

وقد تعرّض صالح بن وصيف إلى الانتقاد بعد أن وصلت القصر تقارير حول معاملة طيبة للإمام فقال القائد التركي:
ـ وماذا تريدوني أفعل لقد سلّمته إلى رجل ليست في قلبه رحمة، ولكن ابن أوتامش لا يرفع الان رأسه اجلالاً له.
في ذي القعدة ساد التوتر سامراء بعد انباء عن اجتياز موسى بن بغا وقواته مرتفعات همدان في طريقه إلى سامراء.
وتزامن ذلك مع توقيف ابن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء بتهمة الفساد.
ومع ان مدونات الإمامية تذكر تاريخ 15 شعبان 255 هجرية كإحدى التواريخ التي ولد فيها المهدي (عليه السلام) لكن الدارس لتلك الحقبة العاصفة يستبعد ذلك لان الإمام كان معتقلاً وقد نقل عنه حديثه مع أحد السجناء.
فقد سأل الإمام السجين:
ـ هل رزقت ولداً؟
ـ لا
ـ اللهم ارزقه ولداً يكون له عضداً فنعم العضد الولد.
ثم تمثّل بقول الشاعر:
من كان ذا ولد يدرك ظلامته ان الذليل الذي ليست له عضد
ويسأل السجين الإمام:
ـ ألك ولد؟
ـ اي والله سيكون لي ولد يملا الأرض قسطاً، فأما الان فلا.
ويبدو أن الإمام قد اعتقل سنتين ولم توجه له اتهامات واضحة كما وجهت

(٥٥)

لوالده الراحل.
ومن المؤكد ان اخبار المهدي الذي سيولد قد انتشرت وافرزت هواجس للمؤسسة الحاكمة.
ونرى أن المهتدي يطلق تهديدات تتوعد الشيعة بالفناء.
وقد تعرّضت مدينة قم وهي مركز شيعي ناشط لحملة اضطهاد دفعت بأهلها إلى ارسال صيحات استغاثة للإمام.
ومن الاضاءات المفيدة أيضاً أن نذكر وصول قوات موسى بن بغا سامراء وتقدمها لاحتلال قصور الخلافة قد زاد من ارباك الاوضاع، ولا ننسي ان قوات الصفار ما تزال تواصل تقدّمها وأن ثورة الزنوج باتت تشكل تهديداً خطيراً بسبب سرعة انتشار لهيب الثورة سيّما وأن قائدها أراد أن يضفي علي نفسه المزيد من البريق بادّعائه الانتساب إلى أهل البيت، اضافة إلى الهزائم التي لحقت بالدولة في صراعها مع الروم، وسنري أن مؤسسة الحكم تحرص على استصدار تصريح من الإمام لتكذيب هذا الادّعاء.
وفي يوم عاشوراء من سنة 256ه كانت سامراء اشبه بمدينة محتلّة في قبضة قوات موسى بن بغا فيما فضل صالح بن وصيف الاختفاء عن الانظار.
وليس من باب الاعتباط أن يؤثر عن الإمام الحسن (عليه السلام) حرز تعكس كلماته خطورة الاوضاع التي عاشها الإمام ونجد فيه ما يدفعنا إلى التوقف مثل قوله:
ـ (احتجبت بحجاب الله النور الذي احتجب به عن العيون...
واحتطت علي نفسي وأهلي وولدي..).

(٥٦)

ولادة الإمام المهدي لماذا 15 شعبان 256هـ؟
روايات كثيرة ذكرت سنة 255ه باعتبارها العام الذي ولد فيه الإمام المهدي لكن الذي يتأمل تلك الفترة كما قلنا سوف يركن إلى تاريخ 15 شعبان سنة 256ه، واضافة إلى ما ذكرنا من أن الإمام كان في سنة 255ه معتقلاً وقد ورد عنه قوله أن سيكون له ولد فيما بعد فأننا نري الإمام سوف يفرج عنه بعد مصرع المهتدي وبقاء البلاد دون تسمية خليفة جديد.
وهناك رواية تشير إلى أن الإمام قد تنبأ بمصير المهتدي الاسود بعد اطلاقه التهديدات بشأن الشيعة.
ومسلسل الاحداث التي أدت إلى مصرع المهتدي يبدأ بمحاولة الخليفة التصدي للأتراك وضربهم معتمداً عل مساندة قوات مؤلفة من قطعات من الاتراك والمغاربة ومعوّلاً على الاسناد الشعبي ولكن مع انفجار الوضع انحاز الاتراك الذين في جبهته إلى اخوانهم وفرّ المهتدي وتخلّي عنه الجميع.
وقد سجّل الطبري صيحاته وهو يدور في شوارع سامراء وأزقتها:
ـ يا معشر الناس! أنا أمير المؤمنين.. قاتلوا عن خليفتكم ولم يكترث له أحد.
واتجه إلى السجن وأمر بإطلاق السجناء متوقعاً عونهم ولكنهم فضلوا الفرار واختفوا في الازقة القريبة وقد حصل ذلك في 13 رجب 256ه، والقي القبض علي الخليفة الهارب في نفس اليوم.
وفي يوم 16 رجب أعلن عن تنصيب الخليفة الجديد الذي اطلق سراحه من السجن ومنح لقب (المعتمد).
وفي 18 رجب اعلن عن وفاة الخليفة المهتدي وأن الوفاة كانت طبيعية!!
ويبدو أن الضباط الاتراك كانوا ميالين إلى تنصيب طلحة بن المتوكل (الموفق)

(٥٧)

 ولكنه كان في منفاه في مكة فاستعاضوا عنه بأخيه المعتمد رغبة في حسم الوضع القلق واعادة الامن إلى البلاد التي ما تزال تعصف بها انباء الهزائم في الجبهة الشمالية مع الروم وزحف جيوش الصفار وانباء ثورة الزنج المقلقة.
وسوف نرى أن المعتمد سيكون إلى حدّ ما خليفة بالاسم وأن الخليفة الفعلي الحاكم للبلاد أخوه (الموفق) القائد العام للجيوش العباسية والحاكم العسكري.
وفي 2 شعبان 256ه تم تنصيب (عبيد الله بن يحيي بن خاقان) رئيساً للوزراء وهو شخصية ادارية استطاع أن يعيد إلى سامراء قدراً من الهدوء.
وعبيد الله بن يحيي سياسي قديم كان وزيراً متنفذاً في بلاط المتوكل وقد شهد مصرع الاخير ولم ينس بطبيعة الحال تلك الفترة العاصفة في سقوط الطاغية ونبوءة الإمام الهادي المشهورة، ولذا رتّب علاقة طيبة مع نجله الإمام الحسن الذي سجل له التاريخ نبوءة مشابهة بشأن المهتدي.
ولذا اكتفي القصر بمراقبة الإمام والزامه بالحضور إلى القصر مرّتين في الاسبوع في يومي الاثنين والخميس.
وفي مثل هذه الظروف ستكون ولادة الإمام المهدي في منتصف شعبان 256هتموز عام 870م وقتاً مثالياً جداً.
مشهد الولادة كما تصوره السيدة حكيمة
شمس غروب تموز تقرض المنازل بغلالة ذهبية وكانت نسائم نديّة تهبّ من ناحية دجلة، وقد بدت المئذنة الملوّية تستعد لرفع الاذان.
انفتح باب منزل الإمام ليخرج خادم أسود تفوح منه رائحة المسك آخذاً سمته

(٥٨)

إلى منزل قريب هو منزل المرأة الصالحة حكيمة بنت الجواد عمّة الإمام الحسن التيما انفكت تتفقّد ابن اخيها وتزور زوجته الطيبة (نرجس) تلك الفتاة التي امضت شهوراً طويلة في منزلها قبل ان تنتقل إلى منزل أخيها.
طرق كافور الخادم الباب علي عمة الإمام قائلاً:
ـ ان سيدي يقول: اجعلي افطارك الليلة عندنا!
خفق قلب السيّدة لهذه الدعوة، وشعرت أن أمراً مهمّاً يكمن وراء ذلك.
عندما غطست الشمس في بحيرة المغيب كانت السيدة حكيمة تلج منزل ابن أخيها... المنزل تفوح فيه روائح ورود ربيعية..
استغرفتها حالة فرح عندما استذكرت انها ليلة جمعة حيث تحلو أحاديث السمر في سماء صيفية تزخر بالنجوم.
منذ أيام وهي لم تسعد برؤية فتاتها الطاهرة نرجس.
استقبل الإمام عمّته بابتسامة أضاءت وجهه الاسمر، وهي ايضاً فرحت بلقاء ابن أخيها.. ولكنها سرعان ما شعرت بالألم لمنظر الشيب في ذقنه رغم أنه لم يبلغ الخامسة والعشرين من ربيع العمر!
نظرت في عينيه وقد تألق فيهما نور سماوي كانت تريد استكشاف ما وراء هذه الدعوة في هذا الوقت!
قال الذي عنده علم الكتاب:
ـ إنها ليلة النصف من شعبان..
وأردف وهو ينظر إلى السماء.
ـ وان الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة حجّته في الارض..
والتفت اليها قائلاً بصوت فيه أصداء النبوءات البعيدة:
ـ سيولد في هذه الليلة المولود الكريم علي الله عز وجل.. الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها.

(٥٩)

كانت حكيمة تتوقع ذلك منذ أمد ولكن التوقيت أدهشها لأنها كانت تتفقد جواريه فلعل (نسيم) أو (ماريا) قد حملت منه.. وعهدها بنرجس قبل ايام قالت بلهجة فيها تساؤل مشوب بدهشة:
ـ ومن أمّه؟!
ـ نرجس
ـ نرجس؟! فداك يا بن أخي ما بها من أثر.
قال الذي مسّته السماء بالطهر:
ـ هو ما أقول لك!
وجاءت نرجس تستقبل المرأة التي علمتها كلمة الإسلام:
ـ يا سيدتي وسيّدة أهلي كيف أمسيت؟
عندما وقعت عينا حكيمة علي (نرجس) خفّت اليها وعانقتها قائلة!
ـ بل أنتِ سيدتي وسيّدة أهلي!
غمرت الدهشة وجه نرجس البري:
ـ ما هذا يا عمّة؟!
وانحنت لتخلع خفّي المرأة الصالحة التي تشعر قربها بالسكينة:
ـ ناوليني خفّك يا سيدتي؟!
قالت السيدة حكيمة وقد أشرقت الفرحة في عينيها:
ـ بل أنت سيدتي ومولاتي.. والله لا أدفع خفّي لتخلعيه، ولا لتخدميني.. بل أنا أخدمك على بصري!
ارتسمت في عيني نرجس النجلاوين علامات سؤال كبري، ورمقت بإجلال زوجها العظيم الذي ابتسم قائلاً:
ـ جزاك الله يا عمّة خيراً!
وقادت السيّدة حكيمة نرجس إلى الحصير وقد غادر ابن اخيها المكان.. قالت وهي تقبل علي الفتاة بفرح:

(٦٠)

ـ يا بنيّة انّ الله سيهبُ لك في هذه الليلة غلاماً سيّداً في الدنيا والاخرة.
وأطرقت نرجس وقد تورّدت وجناتها بوهج الحياء.
القمر يتألق في سماء بهية مغمورة بنور شفيف، وكانت السيدة حكيمة قد تناولت افطارها بعد أداء فريضة العشاء وأخذت مضجعها تسبح الله وتحمده.. وبقربها رقدت السيدة نرجس.. أمّا الإمام فقد أخذ مضجعه فوق صفّة في فناء البيت..
عيناه تسافران عبر المديات البعيدة حيث تومض النجوم في سامراء غارقة في هدأة الليل والمنارة الملوّية تبعث ضوءاً خابياً يرشد القوافل المسافرة..
البدر ما يزال بهياً في الهزيع الاخير من الليل، وقد كفّت الذئاب البعيدة عن العواء.
استيقظت السيدة حكيمة كعادتها في مثل هذا الوقت لأداء صلاة الليل.. ونهضت تسبغ وضوئها.. ألقت نظرة علي نرجس كانت تغفو بسلام.. أنفاسها منتظمة ووجهها الملائكي يعكس ما تزخر به أعماقها من طهر ونقاء..
كان الإمام قد استيقظ وأسبغ وضوئه لرحلة الليل يرافق القمر والنجوم.. قلبه يطوف السماوات البعيدة.. لم يكن الإمام ذاق من النوم سوى لحظات.. وكيف له أن ينام وهو يترقب ميلاد البشارة.. بشارة الرسالات القديمة..
في هذه الليلة المباركة سيولد شبيه موسى بن عمران وعيسى بن مريم..
أدّت السيدة حكيمة وردها في غمره الليل.. وعندما جلست تسبّح لله.. هبّت نرجس من رقادها تغمرها حالة من ذعر وترقب..
غادرت الحجرة تسبغ الوضوء لصلاة الليل..
كانت السيدة حكيمة تراقبها طوال الوقت ولم يكن يبدو عليها أي من آثار الحمل..

(٦١)

الفتاة الطاهرة مستغرقة في العبادة وشلاّل من الصلاة يتدفق في جنبات المكان.. وقد غمرت الفضاء أنفاس السحر النديّة..
لحظات السحر الاخيرة.. لحظات لا تنتمي لليل ولا للنهار..
الفجر الاول علي وشك الانفلاق.. وقد نفد صبر العمّة المؤمنة.. خرجت لتنظر إلى السماء وقد تداخلها شك في وعد الإمام.. هتف الإمام من مصلاّه في فناء البيت وقد اشتد سطوع النجوم:
ـ لا تعجلي يا عمّة.. فانّ الامر قد قَرُب!!
وفيما هي تهمّ بالعودة ناداها الإمام:
ـ لا تشكي..
شعرت المرأة بالخجل من طبيعة مشاعرها وهي المرأة التي نشأت في دفء أهل البيت..
وفي باب الحجرة وقعت عيناها علي نرجس مذعورة خاطبتها العمّة بلهفة:
ـ هل تحسّين شيئاً يا ابنتي؟
ـ نعم يا عمّة! اني أجد أمراً شديداً.
قالت حكيمة وهي تهدّي من روعها:
ـ اسم الله عليك.. اجمعي نفسك... واجمعي قلبك.. فهو ما قلت لك..
ـ أنا خائفة يا عمّة!!
ـ لا خوف عليك يا ابنتي.
وقادت السيدة حكيمة الفتاة الطاهرة سليلة مريم البتول إلى وسط الحجرة.
والقت لها وسادة واجلستها برفق استعداداً للحظة الميلاد الموعودة..
كانت السيدة حكيمة في حال يرثي لها، وعرق جبينها بسبب ما تبذله من جهد للسيطرة علي مشاعرها التي راحت تضطرم في أعماقها..
ان لحظات الميلاد تقترب سوف يأتي إلى الدنيا الصبي الذي بشّرت به الانبياء..

(٦٢)

أمسكت نرجس بيد العمّة الطيبة وراحت تعصرها عصراً شديداً.. انها لحظات المخاض الكبير..
انطلقت أنّة تجسّد كل آلام الميلاد... الفضاء يغمره جوّ غريب لم تألفه من قبل أنها تكاد تحس خفق أجنحة الملائكة..
وخيّل اليها أنها تسمع همهمة تشبه تلاوة لآيات القرآن..
السيدة حكيمة تكاد تفقد توازنها.. وسمعت الإمام يناديها من وراء الحجرة:
ـ اقرأي عليها سورة الدخان
وراحت السيدة حكيمة تتلو آيات الدخان:
ـ بسم الله الرحمن الرحيم
حاء، ميم... والكتاب المبين.. انا انزلناه في ليلة مباركة.. إنّا كنا منزلين.. فيها يفرق كل أمر حكيم...
غمر فضاء الغرفة جوّ عجيب.. وكانت نرجس تطلق أنّات الميلاد وتعصر بشدّة كفّ السيدة الطيبة... فجأة انبثق نور بهر عيني السيّدة ولم تَعُد ترى ما حولها.. فكأن نرجس نفسها قد اختفت..
دقّ قلبها خوفاً.. وهبّت صوب باب الحجرة تستنجد بابن اخيها..
كان الإمام علي مقربة من الباب فنادي عمّته:
ـ ارجعي يا عمّة.. انك ستجدينها في مكانها..
كان وجه نرجس يسطع نوراً سماوياً.. وبدت وكأنها مريم ابنة عمران وقد جاءها المخاض عند جذع النخلة..
ورأت الصبي متلقياً الأرض بهيئة السجود..
كان نظيفاً.. طاهراً ليست فيه آثار الميلاد..
كلؤلؤة تشعّ علي شاطئ بحر.. أو كقطرة ندي تتألق فوق زهرة في أول الفجر...

(٦٣)

وكان الاب ينظر إلى السماوات وقد بدت النجوم قلوباً تنبض بالأمل..
الصبي القادم من رحم البشارات يحمل ملامح النبوات الغابرة.. يحمل من موسى بن عمران قلق الفرعون، وكان يبحث عنه جنيناً.. ويحمل من المسيح عيسى بن مريم كلماته في المهد صبياً... ويحمل من نوح عمره الطويل ومن ابراهيم فأسه التي هشم بها وجوه الالهة المزيّفة ومن محمد الامين اسمه وكنيته ورسالته...
اخذت حكيمة الصبي الطاهر بكتفيه وضمته إلى صدرها وأجلسته فيحضنها.. وناداها الاب بلهفة من يريد رؤية الوليد المبارك:
ـ هلمّي اليّ بابني يا عمّة.
وحملته السيدة حكيمة وقد غمرتها حالة من الخشوع لكلمة الله ووعده الصادق.
أخذ الاب ابنه وأجلسه علي راحته اليسرى وجعل راحته اليمني علي ظهره وراح يشمّ ابنه الطاهر في عينيه وأذنيه وفمه وهمس بصوت فيه ترجيعة لأصوات الرسل:
ـ تكلم يا بني! انطق بقدرة الله!
تكلم يا حجة الله! وبقية الانبياء.. وخاتم الاوصياء!!
تكلّم يا خليفة الاتقياء!
وحدثت المعجزة: وتدفق صوت ملائكي من الصبي الذي تلا آية تجسد أهداف السماء وطريق الانبياء.
ـ بسم الله الله الرحمن الرحيم.. (ونريد أن نمنّ علي الذين استضعفوا في الارض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين.. ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون).
وغمرت الدموع عين الاب لقد تحقق وعد الله.. ان الله لا يخلف الميعاد..

(٦٤)

وانفلق الفجر.. وارتفع الاذان من مآذن سامراء، وقال الاب لعمّته التي طفح على وجهها الفرح الأكبر.
ـ يا عمّة ردّيه إلى امّه كي تقرّ عينها، ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كلمات الاذان ما تزال تنساب في لحظات الفجر النديّة..
وضعت السيدة حكيمة الصبي الطاهر في احضان والدته التقية وغادرت المكان.
كانت الفرحة تتألق في عينيها بالرغم من مسحة الحزن.. فهذا الصبي يجب أن يبقي ميلاده سرّاً!!
وغمرت الام ابنها بنظرات تزخر بالرحمة والحنان.. يا ولدي الحبيب.. كيف تعيش بين أناس يبحثون عنك ليقتلوك؟!
الصبي نائم تتألق فوق وجهه هالة من أنوار النبوّات الغابرة وبشائر الرسالات القديمة...
أنفاسه الهادئة فيها أنغام الزبور.. تراتيل التوراة.. بشارة الإنجيل وآيات القرآن العظيم..
لقد سمعت من زوجها النبيل أنها ستنجب صبياً يملا الأرض بالعدالة والحقيقة..
وتوهّجت في أعماقها كلمات مقدسة كانت قد حفظتها وهي تتردد علي الكنيسة:
ـ (وأما اسماعيل فقد سمعتُ قولك فيه، وها أنا ذا أباركه وانمّيه وأكثّر عدده جداً جداً ويلد اثني عشر رئيساً واجعله امّة عظيمة).
ها هي تنجب الإمام الثاني عشر.. خاتم الاوصياء.. والإنسان الذي يحقق احلام الانبياء.

(٦٥)

قبل ان تغيب نجمة الصبح كان الإمام قد طلب من عمّته ومن زوجته أن يبقى ميلاد الصبي سرّاً مكتوماً عن الجميع.
رواية السيدة حكيمة صورة أخرى تؤكد عظمة هذا الطفل الموعود فقد تضمنت أبعاداً تذكر بالنبي موسى بن عمران (عليه السلام) وبالسيد المسيح (عليه السلام).
ولدي متابعة بعض التفاصيل في حياة الإمام الحسن العسكري نجده قد انتهج اسلوباً في غاية الحذر في الاعلان عن ولادة الطفل الموعود والإمام الاخير الذي يملأ الأرض بالعدالة والدفء.
ومن المفارقات في الدراسات الحديثة أن نجد بعض دارسي التاريخ ينطلقون في التشكيك من خلال حادثة أو حادثتين يمكن تفسيرهما في الظروف التي اكتنفتها تفسيراً ينسجم مع الخط العام والاعتقاد السائد لا في مصادرة تاريخ مضطهد كتب في ظروف حرجة جداً فيما نري المستشرقين يدركون ذلك ويتعاملون مع تراث الإمامية التاريخي في حالة من الاحترام الكامل.
وهذا تذكير بما ورد في مقدمة البحث في أن بحث هذه المسألة بأدوات وظروف مختبرية لن يكتسب صفته العلمية والموضوعية أبداً وأن مسألة حساسة يجب أن تدرس في ظروفها بل أن مسألة دراسة الظروف العامّة اصبحت من شروط الدراسة التاريخية لأية فكرة.
وسنري كم هو سطحي من يريد التشكيك بولادة الإمام المهدي من خلال ما سجّله التاريخ من حيرة الشيعة عقب وفاة الإمام الحسن وتهنئة البعض لجعفر الكذاب بالإمامة.
ولا نريد أن نستبق ذلك وسنتابع بعض الاجراءات التي قام بها الإمام الحسن في الكشف الحذر عن وجود ابنه المنتظر وولادته، واختبار احدي طرق اختبائه.

(٦٦)

هناك ظاهرة في حياة الإمام الهادي وهي انحسار لقاءاته المباشرة بالناس ونجد ما برر ذلك في أن قدوم الإمام الهادي لم يكن بإرادته وقد عرف عن الائمة جميعاً عشقهم العميق لمدينة جدّهم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وسنجد ان هذه الظاهرة ستشتد في حياة الإمام الحسن العسكري بسبب بعض الظروف، منها تفاقم خطر دولة طبرستان العلوية وتعاظم خطر ثورة الزنج التي ادّعي زعيمها نسباً علوياً أيضاً، نضيف إلى ذلك أيضاً انتشار أحاديث حول ظهور المهدي وهذه مسألة استثمرها بعض المعارضين للنظام العباسي بل أنها أدّت إلى نشوء دولة المهدية في المغرب فيما بعد.
اننا نفتتح الاشارة إلى حساسية الوضع من خلال رواية تذكر خروج موكب الإمام مع موكب الخليفة في مراسم توديع (الموفق) قائد الجيوش العباسية التي تقرر زحفها باتجاه جنوب العراق لإخماد ثورة الزنج.
وقد انتابت أحد الشيعة رغبة عارمة في أن يهتف:
ـ (أيها الناس! هذا حجة الله فاعرفوه).
ولكن الإمام الحسن يشير إليه أن يسكت وهمس وقد مرّ قريباً منه:
ـ أما أنك لو أذعت لهلكت.. انما هو الكتمان أو القتل فأبقوا علي أنفسكم.
ولعل ما يدعو إلى التأمل أن الإمام الحسن يأمر ذات يوم رجلاً يعمل في الدار وهو ظريف الخادم أن يدخل حجرة فيري ظريف لدي دخوله صبياً مستغرقاً في الصلاة، ويخبر الإمام بما رأى ثم يأمره الإمام مرّة أخرى أن يعود لينظر الصبي، وفوجئ ظريف بالحجرة خالية! أليس في هذا الإجراء اختبار لطريقة من طرق اختفاء الصبي؟
ألا يحتمل وجود نفق أو ممر سرّي في الحجرة يؤدي إلى مخبأ ما كالسرداب وغيره وربما يؤدي إلى خارج الدار؟

(٦٧)

ونحن ما نزال نتذكر الطريقة التي فرّت فيها زوجة المتوكل واختفت عن الانظار منذ شهر رجب وحتى منتصف رمضان عندما قررت هي الظهور والتفاوض مع الضابط التركي صالح بن وصيف.
فكيف بالإمام الهادي الذي اشترى قصراً فخماً من قصور سامراء واصبح ملكاً للإمام ونجله منذ سنة 234ه وبين هذا العام وحتى عام 256 أكثر من عشرين سنة كافية لاستحداث ممرّات وأنفاق سرّية داخل القصر الكبير بل اننا لا نجد مبرّراً للإمام الهادي في شراء مثل هذا القصر وقد عرف عنه زهده في حطام الدنيا.
ونحن لا ندّعي ان فخامة المنزل ووجود قناة جوفية وسرداب أدلّة كافية ولكنها قرائن تعزز من أخبار ولادة الإمام المهدي في مقابل غياب أدلّة النقض باستثناء اثارة غبار الشكوك في ما سجله التاريخ من حيرة الشيعة وهي مدوّنات اشارت ضمناً إلى بروز تيار يوقن بولادته وأن خفيت بسبب الظروف الخطيرة.
وتذكر المدونات الشيعية أن الإمام الحسن كشف لبعض اصحابه ممن يثق بهم هويّة الطفل الموعود وعرّفهم به ونوّه بظاهرة الغيبة الطويلة التي قد تربك تفكير الكثيرين من الشيعة، وقد بحث الشهيد صادق الصدر في موسوعته عن الإمام المهدي ذلك مفصلاً ولا نريد الاسترسال في هذا الموضوع.
ونسجل هنا خبراً ورد في اثبات الوصية حول ارسال الطفل مع جدّته إلى الحجاز في موسم الحج إذ طلب الإمام الحسن من والدته اصطحاب الصبي وكان ذلك في سنة 258ه وسنجد أن الإمام الحسن سوف يعتقل خلال تلك الفترة مع أخيه جعفر ويزجان في سجن خاص فيه شخصيات في طليعتها أبو هاشم الجعفري وهو شخصية لها وزنها وكان معتقلاً بأوامر شخصية من المعتز وقد مرّ عليه في الاعتقال سبع سنوات.
والطبري ذكر ظروف اعتقاله وارساله مخفوراً من بغداد إلى سامراء.
ويورد المسعودي وصول القافلة منطقة هي إحدى محطات القوافل الرئيسية

(٦٨)

ذكرها الطبري باسم (القرعاء) وهناك يسمع قادة القوافل بأنباء الجفاف واحتمالات الظمأ وتعرّض القوافل إلى غارات قطاع الطرق واللصوص وأن معظم القوافل عادت.
أما المسعودي فيذكر اصرار الجدّة وحفيدها والوكيل المرافق لها علي الحج ومعهم بعض الحجيج ووصول القافلة بسلام.
والتطابق بين الرواية التي يوردها المسعودي وأخبار الطبري تجعلنا نزن الامور بمكيال واحد فالرواية الرسمية التي ذكرت عودة قوافل الحج بسبب الاخطار المحتملة التي ذكرها المسعودي مضيفاً اليها وجود والدة الإمام الحسن ومعها الصبي.
كما أن اعتقال الإمام الحسن حدث بعد ذلك بفترة وجيزة يجعلنا نتفهم طلبه من والدته اصطحاب الصبي إلى الحجاز.
ومسألة الاعتقال لا يمكن تفهمها إلاّ في ضوء انتشار أخبار ظهور المهدي سيما وأن أحد القاب الإمام الحسن العسكري هو (الصامت)، فلم يعهد عن الإمام أيشكل من أشكال التحرك السياسي الذي يثير مخاوف السلطة، فإذا اضفنا إلى ذلك تصريحات الخليفة حول جعفر: (أني قد حبسته بجنايته علي نفسه وعليك وما يتكلّم به) فقد تتكون لدينا صورة واضحة الملامح حول مخاوف السلطات.
حياة الإمام الحسن.. أشعة الغروب
من المفيد أيضاً أن نرسم مشهد الليلة الاخيرة من حياة الإمام الحسن (عليه السلام) في ضوء ما أوردته المدوّنات الشيعية:
لا أحد يدري ما الذي حصل فجأة!! وفيما كانت شمس الخريف تقرض منازل سامراء بأنوارها الباهتة.. شعر الإمام بحالة من الضعف الشديد والنحول اضطرته إلى ملازمة الفراش..

(٦٩)

وبطريقة تدعو إلى التساؤل والدهشة وصل النبأ إلى مسامع رئيس الوزراء عبيد الله بن يحيي بن خاقان!!
هل كانت هناك محاولة لاغتيال الإمام؟!
ولماذا يبادر ابن خاقان للاجتماع بالخليفة شخصياً ويطلب منه ارسال مجموعة من رجال القصر لملازمة منزل الإمام؟ واذا كان الهدف من ذلك تقديم الرعاية للإمام فما هو المسوّغ في ارسال (حرير الخادم) سجّان الإمام الذي سمعت تهديداته للإمام ذات يوم وهو يقول: (والله لأرمينّه للسباع)!
هل هناك أسرار وراء ما يجري؟ هل وصلت البلاط تقارير حول وجود صبي اُحيطت ولادته بالكتمان؟ وهل ولد المهدي حقّا؟
ماهي بالضبط مهمّة موظفي القصر؟! لقد أصبح منزل الإمام مشحوناً بالخطر.. ولماذا تتخذ الحكومة مثل هذا الاجراء تراقب وفاة الإمام ومن أين لها علم بان الإمام علي حافّة الموت وهو ما يزال في ريعان الشباب ولم يبلغ الثلاثين بعد؟!..
مرّت ثلاثة أيام من ربيع الاول وقد انتكست حالة الإمام الصحية، فأصدر رئيس الوزراء أمراً بإحضار فريق من الاطّباء لإجراء فحوصات وتقييم حالة الإمام الصحية..
أجرى الاطباء فحوصاتهم وتبادلوا نظرات ذات معني! لقد دُسّ إليه السم ما في ذلك من شك! وليس هناك من وسيلة للعلاج.
واستقرّ رأيهم علي أن حالة الإمام ميؤوس منها.. وأنه يموت ومع ذلك فقد أصرّ رئيس الوزراء علي بقائهم في منزل الإمام!!

(٧٠)

كما استدعي ابن خاقان رئيس سلطة القضاء وطلب منه انتخاب عشرة رجال يعملون في سلك القضاء، ومن ثم ارسالهم إلى منزل الإمام!
وأصبح عدد موظفي الدولة خمسة عشر غير الاطباء!! ترى ماذا يجري؟! ما هو الهدف من وراء كل هذه الاجراءات العجيبة؟!
هل هناك محاولات للكشف عن وجود وريث للإمام؟.. وهل هي محاولة للتنصل من مسؤولية اغتيال الإمام؟ أو مواجهة الشائعات التي قد تنتشر حول اسباب وفاة ابن الرضا وهو ما يزال شاباً؟! لا أحد يدري!!
مشاعر خليطة من الحزن والقلق والتوتر تخيم علي أجواء المنزل، الذي بدا وكأنه قلعة يحاصرها الاعداء..
وبالرغم من تردّي حالة الإمام الصحية إلاّ أنه كان في كامل وعيه وكانت شؤون المنزل تمضي حسب برنامج دقيق باستثناء جعفر الذي بدأ يتصرّف وكأنه ربّ البيت والسيّد المطاع.
الزمن يمرّ متوتراً.. الإمام في حجرته راقد في فراش المرض زوجته السيدة نرجس في حجرة أخري.. ماريا ونسيم في حجرة مستقلة.. كافور وعقيد يعملان بصمت وحزن ترى أين الصبي؟! هل كان مختبئاً في مكان ما من السرداب؟!
هل كان في منزل السيدة حكيمة؟!
رجال القصر وموظفوه محشورون في الرواق المؤدي إلى غرفة الإمام وفي قبال ذلك حجرة السيدة نرجس، أما السرداب فيوجد اسفل الغرفتين حيث يوجد باب صغير يؤدي إلى سلّم ومنه إلى السرداب..
اليوم هو 7 ربيع الاول 260ه 31 كانون الاول 873م وسامراء مقبلة علي ليل شتائي طويل.

(٧١)

تسرّبت أنباء مرض الإمام إلى أوساط الناس وأصبح ذلك محوراً في أحاديث الشيعة.. وظهرت تساؤلات حول مستقبل الإمامة وهوّية الإمام الجديد!
وفي تلك الليلة الطويلة تمكن الإمام من كتابة مجموعة من الرسائل الهامّة كجزء من خططه لإبلاغ الامّة وجود الإمام الغائب الذي اضطرته الظروف إلى عدم الاعلان عن ولادته واخفائه عن أعين الجواسيس..
كانت ظلمات الليل تشتد حلكة وقد خامر الموظفين في الرواق التعب والنعاس.. الليل البهيم يتجه إلى الفجر والنجوم تشتد سطوعاً في سماء اكتنفتها غيوم متناثرة.. وكان عقيد الخادم ينظر بأسي إلى الشباب كيف يذوي كشمعة تخبو فيقلب ليالي الزمهرير.
طلب الإمام بصوت خافت من عقيد أن يحضر اناءً فيه ماء مغلي بالمستكي..كان الإمام يشعر ببرودة الموت تزحف إلى خلايا جسده التي فتك بها السم..
جاءت السيّدة نرجس تحمل الاناء، وقد غمرتها حالة من الفجيعة.. ان زوجها الطاهر على وشك الرحيل.. سوف ينهدّ عمود خيمتها وستعوي من حولها آلاف الذئاب..
مدّ الشاب يداً ترتجف من برودة الموت الزاحف كليل الشتاء.. الليل في لحظات الرحيل والفجر علي وشك الانفلاق..
أراد أن يرتشف من الاناء ولكن ارتطم بأسنانه وازداد ارتجاف يده.. قال بصوت واهن مخاطباً عقيداً:
ـ سوف تجده يصلّي في الحجرة.. ليأتي اليّ.
وفي هذه اللحظة هبّت السيدة نرجس إلى الحجرة.. ان ابنها يصلّي فمكثت غير بعيد وجاءت به.. وفي غمرة لحظات السحر الاخير مرق الصبي إلى حجرة أبيه العظيم..
جلس عنده وقد غمره حزن واحساس بالفجيعة يلوح في وجهه كسماء تكتنفها غيوم رمادية..

(٧٢)

دمعت عينا الاب من أجل ابنه.. من أجل كل المحن التي سيواجهها خلال الزمان المرير... همس بحبّ:
ـ يا سيد أهل بيته أعطني شربة!
أخذ الصبي الطاهر الإناء وأدناه من فيه وارتشف الإمام شربة منحته قليلاً من الدفء..
قال الاب:
جهزني للصلاة!
أخذ الصبي منديلاً ونشره علي صدر أبيه وراح يساعد والده علي اسباغ الوضوء واستغرق الإمام في الصلاة بعد أن يمم وجهه تلقاء المسجد الحرام والبيت العتيق..
والتفت إلى ابنه وقد انفلق عمود الفجر الصادق.
ـ بني الحبيب! أنت صاحب الزمان.. أنت المهدي الذي بشّر بك الرسول.. وأخبر بك اسمك اسمه وكنيتك كنيته.. وهذا هو عهد آبائي قد جاء..
وفي تلك اللحظات النديّة بالدموع شعر الصبي بأنّ قلبه يضيء بنور قادم منقلب السماوات..
سوف تواجهك المحن يا بشارة الانبياء.. وسوف تطاردك رياح الزمهرير كفراشة جاءت تبشر بالدفء وبالربيع... آه أيها الامل القادم من رحم النبوّات الغابرة!!
كانت السيدة نرجس تبكي بصمت كسماء تمطر علي هون.. زوجها يودّع الحياة، وابنها الوحيد تبحث عنه ذئاب مجنونة.. وأصغت إلى كلمات زوجها يوصي ابنه وآخر الائمة الاطهار:
ـ يا بني: إن الله جلّ ثناؤه لم يكن ليخلي أرضه، وأهل الجدّ من طاعته وعبادته بلا حجة يستعلي بها وإمام يؤتمّ به، ويقتدي بسبيل سنّته ومنهاج قصده..

(٧٣)

وأرجو يا بني ان تكون أحد من أعدّه الله لنشر الحق وطيّ الباطل، وإعلاء الدين، واطفاء الضلال.
وسكت لحظات ليقدّم إلى ولده الحبيب آخر نصائحه:
ـ فعليك يا بني بلزوم خوافي الأرض وتتبّع أقاصيها، فإن لكل وليّ من أولياء الله عدوّاً مقارعاً، وضدّا منازعاً.. فلا يوحشنّك ذلك..
اسكن يا بنيّ في البراري البعيدة.. وفي الجبال الوعرة ليحرسك الله يا بني!
ودمعت عينا الاب.. كان يستنشق أنفاسه الاخيرة في هذه الحياة.. وكانت كلمات الصلاة تنساب من بين شفتيه قبل أن يغمض عينيه ويغفو اغفاءة الرحيل..
وفي تلك اللحظات وقد هيمن صمت ثقيل سمع صوت عواء قادم من بعيد..
نهضت السيدة نرجس وهي تشعر بالبرد وأخذت بيد ولدها وانسحبت من المكان.. لقد بدأ فصل مثير في حياة ابنها الوحيد.
عشية الرحيل
لم تشرق شمس اليوم الثامن من ربيع الاول وظلّت غائبة وراء السحب الكابية التي تراكمت على امتداد الليل الشتائي الطويل.
اليوم هو الاول من كانون الثاني من العام الميلادي الجديد (874) حدثت في الرواق حركة غير عادية عندما أعلن عقيد الخادم عن رحيل زعيم البيت العلوي الإمام الحسن واستحال المنزل الواقع في (درب الحصا) إلى خيمة تعصف بها الريح من كل مكان..
برقت عينا جعفر بالغدر وقد ضجّت في أعماقه المظلمة أصوات تشبه عواء ذئاب مجنونة...

(٧٤)

ها هو يستيقظ علي صيحات المأتم فهبّ كمن لسعته عقرب وراح يتصرف كالسيّد المطاع وربّ المنزل.. وحاول جاهداً أن يضفي علي نفسه مسحة من الوقار كإمام جديد للشيعة!
ان جميع الظروف قد باتت مواتية، فأخوه قد رحل عن الدنيا دون وصية ظاهرة، وأذن فقد أصبح كل شيء له... إنه الوريث الذي لن ينازعه أحد.. ولكن ماذا لو ظهر ابن أخيه؟!
خامره أحساس بالقلق وسرعان ما تبدّد.. ان صبياً تبحث الجواسيس عنه لن يجرؤ على ذلك..
اتخذ جعفر مكانه في باب المنزل لاستقبال الوافدين من المعزّين.. سوف يصل زعماء كبار من البلاط وشخصيات بارزة في صفوف الشيعة وها هو يشعر بالانتشاء لأول تهنئة يتلقاها من الشيعة مصحوبة بكلمات عزاء رقيقة.. ها هو يهنأ لأول مرّة بالإمامة.. لقد أصبح إماما لطبقات واسعة من الناس!
وصل (أبو الاديان) درب الحصا وسمع من بعيد أصوات المناحة واذ ألفي جعفراً واقفاً في الباب يتلقى التعازي والتهاني همس في نفسه بأسي:
ـ ان يكن هذا هو الإمام فقد بطلت الإمامة إذن..
كيف يصبح اماماً وهو يكرع كؤوس النبيذ ويقامر في قصر الجوسق ويلعب بالطنبور؟!
واضطر أبو الاديان إلى مصافحته وتقديم التعازي والتهاني.. وعندما ولج المنزل رأى حشداً من المعزّين، وقد برز فيهم عثمان بن سعيد وكيل الإمام الراحل.. وكانوا جماً غارقاً في حزن مرير..

(٧٥)

وتوهّجت في ذاكرة أبي الاديان البصري كلمات الإمام الراحل في حقه في حضور وفد قادم من اليمن: (امض يا عثمان فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال الله) فقال أحد أعضاء الوفد مخاطباً الإمام: (يا سيدنا ان عثمان لمن خيار شيعتك ولقد زدتنا علماً بموقعه من خدمتك، وانه وكيلك وثقتك علي مال الله؟
فقال الإمام عندها: نعم.. واشهدوا علي ان عثمان بن سعيد العمري وكيلي، وان ابنه وكيل ابني.. مهديكم).
كان عثمان بن سعيد قد انتهي توّاً من مراسم تجهيز جثمان الراحل العظيم للصلاة عليه، وانتبه أبو الاديان إلى صوت عقيد الخادم يخاطب جعفراً:
ـ يا سيّدي قد كفّن أخوك.. فقم للصلاة..
مرّت اللحظات حساسة.. كان جعفر يخطو باتجاه نعش أخيه.. سوف يكتسب جعفر بإقامة الصلاة على الإمامة امتيازاً كبيراً.. فهناك قناعة لدي عموم الشيعة في أن الإمام لا يصلّي عليه إلاّ إمام!
وقف جعفر قبال النعش استعداداً للصلاة.. وانتظمت خلفه صفوف المصلّين.. كان أبو الاديان واقفاً جنب عثمان بن سعيد في الصف الاول.. وكان جعفر على وشك التكبير.. عندما ظهر صبي بوجهه سمرة متموج الشعر.. تقدّم الصبي بخطي واثقة نحو جعفر وجذب رداءه قائلاً بصوت فيه حزم:
ـ تأخّر يا عمّ، فأنا أحق بالصلاة علي أبي.
اصفرّ وجه جعفر واربدّ وهو يتأخر واقفاً خلف الصبي الذي بدأ مراسم الصلاة على والده الراحل..
ودمعت العيون للصوت الحزين يصلّي علي الراحل كان ذهن أبي الاديان متوتراً للمفاجأة..

(٧٦)

انه يشهد أولي علامات الإمام الحق.. لقد أخبره الراحل: ان الذي سيصلّي عليّ هو الإمام.. بقيت علامتان..
الاولي أن يطالبه الصبي بالرسائل الجوابية التي يحملها من المدائن..
تمّت مراسم الصلاة والتفت الصبي إلى أبي الاديان قائلاً:
ـ يا بصري هات جوابات الكتب التي معك!
لم يكن هناك مجال للشك، وسلّم أبو الاديان مجموعة من الرسائل إلى الصبي الذي اتجه نحو ستائر إحدى الحجرات ليتوارى وراءها.. تقدّم رجل نحو جعفر الذي ما يزال حانقاً.. أراد أن يحرجه أكثر فقال له متسائلاً:
ـ يا سيّدي من الصبي؟!
أجاب جعفر بحنق:
ـ والله ما رأيته قطّ ولا أعرفه!!
وارتسمت علي وجه الرجل ابتسامة ساخرة من هذا الذي يدّعي ما ليسله.. وها هو يتراجع أمام صبي يبدو عليه أنه في التاسعة من عمره.. إنها قوّة الحق التي لن يصمد أمامها جعفر وامثال جعفر حتى لو كان من ذرّية الإمام!
كانت المفاجأة لا تزال تسيطر علي بعضهم خاصّة الّذين رأوا الصبي لأول مرّة..
وحدثت ضجة خارج المنزل.. لقد وصل أخو الخليفة وممثله في مراسم التشييع والصلاة الرسمية..
استقبل جعفر مبعوث الخليفة وأخاه أبا عيسى بن المتوكل الذي نقل تعازيه وتعازي الخليفة بالمناسبة..
وحُمل النعش الذي ما كاد يغادر المنزل حتى استقبل بالبكاء والنحيب.. لقد

(٧٧)

رحل السلام.. رحل الإنسان الطاهر.. كحمامة بيضاء شهيدة كان النعش المحمول يسير باتجاه المسجد الجامع مخترقاً الشارع الرئيسي المعروف بشارع أبي أحمد..
نسائم كانون الباردة تلفح الوجوه في يوم غائم كئيب.. وكانت مشاعر مزيجة من الإحساس بالغربة واليتم تغمر القلوب الحزينة لكأن الإمام شمس تبعث الدفء والنور فإذا غاب غمرت الظلمات النفوس..
وتذكر الناس يوماً حزيناً قبل ستة أعوام يوم شيعوا والد هذا الإنسان الطيب الذي وافاه الاجل وهو في ريعان الشباب..
وتساءل البعض في دهشة عن سرّ وفاته؟! انه لم يشتك من علّة قبل ذلك فما الذي حصل؟! لقد اعتادت سامراء علي هذه الظاهرة.. كثيرون لقوا حتفهم في ظروف غامضة!
وُضع النعش قريباً من جدران المسجد لإقامة الصلاة وتقدّم مبعوث الخليفة وأخوه إلى النعش وكشف عن وجه الراحل ليبدّد هواجس قد تراود بعض الناس ويدفع شبهة الاغتيال عن الدولة فأعلن أمام شخصيات البيت الهاشمي من العباسيين والعلويين، وقادة الجيش وكبار موظفي الدولة والبلاط قائلاً:
ـ هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه علي فراشه وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان.. والقضاة فلان وفلان ومن الاطباء فلان وفلان وراح يستعرض الشخصيات التي امضت الليالي الاخيرة في منزل الإمام لأهداف غامضة.. ثم غطّي باحترام وجه الراحل العظيم.
وأُقيمت الصلاة علي الجثمان الطاهر ليُحمل مرّة أخرى ويعود إلى المنزل الواقع في (درب الحصا) وهناك سيواري الثري إلى جانب والده الراحل تنفيذاً لوصيته.

(٧٨)

وبدا ذلك اليوم الغائم اشبه بيوم القيامة وقد حشر الناس ضحى فالأمواج البشرية تتدافع لتلمس النعش الطاهر تبركاً لكأنها تمدّ يداً تصافح رسول الله..
القلوب يغمرها الاسى وإحساس بالفجيعة يملا صدور المؤمنين.. ويلج النعش منزل صاحبه وفاحت رائحة الثري المعطور حيث سيرقد الإمام إلى جانب والده.. لقد وصلا معاً هذه المدينة علي قدر قبل ربع قرن فرحل الوالد قبل ستة أعوام والتحق به الابن في هذا اليوم..
ان الذين يرون ما وراء الافق البعيد سيرون مآذن تشق قلب التراب في هذا المنزل المبارك، لتستحيل هذه البقعة الطاهرة إلى مساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً. والي واحة خضراء يتفيأ ظلالها الوارفة المتعبون في دورب الحياة والزمان.
استمر المأتم وكانت رائحة طيبة تشبه رائحة الطين المعطور تفوح في فضاء المنزل.. الشمس ما تزال مستورة بالسحب بالرغم من أن قرصها المستدير قد بدا شفافاً يشبه القمر في لحظات الغروب.
وفي أصيل ذلك اليوم وصل وفد من مدينة قم يحمل معه رسائل من أهلها اضافة إلى هميان يشتمل على الحقوق الشرعية التي يتوجب تسديدها إلى الإمام أو من يوكله..
في حجرة السيدة نرجس جلست النسوة وكانت أم الحسن أكثرهن إحساساً بالفجيعة، حتى ان المرء إذا رآها في تلك الحال سيحدس أنها لن تعيش بعد ابنها إلاّ أياماً معدودات، أما السيدة نرجس فقد بدا وجهها سماءً مثقلة بغيوم ممطرة.. عيناها تبحثان عن عزيز فقدته.. زوج كريم رحل وتركها وحيدة وولد طاهر تحمّل أمانة كبرى وقرّر خوض ملحمة الصراع المرير أمام أعداء لا يُعرف لهم عدد.. حتى عمّه

(٧٩)

جعفر غدر بهم.. انه لم يعد يرى شيئاً سوى نفسه وسوى اطماعه وحرصه وجشعه وتهافته علي حطام الحياة الدنيا!
تساءل أحد رجال الوفد عن الشخص الذي يقدّمون إليه التعازي فأشير الى جعفر!!
كانت آثار السفر ما تزال تبدو علي أفراد الوفد وهم يصافحون جعفراً الذي رقص قلبه طرباً.. انه يدرك حجم ما معهم من الاموال التي سيقبضها هذا اليوم!
تلقي جعفر بانتشاء تعازي القميين وتهنئتهم له بالإمامة، ولم يستطع اخفاء ابتسامة صفراء باهتة ارتسمت علي شفتيه.
قال رجل حنكته التجارب:
ـ إن معنا كتباً وأموالاً..
قال جعفر مستعجلاً:
ـ هاتوها!
قال الرجل بهدوء وحذر:
ـ ألا تقول ممن الكتب؟ وكم المال؟
ـ ومن أين لي أن أعرف ذلك؟!
ردّ الرجل:
ـ هذه عادتنا مع أخيك رحمه الله.
صرّ جعفر علي أسنانه بغيظ.
ـ تريدون منا أن نعلم الغيب.. أنتم تكذبون علي أخي.
أنتفض جعفر من مكانه وهو ينفض أثوابه.. وانطلق صوب قصر الخلافة وقد استعرت في اعماقه حمّي الغدر.. هذه أفضل فرصة للقبض علي الصبي الذي يقف في طريق تحقيق أحلامه المريضة.

(٨٠)

ما إن غادر جعفر المنزل حتى خرج من إحدى الحجرات فتي يرتدي زي الخدم وجاء إلى رجال الوفد قائلاً:
ـ معكم كتب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار.. عشرة منها مطليّة بالذهب..
تبادل رجال الوفد نظرات ذات معنى وقال الرجل المحنّك:
ـ الذي وجّه بك لأخذ ذلك هو الإمام.
وسلّموا إليه الرسائل والهميان وغادروا المنزل بعد أن مكثوا قليلاً..
هبّت رياح كانون باردة كقطيع من الذئاب، وقد توارت الشمس وراء السحب وفي لحظة المغيب كان رجال الشرطة كذئاب غبراء تقتحم منزل الإمام وتلقي القبض على السيّدة نرجس التي نسيت كل آلامها واستعدّت للمواجهة.
طولبت السيّدة بالصبي فأنكرت أن يكون لها ولد.. وقامت بحركة ذكية عندما تظاهرت بأنها تعاني من الوحام..
أوقف قائد المفرزة رجاله عن التفتيش وأمر باقتياد السيّدة إلى بلاط الخليفة.
وأمر الخليفة بتسليم المرأة الطاهرة إلى القاضي ابن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء وقاضي سامراء لتكون تحت الرقابة المشدّدة.. فقد تكون حاملاً أو قد يحاول ابنها الاتصال بها فيُلقي القبض عليه..
وشاء القدر أن يصل وفد آخر يضم رجالاً من أهل قم ومن مناطق الشمال الايراني المعروفة آنذاك بالجبل.. وبالرغم من مرورهم ببغداد ألاّ أنهم لم يسمعوا بخبر وفاة الحسن فقدموا سامراء، ولم يكن قد مرّ علي وفاة الإمام الحسن سوى أيام..
وعندما سألوا عن سيدنا الحسن قيل لهم إنه فقد!

(٨١)

فسألوا عن وارثه
قالوا:
ـ أخوه جعفر بن علي!
قال أحدهم:
ـ فأين نلقاه؟
ـ خرج متنزها، وركب زورقاً في دجلة يشرب ومعه المغنّون!! أصيب الرجال بصدمة، وتبادلوا نظرات حائرة ثم خلصوا نجيّا قالوا هامسين:
ـ هذه ليست من صفة الإمام.
قال أحدهم:
ـ لنعد من حيث أتينا ونعيد هذه الاموال إلى أصحابها.
قال أبو العباس وهو رجل يمني نزحت اسرته إلى قم:
ـ لننتظر هذا الرجل ونختبر أمره!
وانتظر رجال الوفد عودة جعفر من نزهته في دجلة.. حتى إذا عاد إلى منزله دخلوا عليه قالوا:
ـ يا سيدنا نحن من أهل قم.. ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها، وكنا نحمل إلى سيدنا أبي محمد الحسن الاموال.
قال جعفر وقد سال لعابه:
ـ وأين هي؟
ـ معنا.
ـ احملوها إلى إذن.
ـ لا.
ـ لا.. لماذا؟!
ـ ان لهذه الاموال خبراً طريفاً.

(٨٢)

ـ وما هو؟!
ـ ان هذه الاموال تُجمع، ويكون فيها من كافة الشيعة الدينار والديناران ثم يجعلونها في كيس ويختمون عليه، وكنّا إذا وردنا بالمال علي سيدنا أبي محمد يقول: جملة المال كذا وكذا دينار من عند فلان كذا ومن عند فلان كذا.. حتى يأتي على أسماء الناس كلهم ويقول ما علي الخواتيم من نقش.
زعق جعفر وادرك صعوبة هذا الامتحان:
ـ كذبتم... تقولون علي أخي ما لا يفعله.. هذا علم الغيب ولا يعلمه إلاّ الله تبادل الرجال نظرات فيها شك في أن يكون جعفر إماماً.
قال جعفر بفظاظة:
ـ احملوا هذا المال اليّ.
قال رجل يبدو عليه الوقار:
ـ إنّا قوم مستأجرون.. وكلاء لأرباب المال ولا نسلّم المال إلاّ بالعلامات التي كنا نعرفها من سيدنا الحسن فان كنت الإمام فبرهن لنا، وإلاّ رددناها إلى أصحابها يرون فيها رأيهم.
وبرقت عينا جعفر بالشّر انه يعرف كيف ينتزع المال منهم، فانطلق إلى بلاط الخليفة مرّة أخري.. وسرعان ما الُقي القبض علي رجال الوفد الذين سيقوا إلى قصر الخلافة فمثلوا أمام الخليفة الذي قال وهو ينظر اليهم بطرف خفي:
ـ احملوا هذا المال إلى جعفر!
قال الرجل الوقور:
ـ انا قوم مستأجرون.. وكلاء لارباب هذه الاموال وهي أمانة لجماعة وأمرونا أن لا نسلّمها إلاّ بعلامة ودلالة وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمد الحسن بن علي.
قال الخليفة مستفسراً:
ـ فما كانت العلامة التي كانت لكم مع أبي محمد؟

(٨٣)

قال الرجل الوقور:
ـ كان يصف لنا الدنانير وأصحابها والاموال وكم هي.. فإذا فعل جعفر ذلك سلّمناها اليه..
وسكت لحظات ثم قال مشيراً إلى جعفر.
ـ إن كان هذا الرجل صاحب الامر فليقم لنا ما كان يقيمه أخوه والا رددناها إلى اصحابها:
زعق جعفر:
ـ يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قوم كذابون.. يكذبون علي أخي.. وهذا علم بالغيب!
قال الخليفة وقد أدرك ألاّ جدوي من وراء مساندة جعفر:
ـ القوم رسل وما علي الرسول إلاّ البلاغ المبين.
وبهت جعفر وانخطف لونه.. وقال الرجل الوقور مبتهجاً بموقف الخليفة:
ـ نتمنّى علي أمير المؤمنين أن يرسل معنا من يودّعنا إلى خارج المدينة.
قال الخليفة:
ـ سأرسل معكم رجالاً من الشرطة فلا تخشوا شيئاً..
وغادر الجميع قصر الخليفة.. كانت الحيرة تملا قلوب الرجال.. ترى من هو الإمام الحق بعد الحسن؟
كل شيء يوحي بأن لا وجود لإمام للشيعة بعد الحسن وإذا كان هناك من امام فهو جعفر الذي سيعرف بالكذاب لأنه ادعى ما ليس له بأهل!
عاد الرجال إلى خان المسافرين وتفقدوا دوابهم في (المربط) وقد صح عزمهم على مغادرة سامراء عائدين.. كانوا يتوجسون شرّاً من جعفر لانهم حدسوا أن هناك من يقف وراء جعفر مروّجاً لإمامته لأسباب غامضة.. أو طمعاً في المال وأمضوا ليلتهم في الخان يتسامرون، وكانت الحيرة واضحة وهم يتحلّقون حول موقد مسجور.

(٨٤)

وكان واضحاً من حيرة أبي العباس ان المستقبل قد بات مظلماً.. فقد بدا ساهماً غارقاً في الوجوم.. هل يمكن أن تنتهي الإمامة هكذا؟! وهل يمكن أن تخلو الارض من حجة لله.. من انسان كامل؟!.. ان الإمام يمثل نقطة السلام في دنيا تموج بالزلازل وتعصف بها الحوادث..
وخفتت الاصوات وكان الجمر يخبو شيئاً فشيئاً.. وكان صوت عواء بعيد يتناهى إلى الاسماع.
في الصباح الباكر وفيما كانت غيوم كانون تتراكم فوق بعضها البعض غادر الرجال الخان ليجدوا مجموعة من حرس الخليفة سوف يرافقونهم إلى خارج سامراء حسب رغبتهم..
بالرغم من سهرهم الطويل وتبادلهم الاحاديث المتشعبة إلاّ أن أجواء الحيرة ما تزال تسودهم.. فهم يعتقدون ان الإمامة ستستمر حتى يوم القيامة.. لان الارض لا تخلو من حجة لله.. من إنسان يقودهم نحو الكمال.. وهاهم يفدون علي إمامهم فلا يجدونه.. ولا يجدون إماماً يقوم مقامه..
قال أبو العباس وكان رجلاً حصيفاً:
ـ ان له ولداً ما في ذلك من شك.. وربّما أخفاه لسبب من الأسباب..
قال آخر:
ـ والله إنها لحيرة ما بعدها حيرة! انني أقول إن سيدنا الحسن رحمه الله كان إماماً مفترض الطاعة ثابت الإمامة، وقد توفي والأرض لا تخلو من حجة.. فنحن ننتظر حتى يسفر الحق!!
وعندما وصلوا الجادّة المؤدية إلى بغداد.. عاد الحرّاس فيما واصل الرجال طريقهم صوب (دار السلام).
لم تكد منازل سامراء تغيب في الافق حتى فوجئ الرجال بمن يدعوهم بأسمائهم.. وعندما التفتوا جهة الصوت شاهدوا فتي مضيء الوجه يناديهم:

(٨٥)

ـ يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أَجيبوا مولاكم.
هتفوا بدهشة:
ـ أنت مولانا؟!
أجاب الفتي الذي يرتدي زي الخدم:
ـ معاذ الله.. أنا عبد مولاكم.. فسيروا إليه.
وقادهم الفتي من طريق علي شاطئ دجلة بعد أن تركوا دوابّهم مع أحدهم وعندما ولجوا حجرة في المنزل وقعت عيونهم على فتى عشاري القدّ جالساً على سرير يرتدي ثياباً خضراً.. وخشعت قلوبهم لمرآه فحيّوه بأدب وردّ عليهم التحية بأحسن منها وقال مبدّداً سحب الحيرة التي اكتنفت نفوسهم:
ـ جملة المال كذا وكذا دينار حَمَل فلان كذا وفلان كذا.. وراح يستعرض تفاصيل ما جاءوا به.. بل تعدّي وصفه للدواب التي حملتهم..
ألقي أبو العباس نفسه علي الأرض ساجداً لله الذي أنعم عليه برؤية إمام عصره..
ولم يبق من مجال للشك فقرّروا العودة إلى محط رحلهم واحضار الامانات..
وفي لحظات الوداع أمرهم الإمام بعدم المجيء إلى سامراء مرّة أخرى وأنه سوف ينصب لهم وكيلاً في بغداد يحملون إليه الاموال وتخرج عنه التوقيعات..
كما دفع الإمام إلى أبي العباس شيئاً من الحنوط والكفن وخاطبه معزّياً:
ـ أعظم الله أجرك في نفسك..
فردّ الرجل الوقور بسكينة المؤمن:
ـ إنّا لله وإنا إليه راجعون.
ولم تكد القافلة تصل هضاب اقليم همدان حتى توفي الرجل إلى رحمة الله.

(٨٦)

مشاهد أخرى حتى عام 263 هـ
وكان حصاد موسم الجفاف خلال العامين المنصرمين قحطاً وغلاءً فاحشاً في الاسعار اكتوت بناره بغداد فاشتعلت مخيلة الفقراء وراحت تنسج حول مواقد كانون بواكير حكايات (السندباد) التاجر الذي يعود غانماً من رحلاته في البحار البعيدة فيهب الفقراء ذهباً ولؤلؤاً وأملاً بغدٍ أفضل... وستولد حكايات الليالي الطويلة المثقلة بالرموز بعدما غابت الشمس واستترت وراء غيوم الضياع.
ما بال جعفر يبدو كمن أصابه مسّ من الجنون انه يتجه إلى قصر رئيس الوزراء عبيد الله بن يحيي للاجتماع به علي انفراد، ويستقبله الرجل اكراماً لأخيه الراحل فأذابه يسمع من جعفر ما يجعله يسقط من عينه قال جعفر بحماقة:
ـ اجعل لي مرتبة أخي، وأنا أوصل اليك كل سنة عشرين ألف دينار!
ونظر عبيد الله بن يحيي إلى جعفر... شتان ما بين الحسن وجعفر كأنه نقيض أخيه.. الحسن في عقله الكبير في كياسته.. في حلمه وتواضعه وطيبته وجعفر بخفته وتفاهته!!
وها هو يأتي يطلب من الدولة أن تجعله إماما للشيعة وكأن الدولة هي التي نصبت أخاه وأباه من قبل..
قال رئيس الوزراء وقد احتقره تماماً:
ـ يا أحمق.. السلطان أطال الله بقاءه جرّد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك ائمة ليردّهم عن ذلك فلم يتهيأ له ذلك.. فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً فلا حاجة بك إلى سلطان يرتبك مراتبهم، ولا غير سلطان.. وان لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا..

(٨٧)

وقام رئيس الوزراء بحركة توحي بانتهاء اللقاء فنهض جعفر يجرّ أذيال الخيبة.. واصدر عبيد الله بن يحيي تعليمات مشدّدة بعدم استقباله مرّة أخرى لكن جعفر بذهنه المريض انتبه إلى شيء!
فما دام الخليفة يخشي الإمام ويطارد الذين يقولون بإمامة أخيه وأبيه فلماذا لا يسعي الخليفة إلى تنصيب جعفر إماما علي الشيعة وبهذا يكون أبطل الإمامة وفرض هيمنته علي الشيعة؟!

من أجل هذا انطلق صوب الخليفة وعرض عليه اقتراحه ولوّح له بنفس المبلغ الذي عرضه علي رئيس وزرائه قال الخليفة وهو يضع النقاط علي الحروف فلا داعي للتستر أمام جعفر:
ـ اعلم ان منزلة أخيك لم تكن بنا.. انما كانت بالله عز وجل.. ونحن كنا نجتهد في حطّ منزلته والوضع منه.. وكان الله عز وجل يأبي إلاّ أن يزيده كل يوم رفعة لما كان له من الصيانة وحسن السمت والعلم وكثرة العبادة..
فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك الينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك لم نغن عنك في ذلك شيئا..
ان ما قاله الخليفة يعدّ أكبر اعتراف بعدالة قضية الإمام الراحل.. ولم يكن الخليفة ليكون بهذه الصراحة لولا أن مخاطبه كان جعفر بكل سخافاته وحماقاته!؟
شيء واحد حصل عليه جعفر هو تأييد الخليفة له باعتباره الوريث الشرعي لتركة الإمام الحسن.. ان لدي السلطان قناعة ظاهرة في أن الإمام الحسن قد توفي ولم يخلف وراءه ولداً وهذا أقصي ما يطمح اليه.
لقد انتهت الإمامة إذن ولم يعد هناك من إمام بعد اليوم!

(٨٨)

أدت الحوادث العاصفة بأسرة الإمام إلى أن تلزم أم الإمام الحسن وزوجة الإمام الهادي فراش المرض، فقد توفي ابنها الحبيب واعتقلت زوجته واضطر حفيدها إلى الاختفاء، وها هو جعفر لا ينفك يتآمر لتمزيق أسرة أخيه الراحل..
نقلت الجدّة الطيبة إلى منزل السيدة حكيمة شقيقة زوجها الراحل لتمريضها ولكن وقع الحوادث وقلقها علي مصير حفيدها قد جعلها هدفاً سهلاً لسهام القدر..
وفي لحظات الاحتضار أوصت أن تدفن إلى جانب زوجها وابنها الإمامين الراحلين..
ومرّة يقف جعفر موقف النذالة إذ يرفض دفن هذه المرأة الصالحة صارخاً:
ـ هي داري لا تدفن فيها!
وفي مثل هذه اللحظات المصيرية، يتوجب علي الصبي الطاهر أن يظهر مباغتاً جعفر بسؤال استنكاري شديد اللهجة:
ـ يا جعفر! دارك هي؟!
ان الصبي لن يدعوه بعد اليوم بالعم.. لقد انسلخ جعفر من قبيلته ودينه وحتى انسانيته..
وبرقت عينا جعفر بالشرور والغدر وأراد الامساك بالصبي الذي تواري بين الناس، فيما ظل جعفراً حائراً..
وانطلق الصبي الإمام إلى مكان ما فلن يعرف مكانه أحد!
سوف يواكب حركة التاريخ والزمن، اما علاقته بشعبه فسوف تكون عن طريق تاجر الزيت ذلك الرجل الصالح الذي نذر حياته لعقيدته ومبادئه.. وسيعرف الناس أن عثمان بن سعيد العمري هو السفير الاول بين المهدي وامّته..
إنه من السموّ بحيث نال ثقة الإمام علي الهادي وابنه الحسن العسكري وها هو

(٨٩)

اليوم يصبح أول سفير للإمام المهدي الذي قرّر الاختفاء عن الانظار منذ وفاة والده.. وكيف لا يحظى بهذه المنزلة وهو الذي تولّي توزيع عشرة آلاف رطل من الخبز وعشرة آلاف رطل من اللحم علي الفقراء والجائعين يوم ولد المهدي.. وهو الذي أمره الإمام الحسن بأن يعق عن الحجة بعشرات الاضاحي.
وهو الذي تولّي تغسيل الإمام الراحل وتجهيز نعشه بأمر من الإمام المهدي الذي لم يكن بوسعه أداء هذه المهمة.
ما يزال بلاط الدولة تراوده الظنون في وجود المهدي الموعود الذي سيظهر ويقوّض أركان حكمهم إلى الابد..
فأمّه ما تزال رهن الاعتقال رغم مرور شهور عديدة علي اعتقالها ووضعها تحت المراقبة لانهم يتصوّرون ان ابنها سيتصل بها وعند ذاك سوف يُلقي القبض عليه..
ولكن الإمام كان حذراً في اتصالاته... وفي تلك الفترة صدر توقيع عنه يفيد بتحريم ذكره باسمه في المحافل:
ـ (ملعون ملعون من سمّاني في محفل من الناس).
وكان أول إجراء اتخذه الإمام أن أمر سفيره بنقل نشاطه إلى بغداد.. فبغداد مركز تجاري كبير، ومن الصعب علي الجواسيس مراقبة ما يجري فيها من اتصالات تتخذ من التجارة غطاءً لها.. ومنذ ذلك الوقت لم يعد أحد يرى عثمان بن سعيد يتردد على سامراء كما كان الحال في زمن الإمام الحسن. بل ان الإمام نفسه سوف يرتدي زي التجار.
وخلال الفترة من عام 260 إلى عام 263ه تلاحقت الاحداث بشكل خطير

(٩٠)

فقد بدأ الامبراطور باسيل الاول سلسلة من الغارات استهدفت المدن الحدودية الإسلامية، كما شن الاعراب غاراتهم علي مدينة حمص وحدثت قلاقل في مدينة الموصل سببها عدوان الجنود علي الاهالي وانتهاكهم الاعراض..
وفيما كانت المعارك مع الزنوج مستمرة، اندفع الخوارج في هجومات جديدة بقيادة مساور الشاري وفي الشمال الافريقي حدثت انتفاضة شعبية ضد حكم احمد بنطولون في منطقة برقة قمعت بوحشية وفي تلك الفترة العاصفة ايضاً رأى يعقوب بن ليث الصفار مؤسس الدولة الصفارية انتهاز الفرصة فاندفع باتجاه الاهواز وفارس واستولى على مساحات شاسعة ثم راح يدنو باتجاه بغداد مما بعث الرعب في قلب الخليفة الذي عبأ قوّاته بقيادة أخيه الموفق لوقف الصفار عند حدوده..
وسرعان ما وقعت المعركة الفاصلة في (دير العاقول) علي بعد 12 ميلاً من بغداد فسحقت قوات الصفار الذي ارتدّ بفلوله إلى الاهواز.. ولكنه ظل يشكل خطراً علي الخلافة العباسية ثم وقع حادث غامض إذ وقع رئيس الوزراء عبيد الله بن يحيي عن دابته عندما صدمه الخادم (رشيق) وتوفي بعد ساعات.
كما توفي الحسن بن محمد بن أبي الشوارب رئيس سلطة القضاء فتولّي رئاستها أخوه علي بن محمد.
وقد أسهمت هذه الاحداث في التخفيف من محنة السيدة نرجس التي اُفرج عنها بعد اعتقال استمر أكثر من عامين وسوف تعيش حياة التشرّد مدّة من الزمن قبل أن يستجيب الله دعوتها فانتقلت إلى الرفيق الأعلى تشكو إلى بارئها ظلم الظالمين.
وكان الهمس حول وجود حقيقي للإمام المهدي ما يزال مستمراً وأدرك الكثيرون أن الحقيقة توجد لدي عثمان بن سعيد ذلك الرجل الصالح الذي تمكن من

(٩١)

احاطة عدد كبير ممن يوثق بأمانتهم ووعيهم بوجود الإمام المهدي.. ولكن الظروف الحساسة التي يمرّ بها الإمام جعلته يتكتّم فكان لا يتحدث بهذا الشأن إلاّ في المناسبات التي تستدعي ذلك، كما حدث في تلك الليلة الشتائية عندما جاءه في جنح الظلام رجل يبحث عن الحقيقة فقال له وهو يحاوره:
ـ اسألك بحق الله وبحق الإمامين اللذين وثقاك هل رأيت ابن أبي محمد الذي هو صاحب الزمان؟!
غمرت الدموع عيني الرجل الصالح وقال:
ـ أخبرك علي أن لا تخبر أحداً ما دمتُ حيّا؟
وهز الرجل رأسه موافقاً فقال السفير:
ـ أجل قد رأيته.. يوم ولادته.. ورأيته وقد أيفع وأصبح فتي رشيداً موفّقاً.
المعتضد السفاح الثاني
لقد استرسلنا في رسم المشاهد حتى عام 263 أي حتى وفاة شخصية كبيرة لها نفوذها هي شخصية عبيد الله بن يحيي بن خاقان في حادث غامض جداً وهو قيام رشيق الخادم وهو غلام (الموفق) بافتعال حادث اصطدام بينما عبيد الله علي دابّته فسقط عن الدابّة وتوفي بعد سويعات!!
وسنري رشيقاً هذا يعمل في جهاز المعتضد القمعي والاخير يحتاج لوحده دراسة عميقة فهو الخليفة الذي لقب بالسفاح الثاني والذي حكم البلاد بقوة الحديد والنار والذي وقعت في عهده حوادث تحتاج إلى توقف ودراسة.

(٩٢)

علي أننا سوف نؤشر بعض الحوادث قبل أن نستعرض ما حصل خلال حكومة المعتضد التي استغرقت زهاء العقد من الزمن.
في الاعوام 264ه - 267ه وقعت حوادث كبرى إذ أغار الاسطول الإسلامي علي مدينة البندقية فيما كانت الاشتباكات في جنوب العراق تزداد ضراوة، وفي مصر أعلن أحمد بن طولون تمرّده علي العاصمة وزحف بجيش جرّار علي دمشق فاستولى عليها.
وفي خراسان اجتاح الطاعون ليحصد آلاف الارواح فيما أغار الثوّار الزنوج على مدينة واسط وارتكبوا فيها مذابح وحشية.
وشهدت بلاد الاندلس ثورة المولّدين واستيقظت مدينة سامراء علي فرار رئيس الوزراء الحسن بن مخلد (نصراني وأسلم) إلى بغداد بعد أن تناهي إليه عزم القائد التركي موسى بن بغا العودة إلى سامراء فصودرت جميع ممتلكاته.
وشهدت مدينة اصفهان ثورة تم قمعها في مهدها، وثورة أخرى في نيسابور الخاضعة لنفوذ الصفّار الذي توفي قبيل اندلاعها وثورة في مدينة حمص السورية، وأغار الاعراب علي مكة المكرمة ونهبوا كسوة الكعبة المشرّفة وتعرّضت ديار ربيعة إلى غارات وحشية شنّها الروم.
وفي هذا العام (267ه) توفي السفير الاول بعد أن أبلغ بعض رجالات الشيعة رسالة من الإمام المهدي وهي رسالة تتعرض إلى الشكوك التي بدأت تراود أذهان البعض في عدم وجود حجة لله.
ويدور حوار حول السفير القادم بعد رحيل السفير الاول:
ـ مدّ الله في عمرك اذا كان الذي لابد منه فمن يخلفك في سفارتك؟
ـ محمد ابني.
ـ أنت أخترته؟!
ـ بل اختاره حجة الله.

(٩٣)

في عام 268ه شرع (الموفق) بإعادة تنظيم قواته استعداداً لبدء الهجوم العام خاصّة بعد نجاح (رشيق) بقطع طريق الامدادات التي تصل (المختارة) عاصمة التمرّد من البادية العربية.
وقد عبرت الجيوش العباسية الانهار والمسطحات المائية وأصبح الهجوم العام وشيكاً.
وأسفرت العمليات الحربية عن تشديد الحصار علي المختارة التي شهدت تصدّعاً في جبهتها الداخلية بسبب نفاد المؤن واضطرار البعض إلى أكل لحوم الموتى بل وصلت انباء مروعة حول أكل لحوم الاطفال.
أما علي صعيد الوضع في سامراء فقد قرر المعتمد الذي وجد نفسه خليفة بلا خلافة الفرار من العاصمة واللجوء إلى مصر فغادر سامراء بذريعة القيام برحلة للصيد، وتم ترتيب اتفاق مع أحمد بن طولون الذي شجع علي ذلك وارسل قوات عسكرية إلى الرقة لاستقباله وعندما وصل الخليفة الموصل تم القاء القبض عليه وأعيد إلى سامراء بالقوة.
واصدر الموفق أوامر بفرض الاقامة الجبرية علي أخيه وأصدر مرسوماً يقضي بتعيين ابن كنداج حاكم الموصل أميراً علي مصر فردّ أحمد بن طولون بإعلانه خلع الموفق من ولاية العهد.
في عام 270ه بلغ الموفق ذروة مجده السياسي بقضائه التام علي ثورة الزنج التي أقلقت الرأي العام قرابة خمسة عشر عاماً.
وفي نفس العام توفي أحمد بن طولون فتسنم الحكم ابنه خمارويه كما توفي أيضاً مؤسس الدولة العلوية في طبرستان الحسن بن زيد.
وفي عام 271ه انخفض منسوب المياه في النيل فانتهز الموفق الفرصة ودفع

(٩٤)

بالجيوش العباسية لاسترداد مصر لكنها تمني بهزيمة ساحقة في منطقة الرملة بفلسطين بعد اشتباكات دامية.
في عام 272ه وقعت في بغداد حوادث شغب وعنف استهدفت السكان النصارى وهاجم الناس الدير العتيق ودمّروا بعض جدرانه مما استدعي تدخل الشرطة بأمر من حاكم بغداد واعادة بناء ما تهدم.
وفي نفس العام اندلعت الحرب مرة أخرى بين الدولة وقوات الصفاريين لتستمر حتى عام 274ه.
وخلال ذلك تم الاعتراف رسمياً بولاية خمارويه علي مصر والشام والمناطق الحدودية المتاخمة لدولة الروم التي توفي امبراطورها باسيل الاول وشهد عام 273ثورة الزنوج في مصر ثم قمعها بوحشية، فيما كان الاندلس يشهد ثورة في مدينة طليطلة وفي أثناء ذلك توفي العالم الفلكي عباس بن فرناس بعد فشل أول محاولة بشرية للطيران نفذت من فوق مئذنة قرطبة.
وفي هذا العام تعرضت سامراء إلى غارات اللصوص وكان الخليفة المعتمد قد غادرها إلى بغداد وحل في قصر بوران بنت الحسن بن سهل وزوجة المأمون.
وتوترت الاجواء في بغداد سنة 275ه بعد اقدام الموفق علي توقيف ابنه أبي العباس الذي سيعرف في سنة 279ه ب (المعتضد) فاندلعت حوادث شغب أثارها اتباعه الذين تجمعوا في جسر الرصافة، ولم يذكر التاريخ بواعث هذا الاجراء ولكن الموفق التقي المشاغبين وجاء في حديثه معهم:
ـ أترون كم أشفق مني على ابني؟! هو ولدي واحتجت إلى تقويمه.
اننا نذكر هذه التفاصيل لنرسم صورة للمشهد العام الذي أسفر بشكل وآخر عن صعود الخليفة الدموي المعتضد سنة 279ه.
في سنة 276ه انتهي الصراع مع الصفاريين بتعيين محمد بن الليث الصفار قائداً لشرطة بغداد وكتب اسمه علي الاعلام.

(٩٥)

وفي أواخر عام 277ه اصيب الموفق بداء النقرس فعاد من ايران إلى العراق على سرير يحمله أربعون حمالاً ووصل بغداد مطلع صفر سنة 278ه.
وأصبحت بغداد مسرحاً للشائعات حول وفاته فيما كان ابنه ما يزال سجينا.
أما المعتمد فقد كان في المدائن مع اسرته خليفة بالاسم فقط ينتظر مصيره.
وبرز أبو الصقر أحد كبار القادة العسكريين ففرض سيطرته علي بغداد، وعندما اشتدّت الشائعات حول وفاة الموفق اندفع انصار ابنه إلى السجن وحطموا الاقفال وأخرجوا (المعتضد) وانطلقوا به إلى منزل والده الذي دخل في غيبوبة الموت.
وفي 9 صفر وصل المعتمد وأفراد اسرته بغداد وقد تدهورت صحة الموفق.
وتلبدّت الاجواء في بغداد، وما لبث الفوضى أن اندلعت فجأة وهوجمت بعض قصور القادة خاصة قصر أبي الصقر ونهبت حتى غدت قاعاً صفصفاً.
وكسرت أبواب السجون حتى سجن المطبق الرهيب وتصدّي أبو العباس(المعتضد) فعين غلامه بدر قائداً لشرطة بغداد فأعاد اليها الهدوء في منتصف صفر.
وفي يوم الاربعاء 22 صفر اعلن عن وفاة الموفق وفي يوم الخميس أعلن أيضاً عن تعيين أبي العباس ولياً للعهد بعد المفوض ولي العهد الرسمي وفي يوم الجمعة سمع أهل بغداد بلقب أبي العباس (المعتضد).
وفي 26 صفر ألقي القبض علي أبي الصقر وصودرت جميع ممتلكاته وممتلكات أقاربه الذين اختفوا عن الانظار وفي يوم الثلاثاء 27 صفر أعلن عن تنصيب عبيد الله بن سليمان بن وهب رئيساً للوزراء..
وشم الناس عهداً يفوح برائحة الدم.. لقد بدأ عصر الارهاب من جديد، وأن مسلسل الرعب الذي عاشته بغداد في عهد أبي العباس السفاح والمنصور سيعود فيعهد أبي العباس المعتضد.

(٩٦)

وفي مطلع سنة 279ه منع منعاً باتاً جلوس أي حكواتي لسرد القصص كما منع بيع وتداول الكتب الكلامية والفلسفية.
وفي 22 محرم اعلن عن خلع ولي العهد المفوّض، واعتبار المعتضد ولي العهد الرسمي الوحيد وابلغت جميع الاقاليم الإسلامية بهذا الاجراء فاسقط المفوض عن الخطب الاسبوعية.
وفي تشرين الثاني سنة 892م 17 رجب 271 أقام الخليفة المعتمد احتفاله الترفيهي مساءً في حدائق قصر الحسني المطلّة علي دجلة.. وراح يكرع كؤوس الخمر، مع شرائح اللحم المشوي.. وفيما كانت أصوات الموسيقي والمطربين تملا الفضاء سقط المعتمد فجأة.. وتضاربت الشائعات حول سبب الوفاة وتناقل الناس شرهه في الطعام تلك الليلة وانه مات مبطوناً فيما أكد بعضهم أنه اغتيل بوضع السم في اللحم أو في الخمر!!
وفي يوم الثلاثاء 18 رجب اعلن عن بيعة الخليفة الجديد المعتضد.. وجلس علي دست الحكم وله من العمر ثلاثون سنة..
وبدأ عصر الارهاب الشامل.. فالخليفة الجديد سفاك للدماء مع رغبة شديدة في تعذيب ضحاياه بأساليب بشعة.
تسكن روحه حمي الشهوات شبق جنسي وميل جارف لبناء القصور الفخمة.
كان أول شيء قام به صلحه مع (خمارويه) الذي ارسل إليه عارضاً ابنته (قطر الندي) زوجة لابن الخليفة..

(٩٧)

فوافق الخليفة علي أن تكون زوجة له شخصياً، وبدأ العمل في بناء قصر الثريا المنيف استعداداً لاستقبال (قطر الندي).
وفي عام 280ه القي القبض علي محمد بن الحسن بن سهل شقيق بوران مالكة القصر الحسني الذي يسكنه الخليفة حالياً والذي اصبح قصر الخلافة..
وقد عثر في منزله علي جرائد تضم اسماء أشخاص يبايعون رجلاً علوياً لم يصرّح باسمه..
وكشفت التحقيقات عن وجود خطة لاغتيال المعتضد وقلب نظام الحكم.
ودوهمت منازل بعض الذين وردت اسماؤهم في الجرائد وسيقوا، جميعاً إلى القصر وتعرضوا للتعذيب فاعترفوا انهم لا يعرفون الرجل العلوي وأنهم يعرفون(شميلة) فقط!
تساءل المعتضد متوجساً وهو ينظر إلى عبيد الله بن وهب.
ـ من يكون شميلة؟!
أجاب رئيس الوزراء:
ـ انه محمد بن الحسن نفسه فهو معروف بشميلة.
أصدر المعتضد أحكام الاعدام بحقهم فاعدموا فوراً، أما شميلة فقد ظل رهن التحقيق، وكان المعتضد يأمل منه أن يكشف عن اسم الرجل العلوي الذي سيقود الثورة في قلب بغداد!
وفي قصر الحسني بدأت أولي حفلات التعذيب المعتضدية سبقها استجواب طويل.. حاول المعتضد اغراءه بالمال ولكن الرجل اظهر اباءً فراح يهدد بالويل والثبور.. فردّ شميلة متحدّياً:
ـ لو شويتني علي النار فلن تسمع مني إقراراً.. أتريدني ادلّك علي رجل اعتقد

(٩٨)

بإمامته وادعو الناس إلى طاعته؟!
اشتعلت عينا الخليفة بالشرر.. وقال وهو يصرّ علي أسنانه بغيظ:
ـ سوف اشويك بالنار كما قلت!
ـ اصنع ما تشاء.
برقت في اعماقه المظلمة فكرة رهيبة في أن يجعله بين ثلاثة رماح ثم يشوي بالنار (ويشوي كما يشوي الدجاج)!!
ونفذت الفكرة علي الفور وراح الجلاوزة يشوون الإنسان وكان المعتضد ينظر بتلذذ إلى آلام الإنسان ولم يبد عليه أنه قد اكترث لرائحة شواء لحم بشري!!
واستمر المشهد المهول إلى أن تفرقع جسم الضحية ولفظ انفاسه.. وعندها أمر(خليفة المسلمين) أن يصلب الجسد بين الجسرين علي الجانب الغربي!
وظل اسم الرجل العلوي المجهول هاجساً مخيفاً يراود ذهن الخليفة الذي يعجّب الاوهام والوساوس.
ترى من يكون ذلك الرجل العلوي الذي يعدّ للثورة في بغداد؟!! وباح الخليفة لرئيس وزرائه الذي لا يقل عنه وحشية وسفكاً للدماء.. باح له بهواجسه..
وبدأت كلاب السلطة مهامها في التجسس والبحث عن الرجل أو الحصول على معلومات تساعد في القبض عليه.
ولم تمض سوى اسابيع حتى بدأت التقارير السرّية ترد علي القصر وتفيد بوجود مجموعة من الوكلاء مهمتهم استلام أموال تأتي إلى أشخاص أو شخص له القاب

(٩٩)

عديدة.. فهو مرّة (الحجة) أو (صاحب الزمان) أو (الغريم)، ولا يوجد اسم صريح يمكن التعرف عليه!
وأعدّت لرئيس الوزراء عبيد الله بن سليمان بن وهب قائمة تضم مجموعة من رجال الشيعة يقومون بمهمة الوكالة في استلام أموال ترد لرجل علوي مجهول..
واتخذت التقارير مساراً أكثر خطورة عندما راحت تشير إلى منزل الإمام الراحل الحسن العسكري في سامراء، ولم يضع المعتضد وقتاً في معالجة الموقف واتخاذ القرار بأسرع وقت.
لقد انقدحت في ذهنه المتوقد أن يكون الرجل المجهول هو المهدي!!
واصبح من المؤكد وجود سفير له بل ووجود وكلاء يستلمون الاموال بالنيابة عنه!
تورد المدونات الشيعية ان عبد الله بن سليمان بن وهب اخفق في القبض علي أيمن وكلاء المهدي بعد فشل الجاسوس الذي دسته الحكومة في كسب ثقة أي منهم.. لقد قابل كثيراً من الشخصيات وتظاهر بأنه من شيعة الإمام المهدي وأن لديه أموالاً يريد تأديتها كحقوق شرعية، ويبدو ان ابن وهب قد اقتنع تماماً وتبدّدت شكوكه أما المعتضد فقد تظاهر بذلك فقط.
فهو كسياسي شبهه التاريخ بأبي العباس السفاح لا يريد أن يثير مسألة حساسة مثل مسألة المهدي ويجعل منها قضية مادامت التقارير السرّية تؤكد عدم وجودها.
كما أن مهمة القاء القبض علي المهدي أو تعبئة الوضع بهذا الاتجاه أمر يضرّ بسمعة الدولة.
ولذا سنرى الخليفة السفاح يكلّف (رشيق) الخادم بمهمة غاية في السرّية وهي

(١٠٠)

مهمة غامضة وسريعة: ثلاثة رجال وستة خيول حتى لا تكون هناك فرصة لالتقاط الانفاس في قطع مسافة 120كم، واقتحام منزل عنوانه واضح جداً هو منزل الإمام الهادي في درب الحصا في سامراء.
والرواية يسردها رشيق بعد وفاة المعتضد الذي سبق وأن هدّدهم بالموت اذا ما تفوهوا بها ولكنه يسردها بعد وفاة الخليفة الدموي كجزء من ذكرياته.
وأول شيء يثير الانتباه هو فشل المهمة لسبب مدهش وهو يرى حوضاً مليئاً بالمياه فالحجرة التي أراد الرجال الثلاثة اقتحامها مفروشة بالمياه وهناك في اقصاها شاب يصلّي، حاول أحدهم العبور إليه لكنه فوجئ بعمق المياه فارتد علي أعقابه، ومنظر كهذا لابدّ وأن يربك الرجال خاصّة وأن منظر انسان يصلّي في مكان عجيب يفترض أن يكون مبلطاً أو مفروشاً.
وفي ضوء ما ورد من مواصفات المنزل يمكن تفسير وجود هذه الحجرة الزاخرة بالمياه، والرواية أهملت التاريخ الدقيق ويحتمل أن يكون قد حصل ذلك في موسم يرتفع فيه منسوب المياه في دجلة فتتدفق المياه بيسر عبر الكهاريز أو القنوات الجوفية، بل إن اعداد هذه الغرفة ليس له ارتباط وثيق بتاريخ محدد أو موسم معين.
ولا نريد التوقف أكثر من هذا أمام هذه الحادثة لكننا سنتفهم الموضوع بإثارة حادثتين أخريين مع الاشارة إلى بعض الوقائع التي لا تبدو هامّة إلاّ بعد وضعها في اطار عام منها وصول (قطر الندي) بنت خمارويه وهي أميرة صغيرة اقترح أبوها أنتكون زوجة لابن الخليفة ولكن المعتضد يستأثر بها ويبني لها قصر الثريا الكبير.
وما لبثت الانباء أن وصلت باغتيال خمارويه في مصر! كما سادت بغداد أجواء متوترة بعد تجدد الاشتباكات واشتعال الحرب مع الدولة العلوية في طبرستان. فيما كانت التقارير ترد القصر بوصول مبالغ كبيرة من محمد بن زيد العلوي زعيم الدولة العلوية إلى رجل يدعي محمد بن ورد العطار لتوزيعها علي العلويين في بغداد والكوفة فألقى القبض عليه وسيق إلى قصر (بدر) غلام المعتضد.

(١٠١)

في مطلع عام 284ه قرر المعتضد لعن معاوية بن أبي سفيان والطغمة الاموية على المنابر، واستخرج من خزانة الدولة كتاباً في لعن معاوية كان الخليفة المأمون قد أعدّه في خلافته، وتم اعداد كتاب موجز أخذ من جوامع كتاب المأمون، وتناقل أهل بغداد اخبار عن الموعد المقرّر لقراءة الكتاب والذي سيكون 11 جمادي الاخرة.
وكان المعتضد مصمماً علي ذلك لولا أن حذّره القاضي يوسف بن يعقوب من العواقب الوخيمة قائلاً:
ـ إني أخاف أن تضطرب العامّة عند سماعها هذا الكتاب.
قال المعتضد:
ـ اذا تحركت العامّة أو نطقت وضعت سيفي فيها.
قال القاضي محذراً من خطر العلويين:
ـ يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيين الذين يثورون في كل ناحية؟ وكثير من الناس يميلون اليهم لقرابتهم من الرسول ومآثرهم؟ وفي هذا الكتاب اطراء لهم.. فاذا سمع الناس هذا الكتاب كانوا اليهم أميل، وكانوا هم أبسط ألسنة واثبت حجة منهم اليوم.
وأطرق المعتضد والتزم الصمت، ولكن الكتاب انتهي أمره ولم يقرأ بالرغم منان التاريخ حفظه بالتفصيل.
الحادثة الاولى:
في منتصف شعبان وقع حادث غريب عندما ظهر تحت جنح الظلام شخص مسلّح في قصر الثريّا الذي انتقل إليه المعتضد رسمياً منذ زفاف (قطر الندى) وعندما أراد أحد الخدم أن يتعرف علي هوّيته ضربه الشخص بالسيف فقطع حزام الخادم الذي فرّ مذعوراً..

(١٠٢)

ثم تواري الشخص المجهول في حدائق القصر! وشعر المعتضد بالرعب وهو يصدر أوامره إلى الحرس بالبحث خلال الاشجار واستمر البحث حتى مطلع الفجر ولكن لم يعثر له علي أثر!!
ثم ظهر ثانية بعد ليالي أخرى.
وعُزّزت أسوار القصر بمادة هشّة تحسباً من استخدام كلاليب التسلّق.. كما أمر الخليفة بإحضار من في السجن من اللصوص ليناقشهم في امكانية الدخول إلى القصر تسلّقا أو نقباً؟!
وتناقل الناس حكايات حول هذا الشخص وأنه ربما كان من الجن ظهر للخليفة بسبب ايغاله في سفك الدماء.. وانه ربما كان شيطاناً أو من مؤمنيّ الجنّ.
وكان الجواسيس ينقلون إليه بعض ما يتناقله الناس ولكن المعتضد يبدو قد صدّق حكاية الخادم الذي وقع في هوي إحدى جواري القصر وانه يتناول بعض العقاقير الخاصة فلا يدرك بحاسة البصر!
وعمد المعتضد إلى تعذيب بعض الخدم والجواري حتى الموت والقي في السجن آخرين.
وكان المعتضد تشتد هواجسه وقلقه عندما يحل المساء الخريفي ففي منتصف الليل عاود ذلك الشبح ظهوره مرّة أخرى في رمضان وكانت الابواب تفتح وتغلق..
وكان المعتضد يركض كالمخبول في أروقة القصر فكان يراه مرّة في صورة راهب ذي لحية بيضاء وتارة في صورة شاب حسن الوجه بلحية سوداء وتارة في صورة شيخ يرتدي زي التجار وتارة أخرى بيده سيف مسلول.
وأصبح المعتضد فيما يبدو في حالة نفسية متدهورة حتى أنه أمر بإحضار المجذوبين والمجانين والمعزّمين فاحضروا وكانت فيهم امرأة.

(١٠٣)

ان أحداً لا يدري هل كان الشبح الذي كان يراه الخليفة حقيقة أم ان ما يراه لا يعدو أن يكون أشباح ضحاياه تتراءى له في قلب الظلام..
لقد كان الخليفة يشرف شخصياً علي مختلف الطرق في التعذيب الوحشي.. فكانت مشاهد التعذيب البشعة مما لا يمكن احتمالها لدي انسان فيه بقيا من الانسانية.
وسيبقي ما رآه الخليفة في قصر الثريا لغزاً من ألغاز التاريخ!
ونختتم عهد المعتضد الدموي بالإشارة إلى وفاة الاميرة قطر الندي سنة 287ولما تناهز العشرين بعد!!
وفي عام 288 شهد الشمال الافريقي ظهور رجل يدّعي أنه المهدي وفي عام 289توفي المعتضد ليتولّى الخلافة بعده ابنه (المكتفي) وبدأ رعب القرامطة الذي أقلق العالم الإسلامي.
الحادثة الثانية:
وقبل أن نوردها نشير إلى اعتقال الحلاّج سنة 301ه بتهمة الزندقة والالحاد علماً بأنّه متهم أيضاً بادّعائه السفارة للإمام المهدي وقد فضحه الزعيم والعالم الشيعي أبو سهل بن اسماعيل النوبختي، والذي يمت برابطة نسب إلى الشيخ الحسين بن روح النوبختي السفير الثالث للإمام المهدي.
في عام 314ه كانت بغداد تتابع بقلق بالغ تحركات القرامطة الذين يثيرون الرعب في كل مكان يقتربون منه.
فقد فرّ أهل مكة إلى الطائف عندما سمعوا بزحف (أبي طاهر القرمطي) اليها ولكن سرعان ما وصلت الاخبار أنه في طريقه إلى العراق.. وأنّ هدفه الاول سيكون الكوفة..

(١٠٤)

كتب الخليفة إلى يوسف ابن أبي الساج الذي يرابط في مدينة واسط أن يتحرك بسرعة صوب الكوفة.. وأخبره بان أطنانا من المؤن بما في ذلك القمح والشعير بانتظاره.
ويشاء القدر أن تسقط هذه المؤن بيد أبي طاهر وعندما وصل الجيش العباسي في الثامن من شوّال وجد الطريق إلى الكوفة قد سقط بأيدي القرامطة.
كان الجيش العباسي يفوق قوّات القرامطة اضعافاً مضاعفة، ولذا شعر ابن أبي الساج بالغرور وأمر بإعداد كتاب الفتح قبل أن تبدأ العمليات الحربية؟
ونشبت المعركة في ضحي يوم السبت 9 شوال واستمرت حتى الغروب، وقاد أبو طاهر هجوماً مدمّراً حطم فيه خطوط الجيش العباسي الذي انهار فجأة، ووقع يوسف في أسر القرامطة ووكل أبو طاهر طبيباً يعالج جراحه.
وصلت فلول المنهزمين بغداد حفاة عراة وكان لمنظرهم المسوى الاثر الرهيب في بث الرعب في المدينة واصدر (نازك) قائد الشرطة العام أمراً بمنع التجول ليلاً ونفذ الاعدام بالمتخلفين.
وبدأ سكان بغداد يعدّون العدّة للفرار من المدينة إلى همدان في ايران، فيما وصلت انباء مؤكدة ان القرامطة في طريقهم إلى الانبار.
استدعي الخليفة القائد العسكري مؤنس المظفر لمواجهة القرامطة، فحرّك خمسمئة زورق مشحون بالجنود لصدّ القرامطة اذا حاولوا عبور نهر الفرات.
حرّك القائد قطعات من قواته إلى الانبار لتعزيز دفاعات المدينة التي قام أهلها بقطع الجسر.
وعسكر القرامطة في الجانب الغربي من النهر، وفي عملية سريعة قام القرامطة بالإفادة من السفن الموجودة في مدينة (حديثة) التي سقطت في أيديهم فعبر ثلاثمئة محارب إلى الانبار وسرعان ما فرّ جنود الخليفة، فعقد الجسر مرّة أخرى وعبرت قوّات القرامطة لتدخل الانبار دخول الفاتحين.

(١٠٥)

وفي غمرة الرعب الذي عمّ بغداد ألقي القبض علي رجل قرمطي اتهم بمراسلته لابي طاهر وتسريبه أخبار ومعلومات هامّة وسيق الرجل إلى قصر رئاسة الوزراء حيث تم استجوابه.
ـ هل تقرّ بذلك؟
ـ نعم!
ـ لماذا؟
ـ لأنني أري أبا طاهر علي الحق، وأنت وخليفتك كفار تأخذون ما ليس لكم..
وسكت لحظات ليقول:
ـ ولابدّ لله من حجة في أرضه.. وإمامنا المهدي محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق المقيم ببلاد المغرب!!
إننا لسنا كالرافضة ولا الاثني عشرية الذين يقولون بجهلهم إن لهم اماماً ينتظرونه ويكذب بعضهم لبعض.. فيقول رأيته وسمعته وهو يقرأ.. ولا ينكرون بجهلهم وغباوتهم أنه لا يجوز أن يعطي من العمر ما يظنونه..
سكت رئيس الوزراء ثم قال:
ـ أنت تعرف أشياء كثيرة عن عسكرنا فمن فيهم علي مذهبك.
نظر الرجل وأفتر عن ابتسامة ساخرة وقال:
ـ أنت بهذا العقل تدير الوزارة.. كيف تظنني أسلم قوماً مؤمنين إلى قوم كافرين يقتلونهم؟ لن أفعل ذلك!!
شعر رئيس الوزراء بالغيظ لهذه الاهانة واصدر أوامر بتعذيبه وعدم تقديم الطعام والشراب إليه فظل ثلاثة أيام ثم مات.
وإفادات الرجل وما ورد في وقائع المحاكمة تشير إلى ان مسألة المهدي مسألة

(١٠٦)

جادّة حتى انها استغلت في تأسيس دولة قوية علي انقاض دولة الادارسة في الشمال الافريقي كما أن الاثني عشرية وفقاً لإفادته يطرحون منذ البداية مسألة الغيبة والعمر الطويل مع ان عمر الإمام وقت المحاكمة يناهز الثامنة والخمسين عاماً.
كما أن مسألة وجوب وجود حجة لله قد ولجت في أذهان كثيرين ممن يناهضون الحكم القائم.
ونختتم هذا الفصل بإثارة ما اثبته الدكتور عبد السلام الترمانيني في موسوعته التاريخية.. وفي عمود الوفيات في سنة 275ه الذي جاء تحت عنوان اختفاء (محمد بن الحسن العسكري): (هو محمد بن الحسن العسكري بن علي الهادي. أبو القاسم. آخر الائمة الاثني عشر عند الشيعة الإمامية، وهو المعروف عندهم بالمهدي المنتظر والحجة وصاحب السرداب.
ولد بسامرّاء ومات أبوه وله من العمر خمس سنين، ولمّا بلغ التاسعة عشرة من عمره دخل سرداباً في دار ابيه بسامرّاء ولم يخرج منه).
وقد اعتمد الدكتور المؤرخ مصدرين هما:
وفيات الاعيان لابن خلكان وفيه: (.. وذكر ابن الازرق في تاريخ ميّافارقين) أن الحجة المذكور ولد تاسع شهر ربيع الاول سنة 258ه، وقيل في ثامن شعبان سنة ست وخمسين وهو الاصح، وأنه لما دخل السرداب كان عمره أربع سنين، وقيل خمس سنين وقيل أنه دخل السرداب سنة خمس وسبعين ومائتين.. وعمره سبع عشر سنة والله أعلم أي ذلك كان، رحمه الله تعالي).
كما اعتمد الاعلام للزركلي وقد ورد فيه:

(١٠٧)

(محمد بن الحسن العسكري (الخالص) بن علي الهادي، أبو القاسم آخر الائمة الاثني عشر عند الإمامية. وهو المعروف عندهم بالمهدي وصاحب الزمان والمنتظر والحجة وصاحب السرداب. ولد في سامراء، ومات أبوه وله من العمر نحو خمس سنين. ولما بلغ التاسعة أو العاشرة أو التاسعة عشرة دخل سرداباً في دار أبيه بسامراء ولم يخرج منه).
وقد ذكرنا من قبل نبأ اعتقال المعتضد بأوامر من والده (الموفق) وشغب أتباعه مع اننا لا نعلم سبباً واضحاً للاعتقال لكنه يكشف بجلاء أن المعتضد كان له جهاز ارهابي كوّنه منذ وقت مبكر وان (رشيقاً) وغيره اعضاء في ذلك الجهاز وإلاّ ما توترت الاجواء في بغداد سنة 275ه واندلاع حوادث شغب اثارها اتباع المعتضد وتجمعهم في جسر الرصافة؟
وتذكر مدونات الإمامية أن المعتضد ارسل قوات لاعتقال الإمام وانه كان في السرداب يتلو القرآن وأنه خرج من السكة التي علي باب السرداب.
والرواية تورد اسم المعتضد صراحة لكنها لا تحدد تاريخاً للهجوم ولذا فمن المحتمل أن يكون ذلك قد حدث سنة 275ه.
وبهذا يكون اختفاء الإمام المهدي في السرداب طبيعياً جداً وقد أشرنا إلى واقعة اختفاء زوجة المتوكل بعد الاطاحة بابنها الخليفة (المعتز) سنة 255ه ولم يعثر لها على اثر بعد أن فرّت من نفق سرّي بين مخدع نومها ونقطة خارج أسوار القصر.
وتؤيد المدونات الشيعية هذا الاختفاء باعتبار الهجوم علي دار الإمام في عهد المعتضد هو آخر محاولة من الدولة للقبض عليه، ولعلّه قد غادر سامراء نهائياً بعد أن أخذت بالاضمحلال لعودة الخليفة إلى العاصمة الكبرى بغداد، وهناك روايات تشير إلى ان الإمام كان يدخل بغداد بزيّ التجار.

(١٠٨)

كلمة أخيرة
في ظروف سياسية وفكرية عاصفة منذ مصرع الخليفة المتوكل سنة 247 وحتى سنة 329ه وهي السنة التي شهدت فيها بغداد انقضاض الشهب منذ المساء وحتى مطلع الفجر واجتياح دجلة في فيضان مدمّر منازل بغداد التي اتسمت بالفوضى وغياب الاستقرار نجد حركة هادئة تتسم بالثبات والتوازن والعمق هي حركة المهدي التي مرّت بمراحل عديدة فقد كانت منذ تاريخ الرسالة المحمدية بشارة بشر بها النبي أمته، وظل الائمة من أهل البحث يتوارثون هذه البشارة حتى عصر الإمام الهادي الذي أضاف إلى البشارة إجراءات عملية أشرنا اليها في ممارسته الاتصال من وراء حجاب (عبر الوكلاء) ومنحهم دوراً أكبر وتعزيز ثقة الناس بهم، وأيضاً شراء دار فخمة توفر أرضية مناسبة لاختفاء وحماية حفيده، وشراءه جارية تتوفر فيها مواصفات محددة ولتكون زوجة لنجله الحسن (عليه السلام) ثم دخلت حركة المهدي مرحلة أخرى من خلال ولادته في ظروف خطيرة ودخوله ضمير كثير من الافراد الواعين كحقيقة ساطعة، ثم مرحلة السفارة.
ونحن لا ننكر ظاهرة الحيرة التي وقعت للشيعة ابان وفاة الإمام الحسن، ولكن من يقرأ تفاصيل تلك الحقبة ينتهي إلى تصوّر أن الحيرة كانت بمثابة سحابة صيف عابرة وأن حركة المهدي واصلت مسارها بشكل هادئ رغم تقلبات الظروف وهناك بعدان رافقا حركة المهدي في مراحلها كافة هي غيبته الطويلة وعالميته وهذا ما يجعلنا نتفهم أسرار الغياب الطويل، فالعالم يتحرك نحو العالمية بخطي واسعة وهو أمر لم يكن مفهوماً آنذاك لكننا نجد حديث الأرض التي تملا عدلاً وقسطاً بعد أن تملا ظلماً وجوراً من أبرز الاحاديث التي ترتبط بالإمام المهدي وتسمه بميسم ثابت.

(١٠٩)

ان حركة أهل البيت بشكل عام هي حركة مستقرّة في عمق التغيرّات الانسانية بعيداً عن انفعالات السطح، فالعالم اشبه بالبحر المتلاطم الامواج فيما مياه الاعماق هادئة دائماً تغمرها سكينة وجلال.
ولعل في صمت الإمام علي مدّة ربع قرن أكبر دليل علي هذه الحركة الهادئة التي تنظر إلى المديات البعيدة حيث يتطلع الانبياء.
فعلي بن أبي طالب هو من نهض بمسؤوليته مذ كان صبياً في العاشرة وخاض غمار الحروب والمقاومة حتى أصبحت للإسلام دولة فكان بطل الإسلام وسيفه الذي لا يقهر، لكننا نراه يلوذ بالصمت التام عندما ذرّت الاطماع رؤوسها والنفوس أطماعها في حطام الدنيا.

(١١٠)

ظاهرة الانتظار

الاشعاع الاخلاقي
من الطبيعي أن تفرز النبوءات التي حملتها الكتب المقدسة والرسالات الالهية حالة من الانتظار والترقب.
وهذه الظاهرة التي ولجت الضمير الانساني وواكبت تاريخه الطويل تتأثر دائماً بالاطار البيئي، النفسي والتربوي، وسنلاحظ ان الانتظار يفرغ من محتواه الايجابي ليشل حركة الإنسان في ضوء الاشعاع الفكري الذي يقعد بالإنسان عن القيام بأي خطوة للتغيير بانتظار الذي يأتي وينهض بمهمة الاصلاح، فهذه حالة من الانتظار السلبي تسلب المرء ارادته ومبادرته، فيما نري اشعاعاً ايجابياً لفكرة الانتظار تنطوي علي أمل مشرق يلوح في الافق وينعش حالة التحرك نحو تحقيق الهدف وبلوغ الغاية المنشودة.
فالوعد الإلهي الذي يشع من الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) والذي جذّره النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بوضوح أكثر في قوله: (أبشركم بالمهدي يُبعث في متى على اختلاف من الناس وزلازل فيملا الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) هذا الوعد يرسم في الضمير الإسلامي النقي أفقاً مشرقاً يزخر بالأمل الاخضر والخلاص ونهاية مسلسل العذاب الذي يواكب حركة التاريخ البشري الطويل.

(١١١)

ومع هذا فان الانتظار إذا لم يلج الوجدان الانساني بنقاء فانه يفرز حالة سلبية لا تبعث علي الحركة فحسب بل وتقضي علي أي مخزون للطاقة في التحرك والسعي والتغيير وسيكون له دور اصطدامي مع آيات قرآنية صريحة المدلول كقوله تعالى: (إن اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ).
اما الاتجاه الايجابي في الانتظار فانه ينطوي علي قيمة حضارية كبرى انطلاقاً من وجود أمل كبير في حتمية تحقق الهدف النهائي والمنشود.
فالانتظار كظاهرة اجتماعية كانت تتأرجح بين كونها عاملاً في الحركة والسعي والتغيير، وبين صيرورتها أغلالا تكبل ارادة الإنسان وتدفعه إلى الترقب السلبي وهو انتظار خاو لا ينطوي علي أي طاقة حضارية.
والانتظار بشكل عام ولّد تجربة نفسيه غنية تعد (من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً بين أفراد الانسان).
فالانتظار الذي ينهض علي ايمان عميق بمستقبل أخضر للبشرية سيتفجّر عنه ينبوع الامل إذ يتعدى حالة العزاء إلى ما هو أبعد.. إلى صيرورته طاقة حركية تمدّ عملية التغيير الاجتماعي بالروح والقوّة والصبر.
ولعل استقراءً لظاهرة الانتظار يقودنا إلى اعتبارها نزوعاً فطرياً مغروساً فيوجدان البشر، فحتى الماركسية الغارقة في تفكيرها المادي لم تتجاوزها يقول برتراندراسل: (الانتظار لا يخص الاديان فحسب، بل المدارس والمذاهب أيضاً تنتظر منقذاً ينشر العدل) فهو يكاد يوازي النزوع الوجداني للإيمان.
الانتظار السلبي
ليس هناك شك في أن مسألة غيبة الإمام المهدي تفرز في بعض الظروف حالة

(١١٢)

من الانتظار السلبي، وهذه الحالة لا ترتبط بجوهر المسألة وانما تحددها ظروف بيئية وثقافية تفضي عادة إلى الانتظار الذي يسلب الإنسان ارادته وحقه في التغيير وبذلك يتعطل دور الآيات القرآنية التي تخاطب الإنسان وتطالبه بأداء دوره العبادي في الارض، ومن التعسّف ان نعلّق حالة الانتظار السلبي علي ظاهرة الانتظار بشكل لا يترك قدراً من المسؤولية الاخلاقية للإنسان نفسه.
ومن المؤسف أن نجعل هذه الحالة وليدة الايمان بالإمام الغائب الذي يجعل المرء في حالة انتظار سلبية ريثما يظهر الغائب.
ومع أن هذه الحالة قد تركت آثاراً تاريخية طبعت مسار المؤمنين بالإمام الغائب بطابعها، وعطلت دورهم الاجتماعي والسياسي، ولكن هذه الظاهرة يجب أن تناقش في اطار الفهم البشري الذي يخطئ ويصيب وينمو وينحسر متأثراً بالظروف العامة.
ومع أن نصوص الانتظار لا تحمل في طيّاتها هذا الاتجاه في التفسير السلبي.
كما ينطوي بعضها علي حالة اخبارية أي التنبؤ بفشل واخفاق الحركات التغييرية التي تسبق ظهور الإمام الغائب، وهذا لا يعني بالضرورة ادانتها فأي ادانة مثلاً في هذا النص: (والله لا يخرج أحد منّا قبل خروج القائم، الاّ كان مثَله مثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به) فكم من النظريات من حلق في سماء الفكر والسياسة والادارة ثم هوي علي الأرض صريعاً؟!
وهناك مساحة للعمل التغييري في اتجاه التمهيد لعملية التغيير الكبرى المنتظرة
ونموذجاً علي ذلك ما قام به الإمام الشهيد محمد باقر الصدر الذي ألّف في مسألة المهدي بحثه الرائد، لم يفهم من الانتظار الجانب السلبي منه واقدم علي خطوة استشهادية مستلهماً فيها ثقافة عاشوراء التي تخطط للأجيال والمستقبل.
وتزامنت خطوته مع ثورة الإمام الخميني الذي يؤمن بالمهدي أعمق الايمان فلمتكن ولاية الفقيه سوى نيابة عن الإمام الغائب في قيادة العمل التغييري نحو الإمام باتجاه التكامل الانساني.

(١١٣)

ومن هنا فان مسألة الانتظار في جوهرها تنطوي علي اشعاع أخلاقي ودور اجتماعي ايجابي يرشّد العمل التغييري ويدفعه باتجاه الهدف المنشود.
المخزون الايجابي للانتظار
يعبر ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: ان المشهور من الكافة من أهل الإسلام على مرّ الاعصار، انه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، يستولي علي الممالك الإسلامية ويسمّى بـ(المهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح علي أثره، وان عيسى (عليه السلام) ينزل من بعده فيقتل الدجّال أو ينزل معه فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته).
وهذا النص يترجم قوّة النقل الحديثي في النصوص الإسلامية حول مسألة المهدي التي ينبغي أن تجتاز لدي العالم السني حالة النص التاريخي المغيّب في بطون الكتب لتتحول إلى هاجس مستقبلي، فمادامت القضية ترتبط بآخر الزمان هي قضية مستقبلية تتطلب التفكير الجاد علي أساس ان المهدي يقود مستقبل الإسلام في نهاية المطاف.
وهنا يكمن الفرق بين العالم الشيعي الذي عاش قضية المهدي وجدانياً فتعثر حيناً ومشي يقطع أشواطاً في أحيان أخرى وأخطأ وأصاب قاطعاً خطوات هامّة في طريق التكامل والتعامل مع هذه القضية بشكل ايجابي فيما يتعامل العالم السني معها باعتبارها ارثاً فكرياً وجزءاً من التراث الإسلامي العريق.
والانتظار يتحول من خلال مخزونه الايجابي إلى دافع للحركة والنمو وهذا يتوقف بطبيعة الحال علي دخوله دائرة الضمير كأمل أخضر ودائرة العقل كأسلوب للتفكير وبالتالي استحالته إلى رؤية للمستقبل القادم.

(١١٤)

ومن هنا يكون للانتظار قيمة حضارية بناءة ومؤثرة وفي أدبيات المذهب الإمامي يدخل الانتظار في صياغة البعد الروحي من خلال الارتباط الوثيق بالغائب ودعوته إلى الظهور ولعل في (دعاء الندبة) شاهداً ثقافياً جلياً يكشف عن صياغة روحية للإنسان الذي يعلن عن استعداده الكامل في خوض عملية التغيير الكبرى.
ان (انتظار الانقاذ في ما ليس بوسع الإنسان ان يقدمه أو يؤخّره، كما لو كان الغريق ينتظر وصول فريق الانقاذ إليه من الساحل ويراهم مقبلين إليه لإنقاذه، فانه من المؤكد ان الغريق لا يستطيع ان يقدّم وصول فريق الانقاذ إليه، الاّ أنه من المؤكد ايضاً أن هذا الانتظار يبعث في الغريق أملاً قوياً في النجاة ويدخل نور الامل علي ظلمات اليأس التي تحيط به من كل جانب).
فهنا يدخل الامل كعنصر أساس في بعث روح المقاومة فيما يدخل اليأس كعامل انهيار وهزيمة.
فالانتظار يؤدي إلى انبعاث الامل والامل يبعث روح المقاومة وبالتالي الحركة.
وهناك نقطة جديرة بالتأمل وهي أن ظاهرة الانتظار وبالرغم من كونها ظاهرة عامّة واكبت التاريخ الانساني ولكنها تعرّضت إلى تغير جوهري لدي الإمامية بعد الايمان بولادته سنة 256 هـ وهذا التغير ينطلق من توقع ظهور الغائب في أية لحظة وما يزال الاشعاع الفكري مستمراً حتى الان.
فهناك ايمان عام بحتمية الظهور ذات يوم ثم انتقل منذ ذلك التاريخ إلى هاجس زمني بعد توفر المصداق خاصّة لدي جماهير الإمامية.
ولدي استقراء التاريخ الإسلامي بشكل عام والشيعي بشكل خاص نجد خطّاً بيانياً يتصاعد مضطرداً في الاهتمام بهذه المسألة.

(١١٥)

فلم تكن في زمن النبي لتتعدي بضعة أحاديث تنتقل عبر صدور الرواة ثم ما لبثت ان اخذت مساراً جديداً عبر الزمن إلى مطلع العصر العباسي الثاني واشتداد المحن التي المت بالعالم الإسلامي وبالخصوص القواعد الشعبية للمذهب الإمامي.
ان مسألة الانتظار لدي الشيعة الإمامية هي موقفهم خلال فترة الغيبة الكبرى، ودورهم الاجتماعي وبوضوح أكثر مسألة الجهاد والحكم.
ان وهج الآيات القرآنية لا يمكن ان يخبو في ظل أي من الظروف فقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ) وقوله تعالى: (إن اللّهَ اشْترى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِاَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْانِ وَمَنْ أَوْفَي بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِوَ ذلِك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
يشير إلى أن القرآن الكريم يؤكد استمرار خط الرسالات الالهية حتى في غياب النبوات بنفس الاتجاه الذي انطلقت فيه وهو هداية الانسانية نحو الكمال وبناء حياة تحقق إنسانية الإنسان وكرامته وهذا يستلزم استمرار حركة الجهاد وتزعم عملية البناء الاجتماعي وقيادته.
غير أن هناك نقطة جديرة بالاهتمام وهي ان الجهاد لا يعني دائماً رفع السلاح فالجهاد له اساليب متنوعة تمتد لتشمل حالات العصيان المدني.
وقد اثبتت تجارب الامم المعاصرة وبما اصطلح عليه بالنضال السلبي جدو يمثل هذا الاسلوب ولعل ابرز امثلته التجربة الهندية في الاستقلال علي يد داعية اللا عنف غاندي.
غير ان تضخيم هذه الحالة ومحاولة التأسيس لها بشكل يلغي أو يسيء الى الاساليب الجهادية الأخرى أمر تعسفي مجانب للمنطق. (.. فان العزلة علي أي حال

(١١٦)

تعني السلبية والانسحاب والسلبية في الاعمال الاغلب تعني الراحة والاستقرار. ومن الواضح جداً أن الفرد لا يتكامل اخلاصه ووعيه الإسلامي الاّ بالعمل والتضحية ومواجهة الصعوبات).
ذلك ان الجهاد الايجابي تكاد تكون له الكفة الراجحة في ظل الارث الروائي الذي يشير إلى وجود من يخرج قبل عصر الظهور ليمهد للثورة الكبرى: (يخرج اناس من المشرق فيوطئون للمهدي سلطانه).
ومن هنا فان مسألة الانتظار الايجابي تكتسب من الاصالة ما يجعلها قوية ومنطقية حتى مع وجود زخم اخباري يؤكد فشل واخفاق جميع نظريات الحكم: (ما يكون هذا الامر (دولة المهدي) حتى لا يبقي صنف من الناس الاّ وقد ولّوا من الناس، حتى لا يقول قائل: إنّا لو ولينا لعدلنا. ثم يقوم القائم بالحق).
(ان دولتنا آخر الدول. ولم يبق أهل بيت لهم دولة الاّ ملكوا قبلنا، لئلاّ يقولوا إذا رأوا سيرتنا لو ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء وهو قول الله عز وجل: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
فهذه التجارب الانسانية علي تعددها تنطوي علي عناصر التكامل البشري الذي يمهد الارضية المناسبة لعملية التغيير الكبرى التي تتوقف علي وجود انسان فذ واكب مسار الحضارات وتشرّب قوانين التاريخ والزمن.
يقول الإمام الشهيد محمد باقر الصدر:
ومن الواضح أن الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يُراد القضاء عليه من حضارة وكيان، فكلما كانت المواجهة لكيان

(١١٧)

أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ تطلّبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم.
ولما كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم وبالجور، تغييراً شاملاً بكل قيمه الحضارية وكياناته المتنوعة، فمن الطبيعي أن تفتش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كله، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالم الذين نشأوا في ظل تلك الحضارة التي يُراد تقويضها واستبدال حضارة العدل والحق بها؛ لانّ من ينشأ في ظل حضارة راسخة، تغمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفكارها، يعيش وفي نفسه الشعور بالهيبة تجاهها؛ لأنه ولد وهي قائمة، ونشأ صغيراً وهي جبارة، وفتح عينيه علي الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة.
وخلافاً لذلك، شخص يتوغل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور ورأي الحضارات الكبيرة سادت العالم الواحدة تلو الأخرى ثم تداعت وانهارت، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تاريخ..
ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوّن الفصل الاخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبين..
ثمّ شاهدها وقد اتخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربص الفرصة لكي تنمو وتظهر..
ثم عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة ويحالفها التوفيق تارة اُخرى..
ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج علي مقدّرات عالم بكامله، فإن شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين ينظر إلى هذا العملاق - الذي يريد أن يصارعه - من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسّه لا في بطون كتب التاريخ فحسب، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) إلى الملكية في فرنسا، فقد جاء عنه أنه كان يرعبه مجرد أن يتصور فرنسا بدون ملك، علي الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً

(١١٨)

وفلسفياً إلى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذ؛ لان (روسو) هذا نشأ في ظلال ملَكية، وتنفس هواءها طيلة حياته، وأما هذا الشخص المتوغل في التاريخ، فله هيبة التاريخ، وقوة التاريخ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ، تهيأت له الاسباب فوُجِد، وستتهيأ الاسباب فيزول، فلا يبقي منه شيء كما لم يكن يَوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد، وأنّ الاعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلاّ أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل.
هل قرأت سورة الكهف؟
وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدي؟ وواجهوا كياناً وثنياً حاكماً، لا يرحم ولا يتردد في خنق أي بذرة من بذور التوحيد والارتفاع عن وهدة الشرك، فضاقت نفوسهم ودبّ إليها اليأس وسدّت منافذ الامل أمام أعينهم، ولجأوا إلى الكهف يطلبون من الله حلاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول، وكبر في نفوسهم أن يظل الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحق ويُصفّي كلّ من يخفق قلبه للحق.
هل تعلم ماذا صنع الله تعالى بهم؟
إنه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين في ذلك الكهف، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوته وظلمه قد تداعي وسقط، وأصبح تاريخاً لا يُرعِبُ أحداً ولا يُحرك ساكناً، كلّ ذلك لكي يشهدَ هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم.
ولئن تحققت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة بكلّ ما تحمل من زخم وشموخ نفسيّيْن من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مدّد حياتهم ثلاثمائة سنة، فإن الشيء نفسه يتحقق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد

(١١٩)

العملاق وهو قزم والشجرة الباسقة وهي بذرة والإعصار وهو مجرد نسمة.
أضف إلى ذلك، أن التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارات المتعاقبة، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوراتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود؛ لأنها تضع الشخص المدّخَر أمام ممارسات كثيرة للآخرين بكلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوة، ومن ألوان الخطأ والصواب، وتعطي لهذا الشخص قدرة أكبر على تقييم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل علي أسبابها، وكل ملابساتها التاريخية.
ثمّ إن عملية التغيير المدّخرة للقائدة المنتظر تقوم علي اساس رسالة معينة هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الاُولى، قد بُنيت شخصيته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضارة التي يُقدّر لليوم الموعود أن يحاربها.
وخلافاً لذلك، الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتنفتح أفكاره ومشاعره في إطارها، فإنه لا يتخلص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها، وإن قاد حملة تغييرية ضدها.
فلكي يُضمن عدم تأثر القائد المدّخر بالحضارة التي أُعدّ لاستبدالها لابدّ أنتكون شخصيته قد بُنيت بناءً كاملاً في مرحلة حضارية سابقة هي أقرب ما تكون في الروح العامّة ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجه اليوم الموعود إلى تحقيقها بقيادته.
ومن هنا يدخل الانتظار قيمة حضارية تخلق (الامل) و(المقاومة) و(الحركة) التي تؤدي في غالبية الاحوال إلى الخلاص أو التمهيد للخلاص فالأمل يسلح المرء برؤية تخترق قضبان الزمن إلى المستقبل المشرق فتستحيل عذابات الحاضر إلى

(١٢٠)

اختبار وامتحان يلزمه الصمود والصبر والمقاومة ويكون صبره لا خنوعاً ومقاومته لا تحملاً فقط وانما مواجهة حقيقية لتغيير الواقع.
ونحن ندرك أن قانون التغيير يعتمد معادلة طرفاها الله سبحانه والانسان: (انا لله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم) فالفعل التغييري يتوقف علي حركة الإنسان هذه الحركة التي تؤهله لعملية التغيير.
ونذكر مرّة أخرى بالحركة التمهيدية التي تسبق ظهور الإمام الغائب والتي تنسجم تمام الانسجام مع فكرة الانتظار بمعناها الايجابي ومخزونها الحضاري.
ومراجعة للاحاديث التي تتعلق بجهود الموطئين توضح المساحات الجغرافية المترامية التي تنهض بهذه المهمة التغييرية.
فهناك رايات سود تظهر في الشرق تتقدم نحو النصر بخطي ثابتة حتى تسلّم اللواء إلى رجل من أهل البيت.
وهناك راية تظهر في خراسان تقاتل السفياني حتى تصل بيت المقدس تمهد للمهدي حكومته.
وتمتد هذه الحركة من ايران إلى اليمن لتتكلل فيما بعد في الحجاز والعراق ومشاريع التمهيد ستكون واسعة وكبيرة جداً ومصيرية وسيحتدم الصراع في البداية مع ثقافة الاستكبار التي تحاول قهر العالم الإسلامي وتذويب شخصيته وكيانه قبل أن يتطور الصراع إلى مواجهة تظهر فيها المدافع والطائرات من مخابئها.
وستكون هناك استجابة حقيقية لنداء القرآن الكريم: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا استَطَعْتُم مِن قُوَّةٍ).

(١٢١)

وفي هذا الفصل من فصول التاريخ الانساني ستبرز بشكل واضح ومدهش ثقافة الاستشهاد بعد هزيمة الثقافة التخاذلية التساومية.
وفي هذه المرحلة من تاريخ البشر سيتجلى أيضاً الحبّ الالهي، هذا الحبّ الذي يرشّد حركة الإنسان مذ كان طفلاً يحب والديه ثم أخويه وأخواته واصدقاءه ومن ثمّالي الحب الطاهر الذي يقوده إلى نصفه الاخر ليتكامل في ظل الشرعية والسير في الطريق المضيء طريق الفضيلة والخير والسلام.
ولدينا نموذج متألق في ما حدث في ايران فثقافة الانتظار الايجابي والايمان الراسخ بالمصلح الغائب وحضور النائب هي وراء انتصار الثورة الإسلامية بقيادة السيد الخميني.
وليس هناك من ينكر أن الدعاء وخاصّة الدعاء من أجل المهدي!
(اللهم كن لوليّك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلي آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة، ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعينا حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً) وكذا دعاء الشكوى والالم والاستعانة من أجل التغيير: (اللهم إنّا نشكو اليك فقد نبينا وكثرة عدونا وقلة عددنا وشدّة الفتن بنا وتظاهر الزمان علينا.. اللهم إنّا نرغب اليك في دولة كريمة تعزّ بها الإسلام وأهله وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والاخرة). وغيرهما يشكل جزءً من المخزون الروحي الذي أهل الشعب الايراني وقاده في دروب الجهاد والثورة.
وفي ضوء ما تقدّم نستوعب ما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) قوله: أفضل أعمال متى الانتظار.
فالانتظار حركة باتجاه التغيير وليس توقفاً بانتظار الخلاص.

(١٢٢)

عالم الغد

ليست هناك من حدود فاصلة بين ما نطلق عليه الماضي والحاضر والمستقبل، ذلك ان مسار الزمن يبقي متصلاً حتى يبلغ الكتاب أجله.
أنه لا يعني ان ما يقع فيه من حوادث سيكون متكرراً بصورة وأخري فهو ينطوي في حركته علي غائية ما نجهلها ونحاول الكشف عنها.
من هنا وبسبب ميل فطري لدي الإنسان قديماً وتجسّد في محاولات الكشف عن استار الغيب وحوادث الغد ظهرت أخيراً مراكز علمية لاستشراف المستقبل.
وتنامي الاهتمام بالدراسات المستقبلية في عالم اليوم فأصبحت لدي بعض الامم جزءاً حياتياً من نشاطها وكفاحها فهناك رغبة قوية في استشراف المستقبل للتحكم فيه والسيطرة عليه في عملية التغيير الاجتماعي.
مع التأكيد علي أن الدراسات الاستشرافية عادة ما تنهض علي مجموعة من الاهداف والغايات وفي ضوئها تصاغ الخطط المستقبلية.
وبالرغم من ان الدراسات تهتم بالمستقبل علي مديات زمنية متفاوتة ولكن الاهتمام ينصب علي الحاضر لاكتشاف جهة ما في حركة الواقع وقد يدخل الماضي أو التاريخ في صميم الدراسات لاستكشاف بعض القوانين الاجتماعية التي تدخل في صياغة المستقبل أو التأثير فيه.
ويتضمن الخطاب القرآني دعوة قوية لدراسة التاريخ للاعتبار، والاعتبار يعني اكتشاف البدائل والافادة من أخطاء الامم السابقة.

(١٢٣)

(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الاَْرْضِ فَانْظُرُوا كيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الْمُكذِّبِينَ).
وفي نفس الوقت نلاحظ وعداً الهياً عن المستقبل ان الساعة آتية لا ريب فيها؛ وقد (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ امَنُوا مِنكمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاَْرْضِ).
وسوف يحصل هذا ضمن قوانين اجتماعية وتاريخية لا تقبل التغيير (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).
ومسألة التخطيط ينبغي أن تتضمن نقطتين جوهريتين هما تحديد الغاية والوسيلة اضافة إلى تعيين اطار اخلاقي يرشدهما معاً فالوسيلة يجب أن تكون بمستوي الهدف، ولذا فأن معادلة أخلاقية دقيقة جداً تربط بينهما؛ ولا يمكن بايحال من الاحوال أن نبرر وسيلة ما بسمو الغاية مهما بلغت من درجة السمو.
وقد مرّت الانسانية في القرنين الاخيرين بعدّة تجارب تألقت في أحلامها وأمانيها وطموحاتها لافتات متألقة ومؤثرة، الديمقراطية، الاشتراكية.
ثم نرى من ناحية أخرى فكرة ثالثة بدأت دوراً كبيراً لا تنقص أهميتها عن دور الديمقراطية والاشتراكية في العالم.
يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي (فنحن نري فكرة السلام قد دخلت المجال القومي والدولي، وأصبحت في كل مكان شعاراً للسياسة ومنبهاً للأفكار في مختلف البلدان. نرى صوتها يرتفع في كل مناسبة، ونري الافراد والشعوب تصغي إليه بكل خشوع، لأنه يعبر أيضاً عن حاجة للإنسانية في القرن العشرين. فقد باتت اليوم كل سياسة ترفع لواء السلم مهما كانت النوايا وراء الكلمات والمواقف الظاهرة. إنها كحاجة تفرض نفسها.. سواء في المجال السياسي أو المجال الادبي.
فكل لسان اليوم حينما يتكلم، وكل قلم حينما يكتب فإنما ليعبر عنها طوعاً أوكرهاً. ولا يقوم من يهدد السلام بتصرفاته إلاّ باسم السلم في أقواله.
هذا هو واقع العالم اليوم، الواقع الجبار الذي يجذب إليه طاقات الإنسانية، وقوى التاريخ إلى مستقر لا يعلمه إلاّ الله.

(١٢٤)

والان ينبغي لنا أن نتساءل: ما هو موقفنا من هذا الواقع، حتى نعلم ما هو مركزنا وما سوف يكون عليه في العالم الجديد؟
إن علينا أن نفكر في طريقة تصوغ الجواب علي هذا السؤال في صورة محسوسة بقدر الإمكان. ونحن نستطيع أن نصل إلى هذا الهدف إذا جعلنا للكلام الذي تقدم صورة جغرافية... فنعطي لكل حاجة من الحاجات الثلاثة التي كشف عنها بحث نالوناً خاصاً. وذلك بأن نجعل اللون الازرق مثلاً يعبر عن الديمقراطية، واللون الاحمر عن الاشتراكية، واللون الاخضر عن السلام. فإذا ما وضعنا هذه الالوان الثلاثة علي الخريطة متبعين مبدأ الاولوية، اتباعاً يكون معه في المكان الواحد لون واحد يعبر عن الحاجة الشائعة هناك، أو علي النزعة السائدة في ذلك المكان، ثم استفتينا معلوماتنا العادية في هذه الامور والتاريخ والصحافة اليومية أيضاً في توزيع هذه الالوان، فإن الجواب سيجعل كل لون يستقر في رقعة معينة. ويحدد لنا قارة ايدلوجية معينة مطابقة لمبدأ من المبادي الثلاثة التي وزعنا بمقتضاها الالوان. وهكذا نري في النهاية أن لون الديمقراطية قد استقر علي مساحة الرقعة الجغرافية التي تطابق رقعة الحضارة الغربية، أي الرقعة التي تشمل أوربا الغربية وأميركا. وأن اللون الاحمر لون الاشتراكية قد جعل من الرقعة التي تنتشر عليها البلاد الشيوعية مقاماً. وأن لون السلام الاخضر قد أوي إلى شبه القارة الهندية.
وليس هذا يعني بالطبع أن روح الديمقراطية الخالصة تقطن البلاد الغربية وأميركا.. تلك البلاد التي انبعثت منها روح الاستعمار الخبيث ورائحته. وأن روح الاشتراكية لا توجد إلاّ في البلاد الشيوعية، فلقد نعلم أن بلاداً أخرى كالبلاد الاسكندنافية قد تحققت فيها أروع التجارب الاشتراكية، دون أي تعد علي حريات الفرد ودون أي عنف.
كما أننا لا نعترف أن الهند تمثل روح السلم الصرف دون استثناء، فلقد انبعثت منها أحياناً أنفاس لا تليق بروح المهاتما غاندي، روح اللا عنف، وذلك في بعض

(١٢٥)

المشاكل كمشكلة كشمير. ومع ذلك فإنه لا مجال للإنكار في أن الإنسانية اليوم تشعر بأنها تصغي لصوت السلام حينما يرتفع صوت نهرو في نيودلهي، أو صوت كريشنامينون في الامم المتحدة. ولقد أظهرت الازمة الاخيرة التي أثارتها السياسة الصينية علي حدود الهند أن الإنسانية لم تخطي في شعورها هذا، بل إننا لندهش إذ نرى الهند لم تغير موقفها إزاء الصين في الوقت الذي تطأ فيه الجنود الصينية ترابها.
وليس من خطأ التقدير أن نقول أيضاً إن البلاد الغربية تمثل الديمقراطية في العالم الجديد، مع علمنا بما في هذا التقدير من نسبية. وإن البلاد الشيوعية تمثل اليوم الفكرة الاشتراكية مع التنبيه أيضاً علي نسبية هذا التقدير.
هذا هو واقع العالم اليوم، فإذا أردنا أن نعلم مكاننا الان منه فإن علينا أن نرجع إلى الخريطة الايديولوجية التي رسمناها ونبحث عن لوننا أين هو؟ ولن نلبث حتى نجد رقعتنا علي هذه الخريطة بيضاء كتلك المساحات التي كانت تبقي بيضاء علي خرائط القرن التاسع عشر. إشارة إلى أنها لا تزال مجاهيل، لم يكتشفها علماء الجغرافية ولم يمسحوها. فرقعتنا إذن بحسب منطق حديثنا ذات لون أبيض، لأنها لا تمثل حاجة من حاجات الإنسانية الكبرى في القرن العشرين. فنحن في حالة تغيب عن العالم الجديد لأننا لا نري لوناً علي الخريطة يدل علي وجودنا فيه.
فإذا ما شئنا الجواب علي السؤال الذي أوردناه في صدر الحديث، فإننا سنعترف بأن مكاننا في المجمع العالمي سوف يكون تافها، لأننا لا نمثل مصلحة ذات أهمية عالمية.
وهنا يبدو سؤال جديد: هل هناك مخرج من مأزق كهذا؟ أم لابد أن نستسلم لليأس فنطأطئ الرأس أمام هذا الواقع؟ ونقتنع بوظيفة فراش في المجتمع العالمي؟
ويبدو لي أنه من اللائق أن نفكر في الاسباب التي أدخلتنا إلى هذا المأزق، قبل أن نفكر في الاسباب التي يمكننا بها الخروج منه. إن دوافع الحياة هي التي ورطتنا في الازمة التي نحاول منها الخروج. ورطتنا منذ أكثر من نصف قرن، حينما استيقظت

(١٢٦)

الشعوب العربية الإسلامية علي خطر الاستعمار، فقد كانت يقظتنا الفجائية دافعاً من دوافع الحياة وفي الوقت نفسه دافعاً من دوافع الخطأ.
فكان مثلنا كنائم استيقظ فجأة فوجد النار في غرفته، ودون أي تفكير ألقى بنفسه من نافذة الغرفة التي هي في الدور الرابع أو الخامس لينجو من النار.
فنحن قد ألقينا بأنفسنا من حيث لا نريد في هوة التقليد حتى ننجو من الاستعمار. إننا نفكر في الخلاص تفكيرا معقداً؛ وإنما دفعتنا دوافع لا شعورية لتقليد حضارة الاستعمار حتى نعصم أنفسنا منه. ولقد دعانا هذا إلى السير في الطريق التي شقته الشعوب الغربية أمامنا علي أنه يوصلنا إلى ما وصلوا إليه.
ولا شك أن هذا ممكن لو أننا نسير جميعاً دون دخل للوقت والتطور في حياتنا.
ولكننا نتطور نحن ومن نقلده. وعليه فإذا سرنا علي مبدأ تقليده فسوف نقلده إلى ما لا نهاية. وهكذا كان الدافع الذي دفعنا في مطلع هذا القرن إلى الحياة قد دفعنا في الوقت نفسه إلى الخطأ فبتنا نسير في هذا الطريق، لان السابق إلى الشيء دائماً أولي به. ومن المسلم به أن من نقلده أسبق منا في هذا المضمار.
فلو أننا افترضنا أن الصاروخ هو في النهاية الغاية التي تريد الإنسانية تحقيقها وهذا افتراض لا نسلم به إلاّ جدلاً، فإن المجتمعات التي سارت قبلنا علي طريق الحضارة المادية سوف تصل حتماً إلى تلك الغاية قبلنا. وهكذا نصبح في النهاية نسير إلى غير غاية حققها غيرنا قبلنا.
فالخطأ إذن بين، ويزيده وضوحا أن تخرج القضية من إطار المنطق البسيط إلى منطق الواقع الصحيح: فنحن لا نري أن الذي قد حصل علي الصاروخ قبلنا ونقتفي أثره عن طريق الحياة المادية، حقق بذلك غاية الإنسانية، فأشبع حاجة من الحاجات الكبرى التي نريد اشباعها، بل نراه هو نفسه يخشي الصاروخ الذي في يمينه والقنبلة الذرية التي في يساره، فهو يلوح بها لخصومه وأعدائه بيد ترتعش خوفاً مما

(١٢٧)

تحمل، فهل نؤمن - والحالة كما ذكرنا - أنه بما حصل عليه في طريق الحضارة المادية، قد أسعد نفسه أو أسعد الإنسانية؟
فالخطأ واضح إذن من الجانب النفسي والاخلاقي والمنطقي معاً. وبهذا يتبين لنا كيف دخلنا في المأزق وبقي أن نتساءل: كيف نخرج منه؟
قد وضح مما بينا أننا دخلنا إليه عن طريق التقليد، فلم نفكر في مسلكنا حينما استيقظنا بل سرنا مقلدين لا مبتكرين؛ وأري الان أن نتمهل فنراجع أنفسنا، فإن الاعتبارات التي قدمناها لا تدلنا علي أنه ينبغي علينا أن نستغني عن نتائج الحضارة المادية، وإنما أن نقدرها بالنسبة لوضعنا، في عالم أصبح فيه نوع جديد من التخصص. لا تتخصص فيه الافراد فحسب كما كان الامر من قبل، لإشباع حاجات الحياة المادية، ولكن تتخصص الكتل البشرية لتسد كل حاجة من الحاجات التي تتضمنها الحياة الإنسانية الايديولوجية.. وتحقق لها في المجتمع العالمي مكاناً..

فإذا ملكنا الصاروخ فمرحباً به لخدمة الإنسانية، ولكن مع العلم أنه قد وصل إلى يد غيرنا قبلنا. وإنه مع ذلك لا يشبع حاجة من الحاجات الإنسانية.
وعلي ضوء هذه الاعتبارات، علينا أن نراجع أنفسنا ونتساءل: ما هو المخرج؟ إنه في أن يكون في نشاطنا الروحي ما تعترف به الإنسانية كحاجة مثل الديمقراطية والاشتراكية والسلم، حاجة لا بد من إشباعها.
ونحن حين نضع المشكلة هكذا فإنه يبقي أن نعلم هل لهذه المشكلة حل في هذه الصورة؟ وبتعبير آخر، هل في أنفسنا بصفتنا عرباً وفي أرواحنا بوصفنا مسلمين منبع ينبع منه خير للإنسانية؟
إنه يمكن الخطأ في الجواب، ولكن هذا لن يقلل من أهمية السؤال. يمكن لي أن أخطي في رأيي الخاص أمام هذا السؤال، ولكن هذا لا يغير من صورة القضية، فإنه يجب أن يكون في نشاطنا شيء تعترف به الإنسانية بوصفه حاجة من حاجاتها، شيء يضمن لنا مركزاً كريماً في المجتمع العالمي.

(١٢٨)

وأنا هنا سوف أبدي مجرد رأي.. ولا ضير أن يأتي غيري برأي أحسن منه شريطة أن نظل في صلب القضية، فإن حاجة الإنسانية لا تتمثل في الديمقراطية وحدها، التي فيما يبدو قد استأثر بها الغرب، ولا الاشتراكية وحدها التي - فيما يبدو - قد تخصصت بها البلاد الشيوعية ولا السلم وحده الذي قد رفعت رايته الهند، فهنا كفي نظري مجال نستطيع فيه أن نسجل بلون خاص وجودنا علي الخريطة الايديولوجية. إن الإنسانية في حاجة - عامة - إلى صوت يناديها إلى الخير، وإلى الكف عن جميع الشرور، وإنها الحاجة أكثر إلحاحاً من سواها، لان الإنسان توّاق إلى الخير بفطرته، وإنما تحرمه منه معوقات مختلفة تكونها الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أحياناً، غير أنه حينما تؤثر هذه المعوقات في سلوكه فتجعله يكذب أو يسرق أو يظلم أو يقتل فإنه يشعر بالحرمان.
إن الطيار الامريكي الذي ألقي القنبلة الذرية الاولى علي هيروشيما، قد دفعته إلى عمله دوافع مختلفة يسميها البطولة الوطنية، دوافع كونتها في نفسه ثقافته وبيئته. غير أنه حينما انجلي الانفجار الهائل في الافق، وكشف عن أطلال مدينة كاملة، وظهرت الأكداس من الجثث الممزقة الموقوذة المشوهة، ظهر بين تلك الاطلال الحزينة وفوق تلك الأكداس الرهيبة وجه الشر، وكأنما ارتفعت منه ضحكة نكراء، إنها ضحكة الشر المنتصر، قد وصل صداها إلى أذني ذلك (البطل) الذي سحق المدينة بقنبلته الفتاكة.
ولقد حاول أن يتوارى عن ذلك الوجه المفزع، وأن يُصم أذنيه عن تلك الضحكة المزعجة، فأطلق لطائرته سرعتها حتى يغير من ذلك المنظر ويبدل من ذلك الصوت، ولكن هيهات أن يزايل المشهد مخيلته أو يهدأ رنين الصوت في أذنه، فإنه يحمله في نفسه، في فطرته، في ضميره الذي تحرك حينما رأى سوء عمله.. لقد فرو أمعن في الفرار، ولكن ذلك لم يجعله في نجوة من شعوره بالإثم، ومن رؤيته لوجه الشر سافراً فوق الاطلال المحطمة، ومن سماع ضحكته الصاخبة فوق الجثث الهامدة.

(١٢٩)

فر من الجيش، من الحياة العائلية، من الاصدقاء، من الملذات، وأوي أخيراً إلى دير عله يجد في العزلة تسلية.
إن في هذه الحادثة لعبرة. إنها تشير إلى أن الإنسان لا يفقد من نفسه معنى الخير كله مهما أحاطت به دوافع الشر. لان الاصل في قلبه الخير والشر عارض. وإن هذا ليعني أن الخير حاجة تشعر بها النفس شعوراً عنيفاً، كذلك العنف الذي تجلي فيسلوك الطائر الامريكي بعد عودته من هيروشيما.
ويخلص المفكر الراحل إلى مشروع انساني جديد قائلاً:
(ونحن حينما ندقق الاشياء نري أن الدوافع النفسية التي تعبر عنها فكرة الديمقراطية أو فكرة السلام، إنما هي في الواقع دوافع واحدة في صور مختلفة: إنها دوافع الخير في نفوس مختلفة. وإن هذا يعني (بعدما تصح هذه الملاحظة) أن في النفس مجالاً لفكرة الخير، وأن من يرفع راية الخير قد يسد حاجة تشعر بها الانسانية في أعماقها، ويحقق لنفسه مكاناً كريماً في المجمع العالمي.
وفي هذا المجال يمكن أن يكون مجالنا إذا حققنا في سلوكنا معنى الآية الكريمة: (وَلِتَكن مِنكمْ اُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ).
فإذا ما تحققت هذه الآية في سلوكنا العام، بوصفها تخصصاً لمجتمعنا بالنسبة لحاجة الإنسانية، فسوف نكون قد لقينا علي الخريطة الإيديولوجية لوناً يجعلنا من أكرم سكان المجمع العالمي. وأنا أتعمد شيئاً حينما أقرن الخير بالسلوك، فالسلوك هو الذي يحقق في الواقع معنى الخير المجرد. فليس الخير مجرد حقيقة نعلمها أو نقولها، مجرد حقيقة تقبلها العقول، وربما تنفر منها الانفس أحياناً إذا لم يكن الخير في صورة محببة للناس، إذ ربما يحدث دوافع سلبية لا تشبع في أنفسهم حاجة لخير، بل تحدث فيها حالة حرمان.

(١٣٠)

وقد كرر القرآن الكريم النصائح في هذا الاتجاه إذ يقول للنبي: (وَلَوْ كنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِك). أو حينما يقول له بصفة عامة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذا الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
فهذا هو - فيما أري - شرط دخولنا في المجمع العالمي. ونحن حينما ندخل إلى هذا المجمع غير مقلدين، فإننا سنكون أسبق من غيرنا إلى وظيفة، تسد حاجة من حاجات الإنسانية الكبرى في القرن العشرين، ولحققنا بذلك لأنفسنا مكاناً كريماً في العالم الجديد.
ولكن أيّة لافتة يمكن أن ترفع بعد أن تبدد بريق اللافتات الأخرى وما الذي يمكن أن يصبح هاجس الضمير العالمي في هذا المقطع من تاريخه المرير؟
خاصّة وان لافتة جديدة هي (العولمة) باتت تثير مخاوف الامم والشعوب وتدفع شبابها إلى التظاهر ضدها كخطر يهدد كيان الشعوب وهويتها!
ولقد أنت البشرية من الاستبداد فظهرت الديمقراطية كنافذة للخلاص ثم ضغطت الرأسمالية بشدّة علي الضمير الانساني فتألقت الاشتراكية كطريق مضيء، وتعذبت بسبب الحروب والصراع فأشرقت فكرة السلام في ضميرها ووعيها..
وها هي الانسانية تعيش الظلم بكل مستوياته وأصعدته وأصبحت العدالة هاجساً يراود أحلام المظلومين في كل مكان.
وهناك نقطة ينبغي اثارتها في الدراسات المستقبلية وهي تجاوزها حالة الاستشراف الذي ينجم عادة عن الاعتراف بالواقع، فيما المطلوب التخطيط لصياغة مستقبل أفضل فالـ(سوبرمان) الذي أفرزته الحضارة الغربية فلسفياً هو انسان خارق يقوم بدور انقاذي محدود جداً لأنه لا يستطيع التدخل في مسار التاريخ.

(١٣١)

ولذا نجد الدراسات المستقبلية في الغرب تتضمن الاعتراف بالواقع الحضاري الغربي ومحاولة صياغة عالم ينسجم ويستجيب للنمط الغربي وسلطته.
وقد اخترنا دراسة الاستاذ نادر فرجاني القيمة مصدراً فيما سنورده في هذه السطور حول الدراسات المستقبلية وقد استهل دراسته بالإشارة إلى خطوة لها مغزاها وهي اجتماع ثلاثين شخصية علمية في (روما) لمناقشة المعضلات الحالية والمستقبلية التي تواجه البشرية.
واستهدفت هذه الخطوة العلمية الهامة دراسة المشاكل المعقدة التي تواجه البشر في العالم وهي: الفاقة، تدمير البيئة، فقدان الثقة بالمؤسسات، الانتشار الحضري المنفلت، اغتراب الشباب، رفض القيم التقليدية، التضخم والاضطرابات النقدية والاقتصادية الاخرى، واصطلح علي تسميتها مجموعةً (مشكلة العالم) ومن المهم كما يقول الاستاذ الاشارة إلى ان التوصيف المقدم أعلاه لمشاكل العالم يأتي من منظور الغرب المصنِّع وهو بالتأكيد لا ينطلق من الهموم الجوهرية لغالبية البشرية.
وتنتقل الدراسة إلى (نموذج باريلوتشي) للعالم ومن الضرورة الاشارة الى موطنها في العالم الثالث وهو مشروع تخطيطي أكثر من استشرافي معياري أي (يحاول رسم طريق يوصل إلى غاية محددة سلفاً. وهذه الغاية هي عالم متحرر من التخلف والبؤس).
وكلمة (نموذج) التي استعملت في المشروع تتضمن اشارة إلى مفهوم (المجتمع المثالي).
كما ان الدراسة التي انجزها العلماء جاءت ردّاً علي المدرسة الفكرية للغرب والتي ترجع مشكلة العالم إلى النمو السكاني، لكن نموذج باريلوتشي يختلف جذرياً وهي

(١٣٢)

لديه (ليست حدوداً طبيعية تتعارض مع النمو السريع للسكان، ولكنها اجتماعية - سياسية تنجم عن التوزيع غير المتكافئ للقوة بين خارج البلاد وداخلها. ومن ثم فإن المجتمع المثالي الموصوف يقوم علي أن الإنسان لن يتحرر من القهر والتخلف في نهاية المطاف الاّ عن طريق تغييرات جذرية في التنظيم الاجتماعي السياسي للعالم).
وينتقد النموذج بداية نموذجي التنظيم الاجتماعي السياسي السائدين في العالم المعاصر الرأسمالي والاشتراكي بتنويعاتهما القائمة حالياً.
فالنموذج الرأسمالي يقوم علي الملكية الخاصة والربح ويؤدي إلى طبقية تدمّر أسس المساواة وتنمّي نوازع السيطرة والاستغلال والمزيد من اغتراب الانسان.
كما ان النموذج الاشتراكي قد عرّته التجربة التاريخية وكشفت عن ظهور بيروقراطيات الحزب والدولة التي تحولت إلى مراكز سلطوية أفضت إلى فروق اجتماعية تنهض علي مدي الانتماء إلى الاقلية الحزبية التي تمسك بأزمّة السلطة والحكم.
ونموذج باريلوتشي يتبني قيمتين اساسيتين في رؤيته للمجتمع المنشود هي المساواة الاساسية بين البشر، ومفهوم التاريخ كعملية لا حدّ لها يتوقف اتجاهها في التحليل الاخير علي رغبات وأفعال البشر. الاولى تشكل الاساس الصالح الوحيد لبناء عالم يسوده الوفاق والثانية شرط أساسي لتحقيق هذا العالم.
ومن المهم هنا أن نثبت ما ورد في النقطة الرابعة والاخيرة من الوصف الاجمالي للمجتمع الجديد:
(يوفر تطبيق هذا النموذج في عدد متزايد من بلاد العالم الظروف الاساسية لخلق نظام عالمي متوافق قادر علي نشر العدالة، الرفاهية والديمقراطية وعلي اقتلاع جذور

(١٣٣)

الحرب ويمكن أن يؤدي إلى نشوء شكل من التنظيم الدولي يحترم حرّية وذاتية كلا لدول، ويروج للاندماج التدريجي في جماعة دولية متحررة من النزعات الاقليمية.
ويؤكد النموذج علي ضرورة مراجعة المفهوم الشائع الذي يفترض انه ما دامت الأرض محدودة، فلا بد أن تكون مواردها محدودة كذلك. وهذا بالقطع صحيح. ولكن المغالطة التي تقدم كبرهان دامغ علي الكارثة القادمة التي ستحل بالعالم نتيجة لاستمرار تزايد السكان، تخلط بين المحدودية والنفاد.
بخلاف استثناءات قليلة، لا تفقد الكميات الهائلة من المعادن في قشرة الارض بمجرد تعدينها واستعمالها، ولكنها تستمر لتكون جزءً لا يتجزأ من الموارد المعدنية للكوكب. فقد تدخل مؤقتا في سلع رأسمالية أو استهلاكية، وقد تدمج كيميائيا مع عناصر أخري. ولكن، علي الرغم من هذا، تبقي ولا تفني. وقد أثبت الفن الانتاجي الحديث قدرته علي إيجاد طرق لاستخلاص الموارد من أكثر التركيبات الجيولوجية تنوعا، وعلي تدوير المواد التي استخدمت قبلا، مرة أو أكثر في استخدامات جديدة.
أما بالنسبة لموارد الطاقة، فقد أظهرت دراسات باريلوتشي أن الهيدروكاربونات، في صورة سوائل وغازات، يحتمل أن تبقي لمدة مائة عام تقريبا، بينما قدر أن هناك ما يكفي من الفحم، علي معدلات الاستهلاك الحالية لمدة حوالي أربعة قرون. ولكن مصدر الطاقة المستقبلي الاهم هو الوقود النووي. وكان التقدير أن الاحتياطيات المحتملة من اليورانيوم والثوريوم تكفي لسد الاحتياجات من الطاقة إلى الابد تقريباً. وعليه، فإنه لا يوجد داع، من منظور التوافر المادي، لتوقع مشاكل في مصادر الطاقة في المستقبل المنظور. وتؤكد الدراسة أن أزمة الطاقة التي ركز عليها الغرب المصنِّع هي، في المنظور التاريخي، ذات طابع عرضي.

(١٣٤)

وتفرق دراسات باريلوتشي بين التلوث في البلدان الغنية والفقيرة. في الاولى يقترن التلوث بتوسع النشاط الصناعي، والاعداد المتزايدة من السيارات وغيرها من معالم معدلات الاستهلاك المرتفعة. وضبط هذا النوع من التلوث ممكن شرط وجود سياسات مكافحة مناسبة. أما في البلاد المتخلفة، فينتج التلوث من الفاقة: تلوث الماء، أوضاع سكن سيئة، غياب الصرف الصحي، الخ... والحد من هذا النوع من التلوث رهن بإشباع الحاجات الاساسية. وختاما، فإن النمو الاقتصادي لا يرتبط بالضرورة بزيادة التلوث. وعليه فإنه يمكن ضبط كل أنواع التلوث تقريباً إذا تم اتخاذ القرارات المطلوبة، وتنفيذ الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية اللازمة.
وإحدى السمات الرئيسية للنموذج التي تميزه عن أغلب النماذج التي بنيت حتى وقت إعداده، وخاصة تلك التي تمت في إطار نادي روما، هي أن حجم السكان يولد داخليا بواسطة نموذج فرعي يربط المتغيرات السكانية بالمتغيرات الاجتماعية الاقتصادية. ويعكس هذا النموذج الفرعي أحدي المقومات الاساسية لمشروع باريلوتشي، وهو أن الطريقة الوحيدة الكافية لضبط نمو السكان هي تحسين مستويات المعيشة.
لا ريب أن مشروع باريلوتشي هو من أهم الاعمال في مجال الدراسات المستقبلية التي تناقش مصير البشرية. وتعود أهمية هذا العمل إلى تبنيه، صراحة، لوجهة نظر اجتماعية - سياسية محددة، والي بعض النواحي الفنية، التي ألمحنا لبعضها فيما سبق.
ولكن مشروع باريلوتشي يكتسب قيمة كبيرة من حيث كونه العمل الكبير الوحيد في ميدان الدراسات المستقبلية الذي نبع من العالم الثالث تعبيراً عن رفض كثير من الاوضاع السائدة في العالم وقت إعداده، بما في ذلك الدراسات المستقبلية، وكشفا لخلفيات هذه الاوضاع، واستشرافا لمستقبل أفضل وأكرم لكل البشر.
لقد بين النموذج الرياضي إمكانية إشباع الحاجات الاساسية لأغلب سكان العالم

(١٣٥)

حول مطلع القرن القادم، إذ ما طبقت السياسات المقترحة للوصول إلى المجتمع المثالي في رؤى باريلوتشي. وأظهر مشروع باريلوتشي برمته أن العقبات التي تقف حاليا في سبيل تحرر البشرية من الفاقة والبؤس ليست طبيعية أو اقتصادية بالمعني الضيق، وليست النمو السريع في حجم السكان. ولكنها في الاساس، اجتماعية - سياسية.
وعليه فإن مشروع باريلوتشي قد أكد لنا أن مستقبل البشرية لا يتوقف، في النهاية، علي عقبات طبيعية لا تذلل، وإنما علي عوامل اجتماعية وسياسية هي من صنع البشر، وبالتالي فإن في مقدورهم تعديلها وصولا لوجود إنسان أغني، ولكن أين العالم من هذا المسعى، بعد أكثر من سنوات عشر علي نشر نتائج المشروع؟ هل اقترب العالم من مجتمع باريلوتشي الجديد؟ أم زاد احتمال الكارثة؟
وليس مشروع باريلوتشي، للأسف، الأكثر انتشارا في مجال الدراسات المستقبلية لمصير البشرية، حتى في العالم الثالث. وإن كان في هذا الامر مدعاة للأسف، إلاّ أنه ليس بمستغرب. فمشروع باريلوتشي قام ضد كل العناصر المهيمنة فيبني القوة الحالية في العالم. ومن الطبيعي أن تحارب هذه العناصر انتشار مثل هذه الرؤى التي تنتصر للفقراء وتدعو لتقويض أركان الهيمنة والاستغلال في العالم.
فمازلنا نعيش في عالم يعاني فيه الكثير من سكان الجنوب من نقص وسوء التغذية، بينما يشكو الغرب المصنع من عبء بحيرات الحليب وجبال الزبد، أما عن تردي أوضاع التعليم والسكن في البلدان النامية فحدث ولا حرج، وعوضا عن تكريس المشاركة والمساواة نجد اتجاها متعاظما لتكريس القهر وتهميش الناس خاصة في بلدان العالم الثالث. وبدلا من تعميق قيم المساواة، نواجه استقطابا متزايداً داخل مجتمعات العالم الثالث، وعلي صعيد النظام الدولي.
ويرتبط ذلك كله بموجة قوية من زيادة الاندماج في النظام الرأسمالي العالمي عمت العالم منذ منتصف السبعينات تحت شعار (الانفتاح الاقتصادي)، حتى قاربت الاشتراكية أن تكون كلمة قذرة، وفي النهاية، فإن محصلة هذا كله هي مزيد من تبني

(١٣٦)

مُثُل المجتمع الرأسمالي الغربي، ونمطه الاستهلاكي المدمر، وخاصة بعد أن اهتزت أهم المحاولات المعاصرة لبناء (الإنسان الاشتراكي) في الصين الشعبية.
والخلاصة، أننا نقدر أن العالم يقترب من الكارثة التي تنبأت بها دراسات ناديروما، ولكن لأسباب غير تلك التي زعمتها هذه الدراسات. إن الاقتراب من الكارثة يعود كما بينت دراسة باريلوتشي، إلى أسباب كامنة في أشكال التنظيم الاجتماعي - السياسي في العالم المعاصر.
ولا يمكن الاجتماع بواقع الحال في العالم علي مشروع باريلوتشي. فالمشروع لم يحاول التنبؤ بمستقبل البشرية، وانما قدم توقعات بما يمكن أن يكون عليه الامر اذا تحققت افتراضات معينة حول السياسات الكفيلة بالتحرك صوب المجتمع المنشود. وحيث إن الافتراضات لم تحقق، فلا يتصور عاقل أن تحقق النتائج المترتبة عليها.
إن رؤى باريلوتشي تبدو لنا كمولود بهي الطلعة، مبشر بالخبر، ما لبث انعصفت به تصاريف واقع غاشم لكن يبقي الامل ما بقيت الذكري، والمذكرون.
ان هذه الدراسة التي انجزها فريق باريلوتشي تنطوي علي قيمة بالغة الاهمية ذلك أنها لا تستشرف المستقبل علي أساس مجريات الواقع ومعطيات الظروف وانما هي محاولة رسم مستقبل جديد.. مستقبل يتوقف علي اجراء تغييرات جوهرية اجتماعية وسياسية وهي مهمة اصلاحية كبرى تستلزم توفر شروط روحية وشعور عميق بالمسؤولية الاخلاقية ازاء المصير الانساني.
يقول الإمام الشهيد محمد باقر الصدر:
ان اقامة الحق والعدل وتحمل مشاق البناء الصالح بحاجة إلى دوافع تنبع من الشعور بالمسؤولية والإحساس بالواجب. وهذه الدوافع تواجه دائما عقبة تحول دون تكونها أو نموها.

(١٣٧)

وهذه العقبة هي الانشداد إلى الدنيا وزينتها والتعلق بالحياة علي هذه الارض مهما كان شكلها، فان هذا الانشداد والتعلق يجمد الإنسان في كثير من الاحيان ويوقف مساهمته في عملية البناء الصالح، لان المساهمة في كل بناء كبير تعني، كثيراً من ألوان الجهد والعطاء وأشكالا من التضحية والاذى في سبيل الواجب وتحملاً شجاعاً للحرمان من أجل سعادة الجماعة البشرية ورخائها.
وليس بإمكان الإنسان المشدود إلى زخارف الدنيا والمتعلق بأهداف الحياة الارضية أن يتنازل عن هذه الطيبات الرخيصة ويخرج عن نطاق همومه اليومية الصغيرة إلى هموم البناء الكبيرة، فلابد لكي تجند طاقات كل فرد للبناء الكبير من تركيب عقائدي له أخلاقية خاصة تربي الفرد علي أن يكون سيدا للدنيا لا عبدا لها، ومالكا للطيبات لا مملوكاً لها، ومتطلعاً إلى حياة أوسع وأغني علي الأرض هي تحضير بالنسبة إلى تلك الحياة التي أعدها الله للمتقين من عباده).
وتبقي الاشارة إلى سبب اختيار هذه الدراسة ونجمله في نقاط منها انها دراسة اكاديمية علمية كما أن ظهورها خارج العالم الإسلامي يشكل بعداً آخر في اهميتها علي أساس تحررها الكامل من أية تأثيرات مسبقة من قبيل النبوءات الدينية والمؤثرات الفكرية والاسطورية.
المستقبل.. تأملات في حشد من المؤشرات
نحاول أن نلج هذا الفصل من خلال النبوءة القرآنية في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).
ومن خلال هذه النبوءة نتصور اتجاه البشرية إلى يوم موعود ووراثة الانسان الصالح الأرض وفاعلية القانون الاجتماعي الذي حدّدته آية قرآنية أخرى وهي قوله تعالى: (إن اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ).
ونحن نعرف جميعاً أن البشارة والنبوءة تتمحور حول ظهور الإنسان المنقذ في

(١٣٨)

فصل تاريخي تئن فيه الأرض من ويلات الظلم والعذاب، فيرفع راية العدالة ويملا الأرض خيراً بعد أن يطهرها من الشرور.
كما نعرف أيضاً أن هناك دائرتين واسعتين تكادان تتقاسمان العالم هما الدائرة الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة الامريكية والكيان اليهودي السياسي الغاصب في فلسطين ودائرة العالم الإسلامي والتي ينتمي اليها المستضعفون في الأرض علي أساس المساحة الانسانية المشتركة وهموم المصير.
ولان اميركا في الوقت الحاضر تمثل أو تحاول الظهور بمظهر القطب الأكبر في العالم بعد انهيار منافسها التقليدي فستكون نموذجاً عند الحديث عن الغرب اضافة إلى علاقتها الاستراتيجية مع اسرائيل هذه العلاقة التي تكتسب اهمية بالغة لارتباطها الوثيق بمصير الامة الإسلامية واحتمالات نشوب صدام مصيري مع الكيان الاسرائيلي.
اميركا هي تطور سيء للحضارة الغربية، التي تعاني من تمزقات في نسيجها الداخلي يهددها بالأفول.
وبالرغم من أن العلم الذي نهضت عليه الحضارة الغربية في انطلاقتها وتفوقها المادي فانه بالذات قد استحال غدّة سرطانية يهددها بالموت.
ذلك أن انفصالاً رهيباً قد وقع بين الضمير الانساني والعلم ولان الحضارة الغربية كانت مفتونة بالعلم الذي اضحى لديها كعجل السامري، فقد انتهي دور الضمير في بلورة قيم أخلاقية يمكنها أن ترشّد أو تحدّ من جموح حضارة مجنونة بكشوفها وآلاتها.
واصيبت الحضارة الغربية بتضخم الذات أو بنرجسية خطيرة.
(ولكن هذه (الذات) قد قامت في الواقع بدور (تلميذ الساحر)، فلقد أبدعت آلات لم تستطع السيطرة عليها، ثم استنامت لتلك الآلات تقودها بعقل آلي، وتزد ردها في أحشائها من جديد فصارت الحياة أرقاماً، واضحت السعادة مقيسة

(١٣٩)

بعدد ما لديها من وحدات حرارية وهرمونات، وصار العصر عصر (كم) يخضع الضمير فيه للنزعة الكمية، كما صار عصر النسبية الاخلاقية، حيث استهل قرنه بالمبدأ القائل: (كل شيء في الحياة نسبي)، فلم يعد أحد يدرك معنى (الفضيلة المطلقة)، بل إن الكلمة نفسها قد أضحت من المعميات، أضحت كلمة ميتة لا معنى لها، لان القرن العشرين وهو قرن العقل الوضعي الذي يشبه عقل الالة، لم يعد يفهم شيئاً وراء التصورات النسبية للمادة.
لقد مات معنى الفضيلة (المطلقة)، من الوجه الذي مات منه مفهوم (العدالة) فيقول أحد الاوربيين:
(إن تسوية جائرة خير من قضية عادلة)، وصارت الحياة الاقتصادية نفسها إلى مصيرها، يوم وجد بعض الناس في أنفسهم قحة وجرأة ليؤكدوا أن (التجارة هي السرقة الحلال).
وهكذا نجد أن أوربا النازعة إلى (الكم) وإلى (النسبية) قد قتلت عدداً كبيراً من المفاهيم الاخلاقية، حين جردتها من أرديتها النبيلة، وأحالتها ضروباً من الصعلكة، وكلمات منبوذة في اللغة، طريدة من الاستعمال ومن الضمير، وكأنما صارت القواميس (أحياناً) مقابر لكلمات لا توحي بشيء، لان مفهومها لا ينبض بالحياة.
ولقد تعاظم خطر تلك النزعة الكمية في أوربا طبقاً (للعامل المضاعف) المتمثل في القوة الفنية، والذي تملكه صناعة غزت العالم، كأنها أخطبوط يضاعف بصورة هائلة شهوة الإنسان إلى المادة، فهي تملي علي الطفل اتجاهه في الحياة، بحيث لا يختار طريقه فيها إلاّ وقد وضع نصب عينيه ما يأخذ من المجتمع لا ما يعطي، إنه يبحث عن حظه لا عن رسالته، وتلك طريقة جيدة لإعداد مدير المستقبل في المستعمرات، لان ذلك الموظف لم يعد لديه أدني قدر من التحفظ الذي يحول بينه وبين الاخذ بمبدأ النسبية الاخلاقية في بلاده، بل والمضي فيه إلى أبعد مدي. فهناك في المستعمرات

(١٤٠)

تسلك الاخلاق النسبية في نفوس الناس باسم (السيادة القومية)، وبذلك يسقط قناع (التحفظ) كأنه مسحوق يذوب بحرارة الشمس، في جو حميت فيه الشهوات المنطلقة، والغرائز المطلقة، فالناس ما بين راغب وآخذ.
والناس في أوربا ذاتها، قد لزمهم ما درجوا عليه في حياة المستعمرات من عادات وأذواق وأفكار، فلم تعد مطامحهم تسعى لإدراك (علة) الشيء، ولا (كيفية) حدوثه، وإنما هي متعلقة بالبحث عن (الكم)، غير أنهم يحاولون نفاقاً أن يستروا هذه النزعة بما يتيسر لهم من البلاغة واللسن، لكن هذه البلاغة سرعان ما تختفي لتنكشف الامور علي حقيقتها، وتتسمي بأسمائها، فإذا بالقط قط، وقد كان منذ قليل نمرا، وإذا بالنزعة الكمية تشمل مرافق الحياة الاجتماعية جميعاً، في الإنتاج، وفي عمليات الدفع والشراء، بل وفي عملية الأكل أيضاً، فالحياة تجري علي سنن(الكم) وحده.
لقد أصبح (الرقم) سلطاناً في المجتمع الفني الالي الذي قام بأوروبا منذ عام1900، وصار الإحصاء لا معقب لحكمه، فليس للفطرة الإنسانية، أعني الضمير الإنساني ذاته، دخل في الحياة الجديدة، شأنه في ذلك شأن ما لا يدخل في عداد الارقام، ولا يقاس بالكميات. وبذلك أصبحت حياة الإنسان وظيفة تكمل الارقام فالماكينات هي التي تحرر وتحسب بل وتسخر الإنسان في حركة اجهزتها).
وهذا ما جعل مبدع (الساعة الخامسة والعشرون) يسجل هذه النبوءة: (ان انهيار المجتمع التكني هذا، سيعقبه اعتراف بالموهبات الانسانية والعقلية، وسيشرق هذا النور العظيم من الشرق ولاشك.. من آسيا..
ولكن ليس من روسيا.. ان الروس قد انحنوا خاضعين أمام نور الغرب الكهربائي..

(١٤١)

لذلك لن يعيشوا ليروا الاشراق.. سيكتسح الإنسان الشرقي المجتمع التكني، وسيستعمل النور الكهربائي لإنارة الشوارع والبيوت.. لكنه لن يصير له عبداً أبداً... ولن يقيم الهياكل كما هو الحال اليوم في بربرية المجتمع التكني الغربي..
انه لن يضيء بنور (النيون) خطوط الفكر والقلب.. ان انسان الشرق سيجعل من نفسه سيّداً للآلات وللمجتمع التكني، مستعيناً بعقله كما يستعين رئيس الفرقة الموسيقية بعبقريته المستمدّة من الجرس الموسيقي..).
ومالك بن نبي يشير إلى نقطة هامة هي: (أن العالم الإسلامي لا يستطيع في غمرة هذه الفوضى أن يجد هداه خارج حدوده، بل لا يمكنه في كل حال أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن عليه أن يبحث عن طريق جديد ليكشف عن ينابيع إلهامه الخاصّة).
ومن خلال رمزية بعض الاخبار الواردة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يمكننا أن نتصور الدجال الاعور هو هذه الحضارة الغربية المادّية والتي نهضت بعين مفتوحة هي العلم وعين أخرى مفقودة هي الضمير فهي (تنظر الكون بعين واحدة تنظر إلى مادته دون الروح والخلق الرفيع والمثل العليا).
ويسجل المفكر مالك بن نبي ملاحظة اثبتها نموذج باريلوتشي عندما يقول: ولكن سخرية مؤسفة خيمت على هذا البؤس، فلأول مرة في التاريخ الانساني تصبح علة البؤس وفرة الانتاج، لا قلة الثروات، وتلك أمارة عبقرة القرن العشرين، فلقد استطاعت بعلمها أن تجعل من أسباب الرفاهية عوامل فاقة وشقاء. فأين إذا مكان الداء..؟ هل هو في تفوق المنحني البياني للإنتاج على منحني الاستهلاك..؟ هذه مسألة صبيانية!! فالفنيون الذين يلمون بمعرفة الحساب يعرفون كيف يصححون

(١٤٢)

المسائل، ويعيدون المنحنيات إلى مستوي معين، وبذلك يكون الحل رياضياً يتلخص في إعدام الفائض، فهذا أبسط شيء، وبهذه الصورة تم إحراق القطن والقمح والبن، على الرغم من أن شعوباً كثيرة لا تجد أثراً منها في بلادها. وهكذا وجدنا أن الحضارة التي أبدعت نظرية (مالتوس) القائلة بتحديد النسل للموازنة بين الثروة وبين مستهلكيها، تشرع في تطبيق هذا التحديد علي الاشياء المستهلكة لا على المستهلكين.
لم تنهض أية سلطة روحية للتنديد بتلك الفضيحة، فأولئك الذين كانوا يستطيعون إنقاذ أوربا من فوضاها الاقتصادية لم تكن حاجات الشعوب لديهم مربحة، فإن الشعوب المستعمرة العارية الجائعة لم تكن تستطيع أن تشترى شيئاً، فلقد اعتبرها المستعمرون مجرد أدوات للعمل، فخرجت بذلك من عداد المستهلكين.
إن النظام الذي خلق الفوضى في أوربا ذو صبغتين، فهو علمي واستعماري في آن، فإذا ما كان في أوربا فكر بمنطق العالِم، أما إذا انساح في العالم فإنه يفكر بعقلية الاستعمار، حتى إذا وافي إبّان الازمة عام 1930 كان المنطقان قد امتزجا، وبلغ الوحش بهذا الامتزاج أبلغ أحوال الضراوة.
وبتأملنا للظواهر في تخلقها، نجد أن حريق عام 1939، لم يكن سوى عودة للضرام، في لحظة نقم فيها ميكيافيلي على نفسه، وسخط الشيطان علي عمله، فهدم ما كان قد بناه، وتلك لحظة تهب فيها ريح القضاء المبرم علي شراع الإنسانية المشرع، حتى يبلغ القدر مداه، لقد علمنا رسول الله (محمد) (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو النبي الاجتماعي درساً قال فيه (من حفر مغواة لأخيه أوشك أن يقع فيها)، وكان أخوف ما يخاف علي أمته ما ترتكب من مظالم لا ما تتعرض له منها.
ولقد صدق تاريخ عصرنا لسوء الحظ هذا الحكم، فأوروبا التي كان عليها أن تهدي سعي الإنسانية، قد اتخذت من مشاعل الحضارة (فتيلاً) يحرق بدل أن يضيء، وفي ضوء ما أشعلت من نار أشاعت وهجها في المستعمرات حتى جارت

(١٤٣)

على أرضها هي؛ أوربا هذه رأينا الفوضى تنتشر فيها؛ نفس الفوضى التي أشاعتها في بقية أجزاء الارض، ونفس الضلال. بل إنها قد تجرعت نفس الكأس المحتوم؛ كأس الاستسلام لقوي الشر الاسطورية، نعم.. الاسطورية).
الدائرة الإسلامية
ان وجود اسرائيل في قلب العالم الإسلامي يؤكد الحالة المرضية التي تعيشها امتنا، كما أن غطرستها ومحاولاتها في فرض هيمنتها على الصعيدين السياسي والاقتصادي يكشف عن ضعف شديد في البنية الاجتماعية لدي المسلمين والعرب خصوصاً.
هذا الوجود الذي يجعل من الجمل العربي لعبة بيد صبي يهودي معتوه!
ومن المفيد أن نعرف أن مجموع الاخبار الواردة حول خطوة المهدي الاصلاحية تشير إلى أن جهوده (في أول ظهوره تكون مبذولة على الامة الإسلامية أكثر من أي أمة أخرى يصنع منها في فترة قصيرة أمة قائدة للعالم ورائدة للحق).
وهناك ما ينبغي قوله في سطور هذا الفصل وهي أن الوعي الإمامي ونعني وعي اتباع هذا المذهب هو كأي وعي بشري ينمو ويتبلور ويتكامل ويتأثر بحركة التاريخ والزمن، ويكون للتجارب دورها في مساره، وهو يمتاز عن غيره بما أفرده من منزلة كبرى للعقل، فالفكر الإمامي يمجد العقل الانساني ويرفعه إلى أعلي ذروة يمكن أن يبلغها ومن غير المنطقي أن يركن إلى اساطير يخلقها وينحتها ويجمد عليها.
ومن اللافت للنظر في أدبيات مسألة المهدي وجود روايات تذكر صراحة ان دولة المهدي هي آخر الدول:
عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنه قال: (ما يكون هذا الامر حتى لا يبقي صنف

(١٤٤)

من الناس إلاّ وقد ولّوا علي الناس حتى لا يقول قائل: إن ولّينا لعدلنا، ثم يقوم القائم بالحق والعدل).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (دولتنا آخر الدول، ولا يبقي أهل بيت لهم دولة إلاّ ملكوا قبلنا، حتى لا يقولوا اذا رأوا سيرتنا: اذا ما ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عز وجل: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)).
فليس هناك استثناء لأي من نظريات الحكم مهما بلغت من نقائها وقوّتها، ومسألة تشكيل الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة يجب إلاّ تنطلق في مشروعيتها على أساس نيابة المعصوم في غيابه فقط بل علي وجوب تطبيق شريعة الله وعلى ضرورة الحكومة في ادارة الحياة الاجتماعية.
وأدبيات المسألة تتضمن تأكيداً علي فشل واخفاق وبمستويات مختلفة نظريات الحكم التي تعد ارهاصات سابقة تهيئ الارضية المناسبة للنجاح النهائي.
فالنضج الفكري في التنظير والتطبيق لا يحدث فجأة، بل أنه عملية تبلور تتم ببطء وهدوء، والانسانية تتعلم من تجاربها الطويلة وترقي شيئاً فشيئاً سلم الرشد والكمال، فالربط بين مسألة المهدي وأي من نظريات الحكم في حقانيتها ومشروعيتها هو ربط فيه تعسّف لا مبرر له.
إن أية دراسة للحركات الإسلامية في البحث عن جذور نشوئها ومبررات استمرارها لابد وأن تخلص في التحليل إلى عنصرين: الاول الخطاب القرآني الصريح في وجوب اقامة الصلاة، وجوب الجهاد، وسائر الواجبات الفردية والاجتماعية التي لا يمكن أداءها إلاّ من خلال نظام سياسي واجتماعي وإداري.
والعنصر الثاني: هو بداهة وضرورة وجود نظام الحكم لإدارة دفة الحياة

(١٤٥)

الاجتماعية وأي محاولة لإقامة نظام اسلامي انما تكتسب مشروعيتها القانونية في هذا الاطار بغض النظر عن الفاصلة التي تبعدها وتقربها من الصوابية.
ولذا سيكون من العدوان والظلم الهجوم علي مشروعية نظرية للحكم الإسلامي انطلاقاً من التشكيك في ولادة الإمام المهدي وغيبته، لان مسألة ميلاد الإمام وغيابه مسألة مستقلّة تماماً عن أي من نظريات الحكم مهما بلغت الذروة في النقاء النظري، ذلك أن اسباب الاخفاق لا تنحصر في الخطأ النظري وانما تتعداه إلى الخطأ والخلل في التطبيق، والإمام الشهيد محمد باقر الصدر الذي نهض بمسؤوليته كثائر يهدف إلى تطبيق واقامة حكم اسلامي فذ وشريف يعلن صراحة: ان العلم لا يصنع حقيقة انما يكشف عنها، وأنه لا يحل مشكلة انما ينبه لها فقط.
بل اننا نجد عاملاً ثالثاً في الاخفاق لا يعود إلى خلل في النظرية أو تعثر في التطبيق وانما إلى غياب الظروف المواتية التي تساعد علي النجاح.
فالخطة الاقتصادية التي نهضت بالاقتصاد الالماني من تحت أنقاض حرب مدمّرة فشلت فشلاً ذريعاً في أول محاولة لتطبيقها خارج بيئتها الاصلية لان ظروف المانيا العامّة تختلف جوهرياً عن ظروف البلدان الأخرى.
وفي عالم الطبيعة كم هي البذور الكامنة في الأرض غافية تترقب المناخ الملائم للإنبات حتى إذا توفرت الظروف المواتية اهتزت وتحركت جذورها، ثم ظهرت أوراقها لتنمو وتنشر ظلالها الوارفة وتؤتي أكلها ولو بعد حين.
العصر الجديد
حشد من الروايات والاخبار يؤكد خطوة التجديد الكبرى التي تتم على يدي

(١٤٦)

الإمام المهدي هذه الخطوة التي ستأتي في اعقاب فراغ حضاري هائل وازمة أخلاقية تعصف بالعالم.
يقول الإمام محمد باقر الصدر في ختام بحثه حول المهدي: (هناك افتراض أساسي واحد بالإمكان قبوله علي ضوء الاحاديث التي تحدثت عنه والتجارب التي لوحظت لعمليات التغيير الكبرى في التاريخ وهو ظهور المهدي (عليه السلام) في أعقاب فراغ كبير يحدث نتيجة نكسة وأزمة حضارية خانقة. وذلك الفراغ يتيح المجال للرسالة الجديدة أن تمتدّ، وهذه النكسة تهيّء الجو النفسي لقبولها، وليست هذه النكسة مجرد حادثة تقع صدفة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وإنما هي نتيجة طبيعية لتناقضات التاريخ المنقطع عن الله - سبحانه وتعالى - التي لا تجدُ لها في نهاية المطاف حلاًّ حاسماً فتشتعل النار التي لا تُبقي ولا تذر، ويبرز النور في تلك اللحظة؛ ليطفئ النار ويقيم علي الأرض عدل السماء).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (كأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد).
الإمام الباقر (عليه السلام): (يقوم بأمر جديد).
الإمام الصادق: (يبايع الناس بأمر جديد).
وهناك أخبار أخرى تؤكد الظاهرة الجديدة التي قد تصل إلى حدّ المفاجأة كما هو الحال في ظهور الدعوة الإسلامية في العصر الجاهلي وحدوث التغيرات الكبرى وهذا ما يكشف عنه حديث الإمام الباقر في قوله (عليه السلام): (ان قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وان الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبي للغرباء).

(١٤٧)

وهذا التجديد القادم سوف يطال كل شؤون الحياة الانسانية لخصتها الاخبار وعبرت عنها بالأمر الجديد بل أن الكتاب الجديد لا يعني ابتداع كتاب آخر غير القرآن لان هذا غير وارد بالمرّة؛ فحديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يؤكد مواكبة أهل البيت لحركة القرآن إلى يوم القيامة وحديث الثقلين صريح ومعبر: (اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض).
واشتهر عن الإمام علي (عليه السلام) في أزمة تدوين القرآن الكريم: (لا يهاج القرآن بعد اليوم).
ونحن ندرك اليوم وأكثر من أي وقت آخر أن مشكلة المسلمين هي في تفسير القرآن أو ما يدعي اليوم بالقراءة الدينية، وأننا لنشهد في العصر الحاضر جدلاً حول قراءة الدين، وتعددية القراءة.. ولاشك أن الاختلاف في القراءات يعني وجود مسافات متباينة بين قراءة وأخرى وأن نسبة ما من التعثر والخطأ في القراءة موجود ويعود إلى مستويات لإدراك البشري.
من هنا نفهم وجود قراءة تمثل عين الحقيقة والصوابية وهذه متوفرة لدي الإمام المعصوم، وهذا ما تشير إليه الآية القرآنية في قوله تعالى: (لاَ يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ) وآية أخرى تشهد لأهل البيت بالطهارة: (إنمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكمْ تَطْهِيراً).
فالسيرة الجديدة التي يظهر فيها الإمام المهدي تمثل استئنافاً لسيرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، يقول (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن الإمام المهدي: (هو رجل من عترتي يقاتل على سنتي كما قاتلت أنا على الوحي).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (يقفو أثري لا يخطئ).
وهذا يشير إلى أن سنة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) سيطالها التغييب والتعطيل والاقصاء، ولعل

(١٤٨)

هذا يحصل وربما من المؤكد علي أيدي الفقهاء (فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء، منهم خرجت الفتنة واليهم تعود) كما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (سيجيءُ أقوامٌ فِي آخرِ الزَّمَن وجُوهُهُم وجوهُ الادميين وقلوبُهُم قلوبُ الشياطين... السُّنَّةُ فيهِم بِدْعَةٌ والبِدْعَةُ فِيهم سنَّةٌ، فَعِنْدَ ذَلِك يُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِم شِرَارَهُمْ، فَيَدْعُو خِيارُ هُمْ فَلا يُستجَابُ لَهُم).
(وذم العلماء بلحاظ مالهم من قدرة علي التأثير في الناس من جهة ومن حيث قدرتهم علي التلاعب في التشريعات، كما حصل هذا الشيء في برهات عديدة من تاريخ الشريعة الإسلامية لقد دون التاريخ نماذج عديدة من علماء الدين الذين باعوا دينهم بدنياهم وبرروا جرائم ومجازر الطغاة بتبريرات دينية واعتبروا مواقف هؤلاء الطغاة جزء من الدين وسلوكهم تطبيقا لما انزل الله.
اضافة إلى هذا اننا لا نشك بوجود البدع والاضافات علي الشريعة الإسلامية الاصلية؛ وان ظاهرة البدعة بدرجة من الرواج قلما يخلو منها مذهب وهي ظاهرة مارستها المذاهب عمداً للتمييز بينها وبين باقي المذاهب تارة وقصوراً وجهلاً تارة اخرى.
ان الاختلاف بين المذاهب الإسلامية يصل تارة إلى مستوي التناقض والتضاد وهو امر يجعلنا نطمئن بسقم واحد من الرأيين المتناقضين ولا يمكن الحكم بصحة كلمن الرأيين المعتمدين في كلا المذهبين.
كما ان الروايات التي تحكي قتال المهدي (عليه السلام) علي سنة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) مثل الرواية التالية: (هو رجل من عترتي يقاتل علي سنتي كما قاتلت علي الوحي) كما تحتمل قتاله ونضاله لأجل احياء السنة المندثرة تحتمل قتاله لأجل تصحيحها وتقويمها).

(١٤٩)

وتطال خطوة التجديد دائرة القضاء والتي تأتي بعد فترة النضال وتثبيت دعائم الحكم العادل.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (يحكم بحكومة آل داود لا يسأل عن بينة يعطي كل نفس حكمها).
(اذا قام قضي بين الناس بعلمه كقضاء داود (عليه السلام) لا يسأل البينة).
ويحتمل (أن المعروف بقضاء داود قضاء يعتمد آلية علمية متقدمة لم يكتشف بعد، ويكتشف بعد الظهور من حيث تطور العلوم آنذاك علي يد الإمام (عليه السلام)، وعلى اساس هذا التطور يتمكن القضاة آنذاك - ولو كانوا غير معصومين - الكشف عن الحقائق مستغنين في ذلك عن الادلة الظنية مثل الشهود والبينات وغير ذلك.
ولا يبعد هذا، حيث ان الاليات والتقنيات المستعملة في الوقت الحاضر لكشف الجرائم ومعرفة الحقائق بدرجة كبيرة من الدقة بحيث قلما يصعب علي العاملين فيهذا المجال معرفة آثار المجرمين فكيف بها اذا تطورت بتطور العلوم اضعافا مضاعفة.
ان الاعتماد علي بصمات الاصابع والكلاب البوليسية والميكروسكوب والمختبرات والكمبيوتر و... هذه كلها تقنيات تمكن المحقق من الوصول إلى الحقيقة في الوقت الحاضر رغم ان العلم لم يبلغ الكمال بعد، وهناك مشوار طويل لم يجتزه العلم لبلوغ الكمال؛ فكيف اذا كمل وبلغ قمته؟! طبيعي أن يتطور كل شيء ومنه ما يتعلق بالقضاء والبحث الجنائي).
وفي العصر الجديد تتجلي العدالة في ربوع العالم وينشر الامان اجنحته البيضاء وتشهد الانسانية ثورة علمية تؤتي ثمارها حلوة في خدمة البشر جميعاً وعندها(يرضي عنه ساكن السماء، وساكن الارض، لا تدع السماء من قطرها شيئاً إلاّ وهبته

(١٥٠)

ولا الأرض من نباتها إلاّ أخرجته، حتى يتمني الاحياء الاموات).
وتستحيل الأرض التي أحرقتها الحروب علي مرّ الزمن إلى أرض خضراء معطاء.
وتشهد الانسانية تكاملاً عقلياً وأخلاقياً علي درجة كبيرة من الرقي والحضارة والتقدم: (اذا قام قائمنا وضع الله يده علي رؤوس العباد، فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم).
وتتحقق يومئذ كل الطموحات الانسانية والخيالات التي داعبت أحلامهم وتطلعاتهم: (العلم سبعة وعشرون جزءً جميع ما جاءت به الرسل جزءان، فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الجزءين، فاذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين جزءً، فبثها في الناس وضم اليها الجزءين، حتى يبعثها سبعة وعشرين جزءً).
ولا شك أن هذا النجاح الذي يحرزه المهدي في تنفيذ العدالة مردّه إلى ان النظام الاداري الذي سيعتمده سيكون علي درجة عالية من الرقي والدقة والنزاهة، ما يجعلنا نتصور نظاماً اخلاقياً يبلغ درجات غاية في السمو والنقاء.
ولنا أن نتصور عناء الانسانية من الويلات والحروب والدمار وتعسّف النظم الادارية وبطش الحكومات واستعباد الشعوب، ثم اذا بالسماء تنفتح علي الأرض بأمطار الخير والبركات.. أمطار غزيرة تحيي الأرض بعد موتها هذه الامطار التي تجعل الناس يتطلعون بأمل إلى الخلاص في وجود من يفكر باستثمار هذا الفيض السماوي بدلاً من العدوان وشن الحروب وتغذية الصراعات الدامية.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (اذا آن قيامه، مطر الناس في جمادي الاخرة وعشرة أيام من رجب مطراً لم ير مثله).

(١٥١)

وقد أورد الشيخ المفيد مجموعة من العلامات الدالّة علي الظهور تُختتم بهطول: (أربع وعشرين مطرة تتصل فتحيا بها الأرض بعد موتها وتعرف بركاتها).
وقد اثبت (التلمود) ملامح مذهلة عن عالم المستقبل خاصّة في الميدان الزراعي حيث الاشجار المثمرة تهب ثمارها كل شهرين فيما تهب الحقول حبوبها كل اسبوعين مرّة وتدفق الينابيع.
وستشرق شمس العدالة).
علي أن السعادة التي يبشر بها التلمود ستعني فقط بني اسرائيل اتباع دين موسى، وعندما (يأتي الوثنيون لاعتناق دين يهود فأنهم سيطردونهم).
وهذه النظرة العنصرية ينضح بها الفكر اليهودي حيث الحقد علي الامم والشعوب والتخطيط لدمارها مبثوث في التلمود الذي يتمتع بالقداسة لديهم أكثر من التوراة.

(١٥٢)

الحرب والسلام الصراع الإسلامي الاسرائيلي، المسألة اليهودية

انه من السذاجة بمكان أن نتصور ولو علي مستوي الاحتمال الضعيف جداً امكانية حل المشكلة الفلسطينية سلمياً ذلك أن الكيان الصهيوني الذي نهض على جماجم أطفال فلسطين لا يعرف غير منطق القوة ولغة الرصاص وأن التناقض من الحدّة بحيث لا يمكن استبعاد انفجار الوضع بشكل حرب ضارية وأن المعركة الفاصلة قادمة لا محالة.
وهذا ما يجعلنا نعتقد أن المسألة الفلسطينية ليست محنة عربية ولا حتى اسلامية فحسب بل انها قضية مصيرية تهدد سلام العالم واستقراره.
ان عالمنا اليوم يعيش هاجس العدالة والسلام، ومن المؤكد أيضاً وجود قوى خيرة في كل العالم تطمح إلى أرض يغمرها النور والدفء والسلام.
ومن المؤكد أيضاً وجود قوي شريرة تريد الاستيلاء علي العالم وتسخيره اذا لم نقل تدميره، وفي مقدمة قوي الشرّ الحركة الصهيونية التي تسيطر اليوم بقوة على مقدرات دولة عظمي هي الولايات المتحدة الامريكية.
فالعلاقات الامريكية الاسرائيلية هي أوسع من تحالف سياسي وعسكري بل أن هناك من التوحد في النسيج الشيطاني ما يعزز القول ان امريكا مستعمرة ذليلة تابعة لإسرائيل والحركة الصهيونية.
فالفلسطينيون الذين اكتووا بنار الصهيونية هم أوعي شعوب الأرض بحقيقة امريكا:
إنها امبراطورية نمت فوق مزبلة ليس فيها ما يشرف البشرية وما زالت تتآمر حتى الان وتتفنن بتصدير العذابات إلى شعوب العالم.
وليس بدعاً أن يرى جيفارا ذلك الثائر الباسل ان رسالته الانسانية في الحياة

(١٥٣)

هي محاربة الولايات المتحدة الامريكية عدوة الجنس البشري.
وبلغ الإمام الخميني الراحل الذروة في ايمانه العميق والراسخ حول طبيعة النسيج الامريكي الاسرائيلي يقول (رض):
(على المسلمين أن يعلموا جيداً أن العدوّ للإسلام والقرآن والنبي الكريم هي القوي الكبرى لا سيما امريكا ووليدتها الفاسدة اسرائيل).
(ليعلم اخوتنا ان امريكا واسرائيل تعاديان اساس الإسلام، لا نهما تريان ان الإسلام والكتاب والسنة شوكة في طريقهما وعقبة دون نهبهما)
ويقول 2: (ان اميركا دولة ارهابية بطبيعتها، وهي الدولة التي اشعلت النيران في ارجاء العالم كلّه وحليفتها الصهيونية العالمية هي التي ترتكب من أجل بلوغ مطامعها جرائم تخجل حتى الاقلام عن تسطيرها والالسن عن النطق بها، وان الاوهام التي يسعون لتحقيقها وهي (اسرائيل الكبرى) تجرّهم إلى ارتكاب كل جريمة).
الشخصية الصهيونية
لعل أوضح وأعمق ما كتب عن الصهيونية قد جاء في المادة 22 من الميثاق الوطني الفلسطيني الذي يقول:
(ان الصهيونيَّة حركة سياسية مرتبطة عضوياً بالامبريالية العالمية، ومعادية لكلِّ الحركات التحررية والتقدمية في العالم، وهذه الحركة ذات تركيبة عنصرية متعصبة وأهداف عدوانيّة وتوسعية واستعمارية وأساليب فاشية ونازية.
إن اسرائيل يد الحركة الصهيونيّة وذراعها، وقاعدة بشرية وجغرافية

(١٥٤)

للامبرياليّة العالميَّة، ومحل تمركز وانطلاق لها في قلب الوطن العربي، يستهدف القضاء على تطلعات الامة العربية في الحرية والوحدة والتقدم.
ان اسرائيل مصدر دائم لتهديد السلام في الشرق الاوسط والعالم برمّته، ولما كان تحرير فلسطين ينهي الوجود الصهيونيَّ والامبرياليّ، ويساهم في إحلال السلام في الشرق الاوسط، لذا فان الشعب الفلسطيني يتوقَّع من كل قوي التقدم والسلام ويطلب اليها أن تقدّم - دون النظر إلى القومية والمعتقدات - كلّ انواع العون والاسناد للكفاح العادل الذي يخوضه هذا الشعب من أجل تحرير وطنه).
يكفي أن نعرف أن اسرائيل بدأت نشاطها الذري بعيد الاعلان عن قيامها وبدأت عزمها في انتاج القنبلة الذرية وها هي الان تمتلك أكثر من 300 رأس نووي موجهة إلى نقاط محددة.
ان الوهم الصهيوني بإقامة اسرائيل الكبرى من (دلتا النيل إلى نهر الفرات) يوجه الخطط الاسرائيلية كما ان انتخاب شارون لرئاسة الحكومة يكشف عن المخزون الدموي الفظيع لهذه الحركة الهدّامة.
واليهودي التلمودي يعيش عقدة التفوق ويري نفسه وحده الجدير بالحياة في الارض، ويبرر التلمود هذه الافضلية بقوله ان الله تجول في كل القرى وعرض على الشعوب التوراة فرفضها الا قوم اسرائيل.
والتلمود يردد أكثر من مرّة هذه المقولة: (كما ان العالم لا يمكن أن يعيش بلا هواء، فانه لا يمكن أن يعيش بدون اسرائيل).
وهذا يتضمن نزعة عنصرية موغلة وعقدة لا يمكن الخلاص منها.
فهم ابناء الله وهم شعب الله المختار فهم (عام عولام) أو الشعب الازلي و(عام نيصح) أو الشعب الابدي.

(١٥٥)

وفي تعبيراتهم الشعرية يرون ان الرب قد اتخذ امتهم عشيقة له، بل انه تزوجها زواجا أبديا، حتى انها اذا خانته ودنست شرف العلاقة التي بينها وبينه لم يطلقها كما يفعل أحقر مخلوق من البشر، ولكنه يكتفي بأن يغضب ثم يرضي، وان يعاقب ثم يصفح. فهي الامة الحبيبة المعشوقة المدللة، التي تعلم مقدما ان الرب لن يجرؤ يوما ما علي قتلها مهما أجرمت.
ويصف نبي اليهود هوشع هذا الموقف بقوله علي لسان الرب: (سأكشف الان عورتها على مرأى من عشاقها، ولن ينقذها أحد من يدي. فأبطل كل افراحها وأعيادها وغرر شهورها وسبوتها وكل حفلاتها، وأدمر كرمها وتينها؛ اذ قالت هو أجري جعله لي عشاقي، فأصيّر ذلك أجمة يأكلها وحش الصحراء، وأحاسبها على ايام الاصنام التي بخرت لها، وتزينت بأقراطها وحليها وانطلقت وراء عشاقها ونسيتني، يقول الرب. ثم انني اتملقها وآتي بها إلى البرية، وأخاطب قلبها، وأعطيها كرومها من هناك، مع وادي عكور، بابا للأمل. فتغني هناك كما في أيام صباها، وفي يوم صعودها من أرض مصر). (هوشع 2: 10 - 15). وتكثر في مثل هذا المعنى أقوال الانبياء والكهنة والشعراء والحالمين والصوفية علي مدي أجيال اسرائيل. ومن هنا لا يتردد اليهود في تسمية أنفسهم (شعب الله المختار). ويفسرون هذا الاختيار الإلهي بأنه تفضيل للأقوى والأصلح، ويردونه إلى ليلة المصارعة العجيبة التي أدى فيها جدهم يعقوب - اسرائيل - امتحان القوة والصبر علي المكاره بنجاح باهر، ويرون ان هذا الاختيار قد تختفي دلائله عندما يضعف اليهود ويذلون، ولكنهم يعودون إلى الجبروت والسطوة من جديد)، لان الرب سيرحم يعقوب، ويعود فيصطفي اسرائيل، ويريحهم في أرضهم، وينضم الغريب اليهم، ويتصل ببيت يعقوب. وتأخذهم الشعوب وتحضرهم إلى مكانهم فيمتلكهم بيت اسرائيل في أرض الرب عبيدا وجواري، فيأسرون الذين أسروهم، ويستولون علي من سخروهم). (اشعيا 14: 1، 2).

(١٥٦)

وواضح من مثل تلك النصوص ان اعتقاد اليهود في اختيار الرب لهم ليس مجرد مفخرة يتشدقون بها، بل هو برنامج؛ فبهم يعاقب الله الامم الاخرى، وهم الذين يبقون وحدهم في آخر الزمان، متسلطين علي رقاب العالم، وهم باختصار الذين يلعبون دور البطولة علي هذا المسرح الهائل، مسرح التاريخ، والامم الأخرى ليست الا اشخاصا ثانوية خلقها الله لتكملة مشاهد هذه المسرحية الطويلة وحوادثها، على نحو تظل فيه البطولة لإسرائيل. ومن هنا تبرز خطورة النفسية الاسرائيلية على أمم العالم، ويتضح مدي احتياجها لعلاج ناجع - لا بد أن يكون مرا - حتى تصحو من غرورها لتندمج في امم العالم.
والداء الذي نشير إليه مزمن عند القوم. ففي مصطلحاتهم نجدهم يسمون أنفسهم ايضا (الشعب الازلي - بالعبرية: عام عولام - كما يسمون أنفسهم (الشعب الابدي) بالعبرية: عام نيصح - وهكذا تطاولوا علي الرب - ولو مجازا - فتخيلوا انهم يشاركونه في أزليته وأبديته، وانهم مثله لا أول لهم ولا آخر، ولا بداية ولا نهاية. وهو قول كبير، أحسّ بعض مفكريهم بفداحته، ففسروه علي أنهم من أقدم شعوب العالم، وهو المقصود بالأزلية، ومن أدوم شعوب العالم، وهو المقصود بالابدية. وهي دعوي خرافية حتى بعد هذا التخفيف الشديد، فاليهود كما يعلم الجميع ليسوا اقدم من الفراعنة، ولا من سومر وبابل وآشور، ولا من الهنود أو الصينيين، ولا من العرب. وهم أيضا ليسوا أطول دواما من كثير من تلك الامم. وهم وراء ذلك كله: أمة لا حضارة لها.
ويطول بناء الحديث لو أننا اردنا تتبع كل آثار هذا الادب الفنائي عند اليهود. فأكثر سفر النبي حزقيال من قبيل هذه الرؤي النهائية الحتمية، تشب فيها حروب، تبدأ بتطهير المجتمع اليهودي نفسه من الدنس الذي كان قد غرق فيه إلى الاذقان.

(١٥٧)

 وهو تطهير يتم بالحرب والحصار والموت. يسلط فيه الله غضبه علي اورشليمو ساكنيها (ثلث يموت بالوباء وبالجوع يهلكون في وسط المدينة، وثلث يسقط بالسيف من حولهم، وثلث يذريه الرب في كل ريح، ويرفع من ورائهم سيفا مسلولا) - (انظر حزقيال، الاصحاح الخمس). وبعد هذا التطهير يكون الشعب المختار - او من بقي منه - قد اصبح جديرا بخوض المعركة النهائية التي ينتصر فيها علي العالم ويخضعه لإرادته.
ويكمن الخطر في تلك الاوهام التي تتخذ شكل النبوءات وقد عشنا جميعاً دوي الكتاب الذي ترجمه محمد خليفة التونسي (برتوكولات حكماء صهيون) والذي كشف عن وجود حكومة سرّية. هدفها السيطرة علي العالم وتسخيره للأطماع والاوهام اليهودية المريضة وما تنطوي عليه من خطط تفوح برائحة الدم.
(من ذا، وماذا يستطيع ان يخلع قوة خفية عن عرشها؟ هذا هو بالضبط ما عليه حكومتنا الان. ان المحفل الماسوني المنتشر في كل انحاء العالم لا يعمل في غفلة كقناع لأغراضنا. ولكن الفائدة التي نحن دائبون علي تحقيقها من هذه القوة في خطة عملنا، وفي مركز قيادتنا، ما تزال علي الدوام غير معروفة للعالم كثيرا.
يمكن الا يكون للحرية ضرر، وان تقوم في الحكومات والبلدان من غير ان تكون ضارة بسعادة الناس، لو ان الحرية كانت مؤسسة علي العقيدة وخشية الله، وعلي الاخوة والانسانية، نقية من افكار المساواة التي هي مناقضة مباشرة لقوانين الخلق، والتي فرضت التسليم. ان الناس - محكومين بمثل هذا الايمان - سيكونون موضوعين تحت حماية كنائسهم (هيئاتهم الدينية)، وسيعيشون في هدوء واطمئنان وثقة، تحت ارشاد ائمتهم الروحيين، وسيخضعون لمشيئة الله على الارض. وهذا هو السبب الذي يحتم علينا أن ننتزع فكرة الله ذاتها من عقول المسيحيين، وأن نضع

(١٥٨)

مكانها عمليات حسابية وضرورية مادية. ثم، لكي نحول عقول المسيحيين عن سياستنا، سيكون حتما علينا أن نبقيهم منهمكين في الصناعة والتجارة، وهكذا ستنصرف كل الامم إلى مصالحها، ولن تفطن، في هذا الصراع العالمي، إلى عدوها المشترك. ولكن لكي تزلزل الحرية حياة (الجوييم) الاجتماعية زلزالا، وتدمرها تدميرا، يجب علينا أن نضع التجارة علي أساس المضاربة. وستكون نتيجة هذا أن خيرات الأرض المستخلصة الاستثمار، لن تستقر في أيدي الامميين (غير اليهود)، بل ستعبر خلال المضاربات إلى خزائننا.
ان الصراع من أجل التفوق، والمضاربة في عالم الاعمال، سيخلقان مجتمعا أنانياً، غليظ القلب، منحل الاخلاق. هذا المجتمع سيصير منحلاً كل الانحلال، ومبغضا أيضاً للدين والسياسة، وستكون شهوة الذهب رائده الوحيد، وسيكافح هذا المجتمع من أجل الذهب، متخذاً اللذات المادية التي يستطيع أن يمده بها الذهب، مذهباً أصيلاً. وحينئذ ستنضم الينا الطبقات الوضيعة، ضد منافسينا الذين هم الممتازون من الامميين، دون احتجاج بدافع نبيل، ولا رغبة في الثورات أيضاً، بل تنفيسا عن كراهيتهم المحضة للطبقات العليا.
بهذا ينتهي البروتوكول الرابع الذي يصف فن اليهود في انتهاز كل الفرص: الحرية والاستبداد، السلم والحرب، المادية والروحية، التقوى والالحاد، الاغنياء والفقراء. كل ذلك يستغلونه لمصلحتهم هم بوصفهم شعب الله المختار، وبفضل حكومة سرية في أيام الشتات، قد لا تكون دائما الماسونية، أو قد تكون بجانبها قوي رهيبة ظاهرة أو باطنة مثل القهيلة، أو السنهدرين، أو الرأسمالية اليهودية، أو الشيوعية اليهودية أيضاً، أو دولة الصحافة والاعلام والملاهي - وبخاصة السينما - وكذلك الكتب التي تمجها المطابع بغزارة، لا للتثقيف ولكن لقتل الوقت والها بالنفوس بانفعالات مدمرة: جنسية وخرافية واجرامية، وما إلى ذلك.

(١٥٩)

العدوان
ان الحقد هو الابن الشرعي للشعور بالاضطهاد، فالأحقاد الصهيونية تجاه العالم نابعة من هذا الشعور مع ان الاضطهاد في الواقع كان نتيجة طبيعية لتلك الاحقاد الهائلة التي يكنها اليهود للعالم انك تراهم لا يندمجون مع المجتمع الانساني اينما كان وفي أية دولة ولا يمارسون عملاً زراعياً مفيداً بل ينصرفون إلى ادارة أعمال الصيرفة والربا الفاحش لتدمير اقتصاد البلدان التي يعيشون فيها والسيطرة عليها.
وبعد قيام اسرائيل ظهرت الشخصية الاسرائيلية علي حقيقتها وكشفت عن كائن تلمودي مريض فلا نعجب أن نري علي شاشات التلفاز ذلك المشهد الفظيع في قيام مجموعة جنود اسرائيليين بالانقضاض علي فتي فلسطيني وقتله بطريقة مؤسفة وأليمة فيما كانت عدسة صحافي تلتقط تفاصيل هذا المشهد الاليم عن بعد!
وقد أوردت دراسة (أدب الحرب بين العهد القديم والقرآن الكريم) التي تقدم بها الباحث وجيه محمد عوض لنيل الدكتوراه حقائق مذهلة عن طبيعة النفسية التلمودية.
وتنقل الدراسة عن التلمود أيضاً ان (الشفقة والرحمة ممنوعة بالنسبة لغير اليهود؛ لان اليهودي إذا رأى أحداً واقعاً في نهر أو مهدداً بخطر فيحرم عليه أن ينقذه منه؛ لان الشعوب السبعة الذين كانوا في أرض كنعان، والمراد قتلهم من اليهود لم يقتلوا عن آخرهم، بل هرب بعضهم واختلط بباقي امم الارض، وعليه يلزم قتلا لأجنبي ومحاربته؛ لأنه من المحتمل أن يكون من نسل الشعوب السبعة، وعلى اليهودي أن يقتل من تمكن من قتله، وإذا لم يقتله يخالف الشرع؛ لأنه جاء في الكتب: كيف لا أبغض يا الهي من يبغضك؟).

(١٦٠)

جذور الارهاب
وتشير الدراسة إلى أن محاربة وقتل (الاجنبي) - أي غير اليهودي - عند بني إسرائيل تعد من الفضائل حتى إنهم يسامحون القاتل في هذه الحالة، وقد ورد في التلمود كذلك: (أن من يقتل مسيحياً أو وثنياً يكافأ بالخلود في الفردوس الاعلى)، ومن مظاهر الحرب من خلال العهد القديم الزعم بأن شمعون ولاوي ابنا يعقوب (أخذ كل واحد منهما سيفه وأتيا إلى المدينة بأمن وقتلا كل ذكر بحد السيف) وتبع ذلك سلب ونهب المدينة (سفر التكوين: 24/ 25 - 29).
ويصور سفر الخروج - في مواضع مختلفة - أعمال الرب تجاه الامم الأخرى فهو يقتل كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم (التكوين: 13/ 15) فهو رجل الحرب (التكوين: 15/3)، ويطرد الامم الأخرى دون حل وسط من أمثال الكنعانيين الحثيين (التكوين: 23/2) تمهيداً لإحلال بني إسرائيل محلهم.
وترجع الدراسة أصول وجذور الإرهاب لدي بني إسرائيل وسفك الدماء إلى ما ورد في سفر العدد من وصف للشعب اليهودي (هو ذا شعب يقوم كلبؤة، ويرتفع كأسد لا ينام حتى يأكل فريسة، ويشرب دم قتلي) (22/24)، كما يصور سفر التثنية الإرهاب الفظيع للغاية لدي اليهود، فهو موجه لا للإنسانية فحسب، بل لكلما هو علي وجه الارض: (إلهكم يجعل خشيتكم ورعبكم علي كل الارض)(11/25).
وتلفت إلى ما تميزت به حروب اليهود من أعمال عنف وإرهاب بشعة بقسوتها ووحشيتها في تاريخ البشرية جمعاء في مختلف العهود، منذ النصف الاول من القرن الثاني قبل الميلاد مع الاستعانة بما أورده المؤرخ اليهودي الشهير (فلافيوسيوسفوس) وهو اقدم مؤرخ يهودي عاش في القرن الميلادي الاول.
وترصد الدراسة طبيعة الحرب في عقيدة بني إسرائيل - قديما وحديثا - فالحرب عندهم عمل مقدس وقائد هذه الحرب في زعمهم هو (رب إسرائيل) فهو (رجل

(١٦١)

حرب) و(رب الجنود) في حين آخر، و(إله سلام) فكيف يتم التوفيق بين هذه المتناقضات!
وعلي عكس منهج اليهود في الحرب - استنادا إلى العهد القديم المحرف - والذي يقوم علي القسوة والهمجية والظلم أوردت الدراسة منهج الحرب في القرآن - وعماده العدل والرحمة - موضحة مفهوم الحرب وحكمة مشروعيتها وأنواعها وفرضية الحرب، وتدرج التشريع في الحرب وشروط المحارب في الإسلام في دراسة مقارنة بما جاء في العهد القديم.
كما القت الدراسة الضوء علي تعريف الغنيمة وبيان دليل مشروعيتها وكيفية تقسيم الغنيمة وحكم أربعة اخماس الغنيمة وتقسيمها، وأحكام معاملة الاسرى من حيث حكم قتل الاسرى وحكم استرقاقهم والمن والفداء، وبيان المدى البعيد للشريعة الراحمة للإسلام حتى في المعارك الحربية، وذلك علي عكس الطبيعة العدوانية لبني إسرائيل من خلال العهد القديم واستخدامهم لا بشع وأفظع الوسائل الوحشية من العنف والإرهاب المتأصل في دمائهم منذ أن وجدوا علي مسرح التاريخ وحقدهم المتجذر دينياً وتاريخياً علي الفلسطينيين بصفة خاصة، وبقية الشعوب الأخرى بوجه عام عن طريق الاحتلال والتوسع والسيطرة والاستيطان، أو سياسة الاعتماد علي الغير - اليونان والرومان قديماً وبريطانياً وأمريكا حديثا - والحرب الجماعية أو الامة المسلحة، مع تحقيق الافكار التي يحتويها العهد القديم وبيان الحقائق التي يكشفها القرآن الكريم علي ضوء مصداقيته الحقة تجاه ما يتصل بهذا الموضوع من مصادر يهودية وخاصة التوراة والتلمود وبروتوكولات حكماء صهيون، وتكوين فكرة شاملة عميقة عن تأثير التعاليم الدينية اليهودية التوراتية والتلمودية في تكوين العقيدة العسكرية الصهيونية.
وإذا كانت الدراسة قد اثبتت الجذور (النظرية) للإرهاب الصهيوني من خلال نصوص التوراة - المحرفة - والتلمود فإن الممارسة (العملية) لليهود علي مر التاريخ

(١٦٢)

وخاصة في العصر الحديث تنسجم مع معتقداتهم وتصوراتهم الشائهة، حيث يعتبر العنف والارهاب ركيزة من اهم ركائز الفكر الصهيوني وأحد مقومات الايديولوجية الصهيونية، فمنذ أن بدأت أفواج المهاجرين اليهود بالزحف إلى فلسطين بدأ الصهاينة في ممارسة الإرهاب بشكل منظم ومدروس، فمارسوا القتل والتدمير ضد الشعب الفلسطيني لطرده من دياره وإحلال المهاجرين اليهود مكانه.
وقد مارس اليهود الارهاب من خلال منظمات إرهابية مثل: (الهاجانا شتيرن، والارغون)، وغيرها ثم مارس الصهاينة بعد قيام (الكيان الصهيوني) كدولة من خلال أجهزة مخابرات الصهيونية المختلفة مثل: (الموساد، والشين بيت)، وغيرها بالإضافة إلى عمل المنظمات الصهيونية المتطرفة، والمستوطنين، فالصهاينة يجدون في جميع صنوف الإرهاب عملاً مشروعاً - استناداً إلى كتبهم - لتحقيق أهدافهم، فيحين يعتبرون مقاومة الشعب الفلسطيني لهم والتي اقرتها كل الشرائع والمواثيق الدولية (إرهاباً) يجب محاربته والقضاء عليه.
وبعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948 أصبح الإرهاب والقتل الجماعي (حرفة يهودية) يقوم بها عبدة (العجل) وقتلة الانبياء، فتم تنظيم هدم المنازل وتدمير القرى وتشريد السكان ومصادرة أراضيهم لإقامة المستوطنات الجديدة لليهود القادمين وأصبح هذا سياسة عامة للحكومة والجيش الصهيوني الذي ضم جميع العصابات الصهيونية الإجرامية التي ارتكبت أعمال القتل والتدمير والنهب قبل قيام الكيان الصهيوني وتحت حماية قوات الانتداب البريطاني.
وقد ارتكب الصهاينة خلال الحقبة ما بين 1948 - 1967 عدداً كبيراً من الاعمال الإرهابية زاد عددها - في هذه الفترة فقط - عن 21 الف حادثة إرهابية حسب سجلات الامم المتحدة، أي بمعدل أكثر من ألف حادثة سنوياً أي نحو ثلاث حوادث يومياً.
ومن أخطر الاعمال الارهابية التي ارتكبها الصهاينة سواء أيام الانتداب

(١٦٣)

البريطاني أو بعد قيام الدولة الصهيونية في فلسطين هي المجازر والمذابح الجماعية ضد المدنيين العزل لبث الرعب والخوف في نفوس السكان لإجبارهم علي ترك أوطانهم، ويلاحظ أن هذا الاسلوب لم يتغير منذ ارتكاب أول مجزرة كبيرة في دير ياسين في6 /4/ 1948 تلك البلدة الواقعة علي مشارف (القدس الشريف)، والتي راح ضحيتها 254 فلسطينياً معظمهم من النساء والاطفال والشيوخ، مروراً بمذبحة(صبرا وشاتيلا) في المخيمات الفلسطينية بجنوب لبنان حيث تم إطلاق نيران المدافع الرشاشة الثقيلة والقذائف والقنابل وجري قصف مئات المنازل واستمرت المجزرة على مدي أربعين ساعة متواصلة.
وقدر عدد الضحايا الذين سقطوا في أيام 16 و17 و18 من (ايلول) عام1982م بأكثر من 2000 ضحية انتهاءاً - وليس نهاية - بمذبحة الحرم الإبراهيمي عام1994 حيث استشهد أكثر من 60 مصلياً في ساحة المسجد ومذبحة (قانا) بجنوب لبنان في نيسان / أبريل أيضاً عام 1996.
وأخيراً - وليس آخراً - السلسلة المتواصلة للمذابح الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني الصابر في انتفاضته المباركة الحالية والتي راح ضحيتها أكثر من 400 شهيد - وما زالت قوافل الشهداء تترى - وعشرة آلاف مصاب ومعوق باستخدام قذائف المدفعية والدبابات والطائرات كل هذا ضد المدنيين العزل، وصدق الله تعالى إذا يقول: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ)(المائدة: 13).
هذه هي اسرائيل التي ظهرت ككائن تلمودي مخيف مثقل بعقد نفسية تجعله مسخاً منسلخاً عن الطبيعة الانسانية وقيمها الاخلاقية النبيلة.
آفاق الحل
والسؤال هنا هل ثمة حل أو علاج لهذه الظاهرة المرضية؟

(١٦٤)

يري الاستاذ حسن ظاظا الكيان السياسي في اسرائيل التي جاءت كحل استعماري للحركة الصهيونية حالة مرضية اجرامية تمثل نتيجة لسلسلة من الاصابات العميقة، وتحمل اضطرابات في الشخصية سببها وراثة ثقيلة من أمراض الاسلاف، ثم حالة من الصحة النفسية والاجتماعية تأبي الانخراط في الحياة العادية للمجتمع الانساني.
وفي جميع التشريعات نجد القضاة يضعون موضع الاعتبار كون التصرفات الاجرامية صادرة عن شخصيات مريضة، ويعتبرون ذلك ظرفاً مخففاً، بحيث يكون حكمهم في النهاية وافيا بغرضين: الحد من الجريمة، والعلاج من المرض.
وفي رأينا ان الشخصية الاسرائيلية من هذا النوع. وقد استفحل مرضها، حتى وصل في بعض الاحيان إلى الجنون المطبق، بسبب افواج المتطرفين والحمقى والمصابين بالهستريا والهلوسة وجنون العظمة واحلام اليقظة وأزمات الاكتئاب واليأس والبكاء، تولوا مقاليد هذه الجماعة ومقدراتها، قديما وحديثا فكانت نتيجة كل ذلك الصهيونية.
فالصهيونية فكرا وسلوكا وتطبيقا موبوءة بالتعصب العنصري والتعصب الديني،، وعقد الشعور بالاضطهاد، والفزع من اللاسامية، كما انها مصابة بأورام انتقلت عدواها اليهم من طغاة كثيرين فتكوا بالاسرائيليين، وتفننوا في التنكيل بهم، وكان من أواخر ذلك البوجروم واللاسامية الهتلرية. فراح الغلاة من الصهاينة يقلدون اولئك السفاحين.
والعلاج من هذه المجموعة من الامراض، ما كان منها وراثيا، وما أخذ بالعدوى، وما تحوصل في ثنايا الشخصية الاسرائيلية في الظروف التي شاء اليهود أن يعيشوا فيها، او التي اجبروا عليها، لا بد أن يكون طويلا يحتاج إلى صدق نية منهم في الشفاء، والي نظرة انسانية شاملة من جميع النفوس المحبة للخير. وهي تجربة ليست بالسهلة. فمن السمات المميزة للشخصية الاسرائيلية العناد، والاسراع الى

(١٦٥)

الارتداد عن طريق الخير. وصفهم ربهم في التوراة بأنهم شعب صلب الرقبة، ابعد الناس عن الطاعة وعن لين الجانب (الخروج 32: 9 و33: 3، 5 و34: 9 التثنية9: 6، 13)، كما أكثر انبياؤهم الشكوى من كفرهم وعنادهم وقسوتهم، ويكفي فيذلك ان نسوق سطورا من كلمة طويلة للنبي ارميا يقول فيها: (مثل خزي اللص اذا وقع، هكذا خزي آل اسرائيل، هم وملؤهم ورؤساؤهم وكهنتهم وانبياؤهم، اذ يقولون للخشب أنت أبي، وللحجر انت والدي، لانهم اداروا نحوي قفاهم لأوجههم، وفي وقت مصيبتهم يقولون قم وخلصنا. فاين آلهتك التي صنعت لنفسك؟ فليقوموا ان استطاعوا ان يخلصوك في وقت بليتك لأنه قد صارت آلهتك بعدد مدنك، يا يهوذا. لماذا تخاصمونني؟ كلكم عصيتموني، يقول الرب. ضربت ابناءكم بلا فائدة، إذ لم يقبلوا تأديبا. سيفكم أكل انبياءكم كأسد مفترس) (ارميا 2: 26 ـ30).
وقد حاول مفكرون من عظماء اليهود علي مر الاجيال ان يعالجوا الامة المريضة من دائها القديم فلم ينجحوا. كان كلام بعضهم يفسر علي غير ما اريد به، اما لكي يتجه بتفسيره المفتعل نحو اهدافهم ومآربهم، كما صنعوا بفكر الطبيب موسى بن ميمون، واما للتشنيع والتجريح والافتراء علي رواد الاصلاح من اخوانهم، كما فعلوا بصاحبهم موسى مندلسون، احد الانسانيين الكبار في القرن الثامن عشر. فقد ذهب هذا المصلح اليهودي إلى ان مشكلة اليهود الحقيقية تكمن في ان شخصيتهم قد تبلورت وراء اسوار الجيتو، وان فكرهم نفسه قد اقيمت من حوله حواجز اقوي من اسرار الجيتو، صنعوها هم بأنفسهم وتحصنوا في داخلها، وتعودوا علي ظلامها الدامس.
ورأي ان الخروج من هذا الحبس الاجتماعي والفكري لا يكون الا باعتبار اليهودية عقيدة وديانة واخلاقا ونمطا في المعيشة، لا دخل فيها للعنصرية ولا للكبرياء النابعة من الخرافات.

(١٦٦)

هو الذي رفع في قومه الشعار المشهور: (كن يهوديا في بيتك، ومواطنا مخلصا في الطريق). وكان حله هذا في حقيقة الامر متسقاً مع اتجاه العالم نحو الحرية، فقد قامت الثورة الفرنسية، التي اعلنت فيها حقوق الإنسان بعد موت مندلسون بثلاث سنوات فقط. فما كان جزاؤه من قومه عن هذا الجهد المضني؟ الكذب والافك المفترى الذي يخدش الرجل في علمه وعقله وكرامته وعرضه واسرته. انبرت له الاقلام اليهودية المسمومة بالتعصب، فلم تترك جانباً من جوانب حياته الا لوثته. وتعقب المعاندون من رجال الدين الاسرائيلي كتبه فجمعوها واحرقوها، وحرموا على قومهم قراءتها ان أعيد طبعها، وجعلوا هذا التحريم مؤبدا إلى يوم القيامة، لانهم وصفوا الرجل بالزندقة ايضاً.
وقبل مندلسون ظهر في هولندا الفيلسوف اليهودي المتحرر باروخ سبينوزا، في القرن السابع عشر وكان هو ايضا يعتقد ان نهاية الشقاء اليهودي، شقاء اليهود وشقاء العالم باليهود، تكمن في ايمان هؤلاء الناس بالدين فقط، وتخلصهم من النعرة القومية الاسطورية التي تفسد ما بينهم وبين الانسانية كلها. وكان يرى ان الشخصية الاسرائيلية يمكن ان تحافظ علي فضائلها لو انها لزمت شرائع الدين، دون ان تفكر في الاتجاه نحو ارض معينة مثل فلسطين بحجة انها ارض الاباء والاجداد. ففي يقينه ان الله لا يشترط لعبادته مكانا جغرافيا معينا، وانه يقبل الصلاة ويسمع الدعاء مناي مكان علي ظهر الارض. وكان يوضح منطقه هذا بقوله انه هولندي يؤمن بشريعة موسي، والمعبد اليهودي في امستردام هو بالنسبة له كهيكل سليمان فياورشليم بالنسبة لسليمان. ولم يكن الحل يقتصر علي تعليم اليهود وحدهم، بل كان يشجع كل من قصده ليتلقى عنه العلم، لأنه لم يكن من ضيق الافق بحيث يحصر نفسه في نطاق التلمود والمدراش. كان مفكرا وفيلسوفا يؤمن بوحدة الوجود: فالله سر كبير يسري في الخليقة كلها. وهكذا يستحيل ان يكون له (شعب مختار) دون سائر الشعوب.

(١٦٧)

فماذا كان جزاء هذا المصلح اليهودي من قومه؟ أعلنت السلطات الدينية الاسرائيلية طرده من الدين، والصقت به من التهم ما امدهم به خيالهم الخصب. ولم يحاول الرجل ان يتصدى لهذه الغوغائية في الفكر، وانصرف إلى العلم، والي عمله الذي يكتسب منه رزقه، وهو صناعة العدسات البلورية. واذا بالقهل يحاول ارهابه، ثم يحاول قتله، لولا ان تداركه بعض المعجبين به من تلاميذه ومحبيه، فنصحوه بان يترك امستردام، ليعيش في بعض الارياف القريبة منها، حتى يتمكن هو واصدقاؤه من تمييز الارهابيين والسفاحين والقتلة لو ان بعضهم حدثته نفسه بالمجيء إليه في المكان الذي اعتزل فيه.
ولم نشأ ان نذكر في تلك الزمرة سيدنا المسيح (عليه السلام)، لان دعوته كانت من نوع آخر، ليست اجتهادا عقليا فلسفيا، ولكنها وحي من السماء. لقد تعب المسيح مع اليهود. حاول في اول الامر ان يجعل دعوته بينهم هم وحدهم، فأخذهم العناد، وتصلبت أعناقهم، وكابروا وتآمروا، وطالبوا بقتله. فلما رأى ذلك منهم حطم اسطورة العنصر، وجعل الشريعة للناس كافة. ويرمز الانجيل إلى هذا الانتقال بقصته مع امرأة من غير بني اسرائيل، يصفها القديس متى بأنها كنعانية، ويزيد القديس مرقس ذلك تحديدا فيقول انها كانت من الجوييم (أممية، وفي جنسها فينيقية سورية)، (انجيل مرقص 7: 26). وقد بدأ المسيح كلامه معها بقوله (انني لم ابعث الا للخراف الضالة من بني اسرائيل)، (انجيل متى 15: 24). ولكن المرأة الحت عليه، مما تأكد معه انه تؤمن ببركته، وكانت تطلب منه ان يدعو لابنتها المريضة حتى تشفي. فشفاها، واعلن بعد ذلك انه بالإيمان وحده، لا بالنسب، يدخل الإنسان في ملكوت السماء.
ومع ذلك بقي اليهود مرضي حتى الان.
وبعد، فهل هناك من حل؟ ان بداية الحل في استئصال اسباب المرض. وهذه الاسباب تحوصلت في العصر الحديث في الصهيونية، التي تلعب بالمريض لعب

(١٦٨)

الساحر الدجال في المجتمعات الجاهلة المتخلفة، الذي يعد بالشفاء والعافية عن طريق تحضير الجن، واطلاق البخور، وتكثيف الظلمات، واصدار القعقعة الشديدة التي تصم الاذان، ليشعر المريض شعوراً وهمياً بأن القوي الخفية قد انطلقت لتحل له جميع مشاكله. لقد دأبت الصهيونية علي أن توسوس في صدور اولئك الناس بأوهام الغزو والفتح والانتصار والسيطرة علي العالم العربي والوصاية على أرزاقه ومقدراته).
ومن هنا يمثل صعود شارون السفاح (بطل) مجازر صبرا وشاتيلا مؤشراً على استفحال المرض وضرورة حصول عملية جراحية عاجلة لاستئصال هذه الغدة السرطانية، وعندها فقط سيعي المريض قوّته الحقيقية وخلاصه من أوهام القدرة وجنون العظمة.
فالحرب القادمة مهما كانت بواعثها واسبابها المباشرة هي حرب من أجل السلام العادل ومعالجة مريض يستحوذ علي اسلحة الدمار الشامل!
قال الله عز وجل: (وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل فِي الْكتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الاَْرْضِ مَرَّتَيْنِ).
المسيح الدجال... نبوءة أخرى
(إن عاد، ضربها الله أول الزمان، وآخر الزمان سيأتي يوم الله القادر على كل شيء، لتنهار عاد التي حملت آمال صهيون، ستنهار رغم مشاريع حرب النجوم! ستنهار علي أيدي أناس بسطاء.
وهكذا صنع اليهود الزيت الذي يحترق علي خطاهم!!

(١٦٩)

ولأنه من المعتاد، أن لا يرقص أحد علي أنغام الارغن والآلات الموسيقية التي تعزف في الكنائس وهي تشدو ايام الشمس التي هي أيام الاحاد. إلاّ أن اليهود يحق لهم أن يرقصوا، لان عالمهم تحصنت طرقاته!! حتى اللصوص عندهم أمسكوا في أيديهم القنابل الذرية!!
إن النصارى لا يقرأون في كتابهم المقدس، وإذا قرأوا لا يحق لهم أن يسألوا أنفسهم عن معنى الذي قرأوه، لان تفسيره لا يعلمه حتى رسل المسيح. ولأنه كذلك احتفظت الكنيسة بحقوق التفسير.
إن النصارى يطالبون بحق اليهود ونحن لن نأخذهم إلى كتبنا، بل نقول لهم اقرأوا ما بين أيديكم. إن نصوصكم توصيكم آخر الزمان بالفرار من اليهودية..
(... عندئذ ليهرب الذين في المنطقة اليهودية إلى الجبال، ومن كان علي السطح فلا ينزل ليأخذ ما في بيته، ومن كان في الحقل فلا يرجع ليأخذ ثوبه..).
قال المفسرون: (إننا أمرنا أن نتوقع هذا، فاليهود يجب أن يعاقبوا والخراب يجب أن يحل بهم، بهذا يثبت عدل الله. ولقد خرجت الكلمة من الله وسوف تتم حينها وهذه الحوادث لا بد أن تتم كوسيلة لغاية سامية، يجب أن يهدم المسكن القديم قبل إقامة الجديد، يجب إزالة الاشياء المتزعزعة لكي يبقي التي لا تزعزع..).
قد يقال إن هذا حدث في الماضي في تدمير 66 ميلادية فإذا كان هكذا فمن صاحب المسكن الجديد الذي يجاء بعد هذا التدمير (؟) إن الإسلام هو أن نتوقع سنوياً ان هذا سيحدث مستقبلاً، فإذا كان هذا سيحدث مستقبلاً لليهود، فكيف

(١٧٠)

يستقيم مع دعوتهم بأن لهم ملكاً آخر الزمان، ثم لننظر إلى هذا النص أيضاً:
(... وأجمع كل الامم على أورشاليم فتؤخذ المدينة...).
تؤخذ ممن؟ وتعطي لمن؟
قال المفسرون: (إن، اليهود سيخرجون من نار فتأكلهم نار. هذا ما تم مع هذه المدينة المذنبة أورشاليم في كل تاريخها الماضي والحاضر (والمستقبل) ففي الماضي جاء نبوخذ نصر على أورشاليم وفي المستقبل ستجتمع عليها كل الامم للمحاربة.. وتؤخذ المدينة).
تؤخذ المدينة من اليهود!! وتعطي لمن؟!
ثم لننظر أيضاً ونتدبر هذا النص:
(... يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبداً، وملكها لا يترك لشعب آخر وتسحق وتفني كل الممالك وهي تثبت إلى الابد).
ـ ألم تنقرض مملكة اليهود؟ ألم يسحقوا؟ أليسوا هم عار الإنسانية في الماضي والحاضر والمستقبل باعتراف مفسري أهل الكتاب؟ إذن فمن هم أصحاب هذه المملكة، هل هم النصارى؟ فإذا كانوا هم فعلي أي إنجيل يثبتون؟ وعلى أي قانون إيمان الذي زاد فيه قسطنطين أم السابق عليه؟
إن أصحاب هذه الدولة قوم آخرون!! صحيح أن اليهود الان يعيشون على أرض اغتصبوها ولنقرأ ما يقوله المفسرون!!
هذه هي جملة أقوال المفسرين في العقاب الذي ينتظر اليهود آخر الزمان.
(... ومرة أخرى ستذوق أورشاليم غضب الله وقضاءه في نهاية هذا الدهر(الحاضر) والمسيحية في الغرب قد انهارت حتى أن الذين كان أجدادهم في القرون

(١٧١)

الماضية يشنون الحرب الصليبية بذريعة حماية القدس باعوا فلسطين لليهود في القرن العشرين وهنا يجب أن نوجه كلمة تحذير. فليس هناك فرق بين إسرائيل والنصرانية ففي يوم قادم هو قريب جداً، سيتعامل الرب بقضائه المخيف ولا سيما مع المسيحية بالاسم (المسيحية بالاسم هي في نظر المفسرين هي مسيحية العصر)).
إنه لا يصح نحن أبناء المسيح أن نقدس ما قدسه شعب اليهود من أساطير وملاحم وتعاويذ ويجب أن نعلم أن الخراب سيتتابع علي اليهود أينما كانوا، كما يشم النسر الفريسة.
إننا نري الان أن اليهود قد تجمعوا في فلسطين وجاءوا من أوروبا الشرقية والغربية إلى أرض آبائهم... فيا لهذا الشعب التعس المخدوع. فهم يتصورون أنهم وجدوا ملجأً لهم في آخر الامر، يكونون فيه بمأمن من الاضطهاد، وبمأمن من الخطر.
لا!!
إنهم يهيئون أنفسهم علي غير علم منهم لمعصرة غضب الله).
تلك هي اقوالهم بالحرف الواحد!! وفيهم من يعرف الحقيقة ولكن لم يقلها!!
نعم لقد جاؤوا من أوروبا إلى هذه الديار متصورين أنهم وجدوا ملجأ لهم! ولكن!!
إن حساب الناس في الدنيا أو الاخرة ليس من شأن العبيد، إنما هو من شأن الله وإنه لمما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي او المستبد الفاسد أو الملحد الكافر ممكناً

(١٧٢)

له في الأرض غير مأخوذ من الله. ولكن الناس يستعجلون!! إنهم يرون أول الطريق أو وسطه..
ولا يرون نهاية الطريق ونهاية الطريق لترى إلاّ بعد أن تجيء.
العالم الاخضر
ان حصيلة ما يمكن تصوره عن اسرائيل والحركة الصهيونية انها حركة تستغل أساطير وأوهام ونبوءات توراتية وانها عندما أرادت حل المسألة اليهودية جاءت بحل استعماري غاية في الدموية والبطش والقسوة ومثقلاً بالأطماع التوسعية وأوهام السيطرة وجنون العظمة.
ولذا فإن السلام الذي يتحدث عنه التملود هو سلام القبور والذي لن يتحقق الاّ بقتل الشعوب السبعة وتسخير الذين سينجون من القتل!!
ومن هنا فأن حركة كهذه وقد نجحت إلى حين في تأسيس كيان يمتلك رؤوساً نووية واسلحة ذرية ويعاني من عقد نفسية يعني أنه يمثل إرادة الشرّ هذه الإرادة السلبية التي ستفضي إلى عالم مؤلف من رماد وأنقاض.
وفي مقابل هذه الإرادة تبرز حركة المهدي التي واكبت التاريخ والحضارات حتى الان لتمثل إرادة الخير والعدالة، وسنجد في ثناياها عالماً أخضر يمثل تطلعات الانسانية وطموحات البشر عبر العصور.

(١٧٣)

ونورد هنا تلخيصا ما ورد في دراسة مفصلة تبدأ بتثبيت البواعث النفسية التي تفضي إلى عالم اللا مساواة والانحراف فهناك تثقيف حكومي موجه ينهض على أسس تتنافي وفطرة الانسان، وهموم الدولة في دفع رعاياها إلى الطاعة لقوانين تجانب روح العدالة.
وحالة التنافس المادي الذي يدفع بالإنسان عادة إلى انتهاج كل الاساليب في الحصول علي المال.
اضافة إلى التهافت الاجتماعي وتشرّب الافراد بثقافة الرفاه المادّي الذي يختزل السعادة والرفاه بالحصول علي أكبر قدر ممكن من وسائل العيش الحديثة من مسكن وملبس ومركب والذي يفرز ضمن تلك الثقافة حالة من النفوذ والمركز الاجتماعي.
وأخيراً اختزل أزمة الحب بمسائل الجنس والإغراء والاستغراق في الجانب الحيواني منه.
وتتداخل هذه الأسباب وتتشابك فيجد المرء نفسه محكوماً بمسار يعتبره قدراً مقدوراً وأن سعادته وهناءه يتوقفان عليه وأن تيار الحياة هو هذا ولا غير فتضمحل شيئاً فشيئاً جوانب الحياة المعنوية والروحية والاخلاقية وهنا تكمن أولى خطى العملية التغييرية.

(١٧٤)

ولذا تتضمن الاخبار في هذا المضمار منهجاً تربوياً يحقق ثقافة نقية تربي الانسان على طاعة الله وعبادته الحقيقية وسلوكاً أخلاقياً رفيعاً يصدر عن اجهزة الاعلام والمؤسسات التعليمية.
ولان شعار العملية التغييرية هو تنفيذ العدالة الحقيقية، وهو ما ينسجم مع الطموح الانساني وتطلعات البشرية، فان ارضية الانحراف والظلم سوف تتراجع أمام برامج الخير والصلاح.
حيث التنافس سيكون موجهاً ضمن معادلة أخلاقية تؤدي إلى النفع العام.
كما ان نجاح البرامج والخطط والمشاريع الاقتصادية سوف يفرز مسلكاً أخلاقياً رفيعاً وتجربة انسانية نبيلة إذ يحقق الفائض في الانتاج والعدالة في التوزيع وضعاً اجتماعياً تتراجع فيه بواعث الجريمة، ولن تكون هناك مبررات للإجرام التي يشكل العوز الاقتصادي والظلم الاجتماعي مساحة كبيرة فيها.
ثم تأتي برامج تنظيم العلاقات الانسانية بين الجنسين في الاطار الذي يحقق رسالة الدين وأهدافه الانسانية، علي أساس انسجام الجانب التشريعي مع الجانب التكويني ومكافحة كل التقاليد والاعراف التي تتناقض مع رسالة الدين وجوهره الانساني في تحقيق حياة كريمة تنظر إلى الإنسان وتعترف بميوله وترشد هذه الميول في ما يحقق انسانيته وكرامته.
ومع الايمان بتوفر عنصرين في ظهور المهدي وهما البرنامج الحياتي الشامل والكامل والاستقامة في التنفيذ والتطبيق، فأن توفر عنصر ثالث وهو تطلع البشرية إلى خطوة الانقاذ هذه سوف يسهم في تحقيق انسجام كامل مما يساعد في نجاح التجربة بشكل أخاذ.
فهناك اشارات نكتفي بذكر نموذج يؤكد تنامي الاتجاهات الانسانية وسيادة حالة من الاخوة والتضامن. عن أبي هريرة في حديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه قال:

(١٧٥)

(لتذهبن الشحناء والتباغض).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (اذا قام قائمنا وضع يده علي رؤوس العباد فجمع بها عقولهم، وكملت بها أحلامهم).
وفي هذا ما يؤشر درجة الوعي يومئذ.
وبسبب نجاح الخطط والبرامج الاقتصادية والثورة العلمية المذهلة سيتحقق رخاء اقتصادي، وفائض في الانتاج ووفرة في النقد الذي يعني قوة شرائية على درجة كبيرة.
عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): (يكون في آخر الزمان خليفة، يقسم المال ولا يعدّه).
وعنه صلوات الله عليه: (لا تدّخر الأرض من بذرها شيئاً الاّ أخرجته، ولا السماء من قطرها شيئاً الاّ صبته عليهم مدراراً).
(تتنعم متى فيه نعمة لم ينعموا مثلها قط تؤتي الأرض أكلها).
(تكثر الماشية وتعظم الامة).
(ابشروا بالمهدي! رجل من قريش من عترتي، يخرج في اختلاف من الناس وزلزال، فيملا الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلما وجورا. ويرضي عنه ساكن السماء وساكن الارض، ويقسم المال بالسوية، ويملا قلوب أمة محمد غناه ويسعهم عدله).
(اذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور وأمنت السبل وأخرجت

(١٧٦)

الأرض بركاتها).
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال:
(ولو قد قام قائمنا لا نزلت السماء قطرها ولا خرجت الأرض نباتها ولذهبت الشحناء عن قلوب العباد).
(تمشي المرأة بين العراق والشام لا تضع قدميها الاّ علي النبات).
فاذا كانت الصحراء بين الشام والعراق المليئة بالرمال تستحيل إلى ارض خضراء يغمرها الامن والسلام، فانه ليس بوسع الخيال أن يتصوّر الثورة الزراعية التي سيشهدها عصر الظهور.
وتفند دراسة (تاريخ ما بعد الظهور) مقولة الانفجار السكاني الذي يهدد الارض بالمجاعة.
فمن السخف أن يقال: إن البشرية متجهة نحو المجاعة، وان زيادة النسل يؤدي حتماً إلى قلة الارزاق في العالم. ان ذلك إنما يتحقق، حين يكون الإخلاص ضئيلاً والعمل مبعثراً والتشريع ظالماً، كما هو الحال في عصر ما قبل الظهور. وأما حين توجد الدولة المخلصة والتشريع العادل والايدي العاملة المجدة والعمل المنظم عالمياً، فسوف يمكنه أن يحفظ للبشرية أرزاقها مهما تزايدت وتكاثرت، بل يمكنها أن تزيد الانتاج إلى أضعاف مقدار الحاجة، وتُضاعِف الدخل الفردي لكل البشر بشكل لا مثيل له في ما سبق من تاريخ.
وأما المنهج التفصيلي التشريعي والعملي الذي يتبعه المهدي (عليه السلام) في دولته لنيل هذه النتائج الزراعية الرائعة، فالتعرف عليه موكول إلى وعي ما بعد الظهور، وإنما المستطاع التعرف علي بعض فقراته من خلال ما بين أيدينا من قواعد وأخبار).

(١٧٧)

(إن نفس الاخبار التي سمعناها، تعطينا بعض الحقائق التي تفيدنا بهذا الصدد. فالإمام المهدي (عليه السلام)، سيأمر بحفر نهر خلال الصحراء الواقعة بين كربلاء والنجف، حتى ينزل الماء في النجف، ويعمل علي فوهته القناطير، يعني الجسور والارحاء - وهو جمع أرحية وهي المطحنة القديمة للحب - ومن هنا قال في الرواية: فكأني بالعجوز علي رأسها مكتل فيه بر، تأتي تلك الارحاء فتطحنه بلا كري، أيبدون أجره.
فإذا علمنا أن ذلك ليس إلاّ مجرد مثال، ذكر طبقاً للفهم القديم، استطعنا أن نتصور مقدار الانهر والقنوات الممدودة في الصحاري للري، ومقدار التجهيز الالي الزراعي المباح التصرف فيه للناس مجاناً، ليساعد علي سرعة الإنتاج وضخامته، وعلى سرعة التوزيع والتسويق.
وستؤدي هذه الثورة الزراعية طبقاً لإيديولوجية الدولة المهدوية، إلى عدة نتائج مهمة، نفهم بعضها:
منها: توفر الاطعمة والثمار بكثرة لدي الناس، مع رخص قيمتها السوقية، بل توفرها مجاناً للكثير من الناس.
ومنها: توفير العمل المنتج للعديد من الايدي العاملة، وبالتالي إشباع الملايين من العوائل التي كانت فقيرة ومضطهدة في عهد ما قبل الظهور.
ومنها: العمران الواسع خلال هذه الأرض المزروعة، ذلك العمران الذي ستتميز بعض تفاصيله.
ومنها: توفير الفرص الكبيرة لازجاء الحاجات الحياتية مجاناً، وبدون عوض وبذلك نستطيع أن نتصور حصول النتيجة المهمة الكبرى المطلوبة.
وفي مجال التعدين تورد الدراسات ما يلي:

(١٧٨)

(نصت الاخبار الواردة بطرق الفريقين: بأن الأرض تظهر معادنها وكنوزها على سطحها حتى يراها الناس، وتلقي بأفلاذ كبدها كأمثال الاسطوانات من الذهب والفضة.
وهذا يمكن فهمه علي أساس إعجازي. بمعني أن يفترض أن ظهور المعادن على سطح الأرض يكون عن طريق المعجزة، تأييداً من الله تعالى للمهدي ودولته.
وهذا الفهم محتمل.. إلاّ أنه ليس فهماً منحصراً. بل يمكن تقديم فهم آخر لا يكون الفهم الإعجازي أولي بالقبول منه علي أقل تقدير.
وهو أن نفهم الشكل الطبيعي لظهور المعادن، وهو استخراجها بالآلة، عن طريق تخطيط معين واهتمام خاص من قبل الدولة، حتى تتوفر المعادن بأيدي الكثيرين للقيام بها في الصناعات وإزجاء مختلف الحاجات.
ولا يخفي علينا في هذا الصدد، أن تطبيق الحكم الإسلامي علي المعادن يجعلها مملوكة للأفراد لا للدولة، بخلاف القوانين الوضعية التي تعتبرها جميعاً ملكاً للدولة. كما أنه يجعلها منتشرة بأيدي الآلاف لا بأيدي عدد قليل من الناس.
وذلك: بأن نفترض أن الدولة المهدوية هي التي توفر آلات الاستخراج الضخمة، مع تطبيق الحكم الإسلامي القائل: أن كل من استخرج شيئاً من المعدن يجب عليه أن يدفع خمسه إلى الفقراء وهو يملك المقدار الباقي. فينتج أن آلاف العمال العاملين في المعادن سوف يملكون كميات ضخمة من المعدن المستخرج، وملايين من الفقراء سوف تنسد حاجتهم عن طريق دفع خمس المقدار المستخرج إليهم.
فإذا ضممنا إلى ذلك الحكم الإسلامي القائل: بأنه لا يجوز للمستخرج أن يزيد مقدار ما يستخرجه وما يملكه من المعدن، علي قوت سنته.. عرفنا أنه ليس من حق أي فرد من العاملين في المعدن أن يثري علي حساب الاخرين، وإنما بمجرد أن تصل ثروته إلى حد معين يفي بحاجته السنوية له ولعياله بما يناسب حاله اجتماعيا، منعته الدولة عن الحصول علي المقدار الزائد من المعدن، فإما أن يعتزل العمل ويسمح لغيره

(١٧٩)

بالاستخراج، لكي يملك من المعدن بهذا المقدار أيضاً، أو أن يعمل ويكون الناتج للدولة مباشرة.
وعلي اي حال، فالدولة تملك الكمية الفائضة من المعادن عن كميات العمال، وهي كميات كبيرة، قد تزيد علي ما ملكه العمال جميعاً بأضعاف كثيرة. وهذه الكميات تستخدمها الدولة في صناعاتها وسد احتياجات العمل فيها.
ومن هنا تكون المعادن، تحت الحكم العادل، قد أفادت بطريق مباشر وغير مباشر ملايين الناس، وأغنت ملايين العوائل في العالم.
الجهة السادسة: في السياسة المالية للدولة المهدوية، كما أشارت الاخبار واقتضتها القواعد الإسلامية العامة.
وهناك فصل جديد يتعلق بصورة العالم في المستقبل لقد اعتدنا علي أن نتصور التأثيرات الطبيعية في الحياة الاجتماعية أما العكس فقد يصعب علينا بسبب طريقة تفكيرنا وتأثرها بمناهج مادّية فلا نتصور العكس. يقول السيد محمد الصدر في هذا المضمار:
(المستفاد من عدد من النصوص من الكتاب الكريم والسنة الشريفة، ان تطبيق العدل الإلهي أينما وجد، والمجتمع المؤمن أينما تحقق، فإن الطبيعة تكون مساعدة له بمشيئة خالقها الحكيم لإنتاج النتائج الحسنة والوصول إلى الرفاه الاجتماعي. وهذا أمر صحيح برهانياً.
قوله تعالى - نقلاً عن هود النبي (عليه السلام):
(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكمْ ثُمَّ تُوبُوا إليه يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرَاراً وَيَزِدْكمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكمْ).
وقوله نقلاً عن نوح النبي (عليه السلام):

(١٨٠)

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكمْ إنهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكم مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكم بِاَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَكمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَكمْ أَنْهَاراً).
فإن إرسال السماء مدراراً وشق الانهار وزيادة البنين ونحوها امور تكوينية ليس للإنسان فيها يد، وخاصة في عصر نوح (عليه السلام)، ومع ذلك فقد قرنت مع الاستغفار والتوبة، ومع إصلاح النفس والإخلاص بشكل عام. وهذا صادق بالنسبة إلى المجتمع المحدود، فكيف إذا أصبح المجتمع كله صالحاً مؤمناً.
فهذه مستويات ثلاثة من التأييد الإلهي، لا حاجة الان إلى الزيادة عليها.
الناحية الثانية: في تطبيق ذلك علي الدولة المهدوية، وما عرفناه من أشكال التأييد التي تعتبر كنتائج لإحدى هذه المستويات.
من الواضح أن الصفات المعتبرة لاستحقاق التأييد في المستويات الثلاثة كلها موجودة في أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام) خاصة وفي الدولة العالمية العادلة، ككل؛ فمن الطبيعي أن يكونوا مشمولين لكل هذه الاشكال الثلاثة.
وأما من حيث النتائج التي تعرضها علينا الاخبار السابقة، فتتجلي في صور مختلفة:
الصورة الأولى: سهولة استخراج المعادن بشكل خارج عن الحسبان، سواء فهمناه من زاوية إعجازية أو من زاوية طبيعية. وقد تحدثنا عن ذلك.
الصورة الثانية: اتساع الزراعة والأراضي المزروعة بشكل عظيم لم يسبق له مثيل. (لا تدخر الأرض من بذرها شيئاً إلاّ أخرجته، ولا السماء من قطرها شيئاً إلاّ صبته).
الصورة الثالثة: ارتفاع الدخل الفردي بشكل لا مثيل له، إلى حد ينغلق الطمع بالمال الزائد تماماً، كما صرَّحت به الروايات.

(١٨١)

الصورة الرابعة: انه (عليه السلام): (تطوي له الأرض) وهو تعبير عن سرعة الوصول إلى المكان البعيد، أما بشكل إعجازي أو بشكل طبيعي.
الصورة الخامسة: شمول الاخوة لكل الناس وعموم الصفاء بينهم جميعاً، الامر الذي لم يحدث في أي نظام آخر. كما نصت عليه أخبار الفريقين.
الصورة السادسة: إن الامن والصفاء لا يشمل البشر فقط، بل يشمل الحيوانات أيضاً: البهائم والسباع (واصطلحت السباع والبهائم) فيما بينها. وهي لا تضر الإنسان ايضاً (لا يهيجها سبع ولا تخافه).
وهذا الصلح أحد المظاهر الواضحة للتأييد الإلهي للمجتمع المهدوي. حتى أن الوحوش تصبح ملهمة بقدر الله عز وجل، علي أن تتجنب كل ما يضر بالبشر من قتلهم او قتل مواشيهم أو إفساد مزروعاتهم وغير ذلك بل لعلها تشاركهم فيما يشعرون من سعادة ورفاه وأخوة (يرضي عنه ساكن السماء) وهو الطير.
وهذا المطلب لا يمكن إثباته من ناحية العلم التجريبي الحديث، ولا يكون قابلاً للتصديق من قبل أي فرد ممن وثق بهذا العلم واطمئن إليه ولكن حسبنا تجربة المستقبل، وحدوث يوم الظهور نفسه، فبيننا وبين المفكرين المحدثين، وجود المجتمع العالمي العادل:
(فَانْتَظِرُوا إني مَعَكمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).
فإن تجربة وجود هذا الصلح لا يمكن تحققها بدون تحقق ذلك المجتمع فإنه الشرط الأساسي له. ولا يعقل أن يتحقق الشيء قبل توفر سببه. فإن حدث ذلك المجتمع، ولم يحدث الصلح بين السباع والبهائم كان كلام المنكرين صادقاً. ولكنهم لا يمكنهم إثبات ذلك في العصر الحاضر، بأي حال من الأحوال.
ونحن لا نهتم كثيراً بمستقبل العالم الحيواني فهاجسنا الوحيد المستقبل الانساني

(١٨٢)

خاصّة وقد روّض الإنسان كل حيوانات الغابة بما في ذلك سلطانها المهيب.
لكنه عجز عن ترويض نفسه فأصبحت الأرض غابة مخيفة يخشي الإنسان فيها حتى ظلّه.
ولم يعد كما في الماضي ليخاف زئير الاسود وعواء الذئاب، بقدر ما يقلقه ازيز الرصاص وهدير الطائرات ودوّي المدافع فيما يرقد الشبح الذرّي المرعب يهدد الانسانية بمصير (هيروشيما) في كل مكان ان هاجس الضمير الانساني اليوم هو الخصب والعدالة والسلام.

(١٨٣)