إيقاظ النائم في رؤية الإمام القائم (عليه السلام)
تأليف: السيد عادل العلوي
الفهرس
الإهداء
إيقاظ النائم في رؤية الإمام القائم
هل يمكن لقاء الإمام صاحب الأمر
وصايا الوالد لولده
التعارض بين توقيع الشريف وبين الاخبار والقصص
حكاية مسجد جمكران
حكاية لقاء السيد بحر العلوم في مسجد السهلّة
حكاية (ضمنّي الي صدره)
حكاية سلام الحجة علي أبيه
حكاية (وقبّل يده وأركبه جمله)
حكاية لقاءه في سرداب
حكاية (صلاة الجماعة في مسجد السهلة)
حكاية (الشيخ محمد حسين ومسجد الكوفة)
وجوه رفع التعارض بين الخبر الشريف وبين الحكايات
وختامه مسك
الى سيّدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين (عليهم السلام) إلي شبابنا المتعطش لمعارف الإسلام جيلاً بعد جيل إليكم يا شباب الامّة الإسلامية المعاصرة إلي كل شاب وشابه أقدّم هذا المجهود المتواضع برجاء القبول والدعاء والشفاعة.
العبد
عادل بن السيد علي العلوي
الحوزة العلمية - قم المقدّسة
إيقاظ النائم في رؤية الامام القائم
بسم الله الرحمن الرحيم
إيقاظ النائم في رؤية الإمام القائم (عليه السلام)(1).
الحمد لله السميع البصير، المهدي الخبير، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله السّراج المنير سيد الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعلى آله سادة الخلق أجمعين، لا سيما بقية الله في الأرضين صاحب الزمان، وقطب عالم الامكان الإمام الثاني عشر الحجة المهدي المنتظر عجل الله فرجه.
أمّا بعد:
فقد قال الله الحكيم في محكم كتابه الكريم (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) (الملك: 30).
من دعاء زمن الغيبة الكبرى:
(اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني، اللهم لا تمتني ميتة الجاهلية).
ورد في الحديث النبوي الشريف: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): من لم يعرف امام زمانه مات ميتة الجاهلية ميتة كفر وضلال ونفاق.
إنّ من لم يعرف إمام زمانه بمعرفة عقدّية وإيمانية قلبيّة كمعرفة الله ومعرفة رسوله، فيعرفهُ بالإمامة الخلافة والوصاية لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ الإمامة امتداد للنّبوة في حفظها وصيانتها وضياعها وشرها وتبليغها وقيامها بين الناس وتطبيقها في المجتمع، كما أن النبوة امتداد للتوحيد، فمن لم يعرف إمام زمانه بهذه المعرفة ولم يرتبط معه برابطة الولاء والإمامة والطاعة، فإنه لم يعمل بوصايا الأنبياء والمرسلين، فضلاً من عمله بوصية الله العالمين، ولا شك من كان كذلك سيكون مولده وميتته ميتة الجاهلية، أي يبتني موته على أساس الجهل دون العقل والعلم.
ولمّا كان الموت عصارة الحياة ونتيجتها، فمن كان موته جاهليّاً، فإنه لا ريب كانت حياته حينئذٍ كلّها حياة جاهليّة، كما ورد في الخبر النبي الشريف (كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تعيشون (عوالي اللألئ 4:72).
وإذا كانت حياته ومعيشته جاهلية، فإن لازمه أن تكون نواحي حياته وشؤونها وجوانبها كلّها في دائرة الجهالة.
ولا شك أن الجهل من الظلمات. كما في حديث جنود العقل وجنود الجهل - فتكون حياته حينئذ حياة ظلمانية لا نور فيها، فيتخبط في الجهل والظلمات، ولم يكن له نور فما له من هادٍ حتى آخر مرحلة من حياته، وبطبيعة الحال سيموت جاهلاً، ولا يمكن أن تكون حياته حياة معقولة بطابع نوري ووضوح في التصرفات والحركة والسكون والأقدام والاحجام، فإن العقل خلقه من النور.
ومن لم تكن حياته نورية وعقلانية كان موته موت الجاهلية، فإن الموت الجاهلي ثمرة الحياة الجاهلية اللامعقولة، ومن كانت حياته معقولة - والعقل ما عبد به الرحمن اكتسب به الجنان - فإن لا مجالة تكون ثمرة حياته إلى موته موتاً عقلانياً ونورياً ويكون قيامته حينئذ - وإذا مات المرء قامت قيامته - قيامة نورية، فنوره في قبره وبرزخه ويوم الحشر يسعى بين يديه حتى يأخذه إلى بطنان العرش، في مقعد صدق عند مليك مقتدر في ظل عرش الله سبحانه.
فحياة القيامة الأبدية (لدار الحيوان) ان هي نتيجة الموت، والموت نتيجة الحياة الدنيوية فالمقياس حينئذ في الحياة الجاهلية والعقلانية إنما هو الموت، فإنه حلقة وصل بين النشأتين والحياتين، بين الدنيا والآخرة.
ثم من لم يعرف إمام زمانه حقّ المعرفة في عصر الغيبة الكبرى، فإنه لا يكون منتظراً لظهوره وقيامه وإصلاحه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، ومن علائم الحياة الجاهلية أن لا يكون الإنسان بانتظار المصلح الحقيقي والواقعي للأرض ليملأها قسطاً وعدلاً، فحياة العلم والعقل والإيمان إنما يتّم بمعرفة إمام الزمان (عليه السلام).
تنبيه هام جداً:
يمكن أن يكون المرء في ظاهر حياته يعيش أجواء إيمانيّة كأن يصلي ويصوم ويتلو القرآن الكريم ويكون في المسجد النبوي الشريف معتكفاً، وفي محراب الرسول الأعظم مصلياً، وعلى منبره خطيباً، إلّا أن حياته حياة جاهلية وظلال ونفاق وكفر فإن الظلال والكفر والنفاق كلّه من الجهل، فظاهر حياته في عبادة الله وفي مظاهر إيمانية، إلا أن حياته حياة جاهلية لعدم معرفة إمام زمانه، كما أشارت إلى ذلك سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها الفدكية (البحار: 29: 220) في احتجاجها على القوم الذين غصبوا الخلافة، وأزاحوا إمام الحق عن مرتبته، وجلسوا في غير مجلسهم ظلماً وجوراً وغصباً، فاحتجت عليهم بقوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50).
إذن: من لم يعرف إمام زمانه ولم ينتظر ظهوره في غيبته الكبرى كانت حياته حياة جاهلية وظلمائية، ونتيجة حياته أن يكون موته موت الجاهلية.
وأما من عرف إمام زمانه، وكان بانتظار عدله وإصلاحه، وعلم أنه الشاهد على أعماله وسلوكه، وأنه مظهر قوله تعالى (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (الرعد: 33) فلا جرم كان منتظر لقدومه المبارك ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ومعنى انتظاره الإيجابي أنه يعمل على ضوء إرادته وطاعته، والتي هي العمل بالشريعة الإسلامية المقدسة في ظل مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
وبهذا كان مودته وولاءه لمولاه وإطاعته المطلقة لإمامته وإمام زمانه، فكانت حياته ومماته على ضوء العقلائية، والنور من دون جهل وظلمات.
وقبل الدخول في صلب الموضوع لا بأس بذكر مقدمات لنكون على بصيرة من أمرنا وهي كما يلي:
1 - إن أول ما خلق الله العقل وانه خلقه من نور ومن يمين عرشه، وجعله مقياساً للثواب والعقاب، وزوّده بلطفه سبعين جندياً، كما خلق ضده وهو الجهل، فان الله ليس كمثله شيء ولا ضد لهولا ندّ له، وما سواه فلم الندّ والضر، فخلق ضد العقل وندّه الجهل من الظلمات ويعدله زوّده بسبعين جندياً، ومنذ خلقتهما وابتلاء الإنسان بهما بدء الصراع بينهما في داخل الإنسان، فكان في عقائده وأخلاقه وسلوكه بين غلبة العقل تارة وغلبة الجهل أخرى، فانقسم الناس بالنسبة إلى العقل والجهل إلى صنفين، فمنهم عاقل ومنهم الجاهل، كما كانت الحياة حلبة الصّراع بين الحياة الجاهلية والحياة العقلانيّة.
ومن جنود العقل العلم، ويقابله الجهل بمعناه الخاص الذي هو ضد العلم، فالجهل يطلق تارة ويراد منه ما يقابله العلم، وأخرى ما يقابل العقل، ورب عالم يكون جاهلاً بالمعنى الثاني لغلبة جنود الجهل عليه، كأن يكون متكبراً ومغروراً بعلمه، فإن الكبر والتكبّر من جنود الجهل، كما ان التواضع من جنود العقل، أو يكون مرائياً في عمله، والرياء من جنود الجهل، كما أن الاخلاص من جنود العقل؟ أو يكون عالماً خائناً، فيكون جاهلاً، فإن الخيانة من جنود الجهل، والأمانة من جنود العقل، وهكذا الأمر في باقي الموارد.
2 - قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهجه البليغ: (الجاهل أما مفرط أو مفرّط)، فإن من العقل السليم أخذ الحدّ الوسط والفضيلة بين طرفيها من الافراط والتفريط، فإنها من الجهل المذموم عقلاً وشرعاً وعقلائياً، فالجاهل أما أن يكون مقصراً وهذا من التفريط، وأما أن يكون مغالياً وهذا من الإفراط، وعن أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) : نحن الفرقة الوسطي بنا يلحق.
وفي الصلوات الشعبانية: (اللهم صل على محمد وآل محمد الفلك الجارية في اللجج الغامرة يأمن من ركبها ويغرق من تركها، المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق(2). كما ورد هذا المعنى في زيارة الجامعة الكبرى (فالراغب عنكم مارق واللازم لكم لاحق والمقصر في حقكم زاهق، والحق معكم وفيكم ومنكم وإليك، وأنتم أهله ومعدنه...).
3 - ربّ عالم قتله جلُه، فإنّه يدعي بما ليس فيه، ووي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (من قال أنا عالم فهو جاهل) وانه من قال أنا أعلم فهو أجهل بما يعلم، والإنسان مهما بلغ من العلم، فإنه (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) وألحقني بالصالحين، وكما قال بعض العلماء الأعلام وأساتذتنا العظام لو وضعت جهلي تحت قدمي أي لوضعت مجهولاتي وما أجهله تحت قدمي لنطح رأس السّحاب كناية عن كثرة جهله، وأقول بل لنطح رؤوسنا السّماء السابعة وما فوقها، إلا إن العلم لو بقي الإنسان فيه ولم يخرق حجابه لكان الحجاب الأكبر، فإنّ السالك إلى الله لابد له من العلم أولاً، إلّا أنه العلم حجاب نوري فلابّد أن يخترقه إلى حجاب نوري آخر كالإيمان القلبي بعقد العلم فيه، ثم يخترق هذا الحجاب كذلك إلى اليقين والاطمئنان القلبي (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ثم يخرق ذلك ليصل إلى مقام الشهود وقرب النوافل (حتى أكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به) وهكذا يخرق الحجب النورية التي ورد في الحديث انها سبعين ألف حجاب وتسعين ألف حجاب، وذلك بعد أن يخرق حجب الظلمات من حبّ الدنيا فإنها رأس كل خطيئة، ومن الأنانية وحبّ النفس الأمارة بالسّوء، فربّ عالم بالمصطلحات العلمية محباً لدنياه ومغلوباً لهواه، فإنه يعيش الحياة الجاهلية وفي الظلمات، فضلاً عن أنه يخرق حجب النور حتى يصل إلى معدن العظمة.
ومثال خرق الحجب النّورية: كمن ينظر إلى حوض فيه صورة القمر، ونوره المنعكسة من المرآة التي وقع فيها صورة القمر ونوره، المنعكس من نور الشمس عليه، فمن نور القمر في الحوض يصل إلى نور القمر في المرآة، ثم إلى نور القمر في القمر، ثم إلى نور الشمس التي تورها من ذاتها وكذلك الحجب النورية في أسماء الله وصفاته إلى أن يصل إلى نور الأنوار وغيب الغيب ومقام الأحدية واللاهوتية فالبد خرق الحجب في المكونية وهي في عالم أفعال الله، والجبروتية وهي في عالم الصفات الإلهية مقام الواحدية.
وفي المناجاة الشعبانية لأئمتنا الأطهار (عليهم السلام) : (إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك)(3).
فمن العلماء من يبتلى مدهوشاً بعلمه في صورة القمر في الحوض، فهذا من يقتله جهله المقامات النورية الأخرى التي هي الأعلى فتدبّر.
ثم لا يخفى إنّ من علماء الدنيا في عصرنا هذا تغلبت عليه العقلائية العلمائية لتأثره بمن يؤثره من المثقفين أي الغربين المتأثرين بالحضارة والمدنية الأمريكية والأوروبية فتنعدم أو تضعف عنده العقلائية الدينيّة، فينكر الثوابت الدينية أو المذهبية ظناً فيه أنه بهذا نصر الدين والمذهب.
4 - إن العقل الحجة الباطنية لله سبحانه، فإنّ الله سبحانه يحتج على الإنسان بعقله الذي قد تميّز به عن جميع المخلوقات كما شرف به عنها، كما يحتج عليه بعضدِ العقل وبالحجة الظاهرية أي بالوحي بكتبه وأنبياءه ورسله وأوصيائهم وورثتهم من العلماء الصالحين، ولله الحجّة البالغة.
فما يدلل على صحة الدعوى وبطلانها، في مقام إثبات الدّعوى دفعيتها هو العقل، والذي يسمى بالدليل أو البرهان العقلي.
ويستدل بالعقل في إثبات الدعوى ونفيها في مقامين:
الأول: في مقام الثبوت: ويتعلّق بالإمكان الذاتي في تحقق ووقوع الممكن وعدمه من حيث إمكانه الذّاتي، فإن الممكن ما كان أو غير ممكن؟ المانع متساوي الطرفين في الوجود والعدم، ويقابله واجب الوجود لذاته كالباري سبحانه، وممتنع الوجود لذاته كشريك الباري.
فالباحث في أيّ موضوع وقضية ودعوى يبحث أولاً عن إمكانه الذاتي، بأنه هل هو ممكن وقوعه وتحققه في الخارج ذاتاً من جهة وجود المقتفي وعدم المانع والحجة العقلية في هذا المقام تسمى بالعقل الميزاني، والذي يكون بين الوجود والعدم ككفتي الميزان.
الثاني: في مقام الإثبات: ويترتب على المقام الأول بعد ثبوت المكانة الذاتي، بأنه لو كان ممكناً ذاتاً فهل وقع في الخارج كذلك أو لم يقع، فبلغ الكلام في إمكانه الوقوعي بعد إمكانه الذاتي، والعقل في هذا المقام يسمى بالعقل الآلي والطريقي.
وإنما يستدل على الإمكان الوقوعي أولاً بوقوعه وتحققه في الخارج، كما يقال: أدى دليل على إمكان الشيء وقوله ما اخرى بالأدلة الظاهرة من النقليات كالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة بالنسبة في المسلم.
5 - النظر والرؤية والمشاهدة من المعاني الإضافية، وان كل منها رابط بين فاعل ومفعول، فالنظر بين الناظر والمنظور، والرؤية بين الرائي والمولي، والمشاهدة بين الشاهد والمشهود، وكل منها في الإنسان تارة يتعلق بجسده وأخرى بروحه فالرؤية تكون بالجسد، وبالعين والبصر، فهذه نظرة ومشاهدة ورؤية بصيريّة تتعلق بالظواهر والمحسوسات البصريّة، يشترك فيها الإنسان والحيوان.
وأما الرؤية والمشاهدة التي تتعلق بالروح الإنسانية وبقلبه المعنوي، فان في قلب المؤمن عينان يبصران بها ملكوت الدنيا والآخرة، وتسمى بالرؤية القلبية كما سمى بالبصيرة النافذة (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق: 22).
والرؤية البصرية تتوقف إلى سلامة البصر، فإن العين من أدوات والآت العلوم والمعرفة، كما أن الرؤية البصيرتية والقلبية متوقفة على سلامة الروح والقلب من الذنوب والرذائل ومذام الأفعال، ورب ذي بصر لا بصيرة له فهو أعمى القلب ورب بصير القلب لا بصر له فهو أعمى العين، نبينها عموم من وجه، فرب مبصر بصير، ورب أعمى العين وأعمى القلب، ورب أعمى القلب دون البصر، وربما أعمى البصر دون القلب.
ورب ذي بصر لا بصيرة له، فيكون كالأنعام بل أضل، فإنه يرى الظاهر كما ترى الأنعام، إلّا أنه لا يرى الحقائق فكان غافلاً فيعيش الظلال والجهالة حياة وموتاً (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ) (الاعراف: 179).
والرؤية القلبية توجب المعرفة والنجاة والتكامل ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة.
6 - إن أصحاب النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) منهم من كان يرى النبي برؤية البصر دون البصيرة، ومنهم من رآه بالبصيرة دون البصر كأويس القرني (رضوان الله تعالى عليه) فإنه لم ير النبي ببصره كما في قصته المعروفة وقدومه للمدينة المنورة شوقاً لرؤية حبيبه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلّا أنه لم يتوفق لذلك وقال رسول الله إني أشم رائحة الجنة من اليمين عند دخول المدينة وقد خرج أويس القرني منها.
وهذه الرؤية القلبية هي التي توجب مرنة الحقيقة وان الوحي من بعد رسول الله بلا فصل هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، فان علي مع الحق والحق مع علي أينما دار ويدور، فعرف اويس القرني نبيه وإمام زمانه، فكان معه في ركابه في حرب صفين حتى فاز بالشهادة بين يدي إمام زمانه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ولكن غير ممكن رأى رسول الله ببصره ليل ونهار إلّا أنه غصب الخلافة ونكث البيعة وجار في الحكم وسرق عن الدين، فحاربوا أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وذلك عدم رؤيتهم القلبية لرسول الله محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فالعمدة في الفوز والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة هي الرؤية القلبية لا المشاهد البصريّة.
7 - إن رؤية مشاهدة الإمام الغائب (عليه السلام) تارة تكون بالبصر وعين الرأس لمن كان سالم في حاسّة البصر، وأُخرى تكون بالبصيرة ورؤية القلب، والعمدة في معرفة صاحب الزمان (عليه السلام) هو الثاني وان كان الأول مطلوباً في ذاته أيضاً، إلّا أن الفوز والنجاة بالثاني دون الأول كما مثلنا بأويس القرني، وصحابة النبي (عليها السلام)، وقال الإمام الكاظم في ولده المهدي (عليه السلام): (غائب عن الأبصار وذكره في القلوب).
8 - لقد ورد في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) : أن القلب حرم الله وعرش الرحمن، وإنما يستخلف وفي حرمه وعرشه هو خليفته ووليّه الأعظم بقية الله صاحب العصر والزمان.
فمن كان ذكر خليفة الله وإمام زمانه في قلبه كان يراه دائماً حاضراً برؤية قلبية ولا يغفل عنه ولا ينساه كما يرى الله سبحانه بقلبه بحقية الإيمان كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ان تراه القلوب التي في الصدور وبحقائق الإيمان).
والذكر حضور المذكور عند الذاكر، فمن كان قلبه حرم الله وعرشه، فانه لا محالة كان ذكر وليه وحجته حاضراً في قلبه.
9 - لإمام زماننا غيبتان: الصغرى: ومدّتها سبعين سنة، وكان الرابط آنذاك بين الإمام وبين شيعته والموالين السفراء الأربعة وكانت بداية الغيبة الصغرى سنة 260 هـ وعمر الإمام (عليه السلام) آنذاك خمس سنوات، وأما السفراء الأربعة فهم:
1 - الشيخ الثقة الجليل عثمان بن سعيد العمري: تولّى السفارة خمس سنوات وإبنه محمد أربعين سنة(4)، فكان وفاة الوالد 365 هـ.
2 - الشيخ الثقة الجليل محمد بن عثمان العمري: قال الإمام العسكري (عليه السلام) لبعض أصحابه العمري وابنه ثقتان فما أدّيا فعني يؤديان(5)...
3 - الشيخ الثقة الجليل الحسين بن روح النوبختي: مدّة سفارته واحدة وعشرون سنة، توفي 326 هـ.
4 - الشيخ الثقة الجليل علي بن محمد السّمرُي: مدة سفارته ثلاثة أعوام، فتكون مدة الغيبة الصغرى على التحديد تسعاً وستين عاماً ومنه أشهر خمسة وعشرون.
وتوفي السمري وأمرها في علم الله سبحانه، وقد غاب شخصه ولم يغب وجوده وشخصيته، وامامته وحجّيته على الخلائق فهو كالشمس وراء السّحاب، وهو حجة الله على الخلائق والأمم وإمام المسلمين وشيعة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، بيمنه رُزق الورى وبوجوده ثبت الأرض والسّماء، يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
وزبدة المخاض:
هل يمكن في زمن الغيبة الكبرى أن يُرى صاحب العصر والزمان برؤية ومشاهدة بصريّة، ويعني الرأس؟ من الناس من أنكر ذلك مطلقاً، وهو من الشاذ النادر كاد أن يكون كالمفهوم، وأمّا المشهور وفما أجمع عليه الأصحاب وعلمائنا الأعلام، منذ بداية زمن الغيبة الكبرى وإلى يومنا هذا، فقد أثبت ذلك بالحجج والبراهين القاطعة كل هو المختار فدع الشاذ وخذ ما اشتهر بين أصحابك.
وحان الوقت أن ندخل في صلب الموضوع لإيقاظ النائم وإثبات رؤية الإمام القائم عملّ فرجه الشريف.
هل يمكن لقاء الإمام صاحب الأمر (عليه السلام) ورؤيته في غيبته الكبرى؟
إنّ رؤية الإمام المعصوم (عليه السلام) ومشاهدته بالبصر مطلقاً سواءً كان في زمن الحضور أو الغيبة من الممكن الذاتي الذي لا استحالة فيه عقلاً لوجود المقتضي وعدم المانع، فانه جسم يأخذ حيزاً في الوجود طولاً وعرضاً وعمقاً ومع سلامة حاسة البصر ووجود النور قابل للانعكاس في عدسة البصر، فيكون قابلاً للرؤية البصرية.
وأما رؤية البصرية في زمن غيبته هل من الممكن الوقوعي؟
ذهب من ذهب بقول شاذ إلى عدم إمكان وقوعه فكان من النافين تمسكاً بخبر واحد والتوقع والمروي عن صاحب الزمان (عليهم السلام) بسند شيخ الطائفة في غيبته والشيخ الصدوق في كمال الدين.
وأما المشهور من علماء الطائفة فإنهم من المنتسبين قالوا بإمكانه الوقوعي وتحقق ذلك في عصر الغيبة الكبرى في الجملة تمسكاً بوجوه:
الأول: الاخبار والحكايات الصادقة الكثيرة المتواترة القطعية التي لا يمكن إحصائها لكثرتها، وتدل على وقوع المشاهدة، وتشرف البعض بدرك فيض زيارته ومحضره، والتواتر القطعي مما يفيد العلم، وانه من النّص ولا يقاومه الظن والظهور.
الثاني: ما اتفق الكل عليه ظاهراً حتى الشيخ ناقل هذا التوقيع من مشاهدة جماعة كثيرة إياه.
الثالث: المناقشة في التوقيع سنداً ودلالة فإنه ما ذكر من التوقيع والخبر إنما هو خبر واحد مسل ضعيفه لم يعمل به ناقله وهو الشيخ في الكتاب المذكور ولنقله جملة من مشاهد الإمام (عليه السلام) في زمن الغيبة الكبرى.
الرابع: قد أعرض الأصحاب عن الخبر فيسقط عن الاعتبار فلا يعارض الوقايع والقصص والأخبار التي يحصل القطع عن مجموعها، وبل من بعضها المتضّمن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها من غيره (عليه السلام).
الخامس: وجود طائفة من الروايات المعارضة الدالة على وقوع الرؤية البصرية في زمن الغيبة الكبرى.
ومن الاعلام كما هو المشهور من يرى التعارض بين الخبر وبين الحكايات المتواترة القطعية الدالة على وقوع المشاهدة، ويحاول أن يرفع التعارض مهما أمكن بذكر وجوه للجمع، ومنهم من يرى عدم التعارض والتنافي في المصداق والدّلالة بذكر وجوه أخرى، هذا اجمالات وأما تفصيل ذلك:
أما دليل القول الأول النافي للرؤية البصرية في زمن الغيبة الكبرى مطلقاً متمسكاً بما رواه الشيخ الطوسي قدّس سرّه في الغيبة: في كتاب منتخب الأثر(6): 217 عن جماعة عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه عن أبي محمد أحمد بن الحسن المكتب قال كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمد الشمري قدّس سرّه فحضرته قبل وفاته، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته (بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمد الشمري أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك، ولا توحى إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة المامة (الثانية) فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، وهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟ قال فنسحب هذا التوقيع، وخرجنا من عنده، فلّما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فصل له من وصيّك من بعدك؟
فقال: لله أمرهم بالغه وقضى فهذا آخر كلام سمع منه رضي لله عنه وأرضاه.
أقول هكذا وجدت الخبر في النسخة الموجودة عندي من غيبة الشيخ، ونقله في جنة المأوى عن الشيخ والطبرسي مثلما نقلنا عند غير انه نقل (وسيأتي من شيعتي من يدّعي المشاهدة، إلّا فمن أدّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر) وفي نص الكتب (وسيأتي في شيعتي) انتهى كلامه.
وقال صاحب منتخب الأثر آية الله الشيخ لطف الله الصافي في الهامش وهو خرّيت هذا الفن وفي المجال المهدوي.
ربما يقال بأن هذا التوقيع بظاهره ينافي الحكايات الكثيرة المتواترة القطعية التي لا يمكن إحصائها لكثرتها، وتدل على وقوع المشاهدة، وتشرف البعض بدرك فيض زيارته، ومحضره وينافي أيضاً ما اتفق الكل عليه ظاهراً حتى الشيخ ناقل هذا التوقيع من مشاهدة جماعة كثيرة إياه، وقد ذكروا لرفع التنافي أو الجواب عن هذا الخبر وجوهاً، ذكر الستة منها في جنة المأوى، فهما: ما عن المجلس في البحار وغيره، وهو: أن سياق الخبر يشهد بأن المراد من ادعاء الماهوت ادعائها مع النيابة والسفارة والعيال الاخبار من جانبه إلى الشيعة على قول السفراء في الغيبة الصغرى، وهذا الوجه قريب جداً ومنها: إنه خبر واحد مرسل ضعيف لم يعمل به ناقله وهو الشيخ في الكتاب المذكور، واعرض الأصحاب عنه، فلا يعارض تلك الوقايع والقصص التي يحصل القطع عن مجموعها، وبل من بعضها المتضمن لكرامات ومفاخر لا يمكن صورها من غيره (عليه السلام).
أقول: وهذه الكرامات والمفاخر هن من علائم الإمامة وكونه الإمام المهدي (عليه السلام) بعينه، فإنها لا تأتي من غير الإمام المعصوم (عليه السلام)، فمن رآه بالبصر شاهد منه هذه الكرامات والمفاخر علم أنه أمام زمانه، كما هو (عليه السلام) في بعض الوقائع يخبر بذلك، ويعرّف المشاهد بأنه إمام زمانه، كما في قصة الرّمانة الشيخ محمد بن عيسى البحراني ولقاءات السيد مهدي بحر العلوم قدّس سرّه ففي قصة الرمانة: (البحار: 52: 179) (... فقال: يا محمد بن عيسى: اما صاحب الأمر فاذكر حاجتك، فقال إن كنت هو فأنت تعلم قصتي ولا تحتاج إلى أن أشرحها لك، فقال له: نعم خرجت لما وهمكم من أمر الرّمانة، وما كتب عليها، وما أوعدكم الأمير به، قال: فيما سمعت ذلك توجّهت إليه وقلت له: نعم يا مولاي، قد تعلم ما أصابنا، وأنت إمامنا وملاذنا والقادر على كشفه عنا)..
وأما وجه الاستدلال بالخبر لمن نفى الرؤية في الغيبة الكبرى مطلقاً.
أولاً: قوله (عليه السلام) (فلا ظهور الأبعد إذن الله تعالى ذكره، فإطلاقه مع لا النافية والاستثناء يدل على نفي الظهور، ومنه الرؤية مطلقاً، فإنها من مصاديق الظهور.
وثانياً: قوله (عليه السلام) (سيأتي الشيعي من يدعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر)، فإطلاقه تعم جميع من يدعي الرؤية والمشاهدة فهو كذاب أي كثير الكذب ومن تاب التأكيد المعنوي وصف بالافتراء أيضاً.
ويرد عليه في كلا الوجهين:
أولاً: مما من مطلق إلا وقيد كما ما من عام إلّا وخص، فيقيد الاطلاق بالقرائن المقالة اللفظية لتعلم أو المنفصلة والحالية المقامية كالسياق، أو بالانصراف لغلبة الاستدلال أو كثرته، وفي الخبر قرنية حالية من جهة دلالة السياق، وكذلك الانصراف إلى أن المراد من دعوى المشاهدة أي دعوى السفارة والوصاية والوكالة كما كان للسفراء الأربعة من قبل، وهذا المعنى ما أشار إليه كبار الأعلام حتى من ينقل الخبر والتوقيع الشريف كما أنه من أقرب الوجوه لرفع التعارض بين التوقيع والأخبار المتواترة كما سيأتي.
وثانياً: الظاهر، والظواهر حجة - من قوله (عليه السلام) (فلا ظهور) أي ما يقابل الحضور والوصال كما كان في الغيبة الصغرى كما أن كلمة الظهور لغلبة الاستعمال وكثرته كما في الروايات الأخرى إنما يقصد منه الحضور العادي الذي يكون في كان لآبائه الطاهرين من كونه أمام حاضره بل في الغيبة أصبح إماماً غائباً، وهذا لا يعني أنه لا يراه أحد ويتحيل وقوع ذلك. ومن البعيد أن يكون الرؤية البصرية من مصاديق الظهور في مثل هذه الأخبار التي تتحدث عن الظهور العادي، فتدبّر.
الثالث: قوله (عليه السلام) (سيأتي شيعي) بظاهره يدل على أن الذي يأتي للشيعة ليس منهم كما لو كان من المنافقين ويدعي المشاهدة وأنه جاء بكم أو أمر أو نهي من قبل صاحب الزمان (عليه السلام) فهذا كذّاب مفتر، وهذا لا يدل على أنه من الشيعة كذلك لو أدعى المشاهدة مطلقاً فهو كذّاب، كيف وممن ادّعى المشاهدة أمثال سيدنا السيد مهدي بحر العلوم قدّس سرّه كما في كتاب (قصص العلماء: 287) كما أخبر به زميله المحقق الميرزا القمي صاحب كتاب القوانين قدس سرهما، وان قال: وإن كان لكل منك إنك تكذبني.
الرابع: المناقشة في السند لإرسال الخبر أو لإعراض الأصحاب.
الخامس: الاضطراب في النقل فما يوجب الوهن والضعف في الخبر، فإنه نقل تارة (سيأتي شيعي) وأخرى (سيأتي من شيعتي) وثالثه (سيما في شيعتي) وكم فرق بين النقولات كما هو واضح عند أهله.
السادس: وجود قرائن من الروايات تدل على رؤية الإمام في غيبته الكبرى وهي يعارض الخبر التوفيقي المناقش فيه سنداً ودلالة مما يوجب.
ومنها ما تدل أنّ هناك جماعة معه يزيلون وبقشته، ومنها ما تدل على الارقاد والأبدال والصالحين المعروف عنه الزمان القلب وختم في خدمة صاحب الأمر (عليه السلام).
تقديم تلك الطوائف من الاعتبار، والتي منها ما تدلّ على أصل الرؤية إلا أنه يعرفهم ولا يعرفونه، ومنها ما يدل على لقاء الخضر به.
1 - الشيخ الصدوق في إكمال الدين سنده عن زرارة قال: سمعت ابا عبد الله (عليه السلام) يقول: يفتقد الناس إمامهم فيشهدهم الموسم، فيراهم ولا يرونه(7) ومن لا يعرفونه.
2 - الصدوق بسنده عن ابن فضال عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: إن الحضر شرب من ماء الحياة فهو حيّ لا يموت حتى ينفخ في الصدر، وإنه ليأتينا فيسلم علينا، فنسمع صوته، ولا نرى شخصه، وإنه ليحصر حيث ذكر، فمن ذكره معكم فليسلم عليه، وإنه ليحضر المواسم فيقض جميع المناسك ويقف بعرفة فيؤمن على دعاء المؤمنين، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا (عليه السلام) في غيبته، ويصل به وحدته(8).
3 - الصدوق بسنده عن محمد بن عثمان العمري قال: سمعته يقول: والله إنّ صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة، خبري الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه(9).
4 - غيبة الشيخ الطوسي بسنده عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إن لصاحب هذا الأمر غيبتا احداهما تطول حتى يقول بعضهم مات، ويقول بعضهم قتل، ويقول بعضهم ذهب، حتى لا يبقى على أمره من أصحابه إلا نفر سير، لا يطّلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره المولى الذي يلي أمره.
5 - غيبة الشيخ الطوسي بسنده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لابدّ لصاحب هذا الأمر من غرامة، ولابد في عزلته من قوة، وما بثلاثين من وحشة، ونعم المنزل الطيبة، ورواه الكليني عن الوشاء، ومثله عن محمد بن مسلم.
بيان من العلامة المجلسي قدّس سرّه : الفرقة - بالضم - اسم للاعتزال، والطيبة اسم المدنية الطيبة، فيدل على كونه (عليه السلام) غالباً فيها وفي حواليها، وعلى أن معه ثلاثين من مواليد وخواصّه، إن مات أحدهم قام آخر مقامه.
أقول: وربما ما نقرره في زيارة آل يس (السلام عليك حين تقرأ وتبين) يكون اشارة إلى هؤلاء الذين هم مع الإمام (عليه السلام) يقرأ عليهم ويبين لهم، كما يحتمل أن يكونوا من رجال الغيب الذي يشير إليهم الشيخ الكفعمي في مصباحه من الأوتاد الأربعة والابدال السبعة والصالحين السبعين، وإذا مات من الاوتاد يلتحق بهم من خيرة الأبدال، ثم انما خيرة الصالحين بالأبدال، ومن خيرة الناس بالصالحين، والله العالم.
6 - غيبة الشيخ بسنده عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: خرجت مع أبي عبد الله (عليه السلام) فلما نزلنا الرّوحاء: نظر لي جبلها مثلاً عليها، فقال لي ترى هذا الجبل؟ هذا جبل يدعي رضوي من جبال فارس أحبنا فنقله الله إلينا، أما إنّ فيه كل شجرة مطعم، ونعم أمان الخائف مرتين أما إن لصاحب هذا الأمر فيه غيبتين واحدة قصير والأخرى طويلة.
أقول: وربما ما جاء في دعاء الندبة إشارة إلى ذلك (ليت شعري أين استقر بك النوى - أبرضوى أم وي طوى عزيز عليّ أن أرى الخلق ولا ترى).
7 - غيبة النعماني بسنده عن سدير الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: إن في صاحب هذا الأمر لشبه من يوسف، فقلت: فكأنك تخبرنا بغيبة أو؟؟؟ فقال: ما ينكر هذا الخلق الملعون أشباه الخنازير من ذلك؟ إنّ اخوة يوسف كانوا اعتلاء البّاء أسباط أولاد أنبياء، دخلوا عليه فكلّموه وخاطبوه وتاجروه ورادّده (راودوه) وكانوا إخوته وهو أخوهم، لم يعرفوه حتى عرّفهم نفسه، وقال لهم: أنا يوسف فعرفوه.
حينئذٍ، فما ينكر هذه الأمة المتميزة أن يكون الله جل وعزّ يريد في وقت (من الأوقات) أيستر حجّته عنهم، لقد كان يوسف إليه ملك مصر، وكان بينه وبين أبيه مسيرة ثمانية عشر يوما، فلو أراد أن يعلمه مكانه لقدر على ذلك (والله لقد سار يعقوب ولده عند البشارة تسعة أيام من بدوهم إلى مصر).
فما تنكر هذه الأمة أن يكون الله يفعل بحجته ما فعل بيوسف أن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقه، صاحب هذا الأمر يتردّد بينهم، ويمشي في أسواقهم، ويطأ فرشهم، ولا يعرفونه حتى يأذن الله أن يعرّفهم نفسه، كما أذن ليوسف حتى قال له اخوته: إنك لأنت يوسف؟ قال: أنا يوسف(10).
8 - غيبة النعماني بسنده المعتبر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): للقائم غيبتان إحداهما قصيرة والأخرى طويلة (الغيبة) الأولى لا يعلم بمكانه (فيها إلّا خاصة شيعته، والاخرى لا يعلم بمكانه فيها، إلا خاصة مواليه في دينه).
وقد ناقش بعض الاعلام المعاصرين هذه الوجوه والايرادات، بعد أن ذكر التوقيع الشريف، وأشار إلى أن الإمام (عليه السلام) أكدّ في هذا البيان على أمور، فذكر أموراً ثمانية وقال في الأمر الثامن(11): إن من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو مفتر كذّاب.
وهو واضح في مدلوله، فإن المراد بيان احتجاب الإمام المهدي (عليه السلام) عن الناس حتى زمان تحقق هاتين العلامتين فمن الواجب تكذيب كل من ادعى رؤية المهدي (عليه السلام) قبل تحقق ذلك، وإنما ينفتح المجال لاحتمال صدقه بعد تحقق العلامتين بمعنى أن ذلك الحين هو موعد الظهور، فمن دعا رؤية المهدي (عليه السلام) يومئذٍ فهو صادق أو محتمل الصدق على الأقل وإنما قبل ذلك فلا.
وقد اصطدم ذلك - في نظر عدد من العلماء - بالأخبار القطعية المتواترة - أي ليست قصص وحكايات وعواطف وغلو كما يقال بل الاخبار القطعية المتواترة - المفيدة للعلم والقطع وبمنزلة النّص - التي وردتنا عن مقامه الكثيرين للإمام المهدي (عليه السلام) خلال غيبته الكبرى، من بعد صدور هذا البيان الذي سمعناه إلى الآن، بنحو لا يمكن الطعن فيه أو احتمال الخلاف، ومقتضاها لزوم تصديق المخبرين في الجملة، مع ان هذا التوقيع المهدوي يوجب علينا تكذيبه، فكيف يتم ذلك، وما هو وجه الجمع بينه وبين ملف الأخبار.
وما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الجمع لو حصلت المعارضة - عدة وجوه:
الأول الطعن في سند التوقيع الشريف ورواته حيث قالوا: إنه خبر واحد مرسل ضعيف، لم يعمل به فاعله وهو الشيخ في الكتاب المذكور، واعرض الأصحاب عنه، فلا يعارض تلك الوقائع والقصص التي يحصل القطع عن مجموعها بل من بعضها المتضمن بكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها عن غيره (عليه السلام).
إلّا أن هذا الوجه لا يمكن قبول لوجوه:
الأول: أما كونه خبر واحد فهو ليس نقصاً فيه، لما ثبت في علم أصول الفقه من حجية خبر الواحد الثقة، وأما القول لعدم حجيته فهو شاذ لا يقول به إلّا القليل النادر من العلماء.
أقول: فقبول السند حينئذٍ يكون مبنياً فمن قال بعدم حجية خبر الاحاد كالسيد المرتضى وابن إدريس يلزمه سقوط الخبر عن الاحتجاج به، وكذلك من كان يقبل خبر الاحاد إذا كان محفوفاً بالقرائن الدالة على صحة لإسناده وصدوره ودونه يلزمه عدم الأخذ بالخبر أيضاً.
الثاني: وأمّا كونه خبراً مرسلاً، فهو غير صحيح إذ رواه الشيخ في الغيبة (ص:242) فقال: أخبرنا جماعة عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن بن بابويه قال: حدثني أبو محمد أحمد بن الحسن المكتب إلى آخر الخبر، كما رواه الصدوق ابن بابويه في اكمال الدين عن أبي محمد المكتب لنفسه فأين الإرسال؟ والزمن بحسب العادة مناسب مع وجود الواسطة الواحدة.
الثالث: وأمّا كونه ضعيفاً، فهو على تقدير تسليمه، يكفي للإثبات التاريخي، كما قلنا في مقدمة هذا التاريخ، وإن لم يكن كافياً لإثبات الحكم الشرعي، كما حقق في محلّه.
أقول: وحينئذٍ يكون الأمر مبنياً فمن قال بكفاية الخبر الضعيف في القضايا التاريخية بعمل بالخبر ودونه يسقط الخبر عنده من الاعتبار ولضعفه، أضف إلى أنه لو كان يترتب على القضية التاريخية حكماً شرعياً كما في المقام من تكذيب مدعي المشاهدة وعدمه، فحينئذ لابد من صحة الصدور في الخبر، فتأمل.
الرابع: وأما إعراض الشيخ الطوسي والأصحاب عن العمل به، فإنما تخيله صاحب الاشكال باعتبار إثبات الشيخ وغيره رؤية الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى، وهذا مما لاشك فيه.. وهذا فيض قول من يشكك في الاخبار الحكايات القصص المروية الدالة على لقاء الحجة والشرف بخدمته، رؤيته في الغيبة الكبرى فلاشك فيه إلا أنه إنما يصلح دليلاً على اعراضهم لو كانت معارضة ومنافات بين التوقيع وإثبات الرؤية، وإنما مع عدم المعارضة على ما سيأتي - فيمكن أن يكون العلماء: الشيخ الطوسي وغيره قد التزموا بكلام الناحيتين، من دون تكذيب بينهما، ومعه لا دليل على هذا الاعراض منه.
أقول: وحينئذ أيضاً يلزم أن يكون الأمر مبنياً، فلو كان بين الخبر التوقيعي المنافي للرؤية والاخبار المتواترة الدالة على وقوع الرؤية تعارضاً حينئذ لابد من الجمع أولاً مهما أمكن فإنه الأولى، وإلا فيومئذ بالمرجحات الداخلية السندية أو الخارجية الدلالتية كالأخذ، فقه والأعدل وبما وافق كتاب الله وخالف العامة، اشتهر بين أصحابك كما في الأخبار العلاجيّة، والغالب على العلماء في هذا المقام قالوا بالتعارض وتقديم الاخبار المتواترة لإعراض الأصحاب عن الخبر التوقيعي لأي سبب كان سواء من جهة سند؟ ومن جهة الوكالة.
الخامس: على ان الإعراض (وكان حاصلاً لما أضرّ بحجية الحديث، لما هو الثابت المحقق في علم الأصول بأن اعراض العلماء عن الرواية لا يوجب وهناً في الرواية سنداً ولا دلالة.
أقول: وهذا يرجع أيضاً إلى ما يختاره الفقيه من المبنى في فهمه الاعراض انه يختص بأصحاب الأئمة فيوجب وهن الخبر وإن كان صحيحاً، أو يعمّ أعراض العلماء والمشهور أيضاً.
ثم يذكر الشهيد الصدر الثاني قدّس سرّه وجوهاً أخرى للجمع كما سنذكره انشاء الله بالتفصيل لما فيه من التفصيل والفوائد.
مع خاتم المحدّثين شيخنا للعلامة النوري قدّس سرّه :
لقد ألّف المحدث الثقة كتاباً بعنوان (جنة المأوى من ذكر من فاز بلقاء الحجة (عليه السلام) أو معجزته في الغيبة الكبرى) والحق الكتاب ببحار الأنوار المجلد 52) ويذكر فيه القصص والاخبار الدالة على التشرف واللقاء في الغيبة الكبرى يتذكر (59) قصة من قصص الحق، وكما يؤخذ برواياته في الأحكام الشرعية لوثاقته، فإنه يؤخذ كذلك فيما يروى من القصص في هذا الباب ولا يصبح أن يقال انها أوهام أو قصص خياليّة أو يميل إلى مثل هذه القصص.
ثم في نهاية الكتاب يذكرنا قد تبين والكلام في الفائدة الأولى في نقله للخبر التوقيعي عن غيبة الشيخ الطوسي ثم يقول كما قال غيره من الأعلام: وهذا الخبر بظاهره ينافي الحكايات السابعة وغيرها مما هو مذكور في البحار والجواب عنه من وجوه فيذكر وجوهاً ستة:
الأول: انه خبر واحد مرسل غير موجب علماً، فلا يعارض تلك الوقائع والقصص التي يحصل القطع عن مجموعها بل ومن بعضها المتضمن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها من غيره (عليه السلام) كما في قصة الرّمانة - فكيف يجوز الاعراض منها لوجود خبر ضعيف لم يعمل به نافلة، وهو الشيخ في الكتاب المذكور كما يأتي كلامه فيه، فكيف بغيره والعلماء الأعلام تلقّوها بالقبول، وذكروها في زبرهم وتصانيفهم مقولين عليها معتنين بها.
أقول: هذا الوجه قد مرّ الكلام فيه تفصيلاً.
الثاني: ما ذكره في البحار بعد ذكر الخبر المزبور ما لفظه: (لعلّه محمول على من يدّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة على مثل السفراء لئلا ينافي الاخبار التي مضت وسيأتي فيمن رآه (عليه السلام) والله العالم)(12).
أقول: قبل كما برّ هذا أقرب الوجوب في رفع التعارض بين الخبر التوفيقي الشريف والاخبار المتواترة الدالة على اللّقاء والمشاهدة، والعجب من بعض المعاصرين - هداه الله - في إحدى الفضائيات من أراد أن يسفّر عقول من قال بهذا الوجه القريب جداً، والحال قد ذهب الله جمع من كبار علمائنا الأعلام من القدماء والمتأخرين كالعلامة المجلسي والمعاصرين كآية الله الشيخ لطف الله الصافي دام ظله.
نعم ذهب الشهيد الصدر الثاني قدّس سرّه إلى استبعاد هذا الوجه إلّا أنه قابل للنقاش.
بيان ذلك:
قال: في الوجه الخامس لدفع المتعارض بين الخبر التوقيعي والاخبار المتواترة: الوجه الخامس(13).
حمل التوقيع الشريف على دعوى المشاهدة مع ادعاء الوكالة أو السفارة عنه (عليه السلام)، وإيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة على مثال السفراء في الغيبة الصغرى، قالوا: وهذا الوجه قريب جداً، وقد نقل عن البحار وغيره(14).
إلّا أنه في الواقع بعيد جداً، بمعنى أنه خلاف الظاهر من عبارة الإمام المهدي (عليه السلام) في بيانه - وهذا يعني أنّه تمسك الظاهر الذي هو من الظن ولا يدل على ما هو في الواقع، ونفس الأمر وفي علم الله، فهذا تفسير جديد لمعنى الواقع.
فإنه يحتاج إلى ضمّ قيد أو لفظ إلى عبارته لم تقم قرينة على وجودها، كما لو كان قد قال: ألا فمن ادعى المشاهدة مع الوكالة فهو كذاب مفتر، إلّا أن المهدي (عليه السلام) لم يقل ذلك كما هو واضح، ومقتضاه التكذيب لمن ادعى السفارة وغيره ومما يناقش قوله:
أولاً: لا تنحصر القرائن والقيود وعلى اللفظ وحسب حتى تكون من القرائن والقيود اللفظيّة.
وثانياً: من القرائن (سياق الكلام) وهو من القرائن الحالية، فإن سياق الخبر كما في المقام يدل على ذلك بوضوح، لأن المقام مقام انتهاء السفارة الخّاصة وانتهاء مدّة الغيبة الصغرى، وبدء الغيبة الكبرى الثانية والتّامة، فلا وكالة خاصة ولا سفارة خاصة بعد ذلك بل في الحوادث الواقعة ترجع الأمة إلى الفقيه الجامع للشرائط والموصوف بما ورد في الخبر العسكري الشريف: أن يكون صائغاً لنفسه، حافظاً لدينه، مطيعاً لمولاه، مخالفاً لهواه، فعلى العوام أي من لم يكن مجتهداً ولا محتاطاً أن يقلدّوه، فأرجع الإمام المنتظر (عليه السلام) الأمة والشيعة في زمن الغيبة الكبرى إلى المرجعيّة الصالحة والمتقية وجعلها حجة الله عليهم كما كان هو حجة الله عليهم، والرّاد عليهم في حدّ الشرك، وهذا يعني قداسة المرجعية الحقة والحقيقية دون من يدعي ما ليس فيه من المرجعيّة تبعاً لهواه، فإنه من المزّيفين كما ورد في الأخبار الشريفة في بيان علماء السوء وأوصافهم كأن يكون فضلاً على دنياه ومفتون بها، فإنه متهم في دينه ولا يؤخذ منه الدين ولا مشروعية في قوله وفعله، ولا يكون مقدساً حينئذ.
وثالثاً: قد ذهب السيد الصدر نفسه إلى هذا الوجه القريب في مواضع من قوله: كتابه الشريف:
فقد قال عند بيان المستويات السبعة لعدم وجود التعارض بين التوضيح الشريف وبين الاخبار المتواترة في المستوى الأول.
إننا سبق أن عرفنا أن الإمام المهدي (عليه السلام) ليس مختفياً بشخصه عن الناس، وإنما يراهم ويرونه ولكنه يعرفهم ولا يعرفونه، فما هو الواقع خارجاً هو الجهل بعنوانه كإمام مهدي لا اختفاء جسمه كما تقول به بعض الأفكار غير المبرهنة... فرؤية الناس للمهدي (عليه السلام) ثابتة في كل يوم وعلى الدوام كلما مثل في الطريق أو ذهب إلى السوق أو إلى الحج أو إلى زيارة أحد أجداده الأئمة (عليهم السلام)، غاية الأم أن الناس يرون فيه شخصاً عادياً، ويجهلون بالعليم كونه هو الهدى (عليه السلام).
إلى أن قال: (وظاهر بيان انتهاء والسفارة ان ما هو كاذب أو ما يجب تكذيبه هو ادعاء مشاهدة المهدي بصفته إماماً مهدياً أو الالتفات إلى ذلك ولو بالنتيجة، أو بعد انتهاء المقابلة، وهو ممّا لا يمكن أن يحدث في القابلات الاعتيادية للهدى (عليه السلام)...)(15).
وقال في موضع آخر وفي المستوى الخامس: (... نعم لو أخذنا بقوله (عليه السلام) : وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة وفهمنا منه التنبيه على الدعوات المنحرفة بالخصوص، على ما سيأتي على المستوى الآتي.. كان ذلك قرنية على أن دعوى المشاهدة المقترفة بالدعوة المنحرفة هي الكاذبة دائماً، وعنه يكون ادعاء المشاهدة المجرد عن الدعوة المنحرفة غير منصوص على كذبه في التوقيع، وإن تجرد عن الدليل الواضح، بل يبقى محتمل الصدق على أقل تقدير(16).
وقال في المستوى السادس: (والمطمئن به هو أن هذا المستوى من الادعاء هو المقصود من التكذيب في التوقيع الشريف فإن المستظهر من قوله (عليه السلام) : (وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة كون المراد منه الإشارة إلى حدوث دعوات منحرفة وحركات غير محمودة في داخل القواعد الشعبية الإمامية، تقوم على دعوى المشاهدة، خلال الغيبة الكبرى، مع إلفات نظر المؤمنين، وتحذيرهم من تلك الدعوات، وتنبيهم على خطرها على الإسلام والمجتمع الإسلامي.
إذن فمدعي المشاهدة كاذب مزوّر في خصوص ما إذا كان منحرفاً ينقل أموراً باطلة عن الإمام المهدي (عليه السلام)، وأما فيما سوى ذلك فلا يكون التوقيع الشريف دالاً على بطلانه، سواء نقل الفرد عن المهدي (عليه السلام) أموراً صحيحة بحسب القواعد الإسلامية، أو محتملة الصحة على أقل تقدير أو لم ينقل شيئاً على الإطلاق)(17).
فظهر مما ذكر إن المراد من مدّعي المشاهدة، كان يلزمه الانحراف كأن يدّعي السفارة أو الوكالة الخاصة أو الوصاية الخاصة كما طال بابية أو الدعوات المهدوية المزيفة والباطلة أخيراً بين الأوساط الشيعيّة بأنه يأخذ الدين مباشرة من صاحب الأمر وإن الناس يرجعون به وليس إلى المراجع الكرام والفقهاء العظام، فهذا لا محالة كذّاب مفتر ملعون في الدنيا والآخرة.
ومن فكر الرؤية إنما يقصد مثل هذه المشاهدات والرؤى، ولا ينافي من يذكر لقاءه مع الحجة (عليه السلام)، من دون الدعوات المتزنة كما هو المختار، فلابد من القول بالتفصيل في الرؤية والمشاهدة من دون إفراط وتفريط.
وصايا الوالد لولده
لقد كان من دأب سلفنا الصالح أن ينصحوا ويوصوا أولادهم بمواعظ النصائح ووصايا كما فعل السيد بن طاووس به ولده السيد محمد في كتابه المحجة لثمرة المهجة، وعلى نهجهم الكريم أُوصي ولدي وقرّة عيني السيد محمد علي حفظه الله وأيده بلكنة الحلي الخفي وامعدة واخوانه في الدين بهذه الوصايا المتواضعة:
أولاً: الله الله في أيتام آل محمد وشيعة أهل البيت والموالين، فاتقِ الله فيهم، واجمع شملهم، واسع في تقوية إيمانهم وتعظيم شوكتهم، وتحكيم كيانهم، فإنهم يشكون إلى الله قلّة عددهم وكثرة عدوهم وغيبة وليهم وفقد نبيهم كما في دعاء الافتتاح في شهر رمضان المبارك.
ثانياً: ولدي لقد اشتد لحمك، وعظمك علماً وعملاً من بركات الحوزات العلميّة، فكن ولدها البار الصالح، واخدمها بكلّ ما أوتيت من قوة وبسطة في العلم والجسم، ولا تتحدّاها يوم من الأيام في عرض مسألة تبدو لك انها علمية وقد انفرد بها، فإن التحدي يكون للخصم، والحوزة العلمية ليست خصماً لك بل هي امّك الحاضنة والحاضرة، بل قدّم ما عندك من إبداع لكل تواضع خدمة للعلم والدين والمذهب والحوزة وعلمائها وطلابها، فالتحدي للخصوم وأما الأصدقاء، فيقدم لهم الخدمات الخالصة وبذل المعروف، واعلم ان ما أوتيتم من العلم إلّا قليلاً، وفوق كل ذي علم عليهم، وقل ربي زدني علماً وألحقني بالصالحين، وان العلم حجاب نوراني لو بقيت فيه منشغلاً بزيادة الفروع والتشعيب وبالغرور والكبرياء كان هو الحجاب الأكبر، فالمفروض ان تحرق حجب النور لتصل إلى معدن العظمة.
ثالثاً: احذر كل الحذر من الافراط والتفريط فإنهما من الرذائل وطرفي الفضيلة، وكن مؤدباً في أفعالك وأقوالك واحترم آراء الآخرين، ولا تسفه عقولهم لتسحب البساط العلمي من تحت أرجهلم، وتشعر في نفسك الأمارة بالسوء إنك أعلم من غيرك، فهذا هو الحجاب الأكبر والمنزلق الأعظم لأهل العلم، فالحذار الحذار من النفس الأمارة من وساوس وغرور شياطين الجن والإنس.
رابعاً: ولدي إن المرجعية في زمن الغيبة الكبرى بما مر من صاحب الأمر أمام زماننا (عليه السلام)، فمشروعيتها وقدسيتها منه وإليه، وإنها عقل التشيع المفكر والمدبّر، وقلب الشيعة النابض والحي، فلولاها لضاع الدين واندرس معالمه، فإيّاك أن يسلب الشيطان حلمك وعقلك، فتهجم عليها وتضّعف كيانها بين الموالين بحجة التطهير والتعديل والتصحيح، فهذه من تسويلات إبليس اللعين، وانه ممّا يفرح به أعداء أهل البيت (عليهم السلام)، وانهم في عصرنا هذا ليفرحون بما تقوله من الهجوم الصبياني والطفولي ويثنونه على قناواتهم الفتنة وفضائياتهم البغيضة فالحذار الحذار، واتق الله في ايتام آل محمد اكفاهم ما يرونه من الظلم والجور من قبل أعدائهم، فلا تزيد في المحنة والمصيبة، ولا تزيد في الطين بلّة، والله العاصم وإنك لتعلم ان حجية المراجع العظام انما هو من حجية صاحب الزمان (عليه السلام) كأنهم من أبرز مصاديق رواة الحديث أو الفكر المتبقي منهم في عصرنا هذا فإنه حجة الله عليهم كما هم حجته على الأمة في غيبته والراد عليهم في حدّ الشرك(18). نعم لك أن تبين زيف من يدعي المرجعية وهو ليس من أهلها، كما أدبنا أهل البيت (عليهم السلام) في بيان علماء السوء بذكر أوصافهم وحالاتهم كحبّهم لدنيا إذا رأيتم العالم مقبلاً على دنياه مفتون بها فاتهموه إلى لا تأخذوا دينكم منه، كما بينوا أوصاف العلماء الصالحين وكذلك أوصاف المراجع والفقيه الذي يجب تقليده لمن لم يكن مجتهداً ولا محتاطاً، تقولهم (من كان حافظاً لك فيه معادن لنفسه لطيف لمولاه من لف كهواه فعلى العوام أن يقلدوه، أسأل الله أن يعصمك من الزلل والخطأ آمين.
التعارض بين توقيع الشريف وبين الاخبار والقصص
خلاصة ما ذكر: إن هناك من الأعلام من يرى التعارض بين الخبر والتوقيع الشريف وبين الأخبار والقصص المتواتر القطعيّة الدّالة على وقوع الرؤية البصرية وتشرف اللقاء ومعرفة صاحب الزمان (عليه السلام).
وبطبيعة الحال مع وجود التعارض أما أن يقال بالجمع بين تلبية كما هو المعروف أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح يجمع عرض إذا كان من العام والخاص والمطلق والمعتد يحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد، أو يجمع تبرس من قبل الفقيه نفسه إذا كان له شاهد من الكتاب أو السنة أو العقل، وإن لم يمكن الجمع فيرجع أولاً إلى الأخبار العلاجيّة من الأخذ بالمرجحات الداخلية والخارجية فتؤخذ بما هو الأرجح وإن كان التكافؤ والتساوي بين الخبرين المتعارضين فيقلل حينئذ اما بالتساقط والرجوع إلى العموم الفوقاني أو الأصل العملي أو يقال بالتخيير الابتدائي على اختلاف المباني في أصول الفقه.
وفي المقام من قال بالتّعارض فإنه قدّم الأخبار المتواترة للمناقشة في سند التوقيع بكونه مرسلاً وضعيفاً وأعراض الأصحاب عنه أو في الدّلالة، بان المراد من المشاهدة ادعاء السفارة والوكالة الخاصة بقرنية سياق الكلام أو الانصراف، وليس مطلق المشاهدة.
وقد ذكروا وجوهاً أخرى لدفع التعارض منها:
ما ذكره المحدث النوري قدّس سرّه في جنّة المأوى(19).
الثالث: ما يظهر من قصة الجزيرة الخضراء: قال الشيخ الفاضل علي بن فاضل المازندراني فقلت للسيد شمس الدين... يا سيدي قد روينا عن مشايخنا أحاديث عن صاحب الأم (عليه السلام) انه قال: لمّا أمر بالغيبة الكبرى: من رأى بعد غيبتي فقد كذب، فكيف فيكم من يراه؟ فقال: صدقت انه (عليه السلام) إنما قال ذلك في ذلك الزمان لكثرة أعدائه من أهل بيته، وغيرهم من فراعنة بني العبّاس، حتى أن الشيعة يمنع بعضها بعضاً عن التحدث بذكره، وفي هذا الزمان تطاولت المدة وأيس منه الأعداء، وبلادنا نائية عنهم، وعن ظلمهم وعنائهم الحكاية (البحار: 52: 151 باب من ادعى الرؤية في الغيبة الكبرى، قال المحدث النوري: وهذا الوجه كما أتى يجري في كثير من بلاد أوليائه (عليهم السلام).
أقول: وعبارته هذه أشار إلى إمكان وقوع رؤيته في البلاد الشيعية الموالية لأهل البيت (عليهم السلام)، وأمّا جزيرة الخضراء وما فيها واحتمال أن تكون هي جزيرة برمودا، فأقول فيها ما قال الشيخ الرئيس ابن سينا: (كلّما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان حتى تجد له دليلاً) فلا استحالة في ذلك وأدرى حينئذ في بقعة الإمكان فيمكن أن تكون مثل هذه الجزيرة إلا انه ليس له دليل يعتمد عليه حتى أقرّ بها، والله العالم، ولكن توجيه الرؤية مع ما ذكره من الأحاديث المروية عن صاحب الزمان، ولا يخفى ان المروي فعلاً هو حديث واحد وهو التوقيع الشريف الذي علمت ما فيه من المناقشات في السند والدلالة، كما فيه ذلك ادعى المشاهدة فهو كذّاب مفتر وليس فيه (من رآني بعد غيبتي فقد كذب) فربما نقل ذلك بالمعنى، وأي كان فالمقصود أنه إنّما وصف من يدعي المشاهدة بالكذب والافتراء في زمان خاص كزمان التقية والخوف من كثرة الأعداء، ولكن عند ارتفاع التقية وتحققه لا من الأمان فلا مانع من الرؤية فيكون حكم المنع تابع لموضوع خاص، وإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم، فتأمل.
منها: ما ذكره المحدث النوري أيضاً فقال:
الرابع: ما ذكره العلامة الطباطبائي في رجاله في ترجمة الشيخ المفيد بعد ذكر التوقيتات (البحار: 53: 174 - 178) المشهورة الصادرة منه (عليه السلام) في حقّه - أي في حق الشيخ المفيد وهي ثلاث توقيعات - ما لفظه: وقد يشكل أمر هذا التوقيع بوقوعه في الغيبة الكبرى، مع جهالة المبلّغ أي البريد والساعي أو الذي بلّغ التوقيع من الناحية المقدسة - ودعواه المشاهدة المنافية بعد الغيبة الصغرى.
ويمكن دفعه: باحتمال حصول العلم بمقتضى القرائن، واشتمال التوقيع على الملاحم والأخبار عن الغيب الذي لا يطلع عليه إلّا الله وأولياؤه بإظهاره لهم، وأنّ المشاهدة المنفية أن يشاهد الإمام (عليه السلام)، ويعلم أنه الحجة (عليه السلام) حال مشاهدته له ولم يعلم من المبّلغ ادّعاؤه لذلك.
أقول: فهذا يعني انه رأى الإمام (عليه السلام) وأخذ منه التوقيع لإيصاله إلى أهله وكان يعرف انه إمام زمانه وحجة الله إلّا أنه في بلاغه لم يدّعى ذلك أو لم يعلم منه ادعاؤه لذلك، فلا منافاة حينئذٍ بين وقوع الرؤية البصرية في زمن الغيبة الكبرى وبين التوقيع الدالة على أن مدّعي المشاهدة كذّاب مفتر.
ثم قال المحدث النوري: وقال (رحمه الله) - أي العلامة الطباطبائي قدّس سرّه - في فوائده في مسألة الإجماع، بعد اشتراط دخول كلّ من لا نعرفه - ولو كان من نفرين نعرف أحدهما ونجهل الآخر منذ ما يسمى بالإجماع التعبدي الكاشف من قول المعصوم عبيد بالحدس أو اللطف أو الوجوه الأخرى المذكورة في علم أصول الفقه - وربما يحصل هذا الإجماع التعبّدي لبعض حفظة الأسرار من العلماء الاسرار العلم بقول الإمام (عليه السلام) بعينه على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في مدة الغيبة الكبرى، فلا يسعه التصوع من جهة هذا المتشرف بلقائه كما ينقل ذلك عن السيد مهدي بحر العلوم وانه لدواعي الاجماع يقبل منه بنسبة القول إليه (عليه السلام) مباشرة - فيبرزه في صدرة الإجماع، جمعاً بين الأمر بإظهار الحقّ والنهي عن إذاعة مثله بقول مطلق. انتهى كلامه.
أقول: ورد من الناحية المقدسة توقيعات لشيخنا المفيد قدّس سرّه منها ما ورد في أيام بقيت من صفر سنة عشر وأربعمائة، ذكر موصله أنه تحمله من ناحية متصلة بالحجاز نسخته: (للأخ السديد والوحي الرشيد، الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان دام الله إعزازه من مستوع العهد المأخوذ على العباد بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين المخصوص فينا باليقين، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا نبينا محمد وآله الطاهرين ونعلمك أدام الله توفيقك لنصرة الحق، وأجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصدق، أن قد أذن لنا في تشريفك بالمطابقة وتكليفك ما تؤديه عنّا إلى موالينا قبلك، أغرهم الله بطاعته، وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته... إلى أن يقول (عليه السلام) : إنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء - أي الشدة - واصطفاكم الأعداء فاتقوا الله جلّ جلاله...)(20).
ومنها: كما ذكره المحدث النوري في جنّته لقال:
الخامس: ما ذكره العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في الفوائد أيضاً بقوله: وقد يمنع أيضاً امتناعه في شأن - أي إنما يقال بامتناع الرؤية لا للخواص، فإن هناك من الخواص من يشرف بلقائه فيمنع امتناع الرؤية في شأن الخواص - وإن اقتضته النصوص بشهادة الاعتبار ودلالة بعض الآثار.
ولعل مراده بالآثار الوقائع المذكورة هنا وفي البحار - أي القصص والحكايات المتواترة والقطعية الدالة على الرؤية في زمن الغيبة الكبرى - أو خصوص ما رواه الكليني في الكافي والنعماني في غيبته والشيخ الطوسي في غيبته بأسانيدهم المعتبرة - كما مرّ بالتفصيل في بيان طوائف من الاخبار معارضة للتوقيع الشريف، نورد عن الإمام الصادق أبي عبد الله (عليه السلام) - أنه قال: لابدّ لصاحب هذا الأمر من غيبته، ولابدّ له في غيبته من عزلة، ما بثلاثين من وفتنة (الكافي: 1: 340 وغيبة النعماني: 99 وغيبة الشيخ: 111) وقد ذكره المجلسي رضوان الله عليه في ج52 ص153 و157 وقال: يدل على كونه (عليه السلام) غالباً في المدينة وحواليها، وعلى أن معه ثلاثين من مواليد وخواصّه، إن مات أحدهم قام آخر مقامه).
وظاهر الخبر كما صرّح به شّراح الأحاديث: أنه (عليه السلام) يستأنس بثلاثين من أوليائه في غيبته.
وقيل: إن المراد من الثلاثين - أنه على هيئة من سنّه ثلاثون أبداً، وما في هذا السن وحشة، وهذا المعنى بمكان من البعد والغرابة.
وهذه الثلاثون الذين يستأنس بهم الإمام (عليه السلام) في غيبته لابدّ أن يتبادلوا في كل قرن إذ لم يقدر لهم من العمر ما قدر لسيّدهم (عليه السلام)، ففي كل عصر يوجد ثلاثون مؤمناً ولياً يتشرفون بلقائه.
ثم المحدث قدّس سرّه يستشهد باعتبار اخرى فيقول: وفي خبر علي بن إبراهيم بن مهزيار الاهوازي المروي في المال الدين وغيبته الشيخ - ونقله المجلسي قدّس سرّه في ج2، ص9 و32 فراجع - ومسند فاطمة (عليها السلام) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري وفي لفظ الأخير أنه قال له الفتى الذي لقيه عند باب الكعبة وأوصله إلى الإمام (عليه السلام) : ما الذي تريد يا أبا الحسن: قال: الإمام المحجوب عن القائم، قال: ما هو محجوب عنكم - ولكن حجبه سوء أعمالكم الخبر.
وفيه اشارة إلى أن من ليس له عمل سوء فلا شيء يحجبه عن إمامه (عليه السلام) وهو من الأوتاد أو من الأبدال في الغلام المتقدم عن الكفعمي (رحمه الله).
ثم يشير المحدث مرة أخرى إلى مسألة الإجماع الكاشف عن قول المعصوم (عليه السلام) فقال: وقال المحقق الكاظمي في أقسام الإجماع المصطلح المعروف - وهو الكاشف من قول المعصوم (عليه السلام) :
وثالثها: أن يحصل لأحد من سفراء الإمام الغائب عجل الله فرجه والعلم بقوله اما بنقل مثله له سرّاً، أو بتوقيع أو مطالبة، أو بالسماع منه شفاهاً، على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في زمن الغيبة، ويحصل ذلك لبعض حملة أسرارهم، ولا يمكنهم التضرع بما اطلع عليه والإعلان بمناسبة القول إليه، والاتّكال في إبراز المدعّى على غير الاجماع من الأدلة الشرعية لفقدها.
وحينئذٍ فيجوز له إذا لم يكن مأموراً بالإخفاء أو كان مأموراً بالإظهار لا على وجه الإنشاء أن يبرزه لغيره في مقام الاحتجاج بصورة الإجماع، خوفاً من الضياع - لو لم يقل ذلك - وجمعاً بين امتثال الأمر بإظهار الحق بقدر الإمكان، وامتثال النهي عن إذاعة مثله لغير أهله من أبناء الزمان، ولا ريب في كونه حجة أمّا لنفسه فلعلمه بقول الإمام (عليه السلام) - أي من جهة القطع والقطع حجة وأنا لغيره فللكشف عن قول الإمام عليه - ولو بالظن الكاشف - غاية ما هناك أمة يستكشف قول الإمام (عليه السلام) بطريق غير ثابت، ولا ضير فيه، بعد حصول الوصول غلى ما أنيط به حجية الإجماع، ولصحة هذا الوجه والمكانة شواهد تدل عليه:
فيذكر المحدث جملة من الشواهد: منها: تثير من الزيارات والآداب والأعمال المعروفة التي تداولت بين الإمامية ولا مستند لها ظاهراً من أخبارهم، ولا من كتب قدمائهم الواقعين على آثار الأئمة (عليهم السلام) وأسرارهم، ولا أمارة تشهد بان منشأها أخبار مطلقة، أو وجوه اعتبارية مستحسنة، هي التي دعتهم إلى انشائها ترتيبها، والاعتناء بجمعها وتدوينها كما هو الظاهر من جملة منها، نعم لا نضائق في ورود الاخبار في بعضها... ثم يشير المحدث إلى مقولة السيد المرتضى في كتاب تنزيه الأنبياء في جواب من قال: فإذا كان الإمام (عليه السلام) غائباً بحيث لا يصل إليه أحد من الخلق ولا ينتفع به، فما الفرق بين وجوده وعدمه - إلى آخر ما يقال من الاشكال.
قلنا: الجواب أوّل ما نقوله: إنا غير قاطعين على أن الإمام لا يصل إليه أحد، ولا يلقاه بشر، فهذا أمر غير معلوم، ولا سبيل إلى القطع عليه - إلى آخره -.
وقال أيضاً في جواب من قال: إذا كانت اللّيلة في استتار الإمام خوفه من الظالمين، واتّقاءه من المعاندين، فهذه العلة زائلة في أوليائه وشيعته، فيجب أن يكون ظاهراً لهم، فأجاب عن ذلك ثم بعد كلام له قال: وقلنا أيضاً إنه غير ممتنع أن يكون الإمام يظهر لبعض أوليائه ممّن لا يخشى من جهته شيئاً من أسباب الخوف، وإن هذا ممّا لا يمكن القطع على ارتفاعه وامتناعه، وإنما يعلم كلّ واحد من شيعته حال نفسه، ولا سبيل له إلى العلم بحال غيره.
وقال الشيخ الطوسي رضوان الله عليه في كتاب الغيبة في الجواب عن هذا السؤال بعد كلام له: والذي ينبغي أن يجاب عن هذا السؤال الذي ذكرناه عن المخالف أن نقول: إنا اولا لا نقطع عن استتاره عن جميع أوليائه، بل يجوز أن يبرز لأكثرهم، ولا يعلم كلّ إنسان إلّا حال نفسه، فإن كان ظاهراً له فعلّته مزاحمة - أي أز بحث علّته - وإن لم يكن ظاهراً علم أنه إنما لم يظهر لأمر يرجع إليه.
وإن لم يعلمه مفصّلاً لتقصير من جهته - إلى آخره وقد ذكر العلامة المجلسي في بحاره ج51 ص196 مستوفي عن كتاب الغيبة للشيخ الطوسي قدس سرهما 75 فراجع.
ثم قال المحدث النوري قدّس سرّه : وتقدم كلمات للسيد علي بن طاووس تناسب المقام خصوصاً قوله: مع أنه (عليه السلام) حاضر مع الله جل جلاله على اليقين، وإنما غاب من لم يلقه عنهم، لغيبته عن حضرة المتابعة له ولرب العالمين.
ثم قال المحدث عليه الرحمة في نهاية الوجوه الخمسة: وفيما نقلناه من كلماتهم وغيرها مما يطول بنقله الكتاب كفاية لرفع الاستعباد - أي يستبد رؤية الإمام في غيبته الكبرى أخذاً بالتوقيع - وعدم حملهم الخبر على ظاهره - بل لابد من التصرف بالظاهر كحمله على ادعاء السفارة الخاصة - وصرفه إلى أحد الوجوه التي ذكرناها - جمعاً بين الأخبار في مقام التعارض.
فمثله أقول: فثبت إلى هنا أن من ينكر رؤية الحجة بالبصر في أيام غيبته الكبرى أو يستبعد ذلك تمسكاً بالخبر التوقيعي من القول الشاذ الذي لا يعبأ به لقوة ما يستدل به المشهور كما مرّ.
ومن الوجوه المذكور لرفع التعارض بين التوقيع الشريف والأخبار القطعية ما ذكره المحدث النوري أيضاً في جنة مأواه فقال:
السادس: أن يكون المخفي عن الأنام والمحجوب عنهم مكانه (عليه السلام) ومستقره الذي يقيم فيه فلا يصل إليه أحد، ولا يعرفه غيره حتى ولده - بناء على القول بأن له أولاد - فلا ينافي في لقاءه ومشاهدته في الأماكن والمقامات التي قد مرّ ذكر بعضها، وظهوره عند المضطّر المستغيث به، الملّجي إليه التي انقطعت عنه الأسباب، وأغلقت دونه الأبواب.
أقول: والاستغاثة بالرسول الأكرم والعترة الطاهرة من الثوابت في مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وأن صاحب الزمان عليه بثقات به فهو المغيث بإذن الله لمن ناداه، واستغاثه في الشدائد والمحن والمصائب كما في قصة الرّمانة وغيرها التي لا تحصى لكثرتها، وما غاب عنا أكثر لمّا وصل إلينا.
فأولياءه ومواليد وشيعته عند استغاثتهم به يغثهم بنفسه أو برجال الغيب من الأوتاد والأبدال والصالحين، وهذا لا يتنافى مع عظمة امامته وشموخها هل الإمام يعني مؤسسة خيرية يرشد الضائعين في الصحراء بل يدل على لطف الإمام وعنا يعد بشيعته كما ورد هذا المعنى في كثير من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) وان الرسول الأعظم قال: أنا مسكين وأحبّ المساكين وأجالس المساكين فهذا لا يتنافى مع عظمة الإمامة والنبوة كما تصوره بعض المعاصرين هداهم الله، وكذلك ما ورد في توفيقاته الشريفة (عليه السلام) وأنه (إنا غير مهملين لكم ولا ناسين لذكركم)(21).
فلا ضير أن يلتقي بالإمام المهدي (عليه السلام) جمع من خواص شيعته، كما ورد في الروايات الشريفة روي الكليني بسنده عن إسحاق بن عمار قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : للقائم غيبتان إحداهما قصيرة والأخرى طويلة: الغيبة الأولى لا يعلم بمكانه الا خاصة شيعته، والأخرى لا يعلم بمكانه فيها إلى خاصة مواليه...
وليس في تلك القصص المتواترة والقطعية ممّا يدل على أنّ أحداً لقيه (عليه السلام) في مقرّ سلطنته ومحلّ إقامته.
ثم لا يخفى على الجائر في خلال ديار الأخبار: أنّه (عليه السلام) ظهر في الغيبة الصغرى لغير خاصتّه ومواليه أيضاً، فالذّي انفرد به الخواص في الصغرى هو العلم بمستقره وعرض حوائجهم عبيد السلام فيه فهو المنفي عنهم في الكبرى، فحالهم وحال غيرهم فيها كغير الخواص في الصغرى، والله العالم(22). انتهى كلامه رفع الله مقامه.
أقول وهذا الوجه ما أشار إليه أيضاً الشهيد الصدر الثاني قدّس سرّه في كتابه الشريف (تاريخ الغيبة الصغرى) إلا انه بأسلوب آخر كما سياتي.
ثم ما ذكرناه من الوجوه إنما كان لمن قال بالتّعارض بين التوقيع الشريف وبين الاخبار والقصص المتواترة، ولكن الشهيد الصدر الثاني قدّس سرّه يذهب إلى عدم التعارض بينهما وأجاد فيها أفاد، ولا بأس بالإشارة إلى ما قاله في هذا المقام بنعّم الفائدة ويكمل البحث.
مع الشهيد الصدر الثاني في كتابه (تاريخ الغيبة الصغرى):
لقد ذكر قدّس سرّه ابتداء الخبر والتوقيع الشريف ثم يذكر ما يستفاد من الخبر من أُسعد جديدة فقال: فترى الإمام المهدي (عليه السلام) قد أكد في هذا البيان على أمور:
الأول: إخباره بموت الشيخ الشمري في غضون ستة أيام، وهو من الأخبار بالغيب الذي نقول بإمكانه للإمام (عليه السلام).
الثاني: تهيئة عن أن يوصي إلى أحد، ليقوم مقامه، ويضطلع بمهام السفارة بعد وفاته، وبذلك يكون هو أكثر السفراء، ولا سفير بعده، ويكون خط السّفارة قد انقطع وعهد الغيبة الصغرى قد انتهى.
الثالث: أنه لا ظهور الّا بأذن الله تعالى ذكره، وهذا معناه الإغماض في تاريخ الظهور، وإيكال علمه إلى الله وحده وارتباطه بإذنه عز وجل.
ولهذا الإغماض عدّة فوائد، أهمها اثنان:
الأولى: بقاء قواعده الشعبية منتظره في كل حين، متوقفة ظهوره في أيّ يوم، وهذا الشعور الإيجابي إذ أوجد لدى الفرد فإنه يحمله على السّلوك الصالح وتقويم النفس ودراسة واقعه المعاش، ومعرفة تفاصيل دينه جهد الإمكان، ليحظى ويفوز في لحظة الظهور بالزلّفى لدى المهدي (عليه السلام) والقرب منه ولا يكون من المغضوب عليهم لديه، أو المبعدين عن شرف ساحته...
الثانية: حماية الإمام المهدي (عليه السلام) من أعدائه بعد ظهوره، فإنّ الإغماض في التاريخ يوفّر محض المفاجئة والمباغتة للعدو على حين غرة منه، وهو من أقوى عناصر النصر وأسبابه...
الرابع: الإشارة إلى أن أمد الغيبة التّامة الكبرى سوف يكون طويلاً مديداً.
وإنما ينعى الإمام المهدي (عليه السلام) على ذلك ليجعل الفرد المؤمن من قواعده الشعبية، مسبوقاً ذهنها بطول الغيبة ومتوقعاً لتماديها، خلالها خذه الياس بل بعثني الأهل دائماً - أو يتلبسه الشك مهما طالت أو تمادق، وان أصبحت آلاف السنين - وطول الأمد لا ينافي لانتظار اليومي أن يتوقع الظهور في كل يوم وكل شهر وكل عام فإنه لفظ عام ينطبق على السنين القليلة وعلى السنين الطويلة...
الخامس: الإشارة إلى قسوة القلوب، والمراد به ضعف الدافع الايماني، والشعور بالمسؤولية والمشارخة على الانحراف، بل سقوط أغلب أفراد المجتمع المسلم به...
السادس: الإشادة إلى امتلاء الأرض جوراً، وهذا ما يدل عليه الحديث المستفيض عن رسول الله خليل الله عند جميع المسلمين انه يظهر في آخر الزمان ليمكن الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، كما يدل على فشل أكثر البشر في الامتحان الإلهي خلال الغيبة الكبرى، وسيطرة المادة واشباع الشهوات عليهم، وضعف الوازع الديني وإلّا فلاتي إلى حدّ كبير جداً في المسلمين واما غيرهم فحدث ولا حرج من حيث انظارهم لأهل الدين الإسلامي وأساس التوحيد، ومن حيث عدائهم وموقفهم المخرب تجاه الإسلام والمسلمين...
السابع: اشار (عليه السلام) إلى إثبات حدوث السفياني والصيحة فانهما من العلائم الحتمية وأنه أمر حق لا محيص عن قبيل خروج الإمام المهدي (عليه السلام) وظهوره، وهذا ما دل عليه كثير من الاخبار عند الفريقين.
الثامن: إن من أدى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو مفتر كذاب، وهذا واضح في مدلوله وان المراد منه احتجاب الإمام المهدي (عليه السلام) عن الناس حتى زمان هاتين العلامتين، فمن الواجب تكذيب كل من أدعى رؤية المهدي (عليه السلام) قبل تحقق ذلك.
ثم يتعرض إلى ما تعرض غيره الله من وقوع الاصطدام والتعارض بين هذا التوقيع الشريف وبين الاخبار القطعية المتواترة الدالة على البقاء والشرف والرؤية في زمن الغيبة الكبرى ولا يمكن الطعن فيها فلابد من قبولها وتصديقها في الجملة، مع أن التوقيع لمهدوي يوجب علينا تكذيبه، فكيف يتم ذلك وما هو الجمع بينه وبين تلك الأخبار.
ثم يذكر ما قيل أو يمكن أن قبال من وجوه الجمع - لو حصلت المعارضة - إذ أنه يذهب إلى عدم بينهما ولكن لو قيل بالتعارض وحصلت المعارضة، فإنه يقال في دفعها عدة وجوه:
الوجه الأول: الطعن في سند التوقيع الشريف ورواته، واسقاطه عن الاعتبار فيؤخذ بالطائفة الثانية من الاخبار وهذا ما تعرّضنا إليه سابقاً فلا نعبد.
الوجه الثاني: الطعن في الأخبار الناقلة لمشاهدة الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى سنداً، حتى يبقى التوقيع بلا معارض ويتم الحكم على ضوئه، فيقال بضعف السند من ناحية رواتها والشطب عليهما جملة وتفصيلاً كما قد يميل إليه المفكرين المحدثين - أي كأصحاب العقول العلمانية وإن كانوا من الحوزويين ترجم بالثقافة والحضارة الغربية، أو منفعلاً بأفكار والقاءات ممن يحترشوه من الشباب المتجدد من أمريكا وأوروبا، فيدعى أن هذه كلها قصص وحكايات ضعيفة الاسناد ينقلها المحدث النوري في جنّة المأوى وانه شغوف بالقصص الوهميّة أو الخيالية - ثم قال الشهيد الصدر الثاني قدّس سرّه : إلّا إن هذا ممّا لا سبيل إلى تصديقه، فإنها طائفة ضخمة من الأخبار قد يصل عددها إلى عدة مئات، على أن بعضها مروي بطرق معتبرة وقريبة الاسناد، فلا يمكن رفضها بحال، وهذا كله واضح لمن استقرأ تلك الأخبار وعاش أجواءها، وسيأتي الكلام عنها في التاريخ المقاوم عن الغيبة الكبرى إن شاء الله تعالى.
الوجه الثالث: الطعن في الأخبار الناقلة للمشاهدة بحسب الدلالة والمضمون - لا من جهة السند أي المناقشة في الدلالة وذلك بأحد نحوين:
الأول: أن تحمل هذه الاخبار على الوهم، وأن هؤلاء الذين زعموا أنهم رأوا وسمعوا... لم يرو لم يسمعوا وان كان كلامهم كذباً متعمداً أو أضغاث أحلام، ولو من قبيل أحلام اليقظة، وهذا هو الوجه الذي قد يميل إليه المفكرون المتأثرون بالمبادئ المادية الحديثة - أو قل أصحاب العقول الليبرالية والعلمانية - إلا أن هذا أيضاً مما لا يمكن الاعتراف به، فإن كثرتها مانعة عن كلا الأمرين: إما تعمد الكذب فهو لما يغطيه التواتر، فضلاً عما زاد عن ذلك بكثير، مضافاً إلى وثاقة وتقوى عدد مهم من الناقلين - كالسيد مهدي بحر العلوم - وعدم احتمال تعمّد هم للكذب أساساً.
وأما كونها من قبيل الأوهام والأحلام، فهو مما ينفيه تكاثر النقل أيضاً، بل يجعل الاعتراف في عداد المستحيل، وتستطيع أن تجد أثر ذلك في نفسك، فلو أخبرك واحد لكان احتمال الوهم موجوداً، وإن كان موهوناً، إلّا أنه لو أخبرك ثلاثة أو أربعة بحاثة معينة لحصل لك الاطمئنان أو العلم بصدق الخبر وحصول الحادثة فضلاً عما إذا أخبرك بها عشرة، فكيف إذا أخبرك به العشرات بل المئات، وجعل تستطيع أن تحملهم كلهم على الوهم أو أحلام اليقظة، إلا إذا كنت تعيش الوهم أو أحلام اليقظة.
الثاني: أن يقول قائل: إن الناقلين للمشاهدة، وإن كانوا صادقين وغير واهمين، فإنه قد عاشوا حادثة حسيّة معينة، إلا أنهم في الحقيقة لم يشاهدوا الإمام المهدي (عليه السلام)، بل شاهدوا غيره وتوهموا أنه هو على غير الواقع.
إلا أن هذا غير صحيح أيضاً لأمرين:
أوّلاً: إنه مما ينفيه التواتر، فضلاً عمّا زاد عليه من أعداد الروايات والنقول أن يحصل القطع بأنّ المجموع لم يكونوا مغفّلين بهذا الشكل، بل أن بعضهم - ان لم يكن كلّهم - قد شاهدوا المهدي (عليه السلام) نفسه.
ثانياً: إنه كما تنفيه الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة التي يقيمها المهدي (عليه السلام) أثناء المقابلة، وينقله هؤلاء الناقلون مما لا يمكن صدورها من أحد سواه، فيتعين أن يكون هو الإمام المهدي (عليه السلام) دون غيره وسيأتي التعرض إلى هذه الدلائل في التاريخ القادم.
أقول: ولا بأس أن أشير إلى بعضها إجمالاً كنموذج وشاهد، ان الذي تشرف بخدمته عرف انه إمام زمانه لصدرها صدر منه ما لم يصدر إلّا من الإمام المعصوم (عليه السلام) كما كان يحدث ذلك في عصر حضورهم، فكثير فمن استبصر وآمن بولايتهم عندما رأى منهم ما يدلّ على امامتهم وولايتهم كإخبارهم بالغيب.
في رحاب العلمين الجليلين والمحدثين الكبيرين:
مع العلامة المجلسي قدّس سرّه في بحار أنواره:
البحار: 52: 174 باب نادر فيمن رآه (عليه السلام) قريباً من زماننا:
قال قدّس سرّه : ولنلحق قبلك الحكاية بعض الحكايات التي سمعتها عمَن قرب من زماننا.
فمنها: ما أخبرني جماعة عن السيّد الفاضل أمير علّام قال: كنت في بعض اللّيالي في صحن الرَّوضة المقدَّسة بالغريّ على مشرَّفها السّلام وقد ذهب كثير من اللّيل، فبينا أنا أجول فيها، إذ رأيت شخصاً مقبلاً نحو الرَّوضة المقدَّسة فأقبلت إليه فلمّا قربت منه عرفت أنّه أُستاذنا الفاضل العالم التقيُّ الذكيُّ مولانا أحمد الأردبيلي قدَّس الله روحه.
فأخفيت نفسي عنه، حتى أتى الباب، وكان مغلّقاً، فانفتح له عند وصوله إليه، ودخل الرَّوضة، فسمعته يكلّم كأنّه يناجي أحداً ثمَّ خرج، وأُغلق الباب فمشيت خلفه حتّى خرج من الغريّ وتوجّه نحو مسجد الكوفة.
فكنت خلفه بحيث لا يراني حتّى دخل المسجد وصار إلى المحراب الّذي استشهد أمير المؤمنين صلوات الله عليه عنده، ومكث طويلاً ثمَّ رجع وخرج من المسجد وأقبل نحو الغريِّ.
فكنت خلفه حتّى قرب من الحنّانة فأخذني سعال لم أقدر على دفعه، فالتفت إليَّ فعرفني، وقال: أنت مير علّام؟ قلت: نعم، قال: ما تصنع ههنا؟ قلت: كنت معك حيث دخلت الرَّوضة المقدَّسة إلى الآن وأُقسم عليك بحقِّ صاحب القبر أن تخبرني بما جرى عليك في تلك اللّيلة. من البداية إلى النّهاية.
قال: اُخبرك على أن لا تخبر به أحداً ما دمت حيّاً فلمّا توثّق ذلك منّي قال: كنت أُفكّر في بعض المسائل وقد أغلقت عليَّ، فوقع في قلبي أن آتي أمير المؤمنين (عليه السلام) وأسأله عن ذلك، فلمّا وصلت إلى الباب فتح لي بغير مفتاح كما رأيت فدخلت الرَّوضة وابتهلت إلى الله تعالي في أن يجيبني مولاي عن ذلك، فسمعت صوتاً من القبر: أن ائت مسجد الكوفة وسل عن القائم (عليه السلام) فانّه إمام زمانك فأتيت عند المحراب، وسألته عنها واُجبت وها أنا أرجع إلى بيتي.
ومنها ما أخبرني به والدي (رحمه الله) قال: كان في زماننا جل شريف صالح كان يقال له: أمير إسحاق الاستراباديُّ، وكان قد حجَّ أربعين حجّة ماشياً وكان قد اشتهر بين النّاس أنّه تطوى له الأرض.
فورد في بعض السّنين بلدة اصفهان، فأتيته وسألته عمّا اشتهر فيه، فقال: كان سبب ذلك أنّي كنت في بعض السّنين مع الحاجِّ متوجّهين إلى بيت الله الحرام فلمّا وصلنا إلى موضع كان بيننا وبين مكّة سبعة منازل أو تسعة تأخّرت عن القافلة لبعض الأسباب حتّى غابت عنّي، وضللت عن الطريق، وتحيّرت وغلبني العطش حتّى أيست من الحياة.
فناديت: يا صالح يا أبا صالح أشدونا إلى الطريق يرحمكم الله فتراءى لي في منتهى البادية شبح، فلمّا تأمّلته حضر عندي في زمان يسير فرأيته شابّاً حسن الوجه نقيَّ الثياب، أسمر، على هيئة الشرفاء، راكباً على جمل، ومعه أداوة، فسلّمت عليه فردَّ عليَّ السّلام وقال: أنت عطشان؟ فقلت: نعم فأعطاني الأداوة فشربت ثمَّ قال: تريد أن تلحق القافلة؟ قلت: نعم، فأردفني خلفه، وتوجّه نحو مكّة.
وكان من عادتي قراءة الحرز اليمانيِّ في كلّ يوم، فأخذت في قراءته فقال (عليه السلام) في بعض المواضع: اقرأ هكذا، قال: فما مضى إلّا زمان يسير حتّى قال لي: تعرف هذا الموضع؟ فنظرت فإذا أنا بالأبطح فقال: انزل، فلمّا نزلت رجعت وغاب عنّي.
فعند ذلك عرفت أنّه القائم (عليه السلام) فندمت وتأسّفت على مفارقته، وعدم معرفته فلمّا كان بعد سبعة أيّام أتت القافلة، فرأوني في مكّة بعد ما أيسوا من حياتي فلذا اشتهرت بطيّ الأرض.
قال الوالد... (رحمه الله) -: فقرأت عنده الحرز اليمانيَّ وصحّحته وأجازني والحمد لله.
ومنها ما أخبرني به جماعة عن جماعة عن السيّد السّند الفاضل الكامل ميرزا محمد الاستراباديِّ نوَّر الله مرقده أنّه قال: إنّي كنت ذات ليلة أطوف حول بيت الله الحرام إذ أتى شابٌّ حسن الوجه، فأخذ في الطواف، فلمّا قرب منّي أعطاني طاقة ورد أحمر في غير أوانه، فأخذت منه وشممته، وقلت له: من أين يا سيّدي، قال: من الخرابات ثمَّ غاب عنّي فلم أره.
ومنها ما أخبرني به جماعة من أهل الغريِّ على مشرَّفه السّلام أنَّ رجلاً من أهل قاشان أتى إلى الغريّ متوجّها إلى بيت الله الحرام، فاعتلَّ علّة شديدة حتّى يبست رجلاه، ولم يقدر على المشي، فخلّفه رفقاؤه وتركوه عند رجل من الصّلحاء كان يسكن في بعض حجرات المدرسة المحيطة بالرَّوضة المقدَّسة، وذهبوا إلى الحجِّ.
فكان هذا الرّجل يغلق عليه الباب كلّ يوم، ويذهب إلى الصحاري للتنزّه ولطلب الدَّراري الّتي تؤخذ منها، فقال له في بعض الأيّام: إنّي قد ضاق صدري واستوحشت من هذا المكان، فاذهب بي اليوم واطرحني في مكان واذهب حيث شئت.
قال: فأجابني إلى ذلك، وحملني وذهب بي إلى مقام القائم صلوات الله عليه خارج النجف فأجلسني هناك وغسّل قميصه في الحوض وطرحها على شجرة كانت هناك، وذهب إلى الصحراء، وبقيت وحدي مغموماً أفكّر فيما يؤول إليه أمري.
فإذا أنا بشابٌ صبيح الوجه، أسمر اللّون، دخل الصّحن وسلّم عليّ وذهب إلى بيت المقام، وصلّى عند المحراب ركعات، بخضوع وخشوع لم أر مثله قطُّ فلمّا فرغ من الصّلاة خرج وأتاني وسألني عن حالي فقلت له: ابتليت ببليّة ضقت بها لا يشفيني الله فأسلم منها، ولا يذهب بي فأستريح، فقال: لا تحزن سيعطيك الله كليهما، وذهب.
فلمّا خرج رأيت القميص وقع على الأرض، فقمت وأخذت القميص وغسّلتها وطرحتها على الشجر، فتفكّرت في أمري وقلت: أنا كنت لا أقدر على القيام والحركة، فكيف صرت هكذا؟ فنظرت إلى نفسي فلم أجد شيئاً ممّا كان بي فعلمت أنّه كان القائم صلوات الله عليه، فخرجت فنظرت في الصّحراء فلم أر أحداً فندمت ندامة شديدة.
فلمّا أتاني صاحب الحجرة، سألني عن حالي وتحيّر في أمري فأخبرته بما جرى فتحسّر على ما فات منه ومنّي، ومشيت معه إلى الحجرة.
قالوا: فكان هكذا سليماً حتّى أتى الحاجُّ ورفقاؤه، فلمّا رآهم وكان معهم قليلاً، مرض ومات، ودفن في الصحن، فظهر صحّة ما أخبره (عليه السلام) من وقوع الأمرين معاً.
وهذه القصّة من المشهورات عند أهل المشهد، وأخبرني به ثقاتهم وصلحاؤهم.
ومنها ما أخبرني به بعض الأفاضل الكرام، والثقات الأعلام، قال: أخبرني بعض من أثق به يرويه عمّن يثق به، ويطريه أنّه قال: لمّا كان بلدة البحرين تحت ولاية الافرنج، جعلوا واليها رجلاً من المسلمين، ليكون أدعى إلى تعميرها وأصلح بحال أهلها، وكان هذا الوالي من النواصب وله وزير أشدُّ نصباً منه يظهر العداوة لأهل البحرين لحبّهم لأهل البيت (عليهم السلام) ويحتال في إهلاكهم وإضرارهم بكلّ حيلة.
فلمّا كان في بعض الأيّام دخل الوزير على الوالي وبيده رمّانة فأعطاها الوالي فإذا كان مكتوباً عليها (لا إله إلّا الله محمد رسول الله أبو بكر وعمر وعثمان وعليٌّ خلفاء رسول الله) فتأمّل الوالي فرأى الكتابة من أصل الرمّانة بحيث لا يحتمل عنده أن يكون من صناعة بشر، فتعجّب من ذلك وقال للوزير: هذه آية بيّنة، وحجّة قويّة، على إبطال مذهب الرافضة، فما رأيك في أهل البحرين.
فقال له: أصلحك الله إنّ هؤلاء جماعة متعصّبون، ينكرون البراهين، وينبغي لك أن تحضرهم وتريهم هذه الرمّانة، فان قبلوا ورجعوا إلى مذهبنا كان لك الثواب الجزيل بذلك، وإن أبوا إلّا المقام على ضلالتهم فخيّرهم بين ثلاث: إمّا أن يؤدّوا الجزية وهم صاغرون، أو يأتوا بجواب عن هذه الآية البيّنة التي لا محيص لهم عنها أو تقتل رجالهم وتسبي نساءهم وأولادهم، وتأخذ بالغنيمة أموالهم.
فاستحسن الوالي رأيه، وأرسل إلى العلماء والأفاضل الأخيار، والنجباء والسّادة الأبرار، من أهل البحرين وأحضرهم وأراهم للرمّانة، وأخبرهم بما رأى فيهم إن لم يأتوا بجواب شاف: من القتل والأسر وأخذ الأموال أو أخذ الجزية على وجه الصّغار كالكفّار، فتحيّروا في أمرها، ولم يقدروا على جواب، وتغيّرت وجوههم وارتعدت فرائصهم.
فقال كبراؤهم: أمهلنا أيّها الأمير ثلاثة أيّام لعلّنا نأتيك بجواب ترتضيه وإلّا فاحكم فينا ما شئت، فأملهم، فخرجوا من عنده خائفين مرعوبين متحيّرين.
فاجتمعوا في مجلس وأجالوا الرأي في ذلك، فاتّفق رأيهم على أن يختاروا من صلحاء البحرين وزهّادهم عشرة، ففعلوا، ثمَّ اختاروا من العشرة ثلاثة فقالوا لأحدهم: اخرج اللّيلة إلى الصّحراء وعبد الله فيها، واستغث بإمام زماننا، وحجّة الله علينا، لعلّه يبيّن لك ما هو المخرج من هذه الداهية الدّهماء.
فخرج وبات طول ليلته متعبّداً خاشعاً داعياً باكياً يدعو الله، ويستغيث بالإمام (عليه السلام)، حتّى أصبح ولم ير شيئاً، فأتاهم وأخبرهم فبعثوا في الليلة الثانية الثاني منهم، فرجع كصاحبه ولم يأتهم بخبر، فازداد قلقهم وجزعهم.
فأحضروا الثالث وكان تقيّاً فاضلاً اسمه محمد بن عيسى، فخرج اللّيلة الثالثة حافياً حاسر الرأس إلى الصحراء وكانت ليلة مظلمة فدعا وبكى، وتوسّل إلى الله تعالى في خلاص هؤلاء المؤمنين وكشف هذه البليّة عنهم واستغاث بصاحب الزّمان.
فلمّا كان آخر اللّيل، إذا هو برجل يخاطبه ويقول: يا محمد بن عيسى مالي أراك على هذه الحالة، ولماذا خرجت إلى هذه البريّة؟ فقال له: أيّها الرَّجل دعني فاني خرجت لأمر عظيم وخطب جسيم، لا أذكره إلّا لإمامي ولا أشكوه إلّا إلى من يقدر على كشفه عنّي.
فقال: يا محمّد بن عيسى، أنا صاحب الأمر فاذكر حاجتك، فقال: إن كنت هو فأنت تعلم قصّتي ولا تحتاج إلى أن أشرحها لك، فقال له: نعم، خرجت لما دهمكم من أمر الرّمانة، وما كتب عليها وما أوعدكم الأمير به، قال: فلمّا سمعت ذلك توجّهت إليه وقلت له: نعم يا مولاي، قد تعلم ما اصابنا، وأنت إمامنا وملاذنا والقادر على كشفه عنّا.
فقال صلوات الله عليه: يا محمد بن عيسى إنّ الوزير لعنه الله في داره شجرة رمّان فلمّا حملت تلك الشجرة صنع شيئاً من الطين على هيئة الرمّانة، وجعلها نصفين وكتب في داخل كلّ نصف بعض تلك الكتابة ثمّ وضعهما على الرمّانة، وشدّهما عليها وهي صغيرة فأثّر فيها، وصارت هكذا.
فإذا مضيتم غداً إلى الوالي، فقل له: جئتك بالجواب ولكنّي لا أبديه إلّا في دار الوزير فإذا مضيتم إلى داره فانظر عن يمينك، ترى فيها غرفة، فقل اللوالي: لا اُجيبك إلا في تلك الغرفة، وسيأتي الوزير عن ذلك، وأنت بالغ في ذلك ولا ترض إلّا بصعودها فإذا صعد فاصعد معه، ولا تتركه وحده يتقدَّم عليك، فإذا دخلت الغرفة رأيت كوّة فيها كيس أبيض، فانهض إليه وخذه فترى فيه تلك الطينة الّتي عملها لهذه الحيلة، ثمَّ ضعها أمام الوالي وضع الرُّمانة فيها لينكشف له جليّة الحال.
وأيضاً يا محمد بن عيسى قل للوالي: إنَّ لنا معجزة اُخرى وهي أنَّ هذه الرُّمانة ليس فيها إلّا الرَّماد والدُّخان وإن أردت صحّة ذلك فأمر الوزير بكسرها، فإذا كسرها طار الرَّماد والدُّخان على وجهه ولحيته.
فلمّا سمع محمّد بن عيسى ذلك من الإمام، فرح فرحاً شديداً وقبّل بين يدي الإمام صلوات الله عليه، وانصرف إلى أهله بالبشارة والسرور.
فلمّا أصبحوا مضوا إلى الوالي ففعل محمد بن عيسى كلّ ما أمره الإمام وظهر كلّ ما أخبره، فالتفت الوالي إلى محمّد بن عيسى وقال له: من أخبرك بهذا؟ فقال: إمام زماننا، وحجّة الله علينا، فقال: ومن إمامكم؟ فأخبره بالأئمّة واحداً بعد واحد إلى أن انتهى إلى صاحب الأمر صلوات الله عليهم.
فقال الوالي: مدَّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله وأنّ الخليفة بعده بلا فصل أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) ثمَّ أقرَّ بالأئمّة إلى آخرهم (عليهم السلام) وحسن إيمانه، وأمر بقتل الوزير واعتذر إلى أهل البحرين وأحسن إليهم وأكرمهم.
قال: وهذه القصّة مشهورة عند أهل البحرين وقبر محمّد بن عيسى عندهم معروف يزوره الناس.
مع المحدث النوري في جنة مأواه:
البحار: 53: 230 في ذكر من فاز بلقاء الحجة في الغيبة الكبرى.
حكاية مسجد جمكران
الحكاية الثامنة:
في تاريخ قم تأليف الشيخ الفاضل الحسن بن محمد بن الحسن القمّي من كتاب مونس الحزين في معرفة الحقّ واليقين، من مصنّفات أبي جعفر محمد بن بابويه القمّي ما لفظه بالعربيّة:
باب ذكر بناء مسجد جمكران، بأمر الإمام المهديّ عليه صلوات الله الرّحمن وعلى آبائه المغفرة، سبب بناء المسجد المقدَّس في جمكران بأمر الإمام (عليه السلام) على ما أخبر به الشيخ العفيف الصّالح حسن بن مثلة الجمكراني قال: كنت ليلة الثلاثاء السّابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة نائماً في بيتي فلمّا مضى نصف من اللّيل فإذا بجماعة من النّاس على باب بيتي فأيقظوني، وقالوا: قم وأجب الإمام المهديَّ صاحب الزّمان فانّه يدعوك.
قال: فقمت وتعبأت وتهيّأت، فقلت: دعوني حتّى ألبس قميصي، فإذا بنداء من جانب الباب: (هو ما كان قمصك) فتركته وأخذت سراويلي، فنودي: (ليس ذلك منك، فخذ سراويلك) فألقيته وأخذت سراويلي ولبسته، فقمت إلى مفتاح الباب أطلبه فنودي (الباب مفتوح).
فلمّا جئت إلى الباب، رأيت قوماً من الأكابر، فسلّمت عليهم، فردّوا ورحّبوا بي، وذهبوا بي إلى موضع هو المسجد الآن، فلمّا أمعنت النظر رأيت أريكة فرشت عليها فراش حسان، وعليها وسائد حسان، ورأيت فتى في زيّ ابن ثلاثين متّكئاً عليها، وبين يديه شيخ، وبيده كتاب يقرؤه عليه، وحوله أكثر من ستّين رجلاً يصلّون في تلك البقعة، وعلى بعضهم ثياب بيض، وعلى بعضهم ثياب خضر.
وكان ذلك الشيخ هو الخضر (عليه السلام) فأجلسني ذلك الشيخ (عليه السلام)، ودعاني الإمام (عليه السلام) باسمي، وقال: اذهب إلى حسن بن مسلم، وقل له: إنّك تعمر هذه الأرض منذ سنين وتزرعها، ونحن نخرِّبها، زرعت خمس سنين، والعام أيضاً أنت على حالك من الزراعة والعمارة؟ ولا رخصة لك في العود إليها وعليك ردُّ ما انتفعت به من غلّات هذه الأرض ليبني فيها مسجد وقل لحسن بن مسلم إنَّ هذه أرض شريفة قد اختارها الله تعالى من غيرها من الأراضي وشرّفها، وأنت قد أضفتها إلى أرضك، وقد جزاك الله بموت ولدين لك شابيّن، فلم تنتبه عن غفلتك، فإن لم تفعل ذلك لأصابك من نقمة الله من حيث لا تشعر.
قال حسن بن مثلة: (قلت) يا سيّدي لابدَّ لي في ذلك من علامة، فانَّ القوم لا يقبلون ما لا علامة ولا حجّة عليه، ولا يصدِّقون قولي، قال: إنّا سنعلم هناك فاذهب وبلّغ رسالتنا، واذهب إلى السيد أبي الحسن وقل له: يجيئ ويحضره ويطالبه بما أخذ من منافع تلك السنين، ويعطيه الناس حتّى يبنوا المسجد، ويتمُّ ما نقص منه من غلّة رهق ملكا بناحية أردهال ويتمَّ المسجد، وقد وقفنا نصف رهق على هذا المسجد، ليجلب غلّته كلَّ عام، ويصرف إلى عمارته.
وقل للناس: ليرغبوا إلى هذا الموضع ويعزّروه ويصلّوا هنا أربع ركعات للتحيّة في كلّ ركعة يقرأ سورة الحمد مرَّة، وسورة الاخلاص سبع مرّات ويسبّح في الركوع والسجود سبع مرّات، وركعتان للإمام صاحب الزَّمان (عليه السلام) هكذا: يقرأ الفاتحة فإذا وصل إلى (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين) كرّره مائة مرَّة ثمَّ يقرؤها إلى آخرها وهكذا يصنع في الركعة الثانية، ويسبّح في الركوع والسجود سبع مرَّات، فإذا أتمَّ الصلاة يهلّل ويسبّح تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) فإذا فرغ من التسبيح يسجد ويصلّي على النبيّ وآله مائة مرّة، ثمّ قال (عليه السلام) : ما هذه حكاية لفظه: فمن صلّاها فكأنّما في البيت العتيق.
قال حسن بن مثلة: قلت في نفسي كأنَّ هذا موضع أنت تزعم أنّما هذا المسجد للإمام صاحب الزَّمان مشيراً إلى ذلك الفتى المتكئ على الوسائد فأشار ذلك الفتى إليَّ أن اذهب.
فرجعت فلمّا سرت بعض الطريق دعاني ثانية، وقال: إنَّ في قطيع جعفر الكاشاني الراعي معزاً يجب أن تشتريه فان أعطاك أهل القرية الثمن تشتريه وإلّا فتعطي من مالك، وتجيء به إلى هذا الموضع، وتذبحه اللّيلة الآتية ثمَّ تنفق يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر رمضان المبارك لحم ذلك المعز على المرضى، ومن به علّة شديدة، فانَّ الله يشفي جميعهم، وذلك المعز أبلق، كثير الشعر، وعليه سبع علامات سود وبيض: ثلاث على جانب وأربع على جانب، سود وبيض كالدَّراهم.
فذهبت فأرجعوني ثالثة، وقال (عليه السلام) : تقيم بهذا المكان سبعين يوماً أو سبعاً فان حملت على السبع انطبق على ليلة القدر، وهو الثالث والعشرون وإن حملت على السبعين انطبق على الخامس والعشرين من ذي القعدة، وكلاهما يوم مبارك.
قال حسن بن مثلة: فعُدت حتّى وصلت إلى داري ولم أزل اللّيل متفكّراً حتّى أسفرَّ الصبح فأدَّيت الفريضة، وجئت إلى عليّ بن المنذر، فقصصت عليه الحال، فجاء معي حتّى بلغت المكان الذي ذهبوا بي إليه البارحة، فقال: والله إنّ العلامة التي قال لي الإمام واحد منها أنَّ هذه السلاسل والأوتاد ههنا.
فذهبنا إلى السيّد الشريف أبي الحسن الرضا فلمّا وصلنا إلى باب داره رأينا خدّامه وغلمانه يقولون إنَّ السيد أبا الحسن الرّضا ينتظرك من سحر، أنت من جمكران؟ قلت: نعم، فدخلت عليه الساعة، وسلّمت عليه وخضعت فأحسن في الجواب وأكرمني ومكّن لي في مجلسه، وسبقني قبل أن أحدِّثه وقال: يا حسن بن مثلة إنّي كنت نائماً فرأيت شخصاً يقول لي: إنَّ رجلاً من جمكران ان يقال له: حسن بن مثلة يأتيك بالغدوّ، ولتصدّقن ما يقول، واعتمد على قوله، فانَّ قوله قولنا، فلا تردَّن عليه قوله، فانتبهت من رقدتي، وكنت أنتظرك الآن.
فقصَّ عليه الحسن بن مثلة القصص مشروحاً فأمر بالخيول لتسرج، وتخرَّجوا فركبوا فلمّا قربوا من القرية رأوا جعفر الراعي وله قطيع على جانب الطريق فدخل حسن بن مثلة بن القطيع، وكان ذلك المعز خلف القطيع فأقبل المعز عادياً إلى الحسن بن مثلة فأخذه الحسن ليعطي ثمنه الراعي ويأتي به فأقسم جعفر الراعي أنّي ما رأيت هذا المعز قطُّ، ولم يكن في قطيعي إلّا أنّي رأيته وكلّما أُريد أن آخذه لا يمكنني، والآن جاء إليكم، فأتوا بالمعز كما أمر به السيّد إلى ذلك الموضع وذبحوه.
وجاء السيّد أبو الحسن الرِّضا رضي الله عنه إلى ذلك الموضع، وأحضروا الحسن بن مسلم واستردُّوا منه الغلات وجاؤوا بغلات رهق، وسقّفوا المسجد بالجزوع وذهب السيّد أبو الحسن الرِّضا رضي الله عنه بالسلاسل والأوتاد وأودعها في بيته فكان يأتي المرضى والأعلاء ويسمُّون أبدانهم بالسلاسل فيشفيهم الله تعالى عاجلاً ويصحّون.
قال أبو الحسن محمّد بن حيدر: سمعت بالاستفاضة أنَّ السيد أبا الحسن الرّضا في المحلّة المدعوّة بموسويان من بلدة قم، فمرض بعد وفاته ولد له، فدخل بيته وفتح الصندوق الذي فيه السلاسل والأوتاد، فلم يجدها.
انتهت حكاية بناء هذا المسجد الشريف، المشتملة على المعجزات الباهرة والآثار الظاهرة التي منها وجود مثل بقرة بني إسرائيل في معز من معزى هذه الأمّة.
قال المؤلّف: لا يخفى أنَّ مؤلّف تاريخ قم، هو الشيخ الفاضل حسن بن محمّد القميُّ وهو من معاصري الصدوق رضوان الله عليه، وروى في ذلك الكتاب، عن أخيه حسين بن عليّ بن بابويه رضوان الله عليهم، وأصل الكتاب على اللّغة العربيّة ولكن في السنة الخامسة والستّين بعد ثمان مائة نقله إلى الفارسيّة حسن بن عليّ ابن حسن بن عبد الملك بأم الخاجا فخرالدين إبراهيم بن الوزير الكبير الخاجا عماد الدِّين محمود بن الصاحب الخاجا شمس الدِّين محمد بن علي الصفي.
قال العلامة المجلسيُّ في أوّل البحار: إنّه كتاب معتبر، ولكن لم يتيسّر لنا أصله، وما بأيدينا إنّما هو ترجمته وهذا كلام عجيب، لأنّ الفاضل الألمعي الآميرزا محمّد أشرف صاحب كتاب فضائل السادات كان معاصرا له ومقيماً باصفهان، وهو ينقل من النسخة العربيّة بل ونقل عنه الفاضل المحقّق الآغا محمّد عليّ الكرمانشهاني في حواشيه على نقد الرّجال، في باب الحاه في اسم الحسن، حيث ذكر الحسن ابن مثلة، ونقل ملخّص الخبر المذكور من النسخة العربيّة، وأعجب منه أنَّ أصل الكتاب كان مشتملاً على عشرين باباً.
وذكر العالم الخبير الآميرزا عبد الله الاصفهانيُّ تلميذ العلّامة المجلسيّ في كتابه الموسوم برياض العلماء في ترجمة صاحب هذا التاريخ إنّه ظفر على ترجمة هذا التاريخ في قم، وهو كتاب كبير حسن كثيرة الفوائد في مجلّدات عديدة.
ولكنّي لم أظفر على أكثر من مجلّد واحد، مشتمل على ثمانية أبواب بعد الفحص الشائع.
وقد نقلنا الخبر السابق من خطّ السيّد المحدِّث الجليل السيّد نعمة الله الجزائريّ عن مجموعة نقله منه ولكنّه كان بالفارسيّة فنقلناه ثانياً إلى العربيّة ليلائم نظم هذا المجموع، ولا يخفى أنّ كلمة (التسعين) الواقعة في صدر الخبر بالمثناة فوق ثمَّ السين المهملة، كانت في الأصل سبعين مقدَّم المهملة على الموحّدة واشتبه على الناسخ لأنّ وفاة الشيخ الصدوق كانت قبل التسعين، ولذا نرى جمعاً من العلماء يكتبون في لفظ السبع أو السبعين بتقديم السين أو التاء حذراً عن التصحيف والتحريف والله تعالى هو العالم.
حكاية لقاء السيد بحر العلوم في مسجد السهلّة
ما حدّثني به العالم العامل، والعارف الكامل غوَّاص غمرات الخوف والرجاء وسيّاح فيا في الزُّهد والتّقى صاحبنا المفيد وصديقنا السديد، الآغا علي رضا ابن العالم الجليل الحاج المولى محمّد النائيني، رحمهما الله تعالى، عن العالم البدل الورع التقيِّ صاحب الكرامات، والمقامات العاليات، المولى زين العابدين العالم الجليل المولى محمّد السلماسي (رحمه الله) تلميذ آية الله السيد السند، والعالم المسدَّد فخر الشيعة وزينة الشريعة للعلّامة الطباطبائي السيد محمّد مهدي المدعوُّ ببحر العلوم أعلى الله درجته، وكان المولى المزبور من خاصّته في السرِّ والعلانية.
قال: كنت حاضراً في مجلس السّيد في المشهد الغرويّ إذ دخل عليه لزيارته المحقّق القميّ صاحب القوانين في السّنة الّتي رجع من العجم إلى العراق زائراً لقبور الأئمّة (عليهم السلام) وحاجاً لبيت الله الحرام، فتفرَّق من كان في المجلس وحضر للاستفادة منه، وكانوا أزيد من مائة وبقيت ثلاثة من أصحابه أرباب الورع والسداد البالغين إلى رتبة الاجتهاد.
فتوجّه المحقّق الأيّد إلى جناب السيّد وقال: إنكم فزتم وحزتم مرتبة الولادة الرُّوحانية والجسمانيّة، وقرب المكان الظاهري والباطنيّ، فتصدَّقوا علينا بذكر مائدة من موائد تلك الخوان، وثمرة من الثمار الّتي جنيتم من هذه الجنان، كي ينشرح به الصدور، ويطمئنَّ به القلوب.
فأجاب السّيد من غير تأمّل، وقال: إنّي كنت في اللّيلة الماضية قبل ليلتين أو أقلَّ - والترديد من الراوي - في المسجد الأعظم بالكوفة، لأداء نافلة اللّيل عازماً على الرّجوع إلى النجف في أوّل الصبح، لئلا يتعطّل أمر البحث والمذاكرة وهكذا كان دأبه في سنين عديدة.
فلمّا خرجت من المسجد ألقي في روعي الشوق إلى مسجد السهلة، فصرفت خيالي عنه، خوفاً من عدم الوصول إلى البلد قبل الصبح، فيفوت البحث في اليوم ولكن كان الشوق يزيد في كلّ آن، ويميل القلب إلى ذلك المكان، فبينا أقدم رجلاً وأؤخر اُخرى، إذا بريح فيها غبار كثير، فهاجت بي وأمالتني عن الطريق فكأنها التوفيق الّذي هو خير رفيق، إلى أن ألقتني إلى باب المسجد.
فدخلت فإذا به خالياً عن العبّاد والزُّوار، إلّا شخصاً جليلاً مشغولاً بالمناجاة مع الجبّار، بكلمات ترقّ القلوب القاسية، وتسح الدُّموع من العيون الجامدة، فطار بالي، وتغيّرت حالي، ورجفت ركبتي، وهملت دمعتي من استماع تلك الكلمات التي لم تسمعها اُذني، ولم ترها عيني، ممّا وصلت إليه من الأدعية المأثورة، وعرفت أنَّ الناجي ينشئها في الحال، لا أنّه ينشد ما أودعه في البال.
فوقفت في مكاني مستمعاً متلذذاً إلى أن فرغ من مناجاته، فالتفت إليّ وصاح بلسان العجم: (مهدي بيا) أي: هلمَّ يا مهديّ، فتقدَّمت إليه بخطوات فوقفت، فأمرني بالتقدّم فمشيت قليلاً ثمّ وقفت، فأمرني بالتقدّم وقال: إنّ الأدب في الامتثال، فتقدَّمت إليه بحيث تصل يدي إليه، ويده الشريفة إليّ وتكلم بكلمة.
قال المولى السلماسيّ (رحمه الله): ولمّا بلغ كلام السيّد السند إلى هنا أضرب عنه صحفاً، وطوى عنه كشحا، وشرح في الجواب عمّا سأله المحقّق المذكور قبل ذلك عن سرّ قلّة تصانيفه، مع طول باعه في العلوم، فذكر له وجوهاً فعاد المحقّق القميّ فسأل عن هذا الكلام الخفيّ فأشار بيده شبه المنكر بأنّ هذا سرُّ لا يذكر.
حكاية (ضمنّي الي صدره)
حدّثني الأخ الصفيُّ المذكور عن المولى السلماسيّ رحمة الله تعالى، قال: كنت حاضراً في محفل إفادته، فسأله رجل عن إمكان رؤية الطلعة الغرَّاء في الغيبة الكبرى، وكان بيده الآلة المعروفة لشرب الدُّخان المسمّى عند العجم بغليان فسكت عن جوابه وطأطأ رأسه، وخاطب نفسه بكلام خفّي أسمعه فقال ما معناه: (ما أقول في جوابه؟ وقد ضمّني صلوات الله عليه إلى صدره، وورد أيضاً في الخبر تكذيب مدَّعي الرؤية، في أيّام الغيبة، فكرّر هذا الكلام.
ثمَّ قال في جواب السائل: إنّه قد ورد في أخبار أهل العصمة تكذيب من ادَّعى رؤية الحجّة عجل الله فرجه، واقتصر في جوابه عليه من غير إشارة إلى ما أشار إليه.
حكاية سلام الحجة على أبيه
وبهذا السند عن المولى المذكور قال: صلّينا مع جنابه في داخل حرم العسكريّين (عليهما السلام) فلما أراد النهوض من التشهد إلى الركعة الثالثة، عرضته حالة فوقف هنيئة ثم قام.
ولما فرغنا تعجّبنا كلّنا، ولم نفهم ما كان وجهه، ولم يجتره أحد منّا على السؤال عنه إلى أن أتينا المنزل، وأحضرت المائدة، فأشار إليَّ بعض السادة من أصحابنا أن أسأله منه، فقلت: لا وأنت أقرب منّا فالتفت (رحمه الله) إليَّ وقال: فبم تقاولون؟ قلت وكنت أجسر الناس عليه: إنهم يريدون الكشف عمّا عرض لكم في حال الصلاة، فقال: إنَّ الحجَّة عجّل الله تعالى فرجه، دخل الروضة للسلام على أبيه (عليه السلام) فعرضني ما رأيتم من مشاهدة جماله الأنور إلى أن خرج منها.
حكاية (وقبّل يده وأركبه جمله)
بهذا السند عن ناظر اُموره في أيّام مجاورته بمكّة قال: كان (رحمه الله) مع كونه في بلد الغربة منقطعاً عن الأهل والأخوة، قويّ القلب في البذل والعطاء، غير مكترث بكثرة المصارف، فاتّفق في بعض الأيّام أن لم نجد إلى درهم سبيلاً فعرَّفته الحال، وكثرة المؤنة، وانعدام المال، فلم يقل شيئاً وكان دأبه أن يطوف بالبيت بعد الصبح ويأتي إلى الدّار، فيجلس في القبّة المختصّة به، ونأتي إليه بغليان فيشربه، ثمَّ يخرج إلى قبّة اُخرى تجتمع فيها تلامذته، من كلّ المذاهب فيدس لكل على مذهبه.
فلمّا رجع من الطواف في اليوم الّذي شكوته في أمسه نفود النفقة، وأحضرت الغليان على العادة، فإذا بالباب يدقّه أحد فاضطرب أشدَّ الاضطراب، وقال لي: خذ الغليان وأخرجه من هذا المكان، وقام مسرعاً خارجاً عن الوقار والسكينة والآداب، ففتح الباب ودخل شخص جليل في هيئة الأعراب، وجلس في تلك القبّة وقعد السيّد عند بابها، في نهاية الذلّة والمسكنة، وأشار إليّ أن لا أقرِّب إليه الغليان.
فقعدا ساعة يتحدّثان، ثم قام فقام السيّد مسرعاً وفتح الباب، وقبّل يده وأركبه على جمله الّذي أناخه عنده، ومضى لشأنه، ورجع السيّد متغيّر اللّون وناولني براة، وقال: هذه حوالة على رجل صرّاف، قاعد في جبل الصفا واذهب إليه وخذ منه ما اُحيل عليه.
قال: فأخذتها وأتيت بها إلى الرَّجل الموصوف، فلمّا نظر إليها قبّلها وقال: عليَّ بالحماميل فذهبت وأتيت بأربعة حماميل فجاء بالدَّراهم من الصنف الّذي يقال له: ريال فرانسه، يزيد كلّ واحد على خمسة قرانات العجم وما كانوا يقدرون على حمله، فحملوها على أكتافهم، وأتينا بها إلى الدّار.
ولمّا كان في بعض الأيّام، ذهبت إلى الصرّاف لأسأل منه حاله، وممّن كانت تلك الحوالة فلم أر صرّافاً ولا دكاناً فسألت عن بعض من حضر في ذلك المكان عن الصرّاف، فقال: ما عهدنا في هذا المكان صرّافاً أبداً وإنّما يقعد فيه فلان فعرفت أنه من أسرار الملك المنّان، وألطاف وليّ الرَّحمان.
وحدّثني بهذه الحكاية الشيخ العالم الفقيه النحرير المحقّق الوجيه، صاحب التصانيف الرائقة، والمناقب الفائقة، الشيخ محمد حسين الكاظميُّ المجاور بالغريّ أطال الله بقاه، عمّن حدّثه من الثقات عن الشخص المذكور.
حكاية لقاءه في سرداب
حدّثني السيد السند، والعالم المعتمد، المحقّق الخبير، والمضطلع البصير السيّد علي سبط السيد أعلى الله مقامه، وكان عالماً مبرّزاً له شرح النافع، حسن نافع جدا، وغيره عن الورع النقيّ النقيّ الوفي الصفيّ السيد مرتضى صهر السيّد أعلى الله مقامه على بنت اخته وكان مصاحباً له في السفر والحضر، مواظباً لخدماته في السّر والعلانية، قال: كنت معه في سرّ من رأى في بعض أسفار زيارته، وكان السيّد ينام في حجرة وحده، وكان لي حجرة بجنب حجرته، وكنت في نهاية المواظبة في أوقات خدماته باللّيل والنهار، وكان يجتمع إليه الناس في أوّل الليل إلى أن يذهب شطر منه في أكثر اللّيالي.
فاتّفق أنّه في بعض اللّيالي قعد على عادته، والناس مجتمعون حوله، فرأيته كأنّه يكره الاجتماع، ويحبّ الخلوة، ويتكلّم مع كلّ واحد بكلام فيه إشارة إلى تعجيله بالخروج من عنده، فتفرّق الناس ولم يبق غيري فأمرني بالخروج فخرجت إلى حجرتي متفكّراً في حالته في تلك اللّيلة، فمنعني الرقاد، فصبرت زماناً فخرجت متخفيّاً لأتفقد حاله فرأيت باب حجرته مغلقاً فنظرت من شقّ الباب وإذا السراج بحاله وليس فيه أحد، فدخلت الحجرة، فعرفت من وضعها أنه ما نام في تلك اللّيلة.
فخرجت حافياً متخفيّاً أطلب خبره، وافقا أثره، فدخلت الصحن الشريف فرأيت أبواب قبّة العسكريين مغلقة، فتفقدت أطراف خارجها فلم أجد منه أثراً فدخلت الصحن الأخير الّذي فيه السرداب، فرأيته مفتّح الأبواب.
فنزلت من الدَّرج حافياً متخفيّاً متأنيّاً بحيث لا يسمع منّي حس ولا حركة فسمعت همهمة من صفة السرداب، كأنّ أحداً يتكلّم مع الآخر، ولم أميز الكلمات إلى أن بقيت ثلاثة أو أربعة منها، وكان دبيبي أخفى من دبيب النملة في اللّيلة الظلماء على الصخرة الصمّاء، فإذا بالسيّد قد نادى في مكانه هناك: يا سيّد مرتضى ما تصنع؟ ولم خرجت من المنزل؟
فبقيت متحيّراً ساكناً كالخشب المسنّدة، فعزمت على الرّجوع قبل الجواب ثمَّ قلت في نفسي كيف تخفى حالك على من عرفك من غير طريق الحواس فأجبته معتذراً نادماً، ونزلت في خلال الاعتذار إلى حيث شاهدت الصفّة فرأيته وحده واقفاً تجاه القبلة، ليس لغيره هناك أثر فعرفت أنّه يناجي الغائب عن أبصار البشر (عليه السلام) الله الملك الأكبر، فرجعت حرباً لكل ملامة، غريقاً في بحار الندامة إلى يوم القيامة.
حكاية (صلاة الجماعة في مسجد السهلة)
حدَّث الشيخ الصالح الصفيّ الشيخ أحمد الصدتوماني وكان ثقة تقيّاً ورعاً قال: قد استفاض عن جدّنا المولى محمّد سعيد الصّدتوماني وكان من تلامذة السيّد (رحمه الله) أنه جرى في مجلسه ذكر قضايا مصادفة رؤية المهدي (عليه السلام)، حتّى تكلّم هو في جملة من تكلّم في ذلك فقال: أحببت ذات يوم أن أصل إلى مسجد السهلة في وقت ظننته فيه فارغا من الناس، فلّما انتهيت إليه وجدته غاصّاً بالناس، ولهم دويُّ ولا أعهد أن يكون في ذلك الوقت فيه أحد.
فدخلت فوجدت صفوفاً صافين للصلاة جامعة، فوقفت غلى جنب الحائط على موضع فيه رمل، فعلوته لأنظر هل أجد خللا في الصفوف فأسدّه فرأيت موضع رجل واحد في صف من تلك الصفوف، فذهبت إليه ووقفت فيه.
فقال رجل من الحاضرين: هل رأيت المهدي (عليه السلام) فعند ذلك سكت السيّد وكأنّه كان نائماً ثمّ انتبه فكلّما طلب منه إتمام المطلب لم يتمّه.
حكاية (الشيخ محمد حسين ومسجد الكوفة)
حدّث الشيخ الفاضل العالم الثقة الشيخ باقر الكاظميّ المجاور في النجف الأشرف آل الشيخ طالب نجل العالم العابد الشيخ هادي الكاظمي قال: كان في النجف الأشرف رجل مؤمن يسمّى الشيخ محمّد حسن السريرة، وكان في سلك أهل العلم ذا نيّة صادقة، وكان معه مرض السُّعال إذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دم، وكان مع ذلك في غاية الفقر والاحتياج، لا يملك قوت يومه، وكان يخرج في أغلب أوقاته إلى البادية إلى الأعراب الذين في أطراف النجف الأشرف، ليحصل له قوت ولو شعير، وما كان يتيسّر ذلك على وجه يكفيه، مع شدَّة رجائه، وكان مع ذلك قد تعلّق قلبه بتزويج امرأة من أهل النجف، وكان يطلبها من أهلها وما أجابوه إلى ذلك لقلّة ذات يده، وكان في هم وغم شديد من جهة ابتلائه بذلك.
فلمّا اشتدَّ به الفقر والمرض، وأيس من تزويج البنت، عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنّه من أصابه أم فواظب الرَّواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة الأربعاء، فلابدَّ أن يرى صاحب الأمر عجّل الله فرجه من حيث لا يعلم ويقضي له مراده.
قال الشيخ باقر قدّس سرّه : قال الشيخ محمد: فواظبت على ذلك أربعين ليلة بالأربعاء فلمّا كانت اللّيلة الأخيرة وكانت ليلة شتاء مظلمة، وقد هبّت ريح عاصفة، فيها قليل من المطر، وأنا جالس في الدكة الّتي هي داخل في باب المسجد وكانت الدكّة الشرقيّة المقابلة للباب الأوّل تكون على الطرف الأيسر، عند دخول المسجد، ولا أتمكّن الدّخول في المسجد من جهة سعال الدّم، ولا يمكن قذفه في المسجد وليس معي شيء أتّقي فيه عن البرد، وقد ضاق صدري، واشتدَّ عليّ همّي وغمّي، وضاقت الدُّنيا في عيني، واُفكّر أنَّ اللّيالي قد انقضت، وهذه آخرها، وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شيء، وقد تعبت هذا التعب العظيم، وتحمّلت المشاقَّ والخوف في أربعين ليلة، أجيء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة، ويكون لي الإياس من ذلك.
فبينما أنا أفكّر في ذلك، وليس في المسجد أحد أبداً وقد أوقدت ناراً لأسخن عليها قهوة جئت بها من النجف، لا أتمكّن من تركها لتعوُّدي بها، وكانت قليلة جدّا إذا بشخص من جهة الباب الاوّل متوجّهاً إلي فلمّا نظرته من بعيد تكدّرت وقلت في نفسي: هذا أعرابي من أطراف المسجد، قد جاء إليّ ليشرب من القهوة وأبقى بلا قهوة في هذا اللّيل المظلم، ويزيد عليَّ همّي وغمّي.
فبينما أنا أفكّر إذا به قد وصل إليَّ وسلّم عليَّ باسمي وجلس في مقابلي فتعجبّت من معرفته باسمي، وظننته من الّذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف الأشرف فصرت أسأله من أيِّ العرب يكون؟ قال: من بعض العرب فصرت أذكر له الطوائف الّتي في أطراف النجف، فيقول: لا لا، وكلّما ذكرت له طائفة قال: لا لست منها.
فأغضبني وقلت له: أجل أنت من طُريطرة مستهزئاً وهو لفظ بلا معنى، فتبسّم من قولي ذلك، وقال: لا عليك من أينما كنت ما الّذي جاء بك إلى هنا فقلت: وأنت ما عليك السؤال عن هذه الاُمور؟ فقال: ما ضرَّك لو أخبرتني فتعجّبت من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه، فمال قلبي إليه، وصار كلّما تكلّم ازداد حبّي له، فعملت له السبيل من التتن، وأعطيته، فقال: أنت اشرب فأنا ما أشرب، وصببت له في الفنجان قهوة وأعطيته، فأخذه وشرب شيئاً قيلاً منه، ثمَّ ناولني الباقي وقال: أنت اشربه فأخذته وشربته، ولم ألتفت إلى عدم شربه تمام الفنجان، ولكن يزداد حبّي له آنا فآنا.
فقلت له: يا أخي أنت قد أرسلك الله إليّ في هذه اللّيلة تأنسني أفلا تروح معي إلى أن نجلس في حضرة مسلم (عليه السلام)، ونتحدَّث؟ فقال: أروح معك فحدّث حديثك.
فقلت له: أحكي لك الواقع أنا في غاية الفقر والحاجة، مذ شعرت على نفسي ومع ذلك، معي سعال أتنخّع الدّم. وأقذفه من صدري منذ سنين، ولا أعرف علاجه وما عندي زوجة، وقد علق قلبي بامرأة من أهل محلّتنا في النجف الأشرف، ومن جهة قلّة ما في اليد ما تيسّر لي أخذها.
وقد غرَّني هؤلاء الملائية وقالوا لي: اقصد في حوائجك صاحب الزمّان وبت أربعين ليلة الاربعاء في مسجد الكوفة، فانّك تاه، ويقضي لك حاجتك وهذه آخر ليلة من الأربعين، وما رأيت فيها شيئاً وقد تحمّلت هذه المشاقَّ في هذه اللّيالي فهذا الّذي جاءني هنا، وهذه حوائجي.
فقال لي وأنا غافل غير ملتفت: أمّا صدرك فقد برأ، وأمّا المرأة فتأخذها عن قريب، وأمّا فقرك فيبقى على حاله حتّى تموت، وأنا غير ملتفت إلى هذا البيان أبداً.
فقلت: ألا تروح إلى حضرة مسلم؟ قال: قم، فقمت وتوجّه أمامي، فلمّا وردنا أرض المسجد فقال: ألا تصلّي صلاة تحيّة المسجد، فقلت: أفعل، فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد، وأنا خلفه بفاصلة، فأحرمت الصلاة وصرت أقرأ الفاتحة.
فبينما أنا أقرأ وإذا يقرأ الفاتحة قراءة ما سمعت أحداً يقرأ مثلها أبداً فمن حسن قراءته قلت في نفسي: لعلّه هذا هو صاحب الزَّمان وذكرت بعض كلمات له تدلُّ على ذلك ثمَّ نظرت إليه بعد ما خطر في قلبي ذلك، وهو في الصلاة، وإذا به قد أحاطه نور عظيم منعني من تشخيص شخصه الشريف، وهو مع ذلك يصلّي وأنا أسمع قراءته، وقد ارتعدت فرائصي، ولا أستطيع قطع الصلاة خوفاً منه فأكملتها على أيّ وجه كان، وقد علا النور من وجه الأرض، فصرت أندبه وأبكي وأتضجّر وأعتذر من سوء أدبي معه في باب المسجد، وقلت له: أنت صادق الوعد، وقد وعدتني الرّواح معي إلى مسلم.
فبينما أنا اُكلّم النور، وإذا بالنور قد توجّه إلى جهة المسلم، فتبعته فدخل النور الحضرة، وصار في جوّ القبّة، ولم يزل على ذلك ولم أزل أندبه وأبكي حتّى إذا طلع الفجر، عرج النور.
فلمّا كان الصباح التفتُّ إلى قوله: أمّا صدرك فقد برأ، وإذا أنا صحيح الصدر، وليس معي سعال أبداً وما مضى اُسبوع إلّا وسهّل الله عليّ أخذ البنت من حيث لا أحتسب، وبقي فقري على ما كان كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين.
وجوه رفع التعارض بين الخبر الشريف وبين الحكايات
الوجه الرابع: أن نعترف بصدقها - أي الاعتبار المتواترة الدالة على الرؤية.. ومطابقتها للواقع، لكن يلتزم بوجوب تكذيبها تعبداً، إطاعة للأمر الوارد في التوقيع، وقد احتمل هذا الوجه بعضهم.
أقول كما جاء في قصة الميرزا القمي والسيد مهدي بحر العلوم كما أشار إليها المحقق التنكابني في كتابه (قصص العلماء: 188) قال: (ومن كراماته - السيد مهدي - ما ذكره بحر العلوم للميرزا القمي (ره): أني كنت مشغولاً بالعبادة في إحدى الليالي في مسجد السهلة، وفجأة سمعت صوت مناجاة اضطرب له القلب، وذهبت نحو مصدر الصدق فقال: اجلس سيد مهدي فجلست ثم وضع بحر العلوم يده على كتف الميرزا القمي.
وقال له: إذا قلت لك أنني رأيت القائم فكذبني، لأن هذا هو تكليفك، وقطع بحر العلوم كلامه).
ثم السيّد الصدر الثاني ناقش هذا الوجه كذلك بأنه: لمّا لا يكاد يصح.. فإنه خلاف ظاهر الحديث بل صريحه حيث يقول فهو كذاب مفتر الدال على عدم مطابقة قوله للواقع، ولم يقل فكذبوه، ليكون من قبيل الأمر الصادر من الإمام ليطاع تعبّداً، على انه لا يمكن للإمام المهدي (عليه السلام) أن يأمر بالتكذيب مع علمه بوقوع المشاهدة الثابتة عندنا بالتواتر.
أقول: وربما تناقش هذه المناقشة، بأنّ الحديث وان دلّ على أن من يدعى المشاهدة فهو كذاب مفتر، فهذا بالنسبة إليه، وأمضي بالنسبة إلى غيره فتكليفه أن يكذبّه أي لا يأخذ بقوله، فالتكذيب إنما دل عليه بالدلالة الإلتزامية، لا بالدلالة بالمطابقية حتى نحتاج إلى أمر صادر منه (عليه السلام) بل لما كان لازم الكذّاب أن يكذب قوله وهذا تارة يكون عقلياً، أي بحكم العقل يكذب واُخرى تعبّدياً فيما كان في الأمر التعبدي الشرعي في المقام، ولا نحتاج إلى أمر من الإمام المهدي (عليه السلام) إلى تكذيبه مع علمه بوقوع المشاهدة الثابتة عندنا بالتواتر، بل يكفي ان يقال بذلك ولد من جهة الدلالة الالتزامية فتأمّل.
الخامس: من الوجوه التي يقال في رفع التعارض ان يحمل التوقيع الشريف على دعوى المشاهدة مع ادعاء الوكالة أو السفارة عنه (عليه السلام) وهذا ما ذهب إلى جمع من الأعلام كالعلامة المجلسي والشيخ لطف الله الصافي كما مرّ وانه من أقرب الوجوه في رفع التعارض - إلا أن الشهيد ناقش هذا الوجه أيضاً وقد مرّ الكلام فيه فلا نعيد، وفي نهاية المطاف قال قدّس سرّه : إذن فلا يتم شيء من هذه الوجوه الخمسة للجمع بين التوقيع الشريف وأخبار المشاهدة على تقدير صحة التعارض بينهما.
ثم من هنا يبدأ السيد في بيان مختاره من القول بالتفصيل إلا أنه لا من جهة التعارض والجمع العرفي بينهما كما هو المختار بحمل العلق على المقيد وأن المراد من المشاهدة ليس إنما هي مع دعوى السفارة أو ما شابه ذلك كالبالية المنحرفة وغيرها كما نسمع في الآونة الأخيرة بعد سقوط الطاغية صدام من يدعي المشاهدة الخاصة، فهذا كذّاب مفتر كما هو المختار، ولابد من بيان زيفه وبطلانه وان لا يعبد التاريخ نفسه ونبتلي ببابية وبهائية اخرى.
فيقول السيد الشهيد قدّس سرّه : الا أن الصحيح هو عدم وجود التعارض بينهما بالمقدار الذي يثبت الحق، وتقتنص منه النتيجة الإسلامية المطلوبة على ما سنرى، من مقابلات الإمام المهدي (عليه السلام) من حيث مطابقتها للواقع وعدمها، ومن حيث الاعراب عن المقابلة أو السكوت عنها... تنقسم إلى عدة أسام فيقع الكلام فيها على سبعة مستويات:
الأول: إننا سبق ان عرفنا ان الامام المهدي (عليه السلام) ليس مختصا بشخصه عن الناس، وإنّما يراهم ويرونه، ولكنّه بعرفهم ولا يعرفونه، فما هو الواقع خارجاً هو الجهل بعنوانه كأمام مهدي، لا اختفاء جسمه كما تقول به بعض الاذكار غير المبرهنة.
وقد عرفت ان جهالة عنوان كافية في نجاته من السلطات الظالمة خاصة بعد ان تنمو أجيال جديدة لا تعرف شكله وسحنته، إذن فالمهدي (عليه السلام) يستطيع أن يعيش في المجتمع كأي فرد من أفراده لا يلفت النظر ولا يثير الانتباه، بصفة عاملاً أو تاجراً أو رجل دين، وهكذا، كما سنعرض له مفصلا في التاريخ القادم.
وعلى ذلك فرؤية الناس للإمام المهدي (عليه السلام) ثابتة في كل يوم وعلى الدوام كلما مشى في الطريق أو ذهب إلى السوق أو إلى الحج أو إلى زيارة أحد أجداد الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، غاية الأمر ان انفاس يرون فيه شخصاً عادياً ويجهلون بالكلية كونه هو المهدي المنتظر (عليه السلام) بل من المتعذر حتى مجرد الالتفات إلى ذلك أو احتماله كما هو واضح.
ومثل هذه الرؤية أو المقابلة للمهدي (عليه السلام) لا ينفيها التوقيع الشريف بحال من الأحوال، فإنها لا تقترن أبداً بادعاء المشاهدة، بسبب جهل الشاهد بحقيقة من رآه وكونه هو المهدي (عليه السلام)، فهو لا يدعي انه رأى المهدي (عليه السلام) ليلزم تكذيبه، وإذا أعرب عن ذلك، فإنما يقول: رأيت فلاناً... ويذكر العنوان الظاهر الذي اتخذه المهدي (عليه السلام) في ذلك المنع، لا العنوان الواقعي للمهدي البتة.
وظاهر بيان اشهاد السفارة ان ما هو كاذب أو ما يجب تكذيبه هو ادعاء مشاهدة المهدي بصفته إماماً مهدياً أو الالتفات إلى ذلك ولو بالنتيجة، أي بعد انتهاء المقابلة، وهو ممّا لا يمكن إنما يحدث في المقابلات الاعتيادية للمهدي (عليه السلام).
إذن فخبر التكذيب يعتمد من تكذيب هذا النوع من المشاهدة، كما أن الاعتبار الدالة على مشاهدة الإمام المهدي (عليه السلام) بعيدة عنه أيضاً... إذن فهذا المستوى من المقابلة، خارج عن نطاق كلا الطرفين المدعى تعارضهما، لا ينفيه التوقيع ولا تثبته الاخبار الأخرى، ومعه فلو معارضة على هذا المستوى.
الثاني: ان الفرد ليرى المهدي بصفته مهدباً ولكنه لا يعرب عن ذلك إلى الأبد.
وهذا المستوى مما لا يمكن الاستدلال على بطلانه أو نفيه ان لم ندع أنه هو الأغلب مقابلات المهدي (عليه السلام)، وان المقابلات التي أعرب عنها الناس ووصلنا خبرها على كثرتها - أقل بكثير من المقابلات التي لم يعرب عنها أصحابها ولم يصلنا خبرها، خاصة بعد أن نعرف ان العلماء والصالحين من سلفنا الصالح، كانوا يرون عدم جواز الاعراب عن المقاصد لأحد، بدوافع مختلفة، إمّا أن الاعراب عن المقابلة بما فيها من ملابسات قد تؤدي إلى حظر على المهدي نفسه، وأما لكونهم تخيّلوا ان مقتضى الاخلاق والتواضع هو السكوت، وأما لأنهم تلقوا أمراً من المهدي (عليه السلام) حين المقابلة بالكتمان.
أو بغير ذلك من الدوافع، وبذلك ضاعت على التاريخ أكثر مقابلات الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى.
وهذا المستوى من المقابلات مما لا يمكن الاستدلال على بطلانه، إلّا برفض التصور الإمامي للمهدي (عليه السلام) وغيبته، وهو خلاف المفروض من هذا التاريخ، حيث بنيناه على التسلم بصحة هذا التصور... ومع هذا التصور تكوين مقابلته على هذا المستوى محتملة على أقل تقدير، ولا يدل التوقيع الشريف على نفيه وبطلانه لغرض عدم اقترانها بدعوى المشاهدة، كل لا عفي لتكذيبها، بعد أن سكت عنها أصحابها.. وهذا المستوى أيضاً خارج عن أخبار المشاهدة، لكونها جميعاً من المشاهدات المنقولة كما هو الواضح، ومع يكون هذا المستوى خارجاً عن طرفي النفي والإثبات للطرفين من الاخبار المدعي تعارضهما إذن فلا تعارض على هذا المستوى أيضاً.
الثالث: إن الفرد يرى الإمام المهدي (عليه السلام) بصفته مهدياً ولو بحسب النتيجة، ولكنّه لا يخبر بالصراحة والوضوح، بكونه قد شاهد المهدي (عليه السلام)، وإنما ينقل ما وقع له من الحادثة، ويكون استنتج له ولغيره، من مجموع ما حدثت من دلائل هو أن ذلك الشخص الذي أقام هو المهدي عليه الصلاة والمخبر من ناحيته يجعل المجال للمتفلسف والاستنتاج للسامع مفتوحاً، وإن كان يعتقد بنفسه ان من رآه هو الإمام المهدي (عليه السلام) بعينه.
ففي مثل ذلك، إذا استظهرنا من التوقيع الشريف، كما هو غي بعيد من قوله (ادّعى المشاهدة) ما إذا أدَعى المتكلم رأسا انه رأى المهدي (عليه السلام) وتعهد بذلك للسامع، فهذا هو المنفي بلسان التوقيع وأما إذا لم يخبر بذلك صراحة وأنا أوكل الجزم بذلك إلى وجدان السامع، فهو ممّا لا ينفيه التوقيع الشريف.
ومن المعلوم لمن استعرض أخبار المشاهدة التي أدى معاضتها مع التوقيع، أن أكثرها يتضمن نقلاً للحادث مع إيكال الجزم يكون المرئي هو الإمام المهدي (عليه السلام) إلى وجدان السامع، وعدم تعهد المتكلم بذلك، وإن كان معتقداً به، إذن فمثل هذه الأخبار تكون مداليلها ثابتة بدون أن ينفيها التوقيع بحال الرابع: كون الفرد يرى الإمام المهدي (عليه السلام)، ويخبر صراحة أنه رأى المهدي (عليه السلام) متعهدا بإثبات ذلك، إلا انه يذكره مدعماً بالبراهين والأدلة التي تورث القطع للسامع بأن الشخص المرئي هو المهدي نفسه لاستحالة ان يقوم بذلك شخص سواه عادة كما لو صدرت منه المعاجز كأجداده الطاهرين (عليه السلام) كالإخبار بالغيب ففي مثل ذلك، وان اقتضى الفهم الابتدائي للتوقيع نفي المشاهدة على هذا المستوى، إلا انه بحسب الدقة، يستحيل ولاته التوقيع على ذلك، لفرض كوننا قاطعين يكون المرئي هو الإمام المهدي (عليه السلام)، والقاطع يستحيل عقلا ان يحتمل الخلاف أو يكلف بالتكذيب - وان القطع حجيته ذاتية ليس بيد جعل جاعل لا نفياً ولا إثباتاً كما هو ثابت منه المحققين في علم اصول الفقه - ومعه يكون الحكم يكون مدعي المشاهدة مفتر كذاب، مختصاً بصورة الشك بما إذا كان المرئي هو المهدي (عليه السلام) أو غيره ولا يشمل صورة العلم بكونه هو المهدي (عليه السلام)، فكان الامام المهدي (عليه السلام) من توقيعه الشريف يريد أن يقول: إنه إذا أخبرك شخص بأنه رأى المهدي وشككت بقوله، فاحمله على احد كاذب، بمعنى أن القاعدة العامة والأدلة في دعوى المشاهدة هو الكذب وعدم المطابقة مع الواقع إلا مع القطع بالثبوت والمطابقة، والمفروض على هذا المستوى القطع بذلك، فلا يكون منفياً بالتوقيع كما هو واضح.
أقول: من الاعلام من يرى حجية القطع ليس باعتبار القطع نفسه بل من جهة الاطمئنان القلبي، وحينئذ يلحق به كل ما يوجب الاطمئنان القلبي ولو كان من جهة الظن المعتبر ويسمى بالعلم العادي كما هو حجة عند المشهور فيلحق حكماً بالقطع المنجز والقّدر، فتأمل.
ثم قال الشهيد الصدر الثاني قدّس سرّه : ونحن إذا استعرضنا أخبار المشاهدة نجدها جميعاً مدعمة بالشواهد الدالة على كون الشخص المرئي هو الإمام المهدي (عليه السلام) وهذا خلاف ما يقوله بعض المعاصرين بانها مجرد قصص وحكايات لا سند لها، فإن هذه الشواهد هي السبيل الوحيد إلى معرفة ذلك، إلا أننا الآن حيث لم نعش هذه الشواهد ولم نعاصرها، وكان كل خبر مستقلاً، ظنياً بالنسبة إلينا، فما عندنا من العلم فضلاً، هو العلم الناشئ من التواتر، حيث قلنا بان هذه الاخبار تفوق التواتر، والتواتر من العلم والنص المفيد للقطع ولا يقاومه في مقام المعارضة مثل الظنون والظواهر، ومثل التوقيع الشريف الدال ببطلانه على نفي المشاهدة والرؤية فتدبّر أيها المعاصر المغرور بعلمه وحجابه الأكبر - إذن فنحن نعلم أن أشخاصاً أخبروا عن مشاهدة الإمام المهدي (عليه السلام) وعاشوا شواهد قطعية عن ذلك، ومعه لا يمكن أن تكون مثل هذه الإخبارات مشمولة للتوقيع الشريف بحال.
فعلى هذه المستويات الأربعة، التي تنتظم فيها سائر الأخبار، ولا يكاد يشذ منها شيء ترتفع المعارضة المتخيّلة بين التوقيع الشريف واخبار المشاهدة ولا يكاد يكون التوقيع نافياً لها بحال.
الخامس: إن الفرد يخبر عن مشاهدة الإمام المهدي (عليه السلام)، من دون أن يقترن خبره بدليل يوجب القطع أو الاطمئنان بأن المرئي هو المهدي (عليه السلام) نفسه.
وهذا المستوى لا يكاد يوجد في أخبار المشاهدة، فإنها كلما أو الأعم الأغلب منها على الأقل، تحتوي على الدلائل القطعية على ذلك كما قلنا، وسترى ذلك حين نعرض لها بالتفصيل في التاريخ القادم (تاريخ الغيبة الكبرى).
نعم لو فرض وجود مثل هذا الخبر أو سمعت شيئاً من ذلك من أحد بدون أن يقترن بدليل واضح - وقاطع مما يقرّبه العقلاء والشرع المقدس، فاعرف أنه كذاب مفتر - وهذا ما يحدث أخيراً في عراقنا الحبيب وكذلك في إيران الحبيبة من الدعوات بعض الدجالين والكذّابين والتقائهم بالحجة المنتظر (عليه السلام) وأخذ تعاليم معه مباشرة وايصالها إلى مروتهم والمغرورين بهم فالحذار الحذار من هؤلاء ولابد من بيان زيفهم وملاحقتهم من قبل الحكومات لإفسادهم في الأرض وخلق مذهب جديد كالبابية والبهائية ولا سيما الاستعمار والاستكبار يمدّهم بالمال ويدعمهم اقتصادياً وسياسياً واقليمياً ودولياً فهؤلاء يصدق عليهم كذاب مفتر - فإنه يكون مشمولاً للتوقيع الشريف، لو اقتصرنا على قسم من عبارته ولا ضير في ذلك، فإن المنفى حينئذ هو أقل القليل، وهو يحملنا على التنّزه عن الدعاوي الفارغة والمنحرفة، والاستغلالات الخراطية المتعهدة - الذي سيرت بها قلوب البسطاء والسذج من الموالين والمحبين لأهل البيت (عليهم السلام).
نعم لو أخذنا بقوله (عليه السلام) : (وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة) وفهمنا منذ التنبيه على الدعوات المنحرفة بالخصوص على ما سيأتي على المستوى الآتي.. كان ذلك قرنية على ان دعوى المشاهدة المقترفة بالدعوة المنحرفة هي الكاذبة دائماً - وهذا ما ذهبنا إليه من القول بتقيد اطلاق المشاهدة بالضارة أو الوكالة أو ما شابه ذلك كالدعوة المنحرفة، وعلمنا بذلك من خلال سياق الكلام أو الانصراف فكان من القيد الحالي فتدبر ومعه يكون ادعاء المشاهدة المجرد عن الدعوة المنحرفة، غير منصوص على كذبه في التوقيع، وإن تجرد عن الدليل الواضح، بل يبقى محتمل الصدق على أقل تقدير، فيكون حكمه حكم كل خبر يحتمل الصدق والكذب ونذره في بقعة الامكان الوقوعي حتى نجد له دليلاً فتدبّر.
السادس: أن يدعي شخص مشاهدة الإمام المهدي (عليه السلام) بدون برهان واضح، كالمستوى السابق ولكنه يدعي أن المهدي (عليه السلام) قد قال له أموراً أو أمره بتبليغ أشياء نعرفها بكونها باطلة ومنحرفة - كالكلام على المراجع الصالحين والمرجعية الصالحة - فيحاول هذا الفرد أن يتزعم باسم الإمام المهدي (عليه السلام) مسلكاً متحركاً أو حركة ضالة ومضلّة في داخل نطاق القواعد الشعبية المؤمنة بالمهدي (عليه السلام).. من أي نوع من أنواع الانحراف كان - وهذا ما حدث أخيراً في إيران والعراق من بعض الدّجالين.
والادعاء على هذا المستوى كاذب ومزوّر جزماً للعلم بعدم صدور ما هو باطل من الإمام الحق المذخور لدولة الحق - العالمية يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
والمطمئن به هو أن هذا المستوى في الادعاء هو المقصود من التكذيب في التوقيع الشريف.
فإن المستظهر من قوله (عليه السلام) : (وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة) كون المراد منه الإشارة إلى حدوث دعوات منحرفة وحركات غير محمودة في داخل القواعد الشعبية الإماميّة، تقوم على دعوى المشاهدة خلال الغيبة الكبرى. مع إلفات نظر المؤمنين وتحذيرهم من تلك الدّعوات، وتنبيههم على خطرها على الإسلام والمجتمع الإسلامي.
إذن فمدعي المشاهدة كاذب مزور في خصوص ما إذا كان منحرفاً ينقل أموراً باطلة عن الإمام المهدي (عليه السلام)، وأما فيما سوى ذلك فلا يكون التوقيع الشريف دالاً على بطلانه، سواء نقل الفرد عن المهدي (عليه السلام) أموراً صحيحة بحسب القواعد الإسلامية، أو محتملة الصحة على أقل تقدير، أو لم ينقل شيئاً على الإطلاق.
السابع: أن يؤمن شخص بإنسان أنه هو المهدي المنتظر كما حدث في التاريخ خلال الدعوات المهدوية المتعددة - عند السنة والشيعة - فيخبر - إذا رآه - أنه رأى المهدي.
وهذا يكون كاذباً جزماً، لأنه وان كان رأى مدعي المهدويّة، إلّا أنه لم ير المهدي الحقيقي المعني من قبل الله تعالى لإنقاذ العالم من الظلم في اليوم الموعود، فإخباره برؤية المهدي (عليه السلام) لا يكون مطالباً للواقع، وإن اعتقد المخبر صدقه. فيكون المراد من التوقيع الشريف هو التحذير من هذه الدعوات المهدوية الباطلة.
والمعارضة - على هذا المستوى - غير موجودة بين التوقيع الشريف واخبار المشاهدة، فإن التوقيع وإن كان مكذباً لهذه المشاهدة، إلّا أن أخبار المشاهدة المقصودة لا تثبتها، فإنها جميعاً تدور حول مشاهدة المهدي الغائب الحجة بن الحسن العسكري (عليهما السلام) دون غيره، وهو المهدي الحقيقي بالفهم الإمامي، وعند من يعترف بصحة هذا التوقيع الشريف ونفوذه، ومعه لا معنى لهذه المعارضة المدعاة...
وفي نهاية المكان قال قدّس سرّه : إذن فقد تحصل من كل ذلك: أن الإشكال الذي ذكروه غير وارد على التوقيع ولا على أخبار المشاهدة، وإنه بالإمكان الأخذ به وبأخبار المشاهدة، ولا يجب تكذيبها إلّا ما كان قائماً على الانحراف والخروج عن الحق كادعاء الوكالة الخاصة والبابية وما شابه ذلك، وهذا إنما القول بالتفصيل بنحو آخر بلا إفراط ولا تفريط، كما نقول بالتفصيل إلّا أنه من باب المعارضة وحمل المطلق على المقيّد كما مرّ، والحمد لله رب العالمين.
وختامه مسك:
وفي الختام لا شك أن أُمنية كل مؤمن ومؤمنة أن يتشرف بلقاء مولاه وإمام زمانه ولو بلحظة واحدة ويرى ذلك الجمال اليوسفي الإلهي وتلك الطاقة البهيّة الربانية، ولكن العمدة ان يرى بالبصيرة وبرؤية قلبية، يسكن ذكره الجميل في قلبه، في حرم الله وعرشه، فإن قلب المؤمن عرش الرحمن ومن أولى بعرش الله من خليفته ووليه الأعظم وحجته الكبرى على الخلائق والإنسان الكامل ومظهر اسمه الأعظم، والذكر حضور المذكور عند الذاكر، فمن يذكر مولاه في الليل والنهار وفي كل زمان ومكان، ولا يغفل عنه طرفة عين ويذكره بالصدقات والزيارات وغير ذلك، فإنه لا شك ولا ريب يراه بعين قلبه وبصيرته، ولا قياس بين هذه النظرة والمشاهدة والرؤية وبين أن يراه ببصره ولكن لا يعرف مقامه وإمامته ووجوب طاعته ومودّته والفناء في إرادته، فكم من صحابة النبي كانوا معه ليلاً ونهاراً، إلّا أنهم آذوه في نفسه وفي أهل بيته الأطهار؟! ومن يؤذي الرسول الأعظم يؤذي الله، ومن يؤذيهما فعليه لعنة الله أبد الأبدين:
قال الله سبحانه وتعالى:
فالمفروض من كل موالٍ وشيعي مخلص أن ينتظر ظهور مولاه وإمام زمانه ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً فإنّه من أفضل الأعمال انتظار الفرج والدعاء لتعجيله: وإن اشتاق إلى لقاءه ورؤيته فيزوره بما ورد من زياراته العامة والخاصة ومن أهمها زيارة آل يس الوارد عن الناحية المقدسة وكذلك دعاء العهد في كل يوم ودعاء الندبة في أيام الجمع وغير ذلك وهذا ما ورد في الاخبار:
عن (بحار الأنوار: 53: 174) بسنده عن أحمد بن إبراهيم قال: شكوت إلى أبي جعفر محمد بن عثمان - السفير الأول في زمن الغيبة الصغرى - شوقي إلى رؤية مولانا (عليه السلام) فقال لي مع الشوق تشتهي أن تراه؟ فقلت له: نعم - أي مقصود فقط لقاءه لاشتياق إليه وليس مقصود إلى أن أطلب منه حاجةً أو أسأل سؤال أو ما شابه ذلك - فقال لي شكر الله لك شوقك - فإن هذا الشوق من العبادة التي يشكرها الله سبحانه - وأراك وجهه في يسر وعافية، ولا تلتمس يا أبا عبد الله أن تراه - أي لا تطلب رؤيته بالبّصر لأنك أنت الآن في أيام الغيبة، والوظيفة في أيام الغيبة أن تشتاق إلى لقاءه إلّا أنه لا يسأل أن يجتمع معه فلا تلتمس يا أبا عبد الله أن تراه - فإن أيام الغيبة يشتاق إليه ولا يسأل الاجتماع معه، وحكمة ذلك وسره ان هذا من عزائم الله ومما أوجبه الله والمفروض من العبد الرضا والتسليم كما قال السفير محمد بن عثمان العمري - إنه عزائم الله، والتسليم لها أولى.
ثم علّمه: يعلمنا أنه ماذا نفعل في أيام غيبته وذلك أن نزوره ولا سيما عندما نشتاق إلى لقاءه، وهناك من يشتاق إليه في كل يوم فيزوره في كل يوم بل هناك من يزوره بعد كل صلاة مفروضة ولو بزيارة مختصرة شوقاً إلى لقاءه والتشرف بخدمته، فقال: - ولكن توجه إليه بالزيارة - ثم أشار إلى زيارة آل يس والصلاة قبلها بأثني عشر وإليك نص الزيارة كما في مفاتيح الجنان لشيخنا القمي (قدّس سرّه):
عن البحار: 53: 171 بسنده عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري أنه قال: خرج توقيع من الناحية المقدسة - حرسها الله تعالى - بعد مسائل: (بسم الله الرحمن الرحيم، لا لأمر الله تعقلون، ولا من أوليائه تقبلون، حكمة بالغة، فما تغني النذر عن قوم لا يؤمن) السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إذا أراد ثم التوجه بنا إلى الله تعالى والينا، تقولوا كما قال الله تعالى:
(سلام على آل يس السلام عليك يا داعي الله - إلى آخر الزيارة مع الدعاء:
سَلامٌ عَلى آلِ يس، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا داعِيَ اللهِ وَرَبّانِيَ آياتِهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا بابَ اللهِ وَدَيّانَ دينِهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا خَليفَةَ اللهِ وَناصِرَ حَقِّهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا حُجَّةَ اللهِ وَدَليلَ اِرادَتِهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا تالِيَ كِتابِ اللهِ وَتَرْجُمانَهُ اَلسَّلامُ عَلَيْكَ في آناءِ لَيْلِكَ وَاَطْرافِ نَهارِكَ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا بَقِيَّةَ اللهِ في اَرْضِهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا ميثاقَ اللهِ الَّذي اَخَذَهُ وَوَكَّدَهُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وَعْدَ اللهِ الَّذي ضَمِنَهُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا الْعَلَمُ الْمَنْصُوبُ وَالْعِلْمُ الْمَصْبُوبُ وَالْغَوْثُ وَالرَّحْمَةُ الْواسِعَةُ، وَعْداً غَيْرَ مَكْذوُب، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تَقوُمُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تَقْعُدُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تَقْرَأُ وَتُبَيِّنُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تُصَلّي وَتَقْنُتُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تُهَلِّلُ وَتُكَبِّرُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تَحْمَدُ وَتَسْتَغْفِرُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ حينَ تُصْبِحُ وَتُمْسي، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ فِي اللَّيْلِ اِذا يَغْشى وَالنَّهارِ اِذا تَجَلّى، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا الاِمامُ الْمَأمُونِ اَلسَّلامُ عَلَيْكَ اَيُّهَا الْمُقَدَّمُ الْمَأمُولُ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ بِجَوامِعِ السَّلام اُشْهِدُكَ يا مَوْلايَ اَنّى اَشْهَدُ اَنْ لا اِلهَ اِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَاَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسوُلُهُ لا حَبيبَ اِلا هُوَ وَاَهْلُهُ، وَاُشْهِدُكَ يا مَوْلايَ اَنَّ عَلِيّاً اَميرَ الْمُؤْمِنينَ حُجَّتُهُ وَالْحَسَنَ حُجَّتُهُ وَالْحُسَيْنَ حُجَّتُهُ وَعَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ حُجَّتُهُ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ حُجَّتُهُ، وَجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍّ حُجَّتُهُ، وَموُسَى بْنَ جَعْفَر حُجَّتُهُ، وَعَلِيَّ بْنَ موُسى حُجَّتُهُ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ حُجَّتُهُ، وَعَلِيَّ بْنَ مُحَمَّد حُجَّتُهُ، وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ حُجَّتُهُ، وَاَشْهَدُ اَنَّكَ حُجَّةُ اللهِ، اَنْتُمُ الاَوَّلُ وَالاْخِرُ وَاَنَّ رَجْعَتَكُمْ حَقٌّ لا رَيْبَ فيها يَوْمَ لا يَنْفَعُ نَفْساً ايمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ اَوْ كَسَبَتْ في ايمانِها خَيْراً، وَاَنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ، وَاَنَّ ناكِراً وَنَكيراً حَقٌّ، وَاَشْهَدُ اَنَّ النَّشْرَ حَقٌّ، وَالْبَعَثَ حَقٌّ، وَاَنَّ الصِّراطَ حَقٌّ، وَالْمِرْصادَ حَقٌّ، وَالْميزانَ حَقٌّ، وَالْحَشْرَ حَقٌّ، وَالْحِسابَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةَ وَالنّارَ حَقٌّ، وَالْوَعْدَ وَالْوَعيدَ بِهِما حَّق، يا مَوْلايَ شَقِيَ مَنْ خالَفَكُمْ وَسَعِدَ مَنْ اَطاعَكُمْ، فَاَشْهَدْ عَلى ما اَشْهَدْتُكَ عَلَيْهِ، وَاَنَا وَلِيٌّ لَكَ بَريٌ مِنْ عَدُوِّكَ، فَالْحَقُّ ما رَضيتُمُوهُ، وَالْباطِلُ ما اَسْخَطْتُمُوهُ، وَالْمَعْرُوفُ ما اَمَرْتُمْ بِهِ، وَالْمُنْكَرُ ما نَهَيْتُمْ عَنْهُ، فَنَفْسي مُؤْمِنَةٌ بِاللهِ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ وَبِرَسُولِهِ وَبِأَميرِ الْمُؤْمِنينَ وَبِكُمْ يا مَوْلايَ اَوَّلِكُمْ وَآخِرِكُمْ، وَنُصْرَتي مُعَدَّةٌ لَكُمْ وَمَوَدَّتي خالِصَةٌ لَكُمْ آمينَ آمينَ.
الدّعاء عقيب هذا القول: اَللّهُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ اَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّد نَبِيِّ رَحْمَتِكَ وَكَلِمَةِ نُورِكَ، وَاَنْ تَمْلاَ قَلْبي نُورَ الْيَقينِ وَصَدْري نوُرَ الاْيمانِ وَفِكْري نُورَ النِّيّاتِ، وَعَزْمي نُورَ الْعِلْمِ، وَقُوَّتي نُورَ الْعَمَلِ، وَلِساني نُورَ الصِّدْقِ، وَديني نُورَ الْبَصائِرِ مِنْ عِنْدِكَ، وَبَصَري نُورَ الضِّياءِ، وَسَمْعي نُورَ الْحِكْمَةِ، وَمَوَدَّتي نُورَ الْمُوالاةِ لِمحَمَّد وَآلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ حَتّى اَلْقاكَ وَقَدْ وَفَيْتُ بِعَهْدِكَ وَميثاقِكَ فَتُغَشّيَني رَحْمَتَكَ يا وَلِىُّ يا حَميدُ، اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد حُجَّتِكَ في اَرْضِكَ، وَخَليفَتِكَ في بِلادِكَ، وَالدّاعي اِلى سَبيلِكَ، وَالْقائِمِ بِقِسْطِكَ، وَالثّائِرِ بِأَمْرِكَ، وَلِيِّ الْمُؤْمِنينَ وَبَوارِ الْكافِرينَ، وَمُجَلِّي الظُّلْمَةِ، وَمُنيرِ الْحَقِّ، وَالنّاطِقِ بِالْحِكْمَةِ وَالصِّدْقِ، وَكَلِمَتِكَ التّامَّةِ في اَرْضِكَ، الْمُرْتَقِبِ الْخائِفِ وَالْوَلِيِّ النّاصِحِ، سَفينَةِ النَّجاةِ وَعَلَمِ الْهُدى وَنُورِ اَبْصارِ الْوَرى، وَخَيْرِ مَنْ تَقَمَّصَ وَارْتَدى، وَمُجَلِّي الْعَمَى الَّذي يَمْلا الاَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَما مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً، اِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيء قَديرٌ، اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى وَلِيِّكَ وَابْنِ اَوْلِيائِكَ الَّذينَ فَرَضْتَ طاعَتَهُمْ، وَاَوْجَبْتَ حَقَّهُمْ، وَاَذْهَبْتَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرْتَهُمْ تَطْهيراً، اَللّهُمَّ انْصُرْهُ وَانْتَصِرْ بِهِ لِدينِكَ وَانْصُرْ بِهِ اَوْلِياءِكَ وَاَوْلِياءِهِ وَشيعَتَهُ وَاَنْصارَهُ وَاجْعَلْنا مِنْهُمْ، اَللّهُمَّ أعِذْهُ مِنْ شَرِّ كُلِّ باغ وَطاغ وَمِنْ شَرِّ جَميعِ خَلْقِكَ، وَاحْفَظْهُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمينِهِ وَعَنْ شَمالِهِ، وَاحْرُسْهُ وَامْنَعْهُ مِنْ اَنْ يوُصَلَ اِلَيْهِ بِسُوء وَاحْفَظْ فيهِ رَسُولَكَ، وَآلِ رَسوُلِكَ وَاَظْهِرْ بِهِ الْعَدْلَ وَاَيِّدْهُ بِالنَّصْرِ، وَانْصُرْ ناصِريهِ، وَاخْذُلْ خاذِليهِ، وَاقْصِمْ قاصِميهِ، وَاقْصِمْ بِهِ جَبابِرَةَ الْكُفْرِ، وَاقْتُلْ بِهِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقينَ وَجَميعَ الْمُلْحِدينَ حَيْثُ كانُوا مِنْ مَشارِقِ الاَرْضِ وَمَغارِبِها بَرِّها وَبَحْرِها، وَامْلأ بِهِ الاَرْضَ عَدْلاً وَاَظْهِرْ بِهِ دينَ نَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَاجْعَلْنِي اللّهُمَّ مِنْ اَنْصارِهِ وَاَعْوانِهِ وَاَتْباعِهِ وَشيعَتِهِ، وَاَرِني في آلِ مُحَمَّد عَلَيْهِمُ السَّلامُ ما يَأمُلُونَ وَفي عَدُوِّهِمْ ما يَحْذَرُونَ، اِلهَ الْحَقِّ آمينَ، يا ذَا الْجَلالِ وَالاِكْرامِ يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ.
أقول: لا شك أن من يذكر مولانا صاحب الزمان بالزيارة والدعاء والصلاة والأعمال الصالحة كالصدقة عنه لسلامته وتعجيل ظهوره، فإنه يدعو هو كذلك لمن يذكره، لأنه هو مظهر قوله تعالى: (اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) فمن يذكر الحجة (عليه السلام) وينصره، فإنه كذلك يتعامل معه مولاه وإمام زمانه، وهل جاء الإحسان إلّا الإحسان.
ومن الأعمال التي بزوالها كل مؤمن ومؤمنة في عبادتهما هو دعاء العهد الأول والثاني كما هو مذكور في مفاتيح الجنان، وإليكم العهد الثاني:
روى عن الإمام الصادق عليه انه قال: من دعاء إلى الله تعالى أربعين صباحاً بهذا الدعاء كان من أنصار قائمنا، فإن مات قبله أخرجه الله تعالى من قبره، وأعطاه بكل كلمة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة وهو هذا (اَللّهُمَّ رَبَّ النُّورِ الْعَظيمِ، وَرَبَّ الْكُرْسِيِّ الرَّفيعِ، وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، وَمُنْزِلَ التَّوْراةِ وَالاِنْجيلِ وَالزَّبُورِ، وَرَبَّ الظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَمُنْزِلَ الْقُرْآنِ الْعَظيمِ، وَرَبَّ الْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبينَ وَالأنْبِياءِ وَالْمُرْسَلينَ، اَللّهُمَّ اِنّي اَسْاَلُكَ بِاِسْمِكَ الْكَريمِ، وَبِنُورِ وَجْهِكَ الْمُنيرِ وَمُلْكِكَ الْقَديمِ، يا حَيُّ يا قَيُّومُ اَسْاَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذي اَشْرَقَتْ بِهِ السَّماواتُ وَالأرَضُونَ، وَبِاسْمِكَ الَّذي يَصْلَحُ بِهِ الأوَّلُونَ وَالاْخِرُونَ، يا حَيّاً قَبْلَ كُلِّ حَيٍّ وَيا حَيّاً بَعْدَ كُلِّ حَيٍّ وَيا حَيّاً حينَ لا حَيَّ يا مُحْيِيَ الْمَوْتى وَمُميتَ الأحْياءِ، يا حَيُّ لا اِلهَ اِلّا اَنْتَ، اَللّهُمَّ بَلِّغْ مَوْلانَا الاِْمامَ الْهادِيَ الْمَهْدِيَّ الْقائِمَ بِاَمْرِكَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ وعَلى آبائِهِ الطّاهِرينَ عَنْ جَميعِ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ في مَشارِقِ الأرْضِ وَمَغارِبِها سَهْلِها وَجَبَلِها وَبَرِّها وَبَحْرِها، وَعَنّي وَعَنْ والِدَيَّ مِنَ الصَّلَواتِ زِنَةَ عَرْشِ اللهِ وَمِدادَ كَلِماتِهِ، وَما اَحْصاهُ عِلْمُهُ وَاَحاطَ بِهِ كِتابُهُ، اَللّهُمَّ اِنّي اُجَدِّدُ لَهُ في صَبيحَةِ يَوْمي هذا وَما عِشْتُ مِنْ اَيّامي عَهْداً وَعَقْداً وَبَيْعَةً لَهُ في عُنُقي، لا اَحُولُ عَنْها وَلا اَزُولُ اَبَداً، اَللّهُمَّ اجْعَلْني مِنْ اَنْصارِهِ وَاَعْوانِهِ وَالذّابّينَ عَنْهُ وَالْمُسارِعينَ اِلَيْهِ في قَضاءِ حَوائِجِهِ، وَالْمُمْتَثِلينَ لأوامِرِهِ وَالمحامينَ عَنْهُ، وَالسّابِقينَ اِلى اِرادَتِهِ وَالْمُسْتَشْهَدينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، اَللّهُمَّ اِنْ حالَ بَيْني وَبَيْنَهُ الْمَوْتُ الَّذي جَعَلْتَهُ عَلى عِبادِكَ حَتْماً مَقْضِيّاً فَاَخْرِجْني مِنْ قَبْري مُؤْتَزِراً كَفَني شاهِراً سَيْفي مُجَرِّداً قَناتي مُلَبِّياً دَعْوَةَ الدّاعي فِي الْحاضِرِ وَالْبادي، اَللّهُمَّ اَرِنيِ الطَّلْعَةَ الرَّشيدَةَ، وَالْغُرَّةَ الْحَميدَةَ، وَاكْحُلْ ناظِري بِنَظْرَة منِّي اِلَيْهِ، وَعَجِّلْ فَرَجَهُ وَسَهِّلْ مَخْرَجَهُ، وَاَوْسِعْ مَنْهَجَهُ وَاسْلُكْ بي مَحَجَّتَهُ، وَاَنْفِذْ اَمْرَهُ وَاشْدُدْ اَزْرَهُ، وَاعْمُرِ اللّهُمَّ بِهِ بِلادَكَ، وَاَحْيِ بِهِ عِبادَكَ، فَاِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ اَيْدِي النّاسِ)، فَاَظْهِرِ الّلهُمَّ لَنا وَلِيَّكَ وَابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكَ الْمُسَمّى بِاسْمِ رَسُولِكَ حَتّى لا يَظْفَرَ بِشَيْء مِنَ الْباطِلِ إلّا مَزَّقَهُ، وَيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُحَقِّقَهُ، وَاجْعَلْهُ اَللّهُمَّ مَفْزَعاً لِمَظْلُومِ عِبادِكَ، وَناصِراً لِمَنْ لا يَجِدُ لَهُ ناصِراً غَيْرَكَ، وَمُجَدِّداً لِما عُطِّلَ مِنْ اَحْكامِ كِتابِكَ، وَمُشَيِّداً لِما وَرَدَ مِنْ اَعْلامِ دينِكَ وَسُنَنِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَاجْعَلْهُ اَللّهُمَّ مِمَّنْ حَصَّنْتَهُ مِن بَأسِ الْمُعْتَدينَ، اَللّهُمَّ وَسُرَّ نَبِيَّكَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِرُؤْيَتِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلى دَعْوَتِهِ، وَارْحَمِ اسْتِكانَتَنا بَعْدَهُ، اَللّهُمَّ اكْشِفْ هذِهِ الْغُمَّةَ عَنْ هذِهِ الأمَّةِ بِحُضُورِهِ، وَعَجِّلْ لَنا ظُهُورَهُ، اِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعيداً وَنَراهُ قَريباً، بِرَحْمَتِكَ يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ. ثمّ تضرب على فخذك الايمن بيدك ثلاث مرّات وتقول كلّ مرّة: اَلْعَجَلَ الْعَجَلَ يا مَوْلاي يا صاحِبَ الزَّمانِ).
أقول: لا بأس أن يقرأ المقطع الأخير من دعاء الافتتاح الذي يقرأ في ليالي شهر رمضان المبارك، ولا بأس أن يكون من دعاء قنوته في صلواته.
اللهم وصل على ولي أمرك، القائم المؤمل، والعدل المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيده منك بروح القدس يا رب العالمين.
اللهم اجعله الداعيَ إلى كتابك، والقائمَ بدينك، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله، مَكِّنْ له دينه الذي ارتضيته له، أبدله من بعد خوفه أمناً، يعبدك لا يشرك بك شيئاً. اللهم أعزه وأعزز به، وانصره وانتصر به، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لدنك سلطاناً نصيراً. اللهم أظهر به دينك وسنة نبيك صلى الله عليه وآله، حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق.
اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة.
اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه. اللهم الْمُمْ به شعثنا، واشعب به صدعنا، وارتق به فتقنا، وكثر به قلتنا، وأعزز به ذلتنا، وأغن به عائلنا، واقض به عن مغرمنا، واجبر به فقرنا، وسد به خلتنا، ويسر به عسرنا، وبيض به وجوهنا، وفك به أسرنا، وأنجح به طلبتنا، وأنجز به مواعيدنا، واستجب به دعوتنا وأعطنا به سؤلنا، وبلغنا به من الدنيا والآخرة آمالنا، وأعطنا به فوق رغبتنا.
يا خير المسؤولين وأوسع المعطين، إشف به صدورنا، وأذهب به غيظ قلوبنا، واهدنا به لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وانصرنا به على عدوك وعدونا إله الحق آمين.
اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا صلواتك عليه وآله، وغيبة ولينا، وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، فصل على محمد وآل محمد، وأعنا على ذلك كله بفتح منك تعجله، وضر تكشفه ونصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ على محمد وعليهم صلاةً كثيرةً دائمةً طيبة، لا يحبط بها إلا أنت، ولا يسعها إلا علمك، ولا يحصيها أحد غيرك.
اللهم صلى على وليك المحيي سنتك، القائم بأمرك، الداعي إليك، الدليل عليك، وحجتك على خلقك، وخليفتك في أمرك، وشاهدك على عبادك. اللهم أعزَّ نصره، ومُدَّ عمره، وزيِّنْ الأرض بطول بقائه.
اللهم اكفه بغي الحاسدين، وأعذه من شر الكائدين، وازجر عنه إرادة الظالمين، وخلصه من أيدي الجبارين. اللهم أعطه في نفسه وذريته وشيعته ورعيته وخاصته وعامته وعدوه وجميع أهل الدنيا ما تَقَرُّ به عينه، وتُسَرُّ به نفسه، وبلغه أفضل أمله في الدنيا والآخرة. إنك على كل شيء قدير.
اللهم جدد به ما محي من دينك، وأحي به ما بدل من كتابك، وأظهر به ما غير من حكمك، حتى يعود دينك به وعلى يديه غضاً جديداً خالصاً مخلَصاً، لاشك فيه ولا شبهة معه، ولا باطل عنده ولا بدعة لديه.
اللهم نوره بنوره كل ظلمة، وهد بركنه كل بدعة، واهدم بعزته كل ضلالة واقصم به كل جبار، وأخمد بسيفه كل نار، وأهلك بعدله كل جبار، وأجر حكمه على كل حكم، وأذل لسلطانه كل سلطان.
اللهم أذن كل من ناواه، وأهلك كل من عاداه، وامكر بمن كاده، واستأصل من جحد حقه واستهان بأمره، وسعى في إطفاء نوره، وأراد إخماد ذكره.
اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك، الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذا اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم، الذي لا زوال له ولا اضمحلال، بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء به، فقبلتهم وقربتهم، وقدمت لهم الذكر العلي، والثناء الجلي، وأهبطت عليهم ملائكتك، وأكرمتهم بوحيك، ورفدتهم بعلمك، وجعلتهم الذرائع إليك، والوسيلة إلى رضوانك. فبعض أسكنته جنتك إلى أن أخرجته منها. وبعض حملته في فلكك ونجيته ومن آمن معه من الهلكة برحمتك. وبعض اتخذته خليلاً، وسألك لسان صدق في الآخرين فأجبته وجعلت ذلك علياً، وبعض كلمته من جشرة تكليماً، وجعلت له من أخيه ردءاً ووزيراً. وبعض أولدته من غير أب، وآتيته البينات، وأيدته بروح القدس. وكلاً شَرَعْتَ له شريعة، ونهجْت له منهاجاً، وتخيرت له أوصياء، مستحفظاً بعد مستحفظ، من مدة إلى مدة، إقامةً لدينك، وحجةً على عبادك، ولئلا يزول الحق عن مقره، ويغلب الباطل على أهله، ولا يقول أحد: لولا أرسلت إلينا رسولاً منذراً، وأقمت لناً علماً هادياً، فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى.
إلى أن انتهيت بالأمر إلى حبيبك ونجيبك محمد صلى الله عليه وآله فكان كما انتجبته، سيد من خلقته، وصفوة من اصطفيته، وأفضل من اجتبيته، وأكرم من اعتمدته، قدمته على أنبيائك، وبعثته إلى الثقلين من عبادك، وأوطأته مشارقك ومغاربك، وسخرت له البراق وعرجت به إلى سمائك، وأودعته علم ما كان وما يكون إلى انقضاء خلقك.
فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما، فليبك الباكون، وإياهم فليندب النادبون، ولمثلهم فلتذرف الدموع، وليصرخ الصارخون، ويضج الضاجون، ويعج العاجون.
أين الحسن، أين الحسين، أين أبناء الحسين، صالحٌ بعد صالح، وصادقٌ بعد صادق. أين السبيلُ بعد السبيل، أين الخيرةُ بعد الخيرة، أين الشموسُ الطالعة، أين الأقمارُ المنيرة، أين الأنجمُ الزاهرة، أين أعلامُ الدين، وقواعدُ العلم.
أين بقيةُ الله التي لا تخلو من العترة الطاهرة، أين المعدُّ لقطع دابر الظلمة، أين المنتظرُ لإقامة الأمْتِ والعِوج، أين المرتجى لإزالة الجور والعدوان، أين المدخر لتجديد الفرائض والسنن، أين المتخير لإعادة الملة والشريعة، أين المؤمّل لإحياء الكتاب وحدوده، أين محيي معالم الدين وأهله، أين قاصم شوكة المعتدين، أين هادم أبنية الشرك والنفاق.
أين معز الأولياء ومذل الأعداء، أين جامع الكلم على التقوى، أين السبب المتصل بين أهل الأرض والسماء، أين صاحب يوم الفتح، وناشر رايات الهدى، أين مؤلف الشمل الصلاح والرضا، أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء، أين الطالب بدم المقتول بكربلاء.
بأبي أنت وأمي ونفسي لك الوقاء والحمى، يا بن السادة المقربين، يا ابن النجباء الأكرمين، يا بن الهداة المهتدين يا ابن الخيرة المهديين. عزيزٌ عليَّ أن أرى الخلق ولا ترى، ولا أسمع لك حسيساً ولا نجوى، عزيز علي أن لا تحيط بي دونك البلوى ولا ينالك مني ضجيج ولا شكوى. بنفسي أنت من مغيب لم يخل منا، بنفسي أنت من نازح لم ينزح عنا.
إلى متى أحار فيك يا مولاي وإلى متى. وأي خطاب أصف فيك وأي نجوى. عزيزٌ علي أن أجاب دونك وأناغى. عزيز علي أن أبكيك ويخذلك الورى. عزيزٌ على أن يجري عليك دونهم ما جرى.
هل من معين فأطيل معه العويل والبكا، هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا، هل قذيت عين فتسعدها عيني على القذى، هل إليك يا ابن أحمد سبيل فتلقى، هل يتصل يومنا منك بغده فنحظى؟ ترى أترانا نحف بك وأنت تؤم الملأ، وقد ملأت الأرض عدلاً، وأذقت أعداءك هواناً وعقاباً، واجتثثت أصول الظالمين، ونحن نقول الحمد لله رب العالمين. اللهم أنت كشاف الكرب والبلوى، وإليك أستعدي فعندك العدوي، وأنت رب الآخرة والأولى. اللهم ونحن عبيدك التائقون إلى وليك، المذكر بك وبنبيك، الذي خلقته لنا عصمةً وملاذاً، وأقمته لنا قواماً ومعاذاً، وجعلته للمؤمنين منا إماماً، فبلغه منا تحيةً وسلاماً. اللهم وأقم به الحق، وادحض به الباطل، وأدِلْ به أولياءك، وأذلل به أعداءك، وصل اللهم بيننا وبينه وصلةً تؤدي إلى مرافقة سلفه، واجعلنا ممن يأخذ بحجزتهم، ويكمن في ظلهم، وأعنا على تأدية حقوقه إليه، والاجتهاد في طاعته، والاجتناب عن معصيته، وامنن علينا برضاه، وهب لنا رأفته ورحمته ودعاءه، وخير ما ننال به سعة من رحمتك، وفوزا عندك، واجعل صلواتنا به مقبولة، وذنوبنا به مغفورة، ودعاءنا به مستجاباً، واجعل أرزاقنا به مبسوطة، وهمومنا به مكفية، وحوائجنا به مقضية، وأقبل إلينا بوجهك الكريم، واقبل تقربنا إليك، وانظر إلينا نظرة رحيمة، نستكمل بها الكرامة عندك، ثم لا تصرفها عنا بجودك. واسقنا من حوض جده صلى الله عليه وآله، بكأسه وبيده رَيَاً روياً، سائغاً هنياً، لا ظمأ بعده. يا أرحم الراحمين.
هذا غيض من فيض من آدابنا الشيعية وأدبنا الشيعي مع الإمام المهدي الموعود أرواحنا فداه. كما أن للشيعة في مدحه وحبه من الشعر من قبل ولاته الى يومنا هذا، مئات القصائد، وفيها من عيون الشعر العربي، وآيات الشعر الفارسي والتركي والأوردي. وسنختم الكتاب بمقطوعات منها، إن شاء الله وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(1) مادة أوّلية لمحاضرات عقائدية ألقاها الكاتب في مركز الأبحاث العقائدية في قم المقدسة في ليلة الحادي عشرة والثانية عشرة ومن صحن صاحب الزمان السيدة المعصومة - شهر رمضان المبارك سنة 1434 هـ ق.
(2) مفاتيح الجنان: أعمال شهر شعبان: 261.
(3) مفاتيح الجنان: أعمال شهر شعبان: 261.
(4) الغيبة: 219.
(5) تاريخ الغيبة الصغرى: 404.
(6) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عليه السلام) : لسماحة آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي: ص399 - 400.
(7) البحار: 52: 151.
(8) المصدر نفسه.
(9) المصدر نفسه.
(10) البحار: 52: 154 عن غيبة النعماني: 89 والكافي: 1: 240.
(11) الغيبة الصغرى: 633 - 640.
راجع البحار: ج52 ص151 باب من أدعى الرؤية في الغيبة الكبرى.
(13) تاريخ الغيبة الصغرى: 644.
(14) انظر منتخب الأثر ص400 والبحار ج13 ص142 (الطبعة القديمة، المطبعة الحديثة: ح52: 151).
(15) تاريخ الغيبة الصغرى: 646 - 647.
(16) تاريخ الغيبة الصغرى: 652.
(17) المصدر نفسه: 652 - 653.
(18) البحار: 52: 181 قال (عليه السلام) : واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فانهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم.
(19) البحار: 53: 319.
(20) البحار: 53: 174 - 175.
(21) البحار: 53: 175.
(22) البحار: 52: 324 - 325.