المهدي المنتظر والعقل
تأليف: الشيخ محمد جواد مغنية
الفهرس
تمهيد..................181
النقد على صعيد الرغبات..................186
عين الرضا..................186
عين السخط..................186
الآراء والمعتقدات..................187
الجواب..................187
الجواب...................188
كتاب وجواب..................189
الإمام..................192
المثل الأعلى والواقع..................193
الجواب..................194
حكم الحق والعدل..................195
ابن سبا..................195
حل المشكلات...................197
المشكلات الاجتماعية..................197
النظام الشيوعي..................197
النظام الديمقراطي..................198
العلم..................199
الجنس..................199
الإمام المعصوم..................200
الآيات والأحاديث..................201
نظام الإمام..................205
الدولة العامة العادلة...................209
هذا الفصل..................209
حكم واحد..................209
علة العلل..................211
الجاهل والمتشائم..................212
من هو الرجعي؟..................213
المهدوية واحمد أمين..................215
العصمة في أسلوب جديد..................221
الجواب.....................221
الجواب......................224
النجف والفوضى...................229
عند التصحيح..................229
حسنة الشيعة..................229
الفوضى..................230
الفوضى أفضل..................230
شيعة علي حقا..................231
الرئيس..................232
الدعاية..................232
أخطاؤنا..................233
المهدي المنتظر..................235
الدين والعقل..................235
العادة والعقل..................237
أحاديث المهدي..................239
الجواب.......................242
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الأخيار الأطهار.
بعد ان صدر كتاب (الشيعة والتشيع) وردت إلي حوله رسائل من قرائه، وما تأثرت بشيء، كتأثيري برسالتين منها:
الأولى: من شاب مدرس في احدي مدارس العراق، جاء فيها: كنت احسب ان أحدا بمقدوره ان يقنعني بالمهدي المنتظر، كما هو في عقيدة طائفتي وآبائي وأجدادي، ولكني، بحمد الله، قد اقتنعت وآمنت بعد ان قرأت كتابك (الشيعة والتشيع).
والرسالة الثانية: من العراق ايضا، ولم يفصح صاحبها عن مهنته، قال فيما قال: كنت من قبل اضع فكرة المهدي في عداد المستحيلات حتى قرأت الفصل الخاص به في كتاب (الشيعة والتشيع) فعدلت رأيي، وقلت: انها ليست محالا، كما كنت احسب واعتقد.
فحمدت الله، وشكرته جل وعز، وقلت في نفسي: وأية امنية ابتغيها من التأليف وراء هذه...؟ وأي عمل أتزود به في دار المقامة انفع وارفع؟...
وأيضا قلت في نفسي: ما دام هذا اجري من الكتابة فلن ألقي القلم، وفي نفس يتردد، وعرق ينبض.
وكلنا يعلم ان موضوع المهدي المنتظر من الموضوعات الشائكة للغاية، بالقياس إلى تفكير الناشئ، وتربيتهم، بخاصة من تغلب الزهو عليه،
وغرق في الغرور إلى ما فوق اذنيه... ومن هنا شعرت بالغبطة... واستغفر الله.. وان دلت الرسالتان علي شيء فانهما تدلان - اولا - علي جبن من يراوده الخوف من معالجة هذا الموضوع، وما اليه، الخوف من الاخفاق والاستخاف، وانه غير خليق بشيء - اقصد من له اهلية التفهم والتفهيم - ولا اصدق ان (عالما) يحصل على شيء يذكر في آخرته، ودنياه اذا لم يكن شجاعا مقداما... فلقد سبق في فلم الله وقضائه ان لا يكون للجبناء من فضله الدائم نصيب.
ومهما يكن، فلم يدر في خلدي حين قرأت الرسالتين ان اضيف شيئا علي فضل المهدي المنتظر في كتاب (الشيعة والتشيع) او اطبع هذا الفصل ثانية في كراسة علي حدة، ليطلع عليه من لم يصل الكتاب اليه، وانما انصرفت إلى كتاب علي والفلسفة، ثم إلى كتاب الوقف والحجر علي المذاهب الخمسة، ثم إلى كتاب الحج علي هذه المذاهب، ثم إلى كتاب تجارب وتأملات، ثم إلى كتاب اصول الاثبات في الفقه الجعفري، ثم إلى هذه الصفحات(1).
وفي اللحظة التي خط القلم فيها كلمة الختام من كتاب اصول الاثبات، وقبل ان اقوم من مكاني رأيتني - بحافز لاشعوري - اشرع بالكتابة عن الامامة بوجه عام، كما كان يبدو لي بادئ ذي بدء، لأخرج كتابا يحمل اسم (الامامة والعقل).. وكنت اذا سألني سائل فيم كتب اقول له: في الامامة والعقل، وقبل ان انتهي من الفصل الثالث تبين معي اني كتب عن صاحب الامر والزمان عليه السلام بوجه خاص، لا عن الامامة بوجه عام، ولكن باسلوب جديد، وتفكير جديد، كما خيلي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكتاب الاول نشرته دار الكاتب العربي، ووزعته، والثاني تتولي طبعه الآن دار النشر للجامعين، والثالث يعرض في المكتبات، والرابع انتهيت منه، ولا ادري ماذا يكون مصيره والخامس طبعته دار العلم للملايين، وستوزعه عما قريب ان شاء الله... وابتدأت بهذه الكتب في 20 شوال من سنة 1382ه. وتمت بحمد الله في 15شوال من سنة83.
الي، فعدلت عن اسم الامامة والعقل إلى اسم المهدي والعقل، وليس هذا من باب فسخ العزائم حيث لم يخطر لي العدول والفسخ ببال، ولكنه من باب اردت امرا، وأراد الله خلافه، فمضيت علي ارادته، والدمعة تترقرق في عيني غبطة وسرورا.
وتقول: هذا محال، او بعيد، اذ كيف تقصد الكتابة في موضوع، ثم يتبين انه غير ما قصدت؟... أليس هذا من باب (اردت ما لا تريد)؟... لان الكتابة في شيء لا تنفك عن ارادة هذا الشيء بالذات.
واقول: اجل، وقد كنت أري - من قبل - ان مثل هذا محال، كما تراه انت الآن... ولكن، صدق، او لا تصدق، هذا ما وقع وحصل... اما التفسير الذي اركن اليه فلم اجده الا في مشيئة الله وارادته، جلت حكمته وقدرته(2) اما انت ففسر بما شئت.
وشيء آخر أود ذكره وبيانه، وهو اني في سنة 1959 وضعت تصميما لسلسلة (الإسلام والعقل) وجاء كتاب الامامة والعقل - بحسب العزم والتصميم - الكتاب والعقل، والآخرة والعقل، وحين وصلت إلى الرابع اذا به علي والقرآن بدل الامامة والعقل، ثم فضائل الامام علي، ثم علي والفلسفة.
وبعد اربع سنوات او كثر من العزم والتصميم رجعت إلى الامامة بوجه عام - وحكيت القصة - ... ومن يدري لعلي اعزم في المستقبل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) ذكرت في كتاب تجارب وتأملات ان الله سبحانه اقام البراهين العامة علي وجوده من خلق السموات والارض،و ما اليه، ثم اعطي كل نفس من الادلة ما تختص به وحدها، واذا رجع كل انسان إلى تاريخ حياته، وتدبرها بالمعان لمس هذه الحقيقة، حيث يجد حوادث قد حصلت له، ولا يحد لها أي تفسير الا في مشيئة الله، وارادته، واضيف هذا الدليل إلي ما ذكرته في التجارب والتأملات، سوف اضيف إلي هذا الدليل الف دليل ودليل، ان امد الله في الحياة.
القريب او البعيد علي موضوع غير الامامة والعقل، واذا به نفس الامامة والعقل، تماما كما حصل مع هذه الصفحات...
بقي شيء ثالث، وهو - اني - منذ كتبت في الله، والنبوة، والاخرة إلي الآن قرأت عشرات الكتب في موضوعات مختلفة، واتجاهات شتي، وقد تبين معي انها كانت المادة ورأسمال لهذه الصفحات، وسأضيف، بحول الله وتوفيقه، إلي تلك القراءات قراءات ومطالعات، ان بقيت الكتاب والقلم... ومن يدري فقد تكون قراءاتي غدا مادة خصبة لكتاب (الامامة والعقل)... والي اللقاء.
والحمد الله الذي قدر فهدي، ويسر لليسري، وصلى الله على محمد وآله الأبرار الأطهار
ملاحظة:
الآن تذكرت ملاحظة، تتصل بهذه الصفحات، وغيرها من كتبي الصغار، واخشي النسيان والذهول عنها، ان لم ابادر لتسجيلها، وخلاصيتها ان سلسلة (الإسلام والعقل) الله والنبوة والآخرة جاءت في كتبيات صغيرة وكان الأفضل ان تكون اضخم وكبر.
وخلاصة الجواب:
1 - ان العبرة في الكيف، لا في الكم، بالفكرة والدقة والامانة، لا بعدد الصفحات، فلقد كنت وما زلت كره الحشو والفضول، واللف والدوران، واحب الاختصار، بدون ان يخل بالمعني، ويغير من طبيعته شيئا، ولو اردت لعبرت عن الصفحة الواحدة بصفحتين، او كثر.
2 - ان الهدف الذي ارمي اليه من كتابتي هو ان يقرأ هذا النشء الضائع عن الدين ويطلع علي شيء مما لدينا عسي ان يهتدي واحد من مئة، فان الفاصل الذي يفصلهم عنا هو جهلهم بنا، وقد كان وما زال جهل الناس بعضهم لبعض سببا للنزاع والصراع، فان علموا امكن القرب والتفافهم، واسهل الطرق لترغيبهم في القراءة المختصر المفيد الذي يستطيعون متابعته، وهم في السيارة وحين يأوون إلي مخادعهم، تماما كما يقرأون الصحف... وما زلنا نسمعهم يرددون نحن في عصر السرعة، والاختزال، واختصار الاوقات... فاختصرت، ليقرأوا، وهم سائرون، تماما كما يكلون (السندويش) ولو قارن مقارن بين من قرأ من شباب هذا العصر كتاب (علي والقرآن) مثلا، وبين من قرأ المطولات القديمة والحديثة في هذا الموضوع لوجد ان نسبة هؤلاء إلي اولئك نسبة الواحد إلى الالف، علي كثر تعديل... ان لم نقل لا شيء...
وبكلمة اني اهتم - اولا - بأبنائنا، واحاول الاقتراب منهم، وحملهم بشتي الطرق علي الدين والايمان، واودع الحجاج الصائمين المصلين إلي من ارادهم من الاخوان. والصلاة والسلام علي محمد وآله الطاهرين.
عين الرضا
اذا احسن اليك انسان، واستجاب لرغباتك فقد ملك عقلك وقلبك، لان الإنسان عبد الاحسان، والقلوب مطبوعة علي حب من احسن اليها، فاذا نظرت إلي اقواله وافعاله نظرت اليها بعين كليلة عن الحق، واعتقدت بأن ما يقوله هو العدل والصدق، وان ما يفعله هو الصواب والحق، ولو كان كاذبا في اقواله، مخطئا في افعاله، دون ان تشعر بهذا الميل والانحياز.. بل انك تحسب مخلصا ان ما تمليه عليك العاطفة هم من املاء العقل، ومنطق الواقع.
عين السخط
والشيء نفسه يقال في شهادتك علي من اساء اليك، لان عين السخط تماما كعين الرضا كلتاهما تعميان عن الحق، وصاحبهما ينطق عن الهوي، ويحسب انه وحي يوحيه الحق والواقع، وليس عامل التربية والبيئة بأفضل من عامل الحب والكراهية في تصوير الواقع تبعا لها.
الآراء والمعتقدات
واذا كانت آراء الناس ومعتقداتهم - غير البديهية - عرضة لاخطاء البيئة والأنانية فعلي المنصف ان يتهم نفسه فيما يري ويعتقد، وان يتنبه دائما إلي ان ما يؤمن به يقبل النقد والنظر، وانه لو كان منزها عن الخطاء لكان نبيا مرسلا، وكانت جميع اقواله وآرائه مقياسا للحق، ومعيارا للعدل.
اما الذي يحق له ان ينظر وينقد فهو المنصف العارف الذي يملك الاستعداد والمؤهلات.. فان الجاهل بالطب لا يدعي إلي فحص المريض، ومن لا يعرف الهندسة لا يطلب اليه ان يضع فيها الترتيبات والتصاميم، ومن لا يركن إلي ضميره لا يعتمد عليه في شيء، ومن كفر بالله يسأل عن رأيه فيمن آمن وايقن.
اجل، لو ان من كفر وجحد كان قد قرأ الفلسفة الالهية، واطلع علي براهين الالهيين وأدلتهم لكان للسؤال وجه عن رأيه، ان كان من اهل الرأي والانصاف ولكن كيف يقرأ، وهو يري مسبقا ان كان منا يتصل بالدين اسطورة ووهم؟!.. وهل تقرأ انت كتابا في الحساب لمؤلف يري ان اثنين واثنين تساوي عشرة؟!.. وهذا هو بالذات شأن كثير ممن جحد وألحد.
وتقول: هذا هو حال المؤمنين ايضا بالقياس إلي كتب الالحاد حيث لا يقرأون كتب الملحدين وبراهينهم.
الجواب
ان ما من باحث في الاهيات قديما وحديثا الا واستعرض اقوال الملحدين وأدلتهم، وتناولها بالنقد والتحليل في ضوء العقل، واهتم بها كل الاهتمام، اما الملحدون فترجع جميع اقوالهم وأدلتهم إلي شيء واحد، وهو ان الإيمان بالله ايمان بالغيب، وانهم لا يؤمنون الا بالحس.
وأجابتهم من آمن بالحق والعدل: ان الإيمان بالحس هو في الوقت نفسه ايمان بالعقل، لان شهادة الحس ليست بشيء لولا العقل، واذا جاز الاعتماد علي العقل في الحس المباشر جاز الاعتماد عليه في الحس غير المباشر، والتفكيك تحكم، وترجيح بلا مرجح.
ومهما يكن، فان الغرض من هذا الفصل ان نبين ونؤكد ان الإنسان لا يسوغ له ان ينتقد اذا كان اسيرا لمذهب، او نظرية، او تربية، او أي شيء.. ومن هنا حين اراد ديكارت ان يركز معلوماته علي المنطق السليم شك بادئ ذي بدء في كل شيء الا في الشك، ثم اخذ بالنظر والاستدلال.
وتقول ايضا: ان معني هذا ان نسد باب النقد من الاساس، اذ ما من عالم، او فيلسوف الا وله نظريه خاصة، لا ينفصل عنها، وينظر إلي الشيء من خلالها، ويحكم عليه بوحي منها، وعلي هذا فمن يلتزم دينا معينا، او مذهبا خاصا لا يسوغ له ان ينتقد من لا يدين بدينه، ويتمذهب بمذهبه.
الجواب.
اولا: ان عدم انفصال امرء عن رغباته لا يعني انه بعيد عن الحق والواقع في كل ما يقول ويفعل، فان بعض الرغبات تأتي انعكاسا عن الواقع وتعبيرا عن الخير، ولو صح القول بأن الرغبات والتعصبات بكاملها لاتمت إلي الواقع بصلة لما وجد في الإنسانية مصلح، ولا مفكر، ولا داع إلي الحق والخير... ولوجب ان يسد باب القضاء والترافع، لأن كل من يدعي شيئا يرغب فيه، ويتعصب له فكما ان القاضي العادل العارف لا يرفض الدعوي اعتباطا، ولا يحكم بها تشهيا، وانما يستمع للمدعي، ويطلب منه البينة والدليل، ويحكم بما تستدعيه الأصول المقررة...كذلك علينا نحن ان لا نصدق، او نكذب ما نسمع ونقرأ
الا بعد النظر والبحث. وهذا هو النقد بمعناه الصحيح.
ثانيا: ليس العبرة في صحة النقد ان يكون عقل الناقد صحيفة بيضاء، لم يخط فيها حرف واحد، وانما العبرة ان يعتمد في نقده علي ما هو مقبول في نظر العقل، او مسلم به عند الخصم، فلك ان تنتقد من يقول بأن الأرض مسطحة، وانت مؤمن بكرويتها، علي شريطة ان تأتي بالدليل المقنع علي بطلان التسطيح وان تقول للمسيحي: انك تخالف كتابك المقدس لانك لا تمد خدك الايمن لمن ضربك علي خدك الايسر، تقول له هذا، وان لم تكن مسيحيا.. وان تقول للمسلمين: انكم تخالفون القرآن الكريم القائل: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وان لم تكن مسلما، ويكون قولك هذا حجة دامغة... وبكلمة ليس من شرط الناقد ان لا يؤمن ولا يعتقد بشيء، وانما الشرط ان لا يتخذ من ايمانه واعتقاده معيارا لبطلان العقائد الأخري، وان لا تحول عقيدته علي الدليل الذي تسالم عليه العقلاء، أو آمن به الخصم علي الاقل، وبهذا المنطق يقف الناقد موقف المحايد، وبدونه يعجز عن القيام بهمة النقد الصحيح، وان بلغ من العلم ما بلغ.
كتاب وجواب
كتب إلي عراقي يقول: انك تهدف مما تكتب إلي هداية الشباب إلي الدين، وانا بحمد الله مؤمن متدين، ولست بحاجة إلي من يحببني بالدين، ولكني لا اري أي شيء من صميم الدين الا اذا اعترف به عقلي، ورآه حسنا، اما ما ينكره فأعتقد انه ليس من الدين في شيء، وانما هو من وضع رجال الدين الذين انحرفوا به عن اهدافه السامية، اما
جهلا بحقيقته وجوهره، واما عن قصد، ليعيشوا عن طريق الخرافات والاساطير التي يستسيغها البسطاء وارباب الجهالة.
وهذا القول يردده كثيرون من شباب اليوم خوفا من وصمة الالحاد وما دروا انه اعتراف صريح علي انفسهم بالالحاد والكفر، واقرار عليها بالجهل والحماقة من حيث لا يريدون... ومهما يكن، فقد اجبت هذا الشباب بما يلي:
اولا: اجل، لا شيء من الدين يتنافي مع العقل، ولكن العقل الذي يناصر الدين شيء، والذي تراه انت انه من العقل شيء آخر... ان للعقل حدودا تستقل عن رغبات الفرد، واهوائه الشخصية، واحكاما يستسيغها جميع العقلاء، ولا يقتصر قبولها علي فرد دون فرد، او فئة دون فئة ثانيا: ان حكمك بأن هذا صواب، أو خطأ لا يدل علي انه كذلك في واقعه، وانما يدل علي احساسك وشعورك بأنه صواب او خطأ، وان ابيت الا انه صواب موضوعي، او خطأ موضوعي فمعناه انك قد اتخذت من نفسك مقياسا للعقل، وخولتها الحكم علي الاشياء باسمه، وهذا ادعاء مبالغ فيه.
ثالثا: ان قولك: (لا أؤمن الا بما يراه عقلي) معناه انك لا تؤمن بدين، ولا بشريعة، ولا بأخلاق، ولا تلتزم بشيء الا بما تستوحيه من نفسك لنفسك، وهذا يناقض قولك: (انا مؤمن متدين). وأي انسان تتناقض اقواله وآراؤه ولا ينسجم بعضها معب بعض لا يكون في واقعه من ارباب العقائد في شيء، دينية كانت او زمنية، اما ظنه وشعوره هو بأنه من ذوي العقائد الراسخة، والمبادئ الثابتة فانه نتيجة طبيعية لتناقضه في آرائه، وانقسامه علي نفسه.
رابعا: لو اخذنا بنظريتك هذه لوجب ان يختلف الدين باختلاف الآراء والأشخاص.. ان المؤمن المتدين هو الذي يأخذ الدين من اهل
المعرفة والاختصاص الذين قضوا السنوات الطوال في البحث عن احكامه، والتنقيب في مصادره، تماما كما يأخذ المريض العلاج من الاطباء العارفين، ولا يثق بحدسه وخياله.
وبالتالي، فان اتهام المرء لآرائه التي لم يأخذها من معينها ومصدرها يقربه من الواقع، اما الذي يثق بها كل الثقة فانه يعيش في دنيا لا واقع لها، وفي عالم لا وجود له الا في مخيلته وأوهامه.
الامامة في مفهوم الشيعة الامامية وعقيدتهم رئاسة دينية وزمينة، يتولاها رجل عالم بما يصلح الناس في شئون دينهم ودنياهم، ويعمل على ذلك دون ان يستأثر عنهم بشيء، ولا يخطي ء في علمه ولا عمله.
فالامام في حقيقته وطبيعته انسان كسائر الناس لا يختلف عنهم الا في الصفات التالية:
1 - انه يعلم الشريعة بجميع احكامها، ودقائقها واسرارها، تماما كما هي في واقعها، وكما نزلت علي محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)، بحيث لا يجوز الخطأ واحتمال الخلاف في معرفته لها، بخلاف غيره من علماء الشريعة الذين قد يصيبون وقد يخطئون، ومن اجل ذلك جاز ان يخطئ بعضهم بعضا، ويناقشه بالدليل والبرهان، اما الامام فلا تجوز مناقشة والرد عليه بحال.
وتنبغي الاشارة هنا إلي ان الامامية يعتقدون بأن الامام ليس واضعا للأحكام بفسه، وجاعلها من تلقائه... بل هان واضعها ومشرعها هو الله جل وعز، وانه بينها لنبيه محمد، وان محمدا (صلي الله عليه وآله وسلم) بينها للامام مباشرة، أو بواسطة امام فالامام علم بها بعد وجودها وتشريعها، وبكلمة
انه مبلغ عن الرسول، والرسول مبلغ عن الله، قال الامام علي في الخطبة ال128 من خطب نهج: (علم علمه الله نبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي).
2 - ان الامام يعمل بالحق، اي ينسجم مع علمه وقوله، ولا يحول بينه وبين العمل به هوي ولا خطأ ونسيان... وايضا تنبغي الاشارة - هنا - إلي ان الامام في عقيدة الامامية غير مجبور ولا ملجأ إلي العمل بالحق... بل فيه قدرة نفسية تردعه عن الباطل، مع قدرته على فعله، وتدفعه إلي العمل بالحق، مع قدرته علي تركه.
اما الدليل الذي اعتمده الامامية في اضفاء هذا الوصف علي الامام فهو العقل بضميمة قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم - 58النساء). وقوله: (انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم ركعون - 58 المائده). لان امره تعالى بطاعة الامام - وهو ولي الامر - واقترانها بطاعته وطاعة الرسول، يكشف بحكم العقل ان الامام عالم ومعصوم عن الخطأ في علمه وعمله، والا لو جاز الخطأ والخطيئة عليه لكان الله مريدا لهما، تعالى عن ذلك عاوا كبيرا.
3 - بعد ان فرض ان الامام يعلم الحق ويعمل به يكون نصبه وتعيينه للامامة امرا طبيعيا غير منوط باقتراع المنتخبين، وارادة المحكومين، وانما يرشد اليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويدل عليه كما دل علي وجوب الصوم والصلاة، والحج والزكاة، وهذا معني قول الامامية: ان الامام يعرف بالنص من (الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقول العارفين من اهل الانصاف بأن صفات علي تنص عليه بالامامية، وتعينه لها بحكم العقل والعدل.
المثل الأعلى والواقع
وتقول: ان هذا المبدأ من الوجهة النظرية صحيح ومثلي اعلي لا
يقبل الشك والجدال، بل يطمح إلي تحققه كل انسان، ولكن المثل الأعلى شيء، والواقع شيء آخر، حيث لا نعرف احدا في هذا الوصف، بخاصة في زماننا هذا.
الجواب
ان الامامية لا يدعون ظهور هذا الامام الآن، واتصال الناس به واتصاله بهم فعلا وانما يقولون: ان الذي تجب طاعته هو العالم المعصوم عن الخطأ والزلل، فان لم يكن بهذا الوصف فهو غير واجب الطاعة، ولا منصوب ومختار للامامة من عندالله، بل من الذين ارادوه وارتضوه لذالك. وبالاختصار لا يجب علي اي انسان ان يتابع ويطيع انسانا آخر الا اذا كانت متابعته وسيلة للعمل بالحق، تماما كمن يحترم العالم لعلمه، ويعظم الأمين لأمانته، لا لشخصه.. اما طاعة الحكم لا لشيء الا لأنه حكم، وكفي، حتى ولو كان جاهلا فاسقا فانها لا تجب عند الامامية، بل هي من اعظم المحرمات، بل تجب معارضته ومقاومته، مع الامن وعدم خوف الضرر.
هذي هي الامامة التي يعتنقها الشيعة، ويدينون بها، كمبدأ وعقيدة، فأي بأس بها، او محذور يلزمها؟... وما هي الاضرار والمفاسد المترتبة عليها سوي القول بأنها امنية، وحلم من الاحلام الجميلة التي لم يكتب لها الفوز والانتصار.
وجوابنا علي ذلك ان اعراض الناس عن القيم والمثل العليا لا يخرجها عن حقيقتها، ولا يستدعي جحودها وعدم الإيمان بها، هذا إلي ان الترابط وثيق بين الواقع الاجتماعي، وبين اسلوب التفكير، وان التطور والتقدم ينبثق من النظرية الواعية، وقد تركت عقيدة الامام المعصوم احسن الآثار واقواها في الحياة الإنسانية، لانها كانت ومازالت حربا علي الاستقراطية التي تعتمد علي المولد والثروة والجاه، وعلي من يحكم ويتحكم في امور الناس بالقهر والغلبة وعلي من يدعي انه يحكم بأمرالله وهو
منغمس بالجريمة إلي اذنيه.. كما انها تناصر الحرية والديمقراطية التي تكل احكم إلي ارادة الناس في غياب الامام المعصوم.
حكم الحق والعدل
وبالتالي، فان الشيعة الامامية كانوا وما زالوا إلي اليوم، والي آخر يوم يدعون إلي حكم الحق والعدل بشتي الوسائل، وهم يطمعون ويأملون ان يتحقق هذا الحكم في يوم من الايام، حيث يعتقدون جازمين بأن دولة الباطل، مهما عظمت وامتد سلطانها، فانها إلي زوال، وان النصر في النهاية للحق والعدل.. وهذه الحقيقة قد فطر عليها كل انسان، وان لم يشعر بها، ويلتفت اليها، والفرق بين الشيعة وغيرهم ان الشيعة ادركوها، وعرفوا قبل سواهم ان الحياة لا بد ان تنتهي إلي الصلاح والخلاص من الادواء والاسواء، وان الناس، كل الناس سيعيشون في احسن حال من الخير والرفاهية، والأمن والعدل.. اما غيرهم فجري علي مبدأه من العمل بالقياس الباطل، حيث قاس المستقبل الغائب علي الشاهد الحاضر، وآمن بأن الغلبة للشر في كل زمان ومكان.
ابن سبا
ولست اعرف احدا اجهل وأغبي ممن نسب فكرة الامامة إلي عبد الله بن سبا، وانه اصله وباعثها، لا احد أجهل من هذا القائل، لان ابن سبا خرافة لا اساس لها في الواقع، وشخصيته اختلقها اعداء الشيعة للتشنيع عليهم، والتنكيل بهم، كما قال الدكتور طه حسين في كتاب (علي وبنوه)، واثبت ذلك بالادلة الحسية والارقام التي لا تقبل الريب السيد العسكري في كتابه الخطير الشهير (عبد الله ابن سبا) الذي طبع كثر من مرة.
ان المصدر الاول لفكرة الامامة هي القرآن الكريم، والسنة النبوية، قال تعالى في الآية 124 من سورة البقرة: (قال اني جاعلك للناس اماما). والآية 24 من سورة الفرقان: (واجعلنا للمتقين اماما). والآية 73 من الانبياء: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا). والآية 5 من القصص: (ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين).
والآية 24 السجدة: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
وجاء قي صحيح البخاري ومسلم، وغيرهما من كتب الحديث: (الأئمة من قريش). والتوضيح في الفصل التالي، فانه متمم لهذا الفصل.
المشكلات الاجتماعية
بماذا تحل مشكلات الجماعة، وما تعانيه من بؤس وشقاء ومظالم؟. وما هي الوسيلة التي تقضي علي الفقر والمرض والجهل؟. وهل من الممكن ان تعيش الإنسانية بلاد احقاد وأضغان، وفتن وحروب، او ان هذه الادواء والاوباء من لوازم الحياة التي لا تنفك عنها بحال؟. وبالتالي، هل لهذه الاسئلة اجوبة حاسمة قاطعة؟
النظام الشيوعي
قال من لا يؤمن الا بالمادة الاقتصاد: ان كل ما في الناس من مظاهر، وكل ما يصدر عن الإنسان يرجع إلي نظام اقتصادي انتاجي معين، حتى الشاعر الذي يتغي بجمال الطبيعة، والموسيقي الذي يضع الألحان، وابتهاج الإنسان بالاصدقاء والاخوان، واغتباط الأم بولدها، وحتي الحدائق في الدور، والقطع الفنية علي الجدران، كل ذلك، وما
اليه يتولد، وينبثق عن الاقتصاد، بل ان الزهد في الدنيا، وما فيها سببه الاقتصاد، بل ان الكعبة وهيكل سليمان، والمساجد، والحضرات المقدسة، وكاتدرائيات القرون الوسطي لم تبن الا وسيلة للمال.. وسقراط الذي شرب السم، وهو يعلم انه ميت لساعته لم يشربه الا لدافع اقتصادي... وكذلك جميع الشهداء الذين تقدموا للموت برباطة جأش، وطيب نفس لا دافع لهم الا الاقتصاد وحده، لا شريك له، منه كل شيء واليه المصير ورتبوا علي ذلك ان النظام الاقتصادي اذا تغير تغير المجتمع، وانحلت مشكلاته، وعاش في احسن حال، واهدأ بال.
وأيسر عيوب هذا المذهب انه يفصل الإنسان عن عقله وعاطفته، وعن تربيته ومجتمعه، ويسجنه في نطاق الاقتصاد فقط لا غير.. وليس من شك ان الكثير من الدوافع والصلات بين الناس ترتكز علي الاقتصاد، ولكن الشيء الذي تأباه البديهية ان يكون وراء كل ظاهرة للانسان، وكل موقف عقلي او عاطفي حاجة مادية، ومصلحة اقتصادية.. ان الإنسان يجمع بين الروح والمادة، وليس في وسعه التخلص من احدهما، حتى ولو كان شيوعيا عريقا في شيوعيته، لانه في واقعه انسان كسائر الناس من جسم وروح، ولكل لوازمه ومقتضياته التي لا تنفك عنه بحال.
النظام الديمقراطي
وقال انصار الرأسمالية: او (العالم الحر) كما يسمون انفسهم لا حل الا في النظام الديمقراطي، وحرية التجارة والتملك.
ويكفي للرد علي هؤلاء ان الديمقراطية كما هي عندهم قد انبثق عنها الثراء الفاحش، والفقر الفاحش، وان بلادهم تنتج من الغذاء والكساء والادوات اضعاف ما يحتاج اليه السكان، ومع ذلك يوجد فيها الجياع والعراة والمشردون، والسر ان هذه الديمقراطية قد افسحت المجال للقلة
القليلة لاحتكار الثروة ومصادرها وبالتالي لتحكمها بحياة الناس ومصيرهم.. ان كلا من الديمقراطية والشيوعية او الاشتركية لا تضمن الحل الصحيح، ولا ما يقرب منه، لان الاولي اخضعت السياسية لرجال المال والاقتصاد، وحكمت القلة بالكثرة والثانية اخضعت المال والاقتصاد لرجال السياسية المسيطرين علي الحكم دون غيرهم، والنتيجة الحتمية عدم الحرية هنا وهناك واعظم اسواء الاشتركية، كما هي في روسيا الام الحنون لهذا النظام، واسواء الديمقراطية، كما هي عند الاميركيين سادة (العالم الحر) ان تجعلا فناء العالم رهنا بكلمة تخرج من شفتي احد رجلين غير معصوم عن الاخطاء ولا منزه عن الاهواء والرجلان هما رئيس اميركا، ورئيس روسيا، اما الكلمة فهي الأمر بإلقاء القنبلة الذرية علي من يشاء من العباد والبلاد، ومن الذي يأمن ويضمن ان لا يصاب احد هذين بنوبة عصبية مفاجئة ما دام غير معصوم، فيصدر الامر بالفناء وتتحقق الكارثة بين عشية وضحاها؟..
العلم
وقال آخرون: الحل الصحيح انما هو في تقدم العلوم.
والجواب ان الناس لم يخشوا في يوم من الايام من الخراب والدمار الشامل، كما يخشونه اليوم، حيث تقدم العلم، وحيث اصبح العلماء أدوات في ايدي الحكمين والمتولين يسيرونها في المصانع والمختبرات وفقا لاهوائهم وأغراضهم.
الجنس
وقالت فئة تدهي انها من اتباع (فرويد) الطبيب النفسي الشهير؛
قالت هذه الفئة: ان الحل يكمن في اباحة النساء للرجال، حتى المحارم، وانه كما زادت الحرية الجنسية كلما كان ذلك خيرا للانسانية.
وهذه دعوة خبيثة إلي انطلاق الإنسان، مع نزواته الحيوانية، والخروج به عن انسانية إلي طبيعة البهائم الانعام، بل احط وادنى(3).
الامام المعصوم
وقال الشيعة الامامية: ان الحل الصحيح الدائم هو في حكم الحكم عالم معصوم عن الخطأ والزلل. اما معرفة هذه الفكرة، وبواعثها فيتضح مما يلي:
ان للانسان حاجات يستدعيها اصل وجوده بما هو موجود يصرف النظر عن أي شيء آخر، فكما انه في وجوده يحتاج إلي حيز يشغله كذلك يفتقر في حياته، واستمرارها إلي الغذاء والمأوي والكساء وما اليه مما لابد منه ولا غني عنه.
ويضاف إلي هذه الحاجات التي يستدعيها كيانه الطبيعي حاجات اخري يقتضيها وجوده الاجتماعي، كالزواج الشرعي والتعليم والامن والمساواة، ونحوها، وسد هذه الحاجات حق من حقوق الإنسان، ولكن أيه قوة من تحفظها له وتضمنها؟ هل التشريعات والقوانين، او الارشادات والمواعظ، او الإيمان بالمثل والمبادئ، او التعليم والتثقيف؟
وقد امتلأت الدنيا بالتشريعات والقوانين، ولكن يعوزها التنفيذ والتطبيق، حتى علي الذين وضعودها وشرعوها، اما الوصايا والمواعظ فانها اشبه بالجرائد اليومية، تقرأ، ثم تترك للصر، او لسلة المهملات، وليست
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) سمعت من يقول: ان فكرة اشاعة الاموال والاعراض اختلقها الصهاينة، لبلبلة الافكار، وصرف الانظار عن خططهم من اجل السيطرة علي العالم.
القيم والمثل بشيء عند الكثر أمام الصالح والمنافع، فلم يبق الا الإنسان الكامل الذي يعلم حاجات الناس وما يصلحهم، ويملك القوة لدفع الضرر عنهم، وجلب المنافع لهم، ولا هم له الا ان يستريحوا ويسعدوا، ولا يفضل نفسه بشيء حتى عن اضعفهم، فان شبعوا كان آخر من يشبع، وان جاعوا فهو أول من يجوع، وبكلمة يكون مصداق الآية الكريمة: (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين) وللحديث الشريف: (انما انا رحمة مهداة) تماما كرب العائلة العطوف الذي يشعر بأنه مسئول عن كل فرد من افرادها، ويضحي بحياته في سبيلها.. وبديهة ان هذا لا يكون، ولن يكون الا لمن عصم الله، واقصي عنه الأهواء والرغبات الا الرغبة في الخير والصالح العام.
الآيات والاحاديث
جاء في بعض الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية ان لاعمال الجماعة التي ترتكز علي الإيمان والعدالة صلة وثيقة بسعادتها في هذه الحياة، وبعدها عن المصائب والويلات، وان تهاونها بالحق، واصرارها علي الفساد وارتكاب الحرام له تأثير فعال في شقائها، وما تعانيه من الاسواء والبلاء.
قال تعالى: (ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون - 95 الأعراف). وقال: (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم - 12 الرعد). وقال: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نفمة انعمها علي قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم - 54 الأنفال) وقال: (ولو انهم اقاموا التوراة والانجيل وما أنزل اليهم من ربهم لكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم.(4) - 66
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) من فوقهم كناية عن خيرات السماء ومن تحت ارجلهم كناية عن خيرات الارض.
المائدة). وقال (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسب ايدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون - 41 الروم). وقال: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم - 30 الشورى)، وما إلي ذلك من الآيات، ويستفاد منها امور:
1 - ان ظهور الفساد، ومنه الفقر والمرض والجهل. انما هو من حكم الأرض، لا من حكم السماء، ومن أيدي الناس بامانة الحق، واحياء الباطل، لا من قضاء الله وقدره، وان أية جماعة عرفوا الحق، وعملوا به عاشوا في سعادة وهناء.
2 - ان التعبير في الآيات الكريمة بقوم وبالناس يدل علي ان الشقاء مستند إلي عصيان الجماعة وان مجرد صلاح فرد من الافراد لا يجدي شيئا مادام بين قوم فاسدين، بل ربما جر صلاحة عليه البلاء والشقاء، لوجوده في بيئة فاسدة، قال جل وعز: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة - 25 الانفال) أي ان الآثار السيئة لمجتمع من المجتمعات تعم جميع افراده الصالح منهم والطالح.. فان الشعب الخانع الخاضع للعسف والجور لابد ان يعيش افراده في الذل والهوان، حتى الاحرار الطيبين.
اما الأحاديث في هذا الباب فلا يبلغها الاحصاء، منها: (ما نقض قوم العهد الا سلط الله عليهم اشرارهم) ونقض العهد هو عدم العمل بالحق والامر به، ومنها: (وما حكموا بغير ما انزل الله الا فشا فيهم الفقر.). وما حبسوا الزكاة الا حبس عنهم المطر) والمطر هنا كناية عن الخيرات، ومنها (اذا لم يحكموا بما انزل الله جعل باسهم بينهم.. واذا عملوا بالمعاصي صرفت عنهم الخيرات.. ثلاثة تعجل عقوبتها، ولا تؤخر إلي يوم القيامة: عقوق الوالدين، والبغي علي الناس، وكفر الأحسان.). ومنها: (اذا كذب السلطان حبس المطر، واذا جار هانت الدولة).
وفي الدعاء المروي عن الامام: (اللهم اغفرلي الذنوب التي تغير النعم، اللهم الغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلا، اللهم اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء.
وعمل المعاصي، والحكم بغير ما انزل الله ونقض العهد، والبغي عن الناس، وكذب السلطان، كل ذلك وما اليه مما جاء في الحديث والقرآن كناية واضحة، وتعبير صريح عن فساد الاوضاع والظالم الاجتماعية، وعن (التراست) والتنافس علي السيطرة، واحتكار الثروات، وعن الفوضي والفساد، والتهتك والخلاعة، ونحوها وقد اتفقت في هذا العصر كلمة المؤمنين والجاحدين، والروحيين والماديين ان فساد الاوضاع سبب الانحطاط والتدهر، والشرور والويلات. لقد كشف الإسلام عن الصلة الوثيقة بين فساد الاوضاع وبين آلام الإنسانية، ومدي تأثير تلك في هذه الصلة كل مفكر ومصلح وعالم من قادة الاشتركية والشيوعية والديمقراطية، وغيرهم، ولكن ما الحيلة في الجاهل (المطبق)، ان صح التعبير، الذي ينسب كل فضيلة ومعرفة إلي الاجنبي البعيد، وينفيها عن اهله وقومه الذين هم اصلها ومصدرها، واولها وآخرها، وان كان لدي غيرهم من شيء يذكر فعنهم اخذوا، ومنهم اقتبسوا؟..
3 - ان المراد بالإيمان والتقوي في الآيات والأحاديث هو - بعد الإيمان بالله - التصديق بالخير كمبدأ، والعمل الصالح النافع للفرد والناس اجمعين، اما لبس المسوح، واقامة الشعائر دون ان تعمر القلوب بروح التدين الصحيح فليس من الإيمان في شيء.. وقد جاء في الحديث: (ما آمن بالله من بات شبعانا، واخوه جائع.. خير الناس انفع الناس للناس.. من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم.. عدل ساعة افضل من عبادة سبعين سنة).
وهذا الإيمان بمعني العمل الإنساني الذي ينتج السعادة الشاملة لا يتحقق، ولن يتحقق الا اذا تولي السلطة امام فوق الشبهات، لا يجوز عليه الخطأ
الخطيئة، اما اذا تولاها من لا حصانة له فلا محيص عن وجود المشكلات والنكبات، سواء كان الحكم فردا، او فئة، ما داموا جميعا عرضة للاخطاء والميل، مع الاهواء.. وبهذا نجد تفسير ما جاء في الحديث: (ان في ولاية العادل احياء الحق كله، واحياء العدل كله، وان في ولاية الجائر دروس الحق كله، واحياء الباطل كله)، وتفسير قول امير المؤمنين: (اذا أدي الوالي حق الرعية عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدل معالم العدل، وجرت علي أذلتها السنن، فصلح بذلك الزمان). وقد اشتهر علي الألسن اذا اعتدل السلطان اعتدل الزمان.
اما الإيمان بمعني الصوم والصلاة، وبناء المساجد ورفع المآذن فيتحقق مع وجود المعصوم وغيابه.
وبالتالي، فان الامامية يعتقدون بأن الحضارة والمدنية والتقدم بمعناه الصحيح لا يكون الا باقامة العدل، واشاعة الأمن والرفاهية، والا بالقضاء علي الظلم والفقر والجهل، وان بناء المجتمع الصالح السليم في دينه ودنياه لا يتم الا علي يد امام معصوم من الخطأ والزلل.. ومن تتبع، وتدبر القرآن الكريم، والسنة النبوية يجد لهذه العقيدة جذورا ثابتة فيهما، وأصولا جلية واضحة لا تقبل التأويل، ولا القال والقيل.
حكم الفرد:
وتقول: إن حصر السلطة بالإمام المعصوم معناه حكم الفرد الذي لا يناط بإرادة المحكومين وانتخابهم، وليس من شك أنه غير مرغوب فيه في هذا العصر.
الجواب:
إن المنتخب حقاً هو الذي يعمل على سعادة المحكومين ومصلحتهم، أما مجرد رفع اليد والادلاء بالصوت فليس من الانتخاب الصحيح في شيء اذا انحرف المنتخب مع أهوائه، وعمل لصالحه ومنفعته، بخاصة اذا كان الناخب مرتشياً أو جاهلاً ومخدوعاً مضللاً بالدعايات الزائفة والمواعيد الكاذبة، كما هو الشأن في جميع الانتخابات او أكثرها، ومن هنا جاء في القرآن الكريم: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 186 الأعراف): (وأكثرهم لا يعقلون - 106 المائدة): (ولقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون - 34 التوبة).. إذن وجود الحق لا يناط بإرادة الموافق أو المخالف، فإن للإنسان تمام الحرية في أن يقعد أو يقف، ولكن ليس له أن يترك الحق ويفعل الباطل، بل ليس له أن يختار المفضول مع وجود الأفضل، وقد روى السنة والشيعة عن النبي أنه قال: (من استعمل رجلاً من عصابة، وفيهم من هو أرضى منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين).
وعلق أديب معاصر على هذا الحديث بقوله: (أجل ان الأيدي القوية النظيفة العادلة البارة هي وحدها التي تؤمَّن على مصاير الخلق، وحاجات الناس. إن الحكم تضحية لا تجارة، وخدمة لا استيلاء).
وبكلمة أن المعصوم هو الحق مجسماً في شخصه، والعدل المحسوس الملموس، ومن هنا وجبت طاعته، وحرمت مخالفته، يضاف الى ذلك كله أنه ليس في ميسور أيما امرئ أن يمثل غيره تمثيلاً حقيقياً، كما أثبتت التجارب.
نظام الامام
ما هو النظام الذي يطبقه الامام، ويعمل به، لو تولي الحكم؟ هل هو النظام الرأسمالي، او الاشتراكي؟
الجواب:
ان نظامه افضل نظام للبشرية علي الاطلاق، فهو يجمع بين صلاح الدين والدنيا للجماعات والافراد ويسير بهم جميعا في طريق الرفاهية والازدهار، والأمن والعدل، ويحفظ الحرية والكرامة للجميع، ولا يدع مجالا للطمع والجشع، ولا للاستغلال، وسيطرة فئة علي فئة، او فرد علي فرد.. وبكلمة انه نظام الإنسانية الذي يحقق الخير والصلاح العام في شيء الميادين بدون استثناء وبعد هذا سمه بأي اسم شئت. وتحقيقا للهدف المطلوب يترك للامام اختيار الوسائل التي تحققه من التأميم وغيره اذ بعد ان افترش فيه العصمة يكون له جميع ما للنبي (صلي الله عليه وآله وسلم) من الولاية علي الانفس والأموال، وبديهة ان العصمة تنأبي به ان يفعل الا لمصلحة المولي عليه، قال السيد محمد بحر العلوم في كتاب (البلغة): (ان سلطة الامام علي الرعية ليست كسلطة السيد علي مملوكه، الجائز له التصريف لمحض التشهي... بل لمصلحة ملزمة راجعة إلي نفس المولي عليه، لان الامام في مرتبة المكمل للنقص الذي اقتضي اللطف وجوده).
واللطف عند الامامية ما يقرب الإنسان من الخير، ويبتعد به عن الشر، وهي مهمة الامام المعصوم.
وبهذا يتبين معنا ان الامامية آمنوا بفكرة الامام المعصوم، ووجوب حصر السلطة به للآيات والأحاديث، ولتحقق السعادة الدنيوية والآخروية التي يطمح اليها كل عاقل، ونعيد هنا الملاحظة السابقة مع جوابها، اما الملاحظة فهي ان فكرة الامام المعصوم صحيحة، كنظرية، اما من الوجهة العملية فاين هو هذا الامام، حتى نطيعه، ونتابعه؟.
والجواب:
اولا: انا نتخذ من هذه النظرية سلاحنا ضد حكام الظلم والجور.
ثانياَّ: ان كل نظام وجد، وعمل به نشأ أول ما نشأ في عالم
العقل، ثم تحول إلي العمل.. وقد بقيت الاشتراكية نظرية بحتة، وفلسفة مجردة يدور حولها النقاش والجدال السنين الطوال قبل ان تبرز إلي حيز الوجود.
قال (برتراند راسل) في كتاب (راسل يتحدث عن مشكل العصر) ترجمه مروان الجابري: (ان الفلسفة تتألف من التخمينات حول الاشياء التي لا يمكن بعد ان تتوفر المعرفة الدقيقة المضبوطة بها.. وانها تحافظ علي استمرار ملكة التصور والتخمين في دقائق الاشياء.. واني لا اريد لمخيلات الناس ان تكون محصورة محدودة ضمن ما يمكن ان يكون معلوما في الوقت الحاضر.. وقد استنبط الفلاسفة القدامى مجموعة كاملة من الفرضيات والنظريات التي ثبت نفها وصحتها فيما بعد والتي لم يمكن اختبارها يومذك).
واذا تحققت نظريات الفلاسفة وافتراضاتهم بعد ألقي عام، او كثر - وقد كان يظن انها محال - فمن الجائز، اذن، ان يظهر الامام المعصوم، ويتولي السلطة، وتحل حكومته جميع مشكلات العالم، ولو بعد آلاف السنين، حيث تمهد الاسباب، وتوجد المقتضيات.
ثالثا: ان لكل مشكلة اجتماعية حلا في نفس الامر والواقع تختلف الا نظار في تحديدها وبيان حقيقتها، ويري الامامية ان المشكلات الاجتماعية لا تحل، ولن تحل حلا جذريا كليا الا اذا حكم امام معصوم وبدونه تحل المشكلات حلا موقتا او جزئيا، ذلك ان الصواب لا يأتي من الخطأ. الحق لا يتولد من الباطل.
هذا، إلي ان التجارب اثبتت وجود الترابط الوثيق بين اصلاح المجتمع، وبين السلطة السياسية، بخاصة بعد ان سيطرت الحكومة علي جميع مظاهر الحياة من التربية والتعليم، والعمل والاشغال، والصحة والزراعة، والدعاية، والأنباء والشئون الاجتماعية والقضاء.. وقد كانت مهمتها من قبل تنحصر في الدفاع عن الحدود من العدو في الخارج، وحفظ الأمن
في الداخل، فاذا لم تكن السلطة معصومة عن الخطأ والزلل لم يتحقق الغرض المقصود منها، وهو الصلاح والاصلاح الشامل الكامل.
رابعا: ان نظام الحكومة البدائية كان أشبه بالنظام القبلي، بل هو هو، ثم تقدمت الحكومة، مع الحياة شيئا فشيئا في شكلها ونظامها، حتى اصبحت، حيث نراها اليوم، ويعتقد الامامية انها ستتقدم بعد كثر فكثر، حتى تبلغ الغاية في الكمال، ويعيش الناس في ظلها سعداء آمنين، وتكون نسبة الحكومات الحاضرة اليها، تماما كنسبة الحكومة البدائية إلي حكومات اليوم. وما ذلك علي الله بعزيز. اما مصدر هذا الاعتقاد فهو فكرة الامام المعصوم.
وبعد هذا فهل تراني بحاجة إلي القول: ان فكرة الامام المعصوم لا تتصادم، مع منطق العقل، بل يؤازرها ويناصرها، وان من يعارض هذه الفكرة فانما يعارض، ويعاند الحق والخير والعدل، من حيث لا يريد.
هذا الفصل
نقلنا في الفصل السابق الاقوال في حل المشكلات وعلاج المعضلات الاجتماعية، وانه يكمن في حرية التجارة والتملك عند الديمقراطيين (العالم والحر)، وفي الاشتركية، او الشيوعية لدي خصومهم، وفي تقدم العلم عند آخرين، وفي اباحة الجنس علي رأي.. ولم نشر إلي قول من قال: لا علاج، ولا شفاء الا في الدولة العامة لجميع سكان المعمورة.. حيث كان العزم علي ان نعقد فصلا مستقلا، لأهميته من جهة ولاتصاله الوثيق بظهور الامام المعصوم، وعموم سلطانه من جهة أخري.
حكم واحد
في سنة 1838 أعلن الفيلسوف الاميركي (ويليام لويد غاريسون) المبادئ التي يؤمن بها، فقال فيما قال:
(لا يمكننا ان نعترف بالولاء لاية حكومة بشرية، انا نعترف فقط بملك واحد، وبمشروع واحد، وبقاض واحد، وبحكم واحد للجنس
البشري.. ان بلادنا هي العالم، وكل الجنس البشري هم ابناء بلادنا، انا نحب ارض بلادنا بمقدار ما نحب البلدان الاخري، فمصالح المواطنين الاميركيين، وحقوقهم وحرياتهم ليست اعز علينا من تلك التي للجنس البشري)(5). ومن قبله بقرون قال الاديب الايطالي الشهير دانتي: (يجب ان تخضع الارض بكاملها، وكل شعوبها لأمير واحد، يمتلك كل ما يحتاج اليه، فلا تنشأ عنده الرغبة في شيء لا يملكه..فيخيم السلام ويجب الناس بعضهم بعضا، وتحصل كل عائلة علي جميع ما تحتاج اليه)(6). وهذه الدولة التي يعم فيها الخير ولا تقيم وزنا الا للتقوي هي التي دعا اليها القرآن الكريم والنبي العظيم، وآمن الامامية بصاحبها الذي يملأ الارض قسطا وعدلا وغريب ان يسخر من كلمة (يملأ الأرض قسطا وعدلا) مثقف يدعي المعرفة بالافكار والاتجاهات الغريبة، وهو اجهل الناس بالقديم والجديد، وبآراء النيرين في الشرق والغرب. ان لهذه الفكرة جذورا ثابتة في جمهورية افلاطون الذي سبق عصر السيد المسيح بكثر من ثلاثة قرون، وفي اقوال القديس او غسطين، وفي المدينة الفاضلة للفارابي، ولها انصار كثر من الفلاسفة والعلماء والأدباء والقديسين، منهم صموئيل جنسون الانكليزي الذي قال: (الوطنية آخر ما يلجأ اليه الوغد).. و(ليسنغ) الالماني القائل: (متي لا تعد الوطنية في عداد الفضائل). ومنهم فولتير الأديب الفرنسي الشهير الذي قال: (يكون للفرد وطن واحد اذا كان يحكمه ملك صالح، ولا يكون له أي وطن اذا كان يحكمه ملك شرير).. ومن أقوال هذا المفكر: (ما تمني احد العظمة البلادة الا تمني التعاسة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) تكوين العقل الحديث ج 2ص 418 طبعة1958.
(6) المصدر السابق ج 1 ص 170.
للآخرين).. وقال غوته:(ان وطني الخير والنبل والجمال.. وبوسعنا ان نجد الراحة في الاتجاه الكوني)، إلي غير ذلك من اقوال المفكرين، من اليساريين، والمحافظين(7)، ومن الداعين لهذه الفكرة في هذا العصر (برتراند راسل الفيلسوف الانكليزي الشهير).
ان هذا المبدأ الذي هو في حقيقة التدين بوجوب الوحدة العالمية، والولاء لقائدها الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا، وحضارة تنعم بالسلام والنظام، والرفاهية والازدهار، ان هذا المبدأ من اهم الفروق التي ميزت عقيدة التشيع عن غيرها من العقائد.
علة العلل
لقد رأى الإسلام وهؤلاء الدوليون ان القومية مظهر غير طبيعي، ولا عقلي، ولا انساني، وان الحدود الأرضية الجغرافية تفصل الإنسان عن اخيه الإنسان، وبالتالي تعزله عن واقعه وانسانيته، دوران وان التعصب والاضغان وحب السيادة والسيطرة، والتنافس علي قيادة العالم واحتكار الثروات ومصادرها،كل هذه، وما اليها كمشكلة الاقليات وحماية الأجانب، والشعوب المختلفة، والدول الضعيفة، والحروب والاستعمار لا مصدر لها الا القوميات، والحواجز الأرضية، فهي السبب الاول، وعلة العلل، ومتي اتحد العالم اجمع في دولة واحدة بقيادة حكيمة منزعن الأهواء بعيدة عن الأخطاء اتجه كل إنسان اتجاها كونيا، وشعر شعورا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) بالامس القريب اصدر عشرة من الاعضاء المحافظين في البرلمان الانكليزي كتابا بعنوان (سلطة للامن) يشرحون فيه وجهة نظرهم بانشاء حكومة عالمية، واستدلوا بتصريحات مكملان رئيس الوزارة، ودنكان وزير الدفاع البريطانيين.
انسانيا شاملا، لا يحده وطن، ولا ينحرف به تعصب إلي عنصر، او ارض، او أي شيء.
وهذا تعبير ثان عن فكرة الامام المعصوم الذي قال الشيعة: انه يخرج في آخر الزمان، ويوحد العالم تحت راية واحدة، ويملأ الأرض عدلا، ويساوي بين الجميع، حتى لا يري محتاج، ولا تراق محجمة من دم.. ان الشيعة يؤمنون ايمانا لا يخامره الشك بهذه الدولة الشاملة، وحضارتها الكاملة التي لا يوجد في ظلها كبير وصغير، وقوي وضعيف، بل كلهم أقوياء أغنياء صلحاء، انهم يؤمنون بها،وبحضارتها كعقيدة راسخة، لا كأمنية واحلام، كما هو شأن الطوبائيين، كما انهم يؤمنون ايضا بأن الحضارة حقا ليست في تقدم الصناعات، وتكديس الثروات بل باشاعة العدل والسلام، وشمول الحصب، ووفرة الطعام.
ولم يستوحوا هذه العقيدة من تاريخهم وبؤسهم، ومن المظالم التي وقعت عليهم من الطغاة وحكام الجور - كما قيل - بل استقوها من الوحي الذي نزل علي قلب محمد (صلي الله عليه وآله وسلم) وأحاديثه التي امتلأت بها صحاح السنة والشيعة، فقد كدت وجود هذه الدولة وعدالتها وحضارتها واخبرت عنها بشتي الاساليب والعبارات، ووضع لها الشيخ الصدوق الذي مضي علي وفاته كثر من ألف عام، كتاب خاصا في مجلدين كبيرين، اسماه (كمال الدين واتمام النعمة)، كما خصص لها العلامة المجلسي المجلد الثالث عشر من بحاره.
الجاهل والمتشائم
واذا سخر من هذه الفكرة الجاهل الذي لا يري إلي ابعد من انفه، واستبعدها المشتائم الذي لا ينظر الا بمنظاره الاسود القاتم فاننا نؤمن بها ايماننا بالله، وبأنفسنا: (انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا). ومنطق العقل
والحق معنا، اليس العالم في تغير مستمر، والتماسك الاجتماعي في تقدم مطرد؟!. اذن، لابد ان يصغي إلي صوت العقل والضمير، فيترك التعصب، ويتنازل عن الأنانية في يوم من اليام، ويهدم الحواجز بين الإنسان في اقصي المشرق، واخيه الإنسان في اقصي الغرب، وهذا رسل احد قادة الفكر في هذا العصر يقول: (من الممكن تطوير الامم المتحدة، بحيث تصبح نواة لحكومة عالمية.. واني لأري عندما اسرح بخيالي عالما من المجد والفرح، عالما تنطق فيه العقول.. كل هذا يمكن ان يحدث اذا سمحنا له). (كتاب برتراند راسل الإنسان لرمسيس عوعوض).
واذا قال راسل وغيره.. ان هذا لا يمكن الا اذا سمحت الاجيال، فنحن نقول مؤمنين ايمانا لا ريب فيها بأنه، سيحدث لا محالة، سمحت الاجيال، او لم تسمح لاننا علي يقين بأن العاقبة للخير والفضيلة مهما طال الزمن، سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
من هو الرجعي؟
وبالتالي، فان فكرة الامام المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلا فكرة تقدمية علمية، وواقعية ثورية(8) تهدف ال القضاء علي الظلم والضعف، وكل ما يعوق الحياة عن التقدم، ان فكرة صاحب الأمر والزمان فكرة المجتمع النهائي الكامل في دينه ودنياه، فكرة المجتمع الذي يحطم الحدود والسدود بين الإنسان، واخيه الإنسان، ويقضي علي التعصب والاضغان، انها فكرة الدولة الطاهرة النقية، ومجتمع المساواة والاخاء، والحب والصفاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) كل حركة من شأنها ان تغير الوضع الاجتماعي او الاقتصادي او الفكري إلي احسن، فهي حركة ثورية، اما هذه الشعارات التي نراها اليوم هنا وهناك فانها لصوصية مبطنة.
اما الرجعيون حقا، اما الجاهلون جهلا (مطبقا) فهم الذي يرون هذه الفكرة سفها وهراء، وفسادا وهباء.. وطبيعي ان يكذب هؤلاء بالامام المعصوم، وينكروا وجود صاحب الامر الذي يملأ الدنيا عدلا بظهوره، انه لطبيعي ان يكذبوا ويجحدوا، لانهم لا يجدون في دولته مكانا للخونة والمنافقين الذين يبيعون دينهم وضميرهم للشيطان بأنجس الأثمان.
احمد امين كتاب منتج، ما في ذلك ريب، وقد سد انتاجه فراغا غير قليل، كما يري كثيرون، حيث انتهج في دراسة التاريخ الإسلامي نهجا جديدا، لم يسبقه اليه عربي من قبل، ولكنه - كما هو في حقيقته كاتب طائفي، لا واقعي، فلقد عجز ان يتحرر من طائفيته وتربيته وبيئته، برغم انه حاول ذلك، وانضم إلي دار التقريب الا ان العصبية الطائفية تغلبت - ويا للأسف - علي معرفته وذكائه، وجميع مؤهلاته.
وتقول: ان عين الشيء يصدق فيك، ويقال عنك، حتى حكمك هذا علي احمد امين لا مصدر له الا العصبية الطائفية، لانه قال الكثير مما يؤذي الشيعة، ويسيء اليهم.. فأنت، اذن، تستنكر من غيرك ما تستحسنه من نفسك.
وجوابي عن هذا: اذا كنت انا متعصبا كأحمد امين، فكن انت منصفا يصغي إلي منطق العقل، وينظر إلي الواقع لا الظاهر والي القول، لا إلي القائل.. كن قاضيا مجردا، يستمع إلي اقوال الطرفين، ثم يحكم بما يوحيه دينه ووجدانه، وما تستدعيه منطق الحوادث، ودلالة الأدلة الحسية، بل نكتفي منك هنا، وما نحن بصدده ان تستمع بتدبر وتعقل إلي اقوال احمد امين وحده، وتحكم من خلالها له، او عليه.
في سنة 51 ألف احمد امين كتاب (المهدي والمهدوية) ونشرته دار المعارف بمصر في سلسلة اقرأ رقم 103، وقد هدف من وراء تأليفه إلي انكار المهدي والرد علي الشيعة، ولكنه في الواقع ايدهم وناصرهم من حيث لا يريد، او من حيث يريد الرد عليهم، وان دل هذا التناقض علي شيء فانما يدل علي صدق ما قلناه من انه كاتب طائغي لا واقعي واليك الدليل:
قال في ص 41: (اما اهل السنة فقد آمنوا بها ايضا) اي بفكرة المهدي.. وفي ص 110: (واما السنيون فعقيدتهم بالمهدي اقل خطرا).. وفي هذه الصفحة: (قد كتب الامام الشوكاني كتابا في صحة ذلك، سماه التوضح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح).. وفي ص 106: قرأت رسالة للاستاذ احمد بن محمد بن الصديق في الرد علي ابن خلدون، وقد فند كلام ابن خلدون في طعنة علي الاحاديث الواردة في المهدي، واثبت صحة الأحاديث، وقال (انها بلغت حد التواتر).. وقال - اي احمد امين - في ص 109: (قرأت رسالة أخري في هذا الموضوع عنوانها الاذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة لابي الطيب بن ابي احمد بن ابي الحسن الحسني).. وفي ص 41: (وقد أحصي ابن حجر الاحاديث المروية في المهدي، فوجدها نحو الخمسين).
اذن، ليس القول بالمهدي من خصائص الشيعة، بل آمن به السنة، ورووا فيه خمسين خديثا، والفوافي وجوده واثباته الكتب، ومادام الأمر كذلك باعتراف احمد امين نفسه فلماذا نسب القول به إلي وضع الشيعة، كما جاء في ص 13 و14، حيث قال ما نصه بالحرف: (واذاع الشيعة فيهم - اي في أهل المغرب - فكرة المهدي، ووضعت الكلمة علي لسان رجل ماهر، اسمه عبدالله الشيعي، يدعو للمهدي المنتظر).
وبعد ان اعترف احمد امين - مرغما - بأن السنة ايضا يومنون بالمهدي المنتظر أحس انه في مأزق، وانه لا بد ان يقال: ان الشيعة محقون في عقديتهم، مع انه يريد ادانتهم علي كل حال، فاستدرك، وقال: ولكن عقيدة السنة بالمهدي اقل خطرا..
وليت شعري كيف يجتمع قوله هذا، مع قوله في ص 41: ان فكرة المهدي والتشيع كانت سببا لثورة شبت ودامت سنين.. وقوله في ص 33: (ومن فضل الشيعة انهم كانوا في بعض مواقفهم، وفي اعتقادهم بالأئمة المهتدين يؤيدون الدين).. ومع قوله في ص 34: (ومن فضل الشيعة انهم كانوا مؤمنين، يدافعون عن الإسلام في الخارج ضد الصليبيين الذين يهجمون علي بلادهم، وفي الداخل ضد من أنكر الدين، وجحد النبوة).. وفي ص 37: (ولكن الحق يقال: (ان التشيع دائما ينصر الفلسفة كثر مما ينصرها السنيون)..
واذا كان الشيعة يدافعون عن الإسلام والمسلمين، واذا كانوا يناصرون الفلسفة كثر من السنة، واذا كانت عقديتهم بالمهدي والأئمة المهتدين تدفعهم إلي الثورة علي الظلم والظالمين.. فكيف، اذن، تكون عقيدة السنة بالمهدي اقل خطر؟!... الا يدل هذا التناقض علي طائفيته وتعصبه، وانقسامه علي نفسه؟!..
ولسنا نستكثر علي احمد ان ينكر وجود المهدي المنتظر، ويخالف المسلمين جميعا السنة منهم والشيعة بعد ان انكر عصمة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) صراحة: قال في ص 95: (وقد ثارت خلافات في عصمة الانبياء بالطبيعية، ورووا ان رسول الله (صلي الله عليه وآله وسلم) قال: توبوا إلي ربكم، فاني اتوب اليه في اليوم مئة مرة، وقال: انه ليغان علي قلبي(9) فهذه الاحاديث ونحوها لا تؤيد معني العصمة التامة).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9) اي غيمت الشهوة علي قلبه.
وبديهة ان الإسلام بعقيدته واخلاقه وشريعته، وجميع تعالىمه واحكامه يرتكز علي عصمة محمد (صلي الله عليه وآله وسلم)، فمن انكرها، او شك فيها فقد انكر او شك في الإسلام وبنبوة سيد الانام من الاساس.. لان الغاية من نبوته ورسالته رفع الخطأ في الهداية وحمل الخلق علي الحق، فان لم يكن معصوما فلا يتحقق المقصود منهما، وبالتالي لايكون نبيا.. استغفر الله، واعوذ به من الشك والغفلة.
وبهذا يتبين معنا ان كتاب (المهدي والمهدوية) ليس ردا علي الشيعة فحسب، وانما هو في واقعة رد علي الإسلام والمسلمين، واذا تحامل علي الشيعة كثر من تحامله علي غيرهم، فانه مدحهم وذم السنة بمنطق التاريخ، ومن حيث لا يحس ولا يريد، قال: ان ادباء السنة كانوا يمدحون الطغاة وحكام الجور، اما ادباء الشيعة فكانوا يمدحون أئمة الهدي والحق، فقد جاء في ص 86 من كتاب المهدي والمهدوية: (ولئن كان كثير من الأدب السني كان يقال في مدح الخلفاء والملوك والامراء السنيين، فان الأدب الشيعي كان يقال في مدح الأئمة والرثاء الحار في قتلاهم).
اجل، مدح ادباء السنة الطغاة وحكام الجور رغبة في المال والحطام، ومدح ادباء الشيعة أئمة الهدي والعدل ايمانا بالله وعظمته وولاء للرسول وأهل بيته، ولم يثنهم عن هذا اليمان والولاء القتل والصلب ولا السجن والتشريد، ولا التقييد بالسلاسل والاغلال ولا قطع اليدي والأرجل، بل ولا الدفن تحت التراب احياء... ذلك ان الشيعة يسخون بحياتهم ورؤسهم، ولا يسخون بدينهم وعقيدتهم، اما غيرهم فلا دين له ولا مبدأ الا الدراهم والدنانير.
قال احمد امين في ص 85: (ان الشيعيين اضطهدوا من السنيين، وكانوا يدعون - اي السنة - انهم يفعلون ذلك دفاعا عن أنفسهم، ولكن كانت غلطة يزيد بن معاوية في قتل الحسين غلطة كبري لم يكن
اصرفها، فظلت تعمل عملها في طول الازمان. ولم يكتف السنيون بذلك، بل جعلوا يقتلون كل امام طالبي يظهر، ونحن اذا قرأنا كتاب مقاتل الطالبين، لابي الفرج الاصفهاني رعبنا من كثرة ما وقع علي العلويين من قتل وتعذيب وتشريد.
هذا هو المبدأ، وهذه هي الفلسفة لحكم من حكم من السنيين القتل والتعذيب والتشريد باعتراف صاحب المهدي والمهدوية وليس هذا بغريب ولا بعجيب ممن حكم بالقهر والغلبة، ولكن العجيب الغريب ان يشير احمد امين من طرف خفي إلي الاعتذار عنهم بهذه الجملة المعترضة: (وكان السنة يدعون انهم يضطهدون دفاعا عن انفسهم).. وظاهر انه يريد بالدفاع عن النفس عن حكم البغي والجور..
بقي علينا ان نشير في هذا الفصل إلي امر يدل علي ذهوله، او عدم تتبعه، وانه يكتب دون ان يتثبت، حتى حين يكتب عن السنة.. لقد تحدث احمد امين في ضحاة عن الاحديث بوجه عام وعن صحاح السنة بوجه خاص، وعن البخاري ومسلم وصحيحهما بوجه اخص. (انظر الفصل الرابع من ضحي الإسلام المجلد الثاني) والذي تبين من كتاب (المهدي والمهدوية) انه يجهل احاديث الصحاح قال في ص41 (ووضع كل - من السنة والشيعة - الاحاديث في تأييد المهدي المنتظر. ومما يشهد بالفخار للبخاري ومسلم انهما لم تتسرب اليهما هذه الاحاديث، وان تسرب إلي غيرهما من الكتب التي لم تبلغ صحتهما.
هذا، مع العلم بأن مسلما روي في صحيحه.
النبي انه قال: (يكون في آخر متي خليفة يحث المال حثيا، لا يعده عدا)(10).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) القسم الثاني من الجزء الثاني باب لا تقوم الساعة، حتى يمر الرجل يقبر الرجل فيتمي ان يكون مكان الميت، وجاء في التعليق ان الترمذي وابا داود قالا هذا الخليفة هو المهدي. وجاء في صحيح البخاري ج9 كتاب الاحكام باب الأمراء من قريش: (لايزال هذا الامر في قريش ما بقي منها اثنان).
وبالتالي، فان كتاب (المهدي والمهدوية) يسجل علي صاحبه جهله بالإسلام وعقيدته، ومصادرها السنية والشيعة وتحامله علي الشيعة واجهل منه من يعتمد علي آثاره، وينقل من أقواله كحقيقة ثابتة. ولا شيء أدل علي ذلك من قوله في ص 120: (اني اعتمدت كثر ما اعتمدت علي الكتب السنية التي وصفت عقائد الشيعة). وهذا اعتراف صريح بأنه حكم علي المدمعي عليه لمجرد قول المدعي، واتخذ من الخصم حكمما وحكما علي خصمه.. وهذا منهجه في كل ما كتب عن الشيعة.. واذا اردت تفسيرا صحيحا لشخصية احمد امين واضرابه فاقرأ الفصل الاول من هذا الكتاب.
المعصوم هو الذي لا يمكن اتهامه بالاهواء والاغراض، ولا بالجهل والاخطاء، لا شيء الا لأنه انسان كامل بكل ما في الكمال الإنساني من معني.
والذين اوجبوا العصمة بهذا المعني للانبياء وحدهم، اولهم ولخلفائهم الحقيقيين استدلوا بأن للناس في حاجة إلي معلم مرشد، فان كان هذا المعلم عرضة للاخطاء احتاج إلي من يعلمه ويرشده، وهكذا إلي ما لانهاية.
وتقول: ان علماء الشريعة الإسلامية معلمون ومرشدون، وعلي الجاهل ان يقلدهم، ويعمل باحكامهم بدون مراجعة وسؤال، ومع ذلك لا تجب لهم العصمة باتفاق الجميع، اذن، ليس من الضروري للمعلم والمرشد ان يكون معصوما.
الجواب...
ان الفرق كبير جدا بين النبي والعالم، فان العالم يجد، ويجتهد في البحث والتنقيب في الكتب، وعند الاساتذة والرواة، ويعتمد القرائن وظواهر الالفاظ، ويفتي بموجبها اجتهادا وعملا بالرأي، بعد اليأس
من الظفر بغير ما وصل اليه،وقد يخطي ء في فتواه، اذا من الجائز ان يفهم من الظواهر غير ما تدل عليه، لشبهة في خياله، بل قد لا تكون تلك الظواهر والقرائن من الأدلة في شيء الا في ظنه وحسسبانه، ومن الجائز ايضا ان يكون هناك دليل علي العكس، ولكنه خفي عليه، وعجز من الوصول اليه، ومن هنا يسوغ لعالم آخر ان يقف له، ويناقشه في فهمه ومعرفته، وان كان دونه فضلا وعلما، كما له ان يعدل عن رأيه إلي ضده او يقلم فيه، ويطعم، اذا استبان لديه الحق، وهو معذور في ذلك، حتى لو عدل من الصواب إلي الخطأ، ما دام السبيل إلي المعرفة منحصرا فيما استخرجه من الدليل الذي استبان له بعد افراغ الوسع والجهد في البحث والتنقيب.
اما تقليد الجاهل لهذا المجتهد الذي يجوز عليه الخطأ فلأن كل انسان بالغ عاقل عليه ان يطيع ويمتثل أوامر الله ونواهيه دفعا للعقاب والضرر المعلوم، لو خالف وعصي، ولا طريق للجاهل إلي الطاعة والامتثال الا الاحتياط، او التقليد، والاول عسير، او معتذر، فتعين الثاني، ولو أبحنا للجاهل ان يخالف العالم العادل لكان معني هذا اننا نبيح له ان يخالف احكام الله. او يؤديها مشوهة علي غير وجهها، وبدون علم بوظائفها وأركانها واوقاتها..
هذا هو شأن العالم اما شأن النبي فعلي العكس من ذلك، لانه ينقل الحكم عن جبرئيل عن الله، لا عن ابي هريرة، ولا يرجع إلي كتاب، لان الكتب تبحث عن سنته، ولا إلي استاذ، لان قوله الفضل والحجة لجميع الاساتذة.. وبكلمة ان حكم المجتهد ذاتي، لا موضوعي، اي ان للذات و(الأنا) تأثير فيه، ولذا يقول، أنا رأيت وفهمت ان هذا حكم الله في حقي وليس من شك ان (الأنا) تخطئ، وتصيب، بل ان جواز الخطأ عليها اثر من آثارها، ولازم من لوازمها التي لا تنفك.
اما قول النبي فموضوعي صرف، لا اثر فيه للذات سوي التعبير عما في الواقع وفي اللوح المحفوظ، ولذا يقول: هذا هو حكم الله بالذات، ولا يقول: هكذا رأيت وفهمت، ولذا استحال في حقه العدول، لان العدول يتفرع عن الرأي، ولا رأي بل وحي يوحي.. وبديهة ان حكاية الحكم عن الله بمعني الوحي تستتبع عصمة الحكي له، وتلازمه ملازمة الظل للشاخص، بحيث اذا انتفت عنه انتفت معها النبوة لامحالة، بل ان العصمة هي النبوة والنبوة هي العصمة، لان عدم عصمة النبي معناه عدم عصمة الوحي، وعليه فلا يكون القرآن قرآنا، ولا جبريل امينا. ولا محمد نبيا تعالى الله عما يقول الجاهلون.
ثم هل لمثلي ومثلك ممن يجوز عليه الخطأ والزلل ان يكون مؤهلا للرسالة والتبليغ عن الله؟.. اذن اين الفرق بين التابع والمتبوع؟. ولماذا وجب علي الناس التصديق والقبول من النبي؟.. وما هو السر لاختيارة رسولا، واتخاذه خليلا وحبيبا وكليما دون سواه من الخلق، اذا لم يكن فوق الشبهات والهفوات؟...
واعتقد ان الذين اعترفوا بالنبوة وانكروا العصمة قد خلطوا بين الذات والموضوع، بين حكاية النبي للوحي، ورأي المجتهد وظنوا ان النبي يعبر عن رأيه وتفهمه، ولو فرقوا بينهما لقالوا بالعصمة لا محالة والذي يدلنا علي خلطهم هذا انهم عقدوا في كتب الاصول فصلا خاصا لاجتهاد النبي، كما في المستصفي للغزالي، وغيره، فلقد جاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب: (اختلفوا في النبي: هل يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه؟..)..
واختار الغزالي الجواز، وقاس النبي بغيره من المجتهدين، ومما قال:
(كما دل الدليل علي تحريم مخالفة الامام الاعظم والحكم(11)، لان صلاح الخلق في اتباع رأي الامام والحكم، وكافة الامة، فكذلك التي) أي ان النبي يحكم بالرأي والظن، تماما كما يحكم المجتهد.. وهو كما ترى مخالفة صريحة لقوله تعالى: (لا ينطق عن الهوي ان هو الا وحي يوحي علمه شديد القوي).
وتقول: هذا يدل علي عصمة النبي فقط دون غيره: مع ان الامامية يقولون بعصمة الامام ايضا فما الدليل علي ذلك؟.
الجواب....
ان الامام الذي اوجب الشيعة له العصمة هو غير الامام الذي تخليه وتصوره السنة فان مجرد العلم والايمان، والكرامة والشجاعة، والصبر والزهد والنزاهة كل هذه الصفات بمجردها لا تؤهل الإنسان لمقام الامامة، كما لا تؤهله لمقام النبوة، بل ان لذات الامام الذي هو خليفة الرسول حقا خصائص ومميزات، لا يعلمها الا الله، تماما كما ان لذات النبوة خصائص ومميزات لا يعلمها الا هو جل وعلي، وكما ان اختيار النبوة بيد الله سبحانه، لانه اعلم، حيث يجعل رسالته كذلك اختيار الامام لخلافة الرسول بيده الله، لا بالتصويب والانتخاب.
فالامام، اذن، عند الشيعة فيه جميع ما في النبي من صفات ومؤهلات، وله ما للنبي علي الناس من ولاية وسلطان، ولا يفترق عنه في شيء الا في نزول الوحي، علي ان الامام قد اخذ عن الرسول ما نزل عليه من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) جاء في كتاب الاحكام السلطانية للفراء، وكتاب المذاهب الإسلامية الابي زهرة وغيرهما ان الحكم الفاسق تجب اطاعته، وتحرم مخالفته عند كثر من واحد من أئمة السنة، وعلمائهم، واعتقد ان كل من افتي بذلك فانما افتي به خوفا، او طمعا، لا اقتناعا وايمانا، ومهما يكن، فقد اتفقت كلمة الشيعة علي انه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن اجل هذا كان نصيبهم دائما القتل والسجن والتشريد.
ربه، والنتيجة الحتمية لذلك ان الامام بهذا المعني معصوم لا محالة، تماما كالنبي، وان من نفي عنه العصمة فقد نفي عنه الامامة، كما هي الحال بالقياس إلي النبوة، وبكلمة ان من نفي العصمة عن الامام فقد نفي عنه خلافة الرسول بمعناها الكامل الشامل، من حيث يريد، او لا يريد.
وتقول: أجل، ان العصمة تجب لهذا الامام، وان امر اختياره بيد الله جل وعز بحكم الطبيعة مادام علي الوصف الذي ذكرت، ولكن ما الدليل علي ان الامام الذي هو خليفة الرسول حقا يجب ان يكون كذلك؟
وحيث تحتاج الاجابة عن هذا السؤال إلي التفصيل والتطويل الذي لا تتسع له هذه الصفحات فاني احيلك علي كتاب الشافي للشريف المرتضي وتلخيصه للشيخ الطوسي(5) ودلائل الصدق للشيخ المظفر، واذا وفق الله إلي كتاب (الامامة والعقل) اخذ بك في اوضح المسالك إلي الجواب.. وارجو أن يوفق الله فالي اللقاء.
وتقول ايضا: اذا وجبت العصمة لخليفة الرسول، كما وجبت للرسول نفسه، فينبغي ايضا ان تجب للمجتهد الذي هو نائب عن الامام، مع ان الشيعة لا يلتزمون بذلك.
وجوابي عن هذا ان الفرق كبير جدا بين نيابة الامام عن النبي، وبين نيابتة المجتهد عن الامام، فان الاولي تشمل كل ما للنبي من
سلطان، حتى الاولية بالناس من انفسهم، وليس للمجتهدة هذه الولاية ولا ما يقرب منها عند الشيعة وانما تنحصر وظيفته بالقضاء والافتاء ورعاية من لاولي له، ومن هنا كانت نيابته بالوكالة اشبه، ومع ذلك فقد تشدد الامامية في شروط المجتهد، ورووا عن الامام انه قال فيما قال: (اما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لامر مولاه فللعوام ان يقلدوه).
فصيانة النفس، والمحافظة علي الدين، ومخالفة الهوي شرط اساسي لتنفيذ الحكم والعمل بالفتوي.. ولو ان رجلا بلغ من العلم ما بلغ ولم يكن علي هذا الوصف لا ينفذ له قضاء، ولا تسمع له فتوي، ولا يؤتمن علي فتيل لقاصر، او غائب.
وقد وجد في الشيعة، ولله الحمد في كل عصر رجال يتمتعون بالخلال التي ذكرها الامام، ولكن - من سخرية الاقدار، او سخطها - ان يتفشي في هذا العصر وباء لا ادري: متي نقضي عليه او يقضي علينا؟.. وهو تطفل اغيلمة بنزوهم علي الكراسي والأعواد، وجلوسهم للدرس والافتاء والقضاء، حتى تخيلنا، او كدنا نتخيل انهم القرود الذين رآهم النبي في منامه يصعدون منبره، وينزلون، او انهم المعنيون بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (هلك متي علي يدي أغيلمته سفهاء) وقد تجلي سفههم بتطاولهم على ما ليسوا له باهل، وظهر جهلهم للعيان في دسهم ونيلهم من كرامة العماء بالتصريح تارة، وبالتلويح، واثارة الشكوك اخري.. واذا استمرت هذه الفوضي، ولم يقف كل منا عند حده، فستفقد النجف مكانتها والدين هيبته وعظمته، لاسمح الله.
وبعد هذا الاستطراد، او نفئة الفواد أعود إلي الموضوع، لاثير هذه التساؤلات: هل الشيعة يقدسون الأئمة الاطهار الابرار كثر مما تقدس سادتها وقادتها هذه الاحزاب والمنظمات في الشرق والغرب؟.. وهل
كتاب رأس المال - مثلا - اقل شأنا عند اتباعه من القرآن عند المسلمين، والانجيل عند المسيحين؟. واذا كان العلم يحتم ان نأخذ بالواقع المجرد عن الذات، لان النظرة الصحيحة هي التي تنظر إلي الموضوع بدون أية اضافة زائدة - كما قالوا - فهل قائد الحزب هو الواقع والموضوع، بحيث يكون الاخذ بأقواله آخذا بالواقع، لا (بالأنا) علي حد تعبيرهم؟.وبالتالي هل للعصمة من معني الا الاستدلال بقول المعصوم، وجعله دليلا قاطعا، وحجة دامغة، تماما كما تستدل الاحزاب والمنظمات اليوم وفي كل يوم بأقوال القادة والرؤساة؟. اذن لماذا يستنكرون العصمة وينعتون القائلين بها بالجهل والرجعية، وفي الوقت نفسه اثبتوا هذه العصمة بالذات، واوجبوها بالفعل لا بالقول لمن وضع لهم الفكرة والعقيدة، وتلقوها منه كما يتلقي المؤمنون من نبيهم، والعبيد من سيدهم وفرضوا علي الناس، كل الناس قبولها والعمل يها، ونعتوا من ابي وامتنع بالجهل والتخريف، او الخيانة والتحريف؟.. وهل هذا الجهل والتخريف يكمن في لفظ العصمة لا معناها؟..
وتجد الجواب عن هذه التساؤلات في فصل النقد علي صعيد الرغبات..
ونختم هذا الفضل بما يلي:
اتفق السنة والشيعة على فكرة العصمة، وأنها ثابتة في الإسلام، واختلفوا في التطبيق فقال السنة: هي ثابتة للجماعة، لقول الرسول الأعظم (ص): (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، وقال الشيعة: هذا الحديث ضعيف، والعصمة ثبتت لأهل البيت (عليهم السلام) بنص الآية 33 من سورة الأحزاب: (يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) والمراد بالرجس الذنوب، اذ لا شيء أقذر وأوسخ منها، ولا معنى للعصمة الا البعد عنها والطهارة منها، ومن أنكر عصمة أهل البيت فقد أنكر على الله، ورد شهادته بتطهيرهم وذهاب الرجس
عنهم.. بل في اعتقادي أن من أنكر عصمة سلمان الفارسي فقد أنكر على الرسول الأعظم (ص) ورد شهادته وقوله: (سلمان منا أهل البيت).. ومن كان من أهل البيت مثل سلمان فهو في حكم آية التطهير.
عند التصحيح
لقد شطح بي القلم في الفصل السابق إلي الحديث عن (اغيلمة) هذا العصر.. وكانت تلك الشطحة، او ذك الاستطراد نفثة مصدور، سرعان ما ذهبت مع الريح، كغيرها من النفثات والحسرات، وانصرفت انا لشأني.
والآن، وأنا أصحح للمطبعة ما جاء في هذه (الملزمة) من اخطاء عدت إلي تلك الحسرة، لأري: هل ذهل منضد الحروف عن كلمة او حرف.. وبصورة مفاجئة جالت في رأسي افكار وافكار عن اوضاع الشيوخ هنا وهناك، وادعاءاتهم الطويلة العريضة، وعن النجف ونظامها، وطلابها واعلامها، وكانت تلك الافكار الباعث الاول علي كتابة هذا الفصل، والحاقه بما طبع من فصول، لصلة رئيس الدين والمذهب بالامام المعصوم نيابة او وكالة.
حسنة الشيعة
ان كان الشيعة - اليوم - حسنة تذكر فتقدر فهي استقلال منصب
الرئاسة الكبري عن السياسة والسياسيين، وتعيين الرئيس الاول، واختياره للمنصب الكبر بالعلم والعدل فقط لاغير، لا بمرسوم من حكم، ولا بشفاعة ظالم، ولا بانتخاب من منظمة معينة، او أفراد معدودين، بل بنص طبيعي من سيرته وشخصيته ومؤهلاته، وتاريخ حياته منذ الطفولة إلي عهد الشيوخة حتى اذا كانت طاهرة نقية قلنا جميعا، وجدناه، فهو هو دون سواه.. وقد امتاز الشيعة بذلك عن سائر الطوائف، تماما، كما امتازو بتفسير عصمة الانبياء من انها النزاهة عن الذنوب قبل النبوة وبعدها.
الفوضى
ومن هنا كانت هذه الفوضي والتطفلات، وهذا التكالب علي لقب تقي واتقي، وورع واورع، وزاهد وازهد، والعلامة الاوحد، وحجة الله، وآيته، ومرجع عالي وأعلي، ومجتهد كبير وكبر، إلي آخر ماهو شائع ذائع، بخاصة في ايران مصدر هذه الطنطنات، ومسقط رأسها.. وقد كثر التسابق إلي هذه الالقاب بعد ان اشتهرت الفتوي بوجوب الرجوع إلي الاعلم في التقليد.
الفوضى افضل
ومهما يكن، فاني افضل هذه الفوضي والتطفلات علي تدخل السياسة في امور الدين والمذهب، واري مخلصا ان هذا التصدع والانحراف خير الف مرة من تدخل السياسيين، وان يكون تعيين الرئيس والمرجع بيد الحكمين.. فانهم ان نظموا فانما ينظمون الفساد ويجعلونه قانونا ملزما
ينفذ بقوة الدولة وان اختاروا فلا يختارون الا من هو اشد خطرا علي الدين، وكثر ضررا من كل فوضي، وكل تطفل، وأي شيء اضر واخطر من تصاغر نائب الامام، وتضاول الامين علي دين الله وشريعته امام حكم ظالم، وفاسق مستهتر، لا لشيء الا لأنه يتحكم في هذا المنصب وصاحبه؟.. لأجل هذا، وغيره من المفاسد افضل التقاليد النجفية بعلاتها علي تدخل السياسية افضل هذه التقاليد انا وكل مخلص لدينه وامته يريد ان تتصاغر الدنيا وابناؤها امام دين الله وعلمائه وامنائه، اما من أراد العكس فما هو من الدين ولا الإنسانية في شيء.
شيعة علي حقا
ان تاريخ الشيعة - اقصد شيعة علي قولا وعملا - يدل بصراحة ووضوح علي انهم لم يسالموا ويتفاهموا في يوم من اليام مع السياسة الظالمة الغاشمة ولا مع أي انسان لايقيم للدين وزنا، ولا للحق شأنا. ذلك ان الدين عندهم فوق كل شيء واعز من كل عزيز، حتى من الاهل والعيال، والنفوس والأموال، اما الشاهد علي هذه الحقيقة فاصحاب علي والحسين وزيد بن علي وشهداء فخ، وغيرهم وغيرهم من العلماء والشعراء ممن ذكرنا في كتاب (الشيعة والحكمون) لقد أصاب الشيعة من السجن والصلب، والتقتيل والتشريد ما تعجز عن وصفه الألسن والاقلام، لا لشيء الا لانهم رفضوا الانصياع والانقياد الا لمن اختاره الله، واراده رسول الله وارتضاه اولياء الله لا من أراده حكم ومتزعم ليحلل لهواهما ويحرم..ومن هنا كان لرؤساء الدين والمذهب وكلاء الامام حقا هذه المكانة في النفوس، وهذا التعظيم والتكريم.
الرئيس
ان هذا الحب والاخلاص، وهذا الخضوع والطاعة ان هذا الشعور الديني الخالص من كل شائبة الذي يحسه في قرارة نفسه كل شيعي في الشرق والغرب نحو من يمثل الدين حقا، ان هذا الشعور ما كان، ولن يكون، لو ارتبط هذا المنصب الالهي بالسياسة والساسة من قريب او بعيد، واني للسياسة واباطيلها ان يكون لها ما لدين الله من عظمة وجلال، وهيبة وكمال؟.
وان شككت في شيء فلن اشك ابدا في ان هذا المنصب ينطوي علي كثير من أسرار النبوة والامامة الحقة، وانه الدعامة الاولي للدين والمذهب، الدعاية الكبرى لنشره واعزازه(12) بل لبقائه واستمراره.. ومن هنا كان له هذا التقديس والتعظيم في نفس الموافق والمخالف.
الدعاية
وقد دلتنا التجارب ان في هذا المنصب سرا عميقا، لا نجد له أي تفسير الا في قاعدة اللطف العقلية، والعناية الالهية.. ذلك ان كثيرا ما تهيأ الاعلانات، وتعبأ الدعايات لشخص بعينه، حتى تظن معها ان الرئاسة الدينية قد اتت تجرجر اليه اذيالها، ولكن سرعان ما يتبخر كل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12) في سنة 62 زرت بلاد العلويين في سورية، وفي سهرة قضيتها في بيت احد الوجهاء ببانياس قال لي علوي: نحن لا نعترف باحد من العلماء سوك، حتى (فلان) لا نعترف به، واسمي مرجعا كبيرا.. لانك الوحيد الذي يدافع ويكافح. فساءني ما سمعت، وقلت له: انك لا تعرف شيئا من هذا الباب، وان مثلك مثل من رأي قائد جيش يحسن القتال ويدافع عن العاصمة ولوائها ويحرسها من اعدائها وذهل عن القاعدة الاولي ورئيس الدولة الذي لولاه لم يكن للكيان من عين ولا اثر.. ولو لا ما ذكرت ومنصبه السامي لم يكن للشيعة والتشيع من اسم ولا رسم، فقال: اجل واعتذر.
شيء كأن لم يكن، ويتولي الرئاسة رجل مكان علي البال، ولا الخاطر،او علي بال ناء بعيد.. وان دل هذا علي شيء، فانما يدل علي ان الدعايات والاعلانات، ان اجدت، فانما تجدي في السلع والبضائع، والمناصب الإلهية فانها لا تجدي نقيرا، وسبحان من اصطفي لدينه الأطهار، ولملة رسوله الابرار.
اخطاؤنا
قلت: اني ارجح الفوضي علي تنظيم السالسة والسياسة، وافضل انا وكل عاقل التقاليد النجفية بعلاتها علي اي تدخل خارج عن الدين وأهله وليس معني هذا اني سأسكت واصمت عما نحن فيه من عيوب واخطاء حرصا علي الهيئة الدينية، والحوزة العلمية، كما يقولون كلا، ثم كلا.. كيف، وأنا مؤمن بأن السبيل إلي القضاء علي الرذيلة والاخطاء هو ان نعرفها، ونعترف بها، ونشعر بوجوب الخلاص منها،؟ أما السكوت والصمت، اما التجاهل وغض الطرف عن العيوب فمعناه الامضاء لها والابقاء عليها، ومعناه ايضا تشجيع الاغيلمة ومن اليهم علي تعدي الحدود، والفضول والتطفل(13).
ثم ما معني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟. هل معناه اننا مسؤلون عن غيرنا، ولسنا مسؤلين عن انفسنا؟. ثم لماذا نحرض كل الحرص علي ان يستر بعضنا علي بعض، ونخاف هذا الخوف من النقد والصراحة؟. وهل من سر سوي الجبن والهلع من الفضائح والقبائح؟
ولو كنا علي قليل من الوعي والشجاعة، او علي شيء من حب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) ان كان من شروط الامر بالمعروف احتمال النفع فان يلارجو ان ينتفع واحد من مئة بقراءة ما كتبت في فقرة الفوضي من هذا الفصل، ان كان من عضاق الالقاب.
الخير لانفسنا لرحينا بالنقد والناقد، بل وبحثنا عنه في كل مكان، فان لم نجد او جدناه، وخلقناه، علي شريطة ان يكون مخلصا في أهدافه، خبيرا بالاسواء والادواء، يجب ان نطلب هذا الناقد، وندعوه للنقد، تماما كما يجب ان نبحث عن الطبيب الناصح الماهر، وندعوه العلاج.
وبالتالي، فاني سأنتقد كل عيب ونقص أراه في قومي الذين اشهد الله وأنبياءه وأولياءه علي المرارة التي أعانيها من أجلهم... اني ادين لهم بالاخلاص، واتمني لهم كل الخير، وان يكونوا فوق الناس اجمعين، ولذلك انتقد كل عيب فيهم ونقص، واعلنه علي الملأ، ولا اخشي لومة لائم من كبير او حقير، ما دمت مخلصا لله ولهم، واعيا ما أقول، آملا ان يتحسسوا، ويشعروا بالمسؤولية اتجاه خالقهم وانفسهم وأمتهم.
واهلا ومرحبا بمن يهدي إلي عيوبي بقلب طاهر، وعقل ساهر.
حدثتك في المقدمة عن رسالتين تتصلان بهذا الفصل، وان صاحب احداهما اقتنع بفكرة المهدي المنتظر، واهتدي بعد قراءته، اما صاحب الثانية فقد رآه ممكنا بعد ان كان يراه ممتنعا، اذن، لهذا الفصل اثره الصالح في هداية الحائر التائة عن سبيل الحق، وهذا ما دعائي، وشجعني ان اضعه بين يديك لتعطفه علي الفصول السابقة، فانه الجزء المتمم لها، واثقا كل الثقة أنك ستنظم إلي صاحبي الرسالتين، ان كنت من التائهين عن الحق، والطالبين له.
الدين والعقل
اشاد الإسلام بالعقل واحكامه، ودعا إلي تحرره من التقاليد والاوهام، ونعي علي العرب وغير العرب الذين لا يفقهون ولا يعقلون، ويؤمنون بالسخافات والخرافات، وقد انزل الله في ذلك عشرات اليات، وتواترات به عن الرسول الاعظم الأحاديث والروايات، وافرد له علماء المسلمين ابوابا خاصة في كتب الحديث. والكلام والاصول.
سؤال
وتسأل - أيها القارئ - هل معني اشادة الإسلام بالعقل انه يدرك صحة كل اصل من اصول الإسلام، وكل حكم من احكام الشريعة، بحيث اذا حققنا ومحصنا أية قضية دينية في ضوء العقل لصدقها وآمن بها ايمانه بان الاثنين كثر من الواحد؟.
الجواب
كلا. ولو أراد الإسلام هذا من تأييده للعقل لقضي علي نفسه بنفسه، ولكان وجوده كعدمه. ولوجب ان يؤخذ الدين من العلماء والفلاسفة لا من الانبياء وكتب الوحي. ان للعقل دائرة، وللدين اخري، وكل منهما يترك للآخر الحكم في دائرة واختصاصه، علي ان يقر كل منهما حكم الآخر، ولا يعارضه في شيء، والإنسان بحاجة إلي الاثنين، حيث لاتتم له السعادة والنجاح الا بهما معا.
ان الغرض الاول الذي يهدف اليه الإسلام من الاشادة بالعقل هو ان يؤمن الإنسان بما يستقل به من احكام، ولا يصدق شيئا يكذبه العقل ويأباه. ان العقل لا يدرك كل شيء وانما يدرك شيئا ولايدرك شيئا، والذي يعلم كل شيء هو الله وحده. فوجود الله وعلمه وحكمته، واعجاز القرآن الدال علي صدق محمد في دعوته وما إلي ذك يدركه العقل مستقلا، ويقدم عليه البرهان القاطع. اما وجود الملائكة والجن، والسير غدا علي صراط ادق من الشعرة، وأحد من السيف، وشهادة اليدي والارجل علي اصحابها، وتطاير الكتب، وسؤال منكر ونكير، ونحو ذلك مما لا يبلغه الاحصاء، وثبت بضرورة الدين، اما هذه فلا تفسر بالعلم، وليس فيه للعقل حكم بالنفي او الاثبات. ان الدين غير محصور ولا مقصور فيما يدركه العقل، بل يتعداه إلي امور غيبية يؤمن بوجودها كل من آمن بالله والرسول واليوم الآخر.
ولكن الدين في جميع احكامه وتعاليمه لا يعلم الناس ما يراه العقل محالا، او مضرا. كيف؟ ولولا العقل لاستحال اليمان بشيء من الاشياء.
وبالتالي فليس كل ما هو حق يجب ان يثبت بطريق العقل، ولا كل ما لم يثبت بالعقل يكون باطلا - مثلا - ان مسألة المهدي المنتظر لا يمكن اثباتها بالادلة العقلية، مباشرة وبلا واسطة، لا لأنها غير صحيحة، وباطلة من الأساس، بل لأنها ليست من شئون العقل واختصاصه، ان عجز العقل عن ادرك قضية من القضايا مباشرة شيء، وكونها حقا او باطلا شيء آخر، اجل، ان مسألة المهدي يدركها العقل بالواسطة، يبحث تنتهي السلسلة إلي حكمه، ذلك ان العقل يحكم بوجود الله، ويتفرعن وجوده وجود النبوة، وعن وجود النبوة تتفرع الامامة والمهدي المنتظر الذي اخبر منه الصادق الأمين بحكم العقل.
العادة والعقل
فرق بين ما هو ممتنع الوقوع في نفسه، بحيث لا يمكن ان يقع بحال، حتى علي ايدي الأنبياء والاولياء.
كاجتماع النقيضين، وجعل الواحد كثر من اثنين، وبين ما هو ممكن الوقوع في نفسه، ولكن العادة لم تجر بوقوعه، كالأمثلة الآتية، وما كان من النوع الأول يسمي بالحال العقلي، وما كان من النوع الثاني يسمي بالمحال العادي، وكثير من الناس يخلطون بين النوعين، ويعتذر عليهم التمييز بينهما، فيظنون ان كل ما هو محال عادة هو محال عقلا.
واليك الامثلة: لقد اعتدنا ان لانري عودة الأموات إلي هذه الدنيا، وأن يولد الصبي، ولا يكلم الناس ساعة ولادته، واذا جاع احدنا لاتنزل عليه مائدة من السماء واذا اصابه العمي والبرص لا يشفي بدون علاج واذا سبح الله وحمده لا تردد الجبال والطير معه التسبيح والتحميد،
واذا اخذ الحديد بيده لا يلين له كالشمع، واذا سمع منطق الطير لايفهم منه شيئا، كما يخفي عليه حديث النمل، ويعجز عن تسخير الجن في عمل المحاريب والتماثيل. ولم يشاهد انسانا مات منذ قرون، ولا انقلاب العصا إلي ثعبان، ولا قوف مياه البحر كالجبال، ولاجلوس الإنسان في النار دون ان يناله اي أذي. فكل هذه، وما اليها لم تجر العادة بوقوعها، ولم يألف الناس مشاهدتها، لذا ظن من ظن انها مستحيلة في حكم العقل، مع انها ممكنة عقلا، بعيدة عادة. بل وقعت بالفعل.
فلقد اخبر القرآن الكريم بصراحة لاتقبل التأويل ان السيد المسيح كلم الناس، وهو في المهد، واحيا الموتي، وابرأ الكمه والابرص، وانزل مائدة من السماء وانه ما زال حيا، وسيبقي حيا إلي يوم يبعثون، وان النار كانت بردا وسلاما علي ابراهيم، وان عصا موسي صارت ثعبانا، وان الحديد لان لداود، وسبح معه الطير والجبال، وان سليمان استخدام الجان، وعرف لغة الطيور والنمل. ان هذه الخوارق محال بحسب العادة، جائزة في نظر العقل، ولو كانت محالا في نفسها لا متنع وقوعها للانبياء وغير الأنبياء. فكذلك بقاء المهدي حيا ألف السنة او الوف السنين واختفاؤه عن الانظار - كما يقول الامامية - بعيد عادة، جائز عقلا، واقع دينا بشهادة الاحاديث الثابة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمن انكر امكان وجود المهدي محتجا بأنه محال في نظر العقل يلزمه ان ينكر هذه الخوارق التي ذكرها القرآن، وآمن بها كل مسلم، ومن اعترف بها يلزمه الاعتراف بامكان وجود المهدي، والتفكيك تحكم وعناد. اذ لا فرق في نظر العقل بين بقاء المهدي حيا ألوف السنين، وهذه الخوارق من حيث الامكان وجواز الوقوع، مادام الجميع من سنخ واحد.
أحاديث المهدي
ألف علماء الامامية كتبا خاصة في المهدي، منهم محمد بن ابراهيم النعماني، والصدوق، والشيخ الطوسي، والمجلسي الذي خصص له المجلد الثالث عشر من بحاره وذكر هؤلاء العلماء وغيرهم كل ما يتصل بالمهدي من الأحاديث النبوية، بخاصة ما جاء في كتب السنة، وبصورة اخص الصحاح منها، وقد استقصاها السيد محسن الأمين في القسم الثالث من الجزء الرابع من (اعيان الشيعة) طبعة سنة 1954، ورغم ثقتي بهؤلاء الأعلام، ويقيني بصدقهم عما ينقلونه عن غيرهم فاني تتبعت بنفسي ما تيسر لي مراجعته من كتب السنة خشية الاشتباه بالنقل، او في فهم الحديث وقبوله للتأويل، ولأن القدامي وكثر الجدد من علمائنا ينقلون عن الكتاب الذي يبلغ المجلدات دون ان يشيروا إلي رقم الصفحة، ولا تاريخ الطبع، حتى ولا اسم المجلد، وربما كتفوا بالقول (جاء في كتب السنة او قال السنة).
وكتفي هنا بنقل ما في ثلاثة كتب من الصحاح السنة(1) لأن لفظ احاديثها هو بالذات لفظ الأحاديث المروية في كتب الامامية قال ابن ماجة في سننه ج2 طبعة سنة 1953 الحديث رقم 4082:
(قال رسول الله:انا اهل بيت اختار الله لنا الآخرة علي الدنيا، وان اهل بيتي سيلقون بعدي بلاء شديدا، وتطريدا، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينتصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه، حتى يدفعونها إلي رجل من اهل بيتي، فيملأها قسطا، كما ملئت جورا.
والحديث رقم 4083:
(قال رسول الله: يكون في متي المهدي، ان قصر فسبح، والا فتسع، تنعم فيه متي نعمة لم تنعم مثلها قط، تأتي كلها ولا تدخر منه شيئا، والمال يومئذ كدوس، فيقوم الرجل يقول:
(يا مهدي اعطني. فيقول: خذ).
والحديث رقم 4085: (المهدي منا اهل البيت).
والحديث رقم 4086: (المهدي من ولد فاطمة).
والحديث رقم 4087: (نحن بني عبد المطلب سادة اهل الجنة: انا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي).
وقال ابو داود السجستاني في سنند ج2 طبعة سنة 1952 ص422 وما بعدها:
(قال رسول الله: لو لم يبق من الدنيا الا يوم لطول الله ذلك اليوم، حتى يبعث رجلا من اهل بيتي يواطي ء اسمه اسمي، واسم ابيه اسم ابي يملأ الارض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا).
وفي حديث آخر: (المهدي مني. يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا، ويملك سبع سنين).
وجاء في صحيح الترمذي ج9 طبعة سنة 1934 ص 74: (قال رسول الله: لا تذهب الدنيا، حتى يملك العرب رجل من اهل بيتي يواطئ اسمه اسمي). وفي ص 75: (قال رسول الله: يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، ولو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم، حتى يلي).
وجاء في كتاب (كنوز الحقايق) للامام المناوي المطبوع مع كتاب
(الفتح المبين) سنة 1317 ه ص 3: (ابشري يا فاطمة المهدي منك)(14).
هذا المهدي الذي اثبته الامام المناوي وصحاح السنة، وكثير من مؤلفاتهم هو بالذات المهدي المنتظر الذي قالت به الامامية، فاذا كان المهدي خرافة واسطورة فالسبب الأول والاخير لهذه الاسطورة هو رسول الله. تعالى الله ورسوله علوا كبيرا حتى لفظ (يملأ الارض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا)، حتى هذه الجملة التي عابوها علي الامامية، وسخروا منها ومنهم هي بحروفها للرسول الاعظم، لا للامامية، فان يك من ذنب فالنبي هو المسؤول. حاشا الله والرسول.
ان الذين يسخرون من فكرة المهدي انما يسخرون من الإسلام، ونبي الإسلام، من حيث يشعرون او لا يشعرون. وينطق عليهم الحديث الذي نقله صاحب الأعيان في الجزء الرابع عن النبي (من انكر خروج المهدي فقد كفر بما انزل علي محمد).
قال بعض المؤلفين: (اخترع الشيعة فكرة المهدي لكثرة ما لا قوه وعانوه من العسف والجور، فسلوا انفسهم ومنوها بالمهدي الذي يملأ الارض عدلا، وينصفهم من الظالمين والمجرمين).
ولو كان هذا القائل علي شيء من العلم بسنة الرسول لما قال هذا، لقد تخيل اشياء لا اصل لها ولا اساس، ثم اعلنها علي انها عين الحق والواقع، ولست اعرف احدا الجهل واجرأ علي الباطل ممن يكتب في موضوع ديني، ويعطي احكاما قاطعة، قبل ان يرجع إلي كتاب الله وسنة الرسول، وقبل ان يبحث وينقب عن اقوال العلماء وآرائهم. ان العلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14) كتب الحديث الصحيحة عند السنة: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجة.
معرفة الشيء عن دليله، اما القول بالظن والتخرص، كما فعل الذين انكروا وجود المهدي فجهالة وضلالة.
وبالتالي، فان الامامية لولا هذه الأحاديث التي اوردها اصحاب اصحاح لكانوا في عني عن القول بالمهدي، وبكل ما يتصل به من قريب او بعيد، ولكن ما العمل، وهم يتلون قوله تعالى: (ما اتكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا).
وبكلمة لقد اخبر النبي عن المهدي فوجب التصديق به، تماما كما وجب التصديق بمن سبق من الأنبياء لأن القرآن الكريم اخبر عنهم.
ورب قائل: ان الأحاديث النبوية التي نقلتها عن صحاح السنة انما دلت علي خروج المهدي في آخر الزمان، دون ان تتعرض من قريب او بعيد إلي وقت ولادته. اذن فمن الجائز انه يولد في القرن الذي يخرج فيه، لا انه قد ولد بالفعل وقبل خروجه بقرون، كما قال الامامية.
الجواب.....
ان القول بخروج المهدي وولادته وكل ما يتصل به لا مستند له الا الأحاديث النبوية، غاية الأمر ان خروجه في آخر الزمان ثبت بطريق السنة والامامية، اما ولادته فقط ثبتت بطريق الامامية فقط، وليس من الضروري لأن يؤمن المسلم بشيء ان يثبت بطريق الفريقين، وانما الواجب ان يؤمن بما يثبت عنده، علي شريطة ان لا يناهض ايمانه حكم العقل ويصادمه، وقد بينا ان بقاء المهدي حيا تماما كالخوارق التي حدثت لابراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، لا تتنافي وشيئا مع حكم العقل بالامكان، لأنها قد حدثت بالفعل، والدال علي الوقوع دال علي الامكان بالضرورة.
هذا، وان جماعة من كبار علماء السنة قالوا بمقالة الامامية، وآمنوا بأن المهدي قد ولد، وانه ما زال حيا، وقد ذكر السيد الأمين اسماءهم
في الجزء الرابع من الاعيان، ونقل الثناء علي علمهم والثقة بدينهم عن كثير من المصادر المعتبرة عند السنة، وهم:
1 - كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي في كتابه (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول).
2 - محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، في كتابيه (البيان في اخبار صاحب الزمان). و(كفاية الطالب في مناقب اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب).
3 - علي بن محمد الصباغ المالكي في كتابه (الفصول المهمة).
4 – أبو المظفر يوسف البغدادي الحنفي المعروف بسبط ابن الجوزي في كتابه (تذكرة الخواص).
5 - محيي الدين بن العربي الشهير في كتابه (الفتوحات المكية).
6 - عبدالرحمن بن احمد الدشي (عقائد الكابر).
7 - عطاءالله بن غياث الدين في كتابه (روضة الاحباب في سيرة النبي والآل والاصحاب).
8 - محمد بن محمد البخاري المعروف بخواجة ربارسا الحنفي في كتابه (فصل الخطاب).
9 - العارف عبدالرحمن في كتابه (مرآة الاسرار).
10 - الشيخ حسن العراقي.
11 - احمد بن ابراهيم البلاذري في (الحديث المتسلسل).
12 - عبدالله بن احمد المعروف بابن الخشاب في كتابه (تواريخ مواليد الأئمة ووفياتهم).
هذي هي مسألة المهدي المنتظر عرضناها علي العقل فلم ينكرها وعلي القرآن الكريم فوجدنا لها اشباها ونظائر، وعلي سنة الرسول فكانت هي المصدر الاول، وعلي علماء السنة فألفيناهم مجمعين عليها. ومنهم
هؤلاء الذين قالوا: انه ولد، وانه حي إلي ان يأذن الله، فأين مكان الغرابة والخرافة في قول الامامية؟!
وكأني بقائل: مالك ولهذي الموضوعات التي كل الدهر عليها وشرب؟ اليس من الاجدر والأليق بك، وبالصالح العام ان تعرض عن هذه إلي اوضاعنا وضياعنا، إلي الحديث عن الحلول لما نعانيه من مشكل وآلام.
فلت: اجل، والله. نحن في اشد الحاجة إلي الأفعال لا إلي الاقوال. إلي السكوت عما مضي وكان، والاهتمام بما هو كائن ويكون. ولكن ماذا نصنع؟ ونحن نقرأ بين الحين والحين كتابا او مقالا يكفر الملايين، ويطعنها في اقدس مقدساتها، وينعتها بالجهل والسخف، وانها لا تصلح للحياة ولا لشيء الا للسخرية والاستهزاء وان التشيع الذي تتمذهب به لا يعد من المذاهب الإسلامية في شيء وانما هو دين ابتدعه اعداء الإسلام، وخصوم الإنسانية؟!
ماذا نصنع؟ هل يجب ان نسكت ونتغاضي عن هذه الهجمات والحملات؟ هل يحرم علينا الدفاع عن النفس، وبيان الحقيقة، وابطال التهم الكاذبة التي تزداد وتتفاقم بالتجاهل والاغضاء؟! ثم هل يجتمع شمل المسلمين، وتتحد كلمتهم بهذه النزوات والضلالات او باثبات ان ما قاله الامامية في المهدي هو من الإسلام في الصميم. وهذي هي المهمة التي يضطلع بها هذا الكتاب.