الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) والد الإمام المهدي الموعود (عجل الله فرجه)
بقلم: علي الكوراني العاملي
فهرس موضوعات الكتاب
مقدمة..................3
الفصل الأول: خلفاء بني العباس أذكى من نمرود وفرعون..................9
1. إصرارهم على قتل الإمام العسكري (عليه السلام)..................9
2. الخليفة كراكب الأسد!..................13
3. كل الحكام يخافون من المهدي الموعود!..................13
4. إصرار أربعة خلفاء على قتل الإمام العسكري (عليه السلام)..................19
5. كيف تعامل العباسيون واليهود مع المغيبات!..................21
6. صورة عامة لمحاولاتهم قتل الإمام (عليه السلام)!..................25
7. الإمام العسكري (عليه السلام) والخليفة المستعين..................32
8. الإمام العسكري (عليه السلام) والخليفة المعتز..................33
9. الإمام العسكري (عليه السلام) والخليفة المهتدي..................35
10. الإمام العسكري (عليه السلام) والخليفة المعتمد..................37
الفصل الثاني: غلب الله بني العباس ووُلد المهدي (عليه السلام)!..................41
وُلد المهدي (عليه السلام) وغلب الله بني العباس!..................41
ولد المهدي (عليه السلام) بعد هلاك الخليفة المهتدي بشهر..................41
الإمام العسكري يعلن ولادة ابنه المهدي (عليه السلام)!..................44
وسَّع الإمام إعلان ولادة ابنه (عليه السلام) لرد إشاعة السلطة!..................47
الفصل الثالث: الإمام العسكري (عليه السلام) بشهادة معاصريه..................55
شهادة ابن رئيس وزراء معاصر للإمام (عليه السلام)..................55
شهادة سائس عند الإمام (عليه السلام)..................59
الفصل الرابع: من معجزات الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)..................73
1. شخصية الإمام (عليه السلام) بكلها معجزة!..................73
2. مع أنوش النصراني..................73
3. قصة فَصْد الإمام (عليه السلام) ومعجزة الدم الأبيض!..................76
4. صلاة الاستسقاء..................80
5. مسجد الإمام العسكري (عليه السلام) ومقامه في جرجان..................83
6. كان يخرج من السجن لملاقاة شيعته ويعود!..................88
7. معجزة حصاة أم غانم وأخواتها!..................88
8. مع يونس الصائغ..................98
9. مع الغفاري من ذرية أبي ذر (رحمه الله)..................99
10. المعجزات التسع التي نقلها عنه الطبري..................100
11. دعاء الإمام (عليه السلام) على موظف كان يؤذيه..................105
12. حديث خادمه أبي الأديان (رحمه الله)..................105
13. رسالته الى وفد قم وهم في الطريق..................110
14- 29 معجزاته التي رواها أبو هاشم الجعفري..................113
30. أعاذ الله أولياءه من لمة الشيطان..................122
31. كن حلساً من أحلاس بيتك..................122
32. إن أجاب عن كتاب بلا مداد!..................125
33. أبرأ الأبرص..................126
34. كان يعرف لغات الناس..................126
الفصل الخامس: الفيلسوف الكندي آمن بالإمام العسكري (عليه السلام)..................127
شخصية الكندي الاستثنائية..................127
تحامل رواة السلطة على الكندي وذمهم له!..................141
كان الجاحظ عدو الكندي يطعن به ويكذب عليه!..................142
أدلة على إيمان الكندي وقرائن على تشيعه..................143
الفصل السادس: نظام الوكلاء عند الإمام العسكري (عليه السلام)..................149
نظام الوكلاء نظام عالمي وطبيعي..................149
الفصل السابع: عثمان بن سعيد أشهر وكلاء الإمام العسكري (عليه السلام)..................155
أسدي منقطع للأئمة من أول نشأته..................155
الفصل الثامن: أحمد بن إسحاق الأشعري القمي (قدس سره)..................163
كان من خواص الإمام العسكري (عليه السلام)..................163
كان شخصية قم ورئيسها..................166
بنى مسجد قم المعروف بأمر الإمام العسكري (عليه السلام)..................167
كانت قم مدينة عامرة ومهجراً للعلويين..................167
مرافقة سعد الأشعري لأحمد بن إسحاق الى سامراء..................170
آخر حجة حجها أحمد بن إسحاق (رحمه الله)..................188
ما رواه أحمد بن إسحاق في الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)..................189
نماذج مما رواه أحمد بن إسحاق (رحمه الله) في العقائد..................202
روايته عيد الزهراء (عليها السلام)..................205
نماذج من مروياته في الفقه والآداب..................209
من رواياته حول الدعاء..................214
تعدد إسم أحمد بن إسحاق في الرواة..................216
الفصل التاسع: علاقة الإمام العسكري (عليه السلام) بنيسابور..................217
نيسابور عاصمة خراسان..................217
خبر شطيطة النيسابورية (رضي الله عنها)..................219
حديث الإمام الرضا (عليه السلام) في نيسابور..................228
نيسابور بكلها تزور قبر الرضا (عليه السلام)..................232
الإمام التكفيري: محمد بن يحيى الذهلي!..................235
إمام الأئمة الذهلي يحلق لحية البخاري!..................241
الشيعة في نيسابور في عصر الإمام العسكري (عليه السلام)..................246
شاذان بن الخليل والد أسرة مباركة (رحمه الله)..................248
ابن أخ الفضل وكيل الإمام المهدي (عليه السلام)..................250
الفصل العاشر: الفضل بن شاذان (رحمه الله) مفخرة الأزديين..................253
الفضل بن شاذان عالم مجاهد في وسط الإرهاب!..................253
الإمام العسكري (عليه السلام) يغبط الخراسانيين على الفضل..................256
كان الوالي يهاب الفضل لأنه من قبيلة الأزد!..................258
مات الفضل طريداً غريباً مريضاً قدس الله روحه..................259
ترحم عليه الإمام (عليه السلام) مرتين أو ثلاثاً..................262
رسالتا الإمام (عليه السلام) الى الشيعة في نيسابور..................263
ما وصلنا من مؤلفات الفضل بن شاذان (رحمه الله)..................284
فقيه اشتهرت آراؤه في مصادر الفقه (رحمه الله)..................286
الفصل الحادي عشر: والدة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)..................289
أمهات الأئمة (عليهم السلام) يختارهن الله تعالى بعلمه..................289
ظاهرة تنوع أمهات الأئمة (عليهم السلام)..................290
كانت أم الإمام العسكري (عليه السلام) تسكن في المدينة..................291
أوصى لها الإمام (عليه السلام) وثبتت جدارتها..................296
أدت دورها ودفنت بجانب زوجها وولدها (عليها السلام)..................299
الفصل الثاني عشر: زوجة الإمام العسكري ووالدة الإمام المهدي (عليهما السلام)..................303
حفيدة قيصر الروم..................303
كيف جاء الله بمليكة الى الإمام العسكري (عليه السلام)؟..................304
السيدة حكيمة تروي ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)..................313
طلبت والدة الإمام المهدي أن تموت قبل زوجها!..................328
الفصل الثالث عشر: التفسيرالمنسوب الى الإمام العسكري (عليه السلام)..................329
ثلاثة كتب باسم تفسير العسكري (عليه السلام)..................329
الذين شككوا في صحة التفسير أو قالوا إنه موضوع..................330
الذين قبلوا التفسير وصححوا روايته..................333
من روائع السيرة النبوية برواية الإمام العسكري (عليه السلام)..................337
كان اليهود يستفتحون بالنبي وآله (صلى الله عليه وآله وسلم)..................350
مناظرة عمار بن ياسر (رحمه الله) مع اليهود..................353
من حجج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على مشركي العرب..................356
بعض آيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمشركين..................371
رسالة أبي جهل الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!..................375
محاولة قريش اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام)..................379
من مغيبات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ضغائن قريش بعده..................381
الفصل الرابع عشر: نماذج من علم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)..................383
في توحيد الله تعالى وتنزيهه..................383
حق الأبوين المعنويين محمد وعلي (عليهما السلام)..................385
محاربة الغلو بأهل البيت (عليهم السلام)..................386
فضل تعليم المسلمين والدفاع عن التشيع..................387
عظمة مقام الإمام المعصوم (عليه السلام)..................394
لماذا سميت فاطمة بالزهراء (عليها السلام)؟..................395
تفسير قوله تعالى: (إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ)..................395
من قصار أحاديثه وكلماته (عليه السلام)..................396
وقال (عليه السلام) في وصيته لشيعته..................397
رسالته الى والد الصدوق علي بن بابويه..................398
الفصل الخامس عشر: نماذج من أدعية الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)..................399
كثرة أدعية الامام العسكري (عليه السلام)..................399
دعاء بعد كل فريضة:..................399
كان (عليه السلام) يدعو لأوليائه ويدعو على أعدائه!..................401
عَلَّمَ أهل قم الدعاء على عدوهم:..................402
عَلَّمَ الشيعة زيارة الحسين (عليه السلام) وأصحابه:..................405
الفصل السادس عشر: الولادة والشمائل..................411
ولادته في المدينة وشهادته في سامراء..................411
أسمر، أعْيَن، جيد البدن..................413
الإمام في مراسم تشييع أبيه الهادي (عليه السلام)..................415
الفصل السابع عشر: الخليفة المعتمد الذي قتل الإمام العسكري (عليه السلام)..................419
غضب الله على العباسيين فسلط عليهم غلمانهم!..................419
المعتمد طال عمره بعد خمسة خلفاء قصار الأعمار..................420
الموفق يحجر على أخيه الخليفة لأنه سفيه!..................421
كان المعتمد يعرف الأئمة (عليهم السلام) جيداً..................425
الفصل الثامن عشر: شهادة الإمام العسكري (عليه السلام)..................429
آخر السجون وأقصرها: سجن الخليفة المعتمد..................429
سَمُّوهُ وأخرجوه من السجن ليموت في بيته!..................430
واصل الإمام (عليه السلام) عمله ونشاطه الى آخر يوم!..................432
التشييع الرسمي للإمام العسكري (عليه السلام)..................435
غارات الخليفة على بيت الإمام العسكري (عليه السلام)..................439
وفد قم الذين قبض الخليفة عليهم..................443
وفد قمي آخر رده الإمام (عليه السلام) قبل وصوله..................446
رأي الإمام المهدي (عليه السلام) في عمه جعفر..................449
قبري أمان لأهل الجانبين..................454
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.
المنظومة الربانية الفريدة
نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته الأئمة (عليهم السلام)، منظومةٌ ربانيةٌ، ختمَ الله بهم مشروعه الكبير من الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام).
منظومةٌ صنعهم الله على عينه، وأتقنهم بعلمه، فجاؤوا صرحاً جميلاً، يأخذ بمجامع القلوب، وكوامن العقول.
قال عنهم الله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ). فهم معه من الأساس، وهو مبعوث نبياً وهم أئمةً. وهم وحدهم حوله الرحماء بينهم، أما غيرهم فبينهم حساسيات، وعداءات، وحروبات!
وكل واحد من هؤلا العظماء منظومةٌ بذاته، فهو عالَمٌ كاملٌ متكامل، وصرحٌ شامخ باذخ، يفرض عليك التأمل في أبراجه، والخشوع لبهائه.
لا يَفْرُق الأمر فيهم بين كبير وصغير، فحياتهم تُحسب بالعرض لا بالطول، وأعمارهم بالأنفاس لا بالأيام، ورب عمر قصيرٍ طويلٌ، وعمر طويلٍ، لكنه كخطٍّ على رملٍ ذارٍ يتموج!
لقد عاش الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) تسعاً وعشرين سنة، منها ثلاث وعشرون مع أبيه الهادي (عليه السلام)، وست سنين بعده.
لكن عمره الشريف اتسع لإدارة أمور الشيعة المنتشرين في البلاد، وترسيخ عقائدهم، وتقوية وجودهم.وحفل بمقاومة خطط الخلفاء لقتله قبل أن يولد منه المهدي الموعود، الذي سيزيل حكم الجبابرة!
لقد فرضوا عليه الإقامة الجبرية، وكان يراقبه الخليفة بجهاز خاص، ومع ذلك قام بأعمال كبار ومعجزات، جعلت بعض شخصيات السلطة يؤمنون به ويقدسونه، والفيلسوف الكندي من أتباعه.
ولا عجب فهو أحد الذين قال عنهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): يكون بعدي اثنا عشر إماماً، لا يضرهم تكذيب من كذبهم!
يقاومون التكذيب والأذى والعداوة، ويعملون!
روى الطبراني في معجمه الكبير (2/213): (عن جابر بن سمرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً، لا يضرهم من خذلهم).
وروى في مجمع الزوائد ووثقه (5/191): (عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يخطب على المنبر وهو يقول: إثنا عشر قيِّماً من قريش، لايضرهم عداوة من عاداهم، فالتفت خلفي فإذا أنا بعمر بن الخطاب في أناس فأثبتوا لي الحديث كما سمعت).
وراجع البخاري: 8/127، ومسلم: 6 / 3، ومسند أحمد:5/93 و 96 و 99.
وفي الكافي (1/5629): (عن أبي الطفيل قال: شهدت جنازة أبي بكر يوم مات، وشهدت عمر حين بويع وعلي جالس ناحيةً، فأقبل غلام يهودي جميل الوجه بهي، عليه ثياب حسان، وهو من ولد هارون حتى قام على رأس عمر فقال: يا أمير المؤمنين أنت أعلم هذه الأمة بكتابهم وأمر نبيهم؟ قال: فطأطأ عمر رأسه فقال: إياك أعني وأعاد عليه القول، فقال له عمر: لم ذاك؟ قال إني جئتك مرتاداً لنفسي شاكاً في ديني، فقال: دونك هذا الشاب، قال: ومن هذا الشاب؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله، وهذا أبو الحسن والحسين ابني رسول الله، وهذا زوج فاطمة بنت رسول الله. فأقبل اليهودي على علي فقال: أكذاك أنت؟ قال: نعم، قال: إني أريد أن أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة.
قال: فتبسم أمير المؤمنين من غير تبسم وقال: يا هاروني ما منعك أن تقول سبعاً؟ قال: أسألك عن ثلاث فإن أجبتني سألت عما بعدهن، وإن لم تعلمهن علمت أنه ليس فيكم عالم. قال علي (عليه السلام): فإني أسألك بالإله الذي تعبده لئن أنا أجبتك في كل ما تريد لتدعن دينك ولتدخلن في ديني؟ قال: ما جئت إلا لذاك. قال: فسل.
قال: أخبرني عن أول قطرة دم قطرت على وجه الأرض، أي قطرة هي؟ وأول عين فاضت على وجه الأرض، أي عين هي؟ وأول شيء اهتز على وجه الأرض أي شيء هو؟ فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: أخبرني عن الثلاث الأخر، أخبرني عن محمد كم له من إمام عدل، وفي أي جنة
يكون، ومن يساكنه معه في جنته؟ فقال: يا هاروني، إن لمحمد اثني عشر إمام عدل، لايضرهم خذلان من خذلهم، ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم، وإنهم في الدين أرسى من الجبال الرواسي في الأرض، ومسكن محمد في جنته، معه أولئك الاثنا عشر الإمام العدل.فقال: صدقت والله الذي لا إله إلا هو إني لأجدها في كتب أبي هارون، كتبه بيده وإملاء موسى عمي (عليه السلام).
قال: فأخبرني عن الواحدة، أخبرني عن وصي محمد كم يعيش من بعده، وهل يموت أو يقتل؟ قال: يا هاروني يعيش بعده ثلاثين سنة لايزيد يوماً ولا ينقص يوماً، ثم يضرب ضربة ههنا يعني على قرنه، فتخضب هذه من هذا، قال: فصاح الهاروني وقطع كستيجه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأنك وصيه، ينبغي أن تفوق ولا تفاق، وأن تعظم ولا تستضعف! قال: ثم مضى به علي (عليه السلام) إلى منزله فعلمه معالم الدين).
فقد اتفق الجميع على رواية حديث الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) وأن الأمة تكذبهم.
في أي ظروف عمل الأئمة (عليهم السلام)؟
معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يضرهم تكذيب من كذبهم، وخلاف من خالفهم، وخذلان من خذلهم، وعداوة من عاداهم: أنهم سيواجهون تكذيباً وخذلاناً وعداوةً، فكيف يمكن لقادة أن يعملوا في أمة تكذبهم وتخذلهم وتعاديهم؟
يجيبك الله تعالى بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا). فعمل الأنبياء (عليهم السلام) يبدو أيضاً كالمحال مادام مع كل نبي عدوٌّ يضل قومه! لكن الله وعد بهامشٍ من الحرية وعددٍ من الأنصار، يتمكن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) معهم من القيام بواجبهم!
صبر الأئمة لامثيل له، وعملهم لا مثيل له!
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (وجَرَعْتُ ريقي على الشَّجى، وصبرتُ من كظم الغيظ على أمَرِّ من العلقم، وآلمِ للقلب من حَزِّ الشِّفار).(نهج البلاغة:2/202).
وقال الإمام السجاد (عليه السلام): (إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لمَّا يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله (عزَّ وجلَّ) عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنهم مع ذلك لا يريدون منه إلا ما يريده).(أمالي الصدوق/539).
وكتب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) الى رجل شكى له سوء حاله في السجن: (يا عبد الله إن الله (عزَّ وجلَّ) يمتحن عباده ليختبر صبرهم فيثيبهم على ذلك ثواب الصالحين، فعليك بالصبر، واكتب إلى الله عز و جل رقعة وأنفذها إلى مشهد الحسين (عليه السلام) وارفعها عنده إلى الله (عزَّ وجلَّ)). (البحار:99/238).
فاعجب للإمامين العسكريين (عليهما السلام) كيف قاما بأعمال عظيمة، وهما في الإقامة الجبرية في عاصمة الخليفة، والرقابة الجبرية من شخص الخليفة!
خاصة إذا عرفنا أن الإمام كان ينتزع هامش الحرية لحركته انتزاعاً، بقوة شخصيته ومعجزاته، ليكون هامشاً أوسع من الحرية التي يفرضها المجتمع.
كان الإمام (عليه السلام) يقاوم ظروفه الضاغطة الحرجة، ويقوم بتركيز قيم الإسلام وعقائده، ويقاوم محاولات السلطة لتحريف الإسلام، وخططها لقتل الإمام.
وفي نفس الوقت يقوم ببناء مجتمع الشيعة وتقويتهم، حتى اتسع وجودهم، وصاروا شطر الأمة، كما شهدت به الخلافة.
فقد أراد المعتصم يوماً أن يأخذ برأي الإمام الجواد (عليه السلام) فقال له مستشاره ابن أبي دؤاد: (إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر المجلس أهل بيته وقواده ووزرائه وكتابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ويدعون أنه أولى منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء! قال: فتغير لونه وانتبه لما نبهته له). (تفسير العياشي:1/320).
لقد استطاع الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أن يعمق هذا الوجود ويؤصله في الأمة، ليتحمل هزة فقد إمامه، وهزة غيبة ولده المهدي الموعود (عليه السلام)، فأبقى هذا الشطر من الأمة مؤثراً غير متأثر، كما سترى في فصول سيرته البليغة.
كتبه: علي الكوراني العاملي
قم المشرفة - 17 محرم الحرام 1435
الفصل الأول: خلفاء بني العباس أذكى من نمرود وفرعون
1. إصرارهم على قتل الإمام العسكري (عليه السلام)
ذكرت مصادر الأديان والتاريخ أن المنجمين أخبروا نمروداً بأن مولوداً سيولد في تلك السنة في عاصمته، وأنه يُخشى منه على ملكه، فمنع الناس من الإنجاب، وأمر بقتل كل مولود ذكر!
وكذلك أخبروا فرعون، فكان يقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل.
ففي تفسير القمي(1/207): (وكل نمرود بكل امرأة حامل، فكان يذبح كل ولد ذكر، فهربت أم إبراهيم بإبراهيم من الذبح، وكان يشب إبراهيم في الغار يوماً كما يشب غيره في الشهر، حتى أتى له في الغار ثلاثة عشر سنة، فلما كان بعد ذلك زارته أمه، فلما أرادت أن تفارقه تشبث بها فقال يا أمي أخرجيني، فقالت له يا بني إن المَلِك إنْ علم أنك ولدت في هذا الزمان قتلك).
وفي كمال الدين (1/21): (كان إبراهيم (عليه السلام) في سلطان نمرود مستتراً غير مظهر نفسه، ونمرود يقتل أولاد رعيته وأهل مملكته في طلبه، إلى أن دلهم إبراهيم (عليه السلام) على نفسه، وأظهر لهم أمره، بعد أن بلغت الغيبة أمدها ووجب إظهار ما أظهره، للذي أراده الله في إثبات حجته وإكمال دينه).
وروى الحاكم (2/574): (ولما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله، وذلك شيء أسرها الله به، لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل، فلما كانت السنة التي يولد فيها موسى بن عمران، بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن وفتش النساء تفتيشاً لم يفتشهن قبل ذلك، وحملت أم موسى بموسى فلم ينتأ بطنها، ولم يتغير لونها، ولم يفسد لبنها، ولكن القوابل لا تعرض لها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها موسى ولدته أمه ولا رقيب عليها ولا قابل، ولم يطلع عليها أحد إلا أختها مريم. وأوحى الله إليها: (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين)، قال: فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها لا يبكي ولا يتحرك، فلما خافت عليه وعليها، عملت له تابوتاً مطبقاً ومهدت له فيه، ثم ألقته في البحر ليلاً كما أمرها الله! وعملت التابوت على عمل سفن البحر خمسة أشبار في خمسة أشبار ولم يُقَيَّر، فأقبل التابوت يطفو على الماء فألقى البحر التابوت بالساحل في جوف الليل، فلما أصبح فرعون جلس في مجلسه على شاطئ النيل، فبصر بالتابوت فقال لمن حوله من خدمه: إئتوني بهذا التابوت فأتوه به، فلما وضع بين يديه فتحوه فوجد فيه موسى، قال فلما نظر إليه فرعون قال: كيف أخطأ هذا الغلام الذبح، وقد أمرت القوابل أن لا يكتمن مولوداً يولد!
قال وكان فرعون قد استنكح امرأة من بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم، وكانت من خيار النساء المعدودات ومن بنات الأنبياء (عليهم السلام)، وكانت أماً للمسلمين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم ويدخلون عليها، فقالت لفرعون وهي قاعدة إلى جنبه: هذا الوليد أكبر من ابن سنة وإنما أمرت أن تذبح الولدان لهذه السنة، فدعه يكون قرة عين لي ولك، (لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)). انتهى.
وفي كمال الدين (1/21) عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن لله رسلاً مُستعلنين ورسلاً مُستخفين، فإذا سألته بحق المستعلنين فسله بحق المستخفين. وتصديق ذلك من الكتاب قوله تعالى: (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّه مُوسَى تَكْلِيمًا). فكانت حجج الله تعالى كذلك من وقت وفاة آدم إلى وقت ظهور إبراهيم (عليه السلام)، أوصياء مستعلنين ومستخفين، فلما كان وقت كون إبراهيم (عليه السلام) ستر الله شخصه وأخفى ولادته، لأن الإمكان في ظهور الحجة كان متعذراً في زمانه، وكان إبراهيم (عليه السلام) في سلطان نمرود مستتراً لأمره غير مظهر نفسه، ونمرود يقتل أولاد رعيته وأهل مملكته في طلبه، إلى أن دلهم إبراهيم (عليه السلام) على نفسه وأظهر لهم أمره بعد أن بلغت الغيبة أمدها، ووجب إظهار ما أظهره للذي أراده الله، في إثبات حجته وإكمال دينه.فلما كان وقت وفاة إبراهيم (عليه السلام) كان له أوصياء حججاً لله (عزَّ وجلَّ) في أرضه يتوارثون الوصية، كذلك مستعلنين ومستخفين، إلى وقت كون موسى (عليه السلام)،
فكان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل في طلب موسى (عليه السلام) الذي قد شاع من ذكره وخبر كونه، فستر الله ولادته، ثم قذفت به أمه في اليم، كما أخبر الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه: (فالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْن). وكان موسى في حجر فرعون يربيه وهو لا يعرفه، وفرعون يقتل أولاد بني إسرائيل في طلبه).
فقد عرف نمرود وفرعون أن زوال ملكهم على يد مولود يولد في سنة كذا، فأخذوا يقتلون مواليد تلك السنة.
أما العباسيون فعرفوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصادق الأمين أن التاسع من ذرية ولده الحسين (عليه السلام) سيملأ الأرض عدلاً، وينهي دولة الجبارين، فرأوا أن لا ينتظروا حتى يولد، بل يقتلوا جده، أو أباه، قبل ولادته!
وعندما ولد ابنه المهدي (عليه السلام) قال: (زعمت الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل، كيف رأوا قدرة القادر). (مهج الدعوات/276).
2. الخليفة كراكب الأسد!
وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) الحاكم بقوله: (صاحب السلطان كراكب الأسد، يُغبط بموقعه، وهو أعلم بموضعه). (نهج البلاغة:4/63).
وهذا يوم كانت الخلافة أسداً، أما بعد أن تسلط عليها الجنود الأتراك في سامراء وبغداد فصارت ذئباً، لأنهم كانوا يأتون بعباسي فيُركِّبُونَهُ على ظهر الذئب، فيكون آمراً في الظاهر ويظل يتلفت حواليه وفوقه وتحته، متى يَجُرُّونَهُ عن ظهر الذئب العزيز، ويقتلونه شر قتلة!
وكان الخليفة مضافاً الى خوفه من غضب القادة الأتراك، يخاف من ثورات العلويين في مناطق الدولة الواسعة، ويخاف من ثورات غير العلويين كالزنج العبيد في البصرة، وابن الصفار في إيران!
لكن الخوف الأكبر للخليفة كان من ولادة الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، لأنه المهدي الموعود، الذي يزيل دولة بني العباس، ويقيم دولة العدل، فهو خطرٌ يفوق في رأيه كل الأخطار!
3. كل الحكام يخافون من المهدي الموعود!
كان الحكام القرشيون يعرفون حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المهدي الموعود ويسألون عن تفاصيله، ويرجون أن لا يكون في عصرهم!
قال عمر بن الخطاب لعلي (عليه السلام): (يا ابن أبي طالب أخبرني عن المهدي ما اسمه؟ قال أما إسمه فلا، إن حبيبي وخليلي عَهِدَ إليَّ أن لا أحدث باسمه حتى يبعثه الله (عزَّ وجلَّ)، وهو مما استودع الله (عزَّ وجلَّ) رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علمه). (كمال الدين/648).
فقد أراد عُمر أن يعرف وقت المهدي، وهل سيكون في عصره، فأبقاه علي (عليه السلام) في شك، ولم يخبره عن الوقت الذي قاله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
وقال معاوية لابن عباس: (وقد زعمتم أن لكم مُلكاً هاشمياً، ومهدياً قائماً، والمهدي عيسى بن مريم، وهذا الأمر في أيدينا حتى نسلمه إليه)!
رواه في الملاحم والفتن/115، عن الطبري المؤرخ المعروف في كتابه: عيون أخبار بني هاشم، الذي صنفه للوزير علي بن عيسى بن الجراح.
وكان الناس بعد معاوية يسألون أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عنه فلا يخبرونهم.
قال أبو خالد الكابلي: (لما مضى علي بن الحسين دخلت على محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) فقلت له: جعلت فداك قد عرفت انقطاعي إلى أبيك وأنسي به ووحشتي من الناس، قال: صدقت يا أبا خالد فتريد ماذا؟ قلت: جعلت فداك، قد وصف لي أبوك صاحب هذا الأمر بصفة لو رأيته في بعض الطريق لأخذت بيده، قال: فتريد ماذا يا أبا خالد؟ قلت: أريد أن تسميه لي حتى أعرفه باسمه، فقال: سألتني والله يا أبا خالد عن سؤال مجهد، ولقد سألتني عن أمر ما كنت محدثاً به أحداً ولو كنت محدثاً به أحداً لحدثتك، ولقد سألتني عن أمر لو أن بني فاطمة (عليها السلام) عرفوه، حرصوا على أن يقطعوه بضعة بضعة). (غيبة النعماني/288).
يقصد أنه يوجد من أولاد فاطمة (عليها السلام) حسادٌ، ومتعاونون مع السلطة.
وقد ثار عبد الرحمن بن الأشعث، وادعى أنه اليماني وزير المهدي الموعود (عليه السلام). قال البلاذري في التنبيه والأشراف/272: (خَلَعَ عبد الملك وذلك بإصطخر
فارس، وخلعه الناس جميعاً، وسمى نفسه ناصر المؤمنين، وذكر له أنه القحطاني الذي ينتظره اليمانية).
(جعل عبد الملك بن مروان لاينام الليل من الفكر والغم، وربما هجع ثم يستيقظ كالفزع المرعوب، وهو يقول: لقد تركني ابن الأشعث في هجوع.. وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية فدعاه، وكان خالد بن يزيد علَّامة بأيام الناس عارفاً بكتب الفتن، فقال له: ويحك يا أبا هاشم، هل تتخوف علينا من الرايات السود شيئاً، فإنا نجد في الكتب أن ذهاب ملكنا على أيديهم؟ قال له خالد: وما اسم بلد هذا الرجل الذي خرج عليك يا أمير المؤمنين؟ قال: سجستان، قال خالد: الله أكبر، لاتخف يا أمير المؤمنين ما لم يأتك الأمر من قعر مرو)! (الفتوح لابن الأعثم:7/85).
وعندما ضعفت دولة بني أمية حاول الثوار عليها من حسنيين وعباسيين استغلال روايات المهدي الموعود (عليه السلام)، ليجعلوها تنطبق عليهم! فقال لهم كبير الهاشميين عبد الله بن الحسن المثنى: (قد علمتم أن ابني هذا هو المهدي فهلموا فلنبايعه. وقال أبو جعفر المنصور: لأي شيء تخدعون أنفسكم، ووالله لقد علمتم ما الناس إلى أحد أطول أعناقاً ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى، يريد محمد بن عبد الله! قالوا: قد والله صدقت، إن هذا لهو الذي نعلم، فبايعوا جميعاً محمداً ومسحوا على يده!
قالوا: وجاء جعفر بن محمد (عليهما السلام) فأوسع له عبد الله بن الحسن إلى جنبه فتكلم بمثل كلامه، فقال جعفر: لا تفعلوا فإن هذا الأمر لم يأت بعد! إن
كنت ترى يعني عبد الله أن ابنك هذا هو المهدي فليس به ولا هذا أوانه، وإن كنت إنما تريد أن تخرجه غضباً لله، وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنا والله لا ندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك. فغضب عبد الله وقال: علمتَ خلاف ما تقول! ووالله ما أطلعك الله على غيبه ولكن يحملك على هذا الحسد لابني! فقال (عليه السلام): والله ما ذاك يحملني، ولكن هذا وإخوته وأبناؤهم دونكم، وضرب بيده على ظهر أبي العباس، ثم ضرب بيده على كتف عبد الله بن الحسن، وقال: إنها والله ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنها لهم، وإن ابنيك لمقتولان)! (مقاتل الطالبيين/171).
وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين/239، عن عمير بن الفضل الخثعمي قال: (رأيت أبا جعفر المنصور يوماً وقد خرج محمد بن عبد الله بن الحسن من دار ابنه، وله فرس واقف على الباب مع عبد له أسود، وأبو جعفر ينتظره، فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتى ركب، ثم سوى ثيابه على السرج ومضى محمد، فقلت وكنت حينئذ أعرفه ولا أعرف محمداً: من هذا الذي أعظمته هذا الإعظام حتى أخذت بركابه وسويت عليه ثيابه؟ قال: أو ما تعرفه؟! قلت: لا. قال: هذا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، مهدينا أهل البيت)!
ثم جرت الأيام والمقادير كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) فقَتَل المنصور سيده مهدي الحسنيين، الذي كان يمسك له بركابه، وادعى المهدية لابنه وسماه المهدي، وبنى له قصر الرصافة ونصبه ولي عهده.
ولم يكتف حتى أشهد الناس زوراً بأنه المهدي الذي بشر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)! فقد روى أبو الفرج في الأغاني (13/313) عن الفضل بن إياس الهذلي الكوفي أن المنصور كان يريد البيعة للمهدي، وكان ابنه جعفر يعترض عليه في ذلك فأمر بإحضار الناس فحضروا، وقامت الخطباء فتكلموا، وقالت الشعراء فأكثروا في وصف المهدي وفضائله، وفيهم مطيع بن أياس، فلما فرغ من كلامه في الخطباء وإنشاده في الشعراء، قال للمنصور: يا أمير المؤمنين حدثنا فلان عن فلان أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: المهدي منا، محمد بن عبد الله وأمه من غيرنا، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً! وهذا العباس بن محمد أخوك يشهد على ذلك! ثم أقبل على العباس فقال له: أنشدك الله هل سمعت هذا؟ فقال: نعم، مخافةً من المنصور! فأمر المنصور الناس بالبيعة للمهدي. قال: ولما انقضى المجلس وكان العباس بن محمد لم يأنس به قال: أرأيتم هذا الزنديق إذ كذب على الله (عزَّ وجلَّ) ورسوله، حتى استشهدني على كذبه فشهدت له خوفاً، وشهد كل من حضر عليَّ بأني كاذب)!
ملاحظات
1. هذه النصوص وغيرها أضعافها، تدل على أن البشارة النبوية بالمهدي (عليه السلام) كانت معروفة عند الحكام القرشيين، يؤمنون بها، ويحاول بعضهم مصادرتها وتطبيقها عليه!
2. لكنهم مع ذلك، كانوا يعتقدون أن المهدي من وُلد علي وفاطمة (عليهما السلام)، وليس من ولد العباس! وقد اعترف بذلك هارون الرشيد، فقال إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس (إعلام الورى: 2/165): (كنت يوماً عند الرشيد فذكر المهدي وما ذكر من عدله، فأطنب في ذلك، فقال الرشيد: أحسبكم تحسبونه أبي المهدي! حدثني عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب، أن النبي قال له: يا عم، يملك من ولدك اثنا عشر خليفة، ثم تكون أمور كريهة شديدة عظيمة، ثم يخرج المهدي من ولدي يصلح الله أمره في ليلة، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ويمكث في الأرض ما شاء الله، ثم يخرج الدجال).
ورقم الإثني عشر في الرواية لا يصح، لأن الأئمة من ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اثنا عشر، أما ملوك بني العباس فأكثر. والذي يهمنا من النص اعتراف الرشيد بأن المهدي ليس من ولد العباس، بل من ولد فاطمة (عليها السلام) كما ورد في الحديث.
قال السيوطي في الدر المنثور (7/484): (وأخرج أبو داود، وابن ماجة، والطبراني، والحاكم، عن أم سلمة (رضي الله عنها): سمعت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: المهدي من عترتي، من ولد فاطمة (عليها السلام)).
وفي الكافي(8/210): (عن سيف بن عميرة قال: كنت عند أبي الدوانيق فسمعته يقول ابتداءً من نفسه: يا سيف بن عميرة لا بد من مناد ينادي باسم رجل من ولد أبي طالب! قلت: يرويه أحد من الناس؟ قال: والذي نفسي بيده لسمعت أذني منه يقول: لا بد من مناد ينادي باسم رجل.
قلت: يا أمير المؤمنين إن هذا الحديث ما سمعت بمثله قط، فقال لي: يا سيف إذا كان ذلك فنحن أول من يجيبه، أما إنه أحد بني عمنا. قلت: أي بني عمكم؟ قال: رجل من ولد فاطمة، ثم قال: يا سيف لولا أني سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقوله، ثم حدثني به أهل الأرض ما قبلته منهم، ولكنه محمد بن علي)!
3. ثم تفاقم خوف الخلفاء العباسيين عندما بلغ أئمة العترة (عليهم السلام) أحد عشر، لأن المهدي هو الثاني عشر منهم، فاستنفروا.
وهذا هو السر فيما تراه من عملهم الحثيث لقتل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، قبل أن يُنجب ولده الإمام الثاني عشر (عليه السلام)!
4. إصرار أربعة خلفاء على قتل الإمام العسكري (عليه السلام)
قصرت أعمار الخلفاء العباسيين بعد المتوكل، لأنه قَتَلَ قائدَ الأتراك العام إيتاخ، الذي ربَّى المتوكل في بيته فكان يناديه: يا أبي! فأخذ الأتراك ثأرهم من المتوكل وقتلوه، وأمسكوا بالخلافة، فكانوا ينصبون الخليفة
ويعزلونه، حتى قتلوا أربعة خلفاء في سبع سنين: المنتصر (247- 248) والمستعين (248-252) والمعتز (252-255) والمهتدي (255- 256).
ثم جاؤوا بالمعتمد، فحكمَ طويلاً (256- 279).
قال اليعقوبي في البلدان (1/16) يصف حكم خمسة خلفاء في بضع سنوات: (مات المنتصر بسرَّ من رأى في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. ووليَ المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم، فأقام بسر من رأى سنتين وثمانية أشهر، حتى اضطربت أموره فانحدر إلى بغداد في المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، فأقام بها يحارب أصحاب المعتز سنة كاملة والمعتز بسر من رأى معه الأتراك وسائر الموالي.
ثم خُلع المستعين ووليَ المعتز، فأقام بها حتى قتل ثلاث سنين وسبعة أشهر بعد خلع المستعين. وبويع محمد المهتدي بن الواثق في رجب سنة خمس وخمسين ومائتن، فأقام حولاً كاملاً ينزل الجوسق حتى قُتل.
وولي أحمد المعتمد بن المتوكل فأقام بسر من رأى في الجوسق وقصور الخلافة، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي بسر من رأى، فبنى قصراً موصوفاً بالحسن سماه المعشوق فنزله فأقام به حتى اضطربت الأمور فانتقل إلى بغداد، ثم إلى المدائن).
أقول: في هذه المرحلة غضب الله على العباسيين فاضطرب نظام الخلافة! فقُتل المتوكل وقصرت أعمار الخلفاء، ووقع بينهم الصراع، وبينهم وبين قادة جيشهم الأتراك، وبين الأتراك أنفسهم.
وفي هذه الصراعات كانوا يقتلون الخليفة الذي لا يعجبهم، ويختارون عباسياً غيره. وكانت الطريقة المفضلة لقتل الخليفة أن يعصروا خصيتيه حتى يموت!
والعجيب أن هؤلاء (الخلفاء) الأذلاء أمام الأتراك، نشطوا لقتل الإمام الهادي وابنه (عليهما السلام)، خوفاً من أن ينجب المهدي الموعود (عليه السلام)!
فقد كانوا يرون أن الترك ملزمون باختيار خليفة عباسي، أما العلويون فينتظرون إمامهم الموعود الذي سيطهر الأرض من الجبابرة. لذلك كانت عداوتهم للعلويين أشد، وكان حرصهم على قتل الإمام (عليه السلام) قبل أن ينجب!
5. كيف تعامل العباسيون واليهود مع المغيبات!
إذا أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر غيبي وأنه سيقع حتماً، فلا يمكن لأحد أن يمنع وقوعه، لأنه أمرٌ قدره الله وقضاه وأمضاه، ولا رادَّ لقضاء الله (عزَّ وجلَّ)، ولا يمكن عمل شيء مقابله.
ففي كتاب سُلَيْم بن قيس/363، أن علياً (عليه السلام) قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يبكي: (بأبي أنت وأمي يا نبي الله أتُقتل؟ قال: نعم أهلكُ شهيداً بالسم! وتُقتل أنت بالسيف وتُخضب لحيتك من دم رأسك. ويُقتل ابني الحسن بالسم. ويُقتل ابني الحسين بالسيف، يقتله طاغٍ ابن طاغ، دعيُّ ابن دعي)!
وفي الخرائج (1/241) أن الإمام الحسن (عليه السلام) قال: (إني أموت بالسم كما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! فقالوا: ومن يفعل ذلك؟ قال: امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس، فإن معاوية يدس إليها ويأمرها بذلك. قالوا:
أخرجها من منزلك وباعدها من نفسك! قال: كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئاً، ولو أخرجتها ما قتلني غيرها، وكان لها عذرٌ عند الناس)!
هكذا تعامل أهل البيت (عليهم السلام) مع إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمغيبات، لأن العمل على تغييرها قلة إيمان وقلة عقل! لكن اليهود رغم اعتقادهم بإخبار الأنبياء (عليهم السلام)، فهم لغلبة هواهم على عقلهم يحاولون تغيير مقادير الله تعالى!
وأمثلة ذلك في تاريخهم كثيرة، ومنها في عصرنا اعتقادهم بأن زوال دولتهم سيكون على يد القائد البابلي الآتي من العراق، لكنهم يعملون حتى لا يظهر! وقد صرح وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد، بعد احتلالهم العراق بأيام، بأنهم فعلوا ذلك خدمةً لمصلحة إسرائيل! وكتب حاخام كتاباً باسم: الدخول الثاني الى بابل! فهم يفهمون مقادير الله، لكن هواهم غالب على عقلهم!
وخلفاء بني العباس كاليهود في هذا الأمر، فهم يؤمنون ببشارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمهدي وأنه من ذرية علي وفاطمة (عليها السلام) والثاني عشر من أئمة العترة، ومع ذلك عملوا لتغيير مقادير الله تعالى، وقتل أبيه حتى لا يولد!
كان المتوكل يعرف أن الإمام الهادي (عليه السلام) هو الإمام العاشر، وفرض عليه الإقامة في سامراء وعمل لقتله وقتل أولاده، لكن الله قتله قبل ذلك!
وكان للإمام الهادي (عليه السلام) أربعة أولاد وبنت، هم: عَلَيَّة، ومحمد، ثم الحسن، وأخوه حسين، وجعفر. (مناقب آل أبي طالب: 3/505) وكان العباسيون يقدرون أن ابنه الكبير محمداً هو الحادي عشر، وأن المهدي سيكون ابنه.
لذلك لا نستبعد أن يكون المستعين قتل محمداً بن الإمام الهادي (عليه السلام) بعد خروجه من سامراء، وهو في طريق رجوعه الى المدينة.
قال السيد الأمين في أعيان الشيعة (10/5): (أبو جعفر محمد بن الإمام علي أبي الحسن الهادي (عليه السلام) توفي في حدود سنة252 جليل القدر عظيم الشأن، كانت الشيعة تظن أنه الإمام بعد أبيه (عليه السلام)، فلما توفي نص أبوه على أخيه أبي محمد الحسن الزكي (عليه السلام). وكان أبوه خلفه بالمدينة طفلاً لما أتيَ به إلى العراق ثم قدم عليه في سامراء، ثم أراد الرجوع إلى الحجاز، فلما بلغ القرية التي يقال لها بلد على تسعة فراسخ من سامراء مرض وتوفي ودفن قريباً منها، ومشهده هناك معروف. ولما توفي شق أخوه أبو محمد ثوبه، وقال في جواب من لامَهُ على ذلك: قد شقَّ موسى على أخيه هارون).
والمرجح أن يكون قَتْلُه (رحمه الله) سنة خمسين أو إحدى وخمسين، لأن المستعين حاول قتل أخيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أيضاً، وقد قتل الله المستعين سنة252، أي قبل شهادة الإمام الهادي (عليه السلام) بنحو سنتين!
فقد روى الكليني (قدس سره) (1/507) أن المستعين أحضر الإمام العسكري في حياة أبيه (عليه السلام) وطلب منه أن يركب بغلاً شموساً، ليقتله ويتخلص منه!
قالت الرواية: (حدثني أحمد بن الحارث القزويني قال: كنت مع أبي بسرَّ من رأى وكان أبي يتعاطى البيطرة في مربط أبي محمد، قال: وكان عند المستعين بغلٌ لم يُرَ مثله حسناً وكبراً، وكان يمنع ظهره واللجام والسرج وقد كان جمع عليه الرَّاضَةُ (المدربين) فلم يمكن لهم حيلةٌ في ركوبه، قال فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين ألا تبعث إلى الحسن بن الرضا حتى يجيئ، فإما أن يركبه وإما أن يقتله فتستريح منه، قال: فبعث إلى أبي
محمد ومضى معه أبي. فقال أبي: لما دخل أبو محمد الدار كنت معه فنظر أبو محمد إلى البغل واقفاً في صحن الدار، فعدل إليه فَوَشَعَ بيده على كِفْلِهِ قال فنظرت إلى البغل وقد عرق حتى سال العرق منه!
ثم صار إلى المستعين، فسلم عليه فرحَّبَ به وقَرَّب، فقال: يا أبا محمد ألجم هذا البغل، فقال أبو محمد لأبي: ألجمه يا غلام، فقال المستعين: ألجمه أنت، فوضع طيلسانه ثم قام فألجمه، ثم رجع إلى مجلسه وقعد.
فقال له: يا أبا محمد أسرجه، فقال لأبي: يا غلام أسرجه، فقال: أسرجه أنت! فقام ثانية فأسرجه ورجع، فقال له: ترى أن تركبه؟ فقال: نعم، فركبه من غير أن يمتنع عليه، ثم ركَّضَهُ في الدار، ثم حمله على الهملجة (شبيه الهرولة) فمشى أحسن مشيٍ يكون، ثم رجع ونزل، فقال له المستعين: يا أبا محمد كيف رأيته؟ قال: يا أمير المؤمنين ما رأيت مثله حسناً وفراهةً، وما يصلح أن يكون مثله إلا لأمير المؤمنين.
قال فقال: يا أبا محمد فإن أمير المؤمنين قد حملك عليه، فقال أبو محمد لأبي: يا غلام خذه، فأخذه أبي فقاده).
وبذلك أفشل الله مكيدة الخليفة وحفظ وليه (عليه السلام)، وينبغي أن يكون ذلك سنة إحدى وخمسين أو قبلها، لأن المستعين ذهب فيها الى بغداد ولم يعد حتى قُتل.
وكان عُمْرُ الإمام العسكري (عليه السلام) يومها نحو عشرين سنة، ونلاحظ أن المستعين كَنَّاهُ بأبي محمد وهو تجليلٌ لا يفعله الخليفة إلا مع كبار الشخصيات.
وهو يدل أيضاً على أن كنية أبي محمد كانت للإمام العسكري (عليه السلام) من صغره!
6. صورة عامة لمحاولاتهم قتل الإمام (عليه السلام)!
قال الإمام العسكري (عليه السلام) عندما ولد ابنه (عليه السلام): (زعمت الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل، كيف رأوا قدرة القادر). (مهج الدعوات/276).
وقال (عليه السلام): (زعموا أنهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل وقد كذب الله (عزَّ وجلَّ) قولهم والحمد لله). (لما حملت جارية أبي محمد (عليه السلام) قال: ستحملين ذكراً واسمه محمد، وهو القائم من بعدي). (كمال الدين/407).
وقال السيد ابن طاووس في مهج الدعوات/273: (فمن الخلفاء الذين أرادوا قتله المسمى بالمستعين من بني العباس، رويناه من كتاب الأوصياء وذكر الوصايا، تأليف السعيد علي محمد بن زياد الصيمري، من نسخه عتيقة عندنا الآن، فيها تاريخ بعد ولادة المهدي صلوات الله عليه بإحدى وسبعين سنة، ووجد هذا الكتاب في خزانة مصنفه بعد وفاته سنة ثمانين ومائتين، وكان (رضي الله عنه) قد لحق مولانا علي بن محمد الهادي، ومولانا الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليهما، وخدمهما وكاتباه ووقعا إليه توقيعات كثيرة. فقال في هذا الكتاب ما هذا لفظه: ولما هَمَّ المستعين في أمر أبي محمد (عليه السلام) بما هم، وأمر سعيد الحاجب بحمله إلى الكوفة وأن يحدث عليه في الطريق حادثة، انتشر الخبر بذلك في الشيعة فأقلقهم وكان بعد مضي أبي الحسن (عليه السلام) بأقل من خمس سنين، فكتب إليه محمد بن عبد الله والهيثم بن سبابة: بلغنا جعلنا الله فداك خبر
أقلقنا وغمنا وبلغ منا. فوقَّع: بعد ثلاث يأتيكم الفرج. قال: فخلع المستعين في اليوم الثالث وقعد المعتز، وكان كما قال (عليه السلام).
وروى أيضاً الصيمري في الكتاب المذكور ما هذا لفظه: وحدث محمد بن عمر المكاتب عن علي بن محمد بن زياد الصيمري، صهر جعفر بن محمود الوزير على ابنته أم أحمد، وكان رجلاً من وجوه الشيعة وثقاتهم ومقدماً في الكتابة والأدب والعلم والمعرفة، قال: دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وبين يديه رقعة أبي محمد (عليه السلام) فيها: إني نازلت الله (عزَّ وجلَّ) في هذا الطاغي يعني المستعين وهو آخذه بعد ثلاث، فلما كان في اليوم الثالث خلع، وكان من أمره ما رواه الناس في إحداره إلى واسط وقتله. أقول: فهذا من أخبار مولانا الحسن العسكري (عليه السلام) مع المستعين، ولم يذكر لفظ الدعاء الذي دعا به (عليه السلام).
وأما تعرض المسمى بالمعتز الخليفة من بني عباس لمولانا الحسن العسكري (عليه السلام)، فقد رواه الشيخ السعيد أبو جعفر الطوسي (رضي الله عنه) في كتابه الغيبة من نسخة عندنا الآن، تاريخ كتابتها سنة إحدى وسبعين وأربع مائة، عند ذكر معجزات مولانا الحسن العسكري (عليه السلام) فقال ما هذا لفظه: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن الحسين، عن عمر بن زيد قال قال: أخبرني أبو الهيثم بن سبابة أنه كتب إليه لما أمر المعتز بدفعه إلى سعيد الحاجب عند مضيه إلى الكوفة، وأن يحدث ما تحدث به الناس
بقصر بن هبيرة: جعلني الله فداك بلغنا خبر قد أقلقنا وبلغ منا، فكتب إليه (عليه السلام): بعد ثلاثة يأتيكم الفرج، فخلع المعتز يوم الثالث.
أقول: لم أقف إلى الآن على ما دعا به (عليه السلام).
وأما تعرض المسمى بالمهتدي من خلفاء بني العباس لمولانا الحسن العسكري صلوات الله عليه، فرويناه عن جماعة منهم علي بن محمد الصيمري في كتابه الذي أشرنا إليه، فقال ما هذا لفظه: سعد، عن أبي هاشم قال: كنت محبوساً عند أبي محمد (عليه السلام) في حبس المهتدي فقال لي: يا أبا هاشم إن هذا الطاغية أراد أن يعبث بالله (عزَّ وجلَّ) في هذه الليلة، وقد بتر الله عمره وجعله الله للمتولي بعده، وليس لي ولد وسيرزقني الله ولداً بلطفه. فلما أصبحنا سعت الأتراك على المهتدي وأعانهم العامة لما عرفوا من قوله بالاعتزال والقدر، فقتلوه ونصبوا مكانه المعتمد وبايعوا له.
وكان المهتدي قد صحح العزم على قتل أبي محمد (عليه السلام)، فشغله الله بنفسه حتى قتل، ومضى إلى أليم عذاب الله.
وروى الصيمري (رضي الله عنه) أيضاً في كتابه المذكور وجماعة غيره حديثاً في حُكم مولانا الحسن العسكري صلوات الله عليه وتعريفه بقتل المسمى بالمهتدي من بني العباس، قبل وقوع القتل، فقال ما هذا لفظه: عن محمد بن الحسن بن شمون عمن حدثه قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) حين أخذه المهتدي: يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني أنه يتهدد شيعتك ويقول والله لأجلينهم عن جديد الأرض! فوقع بخطه:
ذلك أقصر لعمره، عُدَّ من يومك هذا خمسة أيام، فإنه يقتل في اليوم السادس، بعد هوانٍ واستخفافٍ وذُلٍّ يلحقه! فكان كما قال (عليه السلام).
أقول: وربما يقال إن بعض هذه الأحاديث لم يُذكر فيها أن مولانا العسكري صلوات الله عليه دعا على من حبسه أو تعرض به، فإن لسان الحال يشهد أنه (عليه السلام) قدم الدعاء والابتهال.
وأما تعرض المعتمد من خلفاء بني العباس لمولانا الحسن العسكري صلوات الله عليه، فرواه جماعة، فنذكر ما رواه علي بن محمد الصيمري رضوان الله عليه في الكتاب الذي أشرنا إليه، فقال ما هذا لفظه: الحميري، عن الحسن بن علي، عن إبراهيم بن مهزيار، عن محمد بن أبي الزعفران، عن أم أبي محمد (عليه السلام) قالت: قال لي يوماً من الأيام: تصيبي في سنة ستين ومائتين حزازةٌ، أخاف أن أنكب منها نكبة. قالت: فأظهرت الجزع وأخذني البكاء، فقال: لا بد من وقوع أمر الله، لا تجزعي.
فلما كان في صفر سنة ستين أخذها المقيم والمقعد، وجعلت تخرج في الأحايين إلى خارج المدينة، وتَجَسَّسُ الأخبار، حتى ورد عليها الخبر حين حبسه المعتمد في يدي علي بن جَرِين، وحبس جعفراً أخاه معه، وكان المعتمد يسأل علياً عن أخباره في كل وقت فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل، فسأله يوماً عن الأيام عن خبره فأخبره بمثل ذلك، فقال له: إمض الساعة إليه وأقرئه مني السلام وقل له: إنصرف إلى منزلك مصاحباً علي جَرِين، فجئت إلى باب الحبس فوجدت حماراً مسرجاً
فدخلت عليه فوجدته جالساً وقد لبس خفه وطيلسانه وشاشه، فلما رآني نهض، فأديت إليه الرسالة، فركب فلما استوى على الحمار وقف، فقلت له: ما وقوفك يا سيدي؟ فقال لي: حتى يجيء جعفر، فقلت: إنما أمرني بإطلاقك دونه، فقال لي ترجع إليه فتقول له خرجنا من دارة واحدة جميعاً فإذا رجعت وليس هو معي كان في ذلك مالاخفاء به عليك فمضى وعاد فقال: يقول لك قد أطلقت جعفراً لك، لأني حبسته بجنايته على نفسه وعليك، وما يتكلم به، وخلى سبيله فصار معه إلى داره.
وذكر الصيمري أيضاً في كتابه المشار إليه خروج مولانا الحسن العسكري (عليه السلام) من حبس المعتمد، وما قال له (عليه السلام) ما هذا لفظه:
عن المحمودي قال: رأيت خط أبي محمد (عليه السلام) لما خرج من حبس المعتمد: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ وَالله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).
أقول: وقد ذكرنا في كتاب الاصطفاء كيف اضطربت بلاد هؤلاء الخلفاء حتى تمت ولادة المهدي صلوات الله عليه. وهو مشروح في الجزء الثالث من كتاب المذاكرة للتنوخي في حديث الفتن التي تجددت أيام المعتمد. ومشروح أيضاً في الجزء الثالث من أخبار الوزراء تأليف محمد بن عبدوس الجهشياري في أخبار وزراء المعتمد. ومشروح أيضاً في كتاب الوزراء تأليف فناخسرو بن رستم بن هرمز، عند ذكر عبد الله بن يحيى بن خاقان. وقد ذكرنا هذه الروايات في كتاب الاصطفاء في أخبار الملوك والخلفاء. وذكر نصر بن علي الجهضمي، وهو من ثقات رجال المخالفين
وقد مدحه الخطيب في تاريخه والخطيب من المتظاهرين بعداوة أهل البيت، فيما صنفه نصر بن علي الجهضمي المذكور، في مواليد الأئمة: فقال عند ذكر الحسن بن علي العسكري: ومن الدلائل ما جاء عن الحسن بن علي العسكري عند ولادة محمد بن الحسن:زعمت الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل، كيف رأوا قدرة القادر! وسماه المؤمل).
ملاحظات
1. كان قتل الإمام العسكري (عليه السلام) هدفاً مشتركاً عند الخلفاء العباسية، وضرورةً برأيهم، رغم صراعهم مع الأتراك وصراعهم فيما بينهم، فكان المستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد، يعملون لقتله بأي شكل.
2. كان المتوكل إذا سلم شخصاً الى سعيد الحاجب، أو بعث سعيداً الى أحد فهو يعني القتل. وقد بعثه ليتلقى إيتاخ قائد الترك الذي ربى المتوكل وكان يناديه: يا أبي، فتلقاه في عودته من الحج، وقتله.
وبعث سعيداً الحاجب لمداهمة بيت الإمام الهادي (عليه السلام) ليلاً فأحضره الى المتوكل، وكانت له معه قصة معروفة، فوعظ المتوكل وأبكاه.
وبعثه ليقتل جعفر بن إسحاق بن موسى الكاظم (عليه السلام)، وموسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن المثنى. (مقاتل الطالبيين:1/530).
وجاء سعيد من المدينة بيحيى بن الحسن بن جعفر العلوي ومعه ابنه وابن أخيه: (فلما كان بزبالة دس إليه سماً فقتله، وأخذ رأسه وحمله إلى المهتدي في المحرم سنة ست وخمسين ومائتين).(مقاتل الطالبيين:1/530).
وقتل سعيد الحاجب الخليفة المستعين: (وسعيد هذا هو الذي تولى قتل المستعين، بعدما استتب الأمر للمعتز). (تاريخ دمشق:21/339).
فسعيد هذا جلادٌ فاتك، لكنه قائدٌ فاشل، فقد بعثوه لقتال صاحب الزنج في البصرة: (فالتقوا فانهزم سعيد، واسْتَحَرَّ القتل بأصحابه، ثم دخلت الزنج البصرة، وخربوا الجامع). (العبر للذهبي:1/368).
وجاء ذكر سعيد الحاجب في سيرة الإمام الهادي (عليه السلام) وأن المتوكل سلمه اليه ليقتله. وجاء ذكره مرات في سيرة الإمام العسكري (عليه السلام) في محاولات المستعين والمعتز، والمهتدي، والمعتمد، أن يقتلوه (عليه السلام)!
3. علي بن جَرِين أحد غلمان العباسية، ولعله لفظ غير عربي، لكن معنى الجَرِين بالعربية: البيدر والمَسْطَح والمِرْبد، وجمعه جُرُن وأجران.
ويظهر أنه كان مسؤولاً عن السجن في سامراء، حيث حبس المعتمد الإمام العسكري (عليه السلام) عنده في سنة 260، لمدة قصيرة، لأنهم سجنوه في صفر كما في خبر والدته، ثم أطلقوه وأرسلوا معه الى بيته حرساً ومراقبين وأطباء! حتى استشهد (عليه السلام) في شهر ربيع من تلك السنة، فكتبوا محضراً بأن موته طبيعي، فلا بد أنهم سَمُّوه في السجن!
4. امتدت محاولاتهم لقتل الإمام العسكري (عليه السلام) نحو عشر سنين، وفي هذه المدة رزقه الله بالمهدي الموعود (عليه السلام)، فأخفاه، لكنه كان يتحداهم ويريه لخاصة شيعته الساكنين في سامراء، أو القاصدين اليه من البلاد.
5. في راوية ابن طاووس (رحمه الله) عن الصيمري خطأ في اسم الخليفة في قوله: (ولما هَمَّ المستعين في أمر أبي محمد (عليه السلام) بما هم، وأمر سعيد الحاجب بحمله إلى الكوفة.. وكان بعد مضي أبي الحسن بأقل من خمس سنين).
وسبب الخطأ أن المستعين هلك قبل شهادة الإمام الهادي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسنتين، وتقدم أنه حاول قتل الإمام العسكري (عليه السلام) بواسطة بغل شموس، ثم جاء المعتز وقتل الإمام الهادي (عليه السلام) وأراد قتل الإمام العسكري (عليه السلام).
وتابع بعده المهتدي والمعتمد محاولاتهما، حتى قتله المعتمد في السنة الخامسة من ملكه. على أنه يمكن أن يعمل المستعين وهو ولي عهد على قتل الإمام العسكري (عليه السلام) في حياة أبيه الهادي (عليه السلام).
7. الإمام العسكري (عليه السلام) والخليفة المستعين
قال المسعودي في إثبات الوصية (1/248): (ولما همَّ المستعين في أمر أبي محمد (عليه السلام) بما هم، وأمر سعيد الحاجب بحمله الى الكوفة، وأن يحدث في الطريق حادثة، انتشر الخبر بذلك في الشيعة فأقلقهم.. فكتب إليه محمد بن عبد الله والهيثم بن سبابة: قد بلغنا جعلنا الله فداك خبرٌ أقلقنا وغَمَّنا وبلغَ منا. فوقع: بعد ثلاثة يأتيكم الفرج. قال: فخُلع المستعين في اليوم الثالث، وقعد المعتز، وكان كما قال صلى الله عليه).
وفي غيبة الطوسي/405: (روى علي بن محمد بن زياد الصيمري، قال: دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وبين يديه رقعة أبي
محمد (عليه السلام)، وفيها: إني نازلت الله في هذا الطاغي، يعني المستعين، وهو آخذه بعد ثلاث، فلما كان اليوم الثالث خُلع، وكان من أمره ما كان، إلى أن قتل). ورواها في الغيبة/204، والخرائج:1/429، والمناقب:3/530.
وهي تدل على أن المستعين كان يؤذي الإمام (عليه السلام) ويعمل لقتله فدعا عليه، وأخبر أن دعاءه سيستجاب بعد ثلاثة أيام، فكان كما قال (عليه السلام)!
ولا ينافي ذلك أن المستعين كان في تلك السنة في بغداد، وكانت بينه وبين المعتز حرب، لأن ذلك قد يكون قبل بيعتهم للمعتز في مقابله، أو قبل غلبة جماعة المعتز وخلعهم المستعين وقتله.
8. الإمام العسكري (عليه السلام) والخليفة المعتز
حكم المعتز أربع سنين وأشهراً (252-255) وقَتَل الإمام الهادي (عليه السلام) سنة 254، وعاش بعده سنة، وأراد قتل الإمام العسكري (عليه السلام) فمات قبل ذلك!
روى في الكافي (1/514): (خرج عن أبي محمد (عليه السلام) حين قُتِلَ الزبير[ي]: هذا جزاءُ من افترى على الله في أوليائه، زعم أنه يقتلني وليس لي عقب، فكيف رأى قدرة الله؟! وَوُلِدَ له ولد سماه محمد).
والصحيح: قُتل الزبير لا الزبيري، وهو اسم المعتز (التنبيه والإشراف/316) ولعل أصله أن الإمام كتب الى الزبيري، كما في رواية أخرى.
ففي الكافي (1/506): (قال: كتب أبو محمد (عليه السلام) إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحو عشرين يوماً: إلزم بيتك حتى
يحدث الحادث، فلما قتل بُريحة كتب إليه قد حدث الحادث فما تأمرني؟ فكتب: ليس هذا الحادث، الحادث الآخر. فكان من أمر المعتز ما كان. وعنه قال: كتبت إلى رجل آخر: يُقتل ابن محمد بن داود عبد الله قبل قتله (المعتز) بعشرة أيام، فلما كان في اليوم العاشر، قُتل).
ولم أجد ترجمة أبي القاسم الزبيري المذكور، ويظهر أنه من ذرية الزبير بن العوام، وأنه من ثقاة الإمام العسكري (عليه السلام)، لأنه سأله: فما تأمرني؟ فأجابه (عليه السلام) بأنه لم يقصد موت بريحة، بل موت المعتز. ولابد أنه كتب له بما يريده منه.
أما آخر محاولات المعتز لقتل الإمام العسكري (عليه السلام) فكانت قبيل هلاكه: (تقدم المعتز إلى سعيد الحاجب، أن أخرج أبا محمد إلى الكوفة ثم اضرب عنقه في الطريق. فجاء توقيعه (عليه السلام) الينا: الذي سمعتموه تكفونه. فخلع المعتز بعد ثلاث وقتل). (مناقب آل أبي طالب:3/531).
وفي دلائل الإمامة/428: (قال (عليه السلام): إني نازلت الله (عزَّ وجلَّ) في هذا الطاغي، يعني الزبير بن جعفر، وهو آخذه بعد ثلاث! فلما كان اليوم الثالث قتل.. قال علي بن محمد الصيمري: كتب إلي أبو محمد (عليه السلام): فتنةٌ تظلكم فكونوا على أُهْبَة منها. فلما كان بعد ثلاثة أيام وقع بين بني هاشم ما وقع فكتبت إليه: هي؟ قال: لا، ولكن غير هذه فاحترزوا، فلما كان بعد ثلاثة أيام كان من أمر المعتز ما كان).
أقول: عبيد الله بن عبد الله هو الدهقان الواسطي من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) الثقات. ومعنى وقع بين بني هاشم. أي الخلاف بين بني العباس وقتل المعتز وكان قَتْلُه سنة 255، بعد أن قتل الإمام الهادي (عليه السلام). (ثقات ابن حبان:2/331).
وفي تاريخ مختصر الدول/147: (وفي سنة خمس وخمسين ومائتين صار الأتراك إلى المعتز يطلبون أرزاقهم فماطلهم بحقهم، فلما رأوا أنه لا يحصل منه شيء دخل إليه جماعة منهم، فجرُّوا برجله إلى باب الحجرة، وضربوه بالدبابيس وأقاموه في الشمس في الدار، وكان يرفع رجلاً ويضع رجلاً لشدة الحر! ثم سلَّموه إلى من يعذبه، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم أدخلوه سرداباً وجصصوا عليه فمات)!
9. الإمام العسكري (عليه السلام) والخليفة المهتدي
في الكافي (1/510): (حدثني أحمد بن محمد قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) حين أخذ المهتدي في قتل الموالي: يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا فقد بلغني أنه يتهددك ويقول والله لأجلينهم عن جديد الأرض! فوقع أبو محمد (عليه السلام) بخطه: ذاك أقصر لعمره، عُدَّ من يومك هذا خمسة أيام ويقتل في اليوم السادس، بعد هوان واستخفاف يمر به، فكان كما قال (عليه السلام)).
وفي غيبة الطوسي/205: (عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت محبوساً مع أبي محمد (عليه السلام) في حبس المهتدي بن الواثق فقال لي: يا أبا هاشم إن هذا الطاغي أراد أن يعبث بالله في هذه الليلة وقد بتر الله عمره وجعله للقائم
من بعده، ولم يكن لي ولد وسأرزق ولداً. قال أبو هاشم: فلما أصبحنا شغب الأتراك على المهتدي فقتلوه وولي المعتمد مكانه وسلمنا الله تعالى).
وفي الخرائج (1/478): (عن عيسى بن صبيح قال: دخل الحسن العسكري (عليه السلام) علينا الحبس وكنت به عارفاً، فقال لي: لك خمس وستون سنة وشهر ويومان، وكان معي كتاب دعاء عليه تاريخ مولدي، وإني نظرت فيه فكان كما قال.ثم قال: هل رزقتَ ولداً؟ قلت: لا، فقال: اللهم ارزقه ولداً يكون له عضداً، فنعم العضد الولد، ثم تمثل (عليه السلام):
من كان ذا عضد يدركْ ظلامتَه * * * إن الذليل الذي ليست له عضدُ
قلت له: ألك ولد؟ قال: إي والله سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فأما الآن فلا، ثم تمثل وقال:
لعلك يوماً أن تراني كأنما * * * بنيَّ حَوَالَيَّ الأسُودُ اللوابدُ
فإن تميماً قبل أن يلدَ الحصى * * * أقامَ زماناً وهو في الناس واحد)
أقول: عيسى بن صبيح هذا، غير عيسى بن صبيح الذي وصفه النجاشي بأنه عربي ثقة من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، وغير عيسى بن صبيح المزدار المعتزلي الذي نصوا على أنه توفي سنة 226. ولم أصل الى نتيجة في سبب سجنه، ويظهر أنه كان شخصية من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام).
وقد حبس المهتدي بعض العلويين بتهمة تأييدهم للثائرين الذين قتلوا بريحة ويحتمل أن يكون حبس الإمام (عليه السلام) أيضاً بنفس التهمة. (غيبة الطوسي/205).
وقال ابن حبيب في المحبر/42: (ووليَ المهتدي..لست خلون من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، فكانت ولايته أحد عشر شهراً. وفي خلافته خرج الخارجي بالبصرة في شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين).
وهكذا، حبس المهتدي الإمام العسكري (عليه السلام) وأراد قطع نسله، فسلم الله وليه ورزقه ابنه المهدي الموعود (عليه السلام)!
وثار الأتراك على المهتدي فقتلوه ونصبوا المعتمد بن المتوكل، فحكم ثلاثاً وعشرين سنة، وفي سنته الخامسة قام بجريمة قتل الإمام العسكري (عليه السلام).
10. الإمام العسكري (عليه السلام) والخليفة المعتمد
كان أترجَّة أو ابن تُرنجة أو بُريحة، عباسياً ناصبياً من ندماء المتوكل. قال ابن الأثير في الكامل (7/56): (وقيل إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء: المأمون والمعتصم والواثق، في محبة علي وأهل بيته! إنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة بن لؤي، وعمر بن فرج الرخجي، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أمية، وعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجة. وكانوا يخوفونه من العلويين، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم).
وفي إثبات الوصية (1/232): (كتب بريحة العباسي صاحب الصلاة بالحرمين الى المتوكل: إن كان لك في الحرمين حاجة، فأخرج علي بن محمد منهما، فإنه قد دعا الى نفسه واتبعه خلق كثير).
ويظهر أن بريحة العباسي هو الذي قُتل في الكوفة في إحدى ثورات العلوييين.
ففي الطبري (7/525): (ولليلتين خلتا من رجب (سنة255) ظهر بالكوفة عيسى بن جعفر وعلي بن زيد الحسنيان، فقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى. ولثلاث بقين من رجب منها خلع المعتز).
وفي النهاية لابن كثير (11/21): (وقتلا بها عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى، واستفحل أمرهما بها). وفي المنتظم (12/79) أنهما ثارا في المدينة.
وفي الكافي (1/503): (حبس أبو محمد (عليه السلام) عند علي بن نارمش وهو أنصب الناس وأشدهم على آل أبي طالب وقيل له: إفعل به وافعل، فما أقام عنده إلا يوماً حتى وضع خديه له، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً، فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم فيه قولاً). ولم أجد نارمش ووجدت أوتامش وزير المستعين (الوافي:17/267).
وفي مهج الدعوات لابن طاووس/273، أن الإمام العسكري (عليه السلام) قال لأمه: (تصيبني في سنة ستين ومائتين حزازة، أخاف أن أنكب منها نكبة. قالت: فأظهرت الجزع وأخذني البكاء، فقال: لا بد من وقوع أمر الله، لا تجزعي، فلما كان في صفر سنة ستين أخذها المقيم والمقعد، وجعلت
تجزع في الأحانين إلى خارج المدينة، وتجسس الأخبار حتى ورد عليها الخبر حين حبسه المعتمد في يدي علي جَرِين..الخ.).
وفي الكافي (1/512): (دخل العباسيون على صالح بن وصيف، ودخل صالح بن علي وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف، عندما حبس أبا محمد (عليه السلام)، فقال لهم صالح: وما أصنع، قد وكلت به رجلين من أشر من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم، فقلت: لهما ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله، لا يتكلم ولا يتشاغل، وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا، وتداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلما سمعوا ذلك انصرفوا خائبين).
وفي مناقب آل أبي طالب (3/530): (محمد بن إسماعيل العلوي قال: دخل العباسيون على صالح بن وصيف عندما حبس أبو محمد فقالوا له: ضيق عليه، قال: وكلت به رجلين من شر من قدرت عليه: علي بن بارمش واقتامش، فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم، يضعان خديهما له! ثم أمر بإحضارهما فقال: ويحكما ما شأنكما في شأن هذا الرجل؟ فقالا: ما نقول في رجل يقوم الليل كله ويصوم النهار، لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا، وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا! وروي أنه سُلم إلى يحيى بن قتيبة، وكان يضيق عليه فقالت له امرأته: إتق الله فإني أخاف عليك منه، قال: والله لأرمينه بين
السباع، ثم استأذن في ذلك فأذن له فرمى به إليها، ولم يشكوا في أكلها إياه، فنظروا إلى الموضع فوجدوه قائماً يصلي! فأمر بإخراجه إلى داره.
وروي أن يحيى بن قتيبة الأشعري أتاه بعد ثلاث مع الأستاذ فوجداه يصلي والأسود حوله، فدخل الأستاذ الغيل فمزقوه وأكلوه، وانصرف يحيى في فوره إلى المعتمد، فدخل المعتمد على العسكري وتضرع إليه وسأل أن يدعو له بالبقاء عشرين سنة في الخلافة، فقال (عليه السلام): مد الله في عمرك، فأجيب، وتوفي بعد عشرين سنة).
الفصل الثاني: غلب الله بني العباس ووُلد المهدي (عليه السلام)!
ولد المهدي (عليه السلام) بعد هلاك الخليفة المهتدي بشهر
زادت محاولات خلفاء بني العباس لقتل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، والرقابة على زوجته وجواريه، لئلا يولد له ولد، أو يقتلوه إن ولد!
لكن الله تعالى شغلهم بأحدات وقعت بعد شهادة الإمام الهادي (عليه السلام)، فقد ظهرت حركة الزنج في البصرة، وحركة الصفار في خراسان، ثم نقم الأتراك على المعتز فقتلوه شر قتلة.
وجاء المهتدي فواصلَ سياسة المعتز في مضايقة الإمام العسكري (عليه السلام) وحبسه، لكن سرعان ما أغضب الأتراك عليه لما حاول أن يوقع بينهم، فاتفقوا عليه وكانت بينهم معارك انتهت بهزيمته وقتله.
قال الطبري (7/582): (في رجب من هذه السنة (256) لأربع عشرة ليلة خلت منه خلع المهتدي، وتوفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب. ذُكر أن ساكني الكرخ بسامرا والدور، تحركوا لليلتين خلتا من رجب من هذه السنة يطلبون أرزاقهم، فوجه إليهم المهتدي طبايغو الرئيس عليهم وعبد الله أخا المهتدي، فكلماهم فلم يقبلوا منهما، وقالوا نحن نريد أن نكلم أمير المؤمنين مشافهة).
ثم ذكر الطبري محاورة المهتدي مع بايكباك، وأن المهتدي قتله وألقى رأسه الى الأتراك، فجاشوا واتحدوا، ليأخذوا ثأر صاحبهم من الخليفة!
قال الطبري (7/584): (فاجتمع جميع الأتراك فصار أمرهم واحداً، فجاء منهم زهاء عشرة آلاف رجل، وجاء طوغتيا أخو بايكباك وأحمد بن خاقان حاجب بايكباك، في نحو من خمس مائة، مع من جاء مع طغوتيا من الأتراك والعجم.
وخرج المهتدي ومعه صالح بن علي، والمصحف في عنقه يدعوالناس إلى أن ينصروا خليفتهم! فلما التحم الشر مال الأتراك الذين مع المهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك، وبقي المهتدي في الفراغنة والمغاربة ومن خف معه من العامة، فحمل عليهم طغوتيا أخو بايكباك حملة ثائر حران موتور، فنقض تعبيتهم وهزمهم، وأكثر فيهم القتل، وولوا منهزمين. ومضى المهتدي يركض منهزماً والسيف في يده مشهور وهو ينادي: يا معشر الناس أنصروا خليفتكم!
حتى صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وهو بعد خشبة بابك، وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة، فدخلها ووضع سلاحه ولبس البياض ليعلو داراً وينزل أخرى ويهرب، فطُلب فلم يوجد! وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارساً يسأل عنه، حتى وقف على خبره في دار ابن جميل، فبادرهم ليصعد فرُمِيَ بسهم وبُعِج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاقان على دابة أو بغل، وأردف خلفه سائساً حتى صار به إلى
داره، فدخلوا عليه فجعلوا يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخرثي، فأقر لهم بست مائة ألف قد أودعها الكرخي الناس ببغداد، وأصابوا عنده خَسَف الواضحة، مُغَنِّيَة. فأخذوا رقعته بست مائة ألف دينار. ودفعوه إلى رجل فوطأ على خصييه حتى قتله)!
ومدح الذهبي في سيره (12/535) المهتدي، ولكنه ذكر فراره الذليل!
قال: (وكان المهتدي أسمر رقيقاً مليح الوجه ورعاً عادلاً صالحاً متعبداً، بطلاً شجاعاً! قوياً في أمر الله، خليقاً للإمارة، لكنه لم يجد معيناً ولا ناصراً.. وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلس بنفسه ويُجلس بين يديه الكتاب يعملون الحساب... وتفلل جمع المهتدي واستحرَّ بهم القتل، فولَّى والسيفُ في يده). ثم ذكر الذهبي ما قاله الطبري!
لاحظ قول الإمام (عليه السلام) وهو في السجن: (إن هذا الطاغي أراد أن يعبث بالله في هذه الليلة، وقد بتر الله عمره وجعله للقائم من بعده، ولم يكن لي ولد وسأرزق ولداً!
قال أبو هاشم: فلما أصبحنا شغب الأتراك على المهتدي فقتلوه، وولي المعتمد مكانه وسلمنا الله تعالى). (غيبة الطوسي/205).
فقد كان الإمام (عليه السلام) يعلم أن زوجته نرجس حامل بالإمام المهدي الموعود، ويعلم أن الخليفة الذي قرر أن يقتله غداً، إنما يريد أن يعبث بأمر الله تعالى
ومقاديره، فكان من مقادير الله تعالى أن هذا الخليفة سيقتل غداً، ويخرج الإمام (عليه السلام) من سجنه، ويولد مولوده المبارك الموعود (عليه السلام)!
ولاحظ استجابة الله للإمام (عليه السلام) في قول الطبري: (في رجب من هذه السنة (256) لأربع عشرة ليلة خلت منه، خُلع المهتدي، وتوفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب).
الإمام العسكري يعلن ولادة ابنه المهدي (عليه السلام)!
قال عندما ولد ابنه المهدي (عليه السلام): (زعمت الظلمة أنهم يقتلونني ليقطعوا هذا النسل، كيف رأوا قدرة القادر. وسماه المؤمل). (مهج الدعوات/276).
وفي كمال الدين/431، عن أبي غانم الخادم قال: (ولد لأبي محمد ولد فسماه محمداً، فعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال: هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم، وهو القائم الذي تمتد إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً، خرج فملأها قسطاً وعدلاً).
وفي كمال الدين/408: (عن أحمد بن إسحاق بن سعد قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) يقول: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلقاً وخلقاً، يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته، ثم يظهره الله فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً).
وفي كمال الدين/432: (عن حمزة بن أبي الفتح قال: جاءني يوماً فقال لي: البشارة! ولد البارحة في الدار مولود لأبي محمد (عليه السلام) وأمر بكتمانه. قلت: وما اسمه؟ قال: سُمي بمحمد، وكُني بجعفر).
وفي كمال الدين/435، عن معاوية بن حكيم، ومحمد بن أيوب بن نوح، ومحمد بن عثمان العمري قالوا: (عرض علينا أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) ونحن في منزله، وكنا أربعين رجلاً، فقال: هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنكم لا ترونه بعد يومكم هذا! قالوا فخرجنا من عنده فما مضت إلا أيام قلائل حتى مضى أبو محمد (عليه السلام)).
وقال لعمته حكيمة (رضي الله عنها) (كمال الدين/427: (يا عمتا بيتي الليلة عندنا فإنه سيولد الليلة المولود الكريم على الله عزَّ وجل، الذي يُحيي الله عزَّ وجل به الأرض بعد موتها! فقلت: ممن يا سيدي ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحبل؟ فقال: من نرجس لا من غيرها!
قالت: فوثبت إليها فقلبتها ظهراً لبطن فلم أرَ بها أثر حبل، فعدت إليه فأخبرته بما فعلت، فتبسم ثم قال لي: إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل، لأن مثلها مثل أم موسى (عليهما السلام) لم يظهر بها الحبل، ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها، لأن فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى، وهذا نظير موسى (عليه السلام))!
وهذا يعني أن الخليفة كان عنده جاسوسات على زوجة الإمام (عليه السلام)!
وفي منتخب الأنوار المضيئة/318، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن الله (عزَّ وجلَّ) أدار في القائم منا ثلاثةً أدارها في ثلاثة من الرسل: قدر مولده بقدر موسى (عليه السلام)، وقدر غيبته بقدر غيبة عيسى (عليه السلام)، وقدر إبطاءه بقدر إبطاء نوح (عليه السلام)، وجعل بعد ذلك عمر العبد الصالح الخضر دليلاً على عمره).
أقول: هذه الأحاديث صحيحة السند. ويؤيدها استنفار الخليفة وبحثه عنه، واستمرار ذلك بعد وفاة أبيه الحسن العسكري (عليه السلام)!
قال الصدوق (كمال الدين/475): (فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي! فتأخر جعفر وقد ارْبَدَّ وجهه واصفرَّ. فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي فسُلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي).
وصقيل هذه جارية الإمام العسكري (عليه السلام) وليست والدة الإمام المهدي (عليه السلام) فقد توفيت والدته (رضي الله عنها) في حياة زوجها الإمام العسكري (عليه السلام).
وقال الصدوق في كمال الدين/431: (حدثنا محمد بن يحيى العطار قال: حدثني أبوعلي الخيزراني عن جارية له كان أهداها لأبي محمد (عليه السلام) فلما أغار جعفر الكذاب على الدار جاءته فارَّةً من جعفر فتزوج بها. قال أبو علي: فحدثتني أنها حضرت ولادة السيد (عليه السلام) وأن اسم أم السيد صقيل
وأن أبا محمد (عليه السلام) حدثها بما يجري على عياله، فسألته أن يدعو الله (عزَّ وجلَّ) لها أن يجعل منيتها قبله، فماتت في حياة أبي محمد (عليه السلام) وعلى قبرها لوحٌ مكتوب عليه: هذا قبر أم محمد. قال أبوعلي: وسمعت هذه الجارية تذكر أنه لما ولد السيد (عليه السلام) رأت له نوراً ساطعاً قد ظهر منه وبلغ أفق السماء، ورأت طيوراً بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده، ثم تطير. فأخبرنا أبا محمد (عليه السلام) بذلك فضحك ثم قال: تلك ملائكة نزلت للتبرك بهذا المولود، وهي أنصاره إذا خرج).
ووالدة الإمام المهدي صلوات الله عليه هي السيدة نرجس أو مليكة، من ذرية شمعون الصفا وصي عيسى (عليه السلام)، وقد أوصلها الله تعالى بقدرته الى الإمام العسكري (عليه السلام) أسيرة من أرض الروم، وكان الإمام يغير إسمها، لأن رقابة الخليفة عليه كانت شديدة ومباشرة!
وسَّع الإمام إعلان ولادة ابنه (عليه السلام) لرد إشاعة السلطة!
قامت سياسة السلطة تجاه الإمام (عليه السلام) على محاولة قتله، كما رأيت في محاولة أربعة خلفاء. وعلى إشاعة أنه لا ولد له , أو أنه عقيم لا يلد!
ولذلك استعمل الإمام (عليه السلام) أساليب متعددة في إعلان ولادة ابنه الموعود (عليه السلام):
منها: رسائله الى وكلائه كأحمد بن إسحاق يبشرهم بولادته (عليه السلام).
منها: إراءة المولود (عليه السلام) للعديد من شيعته، فرادى ومجموعات.
ومنها: متابعته موقف شيعته من إخباره بولادة ابنه الموعود (عليه السلام).
ومنها: تهيئتهم لما بعده، وإخبارهم بأنهم سيفقدونه سنة ستين.
روى المسعودي في إثبات الوصية/217: (عن أحمد بن إسحاق قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) فقال لي: يا أحمد ما كان حالكم فيما كان الناس فيه من الشك والارتياب؟ قلت يا سيدي لما ورد الكتاب بخبر سيدنا ومولده، لم يبق منا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلا قال بالحق. فقال: أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجة الله. ثم أمر أبو محمد (عليه السلام) والدته بالحج في سنة تسع وخمسين ومأتين، وعرفها ما يناله في سنة الستين وأحضر الصاحب (عليه السلام) فأوصى إليه وسلم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه، وخرجت أم أبي محمد مع الصاحب (عليه السلام) جميعاً إلى مكة).
أقول: معناه أن الإمام العسكري (عليه السلام) كتب الى أحمد بن إسحاق يخبره بولادة ابنه المهدي (عليه السلام)، فأخبر الناس وآمنوا به (عليه السلام).
وأن الإمام سأل ابن إسحاق عن موقف أهل قم من رسالته، فأخبره أنهم قبلوها وقالوا بإمامة المهدي (عليه السلام). ورواه ابن مصقلة (عيون المعجزات /138). ويأتي في خبر والدة الإمام العسكري (عليه السلام).
وروى ابن إسحاق أنه جاء في رسالة للإمام العسكري (عليه السلام) الى بعض خاصته: (ما مُني أحد من آبائي بما مُنيت به من شك هذه العصابة في، فإن كان هذا الأمر أمراً اعتقدتموه ودنتم به إلى وقت ثم ينقطع فللشك موضع، وإن كان متصلاً ما اتصلت أمور الله (عزَّ وجلَّ) فما معنى هذا الشك). (كمال الدين/222). وليس مقصوده (عليه السلام) الشك في إمامته، بل في المهدي (عليه السلام).
وقال الإمام (عليه السلام): (سنة ستين تفترق شيعتنا). (إثبات الوصية:1/250).
ومعناه أن بعضهم سيفشل في الامتحان الإلهي ولا يؤمن بالإمام المهدي (عليه السلام).
ومنها: توسعة العقيقة عنه، وهي الضحية بمناسبة ولادة المولود، وقد ذبح الإمام عنه عدة ذبائح، وأرسل الى عدد من أصحابه في البلاد ليذبحوا عنه.
وينبغي أن نلفت الى أن الله تعالى عندما بشر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بكوثر العترة (عليهم السلام)، أمره أن يصلي لربه وينحر، فنحر عقيقة عن الحسن والحسين واقتدى به الأئمة (عليهم السلام) فكانوا يذبحون الذبائح ويطعمون الناس بمناسبة ولادة أولادهم.
وقد تَعَمَّدَ الإمام (عليه السلام) أن يوسع العقيقة عن ابنه المهدي صلوات الله عليهما، إعلاناً منه للمؤمنين، وتحدىاً للظالمين الذين قرروا أن يقتلوه قبل أن يأتيه ولد.
ففي كمال الدين:2/430، عن أبي جعفر العمري قال: (لما ولد السيد (عليه السلام) قال أبو محمد (عليه السلام): إبعثوا إلى أبي عمرو، فبعث إليه فصار إليه، فقال له: اشتر عشرة آلاف رطل خبز وعشرة آلاف رطل لحم وفرقه، أحسبه قال على بني هاشم، وعق عنه بكذا وكذا شاة.
محمد بن إبراهيم الكوفي: إن أبا محمد (عليه السلام) بعث إلى بعض من سماه لي بشاة مذبوحة، وقال: هذه من عقيقة ابني محمد).
وفي الهداية الكبرى/358: (عن البشار بن إبراهيم بن إدريس صاحب نفقة أبي محمد (عليه السلام) قال: وجه إليَّ مولاي أبو محمد كبشين وقال: أعقرهما عن أبي الحسن، وكل وأطعم إخوانك، ففعلت ثم لقيته بعد ذلك فقال: المولود الذي ولد لي مات، ثم وجه لي بأربع أكبشة وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، أعقر هذه الأربعة أكبشة عن مولاك وكل هنأك الله،
ففعلت ولقيته بعد ذلك فقال لي: إنما ستر الله ابني الحسن بابني الحسين وموسى، لولادة محمد مهدي هذه الأمة والفرج الأعظم).
أقول: إذا صحت الرواية فقد يكون معناها أن الإمام (عليه السلام) رزق بثلاثة أبناء غير المهدي (عليه السلام) وأنهم توفوا وقايةً للمهدي (عليه السلام)، والظاهر أن في نستها تصحيفاً.
وفي كمال الدين/432: (حدثني عبد الله بن جعفر الحميري قال: حدثني محمد بن إبراهيم الكوفي إن أبا محمد (عليه السلام) بعث إلى بعض من سماه لي بشاة مذبوحة، وقال: هذه من عقيقة ابني محمد).
وفد تهنئة بالإمام المهدي (عليه السلام)
في دلائل الإمامة/427: (عن عيسى بن مهدي الجوهري قال: خرجت أنا والحسين بن غياث، والحسن بن مسعود، والحسين بن إبراهيم، وأحمد بن حسان، وطالب بن إبراهيم بن حاتم، والحسن بن محمد بن سعيد، ومحمد بن أحمد بن الخضيب، من جنبلاء إلى سر من رأى في سنة سبع وخمسين ومائتين، فعدنا من المدائن إلى كربلاء، فزرنا أبا عبد الله (عليه السلام) في ليلة النصف من شعبان، فتلقينا إخواننا المجاورين لسيدنا أبي الحسن وأبي محمد (عليه السلام) بسر من رأى، وكنا خرجنا للتهنئة بمولد المهدي (عليه السلام)، فبشرنا إخواننا بأن المولود كان قبل طلوع الفجر يوم الجمعة، فقضينا زيارتنا ودخلنا بغداد، فزرنا أبا الحسن موسى وأبا جعفر الجواد محمد بن علي (عليهم السلام) وصعدنا إلى سر من رأى فلما دخلنا على سيدنا أبي محمد الحسن (عليه السلام) بدأنا بالتهنئة قبل أن نبدأه بالسلام، فجهرنا بالبكاء بين يديه، ونحن
نيف وسبعون رجلاً من أهل السواد، فقال: إن البكاء من السرور من نعم الله، مثل الشكر لها، فطيبوا نفساً وقروا عيناً، فوالله إنكم لعلى دين الله الذي جاءت به الملائكة والكتب، وإنكم كما قال جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إياكم أن تزهدوا في فقراء الشيعة، فإن لفقيرهم المحسن المتقى عند الله يوم القيامة شفاعة يدخل فيها مثل ربيعة ومضر، فإذا كان هذا من فضل الله عليكم وعلينا فيكم فأي شيء بقي لكم؟ فقلنا بأجمعنا: الحمد لله والشكر لكم يا ساداتنا، فبكم بلغنا هذه المنزلة فقال: بلغتموها بالله وبطاعتكم له واجتهادكم في عبادته وموالاتكم أوليائه ومعاداتكم أعداءه. فقال عيسى بن مهدي الجوهري: فأردنا الكلام والمسألة، فقال لنا قبل السؤال: فيكم من أضمر مسألتي عن ولدي المهدي (عليه السلام) وأين هو وقد استودعته لله، كما استودعت أم موسى (عليه السلام) ابنها، حيث قذفته في التابوت فألقته في اليم إلى أن رده الله إليها، فقالت طائفة منا: إي والله يا سيدنا لقد كانت هذه المسالة في أنفسنا. قال (عليه السلام): وفيكم من أضمر مسألتي عن الاختلاف بينكم وبين أعداء الله وأعدائنا من أهل القبلة والإسلام، فإني منبئكم بذلك فافهموه، فقالت طائفة أخرى: والله يا سيدنا لقد أضمرنا ذلك. فقال: إن الله (عزَّ وجلَّ) أوحى إلى جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني خصصتك وعلياً وحججي منه إلى يوم القيامة وشيعتكم بعشر خصال: صلاة إحدى وخمسين، وتعفير الجبين، والتختم باليمين، والأذان والإقامة مثنى مثنى، وحى على خير العمل، والجهر ببسم الله
الرحمن الرحيم في السورتين، والقنوت في ثاني كل ركعتين، وصلاة العصر والشمس بيضاء نقية، وصلاة الفجر مغلسة، وخضاب الرأس واللحية بالوسمة. فخالفنا من أخذ حقنا، فجعلوا صلاة التراويح في شهر رمضان عوضاً من صلاة الخمسين في كل يوم وليلة، وكتف أيديهم على صدورهم في الصلاة، والتختم باليسار عوضاً عن اليمين، والإقامة فرادى خلافاً على مثنى، والصلاة خير من النوم خلافاً على حي على خير العمل، والإخفات في بسم الله الرحمن الرحيم في السورتين خلافاً على الجهر، وآمين بعد ولا الضالين عوضاً عن القنوت، وصلاة العصر والشمس صفراء كشحم البقر الأصفر خلافاً على بيضاء نقية، وصلاة الفجر عند تماحق النجوم خلافاً على صلاتها مغلسة، وهُجر الخضاب ونهيَ عنه خلافاً على الأمر به واستعماله...
قال الحسين بن حمدان: لقيت هؤلاء النيف وسبعون رجلاً وسألتهم عما حدثني به عيسى بن مهدي الجوهري، فحدثوني به جميعاً، ولقيت بالعسكر مولى لأبي جعفر الثاني (عليه السلام)، ولقيت الريان مولى الرضا (عليه السلام)، وكل يروي ما روته الرجال).
نشأ المهدي (عليه السلام) بين أبيه والملائكة
كان الإمام المهدي بعد ولادته عند أبيه (عليه السلام)، وكان يُغَيِّبه عن أعين السلطة أحياناً ويظهره أحياناً لبعض خاصته. وقد رويَ أنه سلمه الى ملائكة جاؤوا
على شكل طيور خضر، وكانوا يأخذونه يأتون به الى أبويه كل أربعين يوماً. كما ورد أن أباه أسكنه مع جدته في المدينة.
ولا علم لنا بخطط الله تعالى لحفظ وليه الحجة (عليه السلام)، لكن نعلم أن له جنود السماوات والأرض، وأنه يحفظ أولياءه بوسائل عديدة.
وقد رأيت في رواية حكيمة عمة الإمام العسكري (عليه السلام) في ولادة المهدي (عليه السلام): (الخرائج (1/456): (قالت: وغمرتنا طيور خضر فنظر أبو محمد إلى طائر منها فدعاه فقال له: خذه واحفظه حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره!
قالت حكيمة: قلت لأبي محمد:ما هذا الطائر وما هذه الطيور؟ قال: هذا جبرئيل وهذه ملائكة الرحمة، ثم قال: يا عمة رديه إلى أمه: (كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ). فرددته إلى أمه).
وفي الهداية الكبرى/357: (وعنه (موسى بن محمد) عن أبي محمد جعفر بن محمد بن إسماعيل الحسني، عن أبي محمد (عليه السلام) قال: لما وهب لي ربي مهدي هذه الأمة، أرسل ملكين فحملاه إلى سرادق العرش، حتى وقف بين يدي الله فقال له: مرحباً بعبدي المختار لنصرة ديني، وإظهار أمري، ومهدي خلقي. آليت أني بك آخذ، وبك أعطي، وبك أغفر، وبك أعذب. أردداه أيها الملكان على أبيه رداً رفيقاً، وبلغاه أنه في ضماني وكنفي وبعيني، إلى أن أُحق به الحق وأزهق الباطل، ويكون الدين لي واصباً). ونحوه إثبات الوصية:1/260.
ملاحظات
1. يستكثر البعض أن يأخذ الملائكة الإمام المهدي (عليه السلام) ليحفظوه ويبعدوه عن عيون الخليفة، الذي أراد قتل أبيه من أجل أن لا يولد!
لكن إذا قلت لهم إن طفلاً في غابة كانت حياته مهددة من الحيوانات المفترسة، فأرسل الله تعالى ملائكة أنقذوه وأبعدوه عن الخطر، وساعدوا أمه على تربيته، لقبلوا ذلك!
2. أما عن المقام الذي يعطيه هذا الحديث للإمام المهدي (عليه السلام) فهو طبيعي والحديث لم يدع له النبوة بل يقول إنه وقف مستمعاً في سرادق العرش، وأن الله تعالى خاطب هذا الطفل الملائكي ورحب به، وأخبر عما قرره بشأن مستقبله، وأمر الملكين بحفظه، وأن يبلغا أباه ويبلغاه أنه في حفظ الله تعالى وضمانته، حتى يحق به الحق في الأرض ويبطل به الباطل، ويكون له الدين واصباً، أي خالصاً ومستمراً الى يوم القيامة.
الفصل الثالث: الإمام العسكري (عليه السلام) بشهادة معاصريه
شهادة ابن رئيس وزراء معاصر للإمام (عليه السلام)
روى في الكافي (1/503) حديثاً صحيحاً يرسم صورة للإمام العسكري (عليه السلام) وأخيه جعفر، بشهادة ابن رئيس وزراء الخلافة العباسية، قال:
(كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان، على الضياع والخراج بقم، فجرى في مجلسه يوماً ذكر العلوية ومذاهبهم، وكان شديد النُّصْب فقال:
ما رأيتُ ولا عرفتُ بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، في هَدْيه وسكونه وعفافه ونُبله وكرمه، عند أهل بيته وبني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس. فإني كنت يوماً قائماً على رأس أبي (رئيس الوزراء) وهو يوم مجلسه للناس، إذ دخل عليه حجابه فقالوا: أبو محمد ابن الرضا بالباب، فقال بصوت عال: ائذنوا له، فتعجبت مما سمعت منهم أنهم جسروا يكنون رجلاً على أبي بحضرته، ولم يكن عنده إلا خليفة أو ولي عهد، أو من أمر السلطان أن يكنى!
فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدث السن، له جلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطىً، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد، فلما دنا منه عانقه وقبَّل
وجهه وصدره، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه، وجلس إلى جنبه مقبلاً عليه بوجهه وجعل يكلمه ويفديه بنفسه، وأنا متعجبٌ مما أرى منه، إذ دخل الحاجب فقال: الموفق قد جاء وكان الموفق إذا دخل على أبي، تقدم حجابه وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلاً على أبي محمد يحدثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة قال حينئذ: إذا شئت جعلني الله فداك، ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين حتى لا يراه هذا، يعني الموفق، فقام وقام أبي وعانقه ومضى.
فقلت لحُجَّاب أبي وغلمانه: ويلكم من هذا الذي كنيتموه على أبي، وفعل به أبي هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علويٌّ يقال له الحسن بن علي، يُعرف بابن الرضا، فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلك قلقاً متفكراً في أمره وأمر أبي وما رأيت فيه حتى كان الليل، وكانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات (المشاورات) وما يرفعه إلى السلطان، فلما صلى وجلس، جئت فجلست بين يديه وليس عنده أحد فقال لي: يا أحمد لك حاجة؟ قلت: نعم يا أبَهْ فإن أذنت لي سألتك عنها؟ فقال: قد أذنت لك يا بني فقل ما أحببت، قلت: يا أبه من الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك؟ فقال: يا بني ذاك إمام الرافضة، ذاك الحسن بن علي المعروف بابن الرضا. فسكتَ ساعة ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة
عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإن هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه. ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً!
فازددت قلقاً وتفكراً وغيظاً على أبي وما سمعت منه، واستزدته في فعله وقوله فيه ما قال، فلم يكن لي همة بعد ذلك إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره، فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه، فعظم قدره عندي، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه!
فقال له بعض من حضر مجلسه من الأشعريين: يا أبا بكر فما خبر أخيه جعفر؟ فقال: ومن جعفر فتسأل عن خبره؟ أوَيُقْرَنُ بالحسن جعفر، معلنُ الفسق، فاجرٌ ماجنٌ شريب للخمور، أقل من رأيته من الرجال وأهتكهم لنفسه، خفيفٌ قليلٌ في نفسه! ولقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي ما تعجبت منه وما ظننت أنه يكون! وذلك أنه لما اعتل بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتل، فركب من ساعته فبادر إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته، فيهم نحرير، فأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطببين، فأمرهم
بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة، أُخبر أنه قد ضعف فأمر المتطببين بلزوم داره، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتى توفي، فصارت سر من رأى ضجة واحدة، وبعث السلطان إلى داره من فتشها وفتش حجرها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر وُلده وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل فجعلت في حجرة، ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطلت الأسواق وركبت بنو هاشم والقواد وأبي وسائر الناس إلى جنازته فكانت سر من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة!
فلما فرغوا من تهيئته، بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل، فأمره بالصلاة عليه، فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه، دنا أبو عيسى منه فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين، وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، مات حتف أنفه على فراشه، حضره من حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان، ومن القضاة فلان وفلان، ومن المتطببين فلان وفلان، ثم غطى وجهه وأمر بحمله، فحمل من وسط داره ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه، فلما دفن أخذ السلطان والناس في طلب
ولده، وكثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا عن قسمة ميراثه، ولم يزل الذين وكلوا بحفظ الجارية التي توهم عليها الحمل لازمين حتى تبين بطلان الحمل، فلما بطل الحمل عنهن قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر، وادعت أمه وصيته، وثبت ذلك عند القاضي.
والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده.
فجاء جعفر بعد ذلك إلى أبي فقال: إجعل لي مرتبه أخي وأوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار، فزبره أبي وأسمعه وقال له: يا أحمق السلطان جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك، فلم يتهيأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك أو أخيك إماماً، فلا حاجة بك إلى السلطان أن يرتبك مراتبهما ولا غير السلطان. وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا، واستقله أبي عند ذلك واستضعفه، وأمر أن يحجب عنه، فلم يأذن له في الدخول عليه حتى مات أبي، وخرجنا وهو على تلك الحال، والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي).
شهادة سائس عند الإمام (عليه السلام)
روى الطبري الشيعي في دلائل الإمامة/428، حديثاً عن خادم للإمام العسكري (عليه السلام)، قال: (أخبرني أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى، قال: حدثني أبي (رضي الله عنه) قال: كنت في دهليز لأبي علي محمد بن همام (رحمه الله) على دكة وصفها، إذ مر بنا شيخ كبير عليه دراعة، فسلم على أبي علي محمد بن همام فرد (عليه السلام) ومضى، فقال: لي تدري من هذا؟ فقلت: لا.
فقال: شَاكِريٌّ لمولانا أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام)، أفتشتهي أن تسمع من أحاديثه عنه شيئاً؟ قلت: نعم. فقال لي: أمعك شيء تعطيه؟ فقلت: معي درهمان صحيحان. فقال: هما يكفيانه فادعه. فمضيت خلفه فلحقته بموضع كذا، فقلت: أبو علي يقول لك: تنشط للمسير إلينا؟ فقال: نعم. فجاء إلى أبي علي محمد بن همام فجلس إليه، فغمزني أبو علي أن أسلم إليه الدرهمين، فسلمتهما إليه فقال لي: ما يحتاج إلى هذا، ثم أخذهما، فقال له أبو علي: يا أبا عبد الله محمد، حدثنا عن أبي محمد (عليه السلام) فقال: كان أستاذي صالحاً من بين العلويين، لم أر قط مثله، وكان يركب بسرج صفته بزيون مسكي وأزرق (قماش ديباج على حمرة أو على زرقة) وكان يركب إلى دار الخلافة بسر من رأى في كل اثنين وخميس.
قال أبو عبد الله محمد الشاكري: وكان يوم النوْبة، يحضر من الناس شيء عظيم، ويغص الشارع بالدواب والبغال والحمير والضجة، فلا يكون لأحد موضع يمشي فيه، ولا يدخل أحد بينهم.
قال: فإذا جاء أستاذي سكنت الضجة، وهدأ صهيل الخيل ونهاق الحمير، قال: وتفرقت البهائم حتى يصير الطريق واسعاً، لا يحتاج أن يُتوقى من المزاحمة، ثم يدخل فيجلس في مرتبته التي جعلت له.
فإذا أراد الخروج قام البوابون وقالوا: هاتوا دابة أبي محمد، فسكن صياح الناس وصهيل الخيل، وتفرقت الدواب حتى يركب ويمضي!
وقال الشاكري: واستدعاه يوماً الخليفة فشق ذلك عليه، وخاف أن يكون قد سَعَى به إليه بعضُ من يحسده من العلويين والهاشميين على مرتبته، فركب ومضى إليه، فلما حصل في الدار قيل له: إن الخليفة قد قام، ولكن اجلس في مرتبتك وانصرف. قال: فانصرف وجاء إلى سوق الدواب، وفيها من الضجة والمصادمة واختلاف الناس شيء كثير، قال: فلما دخل إليها سكنت الضجة بدخوله وهدأت الدواب، فجلس إلى نخاس كان يشتري له الدواب، فجيء له بفرس كبوس لا يقدر أحد أن يدنو منه، فباعوه إياه بوكس فقال لي: يا محمد قم فاطرح السرج عليه فقمت وعلمت أنه لا يقول لي إلا ما لا يؤذيني، فحللت الحزام وطرحت السرج عليه فهدأ ولم يتحرك، وجئت لأمضي به فجاء النخاس فقال: ليس يباع! فقال لي: سلمه إليهم، قال: فجاء النخاس ليأخذه فالتفت إليه التفاتةً ذهب منه منهزماً. قال: وركب فمضينا فلحقنا النخاس وقال: صاحبه يقول: أشفقت من أن يرده، فإن كان قد علم ما فيه من الكبس فليشتره. فقال له أستاذي: قد علمت. فقال: قد بعتك.
فقال لي: خذه، فأخذته. قال: فجئت به إلى الإصطبل، فما تحرك ولا آذاني، ببركة أستاذي، فلما نزل جاء إليه فأخذ بإذنه اليمنى فرقاه، ثم أخذ بإذنه اليسرى فرقاه، قال: فوالله، لقد كنت أطرح الشعير له فأفرقه بين يديه فلا يتحرك، هذا ببركة أستاذي.
قال أبو محمد: قال أبو علي بن همام: هذا الفرس يقال له الصؤول، يزحم بصاحبه حتى يرجم به الحيطان، ويقول على رجليه ويلطم صاحبه.
وقال محمد الشاكري: كان أستاذي أصلح من رأيت من العلويين والهاشميين، ما كان يشرب هذا النبيذ، وكان يجلس في المحراب ويسجد فأنام وانتبه وأنام وانتبه، وهو ساجد.
وكان قليل الأكل، كان يحضره التين والعنب والخوخ وما يشاكله، فيأكل منه الواحدة والثنتين، ويقول: شِلْ هذا يا محمد إلى صبيانكم. فأقول: هذا كله! فيقول: خذه كله، فما رأيت قط أشهى منه).
ملاحظات
1. النَّصَّانِ المتقدمان صحيحا السند، وهما غَنِيَّانِ بالمعلومات عن الإمام العسكري (عليه السلام)، ويدلان على أن الربانية أبرز صفات شخصيته.
وهما يرقيان الى درجة الوثائق التاريخية والاجتماعية، لأنهما يعطيان أضواء على نظام الحكم والمجتمع في عصرهما.
2. ذكرت رواية كمال الدين/40، عن سعد الأشعري، وقت حديث أحمد بن رئيس الوزراء فقالت: (حضرنا في شعبان سنة ثمان وسبعين ومائتين وذلك بعد مضي أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام) بثمانية عشرة سنة أو أكثر، مجلس أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان..)
وكذلك رواية الشيخ الطوسي في الفهرست/82، قالت: (أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان، له مجلس يصف فيه أبا محمد الحسن بن علي (عليهما السلام).
أخبرنا به ابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: حضرت وحضر جماعة من آل سعد بن مالك وآل طلحة، وجماعة من التجار في شعبان لإحدى عشرة ليلة مضت منه سنة ثمان وسبعين ومائتين، مجلس أحمد بن عبيد الله بكورة قم، فجرى ذكر من كان بسر من رأى من العلوية وآل أبي طالب، فقال أحمد بن عبيد الله: ما كان بسر من رأى رجل من العلوية مثل رجل رأيته يوماً عند أبي عبيد الله بن يحيى يقال له: الحسن بن علي.. ثم وصفه وساق الحديث).
3. الموفق الذي قال أحمد إنه جاء الى أبيه الوزير، هو ابن المتوكل، أخ المعتمد وقائد جيشه، ويبدو أن الوزير لم يُرد أن يَعرف الموفق بوجود الإمام العسكري (عليه السلام) عنده، لئلا يتهمه باللين مع أعداء الخلافة.
4. الظاهر أن أحمد هو الولد الكبير للوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان، لأنه أبو أحمد، والمشهور أكثر أخوه محمد، وكانت له وزارة بعد أبيه عند خلفاء بني العباس، لكنه كان ضعيف الشخصية. وذكروا ابنه عبد الله بن محمد، وأنه ولي الوزارة للمقتدر. (الوافي:17/257).
وقد ترجمنا لأبيهم عبيد الله في سيرة الإمام الهادي (عليه السلام)، وتوفي سنة 266 (تاريخ دمشق:38/148) وتجد ترجمة ابنه محمد في الوافي للصفدي (4/7).
أما أحمد صاحب الحديث فقال عنه في الوافي (7/114): (أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان أبو بكر، أخو محمد بن عبيد الله الوزير، كان أديباً
فاضلاً يرشح نفسه للوزارة، أورد أبو محمد بن شيران في تاريخه هذين البيتين، وذكر أنهما من قوله:
إنَّ للعنكبوتِ بيتاً وما لي * * * برضا الجودِ والمكارمِ بيتُ
كيف يبني بشطِّ دجلةَ من لَي * * * سَ له في السراجَ بالليلَ زيتُ
توفي سنة سبع وثلاث مائة).
5. الأوصاف التي ذكرها أحمد للإمام العسكري (عليه السلام) تدل على أنه كان مدهوشاً بصفاته الربانية، وأن كل من رأى الإمام (عليه السلام) فَضَّلَهُ على أهل عصره. لاحظ قوله: (ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن الرضا، في هَدْيه وسكونه وعفافه ونُبله وكرمه، عند أهل بيته وبني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء وعامة الناس).
ولاحظ قول أبيه: (يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإن هذا ليستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته، وجميل أخلاقه وصلاحه. ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جَزْلاً، نبيلاً، فاضلاً)!
ثم ذكر أحمد بحثه وسؤاله عن الإمام (عليه السلام)، قال: (فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عنده في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل،
والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه، فعظم قدره عندي، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه)!
وكفى بهذا مؤشراً على ما نعتقده في أئمة العترة (عليهم السلام) من الكمال والعصمة.
6. وصف أحمد بن الوزير شمائل الإمام (عليه السلام) فقال: (فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدث السن، له جلالةٌ وهيبةٌ، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطىً، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد، فلما دنا منه عانقه وقبَّل وجهه وصدره، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه).
وفي الفصول المهمة: (2/1087): (صفته: بين السمرة والبياض).
أقول: قضت حكمة الله تعالى أن يكون بعض الأئمة (عليهم السلام) سُمْرَ البشرة، إرثاً من أمهاتهم، لكنها سمرةٌ حلوةٌ فيها بهاءٌ وجمال.كما ورد في الإمام الجواد (عليه السلام).
قال الكشي في رجاله (2/843): (حدثني الفضل بن الحارث، قال: كنت بسر من رأى وقت خروج [جنازة] سيدي أبي الحسن (عليه السلام) فرأينا أبا محمد ماشياً قد شَقَّ ثيابه، فجعلت أتعجب من جلالته وما هو له أهل، ومن شدة اللون والأدمة، وأشفقت عليه من التعب. فلما كان الليل رأيته في منامي فقال: اللون الذي تعجبت منه اختيار من الله لخلقه يجريه كيف يشاء، وإنها هي لعبرة لأولي الأبصار، لا يقع فيه على المختبر ذم، ولسنا كالناس فنتعب كما يتعبون، نسأل الله الثبات، ونتفكر في خلق الله فإن فيه متسعاً. واعلم أن كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة).
7. يتضح من رواية أحمد أن الخليفة قد سَمَّ الإمام العسكري (عليه السلام) وأرسل الى رئيس وزرائه إنه اعتل، أي سقيناه السم فتعال: (بعث إلى أبي أن ابن الرضا قد اعتل! فركب من ساعته فبادر إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين، كلهم من ثقاته وخاصته، فيهم نحرير، فأمرهم بلزم دار الحسن وتعرَّف خبره وحاله! وبعث إلى نفر من المتطببين فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة أُخبر أنه قد ضعُف، فأمر المتطببين بلزوم داره، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن، وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتى توفي (عليه السلام)، فصارت سر من رأى ضجة واحدة!
وبعث السلطان إلى داره من فتشها وفتش حجرها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر وَلَده، وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل فجعلت في حجرة، ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه، ونسوةٌ معهم.
ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطلت الأسواق، وركبت بنو هاشم والقواد وأبي وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سر من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة، فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى أبي عيسى بن المتوكل، فأمره بالصلاة عليه، فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه دنا أبو عيسى منه
فكشف عن وجهه فعرضه على بني هاشم من العلوية والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والمعدلين، وقال: هذا الحسن بن علي بن محمد بن الرضا مات حتف أنفه على فراشه! حضره من حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ومن القضاة فلان وفلان، ومن المتطببين فلان وفلان، ثم غطى وجهه وأمر بحمله. فحمل من وسط داره ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه، فلما دفن أخذ السلطان والناس في طلب ولده، وكثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا عن قسمة ميراثه)!
ولو قرأ هذا النص أي خبير، لعلم منه المكانة العظيمة للإمام (عليه السلام)، وعلم منه أو ظن أن الخليفة كان يعيش الرعب منه، وأنه ارتكب جريمة قتله!
8. يظهر من كلام ابن الوزير المكانة العظيمة للإمام (عليه السلام) في كل محافل عاصمة الخلافة، بل يظهر أن الخليفة كان يعتقد أنه (عليه السلام) شخصية ربانية مقدسة. لاحظ قوله: (فصارت سر من رأى ضجة واحدة..ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته. وعطلت الأسواق وركبت بنو هاشم والقواد وأبي، وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سر من رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة).
9. وردت هذه العبارة في رواية الإرشاد (2/325) وكشف الغمة(3/205): (وخرجنا وهو على تلك الحال، والسلطان يطلب أثراً لولد الحسن بن علي إلى اليوم، وهو لا يجد إلى ذلك سبيلاً، وشيعته مقيمون على أنه مات وخَلَّفَ ولداً يقوم مقامه في الإمامة).
وهو نصٌّ يكفي للباحث ليعرف أن الدولة كانت الى ثمانية عشرة سنة، تبحث عن أي خيط يوصلها الى ابن الحسن العسكري (عليه السلام) فلم تجد، وأن الشيعة كانوا متفقين على وجوده (عليه السلام)!
10. علق الشيخ الصدوق في كمال الدين/44، على تفتيش السلطة عن ابن الإمام العسكري (عليه السلام)، بقوله: (وإنما كان السلطان لا يفتر عن طلب الولد لأنه قد كان وقع في مسامعه خبره وقد كان ولد (عليه السلام) قبل موت أبيه بسنين وعرضه على أصحابه وقال لهم: هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه فلا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم، أما إنكم لن تروه بعد يومكم هذا، فغيبه ولم يظهره، فلذلك لم يفتر السلطان عن طلبه!
وقد رويَ أن صاحب هذا الأمر هو الذي تخفى ولادته على الناس ويغيب عنهم شخصه، لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، وأنه هو الذي يُقسم ميراثه وهو حي، وقد أخرجت ذلك مسنداً في هذا الكتاب في موضعه، وقد كان مرادنا بإيراد هذا الخبر تصحيحاً لموت الحسن بن علي (عليهما السلام)، فلما بطل وقوع الغيبة لمن ادعيت له من محمد بن علي بن الحنفية والصادق جعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، والحسن بن علي العسكري (عليهم السلام) بما صح من وفاتهم، فَصَحَّ وقوعها بمن نص عليه النبي والأئمة الأحد عشر صلوات الله عليهم، وهو الحجة بن الحسن بن علي بن محمد العسكري (عليهم السلام). وقد أخرجت الأخبار المسندة في ذلك الكتاب في أبواب النصوص عليه صلوات الله عليه.
وكل من سألنا من المخالفين عن القائم (عليه السلام) لم يخل من أن يكون قائلاً بإمامة الأئمة الأحد عشر من آبائه (عليهم السلام) أو غير قائل بإمامتهم، فإن كان قائلاً بإمامتهم لزمه القول بإمامة الإمام الثاني عشر، لنصوص آبائه الأئمة (عليهم السلام) عليه باسمه ونسبه وإجماع شيعتهم على القول بإمامته، وأنه القائم الذي يظهر بعد غيبة طويلة، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. وإن لم يكن السائل من القائلين بالأئمة الأحد عشر لم يكن له علينا جواب في القائم الثاني عشر من الأئمة (عليهم السلام)، وكان الكلام بيننا وبينه في إثبات إمامة آبائه الأئمة الأحد عشر (عليهم السلام).
وهكذا لو سألنا يهودي فقال لنا: لم صارت الظهر أربعاً والعصر أربعاً والعتمة أربعاً والغداة ركعتين والمغرب ثلاثاً؟ لم يكن له علينا في ذلك جواب، بل لنا أن نقول له: إنك منكر لنبوة النبي الذي أتى بهذه الصلوات وعدد ركعاتها، فكلمنا في نبوته وإثباتها، فإن بطلت بطلت هذه الصلوات وسقط السؤال عنها، وإن ثبتت نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) لزمك الإقرار بفرض هذه الصلوات على عدد ركعاتها، لصحة مجيئها عنه واجتماع أمته عليها، عرفت علتها أم لم تعرفها. وهكذا الجواب لمن سأل عن القائم (عليه السلام) حذو النعل بالنعل).
أقول:كفى بهذا المنطق إثباتاً لولادة الإمام المهدي (عليه السلام) لمن عنده إنصاف.
11. نحرير الذي ورد ذكره في رواية أحمد، هو كبير غلمان المعتز ثم المعتمد وقد ورد أن الخليفة سلم اليه الإمام العسكري (عليه السلام) ليحبسه عنده، لأنهم كانوا يحبسون الشخصيات عند الوزراء والقادة.
روى في الكافي (1/513): (سُلِّمَ أبو محمد (عليه السلام) إلى نحرير فكان يضيِّقُ عليه ويؤذيه، قال فقالت له امرأته: ويلك إتق الله، لاتدري من في منزلك وعرفته صلاحه، وقالت: إني أخاف عليك منه، فقال لأرمينه بين السباع! ثم فعل ذلك به فرُئِيَ (عليه السلام) قائماً يصلي وهي حوله)!
وورد ذكر نحرير هذا في أحداث خلع المعتز، وأن الترك اجتمعوا في داره (الطبري:7/526)
وفي معركة مع الأعراب في عودته من الحج سنة 285.(مروج الذهب:4 /175).
ورووا أنه كان مسيطراً على المعتمد بأمر أخيه الموفق، عندما كان الموفق يقود حرب صاحب الزنج في البصرة.
12. لاحظ قول الوزير: (يا بني ذاك إمام الرافضة.. لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا..).
وقوله لجعفر: (يا أحمق السلطان جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك، فلم يتهيأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة أبيك أو أخيك إماماً، فلا حاجة بك إلى السلطان أن يرتبك مراتبهما).
وهذا يدل على أنهم كانوا يعرفون أنه الإمام الحادي عشر من العترة (عليهم السلام). وأنه والد الإمام الثاني عشر الموعود من جده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي قضية مهمة عندهم!
13. سند حديث الشاكري صحيح، وراويه محمد بن هارون، هو أبو جعفر التلعكبري، وكان من شخصيات الشيعة في بغداد، وقد ترحم عليه النجاشي. وأبو علي بن همام، قال عنه النجاشي/380: (محمد بن أبي بكر همام بن سهيل الكاتب الإسكافي شيخ أصحابنا ومتقدمهم. له منزلة عظيمة، كثير الحديث). وذكر أن أباه كان يراسل الإمام العسكري (عليه السلام).
وروى عنه الصدوق (كمال الدين/409) عن محمد بن عثمان العمري قال: (سئل أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) وأنا عنده عن الخبر الذي رويَ عن آبائه (عليهم السلام): أن الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه إلي يوم القيامة، وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية. فقال (عليه السلام): إن هذا حق كما أن النهار حق، فقيل له: يا ابن رسول الله فمن الحجة والإمام بعدك؟ فقال: ابني محمد هو الإمام والحجة بعدي، من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية. أما إن له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقاتون، ثم يخرج فكأني أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة).
14. والشاكري: نسبةٌ الى بني شاكر وهم فرع من قبيلة همدان اليمانية. لكنه هنا بمعنى الأجير والخادم وهو معرب عن (جاكر) الفارسية، وقد غلب على سائس الخيل والبغال. ويظهر من الحديث صدق هذا الشاكري أبو عبد الله محمد، وإيمانه، وقد روى يوميات حياة الإمام (عليه السلام) في عبادته، وغذائه، وعطفه على من يعمل عنده، وزيارته الأسبوعية التي فرضها عليه الخليفة. وروى خضوع الحيوانات بفطرتها وغريزتها، أفضل من البشر بعقولهم.
وعرفنا تنظيم الخلافة للشخصيات التي تزور الخليفة، وترتيبها لهم برتب في الزيارة والمجلس، ولا بد أن رتبة الإمام (عليه السلام) كانت تلي الخليفة، وتأتي قبل الوزراء والقادة، لأنه حسب مفاهيمه ابن عمه، وابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
كما بيَّن الشاكري أن الخليفة استدعى الإمام (عليه السلام) يوماً فخشي أن يكون أحدٌ فتنه عليه حسداً له، وكان ذلك سائداً في جو الخلفاء.
ثم وصف زيارة الإمام (عليه السلام) لسوق بيع الدواب، وكيف عرض عليه البائع فرساً شموساً، فظهرت للإمام (عليه السلام) كرامة. ونلاحظ أنه في كل حديثه يصف كرامة الإمام (عليه السلام) على ربه، ومعجزاته، ونبل أخلاقه!
15. ما ذكره الشاكري من معجزات الإمام العسكري (عليه السلام) وخضوع الحيوانات له، ظاهرةٌ في كل المعصومين صلوات الله عليهم. وهو مقام تكويني يدل على كرامتهم عند ربهم، ويدل على أن الحيوانات أصح فطرة وعبادة لله تعالى من أعداء الأئمة.
16. يظهر أن هذا الحديث كان في بغداد، بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) بمدة لأن محمد بن همام، كان تاجراً في بغداد.
قال العلامة في الخلاصة/247: (محمد بن همام بن سهيل، ويكنى همام أبا بكر، ويكنى محمد أبا علي، البغدادي الكاتب الاسكاني، شيخ أصحابنا ومتقدمهم، له منزلة عظيمة، كثير الحديث، جليل القدر، ثقة).
ثم ذكر أنه ولد بدعاء الإمام العسكري (عليه السلام) سنة 258، وتوفي 336.
الفصل الرابع: من معجزات الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
1. شخصية الإمام (عليه السلام) بكلها معجزة!
تقرأ عن الإمام العسكري (عليه السلام) من كلامه أو كلام غيره، فتجد أنه شخصية ربانية مليئة بالإعجاز. ملكَ إعجاب المسلمين وغير المسلمين، فأسلم على يده راهب مسيحي وقال: وجدت المسيح وأسلمت على يده!
وظهرت معجزاته وكراماته في صغير الأمور وكبيرها، فهو يعرف ما في ذهنك، ويجيبك على سؤال فكرت فيه، ويستجيب الله تعالى دعاءه فوراً، وتعرفه الحيوانات وتخضع له. وعلمه الرباني يتجدد ولا ينضب.
وقد رأيت في الفصلين السابقين عدداً من معجزاته وكراماته، صلوات الله عليه وعلى آبائه. ونختار في هذا الفصل مجموعة أخرى، وكلها نماذج، ولا يتسع الكتاب لاستقصائها أو لتحليها إلا بتعليقات بسيطة.
2. مع أنوش النصراني
روى في الهداية الكبرى/334: (عن جعفر بن محمد القصير البصري قال: حضرنا عند سيدنا أبي محمد (عليه السلام) المكنى بالعسكري فدخل عليه خادم من دار السلطان جليل القدر، فقال له: أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول لك: كاتبُنا أنوش النصراني، يريد أن يُطّهِّرَ ابنين له، وقد سألنا مسألتك أن تركب إلى داره، وتدعو لابنيه بالسلامة والبقاء، فأُحِبُّ أن تركب
وأن تفعل ذلك، فإنا لم نجشمك هذا العناء إلا لأنه قال: نحن نتبرك بدعاء بقايا النبوة والرسالة.
فقال مولانا: الحمد لله الذي جعل اليهود والنصارى أعرف بحقنا من المسلمين! ثم قال أسرجوا الناقة فركب وورد إلى دار أنوش، فخرج مكشوف الرأس حافي القدم وحوله القسيسون والشمامسة والرهبان، وعلى صدره الإنجيل، وتلقاه على باب داره وقال: يا سيدنا أتوسل إليك بهذا الكتاب الذي أنت أعلم به مني، إلا غفرت لي ذنبي في عنائك. وحق المسيح عيسى بن مريم وما جاء به من الإنجيل من عند الله ما سألت أمير المؤمنين مسألتك هذه، إلا لأنا وجدناكم في هذا الإنجيل مثل المسيح عيسى بن مريم عند الله.
فقال مولانا (عليه السلام): الحمد لله، ودخل على فراشه والغلامان على منصة، وقد قام الناس على أقدامهم، فقال: أما ابنك هذا فباقٍ عليك، والآخر مأخوذٌ منك بعد ثلاثة أيام، وهذا الباقي عليك يُسلم ويحَسن إسلامه ويتولانا أهل البيت! فقال أنوش: والله يا سيدي قولك حق، ولقد سهل عليَّ موت ابني هذا لما عرفتني أن ابني هذا يسلم ويتوالى أهل البيت. فقال له بعض القسيسين: وأنت مالك لا تُسلم. فقال له أنوش: أنا مسلم ومولاي يعلم هذا، فقال مولانا: صدق أنوش، ولولا أن يقول الناس إنا أخبرناك بوفاة ابنك، ولم يكن كما أخبرناك، لسألنا الله بقاءه عليك. فقال أنوش: لا أريد يا مولاي إلا كما تريد.
قال جعفر بن أحمد القصير: مات والله ذلك الإبن لثلاثة أيام، وأسلم الآخر بعد ستة أيام، ولزم الباب معنا إلى وفاة سيدنا الحسن (عليه السلام)).
ملاحظات
1. كان الختان من شريعة إبراهيم (عليه السلام) وموسى وعيسى (عليهما السلام) حتى زعم بولس أن المسيح رفعه عن أتباعه! والظاهر أن أنوش الكاتب هذا كان مسيحياً، ثم اسلم وكتم إسلامه بتوجيه الإمام العسكري (عليه السلام). ويدل احتفاله بختان ابنيه أو تطهيرهما، على أنه لم يكن مسيحياً على مذهب بولس، بل على مذهب بطرس (عليه السلام) الذي كان يوجب الختان. وبطرس هو شمعون الصفا (عليه السلام) وصي المسيح (عليه السلام)، وهو نبي رسول، أما بولس فهو عندنا مذموم.
2. يدل ركوب الإمام (عليه السلام) على جمل الى دار أنوش، أنها كانت خارج المدينة، وقد كان في شواطئ دجلة مسيحيون قبل الإسلام، وكانت سامراء قرية مسيحية، وقد اشترى الإمام الهادي (عليه السلام) بيته من مسيحي.
3. كان كثير من المحاسبين وكتاب الخلافة شيعة أو مسيحيين، بسبب تميزهم بالكفاءة والأمانة، ومنهم أنوش الكاتب، ويظهر أنه كان مسلماً باطناً.
4. يدل طلب الخليفة من الإمام (عليه السلام) حضور احتفال رئيس كُتَّابه والدعاء له، على عقيدة كاتبه أنوش بأن الإمام (عليه السلام) بقية النبوة.
لا بد أن يكون الخليفة زاره وهنأه الحفلة أيضاً، لكن الرواية لم تذكر ذلك.
3. قصة فَصْد الإمام (عليه السلام) ومعجزة الدم الأبيض!
الحجامة والفصد: إخراج الدم من أماكن في البدن، وفائدته التخلص من أمراض قد يحملها الدم الذي يتجمع هناك. وهو علمٌ له أصوله وفروعه.
وقد روى القطب الراوندي (رحمه الله) في الخرائج (1/422): (عن طبيب نصراني بالري يقال له مَرْعَبْدَا، وكان أتى عليه مائة سنة ونيف، قال: كنت تلميذ بختيشوع طبيب المتوكل وكان يصطفيني، فبعث إليه الحسن بن علي بن محمد بن الرضا (عليهم السلام) أن يبعث إليه بأخص أصحابه عنده ليفصده فاختارني وقال: قد طلب مني ابن الرضا من يفصده فصر إليه، وهو أعلم في يومنا هذا من تحت السماء فاحذر أن تعترض عليه فيما يأمرك به.
فمضيت إليه فأمر بي إلى حجرة، وقال: كن هاهنا إلى أن أطلبك. قال: وكان الوقت الذي دخلت إليه فيه عندي جيداً محموداً للفصد، فدعاني في وقت غير محمود له وأحضر طشتاً عظيماً ففصدت الأكحل، فلم يزل الدم يخرج حتى امتلأ الطشت. ثم قال لي: إقطع فقطعت، وغسل يده وشدها، وردني إلى الحجرة، وقدم من الطعام الحار والبارد شيء كثير. وبقيتُ إلى العصر ثم دعاني فقال: سَرِّحْ ودعا بذلك الطشت، فسرحت وخرج الدم إلى أن امتلأ الطشت، فقال: إقطع، فقطعت، وشد يده، وردني إلى الحجرة، فبتُّ فيها.
فلما أصبحت وظهرت الشمس دعاني وأحضر ذلك الطشت، وقال: سرِّح فسرحت، فخرج من يده مثل اللبن الحليب، إلى أن امتلأ الطشت ثم قال: إقطع فقطعت، وشد يده.
وقدم إليَّ تخت ثياب وخمسين ديناراً، وقال: خذها واعذر، وانصرف.
فأخذت وقلت: يأمرني السيد بخدمة؟ قال: نعم، تحسن صحبة من يصحبك من دير العاقول! فصرت إلى بختيشوع، وقلت له القصة. فقال: أجمعت الحكماء على أن أكثر ما يكون في بدن الإنسان سبعة أمنان من الدم، وهذا الذي حكيت لو خرج من عين ماء لكان عجباً، وأعجب ما فيه اللبن! ففكر ساعة، ثم مكثنا ثلاثة أيام بلياليها نقرأ الكتب، على أن نجد لهذه الفصدة ذكراً في العالم، فلم نجد!
ثم قال: لم يبق اليوم في النصرانية أعلم بالطب من راهب بدير العاقول.
فكتب إليه كتاباً يذكر فيه ما جرى، فخرجت وناديته، فأشرف عليَّ فقال: من أنت؟ قلت: صاحب بختيشوع. قال: أمعك كتابه؟ قلت: نعم، فأرخى لي زبيلاً فجعلت الكتاب فيه فرفعه فقرأ الكتاب، ونزل من ساعته فقال: أنت الذي فصدت الرجل؟ قلت: نعم. قال: طوبى لأمك! وركب بغلاً، وسرنا، فوافينا سر من رأى، وقد بقي من الليل ثلثه، قلت: أين تحب: دار أستاذنا أم دار الرجل؟ قال: دار الرجل. فصرنا إلى بابه قبل الأذان الأول، ففُتح الباب وخرج إلينا خادم أسود، وقال: أيكما راهب دير العاقول؟ فقال: أنا جعلت فداك. فقال: إنزل، وقال لي الخادم: إحتفظ بالبغلين، وأخذ بيده ودخلا، فأقمت إلى أن أصبحنا وارتفع النهار. ثم خرج الراهب وقد رمى بثياب الرهبانية، ولبس ثياباً بيضاء وأسلم، فقال: خذني الآن إلى دار أستاذك!
فصرنا إلى باب بختيشوع، فلما رآه بادر يعدو إليه ثم قال: ما الذي أزالك عن دينك؟! قال: وجدت المسيح وأسلمت على يده! قال: وجدت المسيح! قال: أو نظيره، فإن هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلا المسيح، وهذا نظيره في آياته وبراهينه.ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات)!
ورواه في الكافي (1/513) بتفاوت، وفيه: (فقال لي: أفصد هذا العرق قال: وناولني عرقاً لم أفهمه من العروق التي تفصد، فقلت في نفسي: ما رأيت أمراً أعجب من هذا، يأمر لي أن أفصد في وقت الظهر، وليس بوقت فصد، والثانية عرق لا أفهمه، ثم قال لي: انتظر وكن في الدار، فلما أمسى دعاني وقال لي: سَرِّحِ الدم، فسرحت، ثم قال: لي أمسك فأمسكت، ثم قال لي: كن في الدار، فلما كان نصف الليل أرسل إليَّ وقال لي: سرح الدم، قال: فتعجبت أكثر من عجبي الأول، وكرهت أن أسأله قال: فسرحت فخرج دم أبيض كأنه الملح!
قال: ثم قال لي: إحبس، قال: فحبست. قال ثم قال: كن في الدار، فلما أصبحت أمر قهرمانه أن يعطيني ثلاثة دنانير، فأخذتها وخرجت حتى أتيت ابن بختيشوع النصراني فقصصت عليه القصة، قال فقال لي: والله ما أفهم ما تقول ولا أعرفه في شيء من الطب، ولا قرأته في كتاب ولا أعلم في دهرنا أعلم بكتب النصرانية من فلان الفارسي فاخرج إليه. قال: فاكتريت زورقاً إلى البصرة، وأتيت الأهواز، ثم صرت إلى فارس إلى صاحبي فأخبرته الخبر، قال وقال: أنظرني أياماً فأنظرته، ثم أتيته
متقاضياً قال: فقال لي: إن هذا الذي تحكيه عن هذا الرجل فعله المسيح في دهره مرة)!
ملاحظات
1. العاقول: شوك صحراوي، ودير العاقول متعدد، وذكر الزبيدي في تاج العروس أنه ثلاثة أماكن، والمشهور منه قرب بغداد جنب النعمانية: (بينه وبين بغداد خمسة عشر فرسخاً على شاطئ دجلة). (معجم البلدان:2/520).
وعنده قتل المتنبي الشاعر. والمذكور في الرواية يقع في بلاد فارس بعد الأهواز.
2. توجد فروقات بين رواية الكافي والخرائج، والكافي أدق منه، وهي تذكر أن دير العاقول في فارس، وأن الفصد الذي ظهر فيه دم أبيض كان في الليل، وفيها فروقات أخرى.
3. تعرض فقهاؤنا للدم الأبيض، وهل أنه محكوم بالنجاسة كالدم الأحمر. لكن القضية الأهم فيه: هل يوجد في بدن الإنسان كمية كبيرة من الدم الأبيض، وهل يمكن تفريغها بالفصد؟
وقد قرأت مصادر طبية وسألت عدة أطباء عن ذلك، فذكروا أن الكريات البيضاء موجودة في كل البدن، ويتركز وجودها في عدد من الغدد.
وأن وظيفتها الدفاع عن الجسم ومقاومة الأجسام الغريبة، ومعدلها 7000 في كل ملم مكعب. وذكروا أن حجم الدم عند الإنسان البالغ 5.5 لتر تقريباً.
وقالوا هناك عدة أنواع من كرات الدم البيضاء، منها كثيرات النوى وتبلغ نسبتها حوالي 47-77% من تعداد كرات الدم البيضاء. والخلايا الليمفاوية وتبلغ نسبتها بين 16-43%، ثم وحيدات النوى وتتراوح نسبتها بين 1-10%
ثم كرات الدم البيضاء المحبة بلايوزين، وتبلغ نسبتها 0.3-7%، وكرات الدم البيضاء القلوية ونسبتها بين 0.3-2%.
ولعل أفضل جواب سمعته عن فصد الإمام العسكري (عليه السلام) ما قاله أستاذ في جامعة عين شمس المصرية، قال: يمكننا أن نفرغ الكريات البيض من الغدد المنتشرة في بدن إنسان، وذلك يحتاج الى عدة أطباء يعملون عدة ساعات، لكن معرفة شبكة العروق التي تربط هذه الغدد ببعضها، وطريقة تفريغها دفعة واحدة، لا يعرفها الطب، فهي من مختصات صاحب ذلك الفصد!
على أن هناك احتمالاً في رأيي أرجح، وهو أن أحجام هذه الكريات متفاوت وأحجام منافذ عروق البدن متفاوتة كذلك، وقد توجد عروق تسمح لنوع من الكريات بالعبور منها دون الباقي، فإذا فصدتها خرجت تلك الكريات دون غيرها! وتقدم أن في الكريات البيض نوع يسمى كثيرات النوى، وتبلغ نسبتها حوالى 47-77% من تعداد كرات الدم البيضاء، فقد يكون نوع منها هو المقصودة بالفصد والإخراج من البدن لتجديده.
صلوات الله على أهل البيت معدن العلم والوحي، ولا غفر الله لمن حرم الأمة من علومهم وبركاتهم.
4. صلاة الاستسقاء
في الخرائج (1/442): (عن علي بن الحسن بن سابور قال: قُحط الناس بسر من رأى في زمن الحسن الأخير (عليه السلام) فأمر المعتمد بن المتوكل الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا إلى الاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيام متوالية إلى المصلى يستسقون، ويدعون فما سقوا. فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى
الصحراء ومعه النصارى والرهبان، وكان فيهم راهب، فلما مد يده هطلت السماء بالمطر! وخرج في اليوم الثاني فهطلت السماء بالمطر، فشك أكثر الناس وتعجبوا وصَبَوْا إلى النصرانية، فبعث الخليفة إلى الحسن وكان محبوساً فاستخرجه من حبسه وقال: إلحق أمة جدك فقد هلكت!
فقال له: إني خارج في الغد، ومزيلٌ الشك إن شاء الله.
فخرج الجاثليق في اليوم الثالث والرهبان معه، وخرج الحسن (عليه السلام) في نفر من أصحابه فلما بصر بالراهب وقد مد يده، أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى، ويأخذ ما بين إصبعيه، ففعل وأخذ من بين سبابته والوسطى عظماً أسود، فأخذه الحسن (عليه السلام) بيده ثم قال له: إستسق الآن. فاستسقى وكانت السماء متغيمة فتقشعت وطلعت الشمس بيضاء! فقال الخليفة: ما هذا العظم يا أبا محمد؟ فقال: هذا رجل مر بقبر نبي من أنبياء الله، فوقع في يده هذا العظم، وما كشف عن عظم نبي إلا هطلت السماء بالمطر)!
وروى ابن حجر المكي في الصواعق المحرقة/208، وابن حمزة في الثاقب في المناقب/575، والقطب في الخرائج:1/442: (لما حُبِسَ، قُحِط الناس بسر من رأى قحطاً شديداً، فأمر الخليفة المعتمد بن المتوكل بالخروج للاستسقاء ثلاثة أيام فلم يُسقوا! فخرج النصارى ومعهم راهب كلما مد يده إلى السماء هطلت، ثم في اليوم الثاني كذلك، فشك بعض الجهلة وارتد
بعضهم، فشق ذلك على الخليفة، فأمر بإحضار الحسن الخالص (عليه السلام) وقال له: أدرك أمة جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يهلكوا!
فقال الحسن (عليه السلام): يخرجون غداً وأنا أزيل الشك إن شاء الله، وكلَّم الخليفة في إطلاق أصحابه من السجن فأطلقهم، فلما خرج الناس للاستسقاء ورفع الراهب يده مع النصارى غيمت السماء، فأمر الحسن بالقبض على يده فإذا فيها عظم آدمي فأخذه من يده، وقال: إستسق، فرفع يده فزال الغيم وطلعت الشمس، فعجب الناس من ذلك!
فقال الخليفة للحسن (عليه السلام): ما هذا يا أبا محمد؟ فقال: هذا عظم نبي ظفر به هذا الراهب من بعض القبور. وما كشف عظم نبي تحت السماء إلا هطلت بالمطر! فامتحنوا ذلك العظم فكان كما قال، وزالت الشبهة عن الناس! ورجع الحسن إلى داره، وأقام عزيزاً مكرماً، وصلات الخليفة تصل إليه كل وقت، إلى أن مات بسر من رأى ودفن عند أبيه وعمه، وعمره ثمانية وعشرون سنة، ويقال إنه سُمَّ أيضاً. ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويسمى القائم المنتظر، قيل لأنه ستر بالمدينة، وغاب فلم يعرف أين ذهب).
أقول: نلاحظ أن ابن حجر السني يروي هذه المعجزة للإمام العسكري (عليه السلام) بإعجاب، فهو يشير الى أن القحط والجفاف حصل بمجرد أن حبست السلطة
الإمام (عليه السلام)، ثم ذكر رواية قتل السلطة له بالسم رغم احترامهم له في الظاهر! كما ذكر ولادة ابنه المهدي المنتظر صلوات الله عليهم.
ويوجد إشكال في هذه الرواية هو أن أجساد الأنبياء (عليهم السلام) لا تبلى ولا تنفصل عنها عظامها، فقد روى الحاكم (4/560): (إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء). وصححه على شرط الشيخين، ورواه غيره أيضاً.
لكن يظهر أنه مخصوص ببعض الأنبياء (عليهم السلام). قال السيد الخوئي (قدس سره): (ثبت نقل عظام بعض الأنبياء غير أولي العزم (عليه السلام) كما ورد بالنسبة إلى بعض آخر منهم، وهذا معناه أنه لم يبق من جسدهم عند النقل إلَّا العظام، وأما بالنسبة إلى الأنبياء أولي العزم (عليه السلام) فلا يحضرني الآن شيء، لكن ورد بالنسبة إلى الأئمة أن أجسادهم لا تبقى في القبر بل ترفع إلى السماء ولو بعد أيام، وهذا يقتضي أن يكون الأمر بالنسبة إلى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً كذلك، ونفس الأمر بالنسبة إلى الأنبياء أولي العزم أيضاً كذلك). (صراط النجاة:5/286).
5. مسجد الإمام العسكري (عليه السلام) ومقامه في جرجان
قال الراوندي في الخرائج (1/424) وابن حمزة في الثاقب/215: (عن جعفر بن الشريف الجرجاني، حججت سنةً فدخلت على أبي محمد (عليه السلام) بسر من رأى، وقد كان أصحابنا حملوا معي شيئاً من المال، فأردت أن أسأله إلى من أدفعه؟ فقال قبل أن قلت له ذلك: إدفع ما معك إلى المبارك خادمي. قال: ففعلت وخرجت، وقلت: إن شيعتك بجرجان يقرؤون عليك السلام. قال: أولستَ منصرفاً بعد فراغك من الحج؟ قلت: بلى! قال: فإنك تصير إلى جرجان من يومك هذا إلى مائة وسبعين يوماً، وتدخلها
يوم الجمعة لثلاث ليال يمضين من شهر ربيع الآخر في أول النهار، فأعلمهم أني أوافيهم في ذلك اليوم آخر النهار، فامض راشداً، فإن الله سيسلمك ويسلم ما معك، فتُقْدَمُ على أهلك ووُلدك، ويولد لولدك الشريف ابنٌ فَسَمِّهِ الصلت بن الشريف بن جعفر بن الشريف، وسيبلغه الله ويكون من أوليائنا.
فقلت: يا ابن رسول الله إن إبراهيم بن إسماعيل الجرجاني وهو من شيعتك، كثير المعروف إلى أوليائك، يخرج إليهم في السنة من ماله أكثر من مائة ألف درهم، وهو أحد المتقلبين في نعم الله بجرجان.
فقال: شكر الله لأبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل صنيعته إلى شيعتنا، وغفر له ذنوبه، ورزقه ذكراً سوياً قائلاً بالحق، فقل له: يقول لك الحسن بن علي: سم ابنك، أحمد.
فانصرفت من عنده وحججت وسلمني الله حتى وافيت جرجان في يوم الجمعة في أول النهار من شهر ربيع الآخر على ما ذكر (عليه السلام)، وجاءني أصحابنا يهنؤوني، فأعلمتهم أن الإمام وعدني أن يوافيكم في آخر هذا اليوم، فتأهبوا لما تحتاجون إليه، وأعدوا مسائلكم وحوائجكم كلها.
فلما صلوا الظهر والعصر اجتمعوا كلهم في داري، فوالله ما شعرنا إلا وقد وافانا أبو محمد (عليه السلام)! فدخل إلينا ونحن مجتمعون فسلم هو أولاً علينا فاستقبلناه وقبلنا يده. ثم قال: إني كنت وعدت جعفر بن الشريف أن أُوافيكم في آخر هذا اليوم، فصليت الظهر والعصر بسرَّ من رأى
وصرت إليكم لأجدد بكم عهداً، وها أنا جئتكم الآن، فاجمعوا مسائلكم وحوائجكم كلها. فأول من انتدب لمسائلته النضر بن جابر، قال: يا ابن رسول الله إن ابني جابراً أُصيب ببصره منذ أشهر، فادع الله له أن يرد عليه عينيه. قال: فهاته، فمسح بيده على عينيه فعاد بصيراً.
ثمّ تقدم رجل فرجل يسألونه حوائجهم، وأجابهم إلى كل ما سألوه حتى قضى حوائج الجميع، ودعا لهم بخير، وانصرف من يومه ذلك)!
ملاحظات
1. مدينة جرجان جزء من طبرستان، وكان فيها شيعة لأهل البيت (عليهم السلام) من أول الفتح الإسلامي، وكانت في عهد الإمام العسكري (عليه السلام) تحت حكم الحسن بن زيد العلوي المعروف بالداعي الكبير، فقد ثار سنة 250 على الخلافة العباسية، وتغلب على آمل وسارية وجرجان وبقية طبرستان، وحكم بعده محمد بن زيد العلوي الى سنة 287، فأرسلت الخلافة الأمير إسماعيل الساماني فغلب محمداً وقتله وحكم طبرستان، حتى قام الناصر الكبير الحسن بن علي الأطروشي في سنة 301، فاستعاد طبرستان وحكمها حتى توفي سنة 304، فقام بعده صهره الداعي الصغير محمد بن القاسم، حتى قتل سنة 316. وبموته انتهت الدولة الزيدية من طبرستان.
2. وردت رواية في مقدمة التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام) عن يوسف بن محمد بن زياد، وعلي بن محمد بن سيار، فقد قالا إن أبويهما كانا إماميين، وكانت الزيدية غالبين بأستراباذ، وكان الحسن بن زيد العلوي يصغي إليهم ويقتل الناس بسعايتهم، فهربا منه الى سامراء فطمأنهما الإمام العسكري (عليه السلام)
وأخبرهما بتغير الحال، فاكتشف الحاكم الزيدي كذب الساعين على الشيعة الجعفرية، فعاقبهم ونذر لله (عزَّ وجلَّ) أن لا يعرض للناس في مذاهبهم.
وذكر الراويان أن الإمام العسكري (عليه السلام) طلب من أبويهما إبقاءهما عنده ليدرسها تفسير القرآن، ثم رويا كتاب التفسير.
وقد ضَعَّفَ السيد الخوئي هذه الرواية في شرح العروة (1/184) بأن الراويين مجهولان، وتفسير الإمام العسكري (عليه السلام) كما ذكر ابن شهراشوب في معالم العلماء/70: كتبه عنه الحسن بن خالد البرقي أخو محمد بن خالد في ماية وعشرين مجلدة! فهو غير هذا التفسير المنسوب اليه، الذي يقع في مجلد واحد.
وسيأتي بحث ذلك في فصل خاص.
3. كان الأئمة (عليهم السلام) يسافرون بنحو الإعجاز، وهذا معروفٌ في سيرتهم (عليهم السلام)، بواسطة طيِّ الأرض أو غيره، فقد ذهب أمير المؤمنين (عليه السلام) الى المدائن وصلى على جنازة سلمان الفارسي (رحمه الله)، ورجع الى المدينة في نفس اليوم!
وكل المعصومين (عليه السلام) عندهم القدرة على ما يريدون، لأنهم لا تُرّدُّ لهم دعوة، لكنهم لا يستعملون هذه القدرات إلا أن يأمرهم الله تعالى.
وقد ذكرنا في سيرة الإمام زين العابدين (عليه السلام) أن رجلاً شكى اليه فأعطاه قوت يومه قرصيْن، وأمره أن يبيعهما في السوق ويشتري بهما شيئاً، فاشترى سمكتين غير مرغوبتين، فوجد في جوفها لؤلؤتين ثمينتين: (وباع الرجل اللؤلؤتين بمال عظيم قضى منه دينه، وحسنت بعد ذلك حاله، فقال بعض المخالفين: ما أشد هذا التفاوت! بينا علي بن الحسين لا يقدر أن يسد منه فاقة إذ أغناه هذا الغناء العظيم! كيف يكون هذا وكيف يعجز عن سد الفاقة من يقدر على هذا
الغناء العظيم؟ فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): هكذا قالت قريش للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف يمضي إلى بيت المقدس ويشاهد ما فيه من آثار الأنبياء (عليهم السلام) من مكة ويرجع إليها في ليلة واحدة، مَن لا يقدر أن يبلغ من مكة إلى المدينة إلا في اثني عشر يوماً! وذلك حين هاجر منها.
ثم قال (عليه السلام): جهلوا والله أمر الله وأمر أوليائه معه! إن المراتب الرفيعة لا تنال إلا بالتسليم لله جل ثناؤه، وترك الاقتراح عليه، والرضا بما يدبرهم به.
إن أولياء الله صبروا على المحن والمكاره صبراً لمَّا يساوهم فيه غيرهم، فجازاهم الله (عزَّ وجلَّ) عن ذلك بأن أوجب لهم نجح جميع طلباتهم، لكنهم مع ذلك لا يريدون منه إلا ما يريده لهم)! (أمالي الصدوق/539).
4. حفظ أهل جرجان ذلك المكان المبارك الذي زارهم فيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). ففي وسط مدينتهم مسجد باسم: مسجد وقدمگاه إمام حسن عسكري (عليه السلام). ومعنى قدمگاه: موطئ قدم. وهم يفتخرون به ويحيون يوم زيارة الإمام (عليه السلام) لهم في الثالث من شهر ربيع الثاني كل سنة، لأنه (عليه السلام) قال لجعفر بن الشريف: (وتدخلها يوم الجمعة لثلاث ليال يمضين من شهر ربيع الآخر في أول النهار، فأعلمهم أني أوافيهم في ذلك اليوم آخر النهار).
5. لنا أن نتصور سرعة الحركة وسعة التواصل بين الناس، في عصر الإمام المهدي (عليه السلام). فقد وردت أحاديث عن تطور التواصل والتنقل بين الناس في الأرض، ومع سكان الكواكب الأخرى.
6- كان يخرج من السجن لملاقاة شيعته ويعود!
في عيون المعجزات/126: (حدثني أبو التحف المصري يرفع الحديث برجاله إلى أبي يعقوب إسحاق بن أبان قال: كان أبو محمد (عليه السلام) يبعث إلى أصحابه وشيعته: صِيروا إلى موضع كذا وكذا، والى دار فلان بن فلان العشاءَ والعتمةَ في ليلة كذا، فإنكم تجدوني هناك!
وكان الموكلون به لا يفارقون باب الموضع الذي حبس فيه (عليه السلام) بالليل والنهار، وكان (الخليفة أو المسؤول) يعزل في كل خمسة أيام الموكلين ويولى آخرين بعد أن يجدد عليهم الوصية بحفظه والتوفر على ملازمة بابه، فكان أصحابه وشيعته يصيرون إلى الموضع، وكان (عليه السلام) قد سبقهم إليه فيرفعون حوائجهم إليه، فيقضيها لهم على منازلهم وطبقاتهم وينصرفون إلى أماكنهم بالآيات والمعجزات)!
7. معجزة حصاة أم غانم وأخواتها!
روى ابن حمزة في الثاقب/561، والإربلي في كشف الغمة (3/228): (عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي محمد الحسن فاستؤذن لرجل من أهل اليمن، فدخل رجل طويل جسيم جميل وسيم، فسلم عليه بالولاية فرد عليه بالقبول وأمره بالجلوس فجلس ملاصقاً بي، فقلت في نفسي: ليت شعري من هذا؟ فقال أبو محمد (عليه السلام):هذا من ولد الأعرابية صاحبة الحصاة التي طبع فيها آبائي بخواتيمهم فانطبعت، فقد جاء بها معه يريد أن نطبع فيها. ثم قال: هاتها فأخرج حصاة من جانب منها
موضع أملس فأخذها ثم أخرج خاتمه، فطبع فيها فانطبع، وكأني أقرأ نقش خاتمه الساعة: الحسن بن علي.
فقلت لليماني: أرأيته قبل هذا؟ قال: لا والله، وإني منذ دهر لحريص على رؤيته حتى كان الساعة أتاني شاب لست أراه فقال لي: قم فادخل، فدخلت، ثم نهض اليماني وهو يقول: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، ذريةٌ بعضها من بعض. أشهد أن حقك لواجب كوجوب حق أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة من بعده، وإليك انتهت الحكمة والإمامة، وأنك ولي الله، لا عذر لأحد في الجهل بك.
فسألته عن اسمه فقال: إسمي مهجع بن الصلت بن عقبة بن سمعان بن غانم بن أم غانم، وهي الأعرابية اليمانية صاحبة الحصاة التي ختم فيها أمير المؤمنين (عليه السلام). وقال أبو هاشم الجعفري في ذلك:
بدربِ الحصا مولىً لنا يختمُ الحَصَا * * * له الله أصفى بالدليل وأخلصَا
وأعطاه آياتِ الإمامة كلِّهَا * * * كموسى وفَلْقَ البحر واليدَ والعصا
وما قَمَّصَ الله النبيين حجةً * * * ومعجزةً إلا الوصيينَ قَمَّصَا
فمن كان مرتاباً بذاك فقَصرُه * * * من الأمر أن يتلو الدليل ويفحصا).
وأم غانم هذه صاحبة الحصاة، غير صاحبة الحصاة المشهورة، وهي أم الندى بنت جعفر حبابة الوالبية الأسدية، من أسد بن خزيمة بن مدركة من بني سعد بن بكر بن زيد مناة.
وأما ثالثتهن وأولهن فهي أم مسلم وقيل أم أسلم، جاءت الى منزل أم سلمة فسألتها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: خرج في بعض الحوائج، الساعة يجئ، فانتظرته عند أم سلمة حتى جاء.
روى حديثها في الكافي (1/355): (جاءت أم أسلم يوماً إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في منزل أم سلمة فسألتها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت خرج في بعض الحوائج والساعة يجيء، فانتظرته عند أم سلمة حتى جاء (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت أم أسلم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني قد قرأت الكتب وعلمت كل نبي ووصي، فموسى كان له وصي في حياته ووصي بعد موته، وكذلك عيسى، فمن وصيك يا رسول الله؟ فقال لها: يا أم أسلم وصيي في حياتي وبعد مماتي واحد، ثم قال لها: يا أم أسلم من فعل فعلي هذا فهو وصيي، ثم ضرب بيده إلى حصاة من الأرض ففركها بأصبعه فجعلها شبه الدقيق ثم عجنها ثم طبعها بخاتمه، ثم قال: من فعل فعلي هذا فهو وصيي في حياتي وبعد مماتي، فخرجتُ من عنده فأتيت أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت: بأبي أنت وأمي أنت وصي رسول الله؟ قال: نعم يا أم أسلم، ثم ضرب بيده إلى حصاة ففركها فجعلها كهيئة الدقيق، ثم عجنها وختمها بخاتمه، ثم قال: يا أم أسلم من فعل فعلي هذا فهو وصيي! فأتيت الحسن (عليه السلام) وهو غلام فقلت له: يا سيدي أنت وصي أبيك؟ فقال: نعم يا أم أسلم، وضرب بيده وأخذ حصاة ففعل بها كفعلهما، فخرجت من عنده فأتيت الحسين (عليه السلام) وإني لمستصغرة لسنه فقلت له: بأبي أنت وأمي،
أنت وصي أخيك؟ فقال، نعم يا أم أسلم إيتيني بحصاة، ثم فعل كفعلهم! فعمرت أم أسلم حتى لحقت بعلي بن الحسين بعد قتل الحسين في منصرفه، فسألته أنت وصي أبيك؟ فقال: نعم، ثم فعل كفعلهم، صلوات الله عليهم أجمعين).
ملاحظات
1. نلاحظ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتَّ الحصاة بيده فجعلها طحيناً، ثم عجيناً، ثم ياقوتةً، ثم طبعها! قالت الرواية: (ثم ضرب بيده إلى حصاة من الأرض ففركها بأصبعه فجعلها شبه الدقيق، ثم عجنها، ثم طبعها بخاتمه).
2. قال القطب الراوندي (رحمه الله) في الخرائج (1/428): (وصاحبات الحصى ثلاث: إحداهن هي وتكنى أم غانم. والثانية: أم الندى حُبابة بنت جعفر الوالبية، والأولى: اسمها سعاد من بني سعد بن بكر بن عبد مناف. والثالثة: تدعى أم سليم كانت قارئة الكتب، ولكل واحدة خبر).
3. أما أم الندى حبابة بنت جعفر الوالبية الأسدية، فقد روى خبرها الطوسي في الغيبة/75، وذكر أنها عاشت الى زمن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (وقصته مع حبابة الوالبية صاحبة الحصاة التي طبع فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال لها: من طبع فيها فهو إمام، وبقيت إلى أيام الرضا (عليه السلام) فطبع فيها، وقد شهدت من تقدم من آبائه (عليهم السلام) وطبعوا فيها، وهو آخر من لقيتهم وماتت بعد لقائها إياه، وكفنها في قميصه.
وكذلك قصته مع أم غانم الأعرابية صاحبة الحصاة أيضاً التي طبع فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) وطبع بعده سائر الأئمة إلى زمان أبي محمد العسكري معروفة مشهورة. فلو لم يكن لمولانا أبي الحسن الرضا والأئمة من ولده (عليه السلام) غير هاتين الدلالتين في نص أمير المؤمنين (عليه السلام) على إمامتهم، لكان في ذلك كفاية لمن أنصف من نفسه).
4. وروى ابن عياش الجوهري في مقتضب الأثر/18، حديث أم سليم بتفصيل بسندين من طريقنا وطريق مخالفينا، قال: (حدثا أبو صالح سهل بن محمد الطرطوسي القاضي، قدم علينا من الشام في سنة أربعين وثلاث مائة قال: حدثنا أبو فروة زيد بن محمد الرهاوي قال: حدثنا عمار بن مطر قال: حدثنا أبو عوانة، عن خالد بن علقمة، عن عبيدة بن عمرو السلماني قال: سمعت عبد الله بن خباب بن الأرت قتيل الخوارج يقول: حدثني سلمان الفارسي والبراء بن عازب قالا: قالت أم سليم.
ومن طريق أصحابنا: حدثني أبو القاسم علي بن حبشي بن قوني قال: حدثنا جعفر بن محمد بن ملك الفزاري قال: حدثني الحسين بن أحمد المنقري التميمي قال: حدثني الحسن بن محبوب قال: حدثني أبو حمزة الثمالي، عن زر بن حبيش الأسدي، عن عبد الله بن خباب بن الأرت قتيل الخوارج، عن سلمان الفارسي والبراء بن عازب، قالا: قالت أم سليم، وبين الحديثين خلاف في الألفاظ، وليس في عدد الإثني عشر خلاف، إلا أني سقت حديث العامة لما شرطناه في هذا الكتاب.
قالت أم سليم: كنت امرأة قد قرأت التوراة والإنجيل، فعرفت أوصياء الأنبياء، وأحببت أن أعرف وصيَّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما قدمت ركابنا المدنية أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفت الركاب مع الحي فقلت له: يا رسول الله ما من نبي إلا وكان له خليفتان، خليفة يموت قبله وخليفة يبقى بعده، وكان خليفة موسى في حياته هارون فقبض قبل موسى، ثم كان وصيه بعد موته يوشع بن نون. وكان وصيُّ عيسى في حياته: كالب بن يوفنا، فتوفى كالب في حياته عيسى، ووصيه بعد وفاته شمعون بن حمون الصفا ابن عمة مريم. وقد نظرت في الكتب الأولى فما وجدت لك إلا وصياً واحداً في حياتك وبعد وفاتك، فبين لي بنفسي أنت يا رسول الله من وصيك؟ فقال رسول الله: إن لي وصياً واحداً في حياتي وبعد وفاتي، قلت له: من هو؟ فقال: إيتني بحصاة، فرفعت إليه حصاةً من الأرض فوضعها بين كفية ثم فركها بيده كسحيق الدقيق، ثم عجنها فجعلها ياقوتة حمراء ختمها بخاتمه، فبدا النقش فيها للناظرين، ثم أعطانيها وقال: يا أم سليم من استطاع مثل هذا فهو وصيِّي. قالت: ثم قال لي: يا أم سليم وصيي من يستغنى بنفسه في جميع حالاته كما أنا مستغن!
فنظرت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ضرب بيده اليمنى إلى السقف وبيده اليسرى إلى الأرض قائماً لا ينحنى في حالة واحدة إلى الأرض، ولا يرفع نفسه بطرف قدميه. قالت: فخرجت فرأيت سلمان يكنف علياً ويلوذ بعقوته، دون من سواه من أسرة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحابته، على حداثة من
سنه، فقلت في نفسي هذا سلمان صاحب الكتب الأولى قبلي صاحب الأوصياء وعنده من العلم ما لم يبلغني، فيوشك أن يكون صاحبي، فأتيت علياً فقلت: أنت وصيُّ محمد؟ قال: نعم وما تريدين؟ قلت له: وما علامة ذلك؟ فقال: إيتيني بحصاة، قالت: فرفعت إليه حصاة من الأرض فوضعها بين كفيه، ثم فركها بيده، فجعلها كسحيق الدقيق، ثم عجنها فجعلها ياقوتة حمراء، ثم ختمها فبدا النقش فيها للناظرين، ثم مشى نحو بيته فاتبعته لأسأله عن الذي صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالتفت إليَّ ففعل مثل الذي فعله فقلت: من وصيك يا أبا الحسن؟ فقال: من يفعل مثل هذا، قالت أم سليم: فلقيت الحسن بن علي (عليهما السلام) فقلت: أنت وصى أبيك؟ هذا وأنا أعجب من صغره وسؤالي إياه، مع أني كنت عرفت صفته الإثني عشر إماماً وأبوهم سيدهم وأفضلهم، فوجدت ذلك في الكتب الأولى، فقال لي: نعم أنا وصيُّ أبي. فقلت: وما علامة ذلك؟ فقال إيتيني بحصاة، قالت: فرفعت إليه حصاة من الأرض فوضعها بين كفية ثم سحقها كسحيق الدقيق، ثم عجنها فجعلها ياقوتة حمراء، ثم ختمها فبدا النقش فيها ثم دفعها إليَّ فقلت له: فمن وصيك؟ فقال: من يفعل مثل هذا الذي فعلت، ثم مد يده اليمنى حتى جاوزت سطوح المدينة وهو قائم، ثم طأطأ يده اليسرى فضرب بها الأرض من غير أن ينحنى أو يتصعد، فقلت في نفسي: من يرى وصيه؟ فخرجت من عنده فلقيت الحسين (عليه السلام) وكنت عرفت نعته من الكتب السالفة
بصفته وتسعة من ولده أوصياء بصفاتهم، غير أني أنكرت حليته لصغر سنة، فدنوت منه وهو على كسرة رحبة المسجد فقلت له: من أنت يا سيدي؟ قال: أنا طلبتك يا أم سليم، أنا وصيُّ الأوصياء، وأنا أبو التسعة الأئمة الهادية، أنا وصيُّ أخي الحسن وأخي وصيُّ أبي علي، وعليٌّ وصيُّ جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فعجبت من قوله فقلت: ما علامة ذلك؟ فقال: إيتني بحصاة فرفعت إليه حصاة من الأرض، قالت أم سليم: لقد نظرت إليه وقد وضعها بين كفيه، فجعلها كهيئة السحيق من الدقيق، ثم عجنها فجعلها ياقوتة حمراء، فختمها بخاتمه فثبت النقش فيها، ثم دفعها إليَّ وقال لي: أنظري فيها يا أم سليم فهل ترين فيها شيئاً؟
قالت أم سليم: فنظرت فإذا فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليٌّ والحسن والحسين وتسعة أئمة صلوات الله عليهم أوصياء من ولد الحسين (عليه السلام)، قد تواطأت أسماؤهم إلا إثنين منهم أحدهما جعفر والآخر موسى، وهكذا قرأت في الإنجيل فعجبت ثم قلت في نفسي: قد أعطاني الله الدلائل ولم يعطها من كان قبلي، فقلت يا سيدي أعد على علاةً أخرى! قالت: فتبسم وهو قاعد ثم قام فمد يده اليمنى إلى السماء، فوالله لكأنها عمود من نار تخرق الهواء حتى توارى عن عيني، وهو قائم لا يعبأ بذلك ولا يتحفز، فأسقطت وصعقت فما أفقت إلا به، ورأيت في يده طاقة من آس يضرب بها منخري، فقلت في نفسي: ماذا أقول له بعد هذا؟
وقمت وأنا والله أجد إلى ساعتي رائحة هذه الطاقة من الآس، وهي والله عندي لم تذو ولم تذبل ولا تنقص من ريحها شيء، وأوصيت أهلي أن يضعوها في كفني. فقلت: يا سيدي من وصيك؟ قال: من فعل مثل فعلى، قالت: فعشت إلى أيام علي بن الحسين (عليهما السلام).
قال زرّ بن حبيش خاصة دون غيره: وحدثني جماعة من التابعين سمعوا هذا الكلام من تمام حديثها، منهم مينا مولى عبد الله بن عوف وسعيد بن جبير مولى بني أسد، سمعاها تقول هذا، وحدثني سعيد بن المسيب المخزومي ببعضه عنها. قالت: فجئت إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) وهو في منزله قائماً يصلي، وكان يطول فيها ولا يتحوز فيها، وكان يصلي ألف ركعة في اليوم والليلة، فجلست ملياً فلم ينصرف من صلاته، فأردت القيام فلما هممت به حانت مني التفاتة إلى خاتم في إصبعه: عليه فص حبشي، فإذا هو مكتوب مكانك يا أم سليم أنبأك بما جئتني له.
قالت: فأسرع في صلاته فلما سلم قال لي: يا أم سليم أنبؤك بما جئتني له إيتني بحصاة، من غير أن أسأله عما جئت له، فدفعت إليه حصاة من الأرض فأخذها فجعلها بين كفيه فجعلها كهيئة الدقيق السحيق، ثم عجنها فجعلها ياقوتة حمراء، ثم ختمها فثبت فيها النقش، فنظرت والله إلى القوم بأعيانهم كما كنت رأيتهم يوم الحسين (عليه السلام) فقلت له: فمن وصيك جعلني الله فداك؟ قال: الذي يفعل مثل ما فعلت ولا تدركين
من بعدي مثلي. قالت أم سليم: فنسيت أن أسأله أن يفعل مثلما كان قبلة من رسول الله وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم.
فلما خرجت من البيت ومشيت شوطاً ناداني: يا أم سليم، قلت: لبيك، قال: إرجعي، فرجعت فإذا هو واقف في صرحة داره وسطاً، ثم مشى فدخل البيت وهو يتبسم، ثم قال: اليَّ يا أم سليم، فجلست فمد يده اليمنى فانخرقت الدور والحيطان وسكك المدينة، وغابت يده عني، ثم قال: خذي يا أم سليم، فناولني والله كيساً فيه دنانير وقرطان من ذهب وفصوص كانت لي من جَزْع، في حُقٍّ لي كانت في منزلي، فقلت يا سيدي أما الحُق فأعرفه، وأما ما فيه فلا أدري ما فيه غير أني أجده ثقيلاً!
قال: خذيها وامض لسبيلك. قالت: فخرجت من عنده فدخلت منزلي وقصدت نحو الحق فلم أجد الحق في موضعه، فإذ الحق حقي، قالت: فعرفتهم حق معرفتهم بالبصيرة والهداية فيهم من ذلك اليوم، والحمد لله رب العالمين.
قال الشيخ أبو عبد الله: سألت أبا بكر محمد بن عمر الجعابي، عن هذه أم سليم، وقرأت عليه إسناد الحديث للعامة، واستحسن طريقها وطرىق أصحابنا فيه، فما عرفت أبا صالح الطرطوسي القاضي فقال: كان ثقة عدلاً حافظاً، وأما أم سليم فهي امرأة من النمر بن قاسط، معروفة من النساء اللاتي روين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: وليست أم سليم الأنصارية أم أنس ابن مالك، ولا أم سليم الدوسية، فإنها لها صحبة ورواية، ولا
أم سليم الخافضة التي كانت تخفض الجواري على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا أم سليم الثقفية وهي بنت مسعود أخت عروة بن مسعود الثقفي، فإنها أسلمت وحسن إسلامها، وروت الحديث).
5. كفى بالحديث المتقدم دليلاً على إمامة أئمة العترة الإثني عشر (عليهم السلام). ويظهر من ألفاظه أن بعضهم طبع على نفس الحصاة، وبعضهم أخذ حصاة أخرى وطبع عليها، فظهر عليها خاتمه وخاتم من قبله من المعصومين (عليهم السلام).
كما أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أعطى أم سليم جواهر ودنانير، وأحضر حُقها أي صندوقها الذي تضع فيه حليها، وأعطاها إياه وكان وزنه أثقل..الخ.
8. مع يونس الصائغ
روى الطوسي في أماليه/288، عن كافور الخادم قال: (كان في الموضع مجاورَ الإمام من أهل الصنائع صنوفٌ من الناس وكان الموضع كالقرية، وكان يونس النقاش يغشي سيدنا الإمام ويخدمه، فجاءه يوماً يرعد فقال له: يا سيدي أوصيك بأهلي خيراً، قال (عليه السلام): وما الخبر؟ قال: عزمت على الرحيل. قال (عليه السلام): ولمَ يا يونس وهو يتبسم (عليه السلام). قال قال يونس: ابن بغا: وجه إليَّ بفصٍّ ليس له قيمة، أقبلت أنقشه فكسرته باثنين وموعده غداً وهو موسى بن بغا، إما ألف سوط، أو القتل!
قال (عليه السلام): إمض إلى منزلك، إلى غدٍ فَرَجٌ، فما يكون إلا خيراً. فلما كان من الغد وافى بكرةً يَرْعُد فقال: قد جاء الرسول يلتمس الفص.قال (عليه السلام):
إمض إليه فما ترى إلا خيراً. قال: وما أقول له يا سيدي!؟ قال: فتبسم، وقال: إمض إليه واسمع ما يخبرك به، فلا يكون إلا خيراً!
قال: فمضى وعاد يضحك.قال: قال لي: يا سيدي! الجواري اختصموا فيمكنك أن تجعله فصين حتى نغنيك؟ فقال سيدنا الإمام (عليه السلام): اللهم لك الحمد، إذ جعلتنا ممن يحمدك حقاً، فأي شيء قلت له؟ قال قلت له: أمهلني حتى أتأمل أمره كيف أعمله؟ فقال: أصبت).
9. مع الغفاري من ذرية أبي ذر (رحمه الله)
في الخرائج(1/440): (روي عن علي بن جعفر الحلبي قال: اجتمعنا بالعسكر وترصدنا لأبي محمد (عليه السلام) يوم ركوبه، فخرج توقيعه: ألا لا يسلمن عليَّ أحد، ولا يشير إليَّ بيده، ولا يومئ أحدكم، فإنكم لا تأمنون على أنفسكم. قال: وإلى جانبي شاب، قلت: من أين أنت؟ قال: من المدينة. قلت: ما تصنع هاهنا؟ قال: اختلفوا عندنا في أبي محمد (عليه السلام) فجئت لأراه وأسمع منه، أو أرى منه دلالته ليسكن قلبي، وإني من ولد أبي ذر الغفاري، فبينا نحن كذلك إذ خرج أبو محمد (عليه السلام) مع خادم له، فلما حاذانا نظر إلى الشاب الذي بجنبي فقال: أغفاري أنت؟ قال: نعم. قال: ما فعلت أمك حمدويه؟ فقال: صالحة. ومَرَّ!
فقلت للشاب: أكنت رأيته قط وعرفته بوجهه قبل اليوم؟ قال: لا. قلت: فيقنعك هذا؟ قال: وما دون هذا)!
10. المعجزات التسع التي نقلها عنه الطبري
الطبري المشهور منسوبٌ الى طبرستان في شمال إيران، وهو من مدينة آمل، وإسمه محمد بن جرير بن يزيد، وهو مشتركٌ في اسمه واسم أبيه ومدينته مع عالمين شيعيين: محمد بن جرير بن رستم الطبري، مؤلف المسترشد، ومحمد بن جرير بن رستم الطبري، مؤلف دلائل الإمامة.
والطبري المشهور سنيٌّ لكن لايبعد أنه تسنن بعد أن سكن في بغداد، فقد كانت طبرستان على مذهب الشيعة، اشتهر منهم آل رستم، وقامت في طبرستان دولة زيدية من سنة 250- 316 هجرية.
قال الحموي في معجم البلدان (1/57): (أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ المشهور، أصله ومولده من آمل، ولذلك قال أبو بكر محمد بن العباس الخوارزمي، وأصله من آمل أيضاً، وكان يزعم أن أبا جعفر الطبري خاله:
بآملَ مولدي وبنو جريرٍ * * * فأخوالي ويحكي المرءُ خالَهْ
فها أنا رافِضيٌّ عن تُراثٍ * * * وغيري رافضيٌّ عن كَلَالَهْ
وكذبَ، لم يكن أبو جعفر (رحمه الله) رافضياً، وإنما حسدته الحنابلة فرموه بذلك فاغتنمها الخوارزمي، وكان سباباً رافضياً، مجاهراً بذلك متبجحاً به، ومات ابن جرير في سنة 310).
لكن تحاملَ الحموي على الخوارزمي تعصبٌ بلا موجب فقد شهد الخوارزمي بأن أخواله بني جرير رافضة، أما الطبري المؤرخ فقد يكون
أظهر التسنن عندما جاء الى بغداد، فقد كان له مع الحنابلة قصة، ذكرها الحموي في معجم الأدباء:9/18/57، قال: (فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص وجعفر بن عرفة والبياضي. وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة، وعن حديث الجلوس على العرش فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يُعَدُّ خلافُه. فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الإختلاف فقال: ما رأيته رويَ عنه، ولا رأيت له أصحاباً يُعَوَّلُ عليهم. وأما حديث الجلوس على العرش فمحال، ثم أنشد:
سبحان من ليس له أنيسُ * * * ولا له في عرشه جليسُ
فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم! وقيل كانت ألوفاً، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره فرموا داره بالحجارة حتى صارت على بابه كالتل العظيم! وركب نازوك صاحب الشرطة في ألوف من الجند يمنع عنه العامة، ووقف على بابه يوماً إلى الليل، وأمر برفع الحجارة عنه، وكان قد كَتَبَ على بابه:
سبحان من ليس له أنيسُ * * * ولا لهُ في عرشه جليسُ
فأمر نازوك بمحو ذلك، وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:
لأحمدَ منزلٌ لا شكَّ عالٍ * * * إذا وافى إلى الرحمن وافدْ
فيدنيه ويقعده كريماً * * * على رغم لهم في أنف حاسدْ
على عرش يغلفه بطيب * * * على الأكباد من باغ وعاند
له هذا المقام الفرد حقاً * * * كذاك رواه ليثٌ عن مجاهدْ
فخلا في داره وعمل كتابه المشهور في الإعتذار إليهم، وذكر مذهبه واعتقاده، وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم وفَضَّلَ أحمد بن حنبل، وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده! ولم يزل في ذكره إلى أن مات! ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات، فوجدوه مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه، أعني اختلاف الفقهاء، هكذا سمعت من جماعة، منهم أبي (رحمه الله))!
لكن موجة الحنابلة انحسرت فألف الطبري كتابه ضدهم وسماه: الرد على الحرقوصية! فنسبهم الى حرقوص إمام الخوارج، لأن ابن حنبل من ذريته!
وغرضنا هنا مارواه في دلائل الإمامة من معجزات الإمام العسكري (عليه السلام) عن محمد بن جرير، فهل هو الطبري المعروف أم غيره؟
وقد رويا هذه المعجزات في دلائل الإمامة/426، قال: (قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثنا عبد الله بن محمد قال: رأيت الحسن بن علي السراج (عليه السلام) كلم الذئب فكلمه، فقلت له: أيها الإمام الصالح، سل هذا الذئب عن أخ لي بطبرستان خلفته وأشتهي أن أراه. فقال لي: إذا اشتهيت أن تراه فانظر إلى شجرة دارك بسر من رأى!
وكان قد أخرج في داره عيناً تنبع عسلاً ولبناً، فكنا نشرب منه ونتزود!
قال أبو جعفر: دخل على الحسن بن علي (عليهما السلام) قوم من سواد العراق يشكون قلة الأمطار، فكتب لهم كتاباً فأمطروا، ثم جاءوا يشكون كثرته فختم في الأرض، فأمسك المطر!
قال أبو جعفر: رأيت الحسن بن علي السراج (عليهما السلام) يمشي في أسواق سُرَّ من رأى ولا ظلَّ له، ورأيته يأخذ الآس فيجعلها ورقاً، ويرفع طرفه نحو السماء ويده فيردها ملأى لؤلؤاً. قال أبو جعفر: قلت للحسن بن علي أرني معجزة خصوصية أحدث بها عنك، فقال: يا ابن جرير لعلك ترتد! فحلفت له ثلاثاً، فرأيته غاب في الأرض تحت مصلاه، ثم رجع ومعه حوت عظيم فقال: جئتك به من الأبحر السبعة، فأخذته معي إلى مدينة السلام، وأطعمت منه جماعة من أصحابنا!
قال أبو جعفر: ورأيت الحسن بن علي السراج (عليهما السلام) يمر بأسواق سر من رأى، فما مر ببابٍ مقفلٍ إلا انفتح، ولا دارٍ إلا انفتحت، وكان ينبؤنا بما نعمله بالليل سراً وجهراً!
قال أبو جعفر: أردتُ التزويج والتمتع بالعراق، فأتيتُ الحسن بن علي السراج (عليهما السلام) فقال لي: يا ابن جرير، عزمت أن تتمتع فتمتع بجارية ناصبة معقبة تفيدك مائة دينار. فقلت: لا أريدها. فقال: قد قضيت لك بها، فأتيت بغداد وتزوجت بها فأعقبتُ، وأخذت منها مالاً ثم رجعت فقال: يا ابن جرير، كيف رأيت آية الإمام).
ملاحظات
1. خلاصة هذه المعجزات: تكليم الإمام (عليه السلام) للذئب. وأن الإمام (عليه السلام) جعل الطبري يرى أخاه وهو بعيد عنه، واستخرج عيناً تنبع عسلاً ولبناً وأرسل رسالة الى أهل السواد فمطروا، ثم أوقف المطر بختم الأرض.
وأنه كان يمشي ولا ظل له، ويأخذ الآس فيجعله عملةً، ويرفع طرفه نحو السماء ويده، فيردها ملأى لؤلؤاً، وما مر بباب مقفل إلا انفتح، وكان ينبؤهم بما يعملون. وأنه أخبر عن جارية الطبري فكانت كما قال!
2. من المستبعد أن يكون ابن جرير هذا هو الطبري المشهور، وإن كان ذلك ممكناً لأن الطبري ولد سنة 224، وأكثر من الترحال في طلب العلم حتى استقر في بغداد. لكن لا يوجد مؤيد قوي لهذا الإحتمال، فلا بد أن يكون أحد الطبريين الشيعيين.
وقد رجح في مقدمة عيون المعجزات لابن جرير الطبري الشيعي/122، أن يكون هو المقصود، وليس ابن جرير المعروف، قال: (من المحتمل جداً أن الطبري صاحب الترجمة كان معاصراً للطبري صاحب التاريخ والتفسير، وأنه هو الطبري الكبير الذي أدرك أبا محمد الحسن العسكري (عليه السلام) ورأى منه تسع معجزات وعبر عنه بالحسن بن علي السراج، وقد خاطبه الإمام (عليه السلام) بقوله: يا ابن جرير، وأنه رأى خط الإمام بهلاك الزبير بن جعفر المتوكل بعد ثلاثة أيام، وأنه روى عن علي بن محمد بن زياد الصيمري، وهو من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام)).
3. نلاحظ أنه روى المعجزة الأولى عن: عبد الله بن محمد، وروى البقية عن الإمام (عليه السلام) مباشرة. ويظهر أن عبد الله بن محمد هذا هو البلوي الذي يروي عنه أبو جعفر بن جرير، كما في دلائل الإمامة/362، ونوادر المعجزات/113، وو163و166، وغيرها. وقد ضعفوه، واتهموه.
11. دعاء الإمام (عليه السلام) على موظف كان يؤذيه
روى في الخرائج (2/784): (حدثنا أبو الحسن الموسوي: حدثنا أبي أنه كان يغشى أبا محمد العسكري (عليه السلام) بسر من رأى كثيراً، وأنه أتاه يوماً، فوجده وقد قدمت إليه دابته ليركب إلى دار السلطان، وهومتغير اللون من الغضب، وكان بجنبه رجل من العامة فإذا ركب دعا له وجاء بأشياء يشنع بها عليه، فكان (عليه السلام) يكره ذلك. فلما كان في ذلك اليوم زاد الرجل في الكلام وألح، فسار حتى انتهى إلى مفرق الطريقين، وضاق على الرجل أخذهما من كثرة الدواب، فعدل إلى طريق يخرج منه ويلقاه فيه. فدعا (عليه السلام) بعض خدمه وقال له: إمض فكفن هذا. فتبعه الخادم فلما انتهى (عليه السلام) إلى السوق ونحن معه، خرج الرجل من الدرب ليعارضه فكان في الموضع بغل واقف، فضربه البغل فقتله! ووقف الغلام فكفنه كما أمره، وسار (عليه السلام) وسرنا معه).
أقول: معناه أن ذلك الشخص كان ينتظر الإمام (عليه السلام) حتى يركب ليذهب الى الخليفة أو غيره، فيرافقه، ويتكلم بكلام ويتصرف تصرفات لا يرضى بها الإمام (عليه السلام)، ولم تذكر الرواية نوع تصرفات وكلامه.
ويظهر أن الإمام (عليه السلام) كان غاضباً منه ودعا عليه وعرف أنه استجيب له وأنه سيضربه بغل ويقتله، فأرسل خادمه خلفه ليغطي جنازته!
12. حديث خادمه أبي الأديان (رحمه الله)
روى الصدوق (رحمه الله) في كمال الدين/475، عن أبي الأديان، قال: (كنت أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأحمل كتبه إلى الأمصار فدخلت عليه في علته التي توفي فيها صلوات الله عليه، فكتب معي كتباً وقال: إمض بها إلى المدائن فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل إلى سر من رأى يوم الخامس عشر، وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل!
قال أبو الأديان فقلت: يا سيدي فإذا كان ذلك فمن؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم من بعدي، فقلت: زدني، فقال: من يصلي علَّي فهو القائم بعدي، فقلت: زدني، فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي، ثم منعتني هيبته أن أسأله عما في الهميان.
وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها، ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي (عليه السلام) فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار، والشيعة من حوله يعزونه ويهنونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق(قصر ومحل للقمار) ويلعب بالطنبور، فتقدمت فعزيت وهنيت، فلم يسألني عن شيء.
ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كُفِّنَ أخوك فقم وصلِّ عليه، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة (أي أبوه قتله المعتصم ولعله الأطروش) فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه
سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر وقد ارْبَدَّ وجهه واصفرّ، فتقدم الصبي وصلى عليه! ودفن إلى جانب قبر أبيه (عليه السلام).
ثم قال: يا بصري هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتها إليه فقلت في نفسي: هذه بينتان، بقي الهميان، ثم خرجت إلى جعفر بن علي وهو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي من الصبي لنقيم الحجة عليه؟ فقال: والله ما رأيته قط ولا أعرفه.
فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي (عليهما السلام) فعرفوا موته فقالوا: فمن نعزي؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي فسلموا عليه وعَزَّوْهُ وهَنَّوْهُ وقالوا: إن معنا كتباً ومالاً، فتقول ممن الكتب وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منا أن نعلم الغيب!
قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان وفلان، وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال وقالوا: الذي وجه بك لأخذ ذلك هوالإمام، فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته، وادعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي، فسُلِّمَت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبَغَتَهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين).
ملاحظات
1. سند الرواية علي بن محمد بن حباب أو خشاب، عن أبي الأديان. ولم تذكرهما الكتب الخاصة بالرجال. لكن القرائن توجب الإطمئنان بروايته. وقد روى الصدوق (كمال الدين/474) عن أبي الحسن علي بن محمد بن حباب وعن أبي محمد بن خيرويه التستري، وعن حاجز الوشاء، وعن أبي سهل بن نوبخت، كلهم عن عقيد الخادم أنه قال: (ولد ولي الله الحجة بن الحسن ابن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، صلوات الله عليهم أجمعين، ليلة الجمعة، غرة شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين من الهجرة، ويكنى أبا القاسم ويقال أبو جعفر، ولقبه المهدي، وهو حجة الله (عزَّ وجلَّ) في أرضه على جميع خلقه، وأمه صقيل الجارية، ومولده بسر من رأى في درب الراضة. وقد اختلف الناس في ولادته، فمنهم من أظهر، ومنهم من كتم، ومنهم من نهى عن ذكر خبره، ومنهم من أبدى ذكره والله أعلم به).
أقول: ورواية ابن حباب عن هؤلاء الجماعة الكبار يدل على مستواه العالي. أما قوله إنه المهدي (عليه السلام) ولد سنة254 في أول شهر رمضان وأمه صقيل، فهو خلاف المتفق عليه عند الشيعة، وأنه ولد سنة 256 في ليلة النصف من شعبان والظاهر أن هذه رواية التقية التي كانت سائدة لتضليل السلطة وتسكيتها.
وروى عنه عمر بن شبة المعاصر له، قال: (وحدثنا علي بن محمد بن حباب بن موسى). (الأغاني:16/330) وتوفي ابن شبة سنة 262 (تاريخ ابن الوردي/229).
كما ذكر الصفدي محمداً وقد يكون ابنه، قال في الوافي (4/100): (محمد بن علي بن محمد بن حباب أبو عبد الله الصوري الشاعر، كان فصيحاً توفي بطرابلس وقد نيف على السبعين، وكانت وفاته سنة ثلاث وستين وأربع مائة).
ونقل التستري في قاموس الرجال (11/203) أن في نسخته من الإكمال (محمد بن خشاب). وهو تصحيف.
والنتيجة: أنه شيخ الصدوق (رحمه الله) وصفاته تؤشر على وثاقته.
أما أبو الأديان، فالقرائن على توثيقه أقوى، لأن علو المتن، ووعيه العقائدي وعقله الراجح كما تدل روايته، يكفي لاطمئنان الإنسان بوثاقته.
وإسم أبي الأديان مميز، ولم أجد بهذا الإسم إلا أبا الأديان البغدادي، وقد ترجم له الخطيب وابن عساكر، وذكرا أنه شيخ الصوفية، وأنه صاحب كرامات. وقد يكون من أولاد صاحبنا أبي الأديان السامرائي، خاصة أن سامراء خربت بعد الإمام العسكري (عليه السلام) ونزح أكثر أهلها الى بغداد.
قال الخطيب (5/380) وابن عساكر (5/490): (وكان أبو الأديان من شيوخ الصوفية، سمع أحمد بن محبوب، وأبا مسلم الكجي، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، ومحمد بن يحيى المروزي، ومحمد بن يوسف بن البركي، والحسن بن علي بن المتوكل، ومحمد بن الحسين الأنماطي، وأبا السري محمد بن نعيم الأنصاري، وأبا برزة الحاسب، ويوسف بن يعقوب القاضي، ومحمد بن عبد الله الحضرمي، وأبا خليفة الجمحي، وغيرهم من شيوخ الشام ومصر. حدثنا عنه محمد بن أحمد بن إسحاق البزاز وكان ثقة، سكن مكة وحدث بها).
واشتهر أحد كبار الفقهاء الصوفية باسم: غلام أبي الأديان لقصة له معه.
قال الخطيب: (5/380): (أحمد بن محبوب بن سليمان، أبو الحسن الفقيه الصوفي، يعرف بغلام أبي الأديان). وذكر أنه توفي سنة 357.
2. كانت السلطة تعتقد أن أم الإمام المهدي (عليه السلام) هي صقيل جارية الإمام (عليه السلام) ويظهر من الأحاديث أنها أوثق جواري الإمام (عليه السلام) عنده، وأنها كانت تطيع والدته (رضي الله عنها)، وقد ادعت الحمل بأمرها لتسكيت السلطة عن البحث عن المهدي (عليه السلام)، وعن مصادرة منزله.
وكذا يظهر أن غلامه النوبي المدعو عقيداً (رحمه الله)، كان من أقرب الناس اليه، وكان من خدام أبيه، ومن تربيته هو (عليه السلام).
3. في حديث أبي الأديان حقائق ودقائق عديدة عن علاقة الشيعة بالأئمة (عليهم السلام)، وعن وضع الخلافة في سامراء، ومكانة الإمام العسكري (عليه السلام) عند كبار القوم، وعن ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وظهور معجزاته للناس في الفترات الحساسة وعن يقين السلطة بوجود ولد للإمام (عليه السلام) وعجزها عن القبض عليه.
13. رسالته الى وفد قم وهم في الطريق
في الهداية الكبرى/342: (عن أحمد بن داود القمي، ومحمد بن عبد الله الطلحي، قالا: حملنا ما جمعنا من خمس ونذور وبِرّ، من غير ورق وحلي وجوهر وثياب، من بلاد قم وما يليها، وخرجنا نريد سيدنا أبا محمد الحسن (عليه السلام)، فلما وصلنا إلى دسكرة الملك تلقانا رجلٌ راكبٌ على جمل، ونحن في قافلة عظيمة فقصد إلينا وقال: يا أحمد الطلحي معي رسالة
إليكم، فقلنا من أين يرحمك الله، فقال: من سيدكم أبي محمد الحسن (عليه السلام) يقول لكم: أنا راحل إلى الله مولاي في هذه الليلة، فأقيموا مكانكم حتى يأتيكم أمر ابني محمد، فخشعت قلوبنا، وبكت عيوننا، وقرحت أجفاننا لذلك، ولم نظهره. وتركنا المسير، واستأجرنا بدسكرة الملك منزلاً وأخذنا ما حملنا إليه، وأصبحنا والخبر شائع بالدسكرة بوفاة مولانا أبي محمد الحسن (عليه السلام) فقلنا لا إله إلا الله، ترى الرسول الذي أتانا بالرسالة أشاع الخبر في الناس، فلما تعالى النهار رأينا قوماً من الشيعة على أشد قلق لما نحن فيه فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره، فلما جَنَّ علينا الليل جلسنا بلا ضوء حزناً على سيدنا الحسن (عليه السلام) نبكي ونشكي إلى الله فقده، فإذا نحن بيد قد دخلت علينا من الباب فضاءت كما يضيء المصباح، وهي تقول: يا أحمد هذا التوقيع إعمل به وبما فيه، فقمنا على أقدامنا وأخذنا التوقيع فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: من الحسن المسكين لله رب العالمين، إلى شيعته المساكين: أما بعد، فالحمد لله على ما نزل منه، ونشكر إليكم جميل الصبر عليه، وهوحسبنا في أنفسنا وفيكم ونعم الوكيل. ردوا ما معكم، ليس هذا أوان وصوله إلينا، فإن هذا الطاغي قد دنت غشيته إلينا، ولو شئنا ما ضركم، وأمرنا يرد عليكم.
ومعكم صرة فيها سبعة عشر ديناراً في خرقة حمراء، إلى أيوب بن سليمان، الآن فردوها، فإنه حملها ممتحناً لنا بها بما فعله، وهوممن وقف عند جدي موسى بن جعفر (عليهما السلام) فردوا صرته عليه، ولا تخبروه!
فرجعنا إلى قم، فأقمنا بها سبع ليال، ثم جاءنا أمر ابنه: قد بعثنا إليكم إبلاً غير إبلكم، إحملا ما قِبَلَكُما عليها واخليا لها السبيل فإنها واصلةٌ إليَّ! وكانت الإبل بغير قائد ولا سائق، على وجه الأول منها بهذا الشرح، وهو مثل الخط الذي بالتوقيع التي أوصلته إلى الدسكرة، فحملنا ما عندنا واستودعناه وأطلقناهم.
فلما كان من قابل خرجنا نريده (عليه السلام) فلما وصلنا إلى سامرا دخلنا عليه فقال لنا: يا أحمد ومحمد أدخلا من الباب الذي بجانب الدار، وانظرا ما حملتماه على الإبل فلا تفقدا منه شيئاً. فدخلنا من الباب فإذا نحن بالمتاع كما وعيناه وشددناه لم يتغير، فحللناه كما أمرنا وعرضنا جمعه، فما فقدنا منه شيئاً، فوجدنا الصرة الحمراء والدنانير فيها بختمها، وكنا قد رددناها على أيوب، فقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلنا: إنها من سيدنا فصاح بنا من مجلسه: فما لكما بدت لكما سوءاتكما! فسمعنا الصوت فأتينا إليه فقال: من أيوب وقتَ وردت الصرة عليه فقبل الله إيمانه وقبل هديته فحمدنا الله وشكرناه على ذلك، فكان هذا من دلائله (عليه السلام)).
ملاحظات
وصل وفدٌ من قم الى سامراء قرب وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، وكان وفد آخر في الطريق، وهذا يدل على أهمية قم وأن أكثر الشيعة في إيران كانوا يراجعون وكلاء الأئمة (عليهم السلام) فيها، ويرسلون بواسطتهم مسائلهم وحقوقهم.
وقد يشكل على الرواية بأنها من كتاب الهداية، وهو ومؤلفه محل بحث عند علمائنا، وأكثرهم لا يقبلونه، ويتهمونه بالغلو والإنحراف.
والإشكال الآخر: أنه بعد أن أرجعهم الإمام (عليه السلام) الى قم، وأرسل لهم إبلاً أخرى وحملوها الهدايا والحقوق وأوصلتها الى الإمام (عليه السلام)، كيف أبقاها سنة حتى جاؤوا، قالت الرواية: (فلما كان من قابل خرجنا نريده (عليه السلام) فلما وصلنا إلى سامرا... فإذا نحن بالمتاع كما وعيناه وشددناه لم يتغير).
ومهما يكن، فإن مقام الإمام (عليه السلام) ومعجزاته أبلغ من هذه وأكبر.
14- 29 معجزاته التي رواها أبو هاشم الجعفري
قال السيد الخوئي في معجمه (8/122): (داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أبوهاشم الجعفري (رحمه الله): كان عظيم المنزلة عند الأئمة (عليهم السلام) شريف القدر، ثقة، من أهل بغداد، وقد شاهد جماعة منهم: الرضا والجواد والهادي والعسكري وصاحب الأمر، وقد روى عنهم كلهم، وله أخبار ومسائل، وله شعر جيد فيهم).
وفي المناقب (3/525): (ومن ثقاته علي بن جعفر، قيَّمٌ لأبي الحسن، وأبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، وقد رأى خمسة من الأئمة).
وقد ذكرنا في سيرة الإمام الهادي (عليه السلام) موقفه مع حاكم بغداد ابن طاهر، عندما أراد صلب رأس الثائر يحيى بن عمر العلوي. قال الطبري (7/427): (فدخل عليه داود بن القاسم أبوهاشم الجعفري فيمن دخل، فسمعهم يهنونه فقال: أيها الأمير إنك لتُهنأ بقتل رجل لوكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حياً لعُزِّيَ به!
فما رد عليه محمد بن عبد الله شيئاً، فخرج أبوهاشم الجعفري وهو يقول:
يا بني طاهر كُلُوهُ وَبِيّاً * * * إن لحمَ النبيِّ غيرُ مَرِيِّ
إن وتراً يكونُ طالبهُ الله * * * لوترٌ نجاحُهُ بالحرِيِّ).
وآل طاهر أسرة قديمة تنتسب الى أمراء الفرس الأولين، نبغ منها في عهد بني العباس طاهر بن الحسين، قاد جيش المأمون ودخل بغداد وقتل أخاه ووطد ملكه، فولاه خراسان وأطلق يده فيها.
ويظهر أن بني طاهر كانوا كالعباسيين يعتقدون بصدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد روى أبوالفرج أن محمد بن طاهر والي بغداد تشاءم من قتل يحيى بن عمر العلوي، فأرسل عائلته الى خراسان: (وأمر محمد بن عبد الله حينئذ أخته ونسوة من حرمه بالشخوص إلى خراسان، وقال: إن هذه الرؤس من قتلى أهل هذا البيت لم تدخل بيت قوم قط إلا خرجت منه النعمة، وزالت عنه الدولة، فتجهزن للخروج)! (مقاتل الطالبيين/423).
وبالفعل جاءهم الشؤم في الصراعات بين خلفاء بني عباس، وانتهت دولتهم بعد قتلهم يحيى فما انتعشوا بعد ذلك! (نثر الدرر:1/265).
وفي مستدرك سفينة البحار (5/228) أن أبا هاشم الجعفري توفي سنة 261 (رحمه الله)، بعد أن تشرف برؤية الإمام المهدي صلوات الله عليه.
وقد روى أبو هاشم عدداً من معجزات الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، منها:
14. في الكافي (1/512): (عن أبي هاشم الجعفري قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) يوماً وأنا أريد أن أسأله ما أصوغ به خاتماً أتبرك به، فجلست وأنسيت ما جئت له، فلما ودعت ونهضت رمى إليَّ بالخاتم فقال: أردت فضة فأعطيناك خاتماً، ربحت الفص والكرا، هناك الله يا أبا هاشم.
فقلت: يا سيدي، أشهد أنك ولي الله وإمامي الذي أدين الله بطاعته، فقال: غفر الله لك يا أبا هاشم).
15. في الخرائج للقطب الراوندي (2/682) والثاقب لابن حمزة/577: (عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت في الحبس مع جماعة، فحُبس أبو محمد (عليه السلام) وأخوه جعفر، فحففنا به وقبلت وجه الحسن، وأجلسته على مُضربَةٍ (بساط مخطط) كانت تحتي، وجلس جعفر قريباً منه. فقال جعفر: واشطناه بأعلى صوته يعني جارية له، فزجره أبو محمد وقال له: أسكت. وإنهم رأوا فيه أثر السكر! وكان المتولي لحبسه صالح بن وصيف، وكان معنا في الحبس رجل جُمحي يدعي أنه علوي، فالتفت أبو محمد (عليه السلام) وقال: لولا أن فيكم من ليس منكم، لأعلمتكم متى يفرج الله عنكم، وأومأ إلى الجمحي فخرج، فقال أبو محمد: هذا الرجل ليس منكم فاحذروه، وإن في ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره بما تقولون فيه!
فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد فيها القصة يذكرنا فيها بكل عظيمة، ويعلمه على أنا نريد أن ننقب الحبس ونهرب!
16. ومنها: ما قال أبو هاشم: إن الحسن (عليه السلام) كان يصوم، فإذا أفطرأكلنا معه مما كان يحمله إليه غلامه في جونة مختومة، وكنت أصوم معه، فلما كان ذات يوم ضعفت فأفطرت في بيت آخر على كعكة وما شعر بي أحد ثم جئت وجلست معه فقال لغلامه: أطعم أبا هاشم شيئاً فإنه مفطر، فتبسمت فقال: مايضحكك يا أبا هاشم؟ إذا أردت القوة فكل اللحم
فإن الكعك لا قوة فيه. فقلت: صدق الله ورسوله وأنتم عليكم السلام. فأكلت فقال: أفطر ثلاثاً فإن المنة (القوة) لا ترجع لمن أنهكه الصوم في أقل من ثلاث. فلما كان في اليوم الذي أراد الله أن يفرج عنا، جاءه الغلام فقال: يا سيدي أحمل فطورك؟ فقال: إحمل وما أحسبنا نأكل منه. فحمل طعام الظهر وأطلق عند العصر عنه وهو صائم فقال: كلوا هنأكم الله).
17. في كشف الغمة (3/220): (عن محمد بن حمزة السروري قال: كتبت على يد أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، وكان لي مواخياً، إلى أبي محمد، أسأله أن يدعو لي بالغنى، وكنت قد أملقت، فأوصلها وخرج الجواب على يده: أبشر فقد جاءك الله تبارك وتعالى بالغنى، مات ابن عمك يحيى بن حمزه وخلف مائة ألف درهم، وهي واردةٌ عليك فاشكر الله، وعليك بالإقتصار وإياك والإسراف فإنه من فعل الشيطنة.
فورد عليَّ بعد ذلك قادم معه سفاتج من حران، وإذا ابن عمي قد مات في اليوم الذي رجع إليَّ أبو هاشم بجواب مولاي أبي محمد، فاستغنيت وزال الفقر عني كما قال سيدي، فأديت حق الله في مالي وبررت إخواني وتماسكت بعد ذلك، وكنت رجلاً مبذراً، كما أمرني أبو محمد (عليه السلام)).
18. إثبات الوصية للمسعودي (1/248): (شكوت إلى أبي محمد (عليه السلام) ضيق الحبس وثقل القيد، فكتب إليَّ: تصلي اليوم الظهر في منزلك، فأخرجت في وقت الظهر، فصليت في منزلي كما قال (عليه السلام)).
19. إثبات الوصية للمسعودي (1/249): (كتبت الى أبي محمد (عليه السلام) حين أخذ المهتدي: يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني أنه يتهدد شيعتك ويقول والله لأجلينهم عن جديد الأرض! فوقع بخطه (عليه السلام): ذاك أقصر لعمره، عُدَّ من يومك هذا خمسة أيام، فإنه يقتل في يوم السادس بعد هوان واستخفاف وذل يلحقه! فكان كما قال (عليه السلام)).
20. إثبات الوصية/249: (قال: سأل محمد بن صالح الأرمني أبا محمد (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): (يَمْحُواْ اللَّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)، فقال: هل يمحوإلا ما كان، وهل يثبت إلا ما لم يكن؟ فقلت في نفسي: هذا خلاف ما يقول هشام الفوطي إنه لا يعلم الشيء حتى يكون. فنظر إليَّ شزراً وقال: تعالى الله الجبار العالم بالشيء قبل كونه، الخالق إذ لا مخلوق، والرب إذ لا مربوب، والقادر قبل المقدور عليه. فقلت: أشهد أنك ولي الله وحجته، والقائم بقسطه، وأنك على منهاج أمير المؤمنين (عليه السلام)).
21. في الثاقب في المناقب لابن حمزة/217، والخرائج (1/421): (قال أبو هاشم: إن أبا محمد (عليه السلام) ركب يوماً إلى الصحراء فركبت معه، فبينا نسير وهو قدامي وأنا خلفه، إذ عرض لي فكر في دَيْن كان عليَّ قد حان أجله، فجعلت أفكر من أي وجه قضاؤه. فالتفت إليَّ فقال: يا أبا هاشم، الله يقضيه. ثم انحنى على قربوس سرجه فخط بسوطه خطة في الأرض وقال: إنزل فخذ واكتم، فنزلت فإذا سبيكة ذهب! قال: فوضعتها في خفي وسرنا، فعرض لي الفكر فقلت: إن كان فيها تمام الدَّيْن وإلا فإني
أرضي صاحبه بها، ويجب أن ننظرالآن في وجه نفقة الشتاء وما نحتاج إليه فيه من كسوة وغيرها. فالتفت إليَّ ثم انحنى ثانيةً وخط بسوطه خطةً في الأرض مثل الأولى، ثم قال: إنزل، فخذ واكتم، قال: فنزلت وإذا سبيكة فضة، فجعلتها في خفي الآخر وسرنا يسيراً، ثم انصرف إلى منزله وانصرفت إلى منزلي، فجلست فحسبت ذلك الدين، وعرفت مبلغه، ثم وزنت سبيكة الذهب، فخرجت بقسط ذلك الدين، ما زادت ولا نقصت! ثم نظرت فيما نحتاج إليه لشتوتي من كل وجه، فعرفت مبلغه الذي لم يكن بد منه على الإقتصاد، بلا تقتير ولا إسراف، ثم وزنت سبيكة الفضة فخرجت على ما قدرته ما زادت ولا نقصت)!
22. في الكافي (1/507): (عن أبي هاشم الجعفري قال: شكوت إلى أبي محمد (عليه السلام) فحك بسوطه الأرض، قال: وأحسبه غطاه بمنديل وأخرج خمس مائة دينار، فقال: يا أبا هاشم: خذ واعذرنا..
23. حدثني أبو هاشم الجعفري قال: شكوت إلى أبي محمد (عليه السلام) ضيق الحبس وكتل القيد، فكتب إلي أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك، فأخرجت في وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال (عليه السلام).
24. وكنت مضيقاً فأردت أن أطلب منه دنانير في الكتاب فاستحييت، فلما صرت إلى منزلي وجه إلي بمائة دينار وكتب إلي: إذا كانت لك حاجة فلا تستحِ ولا تحتشم واطلبها، فإنك ترى ما تحب إن شاء الله).
25. في الكافي (1/495): (عن داود بن القاسم الجعفري قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) ومعي ثلاث رقاع غير معنونة، واشتبهت عليَّ فاغتممت فتناول إحداهما وقال: هذه رقعة زياد بن شبيب، ثم تناول الثانية، فقال هذه رقعة فلان، فبهتُّ أنا، فنظر إليَّ فتبسم.
26. قال: وأعطاني ثلاث مائة دينار وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمه وقال: أما إنه سيقول لك: دلني على حريف يشتري لي بها متاعاً، فدله عليه، قال: فأتيته بالدنانير فقال لي: يا أبا هاشم دلني على حريف يشتري لي بها متاعاً، فقلت: نعم. قال: وكلمني جَمَّالٌ أن أكلمه له يدخله في بعض أموره، فدخلت عليه لأكلمه له فوجدته يأكل ومعه جماعة ولم يمكني كلامه، فقال (عليه السلام): يا أبا هاشم كل ووضع بين يدي ثم قال ابتداء منه من غير مسألة: يا غلام أنظر إلى الجمال الذي أتانا به أبو هاشم، فضمه إليك!
27. قال: ودخلت معه ذات يوم بستاناً فقلت له: جعلت فداك إني لمولع بأكل الطين فادع الله لي، فسكت ثم قال لي بعد ثلاثة أيام ابتداءً منه: يا أبا هاشم قد أذهب الله عنك أكل الطين. قال أبو هاشم: فما شيء أبغض إليَّ منه اليوم).
28. وفي إعلام الورى (2/142): (عن أبي هاشم قال: كتب إليه بعض مواليه يسأله أن يعلمه دعاءً فكتب إليه: أدع بهذا الدعاء: يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أنظر الناظرين، ويا أسرع الحاسبين،
ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صلِّ على محمد وآل محمد وأوسع لي في رزقي، ومُدَّ لي في عمري، وامنن عليَّ برحمتك، واجعلني ممن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل به غيري. قال أبو هاشم: فقلت في نفسي: اللهم اجعلني في حزبك وفي زمرتك.
فأقبل عليَّ أبو محمد (عليه السلام) فقال: أنت في حزبه وفي زمرته إن كنت بالله مؤمناً، ولرسوله مصدقاً، وبأوليائه عارفاً، ولهم تابعاً، فأبشر، ثم أبشر).
29. وفي مناقب آل أبي طالب (3/528): (أبو هاشم الجعفري، عن داود بن الأسود وَقَّاد حمام أبي محمد (عليه السلام) قال: دعاني سيدي أبو محمد فدفع إليَّ خشبة كأنها رجل باب مدورة طويلة، ملء الكف، فقال: صِرْ بهذه الخشبة إلى العمري، فمضيت فلما صرت إلى بعض الطريق عرض لي سَقَّاءٌ معه بغل، فزاحمني البغل على الطريق، فناداني السقاء ضَحِّ على البغل فرفعت الخشبة التي كانت معي فضربت البغل فانشقت، فنظرت إلى كسرها فإذا فيها كتب، فبادرت سريعاً فرددت الخشبة إلى كمي فجعل السقاء يناديني ويشتمني ويشتم صاحبي، فلما دنوت من الدار راجعاً استقبلني عيسى الخادم عند الباب فقال: يقول لك مولاي أعزه الله: لم ضربت البغل وكسرت رجل الباب؟ فقلت له: يا سيدي لم أعلم ما في رجل الباب، فقال: ولم احتجت أن تعمل عملاً تحتاج أن تعتذر منه! إياك بعدها أن تعود إلى مثلها، وإذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي أمرت بها، وإياك أن تجاوب من يشتمنا أو تعرفه من أنت،
فإننا ببلد سوء ومصر سوء! وامض في طريقك فإن أخبارك وأحوالك ترد الينا، فاعلم ذلك)!
ملاحظات
1. معنى وَقَّاد الحمام: الخادم الذي يهيّء حطب الحمام ويُحميه، فقد كانت حماماتهم غرفة منفصلة عن مبنى البيت، وكانوا يوقدون تحتها النار حتى تكون أرضها حارة، مضافاً الى حوض مائها.
2. أرسل الإمام (عليه السلام) هذه الرسائل مع هذا الخادم الى وكيله العمري، ليرسلها الى أصحابها في بلادهم. ومعناه أن رقابة الخليفة كانت شديدة على العمري، ولم يكن يستطيع المجيء الى بيت الإمام (عليه السلام) بحريته!
3. لعل العَمْري أرسل الرسائل الى الإمام (عليه السلام) في تلك العلبة التي تشبه رجل الباب لإخفائها عن رقابة الخليفة. ورِجْلُ الباب خشبة مدورة يغرز رأسها في عتبة الباب السفلى، ومثلها في العليا ليدور عليها الباب عند فتحه وغلقه.
4. متابعة الإمام لهذا الخادم يدل على أهمية تلك الرسائل، وعلى الضرر الكبير لو انكشفت ووصلت أسماء أصحابها أو مضامينها الى الخليفة.
5. قول الإمام (عليه السلام) أو وكيله للخادم: (وإياك أن تجاوب من يشتمنا، أو تُعرفه من أنت، فإننا ببلد سوء ومصر سوء، وامض في طريقك).
يدل على أن البلد يستعمل بمعنى المدينة، والمصر بمعنى المنطقة والدولة. وعلى أن سامراء ومحيطها كان سيئاً لا التزام عند أهله بقيم الدين، ولا معرفة لهم بحق أهل البيت (عليهم السلام)، بل هم يتزلفون الى السلطة.
6. قوله (عليه السلام): (فإن أخبارك وأحوالك تَرِدُ الينا)! يدل على أن الإمام (عليه السلام) يستطيع أن يراقب من يؤدي مهمته، وهذه عقيدتنا في الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
ففي بصائر الدرجات/325، عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الإمام مؤيدٌ بروح القدس، وبينه وبين الله (عزَّ وجلَّ) عمود من نور، يرى فيه أعمال العباد، وكلما احتاج إليه لدلالةٍ اطلع عليه).
(إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك). (الخصال/528).
30. أعاذ الله أولياءه من لمة الشيطان
في الكافي (1/509): (عن الأقرع قال: كتبت إلى أبي محمد أسأله عن الإمام هل يحتلم؟ وقلت في نفسي بعدما فصل الكتاب: الإحتلام شيطنة، وقد أعاذ الله تبارك وتعالى أولياءه من ذلك، فورد الجواب: حال الأئمة في المنام حالهم في اليقظة، لا يغير النوم منهم شيئاً، وقد أعاذ الله أولياءه من لمة الشيطان، كما حدثتك نفسك).
31. كن حلساً من أحلاس بيتك
في الخرائج (1/451): (قال علي بن محمد بن زياد: إنه خرج إليه توقيع أبي محمد (عليه السلام) فيه: فكن حلساً من أحلاس بيتك. قال: فنابتني نائبة فزعت منها، فكتبت إليه: أهي هذه؟ فكتب: لا، أشد من هذه! فطلبت بسبب جعفر بن محمود ونودي عليَّ: من أصابني فله مائة ألف درهم).
أقول: علي بن محمد بن زياد الصيمري، من وجهاء الشيعة وشخصياتهم، وكان صهر رئيس وزراء العباسيين.
قال عنه الوحيد في تعليقته/258: (قوله علي بن محمد الصيمري: الآتي ترحم عليه الصدوق، وفي كمال الدين أنه سأل من الصاحب كفناً فبعث اليه قبل موته بشهر، وفي الكافي بدل بشهر بأيام، وفيه أيضاً السائل على بن زياد الصيمري، وهو قرينة الاتحاد كما ذكره المصنف، وفي مهج الدعوات لابن طاوس (رحمه الله) أن كتاب الأوصياء تأليف السعيد علي بن محمد بن زياد الصيمري، إلى ان قال: ووجد هذا الكتاب في خزانة مصنفه بعد وفاته سنة ثمانين ومأتين، وكان (رضي الله عنه) قد لحق مولانا الهادي ومولانا العسكري صلوات الله عليهما وخدمهما، وكاتبا ودفعا اليه توقيعات كثيرة انتهى.
وربما يعبر عنه بعلي بن محمد الصيمري، وفيه أيضاً أنه صهر جعفر بن محمود الوزير، على ابنته أم أحمد وإنه كان رجلاً من وجوه الشيعة وثقاتهم ومقدماً في الكتابة والعلم والأدب والمعرفة، فثبت توثيقه مضافاً إلى تجليله وتعظيمه وأنه من خدامهما (عليهما السلام) وقد أكثر من الترضي عليه).
وكان صهر جعفر بن محمود وزير المعتز والمهتدي، وقد غضب عليه المعتز في صراعه مع الأتراك وعزله، وغضب معه على صهره الصيمري، وجعل جائزة لمن وجده مئة ألف درهم. ولهذا نبهه الإمام العسكري (عليه السلام) قبل الحادثة.
قال الصفدي في الوافي (11/118): (جعفر بن محمود أبو الفضل الإسكافي ولي الوزارة للمعتز حين خرج المستعين إلى بغداد، وبايع الأتراك المعتز بسر من رأى في المحرم سنة إحدى وخمسين ومئتين، ولم يكن للوزير
أدبٌ وكان ثقيلاً على قلب المعتز، وكان يصبر عليه لميل الأتراك إليه وكان وزيره أيام الفتنة، وبعد أن صحت له الخلافة أشهراً، وكان المغاربة يبغضونه لحب الأتراك إياه، حتى وقعت بينهم حروب وشكوه إلى المعتز فقال جعفر يضرب بينكم، فعزله في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين ومئتين، ونفاه إلى تكريت. وكان جعفر من كبار الشيعة.
ثم إنه ولي الوزارة للمهتدي حين ولي الخلافة، وأخذ له البيعة على الناس فوزر له مُدَيْدَةً، ثم إن الهاشميين دخلوا على المهتدي وقالوا له إنه رافضي وإن أصحابه يكاتبون العلوية بخراسان بأخبار المملكة، فنفاه إلى بغداد وحبسه. وفي جعفر يقول بعض الكُتاب:
لسنا نؤملُ جعفراً لسَدادِ * * * بل جعفرٌ أصلٌ لكلِّ فسادِ
مترفضٌ بالنقص لا ببصيرةٍ * * * لا يهتدي جهلاً لأمر رشاد
يُزري على لبس السواد فوجهه * * * من أجل ذاك مربَّدٌ بسواد
قل للخليفة يا ابن عم محمد * * * كن من خيانته على أرصاد
لا تركننَّ إلى لعينٍ مبغضٍ * * * يختص غيركم بصفو وداد
شرد به يا ابن الخلائف وانْفِهِ * * * لأشَطِّ قِطْرٍ نازعٍ وبلاد
وتوقَّ آراءً له معكوسةً * * * تمضي بأخبث نيةٍ وعناد
وكان إذا أراد أن يولي أحداً ناحية قال في مجلسه: أريد من أوليه ناحية كذا، ثم يتقدم إلى أصحاب الأخبار أن يكاتبوه بقول الناس ومن الذي يرجفون له بها، فإن أرجفوا لواحد ولاه، وإن أرجفوا لجماعة اختار منهم واحداً، وكان يقول: من مروءة الكاتب كمال آلة دواته. وتوفي في المحرم سنة ثمان وستين ومئتين).
أقول: الظاهر أن سبب عزل جعفر بن محمود الإسكافي سياسي، وليس لأنه شيعي، وذلك لأن المهتدي عينه بعدها رئيس وزرائه.
قال الذهبي في تاريخ الإسلام وهو يمدح المهتدي (19/328): (وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلس بنفسه، ويجلس الكتاب بين يديه فيعملون الحساب. وكان لا يخل بالجلوس الخميس والإثنين. وقد ضرب جماعة من الرؤساء. ونفى جعفر بن محمود إلى بغداد، وكره مكانه لأنه نسب عنده إلى الرفض).
وكانت خلافة المعتز (252-255) والمهتدي (255- 256) فإن كان القبض على صهره الصيمري بعد عزله الأول، فهو في حياة الإمام الهادي (عليه السلام)، وإن كان في عزله الثاني فهو في عصر المهتدي بعد وفاة الإمام الهادي (عليه السلام).
وفي كلتا الحالتين فهي كرامة للإمام العسكري (عليه السلام) لأنه حذره قبل الحادثة.
32- إن أجاب عن كتاب بلا مداد!
في مناقب آل أبي طالب (3/538): (محمد بن عياش قال: تذاكرنا آيات الإمام فقال ناصبي: إن أجاب عن كتاب بلا مداد علمت أنه حق! فكتبنا مسائل وكتب الرجل بلا مداد على ورق، وجُعل في الكتب، وبعثنا إليه، فأجاب عن مسائلنا، وكتب على ورقه إسمه وإسم أبويه، فدهش الرجل، فلما أفاق اعتقد الحق).
33- أبرأ الأبرص
في نوادر المعجزات/188: (قال أحمد بن علي: دعانا عيسى بن الحسن القمي أنا وأبا علي وكان أهوجاً (كالأحمق) فقال لنا: أدخلني ابن عمي أحمد بن
إسحاق إلى أبي الحسن (عليه السلام) فرأيته وكلمه بكلام لم أفهمه. فقال له: جعلني الله فداك، هذا ابن عمي عيسى بن الحسن وبه بياض في ذراعه كأمثال الجوز. قال: فقال لي: تقدم يا عيسى فتقدمت.
قال فقال لي: أخرج ذراعك، فأخرجت ذراعي فمسح عليها، وتكلم بكلام خفي طوَّل فيه، ثم قال في آخره ثلاث مرات: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم التفت إلى أحمد بن إسحاق فقال له: يا أحمد، كان علي بن موسى (عليهما السلام) يقول: بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى الإسم الأعظم من بياض العين إلى سوادها. ثم قال: يا عيسى، قلت: لبيك. قال: أدخل يدك في كمك ثم أخرجها، فأدخلتها ثم أخرجتها وليس في يدي قليل ولا كثير من ذلك البياض)!
34- كان يعرف لغات الناس
الكافي (1/509): (إسحاق، عن أحمد بن محمد بن الأقرع قال: حدثني أبو حمزة نصير الخادم قال: سمعت أبا محمد غير مرة يكلم غلمانه بلغاتهم: ترك وروم وصقالبة، فتعجبت من ذلك وقلت: هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن (عليه السلام) ولا رآه أحد فكيف هذا؟
أحدث نفسي بذلك، فأقبل علي فقال: إن الله تبارك وتعالى بين حجته من سائر خلقه بكل شيء، ويعطيه اللغات ومعرفة الأنساب والآجال والحوادث، ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق).
الفصل الخامس: الفيلسوف الكندي آمن بالإمام العسكري (عليه السلام)
شخصية الكندي الإستثنائية
1. اشتهر يعقوب بن إسحاق الكندي بلقب: فيلسوف العرب، وقد ولد سنة 185، وتوفي سنة 260. وكان هو وإسحاق بن حنين، وثابت بن قرة، وقسطا بن لوقا البعلبكي، وآخرون، أول من أرسلهم المأمون الى بلاد الروم، فتعلموا لغتهم، واشتروا الكتب، وترجموا العديد منها، وألفوا الكتب.
وكانت لهم مكانة كبيرة عند المأمون ثم عند المعتصم، ثم ضعفت في زمن المتوكل واضطهد الكندي بسبب سعاية حساده، واتهمه بالتشيع وضربه!
وقال المستشرق الفرنسي هنري كوربين: إن الكندي توفي في زمن الخليفة المعتمد في بغداد وحيدًا مهملاً عام 259، أي قرب وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، لكنه كان أكبر سناً من الإمام العسكري (عليه السلام) فقد عاش بضعاً وسبعين سنة، بينما عاش الإمام (عليه السلام) تسعاً وعشرين سنة.
2. (يقول عنه المستشرق الفرنسي كاردو افو: Cara de Vaux: الكندي واحد من الإثني عشر عبقرياً الذين ظهروا في العالم.
أما الراهب والعالم الإنجليزي روجر بيكون: Roger Bacon فيقول عنه: الكندي والحسن بن الهيثم في الصف الأول مع بطليموس.
وعده بعض المؤرخين واحداً من ثمانية أئمة لعلوم الفلك في القرون الوسطى:
http://www.hiramagazine.com
3. ترجم له ابن النديم وعَدَّدَ كتبه فقال في الفهرست/ 315، ملخصاً: (أبو يوسف، يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي..فاضل دهره، وواحد عصره، في معرفة العلوم القديمة بأسرها، ويسمى فيلسوف العرب. وكتبه في علوم مختلفة، مثل المنطق والفلسفة والهندسة والحساب والأرثماطيقي والموسيقى والنجوم.
أسماء كتبه الفلسفية: كتاب الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات..الخ.
كتبه المنطقية: كتاب رسالته في المدخل المنطقي باستيفاء القول فيه..
كتبه الحسابيات: كتاب رسالته في المدخل إلى الأرثماطيقي..
كتبه الكريات:كتاب رسالته في أن العالم وكلما فيه كرى الشكل..
كتبه الموسيقيات: كتاب رسالته الكبرى في التأليف..
كتبه النجوميات: كتاب رسالته في أن رؤية الهلال لا تضبط بالحقيقة..
كتبه الهندسيات: كتاب رسالته في أغراض كتاب إقليدس..
كتبه الفلكيات: كتاب في امتناع وجود مساحة الفلك الأقصى المدبر للأفلاك.. كتبه الطبيات: كتاب رسالته في الطب البقراطي..
كتبه الأحكاميات: تقدمة المعرفة بالإستدلال بالأشخاص العالية على المسائل..
كتبه النفسيات: كتاب رسالته في أن النفس جوهر بسيط غير داثر..
كتبه الإحداثيات: كتاب رسالته في الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة..
كتبه الأبعاديات: كتاب رسالته في أبعاد مسافات الأقاليم..
كتبه التقدميات:كتاب رسالته في اسرار تقدمة المعرفة..
كتبه الأنواعيات..كتاب رسالته في أنواع الجواهر الثمينة وغيرها..
تلاميذ الكندي ووراقوه: حَسْنَوَيْه، ونَفْطَويه. وسَلْمَويه..).
4. ترجم له ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء/286، ومما قاله: (كان محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر في أيام المتوكل يكيدان كل من ذكر بالتقدم في معرفة، فأشخصا سند بن علي (مهندس) إلى مدينة السلام وباعداه عن المتوكل، ودبرا على الكندي حتى ضربه المتوكل، ووجها إلى داره فأخذا كتبه بأسرها وأفرداها في خزانة، سميت الكندية.
ومكن هذا لهما استهتار المتوكل بالآلات المتحركة (أي ولعه بالميكانيك) وتقدم إليهما في حفر النهر المعروف بالجعفري، فأسندا أمره إلى أحمد بن كثير الفرغاني (مهندس صديق لهما) الذي عمل المقياس الجديد بمصر، كانت معرفته أوفى من توفيقه لأنه ما تم له عمل قط! فغلط في فوهة النهر المعروف بالجعفري، وجعلها أخفض من سائره فصار ما يغمر الفوهة لا يغمر سائر النهر، فدافع محمد وأحمد ابنا موسى في أمره، واقتضاهما المتوكل فسعى بهما إليه فيه فأنفذ مستحثاً في إحضار سند بن علي من مدينة السلام فوافى، فلما تحقق محمد وأحمد ابنا موسى أن سند بن علي قد شخص، أيقنا بالهلكة ويئسا من الحياة، فدعا المتوكل بسند وقال: ما ترك هذان الرديان شيئاً من سوء القول إلا وقد ذكراك عندي به وقد أتلفا جملة من مالي في هذا النهر فأخرج إليه حتى تتأمله وتخبرني بالغلط فيه فإني قد آليت على نفسي إن كان الأمر على ما وصف لي، إني أصلبهما على شاطئه! وكل هذا بعين محمد وأحمد ابني موسى وسمعهما!
فخرج وهما معه فقال محمد بن موسى لسند: يا أبا الطيب أن قدرة الحُر تذهب حفيظته وقد فرغنا إليك في أنفسنا التي هي أنفس أعلاقنا وما ننكر إنا أسأنا، والإعتراف يهدم الإقتراف، فتخلصنا كيف شئت!
قال لهما: والله إنكما لتعلمان ما بيني وبين الكندي من العداوة والمباعدة، ولكن الحق أولى ما أتبع أكان من الجميل ما أتيتماه إليه من أخذ كتبه! والله لا ذكرتكما بصالحة حتى تردَّا عليه كتبه!
فتقدم محمد بن موسى في حمل الكتب إليه، وأخذ خطه باستيفائها، فوردت رقعة الكندي بتسلمها عن آخرها. فقال: قد وجب لكما عليَّ ذمام برد كتب هذا الرجل، ولكما ذمام بالمعرفة التي لم ترعياها فيَّ والخطأ في هذا النهر يستتر أربعة أشهر بزيادة دجلة، وقد أجمع الحساب على أن أمير المؤمنين لايبلغ هذا المدى، وأنا أخبره الساعة أنه لم يقع منكما خطأ في هذا النهر إبقاء على أرواحكما، فإن صدق المنجمون أفلتنا الثلاثة، وإن كذبوا وجازت مدته حتى تنقص دجلة وتنضب، أوقع بنا ثلاثتنا!
فشكر محمد وأحمد هذا القول منه واسترقهما به، ودخل على المتوكل فقال له: ما غلطا! وزادت دجلة وجرى الماء في النهر فاستتر حاله. وقتل المتوكل بعد شهرين، وسلم محمد وأحمد بعد شدة الخوف مما توقعا...
وأضاف ابن أبي أصيبعة: ومن كلام الكندي في وصيته: وليتق الله تعالى المتطبب ولا يخاطر، فليس عن الأنفس عوض. وقال: وكما يجب أن يقال له أنه كان سبب عافية العليل وبرئه، كذلك فليحذر أن يقال إنه كان سبب تلفه
وموته. وقال: العاقل يظن أن فوق علمه علماً فهو أبداً يتواضع لتلك الزيادة. والجاهل يظن أنه قد تناهى فتمقته النفوس لذلك.
ومن كلامه مما أوصى به لولده أبي العباس، نقلت ذلك من كتاب المقدمات لابن بختويه، قال الكندي: يا بني الأب رب، والأخ فخ، والعم غم، والخال وبال، والولد كمد، والأقارب عقارب. وقول لا، يصرف البلا، وقول نعم يزيل النعم، وسماع الغناء برسام حاد، لأن الإنسان يسمع فيطرب وينفق فيسرف فيفتقر فيغتم فيعتل فيموت. والدينار محموم فإن صرفته مات. والدرهم محبوس فإن أخرجته فر). انتهى.
وقال في قابلية الحروف العريبية للتفنن في كتابتها: (لا أعلم كتابة تحتمل من تجليل حروفها وتدقيقها، ما تحتمل الكتابة العربية، ويمكن فيها من السرعة ما لا يمكن في غيرها من الكتابات).(ابن النديم/13).
5. في معجم المطبوعات لسركيس(2/1573): (كان عالماً بالطب والفلسفة وعلم الحساب والمنطق وتأليف اللحون والهندسة وطبائع الأعداد وعلم النجوم. وخدم الملوك مباشرة بالأدب. وترجم من كتب الفلسفة الكثير وأوضح منها المشكل، ولخص المنتصب العويص. وقد عد صاحب الفهرست تصانيف ابن إسحاق الكندي فكانت نحو من230 كتاباً).
6. ترجم له السيد الأمين في أعيان الشيعة (10/307) فقال ملخصاً: (أوصل بعض المؤرخين مؤلفات الكندي إلى ثلاث مائة وخمسة عشر كتاباً ورسالة، والبعض الآخر إلى مائتين وواحد وثلاثين كتاباً ورسالة ذكرها ابن النديم في الفهرست، وقد سرد الكثير منها ابن أبي أصيبعة في كتابه
عيون الأنباء سرداً بلا ترتيب ولا نظام، وقد قُسِّمَتْ في كتاب تاريخ الحكماء تقسيماً أُفردت كل فصيلة منها على حدة.
ووضع بعض المؤرخين لهذه الفصائل الأرقام الآتية: الفلسفة 22كتاباً نجوم 19 فلك 16جدل 17 أحداث 14الكريات 8 فن الألحان 7 نفس 5 تقدمة المعرفة5 حساب11هندسة 23 طب22 سياسة 12طبيعيات33 منطق 9 أحكام10 أبعاد 8.
ثم ذكر السيد الأمين اضطهاد المتوكل للكندي بتحريك خصومه فقال: (ومن أعداء الكندي العالمان العلمان محمد وأحمد ابنا موسى بن شاكر، اللذان دسا للكندي عند المتوكل، وساعدهما أولاً ما نسب إلى الكندي من الآراء الإعتزالية، وثانياً حماقة المتوكل وتسرعه، فضربه وأرسل إلى منزله من استولوا على كتبه، ثم ردت إليه كل هذه الكتب بعد زمن كما ذكر ذلك ابن أبي أصيبعة في قصة طويلة. ولكن فاته أن غضب المتوكل على الكندي كان لأجل اتهامه بالتشيع حيث أخبر أن الكندي تعلم من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) تفسير القرآن الكريم وأصول الإسلام. ومن الذين تأثروا بكتابة أعدائه المعاصرين له.
وقال الدكتور فرانتز روزنتال:وكان الكندي على صواب عندما أظهر استياءه من العالم اليوناني الذي اعتمده عندما كان يصنف رسالة من رسائله في البصريات، وذلك لأن هذا العالم اليوناني لم يراع الأساليب العلمية المعترف بها، وقد أخرج الكندي رسائل قيمة في البصريات والمرئيات وله فيها مؤلف لعله من أروع ما كتب. وهو يلي كتاب الحسن
بن الهيثم مادة وقيمة. وقد انتشر هذا الكتاب في الشرق والغرب، وكان له تأثير كبير على العقل الأوروبي، كما تأثر به باكون وواتيلو.
وللكندي رسالة بسبب زرقة السماء، وتقول دائرة المعارف الاسلامية: إن هذه الرسالة قد ترجمت إلى اللاتينية، وهي تبين أن اللون الأزرق لا يختص بالسماء، بل هو مزيج من سواد السماء والأضواء الأخرى الناتجة عن ذرات الغبار، وبخار الماء الموجود في الجو..
يقول الكندي في كتابه إلى المعتصم في الفلسفة الأولى: ومن أوجب الحق ألا نذم من كان أحد أسباب منافعنا الصغار، فكيف بالذين هم من أكبر أسباب منافعنا العظام الحقيقية الجدية، فإنهم وإن قصروا عن بعض الحق، فقد كانوا لنا أنسباء وشركاء فيما أفادونا من ثمار فكرهم التي صارت لنا سبلاً وآلات مؤدية إلى علم كثير..
ثم قال السيد الأمين: (والناظر في مؤلفات الكندي، يرى أنه لم يخرج عن حد العقليات، وليس من مؤلفاته شيء في الدين، بل إنه اشتهر برأي خاص في واجب الوجود خالفه فيه المتشددون من أهل عصره، وأخذوا عليه رأيه المذكور الذي أودعه رسالته في التوحيد، قال البيهقي إنه قد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات.
وذكره السيد ابن طاووس فقال: وقيل إنه من علماء الشيعة الشيخ الفاضل إسحاق بن يعقوب الكندي، وزاد عليه صاحب الذريعة فقال: من علماء الشيعة العارفين.
والنص الوحيد الذي عثرت عليه والذي يمكننا بواسطته التعرف إلى آراء الكندي الدينية، هو ما ذكره أحمد بن النظيم السرخسي قال: قال الكندي: لايفلح الناس وعين تطرف رأت المتوكل! قال: وكان المتوكل أمر بضرب الكندي سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وكانت خمسين سوطاً فضرب، وكان منسوباً إلى الزيدية. والزيدية من أصول الشيعة، ينتسبون إلى زيد بن علي بن الحسين).
7. وترجموا له في (الموسوعة الحرة، ويكيبيديا) ومما كتبوه: (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (185 هـ/805 - 256 هـ/873) علامة عربي مسلم، برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام، والمعروف عند الغرب باسم باللاتينية: Alkindus.
أوكل إليه المأمون مهمة الإشراف على ترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية اليونانية إلى العربية في بيت الحكمة، وقد عده ابن أبي أصيبعة مع حنين بن إسحق وثابت بن قرة وابن الفرخان الطبري حذاق الترجمة المسلمين.
في الرياضيات، لعب الكندي دوراً هاماً في إدخال الأرقام الهندية إلى العالم الإسلامي والمسيحي باستخدام خبرته الرياضية والطبية، وضع مقياساً يسمح للأطباء قياس فاعلية الدواء، كما أجرى تجارب حول العلاج بالموسيقى..
حظي بعناية الخليفتين المأمون والمعتصم حيث جعله المأمون مشرفاً على بيت الحكمة.. وعرف الكندي أيضاً بجمال خطه، حتى أن المتوكل جعله خطاطه الخاص. وعندما خلف المعتصم أخيه المأمون، عينه المعتصم مربياً لأبنائه. كما اعتبره باحث عصر النهضة الإيطالي جيرولامو كاردانو واحداً من أعظم العقول الإثني عشر في العصور الوسطى.
للكندي أكثر من ثلاثين أطروحة في الطب.. أهم أعماله في هذا المجال هو كتاب رسالة في قدر منفعة صناعة الطب، والذي أوضح فيه كيفية استخدام الرياضيات في الطب، ولا سيما في مجال الصيدلة.
على سبيل المثال: وضع الكندي مقياساً رياضياً لتحديد فعالية الدواء، إضافة إلى نظام يعتمد على أطوار القمر، يسمح للطبيب بتحديد الأيام الحرجة لمرض المريض.
رجح الكندي نظرية إقليدس، وتوصل إلى أن كل شيء في العالم..تنبعث منه أشعة في كل إتجاه، وهي التي تملأ العالم كله. اعتمده ابن الهيثم وروجر بيكون، وويتلو، وغيرهم.
كان الكندي رائدًا في تحليل الشفرات وعلم التعمية، كما كان له الفضل في تطوير طريقة يمكن بواسطتها تحليل الإختلافات في وتيرة حدوث الحروف، واستغلالها لفك الشفرات.
كان الكندي أول من وضع قواعد للموسيقى في العالم العربي والإسلامي، فاقترح إضافة الوتر الخامس إلى العود، وقد وضع الكندي
سُلَّماً موسيقياً ما زال يستخدم في الموسيقى العربية من اثنتي عشرة نغمة، وتفوق على الموسيقيين اليونانيين في استخدام الثمن.
كما أدرك أيضاً على التأثير العلاجي للموسيقى، وحاول علاج صبي مشلول شللاً رباعياً بالموسيقى.
قال الكندي إنه يعتقد أن الوحي هو مصدر المعرفة للعقل، لأن مسائل الإيمان المسلم بها لا يمكن استيعابها! وكان يعتقد أن الكندي متأثر بفكر المعتزلة، وذلك بسبب اهتمامه وإياهم بمسألة توحيد الله.
ومع ذلك، أثبتت الدراسات الحديثة أنها كانت مصادفة، فهو يختلف معهم حول عدد من موضوعات عقائدهم.
فرق الكندي بين الفلسفة والإلهيات، لأن كلاهما يناقش نفس الموضوع. تركز فهم الكندي لما وراء الطبيعة حول الوحدانية المطلقة لله، التي اعتبرها سمة مفردة فقط لله. ومن هذا المنطلق فإن كل شيء يوصف بأنه واحد، هو في الواقع واحد ومتعدد في ذات الوقت. لذلك فالله وحده الواحد وحدانية مطلقة لاتعددية فيها، دل ذلك على فهم عميق للغاية وإنكار وصف الله بأي وصف يمكن أن يوصف به غيره.
رأى الكندي أن النبوة والفلسفة طريقتان مختلفتان للوصول إلى الحقيقة، وقد فرق بينهما في أربعة أوجه: أولاً، في الوقت الذي يتوجب على الشخص أن يخضع لفترة طويلة من التدريب والدراسة ليصبح فيلسوفاً،
فإن النبوة يسبغها الله على أحد البشر. ثانياً، أن الفيلسوف يصل إلى الحقيقة بتفكيره وبصعوبة بالغة، بينما النبي يهديه الله إلى الحقيقة.
ثالثاً، فهم النبي للحقيقة أوضح وأشمل من فهم الفيلسوف.
رابعاً، قدرة النبي على شرح الحقيقة للناس العاديين، أفضل من قدرة الفيلسوف. لذا استخلص الكندي أن النبي يتفوق على الفيلسوف في أمرين: السهولة والدقة، التي يتوصل بها للحقيقة، والطريقة التي يقدم بها الحقيقة للعوام.
نظر الكندي للرؤى النبوية من وجهة نظر واقعية، فقال إن هناك بعض النفوس النقية المعدة إعداداً جيداً، قادرة على رؤية أحداث المستقبل، ولم يربط الكندي تلك الرؤى أو الأحلام بوحي من الله، لكن بدلاً من ذلك قال أن التخيل يجعل الإنسان قادرًا على إدراك هيئة الأشياء دون الحاجة إلى لمس الكيان المادي لتلك الأشياء).
8. قال القفطي في أخبار العلماء (1/280): (ذكروا من عجيب ما يحكى عن يعقوب بن إسحاق الكندي هذا، أنه كان في جواره رجل من كبار التجار موسع عليه في تجارته، وكان له ابن قد كفاه أمر بيعه وضبط دخله وخرجه، وكان ذلك التاجر كثير الإزراء على الكندي والطعن عليه، مدمناً لتعكيره والإغراء به، فعرض لابنه سكتةٌ فجأةً، فورد عليه من ذلك ما أذهله وبقي لايدري ما الذي في أيدي الناس، وما لهم عليه مع ما دخله من الجزع على ابنه! فلم يدع بمدينة السلام طبيباً إلا ركب
إليه واستركبه، لينظر ابنه ويشير عليه من أمره بعلاج، فلم يجبه كثير من الأطباء لكبر العلة وخطرها إلى الحضور معه، ومن أجابه منهم فلم يجد عنده كبير غناء، فقيل له أنت في جوار فيلسوف زمانه وأعلم الناس بعلاج هذه العلة، فلو قصدته لوجدت عنده ما تحب.
فدعته الضرورة إلى أن تحمل على الكندي بأحد إخوانه، فثقل عليه الحضور، فأجاب وصار إلى منزل التاجر، فلما رأى ابنه وأخذ مجسه أمر بأن يحضر إليه من تلاميذه في علم الموسيقى من قد أنعم الحذق بضرب العود، وعرف الطرائق المحزنة والمزعجة والمقوية للقلوب والنفوس، فحضر إليه منهم أربعة نفر، فأمرهم أن يديموا الضرب عند رأسه، وأن يأخذوا في طريقة أوقفهم عليها وأراهم مواقع النغم بها، من أصابعهم على الدساتين، وثقلها. فلم يزالوا يضربون في تلك الطريقة، والكندي آخذ مِجَسَّ الغلام وهو في خلال ذلك يمتد نفسُه ويقوى نبضُه، وتُراجع إليه نفسه شيئاً بعد شيء إلى أن تحرك ثم جلس وتكلم، وأولئك يضربون في تلك الطريقة دائماً لا يفترون! فقال الكندي لأبيه: سل ابنك عن علم ما تحتاج إلى علمه ممالك وعليك، وأثبته.
فجعل الرجل يسأله وهو يخبره ويكتب شيئاً بعد شيء، فلما أتى على جميع ما يحتاج إليه، غفل الضاربون عن تلك الطريقة، التي كانوا يضربونها وفتروا، فعاد الصبي إلى الحال الأولى، وغشيه السكات! فسأله أبوه أن يأمرهم بمعاودة ما كانوا يضربون به، فقال: هيهات إنما
كانت صبابة قد بقيت من حياته، ولا يمكن فيها ما جرى، ولا سبيل لي ولا لأحد من البشر إلى الزيادة في مدة من قد انقطعت مدته، إذ قد استوفي العطية، والقسم الذي قسم الله له).
وهذه القصة تدل على فهم الكندي العميق لمراحل خروج روح الإنسان.
9. قال السيد ابن طاووس في فرج المهموم/129: (وصل إلينا من تصانيفه رسالته في علم النجوم خمسة أجزاء، وذكر محمد بن إسحاق النديم في الجزء الرابع من الفهرست.. له أحد وثلاثين كتاباً ورسالة في دلالة علوم الفلاسفة على مذهب الإسلام وعلوم النبوة، وأحد عشر كتاباً في الحسابيات، وثمانية كتب في الكريات، وسبعة كتب في الموسيقات، وتسعة وعشرين كتاباً في النجوميات، واثنين وعشرين كتاباً في الهندسة، وستة عشر كتاباً في الفلك، واثنين وعشرين كتاباً في الطب، وتسعة كتب في أحكام النجوم، وستة عشر كتاباً في الجدل، وخمسة كتب في النفس، وأحد عشر كتاباً في السياسة، وأربعة عشر كتاباً في الأحداث، وثمانية كتب في الأبعاد، وستة وثلاثين كتاباً في التقدميات.. فأوردت الأسماء لتعلم مواهب الله جل جلاله وعنايته به).
10. ألف الكندي كتاباً في رد الصنعة، أي تحويل الحديد وغيره الى ذهب. قال المسعودي في مروج الذهب(4/168): (وقد صنف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي رسالة في ذلك، وجعلها مقالتين يذكر فيها تعذر فعل الناس لما انفردت الطبيعة بفعله، وخُدَعَ أهل هذه الصناعة وحِيَلهم).
11. وقال في مروج الذهب (1/143): (ورأيت في بعض الكتب المضافة الى الكندي وتلميذه وهو أحمد بن الطيب السرخسي، صاحب المعتضد با لله، أن في طرف العمارة من الشمال بحيرة عظيمة بعضها تحت قطب الشمال، وأن بقربها مدينة ليس بعدها عمارة يقال لها تولية، وقد رأيت لبني المنجم في بعض رسائلهم ذكر هذه البحيرة، وقد ذكر أحمد بن الطيب في رسالته في البحار والمياه والجبال عن الكندي، أن بحر الروم طوله ستة آلاف ميل من بلاد صور وطرابلس وأنطاكية واللاذقية والمثقب وساحل المصيصة وطرسوس وقلمية إلى منار هرقل، وأن أعرض موضع فيه أربع مائة ميل، هذا قول الكندي وابن الطيب).
12. قال ابن رشيق في العمدة في محاسن الشعر (1/62): (من عجيب ما روي في البديهة حكاية أبي تمام حين أنشد أحمد بن المعتصم بحضرة أبي يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، وهو فيلسوف العرب:
إقدام عمرٍو في سماحة حاتمٍ * * * في حلم أحنفَ في ذكاء إياسِ
فقال له الكندي: ما صنعت شيئاً شبهت ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين بصعاليك العرب! ومن هؤلاء الذين ذكرت وما قدرهم! فأطرق أبو تمام يسيراً، وقال:
لا تنكروا ضربي له مَنْ دُونَهُ * * * مثلاً شروداً في الندى والباس
فاللهُ قد ضرب الأقل لنوره * * * مثلاً من المشكاة والنبراس
فهذا أيضاً وما شاكله هو البديهة، وإن أعجب ما كان البديهة من أبي تمام لأنه رجل متصنع لايحب أن يكون هذا في طبعه.
وقد قيل: إن الكندي لما خرج أبو تمام قال: هذا الفتى قليل العمر؛ لأنه ينحت من قلبه، وسيموت قريباً، فكان كذلك).
14. وقال في ربيع الأبرار (3/88): (كانت لدعبل على بني الصباح الكنديين وظيفة يجمعونها كل شهر ويوصلونها إليه فقصروا، فشكى إلى أبي يعقوب إسحاق بن الصباح، فقال: أنا أكفيك، فلم يبرح حتى أخذها فقال:
وإن امرءً أسدى إليك بشافعٍ * * * إليه ويبغي الشكرَ مني لأحمقُ
شفيعُك فاشكر في الحوائج إنه * * * يصونك عن مكروهها وهو يخلُقُ
معناه: أن فرعاً من كندة كانوا يعطون لدعبل الخزاعي عطية سنوية لأنه مدحهم، فتأخروا، فوسَّط الفيلسوف الكندي، فأنجزها.
تحامل رواة السلطة على الكندي وذمهم له!
1. قال ابن حجر في لسان الميزان (6/305): (وكان متهماً في دينه، وله مصنفات كثيرة في المنطق والنجوم والفلسفة.. عن أبي بكر بن خزيمة قال: قال أصحاب الكندي له: إعمل لنا مثل القرآن، فقال: نعم، فغاب عنهم طويلاً ثم خرج عليهم فقال: والله لا يقدر على ذلك أحد! ثم ذكر عنه حكايات في البخل، منها: أن أمه أرسلت تطلب منه ماء بارداً، فقال للجارية إملئي الكوز من عندها فصبيه عندنا، واملئيه لها من المزملة. ثم قال: أعطتنا جوهراً بلا كيفية، أعطيناها جوهراً بكيفية لتنتفع بها).
2. وقال الذهبي في سيره (12/337): (كان يقال له فيلسوف العرب، وكان متهماً في دينه، بخيلاً ساقط المروءة..همَّ بأن يعمل شيئاً مثل القرآن، فبعد أيام أذعن بالعجز. قال عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان: رأيته في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: ما هو إلا أن رآني فقال: (انْطَلِقُوا إِلَى مَاكُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)).
أقول: لم يكمل ابن حجر والذهبي رأي الكندي في القرآن وإيمانه العميق به، لتقليدهما المتوكل في الغضب عليه! وقد ذكر ذلك غيرهما كالقرطبي.
قال في تفسيره (6/31): (حكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم إعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم، أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناءً بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين! ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد).
كان الجاحظ عدو الكندي يطعن به ويكذب عليه!
من حقنا أن نشك في كل اتهامات رواة السلطة للكندي بالبخل والوضاعة، لأن الجاحظ معاصره كان يبغضه ويذمه ويشيع عنه إنه بخيل وضيع جاهل!
وقد وضع عنه قصصاً في كتابه البخلاء/37، و112، و127، وغيرها. وبعضها لا يمكن تصديقه مثل أن الكندي كان يطلب من جيرانه أن يرسلوا له من طبخهم، ويهددهم بأنهم إن لم يرسلوا فقد تشم الرائحة حامل من نسائه في وحامها فتشتهيه، وقد تسقط حملها بسبب ذلك، فيشتكي عليهم ويطالبهم بدية حملها، فكانت تأتيه صنوف الطعام!
وقد بلغ من حمق الجاحظ وبغضه للكندي، أنه ألف رسالة سماها: (فرط جهل يعقوب بن إسحاق الكندي) كما نص عليه ابن النديم/211.
فهو يريدنا أن نقبل شهادته بأن الكندي وضيع بخيل، شديد الجهل، وهو لايفهم أكثر كتب الكندي!
أدلة على إيمان الكندي وقرائن على تشيعه
1. قال ابن النديم/385: (قال الكندي: إنه نظر في كتاب يقر به هؤلاء القوم، وهو مقالات لهرمس في التوحيد كتبها لابنه، على غاية من التقاية في التوحيد، لايجد الفيلسوف إذا أتعب نفسه مندوحة عنها والقول بها).
2. تقدم من الموسوعة الحرة التصريح بإيمانه، وأن الواحد المطلق عنده هو الله تعالى وحده. وأنه يعتقد أن الوحي هو مصدر المعرفة للعقل. وأن النبوة عطاء من الله تعالى، وهي أدق من الفلسفة.
3. وقال ابن طاووس في التشريف بالمنن/371، عن طالع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (قال الكندي: كانت الزهرة في برج العقرب مع عطارد، وهو برج القران وشريعته إلى القيامة، والملك ينتقل مرة ثم يرجع. ثم قال: الإختلاف الواقع في طالعه في الملك هو استيلاء بني أمية وبني العباس، وينتقل إلى أقوام جبلية فارسية، لان دينه باق).
4. وقال ابن خلدون (3/538): (ومن العجب أن يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب، ذكر في ملاحمه وكلامه على القِران الذي دل على ظهور الملة الإسلامية العربية، أن انقراض أمر العرب يكون أعوام
الستين والست مائة فكان كذلك، وكانت دولة بني العباس من يوم بويع للسفاح سنة ثنتين وثلاثين ومائة إلى أن قتل المستعصم سنة خمس وست مائة، خمس مائة سنة وأربعاً وعشرين، وعدد خلفائهم ببغداد سبعة وثلاثين).
5. وقال ابن خلدون (1/338): (قد كان يعقوب بن إسحاق الكندي منجم الرشيد والمأمون وضع في القرانات الكائنة في الملة كتاباً سماه الشيعة بالجفر، باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصادق، وذكر فيه فيما يقال حدثان دولة بني العباس وأنها نهايته، وأشار إلى انقراضها والحادثة على بغداد أنها تقع في انتصاف المائة السابعة).
6. قول السيد الأمين (رحمه الله): ليس في مؤلفاته شيء في الدين، يقصد به مباشرةً. وقد تقدم قول ابن طاووس (رحمه الله): (له أحد وثلاثين كتاباً ورسالة في دلالة علوم الفلاسفة على مذهب الإسلام وعلوم النبوة).
وتقدم من الموسوعة الحرة أن له رسائل في عدة موضوعات دينية، وقد وصل كثير من مؤلفاته الى الغربيين، ويوجد عدد كبير منها في مخطوطات مكتبة الإسكندرية، كما في خزانة التراث:21/154، و: 63/500، و:63/527. وله رسائل كتبها للمعتصم وابنه المستعين، منها رسالة في سجود النجم والشجر والطبيعة لله تعالى. وطبع بعض رسائله في مصر وأوروبا. وأقدر أن في رسائله كثيراً من الأدلة على إيمانه، وارتباطه بالإمام الهادي والعسكري (عليه السلام).
7. ترجم له السيد الأمين في أعيان الشيعة (10/308) وقال: (قرأ الكندي في القرآن الكريم قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)، فتحير في المتشابهات، فقال له بعض تلاميذه: إنما يعرف القرآن من خوطب به وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل البيت أدرى بما في البيت، وعندنا في سامراء رجل من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو حفيده وسبطه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وقد أجبره الخليفة على الإقامة في سامراء، فاسأله عن تفسير الآيات وتأويل المتشابهات، فاستحسن الكندي كلامه.
وهكذا ساعده التوفيق الآلهي على تحصيل الثقافة القرآنية الكاملة من الإمام الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه منقبة تاريخية تفرد بها الكندي، ولا يشاركه فيها أحد من فلاسفة العرب والمسلمين).
أقول: ليت السيد الأمين (رحمه الله) ذكر مصدر كلامه هذا، فهو كشف مهم في شخصية الكندي (رحمه الله).
8. ذكرت المصادر أنه بدأ بتألف كتاب عن تناقض القرآن، فكان السبب في ارتباطه بالإمام العسكري (عليه السلام). روى في مناقب آل أبي طالب (2/526): (عن أبي القاسم الكوفي في كتاب التبديل: أن إسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه، أخذ في تأليف تناقض القرآن وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله، وإن بعض تلامذته دخل يوماً على الإمام الحسن العسكري فقال له أبو محمد (عليه السلام): أما فيكم رجلٌ رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله
بالقرآن! فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منا الإعتراض عليه في هذا، أوفي غيره. فقال له أبو محمد (عليه السلام): أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال: فصر إليه وتلطف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل قد حضرتني مسأله أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فإنه سيقول لك: إنه من الجائز، لأنه رجل يفهم إذا سمع.
فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فتكون واضعاً لغير معانيه! فصار الرجل إلى الكندي وتلطف إلى أن ألقى عليه هذه المسألة فقال له: أعد عليَّ فأعاد عليه، فتفكر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر، فقال: أقسمت عليك إلا أخبرتني من أين لك؟ فقال: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال كلا، ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة فعرفني من أين لك هذا؟ فقال: أمرني به أبو محمد (عليه السلام). فقال: الآن جئت به وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت! ثم إنه دعا بالنار، وأحرق جميع ما كان ألفه).
9. يظهر أن ذلك التلميذ رَبَطَ أستاذه الكندي بإمامه العسكري (عليه السلام)، وأنه بدأ برسائله الى الإمام (عليه السلام)، وقد روى منها في الكافي (1/95): (عن محمد بن أبي عبد الله، عن علي بن أبي القاسم، عن يعقوب بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله: كيف يعبد العبد ربه وهو لايراه؟ فوقع (عليه السلام): يا أبا يوسف جل سيدي ومولاي، والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى. قال: وسألته: هل رأى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه؟ فوقع: إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقلبه من نور عظمته ما أحب).
وسند الحديث صحيح، وتعبير الإمام (عليه السلام) بأبي يوسف وهو لقب الكندي، يؤيد أن الرسالة من الكندي، كما يؤيده أن الراوي عنه علي بن أبي القاسم هو عبد الله بن عمران البرقي، عالم شيعي معروف وهوكندي.(ثواب الأعمال/114).
وقال في الوافي (1/177) إن صاحب الرسالة هو الكندي الفيلسوف. ومعناه أنه أحرق ما كتبه في تناقض القرآن، وأرسل أسئلته الى الإمام (عليه السلام)، فأجابه. ثم إن الكندي سكن مدة في سامراء كما نصت عليه ترجمته في الموسوعة الحرة.
10. وقال القفطي في أخبار العلماء (1/282): (قال أبو معشر: وكانت على يعقوب بن إسحاق أنه كان في ركبته خام (قرحة) وكان يشرب له الشراب العتيق فيصلح، فتاب من الشراب وشرب شراب العسل فلم تنفتح له أفواه العروق، ولم يصل إلى أعماق البدن وأسافله شيء من حرارته، فقوي الخام فأوجع العصب وجعاً شديداً حتى تأتي ذلك الوجع إلى الرأس والدماغ، فمات الرجل، لأن الأعصاب أصلها من الدماغ).
أقول: أبو معشر هذا تلميذه وهو الفلكي المعروف، وشهادته له بالتوبة عن الخمر تؤيد اتصاله بالإمام العسكري (عليه السلام) فتكون توبته على يده، كما يدل تحمله للمرض وعدم رجوعه الى شرب الخمر، على صدق تدينه وتوبته (رحمه الله).
ومعناه أن الله تعالى ختم له بالإيمان، ولعله ختم له بالشهادة مع إمامه (عليه السلام).
11. كان اضطهاد المتوكل للكندي سنة242، أي في إمامة الإمام الهادي (عليه السلام)، وكان اضطهاد المعتمد له في إمامة الإمام العسكري (عليه السلام)، ولعل المعتمد قتل
الكندي بالسم لاتصاله بالإمام كما قتل الإمام (عليه السلام)، فقد توفي الكندي في تلك السنة وحيداً في بغداد، كما قال هنري كوربين.
12. يدل قول الكندي عن رسالته الى الإمام العسكري (عليه السلام): (كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله: كيف يعبد العبد ربه وهو لايراه؟ فوقع (عليه السلام): يا أبا يوسف جل سيدي ومولاي، والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى).
على علاقة احترام عالية بينهما، كما يدل استعمال الكنية، ومستوى المسألة الفكري، وتواضع الكندي للإمام (عليه السلام) وهو في سن ابنه.
هذا، ولم أعثر على نصوص تشرفه بلقاء الإمام الهادي والعسكري (عليهما السلام) ومسائله معهما، لكن الكندي كان مدة في سامراء لأنه كان خطاط المتوكل الخاص كما تقدم من الموسوعة الحرة، كما كان مقرباً من المستعين.
وقد ذكروا أنه اتهم بالتشيع، فهذا كافٍ لفقده مكانته في الدولة، وأن يموت غريباً، والمرجح أنه مات مسموماً (رحمه الله) لأن مثله لايتركونه يعيش بحريته!
الفصل السادس: نظام الوكلاء عند الإمام العسكري (عليه السلام)
نظام الوكلاء عالمي وطبيعي
1. كان نظام الوكلاء معروفاً قبل الإسلام، وقد اعتمده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) فكان لهم وكلاء في أمور إدارية أو مالية. وكان الناس يَرجعون الى وكلاء الأئمة (عليهم السلام) في أمور دينهم، ويعطونهم الخمس والهدايا ورسائلهم وطلباتهم، ليوصلوها الى الإمام (عليه السلام)، ويأتون بإجاباتها.
2. يمكن اعتبار كل ولاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلاء، لكن عنصر الوكالة بارزٌ أكثر في عمل الصحابي محمية بن جزء الذي عينه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل بدر مسؤولاً عن الخمس، فكان أميناً عليه، يصرفه على بني هاشم خاصة!
ففي صحيح مسلم (3/118) أنه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس، أدعوا لي محمية، وكان على الخمس، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب. قال فجاءاه فقال لمحمية: أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن عباس، فأنكحه. وقال لنوفل بن الحارث: أنكح هذا الغلام ابنتك، وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا).
وأحمد:4/166، وعون المعبود:8/146، والإستيعاب:4/1463، والإصابة:6/37.
3. ورد ذكر وكيل فاطمة الزهراء (عليها السلام) في فدك، ففي الإحتجاج (1/121): قال الإمام الصادق (عليه السلام): (لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرِين والأنصار، بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها، فجاءت فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى أبي بكر ثم قالت: لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخرجت وكيلي من فدك، وقد جعلها لي رسول الله بأمر الله تعالى)!
4. اشتهر من وكلاء أمير المؤمنين (عليه السلام) أبو نَيْزَر، وعرفت باسمه عين أبي نيزر في ينبع، وكانت أكبر العيون التي استنبطها أمير المؤمنين (عليه السلام) وغرس عندها بساتين ينبع الشهيرة، وكان أبو نيزر وكيله عليها، وبلغت غلة ينبع في عصره (عليه السلام) أربعين ألف دينار.
قال ابن إسحاق في سيرته (4/202): (رأيت أبا نَيْزَر بن النجاشي فما رأيت رجلاً قط عربياً ولا عجمياً، أعظم ولا أطول ولا أوسم منه، وجَدَه علي بن أبي طالب مع تاجر بمكة فابتاعه منه وأعتقه، مكافأة للنجاشي لما كان ولي من أمر جعفر وأصحابه. فقلت لأبي: أكان أبا نيزر أسود كسواد الحبشة؟ فقال: لو رأيته لقلت رجل من العرب).
وقال الحموي في معجم البلدان (4/175): (عين أبي نيزر.. قال المبرد.. صح عندي بعدُ أنه من ولد النجاشي، فرغب في الإسلام صغيراً، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صار مع فاطمة وولدها (رضي الله عنهم)).
5. وقد تطور نظام الوكالة في عصور الأئمة (عليهم السلام)، حتى بلغ درجة متقدمةً من التكامل في زمن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
والأكثر شهرة من وكلائه (عليه السلام): عثمان بن سعيد العمري، السمَّان الأسدي المنتجي.
ومن وكلائه أيضاً: محمد بن أحمد بن جعفر القمي العطار، روى الكشي عن علي بن محمد بن قتيبة، عن أحمد بن إبراهيم المراغي أنه ليس له ثالث في الأرض. (الخلاصة/243).
ومن وكلائه: علي بن الحسين بن عبد ربه. (الفوائد الرجالية:1/357).
ومحمّد بن صالح بن محمّد: الهمداني الدهقان. (منتهى المقال: 6/81).
ومحمَّد بن أحمد بن جعفر، القمي العطَّار. (شعب المقال/304).
والقاسم بن العلاء الهمداني.(مستدركات رجال الحديث:6/250).
ومنهم علي بن جعفر الهمَّاني.(غيبة الطوسي/350).
وإبراهيم بن مهزيار، وابنه محمد بن إبراهيم.(الكشي:2/812).
6. كما تطورت الإمكانات المالية للأئمة، وتنوعت مصارفهم (عليهم السلام). وقد بلغت في بعض الأوقات أرقاماً عالية. ففي مناقب آل أبي طالب (3/512): (دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد، وأحمد بن إسحاق الأشعري، وعلي بن جعفر الهماني على أبي الحسن العسكري، فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه، فقال: يا أبا عمرو وكان وكيله، إدفع إليه ثلاثين ألف دينار
والى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار. فهذه معجزة لايقدر عليها إلا المملوك، وما سمعنا بمثل هذا العطاء)!
وشكى بعضهم يوماً سعة صرف الوكيل علي بن جعفر الهماني في الحج فردهم الإمام العسكري (عليه السلام).
قال الطوسي في الغيبة/218: (حدثني أبو جعفر العمري (رضي الله عنه) أن أبا طاهر بن بلبل حج، فنظر إلى علي بن جعفر الهماني وهو ينفق النفقات العظيمة، فلما انصرف كتب بذلك إلى أبي محمد (عليه السلام)، فوقع في رقعته: قد كنا أمرنا له بمائة ألف دينار، ثم أمرنا له بمثلها فأبى قبولها إبقاء علينا! ما للناس والدخول في أمرنا، فيما لم ندخلهم فيه)!
فيظهر أن سبب الإشكال على الهماني أنه شخصية يكلفه الإمام (عليه السلام) بمهمات كبار لم يستوعبها ابن بلبل، ولعله قروي محدود الذهن، أما الهماني فقد ورد أنه برمكي، أي من أسرة فيها شخصيات كبيرة.
قال النجاشي/280: (علي بن جعفر الهماني البرمكي يعرف منه وينكر، له مسائل لأبي الحسن العسكري (عليه السلام) أخبرنا ابن الجندي عن ابن همام عن ابن مابنداذ أنه سمع ابن المعاني التغلبي من أهل رأس العين يحدث عن أحمد بن محمد الطبري عن علي بن جعفر بالمسائل).
ومعنى: يُعرف منه وينكر، أن بعض مروياته عند النجاشي مستنكرة، ولكنهم اتفقوا على توثيقه (رحمه الله).
ويكفيه أن جعفر بن قولويه روى عنه في جامع الزيارات، وروى عنه المعافي في أمالي الطوسي وغيره. وترجمه السيد الخوئي (12/318) ومما قاله فيه:
(قال يوسف بن السخت: كان علي بن جعفر وكيلاً لأبي الحسن (عليه السلام)، وكان رجلاً من أهل همينيا، قرية من قرى سواد بغداد، فسُعِيَ به إلى المتوكل فحبسه فطال حبسه، واحتال من قبل عبد الله بن خاقان بمال ضمنه عنه بثلاثة آلاف دينار، فكلمه عبد الله فعرض جامعه على المتوكل فقال: يا عبد الله لو شككت فيك لقلت إنك رافضي! هذا وكيل فلان وأنا عازم على قتله، قال: فتأدى الخبر إلى علي بن جعفر فكتب إلى أبي الحسن (عليه السلام): يا سيدي الله الله فيَّ، فقد والله خفت أن أرتاب، فوقع في رقعة: أما إذ بلغ بك الأمر ما أرى فسأقصد الله فيك، وكان هذا في ليلة الجمعة، فأصبح المتوكل محموماً، فازدادت علته حتى صرخ عليه يوم الإثنين، فأمر بتخلية كل محبوس عرض عليه إسمه حتى ذكر هو علي بن جعفر، فقال لعبد الله: لمَ لم تعرض عليَّ أمره؟ فقال: لا أعود إلى ذكره أبداً، قال: خلِّ سبيله الساعة وسله أن يجعلني في حل، فخلى سبيله وصار إلى مكة بأمر أبي الحسن (عليه السلام) فجاور بها، وبرئ المتوكل من علته).
7. وذكر الشيخ الطوسي في كتابه الغيبة (346-350) عدداً من وكلاء الأئمة الممدوحين، من زمن الصادق الى زمن الإمام العسكري (عليه السلام) كحمران بن أعين والمفضل بن عمر، ونصر بن قابوس اللخمي، وعبد الله بن جندب البجلي، وعبد العزيز بن المهتدي الأشعري، وعلي بن مهزيار الأهوازي، وأيوب بن نوح بن دراج، وعلي بن جعفر الهماني.
وروى عن محمد بن عيسى قوله: (كتب أبو الحسن العسكري (عليه السلام) إلى الموالي ببغداد والمدائن والسواد وما يليها: قد أقمت أبا علي بن راشد مقام علي بن
الحسين بن عبد ربه، ومن قبله من وكلائي. وقد أوجبت في طاعته طاعتي، وفي عصيانه الخروج إلى عصياني، وكتبت بخطي.
وروى عن محمد بن فرج قوله: كتبت إليه أسأله عن أبي علي بن راشد وعن عيسى بن جعفر بن عاصم وعن ابن بند.
وكتب إليَّ: ذكرتَ ابن راشد (رحمه الله) فإنه عاش سعيداً ومات شهيداً، ودعا لابن بند والعاصمي. وابن بند ضرب بعمود وقتل، وابن عاصم ضرب بالسياط على الجسر ثلاث مائة سوط، ورُمِيَ به في الدجلة).
ثم ذكر الشيخ الطوسي بعض المذمومين، كصالح بن محمد بن سهل الهمداني، وعلي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي، وعثمان بن عيسى الرواسي، وفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني.
7. نلاحظ أن وكلاء الأئمة (عليهم السلام) يتوزعون على المدن الهامة في الدولة الإسلامية في العراق وفارس والحجاز واليمن والشام ومصر. وأن مواضيع وكالاتهم منها مالية صرفة ومنها مالية وإدارية. وأن مستوياتهم متفاوتة. لكن السفراء الأربعة أعلاهم مستوى، فقد كان أحدهم يعرف ما في الرسائل، ومقدار المال ونوعه هدية أو خمساً ومن أرسله. (الخرائج:3/1108، وغيبة الطوسي/353).
ونترجم في الفصول التالية لعثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه)، ثم لأحمد بن إسحاق الأشعري القمي، وكان وكيلاً عاماً معتمداً عند الأئمة (عليهم السلام). ثم نتحدث عن نيسابور وعلاقة الإمام العسكري (عليه السلام) بها، ونترجم للفضل بن شاذان بن جبريل الأزدي، وكان يعيش في نيسابور العاصمة العلمية للخلافة.
الفصل السابع: عثمان بن سعيد أشهر وكلاء الإمام العسكري (عليه السلام)
أسدي منقطع للأئمة من أول نشأته
1. كان عثمان بن سعيد الأسدي من أسرة بغدادية شيعية منقطعة الى الأئمة (عليهم السلام)، وقيل إنه منسوب الى العَمْري جده لأمه.
وقد اختاره الله من صباه فكان خادماً بواباً في بيت الإمام الجواد (عليه السلام) (رجال الطوسي/389، وأعيان الشيعة:2/37) ثم كان وكيل الإمام الهادي (عليه السلام) ومعتمده، ثم كان وكيل الإمام العسكري (عليه السلام) ومعتمده.
ففي غيبة الطوسي/256، عن محمد بن إسماعيل وعلي بن عبد الله الحسنيين قالا: (دخلنا على أبي محمد الحسن (عليه السلام) بسر من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته، حتى دخل عليه بدر خادمه فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن، في حديث طويل يسوقانه إلى أن قال الحسن (عليه السلام) لبدر: فامض فأتنا بعثمان بن سعيد العمري، فما لبثنا إلا يسيراً حتى دخل عثمان فقال له سيدنا أبو محمد (عليه السلام): إمض يا عثمان فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال الله، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال. ثم ساق الحديث إلى أن قالا: ثم قلنا بأجمعنا: يا سيدنا والله إن عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك وأنه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى.
قال: نعم، واشهدوا عليَّ أن عثمان بن سعيد العمري وكيلي، وأن ابنه محمداً وكيل ابني مهديكم). وإثبات الهداة:3/511، والبحار:51/345.
وكان إسم عثمان بن سعيد العمري: حفص بن عمرو. (الخلاصة/128).
وروى الطوسي في الغيبة/354، عن: (أحمد بن إسحاق بن سعد القمي قال: دخلت على أبي الحسن علي بن محمد صلوات الله عليه في يوم من الأيام فقلت: يا سيدي أنا أغيب وأشهد، ولا يتهيأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كل وقت، فقول من نقبل وأمر من نمتثل؟
فقال لي صلوات الله عليه: هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعني يقوله، وما أداه إليكم فعني يؤديه.فلما مضى أبو الحسن (عليه السلام) وصلت إلى أبي محمد ابنه الحسن العسكري (عليه السلام) ذات يوم فقلت له مثل قولي لأبيه فقال لي: هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعني يقوله، وما أدى إليكم فعني يؤديه. قال أبو محمد هارون: قال أبو علي: قال أبو العباس الحميري: فكنا كثيراً ما نتذاكر هذا القول، ونتواصف جلالة محل أبي عمرو).
2. روى في الكافي (1/329) عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: (اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف فقلت له: يا أبا عمرو إني أريد أن أسألك عن شيء وما أنا بشاك فيما أريد أن أسألك عنه، فإن اعتقادي وديني أن الأرض لاتخلو من حجة إلا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك
رفعت الحجة وأغلق باب التوبة، فلم يك (يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً)، فأولئك شرار من خلق الله (عزَّ وجلَّ)، وهم الذين تقوم عليهم القيامة.
ولكني أحببت أن أزداد يقيناً، وإن إبراهيم (عليه السلام) سأل ربه (عزَّ وجلَّ) أن يريه كيف يحيي الموتى: (قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، وقد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته وقلت من أعامل أو عمن آخذ وقولَ من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون. وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: العمري وابنه ثقتان فما أديا إليك عني فعني يؤديان، وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.
قال: فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى، ثم قال: سل حاجتك. فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد (عليه السلام)؟ فقال: إي والله ورقبته مثل ذا وأومأ بيده الى رقبته. فقلت له: فبقيت واحدة، فقال لي: هات، قلت: فالإسم؟ قال: محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي فليس لي أن أحلل ولا أحرم، ولكن عنه (عليه السلام)، فإن الأمر عند السلطان أن أبا محمد مضى ولم يخلف ولداً، وقسم ميراثه وأخذه من لاحقَّ له فيه
وهو ذا وعياله يجولون، ليس أحد يجسر أن يتعرف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الإسم وقع الطلب، فاتقوا الله وأمسكوا عن ذلك).
ونحوه في غيبة الطوسي/355، وفيه: قال: (قد رأيته (عليه السلام) وعنقه هكذا، يريد أنها أغلظ الرقاب حسناً وتماماً).
3. انتقل عثمان بن سعيد بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) بمدة قليلة الى بغداد، ويبدو أن ابنه محمداً سكن بغداد قبله، وفي تلك الفترة اضطرب وضع سامراء وضعف مركزها، وانتقلت العاصمة منها الى بغداد!
ويظهر أن بيت الإمام العسكري بقي بعد وفاته (عليه السلام) مفتوحاً، وكان فيه والدته، وكان بوابه عثمان بن سعيد العمري (قدس سره).
فقد ادعى جعفر الكذاب أنه وارث أخيه الحسن العسكري، لأنه لا ولد له، فردت أم الإمام (عليه السلام) دعواه وأبرزت وصيتها، وادعت جاريةٌ للإمام أنها حامل، فقرر القاضي ابن أبي الشوارب التريث حتى يتبين أمر الجارية، لذلك أبقى الدار على وضعه.
ثم طرأت أحداث خطيرة كوصول جيش الزنج وجيش يعقوب الصفار الى واسط، فهرب الخليفة من سامراء الى بغداد ليستعد لحربه!
قال الذهبي في سيره (12/543): (وفي سنة 261، مالت الديلم إلى الصفار ونابذوا العلوي فصار إلى كرمان، وأما الزنج فحروبهم متتالية، وسار يعقوب الصفار إلى فارس فالتقى هو وابن واصل فهزمه الصفار، وأخذ له من قلعته أربعين ألف ألف درهم! وأعيا المعتمد شأن الصفار وحار،
فلانَ له وبعث إليه بالخلع وبولاية خراسان وجرجان، فلم يرض بذلك حتى يجيء إلى سامراء! وأضمر الشر، فتحول المعتمد إلى بغداد، وأقبل الصفار بكتائب كالجبال)!
4. وفي تلك الفترة كان الإمام المهدي (عليه السلام) يتواجد في سامراء، وكان بوابه ووكيله عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه).(دلائل الإمامة/425).
قال الطبري في دلائل الإمامة/424، عن الإمام العسكري (عليه السلام): (وتوفي (عليه السلام) بسر من رأى، ولما اتصل الخبر بأمه وهي في المدينة، خرجت حتى قدمت سر من رأى، وجرى بينها وبين أخيه جعفر أقاصيص في مطالبته إياها بميراثه، وسعى بها إلى السلطان وكشف ما ستر الله، وادعت صقيل عند ذلك أنها حامل، وحملت إلى دار المعتمد فجعل نساءه وخدمه ونساء الواثق ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدون أمرها، إلى أن دهمهم من أمر الصفار، وموت عبد الله بن يحيى بن خاقان، وأمر صاحب الزنج وخروجهم عن سر من رأى، ما شغلهم عنها وعن ذكر من أعقب (عليه السلام) من أجل ما يشاء الله ستره وحسن رعايته بمنه وطوله).
ويدل حديث أحمد بن الدينوري (دلائل الإمامة/304) على أن محمد بن عثمان العمري كان بعد سنة أو أكثر في بغداد، وأن الدينوري أراد أن يعطيه أمانات للإمام (عليه السلام) فلم يقبل، وأرسله الى سامراء فرأى آيات الإمام (عليه السلام) على يد عثمان بن سعيد، وأمره الإمام (عليه السلام) أن يسلم الأمانات الى شخص في بغداد بواسطة محمد بن عثمان العمري.
وجاء في حديث وفد قم، الذين وصلوا الى سامراء أيام وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) (كمال الدين/478): (وأمرنا القائم (عليه السلام) أن لا نحمل إلى سر من رأى بعدها شيئاً من المال، فإنه ينصب لنا ببغداد رجلاً يحمل إليه الأموال، وتخرج من عنده التوقيعات).
ومعناه أن عثمان بن سعيد بقي في سامراء بعد وفاة الإمام (عليه السلام) مدة قليلة.
5. وكانت مدة سفارة عثمان بن سعيد العمري للإمام المهدي (عليه السلام) خمس سنين260-265، وكان ابنه محمد بن عثمان سفيراً معه، ثم استقل بالسفارة بعد وفاة أبيه من 265- 305، وأوصى بالسفارة الى الحسين بن روح النوبختي، فكانت سفارته من305- 326، وأوصى بالسفارة الى علي بن محمد السمري، فكانت سفارته من 326- 329، بداية الغيبة الكبرى.
قال الحموي في معجم البلدان:3/176، إن سامراء أخذت بالخراب بعد ولاية المستعين العباسي وانتقل الخلفاء منها الى بغداد، ولم يبق منها إلا مشهد الإمامين (عليه السلام) قال: (وسائر ذلك خراب يباب، يستوحش الناظر إليها بعد أن لم يكن في الأرض كلها أحسن منها، ولا أجمل ولا أعظم ولا آنس ولا أوسع ملكاً منها، فسبحان من لا يزول ولا يحول)!
6. وفي غيبة الطوسي/164: (عن الزهري قال: طلبت هذا الأمر طلباً شاقاً حتى ذهب لي فيه مال صالح، فوقعت إلى العمري وخدمته ولزمته وسألته بعد ذلك عن صاحب الزمان، فقال لي: ليس إلى ذلك وصول، فخضعت فقال لي: بكر بالغداة فوافيت، فاستقبلني ومعه شاب من
أحسن الناس وجهاً وأطيبهم رائحة، بهيئة التجار، وفي كمه شيء كهيئة التجار، فلما نظرت إليه دنوت من العمري فأومأ إليَّ فعدلت إليه وسألته فأجابني عن كل ما أردت، ثم مرَّ ليدخل الدار وكانت من الدور التي لا يكترث لها، فقال العمري إن أردت أن تسأل سل فإنك لا تراه بعد ذا، فذهبت لأسأل فلم يسمع ودخل الدار وما كلمني بأكثر من أن قال: ملعون ملعون من أخر العشاء إلى أن تشتبك النجوم، ملعون ملعون من أخر الغداة إلى أن تقضي النجوم، ودخل الدار)!
أقول: يظهر أن وقت هذا الحديث بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) بفترة قصيرة، وأن الإمام المهدي (عليه السلام) كان في سامراء، وأنه أمر عثمان بن سعيد أن يأتي بالزهري الذي يبحث عنه، فتشرف بخدمته وسأله مسائله ورأى آياته.
وهذا الزهري هو جعفر بن محمد الزهري. (غيبة الطوسي/182).
7. قال ابن طاووس في الطرائف/183: (عثمان بن سعيد العمري، المدفون بقطقطان من الجانب الغربي ببغداد).
وقد وردت نسبة (المنتجي) في جمال الأسبوع/321: ولعلها نسبة الى فرع من بني أسد، وقد تكون نسبة الى مكان، ففي أمالي الشجري/730: (حدثنا أبو الطيب محمد بن جعفر الرداد المنتجي بمنتج).
وتوفي عثمان بن سعيد (قدس سره) في بغداد وقبره فيها قرب الميدان، وقد حاول الوهابيون تفجيره هذه الأيام، أواخر شهر رمضان سنة 1430:
http://www.alcauther.com
(نفذ التكفيريون وأعوانهم البعثيون تفجيرين بعبوتين ناسفتين، استهدفتا
المرقد الشريف لعثمان بن سعيد العمري سفيرالإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وأكد مصدر أمني مطلع لشبكة نهرين نت أن الإرهابيين زرعوا عبوتين ناسفتين، واحدة في المرقد الشريف والأخرى في مرآب قريب من المكان. وأضاف المصدر بأن حصيلة هذين التفجيرين كان استشهاد ثلاثة مواطنين وجرح ثمانية آخرين.
والجدير بالذكر أن المرقد الشريف للسفير عثمان بن سعيد العمري يقع بالقرب من ساحة الميدان في العاصمة بغداد، وأن هذا التفجير يأتي ضمن سلسلة تفجيرات تستهدف المراقد المقدسة من جديد).
8. قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الغيبة/358: (قال أبو نصر هبة الله بن محمد: وقبر عثمان بن سعيد بالجانب الغربي من مدينة السلام، في شارع الميدان في أول الموضع المعروف بدرب جبلة، في مسجد الدرب، يمنة الداخل إليه، والقبر في نفس قبلة المسجد).
الفصل الثامن: أحمد بن إسحاق الأشعري القمي (قدس سره)
كان من خواص الإمام العسكري (عليه السلام)
قال الشيخ الطوسي في الفهرست/70: (أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص الأشعري، أبو علي، كبير القدر، وكان من خواص أبي محمد (عليه السلام)، ورأى صاحب الزمان (عليه السلام)، وهو شيخ القميين ووافدهم. وله كتب، منها: كتاب علل الصلاة، كبير، ومسائل الرجال لأبي الحسن الثالث (عليه السلام)، أخبرنا بهما الحسين بن عبيد الله، وابن أبي جيد، عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن سعد بن عبد الله، عنه).
أقول: هاجر جده الأحوص وأخوه عبد الله، وجماعة من عشيرتهم من الكوفة في زمن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وأسسوا قماً، وسرعان ما صارت مركزاً علمياً، ومدينةً عامرة، وحاضرةً علمية، مواليةً لأهل البيت (عليهم السلام).
وقد مدح الأئمة (عليهم السلام) الأشعريين القميين، ونبغ منهم رواة كبار، وعلماء أبرار.
وَعَدَّهُ النجاشي في مصنفي الشيعة مع أبيه إسحاق، قال/73 و91: (إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك الأشعري، قمي ثقة، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليه السلام). وابنه أحمد بن إسحاق مشهور.. وكان وافد القميين وروى عن أبي جعفر الثاني وأبي الحسن (عليه السلام) وكان خاصة أبي محمد (عليه السلام)).
وقال ابن الغضائري/122: (أحمد بن إسحاق، بن عبدالله، بن سَعد، بن مالك، بن الأحْوَص الأشْعري، أبو علي، القُميُّ. رأيتُ من كتبه: كتابَ عِلَل الصوم كبيرٌ، مسائل الرجال لأبي الحسن الثالث (عليه السلام)، جَمَعَهُ).
وقال السيد الخوئي (2/54، و48): (أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد= أحمد بن إسحاق بن سعد= أحمد بن إسحاق القمي.
عَدَّهُ الشيخ في أصحاب الجواد، وفي أصحاب أبي محمد العسكري (عليه السلام) قائلاً: أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، قمي ثقة).
وفي دلائل الإمامة/503: (وكان أحمد بن إسحاق القمي الأشعري (رضي الله عنه) الشيخ الصدوق، وكيل أبي محمد (عليه السلام)، فلما مضى أبو محمد (عليه السلام) إلى كرامة الله (عزَّ وجلَّ)، أقام على وكالته مع مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليه، تخرج إليه توقيعاته، وتحمل إليه الأموال من سائر النواحي التي فيها موالي مولانا فيتسلمها، إلى أن استأذن في المصير إلى قم فخرج الإذن بالمضي، وذكر أنه لا يبلغ إلى قم، وأنه يمرض ويموت في الطريق، فمرض بحلوان ومات ودفن بها، (رضي الله عنه)).
وقال الكشي (2/831): (كتب أبو عبد الله البلخي إليَّ يذكر عن الحسين بن روح القمي أن أحمد بن إسحاق كتب إليه يستأذنه في الحج، فأذن له وبعث إليه بثوب، فقال أحمد بن إسحاق: نعى إلي نفسي، فانصرف من الحج فمات بحلوان.. عاش بعد وفاة أبي محمد (عليه السلام)، وأتيت بهذا الخبر ليكون أصح لصلاحه وما ختم له به). ونحوه النجاشي/91.
وروى الكشي (2/831): (عن أبي محمد الرازي قال: كنت أنا وأحمد بن أبي عبد الله البرقي بالعسكر، فورد علينا رسول من الرجل فقال لنا: الغائب العليل ثقة، وأيوب بن نوح، وإبراهيم بن محمد الهمداني، وأحمد بن حمزة، وأحمد بن إسحاق، ثقات جميعاً).
والعليل هو علي بن جعفر الهماني البرمكي (رحمه الله). (تعليقة الوحيد/395).
وقال الطوسي في الغيبة/ 417: (ومنهم أحمد بن إسحاق وجماعة، خرج التوقيع في مدحهم. روى أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبي محمد الرازي قال: كنت وأحمد بن أبي عبد الله بالعسكر، فورد علينا رسول من قبل الرجل فقال: أحمد بن إسحاق الأشعري، وإبراهيم بن محمد الهمداني، وأحمد بن حمزة بن اليسع، ثقات).
وقال الكشي(2/831): (كتب محمد بن أحمد بن الصلت القمي الآبي أبو علي، إلى الدار كتاباً ذكر فيه قصة أحمد بن إسحاق القمي وصحبته، وأنه يريد الحج، واحتاج إلى ألف دينار، فإن رأى سيدي أن يأمر بإقراضه إياه ويُسترجع منه في البلد إذا انصرفنا، فأفعل. فوقع (عليه السلام): هي له منا صلة، وإذا رجع فله عندنا سواها، وكان أحمد لضعفه لا يُطمع نفسه في أن يبلغ الكوفة، وفي هذه من الدلالة).
أي دلالةٌ على أنه يرجع من الحج سالماً، ولا يصل الى قم، فمات بحلوان (رحمه الله).
وقال الميرزا النوري في النجم الثاقب (2/ 21): (استأذن في المسير إلى قم فخرج الإذن بالمضي، وذكر أنه لايبلغ إلى قم، وأنه يمرض ويموت في الطريق، فمرض بحلوان ومات ودفن بها (رضي الله عنه).
ثم قال: وحلوان هي ذَهَاب المعروفة التي تقع في طريق كرمنشاه- بغداد ويقع قبر هذا المعظم قرب نهر تلك القرية، يبعد ألف قدم تقريباً من جانب الجنوب، وعلى القبر بناء متواضع خرب، وذلك لعدم همة وعدم معرفة أغنياء، بل سكان تلك المنطقة، بل سكان كرمانشاه والمارة. لذلك بقي هكذا بلا إسم ولا علامة، ولايذهب من كل ألف زائر ولا زائرٌ واحد لزيارته، مع أنه ذلك الإنسان الذي بعث الإمام (عليه السلام) خادمه بطي الأرض لتكفينه وتجهيزه، وهو الذي بنى المسجد المعروف بقم بأمره (عليه السلام)، وكان سنيناً وكيله (عليه السلام) في تلك المناطق، فكان من المناسب أن يُتعامَل معه بشكل أفضل وأحسن من هذا، ولابد أن يكون قبره مزاراً مهماً ليُحصل ببركة صاحب القبر وبواسطته على الفيوضات الإلهية).
كان شخصية قم ورئيسها
قال النجاشي/91: (أحمد بن إسحاق بن عبد الله..وكان وافد القميين). وقال الشيخ في الفهرست/70: (كبير القدر، وكان من خواص أبي محمد (عليه السلام) ورأى صاحب الزمان (عليه السلام)، وهو شيخ القميين ووافدهم).
بنى مسجد قم المعروف بأمر الإمام العسكري (عليه السلام)
قال الميرزا النوري في النجم الثاقب (2/ 21): (وهو الذي بنى المسجد المعروف بقم بأمره (عليه السلام)). ولا بد أن الميرزا (قدس سره) وجد نصاً بذلك، ولم أجده.
كانت قم مدينة عامرة ومهجراً للعلويين
تأسست قم في سبعينات القرن الأول للهجرة، على يد الأشعريين، وصارت بسرعة مدينة عامرة، لوقوعها على طريق القادمين من العراق والحجاز الى خراسان وما وراء النهر.
وقد كتبنا في سيرة الإمام الهادي (عليه السلام) أنها تميزت بموقعها الجغرافي، وبمركزها التجاري، كما تميزت بشجاعة أهلها وثوراتهم.
وأكبر ميزاتها أنها العاصمة الدينية لأهل البيت (عليهم السلام) في إيران، والمركز العلمي لمذهبهم، وفيها فقهاء كبار ووكلاء للأئمة (عليهم السلام)، يرجع اليهم الشيعة، ويدفعون اليهم أخماسهم ونذورهم ليوصلوها الى الأئمة (عليهم السلام).
قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن لله حرماً وهو مكة، وإن للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين (عليه السلام) حرماً وهوالكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم). (البحار:57/216).
وكان أهل قم مشهورن بتشيعهم، فكانت الحكومات الأموية والعباسية لا تحبهم، وكانت تزيد الخراج عليهم تعصباً، حتى وصل الى مليوني درهم، فاعترض أهل قم وثاروا.
قال الطبري (7/183): (وفي هذه السنة (سنة210) خلع أهل قم السلطان ومنعوا الخراج. ذُكِرَ أن سبب خلعهم إياه كان أنهم كانوا استكثروا ماعليهم من الخراج، وكان خراجهم ألفي ألف درهم). وفي تاريخ قم بالفارسية/122: (بلغ مجموع خراج قم سنة 287 ثلاثة ملايين درهم وكسراً)!
وفي رجال الطوسي/443: (لما توجه موسى بن بغا إلى قم، فوطأها وطأةً خشنة، وعظم بها ما كان فعل بأهلها، فكتبوا بذلك إلى أبي محمد صاحب العسكر (عليه السلام) يسألونه الدعاء لهم، فكتب إليهم أن ادعوا بهذا الدعاء في وِتْركم، وهو.. وذكر الدعاء).
وكانت حملة موسى بن بغا على الثوار العلويين في آذربيجان وطبرستان سنة 253، أي في زمن المعتز قبل وفاة الهادي (عليه السلام) بسنة. (ثقات ابن حبان:2/331).
هذا، وكانت لقم علاقة بمصر، لأن المأمون نفى عدداً من زعمائها الى مصر، ونبغ منهم قادة عسكريون كالقائد المعروف: محمد بن عبد الله القمي الذي ولاه المتوكل أمر قبائل البجة في السودان، لما منعوا المسلمين مناجم الذهب، فوضع لهم خطة وانتصر عليهم، وأسر ملكهم علي بابا وجاء به أسيراً الى سامراء سنة241. وتفصيله في الطبري (7/379).
وقد كثرت هجرة العلويين الى قم فراراً من اضطهاد حكوماتهم، وكانت سياسة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) التعاطف معهم جميعاً، من كان منهم تقياً، أو غير تقي. وبسبب هذه السياسة كان موقف الإمام العسكري (عليه السلام) الحاسم مع أحمد بن إسحاق الأشعري لما منع أحد السادة من الدخول اليه!
قال المجلسي في بحار الأنوار (50/325) عن تاريخ قم للحسن بن محمد القمي: (إن الحسين بن الحسن بن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السلام)، كان بقم يشرب الخمر علانيةً، فقصد يوماً لحاجةٍ باب أحمد بن إسحاق الأشعري وكان وكيلاً في الأوقاف بقم، فلم يأذن له ورجع إلى بيته مهموماً. فتوجه أحمد بن إسحاق إلى الحج، فلما بلغ سر من رأى استأذن على أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) فلم يأذن له، فبكى أحمد لذلك طويلاً وتضرع حتى أذن له، فلما دخل قال: يا ابن رسول الله لمَ منعتني الدخول عليك وأنا من شيعتك ومواليك؟ قال (عليه السلام): لأنك طردت ابن عمنا عن بابك! فبكى أحمد وحلف بالله أنه لم يمنعه من الدخول عليه إلا لأن يتوب من شرب الخمر، قال: صدقت، ولكن لابد من إكرامهم واحترامهم على كل حال، وأن لا تحقرهم ولا تستهين بهم لانتسابهم إلينا، فتكون من الخاسرين!
فلما رجع أحمد إلى قم أتاه أشرافهم، وكان الحسين معهم فلما رآه أحمد وثب إليه واستقبله وأكرمه وأجلسه في صدر المجلس، فاستغرب الحسين ذلك منه واستبدعه وسأله عن سببه، فذكر له ما جرى بينه وبين العسكري (عليه السلام) في ذلك. فلما سمع ذلك ندم من أفعاله القبيحة وتاب منها، ورجع إلى بيته وأهرق الخمور وكسر آلاتها، وصار من الأتقياء المتورعين، والصلحاء المتعبدين، وكان ملازماً للمساجد معتكفاً فيها حتى أدركه الموت، ودفن قريباً من مزار فاطمة (رضي الله عنهما)).
أقول: في هذه القصة عبرة من عدة جهات، وأولها أن يجب حفظ بني هاشم رغم سوء بعضهم لأن معدنهم جيد، ولأنهم ينتمون الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والزهراء وعلي (عليهما السلام). وقد رأيت أن ذلك السيد العاصي أثبت صحة سياسة الأئمة (عليهم السلام)!
مرافقة سعد الأشعري لأحمد بن إسحاق الى سامراء
روى الصدوق في كمال الدين/454، عن سعد بن عبد الله الأشعري قال: (كنت امرءً لهجاً بجمع الكتب المشتملة على غوامض العلوم ودقائقها، كَلِفاً باستظهار ما يصح لي من حقائقها، مغرماً بحفظ مشتبهها ومستغلقها، شحيحاً على ما أظفر به من معضلاتها ومشكلاتها، متعصباً لمذهب الإمامية، راغباً عن الأمن والسلامة، في انتظار التنازع والتخاصم والتعدي إلى التباغض والتشاتم. معيباً للفرق ذوي الخلاف، كاشفاً عن مثالب أئمتهم، هتاكاً لحجب قادتهم.
إلى أن بليت بأشد النواصب منازعة، وأطولهم مخاصمة، وأكثرهم جدلاً، وأشنعهم سؤالاً، وأثبتهم على الباطل قدماً. فقال ذات يوم وأنا أناظره: تباً لك ولأصحابك يا سعد، إنكم معاشر الرافضة تقصدون على المهاجرِين والأنصار بالطعن عليهما، وتجحدون من رسول الله ولايتهما وإمامتهما، هذا الصديق الذي فاق جميع الصحابة بشرف سابقته، أما علمتم أن رسول الله ما أخرجه مع نفسه إلى الغار إلا علماً منه أن الخلافة له من بعده، وأنه هوالمقلد لأمر التأويل، والملقى إليه أزمة الأمة، وعليه المعول في شعب الصدع، ولَمِّ الشعث، وسدِّ الخلل، وإقامة
الحدود، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الشرك.وكما أشفق على نبوته أشفق على خلافته، إذ ليس من حكم الإستتار والتواري أن يروم الهارب من الشر مساعدةً إلى مكان يستخفي فيه، ولما رأينا النبي متوجهاً إلى الإنجحار، ولم تكن الحال توجب استدعاء المساعدة من أحد، استبان لنا قصد رسول الله بأبي بكر للغار للعلة التي شرحناها، وإنما أبات علياً على فراشه لما لم يكن يكترث به ولم يحفل به لاستثقاله، ولعلمه بأنه إن قتل لم يتعذر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.
قال سعد: فأوردت عليه أجوبة شتى، فما زال يعقب كل واحد منها بالنقض والرد عليَّ، ثم قال: يا سعد ودونكها أخرى بمثلها تخطم أنوف الروافض، ألستم تزعمون أن الصديق المبرأ من دنس الشكوك والفاروق المحامي عن بيضة الإسلام، كانا يُسِرَّان النفاق، واستدللتم بليلة العقبة،
أخبرني عن الصديق والفاروق أسلما طوعاً أوكرهاً؟
قال سعد: فاحتلت لدفع هذه المسألة عني خوفاً من الإلزام وحذراً من أني إن أقررت له بطوعهما للإسلام، احتجَّ بأن بدء النفاق ونشأه في القلب لا يكون إلا عند هبوب روائح القهر والغلبة، وإظهار البأس الشديد في حمل المرء على من ليس ينقاد إليه قلبه نحوقول الله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا..) وإن قلت: أسلما كرهاً كان يقصدني بالطعن إذ لم تكن ثمة سيوف منتضاة كانت تريهما البأس. قال سعد: فصدرت عنه مُزْوَرّاً قد انتفخت أحشائي من الغضب، وتقطع كبدي من الكرب،
وكنت قد اتخذت طوماراً وأثبت فيه نيفاً وأربعين مسألة من صعاب المسائل، لم أجد لها مجيباً، على أن أسال عنها خبير أهل بلدي أحمد بن إسحاق صاحب مولانا أبي محمد (عليه السلام) فارتحلت خلفه، وقد كان خرج قاصداً نحومولانا بسر من رأى، فلحقته في بعض المنازل، فلما تصافحنا قال: بخير لحاقك بي، قلت: الشوق ثم العادة في الأسئلة.
قال: قد تكافينا على هذه الخطة الواحدة، فقد برح بي القرم إلى لقاء مولانا أبي محمد (عليه السلام) وأنا أريد أن أسأله عن معاضل في التأويل ومشاكل في التنزيل، فدونكها الصحبة المباركة فإنها تقف بك على ضفة بحر لا تنقضي عجائبه، ولا تفنى غرائبه، وهو إمامنا (عليه السلام).
فوردنا سر من رأى فانتهينا منها إلى باب سيدنا، فاستأذنا فخرج علينا الإذن بالدخول عليه، وكان على عاتق أحمد بن إسحاق جراب قد غطاه بكساء طبري فيه مائة وستون صرة من الدنانير والدراهم، على كل صرة منها ختم صاحبها. قال سعد: فما شبهت وجه مولانا أبي محمد (عليه السلام) حين غشينا نور وجهه إلا ببدر قد استوفى من لياليه أربعاً بعد عشر، وعلى فخذه الأيمن غلام يناسب المشتري في الخلقة والمنظر، على رأسه فرق بين وفرتين، كأنه ألف بين واوين، وبين يدي مولانا رمانة ذهبية تلمع بدائع نقوشها وسط غرائب الفصوص المركبة عليها، قد كان أهداها إليه بعض رؤساء أهل البصرة، وبيده قلم إذا أراد أن يسطر به على البياض
شيئاً قبض الغلام على أصابعه، فكان مولانا يدحرج الرمانة بين يديه ويشغله بردها، كيلا يصده عن كتابة ما أراد.
سلمنا عليه فألطف في الجواب، وأومأ إلينا بالجلوس، فلما فرغ من كتبة البياض الذي كان بيده، أخرج أحمد بن إسحاق جرابه من طي كسائه فوضعه بين يديه، فنظر الهادي (عليه السلام) إلى الغلام وقال له: يا بني فُضَّ الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك، فقال: يا مولاي أيجوز أن أمدَّ يداً طاهرة إلى هدايا نجسة وأموال رجسة، قد شيب أحلها بأحرمها؟
فقال مولاي: يا ابن إسحاق إستخرج ما في الجراب ليميز ما بين الحلال والحرام منها، فأول صرة بدأ أحمد بإخراجها قال الغلام: هذه لفلان بن فلان، من محلة كذا بقم، يشتمل على اثنين وستين ديناراً، فيها من ثمن حجيرة باعها صاحبها، وكانت إرثاً له عن أبيه خمسة وأربعون ديناراً، ومن أثمان تسعة أثواب أربعة عشر ديناراً، وفيها من أجرة الحوانيت ثلاثة دنانير. فقال مولانا: صدقت يا بني، دُلَّ الرجل على الحرام منها، فقال (عليه السلام): فتش عن دينار رازي السكة، تاريخه سنة كذا، قد انطمس من نصف إحدى صفحتيه نقشه، وقراضة آملية وزنها ربع دينار، والعلة في تحريمها أن صاحب هذه الصرة وزن في شهر كذا من سنة كذا على حائك من جيرانه من الغزل مَنّاً وربع مَنّ، فأتت على ذلك مدةٌ وفي انتهائها قُيَّضَ لذلك الغزل سارق، فأخبر به الحائك صاحبه فكذبه
واسترد منه بدل ذلك مَنّاً ونصف من غزل أدق مما كان دفعه إليه، واتخذ من ذلك ثوباً، كان هذا الدينار مع القراضة ثمنه!
فلما فتح رأس الصرة صادف رقعة في وسط الدنانير باسم من أخبر عنه وبمقدارها على حسب ما قال، واستخرج الدينار والقراضة بتلك العلامة. ثم أخرج صرة أخرى فقال الغلام: هذه لفلان بن فلان، من محلة كذا بقم تشتمل على خمسين ديناراً، لا يحل لنا لمسها. قال: وكيف ذاك؟ قال: لأنها من ثمن حنطة حاف صاحبها على أكاره في المقاسمة، وذلك أنه قبض حصته منها بكيل وافٍ، وكان ما حص الأكار بكيل بخس، فقال مولانا: صدقت يا بنيَّ.
ثم قال: يا أحمد بن إسحاق إحملها بأجمعها لتردها أوتوصي بردها على أربابها، فلا حاجة لنا في شيء منها، وائتنا بثوب العجوز.
قال أحمد: وكان ذلك الثوب في حقيبة لي فنسيته، فلما انصرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إليَّ مولانا أبومحمد (عليه السلام) فقال: ما جاء بك يا سعد؟ فقلت: شوقني أحمد بن إسحاق على لقاء مولانا. قال: والمسائل التي أردت أن تسأله عنها؟ قلت: على حالها يا مولاي. قال: فسل قرة عيني، وأومأ إلى الغلام، فقال لي الغلام: سل عما بدا لك منها!
فقلت له: مولانا وابن مولانا إنا روينا عنكم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل طلاق نساءه بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى أرسل يوم الجمل إلى عائشة: إنك قد أرهجت على الإسلام وأهله بفتنتك، وأوردت بنيك حياض الهلاك
بجهلك، فإن كففت عني غربك وإلا طلقتك، ونساء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد كان طلاقهن وفاته. قال: ما الطلاق؟ قلت: تخلية السبيل، قال: فإذا كان طلاقهن وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خليت لهن السبيل فلم لا يحل لهن الأزواج؟ قلت: لأن الله تبارك وتعالى حرم الأزواج عليهن، قال: كيف وقد خلى الموت سبيلهن؟ قلت: فأخبرني يا ابن مولاي عن معنى الطلاق الذي فوض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حكمه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
قال: إن الله تقدس اسمه عَظَّمَ شأن نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخصهن بشرف الأمهات، فقال رسول الله: يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق لهن مادمن لله على الطاعة، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك فأطلق لها في الأزواج، وأسقطها من شرف أمومة المؤمنين!
قلت: فأخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا أتت المرأة بها في عدتها حل للزوج أن يخرجها من بيته؟ قال: الفاحشة المبينة هي السحق دون الزنا، فإن المرأة إذا زنت وأقيم عليها الحد ليس لمن أرادها أن يمتنع بعد ذلك من التزوج بها لأجل الحد، وإذا سحقت وجب عليها الرجم، والرجم خزيٌ، ومن قد أمر الله برجمه فقد أخزاه، ومن أخزاه فقد أبعده، ومن أبعده فليس لأحد أن يقربه.
قلت: فأخبرني يا ابن رسول الله عن أمر الله لنبيه موسى (عليه السلام): (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى)، فإن فقهاء القريقين يزعمون أنها كانت من إهاب الميتة! فقال: من قال ذلك فقد افترى على موسى (عليه السلام)
واستجهله في نبوته، لأنه ما خلا الأمر فيها من خطيئتين، إما أن تكون صلاة موسى فيهما جائزة أوغير جائزة، فإن كانت صلاته جائزة جاز له لبسهما في تلك البقعة، وإن كانت مقدسة مطهرة فليست بأقدس وأطهر من الصلاة، وإن كانت صلاته غير جائزة فيهما، فقد أوجب على موسى أنه لم يعرف الحلال من الحرام، وما علم ما تجوز فيه الصلاة وما لم تجز، وهذا كفر. قلت: فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيهما. قال: إن موسى ناجى ربه بالواد المقدس فقال: يا رب إني قد أخلصت لك المحبة مني، وغسلت قلبي عمن سواك، وكان شديد الحب لأهله، فقال الله تعالى: (إخْلَعْ نَعْلَيْك)، أي إنزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة، وقلبك من الميل إلى من سواي مغسولاً.
قلت: فأخبرني يا ابن رسول الله عن تأويل كهيعص؟ قال: هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبده زكريا، ثم قصها على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك أن زكريا سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل فعلمه إياها، فكان زكريا إذا ذكر محمداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين سري عنه همه وانجلى كربه، وإذا ذكر الحسين خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة، فقال ذات يوم: يا إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعاً منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تعالى عن قصته، وقال: كهيعص، فالكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة، والياء يزيد، وهوظالم الحسين، والعين عطشه، والصاد
صبره. فلما سمع ذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام، ومنع فيها الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب وكانت ندبته:إلهي أتفجع خير خلقك بولده، إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه، إلهي أتلبس علياً وفاطمة ثياب هذه المصيبة، إلهي أتحل كربة هذه الفجيعة بساحتهما؟ ثم كان يقول: اللهم ارزقني ولداً تقرُّ به عيني على الكبر، وأجعله وارثاً وصياً، واجعل محله مني محل الحسين، فإذا رزقتنيه فافتِنِّي بحبه، ثم فجعني به كما تفجع محمداً حبيبك بولده! فرزقه الله يحيى وفجعه به، وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين (عليه السلام) كذلك، وله قصة طويلة.
قلت: فأخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم؟ قال: مصلح أومفسد؟ قلت: مصلح، قال: فهل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد مايخطر ببال غيره من صلاح أوفساد؟ قلت: بلى، قال: فهي العلة، وأوردها لك ببرهان ينقاد له عقلك: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله تعالى وأنزل عليهم الكتاب وأيدهم بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الأمم وأهدى إلى الإختيار منهم، مثل موسى وعيسى (عليهما السلام)، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا هَمَّا بالإختيار أن يقع خيرتهما على المنافق، وهما يظنان أنه مؤمن؟ قلت: لا، فقال: هذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه، اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات
ربه سبعين رجلاً ممن لا يشك في إيمانهم وإخلاصهم، فوقعت خيرته على المنافقين، قال الله تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا..) إلى قوله: (فَقَالُوا أَرِنَا اللَّه جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)! فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعاً على الأفسد دون الأصلح وهويظن أنه الأصلح دون الأفسد، علمنا أن لا اختيار إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور، وما تكنُّ الضمائر، وتتصرف عليه السرائر، وأن لاخطر لاختيار المهاجرِين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء (عليهم السلام) على ذوي الفساد، لما أرادوا أهل الصلاح!
ثم قال مولانا: يا سعد وحين ادعى خصمك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أخرج مع نفسه مختار هذه الأمة إلى الغار، إلا علماً منه أن الخلافة له من بعده، وأنه هوالمقلد أمور التأويل والملقى إليه أزمة الأمة، وعليه المعول في لم الشعث وسد الخلل وإقامة الحدود، وتسريب الجيوش لفتح بلاد الكفر، فكما أشفق على نبوته أشفق على خلافته، إذ لم يكن من حكم الإستتار والتواري أن يروم الهارب من الشر مساعدةً من غيره إلى مكان يستخفي فيه، وإنما أبات علياً على فراشه لما لم يكن يكترث له، ولم يحفل به لاستثقاله إياه، وعلمه أنه إن قتل لم يتعذر عليه نصب غيره مكانه للخطوب التي كان يصلح لها.
فهلا نقضت عليه دعواه بقولك: أليس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الخلافة بعدي ثلاثون سنة، فجعل هذه موقوفة على أعمار الأربعة الذين هم
الخلفاء الراشدون في مذهبكم، فكان لا يجد بداً من قوله لك: بلى. قلت: فكيف تقول حينئذ: أليس كما علم رسول الله أن الخلافة من بعده لأبي بكر، علم أنها من بعد أبي بكر لعمر، ومن بعد عمر لعثمان، ومن بعد عثمان لعلي؟ فكان أيضاً لا يجد بداً من قوله لك: نعم.
ثم كنت تقول له: فكان الواجب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخرجهم جميعاً على الترتيب إلى الغار، ويشفق عليهم كما أشفق على أبي بكر، ولا يستخف بقدر هؤلاء الثلاثة بتركه إياهم، وتخصيصه أبا بكر وإخراجه مع نفسه دونهم!
ولما قال: أخبرني عن الصديق والفاروق أسلما طوعاً أوكرهاً؟ لِم لمْ تقل له: بل أسلما طمعاً، وذلك بأنهما كانا يجالسان اليهود ويستخبرانهم عما كانوا يجدون في التوراة، وفي سائر الكتب المتقدمة الناطقة بالملاحم من حال إلى حال، من قصة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن عواقب أمره.
فكانت اليهود تذكر أن محمداً يسلط على العرب كما كان بختنصر سُلط على بني إسرائيل، ولا بد له من الظفر بالعرب كما ظفر بختنصر ببني إسرائيل، غير أنه كاذب في دعواه أنه نبي، فأتيا محمداً فساعداه على شهادة ألا إله إلا الله، وبايعاه طمعاً في أن ينال كل واحد منهما من جهته ولايةَ بلد، إذا استقامت أموره، واستتبت أحواله! فلما آيسا من ذلك تلثما وصعدا العقبة مع عدة من أمثالهما من المنافقين، على أن يقتلوه فدفع الله تعالى كيدهم وردهم بغيظهم لم ينالوا خيراً! كما أتى طلحة والزبير
عليا (عليه السلام) فبايعاه وطمع كل واحد منهما أن ينال من جهته ولاية بلد، فلما أيسا نكثا بيعته وخرجا عليه، فصرع الله كل واحد منهما مصرع أشباههما من الناكثين.
قال سعد: ثم قام مولانا الحسن بن علي الهادي (عليهما السلام) للصلاة مع الغلام فانصرفت عنهما، وطلبت أثر أحمد بن إسحاق فاستقبلني باكياً فقلت: ما أبطأك وأبكاك؟ قال: قد فقدت الثوب الذي سألني مولاي إحضاره، قلت: لا عليك فأخبرْهُ، فدخل عليه مسرعاً وانصرف من عنده متبسماً وهويصلي على محمد وآل محمد، فقلت: ما الخبر؟ قال: وجدت الثوب مبسوطاً تحت قدمي مولانا يصلي عليه. قال سعد: فحمدنا الله تعالى على ذلك، وجعلنا نختلف بعد ذلك اليوم إلى منزل مولانا أياماً، فلا نرى الغلام بين يديه. [فلما كان يوم الوداع دخلت أنا وأحمد بن إسحاق وكهلان من أهل بلدنا، وانتصب أحمد بن إسحاق بين يديه قائماً وقال: يا ابن رسول الله قد دنت الرحلة واشتد المحنة، فنحن نسأل الله تعالى أن يصلي على المصطفى جدك وعلى المرتضى أبيك، وعلى سيدة النساء أمك، وعلى سيدي شباب أهل الجنة عمك وأبيك، وعلى الأئمة الطاهرين من بعدهما آبائك، وأن يصلي عليك وعلى ولدك، ونرغب إلى الله أن يعلي كعبك ويكبت عدوك، ولا جعل الله هذا آخر عهدنا من لقائك.
قال: فلما قال هذه الكلمات استعبر مولانا حتى استهلت دموعه وتقاطرت عبراته، ثم قال: يا ابن إسحاق لا تَكلف في دعائك شططاَ
فإنك ملاق الله تعالى في صدرك هذا، فخرَّ أحمد مغشياَ عليه، فلما أفاق قال: سألتك بالله وبحرمة جدك إلا شرفتني بخرقة أجعلها كفناً، فأدخل مولانا يده تحت البساط فأخرج ثلاثة عشر درهماً فقال: خذها ولا تنفق على نفسك غيرها، فإنك لن تعدم ما سألت، وإن الله تبارك وتعالى لن يضيع أجر من أحسن عملاً.
قال سعد: فلما انصرفنا بعد منصرفنا من حضرة مولانا من حلوان على ثلاثة فراسخ، حُمَّ أحمد بن إسحاق وثارت به علة صعبة أيس من حياته فيها. فلما وردنا حلوان ونزلنا في بعض الخانات، دعا أحمد بن إسحاق برجل من أهل بلده كان قاطناً بها، ثم قال: تفرقوا عني هذه الليلة واتركوني وحدي، فانصرفنا عنه ورجع كل واحد منا إلى مرقده.
قال سعد: فلما حان أن ينكشف الليل عن الصبح أصابتني فكرة ففتحت عيني فإذا أنا بكافور الخادم خادم مولانا أبي محمد (عليه السلام) وهو يقول: أحسن الله بالخير عزاكم، وجبر بالمحبوب رزيتكم، قد فرغنا من غسل صاحبكم ومن تكفينه، فقوموا لدفنه ن فإنه من أكرمكم محلاً عند سيدكم. ثم غاب عن أعيننا فاجتمعنا على رأسه بالبكاء والعويل، حتى قضينا حقه، وفرغنا من أمره، (رحمه الله)].
ملاحظات
1. يتضمن هذا النص وصفاً دقيقاً لحالة المجتمع في عصره، والحركة الفكرية المذهبية، والتواصل والتنقل بين المدن الإسلامية.
2. كما يظهر منه دور قم وعلمائها، وأنهم كانوا وكلاء الأئمة (عليهم السلام) في إيران وما وراءها، وتظهر مكانة أحمد بن إسحاق خاصة (رحمه الله).
3. يدل على أن الإعطاء للإمام (عليه السلام) كان صفة عامة عند متديني الشيعة، سواء من خُمس ما زاد عن مصرفهم السنوي، أو نذورهم وهداياهم، فكانوا يعطونها الى وكلائه ويوصلها الوكلاء بأمانة، ويخبرهم الإمام (عليه السلام) بأصلها وأسماء أصحابها، ويردها إن كان فيها إشكال.
والشيعة يعتقدون أن الإمام (عليه السلام) غني عن أموالهم، وأنهم هم بحاجة لأن يقبلها منهم، ليطهروا بذلك، وتتبارك أموالهم، كما قال الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكّيِهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
4. لا يجب علينا التدقيق الذي قام به الإمام المهدي صلوات الله عليه في أصل المال ومنشئه، بل لا يمكننا ذلك لأنا لا نعلم ما يعلم. فعلينا العمل بظاهر الأمور وقاعدة: كل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه؟
5. الظاهر أن الفقرة الأخيرة التي جعلناها بين معقوفين مضافة الى هذا النص من نص آخر يصف وفاة أحمد بن إسحاق، والتي كانت بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) بنحو أربعين سنة. ويؤيد ذلك أن رواية الطبري في دلائل الإمامة لزيارة سعد مع ابن إسحاق لا توجد فيها هذه الفقرة.
6. صح عند علمائنا أن أحمد بن إسحاق عاش بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) وكان وكيل ابنه المهدي (عليه السلام).بينما تذكر الرواية أنه توفي في حياة العسكري (عليه السلام)، ولذلك ردها العلماء وقال بعضهم إنها موضوعة!
والذي أعتقده أنها صحيحة لكن وقع خلل أو تصحيف في آخرها، لأن وفاة أحمد بن إسحاق (رحمه الله) كانت في حلوان كما وصفت الرواية، لكن في سفرة أخرى، وليست في تلك السفرة، فقد زار أحمد بن إسحاق سامراء مرات بعدها، وذهب منها الى الحج، وكان سعد معه في آخر حجة كما سيأتي.
ويؤيد ما قلناه أن الطبري رواها في دلائل الإمامة/506، بسند آخر بدون قصة موت أحمد بن إسحاق في رجوعه يومها من سامراء.
قال الطبري في دلائل الإمامة/ 503: (مضى أبو محمد يوم الجمعة لثمان ليال خلون من ربيع الأول سنة ستين ومائتين من الهجرة. وكان أحمد بن إسحاق القمي الأشعري (رضي الله عنه) الشيخ الصدوق، وكيل أبي محمد (عليه السلام)، فلما مضى أبو محمد إلى كرامة الله (عزَّ وجلَّ) أقام على وكالته مع مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليه، تخرج إليه توقيعاته ويحمل إليه الأموال من سائر النواحي التي فيها موالي مولانا، فيتسلمها، إلى أن استأذن في المصيرإلى قم، فخرج الإذن بالمضي، وذكر أنه لا يبلغ إلى قم وأنه يمرض ويموت في الطريق، فمرض بحلوان ومات ودفن بها (رضي الله عنه). وأقام مولانا صلوات الله عليه بعد مضي أحمد بن إسحاق الأشعري بسر من رأى مدة، ثم غاب لما روي في الغيبة من الأخبار عن
السادة (عليهم السلام)، مع أنه مشاهد في المواطن الشريفة الكريمة العالية، والمقامات العظيمة، وقد دلت الآثار على صحة مشاهدته).
وقد تفاوتت الرواية في المدة التي عاشها بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، والمدة في رواية دلائل الإمامة مجملة، لكن رواية الكشي (2/831) تقول إنه عاش بعد الإمام العسكري (عليه السلام) أكثر من خمس وأربعين سنة، لأنه كتب الى السفير الحسين بن روح (رحمه الله) الذي بدأت سفارته سنة 305، قال: (عن الحسين بن روح القمي أن أحمد بن إسحاق كتب إليه يستأذنه في الحج فأذن له وبعث إليه بثوب، فقال أحمد بن إسحاق: نعى إليَّ نفسي، فانصرف من الحج فمات بحلوان. أحمد بن إسحاق بن سعد القمي عاش بعد وفاة أبي محمد (عليه السلام)، وأتيت بهذا الخبر ليكون أصح لصلاحه، وما ختم له به).
وروى الطوسى في الغيبة/355، أنه كان يذهب الى الحج بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) وينزل في بغداد قال: (أخبرنا جماعة، عن أبي محمد هارون، عن محمد بن همام، عن عبد الله بن جعفر قال: حججنا في بعض السنين بعد مضي أبي محمد (عليه السلام) فدخلت على أحمد بن إسحاق بمدينة السلام، فرأيت أبا عمرو عنده، فقلت: إن هذا الشيخ وأشرت إلى أحمد بن إسحاق وهو عندنا الثقة المرضي حدثنا فيك بكيت وكيت، واقتصصت عليه ما تقدم يعني ما ذكرناه عنه من فضل أبي عمروومحله، وقلت: أنت الآن ممن لا يشك في قوله وصدقه، فأسألك بحق الله وبحق الإمامين اللذين وثقاك، هل رأيت ابن أبي محمد الذي هو صاحب الزمان (عليه السلام)؟
فبكى ثم قال: على أن لا تخبر بذلك أحداً وأنا حي. قلت: نعم. قال: قد رأيته (عليه السلام) وعنقه هكذا، يريد أنها أغلظ الرقاب حسناً وتماماً).
وفي رواية الصدوق في كمال الدين/441: (فقال لي: نعم وله عنق مثل ذي، وأومأ بيديه جميعاً إلى عنقه. قال قلت: فالإسم؟ قال: إياك أن تبحث عن هذا، فإنه عند القوم أن هذا النسل قد انقطع).
أقول: هاجم الخليفة بيت الإمام العسكري (عليه السلام) يبحث عن ابنه المهدي (عليه السلام) فلم يجده، وظنوا أن جاريته صقيل حامل فحبسوها عند قاضي القضاة. ثم هرب الخليفة والدولة الى بغداد، ونجت جارية الإمام المحبوسة وعادت الى بيت الإمام (عليه السلام). وهذا النص يدل على أن قاضي القضاة أصدر أمراً بتوزيع تركة الإمام على أمه وأخيه، لأنه لم يثبت أن له ولداً.
وقد أراد الإمام المهدي (عليه السلام) أن لا يرد الشيعة قرار الخليفة حتى لا يؤخذوا ويشتد البحث عن الولد، ولهذا نجد عثمان بن سعيد يخبرهم بوجوده وأنه رآه ويطلب منهم أن لا يخبروا أحداً بذلك عن لسانه ما دام حياً!
مناقشة رد السيد الخوئي (قدس سره) لهذه الرواية!
رد السيد الخوئي (قدس سره) رواية سعد المتقدمة فقال (9/82): (وهذه الرواية ضعيفة السند جداً، فإن محمد بن بحر بن سهل الشيباني لم يوثق، وهو متهم بالغلو، وغيره من رجال سند الرواية مجاهيل. على أنها قد اشتملت على أمرين لايمكن تصديقهما: أحدهما:حكايتها صد الحجة سلام الله عليه أباه من الكتابة والإمام (عليه السلام) كان يشغله برد الرمانة الذهبية! إذ يقبح
صدور ذلك من الصبي المميز فكيف ممن هو عالم بالغيب، وبجواب المسائل الصعبة؟ الثاني: حكايتها عن موت أحمد بن إسحاق في زمان العسكري مع أنك عرفت في ترجمته أنه عاش إلى ما بعد العسكري (عليه السلام)).
لكن ما ذكره (قدس سره) غير تام: أولاً، لأن الطبري رواها في دلائل الإمامة/506، بسند آخر: عن عبد الباقي بن يزداد بن عبد الله البزاز، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد الثعالبي قراءة في يوم الجمعة مستهل رجب سنة سبعين وثلاث مائة قال: أخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن يحيى العطار، عن سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمي، قال: كنت امرءً لهجاً بجمع الكتب..).
وقد رواها الى قوله: (وجعلنا نختلف بعد ذلك اليوم إلى منزل مولانا أياماً فلانرى الغلام). وليس فيها خبر موت ابن إسحاق في حلوان في تلك السفرة.
وثانياً، ما ورد في طفولة الإمام المهدي (عليه السلام) طبيعي وغير مستنكر، وقد ورد له شبيهٌ في طفولة الإمام الكاظم وطفولة نبي الله عيسى (عليهما السلام)، ولا ينافي ذلك عصمته وعلمه، لأن السن له اقتضاء.
فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن عيسى بن مريم (عليهما السلام) كان يبكى بكاءً شديداً فلما أعيت مريم كثره بكائه قال لها: خذي من لحا هذه الشجرة فاجعليه وجوراً ثم اسقينيه. فإذا سقى بكى بكاءً شديداً فتقول مريم: ما ذا أمرتني؟ فيقول: يا أماه علم النبوة وضعف الصبا).(قصص الأنبياء/269).
وثالثاً، لايصح تضعيفه بابن بحر، لأن السيد الخوئي قال فيه(16/131): (قال النجاشي:محمد بن بحر الرهني أبو الحسين الشيباني، ساكن نرماشين من أرض
كرمان. قال بعض أصحابنا: إنه كان في مذهبه ارتفاع، وحديثه قريب من السلامة ولا أدري من أين قيل ذلك)!
فقد تعجب النجاشي وغيره من وصفه بالإرتفاع أي الغلو، وقال: من أين جاءت التهمة وهذه أحاديثه قريبة من السلامة أي خالية من الغلو! والجواب: أنها جاءت من خصوم الشيعة، فقد قال ابن حجر في لسان الميزان (5/89) و(7/6): (محمد بن بحر بن سهل الشيباني السجستاني، أبو الحسين ذكره أبو الحسن بن بانويه في تاريخ الري وقال: شيخ من شيوخ الشيعة يكنى أبا الحسين، وكان من علمائهم وله تصانيف بخراسان، وكان مكيناً عندهم، وسكن بعض قرى كرمان. قال: وقيل وكان في مذهبه غلو وارتفاع، وكان قوياً في الأدب واللغة روى عنه الخطابي في غريب الحديث، وكان سمع من سعد بن عبد الله بن بطة , ومات قبل الثلاثين والثلاث مئة).
وقد يكون سبب قولهم إنه مغالٍ أنه فضل الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) على الملائكة فقد ألف كتاباً في ذلك، واستدل عليه بالعقل والأحاديث، وعقد الصدوق باباً اقتبس فيه من كلامه في ذلك، وترحم عليه، رحمهما الله.
قال في علل الشرائع(1/20): (باب ما ذكره محمد بن الشيباني المعروف بالرهني (رحمه الله) في كتابه: من قول من فضلوا الأنبياء والرسل والأئمة والحجج صلوات الله عليهم أجمعين على الملائكة).
وذكر في الذريعة عدداً من كتبه وهي تدل على جلالته، مثلاً (17/160): (القلايد: في الكلام على مسائل الخلاف التي بيننا وبين المخالفين، للشيخ أبي الحسين محمد بن بحر الرهني الشيباني.. وهو شيخ أبي العباس بن نوح، الذي هو شيخ النجاشي). وهذا كاف في توثيق ابن بحر (رحمه الله).
آخر حجة حجها أحمد بن إسحاق (رحمه الله)
وفي رجال الكشي(2/831): (كتب الى الحسين بن روح القمي يستأذنه في الحج، فانصرف من الحج، فمات بحلوان.. كتب محمد بن أحمد بن الصلت القمي الآبي أبو علي إلى الدار كتاباً ذكر فيه قصة أحمد بن إسحاق القمي وصحبته، وأنه يريد الحج واحتاج إلى ألف دينار، فإن رأى سيدي أن يأمر باقراضه إياه ويسترجع منه في البلد إذا انصرفنا، فأفعل. فوقع (عليه السلام): هي له مِنَّا صلة، وإذا رجع فله عندنا سواها، وكان أحمد لضعفه لايطمع نفسه في أن يبلغ الكوفة. وفي هذه من الدلالة).
أقول: يظهر من مجموع النصوص أن سعد بن عبد الله بن أبي خلف (رحمه الله)، كان مع أحمد في هذه السفرة أيضاً، وروى وفاته وإرسال الإمام المهدي (عليه السلام) كافوراً خادمه وخادم أبيه لتكفينه وتجهيزه، فخلط بعض الرواة بين السفرتين، وجعل قول الحسين بن روح (رحمه الله) قول الإمام العسكري (عليه السلام).
ما رواه أحمد بن إسحاق في الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)
1. في كمال الدين/433: (حدثنا أحمد بن الحسن بن إسحاق القمي قال: لما ولد الخلف الصالح (عليه السلام) ورد عن مولانا أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) إلى جدي أحمد بن إسحاق كتاب فإذا فيه مكتوب بخط يده (عليه السلام) الذي كان ترد به التوقيعات عليه، وفيه ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً، وعن جميع الناس مكتوماً، فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته، والولي لولايته، أحببنا إعلامك ليسرك الله به، مثلما سرنا به. والسلام).
2. روى الطبري في إثبات الوصية/217: (عن أحمد بن إسحاق قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) فقال لي: يا أحمد ما كان حالكم فيما كان الناس فيه من الشك والإرتياب؟ قلت يا سيدي لما ورد الكتاب بخبر سيدنا ومولده، لم يبق منا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلا قال بالحق. فقال: أما علمتم أن الأرض لا تخلو من حجة الله.
ثم أمر أبو محمد (عليه السلام) والدته بالحج في سنة تسع وخمسين ومأتين، وعرفها ما يناله في سنة الستين، وأحضر الصاحب (عليه السلام) فأوصى إليه وسلم الإسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه، وخرجت أم أبي محمد مع الصاحب (عليه السلام) جميعاً إلى مكة).
أقول: معناه أن الإمام العسكري (عليه السلام) كتب الى أحمد بن إسحاق يخبره بولادة ابنه المهدي (عليه السلام) فأخبر الناس بولادته (عليه السلام) وآمنوا بأنه الإمام الثاني عشر الموعود. ثم سأل الإمام ابن إسحاق عن موقف أهل قم من رسالته فأخبره
أنهم لما وصلت الرسالة قبلوها وقالوا بالحق وإمامة الثاني عشر (عليه السلام). فذكرهم الإمام (عليه السلام) بقاعدة: لا تخلو الأرض من حجة لله تعالى.
ثم ذكر الراوي أن الإمام العسكري (عليه السلام) كان يهيء أسرته لفقده في سنة مئتين وستين، فأحضر والدته وأخبرها بما يجري، وأمرها أن تكون في المدينة، فإذا توفي جاءت الى سامراء وأظهرت وصيته لقاضي القضاة.
وقد رواه في عيون المعجزات/126، عن أحمد بن مصقلة، بدل ابن إسحاق.
3. في كمال الدين/408: (عن أحمد بن إسحاق بن سعد قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) يقول: الحمد لله الذي لم يُخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خَلْقاً وخُلُقاً، ويحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته، ثم يظهره فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً).
4. في كمال الدين/:385 (عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) وأنا أريد أن أسأله عن الخلف بعد ه، فقال لي مبتدئاً:يا أحمد بن إسحاق إن الله تبارك وتعالى لم يُخْلِ الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام)، ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض. قال فقلت له:يا ابن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت، ثم خرج وعلى عاتقه غلامٌ كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال: يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حججه، ما عرضت
عليك ابني هذا، إنه سمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكَنِيُّهُ، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. يا أحمد بن إسحاق مَثَلُهُ في هذه الأمة مثلُ الخضر (عليه السلام)، ومثله مثل ذي القرنين. والله ليغيبن غيبةً لاينجو فيها من الهلكة إلا من ثبته الله (عزَّ وجلَّ) على القول بإمامته، ووفقه للدعاء بتعجيل فرجه.
فقال أحمد بن إسحاق فقلت له: يا مولاي فهل من علامة يطمئن إليها قلبي؟ فنطق الغلام (عليه السلام) بلسان عربي فصيح فقال: أنا بقية الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق!
فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً. فلما كان من الغد عدت إليه فقلت له: يا ابن رسول الله لقد عظم سروري بما مننت عليَّ فما السُّنَّةُ الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟ فقال: طول الغيبة يا أحمد. قلت: يا ابن رسول الله وإن غيبته لتطول؟ قال: إي وربي حتى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به، ولا يبقى إلا من أخذ الله (عزَّ وجلَّ) عهده لولايتنا وكتب في قلبه الإيمان وأيده بروح منه. يا أحمد بن إسحاق: هذا أمرٌ من أمر الله، وسرٌّ من سر الله، وغيبٌ من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين، تكن معنا غداً في عليين).
5. قال السيد ابن طاووس في فرج المهموم/:37 (فصلٌ فيما نذكره من دلالة النجوم على مولانا المهدي بن الحسن العسكري صلوات الله عليهما، ذكرها بعض أصحابنا في كتاب الأوصياء، وهو كتاب معتمد عند
الأولياء، وجدته في أصل عتيق لعله كتب في زمان مصنفه وقد درس تاريخه، فيه دلالات الأئمة وولادة المهدي صلوات الله عليهم، رواه الحسن بن جعفر الصيمري ومؤلفه علي بن محمد بن زياد الصيمري وكانت له مكاتبات إلى الهادي والعسكري وجوابهما إليه، وهو ثقة معتمد عليه، فقال ما هذا لفظه: حدثني أبو جعفر القمي ابن أخي أحمد بن إسحاق بن مصقلة، أنه كان بقم منجم يهودي وكان موصوفاً بالحذق في الحساب، فأحضره أحمد بن إسحاق وقال له: قد ولد مولودٌ في وقت كذا وكذا، فخذ الطالع واعمل له ميلاداً، فأخذ الطالع ونظر فيه وعمل عملاً له، فقال لأحمد: لست أرى النجوم تدلني على شيء لك من هذا المولود بوجه الحساب! إن هذا المولود ليس لك ولا يكون مثل هذا المولود إلا لنبي أو وصي نبي! وإن النظر فيه يدلني على أنه يملك الدنيا شرقاً وغرباً وبراً وبحراً وسهلاً وجبلاً، حتى لا يبقى على وجه الأرض أحد إلا دان له، وقال بولايته!
يقول علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد الطاوس: وهذا من آيات الله الباهرة، وحججه على من عرفه بالعين الباصرة (العقل) فإن أحمد بن إسحاق ستر المولود على المنجم المذكور، فدله الله جل جلاله بدلالة النجوم على ما جعل فيه من السر المستور. وقد كنت أشرت إلى قدامة بن الأحنف البصري المنجم ليحقق طالع ولادة المهدي صلوات الله عليه، ولم أكن وقفت على هذا الحديث المشار إليه، فذكر أنه حقق
طالعه وأحضر زايجته، وكما سبقنا راوي هذا الحديث إليه، فصار ذلك إجماعاً منهما عليه).
6. في كمال الدين/442: (حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري قال: كنت مع أحمد بن إسحاق عند العمري (رضي الله عنه)، فقلت للعمري: إني أسألك عن مسألة كما قال الله (عزَّ وجلَّ) في قصة إبراهيم: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى): هل رأيت صاحبي؟ فقال لي: نعم وله عنق مثل ذي وأومأ بيديه جميعاً إلى عنقه، قال قلت: فالإسم؟ قال: إياك أن تبحث عن هذا، فإن عند القوم أن هذا النسل قد انقطع)!
وفي الكافي (1/330): (عن عبد الله بن جعفر الحميري قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) عند أحمد بن إسحاق فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف فقلت له:يا أبا عمرو إني أريد أن أسألك عن شيء، وما أنا بشاك فيما أريد أن أسألك عنه فإن اعتقادي وديني أن الأرض لا تخلو من حجة إلا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رفعت الحجة، وأغلق باب التوبة فـ: (لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، فأولئك أشرار من خلق الله (عزَّ وجلَّ)، وهم الذين تقوم عليهم القيامة، ولكني أحببت أن أزداد يقيناً وإن إبراهيم (عليه السلام) سأل ربه (عزَّ وجلَّ) أن يريه كيف يحيي الموتى، (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى). وقد أخبرني أبو علي أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته وقلت: من أعامل أو عمن آخذ، وقول من أقبل؟
فقال له:العمري ثقتي فما أدى إليك عني فعني يؤدي، وما قال لك عني فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنه الثقة المأمون. وأخبرني أبو علي أنه سأل أبا محمد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: العمري وابنه ثقتان، فما أديا إليك عني فعني يؤديان وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعمها فإنهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك. قال: فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى ثم قال: سل حاجتك. فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد (عليه السلام)؟ فقال: إي والله ورقبته مثل ذا، وأومأ بيده. فقلت له: فبقيت واحدة فقال لي: هات، قلت: فالإسم؟ قال: محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عند، فليس لي أن أحلل ولا أحرم، ولكن عنه (عليه السلام) فإن الأمر عند السلطان أن أبا محمد مضى ولم يخلف ولداً وقسم ميراثه وأخذه من لا حق له فيه، وهوذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أن يتعرف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الإسم وقع الطلب فاتقوا الله وأمسكوا عن ذلك).
7. روى أحمد بن إسحاق (الكافي:1/328): (عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي محمد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: سل، قلت: يا سيدي هل لك ولد؟ فقال: نعم، فقلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ فقال: بالمدينة).
8. في الكافي (1/518): (عن سعيد بن عبد الله قال: إن الحسن بن النضر وأبا صدام وجماعة، تكلموا بعد مضي أبي محمد (عليه السلام) فيما في أيدي الوكلاء
وأرادوا الفحص، فجاء الحسن بن النضر إلى أبي الصدام فقال: إني أريد الحج، فقال له:أبو صدام أخره هذه السنة، فقال له الحسن بن النضر: إني أفزع في المنام ولابد من الخروج، وأوصى إلى أحمد بن يعلى بن حماد، وأوصى للناحية بمال، وأمره أن لايخرج شيئاً إلا من يده إلى يده بعد ظهور. قال: فقال الحسن: لما وافيت بغداد اكتريت داراً فنزلتها، فجاءني بعض الوكلاء بثياب ودنانير وخلفها عندي، فقلت له ما هذا؟ قال هو ما ترى، ثم جاء ني آخر بمثلها وآخر حتى كبسوا الدار(أي ملؤوها بالبضاعة والأمانات) ثم جاءني أحمد بن إسحاق بجميع ما كان معه، فتعجبت وبقيت متفكراً، فوردت علي رقعة الرجل (أي الإمام المهدي (عليه السلام)): إذا مضى من النهار كذا وكذا فاحمل ما معك، فرحلت وحملت ما معي، وفي الطريق صعلوك يقطع الطريق في ستين رجلاً، فاجتزت عليه وسلمني الله منه، فوافيت العسكر ونزلت، فوردت علي رقعة أن احمل ما معك، فعبيته في صنان (سِلال) الحمالين، فلما بلغت الدهليز إذا فيه أسود قائم فقال: أنت الحسن بن النضر؟ قلت: نعم، قال: أدخل، فدخلت الدار ودخلت بيتاً وفرغت صنان الحمالين، وإذا في زاوية البيت خبز كثير، فأعطى كل واحد من الحمالين رغيفين، وأخرجوا. وإذا بيت عليه ستر فنوديت منه:يا حسن بن النضر أحمد الله على ما من به عليك ولا تشكن، فود الشيطان أنك شككت، وأخرج إلي ثوبين وقيل: خذها فستحتاج
إليهما فأخذتهما وخرجت، قال سعد: فانصرف الحسن بن النضر ومات في شهر رمضان، وكُفن في الثوبين).
9. عَدُّوا أحمد بن إسحاق من الوكلاء الذين تشرفوا برؤية المهدي (عليه السلام) ففي كمال الدين/442: (حدثنا أبو علي الأسدي، عن أبيه، عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي أنه ذكر عدد من انتهى إليه، ممن وقف على معجزات صاحب الزمان (عليه السلام) ورآه من الوكلاء. ببغداد: العمري وابنه، وحاجز، والبلالي، والعطار. ومن الكوفة: العاصمي. ومن أهل الأهواز: محمد بن إبراهيم بن مهزيار. ومن أهل قم: أحمد بن إسحاق. ومن أهل همدان: محمد بن صالح. ومن أهل الري: البسامي والأسدي، يعني نفسه. ومن أهل آذربيجان: القاسم بن العلاء. ومن أهل نيسابور: محمد بن شاذان.
ومن غير الوكلاء من أهل بغداد: أبو القاسم بن أبي حليس، وأبو عبد الله الكندي، وأبو عبد الله الجنيدي، وهارون القزاز، والنيلي، وأبو القاسم بن - دبيس، وأبو عبد الله بن فروخ، ومسرور الطباخ مولى أبي الحسن (عليه السلام)، وأحمد ومحمد ابنا الحسن، وإسحاق الكاتب من بني نيبخت، وصاحب النوَّاء، وصاحب الصرة المختومة.
ومن همدان: محمد بن كشمرد، وجعفر بن حمدان، ومحمد بن هارون بن عمران. ومن الدينور:حسن بن هارون، وأحمد بن أخية وأبو الحسن. ومن إصفهان ابن باذشالة. ومن الصيمرة: زيدان. ومن قم:الحسن بن النضر، ومحمد بن محمد، وعلي بن محمد بن إسحاق، وأبوه، والحسن
بن يعقوب. ومن أهل الري: القاسم بن موسى وابنه، وأبو محمد بن هارون. وصاحب الحصاة، وعلي بن محمد، ومحمد بن محمد الكليني، وأبو جعفر الرفاء. ومن قزوين: مرداس، وعلي بن أحمد. ومن فاقتر: رجلان. ومن شهرزور: ابن الخال. ومن فارس: المحروج. ومن مرو: صاحب الألف دينار، وصاحب المال والرقعة البيضاء، وأبو ثابت. ومن نيسابور: محمد بن شعيب بن صالح. ومن اليمن: الفضل بن يزيد والحسن ابنه، والجعفري، وابن الأعجمي والشمشاطي. ومن مصر: صاحب المولودين، وصاحب المال بمكة وأبو رجاء. ومن نصيبين: أبو محمد بن الوجناء. ومن الأهواز الحصيني).
10. ورووا رسالة جعفر الكذاب الى أحمد بن إسحاق، وجواب الإمام (عليه السلام) عليها، ففي غيبة الطوسي/290: (عن سعد بن عبد الله الأشعري قال: حدثنا الشيخ الصدوق أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري (رحمه الله) أنه جاءه بعض أصحابنا يعلمه أن جعفر بن علي كتب إليه كتاباً يعرَّفه فيه نفسه، ويعلمه أنه القيِّم بعد أخيه، وأن عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه، وغير ذلك من العلوم كلها.
قال أحمد بن إسحاق: فلما قرأت الكتاب كتبت إلى صاحب الزمان (عليه السلام) وصيرت كتاب جعفر في درجه، فخرج الجواب إليَّ في ذلك:
بسم الله الرحمن الرحيم: أتاني كتابك أبقاك الله، والكتاب الذي أنفذته درجه، وأحاطت معرفتي بجميع ماتضمنه على اختلاف ألفاظه، وتكرر
الخطأ فيه، ولو تدبرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه، والحمد لله رب العالمين حمداً لا شريك له على إحسانه إلينا، وفضله علينا.
أبى الله (عزَّ وجلَّ) للحق إلا إتماماً، وللباطل إلا زهوقاً، وهو شاهد علي بما أذكره، ولي عليكم بما أقوله، إذا اجتمعنا ليوم لا ريب فيه، وسألنا عما نحن فيه مختلفون. إنه لم يجعل لصاحب الكتاب على المكتوب إليه ولا عليك ولا على أحد من الخلق جميعاً إمامةً مفترضة، ولا طاعةً ولا ذمةً، وسأبين لكم جملة تكتفون بها إن شاء الله تعالى.
يا هذا يرحمك الله، إن الله تعالى لم يخلق الخلق عبثاً، ولا أهملهم سدى، بل خلقهم بقدرته، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً وألباباً، ثم بعث إليهم النبيين (عليهم السلام) مبشرين ومنذرين، يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته، ويعرفونهم ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم، وأنزل عليهم كتاباً، وبعث إليهم ملائكة يأتين بينهم وبين من بعثهم إليهم بالفضل الذي جعله لهم عليهم، وما آتاهم من الدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة، والآيات الغالبة. فمنهم من جعل النار عليه برداً وسلاماً واتخذه خليلاً، ومنهم من كلمه تكليماً وجعل عصاه ثعباناً مبيناً، ومنهم من أحيا الموتى بإذن الله، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، ومنهم من علمه منطق الطير وأوتي من كل شيء.
ثم بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة للعالمين، وتمم به نعمته، وختم به أنبياءه وأرسله إلى الناس كافة، وأظهر من صدقه ما أظهر، وبين من آياته
وعلاماته ما بين. ثم قبضه (صلى الله عليه وآله وسلم) حميداً فقيداً سعيداً، وجعل الأمر من بعده إلى أخيه وابن عمه ووصيه ووارثه علي بن أبي طالب (عليه السلام) ثم إلى الأوصياء من ولده واحداً واحداً، أحيا بهم دينه، وأتم بهم نوره، وجعل بينهم وبين إخوانهم وبني عمهم والأدنين فالأدنين من ذوي أرحامهم، فرقاناً بيِّناً يعرف به الحجة من المحجوج والإمام من المأموم، بأن عصمهم من الذنوب، وبرأهم من العيوب، وطهرهم من الدنس، ونزههم من اللبس، وجعلهم خزان علمه، ومستودع حكمته، وموضع سره، وأيدهم بالدلائل. ولولا ذلك لكان الناس على سواء، ولادَّعى أمر الله (عزَّ وجلَّ) كل أحد، ولما عُرف الحق من الباطل، ولا العالم من الجاهل.
وقد ادعى هذا المبطل المفتري على الله الكذب بما ادعاه، فلا أدري بأية حالة هي له رجاء أن يتم دعواه، أبفقه في دين الله، فوالله ما يعرف حلالاً من حرام، ولا يفرق بين خطأ وصواب! أم بعلمٍ، فما يعلم حقاً من باطل، ولا محكماً من متشابه، ولا يعرف حد الصلاة ووقتها!
أم بورعٍ، فالله شهيد على تركه الصلاة الفرض أربعين يوماً، يزعم ذلك لطلب الشعوذة، ولعل خبره قد تأدى إليكم، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة، وآثار عصيانه لله (عزَّ وجلَّ) مشهورة قائمة!
أم بآية فليأت بها، أم بحجة فليقمها، أو بدلالة فليذكرها. قالالله (عزَّ وجلَّ) في كتابه: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. (حَم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ
كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِنْ دُونِ اللَّه مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ). (الأحقاف:1-6).
فالتمس تولى الله توفيقك من هذا الظالم ما ذكرت لك، وامتحنه وسله عن آية من كتاب الله يفسرها، أو صلاة فريضة يبين حدودها وما يجب فيها، لتعلم حاله ومقداره، ويظهر لك عواره ونقصانه، والله حسيبه!
حفظ الله الحق على أهله، وأقره في مستقره. وقد أبى الله (عزَّ وجلَّ) أن تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام).
وإذا أذن الله لنا في القول ظهر الحق، واضمحل الباطل، وانحسر عنكم، وإلى الله أرغب في الكفاية، وجميل الصنع والولاية، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصلى الله على محمد وآل محمد).
11. ورويَ عنه عدة روايات في الإمام المهدي (عليه السلام) يعد ظهوره، ففي كامل الزيارات/233، روى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (كأني بالقائم على نجف الكوفة وقد لبس درع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فينتفض هو بها فتستدير عليه، فيُغَشِّيها بخداجة من إستبرق، ويركب فرساً أدهم بين عينيه شمراخ، فينتفض به انتفاضةً لا يبقى أهل بلد إلا وهم يرون أنه معهم في بلادهم! فينشر راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، عمودها من عمود العرش وسائرها من نصر الله، لا يهوي بها إلى شيء أبداً إلا هتكه الله. فإذا هزها
لم يبق مؤمن إلا صار قلبه كزبر الحديد، ويعطى المؤمن قوة أربعين رجلاً، ولا يبقى مؤمن إلا دخلت عليه تلك الفرحة في قبره، وذلك حين يتزاورون في قبورهم ويتباشرون بقيام القائم، فينحط عليه ثلاثة عشر ألف ملك، وثلاث مائة وثلاث عشر ملكاً.
قلت: كل هؤلاء الملائكة، قال: نعم الذين كانوا مع نوح في السفينة، والذين كانوا مع إبراهيم حين ألقي في النار، والذين كانوا مع موسى حين فلق البحر لبني إسرائيل، والذين كانوا مع عيسى حين رفعه الله إليه، وأربعة آلاف ملك مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مسومين، وألف مردفين، وثلاث مائة وثلاثة عشر ملائكة بدريين، وأربعة آلاف ملك هبطوا يريدون القتال مع الحسين (عليه السلام) فلم يؤذن لهم في القتال، فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، ورئيسهم ملك يقال له منصور، فلا يزوره زائر إلا استقبلوه ولا يودعه مودع إلا شيعوه، ولا يمرض مريض إلا عادوه، ولا يموت ميت إلا صلوا على جنازته، واستغفروا له بعد موته. وكل هؤلاء في الأرض، ينتظرون قيام القائم (عليه السلام) إلى وقت خروجه).
نماذج مما رواه أحمد بن إسحاق (رحمه الله) في العقائد
1. ردَّ الإمام (عليه السلام) ما نسبه المجسمة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من رؤية الله تعالى بالعين. قال أحمد بن إسحاق: (كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس فكتب:لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواءٌ ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية، وكان في ذلك الإشتباه، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الإشتباه، وكان ذلك التشبيه. لأن الأسباب لابد من اتصالها بالمسببات). (الكافي:1/97).
2. وفي الكافي(2/267): (عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أصول الكفر ثلاثة: الحرص، والإستكبار، والحسد، فأما الحرص فان آدم (عليه السلام) حين نهي عن الشجرة، حمله الحرص على أن أكل منها. وأما الاستكبار فإبليس حيث أمر بالسجود لآدم فأبى، وأما الحسد فابنا آدم حيث قتل أحدهما صاحبه).
3. وفي الكافي (2/400): (عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الشك والمعصية في النار، ليسا منا ولا إلينا).
4. وروى عنه في الكافي(1/33) أن معاوية بن عمار سأل الإمام الصادق (عليه السلام): (رجلٌ راويةٌ لحديثكم يبث ذلك في الناس ويشدبه قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية، أيهما أفضل؟ قال: الرواية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد).
5. روى في أمالي الطوسي/ 135: (عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: سمعته يقول لخيثمة: يا خيثمة أقرئ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يشهد أحياؤهم جنائز موتاهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإن لقياهم حياة أمرنا. قال: ثم رفع يده (عليه السلام) فقال: رحم الله من أحيا أمرنا).
6. وفي قرب الإسناد/39: (عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال للفضيل: تجلسون وتتحدثون؟ فقال: نعم، فقال: إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا، يا فضيل من ذَكَرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر).
7. في اليقين للسيد ابن طاووس/499 (حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن الضحاك، حدثنا محمد بن ضريس، قال: حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول (صلى الله عليه وآله وسلم): عليٌّ يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين).
8. وفي أمالي الصدوق/188: (قال (صلى الله عليه وآله وسلم): معاشر الناس، إن علياً مني وأنا من علي، خُلق من طينتي، وهو إمام الخلق بعدي، يبين لهم ما اختلفوا فيه من سنتي، وهو أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين ويعسوب المؤمنين، وخير الوصيين، وزوج سيدة نساء العالمين، وأبو الأئمة المهديين.
معاشر الناس: من أحب علياً أحببته، ومن أبغض علياً أبغضته ومن وصل علياً وصلته، ومن قطع علياً قطعته، ومن جفا علياً جفوته، ومن والى علياً واليته، ومن عادى علياً عاديته.
معاشر الناس: أنا مدينة الحكمة وعلي بن أبي طالب بابها، ولن تؤتى المدينة إلا من قبل الباب، وكذب من زعم أنه يحبني ويبغض علياً. معاشر الناس: والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية، ما نصبت علياً عَلَماً لأمتي في الأرض حتى نَوَّهَ الله باسمه في سماواته، وأوجب ولايته على ملائكته).
9. وروى في الكافي (1/143): (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): (وَللَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)، قال: نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا).
10. وفي الكافي (1/449): (عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد الأزدي، عن إسحاق بن جعفر، عن أبيه (عليه السلام) قال: قيل له: إنهم يزعمون أن أبا طالب كان كافراً؟ فقال: كذبوا كيف يكون كافراً وهو يقول:
ألم تعلموا أنَّا وجدنا محمداً * * * نبياً كموسى خُطَّ في أولِ الكُتْبِ
وفي حديث آخر: كيف يكون أبو طالب كافراً وهو يقول:
لقد علموا أن ابننا لا مكذبٌ * * * لدينا ولا يُعبَى بقيل الأباطل
وأبيضُ يستسقى الغمامُ بوجههِ * * * ثِمَالُ اليتامى عِصْمَةٌ للأرامل
11. وفي الخصال للصدوق/ 430: (عن أحمد بن إسحاق بن سعد، عن بكر بن محمد الأزدي، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): كان لي من رسول الله عشرٌ ما يسرني بالواحدة منهن ما طلعت عليه الشمس: قال: أنت أخي في الدنيا والآخرة، وأنت أقرب الناس مني موقفاً يوم القيامة، ومنزلك تجاه منزلي في الجنة كما يتواجه الإخوان في الله، وأنت صاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وأنت وصيي ووارثي وخليفتي في الأهل والمال والمسلمين في كل غيبة، شفاعتك شفاعتي، ووليك وليي ووليي ولي الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله).
روايته عيد الزهراء (عليها السلام)
المشهور بين جمهور الشيعة أن التاسع من ربيع الأول هو يوم عيدٍ وفرحة ويسمونه عيد الزهراء وفرحة الزهراء (عليها السلام). وقيل إن سبب تسميته بذلك ونسبته الى الزهرء (عليها السلام): أنه يوم هلاك عمر بن سعد قاتل ابنها الحسين (عليهما السلام) وقيل إنه يوم هلاك عمر بن الخطاب، لكن اتفق المؤرخون على أن عمر ابن الخطاب مات في آخر ذي الحجة، وليس في ربيع الأول.
وعمدة ما استدل به المثبتون لعيد الزهراء (عليها السلام) روايةٌ رواها الطبري الشيعي في دلائل الإمامة عن أحمد بن إسحاق الأشعري القمي (رحمه الله) ولا توجد في نسختها المطبوعة، لكن ينقلها عنها السيد نعمة الله الجزائري وننقلها من كتاب المحتضر للحسن بن سليمان الحلي/89، قال: (ما نقله
الشيخ الفاضل علي بن مظاهر الواسطي، عن محمد بن العلا الهمداني الواسطي، ويحيى بن جريح البغدادي قال: تنازعنا في أمر ابن الخطاب فاشتبه علينا أمره، فقصدنا جميعاً أحمد بن إسحاق القمي صاحب العسكري (عليه السلام) بمدينة قم، وقرعنا عليه الباب فخرجت إلينا من داره صبية عراقية، فسألناها عنه فقالت: هو مشغول بعياله فإنه يوم عيد! فقلنا: سبحان الله! الأعياد عند الشيعة أربعة: الأضحى والفطر ويوم الغدير ويوم الجمعة. قالت: فإن أحمد يروي عن سيده أبي الحسن علي بن محمد العسكري (عليهما السلام) أن هذا اليوم يوم عيد، وهو أفضل الأعياد عند أهل البيت وعند مواليهم. قلنا: فاستأذني لنا بالدخول عليه وعرفيه بمكاننا، فدخلت عليه وأخبرته بمكاننا فخرج إلينا وهو متزر بمئزر له، محتضن لكسائه يمسح وجهه، فأنكرنا ذلك عليه، فقال: لا عليكما فإني كنت اغتسلت للعيد. قلنا: أو هذا يوم عيد؟ وكان ذلك اليوم التاسع من شهر ربيع الأول. قال: نعم، ثم أدخلنا داره وأجلسنا على سرير له وقال: إني قصدت مولانا أبا الحسن العسكري (عليه السلام) مع جماعة من إخوتي بسرَّ من رأى كما قصدتماني، فأستأذنا بالدخول عليه في هذا اليوم وهو اليوم التاسع من شهر ربيع الأول، وسيدنا قد أوعز إلى كل واحد من خدمه أن يلبس ماله من الثياب الجدد، وكان بين يديه مجمرة وهو يحرق العود بنفسه. قلنا: بآبائنا أنت وأُمهاتنا يا ابن رسول الله هل تجدد لأهل البيت فرح؟ فقال: وأي يوم أعظم حرمة عند أهل البيت من هذا اليوم،
ولقد حدثني أبي أن حذيفة بن اليمان دخل في مثل هذا اليوم وهو اليوم التاسع من شهر ربيع الأول على جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فرأيت سيدي أمير المؤمنين مع ولديه الحسن والحسين (عليهما السلام) يأكلون مع رسول الله ورسول الله يتبسم في وجوههم ويقول لولديه الحسن والحسين: كُلا هنيئاً لكما ببركة هذا اليوم الذي يقبض الله فيه عدوه وعدو جدكما ويستجيب فيه دعاء أُمكما...الى آخر الرواية، وفي آخرها: قال محمد بن العلا الهمداني ويحيى بن جريح: فقام كل واحد منا وقبل رأس أحمد بن إسحاق بن سعيد القمي، وقلنا له: الحمد لله الذي قيضك لنا حتى شرفتنا بفضل هذا اليوم، ثم رجعنا عنه وتعيدنا في ذلك اليوم).
ويشكل بعضهم على الرواية بأن رواتها: علي بن مظاهر الواسطي ومحمد بن العلا الهمداني الواسطي، ويحيى بن جريح البغدادي، وهم مجهولون، لم يذكرهم علماء الجرح والتعديل بتوثيق أو غيره.
لكن فقهاءنا أفتوا باستحباب غسل يوم التاسع من ربيع. قال في جواهر الكلام (5/ 44): (وأما الغسل للتاسع من ربيع الأول فقد حكي أنه من فعل أحمد بن إسحاق القمي معللاً له بأنه يوم عيد، لما روي ما اتفق فيه من الأمر العظيم الذي يسرُّ المؤمنين ويكيد المنافقين، لكن قال في المصابيح: إن المشهور بين علمائنا وعلماء الجمهور أن ذلك واقع في السادس والعشرين من ذي الحجة، وقيل في السابع والعشرين منه. قلت: لكن المعروف الآن بين الشيعة إنما هو يوم تاسع ربيع، وقد عثرت على خبر مسنداً إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل هذا اليوم وشرفه وبركته وأنه يوم
سرور لهم (عليه السلام) ما يحير فيه الذهن، وهو طويل، وفيه تصريح باتفاق ذلك الأمر فيه، فلعلنا نقول باستحباب الغسل فيه بناء على استحبابه لمثل هذه الأزمنة، وسيما مع كونه عيداً لنا وأئمتنا (عليهم السلام)).
وقال الشيخ الأنصاري (قدس سره) في كتاب الطهارة (3/: (61 (منها: الغسل للتاسع من ربيع الأول، حكاه المجلسي في زاد المعاد من فعل أحمد بن إسحاق القمي، معلَّلًا بأنّه يوم عيد، لكن المحكي عن المشهور بين علمائنا وعلماء الجمهور أن سبب هذا العيد اتفق في السادس والعشرين من شهر ذي الحجة، وقيل السابع والعشرين. وكيف كان فلم يسند أحمد بن إسحاق الغسل إلَّا إلى كونه عيداً من الأعياد، ولعل هذا المقدار يكفي للإستحباب، بناءً على احتمال أن يكون فتواه عن رواية عامة لجميع الأعياد).
نماذج من مروياته في الفقه والآداب
1. في الكافي (3/72): (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الطهر على الطهر عشر حسنات).
2. وفي الكافي (3/274): (عن بكر بن محمد الأزدي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لفضل الوقت الأول على الأخير خير للرجل من ولده وماله).
3. وروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (ما زار مسلم أخاه في الله، إلا ناداه الله (عزَّ وجلَّ):أيها الزائر طبت وطابت لك الجنة). (ثواب الأعمال/185).
4. وفي الكافي (2/194): (عن أحمد بن إسحاق عن سعدان بن مسلم، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال: من طاف بهذا البيت طوافاً واحداً كتب الله (عزَّ وجلَّ) له ستة آلاف حسنة، ومحا عنه ستة آلاف سيئة، ورفع الله له ستة آلاف درجة، حتى إذا كان عند الملتزم فتح الله له سبعة أبواب من أبواب الجنة. قلت له: جعلت فداك هذا الفضل كله في الطواف؟ قال: نعم وأخبرك بأفضل من ذلك، قضاء حاجة المسلم أفضل من طواف وطواف وطواف، حتى بلغ عشراً).
5. وروى عن عبد الله بن سنان (الكافي:2/192) أن الإمام الصادق (عليه السلام) قرأ هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِيناً). فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فما ثواب من أدخل عليه السرور فقلت: جعلت فداك عشر حسنات فقال: إي والله وألف ألف حسنة).
6. في الكافي(2/178): (عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما زار مسلم أخاه المسلم في الله ولله إلا ناداه الله (عزَّ وجلَّ) أيها الزائر طبت وطابت لك الجنة).
7. في الكافي(2/183): (عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله (عزَّ وجلَّ) لا يقدر أحد قدره، وكذلك لايقدر قدر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك لا يقدر قدر المؤمن، إنه ليلقى أخاه فيصافحه فينظر الله إليهما والذنوب تتحات عن وجوههما حتى يفترقا، كما تتحات الريح الشديدة الورق عن الشجر).
8. في الكافي (2/624): (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن أبي بصير وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال: من إجلال الله (عزَّ وجلَّ) إجلال ذي الشيبة المسلم).
9. في الكافي (3/174): (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن سليمان بن خالد، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أخذ بقائمة السرير غفر الله له خمساً وعشرين كبيرة، وإذا ربَّع خرج من الذنوب).
10. في الكافي (3/205): (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ينبغي لصاحب المصيبة أن لا يلبس رداء، وأن يكون في قميص حتى يُعرف).
11. في الكافي (3/217): (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ينبغي لجيران صاحب المصيبة أن يطعموا الطعام ثلاثة أيام).
12. في الكافي(2/142): (عنه.. عن الإمام الصاق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله (عزَّ وجلَّ):إن من أغبط أوليائي عندي عبداً مؤمناً ذا حظ من صلاح، أحسن عبادة ربه، وعبد الله في السريرة، وكان غامضاً في الناس، فلم يشر إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبر عليه فعجلت به المنية، فقل تراثه وقلت بواكيه).
13. في الكافي (5/54): (عنه.. عن الإمام الصاق (عليه السلام) قال: من قتل في سبيل الله لم يعرفه الله شيئاً من سيئاته).
14. في الكافي:5/526): (عنه..عن الإمام الصاق (عليه السلام) قال: أتدري كيف بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النساء؟ قلت: الله أعلم وابن رسوله أعلم، قال: جمعهن حوله ثم دعا بتور برام (سطل) فصب فيه نضوحاً، ثم غمس يده فيه، ثم قال: إسمعن يا هؤلاء أبايعكن على أن لاتشركن بالله شيئاً، ولا تسرقن ولا تزنين ولاتقتلن أولادكن ولاتأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ولاتعصين بعولتكن في معروف، أقررتن؟ قلن: نعم. فأخرج يده من التور، ثم قال لهن:إغمسن أيديكن، ففعلن فكانت يد رسول الله الطاهرة (صلى الله عليه وآله وسلم) أطيب من أن يمس بها كف أنثى ليست له بمَحْرَم).
15. في الكافي(2/267): (عنه.. عن الإمام الصاق (عليه السلام) قال: إن للقلب أذنين، فإذا همَّ العبد بذنب قال له روح الإيمان: لا تفعل، وقال له الشيطان: إفعل، وإذا كان على بطنها نزع منه روح الإيمان).
16. في الكافي (7/297): (عن عبد الله بن عامر قال: سمعته يقول: وقد تجارينا ذكر الصعاليك فقال عبد الله بن عامر: حدثني هذا وأومأ إلى أحمد بن إسحاق أنه كتب إلى أبي محمد (عليه السلام) يسأل عنهم فكتب إليه: أقتلهم).
والمقصود بهم السراق الذين يأتي الواحد منهم على شكل صعلوك مستعطٍ، ويسرق أو يتحين الفرصة ليسرق!
17. وروى عنه في التهذيب (7/ (259 عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (ذكر له المتعة أهي من الأربع؟قال: تزوج منهن ألفاً، فإنهن مستأجرات).
18. في الكافي:5/521): (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)؟ قال: الخاتم والمِسكة وهي القُلْبُ).
والقُلْبُ هو السوار وهو من الزينة الظاهرة.
19. وروى أن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الطيب يشد القلب). (الكافي:6/510).
20. وفي الكافي (6/ 305):) عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: السويق ينبت اللحم ويشد العظم).
والسويق يقال لكل مقلي مطحون، من البر والعدس والحمص، وغيرها.
21. وروى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إكنسوا أفنيتكم، ولا تشبهوا باليهود). (الكافي:6/531). وهو يدل على أن ما نراه من وسخ بيوت اليهود قديم!
22. وفي مفتاح الفلاح للبهائي/219: (ينبغي أن يكون اضطجاعك على جانبك الأيمن، فإنه نوم المؤمنين كما رواه ثقة الإسلام في الكافي بسند صحيح، عن أحمد بن إسحاق قال: قلت لأبي محمد يعني الحسن العسكري (عليه السلام): جعلت فداك إني مغتم لشيء يصيبني في نفسي، وقد أردت أن أسأل أباك (عليه السلام) عنه فلم يُقض لي ذلك. فقال: وما هو يا أحمد؟ فقلت: روي لنا عن آبائك (عليهم السلام) أن نوم الأنبياء على أقفيتهم، ونوم المؤمنين على أيمانهم، ونوم المنافقين على شمائلهم، ونوم الشياطين على وجوههم. فقال (عليه السلام):كذلك هو، فقلت: يا سيدي، فإني أجهد أن أنام على يميني فما يمكنني ولا يأخذني النوم عليها!
فسكت ساعة فقال: يا أحمد أدنُ مني، فدنوت منه فقال: أدخل يدك تحت ثيابك فأدخلتها، فأخرج يده من تحت ثيابه فمسح بيده اليمنى على جانبي الأيسر، وبيده اليسرى على جانبي الأيمن ثلاث مرات.
فقال أحمد: فما أقدر أن أنام على يساري منذ فعل بي ذلك، ولا يأخذني عليها نومٌ أصلاً).
من رواياته حول الدعاء
1. في الكافي(2/477): (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند زوال الشمس فإذا أراد ذلك قدم شيئاًفتصدق به وشم شيئاً من طيب، وراح إلى المسجد ودعا في حاجته بما شاء الله).
2. في الكافي(2/491): (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان بن مسلم، عن إسحاق ابن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن ليدعو الله (عزَّ وجلَّ) في حاجته فيقول الله (عزَّ وجلَّ) أخروا إجابته، شوقاً إلى صوته ودعائه، فإذا كان يوم القيامة قال الله (عزَّ وجلَّ): عبدي، دعوتني فأخرت إجابتك وثوابك كذا وكذا، ودعوتني في كذا وكذا، فأخرت إجابتك وثوابك كذا وكذا، قال: فيتمنى المؤمن أنه لم يستجب له دعوة في الدنيا، مما يرى من حسن الثواب).
3. في الكافي (2/534): (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان، عن داود الرقي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تَدَعْ أن تدعو بهذا الدعاء ثلاث مرات إذا أصبحت وثلاث مرات إذا أمسيت: اللهم اجعلني في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد. فإن أبي (عليه السلام) كان يقول: هذا من الدعاء المخزون).
4. في الكافي(2/535): (عن أحمد بن إسحاق، جميعاً عن بكر بن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال حين يأخذ مضجعه ثلاث مرات:الحمد لله الذي علا فقهر، والحمد لله الذي بطن فخبر، والحمد لله الذي ملك فقدر، والحمد لله الذي يحيي الموتى ويميت الأحياء، وهو على كل شيء قدير. خرج من الذنوب كهيئة يوم ولدته أمه).
5. في الكافي (2/549) لرفع الغم: (عن أحمد بن إسحاق، عن سعدان، عن سعيد بن يسار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا صليت المغرب فأمرَّ يدك على جبهتك وقل: بسم الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم اللهم أذهب عني الهم والغم والحزن. ثلاث مرات).
6. وفي قرب الإسناد/40: (عن أحمد بن إسحاق، عن بكر بن محمد قال: خرجت أطوف وأنا إلى جنب أبي عبد الله (الصادق (عليه السلام)) حتى فرغ من طوافه، ثم مال فصلى ركعتين مع ركن البيت والحجر، فسمعته يقول ساجداً: سجد وجهي لك تعبداً ورقاً، ولا إله إلا أنت حقاً حقاً، الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء. وها أنا ذا بين يديك ناصيتي بيدك، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنب العظيم غيرك، فاغفر لي فإني مقر بذنوبي على نفسي، ولا يدفع الذنب العظيم غيرك. ثم رفع رأسه، ووجهه من البكاء كأنما غمس في الماء).
7. وفي الكافي (2/624): (عنه..عن أبي عبد الله (عليه السلام) في العوذة قال: تأخذ قُلَّةً جديدةً فتجعل فيها ماء ثم تقرأ عليها إنا أنزلناه في ليلة القدر ثلاثين مرة ثم تعلق وتشرب منها وتتوضأ، ويزداد فيها ماء، إن شاء الله).
8. وفي الكافي:3/488): (عنه.. عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: شرف المؤمن صلاته بالليل وعز المؤمن كفه عن أعراض الناس).
9. ورويَ عنه (الكافي:4/74) دعاء أيام شهر رمضان، وفي (الكافي:4/95) دعاء كل ليلة من شهر رمضان، وفي(الكافي (4/166) دعاء وداع شهر رمضان. وروى عنه كامل الزيارات/385، و390، زيارة الحسين عن الصادق (عليهما السلام).
تعدد إسم أحمد بن إسحاق في الرواة
توجد رواية في كتاب طب الأئمة (عليهم السلام) لابن بسطام النيسابوري/91، عن محمد بن عبد الله الكاتب، عن أحمد بن إسحاق، قال: (كنت كثيراً ما أجالس الرضا (عليه السلام) فقلت يا بن رسول الله ان أبي مبطون منذ ثلاث ليال لا يملك بطنه، فقال: أين أنت من الدواء الجامع قلت: لا أعرفه، قال: هو عند أحمد بن إبراهيم التمار فخذ منه حبة واحدة واسق أباك بماء الآس المطبوخ فإنه يبرأ من ساعته).
والظاهر أنه أحمد بن إسحاق آخر، لأنه كان يجالس الرضا (عليه السلام) والمترجم له توفي في زمن الحسين بن روح بعد الثلاث مئة، وقد رجح النمازي في مستدركاته (1/261) اتحادهما، لكنه بعيد جداً، بينما قال في مستدرك سفينة البحار (5/238): (مات مؤلف طب الأئمة ابن بسطام سنة 403)!
وفي حلية الأولياء (6 /123) حدثنا أحمد بن إسحاق، ثنا عبد الله بن سليمان..
وفي مستدرك الحاكم (4 /482) حدثنا الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه (رضي الله عنه)، أنبأ الحسن بن علي بن زياد.وفي أمالي الطوسي/ 578: (حدثني أحمد بن إسحاق بن العباس).
وكل هؤلاء غير أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري (رحمه الله).
الفصل التاسع: علاقة الإمام العسكري (عليه السلام) بنيسابور
نيسابور عاصمة خراسان
فُتحت نيسابور في خلافة عثمان صلحاً بدون قتال، على يد القائد الأحنف بن قيس رئيس بني تميم، وعبد الله بن عامر بن كريز الأموي، وسرعان ما فاقت مدينة طوس وأصفهان وصارت عاصمة خراسان: قال السمعاني في الأنساب (5/550): (النيسابوري..هذه النسبة إلى نيسابور وهي أحسن مدينة وأجمعها للخيرات بخراسان، والمنتسب إليها جماعة لا يحصون. وقد جمع الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ البيِّع تاريخ علمائها في ثمان مجلدات ضخمة. ذكر أبو علي الغساني الحافظ في كتاب تقييد المهمل قال: قال محمد بن عبد السلام: أخبرنا أبو حاتم سهل بن محمد قال: إنما قيل لها نيسابور لأن سابور مر بها فلما نظر إليها قال: هذه تصلح أن تكون مدينة، فأمر بها، فقُطع قصبها ثم كُبس ثم بُنيت، فقيل لها: نيسابور، والنِّيْ: القصب).
وقد اتخذها بنو طاهر عاصمة خراسان بدل طوس، فكانت مقرهم وكانوا حكام خراسان والمشرق عامة.
قال اليعقوبي في تاريخه (2/494): (توفي طاهر بن عبد الله بن طاهر في رجب سنة 248، وهو ابن أربع وأربعين سنة..فكتب المستعين إلى محمد
بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بولاية خراسان مكان أبيه.. وكان يوم ولي حدث السن).
قال الحموي في معجم البلدان (3/305): (فذكر الحاكم أبو عبد الله بن البيِّع في آخر كتابه في تاريخ نيسابور: أن عبد الله بن طاهر لما قدم نيسابور والياً على خراسان ونزل بها، ضاقت مساكنها من جنده، فنزلوا على الناس في دورهم غصباً، فلقي الناس منهم شدة، فاتفق أن بعض أجناده نزل في دار رجل ولصاحب الدار زوجة حسنة، وكان غيوراً فلزم البيت لا يفارقه غيرةً على زوجته، فقال له الجندي يوماً: إذهب واسق فرسي ماء، فلم يجسر على خلافه ولا استطاع مفارقة أهله، فقال لزوجته: إذهبي أنت واسقي فرسه لأحفظ أنا أمتعتنا في المنزل، فمضت المرأة وكانت وضيئة حسنة، واتفق ركوب عبد الله بن طاهر فرأى المرأة فاستحسنها وعجب من تبذلها فاستدعى بها وقال لها: صورتك وهيئتك لا يليق بهما أن تقودي فرساً وتسقيه، فما خبرك؟ فقالت: هذا فعل عبد الله بن طاهر بنا قاتله الله! ثم أخبرته الخبر، فغضب وحوقل وقال: لقد لقي منك يا عبد الله أهل نيسابور شراً، ثم أمر العرفاء أن ينادوا في عسكره من بات بنيسابور حل ماله ودمه، وسار إلى الشاذياخ وبنى فيه داراً له وأمر الجند ببناء الدور حوله، فعمرت وصارت محلة كبيرة، واتصلت بالمدينة فصارت من جملة محالها. ثم بنى أهلها بها دوراً وقصوراً. هذا معنى قول الحاكم، فإنني كتبت من حفظي إذ لم يحضرني أصله).
وقد سكن العرب في نيسابور، قال اليعقوبي في البلدان (1/96): (وأهلها أخلاط من العرب والعجم، وشربها من العيون والأودية، وخراجها يبلغ أربعة آلاف ألف درهم). أي: ضرائبها السنوية أربعة ملايين درهم.
ونصوا على الأصل العربي لعدد من عوائلها كالقشيري من هوازن، والحاكم الحسكاني من أولاد الصحابي بريدة الأسلمي (رحمه الله). وقالوا إن الجوينيين من بني سنبس (النجوم الزاهرة:5/42) واتفقوا على أن عائلة شاذان أزدية.
وفي كتاب توجيه النظر لطاهر بن صالح/455: (بريدة بن حصيب الأسلمي مدفون بمرو، وأبو برزة الأسلمي عبد الله بن خازم الأسلمي مدفون بنيسابور، برستاق جوين).
والى يومنا هذا، أي بعد ألف وأربع مئة سنة من فتح نيسابور، نلاحظ وجود الله اللهجة العربية في مخارج الحروف عند أهلها، في نطقهم الفارسية!
خبر شطيطة النيسابورية (رضي الله عنها)
كان في نيسابور شيعة من القرن الأول كالصحابي بريدة (رضي الله عنه)، وتدل الرواية على كثرتهم في زمن الإمام الصادق وارتباطهم بالأئمة (عليهم السلام) وقد اشتهر خبر شطيطة النيسابورية، ومكانتها الخاصة عند الأئمة (عليهم السلام).
فقد روى ابن حمزة في الثاقب/439: (عن عثمان بن سعيد، عن أبي علي بن راشد قال: اجتمعت العصابة بنيسابور في أيام أبي عبد الله (عليه السلام) فتذاكروا ما هم فيه من الإنتظار للفرج، وقالوا: نحن نحمل في كل سنة إلى مولانا ما يجب علينا، وقد كثرت الكذابة ومن يدعي هذا الأمر، فينبغي لنا أن
نختار رجلاً ثقة نبعثه إلى الإمام ليتعرف لنا الأمر، فاختاروا رجلاً يعرف بأبي جعفر محمد بن إبراهيم النيسابوري، ودفعوا إليه ما وجب عليهم في السنة من مال وثياب، وكانت الدنانير ثلاثين ألف دينار، والدراهم خمسين ألف درهم، والثياب ألفي شقة، وأثواب مقاربات ومرتفعات. وجاءت عجوز من عجائز الشيعة الفاضلات إسمها شطيطة، ومعها درهم صحيح، فيه درهم ودانقان، وشقةٌ من غزلها، خام تساوي أربعة دراهم، وقالت: ما يستحق عليَّ في مالي غير هذا فادفعه إلى مولاي، فقال: يا امرأة أستحي من أبي عبد الله أن أحمل إليه درهماً وشقة بطانة. فقالت: ألا تفعل! إن الله لايستحي من الحق، هذا الذي يستحق، فاحمل يا فلان فلئن ألقى الله (عزَّ وجلَّ) وما له قبلي حق قلَّ أم كثر، أحب إليَّ من أن ألقاه وفي رقبتي لجعفر بن محمد حق!
قال: فَعَوَّجْتُ الدرهم وطرحته في كيس فيه أربع مائة درهم لرجل يعرف بخلف بن موسى اللؤلؤي، وطرحت الشقة في رزمة فيها ثلاثون ثوباً لأخوين بلخيين، يعرفان بابني نوح بن إسماعيل.
وجاءت الشيعة بالجزء الذي فيه المسائل وكان سبعين ورقة! وكل مسألة تحتها بياض، وقد أخذوا كل ورقتين فحزموها بحزائم ثلاثة، وختموا على كل حزام بخاتم وقالوا: تحمل هذا الجزء معك وتمضي إلى الإمام فتدفع الجزء إليه وتبيته عنده ليلة وعد عليه وخذه منه، فإن وجدت الخاتم بحاله لم يكسر ولم يتشعب فاكسر منها ختمه وانظر
الجواب، فإن أجاب ولم يكسر الخواتيم فهو الإمام فادفعه إليه، وإلا فرد أموالنا علينا.
قال أبو جعفر: فسرت حتى وصلت إلى الكوفة، وبدأت بزيارة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، ووجدت على باب المسجد شيخاً مسناً قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وقد تشنج وجهه، متزراً ببرد متشحاً بآخر، وحوله جماعة يسألونه عن الحلال والحرام، وهو يفتيهم على مذهب أمير المؤمنين (عليه السلام) فسألت من حضر عنه فقالوا: أبو حمزة الثمالي، فسلمت عليه وجلست إليه، فسألني عن أمري فعرفته الحال، ففرح بي وجذبني إليه، وقبل بين عيني وقال: لو تجلب الدنيا ما وصل إلى هؤلاء حقوقهم، وإنك ستصل بحرمتهم إلى جوارهم. فسررت بكلامه وكان ذلك أول فائدة لقيتها بالعراق، وجلست معهم أتحدث إذ فتح عينيه، ونظر إلى البرية وقال: هل ترون ما أرى؟ فقلنا: وأي شيء رأيت؟ قال: أرى شخصاً على ناقة، فنظرنا إلى الموضع فرأينا رجلاً على جمل، فأقبل فأناخ البعير وسلم علينا وجلس، فسأله الشيخ وقال: من أين أقبلت؟ قال: من يثرب. قال: ما وراءك؟ قال: مات جعفر بن محمد! فانقطع ظهري نصفين، وقلت لنفسي: إلى أين أمضي!
فقال له أبو حمزة: إلى من أوصى؟ قال: إلى ثلاثة أولهم أبو جعفر المنصور، وإلى ابنه عبد الله، وإلى ابنه موسى. فضحك أبو حمزة والتفت إليَّ وقال: لا تغتم فقد عرفتُ الإمام. فقلت: وكيف أيها الشيخ؟فقال: أما وصيته
إلى أبي جعفر المنصور فسترٌ على الإمام، وأما وصيته إلى ابنه الأكبر والأصغر فقد بين عن عوار الأكبر ونص على الأصغر. فقلت: وما فقه ذلك؟ فقال: قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الإمامة في أكبر ولدك يا علي، ما لم يكن ذا عاهة، فلما رأيناه قد أوصى إلى الأكبر والأصغر، علمنا أنه قد بين عن عوار كبيره، ونص على صغيره، فَسِرْ إلى موسى فإنه صاحب الأمر.
قال أبو جعفر: فودعت أمير المؤمنين (عليه السلام) وودعت أبا حمزة، وسرت إلى المدينة، وجعلت رحلي في بعض الخانات، وقصدت مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزرته وصليت، ثم خرجت وسألت أهل المدينة: إلى من أوصى جعفر بن محمد؟ فقالوا: إلى ابنه الأفطح عبدالله. فقلت: هل يفتي؟ قالوا: نعم، فقصدته وجئت إلى باب داره، فوجدت عليها من الغلمان ما لا يوجد على باب دار أمير البلد، فأنكرت، ثم قلت: الإمام لا يقال له لم وكيف، فاستأذنت، فدخل الغلام وخرج وقال: من أين أنت؟ فأنكرت وقلت: والله ما هذا بصاحبي. ثم قلت: لعله من التقية، فقلت قل: فلان الخراساني، فدخل وأذن لي فدخلت فإذا به جالس في الدست على منصة عظيمة وبين يديه غلمان قيام فقلت في نفسي ذا أعظم! الإمام يقعد في الدست! ثم قلت: هذا أيضاً من الفضول الذي لا يحتاج إليه، يفعل الإمام ما يشاء، فسلمت عليه فأدناني وصافحني وأجلسني بالقرب منه وسألني فأحفى، ثم قال: في أي شيء جئت؟ قلت: في مسائل أسأل عنها وأريد الحج. فقال لي: إسأل عما تريد، فقلت: كم في
المائتين من الزكاة؟ قال: خمسة دراهم. قلت: كم في المائة؟ قال: درهمان ونصف. فقلت: حسن يا مولاي، أعيذك بالله، ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق عدد نجوم السماء؟ قال: يكفيه من رأس الجوزاء ثلاثة. فقلت: الرجل لا يحسن شيئاً!
فقمت وقلت: أنا أعود إلى سيدنا غداً، فقال: إن كان لك حاجة فإنا لانقصر. فانصرفت من عنده وجئت إلى ضريح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فانكببت على قبره، وشكوت خيبة سفري وقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إلى من أمضي في هذه المسائل التي معي؟ إلى اليهود، أم إلى النصارى، أم إلى المجوس، أم إلى فقهاء النواصب؟ إلى أين يا رسول الله؟ فما زلت أبكي وأستغيث به، فإذا أنا بإنسان يحركني، فرفعت رأسي من فوق القبر، فرأيت عبداً أسود عليه قميص خَلِق، وعلى رأسه عمامة خلقة، فقال لي: يا أبا جعفر النيسابوري، يقول لك مولاك موسى بن جعفر: لا إلى اليهود، ولا إلى النصارى، ولا إلى المجوس، ولا إلى أعدائنا من النواصب، إليَّ فأنا حجة الله، قد أجبتك عما في الجزو وبجميع ما تحتاج إليه منذ أمس، فجئني به، وبدرهم شطيطة الذي فيه درهم ودانقان، الذي في كيس أربع مائة درهم اللؤلؤي، وشقتها التي في رزمة الأخوين البلخيين. قال: فطار عقلي! وجئت إلى رحلي، ففتحت وأخذت الجزو والكيس والرزمة، فجئت إليه فوجدته في دار خراب وبابه مهجور ما عليه أحد، وإذا بذلك الغلام قائم على الباب، فلما رآني دخل بين يدي
ودخلت معه، فإذا بسيدنا (عليه السلام) جالس على الحصير وتحته شاذكونه يمانية (بساط) فلما رآني ضحك وقال: لا تقنط ولا تفزع، لا إلى اليهود ولا إلى النصارى والمجوس، أنا حجة الله ووليه، ألم يعرفك أبو حمزة على باب مسجد الكوفة جَرْيَ أمري! قال: فأزاد ذلك في بصيرتي وتحققت أمره، ثم قال لي: هات الكيس فدفعته إليه، فحله وأدخل يده فيه، وأخرج منه درهم شطيطة، وقال لي: هذا درهمها؟ فقلت: نعم. فأخذ الرزمة وحلها وأخرج منها شقة قطن مقصورة، طولها خمسة وعشرون ذراعاً وقال لي: إقرأ عليها السلام كثيراً وقل لها: قد جعلت شقتك في أكفاني، وبعثت إليك بهذه من أكفاننا، من قطن قريتنا صريا قرية فاطمة (عليها السلام) وبذر قطن، كانت تزرعه بيدها الشريفة لأكفان ولدها، وغزل أختي حكيمة بنت أبي عبد الله (عليه السلام) وقصارة يده لكفنه، فاجعليها في كفنك.
ثم قال: يا معتب جئني بكيس نفقة مؤناتنا فجاء به، فطرح درهماً فيه، وأخرج منه أربعين درهماً، وقال: إقرأها مني السلام وقل لها: ستعيشين تسع عشرة ليلة من دخول أبي جعفر ووصول هذا الكفن وهذه الدراهم فانفقي منها ستة عشر درهماً، واجعلي أربعة وعشرين صدقة عنك، وما يلزم عليك، وأنا أتولى الصلاة عليك!
فإذا رأيتَني فاكتم فإن ذلك أبقى لنفسك، وافكك هذه الخواتيم وانظر هل أجبناك أم لا، قبل أن تجيء بدراهمهم كما أوصوك فإنك رسول.
فتأملت الخواتيم فوجدتها صحاحاً ففككت من وسطها واحداً فوجدت تحتها: ما يقول العالم (عليه السلام) في رجل قال: نذرت لله (عزَّ وجلَّ) لأعتقن كل مملوك كان في ملكي قديماً، وكان له جماعة من المماليك؟
تحته الجواب من موسى بن جعفر (عليهما السلام): من كان في ملكه قبل ستة أشهر، والدليل على صحة ذلك قوله تعالى: (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)، وبين العرجون القديم والعرجون الجديد في النخلة ستة أشهر.
وفككت الآخر فوجدت فيه: ما يقول العالم (عليه السلام) في رجل قال: والله أتصدق بمال كثير، بمَ يتصدق؟ تحته الجواب بخطه (عليه السلام): إن كان الذي حلف بهذا اليمين من أرباب الدنانير تصدق بأربعة وثمانين ديناراً، وإن كان من أرباب الدراهم تصدق بأربعة وثمانين درهماً، وإن كان من أرباب الغنم فيتصدق بأربعة وثمانين غنماً، وإن كان من أرباب البعير فبأربعة وثمانين بعيراً، والدليل على ذلك قوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّه فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ). فعددت مواطن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل نزول الآية فكانت أربعة وثمانين موطناً. وكسرت الأخرى فوجدت تحته: ما يقول العالم في رجل نبش قبراً وقطع رأس الميت وأخذ كفنه؟ الجواب تحته بخطه (عليه السلام): تقطع يده لأخذ الكفن من وراء الحرز، ويؤخذ منه مائة دينار لقطع رأس الميت، لأنا جعلناه بمنزلة الجنين في بطن أمه من قبل نفخ الروح فيه، فجعلنا في النطفة عشرين ديناراً، وفي العلقة عشرين ديناراً، وفي المضغة عشرين ديناراً، وفي اللحم عشرين ديناراً، وفي تمام
الخلق عشرين ديناراً، فلو نفخ فيه الروح لألزمناه ألف دينار، على أن لا يأخذ ورثة الميت منها شيئاً بل يتصدق بها عنه، أو يحج أو يغزى بها، لأنها أصابته في جسمه بعد الموت.
قال أبو جعفر: فمضيت من فوري إلى الخان وحملت المال والمتاع إليه، وأقمت معه، وحج في تلك السنة فخرجت في جملته معادلاً له في عماريته في ذهابي يوماً، وفي عمارية أبيه يوماً، ورجعت إلى خراسان فاستقبلني الناس وشطيطة من جملتهم فسلموا عليَّ، فأقبلت عليها من بينهم وأخبرتها بحضرتهم بما جرى، ودفعت إليها الشقة والدراهم، وكادت تنشق مرارتها من الفرح، ولم يدخل إلى المدينة من الشيعة إلا حاسد أو متأسف على منزلتها، ودفعت الجزء إليهم ففتحوا الخواتيم، فوجدوا الجوابات تحت مسائلهم.وأقامت شطيطة تسعه عشر يوماً وماتت رحمها الله، فتزاحمت الشيعة على الصلاة عليها، فرأيت أبا الحسن (عليه السلام) على نجيب فنزل عنه وأخذ بخطامه، ووقف يصلي عليها مع القوم، وحضر نزولها إلى قبرها ونثر في قبرها من تراب قبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، فلما فرغ من أمرها ركب البعير وألوى برأسه نحو البرية، وقال: عَرِّف أصحابك وأقرأهم عني السلام، وقل لهم: إنني ومن جرى مجراي من أهل البيت لابد لنا من حضور جنائزكم في أي بلد كنتم، فاتقوا الله في أنفسكم وأحسنوا الأعمال لتعينونا على خلاصكم، وفك رقابكم من النار. قال أبو جعفر: فلما ولى (عليه السلام) عرَّفت الجماعة، فرأوه وقد بَعُد،
والنجيب يجري به، فكادت أنفسهم تسيل حزناً إذ لم يتمكنوا من النظر إليه! وفي ذلك عدة آيات، وكفى بها حجة للمتأمل الذاكر).
ملاحظات
1. في هذا الحديث دلالات بليغة وعديدة، وأولاها دلالته على حقيقة الإمامة وأنها منصب رباني، وأن الإمام المعصوم (عليه السلام) يختلف عن الناس. وأن المسلمين فهموا ذلك من عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ومن بعده. وأن الشيعة كانوا فئة واعية في مختلف البلدان، متمسكين بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) مؤمنين به لا يقبلون عنه بديلاً.
2. عرف أهل نيسابور قدر هذه الولية شطيطة (رضي الله عنها)، وتعهدوا قبرها بالزيارة والإعمار الى يومنا هذا، ويقع على مقربة من نيسابور، ويسمونها بي بي شطيطة، أي الجدة شطيطة. ومزارها معروف عند الشيعة في العالم، يقصدونه ويتبركون به، ويتوسلون بها الى الله تعالى. والفُرس يسمون كل امرأة محترمة أو ولية لله تعالى: بي بي، فيقولون بي بي حكيمة، وبي بي فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليهما السلام).
3. يوجد أيضاً مزار قرب نيسابور إسمه: أثر قدم الإمام الرضا (عليه السلام).
وهو نبع نزل عنده الإمام (عليه السلام) في طريقه من نيسابور الى طوس، وتوضأ منه وصلى. والناس ما زالت تتبرك بمائه ومكانه، وبالصلاة فيه.
ويوجد مكان باسم قرية الحمراء وبالفارسية: ده سرخ، بين نيسابور وطوس. وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (2/382): (لما خرج علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) إلى المأمون فبلغ قرية الحمراء قيل له: يا ابن رسول الله قد زالت الشمس أفلا
تصلي؟ فنزل (عليه السلام) فقال: إئتوني بماء، فقيل: ما معنا ماء، فبحث (عليه السلام) بيده الأرض فنبع من الماء ماء، توضأ به هو ومن معه. وأثره باق إلى اليوم).
حديث الإمام الرضا (عليه السلام) في نيسابور
اشتهر حديث الإمام الرضا (عليه السلام) في نيسابور، وُعرف بحديث سلسة الذهب، لأن سنده عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تواترت روايته، وكثر رواته.
وممن رواه المالكي في الفصول المهمة (2 /1001) عن تاريخ نيشابورقال: (إن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) لما دخل إلى نيسابور في السفرة التي فاز فيها بفضيلة الشهادة، كان في قبة مستورة بالسقلاط (قماش رومي أبيض) على بغلة شهباء، وقد شقَّ نيسابور، فعرض له الإمامان الحافظان للأحاديث النبوية، والمثابران على السنة المحمدية: أبو زرعة الرازي ومحمد بن أسلم الطوسي، ومعهما خلائق لا يُحصون من طلبة العلم وأهل الأحاديث، وأهل الرواية والدراية، فقالا: أيها السيد الجليل ابن السادة الأئمة، بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين، إلا ما أريتنا وجهك الميمون المبارك، ورويتَ لنا حديثاً عن آبائك عن جدك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نذكرك به.
فاستوقف البغلة وأمر غلمانه بكشف المظلَّة عن القبة، وأقر عيون تلك الخلائق برؤية طلعته المباركة، فكانت له ذؤابتان على عاتقه، والناس كلهم قيام على طبقاتهم ينظرون إليه، وهم بين صارخٍ وباكٍ ومتمرِّغٍ في التراب ومُقَبِّلٍ لحافر بغلته! وعلا الضجيج فصاحت الأئمة والعلماء والفقهاء: معاشر الناس إسمعوا وعوا، وأنصتوا لسماع ما ينفعكم، ولا
تؤذونا بكثرة صراخكم وبكائكم. وكان المستملي أبو زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي، فقال علي بن موسى الرضا (عليهما السلام): حدثني أبي موسى الكاظم، عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمد الباقر، عن أبيه علي زين العابدين، عن أبيه الحسين شهيد كربلاء، عن أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: حدثني جبرئيل قال: سمعت رب العزة سبحانه وتعالى يقول: كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن قالها دخل حصني، ومَن دخل حصني أمن عذابي.
ثمّ أرخى الستر على القبة وسار. قال: فعدوا أهل المحابر والدوي الذين كانوا يكتبون، فأنافوا على عشرين ألفاً!
قال الأُستاذ أبو القاسم القشيري: اتصل هذا الحديث بهذا السند ببعض الأمراء السامانية، فكتبه بالذهب وأوصى أن يُدفن معه في قبره، فرؤي بالنوم بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي بتلفظي بلا إله إلا الله، وتصديقي بأن محمَّداً رسول الله مخلصاً).
ورواه الصدوق في أماليه/305، عن إسحاق بن راهويه قال: (لما وافى أبو الحسن الرضا نيسابور، وأراد أن يرحل منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث، فقالوا له: يا ابن رسول الله، ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث فنستفيده منك، وقد كان قعد في العمارية فأطلع رأسه وقال: سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول:
سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله (عزَّ وجلَّ) يقول: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن عذابي. فلما مرت الراحلة نادانا: بشروطـها، وأنا من شروطها).
ورواه في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (2/143) عن أبي الصلت الهروي.
ملاحظات
1. عرف هذا الحديث بحديث سلسلة الذهب، لأن إسناده عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ووصفوه أيضاً بأنه سعوط المجانين، إذا استنشقه مجنون أفاق!
ففي أمالي الطوسي/449، بعد حديثٍ رواه أبو الصلت بهذه السلسلة: (فنهض معه إسحاق بن راهويه والفقهاء، فأقبل إسحاق بن راهويه على أبي الصلت وقال له ونحن نسمع: يا أبا الصلت، أي إسناد هذا؟ فقال: يا بن راهويه هذا سعوط المجانين، هذا عطر الرجال ذوي الألباب).
وفي تاريخ بغداد (3/37): (فقال بعضهم: ما هذا الإسناد! فقال له أبي: (محمد بن عبد الله بن طاهر) هذا سعوط المجانين، إذا سُعط به المجنون برأ).
وفي تاريخ بغداد (10/342): (قال ابن رشيد: فقلت له: سعوط الشيلشا الذي إذا سعط به المجنون برأ وصح)!
وفي رواية: (قال أحمد بن محمد بن حنبل: ما هذا الإسناد؟ فقال له أبي: هذا سعوط المجانين إذا سعط به المجنون أفاق).(عيون أخبار الرضا:1/206).
وفي ذكر أصبهان (1/138): (وقال أبو علي: قال لي أحمد بن حنبل: إن قرأت هذا الإسناد على مجنون برئ من جنونه. وما عيب هذا الحديث إلا جودة إسناده).راجع استشفاء بعضهم به، نفحات الأزهار للسيد الميلاني:10/ 68.
2. صادروا إسم سلسلة الذهب ووصفوا به رجال أسانيد أخرى! وقد سمى به ابن حجر كتاباً له: سلسلة الذهب، وقال في مقدمته/7: (رسالة فيها سبعة وأربعون حديثاً رواها الإمام الشافعي، عن الإمام مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي، وتسمى: سلسلة الذهب).
3. كان لمرور الإمام الرضا (عليه السلام) في نيسابور وحديثه فيها تأثيركبير على أهلها وكان سبباً لاتساع التشيع فيها. وتدل أخبار دعبل وغيرها على سعة التشيع في خراسان في عصر المأمون. ففي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (2/229): (عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بالصفواني، قال: قد خرجت قافلة من خراسان إلى كرمان فقطع اللصوص عليهم الطريق وأخذوا منهم رجلاً اتهموه بكثرة المال، فبقي في أيديهم مدة يعذبونه ليفتدي منهم نفسه، وأقاموه في الثلج وملؤوا فاه من ذلك الثلج، فشدوه، فرحمته امرأة من نسائهم فأطلقته، وهرب فانفسد فمه ولسانه حتى لم يقدر على الكلام.
ثم انصرف إلى خراسان وسمع بخبر علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) وأنه بنيسابور فرأى فيما يرى النائم كأن قائلاً يقول له إن ابن رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ورد خراسان فسله عن علتك، فربما يعلمك دواء تنتفع به. قال: فرأيت كأني قد قصدته (عليه السلام) وشكوت إليه ما كنت دفعت إليه وأخبرته بعلتي، فقال لي: خذ من الكمون والسعتر والملح، ودقه وخذ منه في فمك مرتين
أو ثلاثاً فإنك تعافى. فانتبه الرجل من منامه ولم يفكر فيما كان رأى في منامه، ولا أعتد به حتى ورد باب نيسابور فقيل له: إن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) قد ارتحل من نيسابور وهو برباط سعد، فوقع في نفس الرجل أن يقصده ويصف له أمره، ليصف له ما ينتفع به من الدواء، فقصده إلى رباط سعد فدخل إليه فقال له: يا ابن رسول الله كان من أمري كيت وكيت، وانفسد عليَّ فمي ولساني حتى لا أقدر على الكلام إلا بجهد، فعلمني دواء انتفع به.
فقال الرضا (عليه السلام): ألم أعلمك، إذهب فاستعمل ما وصفته لك في منامك فقال له الرجل: يا ابن رسول الله إن رأيت أن تعيده عليَّ فقال (عليه السلام): خذ من الكمون والسعتر والملح فدقه وخذ منه في فمك مرتين أو ثلاثاً فإنك ستعافى. قال الرجل: فاستعملت ما وصف لي فعوفيت!قال أبو حامد بن علي بن الحسين الثعالبي:سمعت أباأحمد عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بالصفواني يقول: رأيت هذا الرجل، وسمعت منه هذه الحكاية).
نيسابور بكلها تزور قبر الرضا (عليه السلام)
من عجائب الأمور أن نيسابور كانت مركزاً لتأسيس المذاهب في مواجهة مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وكان فيها علماء كبار يسمى الواحد منهم إمام الأئمة كمحمد بن يحيى الذهلي وابن راهويه وابن خزيمة وابن حبان وأبو زرعة، ومع ذلك كان الجو العام عندهم وعند أهل المنطقة تقديس الإمام الرضا (عليه السلام)،
فإذا جاء شعبان تجمع الناس وذهبوا في قوافل لزيارة قبره (عليه السلام) بطوس، وفي مقدمتهم كبار علمائهم. فلا بد أن يكون ذلك من أسباب تحولها الى التشيع!
قال الشريف المرتضى في رسائله (2/253): (ومما يمكن الإستدلال به على ذلك: أن الله تعالى قد ألهم جميع القلوب، وغرس في كل النفوس، تعظيم شأنهم وإجلال قدرهم على تباين مذاهبهم واختلاف دياناتهم ونحلهم! وما اجتمع هؤلاء المختلفون المتباينون مع تشتت الأهواء وتشعب الآراء على شيء كإجماعهم على تعظيم من ذكرناه وإكبارهم، إنهم يزورون قبورهم ويقصدون من شاحط البلاد وشاطئها مشاهدهم ومدافنهم، والمواضع التي وسمت بصلاتهم فيها وحلولهم بها، وينفقون في ذلك الأموال ويستنفدون الأحوال!
فقد أخبرني من لا أحصيه كثرة أن أهل نيسابور ومن والاها من تلك البلدان، يخرجون في كل سنة إلى طوس لزيارة الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا صلوات الله عليهما، بالجمال الكثيرة والأهبة، التي لا يوجد مثلها إلا للحج إلى بيت الله. وهذا مع المعروف من انحراف أهل خراسان عن هذه الجهة، وازورارهم عن هذا الشِّعب!
وما تسخير هذه القلوب القاسية وعطف هذه الأمم البائنة، إلا كالخارق للعادات والخارج عن الأمور المألوفات، وإلا فما الحامل للمخالفين لهذه النحلة، المنحازين عن هذه الجملة، على أن يراوحوا هذه المشاهد ويغادوها، ويستنزلوا عندها من الله تعالى الأرزاق، ويستفتحوا الأغلال
ويطلبوا ببركاتها الحاجات ويستدفعوا البليات، والأحوال الظاهرة كلها لا توجب ذلك ولا تقتضيه ولا تستدعيه، وإلا فعلوا ذلك فيمن يعتقدونهم، وأكثرهم يعتقدون إمامته وفرض طاعته، وأنه في الديانة موافق لهم غير مخالف، ومساعد غير معاند.
ومن المحال أن يكونوا فعلوا ذلك لداعٍ من دواعي الدنيا، فإن الدنيا عند غير هذه الطائفة موجودة وعندها هي مفقودة، ولا لتقيةٍ واستصلاحٍ فإن التقية هي فيهم لا منهم، ولا خوف من جهتهم ولا سلطان لهم، وكل خوف إنما هو عليهم.
فلم يبق إلا داعي الدين، وذلك هو الأمر الغريب العجيب الذي لا ينفذ في مثله إلا مشية الله، وقدرة القهار التي تذلل الصعاب وتقود بأزمتها الرقاب... وهذا يوقظ على أن الله خرق في هذه العصابة العادات وقلَب الجبلات، ليبين من عظيم منزلتهم، وشريف مرتبتهم.
وهذه فضيلة تزيد على الفضائل، وتربو على جميع الخصائص والمناقب، وكفى بها برهاناً لائحاً وميزاناً راجحاً، والحمد لله رب العالمين).
قال ابن حبان في الثقات (8/457): (ومات علي بن موسى الرضا بطوس من شربة سقاه إياها المأمون فمات من ساعته، وذلك في يوم السبت آخر يوم سنة ثلاث ومائتين. وقبره بسناباذ خارج النوقان مشهورٌ يزار، بجنب قبر الرشيد، قد زرته مراراً كثيرة، وما حَلَّت بي شدة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات الله على جده
وعليه، ودعوت الله إزالتها عني إلا استجيب لي، وزالت عني تلك الشدة، وهذا شيء جربته مراراً فوجدته كذلك. أماتنا الله على محبة المصطفى وأهل بيته، (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) الله عليه وعليهم أجمعين).
وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب (7/339): (قال (الحاكم في تاريخ نيشابور): وسمعت أبا بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي، مع جماعة من مشائخنا، وهم إذ ذاك متوافرون، إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضى بطوس. قال: فرأيت من تعظيمه يعني ابن خزيمة لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرعه عندها، ما تحيرنا فيه).
الإمام التكفيري: محمد بن يحيى الذهلي!
شهدت نيسابور في عصر الإمامين علي الهادي والحسن العسكري (عليهما السلام) موجةً من الصراع الفكري بين تيارات القدرية والمرجئة والمعتزلة والشيعة والخوارج، وكانت الصفة العامة للصراع الصراحة والعنف.
وكان الخط الحاكم في بلاد الخلافة خط المتوكل المغالي في التجسيم، والمداري في أهل البيت (عليهم السلام)، والعنيف مع علماء مذهبهم وشيعتهم!
وكان يمثل هذا الخط في نيسابور من يسمونه إمام الأئمة الذهلي: محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس النيسابوري، مولى بني ذهل.
قال في المستدرك (3/352): (سمعت أبا العباس الدغولي يقول: سمعت الحافظ صالح جزرة يقول: قال لي فضلك الرازي: إذا دخلت نيسابور
يستقبلك شيخ حسن الوجه، حسن الثياب، حسن الركوب، حسن الكلام، فاعلم أنه محمد بن يحيى الذهلي..قال: فقضي أن أول ما دخلت استقبلني رجل بهذا الوصف فسألت عنه فقالوا: هذا محمد بن يحيى).
وقال الذهبي في سيره (12/274): (محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب، الإمام العلامة، الحافظ البارع، شيخ الإسلام، وعالم أهل المشرق، وإمام أهل الحديث بخراسان، أبو عبد الله الذهلي، مولاهم النيسابوري. مولده سنة بضع وسبعين ومئة.. وكان بحراً لا تكدره الدلاء، جمع علم الزهري وصنفه وجوده، من أجل ذلك يقال له: الزهري، ويقال له: الذهلي، وانتهت إليه رئاسة العلم والعظمة والسؤدد ببلدة. كانت له جلالة عجيبة بنيسابور، من نوع جلالة الإمام أحمد ببغداد، ومالك بالمدينة).
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ (2/530): (الإمام شيخ الإسلام حافظ نيسابور، أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس النيسابوري، مولى بني ذهل. ولد بعد السبعين ومائة، وسمع الحفصين وترك الرواية عنهما، وسمع عبد الرحمن بن مهدي، وأسباط بن محمد، وأبا داود الطيالسي، وعبد الرزاق، وخلائق بالحرمين والشام ومصر والعراق والري وخراسان واليمن والجزيرة، وبرع في هذا الشأن.
حدث عنه الجماعة سوى مسلم، وسعيد بن أبي مريم والنفيلي وهما من شيوخه، وأبو زرعة وابن خزيمة والسراج وأبو حامد ابن الشرقي وأبو
حامد بن بلال وأبو علي الميداني ومحمد بن الحسين القطان وخلق كثير، وانتهت إليه مشيخة العلم بخراسان مع الثقة والصيانة والدين ومتابعة السنن. قال محمد بن سهل بن عسكر: كنا عند أحمد بن حنبل فدخل محمد بن يحيى الذهلي فقام إليه أحمد وتعجب الناس منه، وقال لأولاده وأصحابه: إذهبوا إلى أبي عبد الله، فاكتبوا عنه..
وقال أبو حاتم: هو إمام أهل زمانه. وقال أبو بكر بن زياد: كان أمير المؤمنين في الحديث.. قال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف: رأيت محمد بن يحيى في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قلت: فما فعل بحديثك؟ قال: كتب بماء الذهب ورفع في عليين! مات الذهلي في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين ومائتين، وهو في عشر التسعين).
أقول: كان الذهلي جباراً لا يتحمل أن يخالفه أحد في كلمة، فضلاً عن مخالفته في مذهبه! فكان يستعين بأمير خراسان ليطرده، أو يجلده، أو يقتله!
وهؤلاء المتنطعون يتخيلون أن الجنة كالدنيا تحكمها الخلافة وعلماؤها كإمامهم الذهلي الذي يمثل قمعهم ورعونتهم!
ومن نماذج عنف الإمام الذهلي، قتله لزميله أحمد بن داود بن سعيد الفزاري!
قال الطوسي في الفهرست/81: (أحمد بن داود بن سعيد الفزاري، يكنى أبا يحيى الجرجاني، وكان من جملة أصحاب الحديث من العامة، ورزقه الله هذا الأمر، وله تصنيفات كثيرة في فنون الإحتجاجات على المخالفين.
وذكر محمد بن إسماعيل النيسابوري أنه هجم عليه محمد بن طاهر، وأمر بقطع لسانه ويديه ورجليه، وبضربه ألف سوط وبصلبه، لسعايةٍ كان سُعِيَ بها إليه معروفة، سعى بها محمد بن يحيى الرازي وابن البغوي وإبراهيم بن صالح، لحديثٍ رواه محمد بن يحيى لعمر بن الخطاب، فقال أبو يحيى: ليس هو عمر بن الخطاب وإنما هو عمر بن شاكر، فجمع الفقهاء، فشهد مسلم أنه على ما قال: وهو عمر بن شاكر، وأنكر ذلك أبو عبد الله المروزي وكتمه، بسبب محمد بن يحيى منه، وكان أبو يحيى قال: هما يشهدان لي، فلما شهد مسلم قال: غير هذا شاهد إن لم يشهدا، فشهد بعد ذلك المجلس عنده رجل علمه!
فمن كتبه:كتاب خلاف عمر برواية الحشوية، كتاب محنة النائبة، يصف فيه مذاهب الحشوية وفضائحهم، كتاب مفاخرة البكرية والعمرية، كتاب الرد على الأخبار الكاذبة، يشرح فيه نقض كل ما رووه من الفضائل لسلفهم، كتاب مناظرة الشيعي والمرجي في المسح على الخفين وأكل الجري وغير ذلك، كتاب الغوغاء من أصناف الأمة من المرجئة والقدرية والخوارج، كتاب المتعة والرجعة والمسح على الخفين وطلاق المتعة، كتاب التسوية، بين فيه خطأ من حرم تزويج العرب في الموالي، كتاب الصهاكي، كتاب فضايح الحشوية، كتاب التفويض، كتاب الأوائل، كتاب طلاق المجنون، كتاب استنباط
الحشوية، كتاب الرد على الحنبلي، كتاب الرد على الشجري، كتاب في نكاح السكران، ذكره الكشي في كتابه في معرفة الرجال).
لاحظ قول الكشي (2/813): (فجمع الفقهاء، فشهد مُسْلِمٌ أنه على ما قال: وهو عمر بن شاكر، وعرف أبو عبد الله المروزي ذلك وكتمه بسبب محمد بن يحيى، وكان أبو يحيى قال: هما يشهدان لي، فلما شهد مسلم قال: غير هذا شاهدان لم يشهدا، فشهد بعد ذلك المجلس عنده، وخلى عنه، ولم يصبه ببلية).
فتهمتهم العظيمة لهذا العالم أنه غلَّط إمامهم الهذلي في سند حديث، فاشتكى إمامهم الى أميرهم، فأصدر حكمه المشدد رأساً، ثم جمع الفقهاء!
وجاء المتهم بشهود فشهد له مسلم القشيري صاحب الصحيح بأن الحق معه وأن الحديث عن عمر بن شاكر التابعي، وليس عن عمر بن الخطاب، وخاف الشاهد الآخر، فقال المتهم عندي غيره، وجاء به بعد ذلك.
وثبت أن الحق مع ابن سعيد، لكن ابن طاهر قتله لأنه تجرأ على الإمام الذهلي!
قال الميرزا محمد الأخباري في مقدمة الإيضاح:
(نفاه الأمير محمد بن طاهر، قاتل أحمد بن داود بن سعيد، من نيسابور، وقد تخلص الفضل من قتله بحيلة ذكرها علماء الرجال). وستأتي.
ونعم ما قال السيد الأمين في أعيان الشيعة (2/587): (وحاصل هذه القصة أن أبا يحيى الجرجاني المترجم كان من أجلة أصحاب الحديث، فروى محمد بن يحيى الرازي وهو عالم محدث مشهور، حديثاً أسنده إلى عمر بن الخطاب، فغلطه أبو يحيى وقال ليس هو عمر بن الخطاب، هو
عمر بن شاكر، فسعى به محمد بن يحيى الرازي ورجلان معه والثلاثة من العلماء ورواة الحديث إلى الحاكم، وهو محمد بن طاهر، أي وَشَوْا به إليه وقالوا له: إنه غلطه في هذا الحديث، أو وشوا به بوشاية أخرى تعود إلى المذهب ولكن السبب تغليطه له في الحديث، فأمر محمد بن طاهر أعوانه أن يهجموا عليه ويأخذوه، وأمر بقطع لسانه ويديه ورجليه وصلبه...! وهكذا كان علماء السوء يتوصلون حسداً وبغياً وقلة خوف من الله تعالى، إلى إراقة دم الأبرياء بالوشاية عند الحكام الذين كانت دماء الناس وأموالهم وأعراضهم منوطة بكلمة يلفظونها: إقطعوا لسانه ويديه ورجليه واضربوه ألف سوط واصلبوه. فينفذ ذلك فوراً ولو بأعظم عالم من علماء المسلمين، ويكتم العالم شهادته مراعاة لصديقه وصاحبه، وهو يعلم أنه بكتمانها يتسبب قطع اللسان واليدين والرجلين وضرب ألف سوط والصلب لعالم من أجل أصحاب الحديث، برئ مما قرف به)!
أقول: كان هذا الجو الحاكم على نيسابور وخراسان والدولة الإسلامية! وفي هذا الجو كان يعمل الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) وعلماء مذهبهم، وشيعتهم!
وفي هذا الجو كان الإمام العسكري (عليه السلام) يوجه الشيعة ليهتدوا بعقيدة الإسلام ويثبتوا عليها، ويتجنبوا ما أمكن بطش السلطة الجائرة وأدواتها علماء السوء!
إمام الأئمة الذهلي يحلق لحية البخاري!
روى الجميع قصة (إمام الأئمة) الذهلي مع البخاري صاحب الصحيح، وكيف طرده من نيسابور، ثم لاحقه الى بخارى فكتب الى حاكمها إنه منحرف مخالف للسنة، فطرده منها الى قريته خرتنك ومات فيها!
والبخاري عندنا غير مرضي، لكن الإضطهاد سيئ، يدلك على إرهاب الخلافة حتى لعلماء البلاط كالبخاري، والذي لم يغفر له أنه منظِّرٌ لعقيدة المتوكل وأنه كتب صحيحه بأمواله، وكانت تصله عن طريق أحمد بن حنبل!
قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري/491: (سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: إذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه. قال: فذهب الناس إليه فأقبلوا على السماع منه حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى! قال: فتكلم فيه بعد ذلك. وقال حاتم بن أحمد بن محمود: سمعت مسلم بن الحجاج يقول لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور: ما رأيت والياً ولا عالماً فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به، استقبلوه من مرحلتين من البلد أو ثلاث، وقال محمد بن يحيى الذهلي في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غداً فليستقبله فإني أستقبله، فاستقبله محمد بن يحيى وعامة علماء نيسابور، فدخل البلد فنزل دار البخاريين، فقال لنا محمد بن يحيى: لا تسألوه عن شيء من الكلام، فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه وشمت بنا كل ناصبي ورافضي وجهمي ومرجئ بخراسان!
قال فازدحم الناس على محمد بن إسماعيل حتى امتلأت الدار والسطوح فلما كان اليوم الثاني أو الثالث من يوم قدومه، قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن فقال: أفعالنا مخلوقة وألفاظنا من أفعالنا. قال: فوقع بين الناس اختلاف فقال بعضهم: قال لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم لم يقل، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتى قام بعضهم إلى بعض. قال: فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم، وقال أبو أحمد بن عدي: ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع الناس عنده، حسده بعض شيوخ الوقت، فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول لفظي بالقرآن مخلوق، فلما حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوقٌ هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري، ولم يجبه ثلاثاً فألح عليه، فقال البخاري: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والإمتحان بدعة، فشغب الرجل وقال: قد قال لفظي بالقرآن مخلوق!
وقال الحاكم: حدثنا أبو بكر بن أبي الهيثم، حدثنا الفربري قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: إن أفعال العباد مخلوقة، فقد حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا أبو مالك، عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم): إن الله يصنع كل صانع وصنعته. قال البخاري: وسمعت عبيد الله بن سعيد يعني أبا قدامة السرخسي يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون إن أفعال العباد
مخلوقة. قال محمد بن إسماعيل: حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المبين المثبت في المصاحف الموعى في القلوب، فهو كلام الله غير مخلوق. قال الله تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ). قال: وقال إسحاق بن راهويه: أما الأوعية فمن يشك أنها مخلوقة. وقال أبو حامد بن الشرقي: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو مبتدع، ولا يجُالَس ولا يُكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه!
وقال الحاكم: ولما وقع بين البخاري وبين الذهلي في مسألة اللفظ انقطع الناس عن البخاري، إلا مسلم بن الحجاج، وأحمد بن سلمة.
قال الذهلي: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤس الناس، فبعث إلى الذهلي جميع ما كان كتبه عنه على ظهر جمل).
وقال ابن حجر في مقدمته/491: (وقال غنجار في تاريخ بخارى: حدثنا خلف بن محمد قال: سمعت أبا عمرو أحمد بن نصر النيسابوري الخفاف بنيسابور يقول: كنا يوماً عند أبي إسحاق القرشي ومعنا محمد بن نصر المروزي، فجرى ذكر محمد بن إسماعيل فقال محمد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله. فقلت له: يا أبا عبد الله قد خاض الناس في هذا فأكثروا، فقال ليس إلا
ما أقول لك. قال أبو عمرو: فأتيت البخاري فذاكرته بشيء من الحديث حتى طابت نفسه فقلت: يا أبا عبد الله هاهنا من يحكي عنك إنك تقول لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: يا أبا عمرو إحفظ عنب: من زعم من أهل نيسابور وسمى غيرها من البلدان بلاداً كثيرة أنني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله، إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة).
وقال الذهبي في سيره (12/463): (روى أحمد بن منصور الشيرازي قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: لما قدم أبو عبد الله بخارى نُصب له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله عامة أهل البلد حتى لم يبق مذكور إلا استقبله، ونُثر عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير، فبقي أياماً. قال فكتب بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلي إلى خالد بن أحمد أمير بخارى: إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة! فقرأ كتابه على أهل بخارى فقالوا: لانفارقه، فأمره الأمير بالخروج من البلد، فخرج.
قال ابن عدي: سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمد بن إسماعيل إلى خَرْتَنْك، قرية على فرسخين من سمرقند، وكان له بها أقرباء فنزل عندهم، فسمعته ليلة يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل: الله م إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات. وقبره بخرتنك.
وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت أبا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه أبو عبد الله يقول: إنه أقام عندنا أياماً فمرض واشتد به المرض
حتى وجه رسولاً إلى مدينة سمرقند في إخراج محمد، فلما وافى تهيأ للركوب فلبس خفيه وتعمم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها وأنا آخذ بعضده، ورجلٌ آخذ معي يقوده إلى الدابة ليركبهافقال: أرسلوني فقد ضعفت. فدعا بدعوات ثم اضطجع، فقضى (رحمه الله).
توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطربعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومئتين). عن اثنتين وستين سنة.
وفي تاريخ بغداد:4/191، وسيرالذهبي:12/284: (مات محمد بن يحيى الذهلي سنة ثمان وخمسين ومائتين). عن عمر قارب التسعين سنة.
أقول: ظهرت مقولة أن القرآن كلام الله القديم فهو قديم، ثم وقف المأمون ضدها لأنها تستلزم أن يكون الكلام جزءً من ذات الله تعالى، وأمر بحرمان من قال بالتشبيه ورؤية الله تعالى، وأن القرآن جزء من ذاته وليس مخلوقاً!
ثم جاء أخوه المعتصم فخالفه وقرَّب مجسمة الحنابلة.
ثم جاء الواثق فأعاد سياسة المأمون، فقام مجسمة الحنابلة بثورة ضده في بغداد، فقتل رئيسهم أحمد بن نصر وذبحه بيده سنة إحدى وثلاثين ومئتين! راجع: تاريخ بغداد:5/384، و386، وتهذيب الكمال:1/508، واليعقوبي: 2/482.
كما وقف المأمون ضد النُّصْب وكتب منشوراً في البراءة من معاوية، ثم جاء المتوكل وتبنى مذهب مجسمة الحنابلة والعداء لأهل البيت (عليهم السلام) وأسس حزباً سماه (أهل الحديث) لمهاجمة مجالس الشيعة في عاشوراء، وزوار الكاظمية وكربلاء. ثم انتهت موجة المتوكل بقتله، وتبنى الخلفاء بعده سياسة الموازنة بين المذاهب والقوى الإجتماعية والسياسية.
الشيعة في نيسابور في عصر الإمام العسكري (عليه السلام)
كانت نيسابور العاصمة العلمية للخلافة ففيها الأئمة، وعشرات العلماء الكبار، وألوف الطلبة. وفيها درس البخاري، ثم غضبت عليه السلطة وأئمتها فطردته، وفيها نشأ مسلم وكتب صحيحه.
وتقدم في حديث الإمام الرضا (عليه السلام) قول الراوي: (فعدوا أهل المحابر والدوي الذين كانوا يكتبون، فأنافوا على عشرين ألفاً).
وبعد هذا تكاثرت الشخصيات الشيعية في نيسابور، حتى صارت أضعافاً في زمن الإمام العسكري (عليه السلام)، وكان فيهم علماء كبار ورؤساء.
قال الكشي (2/822): (قال نصر بن الصباح: كان محمد بن سعيد بن كلثوم مروزياً، من أجلة المتكلمين بنيسابور. قال غيره: وهجم عبد الله بن طاهر على محمد بن سعيد بسبب خبثه، فحاجه محمد بن سعيد فخلى سبيله. قال أبو عبد الله الجرجاني: إن محمد بن سعيد كان خارجياً، ثم رجع إلى التشيع بعد أن كان بايع على الخروج وإظهار السيف).
وقال الطوسي في الفهرست/277: (أبو منصور الصرَّام، من جملة المتكلمين، من أهل نيسابور، وكان رئيساً مقدماً، وله كتب كثيرة، منها كتاب في الأصول سماه بيان الدين، وكتاب في إبطال القياس، وكتاب تفسير القرآن كبير حسن، قرأت على أبي حازم النيسابوري، أكثر كتاب بيان الدين، وكان قد قرأه عليه، رأيت ابنه أبا القاسم وكان فقيهاً، وسبطه أبا الحسن، وكان من أهل العلم).
وقال النجاشي/442: (يحيى المكنى أبا محمد العلوي من بني زبارة: علوي، سيد، متكلم فقيه، من أهل نيسابور. له كتب كثيرة منها: كتاب في المسح على الرجلين، وكتاب في إبطال القياس، وكتاب في التوحيد.
يحيى بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أبو محمد كان فقيهاً، عالماً، متكلماً، سكن نيسابور. صنف كتباً منها: كتاب الأصول، كتاب الإمامة، كتاب الفرائض، كتاب الايضاح في المسح على الخفين).
وقال النجاشي/138: (حمدان بن سليمان أبو سعيد النيسابوري ثقة، من وجوه أصحابنا. ذكر ذلك أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد، أخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد قال: حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثنا علي بن محمد بن سعد القزويني قال: حدثنا حمدان، وأخبرنا ابن شاذان عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن أبيه، عن حمدان بكتابه).
وفي فهرست منتجب الدين/79: (الشيخ الصائن أبو القاسم عبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز الإمامي النيسابوري، شيخ الأصحاب وفقيههم في عصره، وله تصانيف في الأصولين أخبرنا بها الشيخ الإمام جمال الدين أبو الفتوح الحسين بن علي الخزاعي، عن والده عن جده، عنه).
وفي رجال الطوسي/363: (الفضل بن سنان، نيسابوري، وكيل).
وقال العلامة في الخلاصة/253: (كان محمد بن سعيد بن كلثوم مروزياً من أجلة المتكلمين، نيسابوري. وقال غيره: وهجم عبد الله بن طاهر على محمد بن سعيد بسبب خبثه، فحاجه محمد بن سعيد، فخلى سبيله).
شاذان بن الخليل والد أسرة مباركة (رحمه الله)
أسرة شاذان من قبيلة الأزد، وأبوهم شاذان بن الخليل الأزدي، تلميذ يونس بن عبد الرحمن، الذي هو من خاصة الإمام الصادق (عليه السلام).
قال السيد الخوئي (10/9): (أقول: الخليل هو والد شاذان، كما ذكره الشيخ وصرح به الكشي والنجاشي في ترجمة الفضل بن شاذان، وفي عدة من الروايات ذكر فيها شاذان بن الخليل، ومع هذا كله لا عبرة بما رواه الكشي في ترجمة يونس بن عبد الرحمان قال: جعفر بن معروف، قال: حدثني سهل بن بحر قال: حدثني فضل بن شاذان قال: حدثني أبي الخليل الملقب بشاذان... فإنه وإن دل على أن شاذان كان لقب والد الفضل وأن اسمه الخليل، إلا أنه لا يقاوم ما تقدم، فإن الرواية ضعيفة ولا أقل من جهة أن سهل بن بحر مجهول، نعم في بعض نسخ الكشي الجليل بالجيم المعجمة، فعلى هذه النسخة يرتفع الإشكال.
ثم أقول: إن الرجل من الثقات، لا لرواية ابنه الفضل وأحمد بن محمد بن عيسى عنه، لما مر من أن رواية الأجلاء عن رجل لا تدل على وثاقته بل لقول الكشي في ترجمة محمد بن سنان: قد روى عنه الفضل وأبوه ويونس ومحمد بن عيسى العبيدي، ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب،
والحسن والحسين ابنا سعيد الأهوازيان ابنا دندان، وأيوب بن نوح، وغيرهم من العدول والثقات من أهل العلم. فإن كلامه ظاهر في أن جميع من ذكره وفيهم شاذان بن الخليل، من العدول والثقات.
وقال النجاشي: الفضل بن شاذان بن الخليل أبو محمد الأزدي النيسابوري كان أبوه من أصحاب يونس، وروى عن أبي جعفر الثاني، وقيل الرضا (عليه السلام) أيضاً. وكان ثقة، أحد أصحابنا الفقهاء والمتكلمين، وله جلالة في هذه الطائفة. وكلامه ظاهر في أن قوله: وكان ثقة، يرجع إلى والد الفضل لا إلى نفسه، وإلا قال: كان ثقة).
وقال الحر العاملي في الوسائل (30/390): (شاذان بن الخليل والد الفضل بن شاذان: ممن روى عن محمد بن سنان، من العدول، والثقات، من أهل العلم، ذكره الكشي. وقال المحقق في المعتبر إنه من فضلاء تلامذة الجواد (عليه السلام) الذين كتبهم منقولة بين الأصحاب، دالة على العلم الغزير).
أقول: كلام سيدنا الخوئي في توثيقه قوي، ولا عبرة بقول من توقف في توثيق شاذان (رحمه الله) مثل ابن الشهيد (رحمه الله) في شرح الإستبصار (2/148).
أما رده لرواية الكشي بقوله (سهل بن بحر مجهول) فجوابه توثيق الوحيد البهبهاني (قدس سره) له بقوله في تعليقته/197: (قوله سهل بن بحر: يروى عنه الكشي بالواسطة على وجه ظاهره اعتماده عليه واستناده اليه).
وأما رده أن يكون شاذان لقباً للخليل فجوابه: أن قول الفضل: (حدثني أبي الخليل الملقب بشاذان) نص بأن شاذان لقب أبيه (رحمه الله) وليس إسمه، وهذا طبيعي لأن شاذان بمعنى فرحان أو بشوش أو مستبشر، ويستعمله الفرس
إسماً ولقباً. وقد ورد لقباً لعدة رواة: قال الطوسي في رجاله/198: (خالد بن سفيان الطحان الكوفي، يعرف بشاذان).
وقال السمعاني (2 /114): (إسحاق بن إبراهيم الفارسي الملقب بشاذان).
وقال في المجروحين (3 /51): (النضر بن سلمة المروزي: يعرف بشاذان).
قال ابن أيوب المالكي(2 /1001): (واسمه ميمون الأزدي.. يعرف بشاذان).
وفي عمدة القاري(19 /273): (أسود بن عامر الملقب بشاذان الشامي).
فكيف يمكن أن نرد نص ابنه بأن شاذان لقبٌ لأبيه، وأن إسمه الخليل!
ابن أخ الفضل وكيل الإمام المهدي (عليه السلام)
المشهور من أولاد شاذان: الفضل بن شاذان، وله إخوة يروون عنه منهم محمد بن شاذان وعلي بن شاذان، كما أن بعض أولاد إخوته يروون عنه بواسطة أو مباشرة.
أما محمد بن شاذان بن نعيم بن شاذان، فهو وكيل الإمام المهدي (عليه السلام) وهو المعروف بأبي عبد الله الشاذاني، ويروي عن عم أبيه الفضل، وهو وأخوه جعفر بن نعيم من مشايخ الصدوق، فالصدوق (رحمه الله) يروي عن جعفر بن نعيم بن شاذان، عن محمد بن شاذان، عن الفضل بن شاذان.
قال الشيخ النمازي في مستدركاته (7/133): (محمد بن شاذان بن نعيم النيسابوري: من وكلاء الناحية المقدسة الذين رأوه ووقفوا على معجزته. وفي التوقيع المقدس المفصل الذي رواه الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال: وأما محمد بن شاذان بن نعيم، فإنه رجل من شيعتنا أهل البيت).
وقد رأى محمد بن شاذان الإمام المهدي (عليه السلام)، ففي كمال الدين/442: (حدثنا أبو علي الأسدي، عن أبيه، عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي أنه ذكر عدد من انتهى إليه ممن وقف على معجزات صاحب الزمان (عليه السلام) ورآه من الوكلاء ببغداد: العمري وابنه، وحاجز، والبلالي، والعطار. ومن الكوفة: العاصمي. ومن أهل الأهواز: محمد بن إبراهيم بن مهزيار. ومن أهل قم: أحمد بن إسحاق. ومن أهل همدان: محمد بن صالح. ومن أهل الري: البسامي، والأسدي يعني نفسه، ومن أهل آذربيجان: القاسم بن العلاء. ومن أهل نيسابور: محمد بن شاذان). يقصد ابن نعيم.
وفي كمال الدين/509: (حدثنا محمد بن شاذان بن نعيم الشاذاني قال: اجتمعت عندي خمس مائة درهم تنقص عشرين درهماً، فوزنت من عندي عشرين درهماً ودفعتهما إلى أبي الحسين الأسدي (رضي الله عنه) ولم أعرفه أمر العشرين، فورد الجواب: قد وصلت الخمس مائة درهم التي لك فيها عشرون درهماً! قال محمد بن شاذان: أنفذت بعد ذلك مالاً، ولم أفسر لمن هو، فورد الجواب:وصل كذا وكذا منه لفلان كذا ولفلان كذا).
وفي كمال الدين:2/488، عن محمد بن شاذان بن نعيم قال: بعث رجل من أهل بلخ بمال ورقعة ليس فيها كتابة، قد خط فيها بأصبعه كما تدور من غير كتابة، وقال للرسول:إحمل هذا المال فمن أخبرك بقصته وأجاب عن الرقعة فأوصل إليه المال، فصار الرجل إلى العسكر وقد قصد جعفراً وأخبره الخبر فقال له جعفر: تقر بالبداء؟ قال الرجل: نعم، قال له: فإن
صاحبك قد بدا له وأمرك أن تعطيني المال! فقال له الرسول: لا يقنعني هذا الجواب، فخرج من عنده وجعل يدور على أصحابنا فخرجت إليه رقعة قال: هذا مال قد كان غرر به وكان فوق صندوق فدخل اللصوص البيت، وأخذوا ما في الصندوق وسلم المال، وردت عليه الرقعة وقد كتب فيها كما تدور، وسألت الدعاء فعل الله بك وفعل).
أما مدحه (قدس سره) فورد في التوقيع المطول المعروف عن إسحاق بن يعقوب (كمال الدين:2/483) قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فوردت في التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا فاعلم أنه ليس بين الله (عزَّ وجلَّ) وبين أحد قرابة ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح..
وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم. وأما محمد بن شاذان بن نعيم، فإنه رجل من شيعتنا أهل البيت.. وأما محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) وعن أبيه من قبل، فإنه ثقتي وكتابه كتابي.. وأما وجه الإنتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء. فأغلقوا باب السؤال عما لا يعنيكم ولا تتكلفوا علم ما قد كفيتم وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم. والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب وعلى من اتبع الهدى). وغيبة الطوسي / 176، والخرائج: 3 / 1113، والاحتجاج: 2 / 469، وكشف الغمة: 3 / 321.
الفصل العاشر: الفضل بن شاذان (رحمه الله) مفخرة الأزديين
الفضل بن شاذان عالم مجاهد في وسط الإرهاب!
قال العلامة في الخلاصة/229: (الفضل بن شاذان، بالشين المعجمة، والذال المعجمة والنون، ابن الخليل بالخاء المعجمة، أبو محمد الأزدي النيسابوري، كان أبوه من أصحاب يونس، وروى عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) وقيل عن الرضا (عليه السلام) أيضاً، وكان ثقة جليلاً فقيهاً متكلماً، له عظم شأن في هذه الطائفة. قيل إنه صنف مائة وثمانين كتاباً، وترحم عليه أبو محمد (عليه السلام) مرتين ورويَ ثلاثاً ولاءً. ونقل الكشي عن الأئمة (عليهم السلام) مدحه، ثم ذكر ما ينافيه، وقد أجبنا عنه في كتابنا الكبير. وهذا الشيخ أجل من أن يغمز عليه، فإنه رئيس طائفتنا (رضي الله عنه)).
وقال النجاشي في كتابه: فهرست أسماء مصنفي الشيعة/306: (الفضل بن شاذان بن الخليل أبومحمد الأزدي النيسابوري. كان أبوه من أصحاب يونس، وروى عن أبي جعفر الثاني، وقيل الرضا أيضاً، وكان ثقة، أحد أصحابنا الفقهاء والمتكلمين. وله جلالة في هذه الطائفة، وهو في قدره أشهر من أن نصفه. وذكر الكنجي أنه صنف مائة وثمانين كتاباً وقع إلينا منها: كتاب النقض على الإسكافي في تقوية الجسم، كتاب العروس وهو كتاب العين، كتاب الوعيد، كتاب الرد على أهل التعطيل، كتاب الإستطاعة، كتاب مسائل في العلم، كتاب الأعراض والجواهر، كتاب
العلل، كتاب الإيمان، كتاب الرد على الثنوية، كتاب إثبات الرجعة، كتاب الرجعة حديث، كتاب الرد على الغالية المحمدية، كتاب تبيان أصل الضلالة، كتاب الرد على محمد بن كرام، كتاب التوحيد في كتب الله، كتاب الرد على أحمد بن الحسين، كتاب الرد على الأصم، كتاب في الوعد والوعيد آخر، كتاب الرد على اليمان بن رئاب، كتاب الرد على الفلاسفة، كتاب محنة الإسلام، كتاب السنن، كتاب الأربع مسائل في الإمامة، كتاب الرد على المنانية، كتاب الفرائض الكبير، كتاب الفرائض الأوسط، كتاب الفرائض الصغير، كتاب المسح على الخفين، كتاب الرد على المرجئة، كتاب الرد على القرامطة، كتاب الطلاق، كتاب مسائل البلدان، كتاب الرد على البائسة، كتاب اللطيف، كتاب القائم، كتاب الملاحم، كتاب حذو النعل بالنعل، كتاب الإمامة كبير، كتاب فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)، كتاب معرفة الهدى والضلالة، كتاب التعري والحاصل، كتاب الخصال في الإمامة، كتاب المعيار والموازنة، كتاب الرد على الحشوية، كتاب النجاح في عمل شهر رمضان، كتاب الرد على الحسن البصري في التفضيل، كتاب النسبة بين الجبرية والثنوية).
أقول: يظهر من سعة موضوعات مؤلفاته (رحمه الله) أنه كان يخوض صراعاً مع الفئات المختلفة المخالفة لأهل البيت (عليهم السلام)، فهو مثل الشيخ المفيد في بغداد (رحمه الله).
كما يظهر لك أنه ألف كتاباً في الإمام المهدي وغيبته، قبل ولادته (عليه السلام)، وهو كتاب الغيبة ويسمى الرجعة. فقد ذكر المجلسي (102/69) أن نسخة كتاب الغيبة للفضل بن شاذان كانت عند المير لوحي، ونقل منها في كتابه الأربعين.
لهذا كان من حقه أن يحدث بنعمة ربه عليه، ويفتخر بأنه وارث الماضين:
قال الكشي في رجاله (2/817): (حدثني سهل بن بحر الفارسي قال: سمعت الفضل بن شاذان آخر عهدي به يقول: أنا خلف لمن مضى، أدركت محمد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وغيرهما، وحملت عنهم منذ خمسين سنة، ومضى هشام بن الحكم وكان يونس بن عبد الرحمن خلفه كان يردُّ على المخالفين. ثم مضى يونس بن عبد الرحمن ولم يخلف خلفاً غير السكاك فرد على المخالفين حتى مضى، وأنا خلف لهم من بعدهم رحمهم الله).
أقول: السكاك: الذي يعمل السكك وهي الدراهم المنقوشة. وهو محمد بن الخليل، وله ترجمة مختصرة في عدد من مصادرنا، ولم يصلنا شيء مهم عن أدواره في الدفاع عن التشيع وإمامة أهل البيت (عليهم السلام).
قال النجاشي (1/329): (محمد بن الخليل أبو جعفر السكاك: بغدادي يعمل السكك، صاحب هشام بن الحكم وتلميذه أخذ عنه. له كتب منها كتاب في الإمامة وكتاب سماه التوحيد وهو تشبيه وقد نقض عليه).
ومعنى أن كتابه تشبيه: أنه يقول فيه إن الله تعالى جسم لا كالأجسام، بدل شيء لا كالأشياء، ولعل هشاماً وقع في خطأ هذا التعبير فأخذه عليه خصومه وأشاعوا أنه مجسم، وهو خطأ لفظي!
قال في معالم العلماء/130: (محمد بن الخليل السكاك، صاحب هشام بن الحكم وكان متكلماً، له كتب منها: كتاب المعرفة، الإستطاعة، كتاب في الإمامة، الرد على من أبى وجوب الإمامة بالنص). ونحوه السيد الخوئي(17/81).
الإمام العسكري (عليه السلام) يغبط الخراسانيين على الفضل
قال الكشي في رجاله/820: (محمد بن الحسين بن محمد الهروي، عن حامد بن محمد العلجردي البوسنجي، عن الملقب بفورا، من أهل البوزجان من نيسابور أن أبا محمد الفضل بن شاذان (رحمه الله) كان وجهه إلى العراق إلى حيث به أبو محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما.
فذكر أنه دخل على أبي محمد (عليه السلام)، فلما أراد أن يخرج: سقط منه كتاب في حضنه ملفوف في رداء له، فتناوله أبو محمد (عليه السلام) ونظر فيه وكان الكتاب من تصنيف الفضل، وترحم عليه، وذكر أنه قال: أغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان، وكونه بين أظهرهم.
محمد بن الحسين، عن عدة أخبروه، أحدهم أبو سعيد بن محمود الهروي، وذكر أنه سمعه أيضاً أبو عبد الله الشاذاني النيسابوري، وذكر له: أن أبا محمد (عليه السلام) ترحم عليه ثلاثاً ولاءً).
أقول: قول الراوي: فتناوله أبو محمد (عليه السلام) ونظر فيه، يدل على أن الإمام (عليه السلام) تعمد أن يأخذ الكتاب ويذكر الفضل ويترحم عليه، ليبين مقامه ورضاه عنه.
وقد يكون فورا المذكور في الرواية نفسه بورق المذكور في الرواية الآتية.
وقال الكشي/817: (سعد بن جناح الكشي قال: سمعت محمد بن إبراهيم الوراق السمرقندي، يقول: خرجت إلى الحج، فأردت أن أمر على رجل كان من أصحابنا معروف بالصدق والصلاح والورع والخير، يقال له: بورق البوسنجاني، قرية من قرى هراة، وأزوره وأحدث عهدي به قال: فأتيته فجرى ذكر الفضل بن شاذان (رحمه الله) فقال بورق: كان الفضل به بطن شديد العلة، ويختلف في الليلة مائة مرة إلى مائة وخمسين مرة. فقال له بورق: خرجت حاجاً فأتيت محمد بن عيسى العبيدي، ورأيته شيخاً فاضلاً في أنفه عَوَج وهو القنا، ومعه عدة رأيتهم مغتمين محزونين فقلت لهم ما لكم؟ قالوا: إن أبا محمد (عليه السلام) قد حبس.
قال بورق: فحججت ورجعت ثم أتيت محمد بن عيسى ووجدته قد انجلى عنه ما كنت رأيت به، فقلت: ما الخبر؟ قال: قد خُلِّيَ عنه.
قال بورق: فخرجت إلى سر من رأي ومعي كتاب يوم وليلة، فدخلت على أبي محمد (عليه السلام) وأريته ذلك الكتاب فقلت له: جعلت فداك إن رأيت أن تنظر فيه فلما نظر فيه وتصفحه ورقة ورقة قال: هذا صحيح ينبغي أن يعمل به. فقلت له: الفضل بن شاذان شديد العلة ويقولون إنها من دعوتك بموجدتك عليه لما ذكروا عنه: أنه قال إن وصي إبراهيم خير من وصي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يقل جعلت فداك هكذا، كذبوا عليه، فقال: نعم رحم الله الفضل. قال بورق: فرجعت فوجدت الفضل قد توفى في الأيام التي قال أبو محمد (عليه السلام): رحم الله الفضل).
أقول: كان الفضل بن شاذان كبير السن ومريضاً، لذا أرسل رسولاً أكثر من مرة الى الإمام العسكري (عليه السلام)، مضافاً الى ظروفه الإجتماعية الشديدة، فقد
كان الوالي يهاب الفضل لأنه من قبيلة الأزد!
كانت قبيلة تميم أكبر قبيلة في بلاد فارس وخراسان، ويرجع ذلك الى أن الأحنف بن قيس رئيس بني تميم، هو الذي فتح خراسان وأفغانستان.
وتأتي بعد تميم قبيلة الأزد، وكان المهلب بن أبي صفرة الأزدي والي البصرة والأهواز، وكان مدةً والياً على خراسان، وكان ابن الكرماني الأزدي والياً على كرمان، وكان كثير من المسؤولين والقادة أزديين.
فقبيلة تميم والأزد لهما نفوذ ودور كبير في السياسة في إيران، حتى أن جامعة أصفهان أعطت طلابها مواضيع رسائل عن دور بني تميم ودور الأزديين في تاريخ إيران وحضارتها.
لهذا كان والي خراسان ابن طاهر يحسب حساباً لاضطهاد الفضل، لأنه سيتعصب له الأزديون، فضلاً عن الشيعة. ونلاحظ أنه طرد البخاري بمجرد فتوى الذهلي، لأنه لا يخاف من مؤيديه، فهم خط الخلافة.
كما قتل الفزاري أو مولاهم أحمد بن داود بن سعيد، لأنه أفرط في ثلب الشيخين، فله بهذا حجة على الشيعة، وفزارة قليلة في خراسان وغيرها.
قال في معالم العلماء/59 عن الفزاري أو مولى الفزاريين: (له كتاب: خلاف عمر برواية الحشوية. محنة النابة، يصف فيها فضايح الحشوية. مفاخرة البكرية والعمرية. الرد على الأخبار الكاذبة، يشرح فيها كل ما رووه من الفضائل لسلفهم. مناظرة الشيعي والمرجئ في المسح على الخفين وأكل الجري وغير ذلك. الغوغاء من أصناف الأمم من المرجئة والقدرية والخوارج. المتعة. الرجعة. والمسح على الخفين. طلاق المتعة. التسوية،
يبين فيها خطأ من حرم تزويج العرب في الموالي. كتاب الصهاكي. فضايح الحشوية. التفويض الأوائل. طلاق المجنون. استنباط الحشوية. الرد على الحنبلية. الرد على السجزي في نكاح السكران).
وتقدم أن ابن طاهر أمر بضربه ألف سوط وقطع لسانه وأطرافه وصلبه!
أما الفضل بن شاذان (رحمه الله) فأمره يختلف عن البخاري والفزاري، ويجب على ابن طاهر أن يحسب رد فعل الأزديين، لذلك اختار أن يفتش كتبه ويسأله عن عقيدته، فإن وجد عليه مستمسكاً نفاه من نيسابور، أو حوله الى الخليفة.
قال الكشي (2/817): (ذكر أبوالحسن محمد بن إسماعيل البندقي النيسابوري: أن الفضل بن شاذان بن الخليل نفاه عبد الله بن طاهر عن نيسابور، بعد أن دعا به واستعلم كتبه، وأمره أن يكتبها، قال: فكتب تحته: الإسلام الشهادتان وما يتلوهما، فذكر أنه يُحب أن يقف على قوله في السلف، فقال أبو محمد:أتولي أبا بكر وأتبرأ من عمر!
فقال له: ولم تتبرأ من عمر؟ فقال: لإخراجه العباس من الشورى، فتخلص منه بذلك).
مات الفضل طريداً غريباً مريضاً قدس الله روحه
أقول: ورد أن الذي نفى الفضل هو عبد الله بن طاهر وقد توفي سنة230، وحكم بعده ابنه محمد، وقد توفي الفضل (رحمه الله) سنة260، ومعناه أن عمل السلطة في اضطهاده طال عقوداً، ولم يرتح منها إلا بعد أن جاءت الدولة الصفارية، وأزالت الدولة الطاهرية في خراسان سنة 258.
قال الطبري (8/16) في حوادث سنة 259: (ذكر أن يعقوب بن الليث صار إلى هراة ثم قصد نيسابور، فلما قرب منها وأراد دخولها وجه محمد بن طاهر يستأذنه في تلقيه فلم يأذن له، فبعث بعمومته وأهل بيته فتلقوه ثم دخل نيسابور لأربع خلون من شوال بالعشي فنزل طرفاً من أطرافها يعرف بداود آباذ فركب إليه محمد بن طاهر فدخل عليه في مضربه، فساءله ثم أقبل على تأنيبه وتوبيخه على تفريطه في عمله، ثم انصرف وأمر عزيز بن السري بالتوكيل به، وصرف محمد بن طاهر وولى عزيراً نيسابور، ثم حبس محمد بن طاهر وأهل بيته، وورد الخبر بذلك على السلطان فوجه إليه حاتم بن زيرك بن سلام، ووردت كتب يعقوب على السلطان لعشر بقين من ذي القعدة، فقعد فيما ذكر جعفر بن المعتمد وأبو أحمد بن المتوكل في إيوان الجوسق وحضر القواد، وأذن لرسل يعقوب فذكر رسله ما تناهى إلى يعقوب من حال أهل خراسان وأن الشراة والمخالفين قد غلبوا عليها وضعف محمد بن طاهر، وذكروا مكاتبة أهل خراسان يعقوب ومسألتهم إياه قدومه عليهم واستعانتهم، وأنه صار إليها فلما كان على عشرة فراسخ من نيسابور سار إليه أهلها فدفعوها إليه فدخلها فتكلم أبو أحمد وعبيد الله بن يحيى وقالا للرسل: إن أمير المؤمنين لايقارُّ يعقوب على ما فعل، وإنه يأمره بالإنصراف إلى العمل الذي ولاه إياه، وإنه لم يكن له أن يفعل ذلك بغير أمره، فليرجع فإنه إن فعل كان من الأولياء وإلا لم يكن له إلا ما للمخالفين.
وصرف إليه رسله بذلك ووصلوا، وخلع على كل واحد منهم خلعة فيها ثلاثة أثواب، وكانوا أحضروا رأساً على قناة فيه رقعة فيها: هذا رأس عدو الله عبد الرحمن الخارجي بهراة، ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة، قتله يعقوب بن الليث).
لكن سقوط الدولة الطاهرية لم يحقق الأمن للفضل ولا لغيره، لأن غارات الخوارج وصلت الى نيسابور ومحيطها بيهق، أي سبزوار.
قال في منتهى المقال (5/200): (قال أبو علي: والفضل بن شاذان كان برستاق بيهق، فورد خبر الخوارج، فهرب منهم وأصابه النصب من خشونة السفر، فاعتلَّ ومات منه، وصلَّيْتُ عليه).
وفي مقدمة الإيضاح/49: (أما مقبرة الفضل بن شاذان طاب ثراه، فهي شرقي بقعه السيد المحروق، وهي عبارة عن بقعة وصحن له حائط قصير، وبناؤه مثمن مستطيل من المشرق الى المغرب، وعرض البقعة سبعة أقدام وطولها ثمانية، وله قبة من الآجر ارتفاعها اثنا عشر متراً ونصف، وارتفاع قبره ذراع وطوله ذراعان ونصف وحوله كاشي مُلون. وعلى القبر صخرة كتب عليها: هذا ضريح النحرير المتعال، والنبيل المفضال، ذي العز والإجلال، شمس ذوي البسائط والإفضال، المؤسس الممهد لعلم الكلام، القائم بالقسط لإقامة البراهين لاهتداء الأنام، الراوي عن الإمامين أبي الحسن علي بن موسى وأبي جعفر الثاني عليهما السلام، زبدة الرواة ونخبة الهداة، وقدوة الأجلاء المتكلمين،
وأسوة الفقهاء المتقدمين، الشيخ العليم الجليل، الفضل بن شاذان بن الخليل، طاب الله ثراه، قد وصل بلقاء ربه في سنة 260).
ترحم عليه الإمام (عليه السلام) مرتين أو ثلاثاً
كانت علاقة الفضل وأبيه الخليل الملقب بشاذان وكل أسرتهم، علاقةً وطيدة بالأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، من الإمام الرضا الى الإمام المهدي صلوات الله عليهم. وكان الفضل (رحمه الله) حامل رايتة أهل البيت (عليهم السلام) في صراعهم مع مخالفيهم وأعدائهم، ينافح ويدافع ويناضل، ويفحم المخالفين بمناظراته وكتبه، حتى حَوَّلَ دفاع الشيعة عن أهل البيت (عليهم السلام) الى هجوم على مخالفيهم، وإبطال لعقائدهم، وتسفيه لمقولاتهم، وتسقيط لأفكارهم وأشخاصهم.
وحدث في آخر حياته (رحمه الله) أن الشيعة في نيسابور وقع بينهم خلاف وكان للفضل خصوم من الشيعة بسبب اختلاف المشارب، أو لعدم قبولهم بعض مقولاته، لكن الجو العام كان قبول قوله ورأيه.
ويدل على نفوذه في الشيعة أنهم لم يطيعوا مبعوث الإمام (عليه السلام) أيوب الناب (رحمه الله) وسمعوا كلام الفضل عندما أيَّد مقولة أن أيوباً غير مبعوث من الأصل (عليه السلام). وقد وبخه الإمام (عليه السلام) لذلك، ولا بد أنه تاب وأمر الناس بطاعة مبعوث الإمام الثاني ابراهيم بن عبدة، ثم أتبعه الإمام (عليه السلام) بكتاب بيد محمد بن موسى النيسابوري (رحمه الله).
ولا شك أن الفضل أخطأ مع وكيل الإمام (عليه السلام)، لكن الميزان هو رضا المعصوم (عليه السلام) وغضبه، وترحمه (عليه السلام) على شخص يعني أنه مرضي، وأن الله تعالى يرحمه ويدخله الجنة، لأن دعاء الإمام (عليه السلام) لا يرد. وقد ترحم الإمام العسكري (عليه السلام) على الفضل (رحمه الله) عدة مرات كما تقدم.
رسالتا الإمام (عليه السلام) الى الشيعة في نيسابور
قال الكشي/844: (حكى بعض الثقات بنيسابور أنه خرج لإسحاق بن إسماعيل من أبي محمد (عليه السلام) توقيع: يا إسحاق بن إسماعيل سترنا الله وإياك بستره، وتولاك في جميع أمورك بصنعه، قد فهمت كتابك يرحمك الله، ونحن بحمد الله ونعمته أهل بيت نرق على موالينا، ونُسرُّ بتتابع إحسان الله إليهم وفضله لديهم، ونعتد بكل نعمة ينعمها الله (عزَّ وجلَّ) عليهم. فأتم الله عليكم بالحق ومن كان مثلك ممن قد رحمه الله، وبصَّرَه بصيرتك، ونزع عن الباطل، ولم يَعْمَ في طغيانه نعمَه، فإن تمام النعمة دخولك الجنة، وليس من نعمة وإن جل أمرها وعظم خطرها، إلا والحمد لله تقدست أسماؤه عليها، مؤدى شكرها.
وأنا أقول الحمد لله مثل ما حمد الله به حامد إلى أبد الأبد، بما من عليك من نعمة، ونجاك من الهلكة وسهل سبيلك على العقبة، وأيم الله إنها لعقبة كؤود شديد أمرها صعب، مسلكها عظيم، بلاؤها طويل، عذابها قديم، في الزبر الأولى ذكرها.
ولقد كانت منكم أمور في أيام الماضي إلى أن مضى لسبيله، صلى الله
على روحه، وفي أيامي هذه، كنتم بها غير محمودي الشأن، ولا مسددي التوفيق! واعلم يقيناً يا إسحاق أن من خرج من هذه الحياة أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، إنها يا ابن إسماعيل ليس تعمى الأبصار لكن تعمى القلوب التي في الصدور، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ) في محكم كتابه للظالم: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا..) وقال الله (عزَّ وجلَّ): (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى).
وأيَّةُ آيةٍ يا إسحاق أعظم من حجة الله (عزَّ وجلَّ) على خلقه، وأمينه في بلاده، وشاهده على عباده، من بعد ما سلف من آبائه الأولين من النبيين وآبائه الآخرين من الوصيين، عليهم أجمعين رحمة الله وبركاته!
فأين يتاه بكم وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم، عن الحق تصدفون، وبالباطل تؤمنون، وبنعمة الله تكفرون، أوتكونون ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم ومن غير كم إلا خزي في الحياة الدنيا الفانية، وطول عذاب الآخرة الباقية، وذلك والله الخزي العظيم.
إن الله بفضله ومنِّه لما فرض عليكم الفرائض لم يفرض عليكم لحاجة منه إليكم، بل برحمة منه لا إله الا هو عليكم، ليميز الخبيث من الطيب وليبتلي ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، ولتتسابقوا إلى رحمته وتتفاضل منازلكم في جنته. ففرض عليكم الحج والعمرة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والولاية، وكفاهم لكم باباً، لتفتحوا أبواب
الفرائض، ومفتاحاً إلى سبيله، ولولا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والأوصياء من بعده لكنتم حيارى كالبهائم لا تعرفون فرضاً من الفرائض، وهل تدخل قرية إلا من بابها؟ فلما منَّ عليكم بإقامة الأولياء بعد نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله (عزَّ وجلَّ) لنبيه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الآسْلامَ دِينًا). وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً أمركم بأدائها إليهم، ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومآكلكم ومشاربكم، ويعرفكم بذلك النماء والبركة والثروة، وليعلم من يطيعه منكم بالغيب. قال الله (عزَّ وجلَّ): (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى). واعلموا أن من يبخل فإنما يبخل على نفسه، وأن الله هو الغني وأنتم الفقراء إليه، لا اله الا هو، ولقد طالت المخاطبة فيما بيننا وبينكم فيما هو لكم وعليكم، ولولا ما نحب من تمام النعمة من الله (عزَّ وجلَّ) عليكم: لما أريتكم لي خطاً ولاسمعتم مني حرفاً من بعد الماضي!
أنتم في غفلة عما إليه معادكم، ومن بعد النابي رسولي وما ناله منكم حين أكرمه الله بمصيره إليكم، ومن بعد إقامتي لكم إبراهيم بن عبده، وفقه الله لمرضاته، وأعانه على طاعته، وكتابي الذي حمله محمد بن موسى النيسابوري، والله المستعان على كل حال.
وإني أراكم تفرطون في جنب الله فتكونون من الخاسرين، فبعداً وسحقاً لمن رغب عن طاعة الله، ولم يقبل مواعظ أوليائه، وقد أمركم الله جل وعلا بطاعته، لا إله الا هو، وطاعة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبطاعة أولي الأمر (عليهم السلام)
فرحم الله ضعفكم وقلة صبركم عما أمامكم! فما أغرَّ الانسان بربه الكريم. واستجاب الله دعائي فيكم وأصلح أموركم على يدي، فقد قال الله جل جلاله: (يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ). وقال جل جلاله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا). وقال الله جل جلاله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للَّنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). فما أحب أن يُدعى الله جل جلاله بي، ولا بمن هو من آبائي إلا حسب رقتي عليكم، وما أنطوي لكم عليه من حب بلوغ الأمل في الدارين جميعاً، والكينونة معنا في الدنيا والآخرة.
فقد يا إسحاق يرحمك الله ويرحم من هو وراءك بينت لك بياناً وفسرت لك تفسيراً، وفعلت بكم فعل من لم يفهم هذا الأمر قط، ولم يدخل فيه طرفة عين.ولو فهمت الصم الصلاب بعض ما في هذا الكتاب لتصدعت قلقاً خوفاً من خشية الله ورجوعاً إلى طاعة الله (عزَّ وجلَّ).
فاعملوا من بعدُ ما شئتم (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). والعاقبة للمتقين، والحمد لله كثيراً رب العالمين.
وأنت رسولي يا إسحاق إلى إبراهيم بن عبده وفقه الله، أن يعمل بما ورد عليه في كتابي مع محمد بن موسى النيسابوري إن شاء الله، ورسولي إلى نفسك، والى كل من خلفك ببلدك، أن يعملوا بما ورد عليكم في كتابي مع محمد بن موسى إن شاء الله، ويقرأ إبراهيم بن عبده كتابي هذا ومن
خلفه ببلده حتى لايسألوني وبطاعة الله يعتصمون، والشيطان بالله عن أنفسهم يجتنبون ولا يطيعون.
وعلى إبراهيم بن عبده سلام الله ورحمته، وعليك يا إسحاق وعلى جميع مواليَّ السلام كثيراً، سددكم الله جميعاً بتوفيقه، وكل من قرأ كتابنا هذا من مواليَّ من أهل بلدك، ومن هو بناحيتكم، ونزع عما هو عليه من الإنحراف عن الحق، فليؤد حقوقنا إلى إبراهيم بن عبده، وليحمل ذلك إبراهيم بن عبده إلى الرازي (رضي الله عنه)، أو إلى من يسمي له الرازي، فإن ذلك عن أمري ورأيي إن شاء الله.
ويا إسحاق، إقرأ كتابنا على البلالي (رضي الله عنه)، فإنه الثقة المأمون العارف بما يجب عليه، واقرأه على المحمودي عافاه الله، فما أحمدنا له لطاعته، فإذا وردت بغداد فاقرأه على الدهقان وكيلنا وثقتنا والذي يقبض من موالينا، وكل من أمكنك من موالينا فاقرأهم هذا الكتاب، وينسخه من أراد منهم نسخه إن شاء الله تعالى، ولا يكتم أمر هذا عمن يشاهده من موالينا، إلا من شيطان مخالف لكم، فلا تنثرنَّ الدر بين أظلاف الخنازير! ولا كرامة لهم، وقد وقعنا في كتابك بالوصول والدعاء لك ولمن شئت، وقد أجبنا شيعتنا عن مسألته والحمد لله، فما بعد الحق إلا الضلال. فلا تخرجن من البلدة حتى تلقي العمري (رضي الله عنه) برضاي عنه، وتسلم عليه وتعرفه ويعرفك، فإنه الطاهر الأمين العفيف
القريب منا والينا، فكل ما يحمل إلينا من شيء من النواحي فإليه المسير آخر أمره، ليوصل ذلك إلينا. والحمد لله كثيراً.
سترنا الله وإياكم يا إسحاق بستره، وتولاك في جميع أمورك بصنعه، والسلام عليك وعلى جميع موالي ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم كثيراً). ورواها مختصراً في تحف العقول/485.
الرسالة الثانية:
قال الكشي في رجاله/819: (قال أبو الحسن علي بن محمد بن قتيبة: ومما رقع عبد الله بن حمدويه البيهقي، وكتبته عن رقعته: إن أهل نيسابور قد اختلفوا في دينهم، وخالف بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً، وبها قوم يقولون إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عرف جميع لغات أهل الأرض ولغات الطيور وجميع ما خلق الله، وكذلك لابد أن يكون في كل زمان من يعرف ذلك، ويعلم ما يضمر الإنسان، ويعلم ما يعمل أهل كل بلاد في بلادهم ومنازلهم، وإذا لقيَ طفلين يعلم أيهما مؤمن وأيهما يكون منافقاً، وأنه يعرف أسماء جميع من يتولاه في الدنيا وأسماء آبائهم، وإذا رأى أحدهم عرفه باسمه من قبل أن يكلمه.
ويزعمون جعلت فداك أن الوحي لا ينقطع، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن عنده كمال العلم ولا كان عند أحد من بعده، وإذا حدث الشيء في أي زمان كان، ولم يكن علم ذلك عند صاحب الزمان: أوحى الله إليه واليهم. فقال: كذبوا لعنهم الله، وافتروا إثماً عظيماً.
وبها شيخ يقال له الفضل بن شاذان يخالفهم في هذه الأشياء، وينكر عليهم أكثرها، وقوله: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن الله (عزَّ وجلَّ) في السماء السابعة فوق العرش، كما وصف نفسه (عزَّ وجلَّ)، وأنه جسم فوصفه بخلاف المخلوقين في جميع المعاني، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأن من قوله إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أتى بكمال الدين، وقد بلغ عن الله (عزَّ وجلَّ) ما أمره به، وجاهد في سبيله وعبده حتى أتاه اليقين، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام رجلاً يقوم مقامه من بعده، فعلمه من العلم الذي أوحى الله إليه، يعرف ذلك الرجل الذي عنده من العلم الحلال والحرام، وتأويل الكتاب وفصل الخطاب.
وكذلك في كل زمان لابد من أن يكون واحدٌ يعرف هذا، وهو ميراثٌ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوارثونه، وليس يعلم أحد منهم شيئاً من أمر الدين إلا بالعلم الذي ورثوه عن النبي، وهو ينكر الوحي بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: قد صدق في بعض، وكذب في بعض.
وفي آخر الورقة: قد فهمنا رحمك الله كلما ذكرت، ويأبى الله (عزَّ وجلَّ) أن يرشد أحدكم، وأن نرضى عنكم وأنتم مخالفون معطلون، الذين لا يعرفون إماماً ولا يتولون ولياً، كلما تلاقاكم الله (عزَّ وجلَّ) برحمته، وأذن لنا في دعائكم إلى الحق، وكتبنا إليكم بذلك، وأرسلنا إليكم رسولاً، لم تصدقوه، فاتقوا الله عباد الله، ولا تلجوا في الضلالة من بعد المعرفة،
واعلموا أن الحجة قد لزمت أعناقكم، فأقبلوا نعمته عليكم، تدم لكم بذلك سعادة الدارين، عن الله (عزَّ وجلَّ) إن شاء الله.
وهذا الفضل بن شاذان مالنا وله، يفسد علينا موالينا، ويزين لهم الأباطيل، وكلما كتبنا إليهم كتاباً اعترض علينا في ذلك، وأنا أتقدم إليه أن يكف عنا، وإلا والله سألت الله أن يرميه بمرض لايندمل جرحه منه في الدنيا ولا في الآخرة! أبلغ موالينا هداهم الله سلامي، وأقرئهم بهذه الرقعة، إن شاء الله.
قال أحمد بن يعقوب أبو علي البيهقي (رحمه الله): أما ما سألت من ذكر التوقيع الذي خرج في الفضل بن شاذان، أن مولانا (عليه السلام) لعنه بسبب قوله بالجسم فإني أخبرك أن ذلك باطل، وإنما كان مولانا (عليه السلام) أنفذ إلى نيسابور وكيلاً من العراق، كان يسمى أيوب بن الناب، يقبض حقوقه، فنزل بنيسابور عند قوم من الشيعة ممن يذهب مذهب الإرتفاع والغلو والتفويض، كرهت أن أسميهم، فكتب هذا الوكيل يشكو الفضل بن شاذان بأنه يزعم أني لست من الأصل ويمنع الناس من إخراج حقوقه، وكتب هؤلاء النفر أيضاً إلى الأصل الشكاية للفضل، ولم يكن ذكر الجسم ولاغيره، وذلك التوقيع خرج من يد المعروف بالدهقان ببغداد في كتاب عبد الله بن حمدويه البيهقي، وقد قرأته بخط مولانا (عليه السلام).
والتوقيع هذا: الفضل بن شاذان ماله ولموالي يؤذيهم ويكذبهم، وأني لأحلف بحق آبائي لئن لم ينته الفضل بن شاذان عن هذا لأرمينه بمرماة
لايندمل جرحه منها في الدنيا ولا في الآخرة. وكان هذا التوقيع بعد موت الفضل بن شاذان بشهرين في سنة ستين ومأتين. قال أبو علي: والفضل بن شاذان كان برستاق بيهق، فورد خبر الخوارج فهرب منهم، فأصابه التعب من خشونة السفر فاعتل ومات منه، وصليت عليه).
وقال الكشي/848: (ما روى في عبد الله بن حمدويه البيهقي، وإبراهيم بن عبده النيسابوري رحمهما لله: قال أبو عمرو: حكى بعض الثقات، أن أبا محمد صلوات الله عليه، كتب إلى إبراهيم بن عبده:وكتابي الذي ورد على إبراهيم بن عبده بتوكيلي إياه لقبض حقوقي من موالينا هناك: نعم هو كتابي بخطي إليه، أعني إبراهيم بن عبده لهم ببلدهم حقاً غير باطل، فليتقوا الله حق تقاته وليخرجوا من حقوقي وليدفعوها إليه فقد جوزت له ما يعمل به فيها. وفقه الله ومَنَّ عليه بالسلامة من التقصير برحمته.
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عبد الله بن حمدويه البيهقي: وبعد، فقد نصبت لكم إبراهيم بن عبده ليدفع النواحي وأهل ناحيتك حقوقي الواجبة عليكم إليه، وجعلته ثقتي وأميني عند مواليَّ هناك، فليتقوا الله وليراقبوا وليؤدوا الحقوق، فليس لهم عذر في ترك ذلك ولا تأخيره، ولا أشقاهم الله بعصيان أوليائه، ورحمهم الله وإياك معهم برحمتي لهم. إن الله واسع كريم).
ملاحظات
1. قد يناقش في نص الرسالة الأولى بأن في بعض تعبره تكراراً وضعفاً لا نعرفهما في أسلوب المعصومين صلوات الله عليهم، لكن لا بد من إرجاع ذلك
الى الرواة، لأن السند صحيح، فالأولى: شهد الكشي بوثاقة راويها، فقال (2/844): (حكى بعض الثقات بنيسابور أنه خرج لإسحاق بن إسماعيل..).
والثانية: سندها عن علي بن محمد بن قتيبة وهو ثقة، أما قول سيدنا الخوئي (قدس سره) (14/315): (علي بن محمد بن قتيبة لم يوثق، فالرواية لايعتمد عليها)فلا نأخذ به، لما ذكره جمع من العلماء:
قال النجاشي/259: (علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري: عليه اعتمد أبو عمرو الكشي في كتاب الرجال. أبو الحسن، صاحب الفضل بن شاذان وراوية كتبه. له كتب منها كتاب يشتمل على ذكر مجالس الفضل مع أهل الخلاف، ومسائل أهل البلدان. أخبرنا الحسين قال: حدثنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا أحمد بن إدريس عنه بكتابه).
وقال الوحيد البهبهاني/28: (ومنها اعتماد شيخ على شخص وهو أمارة الإعتماد عليه كما هو ظاهر، ويظهر عن النجاشي والخلاصة في علي بن محمد بن قتيبة، فإذا كان جمع منهم اعتمدوا عليه فهو في مرتبة معتد بها من الإعتماد، وربما يشير إلى الوثاقة سيما إذا كثر منهم الإعتماد وخصوصاً بعد ملاحظة ما نقل من اشتراطهم العدالة، وخصوصاً إذا كانوا ممن يطعن في الرواية عن المجاهيل ونظائرها).
وقال المحقق الخونساري في الذخيرة (1ق3/510): (وفي طريق الرواية علي بن محمد بن قتيبة، ولم يوثقوه لكن مدحه الشيخ في كتاب الرجال بأنه فاضل، وذكر النجاشي في ترجمته أنه عليه اعتمد أبو عمروالكشي في
كتاب الرجال، وأنه صاحب الفضل بن شاذان وراوية كتبه، وفي ذلك إشعار بحسن حاله). وهو كلام منطقي.
وقال المحقق البحراني في الحدائق(6/47): (أقول: ما ذكره في عبد الواحد بن عبدوس من الإعتماد على حديثه، حيث إنه من مشايخ الإجازة هو المشهور بين أصحاب هذا الاصطلاح، فإنهم صرحوا بأن مشايخ الإجازة يعد حديثهم في الصحيح وإن لم ينقل توثيقهم في كتب الرجال لأن اعتماد المشايخ المتقدمين على النقل عنهم وأخذ الأخبار منهم والتلمذ عليهم يزيد على قولهم في كتب الرجال فلان ثقة. وقد ناقض كلامه هنا بالطعن في عبد الواحد المذكور فقال إنه لم يثبت توثيقه.
وأما ما ذكره في علي بن محمد بن قتيبة، فإن الكلام فيه ليس كذلك فإن المفهوم من الكشي في كتاب الرجال أنه من مشايخه الذين أكثر النقل عنهم، ولهذا كتب بعض مشايخنا المعاصرين على كلام السيد في هذا المقام ما صورته: صحح العلامة في الخلاصة في ترجمة يونس بن عبد الرحمان طريقين فيهما علي بن محمد بن قتيبة، وأكثر الكشي الرواية عنه في كتابه المشهور في الرجال. فلا يبعد الاعتماد على حديثه، لأنه من مشايخه المعتبرين الذين أخذ الحديث عنهم، والفرق بينه وبين عبد الواحد بن عبدوس تحكم لا يخفى، وسؤال الفرق متجه بل هذا أولى بالإعتماد لا يراد العلامة له في القسم الأول من الخلاصة وتصحيحه حديثه في ترجمة يونس فتأمل وأنصف. انتهى. أقول: ويؤيد ما ذكره شيخنا المذكور أن
العلامة في المختلف بعد ذكره حديث الافطار على محرم لم يذكر التوقف في صحة الحديث إلا من حيث عبد الواحد بن عبدوس وقال إنه كان ثقة والحديث صحيح. وهو يدل على توثيقه لعلي بن محمد بن قتيبة حيث إنه مذكور معه في السند كما لا يخفى). وهو كلام مقنع.
وقال صاحب الجواهر (16/270): (فيشكل التعويل عليها في إثبات حكم مخالف للأصل. وإن أمكن مناقشته بأن العلامة في المحكي عن تحريره قد حكم بصحتها. وفي المختلف أن عبد الواحد بن عبدوس النيسابوري لا يحضرني الآن حاله، فإن كان ثقة فالرواية صحيحة يتعين العمل بها، وظاهره عدم التوقف فيها إلا من عبد الواحد الذي هو من مشايخ الصدوق المعتبرين الذين أخذ عنه الحديث، وقد أكثر في الرواية عنه في كتبه. كما أن ابن قتيبة قد قيل إنه من مشايخ الكشي، وقد أكثر النقل عنه في كتابه، فلا أقل من أن يكونا هما من مشايخ الإجازة المتفق بينهم كما قيل على عدم احتياجهم إلى التوثيق).
أقول: وتجد نحو هذا الكلام عند عدد آخر من فقهائنا، وهو كاف في توثيق علي بن محمد بن قتيبة (رضي الله عنه)، وإن لم يوثقه سيدنا الأستاذ الخوئي (قدس سره).
أما راوي الرسالة الثانية عبد الله بن حمدويه البيهقي، فقال عنه في الوسائل (20/236): (روى الكشي عن الرضا (عليه السلام) توثيقه ووكالته، ومدحه).
2. لم تصلنا رسالة الإمام (عليه السلام) الى أهل نيسابور مع رسوله ووكليه الأول أيوب الناب (رحمه الله)، ولا الرسائل التي أرسلها (عليه السلام) دفاعاً عن وكيله هذا، ويحتمل أن
يكون منها رسالة الى الفضل، لكن الإمام (عليه السلام) ذكر ذلك في رسائله الأخرى ولم يذكر الفضل، قال (عليه السلام): (وكلما كتبنا إليهم كتاباً اعترض علينا في ذلك، وأنا أتقدم إليه أن يكف عنا).
وهذه العبارة أشد تعابير الإمام (عليه السلام) في ذم الفضل (رحمه الله)، فقد جعل تقوية الفضل لموقف الذين شكوا بوكالة أيوب الناب، اعتراضاً عليه.
ويظهر أن الدهقان وكيل الإمام العسكري (عليه السلام) في بغداد، كانت له علاقة بشيعة نيسابور، لأن الإمام (عليه السلام) أمر الرسول أن يقرأ كتابه عليه، ولأن الذين آذوا أيوب الناب اتهموه بأنه ليس مبعوثاً من الأصل، وكأنهم يشيرون الى أنه رسول من الوكيل الدهقان.
3. لا بد أن يكون الدهقان المذكور غير عروة بن يحيى الدهقان، الملعون على لسان الإمام العسكري (عليه السلام) لأن الملعون لم يكن وكيلاً، بل كان يعمل مع الوكيل أبي علي الحسن بن راشد (رحمه الله) وهلك بدعاء الإمام (عليه السلام)، ولا ينطبق عليه قول الإمام العسكري (عليه السلام): (فإذا وردت بغداد فاقرأه على الدهقان وكيلنا وثقتنا، والذي يقبض من موالينا).
وقال الكشي عن عروة بن يحيى الدهقان (2/842): (وكان يكذب على أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا (عليهم السلام) وعلى أبي محمد الحسن بن علي بعده، وكان يقطع أمواله لنفسه دونه ويكذب عليه، حتى لعنه أبو محمد (عليه السلام) وأمر شيعته بلعنه).
وقد جعل السيد الخوئي (رحمه الله) الدهقان واحداً، قال (12/154): (تقدم في ترجمة إبراهيم بن عبدة: التوقيع الذي حكاه بعض الثقات المتضمن لقول
الإمام (عليه السلام) لإسحاق بن إسماعيل، فإذا وردت بغداد فاقرأه على الدهقان وكيلنا وثقتنا. ولكن الظاهر أنه كان قبل انحرافه وضلالته، وقد كان جملة من وكلائهم سلام الله عليهم قد ضلوا وانحرفوا عن الحق وغرتهم الدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى! نعوذ بالله من سوء العاقبة).
3. يبدو أن الفضل لم تكن علاقته حسنة بالشيعة المتهمين بالغلو في نيسابور، وأنه كان منهم من يتكلم عليه بغير حق. ونلاحظ أن الإمام (عليه السلام) وبخ الفضل لموقفه السلبي من رسوله أيوب بن الناب، وأنه كان عاملاً في فشل مهمته، وقد نزل أيوب عند المتهمين بالغلو، وهذا خطأ كبير من الفضل، لكن الإمام (عليه السلام) لم يطعن في عقيدته وأمانته، ثم ترحم عليه مرتين فأخبر بموته.
وكفى بترحم الإمام (عليه السلام) رضاً وشهادة. ولذلك اتفق علماؤنا القدماء والمتأخرون على جلالة الفضل (رحمه الله) وهو معنى قول العلامة (رحمه الله): (وهذا الشيخ أجل من أن يغمز عليه، فإنه رئيس طائفتنا (رضي الله عنه)).
4. ترى في الرسالتين غضب المعصوم صلوات الله عليه، وتوبيخه لبعض شيعته، وغضب المعصوم (عليه السلام) يعني غضب الله تعالى، وهو ما لا تقوم له السماوات والأرض، ولا يطفؤه إلا رضاه.
ومن هذا النوع غضب الإمام المهدي صلوات الله عليه الذي رواه محمد بن جعفر المشهدي في كتاب المزار /566، وجاء فيه: (بعد الجواب عن المسائل بسم الله الرحمن الرحيم، لا لأمر الله تعقلون، ولا من أوليائه تقبلون، (حكمةٌ بالغةٌ، وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).
ولم يُسَمِّ الراوي هؤلاء المغضوب عليهم، لكن مشكلتهم شبيهة بمشكلة أهل نيسابور، التي وصفها والده الإمام العسكري (عليه السلام).
5.يظهرمن الرسالتين أن مشكلة الشيعة في نيسابور كانت في تفسيراتهم المتضاربة المتناقضة لما يطرحه وكلاء الأئمة (عليهم السلام) من عقيدة الإمامة، وعدم الإحتكام فيها الى المعصوم (عليه السلام)! فصارت المطالب العالية بيد العوام، وحكمت عليهم التعصبات بدل الرجوع الى الإمام (عليه السلام)! لهذا تركز توبيخ الإمام (عليه السلام) على عدم الرجوع اليه، وعدم إطاعة وكلائه.
6. أرسل الإمام (عليه السلام) أولاً وكيله أيوب النابي (رحمه الله) فواجه صعوبات وأذىً من بعض الشيعة، ولم يستطع القيام بهداية الناس، واتهمه بعضهم بأنه ليس مبعوثاً من الإمام (عليه السلام) بل من أحد وكلائه كالدهقان في بغداد مثلاً، ولم يقبلوا منه، ولم يدفعوا اليه حق الإمام (عليه السلام)، فسحبه الإمام (عليه السلام) وأرسل الثاني، وقد يكون الأول أفضل من الثاني، لكن لا بد من تغييره. لاحظ قول الإمام (عليه السلام): (أنتم في غفلة عما إليه معادكم، ومن بعد النابي رسولي، وما ناله منكم حين أكرمه الله بمصيره إليكم، ومن بعد إقامتي لكم إبراهيم بن عبده، وفقه الله لمرضاته، وأعانه على طاعته، وكتابي الذي حمله محمد بن موسى النيسابوري، والله المستعان على كل حال).
7. يذكرنا أهل نيسابور باهل البصرة يوم أرسل اليهم الإمام الرضا (عليه السلام) يونس بن عبد الرحمن (رحمه الله)، ليصحح عقائدهم فلم يقبلوا منه، فسحبه منهم.
وقد روى السيد الخوئي قصته بروايتين عن ابن شاذان وصححهما، قال (21/216): (حدثني أبو جعفر البصري وكان ثقة فاضلاً صالحاً، قال:
دخلت مع يونس بن عبد الرحمن على الرضا (عليه السلام) فشكا إليه ما يلقى من أصحابه من الوقيعة، فقال الرضا (عليه السلام): دارهم فإن عقولهم لاتبلغ...قيل له: إن كثيراً من هذه العصابة يقعون فيك ويذكرونك بغيرالجميل، فقال: أشهدكم أن كل من له في أمير المؤمنين (عليه السلام) نصيب فهو في حل مما قال).
وروى الكشي (2/782) عن جعفر بن عيسى قال: (كنا عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وعنده يونس بن عبد الرحمن، إذ استأذن عليه قوم من أهل البصرة، فأومأ أبو الحسن (عليه السلام) إلى يونس: أدخل البيت، فإذا بيت مسبل عليه ستر، وإياك أن تتحرك حتى تؤذن لك. فدخل البصريون وأكثروا من الوقيعة والقول في يونس، وأبو الحسن (عليه السلام) مطرقٌ حتى لما أكثروا وقاموا فودعوا وخرجوا: فأذن ليونس بالخروج، فخرج باكياً فقال: جعلني الله فداك أني أحامي عن هذه المقالة، وهذه حالي عند أصحابي فقال له أبو الحسن (عليه السلام): يا يونس وما عليك مما يقولون إذا كان إمامك عنك راضياً، يا يونس حدث الناس بما يعرفون واتركهم مما لا يعرفون، كأنك تريد أن تكذب على الله في عرشه.يا يونس وما عليك أن لو كان في يدك اليمنى درة ثم قال الناس بعرة، أو قال الناس درة، أو بعرة فقال الناس درة، هل ينفعك ذلك شيئاً؟فقلت: لا.فقال: هكذا أنت يا يونس إذ كنت على الصواب وكان إمامك عنك راضياً لم يضرك ما قال الناس)!
8. لم يترك الإمام العسكري (عليه السلام) وضع الشيعة في نيسابور حتى تغلب فيه وجهة نظر أو فئة مثلاً، بل تدخل وطرح الخط الصحيح، وتابع معالجة
وضعهم حتى عاد بعضهم الى خط التشيع الصحيح. ومعناه أن الإمام (عليه السلام) يبادر بالدعوة الى الحق ولا يهتم بالتكذيب، ورضا هذه الفئة أو غضبها.
9. نلاحظ أن وكيل الإمام (عليه السلام) نزل عند الشيعة المتهمين بالإرتفاع، أي بالغلو. وهذا يدل على أن تهمتهم غير صحيحة، فبعضهم يتهم الشيعة بالغلو لأدنى سبب. فيجب التحقق من قولهم: في حديثه ارتفاع، فقد يكون قوله بأن الإمام (عليه السلام) يعلم ما في نفس الشخص ارتفاعاً عندهم! ثم تراهم يقولون إن فلاناً الصوفي عرف ما في نفس فلان، ولا يقولون إنه ارتفاع وغلو!
10. دلت الرسالتان على أهمية فريضة ولاية الأئمة من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن الدين إنما يتم بها، وأن الإمام الرباني المفترض الطاعة أكبر آيات الله تعالى، فالمكذب به ينطبق عليه جزاء المكذب بآيات الله تعالى!
كما فسرت الرسالة قوله تعالى: (كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) بمن قامت عليه البينة بإمامة الإمام (عليه السلام) ثم خالفها.
كما اعتبر الإمام (عليه السلام) أن فرض المودة يشمل فرض خمس أرباح المكاسب. قال: (وفرض عليكم لأوليائه حقوقاً أمركم بأدائها إليهم، ليحل لكم ما وراء ظهوركم من أزواجكم وأموالكم ومآكلكم ومشاربكم. ويعرفكم بذلك النماء والبركة والثروة، وليعلم من يطيعه منكم بالغيب. قال الله (عزَّ وجلَّ): (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)).
فالخمس فيه بعدٌ فقهي هو: حِلُّ ما بقيَ من المال. وبعدٌ تكويني وضعي: هو النماء والبركة في بقية المال. وبعدٌ تعبدي: ليعلم الله من يطيعه بالغيب.
والإمام (عليه السلام) ينفق الخمس على المؤمنين لمصالحهم، ولا يحتاج هو اليه، وإن كان حلالاً له، فأموال الأرض كلها بيده (عليه السلام)، وعنده إسم الله الأعظم.
والإمام في غنى بالله عنهم، وإنما يعمل لهدايتهم رقةً وشفقةً عليهم.
والأمة بحاجة الى الإمام (عليه السلام) في هدايتها ونجاتها في الدنيا والآخرة.
قال (عليه السلام): (ولقد طالت المخاطبة فيما بيننا وبينكم فيما هو لكم وعليكم، ولولا ما نحب من تمام النعمة من الله (عزَّ وجلَّ) عليكم، لما أريتكم لي خطاً، ولا سمعتم مني حرفاً من بعد الماضي...
ونحن بحمد الله ونعمته أهل بيتٍ نَرِقُّ على موالينا، ونُسرُّ بتتابع إحسان الله إليهم وفضله لديهم، ونعتدُّ بكل نعمة ينعمها الله (عزَّ وجلَّ) عليهم...
فما أحب أن يدعى الله جل جلاله بي ولا بمن هو من آبائي، إلا حسب رقتي عليكم، وما أنطوي لكم عليه من حب بلوغ الأمل في الدارين جميعاً، والكينونة معنا في الدنيا والآخرة).
فالذي يدفع الإمام (عليه السلام) الى إرسال رسول وكتابة رسائل اليهم، ومتابعة دعوتهم الى الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته: هو حبه أن تتم نعمة الله عليهم.
وكذلك حبه أن يعرفوا آباءه الأئمة (عليهم السلام) ويدعوا الله تعالى ويتوسلوا اليه بهم، إنما هو لشفقته عليهم وحبه أن يفوزوا في الدارين. وإلا فهو في غنى بربه (عزَّ وجلَّ) عن معرفة من عرفه، وفي أمن بربه (عزَّ وجلَّ) من جهل من جهله.
12. من مهام الإمام (عليه السلام) دعوة الناس الى الله تعالى، ويظهر أنه بالخيار في دعوة بعض الناس وتركههم. وهو أدرى بتكليفه ويختلف عنا في بعض التكاليف.
13. تكشف هذه الرسائل نعمة وجود الإنسان في عصر الإمام (عليه السلام) وفي نفس الوقت الخوف من أن معصيته والهلاك، كما فعل بعض شيعة نيسابور.
فكما أن أوامر الإمام (عليه السلام) رحمة للمؤمن، فعدم أوامره رحمة أيضاً، لأنها تخلصه من أن يكون في معرض مخالفته.
14. في الرسالتين عمق فكري، وشفافية صافية، وحقائق عالية: فقوله (عليه السلام): تمام النعمة دخولك الجنة. يدل على نظرية التكامل الإسلامية.
وقوله (عليه السلام): وأصلح أموركم على يدي، فقد قال الله جل جلاله: (يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ). فقد فرع حشرهم بإمامته (عليه السلام) على دعائه لهم.
وقوله (عليه السلام) لإسحاق بن إسماعيل: الحمد لله مثلما حمد الله به حامد إلى أبد الأبد، بما منَّ عليك من نعمة ونجاك من الهلكة.. يدل على أن المتولي للأئمة (عليهم السلام) يعبر الصراط، ويستبعد أن يكون مختصاً بإسحاق المذكور.
وقال (عليه السلام): فما أحب أن يدعى الله جل جلاله بي ولا بمن هو من آبائي إلا حسب رقتي عليكم: فدعاء الله به أو بآبائه (عليهم السلام)، يحتاج الى عقيدة وإذن منهم.
وقوله (عليه السلام): ولو فهمت الصم الصلاب بعض ما في هذا الكتاب لتصدعت قلقاً خوفاً من خشية الله: يدل على قدرته (عليه السلام) الإقناعية الطبيعية، والتكوينية.
وقوله: وعلى إبراهيم بن عبده سلام الله ورحمته: يدل على مقام إبراهيم (رحمه الله)
وقوله (عليه السلام): العمري (رضي الله عنه) برضاي عنه: يدل على مقام أكبر.
قال صاحب الوسائل (20/298): (إبراهيم بن عبده: ورد التوقيع بوكالته وتوثيقه ومدحه، رواه الكشي ونقله العلامة).
وقوله (عليه السلام): فعل من لم يفهم هذا الأمر قط، ولم يدخل فيه طرفة عين: يدل على الفرق في مخاطبة المعصوم للشيعة عن غيرهم.
وقوله (عليه السلام): ورسولي إلى نفسك: أي فأقنع نفسك بالنيابة عني.
وقوله (عليه السلام): إلا من شيطان مخالف لكم فلاتنثرن الدرَّ بين أظلاف الخنازير ولا كرامة لهم: يدل على أن الناصبي لايعرف قيمة الجواهر، وأنه لا قيمة له.
وقوله (عليه السلام): وقد وقعنا في كتابك بالوصول والدعاء لك ولمن شئت، وقد أجبنا شيعتنا عن مسألته والحمد لله: يدل على أن كتاب إسحاق بن إسماعيل كان يتضمن مسائل وطلبات من شيعة نيسابور. ولم تصلنا إجاباتها للأسف.
15. دلت الرسالتان على مقام خاص لإسحاق بن إبراهيم، وإبراهيم بن عبده، ومحمد بن موسى النيسابوريين، رضوان الله عليهم. خاصة دعاء الإمام الحنون لإسحاق: سترنا الله وإياكم يا إسحاق بستره، وتولاك في جميع أمورك بصنعه، والسلام عليك وعلى جميع مواليَّ ورحمة الله وبركاته.
وإن كان بعضهم أو كلهم مشمولين بالعتب والتوبيخ في قوله (عليه السلام): (لقد كانت منكم أمور في أيام الماضي إلى أن مضى لسبيله، صلى الله على روحه، وفي أيامي هذه، كنتم بها غير محمودي الشأن ولا مسددي التوفيق... فأين يتاه بكم وأين تذهبون كالأنعام على وجوهكم، عن الحق تصدفون وبالباطل تؤمنون وبنعمة الله تكفرون، أوتكونون ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.. وأنت رسولي يا إسحاق إلى إبراهيم بن عبده وفقه الله، أن يعمل بما ورد عليه في كتابي مع محمد بن موسى
النيسابوري إن شاء الله، ورسولي إلى نفسك، والى كل من خلفك ببلدك...).
كما وردت فيها أسماء عدد من الوكلاء والممدوحين مثل: (الرازي (رضي الله عنه)، والبلالي (رضي الله عنه)، فإنه الثقة المأمون العارف بما يجب عليه والمحمودي عافاه الله، فما أحمدنا له لطاعته، فإذا وردت بغداد فاقرأه على الدهقان وكيلنا وثقتنا). وهو غير عروة بن يحيى، الملعون.
16. تدل الرسالة الثانية على تخبط الشيعة في عقيدتهم في الأئمة (عليهم السلام). فالوحي الذي ينقطع بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو وحي النبوة، لا الإمامة.
وقد رد الإمام (عليه السلام) مقولتهم: (النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن عنده كمال العلم ولا كان عند أحد من بعده) لأنها تنتقص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا تميز بين علم وعلم.
وقول بعضهم عن الفضل إنه يقول إن الله في السماء السابعة فوق العرش وإنه جسم، مكذوب على الفضل (رحمه الله).
ووصف الإمام لهم بالمعطلة، لأنهم لا يعرفون إماماً ولا يتولون ولياً!
وقوله (عليه السلام): (وأذن لنا في دعائكم إلى الحق، وكتبنا إليكم بذلك، وأرسلنا إليكم رسولاً، لم تصدقوه، فاتقوا الله عباد الله، ولاتلجوا في الضلالة من بعد المعرفة). يدل على الإذن العام من الله تعالى للأئمة (عليهم السلام) في الدعوة اليه، وعلى الإذن الخاص للإمام العسكري (عليه السلام) في دعوة أهل نيسابور.
وقوله (عليه السلام): (وأرسلنا إليكم رسولاً)، لم تصدقوه، يدل على تأثر الإمام (عليه السلام) وغضبه من رد رسوله ووكيله أيوب النابي (رضي الله عنه).
وتقدم أن قوله (عليه السلام): وهذا الفضل بن شاذان مالنا وله، يفسد علينا موالينا.. توبيخٌ شديد للفضل، وتهديد له إن لم يقلع عن التشكيك فيمن يرسلهم الإمام (عليه السلام). لكن يرفع خطر ذلك مدح الإمام (عليه السلام) للفضل (رحمه الله).
هذا، وقد رويت بعض رسائل الإمام (عليه السلام) الى نيسابور، ففي الكشي(2 /848): (قال أبو عمرو: حكى بعض الثقات أن أبا محمد صلوات الله عليه كتب إلى إبراهيم بن عبده: وكتابي الذي ورد على إبراهيم بن عبده بتوكيلي إياه لقبض حقوقي من موالينا هناك: نعم هو كتابي بخطي إليه، أعني إبراهيم بن عبده، لهم ببلدهم، حقاً غير باطل، فليتقوا الله حق تقاته وليخرجوا من حقوقي وليدفعوها إليه، فقد جوزت له ما يعمل به فيها، وفقه الله ومَنَّ عليه بالسلامة من التقصير برحمته.
ومن كتاب له (عليه السلام) إلى عبد الله بن حمدويه البيهقي: وبعد، فقد نصبت لكم إبراهيم بن عبده، ليدفعَ النواحي وأهل ناحيتك حقوقي الواجبة عليكم إليه، وجعلته ثقتي وأميني عند مواليَّ هناك فليتقوا الله وليراقبوا وليؤدوا الحقوق، فليس لهم عذر في ترك ذلك ولا تأخيره. ولا أشقاهم الله بعصيان أوليائه، ورحمهم الله وإياك معهم برحمتي لهم، إن الله واسع كريم).
ما وصلنا من مؤلفات الفضل بن شاذان (رحمه الله)
كان علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري تلميذه الخاص وراوية كتبه ومنسقها، ويظهر أنه أعطاه صلاحية اختيار إسم بعضها، فقد قال الطوسي في الفهرست
/198: (وكتاب جمع فيه مسائل متفرقة لأبي ثور والشافعي والأصفهاني وغيرهم، سماه تلميذه علي بن محمد بن قتيبة: كتاب الديباج).
وكتب الفضل (رحمه الله) كأكثر علمائنا رضوان الله عليهم، لم يصلنا منها إلا كتاب الإيضاح أو الديباج، وكتاب الغيبة، ويسمى مختصر إثبات الرجعة، ويسمى منتخب الرجعة. ولعل المقصود رجعة الإمام المهدي (عليه السلام) بمعنى ظهوره، ورجعة دولة أهل البيت (عليهم السلام) وحكمهم.
وفي الذريعة (16/79): (كتاب الغيبة للحجة. للشيخ المتقدم أبي محمد فضل بن شاذان الأزدي النيسابوري.. وهو غير كتاب إثبات الرجعة له، كما صرح بتعددهما النجاشي.. وكان موجوداً عند السيد محمد بن محمد مير لوحي الحسيني الموسوي السبزواري، المعاصر للمولى محمد باقر المجلسي على ما يظهر من نقله عنه في كتابه الموسوم: كفاية المهتدي في أحوال المهدي (عليه السلام)).
وفي فهرس التراث للجلالي (1/282): (إثبات الرجعة: نسخة محفوظة في مكتبة السيد الحكيم (قدس سره) في النجف.. كانت النسخة في ملك الشيخ الحر العاملي، وكتب عليها ما نصه: هذا ما وجدناه منقولاً في رسالة إثبات الرجعة للفضل بن شاذان، بخط بعض فضلاء المحدثين، وقد قوبل بأصله، حرّره محمد الحر).
وعددها الطوسي في الفهرست/197، وقال: (فقيه متكلم، جليل القدر. له كتب ومصنفات.. أخبرنا برواياته وكتبه هذه أبو عبد الله المفيد (رحمه الله) عن محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، عن محمد بن الحسن، عن أحمد بن إدريس، عن علي بن محمد بن قتيبة، عنه. ورواها أيضاً: محمد بن علي بن الحسين بن بابويه، عن حمزة بن محمد العلوي، عن أبي نصر قنبر بن علي بن شاذان، عن أبيه عنه).
فقيه اشتهرت آراؤه في مصادر الفقه (رحمه الله)
تجد في أبواب الفقه المختلفة وخاصة في الفرائض أي المواريث أن الفقهاء يذكرون آراء الفضل بن شاذان (رحمه الله). وهذه نماذج منها:
قال الصدوق (رحمه الله) في المقنع/491: (وإذا تركت المرأة زوجها وابن ابنها فإن الفضل بن شاذان النيسابوري (رحمه الله) قال: للزوج الربع وما بقي فلولد الولد، وكذلك إذا ترك الرجل امرأة وابن ابن، فللمرأة الثُّمن وما بقي فلابن الإبن، ولم أرْوِ بهذا حديثاً عن الصادقين (عليهما السلام).
وإذا مات وترك ابن أخ لأُم وابن ابن ابن أخ لأب، فإن الفضل بن شاذان قال: لابن الأخ من الأُم السُّدس، وما بقي فلابن ابن ابن الأخ للأب. ولم أرو بهذا حديثاً ولم أجده في غير كتابه. وغلط الفضل في ذلك والمال كله عندنا لابن الأخ للأُم، لأنه أقرب وهو أولى ممن سفل).
وقال المحقق الحلي في المعتبر:1/33: (لما كان فقهائنا رضوان الله عليهم في الكثرة إلى حد يتعسر ضبط عددهم، ويتعذر حصر أقوالهم لاتساعها وانتشارها وكثرة ما صنفوه، وكانت مع ذلك منحصرة في أقوال جماعة من فضلاء المتأخرين، اجتزأت بإيراد كلام من اشتهر فضله، وعرف تقدمه في نقل الأخبار وصحة الإختيار وجودة الإعتبار، واقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل على ما بان فيه اجتهادهم، وعرف به اهتمامهم، وعليه اعتمادهم. فممن اخترت نقله الحسن بن محبوب، ومحمد بن أبي نصر البزنطي، والحسين بن سعيد، والفضل بن شاذان، ويونس بن
عبد الرحمن. ومن المتأخرين أبو جعفر محمد بن بابويه القمي، ومحمد بن يعقوب الكليني، ومن أصحاب كتب الفتاوى علي بن بابويه، وأبو علي بن الجنيد، والحسن بن أبي عقيل العماني، والمفيد محمد بن محمد بن النعمان، وعلم الهدى، والشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي).
وقال العلامة في تحرير الأحكام (5/15): (أولاد الأولاد يقومون مقامَ آبائهم عند عدمهم في مقاسمة الأبوين، وفي حجبهما عن أعلى السهمين إلى أدناهما. وشرط ابن بابويه في توريثهم عدم الأبوين، وأخذ على الفضل بن شاذان في قوله بمثل ما قلناه).
وقال الشهيد الأول في الذكرى (3/213): (الثانية عشرة: ذكر الفضل بن شاذان في العلل عن الرضا (عليه السلام) أنه قال: إنما امر الناس بالأذان تذكيراً للناسي، وتنبيهاً للغافل، وتعريفاً لجاهل الوقت، وليكون المؤذن داعياً إلى عبادة الخالق بالتوحيد، مجاهراً بالإيمان، معلناً بالإسلام.
وإنما بدئ فيه بالتكبير وختم بالتهليل، لأن الله تعالى أراد أن يكون الإبتداء بذكره والإنتهاء بذكره، وإنما ثني ليتكرر في آذان المستمعين، فإن سها عن الأول لم يسه عن الثاني).
أما مروياته من الأحاديث فهي أكثر وأسع انتشاراً، وهذه نماذج منها:
قال الصدوق في التوحيد/269: (حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار (رضي الله عنه) بنيسابور، سنة اثنتين وخمسين وثلاث مائة قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري قال: سمعت الفضل
بن شاذان يقول: سأل رجل من الثنوية أبا الحسن علي بن موسى الرضا وأنا حاضر فقال له: إني أقول إن صانع العالم اثنان، فما الدليل على أنه واحد؟ فقال: قولك إنه اثنان دليل على أنه واحد لأنك لم تدع الثاني إلا بعد إثباتك الواحد فالواحد مجمع عليه وأكثر من واحد مختلف فيه).
وفي إثبات الهداة (3 /569) عن الفضل بن شاذان في كتاب إثبات الرجعة عن محمد بن عبد الجبار قال: قلت لسيدي الحسن بن علي (عليهما السلام): يا ابن رسول الله جعلني الله فداك: أحب أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك؟ فقال: إن الإمام وحجة الله من بعدي ابني سميُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكنِيُّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه، قلت: ممن هو يا بن رسول الله؟ قال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم، ألا إنه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة ثم يظهر).
الفصل الحادي عشر: والدة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
أمهات الأئمة (عليهم السلام) يختارهن الله تعالى بعلمه
قد يبدو لنا الشيء عادياً، بينما يكون مقصوداً لله قصداً، ومخططاً لحدوثه تخطيطاً. ومن هذا النوع ما يتعلق بالمعصوم (عليه السلام) من خَلْقه وخُلُقه، وقوله وعمله، وحياته وموته، لأن المعصوم أعظم آية لله تعالى، فقد ورد أن أعطم آية في القرآن البسملة، ثم آية الكرسي، وأعظم آية لله تعالى في خلقه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم علي وبقية المعصومين (عليهم السلام).
فالمعصوم مخلوقٌ أَعَدَّهُ الله على عينه واصطنعه لنفسه، ليكون حجته على خلقه، وقدوة الأجيال في معرفة الله وعبادته.
ونحن لا نعرف من العلم إلا ظاهر بعض الأشياء، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا). ولو كشف لنا الغطاء لأخذتنا الدهشة والخشوع لحكمة الله العميقة، وخططه الدقيقة.
ومن ذلك اختيار أمهات الأئمة (عليهم السلام) من شعوب مختلفة، وكيف يرعى الله الواحدة منهن لتتم إرادته، ويخلق منها ومن زوجها وليه وحجته!
قال الإمام الرضا (عليه السلام): (للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس،
وأعبد الناس، ويولد مختوناً، ويكون مطهراً، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه، ولا يكون له ظل، وإذا وقع إلى الأرض من بطن أمه وقع على راحتيه، رافعاً صوته بالشهادتين، ولا يحتلم، وتنام عينه ولا ينام قلبه، ويكون محدَّثاً (تحدثه الملائكة) ويكون دعاؤه مستجاباً، حتى أنه لودعا على صخره لانشقت بنصفين.. إن الإمام مؤيدٌ بروح القدس، وبينه وبين الله عمودٌ من نور، يرى فيه أعمال العباد، وكلما احتاج إليه.. يبسط له فيعلم، ويقبض عنه فلا يعلم). (عيون أخبار الرضا (عليه السلام):1/192).
ظاهرة تنوع أمهات الأئمة (عليهم السلام)
شاء الله تعالى بحكمته أن تتنوع أمهات الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام) فكانت أم إسماعيل (عليه السلام) مصرية قبطية، وأم الإمام زين العابدين (عليه السلام) فارسية، وأم الإمام الكاظم والإمام الرضا (عليه السلام) مغربية، وأم الإمام الجواد (عليه السلام) إفريقية، وأم الإمام الهادي (عليه السلام) مغربية، وأم الإمام المهدي (عليه السلام) رومية. وأم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مغربية، وإسمها سليل وتسمى حُدَيْث بالتصغير، وقيل غزالة المغربية. (الهداية الكبرى/227).
قال في عيون المعجزات/123: (إسم أمه على ما رواه أصحاب الحديث: سليل (رضي الله عنها)، وقيل حُدَيْث، والصحيح سليل، من العارفات الصالحات. وروي أنه (عليه السلام) ولد في سنة إحدى وثلاثين ومأتين من الهجرة).
ولما أُدخلت سليل على الإمام الهادي (عليه السلام) قال: (سليلٌ مسلولة من الآفات والعاهات، والأرجاس والأنجاس، ثمّ قال لها: سيهب الله لك حجته
على خلقه يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً).(إثبات الوصية:2/244). يقصد حفيدها الإمام الثاني عشر الموعود (عليه السلام).
وفي تاريخ الأئمة للبغدادي/26: (أم الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام): سمانة مولَّدة، ويقال أسماء. شك ابن أبي الثلج). ومعنى مولَّدة: أنها ولدت في بلاد المسلمين لا في المغرب، من أم مغربية، أو أبوين مغربيين.
أما السبب في تعدد أسماء الواحدة منهن، فهو أن الأئمة (عليهم السلام) كانوا يُغيرون أسماءهن، لأن الخليفة كان يشدد الرقابة عليهم، ويوظف جاسوسات يأتينه بأخبار بيت الإمام (عليه السلام)، ومن هي حامل من جواريه، وزاد ذلك لما اقترب الأمر من الإمام الثاني عشر، لأنه المهدي (عليه السلام) الذي ينهي حكم الجبابرة.
نلاحظ أنهم لما حبسوا جارية الإمام العسكري (عليه السلام) التي شكوا أنها حامل: (فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفق وخدمه، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب، يتعاهدن أمرها في كل وقت). (كمال الدين/473).
كانت أم الإمام العسكري (عليه السلام) تسكن في المدينة
ولد الإمام العسكري (عليه السلام) في المدينة المنورة في مزرعتهم صِرْيَا، سنة إحدى وثلاثين ومئتين، كما روى في عيون المعجزات/123.
قال اليعقوبي (2/500): (توفي علي بن محمد... بسر من رأى.. سنة 254.. وسنه أربعون سنة، وخلَّف من الولد الذكور اثنين: الحسن، وجعفر).
وقال ابن شدقم في تحفة الأزهار/ 461: (خلف أربعة بنين: أبا محمد الحسن العسكري (عليه السلام)، أمه أم ولد، والحسين، وأبا علي محمداً، وأبا كرين جعفراً الكذاب، وعايشة، أمهاتهم أمهات أولاد).
وقد اتفقت مصادر الأنساب على أن أبناء الإمام الهادي (عليه السلام) ثلاثة غير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): وهم محمد وحسين وجعفر، المعروف بجعفر الكذاب.
ولم يكن لأم الإمام العسكري (عليه السلام) ولد غيره، فإخوته من أبيه من أمهات أخر.
وروى المسعودي في إثبات الوصية (1/244) أن الإمام العسكري سافر مع أبيه الى سامراء وكان عمره أربع سنوات، قال: (وحملت أمه به بالمدينة وولدته بها، فكانت ولادته ومنشؤه مثل ولادة آبائه صلى الله عليهم ومنشئهم. وولد في سنة إحدى وثلاثين ومأتين من الهجرة، وسن أبي الحسن (عليه السلام) في ذلك الوقت ستة عشرة سنة وشهوراً، وشخص بشخوصه الى العراق في سنة ست وثلاثين ومأتين، وله أربع سنين وشهور).
لكن رجحنا في سيرة الإمام الهادي (عليه السلام) أن ولادته كانت سنة 212، فيكون عمره عندما رزق بالإمام الحسن (عليه السلام) تسع عشرة سنة أو عشرين. كما رجحنا أن إحضاره الى سامراء كان عدة مرات، وكان يتخلص من الخليفة، حتى كان آخر إحضار له سنة 243، فحضر مع عياله ومعه الإمام العسكري (عليه السلام) وكان عمره اثنتا عشرة سنة. وطبيعي أن تكون والدته مع ابنها وزوجها. لكنها كانت في حياة الإمام العسكري (عليه السلام) في المدينة، وكانت تتسقط أخباره. فلا بد أن يكون أمرها أن تبقى في المدينة الى ما بعد وفاته (عليه السلام).
قال المسعودي في إثبات الوصية (1/255): (ثم أمر أبو محمد (عليه السلام) والدته بالحج في سنة تسع وخمسين ومائتين، وعرَّفها ما يناله في سنة الستين، وأحضر الصاحب (عليه السلام) فأوصى إليه، وسلم الإسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه. وخرجت أم أبي محمد مع الصاحب (عليه السلام) جميعاً الى مكة،
وكان أحمد بن محمد بن مطهر أبو علي المتولي لما يُحتاج إليه، الوكيل، فلما بلغوا بعض المنازل من طريق مكة تلقى الأعراب القوافل فأخبروهم بشدة الخوف وقلة الماء، فرجع أكثر الناس إلا من كان في الناحية فإنهم نفذوا وسلموا. وروي أنه ورد عليهم (عليه السلام) بالنفوذ.
ومضى أبو محمد (عليه السلام) في شهر ربيع الآخر سنة ستين ومائتين، ودفن بسر من رأى الى جانب أبيه أبي الحسن صلى الله عليهما، فكان من ولادته الى وقت مضيه تسع وعشرون سنة، منها مع أبي الحسن ثلاث وعشرون سنة، وبعده منفرداً بالإمامة ست سنين).
وفي الكافي (1/508): (عن أبي علي المطهر أنه كتب إليه سنة القادسية يعلمه انصراف الناس وأنه يخاف العطش، فكتب (عليه السلام): إمضوا فلا خوف عليكم إن شاء الله، فمضوا سالمين، والحمد لله رب العالمين).
وسنة القادسية: سنة 259، حيث رجع الحجاج من القادسية، لمَّا بلغهم خطر الطريق بسبب غارات الأعراب، وبسبب الحر والعطش.
وأبو علي المطهر هذا، هو كما في مستدركات النمازي (1/476): (أحمد بن محمد بن مطهر أبو علي المطهر، صاحب كتاب معتمد، صاحب أبي محمد العسكري صلوات الله عليه، والقيم على أموره، ويشهد على أنه كان قيماً لأموره ومتولياً لما يحتاج إليه إثبات الوصية.. وهو من أصحاب الأصول التي اعتمد عليها الصدوق وحكم بصحتها واستخرج أحاديث كتابه الفقيه منها).
وفي إثبات الوصية للمسعودي (1/253): (عن إبراهيم بن مهزيار، عن محمد بن أبي الزعفران، عن أم أبي محمد (عليه السلام) قال: قال لي يوماً من الأيام:
يصيبني في سنة ستين ومئتين حزازةٌ، أخاف ان أُنكب منها نكبة. قالت: فأظهرت الجزع وأخذني البكاء. قال: لابد من وقوع أمر الله، لاتجزعي! فلما كان في صفر سنة ستين ومائتين أخذها المقيم والمقعد، وجعلت تخرج في الأحايين الى خارج المدينة تجسس الأخبار، حتى ورد عليها الخبر حين حبسه المعتمد في يدي علي بن جَرِين، وحبس أخاه جعفراً معه).
ملاحظات
1. يدل إبقاء الأمام (عليه السلام) والدته في المدينة على وجود مصلحة دينية تستدعي ذلك، وعلى أهليتها للقيام بتلك المسؤولية. وهو مقامٌ يعني الكفاءة والثقة، ويدل عليه أيضاً وصية الإمام العسكري (عليه السلام) لها، وإرجاع السيدة حكيمة بنت الجواد (عليه السلام) اليها، على جلالتها في أهل البيت (عليهم السلام) ومكانتها في المذهب.
ففي كمال الدين/507: (أحمد بن إبراهيم قال: دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا أخت أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) في سنه اثنتين وستين ومائتين [بالمدينة] فكلمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها فسمت لي من تأتم بهم، ثم قالت: والحجة ابن الحسن بن علي فسمته، فقلت لها: جعلني الله فداك معاينة أو خبراً؟ فقالت خبراً عن أبي محمد (عليه السلام) كتب به إلى أمه فقلت لها: فأين الولد؟ فقالت: مستور، فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟ فقالت: إلى الجدة أم أبي محمد (عليه السلام)، فقلت لها: أقتدي بمن وصيته إلى امرأة؟ فقالت: اقتداءً بالحسين بن علي (عليهما السلام) فإن الحسين بن
علي أوصى إلى أخته زينب بنت علي في الظاهر، فكان ما يخرج عن علي بن الحسين (عليهما السلام) من علم ينسب إلى زينب ستراً على علي بن الحسين!
ثم قالت: إنكم قوم أصحاب أخبار، أما رويتم أن التاسع من ولد الحسين بن علي، يقسم ميراثه وهو في الحياة)!
ويظهر من الحديث أن حكيمة رضوان الله عليها كانت محتاطة في حديثها مع الراوي، ولذلك لم تقل له أنا داية المهدي بن الحسن (عليهما السلام) وشاهدة ولادته، بل قالت إن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كتب الى أمه في المدينة يخبرها بولادة ابنه المهدي (عليه السلام). وهي صادقة في ذلك، كما أنها صادقة في إرجاعهم الى من أوصى له الإمام في الظاهر وهو والدته (عليه السلام)، وقد سمتها الجدة أي جدة المهدي (عليه السلام).
2. تقول رواية المسعودي إن الإمام (عليه السلام) أحضر والدته وابنه المهدي (عليه السلام) من المدينة سنة 259: (وعرفها ما يناله في سنة الستين وأحضر الصاحب (عليه السلام) فأوصى إليه، وسلم الإسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه. وخرجت أم أبي محمد مع الصاحب (عليه السلام) جميعاً الى مكة).
أقول: لابد أن الإمام (عليه السلام) أعلن هذا العمل رداً على ما أشاعته السلطة من أنه لا ولد له، فأجابهم بأن له ولداً في المدينة وقد أوصى له، وأوصى لجدته التي ترعاه. وكذلك إعلانه أنه أرسله مع جدته الى الحج ومعه قسم من عائلته، وأرسل معهم بعض ثقاته ليدير أمور سفرهم.
كل ذلك، ليجيب على شائعات السلطة بأنه لا ولد له، وإلا فإن إحضار الإمام لابنه (عليه السلام) لا يحتاج الى إرسال خلفه، فإن المعصوم (عليه السلام) ينتقل بطي الأرض، بل بنية الإنتقال الى المحل الذي يريده!
3. مفهوم الرواية أن الإمام العسكري (عليه السلام) أرسل والدته وابنه المهدي (عليه السلام) وبقية عائلته مع ثقته أحمد بن محمد بن مطهر، وأنه راسله من القادسية يسأله هل يرجع كما رجع أكثرالحجاج خوفاً من العطش وقطاع الطريق، أو يواصل السير، فأمره أن يواصل سيره، فسار بهم ووصلوا سالمين.
وقد يصح ذلك لكن على غير الإمام المهدي (عليه السلام) وجدته، لأنهما لايحتاجان الى إرسال أحد معهما، فلا يعلم أنهما كانا مع ابن المطهر من أول الأمر.
أوصى لها الإمام (عليه السلام) وثبتت جدارتها
روى الصدوق (رحمه الله) في كمال الدين/473: (عن محمد بن الحسين بن عَبَّاد أنه قال: مات أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) يوم جمعة مع صلاة الغداة، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة، ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية وعقيد الخادم ومن علم الله (عزَّ وجلَّ) غيرهما...
قال: وقال لي عباد في هذا الحديث: قدمت أم أبي محمد (عليه السلام) من المدينة واسمها حُدَيْث، حين اتصل بها الخبر إلى سر من رأى، فكانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر، ومطالبته إياها بميراثه، وسعايته بها إلى السلطان، وكشفه ما أمر الله (عزَّ وجلَّ) بستره، فادعت عند ذلك صقيل أنها حامل، فحُملت إلى دار المعتمد، فجعل نساء المعتمد وخدمه ونساء الموفق وخدمه، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب، يتعاهدن أمرها في كل وقت ويراعون، إلى أن دهمهم أمر الصفار وموت
عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتة، وخروجهم من سر من رأى، وأمر صاحب الزنج بالبصرة وغير ذلك، فشغلهم ذلك عنها).
وفي دلائل الإمامة/424: (ما شغلهم عنها وعن ذكر من أعقب (عليه السلام)، من أجل ما يشاء الله ستره، وحسن رعايته بمنه وطوله).
ملاحظات
1. قوله: (ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية وعقيد الخادم ومن علم الله (عزَّ وجلَّ) غيرهما). يقصد به الإمام المهدي (عليه السلام) فقد ورد أنه حضر وفاة أبيه (عليه السلام)، كما نذكره في فصل وفاته (عليه السلام).
2. كان بإمكان الإمام العسكري (عليه السلام) أن يترك الأمر بعده للسلطة، لتشيع ما تريد، وتعطي إرثه الى أخيه. لكن القضية عنده (عليه السلام) أنه يجب أن تكون أبواب الهدى مفتوحة كما هي أبواب الضلال، فكما توجد مؤشرات لعدم وجود ولدٍ له وإمام بعده، يجب الحرص على المؤشرات التي ترشد طالب الحق الى ولادة الإمام المهدي ووجوده بعد أبيه (عليه السلام). وهذا هو التوازن المطلوب لله تعالى.
لذلك كان من أعظم الجهاد في ذلك الوقت تعريف المسلمين بولادة الإمام المهدي صلوات الله عليه، وهو ما قام بأدائه الإمام العسكري (عليه السلام) مع الفعالين من شيعته، ابتداء من إخباره به قبل ولادته، ثم بإخباره الواسع بولادته، ثم بإراءته للناس، ثم بوصيته له ووصيته به.
وكانت خطته (عليه السلام) أن يبقى بيته بعد وفاته مفتوحاً أطول مدة ممكنة، وأن تحضر والدته من المدينة، لتقف في وجه أخيه جعفر الكذاب، الذي يدعي أنه وارث الإمام لأنه لا ولد له، وتُبرز وصية الإمام (عليه السلام) لها.
وهكذا كان، فقد قامت بدورها خير قيام، وكانت النتيجة كما قال ابن رئيس الوزراء: (قسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر، وادعت أمه وصيته، وثبت ذلك عند القاضي. والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده). (الكافي:1/305).
ومن هذا الباب كان ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) في أوقات حرجة وزجره لجعفر عن فعله. وقد روي ظهوره أمام المسؤولين في الصلاة على أبيه (عليه السلام)، وعندما اشتد نزاع جعفر لوالدته، وعندما أراد جعفر منع دفنها في منزل الإمام (عليه السلام).
جاء في خبر الصلاة على الإمام (عليه السلام): (فتقدم جعفر ليصلي عليه فلما همَّ بالتكبير، خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط وبأسنانه تفليج، فجذب رداء جعفر وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي، فتأخر جعفر وقد ارْبَدَّ وجهه، فتقدم الصبي وصلى عليه). (الخرائج: 3/1101).
وفي كمال الدين/442: (عن محمد بن صالح بن علي بن محمد بن قنبر الكبير مولى الرضا (عليه السلام) قال: خرج صاحب الزمان على جعفر الكذاب من موضع لم يعلم به عندما نازع في الميراث بعد مضي أبي محمد (عليه السلام) فقال له: يا جعفر مالك تعرض في حقوقي؟ فتحير جعفر وبهت، ثم غاب عنه
فطلبه جعفر بعد ذلك في الناس فلم يره! فلما ماتت الجدة أم الحسن أمرت أن تدفن في الدار فنازعهم وقال هي داري لاتدفن فيها، فخرج (عليه السلام) فقال: يا جعفر أدارك هي! ثم غاب عنه فلم يره بعد ذلك).
3. نقل الشيخ الصدوق (رحمه الله) (كمال الدين/107) رد ابن قبة على ادعاءات جعفر بقوله: (ثم ظهر لنا من جعفر ما دلنا على أنه جاهل بأحكام الله (عزَّ وجلَّ) وهو أنه جاء يطالب أم أبي محمد بالميراث، وفي حكم آبائه أن الأخ لا يرث مع الأم، فإذا كان جعفر لايحسن هذا المقدار من الفقه حتى تبين فيه نقصه وجهله، كيف يكون إماماً؟وإنما تعبدنا الله بالظاهر من هذه الأمور ولو شئنا أن نقول لقلنا، وفيما ذكرناه كفاية ودلالة على أن جعفراً ليس بإمام).
4. يظهر من حديث تمريض الإمام العسكري (عليه السلام) أن صقيلاً الجارية وعقيداً الخادم كانا من أوثق الناس عند الإمام (عليه السلام). ويظهر من ادعاء صقيل أنها حامل أنها فعلت ذلك بأمر الجدة، ليؤخر القاضي الحكم حتى ينكشف الحال فحبسوها وأخروا الحكم.
أدت دورها ودفنت بجانب زوجها وولدها (عليهم السلام)
قد يقال إن درجة والدة الإمام العسكري أعلى درجة من والدة الإمام المهدي (رضي الله عنهما). وذلك لأن الإمام العسكري (عليه السلام) عرَّفها ما يجري بعده، وتحملت وقامت بدورها الذي كلفها به.
ولا نعرف المدة التي عاشتها في سامراء، ولعلها سنتان، وقد أدارت فيها معركتها مع جعفر الكذاب والخليفة المعتمد، وولي عهده الموفق، وقاضي قضاته ابن أبي الشوارب. وأدارت شؤون الدار الواسعة، وأجابت المراجعين الشيعة الذين يسألون عن الإمام بعد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
ويظهر من أحاديثها أنها انتزعت الحكم بنصف التركة وبإدارة بيت الإمام (عليه السلام)، وأنها كانت ذات شخصية قوية، مطاعة من خاصة ابنها الإمام العسكري (عليه السلام) وكل موظفي البيت.
روى الخصيبي في الهداية/381: (عن محمد بن عبد الحميد البزاز، وأبي الحسين بن مسعود الفراتي قالا جميعاً، وقد سألتهم في مشهد سيدنا أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) بكربلاء عن جعفر وما جرى في أمره بعد غيبة سيدنا أبي الحسن علي وأبي محمد الحسن بن الرضا (عليهما السلام) وما ادعاه له جعفر وما فعل، فحدثوني بجملة أخباره: أن سيدنا أبا الحسن (عليه السلام) كان يقول لهم تجنبوا ابني جعفراً، أما إنه مني مثل حام من نوح الذي قال الله جل من قائل فيه: (فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِي) فقال له الله: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ)! وإن أبا محمد (عليه السلام) كان يقول لنا بعد أبي الحسن: الله الله أن يظهر لكم أخي جعفر على سر، فوالله ما مثلي ومثله إلا مثل هابيل وقابيل ابني آدم، حيث حسد قابيل لهابيل على ما أعطاه الله لهابيل من فضله فقتله. ولو تهيأ لجعفر قتلي لفعل، ولكن الله غالب على أمره!
فلقد كان عهدنا بجعفر وكل من في البلد وكل من في العسكر من الحاشية الرجال والنساء والخدم، يشكون إذا أوردنا أمر جعفر ويقولون إنه يلبس المصنعات من ثياب النساء ويضرب له بالعيدان، فيأخذون منه ولا يكتمون عليه. وإن الشيعة بعد أبي محمد (عليه السلام) زادوا في هجره وتركوا رمي السلام عليه وقالوا: لا تقية بيننا وبينه نتجمل بها، وإن نحن لقيناه وسلمنا عليه ودخلنا داره وذكرناه فنحن نضل الناس فيه، وعملوا على ما يرونا نفعله فنكون بذلك من أهل النار.
وإن جعفراً كان في ليلة أبي محمد (عليه السلام) ختم الخزائن وكل ما في الدار ومضى إلى منزله، فلما أصبح أتى الدار ودخلها ليحمل ما ختم عليه، فلما فتح الخواتم ودخل نظرنا فلم يبق في الدار ولا في الخزائن إلا قدر يسير، فضرب جماعة من الخدم ومن الإماء فقالوا له:لا تضربنا فوالله لقد رأينا الأمتعة والرجال توقر الجمال في الشارع، ونحن لا نستطيع الكلام ولا الحركة، إلى أن سارت الجمال وغلقت الأبواب كما كانت! فولول جعفر وضرب على رأسه أسفاً على ما خرج من الدار!
وإنه بقي يأكل ما كان له ويبيع حتى ما بقي له قوت يوم، وكان له في الدار أربعة وعشرون ولداً بنون وبنات، ولهم أمهات وأولاد وحشم وخدم وغلمان، فبلغ به الفقر إلى أن أمرت الجدة وهي جدة أبي محمد (عليه السلام) أن يجري عليه من مالها الدقيق واللحم والشعير والتبن لدوابه، وكسوة
لأولاده وأمهاتهم وحشمه وغلمانه ونفقاتهم، ولقد ظهرت أشياء منه أكثر مما وصفنا، نسأل الله العافية من البلاء والعصمة في الدنيا والآخرة).
وقول الراوي: أمرت الجدة أن يجري عليه من مالها، يدل على وجود مال لها غير ما في الدار، وعلى نبلها وحسن إدارتها، فقد أنفقت على عائلة جعفر الكبيرة رغم أعماله السيئة معهم، لمجرد أنه منسوب الى بني علي وفاطمة (عليها السلام)!
وبعد أن أدت دورها رضوان الله عليها، شاء الله تعالى أن يتوفاها وتدفن قرب زوجها وابنها (عليهم السلام)، وقد ظهر الإمام المهدي (عليه السلام) ليردع عمه جعفر عن تصرفاته الهوجاء، ولم يستطع منع دفنها الى جانب ابنها وزوجها (عليهم السلام)!
الفصل الثاني عشر: زوجة الإمام العسكري ووالدة الإمام المهدي (عليهما السلام)
حفيدة قيصر الروم
صحت الرواية عندنا أن الله تعالى جعل أم الإمام المهدي (عليه السلام) حفيدة قيصر الروم، وأن أمها من ذرية شمعون الصفا وصي عيسى (عليه السلام).
وشمعون هو بطرس، الذي يقول المسيحيون إنه قُتل في روما، وعلى قبره أقيمت كنيسة القديس بطرس ومركز الفاتيكان.
وتقول روايتنا إنه بقي مع قومه في المنطقة، وكان يتنقل بين طبرية وصور وأنطاكية وبابل، واستشهد في هذه المنطقة، لكن لا نعلم أين بالتحديد، ويوجد قبر في جنوب لبنان يسمى شمع، يقال إنه قبره (عليه السلام).
وقد سافر بطرس (عليه السلام) الى روما مرات، وبقي ذات مرة سنوات، وآمنت على يده زوجة قيصر، لكنه رجع وبقي مع قومه، وليس عندنا رواية عن أولاده، ومن بقي منهم في روما وصار من أهلها.
وقد روى في إثبات الهداة (3/569) عن الفضل بن شاذان (رحمه الله) في كتابه إثبات الرجعة: (عن محمد بن عبد الجبار قال: قلت لسيدي الحسن بن علي (عليهما السلام): يا ابن رسول الله جعلني الله فداك: أحب أن أعلم من الإمام وحجة الله على عباده من بعدك؟ فقال: إن الإمام وحجة الله من بعدي ابني سميُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكنِيُّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه. قلت: ممن هو يا ابن رسول الله؟ قال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم. ألا إنه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة، ثم يظهر).
أقول: سند الرواية صحيح بامتياز، لأن الفضل بن شاذان الثقة يرويها عن الإمام الهادي (عليه السلام) بواسطة واحدة، هو محمد بن عبد الجبار، وهو ثقة.
وهذا يدل على أن والدة الإمام (عليه السلام) مليكة أ ونرجس من ذرية شمعون الصفا، وصي عيسى، سلام الله عليهما، وهي تقوي صحة الرواية المفصلة التالية.
كيف جاء الله بمليكة الى الإمام العسكري (عليه السلام)؟
الرواية المعتمدة عندنا في قصتها رواها الصدوق (قدس سره) في كمال الدين (2/417): (عن محمد بن بحر الشيباني قال: وردت كربلا سنة ست وثمانين ومائتين، قال: وزرت قبر غريب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم انكفأت إلى مدينة السلام متوجهاً إلى مقابر قريش في وقت قد تضرمت الهواجر وتوقدت السمائم، فلما وصلت منها إلى مشهد الكاظم (عليه السلام) واستنشقت نسيم تربته المغمورة من الرحمة، المحفوفة بحدائق الغفران، أكببت عليها بعبرات متقاطرة، وزفرات متتابعة، وقد حجب الدمع طرفي عن النظر، فلما رقأت العبرة وانقطع النحيب، فتحت بصري فإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه وتقوس منكباه، وثفنت جبهته وراحتاه، وهويقول لآخر معه عند القبر: يا ابن أخي لقد نال عمك شرفاً بما حَمَّلَهُ السيدان من غوامض الغيوب وشرائف العلوم، التي لم يحمل مثلها إلا سلمان، وقد أشرف عمك على استكمال المدة وانقضاء العمر، وليس يجد في أهل الولاية رجلاً يفضي إليه بسره.
قلت: يا نفس لايزال العناء والمشقة ينالان منك بإتعابي الخف والحافر في طلب العلم، وقد قرع سمعي من هذا الشيخ لفظ يدل على علم
جسيم وأثر عظيم، فقلت: أيها الشيخ ومن السيدان؟ قال: النجمان المغيبان في الثرى بسر من رأى. فقلت: إني أقسم بالموالاة وشرف محل هذين السيدين من الإمامة والوراثة إني خاطب علمهما، وطالب آثارهما وباذل من نفسي الإيمان المؤكدة على حفظ أسرارهما، قال: إن كنت صادقاً فيما تقول، فأحضر ما صحبك من الآثار عن نَقَلة أخبارهم، فلما فتش الكتب وتصفح الروايات منها قال: صدقت، أنا بشر بن سليمان النخاس، من ولد أبي أيوب الأنصاري. أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد وجارهما بسر من رأى، قلت: فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما، قال: كان مولانا أبوالحسن علي بن محمد العسكري (صلى الله عليه وآله وسلم) فقهني في أمر الرقيق فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلا بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات، حتى كملت معرفتي فيه، فأحسنت الفرق بين الحلال والحرام. فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسر من رأى، وقد مضى هوي من الليل إذ قرع الباب قارع فعدوت مسرعاً، فإذا أنا بكافور الخادم رسولٌ مولانا أبي الحسن علي بن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوني إليه، فلبست ثيابي ودخلت عليه فرأيته يحدث ابنه أبا محمد وأخته حكيمة من وراء الستر، فلما جلست قال: يا بشر إنك من ولد الأنصار وهذه الولاية لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، فأنتم ثقاتنا أهل البيت وإني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها شأوالشيعة في الموالاة بها: بسرٍّ أطلعك عليه وأنفذك في ابتياع أمَة. فكتب كتاباً ملصقاً بخط رومي ولغة رومية، وطبع عليه
بخاتمه، وأخرج شستقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً، فقال: خذها وتوجه بها إلى بغداد، واحضر معبر الفرات ضحوة كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وبرزن الجواري منها، فستحدق بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس وشراذم من فتيان العراق، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس، عامة نهارك إلى أن يبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرتين صفيقتين، تمتنع من السفور ولمس المعترض والإنقياد لمن يحاول لمسها، ويشغل نظره بتأمل مكاشفها من وراء الستر الرقيق، فيضربها النخاس فتصرخ صرخة رومية، فأعلم أنها تقول: واهتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين علي بثلاث مائة ديناراً ـ فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول بالعربية: لوبرزت في زي سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة، فأشفق على مالك، فيقول النخاس: فما الحيلة ولا بد من بيعك. فتقول الجارية: وما العجلة ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى أمانته وديانته، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس وقل له: إن معي كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي، ووصف فيه كرمه ووفاه ونبله وسخاءه، فناولْها لتتأمل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته، فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان النخاس: فامتثلت جميع ما حدَّهُ لي مولاي أبو الحسن (عليه السلام) في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديداً،
وقالت لعمر بن زيد النخاس: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرجة المغلظة إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها، فما زلت أشاحُّهُ في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي (عليه السلام) من الدنانير في الشستقة الصفراء، فاستوفاه مني وتسلمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولاها (عليه السلام) من جيبها وهي تلثمه وتضعه على خدها، وتطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها، فقلت تعجباً منها: أتلثمين كتاباً، ولا تعرفين صاحبه؟
قالت: أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء (عليهم السلام)، أعرني سمعك وفرغ لي قلبك: أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون، أنبئك العجب العجيب: إن جدي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه، وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين ومن القسيسين والرهبان ثلاث مائة رجل، ومن ذوي الأخطار سبع مائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد وقواد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهوملكه عرشاً مصوغاً من أصناف الجواهر، إلى صحن القصر فرفعه فوق أربعين مرقاة، فلما صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان، وقامت الأساقفة عُكَّفاً ونُشرت أسفار الإنجيل، تسافلت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض، وتقوضت
الأعمدة فانهارت إلى القرار، وخر الصاعد من العرش مغشياً عليه! فتغيرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدي: أيها الملك أعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني، فتطير جدي من ذلك تطيراً شديداً، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان، واحضروا أخا هذا المدبر العاثر المنكوس جده، لأزوج منه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم بسعوده، فلما فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول، وتفرق الناس وقام جدي قيصر مغتماً، ودخل قصره وأرخيت الستور!
فأُرِيتُ في تلك الليلة كأن المسيح وشمعون وعدة من الحواريين، قد اجتمعوا في قصر جدي ونصبوا فيه منبراً يباري السماء علواً وارتفاعاً، في الموضع الذي كان جدي نصب فيه عرشه، فدخل عليهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع فتية وعدة من بنيه فيقوم إليه المسيح فيعتنقه فيقول: يا روح الله إني جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمد صاحب هذا الكتاب، فنظر المسيح إلى شمعون فقال له: قد أتاك الشرف فصل رحمك برحم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قد فعلت، فصعد ذلك المنبر وخطب محمد وزوجني وشهد المسيح وشهد بنومحمد والحواريون، فلما استيقظت من نومي أشفقت أن أقص هذه الرؤيا على أبي وجدي مخافة القتل، فكنت أسرُّها في نفسي ولا أبديها لهم.
وضرب صدري بمحبة أبي محمد حتى امتنعت من الطعام والشراب، وضعفت نفسي ودق شخصي ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي من مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدي وسأله عن دوائي، فلما برَّحَ به اليأس قال: يا قرة عيني فهل تخطر ببالك شهوة فأزودكها في هذه الدنيا؟ فقلت: يا جدي أرى أبواب الفرج عليَّ مغلقة، فلوكشفت العذاب عمن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال وتصدقت عليهم ومننتهم بالخلاص لرجوت أن يهب المسيح وأمه لي عافية وشفاء.
فلما فعل ذلك جدي تجلدت في إظهار الصحة في بدني، وتناولت يسيراً من الطعام فسر بذلك جدي، وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم، فرأيت أيضاً بعد أربع ليال كأن سيدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران، وألف وصيفة من وصائف الجنان فتقول لي مريم: هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمد، فأتعلق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمد من زيارتي، فقالت لي سيدة النساء (عليها السلام): إن ابني أبا محمد لايزورك وأنت مشركة بالله وعلى مذهب النصارى، وهذه أختي مريم تبرأ إلى الله تعالى من دينك، فإن ملت إلى رضا الله (عزَّ وجلَّ) ورضا المسيح ومريم عنك، وزيارة أبي محمد إياك فتقولي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن أبي محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها فطيبت لي نفسي وقالت: الآن توقعي زيارة أبي محمد إياك، فإني منفذته إليك. فانتبهت وأنا أقول: وا شوقاه إلى لقاء أبي محمد، فلما
كانت الليلة القابلة جاءني أبو محمد (عليه السلام) في منامي، فرأيته كأني أقول له جفوتني يا حبيبي بعد أن شغلت قلبي بجوامع حبك!
قال: ما كان تأخيري عنك إلا لشركك، وإذ قد أسلمت فإني زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان، فما قطع عني زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية!
قال بشر: فقلت لها وكيف وقعت في الأسر؟ فقالت: أخبرني أبو محمد ليلة من الليالي أن جدَّك سيسرب جيوشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا، ثم يتبعهم، فعليك باللحاق بهم متنكرة في زي الخدم، مع عدة من الوصائف من طريق كذا، ففعلت فوقعت علينا طلائع المسلمين حتى كان من أمري ما رأيت وما شاهدت، وما شعر أحد بي بأني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، وذلك بإطلاعي إياك عليه.
وقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته وقلت نرجس، فقال: إسم الجواري. فقلت: العجب أنك رومية ولسانك عربي. قالت: بلغ من ولوع جدي وحمله إياي على تعلم الآداب أن أوعز إلي امرأة ترجمان له في الإختلاف إلي، فكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربية، حتى استمر عليها لساني واستقام.
قال بشر: فلما انكفأت بها إلى سر من رأى دخلت على مولانا أبي الحسن العسكري (عليه السلام) فقال لها: كيف أراك الله عز الإسلام وذل النصرانية وشرف أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قالت: كيف أصف لك يا ابن رسول الله
ما أنت أعلم به مني. قال: فإني أريد أن أكرمك، فأيما أحب إليك عشرة آلاف درهم أم بشرى لك فيها شرف الأبد؟ قالت: بل البشرى، قال: فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً. قالت: ممن؟ قال: ممن خطبك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له من ليلة كذا من شهر كذا من سنة كذا بالرومية. قالت: من المسيح ووصيه؟ قال: فممن زوجك المسيح ووصيه؟ قالت: من ابنك أبي محمد. قال: فهل تعرفينه؟ قالت: وهل خلوت ليلة من زيارته إياي منذ الليلة التي أسلمت فيها على يد سيدة النساء أمه؟
فقال أبو الحسن (عليه السلام): يا كافور أدع لي أختي حكيمة، فلما دخلت عليه قال (عليه السلام) لها: ها هيه، فاعتنقتها طويلاً وسرت بها كثيراً، فقال لها مولانا: يا بنت رسول الله أخرجيها إلى منزلك، وعلميها الفرائض والسنن، فإنها زوجة أبي محمد، وأم القائم (عليه السلام)).
ملاحظات
1. راوي هذه الرواية العالم المؤلف الأديب محمد بن بحر الشيباني (رحمه الله)، وقد تقدم توثيقه، وأن الصدوق (رحمه الله) استشهد على عقائد المذهب بفقرات من كتبه.
أما سيدنا الخوئي (قدس سره) فطبَّقَ منهجه المتشدد، وَضَعَّفَ الرواية! قال (4/224): (لكن في سند الرواية عدة مجاهيل، على أنك قد عرفت فيما تقدم أنه لا يمكن إثبات وثاقة شخص برواية نفسه). يقصد بذلك قول الإمام الهادي (عليه السلام) لبشر بن سليمان الأنصاري: فأنتم ثقاتنا أهل البيت. ويقصد أن ذلك لا يثبت وثاقة سليمان، لأنه هو الذي رواه.
لكنا لانقول بصحتها بسبب هذه الفقرة بل بسبب رواية محمد بن عبد الجبار الصحيحة المتقدمة، وبسبب وثاقة الشيباني، وبسبب ارتضاء الصدوق والقميين لها رغم تشددهم. ولأن دواعي الوضع هنا منتفية.
بل يكفينا لتصحيحها رواية ابن عبد الجبار المتقدمة، ومبنى الشيخ الأنصاري الذي صحح به رواية استشارة عمر لأمير المؤمنين (عليه السلام) في الفتوحات وإذنه بها.
قال (قدس سره) في المكاسب (2/243): (والظاهر أن أرض العراق مفتوحة بالإذن كما يكشف عن ذلك ما دل على أنها للمسلمين. وأما غيرها مما فتحت في زمان خلافة الثاني، وهي أغلب ما فتحت، فظاهر بعض الأخبار كون ذلك أيضاً بإذن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمره، ففي الخصال في أبواب السبعة في باب أن الله تعالى يمتحن أوصياء الأنبياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن، وبعد وفاتهم في سبعة مواطن..الى أن قال: فإن القائم بعد صاحبه، يعني عمر بعد أبي بكر، كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي يناظر في ذلك غيري... ثم قال: وفي سند الرواية جماعة تُخرجها عن حد الإعتبار، إلا أن اعتماد القميين عليها وروايتهم لها، مع ما عُرف من حالهم لمن تتبعها من أنهم لا يخرجون في كتبهم رواية في راويها ضعف، إلا بعد احتفافها بما يوجب الإعتماد عليها جابرٌ لضعفها في الجملة).
فهذا كافٍ في تصحيح رواية مليكة (رضي الله عنها). فكيف إذا أضفنا اليه الصحيحة المتقدمة عن محمد بن الجبار، وهي بنفسها كافية لتصحيحها.
2. تدل رواية مليكة على المستوى العلمي والعقلي الجيد لبشرالأنصاري (رحمه الله) لأنه لم يحدث الشيباني حتى امتحنه واطمأن الى أنه عالم موالٍ: (قال: إن كنت صادقاً فيما تقول فأحضر ما صحبك من الآثار عن نَقَلة أخبارهم، فلما فتش الكتب وتصفح الروايات منها قال: صدقت. أنا بشر بن سليمان..).
3. ما وصفته مليكة من سقوط الزينة والصلبان والعريس من المنصة، وتكرار ذلك مع العريس الثاني الذي أرادوها لها، كان آيةً ربانية لقيصر ليفهم أن هذا العمل نحسٌ فيتركه، وقد فَهم ذلك وتركه. وقد رأيتُ بعض النواصب يسخر من قصة نرجس (رضي الله عنها)، وفي نفس الوقت يؤمن بكراماتٍ لابن تيمية أعظم منها، ويأتمُّ بمن لايعقل الخطاب والجواب!
4.كانت تسمى مليكة، ونرجس، وسوسن، وريحانة، وصقيل. (كشف الحق/33). وسبب هذا التعدد أن الخليفة وظف جاسوسات يأتينه بأخبار بيت الإمام (عليه السلام) ومن هي حامل من نسائه. وقد زادت رقابتهم على الأئمة (عليهم السلام) لما اقترب الأمر من الإمام الثاني عشر، لأنه الموعود (عليه السلام) الذي يُنهي دولة الظالمين.
السيدة حكيمة تروي ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)
1. اتفقت الروايات على أن وصول نرجس الى الإمام العسكري (عليه السلام) كان محفوفاً بالكرامات، وكذا زواجه بها، وحملها وولادتها الإمام المهدي (عليه السلام).
وقد حفظ الله وليه من تجسس الخليفة المشدد، وروت عمته حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) ولادته (عليه السلام) بروايات متعددة.
ويلاحظ المتأمل في النص أن حكيمة شخصية محترمة في إيمانها وعقلها، فهي تعرف مقام المعصوم عند الله تعالى، ولا تتبجح بأنها بنت المعصوم وأخته، وأنها من ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا بمكانتها عند الأئمة (عليهم السلام).
بل عندما سئلت بعد وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن الحجة، حولت السائل على أم الإمام العسكري سمانة المغربية (رضي الله عنها)، لأن الإمام (عليه السلام) أوصى اليها، ولم تقل حكيمة إنها هي أولدت الإمام المهدي (عليه السلام) وشاهدته.
وقد روت مصادرنا عدة روايات في زواج الإمام العسكري (عليه السلام) من مليكة، وفي ولادتها للإمام المهدي (عليه السلام)، وتلقى علماؤنا روايات السيدة حكيمة بالقبول لأنها جليلة موثوقة عند الأئمة (عليهم السلام) وعند شيعتهم. ومن الطبيعي أن تتفاوت رواياتها في بعض التفاصيل بسبب تفاوت مستوى فهم الرواة ودقتهم.
2. قال الطوسي في الغيبة/147: (وروي أن بعض أخوات الحسن (عليه السلام) (أي حكيمة) كانت لها جارية ربتها تسمي نرجس، فلما كبرت دخل أبو محمد فنظر إليها فقالت له: أراك يا سيدي تنظر إليها؟ فقال: إني ما نظرت إليها إلا متعجباً، أما إن المولود الكريم على الله تعالى يكون منها، ثم أمرها أن تستأذن أبا الحسن (عليه السلام) في دفعها إليه ففعلت، فأمرها بذلك).
بعد أن أرسل الإمام الهادي (عليه السلام) بشر بن سليمان فاشترى مليكة، سلمها لأخته حكيمة لتعلمها فرائض الإسلام، ويبدو أنها بقيت عندها مدة يسيرة.
3. قال أحمد بن إبراهيم (كمال الدين/507): (دخلت على حكيمة بنت محمد بن علي الرضا أخت أبي الحسن صاحب العسكر (عليه السلام) في سنه اثنتين وستين ومائتين [بالمدينة] فكلمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها
فسمت لي من تأتم بهم، ثم قالت: والحجة ابن الحسن بن علي فسمته، فقلت لها: جعلني الله فداك معاينة أو خبراً؟ فقالت خبراً عن أبي محمد (عليه السلام) كتب به إلى أمه. فقلت لها: فأين الولد؟ فقالت: مستور، فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟ فقالت: إلى الجدة أم أبي محمد (عليه السلام)، فقلت لها: أقتدي بمن وصيته إلى امرأة؟ فقالت: اقتداءً بالحسين بن علي (عليهما السلام) فإن الحسين بن علي أوصى إلى أخته زينب بنت علي في الظاهر، فكان ما يخرج عن علي بن الحسين (عليهما السلام) من علم ينسب إلى زينب ستراً على علي بن الحسين، ثم قالت: إنكم قوم أصحاب أخبار، أما رويتم أن التاسع من ولد الحسين بن علي يقسم ميراثه وهو في الحياة)!
4. روى الطبري في دلائل الأمامة/499، عن محمد بن القاسم العلوي، قال: (دخلنا جماعة من العلوية على حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى (عليهما السلام) فقالت: جئتم تسألونني عن ميلاد ولي الله؟ قلنا: بلى والله.
قالت: كان عندي البارحة وأخبرني بذلك! وإنه: كانت عندي صبية يقال لها نرجس، وكنت أربيها من بين الجواري ولا يلي تربيتها غيري، إذ دخل أبو محمد (عليه السلام) عليَّ ذات يوم، فبقي يُلِحُّ النظر إليها، فقلت: يا سيدي هل لك فيها من حاجة؟ فقال: إنا معشر الأوصياء لسنا ننظر نظر ريبة، ولكنا ننظر تعجباً أن المولود الكريم على الله يكون منها.
قالت قلت: يا سيدي فأروح بها إليك؟ قال: إستأذني أبي في ذلك، فصرت إلى أخي (عليه السلام) فلما دخلت عليه تبسم ضاحكاً وقال: يا حكيمة،
جئت تستأذنيني في أمر الصبية، إبعثي بها إلى أبي محمد، فإن الله (عزَّ وجلَّ) يحب أن يشركك في هذا الأمر. فزينتها وبعثت بها إلى أبي محمد (عليه السلام)، فكنت بعد ذلك إذا دخلت عليها تقوم فتقبل جبهتي فأقبل رأسها، وتقبل يدي فأقبل رجلها، وتمد يدها إلى خفي لتنزعه فأمنعها من ذلك، فأقبل يدها، إجلالاً وإكراماً للمحل الذي أحلها الله تعالى فيه!
فمكثت بعد ذلك إلى أن مضى أخي أبو الحسن (عليه السلام) فدخلت على أبي محمد ذات يوم فقال: يا عمتاه، إن المولود الكريم على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيولد ليلتنا هذه! فقلت: يا سيدي في ليلتنا هذه؟ قال: نعم. فقمت إلى الجارية فقلبتها ظهراً لبطن فلم أر بها حملاً، فقلت: يا سيدي ليس بها حمل فتبسم ضاحكاً وقال: يا عمتاه، إنا معاشر الأوصياء ليس يحُمل بنا في البطون، ولكنا نُحمل في الجنوب!
فلما جَنَّ الليل صرت إليه فأخذ أبو محمد (عليه السلام) محرابه، فأخذت محرابها فلم يزالا يحييان الليل، وعجزت عن ذلك، فكنت مرة أنام ومرة أصلي إلى آخر الليل، فسمعتها آخر الليل في القنوت لما انفتلت من الوتر مُسَلِّمَةً صاحت: يا جارية الطست، فجاءت بالطست فقدمته إليها فوضعت صبياً كأنه فلقة قمر، على ذراعه الأيمن مكتوب: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً). وناغاه ساعة حتى استهل وعطس، وذكر الأوصياء قبله حتى بلغ إلى نفسه، ودعا لأوليائه على يده بالفرج. ثم وقعت ظلمة بيني وبين أبي محمد (عليه السلام) فلم أره، فقلت: يا سيدي، أين الكريم على الله؟
قال: أخذه من هو أحق به منك، فقمت وانصرفت إلى منزلي فلم أره، وبعد أربعين يوماً دخلت دار أبي محمد فإذا أنا بصبي يدرج في الدار، فلم أر وجهاً أصبح من وجهه، ولا لغةً أفصح من لغة، ولا نغمةً أطيب من نغمته فقلت: يا سيدي من هذا الصبي، ما رأيت أصبح وجهاً منه ولا أفصح لغة منه ولا أطيب نغمة منه؟ قال: هذا المولود الكريم على الله. قلت: يا سيدي وله أربعون يوماً وأنا أرى من أمره هذا! قالت: فتبسم ضاحكاً، وقال: يا عمتاه، أما علمت أنا معشر الأوصياء ننشأ في اليوم كما ينشأ غيرنا في الجمعة، وننشأ في الجمعة كما ينشأ غيرنا في الشهر، وننشأ في الشهر كما ينشأ غيرنا في السنة!
فقمت فقبلت رأسه وانصرفت إلى منزلي، ثم عدت فلم أره، فقلت: يا سيدي يا أبا محمد، لست أرى المولود الكريم على الله!
قال: استودعناه من استودعته أم موسى موسى (عليه السلام)، وانصرفت وما كنت أراه إلا كل أربعين يوماً).
5. وقال المسعودي في إثبات الوصية (1/257): (وروى جماعة من الشيوخ العلماء، منهم علان الكلابي، وموسى بن محمد الغازي، وأحمد بن جعفر بن محمد، بأسانيدهم أن حكيمة بنت أبي جعفر عمة أبي محمد (عليه السلام) كانت تدخل الى أبي محمد (عليه السلام) فتدعو له أن يرزقه الله ولداً، وأنها قالت: دخلت عليه يوماً فدعوت له كما كنت أدعو، فقال لي: يا عمة أما إنه يولد في هذه الليلة، وكانت ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين
ومائتين، المولود الذي كنا نتوقعه، فاجعلي إفطارك عندنا، وكانت ليلة الجمعة، فقلت له: ممن يكون هذا المولود يا سيدي؟ فقال: من جاريتك نرجس. قالت: ولم يكن في الجواري أحب إلي منها ولا أخف على قلبي، وكنت إذا دخلت الدار تتلقاني وتقبل يدي وتنزع خفي بيدها.
فلما دخلت إليها ففعلت بي كما كانت تفعل، فانكببت على يدها فقبلتها ومنعتها مما تفعله، فخاطبتني بالسيادة فخاطبتها بمثله فأنكرت ذلك، فقلت لها: لا تنكري ما فعلته، فإن الله سيهب لك في ليلتنا هذه غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة. قالت: فاستحيَتْ. قالت حكيمة: فتعجبت وقلت لأبي محمد: إني لست أرى بها أثر حمل! فتبسم صلى الله عليه وقال لي: إنا معاشر الأوصياء لا نُحمل في البطون ولكنا نحمل في الجنوب. وفي هذه الليلة مع الفجر يولد المولود المكرم على الله إن شاء الله. قالت: فنمت بالقرب من الجارية، وبات أبو محمد (عليه السلام) في صُفَّةٍ في تلك الدار فلما كان وقت صلاة الليل قمت والجارية نائمة ما بها أثر الولادة، وأخذت في صلاتي ثم أوترت، فبينا أنا في الوتر حتى وقع في نفسي أن الفجر قد طلع ودخل في قلبي شيء، فصاح أبو محمد (عليه السلام) من الصُّفَّة: لم يطلع الفجر يا عمة بعد، فأسرعتُ الى الصلاة وتحركت الجارية، فدنوت منها وضممتها إليَّ وسميت عليها، ثم قلت لها: هل تحسين شيئاً؟ قالت: نعم. فوقع عليَّ سباتٌ لم أتمالك معه أن نمت، ووقع على الجارية مثل ذلك، فنامت وهي قاعدة! فلم تنتبه إلا وهي تحس مولاي وسيدي
تحتها، وبصوت أبي محمد (عليه السلام) وهو يقول: يا عمتي هات ابني إليَّ، فكشفتُ عن سيدي صلى الله عليه فإذا أنا به ساجداً منقلباً الى الأرض بمساجده، وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا). فضممته إليَّ فوجدته مفروغاً منه، يعني مطهراً لختانة، ولففته في ثوب وحملته الى أبي محمد (عليه السلام) فأخذه وأقعده على راحته اليسرى، وجعل يده اليمنى على ظهره، ثم أدخل لسانه في فيه وأمرَّ يده على عينيه وسمعه ومفاصله، ثم قال: تكلم يا بنيَّ، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن علياً أمير المؤمنين، ثم لم يزل يعد السادة الأوصياء صلى الله عليهم، الى أن بلغ الى نفسه، فدعا لأوليائه على يديه بالفرج، ثم صمت عن الكلام.
قال أبو محمد (عليه السلام): إذهبي به الى أمه ليسلم عليها ورديه إلي، فمضيت به فسلم عليها فرددته، فوقع بيني وبينه كالحجاب، فلم أر سيدي فقلت له: يا سيدي أين مولاي؟ فقال: أخذه من هو أحق منك ومنا.
فإذا كان في اليوم السابع جئت فسلمت وجلست فقال (عليه السلام): هلمَّ ائتني به، فجئت بسيدي وهو في ثياب صفر، ففعل كفعاله الأول، وجعل لسانه في فيه ثم قال له تكلم يا بني، فقال له: أشهد أن لا إله إلا الله، وثنى بالصلاة على محمد وأمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) حتى وقف على أبيه ثم قرأ هذه الآية: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَاكَانُوا يَحْذَرُونَ).
وبعد أربعين يوماً دخلت دار أبي محمد (عليه السلام) فإذا بمولاي يمشي في الدار فلم أر وجهاً أحسن من وجهه صلى الله عليه، ولا لغة أفصح من لغته، فقال أبو محمد (عليه السلام): هذا المولود الكريم على الله جل وعلا. قلت: يا سيدي، ترى من أمره ما أرى وله أربعون يوماً! فتبسم وقال: يا عمتي أوَما علمت أنا معاشر الأوصياء ننشأ في اليوم مثل ما ينشأ غيرنا في الجمعة، وننشأ في الجمعة مثل ما ينشأ غيرها في الشهر، وننشأ في الشهر مثل ما ينشأ غيرنا في السنة. فقمت فقبلت رأسه وانصرفت.
ثم عدت وتفقدته فلم أرهُ، فقلت لسيدي أبي محمد (عليه السلام): ما فعل مولانا؟ فقال: يا عمة، استودعناه الذي استودعتْ أم موسى).
6. وروى الطبري في دلائل الإمامة/497: (حدثني محمد بن إسماعيل الحسني، عن حكمية ابنة محمد بن علي الرضا (عليهما السلام) أنها قالت: قال لي الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) ذات ليلة، أو ذات يوم: أحب أن تجعلي إفطارك الليلة عندنا فإنه يحدث في هذه الليلة أمر. فقلت: وما هو؟ قال: إن القائم من آل محمد يولد في هذه الليلة. فقلت: ممن؟ قال: من نرجس. فصرت إليه ودخلت إلى الجواري فكان أول من تلقتني نرجس فقالت: يا عمة كيف أنت أنا أفديك. فقلت لها: بل أنا أفديك يا سيدة نساء هذا العالم. فخلعت خفي وجاءت لتصب على رجلي الماء، فحلفتها ألا تفعل وقلت لها: إن الله قد أكرمك بمولود تلدينه في هذه الليلة. فرأيتها لما قلت لها ذلك قد لبسها ثوب من الوقار والهيبة، ولم أر بها حملاً ولا أثر حمل،
فقالت: أي وقت يكون ذلك. فكرهت أن أذكر وقتاً بعينه فأكون قد كذبت. فقال لي أبو محمد (عليه السلام): في الفجر الأول.
فلما أفطرت وصليت وضعت رأسي ونمت، ونامت نرجس معي في المجلس، ثم انتبهت وقت صلاتنا فتأهبت، وانتبهت نرجس وتأهبت.
ثم إني صليت وجلست أنتظر الوقت، ونام الجواري ونامت نرجس، فلما ظننت أن الوقت قد قرب خرجت فنظرت إلى السماء وإذا الكواكب قد انحدرت، وإذا هو قريب من الفجر الأول، ثم عدت فكأن الشيطان أخبث قلبي، قال أبو محمد: لا تعجلي فكأنه قد كان، وقد سجد فسمعته يقول في دعائه شيئاً لم أدر ما هو، ووقع علي السبات في ذلك الوقت، فانتبهت بحركة الجارية، فقلت لها: بسم الله عليك، فسكنت إلى صدري فرمت به علي وخرت ساجدة، فسجد الصبي وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعليٌّ حجة الله! وذكر إماماً إماماً حتى انتهى إلى أبيه. فقال أبو محمد: إليَّ ابني. فذهبت لأصلح منه شيئاً فإذا هو مُسوى مفروغ منه فذهبت به إليه، فقبل وجهه ويديه ورجليه، ووضع لسانه في فمه، وزقه كما يزق الفرخ، ثم قال: إقرأ، فبدأ بالقرآن من: بسم الله الرحمن الرحيم.. إلى آخره.
ثم إنه دعا بعض الجواري ممن علم أنها تكتم خبره فنظرت ثم قال: سلموا عليه وقبلوه وقولوا: استودعناك الله وانصرفوا. ثم قال: يا عمة، ادعي لي نرجس فدعوتها وقلت لها: إنما يدعوك لتودعيه، فودعته،
وتركناه مع أبي محمد (عليه السلام) ثم انصرفنا. ثم إني صرت إليه من الغد فلم أره عنده، فهنأته فقال: يا عمة هو في ودائع الله، إلى أن يأذن الله في خروجه).
7. وفي كمال الدين (2/426): (حدثنا محمد بن عبد الله الطهوي قال: قصدت حكيمة بنت محمد (عليه السلام) بعد مضي أبو محمد (عليه السلام) أسألها عن الحجة وما قد اختلف فيه الناس من الحيرة التي هم فيها، فقالت لي: أجلس فجلست، ثم قالت: يا محمد إن الله تبارك وتعالى لا يُخلي الأرض من حجة ناطقة أو صامتة، ولم يجعلها في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام) تفضيلاً للحسن والحسين، وتنزيهاً لهما أن يكون في الأرض عديلٌ لهما، إلا أن الله تبارك وتعالى خص وُلد الحسين بالفضل على ولد الحسن (عليه السلام) كما خص ولد هارون على ولد موسى (عليه السلام) وإن كان موسى حجة على هارون، والفضل لولده إلى يوم القيامة.
ولابد للأمة من حيرة يرتاب فيها المبطلون ويخلص فيها المحقون، كيلا يكون للخلق على الله حجة، وإن الحيرة لا بدَّ واقعةٌ بعد مضي أبي محمد الحسن (عليه السلام). فقلت: يا مولاتي هل كان للحسن (عليه السلام) ولد؟
فتبسمت ثم قالت: إذا لم يكن للحسن (عليه السلام) عقب فمن الحجة من بعده، وقد أخبرتك أنه لا إمامة لأخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام).
فقلت: يا سيدتي حدثيني بولادة مولاي وغيبته (عليه السلام). قالت: نعم، كانت لي جارية يقال لها: نرجس فزارني ابن أخي فأقبل يحدق النظر إليها، فقلت له: يا سيدي لعلك هويتها فأرسلها إليك؟ فقال لها: لا يا عمة
ولكني أتعجب منها فقلت: وما أعجبك منها؟ فقال (عليه السلام): سيخرج منها ولد كريم على الله (عزَّ وجلَّ)، الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، فقلت: فأرسلها إليك يا سيدي؟ فقال: إستأذني في ذلك أبي (عليه السلام) قالت: فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن (عليه السلام) فسلمت وجلست فبدأني (عليه السلام) وقال: يا حكيمة إبعثي نرجس إلى ابني أبي محمد قالت فقلت: يا سيدي على هذا قصدتك على أن أستأذنك في ذلك، فقال لي: يا مباركة إن الله تبارك وتعالى أحب أن يشركك في الأجر، ويجعل لك في الخير نصيباً. قالت حكيمة: فلم ألبث أن رجعت إلى منزلي وزينتها ووهبتها لأبي محمد (عليه السلام)، وجمعت بينه وبينها في منزلي فأقام عندي أياماً، ثم مضى إلى والده (عليه السلام) ووجهت بها معه.
قالت حكيمة: فمضى أبو الحسن (عليه السلام) وجلس أبو محمد (عليه السلام) مكان والده وكنت أزوره كما كنت أزور والده، فجاءتني نرجس يوماً تخلع خفي، فقالت: يا مولاتي ناوليني خفك، فقلت: بل أنت سيدتي ومولاتي والله لا أدفع إليك خفي لتخلعيه ولا لتخدميني، بل أنا أخدمك على بصري، فسمع أبو محمد (عليه السلام) ذلك فقال: جزاك الله يا عمة خيراً، فجلست عنده إلى وقت غروب الشمس فصحت بالجارية وقلت: ناوليني ثيابي لأنصرف، فقال (عليه السلام): لا يا عمتا بيتي الليلة عندنا، فإنه سيولد الليلة المولود الكريم على الله (عزَّ وجلَّ)، الذي يحيي الله (عزَّ وجلَّ) به الأرض بعد موتها، فقلت: ممن يا سيدي ولست أرى بنرجس شيئاً من أثر الحَبَل؟
فقال: من نرجس لا من غيرها، قالت: فوثبت إليها فقلبتها ظهراً لبطن فلم أر بها أثر حَبل، فعدت إليه (عليه السلام) فأخبرته بما فعلت فتبسم ثم قال لي: إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل، لأن مثلها مثل أم موسى (عليه السلام) لم يظهر بها الحبل، ولم يعلم بها أحد إلى وقت ولادتها، لأن فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى (عليه السلام) وهذا نظير موسى (عليه السلام).
قالت حكيمة: فعدت إليها فأخبرتها بما قال وسألتها عن حالها فقالت: يا مولاتي ما أرى بي شيئاً من هذا، قالت حكيمة: فلم أزل أرقبها إلى وقت طلوع الفجر وهي نائمة بين يدي لا تقلب جنباً إلى جنب، حتى إذا كان آخر الليل وقت طلوع الفجر وثبتْ فزعةً فضممتها إلى صدري وسميت عليها، فصاح أبو محمد (عليه السلام) وقال: إقرئي عليها: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ). فأقبلت أقرأ عليها وقلت لها: ما حالك؟ قالت: ظهر بي الأمر الذي أخبرك به مولاي، فأقبلت أقرأ عليها كما أمرني، فأجابني الجنين من بطنها يقرأ مثلما أقرأ وسَلَّمَ عليَّ. قالت حكيمة: ففزعت لِمَا سمعت، فصاح بي أبو محمد (عليه السلام) لا تعجبي من أمر الله (عزَّ وجلَّ) إن الله تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغاراً، ويجعلنا حجة في أرضه كباراً، فلم يستتم الكلام حتى غيبت عني نرجس فلم أرها، كأنه ضرب بيني وبينها حجاب، فعدوت نحو أبي محمد (عليه السلام) وأنا صارخة! فقال لي: إرجعي يا عمة فإنك ستجديها في مكانها. قالت: فرجعت فلم ألبث أن كشف الغطاء الذي كان بيني وبينها وإذا أنا بها وعليها من أثر النور ما غَشَّى
بصري، وإذا أنا بالصبي (عليه السلام) ساجداً لوجهه، جاثياً على ركبتيه، رافعاً سبابتيه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن جدي محمداً رسول الله، وأن أبي أمير المؤمنين، ثم عَدَّ إماماً إماماً إلى أن بلغ إلى نفسه. ثم قال: اللهم أنجز لي ما وعدتني وأتمم لي أمري، وثبت وطأتي، وأملا الأرض بي عدلاً وقسطاً.
فصاح بي أبو محمد (عليه السلام) فقال: يا عمة تناوليه وهاتيه، فتناولته وأتيت به نحوه، فلما مثلت بين يدي أبيه وهو على يدي، سَلَّمَ على أبيه فتناوله الحسن (عليه السلام) مني، والطير ترفرف على رأسه، وناوله لسانه فشرب منه، ثم قال: إمضي به إلى أمه لترضعه ورديه إليَّ، قالت: فتناولته أمه فأرضعته فرددته إلى أبي محمد (عليه السلام) والطير ترفرف على رأسه فصاح بطير منها فقال له: أحمله واحفظه ورده إلينا في كل أربعين يوماً، فتناوله الطير وطار به في جو السماء، وأتبعه سائر الطير، فسمعت أبا محمد (عليه السلام) يقول: أستودعك الله الذي أودعته أم موسى موسى، فبكت نرجس فقال لها: أسكتي فإن الرضاع محرم عليه إلا من ثديك، وسيعاد إليك كما رد موسى إلى أمه، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ). قالت حكيمة فقلت: وما هذا الطير؟ قال: هذا روح القدس الموكل بالأئمة (عليهم السلام) يوفقهم ويسددهم ويربيهم بالعلم.
قالت حكيمة: فلما كان بعد أربعين يوماً رد الغلام ووجه إليَّ ابن أخي فدعاني فدخلت عليه، فإذا أنا بالصبي متحركٌ يمشي بين يديه، فقلت:
يا سيدي هذا ابن سنتين؟ فتبسم (عليه السلام) ثم قال: إن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشؤون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وإن الصبي منا إذا كان أتى عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة، وإن الصبي منا ليتكلم في بطن أمه ويقرأ القرآن، ويعبد ربه (عزَّ وجلَّ)، وعند الرضاع تطيعه الملائكة، وتنزل عليه صباحاً ومساءً.
قالت حكيمة: فلم أزل أرى ذلك الصبي في كل أربعين يوماً، إلى أن رأيته رجلاً قبل مضي أبي محمد (عليه السلام) بأيام قلائل، فلم أعرفه فقلت لابن أخي (عليه السلام): من هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟ فقال لي: هذا ابن نرجس، وهذا خليفتي من بعدي، وعن قليل تفقدوني فاسمعي له وأطيعي. قالت حكيمة: فمضى أبو محمد (عليه السلام) بعد ذلك بأيام قلائل، وافترق الناس كما ترى. ووالله إني لأراه صباحاً ومساءً، وإنه لينبؤني عما تسألون عنه فأخبركم، ووالله إني لأريد أن أسأله عن الشيء فيبدأني به، وإنه ليرد عليَّ الأمر فيخرج إلي منه جوابه من ساعته من غير مسألتي. وقد أخبرني البارحة بمجيئك إلي، وأمرني أن أخبرك بالحق.
قال محمد بن عبد الله: فوالله لقد أخبرتني حكيمة بأشياء لم يطلع عليها أحد إلا الله (عزَّ وجلَّ)، فعلمت أن ذلك صدقٌ وعدلٌ من الله (عزَّ وجلَّ)، لأن الله (عزَّ وجلَّ) قد أطلعه على ما لم يطلع عليه أحداً من خلقه)!
8. وروى القطب الراوندي في الخرائج (1/455): (عن حكيمة: قال لي أبو محمد: بيتي عندنا الليلة فإن الله سيظهر الخلف فيها. قلت: وممن؟ قال:
من مليكة. قلت: لا أرى بها حملاً. قال: يا عمه مَثَلُها كمثل أم موسى. فلما انتصف الليل صليت صلاة الليل، فقلت في نفسي: قَرُبَ الفجر، ولم يظهر ما قال أبو محمد. فنادى أبو محمد: لا تعجلي فارتعدت مليكة، فضممتها إلى صدري وقرأت قل هو الله أحد وإنا أنزلناه وآية الكرسي، فأجابني الخلف من بطنها يقرأ كقرائتي! قالت: وأشرق نور البيت، فنظرت فإذا الخلف تحتها ساجداً إلى القبلة فأخذته، فناداني أبو محمد: هلمى بابنى يا عمة. فأتيته به فوضع لسانه في فمه، ثم أجلسه على فخذه، وقال: أنطق بإذن الله يا بنيَّ! فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ). وصلى الله على محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي أبي!
قالت: وغمرتنا طيور خضر، فنظر أبو محمد إلى طاير منها فقال له: خذه فاحفظه حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره. قالت حكيمة: قلت لأبي محمد: ما هذا الطاير وما هذه الطيور؟ قال: هذا جبرئيل وهذه ملائكة الرحمة، ثم قال: يا عمه رديه (إِلَى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاتَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّه حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ). فرددته إلى أمه، قالت: وكان مطهراً مفروغاً منه، وعلى ذراعه الأيمن مكتوب: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ
الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا). قالت حكيمة: دخلت على أبي محمد بعد أربعين يوماً من ولادة صاحب الأمر، فإذا مولانا الصاحب (عليه السلام) يمشى في الدار، فلم أر لغة أفصح من لغته، فتبسم أبو محمد: إنا معاشر الأئمة ننشأ في يوم كما ينشأ غيرنا في السنة. قالت: ثم كنت أسأل أبا محمد عنه بعد ذلك فقال: استودعناه الذي استودعت أم ولدها).
طلبت والدة الإمام المهدي أن تموت قبل زوجها!
روى في كمال الدين:2/431: (عن أبي علي الخيزراني عن جارية له كان أهداها لأبي محمد (عليه السلام)، فلما أغار جعفر الكذاب على الدار جاءته فارَّةً من جعفر فتزوج بها، قال أبوعلي: فحدثتني أنها حضرت ولادة السيد (عليه السلام) وأن إسم أم السيد صقيل، وأن أبا محمد (عليه السلام) حدثها بما يجري على عياله فسألته أن يدعوالله (عزَّ وجلَّ) لها أن يجعل منيتها قبله! فماتت في حياة أبي محمد (عليه السلام)، وعلى قبرها لوح مكتوب عليه: هذا قبر أم محمد. قال أبوعلي: وسمعت هذه الجارية تذكر أنه لما ولد السيد (عليه السلام) رأت له نوراً ساطعاً قد ظهر منه وبلغ أفق السماء، ورأيت طيوراً بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه ووجهه وسائر جسده ثم تطير، فأخبرنا أبا محمد (عليه السلام) بذلك فضحك ثم قال: تلك الملائكة نزلت للتبرك بهذا المولود، وهي أنصاره إذا خرج).
أقول: يتضح بهذا الطلب شفافية روح والدة الإمام المهدي (عليه السلام) وعمق مشاعرها، فاختارت أن يميتها الله تعالى في حياة زوجها الإمام العسكري (عليه السلام) لأنها لا تتحمل وحشية السلطة التي أخبرها بها الإمام (عليه السلام)، وأرادت أن تتشرف بصلاته عليها ودفنها بيده، لتكون أمامه في الآخرة.
الفصل الثالث عشر: التفسير المنسوب الى الإمام العسكري (عليه السلام)
ثلاثة كتب باسم تفسير العسكري (عليه السلام)
ثبت في مصادرنا أن الإمام الهادي (عليه السلام) أملى على الحسن بن خالد البرقي (رحمه الله) تفسيراً للقرآن، من مئة وعشرين مجلداً، وعرف باسم: تفسير العسكري.
قال في معالم العلماء/7: (الحسن بن خالد البرقي: أخو محمد بن خالد من كتبه: تفسير العسكري، من إملاء الإمام (عليه السلام)، مايةٌ وعشرون مجلدة).
وقال الطوسي في الفهرست/99: (الحسن بن خالد البرقي، أخو محمد بن خالد، يكنى أبا علي، له كتب أخبرنا بها عدة من أصحابنا، عن أبي المفضل عن بن بطة عن أحمد بن أبي عبد الله عن عمه الحسن بن خالد).
وسند هذا التفسير صحيح لكنه فُقِدَ مع الأسف، مثل ألوف الكتب التي فقدها شيعة أهل البيت (عليهم السلام) بغارات أعدائهم!
ويوجد كتاب تفسير منسوبٌ للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) من مجلد واحد رواه عنه طبريان، واختلفت آراء علمائنا فيه، فاعتمده بعضهم كالصدوق والحر العاملي وصاحب الذريعة، وردَّه آخرون كالغضائري والعلامة والسيد الخوئي (قدس سره)، كما ستعرف.
بل يوجد تفسير ثالث منسوب الى الإمام الهادي وليس لابنه العسكري (عليهما السلام)، وهو الذي رده ابن الغضائري وحكم بأنه موضوع،
وتبعه العلامة الحلي، وحسباه تفسير الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) لأنهما سميا راوييه على أنهما راويا تفسير الإمام الهادي (عليه السلام)، كما يأتي.
الذين شككوا في صحة التفسير أو قالوا إنه موضوع
أقدم من رد هذا التفسير وحكم بأنه موضوع ابن الغضائري في رجاله/99، قال: (محمد بن القاسم المُفَسِّرالإسْتَرْآبادي، رَوى عنهُ أبو جَعْفَر بن بابَوَيْه، ضَعِيْفٌ كذابٌ. رَوى عنه تَفْسيْراً يَرْوِيْهِ عن رَجُليْنِ مَجْهُوليْنِ: أحَدهما يُعْرَفُ بِيُوسُف بن مُحَمَّد بن زياد، والآخَر علي بن محمد بن يسار عن أبيهما، عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام). والتفسيرُ مَوْضُوعٌ عن سَهْل الدِيْباجي عن أبيه، بِأحاديث من هذه المناكير).
وتبعه بعض علمائنا وأوردوا كلامه بدون زيادة ولا نقصان كالعلامة الحلي! (الخلاصة/404) ومن المتأخرين التفرشي صاحب نقد الرجال، والمحقق الداماد صاحب شارع النجاة، والأسترآبادي صاحب منهج المقال، والأردبيلي صاحب جامع الرواة، والقهبائي صاحب مجمع الرجال، والبلاغي صاحب تفسير آلاء الرحمن، والتستري صاحب الأخبار الدخيلة، والشعراني صاحب حاشية مجمع البيان.
وأبرز المتأخرين السيد الخوئي (قدس سره)! قال في رجاله (13/157): (التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) إنما هو برواية هذا الرجل وزميله يوسف بن محمد بن زياد، وكلاهما مجهول الحال، ولا يعتد برواية أنفسهما عن الإمام (عليه السلام) اهتمامه بشأنهما، وطلبه من أبويهما إبقاءهما عنده لإفادتهما العلم الذي يشرفهما الله به. هذا مع أن الناظر في هذا التفسير لايشك في أنه
موضوع، وجَلَّ مقام عالمٍ محقق أن يكتب مثل هذا التفسير، فكيف بالإمام (عليه السلام)).
وقال (رحمه الله) في (18/162): (بقي هنا أمور، الأول: أن محمد بن القاسم تكرر ذكره في رواية الصدوق (قدس سره) عنه في كتبه..لم ينص على توثيقه أحد من المتقدمين حتى الصدوق (قدس سره) الذي أكثر الرواية عنه بلا واسطة. وكذلك لم ينص على تضعيفه، إلا ما ينسب إلى ابن الغضائري، وقد عرفت غير مرة أن نسبة الكتاب إليه لم تثبت. وأما المتأخرون فقد ضعفه العلامة، والمحقق الداماد وغيرهما، ووثقه جماعة آخرون على ما نسب إليهم، والصحيح أن الرجل مجهول الحال لم تثبت وثاقته ولا ضعفه، ورواية الصدوق عنه كثيراً لا تدل على وثاقته، ولا سيما إذا كانت الكثرة في غير كتاب الفقيه، فإنه لم يلتزم بأن لايروي إلا عن ثقة، نعم لايبعد دعوى أن الصدوق كان معتمداً عليه لروايته عنه في الفقيه، المؤيد بترضيه وترحمه عليه كثيراً، ولكن اعتماد الصدوق لا يكشف عن الوثاقة، ولعله كان من جهة أصالة العدالة. وعلى كل حال فالتفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) بروايته لم يثبت، فإنه رواه عن رجلين مجهول حالهما، وقد أشرنا إلى ذلك في ترجمة علي بن محمد بن يسار).
أقول: لاحظت أن كل مستند من ضَعَّفَ راوييه، كلام ابن الغضائري، ولم يزد أحد منهم على كلامه شيئاً. لكن في كلامهم إشكالين لاجواب لهما:
الأول:أن التفسير المذكور في كلام ابن الغضائري مروي عن أبي الحسن الثالث الإمام علي الهادي العسكري (عليه السلام)، وهو غير التفسير المروي عن ابنه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
والقول بأن ذلك سهوٌ، يرده الإشكال الثاني: حيث قال ابن الغضائري: والتفسيرُ مَوْضُوعٌ عن سَهْل الدِيْباجي عن أبيه، بأحاديث من هذه المناكير).
وتفسير الحسن العسكري (عليه السلام) ليس فيه ذكر لسهل الديباجي أبداً!
وقد حاول السيد الخوئي (قدس سره) أن يبرر ذلك، فلم يأت بوجه مقنع!
قال (قدس سره) في معجمه (18/163): (المذكور في كلام ابن الغضائري والعلامة، أن التفسير موضوع عن سهل الديباجي، عن أبيه، بأحاديث من هذه المناكير. وهذه العبارة لا نعرف لها معنى محصلاً، فإن سهلاً لم يقع في سند هذا التفسير، وإنما رواه الصدوق (قدس سره) عن محمد بن القاسم، عن يوسف بن محمد بن زياد وعلي بن محمد بن سيار، عن الإمام العسكري (عليه السلام)، وغير بعيد أن يكون في العبارة تحريف، أو سقطٌ من النساخ).
أقول: احتمال السقط والتحريف لا ينفع هنا، مع أنه خلاف الأصل.
الذين قبلوا التفسير وصححوا روايته
وأولهم الصدوق (قدس سره)، فقد روى عن راوييه في التوحيد والعيون ومن لا يحضره الفقيه والإكمال والأمالي والعلل ومعاني الأخبار وغيرها، بنفس سند تفسير العسكري (عليه السلام) أو باختلاف يسير، مع أنه لا ينقل في الفقيه مثلاً إلا رواية تكون حجة بينه وبين الله تعالى، كما قال في مقدمته.
ومنهم الطبرسي في الإحتجاج، والقطب الراوندي في الخرائج، وابن شهر آشوب في المناقب، والمحقق الكركي، والشهيد الثاني، الذي قال في منية المريد: فصل من تفسير العسكري (عليه السلام).
ومنهم المجلسي الأول، الذي قال في روضة المتقين: المفسر الأسترآبادي اعتمد عليه الصدوق وكان شيخه، فما ذكره ابن الغضائري باطل. وتوهم أن مثل هذا التفسير لا يليق أن ينسب إلى المعصوم (عليه السلام) مردود، ومن كان مرتبطاً بكلام الأئمة (عليهم السلام) يعلم أنه كلامهم (عليهم السلام) واعتمد عليه شيخنا الشهيد الثاني، ونقل أخباراً كثيرة عنه في كتبه.
واعتماد التلميذ الذي كان مثل الصدوق يكفي.. وباليقين كان الصدوق أعرف بحالهم من ابن الغضائري الذي لم يوثقه العلماء صراحة ولم نعرف حاله، بل الظاهر أنه لا ورع له، فإنه قال: إن المفسر الأسترآبادي كذاب لنقله هذا الخبر... والحقيقة أن هذا التفسير كنز من كنوز الله سبحانه.
وقال المجلسي صاحب البحار: كتاب تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) من الكتب المعروفة، واعتمد الصدوق عليه وأخذ منه، وإن طعن فيه بعض المحدثين، ولكن الصدوق أعرف وأقرب عهداً ممن طعن فيه، وقد
روى عنه أكثر العلماء من غير غمز، ومنهم الحر العاملي صاحب الوسائل وإثبات الهداة قال في الأول: ونروي تفسير الإمام الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) بالإسناد عن الشيخ أبي جعفر الطوسي، عن المفيد، عن الصدوق، عن محمد بن القاسم المفسر الأسترآبادي.. وهذا التفسير ليس هو الذي طعن فيه بعض علماء الرجال لأن ذلك يروي عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) وهذا عن أبي محمد (عليه السلام)، وذلك يرويه سهل الديباجي، عن أبيه، وهما غير مذكورين في سند هذا التفسير أصلاً، وذاك فيه أحاديث من المناكير، وهذا خال من ذلك. وقد اعتمد عليه رئيس المحدثين ابن بابويه، فنقل منه أحاديث كثيرة في كتاب من لا يحضره الفقيه وفي سائر كتبه، وكذلك الطبرسي وغيرهما من علمائنا.
ومنهم الفيض الكاشاني صاحب تفسيري الصافي والأصفى. ومنهم السيد هاشم البحراني صاحب تفسير البرهان. ومنهم الحسن بن سليمان الحلي تلميذ الشهيد الأول. راجع تفصيل ذلك في مقدمة التفسير.
وقال الحر العاملي في الهداية (8/554): (تفسير العسكري (عليه السلام) قد ذكرنا سنده في الكتاب الكبير، وهو تفسير مشهور معتمد، قد اعتمد عليه رئيس المحدثين ونقل منه في كتبه كثيراً، حتى في كتاب من لا يحضره الفقيه، وكذلك الطبرسي في الإحتجاج وشهدا له بأنه معتمد ثابت، وهذا التفسير ليس هو الذي طعن فيه بعض علماء الرجال لأن ذاك يروي عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) وهذا عن أبي محمد (عليه السلام)، وذاك يرويه
سهل الديباجي عن أبيه وهما غير مذكورين في هذا التفسير أصلاً، وذاك فيه مناكير وهذا خال من ذلك).
ونقل الحر العاملي في الفوائد الطوسية/128، كلام العلامة الذي هو كلام ابن الغضائري ثم قال: (قال بعض المتأخرين: كيف يكون محمد بن القاسم ضعيفاً كذاباً، والحال أن رئيس المحدثين كثيراً ما يروي عنه في الفقيه وكتاب التوحيد وعيون أخبار الرضا (عليه السلام)، وفي كل موضع يذكره يقول بعد ذكر اسمه: (رضي الله عنه) أو (رحمه الله). والمتتبع يعلم أنه أجلُّ شأناً من أن يروي الحديث عمن لا اعتماد عليه، ولا يوثق به ويذكره على جهة التعظيم، ولو كان المروي عنه ضعيفاً في نفسه، فروايته عنه تكون بعد علمه بصحة الرواية بالقرائن والأمارات. ومما يدل على كمال احتياطه وعدم نقله حديثاً لم يثبت صحته عنده بوجه من الوجوه: ما ذكره في عيون الأخبار بعد نقل حديث رواه بسنده عن الرضا (عليه السلام) في الحديثين المختلفين، فقال: كان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد سيء الرأي في محمد بن عبد الله المسمعي راوي هذا الحديث، وإنما أخرجت هذا الخبر في هذا الكتاب لأنه كان في كتاب الرحمة لسعد بن عبد الله، وقد قرأته عليه ولم ينكره ورواه لي. انتهى.
قال: ولكن فيما ذكره العلامة (رضي الله عنه) إشكالات، أحدها: أن الإمام المروي عنه ليس أبا الحسن الثالث بل هو أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام).. وثانيها: أن أبويهما غير داخلين في سلسلة الرواية، بل
هما رويا عن المعصوم بلا واسطة. وثالثها: أن سهلاً وأباه غير داخلين في سند هذا التفسير.. قال: وإذا كان الأمر على ذلك فلاينطبق كلام العلامة على التفسير الذي هو مشهور بين الشيعة وينسبونه إلى مولانا الحسن العسكري (عليه السلام)، فلعله رأى تفسيراً آخر روياه عن أبويهما، عن أبي الحسن الثالث علي بن محمد (عليهما السلام)، وكان سهل بن أحمد الديباجي وأبوه داخلين في سلسلة ذلك التفسير، والله أعلم). انتهى.
وقال الطهراني في الذريعة (4/283) عن المطبوع من هذا التفسير: (وقد خرج الجزء الأول من هذا التفسير مرتباً من تفسير الإستعاذة والبسملة، وتمام سورة فاتحة الكتاب وسورة البقرة، إلى آخر قوله تعالى: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). آية 108، ثم لم يوجد في النسخ تفسير عدة آيات تقرب من ثلث جزء واحد من الأجزاء الثلاثين للقرآن، وخرج من الجزء الثاني متفرقاً من تفسير قوله تعالى: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ..) آية 153، إلى آخر: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ). آية 175، ثم تفسير قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً..) آية 194 الى قوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الآمُورُ..) آية 206. ثم تفسير جزء من أطول الآيات، آية الكتابة: 282، من قوله: (أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ)، إلى قوله تعالى: (وَلا يَأبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)، وهو آخر الموجود من هذا التفسير، الذي أملاه الإمام أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام)).
فالصحيح أن سند التفسير تام كما قال جمهرة من علمائنا، نعم لا بد من القول بوجود خلل ونقص في نسخته التي وصلت الينا، ووجود عامية أحياناً في تعبيره، وهذا الذي جعل السيد الخوئي (رحمه الله) يقول: (وجَلَّ مقام عالمٍ محقق أن يكتب مثل هذا التفسير، فكيف بالإمام (عليه السلام)). لكن، قد يروي عامي عن المعصوم (عليه السلام) فلا يجيد الرواية والتعبير عن الفكرة، وهذا لا يمنع صدقه في أصل روايته، ومن هذا النوع بعض ما في تفسير العسكري (عليه السلام).
أما القول بأن فيه منكرات وتناقضاً وتهافتاً، فلم أجد مثالاً واضحاً عليه، بل فيه نماذج راقية في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تروها السيرة الرسمية الحكومية ولا غيرها، لا يمكن أن يهتدي اليها الشابان الطبريان اللذان روياه، ولا يستطيعان وضعها، ولو ساعدهما كل الرواة عنهما، بل كل أهل طبرستان!
وهي وحدها عندي دليلٌ كافٍ على صدورها من المعصوم صلوات الله عليه.
من روائع السيرة النبوية برواية الإمام العسكري (عليه السلام)
في تفسير الإمام العسكري/529، والإحتجاج:1/14: (قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام): ذُكر عند الصادق (عليه السلام) الجدال في الدين وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) قد نهوا عنه، فقال الصادق (عليه السلام): لم يَنْهَ عنه مطلقاً ولكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما تسمعون الله يقول: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). وقوله: (أدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسن محرم
حرمه الله على شيعتنا. وكيف يحرم الله الجدال جملةً وهو يقول: (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). وهل يؤتي ببرهان إلا بالجدال بالتي هي أحسن! قيل: يا ابن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن، وبالتي ليست بأحسن؟
قال الصادق (عليه السلام).. أما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجحد حقاً لايمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله.. فهذا هو المحرم، لأنك مثله جحد هو حقاً، وجحدت أنت حقاً آخر.
وقال أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام): فقام إليه رجل آخر وقال: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفجادلَ رسول الله؟ فقال الصادق (عليه السلام): مهما ظننت برسول الله من شيء فلا تظنن به مخالفة الله، أليس الله قد قال: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..) أفتظن أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالف ما أمر الله به فلم يجادل بما أمره الله به، ولم يخبر عن أمر الله بما أمره أن يخبر به!
ولقد حدثني أبي الباقر، عن جدي علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء، عن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهم، أنه اجتمع يوماً عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل خمسة أديان: اليهود، والنصارى، والدهرية، والثنوية، ومشركو العرب.
فقالت اليهود: نحن نقول عزيرٌ ابن الله، وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت النصارى: نحن نقول إن المسيح ابن الله اتحد به، وقد جئناك لننظر ما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت الدهرية: نحن نقول إن الأشياء لا بَدْوَ لها وهي دائمة، وقد جئناك لننظر فيما تقول، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت الثنوية: نحن نقول إن النور والظلمة هما المدبران.. فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك، وإن خالفتنا خصمناك.
وقال مشركو العرب: نحن نقول إن أوثاننا آلهة.. فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل، وإن خالفتنا خصمناك.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): آمنت بالله وحده لا شريك له، وكفرت بالجبت والطاغوت، وبكل معبود سواه.
ثم قال لهم: إن الله تعالى قد بعثني كافة للناس بشيراً ونذيراً وحجةً على العالمين، وسيردُّ كيدَ من يكيد دينَه في نحره.
ثم قال لليهود: أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجة؟ قالوا: لا. قال: فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيراً ابن الله؟ قالوا: لأنه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت، ولم يفعل بها هذا إلا لأنه ابنه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فكيف صار عزيرٌ ابن الله دون موسى (عليه السلام) وهو الذي جاء لهم بالتوراة، ورؤي منه من المعجزات ما قد علمتم؟ولئن
كان عزير ابن الله لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة، فلقد كان موسى بالبنوة أولى وأحق، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب له أنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجلَّ من البنوة! لأنكم إن كنتم إنما تريدون بالبنوة الدلالة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادة الأمهات الأولاد بوطئ آبائهم لهن، فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه، وأوجبتم فيه صفات المحدثين، فوجب عندكم أن يكون محدثاً مخلوقاً، وأن يكون له خالقٌ صنعه وابتدعه.
قالوا: لسنا نعني هذا، فإن هذا كفر كما دللت، لكنا نعني أنه ابنه على معنى الكرامة، وإن لم يكن هناك ولادة، كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانته بالمنزلة من غيره: يا بنيَّ وإنه ابني لاعلى إثبات ولادته منه، لأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب له بينه وبينه، وكذلك لما فعل الله تعالى بعزير ما فعل، كان قد اتخذه ابناً على الكرامة لا على الولادة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فهذا ما قلته لكم إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه، فإن هذه المنزلة بموسى أولى، وإن الله يفضح كل مبطل بإقراره، ويقلب عليه حجته! إن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكثر مما ذكرته لكم، لأنكم قلتم إن عظيماً من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه: يا بني، وهذا ابني، لا على طريق الولادة، فقد تجدون أيضاً هذا العظيم لأجنبي آخر: هذا أخي، ولآخر: هذا شيخي، وأبي، ولآخر:هذا سيدي ويا سيدي، على سبيل الإكرام. وإن من زاده في
الكرامة زاده في مثل هذا القول، فإذاً يجوز عندكم أن يكون موسى أخاً لله أو شيخاً له أو أباً أو سيداً، لأنه قد زاده في الإكرام مما لعزير، كما أن من زاد رجلاً في الإكرام فقال له يا سيدي ويا شيخي ويا عمي ويا رئيسي على طريق الإكرام، وأن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول، أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخاً لله أو شيخاً أو عماً أو رئيساً أو سيداً أو أميراً، لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له يا شيخي، أو يا سيدي، أو يا عمي، أو يا رئيسي، أو يا أميري؟!
قال: فبهت القوم وتحيروا وقالوا: يا محمد أجِّلنا نتفكر فيما قد قلته لنا. فقال: أنظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم الله.
ثم أقبل على النصارى فقال لهم: وأنتم قلتم إن القديم (عزَّ وجلَّ) اتحد بالمسيح ابنه، فما الذي أردتموه بهذا القول، أردتم أن القديم صار محدثاً لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى، أو المحدث الذي هو عيسى صار قديماً كوجود القديم الذي هو الله، أو معنى قولكم إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحداً سواه؟
فإن أردتم أن القديم صار محدثاً فقد أبطلتم، لأن القديم محالٌ أن ينقلب فيصير محدثاً. وإن أردتم أن المحدث صار قديماً فقد أحلتم، لأن المحدث أيضا محالٌ أن يصير قديماً. وإن أردتم أنه اتحد به بأنه اختصه واصطفاه على سائر عباده، فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله، لأنه إذا كان عيسى محدثاً وكان الله اتحد به بأن أحدث
به معنىً صار به أكرم الخلق عنده، فقد صار عيسى وذلك المعنى محدثين، وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه.
فقالت النصارى: يا محمد إن الله لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر، فقد اتخذه ولداً على جهة الكرامة.
فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه، ثم أعاد ذلك كله، فسكتوا إلا رجلاً واحداً منهم، فقال له: يا محمد، أوَلستم تقولون إن إبراهيم خليل الله؟ قال: قلنا ذلك. قال: فإذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول إن عيسى ابن الله؟
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنهما لن يشتبها، لأن قولنا إبراهيم خليل الله، فإنما هو مشتق من الخلة والخلة معناها الفقر والفاقة، فقد كان خليلاً إلى ربه فقيراً وإليه منقطعاً، وعن غيره متعففاً معرضاً مستغنياً، وذلك لما أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث الله جبرئيل فقال له: أدرك عبدي فجاء فلقيه في الهواء فقال له: كلفني ما بدا لك، فقد بعثني الله لنصرتك. فقال إبراهيم: حسبي الله ونعم الوكيل، إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه، فسماه خليله أي فقيره ومحتاجه، والمنقطع إليه عمن سواه.
وإذا جُعل معنى ذلك من الخلة، وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره، كان الخليل معناه العالم به وبأموره، ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه. ألاترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله
وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله، وأن من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه، لم يخرج عن أن يكون ولده، لأن معنى الولادة قائم به.
ثم إن وجب لأنه قال لإبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم فتقولوا بأن عيسى ابنه، وجب أيضاً كذلك أن تقولوا لموسى إنه ابنه، فإن الذي معه من المعجزات، لم يكن بدون ما كان مع عيسى.
فقال بعضهم لبعض: وفي الكتب المنزلة إن عيسى قال: أذهب إلى أبي وأبيكم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فإن كنتم بذلك الكتاب تعملون فإن فيه أذهب إلى أبي وأبيكم، فقولوا إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله، كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه.
ثم إن ما في هذا الكتاب مبطل عليكم هذا الذي زعمتم أن عيسى من وجهة الإختصاص كان ابناً له، لأنكم قلتم إنما قلنا إنه ابنه لأنه اختصه بما لم يختص به غيره، وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى: أذهب إلى أبي وأبيكم، فبطل أن يكون الإختصاص لعيسى، لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى، وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها، لأنه إذا قال: أذهب إلى أبي وأبيكم، فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه، وما يدريكم لعله عنى أذهب إلى آدم أو إلى نوح، وأن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم، وآدم أبي وأبيكم وكذلك نوح، بل ما
أراد غير هذا. قال: فسكت النصارى وقالوا: ما رأينا كاليوم مجادلاً ولا مخاصماً مثلك، وسننظر في أمورنا!
ثم أقبل رسول الله على الدهرية فقال: وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن الأشياء لا بَدْوَ لها وهي دائمةٌ، لم تزل ولا تزال؟
فقالوا: لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد ولم نجد للأشياء حدثاً، فحكمنا بأنها لم تزل، ولم نجد لها انقضاء وفناء، فحكمنا بأنها لا تزال.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفوجدتم لها قِدَماً، أم وجدتم لها بَقَاءً أبَد الآبد؟ فإن قلتم إنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية، ولا تزالون كذلك!
ولئن قلتم هذا، دفعتم العيان وكذبكم العالمون والذين يشاهدونكم. قالوا: بل لم نشاهد لها قِدماً ولا بقاءً أبد الآبد.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلم صرتم بأن تحكموا بالقِدم والبقاء دائماً لأنكم لم تشاهدوا حدوثها، وانقضاؤها أولى من تارك التميز لها مثلكم، فيحكم لها بالحدوث والإنقضاء والإنقطاع، لأنه لم يشاهد لها قدماً ولا بقاءً أبد الآبد؟ أوَلستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر؟ فقالوا: نعم. فقال: أترونهما لم يزالا ولا يزالان؟ فقالوا: نعم. فقال: أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار؟ فقالوا: لا. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): فإذاً منقطعٌ أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جارياً بعده. قالوا:
كذلك هو. فقال: قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار لم تشاهدوهما، فلا تنكروا لله قدرته.
ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناهٍ أم غير متناهٍ؟ فإن قلتم إنه غير متناه، فقد وصل إليكم آخرٌ بلا نهاية لأوله، وإن قلتم متناه فقد كان ولا شيء منهما. قالوا: نعم.
قال لهم: أقلتم إن العالم قديمٌ غير محدث، وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه؟ قالوا: نعم. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فهذا الذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنه لاقوام للبعض إلا بما يتصل به، كما نرى البناء محتاجاً بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم، وكذلك سائر ما نرى.
وقال أيضاً: فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه، هو القديم فأخبروني أن لو كان محدثاً كيف كان يكون، وماذا كانت تكون صفته؟ قال: فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم!
فوجموا وقالوا: سننظر في أمرنا.
ثم أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الثنوية الذين قالوا النور والظلمة هما المدبران فقال: وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا؟ فقالوا: لأنا وجدنا العالم صنفين خيراً وشراً، ووجدنا الخير ضداً للشر، فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشيء وضده، بل لكل واحد منهما فاعل، ألا ترى أن
الثلج محال أن يسخن كما أن النار محال أن تبرد، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين ظلمةً ونوراً. فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أفلستم قد وجدتم سواداً وبياضاً وحمرةً وصفرةً وخضرةً وزرقةً، وكل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع مثلين منها في محل واحد، كما كان الحر والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد؟ قالوا: نعم.
قال: فهلا أثبتم بعدد كل لون صانعاً قديماً، ليكون فاعل كل ضد من هذه الألوان غير فاعل الضد الآخر؟ قال: فسكتوا.
ثم قال: فكيف اختلط النور والظلمة، وهذا من طبعه الصعود وهذه من طبعها النزول، أرأيتم لو أن رجلاً أخذ شرقاً يمشي إليه والآخر غرباً أكان يجوز عندكم أن يلتقيا ما داما سائرين على وجههما؟ قالوا: لا.
قال: فوجب أن لا يختلط النور والظلمة لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الآخر، فكيف وجدتم حدث هذا العالم من امتزاج ما هو محال أن يمتزج، بل هما مدبران جميعاً مخلوقان. فقالوا: سننظر في أمورنا.
ثم أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على مشركي العرب فقال: وأنتم فلمَ عبدتم الأصنام من دون الله؟ فقالوا: نتقرب بذلك إلى الله تعالى. فقال لهم: أوَهي سامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله؟ قالوا: لا. قال: فأنتم الذين نحتموها بأيديكم؟ قالوا: نعم. قال: فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما
يكلفكم. قال: فلما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا القول اختلفوا فقال بعضهم: إن الله قد حل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة، فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا تلك الصور التي حل فيها ربنا!
وقال آخرون منهم: إن هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا، فمثَّلنا صورهم وعبدناها تعظيماً لله.
وقال آخرون منهم: إن الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له فسجدوه تقرباً بالله كنا نحن أحق بالسجود لآدم من الملائكة، ففاتنا ذلك فصورنا صورته فسجدنا لها تقرباً إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى، وكما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ففعلتم، ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لامحاريبكم، وقصدتم بالكعبة إلى الله (عزَّ وجلَّ) لا إليها.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أخطأتم الطريق وضللتم، أما أنتم وهو يخاطب الذين قالوا إن الله يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة التي صورناها، فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حل فيها ربنا، فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات، أو يحل ربكم في شيء حتى يحيط به ذاك الشئ، فأي فرق بينه إذاً وبين سائر ما يحل فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفته، ولم صار هذا المحلول فيه محدثاً قديماً دون أن يكون ذلك محدثاً وهذا قديماً، وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال، وهو (عزَّ وجلَّ) كان لم يزل، وإذا وصفتموه
بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال، وما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء، لأن ذلك أجمع من صفات الحال والمحلول فيه، وجميع ذلك متغير الذات، فإن كان لم يتغير ذات الباري تعالى بحلوله في شيء، جاز أن لا يتغير بأن يتحرك ويسكن ويسود ويبيض ويحمر ويصفر، وتحله الصفات التي تتعاقب على الموصوف بها، حتى يكون فيه جميع صفات المحدثين ويكون محدثاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فإذا بطل ماظننتموه من أن الله يحل في شيء، فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم.
قال: فسكت القوم وقالوا: سننظر في أمورنا.
ثم أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الفريق الثاني فقال: أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصليتم، فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها، فما الذي أبقيتم لرب العالمين، أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوَى به عبده، أرأيتم ملكاً أو عظيماً إذا سويتموه بعبده في التعظيم والخضوع والخشوع، أيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير؟ فقالوا: نعم.
قال: أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له، تُزرون على رب العالمين!
قال: فسكت القوم بعد أن قالوا: سننظر في أمرنا.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للفريق الثالث: لقد ضربتم لنا مثلاً وشبهتمونا بأنفسكم ولسنا سواء، وذلك أنا عبادٌ الله مخلوقون مربوبون، نأتمر له فيها أمرنا وننزجر عما زجرنا، ونعبده من حيث يريده منا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا، لأنا لا ندري لعله إن أراد منا الأول فهو يكره الثاني، وقد نهانا أن نتقدم بين يديه، فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى الكعبة أطعناه، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكون بها فأطعناه، ولم نخرج في شيء من ذلك من اتباع أمره. والله حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره. فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه، لأنكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون، إذ لم يأمركم به.
ثم قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوماً بعينه ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره، أو لكم أن تدخلوا داراً له أخرى مثلها بغير أمره، أو وهب لكم رجل ثوباً من ثيابه أو عبداً من عبيده أو دابة من دوابه ألكم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا: نعم. قال: فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله؟ قالوا: لا، لأنه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن في الأول. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فأخبروني، الله أولى بأن لايُتقدم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين؟ قالوا: بل الله أولى بأن لا يتصرف في ملكه بغير إذنه، قال: فلم فعلتم، ومتى أمركم بالسجود أن تسجدوا لهذه الصور؟
قال فقال القوم: سننظر في أمورنا وسكتوا!
وقال الصادق (عليه السلام): فوالذي بعثه بالحق نبياً ما أتت على جماعتهم إلا ثلاثة أيام، حتى أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأسلموا، وكانوا خمسة وعشرين رجلاً من كل فرقة خمسة، وقالوا: ما رأينا مثل حجتك يا محمد، نشهد أنك رسول الله).
كان اليهود يستفتحون بالنبي وآله (صلى الله عليه وآله وسلم)
في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) /393، في تفسير قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
روى عن جده أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إن الله تعالى أخبر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان من إيمان اليهود بمحمد قبل ظهوره، ومن استفتاحهم على أعدائهم بذكره والصلاة عليه وعلى آله. وكان الله (عزَّ وجلَّ) أمر اليهود في أيام موسى وبعده إذا دهمهم أمر ودهتهم داهية، أن يدعوا الله (عزَّ وجلَّ) بمحمد وآله الطيبين، وأن يستنصروا بهم، وكانوا يفعلون ذلك حتى كانت اليهود من أهل المدينة قبل ظهور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بسنين كثيرة يفعلون ذلك، فيكفون البلاء والدهماء والداهية.
وكانت اليهود قبل ظهور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعشر سنين، تعاديهم أسد وغطفان ويقصدون أذاهم، وكانوا يستدفعون شرورهم وبلاءهم بسؤالهم ربهم بمحمد وآله الطيبين، حتى قصدهم في بعض الأوقات أسد وغطفان في ثلاثة آلاف فارس إلى بعض قرى اليهود حوالي المدينة، فتلقاهم اليهود،
وهم ثلاث مائة فارس، ودعوا الله بمحمد وآله الطيبين الطاهرين، فهزموهم وقطعوهم. فقال أسد وغطفان بعضهما لبعض: تعالوا نستعين عليهم بسائر القبائل، فاستعانوا عليهم بالقبائل وأكثروا حتى اجتمعوا قدر ثلاثين ألفاً وقصدوا هؤلاء الثلاث مائة في قريتهم، فألجؤوهم إلى بيوتها، وقطعوا عنها المياه الجارية التي كانت تدخل إلى قراهم، ومنعوا عنهم الطعام، واستأمن اليهود منهم فلم يؤمنوهم وقالوا: لا إلا أن نقتلكم ونسبيكم وننهبكم. فقالت اليهود بعضها لبعض: كيف نصنع؟
فقال لهم أماثلهم وذوو الرأي منهم: أما أمر موسى (عليه السلام) أسلافكم ومن بعدهم بالإستنصار بمحمد وآله؟ أما أمركم بالإبتهال إلى الله تعالى عند الشدائد بهم؟ قالوا: بلى، قالوا: فافعلوا. فقالوا: اللهمَّ بجاه محمد وآله الطيبين لما سقيتنا، فقد قطعت الظلمة عنا المياه حتى ضعف شباننا، وتماوتت ولداننا، وأشرفنا على الهلكة. فبعث الله تعالى لهم وابلاً هطلاً سحاً ملأ حياضهم وآبارهم وأنهارهم وأوعيتهم وظروفهم، فقالوا: هذه إحدى الحسنيين، ثم أشرفوا من سطوحهم على العساكر المحيطة بهم، فإذا المطر قد آذاهم غاية الأذى، وأفسد أمتعتهم وأسلحتهم وأموالهم، فانصرف عنهم لذلك بعضهم، وذلك أن المطر أتاهم في غير أوانه في حمارّة القيظ حين لا يكون مطر، فقال الباقون من العساكر: هبكم سقيتم فمن أين تأكلون؟ ولئن انصرف عنكم هؤلاء فلسنا
ننصرف حتى نقهركم على أنفسكم وعيالاتكم وأهاليكم وأموالكم، ونشفي غيظنا منكم.
فقالت اليهود: إن الذي سقانا بدعائنا بمحمد وآله قادر على أن يطعمنا، وإن الذي صرف عنا من صرفه قادر على أن يصرف الباقين، ثم دعوا الله بمحمد وآله أن يطعمهم، فجاءت قافلة عظيمة من قوافل الطعام قدر ألفي جمل وبغل وحمار، موقرةً حنطةً ودقيقاً وهم لايشعرون بالعساكر فانتهوا إليهم وهم نيام ولم يشعروا بهم، لأن الله تعالى ثقل نومهم حتى دخلوا القرية ولم يمنعوهم، وطرحوا فيها أمتعتهم، وباعوها منهم فانصرفوا وأبعدوا، وتركوا العساكر نائمة ليس في أهلها عين تطرف، فلما أبعدوا انتبهوا ونابذوا اليهود الحرب، وجعل يقول بعضهم لبعض: ألوحى ألوحى (العجل) فإن هؤلاء اشتد بهم الجوع وسيذلون لنا! قال لهم اليهود: هيهات بل قد أطعمنا ربنا وكنتم نياماً، جاءنا من الطعام كذا وكذا، ولو أردنا قتالكم في حال نومكم لتهيأ لنا، ولكنا كرهنا البغي عليكم فانصرفوا عنا، وإلاّ دعونا عليكم بمحمد وآله واستنصرنا بهم أن يخزيكم، كما قد أطعمنا وأسقانا، فأبوا إلا طغياناً فدعوا الله بمحمد وآله واستنصروا بهم، ثم برز الثلاث مائة فقتلوا منهم وأسروا وطحطحوهم، واستوثقوا منهم بأُسرائهم، فكانوا لا ينداهم مكروه من جهتهم، لخوفهم على من لهم في أيدي اليهود. فلما ظهر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حسدوه، إذ كان من العرب، فكذبوه).
مناظرة عمار بن ياسر (رحمه الله) مع اليهود
في تفسير الإمام العسكري/515، قال (عليه السلام): (إن المسلمين لما أصابهم يوم أُحد من المحن ما أصابهم، لقي قومٌ من اليهود بعده بأيام عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، فقالوا لهما: ألم تريا ما أصابكم يوم أُحد، إنما يحارب كأحد طلاب ملك الدنيا، حربه سجالاً، فتارةً له وتارة عليه، فارجعوا عن دينه. فأما حذيفة فقال: لعنكم الله لا أُقاعدكم ولا أسمع كلامكم، أخاف على نفسي وديني وأفرُّ بهما منكم، وقام عنهم يسعى.
وأما عمار بن ياسر فلم يقم عنهم، ولكن قال لهم: معاشر اليهود إن محمداً وعد أصحابه الظفر يوم بدر إن صبروا، فصبروا وظفروا، ووعدهم الظفر يوم أُحد أيضاً إن صبروا، ففشلوا وخالفوا، فلذلك أصابهم ما أصابهم، ولو أنهم أطاعوا وصبروا ولم يخالفوا لما غُلبوا.
فقالت له اليهود: يا عمار، وإذا أطعتَ أنت غلبَ محمدٌ سادات قريش مع دقة ساقيك! فقال عمار: نعم والله الذي لا إله إلا هو باعثه بالحق نبياً لقد وعدني محمد من الفضل والحكمة ما عَرَّفنيه من نبوته، وفَهَّمنيه من فضل أخيه ووصيه وصفيه وخير من يخلفه بعده، والتسليم لذريته الطيبين المنتجبين، وأمرني بالدعاء بهم عند شدائدي ومهماتي وحاجاتي، ووعدني أنه لا يأمرني بشيء فاعتقدت فيه طاعته إلا بلغته، حتى لو أمرني بحط السماء إلى الأرض أو رفع الأرضين إلى السماوات لقَوَّى عليه ربي بدني بساقيَّ هاتين الدقيقتين!
فقالت اليهود: كلا والله يا عمار! محمد أقلُّ عند الله من ذلك، وأنت أوضع عند الله وعند محمد من ذلك، لا ولا حجراً فيه أربعون مَنّاً!
فقام عمار عنهم وقال: لقد أبلغتكم حجة ربي ونصحت لكم، ولكنكم للنصيحة كارهون، وجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا عمار قد وصل إليَّ خبركما، أما حذيفة فإنه فرَّ بدينه من الشيطان وأوليائه، فهو من عباد الله الصالحين، وأما أنت يا عمار فإنك قد ناضلت عن دين الله، ونصحت لمحمد رسول الله، فأنت من المجاهدين في سبيل الله الفاضلين. فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمار يتحادثان إذ حضرت اليهود الذين كانوا كلموه فقالوا: يا محمد، هاه صاحبك يزعم أنك إن أمرته برفع الأرض إلى السماء، أو حط السماء إلى الأرض، فاعتقد طاعتك وعزم على الإئتمار لك لأعانه الله عليه، ونحن نقتصر منك ومنه على ما هو دون ذلك. إن كنت نبياً فقد قنعنا أن يحمل عمار مع دقة ساقيه هذا الحجر! وكان الحجر مطروحاً بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بظاهرالمدينة يجتمع عليه مائتا رجل ليحركوه فلا يمكنهم، فقالوا له: يا محمد، إن رام احتماله لم يحركه ولو حمل في ذلك على نفسه لانكسرت ساقاه وتهدم جسمه!
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تحتقروا ساقيه فإنهما أثقل في ميزان حسناته من ثور وثبير وحراء وأبي قبيس، بل من الأرض كلها وما عليها، وإن الله قد خفف بالصلاة على محمد وآله الطيبين ما هو أثقل من هذه الصخرة، خفف العرش على كواهل ثمانية من الملائكة، بعد أن كان لا يطيقه معهم
العدد الكثير والجم الغفير. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ياعمار إعتقد طاعتي وقل: اللهم بجاه محمد وآله الطيبين قوني، ليسهل الله لك ما أمرك به، كما سهل على كالب بن يوحنا عبور البحر على متن الماء، وهو على فرسه يركض عليه، لسؤاله الله بجاهنا أهل البيت!
فقالها عمار واعتقدها، فحمل الصخرة فوق رأسه وقال: بأبي أنت وأُمي يا رسول الله، والذي بعثك بالحق نبياً لهي أخفُّ في يدي من خلالةٍ أمسكها بها! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حلق بها في الهواء فستبلغ بها قلة ذلك الجبل، وأشار إلى جبل بعيد على قدر فرسخ، فرمى بها عمار، وتحلقت في الهواء حتى انحطت على ذروة ذلك الجبل! ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لليهود: أوَرأيتم؟ قالوا: بلى!
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عمار، قم إلى ذروة الجبل فستجد هناك صخرة أضعاف ما كانت فاحتملها، وأعدها إلى حضرتي. فخطى عمار خطوة وطويت له الأرض، ووضع قدمه في الخطوة الثانية على ذروة الجبل وتناول الصخرة المتضاعفة، وعاد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخطوة الثالثة، ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمار: إضرب بها الأرض ضربة شديدة فتهاربت اليهود وخافوا، فضرب بها عمار على الأرض، فتفتتت حتى صارت كالهباء المنثور وتلاشت! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): آمنوا أيها اليهود! فقد شاهدتم آيات الله، فآمن بعضهم وغلب الشقاء على بعضهم..الخ.)!
أقول: هذا الحديث يدلنا على تشفي اليهود بهزيمة المسلمين في أحد، ومثلهم قريش فقد اعتبرتها عقوبة لمحمد، لأنه قَتَلَ منهم في بدر وأخذ منهم أسرى!
ففي مجمع الزوائد (6 /115) وصححه: (عن عمر بن الخطاب قال: فلما كان عام أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله عن النبي فكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله (عزَّ وجلَّ): (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ إني هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير). بأخذكم الفداء)!
لاحظ أنهم جعلوا التوبيخ في الآية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والعقوبة له، وهو قول اليهود!
من حجج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على مشركي العرب
الإحتجاج (1/25) وتفسير الإمام العسكري/501: (عن أبي محمد الحسن العسكري قال: قلت لأبي علي بن محمد (عليهما السلام) هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجهم؟ قال: بلى مراراً كثيرة، منها ما حكى الله من قولهم: (وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا. أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلارَجُلاً مَسْحُورًا. وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ..) ثم قيل له في آخر ذلك: لوكنتَ نبياً كموسى أنزلت علينا كسفاً من السماء ونزلت علينا الصاعقة في مسألتنا إليك، لأن مسألتنا أشد من مسائل قوم موسى لموسى (عليه السلام)!
قال: وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قاعداً ذات يوم بمكة بفناء الكعبة إذ اجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبو البختري ابن هشام، وأبو جهل، والعاص بن وائل السهمي، وعبد الله بن أبي أمية المخزومي، وكان معهم جمع ممن يليهم كثير، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله، ويؤدي إليهم عن الله أمره ونهيه. فقال المشركون بعضهم لبعض: لقد استفحل أمر محمد وعظم خطبه، فتعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيته وتوبيخه والإحتجاج عليه، وإبطال ما جاء به، ليهون خطبه على أصحابه ويصغر قدره عندهم، فلعله ينزع عما هو فيه من غيه وباطله وتمرده وطغيانه، فإن انتهى وإلا عاملناه بالسيف الباتر. قال أبو جهل: فمن ذا الذي يلي كلامه ومجادلته؟ قال عبد الله بن أبي أمية المخزومي: أنا إلى ذلك، أفما ترضاني له قرناً حسيباً ومجادلاً كفياً؟ قال أبو جهل: بلى. فأتوه بأجمعهم، فابتدأ عبد الله بن أبي أمية المخزومي فقال: يا محمد لقد ادعيت دعوى عظيمة، وقلت مقالاً هائلاً! زعمت أنك رسول الله رب العالمين، وما ينبغي لرب العالمين وخالق الخلق أجمعين، أن يكون مثلك رسوله بشر مثلنا، تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب، وتمشي في الأسواق كما نمشي! فهذا ملك
الروم وهذا ملك الفرس، لايبعثان رسولاً إلا كثير المال عظيم الحال، له قصور ودور وفساطيط وخيام وعبيد وخدام، ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم فهم عبيده، ولو كنت نبياً لكان معك ملك يصدقك ونشاهده!
بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبياً، لكان إنما يبعث إلينا ملكاً لابشراً مثلنا. ما أنت يا محمد إلا رجلٌ مسحور ولست بنبي.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل بقي من كلامك شيء؟
قال: بلى، لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولاً لبعث أجلَّ من فيما بيننا، أكثره مالاً وأحسنه حالاً، فهلا أنزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك وابتعثك به رسولاً على رجل من القريتين عظيم، إما الوليد بن المغيرة بمكة، وإما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل بقي من كلامك شيء يا عبد الله؟
فقال: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا)، بمكة هذه، فإنها ذات أحجار وعرة وجبال، تكسح أرضها وتحفرها وتجرى فيها العيون، فإننا إلى ذلك محتاجون. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب، فتأكل منها وتطعمنا فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا. ثم قال: (أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لصعودك، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ): من الله العزيز الحكيم إلى عبد الله بن أبي أمية المخزومي ومن معه بأن آمنوا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فإنه رسولي. ثم لا أدري يا
محمد إذا فعلت هذا كله أؤمن بك أو لا. بل لو رفعتنا إلى السماء وفتحت أبوابها وأدخلتناها لقلنا إنما سكرت أبصارنا وسحرتنا.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عبد الله أبقي شيء من كلامك؟ قال: يا محمد أوليس فيما أوردته عليك كفاية وبلاغ، ما بقي شيء، فقل ما بدا لك وأفصح عن نفسك إن كان لك حجة، وأتنا بما سألناك به.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم أنت السامع لكل صوت والعالم بكل شيء، تعلم ما قاله عبادك، فأنزل الله عليه: يا محمد: (وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ... وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلارَجُلاً مَسْحُورًا).
ثم قال: يا محمد: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا).
وأنزل عليه: يا محمد: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ..) وأنزل الله عليه: يا محمد (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِىَ الأَمْرُ..).
قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عبد الله أما ذكرت من أني آكل الطعام كما تأكلون، وزعمت أنه لا يجوز لأجل هذا أن أكون لله رسولاً، فإنما الأمر لله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو محمود وليس لك ولا لأحد الإعتراض عليه بلمَ وكيفَ، ألا ترى أن الله كيف أفقرَ بعضاً وأغنى بعضاً، وأعزَّ بعضاً وأذل بعضاً، وأصحَّ بعضاً وأسقمَ بعضاً، وشرَّفَ بعضاً ووضعَ بعضاً، وكلهم ممن يأكل الطعام، ثم ليس للفقراء أن يقولوا لمَ أفقرتنا وأغنيتهم، ولا للوضعاء أن يقولوا لمَ وضعتنا وشرفتهم
ولا للزمني والضعفاء أن يقولوا: لمَ أزمنتنا وأضعفتنا وصححتهم، ولا للأذلاء أن يقولوا: لمَ أذللتنا وأعززتهم، ولا لقباح الصور أن يقولوا: لمَ قبحتنا وجمَلَّتهم! بل إن قالوا ذلك كانوا على ربهم رادين، وله في أحكامه منازعين وبه كافرين، ولكان جوابه لهم: أنا الملك الخافض الرافع، المغني المفقر، المعز المذل، المصحح المسقم، وأنتم العبيد ليس لكم إلا التسليم لي والإنقياد لحكمي، فإن سلمتم كنتم عباداً مؤمنين، وإن أبيتم كنتم بي كافرين، وبعقوباتي من الهالكين.
ثم أنزل الله عليه: يا محمد (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ). يعني آكل الطعام. (يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ): يعني قل لهم أنا في البشرية مثلكم، ولكن ربي خصني بالنبوة دونكم، كما يخص بعض البشر بالغنى والصحة والجمال، دون بعض من البشر..
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأما قولك: هذا ملك الروم وملك الفرس لا يبعثان رسولاً إلا كثير المال عظيم الحال، له قصور ودور وفساطيط وخيام، وعبيد وخدام، ورب العالمين فوق هؤلاء كلهم، فهم عبيده. فإن الله له التدبير والحكم، لا يفعل على ظنك وحسبانك، ولا باقتراحك بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهو محمود.
يا عبد الله، إنما بعث الله نبيه ليعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى ربهم، ويكد نفسه في ذلك آناء الليل ونهاره، فلو كان صاحب قصور يحتجب فيها، وعبيد وخدم يسترونه عن الناس، أليس كانت الرسالة تضيع
والأمور تتباطأ.. يا عبد الله إنما بعثني الله ولا مال لي، ليعرفكم قدرته وقوته وأنه هو الناصر لرسوله، ولا تقدرون على قتله، ولا منعه في رسالاته، فهذا بين في قدرته وفي عجزكم، وسوف يظفرني الله بكم فأسعكم قتلاً وأسراً، ثم يظفرني الله ببلادكم ويستولي عليها المؤمنون..
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأما قولك لي: لو كنت نبياً لكان معك مَلَكٌ يصدقك ونشاهده، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبياً لكان إنما يبعث ملكاً لا بشراً مثلنا، فالملك لا تشاهده حواسكم لأنه من جنس هذا الهواء لاعيانَ منه، ولو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم لقلتم ليس هذا ملكاً بل هذا بشر.. بل إنما بعث الله بشراً وأظهر على يده المعجزات التي ليست في طبائع البشر الذين قد علمتم ضمائر قلوبهم، فتعلمون بعجزكم عما جاء به أنه معجزة، وأن ذلك شهادة من الله بالصدق له. ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما تعجزون عنه ويعجز عنه جميع البشر، لم يكن في ذلك ما يدلكم أن ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتى يصير ذلك معجزاً، ألا ترون أن الطيور التي تطير ليس ذلك منها بمعجز، لأن لها أجناساً يقع منها مثل طيرانها، ولو أن آدمياً طار كطيرانها كان ذلك معجزاً.
فإن الله (عزَّ وجلَّ) سهل عليكم الأمر، وجعله بحيث تقوم عليكم حجته وأنتم تقترحون عمل الصعب الذي لا حجة فيه.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأما قولك: ما أنت إلا رجل مسحور، فكيف أكون كذلك وقد تعلمون أني في صحة التميز والعقل فوقكم، فهل جربتم عليَّ منذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة، خِزْيَةً أو زلةً أو كذبةً، أو خيانةً أو خطأً من القول، أو سفهاً من الرأي؟!
أتظنون أن رجلاً يعتصم طول هذه المدة بحول نفسه وقوتها أو بحول الله وقوته، وذلك ما قال الله: (اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)، إلى أن يثبتوا عليك عمى بحجة، أكثر من دعاويهم الباطلة التي تبين عليك تحصيل بطلانها.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأما قولك: (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، الوليد بن المغيرة بمكة، أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف، فإن الله ليس يستعظم مال الدنيا كما تستعظمه أنت ولا خطر له عنده كما له عندك، بل لو كانت الدنيا عنده تعدل جناح بعوضة لما سقى كافراً به مخالفاً له شربة ماء! وليس قسمة الله إليك بل الله هو القاسم للرحمات والفاعل لما يشاء في عبيده وإمائه، وليس هو (عزَّ وجلَّ) ممن يخاف أحداً كما تخافه أنت، لما له وحاله فعرفته بالنبوة لذلك، ولا ممن يطمع في أحد في ماله أو في حاله كما تطمع أنت، فتخصه بالنبوة لذلك، ولا ممن يحب أحداً محبة الهواء كما تحب أنت، فتقدم من لا يستحق التقديم. وإنما معاملته بالعدل، فلا يُؤْثِرُ إلا بالعدل لأفضل مراتب الدين وجلاله، إلا الأفضل في طاعته والأجد في خدمته،
وكذلك لا يؤخر في مراتب الدين وجلاله إلا أشدهم تباطأ عن طاعته، وإذا كان هذا صفته لم ينظر إلى مال ولا إلى حال، بل هذا المال والحال من تفضله، وليس لأحد من عباده عليه ضريبة لازب، فلا يقال له إذا تفضلت بالمال على عبد فلا بد أن تتفضل عليه بالنبوة أيضاً، لأنه ليس لأحد إكراهه على خلاف مراده ولا إلزامه تفضلاً لأنه تفضل قبله بنعمه.
ألا ترى يا عبد الله كيف أغنى واحداً وقبَّحَ صورته، وكيف حسَّنَ صورة واحد وأفقره، وكيف شرَّفَ واحداً وأفقره، وكيف أغنى واحداً ووضعه! ثم ليس لهذا الغني أن يقول: هلا أضيف إلى يساري جمال فلان ولا للجميل أن يقول: هلَّا أضيف إلى جمالي مال فلان، ولا للشريف أن يقول: هلا أضيف إلى شرفي مال فلان، ولا للوضيع أن يقول: هلا أضيف إلى ضعتي شرف فلان، ولكن الحكم لله يقسم كيف يشاء ويفعل كما يشاء، وهو حكيم في أفعاله محمود في أعماله.
وذلك قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). قال الله تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) يا محمد (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، فأحوجْنا بعضاً إلى بعض، أحوجَ هذا إلى مال ذلك وأحوجَ ذلك إلى سلعة هذا وإلى خدمته، فترى أجلَّ الملوك وأغنى الأغنياء محتاجاً إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب: إما سلعة معه ليست معه وإما خدمة يصلح لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به، وإما باب من العلوم والحكم، هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير، فهذا
الفقير يحتاج إلى مال ذلك الملك الغني، وذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته. ثم ليس للملك أن يقول هلا اجتمع إلى مالي علم هذا الفقير، ولا للفقير أن يقول هلا اجتمع على رأيي وعلمي وما أتصرف فيه من فنون الحكمة مال هذا الملك الغني. ثم قال الله: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا).
ثم قال: يا محمد قل لهم: (وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ..) من أموال الدنيا.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأما قولك: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا)، إلى آخر قلته، فإنك قد اقترحت على محمد أشياء، منها ما لو جاءك به لم يكن برهاناً لنبوته، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرتفع عن أن يغتنم جهل الجاهلين ويحتج عليهم بما لا حجة فيه. ومنها ما لو جاءك به كان معه هلاكك، وإنما يؤتى بالحجج والبراهين ليلزم عباد الله الإيمان بها لا ليهلكوا بها، فإنما اقترحت هلاكك ورب العالمين أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أن يهلكهم كما تقترحون. ومنها المحال الذي لايصح ولا يجوز كونه، ورسول رب العالمين يعرفك ذلك ويقطع معاذيرك ويضيق عليك سبيل مخالفته، ويلجؤك بحجج الله إلى تصديقه حتى لا يكون لك عنه محيد ولا محيص. ومنها ما قد اعترفت على نفسك أنك فيه معاند متمرد، لا تقبل حجة ولا تصغي إلى برهان، ومن كان كذلك فدواؤه عذاب الله النازل من سمائه، أو في جحيمه، أو بسيوف أوليائه.
فأما قولك يا عبد الله: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا)، بمكة هذه فإنها ذات أحجار وصخور وجبال.. فإنك سألت هذا وأنت جاهل بدلائل الله. يا عبد الله أرأيت لو فعلت هذا أكنت من أجل هذا نبياً؟ قال: لا. قال رسول الله: أرأيت الطائف التي لك فيها بساتين، أما كان هناك مواضع فاسدة صعبة أصلحتها وذللتها وكسحتها وأجريت فيها عيوناً استنبطتها؟ قال: بلى.
قال: وهل لك في هذا نظراء؟ قال: بلى. قال: فصرت أنت وهم بذلك أنبياء؟ قال: لا. قال: فكذلك لا يصير هذا حجة لمحمد لو فعله على نبوته، فما هو إلا كقولك: لن نؤمن لك حتى تقوم وتمشي على الأرض كما يمشي الناس، أو حتى تأكل الطعام كما يأكل الناس.
وأما قولك يا عبد الله: (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فتأكل منها وتطعمنا فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا). أوَليس لك ولأصحابك جنات من نخيل وعنب بالطائف تأكلون وتطعمون منها وتفجرون الأنهار خلالها تفجيراً، أفصرتم أنبياء بهذا؟ قال: لا. قال: فما بال اقتراحكم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أشياء لو كانت كما تقترحون لما دلت على صدقه، بل لو تعاطاها لدل تعاطيها على كذبه لأنه يحتج بما لاحجة فيه ويختدع الضعفاء عن عقولهم وأديانهم، ورسول رب العالمين يجلُّ ويرتفع عن هذا.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عبد الله وأما قولك: (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا)، فإنك قلت: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا
سَحَابٌ مَرْكُومٌ)، فإن في سقوط السماء عليكم هلاككم وموتكم، فإنما تريد بهذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهلكك ورسول رب العالمين أرحم من ذلك لا يهلكك ولكنه يقيم عليك حجج الله، وليس حجج الله لنبيه وحده على حسب اقتراح عباده، لأن العباد جهال بما يجوز من الصلاح وما لا يجوز منه من الفساد، وقد يختلف اقتراحهم ويتضاد حتى يستحيل وقوعه، والله (عزَّ وجلَّ) طبيبكم، لا يجري تدبيره على ما يلزم به المحال. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وهل رأيت يا عبد الله طبيباً كان دواؤه للمرضى على حسب اقتراحهم، وإنما يفعل به ما يعلم صلاحه فيه، أحبه العليل أو كرهه، فأنتم المرضى والله طبيبكم، فإن انقدتم لدوائه شفاكم، وإن تمردتم عليه أسقمكم.
وبعدُ، فمتى رأيت يا عبد الله مدعي حق من قبل رجل، أوجبَ عليه حاكم من حكامهم فيما مضى بينةً على دعواه على حسب اقتراح المدعى عليه، إذا ما كان يثبت لأحد على أحد دعوى ولاحق، ولا كان بين ظالم ومظلوم ولا بين صادق وكاذب فرق.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عبد الله وأما قولك: أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً يقابلوننا ونعاينهم! فإن هذا من المحال الذي لا خفاء به، وإن ربنا (عزَّ وجلَّ) ليس كالمخلوقين يجيء ويذهب ويتحرك ويقابل شيئاً، حتى يؤتى به، فقد سألتم بهذا المحال.
وإنما هذا الذي دعوت إليه صفةُ أصنامكم الضعيفة المنقوصة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم، ولا تغني عنكم شيئاً ولا عن أحد.
يا عبد الله، أوَليس لك ضياع وجنانٌ بالطائف، وعقارٌ بمكة وقُوَّامٌ عليها؟ قال: بلى. قال أفتشاهدٌ جميع أحوالها بنفسك أو بسفراء بينك وبين معامليك؟ قال: بسفراء. قال: أرأيت لو قال معاملوك وأَكَرَتُك وخدمك لسفرائك لا نصدقكم في هذه السفارة، إلا أن تأتونا بعبد الله بن أبي أمية لنشاهده فنسمع ما تقولون عنه شفاهاً، كنت تُسَوِّغُهُم هذا أو كان يجوز لهم عندك ذلك؟ قال: لا.
قال: فما الذي يجب على سفرائك، أليس أن يأتوهم عنك بعلامة صحيحة تدلهم على صدقهم يجب عليهم أن يصدقوهم؟ قال: بلى.
قال: يا عبد الله أرأيت سفيرك لو أنه لما سمع منهم هذا عاد إليك وقال لك قم معي، فإنهم قد اقترحوا عليَّ مجيئك معي، أليس يكون هذا لك مخالفاً، وتقول له: إنما أنت رسول لا مشير ولا آمر؟
قال: بلى. قال: فكيف صرت تقترح على رسول رب العالمين ما لا تسوغ لأكرتك ومعامليك أن يقترحوه على رسولك إليهم!
وكيف أردت من رسول رب العالمين أن يستذم إلى ربه، بأن يأمر عليه وينهى، وأنت لا تُسوغ مثل هذا على رسولك إلى أكرتك وقوامك!
هذه حجة قاطعة لإبطال جميع ما ذكرته في كل ما اقترحته يا عبد الله!
وأما قولك يا عبد الله: أو يكون لك بيت من زخرف، وهو الذهب.
أما بلغك أن لعظيم مصر بيوتاً من زخرف؟ قال: بلى.
قال: أفصار بذلك نبياً؟ قال: لا. قال: فكذلك لا يوجب لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبوةٌ لو كان له بيوت، ومحمدٌ لا يغتنم جهلك بحجج الله!
وأما قولك يا عبد الله: أو ترقى في السماء، ثم قلت: ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه.
يا عبد الله، الصعود إلى السماء أصعب من النزول منها، وإذا اعترفت على نفسك أنك لا تؤمن إذا صعدت فكذلك حكم النزول!
ثم قلت: (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ) من بعد ذلك، ثم لا أدري أؤمن بك أو لا أؤمن بك! فأنت يا عبد الله مقر بأنك تعاند حجة الله عليك، فلا دواء لك إلا تأديبه لك على يد أوليائه من البشر أو ملائكته الزبانية، وقد أنزل الله عليَّ حكمةً بالغةً جامعةً لبطلان كل ما اقترحته، فقال (عزَّ وجلَّ): قُلْ يا محمد (سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً)، ما أبعد ربي عن أن يفعل الأشياء على ما يقترحه الجهال، مما يجوز ومما لا يجوز، وهل كنت إلا بشراً رسولاً، لا يلزمني إلا إقامة حجة الله التي أعطاني، وليس لي أن آمر على ربي ولا أنهى، ولا أشير فأكون كالرسول الذي بعثه ملك إلى قوم من مخالفيه، فرجع إليه يأمره أن يفعل بهم ما اقترحوه عليه.
فقال أبو جهل: يا محمد هاهنا واحدة: ألست زعمت أن قوم موسى احترقوا بالصاعقة لما سألوه أن يريهم الله جهرة؟ قال: بلى. قال: فلو كنت نبياً لاحترقنا نحن أيضاً، فقد سألنا أشد مما سأل قوم موسى،
لأنهم كما زعمت قالوا: أرنا الله جهرة، ونحن نقول: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً نعاينهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا جهل أما علمت قصة إبراهيم الخليل لما رفع في الملكوت، وذلك قول ربي: (وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، قَوَّى الله بصره لما رفعه دون السماء حتى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين، فرأى رجلاً وامرأةً على فاحشة فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخريْن فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخريْن فهمَّ بالدعاء عليهما فأوحى الله إليه: يا إبراهيم أكفف دعوتك عن عبادي وإمائي، فإني أنا الغفور الرحيم الجبار الحليم، لايضرني ذنوب عبادي كما لا تنفعني طاعتهم، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فإنما أنت عبد نذير لا شريك في الملك، ولا مهيمن عليَّ ولا عبادي، وعبادي معي بين خلال ثلاث:إما تابوا إليَّ فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم وسترت عيوبهم، وإما كففت عنهم عذابي لعلمي بأنه سيخرج من أصلابهم ذريات مؤمنون، فأرفق بالآباء الكافرين وأتأني بالأمهات الكافرات، وأرفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن من أصلابهم، فإذا تزايلوا حل بهم عذابي وحاق بهم بلائي، وإن لم يكن هذا ولا هذا، فإن الذي أعددته لهم من عذابي أعظم مما تريده بهم، فإن عذابي لعبادي على حسب جلالي وكبريائي. يا إبراهيم خلِّ بيني وبين عبادي، فأنا أرحم بهم منك وخل
يني وبين عبادي، فإني أنا الجبار الحليم، العلام الحكيم، أدبرهم بعلمي وأنفذ فيهم قضائي وقدري.
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):يا أبا جهل.. فانظر إلى السماء، فنظر فإذا أبوابها مفتحة وإذا النيران نازلة منها مسامتة لرؤوس القوم، تدنو منهم حتى وجدوا حرها بين أكتافهم، فارتعدت فرائص أبي جهل والجماعة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ترو عنكم فإن الله لا يهلككم بها وإنما أظهرها عبرةً. ثم نظروا إلى السماء وإذا قد خرج من ظهور الجماعة أنوار قابلتها ورفعتها ودفعتها، حتى أعادتها في السماء كما جاءت منها! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن بعض هذه الأنوار.. أنوار ذرية طيبة ستخرج من بعضكم).
أقول: هذا المنطق النبوي العالي لايمكن أن يحفظه إلا أهل البيت (عليهم السلام)، فقد ذكر المفسرون والمحدثون أن سبب نزول هذه الآيات أن مجموعة من قريش منهم عبد الله بن أمية المخزومي أخ أم سلمة لأبيها، وهو ابن عاتكة عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذكر رواة السلطة نقاشهم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مختصراً جداً، ثم رووا إسلام عبد الله في فتح مكة.
قال الطبري(2/329): (وقد كان العباس بن عبد المطلب تلقى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض الطريق وقد كان أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة قد لقينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة فالتمس الدخول على رسول الله فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك، قال: لا حاجة لي بهما أما ابن عمى فهتك عرضي، واما ابن عمتي وصهري، فهو الذي قال بمكة ما قال! فلما خرج الخبر إليهما بذلك
ومع أبي سفيان بنيٌّ له فقال والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بنيَّ هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً، فلما بلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رقَّ لهما ثم أذن لهما، فدخلا عليه فأسلما).
بعض آيات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمشركين
في الإحتجاج (1/37) وتفسير العسكري (عليه السلام) (1/410): (عن أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) أنه قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا أمير المؤمنين هل كان لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) آية مثل آية موسى (عليه السلام) في رفعه الجبل فوق رؤوس الممتنعين عن قبول ما أمروا به؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إي والذي بعثه الله بالحق نبياً، ما من آية كانت لأحد من الأنبياء (عليهم السلام) من لدن آدم إلى أن انتهى إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا وقد كان لمحمد مثلها أو أفضل منها، ولقد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نظير هذه الآية إلى آيات آخر ظهرت له، وذلك أن رسول الله لما أظهر بمكة دعوته وأبان عن الله تعالى مراده، رمته العرب عن قِسيِّ عداوتها بضروب مكائدهم!
ولقد قصدته يوماً، لأني كنت أول الناس إسلاماً، بعث يوم الإثنين وصليت معه يوم الثلاثاء، وبقيت معه أصلي سبع سنين حتى دخل نفر في الإسلام وأيد الله تعالى دينه من بعد، فجاء قوم من المشركين فقالوا له: يا محمد تزعم أنك رسول رب العالمين، ثم إنك لا ترضى بذلك حتى تزعم أنك سيدهم وأفضلهم، فلئن كنت نبياً فأتنا بآية كما تذكره من الأنبياء قبلك: مثل نوح الذي جاء بالغرق ونجا في سفينته مع المؤمنين،
وإبراهيم الذي ذكرت أن النار جعلت عليه برداً وسلاماً، وموسى الذي زعمت أن الجبل رفع فوق رؤوس أصحابه حتى انقادوا لما دعاهم إليه صاغرين داخرين، وعيسى الذي كان ينبؤهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. وصار هؤلاء المشركين فرقاً أربعة:
هذه تقول أظهر لنا آية نوح، وهذه تقول أظهر لنا آية موسى، وهذه تقول أظهر لنا آية إبراهيم، وهذه تقول أظهر لنا آية عيسى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما أنا نذير وبشير مبين، أتيتكم بآية مبينة هذا القرآن الذي تعجزون أنتم والأمم وسائر العرب عن معارضته وهو بلغتكم، فهو حجة بينة عليكم، وما بعد ذلك فليس لي الإقتراح على ربي، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، إلى المقرين بحجة صدقه وآية حقه، وليس عليه أن يقترح بعد قيام الحجة على ربه ما يقترحه عليه المقترحون، الذين لا يعلمون هل الصلاح أو الفساد فيما يقترحون.
فجاء جبرئيل فقال: يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: إني سأظهر لهم هذه الآيات وإنهم يكفرون بها إلا من أعصمه منهم ولكني أريهم ذلك زيادة في الإعذار والإيضاح لحججك، فقل لهؤلاء المقترحين لآية نوح (عليه السلام): إمضوا إلى جبل أبي قبيس، فإذا بلغتم سفحه فسترون آية نوح، فإذا غشيكم الهلاك فاعتصموا بهذا وبطفلين يكونان بين يديه. وقل للفريق الثاني المقترحين لآية إبراهيم (عليه السلام): إمضوا إلى حيث تريدون من ظاهر مكة، فسترون آية إبراهيم في النار، فإذا غشيكم
النار فسترون في الهواء امرأة قد أرسلت طرف خمارها، فتعلقوا به لتنجيكم من الهلكة وترد عنكم النار.
وقل للفريق الثالث المقترحين لآية موسى: إمضوا إلى ظل الكعبة فسترون آية موسى، وسينجيكم هناك عمي حمزة.
وقل للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل: وأنت يا أبا جهل فاثبت عندي ليتصل بك أخبار هؤلاء الفرق الثلاث، فإن الآية التي اقترحتها تكون بحضرتي. فقال أبو جهل للفرق الثلاث: قوموا فتفرقوا ليتبين لكم باطل قول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فذهب الفريق الأول إلى جبل أبي قبيس، والثاني إلى صحراء ملساء، والثالث إلى ظل الكعبة ورأوا ما وعدهم الله ورجعوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤمنين، وكلما رجع فريق منهم إليه وأخبروه بما شاهدوا ألزمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإيمان بالله، فاستمهل أبو جهل إلى أن يجيء الفريق الآخر حسب ما أوردناه في الكتاب الموسوم بمفاخر الفاطمية، تركنا ذكره هاهنا طلباً للإيجاز والإختصار.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فلما جاءت الفرقة الثالثة وأخبروا بما شاهدوا عياناً وهم مؤمنين بالله وبرسوله، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي جهل: هذه الفرقة الثالثة قد جاءتك وأخبرتْك بما شاهدتْ!
فقال أبو جهل: لا أدري أصَدَق هؤلاء أم كذبوا، أم حقق لهم ذلك أم خُيِّلَ إليهم، فإن رأيت أنا ما اقترحته عليك من نحو آيات عيسى بن مريم فقد لزمني الإيمان بك، وإلا فليس يلزمني تصديق هؤلاء على
كثرتهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا جهل فإن كان لا يلزمك تصديق هؤلاء على كثرتهم وشدة تحصيلهم، فكيف تصدق بمآثر آبائك وأجدادك ومساوئ أسلاف أعدائك، وكيف تصدق على الصين والعراق والشام إذا حدثت عنها، وهل المخبرون عن ذلك إلا دون هؤلاء المخبرين لك عن هذه الآيات، مع سائر من شاهدها معهم من الجمع الكثيف الذين لا يجتمعون على باطل يتخرصونه، إلا إذا كان بإزائهم من يكذبهم ويخبر بضد أخبارهم، ألا وكل فرقة محجوجون بما شاهدوا، وأنت يا أبا جهل محجوج بما سمعت ممن شاهده.
ثم أخبره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما اقترح عليه من آيات عيسى من أكله لما أكل وادخاره في بيته لما ادخر من دجاجة مشوية وإحياء الله تعالى إياها وإنطاقها بما فعل بها أبو جهل وغير ذلك، على ما جاء به في هذا الخبر، فلم يصدقه أبو جهل في ذلك كله، بل كان يكذبه وينكر جميع ما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره به من ذلك، إلى أن قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي جهل: أما كفاك ما شاهدت أم تكون آمناً من عذاب الله. قال أبو جهل: إني لأظن أن هذا تخييلٌ وإيهامٌ. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فهل تفرق بين مشاهدتك لها وسماعك لكلامها يعني الدجاجة المشوية التي أنطقها الله له، وبين مشاهدتك لنفسك، ولسائر قريش والعرب وسماعك كلامهم؟ قال أبو جهل: لا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فما يدريك إذا أن جميع ما تشاهد وتحس بحواسك تخييل! قال أبو جهل: ما هو تخييل. قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ولا هذا تخييل، وإلا فكيف تصحح أنك ترى في العالم شيئاً أوثق منه. تمام الخبر).
رسالة أبي جهل الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
قال في الإجتجاج (1/40): (رسالة لأبي جهل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما هاجر إلى المدينة، والجواب عنها، بالرواية عن أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام): وهي أن قال:
يا محمد! إن الخيوط التي في رأسك هي التي ضيقت عليك مكة، ورمت بك إلى يثرب، وإنها لا تزال بك تنفرك وتحثك على ما يفسدك ويتلفك إلى أن تفسدها على أهلها، وتصليهم حر نار جهنم وتعديك طورك، وما أرى ذلك إلا وسيؤول إلى أن تثور عليك قريش ثورة رجل واحد لقصد آثارك ودفع ضرك وبلائك، فتلقاهم بسفهائك المغترين بك ويساعدك على ذلك من هو كافر بك مبغض لك، فيلجؤه إلى مساعدتك ومظافرتك خوفه لأن لا يهلك بهلاكك ويعطب عياله بعطبك، ويفتقر هو ومن يليه بفقرك وبفقر شيعتك، إذ يعتقدون أن أعداءك إذا قهروك ودخلوا ديارهم عنوة لم يفرقوا بين من والاك وعاداك واصطلموهم باصطلامهم لك، وأتوا على عيالاتهم وأموالهم بالسبي والنهب، كما يأتون على أموالك وعيالك، وقد أعذر من أنذر وبالغ من أوضح. وأُدِّيَتْ هذه الرسالة إلى محمد وهو بظاهر المدينة، بحضرة كافة
أصحابه وعامة الكفار من يهود بني إسرائيل، وهكذا أَمَرَ الرسول، ليجبِّنَ المؤمنين ويغري بالوثوب عليه سائر من هناك من الكافرين.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للرسول: قد أطريت مقالتك واستكملت رسالتك؟ قال: بلى. قال: فاسمع الجواب: إن أبا جهل بالمكاره والعطب يتهددني، ورب العالمين بالنصر والظفر يعدني، وخبر الله أصدق والقبول من الله أحق، لن يضر محمداً من خذله أو غضب عليه، بعد أن ينصره الله ويتفضل بجوده وكرمه عليه، قل له: يا أبا جهل إنك واصلتني بما ألقاه في خلدك الشيطان، وأنا أجيبك بما ألقاه في خاطري الرحمن: إن الحرب بيننا وبينك كائنة إلى تسع وعشرين يوماً، وإن الله سيقتلك فيها بأضعف أصحابي، وستلقى أنت وشيبة وعتبة والوليد وفلان وفلان وذكر عدداً من قريش في قَلِيبِ بدر مقتولين، أقتل منكم سبعين وآسر منكم سبعين، وأحملهم على الفداء الثقيل.
ثم نادى جماعة من بحضرته من المؤمنين واليهود وسائر الأخلاط: ألا تحبون أن أريكم مصارع هؤلاء المذكورين؟ قالوا: بلى. قال: هلموا إلى بدر، فإن هناك الملتقى والمحشر، وهناك البلاء الأكبر، لأضع قدمي على مواضع مصارعهم، ثم ستجدونها لا تزيد ولا تنقص، ولا تتغير ولا تتقدم ولا تتأخر لحظة، ولا قليلا ولا كثيراً.
فلم يَخُفَّ ذلك على أحد منهم، ولم يجُبه إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحده قال: نعم بسم الله. فقال الباقون: نحن نحتاج إلى مركوب وآلات
ونفقات، ولايمكننا الخروج إلى هناك، وهو مسيرة أيام. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسائر اليهود: فأنتم ماذا تقولون؟ فقالوا: نحن نريد أن نستقر في بيوتنا، ولا حاجة لنا في مشاهدة ما أنت في ادعائه محيل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا نَصَبَ لكم في المسير إلى هناك، أُخطوا خطوة واحدة، فإن الله يطوي الأرض لكم ويوصلكم في الخطوة الثانية إلى هناك. قال المسلمون:صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلنَشرُف بهذه الآية. وقال الكافرون والمنافقون: سوف نمتحن هذا الكذاب لينقطع عذر محمد، وتصير دعواه حجة عليه وفاضحة له في كذبه.
قال: فخطى القوم خطوة ثم الثانية، فإذا هم عند بئر بدر، فتعجبوا فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إجعلوا البئر العلامة واذرعوا من عندها كذا ذراع فذرعوا، فلما انتهوا إلى آخرها قال: هذا مصرع أبي جهل! يجرحه فلان الأنصاري، ويجهز عليه عبد الله بن مسعود، أضعف أصحابي.
ثم قال: إذرعوا من البئر من جانب آخر، ثم من جانب آخر، ثم من جانب آخر كذا وكذا ذراعاً وذراعاً، وذكر أعداد الأذرع مختلفة، فلما انتهى كل عدد إلى آخره، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا مصرع عتبة، وهذا مصرع شيبة، وذاك مصرع الوليد، وسيقتل فلان وفلان إلى أن سمى سبعين منهم بأسمائهم، وسيؤسر فلان وفلان إلى أن ذكر سبعين منهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وصفاتهم، ونسب المنسوبين إلى أمهاتهم وآبائهم ونسب الموالي منهم إلى مواليهم. ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أوقفتم على ما أخبرتكم
به؟ قالوا: بلى. قال: إن ذلك من الله لحق كائن بعد ثمانية وعشرين يوماً، وفي اليوم التاسع والعشرين وعداً من الله مفعولاً، وقضاءً حتماً لازماً. تمام الخبر. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):يا معشر المسلمين واليهود أكتبوا بما سمعتم. فقالوا: يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الكتابة أذكر لكم. فقالوا: يا رسول الله فأين الدواة والكتف؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ذلك للملائكة. ثم قال: يا ملائكة ربي أكتبوا ما سمعتم من هذه القصة في الكتاب، واجعلوا في كم كل واحد منهم كتفاً من ذلك. ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معشر المسلمين تأملوا أكمامكم وما فيها، وأخرجوها واقرأوها! فتأملوها وإذا في كم كل واحد منهم صحيفة، وإذا فيها ذكر ما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك سواءً لا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر. فقال: أغيضوها في أكمامكم تكن حجة عليكم وشرفاً للمؤمنين منكم، وحجة على أعدائكم فكانت معهم! فلما كان يوم بدر جرت الأمور كلها ببدر كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لايزيد ولا ينقص، قابلوها في كتبهم فوجدوها كما كتبها الملائكة لاتزيد ولاتنقص ولاتتقدم ولا تتأخر، فقبل المسلمون ظاهرهم ووكلوا باطنهم إلى خالقهم).
محاولة قريش اغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام)
في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) /380، قال: (لقد رامت الفجرة الكفرة ليلة العقبة قتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على العقبة، ورام من بقي من مردة المنافقين بالمدينة قتل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فما قدروا على مغالبة ربهم، حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام) لما فَخَّمَ من أمره، وعَظَّمَ من شأنه من ذلك. إنه لما خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة وقد كان خلفه عليها وقال له: إن جبرئيل أتاني وقال لي: يا محمد إن العلي الأعلى يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا محمد إما أن تخرج أنت ويقيم علي، أو تقيم أنت ويخرج علي، لا بد من ذلك فإن علياً قد ندبته لإحدى اثنتين، لايعلم أحد كنه جلال من أطاعني فيهما، وعظيم ثوابه غيري.
فلما خلفه أكثر المنافقون الطعن فيه فقالوا: مله وسئمه وكره صحبته، فتبعه علي (عليه السلام) حتى لحقه، وقد وجد غماً شديداً مما قالوا فيه.فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أشخصك عن مركزك؟ قال: بلغني عن الناس كذا كذا. فقال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، فانصرف علي إلى موضعه، فدبروا عليه أن يقتلوه، وتقدموا في أن يحفروا له في طريقه حفيرة طويلة قدر خمسين ذراعاً، ثم غطوها بحصر رقاق، ونثروا فوقها يسيراً من التراب بقدر ماغطوا به وجوه الحصر، وكان ذلك على طريق علي (عليه السلام) الذي لابد له من سلوكه ليقع هو ودابته في الحفيرة التي قد عمقوها وكان ما حوالي المحفور أرض ذات
حجارة. ودبروا على أنه إذا وقع مع دابته في ذلك المكان كبسوه بالأحجار حتى يقتلوه! فلما بلغ علي (عليه السلام) قُرب المكان لوى فرسه عنقه وأطاله الله فبلغت جحفلته أُذنيه وقال: يا أمير المؤمنين قد حُفِرَ لك هاهنا، ودُبِّرَ عليك الحتف، وأنت أعلم لا تمر فيه!
فقال له علي (عليه السلام): جزاك الله من ناصح خيراً كما تُدبر بتدبيري، فإن الله (عزَّ وجلَّ) لا يخليك من صنعه الجميل، وسار حتى شارف المكان فتوقف الفرس خوفاً من المرور على المكان، فقال علي (عليه السلام): سر بإذن الله سالماً سوياً عجيباً شأنك، بديعاً أمرك، فتبادرت الدابة. فإن الله (عزَّ وجلَّ) قد متَّنَ الأرض وصلَّبها ولأمَ حفرها، كأنها لم تكن محفورة).
ثم ربطت الرواية بين محاولة اغتيال علي (عليه السلام) واغتيال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في رجوعه من تبوك في ليلة العقبة، ليقتلوه ويبكوا عليه، وينصبوا خليفة منهم مكانه!
وذكرت أن الذين شاركوا في مؤامرة قتل علي عشرة، وفي مؤامرة قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعٌ وعشرون، قالت: (فلان وفلان، إلى أن ذكر العشرة بمواطأة من أربعة وعشرين، هم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريقه)!
ثم ذكرت الرواية أن الله تعالى بعث جبرئيل (عليه السلام) فأحبط مؤامرتهم، ثم أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في الطريق بمحاولتهم قتل علي (عليه السلام).
من مغيبات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ضغائن قريش بعده
في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) /408: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد مر معه بحديقة حسنة فقال علي (عليه السلام): ما أحسنها من حديقة! فقال: يا علي لك في الجنة أحسن منها.. إلى أن مرَّ بسبع حدائق كلُّ ذلك يقول علي (عليه السلام): ما أحسنها من حديقة! ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لك في الجنة أحسن منها. ثم بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بكاءً شديداً فبكى علي (عليه السلام) لبكائه، ثم قال: مايبكيك يا رسول الله! قال: يا أخي يا أبا الحسن ضغائن في صدور قوم يُبدونها لك بعدي.
قال علي (عليه السلام): يا رسول الله في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك.قال: يا رسول الله إذا سلم ديني فلا يسوؤني ذلك.فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لذلك جعلك الله لمحمد تالياً، وإلى رضوانه وغفرانه داعياً، وعن أولاد الرشد والغي بحبهم لك وبغضهم منبئاً، وللواء محمد يوم القيامة حاملاً، وللأنبياء والرسل والصابرين تحت لوائي إلى جنات النعيم قائداً.
يا علي، إن أصحاب موسى اتخذوا بعده عجلاً وخالفوا خليفته، وسيتخذ أُمتي بعدي عجلاً ثمّ عجلاً ثمّ عجلاً، ويخالفونك وأنت خليفتي على هؤلاء، يضاهئون أولئك في اتخاذهم العجل! ألا فمن وافقك وأطاعك فهو معنا في الرفيع الأعلى، ومن اتخذ العجل بعدي وخالفك ولم يتب فأولئك مع الذين اتخذوا العجل زمان موسى).
ويؤيد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه (1/109) عن عائشة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى. فقلت يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ). أن ذلك تاماً.قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله).
الفصل الرابع عشر: نماذج من علم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
في توحيد الله تعالى وتنزيهه
في الكافي (1/95): (كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله: كيف يعبد العبد ربه وهو لايراه؟ فوقع (عليه السلام): يا أبا يوسف، جل سيدي ومولاي، والمنعم عليَّ وعلى آبائي أن يُرى. قال وسألته: هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه؟ فوقع: إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقلبه من نور عظمته ما أحب).
وفي الكافي (1/103): (كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) سنة خمس وخمسين ومئتين: قد اختلف يا سيدي أصحابنا في التوحيد، منهم من يقول هو جسم ومنهم من يقول هو صورة. فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطولاً على عبدك. فوقع بخطه (عليه السلام):
سألت عن التوحيد، وهذا عنكم معزول. الله واحدٌ أحد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، خالقٌ وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك، وليس بجسم، ويصور ما يشاء وليس بصورة. جل ثناؤه وتقدست أسماؤه أن يكون له شبه، هو لا غيره، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). والتوحيد للصدوق/102.
وفي الكافي (1/108): (عن جعفر بن محمد بن حمزة قال: كتبت إلى الرجل أسأله: إن مواليك اختلفوا في العلم فقال بعضهم: لم يزل الله عالماً قبل
فعل الأشياء، وقال بعضهم: لا نقول: لم يزل الله عالماً، لأن معنى يعلم يفعل، فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئاً، فإن رأيت جعلني الله فداك أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه. فكتب (عليه السلام) بخطه: لم يزل الله عالماً، تبارك وتعالى ذكره).
وفي الثاقب لابن حمزة/568: (عن أبي هاشم الجعفري، قال: فكرت في نفسي فقلت: أشتهي أن أعلم ما يقول أبو محمد في القرآن؟ فبدأني وقال: الله خالق كل شيء، وما سواه فهو مخلوق).
وفي كشف الغمة (2/403): (حدثنا جعفر بن محمد بن حمزة العلوي، قال: كتبت إلى أبي محمد الحسن بن علي بن محمد الرضا (عليهما السلام) أسأله: لم فرض الله تعالى الصوم؟ فكتب إليَّ: فرض الله تعالى الصوم، ليجد الغني مسَّ الجوع ليحنو على الفقير).
وفي الكافي (1/511): (أخبرني محمد بن الربيع الشائي قال: ناظرت رجلاً من الثنوية بالأهواز، ثم قدمت سر من رأى وقد علق بقلبي شيء من مقالته، فإني لجالس على باب أحمد بن الخضيب إذ أقبل أبو محمد (عليه السلام) من دار العامة يوم الموكب، فنظر إلي وأشار بسباحته: أحدٌ، أحدٌ، فردٌ، فسقطت مغشياً عليَّ).
يقصد أنه ناظر مجوسياً يقول بإلهين فتأثر بكلامه، فرأى من الإمام (عليه السلام) آية.
حق الأبوين المعنويين محمد وعلي (عليهما السلام)
في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) /330: (قال الله (عزَّ وجلَّ): (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). وقال علي (عليه السلام): سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أنا وعلي أبَوَا هذه الأُمة، وَلَحَقُّنَا عليهم أعظم من حق أبويْ ولادتهم، فإنا ننقذهم إن أطاعونا من النار إلى دار القرار، ونلحقهم من العبودية بخيار الأحرار.
قال الإمام العسكري (عليه السلام): إن رجلاً جاع عياله، فخرج يبغي لهم ما يأكلون فكسب درهماً فاشترى به خبزاً وإداماً، فمر برجل وامرأة من قرابات محمد وعلي (عليهما السلام) فوجدهما جائعين فقال: هؤلاء أحق من قراباتي فأعطاهما إياه، ولم يدر بماذا يحتج في منزله فجعل يمشي رويداً يتفكر فيما يعتل به عندهم ويقول لهم ما فعل بالدرهم، إذ لم يجئهم بشئ. فبينا هو متحير في طريقه إذا بفيج يطلبه، فدل عليه فأوصل إليه كتابا من مصر وخمسمائة دينار في صرة، وقال: هذه بقية مالك حملته إليك من مال ابن عمك، مات بمصر وخلف مائة ألف دينار على تجار مكة والمدينة، وعقاراً كثيراً ومالاً بمصر بأضعاف ذلك. فأخذ الخمس مائة دينار ووسع على عياله. ونام ليلته فرأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلياً (عليه السلام) فقالا له: كيف ترى إغناءنا لك لمَّا آثرت قرابتنا على قرابتك)!
وقالت فاطمة (عليها السلام): أبوا هذه الأمة: محمد وعلي، يقيمان أَوَدَهُم وينقذانهم من العذاب الدائم إن أطاعوهما، ويبيحانهم النعيم الدائم إن وافقوهما.
وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): حق قرابات أبوي ديننا محمد وعلي (عليهما السلام) وأوليائهما، أحق من قرابات أبوي نسبنا، إن أبوي ديننا يرضيان عنا أبوي نسبنا، وأبوي نسبنا لا يقدران أن يرضيا عنا أبوي ديننا.
إن كان الأبوان إنما عظم حقهما على أولادهما لإحسانهما إليهم، فإحسان محمد وعلي (عليهما السلام) إلى هذه الأمة أجل وأعظم، فهما بأن يكونا أبويهم أحق.
وقال الإمام الجواد (عليه السلام): من كان أبوا دينه محمد وعلي (عليهما السلام) آثر لديه وقراباتهما أكرم عليه من أبوي نسبه وقراباتهما، قال الله تعالى له: فضلت الأفضل، لأجعلنك الأفضل، وأثرت الأولى بالإيثار، لأجعلنك بدار قراري.
وقال الإمام الهادي (عليه السلام): من لم يكن والدا دينه محمد وعلي (عليهما السلام) أكرم عليه من والدي نسبه، فليس من الله في حل ولاحرام، ولا كثير ولا قليل.
وقال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): محمد وعلي أبوا هذه الأُمة، فطوبى لمن كان بحقهما عارفاً، ولهما في كل أحواله مطيعاً، يجعله الله من أفضل سكان جنانه، ويسعده بكراماته ورضوانه..عليك بالإحسان إلى قرابات أبوي دينك محمد وعلي، وإن أضعت قرابات أبوي نسبك).
محاربة الغلو بأهل البيت (عليهم السلام)
في رجال الكشي (2/803): (حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، كتب إليه في قوم يتكلمون ويقرؤون أحاديث ينسبونها إليك والى آبائك، فيها ما تشمئز منها القلوب، ولا يجوز لنا ردها إذ كانوا يروون عن آبائك (عليهم السلام)
ولا قبولها لما فيها، وينسبون الأرض إلى قوم يذكرون أنهم من مواليك، وهو رجل يقال له علي بن حسكة، وآخر يقال له القاسم اليقطيني.
من أقاويلهم أنهم يقولون إن قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ)، معناها رجل لاسجودٌ ولا ركوعٌ، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لاعددُ درهم ولا إخراجُ مال!، وأشياءٌ من الفرائض والسنن والمعاصي تأولوها وصيروها على هذا الحد الذي ذكرت!
فإن رأيت أن تبين لنا، وأن تمن على مواليك بما فيه السلامة لمواليك ونجاتهم من هذه الأقاويل التي تخرجهم إلى الهلاك. فكتب (عليه السلام):
ليس هذا ديننا فاعتزله. قال نصر بن الصباح: علي بن حسكة الحوار كان أستاذ القاسم الشعراني اليقطيني، من الغلاة الكبار، ملعون).
فضل تعليم المسلمين والدفاع عن التشيع
قال (عليه السلام): (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت: إن لي والدة ضعيفة، وقد لُبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك؟ فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك، ثمّ ثنَّت فأجابت، ثمّ ثلثت فأجابت إلى أن عشرت فأجابت. ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشقُّ عليك يا بنت رسول الله! قالت فاطمة (عليها السلام): هاتي وسلي عما بدا لك أرأيت من اكتُرِيَ يوماً ليصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراؤه مائة ألف دينار أيثقل عليه؟ فقالت: لا! فقالت (عليها السلام): اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يثقل عليَّ!
سمعت أبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجِدهم في إرشاد عباد الله، حتى يُخلع على الواحد منهم ألف ألف خلعة من نور، ثم ينادي منادي ربنا (عزَّ وجلَّ): أيّها الكافلون لأيتام آل محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم كما خلعوا عليكم خلع العلوم في الدنيا. فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلّم منهم.
ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم وتضعفوها، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم ويضاعف لهم، وكذلك من بمرتبتهم ممن يخلع عليه على مرتبتهم. وقالت فاطمة. يا أمة الله إن سلكاً من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة، وما فضل ماهو مشوب بالتنقيص والكدر).
وفي الإحتجاج (1/5): (حدثنا أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) قال حدثني أبي عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أشد من يتم اليتيم الذي انقطع من أمه وأبيه، يتمُ يتيمٍ انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن
مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا، كان معنا في الرفيق الأعلى.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أعان ضعيفاً في بدنه على أمره أعانه الله تعالى على أمره، ونصب له في القيامة ملائكة يعينونه على قطع تلك الأهوال، وعبور تلك الخنادق من النار، حتى لا يصيبه من دخانها ولا سمومها، وعلى عبور الصراط إلى الجنة سالماً آمناً. ومن أعان ضعيفاً في فهمه ومعرفته فلقنه حجته على خصم ألد طَلَّاب الباطل، أعانه الله عند سكرات الموت.. ومن أعان مشغولاً بمصالح دنياه أو دينه على أمره حتى لا ينتشر عليه، أعانه الله تعالى يوم تزاحم الأشغال، وانتشار الأحوال.. فيميزه من الأشرار ويجعله من الأخيار.
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به، جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور، يضيء لجميع أهل العرصات، وحُلَّةٌ لا تقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم ينادي مناد: يا عباد الله هذا عالمٌ من تلامذة بعض علماء آل محمد، ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزهة الجنان، فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيراً، أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً، أو أوضح له عن شبهة.
وقال أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام): قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) من قوى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته، على ناصب مخالف فأفحمه، لقنه الله تعالى يوم يدلى في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني، فيقول الله:أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة.
وقال أبو محمد (عليه السلام): قالت فاطمة (عليها السلام) وقد اختصم إليها امرأتان فتنازعتا في شيء من أمر الدين إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة، ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة، ففرحت فرحاً شديداً، فقالت فاطمة: إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد من حزنها، وإن الله (عزَّ وجلَّ) قال للملائكة: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف مما كنت أعددت لها، واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معانداً، مثل ألف ألف ما كان له معداً من الجنان.
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) قال: قال الحسين بن علي (عليهما السلام): فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه، الناشب في رتبة الجهل، يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه، كفضل الشمس على السُّها.
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري قال: قال الحسين بن علي (عليهما السلام): من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محنتنا باستتارنا، فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال الله (عزَّ وجلَّ): أيها العبد الكريم المواسي لأخيه، أنا أولى بالكرم منك، إجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعيم.
وقال أبو محمد (عليه السلام): قال علي بن موسى الرضا (عليهما السلام): أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته وذله ومسكنته أن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد ناصب عدو لله ولرسوله، يقوم من قبره والملائكة صفوف من شفير قبره إلى موضع محله من جنان الله، فيحملونه على أجنحتهم يقولون له: مرحبا طوباك طوباك يا دافع الكلاب عن الأبرار ويا أيها المتعصب للأئمة الأخيار.
وقال (عليه السلام): قال جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام): علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وأن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب. ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان شيعتنا ومحبينا، وذاك يدفع عن أبدانهم.
وقال أبو محمد (عليه السلام): قال جعفر بن محمد (عليهما السلام): من كان همه في كسر النواصب عن المساكين من شيعتنا، الموالين حميةً لنا أهل البيت يكسرهم
عنهم، ويكشف عن مخازيهم، ويبين عورانهم، ويفخم أمر محمد وآله، جعل الله تعالى همة أملاك الجنان في بناء قصوره ودوره، يستعمل بكل حرف من حروف حججه على أعداء الله أكثر من عدد أهل الدنيا أملاكاً قوة كل واحد تفضل عن حمل السماوات والأرضين. فكم من بناء، وكم من نعمة، وكم من قصور لا يعرف قدرها إلا رب العالمين.
وقال (عليه السلام): قال الإمام الجواد (عليه السلام): العالم كمن معه شمعة تضيء للناس فكل من أبصر بشمعته دعا له بخير، كذلك العالم معه شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة. فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجا بها من جهل، فهو من عتقائه من النار، والله يعوضه عن ذلك بكل شعرة لمن أعتقه ما هو أفضل من الصدقة بمائة ألف قنطار على غير الوجه الذي أمر الله (عزَّ وجلَّ) به، بل تلك الصدقة وبال على صاحبها، لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألف ركعة بين يدي الكعبة.
وقال (عليه السلام): قال الإمام الرضا (عليه السلام): يقال للعابد يوم القيامة: نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك، وكفيت الناس مؤونتك، فادخل الجنة. إلا أن الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفر عليهم نعم جنان الله، وحصل لهم رضوان الله تعالى.
ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد، الهادي لضعفاء محبيه ومواليه، قف حتى تشفع لكل من أخذ عنك أو تعلم منك. فيقف فيدخل الجنة ومعه فئاماً وفئاماً حتى قال عشراً، وهم الذين أخذوا عنه
علومه، وأخذوا عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة، فانظروا كم فرق ما بين المنزلتين). (تفسير الإمام العسكري/339-345).
وفي الإحتجاج(1/13): (قال أبو محمد (عليه السلام) لبعض تلامذته، لما اجتمع إليه قوم من مواليه والمحبين لآل محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحضرته وقالوا: يا بن رسول الله إن لنا جاراً من النُّصَّاب يؤذينا ويحتج علينا في تفضيل الأول والثاني والثالث على أمير المؤمنين (عليه السلام) ويورد علينا حججاً لا ندري كيف الجواب عنها والخروج منها، مُرْ بهؤلاء إذا كانوا مجتمعين يتكلمون فتستمع عليهم فسيستدعون منك الكلام فتكلم وأفحم صاحبهم واكسر غربَه وفُلَّ حَدَّهُ ولا تُبق له باقية.
فذهب الرجل وحضر الموضع وحضروا، وكلم الرجل فأفحمه وصيره لايدري في السماء هو أو في الأرض. قالوا: ووقع علينا من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وعلى الرجل والمتعصبين له من الغم والحزن مثل ما لحقنا من السرور. فلما رجعنا إلى الإمام (عليه السلام) قال لنا: إن الذين في السماوات لحقهم من الفرح والطرب بكسر هذا العدو لله أكثر مما كان بحضرتكم، والذي كان بحضرة إبليس وعتاة مردته من الشياطين من الحزن والغم أشد مما كان بحضرتهم، ولقد صلى على هذا العبد الكاسر له ملائكة السماء والحجب والعرش والكرسي، وقابلهما الله تعالى بالإجابة فأكرم إيابه وعظم ثوابه، ولقد لعنت تلك الأملاك عدو الله المكسور وقابلها الله بالإجابة فشدد حسابه وأطال عذابه).
عظمة مقام الإمام المعصوم (عليه السلام)
في الخرائج (2/687): (قال أبو هاشم الجعفري: إنه سأله عن قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ). قال: كلهم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، الظالم لنفسه: الذي لا يقر بالإمام، والمقتصد: العارف بالإمام، والسابق بالخيرات بإذن الله: الإمام. فجعلت أفكر في نفسي في عِظَم ما أعطى الله آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبكيت، فنظر إليَّ وقال: الأمر أعظم مما حدثت به نفسك من عظم شأن آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاحمد الله أن جعلك مستمسكاً بحبلهم، تدعى يوم القيامة بهم، إذا دعي كل أناس بإمامهم، إنك على خير).
أقول: قال الله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ). (فاطر:32-33) وفسرها أهل البيت (عليهم السلام) بأن الذين أورثهم الله القرآن هم أولاد فاطمة (عليها السلام) خاصة، فمنهم المعصومون الأحد عشر (عليهم السلام) وهم السابقون بالخيرات، ومنهم المقتصد أي المؤمن بالأئمة، والظالم لنفسه الذي لم يؤمن بالأئمة (عليهم السلام) لجهله وليس لتكبره، فهو ظالم لنفسه فقط وليس ظالماً لغيره ولا منكر لحق عرفه. وهؤلاء كلهم في الجنة. ومنهم الظالم لغيره، وهو خارج عنهم وعن وراثة الكتاب الإلهي.
وقد تحير المخالفون في تفسير الذين أورثهم الله الكتاب، فقال كعب وعمر هم جميع الأمة وكلهم يدخلون الجنة! راجع: ألف سؤال وإشكال (1/162).
لماذا سميت فاطمة بالزهراء (عليها السلام)؟
في الإحتجاج (3/111): (أبو هاشم العسكري: سألت صاحب العسكر (عليه السلام): لم سميت فاطمة الزهراء؟ فقال: كان وجهها يزهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) من أول النهار كالشمس الضاحية، وعند الزوال كالقمر المنير، وعند الغروب غروب الشمس كالكوكب الدري).
تفسير قوله تعالى: (إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ)
قال القطب الراوندي في الخرائج (2/739): (روى سعد بن عبد الله، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن داود بن القاسم الجعفري قال: سأل أبا محمد (عليه السلام) عن قوله تعالى: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)، رجل من أهل قم وأنا عنده حاضر. فقال أبو محمد العسكري (عليه السلام): ما سرق يوسف، إنما كان ليعقوب منطقة ورثها من إبراهيم (عليه السلام) وكانت تلك المنطقة لا يسرقها أحد إلا استعبد، وكانت إذا سرقها إنسان نزل جبرئيل وأخبره بذلك فأخذت منه وأُخذ عبداً. وإن المنطقة كانت عند سارة بنت إسحاق بن إبراهيم، وكانت سمية أم إسحاق، وإن سارة هذه أحبت يوسف وأرادت أن تتخذه ولداً لنفسها، وإنها أخذت المنطقة فربطتها على وسطه ثم سدلت عليه سرباله، ثم قالت ليعقوب: إن المنطقة قد سرقت. فأتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا يعقوب إن المنطقة مع يوسف، ولم يخبره بخبر ما صنعت سارة لما أراد الله، فقام يعقوب إلى يوسف ففتشه وهو يومئذ غلام يافع واستخرج المنطقة، فقالت سارة ابنة إسحاق: مني سرقها
يوسف فأنا أحق به! فقال لها يعقوب: فإنه عبدك على أن لا تبيعيه ولا تهبيه. قالت: فأنا أقبله على ألا تأخذه مني وأعتقه الساعة. فأعطاها إياه فأعتقته. فلذلك قال إخوة يوسف: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)).
من قصار أحاديثه وكلماته (عليه السلام)
روي عنه أنه قال (عليه السلام): ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبةٌ تُذله.
وقال (عليه السلام): خصلتان ليس فوقهما شئ: الإيمان بالله، ونفع الإخوان.
وقال (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الدالُّ على الخير كفاعله.
وقال (عليه السلام): جرأة الولد على والده في صغره، تدعو إلى العقوق في كبره.
وقال (عليه السلام): قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه.
وقال (عليه السلام): لا يشغلك رزق مضمون عن عمل مفروض.
وقال (عليه السلام): لا تكرم الرجل بما يشق عليه.
وقال (عليه السلام): ليس من الأدب إظهار الفرح عند المحزون.
وقال (عليه السلام): ما من بلية إلاولله فيها نعمة تحيط بها.
وقال (عليه السلام): إن للسخاء مقداراً فإن زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقداراً فإن زاد عليه فهو جبن، وللإقتصاد مقداراً فإن زاد عليه فهو بخل، وللشجاعة مقداراً فإن زاد عليه فهو تهور.
وقال (عليه السلام): من الفواقر التي تقصم الظهر: جارٌ إن رأى حسنة أطفأها، وإن رأى سيئة أفشاها.
وقال (عليه السلام): أورع الناس من وقف عند الشبهة. أعبد الناس من أقام على وقال (عليه السلام): من تعدى في طهوره كان كناقضه.
وقال (عليه السلام): الغضب مفتاح كل شر.
الفرائض. أزهد الناس من ترك الحرام.
وقال (عليه السلام): أقل الناس راحة الحقود.
وقال (عليه السلام): المؤمن بركة على المؤمن، وحجة على الكافر.
وقال (عليه السلام): علامات المؤمن خمس:صلاة الخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وقال (عليه السلام): (الإلحاح في المطالب يسلب البهاء، ويورث التعب و العناء، فاصبر حتى يفتح الله لك باباً يسهل الدخول فيه.
الحظوظ مراتب، فلا تعجل على ثمرة لم تدرك، فإنما تنالها في أوانها.
واعلم أن المدبر لك أعلم بالوقت الذي يصلح حالك فيه، فثق بخيرته في جميع أمورك يصلح حالك). (جامع أحاديث الشيعة: 17/20، وعدة الداعي/125).
وقال (عليه السلام) في وصيته لشيعته
أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والإجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من بر أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). صلوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعيٌّ، فيسرني ذلك. إتقوا الله وكونوا لنا زيناً ولا تكونوا شيناً، جُرُّوا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك. لنا حق في كتاب الله وقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطهير من الله، لا يدعيه أحد غيرنا إلا كذاب. أكثروا ذكر الله، وذكر الموت، وتلاوة
القرآن، والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات. إحفظوا ما وصيتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام.
رسالته الى والد الصدوق علي بن بابويه
في مناقب آل أبي طالب (3/527): (ومما كتب (عليه السلام) إلى أبي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي: اعتصمت بحبل الله. بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والجنة للموحدين، والنار للملحدين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله أحسن الخالقين، والصلاة على خير خلقه محمد وعترته الطاهرين.
منها: عليك بالصبر وانتظار الفرج قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن علي، وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. والسلام عليك وعلى جميع شيعتنا، ورحمة الله وبركاته. وصلى الله على محمد وآله).
أقول: أتحفظ على صحة هذه الرسالة لأن لم أجد في خطابات الأئمة (عليهم السلام) أن المعصوم يعبر لأحد بقوله: ياشيخي.
الفصل الخامس عشر: نماذج من أدعية الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
كثرة أدعية الامام العسكري (عليه السلام)
وصلنا من أدعية الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أكثر من مئة صفحة، والمهم ليس كمية الدعاء بل نوعيته، بل نوعية الداعي المستجاب دعاؤه.
وقد اهتم السيد ابن طاووس (قدس سره) أكثر من غيره بالأدعية عامة، وبأدعية المعصومين (عليهم السلام) خاصة، وروى عن الإمام العسكري (عليه السلام) أدعية عديدة.
والحمد لله أني استفدت من بركاته صلوات الله عليه، وحفظت دعاء موجزاً علمه لبعض مواليه، أدعو به بعد كل فريضة:
دعاء بعد كل فريضة:
روى الطبرسي في إعلام الورى (2/123): (عن أبي هاشم قال: كتب إليه يعني أبا محمد (عليه السلام) بعض مواليه يسأله أن يعلمه دعاء، فكتب إليه: أدعُ بهذا الدعاء: يا أسمع السامعين، ويا أبصر المبصرين، ويا أنظرالناظرين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين، ويا أحكم الحاكمين، صل على محمد وآل محمد، وأوسع لي في رزقي، ومُدَّ لي في عمري، وامنن علي برحمتك، واجعلني ممن تنتصر به لدينك، ولا تستبدل به غيري.
قال أبو هاشم فقلت في نفسي: اللهم اجعلني في حزبك وفي زمرتك، فأقبل علي أبو محمد (عليه السلام) فقال: أنت في حزبه وفي زمرته إن كنت بالله مؤمناً ولرسوله مصدقاً، وأوليائه عارفاً، ولهم تابعاً، فابشر ثم أبشر).
حرز للإمام العسكري (عليه السلام):
في مهج الدعوات/45: (حرز الحسن بن علي العسكري (عليه السلام): بسم الله الرحمن الرحيم. احتجبت بحجاب الله النور الذي احتجب به عن العيون، واحتطت على نفسي وأهلي وولدي ومالي، وما اشتملت عليه عنايتي ببسم الله الرحمن الرحيم. وأحرزت نفسي وذلك كله، من كل ما أخاف وأحذر، بالله الذي: (لاإِلَهَ إِلا هُوَالْحَىُّ الْقَيُّومُ لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَالْعَلِي الْعَظِيمُ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا..).
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً). وصلى الله على محمد وآله الطاهرين).
كان (عليه السلام) يدعو لأوليائه ويدعو على أعدائه!
عقيدتنا في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمعصومين من عترته (عليهم السلام) أن الله تعالى يستجيب كل أدعيتهم، فلا ترد لهم طلبة. وقد تقدم في معجزاته (عليه السلام) نماذج من استجابة دعائه (عليه السلام) في أوليائه وأعدائه.
ومن ذلك ما رواه الكشي (2/843): (عن محمد بن موسى الهمداني: أن عروة بن يحيى البغدادي المعروف بالدهقان لعنه الله، وكان يكذب على أبي الحسن علي بن محمد بن الرضا، وعلى أبي محمد الحسن بن علي (عليهم السلام) بعده، وكان يقطع أمواله لنفسه دونه ويكذب عليه، حتى لعنه أبو محمد وأمر شيعته بلعنه، والدعاء عليه لقطع الأموال، لعنه الله.
قال علي بن سلمان بن رشيد العطار البغدادي فلعنه أبو محمد (عليه السلام) وذلك أنه كانت لأبي محمد خزانة وكان يليها أبو علي بن راشد (رضي الله عنه)، فسلمت إلى عروة، فأخذ منها لنفسه ثم أحرق باقي ما فيها، يغايظ بذلك أبا محمد (عليه السلام) فلعنه وبرئ منه ودعا عليه، فما أمهل يومه ذلك وليلته حتى قبضه الله إلى النار، فقال (عليه السلام): جلست لربي ليلتي هذه كذا وكذا جلسة، فما انفجر عمود الصبح ولا انطفى ذلك النار حتى قتل الله عدوه لعنه الله).
وفي رجال الكشي (2/761): (حدثني إبراهيم بن عقبة، قال: كتبت إلى العسكري (عليه السلام): جعلت فداك قد عرفت هؤلاء الممطورة، فأقنت عليهم في صلاتي؟ قال: نعم أقنت عليهم في صلاتك).
والممطورة لقبٌ اشتهر للواقفة على إمامة الكاظم (عليه السلام) الذين لم يقبلوا إمامة الإمام الرضا (عليه السلام) بعده، فوصف كبارهم بالكلاب الممطورة!
عَلَّمَ أهل قم الدعاء على عدوهم:
قال السيد ابن طاووس في مهج الدعوات/63: (ودعا (عليه السلام) في قنوته وأمر أهل قم بذلك، لما شكوا من موسى بن بغا:الحمد لله شكراً لنعمائه، واستدعاءً لمزيده، واستجلاباً لرزقه، واستخلاصاً له به دون غيره، وعياذاً به من كفرانه، وإلحاداً في عظمته وكبريائه، حمد من يعلم أن ما به من نعمائه فمن عند ربه، وما مسه من عقوبته فبسوء جناية يده، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وذريعة المؤمنين إلى رحمته، وآله الطاهرين ولاة أمره.
اللهم إنك ندبت إلى فضلك وأمرت بدعائك، وضمنت الإجابة لعبادك، ولم تخيب من فزع إليك برغبته، وقصد إليك بحاجته، ولم ترجع يد طالبه صفراً من عطائك، ولا خائبة من نحل هباتك، وأي راحل رحل إليك فلم يجدك قريباً، أو وافد وفد عليك فاقتطعته عوائق الرد دونك، بل أي محتفر من فضلك لم يمهه فيض جودك، وأي مستنبط لمزيدك أكدى دون استماحة سجال عطيتك.
اللهم وقد قصدت إليك برغبتي، وقرعت باب فضلك يد مسألتي، وناجاك بخشوع الإستكانة قلبي، ووجدتك خير شفيع لي إليك، وقد علمت ما يحدث من طلبتي قبل أن يخطر بفكري، أو يقع في خلدي. فصلِ الله م دعائي إياك بإجابتي، واشفع مسألتي بنجح طلبتي، الله م
وقد شملنا زيغ الفتن، واستولت علينا غشوة الحبرة، وقارعنا الذل والصغار، وحكم علينا غير المأمونين في دينك، وابتز أمورنا معادن الابن ممن عطل حكمك، وسعى في إتلاف عبادك وإفساد بلادك.
اللهم وقد عاد فينا دولة بعد القسمة، وإمارتنا غلبة بعد المشورة، وعدنا ميراثاً بعد الإختيار للأمة، فاشتريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والأرملة، وحكم في أبشار المؤمنين أهل الذمة، وولي القيام بأمورهم فاسق كل قبيلة، فلا ذائد يذودهم عن هلكة، ولا راع ينظر إليهم بعين الرحمة، ولا ذو شفقة يشبع الكبد الحرى من مسغبة، فهم أولو ضرع بدار مضيعة، وأسراء مسكنة، وخلفاء كآبة وذلة. الله م وقد استحصد زرع الباطل، وبلغ نهايته، واستحكم عموده، واستجمع طريده، وخذرف وليده، وبسق فرعه، وضرب بحرانه الله م فأتح له من الحق يداً حاصدة تصرع قائمه، وتهشم سوقه، وتجب سنامه، وتجدع مراغمه).
وروى (عليه السلام) مناجاة الله (عزَّ وجلَّ) لنبيه موسى بن عمران (عليهما السلام):
(يا موسى! لا تُطل في الدنيا أملك فيقسو قلبُك، وقاسي القلب مني بعيد. أمت قلبك بالخشية، وكن خلق الثياب، جديد القلب، تخفى على أهل الأرض، وتعرف بين أهل السماء. وصِحْ إليَّ من كثرة الذنوب صياح الهارب من عدوه. واستعن بي على ذلك فإني نعم المستعان.
يا موسى! أوصيك وصية الشفيق المشفق، بابن البتول عيسى بن مريم، صاحب الأتان والبرنس، والزيت والزيتون، والمحراب.
ومن بعده بصاحب الجمل الأحمر، الطيب الطاهر المطهر، فمثله في كتابك أنه مؤمن مهيمن على الكتب، وأنه راكع ساجد راغب راهب. يؤمن بالكتب كلها ويصدق جميع المرسلين، أمته مرحومة مباركة، لهم ساعات موقتات يؤذنون فيها بالصلوات، فبه صَدِّق، فإنه أخوك.
يا موسى! كن إذا دعوتني خائفاً مشفقاً وجلاً، وناجني حين تناجيني بخشية من قلب وجل، وأحي بتوراتي أيام الحياة، وعلم الجاهلين محامدي، وذكرهم آلائي ونعمي.
يا موسى! متى ما دعوتني وجدتني، فإني سأغفر لك على ما كان منك، السماء تُسَبَّحُ لي وجلاً، والملائكة من مخافتي مشفقون، والأرض تُسبح لي طمعاً، وكل الخلق يسبحون لي داخرين.
يا موسى! ما أريد به وجهي فكثير قليله، وما أريد به غيري فقليل كثيره.
وإن أصلح أيامك الذي أمامك، فانظر أي يوم هو فأعدَّ له الجواب فإنك موقوف ومسؤول.
يا موسى! إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل ذنبٌ عُجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحباً بشعار الصالحين.
يا موسى! إن الحسنة عشرة أضعاف، ومن السيئة الواحدة الهلاك. سواد الليل يمحوه النهار، كذلك السيئة تمحوها الحسنة. وعشوة الليل تأتي على ضوء النهار فكذلك السيئة تأتي على الحسنة فتسودها).
عَلَّمَ الشيعة زيارة الحسين (عليه السلام) وأصحابه:
روى المشهدي في المزار /483: (حدثني الشيخ الصالح أبو ميسور بن عبد المنعم بن النعمان المعادي (رحمه الله) قال: خرج من الناحية سنة اثنتين وخمسين ومائتين إلي على يد الشيخ محمد بن غالب الأصفهاني حين وفاة أبي (رحمه الله)، وكنت حدث السن، فكنت استأذن في زيارة مولاي أبي عبد الله (عليه السلام) وزيارة الشهداء رضوان الله عليهم، فخرج إلي منه: بسم الله الرحمن الرحيم، إذا أردت زيارة الشهداء رضوان الله عليهم، فقف عند رجلي الحسين (عليه السلام)، وهو قبر علي بن الحسين صلوات الله عليهما، فاستقبل القبلة بوجهك، فان هناك حومة الشهداء (عليهم السلام) وَأَوْمِ وَأَشِرْ إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) وقل:
السلام عليك يا أول قتيل من نسل خير سليل، من سلالة إبراهيم الخليل، صلى الله عليك وعلى أبيك، إذ قال فيك: قتل الله قوماً قتلوك يا بني ما أجرأهم على الرحمان وعلى انتهاك حرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا، كأني بك بين يديه ماثلاً، وللكافرين قائلاً:
أنا علي بن الحسين بن علي * * * نحن وبيت الله أولى بالنبي
أطعنكم بالرمح حتى ينثني * * * أضربكم بالسيف أحمي عن أبي
ضرب غلام هاشمي عربي * * * والله لا يحكم فينا ابن الدعي
حتى قضيت نحبك ولقيت ربك، أشهد أنك أولى بالله وبرسوله، وأنك ابن حجته وأمينه، حكم الله لك على قاتلك مرة بن منقذ بن النعمان العبدي، لعنه الله وأخزاه، ومن شركه في قتلك، وكانوا عليك ظهيراً، أصلاهم الله جهنم وساءت مصيراً، وجعلنا الله من ملاقيك ومرافقيك ومرافقي جدك وأبيك، وعمك وأخيك، وأمك المظلومة، وأبرأ إلى الله من قاتليك، وأسأل الله
مرافقتك في دار الخلود، وأبرأ إلى الله من أعدائك أولي الجحود، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
السلام على عبد الله بن الحسين، الطفل الرضيع، والمرميِّ الصريع، المتشحط دماً، المصعد دمه في السماء، المذبوح بالسهم في حجر أبيه، لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه.
السلام على عبد الله بن أمير المؤمنين، مبلي البلاء، والمنادي بالولاء في عرصة كربلاء، المضروب مقبلاً ومدبراً، ولعن الله قاتله هاني بن ثبيت الحضرمي. السلام على العباس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد، وحكيم بن الطفيل الطائي.
السلام على جعفر بن أمير المؤمنين، الصابر بنفسه محتسباً، والنائي عن الأوطان مغترباً، المستسلم للقتال، المستقدم للنزال، المكثور بالرجال، لعن الله قاتله هاني بن ثبيت الحضرمي.
السلام على عثمان بن أمير المؤمنين، سمي عثمان بن مظعون، لعن الله راميه بالسهم خولي بن يزيد الأصبحي الأيادي الدارمي.
السلام على محمد بن أمير المؤمنين، قتيل الأيادي الدارمي لعنه الله وضاعف له العذاب الأليم، وصلى الله عليك يا محمد وعلى أهل بيتك الصابرين.
السلام على أبي بكر بن الحسن الزكي الولي، المرمي بالسهم الردي، لعن الله قاتله عبد الله بن عقبة الغنوي.
السلام على عبد الله بن الحسن بن علي الزكي، لعن الله قاتله وراميه حرملة بن كاهل الأسدي.
السلام على القاسم بن الحسن بن علي، المضروب هامته، المسلوب لامته حين نادى الحسين عمَّه فجلى عليه عمه كالصقر، وهو يفحص برجله التراب، والحسين يقول: بعداً لقوم قتلوك ومن خصمهم يوم القيامة جدك وأبوك، ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك وأنت قتيل جديل فلا ينفعك، هذا والله يوم كثر واتره وقلَّ ناصره. جعلني الله معكما يوم جمعكما، وبوأني مبوأكما، ولعن الله قاتلك عمر بن سعد بن نفيل الأزدي، وأصلاه جحيماً، وأعد له عذاباً أليماً.
السلام على عون بن عبد الله بن جعفر الطيار في الجنان، حليف الإيمان، ومنازل الأقران، الناصح للرحمان، التالي للمثاني والقرآن. لعن الله قاتله عبد الله بن قطبة النبهاني.
السلام على محمد بن عبد الله بن جعفر، الشاهد مكان أبيه، والتالي لأخيه، وواقيه ببدنه، لعن الله قاتله عامر بن نهشل التيمي.
السلام على جعفر بن عقيل، لعن الله قاتله بشر بن خوط الهمداني.
السلام على عبد الرحمان بن عقيل ولعن الله قاتله وراميه عمر بن أسد الجهني. السلام على القتيل بن القتيل، عبد الله بن مسلم بن عقيل، ولعن الله راميه عمرو بن صبيح الصيداوي.
السلام على محمد بن أبي سعيد بن عقيل ولعن الله قاتله لقيط بن ياسر الجهني.
السلام على سليمان مولى الحسن بن أمير المؤمنين، ولعن الله قاتله سليمان ابن عوف الحضرمي.
السلام على قارب مولى الحسين بن علي.
السلام على منجح مولى الحسين بن علي.
السلام على مسلم بن عوسجة الأسدي، القائل للحسين وقد أذن له في الإنصراف: أنحن نخلي عنك وبم نعتذر إلى الله من أداء حقك، لا والله حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي، ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، ثم لم أفارقك حتى أموت معك. وكنت أول من شرى نفسه، وأول شهيد من شهداء الله قضى نحبه، ففزت ورب الكعبة. شكر الله لك استقدامك ومواساتك إمامك إذ مشى إليك وأنت صريع فقال: يرحمك الله يا مسلم بن عوسجة، وقرأ: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). لعن الله المشتركين في قتلك: عبد الله الضبابي وعبد الله بن خشكارة البجلي.
السلام على سعيد بن عبد الله الحنفي، القائل للحسين وقد أذن له في الإنصراف: لا والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك، والله لو أعلم أني أقتل ثم أحرق ثم أذرى، يفعل ذلك بي سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك، وإنما هي موتة أو قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!
فقد لقيت حمامك، وواسيت إمامك، ولقيت من الله الكرامة في دار المقامة، حشرنا الله معكم في المستشهدين، ورزقنا مرافقتكم في أعلى عليين.
السلام على بشير بن عمر الحضرمي، شكر الله لك قولك للحسين وقد أذن لك في الإنصراف: أكلتني إذاً السباع حياً إذا فارقتك، وأسأل عنك الركبان، وأخذ لك مع قلة الأعوان، لا يكون هذا أبداً.
السلام على زيد بن حصين الهمداني المشرقي القاري المجدل.
السلام على عمران بن كعب الأنصاري.
السلام على نعيم بن عجلان الأنصاري.
السلام على زهير بن القين البجلي، القائل للحسين وقد أذن له في الإنصراف: لا والله لا يكون ذلك أبداً، أأترك ابن رسول الله أسيراً في يد الأعداء وأنجو، لا أراني الله ذلك اليوم!
السلام على عمرو بن قرظة الأنصاري. السلام على حبيب بن مظاهر الأسدي.
السلام على الحر بن يزيد الرياحي. السلام على عبد الله بن عمير الكلبي. السلام على نافع بن هلال البجلي المرادي. السلام على أنس بن كاهل الأسدي. السلام على قيس بن مسهر الصيداوي.
السلام على عبد الله وعبد الرحمان ابني عروة بن حراق الغفاريين.
السلام على جون مولى أبي ذر الغفاري. السلام على شبيب بن عبد الله النهشلي.
السلام على الحجاج بن زيد السعدي. السلام على قاسط وكردوس ابني زهير التغلبيين. السلام على كنانة بن عتيق. السلام على ضرغامة بن مالك.
السلام على جوين بن مالك الضبعي. السلام على عمرو بن ضبيعة.
السلام على زيد بن ثبيت القيسي. السلام على عامر بن مسلم.
السلام على قعنب بن عمرو النمري. السلام على سالم مولى عامر بن مسلم.
السلام على سيف بن مالك، السلام على زهير بن بشر الخثعمي.
السلام على بدر بن معقل الجعفي. السلام على مسعود بن الحجاج وابنه. السلام على مجمع بن عبد الله العائدي.
السلام على عمار بن حيان بن شريح الطائي. السلام على حيان بن الحارث السلماني الأزدي. السلام على جندب بن حجر الخولاني.
السلام على عمر بن خالد الصيداوي. السلام على سعيد مولاه.
السلام على يزيد بن زياد بن المظاهر الكندي.
السلام على جبلة بن علي الشيباني. السلام على أسلم بن كثير الأزدي الأعرج.
السلام على زهير بن سليم الأزدي. السلام على قاسم بن حبيب الأزدي.
السلام على عمر بن الأحدوث الحضرمي.
السلام على أبي ثمامة عمر بن عبد الله الصائدي.
السلام على حنظلة بن أسعد الشبامي.
السلام على عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدر الأرحبي.
السلام على عمار بن أبي سلامة الهمداني. السلام على عابس بن شبيب الشاكري. السلام على شبيب بن الحارث بن سريع. السلام على مالك بن عبد الله ابن سريع. السلام على الجريح المأسور سوار بن أبي حمير الفهمي الهمداني. السلام على المرتث معه عمرو بن عبد الله الجندعي.
السلام عليكم يا خير أنصار، السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، وبوأكم الله مُبوأ الأبرار. أشهد لقد كُشف لكم الغطاء، ومُهد لكم الوطاء، وأجزل لكم العطاء، وكنتم عن الحق غير بطاء، وأنتم لنا فرط، ونحن لكم خلطاء في دار البقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
أقول: قوله (عليه السلام): لعن الله راميه حرملة بن كاهل الأسدي وذويه. يقتضي أن يكون من ذوي حرملة من ساعده. أو هي تصحيف.
وقوله: السلام على عبد الله بن أمير المؤمنين..المضروب مقبلاً ومدبراً.قد يكون معنى الإدبار هنا الرجوع من الحملة.
الفصل السادس عشر: الولادة والشمائل
ولادته في المدينة وشهادته في سامراء
ولد الإمام العسكري (عليه السلام) في المدينة المنورة في مزرعتهم صِرْيَا، سنة إحدى وثلاثين ومئتين، كما روى في عيون المعجزات/123.
وروى المسعودي في إثبات الوصية (1/244) أن الإمام سافر مع أبيه الى سامراء وكان عمره أربع سنوات، قال: (وحملت أمه به بالمدينة وولدته بها فكانت ولادته ومنشؤه مثل ولادة آبائه صلى الله عليهم ومنشئهم.
وولد في سنة إحدى وثلاثين ومأتين من الهجرة، وسن أبي الحسن (عليه السلام) في ذلك الوقت ستة عشرة سنة وشهوراً. وشخص بشخوصه الى العراق في سنة ست وثلاثين ومأتين وله أربع سنين وشهور).
لكنا رجحنا في سيرة الإمام الهادي (عليه السلام) أن ولادته كانت سنة212، فيكون عمره عندما رزق بالإمام الحسن (عليه السلام) تسع عشرة سنة أو عشرين.
كما رجحنا أن إحضار الإمام الهادي (عليه السلام) الى سامراء كان عدة مرات، وكان يتخلص من الخليفة، حتى كان آخر إحضار له سنة 243، فحضر مع عياله ومعه الإمام العسكري (عليه السلام) فكان عمره يومها اثنتي عشرة سنة.
وفي دلائل الإمامة للطبري/423: (وعاش بعد أبيه أيام إمامته بقية ملك المعتز ثم ملك المهتدي. ثم ملك أحمد بن جعفر المتوكل المعروف بالمعتمد اثنين وعشرين سنة وأحد عشر شهراً، وبعد خمس سنين من ملكه
استشهد ولي الله وقد كمل عمره تسعاً وعشرين سنة. ومات مسموماً يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين من الهجرة بسر من رأى ودفن في داره إلى جانب قبر أبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)).
وقال ابن حبيب في المحبر/ 42: (فكانت ولايته (المهتدي) أحد عشر شهراً... وتولى المعتمد وأمه فتيان مولده يوم الأحد لست خلون من رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وكنيته أبو العباس، فأقام ثلاثاً وعشرين سنة).
وقال المسعودي في إثبات الوصية (1/255): (ومضى أبو محمد (عليه السلام) في شهر ربيع الآخر سنة ستين ومائتين ودفن بسر من رأى الى جانب أبيه أبي الحسن صلى الله عليهما، فكان من ولادته الى وقت مضيه تسع وعشرون سنة، منها مع أبي الحسن ثلاث وعشرون سنة، وبعده منفرداً بالإمامة ست سنين).
وقال الكليني في الكافي (1/503): (مولد أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام): ولد في شهر رمضان، وفي نسخة أخرى في شهر ربيع الآخر، سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وقبض يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، ودفن في داره في البيت الذي دفن فيه أبوه بسر من رأى. وأمه أم ولد يقال لها: حُدَيْث، وقيل: سوسن).
وروى الطوسي في الغيبة/357: (لما مات الحسن بن علي (عليهما السلام) حضر غسله عثمان بن سعيد (رضي الله عنه) وأرضاه، وتولى جميع أمره في تكفينه
وتحنيطه وتقبيره، مأموراً بذلك للظاهر من الحال التي لايمكن جحدها ولا دفعها، إلا بدفع حقائق الأشياء في ظواهرها. وكانت توقيعات صاحب الأمر (عليه السلام) تخرج على يدي عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمد بن عثمان إلى شيعته وخواص أبيه أبي محمد (عليه السلام) بالأمر والنهي والأجوبة عما يسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلى السؤال فيه بالخط الذي كان يخرج في حياة الحسن (عليه السلام) فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالتهما إلى أن توفي عثمان بن سعيد رحمه الله ورضي عنه، وغسله ابنه أبو جعفر وتولى القيام به، وحصل الأمر كله مردوداً إليه، والشيعة مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته، لما تقدم له من النص عليه بالأمانة والعدالة والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن (عليه السلام) وبعد موته في حياة أبيه عثمان رحمة الله عليه).
أسمر، أعْيَن، جيد البدن
وصف ابن رئيس الوزراء العباسي شمائل الإمام (عليه السلام)، فقال (الكافي:1/503): (فدخل رجل أسمر، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حدَثُ السن، له جلالةٌ وهيبةٌ، فلما نظر إليه أبي قام يمشي إليه خُطىً، ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد، فلما دنا منه عانقه وقبَّل وجهه وصدره، وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان عليه).
وقال سعد بن عبد الله الأشعري في حديثه (كمال الدين/457): (فما شبَّهت وجه مولانا أبي محمد (عليه السلام) حين غَشِيَنَا نور وجهه إلا ببدر قد استوفى من
لياليه أربعاً بعد عشر، وعلى فخذه الأيمن غلامٌ يناسب المشتري في الخلقة والمنظر، على رأسه فرقٌ بين وفرتين، كأنه ألف بين واوين).
وقال ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة (2/1081): (وأما أُمه فأُم ولد يقال لها حُديْث وقيل سوسن. وأما كنيته فأبو محمد. وأما لقبه: فالخالص والسرَّاج، والعسكري، وكان هو وأبوه وجده كل واحد منهم يعرف في زمانه بابن الرضا. وصفته: بين السمرة والبياض. شاعره: ابن الرومي. بابه: عثمان بن سعيد. نقش خاتمه: سبحان مَن له مقاليد السماوات والأرض. معاصره: المعتز، والمهتدي، والمعتمد).
وقال في الفصول المهمة: (2/1087): (صفته: بين السمرة والبياض).
وقال الكشي في رجاله (2/843): (حدثني الفضل بن الحارث، قال: كنت بسر من رأى وقت خروج [جنازة] سيدي أبي الحسن (عليه السلام)، فرأينا أبا محمد ماشياً قد شق ثيابه، فجعلت أتعجب من جلالته وما هو له أهل ومن شدة اللون والأدمة، وأشفقت عليه من التعب، فلما كان الليل رأيته في منامي فقال: اللون الذي تعجبت منه اختيار من الله لخلقه، يجريه كيف يشاء، وإنها هي لعبرة لأولي الأبصار، لا يقع فيه على المختبر ذم.
ولسنا كالناس فنتعب كما يتعبون، نسأل الله الثبات، ونتفكر في خلق الله فإن فيه متسعاً. واعلم أن كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة).
أقول: كان بعض الأئمة (عليهم السلام) سُمْرَ البشرة إرثاً من أمهاتهم، لكنها سمرةٌ حلوةٌ، فيها بهاءٌ وجمال، كما ورد في الإمام الجواد والعسكري (عليهما السلام).
الإمام في مراسم تشييع أبيه الهادي (عليهما السلام)
روى الخصيبي في الهداية الكبرى/248، عن جماعة: (أنهم حضروا وقت وفاة أبي الحسن بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق صلوات الله عليهم، والصلاة بسر من رأى، فإن السلطان (المعتز) لما عرف خبر وفاته أمر سائر أهل المدينة بالركوب إلى جنازته، وأن يحمل إلى دار السلطان حتى يصلي عليه، وحضرت الشيعة وتكلموا وقال علماؤهم: اليوم يَبِينُ فضل سيدنا أبي محمد الحسن بن علي على أخيه جعفر، ونرى خروجهما مع النعش. قالوا جميعاً: فلما خرج النعش وعليه أبو الحسن، خرج أبومحمد حافي القدم مكشوف الرأس، محلل الإزرار خلف النعش، مشقوق الجيب مُخْضَلَّ اللحية بدموع على عينيه، يمشي راجلاً خلف النعش، مرةً عن يمين النعش ومرةً عن شمال النعش، ولا يتقدم النعش.
وخرج جعفر أخوه خلف النعش بدراريع يسحب ذيولها، معتمٌّ محبتكُ الإزار، طلق الوجه، على حمار يماني، يتقدم النعش.
فلما نظر إليه أهل الدولة وكبراء الناس والشيعة، ورأوا زيَّ أبي محمد وفعله، ترجل الناس وخلعوا أخفافهم، وكشفوا عمائمهم، ومنهم من شق جيبه، وحل إزاره ولم يمش بالخفاف من الأمراء وأولياء السلطان أحد، فأكثروا اللعن والسب لجعفر الكذاب وركوبه وخلافه على أخيه... لما تلا النعش إلى دار السلطان سبق بالخبر إليه، فأمر بأن يوضع على ساحة الدار، على مصطبة عالية كانت على باب الديوان، وأمر أحمد
بن فتيان وهو المعتمد بالخروج إليه والصلاة عليه، وأقام السلطان في داره للصلاة عليه إلى صلاة العامة، وأمر السلطان بالإعلان والتكبير، وخرج المعتمد بخف وعمامة ودراريع، فصلى عليه خمس تكبيرات، وصلى السلطان بصلاتهم.. وبقي الإمام أبومحمد الحسن بن علي (عليهما السلام) ثلاثة أيام مردود الأبواب، يُسمع من داره القراءة والتسبيح والبكاء، ولا يؤكل في الدار إلا خبز الخشكار والملح، ويشرب الشربات. وجعفر بغير هذه الصفة، ويفعل ما يقبح ذكره من الأفعال).
وفي الهداية الكبرى/383: (لما كان في اليوم الرابع من زيارة سيدنا أبي الحسن (عليه السلام) أمر المعتز بأن ينفذ إلى أبي محمد من يستركبه إلى المعتز ليعزيه ويسليه، فركب أبو محمد إلى المعتز، فلما دخل عليه رحب به وعزاه، وأمر فرتب بمرتبة أبيه (عليه السلام)، وأثبت له رزقه وزاد فيه، فكان الذي يراه لا يشك إلا أنه في صورة أبيه (عليه السلام)، واجتمعت الشيعة كلها من المهتدين على أبي محمد بعد أبيه، إلا أصحاب فارس بن ماهَوَيْه، فإنهم قالوا بإمامة جعفر بن علي العسكري (عليه السلام)).
وروى المسعودي في إثبات الوصية (1/242): (ثم فتح من صدر الرواق بابٌ وخرج خادمٌ أسود، ثم خرج بعده أبومحمد (عليه السلام) حاسراً مكشوف الرأس مشقوق الثياب وعليه مبطنة بيضاء، وكان وجهه وجه أبيه (عليه السلام) لا يخطئ منه شيئاً، وكان في الدار أولاد المتوكل وبعضهم ولاة العهود، فلم يبق أحد إلا قام على رجله، ووثب إليه أبومحمد الموفق فقصده أبو
محمد (عليه السلام) فعانقه ثم قال له: مرحباً بابن العم. وجلس بين بابي الرواق والناس كلهم بين يديه. وكانت الدار كالسوق بالأحاديث، فلما خرج وجلس أمسك الناس، فما كنا نسمع شيئاً إلا العطسة والسعلة، وخرجت جارية تندب أبا الحسن (عليه السلام) فقال أبومحمد: ما هاهنا من يكفي مؤونة هذه الجاهلة؟ فبادر الشيعة إليها فدخلت الدار، ثم خرج خادم فوقف بحذاء أبي محمد (عليه السلام) فنهض صلى الله عليه وأخرجت الجنازة، وخرج يمشي حتى أخرج بها الى الشارع الذي بازاء دار موسى بن بقا، وقد كان أبومحمد صلى عليه قبل أن يخرج الى الناس، وصلى عليه لما أخرج المعتمد، ثم دفن في دار من دوره.
واشتد الحر على أبي محمد (عليه السلام) وضغطه الناس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه، فصار في طريقه الى دكان (مصطبة) بقال رآه مرشوشاً فسلم واستأذنه في الجلوس فأذن له وجلس، ووقف الناس حوله. فبينا نحن كذلك إذ أتاه شابٌّ حسن الوجه نظيف الكسوة، على بغلة شهباء على سرج ببرذون أبيض، قد نزل عنه فسأله أن يركبه، فركب حتى أتى الدار ونزل. وخرج في تلك العشية الى الناس، ما كان يَخْرِمُ عن أبي الحسن (عليه السلام) حتى لم يفقدوا منه إلا الشخص).
ملاحظات
كتبنا في سيرة الإمام الهادي (عليه السلام) فصلاً عن شهادته ومراسم جنازته، وكيف اهتم الخليفة بإشهاد الشهود على أن الإمام (عليه السلام) مات حتف أنفه
لينفي عنه تهمة قتله بالسم. ثم كيف أمر بالصلاة عليه في قصره، واهتم بمراسم تشييعه، ثم استقبل ولده الإمام الحسن (عليه السلام) في اليوم الرابع وعزاه رسمياً، وجعل له رتبة أبيه وزاد من مخصصاته!
ونلاحظ أن السلطة القرشية كانت تبالغ في تشييع الإمام من العترة الطاهرة (عليهم السلام)، ليبعدوا عن أنفسهم جريمة قتله! وكانوا يشهدون كبار القضاة والشهود بأن بدنه سالمٌ وأنه مات حتف أنفه! حتى لايطالب بنو هاشم بدمه. وقد استعملوا هذا الأسلوب في جنازة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، كما استعملوه مع خلفائهم فكانوا يقتلون الخليفة بعصر خصيتيه، ثم يأتون بالشهود فيشهدون أنه مات حتف أنفه!
قال في معالم الخلافة (3/371): (لما وليَ المعتز لم يمض إلا مدة حتى أُحضر الناس وأخرج المؤيد فقيل: إشهدوا أنه دعي فأجاب وليس به أثر! ثم مضت أشهر فأحضر الناس وأخرج المستعين، فقال: إن منيته أتت عليه وها هو لا أثر فيه، فأشهدوا! ثم مضت مُدَيْدَة واستخلف المهتدي فأخرج المعتز ميتاً وقيل: إشهدوا أنه قد مات حتف أنفه ولا أثر به! ثم لم تكمل السنة حتى استخلف المعتمد فأخرج المهتدي ميتاً وقيل: إشهدوا أنه قد مات حتف أنفه من جراحته)!
الفصل السابع عشر: الخليفة المعتمد الذي قتل الإمام العسكري (عليه السلام)
غضب الله على العباسيين فسلط عليهم غلمانهم!
قال اليعقوبي في البلدان (1/16) يصف حكم خمسة خلفاء عباسيين في بضع سنوات: (مات المنتصر بسر من رأى في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين. ووليَ المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم، فأقام بسر من رأى سنتين وثمانية أشهر، حتى اضطربت أموره فانحدر إلى بغداد في المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين، فأقام بها يحارب أصحاب المعتز سنة كاملة، والمعتز بسر من رأى معه الأتراك وسائر الموالي. ثم خُلع المستعين ووليَ المعتز، فأقام بها حتى قتل ثلاث سنين وسبعة أشهر بعد خلع المستعين، وبويع محمد المهتدي بن الواثق في رجب سنة خمس وخمسين ومائتن، فأقام حولاً كاملاً ينزل الجوسق حتى قُتل.
وولي أحمد المعتمد بن المتوكل فأقام بسر من رأى في الجوسق وقصور الخلافة، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي بسر من رأى، فبنى قصراً موصوفاً بالحسن سماه المعشوق فنزله فأقام به حتى اضطربت الأمور فانتقل إلى بغداد، ثم إلى المدائن).
أقول: في هذه المرحلة اضطرب نظام الخلافة، وقصرت أعمار الخلفاء، ووقع الصراع بينهم، وبينهم وبين قادة جيشهم الأتراك، وبين الأتراك أنفسهم.
وفي هذه الصراعات كانوا يقتلون الخليفة الذي لا يعجبهم، ويختارون عباسياً غيره. وكانت طريقة قتل الخليفة غالباً بعصر خصيتيه!
ثم حدثت تطورات بعد شهادة الإمام الهادي (عليه السلام)، فظهرت حركة الزنج في البصرة، وحركة الخوارج في الموصل وخراسان، وانقسم الترك الى قسمين: قسم مع المهتدي في سامراء بقيادة صالح بن وصيف، وقسم ضدهم بقيادة موسى بن بغا، وكانت نهاية المهتدي لأنه حاول أن يُوقِع بين الأتراك، فاتفقوا عليه فكشف مؤامرتهم، فقتل القائد بايكباك، فجاش الترك عليه وهاجموه، وكانت بينهم معارك انتهت بهزيمة المهتدي وقتله.
قال الطبري (7/584): (ودفعوه إلى رجل فوطأ على خصييه حتى قتله)!
المعتمد طال عمره بعد خمسة خلفاء قصار الأعمار
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء ملخصاً (1/363): (أبو العباس المعتمد على الله أبو العباس، وقيل أبو جعفر، أحمد بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد: ولد سنة تسع وعشرين ومائتين، وأمه رومية إسمها فتيان.
ولما قتل المهتدي كان المعتمد محبوساً بالجوسق فأخرجوه وبايعوه، ثم إنه استعمل أخاه الموفق طلحة على المشرق، وصير ابنه جعفراً ولي عهده وولاه مصر والمغرب، ولقبه المفوض إلى الله. وانهمك المعتمد في اللهو واللذات، واشتغل عن الرعية، فكرهه الناس، وأحبوا أخاه طلحة!
وفي أيامه دخلت الزنج البصرة وأعمالها، وأخربوها وبذلوا السيف وأحرقوا وخربوا وَسَبَوْا، وجرى بينهم وبين عسكره عدة وقعات وأمير عسكره في أكثرها الموفق أخوه، وأعقب ذلك الوباء الذى لا يكاد
يتخلف عن الملاحم بالعراق، فمات خلق لا يحصون، ثم أعقبه هدات وزلازل، فمات تحت الردم ألوف من الناس!
واستمر القتال مع الزنج من حين تولى المعتمد سنة ست وخمسين إلى سنة سبعين، فقتل فيها رأس الزنج لعنه الله، وإسمه بهبوذ، وكان ادعى أنه أُرْسِلَ إلى الخلق فرد الرسالة، وأنه مطلع على المغيبات!
وذكر الصولي أنه قتل من المسلمين ألف ألف وخمس مائة ألف آدمي، وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاث مائة ألف!
وكان له منبر في مدينة يصعد عليه ويسب عثمان وعلياً ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة (رضي الله عنهم). وكان ينادي على المرأة العلوية في عسكره بدرهمين وثلاثة! وكان عند الواحد من الزنج العشر من العلويات يطؤهن ويستخدمهن. ولما قتل هذا الخبيث دخل برأسه بغداد على رمح وعملت قباب الزينة، وضج الناس بالدعاء للموفق ومدحه الشعراء، وكان يوماً مشهوداً، وأمن الناس وتراجعوا إلى المدن التي أخذها، وهي كثيرة كواسط ورامهرمز.. وفي سنة ست وستين وصلت عساكر الروم إلى ديار بكر ففتكوا، وهرب أهل الجزيرة والموصل. وفيها وثب الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها).
الموفق يحجر على أخيه الخليفة لأنه سفيه!
وأضاف السيوطي: (وفي سنة تسع وستين اشتد تخيل(تخوف) المعتمد من أخيه الموفق، فإنه كان خرج عليه في سنة أربع وستين، ثم اصطلحا،
فلما اشتد تخيله منه هذا العام كاتب المعتمد ابن طولون نائبه بمصر واتفقا على أمر، فخرج ابن طولون حتى قدم دمشق، وخرج المعتمد من سامرا على وجهة التنزه وقَصْدُهُ دمشق، فلما بلغ ذلك الموفق كتب إلى إسحاق بن كنداج ليرده، فركب ابن كنداج من نصيبين إلى المعتمد فلقيه بين الموصل والحديثة، فقال: يا أمير المؤمنين أخوك في وجه العدو وأنت تخرج عن مستقرك! فتلقَّاه صاعد بن مخلد كاتب الموفق، فسلمه إسحاق إليه، فأنزله في دار أحمد بن الخصيب ومنعه من نزول دار الخلافة، ووكل به خمس مائة رجل يمنعون من الدخول إليه.. وأقام صاعد في خدمة المعتمد، ولكن ليس للمعتمد حل ولاربط، وقال المعتمد في ذلك:
أليس من العجائب أن مثلي * * * يرى ما قلَّ ممتنعاً عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً * * * وما من ذاك شيء في يديه
إليه تحمل الأموال طراً * * * ويُمنع بعض ما يجبى إليه
وهو أول خليفة قُهر وحُجر عليه.. ثم في شعبان من سنة سبعين أعيد المعتمد إلى سامراء، ودخل بغداد ومحمد بن طاهر بين يديه بالحربة والجيش في خدمته، كأنه لم يحُجر عليه..
وفي سنة ثمان وسبعين غار نيل مصر، فلم يبق منه شيء، وغلت الأسعار. وفيها مات الموفق واستراح منه المعتمد.
وفيها ظهرت القرامطة بالكوفة، وهم نوع من الملاحدة يدَّعون أنه لاغسل من الجنابة، وأن الخمر حلال..
وفي سنة تسع وسبعين ضعف أمر المعتمد جداً، لتمكن أبي العباس بن الموفق من الأمور وطاعة الجيش له، فجلس المعتمد مجلساً عاماً، وأشهد فيه على نفسه أنه خلع ولده المفوض من ولاية العهد، وبايع لأبي العباس ولقبه المعتضد.. ومات المعتمد بعد أشهر من هذه السنة فجأةً، فقيل إنه سُمَّ، وقيل بل نام فغُمَّ في بساط، وذلك ليلة الإثنين لإحدى شرة بقيت من رجب، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة).
وقال الذهبي في تاريخه (20/31): (وخرج المعتمد من سامراء على وجه التنزُّه وقصده دمشق.. فخرج إليه نحرير الخادم.. فقال: يا أمير المؤمنين أخوك في وجه العدو، وأنت تخرج عن مستقرك ودار ملكك، وهذا كتاب أخيك يأمرنا بردك. فقال: أنت غلامي أو غلامه؟ فقال: كلنا غلمانك ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لك).
وفي الكامل (7/456): (توفي المعتمد على الله ليلة الإثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب ببغداد (سنة279) وكان قد شرب على الشط في الحسني ببغداد يوم الأحد شراباً كثيراً، وتعشى فأكثر فمات ليلاً. وأحضر المعتضد القضاة وأعيان الناس فنظروا إليه، وحُمل إلى سامرا فدُفن بها، وكان عمره خمسين سنة وستة أشهر، وكان أسن من الموفق بستة أشهر.. وكان أول الخلفاء انتقل من سر من رأى مُذ بُنيت، ثم لم يعد إليها أحد منهم).
وفي تاريخ الخميس(2/344): (وتوفيَ أمير المؤمنين المعتمد على الله، ولم تطل أيامه بعد أخيه الموفق، مات المعتمد فجاءةً وهو سكران، وقيل سُمَّ
في لحم، وقيل رُمِيَ في رصاص مذاب، وقيل وقع فى حفرة ببغداد، في تاسع شهر رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، فكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة.. ليس له فيها إلا مجرد الإسم فقط، والأمر كله لأخيه الموفق طلحة، ثم بعده لابنه المعتضد أحمد الخليفة..
ذكر خلافة المعتضد: مولده فى سنة اثنتين وأربعين ومائتين في ذي القعدة فى أيام جده. كان أسمر نحيفاً معتدل الخلق، وكان يَقْدِرُ على الأسد وحده، وتغير مزاجه لإفراط الجماع).
أقول: وفي زمن المعتمد كانت ثورة يعقوب بن ليث الصفار على الخلافة. قال الذهبي في سيره (12/542): (وأعيا المعتمد شأن الصفار وحار، فلانَ له وبعث إليه بالخلع وبولاية خراسان وجرجان، فلم يرض بذلك، حتى يجيء إلى سامراء، وأضمر الشر، فتحول المعتمد إلى بغداد، وأقبل الصفار بكتائب كالجبال. فقيل كانوا سبعين ألف فارس، وثقله على عشرة آلاف جمل، فأناخ بواسط في سنة اثنتين وستين، وانضمت العساكر المعتمدية، ثم زحف الصفار إلى دير عاقول، فجهز المعتمد للملتقى أخاه الموفق وموسى بن بغا ومسروراً، فالتقى الجمعان في رجب واشتد القتال، فكانت الهزيمة أولاً على الموفق، ثم صارت على الصفار وانهزم جيشه، فقيل: نهب منهم عشرة آلاف فرس، ومن العين ألفا ألف دينار، ومن الأمتعة ما لا يحصى..
وفي سنة 265، مات يعقوب بن الليث الصفار المتغلب على خراسان وفارس بالأهواز، فقام بعده أخوه عمرو ودخل في الطاعة، واستنابه الموفق على المشرق وبعث إليه بالخلع. وقيل: بلغت تركة الصفار ثلاثة آلاف ألف دينار، ودفن بجندسابور. وكتب على قبره: هذا قبر المسكين يعقوب. وكان في صباه يعمل في ضرب النحاس بدرهمين)!
كان المعتمد يعرف الأئمة (عليهم السلام) جيداً
روى الخصيبي في الهداية/383، عن أحمد بن مطهر أنه: (دخل على عبد الصمد بن موسى، فأخبره بوفاة أبي محمد (عليه السلام)، فركب عبد الصمد إلى الوزير وأخبره بذلك، فركب الوزير وعبد الصمد بن موسى بن بغا إلى المعتمد وأخبراه بوفاة أبي محمد (عليه السلام)، فأمر المعتمد أخاه بالركوب والوزير وعبد الصمد إلى دار أبي محمد حتى ينظروا إليه ويكشفوا عن وجهه، ويغسلوه ويكفنوه ويصلوا عليه ويدفنوه مع أبيه (عليه السلام)، وينظروا من خلَّفَ ويرجعوا إليه بالخبر.
وتقدم إلى سائر الخاصة والعامة والدون أن يحضروا الصلاة عليه، ففعل أبوعيسى والوزير وعبد الصمد جميع ما أمروا به، ونظروا إلى من في الدار وانصرفوا إلى المعتمد، فقال المعتمد لأخيه أبي عيسى: أبشر إنك ستلي الخلافة، لأن أخانا المعتز لما توفي أبوالحسن علي بن محمد، فخرجت وصليت وصلى بصلاتنا في الدار لأنه كان التكبير يصل، فلما دفنا أبا الحسن (عليه السلام) ورجعت قال: أبشر يا أحمد فإنك صليت على أبي الحسن، وأنت تجازى بالخلافة بصلاتك عليه، وأنت يا أبا عيسى قد صليت على أبي الحسن، وأرجو أن تجازى بالخلافة مثلي).
أقول: معنى ذلك أن هذا (الخليفة) يعتقد بأن مكانة الإمام الهادي (عليه السلام) عند الله تعالى كبيرة، حتى أن صلاة الشخص على جنازته، توجب له أن يكون خليفة، كما قال أخوه المعتز. وكذلك مكانة ابنه الحسن العسكري كبيرة عند الله تعالى كأبيه (عليه السلام)، ومجرد الصلاة على جنازته توجب للمصلي أن يكون خليفة.
وكأن هذا تسبيبٌ تكويني، حتى لو كان المصلي إماماً على جنازة الإمام (عليه السلام) هو الذي قتله، أو اشترك في قتله!
فالخلفاء العباسية يعتقدون أن في الأئمة من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سراً غيبياً، يؤثر في من يؤدي لهم خدمة حتى لو كان عدوهم! وهذا اعتقاد اليهود في أنبيائهم!
وهو من جهة ثانية اعتراف بأن الخلفاء العباسية يقرون على أنفسهم بأنهم طلاب دنيا، حتى لو كانت بالتقرب الشكلي من أصحاب السر الغيبي، أو بقتلهم وسرقة هذا السر بالصلاة على جنازتهم!
لكن أخطأ المعتمد، لأن أخاه الموفق الذي صلى على جنازة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مات في حياته أو قتله، بعد أن حجر عليه التصرف!
كما يدل على ما ذكرنا جواب رئيس الوزراء ابن خاقان لجعفر الكذاب كما رواه ابنه أحمد (الكافي: 1/504): (فجاء جعفر بعد ذلك إلى أبي فقال: إجعل لي مرتبه أخي وأوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار، فزبره أبي وأسمعه، وقال له: يا أحمق السلطان جرد سيفه في الذين زعموا أن أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك، فلم يتهيأ له ذلك، فإن كنت عند شيعة
أبيك أو أخيك إماماً، فلا حاجة بك إلى السلطان أن يرتبك مراتبهما ولا غير السلطان. وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا)!
وللمعتمد موقفٌ آخر يدل على عقيدته في الإمام العسكري وآبائه (عليهم السلام).
رواه الصدوق (كمال الدين/479) قال: (كان جعفر الكذاب حمل إلى الخليفة عشرين ألف دينار، لما توفي الحسن بن علي (عليهما السلام) وقال: يا أمير المؤمنين تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته! فقال الخليفة: إعلم أن منزلة أخيك لم تكن بنا إنما كانت بالله (عزَّ وجلَّ)، ونحن كنا نجتهد في حط منزلته والوضع منه، وكان الله (عزَّ وجلَّ) يأبى إلا أن يزيده كل يوم رفعة، لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة، فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته، ولم يكن فيك ما كان في أخيك لم نغنك في ذلك شيئاً)!
فهو يصرح بأن مكانة الإمام العسكري (عليه السلام) وإمامته من الله تعالى، وأنه لم يستطع بكل جهده أن يحط منها! بل كان الله تعالى يزيده كل يوم رفعةً!
ويؤيد ذلك موقفه في البحث عن الإمام الموعود (عليه السلام)، فقد اضطرب رأيه ورأي أخيه الموفق وقاضي قضاته ابن أبي الشوارب، فقالوا لم يترك الحسن العسكري ولداً بعده، ثم رأوا ابنه تقدم للصلاة على أبيه وأخر عمه وقال له: أنا أولى منك بالصلاة على أبي، وصلى عليه، ثم غاب فلم يروه!
ثم فتشوا بيت الإمام (عليه السلام) فلم يجدوه، وقيل إن جارية للإمام حامل فحبسوها.
قال الصدوق في كمال الدين/474: (فادعت عند ذلك صقيل أنها حامل فحملت إلى دار المعتمد فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفق وخدمه، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدن أمرها في كل وقت. ويراعون إلى أن دهمهم أمر الصغار وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتة، وخروجهم من سر من رأى، وأمر صاحب الزنج بالبصرة وغير ذلك، فشغلهم ذلك عنها).
ومعناه أن المعتمد يعتقد أن الإمام العسكري (عليه السلام) هو الحادي عشر، وأن ابنه هو المهدي الموعود من الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا يحاول التعرف عليه ليقتله بعد أن قتل أباه! فهل رأيت أشد تناقضاً، وأسوأ حظاً؟
ويؤيد ذلك أيضاً ما روي من أنه رأى معجزة الإمام العسكري لمَّا وضعه في بركة السباع، فتعطفه وطلب منه أن يدعو له!
ففي مناقب آل أبي طالب (3/530): (وروي أن يحيى بن قتيبة الأشعري أتاه بعد ثلاث مع الأستاذ، فوجداه يصلي والأسود حوله، فدخل الأستاذ الغيل فمزقوه وأكلوه! وانصرف يحيى في فوره إلى المعتمد فدخل المعتمد على العسكري وتضرع إليه وسأل أن يدعو له بالبقاء عشرين سنة في الخلافة فقال (عليه السلام): مَدَّ الله في عمرك، فأجيب وتوفي بعد عشرين سنة).
الفصل الثامن عشر: شهادة الإمام العسكري (عليه السلام)
آخر السجون وأقصرها: سجن الخليفة المعتمد
ذكرنا في الفصل الأول أن أربعة من الخلفاء العباسية حاولوا قتل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، حتى قتله المعتمد سنة 260 هجرية.
وقد تولى المعتمد الخلافة سنة 256، وفي السنة الخامسة من خلافته أقدم على قتل الإمام (عليه السلام). وكان كبقية الخلفاء العباسية يعمل للخلاص من أئمة العترة النبوية (عليه السلام) ولو بالحبس والقتل. ومن المؤكد أنه حَبَسَهُ مدة قصيرة قبيل شهادته وأطلقه من السجن، وأرسل معه حرساً وأطباء لمراقبته حتى توفي!
فقد ورد أنهم سجنوه في صفر سنة 260 (إثبات الوصية: 1/253) ولا بد أنهم سَمُّوه في السجن لأنهم أرسلوا معه الى بيته حرساً ومراقبين حتى استشهد بعد أسبوع، فكتبوا محضراً بأن موته طبيعي وأشهدوا عليه شهودهم!
لكن لا يبعد أن يكون المعتمد حبسه قبل ذلك مرة أو أكثر، فقد روى الكشي /817، عن محمد بن إبراهيم الوراق السمرقندي أنه مر على سامراء في سنة ستين في طريقه الى الحج، قال: (رأيتهم مغتمين محزونين فقلت لهم ما لكم؟ قالوا: إن أبا محمد (عليه السلام) قد حبس. قال بورق: فحججت ورجعت ثم أتيت محمد بن عيسى ووجدته قد انجلى عنه ما كنت رأيت به، فقلت: ما الخبر؟ قال: قد خُلِّيَ عنه). وتقدم في الفصل الأول ما يدل على حبس المعتمد له.
سَمُّوهُ وأخرجوه من السجن ليموت في بيته!
جاء في رواية حبسه الأخير: (حبسه المعتمد في يدي علي بن جَرِين، وحبس جعفراً أخاه معه، وكان المعتمد يسأل علياً عن أخباره في كل وقت فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل، فسأله يوماً عن الأيام عن خبره فأخبره بمثل ذلك، فقال له: إمض الساعة إليه وأقرئه مني السلام وقل له: إنصرف إلى منزلك مصاحباً عليَّ جَرِين، فجئت إلى باب الحبس فوجدت حماراً مسرجاً، فدخلت عليه فوجدته جالساً وقد لبس خفه وطيلسانه وشاشه، فلما رآني نهض فأديت إليه الرسالة، فركب فلما استوى على الحمار وقف فقلت له: ما وقوفك يا سيدي؟ فقال لي: حتى يجيء جعفر، فقلت: إنما أمرني بإطلاقك دونه، فقال لي ترجع إليه فتقول له: خرجنا من دارة واحدة جميعاً فإذا رجعت وليس هو معي كان في ذلك ما لا خفاء به عليك. فمضى وعاد فقال: يقول لك قد أطلقت جعفراً لك، لأني حبسته بجنايته على نفسه وعليك وما يتكلم به، وخلى سبيله فصار معه إلى داره). (مهج الدعوات/275).
فكان سجن المعتمد له هذه المرة قصيراً أقل من شهر، ولما صل الى البيت اعتلَّ قال أحمد بن عبيد الله بن خاقان (الكافي:1/504): (لما اعتل بعث (الخليفة) إلى أبي (وزيره) أن ابن الرضا قد اعتل، فركب من ساعته فبادر إلى دار الخلافة ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته، فيهم نحرير، فأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف خبره وحاله،
وبعث إلى نفر من المتطببين، فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة، أُخبر أنه قد ضَعُفَ، فأمر المتطببين بلزوم داره، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتى توفي، فصارت سر من رأى ضجة واحدة، وبعث السلطان إلى داره من فتشها وفتش حجرها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر وُلده وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل فجعلت في حجرة، ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطلت الأسواق وركبت بنو هاشم والقواد وأبي وسائر الناس إلى جنازته، فكانت سرمن رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة)!
وقال المفيد في الإرشاد (2/337): (ومرض أبو محمد (عليه السلام) في أول شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين، ومات في يوم الجمعة لثمان ليال خلون من هذا الشهر في السنة المذكورة، وله يوم وفاته ثمان وعشرون سنة، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه من دارهما بسر من رأى. وخلف ابنه المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولما شاع من
مذهب الشيعة الإمامية فيه وعرف من انتظارهم له، فلم يظهر ولده (عليه السلام) في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته.
وتولى جعفر بن علي أخو أبي محمد (عليه السلام) أخذ تركته، وسعى في حبس جواري أبي محمد واعتقال حلائله، وشنع على أصحابه بانتظارهم ولده وقطعهم بوجوده والقول بإمامته، وأغرى بالقوم حتى أخافهم وشردهم وجرى على مخلفي أبي محمد (عليه السلام) بسبب ذلك كل عظيمة، من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذل، ولم يظفر السلطان منهم بطائل. وحاز جعفر ظاهر تركة أبي محمد (عليه السلام) واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه، فلم يقبل أحد منهم ذلك ولا اعتقده فيه، فصار إلى سلطان الوقت يلتمس مرتبة أخيه، وبذل مالاً جليلاً، وتقرب بكل ما ظن أنه يتقرب به، فلم ينتفع بشيء من ذلك).
أقول: نص عدد من علمائنا على أن الخليفة المعتمد قتل الإمام العسكري (عليه السلام) بالسم، قال الصدوق (قدس سره) في الاعتقادات/99: (والحسن بن علي العسكري (عليه السلام) قتله المعتمد بالسم).
واصل الإمام (عليه السلام) عمله ونشاطه الى آخر يوم!
في الغيبة للطوسي/272: (قال إسماعيل بن علي: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) في المرضة التي مات فيها وأنا عنده، إذ قال لخادمه عقيد وكان الخادم أسود نوبياً قد خدم من قبله علي بن محمد، وهو رَبِيُّ الحسن (عليه السلام) فقال له: يا عقيد إغْلِ لي ماءً بمصطكي، فأغلى له ثم جاءت
به صقيل الجارية أم الخلف (عليه السلام)، فلما صار القدح في يديه وهمِّ بشربه فجعلت يده ترتعد حتى ضرب القدح ثنايا الحسن (عليه السلام) فتركه من يده، وقال لعقيد: أدخل البيت فإنك ترى صبياً ساجداً فأتني به.
قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرى فإذا أنا بصبي ساجد رافع سبابته نحو السماء، فسلمت عليه فأوجز في صلاته فقلت: إن سيدي يأمرك بالخروج إليه، إذا جاءت أمه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن (عليه السلام). قال أبو سهل: فلما مثل الصبي بين يديه سلم، وإذا هو دري اللون، وفي شعر رأسه قطط، مفلج الأسنان، فلما رآه الحسن (عليه السلام) بكى وقال: يا سيد أهل بيته، إسقني الماء فإني ذاهب إلى ربي، وأخذ الصبي القدح المغلي بالمصطكي بيده، ثم حرك شفتيه ثم سقاه، فلما شربه قال: هيئوني للصلاة، فطرح في حجره منديل، فوضأه الصبي واحدة واحدة ومسح على رأسه وقدميه.
فقال له أبو محمد (عليه السلام) إبشر يا بني فأنت صاحب الزمان، وأنت المهدي وأنت حجة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيي، وأنا ولدتك وأنت محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ولدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنت خاتم الأوصياء الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، وبشر بك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسماك وكناك، بذلك عهد إلي أبي عن آبائك
الطاهرين صلى الله على أهل البيت، ربنا إنه حميد مجيد، ومات الحسن بن علي من وقته، صلوات الله عليهم أجمعين).
أقول: هذه هي الرواية المعتمدة في شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). ولا بد أن يكون المصطكي وهو نوع من صمغ الشجر نافعاً في معالجة نوع السم الذي سقوه للإمام (عليه السلام). وروى الصدوق (رحمه الله) رواية عن بعض الكتب، حذف منها حضور الإمام المهدي (عليه السلام) في وفاة أبيه (عليه السلام)، ولو صحت فهي رواية قالها الراوي مداراة للسلطة، وحذف منها ذكر ابنه خوفاً من الخليفة!
قال الصدوق (رحمه الله) في كمال الدين/473: (وجدت مثبتاً في بعض الكتب المصنفة في التواريخ، ولم أسمعه إلا عن محمد بن الحسين بن عباد أنه قال: مات أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) يوم جمعة مع صلاة الغداة، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة، ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية، وعقيد الخادم، ومن علم الله (عزَّ وجلَّ) غيرهما (ولده المهدي (عليه السلام)) قال عقيد: فدعا بماء قد أغلي بالمصطكي فجئنا به إليه، فقال: أبدأ بالصلاة، هيئوني، فجئنا به وبسطنا في حجره المنديل فأخذ من صقيل الماء فغسل به وجهه وذراعيه مرة مرة، ومسح على رأسه وقدميه مسحاً، وصلى صلاة الصبح على فراشه، وأخذ القدح ليشرب فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد، فأخذت صقيل القدح من يده ومضى من ساعته.
ودفن في داره بسر من رأى إلى جانب أبيه صلوات الله عليهما، فصار إلى كرامة الله جل جلاله، وقد كمل عمره تسعاً وعشرين سنة).
التشييع الرسمي للإمام العسكري (عليه السلام)
قال الصدوق (رحمه الله) في حديث أبي الأديان (كمال الدين/475): (وحدث أبو الأديان قال: كنت أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت عليه في علته التي توفي فيها صلوات الله عليه، فكتب معي كتباً وقال: إمض بها إلى المدائن فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل إلى سر من رأى يوم الخامس عشر، وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل. قال أبو الأديان فقلت: يا سيدي فإذا كان ذلك فمن؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم من بعدي، فقلت: زدني، فقال: من يصلي عليَّ فهو القائم بعدي، فقلت: زدني، فقال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي.
ثم منعتني هيبته أن أسأله عما في الهميان، وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي فإذا أنا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار، والشيعة من حوله يعزونه ويهنونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة! لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق(قصر ومحل للقمار) ويلعب بالطنبور، فتقدمت فعزيت وهنيت، فلم يسألني عن شيء، ثم خرج عقيد فقال: يا سيدي قد كُفن أخوك فقم وصل عليه، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم
السمان والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة (أي أبوه قتله المعتصم ولعله الأطروش) فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال: تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي!
فتأخر جعفر وقد ارْبَدَّ وجهه واصفرّ، فتقدم الصبي وصلى عليه!
ودفن إلى جانب قبر أبيه (عليه السلام). ثم قال: يا بصري هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتها إليه فقلت في نفسي: هذه بينتان، بقي الهميان.
ثم خرجت إلى جعفر بن علي وهو يزفر، فقال له حاجز الوشاء: يا سيدي من الصبي لنقيم الحجة عليه؟ فقال: والله ما رأيته قط ولا أعرفه!
فنحن جلوسٌ إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي (عليهما السلام) فعرفوا موته فقالوا: فمن نعزي؟ فأشار الناس إلى جعفر بن علي فسلموا عليه وعزوه وهنوه وقالوا: إن معنا كتباً ومالاً، فتقول ممن الكتب وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منا أن نعلم الغيب!
قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان وفلان، وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال، وقالوا: الذي وجه بك لأخذ ذلك هو الإمام!
فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته، وادعت حبلاً بها
لتغطي حال الصبي، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبَغَتَهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله رب العالمين).
وروى الخصيبي في الهداية/383: (حدثني أحمد بن مطهر صاحب عبد الصمد بن موسى، أنه كان بائتاً عند عبد الصمد في الليلة التي توفي بها أبو محمد (عليه السلام)، فإنه دخل أحمد بن مطهر على عبد الصمد بن موسى، فأخبره بوفاة أبي محمد، فركب عبد الصمد إلى الوزير وأخبره بذلك، فركب الوزير وعبد الصمد بن موسى بن بقاء إلى المعتمد وأخبراه بوفاة أبي محمد (عليه السلام) فأمر المعتمد أخاه بالركوب والوزير وعبد الصمد إلى دار أبي محمد حتى ينظروا إليه، ويكشفوا عن وجه ويغسلوه ويكفنوه ويصلوا عليه ويدفنوه مع أبيه (عليه السلام)، وينظروا من خلَّف ويرجعوا إليه بالخبر، وتقدم إلى سائر الخاصة والعامة والدون أن يحضروا الصلاة عليه.
ففعل أبو عيسى والوزير وعبد الصمد جميع ما أمروا به، ونظروا إلى من في الدار، وانصرفوا إلى المعتمد، فقال المعتمد لأخيه أبي عيسى: أبشر إنك ستلي الخلافة لأن أخانا المعتز لما توفي أبو الحسن علي بن محمد، فخرجت وصليت وصلى بصلاتنا في الدار، لأنه كان التكبير يصل، فلما دفنا أبا الحسن (عليه السلام) ورجعت قال: أبشر يا أحمد فإنك صليت على أبي
الحسن، وأنت تجازى بالخلافة بصلاتك عليه. وأنت يا أبا عيسى قد صليت على أبي الحسن، وأرجو أن تجازى بالخلافة مثلي).
أقول: تقدم التعليق على حديث أبي الأديان، وتلاحظ أن رواية الخصيبي تقول إن الوزير أخبر الخليفة بمرض الإمام وموته، ورواية ابن الوزير تقول إن الخليفة أخبر أباه، وهو الصحيح لأن سمه كان من تدبير الخليفة!
وقال ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة (2/1087): (وكانت وفاة أبي محمّد الحسن بن علي بسر من رأى في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأوّل سنة ستين ومائتين للهجرة، ودُفن في البيت الّذي دُفن فيه أبوه بدارهما من سر من رأى، وله يومئذ من العمر ثمان وعشرون سنة. وكانت مدّة إمامته ست سنين كانت في بقية ملك المعتز ابن المتوكل، ثم ملك المهتدي ابن الواثق أحد عشراً شهراً، ثم ملك المعتمد على الله أحمد بن المتوكل ثلاث وعشرين سنة، مات في أوائل دولته.
خلف أبو محمد الحسن من الولد ابنه الحجة القائم المنتظر لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وشدة طلب السلطان وتطلبه للشيعة وحبسهم والقبض عليهم. وتولى جعفر بن علي أخوه، وأخذ تركته واستولى عليها، وسعى في حبس جواري أبي محمد، وشنع على أصحابه عند السلطان، وذلك لكونه أراد القيام عليهم مقام أخيه فلم يقبلوه لعدم أهليته لذلك، ولا ارتضوه، وبذل جعفر على ذلك مالاً جليلاً لولي الأمر فلم يتفق له، ولم يجتمع عليه اثنان.
ذهب كثير من الشيعة إلى أن أبا محمد الحسن مات مسموماً، وكذلك أبوه وجده، وجميع الأئمة الذين من قبلهم (عليهم السلام) خرجوا كلهم تغمدهم الله برحمته من الدنيا على الشهادة، واستدلوا على ذلك بما روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: ما منا إلا مقتولٌ أو شهيد).
غارات الخليفة على بيت الإمام العسكري (عليه السلام)
1. قال الصدوق (رحمه الله) في كمال الدين/473: (سمعت أبا الحسين الحسن بن وجناء يقول: حدثنا أبي عن جده، أنه كان في دار الحسن بن علي (عليهما السلام) فكبستنا الخيل وفيهم جعفر بن علي الكذاب واشتغلوا بالنهب والغارة، وكانت همتي في مولاي القائم (عليه السلام) قال: فإذا به قد أقبل وخرج عليهم من الباب وأنا أنظر إليه، وهوابن ست سنين، فلم يره أحد حتى غاب).
أقول: الظاهر أن هذه الغارة كانت قبل وصول والدة الإمام العسكري (عليه السلام) من المدينة، وإبرازها وصية الإمام لها. وعندما وصلت تسلمت الدار وطلبت من قاضي القضاة أن لا يحكم بعدم وجود ولد للإمام، ولا بوراثة أخيه له.
2. وفي الكافي (1/524): (عن علي بن محمد قال: باع جعفر فيمن باع صبية جعفرية كانت في الدار يربونها، فبعث بعض العلويين وأعلم المشتري خبرها، فقال المشتري: قد طابت نفسي بردها، وأن لا أرزأ من ثمنها شيئاً فخذها، فذهب العلوي فأعلم أهل الناحية الخبر فبعثوا إلى المشتري بأحد وأربعين ديناراً، وأمروه بدفعها إلى صاحبها).
أقول: هذا يدل على أنهم أغاروا على بيت الإمام (عليه السلام) وأخذ جعفر من وجد من النساء وباعهن على أنهن جوارٍ، وكانت منهن طفلة من ذرية جعفر بن أبي طالب يربونها في بيت الإمام (عليه السلام)، فباعها، فحررها أحد العلويين!
3. وفي كمال الدين/489: (حدثنا أبي (رضي الله عنه)، عن سعد بن عبد الله قال: حدثني أبو علي المتيلي قال: جاءني أبو جعفر فمضى بي إلي العباسية وأدخلني خربة وأخرج كتاباً فقرأه عليَّ فإذا فيه شرح جميع ما حدث على الدار وفيه: أن فلانة، يعني أم عبد الله، تؤخذ بشعرها وتُخرج من الدار ويُحدر بها إلى بغداد، فتقعد بين يدي السلطان!وأشياء مما يحدث، ثم قال لي: إحفظ ثم مزق الكتاب، وذلك من قبل أن يحدث ما حدث بمدة).
يقصد بأبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري (رحمه الله)، أي أخبره بهجوم السلطة لتفتيش بيت الإمام العسكري بحثاً عن المهدي (عليه السلام)، وأنهم يشكُّون في امرأة أنها أم المهدي (عليه السلام)، فيطلب الخليفة إحضارها اليه الى بغداد، وذلك بعد هروب الخليفة والدولة من سامراء الى بغداد!
وتقدم في فصل والدة الإمام المهدي (عليه السلام) أن الإمام العسكري (عليه السلام) أخبرها بما سيجري، فطلبت منه أن يدعو لها أن تموت قبله، فدعا لها وماتت قبله، وكتب على قبرها: هذا قبر أم محمد، (رضي الله عنها).
4. وروى الطوسي في الغيبة/248: (عن رشيق صاحب المادرائي قال: بعث إلينا المعتضد ونحن ثلاثة نفر، فأمرنا أن يركب كل واحد منا فرساً ونجنب آخر، ونخرج مخفين لا يكون معنا قليل ولا كثير، إلا على السرج مصلى، وقال لنا: إلحقوا بسامرة ووصف لنا محلة وداراً وقال: إذا
أتيتموها تجدون على الباب خادماً أسود فاكبسوا الدار، ومن رأيتم فيها فأتوني برأسه! فوافينا سامرة فوجدنا الأمر كما وصفه، وفي الدهليز خادم أسود وفي يده تكة ينسجها، فسألناه عن الدار ومن فيها فقال: صاحبها، فوالله ما التفت إلينا وقلَّ اكتراثه بنا، فكبسنا الدار كما أمرنا، فوجدنا داراً سرية ومقابل الدار ستر ما نظرت قط إلى أنبل منه، كأن الأيدي رفعت عنه في ذلك الوقت، ولم يكن في الدار أحد، فرفعنا الستر فإذا بيت كبير كأنه بحر ماء، وفي أقصى البيت حصير قد علمنا أنه على الماء، وفوقه رجل من أحسن الناس هيئة قائم يصلي، فلم يلتفت إلينا ولا إلى شيء من أسبابنا، فسبق أحمد بن عبد الله ليتخطى البيت فغرق في الماء، وما زال يضطرب حتى مددت يدي إليه فخلصته وأخرجته وغشي عليه وبقي ساعة، وعاد صاحبي الثاني إلى فعل ذلك الفعل فناله مثل ذلك، وبقيت مبهوتاً. فقلت لصاحب البيت: المعذرة إلى الله وإليك، فوالله ما علمت كيف الخبر ولا إلى من أجيء وأنا تائب إلى الله. فما التفت إلى شيء مما قلنا، وما انفتل عما كان فيه فهالنا ذلك وانصرفنا عنه.
وقد كان المعتضد ينتظرنا، وقد تقدم إلى الحُجَّاب إذا وافيناه أن ندخل عليه في أي وقت كان، فوافيناه في بعض الليل فأُدخلنا عليه، فسألنا عن الخبر فحكينا له ما رأينا، فقال: ويحكم لقيكم أحد قبلي وجرى منكم إلى أحد سبب أو قول؟ قلنا: لا، فقال: أنا نفيٌ من جدي، وحلف بأشد
أيمان له، أنه إن بلغ هذا الخبر رجلاً ليضربن أعناقنا، فما جَسرْنَا أن نحدث به إلا بعد موته).
أقول: النص المذكور مادة دراسة مهمة، ورشيق الذي بعثه بالمهمة، قائد مهم مقرب عند المعتضد (الطبري:8/97) وكذلك أحمد بن عبد الله.
المعتضد هو ابن الموفق الذي سيطر بعد موت أبيه على الجيش سنة 278، وفي تلك السنة أجبر عمه الخليفة المعتمد أن يعزل ابنه ويبايعه ولي عهده وفي السنة التالية مات عمه وقيل سمه المعتضد وصار هو الخليفة.
ويظهر أن هذه العملية التي أمر بها المعتضد على بيت الإمام (عليه السلام) في سامراء كانت في خلافته أي بعد نحو عشرين سنة من وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، ومعناها أن بيت الإمام (عليه السلام) استنقذ من جعفر وكان الإمام المهدي (عليه السلام) يتواجد فيه، ولا نعرف كيف تم استخلاصه.
وهناك مؤشرات على أن الشيعة كانوا يزورون قبر الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) وأن الدار كانت بيد سفراء الإمام المهدي (عليه السلام).
5. وفي كمال الدين (2/442): (عن محمد بن صالح بن علي بن محمد بن قنبر الكبير، مولى الرضا (عليه السلام)، قال: خرج صاحب الزمان على جعفر الكذاب من موضع لم يعلم به، عندما نازع في الميراث بعد مضي أبي محمد (عليه السلام) فقال له: يا جعفر مالك تعرض في حقوقي؟! فتحير جعفر وبُهت! ثم غاب عنه فطلبه جعفر بعد ذلك في الناس فلم يره! فلما ماتت الجدة أم الحسن أمرت أن تدفن في الدار فنازعهم وقال: هي داري لا تدفن فيها فخرج (عليه السلام) فقال: يا جعفر أدارك هي؟ ثم غاب عنه فلم يره بعد ذلك).
وفد قم الذين قبض الخليفة عليهم
في كمال الدين (2/476): (عن أبي الحسن علي بن سنان الموصلي قال: حدثني أبي قال: لما قبض سيدنا أبومحمد الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليهما، وَفَدَ من قم والجبال وُفُودٌ بالأموال التي كانت تحمل على الرسم والعادة، ولم يكن عندهم خبر وفاة الحسن (عليه السلام) فلما أن وصلوا إلى سر من رأى سألوا عن سيدنا الحسن بن علي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل لهم: إنه قد فُقد فقالوا: ومن وارثه؟ قالوا: أخوه جعفر بن علي فسألوا عنه فقيل لهم إنه قد خرج متنزهاً وركب زورقاً في الدجلة يشرب ومعه المغنون! قال: فتشاور القوم فقالوا: هذه ليست من صفة الإمام، وقال بعضهم لبعض: إمضوا بنا حتى نرد هذه الأموال على أصحابها! فقال أبوالعباس محمد بن جعفر الحميري القمي: قفوا بنا حتى ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره بالصحة. قال: فلما انصرف دخلوا عليه فسلموا عليه وقالوا: يا سيدنا نحن من أهل قم ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها، وكنا نحمل إلى سيدنا أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) الأموال فقال: وأين هي؟ قالوا: معنا، قال: إحملوها إليَّ، قالوا: لا، إن لهذه الأموال خبراً طريفاً، فقال: وما هو؟ قالوا: إن هذه الأموال تجمع ويكون فيها من عامة الشيعة الدينار والديناران، ثم يجعلونها في كيس ويختمون عليه، وكنا إذا وردنا بالمال على سيدنا أبي محمد (عليه السلام) يقول: جملة المال كذا وكذا
ديناراً، من عند فلان كذا، ومن عند فلان كذا، حتى يأتي على أسماء الناس كلهم، ويقول ما على الخواتيم من نقش.
فقال جعفر: كذبتم تقولون على أخي ما لا يفعله، هذا علم الغيب ولا يعلمه إلا الله. قال: فلما سمع القوم كلام جعفر جعل بعضهم ينظر إلى بعض فقال لهم: احملوا هذا المال إليَّ، قالوا: إنا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب المال ولا نسلم المال إلا بالعلامات التي كنا نعرفها من سيدنا الحسن بن علي (عليهما السلام)، فإن كنت الإمام فبرهن لنا وإلا رددناها إلى أصحابها يرون فيها رأيهم. قال: فدخل جعفر على الخليفة وكان بسر من رأى فاستعدى عليهم، فلما أُحْضِروا قال الخليفة: إحملوا هذا المال إلى جعفر، قالوا: أصلح الله أمير المؤمنين، إنا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب هذه الأموال، وهي وداعة لجماعة، وأمرونا بأن لا نسلمها إلا بعلامة ودلالة وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام)!
فقال الخليفة: فما كانت العلامة التي كانت مع أبي محمد قال القوم: كان يصف لنا الدنانير وأصحابها والأموال وكم هي؟فإذا فعل ذلك سلمناها إليه، وقد وفدنا إليه مراراً فكانت هذه علامتنا معه ودلالتنا، وقد مات فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر فليقم لنا ما كان يقيمه لنا أخوه، وإلا رددناها إلى أصحابها!
فقال جعفر: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قوم كذابون يكذبون على أخي وهذا علم الغيب. فقال الخليفة: القوم رسل وما على الرسول إلا البلاغ المبين. قال: فبهت جعفر ولم يرد جواباً!
فقال القوم: يتطول أمير المؤمنين بإخراج أمره إلى من يبدرقنا حتى نخرج من هذه البلدة، قال: فأمر لهم بنقيب فأخرجهم منها، فلما أن خرجوا من البلد خرج إليهم غلام أحسن الناس وجهاً كأنه خادم، فنادي يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان أجيبوا مولاكم، قال فقالوا: أنت مولانا، قال: معاذ الله أنا عبد مولاكم فسيروا إليه، قالوا: فسرنا معه حتى دخلنا دار مولانا الحسن بن علي (عليهما السلام)، فإذا ولده القائم سيدنا (عليه السلام) قاعد على سرير كأنه فلقة قمر، عليه ثياب خضر فسلمنا عليه فرد علينا السلام ثم قال: جملة المال كذا وكذا ديناراً حمل فلان كذا، وفلان كذا، ولم يزل يصف حتى وصف الجميع.
ثم وصف ثيابنا ورحالنا وما كان معنا من الدواب، فخررنا سُجَّداً لله (عزَّ وجلَّ) شكراً لما عرفنا وقبلنا الأرض بين يديه وسألناه عما أردنا فأجاب، فحملنا إليه الأموال، وأمرنا القائم (عليه السلام) أن لا نحمل إلى سر من رأى بعدها شيئاً من المال، فإنه ينصب لنا ببغداد رجلاً تُحمل إليه الأموال وتَخرج من عنده التوقيعات، قال فانصرفنا من عنده، ودفع إلى أبي العباس محمد بن جعفر القمي الحميري شيئاً من الحنوط والكفن فقال له: أعظم الله أجرك في نفسك، قال: فما بلغ أبوالعباس عقبة همدان
حتى توفي (رحمه الله). وكنا بعد ذلك نحمل الأموال إلى بغداد إلى النواب المنصوبين بها، وتَخرج من عندهم التوقيعات.
قال مصنف هذا الكتاب (رضي الله عنه): هذا الخبر يدل على أن الخليفة كان يعرف هذا الأمر كيف هو، وأين موضعه، فلهذا كف عن القوم عما معهم من الأموال، ودفع جعفراً الكذاب عن مطالبتهم ولم يأمرهم بتسليمها إليه، إلا أنه كان يحب أن يَخفى هذا الأمر ولا ينشر لئلا يهتدي إليه الناس فيعرفونه! وقد كان جعفر الكذاب حمل إلى الخليفة عشرين ألف دينار لما توفي الحسن بن علي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا أمير المؤمنين تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته! فقال الخليفة: إعلم أن منزلة أخيك لم تكن بنا، إنما كانت بالله (عزَّ وجلَّ) ونحن كنا نجتهد في حط منزلته والوضع منه، وكان الله (عزَّ وجلَّ) يأبى إلا أن يزيده كل يوم رفعة لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة، فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك لم نغنك في ذلك شيئاً).
وفد قمي آخر رده الإمام (عليه السلام) قبل وصوله
في الهداية الكبرى/342: (عن أحمد بن داود القمي، ومحمد بن عبد الله الطلحي، قالا: حملنا ما جمعنا من خمس ونذور وبر من غير ورق وحلي وجوهر وثياب من بلاد قم وما يليها، وخرجنا نريد سيدنا أبا محمد الحسن (عليه السلام) فلما وصلنا إلى دسكرة الملك تلقانا رجلٌ راكبٌ على جمل،
ونحن في قافلة عظيمة فقصد إلينا وقال: يا أحمد الطلحي معي رسالة إليكم، فقلنا من أين يرحمك الله، فقال: من سيدكم أبي محمد الحسن (عليه السلام) يقول لكم: أنا راحل إلى الله مولاي في هذه الليلة فأقيموا مكانكم حتى يأتيكم أمر ابني محمد، فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وقرحت أجفاننا لذلك ولم نظهره. وتركنا المسير، واستأجرنا بدسكرة الملك منزلاً وأخذنا ما حملنا إليه، وأصبحنا والخبر شائع بالدسكرة بوفاة مولانا أبي محمد الحسن (عليه السلام)، فقلنا لا إله إلا الله ترى الرسول الذي أتانا بالرسالة أشاع الخبر في الناس، فلما تعالى النهار رأينا قوماً من الشيعة على أشد قلق لما نحن فيه، فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره، فلما جَن علينا الليل جلسنا بلا ضوء حزناً على سيدنا الحسن (عليه السلام)، نبكي ونشكي إلى فقده، فإذا نحن بيدٍ قد دخلت علينا من الباب فضاءت كما يضيء المصباح وهي تقول: يا أحمد هذا التوقيع إعمل به وبما فيه، فقمنا على أقدامنا وأخذنا التوقيع فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: من الحسن المسكين لله رب العالمين، إلى شيعته المساكين: أما بعد، فالحمد لله على ما نزل منه ونشكره إليكم جميل الصبر عليه، وهوحسبنا في أنفسنا وفيكم، ونعم الوكيل، ردوا ما معكم ليس هذا أوان وصوله إلينا، فإن هذا الطاغي قد دنت غشيته إلينا، ولوشئنا ما ضركم، وأمرنا يرد عليكم، ومعكم صرة فيها سبعة عشر ديناراً في خرقة حمراء، إلى أيوب بن سليمان، الآن
فردوها فإنه حملها ممتحناً لنا بها بما فعله، وهوممن وقف عند جدي موسى بن جعفر (عليهما السلام) فردوا صرته عليه، ولا تخبروه!
فرجعنا إلى قم، فأقمنا بها سبع ليال ثم جاءنا أمر ابنه: قد بعثنا إليكم إبلاً غير إبلكم، إحملا ما قِبَلَكُما عليها واخليا لها السبيل، فإنها واصلةٌ إليَّ! وكانت الإبل بغير قائد ولا سائق، على وجه الأول منها بهذا الشرح، وهو مثل الخط الذي بالتوقيع التي أوصلته إلى الدسكرة، فحملنا ما عندنا واستودعناه وأطلقناهم، فلما كان من قابل خرجنا نريده (عليه السلام) فلما وصلنا إلى سامرا دخلنا عليه فقال لنا: يا أحمد ومحمد، أدخلا من الباب الذي بجانب الدار، وانظرا ما حملتماه على الإبل، فلا تفقدا منه شيئاً. فدخلنا من الباب فإذا نحن بالمتاع كما وعيناه وشددناه لم يتغير، فحللناه كما أمرنا وعرضنا جمعه، فما فقدنا منه شيئاً، فوجدنا الصرة الحمراء والدنانير فيها بختمها، وكنا قد رددناها على أيوب، فقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلنا: إنها من سيدنا، فصاح بنا من مجلسه: فما لكما بدت لكما سؤاتكما! فسمعنا الصوت فأتينا إليه فقال: من أيوب، وقتَ وردت الصرة عليه فقبل الله إيمانه وقبل هديته، فحمدنا الله وشكرناه على ذلك، فكان هذا من دلائله (عليه السلام)).
رأي الإمام المهدي (عليه السلام) في عمه جعفر
في كمال الدين/483: (حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكليني (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني (رضي الله عنه)، عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (عليه السلام): أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا، فاعلم أنه ليس بين الله (عزَّ وجلَّ) وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني، وسبيله سبيل ابن نوح (عليه السلام).
أما سبيل عمي جعفر وولده، فسبيل إخوة يوسف (عليه السلام).
وأما الفقاع فشربه حرام، ولا بأس بالشلماب.
وأما أموالكم فلا نقبلها إلا لتطهروا، فمن شاء فليصل ومن شاء فليقطع، فما آتاني الله خير مما آتاكم.
وأما ظهور الفرج فإنه إلى الله تعالى ذكره، وكذب الوقاتون.
وأما قول من زعم أن الحسين (عليه السلام) لم يقتل، فكفر وتكذيب وضلال.
وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم.
وأما محمد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) وعن أبيه من قبل، فإنه ثقتي وكتابه كتابي. وأما محمد بن علي بن مهزيار الأهوازي فسيصلح الله له قلبه، ويزيل عنه شكه.
وأما ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلا لما طاب وطهر، وثمن المغنية حرام.
وأما محمد بن شاذان بن نعيم، فهو رجل من شيعتنا أهل البيت.
وأما أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع فملعون، وأصحابه ملعونون، فلا تجالس أهل مقالتهم فإني منهم بريء وآبائي (عليهم السلام) منهم براء.
وأما المتلبسون بأموالنا، فمن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران.
وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث.
وأما ندامة قوم قد شكوا في دين الله (عزَّ وجلَّ) على ما وصلونا به، فقد أقلنا من استقال، ولا حاجة لنا في صلة الشاكين.
وأما علة ما وقع من الغيبة، فإن الله (عزَّ وجلَّ) يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). إنه لم يكن لأحد من آبائي (عليهم السلام) إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإني أخرج حين أخرج، ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي.
وأما وجه الإنتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيبتها عن الأبصار السحاب، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فأغلقوا باب السؤال عما لا يعنيكم، ولا تتكلفوا علم ما قد كفيتم، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم.
والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب، وعلى من اتبع الهدى).
ملاحظات
1. هذا التوقيع صحيح السند، ويدل على وثاقة إسحاق بن يعقوب رواية هؤلاء الأجلاء عنه وعلو المتن. وقد صححه الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في كتاب القضاء/34، فقال: (وقوله (عليه السلام) في التوقيع الرفيع: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، عيَّن المرجع في مقام جواب السؤال عنه في الرواة، فيدل على الحصر).
2. قوله (عليه السلام): (ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح (عليه السلام)، وأما سبيل عمي جعفر وولده، فسبيل إخوة يوسف (عليه السلام)).
تعبيٌر دقيق عن الطريق الذي يسلكه منكروا إمامة الإمام المهدي صلى الله عليه لكن لم يبين الى أين وصلوا أو يصلون. وقد تمسك بعضهم بهذا الحديث للقول بنجاة جعفر الكذاب وأولاده، لأن إخوة يوسف (عليه السلام) قد تابوا وأنجاهم الله تعالى بعد حسدهم ليوسف، وكيدهم له.
والحق أن أكثر أولاد جعفر قد نجوا وقالوا بإمامة الإمام المهدي والأئمة الطاهرين (عليهم السلام). أما هو فقد رووا توبته ولم تثبت عندي، فالله أعلم به.
3. الفقاع الحرام المعروف باسم البيرة. والشلماب: أصله شليم آب، ومعناه ماء الشليم، والشليم شبيه الشعير، ولعله الدُّخْن.
4. قوله (عليه السلام): (وأما أموالكم فلا نقبلها إلا لتطهروا، فمن شاء فليصل ومن شاء فليقطع، فما آتاني الله خير مما آتاكم). يتفق مع عقيدتنا في مقام الإمام عند الله تعالى، وما أعطاه من معجزات، وأن الأرض كلها له (عليه السلام).
5. قوله (عليه السلام): (وأما ظهور الفرج فإنه إلى الله تعالى ذكره، وكذب الوقاتون). يتفق مع أحاديث متواترة في أن ظهوره (عليه السلام) من غيب الله تعالى، والنهي عن تحديد وقته، نعم ذكر النبي والأئمة (صلى الله عليه وآله وسلم) علامات.
6. قوله (عليه السلام): (وأما قول من زعم أن الحسين (عليه السلام) لم يقتل، فكفر وتكذيب وضلال). يدل على القول بغياب الحسين (عليه السلام) وأنه سيظهر، قد يكون كفراً، أو تكذيباً لقول المعصومين (عليهم السلام)، أو ضلالاً عن الحق.
7. قوله (عليه السلام): (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم). فهو دليل على المرجعية عند الشيعة للفقهاء المتخصصين بالقرآن الخبراء بحديث النبي وأهل البيت (عليهم السلام).
8. قوله (عليه السلام): (وأما محمد بن علي بن مهزيار الأهوازي فسيصلح الله له قلبه، ويزيل عنه شكه). وقد أصلحه الله تعالى وألحقه بأبيه رحمهما الله.
9. قوله (عليه السلام): (وأما المتلبسون بأموالنا، فمن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران. وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث).
أوجب الله الخمس على المسلمين قبل بدر، ونزلت آيته في سورة الأنفال ببدر، وهو فريضة واسعة تشمل كل ما يغنمه الإنسان، فيجب أن يعطي خمس كل مدخوله الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم الى الإمام المعصوم من عترته (عليهم السلام).
وبما أنه يحق لصاحب الخمس (عليه السلام) رفعه، فقد وردت الرواية بتحليله أو تحليل بعض موارده لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) حتى لا يكونوا في حرج.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (هلك الناس في بطونهم وفروجهم، لأنهم لا يؤدون إلينا حقنا، ألا وإن شيعتنا من ذلك وأبناءهم في حل). (علل الشرائع:2/377).
لكن أخبار التحليل لا تعني سقوط فريضة الخمس في عصرنا ولا في غيره، ولذلك طالب بها الأئمة (عليهم السلام) وأخذوها من الشيعة في عصور مختلفة.
10. قوله (عليه السلام): (وأما علة ما وقع من الغيبة، فإن الله (عزَّ وجلَّ) يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ..) الخ).
يدل ذلك على أن غيبة المعصوم (عليه السلام) عقوبة للأمة تنتج عن أوضاع سيئة فيها، ولم يرد الإمام (عليه السلام) الإفاضة فيها، لأنها تسوء السائلين عنها.
11. قوله (عليه السلام): (وأما وجه الإنتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فأغلقوا باب السؤال عما لا يعنيكم، ولا تتكلفوا علم ما قد كفيتم، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإن ذلك فرجكم).
دلت الأحاديث الصحيحة على أن وجود المعصوم (عليه السلام) ظاهراً أو مستوراً ضرورة تكوينية لعمل قوانين الطبيعة، فلو خَليت الأرض من معصوم لخربت وساخت بأهلها. ونحن نؤمن بذلك ولو لم نعرف وجهه.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (مثل أهل بيتي كمثل نجوم السماء، فهم أمان لأهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم طويت السماء، وإذا ذهب أهل بيتي خربت الأرض، وهلك العباد). (المعتبر:1/23).
ومعنى: لا يعنيكم: لا يمكنكم فهمه واستيعابه أو يشق عليكم، فلا تتكلفوه.
وقوله: فإن ذلك فَرَجَكم، يدل على تأثير دعائنا فينا بتعجيل الفرج، أما تأثيره على مقادير الله تعالى في وقت الفرج، فهو بعيد.
قبري أمان لأهل الجانبين
روى الشيخ الطوسي في التهذيب (6/93) بسند صحيح: (عن أبي هاشم الجعفري قال: قال لي أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام): قبري بسرَّ من رأى أمانٌ لأهل الجانبين).
وقال العلامة الحلي (رحمه الله) في تذكرة الفقهاء (8/455): (تستحب زيارة الإمام أبي الحسن علي بن محمد الهادي (عليهما السلام)، وولده الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام). قال أبو هاشم الجعفري: قال أبو محمد الحسن بن علي (عليهما السلام): قبري بسر من رأى..).
وفسره في الوافي (14/1562): (يعني أهل البلاد التي من جانبي القبر).
وفي روضة المتقين (5/402): (الخاصة والعامة أو عراق العرب والعجم).
والصحيح أنه يقصد جانبي نهر دجلة، والقدر المتيقن من هذا الأمان التأمين من الخسف والزلازل الكبيرة، وأن وجود البلد محفوظ منها ببركة هذا القبر. وقد ورد شبيهه في بغداد ببركة قبر الإمام الكاظم (عليه السلام) وقبور الحسينيين فيها.
كما ورد في حفظ قم ببركة قبر زكريا بن آدم الأشعري (رحمه الله).