أربع رسالات في الغيبة
الرسالة الثالثة في الغيبة
تأليف: الامام الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان
ابن المعلم ابي عبد الله العكبري البغدادي (336 – 413هـ)
تحقيق: علاء آل جعفر
الفرق بين الائمة وصاحب الزمان في ظهورهم (عليهم السلام) وغيبته (عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
يأتي موضوع هذه الرسالة في الرتبة بعد الرسالتين السابقتين، فبعد أن ثبت لزوم وجود الامام، وثبت بالدليل وجود صاحب الزمان (عليه السلام) وغيبته.
عرض السائل في هذه الرسالة: سؤال الفرق بين الامام (عليه السلام) وبين الائمة من آبائه (عليه السلام)، حيث ظهروا سلام الله عليهم، وغاب هو (عليه السلام)، وكانه سمع أن علة الغيبة هي (الخوف من الظالمين) فانبرى للاعتراض، وقد وجه بعض السائلين بهذا الاعتراض إلى الشيخ قائلا: (سألتك أدام الله على الجواب عن ذلك).
وحاصل السؤال: إذا كان السبب في الغيبة - التي طالت مدتها، وامتدت بها الايام - هو كثرة الاعداء والخوف على نفسه منهم، فقد كان الزمن الاول على الائمة من أبائه أصعب، وكان اعداؤهم أكثر، والخوف على أنفسهم أشد واكثر، ومع ذلك فانهم كانوا ظاهرين، ولم يستتروا، ولا غابوا عن شيعتهم، حتى أتاهم اليقين فهذا يبطل هذه العلة في الغيبة.
وأجاب الشيخ: باختلاف الحالتين، حالة صاحب الزمان (عليه السلام)، و
حالة الائمة من آبائه (عليهم السلام).
إن الذي يظهر من أحوال الائمة الماضين (عليهم السلام) أنهم ابيحت لهم التقية من الاعداء، ولم يكتفوا بالقيام بالسيف مع الظهور، لعدم مصلحة في ذلك، ولم يكونوا ملزمين بالدعوة، بل كانت المصلحة تقتضي الحضور في مجالس الاعداء، والخالطة لهم، ولهذا أذاعوا تحريم إشهار السيوف عنهم، وحظر الدعوة إليها، لئلا يزاحم الاعداء ظهورهم وتواجدهم بين الناس.
وقد أشاروا إلى مجيء منتظر يكون في أخر الزمان، إمام منهم، يكشف الله به الغمة، ويحيي به السنة، يهدي به الاقة، لا تسعه التقية عند ظهوره. وقد ذكر الشيخ في هذا المورد عدة من علامات الظهور. [وقد ذكر الشيخ في هذا المورد عدة من علامات الظهور.] فلما ظهر ذلك من السلف من آباء صاحب الزمان (عليهم السلام)، وتحقق عند سلطان كل زمان وملك كل أو ان، علموا من الائمة الماضين (عليهم السلام) انهم لا يتدينون بالقيام بالسيف، ولا يرون الدعاء إلى أنفسهم ، وأنهم ملتزمون بالتقية، وكف اليد، وحفظ اللسان، والتوفر على العبادات، والانقطاع إلى الله بالأعمال الصالحات.
لما عرف الظالمون من الائمة هنه الحالات: أمنوهم على أنفسهم، مطمئنين بذلك إلى ما يدبرونه من شؤون أنفسهم، ويحققوه من دياناتهم، وكفهم ذلك عن الظهور والانتشار، واستغنوا به عن الغيبة والاستتار.
لكن إمام هذا الزمان (عليه السلام) لما كان هو المشار إليه بسل السيف، والجهاد لأعدائه، وأنه هو المهدي الذي يظهر الله به الحق، ويبيد بسيفه الضلال، كان الاعداء يترصدونه، ويبغون قتله، ويطلبون قتله وسفك دمه.
وحيث لم يكن أنصاره متهيئين إلى وقت ظهوره، لزمته التقية، وفرضت عليه الغيبة، إذ لو ظهر بغير أعوان لألقى نفسه بيده إلى التهلكة، ولو أظهر
نفسه في غير وقته لم بأل الاعداء جهدا في استئصاله وجميع شيعته وإراقة دمائهم على الاستحلال.
ولما ثبتت عصمته بأدلتها وجب استتاره من أعدائه حتى يعلم - يقينا لا شك فيه - حضور الاعوان واجتماع الانصار وتكون المصلحة العامة في ظهوره بالسيف.
فافترقت حاله عن حال آبائه الائمة (عليهم السلام).
ثم إن الشيخ عارض الخصوم ببيان أحوال النبي (صلى الله عليه وآله) وسيرته الشريفة حيث أقام في مكة ثلاثة عشر سنة، لا يرى سل السيف ولا الجهاد، وتصبر على التكذيب، وصنوف الاذى، وتعذيب أصحابه بأنواع العذاب وكان المسلمون يسالونه الاذن لهم في سل السيف ومباينة الاعداء فيمنعهم ويأمرهم بالصبر، ولم يزل كذلك حتى طلب من النجاشي ملك الحبشة أن يخفر أصحابه من قريش، ثم أخرجهم إليه واستتر خائفا على دمه في شعب أبي طالب، ثلاث سنين، ثم هرب من مكة بعد موت عمه أبي طالب مستخفيا، وأقام في الغار ثلاثة أيام، ثم هاجر إلى المدينة.
وهناك رأى القيام بالسيف واستنفر أصحابه، وهم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، ولقي بهم ألف رجل من أهل بدر ورفع التقية عن نفسه، إذ ذاك.
وسرد الشيخ حوادث عديدة من السيرة الشريفة، ثم قال: فلم لم يقاتل في مكة؟. وماله صبر على الاذى؟ ولم منع أصحابه من الجهاد وقد بذلوا انفسهم في نصرة الاسلام؟ وما الذى اضطره إلى الاستجارة بالنجاشي؟
لم وما الذي دعاه إلى القتال بأصحابه مع قلة عددهم وتثاقل بعضهم؟ وما
وجه اختلاف أحواله وأعماله في هذه المواضع؟
فما كان في ذلك جوابكم فهو جوابنا! في الفرق بين الائمة (عليهم السلام) وبين صاحب الزمان (عليه السلام) في الظهور والغيبة.
والوجه عندنا واضح، وهو التعبد - في كل الاحوال - بما أمرهم الله تعالى، وما قرره عليهم من العمل والسيرة، طبقا للمصالح التي هي لعامة الخلق، والمعصومون (عليهم السلام) عباده المكرب ن لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
وقد ورد مثل هذه المعارضة في كلمات السابقين، فلاحظها في إكمال الدين للصدوق.
والله الموفق للصواب.
وكتب السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
الصفحة الاولى من النسخة (م)
الصفحة الاخيرة من النسخة (م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال(1) الشيخ المفيد رضي الله عنه: حضرت مجلس رئيس من الرؤساء، فجرى كلام في الامامة، فانتهى إلى القول في الغيبة.
فقال صاحب المجلس: أليست الشيعة تروي عن جعفر بن محمد (عليه السلام): انه لو اجتمع للإمام عدة اهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا لوجب عليه الخروج بالسيف(2)؟
فقلت: قد روي هذا الحديث.
قال: أو لسنا نعلم يقينا ان الشيعة في هذا الوقت اضاف عدة اهل بدر، فكيف يجوز للإمام الغيبة مع الرواية التي ذكرناها؟
فقلت له: ان الشيعة وان كانت في وقتنا كثيرا عددها حتى تزيد على عدة اهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في نسخة (م) و(ث): مسألة اخرى في الغيبة من املائه رضي الله عنه.
(2) انظر: عيون اخبار الرضا (عليه السلام) 1: 63، كمال الدين 2: 654 / 21 و2: 672 / 25، تفسير علي بن ابراهيم 1: 323، غيبة النعماني: 315 / 9.
بدر اضعافا مضاعفة، فان الجماعة التي (عدتهم عدة اهل بدر إذا اجتمعت)(3)، فلم يسع الامام التقية ووجب عليه الظهور. لم تجتمع في هذا الوقت، ولا حصلت في هذا الزمان بصفتها وشروطها. وذلك انه يجب ان يكون هؤلاء القوم معلوم من حالهم الشجاعة، والصبر على اللقاء، والاخلاص في الجهاد، ايثار الاخرة على الدنيا، ونقاء السرائر من العيوب، وصحة العقول(4)، وانهم لا يهنون ولا ينتظرون عند اللقاءة ويكون العلم من الله تعالى بعموم المصلحة في ظهورهم بالسيف. وليس كل الشيعة بهذه الصفة، ولو علم الله تعالى ان في جملتهم العدد المذكور على ما شرطناه لظهر الامام (عليه السلام) لا محاله، ولم يغب بعد اجتماعهم طرفة عين، لكن المعلوم خلاف ما وصفناه، فلذلك ساغ للإمام الغيبة على ما ذكرناه.
قال: ومن اين لنا ان شروط القوم على ما ذكرت، وان كانت شروطهم هذه فمن اين لنا ان الامر كما وصفت؟
فقلت: إذا ثبت وجوب الامامة وصحت الغيبة لم يكن لنا طريق إلى تصحيح الخبر الا بما شرحناه، فمن حيث قامت دلائل الامامة والعصمة وصدق الخبر حكمنا بما ذكرناه.
ثم قلت: ونظير هذا الامر ومثاله ما علمناه من جهاد النبي (صلى الله عليه وآله) أهل بدر بالعدد اليسير الذين كانوا معه واكثرهم اعزل راجل، ثم قعد عليه وآله السلام في عام الحديبية ومعه من اصحابه اضعاف اهل بدر في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) في نسخة (م) و(ث): إذا اجتمعت على عدة اهل بدر و.
(4) في نسخة (م): العقود.
العدد، وقد علمنا انه (صلى الله عليه وآله وسلّم) مصيبا في الامرين جميعا، وانه لو كان المعلوم من اصحابه في عام الحديبية ما كان المعلوم منهم في حال بدر لما وسعه القعود والمهادنة، ولوجب عليه الجهاد كما وجب عليه قبل ذلك ولو وجب عليه ما تركه لما ذكرناه من العلم بصوابه وعصمته على ما بيناه.
فقال: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يوحى(5) إليه فيعلم بالوحي العواقب، ويعرف الفرق من صواب التدبير وخطأه بمعرفة ما يكون، فمن قال في علم الامام بما ذكرت، وما طريق معرفته بذلك؟
فقلت له: الامام عندنا معهود إليه، موقف على ما يأتي وما يذكر، منصوب له امارات تدله على العواقب في التدبيرات والصالح في الافعال، وانما حصل له العهد بذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله) الذي يوحى إليه ويطلع على علم السماء، ولو لم نذكر هذا الباب واقتصرنا على انه متعبد في ذلك بغلبة الظن وما يظهر له من الصلاح لكفى واغنى وقام مقام الاظهار على التحقيق كائنا ما كان(6) بلا ارتياب، لا سيما على مذهب المخالفين في الاجتهاد. وقولهم في رأي النبي (صلى الله عليه وآله) وان كان المذهب ما قدمناه.
فقال: لم لا يظهر الامام وان ادي ظهوره إلى قتله فيكون البرهان له والحجة في امامته اوضح، ويزول الشك في وجوده بلا ارتياب؟
فقلت: انه لا يجب ذلك (عليه السلام)، كما لا يجب على الله تعالى معاجلة العصاة بالنقمات واظهار الآيات في كل وقت متتابعات، وان كنا نعلم انه لو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عاجل العصاة لكان البرهان على قدرته اوضح، والامر في نهيه اوكد، والحجة في قبح خلافه ابين، ولكان بذلك الخلق عن معاصيه ازجر، وان لم يجب ذلك عليه ولا في حكمته وتدبيره لعلمه بالمصلحة فيه على التفضيل، فالقول في الباب الاول مثله على انه لا معنى لظهور الامام في وقت يحيط العلم فيه بأن ظهوره منه فساد، وانه لا يؤول إلى اصلاح، وانما يكون ذلك حكمة وصوابا إذا كانت عاقبته الصلاح. ولو علم (عليه السلام) ان في ظهوره صلاحا في الدين مع مقامه في العالم أو هلاكه وهلاك جميع شيعته وانصاره لما ابقاه طرفة عين، ولا فتر عن المسارعة، إلى مرضاة الله جل اسمه، لكن الدليل على عصمته كاشف عن معرفته لرد هذه الحال عند ظهوره في هذا الزمان بما قدمناه من ذكر العهد إليه، ونصب الدلائل والحد والرسم المذكورين له في الافعال.
فقال: لعمري ان هذه الاجوبة على الاصول المقررة لأهل الامامة مستمرة، والمنازع فيها - بعد تسليم الاصول - لا ينال شيئا ولا يظفر بطائل.
فقلت: من العجب انا والمعتزلة نوجب الامامة، ونحكم بالحاجة إليها في كل زمان، ونقطع بخطأ من اوجب الاستغناء عنها في حال بعد النبي (ص)، وهم دائما يشنعون علينا بالقول في الغيبة ومرور الزمان بغير ظهور امام، وهم انفسهم يعترفون بأنهم لا امام لهم بعد أمير المؤمنين (ع) إلى هذا الزمان، ولا يرجون اقامة امام في قرب هذا من الاوان، فعلى كل حال نحن اعذر في (القول بالغيبة)(7) واولى بالصواب عند الموازنة للأصل الثابت من وجوب الامام، ولدفع الحاجة إليها في كل أوان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) في نسخة (ق): الغيبة.
فقال: هؤلاء القوم وان قالوا بالحاجة إلى الامام فعذرهم واضح في بطلان الاحكام لعدم غيبة الامام الذي يقوم بالا حكام، وانتم تقولون ان ائمتكم (عليهم السلام) قد كانوا ظاهرين إلى وقت زمان الغيبة عندكم، فما عذركم في ترك اقامة الحدود وتنفيذ الاحكام.
فقلت له: ان هؤلاء القوم وان اعتصموا في تضييع الحدود والاحكام بعد الائمة الذين يقومون بها في الزمان، فأنهم يعترفون بان في كل زمان طائفة منهم من اهل الحل والعقد قد جعل إليهم اقامة الامام الذي يقوم بالحدود وتنفيذ الاحكام، فما عذرهم عن كفهم عن اقامة الامام وهم موجودون معروفو الاعيان، فان وجب عليهم لوجودهم ظاهرين في كل زمان اقامة الامام المنفذ للأحكام، وعانوا ترك ذلك في طول هذه المدة عاصين ضالين عن طريق الرشاد كان لنا بذلك عليهم(8) ولن يقولوا بهذا ابدا، وأن كان لهم عذر في ترك اقامة الامام، وان كانوا في كل وقت موجودين، فذلك العذر لا أئمتنا (عليهم السلام) في ترك اقامة الحدود وان كانوا موجودين في كل زمان، على ان عذر ائمتنا (عليهم السلام) في ترك اقامة الاحكام اوضح واظهر من عذر المعتزلة في ترك نصب الامام، لانا نعلم يقينا بلا ارتياب ان كثيرا من اهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد شردوا عن اوطانهم، وسفكت دماؤهم، والزم الباقون منهم الخوف على التوهم عليهم انهم يرون الخروج بالسيف وانهم ممن إليهم الاحكام، ولم ير أحد من المعتزلة ولا الحشوية سفك(9) دمه، ولا شرد عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) في نسخة (ق): قال، وفي نسختي (ث)، و(م): فقال. ولم نثبت اي منهما لعدم اتفاقهما مع السياق.
(9) في نسخة (م) و(ث): سقط.
وطنه، ولا خيف على التوهم عليه والتحقيق منه انه يرى في قعود الائمة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هؤلاء القوم يصرحون في المجالس بأنهم اصحاب الاختيار، وان إليهم الحل والعقد والانكار على الطاعة، وان من مذهبهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضا لازما على اعتقادهم، وهم مع ذلك امنون من السلطان، غير خائفين من نكره عليهم من هذا المقال.
فبان بذلك أنه لا عذر لهم في ترك اقامة الامام، وان العذر الواضح الذي لا شبهة فيه حاصل لائمتنا (عليهم السلام) من ترك اقامة الحدود وتنفيذ الاحكام لما بيناه من حالهم ووصفناه وهذا واضح. (فلم يأت بشيء ولله الحمد ولرسوله وآله الصلاة والسلام)(10).
والله الموفق للصواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) ما بين القوسين لم يرد في نسختي (م) و(ث).