الإمام المنتظر (عليه السلام) هدية السماء

الإمام المنتظر (عليه السلام) هدية السماء
بحوث حول الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

لسماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله
تحقيق: مؤسسة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)
الناشر: ياس الزهراء سلام الله عليها - قم
الطبعة الأولى: ربيع الأول 1425 ه

الفهرس

كلمة المؤسسة
البحث الأوّل: من هو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)؟
(أ) ضرورة معرفة الإمام (عجّل الله فرجه)
(ب) منّة الله علي مستضعفي الأرض
أ - التأكيد علي المستقبل
ب - شمول دائرة المنّة لكلّ أهل الأرض
خلاصة الدليل
البحث الثاني: سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في الحكم
(أ) نهج الإمام (عجّل الله فرجه) في تأسيس الدولة
الأحاديث الموضوعة
الروايات الصحيحة
التعارض بين الروايات
سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
سيرة النبي وأمير المؤمنين سلام الله عليهما مع مخالفيهما
السيرة الشخصية للإمام الحجة (عج)
روايات في هذا المجال
(ب) أساليب الإدارة عند الإمام (عجّل الله فرجه)
العلاقة بين الإمام وعمّاله
3) قضاء الإمام (عجّل الله فرجه)
البحث الثالث: نحن والإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
1) مسؤوليتنا في عصر الغيبة
بين الواجب والرغبة
أويس القرني أفضل من كثير من الصحابة!
2) رسائل الإمام للشيخ المفيد
الرسالة الأولى
الرسالة الثانية
عظمة الشيخ المفيد
تأمّلات في بعض كلمات الرسالة
كيف تلقّي الشيخ المفيد رسائل الإمام؟
من هو الشيخ المفيد؟
منزلة الشيخ المفيد عند العامّة
الإمام (عجّل الله فرجه) ينعاه بعد رحيله
قدوة الشيخ المفيد
تحمّل الشيخ المفيد لمسؤوليته
ماذا يتوقّع الإمام (عجّل الله فرجه) من شيعته؟
فضل العالم علي العابد

بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المؤسسة

من هو الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه)؟ وكيف يجب أن يكون اعتقادنا به وتصوّرنا له في عصر الغيبة والظهور؟ ولماذا هذه الشحّة وهذا البخل في الحديث عن إمام يمسك في حقيقة الأمر المقطوع به مقدّرات الحياة، ويتعلّق عليه المصير البشري برمّته بإذن الله تعالى؟
ففي الوقت الذي نري اهتماماً عالمياً شديداً لأتفه القضايا الحادثة، يصعقنا التغافل عن هذا الإمام الهمام الذي ادّخره الله سبحانه وتعالى هدية للبشرية، فينقذ مستضعفيها، ويهدي جاهليها، ويضع حدّاً قاطعاً أبدياً لظلم ظالميها وتجبّر متجبّريها إن شاء الله تبارك وتعالى.
يطرح هذا الكتاب جانباً من رؤي المرجع الجليل سماحة آية الله العظمي السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظلّه فيما يخصّ عصر غيبة الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) ليعرف الإنسان خطر مسؤوليته في معرفة إمام عصره، انطلاقاً من الحقيقة العقائدية والحضارية القائلة بأن من لم يعرف إمام زمانه، فقد مات ميتة الشرك والجاهلية، نظراً لأن عيشته ستكون عيشة المزالق والمتاهات والشكوك.
ثم يؤكد سماحة السيد المرجع أن الإمام الحجّة المنتظر هو منّة الله سبحانه وتعالى علي مستضعفي الأرض وأنه الأمل الأكبر الذي زرعه تبارك اسمه في نفوسهم ليتمكنوا من مواصلة الحياة بإقبالٍ واجتهاد للمشاركة في صناعة المستقبل.
فكما منّ الله تعالى علي الناس أن بعث فيهم رسولًا، وهو خاتم النبيين (صلّى الله عليه وآله)، كذلك أعلن عزّ اسمه عن إرادته في أن يمنّ علي المستضعفين في الأرض أن يورثهم إياها تحت قيادة حفيد هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
ثم يتطرّق فضيلة السيد المرجع إلى عصر الظهور وطبيعة السيرة المهدوية وكونها تطابق سنّة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، وأسلوب القضاء والإدارة عند الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، انطلاقاً من الروايات الصحيحة الواردة، ونبذاً للروايات الموضوعة في هذه المجالات.
وممّا لاشك فيه أنّ هذه الرؤية ستفتح آفاقاً واسعة أمام القارئ وترسم ملامح جديدة في تصوّر طبيعة سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ودولته المنتظرة.
يري آية الله العظمي الشيرازي في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مرآة صافية تعكس السيرة الذاتية الاجتماعية والسياسية للرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليهما، للتحرّك باتجاه إحياء سنّتهما المهجورة، وإذكاء جذوة الحياة لمنهجيهما عليهما الصلاة والسلام في الحكم وصيانة الشريعة.
من هذا المنطلق؛ تُزاح الآراء التي تصوّر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بأنّه رجل قتل ودم، وأنّ مهمّته تتلخص في الإبادة والانتقام، مؤكداً في الوقت نفسه علي دور الروايات التاريخية المكذوبة أو المدسوسة في بلورة هذا التصوّر، ومن هنا؛ عمد سماحته إلى تمحيص أسانيد هذه الروايات وبيان مدي وثاقتها وسقمها، ليخرج بتحليل علمي دقيق مفاده أنّ جميع تلكم الروايات إما أن تكون واهية الأساس، أو مطعون في بعض رجال سندها، أو تكون مما أقحم في رجال سندها بعض الثقات المعوّل عليهم في صحّة الأخبار إلى جنب الكذّابين والمزوّرين، ويبين سماحة السيد المرجع الشيرازي حفظه الله مسؤوليتنا تجاه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في عصر الغيبة، حيث يتناول بالشرح نقطتين، هما:
• المسؤولية في تحمّل أعباء نشر الدين وبصائر أهل البيت عليهم الصلاة والسلام وطبيعة القضية المهدوية التي تمثّل بحقّ قضية العصر المتوقّع تحقّقها في كلّ حين بإذن الله تعالى.
• والرغبة التي تساور الكثير من المؤمنين في التشرّف بلقاء صاحب العصر والزمان صلوات الله تعالى عليه، إذ يعتبر التشرّف ذروة الالتحام والاتّباع والمصداقية. ورغم أن من نالوا هذا الشرف والكرم العظيم هم في الغالب ممن يعرفون ويعون المسؤولية ويعملون بها، إلا أن من الأفضل والأكمل القول بضرورة الجمع بين الإصرار علي تحمّل المسؤولية وبين الطموح إلى التشرّف بلقياه صلوات الله وسلامه عليه، مشيراً إلى أن التزام الشيعة - لاسيما أهل العلم - بما تملي عليهم المسؤولية في العمل بالواجبات وترك المحرّمات سيفتح لهم نافذة اللطف والرعاية المهدوية، التي قد تفوق مساحة التشرّف باللقاء وليجدوا دعوات الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) تحفّ بهم كما حظي الشيخ المفيد رحمه الله وبعض المؤمنين من قبل بهذه المكرمة.
من هنا؛ فقد تشرّفت مؤسسة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) الثقافية بنشر هذه الرؤية المهدوية الصادقة؛ الصادرة عن سماحة السيد المرجع الشيرازي دام ظله، والتي كانت أساساً عبارة عن بحوث تناولها فضيلته في مناسبات مختلفة، فإنه حفظه الله يؤكد علي الساعين لنشر عقائد أهل البيت عليهم الصلاة والسلام الاهتمام بالقضية المهدوية المباركة ونشرها بين الناس ليكونوا علي بينة من أمرهم إزاء هذه القضية بعد أن يعوا حقيقة إمامهم ودوره في واقعهم ومستقبلهم.
وفي الختام تتوجّه المؤسسة بالشكر لكلّ الإخوة الذين ساهموا في إخراج هذه البحوث القيمة بهذه الحلّة القشيبة، لاسيما...

البحث الأوّل: من هو الإمام المهدي(عجّل الله فرجه)؟

(أ) ضرورة معرفة الإمام (عجّل الله فرجه)
من الواجبات العامة الملقاة علي عاتق جميع المسلمين هي معرفة إمام زمانهم ثمّ طاعته، وأهمّ ما يستدلّ به في هذا المجال من الأدلّة
النقلية الحديث المتواتر:
«من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية».
فمن يرحل عن هذه الدنيا طبقاً لهذا الحديث دون معرفة إمام زمانه فإن ميتته تكون كميتة من قضي علي عهد الجاهلية، كأن لم يربطه
بالإسلام أيّ رابط.
وهذا الحديث من الأحاديث المعتبرة جداً ويري تواتره كلا الفريقين الشيعة ومخالفوهم.
يقول عنه الشيخ المفيد الذي هو من كبار علمائنا في كتابه النفيس (الإفصاح): «روي هذا الحديث متواتراً عن الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)»(1).
كما ذكر في رسالة أخرى باسم (الرسالة الأولى في الغيبة) ما يلي:
«حديث (من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) خبر صحيح يشهد به إجماع أهل الآثار»(2).
ومن علماء العامّة نشير إلى سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي الذي قال صراحة «بأنّ حديث (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) هو موضع إجماع علماء الأمّة»(3).
والسبب في أنّ الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) يضع مسألة جهل المرء بإمام زمانه في مرتبة الشرك والإلحاد – حيث يموت على الجاهلية - يرجع إلى أنّ الجهل بمعرفة الإمام سلام الله عليه يؤدّي بصاحبه إلى الضلال والابتعاد عن الصراط المستقيم، وبالتالي كلما توغّل فيه، ابتعد عن الهدف أكثر، إلى أن ينتهي إلى نحو ما كان عليه أهل الجاهلية من الشرك.
ومن هذا المنطلق يتوجّب علينا الجدّ في السعي لمعرفة إمام زماننا، لنقي أنفسنا خطر الوقوع في المزالق والمتاهات، ومما لاريب فيه أن إمام زماننا هو الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الذي شُحنت بذكره كتب المسلمين علي الإطلاق من خلال الأحاديث والروايات والآثار التي بينت حسبه ونسبه، وأنه ابن الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه(4)، وسمته وصفته(5)، وأنه من ولد علي وفاطمة سلام الله عليهما(6) لا أحد غيره، وهو الوحيد الذي تنطبق عليه مواصفات الإمام المفترض الطاعة، وهو حي يرزق بأمر الله ومشيئته(7)، وشاهد على أعمال البشر وسلوكهم، وبالخصوص منهم الشيعة(8)، وبدرجة أخصّ العلماء وطلبة العلوم الدينية.
وممّا يؤسف له أنّ غياب المعرفة الصحيحة عن الإمام المهدي سلام الله عليه و(عجّل الله فرجه)، والجهل أو الخلط في تحليل الأحاديث والروايات والآثار التي تنبئ ما ستكون عليه سيرته الشخصية والاجتماعية فضلًا عن المكذوب أو المدسوس في الروايات، حدت بالبعض إلى تصوّر الأوهام وكيل التّهم إليه (عجّل الله فرجه)، والتي لا تصحّ نسبتها حتى إلى الفرد العادي!
ويمكن تقسيم هذه التهم بوجه عام إلى قسمين:
- القسم الأول ما يتعلق بنهج الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في تشكيل الحكومة.
- والقسم الثاني حول سيرته في الحكم لعصر ما بعد الظهور وبسط قيادته على العالم(9).
(ب) منّة الله على مستضعفي الأرض
قال الله تعالى في كتابه الكريم: (ونريد أن نمنّ علي الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلَهم أئمّة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)(10).
هاتان الآيتان المباركتان من الآيات الواردة في صاحب الزمان المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه و(عجّل الله فرجه). يشهد علي ذلك - إضافة إلى الأحاديث الكثيرة المروية في تفسير الآية(11) - ما تحمله الآية نفسها، ونعنونه في النقطتين التاليتين:
أ - التأكيد على المستقبل
قد لا تجد في القرآن الكريم كلّه آية مشابهة لهاتين الآيتين من هذه الجهة؛ حيث بلغ عدد أفعال المستقبل فيهما - علي قصرهما - ستّة
أفعال، وهي (ونريد.. أن نمنّ.. ونجعلهم أئمّة.. ونجعلهم الوارثين.. ونمكن لهم.. ونري..).
وما هذا التكرار في استعمال صيغة المستقبل إلاّ للتأكيد علي أنّ هذا الفعل سيقع في المستقبل وأنّ وقته لم يحن بعد، فهو لم يصدر في الماضي ولا هو صادر في الحاضر، بل إنه سيصدر في ما يأتي من الزمان ويقع لاحقاً وفي المستقبل.
ب - شمول دائرة المنّة لكلّ أهل الأرض
لقد نهانا الله عن المنّة، فقال يخاطب نبيه الكريم: (ولا تمنن تستكثر)(12). أي أنّك لو تصدّقت بمليون دينار علي الفقراء - مثلًا – فلا تستكثرها ولا تمنّ في ذلك.
وقال - يخاطب المؤمنين - في آية أخرى: (يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى)(13). وقال أيضاً: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّاً ولا أذىً)(14).
وحيث إنّ الله تعالى نهانا عن المنّة، نراه سبحانه لم يستعمل تعبير المنّة - في القرآن الكريم - في ما تفّضل به على عباده، إلاّ في حالات محدودة؛ منها:
الحالة الأولى: علي أنبيائه سلام الله عليهم، حيث قال عزّ من قائل مخاطباً نبيه الكريم محمداً (صلّى الله عليه وآله): (ولقد منَنّا عليك مرّة أخرى)(15).
وقال في آية أخرى يمنّ على نبييه الكريمين موسى وهارون (عليهما السلام): (ولقد منَنّا علي موسي وهارون)(16).
الحالة الثانية: منّ الله فيها على المؤمنين في مورد واحد فقط، وذلك في قوله تعالى: (لقد منّ الله علي المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً)(17).
فقد توسّعت الدائرة هنا وجُعلت المنّة علي المؤمنين ببعث الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله).
الحالة الثالثة: علي أهل الأرض كلّهم، أي أنّ الدائرة هنا أصبحت عامّة وشملت كلّ البشرية، حيث لم يحدّد سبحانه الذين يمنّ عليهم بالمستضعفين من الأنبياء ولا من المؤمنين بل قال: (ونريد أن نمنّ علي الذين استُضعفوا في الأرض).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا غير الله تعالى الأسلوب في الحالة الثالثة، فعندما تحدّث عن بعثة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) قال: (لقد منّ الله علي المؤمنين) ولكن عندما وصل الدور في هذه الآية إلى صاحب العصر والزمان المهدي الموعود (عجّل الله فرجه) وسّع من إطار منّته (تعالى) حتى شملت كلّ الكرة الأرضية؛ إذ قال: (ونريد أن نمنّ علي الذين استُضعفوا في الأرض) مع أنّ لكلّ كلمة واستعمال في القرآن غاية وأبعاداً ينبغي التوقّف عندها؟!
والجواب واضح، وهو أنّه لم تعمّ منّة الله علي أهل الأرض كلّهم حتى اليوم، فمازال حتى الآن وفي كلّ مكان وزمان أُمم وألوف بل ملايين من الناس لم تبلغهم حجّة الله وأحكام دينه ولا عرفوا الله عزّ وجلّ. فهناك اليوم حوالي خمسة آلاف مليون شخص غير مسلم على وجه الكرة الأرضية، فهل تمّت منّة الله عليهم؟ كلّا بالطبع؛ إذ بأيّ شيء منّ الله عليهم؟ هل بالمال ولا قيمة له عند الله تعالى ولا ذُكر بعنوان المنّة؟ أم بالوجود البحت ولا قيمة له عند الله أيضاً، وكذا الصحّة وكلّ الدنيا؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يخبرنا: «إنّ الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة»(18).
إنّ الشيء الذي له قيمة عند الله تعالى ومنّ به علي البشر هو معرفته سبحانه وتعالى؛ وأن يعرف الإنسان لماذا خُلق ومن أين أتي، ولماذا جاء إلى هذا الوجود، وإلى أين سينتهي!
ولذلك؛ نلاحظ أنّ الله تعالى لم يمنّ علي الناس لأنّه أعطاهم الصحّة، ولا يمنّ علي من يدخلهم الجنة رغم كبير نعمته عليهم وسعة رحمته بهم، بل قال تعالى: (فمَن زُحزِح عن النار وأدخِل الجنّة فقد فاز)(19)، في حين نراه منّ علي المؤمنين ببعثة الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله).
فحقّ لنا أن نسأل: ما هو هذا الأمر الذي يستوجب منّة الله علي الناس كلّهم كما استوجب المنّة علي المؤمنين خاصة ببعث الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)؟ أليس في هذا إشارة إلى الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه)، وأنّه كجدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) تماماً إلاّ في مقام النبوّة؟!
فإن قيل: لماذا يمنّ الله على مستضعفي الأرض كلّهم بظهوره؟
نقول: لأنّ المهدي (عجّل الله فرجه) يحقّق الغاية النهائية التي أرادها الله تعالى من وراء بعثة الرسل والأنبياء كلّهم، من لدن آدم حتى الخاتم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ومن الطبيعي أن تقرن هذه النتيجة العظمي بالمنّ كما قرنت ببعثة الرسول (صلّى الله عليه وآله).
خلاصة الدليل
تبين إذن أنّ الله تعالى لم يذكر المنّة في القرآن الكريم إلاّ في عدّة مواضع؛ الأوّل علي أنبيائه في آيتين، والثاني علي المؤمنين وكلها وردت بصيغة الماضي (لقد منَنّا.. ولقد منَنّا.. لقد منّ الله علي المؤمنين..) لكن هنا (في آية القصص) تبدّلت الصيغة إلى زمان المستقبل، وكانت المنّة شاملة لكلّ أهل الأرض.
وهكذا نرى أنّ هذه الآية المباركة هي من الآيات الواردة في شأن الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) الشريف، كما تؤيد ذلك الأحاديث الشريفة(20).

البحث الثاني: سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في الحكم

(أ) نهج الإمام (عجّل الله فرجه) في تأسيس الدولة
دأب بعض الناس مع الأسف علي رسم صورة عنيفة وفظّة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في عصر ظهوره، معتقدين أنّه سيؤسّس دولته وينشر سلطانه بإعمال السيف في أعدائه وإهراق دمائهم، مستندين في ذلك إلى ما تضمّنته بعض الروايات ذات الصلة والتي ستعرف حالها وحال رواتها لاحقاً، كما تناهي ذلك إلى علم الناس عن طريق بعض الخطباء وبعض الكتب حيث تذكر بعض الروايات، علي سبيل المثال، أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) عند ظهوره سيأخذ الناس بالشدّة والعنف لدرجة أنّهم يتمنّون لو كان بينهم وبينه أمد بعيد حتى لا يتسلّط عليهم!! بينما البعض الآخر منها تذكر أنه سيشكك الكثير منهم في انتسابه حقّاً إلى الدوحة المحمدية بسبب سيرته العنيفة في الحكم.
الأحاديث الموضوعة
كثيرة هي الأحاديث الموضوعة عن أسلوب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في إقامة دولته، ناهز عددها الخمسين حديثاً، نُسب سند أكثر من ثلاثين منها إلى شخص يدعي محمد بن علي الكوفي، وهو وضّاع سيئ الصيت اشتهر بعدم الثقة لدي العلماء، وكان معاصراً للإمام الحسن العسكري سلام الله عليه.
ويستدلّ علي عدم وثاقة محمد بن علي الكوفي هذا من قول الفضل بن شاذان(21) فيه: بأنّه «رجل كذّاب»(22).
وقال فيه في مناسبة أخرى: «كدت أن أقنت عليه»(23) أي أوشكت أن أدعو عليه في قنوتي.
وفيما يلي نستعرض بعضاً من هذه الروايات:
الرواية الأولى:
رفع إلى أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في خبر طويل، إلى أن قال:
«..وينهزم قوم كثير من بني أمية حتى يلحقوا بأرض الروم فيطلبوا إلى ملكها أن يدخلوا إليه. فيقول لهم الملك: لا ندخلكم حتى تدخلوا في ديننا وتنكحونا وننكحكم وتأكلوا لحم الخنازير وتشربوا الخمر وتعلّقوا الصلبان في أعناقكم والزنانير في أوساطكم، فيقبلون ذلك فيدخلونهم.
فيبعث إليهم القائم (عليه السلام) أن: أخرجوا هؤلاء الذين أدخلتموهم.
فيقولون: قوم رغبوا في ديننا وزهدوا في دينكم.
فيقول (عليه السلام): إنكم إن لم تخرجوهم وضعنا السيف فيكم.
فيقولون له: هذا كتاب الله بيننا وبينكم.
فيقول: قد رضيت به.
فيخرجون إليه، فيقرأ عليهم، وإذا في شرطه الذي شرط عليهم أن يدفعوا إليه من دخل إليهم مرتدّاً عن الإسلام ولا يردّ إليهم من خرج من عندهم راغباً إلى الإسلام.
فإذا قرأ عليهم الكتاب ورأوا هذا الشرط لازماً لهم، أخرجوهم إليه، فيقتل الرجال ويبقر بطون الحبالي ويرفع الصلبان في الرماح...»(24).
المناقشة:
ينبغي أن نعلم أوّلًا أنّ سيدنا ومولانا المهدي (عجّل الله فرجه) إمام، وهو أدري من أيّ فرد آخر بأحكام الإسلام التي تنصّ على أنّه في حال ارتكاب الحامل أية جريمة توجب عليها الحدّ، كأن تكون زنت مثلًا وشهد أربعة شهود عدول علي ذلك - فمع هذا - يحرم إقامة الحدّ عليها ما لم تضع حملها. فهل يعقل - إذاً والحال هذه - أن يبقر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بطون الحبالي؟
أليست هذه الرواية من مصاديق الكذب؟
الرواية الثانية:
عن كتاب الغيبة للنعماني وطبقاً للأسانيد التالية:
«عن علي بن الحسين(25) عن محمد بن يحيي العطار، عن محمد بن الحسن الرازي (غير معروف) عن محمد بن علي الكوفي، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن عبد الله بن بكير، عن أبيه، عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أيسير (الحجّة) بسيرة محمّد (صلّى الله عليه وآله)؟ فقال:
هيهات هيهات يا زرارة ما يسير بسيرته!
قلت: جُعلت فداك لِمَ؟ قال:
إنّ رسول الله سار في أمّته باللين كان يتألّف الناس، والقائم يسير بالقتل»(26).
المناقشة:
علاوة علي ضعف سند هذه الرواية، فإنّها تناقض الروايات الصحيحة التي تتحدث عن محاكاة سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لسيرة جدّه الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) والتي سنذكرها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
الرواية الثالثة:
وهي عن محمد بن علي الكوفي، عن البزنطي، عن العلاء، عن محمد؛ قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:
«لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج، لأحبّ أكثرهم أن لا يروه؛ ممّا يقتل من الناس»(27).
المناقشة:
هذا الكلام المنسوب إلى الإمام المعصوم من قِبل أحد الوضّاعين مرفوض جملة وتفصيلًا، لأنّنا لو فرضنا أنّ وضّاعاً افتري علي مؤمن بشرب الخمر، فإن هذا الافتراء لن يقع موقع القبول في نفس العاقل، ولا يسمح بنقله، فما بالك إن كان الافتراء بتهمة إعمال القتل الفظيع علي الإمام المعصوم سلام الله عليه؟!
نتابع سرد بقية الرواية أعلاه، فقد جاء فيها:
«حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد (صلّى الله عليه وآله). لو كان من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) لرحم»؛ وذلك بسبب إسرافه في القتل!
فيا تري عمّن تتحدّث الرواية؟ هل تتحدّث عن الحجاج بن يوسف الثقفي؟!.
الرواية الرابعة:
عن محمد بن علي الكوفي، عن البزنطي، عن عاصم بن حميد الحنّاط، عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر (عليه السلام):
«ليس شأنه إلا بالسيف، لا يستتيب أحداً»(28).
المناقشة:
أفهكذا كانت سنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟!
والمسألة المثيرة هنا أنّ محمد بن علي الكوفي هذا كان ينسب أكاذيبه إلى الثقات من الرواة حتى يضفي عليها بعض المصداقية، وهو ما يظهر جلياً من خلال دسّ أسامي بعض الثقات في سلسلة أسانيده، كما ذكر الحنّاط هنا في هذه الرواية.
الرواية الخامسة:
هذه المرّة: محمد بن علي الكوفي، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن أبي حمزة البطائني(29)، عن أبي بصير عن أبي عبد الله سلام الله عليه أنه قال:
«ما تستعجلون بخروج القائم! فوالله... وما هو إلا السيف، والموت تحت ظلّ السيف»(30).
الرواية السادسة
عن علي بن أبي حمزة البطائني، عن أبيه، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله سلام الله عليه أنّه قال: «إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلا السيف ما يأخذ منها إلاّ السيف»(31).
كان ما تقدم بعض الروايات الواردة في هذا الشأن تنتهي كلها إلى محمد بن علي الكوفي والبطائني، وعدا محمد بن علي الكوفي والبطائني، هناك غيرهما من الرواة لهذا النوع من الروايات، التي لا اعتبار لها.
دوافع الوضع
من أساليب أعداء أهل البيت سلام الله عليهم جعلهم للأحاديث وتحريفها ونسبتها إلى الأئمة الطاهرين، ليقع التحريف في المعارف والمفاهيم الإسلامية، وليسوقوا الناس بالشكل الذي يبتغونه وإلي النهاية التي يتوقّعونها؛ بالإضافة إلى نيتهم المبيتة في إسقاط العترة الطاهرة من أعين الناس عبر إلصاق المفاهيم المزيفة بهم، وبالتالي يحدث ما يريدونه، وهو إبعاد الناس عن التمحور حول آل البيت النبوي الشريف.
وما أكثر الأكاذيب التي افتراها الوضّاعون ونسبوها للأئمة الأطهار (عليهم السلام) وخاصّة للإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام)، والتمعّن في الروايات أدناه يكشف عن ذلك:
روي عن الإمام الصادق سلام الله عليه أنه قال:
«فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبينا محمد ((صلّى الله عليه وآله) وسلّم)، فإنا إذا حدّثنا قلنا: قال الله عزّ وجل وقال رسول الله ((صلّى الله عليه وآله) وسلّم)».
قال يونس: وافيت العراق، فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (عليه السلام)، ووجدت أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد علي أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أحاديث أبي عبد الله (عليه السلام)، وقال لي:
إن أبا الخطاب كذب علي أبي عبد الله (عليه السلام)، لعن الله أبا الخطاب وكذلك أصحاب أبي الخطاب، يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام)...
وعن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:
«كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب علي أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة، ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه...»(32).
الإشكال الدلالي:
بغض النظر عن الإشكالات في أسانيد هذه الروايات، فهي أيضاً تتناقض وأساسيات الدين والشرع، ولا يمكن تبريرها بأي حال.
فمن المعلوم أنّ مهمّة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هي إقامة العدل وطي بساط الظلم والجور، وعلي هذا الأساس؛ فمن غير المعقول أن يحقّق المهدي الموعود العدل بسلوك طريق الظلم، أو أن يحيي سنّة جدّه المصطفي (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي سلام الله عليه بإحياء البدع. فسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تحرّم بوضوح إقامة الحدّ علي المرأة الحامل، في حين ينسب إلى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) (والعياذ بالله) أنّه يفعل ذلك مع المرأة الحامل التي تضطرّ للدخول في الدين المسيحي خوفاً ورهبة منه؛ وذلك حسب رواية محمد بن علي الكوفي.
الروايات الصحيحة
ثمّة أدلة تدحض هذه الأقاويل، وهي الأحاديث الصحيحة والمعتبرة الواردة في هذا الشأن، والتي تنقل صورة مغايرة تماماً لما أوردته الروايات السابقة، حيث تؤكد بما لا يقبل اللبس والغموض علي مطابقة نهج الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في الحكم لنهج جدّيه النبي المصطفي (صلّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي سلام الله عليه، ونستعرض هاهنا بعضاً من هذه الروايات:
الرواية الأولى:
وهي رواية موثّقة وحسنة عن كتاب الغيبة للنعماني، وهذا نصّها:
«عن ابن عقدة، عن علي بن الحسن (ابن فضّال) عن أبيه، عن رفاعة عن عبد الله بن عطاء قال: سألت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) فقلت:
إذا قام القائم (عجّل الله فرجه) بأيّ سيرة يسير في الناس؟ فقال (عليه السلام):
«يهدم ما قبله كما صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويستأنف الإسلام جديداً»(33).
أي كما أنّ رسول الله هدم أركان الشرك واليهودية والنصرانية والمجوسية من قبل، فإنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كذلك سيزيل عن الدنيا كلَّ ما ينطق ظاهره باسم الإسلام ويستبطن خلافه، ليؤسّس بعد ذلك للإسلام الحقيقي الأصيل دولته الحقّة.
ومن المعروف أنّ الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) وتنفيذاً لأوامر القرآن الكريم، في قوله تعالى: (فَبِما رَحْمَة مِنَ الِله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كنْتَ فَظّاً غَليظَ القَلْبِ لانْفَضّوا منْ حَوْلك)(34) هدّم ما قبله بالحسني واللين، مستخدماً هذا النهج مع جميع الناس، حتى المشركين، وليس مع المسلمين وحدهم، وكذلك الأمر بالنسبة للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) الذي سيطبّق النهج ذاته مع المشركين، فكيف بالمسلمين؟!
الرواية الثانية:
رواها بأسانيد عديدة جمهرة من المتقدمين والمتأخرين أمثال الصدوق والخزاز القمي والطبرسي والإربلي وآخرين قدّست أسرارهم: عن ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال:
«التاسع منهم [من أولاد الحسين سلام الله عليه] من أهل بيتي ومهديّ أمّتي، أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله»(35).
يظهر من كلمة (أفعاله) أنّه علاوة علي شبه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بالنبي (صلّى الله عليه وآله) في شمائله وأقواله فإنّه شبيهه بالأفعال أيضاً.
تعليق أمين الإسلام الطبرسي
وأورد العلّامة المجلسي رحمه الله تعليقاً للشيخ الطبرسي(36) - من كتابه إعلام الورى - على هذه الرواية جاء فيه:
«تذييل:
قال شيخنا الطبرسي في كتاب إعلام الورى:
فإن قيل: إذا حصل الإجماع علي أن لا نبي بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنتم قد زعمتم أن القائم (عجّل الله فرجه) إذا قام لم يقبل الجزية من أهل الكتاب، وأنه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقّه في الدين، وأمر بهدم المساجد والمشاهد، وأنه يحكم بحكم داود (عليه السلام) لا يسأل بينة، وأشباه ذلك مما ورد في آثاركم، وهذا يكون نسخاً للشريعة وإبطالًا لأحكامها، فقد أثبتّم معني النبوّة وإن لم تتلفّظوا باسمها، فما جوابكم عنها؟
الجواب: إنا لم نعرف ما تضمّنه السؤال من أنه (عجّل الله فرجه) لا يقبل الجزية من أهل الكتاب، وأنه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقه في الدين؛ فإن كان ورد بذلك خبر، فهو غير مقطوع به.
فأمّا هدم المساجد والمشاهد؛ فقد يجوز أن يختصّ بهدم ما بُني من ذلك علي غير تقوي الله تعالى وعلى خلاف ما أمر الله سبحانه به، وهذا مشروع قد فعله النبي (صلّى الله عليه وآله).
وأما ما روي من أنه (عجّل الله فرجه) يحكم بحكم آل داود لا يسأل عن بينة؛ فهذا أيضاً غير مقطوع به، وإن صحّ، فتأويله أن يحكم بعلمه فيما يعلمه، وإذا علم الإمام أو الحاكم أمراً من الأمور فعليه أن يحكم بعلمه ولا يسأل عنه، وليس في هذا نسخ الشريعة...»(37).
فالطبرسي الذي يعدّ من أشهر علماء الحديث يردّ اعتبار الروايات التي تفيد استخدام الإمام (عجّل الله فرجه) للعنف بتلك الصُّور الفظّة.
الرواية الثالثة:
عن (بحار الأنوار) نقلاً عن كتاب الكافي عن البرقي عن أبيه عن محمد بن يحيي الخزاز عن حماد بن عثمان عن الإمام الصادق سلام الله عليه قال: «إن قائمنا أهل البيت إذا قام لبس ثياب أمير المؤمنين (عليه السلام) وسار بسيرة علي (عليه السلام)»(38).
سند هذه الرواية صحيح لا تعتريه شبهة، وذلك لكون جميع رواتها من الثقات، كما أنّ مضمونها مطابق لسيرة المعصومين سلام الله عليهم، وهذا المضمون يشير إلى أنّ لظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في قلوب الناس عامّهم وخاصّهم، صغيرهم وكبيرهم محبة وشوقاً كبيرين.
فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في الحديث الشريف المتّفق علي روايته بين الخاصّة والعامّة أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال:
«نبشّركم بالمهدي، رجل من قريش يسعد بخلافته سكان السموات والأرض»(39).
وعنه (صلّى الله عليه وآله) أيضاً:
«أبشرّكم بالمهدي الذي يرسل إلى الناس... فيسعد به سكان السموات والأرض»(40).
كما جاء في رواية أخرى عنه (صلّى الله عليه وآله):
رجل من أمّتي، يحبّه أهل الأرض والسماء.
وعن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):
«أبشّركم بالمهدي يبعث في أمّتي علي اختلاف من الناس وزلازل، يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحاً».
فقال رجل: ما صحاحاً؟
قال (صلّى الله عليه وآله):
«بالسوية بين الناس، ويملأ الله قلوب أمّة محمد غني، ويسعهم عدله، حتى يأمر منادياً ينادي؛ يقول: من له في المال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل واحد فيقول: أنا. فيقول: ائت السادن يعني الخازن فقل له: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالًا، فيقول له: احثُ، حتى إذا جعله في حجره وأبرزه، ندم، فيقول: كنت أجشع أمة محمد نفساً؛ أعجز عما وسعهم. فيردّه ولا يقبل منه. فيقال له: إنا لا نأخذ شيئاً أعطيناه»(41).
وفي حديث آخر:
«يرضي عنه ساكن السماء وساكن الأرض»(42).
ومعلومٌ أنّ حبّ أهل الأرض إنما يجتمع مع الرفق وما أشبه.
وعن أمير المؤمنين سلام الله عليه يصف سيرة ولده الحجّة الموعود بعد ظهوره:
«.. وتُخرج الأرض أفاليذ(43) كبدها، وتلقي إليه سلماً مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنة»(44).
التعارض بين الروايات
في حال وقوع التعارض بين الروايات يمكن الاهتداء ببعض الوصايا للأئمة المعصومين سلام الله عليهم في هذا المجال.
فلو فرضنا أن هناك روايتين تعارضتا مع توفر شروط التعارض والتي من أهمّها وثاقة سنديهما، لا أن يكون في سند أحدهما مثل محمد بن علي الكوفي الوضّاع، وفي الآخر علي بن إبراهيم ومحمد بن مسلم اللذان هما من الثقات المعتمدين عند الأئمة سلام الله عليهم. فالمقارنة بين هذين السندين غير صحيحة عقلًا وشرعاً.
وعليه؛ فإنّنا نواجه ومنذ الخطوة الأولي معضلة السند؛ وذلك لأنّ محمد بن علي الكوفي يرسم في رواياته عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) صورة السفّاح الذي يسرف في القتل ويعمّ الهرج والمرج في زمانه، بينما يقول الفقهاء إنّ الأحكام الشرعية تسقط عن الوجوب في حال تسبّبها في إحداث الفوضى، فكيف للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وهو المحيط بجميع جوانب الدين وأحكامه أن يتسبّب في الهرج والمرج؟
إذن؛ فقد انتفت منذ البداية مسألة التعارض وبطلت، وأنّي لشخصٍ كذّاب أن يعارض فطاحل علم الحديث وثقاته؟
وعلي فرض صحة سند كلا الحديثين، فإن إعمال الترجيح بينهما هو الذي سيكون حاكماً، حيث يتمّ عرضهما علي الكتاب الكريم ومقارنتهما به، فيؤخذ بما يتطابق معه. وفي المقام، يكون الرجحان دون شك لتلك التي تصرّح بتشابه سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مع سيرة جدّه المصطفي (صلّى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين علي سلام الله عليه، لأنّها تتماشي مع ما أمر به الرحمن في كتابه الكريم بقوله تعالى لنبيه الأعظم (صلّى الله عليه وآله) (فَبِما رَحْمَة مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كنْتَ فَظّاً غَليظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِك).
بعد أن ننتهي من هذه المرحلة ويتبين لنا علي سبيل الفرض أنّ كلتا الروايتين مطابقتان للكتاب، يأتي دور مطابقة الرواية محطّ البحث مع ما ورد من السنّة القطعية.
ثم يأتي دور عنصري الدلالة والظهور، فنختار الرواية الأصرح، وإذا كانتا متساويتين في هذين الجانبين أيضاً، نصل إلى مرحلة فتكون الروايتان كأن لم تكونا من الأساس في هذا الشأن. وهذه قاعدة اُصولية فقهية، «إذا تعارضا تساقطا» التساقط، بناءً على قاعدة معمول بها في باب تعارض الروايات عند الفقهاء.
سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ومطابقتها لسيرة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)
اتضح ممّا تقدّم أنّ سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) تطابق سيرة جدّه المصطفي (صلّى الله عليه وآله)، حتى شمائله، فهي تشبه تماماً في نورانيتها شمائل الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)، طبقاً لما روي في كثير من أحاديث الفريقين، علاوة علي أنّ المؤرّخين المسلمين وغيرهم ذكروا بأنّه حتى أعدي أعداء النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) كان ينبهر لرؤيا شخص الرسول (صلّى الله عليه وآله) بمجرّد أن يقع نظره علي طلعته البهية، فكانت كثيراً ما تنسيه عداءه له، فكذلك هو الحال بالنسبة لشمائل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
مضافاً إلى ما ورد في التاريخ والروايات الشريفة بشأن مناقب النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله) وعدله وسموّ مجده، ها هو القرآن الكريم ينطق باللسان الأفصح عن سيرة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)، وهو يرسم له لوحة تعبّر عنها الآية الكريمة أصدق تعبير في قوله تعالى:
(فَبِما رَحْمَة مِنَ الِله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كنْتَ فَظّاً غَليظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِك).
وفي آية أخرى:
(لَقَدْ جَاءَكمْ رَسولٌ مِنْ أنْفُسِكم عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتّم حَريصٌ عَلَيكمْ بِالمؤمِنينَ رَؤوفٌ رَحيم)(45).
إنّ محبّة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) وشفقته علي الآخرين كانت عظيمة لدرجة استغلّها بعض ضعاف النفوس من الأعداء كسلاح لمحاربته به، قال تعالى:
(وَمِنْهُم الّذين يؤذونَ النَّبي وَيقولونَ هُوَ اُذُنٌ قُلْ اُذُنُ خَيرٍ لَكمْ يؤمِنُ بِالله وَيؤمِنُ لِلْمُؤمِنين وَرَحْمَة للّذينَ آمَنوا مِنْكم)(46).
فقد ورد في تفسير هذه الآية الكريمة(47): أنّ أحد المنافقين سخر (والعياذ بالله) من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فنزل عليه جبريل (عليه السلام) وقال: يا رسول الله! اطلب فلاناً (المنافق) واسأله عن سبب ارتكابه للسخرية والمشاكسة.
كان هذا الحدث لا سابقة له في سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ لم يحدث أن طلب أحداً لمثل ذاك، ولكنه كان بأمر من الله تعالى، ولما فيه من المصلحة.
على أيّ حال، أرسل الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) في طلب ذلك المنافق وسأله عن فعلته تلك، فأجابه: يا رسول الله لم أفعل ذلك أبداً، وما وصلك لا يعدو كونه وشاية، فسكت الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ولم يقل شيئاً، فظنّ المنافق أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قد صدّق كلامه - وهو أمر محال، لأنّه لا يعقل له (صلّى الله عليه وآله) أن يرجّح كلام المنافق علي كلام الله سبحانه وتعالى وجبريل الأمين (عليه السلام) - لكنّه أراد بسكوته ألاّ يخجل المنافق علي كذبه، فاتّخذ المنافق ذلك الحدث ذريعة ليذيع على الناس تفاصيل ما حدث ويقول بأنّه يعجب لأمر النبي، يسمع لجبريل (عليه السلام) فيصدّقه، ويسمع جوابي فيصدّقني، حقّاً إنّه لنبي اُذُن (أي سمّاع لكل قول) فأنزل الله سبحانه وتعالى ما ينزّه به رسوله (صلّى الله عليه وآله) عن مثل هذه التخرّصات؛ قال تعالى: (قُلْ أُذُن خَير لَكم)(48).
نعم، هذه هي سيرة الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) وفعاله، والإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يشبه جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) الذي قال عنه تعالى:
(فَبِما رَحْمَة مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كنْتَ فَظّاً غَليظَ القَلْبِ لانْفَضّوا مِنْ حَوْلِك).
وعليه، فإنه سيتبع خطى جدّه الكريم لا يحيد عنها قيد أنملة، حيث سيعامل الكافرين بالعدل، فكيف بالمسلمين؟ وهو الذي جاء أصلاً لإقامة أركان العدل، العدل الذي يشكل مطلباً طبيعياً وفطرياً للإنسان. لذا، فمن غير المعقول أن يسلك نهجاً ينفّر الناس عنه ويجعلهم يتمنّون لو لم يروه، أو أن يدفعهم إلى التشكيك في انتسابه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) بسبب ما ينتهج من العنف والشدة.
وإذا كان الإمام أمير المؤمنين علي سلام الله عليه قد أطلق كلمته الرائعة: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور»(49)، فلاشك في أن يسلك الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) - وهو الثمرة الطيبة لهذه الشجرة المباركة - ذلك النهج ويقتفي آثار أجداده الكرام، لا أن يقيم أسس حكمه علي قواعد الشدة والعنف.
والإمام المهدي هو مرآة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في كلّ شيء، ما عدا مقام نبوّته. وهو (عجّل الله فرجه) مرآة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه في كلّ شيء ما عدا مقام أفضليته سلام الله عليه. فما أحلي العيش وأطيبه آنذاك.. في ظلّ الإمام صاحب العصر (عجّل الله فرجه)!
سيرة النبي وأمير المؤمنين سلام الله عليهما مع مخالفيهما
من الضروري الإشارة إلى شاهدين في المقام. فقد دعا النبي (صلّى الله عليه وآله) للجهلة من قومه، وسأل الله تعالى هدايتهم.
فحينما ترك المسلمون النبي المصطفي في معركة أحد وانساقوا وراء جمع الغنائم، اقتنص المشركون هذه الفرصة وحاصروا الرسول الأكرم وانهالوا عليه بسيوفهم ورماحهم حتى كسر من النبي أسنانه ورباعيته، ولو لم ينجده أمير المؤمنين سلام الله عليه، لكانوا قضوا عليه دون ريب. ولكنه (صلّى الله عليه وآله) في تلك الأثناء، حيث نجا من بين أيدي المشركين، قال داعياً ربّه المتعال: «اللهمَّ اهدِ قومي، فإنهم لا يعلمون»(50).
وهناك حادثة أخرى دعا النبي (صلّى الله عليه وآله) خلالها لقومه في الصفا، وذلك أثناء مراسم الحج في العصر الجاهلي، حيث كان المشركون عاكفين علي تقديس آلهتهم، إذ رأوا عدوهم الأول محمداً صلوات الله عليه وآله يبلّغ جموع الحجيج الغفيرة ويقول لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، الأمر الذي أثار غيظهم، فهاجموه يقصدون قتله، ورجموه بالحجارة، حتى جري الدم من جميع أنحاء جسده الشريف، حتى غدَت حياته مستحيلة.. وحينما سمع أمير المؤمنين والصديقة خديجة الكبرى عليهما الصلاة والسلام بالخبر، أسرعا إلى نجدته ومعالجة جراحاته العميقة والكثيرة.
وبخصوص ذلك، ورد في الرواية عن أمير المؤمنين سلام الله عليه:
«.. ومحمد (صلّى الله عليه وآله) صبر في ذات الله وأعذر قومه إذ كذّب وشُرّد وحُصب بالحصي، وعلاه أبو لهب بسلا شاة(51)، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جابيل(52) ملك الجبال: أن شقّ الجبال، وانتهِ إلى أمر محمد (صلّى الله عليه وآله)، فأتاه، فقال له: إني قد أمرت لك بالطاعة، فإن أمرتَ أطبقتُ عليهم الجبال فأهلكتهم بها. قال (صلّى الله عليه وآله): إنما بعثت رحمة، ربِّ اهدِ أمّتي فإنهم لا يعلمون»(53).
هذا رغم أن أبا جهل وأبا سفيان ومن تبعهم في طريق الكفر والظلم والعناد كانوا يملؤون مكة ويعيشون فيها، وهم من أعدى أعداء رسول الله، إلا أن قلبه الطاهر الرحيم لم يكن راضياً بمجرد لعنهم.
وأمير المؤمنين سلام الله عليه تعرّض بدوره لأنواع الأذى والمضايقة، كما تعرض لها نبي الله (صلّى الله عليه وآله)، ولكن بشكل آخر، إذ ويتظاهرون ضدّه، ولكنه سلام الله عليه كان يردّ علي ذلك «قاتل الأحبّة» طالما أصرّ أعداؤه علي انتهاك حرمته، فكانوا يصفونه بأنه بالرحمة والعطف والحوار، ولم يكن علي استعداد أبداً ليواجههم بالعنف والاعتقال والقتل والإبادة.. وكان هذا السلوك الطيب والحكيم منه سلام الله عليه في زمن كانت مقدّرات أعدائه ومعارضيه الاقتصادية والاجتماعية طوع يديه، ولكن موقفه منهم كان يقضي بعدم حرمانهم من وسائل حياتهم التي لو أراد لقطعها عنهم بمبررات العدل والعقوبة المناسبة والصحيحة.
إذا أريد حقّاً التعرف إلى سيرة الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه) في التعامل مع الأصدقاء والأعداء، فلينظر إلى سيرة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه. فهذا تاريخه صلوات الله عليه متاحٌ بعد أن دوّنه الشيعة والسنّة والنصارى واليهود وغيرهم في صفحات مشرقة.
لقد كان أمير المؤمنين سلام الله عليه يدفع مَن ناهضه وبارزه بالنصح والموعظة ما أمكن، وكان يسعي للحؤول دون وقوع الحرب وإراقة الدماء، سواء عن طريق المواعظ الفردية والجماعية أو غيرها.. ولكن إذا وصل الأمر بالطرف الآخر أن يهجم ويريد القتال قام الإمام بدور الدفاع لا أكثر، ولكن ما إن يتراجع الخصم أو ينهزم حتى يتوقّف الإمام عن ملاحقته ولا يسعي للانتقام منه، ولم يروَ أن الإمام بدأ أحداً بقتال أبداً. وهذا الأمر مشهود في تاريخ أمير المؤمنين سلام الله عليه.
ومع أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) يصرّح له بالقول: «يا علي حربك حربي وسلمك سلمي»(54) نلاحظ أنّ الإمام سلام الله عليه لم يأسر حتّى فرداً واحداً من أعدائه، ولا صادر أو سمح لأصحابه بمصادرة أيّ شيء من أموال الخصم وإن كان ذلك الشيء رخيصاً أو عديم الثمن.
تروي في هذا المجال أمور لا نظير لها، في التاريخ، ولا في الحاضر، ولا في الآتي من الزمان، إلاّ ما كان عن الإمام أمير المؤمنين وما سيكون من الحجّة المنتظر سلام الله عليهما.
فقد روي أنّ الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه لم يسمح بمصادرة حتّى «ميلغة» واحدة من العدوّ(55)!
السيرة الشخصية للإمام الحجة (عج)
أما عن السيرة الشخصية للإمام المنتظر (عجّل الله فرجه)، فقد روي البرقي عن حماد بن عثمان قال: حضرت أبا عبد الله (عليه السلام)، وقال له رجل: أصلحك الله ذكرت أنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونري عليك اللباس الجديد؟ فقال له:
«إنّ علي بن أبي طالب كان يلبس ذلك في زمن لا ينكر ولو لبس مثل ذلك اليوم شُهّر به، فخير لباس كلّ زمان لباس أهله، غير أنّ قائمنا أهل البيت (عليهم السلام) إذا قام لبس ثياب علي (عليه السلام) وسار بسيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)»(56).
فهو (عجّل الله فرجه) لا يرتدي طيلة عهده الشريف والمبارك حتى حلّة ثمينة واحدة مع أنّ الله تعالى يملّكه الدنيا وما فيها. فكلّ شيء في الوجود هو من أجل المعصومين سلام الله عليهم - كما في حديث الكساء الشريف - ولكنّهم يزهدون عنها، ويعيشون في بساطة كسائر الناس العاديين بل أبسط؛ ففي كتاب الكافي كثير من المطالب حول أحوال الأئمّة وقد جمعها المجلسي رحمه الله في كتابه (بحار الأنوار الجامعة لأخبار الأئمة الأطهار)؛ منها:
عن المعلي بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) يوماً: جُعلت فداك ذكرت آل فلان وما هم فيه من النعيم فقلت: لو كان هذا إليكم لعشنا معكم، فقال:
«هيهات يا معلّي، أما والله أن لو كان ذاك ما كان إلا سياسة الليل وسياحة النهار ولبس الخشن وأكل الجشب، فزوي ذلك عنا، فهل رأيت ظلامة قطّ صيرها الله تعالى نعمة إلا هذه»(57).
أجل هكذا كانت حياة الأئمة سلام الله عليهم؛ وذلك «كيلا يتبيّغ بالفقير فقره»(58) كما يقول الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه. أي لا يتأذّى الفقير بفقره إذا رأي كيف يعيش زعيم القوم وإمام المسلمين وقائدهم ورئيسهم.
عن أبي إسحاق السبيعي، قال: كنت علي عنق أبي يوم الجمعة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يخطب وهو يتروّح بكمّه، فقلت: يا أبه! أمير المؤمنين يجد الحر؟ فقال لي: لا يجد حرّاً ولا برداً، ولكنه غسل قميصه وهو رطب ولا له غيره فهو يتروّح به(59).
كما يشير لمثل هذا الموضوع الإمام سلام الله عليه بنفسه في (نهج البلاغة) في رسالته إلى عثمان بن حنيف واليه علي البصرة عندما يقول:
ألا وإنّ إمامكم قد اكتفي من دنياه بطمريه(60).
أي بقميص واحد وإزار واحد يرتديهما لا غير، فقد كان لباس الناس في ذلك الوقت يتألّف من قطعتين؛ قميص وإزار. ولم يكن الإمام يملك أكثر منهما، وهذا هو المقصود بقوله سلام الله عليه: بطمريه. أي ما يكفي لملبس واحد فقط.
هذه هي حياة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، وهكذا ستكون حياة الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه).
روايات في هذا المجال
لابد من القول بدءاً: إن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سيأتي لنشر العدل، الذي يمثل مطلباً طبيعياً وفطرياً لدي الإنسان، وعلى هذا الأساس، لن يكون بالإمكان تصوّر أنه سيسلك سلوكاً يتمني الناس بسببه لو أنه لم يظهر.
وأدناه روايات كريمة تدعم ما نذهب إليه من المطابقة التامة بين سيرة المهدي الموعود سلام الله عليه، وبين سيرة جديه الأكرمين صلّى الله عليهما وآلهما الطاهرين:
الرواية الأولى:
وهي صحيحة حماد بن عثمان التي نقلها الكليني عن البرقي عن أبيه عن محمد بن يحيي الخزاز عن حماد بن عثمان عن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه قال:
«إن قائمنا أهل البيت إذا قام لبس ثياب علي وسار بسيرة [أمير المؤمنين] علي»(61).
الرواية الثانية:
عن الشيخ المفيد عن الشيخ الصدوق عن الصفار عن محمد بن «التهذيب» وهي صحيحة محمد بن مسلم التي نقلها الشيخ الطوسي في أبي الخطاب (الذي لا ريب في كونه ثقة) عن جعفر بن بشير عن محمد بن مسلم عن الإمام الباقر سلام الله عليه، حيث سأله:
إذا قام القائم: بأي سيرة يسير في الناس؟
فقال الإمام:
«بسيرة ما سار به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى يظهر الإسلام»(62).
الرواية الثالثة:
نقلها الشيخ المفيد(63) عن المفضل بن عمر عن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه، وكذلك وردت بسند آخر عن أبي عمر عن جميل بن دراج عن ميسّر بن عبد العزيز عن الإمام الصادق سلام الله عليه قال:
«إذا أذن الله عزّ اسمه للقائم في الخروج، صعد المنبر، فدعا الناس إلى نفسه، وناشدهم بالله، ودعاهم إلى حقّه، وأن يسير فيهم بسيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويعمل فيهم بعمله...»(64).
الرواية الرابعة:
وكذلك ورد وصف دقيق لسيرته (عجّل الله فرجه) في إحدى زياراته الشريفة التي نقلها السيد بن طاووس رحمة الله تعالى عليه، حيث جاء فيها:
«السلام علي الحقّ الجديد... والصادع بالحكمة والموعظة الحسنة والصدق..»(65).
ولا شك أن الإنسان إذا طالع هذه العبارة دون ملاحظة ما سبقها ولحقها، فإنه سيظن بأن المقصود بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، لأنه ذُكر بمثل هذه العبارة مراراً.
الرواية الخامسة:
وقد وصفت حكومته (عجّل الله ظهوره) وصفاً آخر، حيث جاء:
«يسير بسيرة جده رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويسير بسيرة أمير المؤمنين بالمنّ والكفّ...».
فهو سيسلك مع الناس سلوك العفو والرحمة التامة في عصر ظهوره المبارك، كما سلك جده النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) مع كفار قريش بعد فتح مكة المكرمة، وكما تصرّف أمير المؤمنين سلام الله عليه مع أعدائه بعد انتهاء معركة الجمل.
(ب) أساليب الإدارة عند الإمام (عجّل الله فرجه)
من خصوصيات الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أنه ينجح في الإمساك بالسلطة السياسية علي العالم كلّه وتشكيل حكومة تسع المعمورة برمّتها، وهذا الأمر يتطلب أخلاقيات وأساليب إدارية حكيمة وخاصة يبلورها القادة والمسؤولون الرفيعون فيها، وعلي رأسهم الإمام نفسه.
ومن هذه الأساليب أن يكون المسؤول مع الناس والمساكين رؤوفاً رحيماً، بالقدر نفسه الذي يكون فيه حازماً وحسيباً على عمّاله والمسؤولين، فقد روي عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) أنه وصف الإمام الحجة (عجل الله ظهوره) فقال:
«المهدي جواد بالمال، رحيم بالمساكين، شديد علي العمّال»(66).
يقول الإمام أمير المؤمنين علي سلام الله عليه في هذا الشأن:
«ألا وفي غد - وسيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمّالها علي مساوئ أعمالها..»(67).
وبالطبع ستكون شدّته علي نفسه قبل الجميع وفوق الجميع، ورغم أنّ الناس سينعمون بالرفاهية والطمأنينة في ظلّ حكومته، إلاّ أنّه، ومحاكاةً لسيرة جدّه أمير المؤمنين سلام الله عليه، سيكتفي بلبس الخشن وأكل الجشب:
«فوالله ما لباسه إلا الغليظ ولا طعامه إلا الجشب»(68).
العلاقة بين الإمام وعمّاله
بين الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه في حديث شريف له نوع العلاقة بين الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وبين عمّاله، واصفاً هذه العلاقة بأنها عهد ثنائي، وأكد أن الإمام (عجّل الله فرجه) سيمتحن في بداية ظهوره المبارك كلّ واحد من عماله ثلاث مرّات ليتبين له صدق طاعته، ثم يقصد المدينة إلى حيث قبر جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فيتبعه أنصاره. ويعاود سلام الله عليه الكرّة في الحركة بين مكة والمدينة ثلاثاً حينما يشعرون بوجوده في المدينة.
روي عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنه قال:
«وإني لأعرفهم وأعرف أسماءهم... يجمعهم الله عز وجل من مطلع الشمس إلى مغربها، في أقلّ من نصف ليلة، فيأتون مكة، فيشرف عليهم أهل مكة فلا يعرفونهم. فإذا تجلّي لهم الصبح يرونهم طائعين مصلين، فينكرونهم، فعند ذلك يقيض الله لهم من يعرّفهم المهدي (عليه السلام) وهو مختفٍ، فيجتمعون إليه فيقولون له: أنت المهدي؟
فيقول: أنا أنصاري.
والله ما كذب، وذلك أنه ناصر الدين.
ويتغيب عنهم فيخبرونهم أنه قد لحق بقبر جدّه (عليهما السلام)، فيلحقونه بالمدينة، فإذا أحسّ بهم رجع إلى مكة، فلا يزالون به إلى أن يجيبهم. فيقول لهم:
إني لست قاطعاً أمراً حتى تبايعوني علي ثلاثين خصلة تلزمكم، لا تغيرون منها شيئاً، ولكم علي ثمان خصال.
قالوا: قد فعلنا ذلك، فاذكر ما أنت ذاكر يا بن رسول الله.
فيخرجون معه إلى الصفا، فيقول:
أنا معكم علي أن لا تولوا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا محرماً، ولا تأتوا فاحشة، ولا تضربوا أحداً إلا بحقّه، ولا تكنزوا ذهباً ولا فضة ولا تبراً ولا شعيراً، ولا تأكلوا مال اليتيم، ولا تشهدوا بغير ما تعلمون، ولا تخربوا مسجداً، ولا تقبحوا مسلماً ولا تلعنوا مؤاجراً إلا بحقّه، ولا تشربوا مسكراً، ولا تلبسوا الذهب ولا الحرير ولا الديباج، ولا تبيعوها رباً، ولا تسفكوا دماً حراماً، ولا تغدروا بمستأمن، ولا تبقوا علي كافر ولا منافق، وتلبسون الخشن من الثياب، وتتوسدون التراب علي الخدود، وتجاهدون في الله حق جهاده، ولا تشتمون، وتكرهون النجاسة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. فإذا فعلتم ذلك، فعلي أن لا أتّخذ حاجباً، ولا ألبس إلا كما تلبسون، ولا أركب إلا كما تركبون، وأرضي بالقليل، وأملأ الأرض عدلًا كما ملئت جوراً، وأعبد الله عز وجل حقّ عبادته، وأفي لكم وتفوا لي.
قالوا: رضينا واتبعناك علي هذا.
فيصافحهم رجلًا رجلًا»(69).
(3) قضاء الإمام (عجّل الله فرجه)
مسألة أخرى ما فتئت تطرح للمناقشة، ألا وهي طبيعة قضاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فثمة من يري أنّه سيقضي بين الناس دونما حاجة إلى شهود وبينات، بل سيكون دليله ما ألهمه الله من علم الغيب، مستندين في استنتاجهم هذا إلى بعض الشواهد والأدلّة؛ من جملتها الأحاديث التي تفيد بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سيحكم بين الناس ويبتّ في دعاواهم بعلمه وعلى طريقة حكم النبي داود (عليه السلام).
وفي ما يلي وقفة عند إحدى تلك الروايات:
عن عبد الله بن عجلان عن الإمام الصادق سلام الله عليه أنّه قال:
«إذا قام قائم آل محمد (صلّى الله عليه وآله) حكم بين الناس بحكم داود، لا يحتاج إلى بينة، يلهمه الله فيحكم بعلمه»(70).
ويناقش ذلك بما يلي:
أولًا: إن حكم داود بدون أيمان وبينة كان مرّة واحدة في قصّة مفصّلة نقلها صاحب (دعائم الإسلام) مرسلًا، وفيها شواهد عديدة على أنها إمّا موضوعة كلًا، أو بعضاً، ولا يمكن لمثل ذلك أن يكون مستنداً لحكم شرعي واحد، فكيف بجريان سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، عليها.
وبعد تلك القصة كان حكم داود (عليه السلام) طول حياته علي الأيمان والبينات، كما هو صريح أوّل تلك القصة المرسلة وآخرها، ففي أولها:
«فأوصي الله عزّ وجل إليه: يا داود! اقضِ بينهم بالأيمان والبينات».
وفي آخرها:
«يا داود...! فلا تسألني تعجيل ما أخّرت، واحكم بين خلقي بما أمرت».
ثانياً: يتباين هذا النهج في الواقع مع قضاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث كان يردّد دائماً:
«إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»(71).
وأنه إذا حكم (صلّى الله عليه وآله) في قضية ما مثلًا لصالح شخص بقطعة أرض ولكنّها في الواقع لم تكن له، فليس له حقّ التصرّف بها حتى قال (صلّى الله عليه وآله) في الحديث الصحيح:
«إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار»(72).
من هنا، لا يعقل بالنسبة للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) - الذي هو أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتقوم فلسفة ظهوره على مبدأ العدل وإقامة شريعة جدّه وإحياء سنّته - أن يحيد عن نهج الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)، ويقضي بين الناس بغير طريقته (صلّى الله عليه وآله).
وإذا جاء في الروايات المعتبرة والمستفيضة أنه (عجّل الله فرجه): «يحكم بحكم داود بالبينة واليمين»، فإن النبي داود (عليه السلام) قد تلقّي الأمر من ربه سبحانه وتعالى بأن يحكم بالحق، وقد قال القرآن الكريم في ذلك: (يا داود إنّا جعلناكَ خليفة في الأرضِ فاحكم بين الناسِ بالحقِّ)(73).
ثم أوحي الله تعالى إليه أن:
«احكمْ بينهمْ بالبيناتِ وأضِفْهم إلى اسمي يحلفون به»(74).
أي: لمن لم تقم لهم بينة.
وهكذا نري أن النبي داود سلام الله عليه كان ملزماً بالقضاء بناءً علي الظاهر، وطبعاً فإن من ادعي باطلًا، وحُكم له به في الدنيا فإن الله سيحاسبه ويعاقبه علي ما أخذه يوم القيامة.
ونقل الشيخ المفيد رحمه الله رواية تشير إلى أن الإمام الحجة المنتظر (عجّل الله ظهوره) سيقضي بين الناس على سنّة النبي داود سلام الله عليه والرسول المصطفي صلوات الله عليه وآله. وحسب ما تبين، فإن نبينا الكريم كان يقضي بين الناس بالبينة واليمين فقط، مما يدلّل - من خلال اقتران وصف النبيين الكريمين - على أن قضاء النبي داود كان كقضاء رسول الله.
تقول الرواية:
«إذا قام القائم، حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور وأمنت به السبل وأخرجت الأرض بركاتها و... وحكم بين الناس بحكم داود وحكم محمد (صلّى الله عليه وآله)»(75).
تجدر الإشارة إلى أن المعصومين سلام الله عليهم قد عملوا طبقاً للواقع والحقيقة، ولكن عملهم هذا لم يكن ليعكس صورة سيرتهم العامة وتعاملهم مع الآخرين.

البحث الثالث: نحن والإمام المهدي (عجّل الله فرجه)

(1) مسؤوليتنا في عصر الغيبة
لا شك أن الحكمة من غيبة الإمام الموعود سلام الله عليه لا تحتمل تصوّر مؤمن من المؤمنين تفويضه بالعقود عن الالتزام بعري الدين، وإرجاء ذلك إلى عصر الظهور، كما لا تحتمل اكتفاءه بمجرد تكريس الرغبة وتحديث النفس برؤية الإمام الغائب.. إذ مصادر الدين الذي تنحصر مسؤولية الإمام أولًا وأخيراً في نشره وإيصاله إلى أسماع الناس ومن ثم تطبيقه، هذه المصادر كلّها تؤكد بأنّ الوظيفة والالتزام بمبادئ القرآن والأئمة سلام الله عليهم والعمل بنية خالصة علي التمهيد لإرادة الله سبحانه وتعالى في إذنه لولي الأمر سلام الله عليه بالظهور... كلّ ذلك شيء والرغبة في رؤية الإمام (عجّل الله فرجه) ولقائه شيء آخر، ويحسن الفصل جيداً بينهما.
تأمّلوا في هذا المثال: إذا مرض شخص ما، حينها تصبح بعض الأغذية مضرّة بالنسبة إليه، وهذا لا يعني أنّ هذه الأغذية مضرّة بذاتها، بل هي حسنة في الأصل، ولكنّها لا تصلح لهذا الشخص بسبب مزاحمة الأهمّ في حقّه. فتناول هذه الأغذية تشكل رغبة لهذا الشخص، ولكنّ وظيفته شيء آخر.
فكذلك الحال بالنسبة لنا تجاه المولي صاحب الزمان (عجّل الله فرجه). إنّ لنا في لقائه سلام الله عليه رغبة، ولنا إزاءه وظيفة، فإذا كان هذان الأمران قابلين للجمع فما أحسن ذلك! أمّا إذا لم يمكن الجمع بينهما، فما هو الواجب علي الفرد؟ أيسعي لتحقيق الرغبة أم العمل بالوظيفة؟ لا شك أنّ الواجب هو السعي للعمل بالوظيفة.
إنّ علقتنا الشديدة - جميعاً - بولي العصر صلوات الله وسلامه عليه هي التي تدفعنا لأن نهتمّ ونعمل ونجدّ ونجتهد لسلوك الطريق الذي ينتهي بنا إلى التوفيق للانضواء تحت لوائه الشريف، أمّا الأمل بلقائه (عجّل الله فرجه) في عصر الغيبة، فهو مطلب مهمّ أيضاً، ولكنه يجسّد رغبة عظيمة؛ فمن وُفّق له فقد نال مقاماً شامخاً وشرفاً رفيعاً، ولكنّها - الرغبة - ليست الوظيفة.
إنّه لشرف كبير وكرامة عظيمة أن يلتقي الإنسان إمامه عن قرب ويقبّل يده، وهذا لا شك فيه ولا شبهة، ولكن هل هذا هو ما يريده الإمام منّا؟ وهل هذا هو واجبنا؟
بين الواجب والرغبة
صحيح أنّ الذين وفّقوا أو سيوفّقون أو هم موفّقون لنيل هذا الشرف العظيم بلقاء الإمام الحجّة وزيارته في الغيبة الكبرى، هم – في الغالب وحسب القاعدة – ممّن يعرفون الواجب ويعملون به، وإلاّ لما حصلوا علي هذا الشرف، ولكن هذا - أي الطموح للقائه (عجّل الله فرجه) - ليس هو الواجب، بل من الأفضل أن نجمع بينهما، وإلاّ فإنّ الواجب مقدّم علي الرغبة، والواجب هو معرفة الواجبات الشرعية والعمل بها وتشخيص المحرّمات والاجتناب عنها، تجاه النفس والآخرين، وتعليم الجاهلين كلّ حسب قدرته ومعرفته، والسعي لكسب المزيد من المعرفة على هذا الطريق.
إنّ المسؤولية هي تعلّم الإسلام والعمل به وتعليمه، وتقع علي عاتق كلّ فرد، سواء كان رجلًا أو امرأة، زوجاً أو زوجة، أولاداً أو آباءً وأمّهات، أساتذة أو تلاميذ، وباعة أو مشترين، ومؤجّرين أو مستأجرين، وجيراناً أو أرحاماً، وفي كلّ الظروف والأحوال.
علي كلّ فرد منّا أن ينظر ما هي وظيفته تجاه نفسه وتجاه الآخرين؛ وما هي الواجبات المترتّبة عليه، وما هي المحرّمات التي يجب عليه الانتهاء عنها قبل أن ينظر إلى أي شيءٍ آخر.
وعلى كلّ فرد منّا أن يعرف ما هي الواجبات بحقّه وما هي المحرّمات عليه. فعلي الزوج أن يعرف واجباته تجاه نفسه وتجاه زوجته وعائلته وتجاه الآخرين، وكذا المرأة عليها أن تسعي لمعرفة ما يجب عليها تجاه زوجها وأولادها والمجتمع، وهكذا الأولاد تجاه والديهم، والوالدان تجاه الأبناء، وكذا الإخوة فيما بينهم، وهكذا الجيران والأرحام والمتعاملون بعضهم مع بعض.
إنّ الواجب هو أن يعرف الإنسان أحكامه - ولا أقلّ من الواجبات والمحرّمات - ثم يلتزم بها. وعلي رأس الواجبات معرفة المولي صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه وعجّل الله فرجه. وهذا واجب الجميع، فإنّه «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية». ولكي لا يموت أحدنا بحكم الكافر، عليه أن يعرف ما هي واجباته وما هي المحرّمات عليه، فيما يخصّ العقائد والعمل، لنفسه وللآخرين.
يقول الفقهاء: إنّ علي كلّ شخص أن يسعي للحصول علي ملَكة العدالة في نفسه، وهذا من المسلّمات، وهو - علي حدّ التعبير العلمي - مقدّمة وجود الواجب المطلق.
إذن؛ علي كلّ فرد منّا، رجلًا كان أو امرأة، شابّاً أو شيخاً، أن يحصل علي ملَكة تحصّنه من ارتكاب المحرّمات وتحول دون تخلّفه عن الواجبات، ثمّ عليه بتعليم الآخرين حسب مقدرته ومعرفته.
أمّا ما لا يعرفه؛ فليتعلّمه إن كان يستطيع ذلك، ثمّ يعلّمه الآخرين، فإنّ نسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى العلم هي نسبة الواجب المطلق، وليس المشروط، ولكنّه واجب كفائي، فإذا لم يكن مَن فيه الكفاية صار واجباً عينياً أيضاً.
أي: أنّ علي كلّ شخص مكلّف أن يتعلّم الواجبات والمحرّمات التي عليه وعلي الآخرين للعمل بها وتعليمها والأمر بها، للوصول إلى حدّ تتحقّق فيه الكفاية. فهذا هو الواجب، وهذا ما يسرّ الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه)، ويجعله يرضي عنّا. فإنّ مَن أدّى واجبه بصورة صحيحة كان مرضياً عند الإمام سلام الله عليه، أمّا مَن لم يؤدِّ واجبه، فليتوقّع السخط منه (عجّل الله فرجه).
قصّة وعبرة
إن المطلوب من الفرد المؤمن في علاقته ومحبّته لإمام العصر والزمان (عجّل الله تعالى بظهوره) أن يسعي جهده لإيجاد السنخية بين طبيعته الأخلاقية وسلوكه اليومي وبين رغبة الإمام فيه، ليرتقي بعد ذلك إلى مستوي مشايعته حقاً، وإذ ذاك تكون قضية لقاء الإمام ورؤيته قضية مفروغ منها.
ومن ذلك؛ ما ينقل عن الشيخ مرتضي الأنصاري قدّس الله نفسه الزكية، إذ كان يتتلمذ علي شريف العلماء رضوان الله عليه في بدايات شبابه في كربلاء المقدسة، ولتوفير ما يقتات به، اختار مهنة القفالة وإصلاحها، فجمع عدة أقفال، وجلس فيما يشبه الدكان عند مدخل صحن الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه، فكان يجلس لهذه الحرفة ساعة أو ساعتين من كل يوم..
وفي تلك الأثناء كان جماعة من طلاب العلوم الدينية في النجف الأشرف قد صمموا علي أن يسلكوا طرقاً تمكنهم بزعمهم في رؤية الإمام الزمان سلام الله عليه، فمارسوا ما مارسوا من العبادات الخاصة، وحضروا المساجد، وسألوا العلماء، وتوسلوا بالأئمة صلوات الله عليهم، وزاروا المراقد الشريفة، وتفحّصوا في الوجوه بما يعرفونه من علامات للإمام، دون أن ينالوا شرف اللقاء..
فصادف ذات يوم أن لفتت أنظارهم امرأة عجوز كانت قد جاءت إلى حيث كان الشيخ الأنصاري جالساً يصلح الأقفال، ولم يكن معروفاً آنذاك، وكانت تحمل قفلًا وتقول للشيخ الأنصاري إنها أم لأيتام جوعى، وتريد منه أن يشتري القفل المجرد مفتاحه الضائع دون أن يظلمها أو يغشّها لتبتاع لأيتامها بثمنه خبزاً.
فحاول الشيخ العثور علي مفتاح يناسبه حتى وجده، فقال للمرأة: كان قفلك لا يساوي إلا فلساً واحداً، وحيث أصبح بمفتاح فهو الآن يعادل خمسة فلوس، واقترح عليها أن يبيعها المفتاح بفلس واحد، ثم يشريه منها مع القفل بخمسة فلوس لتربح بذلك أربعة فلوس، بدلًا من أن تبيع القفل وحده بفلس واحد فقط.
أقول: رغم حاجة الشيخ الماسة إلى المال، ورغم حاجته إلى الوقت ليذهب لمواصلة دراسته، فإنه فضّل التعامل مع المرأة بهذا الشكل الذكي العجيب وتقديم المساعدة المادية لها بهذه البصيرة في سبيل الله تعالى التي تترحم مستوي وعيه للمسائل الشرعية الخاصة بباب البيع، وأنصفها من نفسه، بل وآثرها عليها(76).
فوقفت المرأة حائرة أمامه لتعرب له عن بساطتها وجهلها بما فصّل لها من القول، وأعادت عليه طلبها منه عدم الغش.. فسلمها المبلغ وانصرفت..
وأثناء هذه المحاورة، كان رجل بهي الطلعة مهاباً جالساً عند الشيخ الأنصاري، وحينما انتهي هذا الأخير من معاملة البيع والشراء مع المرأة، قام وودع الشيخ لينصرف، ولدي انصرافه، التفت إلى الطلبة الذين اجتمعوا لدي الشيخ الأنصاري ليتفرجوا علي مجريات هذا التعامل العجيب ولم يكونوا قد تنبهوا إلى وجود الرجل الجليل الذي قال لهم: كونوا مثل هذا الشيخ ليأتيكم صاحب الزمان بنفسه!!
وبعد لحظات من مغادرته للمكان، عاد إليهم وعيهم ليتفكروا في كيفية اطلاع الرجل علي نيتهم في البحث عن إمام الزمان صلوات الله عليه، فألقي في روعهم أنه هو نفسه الإمام لما تذكروه من العلامات المأثورة عنه سلام الله عليه والتي كانت واضحة كل الوضوح عليه، ولكنهم لم يتنبهوا لها في حينها، حتى وجدتهم يبحثون عنه بين الناس، بل قد غفلوا عن أنهم قد رأوه حقاً، لكن دون أن يصلوا في مستوي الرؤية إلى أن يلتقوه عن سابق موعدٍ مثلًا أو لقاء مديد وحديث مطوّل، كما كان الإمام قد أكرم الشيخ الأنصاري رحمه الله تعالى.
أقول: إن الشيخ الأنصاري لم يبق علي هذا المستوي الرفيع من الإيمان فترة قصيرة، وإنما بقي كذلك وأعلي حتى آخر لحظة من عمره الذي قضاه إخلاصاً وعلماً ويقيناً.. ولا شك أن من يبني حياته علي أساس من الإيمان والإخلاص، فلاشك أن العاقبة الأحسن تكون من نصيبه، نعمة من الله وفضلًا والله يؤتي فضله مَن يشاء.
مقياس رضا الإمام الحجّة عنّا
على كلّ حال؛ إنّ تحملنا لمسؤوليتنا الشرعية هو الذي يرضي الإمام عنّا إن نحن أتقنّا العمل بها، وإذا أردنا أن نعرف نسبة رضاه عنّا، فلنفكر مع أنفسنا في مدي معرفتنا للواجب والمسؤولية والعمل بهما - تجاه أنفسنا والآخرين، أقرباء وأرحاماً وسواهم.
هذه أهمّ مسألة وواجب يتحتّم علينا عمله في عصر الغيبة، وإنّ الدرجات التي تُمنح في الآخرة ستكون علي هذا الأساس أيضاً.
نسأل الله أن نبقي أحياءً حتى ندرك ظهور الحجة (عجّل الله فرجه)، ونكون في خدمته وفي ركابه، ولكن اعلموا أنّه حتّى درجات ذلك اليوم تعطي علي أساس دورنا وعملنا وإنجاز وظيفتنا اليوم.
الإمام (عجّل الله فرجه) ناظر إلينا
إنّ الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه) يرانا ويري أعمالنا كما ورد في تفسير قول الله تعالى (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)(77).
وفي الروايات أنه (عجّل الله فرجه):
«مؤيد بروح القدس، بينه وبين الله عز وجل عمود من نور يري فيه أعمال العباد، وكلّ ما يحتاج إليه»(78).
فهو يرى كلامنا وأجسامنا وكلّ ما يظهر منّا، ويري كذلك ما وراء الكلام والأجسام والسطور كالفكر والنوايا، ويعرف فيما إذا كانت نياتنا وأفكارنا لله أم لغيره.
ما يحول دون تشرّفنا بلقاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
إنّ موضوع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من المواضيع العميقة والواسعة وهو متشعّب الجوانب كثير الفروع، الأمر الذي يتطلّب من كلّ منّا أن يزيد من مطالعاته وتأمّلاته في هذا الموضوع الهام، لكنّ السؤال المهمّ في هذا المجال هو:
إذا كان الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه) موجوداً بين ظهرانينا - كما هو الحق - فلماذا لا نراه مع أنّه يرانا صلوات الله وسلامه عليه؟.
في جواب هذا السؤال نستعين بالقصّة التي رواها المرحوم والدي والتي تعود إلى الأيام التي كان يعيش فيها في سامرّاء العراق:
يقول السيد الوالد رحمه الله: كان أحد العلماء يكثر من ارتياد سرداب الغيبة في أيام الجمع وغيرها، يخلو فيه.. يقرأ دعاء الندبة والعهد وزيارة صاحب الزمان ويدعو الله بفنون الدعوات علي أمل اللقاء بالإمام (عجّل الله فرجه).
يحكي والدي عن هذا العالِم أنّه قال:
مرّ زمان وأنا علي هذه الحال أرتاد السرداب شوقاً لرؤية صاحب الزمان صلوات الله عليه. وفي أحد الأيام وبينما أنا جالس وحدي منشغلًا بالدعاء والمناجاة، مفكراً في حالي وأنّ المدّة قد طالت وأنا مواظب علي الحضور إلى هذا المكان دون أن أوفّق للقاء الإمام (عجّل الله فرجه)، متسائلًا مع نفسي عن السبب الذي يحول دون تشرّفي برؤيته، قائلًا: ما هو ذنبي، ولماذا لا يمنّ علي الإمام بشرف رؤية طلعته الرشيدة...؟ وبينما أنا ساهم في هذه الحالة إذ أُلهمت بأنّ الإمام (عجّل الله فرجه) سيدخل السرداب حالًا، ولقد وقع هذا الموضوع في قلبي علي نحو اليقين، لا وقوع تخيل أو مجرّد تصوّر، بل عرفت ذلك من ضميري وأيقنت –بوجداني - أنّ الإمام سيدخل السرداب الآن، وشعرت أنّي سأوفّق للقائه.
ولكن ما إن عرضت لي فكرة قرب التشرّف والتوفيق للقاء الإمام حتى تملّكتني هيبة عصرتني عصرة لم أشعر معها إلاّ وأنا خارج من السرداب متسلقاً درجات السلّم.. واضطرب وجودي لذلك اضطراباً شديداً. فأدركت أنّه لم يحن بعد الوقت الذي أكون لائقاً ومؤهّلًا للقاء الإمام الحجّة (عجّل الله فرجه).
قصة الرجل المحبّ للضيف
ولإلقاء مزيد من الضوء علي هذا الموضوع نستعين بالرواية القائلة:
يحكي أن رجلاً شكا إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه يحبّ إقراء الضيف لكن زوجته تكره ذلك وتعكر عليه، فقال (صلّى الله عليه وآله) قل لها: «إنَّ الضَّيفَ إذَا جَاء؛ جَاء بِرِزْقِهِ، وإذَا ارتَحَلَ؛ ارتَحلَ بِذُنُوبِ أَهْلِ البيت»(79).
أي أن الله سيبارك ويضيف في رزق أهل ذلك البيت ما ينفقونه في إقرائه، ثم إذا انصرف عنهم بعد ذلك وارتحل ارتحلت ذنوبهم معه.
يقال: إن الرجل عاد ثانية إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) وأخبره أن ذلك لم يجدِ نفعاً مع زوجته. فأمره النبي (صلّى الله عليه وآله) أن يمسح بيده علي وجهها إذا حلّ الضيف.
وفعَل الرجل ذلك، فأصبحت المرأة تتمني إقراء الضيف بعد ذلك؛ لأنها رأت الأمور التي أخبرها بها زوجها عن النبي (صلّى الله عليه وآله) علي حقيقتها، بعد أن مسح علي وجهها بأمر النبي (صلّى الله عليه وآله)، أي رأت الضيف عندما يدخل الدار ترافقه أنواع الأطعمة والفواكه، وعندما يخرج تخرج معه الأوساخ والعقارب والحيات مثلًا.
نستفيد من هذا الحديث أموراً عديدة؛ منها أمران لهما صلة بموضوعنا، وهما:
الأمر الأوّل: الولاية التكوينية لرسول الله (صلّى الله عليه وآله). فمع أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يقم هنا بفعل، فلم يمسح بيده الشريفة على وجه المرأة مثلًا، بل أمر الزوج أن يمسح هو بيده علي وجهها، ولكنه مع ذلك أثّر في تكوين المرأة، أي أنّ أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) وكلامه يكفي لتغيير الكون، ولا حاجة حتى لفعله المباشر، بل تكفي إرادته وقوله. والإمام كالنبي في هذا.
الأمر الثاني: أنّ الذنوب قاذورات وأوساخ وحيات وعقارب تحيط بنا من الرأس إلى القدم وهي مانع حقيقي دون تشرّفنا بلقاء صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، أي أننا لا نكون جديرين بلقائه (عليه السلام) فنحرم هذا التوفيق بسببها.
ويمكن تقريب هذا الموضوع بمثال:
لو أنّ رجلاً طرق عليك الباب وأنت في غرفتك. وعند فتحك الباب رأيته كريه المنظر والرائحة لكثرة ما علق به من قاذورات ونجاسة وأوساخ وديدان وعقارب وحيات.. فهل ستسمح له بالدخول إلى المكان النظيف الذي تجلس فيه؟ كلّا بالطبع.
هذا يعني أنّك لو كنت في مكان صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) لما أذنت بلقاء رجل يحمل كلّ القاذورات العالقة بلسانه وعينه وأذنه وأنفه ويده ورجله وبطنه وفكره، وهي الذنوب.
عرفنا إذن لماذا لا نري الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)، فكلّ المشكلة تكمن هنا.. فينا نحن.
إنّ ذلك العالِم الديني تهيب للقاء الإمام فلم يره. ولكن كثيراً منا لم يصل حتى إلى هذه الدرجة، فذلك الرجل العالِم كان قد قطع شوطاً للقاء الإمام (عجّل الله فرجه) وفينا من لم يضع قدمه علي حافة الطريق بعد.
وكما أنّك تطلب من الشخص المنتن الذي أتي لزيارتك أن يذهب أوّلا ويزيل عنه الأوساخ والقاذورات ويرمي العقارب والديدان عنه ثم تقول له: تفضل أهلاً وسهلًا فبابنا مفتوح لك، فكذلك الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) فاتح بابه لكلّ إنسان، ولكنه يطلب منّا أن نتطهّر أوّلًا ثمّ نأتي للقائه.
إن الأرواح النجسة غير لائقة للقاء الإمام، والأعين الخطّاءة لا تستحقّ أن تطلّ علي حضرته، والآذان المليئة بالمعاصي غير جديرة بسماع صوته، وأنّي لهذه الشفاه التي صدرت من بينها آلاف المعاصي أن تتشرّف بتقبيل يديه!
وإلاّ فلِمَ لا يسمح لنا الإمام بلقائه وهو أهل الكرم والجود؟ ألم يلتقِ السيد الفلاني والشيخ الفلاني والبقّال الفلاني والعطّار الفلاني، بل وأشخاصاً أمّيين لا يعرفون القراءة والكتابة، فلماذا لا يسمح لي ولك نحن المتعلّمين؟ إن الذنوب هي التي تحول دون لقائنا بالإمام، فإنّ الإمام لا ينظر إلى أبداننا، بل ينظر إلى قلوبنا وأرواحنا وعقولنا.
فلنعاهد الله في هذه المناسبة علي أن نبدأ سلوك الطريق؛ فلعلّنا نبلغ المقصود بعد زمان طال أو قصر، فإنّ من سلك الطريق لابدّ وأن يصل، وصاحب الزمان عليه الصلاة والسلام يعرف عن قلبك وقلبي إن كنّا سالكي الطريق حقّاً أم لا؛ فإن علم صدقنا فسيأخذ بأيدينا.
ولو أنّ أحدنا تقدّم إليه بمقدار خطوة واحدة من الطريق فإنّه (عجّل الله فرجه) سيتقدّم إليه فراسخ ويفتح له ذراعيه، ولكن علينا أن نجعل أنفسنا أهلًا لذلك.
ذكرى المولد؛ فرصة لمراجعة أنفسنا لنعاهد الله سبحانه وتعالى علي أن نكون عند مرور ذكري مولد الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) مثلًا، في كلّ سنة أحسن من السنة السابقة. ولنبدأ الطريق بأن يسعي كلّ منا لتقليل نقاط ضعفه وإصلاح نفسه، فلو أصلحنا أنفسنا، فإنّ صاحب الزمان هو الذي سيأتي إلينا قبل أن نذهب إليه.
لنخطّط لأرواحنا قبل أن نخطّط لبطوننا وأيدينا وبيوتنا وأهلينا، ولنسِرْ قليلًا بهذا الاتّجاه لنحظى بلقيا المولي صاحب الزمان (عجّل الله فرجه).
ختاماً: بودّي أن أذكر شيئاً عسي أن نكون بذلك قد قدّمنا خدمة - ولو صغيرة - لمولانا صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)؛ فلعلّ كثيراً من الشيعة لا يعلم شيئاً عنه صلوات الله وسلامه عليه، والذنب في ذلك يعود علينا نحن المتعلّمين.
إننا بحاجة إلى مليارات النسخ من المطبوعات عن الإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه)؛ فإنّ نفوس العالَم لم تعُد بالملايين، بل بلغت المليارات، فليخصّص كلّ واحد منا منذ الآن مقداراً من المال يطبع فيه كتاباً عن صاحب الزمان، ولا مانع من طلب العون من الأهل والأقرباء ومن الزوجة والولد والأخ والأخت في هذا المجال بأن يضع سهماً من عنده وأسهماً من أقربائه وأصدقائه ثمّ يقوم بطبع الكتاب، ولا يشترط أن يكون الكتاب ضخماً، فكلٌّ حسب سعته. وإذا لم يستطع أن يعطي مبلغاً خلال يوم فقد يستطيع أن يعطيه خلال شهر، وقد يستطيع من خلال الاستعانة بأهله وأقربائه وأصدقائه.
فهذا شيء بسيط، وهو أقلّ ما يمكن أن نقوم به لخدمة صاحب الزمان (عجّل الله فرجه).
أويس القرني أفضل من كثير من الصحابة!
ولتكن لنا في أويس القرني قدوة وعبرة، فإنّ هذا العبد الصالح لم يوفّق لأن يدرك الرسول (صلّى الله عليه وآله)، مع أنّه كان في عصره، فقد كان يعيش في اليمن، وعندما توجّه منها إلى المدينة لرؤية الرسول (صلّى الله عليه وآله) وزيارته لم يسعفه الوقت، فحينها كان (صلّى الله عليه وآله) قد استشهد. وتأثّر أويس لذلك كثيراً. ولكن هل تعلمون أنّ أويساً هذا مقدّم علي كثير ممّن صحبوا الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟
فإذا أردتم التحقّق من ذلك فانظروا إلى سيرته:
ينقل أنّه كان أحد الأشخاص يسبّ أويساً كلّما مرّ به أو التقاه. وفي إحدى المرّات رآه أويس يقبل من بعيد فغير طريقه.
ربّما كثير من الناس يتجنّب المواجهة مع مَن يريد سبّه، لأنّه قد تتوتّر أعصابه أو يراق ماء وجهه بين الناس. ولكن أويساً لم يغير طريقه لهذه الأسباب وعندما سئل عن السبب، أجاب قائلًا: لئلّا يقع ذلك الشخص - السابّ - في المعصية(80).
إذن؛ فلنقتد بمثل هذا النموذج الصالح لننال إن شاء الله تعالى رضا الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله) وأئمّتنا الطاهرين (عليهم السلام) لاسيما مولانا الإمام الحجّة المنتظر (عجّل الله فرجه).
أخيراً: ونحن في عصر الغيبة، إن أردنا أن نكسب رضا مولانا صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه)، فعلينا أن ندرك أنّ هذا الأمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً وأكيداً بمدي معرفتنا للمسؤولية والواجب الملقي علينا ثم العمل بهما.
أرجو من الله تعالى ببركة وجوده المقدّس وببركة آبائه الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين، أن يزيد في توفيق مَن كانت عنده هذه الخصلة - أي معرفة الواجب في عصر الغيبة - وأن يمنحها لمَن يفتقدها.
(2) رسائل الإمام للشيخ المفيد
للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في غيبتيه الصغرى والكبرى رسائل وتوقيعات كثيرة يخاطب فيها عدّة من الشخصيات الشيعية، بالإضافة إلى الرسائل الخاصّة إلى نوّابه، والرسائل الجوابية المرسلة لبعض الأفراد أحياناً، والمؤسف أنه لم يصلنا شيء من هذه الرسائل إلا عدد محدود!
ولكن تبقى رسائله (عجّل الله فرجه) إلى الشيخ المفيد والعبارات التي تضمّنتها حالة فريدة امتازت بها عن رسائله للآخرين، فلم يعهد عن الإمام (عجّل الله فرجه) أنه أثني علي أحد بهذه الصورة كما حصل مع الشيخ المفيد؛ فلو راجعتم كلّ ما وصلنا من عبارات المدح والتقريظ من الإمام الحجّة صلوات الله وسلامه عليه وعلي آبائه الطاهرين بشأن جملة من الأفراد، وخاصّة نوّابه الأربعة الخاصّ ين، والسفراء الآخرين ووكلائه(81) قد لا تجدون في كلّ كلمات المديح والتقريظ التي تفضّل بها الإمام بحقّ هؤلاء الأشخاص ما يرتقي لمستوي ما قاله سلام الله عليه بحق الشيخ المفيد.
ينقل العلّامة المجلسي في كتابه (بحار الأنوار) رسالتين عن الإمام الحجّة سلام الله عليه إلى الشيخ المفيد(82) يذكر فيهما بعض المطالب التي تضمنت إشارة بالمدح للشيخ المفيد، وهذا المدح قد لا تجدون له نظيراً حتى في حقّ نوّابه الخاصّ ين وهم الحسين بن روح والسمري والعمريان.
إننا نلمس تقريظاً من خلال هاتين الرسالتين والعبائر الأخرى التي نُقلت عنه سلام الله عليه بحقّ المفيد ما لا نلمسه - من حيث المجموع - بحقّ أيّ شخصية أخرى على الإطلاق، ممّن تشرّفوا بلقاء الحجّة سلام الله عليه.
الرسالة الأولى
قال العلّامة الطبرسي رحمه الله:
ذكر كتاب ورد من الناحية المقدسة حرسها الله ورعاها في أيام بقيت من صفر سنة عشرة وأربعمائة علي الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدس الله روحه ونوّر ضريحه، ذكر موصلُه أنه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز؛ نسخته:
«للأخ السديد والولي الرشيد، الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان - أدام الله إعزازه - من مستودع العهد المأخوذ على العباد
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد؛ سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمّد وآله الطاهرين، ونُعلمك - أدام الله توفيقك لنصرة الحقّ وأجزل مثوبتك علي نطقك عنا بالصدق - أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤدّيه عنا إلى موالينا قبلك، أعزّهم الله بطاعته وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته.
فقف - أيدك الله بعونه علي أعدائه المارقين من دينه - علي ما أذكره، واعمل في تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله:
نحن وإن كنا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
أنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولو لا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتّقوا الله جلّ جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله، ويحمي عنها من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا، ومباءتكم بأمرنا ونهينا، والله متمّ نوره ولو كره المشركون.
اعتصموا بالتقية من شبّ نار الجاهلية يحششها عصب أموية، يهول بها فرقة مهدية، أنا زعيم بنجاة من لم يرمِ فيها المواطن، وسلك في الطعن منها السبل المرْضية، إذا حلّ جمادي الأولي من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه، ستظهر لكم من السماء آية جلية، ومن الأرض مثلها بالسوية، ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق، ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق، تضيق بسوء فعالهم علي أهله الأرزاق، ثم تنفرج الغمّة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار، ثم يسترّ بهلاكه المتّقون الأخيار، ويتّفق لمريدي الحجّ من الآفاق ما يؤمّلونه منه علي توفيرٍ عليه منهم واتّفاق، ولنا في تيسير حجّهم على الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتّساق.
فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من محبتنا، ويتجنّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنّ أمرنا بغتة فجاءة حين لا تنفعه توبة، ولا ينجيه من عقابنا ندم علي حوبة، والله يلهمكم الرشد ويلطف لكم في التوفيق برحمته.
نسخة التوقيع باليد العليا علي صاحبها السلام.
هذا كتابنا إليك أيها الأخ الولي والمخلص في ودّنا، الصفي والناصر لنا الوفي، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفظ به ولا تظهر على خطّنا الذي سطّرناه بما له ضمنّاه أحداً وأدّ ما فيه إلى من تسكن إليه، وأوصٍ جماعتهم بالعمل عليه إن شاء الله، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين»(83).
الرسالة الثانية
وورد علي الشيخ المفيد كتاب آخر من قبله صلوات الله عليه يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وأربعمئة؛ نسخته:
«من عبد الله المرابط في سبيله إلى ملهم الحق ودليله
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام الله عليك أيها الناصر للحقّ، الداعي إليه بكلمة الصدق، فإنا نحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو إلهنا وإله آبائنا الأولين، ونسأله الصلاة علي سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلي أهل بيته الطاهرين.
وبعد؛ فقد كنا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه وحرسك به من كيد أعدائه، وشفعنا ذلك الآن من مستقرّ لنا ينصب في شمراخ من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان، ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعد من الدهر ولا تطاول من الزمان، ويأتيك نبأ منا يتجدد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال، والله موفقك لذلك برحمته.
فلتكن - حرسك الله بعينه التي لا تنام - أن تقابل لذلك فتنة تبسل نفوس قوم حرثت باطلًا لاسترهاب المبطلين، يبتهج لدمارها المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون، وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالحرم المعظّم من رجس منافق مذمّم مستحلّ للدم المحرّم، يعمد بكيده أهل الإيمان، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فلتطمئنّ بذلك من أوليائنا القلوب، وليتّقوا بالكفاية منه، وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب.
ونحن نعهد إليك أيها الولي المخلص المجاهد فينا الظالمين - أيدك الله بنصره الذي أيد به السلف من أوليائنا الصالحين - أنه من اتقي ربّه من إخوانك في الدين، وأخرج مما عليه إلى مستحقّيه، كان آمناً من الفتنة المبطلة ومحنها المظلمة المضلّة، ومن بخل منهم بما أعاره الله من نعمته علي من أمره بصلته، فإنه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته.
ولو أن أشياعنا - وفّقهم الله لطاعته - علي اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم؛ لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتّصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم.
والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته علي سيدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلم، وكتب في غرة شوال من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها:
هذا كتابنا إليك أيها الولي الملهم للحقّ العلي بإملائنا وخطّ ثقتنا، فاخفهِ عن كلّ أحد، واطوِهِ، واجعل له نسخة تطلع عليها من تسكن إلى أمانته من أوليائنا - شملهم الله ببركتنا إن شاء الله - الحمد لله والصلاة علي سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين»(84).
أقول: إنّه لشرف كبير ومصدر فخر واعتزاز أن يمثل الشخص بين يدي الإمام ويكون في حضرته؛ يزوره عياناً ويتشرّف برؤيته وتقبيل يده. ولكن اعلموا أيها الإخوان إنّ هذا ليس هو الواجب، فإنّه لم يبلغنا عن الشيخ المفيد أنّه التقي بالحجّة ولا يعرف ما هو السبب، وربما التقاه ولم يصلنا خبره ولكنّه مع ذلك نال هذه الأوسمة منه سلام الله عليه.
عظمة الشيخ المفيد
إنّ كل عبارة في هذه الرسالة تستدعي البحث والتأمّل، ولكن قبل تناول بعض مفرداتها تستوقفنا قضية مهمّة جدّاً وهي أنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لم يخصّ أحداً غير الشيخ المفيد رحمه الله بمثل هذه الكلمات التي تحمل معاني العرفان بالإخلاص والولاء.
لا غرابة في أن يشهد فرد بصلاح فرد آخر وحسن سيرته، ولكن عندما تكون هذه الشهادة صادرة عن إمام معصوم يصبح الأمر مختلفاً تماماً، إنّها شهادة ترجح كفّتها علي الدنيا وما فيها، لأنّ هذه الشهادة خالدة في ضمير العقيدة، لا تفني ولا تزول مع الأيام، والدليل على ذلك أنّ الشيخ المفيد رحل عن هذه الدنيا منذ قرابة الألف عام لكن ذكراه ما زالت حية تتجدّد علي مرّ العصور.
بيد أن ههنا قضية أخرى تلفت النظر، وهي أنه رغم المكانة الجليلة والمنزلة السامية التي حظي بها الشيخ المفيد إلا أنّه لم يرد في موضع ما أنّه تشرّف بلقاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أو كتب رسالة للإمام (عجّل الله فرجه) ولكن حيث إنّه الشيخ المفيد أدّي واجباته علي أتمّ ما كان ينتظره منه الإمام (عجّل الله فرجه)، فقد استحقّ عناية الإمام (عجّل الله فرجه) ولطفه بجدارة، حتى أنّ الإمام نفسه خاطبه برسالة طويلة يستشفّ منها رغبته (عجّل الله فرجه) بالحديث إليه.
تأمّلات في بعض كلمات الرسالة
لقد ذكر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في خطابه للشيخ المفيد كلمة الإهمال فقال: غير مهملين ولم يقل: غير تاركين، ذلك أن هنالك فرقاً بين الإهمال والترك من جهة القصد، فالترك أعمّ وأشمل، أي يكون بقصد وبلا قصد؛ أمّا الإهمال فلا يكون إلاّ عن قصد(85).
ومن ثمّ فيكون المعني: إننا إذا لم نرعكم، فالإهمال من جانبكم وليس من جانبنا.
وقال (عجّل الله فرجه): ولا ناسين لذكركم نافياً أن يكون النسيان بشكل عام ومطلق، ممّا يعني أنّه يذكر الجميع دائماً وفي كل مكان، ولولا ذلك لنزل البلاء بهم.
إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو إمامنا الحي، أما باقي الأئمة سلام الله عليهم فقد رحلوا عن هذه الدنيا، رغم إيمان الشيعة بأنّ حضور الإمام المعصوم وغيابه أو حياته ومماته سيان، لهذا السبب نقرأ في نصوص الزيارات «أشهد أنّك تشهد مقامي وتسمع كلامي»(86)، وهذه مسألة مفروغ منها ولا تشوبها شبهة أو شك، ومنذ ذاك اليوم الذي غاب فيه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وإلى حين فرجه الشريف والشيعة في ترقّب وانتظار؛ مشرئبّة أعناقهم لوقت ظهوره المبارك، لاعتقادهم بأنه البقية الخاتمة لحجج الله علي خلقه، وأنّ جميع أمورهم موكلة إليه، وبالطبع، فهو إمام الممكنات كلّها، وهذا مبحث من مباحث أصول الدين تمّت مناقشته باستفاضة في مظانّه، كما نوقشت الأدلة الخاصة به، وقد وردت روايات عن الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم في هذا الصدد(87).
كيف تلقّي الشيخ المفيد رسائل الإمام؟
طبقاً للآثار، فقد تلقّي الشيخ المفيد ثلاث رسائل من الإمام، وصلتنا اثنتان منها، بينما يعتقد بتلف الثالثة أثناء حوادث حرق المكتبات.
إلا أن السيد بحر العلوم(88) يثير مسألة في المقام وهي: كيف تسلّم الشيخ المفيد الرسالة من الإمام المهدي مع أنه لم يتشرّف بلقائه (عجّل الله فرجه) ولم يكن هناك نائب للإمام في ذلك الوقت؟
ويجيب السيد بحر العلوم: يبدو أنّ الذي سلّم الرسالة للشيخ لم يصرّح له أنّها من الإمام، وأنّ المنزلة المرموقة التي كان يحظى بها الشيخ هي التي استدعت أن يستثني من القاعدة - في ما يتعلّق بالرسالة - بحيث وصله كتاب الإمام رغم عدم وجود نائب له آنذاك وعدم تشرّف الشيخ بلقاء الإمام (عجّل الله فرجه).
من هو الشيخ المفيد؟
ولد الشيخ المفيد(89) في عام 336 أو 337 ه أي في أواخر الغيبة الصغرى وبداية الغيبة الكبرى، وترعرع في أحضان العلم والعقيدة الحقة حتي بلغ، فكان شابّاً بسيطاً، وكان والده معلماً في تل العكبري (علي مسافة عشرة فراسخ من بغداد) فاشتهر بلقب (ابن المعلم).
انتقل به والده إلى بغداد لتلقّي الدروس، فارتقي سلّم العلم حتى بلغ منزلة عظيمة ومكانة اجتماعية رفيعة يشهد لها مستوي التشييع المهيب الذي شهدته جنازته في بغداد رغم أنّ هذه المدينة لم تكن ذات أغلبية شيعية حينذاك كما هي اليوم، ويروي المؤرخون أنّه كان تشييعاً لم تر بغداد نظيراً له حتى ذلك الوقت.
منزلة الشيخ المفيد عند العامّة
كان مجلس درس الشيخ المفيد يزخر بفطاحل علماء العامّة، كما اشتهر عنه أنه حظي بمكانة رفيعة جعلت حتى أعداءه من الناصبة يثنون عليه.
من هؤلاء العلماء المعروفين بتعّصبهم عبد الله اليافعي(90) صاحب كتاب (أبواب الجنان) المليء بالدسّ(91) فرغم تحامله علي الشيعة وعلمائهم ولكنه لم يتمالك نفسه عن مدح الشيخ المفيد.
أجل؛ لقد قال بعض علماء العامّة بعد رحيل الشيخ المفيد «أراحنا الله منه»، بل ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فأقام مراسم الاحتفال والسرور وتزيين جدران داره بهذه المناسبة، ولكنهم أيضاً اعترفوا له بالفضل والمنزلة.
الإمام (عجّل الله فرجه) ينعاه بعد رحيله
نستطيع أن ندرك عظمة منزلة الشيخ المفيد عند الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من خلال كلمات النعي التي قالها (عجّل الله فرجه) بحقّه حين وافته المنية ورحل عن الدنيا:
لا صوت الناعي بفقدك إنّه يوم علي آل الرسول عظيم(92)
وأيّ زهو وفخر أسمي من أن يخاطبه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بهذه الكلمات:
«سلام عليك أيها العبد الصالح الناصر للحق الداعي بكلمة الصدق».
إن صدور هذه الكلمات من إمام معصوم إلى شخص غير معصوم مسألة في غاية الأهمية؛ تري ما الذي فعله الشيخ المفيد رحمه الله ليستحقّ كل هذا الإطراء والثناء من جانب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)؟
قدوة الشيخ المفيد
لقد استطاع الشيخ المفيد أن يحوز علي ثقة الناس بسيرته وسلوكه الذي استلهمه من سيرة المعصومين سلام الله عليهم حتى أصبح موضع ثناء وتقدير العدو قبل الصديق، وكيف لا يكون كذلك ومولاه ومقتداه بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه وهو القائل: «والله ما كتمت وسمة ولا كذبت كذبة»(93).
إن لسان التاريخ يشهد بهذه الحقيقة، فلم تصدر عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أية كذبة أبداً، ولا حتى في أسنح الفرص التي كان بإمكانه ولو بكذبة صغيرة أن يستبق الحكم فيطيل من عمر حكومته 13 سنة أخرى علي أكبر دولة كانت موجودة على وجه المعمورة آنذاك، وذلك عندما عين عمر بن الخطّاب ستة أشخاص لاختيار خليفة من بينهم وكان الإمام علي سلام الله عليه وعثمان بينهم، وأمر أن يكون ترجيح الكفّة بيد عبد الرحمن بن عوف كما نعلم، فلمّا جاء دور ابن عوف ليقول كلمة الفصل ويصوّت للخليفة الجديد، قال للإمام علي سلام الله عليه: أبايعك علي كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فردّه الإمام علي سلام الله عليه قائلًا: «بل على كتاب الله وسنّة رسوله وأن أعمل برأيي».
ووجّه ابن عوف الطلب نفسه لعثمان، فوافق، وبذلك أصبح حاكم المسلمين، وطبعاً عندما استتبّ له الأمر لاحقاً ضرب بكلّ ما قطعه على نفسه من الالتزام بكتاب الله تعالى وسنّة النبي صلوات الله عليه وآله عرض الحائط، فقُتل على يد المسلمين.
وهكذا نرى أنّ أمير المؤمنين علي سلام الله عليه لم يكن مستعداً أن يداهن ويظهر خلاف ما يسرّ، ولو شفهياً علي الأقل، وكانت النتيجة أن حُرم من حقّه في الخلافة 13 سنة أخرى، وقد عاتب الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه كثيرون وتمنّوا لو أنه كان وافق على شرط القوم ولو ظاهرياً، ثم يتراجع في ما بعد عن تعهّده حتى لا تضيع الفرصة في تولّي السلطة. ولكن هيهات! ليس علي بن أبي طالب سلام الله عليهما بالذي يرضي لنفسه أن يحيد عن جادة الحقّ ولو للحظة واحدة.
لقد استوعب الشيخ المفيد هذه الدروس جيداً، وكان صادقاً وأميناً، فسلك نهجاً جعله موضع اعتماد الناس وثقتهم، وكان يتمتّع بمكانة رفيعة جعلت الملوك والعظماء والشخصيات البارزة ينحنون له تواضعاً ويتسابقون للقائه.
لذا؛ يتوجّب أولًا علي أولئك الذين يضطلعون بمسؤولية هداية الآخرين أن ينتبهوا لهذه النقطة فيسعوا إلى كسب ثقة الجميع.
تحمّل الشيخ المفيد لمسؤوليته
يقول العالم البحّاثة آية الله المرعشي النجفي:
لقد نذر الشيخ المفيد نفسه للبحث والمناظرة، فكانت له مناظرات مختلفة مع علماء جميع الأديان، حتى لقد حضرته مجموعة من العلماء وطلبت منه موعداً لمناظرته، فقال الشيخ: لا وقت عندي، فقالوا: يا شيخ، لقد حضرنا من مكان بعيد، ونريد العودة، فتأمّل الشيخ قليلاً وقال: ليس عندي مجال سوي ساعتين تسبقان أذان الصبح، فباستطاعتكم الحضور في هذا الوقت لعدّة مرات، فقالوا: لا بأس نهجع في النهار ونأتي مساءً للمناظرة.
سؤال يطرح نفسه: ألم يكن الشيخ يخلد للنوم؟
يذكر التاريخ أنّ مجلس درسه كان يعجّ بالكثير من الشخصيات، بدءاً بأبي العلاء المعرّي (الشاعر الشهير) مروراً بالمتصوفة، وكانت ذاكرته مضرب الأمثال عند العامة والخاصة، فلم يحدث أن استعان بكتاب للاستشهاد به، كما يشار إلى أنّ الأدلة اللغوية المنقولة عنه لم توجد في أيّ كتاب لغوي، وبعبارة موجزة لقد رهن حياته لخدمة أهل البيت سلام الله عليهم، فكان مصداقاً للآية الكريمة (يهْدونَ بأمْرِنا)(94) حيث تدور جميع روايات الأئمة سلام الله عليهم حول هذا المحور.
ماذا يتوقّع الإمام (عجّل الله فرجه) من شيعته؟
هناك نقطة تؤرّق بال معظم الشيعة، وهي: كيف السبيل إلى التشرّف بلقاء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)؟
إنّ مسألة اللقاء بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مسألة خاصة، وقد زخرت الكتب بقصص الذين تشرّفوا بلقائه، بمن فيهم العلماء والعامة، الشيوخ والشباب، الرجال والنساء. ولكن هل يطلب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من شيعته في فترة غيبته الكبرى أن يجدّوا ويجتهدوا ليتشرّفوا بلقائه فقط؟ أم أنّ المسؤولية تحتّم علينا أشياء أخرى؟ أوَ لا توجد مسؤولية أهم وأخطر من تلك؟
كما ذكرنا سابقاً فإنّ أهمّ وسيلة للتقرّب من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هي أداء واجباتنا علي أكمل وجه، وهو الهدف نفسه الذي شرّف الله به الإمام المهدي سلام الله عليه بالإمامة، وكذلك هدف الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) والأئمة سلام الله عليهم أجمعين.
فضل العالم على العابد
روي عن معاوية بن عمار أنه قال: قلت لأبي عبد الله سلام الله عليه رجل راوية لحديثكم يبثّ ذلك في الناس ويشدّه في قلوبهم وقلوب شيعتكم ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما أفضل، قال:
«الراوية لحديثنا يشدّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد»(95).
ناقل الرواية معاوية بن عمار وهو علي غرار زرارة ومحمد بن مسلم من كبار أصحاب الأئمة سلام الله عليهم ومن الثقات.
إن ما يريده الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من شيعته هو أن يسعوا في هداية الناس، حيث يحتاج الأمر إلى بعض الخطوات التمهيدية، منها حسن المعاشرة وطلب العلم وسلوك طريق المداراة مع العدو والصديق.
في رسائله للشيخ المفيد يذكر الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) كلمة «الصدق» مرات عدّة، وهي كلمة تحتاج إلى سنوات طويلة لتصدق على من هم أمثالنا. فإذا تراجعت «الأنا» عن الناس وحلّ محلّها الإيثار، صار حقيقاً أن يكونوا مصداقاً لقوله تعالى: (يهدون بأمرنا) حين يصبح اللباس الخشن والناعم، والغذاء الجيد والعادي سيان عند الإنسان.
حقّاً إنّه لأمر صعب أن يسعي المرء ليكون بمستوي الشيخ المفيد، إلا بعد أن يفني ذاته في مرضاة مولاه. فالشيخ المفيد كان له هاجسه الدائم، وهو ماذا يريد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) منه لينجزه.
في عصرنا الحالي، وبسبب فقدان الثقة بأكثر العلماء، نجد الناس قد توزّعوا فرقاً أشتاتاً منهم الشافعي والحنبلي والمالكي بل حتى الشيعي، وأكثرهم هائمون في بحر الغفلة، فلو كان العالم محلّ ثقة، لاستطاع أن يهدي كثيراً من الناس إلى دين الله أفواجاً وجماعات، لكنّه فقد حتى ثقة أهله وولده به، فلا أمل يرجي منه.
مع هذا، وبمناسبة الحديث عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، يمكننا أن نحقّق شيئين اثنين:
• أن نعاهد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بتغيير أنفسنا تدريجياً.
• أن نلتمسه الدعاء ومدّ يد العون لنا لنتغير.
ويرتبط هذان الأمران بثلاثة أمور هي:
1. الطلب الحثيث للعلم، والتأكد بأن من أعظم العبادات التعليم والتعلّم.
2. يجب علي الإنسان طرح «الأنا» عن نفسه.
3. أن نسعى لأن يكون كل منّا راوية حديث - والتاء هنا تاء المبالغة – لنكون مصداق «يشدّ به قلوب شيعتنا».
في الختام، أسأل الله بحقّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أن يغدق علينا من ألطافه، ويسدّد خطانا لإنجاز هذه الأمور الثلاثة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله علي سيدنا محمد وآله الطاهرين ولعنة الله علي أعدائهم أجمعين.

الهوامش:

ــــــــــــــــــــــ

(1) الإفصاح للشيخ المفيد، ص 28 (ط: مؤسسة البعثة، قم).
(2) رسائل في الغيبة للشيخ المفيد: ج 1، ص 3، الرسالة الأولي في الغيبة (ط، دار المفيد، بيروت).
(3) ينابيع المودة، ج 3، ص 456.
(4) فقد تمّ التصريح في (293) حديثاً بأنه ابن الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه.
(5) فقد تمّ التصريح في (48) حديثاً بأن اسمه اسم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، وفي (136) حديثاً بأنه الإمام الثاني عشر، وأنه آخر الأئمة.
(6) فقد تمّ التصريح في (406) حديث بأنه من ولد علي وفاطمة سلام الله عليهما.
(7) فقد تمّ التصريح في (318) حديثاً عن عمره المديد، وأن المؤمنين فقط سيستقيمون علي الإيمان بوجوده سلام الله عليه. كما صُرح في (91) حديثاً بأن غيبته (عجل الله تعالى فرجه) ستطول.
(8) وهذه الأحاديث والروايات وغيرها هي من النصوص الشريفة التي تتناول شتي الموضوعات الخاصة بالإمام (عجّل الله فرجه)، وقد بلغت (28847) نصّاً وردنا عن أهل البيت صلوات الله عليهم، قد تناولها كتاب (منتخب الأثر) القيم لمؤلفه آية الله العظمى الشيخ الصافي الكلبايكاني، إذ أورد في كتابه ما استطاع من الروايات ذات الصلة بإمام الزمان سلام الله عليه، معتمداً المصادر الحديثية الأساسية لدي الشيعة.
(9) وهذا ما سنتناوله في بحث (سيرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في الحكم) وهو البحث الثاني من هذا الكتاب.
(10) القصص: 5-6.
(11) عن الإمام محمد الباقر عن أبيه زين العابدين عن جده أمير المؤمنين سلام الله عليهم في قوله تعالى: (وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا في الَأرْض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ) قال: «هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيعزّهم ويذلّ عدوّهم». ذكره الطوسي في كتاب الغيبة: 113.
(12) المدّثر: 6.
(13) البقرة: 264.
(14) البقرة: 262.
(15) طه: 37.
(16) الصافات: 114.
(17) آل عمران: 164.
(18) راجع مستدرك الوسائل: 2/419 باب 64: استحباب الصبر على البلاء.
(19) آل عمران: 185.
(20) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: دخلت علي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوماً فلما نظر إلى قال: يا سلمان... ليحضرن إبليس وجنوده وكلّ من محض الإيمان محضاً، ومحض الكفر محضاً، حتى يؤخذ بالقصاص والأوتار والتراث ولا يظلم ربك أحداً، ويجري تأويل هذه الآية (ونريد أن نمنّ على الذين استضُعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) مقتضب الأثر لأحمد بن عياش الجوهري: 7.
(21) وهو من أعاظم الرواة والشخصيات الشيعية والذي لا تشوب عظمة منزلته وجلال قدره أية شائبة، حتى روي عن الإمام الحسن العسكري سلام الله عليه فيه: «أغبط أهل خراسان لمكان الفضل وكونه بين أظهرهم» (اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي، ص542، وراجع ترجمته في رجال ابن داود: 151 رقم 1200 ط: الحيدرية، النجف الأشرف؛ معالم العلماء ص 90).
(22) اختيار معرفة الرجال: ج 2 ص 823 رقم 1033 (ط: مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) قم).
(23) خلاصة الأقوال للعلامة الحلي: 399-398 رقم 29 (ط، الحيدرية، النجف الأشرف).
(24) بحار الأنوار، ج 52، ص 388، ح 206، باب سيره وأخلاقه وخصائص زمانه (ط: مؤسسة الوفاء - بيروت).
(25) والد الشيخ الصدوق.
(26) بحار الأنوار، ج 52، ص 353، باب 27، ح 109، عن: الغيبة للنعماني، ص 153 ح 14.
(27) بحار الأنوار، ج 52، ص 354، باب 27، ح 113، عن الغيبة للنعماني، ص 231.
(28) بحار الأنوار، ج 52 ص 354 باب 27، ح 114. غيبة النعماني، 233.
(29) هو من المنحرفين، وكان شيخ الواقفية قائلًا بختم الإمامة بالإمام موسي بن جعفر سلام الله عليهما وأنّه الإمام الغائب!
وهذا الرجل الذي لا يؤمن أساساً بالإمام الثاني عشر، فكيف يمكن قبول روايته فيه؟ سيما إذا لاحظنا أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) كشف لنا في إحدي الروايات أنّ البطائني ضربه ملكان في قبره؛ لإنكاره إمامته (عليه السلام) «بمقمعة من نار فألهبا عليه قبره إلى يوم القيامة» (مناقب آل أبي طالب، ج 3 ص 449) أي أنّه يحترق في قبره منذ أكثر من 1200 عام! فكيف نقبل روايته؟ - منه دام ظلّه -.
(30) غيبة الطوسي، ص 459-460، ح 473، في ذكر طرف من العلامات الكائنة قبل الخروج(ط، مؤسسة المعارف الاسلامية، قم)؛ الخرائج، ج 3، ص 1155 ح 61 (ط: مؤسسة الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، قم).
(31) الغيبة للشيخ الطوسي، ص 277؛ الخرائج، ج 3، ص 1155، ح 61؛ غيبة النعماني، ص 234، بحار الأنوار، ج 52، ص 355.
(32) معجم رجال الحديث للسيد الخوئي ج 19، ص 300-301، نقلًا عن اختيار معرفة الرجال للكشي.
(33) كتاب الغيبة للنعماني قدس سره ص 232 ح 17.
(34) سورة آل عمران، الآية 59.
(35) الشيخ الصدوق قدس سره في (كمال الدين وتمام النعمة) ص 257؛ والشيخ الخزاز في (كفاية الأثر) ص 11؛ والطبرسي في (إعلام الورى بأعلام الهدى) ج 2 ص 183؛ والشيخ ابن ابي الفتح الأربلي في (كشف الغمة) ج 3 ص 315، وعنهم نقل العلامة المجلسي قدس سره في بحار الأنوار: ج 52، ص 379، ح 187.
(36) هو أمين الدين أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل(ت: 548 ه) فقيه ومحدّث ومفسّر ولغويّ إمامي عرف بالشيخ الطبرسي، أبرز علماء الشيعة في القرن السادس الهجري، ولده الحسن بن الفضل صاحب كتاب (مكارم الأخلاق) وحفيده علي بن الحسن صاحب مشكاة الأنوار، جميعهم جهابذة. (روضات الجنات للخونساري: 5/342-349؛ طبقات أعلام الشيعة، القرن السادس: 216 و217).
(37) بحار الأنوار، ج 52، باب 27، ص 381-382.
(38) الكافي: ج 1 ص 411 ح 3 وعنه الوسائل: ج 3 ص 348 الباب 7 الحديث 7 وبحار الأنوار: ج 40 ص 336 الباب 98 الحديث 18.
(39) ينابيع المودة ج 3، ص 344، مسند أحمد، ج 2، ص 37.
(40) جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ص 34.
(41) بحار الأنوار: ج 51، ص 92.
(42) انظر المصادر التالية: شرح الأخبار - للقاضي النعمان المغربي - ج 3 ص 362؛ كتاب الغيبة للطوسي - قدس سره - ص 178 الحديث 136؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 37؛ بيان الشافعي: الباب 10 ص 505. فرائد السمطين: ج 2 ص 310 الحديث 561 وغيرها.
(43) أفاليذ وأفلاذ: جمع فلذة، وهي القطعة من الذهب والفضّة وما عزّ.
(44) نهج البلاغة: خطبة 138.
(45) سورة التوبة، الآية 128.
(46) سورة التوبة الآية 61.
(47) راجع تفسير القمّي ج 1 ص 300.
(48) ؟؟؟.
(49) نهج البلاغة، ص 183، رقم 126 – من كلام له (عليه السلام) لما عوتب علي التسوية في العطاء.
(50) بحار الأنوار، ج 20، ص 21.
(51) السلا: جلدة يكون فيها الولد في بطن أمه، وإذا انقطع في البطن هلكت الأم والولد.
(52) ورد في كتب أخرى: حامل، وجاجائيل، وحبابيل.
(53) بحار الأنوار، ج 17، ص 275-276.
(54) بحار الأنوار: 34/261 باب 63 ح 16.
(55) الميلغ، والميلغة والجمع مبالغ: الإناء يلغ فيه الكلب أو يسقي فيه. (المنجد في اللغة: 918، مادّة ولغ). وكان الناس آنذاك إذا كسرت كيزان الماء الخزفية لم يرموا بكعوبها بل يتّخذون منها أوعية للماء الذي تلغ فيه الكلاب.
فقد روي أنه بعث النبي (صلّى الله عليه وآله) خالد بن الوليد علي صدقات بني المصطلق حي من خزاعة، وكان بينه وبينهم في الجاهلية ذحل فأوقع بهم خالد فقتل منهم، واستاق أموالهم، فبلغ النبي (صلّى الله عليه وآله) ما فعل فقال: «اللّهمّ أبرأ إليك ممّا صنع خالد» وبعث إليهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) بمال وأمره أن يؤدي إليهم ديات رجالهم وما ذهب لهم من أموالهم، وبقيت معه من المال زعبة، فقال لهم: «هل تفقدون شيئاً من متاعكم»؟ فقالوا: ما نفقد شيئاً إلاّ ميلغة كلابنا، فدفع إليهم ما بقي من المال فقال: «هذا لميلغة كلابكم، وما أنسيتم من متاعكم»، وأقبل إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: ما صنعت؟ فأخبره بخبره حتى أتى على حديثه، فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): «أرضيتني رضي الله عنك يا علي أنت هادي أمّتي، ألا إنّ السعيد كلّ السعيد مَن أحبّك وأخذ بطريقتك، ألا إنّ الشقي كلّ الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة» بحار الأنوار 21/143 ح 6 ذكر الحوادث بعد فتح مكة.
(56) بحار الأنوار: 47/54 ح 92 باب 3 النص عليه صلوات الله عليه.
(57) الكافي للشيخ الكليني: 1/410 ح 2 باب سيرة الإمام (عليه السلام) في نفسه وفي المطعم...
(58) نهج البلاغة: 324 رقم 209 من كلامه (عليه السلام) بالبصرة وقد دخل علي العلاء بن زياد الحارثي يعوده.
(59) الغارات لابن هلال الثقفي: 62.
(60) نهج البلاغة، من كتاب له سلام الله عليه إلى واليه علي البصرة عثمان بن حنيف.
(61) الكافي، ج 1، ص 411. وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، باب 25 حديث 2. جواهر الكلام، ج 21، ص 336.
(62) تهذيب الأحكام، ج 6، ص 154. بحار الأنوار، ج 52، ص 381.
(63) حيث كان الشيخ المفيد قريب عهد بزمن الأئمة المعصومين سلام الله عليهم، فإنه قد نقل رواياته عن كتب أصحاب الأئمة، وهو تارة يقول: (رَوي) وينسب الرواية إلى أصحاب الأئمة سلام الله عليهم مباشرة، هذا في حال نقله من كتبهم المسماة ب (الأصول الأربعمئة) التي كانت بين أيديهم، وتارة يقول: (رُوي)، إشارة منه إلى أن نقله غير مباشر. ومن جملة الرواة هو (المفضل بن عمر) الذي وقع الخلاف في توثيقه، علماً أن عدداً من علماء علم الرجال ينسبون بعض ما روي إلى التقية، كما هو الأمر بالنسبة لبعض روايات زرارة، وعلي أية حال، وتبعاً للمشهور، فإن المفضل ثقة اعتمده كثير من الفقهاء. راجع الإرشاد، ج 2، ص 216؛ رجال الكشي، 248؛ مستدرك الوسائل، ج 3، ص 562 -571؛ مستطرفات المعالي، ص 330.
(64) الإرشاد، ج 2، ص 382؛ معجم أحاديث الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) ج 3، ص 492.
(65) مصباح الزائر، للكفعمي، ص 441؛ بحار الأنوار، ج 99، ص 101-102.
(66) بشارة المصطفى لشيعة المرتضي: ص 318.
(67) نهج البلاغة، الخطبة 138.
أي أن الإمام المهدي سلام الله عليه الذي لا ينتمي إلى طائفة الحكام الظلمة سيؤاخذ ولاتهم علي ما اقترفوه من الأعمال السيئة.
(68) النعماني، الغيبة للنعماني، ص 233. بحار الأنوار، ج 52، ص 354.
(69) شرح إحقاق الحق، للمرعشي، ج 29، ص 570.
(70) دعائم الإسلام/ ج 2/ ص 518 عنه مستدرك الوسائل/ ج 17 / ص 361.
(71) الكافي ج 7 ص 414، ح 1.
(72) الوسائل/ القضاء/ ابواب كيفية الحكم/ الباب 2/ الحديث 1.
(73) سورة ص/ 26.
(74) التهذيب للشيخ الطوسي، ج 6، ص 228.
(75) الإرشاد للشيخ المفيد، ج 2، ص 384.
(76) الأمر الذي يدفع المؤمنين عامة وطلبة العلوم الدينية إلى إدراك أهمية ما يقف وراء كتب هذا الشيخ الجليل من أخلاق سامية ونفس أبية وذوق هو الأرفع، مما يعني ضرورة دراسة تفاصيل حياته الشريفة، لتكون مقدمة للاقتداء به رحمه الله تعالى.
عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عزّ وجلّ: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) قال: «هم الأئمة». الكليني في الكافي: 1/ 219 ح 2.
(77) بحار الأنوار: ج 25، ص 117 باب 4 - جامع في صفات الإمام...
(78) مستدرك الوسائل: 16/259 ح 11 باب 23: كراهة كراهة الضيف.
(79) انظر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: 421/9.
(80) إنّ السفراء هم غير النوّاب الأربعة، فقد سمي غير هؤلاء الأربعة سفراء وإن أُطلق عليهم أيضاً، فهم السفراء المطلقون، وكان هناك للإمام سفراء محدّدون كمَن كاتبوا الإمام سلام الله عليه وأجابهم، وثمّة بعض الكتب التي كتبها الإمام ابتداءً لبعض أصحاب أبيه وجدّه (عليهم السلام) (عنه، حفظه الله).
(81) قال المجلسي وآخرون: إنّ هذه الرسائل كانت ثلاثاً ضاعت واحدة منها ولم تصلنا. (عنه حفظه الله).
(82) الاحتجاج: ج 2 ص 497، توقيعات الناحية المقدّسة.
(83) الاحتجاج للطبرسي: 318/2-324، توقيعات الناحية المقدّسة.
(84) قال ابن منظور في (لسان العرب):
همل: الهمل: السدي، وما ترك الله الناس هملا، أي: سدي بلا ثواب وبلا عقاب.
وإبل هوامل: مسيبة، لا ترعى.
وأَهْمَل أَمرَه: لم يحْكمْه.
وفي المثل: اختلطَ المَرْعي بالهَمَل، والمَرْعي: الذي له راعٍ.
وفي الحديث: ولنا نَعَم هَمَل أَي مهمَلة لا رِعاءَ لها ولا فيها من يصلحها ويهديها فهي كالضَّالة.
وأَهْمَلْت الشيء: خلَّيت بينه وبين نفسه.
والمُهْمَل من الكلام: خلاف المستعمَل.
(85) عدّة الداعي للحلّي: 56، في الوقوف في طلب الحاجة عند رأس الحسين (عليه السلام)، ط. حكمت – قم.
(86) لقد نهض العلامة المجلسي رحمه الله بجمع الروايات المرتبطة بالموضوع في كتابه (بحار الأنوار) في باب أصول الدين، وكذلك في أبواب أحوال المعصومين سلام الله عليهم ومنها:
الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي، عن فرات بن إبراهيم الكوفي عن محمد بن أحمد بن علي الهمداني، عن العباس بن عبد الله البخاري، عن محمد بن القاسم بن إبراهيم، عن أبي الصلت الهروي، عن الرضا، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال:
«قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ما خلق الله عزّ وجل خلقاً أفضل مني، ولا أكرم عليه مني، قال علي (عليه السلام): فقلت: يا رسول الله فأنت أفضل أو جبرئيل؟ فقال (صلّى الله عليه وآله): يا علي إن الله تبارك وتعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين، وفضّلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك، وإن الملائكة لخدّامنا، وخدّام محبّينا، يا علي، الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا، يا علي لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه، لأن أول ما خلق الله عزّ وجل خلق أرواحنا، فأنطقنا بتوحيده وتحميده ثم خلق الملائكة، فلما شاهدوا أرواحنا نوراً واحداً، استعظموا أمرنا، فسبّحنا لتعلم الملائكة أنا خلق مخلوقون، وأنّه منزّه عن صفاتنا، فسبحت الملائكة بتسبيحنا ونزّهته عن صفاتنا، فلما شاهدوا عظم شأننا، هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله، وأنا عبيد ولسنا بآلهة يجب أن نعبد معه، أو دونه، فقالوا: لا إله إلا الله، فلما شاهدوا كبر محلّنا كبرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به، فلما شاهدوا ما جعله لنا من العزة والقوة، قلنا: لا حول ولا قوة إلا بالله، لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة قلنا: الحمد لله، لتعلم الملائكة ما يحقّ لله تعالى ذكره علينا من الحمد علي نعمته، فقالت الملائكة: الحمد لله، فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده. ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لنا وإكراماً...» بحار الأنوار، ج 81 ص 345.
(87) هو السيد محمد مهدي بن مرتضي بحر العلوم (115-1212 ه) أحد تلامذة الشيخ يوسف البحراني والسيد حسين القزويني والأغا محمد باقر هزار جريبي، رحل عن الدنيا وله من العمر (57) عاماً ودفن إلى جوار الشيخ الطوسي في النجف الأشرف. (ريحانة الأدب، ج 1، ص 234-235.
(88) محمد بن محمد بن النعمان، الشهير بالشيخ المفيد وابن المعلم (336-413 ه) فقيه ومتكلم ومحدّث إمامي كبير، من تلامذة ابن قولويه والشيخ الصدوق وأبي غالب الرازي، تتلمذ علي يديه الكثير من العلماء منهم: الشريف الرضي، الشريف المرتضى، الشيخ الطوسي، وسلار بن عبد العزيز الديلمي. اشتهر الشيخ المفيد بسرعة البديهة، ولمناظرته مع القاضي عبد الجبار المعتزلي قصة معروفة.
(ريحانة الأدب، ج 5، ص 361-365؛ الأعلام للزركلي، ج 7، ص 21).
(89) عبد الله بن أسعد اليافعي (698-387 - 768 ه) أحد مشايخ الصوفية شافعي المذهب. ريحانة الأدب، ج 6، ص 386.
(90) ومما يعكس تعصبه ما أورد في كتابه: أنه يطلق الشيعة علي كربلاء اسم حائر؛ لأنّهم يقولون: «أثناء محاولة السلطات العباسية إغراق قبر سيد الشهداء الإمام الحسين سلام الله عليه وصل الماء إلى حافة القبر ثم غير مسيره بعيداً عنه، ولذلك قيل: حار الماء وتوقّف عند القبر». ثم يعلّق (اليافعي) في معرض روايته لهذا الخبر ويسخر من الشيعة متسائلاً: لا أدري هل الماء مكلّف كما البشر، أو هو كالملائكة له إحساس وشعور؟
ولكن هذا الشخص نفسه يقول: في إحدى السنوات طغي ماء دجلة وأغرق جميع المنازل، لكنه حينما عندما وصل إلى قبر أحمد بن حنبل انحسر ولم يقترب منه، ليجدوا بعد ذلك حصيراً بالقرب من القبر لا تزال الغبرة تعلوه ولم تصله الرطوبة أبداً.
وهذا العمري من أغرب المفارقات، فحينما يتعلّق الأمر بالإمام الحسين سلام الله عليه يصبح انقياد الماء لإرادة الله تعالى مثيراً للسخرية عند اليافعي، ولكنه مع أحمد بن حنبل يصبح عاقلًا ذا إحساس وشعور!!
(91) ورد في كتاب بحار الأنوار، ج 53، ص 256 ما يلي:
الحكاية الخامسة والعشرون
قال السيد القاضي نور الله الشوشتري (956-1019 ه) في مجالس المؤمنين ما معناه: إنّه وجد هذه الأبيات بخط الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) مكتوبة على قبر الشيخ المفيد رحمه الله:
لا صوّت الناعي بفقدك إنّه يوم على آل الرسول عظيم
إن كنت قد غُيبت في جدث الثري فالعدل والتوحيد فيك مقيم
والقائم المهدي يفرح كلّما تليت عليك من الدروس علوم
(92) الكافي ج 1 ص 369.
(93) راجع القضية في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 1 ص 188.
(94) سورة الأنبياء، الآية 73.
(95) أصول الكافي، ج 1، ص 33، باب صفة العلم وفضله.