شرح دعاء الندبة
حميد عبد الجليل
إشراف وتقديم: مركز الدراسات
التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
الفهرس
مقدَّمة
المركز:.....................٣
إهداء.....................٧
شكر وامتنان.....................٩
مقدَّمة
المؤلِّف:.....................١١
تمهيد: أهمّيَّة الدعاء عموماً
والدعاء المهدوي خصوصاً.....................١٥
الدعاء سبيل إلهي رغم مخالفة
البعض:.....................١٧
الدعاء لُبُّ التوحيد ومُخُّ
العبادة:.....................٢٢
كيف يقوم الدعاء بعمليَّة
التأثير؟.....................٢٤
المعرفة للإمام (عليه السلام) موجبة
لدعاء غير محجوب:.....................٢٥
نماذج صُرِّح فيها بدعاء الأئمَّة
(عليهم السلام) للأصحاب:.....................٢٩
الدعاء بتعجيل
الفرج:.....................٣٣
الدعاء من الإمام (عليه السلام)
على الأشخاص وأثره:.....................٣٣
أوَّلاً: عُروة بِن يحيى النخَّاس
الدهقان:.....................٣٤
ثانياً: أحمد بن هلال
العبرتائي:.....................٣٤
دعاء
الندبة:.....................٣٧
الفصل الأوَّل: الوساطة بين
السماء والأرض وخصائص الأنبياء ودرجاتهم.....................٤١
الفقرة الأُولى: «اَلحَمْدُ لله رَبِّ
اَلْعَالَمِينَ.....................٤٣
النقطة الأولى: بيان معنى
الحمد:.....................٤٣
النقطة الثانية: بيان معنى
الصلاة:.....................٤٥
حقيقة سيادة النبيِّ (صلّى الله
عليه وآله):.....................٤٦
روايات
السيادة:.....................٤٦
الشيعة هم
العرب:.....................٤٧
المبحث الأوَّل: المشارطة
الإلهيَّة مع الأنبياء وآثار الوفاء بها.....................٤٩
الفقرة الثانية:
«اَللَّهُمَّ لَكَ اَلحَمْدُ عَلَى مَا جَرَى بِهِ قَضَاؤُكَ فِي
أَوْلِيَائِكَ.....................٥١
النقطة الأولى: البُعد
العقائدي:.....................٥١
بحث القضاء
والقدر:.....................٥١
القضاء والقدر في القرآن
والروايات:.....................٥١
مراتب القضاء
والقدر:.....................٥٤
القضاء والقدر في عالم التشريع
والاعتبار:.....................٥٤
القضاء والقدر في عالم
التكوين:.....................٥٤
النقطة الثانية: البُعد القيمي
والأخلاقي التربوي:.....................٥٥
النقطة الثالثة: البُعد المعرفي
والمفاهيمي:.....................٥٦
الفقرة الثالثة: «بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ
اَلزُّهْدَ.....................٥٨
النقطة الأولى: الزهد في
الدنيا:.....................٥٨
النقطة الثانية: عالم
الذرِّ:.....................٦٠
النقطة الثالثة: علم الله
تعالى:.....................٦٠
الفقرة الرابعة:
«فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ، وَقَدَّمْتَ لَهُمُ اَلذِّكْرَ اَلْعَلِيَّ
وَاَلثَّناءَ اَلجَلِيَّ»..................٦٢
النقطة الأولى: قبول المشارطة
وثبوت الوفاء من أهل البيت (عليهم السلام) والتقديم من الله
تعالى:.....................٦٢
النقطة الثانية: أقرب
المقرَّبين:.....................٦٤
النقطة الثالثة: الذِّكر العليُّ
والثناء الجليُّ:.....................٦٥
الفقرة الخامسة:
«وَأَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَتَكَ، وَكَرَّمْتَهُمْ بِوَحْيِكَ»..................٦٥
النقطة الأولى: الملائكة وجودهم
وحقيقة معناهم:.....................٦٦
النقطة الثانية: ما هي أدوارهم،
وأصنافهم؟.....................٦٦
النقطة الثالثة: هل ينزلون على
غير الأنبياء؟.....................٦٩
النقطة الرابعة: محلُّ الملائكة
من الأنبياء والأولياء (عليهم السلام):.....................٧٠
النقطة الأولى: الرفد
بالعلم:.....................٧١
النقطة الثانية: «وجعلتهم الذريعة
إليك»:.....................٧٢
النقطة الثالثة: الوسيلة إلى
الرضوان:.....................٧٣
المبحث الثاني: خصائص الأنبياء
(عليهم السلام) ممَّن ذُكِرُوا في الدعاء.....................٧٧
الفقرة السابعة: «فَبَعْضٌ أَسْكَنْتَهُ
جَنَّتَكَ.....................٧٩
النقطة الأولى: إشارات تاريـخيَّة
إلى أهمّ خصائص ومقامات الأنبياء (عليهم السلام):.....................٧٩
قصَّة آدم (عليه
السلام):.....................٨٠
كيفيَّة خلقه (عليه
السلام):.....................٨٠
أين جنَّة آدم (عليه السلام) التي
خرج منها؟.....................٨٢
شبهة معصية آدم (عليه السلام)
وجوابها:.....................٨٣
شبهة التناسل في أبناء آدم (عليه
السلام) وجوابها:.....................٨٤
قصَّة نوح (عليه
السلام):.....................٨٨
اسمه (عليه السلام) وبعض
خصائصه:.....................٨٦
روايتان
عظيمتان:.....................٨٧
الرواية الأُولى: رواية الوصاية
في أعقاب الأنبياء وذراريهم:.....................٨٧
الرواية الثانية: شباهة الإمام
الحجَّة (عجَّل الله فرجه) بالنبيِّ نوح (عليه السلام):.....................٨٩
قصَّة إبراهيم خليل الرحمن (عليه
السلام):.....................٩١
قصَّة إبراهيم (عليه السلام) في
الروايات:.....................٩٢
فوائد من سيرة إبراهيم (عليه
السلام):.....................٩٣
مشابهة الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه) لإبراهيم (عليه السلام):.....................٩٣
الإمامة في إبراهيم (عليه السلام)
وذرّيَّته:.....................٩٤
شبهة الشكِّ في الله تعالى
وجوابها:.....................٩٨
شبهة كذب إبراهيم (عليه السلام)
والجواب عنها:.....................٩٩
قصَّة موسى كليم الربِّ (عليه
السلام):.....................١٠٠
قصَّة عيسى (عليه
السلام):.....................١٠٢
علَّة خلقه (عليه السلام) من غير
أب:.....................١٠٢
شباهة الإمام الحجَّة (عجَّل الله
فرجه) بعيسى (عليه السلام):.....................١٠٣
النقطة الثانية: أهمّيَّة هذه
الأدوار في التأثير على الإيمان واكتساب التديُّن:.....................١٠٣
المبحث الثالث: ضرورة إقامة
المنذر في كلِّ قوم.....................١٠٧
الفقرة الثامنة: «وَكُلٌّ شَرَعْتَ لَهُ
شَريعَةً.....................١٠٩
بيان معنى الشريعة
والمنهاج:.....................١٠٩
قاعدة في المقام: الشريعة تحتاج
إلى قانون ونظام:.....................١١٠
الاستحفاظ وتخيُّر الأوصياء من
مدَّة إلى مدَّة:.....................١١٢
قاعدة في المقام: وجود الشريعة
سُنَّة إلهيَّة:.....................١١٣
الفقرة التاسعة: «إِقَامَةً لِدينِكَ، وَحُجَّةً عَلَى
عِبَادِكَ.....................١١٥
بحث قرآني وروائي مرتبط بمقام
إقامة الحجَّة والهادي والمنذر:.....................١١٦
إشكاليَّة نفي عموم الإنذار
والجواب عنها:.....................١١٧
المبحث الرابع: اصطفاء النبيِّ
الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وخصائصه ووظائفه.....................١٢١
الفقرة العاشرة: «إِلَى أَنِ اِنْتَهَيْتَ بِالْأَمْرِ إِلَى
حَبِيبِكَ وَنَجِيبِكَ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله).....................١٢٣
النقطة الأولى: ضرورة
النبوَّة:.....................١٢٣
النبيُّ محمّد (صلّى الله عليه
وآله) أفضل الخلق جميعاً:.....................١٢٤
النقطة الثانية: خصائص الأنبياء
ونبوَّته (صلّى الله عليه وآله) بالخصوص:.....................١٢٥
الأُولى:
العصمة:.....................١٢٥
الثانية:
الوحي:.....................١٢٦
الثالثة: العلم الخاصُّ، وعلم
الغيب:.....................١٢٦
الرابعة: التنزُّه عن دناءة
الآباء وعهر الأُمَّهات:.....................١٢٦
الخامسة: سلامة
الخلقة:.....................١٢٧
السادسة: كمال
العقل:.....................١٢٧
وظائف الأنبياء (عليهم
السلام):.....................١٢٨
بعثة النبيِّ (صلّى الله عليه
وآله) عامَّة شاملة:.....................١٢٩
صفات النبيِّ (صلّى الله عليه
وآله) وآثارها:.....................١٣٠
الفقرة الحادية عشر:
«وَأَوْطَأتَهُ مَشَارِقَكَ وَمَغارِبَكَ، وَسَخَّرْتَ لَهُ
اَلْبُراقَ.....................١٣١
وطء النبيِّ (صلّى الله عليه
وآله) للمشارق والمغارب:.....................١٣١
البراق وآليَّات التسخير
الإلهيَّة:.....................١٣٣
العروج بالنبيِّ (صلّى الله عليه
وآله):.....................١٣٥
حقيقة العلم المودَع في النبيِّ
(صلّى الله عليه وآله):.....................١٣٦
المبحث الخامس: الدِّين الإسلامي
خاتم الأديان.....................١٣٩
الفقرة الثانية عشر:
«ثُمَّ نَصَرْتَهُ بِالرُّعْبِ، وَحَفَفْتَهُ بِجَبْرَئيلَ وَمِيكَائِيلَ
وَاَلمُسَوِّمِينَ مِنْ مَلَائِكَتِكَ.....................١٤١
النقطة الأولى: التسخير بالرعب
والنصر والإظهار بأهل البيت (عليهم السلام):.....................١٤١
النقطة الثانية: تبوُّء النبيِّ
(صلّى الله عليه وآله) مبوَّء الصدق:.....................١٤٣
الفصل الثاني: أهل البيت (عليهم
السلام) في دعاء الندبة (الخصائص، الآثار، الكمالات).....................١٤٥
المبحث الأوَّل: تفرُّع أهل البيت
(عليهم السلام) عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) وارتباطهم بإبراهيم (عليه
السلام).....................١٤٧
الفقرة الثالثة عشر: «وَجَعَلْتَ لَهُ وَلَهُمْ أَوَّلَ
بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ.....................١٤٩
النقطة الأولى: ما ورد عن أهل
البيت (عليهم السلام) في القرآن الكريم:.....................١٤٩
النقطة الثانية: ما ورد عنهم في
الروايات الشريفة:.....................١٥٠
أهمّيَّة المكان في
العقيدة:.....................١٥١
في أفضليَّة أرض
كربلاء:.....................١٥٢
ارتباط الإمام (عجَّل الله
فرجه) بالكعبة:.....................١٥٣
أهل البيت (عليهم السلام) ودعوة
إبراهيم (عليه السلام):.....................١٥٣
المبحث الثاني: آية التطهير
وتمييز أهل البيت (عليهم السلام).....................١٥٧
الفقرة الرابعة عشر:
«وَقُلْتَ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾..................١٥٩
تمهيد:.....................١٥٩
النقطة الأولى: تفسير آية
التطهير روائيًّا وحصرها بأهل البيت (عليهم السلام):.....................١٦٠
النقطة الثانية: الإرادة
الإلهيَّة في إذهاب الرجس:.....................١٦٢
هل آية التطهير تشمل غير أهل
البيت (عليهم السلام)؟.....................١٦٤
الفقرة الخامسة عشر: «ثُمَّ جَعَلْتَ أَجْرَ مُحَمَّدٍ
صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَوَدَّتَهُمْ فِي كِتَابِكَ.....................١٦٥
الأوَّل: الأجر على مودَّة
الأمَّة لأهل البيت (عليهم السلام):.....................١٦٦
الثاني: الأجر هو
للناس:.....................١٦٨
الثالث: الأجر هو اتِّخاذ
الإسلام الحقيقي سبيلاً لله تعالى:.....................١٦٩
اتِّخاذ السُّبُل إلى الله
تعالى وتهمة الشرك:.....................١٧٠
المبحث الثالث: إمامة أمير
المؤمنين (عليه السلام) هي السبيل الوحيد للارتباط بالله بعد النبيِّ (صلّى الله
عليه وآله).....................١٧١
الفقرة السادسة عشر: «فَلَمَّا اِنْقَضَتْ أَيَّامُهُ
أَقَامَ وَلِيَّهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِمَا وَآلِهمَا)
هَادِياً.....................١٧٣
خصائص خطِّ
الهداية:.....................١٧٣
خصائص وصفات الخليفة بعد
النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله):.....................١٧٥
أنْ يكون هو الهادي بعد النبيِّ
(صلّى الله عليه وآله):.....................١٧٥
إخراج الناس عن ولاية أمير
المؤمنين (عليه السلام) من مصاديق القتل العمد:.....................١٧٦
أهل البيت (عليهم السلام)
الحجَّة على العباد:.....................١٧٧
المخالف قبل الموالي يُقِرُّ
بأهميَّة الإمامة في الدِّين وبضرورتها:.....................١٧٧
أهل البيت (عليهم السلام) قوام
الدِّين:.....................١٧٩
بقاء الحقِّ في الأمَّة ببقاء
الإمام (عليه السلام):.....................١٧٩
سُنَّة إرسال الرُّسُل والهداية
في كلِّ أُمَّة:.....................١٨٠
الإمام عليٌّ (عليه السلام) هو
الوليُّ بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله):.....................١٨٢
أمير المؤمنين وأهل البيت
(عليهم السلام) من شجرة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله):.....................١٨٣
إحلال النبيِّ (صلّى الله عليه
وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) محلَّه كما أحلَّ موسى هارون (عليهما السلام)
محلَّه:.....................١٨٤
المبحث الرابع: خصائص فاطمة
الزهراء (عليها السلام) ومقامها وكونها كفؤاً لعليٍّ (عليه
السلام).....................١٨٧
الفقرة السابعة عشر:
«وَزَوَّجَهُ اِبْنَتَهُ سَيِّدَةَ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ»..................١٨٩
المبحث الخامس: بعض خصائص
وفضائل أمير المؤمنين (عليه السلام).....................١٩١
الفقرة الثامنة عشر: «وَأَحَلَّ لَهُ مِنْ مَسْجِدِهِ مَا
حَلَّ لَهُ، وَسَدَّ اَلْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَهُ.....................١٩٣
اشتراك النبيِّ (صلّى الله عليه
وآله) والوليِّ (عليه السلام) في خصائص محدَّدة من المسجد
النبوي:.....................١٩٤
إيداع العلم والحكمة النبويَّة
في الإمام (عليه السلام):.....................١٩٥
أهل البيت (عليهم السلام) عندهم
علم الكتاب:.....................١٩٥
علومهم (عليهم السلام) آثار من
رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويتوارثونها بينهم:.....................١٩٦
الإمام (عليه السلام) أخو
النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) ووصيُّه ووارثه:.....................١٩٧
الإيمان مخالط للحم ودم أمير
المؤمنين (عليه السلام) كما خالط لحم ودم رسول الله (صلّى الله عليه
وآله):.....................١٩٨
الإمام (عليه السلام) خليفة
النبيِّ (صلّى الله عليه وآله)، ومنجز عداته:.....................٢٠٠
مجاورة شيعة الإمام (عليه
السلام) للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله):.....................٢٠٠
الفقرة التاسعة عشر: «وَلَوْلَا أَنْتَ يَا عَلِيُّ لَمْ
يُعْرَفِ اَلمُؤْمِنُونَ بَعْدِي.....................٢٠١
بالإمام (عليه السلام) يُعرَف
أهل الإيمان:.....................٢٠٢
الإمام (عليه السلام) الهادي من
الضلال وحبل الله المتين وصراطه المستقيم:.....................٢٠٥
الإمام (عليه السلام) يدافع عن
الدِّين:.....................٢٠٩
المبحث السادس: كيد أعداء
الإسلام لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي أهل
بيته (عليهم السلام).....................٢١٣
الفقرة العشرون:
«فَأَضَبَّتْ عَلَى عَدَاوَتِهِ، وَأَكَبَّتْ عَلَى مُنَابَذَتِهِ»..................٢١٥
تظاهر الأمَّة على عليٍّ (عليه
السلام) بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبكاؤه عليه:.....................٢١٧
الفقرة الحادية والعشرون:
«حَتَّى قَتَلَ اَلنَّاكِثِينَ وَاَلْقَاسِطِينَ وَاَلمَارِقِينَ»..................٢١٨
إخبار أمير المؤمنين (عليه
السلام) عن صفِّين والنهروان:.....................٢٢١
المبحث السابع: ما وقع على أهل
البيت (عليهم السلام) بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) وبعد أمير المؤمنين (عليه
السلام) من أنواع البلاء.....................٢٢٣
الفقرة الثانية والعشرون: «وَلَمَّا قَضَى نَحْبَهُ
وَقَتَلَهُ أَشْقَى اَلْآخِرِينَ يَتْبَعُ أَشْقَى
اَلْأَوَّلِينَ.....................٢٢٥
سُنَّة قتل الهداة والأولياء
سُنَّة قديمة:.....................٢٢٦
أمير المؤمنين (عليه السلام)
السدُّ المنيع عن التعدِّي على أهل البيت (عليهم السلام):.....................٢٢٦
بين الأمر بلزوم المتابعة لأمير
المؤمنين والعترة الطاهرة (عليهم السلام) وبين شدَّة
الإقصاء:.....................٢٢٧
ما جرى على أمير المؤمنين وأهل
بيته (عليهم السلام) في النصوص الروائيَّة والتأريـخيَّة:.....................٢٢٧
روايات الدفن في
الغريِّ:.....................٢٣٠
شبهة مقابل
بديهة:.....................٢٣٣
الفقرة الرابعة والعشرون: «إِلَّا اَلْقَلِيلَ مِمَّنْ وَفَى
لِرِعَايَةِ اَلحَقِّ فِيهِمْ.....................٢٣٨
الفقرة الخامسة والعشرون: «إِذْ كَانَتِ اَلْأَرْضُ لله
يُورِثُها مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَاَلْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقينَ.....................٢٤٢
أهمّيَّة استعراض مسيرة
الأئمَّة (عليهم السلام) في التضحية وبناء العقيدة
الحقَّة:.....................٢٤٢
المبحث الثامن: ما ينبغي
للمؤمنين تجاه أهل البيت (عليهم السلام) في مواساتهم بما حلَّ
فيهم.....................٢٤٧
الفقرة السادسة والعشرون:
«فَعَلَى اَلْأَطائِبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صَلَّى اَللهُ
عَلَيْهِمَا وَآلهِمَا) فَلْيَبْكِ اَلْبَاكُونَ.....................٢٤٩
البكاء على الأطائب من أهل
البيت (عليهم السلام):.....................٢٤٩
مشروعيَّة البكاء خصوصاً على
سيِّد الشهداء وأهل البيت والصدِّيقة الطاهرة (عليهم
السلام):.....................٢٥٣
الجهة الأُولى: الروايات
الشريفة تُجيز البكاء:.....................٢٥٤
الجهة الثانية: البكاء على
الميِّت مباح وجائز شرعاً:.....................٢٥٤
الجهة الثالثة: الإجماع على
جوازه، بل التواتر:.....................٢٥٥
الفقرة السابعة والعشرون: «وَلِمثْلِهِمْ فَلْتُذْرَفِ
(فَلْتَدَرِ) اَلدُّمُوعُ، وَلْيَصْرُخِ اَلصَّارِخُونَ.....................٢٥٦
ذرف الدموع على مصائب أهل البيت
(عليهم السلام):.....................٢٥٦
ضجيج النفوس المكلومة
بالألم:.....................٢٥٨
نداء: أين الحسين (عليه
السلام)؟.....................٢٦١
الفقرة الثامنة والعشرون: «صَالِحٌ بَعْدَ صَالِحٍ،
وَصَادِقٌ بَعْدَ صَادِقٍ.....................٢٦٣
البيان الإجمالي
للفقرة:.....................٢٦٣
«صَالِحٌ بَعْدَ
صَالِحٍ»......................٢٦٦
«صَادِقٌ بَعْدَ
صَادِقٍ»......................٢٦٧
«أَيْنَ اَلسَّبِيلُ بَعْدَ
اَلسَّبِيلِ»......................٢٦٨
«أَيْنَ اَلْخِيَرَةُ بَعْدَ
اَلْخِيَرَةِ»......................٢٧٠
«أَيْنَ اَلشُّمُوسُ
اَلطَّالِعَةُ، أَيْنَ اَلْأَقْمَارُ اَلمُنِيرَةُ»......................٢٧١
«أَيْنَ اَلْأَنْجُمُ
اَلزَّاهِرَةُ»......................٢٧٢
«أَيْنَ أَعْلَامُ اَلدِّينِ
وَقَوَاعِدُ اَلْعِلْمِ»......................٢٧٤
الفصل الثالث: الندبة للإمام
(عجَّل الله فرجه).....................٢٧٥
المبحث الأوَّل: صفات الإمام
(عليه السلام) في الدعاء وما تفرَّع عليها من خصائص وآثار
ودلالات.....................٢٧٧
الفقرة التاسعة والعشرون:
«أَيْنَ بَقِيَّةُ اَلله اَلَّتي لَا تَخْلُو مِنَ اَلْعِتْرَةِ
اَلهَادِيَةِ»..................٢٧٩
النقطة الأولى: عدم خلوِّ الأرض
من إمام معصوم من أهل البيت (عليهم السلام):.....................٢٨٠
النقطة الثانية: هل يمكن اللقاء
بالإمام (عجَّل الله فرجه)؟ وأين موطن الإمام (عجَّل الله فرجه) بعد
غيبته؟.....................٢٨٣
الفقرة الثلاثون: «أَيْنَ اَلمُعَدُّ لِقَطْعِ دَابِرِ
اَلظَّلَمَةِ.....................٢٨٥
المعدُّ لقطع دابر
الظلمة:.....................٢٨٦
هل الإمام آلة للقتل
والحرب؟.....................٢٨٨
حالة الانتقام في روايات الظهور
لا تنسجم مع العدل الإلهي:.....................٢٨٩
هل يهاجم الدعاء
العرب؟.....................٢٩٠
حال العرب في لسان روايات
المستقبل عند السُّنَّة:.....................٢٩١
«أَيْنَ اَلمُنَتَظَرُ
لِإِقَامَةِ اَلْأَمْتِ وَاَلْعِوَجِ»......................٢٩٢
انتظار خروجه (عجَّل الله فرجه)
صباحاً ومساءً:.....................٢٩٢
آثار تُسجِّلها الروايات
الشريفة للمنتظِر والانتظار:.....................٢٩٣
حقيقة التنزيل
للانتظار:.....................٢٩٥
كيف يتحقَّق
الانتظار؟.....................٢٩٦
مقام
المنتظِرين:.....................٢٩٨
«أَيْنَ اَلمُرْتَجَى
لِإِزَالَةِ اَلجَوْرِ وَاَلْعُدْوَانِ»......................٢٩٩
التفكير الإستراتيجي في طريق
العقيدة المهدويَّة:.....................٣٠٠
إشكاليَّة تعطيل حدود الكتاب
ومعالم الدِّين:.....................٣٠٢
«أَيْنَ مُبيدُ أَهْلِ
اَلْفُسُوقِ وَاَلْعِصْيَانِ وَاَلطُّغْيَانِ»......................٣٠٧
«أَيْنَ حَاصِدُ فُرُوعِ
اَلْغَيِّ وَاَلشِّقَاقِ»......................٣٠٩
«اَيْنَ طَامِسُ آثَارِ
اَلزَّيْغِ وَاَلْأَهْوَاءِ»......................٣١١
طمس الإمام (عجَّل الله فرجه)
لأهل الزيغ لغة رجعيَّة لا تنسجم مع تعاليم الدِّين:.....................٣١٣
الفقرة الحادية والثلاثون: «أَيْنَ مُعِزُّ اَلْأَوْلِيَاءِ
وَمُذِلُّ اَلْأَعْدَاءِ.....................٣١٤.
«أَيْنَ مُعِزُّ
اَلْأَوْلِيَاءِ وَمُذِلُّ اَلْأَعْدَاءِ»......................٣١٥
«أَيْنَ جَامِعُ اَلْكَلِمَةِ
(اَلْكَلِمِ) عَلَى اَلتَّقْوَى»......................٣١٨
«أَيْنَ بَابُ اَلله اَلَّذِي
مِنْهُ يُؤْتَى، أَيْنَ وَجْهُ اَلله اَلَّذِي إِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ
اَلْأَوْلِيَاءُ»......................٣٢٠
وجه
الأولياء:.....................٣٢٢
الروايات الشريفة تسفر عن معنى
كون الإمام (عليه السلام) هو الوجه واليد:.....................٣٢٢
نزول البركات على يد الحجَّة
(عجَّل الله فرجه) لا ينافي حجّيَّة الأئمَّة (عليهم السلام) والرسول (صلّى الله
عليه وآله):.....................٣٢٤
«أَيْنَ اَلسَّبَبُ
اَلمُتَّصِلُ بَيْنَ اَلْأَرْضِ وَاَلسَّمَاءِ»......................٣٢٦
الوسائط بين السماء والأرض منهج
إلهي:.....................٣٢٨
«صَاحِبُ يَوْمَ
اَلْفَتْحِ»......................٣٣٠
خطوات في طريق يوم
الفتح:.....................٣٣١
كيف يعرف الإمام (عجَّل الله
فرجه) أنَّ وقت خروجه قد حان؟.....................٣٣١
كيف يمكن لنا أنْ نعرفه (عجَّل
الله فرجه) إذا خرج؟.....................٣٣٢
علامات الظهور من أين جاءت؟ وما
هي دلالتها؟.....................٣٣٣
تقسيم العلامات إلى المحتوم
وغيره:.....................٣٣٤
العلامات
المحتومة:.....................٣٣٥
العلامات غير
الحتميَّة:.....................٣٣٧
أين يكون الإمام (عجَّل الله
فرجه) أوائل ظهوره؟.....................٣٣٩
اجتماع الـ
(٣١٣):.....................٣٣٩
خطبة الإمام (عجَّل الله فرجه)
في مكَّة:.....................٣٤٠
بلوغ ملكه جميع
الأرض:.....................٣٤٠
أيُّها الموالي لا تُوقِّت
وتُطبِّق ما لم تجزم:.....................٣٤١
التوقيت وأدلَّة
ذمِّه:.....................٣٤٢
تطابق الأسماء لا يعني
العلاميَّة:.....................٣٤٥
الإمام (عجَّل الله فرجه) هو
الساعة:.....................٣٤٦
عنصر المفاجأة في
الظهور:.....................٣٤٧
علاميَّة الصيحة بعيدة عن
التلاعب:.....................٣٤٧
الاستعداد التامُّ لظهور الإمام
(عجَّل الله فرجه) بلا توقيت وتطبيق:.....................٣٤٨
تأثير الفرد المهدوي في
المجتمع:.....................٣٤٩
«نَاشِرُ رَايَةِ
اَلهُدَى»......................٣٥٠
«مُؤَلِّفُ شَمْلِ اَلصَّلَاحِ
وَاَلرِّضَا»......................٣٥٢
بعض خصائص دولة الصلاح
والرضا:.....................٣٥٣
* إقامة العدل، والحكم بين أهل
الأديان في بداية الدولة بكُتُبهم:.....................٣٥٤
* اكتمال العقول وانتشار دين
الإسلام:.....................٣٥٤
* كثرة البركات وطول
الأعمار:.....................٣٥٥
* يُعلِّم الأحكام والقرآن كما
نزل:.....................٣٥٥
* إخراج العلم المكنون وبثُّه
بين الناس:.....................٣٥٥
* اختلاف حساب السنين ونزول
الملائكة على المؤمنين وخدمتهم لهم:.....................٣٥٦
شبهة حكم المهدي (عجَّل الله
فرجه) بغير شريعة الإسلام وجوابها:.....................٣٥٦
شبهة أنَّ دولة الإمام المهدي
(عجَّل الله فرجه) تخالف أحكام الإسلام:.....................٣٥٨
شبهة أنَّ الإمام المهدي (عجَّل
الله فرجه) سيُغيِّر كتاب الله (عزَّ وجلَّ):.....................٣٥٩
«أَيْنَ اَلطَّالِبُ بِدَمِ
اَلمَقْتُولِ بِكَرْبَلَاءِ»......................٣٦١
إشكاليَّة الثأر بطلب دم الإمام
الحسين (عليه السلام) من قِبَل الإمام الحجَّة (عجَّل الله
فرجه):.....................٣٦٢
الثأر عند الأمَم ومراحل
تطوُّره:.....................٣٦٣
الثأر مقولة
حقٍّ:.....................٣٦٥
الثأر والقصاص عند أهل
الكتاب:.....................٣٦٥
روايات القصاص في كتاب (وسائل
الشيعة):.....................٣٦٧
الثأر وعقوبة الإعدام في
مسلاَّت القوانين:.....................٣٦٨
مقوِّمات بناء الدولة في
الإسلام وعلاقتها بما جرى على سيِّد الشهداء (عليه
السلام):.....................٣٦٨
انحراف مسار الدولة بعد رحيل
النبيِّ (صلّى الله عليه وآله):.....................٣٦٩
الحركة الحسينيَّة والبناء
الدِّيني لإصلاح المنظومة الفكريَّة والسلوكيَّة للمجتمع:.....................٣٧٢
الشُّبُهات المثارة حول الثأر
المهدوي:.....................٣٧٥
الشبهة الأُولى: الثأر المهدوي
نزاع بين قبيلتين:.....................٣٧٥
الشبهة الثانية: أهل البيت
(عليهم السلام) بيت الرحمة والعفو، وهذا لا ينسجم مع الثأر
والانتقام:.....................٣٧٦
الشبهة الثالثة: لو قتل أهل
الأرض لم يكن مسرفاً وجوابها:.....................٣٨٠
الشبهة الرابعة: رجحان العفو
واستحبابه ينافي الأخذ بالثأر وجوابها:.....................٣٨١
الشبهة الخامسة: الثأر يُشكِّل
أزمة خطاب عالمي:.....................٣٨١
الشبهة السادسة: لماذا لا يثأر
الشيعة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ويقتصرون على الثأر للحسين (عليه
السلام)؟.....................٣٨٣
الشبهة السابعة: الثأر مخالف
للسيرة العقلائيَّة:.....................٣٨٥
الخاتمة:.....................٣٨٦
«أَيْنَ اَلمَنْصُورُ عَلَى
مَنِ اِعْتَدَى عَلَيْهِ وَاِفْتَرَى»......................٣٨٨
مراتب
النصرة:.....................٣٨٨
ليست النصرة غيبيَّة
محضة:.....................٣٨٩
النصرة للإمام (عليه السلام) في
كلمات الأعلام:.....................٣٩٠
نصرة
العاجز:.....................٣٩١
«أَيْنَ اَلمُضْطَرُّ اَلَّذِي
يُجَابُ إِذَا دَعَا»......................٣٩٣
حديث من قلب كلِّ
مؤمن:.....................٣٩٤
«أَيْنَ صَدْرُ
اَلخَلَائِقِ»......................٣٩٦
«أَيْنَ اِبْنُ اَلنَّبِيِّ
اَلمُصْطَفَى، وَاِبْنُ عَلِيٍّ اَلمُرْتَضَى، وَاِبْنُ خَدِيجَةَ اَلْغَرَّاءِ،
وَاِبنُ فَاطِمَةَ اَلْكُبْرَى»......................٣٩٧
المبحث الثاني: ارتباط الإمام
المهدي (عجَّل الله فرجه) بأجداده الطاهرين (عليهم السلام).....................٣٩٩
الفقرة الثانية والثلاثون: «يَا اِبْنَ اَلسَّادَةِ
اَلمُقَرَّبِينَ، يَا اِبْنَ اَلنُّجَبَاءِ اَلْأَكْرَمِينَ.....................٤٠١
الأنساب أُصول هذا
العالم:.....................٤٠٣
معنى
النَّسَب:.....................٤٠٤
من الآثار المترتِّبة على
النَّسَب:.....................٤٠٤
المبحث الثالث: افتداء الداعي
للإمام (عجَّل الله فرجه) بنفسه، ولوعة الفراق والشوق إلى اللقاء وتهيئة نفسه
لاستقبال الإمام (عجَّل الله فرجه) وتصوير ظهوره.....................٤٠٧
الفقرة الثالثة والثلاثون: «لَيْتَ شَعْرِي أَيْنَ
اِسْتَقَرَّتْ بِكَ اَلنَّوَى، بَلْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ
ثَرَى.....................٤٠٩
«لَيْتَ شَعْرِي أَيْنَ
اِسْتَقَرَّتْ بِكَ اَلنَّوَى»......................٤١٠
«أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ
ثَرَى»......................٤١٢
«عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَى
اَلخَلْقَ وَلَا تُرَى»......................٤١٣
«بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ
مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا»......................٤١٤
عين الله تعالى في
خلقه:.....................٤١٧
«عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ تُحِيطَ
بِكَ دُونِيَ اَلْبَلْوَى»......................٤٢٣
«بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نَازِحٍ
مَا يَنْزَحُ [نَزَحَ] عَنَّا»......................٤٢٦
«بِنَفْسِي أَنْتَ أُمْنِيَةِ
شَائِقٍ يُتَمَنَّى»......................٤٣١
«بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ عَقِيدِ
عِزٍّ لَا يُسَامَى»......................٤٣١
«إِلَى مَتَى أَحَارُ فِيكَ يَا
مَوْلَايَ»......................٤٣٢
«هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلُ
مَعَهُ اَلْعَوِيلَ وَاَلْبُكَاءَ»......................٤٣٣
«مَتَى نَرِدُ مَنَاهِلَكَ
اَلرَّوِيَّةَ فَنَرْوَى»......................٤٣٤
«مَتَى تَرَانَا وَنَرَاكَ
وَقَدْ نَشْرَتَ لِوَاءَ اَلنَّصْرِ»......................٤٣٤
«أَتَرَانَا نَحُفُّ بِكَ
وَأَنْتَ تَؤُمُّ اَلمَلَأَ»......................٤٣٥
نظرة المؤمن
للحياة:.....................٤٣٧
«وَقَدْ مَلَأْتَ اَلْأَرْضَ
عَدْلاً، وَأَذَقْتَ أَعْدَاءَكَ هَوَاناً وَعِقَاباً، وَأَبَرْتَ اَلْعُتَاةَ
وَجَحَدَةَ اَلحَقِّ، وَقَطَعْتَ دَابِرَ اَلمُتَكَبِّرِينَ، وَاِجْتَثَثْتَ
أُصُولَ اَلظَّالِمِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: اَلحَمْدُ لله رَبِّ
اَلْعَالَمِينَ»......................٤٤٠
حكومة المستقرِّ وخاتمة
الأمر:.....................٤٤١
اليوم العالمي للقيام
المهدوي:.....................٤٤٤
المبحث الرابع: التوسُّل
بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله) والأئمَّة (عليهم السلام) والصدِّيقة الطاهرة
(عليها السلام) لتعجيل فرج المولى (عجَّل الله فرجه) والدعاء لامتثال أوامره وطاعته
وتحقيق رغبته (عجَّل الله فرجه)، والختم بالدعاء لقبول الأعمال وقضاء الحوائج
الدنيويَّة والأخرويَّة بوساطة الإمام (عجَّل الله فرجه).....................٤٤٧
الفقرة الرابعة والثلاثون: «اَللَّهُمَّ أَنْتَ كَشَّافُ
اَلْكُرَبِ [اَلْكُرُوبِ] وَاَلْبَلْوَى..................٤٤٩
«اَللَّهُمَّ أَنْتَ كَشَّافُ
اَلْكُرَبِ وَاَلْبَلْوَى، وَإِلَيْكَ أَسْتَعْدِي فَعِنْدَكَ اَلْعَدْوَى،
وَأَنْتَ رَبُّ اَلْآخِرَةِ واَلْأُولَى»......................٤٥٠
«فَأَغِثْ يَا غِيَاثَ
اَلمُسْتَغِيثِينَ عُبَيْدَكَ اَلمُبْتَلَى، وَأَرِهِ سَيِّدَهُ يَا شَدِيدَ
اَلْقُوَى، وَأَزِلْ عَنْهُ بِهِ اَلْأَسَى وَاَلجَوَى، وَبَرِّدْ غَلِيلَهُ يَا
مَنْ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى، وَمَنْ إِلَيْهِ اَلرُّجْعَى
وَاَلمُنْتَهَى»......................٤٥٢
«اَللَّهُمَّ وَنَحْنُ
عَبِيدُكَ اَلتَّائِقُونَ إِلَى وَلِيِّكَ، اَلمُذَكِّرِ بِكَ وَبِنَبِيِّكَ،
خَلَقْتَهُ لَنَا عِصْمَةً وَمَلَاذاً، وَأَقَمْتَهُ لَنَا قَوَاماً وَمَعَاذاً،
وَجَعَلْتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَّا إِمَاماً، فَبَلِّغْهُ مِنَّا تَحِيَّةً
وَسَلَاماً، وَزِدْنَا بِذَلِكَ يَا رَبِّ إِكْرَاماً، وَاجْعَلْ مُسْتَقَرَّهُ
لَنَا مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً، وَأَتْمِمْ نِعْمَتَكَ بِتَقْدِيمِكَ إِيَّاهُ
أَمَامَنَا، حَتَّى تُورِدَنَا جِنَانَكَ، وَمُرَافَقَةَ اَلشُّهَدَاءِ مِنْ
خُلَصَائِكَ»......................٤٥٣
المصادر
والمراجع.....................٤٥٥
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدَّمة
المركز:
الدُّعَاءُ مِفتاحُ الرَّجاءِ، وسلاحُ الأرواحِ السَّامية، ووسيلةُ العبدِ إلى
مولاهُ حينَ تنقطعُ بهِ السُّبُل، وتضيقُ بهِ الدُّنيا بما رحُبَت.
ليسَ الدُّعاءُ مجرَّدَ ألفاظٍ تُردَّدُ أو عباراتٍ تُستعاد، بل هو معراجُ القلبِ
إلى السَّماءِ، وسبيلُ الإنسانِ إلى كشفِ الضرِّ وجلبِ الخيرِ، وتوثيقِ الصِّلةِ
بالخالقِ (جلَّ شأنُه)، يكفي أنَّ الصلة الوثيقة التي تربط بين العبد وربِّه، والتي
تجعل الباري (جلَّ وعلا) يعبأ بالعبد هو الدعاء، قال تعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ
بِكُمْ رَبِّي لَوْ لَا دُعَاؤُكُمْ﴾ (الفرقان: ٧٧).
هذا، وإنَّ من أهمّ ما تميَّز به مذهب أهل البيت (عليهم السلام) هو ثراؤه بنصوص
الأدعية التي غطَّت مختلف جوانب الحياة، فلا تجد حاجة في حاجات الدنيا إلَّا
وللمعصوم فيها دعاء خاصٌّ، حتَّى إنَّك لن تُعدَم أدعية في أبسط الحاجات إلى
أعظمها، الأمر الذي أغنانا عن اختراع الأدعية من جهة، وضمن لنا مفتاحاً لفتح أبواب
الإجابة.
ومن اللَّافت للنظر، أنَّ أدعية أهل البيت (عليهم السلام) لم تقتصر على طلب الحوائج
وبطريقة التعبُّد المحض، والذي لا هدف وراءه سوى تحصيل الثواب وقضاء الحوائج،
كلَّا، وإنَّما اشتملت الأدعية على معارف متنوِّعة متعلِّقة بالدِّين ومفاهيمه
ومفاصله، وبالرجوع إلى الظروف المحيطة بأهل البيت (عليهم السلام) آنذاك، قد نكتشف
أنَّ كمًّا كبيراً من بثِّ تلك المفاهيم ضمن الأدعية كان مقصوداً
لهم (عليهم
السلام)، ومن هنا، فإنَّ (الفهارس الموضوعيَّة) قد كشفت أنَّ الأدعية الواردة عنهم
(عليهم السلام) قد غطَّت الكثير من المفاهيم الدِّينيَّة بأُسلوب الدعاء.
هذا، وقد سَطعت في تراثنا أدعيةٌ عميقةُ المعنى، بليغةُ المبنى، جمعت بين الخضوعِ
والخشوع، والاعترافِ بالعجزِ، والإقرارِ بقدرةِ اللهِ وعظمتهِ، حتَّى غدت مدارسَ
روحيَّةً وفكريَّةً قائمةً بذاتِها، كما في أدعيةِ الصحيفةِ السجَّاديَّةِ، وعموم
أدعيةِ المعصومين (عليهم السلام).
ومع هذا العمقِ الروحيِّ والبيانيِّ، تبرزُ الحاجةُ الماسَّةُ إلى (شروحِ الأدعية)،
فهي التي تُجلِّي أسرارَ العباراتِ، وتُبيِّنُ المقاصدَ العقائديَّةَ والفقهيَّةَ
والتربويَّةَ الكامنةَ خلفَ كلِّ فقرةٍ.
فالدعاءُ - في كثيرٍ من الأحيانِ كما أشرنا - يحملُ في طيَّاتهِ إشاراتٍ إلى
التوحيدِ، والعدلِ، والنبوَّةِ، والمعادِ، والإمامةِ، كما يربطُ المضمونَ الروحيَّ
بالمواقفِ العمليَّةِ، والتكليفِ الشرعيِّ اليوميِّ.
لذا فإنَّ شروحَ الأدعيةِ تُعَدُّ جسوراً معرفيَّةً بينَ المتلقِّي ونصوصِ الدعاءِ،
تُعينُهُ على التذوُّقِ الواعي، وتُكسِبُهُ فهماً نفسيًّا وروحيًّا وفقهيًّا
عميقاً، فيتحوَّلُ الدعاءُ من طقسٍ شكليٍّ إلى مدرسةٍ في العقيدةِ والتزكيةِ
والسلوكِ.
ومن بين تلك الأدعية ذات المضامين العالية، هو دعاء الندبة المبارك، الذي عدَّه
العلماء أحد أهمّ الأدعية التي ينبغي للمؤمن التزامها زمن الغيبة الكبرى للإمام
المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهو ممَّا يُقرَأ في متنوَّع المناسبات الدِّينيَّة
والأعياد الإسلاميَّة المهمَّة، بدءاً من يوم الجمعة، مروراً بعيدي الفطر والأضحى،
وانتهاءً بيوم الغدير عيد الله الأكبر.
هذا الكتاب الذي بين يديك، جهد مبارك قام به سماحة الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي،
عمد فيه إلى متابعة كلمات الدعاء المبارك، وشرحها
بالتفصيل، وتنقيط الإفادات
العقائديَّة والفقهيَّة وغيرها، ولم يألُ جهداً في تتبُّع ما يُمكن أنْ يُثار من
إشكالات أو شُبَهٍ في أيِّ فقرة منه، ضمن مباحث ونقاط متعدِّدة، ممَّا نأمل أنْ
يملأ فراغاً في مكتبة شروح الأدعية عموماً، والأدعية المهدويَّة خصوصاً، نسأل الله
تعالى أنْ يُوفِّق أخانا الفاضل لما فيه مرضاته، وأنْ يجعله له ولنا ذخراً في يوم
لا ينفع مال ولا بنون، إلَّا مَنْ أتى الله بقلب سليم.
ونحن، إذ نُقدِّم هذا الكتاب للقارئ الكريم، ندعو جميع الكُتَّاب والمثقَّفين، إلى
أنْ يُشمِّروا عن ساعد الجدِّ في شرح وبيان الأدعية والروايات والزيارات المهدويَّة،
وبمتنوَّع الطُّرُق المنهجيَّة، وسنكون مستعدِّين لمتابعة كتاباتهم وتحقيقها وصولاً
إلى إخراجها وطباعتها فنشرها، خدمةً لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ومولانا
الإمام الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه).
مركز الدراسات التخصُّصيَّة
في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
(١٤٤٧هـ)
قال الإمام الرضا (عليه السلام): «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ اَلمُنْعِمَ مِنَ
اَلمَخْلُوقِينَ لَمْ يَشْكُرِ اَللهَ (عزَّ وجلَّ)»(١).
أتقدَّم بالشكر الجزيل، والثناء الجميل لكلِّ مَنْ كان عوناً في هذا العمل، سواء
بالتشجيع ورفع الهمَّة وتقوية العزيمة، أو بالدعاء والسؤال والحثِّ على المواصلة،
رغم العوائق العديدة والمشاغل الكثيرة، إلَّا أنَّهم كانوا نعم السند طيلة هذه
الفترة وهي ليست بالقليلة، راجياً الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يشملنا جميعاً بلطيف
رعايته وجميل عنايته، وأنْ نكون مصداقاً لمن يُصنَع على عينه.
* * *
-----------------
(١) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ٢٧/ باب ٣١/ ح ٢).
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدَّمة
المؤلِّف:
هذا الشرحُ رحلةٌ في أعماق (دعاء الندبة)، ذاك الدعاء الذي لا يُتلى إلَّا وفيه
حزنُ قلبٍ، أو دمعُ عين، أو حنينُ روحٍ ظمأى إلى الإمام الغائب المنتظَر (عجَّل
الله فرجه)، فهو نداءٌ من زمنٍ مكلوم، وصدى لعقيدةٍ لا تموت، وبوحُ أرواحٍ اختزلت
وجدانها في نداء: أين الحسين؟ أين ابن الحسن؟
وقد آثرنا أنْ نفتتح هذا الشرح بتمهيدٍ نُلقي فيه الضوء على قيمة الدعاء في ذاته،
لا بوصفه التماساً لحاجةٍ فحسب، بل باعتباره سرَّ العروج، ولسان الولاية، ومدار
الوصل بين الأرض والسماء، ثمّ نُخصِّص الحديث للدعاء المهدوي، بما هو صوتُ الغيبة
الناطق، ومرآةُ الانتظارِ الصادق، ومجمعُ حنينِ الوالهين حين تكتحل أرواحهم بذكْر
الإمام الذي غاب جسدُه وبقيتْ أنفاسه تنبض في قلوب أوليائه.
ثمّ نمضي مع الدعاء في مراحله الثلاث، فنبدأ بفصلٍ تتكشَّف فيه أنوار النبوَّة، إذ
يستعرض مقام الأنبياء (عليهم السلام) بوصفهم جُسوراً ممتدَّة بين الخلق والخالق،
ويُبيَّن كيف كانت المشارطة الإلهيَّة مع كلِّ نبيٍّ عهداً من نور، مَنْ وفى به
رفعه الله تعالى، وكيف تجلَّى هذا الوفاء في صفوتهم، محمّد (صلَّى الله عليه وآله)،
الذي اصطفاه الله (عزَّ وجلَّ) على العالمين، وختم به الرسالات، وأودع فيه جوهر
الدِّين الذي لا يزول.
حين تتأمَّل دعاء الندبة، تكتشف أنَّ بداياته ليست استهلالاً مجرَّداً، بل إطلالة
على شرف النبوَّة من بابها الأعلى: من باب العهد الإلهي، والمشارطة
المقدَّسة،
والمِيثاق الذي لم يُعقَد على ورق، بل خُطَّ على صفحات الأرواح الطاهرة. فالله
تعالى لم يجعل النبوَّة عطيَّةً مجرَّدة من الشرط، بل قرنها بعهدٍ بينه وبين
المصطفَين من عباده، يُبايعون فيه على طهارة النفس، وصدق السير، وتحمُّل التكاليف
الجسام، فيكونون للسماء أُمناء، وعلى الأرض خلفاء.
ثمّ ينعطف الدعاء نحو ذرّيَّة النبوَّة، أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، فيجري
ذكرهم جري الماء في العروق، متفرِّعين عن دوحة المصطفى (صلَّى الله عليه وآله)،
ومتَّصلين بسلالة الخليل إبراهيم (عليه السلام)، مشرَّعين بآيتي التطهير والمودَّة،
مبيَّنين فيهم أنَّ السبيل إلى الله (عزَّ وجلَّ)، بعد رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله)، لا يكون إلَّا بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنَّ نور الإمامة
استمرَّ من فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وأنَّ الكيد الذي وُجِّه للنبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله)، كان من حيث أرادوا ضرب أهل بيته (عليهم السلام)، وأنَّ البلاء
الذي جرى على الأوصياء بعد النبيِّ هو صفحة سوداء في تاريخ البشريَّة، يستنهض
الدعاء فيها وجدان المؤمن ليواسيهم لا بدمعةٍ فحسب، بل بوعيٍ متَّقدٍ وفاءً لحقِّهم
واعترافاً بمظلوميَّتهم.
ثمّ تأتي ذروة الدعاء، فصل الندبة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، حيث يتجلَّى
المأمول الموعود، فيُستعرَض في فقراته وصف الإمام، وآثاره، وامتداد نَسَبه، وموقعه
من الوعد الإلهي، ويرتسم في كلِّ عبارة مشهدُ الشوق إلى اللقاء، واللهفةُ إلى
ظهوره، حتَّى ليُخيَّل للقلب أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) بيننا، ولكنَّ الحجاب
كثيف. ويتحوَّل الدعاء إلى ضربٍ من الفداء القلبي، حيث يُعلِن المؤمن استعداده
للبذل والنصرة، ويتوسَّل إلى الله (عزَّ وجلَّ) بأقدس الوسائط، من النبيِّ إلى
الزهراء إلى الأئمَّة (عليهم السلام)، ليُعجِّل فرج الإمام ويقرُّ به عيون
المنتظِرين، ثمّ يُختَم الدعاء بأدعية الطاعة والتوفيق، وكأنَّ المأمول ليس فقط أنْ
يظهر الإمام، بل أنْ نكون نحن أهلاً لظهوره، مستعدِّين للقائه، قادرين على حمل
رايته.
إنَّ (دعاء الندبة) ليس مجرَّد نصٍّ يُقرَأ، بل مشهدٌ عقائديٌّ شامل، وسِفرٌ وجدانيٌّ لا يحدُّه الزمان، وقد سعينا في هذا الشرح أنْ نستنطق كلماته، لا بعيون اللغة وحدها، بل بعيون الولاء، لنكشف للقلوب عن كنزٍ من كنوز الغيبة، وسرٍّ من أسرار الانتظار، والله المستعان.
* * *
يُعتبَر الدُّعاء من أهمّ الأركان
التي يستند إليها الإنسان في مسيرته نحو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿قُلْ مَا
يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزَاماً﴾ (الفرقان: ٧٧)، وورد في الرواية: «اَلدُّعَاءُ مُخُّ اَلْعِبَادَةِ»(٢)،
وبعد هذا لا يمكن لنا بأيِّ حالٍ من الأحوال إغفال الدُّعاء أو القفز عليه رضوخاً
لبعض الإشكالات التي تُثار هنا أو هناك.
فمع وضوح دعوة القرآن الكريم والروايات الشريفة إلى التزام منهج الدعاء في حياة
الإنسان المؤمن، لا ينبغي الإصغاء لمثل تلكم المقولات، ولكن ظهرت عندنا بعض
النظريَّات التي ترفض هذا المنهج.
الدعاء سبيل إلهي رغم مخالفة البعض:
تتعدَّد ألسنة الذاهبين إلى رفض الدُّعاء وأهمّيَّته في نظام الارتباط مع الله
سبحانه وتعالى، وتأثيره على الحياة الدنيويَّة والأُخرويَّة معاً أو أحدهما.
فطائفة من هؤلاء يذهبون إلى أنَّ الدعاء يصطدم مع نظام الأسباب والمسبَّبات الذي
خُلِقَ الكون على أساسه وجرت مقادير الأُمور على نظامه، فما دام لكلِّ شيءٍ سبب،
وأنَّ هذا السبب لا يختلف ولا يتخلَّف، فالدعاء على هذا الأساس يكون من قبيل
الأُمور العبثيَّة، فليس هو لا حاجة له وحسب، بل قد يستلزم التصرُّف العبثيُّ،
والذي قد يجرُّ في بعض الأحيان إلى الابتلاء بالمحذور الشرعي ومخالفة الأحكام
الإلهيَّة الموضَّحة في محلِّها.
-----------------
(٢) الدعوات للراوندي (ص ١٨/ ح ٨).
والجواب عن هذه الإشكاليَّة يتَّضح من خلال عدَّة زوايا:
فمن زاوية نقول: إنَّ هذا النظام الأسبابي ليس حتميًّا، بمعنى أنَّه ليس بنحو لا
يختلف ولا يتخلَّف، وإنَّما هو بنحو الاقتضاء، أي بمعنى أنْ لو جرت مقادير الأُمور
دون دخول عناصر أُخرى لها التأثير في التغيير لكان الأمر مبرماً ويجري النظام كما
هو. وعلى سبيل المثال فإنَّ موادَّ البناء تنتج جداراً يتحمَّل الصدمات ويُعطي
الفيء والوقاية من الشمس ويستر الجالس تحته إذا كان البناء ضمن الموازين والنِّسَب
المعتبرة، ودون تدخُّل ظرف جوِّي حاكم ومتحكِّم في التأثير على البناء وإزالته أو
إضعافه، أمَّا مع وجود هذا الحاكم من زلازل وآلات عملاقة وظروف جوّيَّة وغيرها من
العناصر المؤثِّرة، فإنَّ البناء وإنْ كان بحسب اقتضائه لا يختلف ولا يتخلَّف إلَّا
أنَّه تخلَّف الآن لوجود القاهر الحاكم عليه.
ومن زاوية أُخرى فإنَّ هذا الكون الخاضع لنظام الأسباب والمسبَّبات هو بجملته مخلوق
لله تعالى القادر الحكيم، وهو الذي سَنَّ أثر الدعاء في التغيير، كما دلَّت عليه
الآيات على ما يأتي، فالذي خلق الأشياء وأوجدها، وسَنَّ نظام السببيَّة، هو نفسه
الذي أمر بالدعاء وحثَّ عليه، وبيَّن من خلال جملة وافرة من آيات ذكره وأحاديث
أوليائه أنَّ الدعاء يمتلك من القدرة الهائلة على تغيير وتبديل حتَّى ما أُبرم
إبراماً، فمَنْ يُذعِن أنَّ الخالق لنظام الأسباب والمسبَّبات هو الله لا بدَّ أنْ
يُذعِن أنَّه هو بنفسه تعالى خالق لنظام الدعاء وآثاره وآمر به. وبعبارة واضحة:
إنَّ الدعاء نفسه يُعبِّر عن مفردة من مفردات نظام الأسباب والمسبَّبات، وليس هو
مخالفاً لها أو خارقاً لنظامها.
هذا إذا كان حديثنا عن الأثر التكويني المترتِّب على الأشياء وتغييرها بالدعاء،
أمَّا إذا تحدَّثنا عن الآثار المترتِّبة على الذنوب والمعاصي والتي هي بطبيعة
الحال متأخِّرة زماناً عن فعل المعصية، فالذنب الصادر من العاصي في الدنيا
يُعاقَب
عليه في الآخرة، وبعد صدور الذنب يكون هناك مجال واسع لأنْ يستغفر ويتوب ويدعو الله
تعالى أنْ يمحو الآثار العقابيَّة المترتِّبة على معصيته، فهو وإنْ استحقَّ العقاب
إلَّا أنَّ منجِّزيته متأخِّرة، والدعاء يُحدِث أثره في الزمان الواقع بينهما، وهذه
الصورة أوضح حالاً في كون الدعاء يُؤثِّر في رفع الأثر المترتِّب وإنْ كان
تكوينيًّا على المعصية من الصورة المتقدِّمة.
فإذا قلنا في الأُولى بالإمكان، وقادنا الدليل إلى الوقوع، فمن باب أولى هنا نقول
به، خصوصاً بعد أنْ نصَّت جملة من الروايات على ذلك كما سيأتي.
طائفة أُخرى تقول: إنَّ الدعاء لا أثر له، ليس لعدم المقتضي فيه، كلَّا، بل الدعاء
قادر على التغيير، ولكن المؤمن الموحِّد الذي يؤمن بأنَّ كلَّ ما يقع عليه من
ابتلاءات وامتحانات ومصائب هي لأجل رفع مرتبته وزيادة حظِّه في القرب من الله
تعالى، فيكون الدعاء بعد هذه المعرفة خدشاً في توحيد الموحِّد، وهبوطاً في مرتبة
إيمانه، فالله (عزَّ وجلَّ) العالم بحال المؤمنين يُغنيهم عن سؤاله ورفع ما وقع
عليهم بسببهم أو بسبب غيرهم، فمَنْ كان موحِّداً عالي الدرجة مؤمناً مكتمل الإيمان
لا يدعو.
والجواب عن هذا الإشكال له عدَّة مقامات نقتصر منها على واحد، وبيانه: أنَّ مرتبة
التوحيد وسموَّها وعلوَّ الإيمان ودرجته نابع من أصل العبوديَّة والخضوع، فمتى ما
تجلَّت العبوديَّة بأبرز صورها ارتقى التوحيد وارتفع الإيمان إلى أعلى درجاته، وبعد
أنْ أمر الله تعالى وحثَّ وأكَّد على الدعاء كان لزاماً على المؤمن أنْ يأخذ به
سبيلاً ليرفع مرتبته وإنْ كان لا يرجو أثره المادِّي - ولو تنزُّلاً -، فالمدار في
كون الإيمان يسير في سُلَّم التكامل للوصول إلى أعلى درجة منه هو العبوديَّة التي
يُمثِّل الدعاء حجر الزاوية فيها.
وقد يُستشهَد لهؤلاء المستشكلين بجملة من الآيات كقوله تعالى: ﴿وَأَنْ
لَيْسَ
لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ (النجم: ٣٩)، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ (الزلزلة: ٧)، فهاتان وغيرهما من الآيات تُؤيِّد
ما ذهب إليه أصحاب هذا القول إنْ لم يُستدَل لهم بها، ووجه الدلالة أنَّ السعي
والعمل وحدهما مَنْ يرتهن وضع الإنسان بهما، ولا يُؤثِّر غيرهما فيه.
والجواب عنه واضح، فإنَّ الدعاء هو أيضاً من السعي والعمل الذي لا يضيع وإنْ كان
بمقدار الذرَّة، فضلاً عن الآيات الكثيرة التي سوف نقرؤها والتي نصَّت على أثر
الدعاء، وأنَّه من المؤثِّرات العمليَّة في تغيير حياة الإنسان.
هذا، وهناك إشكالات أُخر وإنِ اختلفت حدودها الوسطى ككون الله عالماً بالغيب،
فإنَّه يقتضي عدم الدعاء، وكونه تعالى قادراً يقتضي عدمه أيضاً، وهكذا.
إلَّا أنَّنا لا نخوض في تفصيلها فضلاً عن ردِّها بعد أنْ بيَّنَّا فيما تقدَّم
المفصل الأساس الذي يتَّكئ عليه الرافضون للدعاء وردَّه.
وفي قبال هذا الرفض المطلق تأتي مقولة أُخرى تتَّكئ على جملة من النصوص القرآنيَّة
في الالتجاء إلى الدعاء وقبوله بشكل مطلق بعيداً عن أيِّ أسباب ومقوِّمات أُخرى.
وهو قول لا يمكن المصير إليه.
لأنَّنا نعتقد أنَّ هناك نظاماً قائماً على أساس الأسباب والمسبَّبات، وأنَّ هذا
النظام التكويني يتأثَّر بالدعاء بشكل واضح، حاله حال تأثير الأشياء الأُخرى في
النُّظُم التكوينيَّة، فلا يمكن أنْ نلغي هذا النظام ونعتمد على الدعاء فقط. فكما
أنَّ للدعاء قسطاً من التأثير في مجريات العالم كذلك لبقيَّة الأسباب أقساطها
الوافرة في التأثير، والوسطيَّة هي قوام الأشياء - فهي نظريَّة أهل البيت (عليهم
السلام) في نظام الارتباط مع الذات والصفات والآثار المرتبطة بهما -، فالدعاء له
أثره كما أنَّ العمل له أثره، وهذا ما ينبغي أنْ يكون عليه العقلاء.
فالدعاء يبقى صاحب الأثر البالغ في تقوية الارتباط الروحي والاجتماعي وتغيير كثير
من الحياة على كلِّ المستويات، فالدعاء هو المادَّة الأساسيَّة للغذاء الروحي
للإنسان، إذ كما يحتاج الإنسان إلى غذاء الجسم، فكذا العقل، هو بحاجة إلى غذاء
الروح، والدعاء يُنمِّي الروح ويُنشِّطها، وبالتالي ينشط الجسم والعقل، لذلك نرى
علماء النفس يُؤكِّدون أنَّ المجتمع الذي يعيش حالة الدعاء تقلُّ فيه نِسَب الجرائم
والعدوان(٣)، فالدعاء كممارسة عمليَّة ليس مقصوراً على الأفراد الذين لهم ارتباط
وحياني بالسماء، إنَّما هو حالة روحيَّة يعيشها أفراد - البشر دونما استثناء -
تُوجِد فيهم آثاراً مختلفة، وتُؤهِّلهم لمراحل متقدِّمة من الرقيِّ الروحي
الإنساني، وإذا ما رجعنا إلى الأديان السماويَّة فإنَّنا نجد أنَّ الله سبحانه
وتعالى ذكر في كتابه الكريم الدعاء مكرَّراً(٤)، وأكَّدت الروايات على أنَّ مَنْ
أُعطي الدعاء فقد أُعطي الإجابة(٥).
بل إنَّ الله سبحانه وتعالى أكَّد في بعض آياته أهمّيَّة الدعاء، إذ قال: ﴿قُلْ مَا
يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزَاماً﴾ (الفرقان: ٧٧)، فهذه الآية الكريمة تُقرِّر مبدأ الأهمّيَّة والاهتمام من
الله سبحانه وتعالى بالناس أجمعهم، وأنَّه متفرِّع على الدعاء.
-----------------
(٣) أضواء على دعاء كميل للسيِّد عزِّ الدِّين بحر العلوم (ص ٨).
(٤) قال تعالى: ﴿وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ﴾ (الأعراف: ١٨٠)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾
(الأعراف: ١٩٤)، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ﴾
(الزمر: ٨)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ (إبراهيم: ٣٩).
(٥) عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «مَنْ أُعْطِيَ ثَلَاثاً لَمْ
يُمْنَعْ ثَلَاثاً: مَنْ أُعْطِيَ اَلدُّعَاءَ أُعْطِيَ اَلْإِجَابَةَ... وَقَالَ:
﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: ٦٠]». الكافي (ج ٢/ ص ٦٥/ باب التفويض إلى
الله والتوكُّل عليه/ ح ٦).
فلا بدَّ أنْ يلتفت الإنسان إلى الأسباب التي تجعل الله تعالى لا يعبأ به(٦)
ويزيلها، لأنَّ عدم إزالتها يعني عدم وجود طريق يسلكه إلى الله سبحانه وتعالى. من
هنا تأتي حقيقة الدعاء وماهيَّته وماذا يُشكِّل في المنظومة الدِّينيَّة من
أهمّيَّة. ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: ٦٠).
الدعاء لُبُّ التوحيد ومُخُّ العبادة:
التوحيد الذي ينشده الكلُّ، والذي يعتمد على مؤشِّرات عباديَّة وقُربيَّة يُستكشَف
من خلالها - أي المقدَّمات - مقامات الموحِّدين، إذ يُمثِّل الدعاء في هذه المنظومة
التوحيديَّة اللُّبَّ.
الدعاء حالة إشعار النفس الإنسانيَّة بالافتقار وضرورة اللجوء والإلتجاء إلى الوجود
الغنيِّ المفيض، وهذه الحقيقة عينها حقيقة التوحيد(٧)، فيمكن أنْ نقول: إنَّ حقيقة
الدعاء هو التوحيد بعينه، لأنَّ الدُّعاء(٨) يُعبِّر عن حالة الانكسار
-----------------
(٦) سنذكر في نماذج توحيديَّة في الدعاء المهدوي أنَّ هناك أشراطاً وأسباباً
لاستجابة أو لرفض الدعاء تحدَّثت عنها الروايات فضلاً عن الآيات الشريفة.
(٧) في من لا يحضره الفقيه (ج ١/ ص ٢٨ و٢٩/ ح ٥٨): وَلَـمَّا نَاجَى اَللهُ مُوسَى
بْنَ عِمْرَانَ [عَلَى نَبِيِّنَا وَ]عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ، قَالَ مُوسَى: «يَا
رَبِّ، أَبَعِيدٌ أَنْتَ مِنِّي فَأُنَادِيَكَ، أَمْ قَرِيبٌ فَأُنَاجِيَكَ؟»،
فَأَوْحَى اَللهُ (جلَّ جلاله) إِلَيْهِ: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي...»، وأيُّ
توحيد أعلى من أنْ يكون العبد جليساً مع الله تعالى؟!
(٨) قسَّم بعض العلماء الدعاء لله تعالى إلى ثلاثة وجوه:
ضرب منها: توحيده...، مثل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠].
والضرب الثاني: مسألة العفو والرحمة وما يقرب منها، كقولهم: (اللَّهُمَّ اغفر لنا).
والضرب الثالث: مسألة الحظِّ من الدنيا، كقولهم: (اللَّهُمَّ ارزقني مالاً وولداً).
راجع: أضواء على دعاء كميل للسيِّد عزِّ الدِّين بحر العلوم (ص ١٤).
والتذلُّل
واللُّجوء والعبوديَّة إلى ذلك الوجود الكريم المفيض الغنيِّ القادر، وإذا دقَّقنا
النظر في الآية الكريمة الآنفة الذكر نلاحظ أنَّها تلمح إلى هذا المعنى، إذ تُعبِّر
أنَّ الله لا يعبأ بالعبد ما لم يكن صاحب دعاء، بينما الآيات القرآنيَّة الكريمة
الأُخرى تقول: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ﴾ (النساء: ١١٦)، فبملاحظة الآيتين وإرخاء العنان لبصر القلب ليجول في
الأحاديث الشريفة(٩) يجد المرء هذه الحقيقة، وهي أنَّ الدعاء لُبُّ التوحيد، ماثلة
أمام عينيه.
جاء في كتاب الدُّعاء من (الكافي) عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «أَفْضَلُ
اَلْعِبَادَةِ اَلدُّعَاءُ»(١٠)، وفي (فلاح السائل) عن أبي عبد الله (عليه السلام):
«اَلدُّعَاءُ عَمُودُ اَلدِّينِ»(١١)، وفي (الدعوات) عن النبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله): «اَلدُّعَاءُ مُخُّ اَلْعِبَادَةِ»(١٢).
فهذه الأحاديث الشريفة خصوصاً الأخير منها تُعبِّر عن هذه الحالة التي ذكرناها،
فعمود الدِّين وأفضل العبادة، بل مخُّها هو الدعاء، ونحن نعلم أنَّ المخَّ هو لُبُّ
العقل - ليس المراد به المادِّي، بل ذاك الذي تُعبِّر عنه بعض الروايات بروح العقل
وجوهره، فالدعاء على هذا المعنى يُمثِّل جوهر العبادة التي هي عمود الدِّين -.
-----------------
(٩) ففي الكافي (ج ٢/ ص ٤٦٦/ باب فضل الدعاء والحثِّ عليه/ ح ١) بسنده عَنْ
زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ)
يَقُولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠]»، قَالَ: «هُوَ الدُّعَاءُ»، فالإمام هنا يُعبِّر
عن العبادة بأنَّها الدعاء، وأنَّ التكبُّر عنها يوجب دخول جهنَّم.
وفي نصٍّ آخر في الكافي (ج ٢/ ص ٤٦٧/ باب فضل الدعاء والحثِّ عليه/ ح ٧) بسنده عَنْ
عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ
اَلله (عليه السلام): «اَلدُّعَاءُ هُوَ اَلْعِبَادَةُ»، وهو مطلق يشمل العبادات
الجوارحيَّة أو الجوانحيَّة.
(١٠) الكافي (ج ٢/ ص ٤٦٦/ باب فضل الدعاء والحثِّ عليه/ ح ١).
(١١) فلاح السائل (ص ٢٨).
(١٢) الدعوات للراوندي (ص ١٨/ ح ٨).
فعلى هذا تكون حقيقة الدُّعاء في الشريعة هي روح العبادة، وهو مخُّها، والعبادة بلا
مخٍّ كإنسان من غير عقل.
فأرقى حالات الإنسان وهي العبوديَّة التي تجمَّل بها رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله)، ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (الحديد: ٩)، لا تكون إلَّا بذلك المخِّ، ولا
تقف إلَّا على هذا العمود، وهو الدُّعاء.
فحقيقة الدُّعاء بكلمة واحدة أنَّه روح التوحيد، وحقيقة الإيمان، وقلب الإسلام.
فهل يمكن للإنسان أنْ يصل إلى الله سبحانه وتعالى دون هذه الحقيقة ودون الاعتماد
عليها؟
كيف يقوم الدعاء بعمليَّة التأثير؟
إنَّ لكلِّ ظاهرة من ظواهر الوجود مجموعة من القوانين تحكمها، وظاهرة الدعاء من بين
هذه الظواهر، فلا بدَّ أنْ تكون هناك مجموعة من القواعد تضبط هذه الحقيقة، وتجعلها
مؤثِّرة وفاعلة.
وإذا رجعنا إلى الروايات الشريفة وجدنا أنَّها تُعطي للدعاء خصائص لا تُعطيها لغيره
من وسائل القرب الإلهي، فتصفه بعض الروايات بأنَّه مفاتيح النجاة، وأنَّه نور
السماوات والأرضين، وأنَّه سلاح الأنبياء(١٣)، وهذه الأوصاف
-----------------
(١٣) أمالي الطوسي (ص ٦/ ح ٥/٥)، حيث ورد فيها: عَنْ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله
عليه وآله): «مَا فُتِحَ لِأَحَدٍ بَابُ دُعَاءٍ إِلَّا فَتَحَ اَللهُ لَهُ فِيهِ
بَابَ إِجَابَةٍ، فَإِذَا فَتَحَ لِأَحَدِكُمْ بَابَ دُعَاءٍ فَلْيَجْهَدْ، فَإِنَّ
اَللهَ (عزَّ وجلَّ) لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا».
وَعَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه
السلام) يَقُولُ: «اَلدُّعَاءُ يَرُدُّ اَلْقَضَاءَ بَعْدَ مَا أُبْرِمَ
إِبْرَاماً، فَأَكْثِرْ مِنَ اَلدُّعَاءِ فَإِنَّه مِفْتَاحُ كُلِّ رَحْمَةٍ،
وَنَجَاحُ كُلِّ حَاجَةٍ، وَلَا يُنَالُ مَا عِنْدَ اَلله (عزَّ وجلَّ) إِلَّا
بِالدُّعَاءِ، وَإِنَّه لَيْسَ بَابٌ يُكْثَرُ قَرْعُهُ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ
يُفْتَحَ لِصَاحِبِهِ». الكافي (ج ٢/ ص ٤٧٠/ باب أنَّ الدعاء يردُّ البلاء والقضاء/
ح ٧).
وَعَنِ اَلسَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «اَلدُّعَاءُ سِلَاحُ اَلمُؤْمِنِ،
وَعَمُودُ اَلدِّينِ، وَنُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ». الكافي (ج ٢/ ص ٤٦٨/
باب أنَّ الدعاء سلاح المؤمن/ح ١).
وغيرها إنَّما تريد أنْ
تُعبِّر عن حالة يتمتَّع بها الدعاء، وعن خصوصيَّة يمتاز بها، وهي أنَّ له قدرة
وفاعليَّة، على حدِّ تعبير بعض الروايات: إنَّه يردُّ القضاء المبرم(١٤)، فهذه
المعاني الروائيَّة تريد أنْ تفتح لنا ولأبصارنا نافذة نطلُّ من خلالها على تلك
الحقيقة النورانيَّة التي يمتلكها الإنسان، والتي لها القدرة على تغيير كلِّ شيء،
والتأثير في كلِّ شيء إلى حدٍّ أنَّها تُغيِّر ما قُدِّر وأُبرم.
وعمليَّة التأثير لا تكون إلَّا في ضمن شرائط وعوامل بعضها غيبي لا سبيل لمعرفته
إلَّا من المعصوم.
المعرفة للإمام (عليه السلام) موجبة لدعاء غير محجوب:
ذكرت جملة من الأحاديث أنَّ المعرفة والإيمان لا يكونان في فرد ما لم يؤمن بالإمام
(عليه السلام)، وأنَّ ادِّعاء الإيمان لا يصحُّ من شخص ما لم يكن هذا الادِّعاء
مقروناً منه بالاعتقاد والإيمان به (عليه السلام)، على حدِّ تعبير الآية: ﴿وَلَمَّا
يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: ١٤).
فتكون معرفة الإمام والإيمان به هي الأرضيَّة الأُولى التي ينطلق منها الفرد
لترتُّب الآثار على هذا الإيمان.
ومن بين تلك النصوص ما ورد عَنِ اِبْنِ أُذَيْنَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا غَيْرُ
وَاحِدٍ عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام) أَنَّه قَالَ: «لَا يَكُونُ اَلْعَبْدُ
مُؤْمِناً حَتَّى يَعْرِفَ اَللهَ وَرَسُولَهُ وَاَلْأَئِمَّةَ كُلَّهُمْ وَإِمَامَ
زَمَانِهِ، وَيَرُدَّ إِلَيْه وَيُسَلِّمَ لَه...»(١٥).
-----------------
(١٤) عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ سَمِعْتُهُ [أي أبي عبد الله (عليه
السلام)] يَقُولُ: «إِنَّ اَلدُّعَاءَ يَرُدُّ اَلْقَضَاءَ، يَنْقُضُهُ كَمَا
يُنْقَضُ اَلسِّلْكُ وَقَدْ أُبْرِمَ إِبْرَاماً». الكافي (ج ٢/ ص ٤٦٩/ باب أنَّ
الدعاء يردُّ البلاء والقضاء/ ح ١).
(١٥) الكافي (ج ١/ ص ١٨٠/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح ٢).
وَعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّمَا
يَعْرِفُ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) وَيَعْبُدُهُ مَنْ عَرَفَ اَللهَ وَعَرَفَ إِمَامَهُ
مِنَّا أَهْلَ اَلْبَيْتِ، وَمَنْ لَا يَعْرِفِ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) وَلَا يَعْرِفِ
اَلْإِمَامَ مِنَّا أَهْلَ اَلْبَيْتِ فَإِنَّمَا يَعْرِفُ وَيَعْبُدُ غَيْرَ
اَلله، هَكَذَا وَاَلله ضَلَالاً»(١٦).
فالإيمان بمقتضى هذه النصوص الشريفة مرهون بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لأنَّ
الإمام هو السالك بالعباد في كل الطُرُق، فمن يرد أنْ يثبت إيمانه ويعظم وينمى لا
بدَّ له من قائد يقوده، ولا بدَّ أنْ يكون هذا القائد عارفاً بتلك الطُّرُق
ومنعرجاتها، وأنْ تكون معرفته تلك لدنّيَّة ليأمن السالكون خلفه من الوقوع في
منزلقات الطريق، وقد أشار الإمام الباقر (عليه السلام) إلى هذا بحديثه إلى أبي حمزة
قائلاً له: «يَا أَبَا حَمْزَةَ، يَخْرُجُ أَحَدُكُمْ فَرَاسِخَ فَيَطْلُبُ
لِنَفْسِه دَلِيلاً، وَأَنْتَ بِطُرُقِ اَلسَّمَاءِ أَجْهَلُ مِنْكَ بِطُرُقِ
اَلْأَرْضِ، فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ دَلِيلاً»(١٧).
والدعاء سفر في طُرُق السماء، فلا بدَّ أنْ نطلب له دليلاً.
فمَنْ هو الدليل؟
يُجيب الإمام الرضا (عليه السلام) بقوله: «اَلْإِمَامُ ... وَاَلدَّلِيلُ فِي
اَلمَهَالِكِ، مَنْ فَارَقَهُ فَهَالِكٌ...، اَلْإِمَامُ أَمِينُ اَلله فِي
خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلَادِهِ، وَاَلدَّاعِي
إِلَى اَلله...»(١٨).
وفي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يروي فيه خطبة للنبيِّ الأكرم (صلَّى الله
عليه وآله) جاء فيها: «وَاَلنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ اَلمُسْلِمِينَ، وَاَللُّزُومُ
لِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ مُحِيطَةٌ مِنْ وَرَائِهِمْ...»(١٩).
-----------------
(١٦) الكافي (ج ١/ ص ١٨١/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح ٤).
(١٧) الكافي (ج ١/ ص ١٨٤ و١٨٥/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح ١٠).
(١٨) الكافي (ج ١/ ص ٢٠٠/ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته/ ح ١).
(١٩) الكافي (ج ١/ ص ٤٠٣/ باب ما أمر به النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) بالنصيحة
لأئمَّة المسلمين.../ ح ١).
فإنَّ دعاء الأئمَّة (عليهم السلام) للمؤمنين يكفيهم ويحيط بهم من جوانبهم ويحفظهم،
بل إنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) يُصرِّح بذلك في توقيعه المرويِّ في (الاحتجاج):
«لِأَنَّنَا مِنْ وَرَاءِ حِفْظِهِمْ بِالدُّعَاءِ اَلَّذِي لَا يُحْجَبُ عَنْ
مَلِكِ اَلْأَرْضِ وَاَلسَّمَاءِ، فَلْيَطْمَئِنَّ بِذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَائِنَا
اَلْقُلُوبُ...»(٢٠).
فالإمام (عجَّل الله فرجه) من خلال هذا النصِّ الشريف ضمن الدعاء لأوليائه الذين
تحدَّثت النصوص عنهم في الأمر الأوَّل، وأنَّ هذا الدعاء منه (عجَّل الله فرجه)
موجب لاطمئنان نفوسهم - إنْ كانوا أولياء حقًّا -، وهذا الدعاء سمته أنَّه لا يحتجب
عن مَلِك الأرض والسماء.
فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الدعاء الصادر من الإمام (عليه السلام) يكون موجباً لتنمية
إيمان الأفراد والمجتمعات.
ولم يكتفِ الأئمَّة (عليهم السلام) بهذه المرتبة لتقوية إيمان المؤمنين بهم بتعقُّب
دعائهم وتنمية إيمانهم، بل تجاوز الأمر إلى متابعة شؤونهم الشخصيَّة، والشعور بما
ينالهم من همٍّ وحزن، فقد ورد أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خاطب أحد أصحابه
قائلاً له: «يَا رُمَيْلَةُ لَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ يَمْرَضُ إِلَّا مَرِضْنَا
بِمَرَضِهِ، وَلَا يَحْزُنُ إِلَّا حَزِنَّا بِحُزْنِهِ، وَلَا يَدْعُو إِلَّا
أَمَّنَّا لِدُعَائِهِ، وَلَا يَسْكُتُ إِلَّا دَعَوْنَا لَهُ...»، ثمّ قال له
(عليه السلام): «يَا رُمَيْلَةُ، لَيْسَ يَغِيبُ عَنَّا مُؤْمِنٌ فِي شَرْقِ
اَلْأَرْضِ وَلَا فِي غَرْبِهَا»(٢١).
والنصُّ واضح الدلالة في أنَّ الإمام (عليه السلام) يسعى إلى تقوية دعاء الداعي،
فإنْ لم يكن في البين دعاء تصدَّى هو بنفسه للدعاء عنه، نعم لا بدَّ أنْ يكون
المؤمن بتلك المرتبة التي تُؤهِّله لذلك، إذ المقتضي لا بدَّ أنْ يكون منه.
هذا، وقد سجَّلت الروايات الشريفة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أنَّ محض وجوده
-----------------
(٢٠) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٢٤ و٣٢٥).
(٢١) بصائر الدرجات (ص ٢٧٩ و٢٨٠/ ج ٥/ باب ١٦/ ح ١).
المبارك هو دافع للبلاء عن شيعته وأهله، كما في النصِّ الوارد عن طريق أَبِي
نَصْرٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام)، فَقَالَ: «...
أَنَا خَاتَمُ اَلْأَوْصِيَاءِ، وَبِي يَدْفَعُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) اَلْبَلَاءَ
عَنْ أَهْلِي وَشِيعَتِي»(٢٢).
فمن مجموع النصوص المتقدِّمة يمكن أنْ يُستفاد التالي:
١ - أنَّ الإيمان مقرون بالإمام (عليه السلام).
٢ - أنَّ الإمام (عليه السلام) يباشر هذه المهمَّة من خلال عدَّة تدبيرات، ويقوم
بخطوات متعدِّدة، ومن بين تلك الخطوات التي يقوم بها (عليه السلام) التأمين على
الدعاء، حيث نصَّت بعض الأخبار المتقدِّمة أنَّ التأمين على دعاء المؤمنين حالة
ثابتة من الإمام (عليه السلام) لمن كان منهم في شرق الأرض أو غربها، فإنْ لم يكن
منهم دعاء تبرَّع الإمام (عليه السلام) بالدعاء لهم.
٣ - أنَّ دعاء الإمام (عليه السلام) يتمتَّع بخصوصية أنَّه لا يحجب عن الله تعالى.
هذا، وقد عثرت أثناء التتبُّع في النصوص الشريفة التي تدور رحاها حول هذا الموضوع
على رواية شريفة بمفادٍ عالٍ جدًّا وبمضمون راقٍ تتحدَّث عن حقيقة المؤمن ومكانته
لدى إمامه، حيث كتب السيِّد ابن طاوس (رحمه الله) في كتاب (كشف المحجَّة) في
وصيَّته لولده في ما يحفظ فيه للإمام (عليه السلام) من حقٍّ، وأنْ يعرض حوائجه
عليه، جاء فيه: (وممَّا أقول لك يا ولدي محمّد ملأ اللهُ (جلَّ جلاله) عقلك وقلبك
من التصديق لأهل الصدق والتوفيق في معرفة الحقِّ أنَّ طريق تعريف الله (جلَّ جلاله)
لك بجواب مولانا (المهدي) صلوات الله وسلامه على قدرته (جلَّ جلاله) ورحمته، فمن
ذلك مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ اَلْكُلَيْنِيُّ فِي كِتَابِ (اَلوَّسَايِلِ)
عَمَّنْ سَمَّاهُ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي اَلْحَسَنِ (عليه السلام) أَنَّ
اَلرَّجُلَ يَجِبُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى إِمَامِهِ مَا يَجِبُ
-----------------
(٢٢) كمال الدِّين (ص ٤٤١/ باب ٤٣/ ح ١٢).
أَنْ يُفْضِيَ بِهِ
إِلَى رَبِّهِ؟ قَالَ: فَكَتَبَ: «إِنْ كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ فَحَرِّكْ شَفَتَيْكَ،
فَإِنَّ اَلْجَوَابَ يَأْتِيكَ...»(٢٣).
ولا يهمُّنا التعرُّض لسند الحديث باعتبار أنَّه حسب الظاهر موافق للمبادئ العامَّة
التي عليها النصوص العقائديَّة، والملاحَظ فيه أنَّ الحديث عن السرعة في الإجابة
بمجرَّد تحريك الشفتين.
نماذج صُرِّح فيها بدعاء الأئمَّة (عليهم السلام)
للأصحاب:
نذكر تحت هذا العنوان العديد من النماذج التي صرَّحت النصوص بدعاء الأئمَّة (عليهم
السلام) لبعض أصحابهم، ولا شكَّ في ترتب آثار هذا الدعاء على مجمل شؤونهم، وهي:
الأوَّل: عبد العزيز بن المهتدي بن محمّد بن عبد العزيز الأشعري القمِّي الثقة الذي
قيل فيه - والقائل الفضل بن شاذان -: (ما رأيت قمّيًّا يشبهه في زمانه)(٢٤)، قال
الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) في كتاب (الغيبة) في فصل في ذكر المحمودين من وكلاء
الأئمَّة (عليهم السلام): خَرَجَ فِيهِ - عبد العزيز بن المهتدي - عَنْ أَبِي
جَعْفَرٍ (عليه السلام): «غَفَرَ اَللهُ لَكَ وَلَهُمُ اَلذُّنُوبَ، وَرَحِمَنَا
وَإِيَّاكُمْ»، وَخَرَجَ فِيهِ: «غَفَرَ اَللهُ لَكَ ذَنْبَكَ، وَرَحِمَنَا
وَإِيَّاكَ، وَرَضِيَ عَنْكَ بِرِضَائِي عَنْكَ»(٢٥).
والنصُّ واضح الدلالة في أنَّ الإمام (عليه السلام) طلب الرضا لعبد العزيز ممَّا
يستدعي ثباته على الحقِّ.
-----------------
(٢٣) كشف المحجَّة (ص ١٥٣). وهذا الحديث المنقول على لسان السيِّد (رحمه الله) من
كتاب (الوسايل) وإنْ كان ليس بأيدينا مصدره إلَّا أنَّ نقله على لسانه وإرساله بهذا
الشكل يكشف عن كون تلك النسخة كانت بيده أو قُرِأت عليه، هذا فضلاً عن كونه موافقاً
للأصل وليس فيه مخالفة، وإنَّما أوردناه كشاهد في بيان المطلوب على لسان الأئمَّة
(عليهم السلام).
(٢٤) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٧٩٥/ ح ٩٧٣).
(٢٥) الغيبة للطوسي (ص ٣٤٩/ ح ٣٠٥).
الثاني: أبان بن تغلب بن رباح... بن صعب بن عليِّ بن بكر بن وائل، عظيم المنزلة، من
أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام)، قال له الإمام الباقر (عليه السلام): «اِجْلِسْ فِي
مَسْجِدِ اَلمَدِينَةِ وَأَفْتِ اَلنَّاسَ، فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يُرَى فِي
شِيعَتِي مِثْلُكَ»(٢٦)، وقال عنه الإمام الصادق (عليه السلام): «رَحِمَهُ اَللهُ،
أَمَا وَاَلله لَقَدْ أَوْجَعَ قَلْبِي مَوْتُ أَبَانٍ»(٢٧)، وفي نصٍّ آخر: «أَمَا
وَاَلله لَقَدْ أَوْجَعَ قَلْبِي مَوْتُ أَبَانٍ»(٢٨).
فلاحظ دعاء الإمام (عليه السلام) وترحُّمه عليه، بل وتوجُّع قلبه على فقده.
الثالث: المسيَّب بن زهير، وهو أحد من حُبِسَ الإمام الكاظم (عليه السلام) في داره
لثقة هارون به، وهو من خلَّص الشيعة، وقد طلب من الإمام (عليه السلام) أنْ يدعو له،
فدعا له أنْ يثبت يقينه(٢٩)، وفي محاروة بينه وبين الإمام الكاظم (عليه السلام)
ينقلها الشيخ الصدوق (رحمه الله): «يَا مُسَيَّبُ»، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا
مَوْلَايَ، قَالَ: «إِنِّي ظَاعِنٌ فِي هَذِهِ اَللَّيْلَةِ إِلَى اَلمَدِينَةِ
مَدِينَةِ جَدِّي رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) لِأَعْهَدَ إِلَى عَلِيٍّ
اِبْنِي مَا عَهِدَهُ إِلَيَّ أَبِي، وَأَجْعَلَهُ وَصِيِّي وَخَلِيفَتِي،
وَآمُرَهُ أَمْرِي»، قَالَ اَلمُسَيَّبُ: فَقُلْتُ: يَا مَوْلَايَ، كَيْفَ
تَأْمُرُنِي أَنْ أَفْتَحَ لَكَ اَلْأَبْوَابَ وَأَقْفَالَهَا وَاَلْحَرَسُ مَعِي
عَلَى اَلْأَبْوَابِ؟! فَقَالَ: «يَا مُسَيَّبُ، ضَعُفَ يَقِينُكَ بِالله (عزَّ
وجلَّ) وَفِينَا»، قُلْتُ: لَا، يَا سَيِّدِي، قَالَ: «فَمَهْ؟»، قُلْتُ: يَا
سَيِّدِي، اُدْعُ اَللهَ أَنْ يُثَبِّتَنِي، فَقَالَ: اَللَّهُمَّ
ثَبِّتْهُ...»(٣٠).
والقصَّة واضحة في طلب الدعاء من الإمام (عليه السلام) لتثبيت اليقين والعقيدة
الحقَّة، وفي استجابة الإمام (عليه السلام) لذلك.
-----------------
(٢٦) رجال النجاشي (ص ١٠/ الرقم ٧).
(٢٧) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٦٢٢/ ح ٦٠١).
(٢٨) رجال النجاشي (ص ١٠/ الرقم ٧).
(٢٩) راجع: قاموس الرجال (ج ١٠/ ص ٧٨/ الرقم ٧٥٥٤).
(٣٠) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ١/ ص ٩٤ و٩٥/ باب ٨/ ح ٦).
الرابع: أحمد بن إبراهيم، يُكنَّى أبا حامد المراغي، وهو من أصحاب الإمام العسكري
(عليه السلام)(٣١)، وقد خرج فيه من صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) توقيع على يد
محمّد بن أحمد بن جعفر القمِّي العطَّار: «وَقَفْتُ عَلَى مَا وَصَفْتَ بِهِ أَبَا
حَامِدٍ أَعَزَّهُ اَللهُ بِطَاعَتِهِ، وَفَهِمْتُ مَا هُوَ عَلَيْهِ، تَمَّمَ
اَللهُ ذَلِكَ لَهُ بِأَحْسَنِهِ، وَلَا أَخْلَاهُ مِنْ تَفَضُّلِهِ عَلَيْهِ،
وَكَانَ اَللهُ وَلِيَّهُ، أُكْثِرُ اَلسَّلَامَ وَ أَخُصُّهُ...»(٣٢).
والتوقيع واضح في الدعاء بأحسن ما يمكن أنْ يتفضَّل الله على عبده المؤمن، وأنْ
يتولَّاه، وأنْ لا يُخليه ممَّا تفضَّل به عليه.
الخامس: عبد المَلِك بن أعين الذي دعا له الإمام الصادق (عليه السلام)، واجتهد في
الدعاء وترحُّم عليه، وزار قبره، وقال: «اَللَّهُمَّ إِنَّ أَبَا اَلضُّرَيْسِ
كُنَّا عِنْدَهُ خِيَرَتَكَ مِنْ خَلْقِكَ، فَصَيِّرْهُ فِي ثَقَلِ مُحَمَّدٍ
(صلَّى الله عليه وآله) يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ...»(٣٣).
وهو واضح الدلالة في الدعاء له والترحُّم عليه، بل وأنْ يُحشَر مع محمّد وآل محمّد
(عليهم السلام) يوم القيامة، ولا يخفى ما لزيارة الإمام (عليه السلام) لقبر هذا
الرجل من دلالات ليس هنا محلُّ ذكرها.
السادس: عبد الله بن أبي يعفور، إذ ينقل عليُّ بن الحسين العبيدي، قال: كَتَبَ
أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام) إِلَى اَلمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ اَلْجُعْفِيِّ
حِينَ مَضَى عَبْدُ اَلله بْنُ أَبِي يَعْفُورٍ: «يَا مُفَضَّلُ، عَهِدْتُ إِلَيْكَ
عَهْدِي كَانَ إِلَى عَبْدِ اَلله بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ (صَلَوَاتُ اَلله
عَلَيْهِ)، فَمَضَى (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِ) مُوفِياً لله (عزَّ وجلَّ)
وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِهِ بِالْعَهْدِ اَلمَعْهُودِ لله، وَقُبِضَ (صَلَوَاتُ
اَلله عَلَى رُوحِهِ) مَحْمُودَ اَلْأَثَرِ، مَشْكُورَ اَلسَّعْيِ، مَغْفُوراً
لَهُ، مَرْحُوماً بِرِضَا اَلله وَرَسُولِهِ وَإِمَامِهِ عَنْهُ، فَوِلَادَتِي
-----------------
(٣١) رجال الطوسي (ص ٣٩٧/ الرقم ٥٨٣٠/١٤).
(٣٢) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٨١٥/ ح ١٠١٩).
(٣٣) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٤١١/ ح ٣٠١).
مِنْ
رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، مَا كَانَ فِي عَصْرِنَا أَحَدٌ أَطْوَعَ
لله وَلِرَسُولِهِ وَلِإِمَامِهِ مِنْهُ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى قَبَضَهُ
اَللهُ إِلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ، وَصَيَّرَهُ إِلَى جَنَّتِهِ، مُسَاكِناً فِيهَا
مَعَ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) وَأَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه
السلام)، أَنْزَلَهُ اَللهُ بَيْنَ اَلمَسْكَنَيْنِ مَسْكَنِ مُحَمَّدٍ وَأَمِيرِ
اَلمُؤْمِنِينَ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمَا)...»(٣٤).
السابع: محمّد بن عليِّ بن الحسين الصدوق، حيث ينقل شيخ الطائفة (قدّس سرّه) قصَّة
ولادة الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) حيث كاتب والده السفير الثالث (رضي الله عنه) وطلب
من الحضرة أنْ يدعو الله أنْ يرزقه أولاداً فقهاء، فجاء الجواب: «إِنَّكَ لَا
تُرْزَقُ مِنْ هَذِهِ، وَسَتَمْلِكُ جَارِيَةً دَيْلَمِيَّةً وَتُرْزَقُ مِنْهَا
وَلَدَيْنِ فَقِيهَيْنِ»(٣٥).
وهناك نماذج أُخرى من الدعاء في حوائج متعدِّدة صدرت من الأئمَّة(عليهم السلام)
لأشخاص كُثُر نأخذ على سبيل المثال:
١ - عبد الحميد بن أبي العلاء الذي رفع الإمام الصادق (عليه السلام) يديه بالدعاء
له أنْ يُخلِّصه من سجن أبي جعفر، ثمّ التفت إلى صاحبه محمّد بن عبد الله ابن
الحسين، وخاطبه قائلاً: «يَا مُحَمَّدُ، قَدْ وَاَلله خُلِّيَ سَبِيلُ
صَاحِبِكَ»(٣٦).
٢ - بشر بن طرخان النخَّاس الذي دعا له الإمام الصادق (عليه السلام) بكثرة المال
والولد(٣٧).
٣ - حمَّاد بن عيسى الذي دعا له الإمام (عليه السلام) حيث قال: دَخَلْتُ عَلَى
أَبِي اَلْحَسَنِ اَلْأَوَّلِ (عليه السلام)، فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ،
اُدْعُ اَللهَ لِي أَنْ يَرْزُقَنِي دَاراً وَزَوْجَةً وَوَلَداً وَخَادِماً
وَاَلْحَجَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَقَالَ: «اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ
مُحَمَّدٍ،
-----------------
(٣٤) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥١٨/ ح ٤٦١).
(٣٥) الغيبة للطوسي (ص ٣٠٨ و٣٠٩/ ح ٢٦١).
(٣٦) دلائل الإمامة (ص ٢٥٨/ ح ١٨٦/٢٢).
(٣٧) راجع: رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٩٩/ ح ٥٦٣).
وَاُرْزُقْهُ دَاراً وَزَوْجَةً وَوَلَداً وَخَادِماً وَاَلْحَجَّ
خَمْسِينَ سَنَةً»، قَالَ حَمَّادٌ: فَلَمَّا اِشْتَرَطَ خَمْسِينَ سَنَةً عَلِمْتُ
أَنِّي لَا أَحُجُّ أكثر مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً(٣٨).
الدعاء بتعجيل الفرج:
فقد ذُكِرَ في النصوص الشريفة أنَّه (عجَّل الله فرجه) خاطب أتباعه ومريديه
بالإكثار من دعاء الفرج له، فقد روى الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) بسنده عَنْ جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُولَوَيْهِ وَأَبِي غَالِبٍ اَلزُّرَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ اَلْكُلَيْنِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ،
قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ (رحمه الله) أَنْ يُوصِلَ
لِي كِتَاباً قَدْ سَأَلْتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ، فَوَرَدَ
اَلتَّوْقِيعُ بِخَطِّ مَوْلَانَا صَاحِبِ اَلدَّارِ (عليه السلام): «أَمَّا مَا
سَأَلْتَ عَنْهُ أَرْشَدَ[كَ] اَللهُ وَثَبَّتَكَ مِنْ أَمْرِ اَلمُنْكِرِينَ لِي
مِنْ أَهْلِ بَيْتِنَا وَبَنِي عَمِّنَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اَلله
(عزَّ وجلَّ) وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَلَيْسَ مِنِّي...،
وَإِنِّي لَأَمَانُ أَهْلِ اَلْأَرْضِ كَمَا أَنَّ اَلنُّجُومَ أَمَانٌ لِأَهْلِ
اَلسَّمَاءِ، فَأَغْلِقُوا أَبْوَابَ اَلسُّؤَالِ عَمَّا لَا يَعْنِيكُمْ، وَلَا
تَتَكَلَّفُوا عَلَى مَا قَدْ كُفِيتُمْ، وَأَكْثِرُوا اَلدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ
اَلْفَرَجِ فَإِنَّ ذَلِكَ فَرَجُكُمْ...»(٣٩).
فإنَّ الغوص في أعماق هذا الدعاء يُري أنَّ فيه نموذجاً توحيديًّا وانتماءً
عقائديًّا كبيراً.
الدعاء من الإمام (عليه السلام) على الأشخاص وأثره:
على العكس ممَّا يقف الدعاء على الأشخاص موقف المانع من تحصيل الكمالات، بل وفي بعض
الأحيان موقف سَلب المقتضي. ومن النماذج التي بَرزت في التاريخ والتي سُجِّلت عليها
هذه الملاحظة من قِبَل الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام):
-----------------
(٣٨) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٦٠٤ و٦٠٥/ ح ٥٧٢).
(٣٩) الغيبة للطوسي (ص ٢٩٠ - ٢٩٣/ ح ٢٤٧).
أوَّلاً: عُروة بِن يحيى النخَّاس الدهقان:
حيث روى الكشِّي (رحمه الله)، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُولَوَيْهِ
اَلْجَمَّالُ، عَنْ مُحَمَّدِ اِبْنِ مُوسَى اَلْهَمْدَانِيِّ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ
يَحْيَى اَلْبَغْدَادِيَّ اَلمَعْرُوفَ بِالدِّهْقَانِ (لَعَنَهُ اَللهُ) وَكَانَ
يَكْذِبُ عَلَى أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ اَلرِّضَا (عليه
السلام) وَعَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ اِبْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)
بَعْدَهُ، وَكَانَ يَقْطَعُ أَمْوَالَهُ لِنَفْسِهِ دُونَهُ وَيَكْذِبُ عَلَيْهِ،
حَتَّى لَعَنَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَأَمَرَ شِيعَتَهُ بِلَعْنِهِ،
وَاَلدُّعَاءِ عَلَيْهِ لِقَطْعِ اَلْأَمْوَالِ، لَعَنَهُ اَللهُ. قَالَ عَلِيُّ
بْنُ سَلْمَانَ بْنِ رُشَيْدٍ اَلْعَطَّارُ اَلْبَغْدَادِيُّ: فَلَعَنَهُ أَبُو
مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ لِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه
السلام) خِزَانَةً، وَكَانَ يَلِيهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ رَاشِدٍ (رضي الله عنه)،
فَسلَّمْت إِلَى عُرْوَةَ، فَأَخَذَ مِنْهَا لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَحْرَقَ بَاقِي مَا
فِيهَا، يُغَايِظُ بِذَلِكَ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَلَعَنَهُ وَبَرِئَ
مِنْهُ وَدَعَا عَلَيْهِ، فَمَا أُمْهِلَ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَلَيْلَتَهُ حَتَّى
قَبَضَهُ اَللهُ إِلَى اَلنَّارِ، فَقَالَ (عليه السلام): «جَلَسْتُ لِرَبِّي
لَيْلَتِي هَذِهِ كَذَا وَكَذَا جِلْسَةً، فَمَا اِنْفَجَرَ عَمُودُ اَلصُّبْحِ
وَلَا اِنْطَفَى ذَلِكَ اَلنَّارُ حَتَّى قَتَلَ اَللهُ عَدُوَّهُ (لَعَنَهُ
اَللهُ)»(٤٠).
وأنت تُلاحظ جليًّا أثر دعاء الإمام، فإنَّه ما إنْ طلع الصباح حتَّى سَلَّط الله
تعالى على هذا الرجل مَنْ يقتله بسبب دعاء الإمام (عليه السلام) عليه، وبقي ذكره
السيِّئ إلى يومنا هذا.
ثانياً: أحمد بن هلال العبرتائي:
الذي دعا عليه الإمام عدَّة مرَّات ولعنه وبرأ منه، وذكر أنَّ ما أوجب حصول ما حصل
لابن هلال هو «لَمْ يَدْعُ اَلمَرْءُ رَبَّهُ بِأَنْ لَا يُزِيغَ قَلْبَهُ بَعْدَ
أَنْ هَدَاهُ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مُسْتَقَرًّا وَلَا
يَجْعَلَهُ مُسْتَوْدَعاً، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ اَلدِّهْقَانِ
(عَلَيْهِ لَعْنَةُ اَلله) وَخِدْمَتِهِ وَطُولِ صُحْبَتِهِ، فَأَبْدَلَهُ اَللهُ
بِالْإِيمَانِ كُفْراً حِينَ فَعَلَ مَا فَعَلَ، فَعَاجَلَهُ اَللهُ بِالنَّقِمَةِ
وَلَا يُمْهِلُهُ».
-----------------
(٤٠) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٨٤٢ و٨٤٣/ ح ١٠٨٦).
وإليك النصُّ الكامل الذي رواه الكشِّي (رحمه الله) في رجاله عن أحمد بن هلال: عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ اَلمَرَاغِيُّ، قَالَ: وَرَدَ عَلَى اَلْقَاسِمِ بْنِ اَلْعَلَاء نُسْخَةٌ مَا خَرَجَ مِنْ لَعْنِ اِبْنِ هِلَالٍ، وَكَانَ اِبْتِدَاءُ ذَلِكَ أَنْ كَتَبَ (عليه السلام) إِلَى قُوَّامِهِ بِالْعِرَاقِ: «اِحْذَرُوا اَلصُّوفِيَّ اَلمُتَصَنِّعَ»، قَالَ: وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حَجَّ أَرْبَعاً وَخَمْسِينَ حَجَّةً، عِشْرُونَ مِنْهَا عَلَى قَدَمَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ رُوَاةُ أَصْحَابِنَا بِالْعِرَاقِ لَقُوهُ وَكَتَبُوا مِنْهُ، وَأَنْكَرُوا مَا وَرَدَ فِي مَذَمَّتِهِ، فَحَمَلُوا اَلْقَاسِمَ بْنَ اَلْعَلَاء عَلَى أَنْ يُرَاجِعَ فِي أَمْرِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ: «قَدْ كَانَ أَمْرُنَا نَفَذَ إِلَيْكَ فِي اَلمُتَصَنِّعِ اِبْنِ هِلَالٍ (لَا رَحِمَهُ اَللهُ) بِمَا قَدْ عَلِمْتَ، لَمْ يَزَلْ (لَا غَفَرَ اَللهُ لَهُ ذَنْبَهُ وَلَا أَقَالَهُ عَثْرَتَهُ) يُدَاخِلُ فِي أَمْرِنَا بِلَا إِذْنٍ مِنَّا وَلَا رِضًى، يَسْتَبِدُّ بِرَأْيِهِ، فَيَتَحَامَى مِنْ دُيُونِنَا، لَا يُمْضِى مِنْ أَمْرِنَا إِلَّا بِمَا يَهْوَاهُ وَيُرِيدُ، أَرْدَاهُ اَللهُ بِذَلِكَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَصَبَرْنَا عَلَيْهِ حَتَّى تَبَرَ اَللهُ بِدَعْوَتِنَا عُمُرَهُ، وَكُنَّا قَدْ عَرَّفْنَا خَبَرَهُ قَوْماً مِنْ مَوَالِينَا فِي أَيَّامِهِ (لَا رَحِمَهُ اَللهُ)، وَأَمَرْنَاهُمْ بِإِلْقَاءِ ذَلِكَ إِلَى اَلْخَاصِّ مِنْ مَوَالِينَا، وَنَحْنُ نَبْرَأُ إِلَى اَلله مِنِ اِبْنِ هِلَالٍ (لَا رَحِمَهُ اَللهُ) وَمِمَّنْ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ. وَأَعْلِمِ اَلْإِسْحَاقِيَّ (سَلَّمَهُ اَللهُ) وَأَهْلَ بَيْتِهِ مِمَّا أَعْلَمْنَاكَ مِنْ حَالِ هَذَا اَلْفَاجِرِ، وَجَمِيعِ مَنْ كَانَ سَأَلَكَ وَيَسْأَلُكَ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ وَاَلْخَارِجِينَ، وَمَنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا فِي اَلتَّشْكِيكِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ عَنَّا ثِقَاتُنَا، قَدْ عَرَفُوا بِأَنَّنَا نُفَاوِضُهُمْ سِرَّنَا، وَنَحْمِلُهُ إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ، وَعَرَفْنَا مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اَللهُ تَعَالَى». وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ: فَثَبَتَ قَوْمٌ عَلَى إِنْكَارِ مَا خَرَجَ فِيهِ، فَعَاوَدُوهُ فِيهِ، فَخَرَجَ: «لَا شَكَرَ اَللهُ قَدْرَهُ، لَمْ يَدْعُ اَلمَرْءُ رَبَّهُ بِأَنْ لَا يُزِيغَ قَلْبَهُ بَعْدَ أَنْ هَدَاهُ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مُسْتَقَرًّا وَلَا يَجْعَلَهُ مُسْتَوْدَعاً، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ اَلدِّهْقَانِ (عَلَيْهِ لَعْنَةُ اَلله) وَخِدْمَتِهِ وَطُولِ صُحْبَتِهِ، فَأَبْدَلَهُ اَللهُ بِالْإِيمَانِ كُفْراً حِينَ فَعَلَ مَا فَعَلَ،
فَعَاجَلَهُ اَللهُ بِالنَّقِمَةِ وَلَا يُمْهِلُهُ،
وَاَلْحَمْدُ لله لَا شَرِيكَ لَهُ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ»(٤١).
لاحظ معي هذه المقاطع المتعدِّدة من دعاء الإمام (عجَّل الله فرجه) على هذا الرجل
الذي كان من أصحاب الإمام الهادي والعسكري (عليهما السلام)، والذي عاش عمراً قارب
التسعين سنة حيث وُلِدَ (١٨٠هـ) وتُوفِّي (٢٦٧هـ)، فيكون عمره (٨٧) سنة تقريباً ولم
ينحرف إلَّا أواخر عمره حيث إنَّه كان يرى إمامة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)،
وأنَّ السفير الأوَّل عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه) هو وكيل للإمام المهدي
(عجَّل الله فرجه)، وكان يرى نفسه المؤهَّل للوكالة بعد السفير الأوَّل، ولمَّا
عيَّن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) السفير الثاني وهو ابن العمري، أي محمّد بن
عثمان الخلَّاني، توقَّف ولم يقل بنيابته عن الإمام، فقال له جماعة من الشيعة:
أَلَا تَقْبَلُ أَمْرَ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ وَتَرْجِعُ
إِلَيْهِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ اَلْإِمَامُ اَلمُفْتَرَضُ اَلطَّاعَةُ؟ فَقَالَ
لَهُمْ: لَمْ أَسْمَعْهُ يَنُصُّ عَلَيْهِ بِالْوَكَالَةِ، وَلَيْسَ أُنْكِرُ
أَبَاهُ - يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ -، فَأَمَّا أَنْ أَقْطَعَ أَنَّ أَبَا
جَعْفَرٍ وَكِيلُ صَاحِبِ اَلزَّمَانِ فَلَا أَجْسُرُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: قَدْ
سَمِعَهُ غَيْرُكَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَمَا سَمِعْتُمْ، وَوَقَفَ عَلَى أَبِي
جَعْفَرٍ، فَلَعَنُوهُ وَتَبَرَّءُوا مِنْهُ(٤٢)، وقد خرجت توقيعات بالبراءة منه
نقلنا إليك نصوص بعضها.
فلاحظ وأنت تقرأ النصَّ الآنف الذكر كيف أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) أَكثَرَ من
الدعاء على هذا الرجل، حيث قال (عجَّل الله فرجه): «لَا رَحِمَهُ اَللهُ»، «لَا
غَفَرَ اَللهُ لَهُ ذَنْبَهُ وَلَا أَقَالَهُ عَثْرَتَهُ»، «أَرْدَاهُ اَللهُ
بِذَلِكَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»، «تَبَرَ اَللهُ بِدَعْوَتِنَا عُمُرَهُ»، «لَا
رَحِمَهُ اَللهُ»، «نَبْرَأُ إِلَى اَلله مِنِ اِبْنِ هِلَالٍ لَا رَحِمَهُ
اَللهُ»، «لَا شَكَرَ اَللهُ قَدْرَهُ». هذه أدعية من
-----------------
(٤١) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٨١٦ و٨١٧/ ح ١٠٢٠)؛ وفي بحار الأنوار (ج ٥٠/ ص ٣١٨ و٣١٩/
ح ١٥): «لَمْ يَدَعِ اَلمَرْزِئَةَ بِأَنْ لَا يُزِيغَ قَلْبَهُ»، ولم يظهر لي ذلك.
(٤٢) الغيبة للطوسي (ص ٣٩٩/ ح ٣٧٤).
إمام مفترض الطاعة وهو الإمام
المهدي (عجَّل الله فرجه)، بل إنَّ الإمام في التوقيع الآنف الذكر يبرأُ إلى الله
ممَّن لا يبرأ منه، فأيُّ فعلٍ شنيعٍ قام به هذا ليقع فيما وقع فيه، ويصدر ما صدر
عن إمام الزمان (عجَّل الله فرجه) عليه؟!
أتعلم أيُّها القارئ العزيز أنَّ هذا الرجل عاش ما يقرب من ثمانين سنة من عمره على
ظاهر الاستقامة، وأنَّه إنَّما انحرف في السنين الأخيرة من عمره؟!
دقِّق معي فيما سأنقل لك، ولاحظ أثر دعاء الإمام (عليه السلام) على الإنسان وما
يجلبه من شقاء وهلاك أبدي، حيث ينقل الصدوق (رحمه الله) عن شيخه محمّد بن الحسن بن
أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، قال: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عَبْدِ اَلله يَقُولُ:
(مَا رَأَيْنَا وَلَا سَمِعْنَا بِمُتَشَيِّعٍ رَجَعَ عَنِ اَلتَّشَيُّعِ إِلَى
اَلنَّصْبِ إِلَّا أَحْمَدَ بْنَ هِلاَلٍ)(٤٣).
تأمَّل أيُّها العزيز في كلام محدِّث الطائفة الفقيه الصدوق (رحمه الله) وهو ينقل
عن أُستاذه هذه المقالة، وتدبَّر آثار دعاء الإمام (عليه السلام) وما يجلبه من شقاء
على الإنسان، ولا شكَّ أنَّ هذا الشخص لولا الاستعداد الذاتي في داخله واقتضاء
الانحراف في قلبه لما آلت أُموره إلى ذلك، فكان ما يحمل من علم ومكانة في المجتمع
وبالاً عليه وحسرةً يوم القيامة.
دعاء الندبة:
يُعتبَر دعاء الندبة من الأدعية المشهورة المعروفة، وفقراته موافقة مضموناً لما
عليه الروايات المعتبرة على ما يأتي من ذكر جملة من الروايات عند توضيح وشرح كلِّ
فقرة فقرة من هذا الدعاء المبارك.
وفي هذا الصدد فإنَّه لا ينبغي التوقُّف كثيراً في سند دعاء الندبة، وذلك لأنَّ
المتن فيه من المضامين العالية ما يجلب الاطمئنان إلى صدورها من معادن الوحي.
-----------------
(٤٣) كمال الدِّين (ص ٧٦).
وقد ذكر جملة من أساطين المذهب أنَّ بعض المضامين المذكورة في المعاجم الحديثيَّة
وكُتُب الأدعية والزيارات تكشف عن صدورها من معدن العصمة (عليهم السلام)، وممَّن
قال ذلك - وفي موارد مختلفة - جماعة، منهم:
* الميرداماد (رحمه الله) في (الرواشح): (... ويُعرَف كون الحديث موضوعاً بإقرار
واضعه بالوضع...، وقد يُعرَف أيضاً بركاكة ألفاظ المرويِّ وسخافة معانيها وما يجري
مجرى ذلك، كما قد يُحكَم بصحَّة المتن - مع كون السند ضعيفاً - إذا كان فيه من
أساليب الرزانة وأفانين البلاغة وغامضات العلوم وخفيَّات الأسرار ما يأبى إلَّا أنْ
يكون صدوره من خزنة الوحي، وأصحاب العصمة، وحزب روح القُدُس، ومعادن القوَّة
القدسيَّة. وللمضطلعين بعلم الحديث ملكة قويَّة، وثقافة شديدة يعرفون بها الصحيح
والمكذوب، ويُميِّزون الموضوع من المسموع)(٤٤).
* السيِّد عبد الله شُبَّر (رحمه الله) في (الأنوار اللَّامعة): (اعلم أنَّ هذه
الزيارة - الجامعة - قد رواها جملة من أساطين الدِّين وحملة علوم الأئمَّة
الطاهرين، وقد اشتهرت بين الشيعة الأبرار اشتهار الشمس في رابعة النهار، وجواهر
مبانيها وأنوار معانيها دلائل حقٍّ وشواهد صدقٍ على صدورها عن صدور حملة العلوم
الربَّانيَّة وأرباب الأسرار الفرقانيَّة(٤٥) المخلوقين من الأنوار الإلهيَّة، فهي
كسائر كلامهم الذي يُغني فصاحة مضمونه وبلاغة مشحونة عن ملاحظة سنده، كنهج البلاغة
والصحيفة السجَّاديَّة وأكثر الدعوات والمناجاة...)(٤٦).
-----------------
(٤٤) الرواشح السماويَّة (ص ٢٧٧ و٢٧٨).
(٤٥) في القاموس المحيط (ج ٣/ ص ٢٧٤): (فرق بينهما فرقاً وفُرقاناً - بالضمِّ -:
فصل، و﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: ٤]، أي يُقضى، ﴿وَقُرْآناً
فَرَقْنَاهُ﴾ [الإسراء: ١٠٦]: فصَّلناه وأحكمناه، ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ
الْبَحْرَ﴾ [البقرة: ٥٠]: فلقناه، و﴿الْفَارِقَاتِ فَرْقاً﴾ [المرسلات: ٤]:
الملائكة تنزل بالفرق بين الحقِّ والباطل، والفرق: الطريق في شعر الرأس...).
(٤٦) الأنوار اللَّامعة (ص ٣١).
* العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في (ملاذ الأخيار): (باب زيارة جامعة لسائر
المشاهد (على أصحابها السلام): الحديث الأوَّل: مجهول، لكن الزيارة نفسها شاهد عدل
على صحَّتها)(٤٧).
* الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (رحمه الله) في معرض جوابه عن سؤال وُجِّه له حول
سند دعاء الصباح، قال (رحمه الله): (وللأئمَّة (سلام الله عليهم) أُسلوب خاصٌّ في
الثناء على الله والحمد لله والضراعة له والمسألة منه، يعرف ذلك مَنْ مارس أحاديثهم
وآنس بكلامهم وخاض في بحار أدعيتهم، ومَنْ حصلت له تلك الملكة وذلك الأُنس لا يشكُّ
في أنَّ هذا الدعاء صادر منهم، وهو أشبه ما يكون بأدعية الأمير (عليه السلام) مثل
دعاء كميل وغيره، فإنَّ لكلِّ إمام لهجة خاصَّة وأُسلوباً خاصًّا على تقاربها
وتشابهها جميعاً، وهذا الدعاء في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة والمتانة والقوَّة مع
تمام الرغبة والخضوع والاستعارات العجيبة، اُنظر إلى أوَّل فقرة منه: «يَا مَنْ
دَلَعَ لِسَانَ اَلصَّبَاحِ بِنُطْقِ تَبَلُّجِهِ»(٤٨) واعجب لبلاغتها وبديع
استعاراتها. وإذا اتَّجهت إلى قوله: «يَا مَنْ دَلَّ عَلَى ذَاتِهِ بِذَاتِهِ»(٤٩)
تقطع بأنَّها من كلماتهم (سلام الله عليهم) مثل قول زين العابدين (عليه السلام):
«بِكَ عَرَفْتُكَ وَأَنْتَ دَلَلْتَنِي عَلَيْكَ»(٥٠)، وبالجملة فما أجود ما قال
بعض علمائنا الأعلام: إنَّنا كثيراً ما نُصحِّح الأسانيد بالمتون، فلا يضرُّ بهذا
الدعاء الجليل ضعف سنده مع قوَّة متنه، فقد دلَّ على ذاته بذاته...)(٥١).
* السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) في (مصباح الفقاهة): (... ولا إشكال في جواز
-----------------
(٤٧) ملاذ الأخيار (ج ٩/ شرح ص ٢٤٧).
(٤٨) زاد المعاد (ص ٣٨٦).
(٤٩) المصدر السابق.
(٥٠) إقبال الأعمال (ج ١/ ص ١٥٧).
(٥١) الفردوس الأعلى (ص ٥١).
ارتزاق
القاضي من بيت المال في الجملة كما هو المشهور، لأنَّ بيت المال معدٌّ لمصالح
المسلمين والقضاء من مهمَّاتها، ولما كتبه عليٌّ أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى
مالك الأشتر في عهد طويل، فقد ذكر (عليه السلام) فيه صفات القاضي، ثمّ قال: «وَاِفْسَحْ
لَهُ فِي اَلْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى
اَلنَّاسِ»(٥٢)، والعهد وإنْ نُقِلَ مرسَلاً إلَّا أنَّ آثار الصدق منه لائحة، كما
لا يخفى للناظر إليه...)(٥٣).
* الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلُّه) في درس الفقه من يوم الثلاثاء (١١/ جمادى
الثانية/ ١٤١٨هـ)، حيث أكَّد على اعتبار كتاب (نهج البلاغة) وبعض الروايات عالية
المضامين، فقد عبَّر عن رواية واردة في (عيون أخبار الرضا [(عليه السلام)]) بأنَّها
رواية شريفة، وقال: (إنَّ نفس مضمونها شاهد على صدورها من الإمام (عليه السلام))،
ثمّ قال في موضع آخر تعليقاً على حديث: «اَلْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى
عَلَيْهِ»(٥٤) بعد أنْ ذكر أنَّها من مرسَلات الصدوق [(رحمه الله)] التي لا دليل
على حجّيَّتها: (وفي رأينا فإنَّ مثل هذه الجُمَل صادرة عنهم، ولا ينبغي النظر في
سندها، ولذا فإنَّ من الخطأ إدراج بعض الروايات ذات المضامين العالية ضمن مبحث
صحَّة السند في الأُصول، إذ لا وجه مع علوِّ المضمون لصدور العبارة عن غير المعصوم
(عليه السلام)، ومن هنا فلا حاجة للبحث في سند مثل كلمات (نهج البلاغة))(٥٥).
فكون آثار الصدق لائحة من المضمون ممَّا يوجب التصديق بالصادر رغم الإرسال في
السند، وهذا لا يختصُّ بما ذكرناه من موارد ذُكِرَت في كلماتهم (قُدِّست أسرارهم)،
ويمكن أنْ يشمل مورد كلامنا.
* * *
-----------------
(٥٢) نهج البلاغة (ص ٤٣٥/ ح ٥٣).
(٥٣) مصباح الفقاهة (ج ١/ ص ٤٢٢).
(٥٤) من لا يحضره الفقيه (ج ٤/ ص ٣٣٤/ ح ٥٧١٩).
(٥٥) حوار مع فضل الله حول الزهراء (سلام الله عليها) (ص ٢٩٢).
«اَلحَمْدُ لله رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً».
والحديث في شرح هذه الفقرة يكون في
نقطتين:
النقطة الأولى: بيان معنى الحمد:
تعدَّدت الأقوال في تحديد معناه، وإنِ اتَّفقت على أنَّ الحمد هو الثناء على الله
تعالى والشكر له، بل عبَّرت عنه العديد من الروايات بأنَّه هو الشكر(٥٦) تعبيراً عن
معناه العامِّ بأبرز مصاديقه، ولأجل الاستئناس نمرُّ على جملة من الروايات ونلحظ
بعض كلمات المفسِّرين ممَّن تعرَّض لمعاني الحمد في القرآن الكريم خصوصاً تفسير
سورة الحمد.
قال الشيخ الطبرسي (رحمه الله): (معنى الحمد لله: الثناء عليه، والشكر له)(٥٧).
وقال (رحمه الله): (الحمد والمدح والشكر متقاربة المعنى، والفرق بين الحمد والشكر:
أنَّ الحمد نقيض الذمِّ، كما أنَّ المدح نقيض الهجاء. والشكر نقيض الكفران. والحمد
قد يكون من غير نعمة، والشكر يختصُّ بالنعمة، إلَّا أنَّ الحمد يُوضَع موضع الشكر،
ويقال: الحمد لله شكراً، فينصب (شكراً) على المصدر، ولو لم يكن الحمد في معنى الشكر
لما نصبه، فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر،
-----------------
(٥٦) سيأتي في الرواية الثانية ذلك.
(٥٧) مجمع البيان (ج ١/ ص ١٤٩).
فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من
التعظيم، ويكون بالقلب، وهو الأصل، ويكون أيضاً باللسان. وإنَّما يجب باللسان لنفي
تهمة الجحود والكفران. وأمَّا المدح فهو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد
إليه. وأمَّا الربُّ: فله معانٍ، منها: السيِّد المطاع...، ومنها: المالك...،
ومنها: الصاحب...، ومنها: المربِّب، ومنها: المصلح، واشتقاقه من التربية يقال:
ربَّيته ورببته بمعنى، وفلان يُرَبِّ صنيعته: إذا كان يُنمِّمها، ولا يُطلَق هذا
الاسم إلَّا على الله، ويُقيَّد في غيره، فيقال: ربُّ الدار، وربُّ الضيعة)(٥٨).
في (عيون أخبار الرضا (عليه السلام)) بإسناده عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام)، قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى اَلرِّضَا (عليه السلام)،
فَقَالَ لَهُ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ
وجلَّ): ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢]، مَا تَفْسِيرُهُ؟
فَقَالَ: «لَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنِ اَلْبَاقِرِ، عَنْ زَيْنِ
اَلْعَابِدِينَ، عَنْ أَبِيهِ (عليهم السلام) أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى أَمِيرِ
اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ
وجلَّ) ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾، مَا تَفْسِيرُهُ؟ فَقَالَ:
﴿الْحَمْدُ للهِ﴾ هُوَ أَنْ عَرَّفَ عِبَادَهُ بَعْضَ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ
جُمَلاً، إِذْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِهَا بِالتَّفْصِيلِ،
لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى أَوْ تُعْرَفَ، فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا:
اَلْحَمْدُ لله عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا. ﴿رَبِّ الْعالَمِينَ﴾، وَهُمُ
اَلْجَمَاعَاتُ مِنْ كُلِّ مَخْلُوقٍ مِنَ اَلْجَمَادَاتِ
وَاَلْحَيَوَانَاتِ...»(٥٩).
في (الفقيه): عن الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «﴿الْحَمْدُ للهِ﴾ إِنَّمَا هُوَ
أَدَاءٌ لِمَا أَوْجَبَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَى خَلْقِهِ مِنَ اَلشُّكْرِ،
وَشُكْرٌ لِمَا وَفَّقَ عَبْدَهُ مِنَ اَلْخَيْرِ»(٦٠).
-----------------
(٥٨) مجمع البيان (ج ١/ ص ٥٥).
(٥٩) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ١/ ص ٢٥٤ - ٢٥٦/ باب ٢٨/ ح ٣٠).
(٦٠) من لا يحضره الفقيه (ج ١/ ص ٣١٠/ ح ٩٢٦).
وعليه فالحمد هو الثناء لله تعالى وشكره على إحسانه بعد معرفة نِعَمه، لأنَّه يفترض
أنَّ العبد - وهو كذلك - متنعِّم بنِعَم كثيرة، لا يمكن إحصاؤها ولا شكرها إلَّا
بشكر منعمها والمفيض لها، وهو الله سبحانه وتعالى، حيث تُعطي فقرة الحمد - التي
تعني لزوم الشكر من العبد، ولزوم التخضُّع والتذلُّل للمعبود - درساً في العبوديَّة
للمشكور، لأنَّ الفقرة التي بعدها عندما وصفت المحمود بأنَّه ربُّ العالمين،
كأنَّما هي تقول للعبد: أيُّها العبد يجب عليك أنْ تشكر هذه النِّعَم التي لا
تُحصى، لأنَّ مصدرها الوجود الذي لا ينبع منه إلَّا الخير، هذا الوجود هو الوجود
الإلهي الغني الذي من أبرز صفاته أنَّه مدبِّر لهذا الكون.
وبكلمة: فإنَّ هذه الفقرة وعلى صغر حجمها تتحدَّث عن محوريَّة الربِّ والنعمة
والإحاطة، من خلال الكلمات الأربع التي تضمَّنتها، فـ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ﴾ تتكلَّم عن النِّعَم التي يجب أنْ تُحمَد والتي لا بدَّ أنْ تعود إلى
منعِم غني، هو مجمع صفات الكمال والجلال، وأنَّ أبرز ما يُظهره من إنعامه أنَّه
ربٌّ مدبِّر، ليعقبها بـ«اَلْعَالَمِينَ» إشارةً إلى الإحاطة الربوبيَّة لكلِّ
العوالم.
النقطة الثانية: بيان معنى الصلاة:
ثمّ أعقبها بالصلاة على محمّد (صلَّى الله عليه وآله)، معرِّفاً إيَّاه بأنَّه
(السيِّد النبيُّ)، ومثنيًّا بالصلاة والسلام على آله (عليهم السلام)، والحديث في
الصلاة على النبيِّ وآدابها وآثارها حديث طويل شيِّق، فالصلاة على النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله) شفاء من أخطر الأمراض التي يواجهها الإنسان، حيث قال (صلَّى الله
عليه وآله) كما في (الكافي): «اَلصَّلَاةُ عَلَيَّ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِي تَذْهَبُ
بِالنِّفَاقِ»(٦١).
وقد ذكرت الأحاديث الشريفة أنَّ للصلاة على النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) جملة من
الآثار
-----------------
(٦١) الكافي (ج ٢/ ص ٤٩٢/ باب الصلاة على النبيِّ محمّد وأهل بيته (عليهم السلام)/ ح ٨).
والفوائد، منها: إجابة الدعاء حيث قال (صلَّى الله عليه وآله): «صَلَاتُكُمْ
عَلَيَّ إِجَابَةٌ لِدُعَائِكُمْ»(٦٢)، وغيرها فراجع.
حقيقة سيادة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله):
سيادة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وهبيَّة من الله (عزَّ وجلَّ) لما يحمله من
الكمالات الروحيَّة والمعنويَّة.
وممَّا دلَّ على سيادة النبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وآله الأطهار (عليهم
السلام) عدَّة روايات لا يبعد القول بتواترها، منها:
روايات السيادة:
وهي تدلُّ على أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) سيِّد ولد آدم (عليه السلام)، ومنها ما
رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ
رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، فَأَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
(عليه السلام)، فَقَالَ: «هَذَا سَيِّدُ اَلْعَرَبِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله،
أَلَسْتَ سَيِّدَ اَلْعَرَبِ؟ قَالَ: «أَنَا سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ، وَعَلِيٌّ
سَيِّدُ اَلْعَرَبِ»، فَقُلْتُ: وَمَا اَلسَّيِّدُ؟ قَالَ: «مَنِ اُفْتُرِضَتْ
طَاعَتُهُ كَمَا اُفْتُرِضَتْ طَاعَتِي»(٦٣).
وإذا سألتَ: مَنْ هم العرب؟ يقال لك: هي قوميَّة من القوميَّات المعروفة يرتبط
أفرادها برابطة اللغة والنَّسَب وجملة من العادات والتقاليد والأعراف، لكن الروايات
الشريفة ذكرت أنَّ العرب يُقصَد بها - على نحو التأويل أو التصرُّف الحكومتي -
الشيعة بالخصوص، وأنَّهم الموالين لعلي (عليه السلام)، ولعلَّ تصريح الخبر
المتقدِّم بأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سيِّد العرب يشير إلى هذا المعنى.
-----------------
(٦٢) أمالي الطوسي (ص ٢١٥/ ح ٣٧٦/٢٦).
(٦٣) أمالي الصدوق (ص ٩٣ و٩٤/ ح ٧١/١١).
الشيعة هم العرب:
ومن بين تلك الروايات ما ورد:
* في (الكافي) بسنده عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ: قَالَ
أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ، وَشِيعَتُنَا
اَلْعَرَبُ، وَسَائِرُ اَلنَّاسِ اَلْأَعْرَابُ»(٦٤).
* وفيه بسنده عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام):
«نَحْنُ قُرَيْشٌ، وَشِيعَتُنَا اَلْعَرَبُ، وَسَائِرُ اَلنَّاسِ عُلُوجُ
اَلرُّومِ»(٦٥).
* وفي (معاني الأخبار) بسنده عَنْ ضُرَيْسِ بْنِ عَبْدِ اَلمَلِكِ، قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «نَحْنُ قُرَيْشٌ، وَشِيعَتُنَا
اَلْعَرَبُ، وَعَدُوُّنَا اَلْعَجَمُ»(٦٦).
* وفيه بسنده عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَخِيهِ مَعْمَرٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، قَالَ: «نَحْنُ اَلْعَرَبُ، وَشِيعَتُنَا
مِنَّا، وَسَائِرُ اَلنَّاسِ هَمَجٌ أَوْ هَبَجٌ»، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا
اَلْهَمَجُ؟ قَالَ: «اَلذُّبَابُ»، قُلْتُ: وَمَا اَلْهَبَجُ؟ قَالَ:
«اَلْبَقُّ»(٦٧).
ولهذه الحكومة والتفسير شاهد يُقلِّل من الاستيحاش في تقبُّل معنى أنَّ العرب هم
الشيعة بالخصوص وإنِ اختلفت قوميَّاتهم، وأنَّ غيرهم خارج دائرة العروبة الديِّنية
والعقائديَّة، أو قل: خارج دائرة العروبة لأهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما ورد في
روايات جعل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) الأب
لهذه الأُمَّة، ومنها ما ورد:
* في (أمالي الصدوق) بسنده عَنْ ثَابِتِ بْنِ أَبِي صَفِيَّةَ، عَنْ سَيِّدِ
اَلْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ سَيِّدِ اَلشُّهَدَاءِ
اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سَيِّدِ اَلْوَصِيِّينَ أَمِيرِ
-----------------
(٦٤) الكافي (ج ٨/ ص ١٦٦/ ح ١٨٣).
(٦٥) الكافي (ج ٨/ ص ١٦٦/ ح ١٨٤).
(٦٦) معاني الأخبار (ص ٤٠٣ و٤٠٤/ باب معنى نوادر المعاني/ ح ٧١).
(٦٧) معاني الأخبار (ص ٤٠٤/ باب معنى نوادر المعاني/ ح ٧٢).
اَلمُؤْمِنِينَ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، عَنْ سَيِّدِ اَلنَّبِيِّينَ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اَلله خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ (صلَّى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ:
«إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ طَاعَتِي، وَنَهَاكُمْ عَنْ
مَعْصِيَتِي، وَأَوْجَبَ عَلَيْكُمْ اِتِّبَاعَ أَمْرِي، وَفَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ
طَاعَةِ عَلِيٍّ بَعْدِي مَا فَرَضَهُ مِنْ طَاعَتِي، وَنَهَاكُمْ مِنْ
مَعْصِيَتِهِ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِي، وَجَعَلَهُ أَخِي
وَوَزِيرِي وَصِيِّي وَوَارِثِي، وَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، حُبُّهُ إِيمَانٌ
وَبُغْضُهُ كُفْرٌ، وَمُحِبُّهُ مُحِبِّي، وَمُبْغِضُهُ مُبْغِضِي، وَهُوَ مَوْلَى
مَنْ أَنَا مَوْلَاهُ، وَأَنَا مَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، وَأَنَا
وَإِيَّاهُ أَبَوَا هَذِهِ اَلْأُمَّةِ»(٦٨).
* وفي (كمال الدِّين) بسنده عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ
عَلِيِّ بْنِ مُوسَى اَلرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «أَنَا سَيِّدُ مَنْ خَلَقَ
اَللهُ (عزَّ وجلَّ)، وَأَنَا خَيْرٌ مِنْ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ
وَإِسْرَافِيلَ وَحَمَلَةِ اَلْعَرْشِ وَجَمِيعِ مَلَائِكَةِ اَلله اَلمُقَرَّبِينَ
وَأَنْبِيَاءِ اَلله اَلمُرْسَلِينَ، وَأَنَا صَاحِبُ اَلشَّفَاعَةِ وَاَلْحَوْضِ
اَلشَّرِيفِ، وَأَنَا وَعَلِيٌّ أَبَوَا هَذِهِ اَلْأُمَّةِ، مَنْ عَرَفَنَا فَقَدْ
عَرَفَ اَللهَ (عزَّ وجلَّ)، وَمَنْ أَنْكَرَنَا فَقَدْ أَنْكَرَ اَللهَ (عزَّ
وجلَّ)، وَمِنْ عَلِيٍّ سِبْطَا أُمَّتِي، وَسَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ:
اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ، وَمِنْ وُلْدِ اَلْحُسَيْنِ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ
طَاعَتُهُمْ طَاعَتِي، وَمَعْصِيَتُهُمْ مَعْصِيَتِي، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ
وَمَهْدِيُّهُمْ»(٦٩).
* * *
-----------------
(٦٨) أمالي الصدوق (ص ٦٥/ ح ٣٠/٦).
(٦٩) كمال الدِّين (ص ٢٦١/ باب ٢٤/ ح ٧).
«اَللَّهُمَّ لَكَ اَلحَمْدُ عَلَى مَا جَرَى بِهِ قَضَاؤُكَ فِي أَوْلِيَائِكَ اَلَّذِينَ اِسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَدِينِكَ، إِذِ اِخْتَرْتَ لَهمْ جَزِيلَ مَا عِنْدَكَ مِنَ اَلنَّعِيمِ اَلمُقِيمِ اَلَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ وَلَا اِضْمِحْلَالَ»
تشتمل هذه الفقرة على جملة من
المطالب المهمَّة، وهي تحتاج إلى توسعة في الكلام وشرح يناسب ما تحتويه من مخزون
علمي ومعرفي، ولكن حيث إنَّ هذا الشرح مبنيٌّ على الاختصار وبيان المطالب بنحو
الإجمال، فيُترَك التفصيل إلى محلِّه.
والمطالب التي ينبغي تسليط الضوء عليها نتناولها على شكل نقاط:
النقطة الأولى: البُعد العقائدي:
بحث القضاء والقدر:
مسألة القضاء والقدر من المسائل الكلاميَّة التي دارت حولها - ومنذ القِدَم -
العديد من المناقشات، وخضعت للعديد من القراءات، وتمذهب بسببها عدَّة مذاهب وفِرَق،
ولا زالت مقالات هذه المسألة تُلقِي بظلالها على الواقع الفكري والدِّيني.
القضاء والقدر في القرآن والروايات:
ذُكِرَ القضاء والقدر في الكتاب العزيز في عدَّة آيات كريمة، من بينها:
قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: ٤٩).
قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ (الأحزاب: ٣٨).
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ
إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ (الحجر: ٢١).
وقد ورد في الروايات الشريفة تعريفهما والحديث عن جملة من تفاصيلهما، وممَّا ورد:
* في (الفصول المختارة) بسنده عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ اَلسَّبِيعِيِّ، قَالَ: قَالَ
شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ اَلشَّامِ حَضَرَ صِفِّينَ مَعَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه
السلام) بَعْدَ اِنْصِرَافِهِمْ مِنْ صِفِّينَ: أَخْبِرْنَا يَا أَمِيرَ
اَلمُؤْمِنِينَ عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى اَلشَّامِ أَكَانَ بِقَضَاءٍ مِنَ اَلله
وَقَدَرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ يَا أَخَا أَهْلِ اَلشَّامِ، وَاَلَّذِي فَلَقَ
اَلْحَبَّةَ وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ مَا وَطِئْنَا مَوْطِئاً وَلَا هَبَطْنَا
وَادِياً وَلَا عَلَوْنَا تَلْعَةً إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ اَلله وَقَدَرِهِ»،
فَقَالَ اَلشَّامِيُّ: عِنْدَ اَلله تَعَالَى أَحْتَسِبُ عَنَايَ إِذاً يَا أَمِيرَ
اَلمُؤْمِنِينَ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ لِي أَجْراً فِي سَعْيِي إِذَا كَانَ اَللهُ
قَضَاهُ عَلَيَّ وَقَدَّرَهُ لِي، فَقَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام):
«إِنَّ اَللهَ قَدْ أَعْظَمَ لَكُمُ اَلْأَجْرَ عَلَى مَسِيرِكُمْ وَأَنْتُمْ
سَائِرُونَ، وَعَلَى مُقَامِكُمْ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ، وَلَمْ تَكُونُوا فِي
شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِكُمْ مُكْرَهِينَ، وَلَا إِلَيْهَا مُضْطَرِّينَ، وَلَا
عَلَيْهَا مُجْبَرِينَ»، فَقَالَ اَلشَّامِيُّ: فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ
وَاَلْقَضَاءُ وَاَلْقَدَرُ سَاقَانَا، وَعَنْهُمَا كَانَ مَسِيرُنَا
وَاِنْصِرَافُنَا؟ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «وَيْحَكَ
يَا أَخَا أَهْلِ اَلشَّامِ، لَعَلَّكَ ظَنَنْتَ قَضَاءً لَازِماً، وَقَدَراً
حَتْماً، لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ اَلثَّوَابُ وَاَلْعِقَابُ، وَسَقَطَ
اَلْوَعْدُ وَاَلْوَعِيدُ، وَاَلْأَمْرُ مِنَ اَلله (عزَّ وجلَّ) وَاَلنَّهْيُ
مِنْهُ، وَمَا كَانَ اَلمُحْسِنُ أَوْلَى بِثَوَابِ اَلْإِحْسَانِ مِنَ اَلمُسِيءِ،
وَلَا اَلمُسِيءُ أَوْلَى بِعُقُوبَةِ اَلذَّنْبِ مِنَ اَلمُحْسِنِ، تِلْكَ
مَقَالَةُ عَبَدَةِ اَلْأَوْثَانِ، وَحِزْبِ اَلشَّيْطَانِ، وَخُصَمَاءِ
اَلرَّحْمَنِ، وَشُهَدَاءِ اَلزُّورِ، وَقَدَرِيَّةِ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ
وَمَجُوسِهَا، إِنَّ اَللهَ أَمَرَ عِبَادَهُ تَخْيِيراً، وَنَهَاهُمْ تَحْذِيراً،
وَكَلَّفَ يَسِيراً، وَأَعْطَى عَلَى اَلْقَلِيلِ كَثِيراً، وَلَمْ يُطَعْ
مُكْرَهاً، وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً، وَلَمْ يُكَلِّفْ عَسِيراً، وَلَمْ يُرْسِلِ
اَلْأَنْبِيَاءَ لَعِباً، وَلَمْ يُنْزِلِ اَلْكُتُبَ عَلَى اَلْعِبَادِ عَبَثاً،
وَمَا خَلَقَ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً، ذَلِكَ
ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنَّارِ»، قَالَ
اَلشَّامِيُّ: فَمَا اَلْقَضَاءُ وَاَلْقَدَرُ اَللَّذَانِ كَانَ مَسِيرُنَا بِهِمَا وَعَنْهُمَا؟ قَالَ: «اَلْأَمْرُ مِنَ اَلله تَعَالَى فِي ذَلِكَ،
وَاَلْحُكْمُ مِنْهُ»، ثُمَّ تَلَا: «﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾
[الأحزاب: ٣٨]...»(٧٠).
فأمير المؤمنين (عليه السلام) يُصرِّح أنَّ القضاء والتقدير الإلهي لا يوجب الإلجاء
والجبر على الإنسان في أفعاله، وإلَّا لبطل الثواب والعقاب، فالإنسان مختار في
أفعاله في إطار قضاء الله تعالى وتقديره.
* وفي (الكافي) بسنده عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ لِي
أَبُو اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عليه السلام): «يَا يُونُسُ، لَا تَقُلْ بِقَوْلِ
اَلْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ لَمْ يَقُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ
اَلْجَنَّةِ، وَلَا بِقَوْلِ أَهْلِ اَلنَّارِ، وَلَا بِقَوْلِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّ
أَهْلَ اَلْجَنَّةِ قَالُوا: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا
كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لَا أَنْ هَدَانَا اللهُ﴾ [الأعراف: ٤٣]، وَقَالَ أَهْلُ
اَلنَّارِ: ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ﴾
[المؤمنون: ١٠٦]، وَقَالَ إِبْلِيسُ: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الحجر: ٣٩]»،
فَقُلْتُ: وَاَلله مَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَكِنِّي أَقُولُ: لَا يَكُونُ
إِلَّا بِمَا شَاءَ اَللهُ وَأَرَادَ وَقَدَّرَ وَقَضَى، فَقَالَ: «يَا يُونُسُ،
لَيْسَ هَكَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَا شَاءَ اَللهُ وَأَرَادَ وَقَدَّرَ وَقَضَى.
يَا يُونُسُ، تَعْلَمُ مَا اَلمَشِيئَةُ؟»، قُلْتُ: لَا، قَالَ: «هِيَ اَلذِّكْرُ
اَلأَوَّلُ، فَتَعْلَمُ مَا اَلْإِرَادَةُ؟»، قُلْتُ: لَا، قَالَ: «هِيَ
اَلْعَزِيمَةُ عَلَى مَا يَشَاءُ، فَتَعْلَمُ مَا اَلْقَدَرُ؟»، قُلْتُ: لَا،
قَالَ: «هِيَ اَلْهَنْدَسَةُ وَوَضْعُ اَلْحُدُودِ مِنَ اَلْبَقَاءِ
وَاَلْفَنَاءِ»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «وَاَلْقَضَاءُ هُوَ اَلْإِبْرَامُ
وَإِقَامَةُ اَلْعَيْنِ»، قَالَ: فَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أُقَبِّلَ رَأْسَهُ،
وَقُلْتُ: فَتَحْتَ لِي شَيْئاً كُنْتُ عَنْه فِي غَفْلَةٍ(٧١).
فالقضاء والقدر في عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) حقيقة تقع بين الجبر
-----------------
(٧٠) الفصول المختارة (ص ٧٠ - ٧٢).
(٧١) الكافي (ج ١/ ص ١٥٧ و١٥٨/ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين/ ح ٤).
والاختيار،
فتُعطي للإنسان مساحة واسعة تسمح له أنْ يصل إلى المقامات العليا من الكمالات التي
ينبغي له الوصول إليها، وفي نفس الوقت لا يعني ذلك الوقوع في التفويض والخروج عن
القدرة الإلهيَّة، فمن أجمل التركيبات التي تمتاز بها العقيدة الإماميَّة أنَّها
نظَّمت هذا البحث بشكل ينسجم مع الوجدان والعقل والواقع، في حين أنَّ الغير لم
يتمكَّن من الخروج من هذه المعضلة بما ينسجم مع العقل والوجدان وما دلَّت عليه
الآيات الكريمة.
مراتب القضاء والقدر:
من البحوث التي تطرَّق لها العلماء في هذه المسألة هو بيان مراتب القضاء والقدر،
حيث ترتَّب على اختلاف المراتب حلُّ العديد من عُقَد هذه المسألة وجملة من ألغازها،
وممَّا ذُكِرَ في هذا الصدد:
القضاء والقدر في عالم التشريع والاعتبار:
ويُراد منه ما يُعبِّر عن إرادة المولى التشريعيَّة، وقد أشارت كلمة أمير المؤمنين
(عليه السلام) إلى هذا المعنى حين قال للرجل الذي سأله عن معناهما: «اَلْأَمْرُ
بِالطَّاعَةِ، وَاَلنَّهْيُ عَنِ اَلمَعْصِيَةِ، وَاَلتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلِ
اَلْحَسَنَةِ وَتَرْكِ اَلسَّيِّئَةِ...»(٧٢).
القضاء والقدر في عالم التكوين:
فهو ما يرجع إلى حقائق هذا الكون ووجوداته، حيث عبَّرت عنهما بعض الروايات فيما
تقدَّم بأنَّ القدر هو الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، والقضاء هو الإبرام
وإقامة العين.
إنْ قيل: ألَا يلزم من القول بالقضاء والقدر، وأنَّ جميع ما في الكون مقدَّر ومقضي
بعلم الله تعالى وواقع تحت سلطانه وقدرته، ألَا يلزم منه الجبر؟
فإنَّه يقال: لا يلزم منه القول بالجبر، على ما بيَّنته الروايات الشريفة
-----------------
(٧٢) الإرشاد (ج ١/ ص ٢٢٥ و٢٢٦).
المتقدِّمة، ولأنَّ الموجودات التي خلقها الله تعالى على نحوين: مجرَّدة وغير
مجرَّدة، والمجرَّدة تقديرها تلك الحدود التي رسمها الله تعالى لها، فيما الموجودات
غير المجردة يكون تقديرها في إطار الزمان والمكان، فعندما تتحقَّق ضرورات وجود
الشيء من عِلَله وشرائطه يُعبَّر عنه أنَّه مقضي ومقدَّر.
وحيث إنَّ الإنسان خُلِقَ بقيد أنَّه مختار، فلا يكون تقدير الله تعالى سلباً
لحرّيَّته، وقضاء عليه بما هو خارج عن إرادته وقدرته.
قال الشيخ المفيد (قدّس سرّه): (والوجه عندنا في القضاء والقدر بعد الذي بيَّنَّاه
في معناه أنَّ لله تعالى في خلقه قضاءً وقدراً، وفي أفعالهم أيضاً قضاءً وقدراً
معلوماً، ويكون المراد بذلك أنَّه قد قضى في أفعالهم الحسنة بالأمر بها، وفي
أفعالهم القبيحة بالنهي عنها، وفي أنفسهم بالخلق لها، وفيما فعله فيهم بالإيجاد له،
والقدر منه سبحانه فيما فعله إيقاعه في حقِّه وموضعه، وفي أفعال عباده ما قضاه فيها
من الأمر والنهي والثواب والعقاب، لأنَّ ذلك كلَّه واقع موقعه، موضوع في مكانه لم
يقع عبثاً ولم يُصنَع باطلاً، فإذا فُسِّر القضاء في أفعال الله تعالى والقدر بما
شرحناه زالت الشنعة منه، وثبتت الحجَّة به، ووضح الحقُّ فيه لذوي العقول، ولم يلحقه
فساد ولا إخلال)(٧٣).
النقطة الثانية: البُعد القيمي والأخلاقي التربوي:
فإنَّ هذه الفقرة التي تبتدئ بذكر الله سبحانه وتعالى، وتنسب كلَّ فيض من الوجود
إلى أُلوهيَّته، هي في عين الوقت تُلزم الإنسان بأنْ يخضع إذعاناً لوليِّ تلك
النِّعَم، وإيقاناً بأنَّ كلَّ نعمة صدرت وتصدر إنَّما هي من معدن ومنبع
الأُلوهيَّة، فجميع ما يُمثِّله الحمد من مداليل في اللغة هي صور يُعبِّر بها
الداعي
-----------------
(٧٣) تصحيح اعتقادات الإماميَّة (ص ٥٦).
في دعائه إلى الله سبحانه وتعالى من خلال هذا المقطع، وإنْ كانت تلك
النِّعَم في ظاهرها ابتلاءات، فالنفس المُستخلصة والتي وقع عليها الاختيار الإلهي
ترى أنَّ ذلك يوجب الحمد، وأنَّه في كلِّ الأحوال لا يُفرِّق فيه بين سرَّاء أو
ضرَّاء، كما في حديث الإمام الباقر (عليه السلام) مع جابر بن عبد الله الأنصاري
حينما سأله (عليه السلام) عن أحواله، فقال جابر: أَنَا فِي حَالَةٍ أُحِبُّ فِيهَا
اَلشَّيْخُوخَةَ عَلَى اَلشَّبَابِ، وَاَلمَرَضَ عَلَى اَلصِّحَّةِ، وَاَلمَوْتَ
عَلَى اَلْحَيَاةِ، فَقَالَ اَلْبَاقِرُ (عليه السلام): «أَمَّا أَنَا يَا جَابِرُ
فَإِنْ جَعَلَنِيَ اَللهُ سُبْحَانَهُ شَيْخاً أُحِبُّ اَلشَّيْخُوخَةَ، وَإِنْ
جَعَلَنِي شَابًّا أُحِبُّ اَلشَّيْبُوبَةَ، وَإِنْ أَمْرَضَنِي أُحِبُّ اَلمَرَضَ،
وَإِنْ شَفَانِيَ أُحِبُّ اَلشِّفَاءَ وَاَلصِّحَّةَ، وَإِنْ أَمَاتَنِي أُحِبُّ
اَلمَوْتَ، وَإِنْ أَبْقَانِي أُحِبُّ اَلْبَقَاءَ»(٧٤).
فما يشير إليه المقطع، هو ما يُصرِّح به الإمام الباقر (عليه السلام) حيث يجعل
النفس المستخلَصة، والتي انتُخِبَت واُختيرت للولاية نموذجاً أُسويًّا يُحتذى به.
ولا تخفى الإشارات اللطيفة التي يتضمَّنها هذا المقطع من سموِّ النفس ورقيِّها
وتهذيبها وإعطائها نوعاً من الدربة في الممارسات السلوكيَّة نتيجةً لما يسمعه
الإنسان المؤمن عن الذي جرى على الأولياء، فتلك المعاني الخُلُقيَّة التي تتولَّد
لدى المؤمن من إذعانه، وكلَّما اشتدَّ به البلاء إنَّما هي أملاً في استخلاص نفسه
للباري تعالى وذوبان وجوده في دينه، وهذا السموُّ الرفيع هو النموذج الذي أُمرنا
بالاقتداء به والمتمثِّل بتلك المكارم التي إنَّما بُعِثَ رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله) ليُتمِّمها في النفس الإنسانيَّة.
النقطة الثالثة: البُعد المعرفي والمفاهيمي:
يُسلِّط المقطع الضوء على منظومة إلهيَّة لا يمكن أنْ تستقيم إلَّا بسُنَن
-----------------
(٧٤) أنوار الحقيقة (ص ٢٥٩).
تكوينيَّة، من أبرزها سُنَّة الابتلاء والامتحان من أجل تحقيق الهدف الأسمى، فخلاصة
المعرفة البشريَّة والتجربة العقلائيَّة تقول: إنَّ الامتحان والبلاء ضرورة في
تحقيق الأهداف العظام، وهي سُنَن إلهيَّة جارية على جميع الناس، قال تعالى:
﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ
* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت: ٢ و٣).
فإنَّ جريان هذه السُّنَن في الابتلاءات على خصوص الإنسان المؤمن تُولِّد لدى
المضحِّي قدرة هائلة في أنَّه لا يتوانى في البذل من أجل تحقيق الغاية القصوى، وهذا
المقطع الذي يعكس لنا الحمد على ما جرى به القضاء في الأولياء لأجل الاستخلاص
يُبرِز هذه الحقيقة بشكلٍ جليٍّ واضحٍ.
ففي جملة من الروايات جاء التعبير بشدَّة الابتلاء مقروناً بدرجة الإنسان، فقد
ذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) اَلْبَلَاءُ وَمَا يَخُصُّ اَللهُ
(عزَّ وجلَّ) بِهِ اَلمُؤْمِنَ، فَقَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله): مَنْ أَشَدُّ اَلنَّاسِ بَلَاءً فِي اَلدُّنْيَا؟ فَقَالَ: اَلنَّبِيُّونَ،
ثُمَّ اَلْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، وَيُبْتَلَى اَلمُؤْمِنُ بَعْدُ عَلَى قَدْرِ
إِيمَانِهِ وَحُسْنِ أَعْمَالِهِ، فَمَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ
اِشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَمَنْ سَخُفَ إِيمَانُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ
بَلَاؤُهُ»(٧٥).
وفي نفس المصدر بسنده عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ:
«إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) لَيَتَعَاهَدُ اَلمُؤْمِنَ بِالْبَلَاءِ كَمَا
يَتَعَاهَدُ اَلرَّجُلُ أَهْلَهُ بِالْهَدِيَّةِ مِنَ اَلْغَيْبَةِ، وَيَحْمِيهِ
اَلدُّنْيَا كَمَا يَحْمِي اَلطَّبِيبُ اَلمَرِيضَ»(٧٦).
فإنَّ النعيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال يحصل للإنسان بعد التسليم بالقضاء الصادر
من الله سبحانه وتعالى.
علماً أنَّ الفقرة التي تحدَّثنا عنها تكتنز الكثير من المفاهيم والمعارف
-----------------
(٧٥) الكافي (ج ٢/ ص ٢٥٢/ باب شدَّة ابتلاء المؤمن/ ح ٢).
(٧٦) الكافي (ج ٢/ ص ٢٥٥/ باب شدَّة ابتلاء المؤمن/ ح ١٧).
العظيمة، فمَنْ له همَّة المتابعة سيقف على بحر زاخر من المعارف من خلال هذا المقطع المبارك.
* * *
الفقرة الثالثة
«بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ اَلزُّهْدَ في دَرَجَاتِ هَذِهِ اَلدُّنْيَا
اَلدَّنِيَّةِ وَزُخْرُفِهَا وَزِبْرِجِهَا، فَشَرَطُوا لَكَ ذَلِكَ وَعَلِمْتَ
مِنْهُمُ اَلْوَفاءَ بِهِ»
في هذه الفقرة جملة مطالب ومفاهيم
نتناولها في ضمن النقاط الآتية:
النقطة الأولى: الزهد في الدنيا:
تتحدَّث هذه الفقرة عن فضيلة الزهد في الدنيا، والوفاء بالعهد، والرؤية التي ينبغي
للمؤمن أنْ ينظر بها للدنيا.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اَلزَّهَادَةُ قِصَرُ اَلْأَمَلِ، وَاَلشُّكْرُ
عِنْدَ اَلنِّعَمِ، وَاَلتَّوَرُّعُ عِنْدَ اَلمَحَارِمِ»(٧٧).
الدنيا أدنى مراتب الوجود، وتمتاز بظاهر جميل برَّاق مزخرف جذَّاب، يُصرف الإنسانَ
عن باطنها الدنيِّ، ويُبعِد المؤمن عن القرب من الله تعالى، هذا لو انطَلقَ منها
لتحقيق الأهداف الضيِّقة.
وأمَّا لو انطَلقَ منها من خلال السموِّ الروحي والتعالي على زخرفها وزبرجها فإنَّه
يستطيع أنْ يصل إلى الحياة الأبديَّة والمستقرِّ السامي الذي لا بديل عنه.
-----------------
(٧٧) نهج البلاغة (ص ١٠٦/ ح ٨١).
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَإِنَّ اَللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ
اَلدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا، وَاِبْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً، وَلَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا، وَلَا بِالسَّعْيِ فِيهَا
أُمِرْنَا، وَإِنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَى بِهَا...»(٧٨).
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ اَلْبَرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه
السلام) أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ عَنِ اَلزُّهْدِ، فَقَالَ: «اَلزُّهْدُ عَشَرَةُ
أَشْيَاءَ، فَأَعْلَى دَرَجَاتِ اَلزُّهْدِ أَدْنَى دَرَجَاتِ اَلْوَرَعِ،
وَأَعْلَى دَرَجَاتِ اَلْوَرَعِ أَدْنَى دَرَجَاتِ اَلْيَقِينِ، وَأَعْلَى
دَرَجَاتِ اَلْيَقِينِ أَدْنَى دَرَجَاتِ اَلرِّضَا. أَلَا وَإِنَّ اَلزُّهْدَ فِي
آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾ [الحديد: ٢٣]»(٧٩).
وفي الخبر الصحيح عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه
السلام)، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «إِنَّ عَلَامَةَ
اَلرَّاغِبِ فِي ثَوَابِ اَلْآخِرَةِ زُهْدُهُ فِي عَاجِلِ زَهْرَةِ اَلدُّنْيَا.
أَمَا إِنَّ زُهْدَ اَلزَّاهِدِ فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا لَا يَنْقُصُهُ مِمَّا
قَسَمَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ فِيهَا وَإِنْ زَهِدَ، وَإِنَّ حِرْصَ اَلْحَرِيصِ
عَلَى عَاجِلِ زَهْرَةِ اَلْحَيَاةِ اَلدُّنْيَا لَا يَزِيدُهُ فِيهَا وَإِنْ
حَرَصَ، فَالمَغْبُونُ مَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ اَلْآخِرَةِ»(٨٠).
فمَنْ لا يقف عند زخرف الدنيا وزينتها المزوَّقة وذهبها البرَّاق، ولا يُؤثِر فيه
زبرجها ولمعانها وحسنها، سيتجاوز أصعب عقبة كؤود يمرُّ بها بعد صفاء قلبه وسلامة
فكره وعقيدته.
ولذا كان هذا الامتحان من بين أصعب امتحانات البشريَّة من عالم الإشهاد إلى أنْ يرث
الله تعالى الأرض ومَنْ عليها.
والزخرف الزينة المزوَّقة.
-----------------
(٧٨) نهج البلاغة (ص ٤٤٦/ ح ٥٥).
(٧٩) معاني الأخبار (ص ٢٥٢/ باب معنى الزهد/ ح ٤).
(٨٠) الكافي (ج ٢/ ص ١٢٩/ باب ذمِّ الدنيا والزهد فيها/ ح ٦).
النقطة الثانية: عالم الذرِّ:
تتحدَّث هذه الفقرة أيضاً عن عالم المشارطة مع الله سبحانه وتعالى، وهو ما أشارت
إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ (الأعراف: ١٧٢)، فهناك حيث محمّد وآل محمّد
وعالم الأنوار، ذلك العالم الذي صار النور الإلهي المفاض على أهل البيت (عليهم
السلام) مصدراً للفيض الربَّاني.
تُرشِدنا هذه الفقرة إلى تلك المشارطة التي ينبغي الإيمان بها، وأنَّ ما ناله محمّد
(صلَّى الله عليه وآله) وآله (عليهم السلام) وكذا غيرهم من الرُّسُل والأنبياء
(عليهم السلام) والعلماء والأولياء والصلحاء - كلٌّ حسب سعته الوجوديَّة
وقابليَّاته في العلم والعمل - إنَّما هو نتيجة لتلك المشارطة بالتنازل عن هذه
الدنيا من أجل الدِّين وهداية الناس، وأنَّ ما عندهم من فضائل وكرامات راجع إلى ذلك
العالم وتلك المشارطة.
وفي الروايات الشريفة حديث مفصَّل ومتعدِّد الجوانب عن هذا العالم، بل وغيره.
النقطة الثالثة: علم الله تعالى:
يُحدِّثنا هذا المقطع عن علم الله سبحانه وتعالى الشامل لكلِّ شيء، وأنَّ الله
سبحانه وتعالى عالم بكلِّ شيء ومحيطٌ به، ولأجل كونه سبحانه وتعالى خالقاً ومحيطاً
بكلِّ مخلوق فهو يعلم به قبل إيجاده، ومع وجوده في هذا العالم، وبعد انتقاله إلى
عوالم أُخرى، فهو سبحانه وتعالى عالم بكلِّ الأشياء ماضيِّها وحاضرها ومستقبلها.
ومن هذا العلم علمُهُ سبحانه وتعالى بما سيصدر من الإنسان من أقوال وأفعال، ولا
ينافي هذا العلم - المسبق بما سيحصل للإنسان - حرّيَّة هذا
الإنسان واختياره في
القيام بما ينبغي القيام به، على ما تقدَّم في المقطع المتقدِّم من أنَّ مشيئة الله
سبحانه وتعالى اقتضت أنْ يخلق الإنسان في هذه الدنيا بقيد أنَّه مختار بلا تفويض
ولا جبر، فخلقة الإنسان عبارة عن وجود من ذاتيَّاته الاختيار، فليس هو موجوداً
مجبَراً ومسلوب الإرادة والاختيار في هذه الدنيا.
وقد روي في هذا المعنى عَنْ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اَلله وَمُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى جَمِيعاً رَفَعَاهُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) أَنَّ أَمِيرَ
اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) اِسْتَنْهَضَ اَلنَّاسَ فِي حَرْبِ مُعَاوِيَةَ فِي
اَلمَرَّةِ اَلثَّانِيَةِ، فَلَمَّا حَشَدَ اَلنَّاسُ قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ:
«اَلْحَمْدُ لله اَلْوَاحِدِ اَلْأَحَدِ اَلصَّمَدِ اَلمُتَفَرِّدِ اَلَّذِي لَا
مِنْ شَيْءٍ كَانَ وَلَا مِنْ شَيْءٍ خَلَقَ مَا كَانَ...، اِبْتَدَعَ مَا خَلَقَ
بِلَا مِثَالٍ سَبَقَ وَلَا تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَكُلُّ صَانِعِ شَيْءٍ فَمِنْ
شَيْءٍ صَنَعَ وَاَللهُ لَا مِنْ شَيْءٍ صَنَعَ مَا خَلَقَ، وَكُلُّ عَالِمٍ فَمِنْ
بَعْدِ جَهْلٍ تَعَلَّمَ وَاَللهُ لَمْ يَجْهَلْ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ، أَحَاطَ
بِالْأَشْيَاءِ عِلْماً قَبْلَ كَوْنِهَا، فَلَمْ يَزْدَدَ بِكَوْنِهَا عِلْماً،
عِلْمُهُ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُكَوِّنَهَا كَعِلْمِهِ بَعْدَ تَكْوِينِهَا، لَمْ
يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ، وَلَا خَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَلَا نُقْصَانٍ،
وَلَا اِسْتِعَانَةٍ عَلَى ضِدٍّ مُنَاوٍ وَلَا نِدٍّ مُكَاثِرٍ وَلَا شَرِيكٍ
مُكَابِرٍ، لَكِنْ خَلَائِقُ مَرْبُوبُونَ، وَعِبَادٌ دَاخِرُونَ، فَسُبْحَانَ
اَلَّذِي لَا يَؤُودُهُ خَلْقُ مَا اِبْتَدَأَ، وَلَا تَدْبِيرُ مَا
بَرَأَ...»(٨١).
فالمقطع الندبي يتحدَّث عن بيان لوحة فريدة تنقلنا من هذه الدنيا إلى العوالم التي
سبقتها، ويُصوِّر الحوار الذي دار بين ربِّ العزَّة والجلالة وبين أولياءه وأنبياءه
وأهل بيت النبيِّ (عليهم السلام) خاصَّة عن الدنيا وما فيها، وكيف أنَّهم (عليهم
السلام) رفضوها بكلِّها من أجل دين الله تعالى وهداية الناس.
* * *
-----------------
(٨١) الكافي (ج ١/ ص ١٣٤ و١٣٥/ باب جوامع التوحيد/ ح ١).
الفقرة الرابعة
«فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ، وَقَدَّمْتَ لَهُمُ اَلذِّكْرَ اَلْعَلِيَّ
وَاَلثَّناءَ اَلجَلِيَّ»
تتحدَّث هذه الفقرة عن نتائج تلك
المشارطة وما ترتَّب عليها، ونجعله ضمن النقاط الآتية:
النقطة الأولى: قبول المشارطة وثبوت الوفاء من أهل البيت (عليهم
السلام) والتقديم من الله تعالى:
هذه الفقرة تشير إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى قَبِلَ من أهل البيت (عليهم السلام)،
والأنبياء المشارطة، بل من كلِّ مَنْ يسير على نهجها من العلماء والأولياء، ومعنى
قبوله (عزَّ وجلَّ) وتقريبه لهم أنَّه تعالى قَبِلَ أفعالهم وأقوالهم، وصنعهم بصنعه
على حدٍّ قال تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طه: ٣٩).
فكلُّ ما عند المعصوم (عليه السلام) المصنوع بعين الله تعالى هو بالوحي الذي يوحيه
الله تعالى إليه وبروح القُدُس الذي يُسدِّده، وقد ورد في هذا المعنى - أي في
قبولهم وقربهم - عدَّة روايات، منها:
* في (مصباح المتهجِّد) بسنده: «وَأَنْتَ اَلمُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ
قَرَّبْتَهُمْ مِنْ مَلَكُوتِكَ، وَاِخْتَصَصْتَهُمْ بِسِرِّكَ، وَاِصْطَفَيْتَهُمْ
لِوَحْيِكَ، وَأَوْرَثْتَهُمْ غَوَامِضَ تَأْوِيلِكَ، رَحْمَةً بِخَلْقِكَ،
وَلُطْفاً بِعِبَادِكَ، وَحَنَاناً عَلَى بَرِيَّتِكَ، وَعِلْماً بِمَا تَنْطَوِي
عَلَيْهِ ضَمَائِرُ أُمَنَائِكَ، وَمَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِ صَفْوَتِكَ،
وَطَهَّرْتَهُمْ فِي مَنْشَئِهِمْ وَمُبْتَدَئِهِمْ...»(٨٢).
* وفي كتاب (سُلَيم بن قيس): عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ (عليهما
السلام) فِي
-----------------
(٨٢) مصباح المتهجِّد (ص ٧٦٦).
قَوْلِهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ﴾ [الواقعة: ١٠ و١١]، قَالَ: «إِنِّي أَسْبَقُ اَلسَّابِقِينَ إِلَى
اَلله وَإِلَى رَسُولِهِ، وَأَقْرَبُ اَلمُقَرَّبِينَ إِلَى اَلله وَإِلَى
رَسُولِهِ»(٨٣).
* وفي (تفسير القمِّي)، قَالَ: (أَشْرَفُ شَرَابِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ يَأْتِيهِمْ
فِي عَالِي تَسْنِيمٍ، وَهِيَ عَيْنٌ ﴿يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾
[المطفِّفين: ٢٨]، وَاَلمُقَرَّبُونَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)،
يَقُولُ اَللهُ: ﴿السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾
[الواقعة: ١٠ و١١]، رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةُ وَعَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَذُرِّيَّاتُهُمْ تَلْحَقُ بِهِمْ، يَقُولُ اَللهُ:
﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور: ٢١]، وَاَلمُقَرَّبُونَ يَشْرَبُونَ
مِنْ تَسْنِيمٍ بَحْتاً صِرْفاً، وَسَائِرُ اَلمُؤْمِنِينَ مَمْزُوجاً)(٨٤).
وينبغي أنْ يُلتفَت إلى أنَّ قبوله سبحانه له مراتب، قال تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ
تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: ٢١)، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ﴾ (البقرة: ٢٥٣).
وقبوله (عزَّ اسمه) لأهل البيت (عليهم السلام) قبولاً بأعلى مرتبة، ويمكن لنا أنْ
نصيغ هذا القبول دليلاً على عصمتهم، لأنَّ قبوله لهم قبول مطلق، وهو ما يعني قبول
كلِّ ما يصدر عنهم، وليس ذلك إلَّا معنى العصمة، وممَّا يشهد للأمر بطاعتهم عدَّة
نصوص، منها:
* في (الكافي) عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
عِيسَى، عَنْ حَرِيزٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ:
«ذِرْوَةُ اَلْأَمْرِ وَسَنَامُهُ وَمِفْتَاحُهُ وَبَابُ اَلْأَشْيَاءِ وَرِضَا
اَلرَّحْمَنِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اَلطَّاعَةُ لِلإِمَامِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ»،
ثُمَّ قَالَ:
-----------------
(٨٣) كتاب سُلَيم بن قيس (ص ٤٥٦/ ح ٧٤).
(٨٤) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٤١١ و٤١٢).
«إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ
فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾
[النساء: ٨٠]»(٨٥).
النقطة الثانية: أقرب المقرَّبين:
لقد قرَّب الله تعالى نبيَّه الكريم (صلَّى الله عليه وآله) بأعلى درجات القرب منه
بما لم يحصل لأيِّ مخلوقٍ من مخلوقاته (عزَّ اسمه)، قال تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا
فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ (النجم: ٨ و٩).
وجاء في تفسيره وتأويله عدَّة روايات، منها:
* في (تفسير القمِّي) عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عليه السلام)، قَالَ: «مَا
بَعَثَ اَللهُ نَبِيًّا إِلَّا صَاحِبَ مِرَّةٍ سَوْدَاءَ صَافِيَةٍ، وَقَوْلُهُ:
﴿وَهُوَ بِالْأَفُقِ الْأَعْلَى﴾ يَعْنِي رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)،
﴿ثُمَّ دَنَا﴾ يَعْنِي رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) مِنْ رَبِّهِ (عزَّ
وجلَّ)، ﴿فَتَدَلَّى﴾»، قَال: «إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ: ثُمَّ دَنَا فَتَدَانَى،
﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾»، قَالَ: «كَانَ مِنَ اَلله كَمَا بَيْنَ
مِقْبَضِ اَلْقَوْسِ إِلَى رَأْسِ اَلسِّيَةِ(٨٦)، ﴿أَوْ أَدْنَى﴾ أَيْ مِنْ
نِعْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ»، قَالَ: «بَلْ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، ﴿فَأَوْحَى إِلَى
عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: ٧ - ١٠]»، قَالَ: «وَحْيَ مُشَافَهَةِ»(٨٧).
* وفيه بسنده عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه
السلام) فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾، يَقُولُ: «مَا ضَلَّ
فِي عَلِيٍّ (عليه السلام) وَمَا غَوَى، ﴿وَمَا يَنْطِقُ﴾ فِيهِ ﴿عَنِ الْهَوَى﴾
[النجم: ٢ و٣]، وَمَا كَانَ مَا قَالَ فِيهِ إِلَّا بِالْوَحْيِ اَلَّذِي أُوحِيَ
إِلَيْهِ»(٨٨).
-----------------
(٨٥) الكافي (ج ١/ ص ١٨٥ و١٨٦/ باب فرض طاعة الأئمَّة (عليهم السلام)/ ح ١).
(٨٦) السية أي سية القوس، وما عُطِفَ من طرفيه.
(٨٧) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٣٣٤).
(٨٨) المصدر السابق.
النقطة الثالثة: الذِّكر العليُّ والثناء الجليُّ:
ممَّا ترتَّب على تلك المشارطة أنَّ الله سبحانه وتعالى قدَّم لأوليائه وأنبيائه
ولأهل البيت (عليهم السلام) الذِّكر العلي والثناء الجلي في أعلى مراتبه، ويمكن
لغيرهم إذا التزم بالمشارطة أنْ يحصل على مرتبة من مراتب هذا الذِّكر والثناء
بمقدار سعيه وإخلاصه وعمله، فمَنْ يزهد في هذه الدنيا مشارطاً الله سبحانه بذلك
فإنَّه لا محالة يترتَّب على ذلك بقاء الذِّكر والثناء من قِبَل الله تعالى.
ولا بأس بالإشارة إلى عدَّة فوائد مستفادة ممَّا تقدَّم:
١ - أنَّ للقبول أنواعاً وأصنافاً مختلفة، كالقبول العبادي والقبول الأخلاقي
والقبول الاجتماعي، وعلى الإنسان السعي في أنْ يكون مقبولاً في كلِّ الميادين عند
الله تعالى كما كان أهل البيت (عليهم السلام) مقبولين عنده كذلك، وكذلك يأتي الكلام
في القرب.
٢ - وأنَّ الذِّكر والثناء منه ما هو قولي، ومنه ما هو عملي، فلا بدَّ من الالتفات
لذلك.
* * *
الفقرة الخامسة
«وَأَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلَائِكَتَكَ، وَكَرَّمْتَهُمْ بِوَحْيِكَ»
هذه الفقرة متَّصلة بالسابقة عليها، ومن الآثار المترتِّبة على قضيَّة المشارطة بين الله سبحانه وبين الأولياء والأنبياء وأهل البيت (عليهم السلام)، والكلام في نقاط:
النقطة الأولى: الملائكة وجودهم وحقيقة معناهم:
الملائكة موجودات جعلها الله تعالى الكثير منها وسائط بينه وبين العالم المشهود
ووكلهم بأُمور العالم التكوينيَّة والتشريعيَّة(٨٩).
ولذا أطلق القرآن الكريم وصف الرُّسُل عليهم، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا﴾ (الأنعام: ٦١).
قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله): (اعلم أنَّه أجمعت الإماميَّة، بل جميع
المسلمين إلَّا مَنْ شذَّ منهم من المتفلسفين الذين أدخلوا أنفسهم بين المسلمين
لتخريب أُصولهم وتضييع عقائدهم على وجود الملائكة، وأنَّهم أجسام لطيفة نورانيَّة
أُولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع وأكثر، قادرون على التشكُّل بالأشكال المختلفة،
وأنَّه سبحانه يورد عليهم بقدرته ما يشاء من الأشكال والصور على حسب الحِكَم
والمصالح، ولهم حركات صعوداً وهبوطاً، وكانوا يراهم الأنبياء والأوصياء (عليهم
السلام). والقول بتجرُّدهم وتأويلهم بالعقول والنفوس الفلكيَّة والقوى والطبائع
وتأويل الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة تعويلاً على شُبُهات واهية واستبعادات
وهميَّة زيغ عن سبيل الهدى، واتِّباع لأهل الجهل والعمى)(٩٠).
النقطة الثانية: ما هي أدوارهم، وأصنافهم؟
نعلم بمقتضى ظواهر جملة من الآيات والروايات، أنَّ وظائف الملائكة متعدِّدة، من
قبيل قبض الأرواح، والتصرُّف في بعض موجودات الكون بإذن الله تعالى، وإنزال الشرائع
على الرُّسُل، وغيرها.
في (نهج البلاغة) يُصنِّف أمير المؤمنين (عليه السلام) الملائكة إلى عدَّة أصناف
بعد
-----------------
(٨٩) راجع: تفسير الميزان (ج ١٧/ ص ١٢).
(٩٠) بحار الأنوار (ج ٥٦/ ص ٢٠٢ و٢٠٣).
أنْ يذكر عدَّة خصائص وحالات يمتازون بها، حيث قال (عليه السلام): «ثُمَّ
فَتَقَ مَا بَيْنَ اَلسَّمَاوَاتِ اَلْعُلَا، فَمَلأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ
مَلَائِكَتِهِ، مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ، وَرُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ،
وصَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ، وَمُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ، لَا يَغْشَاهُمْ
نَوْمُ اَلْعُيُونِ، وَلَا سَهْوُ اَلْعُقُولِ، وَلَا فَتْرَةُ اَلْأَبْدَانِ،
وَلَا غَفْلَةُ اَلنِّسْيَانِ، ومِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِه، وَأَلْسِنَةٌ
إِلَى رُسُلِهِ، وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ، وَمِنْهُمُ اَلْحَفَظَةُ
لِعِبَادِهِ، وَاَلسَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ، ومِنْهُمُ اَلثَّابِتَةُ فِي
اَلْأَرَضِينَ اَلسُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ، وَاَلمَارِقَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ
اَلْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ، وَاَلْخَارِجَةُ مِنَ اَلْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ،
وَاَلمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ اَلْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ، نَاكِسَةٌ دُونَهُ
أَبْصَارُهُمْ، مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ اَلْعِزَّةِ، وَأَسْتَارُ اَلْقُدْرَةِ، لَا
يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ، وَلَا يُجْرُونَ عَلَيْه صِفَاتِ
اَلمَصْنُوعِينَ، وَلَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ، وَلَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ
بِالنَّظَائِرِ» (٩١).
وعن اختلاف وظائفهم وتعدُّد مهامِّهم ذكرت العديد من الآيات القرآنيَّة ذلك(٩٢):
١ - حملة العرش، قال تعالى: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمَانِيَةٌ﴾ (الحاقَّة: ١٧).
٢ - الحافُّون حول العرش، قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ
حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ
وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الزمر: ٧٥).
٣ - النزول بالوحي، قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ﴾ (الشعراء: ١٩٣).
٤ - الإرسال، قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ
جَاعِلِ
-----------------
(٩١) نهج البلاغة (ص ٤١ و٤٢/ الخطبة ١).
(٩٢) راجع: بحار الأنوار (ج ٥٦/ ص ٢٠٦ وما بعدها).
الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
(فاطر:١).
٥ - التوكيل ببني آدم، قال تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ
رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق: ١٧ و١٨).
٦ - التدبير، قال تعالى: ﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً﴾ (النازعات: ٥).
وعن علَّة توكيلهم بالناس جاءت عدَّة روايات، منها ما روي عَنْ هِشَامِ اِبْنِ
اَلْحَكَمِ، قَالَ: سَأَلَ اَلزِّنْدِيقُ [فِيمَا سَأَلَ] أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه
السلام)، فَقَالَ: مَا عِلَّةُ اَلمَلَائِكَةِ اَلمُوَكَّلِينَ بِعِبَادِهِ
يَكْتُبُونَ عَلَيْهِمْ وَلَهُمْ، وَاَللهُ عَالِمُ اَلسِّرِّ وَمَا هُوَ أَخْفَى؟
قَالَ: «اِسْتَعْبَدَهُمْ بِذَلِكَ، وَجَعَلَهُمْ شُهُوداً عَلَى خَلْقِهِ،
لِيَكُونَ اَلْعِبَادُ لِمُلَازَمَتِهِمْ إِيَّاهُمْ أَشَدَّ عَلَى طَاعَةِ اَلله
مُوَاظَبَةً، أَوْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ أَشَدَّ اِنْقِبَاضاً، وَكَمْ مِنْ عَبْدٍ
يَهُمُّ بِمَعْصِيَةٍ فَذَكَرَ مَكَانَهَا فَارْعَوَى وَكَفَّ، فَيَقُولُ: رَبِّي
يَرَانِي، وَحَفَظَتِي عَلَيَّ بِذَلِكَ تَشْهَدُ. وَإِنَّ اَللهَ بِرَأْفَتِهِ
وَلُطْفِهِ أَيْضاً وَكَلَهُمْ بِعِبَادِهِ يَذُبُّونَ عَنْهُمْ مَرَدَةَ
اَلشَّيَاطِينِ وَهَوَامَّ اَلْأَرْضِ وَآفَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَ
بِإِذْنِ اَلله، إِلَى أَنْ يَجِيءَ أَمْرُ اَلله (عزَّ وجلَّ)»(٩٣).
وفي رعايتهم لنا ودفع المكاره عنَّا يقول الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله
تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ
مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾ (الرعد: ١١): «بِأَمْرِ اَلله مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي رَكِيٍّ،
أَوْ يَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطٌ، أَوْ يُصِيبُهُ شَيْءٌ، حَتَّى إِذَا جَاءَ
اَلْقَدَرُ خَلَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ يَدْفَعُونَهُ إِلَى اَلمَقَادِيرِ،
وَهُمَا مَلَكَانِ يَحْفَظَانِهِ بِاللَّيْلِ، وَمَلَكَانِ بِالنَّهَارِ
يَتَعَاقَبَانِهِ»(٩٤).
-----------------
(٩٣) بحار الأنوار (ج ٥٦/ ص ١٧٩/ ح ١٥)، عن الاحتجاج (ج ٢/ ص ٩٥).
(٩٤) تفسير القمِّي (ج ١/ ص ٣٦٠).
النقطة الثالثة: هل ينزلون على غير الأنبياء(٩٥)؟
تقدَّم في تسميتهم عدم اختصاص وظائفهم بالنزول على الأنبياء (عليهم السلام)، فإنَّ
الإيحاء لم يقتصر على الأنبياء والمرسَلين (عليهم السلام)، فقد أوحى الله تعالى
إلى:
* مريم (عليها السلام)، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ
إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل
عمران: ٤٢).
* سارة زوجة خليل الرحمن (عليه السلام)، قال تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ
فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾ (هود: ٧٠ -
٧٣).
وممَّا جاء من الروايات في نزول الملائكة على أهل البيت (عليهم السلام) الكثير
حتَّى أنَّ الشيخ الكليني (رضي الله عنه) بوَّب في (الكافي) باباً تحت عنوان: (أنَّ
الأئمَّة (عليهم السلام) تدخل الملائكة بيوتهم وتطأ بُسُطهم وتأتيهم بالأخبار)،
وممَّا رواه فيه بسنده عَنْ مِسْمَعٍ كِرْدِينٍ اَلْبَصْرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ لَا
أَزِيدُ عَلَى أَكْلَةٍ بِاللَّيْلِ وَاَلنَّهَارِ، فَرُبَّمَا اِسْتَأْذَنْتُ
عَلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) وَأَجِدُ اَلمَائِدَةَ قَدْ رُفِعَتْ
لَعَلِّي لَا أَرَاهَا بَيْنَ يَدَيْهِ،
-----------------
(٩٥) لم تقف دعوى نزول الملائكة على الكُمَّل من الناس ومَنْ نصَّ عليهم القرآن
الكريم عند بعض الفِرَق، بل ادَّعوا نزولهم على بعض الأفراد العاديِّين، فقد ورد
عندهم نزول الملائكة على عمران ابن الحصين الخزاعي المتوفَّى سنة (٥٢هـ)، إذ قالوا:
(كان يسمع تسليم الملائكة عليه حتَّى اكتوى بالنار فلم يسمعهم عاماً ثمّ أكرمه الله
بردِّ ذلك). شذرات الذهب (ج ١/ ص ٥٨).
ومنهم أبو المعالي الصالح، المتوفَّى سنة (٤٢٧هـ)، ذكروا أنَّه كلمته الملائكة في
صورة طائر. راجع: المنتظم في تاريخ الأُمَم (ج ١٧/ ص ٨٢/ الرقم ٣٧٣٤)، وغيرهما.
ولسنا في مقام إحصاء مَنْ ذكروا نزول الملائكة عليه، ولكن لـمَّا يصل الأمر إلى آل
محمّد (عليهم السلام) تتيبَّس قلوبهم وتتخشَّب عقولهم ولا تقبل بما أثبته الله
تعالى لهم من الفضل، بل الفضل للملائكة أنْ تتشرَّف بهم كما في الأخبار الآتية.
فَإِذَا دَخَلْتُ دَعَا بِهَا فَأُصِيبَ
مَعَهُ مِنَ الطَّعَامِ وَلَا أَتَأَذَّى بِذَلِكَ، وَإِذَا عَقَّبْتُ بِالطَّعَامِ
عِنْدَ غَيْرِه لَمْ أَقْدِرْ عَلَى أَنْ أَقِرَّ وَلَمْ أَنَمْ مِنَ اَلنَّفْخَةِ،
فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ بِأَنِّي إِذَا أَكَلْتُ عِنْدَه لَمْ
أَتَأَذَّ بِهِ، فَقَالَ: «يَا أَبَا سَيَّارٍ، إِنَّكَ تَأْكُلُ طَعَامَ قَوْمٍ
صَالِحِينَ تُصَافِحُهُمُ اَلمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِهِمْ»، قَالَ: قُلْتُ:
وَيَظْهَرُونَ لَكُمْ؟ قَالَ: فَمَسَحَ يَدَه عَلَى بَعْضِ صِبْيَانِهِ، فَقَالَ:
«هُمْ أَلْطَفُ بِصِبْيَانِنَا مِنَّا بِهِمْ»(٩٦).
النقطة الرابعة: محلُّ الملائكة من الأنبياء والأولياء (عليهم
السلام):
إنَّ الله سبحانه وتعالى بعد أنْ علم أنبياءه وأولياءه (عليهم السلام) وفاءهم له
بالزهد في جميع درجات هذه الدنيا كرَّمهم بأنْ جعل محالَّهم مهبطاً لجميع لملائكة،
بل وتخدمهم، وما ورد في هذا المعنى من الروايات:
* في (إرشاد القلوب): عَنْ أَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه)، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اَلله [(صلَّى الله عليه وآله)] يَقُولُ: «اِفْتَخَرَ إِسْرَافِيلُ عَلَى
جَبْرَائِيلَ، فَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْكَ، قَالَ: وَلِمَ أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي؟
قَالَ: لِأَنِّي صَاحِبُ اَلثَّمَانِيَةِ حَمَلَةِ اَلْعَرْشِ، وَأَنَا صَاحِبُ
اَلنَّفْخَةِ فِي اَلصُّورِ، وَأَنَا أَقْرَبُ اَلمَلَائِكَةِ إِلَى اَلله (عزَّ
وجلَّ)، قَالَ جَبْرَائِيلُ (عليه السلام): أَنَا خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَالَ: بِمَا
أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي؟ قَالَ: لِأَنِّي أَمِينُ اَلله (عزَّ وجلَّ) عَلَى وَحْيِهِ،
وَأَنَا رَسُولُهُ إِلَى اَلْأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام)، وَأَنَا صَاحِبُ
اَلْكُسُوفِ وَاَلْخُسُوفِ، وَمَا أَهْلَكَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) أُمَّةً مِنَ
اَلْأُمَمِ إِلَّا عَلَى يَدَيَّ، فَاخْتَصَمَا إِلَى اَلله (جَلَّ وَعَلَا)،
فَأَوْحَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيْهِمَا أَنِ اُسْكُنَا فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي
لَقَدْ خَلَقْتُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمَا، قَالَا: يَا رَبِّ، أَوَتَخْلُقُ مَنْ
هُوَ خَيْرٌ مِنَّا وَنَحْنُ خُلِقْنَا مِنْ نُورِ اَلله (عزَّ وجلَّ)؟ قَالَ
اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: نَعَمْ، وَأَوْمَأَ إِلَى اَلْقُدْرَةِ أَنِ
اِنْكَشِفِي، فَانْكَشَفَتْ فَإِذَا عَلَى سَاقِ اَلْعَرْشِ اَلْأَيْمَنِ
مَكْتُوبٌ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَلله، وَعَلِيٌّ
وَفَاطِمَةُ وَاَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ (عليهم السلام) أَحِبَّاءُ اَلله، فَقَالَ
جَبْرَائِيلُ (عليه السلام): يَا
-----------------
(٩٦) الكافي (ج ١/ ص ٣٩٣/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) تدخل الملائكة بيوتهم.../ ح ١).
رَبِّ، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّهِمْ عَلَيْكَ
إِلَّا جَعَلْتَنِي خَادِمَهُمْ، قَالَ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قَدْ
فَعَلْتُ، فَجَبْرَائِيلُ (عليه السلام) مِنْ أَهْلِ اَلْبَيْتِ، وَإِنَّهُ
لَخَادِمُنَا»(٩٧).
* وفي (تفسير القمِّي) بسنده عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)
أَنَّهُ سُئِلَ: هَلِ اَلمَلَائِكَةُ أَكْثَرُ أَمْ بَنُو آدَمَ؟ فَقَالَ:
«وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَعَدَدُ مَلَائِكَةِ اَلله فِي اَلسَّمَاوَاتِ
أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ اَلتُّرَابِ فِي اَلْأَرْضِ، وَمَا فِي اَلسَّمَاءِ مَوْضِعُ
قَدَمٍ إِلَّا وَفِيهَا مَلَكٌ يُسَبِّحُهُ وَيُقَدِّسُهُ، وَلَا فِي اَلْأَرْضِ
شَجَرَةٌ وَلاَ مَدَرٌ إِلَّا وَفِيهَا مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهَا يَأْتِي اَللهَ
كُلَّ يَوْمٍ بِعَمَلِهَا وَاَللهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا
وَيَتَقَرَّبُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى اَلله بِوَلَايَتِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ،
وَيَسْتَغْفِرُ لِمُحِبِّينَا، وَيَلْعَنُ أَعْدَاءَنَا، وَيَسْأَلُ اَللهَ أَنْ
يُرْسِلَ عَلَيْهِمُ اَلْعَذَابَ إِرْسَالاً»(٩٨).
* * *
الفقرة السادسة
«وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ، وَجَعَلْتَهُمُ اَلذَّريعَةَ إِلَيْكَ، وَاَلْوَسيلَةَ
إِلَى رِضْوَانِكَ»
والبحث عنها في عدَّة نقاط:
النقطة الأولى: الرفد بالعلم:
من نتائج المشارطة المتقدِّمة الحديث عن علوم الأنبياء والأولياء وأهل البيت (عليهم
السلام)، وسعتها وعظمتها لا يستوعبه هذا المختصر، ولكن ما يمكن أنْ
-----------------
(٩٧) إرشاد القلوب (ج ٢/ ص ٤٠٣ و٤٠٤).
(٩٨) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٢٥٥).
يقال: إنَّ
العلوم التي عندهم من حيث التنوُّع عديدة، فعندهم العلم الحاصل من الوحي، وعند
بعضهم بعض علم الكتاب، بل عند أهل البيت (عليهم السلام) علم الكتاب، وعند أهل البيت
(عليهم السلام) خاصَّة العلم الذي علَّمهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وما يتداولونه ويتوارثونه بينهم، وقد أفردت أغلب كُتُب الحديث التي دوَّنت خصائصهم
عدَّة طوائف تتحدَّث عن أصناف علومهم وسعتها، وسيأتي التعرُّض لبعضها في طيَّات هذا
الشرح بحسب المواضع المناسبة.
النقطة الثانية: «وجعلتهم الذريعة إليك»:
الذريعة ما يُستنَد إليها كالحجَّة والوسيلة، يقال: حجَّتي وذريعتي إلى الرئيس،
والذرائع الأسباب والوسائل، فهي بمعنى الوسيلة والعذر والحجَّة وما يُستتَر به
والسبب إلى الشيء، وجمعها: ذرائع(٩٩).
وفي (الصحيفة السجَّاديَّة)، قال (عليه السلام): «اَللَّهُمَّ إِنَّكَ أَيَّدْتَ
دِينَكَ فِي كُلِّ أَوَانٍ بِإِمَامٍ أَقَمْتَهُ عَلَماً لِعِبَادِكَ، وَمَنَارَاً
فِي بِلَادِكَ، بَعْدَ أَنْ وَصَلْتَ حَبْلَهُ بِحَبْلِكَ، وَجَعَلْتَهُ
اَلذَّرِيِعَةَ إِلَى رِضْوَانِكَ، وَاِفْتَرَضْتَ طَاعَتَهُ، وَحَذَّرْتَ
مَعْصِيَتَهُ، وَأَمَرْتَ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاَلْاِنْتِهَاءِ عِنْدَ
نَهْيِهِ، وَأَنْ لَا يَتَقَدَّمَهُ مُتَقَدِّمٌ، وَلَا يَتَأَخَّرَ عَنْهُ
مُتَأَخِّرٌ، فَهُوَ عِصْمَةُ اَللَّائِذِينَ، وَكَهْفُ اَلمُؤْمِنِينَ، وَعُرْوَةُ
اَلمُتَمَسِّكينَ، وَبَهَاءُ اَلْعَالِمينَ»(١٠٠).
وهذا المقطع الشريف يكشف عن عظيم مقام الأولياء من أهل البيت (عليهم السلام)
والأنبياء (عليهم السلام) ممَّن لهم هذا المقام في عالم التأثير والتكوين، وأنَّ
بهم (عليهم السلام) تُقضى
-----------------
(٩٩) في عدَّة مصادر لغويَّة، منها: الإفصاح في فقه اللغة (ج ٢/ ص ١٢٩٠):
(الذَّريعة: الذريعة والذُّرعة: الوسيلة والسبب إلى الشيء، يقال: فلان ذريعتي إليك
أي سببي ووصلتي الذي أتسبَّب به إليك، ذرع له عنده يذرع ذَرْعاً وذَرَعاً: شفع.
والذريع: الشفيع. وتذرَّع إليه بذريعة: توسَّل بها).
(١٠٠) الصحيفة السجَّاديَّة (ص ٣٢٢ و٣٢٣/ دعاؤه (عليه السلام) في يوم عرفة).
جميع الحاجات، نعم مقتضى وجودنا في عالم الدنيا
ومحدوديَّة إدراكنا لمصالحنا قد يخفى علينا كيفيَّة قضاءهم لحاجتنا وتلبية طلبنا من
قِبَلهم (عليهم السلام).
فكون الوليِّ أو النبيِّ أو الإمام ذريعة إلى رضوان الله تعالى ووسيلة لتحقيق ذلك
ممَّا لا ينبغي أنْ يعتريه الشكُّ والتوقُّف.
النقطة الثالثة: الوسيلة إلى الرضوان:
عقيدتنا بالأولياء من الأنبياء وأهل البيت (عليهم السلام) نابعة من عمق إيماننا
بأنَّ ما نقوم به جاء به القرآن الكريم وما صحَّ عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)
وآله الأطهار (عليهم السلام) في هذه العقيدة الحقَّة، فقد وردت العديد من الآيات
الكريمة والروايات الشريفة في بيان معنى التوسُّل ومتعلَّقاته، وندبت الناس إليه،
وممَّا جاء في ذلك:
* قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً﴾ (الإسراء: ٥٧).
* وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ
فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً
رَحِيماً﴾ (النساء: ٦٤).
* وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا
إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
(المائدة: ٣٥)، والآية مطلقة من جهة مصاديق ما يصحُّ التوسُّل به، فكلُّ ما يمكن
أنْ يُتوسَّل به إلى الله تعالى ينبغي أنْ يُبتغى ويُتَّخذ وسيلةً، إلَّا إذا دلَّ
دليل خاصٌّ على منع فرد من أفرادها ومصداق من مصاديقها.
وقد ذكرت العديد من النصوص والروايات عدَّة موارد ومصاديق للتوسُّل، ومنها:
* في (نهج البلاغة): «إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ اَلمُتَوَسِّلُونَ إِلَى
اَلله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى اَلْإِيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَاَلْجِهَادُ فِي
سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ اَلْإِسْلَامِ، وَكَلِمَةُ اَلْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا
اَلْفِطْرَةُ، وَإِقَامُ اَلصَّلَاةِ فَإِنَّهَا اَلْمِلَّةُ، وَإِيتَاءُ
اَلزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّه
جُنَّةٌ مِنَ اَلْعِقَابِ، وَحَجُّ اَلْبَيْتِ وَاِعْتِمَارُهُ فَإِنَّهُمَا
يَنْفِيَانِ اَلْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ اَلذَّنْبَ، وَصِلَةُ اَلرَّحِمِ فَإِنَّهَا
مَثْرَاةٌ فِي اَلمَالِ وَمَنْسَأَةٌ فِي اَلْأَجَلِ، وَصَدَقَةُ اَلسِّرِّ
فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ اَلْخَطِيئَةَ، وَصَدَقَةُ اَلْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا
تَدْفَعُ مِيتَةَ اَلسُّوءِ، وَصَنَائِعُ اَلمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ
اَلْهَوَانِ، أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اَلله فَإِنَّه أَحْسَنُ اَلذِّكْرِ،
وَاِرْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ اَلمُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ اَلْوَعْدِ،
وَاِقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّه أَفْضَلُ اَلْهَدْيِ، وَاِسْتَنُّوا
بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى اَلسُّنَنِ»(١٠١).
* وفي (الكافي) بسنده عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي
اَلْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام) وَهُوَ فِي اَلْحَبْسِ كِتَاباً أَسْأَلُهُ عَنْ
حَالِهِ وَعَنْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، فَاحْتَبَسَ اَلْجَوَابُ عَلَيَّ أَشْهُراً،
ثُمَّ أَجَابَنِي بِجَوَابٍ هَذِه نُسْخَتُهُ: «بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ
اَلرَّحِيمِ، اَلْحَمْدُ لله اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ اَلَّذِي بِعَظَمَتِهِ
وَنُورِهِ أَبْصَرَ قُلُوبَ اَلمُؤْمِنِينَ، وَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِه عَادَاهُ
اَلْجَاهِلُونَ، وَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ اِبْتَغَى مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ
وَمَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلَيْه اَلْوَسِيلَةَ بِالْأَعْمَالِ اَلمُخْتَلِفَةِ
وَاَلْأَدْيَانِ اَلمُتَضَادَّةِ، فَمُصِيبٌ وَمُخْطِئٌ وَضَالٌّ وَمُهْتَدٍ
وَسَمِيعٌ وَأَصَمُّ وَبَصِيرٌ وَأَعْمَى...»(١٠٢).
وممَّا ورد في كون أجلى وأبرز مصاديق ما يُتوسَّل به إلى الله تعالى هم الأنبياء
والأولياء وأهل البيت (عليهم السلام) عدَّة روايات منها:
* وفي (مناقب آل أبي طالب): قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ [(عليه السلام)]:
«فَاِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ، أَنَا وَسِيلَتُهُ...»(١٠٣).
-----------------
(١٠١) نهج البلاغة (ص ١٦٣/ الخطبة ١١٠).
(١٠٢) الكافي (ج ٨/ ص ١٢٤/ ح ٩٥).
(١٠٣) مناقب آل أبي طالب (ج ٢/ ص ٢٧٣).
* وفي (عيون أخبار الرضا (عليه السلام)) بِإِسْنَادِهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله): «اَلْأَئِمَّةُ مِنْ وُلْدِ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)،
مَنْ أَطَاعَهُمْ فَقَدْ أَطَاعَ اَلله، وَمَنْ عَصَاهُمْ فَقَدْ عَصَى اَلله (عزَّ
وجلَّ)، هُمُ اَلْعُرْوَةُ اَلْوُثْقَى، وَهُمُ اَلْوَسِيلَةُ إِلَى اَلله (عزَّ
وجلَّ)»(١٠٤).
* وفي (دلائل الإمامة) بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم
السلام)، قَالُوا: «لَمَّا بَلَغَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) إِجْمَاعُ أَبِي بَكْرٍ
عَلَى مَنْعِهَا فَدَكَ، وَاِنْصَرَفَ عَامِلُهَا مِنْهَا، لَاثَتْ خِمَارَهَا،
ثُمَّ أَقْبَلَتْ فِي لُمَةٍ مِنْ حَفَدَتِهَا وَنِسَاءِ قَوْمِهَا، تَطَأُ
ذُيُولَهَا، مَا تَخْرِمُ مِشْيَةَ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، حَتَّى
دَخَلَتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ حَفَّلَ حَوْلَهُ اَلمُهَاجِرُونَ
وَاَلْأَنْصَارُ، فَنِيطَتْ دُونَهَا مُلَاءَةٌ، ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ
لَهَا اَلْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ أُمْهِلْتُ حَتَّى هَدَأَتْ فَوْرَتُهُمْ،
وَسَكَنَتْ رَوْعَتُهُمْ، وَاِفْتَتَحَتِ اَلْكَلَامَ، فَقَالَتْ: ... بِعَظَمَتِهِ
وَنُورِهِ اِبْتَغَى مَنْ فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلَيْهِ
اَلْوَسِيلَةَ، فَنَحْنُ وَسِيلَتُهُ فِي خَلْقِهِ، وَنَحْنُ آلُ رَسُولِهِ،
وَنَحْنُ حُجَّةُ غَيْبِهِ، وَوَرَثَةُ أَنْبِيَائِهِ...»(١٠٥).
هذه الأحاديث العالية المضامين تكشف بوضوح أنَّ عقيدتنا في جعل أهل البيت (عليهم
السلام) واسطة ووسيلة لم تكن لبدعة ابتدعها أتباعهم وشيعتهم، وإنَّما كان ذلك
اتِّباعاً لمنهج رسمه لهم الأولياء والصلحاء والأنبياء (عليهم السلام) على طول
الخطِّ.
* * *
-----------------
(١٠٤) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ٦٣/ باب ٣١/ ح ٢١٧).
(١٠٥) دلائل الإمامة (ص ١٠٩ - ١١٤/ ح ٣٦/٣٦).
الفقرة السابعة
«فَبَعْضٌ أَسْكَنْتَهُ جَنَّتَكَ إِلَى أَنْ أَخْرَجْتَهُ مِنْهَا، وَبَعْضٌ
حَمَلْتَهُ فِي فُلْكِكَ وَنَجَّيْتَهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ اَلهَلَكَةِ
بِرَحْمَتِكَ، وَبَعْضٌ اِتَّخَذْتَهُ لِنَفْسِكَ خَلِيلاً، وَسَأَلَكَ لِسَانَ
صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ فَأَجَبْتَهُ، وَجَعَلْتَ ذَلِكَ عَلِيًّا، وَبَعْضٌ
كَلَّمْتَهُ مِنْ شَجَرَةٍ تَكْلِيماً، وَجَعَلْتَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ رِدْءاً
وَوَزِيراً، وَبَعْضٌ أَوْلَدْتَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَآتَيْتَهُ اَلْبَيِّناتِ،
وَاَيَّدْتَهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ»
تتضمَّن هذه الفقرة نقاط:
النقطة الأولى: إشارات تاريخيَّة إلى أهمّ خصائص ومقامات الأنبياء
(عليهم السلام):
يشير المقطع إلى أنَّ الأدوار المختلفة، للأنبياء والأولياء (عليهم السلام)، فكلُّ
نبيٍّ من الأنبياء (عليهم السلام) له دور محدَّد.
ولأجل أنْ نقف ونعرف دور كلِّ واحدٍ منهم علينا أنْ نلحظ تلك الخصوصيَّات وما ذكرته
الروايات عن ذلك، وما ذُكِرَ فيها من تفاصيل الآتي:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «... وَاِصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِه
أَنْبِيَاءَ، أَخَذَ عَلَى اَلْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ ، وَعَلَى تَبْلِيغِ
اَلرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اَلله
إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ، وَاِتَّخَذُوا اَلْأَنْدَادَ مَعَهُ،
وَاِجْتَالَتْهُمُ اَلشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَاِقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ
عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ،
لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ
فِطْرَتِه، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ،
وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ
اَلْعُقُولِ...، وَلَمْ يُخْلِ اَلله سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ،
أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ، أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ
لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلَا كَثْرَةُ اَلمُكَذِّبِينَ لَهُمْ،
مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهِ، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ،
عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ اَلْقُرُونُ وَمَضَتِ اَلدُّهُورُ، وَسَلَفَتِ اَلْآبَاءُ
وَخَلَفَتِ اَلْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اَللهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً رَسُولَ
اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، لإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَإِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ،
مَأْخُوذاً عَلَى اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ، مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ، كَرِيماً
مِيلَادُهُ...»(١٠٦).
فتبليغ الرسالة - بعد أخذ الميثاق -، وكذا تذكير الناس بميثاق الفطرة وما نسوه من
نِعَم الباري (عزَّ وجلَّ)، وإثارة دفائن العقول بالحُجَج التامَّة الصحيحة، من
أهمّ أدوار الأنبياء والأولياء (عليهم السلام).
قصَّة آدم (عليه السلام):
قصَّة آدم (عليه السلام) من القَصَص التي اكتنفها الغموض، وأدخلت فيها الأديان
المحرَّفة الكثير ممَّا لا معنى له، ولأجل أنْ تُؤخَذ من معينها لا بدَّ من أخذها
عن طريق القرآن الكريم وروايات أهل البيت (عليهم السلام) المعتبرة، فلا سبيل لنا
لمعرفة الكثير من التفاصيل المشوِّقة والأسئلة الشائكة حول قصَّة آدم (عليه السلام)
إلَّا من خلالهم (عليهم السلام)، وممَّا ورد في قصَّته (عليه السلام):
كيفيَّة خلقه (عليه السلام):
ورد فيها العديد من الآيات والروايات، ومنها:
* قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ
-----------------
(١٠٦) نهج البلاغة (ص ٤٣ و٤٤/ الخطبة ١).
لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا
تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (البقرة: ٣٠ - ٣٣).
والآية تتحدَّث عن إيجاد آدم (عليه السلام) وخلقه، وما جرى في ذلك العالم، وعن علمه
ومقامه.
ومن التفاصيل التي تعرَّض لها الكتاب العزيز عنه (عليه السلام) الآتي:
* قال تعالى: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا
مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا
مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا
كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي
الْأَرضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ
كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ
هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: ٣٥ - ٣٨).
* وفي (نهج البلاغة): «... ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ اَلْأَرْضِ
وَسَهْلِهَا، وَعَذْبِهَا وَسَبَخِهَا، تُرْبَةً سَنَّهَا بِالمَاءِ حَتَّى
خَلَصَتْ، وَلَاطَهَا بِالْبَلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ، فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً
ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَوُصُولٍ وَأَعْضَاءٍ، وَفُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى
اِسْتَمْسَكَتْ، وَأَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَأَمَدٍ
مَعْلُومٍ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ، فَمَثُلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ
يُجِيلُهَا، وَفِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا، وَجَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا، وَأَدَوَاتٍ
يُقَلِّبُهَا، وَمَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ اَلْحَقِّ وَاَلْبَاطِلِ
وَاَلْأَذْوَاقِ وَاَلمَشَامِّ وَاَلْأَلْوَانِ وَاَلْأَجْنَاسِ...، ثُمَّ أَسْكَنَ
سُبْحَانَهُ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عَيْشَهُ، وَآمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ،
وَحَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَعَدَاوَتَهُ، فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْه
بِدَارِ اَلمُقَامِ، وَمُرَافَقَةِ اَلْأَبْرَارِ،
فَبَاعَ اَلْيَقِينَ بِشَكِّهِ،
وَاَلْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ، وَاِسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلاً،
وَبِالْاِغْتِرَارِ نَدَماً، ثُمَّ بَسَطَ اَللهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ،
وَلَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ، وَوَعَدَهُ اَلمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ،
وَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ اَلْبَلِيَّةِ وَتَنَاسُلِ اَلذُّرِّيَّةِ...»(١٠٧).
وهذا المقطع من (نهج البلاغة) يتحدَّث عن تفاصيل لا يسع الإنسان معرفتها لو لا
إفاضة أمير المؤمنين (عليه السلام) لها، ولاحظ بديع ما نسجته كلماته (عليه السلام)
وكأنَّها لوحة فنّيَّة غاية في الجمال والإبداع والنسق عن قصَّة الخلق، التي صارت
مثار الإشكال في هذه الأعصار - كما كانت - بوتيرة متصاعدة.
أين جنَّة آدم (عليه السلام) التي خرج منها؟
وقع كلام في موقع الجنَّة التي خرج منها آدم (عليه السلام)، وهذه المسألة ليست
ممَّا يُلتمَس معرفتها إلَّا بواسطة الغيب والسؤال من أهل البيت (عليهم السلام)،
ولذلك نجد جملة من الأصحاب كانوا يسألون عن هكذا مسائل من الأئمَّة (عليهم السلام)،
وفي هذا بالخصوص حيث سُئِلَ اَلْإِمَامُ اَلصَّادِقُ (عليه السلام) عَنْ جَنَّةِ
آدَمَ أَمِنْ جِنَانِ اَلدُّنْيَا كَانَتْ أَمْ مِنْ جِنَانِ اَلْآخِرَةِ؟ فَقَالَ
[(عليه السلام)]: «كَانَتْ مِنْ جِنَانِ اَلدُّنْيَا تَطْلُعُ فِيهَا اَلشَّمْسُ
وَاَلْقَمَرُ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ جِنَانِ اَلْآخِرَةِ مَا أُخْرِجَ مِنْهَا
أَبَداً آدَمُ وَلَمْ يَدْخُلْهَا إِبْلِيسُ...، فَجَاءَهُ إِبْلِيسُ، فَقَالَ:
إِنَّكُمَا إِنْ أَكَلْتُمَا مِنْ هَذِهِ اَلشَّجَرَةِ اَلَّتِي نَهَاكُمَا اَللهُ
عَنْهَا صِرْتُمَا مَلَكَيْنِ، وَبَقِيتُمَا فِي اَلْجَنَّةِ أَبَداً، وَإِنْ لَمْ
تَأْكُلاَ مِنْهَا أَخْرَجَكُمَا اَللهُ مِنَ اَلْجَنَّةِ، وَحَلَفَ لَهُمَا
أَنَّهُ لَهُمَا نَاصِحٌ، كَمَا قَالَ اَللهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: ﴿مَا
نَهَاكُمَا رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ
أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ
النَّاصِحِينَ﴾، فَقَبِلَ آدَمُ قَوْلَهُ، فَأَكَلَا مِنَ اَلشَّجَرَةِ، فَكَانَ
كَمَا حَكَى اَللهُ ﴿بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾، وَسَقَطَ عَنْهُمَا مَا
أَلْبَسَهُمَا اَللهُ مِنْ لِبَاسِ اَلْجَنَّةِ، وَأَقْبَلَا يَسْتَتِرَانِ
بِوَرَقِ اَلْجَنَّةِ، ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ
تِلْكُمَا
-----------------
(١٠٧) نهج البلاغة (ص ٤٢ و٤٣/ الخطبة ١).
الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ
مُبِينٌ﴾، فَقَالَا كَمَا حَكَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) عَنْهُمَا: ﴿رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ﴾، فَقَالَ اَللهُ لَهُمَا: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
وَلَكُمْ فِي الْأَرضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [الأعراف: ٢٠ - ٢٤]»،
قَالَ: «إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، قَوْلُهُ: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ
عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾
[البقرة: ٣٦]، فَهَبَطَ آدَمُ عَلَى اَلصَّفَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ اَلصَّفَا
لِأَنَّ صَفْوَةَ اَلله نَزَلَ عَلَيْهَا، وَنَزَلَتْ حَوَّاءُ عَلَى اَلمَرْوَةِ،
وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ اَلمَرْوَةُ لِأَنَّ اَلمَرْأَةَ نَزَلَتْ عَلَيْهَا،
فَبَقِيَ آدَمُ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً سَاجِداً يَبْكِي عَلَى اَلْجَنَّةِ، فَنَزَلَ
عَلَيْهِ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا آدَمُ، أَلَمْ يَخْلُقْكَ اَللهُ
بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ؟ قَالَ:
بَلَى، قَالَ: وَأَمَرَكَ أَنْ لَا تَأْكُلَ مِنَ اَلشَّجَرَةِ، فَلِمَ عَصَيْتَهُ؟
قَالَ: يَا جَبْرَئِيلُ، إِنَّ إِبْلِيسَ حَلَفَ لِي بِالله إِنَّهُ لِي نَاصِحٌ،
وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّ خَلْقاً يَخْلُقُهُ اَللهُ أَنْ يَحْلِفَ بِالله
كَاذِباً»(١٠٨).
وذيل الحديث لوحده مدرسة في عظمة الحلف بالله تعالى.
وفي قصَّته (عليه السلام) تفاصيل عديدة يُخرجنا الخوض فيها عن الرسم المعدِّ لهذا
الشرح، وعلى هذا نسير فيما نتعرَّض له من حياة الأنبياء (عليهم السلام) في شرح
فقرات هذا الدعاء المبارك.
شبهة معصية آدم (عليه السلام) وجوابها:
يتمسَّك البعض في إثبات المعصية لآدم (عليه السلام) بقوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (طه: ١٢١).
والجواب عن هذه الشبهة:
١ - من الواضح أنَّ الأحكام الشرعيَّة على أنحاء خمسة - الواجب
-----------------
(١٠٨) تفسير القمِّي (ج ١/ ص ٤٣ و٤٤).
والحرام والمكروه
والمستحبُّ والمباح -، وقد يُعبَّر في بعض الأحيان عن ترك المستحبِّ أو فعل المكروه
بالمعصية، خصوصاً إذا كان ذلك من أصحاب المقامات العالية، بل قد يُعبَّر بذلك في
بعض الأحيان بالمعصية في مقام الإتيان ببعض المباحات فيما لو كانت منافية لما ينبغي
تركه من قِبَل هذا العظيم.
ولعلَّ التعبير الوارد في الآية من هذا القبيل.
٢ - قد يقال: إنَّ ما حصل مع آدم (عليه السلام) في دار غير هذه الدار، وأنَّ ما
فيها ليس تكليفاً بالمعنى المصطلح، بل مناطاته وملاكاته مختلفة عن هذه الدار،
والقياس بينهما قياس مع الفارق، فالتعبير وإنْ ورد في القرآن الكريم ولكنَّه يُلحَظ
فيه تلك الدار، نظير ما يُلحَظ في التعبير عنه من أوصاف الجنَّة وما فيها.
٣ - كانت المشيئة الإلهيَّة قائمة على خلق خليفة في الأرض، وإيداع آدم (عليه
السلام) في الجنَّة مع عدم معصيته لا يناسب هذه المشيئة ولا يناسب هذا الغرض،
فإرادة الباري (عزَّ وجلَّ) قد انعقدت على خلق آدم (عليه السلام) للأرض، وليست
الجنَّة سوى محطَّة مؤقَّتة سيرتحل عنها لكي يعود إليها بنحو آخر.
المعصية تعلَّقت بأمر بقاءه - آدم (عليه السلام) - غير الإلزامي، فالتعبير أنَّه
عصى أي عصى أمر بقاءه - غير الإلزامي - ونزل باختياره، لذلك نجد أنَّ الآية بيَّنت
له ما سيحصل له لو أكل من الشجرة.
شبهة التناسل في أبناء آدم (عليه السلام) وجوابها:
يتوهَّم البعض أنَّ التناسل بين أبناء آدم (عليه السلام) حصل من زواج الإخوة
بالأخوات، وهذا تصوُّر فاحش ومريض جدًّا، ولا يرد إلى الذهن السليم والروح النقيَّة
السويَّة، ولكن مع ذلك نجيب عنه بالآتي:
الجواب عن التوهُّم الآنف:
١ - أنَّ الله تعالى خلق لأولاد آدم (عليه السلام) بنات يتزوَّجون بهنَّ، ومنهنَّ
حصل التناسل وتكاثرت ذرّيَّة آدم (عليه السلام)، وقد دلَّت جملة من الروايات على
ذلك، منها:
* في (قَصَص الأنبياء) بسنده عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اَلله
(عليه السلام) عَنْ بَدْءِ اَلنَّسْلِ مِنْ آدَمَ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِ)
كَيْفَ كَانَ، وَعَنْ بَدْءِ اَلنَّسْلِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فَإِنَّ أُنَاساً
عِنْدَنَا يَقُولُونَ: إِنَّ اَللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى آدَمَ أَنْ يُزَوِّجَ
بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ، وَأَنَّ هَذَا اَلْخَلْقَ كُلَّهُمْ أَصْلُهُ مِنَ
اَلْإِخْوَةِ وَاَلْأَخَوَاتِ، فَمَنَعَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام) عَنْ
ذَلِكَ، وَقَالَ: «نُبِّئْتُ أَنَّ بَعْضَ اَلْبَهَائِمِ تَنَكَّرَتْ لَهُ
أُخْتُهُ، فَلَمَّا نَزَا عَلَيْهَا وَنَزَلَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا أُخْتُهُ
قَبَضَ عَلَى عُزْمُولِهِ بِأَسْنَانِهِ حَتَّى قَطَعَهُ...، ثُمَّ وَهَبَ اَللهُ
لَهُ شِيثاً، وَهُوَ هِبَةُ اَلله، وَهُوَ أَوَّلُ وَصِيٍّ أُوصِيَ إِلَيْهِ مِنْ
بَنِي آدَمَ فِي اَلْأَرْضِ، ثُمَّ وَرَاهُ بَعْدَهُ يَافِثُ، فَلَمَّا أَدْرَكَا
وَأَرَادَ اَللهُ أَنْ يُبْلِغَ بِالنَّسْلِ مَا تَرَوْنَ أَنْزَلَ بَعْدَ
اَلْعَصْرِ يَوْمَ اَلْخَمِيسِ حَوْرَاءَ مِنَ اَلْجَنَّةِ اِسْمُهَا نَزْلَةُ،
فَأَمَرَ اَللهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ شِيثٍ، ثُمَّ أَنْزَلَ اَللهُ بَعْدَ
اَلْعَصْرِ مِنَ اَلْغَدِ حَوْرَاءَ مِنَ اَلْجَنَّةِ اِسْمُهَا مَنْزِلَةُ،
فَأَمَرَ اَللهُ آدَمَ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ يَافِثَ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ،
فَوُلِدَ لِشِيثٍ غُلاَمٌ وَلِيَافِثَ جَارِيَةٌ، فَأَمَرَ اَللهُ آدَمَ (عليه
السلام) حِينَ أَدْرَكَا أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ يَافِثَ مِنِ اِبْنِ شِيثٍ،
فَفَعَلَ، فَوُلِدَ اَلصَّفْوَةُ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلمُرْسَلِينَ مِنْ
نَسْلِهِمَا، وَمَعَاذَ اَلله أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ مِنَ اَلْإِخْوَةِ
وَاَلْأَخَوَاتِ وَمَنَاكِحِهِمَا...»(١٠٩).
ورواها العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في (بحاره) عن (عِلَل الشرائع)(١١٠).
٢ - قيل: إنَّ أبناء آدم (عليه السلام) تزوَّجوا ممَّن كانت من النساء من قبل
آدم (عليه السلام) من البشر، وهذا لا يقطع مادَّة النزاع، إذ أُولئك كيف تناسلوا؟
ولعلَّ ما ورد من روايات بهذا الصدد تُحمَل على التقيَّة، لأنَّ الجمهور يميل إلى
هذا، راجع بحار الأنوار (ج ١١/ ص ٢١٨/ الباب الخامس).
-----------------
(١٠٩) قَصَص الأنبياء للراوندي (ص ٥٧ و٥٨/ ح ٣٢).
(١١٠) بحار الأنوار (ج ١١/ ص ٢٢٣ و٢٢٤/ ح ٢)، عن عِلَل الشرائع (ج ١/ ص ١٨ - ٢٠/
باب ١٧/ ح ٢).
قصَّة نوح (عليه السلام):
ورد ذكر نوح (عليه السلام) في العديد من الآيات الكريمة، ومنها:
* قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ
وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ
وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا
تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ (إبراهيم: ٩).
* وقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ
وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً﴾ (النساء: ١٦٣).
* وقوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ﴾
(الأعراف: ٦٤).
اسمه (عليه السلام) وبعض خصائصه:
وهو أوَّل أنبياء أُولي العزم (عليهم السلام)، وسيأتي في الخبر الصحيح ما يتحدَّث
عن عدَّة تفاصيل متمِّمة لقصَّة آدم ومبيِّنة لقصَّة نوح (عليهما السلام). والظاهر
أنَّ قوم نوح (عليه السلام) أوَّل الأقوام التي عذَّبها الله تعالى بسبب كفرهم، ولم
يُعذِّب قوماً قبلهم.
وقد ذكرت الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) العديد من الصفات
الخُلُقيَّة والأوصاف التي تحلَّى بها (عليه السلام)، ومنها: وصفه بشيخ الأنبياء
(عليهم السلام)، وأنَّه كان عبداً لله (عزَّ وجلَّ) كثير الشكر، وتحمَّل من قومه
صنوف العذابات والسخرية، ولم يثقل عن تحمُّل مهمَّته إلى وفاته ودفنه في الغريِّ
على ما هو صريح الزيارة: «السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى
ضَجِيعَيْكَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَرَحْمَةُ اَلله وَبَرَكَاتُهُ»(١١١).
-----------------
(١١١) المزار لابن المشهدي (ص ١٩٢).
روايتان عظيمتان:
الرواية الأُولى: رواية الوصاية في أعقاب الأنبياء وذراريهم:
* روى الشيخ الكليني (رضي الله عنه) بسند صحيح عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْفُضَيْلِ،
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «... فَلَمَّا
أَكَلَ آدَمُ (عليه السلام) مِنَ اَلشَّجَرَةِ أُهْبِطَ إِلَى اَلْأَرْضِ...،
فَلَمَّا اِنْقَضَتْ نُبُوَّةُ آدَمَ (عليه السلام) وَاِسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ
أَوْحَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيْه أَنْ يَا آدَمُ، قَدِ اِنْقَضَتْ نُبُوَّتُكَ
وَاِسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ، فَاجْعَلِ اَلْعِلْمَ اَلَّذِي عِنْدَكَ
وَاَلْإِيمَانَ وَاَلْاِسْمَ اَلْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ اَلْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ
اَلنُّبُوَّةِ فِي اَلْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ عِنْدَ هِبَةِ اَلله، فَإِنِّي
لَنْ أَقْطَعَ اَلْعِلْمَ وَاَلْإِيمَانَ وَاَلْاِسْمَ اَلْأَكْبَرَ وَآثَارَ
اَلنُّبُوَّةِ مِنَ اَلْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ،
وَلَنْ أَدَعَ اَلْأَرْضَ إِلَّا وَفِيهَا عَالِمٌ يُعْرَفُ بِهِ دِينِي،
وَيُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي، وَيَكُونُ نَجَاةً لِمَنْ يُولَدُ فِيمَا بَيْنَكَ
وَبَيْنَ نُوحٍ. وَبَشَّرَ آدَمَ بِنُوحٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: إِنَّ اَللهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَاعِثٌ نَبِيًّا اِسْمُهُ نُوحٌ، وَإِنَّه يَدْعُو إِلَى
اَلله (عَزَّ ذِكْرُهُ)، وَيُكَذِّبُهُ قَوْمُهُ...، حَتَّى بَعَثَ اَللهُ نُوحاً
(عليه السلام)، وَظَهَرَتْ وَصِيَّةُ هِبَةِ اَلله حِينَ نَظَرُوا فِي وَصِيَّةِ
آدَمَ (عليه السلام)، فَوَجَدُوا نُوحاً (عليه السلام) نَبِيًّا قَدْ بَشَّرَ بِه
آدَمُ (عليه السلام)، فَآمَنُوا بِهِ وَاَتَّبَعُوهُ وَصَدَّقُوهُ. وَقَدْ كَانَ
آدَمُ (عليه السلام) وَصَّى هِبَةَ اَلله أَنْ يَتَعَاهَدَ هَذِهِ اَلْوَصِيَّةَ
عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ سَنَةٍ، فَيَكُونَ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَيَتَعَاهَدُونَ نُوحاً
وَزَمَانَهُ اَلَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي وَصِيَّةِ كُلِّ
نَبِيٍّ حَتَّى بَعَثَ اَللهُ مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله)، وَإِنَّمَا
عَرَفُوا نُوحاً بِالْعِلْمِ اَلَّذِي عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ اَلله (عزَّ
وجلَّ): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ...﴾ إِلَى آخِرِ اَلْآيَةِ
[هود: ٢٥]، وَكَانَ مَنْ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ مُسْتَخْفِينَ،
وَلِذَلِكَ خَفِيَ ذِكْرُهُمْ فِي اَلْقُرْآنِ فَلَمْ يُسَمَّوْا كَمَا سُمِّيَ
مَنِ اِسْتَعْلَنَ مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)،
وَهُوَ قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ
قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ [النساء: ١٦٤]، يَعْنِي لَمْ أُسَمِّ
اَلمُسْتَخْفِينَ كَمَا سَمَّيْتُ اَلمُسْتَعْلِنِينَ مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ (عليهم
السلام)،
فَمَكَثَ نُوحٌ (عليه السلام) فِي قَوْمِه أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً...، حَتَّى اِنْتَهَتْ إِلَى يُوسُفَ اِبْنِ يَعْقُوبَ (عليه السلام)، ثُمَّ صَارَتْ مِنْ بَعْدِ يُوسُفَ فِي أَسْبَاطِ إِخْوَتِهِ حَتَّى اِنْتَهَتْ إِلَى مُوسَى (عليه السلام)، فَكَانَ بَيْنَ يُوسُفَ وَبَيْنَ مُوسَى مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام)، فَأَرْسَلَ اَللهُ مُوسَى وَهَارُونَ (عليهما السلام) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ، ثُمَّ أَرْسَلَ اَلرُّسُلَ تَتْرَى، ﴿كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ [المؤمنون: ٤٤]، وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْتُلُ نَبِيًّا وَاِثْنَانِ قَائِمَانِ، وَيَقْتُلُونَ اِثْنَيْنِ وَأَرْبَعَةٌ قِيَامٌ حَتَّى إِنَّه كَانَ رُبَّمَا قَتَلُوا فِي اَلْيَوْمِ اَلْوَاحِدِ سَبْعِينَ نَبِيًّا وَيَقُومُ سُوقُ قَتْلِهِمْ آخِرَ اَلنَّهَارِ، فَلَمَّا نَزَلَتِ اَلتَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى (عليه السلام) بَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)، وَكَانَ بَيْنَ يُوسُفَ وَمُوسَى مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ، وَكَانَ وَصِيُّ مُوسَى يُوشَعَ بْنَ نُونٍ (عليه السلام)، وَهُوَ فَتَاهُ اَلَّذِي ذَكَرَه اَللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي كِتَابِهِ، فَلَمْ تَزَلِ اَلْأَنْبِيَاءُ تُبَشِّرُ بِمُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) حَتَّى بَعَثَ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اَلمَسِيحَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ، فَبَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَجِدُونَهُ﴾ يَعْنِي اَلْيَهُودَ وَاَلنَّصَارَى، ﴿مَكْتُوباً﴾ يَعْنِي صِفَةَ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)، ﴿عِنْدَهُمْ﴾ يَعْنِي ﴿فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، وهُوَ قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ) يُخْبِرُ عَنْ عِيسَى: ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصفّ: ٦]، وبَشَّرَ مُوسَى وَعِيسَى بِمُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) كَمَا بَشَّرَ اَلْأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام) بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ حَتَّى بَلَغَتْ مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله)، فَلَمَّا قَضَى مُحَمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله) نُبُوَّتَهُ وَاُسْتُكْمِلَتْ أَيَّامُهُ أَوْحَى اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْه: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ قَضَيْتَ نُبُوَّتَكَ وَاِسْتَكْمَلْتَ أَيَّامَكَ، فَاجْعَلِ اَلْعِلْمَ اَلَّذِي عِنْدَكَ وَاَلْإِيمَانَ وَاَلْاِسْمَ اَلْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ اَلْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ اَلنُّبُوَّةِ فِي أَهْلِ بَيْتِكَ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَإِنِّي لَمْ أَقْطَعِ اَلْعِلْمَ وَاَلْإِيمَانَ وَاَلْاِسْمَ اَلْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ اَلْعِلْمِ وَآثَارَ عِلْمِ اَلنُّبُوَّةِ مِنَ اَلْعَقِبِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ كَمَا لَمْ أَقْطَعْهَا مِنْ بُيُوتَاتِ اَلْأَنْبِيَاءِ اَلَّذِينَ كَانُوا بَيْنَكَ وبَيْنَ أَبِيكَ آدَمَ، وَذَلِكَ قَوْلُ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً
وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣٣
و٣٤]...»(١١٢).
والحديث بعد لم يكتمل ونقلنا بعضه، وكان الداعي من وراء نقله وهو بهذه السعة والحجم
الذي قد يوجب تململ القارئ عند قراءته، أنَّه خبر صحيح السند، والفوائد التي
تضمَّنها والتفاصيل التي ذكرها لا نجدها في غيره بهذا الإسناد والتفصيل والربط
المنقطع النظير، فلا تملُّ من قراءته، وإذا تركته فعاود الرجوع إليه واقرأه
بتدبُّر، وعلى الأقلِّ بتأنٍّ.
الرواية الثانية: شباهة الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) بالنبيِّ
نوح (عليه السلام):
وقد ورد في عجيب قصَّته (عليه السلام) وتشبيه ما مرَّ به بما سيمرُّ به مولانا
الحجَّة (عجَّل الله فرجه) رواية جليلة المعنى دقيقة الوصف، وهي:
* ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ سَدِيرٍ اَلصَّيْرَفِيِّ، قَالَ:
دَخَلْتُ أَنَا وَاَلمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَصِيرٍ وَأَبَانُ بْنُ
تَغْلِبَ عَلَى مَوْلَانَا أَبِي عَبْدِ اَلله اَلصَّادِقِ (عليه السلام)،
فَرَأَيْنَاهُ جَالِساً عَلَى اَلتُّرَابِ، وَعَلَيْهِ مِسْحٌ خَيْبَرِيٌّ،
مُطَوَّقٌ بِلَا جَيْبٍ، مُقَصَّرُ اَلْكُمَّيْنِ، وَهُوَ يَبْكِي بُكَاءَ
اَلْوَالِهِ اَلثَّكْلَى، ذَاتِ اَلْكَبِدِ اَلْحَرَّى، قَدْ نَالَ اَلْحُزْنُ مِنْ
وَجْنَتَيْهِ، وَشَاعَ اَلتَّغْيِيرُ فِي عَارِضَيْهِ، وَأَبْلَى اَلدُّمُوعُ
مَحْجِرَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «سَيِّدِي غَيْبَتُكَ نَفَتْ رُقَادِي، وَضَيَّقَتْ
عَلَيَّ مِهَادِي، وَاِبْتَزَّتْ مِنِّي رَاحَةَ فُؤَادِي، سَيِّدِي غَيْبَتُكَ
أَوْصَلَتْ مُصَابِي بِفَجَائِعِ اَلْأَبَدِ، وَفَقْدُ اَلْوَاحِدِ بَعْدَ
اَلْوَاحِدِ يُفْنِي اَلْجَمْعَ وَاَلْعَدَدَ، فَمَا أُحِسُّ بِدَمْعَةٍ تَرْقَى
مِنْ عَيْنِي، وَأَنِينٍ يَفْتُرُ مِنْ صَدْرِي عَنْ دَوَارِجِ اَلرَّزَايَا
وَسَوَالِفِ اَلْبَلَايَا إِلَّا مُثِّلَ بِعَيْنِي عَنْ غَوَابِرِ أَعْظَمِهَا
وَأَفْظَعِهَا، وَبَوَاقِي أَشَدِّهَا وَأَنْكَرِهَا، وَنَوَائِبَ مَخْلُوطَةٍ
بِغَضَبِكَ، وَنَوَازِلَ مَعْجُونَةٍ بِسَخَطِكَ»، قَالَ سَدِيرٌ: فَاسْتَطَارَتْ
عُقُولُنَا وَلَهاً، وَتَصَدَّعَتْ قُلُوبُنَا جَزَعاً مِنْ ذَلِكَ اَلْخَطْبِ
-----------------
(١١٢) الكافي (ج ٨/ ص ١١٣ - ١٢٠/ ح ٩٢).
اَلْهَائِلِ، وَاَلْحَادِثِ اَلْغَائِلِ، وَظَنَنَّا أَنَّهُ سَمَتَ لِمَكْرُوهَةٍ قَارِعَةٍ، أَوْ حَلَّتْ بِهِ مِنَ اَلدَّهْرِ بَائِقَةٌ، فَقُلْنَا: لَا أَبْكَى اَللهُ يَا اِبْنَ خَيْرِ اَلْوَرَى عَيْنَيْكَ، مِنْ أَيَّةِ حَادِثَةٍ تَسْتَنْزِفُ دَمْعَتَكَ، وَتَسْتَمْطِرُ عَبْرَتَكَ؟ وَأَيَّةُ حَالَةٍ حَتَمَتْ عَلَيْكَ هَذَا اَلمَأْتَمَ؟ قَالَ: فَزَفَرَ اَلصَّادِقُ (عليه السلام) زَفْرَةً اِنْتَفَخَ مِنْهَا جَوْفُهُ، وَاِشْتَدَّ عَنْهَا خَوْفُهُ، وَقَالَ: «وَيْلَكُمْ نَظَرْتُ فِي كِتَابِ اَلْجَفْرِ صَبِيحَةَ هَذَا اَلْيَوْمِ، وَهُوَ اَلْكِتَابُ اَلمُشْتَمِلُ عَلَى عِلْمِ اَلمَنَايَا وَاَلْبَلَايَا وَاَلرَّزَايَا وَعِلْمِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ اَلَّذِي خَصَّ اَللهُ بِهِ مُحَمَّداً وَاَلْأَئِمَّةَ مِنْ بَعْدِهِ (عليهم السلام)، وَتَأَمَّلْتُ مِنْهُ مَوْلِدَ قَائِمِنَا وَغِيبَتَهُ وَإِبْطَاءَهُ وَطُولَ عُمُرِهِ وَبَلْوَى اَلمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ اَلزَّمَانِ، وَتَوَلُّدَ اَلشُّكُوكِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ طُولِ غَيْبَتِهِ، وَاِرْتِدَادَ أَكْثَرِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَخَلْعَهُمْ رِبْقَةَ اَلْإِسْلَامِ مِنْ أَعْنَاقِهِمُ اَلَّتِي قَالَ اَللهُ (تَقَدَّسَ ذِكْرُهُ): ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣]، يَعْنِي اَلْوَلَايَةَ، فَأَخَذَتْنِي اَلرِّقَّةُ، وَاِسْتَوْلَتْ عَلَيَّ اَلْأَحْزَانُ»، فَقُلْنَا: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، كَرِّمْنَا وَفَضِّلْنَا بِإِشْرَاكِكَ إِيَّانَا فِي بَعْضِ مَا أَنْتَ تَعْلَمُهُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ، قَالَ: «إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَدَارَ لِلْقَائِمِ مِنَّا ثَلَاثَةً أَدَارَهَا فِي ثَلَاثَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ (عليهم السلام)، قَدَّرَ مَوْلِدَهُ تَقْدِيرَ مَوْلِدِ مُوسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ غَيْبَتَهُ تَقْدِيرَ غَيْبَةِ عِيسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ إِبْطَاءَهُ تَقْدِيرَ إِبْطَاءِ نُوحٍ (عليه السلام)، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عُمُرَ اَلْعَبْدِ اَلصَّالِحِ أَعْنِي اَلْخَضِرَ (عليه السلام) دَلِيلاً عَلَى عُمُرِهِ»، فَقُلْنَا لَهُ: اِكْشِفْ لَنَا يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله عَنْ وُجُوهِ هَذِهِ اَلمَعَانِي، قَالَ (عليه السلام): «... وَأَمَّا إِبْطَاءُ نُوحٍ (عليه السلام) فَإِنَّهُ لَمَّا اِسْتُنْزِلَتِ اَلْعُقُوبَةُ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ اَلسَّمَاءِ بَعَثَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) اَلرُّوحَ اَلْأَمِينَ (عليه السلام) بِسَبْعِ نَوَيَاتٍ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اَلله، إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لَكَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ خَلَائِقِي وَعِبَادِي، وَلَسْتُ أُبِيدُهُمْ بِصَاعِقَةٍ مِنْ صَوَاعِقِي إِلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ اَلدَّعْوَةِ وَإِلْزَامِ اَلْحُجَّةِ، فَعَاوِدِ اِجْتِهَادَكَ فِي اَلدَّعْوَةِ لِقَوْمِكَ فَإِنِّي مُثِيبُكَ عَلَيْهِ، وَاِغْرِسْ هَذِهِ اَلنَّوَى فَإِنَّ لَكَ فِي نَبَاتِهَا وَبُلُوغِهَا وَإِدْرَاكِهَا إِذَا أَثْمَرَتِ اَلْفَرَجَ وَاَلْخَلَاصَ، فَبَشِّرْ بِذَلِكَ مَنْ تَبِعَكَ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا نَبَتَتِ اَلْأَشْجَارُ
وَتَأَزَّرَتْ وَتَسَوَّقَتْ
وَتَغَصَّنَتْ وَأَثْمَرَتْ وَزَهَا اَلتَّمْرُ عَلَيْهَا بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ
اِسْتَنْجَزَ مِنَ اَلله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اَلْعِدَةَ، فَأَمَرَهُ اَللهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَغْرِسَ مِنْ نَوَى تِلْكَ اَلْأَشْجَارِ وَيُعَاوِدَ
اَلصَّبْرَ وَاَلْاِجْتِهَادَ وَيُؤَكِّدَ اَلْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخْبَرَ
بِذَلِكَ اَلطَّوَائِفَ اَلَّتِي آمَنَتْ بِهِ، فَارْتَدَّ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ
رَجُلٍ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ نُوحٌ حَقًّا لَمَا وَقَعَ فِي
وَعْدِ رَبِّهِ خُلْفٌ. ثُمَّ إِنَّ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ
يَأْمُرُهُ عِنْدَ كُلِّ مَرَّةٍ بِأَنْ يَغْرِسَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى
أَنْ غَرَسَهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ اَلطَّوَائِفُ مِنَ
اَلمُؤْمِنِينَ تَرْتَدُّ مِنْهُ طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ إِلَى أَنْ عَادَ
إِلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ رَجُلاً، فَأَوْحَى اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ
ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: يَا نُوحُ، اَلْآنَ أَسْفَرَ اَلصُّبْحُ عَنِ اَللَّيْلِ
لِعَيْنِكَ حِينَ صَرَحَ اَلْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَصَفَا اَلْأَمْرُ
وَاَلْإِيمَانُ مِنَ اَلْكَدَرِ بِارْتِدَادِ كُلِّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ
خَبِيثَةً، فَلَوْ أَنِّي أَهْلَكْتُ اَلْكُفَّارَ وَأَبْقَيْتُ مَنْ قَدِ
اِرْتَدَّ مِنَ اَلطَّوَائِفِ اَلَّتِي كَانَتْ آمَنَتْ بِكَ لَمَا كُنْتُ
صَدَّقْتُ وَعْدِيَ اَلسَّابِقَ لِلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ أَخْلَصُوا
اَلتَّوْحِيدَ مِنْ قَوْمِكَ، وَاِعْتَصَمُوا بِحَبْلِ نُبُوَّتِكَ بِأَنْ
أَسْتَخْلِفَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَأُمَكِّنَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَأُبَدِّلَ
خَوْفَهُمْ بِالْأَمْنِ لِكَيْ تَخْلُصَ اَلْعِبَادَةُ لِي بِذَهَابِ اَلشَّكِّ
مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَكَيْفَ يَكُونُ اَلْاِسْتِخْلَافُ وَاَلتَّمْكِينُ وَبَدَلُ
اَلْخَوْفِ بِالْأَمْنِ مِنِّي لَهُمْ مَعَ مَا كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْ ضَعْفِ
يَقِينِ اَلَّذِينَ اِرْتَدُّوا وَخُبْثِ طِينِهِمْ وَسُوءِ سَرَائِرِهِمُ اَلَّتِي
كَانَتْ نَتَائِجَ اَلنِّفَاقِ...»(١١٣).
قصَّة إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام):
ورد ذكر إبراهيم (عليه السلام) في العديد من الآيات الكريمة، ومنها:
* قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ
قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: ١٢٤).
-----------------
(١١٣) كمال الدِّين (ص ٣٥٢ - ٣٥٧/ باب ٣٣/ ح ٥٠).
* وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ
سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ
إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: ١٢٩ - ١٣٢).
* وقوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا
أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: ١٣٦).
قصَّة إبراهيم (عليه السلام) في الروايات:
تناولت العديد من الروايات قصَّة إبراهيم (عليه السلام)، وتحدَّثت عن الكثير من
التفاصيل التي لا يسعنا ذكرها.
* روى الشيخ الصدوق (رحمه الله): «... فَلَمْ يَزَلْ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام)
فِي اَلْغَيْبَةِ، مَخْفِيًّا لِشَخْصِهِ، كَاتِماً لِأَمْرِهِ، حَتَّى ظَهَرَ
فَصَدَعَ بِأَمْرِ اَلله تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَأَظْهَرَ اَللهُ قُدْرَتَهُ فِيهِ،
ثُمَّ غَابَ (عليه السلام) اَلْغَيْبَةَ اَلثَّانِيَةَ، وَذَلِكَ حِينَ نَفَاهُ
اَلطَّاغُوتُ عَنْ مِصْرَ، فَقَالَ: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾، قَالَ
اَللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا
لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ [مريم: ٤٨ -
٥٠]، يَعْنِى بِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ
قَدْ كَانَ دَعَا اَلله (عزَّ وجلَّ) أَنْ يَجْعَلَ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ فِي
اَلْآخِرِينَ، فَجَعَلَ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ وَلِإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا».
فأخبر عليٌّ (عليه السلام) بأنَّ القائم هو الحادي عشر من ولده، وأنَّه المهدي الذي
يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً...(١١٤).
فوائد من سيرة إبراهيم (عليه السلام):
* في (عِلَل الشرائع) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلْعَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اَلله
اَلْحَسَنِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ اَلْعَسْكَرِيَّ (عليه
السلام) يَقُولُ: «إِنَّمَا اِتَّخَذَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً
لِكَثْرَةِ صَلَاتِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ (صَلَوَاتُ اَلله
عَلَيْهِمْ)»(١١٥).
وقد ورد في سبب اتِّخاذ الله (عزَّ وجلَّ) لإبراهيم خليلاً غير ذلك، من قبيل كثرة
إطعامه للطعام، وصلاته بالليل والناس نيام(١١٦).
مشابهة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لإبراهيم (عليه السلام):
* في (كمال الدِّين) بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ
اَلْعَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ اَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام) يَقُولُ: «فِي
اَلْقَائِمِ مِنَّا سُنَنٌ مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ، سُنَّةٌ مِنْ أَبِينَا
آدَمَ (عليه السلام)، وَسُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ، وَسُنَّةٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ،
وَسُنَّةٌ مِنْ مُوسَى، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَى، وَسُنَّةٌ مِنْ أَيُّوبَ، وَسُنَّةٌ
مِنْ مُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمْ). فَأَمَّا مِنْ آدَمَ وَنُوحٍ فَطُولُ
اَلْعُمُرِ، وَأَمَّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَخَفَاءُ اَلْوِلَادَةِ وَاِعْتِزَالُ
اَلنَّاسِ، وَأَمَّا مِنْ مُوسَى فَالْخَوْفُ وَاَلْغَيْبَةُ، وَأَمَّا مِنْ عِيسَى
فَاخْتِلَافُ اَلنَّاسِ فِيهِ، وَأَمَّا مِنْ أَيُّوبَ فَالْفَرَجُ بَعْدَ
اَلْبَلْوَى، وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) فَالْخُرُوجُ
بِالسَّيْفِ»(١١٧).
والروايات التي تتحدَّث عن قَصَص الأنبياء وتذكر تفاصيل حياتهم (عليهم السلام) كذلك
كُتُب التأريخ وغيرها كثيرة، ولم نتعرَّض إلَّا إلى أقلّ القليل من ذلك.
-----------------
(١١٤) كمال الدِّين (ص ١٣٨ و١٣٩/ باب ٤/ ح ٧).
(١١٥) عِلَل الشرائع (ج ١/ ص ٣٤/ باب ٣٢/ ح ٣).
(١١٦) راجع: عِلَل الشرائع (ج ١/ ص ٣٥/ باب ٣٢/ ح ٤).
(١١٧) كمال الدِّين (ص ٣٢١ و٣٢٢/ باب ٣١/ ح ٣).
* قال الشيخ المفيد (قدّس سرّه): (أجمع العلماء من المِلَل على ما كان من ستر ولادة
أبي إبراهيم الخليل (عليه السلام) وأُمِّه لذلك، وتدبيرهم في إخفاء أمره عن مَلِك
زمانه لخوفهم عليه منه. وبستر ولادة موسى بن عمران (عليه السلام)، وبمجئ القرآن
بشرح ذلك على البيان، والخبر بأنَّ أُمَّه ألقته في اليمِّ على ثقة منها بسلامته
وعوده إليها، وكان ذلك منها بالوحي إليها به بتدبير الله (جلَّ وعلا) لمصالح
العباد. فما الذي ينكر خصوم الإماميَّة من قولهم في ستر الحسن (عليه السلام) ولادة
ابنه المهدي عن أهله وبني عمِّه وغيرهم من الناس؟ وأسباب ذلك أظهر من أسباب ستر من
عدَّدناه وسمَّيناه...)(١١٨).
الإمامة في إبراهيم (عليه السلام) وذرّيَّته:
قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ
قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا
يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: ١٢٤).
* في (الكافي) بسنده عَنْ زَيْدٍ اَلشَّحَّامِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله
(عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اِتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ
عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَه نَبِيًّا، وَإِنَّ اَللهَ اِتَّخَذَهُ نَبِيًّا
قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ رَسُولاً، وَإِنَّ اَللهَ اِتَّخَذَهُ رَسُولاً قَبْلَ
أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلِيلاً، وَإِنَّ اَللهَ اِتَّخَذَهُ خَلِيلاً قَبْلَ أَنْ
يَجْعَلَهُ إِمَاماً، فَلَمَّا جَمَعَ لَهُ اَلْأَشْيَاءَ قَالَ: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾»، قَالَ: «فَمِنْ عِظَمِهَا فِي عَيْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ:
﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾»، قَالَ: «لَا
يَكُونُ اَلسَّفِيه إِمَامَ اَلتَّقِيِّ»(١١٩).
* وفي (الغيبة للنعماني) روى (رحمه الله) رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام)
يُفصِّل فيها خصائص الإمامة ويتحدَّث عن الإمام (عليه السلام)، جاء فيها:
«فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ
اَلْقِيَامَةِ، وَصَارَتْ فِي اَلصَّفْوَةِ، ثُمَّ أَكْرَمَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)
بِأَنْ جَعَلَهَا
-----------------
(١١٨) المسائل العشر في الغيبة (ص ٥٨).
(١١٩) الكافي (ج ١/ ص ١٧٥/ باب طبقات الأنبياء والرُّسُل والأئمَّة (عليهم السلام)/
ح ٢).
فِي ذُرِّيَّتِهِ أَهْلِ اَلصَّفْوَةِ وَاَلطَّهَارَةِ، فَقَالَ:
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ
* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ
فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا
عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٢ و٧٣]، فَلَمْ تَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِ يَرِثُهَا بَعْضٌ
عَنْ بَعْضٍ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى وَرِثَهَا اَلنَّبِيُّ (صلَّى الله عليه
وآله)، فَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ
الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ٦٨]، فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً، فَقَلَّدَهَا (صلَّى
الله عليه وآله) عَلِيًّا (عليه السلام) بِأَمْرِ اَلله (عَزَّ اِسْمُهُ) عَلَى
رَسْمِ مَا فَرَضَهُ اَللهُ، فَصَارَتْ فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلْأَصْفِيَاءِ
اَلَّذِينَ آتَاهُمُ اَللهُ اَلْعِلْمَ وَاَلْإِيمَانَ بِقَوْلِهِ (عزَّ وجلَّ):
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ
اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ [الروم: ٥٦]، فَهِيَ فِي وُلْدِ عَلِيٍّ (عليه
السلام) خَاصَّةً إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، إِذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
(صلَّى الله عليه وآله)، فَمِنْ أَيْنَ يَخْتَارُ هَؤُلَاءِ اَلْجُهَّالُ
اَلْإِمَامَ؟ إِنَّ اَلْإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ اَلْأَنْبِيَاءِ، وَإِرْثُ
اَلْأَوْصِيَاءِ، إِنَّ اَلْإِمَامَةَ خِلَافَةُ اَلله، وَخِلَافَةُ اَلرَّسُولِ
(صلَّى الله عليه وآله)، وَمَقَامُ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ، وَمِيرَاثُ اَلْحَسَنِ
وَاَلْحُسَيْنِ (عليهم السلام)...»(١٢٠).
قال الشيخ أبو الصلاح (رحمه الله) في معرض استعراضه أدلَّة إمامة أهل البيت (عليهم
السلام) وأمير المؤمنين (عليه السلام): (ومنها: قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، فنفى
سبحانه أنْ ينال الإمامة ظالم، وهذا يمنع مَنْ استحقَّ سمة الظلم وقتاً ما من
الصلاح للإمامة، لدخوله تحت الاسم المانع من استحقاقها. وأيضاً فإنَّه سبحانه أخبر
بمعنى الأمر أنَّ الظالم لا يستحقُّها، وخبره متعلِّق بالمخبر على ما هو به، فيجب
فساد إمامة مَنْ يجوز كونه ظالماً، وذلك يقتضي وقوف صلاحها على المعصوم، ويوجب فساد
إمامة أبي بكر وعمر وعثمان والعبَّاس، لوقوع الظلم منهم، ولعدم القطع على
-----------------
(١٢٠) الغيبة للنعماني (ص ٢٢٥ و٢٢٦/ باب ١٣/ ح ٦).
عصمتهم،
وإذا بطلت إمامة هؤلاء ثبتت إمامة عليٍّ (عليه السلام)، لأنَّه لا قول لأحدٍ من
الأُمَّة خارج عن ذلك.
وتبطل إمامتهم من الآية بأنَّ جوابه تعالى بنفي الإمامة عن الظالم خرج مطابقاً
لسؤال إبراهيم (عليه السلام)، وذلك يقتضي اختصاصه لمن كان ظالماً ثمّ تاب، لقبح
سؤال الإمامة للكافر في حال كفره، ووقوع الكفر من هؤلاء معلوم، فيجب دخولهم تحت
النفي.
وليس لأحدٍ أنْ يقدح في بعض ما مضى بأنَّ التائب من الظلم لا يكون ظالماً.
لأنَّ ظالماً من أسماء الفاعلين في اللغة كقاتل وضارب، وليس باسم شرعي، والأسماء
المشتقَّة من الأفعال ثابتة بعد التوبة كثبوتها قبلها، يقولون: هذا قاتل زيد، وضارب
عمرو، وخاذل عليٍّ، وإنْ تابوا ممَّا اقترفوه، ولو كان من أسماء الشرعيَّة لقبح هذا
الإطلاق بعد التوبة كفاسق وكافر.
ولأنَّ العرب ما تصف فاعل الضرر الخالص بظالم كما تصفه الشريعة، ولو كان منقلاً
يجري مجرى مصلٍّ ومزكٍّ، لاختصاصه بعرف الشرع كذين الاسمين، وإقرار الشريعة له على
أصل الوضع يُسقِط الشبهة، لأنَّها مبنيَّة على قبح الوصف به بعد التوبة، وما
قرَّرته الشريعة من الأسماء على أصله لا يجوز سلبه للتائب بلا خلاف بين العلماء
بأحكام الخطاب)(١٢١).
وقد ذكر العلَّامة الطباطبائي (رحمه الله) في (تفسير الميزان) بحثاً مفصَّلاً حول
الآية الشريفة والآيات المرتبطة بها نأخذ منه ما يناسب بحثنا، قال (رحمه الله):
(قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾، قول من يعتقد لنفسه ذرّيَّة،
وكيف يسع مَنْ له أدنى دربة بأدب الكلام وخاصَّة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربَّه
-----------------
(١٢١) تقريب المعارف (ص ١٩١ و١٩٢).
الجليل أنْ يتفوه بما لا علم له به؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أنْ يقول:
(ومن ذرّيَّتي إنْ رزقتني ذرّيَّة) أو ما يُؤدِّي هذا المعنى، فالقصَّة واقعة كما
ذكرنا في أواخر عهد إبراهيم بعد البشارة.
على أنَّ قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾، يدلُّ على أنَّ هذه
الإمامة الموهوبة إنَّما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات، وليست
هذه إلَّا أنواع البلاء التي ابتلى (عليه السلام) بها في حياته، وقد نصَّ القرآن
على أنَّ من أوضحها بلاء قضيَّة ذبح إسماعيل، قال تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي
أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ...﴾ إلى أنْ قال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافَّات: ١٠٢ - ١٠٦]. والقضيَّة إنَّما وقعت في كبر
إبراهيم، كما حكى الله تعالى عنه من قوله: ﴿الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي
عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾
[إبراهيم: ٣٩]...
وقد ظهر ممَّا تقدَّم من البيان أُمور:
الأوَّل: أنَّ الإمامة لمجعولة.
الثاني: أنَّ الإمام يجب أنْ يكون معصوماً بعصمة إلهيَّة.
الثالث: أنَّ الأرض وفيه الناس، لا تخلو عن إمام حقٍّ.
الرابع: أنَّ الإمام يجب أنْ يكون مؤيَّداً من عند الله تعالى.
الخامس: أنَّ أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.
السادس: أنَّه يجب أنْ يكون عالماً بجميع ما يحتاج إليه الناس في أُمور معاشهم
ومعادهم.
السابع: أنَّه يستحيل أنْ يوجد فيهم مَنْ يفوقه في فضائل النفس.
فهذه سبعة مسائل هي أُمَّهات مسائل الإمامة، تعطيها الآية الشريفة بما ينضمُّ إليها
من الآيات، والله الهادي.
فإنْ قلتَ: لو كانت الإمامة هي الهداية بأمر الله تعالى، وهي الهداية إلى الحقِّ
الملازم مع الاهتداء بالذات كما استفيد من قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى
الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ...﴾ الآية [يونس: ٣٥] كان جميع الأنبياء أئمَّة
قطعاً، لوضوح أنَّ نبوَّة النبيِّ لا يتمُّ إلَّا باهتداء من جانب الله تعالى
بالوحي، من غير أنْ يكون مكتسباً من الغير، بتعليم أو إرشاد ونحوهما، حينئذٍ فموهبة
النبوَّة تستلزم موهبة الإمامة، وعاد الإشكال إلى أنفسكم.
قلتُ: الذي يتحصَّل من البيان السابق المستفاد من الآية أنَّ الهداية بالحقِّ وهي
الإمامة تستلزم الاهتداء بالحقِّ، وأمَّا العكس وهو أنْ يكون كلُّ مَنِ اهتدى
بالحقِّ هادياً لغيره بالحقِّ، حتَّى يكون كلُّ نبيٍّ لاهتدائه بالذات إماماً، فلم
يتبيَّن بعد...)(١٢٢).
شبهة الشكِّ في الله تعالى وجوابها:
يزعم ممَّن لا معرفة له بحال الأنبياء (عليهم السلام) ويظنُّ متوهِّماً أنَّ
إبراهيم (عليه السلام) على عظيم منزلته وكبر مقامه قد حصل الشكُّ في قلبه ليس مرَّة
بل مرَّات! منها ما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ (البقرة: ٢٦٠)، فكيف لمثل إبراهيم (عليه السلام) وهو قلب
الإيمان أنْ يحمل في قلبه الشكَّ، وأنْ يتردَّد ويطلب الاطمئنان، بل وأنْ يخاطب من
قِبَل ربِّ العزَّة والجلالة: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾؟!
هذه مرَّة، والثانية في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ
عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا
أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا
-----------------
(١٢٢) تفسير الميزان (ج ١/ ص ٢٦٨ - ٢٧٥).
رَبِّي
فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ
الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا
أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾
(الأنعام: ٧٥ - ٧٨)، فكيف بحامل لواء التوحيد، ومهدم الأصنام أنْ لا يعرف ربَّه، أو
أنْ يقول للقمر أو الشمس أنَّها ربُّه؟!
هذا أمر عجيب، والأعجب أنْ يُظَنَّ بإبراهيم (عليه السلام) هذا فضلاً عن أنْ
يُعتقَد فيه.
والجواب عن هذه الشبهة:
١ - أنَّ الآيات الكريمات هي بنفسها تضمَّنت الإجابة، حيث نفت الشكَّ عنه، وأنَّه
إنَّما طلب ذلك زيادة في اليقين، ودفعاً لما يمكن أنْ يُتوهَّم، وللأنبياء (عليهم
السلام) طلب زيادة اليقين والسعي نحو مراتب الكمال التي لا حدَّ لها، وطلبها كمال
ممدوح.
٢ - أنَّه (عليه السلام) يقول ذلك على لسان قومه ومجاراة لهم، لمزيد من الاحتجاج
وإثبات التوحيد، فهو يريد إقناعهم بأنَّ ما يمكن اعتقاده في المخلوقات وإنْ عظمت
ينتهي إلى الأُفول والزوال.
٣ - توجد قاعدة مفادها: أنَّ ما ليس بقطعي ومحكم يتمُّ إرجاعه إلى المحكم من
الأُمور، وعصمة الأنبياء (عليهم السلام) أمر محكم وقطعي، فكلُّ ما يخالفه لا بدَّ
من تأويله.
شبهة كذب إبراهيم (عليه السلام) والجواب عنها:
من خلال هذا يتَّضح الحال في آيات أُخرى قد تُفسَّر خطأً كقوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ (الأنبياء:
٦٣)، وقوله تعالى: ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ (الصافَّات: ٨٩).
قصَّة موسى كليم الربِّ (عليه السلام):
هو موسى، وبالعبريَّة موشي بن عمران، أو عمرام، أو عمرم بن قاهث بن لاوي ابن نبيِّ
الله يعقوب (عليه السلام)، وقيل في اسمه: موسى بن عمران بن عازر بن لاوي بن يعقوب
(عليه السلام).
وسيأتي في الرواية التي ذكرت الأوصياء بعد يعقوب (عليه السلام) غير ذلك، حيث يقع
بينه وبين يعقوب عدد من الأوصياء من ولد لاوي يتجاوز ما ذُكِرَ أعلاه، والأمر سهل،
ولكن رغبنا بذكره لمزيد من المعرفة والاطِّلاع على النسل المبارك له.
في القرآن الكريم:
ورد ذكر موسى (عليه السلام) في العديد من الآيات، ومنها:
* قوله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ
لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ
أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾ (طه: ٩ و١٠)، ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ
شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ
أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (القَصَص: ٣٠).
* وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي
وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ﴾ (الشعراء: ١٢ و١٣).
في الروايات الشريفة:
* في (إثبات الوصيَّة): وكان يوسف (عليه السلام) إماماً مَلِكاً، ومَلَك اثنين
وسبعين سنة، وعاش مائة وعشرين سنة، وكان له ابنان يقال لأحدهما: افرائيم، وهو جدُّ
يوشع بن نون، والآخر ميشا. فلمَّا قربت وفاته أوحى الله إليه (عزَّ وجلَّ) أنْ
استودع نور الله وحكمته وجميع المواريث التي في يديك ببرز بن لاوي بن يعقوب، فأحضر
ببرز بن لاوي وجمع آل يعقوب، وهم يومئذٍ ثمانون رجلاً،
فقال لهم: إنَّ هؤلاء القبط
سيظهرون عليكم، ويسومونكم سوء العذاب، ونعوت الإمامة مكتومة، ثمّ ينجيكم الله
ويُفرِّج عنكم برجل من ولد لاوي اسمه موسى بن عمران طوال جعد آدم مفلفل الشعر أحلج
على لسانه شامة وعلى أرنبة أنفه شامة، ولن يظهر حتَّى يخرج قبله سبعون كذَّاباً،
(وروي خمسون) كلٌّ يدَّعي أنَّه هو، ثمّ يظهر وينصر الله بني إسرائيل ويُفرِّج
عنهم. وسلَّم التابوت والنور والحكمة وجميع المواريث إلى ببرز بن لاوي (عليه
السلام) ومضى (صلَّى الله عليه).
قام ببرز بن لاوي بن يعقوب (عليهم السلام) بأمر الله (جلَّ وعزَّ) يُدبِّره على
سبيل آبائه (عليهم السلام)، فروي أنَّه كان إذا وُلِدَ في بني إسرائيل كلُّ واحدٍ
منهم يدَّعي أنَّه هو ويُسمَّى عمران، ثمّ يأتي عمران ولد فيُسمَّى الولد موسى،
يتعرَّضون بذلك لقيام القائم موسى (عليه السلام). فما ظهر موسى حتَّى خرج سبعون
كذَّاباً (وروي خمسون) من بني إسرائيل كلُّ واحدٍ منهم يدَّعي أنَّه هو.
واشتدَّ أمر الغيبة في توقُّعه وانتظاره على بني إسرائيل، وكانوا يتجسَّسون من خبره
بالليل والنهار، وغلظ عليهم سيرة فرعون وجنوده، فخرجوا في ليلة مقمرة إلى فقيه لهم،
وكان الاجتماع عنده يتعذَّر عليهم ويخافون، فقالوا له: قد كنَّا نستريح إلى
الأحاديث فحتَّى متى؟ فقال لهم: لا تزالون في هذا أبداً حتَّى يأتي الله بموسى بن
عمران ويظهر في الأرض. وأخذ يصف لهم وجهه وطوله ولحيته وعلاماته إذ أقبل موسى (عليه
السلام) وقد كان خرج إلى الصيد على بغلة له شهباء وعليه طيلسان خزٍّ، فوقف عليهم،
فرفع العالم رأسه فنظر إليه فعرفه فوثب إليه، ثمّ قال له: ما اسمك يرحمك الله؟ فقال
له: موسى بن عمران، فانكبَّ على يده ورجله فقبَّلهما، وثار القوم فقبَّلوا يده
ورجله، وقالوا له: الحمد لله الذي لم يمتنا حتَّى أراناك. فلم يزد على أنْ قال:
أرجو أنْ يُعجَّل لكم الفرج، فاتَّخذهم شيعة
من ذلك اليوم. ثمّ غاب بعد ذلك بضعة
عشر سنة، ثمّ خرج من الدار إلى السفينة...(١٢٣).
قصَّة عيسى (عليه السلام):
المسيح عيسى بن مريم، (عيسو) بالعبريَّة القديمة، و(يشوع) بالعبريَّة المعاصرة،
و(يسوع) في العهد الجديد، من أُولي العزم من الرُّسُل (عليهم السلام)، أُرسل إلى
بني إسرائيل.
ورد ذكر عيسى (عليه السلام) في العديد من الآيات القرآنيَّة، منها:
* قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي
الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران: ٤٥ و٤٦).
* وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي
رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (الصفّ: ٦).
* وقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: ٥٩).
وورد ذكره (عليه السلام) في العديد من الروايات، منها:
علَّة خلقه (عليه السلام) من غير أب:
* في (عِلَل الشرائع) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ
اَلله (عليه السلام): لِأَيِّ عِلَّةٍ خَلَقَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) آدَمَ مِنْ
غَيْرِ أَبٍ وَأُمٍّ، وَخَلَقَ عِيسَى (عليه السلام) مِنْ غَيْرِ أَبٍ،
-----------------
(١٢٣) راجع: إثبات الوصيَّة (ص ٤٩ - ٥٤)؛ والقصَّة مفصَّلة أخذنا منها موضع الحاجة مع تعديل العبارة بما يناسب الغرض من الشرح.
وَخَلَقَ
سَائِرَ اَلنَّاسِ مِنَ اَلْآبَاءِ وَاَلْأُمَّهَاتِ؟ فَقَالَ: «لِيَعْلَمَ
اَلنَّاسُ تَمَامَ قُدْرَتِهِ وَكَمَالَهَا، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يَخْلُقَ خَلْقاً مِنْ أُنْثَى مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ، كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يَخْلُقَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَأَنَّهُ (عزَّ وجلَّ) فَعَلَ
ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(١٢٤).
شباهة الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) بعيسى (عليه السلام):
ذكرت العديد من الروايات شباهة الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) بالنبيِّ عيسى
(عليه السلام)، ومنها:
* في (كمال الدِّين) بسنده عَنْ سَدِيرٍ اَلصَّيْرَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله
(عليه السلام)، قَالَ: «... وَأَمَّا غَيْبَةُ عِيسَى (عليه السلام) فَإِنَّ
اَلْيَهُودَ وَاَلنَّصَارَى اِتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ قُتِلَ، فَكَذَّبَهُمُ
اَللهُ (جَلَّ ذِكْرُهُ) بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ
شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٧]، كَذَلِكَ غَيْبَةُ اَلْقَائِمِ فَإِنَّ اَلْأُمَّةَ
سَتُنْكِرُهَا لِطُولِهَا، فَمِنْ قَائِلٍ يَهْذِي بِأَنَّهُ لَمْ يَلِدْ،
وَقَائِلٍ يَقُولُ: إِنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَصَاعِداً،
وَقَائِلٍ يَعْصِي اَللهَ (عزَّ وجلَّ) بِقَوْلِهِ: إِنَّ رُوحَ اَلْقَائِمِ
يَنْطِقُ فِي هَيْكَلِ غَيْرِهِ...»(١٢٥).
النقطة الثانية: أهمّيَّة هذه الأدوار في التأثير على الإيمان
واكتساب التديُّن:
يُؤثِّر هذا التنوُّع في الأدوار على الناس في تلقِّيهم للدِّين وفي ثبات التديُّن،
إذ يُعطيها مزيداً من القوَّة والصلابة في مواجهة الصعاب، والمرونة في حالة التعايش
وتحمُّل المؤمنين، وعلى إثر ذلك يتنوَّع خطابنا للأفراد، فعندما نريد أنْ نُبيِّن
للناس حالة التشتُّت والمخالفة وعصيان الأوامر نذكر ما حصل مع قوم
-----------------
(١٢٤) عِلَل الشرائع (ج ١/ ص ١٥/ باب ١٢/ ح ١).
(١٢٥) كمال الدِّين (ص ٣٥٤ و٣٥٥/ باب ٣٣/ ح ٥٠).
موسى وهارون
(عليهما السلام)، أمَّا إذا أردنا أنْ ننظر حالة الصلابة والقوَّة والمنعة
الفرديَّة فنذكر الدور الإبراهيمي، وكيف ثبت رغم كونه (عليه السلام) فرداً تجاه
قومه، وإذا أردنا أنْ نخاطب الناس لأجل أنْ نكسبهم ونصبرهم ونُشجِّعهم نلحظ حالة
الصبر عند نوح (عليه السلام) ومطاولته مع قومه لما يقارب الألف سنة وعدم تململه رغم
قلَّة ناصريه، وكذلك الحال مع موسى (عليه السلام)، فرغم لجاجة قومه وعنادهم إلَّا
أنَّه صبر عليهم وأحسن صحبتهم.
على أنَّ هذه الأدوار وغيرها ممَّا يأتي ذكرها إنَّما هو للدلالة على وجودها عند
أهل البيت (عليهم السلام) أوَّلاً، وأنَّها تُؤثِّر في فهم القضيَّة المهدويَّة من
زوايا متعدِّدة، إذ تنفع كثيراً الحالات المتنوِّعة التي مرَّ بها الأنبياء (عليهم
السلام) في فهم القضيَّة المهدويَّة ومرورها بنفس هذه الحالات أو ما يشابهها، بل في
بعض الأحيان بشكل أشدّ ممَّا مرَّ به بعض أتباع الأنبياء (عليهم السلام) من قلَّة
الناصر والاضطرار إلى الاختفاء والغيبة والتواري، كي يلتفت الناس إلى أنَّ ما في
الحجَّة (عليه السلام) أشدّ ممَّا جرى على الأنبياء (عليهم السلام).
بل قد يقال: إنَّ ما جرى على الأنبياء (عليهم السلام) هو لأجل ما سيجري على أهل
البيت (عليهم السلام).
ومن النصوص الدالَّة على ذلك:
* في(كمال الدِّين) بسنده عَنْ سَدِيرٍ اَلصَّيْرَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله
(عليه السلام)، قَالَ: «... إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَدَارَ لِلْقَائِمِ
مِنَّا ثَلَاثَةً أَدَارَهَا فِي ثَلَاثَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ (عليهم السلام)،
قَدَّرَ مَوْلِدَهُ تَقْدِيرَ مَوْلِدِ مُوسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ غَيْبَتَهُ
تَقْدِيرَ غَيْبَةِ عِيسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ إِبْطَاءَهُ تَقْدِيرَ
إِبْطَاءِ نُوحٍ (عليه السلام)، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عُمُرَ
اَلْعَبْدِ اَلصَّالِحِ - أَعْنِي اَلْخَضِرَ (عليه السلام) - دَلِيلاً عَلَى
عُمُرِهِ...»(١٢٦).
* وفيه بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ اَلثَّقَفِيِّ اَلطَّحَّانِ، قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَى أَبِي
-----------------
(١٢٦) كمال الدِّين (ص ٣٥٤/ باب ٣٣/ ح ٥٠).
جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ اَلْبَاقِرِ (عليهما السلام)
وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ اَلْقَائِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى
اَللهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ)، فَقَالَ لِي مُبْتَدِئاً: «يَا مُحَمَّدَ بْنَ
مُسْلِمٍ، إِنَّ فِي اَلْقَائِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)
شَبَهاً مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ: يُونُسَ بْنِ مَتَّى، وَيُوسُفَ بْنِ
يَعْقُوبَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اَلله
عَلَيْهِمْ)...»(١٢٧).
* وفي (الغيبة للنعماني) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ
اَلْبَاقِرَ (عليه السلام) يَقُولُ: «فِي صَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ سُنَّةٌ مِنْ
أَرْبَعَةِ أَنْبِيَاءَ: سُنَّةٌ مِنْ مُوسَى، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَى، وَسُنَّةٌ
مِنْ يُوسُفَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)...»(١٢٨).
* * *
-----------------
(١٢٧) كمال الدِّين (ص ٣٢٧/ باب ٣٢/ ح ٧).
(١٢٨) الغيبة للنعماني (ص ١٦٧ و١٦٨/ باب ١٠/ فصل ٣/ ح ٥).
الفقرة الثامنة
«وَكُلٌّ شَرَعْتَ لَهُ شَريعَةً، وَنَهَجْتَ لَهُ مِنْهَاجاً، وَتَخَيَّرْتَ لَهُ
أَوْصِيَاءَ، مُسْتَحْفِظاً بَعْدَ مُسْتَحْفِظٍ، مِنْ مُدَّةٍ إِلَى مُدَّةٍ»
بيان معنى الشريعة
والمنهاج:
* قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية: ١٨).
* وقال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ
اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾
(المائدة: ٤٨).
ورود لفظة الشريعة في عدَّة آيات قرآنية يعكس اهتمام الشارع المقدَّس ببيان مفاد
هذا المفهوم ومقدار تأثيره في الدِّين وعلى الناس في زاوية تعدُّد الشرائع، وما هي
الأغراض التي رسمها من وراء هذا التعدُّد مع تيسُّر جعل الشرائع شريعة واحدة من
قِبَله (عزَّ اسمه).
قال الطريحي (رحمه الله) في (مجمع البحرين): (﴿شَرَعَ لَكُمْ﴾ [الشورى: ١٣]، أي فتح
لكم وعرَّفكم طريقه، قوله: ﴿شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾، الشِّرعة - بالكسر -: الدِّين، والشرع والشريعة مثله، مأخوذ من الشريعة وهو مورد الناس للاستسقاء، سُمّيت بذلك
لوضوحها وظهورها، وجمعها شرائع. والمنهاج: الطريق الواضح المستقيم. فقوله:
﴿شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ أي ديناً وطريقاً واضحاً. قوله: ﴿عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ
الْأَمْرِ﴾، أي سُنَّة وطريقة، وقيل: على دين وملَّة ومنهاج)(١٢٩).
-----------------
(١٢٩) مجمع البحرين (ج ٤/ ص ٣٥٢/ مادَّة شرع).
والشريعة هي جملة أحكام مجعولة، فإنْ كان مصدرها السماء بأنْ نزل بها الوحي سُمّيت
شريعة سماويَّة، وإنْ كانت من وضع البشر سُمّيت وضعيَّة.
قاعدة في المقام: الشريعة تحتاج إلى قانون ونظام:
والشريعة سواء جاءت عن طريق الوحي أو اخترعها الناس والمجتمعات تحتاج إلى المجتمعات
كي تُنظِّم شؤون الحياة فيها، فلا شريعة ونظام بلا بشر ينساقون وراء أحكامها
وينتفعون من قوانينها.
قال العلَّامة الطباطبائي (رحمه الله) في (تفسير الميزان): معنى الشريعة هي الطريقة
والدِّين، وكذلك الملَّة طريقة متَّخذة، لكن الظاهر من القرآن أنَّه يستعمل الشريعة
في معنى أخصّ من الدِّين كما يدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ
الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، ومع ملاحظة قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: ٤٨]، يظهر أنَّ الشريعة أخصّ.
ولعلَّ ذلك لما في لفظ (الشريعة) من التلميح إلى المعنى الحَدَثي، وهو تمهيد الطريق
ونصبه، فمن الجائز أنْ يقال: الطريقة التي مهَّدها الله، أو الطريقة التي مهَّدت
للنبيِّ أو للأُمَّة الفلانيَّة، ولا يقال ذلك في الدِّين.
نعم في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الشورى: ١٣]،
ظهور في احتواء شريعة النبيِّ الخاتم (صلَّى الله عليه وآله) جملة ممَّا حوته
الشرائع الأُخرى، فلا ينافي القول باختصاص الشريعة بقوم أو جماعة، إذ الآية إنَّما
تدلُّ على أنَّ شريعة محمّد (صلَّى الله عليه وآله) المشروعة لأُمَّته هي مجموع
وصايا الله سبحانه لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى مضافاً إليها ما أوحاه إلى محمّد
(صلَّى الله عليه وآله)، وهو كناية إمَّا عن كون الإسلام جامعاً لمزايا جميع
الشرائع السابقة وزيادة، أو عن كون الشرائع جميعاً ذات حقيقة واحدة بحسب اللُّبِّ
وإنْ كانت مختلفة بحسب اختلاف الأُمَم في الاستعداد.
فمعنى الآية - والله أعلم -: لكلِّ أُمَّة جعلنا منكم (جعلاً تشريعيًّا) شرعةً
ومنهاجاً، ولو شاء الله لأخذكم أُمَّة واحدة وشرع لكم شريعة واحدة، ولكن جعل لكم
شرائع مختلفة ليمتحنكم فيما آتاكم من النِّعَم المختلفة، واختلاف النِّعَم كان
يستدعي اختلاف الامتحان الذي هو عنوان التكاليف والأحكام المجعولة، فلا محالة ألقى
الاختلاف بين الشرائع(١٣٠).
وقد ورد في العديد من الروايات الشريفة بيان الوجه من اختلاف الشرائع، ومنها:
* في (الكافي) بسنده عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ
اَلله (عليه السلام): قَوْلَ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا
الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٣٥]، فَقَالَ: «نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى
وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله)»، قُلْتُ: كَيْفَ صَارُوا أُولِي
اَلْعَزْمِ؟ قَالَ: «لِأَنَّ نُوحاً بُعِثَ بِكِتَابٍ وَشَرِيعَةٍ، وَكُلُّ مَنْ
جَاءَ بَعْدَ نُوحٍ أَخَذَ بِكِتَابِ نُوحٍ وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ حَتَّى
جَاءَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام) بِالصُّحُفِ وَبِعَزِيمَةِ تَرْكِ كِتَابِ نُوحٍ
لَا كُفْراً بِهِ، فَكُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) أَخَذَ
بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمِنْهَاجِهِ وَبِالصُّحُفِ حَتَّى جَاءَ مُوسَى
بِالتَّوْرَاةِ وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَبِعَزِيمَةِ تَرْكِ اَلصُّحُفِ،
وَكُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى (عليه السلام) أَخَذَ بِالتَّوْرَاةِ
وَشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ اَلمَسِيحُ (عليه السلام) بِالْإِنْجِيلِ
وَبِعَزِيمَةِ تَرْكِ شَرِيعَةِ مُوسَى وَمِنْهَاجِهِ، فَكُلُّ نَبِيٍّ جَاءَ
بَعْدَ اَلمَسِيحِ أَخَذَ بِشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ حَتَّى جَاءَ مُحَمَّدٌ
(صلَّى الله عليه وآله) فَجَاءَ بِالْقُرْآنِ وَبِشَرِيعَتِهِ وَمِنْهَاجِهِ،
فَحَلَالُهُ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ
اَلْقِيَامَةِ، فَهَؤُلَاءِ أُولُو اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ (عليهم
السلام)»(١٣١).
* وفيه عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله
(عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ
-----------------
(١٣٠) راجع: تفسير الميزان (ج ٥/ ص ٣٥٠ - ٣٥٣)، مع تصرُّف يقتضيه المقام.
(١٣١) الكافي (ج ٢/ ص ١٧ و١٨/ باب الشرائع/ ح ٢).
اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى مُحَمَّداً
(صلَّى الله عليه وآله) شَرَائِعَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى (عليهم
السلام) اَلتَّوْحِيدَ وَاَلْإِخْلَاصَ وَخَلْعَ اَلْأَنْدَادِ وَاَلْفِطْرَةَ اَلْحَنِيفِيَّةَ اَلسَّمْحَةَ...»(١٣٢).
الاستحفاظ وتخيُّر الأوصياء من مدَّة إلى مدَّة:
الوصاية من سُنَن الله (عزَّ وجلَّ) في خلقه، وعندما خلق آدم (عليه السلام) - على
ما مرَّ في قصَّته - كانت الوصاية من مهمَّاته ووظائفه، وفيما ذكرنا من أخبار
تقدَّمت كفاية إلَّا أنَّ في بعضها الآتي توسعة وإفادة مهمَّة، فقد ورد:
* في (أمالي الصدوق) بسنده عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ
اَلله اَلصَّادِقِ (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله): «أَنَا سَيِّدُ اَلنَّبِيِّينَ، وَوَصِيِّي سَيِّدُ اَلْوَصِيِّينَ،
وَأَوْصِيَائِي سَادَةُ اَلْأَوْصِيَاءِ، إِنَّ آدَمَ (عليه السلام) سَأَلَ اَللهَ
(عزَّ وجلَّ) أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَصِيًّا صَالِحاً، فَأَوْحَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ)
إِلَيْهِ: أَنِّي أَكْرَمْتُ اَلْأَنْبِيَاءَ بِالنُّبُوَّةِ، ثُمَّ اِخْتَرْتُ
خَلْقِي، وَجَعَلْتُ خِيَارَهُمُ اَلْأَوْصِيَاءَ. ثُمَّ أَوْحَى اَللهُ (عزَّ
وجلَّ) إِلَيْهِ: يَا آدَمُ، أَوْصِ إِلَى شِيثٍ، فَأَوْصَى آدَمُ إِلَى شِيثٍ...»(١٣٣).
* وفي (الكافي) بسنده عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي اَلدَّيْلَمِ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «أَوْصَى مُوسَى (عليه السلام) إِلَى يُوشَعَ
بْنِ نُونٍ، وَأَوْصَى يُوشَعُ بْنُ نُونٍ إِلَى وَلَدِ هَارُونَ، وَلَمْ يُوصِ
إِلَى وَلَدِهِ وَلَا إِلَى وَلَدِ مُوسَى، إِنَّ اَللهَ تَعَالَى لَهُ
اَلْخِيَرَةُ يَخْتَارُ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَبَشَّرَ مُوسَى وَيُوشَعُ
بِالمَسِيحِ (عليه السلام)، فَلَمَّا أَنْ بَعَثَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) اَلمَسِيحَ
(عليه السلام) قَالَ اَلمَسِيحُ لَهُمْ: إِنَّه سَوْفَ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي
نَبِيٌّ اِسْمُهُ أَحْمَدُ مِنْ وُلْدِ إِسْمَاعِيلَ (عليه السلام)، يَجِيءُ
بِتَصْدِيقِي وَتَصْدِيقِكُمْ، وَعُذْرِي وَعُذْرِكُمْ، وَجَرَتْ مِنْ بَعْدِه فِي
اَلْحَوَارِيِّينَ فِي اَلمُسْتَحْفَظِينَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُمُ اَللهُ تَعَالَى
اَلمُسْتَحْفَظِينَ لِأَنَّهُمُ
-----------------
(١٣٢) الكافي (ج ٢/ ص ١٧/ باب الشرائع/ ح ١).
(١٣٣) أمالي الصدوق (ص ٤٨٦ و٤٨٧/ ح ٦٦١/٣).
اُسْتُحْفِظُوا اَلْاِسْمَ اَلْأَكْبَرَ، وَهُوَ
اَلْكِتَابُ اَلَّذِي يُعْلَمُ بِه عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ اَلَّذِي كَانَ مَعَ
اَلْأَنْبِيَاءِ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمْ)...، ثُمَّ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ،
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ قَدْ قَضَيْتَ نُبُوَّتَكَ، وَاِسْتَكْمَلْتَ
أَيَّامَكَ، فَاجْعَلِ اَلْاِسْمَ اَلْأَكْبَرَ وَمِيرَاثَ اَلْعِلْمِ وَآثَارَ
عِلْمِ اَلنُّبُوَّةِ عِنْدَ عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَإِنِّي لَمْ أَتْرُكِ
اَلْأَرْضَ إِلَّا وَلِيَ فِيهَا عَالِمٌ تُعْرَفُ بِهِ طَاعَتِي وَتُعْرَفُ بِهِ
وَلَايَتِي وَيَكُونُ حُجَّةً لِمَنْ يُولَدُ بَيْنَ قَبْضِ اَلنَّبِيِّ إِلَى
خُرُوجِ اَلنَّبِيِّ اَلْآخَرِ...»(١٣٤).
وقد ذكرنا في وصيَّة آدم ونوح وإبراهيم (عليهم السلام) ما يُبيِّن مُدَد الأنبياء
والأوصياء، وأنَّهم يتوارثون الأمر من مدَّة إلى مدَّة، على ما يأتي أيضاً في
الفقرات الآتية.
قاعدة في المقام: وجود الشريعة سُنَّة إلهيَّة:
وجود الشرائع سُنَّة إلهيَّة تفتح مجال الرقيَّ المعنوي، بل والمادِّي للإنسان،
وأنَّ هذه السُّنَّة في سوق العباد نحو المعبود لا انقطاع لها(١٣٥)، ويقف إلى جانب
هذه السُّنَّة سُنَّة أُخرى وهي سُنَّة التخيُّر والاستحفاظ، فحيثما الشريعة
والمنهج موجود فلا بدَّ للمستحفظ لها والوصيِّ القائم بها من وجود، وأنَّ جميل ما
في هذا الأمر أنَّه حتَّى الكُتُب اللغويَّة قد أشارت إلى هذه الحقيقة في إضمام
وجود الشريعة إلى ضرورة وجود المستحفظ لها، فعدم الانفكاك بين الاثنين ليس فقط
أمراً عقليًّا وعرفيًّا وشرعيًّا، بل أمراً أدبيًّا ولغويًّا كما ساقته إلينا ألسنة
العرب.
ففي مادَّة (شرع) من كتاب (لسان العرب) أنَّ العرب لا تُسمِّي الشريعة بشريعة حتَّى
يكون مائها لا انقطاع له، ويكون ظاهراً معيناً لا يُسقى بالرِّشاء(١٣٦).
-----------------
(١٣٤) الكافي (ج ١/ ص ٢٩٣ - ٢٩٦/ باب الإشارة والنصِّ على أمير المؤمنين (عليه
السلام)/ ح ٣).
(١٣٥) في الكافي (ج ١/ ص ٥٨/ باب البِدَع والرأي والمقائيس/ ح ١٩) بسنده عَنْ
زُرَارَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) عَنِ اَلْحَلَالِ
وَاَلْحَرَامِ، فَقَالَ: «حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، لَا
يَكُونُ غَيْرُهُ، وَلَا يَجِيءُ غَيْرُهُ».
(١٣٦) لسان العرب (ج ٨/ ص ١٧٥/ مادَّة شرع).
وهذه هي الحقيقة، فالنهج الواضح المستبين الذي يضيء لنا الطريق لا بدَّ أنْ يكون
دائماً معيناً لا انقطاع له، وهو ذلك الذي تخيَّره لنا الله سبحانه وتعالى، وجعله
مستحفظاً بيد الأوصياء وعلى طول الزمان، ومن مدَّة إلى مدَّة، فالاستحفاظ الذي يعني
لغةً الحراسة والوكالة بالشيء والمواظبة والذبُّ عنه إنَّما هو سُنَّة ينصُّ عليها
هذا الدعاء، لا تبديل عنها ولا تحويل.
سُنَنيَّة الاستحفاظ، وأنَّه نهج إلهي متخيَّر، حقيقة قرآنيَّة، كما هي نبويَّة
وولويَّة، فالإشارات القرآنيَّة إلى كون الشرائع لا تكون إلَّا بوجود هادٍ وقيِّم
بيِّنة بلا أدنى شكٍّ، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ
قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: ٧).
أمَّا في البُعد النبوي لهذه الحقيقة فيُحدِّثنا حديث الاستحفاظ بين العترة
والقرآن، وأنَّ ثقل أهل البيت (عليهم السلام) وثقل القرآن الكريم بينهما تلازم
دائم، وربط به يرتبط الدِّين بالقرآن والعترة، حيث جاء في الحديث المشهور: «إِنِّي
تَارِكٌ فِيكُمْ اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي،
فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ»(١٣٧).
وهذا دليل على حقَّانيَّة ما يعتقده أتباع أهل البيت (عليهم السلام) من ضرورة أنْ
يكون لكلِّ نبيٍّ أوصياء حفظة(١٣٨).
وهذه الحقيقة الندبيَّة تُثبِت أنَّ التشريع والاستحفاظ والتخيُّر متلازمان ولا
تخلو مدَّة من وجودهما معاً.
* * *
-----------------
(١٣٧) كمال الدِّين (ص ٢٣٤/ باب ٢٢/ ح ٤٤).
(١٣٨) في نصِّ يُذكَر فيه أسماء الأوصياء من لدن آدم (عليه السلام) جاء فيه: «...
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): وَدَفَعَهَا إِلَيَّ بُرْدَةُ،
وَأَنَا أَدْفَعُهَا إِلَيْكَ يَا عَلِيُّ، وَأَنْتَ تَدْفَعُهَا إِلَى وَصِيِّكَ،
وَيَدْفَعُهَا وَصِيُّكَ إِلَى أَوْصِيَائِكَ مِنْ وُلْدِكَ وَاحِداً بَعْدَ
وَاحِدٍ حَتَّى تُدْفَعَ إِلَى خَيْرِ أَهْلِ اَلْأَرْضِ بَعْدَكَ...». كمال
الدِّين (ص ٢١٣/ باب ٢٢/ ح ١).
الفقرة التاسعة
«إِقَامَةً لِدينِكَ، وَحُجَّةً عَلَى عِبَادِكَ، وَلِئَلَّا يَزُولَ اَلحَقُّ عَنْ
مَقَرِّهِ، وَيَغْلِبَ اَلْبَاطِلُ عَلَى أَهْلِهِ، وَلَا يَقُولَ أَحَدٌ لَوْلَا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً مُنْذِراً وَأَقَمْتَ لَنَا عَلَماً هَادِياً
فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى»
ورد ذكر هذه الفقرة في العديد من
الآيات في القرآن الكريم، منها:
* قوله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (النساء: ١٦٥).
* وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: ٧).
تتحدَّث هذه الفقرة عن بقاء الحقِّ واستمراريَّته ودوامه، وأنَّ هناك أعلاماً
للهداية يُستنار بهم (عليهم السلام) لسلوك درب الحقِّ.
وفي مقابل ذلك وعلى نهج السُّنَن الكونيَّة الإلهيَّة وُجِدَ الطريق الآخر، وهو
طريق الباطل، وكذلك وُجِدَ له أعلام ضلال غايتهم إبعاد الناس وحرفهم عن طريق
الحقِّ، كي يسلكوا بهم دروب الباطل والضلال والانحراف.
والذي يُؤمِّن للإنسان حالة الاستقرار في طريق الحقِّ هو الشاخص الذي تحدَّثت عنه
الفقرة، وهو الرسول (صلَّى الله عليه وآله) الذي يقوم بوظيفة بيان الحقِّ أوَّلاً،
وبيان طريق الباطل ثانياً، ويضع لطريق الحقِّ موازين إذا تمسَّك الناس بها لن
يزولوا عن طريق الحقِّ، بينما إذا تخلَّوا عن ذلك ولم يتمسَّكوا بها فإنَّهم
سيزولون عن طريق الحقِّ ويتَّجهون إلى طريق الضلال، وينتهي بهم الحال إلى السقوط في
ظلمات الانحراف والتيه عن العقيدة الحقَّة، واتِّباع الفتنة والباطل.
بحث قرآني وروائي مرتبط بمقام إقامة الحجَّة والهادي والمنذر:
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ
أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر: ٢٤).
دلالة الآية على التلازم بين إرسال الرُّسُل ووجود المنذر الهادي لهداية الناس إلى
الحقِّ والدِّين بيِّنة وظاهرة، فلا وجه للاستغراب من وجود النذير في كلِّ أُمَّة
بعد وجود الشريعة المرتبطة بالله تعالى وبالسماء، لوضوح الحاجة إلى البيان والهداية،
فإنَّ من سُنَن الله تعالى وجود المنذر بنصِّ الآية المتقدِّمة، وأشارت العديد من
الروايات إلى هذه السُّنَّة وضرورة وجودها، ومن بينها:
* في (الكافي) بسنده عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «يَا مَعْشَرَ
اَلشِّيعَةِ، خَاصِمُوا بِسُورَةِ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ تَفْلُجُوا، فَوَاَلله
إِنَّهَا لَحُجَّةُ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى اَلْخَلْقِ بَعْدَ رَسُولِ
اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، وَإِنَّهَا لَسَيِّدَةُ دِينِكُمْ، وَإِنَّهَا
لَغَايَةُ عِلْمِنَا. يَا مَعْشَرَ اَلشِّيعَةِ، خَاصِمُوا بِـ﴿حم * وَالْكِتَابِ
الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ﴾ [الدخان: ١ - ٣]، فَإِنَّهَا لِوُلَاةِ اَلْأَمْرِ خَاصَّةً بَعْدَ
رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله). يَا مَعْشَرَ اَلشِّيعَةِ، يَقُولُ اَللهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر:
٢٤]»، قِيلَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، نَذِيرُهَا مُحَمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله)؟
قَالَ: «صَدَقْتَ، فَهَلْ كَانَ نَذِيرٌ وَهُوَ حَيٌّ مِنَ اَلْبِعْثَةِ فِي
أَقْطَارِ اَلْأَرْضِ؟»، فَقَالَ اَلسَّائِلُ: لَا، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه
السلام): «أَرَأَيْتَ بَعِيثَهُ؟ أَلَيْسَ نَذِيرَهُ كَمَا أَنَّ رَسُولَ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) فِي بِعْثَتِهِ مِنَ اَلله (عزَّ وجلَّ) نَذِيرٌ؟»،
فَقَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَكَذَلِكَ لَمْ يَمُتْ مُحَمَّدٌ إِلَّا وَلَهُ بَعِيثٌ
نَذِيرٌ»، قَالَ: «فَإِنْ قُلْتَ: لَا، فَقَدْ ضَيَّعَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله
عليه وآله) مَنْ فِي أَصْلَابِ اَلرِّجَالِ مِنْ أُمَّتِهِ»، قَالَ: وَمَا
يَكْفِيهِمُ اَلْقُرْآنُ؟ قَالَ: «بَلَى إِنْ وَجَدُوا لَهُ مُفَسِّراً»، قَالَ:
وَمَا فَسَّرَهُ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)؟ قَالَ: «بَلَى قَدْ
فَسَّرَه لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، وَفَسَّرَ لِلْأُمَّةِ شَأْنَ ذَلِكَ اَلرَّجُلِ،
وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (صلَّى الله عليه وآله)»، قَالَ اَلسَّائِلُ:
يَا أَبَا جَعْفَرٍ، كَانَ هَذَا أَمْرٌ
خَاصٌّ لَا يَحْتَمِلُهُ اَلْعَامَّةُ،
قَالَ: «أَبَى اَللهُ أَنْ يُعْبَدَ إِلَّا سِرًّا حَتَّى يَأْتِيَ إِبَّانُ
أَجَلِهِ اَلَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ دِينُهُ كَمَا أَنَّه كَانَ رَسُولُ اَلله مَعَ
خَدِيجَةَ مُسْتَتِراً حَتَّى أُمِرَ بِالْإِعْلَانِ»، قَالَ اَلسَّائِلُ:
يَنْبَغِي لِصَاحِبِ هَذَا اَلدِّينِ أَنْ يَكْتُمَ، قَالَ: «أَوَمَا كَتَمَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) يَوْمَ أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) حَتَّى ظَهَرَ أَمْرُهُ؟»، قَالَ: بَلَى، قَالَ:
«فَكَذَلِكَ أَمْرُنَا حَتَّى يَبْلُغَ اَلْكِتَابُ أَجَلَهُ»(١٣٩).
إشكاليَّة نفي عموم الإنذار والجواب عنها:
إنْ قلتَ: فكيف نفعل مع قوله تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ
فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ (يس: ٦)، فهي قد نفت عموميَّة الإنذار لكلِّ قوم وفي كلِّ زمان؟
قلتُ:
١ - لعلَّ المراد بها أنَّ قوم النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وما قارب زمان بعثته
لم يُرسِل الله تعالى لهم النذير، لخصوصيَّة ما، لا أنَّها تنفي النذير مطلقاً، كيف
والآية المتقدِّمة نصَّت عليه؟!
فالآية خاصَّة بقوم النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وتُخصِّص ذاك العموم وتلك
السُّنَّة الإلهيَّة.
٢ - لعلَّ المراد بها أنَّ النذير الذي كان يأتي إلى العرب ليس منهم ومن قوميَّتهم،
كإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)، فهولاء ليسوا من العرب، وأنت يا رسول الله يا
محمّد أوَّل نذير للعرب منهم.
٣ - دلَّت بعض الأخبار والآثار على تواتر النذير واستمراره إلى زمان النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله)، فالمقصود لا نذير بعنوان النبوَّة أو بعنوان الإمامة مثلاً، وليس
لا نذير مطلقاً، ومن تلك الروايات:
* في (نهج البلاغة): «... فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ
أَنْبِيَاءَهُ،
-----------------
(١٣٩) الكافي (ج ١/ ص ٢٤٩ و٢٥٠/ باب في شأن ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ وتفسيرها/ ح ٦).
لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ
نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ
دَفَائِنَ اَلْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ اَلمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ
مَرْفُوعٍ، وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجَالٍ
تُفْنِيهِمْ، وَأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ
يُخْلِ اَللهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ،
أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ...»(١٤٠).
* وفيه بسنده عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ أَنَّه سَأَلَ أَبَا اَلْحَسَنِ
اَلْأَوَّلَ (عليه السلام): أَكَانَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)
مَحْجُوجاً بِأَبِي طَالِبٍ؟ فَقَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُسْتَوْدَعاً
لِلْوَصَايَا، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ (صلَّى الله عليه وآله)»، قَالَ: قُلْتُ:
فَدَفَعَ إِلَيْه اَلْوَصَايَا عَلَى أَنَّه مَحْجُوجٌ بِهِ؟ فَقَالَ: «لَوْ كَانَ
مَحْجُوجاً بِهِ مَا دَفَعَ إِلَيْهِ اَلْوَصِيَّةَ»، قَالَ: فَقُلْتُ: فَمَا كَانَ
حَالُ أَبِي طَالِبٍ؟ قَالَ: «أَقَرَّ بِالنَّبِيِّ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَدَفَعَ
إِلَيْهِ اَلْوَصَايَا وَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ»(١٤١).
* وفي (كمال الدِّين) بسنده عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دُوَالَ دُوزَ،
عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله
عليه وآله): أَنَا سَيِّدُ اَلنَّبِيِّينَ، وَوَصِيِّي سَيِّدُ اَلْوَصِيِّينَ،
وَأَوْصِيَاؤُهُ سَادَةُ اَلْأَوْصِيَاءِ، إِنَّ آدَمَ (عليه السلام) سَأَلَ اَللهَ
(عزَّ وجلَّ) أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَصِيًّا صَالِحاً، فَأَوْحَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ)
إِلَيْهِ: أَنِّي أَكْرَمْتُ اَلْأَنْبِيَاءَ بِالنُّبُوَّةِ، ثُمَّ اِخْتَرْتُ
خَلْقِي فَجَعَلْتُ خِيَارَهُمُ اَلْأَوْصِيَاءَ، فَقَالَ آدَمُ (عليه السلام): يَا
رَبِّ، فَاجْعَلْ وَصِيِّي خَيْرَ اَلْأَوْصِيَاءِ، فَأَوْحَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ)
إِلَيْهِ: يَا آدَمُ، أَوْصِ إِلَى شِيثٍ، وَهُوَ هِبَةُ اَلله اِبْنُ آدَمَ،
فَأَوْصَى آدَمُ إِلَى شِيثٍ، وَأَوْصَى شِيثٌ إِلَى اِبْنِهِ...، وَدَفَعَهَا
زَكَرِيَّا إِلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ (عليه السلام)، وَأَوْصَى عِيسَى إِلَى
شَمْعُونَ بْنِ حَمُّونَ اَلصَّفَا، وَأَوْصَى شَمْعُونُ إِلَى يَحْيَى بْنِ
زَكَرِيَّا، وَأَوْصَى يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا إِلَى مُنْذِرٍ، وَأَوْصَى مُنْذِرٌ
-----------------
(١٤٠) نهج البلاغة (ص ٤٣/ الخطبة ١).
(١٤١) الكافي (ج ١/ ص ٤٤٥/ باب مولد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) ووفاته/ ح ١٨).
إِلَى سُلَيْمَةَ، وَأَوْصَى سُلَيْمَةُ إِلَى بُرْدَةَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله): وَدَفَعَهَا إِلَيَّ بُرْدَةُ، وَأَنَا أَدْفَعُهَا
إِلَيْكَ يَا عَلِيُّ، وَأَنْتَ تَدْفَعُهَا إِلَى وَصِيِّكَ، وَيَدْفَعُهَا
وَصِيُّكَ إِلَى أَوْصِيَائِكَ مِنْ وُلْدِكَ، وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى
تُدْفَعَ إِلَى خَيْرِ أَهْلِ اَلْأَرْضِ بَعْدَكَ...»(١٤٢).
فهذه الأخبار دالَّة على تواتر الحُجَج ووجود الأوصياء في الأُمَم.
* * *
-----------------
(١٤٢) كمال الدِّين (ص ٢١١ - ٢١٣/ باب ٢٢/ ح ١).
الفقرة العاشرة
«إِلَى أَنِ اِنْتَهَيْتَ بِالْأَمْرِ إِلَى حَبِيبِكَ وَنَجِيبِكَ مُحَمَّدٍ
(صلَّى الله عليه وآله)، فَكَانَ كَمَا اِنْتَجَبْتَهُ سَيِّدَ مَنْ خَلَقْتَهُ،
وَصَفْوَةَ مَنِ اِصْطَفَيْتَهُ، وَأَفْضَلَ مَنِ اِجْتَبَيْتَهُ، وَأَكْرَمَ مَنِ
اِعْتَمَدْتَهُ، قَدَّمْتَهُ عَلَى أَنْبِيَائِكَ، وَبَعَثْتَهُ إِلَى
اَلثَّقَلَيْنِ مِنْ عِبَادِكَ»
الحديث في هذه الفقرة عن ولاية
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) ورسالته وانتجابه وتفضيله وإكرامه وتقديمه
واعتماده، لا يسعه أو تستوفيه كُتُب أو مجلَّدات، فضلاً عن مختصر كحديثنا هذا، فقد
سطَّرت كُتُب السِّيَر والحديث والتاريخ مكارمه وفضائله وشمائله وخصائصه، ولكنَّنا
نتحدَّث وضمن شرح فقرات هذا الدعاء المبارك في نقاط:
النقطة الأولى: ضرورة النبوَّة:
ذكرت العديد من الروايات ضرورة النبوة، ومما ورد:
* في (الكافي) بسنده عَنْ هِشَامِ بْنِ اَلْحَكَمِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه
السلام) أَنَّه قَالَ لِلزِّنْدِيقِ اَلَّذِي سَأَلَهُ: مِنْ أَيْنَ أَثْبَتَّ
اَلْأَنْبِيَاءَ وَاَلرُّسُلَ؟ قَالَ: «إِنَّا لَمَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ لَنَا
خَالِقاً صَانِعاً مُتَعَالِياً عَنَّا وَعَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ، وَكَانَ ذَلِكَ
اَلصَّانِعُ حَكِيماً مُتَعَالِياً، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشَاهِدَهُ خَلْقُهُ، وَلَا
يُلَامِسُوهُ فَيُبَاشِرَهُمْ وَيُبَاشِرُوهُ، وَيُحَاجَّهُمْ وَيُحَاجُّوهُ،
ثَبَتَ أَنَّ لَه سُفَرَاءَ فِي خَلْقِهِ، يُعَبِّرُونَ عَنْهُ إِلَى خَلْقِهِ
وَعِبَادِهِ، وَيَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَا بِه
بَقَاؤُهُمْ وَفِي تَرْكِه فَنَاؤُهُمْ، فَثَبَتَ اَلْآمِرُونَ وَاَلنَّاهُونَ
عَنِ
اَلْحَكِيمِ اَلْعَلِيمِ فِي خَلْقِهِ، وَاَلمُعَبِّرُونَ عَنْهُ (جَلَّ وَعَزَّ)،
وَهُمُ اَلْأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام) وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، حُكَمَاءَ
مُؤَدَّبِينَ بِالْحِكْمَةِ، مَبْعُوثِينَ بِهَا غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِلنَّاسِ
عَلَى مُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي اَلْخَلْقِ وَاَلتَّرْكِيبِ فِي شَيْءٍ مِنْ
أَحْوَالِهِمْ، مُؤَيَّدِينَ مِنْ عِنْدِ اَلْحَكِيمِ اَلْعَلِيمِ بِالْحِكْمَةِ،
ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي كُلِّ دَهْرٍ وَزَمَانٍ مِمَّا أَتَتْ بِهِ اَلرُّسُلُ
وَاَلْأَنْبِيَاءُ مِنَ اَلدَّلَائِلِ وَاَلْبَرَاهِينِ، لِكَيْلَا تَخْلُوَ أَرْضُ
اَلله مِنْ حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَه عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ
وَجَوَازِ عَدَالَتِهِ»(١٤٣).
* وفيه بسنده عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله
(عليه السلام): إِنَّ اَللهَ أَجَلُّ وَأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِهِ،
بَلِ اَلْخَلْقُ يُعْرَفُونَ بِالله، قَالَ: «صَدَقْتَ»، قُلْتُ: إِنَّ مَنْ عَرَفَ
أَنَّ لَهُ رَبًّا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ لِذَلِكَ اَلرَّبِّ رِضًا
وَسَخَطاً، وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ رِضَاهُ وَسَخَطُهُ إِلَّا بِوَحْيٍ أَوْ
رَسُولٍ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِهِ اَلْوَحْيُ فَقَدْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ
اَلرُّسُلَ، فَإِذَا لَقِيَهُمْ عَرَفَ أَنَّهُمُ اَلْحُجَّةُ، وَأَنَّ لَهُمُ
اَلطَّاعَةَ اَلمُفْتَرَضَةَ، وَقُلْتُ لِلنَّاسِ: تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) كَانَ هُوَ اَلْحُجَّةَ مِنَ اَلله عَلَى خَلْقِهِ؟
قَالُوا: بَلَى...»(١٤٤).
النبيُّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله) أفضل الخلق جميعاً:
فيما يرتبط بعقيدتنا به (صلَّى الله عليه وآله)، وأنَّه أفضل الخلق طُرًّا، فهو
ممَّا دلَّت عليه العديد من الأدلَّة الروائيَّة، ومنها:
* في (عِلَل الشرائع) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلسَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ اَلْهَرَوِيِّ،
عَنْ عَلِيِّ اِبْنِ مُوسَى اَلرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ
أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ
أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ
أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ
-----------------
(١٤٣) الكافي (ج ١/ ص ١٦٨/ باب الاضطرار إلى الحجَّة/ ح ١).
(١٤٤) الكافي (ج ١/ ص ١٦٨ و١٦٩/ باب الاضطرار إلى الحجَّة/ ح ٢).
أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله): مَا خَلَقَ اَللهُ خَلْقاً أَفْضَلَ مِنِّي، وَلَا
أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنِّي، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اَلله، فَأَنْتَ أَفْضَلُ أَمْ جَبْرَئِيلُ؟ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّ اَللهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَضَّلَ أَنْبِيَاءَهُ اَلمُرْسَلِينَ عَلَى مَلَائِكَتِهِ
اَلمُقَرَّبِينَ، وَفَضَّلَنِي عَلَى جَمِيعِ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلمُرْسَلِينَ،
وَاَلْفَضْلُ بَعْدِي لَكَ يَا عَلِيُّ وَلِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِكَ، وَإِنَّ
اَلمَلَائِكَةَ لَخُدَّامُنَا وَخُدَّامُ مُحِبِّينَا...»(١٤٥).
والأخبار في هذا المعنى كثيرة.
كما جاءت كلمات جملة من أكابر الطائفة لتترجم هذه العقيدة، ومنهم ما قاله الشيخ
الصدوق (رحمه الله): (وليس في الأنبياء خير من النبيِّ محمّد (صلَّى الله عليه
وآله)، ولا في الأوصياء أفضل من أوصيائه، ولا في الأُمَم أفضل من هذه الأُمَّة
الذين هم شيعة أهل بيته في الحقيقة دون غيرهم، ولا في الأشرار شرٌّ من أعدائهم
والمخالفين لهم)(١٤٦).
النقطة الثانية: خصائص الأنبياء ونبوَّته (صلَّى الله عليه وآله)
بالخصوص:
وهي عديدة ذُكِرَت تفصيلاتها في علم الكلام، ومنها:
الأُولى: العصمة:
وقد دلَّت على وجوب عصمة النبيِّ العديد من الأدلَّة القرآنيَّة والروائيَّة
وغيرها، منها:
* قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
(النجم: ٣ و٤).
* قال الشيخ الصدوق (رحمه الله): (وجوب عصمة الإمام: ولقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِذْ
-----------------
(١٤٥) عِلَل الشرائع (ج ١/ ص ٥ - ٧/ باب ٧/ ح ١).
(١٤٦) الاعتقادات في دين الإماميَّة (ص ٨٨).
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة:
٣٠]...، أنَّه (عزَّ وجلَّ) لا يستخلف إلَّا مَنْ له نقاء السريرة ليبعد عن
الخيانة، لأنَّه لو اختار مَنْ لا نقاء له في السريرة كان قد خان خلقه، لأنَّه لو
أنَّ دلَّالاً قدَّم حمَّالاً خائناً إلى تاجر، فحمل له حملاً فخان فيه كان الدلال
خائناً، فكيف تجوز الخيانة على الله (عزَّ وجلَّ) وهو يقول - وقوله الحقُّ -:
﴿أَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ [يوسف: ٥٢]، وأدَّب محمّداً (صلَّى
الله عليه وآله) بقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾
[النساء: ١٠٥]، فكيف وأنَّى يجوز أنْ يأتي ما ينهى عنه، وقد عيَّر اليهود بسمة
النفاق، وقال: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤]؟)(١٤٧).
الثانية: الوحي:
ممَّا يتميَّز به الأنبياء (عليهم السلام) كمصدر من مصادر العلم والمعرفة هو الوحي،
والنصوص عليه لا تخفى، وهي كثيرة، منها:
* قوله تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ (النجم: ١٠).
* وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ (الكهف:
١١٠).
الثالثة: العلم الخاصُّ، وعلم الغيب:
* وقد دلَّ عليه قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (الجنّ: ٢٦ و٢٧).
الرابعة: التنزُّه عن دناءة الآباء وعهر الأُمَّهات:
لما للبيت الطاهر من أثر كبير في تكوين شخصيَّة النبيِّ، كما أنَّ الناس لا تنجذب
إلى شخص جاء من بيئة موبوءة، على أنَّ جملة من الخصائص تُكتسَب بالوراثة.
-----------------
(١٤٧) كمال الدِّين (ص ١٠).
وما دلَّ على ذلك من الروايات - وهي عديدة -:
* في (كمال الدِّين) بسنده عن سُلَيم بن قيس (رضي الله عنه) في حادثة طويلة عن أمير
المؤمنين (عليه السلام)، جاء فيها: «... أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ اَلَّذِي
نِلْتُمْ بِهِ مِنْ خَيْرِ اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ مِنَّا أَهْلَ اَلْبَيْتِ
خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ اِبْنَ عَمِّي رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله) قَالَ: إِنِّي وَأَهْلَ بَيْتِي كُنَّا نُوراً يَسْعَى بَيْنَ يَدَيِ اَلله
تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) آدَمَ (عليه
السلام) بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ (عليه السلام)
وَضَعَ ذَلِكَ اَلنُّورَ فِي صُلْبِهِ وَأَهْبَطَهُ إِلَى اَلْأَرْضِ، ثُمَّ
حَمَلَهُ فِي اَلسَّفِينَةِ فِي صُلْبِ نُوحٍ (عليه السلام)، ثُمَّ قَذَفَ بِهِ فِي
اَلنَّارِ فِي صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام)، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ اَللهُ (عزَّ
وجلَّ) يَنْقُلُنَا مِنَ اَلْأَصْلاَبِ اَلْكَرِيمَةِ إِلَى اَلْأَرْحَامِ
اَلطَّاهِرَةِ، وَمِنَ اَلْأَرْحَامِ اَلطَّاهِرَةِ إِلَى اَلْأَصْلاَبِ
اَلْكَرِيمَةِ مِنَ اَلْآبَاءِ وَاَلْأُمَّهَاتِ، لَمْ يَلْتَقِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ
عَلَى سِفَاحٍ قَطُّ؟»، فَقَالَ أَهْلُ اَلسَّابِقَةِ وَاَلْقِدْمَةِ وَأَهْلُ
بَدْرٍ وَأَهْلُ أُحُدٍ: نَعَمْ قَدْ سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اَلله (صلَّى
الله عليه وآله)...(١٤٨).
الخامسة: سلامة الخلقة:
ويُقصَد بها سلامته من التشوُّه، ومن الأمراض الموجبة لتنفُّر الناس عنه كالجذام
والبرص وغيرها، فالأنبياء (عليهم السلام) في خَلْقهم وخُلُقهم على غاية الكمال.
السادسة: كمال العقل:
* في (الكافي) بسنده عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ بَعْضِ
أَصْحَابِهِ رَفَعَهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «...
وَلَا بَعَثَ اَللهُ نَبِيًّا وَلَا رَسُولاً حَتَّى يَسْتَكْمِلَ اَلْعَقْلَ،
وَيَكُونَ عَقْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ عُقُولِ أُمَّتِهِ...»(١٤٩).
-----------------
(١٤٨) كمال الدِّين (ص ٢٧٥/ باب ٢٤/ ح ٢٥).
(١٤٩) الكافي (ج ١/ ص ١٢ و١٣/ كتاب العقل والجهل/ ح ١١).
وظائف الأنبياء (عليهم السلام):
وهي عديدة، منها:
١ - إثبات التوحيد والأمر بالعبادة: قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾
(الأنبياء: ٢٥)، وقال تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾ (الأعراف: ٦٥).
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (النحل: ٣٦).
٢ - التزكية، التعليم، الحكمة، تلاوة الآيات: قال تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: ١٥١).
٣ - إقامة الحجَّة على الناس والتبشير والإنذار: قال تعالى: ﴿مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾
(النساء: ١٦٥).
٤ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحليل الطيِّبات وتحريم الخبائث: قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف: ١٥٧).
٥ - إحياء الأُمَّة: قال تعالى: ﴿اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ
لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: ٢٤).
وهناك العديد من الوظائف.
بعثة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) عامَّة شاملة:
من ضرورات العقيدة أنَّ بعثة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) كانت عامَّة وشاملة
ولم تختصّ ببعضهم، وأنَّ دينه الذي أُرسل به هو الدِّين العامُّ للجميع، قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ: ٢٨).
وقد دلَّ على ذلك جملة من الروايات، منها:
* في (الكافي) بسنده عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)،
قَالَ: «إِنَّ اَللهَ أَرْسَلَ مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله) إِلَى الْجِنِّ
وَاَلْإِنْسِ، وَجَعَلَ مِنْ بَعْدِهِ اِثْنَيْ عَشَرَ وَصِيًّا، مِنْهُمْ مَنْ
سَبَقَ وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ، وَكُلُّ وَصِيٍّ جَرَتْ بِهِ سُنَّةٌ،
وَاَلْأَوْصِيَاءُ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) عَلَى
سُنَّةِ أَوْصِيَاءِ عِيسَى وَكَانُوا اِثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانَ أَمِيرُ
اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَلَى سُنَّةِ اَلمَسِيحِ»(١٥٠).
* وفيه بسنده عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: سَأَلَنِي أَبُو قُرَّةَ
اَلمُحَدِّثُ أَنْ أُدْخِلَهُ عَلَى أَبِي اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عليه السلام)،
فَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ
اَلْحَلَالَ وَاَلْحَرَامِ وَاَلْأَحْكَامِ حَتَّى بَلَغَ سُؤَالُهُ إِلَى
اَلتَّوْحِيدِ، فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: إِنَّا رُوِّينَا أَنَّ اَللهَ قَسَمَ
اَلرُّؤْيَةَ وَاَلْكَلَامَ بَيْنَ نَبِيَّيْنِ، فَقَسَمَ اَلْكَلَامَ لِمُوسَى
وَلِمُحَمَّدٍ اَلرُّؤْيَةَ، فَقَالَ أَبُو اَلْحَسَنِ (عليه السلام): «فَمَنِ
اَلمُبَلِّغُ عَنِ اَلله إِلَى اَلثَّقَلَيْنِ مِنَ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنْسِ: ﴿لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣]، وَ﴿لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾
[طه: ١١٠]، وَ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، أَلَيْسَ مُحَمَّدٌ؟»،
قَالَ: بَلَى، قَالَ: «كَيْفَ يَجِيءُ رَجُلٌ إِلَى اَلْخَلْقِ جَمِيعاً
فَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اَلله، وَأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى
اَلله بِأَمْرِ اَلله، فَيَقُولُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾، وَ﴿لَا
يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾، وَ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا
رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي، وَأَحَطْتُ بِه عِلْماً،
-----------------
(١٥٠) الكافي (ج ١/ ص ٥٣٢/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهم السلام)/ ح ٩).
وَهُوَ عَلَى صُورَةِ اَلْبَشَرِ؟
أَمَا تَسْتَحُونَ؟! مَا قَدَرَتِ اَلزَّنَادِقَةُ أَنْ تَرْمِيَهِ بِهَذَا أَنْ
يَكُونَ يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اَلله بِشَيْءٍ ثُمَّ يَأْتِي بِخِلَافِهِ مِنْ وَجْه
آخَرَ...»(١٥١).
وهذا الخبر النفيس دلَّ على مطلبنا، وعلى ما هو دقيق في مسألة النظر وكيفيَّة
التعامل في مسائل العقيدة مع الخبر، لذلك نقلناه بطوله ولم نقتصر على شاهده.
والأخبار في هذا المعنى كثيرة.
صفات النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وآثارها:
الملاحَظ أنَّ دعاء الندبة من أكبر الملاحم الدعائيَّة، ومن أكثر الألواح
الدِّينيَّة والوجدانيَّة التي رسمها أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا الدعاء
المبارك يتحدَّث عن النبيِّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله) من خلال جملة من الصفات
والسمات التي تُؤثِّر على الإجابة، وتُؤسِّس لحالة النَّدب في كلِّ فقرة من فقرات
الدعاء، وأثرها على وجدان الداعي، ومكانتها عند المدعوِّ له وهو الإمام المهدي
(عجَّل الله فرجه)، وكيفيَّة تأثيرها عليه.
وعليه فينبغي عدم قصر النظر على أنَّ ما ناله (صلَّى الله عليه وآله) من كمالات
جاءت بسبب ما قام به (صلَّى الله عليه وآله) في عالم وجوده الجسماني والمادِّي،
فهذا الوجود الجسماني الذي عاش في زمن محدود لا يمكن أنْ يكون - بحالٍ من الأحوال
ومهما طالت فترة وجوده في هذا العالم المحدود - ما هو سبب نيل تلك الكمالات التي لم
يتَّصف بها أحد غيره من البشر طُرًّا، بل لا بدَّ من أنْ يُنظَر إليه من خلال مجموع
صفاته (صلَّى الله عليه وآله) التي تحدَّث عنها الأئمَّة (عليهم السلام) مترجمون
الآيات القرآنيَّة، وخلاصتها أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) أفضل الخلق.
-----------------
(١٥١) الكافي (ج ١/ ص ٩٥ و٩٦/ باب في إبطال الرؤية/ ح ٢).
فالدعاء المقدَّس يُعطي للداعي نحوين من الصفات تحلَّى بهما النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله)، منها ما وُجِدَ بوجوده ولاحظها مَنْ خالطه، ومنها ما خفيت على الناس ووُصِفَ بها، بل التي سيتَّصف بها عند وجود رجعته، والتي سيتحدَّث عنها المقطع الآتي.
* * *
الفقرة الحادية عشر
«وَأَوْطَأتَهُ مَشَارِقَكَ وَمَغارِبَكَ، وَسَخَّرْتَ لَهُ اَلْبُراقَ، وَعَرَجْتَ
(بِهِ) بِرُوْحِهِ إِلَى سَمَائِكَ، وَأَوْدَعْتَهُ عِلْمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ
إِلَى اِنْقِضَاءِ خَلْقِكَ»
وطء النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله) للمشارق والمغارب:
تتحدَّث هذه الفقرة عن الآثار التي أوجبها الله سبحانه وتعالى للنبيِّ الأكرم
(صلَّى الله عليه وآله)، وما تترتَّب على تلك الآثار، فبعد أنْ جعل الله تعالى فيه
(صلَّى الله عليه وآله) أعلى صفات الكمال، ووضعه منه (عزَّ وجلَّ) بأقرب مراتب
القرب، كان لهذه الصفات وهذا القرب آثار قهريَّة وآثار اختياريَّة، وآثار آنيَّة
وآثار مستقبليَّة، تحدَّث عن بعضها هذا المقطع المبارك من الدعاء، وفي كونه (صلَّى
الله عليه وآله) قد أوطئ مشارق الكون ومغاربه وليس مشارق الأرض فقط أو مغاربها.
وكونه كذلك (صلَّى الله عليه وآله) وإنْ لم يكن فعليًّا، بمعنى أنَّه مارس إرادته
وسلطته الفعليَّة على المشارق والمغارب، إلَّا أنَّ المقطع الآخر الذي يتحدَّث عن
وعد الإظهار للدِّين يُعطي تفسيراً لهذا المقطع، فإنَّ النبيَّ الأكرم (صلَّى الله
عليه وآله) - بعد أنْ أثبت هذا المقطع ذلك - له هذه الحالة من الشموليَّة والسلطنة
إلَّا أنَّ الممارسة الفعليَّة ليست بالضرورة أنْ تكون فعليَّة وبنفسه، بل
اقتضت
الحكمة الإلهيَّة أنْ تُفعَّل هذه الحالة على يد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
من خلال الوعد للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بذلك، إذ تبرز حالة الإظهار الفعلي.
وممَّا دلَّ من الروايات الشريفة عن حقيقة وطئ النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)
للمشارق والمغارب - وهي كثيرة - الآتي:
* في (تفسير القمِّي) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ بُكَيْرٍ اَلدَّجَّانِيِّ،
قَالَ: قَالَ لِيَ اَلصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليه السلام):
«أَخْبِرْنِي عَنْ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) كَانَ عَامًّا لِلنَّاسِ
بَشِيراً؟ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اَللهُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: ﴿وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ [سبأ: ٢٨]، لِأَهْلِ اَلشَّرْقِ
وَاَلْغَرْبِ وَأَهْلِ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ مِنَ اَلْجِنِّ
وَاَلْإِنْسِ...»(١٥٢).
* وفي (إثبات الوصيَّة): روي عَنْ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبِ أَنَّهَا قَالَتْ: (لَمَّا
قَرُبَتْ وِلاَدَتُهُ (صلَّى الله عليه وآله) رَأَيْتُ جَنَاحَ طَائِرٍ أَبْيَضَ
قَدْ مَسَحَ عَلَى فُؤَادِي، وَكَانَ قَدْ دَخَلَنِي رُعْبٌ، فَذَهَبَ اَلرُّعْبُ
عَنِّي...، ثُمَّ كَشَفَ اَللهُ لِي عَنْ بَصَرِي سَاعَتِي تِلْكَ، فَرَأَيْتُ
مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَسَمِعْتُ مُنَادِياً يُنَادِي: طُوفُوا
بِمُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) اَلمَشْرِقَ وَاَلمَغْرِبَ، وَاِعْرِضُوهُ
عَلَى رُوحَانِيِّ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنْسِ وَاَلطَّيْرِ وَاَلسِّبَاعِ، وَأَعْطُوهُ
صَفَاءَ آدَمَ، وَرِقَّةَ نُوحٍ، وَحُلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَلِسَانَ إِسْمَاعِيلَ،
وَجَمَالَ يُوسُفَ، وَبُشْرَى يَعْقُوبَ، وَصَوْتَ دَاوُدَ، وَصَبْرَ أَيُّوبَ،
وَزُهْدَ يَحْيَى، وَكَرَمَ عِيسَى. ثُمَّ اِنْكَشَفَ عَنْهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ
وَبِيَدِهِ حَرِيرَةٌ خَضْرَاءُ قَدْ طُوِيَتْ طَيًّا شَدِيداً، وَقَدْ قَبضَ
عَلَيْهَا وَقَائِلٌ يَقُولُ: قَدْ قُبِضَ مُحَمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله) عَلَى
اَلدُّنْيَا كُلِّهَا، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إِلَّا دَخَلَ فِي قَبْضَتِهِ...)(١٥٣).
وقد دلَّت جملة من الأخبار أنَّ هذا الوطء سيتحقَّق جليًّا للعيان ويراه الناس زمان
ظهور الحجَّة الغائب (عجَّل الله فرجه)، وممَّا دلَّ على ذلك:
* في (كمال الدِّين) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلسَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ اَلْهَرَوِيِّ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ
-----------------
(١٥٢) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٢٠٢ و٢٠٣).
(١٥٣) إثبات الوصيَّة (ص ١١١ و١١٢).
مُوسَى اَلرِّضَا (عليه السلام)، عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ
جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: «قَالَ
رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): مَا خَلَقَ اَللهُ خَلْقاً أَفْضَلَ مِنِّي،
وَلَا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنِّي، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اَلله، فَأَنْتَ أَفْضَلُ أَمْ جَبْرَئِيلُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): يَا
عَلِيُّ، إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَضَّلَ أَنْبِيَاءَهُ اَلمُرْسَلِينَ
عَلَى مَلَائِكَتِهِ اَلمُقَرَّبِينَ، وَفَضَّلَنِي عَلَى جَمِيعِ اَلنَّبِيِّينَ
وَاَلمُرْسَلِينَ، وَاَلْفَضْلُ بَعْدِي لَكَ يَا عَلِيُّ وَلِلْأَئِمَّةِ مِنْ
بَعْدِكَ، فَإِنَّ اَلمَلَائِكَةَ لَخُدَّامُنَا وَخُدَّامُ مُحِبِّينَا...،
فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، وَمَنْ أَوْصِيَائِي؟ فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ
أَوْصِيَاءَكَ اَلمَكْتُوبُونَ عَلَى سَاقِ اَلْعَرْشِ، فَنَظَرْتُ - وَأَنَا
بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي - إِلَى سَاقِ اَلْعَرْشِ، فَرَأَيْتُ اِثْنَيْ عَشَرَ
نُوراً، فِي كُلِّ نُورٍ سَطْرٌ أَخْضَرُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ اِسْمُ كُلِّ وَصِيٍّ
مِنْ أَوْصِيَائِي، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخِرُهُمْ مَهْدِيُّ
أُمَّتِي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، أَهَؤُلَاءِ أَوْصِيَائِي مِنْ بَعْدِي؟
فَنُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ أَوْلِيَائِي وَأَحِبَّائِي وَأَصْفِيَائِي
وَحُجَجِي بَعْدَكَ عَلَى بَرِيَّتِي، وَهُمْ أَوْصِيَاؤُكَ وَخُلَفَاؤُكَ وَخَيْرُ
خَلْقِي بَعْدَكَ، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُظْهِرَنَّ بِهِمْ دِينِي،
وَلَأُعْلِيَنَّ بِهِمْ كَلِمَتِي، وَلَأُطَهِّرَنَّ اَلْأَرْضَ بِآخِرِهِمْ مِنْ
أَعْدَائِي، وَلَأُمَلِّكَنَّهُ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا،
وَلَأُسَخِّرَنَّ لَهُ اَلرِّيَاحَ، وَلَأُذَلِّلَنَّ لَهُ اَلرِّقَابَ
اَلصِّعَابَ، وَلَأُرَقِّيَنَّهُ فِي اَلْأَسْبَابِ، وَلَأَنْصُرَنَّهُ بِجُنْدِي،
وَلَأُمِدَّنَّهُ بِمَلَائِكَتِي حَتَّى يُعْلِنَ دَعْوَتِي وَيَجْمَعَ اَلْخَلْقَ
عَلَى تَوْحِيدِي، ثُمَّ لَأُدِيمَنَّ مُلْكَهُ، وَلَأُدَاوِلَنَّ اَلْأَيَّامَ
بَيْنَ أَوْلِيَائِي إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ»(١٥٤).
البراق وآليَّات التسخير الإلهيَّة:
يتحدَّث المقطع عن آليَّات التسخير، وعن آليَّات الإيطاء وأدواته، ويضرب لنا مثالاً
لذلك وهو البراق، وهو وإنْ كان ابتداءً يشير إلى حقيقة
-----------------
(١٥٤) كمال الدِّين (ص ٢٥٤ - ٢٥٦/ باب ٢٣/ ح ٤).
خارجيَّة وأنَّ النبيَّ
(صلَّى الله عليه وآله) استخدمه في العروج إلى السماء إلَّا أنَّه في نفس الوقت
يمكن أنْ يكون كناية عن سعة التسخير للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله).
جاء في (الصحاح): (والبراق: اسم دابَّة ركبها رسول الله [(صلَّى الله عليه وآله)]
ليلة المعراج)(١٥٥).
وقد روي في بيان حقيقة هذا المخلوق العجيب ووظائفه عدَّة روايات، منها:
* في (عيون أخبار الرضا (عليه السلام)) بإسناده، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى
الله عليه وآله): «إِنَّ اَللهَ سَخَّرَ لِيَ اَلْبُرَاقَ، وَهِيَ دَابَّةٌ مِنْ
دَوَابِّ اَلْجَنَّةِ لَيْسَتْ بِالْقَصِيرِ وَلَا بِالطَّوِيلِ، فَلَوْ أَنَّ
اَللهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهَا لَجَالَتِ اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةَ فِي جَرْيَةٍ
وَاحِدَةٍ، هِيَ أَحْسَنُ اَلدَّوَابِّ لَوْناً»(١٥٦).
* وفي (الكافي) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ يَحْيَى اَلْكَاهِلِيِّ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ اَلله (عليه السلام) فِي قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَا تُغْنِي
الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ١٠١]، قَالَ: «لَمَّا
أُسْرِيَ بِرَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) أَتَاه جَبْرَئِيلُ بِالْبُرَاقِ،
فَرَكِبَهَا، فَأَتَى بَيْتَ اَلمَقْدِسِ، فَلَقِيَ مَنْ لَقِيَ مِنْ إِخْوَانِه
مِنَ اَلْأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام)، ثُمَّ رَجَعَ فَحَدَّثَ أَصْحَابَهُ: أَنِّي
أَتَيْتُ بَيْتَ اَلمَقْدِسِ وَرَجَعْتُ مِنَ اَللَّيْلَةِ، وَقَدْ جَاءَنِي
جَبْرَئِيلُ بِالْبُرَاقِ فَرَكِبْتُهَا، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنِّي مَرَرْتُ بِعِيرٍ
لِأَبِي سُفْيَانَ عَلَى مَاءٍ لِبَنِي فُلَانٍ وَقَدْ أَضَلُّوا جَمَلاً لَهُمْ
أَحْمَرَ وَقَدْ هَمَّ الْقَوْمُ فِي طَلَبِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
إِنَّمَا جَاءَ اَلشَّامَ وَهُوَ رَاكِبٌ سَرِيعٌ، وَلَكِنَّكُمْ قَدْ أَتَيْتُمُ
اَلشَّامَ وَعَرَفْتُمُوهَا، فَسَلُوهُ عَنْ أَسْوَاقِهَا وَأَبْوَابِهَا
وَتُجَّارِهَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اَلله، كَيْفَ اَلشَّامُ؟ وَكَيْفَ
أَسْوَاقُهَا؟»، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) إِذَا سُئِلَ
عَنِ اَلشَّيْءِ لَا يَعْرِفُهُ شَقَّ عَلَيْهِ حَتَّى يُرَى ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ»،
قَالَ: «فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاه جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)،
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَلله، هَذِهِ
-----------------
(١٥٥) الصحاح للجوهري (ج ٤/ ص ١٤٤٨/ مادَّة برق).
(١٥٦) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ٣٥/ باب ٣١/ ح ٤٩).
اَلشَّامُ قَدْ رُفِعَتْ لَكَ، فَالْتَفَتَ
رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، فَإِذَا هُوَ بِالشَّامِ بِأَبْوَابِهَا
وَأَسْوَاقِهَا وَتُجَّارِهَا، فَقَالَ: أَيْنَ اَلسَّائِلُ عَنِ اَلشَّامِ؟
فَقَالُوا لَهُ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ، فَأَجَابَهُمْ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله) فِي كُلِّ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ، فَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ،
وَهُوَ قَوْلُ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ
عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾»، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام):
نَعُوذُ بِالله أَنْ لَا نُؤْمِنَ بِالله وَبِرَسُولِهِ، آمَنَّا بِالله
وَبِرَسُولِهِ (صلَّى الله عليه وآله)»(١٥٧).
العروج بالنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله):
ثمّ تحدَّث المقطع عن العروج، (في بعض النُسخ عرجت بروحه)، مع أنَّ الروايات
الشريفة بيَّنت أنَّ العروج كان روحيًّا وبدنيًّا.
وقد تناولت العديد من الروايات هذه الرحلة العظيمة، ومنها:
* في (أمالي الصدوق) بسنده عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ (عليه السلام): «يَا عَلِيُّ، أَنْتَ إِمَامُ
اَلمُسْلِمِينَ، وَأَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ، وَقَائِدُ اَلْغُرِّ اَلمُحَجَّلِينَ،
وَحُجَّةُ اَلله بَعْدِي عَلَى اَلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَسَيِّدُ اَلْوَصِيِّينَ،
وَوَصِيُّ سَيِّدِ اَلنَّبِيِّينَ. يَا عَلِيُّ، إِنَّهُ لَمَّا عُرِجَ بِي إِلَى
اَلسَّمَاءِ اَلسَّابِعَةِ، وَمِنْهَا إِلَى سِدْرَةِ اَلمُنْتَهَى، وَمِنْهَا
إِلَى حُجُبِ اَلنُّورِ، وَأَكْرَمَنِي رَبِّي (جلَّ جلاله) بِمُنَاجَاتِهِ، قَالَ
لِي: يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ، تَبَارَكْتَ
وَتَعَالَيْتَ، قَالَ: إِنَّ عَلِيًّا إِمَامُ أَوْلِيَائِي، وَنُورٌ لِمَنْ
أَطَاعَنِي، وَهُوَ اَلْكَلِمَةُ اَلَّتِي أَلْزَمْتُهَا اَلمُتَّقِينَ، مَنْ
أَطَاعَهُ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَاهُ عَصَانِي، فَبَشِّرْهُ بِذَلِكَ»، فَقَالَ
عَلِيٌّ (عليه السلام): «يَا رَسُولَ اَلله، بَلَغَ مِنْ قَدْرِي حَتَّى إِنِّي
أُذْكَرُ هُنَاكَ؟»، فَقَالَ: «نَعَمْ يَا عَلِيُّ، فَاشْكُرْ رَبَّكَ»، فَخَرَّ
عَلِيٌّ (عليه السلام) سَاجِداً شُكْراً لله عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ،
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «اِرْفَعْ رَأْسَكَ يَا
عَلِيُّ، فَإِنَّ اَللهَ قَدْ بَاهَى بِكَ مَلَائِكَتَهُ»(١٥٨).
* وفي (الخرائج والجرائح): رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام) أَنَّهُ «لَمَّا
كَانَ بَعْدَ ثَلَاثِ
-----------------
(١٥٧) الكافي (ج ٨/ ص ٣٦٤ و٣٦٥/ ح ٥٥٥).
(١٥٨) أمالي الصدوق (ص ٣٧٥ و٣٧٦/ ح ٤٧٥/١٦).
سِنِينَ مِنْ مَبْعَثِهِ (صلَّى الله عليه وآله) أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ اَلمَقْدِسِ، وَعُرِجَ بِهِ مِنْهُ إِلَى اَلسَّمَاءِ لَيْلَةَ
اَلْمِعْرَاجِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ مِنْ لَيْلَتِهِ حَدَّثَ قُرَيْشاً بِخَبَرِ
مِعْرَاجِهِ، فَقَالَ جُهَّالُهُمْ: مَا أَكْذَبَ هَذَا اَلْحَدِيثَ، وَقَالَ
قَائِلُهُمْ: يَا أَبَا اَلْقَاسِمِ، فَبِمَ نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ؟ قَالَ:
مَرَرْتُ بِعِيرِكُمْ فِي مَوْضِعِ كَذَا، وَقَدْ ضَلَّ لَهُمْ بَعِيرٌ،
وَعَرَّفْتُهُمْ مَكَانَهُ، وَصِرْتُ إِلَى رِحَالِهِمْ، وَكَانَتْ لَهُمْ قِرَبٌ
مَمْلُوءَةٌ مِنَ اَلمَاءِ، فَصَبَبْتُ قِرْبَةً، وَاَلْعِيرُ تُوَافِيكُمْ فِي
اَلْيَوْمِ اَلثَّالِثِ مِنْ هَذَا اَلْيَوْمِ مَعَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ، فَأَوَّلُ
اَلْعِيرِ جَمَلٌ أَحْمَرُ، وَهُوَ جَمَلُ فُلَانٍ، فَلَمَّا كَانَ اَلْيَوْمُ
اَلثَّالِثُ خَرَجُوا إِلَى بَابِ مَكَّةَ لِيَنْظُرُوا صِدْقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ
مُحَمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله) قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ، فَهُمْ كَذَلِكَ إِذْ
طَلَعَتِ اَلْعِيرُ عَلَيْهِمْ بِطُلُوعِ اَلشَّمْسِ، فِي أَوَّلِهَا اَلْجَمَلُ
اَلْأَحْمَرُ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلُوا اَلَّذِينَ كَانُوا مَعَ
اَلْعِيرِ، فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله) فِي
إِخْبَارِهِ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: هَذَا أَيْضاً مِنْ سِحْرِ مُحَمَّدٍ»(١٥٩).
* وفي (مناقب آل أبي طالب): عَنِ اَلصَّادِقِ (عليه السلام) أَنَّهُ «كَانَ رَسُولُ
اَلله [(صلَّى الله عليه وآله)] يُكْثِرُ تَقْبِيلَ فَاطِمَةَ، فَأَنْكَرَتْ
عَلَيْهِ بَعْضُ نِسَائِهِ، فَقَالَ (صلَّى الله عليه وآله): إِنَّهُ لَمَّا عُرِجَ
بِي إِلَى اَلسَّمَاءِ أَخَذَ بِيَدِي جَبْرَئِيلُ فَأَدْخَلَنِي اَلْجَنَّةَ،
فَنَاوَلَنِي مِنْ رُطَبِهَا فَأَكَلْتُهَا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَنَاوَلَنِي
مِنْهَا تُفَّاحَةً فَأَكَلْتُهَا، فَتَحَوَّلَ ذَلِكَ نُطْفَةً فِي صُلْبِي،
فَلَمَّا هَبَطْتُ إِلَى الْأَرْضِ وَاقَعْتُ خَدِيجَةَ، فَحَمَلَتْ بِفَاطِمَةَ،
فَفَاطِمَةُ حَوْرَاءُ إِنْسِيَّةٌ، فَكُلَّمَا اِشْتَقْتُ إِلَى رَائِحَةِ
اَلْجَنَّةِ شَممْتُ رَائِحَةَ اِبْنَتِي»(١٦٠).
حقيقة العلم المودَع في النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله):
ثمّ تحدَّث المقطع عن كُنه ذلك العلم وحقيقته وسعته، وأنَّه علم إلهي لدُنِّي
اختصاصي واسع لا يناله إلَّا مَنِ اختصَّه الله سبحانه وتعالى به، وهذا يكشف عن
أنَّ حجّيَّة الخاتم (صلَّى الله عليه وآله) هي الأُولى في الحُجَج، وهي الآخرة من
الحُجَج، وأنَّ
-----------------
(١٥٩) الخرائج والجرائح (ج ١/ ص ١٤١/ ح ٢٢٧).
(١٦٠) مناقب آل أبي طالب (ج ٣/ ص ١١٤).
حجّيَّته ثابتة منذ الخلق الأوَّل، ولا تنتهي إلى آخر الخلق، وكلُّ
حجة ما عداه إنَّما هي متفرِّعة من حجّيَّته وإمامته وسلطنته (صلَّى الله عليه
وآله).
وقد أشارت بعض الأحاديث إلى ذلك، منها:
* في (الغيبة للطوسي) بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ سُفْيَانَ اَلْبَزَوْفَرِيِّ (رحمه الله)، قَالَ: حَدَّثَنِي اَلشَّيْخُ أَبُو
اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: اِخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا فِي اَلتَّفْوِيضِ وَغَيْرِهِ، فَمَضَيْتُ إِلَى أَبِي طَاهِرِ بْنِ
بِلَالٍ فِي أَيَّامِ اِسْتِقَامَتِهِ، فَعَرَّفْتُهُ اَلْخِلَافَ، فَقَالَ:
أَخِّرْنِي، فَأَخَّرْتُهُ أَيَّاماً، فَعُدْتُ إِلَيْهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ
حَدِيثاً بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا
أَرَادَ [اَللهُ] أَمْراً عَرَضَهُ عَلَى رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)،
ثُمَّ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) [وَسَائِرِ اَلْأَئِمَّةِ] وَاحِداً
بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام)
ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اَلدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اَلمَلَائِكَةُ أَنْ يَرْفَعُوا
إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) عَمَلاً عُرِضَ عَلَى صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام)،
ثُمَّ يَخْرُجُ عَلَى وَاحِدٍ [بَعْدَ] وَاحِدٍ إِلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى رَسُولِ
اَلله (صلَّى الله عليه وآله) ثُمَّ يُعْرَضُ عَلَى اَلله (عزَّ وجلَّ)، فَمَا
نَزَلَ مِنَ اَلله فَعَلَى أَيْدِيهِمْ، وَمَا عُرِجَ إِلَى اَلله فَعَلَى
أَيْدِيهِمْ، وَمَا اِسْتَغْنَوْا عَنِ اَلله (عزَّ وجلَّ) طَرْفَةَ عَيْنٍ»(١٦١).
فهو (صلَّى الله عليه وآله) واسطة كلِّ حجَّة في كلِّ شيء.
* وفي (معاني الأخبار): عَنْ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، قَالَ: «...
لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا
وَسِعَهُ إِلَّا اِتِّبَاعِي»(١٦٢).
فهذا الحديث، بل وغيره من المقاطع خصوصاً الزيارات والأدعية الواردة عنهم (عليهم
السلام)، تكشف لنا عن أنَّ الحجّيَّة الأُولى ومصدر الفيض الإلهي هو النبيُّ الخاتم
(صلَّى الله عليه وآله)، ثمّ من بعده أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، ثمّ
الأنبياء (عليهم السلام) ابتداءً وانتهاءً، على ما مرَّ قريباً في مصادر علمهم
(عليهم السلام).
* * *
-----------------
(١٦١) الغيبة للطوسي (ص ٣٨٧/ ح ٣٥١).
(١٦٢) معاني الأخبار (ص ٢٨٢/ باب معنى المحاقلة والمزابنة...).
الفقرة الثانية عشر
«ثُمَّ نَصَرْتَهُ بِالرُّعْبِ، وَحَفَفْتَهُ بِجَبْرَئيلَ وَمِيكَائِيلَ
وَاَلمُسَوِّمِينَ مِنْ مَلَائِكَتِكَ، وَوَعَدْتَهُ أَنْ تُظْهِرَ دِينَهُ عَلَى
اَلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ اَلمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَوَّأْتَهُ
مُبَوَّأَ صِدْقٍ مِنْ أَهْلِهِ»
تتحدَّث هذه الفقرة المتَّصلة مع
التي سبقتها عن أسباب النصرة وسبلها، وعن نماذج التسخير الإلهي للنبيِّ (صلَّى الله
عليه وآله)، وقد قلنا هناك: إنَّ هذه السلطة والأسباب وإنْ كانت قد نُسِبَت إلى
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بالأصالة إلَّا أنَّها جارية في الأئمَّة (عليهم
السلام) ما خلا المختصِّ به (صلَّى الله عليه وآله) منها ودلَّ الدليل الخاصُّ
عليه.
أمَّا هذه الفقرة فالحديث فيها عن نماذج من التسخير الإلهي للرسول الأكرم (صلَّى
الله عليه وآله) وللإمام (عليه السلام).
والحديث عنها يقع في عدَّة نقاط:
النقطة الأولى: التسخير بالرعب والنصر والإظهار بأهل البيت (عليهم
السلام):
بعد أنْ أوطأ الله سبحانه للنبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) المشارقَ
والمغاربَ، وأودعه علم ما كان وما يكون إلى انقضاء الخلق، ولأجل أنْ يتحقَّق
التبُّوء والإيطاء للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) احتاج هذا الإيطاء - ولو في بعض
موارده - إلى آليَّات وأدوات يُتمِّم بها الباري (عزَّ وجلَّ) ما وعد نبيَّه (صلَّى
الله عليه وآله) به، فذكر المقطع بعض هذه النماذج، والتي منها النصر بالرعب.
وقد تحدَّثت الكثير من الروايات عن هذا المعنى فيما يرتبط بما اختُصَّ
به (صلَّى
الله عليه وآله)، أو بما تفرَّع منه وبواسطته (صلَّى الله عليه وآله) على أولياءه
وخلفاءه، وبالخصوص الحجَّة القائم الغائب (عجَّل الله فرجه)، فالرعب الذي سيكون مع
الحجَّة والذي ورثه (عجَّل الله فرجه) من جدِّه (صلَّى الله عليه وآله) حسب تعبير
الروايات يسير قبله (عجَّل الله فرجه) مسيرة شهر كامل، ولك أنْ تتصوَّر جيشاً يقوده
الإمام (عجَّل الله فرجه) يخترق الحصون البشريَّة قبل حصون المُدُن والبلدان، ويرعب
الأعداء خوفاً من القادم إليهم، على ما يأتي في الفقرات الخاصَّة بالإمام (عجَّل
الله فرجه).
ومن أدوات التسخير الحفُّ والإحاطة، وهو من بين أبرز أسباب الانتصار، وانظر إلى
مَنْ هم الذين يقومون بهذه الحالة، إنَّهم جبرائيل وميكائيل والمسوِّمين من
الملائكة. والمُسوَّم المجهَّز والمستعدُّ بكافَّة الاستعدادات التي تُؤهِّله
لتحقيق الهدف.
ومع اكتمال عوامل وأسباب الانتصار تتحقَّق النتيجة، وهي الإظهار وحالة الاستحكام
والتمكين بأهل البيت (عليهم السلام).
المقطع يُحدِّثنا عن أسباب النصر والإظهار للدِّين من جميع نواحيها، وأنَّها ستكون
مهيَّأة من أوَّل مرحلة وهي حالة الاستمكان والسيطرة والتبُّوء الصدقي التي تُمثِّل
القاعدة للانطلاق إلى حالة التمكُّن من الوسائل الخارجيَّة والميدانيَّة وتجهيزها
بكلِّ ما من شأنه تحقيق الهدف إلى حالة القدرة المعنويَّة والثبات والرسوخ الداخلي
إلى حالة الزلزلة عند الأعداء وإيجاد الروح الانهزاميَّة والانكسار النفسي، وهنا
يتحقَّق الهدف لا محالة، مهما كان الهدف المراد تحقيقه ومهما كانت المساحة المراد
نشر الهدف فيها.
* قال تعالى: ﴿فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ (الحشر: ٢).
* وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: ٣٣).
وممَّا يشير إلى ما تقدَّم من روايات - وهي كثيرة - الآتي:
* في (الكافي) بسنده عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَى
مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله) شَرَائِعَ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى (عليهم السلام): اَلتَّوْحِيدَ، وَاَلْإِخْلَاصَ، وَخَلْعَ اَلْأَنْدَادِ،
وَاَلْفِطْرَةَ اَلْحَنِيفِيَّةَ اَلسَّمْحَةَ، وَلَا رَهْبَانِيَّةَ وَلَا
سِيَاحَةَ، أَحَلَّ فِيهَا اَلطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ فِيهَا اَلْخَبَائِثَ...،
وَأَحَلَّ لَهُ اَلمَغْنَمَ وَاَلْفَيْءَ، وَنَصَرَهُ بِالرُّعْبِ، وَجَعَلَ لَهُ
اَلْأَرْضَ مَسْجِداً وَطَهُوراً، وَأَرْسَلَهُ كَافَّةً إِلَى اَلْأَبْيَضِ
وَاَلْأَسْوَدِ وَاَلْجِنِّ وَاَلْإِنْسِ، وَأَعْطَاهُ اَلْجِزْيَةَ، وَأَسْرَ
اَلمُشْرِكِينَ، وَفِدَاهُمْ، ثُمَّ كُلِّفَ مَا لَمْ يُكَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ
اَلْأَنْبِيَاءِ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ سَيْفٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ فِي غَيْرِ غِمْدٍ،
وَقِيلَ لَهُ: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾
[النساء: ٨٤]»(١٦٣).
* وفي (عِلَل الشرائع) بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَلله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «أَنَا أَشْبَهُ اَلنَّاسِ بِآدَمَ، وَإِبْرَاهِيمُ
أَشْبَهُ اَلنَّاسِ بِي...، وَمَنَّ عَلَيَّ رَبِّي وَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ
صَلَّى اَللهُ عَلَيْكَ، فَقَدْ أَرْسَلْتُ كُلَّ رَسُولٍ إِلَى أُمَّتِهِ
بِلِسَانِهَا، وَأَرْسَلْتُكَ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ مِنْ خَلْقِي،
وَنَصَرْتُكَ بِالرُّعْبِ اَلَّذِي لَمْ أَنْصُرْ بِهِ أَحَداً...»(١٦٤).
النقطة الثانية: تبوُّء النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) مبوَّء
الصدق:
ذكرت العديد من الآيات الشريفة هذا المعنى، ومنها:
* قال تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ (الحجّ: ٢٦).
* وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ (يونس: ٩٣).
-----------------
(١٦٣) الكافي (ج ٢/ ص ١٧/ باب الشرائع/ ح ١).
(١٦٤) عِلَل الشرائع (ج ١/ ص ١٢٧ و١٢٨/ باب ١٠٦/ ح ٣).
* قال العلَّامة الطباطبائي (رحمه الله): (﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ يدلُّ على أنَّ الله
سبحانه بوَّأهم مبوَّءاً يوجد فيه جميع ما يطلبه الإنسان...)(١٦٥).
* وقال الفخر الرازي: (أي أسكناهم مكان صدقٍ أي مكاناً محموداً، وقوله: ﴿مُبَوَّأَ
صِدْقٍ﴾ فيه وجهان:
الأوَّل: يجوز أن يكون ﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ مصدراً، أي بوَّأناهم تبوُّأ صدق.
الثاني: أنْ يكون المعنى منزلاً صالحاً مرضيًّا، وإنَّما وصف المبوَّأ بكونه صدقاً،
لأنَّ عادة العرب أنَّها إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق تقول: رجل صدق، وقدم صدق،
قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ
صِدْقٍ﴾ [الإسراء: ٨٠]، والسبب فيه أنَّ ذلك الشيء إذا كان كاملاً في وقت صالحاً
للغرض المطلوب منه، فكلُّ ما يُظَنُّ فيه من الخير فإنَّه لا بدَّ وأنْ يصدق ذلك
الظنُّ)(١٦٦).
* * *
-----------------
(١٦٥) تفسير الميزان (ج ١٠/ ص ١٢٠).
(١٦٦) تفسير الرازي (ج ١٧/ ص ١٥٨).
الفقرة الثالثة عشر
«وَجَعَلْتَ لَهُ وَلَهُمْ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ
وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً»
الحديث في هذه الفقرة ضمن نقاط:
النقطة الأولى: ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن
الكريم:
وهي عدَّة آيات، منها:
في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة: ١٢٧ - ١٢٩)، إشارة واضحة إلى ما تضمَّنته الفقرة.
أمَّا فيما يخصُّ البيِّنات والآيات، فقوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ (آل عمران: ٩٧)(١٦٧).
-----------------
(١٦٧) الكافي (ج ٤/ ص ٢٢٣/ باب في قوله تعالى: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾/ ح ١).
حيث ورد في تفسيرها العديد من الروايات منها ما رواه الشيخ الكليني ٢ بسنده المعتبر
عَنِ اِبْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) عَنْ
قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي
بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ [آل
عمران: ٩٦ و٩٧]، مَا هَذِهِ اَلْآيَاتُ اَلْبَيِّنَاتُ؟ قَالَ: «مَقَامُ
إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ قَامَ عَلَى اَلْحَجَرِ فَأَثَّرَتْ فِيهِ قَدَمَاهُ،
وَاَلْحَجَرُ اَلْأَسْوَدُ، وَمَنْزِلُ إِسْمَاعِيلَ (عليه السلام)».
النقطة الثانية: ما ورد عنهم في الروايات الشريفة:
الروايات التي تحدَّثت عن مقام البيت ومقام إبراهيم (عليه السلام) وأهمّيَّته وكيف
صار ومَنْ بناه والمسجد الحرام والمشاعر المقدَّسة كثيرة جدًّا، وما يرتبط بمقامنا
منها كثير أيضاً، نأخذ بعضاً منها بما يناسب الشرح والغرض منه، ومنها:
* في (تفسير العيَّاشي) بسنده عَنْ جَابِرٍ اَلْجُعْفِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، قَالَ: «إِنَّ اَللهَ اِخْتَارَ مِنَ
اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مَكَّةَ، وَاِخْتَارَ مِنْ مَكَّةَ بَكَّةَ، فَأَنْزَلَ فِي
بَكَّةَ سُرَادِقاً مِنْ نُورٍ مَحْفُوفاً بِالدُّرِّ وَاَلْيَاقُوتِ...،
فَالرُّكْنُ اَلْأَسْوَدُ بَابُ اَلرَّحْمَةِ إِلَى رُكْنِ اَلشَّامِيِّ، فَهُوَ
بَابُ اَلْإِنَابَةِ، وَبَابُ اَلرُّكْنِ اَلشَّامِيِّ بَابُ اَلتَّوَسُّلِ،
وَبَابُ اَلرُّكْنِ اَلْيَمَانِيِّ بَابُ اَلتَّوْبَةِ، وَهُوَ بَابُ آلِ مُحَمَّدٍ
(عليهم السلام) وَشِيعَتِهِمْ إِلَى اَلْحَجَرِ، فَهَذَا اَلْبَيْتُ حُجَّةُ اَلله
فِي أَرْضِهِ عَلَى خَلْقِهِ...»(١٦٨).
بل توجد عدَّة روايات تشير إلى أنَّ الأمان الذي وُصِفَ به مَنْ دخل البيت ليس على
إطلاقه، وإنَّما قد قيَّدته الروايات بولاية أهل البيت (عليهم السلام) ومعرفتهم،
ومنها ما رواه الشيخ الكليني (رضي الله عنه) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلْخَالِقِ
اَلصَّيْقَلِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اَلله
(عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ [آل عمران: ٩٧]، فَقَالَ: «لَقَدْ
سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ إِلَّا مَنْ شَاءَ اَلله»، قَالَ:
«مَنْ أَمَّ هَذَا اَلْبَيْتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّه اَلْبَيْتُ اَلَّذِي أَمَرَهُ
اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ وَعَرَفَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ حَقَّ مَعْرِفَتِنَا كَانَ
آمِناً فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ»(١٦٩).
-----------------
(١٦٨) تفسير العيَّاشي (ج ١/ ص ٣٩ و٤٠/ ح ٢٢).
(١٦٩) الكافي (ج ٤/ ص ٥٤٥/ باب النوادر/ ح ٢٥).
لاحظ قوله (عليه السلام): إنَّ هذا السؤال ما سأله أحد قبل عبد الخالق إلَّا مَنْ
شاء الله تعالى، لأهمّيَّته وإلفات الناس إلى أهمّيَّة ما سيُخبِر به الإمام (عليه
السلام).
أهمّيَّة المكان في العقيدة:
ليس بمجازف مَنْ يرى بداهة ارتباط الدِّين بالمكان في بعض الأحيان، فاللجوء الى
الله تعالى لجوء روحي ومكاني، والدخول في مكان مقدَّس يضفي على الروح والنفس
طمأنينة خاصَّة لا توجد في غيره.
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) عَنِ
اَلْعِلَّةِ فِي تَعْظِيمِ اَلمَسَاجِدِ، فَقَالَ: «إِنَّمَا أُمِرَ بِتَعْظِيمِ
اَلمَسَاجِدِ لِأَنَّهَا بُيُوتُ اَلله فِي اَلْأَرْضِ»(١٧٠).
فوجود المكان المقدَّس أمر غاية في الأهمّيَّة في تشريعات الأديان الإلهيَّة، بل
وحتَّى عند غيرها، فلا تجد ديناً إلَّا وله أمكنة عديدة معدَّة لممارسة طقوسه
والتزوُّد بالطاقة والسكينة الروحيَّة، والقرب من ساحة المولى (عزَّ وجلَّ).
فالتلازم بين الدِّين والمكان المقدَّس واضح، بل في جملة من النصوص أنَّ الشارع
المقدَّس شجَّع الناس على اتِّخاذ أماكن خاصَّة للعبادة يضفي عليها نوعاً من
الاحترام والتبجيل والاهتمام، ليس ذلك إلَّا لجعل الناس في حالة انشداد دائم للمكان
المعبِّر لهم عن الارتباط بمقدَّساتهم وما يلتمسونه من آثار هذا المكان على الأجواء
الروحيَّة وتأثيرها على عباداتهم وطقوسهم الدِّينيَّة.
قال تعالى: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ (يونس: ٨٧).
وَعَنْ مِسْمَعٍ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «إِنِّي
أُحِبُّ لَكَ أَنْ تَتَّخِذَ فِي دَارِكَ مَسْجِداً فِي بَعْضِ بُيُوتِكَ...»،
والمقصود من بعض البيوت أي ما هو المعروف في زماننا بغُرَف البيت، أي أنْ يجعل له
في بعض غُرَف بيته مكاناً خاصًّا
-----------------
(١٧٠) عِلَل الشرائع (ج ٢/ ص ٣١٨/ باب ٤/ ح ١).
للصلاة، لاحظوا تتميم الرواية وما قاله له الإمام
(عليه السلام): «ثُمَّ تَلْبَسَ ثَوْبَيْنِ طِمْرَيْنِ غَلِيظَيْنِ، ثُمَّ تَسْأَلَ
اَللهَ أَنْ يُعْتِقَكَ مِنَ اَلنَّارِ، وَأَنْ يُدْخِلَكَ اَلْجَنَّةَ، وَلَا
تَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ بَاطِلٍ وَلَا بِكَلِمَةِ بَغْيٍ»(١٧١).
في أفضليَّة أرض كربلاء:
مَنْ يطالع الروايات الشريفة في تفضيل الأمكنة على بعضها، بل والأزمنة، يتجلَّى له
فضل بعضها على بعض.
وهذا التفضيل لا نلتمس له وجهاً لولا أنَّ الروايات الشريفة بيَّنت ذلك، ونحن
نتعبَّد بما يأتي فيها.
وقد بيَّنت الروايات بذاتها فضل أرض كربلاء على الكعبة، بعد تفضيل أرض الكعبة على
كلِّ أرضٍ سواها.
وبهذا يندفع ما في نفوس البعض من حزازة تقبُّل ذلك.
فالقاعدة التي ينبغي أنْ يكون عليها المؤمن الحقيقي هي قوله تعالى: ﴿فَلَا
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾
(النساء: ٦٥)، فما يُنقَل عنه (صلَّى الله عليه وآله) وعن أهل بيته (عليهم السلام)
فلا بدَّ أنْ يتلقَّاه المؤمن بالتسليم، وأنْ لا يجد في نفسه أيَّ حرج، وقد ورد
عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ بَيَّاعِ اَلسَّابِرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه
السلام)، قَالَ: «إِنَّ أَرْضَ اَلْكَعْبَةِ قَالَتْ: مَنْ مِثْلِي وَقَدْ بُنِيَ
بَيْتُ اَلله عَلَى ظَهْرِي، وَيَأْتِينِي اَلنَّاسُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ،
وَجُعِلْتُ حَرَمَ اَلله وَأَمْنَهُ، فَأَوْحَى اَللهُ إِلَيْهَا: أَنْ كُفِّي
وَقِرِّي، فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا فَضْلُ مَا فُضِّلْتِ بِهِ فِيمَا
أَعْطَيْتُ بِهِ أَرْضَ كَرْبَلَاءَ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ اَلْإِبْرَةِ غُمِسَتْ فِي
اَلْبَحْرِ فَحَمَلَتْ مِنْ مَاءِ اَلْبَحْرِ، وَلَوْلَا تُرْبَةُ كَرْبَلَاءَ مَا
فَضَّلْتُكِ، وَلَوْلَا
-----------------
(١٧١) المحاسن (ج ٢/ ص ٦١٢/ ح ٣١).
مَا تَضَمَّنَتْهُ أَرْضُ كَرْبَلَاءَ لَمَا خَلَقْتُكِ
وَلَا خَلَقْتُ اَلْبَيْتَ اَلَّذِي اِفْتَخَرْتِ بِهِ، فَقِرِّي وَاِسْتَقِرِّي
وَكُونِي دُنْيَا مُتَوَاضِعاً ذَلِيلاً مَهِيناً، غَيْرَ مُسْتَنْكِفٍ وَلَا
مُسْتَكْبِرٍ لِأَرْضِ كَرْبَلَاءَ، وَإِلَّا سُخْتُ بِكِ وَهَوَيْتُ بِكِ فِي
نَارِ جَهَنَّمَ»(١٧٢).
ارتباط الإمام (عجَّل الله فرجه) بالكعبة:
في هذه الفقرة نتحدَّث عن آليَّة أُخرى من آليَّات إظهار الدِّين وارتباطه بالأماكن
المقدَّسة في نفوس الناس، وما لهذه الأماكن المقدَّسة من تأثير كبير على حركة
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حين خروجه، فإدخال دعاء الندبة الخاصِّ به (عجَّل
الله فرجه) هذه الفقرة وغيرها يكشف عن أنَّ هذه الحركة المباركة عندما تبدأ بإعلان
الإمام (عجَّل الله فرجه) قيامه بالحقِّ، فإنَّه (عجَّل الله فرجه) سيُثبِت ارتباطه
بالحقِّ وبالإسلام وبالدِّين الحنيف من خلال عدَّة آليَّات وأفعال وتصرُّفات، ومنها
بيانه (عجَّل الله فرجه) لارتباطه بهذا البيت وبجدِّه رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) الذي جعله الله تعالى أمناً للناس، فالذي يخرج في هذا البيت ويُعلِن دعوته
منه سيكون إماماً وأماناً للناس، وأنَّ ظهوره لأجل هذا الغرض وإحقاق الحقِّ وبسط
العدل.
فالمكانة المعنويَّة التي يتمتَّع بها البيت العتيق ومكَّة المكرَّمة في نفوس الناس
تسهل لمن يُثبِت ارتباطه بها ويُعلِن دعوته منها سبيل الانتصار والتمكين.
أهل البيت (عليهم السلام) ودعوة إبراهيم (عليه السلام):
وممَّا جاء في الروايات لأجل حكاية هذا المعنى، ما رواه الشيخ الكليني (رضي الله
عنه) بسنده عَنْ زَيْدٍ اَلشَّحَّامِ، قَالَ: دَخَلَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ(١٧٣)
عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَقَالَ:
-----------------
(١٧٢) كامل الزيارات (ص ٤٤٩ و٤٥٠/ ح ٦٧٥/٢).
(١٧٣) من مشاهير محدِّثي العامَّة ومفسِّريهم، روى عن أنس بن مالك وأبي الطفيل
وسعيد بن المسيَّب والحسن البصري. راجع: سِيَر أعلام النبلاء (ج ٥/ ص ٢٦٩/ الرقم
١٣٢).
«يَا قَتَادَةُ، أَنْتَ فَقِيهُ
أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ؟»، فَقَالَ: هَكَذَا يَزْعُمُونَ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
(عليه السلام): «بَلَغَنِي أَنَّكَ تُفَسِّرُ اَلْقُرْآنَ»، فَقَالَ لَهُ
قَتَادَةُ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «بِعِلْمٍ
تُفَسِّرُه أَمْ بِجَهْلٍ؟»، قَالَ: «لَا، بِعِلْمٍ»، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ
(عليه السلام): «فَإِنْ كُنْتَ تُفَسِّرُه بِعِلْمٍ فَأَنْتَ أَنْتَ، وَأَنَا
أَسْأَلُكَ»، قَالَ قَتَادَةُ: سَلْ، قَالَ: «أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ
وجلَّ) فِي سَبَأٍ: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ
وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ [سبأ: ١٨]»، فَقَالَ قَتَادَةُ: ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ
بَيْتِهِ بِزَادٍ حَلَالٍ وَرَاحِلَةٍ وَكِرَاءٍ حَلَالٍ يُرِيدُ هَذَا اَلْبَيْتَ
كَانَ آمِناً حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه
السلام): «نَشَدْتُكَ اَللهَ يَا قَتَادَةُ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّه قَدْ يَخْرُجُ
اَلرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ بِزَادٍ حَلَالٍ وَرَاحِلَةٍ وَكِرَاءٍ حَلَالٍ يُرِيدُ
هَذَا اَلْبَيْتَ فَيُقْطَعُ عَلَيْهِ اَلطَّرِيقُ فَتُذْهَبُ نَفَقَتُهُ
وَيُضْرَبُ مَعَ ذَلِكَ ضَرْبَةً فِيهَا اِجْتِيَاحُهُ؟»، قَالَ قَتَادَةُ:
اَللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «وَيْحَكَ يَا
قَتَادَةُ إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا فَسَّرْتَ اَلْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ
فَقَدْ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَهُ مِنَ اَلرِّجَالِ
فَقَدْ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مِنْ
بَيْتِهِ بِزَادٍ وَرَاحِلَةٍ وَكِرَاءٍ حَلَالٍ يَرُومُ هَذَا اَلْبَيْتَ عَارِفاً
بِحَقِّنَا يَهْوَانَا قَلْبُهُ، كَمَا قَالَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: ٣٧]، وَلَمْ يَعْنِ
اَلْبَيْتَ فَيَقُولَ إِلَيْهِ، فَنَحْنُ وَاَلله دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ (عليه
السلام) اَلَّتِي مَنْ هَوَانَا قَلْبُهُ قُبِلَتْ حَجَّتُهُ وَإِلَّا فَلَا. يَا
قَتَادَةُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ آمِناً مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ يَوْمَ
اَلْقِيَامَةِ»، قَالَ قَتَادَةُ: لَا جَرَمَ وَاَلله لَا فَسَّرْتُهَا إِلَّا
هَكَذَا، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ إِنَّمَا
يَعْرِفُ اَلْقُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِهِ»(١٧٤).
إذ لا بدَّ لهذا الشخص الإلهي والذي يُمثِّل الامتداد الطبيعي للأنبياء (عليهم
السلام) والنبيِّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)، وهو
صاحب الصفات الفريدة الذي أُلقي
-----------------
(١٧٤) الكافي (ج ٨/ ص ٣١١ و٣١٢/ ح ٤٨٥).
على عاتقه مهمَّة لم تُلْقَ على عاتق غيره، من مكان
يناسب هذه المكانة في نفوس الناس وليس في نفوس خاصَّته وحسب، وليس هذا المكان إلَّا
الكعبة المشرَّفة.
فمقصد التوجُّه عند المسلمين وتخضُّعهم وركوعهم وسجودهم الذي لا ينازع في التوجُّه
إليه منهم منازع، هو هذا البيت المجعول قبلةً للناس، وهذا إنَّما جُعِلَ كذلك
ومقصداً للتوجُّه والطواف بعد قصد أهل البيت (عليهم السلام) كما دلَّت عليه
الروايات المتقدِّمة.
إذن فالناس إنَّما أُمروا بالتوجُّه في العبادة - والصلاة التي هي عمود الدِّين -
إلى مكَّة المكرَّمة لأجل شيء وراء هذا التوجُّه، وهو إبداء الطاعة والعبوديَّة لله
سبحانه، وهو (عزَّ اسمه) - بمقتضى جملة من الروايات تقدَّم ذكر بعضها آنفاً -
يُخبِر بواسطة العترة الطاهرة (عليهم السلام): أنَّ الواسطة في قبول هذه العبادة
أنْ يكون التوجُّه الظاهري مقروناً بالتوجُّه المعنوي لأصحاب هذا البيت (عليهم
السلام)، إنَّهم أصحاب بيت العبادة والطاعة والتوجُّه الإلهي.
ويوجد عندنا في الروايات مجموعة من الأخبار تشير إلى هذا المعنى مضافاً إلى ما
تقدَّم، منها:
* عَنِ اَلْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: نَظَرَ إِلَى
اَلنَّاسِ يَطُوفُونَ حَوْلَ اَلْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «هَكَذَا كَانُوا يَطُوفُونَ
فِي اَلْجَاهِلِيَّةِ، إِنَّمَا أُمِرُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهَا ثُمَّ يَنْفِرُوا
إِلَيْنَا فَيُعْلِمُونَا وَلَايَتَهُمْ وَمَوَدَّتَهُمْ وَيَعْرِضُوا عَلَيْنَا
نُصْرَتَهُمْ»، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ اَلْآيَةَ: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ [إبراهيم: ٣٧](١٧٥).
* وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) وَرَأَى
اَلنَّاسَ بِمَكَّةَ وَمَا يَعْمَلُونَ، قَالَ: فَقَالَ: «فِعَالٌ كَفِعَالِ
اَلْجَاهِلِيَّةِ، أَمَا وَاَلله مَا أُمِرُوا بِهَذَا، وَمَا أُمِرُوا
-----------------
(١٧٥) الكافي (ج ١/ ص ٣٩٢/ باب أنَّ الواجب على الناس بعد ما يقضون مناسكهم أن يأتوا الإمام فيسألونه عن معالم دينهم.../ ح ١).
إِلَّا أَنْ
يَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ فَيَمُرُّوا بِنَا فَيُخْبِرُونَا
بِوَلَايَتِهِمْ وَيَعْرِضُوا عَلَيْنَا نُصْرَتَهُمْ»(١٧٦).
* وَعَنْ سَدِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) وَهُوَ دَاخِلٌ
وَأَنَا خَارِجٌ وَأَخَذَ بِيَدِي ثُمَّ اِسْتَقْبَلَ اَلْبَيْتَ، فَقَالَ: «يَا
سَدِيرُ، إِنَّمَا أُمِرَ اَلنَّاسُ أَنْ يَأْتُوا هَذِهِ اَلْأَحْجَارَ
فَيَطُوفُوا بِهَا ثُمَّ يَأْتُونَا فَيُعْلِمُونَا وَلَايَتَهُمْ لَنَا، وَهُوَ
قَوْلُ اَلله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ
اهْتَدَى﴾ [طه: ٨٢] - ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ - إِلَى
وَلَايَتِنَا»، ثُمَّ قَالَ: «يَا سَدِيرُ، فَأُرِيكَ اَلصَّادِّينَ عَنْ دِينِ
اَلله؟»، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ اَلثَّوْرِيِّ فِي ذَلِكَ
اَلزَّمَانِ وَهُمْ حَلَقٌ فِي اَلمَسْجِدِ، فَقَالَ: «هَؤُلَاءِ اَلصَّادُّونَ
عَنْ دِينِ اَلله بِلَا هُدًى مِنَ اَلله وَلَا كِتَابٍ مُبِينٍ، إِنَّ هَؤُلَاءِ
اَلْأَخَابِثَ لَوْ جَلَسُوا فِي بُيُوتِهِمْ فَجَالَ اَلنَّاسُ فَلَمْ يَجِدُوا
أَحَداً يُخْبِرُهُمْ عَنِ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ (صلَّى
الله عليه وآله) حَتَّى يَأْتُونَا فَنُخْبِرَهُمْ عَنِ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
وَعَنْ رَسُولِهِ (صلَّى الله عليه وآله)»(١٧٧).
* * *
-----------------
(١٧٦) الكافي (ج ١/ ص ٣٩٢/ باب أنَّ الواجب على الناس بعد ما يقضون مناسكهم أن
يأتوا الإمام فيسألونه عن معالم دينهم.../ ح ٢).
(١٧٧) الكافي (ج ١/ ص ٣٩٢ و٣٩٣/ باب أنَّ الواجب على الناس بعد ما يقضون مناسكهم أن
يأتوا الإمام فيسألونه عن معالم دينهم.../ ح ٣).
الفقرة الرابعة عشر
«وَقُلْتَ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣]»
تمهيد:
قد يسأل سائل: أنَّه لِمَ جُعِلَ للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وآله (عليهم
السلام) هذه المكانة؟
جاء الجواب على لسان الدعاء: لمكان ما تقدَّم من وفائهم وسبقهم بالإقرار لله (عزَّ
وجلَّ) على ما مرَّ من حديث المشارطة، وكذا لطهارتهم وعصمتهم صاروا كذلك، فلأنَّهم
أهل الوفاء الذين لا رجس فيهم استحقُّوا هذا، فهذا المقطع يصحُّ أنْ يقال عنه:
إنَّه متمِّم لجواب مَنْ يسأل: لِمَ جُعِلَ أهل البيت (عليهم السلام) بهذه المكانة؟
فجاء الجواب بنصِّ الدعاء: «وَقُلْتَ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾»، فكونهم (عليهم السلام)
أهل البيت الإلهي لا بدَّ أنْ يكون نابعاً ومتفرِّعاً من أصل اقتضى هذا التمييز،
وذلك هو التطهير وإذهاب الرجس بعد الوفاء بالمشارطة.
وقد يقول قائل مرَّةً أُخرى: إنَّ كثيراً من عباد الله المخلَصين قد طُهِّروا
وأُذهِبَ عنهم الرجس، فلم يكونوا من أهل هذا البيت (عليهم السلام).
فيأتي الجواب: أنَّ التطهير هنا تطهير بأعلى المراتب، بل وأنَّ التطهير للغير
وإذهاب الرجس عن الغير أيًّا ما كان إنَّما جاء لأجل متابعتهم لأهل البيت(عليهم
السلام)، وقد مرَّ عليك ما في أحاديث عالم الميثاق والذرِّ وخلق الأكوان من دلالة
على هذا المعنى، فراجع.
وكيفما كان، فالبحث يقع في نقاط:
النقطة الأولى: تفسير آية التطهير روائيًّا وحصرها بأهل
البيت (عليهم السلام):
وهي كثيرة، منها:
* في (الكافي): عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ
يُونُسَ. وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ، عَنِ اِبْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ،
قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ):
﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾
[النساء: ٥٩]، فَقَالَ: «نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَاَلْحَسَنِ
وَاَلْحُسَيْنِ (عليهم السلام)»، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ اَلنَّاسَ يَقُولُونَ: فَمَا
لَهُ لَمْ يُسَمِّ عَلِيًّا وَأَهْلَ بَيْتِهِ (عليهم السلام) فِي كِتَابِ
اَلله (عزَّ وجلَّ)؟ قَالَ: فَقَالَ: «قُولُوا لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اَلله (صلَّى
الله عليه وآله) نَزَلَتْ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ، وَلَمْ يُسَمِّ اَللهُ لَهُمْ
ثَلَاثاً وَلَا أَرْبَعاً حَتَّى كَانَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) هُوَ
اَلَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِ اَلزَّكَاةُ، وَلَمْ يُسَمِّ
لَهُمْ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَماً دِرْهَمٌ حَتَّى كَانَ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) هُوَ اَلَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَنَزَلَ اَلْحَجُّ،
فَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ: طُوفُوا أُسْبُوعاً حَتَّى كَانَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله
عليه وآله) هُوَ اَلَّذِي فَسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَنَزَلَتْ: ﴿أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، وَنَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ
وَاَلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) فِي
عَلِيٍّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، وَقَالَ (صلَّى الله عليه
وآله): أُوصِيكُمْ بِكِتَابِ اَلله وَأَهْلِ بَيْتِي، فَإِنِّي سَأَلْتُ اَللهَ
(عزَّ وجلَّ) أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُورِدَهُمَا عَلَيَّ
اَلْحَوْضَ، فَأَعْطَانِي ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَهُمْ أَعْلَمُ
مِنْكُمْ، وَقَالَ: إِنَّهُمْ لَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بَابِ هُدًى، وَلَنْ
يُدْخِلُوكُمْ فِي بَابِ ضَلَالَةٍ، فَلَوْ سَكَتَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله) فَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ لَادَّعَاهَا آلُ فُلَانٍ وَآلُ
فُلَانٍ، وَلَكِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ تَصْدِيقاً
لِنَبِيِّه (صلَّى الله عليه وآله): ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣]، فَكَانَ
عَلِيٌّ وَاَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ وَفَاطِمَةُ (عليهم السلام)، فَأَدْخَلَهُمْ
رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) تَحْتَ
اَلْكِسَاءِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ: اَللَّهُمَّ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ أَهْلاً وَثَقَلاً، وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَثَقَلِي، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَلَسْتُ مِنْ أَهْلِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّكِ إِلَى خَيْرٍ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي وَثِقْلِي، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) كَانَ عَلِيٌّ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِالنَّاسِ، لِكَثْرَةِ مَا بَلَّغَ فِيهِ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، وَإِقَامَتِهِ لِلنَّاسِ، وَأَخْذِهِ بِيَدِهِ، فَلَمَّا مَضَى عَلِيٌّ لَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ عَلِيٌّ ولَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ أَنْ يُدْخِلَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَلَا اَلْعَبَّاسَ بْنَ عَلِيٍّ وَلَا وَاحِداً مِنْ وُلْدِهِ، إِذاً لَقَالَ اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ: إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ فِينَا كَمَا أَنْزَلَ فِيكَ، فَأَمَرَ بِطَاعَتِنَا كَمَا أَمَرَ بِطَاعَتِكَ، وَبَلَّغَ فِينَا رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) كَمَا بَلَّغَ فِيكَ، وَأَذْهَبَ عَنَّا اَلرِّجْسَ كَمَا أَذْهَبَهُ عَنْكَ، فَلَمَّا مَضَى عَلِيٌّ (عليه السلام) كَانَ اَلْحَسَنُ (عليه السلام) أَوْلَى بِهَا لِكِبَرِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُدْخِلَ وُلْدَهُ، ولَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ وَاَللهُ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿وَأُولُوا الْأَرحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾ [الأنفال:٧٥]، فَيَجْعَلَهَا فِي وُلْدِهِ، إِذاً لَقَالَ اَلْحُسَيْنُ: أَمَرَ اَللهُ بِطَاعَتِي كَمَا أَمَرَ بِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ أَبِيكَ، وَبَلَّغَ فِيَّ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) كَمَا بَلَّغَ فِيكَ وَفِي أَبِيكَ، وَأَذْهَبَ اَللهُ عَنِّي اَلرِّجْسَ كَمَا أَذْهَبَ عَنْكَ وَعَنْ أَبِيكَ، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام) لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ هُوَ يَدَّعِي عَلَى أَخِيهِ وَعَلَى أَبِيهِ لَوْ أَرَادَا أَنْ يَصْرِفَا اَلْأَمْرَ عَنْهُ وَلَمْ يَكُونَا لِيَفْعَلَا، ثُمَّ صَارَتْ حِينَ أَفْضَتْ إِلَى اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَجَرَى تَأْوِيلُ هَذِهِ اَلْآيَةِ: ﴿وَأُولُوا الْأَرحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾، ثُمَّ صَارَتْ مِنْ بَعْدِ اَلْحُسَيْنِ لِعَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، ثُمَّ صَارَتْ مِنْ بَعْدِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، وَقَالَ: اَلرِّجْسُ هُوَ اَلشَّكُّ، وَاَلله لَا نَشُكُّ فِي رَبِّنَا أَبَداً»(١٧٨).
-----------------
(١٧٨) الكافي (ج ١/ ص ٢٨٦ - ٢٨٨/ باب ما نصَّ الله (عزَّ وجلَّ) ورسوله على الأئمَّة (عليهم السلام) واحداً فواحداً/ ح ١).
النقطة الثانية: الإرادة الإلهيَّة في إذهاب الرجس:
اعلم أنَّ كلَّ ما جاء به علماء اللغة والبيان من معنى الرجس بمقتضى الإطلاق منفيٌّ
عنهم (عليهم السلام).
فالآية مطلقةٌ، والرجس محلَّى بألفٍ ولام الجنس، فالآية الشريفة ترفع وتفيد نفي
جميع الخبائث والقبائح وكلِّ نقصٍ ممكنٍ أنْ يتلبَّس به أحدٌ عنهم (عليهم السلام)
بجميع المراتب الظاهريَّة والباطنيَّة.
فبمقتضى علم الله الأزليِّ بهذا الانصياع والإرادة التامَّة لطاعة الله تعالى
والنابعة من ذواتهم (عليهم السلام)، ولأنَّ هذا القرب بهذه المرتبة التي لم تخطر
على قلب بشرٍ سواهم يحتاج إلى أعلى مرتبةٍ من التطهير، يرافقها إذهاب أدنى مرتبةٍ
من إذهاب الرجس، أي التَّنزُّه عن مطلق الرجس وإنْ كان قليلاً.
فلكي يكونوا (عليهم السلام) محلًّا لهذا القرب، فلا بدَّ أنْ لا يكون هناك رجسٌ ولو
بأدنى مراتبه، ولا بدَّ أنْ يكون هناك تطهيرٌ بأعلى مراتبه، كانت إرادة الله تعالى
أنْ يُطهِّرهم، فقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾.
قال العلَّامة الطباطبائي (رحمه الله): (فمن المتعيَّن حمل إذهاب الرجس في الآية
على العصمة، ويكون المراد بالتطهير في قوله: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ - وقد
أُكِّد بالمصدر - إزالة أثر الرجس بإيراد ما يقابله بعد إذهاب أصله، ومن المعلوم
أنَّ ما يقابل الاعتقاد الباطل هو الاعتقاد الحقُّ، فتطهيرهم هو تجهيزهم بإدراك
الحقِّ في الاعتقاد والعمل، ويكون المراد بالإرادة أيضاً غير الإرادة التشريعيَّة
لما عرفت أنَّ الإرادة التشريعيَّة التي هي توجيه التكاليف إلى المكلَّف لا تلائم
المقام أصلاً. والمعنى: أنَّ الله سبحانه تستمرُّ إرادته أنْ يخصَّكم بموهبة العصمة
بإذهاب الاعتقاد الباطل وأثر العمل السيِّئ عنكم أهل البيت وإيراد ما يزيل أثر ذلك
عليكم، وهي العصمة)(١٧٩).
-----------------
(١٧٩) تفسير الميزان (ج ١٦/ ص ٣١٢ و٣١٣).
* في (الكافي) بسنده عَنْ صَالِحِ
بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) «أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ قَالَ
لِرَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): بِأَيِّ شَيْءٍ سَبَقْتَ اَلْأَنْبِيَاءَ
وَأَنْتَ بُعِثْتَ آخِرَهُمْ وَخَاتَمَهُمْ؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ
آمَنَ بِرَبِّي، وَأَوَّلَ مَنْ أَجَابَ حِينَ أَخَذَ اَللهُ مِيثَاقَ
اَلنَّبِيِّينَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: ﴿أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: ١٧٢]، فَكُنْتُ أَنَا أَوَّلَ نَبِيٍّ
قَالَ: بَلَى، فَسَبَقْتُهُمْ بِالإِقْرَارِ بِالله»(١٨٠).
* وفي (عِلَل الشرائع) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلسَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ اَلْهَرَوِيِّ،
عَنْ عَلِيِّ اِبْنِ مُوسَى اَلرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ
أَبِيهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ
أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ
أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله): مَا خَلَقَ اَللهُ خَلْقاً أَفْضَلَ مِنِّي، وَلَا
أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنِّي، قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اَلله، فَأَنْتَ أَفْضَلُ أَمْ جَبْرَئِيلُ؟ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّ اَللهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَضَّلَ أَنْبِيَاءَهُ اَلمُرْسَلِينَ عَلَى مَلَائِكَتِهِ
اَلمُقَرَّبِينَ، وَفَضَّلَنِي عَلَى جَمِيعِ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلمُرْسَلِينَ،
وَاَلْفَضْلُ بَعْدِي لَكَ يَا عَلِيُّ وَلِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِكَ، وَإِنَّ
اَلمَلَائِكَةَ لَخُدَّامُنَا وَخُدَّامُ مُحِبِّينَا. يَا عَلِيُّ، اَلَّذِينَ
يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِوَلَايَتِنَا. يَا عَلِيُّ، لَوْلَا نَحْنُ
مَا خَلَقَ اَللهُ آدَمَ وَلَا حَوَّاءَ، وَلَا اَلْجَنَّةَ وَلَا اَلنَّارَ، وَلَا
اَلسَّمَاءَ وَلَا اَلْأَرْضَ، فَكَيْفَ لَا نَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ اَلمَلَائِكَةِ
وَقَدْ سَبَقْنَاهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَتَسْبِيحِهِ وَتَهْلِيلِهِ
وَتَقْدِيسِهِ؟ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) خَلْقُ
أَرْوَاحِنَا، فَأَنْطَقَنَا بِتَوْحِيدِهِ وَتَحْمِيدِهِ، ثُمَّ خَلَقَ
اَلمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا شَاهَدُوا أَرْوَاحَنَا نُوراً وَاحِداً اِسْتَعْظَمُوا
أَمْرَنَا، فَسَبَّحْنَا لِتَعْلَمَ اَلمَلَائِكَةُ أَنَّا خَلْقٌ مَخْلُوقُونَ،
وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِنَا، فَسَبَّحَتِ اَلمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِنَا،
وَنَزَّهَتْهُ عَنْ صِفَاتِنَا، فَلَمَّا شَاهَدُوا عِظَمَ شَأْنِنَا هَلَّلْنَا،
لِتَعْلَمَ اَلمَلَائِكَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ،
-----------------
(١٨٠) الكافي (ج ١/ ص ٤٤١/ باب مولد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) ووفاته/ ح ٦).
وَأَنَّا عَبِيدٌ
وَلَسْنَا بِآلِهَةٍ يَجِبُ أَنْ نُعْبَدَ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ، فَقَالُوا: لَا
إِلَهَ إِلَّا اَللهُ، فَلَمَّا شَاهَدُوا كِبَرَ مَحَلِّنَا كَبَّرْنَا،
لِتَعْلَمَ اَلمَلَائِكَةُ أَنَّ اَللهَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُنَالَ عِظَمُ
اَلمَحَلِّ إِلَّا بِهِ...»(١٨١).
هل آية التطهير تشمل غير أهل البيت (عليهم السلام)؟
قد يقال: إنَّ الآية الشريفة وبسياقها تشمل نساء النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)
ولا تختصُّ بأهل البيت (عليهم السلام)، والسياق حجَّة.
والجواب عنه: حجّيَّة السياق لو سُلِّمت - وهي محلُّ نقاش تعرَّض له علماء الأُصول
-، فإنَّما يكون السياق حجَّة فيما لو جزمنا بوحدة الكلام وأنَّه قد نزل دفعة وجملة
واحدة، فيكون بعضه حجَّة على بعض ومفسِّراً لما عُمِيَ معناه وخَفِيَت دلالته،
أمَّا مع العلم بعدم النزول لجميع آيات سورة الأحزاب دفعة واحدة - أو خصوص الآيات
التي قيل بوحدة السياق فيها - وأنَّها نجوماً مختلفة وفي مواطن متعدِّدة، فلا تنفع
على هذا وحدة السياق كقرينة على تفسير المراد بأهل البيت (عليهم السلام)، بل يكفينا
احتمال ذلك.
ومن شواهد ذلك تعدُّد ذكرها على لسان النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) على بيت
الإمام عليٍّ والصدِّيقة الطاهرة (عليهما السلام)، كما رواه السيوطي: ... لمَّا دخل
عليٌّ (رضي الله عنه) بفاطمة (رضي الله عنها) جاء النبيُّ [(صلَّى الله عليه وآله)]
أربعين صباحاً إلى بابها يقول: «اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ
وَرَحْمَةُ اَلله وَبَرَكَاتُهُ، اَلصَّلَاةُ رَحِمَكُمُ اَللهُ، ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً﴾، أَنَا حَرْبٌ لِمَا حَارَبْتُمْ، أَنَا سِلْمٌ لِمَ سَالَمتُمْ»(١٨٢).
بل القرينة الداخليَّة قاضية باختلاف الخطاب بين حديثه عن نساء
-----------------
(١٨١) عِلَل الشرائع (ج ١/ ص ٥ - ٧/ باب ٧/ ح ١).
(١٨٢) الدُّرُّ المنثور (ج ٥/ ص ١٩٩).
النبيِّ (صلَّى الله
عليه وآله) وعن أهل البيت (عليهم السلام)، ففي الخطاب لهنَّ يأتي التعبير:
﴿تُرِدْنَ﴾ مكرِّراً له ومحذِّراً لهنَّ، وفي مخاطبتهم (عليهم السلام) يأتي التعبير
منه (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ﴾، مادحاً ومُثنياً، وشتَّان بين
التعبيرين.
على أنَّه لو سُلِّم العموم فهو قد خُصِّص بما ذكرناه من روايات فسَّرت وقصرت وحصرت
أهل البيت بالأئمَّة والصدِّيقة الطاهرة (عليهم السلام).
بل في هذا المجال ذكر علماء الكلام ومنذ القِدَم العديد من القرائن على نفي دعوى
دخول نساء النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) في أهل البيت (عليهم السلام)، مَنْ شاء
فليطلبهم من محلِّها.
* * *
الفقرة الخامسة عشر
«ثُمَّ جَعَلْتَ أَجْرَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَوَدَّتَهُمْ فِي
كِتَابِكَ، فَقُلْتَ: ﴿قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: ٢٣]، وَقُلْتَ: ﴿مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ
لَكُمْ﴾ [سبأ: ٤٦]، وَقُلْتَ: ﴿مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ
شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ [الفرقان: ٥٧]، فَكَانُوا هُمُ
اَلسَّبِيلَ إِلَيْكَ، وَاَلمَسْلَكَ إِلَى رِضْوَانِكَ»
الفقرة الشريفة تتحدَّث عمَّا
ترتَّب على ما بذله النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) تجاه أُمَّته.
فكونه الشخص الذي أوطأ مشارق الأرض ومغاربها، وأُودع علم ما كان وما يكون، وأنَّه
مستخلَص الله تعالى ومستخلَص دينه، وأنَّه واسطة الفيض ومجرى نزول الرحمة وكلِّ
أمرٍ حكيم، فذاتٌ بهذه الصفات - وتُقدِّم هذه الهبات
والمكرمات للبشريَّة، بل للكون
- لا بدَّ أنْ يترتَّب على ما تقوم به من أعمالٍ لا نظير لها في عالم البشريَّة، بل
ولا غيره، أجرٌ عظيم على حدِّ تعبير الآية في الدعاء.
نحن نعرف جيِّداً أنَّ القانون الإلهي الكونيَّ يقضي بأنَّ ﴿مَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾ (الزلزلة: ٧)، وأنَّه سوف يرى أثرها في الدنيا
أو الآخرة، بل وفيهما معاً.
فالعمل الصغير لا بدَّ أنْ يقع بإزائه أجرٌ مناسب، بل مضاعفٌ بأضعافٍ كثيرة،
أقلُّها أنَّ الحسنة بعشر أضعافها.
فكيف بعمل النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وما قدَّمه للأُمَّة؟
المقطع الندبي المبارك يتحدَّث عن ثلاثة ألوان من الأجر المترتِّب على تحمُّل
الرسالة من قِبَل النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وهي:
الأوَّل: الأجر على مودَّة الأمَّة لأهل البيت (عليهم السلام):
فيجب على الأُمَّة أنْ تودَّ أهل البيت (عليهم السلام)، لأنَّ الإسلام جُعِلَ عقداً
فاشتراه المسلمون بأجر المودَّة، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ﴾، ثمّ قال (عزَّ من قائل):
﴿فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: ١١١]، وكلُّ مَنْ لم يُعْطِ هذا الأجر سيكون غاصباً.
* وقد بوَّب البرقي (رحمه الله) في (محاسنه) باباً كاملاً تحت عنوان: ﴿قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ روى فيه العديد
من الروايات، منها:
ما رواه بسنده عَنْ حَجَّاجٍ اَلْخَشَّابِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله
(عليه السلام) يَقُولُ لِأَبِي جَعْفَرٍ اَلْأَحْوَلِ: «مَا يَقُولُ مَنْ
عِنْدَكُمْ فِي قَوْلِ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿قُلْ لَا
أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾؟»، فَقَالَ: كَانَ
اَلْحَسَنُ اَلْبَصْرِيُّ يَقُولُ: فِي أَقْرِبَائِي مِنَ اَلْعَرَبِ، فَقَالَ
أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «لَكِنِّي أَقُولُ لِقُرَيْشٍ اَلَّذِينَ
عِنْدَنَا: هِيَ لَنَا خَاصَّةً، فَيَقُولُونَ: هِيَ لَنَا وَلَكُمْ عَامَّةً،
فَأَقُولُ: خَبِّرُونِي عَنِ اَلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله) إِذَا نَزَلَتْ بِهِ شَدِيدَةٌ مَنْ خَصَّ بِهَا؟ أَلَيْسَ إِيَّانَا خَصَّ بِهَا حِينَ أَرَادَ
أَنْ يُلَاعِنَ أَهْلَ نَجْرَانَ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَاَلْحَسَنِ
وَاَلْحُسَيْنِ (عليهم السلام)، وَيَوْمَ بَدْرٍ قَالَ لِعَلِيٍّ وَحَمْزَةَ
وَعُبَيْدَةَ بْنِ اَلْحَارِثِ»، قَالَ: «فَأَبَوْا يُقِرُّونَ لِي، أَفَلَكُمُ
اَلْحُلْوُ وَلَنَا اَلمُرُّ؟!»(١٨٣).
* وفي (تفسير القمِّي) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ فِي قَوْلِ اَلله: ﴿قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾: «يَعْنِي فِي أَهْلِ بَيْتِهِ»،
قَالَ: «جَاءَتِ اَلْأَنْصَارُ إِلَى رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)،
فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ آوَيْنَا وَنَصَرْنَا، فَخُذْ طَائِفَةً مِنْ أَمْوَالِنَا
فَاسْتَعِنْ بِهَا عَلَى مَا نَابَكَ، فَأَنْزَلَ اَللهُ: ﴿قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً﴾ يَعْنِي عَلَى اَلنُّبُوَّةِ، ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى﴾ يَعْنِي فِي أَهْلِ بَيْتِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تَرَى أَنَّ
اَلرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ صَدِيقٌ، وَفِي نَفْسِ ذَلِكَ اَلرَّجُلِ شَيْءٌ عَلَى
أَهْلِ بَيْتِهِ فَلَا يَسْلَمُ صَدْرُهُ؟ فَأَرَادَ اَللهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي
نَفْسِ رَسُولِ اَلله شَيْءٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ [أُمَّتِهِ]، فَفَرَضَ
عَلَيْهِمُ اَلمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبَى، فَإِنْ أَخَذُوا أَخَذُوا مَفْرُوضاً،
وَإِنْ تَرَكُوا تَرَكُوا مَفْرُوضاً»، قَالَ: «فَانْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَرَضْنَا عَلَيْهِ أَمْوَالَنَا، فَقَالَ: قَاتِلُوا عَنْ
أَهْلِ بَيْتِي مِنْ بَعْدِي، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَا قَالَ هَذَا رَسُولُ اَلله،
وَجَحَدُوهُ وَقَالُوا كَمَا حَكَى اَللهُ: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللهِ
كَذِباً﴾، فَقَالَ اَللهُ: ﴿فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾ [الشورى:
٢٤]...»(١٨٤).
-----------------
(١٨٣) المحاسن (ج ١/ ص ١٤٤ و١٤٥/ ح ٤٧).
(١٨٤) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٢٧٥).
الثاني: الأجر هو للناس:
قال تعالى: ﴿مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ (سبأ: ٤٧).
وهو أجر يتفرَّع على المودَّة، وينتفع منه نفس المشتري، وقد ذكرته الآية الثانية
صريحاً، فإنَّ مَنْ يشتري طعاماً ليأكله كي يقي نفسه من الوقوع في الهلكة، فهو يعلم
جيِّداً أنَّه لو لم يشترِ الطعام فإنَّه سيهلك، والطعام هنا ليس بمادِّي وإنَّما
هو الطعام الذي أنزله الله تعالى بواسطة أوليائه لإيصال البشريَّة إلى الهدف
والغاية من وجودها في هذا الكون، وقد جاء السؤال عنه في الروايات الشريفة.
وممَّا ذُكِرَ في هذا المجال:
* في (الكافي) بسنده عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ
اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً﴾
[الشورى: ٢٣]، قَالَ: «مَنْ تَوَلَّى اَلْأَوْصِيَاءَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ
وَاِتَّبَعَ آثَارَهُمْ فَذَاكَ يَزِيدُهُ وَلَايَةَ مَنْ مَضَى مِنَ
اَلنَّبِيِّينَ وَاَلمُؤْمِنِينَ اَلْأَوَّلِينَ حَتَّى تَصِلَ وَلَايَتُهُمْ إِلَى
آدَمَ (عليه السلام)، وَهُوَ قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ
فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ [النمل: ٨٩]، يُدْخِلُه اَلْجَنَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ اَلله
(عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ [سبأ: ٤٧]،
يَقُولُ: أَجْرُ اَلمَوَدَّةِ اَلَّذِي لَمْ أَسْأَلْكُمْ غَيْرَهُ فَهُوَ لَكُمْ،
تَهْتَدُونَ بِهِ وَتَنْجُونَ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَقَالَ
لِأَعْدَاءِ اَلله أَوْلِيَاءِ اَلشَّيْطَانِ أَهْلِ اَلتَّكْذِيبِ
وَاَلْإِنْكَارِ: ﴿قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: ٨٦]، يَقُولُ: مُتَكَلِّفاً أَنْ أَسْأَلَكُمْ مَا لَسْتُمْ
بِأَهْلِهِ، فَقَالَ اَلمُنَافِقُونَ عِنْدَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَا
يَكْفِي مُحَمَّداً أَنْ يَكُونَ قَهَرَنَا عِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى يُرِيدُ أَنْ
يُحَمِّلَ أَهْلَ بَيْتِهِ عَلَى رِقَابِنَا؟ فَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اَللهُ
هَذَا، وَمَا هُوَ إِلَّا شَيْءٌ يَتَقَوَّلُهُ يُرِيدُ أَنْ يَرْفَعَ أَهْلَ
بَيْتِهِ عَلَى رِقَابِنَا، وَلَئِنْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ أَوْ مَاتَ لَنَنْزِعَنَّهَا
مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، ثُمَّ لَا نُعِيدُهَا فِيهِمْ أَبَداً، وَأَرَادَ اَللهُ
(عزَّ وجلَّ) أَنْ يُعْلِمَ نَبِيَّهُ (صلَّى الله عليه وآله) اَلَّذِي أَخْفَوْا
فِي صُدُورِهِمْ وَأَسَرُّوا بِهِ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَمْ
يَقُولُونَ
افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَى
قَلْبِكَ﴾، يَقُولُ: لَوْ شِئْتُ حَبَسْتُ عَنْكَ اَلْوَحْيَ فَلَمْ تَكَلَّمْ
بِفَضْلِ أَهْلِ بَيْتِكَ وَلَا بِمَوَدَّتِهِمْ، وَقَدْ قَالَ اَللهُ (عزَّ
وجلَّ): ﴿وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾، يَقُولُ:
اَلْحَقُّ لِأَهْلِ بَيْتِكَ اَلْوَلَايَةُ، ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
[الشورى: ٢٤]، وَيَقُولُ بِمَا أَلْقَوْهُ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اَلْعَدَاوَةِ
لِأَهْلِ بَيْتِكَ وَاَلظُّلْمِ بَعْدَكَ، وَهُوَ قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ):
﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ [الأنبياء: ٣]...»(١٨٥).
الثالث: الأجر هو اتِّخاذ الإسلام الحقيقي سبيلاً لله تعالى:
قال تعالى: ﴿قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ
يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ (الفرقان: ٥٧).
وهذا الأجر الثالث - الأجر السبيلي - أجر جُعِلَ بإزاء ما قدَّمه النبيُّ(صلَّى
الله عليه وآله) للأُمَّة من إيصاله - دين الإسلام - لها، وهو سبيل التقرُّب إلى
الله سبحانه وتعالى الوحيد، وحيث إنَّ هذا السبيل يكون أخذه متقوِّماً بوجود واسطة
للتلقِّي والإعطاء جاء المقطع ليُؤكِّد هذه الحالة، فقال: «فَكَانُوا هُمُ
اَلسَّبِيلَ إِلَيْكَ، وَاَلمَسْلَكَ إِلَى رِضْوَانِكَ».
فمَنْ يريد أنْ يصل إلى طعام مغذٍّ وحلال ينفعه، ويكون سبيلاً للتقوُّت والتقوية،
لا بدَّ أنْ يُعطي أجر ذلك الطعام، بعد أنْ يختار المناسب منه له، ويعرف كيفيَّة
الانتفاع به واستخدامه، ليأمن ضرره، هذا في الطعام المادِّي المتعارف، وكذا الحال
في طعام الروح وزاد التقرُّب، و﴿إِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (البقرة: ١٩٧).
ذكر العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في (بحاره) بياناً جاء فيه: (... في الجمع بين
الآيات التي وردت في أجر الرسالة، لأنَّ الله تعالى قال في موضع: ﴿قُلْ لَا
-----------------
(١٨٥) الكافي (ج ٨/ ص ٣٧٩ و٣٨٠/ ح ٥٧٤).
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾، فدلَّت على
أنَّ المودَّة أجر الرسالة، وقال في موضع آخر: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
فَهُوَ لَكُمْ﴾، أي الأجر الذي سألتكم يعود نفعه إليكم، وقال في موضع آخر: ﴿قُلْ
مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى
رَبِّهِ سَبِيلاً﴾، فيظهر من تفسيره (عليه السلام) هنا أنَّ المراد به أنَّ أجر
الرسالة إنَّما أطلبه ممَّن قَبِلَ قولي وأطاعني واتَّخذ إلى ربه سبيلاً...)(١٨٦).
اتِّخاذ السُّبُل إلى الله تعالى وتهمة الشرك:
سيتمُّ التعرُّض لهذا البحث المهمِّ والحسَّاس من مباحث علم الكلام والذي أضحى
مثاراً للنقاش الحادِّ ممَّا أوجب تكفير أغلب طوائف المسلمين بحُجَج واهية وأساليب
ملتوية لا تُسنَد إلى حجَّة وبرهان، وتخالف صريح القرآن الكريم والسُّنَّة
القطعيَّة في جواز هذا الأمر - التوسُّل -، بل وضرورة الأخذ به من قِبَل المسلمين.
* * *
-----------------
(١٨٦) بحار الأنوار (ج ٢٤/ ص ٣٧٠/ ذيل الحديث ٩٤).
الفقرة السادسة عشر
«فَلَمَّا اِنْقَضَتْ أَيَّامُهُ أَقَامَ وَلِيَّهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
(صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِمَا وَآلِهمَا) هَادِياً، إِذْ كَانَ هُوَ اَلمُنْذِرَ
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، فَقَالَ وَاَلمَلَأُ أَمَامَهُ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ
فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ،
وَاُنْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاُخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَقَالَ: مَنْ كُنْتُ أَنَا
نَبِيَّهُ فَعَلِيٌّ أَمِيرُهُ، وَقَالَ: أَنَا وَعَلِيٌّ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ
وَسَائِرُ اَلنَّاسِ مِنْ شَجَرٍ شَتَّى، وَأَحَلَّهُ مَحَلَّ هَارُونَ مِنْ
مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا
أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي»
الفقرة التي نحن بصدد شرحها طويلة
ومرتبطة بما قبلها، وارتباطها بما بعدها أكثر وأوضح، وللحديث عنها لا بدَّ من تسليط
الضوء بشكل مجمل على الفقرات التي بعدها - إلى أنْ يحين وقت شرحها - أي إلى قوله
(عليه السلام): «وَلَمَا قَضَى نَحْبَهُ وَقَتَلَهُ أَشْقَى اَلْآخِرِينَ».
خصائص خطِّ الهداية:
والحديث فيها عن الصفات التي توجب استمرار خطِّ الهداية الإلهيَّة.
أمير المؤمنين (عليه السلام) عميد أهل البيت (عليهم السلام)، ورئيس الهاشميِّن بعد
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) من أهل البيت (عليهم السلام) الذين جعلهم الباري
(عزَّ وجلَّ) الحبل المتين الرابط بين السماء والأرض كنتيجة للمشارطة الإلهيَّة
التي سبق الحديث عنها، وأنَّهم أهل البيت
الإلهي، والذي يُمثِّل بيت الدِّين
وتعاليم الإسلام، قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ (النور: ٣٦).
وحيث إنَّ الناس فُطِرُوا على التوجُّه جبلّيًّا لدخول ذلك البيت، ودعاهم التكليف
للسير إليه، كان لا بدَّ من أنْ تكون عمليَّة الهداية وإيصال الناس وإدلالهم على
الدرب الموصل إلى باب ذلك البيت مستمرَّة إلى أنْ تنتهي الخليقة، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القَصَص: ٥١).
وفي حديث النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) الذي رواه العامُّ والخاصُّ دلالة صريحة
على ذلك، حيث قال (صلَّى الله عليه وآله): «... إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ
أَذْهَبَ إِلَّا وَأَنْتَ خَلِيفَتِي»(١٨٧).
لهذا ولغيره ممَّا سيأتي سلَّط الدعاء المبارك الحديث على أبرز عنصر استخلافي يكون
نموذجاً واضحاً في بيان المشيئة الإلهيَّة في استمراريَّة هذا الارتباط بين السماء
والأرض ولابدّيَّته، فَعَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا كَانَ
يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ نُودِيَ: أَيْنَ خَلِيفَةُ اَلله فِي أَرْضِهِ؟ فَيَقُومُ
دَاوُدُ، فَيُقَالُ: لَسْنَا أَرَدْنَاكَ وَإِنْ كُنْتَ خَلِيفَةَ اَلله فِي
أَرْضِهِ، فَيَقُومُ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ، فَيَأْتِي اَلنِّدَاءُ: يَا مَعْشَرَ
اَلْخَلَائِقِ، هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَلِيفَةُ اَلله فِي أَرْضِهِ
وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَمَنْ تَعَلَّقَ بِحَبْلِهِ فِي دَارِ اَلدُّنْيَا
فَلْيَتَعَلَّقْ بِحَبْلِهِ فِي هَذَا اَلْيَوْمِ لِيَسْتَضِيء بِنُورِهِ
وَيُشَيِّعَهُ إِلَى اَلْجَنَّةِ»(١٨٨).
جاء هذا المقطع من الدعاء ليتحدَّث مفصَّلاً - وبما يناسب مساحة الدعاء من البيان -
عن هذا الاستخلاف العظيم، قائلاً: «فَلَمَّا اِنْقَضَتْ أَيَّامُهُ أَقَامَ
وَلِيَّهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِمَا وَآلِهمَا)
هَادِياً، إِذْ كَانَ هُوَ اَلمُنْذِرَ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ...»، متحدِّثاً عن
ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) المنبثقة من ولاية رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله)، وعن معاداته (عليه السلام) المترتِّب عليها معاداة رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله)، وعن نصرته والدعاء
-----------------
(١٨٧) مسند أحمد (ج ٥/ ص ١٨٠/ ح ٣٠٦١).
(١٨٨) مناقب آل أبي طالب (ج ٢/ ص ٢٦٢).
له بالنصرة والدعاء على مَنْ يخذله، ثمّ جعل الإيمان
بنبوَّته (صلَّى الله عليه وآله) لا يتمُّ إلَّا بالإيمان بولاية عليٍّ (عليه
السلام)، فكلُّ مَنْ كان نبيُّه محمّداً (صلَّى الله عليه وآله) لا بدَّ أنْ يكون
عليٌّ (عليه السلام) أميره، لأنَّ عليًّا ومحمّداً من شجرة واحدة، وجميع الناس بما
فيهم الأنبياء من أشجار أُخرى، وهو (عليه السلام) منه (صلَّى الله عليه وآله)
بمنزلة النبيِّ من النبيِّ لولا ختم النبوَّة.
فثبَّت أنَّ الهادي بعده (صلَّى الله عليه وآله) عليٌّ (عليه السلام) لأنَّه هو
المنذر، وأنَّ المولى بعده (صلَّى الله عليه وآله) عليٌّ (عليه السلام) لأنَّه هو
الوليُّ، وأنَّ معاديه وخاذله خاذل لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأنَّ ناصره
ناصر له لأنَّ عليًّا (عليه السلام) أمير مَنْ نبيُّه محمّد (صلَّى الله عليه
وآله).
فهذه الصفات التي جعلها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وبجعل إلهي لعليٍّ (عليه
السلام) إنَّما هي لأجل تلك الوظيفة الكبرى التي تقع على عاتقه بعد انقضاء أيَّام
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
ثمّ فرَّع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على هذه الكمالات والصفات جملة من
الخصوصيَّات تحدَّثنا عنها في عدَّة مقاطع سابقة وبعضها سيأتي، من العصمة والعلم
اللدنِّي والخصائص البدنيَّة والنَّسَبيَّة وغيرها.
خصائص وصفات الخليفة بعد النبيِّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله):
أنْ يكون هو الهادي بعد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله):
وهذا في زماننا، بل وفي زمان سابق وسحيق ظاهر وجلي، روى شيخ الطائفة (قدّس سرّه)
بسنده عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: ٧]، وَضَعَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)
يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: «أَنَا اَلمُنْذِرُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ»،
وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى مَنْكَبِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَقَالَ: «أَنْتَ
اَلْهَادِي يَا عَلِيُّ، بِكَ يَهْتَدِي اَلمُهْتَدُونَ مِنْ بَعْدِي»(١٨٩).
-----------------
(١٨٩) تفسير التبيان (ج ٦/ ص ٢٢٣).
إخراج الناس عن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) من مصاديق القتل
العمد:
الروايات الشريفة التي تدلُّ على كون الإمام (عليه السلام) عنصر الهداية، وأنَّ
الخلاف عليه يُوقِع في الضلال كثيرة مرَّ عليك جملة منها وستقرأ كذلك جملة منها
بألسنة وألفاظ مختلفة في هذا الشرح، ومن بين تلك الروايات التي بيَّنت فداحة قيام
البعض بإضلال الناس عن أمير المؤمنين وعن ولايته (عليه السلام) وما هو الأثر
المترتِّب على هذا الفعل حيث جعلته من القتل العمد، فقد روى الشيخ الطبرسي (رحمه
الله) في (الاحتجاج) بِإِسْنَادِه عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام)
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ...﴾ اَلْآيَةَ [البقرة: ١٧٩]: «﴿وَلَكُمْ﴾ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ،
﴿فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾، لِأَنَّ مَنْ هَمَّ بِالْقَتْلِ فَعَرَفَ أَنَّهُ
يُقْتَصُّ مِنْهُ فَكَفَّ لِذَلِكَ عَنِ اَلْقَتْلِ، كَانَ حَيَاةً لِلَّذِي هَمَّ
بِقَتْلِهِ، وَحَيَاةً لِهَذَا اَلْجَانِي اَلَّذِي أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ،
وَحَيَاةً لِغَيْرِهِمَا مِنَ اَلنَّاسِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ اَلْقِصَاصَ وَاجِبٌ
لَا يَجْسُرُونَ عَلَى اَلْقَتْلِ مَخَافَةَ اَلْقِصَاصِ، ﴿يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ﴾ أُوْلِي اَلْعُقُولِ، ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾»، ثُمَّ قَالَ (عليه
السلام): «عِبَادَ اَلله، هَذَا قِصَاصُ قَتْلِكُمْ لِمَنْ تَقْتُلُونَهُ فِي
اَلدُّنْيَا، وَتُفْنُونَ رُوحَهُ، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَعْظَمَ مِنْ هَذَا
اَلْقَتْلِ، وَمَا يُوحِيهِ اَللهُ عَلَى قَاتِلِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ
هَذَا اَلْقِصَاصِ؟»، قَالُوا: بَلَى، يَا بْنَ رَسُولِ اَلله، قَالَ: «أَعْظَمُ
مِنْ هَذَا اَلْقَتْلِ أَنْ يَقْتُلَهُ قَتْلاً لَا يُجْبَرُ وَلَا يَحْيَا
بَعْدَهُ أَبَداً؟»، قَالُوا: مَا هُوَ؟ قَالَ: «أَنْ يُضِلَّهُ عَنْ نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ، وَعَنْ وَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَيَسْلُكَ بِهِ غَيْرَ
سَبِيلِ اَلله، وَيُغَيِّرَ بِهِ بِاتِّبَاعِ طَرِيقِ أَعْدَاءِ عَلِيٍّ
وَاَلْقَوْلِ بِإِمَامَتِهِمْ، وَدَفْعِ عَلِيٍّ عَنْ حَقِّهِ، وَجَحْدِ فَضْلِهِ،
وَأَلَا يُبَالِيَ بِإِعْطَائِهِ وَاجِبَ تَعْظِيمِهِ، فَهَذَا هُوَ اَلْقَتْلُ
اَلَّذِي هُوَ تَخْلِيدُ اَلمَقْتُولِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِداً مُخَلَّداً
أَبَداً، فَجَزَاءُ هَذَا اَلْقَتْلِ مِثْلُ ذَلِكَ اَلْخُلُودِ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ»(١٩٠).
-----------------
(١٩٠) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٥٠).
أهل البيت (عليهم السلام) الحجَّة على العباد:
قد أولت الشريعة المقدَّسة أهمّيَّة قصوى لإقامة الدِّين الحقِّ وجعل الحجَّة، ولا
نبالغ إذا قلنا بتواتر روايات إقامة الحجَّة في الأخبار والزيارات وغيرها من
الموروث.
عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ حُسَيْنِ بْنِ حَسَنٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اَلْحَسَنِ (عليه
السلام)، قَالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) يَوْماً، فَقَالَ
بَعْدَ مَا حَمِدَ اَللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ: مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ، كَأَنِّي
أُدْعَى فَأُجِيبُ، وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اَلله
وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا،
فَتَعَلَّمُوا مِنْهُمْ وَلَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، لَا
يَخْلُو اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ، وَلَوْ خَلَتْ إِذًا لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا»(١٩١).
المخالف قبل الموالي يُقِرُّ بأهميَّة الإمامة في الدِّين
وبضرورتها:
لقد أُفِرَد لهذا الموضوع تصنيفاتٌ كثيرةٌ، وأُشبع البحث فيه، وتمَّ تناوله من
جهاتٍ متعدِّدةٍ.
ومن أبرز ما ورد في الروايات عندنا أنَّ الوجود قائمٌ على وجود الحجَّة، ولولا
الحجَّة ووجوده لساخت الأرض بأهلها(١٩٢).
ومن أبرز ما جاء التعبير به عن هذه الحقيقة الدِّينيَّة الثابتة، ومن أشدّ
المخالفين للإماميَّة، أنَّه لولا الإمامة لما كان للدِّين، بل وللدنيا قيام.
-----------------
(١٩١) كفاية الأثر (ص ١٦٣).
(١٩٢) في الكافي (ج ١/ ص ٥٣٤/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهم
السلام)/ ح ١٧) بسنده عَنْ أَبِي اَلْجَارُودِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «إِنِّي وَاِثْنَيْ عَشَرَ
مِنْ وُلْدِي وَأَنْتَ يَا عَلِيُّ زِرُّ اَلْأَرْضِ يَعْنِي أَوْتَادَهَا
وَجِبَالَهَا، بِنَا أَوْتَدَ اَللهُ اَلْأَرْضَ أَنْ تَسِيخَ بِأَهْلِهَا، فَإِذَا
ذَهَبَ اَلْاِثْنَا عَشَرَ مِنْ وُلْدِي سَاخَتِ اَلْأَرْضُ بِأَهْلِهَا وَلَمْ
يُنْظَرُوا».
حيث ذكر مخالفونا هذا الأمر بعباراتٍ تُؤكِّد أنَّ وجود الحجَّة قضيَّةٌ لا بدَّ
منها، وأنَّ بها قوام الدِّين والدنيا(١٩٣).
وقد سلَّط الشيخ الكليني (رضي الله عنه) الضوء في كتابه المبارك (الكافي) من خلال
عدَّة أبواب على أهمّيَّة الحجَّة وضرورة وجود الإمام (عليه السلام)، وممَّا ذكره
من تلك الأبواب أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) كلَّهم قائمون بأمر الله، وأنَّ الأرض
لا تخلو من حجَّة، ولو لم يبقَ في الأرض إلَّا رجلان لكان أحدهما الحجَّة، وأنَّ
الأئمَّة (عليهم السلام) هم أركان الأرض، والشهداء على الخلق، وأنَّهم الهداة وولاة
الأمر وخلفاء الله تعالى.
وممَّا جاء من تلك الأحاديث:
* وفي (كمال الدين) بسنده عَنْ أَبِي عَلِيٍّ اِبْنِ هَمَّامٍ، قَالَ: سَمِعْتُ
مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ) يَقُولُ:
سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنُ اِبْنُ عَلِيٍّ (عليهما
السلام) وَأَنَا عِنْدَهُ عَنِ اَلْخَبَرِ اَلَّذِي رُوِيَ عَنْ آبَائِهِ (عليهم
السلام) أَنَّ اَلْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ لله عَلَى خَلْقِهِ إِلَى
يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ
مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّ هَذَا حَقٌّ كَمَا أَنَّ
اَلنَّهَارَ حَقٌّ»، فَقِيلَ لَهُ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، فَمَنِ اَلْحُجَّةُ
وَاَلْإِمَامُ بَعْدَكَ؟ فَقَالَ: «اِبْنِي مُحَمَّدٌ هُوَ اَلْإِمَامُ
وَاَلْحُجَّةُ بَعْدِي، مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً،
أَمَا إِنَّ لَهُ غَيْبَةً يَحَارُ فِيهَا اَلْجَاهِلُونَ، وَيَهْلِكُ فِيهَا
اَلمُبْطِلُونَ، وَيَكْذِبُ فِيهَا اَلْوَقَّاتُونَ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَكَأَنِّي
أَنْظُرُ إِلَى اَلْأَعْلاَمِ اَلْبِيضِ تَخْفِقُ فَوْقَ رَأْسِهِ بِنَجَفِ
اَلْكُوفَةِ»(١٩٤).
-----------------
(١٩٣) راجع: مجموعة الفتاوى لابن تيميَّة (ص ٣٩٠)؛ وممَّا جاء فيه: (يجب أنْ يُعرَف
أنَّ ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدِّين، بل لا قيام للدِّين ولا للدنيا إلَّا
بها).
(١٩٤) كمال الدِّين (ص ٤٠٩/ باب ٣٨/ ح ٩).
أهل البيت (عليهم السلام) قوام الدِّين:
كون أهل البيت (عليهم السلام) قوام الدِّين وبهم قام وسيبقى هو مفاد عدَّة روايات
تقدَّم بعضها ولو بنحو الملازمة أو الإشارة، ومنها الآتي:
* وفي (كامل الزيارات) روى الشيخ الأقدم ابن قولويه (رحمه الله) في زيارة أمير
المؤمنين (عليه السلام): «اَلْحَمْدُ لله اَلَّذِي أَكْرَمَنِي بِمَعْرِفَتِهِ
وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ (صلَّى الله عليه وآله) وَمَنْ فَرَضَ اَللهُ طَاعَتَهُ،
رَحْمَةً مِنْهُ لِي، وَتَطَوُّلاً مِنْهُ عَلَيَّ بِالْإِيمَانِ...، اَللَّهُمَّ
صَلِّ عَلَى اَلْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ، اَلْقَوَّامِينَ بِأَمْرِكَ مِنْ
بَعْدِهِ، اَلمُطَهَّرِينَ اَلَّذِينَ اِرْتَضَيْتَهُمْ أَنْصَاراً لِدِينِكَ،
وَحَفَظَةً لِسِرِّكَ، وَشُهَدَاءَ عَلَى خَلْقِكَ، وَأَعْلَاماً
لِعِبَادِكَ...»(١٩٥).
بقاء الحقِّ في الأمَّة ببقاء الإمام (عليه السلام):
من بديهيَّات العقائد الإسلاميَّة أنَّ الحقَّ في أُمِّة الإسلام، وقد أقام علماء
الكلام على هذا الأصل عدَّة أدلَّة، وتفرَّع عليه العديد من المسائل الكلاميَّة،
واستفاد منه جملة من أعيان الطائفة في إثبات بقاء الإمامة واستمرارها. فلأجل الأصل
المتقدِّم في ضرورة الإمام في كلِّ زمانٍ، والإمام هو الحقُّ فيتفرع عليه بقاء
الحقِّ.
وكيفما كان، فقد ذُكِرَ هذا الأصل في كلمات الأعيان:
* في (الغيبة للطوسي): (ومتى نوزعنا في ثبوت إمامته دلَلنا عليها بأنْ نقول: قد ثبت
وجوب الإمامة مع بقاء التكليف على مَنْ ليس بمعصوم في جميع الأحوال والأعصار
بالأدلَّة القاهرة، وثبت أيضاً أنَّ من شرط الإمام أنْ يكون مقطوعاً على عصمته،
وعلمنا أيضاً أنَّ الحقَّ لا يخرج عن الأُمَّة).
ثمّ قال (قدّس سرّه) بعد ذلك بعدَّة صفحات ما نصُّه: (... وأمَّا الأصل الثالث
-----------------
(١٩٥) كامل الزيارات (ص ٩٥ - ٩٧/ ح ٩٥/٣).
وهو
أنَّ الحقَّ لا يخرج عن الأُمَّة، فهو متَّفق عليه بيننا وبين خصومنا وإنِ اختلفنا
في علَّة ذلك. لأنَّ عندنا أنَّ الزمان لا يخلو من إمام معصوم لا يجوز عليه الغلط
على ما قلناه، فإذاً الحقُّ لا يخرج عن الأُمَّة لكون المعصوم فيهم. وعند المخالف
لقيام أدلَّة يذكرونها دلَّت على أنَّ الإجماع حجَّة، فلا وجه للتشاغل بذلك. فإذا
ثبتت هذه الأُصول ثبت إمامة صاحب الزمان (عليه السلام)...)(١٩٦).
* وفي (كمال الدِّين) بسنده عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ اَلثُّمَالِيِّ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) وَهُوَ يَقُولُ: «لَنْ
تَخْلُوَ اَلْأَرْضُ إِلَّا وَفِيهَا رَجُلٌ مِنَّا يَعْرِفُ اَلْحَقَّ، فَإِذَا
زَادَ اَلنَّاسُ فِيهِ قَالَ: قَدْ زَادُوا، وَإِذَا نَقَصُوا مِنْهُ قَالَ: قَدْ
نَقَصُوا، وَإِذَا جَاؤُوا بِهِ صَدَّقَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ
لَمْ يُعْرَفِ اَلْحَقُّ مِنَ اَلْبَاطِلِ»، قَالَ عَبْدُ اَلْحَمِيدِ بْنُ
عَوَّاضٍ اَلطَّائِيُّ: بِالله اَلَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَسَمِعْتُ هَذَا
اَلْحَدِيثَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، بِالله اَلَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ لَسَمِعْتُهُ مِنْهُ(١٩٧).
سُنَّة إرسال الرُّسُل والهداية في كلِّ أُمَّة:
تقدَّم في طيَّات الأبحاث السابقة الحديث عن سُنَّة الله تعالى في إرسال الرُّسُل
إلى كلِّ الأُمَم السابقة، وختمها بإرسال نبيِّ الرحمة (صلَّى الله عليه وآله) إلى
هذه الأُمَّة، بل جميع الأُمَم، وجعل فيها الهداة والمنذرين من بعده لكلِّ الناس.
وهذه سُنَّة تكوينيَّة دلَّت عليها بعض الآيات المتقدِّمة، وصرَّحت بها الروايات
التي لا يبعد تواترها المعنوي, وممَّا دلَّ عليها مضافاً إلى ما سبق عدَّة روايات،
منها:
* في (الغيبة للطوسي) بسنده عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اَلله اَلْأَشْعَرِيِّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا اَلشَّيْخُ اَلصَّدُوقُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ
اَلْأَشْعَرِيُّ (رحمه الله) أَنَّهُ جَاءَهُ بَعْضُ
-----------------
(١٩٦) الغيبة للطوسي (ص ٤ و١٧).
(١٩٧) كمال الدِّين (ص ٢٢٢ و٢٢٣/ باب ٢٢/ ح ١٢).
أَصْحَابِنَا يُعْلِمُهُ أَنَّ
جَعْفَرَ بْنَ عَلِيٍّ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَاباً يُعَرِّفُهُ فِيهِ نَفْسَهُ،
وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ اَلْقَيِّمُ بَعْدَ أَخِيهِ، وَأَنَّ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ
اَلْحَلَالِ وَاَلْحَرَامِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
اَلْعُلُومِ كُلِّهَا...، إلى أنْ قال (عليه السلام): «يَا هَذَا يَرْحَمُكَ
اَللهُ، إِنَّ اَللهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ اَلْخَلْقَ عَبَثاً، وَلَا
أَهْمَلَهُمْ سُدًى، بَلْ خَلَقَهُمْ بِقُدْرَتِهِ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَسْمَاعاً
وَأَبْصَاراً وَقُلُوباً وَأَلْبَاباً، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمُ اَلنَّبِيِّينَ
(عليهم السلام) مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، يَأْمُرُونَهُمْ بِطَاعَتِهِ،
وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَيُعَرِّفُونَهُمْ مَا جَهِلُوهُ مِنْ أَمْرِ
خَالِقِهِمْ وَدِينِهِمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ
مَلَائِكَةً يَأْتِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَعَثَهُمْ إِلَيْهِمْ بِالْفَضْلِ
اَلَّذِي جَعَلَهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَمَا آتَاهُمْ مِنَ اَلدَّلَائِلِ
اَلظَّاهِرَةِ وَاَلْبَرَاهِينِ اَلْبَاهِرَةِ وَاَلْآيَاتِ اَلْغَالِبَةِ،
فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ اَلنَّارَ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلَاماً وَاِتَّخَذَهُ
خَلِيلاً، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ تَكْلِيماً وَجَعَلَ عَصَاهُ ثُعْبَاناً
مُبِيناً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَحْيَا اَلمَوْتَى بِإِذْنِ اَلله وَأَبْرَأَ
اَلْأَكْمَهَ وَاَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اَلله، وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّمَهُ مَنْطِقَ
اَلطَّيْرِ وَأُوتِيَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ بَعَثَ مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه
وآله) رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَتَمَّمَ بِهِ نِعْمَتَهُ، وَخَتَمَ بِهِ
أَنْبِيَاءَهُ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى اَلنَّاسِ كَافَّةً، وَأَظْهَرَ مِنْ صِدْقِهِ
مَا أَظْهَرَ، وَبَيَّنَ مِنْ آيَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ مَا بَيَّنَ، ثُمَّ قَبَضَهُ
(صلَّى الله عليه وآله) حَمِيداً فَقِيداً سَعِيداً، وَجَعَلَ اَلْأَمْرَ [مِنْ]
بَعْدِهِ إِلَى أَخِيهِ وَاِبْنِ عَمِّهِ وَوَصِيِّهِ وَوَارِثِهِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، ثُمَّ إِلَى اَلْأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِهِ وَاحِداً
وَاحِداً، أَحْيَا بِهِمْ دِينَهُ، وَأَتَمَّ بِهِمْ نُورَهُ...»(١٩٨).
والأخبار في هذا المعنى - كما قلنا - متواترة.
فيجب على الناس بعد هذا الإرسال ووضوح هذه السُّنَن اتِّباع أعلام الهداية والسير
وراء الحقِّ الذي أصحر عنه أهل البيت (عليهم السلام)، امتثالاً لقوله تعالى:
﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْ
لَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ
وَنَخْزَى﴾ (طه: ١٣٤).
-----------------
(١٩٨) الغيبة للطوسي (ص ٢٨٧ و٢٨٨/ ح ٢٤٦).
الإمام عليٌّ (عليه السلام) هو الوليُّ بعد النبيِّ (صلَّى الله
عليه وآله):
يترتَّب على إمامة أمير المؤمنين والأئمَّة من ولده (عليهم السلام) كلُّ ما يترتَّب
على ولاية النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) من وجوب النصرة والولاية والدعاء لمن
نصره وعلى مَنْ خذله.
وممَّا ورد في ذلك من النصوص - وهي كثيرة -:
* في (كتاب سُلَيم بن قيس): كلام الحسن البصري عن فضائل أمير المؤمنين (عليه
السلام): قال أبان: وحدَّثت بهذا الحديث الحسن البصري عن أبي ذرٍّ، فقال: (صدق
سُلَيم، وصدق أبو ذرٍّ. لعليِّ بن أبي طالب السابقة في الدِّين والعلم والحكمة
والفقه، وفي الرأي والصحبة، وفي الفضل، وفي البسطة، وفي العشيرة، وفي الصهر، وفي
النجدة في الحرب، وفي الجود، وفي الماعون، وفي العلم بالقضاء، وفي القرابة للرسول،
والعلم بالقضاء والفصل، وفي حسن البلاء في الإسلام. إنَّ عليًّا في كلِّ أمر أمره
عليٌّ، فرحم الله عليًّا وصلَّى عليه)، ثمّ بكى حتَّى بلَّ لحيته، قال: فقلت له: يا
أبا سعيد، أتقول لأحدٍ غير النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) إذا ذكرته؟ فقال:
(ترحَّم على المسلمين إذا ذكرتهم، وصلِّ على محمّد وآل محمّد، وإنَّ عليًّا خير آل
محمّد)، فقلت: يا أبا سعيد، خير من حمزة ومن جعفر ومن فاطمة ومن الحسن والحسين؟
فقال: (إي والله، إنَّه لخير منهم، ومَنْ يشكُّ أنَّه خير منهم؟)، فقلت له: بما ذا؟
قال: (إنه لم يجرِ عليه اسم شرك ولا كفر ولا عبادة صنم ولا شرب خمر. وعليٌّ خير
منهم بالسبق إلى الإسلام، والعلم بكتاب الله وسُنَّة نبيِّه. وإنَّ رسول الله
(صلَّى الله عليه وآله) قال لفاطمة (عليها السلام): «زَوَّجْتُكِ خَيْرَ أُمَّتِي»،
فلو كان في الأُمَّة خيراً منه لاستثناه. وإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
آخى بين أصحابه، وآخى بين عليٍّ ونفسه، فرسول الله خيرهم نفساً وخيرهم أخاً. ونصبه
يوم غدير خُمٍّ، وأوجب له من الولاية على الناس مثل ما أوجب لنفسه، فقال: «مَنْ
كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ».
وقال له: «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى»، ولم يقل ذلك لأحدٍ من أهل بيته، ولا لأحدٍ من أُمَّته غيره.
وله سوابق كثيرة ومناقب ليس لأحدٍ من الناس مثلها)، قال: فقلت له: مَنْ خير هذه
الأُمَّة بعد عليٍّ (عليه السلام)؟ قال: (زوجته وابناه...)(١٩٩).
* وفي (الكافي) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلْحَمِيدِ بْنِ أَبِي اَلدَّيْلَمِ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «أَوْصَى مُوسَى (عليه السلام) إِلَى يُوشَعَ
بْنِ نُونٍ، وَأَوْصَى يُوشَعُ بْنُ نُونٍ إِلَى وَلَدِ هَارُونَ، وَلَمْ يُوصِ
إِلَى وَلَدِهِ وَلَا إِلَى وَلَدِ مُوسَى، إِنَّ اَللهَ تَعَالَى لَهُ
اَلْخِيَرَةُ، يَخْتَارُ مَنْ يَشَاءُ مِمَّنْ يَشَاءُ...، وَكَانَ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) يَتَأَلَّفُهُمْ، وَيَسْتَعِينُ بِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ،
وَلَا يَزَالُ يُخْرِجُ لَهُمْ شَيْئاً فِي فَضْلِ وَصِيِّهِ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِه
اَلسُّورَةُ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ حِينَ أُعْلِمَ بِمَوْتِهِ وَنُعِيَتْ إِلَيْهِ
نَفْسُهُ، فَقَالَ اَللهُ (جَلَّ ذِكْرُهُ): ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى
رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ [الشرح: ٧ و٨]، يَقُولُ: إِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ عَلَمَكَ،
وَأَعْلِنْ وَصِيَّكَ، فَأَعْلِمْهُمْ فَضْلَهُ عَلَانِيَةً، فَقَالَ (صلَّى الله
عليه وآله): مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ
وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -، ثُمَّ قَالَ: لَأَبْعَثَنَّ
رَجُلاً يُحِبُّ اَللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اَللهُ وَرَسُولُهُ، لَيْسَ
بِفَرَّارٍ، يُعَرِّضُ بِمَنْ رَجَعَ يُجَبِّنُ أَصْحَابَهُ وَيُجَبِّنُونَهُ،
وَقَالَ (صلَّى الله عليه وآله) عَلِيٌّ سَيِّدُ اَلمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ: عَلِيٌّ
عَمُودُ اَلدِّينِ...»(٢٠٠).
أمير المؤمنين وأهل البيت (عليهم السلام) من شجرة النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله):
وهذا المعنى وردت فيه العديد من النصوص الروائيَّة والتي تُصرِّح أنَّ أمير
المؤمنين (عليه السلام) هو فرع شجرة النبوَّة، وأنَّه الامتداد الطبيعي للنبيِّ
محمّد (صلَّى الله عليه وآله)، ولم
-----------------
(١٩٩) كتاب سُلَيم بن قيس (ص ١٦٧).
(٢٠٠) الكافي (ج ١/ ص ٢٩٣ - ٢٩٦/ باب الإشارة والنصِّ على أمير المؤمنين (عليه
السلام)/ ح ٣).
يقتصر بيان هذا المعنى من النبيِّ (صلَّى الله
عليه وآله) على المداليل المطابقيَّة، بل بيَّنه بعدة أنحاء كأحاديث الطينة
والإشهاد والنورانيَّة وغيرها ممَّا مرَّ عليك بعضها وما سنذكره في هذا الشرح.
وممَّا ورد في ذلك:
* في (نهج البلاغة): «أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)
كَمَثَلِ نُجُومِ اَلسَّمَاءِ إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ»(٢٠١)، «نَحْنُ
شَجَرَةُ اَلنُّبُوَّةِ، وَمَحَطُّ اَلرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ
اَلمَلَائِكَةِ»(٢٠٢)، «وَعِنْدَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ أَبْوَابُ اَلْحُكْمِ
وَضِيَاءُ اَلْأَمْرِ»(٢٠٣)، «إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا، وَإِنْ صَمَتُوا لَمْ
يُسْبَقُوا»(٢٠٤).
* وفي (الكافي) بسنده عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه
السلام): «يَا خَيْثَمَةُ، نَحْنُ شَجَرَةُ اَلنُّبُوَّةِ، وَبَيْتُ اَلرَّحْمَةِ،
وَمَفَاتِيحُ اَلْحِكْمَةِ، وَمَعْدِنُ اَلْعِلْمِ، وَمَوْضِعُ اَلرِّسَالَةِ،
وَمُخْتَلَفُ اَلمَلَائِكَةِ، وَمَوْضِعُ سِرِّ اَلله، وَنَحْنُ وَدِيعَةُ اَلله
فِي عِبَادِهِ، وَنَحْنُ حَرَمُ اَلله اَلْأَكْبَرُ، وَنَحْنُ ذِمَّةُ اَلله،
وَنَحْنُ عَهْدُ اَلله، فَمَنْ وَفَى بِعَهْدِنَا فَقَدْ وَفَى بِعَهْدِ اَلله،
وَمَنْ خَفَرَهَا فَقَدْ خَفَرَ ذِمَّةَ اَلله وَعَهْدَهِ»(٢٠٥).
إحلال النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام)
محلَّه كما أحلَّ موسى هارون (عليهما السلام) محلَّه:
لقد أحلَّ النبيُّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) الإمام عليًّا (عليه السلام)
محلَّه كمحلِّ هارون من موسى (عليهما السلام)، فمَنْ منعه الصادون والمزوِّرون
للتأريخ والحقائق عن التماس موقع هذا الرجل العظيم، فليلتمس من القرآن الكريم
طريقاً، وهو كتاب الهداية
-----------------
(٢٠١) نهج البلاغة (ص ١٤٦/ الخطبة ١٠٠).
(٢٠٢) نهج البلاغة (ص ١٦٢ و١٦٣/ الخطبة ١٠٩).
(٢٠٣) نهج البلاغة (ص ١٧٦/ ح ١٢٠).
(٢٠٤) نهج البلاغة (ص ٢١٥/ الخطبة ١٥٤).
(٢٠٥) الكافي (ج ١/ ص ٢٢١/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) معدن العلم.../ ح ٣).
ليهتدي به إليه، ليقرأ قصَّة هارون وما جرى عليه سيجدها
تجلَّت في عليٍّ (عليه السلام) وكأنَّه إنَّما ذُكِرَت لهذا الغرض ليس إلَّا،
فليتأمل مَنْ يبحث عن الحجَّة بينه وبين ربِّ العباد.
وممَّا ورد في ذلك:
* في (تفسير القمِّي) روى (رحمه الله) في حادثة استخلاف أمير المؤمنين (عليه
السلام) في المدينة وجعل النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) له بمنزلة هارون (عليه
السلام): فَلَمَّا اِجْتَمَعَ لِرَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) اَلْخُيُولُ
رَحَلَ مِنْ ثَنِيَّةِ اَلْوَدَاعِ وَخَلَّفَ أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)
عَلَى اَلمَدِينَةِ، فَأَوْجَفَ اَلمُنَافِقُونَ بِعَلِيٍّ (عليه السلام)،
فَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلَّا تَشَؤُّماً بِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا،
فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَسِلَاحَهُ وَلَحِقَ بِرَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)
بِالْجُرْفِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اَلله: «يَا عَلِيُّ، أَلَمْ أُخَلِّفْكَ عَلَى
اَلمَدِينَةِ؟»، قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِنَّ اَلمُنَافِقِينَ زَعَمُوا أَنَّكَ
خَلَّفْتَنِي تَشَؤُّماً بِي»، فَقَالَ: «كَذَبَ اَلمُنَافِقُونَ. يَا عَلِيُّ،
أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ أَخِي وَأَنَا أَخُوكَ، بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ
مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؟ وَإِنْ كَانَ بَعْدِي نَبِيٌّ
لَقُلْتُ: أَنْتَ، وَأَنْتَ خَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي، وَأَنْتَ وَزِيرِي وَأَخِي
فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ»، فَرَجَعَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِلَى
اَلمَدِينَةِ(٢٠٦).
* * *
-----------------
(٢٠٦) تفسير القمِّي (ج ١/ ص ٢٩٢ و٢٩٣).
الفقرة السابعة عشر
«وَزَوَّجَهُ اِبْنَتَهُ سَيِّدَةَ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ»
فاطمة (عليها السلام) التي كانت
بمقتضى المشيئة الإلهيَّة عنصر الربط الإلهي بين النبوَّة والإمامة.
ولأنَّ عليًّا (عليه السلام) حاز مؤهِّلات الإمامة، فالنتيجة الطبيعيَّة أنْ
يُزوجِّه النبيُّ الخاتم (صلَّى الله عليه وآله) ابنته سيِّدة نساء العالمين (عليها
السلام) بأمر من الله تعالى، كي يتفرَّع منهما أغصان شجرة الإمامة، فجاء الدعاء
ليقول: «وَزَوَّجَهُ اِبْنَتَهُ سَيِّدَةَ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ».
وقد ورد في هذا المعنى عدَّة روايات منها:
* في (تهذيب الأحكام) بسنده عَنِ اَلمُفَضَّلِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه
السلام)، قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ اَللهَ خَلَقَ أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ [(عليه
السلام)] لَمْ يَكُنْ لِفَاطِمَةَ (عليها السلام) كُفْوٌ عَلَى ظَهْرِ اَلْأَرْضِ،
آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ»(٢٠٧).
* وفي (مكارم الأخلاق): عَنْ زَيْنِ اَلْعَابِدِينَ (عليه السلام) قَالَ: «خَطَبَ
اَلنَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله) حِينَ زَوَّجَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) مِنْ
عَلِيٍّ (عليه السلام)، فَقَالَ: اَلْحَمْدُ لله اَلمَحْمُودِ بِنِعْمَتِهِ،
اَلمَعْبُودِ بِقُدْرَتِهِ، اَلمُطَاعِ بِسُلْطَانِهِ، اَلمَرْهُوبِ مِنْ عَذَابِهِ
وَسَطْوَتِهِ، اَلمَرْغُوبِ إِلَيْهِ فِيمَا عِنْدَهُ، اَلنَّافِذِ أَمْرُهُ فِي
سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ. ثُمَّ إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) أَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَ
فَاطِمَةَ مِنْ عَلِيِّ [بْنِ أَبِي طَالِبٍ]، فَقَدْ زَوَّجْتُهُ عَلَى
أَرْبَعِمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ إِنْ رَضِيَ بِذَلِكَ
-----------------
(٢٠٧) تهذيب الأحكام (ج ٧/ ص ٤٧٠/ ح ١٨٨٢/٩٠).
عَلِيٌّ. ثُمَّ دَعَا
(صلَّى الله عليه وآله) بِطَبَقٍ [مِنْ] بُسْرٍ(٢٠٨)، ثُمَّ قَالَ: اِنْتَهِبُوا،
فَبَيْنَا نَنْتَهِبُ إِذْ دَخَلَ عَلِيٌّ (عليه السلام)، فَتَبَسَّمَ اَلنَّبِيُّ
(صلَّى الله عليه وآله) فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَلِيُّ، أَعَلِمْتَ أَنَّ
اَللهَ (عزَّ وجلَّ) أَمَرَنِي أَنْ أُزَوِّجَكَ فَاطِمَةَ؟ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا
عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ إِنْ رَضِيتَ، فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه
السلام): رَضِيتُ بِذَلِكَ عَنِ اَلله وَعَنْ رَسُولِهِ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ
(صلَّى الله عليه وآله): جَمَعَ اَللهُ شَمْلَكُمَا، وَأَسْعَدَ جَدَّكُمَا،
وَبَارَكَ عَلَيْكُمَا، وَأَخْرَجَ مِنْكُمَا كَثِيراً طَيِّباً»(٢٠٩).
* قال الشيخ الصدوق (رحمه الله) في (الاعتقادات): (وأمَّا فاطمة (صلوات الله
عليها)، فاعتقادنا فيها أنَّها سيِّدة نساء العالمين من الأوَّلين والأخيرين، وأنَّ
الله يغضب لغضبها، ويرضى لرضاها، وأنَّها خرجت من الدنيا ساخطة على ظالميها
وغاصبيها ومانعي إرثها)(٢١٠).
* * *
-----------------
(٢٠٨) نوع من أنواع التمر.
(٢٠٩) مكارم الأخلاق (ص ٢٠٧).
(٢١٠) الاعتقادات في دين الإماميَّة (ص ١٠٥).
الفقرة الثامنة عشر
«وَأَحَلَّ لَهُ مِنْ مَسْجِدِهِ مَا حَلَّ لَهُ، وَسَدَّ اَلْأَبْوَابَ إِلَّا
بَابَهُ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ، فَقَالَ: أَنَا مَدِينَةُ
اَلْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ اَلمَدِينَةَ وَاَلْحِكْمَةَ
فَلْيَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا، ثُمَّ قالَ: أَنْتَ أَخِي وَوَصِيِّي وَوَارِثِي،
لَحمُكَ مِنْ لَحمِي، وَدَمُكَ مِنْ دَمِي، وَسِلْمُكَ سِلْمِي، وَحَرْبُكَ
حَرْبِي، وَاَلْإِيمَانُ مُخَالِطٌ لَحمَكَ وَدَمَكَ كَما خَالَطَ لَحمِي وَدَمِي،
وَأَنْتَ غَداً عَلَى اَلحَوْضِ خَلِيفَتِي، وَأَنْتَ تَقْضِي دَيْني، وَتُنْجِزُ
عِدَاتِي، وَشِيعَتُكَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ مُبْيَضَّةً وُجُوهُهُمْ حَوْلِي
فِي اَلجَنَّةِ وَهُمْ جِيرَانِي»
ذكرنا فيما سبق بعض فضائل الإمام
عليٍّ (عليه السلام) والتي منها الولاية والزواج و...، ثمّ يستمرُّ الدعاء بذكر
خصائص وفضائل أُخرى له، وهي:
جملة من الآثار التي يتحدَّث كلُّ واحدٍ منها عن بُعد وزاوية من خصائص وصفات
وكمالات أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكلُّ واحدٍ منها يشير بطبيعة الحال إلى بُعد
من أبعاد الإمام عليٍّ (عليه السلام)، وليس لنا إدراك هذه الخصائص والحقائق والآثار
لولا أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) ذكروها وبيَّنوا ما يترتَّب عليها وما توجبه
وكيف وُجِدَت. وما ذكره الدعاء المبارك منها:
اشتراك النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) والوليِّ (عليه السلام) في
خصائص محدَّدة من المسجد النبوي:
المعروف فقهيًّا وعند جميع المذاهب الإسلاميَّة - إلَّا مَنْ شذَّ - حرمة الدخول
لمن به الأحداث الكبرى في المساجد، وتشتدُّ هذه الحرمة في خصوص المسجدين - المسجد
الحرام والمسجد النبوي -.
وقد ثبت استثناء النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وأُلحِقَ به الإمام عليٌّ (عليه
السلام) بدليل خاصٍّ، وهذا الاستثناء مختصٌّ بهما دون غيرهما.
روى الشيخ الكليني (رضي الله عنه) في (الكافي) بسنده عَنْ أَبِي حَمْزَةَ
اَلثُّمَالِيِّ، عَنْ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «... فَأَوْحَى
اَللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَى نَبِيِّهِ (صلَّى الله عليه وآله) أَنْ طَهِّرْ
مَسْجِدَكَ وَأَخْرِجْ مِنَ اَلمَسْجِدِ مَنْ يَرْقُدُ فِيه بِاللَّيْلِ، وَمُرْ
بِسَدِّ أَبْوَابِ مَنْ كَانَ لَهُ فِي مَسْجِدِكَ بَابٌ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ
(عليه السلام) وَمَسْكَنَ فَاطِمَةَ (عليها السلام)، وَلَا يَمُرَّنَّ فِيه جُنُبٌ،
وَلَا يَرْقُدْ فِيهِ غَرِيبٌ»، قَالَ: «فَأَمَرَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله) بِسَدِّ أَبْوَابِهِمْ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وَأَقَرَّ
مَسْكَنَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) عَلَى حَالِه...»(٢١١).
فكون الإمام (عليه السلام) أُحِلَّ له من مسجد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ما
حلَّ له، يشير إلى البُعد المادِّي ومرتبة القداسة للإمام، ولما لمسجد رسول الله
(صلَّى الله عليه وآله) من مكانة ولزوم الطهارة على الغير، وأنَّ الإمامة مطهَّرة
ذاتاً، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: ٣٣]. وحيث إنَّ الإمام (عليه
السلام) اكتسب ذلك بنصِّ النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) ذكر الدعاء هذا الأمر، وهو
مفروغ عنه كما في الروايات الشريفة، ونقلنا بعضها.
ثمّ تحدَّث الدعاء عن أثر آخر ملازم للإحلال ويقتضيه الإحلال، وهو أنَّه لا باب
يصدر منه إلَّا الباب الذي يُفتَح بأمر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فقال
الدعاء:
-----------------
(٢١١) الكافي (ج ٥/ ص ٣٣٩ و٣٤٠/ باب أنَّ المؤمن كفو المؤمنة/ ح ١).
«وَسَدَّ اَلْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَهُ»، وهنا قد يسأل سائل: لماذا سدَّ
الأبواب إلَّا بابه، وأحل له وحده ما حلَّ له من مسجده؟
إيداع العلم والحكمة النبويَّة في الإمام (عليه السلام):
جاء الدعاء ليتحدَّث عن صفة من صفات الإمام (عليه السلام) في إطار حديثه عن خصائص
الإمام (عليه السلام)، فقال: «ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِلْمَهُ وَحِكْمَتَهُ»، إجابةً لما
يمكن أنْ يتوهَّم من سائل عن علَّة فتح بابه وحده وتحليل المسجد له وحده.
والروايات التي تتحدَّث عن علومهم وكيفيَّة تلقِّيهم العلم عديدة ومختلفة - يأتي
التعرُّض لجملة منها قريباً -، ولا يبعد تواترها المعنوي.
أهل البيت (عليهم السلام) عندهم علم الكتاب:
وممَّا جاء في هذا المعنى ما روي عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ اَلْوَلِيدِ اَلسَّمَّانِ،
قَالَ: قَالَ اَلْبَاقِرُ (عليه السلام): «يَا عَبْدَ اَلله، مَا تَقُولُ فِي
عَلِيٍّ وَمُوسَى وَعِيسَى»، قُلْتُ: مَا عَسَى أَنْ أَقُولَ فِيهِمْ؟! قَالَ:
«هُوَ وَاَلله أَعْلَمُ مِنْهُمَا»، ثُمَّ قَالَ: «أَلَسْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ
لِعَلِيٍّ مَا لِرَسُولِ اَلله مِنَ اَلْعِلْمِ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، وَاَلنَّاسُ
يُنْكِرُونَ، قَالَ: «فَخَاصِمْهُمْ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى (عليه
السلام): ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٤٥]،
فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ لَهُ اَلشَّيْءَ كُلَّهُ. وَقَالَ لِعِيسَى
(عليه السلام): ﴿وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾
[الزخرف: ٦٣]، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنِ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ. وَقَالَ
مُحَمَّدٌ (صلَّى الله عليه وآله): ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هؤُلَاءِ
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩]»، قَالَ:
فَسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ
عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٤٣]، قَالَ: «وَاَلله إِيَّانَا عَنَى،
وَعَلِيٌّ أَوَّلُنَا وَأَفْضَلُنَا وَخَيْرُنَا بَعْدَ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله
عليه وآله)»، وَقَالَ: «إِنَّ اَلْعِلْمَ اَلَّذِي نَزَلَ
بِهِ آدَمُ عَلَى حَالِهِ
عِنْدَنَا، وَلَيْسَ يَمْضِي مِنَّا عَالِمٌ إِلَّا خَلَفَهُ مَنْ يَعْلَمُ
عِلْمَهُ، وَاَلْعِلْمُ يُتَوَارَثُ»(٢١٢).
علومهم (عليهم السلام) آثار من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)،
ويتوارثونها بينهم:
يجمعها عدَّة أحاديث بوَّب لها الشيخ الكليني (رضي الله عنه) باباً تحت عنوان:
(جهات علوم الأئمَّة (عليهم السلام))، وما ورد فيه وفي غيره:
* وَعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)،
فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ هَاهُنَا
أَحَدٌ يَسْمَعُ كَلَامِي؟ قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام)
سِتْراً بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتٍ آخَرَ، فَاطَّلَعَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا
أَبَا مُحَمَّدٍ، سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ»، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ
شِيعَتَكَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) عَلَّمَ
عَلِيًّا (عليه السلام) بَاباً يُفْتَحُ لَهُ مِنْه أَلْفُ بَابٍ، قَالَ: فَقَالَ:
«يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، عَلَّمَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) عَلِيًّا
(عليه السلام) أَلْفَ بَابٍ يُفْتَحُ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَلْفُ بَابٍ»، قَالَ:
قُلْتُ: هَذَا وَاَلله اَلْعِلْمُ، قَالَ: فَنَكَتَ سَاعَةً فِي اَلْأَرْضِ، ثُمَّ
قَالَ: «إِنَّه لَعِلْمٌ وَمَا هُوَ بِذَاكَ»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا
مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ عِنْدَنَا اَلْجَامِعَةَ، وَمَا يُدْرِيهِمْ مَا
اَلْجَامِعَةُ»، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، وَمَا اَلْجَامِعَةُ؟ قَالَ:
«صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً بِذِرَاعِ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله)، وَإِمْلَائِهِ مِنْ فَلْقِ فِيهِ وَخَطِّ عَلِيٍّ بِيَمِينِهِ، فِيهَا كُلُّ
حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَكُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ اَلنَّاسُ إِلَيْهِ حَتَّى اَلْأَرْشُ
فِي اَلْخَدْشِ»، وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَيَّ، فَقَالَ: «تَأْذَنُ لِي يَا أَبَا
مُحَمَّدٍ؟»، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّمَا أَنَا لَكَ فَاصْنَعْ مَا
شِئْتَ، قَالَ: فَغَمَزَنِي بِيَدِه وَقَالَ: «حَتَّى أَرْشُ هَذَا» كَأَنَّه
مُغْضَبٌ، قَالَ: قُلْتُ: هَذَا وَاَلله اَلْعِلْمُ، قَالَ: «إِنَّه لَعِلْمٌ
وَلَيْسَ بِذَاكَ»، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «وَإِنَّ عِنْدَنَا
اَلْجَفْرَ، وَمَا يُدْرِيهِمْ مَا اَلْجَفْرُ»، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا اَلْجَفْرُ؟
قَالَ: «وِعَاءٌ مِنْ أَدَمٍ فِيه
-----------------
(٢١٢) الخرائج والجرائح (ج ٢/ ص ٧٩٨ - ٨٠٠/ ح ٨).
عِلْمُ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلْوَصِيِّينَ وَعِلْمُ
اَلْعُلَمَاءِ اَلَّذِينَ مَضَوْا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ»، قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ
هَذَا هُوَ اَلْعِلْمُ، قَالَ: «إِنَّه لَعِلْمٌ وَلَيْسَ بِذَاكَ»، ثُمَّ سَكَتَ
سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «وَإِنَّ عِنْدَنَا لمُصْحَفَ فَاطِمَةَ (عليها السلام)،
وَمَا يُدْرِيهِمْ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)»، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا
مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟ قَالَ: «مُصْحَفٌ فِيه مِثْلُ قُرْآنِكُمْ
هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَاَلله مَا فِيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ وَاحِدٌ»،
قَالَ: قُلْتُ: هَذَا وَاَلله اَلْعِلْمُ، قَالَ: «إِنَّه لَعِلْمٌ وَمَا هُوَ
بِذَاكَ»، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ مَا كَانَ
وَعِلْمَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ اَلسَّاعَةُ»، قَالَ: قُلْتُ:
جُعِلْتُ فِدَاكَ، هَذَا وَاَلله هُوَ اَلْعِلْمُ، قَالَ: «إِنَّه لَعِلْمٌ
وَلَيْسَ بِذَاكَ»، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَأَيُّ شَيْءٍ اَلْعِلْمُ؟
قَالَ: «مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ وَاَلنَّهَارِ، اَلْأَمْرُ مِنْ بَعْدِ
اَلْأَمْرِ، وَاَلشَّيْءُ بَعْدَ اَلشَّيْءِ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ»(٢١٣).
الإمام (عليه السلام) أخو النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) ووصيُّه
ووارثه:
عندما يتحدَّث النبيُّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) عن أمير المؤمنين (عليه
السلام) بالخصوص، ويصفه بـ: «أَنْتَ أَخِي وَوَصِيِّي وَوَارِثِي، لَحْمُكَ مِنْ
لَحْمِي وَدَمُكَ مِنْ دَمِي»، فإنَّ هذا التوصيف منه (صلَّى الله عليه وآله)
إنَّما جاء لأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو كالنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)،
باستثناء ما دلَّ عليه الدليل ممَّا اختصَّ به النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله).
* في (أمالي الطوسي) بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «أَحِبُّوا عَلِيًّا، فَإِنَّ لَحْمَهُ لَحْمِي
وَدَمَهُ دَمِي، لَعَنَ اَللهُ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي ضَيَّعُوا فِيهِ عَهْدِي،
وَنَسُوا فِيهِ وَصِيَّتِي، مَا لَهُمْ عِنْدَ اَلله مِنْ خَلَاقٍ»(٢١٤).
* وفي (الفضائل) بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَلله اَلْأَنْصَارِيِّ (رضي الله
عنه)، قَالَ: قَالَ
-----------------
(٢١٣) الكافي (ج ١/ ص ٢٣٨ - ٢٤٠/ باب فيه ذكر الصحيفة والجفر.../ ح ١).
(٢١٤) أمالي الطوسي (ص ٦٩/ ح ١٠١/١٠).
رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «... أَيُّهَا
اَلنَّاسُ، أَنَا اَلْبَشِيرُ، أَنَا اَلنَّذِيرُ، أَنَا اَلنَّبِيُّ اَلْأُمِّيُّ،
وَأَنَا مُبَلِّغُكُمْ عَنِ اَلله (عزَّ وجلَّ) فِي رَجُلٍ لَحْمُهُ لَحْمِي،
وَدَمُهُ دَمِي، وَهُوَ عَيْبَةُ عِلْمِي، وَهُوَ اَلَّذِي اِنْتَخَبَهُ اَللهُ
تَعَالَى مِنْ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ، وَاِصْطَفَاهُ وَهَذَّبَهُ وَتَوَلَّاهُ،
وَخَلَقَنِي وَإِيَّاهُ مِنْ نُورٍ وَاحِدٍ، وَفَضَّلَنِي بِالرِّسَالَةِ،
وَفَضَّلَهُ بِالْإِمَامَةِ وَاَلتَّبْلِيغِ عَنِّي، وَجَعَلَنِي مَدِينَةَ
اَلْعِلْمِ، وَجَعَلَهُ اَلْبَابَ...»(٢١٥).
* وفي (الخصال) بسنده عَنْ أَبِي اَلْجَارُودِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَلله،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله):
«كُنْتُ أَنَا وَعَلِيٌّ نُوراً بَيْنَ يَدَيِ اَلله (جلَّ جلاله) قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَ آدَمَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ عَامٍ، فَلَمَّا خَلَقَ اَللهُ آدَمَ سَلَكَ
ذَلِكَ اَلنُّورَ فِي صُلْبِهِ، فَلَمْ يَزَلِ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) يَنْقُلُهُ مِنْ
صُلْبٍ إِلَى صُلْبٍ حَتَّى أَقَرَّهُ فِي صُلْبِ عَبْدِ اَلمُطَّلِبِ، ثُمَّ
أَخْرَجَهُ مِنْ صُلْبِ عَبْدِ اَلمُطَّلِبِ فَقَسَّمَهُ قِسْمَيْنِ، فَصُيِّرَ
قِسْمٌ فِي صُلْبِ عَبْدِ اَلله، وَقِسْمٌ فِي صُلْبِ أَبِي طَالِبٍ، فَعَلِيٌّ
مِنِّي وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ، لَحْمُهُ مِنْ لَحْمِي، وَدَمُهُ مِنْ دَمِي، فَمَنْ
أَحَبَّنِي فَبِحُبِّي أَحَبَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُ»(٢١٦).
الإيمان مخالط للحم ودم أمير المؤمنين (عليه السلام) كما خالط لحم
ودم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله):
ثمّ قال: «وَسِلْمُكَ سِلْمِي، وَحَرْبُكَ حَرْبِي، وَاَلْإِيمَانُ مُخَالِطٌ
لَحْمَكَ وَدَمَكَ كَما خَالَطَ لَحْمِي وَدَمِي».
وقد ورد في هذه المعاني الجليلة عدَّة روايات، منها:
* في (أمالي الصدوق) بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَلله، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ
عَلِيٌّ (عليه السلام) عَلَى رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) بِفَتْحِ
خَيْبَرَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «لَوْلَا أَنْ تَقُولَ
فِيكَ
-----------------
(٢١٥) الفضائل لابن شاذان (ص ٧).
(٢١٦) الخصال (ص ٦٤٠/ ح ١٦).
طَوَائِفُ مِنْ أُمَّتِي مَا قَالَتِ اَلنَّصَارَى لِلْمَسِيحِ عِيسَى بْنِ
مَرْيَمَ، لَقُلْتُ فِيكَ اَلْيَوْمَ قَوْلاً لَا تَمُرُّ بِمَلَإٍ إِلَّا أَخَذُوا
اَلتُّرَابَ مِنْ تَحْتِ رِجْلَيْكَ وَمِنْ فَضْلِ طَهُورِكَ يَسْتَشْفُونَ بِهِ،
وَلَكِنْ حَسْبُكَ أَنْ تَكُونَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ، تَرِثُنِي وَأَرِثُكَ...،
وَأَنَّكَ غَداً عَلَى اَلْحَوْضِ خَلِيفَتِي، وَأَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يَرِدُ
عَلَيَّ اَلْحَوْضَ، وَأَنَّكَ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى مَعِي، وَأَنَّكَ أَوَّلُ
دَاخِلِ اَلْجَنَّةِ مِنْ أُمَّتِي، وَأَنَّ شِيعَتَكَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ،
مُبْيَضَّةً وُجُوهُهُمْ حَوْلِي، أَشْفَعُ لَهُمْ، يَكُونُونَ غَداً فِي
اَلْجَنَّةِ جِيرَانِي، وَأَنَّ حَرْبَكَ حَرْبِي، وَسِلْمَكَ سِلْمِي، وَأَنَّ
سِرَّكَ سِرِّيَ، وَعَلَانِيَتَكَ عَلَانِيَتِي، وَأَنَّ سَرِيرَةَ صَدْرِكَ
كَسَرِيرَتِي، وَأَنَّ وُلْدَكَ وُلْدِي، وَأَنَّكَ تُنْجِزُ عِدَاتِي، وَأَنَّ
اَلْحَقَّ مَعَكَ، وَأَنَّ اَلْحَقَّ عَلَى لِسَانِكَ وَقَلْبِكَ وَبَيْنَ
عَيْنَيْكَ، اَلْإِيمَانُ مُخَالِطٌ لَحْمَكَ وَدَمَكَ كَمَا خَالَطَ لَحْمِي
وَدَمِي، وَأَنَّهُ لَنْ يَرِدَ عَلَيَّ اَلْحَوْضَ مُبْغِضٌ لَكَ، وَلَنْ يَغِيبَ
عَنْهُ مُحِبٌّ لَكَ حَتَّى يَرِدَ اَلْحَوْضَ مَعَكَ»، قَالَ: فَخَرَّ عَلِيٌّ
(عليه السلام) سَاجِداً، ثُمَّ قَالَ: «اَلْحَمْدُ لله اَلَّذِي أَنْعَمَ عَلَيَّ
بِالْإِسْلَامِ، وَعَلَّمَنِي اَلْقُرْآنَ، وَحَبَّبَنِي إِلَى خَيْرِ
اَلْبَرِيَّةِ خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ وَسَيِّدِ اَلمُرْسَلِينَ، إِحْسَاناً مِنْهُ
وَفَضْلاً مِنْهُ عَلَيَّ»، قَالَ: فَقَالَ اَلنَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله):
«لَوْلَا أَنْتَ لَمْ يُعْرَفِ اَلمُؤْمِنُونَ بَعْدِي»(٢١٧).
* وفي (كمال الدِّين) بسنده عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): «يَا
عَلِيُّ... فَكَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُحِبُّنِي وَيُبْغِضُكَ، لِأَنَّكَ
مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ، لَحْمُكَ مِنْ لَحْمِي، وَدَمُكَ مِنْ دَمِي، وَرُوحُكَ
مِنْ رُوحِي»(٢١٨).
والأخبار في هذا المعنى وما تقدَّم من خصائص وصفات لأمير المؤمنين (عليه السلام)
كثيرة.
-----------------
(٢١٧) أمالي الصدوق (ص ١٥٦ و١٥٧/ ح ١٥٠/١).
(٢١٨) كمال الدِّين (ص ٢٤١/ باب ٢٢/ ح ٦٥).
الإمام (عليه السلام) خليفة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، ومنجز
عداته:
ثمّ تحدَّث عن أثر يترتَّب على هذه الحقيقة الإماميَّة من أنَّ هذه الخلافة
والوصاية هي استمراريَّة، فقال: «وَأَنْتَ غَداً عَلَى اَلْحَوْضِ خَلِيفَتِي»،
ومما ورد في ذلك:
* في (كتاب سُلَيم بن قيس) يروي حديث المناشدة المشهور، جاء فيه: «... أَوَّلُهُمْ
أَخِي عَلِيٌّ، وَوَزِيرِي، وَوَارِثِي، وَخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي، وَوَلِيُّ
كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي، هُوَ أَوَّلُهُمْ، ثُمَّ اِبْنِيَ اَلْحَسَنُ، ثُمَّ
اِبْنِيَ اَلْحُسَيْنُ، ثُمَّ تِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ اَلْحُسَيْنِ وَاحِدٌ بَعْدَ
وَاحِدٍ حَتَّى يَرِدُوا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ، شُهَدَاءُ اَلله فِي أَرْضِهِ،
وَحُجَجُهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَخُزَّانُ عِلْمِهِ، وَمَعَادِنُ حِكْمَتِهِ، مَنْ
أَطَاعَهُمْ أَطَاعَ اَللهَ، وَمَنْ عَصَاهُمْ عَصَى اَلله»، فَقَالُوا كُلُّهُمْ:
نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) قَالَ ذَلِكَ...(٢١٩).
مجاورة شيعة الإمام (عليه السلام) للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله):
يخاطب النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) أميرَ المؤمنين (عليه السلام)، وهو خطاب
لكلِّ القرون والأجيال ممَّن يؤمن بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) حقًّا بأنَّه
إذا اتَّبعك أحد وشايعك فإنَّه معي وحولي وسيكونون جيراني في الجنَّة، حيث نصَّ
الدعاء المبارك على ما تقدَّم: «وَشِيعَتُكَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ،
مُبْيَضَّةً وُجُوهُهُمْ حَوْلِي فِي اَلْجَنَّةِ وَهُمْ جِيرَانِي».
والخبر بذلك كثير، ومنه:
* في (أمالي الصدوق) بسنده عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) لِعَلِيٍّ (عليه السلام): «يَا عَلِيُّ، شِيعَتُكَ هُمُ
اَلْفَائِزُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، فَمَنْ أَهَانَ وَاحِداً مِنْهُمْ فَقَدْ
أَهَانَكَ، وَمَنْ أَهَانَكَ فَقَدْ أَهَانَنِي، وَمَنْ أَهَانَنِي أَدْخَلَهُ
اَللهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَبِئْسَ اَلمَصِيرُ. يَا عَلِيُّ، أَنْتَ
مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ، رُوحُكَ مِنْ رَوْحِي، وَطِينَتُكَ مِنْ
-----------------
(٢١٩) كتاب سُلَيم بن قيس (ص ٢٠٢).
طِينَتِي،
وَشِيعَتُكَ خُلِقُوا مِنْ فَضْلِ طِينَتِنَا، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَقَدْ
أَحَبَّنَا، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَنَا، وَمَنْ عَادَاهُمْ فَقَدْ
عَادَانَا، وَمَنْ وَدَّهُمْ فَقَدْ وَدَّنَا. يَا عَلِيُّ، إِنَّ شِيعَتَكَ
مَغْفُورٌ لَهُمْ عَلَى مَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ ذُنُوبٍ وَعُيُوبٍ. يَا عَلِيُّ،
أَنَا اَلشَّفِيعُ لِشِيعَتِكَ غَداً إِذْاَ قُمْتُ اَلمَقَامَ اَلمَحْمُودَ،
فَبَشِّرْهُمْ بِذَلِكَ...»(٢٢٠).
وقد مرَّ عن كلِّ لفظة من ألفاظ هذه الفقرة من إنجاز العِدَّة، وقضاء الدَّين،
ومخالطة اللحم وغيرها ما يدلُّ عليها من الروايات بنحوٍ مستقلٍّ أو في ضمن غيرها،
ولولا خوف الإطالة لروينا العشرات، بل ما يفوق المئات من الروايات الدالَّة على هذه
المعاني من كُتُب أصحابنا وغيرهم.
* * *
الفقرة التاسعة عشر
«وَلَوْلَا أَنْتَ يَا عَلِيُّ لَمْ يُعْرَفِ اَلمُؤْمِنُونَ بَعْدِي، وَكَانَ
بَعْدَهُ هُدًى مِنَ اَلضَّلَالِ، وَنُوراً مِنَ اَلْعَمَى، وَحَبْلَ اَلله
اَلمَتِينَ، وَصِرَاطَهُ اَلمُسْتَقيمَ، لَا يُسْبَقُ بِقَرَابَةٍ فِي رَحِمٍ،
وَلَا بِسابِقَةٍ فِي دِينٍ، وَلَا يُلْحَقُ فِي مَنْقَبَةٍ مِنْ مَنَاقِبِهِ،
يَحْذُو حَذْوَ اَلرَّسُولِ (صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِمَا وَآلِهِمَا)، وَيُقَاتِلُ
عَلَى اَلتَّأْوِيلِ، وَلَا تَأْخُذُهُ فِي اَلله لَوْمَةُ لَائِمٍ، قَدْ وَتَرَ
فِيهِ صَنَادِيدَ اَلْعَرَبِ، وَقَتَلَ أَبْطَالهُمْ، وَنَاوَشَ ذُؤْبَانَهُمْ،
فَأَوْدَعَ قُلُوبَهُمْ أَحْقَاداً بَدْرِيَّةً وَخَيْبَرِيَّةً وَحُنَيْنِيَّةً
وَغَيْرَهُنَّ»
قلنا: إنَّ الحديث في هذه الفقرات مترابط بعضه مع بعض، وتقدَّم الحديث عن عدَّة جهات ومقامات لاحظها الدعاء، والكلام في هذه الفقرة عن جملة من
-----------------
(٢٢٠) أمالي الصدوق (ص ٦٦/ ح ٣٢/٨).
الخصائص المعنويَّة والممارسات العمليَّة التي أوجبتها
صفات استمرار خطِّ الهداية الإلهيَّة.
ونلاحظ أنَّ الدعاء المبارك عندما تحدَّث عن الجانب العملي أسبقه بالحديث عن الجانب
النظري، وعن ملاك الحركة العمليَّة والخصائص المعنويَّة، وقضيَّة أنَّ لكلِّ بُعدٍ
عملي وكمالات معنويَّة يمارسها الإنسان بُعداً نظريًّا يحمل ملاك الحركة هو أمر
ضروري، وتخطِّيه يوجب التزلزل العملي والانحراف في الممارسة، لذلك مَنْ يُسلِّط
الضوء على الممارسات المنحرفة يجد أنَّ منشأ الانحراف العملي يُؤشِّر إلى أنَّ هناك
خللاً فكريًّا، وأنَّ الخلل الفكري لا بدَّ أنْ يكون من نتاجات عدم حمل ملاك
القضايا وأُسُسها.
الدعاء بدأ بالحديث عن الجانب النظري أوَّلاً، وهو ملاك الحركة العمليَّة، ممَّا
يعني أنَّ الفكر الصحيح هو أساس السلوك السليم.
وأنَّ كلَّ بُعد عملي يحمل وراءه بُعداً نظريًّا، أي إنَّ السلوكيَّات لا تكون
سليمة إلَّا إذا كانت مستندة إلى فكر صحيح، فالخلل العملي، ينشأ عن خلل فكري.
وحديث الدعاء عن الجانب العملي جاء في هذا السياق، وعن تنوُّع أشكال الممارسات
لعنصر الهداية الإلهي، وكيف تكون مؤثِّرة في اقتباس المؤمنين منه أبعاد الإيمان
والهداية والسير على مقتضى ذلك.
ومن بين أبرز الأنواع التي ذكرها الدعاء المبارك:
بالإمام (عليه السلام) يُعرَف أهل الإيمان:
واللون الأوَّل من ألوان الممارسة لتلك الصفات أنْ يكون الإمام عنصر الهداية
الإلهي، وهو الشاخص والمعرِّف للمؤمن المرتبط بالله تعالى، فالمؤمنون بالله تعالى
يُعرَفون من خلال تمسُّكهم بهذا الشاخص، وقد رويت بهذا الصدد العديد من الأخبار،
منها:
* في (أمالي الصدوق) بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَلله، عَنْ رَسُولِ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله): «لَوْلَا أَنْتَ لَمْ يُعْرَفْ اَلمُؤْمِنُونَ
بَعْدِي»(٢٢١).
* وفي (الخصال) بسنده عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)،
عَنْ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «لَوْلَاكَ مَا عُرِفَ اَلمُنَافِقُونَ
مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ»(٢٢٢).
* وفي (كشف الغمَّة) بسنده عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ اَلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه
وآله): «عَلِيٌّ بَابُ عِلْمِي وَهَدْيِي، وَمُبَيِّنٌ لِأُمَّتِي مَا أُرْسِلْتُ
بِهِ مِنْ بَعْدِي، حُبُّهُ إِيمَانٌ وَبُغْضُهُ نِفَاقٌ، وَاَلنَّظَرُ إِلَيْهِ
رَأْفَةٌ، وَمَوَدَّتُهُ عِبَادَةٌ»(٢٢٣).
* وفي (كنز الفوائد) بسنده عَنِ اَلْحَارِثِ اَلْهَمْدَانِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ
عَلِيًّا (عليه السلام) جَاءَ حَتَّى صَعِدَ اَلْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اَللهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «قَضَى قَضَاءُ اَلله (عزَّ وجلَّ) عَلَى لِسَانِ
اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ (صلَّى الله عليه وآله) أَنَّهُ لَا يُحِبُّنِي إِلَّا
مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُنِي إِلَّا مُنَافِقٌ، وَقَدْ خَابَ مَنِ اِفْتَرى»(٢٢٤).
* وفي (أمالي الطوسي) بسنده عَنْ غَالِبٍ اَلْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى
الله عليه وآله): لَمَّا أُسْرِيَ بِي إِلَى اَلسَّمَاءِ، ثُمَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ
إِلَى اَلسَّمَاءِ، ثُمَّ إِلَى سِدْرَةِ اَلمُنْتَهَى، أُوقِفْتُ بَيْنَ يَدَيْ
رَبِّي (عزَّ وجلَّ)، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَبِّي
وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: قَدْ بَلَوْتَ خَلْقِي، فَأَيَّهُمْ وَجَدْتَ أَطْوَعَ لَكَ؟
قَالَ: قُلْتُ: رَبِّ عَلِيًّا، قَالَ: صَدَقْتَ يَا مُحَمَّدُ، فَهَلِ اِتَّخَذْتَ
لِنَفْسِكَ خَلِيفَةَ يُؤَدِّي عَنْكَ، وَيُعَلِّمُ عِبَادِي مِنْ كِتَابِي مَا لَا
يَعْلَمُونَ؟ قَالَ: قُلْتُ: اِخْتَرْ لِي، فَإِنَّ خِيَرَتَكَ خَيْرٌ لِي، قَالَ:
قَدِ اِخْتَرْتُ
-----------------
(٢٢١) أمالي الصدوق (ص ١٥٧/ ح ١٥٠/١).
(٢٢٢) الخصال (ص ٥٨٠/ ح ١).
(٢٢٣) كشف الغمَّة (ج ١/ ص ٩٢).
(٢٢٤) كنز الفوائد (ص ٢٢٥).
لَكَ عَلِيًّا، فَاتَّخِذْهُ لِنَفْسِكَ خَلِيفَةً وَوَصِيًّا،
فَإِنِّي قَدْ نَحَلْتُهُ عِلْمِي وَحِلْمِي، وَهُوَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ
حَقًّا، لَمْ يَقُلْهَا أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا أَحَدٌ بَعْدَهُ. يَا مُحَمَّدُ،
عَلِيٌّ رَايَةُ اَلْهُدَى، وَإِمَامُ مَنْ أَطَاعَنِي، وَنُورُ أَوْلِيَائِي،
وَهُوَ اَلْكَلِمَةُ اَلَّتِي أَلْزَمْتُهَا اَلمُتَّقِينَ، مَنْ أَحَبَّهُ فَقَدْ
أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَقَدْ أَبْغَضَنِي، فَبَشِّرْهُ بِذَلِكَ يَا
مُحَمَّدُ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله): رَبِّ فَقَدْ بَشَّرْتُهُ،
فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا عَبْدُ اَلله وَفِي قَبَضْتِهِ إِنْ يُعَذِّبْنِي
فَبِذُنُوبِي لَمْ يَظْلِمْنِي شَيْئاً، وَإِنْ يُتِمَّ لِي مَا وَعَدَنِي فَاللهُ
أَوْلَى بِي، فَقَالَ: اَللَّهُمَّ أَجِلَّ قَلْبَهُ، وَاِجْعَلْ رَبِيعَهُ
اَلْإِيمَانَ بِكَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، غَيْرَ أَنِّي
مُخْتَصَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ اَلْبَلَاءِ لَمْ أَخْتَصَّ بِهِ أَحَداً مِنْ
أَوْلِيَائِي، قَالَ: قُلْتُ: رَبِّ أَخِي وَصَاحِبِي، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ
فِي عِلْمِي أَنَّهُ مُبْتَلًى وَمُبْتَلًى بِهِ، لَوْلَا عَلِيٌّ لَمْ يُعْرَفْ
حِزْبِي وَلَا أَوْلِيَائِي وَلَا أَوْلِيَاءُ رُسُلِي»(٢٢٥).
* وفي (كتاب سُلَيم)، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)
وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اَلْإِيمَانِ، فَقَالَ: ... يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ،
مَا أَدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ اَلرَّجُلُ مُؤْمِناً، وَأَدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ
كَافِراً، وَأَدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ ضَالًّا؟ قَالَ: «قَدْ سَأَلْتَ فَاسْمَعِ
اَلْجَوَابَ، أَدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ مُؤْمِناً أَنْ يُعَرِّفَهَ اَللهُ نَفْسَهُ
فَيُقِرَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَاَلْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَنْ يُعَرِّفَهُ
نَبِيَّهُ فَيُقِرَّ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَبِالْبَلَاغَةِ، وَأَنْ يُعَرِّفَهُ
حُجَّتَهُ فِي أَرْضِهِ وَشَاهِدَهُ عَلَى خَلْقِهِ فَيُقِرَّ لَهُ بِالطَّاعَةِ»،
قَالَ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ جَهِلَ جَمِيعَ اَلْأَشْيَاءِ غَيْرَ
مَا وَصَفْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا أُمِرَ أَطَاعَ، وَإِذَا نُهِيَ اِنْتَهَى.
وَأَدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ كَافِراً أَنْ يَتَدَيَّنَ بِشَيْءٍ فَيَزْعُمَ أَنَّ
اَللهَ أَمَرَهُ بِهِ - مِمَّا نَهَى اَللهُ عَنْهُ -، ثُمَّ يَنْصِبَهُ دِيناً
فَيَتَبَرَّأَ وَيَتَوَلَّى وَيَزْعُمَ أَنَّهُ يَعْبُدُ اَللهَ اَلَّذِي أَمَرَهُ
بِهِ. وَأَدْنَى مَا يَكُونُ بِهِ ضَالًّا أَنْ لَا يَعْرِفَ حُجَّةَ اَلله فِي
أَرْضِهِ وَشَاهِدَهُ عَلَى خَلْقِهِ اَلَّذِي أَمَرَ اَللهُ بِطَاعَتِهِ وَفَرَضَ
وَلَايَتَهُ...»(٢٢٦).
-----------------
(٢٢٥) أمالي الطوسي (ص ٣٤٣ و٣٤٤/ ح ٧٠٥/٤٥).
(٢٢٦) كتاب سُلَيم بن قيس (ص ١٧٥ - ١٧٧).
الدعاء عندما يقول: «لَوْلَا أَنْتَ يَا عَلِيُّ» ليس المقصود بعليٍّ (عليه السلام)
ذاته بمعزل عن إمامته، بل يُؤشِّر بها إلى الولاية التي يجب على الناس جميعاً
الالتزام بها بعد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله).
وطبيعي أنْ يكون مؤشِّر البوصلة الإلهيَّة كما هو يُؤشِّر لأفراد المؤمنين
المعروفين بتمسُّكهم بالإمام، كذلك يُؤشِّر إلى عناصر الانحراف والضلال، فجاء
الدعاء محدِّثاً قارئيه، بقوله: «وَلَوْلَا أَنْتَ يَا عَلِيُّ لَمْ يُعْرَفِ
اَلمُؤْمِنُونَ بَعْدِي، وَكَانَ بَعْدَهُ هُدًى مِنَ اَلضَّلَالِ».
الإمام (عليه السلام) الهادي من الضلال وحبل الله المتين وصراطه
المستقيم:
هذا المقطع مرتبط ببحث الهداية، وهو من الأبحاث الكلاميَّة والقرآنيَّة المعمَّقة،
ونذكر من مسائله ما يتيسَّر منها.
المعروف أنَّ الهداية خاصَّة وعامَّة، والعامَّة منهما تكوينيَّة وتشريعيَّة،
والتكوينيَّة معناها إعطاء كلِّ موجودٍ من موجودات عالم الوجود الاستعداد التامَّ
والقدرة المؤهِّلة لتحقيق الغرض من وجوده، قال تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى
كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه: ٥٠)، فكلُّ موجود من موجودات هذا الكون قد
أعطاه ربُّنا وخالقنا ما يتحقَّق به الغرض من وجوده، ويصل به إلى كماله اللَّائق به.
قال السيِّد الخوئي (قدّس سرّه): (إنَّ الهداية على ما يظهر من موارد استعمالها
تُطلَق على معانٍ:
الأوَّل: الهداية التكوينيَّة، التي هي إفاضة الوجود على الكائنات، وجعلها منظَّمة
وخاضعة للسُّنَن الكونيَّة، كتبعيَّة وجود المعاليل لوجود عِلَلها، والترتيب الثابت
في الحركات والأفاعيل والانفعالات الإدراكيَّة وغير الإدراكيَّة مع ترتيب غايات
وأغراض لها، بحيث لا تتحصَّل تلك الغايات إلَّا على ما جعل الترتيب
عليه، وإلى هذا
المعنى يشير قوله تعالى في سورة طه: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: ٥٠]، وقوله تعالى في سورة الأعلى: ﴿الَّذِي قَدَّرَ
فَهَدَى﴾ [الأعلى: ٣].
الثاني: الهداية التشريعيَّة، وهي إنزال الكُتُب وإرسال الرُّسُل وسائر أسباب تبليغ
الشرائع من الأوصياء وغيرهم، كقوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٣]، وهذا القسم من الهداية لا يكون إلَّا
على نحو إراءة الطريق، وأنَّه أيَّ طريق يُوصِل العبد إلى المطلوب لو سلكه
باختياره.
الثالث: الهداية الموصلة إلى المطلوب، وهذا يقابل القسم الثاني، إذ ليس لهذا المهدي
اختيار قبول الهداية وعدمه، كقوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿قُلْ فَلِلّهِ
الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام:
١٤٩])(٢٢٧).
هذا في الهداية العامَّة بشقَّيها، أمَّا الهداية الخاصَّة فقد ذكرها غير واحد من
الأعلام، ومن بين ما ذكروه في بيانها وفي معرض توضيحها:
قال السيِّد الخوئي (قدّس سرّه): إنَّها (هداية تكوينيَّة، وعناية ربَّانيَّة خصَّ
الله بها بعض عباده حسب ما تقتضيه حكمته، فيُهيِّئ له ما به يهتدي إلى كماله ويصل
إلى مقصوده، ولولا تسديده لوقع في الغيِّ والضلالة، هذا وقد أُشير إلى هذا القسم من
الهداية في غير واحد من الآيات المباركة...)(٢٢٨).
وقال السيِّد الروحاني (قدّس سرّه): (عناية ربَّانيَّة خصَّ الله بها بعض عباده حسب
ما تقتضيه حكمته، فهيَّأ له ما به يهتدي إلى كماله ويصل إلى مقصوده، ولولا تسديده
لوقع في الغيِّ والضلالة)(٢٢٩).
-----------------
(٢٢٧) مجمع الرسائل (موسوعة السيِّد الخوئي) (ج ٤٩/ رسالة في الأمر بين الأمرين/ ص
٨٦).
(٢٢٨) البيان في تفسير القرآن (ص ٤٩٤).
(٢٢٩) فقه الصادق (عليه السلام) (ج ١٣/ شرح ص ٢١٦).
وقال الشيخ السبحاني (حفظه الله تعالى): (تختصُّ بجملة من الأفراد الذين استضاؤوا
بنور الهداية العامَّة تكوينها وتشريعها، فتشملهم العناية الخاصَّة منه سبحانه.
ومعنى هذه الهداية هو تسديدهم في مزالق الحياة إلى سُبُل النجاة، وتوفيقهم للتزوُّد
بصالح الأعمال، ويكون معنى الإضلال في هذه المرحلة هو منعهم من هذه المواهب،
وخذلانهم في الحياة، ويدلُّ على ذلك - أنَّ هذه الهداية خاصَّة لمن استفاد من
الهداية الأُولى - قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ (الرعد: ٢٧)، فعلَّق الهداية على من اتَّصف بالإنابة
والتوجُّه إلى الله سبحانه. وقال سبحانه: ﴿اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ
وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ (الشورى: ١٣)، وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: ٦٩)، فمَنْ أراد وجه الله سبحانه يمدُّه بالهداية إلى
سُبُله. وقال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ (محمّد: ١٧)، وقال
سبحانه: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى *
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً
شَطَطاً﴾ (الكهف: ١٣ و١٤))(٢٣٠).
وقال المولى المازندراني (رحمه الله) في (شرح الكافي): (قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ [التوبة: ١٢٤] دلَّ على أنَّ الإيمان سبب
للإيمان، يعني أنَّ الدرجة التحتانيَّة منه سبب لحصول الدرجة الفوقانيَّة، وكذلك
الكفر، ومن ثَمَّ قيل: الخير والشرُّ يسريان. قوله: ﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف:
١٣] المراد به الهداية الخاصَّة المختصَّة بالأولياء، وهي بصيرة قلبيَّة زايدة على
أصل التصديق)(٢٣١).
-----------------
(٢٣٠) مفاهيم القرآن (ج ٦/ ص ٥٠٤).
(٢٣١) شرح أُصول الكافي للمازندراني (ج ٨/ ص ١١٢ و١١٣).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في (بحاره): (﴿وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾، أي هداية
إلى الإيمان، أو زدناهم بسبب الإيمان ثباتاً وشدَّة يقين وصبراً على المكاره في
الدِّين، كما قال: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾، فهذه الهداية الخاصَّة
الربَّانيَّة زيادة على الإيمان الذي كانوا به متَّصفين حيث قال تعالى أوَّلاً:
﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ﴾، ولو كان كلُّه واحداً، أي كلُّ الإيمان
واحداً لا زيادة فيه ولا نقصان لم يكن لأحدٍ من المؤمنين فضل على الآخر، لأنَّ
الفضل إنَّما هو بالإيمان، فلا فضل مع مساواتهم فيه، ولاستوت النِّعَم، أي نِعَم
الله بالهدايات الخاصَّة في الإيمان، ولاستوى الناس في دخول الجنَّة أو في الخير
والشرِّ، وبطل تفضيل بعضهم على بعض بالدرجات والكمالات، واللوازم كلُّها باطلة
بالكتاب والسُّنَّة...)(٢٣٢).
وقال الفخر الرازي في (تفسيره): (فهذه الهداية الخاصَّة يجب أنْ تكون مغايرة لتلك
الدعوة العامَّة، ولا شكَّ أيضاً أنَّ الإقدار والتمكين وإرسال الرُّسُل وإنزال
الكُتُب أُمور عامَّة، فوجب أنْ تكون هذه الهداية الخاصَّة مغايرة لكلِّ هذه
الأشياء)(٢٣٣).
* في (أمالي الصدوق) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اَلله (صلَّى الله عليه وآله) لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): «يَا
عَلِيُّ، أَنْتَ صَاحِبُ حَوْضِي، وَصَاحِبُ لِوَائِي، وَمُنْجِزُ عِدَاتِي،
وَحَبِيبُ قَلْبِي، وَوَارِثُ عِلْمِي، وَأَنْتَ مُسْتَوْدَعُ مَوَارِيثِ
اَلْأَنْبِيَاءِ، وَأَنْتَ أَمِينُ اَلله فِي أَرْضِهِ، وَأَنْتَ حُجَّةُ اَلله
عَلَى بَرِيَّتِهِ، وَأَنْتَ رُكْنُ اَلْإِيمَانِ، وَأَنْتَ مِصْبَاحُ اَلدُّجَى،
وَأَنْتَ مَنَارُ اَلْهُدَى، وَأَنْتَ اَلْعَلَمُ اَلمَرْفُوعُ لِأَهْلِ
اَلدُّنْيَا، مَنْ تَبِعَكَ نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْكَ هَلَكَ، وَأَنْتَ
اَلطَّرِيقُ اَلْوَاضِحُ، وَأَنْتَ اَلصِّرَاطُ اَلمُسْتَقِيمُ، وَأَنْتَ قَائِدُ
اَلْغُرِّ اَلمُحَجَّلِينَ، وَأَنْتَ يَعْسُوبُ اَلمُؤْمِنِينَ، وَأَنْتَ مَوْلَى
مَنْ أَنَا
-----------------
(٢٣٢) بحار الأنوار (ج ٦٦/ ص ٥٣ و٥٤).
(٢٣٣) تفسير الرازي (ج ١٧/ ص ٧٦).
مَوْلَاهُ، وَأَنَا مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، لَا يُحِبُّكَ
إِلَّا طَاهِرُ اَلْوِلَادَةِ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا خَبِيثُ اَلْوِلَادَةِ،
وَمَا عَرَجَ بِي رَبِّي (عزَّ وجلَّ) إِلَى اَلسَّمَاءِ قَطُّ وَكَلَّمَنِي رَبِّي
إِلاَّ قَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ عَلِيًّا مِنِّي اَلسَّلَامَ،
وَعَرِّفْهُ أَنَّهُ إِمَامُ أَوْلِيَائِي، وَنُورُ أَهْلِ طَاعَتِي، فَهَنِيئاً
لَكَ يَا عَلِيُّ هَذِهِ اَلْكَرَامَةُ»(٢٣٤).
فالإمام (عليه السلام) نور لمن استنار به، وحبل هداية مستقيم موصل إلى الله سبحانه
وتعالى لمن تمسَّك به، وهو يُمثِّل الضوء في حلكة الظلام، والبصر في أجواء النور
والخيط المتين في أمواج الضلال المتلاطمة والطريق المستقيم المميَّز عن طُرُقات
الاعوجاج ومنعرجات الطُّرُق، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القَصَص: ٥١).
ثمّ تحدَّث الدعاء عن بعض الملاكات التي أوجبت هذه الممارسات، لأنَّ حالة الممارسة
والتمسُّك بالإمام أثناء الممارسة قد يتعرَّض إلى إشكال على المتمسِّكين من قِبَل
المناوئين، فأراد الحديث أنْ يُجسِّد هذه الحالة باعتبارها قيمة عمليَّة ذات بُعد
فكري مؤصَّل بأُسُس ثابتة، وأنَّ - الإمام - الحدُّ بين الحقِّ والباطل، السرُّ هو
قربه من الخطِّ الإلهي والتصاقه به، وسابقته إلى الدِّين، وتقدُّمه في المناقب،
وسيره عمليًّا حذو النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وتبع الخطِّ الإلهي والطريق
الوحياني هو نفس الخاتم ولصيق الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، فلكونه - أي الإمام -
هو الأقرب إلى الدِّين وإلى الرسول وإلى الله تعالى، ولكونه الأسبق إليه، ولكونه
المتَّصف بمناقب الإمامة التي لا يلحقه بها أحد، لكونه كذلك صار هو الميزان في كلِّ
شيء.
الإمام (عليه السلام) يدافع عن الدِّين:
رجع الدعاء ليتحدَّث عن الممارسات التي اضطرَّ إليها الإمام (عليه السلام) بعد
-----------------
(٢٣٤) أمالي الصدوق (ص ٣٨٢ و٣٨٣/ ح ٤٨٩/١٤).
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، فلولا أنَّ القوم بدَّلوا دين الله تعالى وأوَّلوه
بغير وجهه لما قام ونهض (صلوات الله تعالى عليه) بمهمَّة حروب التأويل كما بدأ مع
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) حروب التنزيل، وكان قد حمل لوائها وهو فتى بين
قومه.
قد يقال: إنَّ دعوى أنَّ الجماعة بدَّلوا في الدِّين وأوَّلوا فيه بغير وجه وبلا
حجَّة، هذه دعوى مجانبة للصواب، وقد تتَّسم بالمبالغة، ولعلَّ وجه القول بها
التحامل ومعاداة القوم والتنفُّر منهم لما قاموا به من إقصاء أهل البيت (عليهم
السلام) عن مواقعهم ومراتبهم التي رتَّبهم الله تعالى فيها.
قلت: الروايات التي نصَّت على تبديلهم لمعالم الدِّين عديدة، ومنها:
* في (عِلَل الشرائع) بسنده عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ اَلْأَرَّجَانِيِّ رَفَعَهُ،
قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «أَتَدْرِي لِمَ أُمِرْتُمْ
بِالْأَخْذِ بِخِلَافِ مَا تَقُولُ اَلْعَامَّةُ؟»، فَقُلْتُ: لَا نَدْرِي،
فَقَالَ: «إِنَّ عَلِيًّا (عليه السلام) لَمْ يَكُنْ يَدِينُ اَلله بِدِينٍ إِلَّا
خَالَفَ عَلَيْهِ اَلْأُمَّةُ إِلَى غَيْرِهِ إِرَادَةً لِإِبْطَالِ أَمْرِهِ،
وَكَانُوا يَسْأَلُونَ أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَنِ اَلشَّيْءِ
اَلَّذِي لَا يَعْلَمُونَهُ، فَإِذَا أَفْتَاهُمْ جَعَلُوا لَهُ ضِدًّا مِنْ
عِنْدِهِمْ لِيَلْبِسُوا عَلَى اَلنَّاسِ»(٢٣٥).
* وفي (وسائل الشيعة) في خبر معتبر عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله
(عليه السلام)، قَالَ: «مَا أَنْتُمْ وَاَلله عَلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ،
وَلَا هُمْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، فَخَالِفُوهُمْ فَمَا هُمْ مِنَ
اَلْحَنِيفِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ»(٢٣٦).
وعلى هذا الوجه نستطيع فهم ما ورد في عدَّة أخبار تأمر الفقهاء والعلماء بالأخذ
بخلاف ما عليه العامَّة في معالم الدِّين ومسائل العقيدة والفقه وغيرها ممَّا يخشى
منهم عليه. وممَّا جاء في هذا المعنى:
* في (عِلَل الشرائع) بسنده عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا
(عليه السلام):
-----------------
(٢٣٥) عِلَل الشرائع (ج ٢/ ص ٥٣١/ باب ٣١٥/ ح ١).
(٢٣٦) وسائل الشيعة (ج ٢٧/ ص ١١٩/ ح ٣٣٣٦٥/٣٢).
يَحْدُثُ اَلْأَمْرُ لَا أَجِدُ بُدًّا مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَلَيْسَ
فِي اَلْبَلَدِ اَلَّذِي أَنَا فِيهِ أَحَدٌ أَسْتَفْتِيهِ مِنْ مَوَالِيكَ، قَالَ:
فَقَالَ: «اِيتِ فَقِيهَ اَلْبَلَدِ فَاسْتَفْتِهِ فِي أَمْرِكَ، فَإِذَا أَفْتَاكَ
بِشَيْءٍ فَخُذْ بِخِلَافِهِ، فَإِنَّ اَلْحَقَّ فِيهِ»(٢٣٧).
* وفي (الكافي): اِعْلَمْ يَا أَخِي - أَرْشَدَكَ اَللهُ - أَنَّهُ لَا يَسَعُ
أَحَداً تَمْيِيزُ شَيْءٍ مِمَّا اِخْتَلَفَ اَلرِّوَايَةُ فِيهِ عَنِ
اَلْعُلَمَاءِ (عليهم السلام) بِرَأْيِهِ، إِلَّا عَلَى مَا أَطْلَقَهُ اَلْعَالِمُ
بِقَوْلِهِ (عليه السلام): «اِعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اَلله، فَمَا وَافَقَ
كِتَابَ اَلله (عزَّ وجلَّ) فَخُذُوهُ، وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اَلله فَرُدُّوهُ»،
وَقَوْلِهِ (عليه السلام): «دَعُوا مَا وَافَقَ اَلْقَوْمَ، فَإِنَّ اَلرُّشْدَ فِي
خِلَافِهِمْ»(٢٣٨).
وحيث تمَّت الحجَّة بعد خاتميَّة النبوَّة في التنزيل، ومن شواهد تمامها التنزيلي
ما رواه الشيخ الكليني (رضي الله عنه) عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى اِبْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ،
عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ مُوسَى (عليه السلام)،
قَالَ: قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اَللهُ إِنَّا نَجْتَمِعُ فَنَتَذَاكَرُ مَا عِنْدَنَا
فَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا شَيْءٌ إِلَّا وَعِنْدَنَا فِيه شَيْءٌ مُسَطَّرٌ، وَذَلِكَ
مِمَّا أَنْعَمَ اَللهُ بِهِ عَلَيْنَا بِكُمْ، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْنَا اَلشَّيْءُ
اَلصَّغِيرُ لَيْسَ عِنْدَنَا فِيه شَيْءٌ، فَيَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ،
وَعِنْدَنَا مَا يُشْبِهُهُ، فَنَقِيسُ عَلَى أَحْسَنِهِ؟ فَقَالَ: «وَمَا لَكُمْ
وَلِلْقِيَاسِ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِالْقِيَاسِ»، ثُمَّ
قَالَ: «إِذَا جَاءَكُمْ مَا تَعْلَمُونَ فَقُولُوا بِهِ، وَإِنْ جَاءَكُمْ مَا لَا
تَعْلَمُونَ فَهَا»، وَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «لَعَنَ اَللهُ
أَبَا حَنِيفَةَ، كَانَ يَقُولُ: قَالَ عَلِيٌّ وَقُلْتُ أَنَا، وَقَالَتِ
اَلصَّحَابَةُ وَقُلْتُ»، ثُمَّ قَالَ: «أَكُنْتَ تَجْلِسُ إِلَيْهِ؟»، فَقُلْتُ:
لَا، وَلَكِنْ هَذَا كَلَامُهُ، فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اَللهُ أَتَى رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) اَلنَّاسَ بِمَا يَكْتَفُونَ بِهِ فِي عَهْدِهِ؟ قَالَ:
«نَعَمْ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ»، فَقُلْتُ:
فَضَاعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: «لَا، هُوَ عِنْدَ أَهْلِه»(٢٣٩).
-----------------
(٢٣٧) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ١/ ص ٢٤٨ و٢٤٩/ باب ٢٨/ ح ١٠).
(٢٣٨) الكافي (ج ١/ ص ٨/ خطبة الكتاب).
(٢٣٩) الكافي (ج ١/ ص ٥٧/ باب البِدَع والرأي والمقائيس/ ح ١٣).
فبعد التمام التنزيلي بأهل البيت (عليهم السلام) لم تكن المهمَّة إلَّا أنْ يحفظ
أمير المؤمنين (عليه السلام) الدِّين من التأويل، لأنَّ المنحرفين كان سبيلهم إلى
حرف الناس عن مسيرة الاستقامة في التنزيل فلجأوا إلى التأويل، فما كان من خطِّ
الهداية الإلهي إلَّا أنْ يقاتل هؤلاء الضُّلَّال على التأويل لا تأخذه فيهم لومة
لائم، كما قاتلهم على التنزيل فيما سبق مع أخيه النبيِّ الخاتم (صلَّى الله عليه
وآله) موتراً صناديدهم، وقاتلاً أبطالهم، وساحقاً كبراءهم وقادتهم، فجاءت النتيجة
الطبيعيَّة أنْ تملأ قلوب هؤلاء أحقاداً بدريَّة وخيبريَّة وحُنينيَّة وغيرهنَّ.
هذا هو ذنب الإمام عليٌّ (عليه السلام)، وهذه هي قصَّته، وقد مرَّ عليك في بعض
الأخبار أنَّ الله تعالى كتب عليه هذا الابتلاء وهذا الاختبار وشارطه عليه، وقد نهض
(عليه السلام) به ووفى.
* * *
الفقرة العشرون
«فَأَضَبَّتْ عَلَى عَدَاوَتِهِ، وَأَكَبَّتْ عَلَى مُنَابَذَتِهِ»
إنَّ هذه الفقرة - التي كانت كنتيجة
لما عليه الأُمَّة من عناد واستكبار على أولياء الله تعالى - تكشف لنا عن أنَّ تلك
المنح الربَّانيَّة والخصائص الإلهيَّة التي اتَّصف بها أمير المؤمنين (عليه
السلام) والأئمَّة (عليهم السلام) من بعده كانت نتيجتها أنْ أوجدت أحقاداً في نفوس
عدد غير قليل من المسلمين. وتلك الأحقاد والضغائن والعداء لا زالت متجدِّدة
ومتأصِّلة وإلى يومنا هذا لأهل البيت (عليهم السلام) رغم ادِّعاءهم حبَّهم
وموالاتهم (عليهم السلام).
فعبارة «فَأَضَبَّتْ عَلَى عَدَاوَتِهِ» التي يُفسِّرها أهل اللغة بالالتصاق
واللجوء(٢٤٠)، أي إنَّ الأُمَّة التي رأت تلك الفضائل لأمير المؤمنين (عليه السلام)
ولم تتحمَّل وجودها فيه، كانت - وللأسف - أنْ لجأت إلى الحقد والعداوة والبغض له
(عليه السلام)، والتصقت بهذه الحالة حتَّى أصبحت من ملازماتها.
وأمَّا قوله: «وَأَكَبَّتْ عَلَى مُنَابَذَتِهِ»، فيُوضِّح الحالة بشكل أكبر، ويرسم
لنا بوضوح حال الأُمَّة تجاه أهل البيت (عليهم السلام)، حيث الانكباب على منابذة
أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن ورائه الأئمَّة (عليهم السلام)، وفقدان الأُمَّة
توازنها وسقوطها وعثرتها في مفارقة شخوصهم (عليهم السلام) وتركهم وهجرهم.
-----------------
(٢٤٠) في لسان العرب (ج ١/ ص ١١١/ مادَّة ضبأ): (وضَبَأَ : لَصِقَ بالأَرضِ. وضَبَأْتُ به الأَرضَ، فهو مَضْبوءٌ به، إِذا أَلْزَقه بها).
فالمقطع الندبي يُحدِّثنا عن حالة في قمَّة العداء والبغض قد وصل إليها هؤلاء، إذ
إنَّ إضافة المنابذة إلى الانكباب على العداوة تعني أنَّ هولاء ينامون ويقعدون على
عداوتهم هذه ولا يفارقونها لحظة.
فالأُمَّة فقدت توازنها بسبب هذا البغض، وغفت عليه ملتصقة به، وكلَّما أوجب حدث ما
أنْ تستيقظ كان ما عقدت عليه قلبها من بغض يعود بها إلى حالتها السابقة من سقوط
وتعثُّر في حضيض عداوتهم (عليهم السلام)، فالسعي الدائم لتأصيل البغض للإمام ولأهل
بيته (عليهم السلام)، والإصرار على مفارقته، ومن ثَمَّ مفارقتهم عن بغض وتعمُّد
للهجران والترك، رغم الإيصاء المتكرِّر المستمرِّ من رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) بالأُلفة به (عليه السلام) وبأهل البيت (عليهم السلام) والتواصل معهم وحفظهم،
بل والالتصاق بهم والانصياع إليهم والانضواء تحت لوائهم (عليهم السلام).
ولا نجد عبارة أوفق لحال الأُمَّة في الحديث عمَّا مرَّت به واستمرَّت وتستمرُّ
عليه تجاه أهل البيت (عليهم السلام) من كلام الإمام الصادق (عليه السلام)
المتقدِّم، والذي وصف الحالة وأنَّ الناس كانوا يسألون أمير المؤمنين (عليه السلام)
عن الشيء الذي لا يعلمون، فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدًّا من عند أنفسهم ليلبسوا
على الناس(٢٤١).
ولعلَّ نتيجة ذلك ما رويناه قبل صفحات عن الامام الصادق (عليه السلام) حيث يُقرِّر
نتيجة هذه المخالفات والانكباب عليها إلى أنْ وصل حال هؤلاء أنْ يقال لنا عنهم:
«مَا أَنْتُمْ وَاَلله عَلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ، وَلَا هُمْ عَلَى شَيْءٍ
مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، فَخَالِفُوهُمْ فَمَا هُمْ مِنَ اَلْحَنِيفِيَّةِ عَلَى
شَيْءٍ»(٢٤٢).
فالعموميَّة التي يتحدَّث بها الإمام الصادق (عليه السلام) عن ما كان يصدر من
-----------------
(٢٤١) قد مرَّ في (ص ٢٠٨) عن عِلَل الشرائع (ج ٢/ ص ٥٣١/ باب ٣١٥/ ح ١)، فراجع.
(٢٤٢) وسائل الشيعة (ج ٢٧/ ص ١١٩/ ح ٣٣٣٦٥/٣٢).
هؤلاء
وتعمُّدهم المخالفة، أنْ يصير الرشد في مخالفتهم كما مرَّ عليك، كلُّ ذلك بفعالهم
وإصرارهم على بغض أهل البيت (عليهم السلام). وقد مرَّ عليك وليس ببعيد أنَّ أجر
الرسالة مودَّتهم، وأنَّ وصيَّة الخاتم (صلَّى الله عليه وآله) حبُّهم وودُّهم
(عليهم السلام)، ولكن هؤلاء قلبوا الأمر وكأنَّ الوصيَّة كانت في بغضهم ومعاداتهم
(عليهم السلام)، بل حتَّى لو كانت الوصيَّة بمعاداتهم (عليهم السلام) لما كانت تكون بأزيد ممَّا جرى.
ولنذهب إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام) لنطَّلع من خلالها على بعض ما جرى عليه
(عليه السلام) من هؤلاء وما كان متوقَّعاً منهم، حتَّى صارت وصيَّة النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله) له (عليه السلام) بالصبر والتحمُّل.
روى سُلَيم بن قيس (رحمه الله) هذا المقطع تحت عنوان:
تظاهر الأمَّة على عليٍّ (عليه السلام) بعد رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله) وبكاؤه عليه:
قَالَ (رحمه الله): حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، قَالَ:
«كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) فِي بَعْضِ طُرُقِ
اَلمَدِينَةِ، فَأَتَيْنَا عَلَى حَدِيقَةٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله، مَا
أَحْسَنَهَا مِنْ حَدِيقَةٍ...، فَلَمَّا خَلَا لَهُ اَلطَّرِيقُ اِعْتَنَقَنِي،
ثُمَّ أَجْهَشَ بَاكِياً، وَقَالَ: بِأَبِي اَلْوَحِيدُ اَلشَّهِيدُ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اَلله، مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: ضَغَائِنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ لَا
يُبْدُونَهَا لَكَ إِلَّا مِنْ بَعْدِي، أَحْقَادُ بَدْرٍ وَتِرَاتُ أُحُدٍ،
قُلْتُ: فِي سَلَامَةٍ مِنْ دَيْنِي؟ قَالَ: فِي سَلاَمَةٍ مِنْ دِينِكَ...،
فَاصْبِرْ لِظُلْمِ قُرَيْشٍ إِيَّاكَ وَتَظَاهُرِهِمْ عَلَيْكَ، فَإِنَّكَ
بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى وَمَنْ تَبِعَهُ، وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ
اَلْعِجْلِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَإِنَّ مُوسَى أَمَرَ هَارُونَ حِينَ اِسْتَخْلَفَهُ
عَلَيْهِمْ إِنْ ضَلُّوا فَوَجَدَ أَعْوَاناً أَنْ يُجَاهِدَهُمْ بِهِمْ، وَإِنْ
لَمْ يَجِدْ أَعْوَاناً أَنْ يَكُفَّ يَدَهُ وَيَحْقِنَ دَمَهُ وَلَا يُفَرِّقَ
بَيْنَهُمْ...»(٢٤٣).
* * *
-----------------
(٢٤٣) كتاب سُلَيم بن قيس (ص ١٣٦ و١٣٧).
الفقرة الحادية والعشرون
«حَتَّى قَتَلَ اَلنَّاكِثِينَ وَاَلْقَاسِطِينَ وَاَلمَارِقِينَ»
النتيجة الحتميَّة لشاخص الحقِّ في
ظلِّ مجتمع يعيش تراكمات وبناءات معوجَّة أنْ يبقى وحيداً، وهذا ما حدث مع أمير
المؤمنين (عليه السلام)، وهي النتيجة الطبيعيَّة لكونه بوصلة الحقِّ، ولكون المجتمع
الذي كان فيه ميَّالاً للباطل وشارباً له ومحبًّا لكلِّ ما من شأنه أنْ يُوثِّق
العرى القبليَّة والمصالح الشخصيَّة والنتائج الآنيَّة، بل إنَّ الحال في ذلك
المجتمع لمن يقرأ تاريخ تلك الحقبة يرى الكثير من الأفراد الذين كان بالإمكان
التعويل على إيمانهم وعقولهم وأفكارهم لم يتحمَّلوا منهج الحقِّ.
من هنا جاءت النتيجة طبيعيَّة ومتوقَّعة في أنْ يخوض أمير المؤمنين (عليه السلام)
مجموعة من الحروب ضدَّ فئات متنوِّعة ومتلوِّنة عاشت في ذلك المجتمع، واستفادت من
وجودها الدِّيني بعد غياب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، إذ إنَّ الكيفيَّة
التي كان ينبغي أنْ تسير عليها الأُمور هي الانتقال الطوعي للسلطة من النبيِّ
(صلَّى الله عليه وآله) إلى الإمام (عليه السلام)، لأنَّه هو الممثِّل الطبيعي
والحامل للصفات المؤهِّلة له، وقد تحدَّث عنها الدعاء بشكل وافر على ما مرَّ عليك.
ولكن هذا لم يحصل ولم تحصل الأُمور على وفق ما رسمه الوحي، لأنَّ هناك أطماعاً
وبدائل كانت تُدرَس من قِبَل بعض السلطويِّين النفعيِّين، فكان أنْ آلت الأُمور إلى
انقلاب راح ضحيَّته الثُّلَّة الأقرب لصاحب الرسالة (صلَّى الله عليه وآله)، حتَّى
وصل الأمر إلى التضحية بالبضعة الطاهرة (عليها السلام) وسحقها وتكسير أجنحتها
وأضلاعها سبيلاً للوصول إلى الحكم. وكان من نتيجتها عزل الحقِّ وتهميشه وجعله على
الرفِّ يتبرَّك به القائد الانقلابي متى شاء، وتراكم الزمن، فأنشأ جيلاً أحبَّ هذه
الظاهرة وبات لا يستسيغ غيرها، لكنَّ الإرادة الإلهيَّة عندما شاءت
أنْ تسنح فرصة
جديدة للحقِّ أنْ يبرز شاهت وجوه مَنْ تراكم في نفوسهم حُبُّ الباطل وكره الحقِّ.
وقد لوَّن الحديث الوحياني هذه الجماعات على أشكال قلوبها، وترجمها بمسمَّيات تنسجم
ومعتقدها، فكانت ثلاث مجموعات:
الأُولى: الناكثون:
وهم الذين تركوا ما في أيديهم من الحقِّ وتمسَّكوا بباطل محض، وقد قال الله تعالى
في مَنْ لا يستقرُّ الإيمان في قلبه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً
بَيْنَكُمْ﴾ (النحل: ٩٢).
فهؤلاء لا إيمان لهم وإنْ كانت صورهم وهيئاتهم هيئات أهل الإيمان وأهل البيعة
الظاهريَّة، وإنْ كانت عناوينهم التي يدَّعونها باسم الدفاع عن الدِّين وإعادته إلى
قواعده، فصدقت التسمية عليهم حقًّا.
الثانية: القاسطون:
أُولئك الذين أحبُّوا السلطة والمال، وأحبُّوا الجاه والرفعة، وكانت تجري في دمائهم
روح العنصريَّة والتعصُّب، فهم لم يؤمنوا - ولم يبايعوا - أصلاً لكي ينكثوا
إيمانهم، لكن الظروف أجبرتهم على إظهار الإيمان، فما إنْ سنحت فرصة إبراز حقيقتهم
حتَّى جاء وصف القاسطين خير مسمَّى لهم.
الثالثة: المارقون:
أُولئك الجهلاء الحمقى، فهم رجال آمنوا وأحبُّوا الإيمان وسعوا إلى أنْ يتلبَّسوا
به ويمارسوه طقساً يتقرَّبون به إلى الله سبحانه وتعالى، لكن في قلوبهم نباتات
سامَّة لم يقلعوها، فأمرضت وسرطنت السليم منها، فالجهل والحمق وقلَّة البصيرة
يُؤدِّيان بالإنسان إلى أنْ ينزع ثوب الإيمان ويلبس ثوباً أخسّ ممَّا يلبسه
الشيطان، أُولئك هم المارقون، فبعد أنْ عرفوا عليًّا (عليه السلام) حقَّ معرفته
وعاشروه،
وقاتلوا تحت لوائه وأكلوا من زاده، وعرفوا مَنْ هو وإلى مَ يرمي، رغم ذلك
وقعوا فيما منه هربوا، لأنَّهم لم يسعوا إلى ما طلبوا صحيحاً، وإنَّما تصوَّروا
أنَّهم يسعون إليه، فيما كانوا أشدّ الناس هرباً وابتعاداً عنه.
قال الإربلي (رحمه الله): (ولهذا جعل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) القتال على
تأويله كالقتال على تنزيله...، وما وجده من اختلاف الأُمَّة عليه (عليه السلام)،
وتظاهرهم على منابذته ومحاربته، وشقِّ العصا عليه وسبِّه على المنابر والتبرِّي منه
وتتبُّع أولاده وشيعته من بعده، وقتلهم وإخافتهم في كلِّ ناحية وقطر والتقرُّب إلى
ولاة كلِّ زمانٍ بدمائهم والطعن في عقائدهم ومنعهم حقوقهم، بل بغضهم وتطريدهم
وتشريدهم)(٢٤٤).
وقد تحدَّثت الروايات الشريفة عن هذه الفئات كثيراً، ومن بينها:
* في (تفسير القمِّي): قوله: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ
عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا
أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ [التوبة: ١٢]، فإنَّها نزلت في أصحاب
الجمل، وَقَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَوْمَ اَلْجَمَلِ: «وَاَلله
مَا قَاتَلْتُ هَذِهِ اَلْفِئَةَ اَلنَّاكِثَةَ إِلَّا بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ اَلله
(عزَّ وجلَّ)...»، فَقَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)...: «وَاَلله
لَقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَا
اِثْنَتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ وَلَا أَرْبَعٍ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّكَ
سَتُقَاتِلُ بَعْدِيَ اَلنَّاكِثِينَ وَاَلمَارِقِينَ وَاَلْقَاسِطِينَ، أَفَأُضِيعُ مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)...؟»(٢٤٥).
* وفي (كتاب سُلَيم) نقل قول أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي قال فيه: «أَشْيَاءُ
لَمْ أَجِدْ إِلَى تَرْكِهِنَّ سَبِيلاً، لِأَنَّ اَلْقُرْآنَ بِهَا أُنْزِلَ عَلَى
قَلْبِ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله): قِتَالُ اَلنَّاكِثِينَ وَاَلْقَاسِطِينَ
وَاَلمَارِقِينَ اَلَّذِي أَوْصَانِي وَعَهِدَ إِلَيَّ خَلِيلِي رَسُولُ اَلله
بِقِتَالِهِمْ...»(٢٤٦).
-----------------
(٢٤٤) كشف الغمَّة (ج ١/ ص ١٢٢).
(٢٤٥) تفسير القمِّي (ج ١/ ص ٢٨٣).
(٢٤٦) كتاب سُلَيم بن قيس (ص ٣٩٢).
إخبار أمير المؤمنين (عليه السلام) عن صفِّين والنهروان:
* في (كتاب سُلَيم): قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «فَلَمَّا
وَجَدْتُ أَعْوَاناً بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ عَلَى إِقَامَةِ أَمْرِ اَلله
وَإِحْيَاءِ اَلْكِتَابِ وَاَلسُّنَّةِ لَمْ يَسَعْنِي اَلْكَفُّ، فَبَسَطْتُ يَدِي
فَقَاتَلْتُ هَؤُلَاءِ اَلنَّاكِثِينَ، وَأَنَا غَداً إِنْ شَاءَ اَللهُ مُقَاتِلٌ
اَلْقَاسِطِينَ بِأَرْضِ اَلشَّامِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: صِفِّينُ، ثُمَّ
أَنَا بَعْدَ ذَلِكَ مُقَاتِلٌ اَلمَارِقِينَ بِأَرْضٍ مِنْ أَرْضِ اَلْعِرَاقِ
يُقَالُ لَهَا: اَلنَّهْرَوَانُ. أَمَرَنِي رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)
بِقِتَالِهِمْ فِي هَذِهِ اَلمَوَاطِنِ اَلثَّلَاثِ. وَكَفَفْتُ يَدِي لِغَيْرِ
عَجْزٍ وَلَا جُبْنٍ وَلَا كَرَاهِيَةٍ لِلِقَاءِ رَبِّي، وَلَكِنْ لِطَاعَةِ
رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) وَحِفْظِ وَصِيَّتِهِ. فَلَمَّا وَجَدْتُ
أَعْوَاناً نَظَرْتُ فَلَمْ أَجِدْ بَيْنَ اَلسَّبِيلَيْنِ ثَالِثاً: إِمَّا
اَلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اَلله وَاَلْأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَاَلنَّهْيِ عَنِ
اَلمُنْكَرِ، أَوِ اَلْكُفْرِ بِالله وَاَلْجُحُودِ بِمَا أَنْزَلَ اَللهُ
وَمُعَالَجَةِ اَلْأَغْلاَلِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاَلْاِرْتِدَادِ عَنِ
اَلْإِسْلَامِ»(٢٤٧).
* وفي (أمالي الصدوق) بسنده عن أُمِّ سَلَمة في حديث طويل جاء فيه: «يَا أُمَّ
سَلَمَةَ، اِسْمَعِي وَاِشْهَدِي، هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَصِيِّي
وَخَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي، وَقَاضِي عِدَاتِي، وَاَلذَّائِدُ عَنْ حَوْضِي. يَا
أُمَّ سَلَمَةَ، اِسْمَعِي وَاِشْهَدِي، هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سَيِّدُ
اَلمُسْلِمِينَ، وَإِمَامُ اَلمُتَّقِينَ، وَقَائِدُ اَلْغُرِّ اَلمُحَجَّلِينَ،
وَقَاتِلُ اَلنَّاكِثِينَ وَاَلْقَاسِطِينَ وَاَلمَارِقِينَ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اَلله، مَنِ اَلنَّاكِثُونَ؟ قَالَ: «اَلَّذِينَ يُبَايِعُونَهُ بِالمَدِينَةِ،
وَيَنْكُثُونَ بِالْبَصْرَةِ»، قُلْتُ: مَنِ اَلْقَاسِطُونَ؟ قَالَ: «مُعَاوِيَةُ
وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَهْلِ اَلشَّامِ»، قُلْتُ: مَنِ اَلمَارِقُونَ؟ قَالَ:
«أَصْحَابُ اَلنَّهْرَوَانِ»(٢٤٨).
* وفي (الغارات): قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «مِنْ عَبْدِ اَلله
أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ قُرِئَ عَلَيْهِ كِتَابِي هَذَا مِنْ سَاكِنِي
اَلْبَصْرَةِ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ وَاَلمُسْلِمِينَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَمَّا
بَعْدُ، فَإِنَّ اَللهَ حَلِيمٌ ذُو أَنَاةٍ لَا يُعَجِّلُ بِالْعُقُوبَةِ قَبْلَ
اَلْبَيِّنَةِ، وَلَا يَأْخُذُ
-----------------
(٢٤٧) كتاب سُلَيم بن قيس (ص ٤٣٩).
(٢٤٨) أمالي الصدوق (ص ٢٦٣ و٢٦٤/ ح ٦٢٠/١٠).
اَلمُذْنِبَ عِنْدَ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَلَكِنَّهُ
يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ، وَيَسْتَدِيمُ اَلْأَنَاةَ، وَيَرْضَى بِالْإِنَابَةِ،
لِيَكُونَ أَعْظَمَ لِلْحُجَّةِ، وَأَبْلَغَ فِي اَلمَعْذِرَةِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ
شِقَاقِ جُلِّكُمْ أَيُّهَا اَلنَّاسُ، مَا اِسْتَحْقَقْتُمْ أَنْ تُعَاقَبُوا
عَلَيْهِ، فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ، وَرَفَعْتُ اَلسَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ،
وَقَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ، وَأَخَذْتُ بَيْعَتَكُمْ، فَإِنْ تَفُوا
بِبَيْعَتِي، وَتَقْبَلُوا نَصِيحَتِي، وَتَسْتَقِيمُوا عَلَى طَاعَتِي، أَعْمَلْ
فِيكُمْ بِالْكِتَابِ [وَاَلسُّنَّةِ] وَقَصْدِ اَلْحَقِّ، وَأُقِيمُ فِيكُمْ
سَبِيلَ اَلْهُدَى، فَوَاَلله مَا أَعْلَمُ أَنَّ وَالِياً بَعْدَ مُحَمَّدٍ (صلَّى
الله عليه وآله) أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي، [وَلَا أَعْمَلُ]. أَقُولُ قَوْلِي
هَذَا صَادِقاً... فَإِنْ خَطَّتْ بِكُمُ اَلْأَهْوَاءُ اَلمُرْدِيَةُ، وَسَفَهُ
اَلرَّأْيِ اَلْجَائِرِ إِلَى مُنَابَذَتِي تُرِيدُونَ خِلَافِي، فَهَا أَنَا ذَا
قَرُبْتُ جِيَادِي، وَرَحَلْتُ رِكَابِي. وَأَيْمُ اَلله لَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي
إِلَى اَلمَسِيرِ إِلَيْكُمْ، لَأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لَا يَكُونُ يَوْمُ
اَلْجَمَلِ عِنْدَهَا إِلَّا كَلَعْقَةِ لَاعِقٍ، وَإِنِّي لَظَانٌّ إِنْ شَاءَ
اَللهُ أَنْ لَا تَجْعَلُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ سَبِيلاً. وَقَدْ قَدَّمْتُ هَذَا
اَلْكِتَابَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ، وَلَيْسَ أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِهِ
كِتَاباً إِنْ أَنْتُمُ اِسْتَغْشَشْتُمْ نَصِيحَتِي، وَنَابَذْتُمْ رَسُولِي،
حَتَّى أَكُونَ أَنَا اَلشَّاخِصَ نَحْوَكُمْ إِنْ شَاءَ اَللهُ،
وَاَلسَّلَامُ»(٢٤٩).
لاحظ شدَّة خطابه (عليه السلام) معهم تعرف حجم الألم الذي خلَّفه صنيع هؤلاء في
قلبه وتأثيره إلى أبد الدهر على حال الناس وعقائد المسلمين، فصنيع هؤلاء لم يقف عند
ساعته، بل أنينه (عليه السلام) منه لا زال مدويًّا إلى يوم الناس هذا، وجرح أمير
المؤمنين (عليه السلام) من هؤلاء لم يندمل بعد ولا يندمل.
* * *
-----------------
(٢٤٩) الغارات (ج ٢/ ص ٤٠٣ و٤٠٤).
الفقرة الثانية والعشرون
«وَلَمَّا قَضَى نَحْبَهُ وَقَتَلَهُ أَشْقَى اَلْآخِرِينَ يَتْبَعُ أَشْقَى
اَلْأَوَّلِينَ، لَمْ يُمْتَثَلْ أَمْرُ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) فِي
اَلهَادِينَ بَعْدَ اَلهَادِينَ»
يشير المقطع المبارك إلى نتيجة
حتميَّة للسياسة الإلهيَّة التي كان ينتهجها أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) في
مجتمع دعته نزعاته وجهله إلى الالتفاف حول أدعياء الضلال ورموز الانحراف، فكان أنْ
قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) شهيداً في محراب الهداية وعرج إلى الله سبحانه
وتعالى.
ودلالات شهادته في المسجد وفي الصلاة وفي المحراب كبيرة جدًّا لا يسعنا الوقوف
عندها في هذا الشرح المختصر.
ولكن وبشكل مجمل نرى أنَّ الحكمة الإلهيَّة اقتضت لهذا الرجل الربَّاني الإلهي أنْ
يكون عنصر استخلاص للارتباط في الله والذوبان في ذاته تعالى، فمن ولادته التي كانت
في أعظم مسجد وبيت، إلى شهادة في مسجده المعظَّم، ودفنه في أرض مقدَّسة ادُّخِرَت
له، وتضمَّنت جسد عدَّة أنبياء - آدم ونوح (عليهما السلام) -، وصار جسده الطاهر
(عليه السلام) ضجيع قبريهما، ومجاوراً لهود وصالح (عليهما السلام).
نعم هكذا كانت قصَّة عليٍّ (عليه السلام) الذي يُمثِّل عنصر الهداية والارتباط
بالله سبحانه وتعالى، شخص أرادته حكمة السماء أنْ يربط العباد بخالقهم فصاغته
نموذجاً، بدايته ذوبان وارتباط بذات القدس والعظمة، ونهايته اندكاك وانصهار
وعبوديَّة وفناء في ذات الربوبيَّة، هذا هو عليٌّ (عليه السلام).
سُنَّة قتل الهداة والأولياء سُنَّة قديمة:
أمَّا من جانب الشخص الذي قتله فإنَّ المقطع الشريف يشير إلى أنَّ سُنَّة قتل
الهداة والأولياء هي سُنَّة قديمة، وأنَّها تأتي على يد - ابن ملجم - أشقى وأرذل
الخلق، حيث يصف المقطع الندبي المبارك أنَّ قاتل وليِّ الله هو أشقى خلق الله من
الآخرين، ويتبع في نهجه وعمله هذا أشقى خلق الله من الأوَّلين، وهي سياسة ماضية لدى
الأشقياء من خلق الله واقتدائهم بالضُّلَّال والمنحرفين في تمرُّدهم على إرادة
أولياء الله تعالى وإقصائهم عن وظيفة هدايتهم للمؤمنين.
أمير المؤمنين (عليه السلام) السدُّ المنيع عن التعدِّي على أهل
البيت (عليهم السلام):
ويشير المقطع أيضاً إلى ما كان يُمثِّله أمير المؤمنين (عليه السلام) من سدٍّ منيعٍ
تجاه الهجمات والاعتداءات والظلم الذي لحق بأهل البيت (عليهم السلام) والهداة من
بعده، فحينما كان موجوداً بينهم كان هو المحامي والمدافع، لكنَّه بعد أنْ فُقِدَ
اجتمعت الأُمَّة الظالمة على هتك حرمة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وعصيان
أمره في أهل بيته (عليهم السلام) وأولياء دينه.
فالعدوان على أمير المؤمنين (عليه السلام) وبالتالي إقصاءه عن الساحة وإدارة شأن
الناس، هو مخالفة لأوامر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في كون أهل بيته
والأئمَّة (عليهم السلام) من ذرّيَّته هم هداة للأُمَّة، وعصمة لها من الانحراف
والضلال.
هذا العدوان شكَّل البداية والمنطلق، وكوَّن الأرضية للَّاحقين من الظلمة في السير
على نهج السابقين منهم، في إبعاد أهل البيت (عليهم السلام) وإزوائهم عن ممارسة
دورهم.
يُحدِّثنا المقطع عن أنَّ أمر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في أهل بيته (عليهم
السلام) لم يُمتثَل، على ما سيأتي من شرح المقاطع اللَّاحقة.
وهذا ما يمكن الاستفادة منه كدلالة على أنَّ الوصيَّة بالأئمَّة من أهل البيت
(عليهم السلام)، والأمر للأُمَّة باتِّباعهم هي من رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله)، وأنَّ مخالفتها مخالفة له، وبذلك يمكن لنا أنْ نستفيد من هذا المقطع المبارك
أنَّ هناك أوامر للأُمَّة في وجوب متابعة أهل البيت (عليهم السلام) لأنَّهم الهداة
لها، وأنَّ هذا الأمر بوجوب الاتِّباع بيِّن وواضح لدى الأُمَّة، ولكنَّ الأُمَّة -
ومع الأسف - خالفت هذه الأوامر ونبذتها وراء ظهرها.
بين الأمر بلزوم المتابعة لأمير المؤمنين والعترة الطاهرة (عليهم
السلام) وبين شدَّة الإقصاء:
فهذا المقطع الندبي المبارك يشير إلى حقيقة واضحة لدى الأُمَّة في أنَّها مأمورة
باتِّباع مجموعة من الأئمَّة الهداة، وأنَّ النصَّ عليهم من رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله).
ويشير أيضاً إلى وضوح حالة أُخرى، وهي أنَّ الإقصاء والإبعاد للأئمَّة الهداة وترك
أمر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كانت سُنَّة شربها هؤلاء وتشرَّبوا بها،
وعاشوا عليها سنين بقاء الأئمَّة (عليهم السلام) بينهم. وهذا ما أشرنا إليه سابقاً
من أنَّ الأُمَّة وصل بها حال كره عليٍّ وأهل بيته (عليهم السلام) أنَّها أكبَّت
على عدوانه، وتمسَّكت بمنابذته مع أنَّها مأمورة بنصرتهم ومتابعتهم على ما مرَّ
عليك.
ما جرى على أمير المؤمنين وأهل بيته (عليهم السلام) في النصوص
الروائيَّة والتأريخيَّة:
وممَّا ورد بما جرى عليه (عليه السلام) وعليهم (عليهم السلام) عدَّة روايات ونصوص
تاريخيَّة، منها:
* في (الإرشاد): (كانت إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد النبيِّ (صلَّى الله
عليه وآله) ثلاثين سنة، منها أربع وعشرون سنة وأشهر ممنوعاً من التصرُّف على
أحكامها،
مستعملاً للتقيَّة والمداراة. ومنها خمس سنين وأشهر ممتحناً بجهاد
المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين، مضطهداً بفتن الضالِّين، كما كان رسول
الله (صلَّى الله عليه وآله) ثلاث عشرة سنة من نبوَّته ممنوعاً من أحكامها، خائفاً
ومحبوساً وهارباً ومطروداً، لا يتمكَّن من جهاد الكافرين، ولا يستطيع دفعاً عن
المؤمنين، ثمّ هاجر وأقام بعد الهجرة عشر سنين مجاهداً للمشركين ممتحناً
بالمنافقين، إلى أنْ قبضه الله تعالى إليه وأسكنه جنَّات النعيم. وكانت وفاة أمير
المؤمنين (عليه السلام) قبيل الفجر من ليلة الجمعة ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان
سنة أربعين من الهجرة قتيلاً بالسيف، قتله ابن ملجم المرادي (لعنه الله) في مسجد
الكوفة...)(٢٥٠).
* وفي (أمالي الصدوق) بسنده عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) كَانَ جَالِساً ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ أَقْبَلَ اَلْحَسَنُ
(عليه السلام)، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: «إِلَيَّ يَا بُنَيَّ»، فَمَا
زَالَ يُدْنِيهِ حَتَّى أَجْلَسَهُ عَلَى فَخِذِهِ اَلْيُمْنَى، ثُمَّ أَقْبَلَ
اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: «إِلَيَّ يَا
بُنَيَّ»، فَمَا زَالَ يُدْنِيهِ حَتَّى أَجْلَسَهُ عَلَى فَخِذِهِ اَلْيُسْرَى،
ثُمَّ أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام)، فَلَمَّا رَآهَا بَكَى، ثُمَّ قَالَ:
«إِلَيَّ يَا بُنَيَّةِ»، فَأَجْلَسَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ أَمِيرُ
اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: «إِلَيَّ يَا
أَخِي»، فَمَا زَالَ يُدْنِيهِ حَتَّى أَجْلَسَهُ إِلَى جَنْبِهِ اَلْأَيْمَنِ،
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اَلله، مَا تَرَى وَاحِداً مِنْ هَؤُلَاءِ
إِلَّا بَكَيْتَ، أَوَمَا فِيهِمْ مَنْ تُسَرُّ بِرُؤْيَتِهِ؟ فَقَالَ (صلَّى الله
عليه وآله): «وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ، وَاِصْطَفَانِي عَلَى جَمِيعِ
اَلْبَرِيَّةِ، إِنِّي وَإِيَّاهُمْ لَأَكْرَمُ اَلْخَلْقِ عَلَى اَلله (عزَّ
وجلَّ)، وَمَا عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ نَسَمَةٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُمْ. أَمَّا
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَإِنَّهُ أَخِي وَشَقِيقِي، وَصَاحِبُ
اَلْأَمْرِ بَعْدِي، وَصَاحِبُ لِوَائِي فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ، وَصَاحِبُ
حَوْضِي وَشَفَاعَتِي، وَهُوَ مَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِمَامُ كُلِّ مُؤْمِنٍ،
وَقَائِدُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَهُوَ وَصِيِّي
-----------------
(٢٥٠) الإرشاد (ج ١/ ص ٩).
وَخَلِيفَتِي عَلَى أَهْلِي وَأُمَّتِي
فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي، مُحِبُّهُ مُحِبِّي، وَمُبْغِضُهُ مُبْغِضِي،
وَبِوَلَايَتِهِ صَارَتْ أُمَّتِي مَرْحُومَةً، وَبِعَدَاوَتِهِ صَارَتِ
اَلمُخَالَفَةُ لَهُ مِنْهَا مَلْعُونَةً، وَإِنِّي بَكَيْتُ حِينَ أَقْبَلَ
لِأَنِّي ذَكَرْتُ غَدْرَ اَلْأُمَّةِ بِهِ بَعْدِي حَتَّى إِنَّهُ لَيُزَالُ عَنْ
مَقْعَدِي، وَقَدْ جَعَلَهُ اَللهُ لَهُ بَعْدِي، ثُمَّ لَا يَزَالُ اَلْأَمْرُ
بِهِ حَتَّى يُضْرَبَ عَلَى قِرْنِهِ ضَرْبَةً تُخْضَبُ مِنْهَا لِحْيَتُهُ فِي
أَفْضَلِ اَلشُّهُورِ، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى
لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة: ١٨٥]...»(٢٥١).
* وفيه بسنده عَنْ عَلِيِّ بْنُ اَلْحَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ اِبْنِ مُوسَى اَلرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ مُوسَى بْنِ
جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ اَلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ
اَلْبَاقِرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ زَيْنِ اَلْعَابِدِينَ عَلِيِّ
بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ اَلشُّهَدَاءِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ،
عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ اَلْوَصِيِّينَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)
خَطَبَنَا ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ
إِلَيْكُمْ شَهْرُ اَلله بِالْبَرَكَةِ وَاَلرَّحْمَةِ وَاَلمَغْفِرَةِ...»، قَالَ
أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله،
مَا أَفْضَلُ اَلْأَعْمَالِ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا اَلْحَسَنِ،
أَفْضَلُ اَلْأَعْمَالِ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ اَلْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اَلله
(عزَّ وجلَّ)، ثُمَّ بَكَى، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله، مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ:
يَا عَلِيُّ، أَبْكِي لِمَا يُسْتَحَلُّ مِنْكَ فِي هَذَا اَلشَّهْرِ، كَأَنِّي
بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي لِرَبِّكَ، وَقَدِ اِنْبَعَثَ أَشْقَى اَلْأَوَّلِينَ
وَاَلْآخِرِينَ، شَقِيقُ عَاقِرِ نَاقَةِ ثَمُودَ، فَضَرَبَكَ ضَرْبَةً عَلَى
قَرْنِكَ، فَخَضَبَ مِنْهَا لِحْيَتَكَ»، قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه
السلام): «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله، وَذَلِكَ فِي سَلَامَةٍ مِنْ دِينِي؟
فَقَالَ: فِي سَلاَمَةٍ مِنْ دِينِكَ، ثُمَّ قَالَ (صلَّى الله عليه وآله): يَا
عَلِيُّ، مَنْ قَتَلَكَ فَقَدْ قَتَلَنِي، وَمَنْ أَبْغَضَكَ فَقَدْ أَبْغَضَنِي،
وَمَنْ سَبَّكَ فَقَدْ سَبَّنِي، لِأَنَّكَ مِنِّي كَنَفْسِي، رُوحُكَ مِنْ رُوحِي،
-----------------
(٢٥١) أمالي الصدوق (ص ١٧٤ و١٧٥/ ح ١٧٨/٢).
وَطِينَتُكَ مِنْ طِينَتِي، إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَنِي
وَإِيَّاكَ، وَاِصْطَفَانِي وَإِيَّاكَ، وَاِخْتَارَنِي لِلنُّبُوَّةِ،
وَاِخْتَارَكَ لِلْإِمَامَةِ، فَمَنْ أَنْكَرَ إِمَامَتَكَ فَقَدْ أَنْكَرَ
نُبُوَّتِي. يَا عَلِيُّ، أَنْتَ وَصِيِّي، وَأَبُو وُلْدِي، وَزَوْجُ اِبْنَتِي،
وَخَلِيفَتِي عَلَى أُمَّتِي فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي، أَمْرُكَ أَمْرِي،
وَنَهْيُكَ نَهْيِي، أُقْسِمُ بِالَّذِي بَعَثَنِي بِالنُّبُوَّةِ وَجَعَلَنِي
خَيْرَ اَلْبَرِيَّةِ، إِنَّكَ لَحُجَّةُ اَلله عَلَى خَلْقِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى
سِرِّهِ، وَخَلِيفَتُهُ عَلَى عِبَادِهِ»(٢٥٢).
* وفي (مجمع البيان): وقد صحَّت الرواية بالإسناد عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صُهَيْبٍ،
عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) لِعَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): «مَنْ أَشْقَى اَلْأَوَّلِينَ؟»، قَالَ: «عَاقِرُ
اَلنَّاقَةِ»، قَالَ: «صَدَقْتَ، فَمَنْ أَشْقَى اَلْآخِرِينَ؟»، قَالَ: «قُلْتُ:
لَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اَلله، قَالَ: اَلَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذِهِ -
وَأَشَارَ إِلَى يَافُوخِهِ -»(٢٥٣).
* وفي (تنقيح المقال): (وضربه ابن ملجم بسيف مسموم على رأسه في محراب مسجد الكوفة،
صبيحة ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة مضين من شهر رمضان، وتُوفِّي (صلوات الله عليه)
ليلة إحدى وعشرين منه)(٢٥٤).
روايات الدفن في الغريِّ:
ممَّا لا خلاف فيه عند الإماميَّة، بل هو من الضرورات المذهبيَّة مدفن أمير
المؤمنين (عليه السلام) في الغريِّ في الموضع الذي هو فيه الآن، أُخِذَ هذا الموضع
يداً بيد بلا تردُّد وشكٍّ. وممَّا يشير إلى ذلك:
* في (تهذيب الأحكام) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ
اَلله (عليه السلام): أَيْنَ دُفِنَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)؟ قَالَ:
«دُفِنَ فِي قَبْرِ أَبِيهِ نُوحٍ (عليه السلام)»،
-----------------
(٢٥٢) أمالي الصدوق (ص ١٥٣ - ١٥٥/ ح ١٤٩/٤).
(٢٥٣) مجمع البيان (ج ١٠/ ص ٣٧١).
(٢٥٤) تنقيح المقال (ج ١/ ص ٢٢٠ و٢٢١).
قُلْتُ: وَأَيْنَ قَبْرُ نُوحٍ؟
اَلنَّاسُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي اَلمَسْجِدِ، قَالَ: «لَا، ذَاكَ فِي ظَهْرِ
اَلْكُوفَةِ»(٢٥٥).
* وفيه بسنده عَنِ اَلثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ
حَدَّثَ بِهِ «أَنَّهُ كَانَ فِي وَصِيَّةِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام):
أَنْ أَخْرِجُونِي إِلَى اَلظَّهْرِ، فَإِذَا تَصَوَّبَتْ أَقْدَامُكُمْ
وَاِسْتَقْبَلَتْكُمْ رِيحٌ فَادْفِنُونِي، وَهُوَ أَوَّلُ طُورِ سَيْنَاءَ،
فَفَعَلُوا ذَلِكَ»(٢٥٦).
* وفيه بسنده عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ:
«نَحْنُ نَقُولُ: بِظَهْرِ اَلْكُوفَةِ قَبْرٌ لَا يَلُوذُ بِهِ ذُو عَاهَةٍ إِلَّا
شَفَاهُ اَللهُ»(٢٥٧).
* وفي (كامل الزيارات) بسنده عَنِ اَلمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى
أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، فَقُلْتُ: إِنِّي أَشْتَاقُ إِلَى اَلْغَرِيِّ،
قَالَ: «فَمَا شَوْقُكَ إِلَيْهِ؟»، قُلْتُ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَزُورَ
أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، قَالَ: «فَهَلْ تَعْرِفُ فَضْلَ
زِيَارَتِهِ؟»، قُلْتُ: لَا يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، فَعَرِّفْنِي ذَلِكَ، قَالَ:
«إِذَا أَرَدْتَ زِيَارَةَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَاعْلَمْ
أَنَّكَ زَائِرٌ عِظَامَ آدَمَ، وَبَدَنَ نُوحٍ، وَجِسْمَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ (عليه السلام)»، قُلْتُ: إِنَّ آدَمَ هَبَطَ بِسَرَنْدِيبَ فِي مَطْلَعِ
اَلشَّمْسِ، وَزَعَمُوا أَنَّ عِظَامَهُ فِي بَيْتِ اَلله اَلْحَرَامِ، فَكَيْفَ
صَارَتْ عِظَامُهُ بِالْكُوفَةِ؟ قَالَ: «إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
أَوْحَى إِلَى نُوحٍ (عليه السلام) وَهُوَ فِي اَلسَّفِينَةِ أَنْ يَطُوفَ
بِالْبَيْتِ أُسْبُوعاً، فَطَافَ بِالْبَيْتِ كَمَا أَوْحَى اَللهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ
نَزَلَ فِي اَلمَاءِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، فَاسْتَخْرَجَ تَابُوتاً فِيهِ عِظَامُ
آدَمَ، فَحَمَلَ اَلتَّابُوتَ فِي جَوْفِ اَلسَّفِينَةِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ
مَا شَاءَ اَللهُ تَعَالَى أَنْ يَطُوفَ، ثُمَّ وَرَدَ إِلَى بَابِ اَلْكُوفَةِ فِي
وَسَطِ مَسْجِدِهَا، فَفِيهَا قَالَ اَللهُ لِلْأَرْضِ: ﴿ابْلَعِي مَاءَكِ﴾ [هود:
٤٤]، فَبَلَعَتْ مَاءَهَا مِنْ مَسْجِدِ اَلْكُوفَةِ كَمَا بَدَأَ
-----------------
(٢٥٥) تهذيب الأحكام (ج ٦/ ص ٣٤/ ح ٦٨/١٢).
(٢٥٦) تهذيب الأحكام (ج ٦/ ص ٣٤/ ح ٦٩/١٣).
(٢٥٧) تهذيب الأحكام (ج ٦/ ص ٣٤/ ح ٧٠/١٤).
اَلمَاءُ مِنْ
مَسْجِدِهَا، وَتَفَرَّقَ اَلْجَمْعُ اَلَّذِي كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي اَلسَّفِينَةِ،
فَأَخَذَ نُوحٌ اَلتَّابُوتَ فَدَفَنَهُ بِالْغَرِيِّ، وَهُوَ قِطْعَةٌ مِنَ
اَلْجَبَلِ اَلَّذِي كَلَّمَ اَللهُ عَلَيْهِ مُوسى تَكْلِيماً، وَقَدَّسَ عَلَيْهِ
عِيسَى تَقْدِيساً، وَاِتَّخَذَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَاِتَّخَذَ
عَلَيْهِ مُحَمَّداً حَبِيباً، وَجَعَلَهُ لِلنَّبِيِّينَ مَسْكَناً، وَاَلله مَا
سَكَنَ فِيهِ أَحَدٌ بَعْدَ آبَائِهِ اَلطَّاهِرِينَ آدَمَ وَنُوحٍ أَكْرَمُ مِنْ
أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَإِذَا زُرْتَ جَانِبَ اَلنَّجَفِ فَزُرْ
عِظَامَ آدَمَ وَبَدَنَ نُوحٍ وَجِسْمَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)،
فَإِنَّكَ زَائِرٌ اَلْآبَاءَ اَلْأَوَّلِينَ، وَمُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله)
خَاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ، وَعَلِيًّا سَيِّدَ اَلْوَصِيِّينَ، فَإِنَّ زَائِرَهُ
تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ اَلسَّمَاءِ عِنْدَ دَعْوَتِهِ، فَلَا تَكُنْ عَنِ
اَلْخَيْرِ نَوَّاماً»(٢٥٨).
* وفي (فرحة الغريِّ) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلرَّحِيمِ اَلْقَصِيرِ، قَالَ: سَأَلْتُ
أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَبْرِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ:
«أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ مَدْفُونٌ فِي قَبْرِ نُوحٍ»، قُلْتُ: وَمَنْ نُوحٌ؟
قَالَ: «نُوحٌ اَلنَّبِيُّ (عليه السلام)»، قُلْتُ: كَيْفَ صَارَ هَذَا؟ فَقَالَ:
«إِنَّ أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ صِدِّيقٌ هَيَّأَ اَللهُ لَهُ مَضْجَعَهُ فِي
مَضْجَعِ صِدِّيقٍ. يَا عَبْدَ اَلرَّحِيمِ، إِنَّ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله) أَخْبَرَنَا بِمَوْتِهِ وَبِالمَوْضِعِ اَلَّذِي دُفِنَ فِيهِ، وَأَنْزَلَ
اَللهُ (عزَّ وجلَّ) حَنُوطاً مِنْ عِنْدِهِ مَعَ حَنُوطِ أَخِيهِ رَسُولِ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله)، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ اَلمَلَائِكَةَ تَنْشُرُ لَهُ
قَبْرَهُ، فَلَمَّا قُبِضَ (عليه السلام) كَانَ فِي مَا أَوْصَى بِهِ اِبْنَيْهِ
اَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ (عليهما السلام) إِذْ قَالَ لَهُمَا: إِذَا مِتُّ
فَغَسِّلَانِي وَحَنِّطَانِي، وَاِحْمِلَانِي بِاللَّيْلِ سِرًّا، وَاِحْمِلَا يَا
بَنِيَّ بِمُؤَخَّرِ اَلسَّرِيرِ وَاِتَّبِعَا مُقَدَّمَهُ، فَإِذَا وُضِعَ
فَضَعَا، وَاِدْفِنَانِي فِي اَلْقَبْرِ اَلَّذِي يُوضَعُ اَلسَّرِيرُ عَلَيْهِ،
وَاِدْفِنَانِي مَعَ مَنْ يُعِينُكُمَا عَلَى دَفْنِي فِي اَللَّيْلِ
وَسَوِّيَاهُ»(٢٥٩).
* وفي (الإرشاد) بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ
مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ اَلْبَاقِرَ (عليه السلام): أَيْنَ دُفِنَ أَمِيرُ
اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)؟ قَالَ: «دُفِنَ بِنَاحِيَةِ اَلْغَرِيَّيْنِ،
وَدُفِنَ
-----------------
(٢٥٨) كامل الزيارات (ص ٨٩ - ٩١/ ح ٩١/٢).
(٢٥٩) فرحة الغريِّ (ص ٧٨/ ح ٢١).
قَبْلَ طُلُوعِ اَلْفَجْرِ، وَدَخَلَ قَبْرَهُ اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ
وَمُحَمَّدٌ بَنُو عَلِيٍّ (عليهم السلام) وَعَبْدُ اَلله بْنُ جَعْفَرٍ (رضي الله
عنه)»(٢٦٠).
شبهة مقابل بديهة:
ممَّا هو معروف أنَّ الشُّبُهات لا تقف عند حدٍّ ولن تقف، حتَّى إنَّ الذات
المقدَّسة ووجود الله تعالى قيل بعدم وجوده، رغم أنَّه ورد في وضوح وجوده وضرورة
الإيمان به ما روي عن الإمام الحسين (عليه السلام): «كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ
بِمَا هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ، أَيَكُونُ لِغَيْرِكَ مِنَ
اَلظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ اَلمُظْهِرَ لَكَ، مَتَى غِبْتَ
حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ»(٢٦١).
فإذا كان الأمر في الذات المقدَّسة هكذا فما بالك بغيره؟! ومن بين الأُمور الواضحة
التي أُثيرت حولها الشُّبُهات مدفن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الغريِّ.
قال ابن كثير: (ودُفِنَ بدار الأمارة بالكوفة خوفاً عليه من الخوارج أنْ ينبشوا عن
جثَّته، هذا هو المشهور، ومَنْ قال: إنَّه حمل على راحلته فذهبت به فلا يُدرى أين
ذهب، فقد أخطأ وتكلَّف ما لا علم له به ولا يسيغه عقل ولا شرع، وما يعتقده كثير من
جهلة الروافض من أنَّ قبره بمشهد النجف فلا دليل على ذلك ولا أصل له، ويقال: إنَّما
ذاك قبر المغيرة بن شعبة، حكاه الخطيب البغدادي، عن أبي نعيم الحافظ، عن أبي بكر
الطلحي، عن محمّد بن عبد الله الحضرمي الحافظ، عن مطر أنَّه قال: لو علمت الشيعة
قبر هذا الذي يُعظِّمونه بالنجف لرجموه بالحجارة، هذا قبر المغيرة بن شعبة... وقد
قيل: إنَّ عليًّا دُفِنَ قبلي المسجد الجامع من الكوفة، قاله الواقدي، والمشهور
بدار الأمارة. وقد
-----------------
(٢٦٠) الإرشاد (ج ١/ ص ٢٤ و٢٥).
(٢٦١) إقبال الأعمال (ص ٣٤٨ و٣٤٩/ ط القديمة).
حكى الخطيب البغدادي عن أبي نعيم الفضل بن دكين، أنَّ الحسن
والحسين حوَّلاه فنقلاه إلى المدينة، فدفناه بالبقيع عند قبر فاطمة. وقيل: إنَّهم
لمَّا حملوه على البعير ضلَّ منهم، فأخذته طيء يظنُّونه مالاً، فلمَّا رأوا أنَّ
الذي في الصندوق ميِّت ولم يعرفوه دفنوا الصندوق بما فيه، فلا يعلم أحد أين قبره،
حكاه الخطيب أيضاً. وروى الحافظ ابن عساكر عن الحسن، قال: «دفنت عليًّا في حجرة من
دور آل جعدة». وعن عبد المَلِك بن عمير، قال: لمَّا حفر خالد بن عبد الله أساس دار
ابنه يزيد استخرجوا شيخاً مدفوناً أبيض الرأس واللحية كأنَّما دُفِنَ بالأمس، فهمَّ
بإحراقه، ثمّ صرفه الله عن ذلك، فاستدعى بقباطي فلفَّه فيها وطيَّبه وتركه مكانه.
قالوا: وذلك المكان بحذاء باب الورَّاقين ممَّا يلي قبلة المسجد في بيت إسكاف، وما
يكاد يقرُّ في ذلك الموضع أحد إلَّا انتقل منه. وعن جعفر بن محمّد الصادق قال:
«صُلِّي على عليٍّ ليلاً، ودُفِنَ بالكوفة، وعُمِيَ موضع قبره، ولكنَّه عند قصر
الإمارة». وقال ابن الكلبي: شهد دفنه في الليل الحسن والحسين وابن الحنفيَّة وعبد
الله بن جعفر وغيرهم من أهل بيتهم، فدفنوه في ظاهر الكوفة، وعموا قبره خيفة عليه من
الخوارج وغيرهم)(٢٦٢).
فلاحظ كيف جعل الأقوال عديدة ليوهم على الناس الاختلاف.
ثمّ لاحظ كيف جعل القول الحقَّ آخرها ليُبعِد قبوله، وقد مرَّت عليك روايات مدفنه
من طُرُقنا.
وكيف كان، فقد يقال: إنَّ أوَّل من ذكر هذه الشبهة هو أبو جعفر الحضرمي الكوفي
المعروف بـ(مُطَيَّن)(٢٦٣).
-----------------
(٢٦٢) البداية والنهاية (ج ٧/ ص ٣٦٥ و٣٦٦).
(٢٦٣) تاريخ بغداد (ج ١/ ص ١٤٨).
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
١ - بثبوت قبره (عليه السلام) في موضعه بما مرَّ عليك من روايات عديدة، وضرورة
ثابتة، فراجع.
٢ - لقد ذكر غير واحد أنَّ المغيرة بن شعبة قد دُفِنَ في (الثويَّة) وليس في (الغريِّ)،
والثويَّة غير الغريِّ، منهم:
أ - ابن الأثير، قال: (الثويَّة: هي بضم الثاء وفتح الواو وتشديد الياء، ويقال:
بفتح الثاء وكسر الواو: موضع بالكوفة، به قبر أبي موسى الأشعري، والمغيرة بن
شعبة)(٢٦٤).
ب - ياقوت الحموي، قال: (الثويَّة: بالفتح ثمَّ الكسر، وياء مشدَّدة، ويقال:
الثويَّة بلفظ التصغير: موضعٌ قريبٌ من الكوفة، وقيل: بالكوفة، وقيل: خريبةٌ إلى
جانب الحيرة على ساعةٍ منها، ذكر العلماء أنَّها كانت سجناً للنعمان بن المنذر، كان
يحبس بها مَنْ أراد قتله، فكان يُقال لمن حُبِسَ بها: ثوى، أي أقام، فسُمِّيت
الثويَّة بذلك. وقال ابن حبَّان: دُفِنَ المغيرة بن شعبة بالكوفة بموضعٍ يقال
له: الثويَّة، وهناك دُفِنَ أبو موسى الأشعريُّ في سنة خمسين)(٢٦٥).
٣ - ما دلَّ من غير طُرُقنا على أنَّ مدفنه (عليه السلام) بالغريِّ، ومنهم:
أ - ابن أبي الدنيا بسنده عن ابن عيَّاش: سألت أبا حصين، وعاصم بن بهدلة، والأعمش
وغيرهم، فقلتُ: أخبركم أحدٌ أنَّه صلَّى على عليٍّ أو شهد دفنه؟ قالوا: لا. فسألتُ
أباك محمَّد بن السائب، فقال: أُخرِجَ به ليلاً، خرج به الحسن والحسين، وابن
الحنفيَّة، وعبد الله بن جعفر، وعدَّةٌ من أهل بيتهم، فدُفِنَ في ظهر
-----------------
(٢٦٤) النهاية في غريب الحديث (ج ١/ ص ٢٣١).
(٢٦٥) معجم البلدان (ج ٢/ ص ٨٧).
الكوفة، قال
[أبو بكر]: فقال: قلت لأبيك: لِمَ فُعِلَ به ذلك؟ قال: مخافة أنْ تنبشه الخوارج أو
غيرهم)(٢٦٦).
ب - أبو الفرج الأصبهانيُّ بسنده عن الحسن بن عليٍّ الخلا، عن جدِّه، قال: قلت
للحسن بن علي: أين دفنتم أمير المؤمنين؟ قال: «خرجنا به ليلاً من منزله حتَّى مررنا
به على مسجد الأشعث، حتَّى خرجنا به إلى الظهر بجنب الغريِّ»(٢٦٧).
٤ - تأليف الكُتُب المستقلَّة في دفع الشبهة، منها كتاب (فرحة الغريِّ في تعيين قبر
أمير المؤمنين عليٍّ) لابن طاوس (رحمه الله)، حيث أثبت مفصَّلاً الموضع الحالي ودفع
ما قيل، فراجع.
* * *
الفقرة الثالثة والعشرون
«وَاَلْأُمَّةُ مُصِرَّةٌ عَلَى مَقْتِهِ، مُجْتَمِعَةٌ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمِهِ
وَإِقْصَاءِ وُلْدِهِ»
قلنا سابقاً: إنَّ هناك حالة اعوجاج فكري وعملي أُصيبت بها الأُمَّة بعد شهادة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بانزوائها عن أهل البيت (عليهم السلام) وميلها بشكل كبير إلى أعدائهم. وهذه الحالة لو كانت الأُمَّة قد وقفت عليها لكان الأمر هيِّناً بعض الشيء، إلَّا أنَّ نصوصاً كثيرةً فضلاً عمَّا يتحدَّث عنه المقطع الندبي المبارك يعكس لنا حالة أُخرى، وهي حالة كُسِيَت فيها قلوب أبناء هذه الأُمَّة بالقسوة والفضاضة والغلظة تجاه أهل البيت (عليهم السلام) إلى حدٍّ يصعب تصوُّره في بعض الأحيان تجاه أُمَّة عاشت في كنف الرأفة والرحمة المحمّديَّة لفترة زمنيَّة طويلة، ولكن الواقع الذي يعكس حالة الإصرار على مقت أهل البيت (عليهم السلام)، والاجتماع لا على عدائهم فقط، بل الاجتماع
-----------------
(٢٦٦) مقتل الإمام أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) (ص ٧٩/ ح ٦٨).
(٢٦٧) مقاتل الطالبيِّين (ص ٢٦).
على قتلهم وتقطيع أوصالهم والتنكيل بهم وإقصائهم وإبعادهم وإذلالهم
والاستخفاف بهم، بل على كلِّ معنى من المعاني التي تعكسها الحالة الرذيلة
والدونيَّة من الضحالة والوضاعة التي اتَّصف بها جمهور من المسلمين بعد شهادة
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، حتَّى وصفهم المقطع الشريف بأنَّهم مجتمعون على ما
يفعلون، من قطع رحم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وتصغير عظيم منزلتهم،
ومنازعتهم، واستعدائهم.
ومن أشدّ ما يُعكِس روائيًّا في تصوير هذه الحالة ما روي عن أمير المؤمنين (عليه
السلام) في (نهج البلاغة): «اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ
وَمَنْ أَعَانَهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَئُوا إِنَائِي،
وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقًّا كُنْتُ أَوْلَى بِه مِنْ غَيْرِي،
وَقَالُوا: أَلَا إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِي اَلْحَقِّ أَنْ
تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً، أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً، فَنَظَرْتُ فَإِذَا
لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَلَا ذَابٌّ وَلَا مُسَاعِدٌ إِلَّا أَهْلَ بَيْتِي،
فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلمَنِيَّةِ، فَأَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى، وَجَرِعْتُ
رِيقِي عَلَى اَلشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ اَلْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ
اَلْعَلْقَمِ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ اَلشِّفَارِ»(٢٦٨).
وعنه (عليه السلام): «حَقُّ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) أَعْظَمُ مِنْ
حَقِّ اَلْوَالِدَيْنِ، وَحَقُّ رَحِمِهِ أَيْضاً أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ رَحِمِهِمَا،
فَرَحِمُ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) أَوْلَى بِالصِّلَةِ، وَأَعْظَمُ
فِي اَلْقَطِيعَةِ. فَالْوَيْلُ كُلُّ اَلْوَيْلِ لِمَنْ قَطَعَهَا، وَاَلْوَيْلُ
كُلُّ اَلْوَيْلِ لِمَنْ لَمْ يُعَظِّمْ حُرْمَتَهَا. أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّ
حُرْمَةَ رَحِمِ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) حُرْمَةُ رَسُولِ اَلله،
وَأَنَّ حُرْمَةَ رَسُولِ اَلله حُرْمَةُ اَلله تَعَالَى، وَأَنَّ اَللهَ أَعْظَمُ
حَقًّا مِنْ كُلِّ مُنْعِمٍ سِوَاهُ»(٢٦٩).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «لَمْ نَزَلْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ مُنْذُ قُبِضَ
رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) نُذَلُّ وَنُقْصَى وَنُحْرَمُ وَنُقْتَلُ
وَنُطْرَدُ»(٢٧٠).
-----------------
(٢٦٨) نهج البلاغة (ص ٣٣٦/ ح ٢١٧).
(٢٦٩) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص ٣٥).
(٢٧٠) بحار الأنوار (ج ٢/ ص ٢١٨/ ح ١٤).
* * *
الفقرة الرابعة والعشرون
«إِلَّا اَلْقَلِيلَ مِمَّنْ وَفَى لِرِعَايَةِ اَلحَقِّ فِيهِمْ، فَقُتِلَ مَنْ
قُتِلَ، وَسُبِيَ مَنْ سُبِيَ، وَأُقْصِيَ مَنْ أُقْصِيَ، وَجَرَى اَلْقَضَاءُ
لهُمْ بِمَا يُرْجَى لَهُ حُسْنُ اَلمَثُوبَةِ»
بعد أنْ تبيَّن في الفقرات القريبة
المتقدِّمة أنَّ هناك سُنَّة أنشأها الجيل الأوَّل بعد النبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله) وسار عليها المتأخِّرون، وهي سُنَّة الإقصاء واجتماع الأُمَّة وإصرارها على
معاداة أهل البيت (عليهم السلام) وتقطيع رحمهم والاستحواذ على حقِّهم.
ولكن مع ذلك الظلم والمقت وما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) وُجِدَ القليل
ممَّن وفى لرعاية حقِّهم والانتهاج بنهجهم والوفاء والولاء لهم، وقد صرَّحت بذلك
العديد من الروايات، من بينها:
* في (رجال الكشِّي) بسنده عَنِ اَلْحَارِثِ اَلنَّصْرِيِّ بْنِ اَلمُغِيرَةِ،
قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اَلمَلِكِ بْنَ أَعْيَنَ يَسْأَلُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه
السلام)، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُهُ حَتَّى قَالَ لَهُ: فَهَلَكَ اَلنَّاسُ
إِذاً؟ فَقَالَ: «إِي وَاَلله يَا اِبْنَ أَعْيَنَ هَلَكَ اَلنَّاسُ أَجْمَعُونَ»،
قُلْتُ: مَنْ فِي اَلشَّرْقِ وَمَنْ فِي اَلْغَرْبِ، قَالَ: فَقَالَ: «إِنَّهَا
فُتِحَتْ عَلَى اَلضَّلَالِ، إِي وَاَلله هَلَكُوا إِلَّا ثَلَاثَةً، ثُمَّ لَحِقَ
أَبُو سَاسَانَ وَعَمَّارٌ وَشُتَيْرَةُ(٢٧١) وَأَبُو عَمْرَةَ، فَصَارُوا
سَبْعَةً»(٢٧٢).
* وفي (الأُصول الستَّة عشر): جَابِرٌ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام):
«قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): لَا يَنْجُو مِنَ اَلنَّارِ
وَشِدَّةِ تَغَيُّظِهَا وَزَفِيرِهَا وَقَرْنِهَا وَحَمِيمِهَا مَنْ
-----------------
(٢٧١) من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال الشيخ الطوسي ١ في رجاله (ص ٦٨/
الرقم ٦٢٣/٩): (شرحبيل وهبيرة وكريب وبريد وسمير، ويقال: شتير، هؤلاء إخوة بنو شريح،
قُتِلُوا بصفِّين، كلُّ واحدٍ يأخذ الراية بعد الآخر حتَّى قُتِلُوا).
(٢٧٢) رجال الكشِّي (ج ١/ ص ٣٤ و٣٥/ ح ١٤).
عَادَى
عَلِيًّا وَتَرَكَ وَلَايَتَهُ وَأَحَبَّ مَنْ عَادَاهُ»، فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ
زَوْجُ اَلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله): وَاَلله مَا أَعْرِفُ مِنْ أَصْحَابِكَ
يَا رَسُولَ اَلله مَنْ يُحِبُّ عَلِيًّا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ»، قَالَ:
«فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): اَلْقَلِيلُ مِنْ
اَلمُؤْمِنِينَ كَثِيرٌ، وَمَنْ تَعْرِفِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَتْ: أَعْرِفُ أَبَا
ذَرٍّ وَاَلْمِقْدَادَ وَسَلْمَانَ، وَقَدْ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ عَلِيًّا
بِحُبِّكَ إِيَّاهُ وَنَصِيحَتِهِ لَكَ»، قَالَ: «فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله): صَدَقْتِ، إِنَّكِ صِدِّيقَةٌ اِمْتَحَنَ اَللهُ قَلْبَكِ
لِلْإِيمَانِ»(٢٧٣).
* وفي (سعد السعود) جاء في الحديث القدسي في وصف مَنْ وفى لأهل البيت (عليهم
السلام): «أَنَا اَلسَّلَامُ، وَمَعِيَ اَلسَّلَامُ، وَلِي يَحِقُّ اَلْجَلَالُ
وَاَلْإِكْرَامُ، فَمَرْحَباً بِعِبَادِيَ اَلَّذِينَ حَفِظُوا وَصِيَّتِي فِي
أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّ، وَرَاعُوا حَقِّي، وَخَافُونِي بِالْغَيْبِ، وَكَانُوا
مِنِّي عَلَى [كُلِّ] حَالٍ مُشْفِقِينَ»(٢٧٤).
وهذا الذي حصل من افتراق الناس بعد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) إلى فرقتين يجعل
الإنسان المُسلم على مفرق طريقين، وهنا يأتي دور العقل الواعي الذي يريد لنفسه
وذاته الخلاص في أنَّ يُميِّز بين طريقين - وإنْ قلَّ أفراد أحدهما إلى حدِّ الندرة
- لا بدَّ أنْ يسلك أحدهما. ولا بدَّ من المراجعة والتنقيب عن الأسباب التي دعت
مَنْ كانوا بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لممارسة أشنع وأقبح الأفعال تجاه
عترته (عليهم السلام) مع تصريح القرآن الكريم على ضرورة احترامهم وتقديمهم، وأنَّهم
الميزان في اتِّباع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
الدعاء المبارك يعكس لنا صوراً من الممارسات المختلفة والمتعدِّدة على أهل البيت
(عليهم السلام) بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وبطبيعة الحال فإنَّ هذه
الممارسات مع اختلافها لها درجات متفاوتة، وقد توجد هناك ما لم يذكره التأريخ من
فضائع وجرائم بحقِّ العترة الطاهرة (عليهم السلام).
ولكن الغريب حقًّا في كلِّ ذلك أنَّه رغم الإقصاء والمقت وتقليل القدر،
-----------------
(٢٧٣) الأُصول الستَّة عشر (ص ٢١٦ و٢١٧/ ح ٢١٦/١٢).
(٢٧٤) سعد السعود (ص ١١٠).
فضلاً عن
القتل والسبي والتنكيل، نجد اليوم أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) متربِّعون على
القمَّة في حُبِّ الناس لهم فضلاً عن المسلمين.
وفي المتون الحديثيَّة نجد أنَّ الكثير من روايات أهل البيت (عليهم السلام) عكست
لنا هذه الحالة، فعن الإمام عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام) يتحدَّث عمَّا جرى
عليهم - أي أهل البيت (عليهم السلام) -، فيقول عن شهر المحرَّم: «إِنَّ
اَلمُحَرَّمَ شَهْرٌ كَانَ أَهْلُ اَلْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ فِيهِ
اَلْقِتَالَ، فَاسْتُحِلَّتْ فِيهِ دِمَاؤُنَا، وَهُتِكَ فِيهِ حُرْمَتُنَا،
وَسُبِيَ فِيهِ ذَرَارِيُّنَا وَنِسَاؤُنَا، وَأُضْرِمَتِ اَلنِّيرَانُ فِي
مَضَارِبِنَا، وَاُنْتُهِبَ مَا فِيهَا مِنْ ثَقَلِنَا، وَلَمْ تُرْعَ لِرَسُولِ
اَلله (صلَّى الله عليه وآله) حُرْمَةٌ فِي أَمْرِنَا. إِنَّ يَوْمَ اَلْحُسَيْنِ
أَقْرَحَ جُفُونَنَا، وَأَسْبَلَ دُمُوعَنَا، وَأَذَلَّ عَزِيزَنَا بِأَرْضِ كَرْبٍ
وَبَلَاءٍ، وَأَوْرَثَتْنَا اَلْكَرْبَ وَاَلْبَلَاءَ إِلَى يَوْمِ
اَلْاِنْقِضَاءِ، فَعَلَى مِثْلِ اَلْحُسَيْنِ فَلْيَبْكِ اَلْبَاكُونَ...»(٢٧٥).
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام) عند دخول المدينة بعد وقعة كربلاء: «وَاَلله
لَوْ أَنَّ اَلنَّبِيَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فِي قِتَالِنَا كَمَا تَقَدَّمَ
إِلَيْهِمْ فِي اَلْوِصَايَةِ بِنَا لَمَا زَادُوا عَلَى مَا فَعَلُوا بِنَا»(٢٧٦).
وفي حديث للإمام الحسن (عليه السلام) مع جدِّه المصطفى (صلَّى الله عليه وآله)
يتحدَّث له عن مصارعهم وهي شتَّى: «يَا أَبَهْ، لَقَدْ دَخَلْتَ بَيْتَنَا، فَمَا
سُرِرْنَا بِشَيْءٍ كَسُرُورِنَا بِدُخُولِكَ، ثُمَّ بَكَيْتَ بُكَاءً غَمَّنَا،
فَمَا أَبْكَاكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَتَانِي جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)
آنِفاً، فَأَخْبَرَنِي أَنَّكُمْ قَتْلَى، وَأَنَّ مَصَارِعَكُمْ شَتَّى، فَقَالَ:
يَا أَبَهْ، فَمَا لِمَنْ زَارَ قُبُورَنَا عَلَى تَشَتُّتِهَا؟ فَقَالَ: يَا
بُنَيَّ، أُولَئِكَ طَوَائِفُ مِنْ أُمَّتِي يَزُورُونَكُمْ فَيَلْتَمِسُونَ
بِذَلِكَ اَلْبَرَكَةَ، وَحَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ آتِيَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ
حَتَّى أُخَلِّصَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ اَلسَّاعَةِ وَمِنْ ذُنُوبِهِمْ،
وَيُسْكِنُهُمُ اَللهُ اَلْجَنَّةَ»(٢٧٧).
-----------------
(٢٧٥) أمالي الصدوق (ص ١٩٠/ ح ١٩٩/٢).
(٢٧٦) الملهوف على قتلى الطفوف (ص ١١٧).
(٢٧٧) كامل الزيارات (ص ١٢٥ و١٢٦/ ح ١٤٠/٩).
عجيب أمر هذه الأُمَّة التي ما زال قسط كبير منها وإلى يوم الناس هذا ينتهك حرمة
أهل البيت (عليهم السلام) بأساليب وألوان وأشكال مختلفة، لاحظ كلام الإمام السجَّاد
(عليه السلام) وكأنَّه يخاطب هؤلاء جميعاً: «أَنَا اِبْنُ اَلشَّهِيدِ بِشَطِّ
اَلْفُرَاتِ مِنْ أَرْضِ كَرْبَلَا، أَنَا اِبْنُ مَنْ هُتِكَتْ حَرِيمُهُ،
وَسُلِبَتْ نِعَمُهُ، أَنَا اِبْنُ مَنِ اِنْتُهِبَ مَالُهُ وَسُبِيَتْ عِيَالُهُ،
أَنَا اِبْنُ مَنْ قُتِلَ صَبْراً، فَتَلَقَّى بِذَلِكَ فَخْراً. أَيُّهَا
اَلنَّاسُ، نَاشَدتُكُمُ اَللهَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ كَتَبْتُمْ إِلَى
أَبِي بَالْخُدَعِ وَاَلْغَدْرِ، وَأَعْطَيْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمُ اَلْعُهُودُ
وَاَلمَوَاثِيقَ بِالْبَيْعَةِ وَاَلْأَيْمَانِ، فَنَكَثْتُمْ عَمَّا أَقْرَرْتُمْ
لَهُ، ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [الفتح: ١٠]،
قَتَلْتُمُوهُ وَخَذَلْتُمُوهُ، فَتَبًّا لَكُمْ مَا قَدَّمْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
وَسُوءِ رَأْيِكُمْ. بِأَيِّ عَيْنٍ تَنْظُرُونَ إِلَى جَدِّي رَسُولِ اَلله (صلَّى
الله عليه وآله) إِذْ يَقُولُ لَكُمْ: قَتَلْتُمْ عِتْرَتِي، وَهَتَكْتُمْ
حُرْمَتِي، فَلَسْتُمْ مِنْ أُمَّتِي؟»(٢٧٨).
نعم، ما حصل للعترة الطاهرة (عليهم السلام) تصديق لظنِّ إبليس في إغواء الناس
وصرفهم عن العترة الطاهرة وجعلهم أعداء لهم (عليهم السلام) بدلاً من اتِّخاذهم
أولياء وهداة، ففي الخبر: قَالَتْ زَيْنَبُ [(عليها السلام)]: فَلَمَّا ضَرَبَ
اِبْنُ مُلْجَمٍ (لَعَنَهُ اَللهُ) أَبِي (عليه السلام)، وَرَأَيْتُ أَثَرَ
اَلمَوْتِ مِنْهُ، قُلْتُ لَهُ: يَا أَبَهْ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ أَيْمَنَ بِكَذَا
وَكَذَا، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْكَ، فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةِ،
اَلْحَدِيثُ كَمَا حَدَّثَتْكِ أُمُّ أَيْمَنَ، وَكَأَنِّي بِكِ وَبِبَنَاتِ
أَهْلِكِ سَبَايَا بِهَذَا اَلْبَلَدِ أَذِلَّاءَ خَاشِعِينَ، تَخَافُونَ أَنْ
يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنَّاسُ ، فَصَبْراً صَبْراً، فَوَاَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ
وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ مَا لله عَلَى ظَهْرِ اَلْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ وَلِيٌّ
غَيْرُكُمْ وَغَيْرُ مُحِبِّيكُمْ وَشِيعَتِكُمْ، وَلَقَدْ قَالَ لَنَا رَسُولُ
اَلله حِينَ أَخْبَرَنَا بِهَذَا اَلْخَبَرِ أَنَّ إِبْلِيسَ فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ
يَطِيرُ فَرَحاً، فَيَجُولُ اَلْأَرْضَ كُلَّهَا فِي شَيَاطِينِهِ وَعَفَارِيتِهِ،
-----------------
(٢٧٨) تحفة الأزهار (ج ٢/ ص ١٢٣).
فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ اَلشَّيَاطِينِ، قَدْ أَدْرَكْنَا مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ اَلطَّلِبَةَ، وَبَلَغْنَا فِي هَلَاكِهِمُ اَلْغَايَةَ، وَأَوْرَثْنَاهُمُ اَلنَّارَ إِلَّا مَنِ اِعْتَصَمَ بِهَذِهِ اَلْعِصَابَةِ، فَاجْعَلُوا شُغُلَكُمْ بِتَشْكِيكِ اَلنَّاسِ فِيهِمْ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ، وَإِغْرَائِهِمْ بِهِمْ وَأَوْلِيَائِهِمْ، حَتَّى تَسْتَحْكِمَ ضَلَالَةُ اَلْخَلْقِ وَكُفْرُهُمْ، وَلَا يَنْجُوَ مِنْهُمْ نَاجٍ، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ وَهُوَ كَذُوبٌ، أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ مَعَ عَدَاوَتِكُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَلَا يَضُرُّ مَعَ مَحَبَّتِكُمْ وَمُوَالَاتِكُمْ ذَنْبٌ غَيْرَ اَلْكَبَائِرِ»(٢٧٩).
* * *
الفقرة الخامسة والعشرون
«إِذْ كَانَتِ اَلْأَرْضُ لله يُورِثُها مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
وَاَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ، وَسُبْحانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا
لَمَفْعُولاً، وَلَنْ يُخْلِفَ اَللهُ وَعْدَهُ وَهُوَ اَلْعَزيزُ اَلحَكيمُ»
أهمّيَّة استعراض
مسيرة الأئمَّة (عليهم السلام) في التضحية وبناء العقيدة الحقَّة:
يتحدَّث المقطع الآنف الذكر بفقراته المتعدِّدة عن حقيقةٍ لا بدَّ أنْ نُذكِّر بها
أنفسنا دائماً، حيث من الضروري أنْ نلتفت إلى قضيَّة مهمَّة وهي أنَّ وجودنا مرهونٌ
بسلامة عقيدتنا واستقامة ديننا، لأنَّهما الأساس الذي يُحدِّد قيمة حياتنا ووجهة
مصيرنا، كلُّ ما عدا ذلك زائل، مهما بلغت مكانته أو قيمته في أعين الناس، ولنا في
الأئمَّة (عليهم السلام) وما جرى عليهم من أحداث جسام، كما يعرضه هذا الدعاء
المبارك، أُسوةٌ وقدوةٌ عُليا في الثبات على المبادئ والتضحية في سبيل الله.
-----------------
(٢٧٩) بحار الأنوار (ج ٤٥/ ص ١٨٣/ ح ٣٠).
فكون الأرض ملكاً لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، لم يمنع أنْ يُبتلى أهل البيت
(عليهم السلام) بما جرى عليهم من أشدّ أنواع الظلم والتنكيل، على الرغم من أنَّهم
كانوا يمتلكون القدرة الكاملة على سحق الظلمة، وعيش حياة مريحة في رفاهية وسلام،
إلَّا أنَّهم اختاروا الصبر والتمسُّك بالحقِّ، مُجسِّدين بذلك النموذج الأعلى في
الإيثار والوفاء بالمسؤوليَّة الرساليَّة في هداية الناس والدفاع عن الحقِّ
والشريعة.
هذا الدعاء المبارك يحمل بين طيَّاته رسائل تربويَّة عظيمة، فضلاً عن التأكيد على
أبعاد عقائديَّة عميقة وترجمة تاريخيَّة دقيقة لما وقع للأئمَّة (عليهم السلام) من
أحداث.
البُعد الأخلاقي والتربوي للدعاء يخاطب ضمير الإنسان ووجدانه، ليضعه أمام حقيقة
وجوديَّة عميقة: قف قليلاً، وتأمَّل في مصيرك، فأنت زائل لا محالة، فماذا أعددت من
زاد لسفرك الأبدي؟
إنَّ الله سبحانه وتعالى في هذا المقطع يُبرز وعده الثابت لأهل البيت (عليهم
السلام)، ووعد الله لا يُخلَف.
الأرض ستؤول إلى وارثها الشرعي، الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي سيملؤها
قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
هذا الوعد الإلهي يتجاوز البُعد الزمني ليُعطي للأُمَّة أملاً مستداماً وعدالةً
منتظرةً، كما أنَّ الدعاء يُشير إلى أنَّ المتَّقين سينالون نصيباً من هذا الإرث،
لأنَّ العاقبة لهم كما أكَّد القرآن الكريم والدعاء على ذلك.
وهنا يبرز السؤال الجوهري الذي يجب أنْ يُقلِق ضمائرنا: كيف نكون من المتَّقين؟ كيف
نتهيَّأ لننال شرف العاقبة مع الوارثين، محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين؟
هذا السؤال لا يتطلَّب إجابة نظريَّة فقط، بل يستدعي جهداً عمليًّا في التزكية
والإصلاح والعمل الصالح.
ويزداد الأسى والحزن عمقاً عندما نستحضر ما جرى على أهل البيت (عليهم السلام)، حيث
نقرأ في النصوص عن مظلوميَّتهم ومعاناتهم، وكيف ضيَّعت الأُمَّة أولياءها وشفعاءها
الذين كانوا السبيل إلى هدايتها وصلاحها. هذه المظلوميَّة ليست مجرَّد حدث تاريخي،
بل هي نقطة تأمُّل عميقة في ما يمكن أنْ يحدث عندما تُهمِل الأُمَّة مبادئها
وقيادتها الربَّانيَّة.
لكنَّنا نجد في وعد الله تعالى العزاء الكبير: أنَّ الله تعالى لن يُضيِّعهم،
وأنَّهم سيُنصَرون في نهاية المطاف، وسيُعوَّضهم الله تعالى بما يُقِرُّ أعينهم
وأعين شيعتهم وأتباعهم. هذا الوعد الإلهي المؤكَّد بنصوص القرآن الكريم يربط بين
الماضي والحاضر والمستقبل، ليكون درساً للأُمَّة بأنَّ الحقَّ مهما طالت معاناته
سيظهر وينتصر، وأنَّ أهل البيت (عليهم السلام) هم القدوة والمثال في الصبر والثبات
على طريق الحقِّ.
قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ
مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: ٥٥).
* في (الاحتجاج): قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «وَذَلِكَ إِذَا
لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلْإِسْلَامِ إِلَّا اِسْمُهُ، وَمِنَ اَلْقُرْآنِ إِلَّا
رَسْمُهُ، وَغَابَ صَاحِبُ اَلْأَمْرِ بِإِيضَاحِ اَلْغَدْرِ لَهُ فِي ذَلِكَ،
لِاشْتِمَالِ اَلْفِتْنَةِ عَلَى اَلْقُلُوبِ حَتَّى يَكُونَ أَقْرَبُ اَلنَّاسِ
إِلَيْهِ أَشَدَّهُمْ عَدَاوَةً لَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤَيِّدُهُ اَللهُ
بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا، وَيُظْهِرُ دِيْنَ نَبِيِّهِ (صلَّى الله عليه وآله)
عَلَى يَدَيْهِ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ اَلمُشْرِكُونَ...»(٢٨٠).
-----------------
(٢٨٠) الاحتجاج (ج ١/ ص ٣٨٢).
* وفي (الكافي) بسنده عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَابُلِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه
السلام)، قَالَ: «وَجَدْنَا فِي كِتَابِ عَلِيٍّ (عليه السلام): ﴿إِنَّ الأَرْضَ
للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾
[الأعراف: ١٢٨]، أَنَا وَأَهْلُ بَيْتِيَ اَلَّذِينَ أَوْرَثَنَا اَللهُ
اَلْأَرْضَ، وَنَحْنُ اَلمُتَّقُونَ، وَاَلْأَرْضُ كُلُّهَا لَنَا»(٢٨١).
* وفيه بسنده عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «قَالَ
رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): خَلَقَ اَللهُ آدَمَ وَأَقْطَعَه
اَلدُّنْيَا قَطِيعَةً، فَمَا كَانَ لِآدَمَ (عليه السلام) فَلِرَسُولِ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله)، وَمَا كَانَ لِرَسُولِ اَلله فَهُوَ لِلأَئِمَّةِ مِنْ آلِ
مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)»(٢٨٢).
* وفي (مناقب آل أبي طالب): مِمَّا كَتَبَ (عليه السلام) إِلَى أَبِي اَلْحَسَنِ
عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ اَلْقُمِّيِّ: «... عَلَيْكَ
بِالصَّبْرِ وَاِنْتِظَارِ اَلْفَرَجِ، قَالَ اَلنَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله):
أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ، وَلَا يَزَالُ شِيعَتُنَا فِي
حُزْنٍ حَتَّى يَظْهَرَ وَلَدِيَ اَلَّذِي بَشَّرَ بِهِ اَلنَّبِيُّ، يَمْلَأُ
اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، فَاصْبِرْ يَا
شَيْخِي يَا أَبَا اَلْحَسَنِ عَلِيًّا وَأْمُرْ جَمِيعِ شِيعَتِي بِالصَّبْرِ،
فَـ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: ١٢٨]، وَاَلسَّلَامُ عَلَيْكَ وَعَلَى جَمِيعِ
شِيعَتِنَا، وَرَحْمَةُ اَلله وَبَرَكَاتُهُ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَآلِهِ»(٢٨٣).
نعم، حالنا التأسِّي بحال أمامنا (عجَّل الله فرجه) - ومن أوَّل لحظة ولادته -
ساجداً لوجهه، جاثياً على ركبتيه، رافعاً سبَّابتيه، وهو يقول: «أَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اَللهُ [وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ]، وَأَنَّ جَدِّي مُحَمَّداً
رَسُولُ اَلله، وَأَنَّ أَبِي أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ»، ثُمَّ عَدَّ إِمَاماً
إِمَاماً إِلَى أَنْ بَلَغَ إِلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «اَللَّهُمَّ أَنْجِزْ
لِي مَا وَعَدْتَنِي، وَأَتْمِمْ لِي أَمْرِي، وَثَبِّتْ وَطْأَتِي، وَاِمْلَإِ
اَلْأَرْضَ بِي عَدْلاً وَقِسْطاً»(٢٨٤).
-----------------
(٢٨١) الكافي (ج ١/ ص ٤٠٧/ باب أنَّ الأرض كلَّها للإمام (عليه السلام)/ ح ١).
(٢٨٢) الكافي (ج ١/ ص ٤٠٩/ باب أنَّ الأرض كلَّها للإمام (عليه السلام)/ ح ٧).
(٢٨٣) مناقب آل أبي طالب (ج ٣/ ص ٥٢٧).
(٢٨٤) كمال الدِّين (ص ٤٢٨/ باب ٤٢/ ح ٢).
فذات الأخبار المرويَّة عنهم تُفسِّر لنا - مضافاً إلى ما تقدَّم - وجه ما يخفى علينا من حكمة ما يجري عليهم وما نزل من عظيم البلاء الذي لا تطيقه الجبال ولا يتحمَّل سماعه كلُّ ذي بال، هذا وهم بهذه المنزلة العظيمة والمقام الشامخ المدلول عليه صريحاً من النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، فلكي لا تذهب بالمؤمن المذاهب، تأتي هذه الأخبار لتُلفِت المؤمن وتُوقِفه على وجوه من الحكمة تريح باله وتذهب كدر نفسه وأساها على ما جرى ووقع في العترة المصطفويَّة الطاهرة (عليهم السلام).
* * *
الفقرة السادسة والعشرون
«فَعَلَى اَلْأَطائِبِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صَلَّى اَللهُ
عَلَيْهِمَا وَآلهِمَا) فَلْيَبْكِ اَلْبَاكُونَ، وَإِيَّاهُمْ فَلْيَنْدُبِ
اَلنَّادِبُونَ»
في هذه الفقرة المباركة من الدعاء
نجد أنَّ الأُسلوب الدعائي - بعد أنْ بيَّن من خلال الفقرات المتقدِّمة الحقائق
الملكوتيَّة لأهل البيت (عليهم السلام) والصفات التي يتمتَّعون بها ومقامهم السامي،
والذي ينبغي أنْ يُحفَظ في الأرض كما هو محفوظ في السماء - ما هو الأشبه بالممارسة
العمليَّة من الداعي، حيث يُطلَب منه: لتكن حالتك العمليَّة وسلوكك الجوارحي هو ما
يأتي من فقرات الدعاء - التي سنُسلِّط الضوء عليها -.
البكاء على الأطائب من أهل البيت (عليهم السلام):
وهنا مجموعة من النكات التي ينبغي أنْ يُلتفَت إليها:
أنَّ طلب البكاء لم يكن - في خصوص هذا الدعاء - على كلِّ الأطايب، بل نجد حالة
التبعيض، فلم يقل الدعاء: (فعلى الأطايب)، بل قال: «فَعَلَى اَلْأَطائِبِ مِنْ
أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ»، وكأنَّه يشير إلى أنَّ ما وقع من أسى يستدعي
البكاء والندب، لم يكن على كلِّ مَنْ ينتسب إلى النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، بل
أنَّه لخصوص العترة الطاهرة منهم، ولخصوص مَنْ قرن الله تعالى طاعته بطاعتهم،
فالمراد من الأطايب هنا هم خصوص مَنْ تحلَّى بصفات الكمال وتنزَّه عن كلِّ ما
يشينه، ولعلَّه إشارة إلى العصمة وآية إذهاب الرجس، ولذلك عطف المقطع الندبي
المبارك أنَّ الأطايب من أهل البيت (عليهم السلام) كما هم من محمّد (صلَّى الله
عليه وآله) عن طريق فاطمة (عليها السلام)، هم من عليٍّ (عليه السلام) عن
طريق فاطمة
(عليها السلام)، لذلك قال: «مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَعَلِيٍّ (صَلَّى اَللهُ
عَلَيْهِمَا وَآلهِمَا)»، وهذا لا يعني منع البكاء عن غيرهم في غير مورد ومناسبة،
فعلى الأولياء والصلحاء والشهداء من أهل البيت (عليهم السلام) ومن غيرهم يجوز
البكاء وفي بعض الموارد يُستحَبُّ، كما في البكاء على حمزة سيِّد الشهداء (رضي الله
عنه)، ولكن في خصوص البكاء في هذا الدعاء يحتمل أنْ يكون لما أشرنا إليه خصوصيَّة.
فبعد أنْ ذكَّرنا الدعاء بالأطايب من أهل البيت (عليهم السلام)، وقرأ لنا ما مرَّ
عليهم جاء دور ما ينتظره منَّا ويطلبه كممارسة عمليَّة تناسب طاقتنا، والتفجُّع على
تلك التصرُّفات المشينة التي وقعت على هؤلاء الأطايب (عليهم السلام)، وبدأ بالبكاء
الذي هو أوَّل الممارسات العمليَّة الرافضة لتلك التصرُّفات والمخالفات التي وقعت
على أهل البيت (عليهم السلام).
ثمّ انتقل الدعاء مترقّياً في طلباته من المؤمنين في الممارسات حزناً ووجداً
وتألُّماً وتأثُّراً على ما جرى على أهل البيت (عليهم السلام)، فانتقل إلى الحالة
الأُخرى وهي حالة الندب، والتي طلب أنْ تكون جماعيَّة كما في البكاء.
فلا يكفي في البكاء على أهل البيت (عليهم السلام) لما جرى عليهم أنْ يكون فرديًّا،
بل ليبكي الباكون جماعات جماعات، فلم يقل ليبكي الباكي، بل «اَلْبَاكُونَ».
وهكذا ليندب النادبون بنحو الجماعات والمجموعات ولا يقصر على الفرد والأفراد،
إظهاراً لمظلوميَّة هذا البيت الطاهر أطهر بيت خلقه الله تعالى.
ولا تنسَ أيُّها العزيز ما قرأته من فجايع ودواهٍ مرَّت على أهل هذا البيت المعظَّم
ممَّا قرأت من روايات، وهي عُشر معشار ما وقع عليهم، وبعض يسير ممَّا هو مسجَّل في
كُتُب الحديث والتأريخ ممَّا يحكي عن الذي جرى عليهم (عليهم السلام).
ولعلَّ المطلوب: الندب بعد البكاء، أي إنَّني أدعو أهل البيت (عليهم السلام) أنْ
يأتوني ويشاهدوا ما أنا فيه من بكاء ووجد عليهم.
وفي الأخبار الكثير من الآثار المترتِّبة على البكاء والندب على الأطايب من العترة
الطاهرة (عليهم السلام)، ومنها:
* في (الملهوف على قتلى الطفوف): ... فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَضَعَ
يَدَهُ اَلْيُمْنَى عَلَى رَأْسِ اَلْحَسَنِ، وَيَدَهُ اَلْيُسْرَى عَلَى رَأْسِ
اَلْحُسَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى اَلسَّمَاءِ وَقَالَ: «اَللَّهُمَّ
إِنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَهَذَانِ أَطَائِبُ عِتْرَتِي، وَخِيَارُ
ذُرِّيَّتِي، وَأَرُومَتِي، وَمَنْ أُخَلِّفُهُمَا فِي أُمَّتِي، وَقَدْ
أَخْبَرَنِي جَبْرَائِيلُ (عليه السلام) أَنَّ وَلَدِي هَذَا مَقْتُولٌ مَخْذُولٌ،
اَللَّهُمَّ فَبَارِكْ لَهُ فِي قَتْلِهِ، وَاِجْعَلْهُ مِنْ سَادَاتِ
اَلشُّهَدَاءِ، اَللَّهُمَّ وَلَا تُبَارِكْ فِي قَاتِلِهِ وَخَاذِلِهِ»، قَالَ
فَضَجَّ اَلنَّاسُ فِي اَلمَسْجِدِ بِالْبُكَاءِ وَاَلنَّحِيبِ، فَقَالَ
اَلنَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله): «أَتَبْكُونَهُ وَلَا تَنْصُرُونَهُ؟»، ثُمَّ
رَجَعَ (صلَّى الله عليه وآله) وَهُوَ مُتَغَيِّرُ اَللَّوْنِ مُحْمَرُّ
اَلْوَجْهِ، فَخَطَبَ خُطْبَةً أُخْرَى مُوجَزَةً وَعَيْنَاهُ تَهْمِلَانِ
دُمُوعاً، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمُ
اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَأَرُومَتِي،
وَمِزَاجَ مَائِي، وَثَمَرَةَ فُؤَادِي، وَمُهْجَتِي، لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى
يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ، أَلَا وَإِنِّي أَنْتَظِرُهُمَا، وَإِنِّي لَا
أَسْأَلُكُمْ فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا أَمَرَنِي رَبِّي، أَمَرَنِي أَنْ أَسْأَلَكُمُ
اَلمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبَى، فَانْظُرُوا أَلَّا تَلْقَوْنِي غَداً عَلَى
اَلْحَوْضِ وَقَدْ أَبْغَضْتُمْ عِتْرَتِي وَظَلَمْتُمُوهُمْ، أَلَا وَإِنَّهُ
سَتَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ثَلَاثُ رَايَاتٍ مِنْ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ،
اَلْأُولَى رَايَةٌ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، وَقَدْ فَزِعَتْ لَهُ اَلمَلَائِكَةُ،
فَتَقِفُ عَلَيَّ، فَأَقُولُ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَنْسَوْنَ ذِكْرِي، وَيَقُولُونَ:
نَحْنُ أَهْلُ اَلتَّوْحِيدِ مِنَ اَلْعَرَبِ، فَأَقُولُ لَهُمْ: أَنَا أَحْمَدُ
نَبِيُّ اَلْعَرَبِ وَاَلْعَجَمِ، فَيَقُولُونَ: نَحْنُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا
أَحْمَدُ، فَأَقُولُ لَهُمْ: كَيْفَ خَلَّفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي فِي أَهْلِي
وَعِتْرَتِي وَكِتَابِ رَبِّي؟ فَيَقُولُونَ: أَمَّا اَلْكِتَابُ فَضَيَّعْنَاهُ،
وَأَمَّا عِتْرَتُكَ فَحَرَصْنَا عَلَى أَنْ نُبِيدَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ عَنْ
جَدِيدِ اَلْأَرْضِ، فَأُوَلِّي عَنْهُمْ وَجْهِي، فَيَصْدِرُونَ ظِمَاءً عِطَاشاً،
مُسْوَدَّةً وُجُوهُهُمْ. ثُمَّ تَرِدُ عَلَيَّ رَايَةٌ أُخْرَى أَشَدُّ سَوَاداً
مِنَ اَلْأُولَى، فَأَقُولُ لَهُمْ: كَيْفَ خَلَّفْتُمُونِي فِي اَلثَّقَلَيْنِ
اَلْأَكْبَرِ وَاَلْأَصْغَرِ، كِتَابِ رَبِّي
وَعِتْرَتِي؟ فَيَقُولُونَ: أَمَّا
اَلْأَكْبَرُ فَخَالَفْنَا، وَأَمَّا اَلْأَصْغَرُ فَخَذَلْنَاهُمْ
وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، فَأَقُولُ: إِلَيْكُمْ عَنِّي، فَيَصْدِرُونَ
ظِمَاءً عِطَاشاً، مُسْوَدَّةً وُجُوهُهُمْ. ثُمَّ تَرِدُ عَلَيَّ رَايَةٌ أُخْرَى
تَلْمَعُ وُجُوهُهُمْ نُوراً، فَأَقُولُ لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ:
نَحْنُ أَهْلُ كَلِمَةِ اَلتَّوْحِيدِ وَاَلتَّقْوَى، نَحْنُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ
(صلَّى الله عليه وآله)، وَنَحْنُ بَقِيَّةُ أَهْلِ اَلْحَقِّ، حَمَلْنَا كِتَابَ
رَبِّنَا، فَأَحْلَلْنَا حَلَالَهُ وَحَرَّمْنَا حَرَامَهُ، وَ أَحْبَبْنَا
ذُرِّيَّةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)، فَنَصَرْنَاهُمْ مِنْ
كُلِّ مَا نَصَرْنَا مِنْهُ أَنْفُسَنَا، وَقَاتَلْنَا مَعَهُمْ مَنْ نَاوَاهُمْ،
فَأَقُولُ لَهُمْ: أَبْشِرُوا فَأَنَا نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ (صلَّى الله عليه
وآله)، وَلَقَدْ كُنْتُمْ فِي دَارِ اَلدُّنْيَا كَمَا وَصَفْتُمْ، ثُمَّ
أَسْقِيهِمْ مِنْ حَوْضِي، فَيَصْدِرُونَ مَرْوِيِّينَ مُسْتَبْشِرِينَ، ثُمَّ
يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَ اَلْآبِدِينَ»(٢٨٥).
* وفي (كامل الزيارات) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَجَجْتُ
مَعَ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ -، فَقُلْتُ: يَا
اِبْنَ رَسُولِ اَلله، لَوْ نُبِشَ قَبْرُ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما
السلام) هَلْ كَانَ يُصَابُ فِي قَبْرِهِ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: «يَا اِبْنَ بُكَيْرٍ،
مَا أَعْظَمَ مَسَائِلَكَ، إِنَّ اَلْحُسَيْنَ (عليه السلام) مَعَ أَبِيهِ
وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ فِي مَنْزِلِ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) وَمَعَهُ
يُرْزَقُونَ وَيُحْبَرُونَ، وَإِنَّهُ لَعَنْ يَمِينِ اَلْعَرْشِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ
يَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَى
زُوَّارِهِ، وَإِنَّهُ أَعْرَفُ بِهِمْ وَبِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ
وَمَا فِي رِحَالِهِمْ مِنْ أَحَدِهِمْ بِوُلْدِهِ، وَإِنَّهُ لَيَنْظُرُ إِلَى
مَنْ يَبْكِيهِ، فَيَسْتَغْفِرُ لَهُ، وَيَسْأَلُ أَبَاهُ اَلْاِسْتِغْفَارَ لَهُ،
وَيَقُولُ: أَيُّهَا اَلْبَاكِي، لَوْ عَلِمْتَ مَا أَعَدَّ اَللهُ لَكَ لَفَرِحْتَ
أَكْثَرَ مِمَّا حَزِنْتَ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ
وَخَطِيئَةٍ»(٢٨٦).
* وفي (أمالي الصدوق) بسنده عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ اَلرِّضَا (عليه السلام): «مَنْ تَذَكَّرَ
مُصَابَنَا وَبَكَى لِمَا اُرْتُكِبَ مِنَّا كَانَ مَعَنَا فِي دَرَجَتِنَا يَوْمَ
اَلْقِيَامَةِ، وَمَنْ ذُكِّرَ بِمُصَابِنَا فَبَكَى وَأَبْكَى لَمْ تَبْكِ
عَيْنُهُ
-----------------
(٢٨٥) الملهوف على قتلى الطفوف (ص ١٤ - ١٦).
(٢٨٦) كامل الزيارات (ص ٢٠٦/ ح ٢٩٢/٨).
يَوْمَ تَبْكِي اَلْعُيُونُ، وَمَنْ جَلَسَ مَجْلِساً يُحْيَا فِيهِ
أَمْرُنَا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ اَلْقُلُوبُ»(٢٨٧).
* وفي (المزار لابن المشهدي) في ندبة الإمام (عجَّل الله فرجه) لجدِّه الشهيد
القتيل (عليه السلام): «... فَلَئِنْ أَخَّرَتْنِي اَلدُّهُورُ، وَعَاقَنِي عَنْ
نَصْرِكَ اَلمَقْدُورُ، وَلَمْ أَكُنْ لِمَنْ حَارَبَكَ مُحَارِباً، وَلِمَنْ
نَصَبَ لَكَ اَلْعَدَاوَةَ مُنَاصِباً، فَلَأَنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً،
وَلَأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بَدَلَ اَلدُّمُوعِ دَماً، حَسْرَةً عَلَيْكَ
وَتَأَسُّفاً عَلَى مَا دَهَاكَ وَتَلَهُّفاً، حَتَّى أَمُوتَ بِلَوْعَةِ
اَلمُصَابِ وَغُصَّةِ اَلْاِكْتِيَابِ...»(٢٨٨).
* وفي (مقاتل الطالبيِّين) روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في حكاية ندبة أُمِّ
البنين (رضي الله عنها): «وَكَانَتْ أُمُّ اَلْبَنِينِ أُمَّ هَؤُلَاءِ
اَلْأَرْبَعَةِ اَلْإِخْوَةِ اَلْقَتْلَى تَخْرُجُ إِلَى اَلْبَقِيعِ، فَتَنْدُبُ
بَنِيهَا أَشْجَى نُدْبَةٍ وَأَحْرَقَهَا، فَيَجْتَمِعُ اَلنَّاسُ إِلَيْهَا
يَسْمَعُونَ مِنْهَا، فَكَانَ مَرْوَانُ يَجِيءُ فِيمَنْ يَجِيءُ لِذَلِكَ، فَلَا
يَزَالُ يَسْمَعُ نُدْبَتَهَا وَيَبْكِي»(٢٨٩).
* وفي (مصباح المتهجِّد) عن الإمام الباقر (عليه السلام): «... ثُمَّ لْيَنْدُبِ
اَلْحُسَيْنَ (عليه السلام) وَيَبْكِيهِ وَيَأْمُرُ مَنْ فِي دَارِهِ مِمَّنْ لَا
يَتَّقِيهِ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ، وَيُقِيمُ فِي دَارِهِ اَلمُصِيبَةَ بِإِظْهَارِ
اَلْجَزَعِ عَلَيْهِ، وَلْيُعَزِّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِمُصَابِهِمْ بِالْحُسَيْنِ
(عليه السلام)...»(٢٩٠).
مشروعيَّة البكاء خصوصاً على سيِّد الشهداء وأهل البيت والصدِّيقة
الطاهرة (عليهم السلام):
يدَّعي البعض أنَّ البكاء عموماً وعلى أهل البيت (عليهم السلام) بشكل خاص، دونما
استنادٍ إلى حُجَّةٍ أو مسوِّغٍ واضحٍ.
-----------------
(٢٨٧) أمالي الصدوق (ص ١٣١/ ح ١١٩/٤).
(٢٨٨) المزار لابن المشهدي (ص ٥٠١).
(٢٨٩) مقاتل الطالبيِّين (ص ٥٦).
(٢٩٠) مصباح المتهجِّد (ص ٧٧٢).
والجواب عن هذه الإشكاليَّة يكون من جهاتٍ:
الجهة الأُولى: الروايات الشريفة تُجيز البكاء:
حيث وردت عدَّة رواياتٍ فيها الكفاية لدفع هذه الإشكاليَّة، كما توجد العديد من
الطوائف من الروايات التي رتَّبت جملةً من الآثار على البكاء، سواء في خصوص مصاب
سيِّد الشهداء (عليه السلام) أو في عموم مصائب أهل البيت (عليهم السلام)، وبالتالي
فهي تدلُّ على الجواز، بل الاستحباب من باب أولى، ومنها:
الطائفة الأُولى: حيث دلَّت على أنَّ البكاء عليهم (عليهم السلام) يمنع دخول النار،
كما في الخبر المرويِّ عَنْ فُضَيْلٍ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله
(عليه السلام)، قَالَ: «مَنْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ حَرَّمَ
اَللهُ وَجْهَهُ عَلَى اَلنَّارِ»(٢٩١).
الطائفة الثانية: أنَّه يوجب دخول الجنَّة، كما في الخبر المرويِّ عَنْ مُحَمَّدِ
اِبْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ
دَمَعَتْ عَيْنَاهُ لِقَتْلِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) دَمْعَةً
حَتَّى تَسِيلَ عَلَى خَدِّهِ بَوَّأَهُ اَللهُ بِهَا فِي اَلْجَنَّةِ غُرَفاً
يَسْكُنُهَا أَحْقَاباً...»(٢٩٢)، والطوائف عديدة ذُكِرَت في كتاب (كامل الزيارات)
من غفران الذنوب، وحطِّ الخطايا، والحضور عند الموت، وإسعاد الصدِّيقة الطاهرة
(عليها السلام)(٢٩٣).
الجهة الثانية: البكاء على الميِّت مباح وجائز شرعاً:
كما يظهر من فعل النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) والصدِّيقة الطاهرة (عليها
السلام)، حيث بوَّب غير واحد من رواة العامَّة في ذلك عن النبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله)، ومنهم صاحب (المصنَّف)، وممَّا
-----------------
(٢٩١) كامل الزيارات (ص ٢٠٧/ ح ٢٩٦/١٢).
(٢٩٢) كامل الزيارات (ص ٢٠١/ ح ٢٨٥/١).
(٢٩٣) راجع: كامل الزيارات (ص ٢١١/ ح ٣٠٢/٦).
رواه: «وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ
لَمحْزُونُونَ، تَدْمَعُ اَلْعَيْنُ وَيَجِدُ اَلْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ مَا
يُسْخِطُ اَلرَّبَ»(٢٩٤).
الجهة الثالثة: الإجماع على جوازه، بل التواتر:
وممَّن ذكره عدَّة من الفقهاء، منهم:
أ - العلَّامة الحلِّي (قدّس سرّه)، قال: (البكاء جائز إجماعاً وليس بمكروه، قبل
خروج الروح وبعدها، قال الصادق (عليه السلام): «إِنَّ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله
عليه وآله) حِينَ جَاءَتْهُ وَفَاةُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ كَانَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ كَثُرَ بُكَاؤُهُ عَلَيْهِمَا جِدًّا،
وَقَالَ: كَانَا يُحَدِّثَانِي وَيُؤَانِسَانِي فَذَهَبَا جَمِيعاً». ويجوز النوح
والندب بتعداد فضائله واعتماد الصدق، لأنَّ فاطمة (عليها السلام) كانت تنوح على
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، فتقول: «يَا أَبَتَاهْ مِنْ رَبِّهِ مَا
أَدْنَاهُ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرَائِيلَ أَنْعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ أَجَابَ
رَبًّا دَعَاهُ»)(٢٩٥).
ب - صاحب الجواهر (قدّس سرّه)، قال: (ثمّ إنَّه لا ريب في جواز البكاء على الميِّت
نصًا وفتوًى للأصل، والأخبار التي لا تقصر عن التواتر معنًى من بكاء النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله) على حمزة وإبراهيم (عليهما السلام) وغيرهما، وفاطمة (عليها السلام)
على أبيها وأُختها، وعليُّ بن الحسين (عليهما السلام) على أبيه حتَّى عُدَّ هو
وفاطمة (عليهما السلام) من البكَّائين الأربعة، إلى غير ذلك ممَّا لا حاجة لنا
بذكره، بل ربَّما يظهر من بعض الأخبار استحبابه عند اشتداد الوجد)(٢٩٦).
* * *
-----------------
(٢٩٤) المصنَّف للصنعاني (ج ٣/ ص ٥٥٢ و٥٥٣/ ح ٦٦٧٢).
(٢٩٥) نهاية الأحكام (ج ٢/ ص ٢٨٩).
(٢٩٦) جواهر الكلام (ج ٤/ ص ٣٦٤).
الفقرة السابعة والعشرون
«وَلِمثْلِهِمْ فَلْتُذْرَفِ (فَلْتَدَرِ) اَلدُّمُوعُ، وَلْيَصْرُخِ
اَلصَّارِخُونَ، وَيَضِجَّ اَلضَّاجُّونَ، وَيَعِجَّ اَلْعَاجُّونَ، أَيْنَ
اَلحَسَنُ أَيْنَ اَلحُسَيْنُ، أَيْنَ أَبْناءُ اَلحُسَيْنِ»
في هذه الفقرات يتحدَّث الدعاء عن
بعض الممارسات العمليَّة تأثُّراً بما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) من ظلم
وقتل وسبي وإقصاء.
ذرف الدموع على مصائب أهل البيت (عليهم السلام):
الحالة الثالثة التي يتحدَّث عنها الدعاء من هذه الممارسات هي: ذرف الدموع.
و(الذرف) كما جاء في كُتُب اللغة هو جريان الدمع وانصبابه(٢٩٧)، فالدعاء يقول
للمؤمن الدَّاعي: إنَّ على مثل أهل البيت (عليهم السلام) لتكن دموعك غزيرة وتنصبُّ
صبًّا، لأنَّهم - ولما جرى عليهم - أهل لأنْ تواسيهم بذلك.
* في (تفسير القمِّي) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
(عليه السلام)، قَالَ: «كَانَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام) يَقُولُ:
أَيُّمَا مُؤْمِنٍ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ لِقَتْلِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما
السلام) دَمْعَةً حَتَّى تَسِيلَ عَلَى خَدِّهِ بَوَّأَهُ اَللهُ بِهَا فِي
اَلْجَنَّةِ غُرَفاً يَسْكُنُهَا أَحْقَاباً، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ دَمَعَتْ
عَيْنَاهُ دَمْعاً حَتَّى تَسِيلَ عَلَى خَدِّهِ لِأَذًى مَسَّنَا مِنْ عَدُوِّنَا
فِي اَلدُّنْيَا بَوَّأَهُ اَللهُ مُبَوَّأَ صِدْقٍ فِي اَلْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا
مُؤْمِنٍ مَسَّهُ أَذًى فِينَا فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى تَسِيلَ دَمْعُهُ عَلَى
خَدَّيْهِ مِنْ مَضَاضَةِ مَا أُوذِيَ فِينَا صَرَفَ اَللهُ عَنْ وَجْهِهِ
اَلْأَذَى وَآمَنَهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مِنْ سَخَطِهِ وَاَلنَّارِ»، قَالَ:
وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ
-----------------
(٢٩٧) في تهذيب اللغة (ج ١٤/ ص ٣٠٤/ مادَّة ذرف): (قال الليث: الذَّرْفُ صَبُّ الدَّمْعِ).
أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه
السلام)، قَالَ: «مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ
دَمْعٌ مِثْلُ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ غَفَرَ اَللهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ كَانَتْ
مِثْلَ زَبَدِ اَلْبَحْرِ»(٢٩٨).
* وفي (رجال الكشِّي) بسنده عَنْ زَيْدٍ اَلشَّحَّامِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي
عَبْدِ اَلله (عليه السلام) وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ مِنَ اَلْكُوفِيِّينَ، فَدَخَلَ
جَعْفَرُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، فَقَرَّبَهُ
وَأَدْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَا جَعْفَرُ»، قَالَ: لَبَّيْكَ جَعَلَنِيَ اَللهُ
فِدَاكَ، قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ اَلشِّعْرَ فِي اَلْحُسَيْنِ (عليه
السلام) وَتُجِيدُ»، فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ جَعَلَنِيَ اَللهُ فِدَاكَ، فَقَالَ:
«قُلْ»، فَأَنْشَدَهُ (عليه السلام) وَمَنْ حَوْلَهُ حَتَّى صَارَتْ لَهُ
اَلدُّمُوعُ عَلَى وَجْهِهِ وَلِحْيَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا جَعْفَرُ، وَاَلله
لَقَدْ شَهِدَكَ مَلَائِكَةُ اَلله اَلمُقَرَّبُونَ هَاهُنَا يَسْمَعُونَ قَوْلَكَ
فِي اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)، وَقَدْ بَكَوْا كَمَا بَكَيْنَا أَوْ أَكْثَرَ،
وَلَقَدْ أَوْجَبَ اَللهُ تَعَالَى لَكَ يَا جَعْفَرُ فِي سَاعَتِهِ اَلْجَنَّةَ
بِأَسْرِهَا وَغَفَرَ اَللهُ لَكَ...»(٢٩٩).
ثمّ ينتقل الدعاء بالدَّاعي إلى ممارسة أُخرى - وهي الرابعة - من المواساة
العمليَّة، وهي: التألُّم والتفجُّع الشديد والصراخ بصوتٍ عالٍ على ما وقع
عليهم(٣٠٠).
* في (مثير الأحزان): قَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: بَيْنَمَا أَنَا عِنْدَ أُمِّ
سَلَمَةَ إِذْ دَخَلَتْ صَارِخَةٌ تَصْرُخُ، وَقَالَتْ: قُتِلَ اَلْحُسَيْنُ،
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَعَلُوهَا مَلَأَ اَللهُ قُبُورَهُمْ نَاراً، وَوَقَعَتْ
مَغْشِيًّا عَلَيْهَا(٣٠١).
-----------------
(٢٩٨) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٢٩١ و٢٩٢).
(٢٩٩) رجال الكشِّي (ج ٢/ ص ٥٧٤ و٥٧٥/ ح ٥٠٨).
(٣٠٠) البكاء: هو خروج الدموع من العين مصحوباً أو غير مصحوبٍ بصوت، تعبيراً عن حزن
أو فرح أو خشوع. والعويل: هو صوت البكاء المرتفع المصحوب بالنحيب أو الندب،
ويُعبِّر غالباً عن حزن شديد أو رثاء. والصراخ: رفع الصوت عند استغاثة أو انفعال.
والضجيج: صوت مرتفع مختلط. راجع: لسان العرب والقاموس المحيط في مادَّة كلِّ معنى
منها.
(٣٠١) مثير الأحزان (ص ٧٥).
* وفي (كامل الزيارات) بسنده عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اَلمَلَكُ اَلَّذِي جَاءَ
إِلَى مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) يُخْبِرُهُ بِقَتْلِ اَلْحُسَيْنِ (عليه
السلام) كَانَ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) اَلرُّوحَ اَلْأَمِينَ، مَنْشُورَ
اَلْأَجْنِحَةِ بَاكِياً صَارِخاً، قَدْ حَمَلَ مِنْ تُرْبَةِ اَلْحُسَيْنِ (عليه
السلام) وَهِيَ تَفُوحُ كَالْمِسْكِ، فَقَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله): «وَتُفْلِحُ أُمَّتِي تَقْتُلُ فَرْخِي - أَوْ قَالَ: فَرْخَ اِبْنَتِي -؟»،
فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: يَضْرِبُهَا اَللهُ بِالْاِخْتِلَافِ، فَتَخْتَلِفُ
قُلُوبُهُمْ»(٣٠٢).
* وفي (الملهوف على قتلى الطفوف): عَنِ اَلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله) أَنَّهُ
قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ جَاءَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) فِي
لُمةٍ مِنْ نِسَائِهَا، فَيُقَالُ لَهَا: اُدْخُلِي اَلْجَنَّةَ، فَتَقُولُ: لَا
أَدْخُلُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا صُنِعَ بِوَلَدِي مِنْ بَعْدِي، فَيُقَالُ لَهَا:
اُنْظُرِي فِي قَلْبِ اَلْقِيَامَةِ، فَتَنْظُرُ إِلَى اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)
قَائِماً لَيْسَ عَلَيْهِ رَأْسٌ، فَتَصْرُخُ صَرْخَةً، فَأَصْرُخُ لِصُرَاخِهَا،
وَتَصْرُخُ اَلمَلَائِكَةُ لِصُرَاخِهَا»(٣٠٣).
ضجيج النفوس المكلومة بالألم:
لم يكتفِ الدعاء بذلك، بل طلب حالة خامسة أشدّ من الحالات المتقدِّمة في ندبة أهل
البيت (عليهم السلام) والتفجُّع عليهم، وهي بالطلب من المؤمنين أنْ يصيحوا مستغيثين
ضاجِّين لفجيعة ما جرى على أهل البيت (عليهم السلام)، فلا يكفي البكاء ولا الندب
ولا ذرف الدموع ولا الصراخ، بل لا بدَّ لهم من الضجيج والعجيج - أي ذلك الصياح
العالي الصوت -، وكأنَّ الدعاء يريد أنْ يقول: ابكِ بكاء غير عادي بذرف الدموع،
واصرخ وضجَّ وعجَّ بأعلى صوتك، متفجِّعاً لما مرَّ على أهل البيت (عليهم السلام)،
لأنَّ ما مرَّ عليهم استثنائي غير عادي، فلا بدَّ أنْ تكون مواساتك غير عاديَّة.
-----------------
(٣٠٢) كامل الزيارات (ص ١٣١/ ح ١٤٨/٧).
(٣٠٣) الملهوف على قتلى الطفوف (ص ٨٢).
* في (كامل الزيارات) بسنده عَنْ مِسْمَعِ بْنِ عَبْدِ اَلمَلِكِ كِرْدِينٍ اَلْبَصْرِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «يَا مِسْمَعُ، أَنْتَ مِنْ أَهْلِ اَلْعِرَاقِ، أَمَا تَأْتِي قَبْرَ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)؟»، قُلْتُ: لَا، أَنَا رَجُلٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ، وَعِنْدَنَا مَنْ يَتَّبِعُ هَوَى هَذَا اَلْخَلِيفَةِ، وَعَدُوُّنَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلقَبَائِلِ مِنَ اَلنُّصَّابِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَسْتُ آمَنُهُمْ أَنْ يَرْفَعُوا حَالِي عِنْدَ وُلْدِ سُلَيْمَانَ فَيُمَثِّلُونَ بِي، قَالَ لِي: «أَفَمَا تَذْكُرُ مَا صُنِعَ بِهِ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَتَجْزَعُ؟»، قُلْتُ: إِي وَاَلله، وَأَسْتَعْبِرُ لِذَلِكَ حَتَّى يَرَى أَهْلِي أَثَرَ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَأَمْتَنِعُ مِنَ اَلطَّعَامِ حَتَّى يَسْتَبِينَ ذَلِكَ فِي وَجْهِي، قَالَ: «رَحِمَ اَللهُ دَمْعَتَكَ، أَمَا إِنَّكَ مِنَ اَلَّذِينَ يُعَدُّونَ مِنْ أَهْلِ اَلْجَزَعِ لَنَا، وَاَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، وَيَخَافُونَ لِخَوْفِنَا، وَيَأْمَنُونَ إِذَا أَمِنَّا، أَمَا إِنَّكَ سَتَرَى عِنْدَ مَوْتِكَ حُضُورَ آبَائِي لَكَ، وَوَصِيَّتَهُمْ مَلَكَ اَلمَوْتِ بِكَ، وَمَا يَلْقَوْنَكَ بِهِ مِنَ اَلْبِشَارَةِ أَفْضَلُ، وَلَمَلَكُ اَلمَوْتِ أَرَقُّ عَلَيْكَ وَأَشَدُّ رَحْمَةً لَكَ مِنَ اَلْأُمِّ اَلشَّفِيقَةِ عَلَى وَلَدِهَا»، قَالَ: ثُمَّ اِسْتَعْبَرَ وَاِسْتَعْبَرْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: «اَلْحَمْدُ لله اَلَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى خَلْقِهِ بِالرَّحْمَةِ، وَخَصَّنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ بِالرَّحْمَةِ. يَا مِسْمَعُ، إِنَّ اَلْأَرْضَ وَاَلسَّمَاءَ لَتَبْكِي مُنْذُ قُتِلَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) رَحْمَةً لَنَا، وَمَا بَكَى لَنَا مِنَ اَلمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ، وَمَا رَقَأَتْ دُمُوعُ اَلمَلَائِكَةِ مُنْذُ قُتِلْنَا، وَمَا بَكَى أَحَدٌ رَحْمَةً لَنَا وَلِمَا لَقِينَا إِلَّا رَحِمَهُ اَللهُ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ اَلدَّمْعَةُ مِنْ عَيْنِهِ، فَإِذَا سَالَتْ دُمُوعُهُ عَلَى خَدِّهِ فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ دُمُوعِهِ سَقَطَتْ فِي جَهَنَّمَ لَأَطْفَأَتْ حَرَّهَا حَتَّى لَا يُوجَدَ لَهَا حَرٌّ، وَإِنَّ اَلمُوجَعَ لَنَا قَلْبُهُ لَيَفْرَحُ يَوْمَ يَرَانَا عِنْدَ مَوْتِهِ فَرْحَةً لَا تَزَالُ تِلْكَ اَلْفَرْحَةُ فِي قَلْبِهِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْنَا اَلْحَوْضَ، وَإِنَّ اَلْكَوْثَرَ لَيَفْرَحُ بِمُحِبِّنَا إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ حَتَّى إِنَّهُ لَيُذِيقُهُ مِنْ ضُرُوبِ اَلطَّعَامِ مَا لَا يَشْتَهِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ. يَا مِسْمَعُ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَداً، وَلَمْ يَسْتَقِ بَعْدَهَا أَبَداً، وَهُوَ فِي بَرْدِ اَلْكَافُورِ وَرِيحِ اَلْمِسْكِ وَطَعْمِ اَلزَّنْجَبِيلِ، أَحْلَى مِنَ اَلْعَسَلِ، وَأَلْيَنَ مِنَ اَلزُّبْدِ، وَأَصْفَى مِنَ اَلدَّمْعِ، وَأَذْكَى مِنَ اَلْعَنْبَرِ، يَخْرُجُ مِنْ تَسْنِيمٍ، وَيَمُرُّ بِأَنْهَارِ
اَلْجِنَانِ،
يَجْرِي عَلَى رَضْرَاضِ اَلدُّرِّ وَاَلْيَاقُوتِ، فِيهِ مِنَ اَلْقِدْحَانِ
أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ اَلسَّمَاءِ، يُوجَدُ رِيحُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ
عَامٍ، قِدْحَانُهُ مِنَ اَلذَّهَبِ وَاَلْفِضَّةِ وَأَلْوَانِ اَلْجَوْهَرِ،
يَفُوحُ فِي وَجْهِ اَلشَّارِبِ مِنْهُ كُلُّ فَائِحَةٍ حَتَّى يَقُولَ اَلشَّارِبُ
مِنْهُ: يَا لَيْتَنِي تُرِكْتُ هَاهُنَا، لَا أَبْغِي بِهَذَا بَدَلاً، وَلَا
عَنْهُ تَحْوِيلاً. أَمَا إِنَّكَ يَا اِبْنَ كِرْدِينٍ مِمَّنْ تَرْوَى مِنْهُ،
وَمَا مِنْ عَيْنٍ بَكَتْ لَنَا إِلَّا نُعِّمَتْ بِالنَّظَرِ إِلَى اَلْكَوْثَرِ،
وَسُقِيَتْ مِنْهُ...»(٣٠٤).
هذا حال البكاء، فكيف بحال غيره من الوجد عليهم (عليهم السلام)؟
* وفيه بسنده عَنْ صَفْوَانَ اَلْجَمَّالِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)،
قَالَ: سَأَلْتُهُ فِي طَرِيقِ اَلمَدِينَةِ وَنَحْنُ نُرِيدُ مَكَّةَ، فَقُلْتُ:
يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، مَا لِي أَرَاكَ كَئِيباً حَزِيناً مُنْكَسِراً؟
فَقَالَ: «لَوْ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ لَشَغَلَكَ عَنْ مَسْأَلَتِي»، قُلْتُ: فَمَا
اَلَّذِي تَسْمَعُ؟ قَالَ: «اِبْتِهَالَ اَلمَلَائِكَةِ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ)
عَلَى قَتَلَةِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ وَقَتَلَةِ اَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام)،
وَنَوْحَ اَلْجِنِّ وَبُكَاءَ اَلمَلَائِكَةِ اَلَّذِينَ حَوْلَهُ وَشِدَّةَ
جَزَعِهِمْ، فَمَنْ يَتَهَنَّأُ مَعَ هَذَا بِطَعَامٍ أَوْ بِشَرَابٍ أَوْ
نَوْمٍ...»(٣٠٥).
* وفيه أيضاً بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)،
قَالَ: «إِنَّ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) أَتَى رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله) وَاَلْحُسَيْنُ (عليه السلام) يَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ
أُمَّتَهُ سَتَقْتُلُهُ»، قَالَ: «فَجَزِعَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)،
فَقَالَ: أَلَا أُرِيكَ اَلتُّرْبَةَ اَلَّتِي يُقْتَلُ فِيهَا؟»، قَالَ: «فَخَسَفَ
مَا بَيْنَ مَجْلِسِ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) إِلَى اَلمَكَانِ
اَلَّذِي قُتِلَ فِيهِ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام) حَتَّى اِلْتَقَتَ
اَلْقِطْعَتَانِ، فَأَخَذَ مِنْهَا، وَدُحِيَتْ فِي أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ،
فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: طُوبَى لَكِ مِنْ تُرْبَةٍ، وَطُوبَى لِمَنْ يُقْتَلُ
حَوْلَكِ...»(٣٠٦).
ثمّ يتساءل الدعاء عن أنَّ هذه المواساة لا بدَّ أنْ تكون لكلِّ فردٍ من أفراد
-----------------
(٣٠٤) كامل الزيارات (ص ٢٠٣ - ٢٠٦/ ح ٢٩١/٧).
(٣٠٥) كامل الزيارات (ص ١٨٧/ ح ٢٦٣/٢٣).
(٣٠٦) كامل الزيارات (ص ١٢٧ و١٢٨/ ح ١٤٢/١).
أهل
البيت (عليهم السلام) الأطايب، وهو في تلك الحالة الراقية الرفيعة من المواساة غير
العاديَّة، فليصح بأعلى صوته وهو باكٍ عمَّا جرى على خصوص الإمام الحسن بن عليٍّ
(عليهما السلام) بعد أنْ مرَّ في المقاطع السابقة ما جرى على عليٍّ (عليه السلام)،
فيسأل الدَّاعي أين الحسن (عليه السلام)؟
ماذا حدث للحسن (عليه السلام)، أرُعي حقَّ رعايته، وحُفظت فيه حرمة رسول الله
(صلَّى الله عليه وآله)، أم انتُهِكَت تلك الحرمة إلى أنْ قُتِلَ مسموماً لم تُرْعَ
فيه لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ولا لبضعته أيَّة حرمة؟!
ثمّ والدَّاعي في هذه الحالة القصوى من التفجُّع والتألُّم يسأل عن الإمام الحسين
(عليه السلام) الشهيد بطفوف كربلاء وما جرى عليه، ذلك الذي هزَّ أركان العرش، وكشف
عن قبيح ما كان يتستَّر أعداء أهل البيت (عليهم السلام) عنه بالدِّين، فالإمام
الحسين (عليه السلام) كشف الزيف ومزَّق الأقنعة، ولكنَّ الدعاء يريد أنْ يتحدَّث
عمَّا جرى على الإمام الحسين (عليه السلام) من قتل وسبي للحرمة وانتهاك لكلِّ
مقدَّس أُمِرَ الناس بصيانته، ولكنَّ هؤلاء تظافروا واجتمعوا على هتكه.
نداء: أين الحسين (عليه السلام)؟
هو نداء تفيض منه القلوب وجعاً وحنيناً، نداء يتجاوز حدود الزمان والمكان ليصل إلى
كلِّ قلبٍ يعي معنى التضحية في هداية الناس وإقامة الدِّين الحقِّ، نداء يحمل معه
الألم العميق لفقد الإمام الحسين (عليه السلام)، ويُوقِظ في الأرواح الشعور
بالمسؤوليَّة تجاه مبادئ الدِّين الذي ضحَّى من أجله سيِّد الشهداء (عليه السلام).
ليس هذا السؤال بسؤالٍ عن مكانٍ جسدي، بل هو تساؤل يعصف بالروح عن غياب رمز العدالة
والمبدأ، تساؤل ينادي الضمير ليعيد النظر في معنى الحقِّ والثبات، الحسين (عليه
السلام) هو تجسيد القِيَم الإلهيَّة على الأرض، هو الذي أقام الصلاة وأمر بالمعروف
ونهى عن المنكر حتَّى آخر رمق من حياته.
وعندما يُقال: «أَيْنَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)»، فإنَّما يُراد البحث عن أثر
تلك القِيَم في واقعنا، يُراد استنهاض الإرادة الإنسانيَّة التي كادت تخبو أمام
هيمنة الطغاة.
هو نداء يُطلِقه المؤمن حين يرى الباطل مستشرياً دون مقاومة، حين يشعر أنَّ الأرض
التي ارتوت بدماء الحسين (عليه السلام) الطاهرة قد ابتعدت عن مقاصده السامية، إنَّه
نداء يُذكِّرنا بأنَّ الحسين (عليه السلام) لم يكن غائباً يوماً عن قلوب المؤمنين،
بل هو الحاضر الذي يُلهِم الأحرار في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، يُذكِّرنا بأنَّ الحسين
(عليه السلام) لم يمت، بل هو حيٌّ في كلِّ خطوة نحو إصلاح الأُمَّة وفي كلِّ صوت
يصدح بالحقِّ.
«أَيْنَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)» هو تساؤل عن العدالة المهدورة، عن الرحمة التي
حملها الحسين (عليه السلام) لكلِّ مظلوم، عن الشجاعة التي واجه بها طغيان يزيد.
حين ننادي «أَيْنَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)» فإنَّما نبحث عن الحسين (عليه
السلام) في أعماقنا، في مواقفنا اليوميَّة، في تمسُّكنا بالمبادئ التي استُشهِدَ من
أجلها، إنَّه سؤال يفتح أبواباً من التأمُّل حول مسؤوليَّتنا تجاه رسالة الحسين
(عليه السلام)، هل نحن حقًّا على دربه؟ هل حملنا أمانته كما يليق؟
«أَيْنَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)» نداء يرتفع في كربلاء القلوب، في تلك المساحات
التي لا تزال تحترق بحُبِّ الحسين (عليه السلام) وولائه، إنَّه نداء يُوقِظ فينا
روح الطفِّ، حيث كان الموقف موقفاً لله تعالى، حيث صرخت الدماء في وجه الظلم
والطغيان.
«أَيْنَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)» ليس نداءً للغائب، بل هو دعوة إلى الحاضر أنْ
يكون حسينيًّا في فكره وعمله وسيرته.
الحسين (عليه السلام) هو نور الهداية الذي أضاء في ظلمات الاستبداد، وهو الامتداد
الحقيقي للرسالة المحمّديَّة، وعندما يُقال: «أَيْنَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)»
فإنَّما يُطلَب الحسين (عليه السلام) في المواقف، في الكلمة، في الثبات على الحقِّ
مهما عظمت التضحيات، الحسين (عليه السلام) هو العهد الذي أخذه الله تعالى على كلِّ
مؤمن بأنْ ينصر المظلوم ويقف في وجه الظالم.
«أَيْنَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)» هو صوت كربلاء الذي لا يزال يهزُّ وجدان
الإنسانيَّة، صوت يطالبنا أنْ لا نكون فقط باكين على مصاب الحسين (عليه السلام)، بل
حاملين لرسالته، عاملين بها، سائرين على خطاه، حيثما كان الظلم هناك يكون النداء
«أَيْنَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)» ليسألنا هل استجبنا لنداء الحقِّ؟ هل كنَّا
على قدر المسؤوليَّة أم أنَّنا تخلَّينا عن إرث الطفِّ وعهده؟
«أَيْنَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)» هو دمعة تذرفها الأرض على مَنْ رفع راية
الإصلاح، وصرخة تُطلِقها السماء تطلب من المؤمنين أنْ يكونوا نوراً في عتمة هذا
العالم، إنَّه السؤال الذي يُعيد للأُمَّة وجدانها الضائع، ويسكب في قلوبها المعاني
الخالدة للوفاء والشهادة والصبر والثبات.
«أَيْنَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)» حينها لا يمتلك أيُّ شارحٍ لهذه الفقرة إلَّا
أنْ يُجيب: بكربلاء.
* * *
الفقرة الثامنة والعشرون
«صَالِحٌ بَعْدَ صَالِحٍ، وَصَادِقٌ بَعْدَ صَادِقٍ، أَيْنَ اَلسَّبِيلُ بَعْدَ
اَلسَّبِيلِ، أَيْنَ اَلْخِيَرَةُ بَعْدَ اَلْخِيَرَةِ، أَيْنَ اَلشُّمُوسُ
اَلطَّالِعَةُ، أَيْنَ اَلْأَقْمَارُ اَلمُنِيرَةُ، أَيْنَ اَلْأَنْجُمُ
اَلزَّاهِرَةُ، أَيْنَ أَعْلَامُ اَلدِّينِ وَقَوَاعِدُ اَلْعِلْمِ»
البيان الإجمالي
للفقرة:
يشير هذا المقطع الندبي المبارك إلى الحالات التي مرَّت على أهل البيت (عليهم
السلام) من مآسٍ، فعبَّر عنها بتعابير مختلفة، إشارة إلى أنواع من العداء المغلَّظ
من قِبَل الأُمَّة تجاه مَنْ وصَّى بهم النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) وجعل
مودَّتهم أجر رسالته التي أنقذ بها
البشريَّة - من حضيض ما كانت تعيشه فكراً
وسلوكاً منحرفاً - إلى أسمى نموذج يرتقي إليه البشر في التعايش ونيل الكمال. فرغم
هذه الوصيَّة المغلَّظة قرآنيًّا ونبويًّا في حفظهم واحترامهم وتبجيلهم - لأنَّها
أجر ما في الأُمَّة من نعيم -، ولكن المحزن المؤسف أنَّ الإصرار والتعنُّت من قِبَل
الأُمَّة في التطاول على أهل البيت (عليهم السلام) وانتهاك كلِّ حرمة لهم، فجاء
الدعاء صرخة في نفس القارئ تسأل عن هذه العترة الموصى بها وما حلَّ بها.
تسأل عن صفات أفراد هذه العترة، وهل أنَّ الذي ينبغي من الأُمَّة تجاههم هو التكريم
والتبجيل أو السحق والتنكيل؟
فيسأل عن أبناء الإمام الحسين (عليهم السلام) بعد أنْ تحدَّث عمَّا جرى عليه (عليه
السلام) بكربلاء.
فالعبارة الواردة والقائلة: «أَيْنَ أَبْناءُ اَلْحُسَيْنِ» تشير إلى الامتداد
الطبيعي للنبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، وكأنَّها تخاطب الضمير الإنساني،
بعد أنْ يئست من ضمير الأُمَّة التي انتشلها خاتم الأنبياء والرُّسُل (صلَّى الله
عليه وآله)، وجعلها أرقى الأُمَم برسالته التي ضحَّى بكلِّ وجوده من أجل أنْ
يرسيها، فيسأل الدعاء - ليقول للداعي: لا بدَّ لك يا من تقرأ هذا الدعاء أنْ تسأل -
عن الامتداد الطبيعي للنبيِّ الخاتم (صلَّى الله عليه وآله) وما جرى عليهم.
ثمّ يقول الدعاء للقارئ، وسأتلو عليك بعض صفاتهم:
إنَّ الذين أُقصوا وقُتِلُوا وانتُهِكَت حُرُماتهم وتمَّ التجاوز عليهم بكلِّ ما من
شأنه أنْ ينتهك كرامة الإنسان، ويُصغِّر قدره، ويحطَّ من منزلته، أتعلم أنَّ هؤلاء
هم صالح بعد صالح؟!
وهنا لا بدَّ أنْ ينقدح في ضمير القارئ سؤال مفاده: هل أنَّ الصالح يُقدَّم
ويُحترَم أو أنَّه يُهان ويُعتدى عليه؟!
ثمّ يتلو بقيَّة الصفات ويقدح في ذهن القارئ نفس السؤال: وصادق بعد صادق، أين
السبيل بعد السبيل؟
فإذا كان السبيل إلى الله يُنتهَك ويُبعَّد، فكيف سيكون بعدئذٍ الوصول؟!
ثمّ يتابع الدعاء تلاوة الصفات الذاتيَّة التي توجب التقديس:
«أَيْنَ اَلْخِيَرَةُ بَعْدَ اَلْخِيَرَةِ، أَيْنَ اَلشُّمُوسُ اَلطَّالِعَةُ،
أَيْنَ اَلْأَقْمَارُ اَلمُنِيرَةُ، أَيْنَ اَلْأَنْجُمُ اَلزَّاهِرَةُ، أَيْنَ
أَعْلَامُ اَلدِّينِ وَقَوَاعِدُ اَلْعِلْمِ».
فالدعاء يريد أنْ يسأل عن أشخاص هذه صفاتهم، أنَّهم أنجم تزهر للسائلين، وأعلام
تهدي الضالِّين، وقواعد رصينة ترفع جهل المتعلِّمين، وأقمار منيرة تنير دروب
الحائرين، وضياء وهَّاج طالع لا يغيب، يفتح النوافذ لقلوب العابدين.
أُناس هذه صفاتهم، وهذه الأهداف من وجودهم، كان حريٌّ بالأُمَّة التي شاء القدر أنْ
يكونوا بين ظهراني أفرادها، أنْ يقام لكلِّ واحدٍ منهم في نفس كلِّ فردٍ من أفراد
هذه الأُمَّة شاخصُ التقديس الذي لا يمكن أنْ ينحني يوماً أمام أيَّ انحراف وضلال،
وصخرة لا تُحرِّكها قواصف وعواصف أهواء الرجال، ولكنَّ الأسف كلُّ الأسف، والحسرة
كلُّ الحسرة، أنَّ الأُمَّة التي أُريد لها أنْ تحترم وتُقدِّس أهل البيت (عليهم
السلام)، انتهكت حرمتهم، وداست عليهم، ولم ترعَ فيهم لرسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) أيَّ حقٍّ وإنْ كان صغيراً.
وفي الروايات - وهي كثيرة - ما يشير إلى تلك المعاني والخصائص التي تضمَّنها
المقطع، سيأتي ذكر بعضها في كلِّ مقطع مقطع.
* * *
عبارة تنبض بالتسلسل الإلهي في
الإصلاح والهداية، ترمز إلى استمراريَّة النور الإلهي الذي لا ينقطع في الأرض.
إنَّها تُصوِّر القِيَم والرسالة التي يحملها الأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)
جيلاً بعد جيل، امتداداً لرحمة الله تعالى بعباده، وتصديقاً لوعده بأنْ يبعث في
كلِّ زمانٍ مَنْ يقوم مقام الحجَّة ويقيم أمر الدِّين.
هي تعكس عمق الحكمة الإلهيَّة في تعاقب الصالحين كحماة للرسالة السماويَّة ومصابيح
للهداية، فهم ليسوا مجرَّد أفراد، بل سلسلة متَّصلة من النفوس الطاهرة المعصومة
التي تحمَّلت أعباء الرسالة وهموم هداية الناس، وواجهت الظلم والضلال بصدق وصبر.
كلُّ صالح منهم يُسلِّم الراية للذي يليه، فيكون الامتداد الطبيعي لتلك المهمَّة
الربَّانيَّة التي لا تنطفئ شعلتها مهما اشتدَّت ظلمات الجهل والطغيان.
في كلِّ «صَالِحٌ بَعْدَ صَالِحٍ» يتجلَّى معنى الاستمرار الإلهي في حفظ الدِّين،
من آدم إلى نوح، ومن إبراهيم إلى موسى، ومن عيسى إلى محمّد (صلَّى الله عليهم
أجمعين)، ثمّ إلى الأوصياء الطاهرين من أهل البيت(عليهم السلام)، الذين هم أئمَّة
الحقِّ ورعاة الإصلاح.
هذه العبارة تحمل وعداً بالخلاص وتجدُّداً دائمًا للأمل، حيث لا يترك الله تعالى
الأرض بلا حجَّة.
كلُّ صالحٍ في هذه السلسلة الإلهيَّة هو لبنة في بناء العدالة الإلهيَّة، يُكمِّل
ما بدأه الذي قبله، ويُهيِّئ الطريق للذي بعده، ليظلَّ الدِّين محفوظًا والنور
ممتدًّا.
«صَالِحٌ بَعْدَ صَالِحٍ» ليست مجرَّد كلمات، بل هي عهد إلهي، ووعد بحفظ الرسالة
إلى يوم القيامة، حيث يرث الأرض عباد الله الصالحون.
* * *
هو التعبير الذي ينقل عمق
استمراريَّة النور الإلهي في الأرض، حيث لا يخلو زمان من حاملٍ للحقِّ، صادقٍ في
قوله وفعله، يُصدِّق مَنْ قبله، ويُمهِّد لمن يأتي بعده، هذه العبارة ليست مجرَّد
وصفٍ للشخص، بل هي بيانٌ لعقيدةٍ عميقةٍ تتمثَّل في تسلسل الهداية الربَّانيَّة،
حيث يكون الصدق هو الميزان الذي يتجلَّى في صفوة خلق الله تعالى الذين اصطفاهم لحمل
أمانة الرسالة.
هي عنوان النقاء والاستقامة، الذي يربط بين الأنبياء والأوصياء والأئمَّة الطاهرين
(عليهم السلام).
فالصادقون هم الذين جسَّدوا رسالة السماء في واقع الأرض، وهم الذين صدَّقوا الله
تعالى في العهد الذي أخذ منهم يوم أقرُّوا بالعبوديَّة المطلقة له، قال الله تعالى:
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾ (النساء: ١٢٢)، وامتدَّ هذا الصدق إلى مَنْ
بعثهم هداةً للخلق، فهم صادقون في الوعد، صادقون في الكلمة، وصادقون في تجسيد
الحقِّ.
هذه العبارة تشير أيضاً إلى أنَّ الصدق ليس مجرَّد فضيلة شخصيَّة، بل هو منهج حياة
ومسار إلهي يتجلَّى في الصادقين جيلاً بعد جيل، الإمام الصادق (عليه السلام) الذي
حمل هذا الاسم الشريف كان مثالاً لهذا الامتداد.
هو الشعار الذي يجعل الأُمَّة تتَّصل بحبل الهداية الإلهي، ويدعوها لتسير على خطى
هؤلاء الصادقين الذين لم يُغيِّروا ولم يُبدِّلوا.
* في (تفسير القمِّي) بسنده عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)،
قَالَ: «... وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ
مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ [النساء: ٦٩]، قَالَ:
«﴿النَّبِيِّينَ﴾ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، ﴿وَالصِّدِّيقِينَ﴾
عَلِيٌّ (عليه السلام)، ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ (عليهما
السلام)، ﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ اَلْأَئِمَّةُ، ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾
اَلْقَائِمُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)»(٣٠٧).
* وفي (الكافي) بسنده عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ اَلْعِجْلِيِّ، قَالَ:
سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿اتَّقُوا
اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩]، قَالَ: «إِيَّانَا
عَنَى»(٣٠٨).
* وفي (تفسير العيَّاشي): عَنْ أَبِي حَمْزَةَ اَلثُّمَالِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ (عليه السلام): «يَا بَا حَمْزَةَ، إِنَّمَا يَعْبُدُ اَللهَ مَنْ عَرَفَ
اَللهَ، فَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ اَللهَ كَأَنَّمَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ هَكَذَا
ضَالًّا»، قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اَللهُ، وَمَا مَعْرِفَةُ اَلله؟ قَالَ: «يُصَدِّقُ
اَللهَ وَيُصَدِّقُ مُحَمَّداً رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) فِي
مُوَالَاةِ عَلِيٍّ وَاَلْاِيْتِمَامِ بِهِ، وَبِأَئِمَّةِ اَلْهُدَى مِنْ
بَعْدِهِ، وَاَلْبَرَاءَةِ إِلَى اَلله مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَكَذَلِكَ عِرْفَانُ
اَلله»، قَالَ: قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اَللهُ، أَيُّ شَيْءٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَنَا
اِسْتَكْمَلْتُ حَقِيقَةَ اَلْإِيمَانِ؟ قَالَ: «تُوَالِي أَوْلِيَاءَ اَلله،
وَتُعَادِي أَعْدَاءَ اَلله، وَتَكُونُ مَعَ اَلصَّادِقِينَ كَمَا أَمَرَكَ
اَللهُ...»(٣٠٩).
* * *
«أَيْنَ اَلسَّبِيلُ بَعْدَ اَلسَّبِيلِ»
هي تعبير عن شوق المؤمن إلى هداة الحقِّ الذين يضيئون الطريق أمام الإنسانيَّة، يسأله قلبٌ ملتاع بفقدانهم، ويُدرِك عقله أنَّهم السبيل الذي لا ضياع معه. السبيل الأوَّل كان آدم (عليه السلام)، ثمّ تبعه سبيل بعد سبيل، حتَّى خُتِمَ بالنبيِّ
-----------------
(٣٠٧) تفسير القمِّي (ج ١/ ص ١٤٣).
(٣٠٨) الكافي (ج ١/ص ٢٠٨/باب ما فرض الله (عزَّ وجلَّ) ورسوله (صلَّى الله عليه
وآله) من الكون مع الأئمَّة (عليهم السلام)/ح ١).
(٣٠٩) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ١١٦/ ح ١٥٥).
الأعظم محمّد (صلَّى الله عليه وآله)،
وأكمله بأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين حملوا لواء الهداية حتَّى آخر وصيٍّ
من الأوصياء (عليهم السلام).
وكأنَّ الداعي يقول: أين هم مَنْ يأخذون بأيدينا لنصل إلى الهداية الحقَّة؟ أين
الطريق الذي تتوالى خطواته عبر الأنوار القدسيَّة، حيث يُورث كلُّ سبيلٍ مَنْ سبقه
نور الهداية ومعاني الرسالة؟
هو تذكيرٌ بأنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة، وأنَّ الله جعل لكلِّ زمان سبيلاً يواصل
رسالة السماء، كما قال (عزَّ وجلَّ): ﴿أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ﴾ (الأنعام: ١٥٣)، وهذا السبيل هو صراط الأنبياء والأئمَّة الذين
جاؤوا ليكونوا علامات الطريق للسائرين.
إنَّه تساؤل ينبض بالشوق إلى وليِّ الله الأعظم، الإمام الحجَّة المنتظَر (عجَّل
الله فرجه)، الذي هو السبيل بعد كلِّ سبيل، والموعود بإقامة العدل ونشر النور
الإلهي في أرجاء الأرض.
إنَّه نداءُ الحائرين الذين يُدرِكون أنَّ السبيل ليس فقط درباً يُرى بالعين، بل هو
نورٌ يُرى بالبصيرة، وسلامةٌ يُدرِكها القلب في حضرة هداة الحقِّ.
* في (تفسير القمِّي) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)
فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾، قَالَ: «نَحْنُ
اَلسَّبِيلُ، فَمَنْ أَبَى فَهَذِهِ اَلسُّبُلُ فَقَدْ كَفَرَ...»(٣١٠).
* وفيه: عَنْ أَبِي اَلْجَارُودِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: ١٠٨]، يَعْنِي نَفْسَهُ، وَمَنْ تَبِعَهُ يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ وَآلَ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)»(٣١١).
* * *
-----------------
(٣١٠) تفسير القمِّي (ج ١/ ص ٢٢١).
(٣١١) تفسير القمِّي (ج ١/ ص ٣٥٨).
«أَيْنَ اَلْخِيَرَةُ بَعْدَ اَلْخِيَرَةِ»
الخِيَرة ليسوا مجرَّد شخصيَّات
تاريخيَّة، بل هم وجودات معصومة زكيَّة تُمثِّل واسطة فيض الله تعالى على الأرض.
والسؤال عنهم يُعبِّر عن شوق الأُمَّة إلى الامتداد الروحي والمعنوي لأُولئك الذين
كانوا مصدر عزَّتها وكرامتها، إنَّهم ميزان الحقِّ.
هذا النداء يحمل معنى اليقين بأنَّ الخِيَرة لا يغيبون دون أنْ يتركوا أثرهم، فهم
نورٌ يمتدُّ عبر العصور، وكأنَّ السؤال يُذكِّرنا بأنَّنا وإنِ افتقدناهم في
الظاهر، إلَّا أنَّ آثارهم لا تزال ماثلة في تعاليمهم وعدالتهم، فهم (عليهم السلام)
هم الذين يُثبِتون أنَّ العدل لا يموت، وأنَّ الحقَّ لا يُهزَم، وأنَّ لله تعالى في
كلِّ زمانٍ حجَّة تقيم الدِّين وتحميه.
فهذا السؤال يحمل بُعداً عقائديًّا عميقاً حين يقودنا إلى الإمام المهدي (عجَّل
الله فرجه)، الذي هو آخر الخِيَرة وموعود الله للإنسانيَّة، إنَّه ليس تساؤلاً عن
الغياب، بل هو تأكيدٌ على أنَّ الغياب لن يكون دائماً، وأنَّ النور سيعود ليملأ
الأرض عدلاً بعد أنْ مُلِئَت جوراً.
فهذا النداء ليس مجرَّد تعبير عن ألم الفقد، بل هو دعوة للتمسُّك بخطِّ الخِيَرة،
والإعداد لليوم الذي يعود فيه آخرهم ليقيم دولة الحقِّ والعدل الإلهي.
هو نداء يُشعِل الأمل في قلوب المؤمنين، ويُذكِّرهم بأنَّهم جزءٌ من هذا الخطِّ
المبارك، وأنَّ دورهم هو الثبات على العهد حتَّى يظهر مَنْ يُعيد للحقِّ هيبته.
* في (تأويل الآيات الظاهرة) بسنده عَنِ اَلْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه
السلام) فِي قَوْلِهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى
الْعَالَمِينَ﴾ [الدخان: ٣٢]، قَالَ: «اَلْأَئِمَّةَ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ،
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»(٣١٢).
-----------------
(٣١٢) تأويل الآيات الظاهرة (ج ٢/ ص ٥٧٤/ ح ٢).
* وفي (أمالي المفيد) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنُ إِسْحَاقَ اَلثَّعْلَبِيِّ اَلمَوْصِلِيِّ أَبِي نَوْفَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) يَقُولُ: «نَحْنُ خِيَرَةُ اَلله مِنْ خَلْقِهِ، وَشِيعَتُنَا خِيَرَةُ اَلله مِنَ أُمَّةِ نَبِيِّهِ (صلَّى الله عليه وآله)»(٣١٣).
* * *
«أَيْنَ اَلشُّمُوسُ اَلطَّالِعَةُ، أَيْنَ اَلْأَقْمَارُ
اَلمُنِيرَةُ»
عبارة تتأمَّل في غياب الهداة
الإلهيِّين الذين يُشكِّلون المحور الأساس للنظام الربَّاني في الكون.
هؤلاء ليسوا مجرَّد رموز معنويَّة، بل هم التجسُّد الكامل للهداية الإلهيَّة،
وأدوات الفيض الإلهي في الحياة البشريَّة.
هو تعبير عن الأنوار الكبرى، والقِيَم المطلقة التي تنبثق من مشكاة النبوَّة
والإمامة.
هؤلاء الشموس ليسوا مجرَّد أشخاص، بل هم مركز النور الإلهي، يحملون بين جنباتهم
الشريعة والرحمة والقيادة المتَّصلة بالله تعالى، كالشمس التي تنير كلَّ شيء دون
تفريق.
وتُمثِّل الامتداد العملي والواقعي لهذا النور في الحياة، الأقمار تُوضِّح لنا كيف
يمكن للحقيقة المطلقة أنْ تنعكس في الظروف المتغيِّرة والزمن الممتدِّ، فكما أنَّ
القمر يجعل ضوء الشمس قريبًا وممكن الوصول، كذلك يفعل الهداة الذين يجعلون من
الحقيقة الإلهيَّة واقعاً عمليًّا يتجلَّى في كلِّ شيء في العبادة والقيادة
وغيرهما.
-----------------
(٣١٣) أمالي المفيد (ص ٣٠٨/ المجلس ٣٦/ ح ٦).
في البُعد العقائدي، هذا النداء يشير إلى حقيقة مستمرَّة: أنَّ الله تعالى لا يترك
الأرض بلا حجَّة، فالغياب الظاهري للإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) هو اختبار
لبصيرة الإنسان وقدرته على الاستمرار في الطريق رغم الغيوم التي تحجب النور الظاهر.
هو نداء لمن يبحث عن الإشراق الذي يُعيد للوجود توازنه، وعن الذين يحملون القدرة
على مواجهة الظلام الشامل بالفكر والعلم والبصيرة.
* في (الكافي) بسنده عَنْ سَهْلٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: سَأَلْتُه عَنْ قَوْلِ
اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، قَالَ: «اَلشَّمْسُ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله)، بِهِ أَوْضَحَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) لِلنَّاسِ دِينَهُمْ»،
قَالَ: قُلْتُ: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ قَالَ: «ذَاكَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ
(عليه السلام)، تَلَا رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) وَنَفَثَهُ بِالْعِلْمِ
نَفْثاً»، قَالَ: قُلْتُ: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾، قَالَ: «ذَاكَ أَئِمَّةُ
اَلْجَوْرِ اَلَّذِينَ اِسْتَبَدُّوا بِالْأَمْرِ دُونَ آلِ اَلرَّسُولِ (صلَّى
الله عليه وآله)، وَجَلَسُوا مَجْلِساً كَانَ آلُ اَلرَّسُولِ أَوْلَى بِهِ
مِنْهُمْ، فَغَشُوا دِينَ اَلله بِالظُّلْمِ وَاَلْجَوْرِ، فَحَكَى اَللهُ
فِعْلَهُمْ، فَقَالَ: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾»، قَالَ: قُلْتُ:
﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾، قَالَ: «ذَلِكَ اَلْإِمَامُ مِنْ ذُرِّيَّةِ
فَاطِمَةَ (عليها السلام)، يُسْئَلُ عَنْ دِينِ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله)، فَيُجَلِّيهِ لِمَنْ سَأَلَهُ، فَحَكَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) قَوْلَهُ،
فَقَالَ: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾ [الشمس: ١-٤]»(٣١٤).
* * *
«أَيْنَ اَلْأَنْجُمُ اَلزَّاهِرَةُ»
هذا النداء يُعبِّر عن البحث عن تلك النجوم المضيئة في سماء الإنسانيَّة، النجوم التي جُعِلَت رموزاً للهداية، ومصابيح تنير للناس طريقهم في عتمة
-----------------
(٣١٤) الكافي (ج ٨/ ص ٥٠/ ح ١٢).
الحياة، هم الأئمَّة الطاهرون الذين يُمثِّلون تجليًّا
حيًّا للعلم الإلهي والحكمة الربَّانيَّة.
هي تُعبِّر عن جمال الكمال الإنساني الذي يتحقَّق عندما يصطبغ الإنسان بنور الله
تعالى، ويصبح وسيلة للهداية والعطاء.
في البُعد العقائدي، سؤالٌ عن غياب هؤلاء الحُجَج الذين هم زينة الأرض وأمانها،
مصداقًا للحديث لقول النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله): «اَلنُّجُومُ أَمَانٌ
لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ، وَأَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي»(٣١٥).
وهم وإنْ غابوا جسداً، فإنَّ نورهم يبقى في شخص غائبهم (عليهم السلام).
هذا النداء يستبطن شوقاً للظهور الموعود للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، الذي هو
نجم الزمان الزاهر، والذي سيعيد للأرض نورها وعدلها.
ومع ذلك، فإنَّ النداء لا يخلو من دعوة ضمنيَّة للمؤمن أنْ يكون هو الآخر نجماً
زاهراً في مجاله، يُنير مَنْ حوله بسلوكه وأفعاله، مقتدياً بهؤلاء الأنجم الذين
كانوا وما زالوا قدوة للبشريَّة جمعاء.
* في (الكافي) بسنده عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه
السلام)، قَالَ: «إِنَّمَا نَحْنُ كَنُجُومِ اَلسَّمَاءِ، كُلَّمَا غَابَ نَجْمٌ
طَلَعَ نَجْمٌ حَتَّى إِذَا أَشَرْتُمْ بِأَصَابِعِكُمْ وَمِلْتُمْ بِأَعْنَاقِكُمْ
غَيَّبَ اَللهُ عَنْكُمْ نَجْمَكُمْ، فَاسْتَوَتْ بَنُو عَبْدِ اَلمُطَّلِبِ،
فَلَمْ يُعْرَفْ أَيٌّ مِنْ أَيٍّ، فَإِذَا طَلَعَ نَجْمُكُمْ فَاحْمَدُوا
رَبَّكُمْ»(٣١٦).
* وفي (مناقب آل أبي طالب) بسنده عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اَلله
صَلَاةَ اَلْفَجْرِ، وَلَمَّا اِنْفَتَلَ مِنَ اَلصَّلَاةِ أَقْبَلَ عَلَيْنَا
بِوَجْهِهِ اَلْكَرِيمِ، فَقَالَ: «مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ مَنِ اِفْتَقَدَ اَلشَّمْسَ
فَلْيَسْتَمْسِكْ بِالْقَمَرِ، وَمَنِ اِفْتَقَدَ اَلْقَمَرَ فَلْيَسْتَمْسِكْ
-----------------
(٣١٥) كمال الدِّين (ص ٢٠٥/ باب ٢١/ ح ١٨).
(٣١٦) الكافي (ج ١/ ص ٣٣٨/ باب في الغيبة/ ح ٨).
بِالزُّهَرَةِ، وَمَنِ اِفْتَقَدَ اَلزُّهَرَةَ فَلْيَسْتَمْسِكْ بِالْفَرْقَدَيْنِ»، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «أَنَا اَلشَّمْسُ، وَعَلِيٌّ اَلْقَمَرُ، وَفَاطِمَةُ اَلزُّهَرَةُ، وَاَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ اَلْفَرْقَدَانِ»...، عَنْ سَلْمَانَ اَلْفَارِسِيِّ: فَإِذَا فَقَدْتُمُ اَلْفَرْقَدَيْنِ فَتَمَسَّكُوا بِالنُّجُومِ اَلزَّاهِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا اَلنُّجُومُ الزَّاهِرَةُ فَهُمُ الْأَئِمَّةُ التِّسْعَةُ مِنْ صُلْبِ اَلْحُسَيْنِ، وَاَلتَّاسِعُ مَهْدِيُّهُمْ(٣١٧).
* * *
«أَيْنَ أَعْلَامُ اَلدِّينِ وَقَوَاعِدُ اَلْعِلْمِ»
هذا النداء يعكس ألم الفقد وحيرة
الأُمَّة أمام غياب أعلام الدِّين، وحُجَج الله الذين جسَّدوا جوهر الدِّين
وشيَّدوا صروح العلم.
هم أُولئك الذين جعلهم الله تعالى مناراً للهدى وأدلَّاءَ على الحقِّ، وعلَّموا
الناس كيف يعيشون وفق تعاليم السماء. هؤلاء ليسوا مجرَّد مفسِّرين أو شارحين، بل هم
ممثِّلو الحقيقة الإلهيَّة بكلِّ تجلِّياتها، الذين يستمدُّون علمهم من المصدر
الأزلي.
في البُعد العقائدي، هذا النداء يرتبط بحقيقة انتظار الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه)، الذي هو علم الدِّين الأكبر وقاعدة العلم الحيَّة، والذي سيعيد للعلم
والدِّين حضورهما الكامل.
هو ليس مجرَّد تساؤل عن الحضور، بل هو استنهاضٌ لإرادة الأُمَّة بأنْ تستعدَّ
لاستقبال مَنْ يعيد للدِّين مكانته وللعلم إشراقه، ويدعوها للثبات على مَنْ كانوا
ولا يزالون أساس استمرار الحقِّ.
وبهذا يتمُّ الفصل الثاني من هذا الشرح، ولله تعالى ولوليِّه (عجَّل الله فرجه)
الحمد والمنَّة.
* * *
-----------------
(٣١٧) مناقب آل أبي طالب (ج ١/ ص ٢٤٢).
في هذا الفصل والفقرات التالية منه سنلاحظ أنَّ الدعاء المبارك ذكر العديد من الخصائص التي تفرَّعت على عدَّة صفات، ورتَّب جملة من الآثار على تلكم الصفات، ونتعرَّض لها تباعاً في عدَّة فقرات، وفي كلِّ فقرة سنتناول عدَّة مقاطع بحسب البحوث التي تتعرَّض لها المفاهيم المذكورة فيها وما يلازمها من مسائل في العقيدة المهدويَّة وتفاصيلها.
الفقرة التاسعة والعشرون
«أَيْنَ بَقِيَّةُ اَلله اَلَّتي لَا تَخْلُو مِنَ اَلْعِتْرَةِ اَلهَادِيَةِ»
في هذه الفقرة يسأل الداعي عن إمكانيَّة الوصول إلى الإمام (عجَّل الله فرجه) بعد
غيبته، وهل يمكن معرفة مكانه؟
فبعد أنِ استعرض الدعاء ما وقع على العترة الهادية من مصائب ومِحَن مرَّت عليك من
خلال فقرات هذا الدعاء، يتجلَّى في لسان الحال الذي يُعبِّر عنه الدعاء سؤالٌ عميق
نابع من هذه المآسي والفجائع: هل بقي من هذه العترة فرد معصوم موجود؟
وإذا كان الجواب بالإيجاب، فأين هو؟
أليس ممَّا قرأناه أنَّ وجود فرد من العترة المعصومة هو قرين للقرآن الكريم، لا
ينفصل عنه ما دامت الدنيا قائمة؟
ولكنَّنا - مع ذلك - لا نشاهد هذه البقيَّة بأعيننا، ممَّا يجعل السؤال
بـ(أين)
مشروعاً بل ومُلِحًّا، وإذا كانت بقيَّة العترة موجود، ولكنَّه غائب عن الأنظار،
فهل من سبيل للوصول إليه، ونصرته، وتحقيق الغاية المرجوَّة من وجوده؟
الحديث عن هذه الفقرة يقع في عدَّة نقاط:
النقطة الأولى: عدم خلوِّ الأرض من إمام معصوم من أهل البيت (عليهم
السلام):
قال تعالى: ﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا
عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ (هود: ٨٦).
جاء هذا المفهوم القرآني في إطار قصَّة النبيِّ شعيب (عليه السلام)، قال (عزَّ من
قائل): ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ
مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ
إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ *
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ
اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾
(هود: ٨٤ - ٨٦).
وعن هذا المعنى جاء في (الكافي) بسنده عَنْ عُمَرَ بْنِ زَاهِرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ
اَلله (عليه السلام)، قَالَ: سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اَلْقَائِمِ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ
بِإِمْرَةِ اَلمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: «لَا، ذَاكَ اِسْمٌ سَمَّى اَللهُ بِهِ أَمِيرَ
اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لَمْ يُسَمَّ بِه أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا يَتَسَمَّى
بِهِ بَعْدَهُ إِلَّا كَافِرٌ»، قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، كَيْفَ يُسَلَّمُ
عَلَيْه؟ قَالَ: «يَقُولُونَ: اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بَقِيَّةَ اَلله»، ثُمَّ
قَرَأَ: ﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [هود:
٨٦](٣١٨).
في شرح المولى المازندراني (رحمه الله) على (الكافي): (قوله: (قَالَ: يَقُولُونَ:
اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بَقِيَّةَ اَلله)، الإضافة في (بَقِيَّةَ اَلله) لاميَّة،
كبيت الله وطاعة الله، وبقيَّة
-----------------
(٣١٨) الكافي (ج ١/ ص ٤١١ و٤١٢/ باب نادر/ ح ٢).
الشيء: ما بقي منه، والبقيَّة أيضاً: ما يُنتظَر
وجوده ويُترقَّب ظهوره من (بقيت الرجل أبقيته) إذا انتظرته ورقبته، وإنَّما سُمِّي
الصاحب (عليه السلام) بذلك لأنَّه بقيَّة الأنبياء والأوصياء السابقين، ويُنتظَر
وجوده، ويُترقَّب ظهوره. قوله: (ثُمَّ قَرَأَ: ﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ﴾)،
أي خليفة الله الباقي، وانتظار ظهوره خير لكم إنْ كنتم مؤمنين به. وهذا التفسير
أحسن ممَّا قيل من أنَّ المراد ببقيَّة الله طاعته وانتظار ثوابه والحالة الباقية
لكم من الخير أو ما بقي لكم من الحلال)(٣١٩).
وهذا الفهم يحمل دلالة عميقة ترتبط بمفهوم بقيَّة الله، وأنَّه هو خليفة الله
الباقي في الأرض، أي ذلك الإمام المعصوم المنتظَر (عجَّل الله فرجه) الذي يُمثِّل
امتداداً للولاية الإلهيَّة، وأنَّ الإيمان به وانتظار ظهوره فيه الخير الحقيقي
للناس، بشرط أنْ يكونوا مؤمنين به وبوظيفته الإلهيَّة.
وهذا الفهم يبرز بصورة أعمق مقارنةً بما ذُكِرَ من أنَّ بقيَّة الله تقتصر وتشير
إلى طاعته تعالى، أو انتظار ثوابه، أو ما بقي للإنسان من الحلال الطيِّب، أو حتَّى
الحالة الباقية من الخير في حياة المؤمن، فقط. فهي وإنْ كانت مفاهيم حقٍّ، ولكن
القصر عليها لا يُعبِّر بشكل كامل عن البُعد الخاصِّ المرتبط بالإمام الخليفة الذي
يُشكِّل صلة الوصل المستمرَّة بين الأرض والسماء، ووجوده يُعَدُّ ضمانة لاستمرار
الخير والهداية على ما تقدَّم في عدَّة مواضع من هذا الشرح.
ثم الملاحَظ أنَّ الإضافة في (بقيَّة) إلى الله تعالى هي على حدِّ الإضافات
الوجوديَّة الحقيقيَّة، كإضافة الدِّين إلى الله (عزَّ وجلَّ)، قال تعالى: ﴿إِنَّ
الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران: ١٩)، وإضافة خلق الموجودات إليه،
قال تعالى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَا ذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾
(لقمان: ١١)، فالحجَّة هو بقيَّة الله تعالى، وقد قضى أنْ لا تخلو العترة الهادية
من بقيَّة ووجود دائم بين الناس،
-----------------
(٣١٩) شرح أُصول الكافي للمازندراني (ج ٧/ ص ٤٨ و٤٩).
فعندما يقول الداعي: «أَيْنَ بَقِيَّةُ اَلله
اَلَّتِي لَا تَخْلُو مِنَ اَلْعِتْرَةِ اَلْهَادِيَةِ» هو يشير إلى الارتباط بين
الأرض والسماء الذي جسَّده الإمام (عليه السلام) في حديثه مع أحمد بن إسحاق (رضي
الله عنه).
* في (كمال الدِّين) بسنده عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ
اَلْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
(عليهما السلام) وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ اَلْخَلَفِ [مِنْ] بَعْدِهِ،
فَقَالَ لِي مُبْتَدِئاً: «يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى لَمْ يُخْلِ اَلْأَرْضَ مُنْذُ خَلَقَ آدَمَ (عليه السلام)، وَلَا
يُخْلِيهَا إِلَى أَنْ تَقُومَ اَلسَّاعَةُ مِنْ حُجَّةٍ لله عَلَى خَلْقِهِ، بِهِ
يَدْفَعُ اَلْبَلَاءَ عَنْ أَهْلِ اَلْأَرْضِ، وَبِهِ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ، وَبِهِ
يُخْرِجُ بَرَكَاتِ اَلْأَرْضِ»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله،
فَمَنِ اَلْإِمَامُ وَاَلْخَلِيفَةُ بَعْدَكَ؟ فَنَهَضَ (عليه السلام) مُسْرِعاً،
فَدَخَلَ اَلْبَيْتَ، ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَى عَاتِقِهِ غُلَامٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ
اَلْقَمَرُ لَيْلَةَ اَلْبَدْرِ مِنْ أَبْنَاءِ اَلثَّلَاثِ سِنِينَ، فَقَالَ: «يَا
أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، لَوْلَا كَرَامَتُكَ عَلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) وَعَلَى
حُجَجِهِ مَا عَرَضْتُ عَلَيْكَ اِبْنِي هَذَا، إِنَّهُ سَمِيُّ رَسُولِ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) وَكَنِيُّهُ، اَلَّذِي يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً
وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً. يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ،
مَثَلُهُ فِي هَذِهِ اَلْأُمَّةِ مَثَلُ اَلْخَضِرِ (عليه السلام)، وَمَثَلُهُ
مَثَلُ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ، وَاَلله لَيَغِيبَنَّ غَيْبَةً لَا يَنْجُو فِيهَا مِنَ
اَلْهَلَكَةِ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَى اَلْقَوْلِ
بِإِمَامَتِهِ، [وَ]وَفَّقَهُ [فِيهَا] لِلدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ فَرَجِهِ»، فَقَالَ
أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا مَوْلَايَ، فَهَلْ مِنْ عَلاَمَةٍ
يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا قَلْبِي؟ فَنَطَقَ اَلْغُلَامُ (عليه السلام) بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ، فَقَالَ: أَنَا بَقِيَّةُ اَلله فِي أَرْضِهِ، وَاَلمُنْتَقِمُ
مِنْ أَعْدَائِهِ، فَلَا تَطْلُبْ أَثَراً بَعْدَ عَيْنٍ يَا أَحْمَدَ بْنَ
إِسْحَاقَ...»(٣٢٠).
لقد ذكر أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو بقيَّة
الله للنَّاس من ذرّيَّة المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) المطهَّرين، فهو بقيَّة
الله تعالى في أرضه وخليفته وحجَّته كما في الخبر.
إنَّ قوله: «بَقِيَّةُ اَلله» تُعبِّر عن الغصن الطاهر الوحيد الباقي من تلك
-----------------
(٣٢٠) كمال الدِّين (ص ٣٨٤ و٣٨٥/ باب ٣٨/ ح ١).
الشجرة
المباركة، الذي يُمثِّل امتداداً للولاية الإلهيَّة في الأرض. ومن لطيف ما نطقت به
الآية الكريمة، والتي سيتحدَّث بها إمامنا عند ظهوره المبارك، أنَّها تصف هذه
البقيَّة الإلهيَّة بأنَّها خير لكم أيُّها الناس من كلِّ شيء آخر.
فهذا الوجود الربَّاني هو خير لكم من آبائكم وأُمَّهاتكم، ومن زوجاتكم وأبنائكم،
وخير من أموالكم ومناصبكم ومقاماتكم، بل هو خير من كلِّ شيء تملكونه أو تطمحون
إليه. إنَّه خير من علم العالم، وخير من صلاة المصلِّي، ودعاء الداعي، وخير من
قربات كلِّ متقرِّب، إذ إنَّ قيمته لا تُقارَن بأيِّ قرب أو عمل حين يكون بمعزل عنه
وعن قربه.
هذه البقيَّة الإلهيَّة ليست مجرَّد رمز للخلاص أو الرجاء، بل هي محور الوجود الذي
به يتحقَّق الخير الأعظم لكلِّ البشريَّة، وهو خير لا يضاهى بأيِّ جهد بشري أو
إنجاز دنيوي، هذا إنْ كنتم من المؤمنين، فإنَّ الآية تقول: ﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
وفعلاً هو امتحان صعب، فهل تجد في نفسك أنَّ الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه)
وبقيَّة الله في أرضه هو خير من كلِّ شيء عداه وسواه؟
النقطة الثانية: هل يمكن اللقاء بالإمام (عجَّل الله فرجه)؟ وأين
موطن الإمام (عجَّل الله فرجه) بعد غيبته؟
من الأسئلة المتجدِّدة السؤال عن موضع الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه)، وإمكان
الاتِّصال به والتشرُّف بحضرته (عجَّل الله فرجه).
وقد جاءت الإجابات ومنذ ذاك الزمان على لسان آبائه الطاهرين (عليهم السلام) وهم
يحكون عن غيبته وما سيجري فيها، وعلى لسانه (عجَّل الله فرجه) أيضاً، أنَّ اللقاء
به ليس متاحاً بالطريقة التي كانت في زمان آبائه الطاهرين (عليهم السلام)، وإنَّما
في دائرة أضيق في زمان غيبته الصغرى، بل وفي أيَّامه التي عاشها في كنف والده
الإمام
العسكري (عليه السلام) بحيث لا يراه جميع الناس إلَّا مَنْ تيسَّر له ذلك عن
طريق السفراء أو مباشرةً، وأمَّا في الغيبة الكبرى فاللقاء به نادر جدًّا، ولا يكون
إلَّا في ضمن شرائط وأسباب وظروف لا نعلم بها، ولا نعلم متى وأين تقع فيقع اللقاء.
وهذا ما استُفيد من عمومات ما دلَّ على وقوع الغيبة فيه (عجَّل الله فرجه)، وسيأتي
بحث عن هذه النقطة في فقرة: «عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَى اَلْخَلْقَ وَلَا تُرَى».
ومن جميل ما ورد في هذا الشأن ما روي عن طلب الزهري اللقاء بالإمام (عجَّل الله
فرجه)، وقد أنفق في سبيل هذا الأمر مالاً عظيماً، ففي (الغيبة للطوسي): عَنِ
اَلزُّهْرِيِّ، قَالَ: طَلَبْتُ هَذَا اَلْأَمْرَ طَلَباً شَاقًّا حَتَّى ذَهَبَ
لِي فِيهِ مَالٌ صَالِحٌ، فَوَقَعْتُ إِلَى اَلْعَمْرِيِّ وَخَدَمْتُهُ
وَلَزِمْتُهُ وَسَأَلْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام)،
فَقَالَ لِي: لَيْسَ إِلَى ذَلِكَ وُصُولٌ، فَخَضَعْتُ، فَقَالَ لِي: بَكِّرْ
بِالْغَدَاةِ، فَوَافَيْتُ، فَاسْتَقْبَلَنِي وَمَعَهُ شَابٌّ مِنْ أَحْسَنِ
اَلنَّاسِ وَجْهاً، وَأَطْيَبِهِمْ رَائِحَةً بِهَيْأَةِ اَلتُّجَّارِ، وَفِي
كُمِّهِ شَيْءٌ كَهَيْأَةِ اَلتُّجَّارِ، فَلَمَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ دَنَوْتُ مِنَ
اَلْعَمْرِيِّ، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ، فَعَدَلْتُ إِلَيْهِ، وَسَأَلْتُهُ
فَأَجَابَنِي عَنْ كُلِّ مَا أَرَدْتُ، ثُمَّ مَرَّ لِيَدْخُلَ اَلدَّارَ -
وَكَانَتْ مِنَ اَلدُّورِ اَلَّتِي لَا يُكْتَرَثُ لَهَا -، فَقَالَ اَلْعَمْرِيُّ:
إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَسْأَلَ سَلْ فَإِنَّكَ لَا تَرَاهُ بَعْدَ ذَا، فَذَهَبْتُ
لِأَسْأَلَ فَلَمْ يَسْمَعْ وَدَخَلَ اَلدَّارَ، وَمَا كَلَّمَنِي بِأَكْثَرَ مِنْ
أَنْ قَالَ: «مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ أَخَّرَ اَلْعِشَاءَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ
اَلنُّجُومُ، مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ أَخَّرَ اَلْغَدَاةَ إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ
اَلنُّجُومُ»، وَدَخَلَ اَلدَّارَ(٣٢١).
إنَّ ممَّا يُكدِر الخاطر ويُحزِن المؤمن أنَّه ليس للإمام (عجَّل الله فرجه) موطن
يستقرُّ فيه ويكون علامة على وجوده ويُقصَد إليه، فالغيبة منعت تحديد مكان معيَّن
ثابت، وإنْ ورد في بعض الأخبار أنَّه في المدينة أو رضوى على ما سيأتي في فقرة: «أَبِرَضْوَى
أَوْ غَيْرهَا أَمْ ذِي طُوَى».
-----------------
(٣٢١) الغيبة للطوسي (ص ٢٧١/ ح ٢٣٦).
* في (الكافي) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)،
قَالَ: «لَا بُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ، وَلَا بُدَّ لَهُ فِي
غَيْبَتِهِ مِنْ عُزْلَةٍ، وَنِعْمَ اَلمَنْزِلُ طَيْبَةُ، وَمَا بِثَلَاثِينَ مِنْ
وَحْشَةٍ»(٣٢٢).
* وفي (المزار) بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:
شَكَوْتُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ شَوْقِي إِلَى رُؤْيَةِ
مَوْلَانَا (عليه السلام)، فَقَالَ لِي: (مَعَ اَلشَّوْقِ تَشْتَهِي أَنْ
تَرَاهُ؟)، فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، فَقَالَ لِي: (شَكَرَ اَللهُ لَكَ شَوْقَكَ،
وَأَرَاكَ وَجْهَكَ فِي يُسْرٍ وَعَافِيَةٍ، لَا تَلْتَمِسْ يَا أَبَا عَبْدِ اَلله
أَنْ تَرَاهُ، فَإِنَّ أَيَّامَ اَلْغَيْبَةِ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ، وَلَا تَسْأَلِ
اَلاِجْتِمَاعَ مَعَهُ إِنَّهَا عَزَائِمُ اَلله وَاَلتَّسْلِيمُ لَهَا أَوْلَى،
وَلَكِنْ تَوَجَّهْ إِلَيْهِ بِالزِّيَارَةِ...)(٣٢٣).
* * *
الفقرة الثلاثون
«أَيْنَ اَلمُعَدُّ لِقَطْعِ دَابِرِ اَلظَّلَمَةِ، أَيْنَ اَلمُنْتَظَرُ
لِإِقَامَةِ اَلْأَمْتِ وَاَلْعِوَجِ، أَيْنَ اَلمُرْتَجَى لِإِزَالَةِ اَلجَوْرِ
وَاَلْعُدْوَانِ، أَيْنَ اَلمُدَّخَرُ لِتَجْديدِ اَلْفَرَائِضِ وَاَلسُّنَنِ،
أَيْنَ اَلمُتَخَيَّرُ لِإِعادَةِ اَلْمِلَّةِ وَاَلشَّرِيعَةِ، أَيْنَ
اَلمُؤَمَّلُ لِإِحْيَاءِ اَلْكِتَابِ وَحُدُودِهِ، أَيْنَ مُحْيِي مَعَالِمِ
اَلدِّينِ وَأَهْلِهِ، أَيْنَ قَاصِمُ شَوْكَةِ اَلمُعْتَدِينَ، أَيْنَ هَادِمُ
أَبْنِيَةِ اَلشِّرْكِ وَاَلنِّفَاقِ، أَيْنَ مُبِيدُ أَهْلِ اَلْفُسُوقِ
وَاَلْعِصْيَانِ وَاَلطُّغْيَانِ، أَيْنَ حَاصِدُ فُرُوعِ اَلْغَيِّ وَاَلشِّقَاقِ
(اَلْنِّفَاقِ)، أَيْنَ طَامِسُ آثَارِ
-----------------
(٣٢٢) الكافي (ج ١/ ص ٣٤٠/ باب في الغيبة/ ح ١٦).
(٣٢٣) المزار لابن المشهدي (ص ٥٨٥).
اَلزَّيْغِ وَاَلْأَهْوَاءِ، أَيْنَ قَاطِعُ حَبَائِلِ اَلْكَذِبِ وَاَلْاِفْتِرَاءِ، أَيْنَ مُبِيدُ اَلْعُتَاةِ وَاَلمَرَدَةِ، أَيْنَ مُسْتَأْصِلُ أَهْلِ اَلْعِنَادِ وَاَلتَّضْلِيلِ وَاَلْإِلحَادِ»
هذه الفقرة من الدعاء المبارك
بمقاطعها المتعدِّدة تتحدَّث عن عدَّة صفات تشترك جميعها في غاية واحدة، وهي إماتة
الظلم والجور وإقامة العدل والدِّين، وهذه الصفات المذكورة في هذه الفقرة من بين
أبرز صفات الإمام (عجَّل الله فرجه)، وخصائصه الكثيرة، كصفة المنتظَر المعدِّ،
والمرتجى المؤمَّل، والمبيد والحاصد، والطامس القاطع، والمستأصل للظلم والجور
والعدوان، والمتخيَّر لإقامة الأمت والعوج في الأُمَّة والإنسانيَّة جمعاء،
والمدَّخر لإعادة الملَّة والشريعة ومعالم الدِّين كما كانت، وغير ذلك ممَّا
تحدَّثت عنه الفقرة، والداعي ومع كلِّ فقرة يتلوها يسأل عن مكان إمامه (عجَّل الله
فرجه) وأين هو؟
وأنَّى له بمعرفة مكانه!
المعدُّ لقطع دابر الظلمة:
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في عقيدتنا هو الذي أعدَّته السماء لاستئصال جذور
الظلمة، ومتى ما استأصلت جذورهم سيستأصل الظلم ويُطهِّر الأرض من كلِّ جور، وإذا
أُزيل الجور والظلم عن الأرض سَعُدَ الناس، وهنئت المعيشة، إذ إنَّ الهدف الأسمى من
بعث الأنبياء (عليهم السلام) هو إرساء العدل ورفع الظلم وتطهير الأرض منه، لتنفتح
فُرَص الإقبال على الله سبحانه وتعالى وعبادته دون رادع أو مانع، من ظلم ظالم أو
جور جائر.
وقد صرَّح المقطع عن أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قد أُعِدَّ إعداداً
إلهيًّا بمقتضى الحديث عن أوصافه وما يترتَّب عليها من آثار والتي يُرتِّلها الداعي
لهذا الدعاء،
فكون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - بحسب الفقرات المتقدِّمة - هو
ابن الحُجَج والبراهين، وابن الصراط المستقيم، وأنَّه السراج المنير، وابن
المطهَّرين والهداة المهديِّين، يقتضي أنَّه بقيَّة الله في أرضه، لأنَّه هو الخاتم
من الأوصياء، ولا بدَّ من بقاء بقيَّتهم، على ما مرَّ آنفاً.
كلُّ هذه الصفات وغيرها تُؤكِّد لنا أنَّ الإعداد في الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه) هو إعداد إلهي على كلِّ المستويات، العقائديَّة والفكريَّة والسلوكيَّة
والإداريَّة والاقتصاديَّة وكلِّ زاوية ومنحى من مناحي الإعداد.
فالإمام (عجَّل الله فرجه) نور الله تعالى في الأرض الذي أعدَّته السماء لمهمَّة
إلهيَّة.
هذا ما يريد أنْ يتحدَّث عنه هذا المقطع، فيقول: أيُّها الناس، يا من تقرؤون هذا
الدعاء، اعلموا أنَّ إمامكم الغائب قد أعدَّته السماء وهيَّئته بتهيئة وإعداد خاصٍّ
لمهمَّته الكبرى ليقطع دابر الظلمة.
فإذا كانت السماء تُخبِر أتباعها عن رجل الغيب الموعود وتقول لهم: أعددنا لكم
إمامكم إعداداً خاصًّا وادَّخرناه لمهمَّة مقدَّسة، فالسؤال المنطقي: ما هي الوظيفة
تجاه هذا الرجل الإلهي؟
الجواب: أنَّ وظيفتكم تجاه إمامكم (عجَّل الله فرجه) انتظاره في غيبته، ونصرته
الدائمة وعند ظهوره ليقوم بأداء مهمَّته، فيقطع عنكم دابر الظلمة ولا يُبقي لهم من
وجود يُذكَر، وسيأتي الحديث عن نصرته في غيبته وعند ظهوره في معرض الحديث عن فقرة
«بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَنَفْسِي لَكَ اَلْوِقَاءُ وَاَلْحِمَى».
الدعاء يقول: أيُّها الناس، إنَّ هذا الرجل المُعَدَّ إعداداً إلهيًّا ليس فقط
سيحارب الظلمة، وإنَّما يتعقَّبهم ليستأصل جذورهم، فيقطع دابرهم، وقد ورد في روايات
كثيرة تتحدَّث عن كون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو المعدُّ لهذه المهمَّة
المقدَّسة، ومن تلك الأخبار ما ورد عَنِ اَلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله): «...
أَلَا إِنَّ خَاتِمَ اَلْأَئِمَّةِ مِنَّا
اَلْقَائِمُ اَلمَهْدِيُّ، أَلَا إِنَّهُ
اَلظَّاهِرُ عَلَى اَلدِّينِ، أَلَا إِنَّهُ اَلمُنْتَقِمُ مِنَ اَلظَّالِمِينَ،
أَلَا إِنَّهُ فَاتِحُ اَلْحُصُونِ وَهَادِمُهَا، أَلَا إِنَّهُ فَاتِحُ كُلِّ
قَبِيلَةٍ مِنَ اَلشِّرْكِ، أَلَا إِنَّهُ مُدْرِكٌ بِكُلِّ ثَارٍ لِأَوْلِيَاءِ
اَلله (عزَّ وجلَّ)...»(٣٢٤).
هل الإمام آلة للقتل والحرب؟
إنْ قلتَ: على هذا فإنَّكم تُصوِّرون الإمام (عجَّل الله فرجه) آلة للقتل والحرب،
وهذا ما يقوله الأعداء، وما يوجب تنفير الناس من قضيَّته وعدم تقبُّلها على هذا
التصوير(٣٢٥).
قلتُ:
١ - من المعلوم أنَّ أوَّل ما يقوم به عند ظهوره إقامة الحجَّة الواضحة، حيث سيخطب
في الناس وفي أقدس بقعة عند المسلمين، ولكن مع ذلك يقوم هؤلاء بسفك الدماء في هذا
المكان المقدَّس، فماذا عساه يفعل مع أُناس لا يخضعون لميزان من عقل أو حكمة، ولا
يتمسَّكون بمنهج يتمُّ من خلاله التحاور معهم؟ فإمَّا أنْ يتركهم يفعلون ما يحلو
لهم دون رادع، أو يقاتلهم بعد فشل محاولات الحوار معهم، كلُّ منصفٍ يختار الثاني.
٢ - أنَّ حدود الحرب وعدد القتلى مقارنةً مع فتح العالم كلِّه إذا ما تمَّ قياسه
لأيِّ حرب سابقة عليه من حيث قصر الفترة الزمنيَّة التي لا تتجاوز الأشهر المعدودة
ومن حيث عدد القتلى، فإنَّه قياس مع الفارق جدًّا، فمن المعيب ذكر هذه الإشكاليَّة
مع ما سينتج عنها، ولكن مجاراةً لعقول هؤلاء نقول ذلك.
٣ - يحقُّ لنا أنْ نسأل أصحاب هذا القول: ماذا سيفعل المنقذ والمخلِّص
-----------------
(٣٢٤) روضة الواعظين (ص ٩٧).
(٣٢٥) راجع: أُصول مذهب الشيعة الإماميَّة (ج ٢/ ص ٨٧٥/ بحث سيرة القائم المنتظَر).
الذي ينتظرون
حسب زعمهم مع المعاندين له؟ فليراجعوا ما في مصادرهم وما يُنقَل بهذا الصدد قبل
التكلُّم بدون معرفة، إنَّ نصوصهم تتحدَّث عن أضعاف مضاعفة - إنْ قُبِلَت - في ما
يقوم به.
في الحقيقة إنْ هذه الشُّبُهات ما هي إلَّا محاولات للتغطية والتشويه في ذات الوقت.
حالة الانتقام في روايات الظهور لا تنسجم مع العدل الإلهي:
إنْ قلتَ: إنَّ ما يقوم به الإمام (عجَّل الله فرجه) حالة انتقام، لا ينسجم مع
منظومة العدل التي نقرأها في الآيات والروايات، فقد يقال: إنَّ في بعض الروايات
أنَّ الدماء والقتل كثير حتَّى قيل عنه على لسان بعض المنحرفين: إنَّه آلة للقتل،
وأنَّ همَّه القتل والأخذ بالثأر.
قلتُ: إنَّ وصف فعل الإمام (عجَّل الله فرجه) بالعدوان المحض ومن دون مبرِّر هذا من
المغالطة، إذ إنَّ فعله (عجَّل الله فرجه) ليس حالة انتقام غير مبرِّر، وإنَّما هو
استرجاع حقٍّ مسلوب للمستضعفين على طول خطِّ الزمان، وهو نوع من أنواع تطبيق
القانون بحقِّ المتجاوزين.
هو قصاص قانوني ولغة دينيَّة للمطالبة بالحقوق المسلوبة، حاله حال ما تقوم به أيُّ
دولة من الدول في الدفاع ضدَّ الانتهاك الذي يداهم هذه الدولة أو تلك وتُراق من أجل
ذلك الدماء، فمع ذلك لا يُعَدُّ عند أحد نقصاً أو عيباً.
ثمّ إنَّ العدل هو وضع الشيء في موضعه، والقصاص من أجلى مفاهيم العدل - على ما يأتي
مفصَّلاً في الأخذ بالثأر، وأنَّه ثقافة إنسانيَّة ودينيَّة وقانونيَّة -، ولا تغيب
عن أذهاننا صورة الميزان الذي يُوضَع خلف القضاة في جميع المحاكم العالميَّة مع
أنَّهم يحكمون على المتَّهمين بأقسى أنواع العقوبات، فهل سمعنا أحداً قال: إنَّهم
ظلمة ومنتقمون، وما يقومون به لا ينسجم مع منظومة العدل؟!
هذا، وجميع الإلهيِّين يعتقدون أنَّ الله تعالى خلق الجنَّة والنار، وجعل النار
داراً يعاقب فيها الظلمة والمفسدين، فهل - والعياذ بالله تعالى - يقال: إنَّ هذا
ظلم ولا ينسجم مع منظومة العدل ومقولة: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾
(الأعراف: ١٥٦)، إنَّ هذا لا ينبغي أنْ يصدر من شخص يحترم عقله وفكره.
هذه في الحقيقة ليست إشكاليَّة، وإنَّما تهمة، نشأت من عدم الفهم للمفاهيم وحالة
خلط بينها.
هل يهاجم الدعاء العرب؟
قد يقال: إنَّ الدعاء يُوجِّه سهامه صوب فئة معيَّنة، وكأنَّه يهاجم العرب بالخصوص،
حتَّى قيل: (... ولم يكتفِ منتظَرهم بهذا، بل إنَّه يقوم بقتلٍ عامٍّ شاملٍ للجنس
العربي واستئصال وجوده، ولذلك فإنَّ أخبارهم تعد العرب بملحمة على يد غائبهم...، ما
بقي بيننا وبين العرب إلَّا الذبح...، ولا يخفى أنَّ تخصيص العرب بالقتل يدلُّ على
تغلغل الاتِّجاه الشعوبي لدى واضعي هذه الروايات، وهي تُبيِّن مدى العداوة للجنس
العربي لدى مؤسِّسي الرفض والرغبة في التشفِّي منهم...)(٣٢٦).
ولكنَّنا نقول:
١ - المتحدِّث بهذه الشبهة والتهمة من المسلمين - بحسب الظاهر - والقرآن يقول:
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: ١٣)، فالولاء الوحيد
الثابت في ضمن المتغيِّرات هو الولاء العقائدي التقوي، والتخندق وراء القوميَّة
مخالف لأُصول المبادئ الإسلاميَّة، وإذا تزاحم الولاء القومي مع الدِّيني،
فالتعاليم الدِّينيَّة تُقدِّم الثاني على الأوَّل بلا تردُّد.
٢ - ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الحجَّة المهدي (عجَّل الله فرجه) عربي، وأنَّ جملة من
قادة جيشه
-----------------
(٣٢٦) أُصول مذهب الشيعة الإماميَّة (ج ٢/ ص ٨٧٦ و٨٧٧).
وجنوده من العرب، وفي رواياتنا ما يشير إلى أنَّ بعضاً من خُلَّص قادته
هم من العرب، كاليماني وشعيب بن صالح التميمي وغيرهما.
٣ - أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عندما يخرج يقتفي أثر رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله)، وإذا رجعنا إلى طريقة النبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) في
تعامله مع الأعداء فإنَّنا نجد أنَّ أكثر حروبه كانت مع قريش ومع العرب بعد عصيانهم
وجحودهم، فهل يصحُّ أنْ يذمَّ النبيَّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)؟
٤ - ما هو حال العرب عند ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) في روايات مَنْ يستشكل على
عقيدتنا في مهدي آل محمّد (صلَّى الله عليه وآله)؟
حال العرب في لسان روايات المستقبل عند السُّنَّة:
أ - في (صحيح البخاري): «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اِقْتَرَبَ»(٣٢٧).
ب - في (مسند أحمد): «يُبَايَعُ لِرَجُلٍ بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ، وَلَنْ
يَسْتَحِلَّ اَلْبَيْتَ إِلَّا أَهْلُهُ، فَإِذَا اِسْتَحَلُّوهُ فَلَا تَسْأَلْ
عَنْ هَلَكَةِ اَلْعَرَبِ»(٣٢٨).
ج - في (صحيح مسلم): ... يَا رَسُولَ اَلله، فَأَيْنَ اَلْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟
قَالَ: «هُمْ قَلِيلٌ»(٣٢٩).
في نصوص أُخرى تتحدَّث عن هروبهم وتركهم لمكَّة والمدينة، وذهابهم لبيت المقدس، وما
عساهم يفعلون هناك؟
ولِمَ تُهجَر مكَّة والمدينة التي جعلها النبيُّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)
آمنة من الفتن حتَّى فتنة الدجَّال حسب زعمهم؟
* * *
-----------------
(٣٢٧) صحيح البخاري (ج ١١/ ص ١٠/ باب قول النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله): «ويل
للعرب من شرٍّ قد اقترب».
(٣٢٨) مسند أحمد (ج ١٣/ ص ٤٧٤/ ح ٨١١٤).
(٣٢٩) صحيح مسلم (ج ٨/ ص ٢٠٧).
«أَيْنَ اَلمُنَتَظَرُ لِإِقَامَةِ اَلْأَمْتِ وَاَلْعِوَجِ»
وجود الحجَّة المنتظَر (عجَّل الله
فرجه) إنَّما هو لتصحيح دين الله تعالى بعد انحرافه واعوجاجه، وهو الذي يرجوه الناس
ويرجون ظهوره لأجل أنْ يزيل عنهم الجور والعدوان الذي وقع عليهم من أعداء الدِّين،
فهو (عجَّل الله فرجه) الذي ينتظره كلُّ مظلوم، وكلُّ إنسان مؤمن فهو على موعد حتمي
ويترقَّب فيه مجيء إمامه (عجَّل الله فرجه) ليعود عليه بالخير والبركة، وهو لا يعلم
متى يجيء، ولأجل عدم علمه بوقت قدومه الحتمي سيكون انتظاره وتوقُّع مجيئه دائميًّا،
ومن ثَمَّ فإنَّ هذا الإنسان المؤمن لا يملُّ من هذا الانتظار أو ييأس منه، لأنَّه
على يقين بأنَّ الموعود سيأتي، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾
(آل عمران: ٩)، وأنَّ هذا الإمام المنتظَر سوف يقضي حاجته ويرفع كربه.
انتظار خروجه (عجَّل الله فرجه) صباحاً ومساءً:
على الإنسان المؤمن بالحجَّة بن الحسن (عليهما السلام) أنْ يكون انتظاره لإمامه
(عجَّل الله فرجه) في كلِّ وقت وحين، وقد دلَّت الروايات والأدعية على ذلك، وممَّا
روي في هذا المعنى:
* في (الغيبة للنعماني) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ اَلصَّيْقَلِ، عَنْ
أَبِيهِ مَنْصُورٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «إِذَا
أَصْبَحْتَ وَأَمْسَيْتَ يَوْماً لَا تَرَى فِيهِ إِمَاماً مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ
فَأَحْبِبْ مَنْ كُنْتَ تُحِبُّ، وَأَبْغِضْ مَنْ كُنْتَ تُبْغِضُ، وَوَالِ مَنْ
كُنْتَ تُوَالِي، وَاِنْتَظِرِ اَلْفَرَجَ صَبَاحاً وَ مَسَاءً»(٣٣٠).
وعدم رؤية الإمام وكونه (عجَّل الله فرجه) في غيبته لا يلغي الانتظار له، بل هو
الموجب له والمحقِّق، والانتظار ليس هو بمعنى عدم الفعل، كيف ذاك وقد عبَّرت عنه
روايات أُخرى بأنَّه عمل، بل وأفضل الأعمال؟
-----------------
(٣٣٠) الغيبة للنعماني (ص ١٦١/ باب ١٠/ فصل ٢/ ح ٣).
إنَّ ما ينبغي علينا الابتداء به في نهارنا هو ما ينبغي علينا الانتهاء به -
التصبيح بذكره والتمسية بذكره (عجَّل الله فرجه) -، فسلامنا وارتباطنا مع الإمام
(عجَّل الله فرجه) في الابتداء لا بدَّ أنْ يستمرَّ إلى الانتهاء، بل عندما يغشى
الليل إلى أنْ يتجلَّى النهار ثانيةً.
هكذا ينبغي أنْ يكون انتظارنا حيويًّا ومتجسِّداً، وكأنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه)
ماثلٌ أمامنا ونُجسِّد ارتباطنا به في كلِّ حالة وفعل وزمان وفكرة وغيرها.
آثار تُسجِّلها الروايات الشريفة للمنتظِر والانتظار:
وإذا أردنا التتبُّع روائيًّا في الانتظار والمنتظِر - من آثار تكوينيَّة
واعتباريَّة نلاحظ أنَّها نزَّلت المنتظِر - للإمام الغائب (عجَّل الله فرجه) -
منزلة سامية، حيث وصفته بالعديد من الأوصاف، منها:
ما ورد في رواية طويلة عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) حيث جاء فيها: «...
إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ اَلْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ وَاَلمُنْتَظِرِينَ
لِظُهُورِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، لِأَنَّ اَللهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى أَعْطَاهُمْ مِنَ اَلْعُقُولِ وَاَلْأَفْهَامِ وَاَلمَعْرِفَةِ مَا
صَارَتْ بِهِ اَلْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ اَلمُشَاهَدَةِ، وَجَعَلَهُمْ
فِي ذَلِكَ اَلزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ اَلمُجَاهِدِينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) بِالسَّيْفِ، أُولَئِكَ اَلمُخْلَصُونَ حَقًّا،
وَشِيعَتُنَا صِدْقاً، وَاَلدُّعَاةُ إِلَى دِينِ اَلله (عزَّ وجلَّ) سِرًّا
وَجَهْراً...»(٣٣١).
والرواية تفيد:
١ - أنَّهم أفضل أهل كلِّ زمان، وهو بُعد نفسي إيجابي كبير كما هو بُعْدٌ فكري
وعقائدي.
٢ - أعطاهم الله تعالى العقول التي ترى الغيبَ شهادةً.
٣ - أعطاهم الله تعالى الأفهام والمعرفة التي بها يثبتون على هذه العقيدة، وصارت
الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة.
-----------------
(٣٣١) لقراءة الحديث وهو من روائع الأحاديث، راجع: كمال الدِّين (ص ٣١٩ و٣٢٠/ باب ٣١/ ح ٢).
٤ - هم بمنزلة المجاهدين بالسيف بين يدي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فهم
مجاهدون حقًّا بانتظارهم.
٥ - وهم المخلِصون حقًّا، وهذا تنزيل عقائدي في أعلى مراتب الصفات الكماليَّة التي
يسعى من أجلها المؤمن.
٦ - وهم شيعتنا صدقاً، وهذا التنزيل ممَّا لا يضاهيه شيء لمن يقرأ الروايات التي
تتحدَّث عن صفات الشيعة.
٧ - وهم الدعاة إلى دين الله تعالى سرًّا وجهراً، فهم منزَّلون منزلة أعظم وظيفة
على الإطلاق: الدعوة إلى الله تعالى.
٨ - وفي نفس المصدر نجد أنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) يصفهم بأنَّهم: «...
أَوْلِيَاءُ اَلله اَلَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(٣٣٢).
وفي روايات أُخرى تصف انتظارهم بالعبادة وأنَّه أفضلها، بل أحبُّ الأعمال إلى الله
(عزَّ وجلَّ)، فهي في ذات الوقت الذي نزَّلته منزلة العمل العبادي جعلته أفضل
العبادات وأحبَّها إلى الله (عزَّ وجلَّ)، ومن روايات هذه الطائفة:
١ - عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «... اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ
عِبَادَةٌ»(٣٣٣).
٢ - وعنه (صلَّى الله عليه وآله) أيضاً: «اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ بِالصَّبْرِ
عِبَادَةٌ»(٣٣٤)، وهو قد يُفهَم منه التقييد بالصبر، ويمكن القول: إنَّه يتحدَّث عن
رُتَب مختلفة لعبادة الانتظار، ولكلِّ رتبة منها مقتضياتها.
٣ - وعنه (صلَّى الله عليه وآله) أيضاً: «أُفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي اِنْتِظَارُ
اَلْفَرَجِ مِنَ اَلله (عزَّ وجلَّ)»(٣٣٥)،
-----------------
(٣٣٢) كمال الدِّين (ص ٣٥٧/ باب ٣٣/ ح ٥٤).
(٣٣٣) أمالي الطوسي (ص ٤٠٥/ ح ٩٠٧/٥٥).
(٣٣٤) الدعوات للراوندي (ص ٤١/ ح ١٠١).
(٣٣٥) كمال الدِّين (ص ٦٤٤/ باب ٥٥/ ح ٣).
وهي تتحدَّث عن كون الانتظار أفضل
الأعمال الواقعة والصادرة من أُمَّة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، سواء كان عباديًّا أم لم يكن.
٤ - وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، قال:
«أَفْضَلُ اَلْعِبَادَةِ اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ»(٣٣٦).
٥ - وروي عن الإمام موسى بن جعفر، عن أمير المؤمنين (عليهما السلام) أنَّه سُئِلَ:
«أَيُّ اَلْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ)؟ قَالَ: اِنْتِظَارُ
اَلْفَرَجِ»(٣٣٧).
وقد أُطلق لفظ (أفضل العبادة) متعلِّقاً بأشياء كثيرة، منها:
«أَفْضَلُ اَلْعِبَادَةِ بَعْدَ اَلمَعْرِفَةِ اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ»(٣٣٨)، كما
ورد هكذا «أَفْضَلُ اَلْعِبَادَةِ اَلصَّبْرُ وَاَلصَّمْتُ واِنْتِظَارُ
اَلْفَرَجِ»(٣٣٩)، وورد في نصٍّ آخر: «أَفْضَلُ اَلْعِبَادَةِ شَيْئَانِ:
اَلصَّبْرُ وَاِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ»(٣٤٠).
وكيف ما كان فلا يضرُّ أنْ يكون للعبادة موارد عديدة هي أفضل من غيرها مع فضل
الموارد الأُخرى.
حقيقة التنزيل للانتظار:
عندما تقول الروايات: إنَّ الانتظار عبادة، فهل هذا تنزيل حقيقي أو ادِّعائي؟
وبلحاظ أيِّ أثر من آثار العبادة يريد الشارع المقدَّس أنْ يُنزِّل الانتظار؟
تقدَّمت عدَّة طوائف من الروايات نزَّلت الانتظار منزلة الفرج، وأنَّ المنتظِرين
كالمجاهدين، وأنَّهم أولياء الله تعالى حقًّا وغيرها. وكلامنا في التنزيل
-----------------
(٣٣٦) كمال الدِّين (ص ٢٨٧/ باب ٢٥/ ح ٦).
(٣٣٧) معاني الأخبار (ص ١٩٩/ باب معنى الغايات/ ح ٤).
(٣٣٨) تُحَف العقول (ص ٤٠٣).
(٣٣٩) تُحَف العقول (ص ٢٠١).
(٣٤٠) معدن الجواهر (ص ٢٦).
ليس مع
تلك العناوين مع ما لها من الأهمّيَّة، إنَّما مع التنزيل بلحاظ العبادة والعمل،
فالانتظار في نظر الروايات عمل، بل أحبُّ الأعمال، وعبادة، بل أفضلها - أو من
أفاضلها -.
كيف يتحقَّق الانتظار؟
بعد ما تقدَّم من معنى الانتظار يتبيَّن أنَّ له عدَّة مراتب تحدَّثت الروايات عن
أسماها، فَعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) أَنَّهُ
قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا لَا يَقْبَلُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)
مِنَ اَلْعِبَادِ عَمَلاً إِلَّا بِهِ؟»، فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: «شَهَادَةُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ [وَرَسُولُهُ]،
وَاَلْإِقْرَارُ بِمَا أَمَرَ اَللهُ، وَاَلْوَلَايَةُ لَنَا، وَاَلْبَرَاءَةُ مِنْ
أَعْدَائِنَا - يَعْنِي اَلْأَئِمَّةَ خَاصَّةً(٣٤١) -، وَاَلتَّسْلِيمَ لَهُمْ،
وَاَلْوَرَعُ وَاَلْاِجْتِهَادُ وَاَلطُّمَأْنِينَةُ، وَاَلْاِنْتِظَارُ
لِلْقَائِمِ (عليه السلام)»، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ لَنَا دَوْلَةً يَجِيءُ اَللهُ
بِهَا إِذَا شَاءَ»، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ
اَلْقَائِمِ فَلْيَنْتَظِرْ وَلْيَعْمَلْ بِالْوَرَعِ وَمَحَاسِنِ اَلْأَخْلاَقِ
وَهُوَ مُنْتَظِرٌ، فَإِنْ مَاتَ وَقَامَ اَلْقَائِمُ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ مِنَ
اَلْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَدْرَكَهُ، فَجِدُّوا وَاِنْتَظِرُوا، هَنِيئاً
لَكُمْ أَيَّتُهَا اَلْعِصَابَةُ اَلمَرْحُومَةُ»(٣٤٢).
فلاحظ أنَّ الحديث أكَّد على أنَّ بعضاً ممَّا لا يقبل الله تعالى العمل إلَّا به
هو الانتظار، وقد ذكرت موارد تحقُّقه صريحة.
فهناك فرق كبير بين شخص ينتظر الإمام (عجَّل الله فرجه) ويترقَّب حضوره ولكنَّه لا
يعمل عملاً يُعجِّل ويُسهِّل ويُسرِّع في حضور مَنْ يترقَّبه، وشخص آخر يقوم بعمل
أو عملين أو بعض الأعمال التي من شأنها أنْ تُسرِّع في فرج ومجيء مَنْ ينتظر، بينما
هناك شخص ثالث يعمل بكلِّ وسعه، بل وفي بعض الأحيان يهدر
-----------------
(٣٤١) يبدو أنَّ هذا إدراج من الراوي.
(٣٤٢) الغيبة للنعماني (ص ٢٠٧/ باب ١١/ ح ١٦).
وقت راحته ومطعمه وأُنسه،
وحتَّى ماله ونفسه في سبيل أنْ يتعجَّل فرج الغائب المنتظَر، وبين الحدِّ الأوَّل
والثاني في الانتظار مراتب كثيرة جدًّا، وكلُّ واحدة منها لها أجرها وفضلها
وثوابها، بل ولها آثارها المقرِّبة من الإمام (عجَّل الله فرجه).
والقرب من الإمام (عجَّل الله فرجه) له مراتب كثيرة أيضاً، نظير ما كان القرب من
أمير المؤمنين وبقيَّة الأئمَّة (عليهم السلام) من أصحابهم، فلكلِّ واحدٍ مرتبته
ومقامه، ونشوء ذلك كلِّه بسبب ما يقوم به من أعمال تُقرِّبه إلى الإمام (عجَّل الله
فرجه)، ففرق بين مَنْ يسمع بالانتظار، وبين شخص رهن كلَّ وجوده وبذل ما عنده وهو
على حالة التلهُّف والترقُّب للإمام (عجَّل الله فرجه) في سبيل أنْ يمنَّ الله
سبحانه عليه، وأنْ يكون سبباً في تعجيل ظهور صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه).
من هنا جاء قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) المتقدِّم: «أَفْضَلُ
اَلْعِبَادَةِ اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ»(٣٤٣).
وهذه العبادة كما في الصلاة حيث يختلف المصلُّون وتختلف صلاة كلِّ واحد منهم، فكذلك
الانتظار.
أمَّا إذا لاحظنا الدعاء المبارك، وكيف يجعل خطاب المنتظِر لإمامه (عجَّل الله
فرجه) سائلاً عنه، وعين الدَّاعي لا يكاد يستقرُّ فيها الدمع، وهي تخاطبه (عجَّل
الله فرجه): «أَيْنَ اَلمُنْتَظَرُ لِإِقَامَةِ اَلْأَمْتِ وَاَلْعِوَجِ»، فالدعاء
لم يذكر المنتظَر (عجَّل الله فرجه) بمعزل عن تلك الوظيفة الشريفة التي سيقوم بها
ويمارس من خلالها تثبيت العدل وفسح المجال أمام المؤمنين لأداء شعائر الدِّين
وممارستها. فانتظار لهكذا شخص حريٌّ به أنْ يكون كما قال الإمام الكاظم (عليه
السلام): «أَفْضَلُ اَلْعِبَادَةِ بَعْدَ اَلمَعْرِفَةِ اِنْتِظَارُ
اَلْفَرَجِ»(٣٤٤).
فلا صلاة نفل ولا زكاة وصدقة ولا صيام مستحبٌّ ولا نوافل ولا ولا، أفضل من عبادة
الانتظار.
-----------------
(٣٤٣) كمال الدِّين (ص ٢٨٧/ باب ٢٥/ ح ٦).
(٣٤٤) تُحَف العقول (ص ٤٠٣).
مقام المنتظِرين:
وقد ذكرنا في بحث مستقلٍّ(٣٤٥) عدَّة مقامات للمنتظِرين، منها:
* رفقاء الرسول (صلَّى الله عليه وآله): وقد دلَّت عليه بعض الروايات ذكرناها هناك
وكذلك ما يأتي بعده، وهكذا.
* الشهداء قبل الظهور.
* بمنزلة مَنْ كان في فسطاط رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
* المجاهدون بين يدي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
* النيَّة تقوم مقام الإصلات بالسيف، وهي من درجات الانتظار:
في (نهج البلاغة): «اِلْزَمُوا اَلْأَرْضَ، وَاِصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ، وَلَا
تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَسُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ، وَلَا
تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اَللهُ لَكُمْ، فَإِنَّه مَنْ مَاتَ
مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَهُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَحَقِّ رَسُولِهِ
وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً، وَوَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَلله، وَاِسْتَوْجَبَ
ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ، وَقَامَتِ اَلنِّيَّةُ مَقَامَ
إِصْلَاتِهِ لِسَيْفِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مُدَّةً وَأَجَلاً»(٣٤٦).
* مضاعفة الأعمال مرتبة من المراتب.
* نفس الانتظار فرج.
* القول بالنصرة نصرة.
* الدعاء من مراتب الانتظار.
* العمل بالورع ومحاسن الأخلاق من درجات الانتظار وتُصيِّر صاحبها من أنصار الإمام
(عجَّل الله فرجه).
-----------------
(٣٤٥) مجلَّة الموعود (العدد ١٧/ ص ٢٠٩) تحت عنوان: (نصرة الدولة المهدويَّة بين
البشريَّة والإعجاز).
(٣٤٦) نهج البلاغة (ص ٢٨٢ و٢٨٣/ الخطبة ١٩٠).
* أفضل العبادة:
في (المحاسن): عَنِ اَلنَّوْفَلِيِّ، عَنِ اَلسَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله
(عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، قَالَ:
«أَفْضَلُ عِبَادَةِ اَلمُؤْمِنِ اِنْتِظَارُ فَرَجِ اَلله»(٣٤٧).
* * *
«أَيْنَ اَلمُرْتَجَى لِإِزَالَةِ اَلجَوْرِ وَاَلْعُدْوَانِ»
الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه)
مرتجى أهل الأرض ليُرسي العدل ويقيم القسط، وهو مدَّخر السماء الذي غيَّبته الإرادة
الإلهيَّة لزمان قرَّرته هي فقط لا غيرها، مدَّخر ليقوم بمهمَّة بثِّ الحياة في روح
الدِّين، وكأنَّ هذين المقطعين يحكيان لنا حالة الانتظار عند الناس وحالة الادِّخار
عند السماء، فكما أنَّ الناس ينتظرون مَنْ يقيم لهم العدل، فإنَّ السماء تنتظر من
الناس أنْ يتهيَّؤوا لتُرسِل لهم رجلها الذي ينفخ روح الحياة في ما مات من الفرائض
والسُّنَن، فيرتفع به (عجَّل الله فرجه) الجور والظلم عن المعذَّبين، إنَّها صرخة
من الصارخين لطلب النجدة بإظهار المغيَّب.
أيُّها الداعون، اعلموا يقيناً أنَّه لا مكان للشكِّ أو الريبة في أنَّ المرتجى ليس
مجرَّد فكرة وهميَّة أو خرافة نسجها الأمل الفارغ، ولا هو أُطروحة ثقافيَّة أو
نتيجة واقع عصفت به الظروف فخُلِقَ الانتظار، إنَّما المرتجى هو مدلول واضح يُعبِّر
عن شخص حقيقي، موجود ومعروف، ذي خصائص حدَّدتها الروايات الشريفة المعصومة بأدقّ
التفاصيل.
إنَّه شخصيَّة إلهيَّة مصنوعة بعناية ربَّانيَّة، كما صُنِعَت العديد من الشخصيَّات
المعصومة التي جاءت قبله (عجَّل الله فرجه)، قال تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ
مَحَبَّةً
-----------------
(٣٤٧) المحاسن (ج ١/ ص ٢٩١/ ح ٤٤٠).
مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طه: ٣٩)، هذه الشخصيَّة التي قدَّر
الله سبحانه وتعالى أنْ تكون معصومة، متفرِّدة في مكانتها ومهامِّها.
إنَّ الناس تنتظر قدوم هذه الشخصيَّة المباركة، ليُخفِّف عنهم معاناتهم، ويزيل عن
كاهلهم أعباء الظلم والجور الذي تراكم على مرِّ العصور والأزمان.
إنَّه رجل إلهي، وادَّخرته يد العناية الإلهيَّة، وأخفته وغيَّبته عن الناس لموانع
وحِكَم عديدة منعته عن أداء مهمَّته في تطبيق فرائض الله وسُنَن أنبيائه في العاجل.
وما أجمل أنْ يُعبِّر الدعاء بـ«اَلمُرْتَجَى» عندما يعكس لحن خطاب الناس وشوقهم
للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فيما يعكس لحن خطاب المدَّخر وظيفة سماويَّة في
إخفاء الإمام (عجَّل الله فرجه).
يُعلِّمنا هذا الدعاء المبارك كيفيَّة سؤال الباري (عزَّ وجلَّ) والإلحاح عليه بأنْ
يُظهِر لنا إمامنا المؤمَّل الغائب، نسأله لا لأجل قضاء حوائجنا الشخصيَّة فقط -
وإنْ كان طلبها ممدوحاً -، بل لأجل أنَّ ظهوره (عجَّل الله فرجه) سيكون سبباً
لإظهار الدِّين وبثِّ الحياة في سُنَنه وآياته التي نزلت على النبيِّ (صلَّى الله
عليه وآله).
نداؤنا واستغاثتنا عن مكان المرغوب إليه والمتوقَّع منه (عجَّل الله فرجه) أنْ
يُرجِع الحدود الشرعيَّة إلى نصابها، لأنَّه محيي الآثار والدالُّ على الطريق
الموصل إلى الأحكام والدِّين، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القَصَص: ٥١).
التفكير الإستراتيجي في طريق العقيدة المهدويَّة:
كلُّ يوم يمرُّ يزداد اليقين بالحاجة للمخلِّص المهدي (عجَّل الله فرجه).
فكلَّما وضع عقلاء البشر حلولاً للمشاكل المستديمة وجدوا أنفسهم في دوَّامة التعقيد
والتخبُّط وازدياد المشاكل.
وهذا ليس تنظيراً للعقيدة المهدويَّة، ومحاولة للاستفادة من سقطات الآخرين والصعود
على ركامها، إنَّها الحقيقة.
فهذه البسيطة بساكنيها، بكلِّ إمكاناتها وعقولها وطاقاتها ومصالحها لا تكاد تخطو
إلَّا خطوات متعثِّرة في سبيل تحقيق أهداف الإصلاح المعلنة.
ولو قُدِّر لها أنْ تُحقِّق طموحها في الإصلاح لما توانت لحظة في تحقيقه، لما
سيكسبها إنْ حقَّقته من رهان في إسقاط عقيدة المخلِّص الإسلاميَّة الوحيانيَّة -
باعتبار أنَّ أغلب النُّظُم التي رفعت راية الإصلاح هي بعيدة عن أجواء الوحي
والارتباط بالسماء -.
إنَّ المسلمين وخصوصاً أصحاب الحقِّ هم الذين ينبغي لهم اليوم أنْ يستثمروا هذه
الحاجة للمهدويَّة، لإرساء هذه العقيدة وتجذيرها في نفوس الناس، ومن ثَمَّ جعلها
تخطُّ معالم السلوك السويِّ للبشر، لتحصيل حالة التهيُّؤ المطلوب لإظهارها للعلن.
إنَّ المسلمين قبل غيرهم، وأتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) منهم خاصَّة،
مدعوون اليوم لأنْ يُعطوا للمهدويَّة استحقاقاً يجعلها في قمَّة الأولويَّات، وهي
كذلك بحسب الواقع والوحي إلَّا أنَّ تأخيرها وتقديم غيرها عليها إنَّما هو من الناس
أنفسهم.
فلا بدَّ أنْ تتقدَّم على المال والسياسة والفكر، ولا بدَّ أنْ تأخذ حظًّا من الجهد
والوقت، لأنَّها أُمُّ الحاجات وملبِّية الرغبات.
فأيَّة رغبة وأغلى أُمنية تحملها البشريَّة فإنَّ المهدويَّة قادرة على إيجادها،
وأيَّة معضلة عجز عن حلِّها الجميع فإنَّها أيضاً كفيلة بحلِّها.
إنَّه لا بدَّ أنْ نعي جيِّداً أنَّنا بحاجة إليها، ويجب أنْ نُوفِّر كلَّ
الإمكانات لإحلالها محلَّها المناسب لتقوم هي بدورها بحلِّ عُقَدِ واقعنا، وتنظيم
أُمورنا، فهي هبة السماء لنا.
إشكاليَّة تعطيل حدود الكتاب ومعالم الدِّين:
سؤال: إذا كان الأمر كذلك، لماذا تعطَّلت حدود الكتاب؟ ولماذا ماتت معالم الدِّين
كي نقوم بالدعاء من الله تعالى لإظهاره؟
وقبل الجواب:
١ - لا بدَّ من المراجعة للوقوف على الأسباب التي كانت وراء تعطيل حدود الكتاب
وإخفاء معالم الدِّين، ومَنْ هم الأشخاص الذين وقفوا وراء ذلك، إذ إنَّنا نعلم
عقائديًّا أنَّ الله الحكيم أرسل نبيَّه المعصوم (صلَّى الله عليه وآله) خاتماً
للدِّين البيِّن المبين، قال تعالى: ﴿تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: ٨٩)، فكيف
بعد هذا كلِّه تنحرف المسيرة الإسلاميَّة ليبقى الألم على ما حصل من انحراف وتفريط
بالمعصومين (عليهم السلام)؟
فأنت أين ما توجَّهت في بقاع المسلمين في شرقها أو غربها لا تجد إلَّا ومَنْ يعتصره
الألم والأسى على انحراف الدِّين وتغيُّر مساره، وهذا الأمر مدعاة للبحث والتنقيب
للوقوف على ما أوجب حصول هذا الحادث الفظيع، خصوصاً وأنَّ القرآن الكريم حذَّر منه
وأيَّما تحذير، قال تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ
وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي
اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: ١٤٤).
ولا بدَّ من التكلُّم عن هذا الأمر بالطُّرُق الصحيحة والليَّاقات المرسومة من
قِبَل أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، وعدم الخوف من شبهة أنَّ هذا أمر قد مضى
واندثر، ولا ننكأ الجراح ما دام أمر الأُمَّة ماشياً، كيف يُعقَل هذا بعد أنْ بات
من الواضحات أنَّ هناك فرقاً شاسعاً بين ما يلقلق به المسلمون الآن ويحسبونه ديناً،
وبين ما جاء به النبيُّ المصطفى (صلَّى الله عليه وآله)؟! فالمراجعة والبحث
والتنقيب هي السلاح الوحيد الآمن لمن أراد أنْ ينجو من سلوك طريق أعوج منحرف.
وهذا البحث هو الذي سيقودنا إلى السؤال الثاني، أي: أين أهل الدِّين ومَنْ يحمل
هويَّته؟
فإنَّ مَنْ يجهد نفسه في البحث والتنقيب سيجد أنَّ هناك دلائل واضحة ومتكثِّرة في
ركام ما زوَّره المتزلِّفون ونسبه الانتهازيُّون والنفعيُّون إلى الدِّين، يُستفاد
منها تشخيص المتديِّنين وتشكيل هويَّتهم الحقيقيَّة التي تُمثِّل وثيقة السير الآمن
في مسالك الغابات التي حوت - وعلى طول هذا الخطِّ الزماني الطويل - الآلاف من
الذئاب لتفترس حاملي هذه الهويَّة وتمنعهم من سلوك طريقهم، فرغم أنَّ النفق مظلم،
والطريق شائك وطويل، فإنَّ أصحاب الهويَّة والمتديِّنين الأُصلاء أُولئك الذين
تمسَّكوا بالجمرة وساروا بها ولم يبالوا ما دام مصيرهم النجاة والفوز، أُولئك هم
الذين تمسَّكوا بهدى أهل البيت (عليهم السلام) تحت ظلِّ السياط وفي ظُلَم المطامير
وقعر السجون، أُولئك هم أهل الدِّين وحملة هويَّته وشيعة أهل بيت نبيِّه (عليهم
السلام).
٢ - القراءة الأوَّليَّة لهذا المقطع تقتضي أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) يُحيي
معالم الدِّين على مستوى الفكر والعقيدة والعمل، ولكنَّنا إذا تعمَّقنا نجد أنَّ
الفقرة تُصرِّح بإحياء أمر آخر، فبالإضافة إلى إحياء معالم الدِّين فإنَّه (عجَّل
الله فرجه) سوف يُحيي أهله - إحياء معالم الدِّين وأهله -، ومَنْ هم أهله؟
أهل معالم الدِّين على ما مرَّ عليك في عدَّة روايات هم العترة الطاهرة (عليهم
السلام)، وسوف يهدي إليهم المهدي (عجَّل الله فرجه)، بل في الروايات علَّة تسميته
بذلك لهدايته إلى هذا الأمر الخفي المغفول عنه.
فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ:
«إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) دَعَا اَلنَّاسَ إِلَى اَلْإِسْلَامِ
جَدِيداً، وَهَدَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ قَدْ دُثِرَ فَضَلَّ عَنْهُ اَلْجُمْهُورُ،
وَإِنَّمَا سُمِّيَ اَلْقَائِمُ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ قَدْ
ضَلُّوا عَنْهُ...»(٣٤٨).
-----------------
(٣٤٨) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٨٣).
قال الشيخ الصدوق (رحمه الله): (وفي الأثر: «أَنَّهُ يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ
زَمَانٌ لَا يَبْقَى فِيهِمْ مِنَ اَلْإِسْلَامِ إِلَّا اِسْمُهُ، وَمِنَ
اَلْقُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ»، وَقَالَ اَلنَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله): «إِنَّ
اَلْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ غَرِيباً، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»،
فكان الله (عزَّ وجلَّ) يبعث في كلِّ وقتٍ رسولاً يُجدِّد لتلك الأُمَم ما انمحى من
رسوم الدِّين. واجتمعت الأُمَّة إلَّا مَنْ لا يُلتفَت إلى اختلافه، ودلَّت الدلائل
العقليَّة أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد ختم الأنبياء بمحمّد (صلَّى الله عليه وآله)،
فلا نبيَّ بعده، ووجدنا أمر هذه الأُمَّة في استعلاء الباطل على الحقِّ والضلال على
الهدى بحال زعم كثير منهم أنَّ الدار اليوم دار كفر وليست بدار الإسلام)(٣٤٩).
فهل يُعقَل أنَّ روايات أهل البيت (عليهم السلام) لم تشر إليه؟ وكيف وصفته بأنَّه
قد ضُلَّ عنه وخفي على الناس؟! أليس هذا التعبير يناسب كون المعَبَّر عنه به
موجوداً متناولاً؟
فإنَّ معنى خفائه بلا شكٍّ ليس مطبقاً.
نعم، هو مندثر، فَعَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَ
اَلْقَائِمُ (عليه السلام)...، هَدَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ قَدْ دُثِرَ فَضَلَّ عَنْهُ
اَلْجُمْهُورُ...»(٣٥٠).
ولكنَّه فطري جبلّي، فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ اَلسُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي
جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ
اَلمَهْدِيُّ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يَهْدِي لِأَمْرٍ خَفِيٍّ، يَهْدِي لِمَا فِي
صُدُورِ اَلنَّاسِ»(٣٥١).
والآن لنقف على حقيقة هذا الأمر، وبيان هذا المصداق المهدي إليه من قِبَل حجَّة
الله في أرضه مهدي آل محمَّد (عجَّل الله فرجه).
-----------------
(٣٤٩) كمال الدِّين (ص ٦٦).
(٣٥٠) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٨٣).
(٣٥١) دلائل الإمامة (ص ٤٦٦/ ح ٤٥١/٥٥).
* في (تفسير العيَّاشي): عَنْ عَبْدِ اَلْأَعْلَى اَلْحَلَبِيِّ، قَالَ: قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «... ثُمَّ يَنْطَلِقُ - أي المهدي (عجَّل الله
فرجه) - فَيَدْعُو اَلنَّاسَ إِلَى كِتَابِ اَلله وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (عَلَيْهِ
وَآلِهِ اَلسَّلَامُ)، وَاَلْوَلَايَةِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه
السلام)، وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْ عَدُوِّهِ...»(٣٥٢).
* وفي (تفسير فرات الكوفي): قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْقَاسِمِ بْنِ
عُبَيْدٍ مُعَنْعَناً، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «... فَإِذَا قَامَ
اَلْقَائِمُ عَرَفُوا كُلَّ نَاصِبٍ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ
وَهُوَ اَلْوَلَايَةُ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ أَوْ أَقَرَّ بِالْجِزْيَةِ
فَأَدَّاهَا كَمَا يُؤَدِّي أَهْلُ اَلذِّمَّةِ» (٣٥٣)، فتكون الولاية هي المدار في
تشخيص المؤمن من غيره.
* وفي (بصائر الدرجات) بسنده عَنْ أَبِي حَمْزَةَ اَلثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي
جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ اَلشِّيعَةَ
يَسْأَلُونَكَ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ اَلْآيَةِ: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ [النبأ: ١ و٢]، قَالَ: فَقَالَ: «ذَلِكَ إِلَيَّ إِنْ شِئْتُ
أَخْبَرْتُهُمْ، وَإِنْ شِئْتُ لَمْ أُخْبِرْهُمْ»، قَالَ: فَقَالَ: «لَكِنِّي
أُخْبِرُكَ بِتَفْسِيرِهَا»، قَالَ: فَقُلْتُ: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ﴾، قَالَ:
فَقَالَ: «هِيَ فِي أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)»، قَالَ: «كَانَ أَمِيرُ
اَلمُؤْمِنِينَ يَقُولُ: مَا لله آيَةٌ أَكْبَرُ مِنِّي، وَلَا لله مِنْ نَبَإٍ
عَظِيمٍ أَعْظَمُ مِنِّي، وَلَقَدْ عُرِضَتْ وَلَايَتِي عَلَى اَلْأُمَمِ
اَلمَاضِيَةِ فَأَبَتْ أَنْ تَقْبَلَهَا»، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ﴾ [ص: ٦٧ و٦٨]، قَالَ: «هُوَ وَاَلله أَمِيرُ
اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)»(٣٥٤).
حيث يظهر أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو النبأ العظيم الذي عُرِضَت ولايته
على الناس، وسوف يُهدى إليه، وأنَّ أشدَّ ما سيواجهه المهدي (عجَّل الله فرجه) من
الناس هو هدايتهم إلى ولاية عليٍّ (عليه السلام)، لأنَّها أمر جديد، وهو على العرب
شديد.
-----------------
(٣٥٢) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٥٦ و٥٧/ ح ٤٩).
(٣٥٣) تفسير فرات الكوفي (ص ٢٩٢ و٢٩٣/ ح ٣٩٥/٨).
(٣٥٤) بصائر الدرجات (ص ٩٦ و٩٧/ ج ٢/ باب النوادر من الأبواب في الولاية/ ح ٣).
* وفيه بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه
السلام) يَقُولُ: «إِنَّ وَلَايَتَنَا عُرِضَتْ عَلَى اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ
وَاَلْجِبَالِ وَاَلْأَمْصَارِ...»(٣٥٥)، إذ يظهر منه أنَّ الولاية ليس فقط قد
فُطِرَ الناس عليها، بل إنَّها قد عُرِضَت على الجميع.
* وفي (تأويل الآيات الظاهرة) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه
السلام)، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم:
٣٠]، قَالَ: «هِيَ اَلْوَلَايَةُ»(٣٥٦)، فهنا يظهر جليًّا أنَّ الفطرة هي الولاية،
وأنَّها قد فُطِرَ عليها الناس كلُّهم.
* وفي (تفسير القمِّي) بسنده عَنِ اَلْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ اَلله اَلرُّمَّانِيِّ،
قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى اَلرِّضَا (عليه السلام)، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام) فِي
قَوْلِهِ: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، قَالَ: «هُوَ لَا
إِلَهَ إِلَّا اَللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَلله، عَلِيٌّ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ
وَلِيُّ اَلله، إِلَى هَاهُنَا اَلتَّوْحِيدُ»(٣٥٧).
يتبيَّن من خلال ذلك أنَّ الوعيد والتهديد بالقصم والهدم ليس للكلِّ إنَّما لمن ترك
ذلك، بعد أنْ وضح أنَّ المتمسِّكين بالحقِّ وإنْ كانوا قلَّة إلَّا أنَّ وجودهم
قويٌّ ومؤثِّر رغم قلَّتهم بالنسبة إلى مَنْ خالفهم، وتأثيرهم الحقَّاني مستمرٌّ
ويزداد وعلى طول الخطِّ وفي كلِّ زمانٍ، ولا يخلو منهم وجود ومكان في العادة، وهو
الذي يتمثَّل بأفراد بهذه الطائفة المنصورة المؤيَّدة بتسديد الله وبرعاية وليِّه
الأعظم (عجَّل الله فرجه)، أنَّهم شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وهم الذين يحملون
الآهات والأنين والنجوى والحنين، فيُنشِدون هذه الترنيمات، ويخاطبون الباري (عزَّ
وجلَّ) بإخراج المؤمَّل لإحياء الدِّين المندرس.
-----------------
(٣٥٥) بصائر الدرجات (ص ٩٧/ ج ٢/ باب النوادر من الأبواب في الولاية/ ح ٤).
(٣٥٦) تأويل الآيات الظاهرة (ج ١/ ص ٤٣٥/ ح ٣).
(٣٥٧) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ١٥٥).
هذه المقاطع لا يقتصر فيها الطلب على إظهار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كي
يقضي على الجماعات المعتدية والظالمة، وإنَّما يشمل أكثر من بُعد، فهو دعاء للقضاء
على شوكة ما ينمو في نفوسنا من ظلم فيما بيننا، وممَّا يوجب الضعف والوهن في
عزائمنا، وما يوجب ضعف إرادتنا وينخر في عزائمنا ويُهبِّط من معنويَّاتنا.
إنَّه دعاء على الأفكار المحرَّفة، وعلى السلوكيَّات المنحرفة، وعلى الأفراد
المنحرفين، وعلى الجماعات المنحرفة.
ليست هذه الفقرة من هذا الدعاء العظيم مخصَّصة للدعاء بالانتقام من أشخاص بأعيانهم
أو جماعة بعينها فقط، إنَّما هو دعاء يطلب القضاء ابتداءً من الفكرة والتصوُّر
والخاطرة إلى السلوك إلى الأفراد فالجماعات، فكلُّ معتدٍ وكلُّ شوكة اعتداء يشملها
مضمون هذا الدعاء.
فها أنتَ عزيزي أيُّها القارئ ترى أنَّ المقطع الشريف لم يجعل الوظيفة في قصم شوكة
المعتدين على الأفراد أو الجماعات، أو أنَّها قصرت نظرها إلى الجانب المادِّي
الخارجي فقط، بل تعمُّ وتشمل إزالة وقصم كلِّ اعتداء، اعتداء في الدِّين أو السلوك
أو الأفكار أو غيرها.
* * *
«أَيْنَ مُبيدُ أَهْلِ اَلْفُسُوقِ وَاَلْعِصْيَانِ وَاَلطُّغْيَانِ»
ما زال الحديث الاستفهامي عن محلِّ صاحب الصفات الفائقة والمقامات الجليلة، ومَنْ يقوم بسحق وإفناء أهل الفسوق والعصيان والطغيان، مَنْ يُهلِك الجماعة التي انفصلت عن الدِّين وعُراه.
اعلم أيُّها العزيز أنَّ الفاسق والعاصي والطاغي هو الذي يعرف الحقَّ ويعرف فضله
ثمّ يجانبه وينفصل عنه ميلاً إلى الباطل وحُبًّا به، ومنفعة منه، يلهث وراء ما هو
أدنى لأجل التمكُّن من الدنيا، ويترك ما هو أعلى وإنْ كان الآن لا يُرى ولكنَّه
متيقَّن الحصول ولو آجلاً.
أمَّا إذا أصبح أهل الفسق والعصيان والطغيان جماعة، وأَنِسَ بعضهم ببعض، وزيَّن لهم
الشيطان أعمالهم فجعل بعضهم يُزيِّن للبعض الآخر، فإنَّ شرَّهم سيكون عظيماً ويصعب
إصلاحهم، وكلَّما تجذَّر الفسوق فيهم وانعقدت عليه قلوبهم وغاصت جذور انفصالهم عن
الدِّين في نفوسهم واجتمعت أهواؤهم على الابتعاد عن أحكامه وسُنَنه، فإنَّ إصلاحهم
بعد ذلك يكون عزيزاً.
والمقطع يتحدَّث عن أمثال هؤلاء، فيقول: إنَّ الإمام المدَّخر سيخرج في زمان يكون
فيه الفسوق والعصيان والطغيان ومَنْ يمارسه ليس أفراداً، وإنَّما جماعات وشعوب
وقبائل تجتمع كلُّها على الباطل وعلى ترك الدِّين والانفصال عنه، ويتراكم ذلك في
قلوبهم، ولا بدَّ لإصلاح الأرض وإحيائها من إزالتهم، فلا بدَّ من إبادتهم.
إنَّ الجماعة التي تتَّفق كلمتها على معاداة الدِّين وتركه، وتتشبَّث بكلِّ صنوف
الترويج للعصيان وتجاهر بالعناد، ويكون شعارها الفسوق، فتعثوا في الأرض إفساداً
وعصياناً، ولا تقف عند هذا الحدِّ، بل تُروِّج له وتزيد على الحدِّ وتفيض في
ابتعادها وطغيانها وعصيانها، فتمنع المؤمنين عن ممارسة حقِّهم، لا بل تمارس الباطل
وتجهر به وتدافع عنه وتُزيِّنه للناس، وتُصوِّر الحقَّ باطلاً وتمنع عنه وتعاقب
عليه.
إنَّ المجتمع إذا صار على هذه الشاكلة وسار على هذا المنوال فإنَّه مجتمع
لا ينفعه
الإصلاح، ولن يجدي معه النصح، ولن يثمر فيه الوعظ، فلا بدَّ والحال هذه من أنْ يخرج
مبيد أهل الفسوق والعصيان والطغيان فيرث الأرض ويجعلها بيد الصالحين بعد أنْ يُهلِك
ويبيد ويستأصل منها الفاسقين والعاصين والطاغين.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ
عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القَصَص: ٥]، اَلشَّيْبَانِيُّ فِي (كَشْفِ
اَلْبَيَانِ)، قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ اَلْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِصَاحِبِ اَلْأَمْرِ
اَلَّذِي يَظْهَرُ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ، وَيُبِيدُ اَلْجَبَابِرَةَ
وَاَلْفَرَاعِنَةَ، وَيَمْلِكُ اَلْأَرْضَ شَرْقاً وَغَرْباً، فَيَمْلَأُهَا
عَدْلاً، كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً»(٣٥٨).
* * *
«أَيْنَ حَاصِدُ فُرُوعِ اَلْغَيِّ وَاَلشِّقَاقِ»
لا شكَّ أنَّ هناك ظلماً غُرِسَ وزُرِعَ في نفوس البعض، وصارت له فروع وأغصان، بل وأثمر في نفوس أشخاص آخرين وتوسَّع على مرِّ الزمان، فالأوائل من أهل الظلم والغيِّ كانوا يُظهِرون خلاف ما يُبطِنون، بينما يُخبِرنا أهل بيت العصمة أنَّ هؤلاء هم جذور الغواية، ومن نفوسهم الشرِّيرة خرجت فروع الشقاق والظلم، حتَّى صار أهل الغيِّ والشقاق أجيالاً، وكلُّ جيل يُورث الذي يليه فنون الغواية وأُصول الشقاق، فصار من العسير بمكان أنْ تُعالَج هذه الفروع إلَّا بالاجتثاث - من نفوس الناس -، ولا يمكن أنْ تُهذَّب أو تُشذَّب، بل لا بدَّ من الحصاد والتفتيت، فكما أنَّ أهل الخير عند الظهور سيحصدون
-----------------
(٣٥٨) البرهان في تفسير القرآن (ج ٤/ ص ٢٥٤/ ح ٨٠٩٩/١٣).
فعالهم
التي أنبتوها وسارت عليها الفروع تلو الفروع من المؤمنين، فكذلك وفي المقابل فإنَّ
أهل الغيِّ والشقاق سيحصدون ما بنوا عليه أفكارهم وعقائدهم وما فرَّعوه وورثوه لمن
تبع غوايتهم.
إنَّه لا بدَّ أنْ يأتي يوم الحصاد وسيُبيَّن حينئذٍ لمن زرع الخير ماذا سيحصد،
ولمن زرع الشقاق ماذا سيكسب، وأيَّ شيء سيجني.
وهذا لا يعني الحكم على الناس بمصائر غيرهم، بل إنَّنا نؤمن ونعتقد أنَّ العقيدة
يتَّخذها الإنسان دون أيِّ إلجاء أو ضغط، ويتفرَّع عليها سلوكه دون أيِّ جبر.
فهذا المقطع الشريف يتحدَّث عن زمان الحصاد في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه)، وأنَّ في هذا اليوم ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ
مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا
مُنْتَظِرُونَ﴾ (الأنعام: ١٥٨)، فإنَّ البناء الفكري والعقائدي الذي ينتج عنه
السلوك السويُّ والعمل الصالح ليس وليد اللحظة والساعة، إنَّما وليد جهود كبيرة،
وساعات طويلة وأشهُر وسنين من الجِدِّ والجهد والمراقبة والاستقامة والتفكير
السويِّ والاتِّباع الصحيح، كما الزارع، فإنَّه يأتي في أوقات الحصاد ليحصد ما
يزرع، وينظر إلى مَنْ زرعوا وماذا يحصدون.
وفي الخبر عن الإمام العسكري (عليه السلام): «... وَكَأَنَّكَ يَا بُنَيَّ
بِتَأْيِيدِ نَصْرِ اَلله [وَ]قَدْ آنَ، وَتَيْسِيرِ اَلْفَلْجِ وَعُلُوِّ
اَلْكَعْبِ [وَ]قَدْ حَانَ...، تَلُوذُ بِفِنَائِكَ مِنْ مَلَإٍ بَرَأَهُمُ اَللهُ
مِنْ طَهَارَةِ اَلْوِلَادَةِ، وَنَفَاسَةِ اَلتُّرْبَةِ، مُقَدَّسَةً قُلُوبُهُمْ
مِنْ دَنَسِ اَلنِّفَاقِ، مُهَذَّبَةً أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ رِجْسِ
اَلشِّقَاقِ...»(٣٥٩).
* * *
-----------------
(٣٥٩) كمال الدِّين (ص ٤٤٩/ باب ٤٣/ ح ١٩).
«اَيْنَ طَامِسُ آثَارِ اَلزَّيْغِ وَاَلْأَهْوَاءِ»
لقد ملأ الظلم والتجبُّر عالمنا،
وكأنَّنا نعيش في عالم تحكمه قوانين الوحوش، في ظلِّ هذا الجوِّ الخانق يلتمس
المؤمن الداعي من خلال هذه المقاطع نسمات السماء بالفرج، ويسأل عن رجل الزمان، ومتى
يقوم ليطمس آثار أهل الزيغ والأهواء ويُنظِّف الأرض من براثن أفعالهم وشنيع
ممارساتهم؟
متى يقوم المدَّخر المعصوم بكلِّ طاقته التي انبثقت من الطاقة الإلهيَّة المطلقة
ليُخلِّص البشريَّة ويُنجيها من الجور السائد عليها؟
إلحاح وتضرُّع من كلِّ داعٍ بهذا الدعاء العظيم أنْ يُخرِج الله تعالى لطفه
ويُظهِره من غيبته ليُمحي بقايا ما رسمه الزائغون عن الحقِّ، ويُخرِب آثار المائلين
إلى الباطل، فيعمد إلى طمس ودفن تلك البقايا من أعلام الفئة التي اتَّبعت الشيطان
واستهواها إبليس اللعين، فذهب بها الحُبُّ الباطل والاعتقاد المنحرف والأهواء
الفارغة إلى الزيغ عن الصراط، والوقوع في حيرة التغريب والإفساد في هذه الأرض، بعد
أنْ ابتعدوا عن الهدى، فصار ابتعادهم وحيرتهم سبيلاً للشيطان لأنْ يصيدهم بحبائله
ويُوقِعهم في مخالفة الاستقامة، والجنوح إلى الكذب والتضليل والافتراء، فاندرست في
نفوسهم مصابيح الفطرة، وانمحت من قلوبهم أنوار الانقياد للحقيقة الجبلّيَّة، فصاروا
باتِّباعهم آثار وأعلام أهل الخلاف والانحراف، سُنَّة يسير عليها اللَّاحقون، ممَّن
فرغت قلوبهم من حُبِّ الله تعالى، فصاروا أئمَّة ضلال يقتدي بهم أهل الزيغ
ويتَّبعون آثار أهوائهم، لأنَّهم لا عقل لهم، وبتراكم الزمن أصبحوا أعلاماً تقود
كلَّ متمايل ومرتجف إلى ضلالهم.
يأتي الداعي ليطلب من رجل الاستقامة أنْ يُعدِّل الاعوجاج ولو بأنْ
يطمس تلك الآثار
التي أصبحت أعلاماً يتَّبعها أهل الزيغ والأهواء، وأنْ لا تأخذه بهم رحمة ورأفة
ولين، لأنَّ ما هم عليه لا ينفع معه إلَّا القطع والاستئصال بعد أنْ صار سلوكهم -
فضلاً عن فكرهم وعقيدتهم - هو تعمُّد الكذب وصناعة الافتراء لمن علق بهم من
الأذناب، لأجل إبعاد اتِّبعاهم عن الهداية، وتسويل النفوس لمن ضعفت همَّته وقعدت به
عقيدته لاتِّباعهم.
إنَّ هؤلاء المفترين لا بدَّ من قطع نهارهم لتغرب شمسهم بيد المبيد المنتقم، هؤلاء
لا ينفع معهم أيُّ دواءٍ إلَّا الإبادة والإهلاك، لشدَّة إقبال نفوسهم على الفساد،
وقوَّة عقد قلوبهم على الرذيلة، فقد تمرَّدوا على كلِّ السُّنَن التي تدعوهم
للهداية، وصمُّوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم عن الاستماع، فأضحوا لا يقبلون الموعظة،
ولا يُحِبُّون إلَّا الفساد والرذيلة، فعتوا وتمرَّدوا وطغوا، لخبث نفوسهم
وشرَّانيَّة أرواحهم.
كلُّ ذلك لأنَّ الدِّين لم ينبت في قلوبهم، ولم يسقوه بماء الهداية ليثمر في نفوسهم
جميل الاستماع من الهداة.
هؤلاء لا بدَّ لهم من مستأصل يقطع جذورهم، لأنَّهم تجاوزوا كلَّ ما يمكن أنْ
يُرجِعهم إلى صوابهم.
هؤلاء الضُّلَّال الملحدون أضاعوا أنفسهم وأضاعوا من اتَّبعهم، بما فعلوا بأنفسهم
حيث أوجبوا تيهانها عن الطريق وبُعدها عن الجادَّة، فخسروا وصاروا سبباً في خسران
الآخرين، فصاروا خراباً دائماً أينما حلُّوا.
لذا يسأل الداعي من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أنْ يطمس على أهل الزيغ وعلى
آثارهم، لزيغهم عن الهدى وميلهم بأهوائهم إلى الضلال، فلا بدَّ من قطع حبائل كذبهم
وافترائهم، حتَّى لا يضلُّوا من الناس آخرين، ويطلب منه بإلحاح أنْ يبيدهم لعتوِّهم
وتمرُّدهم، فيستأصل عنادهم وتضليلهم وإلحادهم.
ومن بين أجمل ما ورد في هذا المعنى ما نُقِلَ عن الإمام العسكري (عليه السلام)
وحديثه لولده الحجَّة (عجَّل الله فرجه): «... فَعِنْدَهَا يَتَلَأْلَأُ صُبْحُ
اَلْحَقِّ، وَيَنْجَلِي ظَلَامُ اَلْبَاطِلِ، وَيَقْصِمُ اَللهُ بِكَ
اَلطُّغْيَانَ، وَيُعِيدُ مَعَالِمَ اَلْإِيمَانِ، يَظْهَرُ بِكَ اِسْتِقَامَةُ
اَلْآفَاقِ...، تَهْتَزُّ بِكَ أَطْرَافُ اَلدُّنْيَا بَهْجَةً، وَتَنْشُرُ
عَلَيْكَ أَغْصَانُ اَلْعِزِّ نَضْرَةً، وَتَسْتَقِرُّ بَوَانِي اَلْحَقِّ فِي
قَرَارِهَا، وَتَؤُوبُ شَوَارِدُ اَلدِّينِ إِلَى أَوْكَارِهَا، تَتَهَاطَلُ
عَلَيْكَ سَحَائِبُ اَلظَّفَرِ، فَتَخْنُقُ كُلَّ عَدُوٍّ، وَتَنْصُرُ كُلَّ
وَلِيٍّ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ جَبَّارٌ قَاسِطٌ، وَلَا جَاحِدٌ
غَامِطٌ، وَلَا شَانِئُ مُبْغِضٌ، وَلَا مُعَانِدٌ كَاشِحٌ...»(٣٦٠).
وفي الدعاء له (عجَّل الله فرجه): «اَللَّهُمَّ عَجِّلْ فَرَجَهُ، وَأَيِّدْهُ
بِالنَّصْرِ، وَاُنْصُرْ نَاصِرِيهِ، وَاُخْذُلْ خَاذِلِيهِ، وَدَمِّرْ عَلَى مَنْ
نَصَبَ لَهُ وَكَذَّبَ بِهِ، وَأَظْهِرْ بِهِ اَلْحَقَّ، وَأَمِتْ بِهِ
اَلْبَاطِلَ، وَاِسْتَنْقِذْ بِهِ عِبَادَكَ اَلمُؤْمِنِينَ مِنَ اَلذُّلِّ،
وَاِنْعَشْ بِهِ اَلْبِلَادَ، وَاُقْتُلْ بِهِ جَبَابِرَةَ اَلْكُفْرِ، وَاِقْصِمْ
بِهِ رُؤُوسَ اَلضَّلَالَةِ، وَذَلِّلْ بِهِ اَلْجَبَّارِينَ وَاَلْكَافِرِينَ،
وَأَبِرْ بِهِ اَلمُنَافِقِينَ وَاَلنَّاكِثِينَ وَجَمِيعَ اَلمُخَالِفِينَ
وَاَلمُلْحِدِينَ فِي مَشَارِقِ اَلْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَبَرِّهَا
وَبَحْرِهَا، وَسَهْلِهَا وَجَبَلِهَا حَتَّى لَا تَدَعَ مِنْهُمْ دَيَّاراً، وَلَا
تُبْقِيَ لَهُمْ آثَاراً، وَتُطَهِّرَ مِنْهُمْ بِلَادَكَ، وَاِشْفِ مِنْهُمْ
صُدُورَ عِبَادِكَ، وَجَدِّدْ بِهِ مَا اِمْتَحَى مِنْ دِينِكَ، وَأَصْلِحْ بِهِ
مَا بُدِّلَ مِنْ حُكْمِكَ وَغُيِّرَ مِنْ سُنَّتِكَ حَتَّى يَعُودَ دِينُكَ بِهِ
وَعَلَى يَدَيْهِ غَضًّا جَدِيداً صَحِيحاً لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا بِدْعَةَ مَعَهُ
حَتَّى تُطْفِئَ بِعَدْلِهِ نِيرَانَ اَلْكَافِرِينَ...»(٣٦١).
طمس الإمام (عجَّل الله فرجه) لأهل الزيغ لغة رجعيَّة لا تنسجم مع
تعاليم الدِّين:
إنْ قلتَ: هذه لغة رجعيَّة متخلِّفة لا تنسجم مع لغة بناء دولة عالميَّة ينادي بها
الإسلام وينتظرها الجميع، نعم هي تنسجم مع لغة العشيرة والقبيلة فتنادي بلغة القتل
والإبادة والسحق.
-----------------
(٣٦٠) كمال الدِّين (ص ٤٥٠/ باب ٤٣/ ح ١٩).
(٣٦١) كمال الدِّين (ص ٥١٣ و٥١٤/ باب ٤٥/ ح ٤٣).
قلتُ:
١ - مَنِ الذي له صلاحيَّة تحديد أنَّ هذا رجعي ومتخلِّف ولا ينسجم مع لغة بناء
الدولة؟ هل هي الثقافة العامَّة للمجتمع وما يُعبَّر عنه بالعرف، أو هي الثقافة
الخاصَّة لمجتمع معيَّن وإنْ لم يعرف أجواء الإسلام وطريقته في تشريع الأحكام؟
فإنْ كان الأوَّل - الدول المتحضِّرة - فالعرف ببابك، فإنَّهم لا يأنفون من
الانتقام وسحق أعدائهم بشتَّى الطُّرُق والأساليب، فطيلة هذه القرون المتمادية إلى
يومك هذا، هذا هو حال الدول وطريقتهم في القضاء على أعدائهم.
وإنْ كان الثاني فإنَّ لزوم الإنصات له هو أوَّل الكلام، فضلاً عن أنْ يُؤخَذ
بتحديده.
٢ - إنَّ لغة الإسلام هي لغة النظام والقانون، فكما لا يسمح بالقتل غير المبرَّر
والظلم، كذلك لا يسمح باستلاب الحقوق والتعدِّي عليها من قِبَل المتطاولين، فلكي
نعيش حالة الاتِّزان في حفظ الأنفس والأموال والنظام لا بدَّ من قوَّة ردع بها يخشى
المعتدي من سطوة النظام والحاكم بالحقِّ وأنَّه يُؤخَذ بجرمه لو اعتدى.
٣ - مَنْ قال: إنَّ لغة المعاقبة القاسية لعتاة الظلمة هي لغة ظلاميَّة ومنفِّرة؟
على العكس تماماً هي لغة استرداد الحقوق والدفاع عنها.
* * *
الفقرة الحادية والثلاثون
«أَيْنَ مُعِزُّ اَلْأَوْلِيَاءِ وَمُذِلُّ اَلْأَعْدَاءِ، أَيْنَ جَامِعُ
اَلْكَلِمَةِ (اَلْكَلِمِ) عَلَى اَلتَّقْوَى، أَيْنَ بَابُ اَلله اَلَّذِي مِنْهُ
يُؤْتى، أَيْنَ وَجْهُ اَلله اَلَّذِي إِلَيْهِ يَتَوَجَّهُ اَلْأَوْلِيَاءُ،
أَيْنَ اَلسَّبَبُ اَلمُتَّصِلُ بَيْنَ اَلْأَرْضِ وَاَلسَّمَاءِ، أَيْنَ صَاحِبُ
يَوْمِ اَلْفَتْحِ وَنَاشِرُ رَايَةِ اَلهُدَى، أَيْنَ مُؤَلِّفُ شَمْلِ
اَلصَّلَاحِ وَاَلرِّضَا، أَيْنَ اَلطَّالِبُ بِذُحُولِ اَلْأَنْبِيَاءِ وَأَبْنَاءِ اَلْأَنْبِيَاءِ، أَيْنَ اَلطَّالِبُ (المُطَالِبُ) بِدَمِ اَلمَقْتُولِ بِكَرْبَلَاءَ، أَيْنَ اَلمَنْصُورُ عَلَى مَنْ اِعْتَدَى عَلَيْهِ وَاِفْتَرى، أَيْنَ اَلمُضْطَرُّ اَلَّذِي يُجَابُ إِذَا دَعَا، أَيْنَ صَدْرُ اَلخَلَائِقِ ذُو اَلْبِرِّ وَاَلتَّقْوَى، أَيْنَ اِبْنُ اَلنَّبِيِّ اَلمُصْطَفَى، وَاِبْنُ عَلِيٍّ اَلمُرْتَضَى، وَاِبْنُ خَدِيجَةَ اَلْغَرَّاءِ، وَاِبنُ فَاطِمَةَ اَلْكُبْرَى، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَنَفْسِي لَكَ اَلْوِقَاءُ وَاَلْحِمَى»
تتضمَّن الفقرة الحادية والثلاثون
من الدعاء المبارك سلسلة من الأسئلة التي تتناول العديد من المفاهيم العقائديَّة
العميقة، والتي ترتبط بالصفات الإلهيَّة والقياديَّة للإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه)، فيما يلي توضيح للمفاهيم التي تمَّ الإشارة إليها في هذه الفقرة تتابعاً:
«أَيْنَ مُعِزُّ اَلْأَوْلِيَاءِ وَمُذِلُّ اَلْأَعْدَاءِ».
ذكر غير واحد أنَّ العزَّة تأتي على عدَّة معانٍ، منها: الجَليلُ الشَّريفُ، ومنها
القليل الوجود والمنقطع النظير، فالشيء العزيز في أحد معانيه غير الموجود دائماً،
وقليل الوجود(٣٦٢).
قال الفخر الرازي: (العزيز هو النفيس القليل النظير، أو المحتاج إليه القليل
الوجود، يقال: عزَّ الشيء إذا قلَّ وجوده مع أنَّه محتاج إليه)(٣٦٣).
وهذا ينسجم مع عدَّة صفات للمولى (عجَّل الله فرجه)، فهو المنقطع الوجود من بني
-----------------
(٣٦٢) راجع: اشتقاق أسماء الله (ص ٢٣٧ - ٢٤٠).
(٣٦٣) تفسير الرازي (ج ٢٨/ ص ٧٩).
البشر، بل هو الواحد الباقي من أهل العصمة، وهو الغائب رغم قيام الوجود والكون به،
وهو الجليل الشريف (عجَّل الله فرجه).
وبهذا الجليل الشريف يعتزُّ المؤمنون سواء في غيبته أو عند ظهوره.
جاء في بعض زياراته (عجَّل الله فرجه): «اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُعِزَّ
اَلمُؤْمِنِينَ اَلمُسْتَضْعَفِينَ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُذِلَّ
اَلْكَافِرِينَ اَلمُتَكَبِّرِينَ اَلظَّالِمينَ»(٣٦٤).
ونحن من سيعتزُّ به وبولايته ورعايته، جاء في توقيعه (عجَّل الله فرجه) إلى الشيخ
المفيد (قدّس سرّه): «... فَإِنَّا نُحِيطُ عِلْماً بِأَنْبَائِكُمْ، وَلَا
يَعْزُبُ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، وَمَعْرِفَتُنَا بِالذُّلِّ اَلَّذِي
أَصَابَكُمْ مُذْ جَنَحَ كَثِيرٌ مِنْكُمْ إِلَى مَا كَانَ اَلسَّلَفُ اَلصَّالِحُ
عَنْهُ شَاسِعاً، وَنَبَذُوا اَلْعَهْدَ اَلمَأْخُوذَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ
كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا
نَاسِينَ لِذِكْرِكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اَللَّأْوَاءُ، أَوِ
اِصْطَلَمَكُمُ اَلْأَعْدَاءُ...»(٣٦٥).
نحن نعلم أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو خليفة الله تعالى في أرضه،
وأنَّه الوحيد في زماننا الذي يتَّصف بأعلى صفات الكمال من المخلوقين، والله تعالى
وهَّاب العزَّة لمن يشاء، ومُعلِّي ورافع مَنْ يُحِبُّ، قد أعطى هذه الصفة لوليِّه
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو المخوَّل في زمان إمامته عن وضع عزَّة الله
تعالى على مَنْ يتأهَّل لها، وهو الذي وصفه الله (عزَّ وجلَّ) بأنَّه راحة الأولياء
والمنتقم من الأعداء(٣٦٦).
فليُعلَم أنَّ حالة القوَّة والمنعة التي سوف يمنحها ظهور الإمام المهدي (عجَّل
الله فرجه) لأتباعه تُشكِّل حصناً واقياً من الوقوع في محذور المخالفات حيث
يُمكِّنهم وجوده المبارك من تحصيل مَلَكة الإباء والشموخ الذي به يعلون ويرتفعون من
-----------------
(٣٦٤) المزار لابن المشهدي (ص ٦٧١).
(٣٦٥) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٢٣).
(٣٦٦) راجع: المحتضر (ص ١٦٣).
غير تعالٍ وتكبُّر، وهذه العزَّة المهدويَّة مطلقة، فلا تنحصر في زاوية معيَّنة أو
أفعال خاصَّة أو صفة محدَّدة، فهي عزَّة فكر وعقيدة وسلوك.
إذا رجعنا إلى الآيات والروايات الشريفة نجد أنَّها تُحدِّد بشكل واضح أنَّ مصدر
العزَّة الحقيقيَّة هو الله تعالى، ومنه تتفرَّع كلُّ عزَّة حقَّة إلى أوليائه،
ومنهم إلى العباد كلٌّ حسب قدرته ومكانته وطاعته، قال تعالى: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ
للهِ جَمِيعاً﴾ (النساء: ١٣٩)، ومن هذه العزَّة الذاتيَّة تفرَّعت كلُّ عزَّة.
فالعزَّة الذاتيَّة هبة إلهيَّة لمن هو أهل لها، هذه العزَّة الممتزجة بالقوَّة
والقدرة من جهة والرحمة والرأفة من جهة أُخرى بمقتضى قوله تعالى: ﴿... الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ﴾ (الشعراء: ٩).
هذه العزَّة الإلهيَّة المهدويَّة لا تقع على محلٍّ لا يتأهَّل لها «وَأَعِزَّنِي
وَلَا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ»(٣٦٧)، فهي لا تنال من قِبَل من أذلَّ نفسه
بالمعصية وأهانها بالكبر - وبقي في حضيض المعصية -، فمن يخضع ويضعف أمام نزواته
ويكون سهل الانقياد أمام الشهوة يتشكَّل في نفسه مانع من التلبُّس بالعزَّة، ويكون
قلب مثل هكذا شخص ذليلاً وإنْ تظاهر بالكبر والتغطرس، وكم شاهدنا الطغاة في
نهاياتهم كيف يكونون أذلَّاء متصاغرين، وبالتالي ستتولَّد حالة العداء للإمام
(عجَّل الله فرجه) من أمثال هؤلاء، عداء فكري أو عقائدي أو سلوكي وربَّما كلَّها،
فمن يحمل هذا الخُلُق الذميم في نفسه لا يفسح المجال لخُلُق رفيع مثل العزَّة.
وفي المقطع الشريف يريد الدعاء المبارك من الفرد المؤمن أنْ يجاهد نفسه ليوصلها إلى
حالة من القوَّة والمنعة تمنع من الوقوع في الذلِّ الموجب لعداوة الإمام (عجَّل
الله فرجه) وأتباعه.
وليُعلَم أنَّ للعزَّة العديد من المناشئ - وكذا الذلَّة -، ومن مناشئ العزَّة
-----------------
(٣٦٧) الصحيفة السجَّاديَّة (ص ١١٠/ الدعاء ٥٥).
الاعتزاز بالله تعالى أو بالإمام (عجَّل الله فرجه) أو بالعلم أو الجاه أو المال أو
السلطة، وكلُّ نحو من أنحاء العزَّة يُمثِّل وجهاً من وجوه ما يترتَّب عليها من
آثار، فالعزَّة الاجتماعيَّة تختلف آثارها عن عزَّة التقوى أو العمليَّة أو غير
ذلك، وكلُّ ما قلناه في العزَّة يأتي في الذلَّة.
وكلُّ عزَّة زائفة إلَّا ما رجعت لله تعالى وللإمام (عجَّل الله فرجه).
روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: «إِنَّ اَلْإِمَامَةَ زِمَامُ اَلدِّينِ،
وَنِظَامُ اَلمُسْلِمِينَ، وَصَلَاحُ اَلدُّنْيَا، وَعِزُّ اَلمُؤْمِنِينَ...،
وَمَفْزَعُ اَلْعِبَادِ فِي اَلدَّاهِيَةِ اَلنَّآدِ...، نِظَامُ اَلدِّينِ،
وَعِزُّ اَلمُسْلِمِينَ، وَغَيْظُ اَلمُنَافِقِينَ، وَبَوَارُ
اَلْكَافِرِينَ...»(٣٦٨).
* * *
«أَيْنَ جَامِعُ اَلْكَلِمَةِ (اَلْكَلِمِ) عَلَى اَلتَّقْوَى»
يتحدَّث المقطع الآنف الذكر عن
حتميَّة صيرورة التقوى العنصر المشترك الذي سيجتمع عليه الناس في زمان ظهور الإمام
(عجَّل الله فرجه)، فيسأل الداعي من خلال مناجاته هذه وبإلحاح على الله تعالى أنْ
يُقرِّب ذلك اليوم، فما أجمله من زمان نرى فيه اجتماع كلمة الناس على التقوى، وكلُّ
وجود من الموجودات ممَّا نراه وما لا نراه يسير في هذا الطريق، وتصير الحالة
العامَّة والطبيعيَّة هي التعامل بالتقوى والعمل والاجتماع عليها.
في ذلك الزمان الذي يكون فيه مصدر القرار متمثِّلاً بالإمام (عجَّل الله فرجه)،
يُخبِرنا هذا المقطع أنَّه (عجَّل الله فرجه) سيقوم بمعالجة كلِّ جروحنا وآلامنا،
فهو المهيمن على الأرض، بل الكون، فتهيمن بذلك سمة الرحمة والتقوى والأُنس بين
الناس وجميع المخلوقات بعدما غُطِّيت ولقرون متمادية بفسق الغلظة والظلم.
-----------------
(٣٦٨) الكافي (ج ١/ ص ٢٠٠/ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته/ ح ١).
إنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) سيجمع الناس على كلمة طاعة الله تعالى وامتثال
أوامره ونواهيه، فتتحقَّق بذلك العبوديَّة الحقَّة منهم، ويتكرَّم بنو آدم بهذه
التقوى بأجمعهم، فتُخرِج لهم الأرض، بل السماء ثمراتها، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ
اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾
(الطلاق: ٢ و٣)، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ﴾ (الأعراف: ٩٦).
في ذلك الزمان الذي يُمثِّل العيش فيه طموح كلِّ نبيل وتقي سيوجد أعلى نموذج
ستتعرَّف عليه البشريَّة من التقوى حيث ستظهر التقوى على صعيد الطاعة والعبوديَّة،
وعلى صعيد الأخلاق والسلوك العملي، وعلى صعيد الفكر والبُعد المعرفي، وعلى صعيد
العقيدة والبُعد الإيماني، وبذلك تتحقَّق مصاديق الآية في قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ (الأنعام: ١١٥)، فالصدق على المستوى المعرفي
والعلمي، والعدل على المستوى العملي والسلوكي، فلا تذهب شرقاً ولا غرباً إلَّا وجدت
أنَّ التقوى هي الميزان الذي يتعامل به الناس ويجتمعون عليه.
وسوف يأتي المزيد من التفصيل عند الحديث في فقرة «تُرَى أَتَرَانَا نَحُفُّ بِكَ
وَأَنْتَ تَؤُمُّ اَلمَلَأَ وَقَدْ مَلَأْتَ اَلْأَرْضَ عَدْلاً».
* في (كمال الدِّين) بسنده عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ، قَالَ: قَالَ
اَلرِّضَا (عليه السلام): «نَحْنُ حُجَجُ اَلله فِي خَلْقِهِ، وَخُلَفَاؤُهُ فِي
عِبَادِهِ، وَأُمَنَاؤُهُ عَلَى سِرِّهِ، وَنَحْنُ كَلِمَةُ اَلتَّقْوَى،
وَاَلْعُرْوَةُ اَلْوُثْقَى، وَنَحْنُ شُهَدَاءُ اَلله وَأَعْلَامُهُ فِي
بَرِيَّتِهِ، بِنَا يُمْسِكُ اَللهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا،
وَبِنَا يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ، وَيَنْشُرُ اَلرَّحْمَةَ، وَلَا تَخْلُو اَلْأَرْضُ
مِنْ قَائِمٍ مِنَّا ظَاهِرٍ أَوْ خَافٍ، وَلَوْ خَلَتْ يَوْماً بِغَيْرِ حُجَّةٍ
لَمَاجَتْ بِأَهْلِهَا كَمَا يَمُوجُ اَلْبَحْرُ بِأَهْلِهِ»(٣٦٩).
-----------------
(٣٦٩) كمال الدِّين (ص ٢٠٢ و٢٠٣/ باب ٢١/ ح ٦).
وذكر العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في معرض بيانه للرواية ما نصُّه: (بيان: قوله
(عليه السلام): «نَحْنُ كَلِمَةُ اَلتَّقْوَى»، إشارة إلى قوله تعالى:
﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ [الفتح: ٢٦]، وفسَّرها المفسِّرون بكلمة
الشهادة، وبالعقائد الحقَّة، إذ بها يُتَّقى من النار، أو هي كلمة أهل التقوى،
وإطلاقها عليهم إمَّا باعتبار أنَّهم (عليهم السلام) كلمات الله يُعبِّرون عن مراد
الله، كما أنَّ الكلمات تُعبِّر عمَّا في الضمير، أو باعتبار أنَّ ولايتهم والقول
بإمامتهم سبب للاتِّقاء من النار، ففيه تقدير مضاف، أي ذو كلمة التقوى)(٣٧٠).
ولعلَّها تشير إلى ما ذكرناه سابقاً عند الحديث عمَّا يهدي إليه المهدي (عجَّل الله
فرجه)، فهو يهدي إلى كلمة التقوى أي إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيجمع الناس
على كلمة التقوى أي يجمع الناس على ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، روي عن أمير
المؤمنين (عليه السلام): «أَنَا كَلِمَةُ اَلله اَلَّتِي يَجْمَعُ بِهَا
اَلمُفْتَرَقَ وَيُفْرِّقُ بِهَا اَلمُجْتَمَعَ»(٣٧١).
نحن على يقين في أنَّ الله تعالى هو
الخالق للكون، وأنَّه مدبِّره، وهو اللطيف بعباده، وأنَّه (عزَّ اسمه) جعل من عباده
مَنْ يكون واسطة في نيل المطالب واستجابة الدعاء، وعلى الإنسان أنْ يبحث عن هذه
الواسطة، وأنْ يسأل عنها، لأنَّ الخير النازل من الباري تعالى قد انحصر نزوله بهذه
الواسطة.
هذا المقطع الشريف حصر الدخول إلى الحضرة الإلهيَّة ونيل خيرها
-----------------
(٣٧٠) بحار الأنوار (ج ٢٣/ ص ٣٥/ ذيل الحديث ٥٩).
(٣٧١) مختصر بصائر الدرجات (ص ٣٣ و٣٤).
بالدخول عبر الباب،
والتوجُّه عبر وجهه الذي جعله في خلقه، إذ يُمثِّل الوجه بالنسبة لكلِّ شيء يضاف
إليه المدخل إلى حقيقة ذلك الشيء ومفتاح الوصول، فالوجه في الأشياء هو المعبِّر
عنها، ويحمل الوجه في الإنسان فضلاً عن الكثير من المخلوقات أهم قنوات الاتِّصال
بالأشياء الأُخرى، فيحمل الحواسَّ الرئيسيَّة التي من خلالها تتمُّ عمليَّة
الاتِّصال، والتي من خلالها يُعبِّر عن حقيقته وأفكاره وغير ذلك ممَّا يحويه أو
يحمله.
فكون الإمام (عجَّل الله فرجه) باب الله تعالى ووجهه معناه أنَّه المدخل إلى تحصيل
كلِّ كمال ومنفعة، كلمة الباب أُضيفت إلى (الله تعالى)، وهو الاسم الذي يُعبِّر عنه
أنَّه مجمع كلِّ صفة خير - جامع صفات الجمال والمنزَّه عن صفات الجلال -، فكلُّ ما
خلف الباب يصدر عن الإمام (عجَّل الله فرجه)، إذ هو الباب الحصري في زماننا، فما
ينفتح منه فهو، وما ينغلق عليه فلا يمكن تحصيله من جهة أُخرى.
في (الكافي) بسنده عَنْ أَبِي الصَّامِتِ اَلْحُلْوَانِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
(عليه السلام)، قَالَ: «فَإِنَّ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) بَابُ اَلله
اَلَّذِي لَا يُؤْتَى إِلَّا مِنْهُ، وَسَبِيلُهُ اَلَّذِي مَنْ سَلَكَهُ وَصَلَ
إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَكَذَلِكَ كَانَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)
مِنْ بَعْدِهِ، وَجَرَى لِلْأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وَاحِداً بَعْدَ
وَاحِدٍ»(٣٧٢).
وهنا يتجلَّى معنى الزيارة المباركة له: «اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بَابَ اَلله
اَلَّذِي لَا يُؤْتَى إِلَّا مِنْهُ»(٣٧٣)، فإنَّه لا يمكن الإتيان إلى الله تعالى
في زماننا إلَّا من هذا الباب.
وهكذا يُلاحَظ ما في الوجه بلحاظ الأشياء التي يضاف إليها، ويأخذ صفاتها ويضفي
عليها ما يحمل من معنى جليل ومفهوم سامي.
-----------------
(٣٧٢) الكافي (ج ١/ ص ١٩٨/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) هم أركان الأرض/ ح ٣).
(٣٧٣) المزار لابن المشهدي (ص ٥٨٦).
وجه الأولياء:
ففي المقطع الشريف أضاف الداعي الوجه إلى الله تعالى، وهو بحسب تعبير أهل الاختصاص
(فإنَّ لفظة الله تعالى) من مختصَّات الذات الإلهيَّة، وهو الجامع لجميع صفات
الجمال - كلُّ صفة كمال وحُسن -، والمنزَّه عن جميع صفات الجلال - التي يتنزَّه
الباري عن الاتِّصاف بها كالجسميَّة والحدِّ والزمان والمكان -، وهو أعظم اسمٍ من
أسمائه تعالى.
وأصله من أَلَهَ أي المألوه والمعبود، أو من أَلِهَ وهو الذي تحيَّرت به العقول
فأَلِهَتْهُ فعبدته لما يحمل من الجمال والكمال.
وهذه الإضافة تُعطي دلالة واضحة أنَّ قصد الباري في كلِّ الأُمور لا يكون إلَّا عن
طريق الإمام (عجَّل الله فرجه)، وكلُّ وجه سوى هذا الوجه فإنَّه هالك، قال تعالى:
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ (القَصَص: ٨٨).
الروايات الشريفة تسفر عن معنى كون الإمام (عليه السلام) هو الوجه
واليد:
* في (بصائر الدرجات) بسنده عَنِ اِبْنِ اَلمُغِيرَةِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي
عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ اَلله تَعَالَى: ﴿كُلُّ
شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، قَالَ: «مَا يَقُولُونَ فِيهِ؟»، قُلْتُ:
يَقُولُونَ: يَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا وَجْهَهُ، فَقَالَ: «يَهْلِكُ كُلُّ
شَيْءٍ إِلَّا وَجْهَهُ اَلَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ، وَنَحْنُ وَجْهُ اَلله اَلَّذِي
يُؤْتَى مِنْهُ»(٣٧٤).
* وفي (الكافي) بسنده عَنْ أَبِي سَلَّامٍ اَلنَّخَّاسِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا،
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «نَحْنُ اَلمَثَانِي اَلَّذِي أَعْطَاهُ
اَللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله)، ونَحْنُ وَجْهُ اَلله
نَتَقَلَّبُ فِي اَلْأَرْضِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَنَحْنُ عَيْنُ اَلله فِي
خَلْقِهِ، وَيَدُهُ اَلمَبْسُوطَةُ بِالرَّحْمَةِ عَلَى عِبَادِه، عَرَفَنَا مَنْ
عَرَفَنَا، وَجَهِلَنَا مَنْ جَهِلَنَا، وَإِمَامَةَ اَلمُتَّقِينَ»(٣٧٥).
-----------------
(٣٧٤) بصائر الدرجات (ص ٨٦/ ج ٢/ باب ٤/ ح ٦).
(٣٧٥) الكافي (ج ١/ ص ١٤٣/ باب النوادر/ ح ٣).
وليس بين أظهرنا اليوم سوى خاتم الأئمَّة وإمام الزمان (عجَّل الله فرجه) الذي هو
وجه الأولياء.
هذا كلُّه في الوجه، أمَّا في الباب فقد أورد شيخ القمِّيِّين أبو جعفر محمّد بن
الحسن الصفَّار (رحمه الله) المتوفَّى سنة (٢٩٠هـ) في كتابه (بصائر الدرجات) ستَّة
عشر حديثاً تحت عنوان: (باب في الأئمَّة أنَّهم حجَّة الله وباب الله وولاة أمر
الله ووجه الله الذي يُؤتى منه وجنب الله وعين الله وخزنة علمه (جلَّ جلاله وعمَّ
نواله)).
وممَّا جاء فيه ما رواه بسنده عَنْ أَسْوَدَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ
أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَأَنْشَأَ يَقُولُ اِبْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ
يُسْئَلَ: «نَحْنُ حُجَّةُ اَللهِ، وَنَحْنُ بَابُ اَللهِ، وَنَحْنُ لِسَانُ
اَللهِ، وَنَحْنُ وَجْهُ اَللهِ، وَنَحْنُ عَيْنُ اَللهِ فِي خَلْقِهِ، وَنَحْنُ
وُلَاةُ أَمْرِ اَللهِ فِي عِبَادِهِ»(٣٧٦).
كما روى ثقة الإسلام الكليني (رضي الله عنه) العديد من هذه الروايات(٣٧٧)، منها ما
ذكرناه عن الصفَّار، وغيرها. كما روى (رضي الله عنه) في (باب أنَّ الأئمَّة هم
أركان الأرض)(٣٧٨) عدَّة أُخرى من الأحاديث بنفس المضمون جاء في بعضها كما في
الحديث الأوَّل الذي رواه بسنده عَنِ اَلمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ
اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «مَا جَاءَ بِهِ عَلِيٌّ (عليه السلام) آخُذُ بِهِ،
وَمَا نَهَى عَنْهُ أَنْتَهِي عَنْهُ، جَرَى لَهُ مِنَ اَلْفَضْلِ مِثْلُ مَا جَرَى
لِمُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)، وَلِمُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)
اَلْفَضْلُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)، اَلمُتَعَقِّبُ
عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ كَالمُتَعَقِّبِ عَلَى اَللهِ وَعَلَى
رَسُولِهِ، وَاَلرَّادُّ عَلَيْهِ فِي صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ عَلَى حَدِّ
اَلشِّرْكِ بِاللهِ، كَانَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بَابَ اَللهِ
اَلَّذِي لَا يُؤْتَى إِلَّا مِنْهُ، وَسَبِيلَهُ اَلَّذِي مَنْ سَلَكَ بِغَيْرِهِ
هَلَكَ...»(٣٧٩)، والحديث طويل أخذنا منه مورد الشاهد.
-----------------
(٣٧٦) بصائر الدرجات (ص ٨١/ ج ٢/ باب ٣/ ح ١).
(٣٧٧) الكافي (ج ١/ ص ١٤٣ وما بعدها/ باب النوادر).
(٣٧٨) الكافي (ج ١/ ص ١٩٦ وما بعدها/ باب أنَّ الأئمَّة هم أركان الأرض).
(٣٧٩) الكافي (ج ١/ ص ١٩٦/ باب أنَّ الأئمَّة هم أركان الأرض/ ح ١).
وقال المولى المازندراني (رحمه الله) في (شرح أُصول الكافي): («وَنَحْنُ بَابُ
اَللهِ» أي باب علمه وتوحيده وأحكامه وأسراره بجميع ما جاء الرسول (صلَّى الله عليه
وآله)، وذلك ظاهر، إذ كلُّ أحد لم يسمع ذلك منه (صلَّى الله عليه وآله)، ولا يجوز
له التكلُّم فيه برأيه على قدر عقله، فوجب أنْ يعلمه ممَّن يقوم مقامه بأمره وأمر
ربِّه، وهم الأئمَّة (عليهم السلام)، فهم أيضاً باب هذه المعارف، ولا يدخل أحد بيت
المعرفة إلَّا بهذا الباب)، ثمّ شرح الفقرات الأُخرى من الحديث(٣٨٠).
فالباب الذي يُعتبَر المدخل إلى الشيء، ولا يمكن الدخول إلَّا عن طريقه، خصوصاً إذا
كان الباب واحداً، قال النبيُّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) عن هذا الباب
مشخِّصاً مصداقه بقوله (صلَّى الله عليه وآله): «أَنَا مَدِينَةُ اَلْعِلْمِ
وَعَلِيٌّ بَابُهَا»(٣٨١).
نزول البركات على يد الحجَّة (عجَّل الله فرجه) لا ينافي حجّيَّة
الأئمَّة (عليهم السلام) والرسول (صلَّى الله عليه وآله):
إنْ قلتَ: يظهر ممَّا تقدَّم أنَّ ما ينزل من السماء وما يناله الناس من آثار
وبركات وأرزاق هي عن طريق إمام العصر (عجَّل الله فرجه)، وهذا كأنَّه ينفي فوائد
وجود رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) والأئمَّة (عليهم السلام) وانعدام تأثيرهم
بعد وفاتهم، وهذا ممَّا لا يصحُّ التفكير به، فضلاً عن القول به وتبنِّيه.
قلتُ: كون الأئمَّة (عليهم السلام) واسطة الفيض الإلهي ممَّا لا شكَّ فيه، فهم بعد
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) الذين تجري على أيديهم مقدَّرات الكون، فبهم
تُنال البركة والرحمة، ولكن هذا لا يمنع أنْ تكون مجريات الأُمور بنحو نظام الأسباب
والمسبَّبات وعلى نحو التراتبيَّة الطوليَّة، فمقدَّرات الأُمور تنزل من الله تعالى
إلى
-----------------
(٣٨٠) شرح أُصول الكافي (ج ٤/ ص ٢٢٩).
(٣٨١) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ٧١ و٧٢/ باب ٣١/ ح ٢٩٨).
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ثمّ إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهكذا
إلى صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)، وصعوداً الأمر كذلك، فالإمام (عجَّل الله فرجه)
هو المباشر لأُمور الناس لمكان إمامته الفعليَّة، وهم (عليهم السلام) وسائط صعود
الأُمور منه (عجَّل الله فرجه) ووسائط نزولها.
وقد صرَّحت بعض النصوص في ذلك سؤالاً وجواباً، وبيَّنت الترتيب المتقدِّم في
الأُمور، فقد روى الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) في كتاب (الغيبة)، قال: أَخْبَرَنِي
اَلْحُسَيْنُ بْنُ عُبَيْدِ اَلله، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله اَلْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ سُفْيَانَ اَلْبَزَوْفَرِيِّ (رحمه الله)، قَالَ: حَدَّثَنِي
اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه)، قَالَ:
اِخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اَلتَّفْوِيضِ وَغَيْرِهِ، فَمَضَيْتُ إِلَى أَبِي
طَاهِرِ بْنِ بِلَالٍ فِي أَيَّامِ اِسْتِقَامَتِهِ فَعَرَّفْتُهُ اَلْخِلَافَ،
فَقَالَ: أَخِّرْنِي، فَأَخَّرْتُهُ أَيَّاماً، فَعُدْتُ إِلَيْهِ، فَأَخْرَجَ
إِلَيَّ حَدِيثاً بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ:
«إِذَا أَرَادَ اَللهُ أَمْراً عَرَضَهُ عَلَى رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله)، ثُمَّ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَسَائِرِ اَلْأَئِمَّةِ
وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه
السلام)، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اَلدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اَلمَلاَئِكَةُ أَنْ
يَرْفَعُوا إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) عَمَلاً عُرِضَ عَلَى صَاحِبِ اَلزَّمَانِ
(عليه السلام)، ثُمَّ يَخْرُجُ عَلَى وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أَنْ يُعْرَضَ
عَلَى رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، ثُمَّ يُعْرَضُ عَلَى اَلله (عزَّ
وجلَّ)، فَمَا نَزَلَ مِنَ اَلله فَعَلَى أَيْدِيهِمْ، وَمَا عُرِجَ إِلَى اَلله
فَعَلَى أَيْدِيهِمْ، وَمَا اِسْتَغْنَوْا عَنِ اَلله (عزَّ وجلَّ) طَرْفَةَ
عَيْنٍ»(٣٨٢)، وهو صريح في عرض الأُمور صعوداً ونزولاً على إمام الزمان (عجَّل الله
فرجه).
وكذلك روى الشيخ المفيد (قدّس سرّه) في (الاختصاص) بسنده عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ
اَلرَّحْمَنِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)،
قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِ اَلله إِلَّا بُدِئَ بِرَسُولِ اَلله،
ثُمَّ بِأَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ بِمَنْ بَعْدَهُ، لِيَكُونَ عِلْمُ
آخِرِهِمْ مِنْ عِنْدِ أَوَّلِهِمْ، وَلَا يَكُونُ آخِرُهُمْ أَعْلَمَ مِنْ
أَوَّلِهِمْ»(٣٨٣)، وكأنَّ الحديث جاء
-----------------
(٣٨٢) الغيبة للطوسي (ص ٣٨٧/ ح ٣٥١).
(٣٨٣) الاختصاص (ص ٢٦٧).
لدفع دخل مقدَّر من أنَّ الإمام الأخير سوف
يكون أعلم ممَّن تقدَّمه، لإحاطته بما عند من تقدَّم وزيادة، وفي هذا المضمون عدَّة
روايات جاء في بعضها: «... ثُمَّ اَلْأَدْنَى فَالْأَدْنَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى
صَاحِبِ اَلْأَمْرِ اَلَّذِي فِي زَمَانِهِ»(٣٨٤).
وفي (بصائر الدرجات) بسنده عَنْ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ... قُلْتُ: فَتُزَادُونَ
شَيْئاً يَخْفَى عَلَى رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)؟ قَالَ: «لَا،
إِنَّمَا يَخْرُجُ اَلْأَمْرُ مِنْ عِنْدِ اَلله، فَتَأْتِيهِ بِهِ اَلمَلَكُ
رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، رَبُّكَ
يَأْمُرُكَ بِكَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: اِنْطَلِقْ بِهِ إِلَى عَلِيٍّ، فَيَأْتِي
عَلِيًّا (عليه السلام)، فَيَقُولُ: اِنْطَلِقْ بِهِ إِلَى اَلْحَسَنِ، فَيَقُولُ:
اِنْطَلِقْ بِهِ إِلَى اَلْحُسَيْنِ، فَلَمْ يَزَلْ هَكَذَا يَنْطَلِقُ إِلَى
وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيْنَا»، قُلْتُ: فَتُزَادُونَ شَيْئاً
لَا يَعْلَمُهُ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)؟ فَقَالَ: «وَيْحَكَ كَيْفَ
يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ اَلْإِمَامُ شَيْئاً لَمْ يَعْلَمْهُ رَسُولُ اَلله (صلَّى
الله عليه وآله) وَاَلْإِمَامُ مِنْ قِبَلِهِ؟»(٣٨٥).
وروى الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) في (أماليه) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «لَوْلَا أَنَّا نُزَادُ
لَأَنْفَدْنَا»، قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، تُزْدَادُونَ شَيْئاً لَيْسَ
عِنْدَ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)؟ قَالَ: «إِنَّهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ
أَتَى اَلنَّبِيَّ (صلَّى الله عليه وآله) فَأَخْبَرَ، ثُمَّ إِلَى عَلِيٍّ (عليه
السلام)، ثُمَّ إِلَى وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى صَاحِبِ
هَذَا اَلْأَمْرِ»(٣٨٦).
* * *
«أَيْنَ اَلسَّبَبُ اَلمُتَّصِلُ بَيْنَ اَلْأَرْضِ وَاَلسَّمَاءِ»
يتحدَّث هذا المقطع الشريف عن جملة من المعاني السامية التي حملها أهل البيت (عليهم السلام) بإمامتهم للأُمَّة وخلافتهم عن الله تعالى في الكون، والإمام
-----------------
(٣٨٤) بصائر الدرجات (ص ٤١٤/ ج ٨/ باب ٩/ ح ٧).
(٣٨٥) بصائر الدرجات (ص ٤١٣/ ج ٨/ باب ٩/ ح ٥).
(٣٨٦) أمالي الطوسي (ص ٤٠٩/ ح ٩٢٠/٦٨).
المهدي (عجَّل الله فرجه) هو ختام
الأئمَّة الطاهرين (عليهم السلام)، وهو حامل هذه الألقاب ومجسِّدها في زماننا هذا.
فهو يُعطي دلالة أنَّ الاتِّصال بين الأرض والسماء - وليس المراد بالأرض المعنى
المتبادر منها عند إطلاقها، بل المراد بها الجهة الأدنى والسماء الجهة الأعلى -
إنَّما يحتاج إلى سبب، وهذا السبب من جنس مَنْ يربطهم بالسماء، فالبشر يحتاجون إلى
شخص من جنسهم يكون الاتِّصال بالسماء عن طريقة ﴿... بَشَراً رَسُولاً﴾، ولكنَّه
يُوحى إليه، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾
(الكهف: ١١٠).
وأنَّ هذا الاتِّصال الذي اقتضت حكمة الله تعالى أنْ يكون بواسطة بشرٍ، اقتضت في
ذات الوقت أنْ يحمل مؤهِّلات ومواصفات خاصَّة تُمكِّنه من أداء هذه الوظيفة، وهو ما
يُعرَف بالعصمة.
فالإمام (عجَّل الله فرجه) هو الحبل المتَّصل بين الأرض والسماء، وهو الوحيد في
زماننا الذي عن طريقه يصل للبشريَّة مقدَّرات أُمورهم، على ما تقدَّم في المقطع
السابق.
ولكن مع الأسف أنَّ هذا الحبل الموجود والذي اقتضته الضرورة ولا بدَّ منه بين
السماء والأرض لا يمكن لنا أنْ نراه ونباشر معه ما نحتاج ونريد بسبب غيبته عنَّا،
وسيأتي في فقرة «بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا، بِنَفْسِي
أَنْتَ مِنْ نازِحٍ مَا نَزَحَ عَنَّا» الحديث عن الغيبة وأدلَّتها وآثارها، ولكن
هذا لا يمنع من حصول أثر الارتباط به بالسماء، لأنَّه الطريق الوحيد للاتِّصال بها.
* في (كمال الدِّين) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ
أَنَّهُ وَرَدَ اَلْعِرَاقَ شَاكًّا مُرْتَاداً، فَخَرَجَ إِلَيْهِ: «قُلْ
لِلْمَهْزِيَارِيِّ: قَدْ فَهِمْنَا مَا حَكَيْتَهُ عَنْ مَوَالِينَا
بِنَاحِيَتِكُمْ، فَقُلْ لَهُمْ: أَمَا سَمِعْتُمُ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩]، هَلْ أُمِرَ إِلَّا بِمَا هُوَ كَائِنٌ
إِلَى
يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ؟ أَوَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) جَعَلَ لَكُمْ
مَعَاقِلَ تَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَأَعْلَاماً تَهْتَدُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ
(عليه السلام) إِلَى أَنْ ظَهَرَ اَلمَاضِي (أَبُو مُحَمَّدٍ) (صَلَوَاتُ اَلله
عَلَيْهِ)، كُلَّمَا غَابَ عَلَمٌ بَدَا عَلَمٌ، وَإِذَا أَفَلَ نَجْمٌ طَلَعَ
نَجْمٌ، فَلَمَّا قَبَضَهُ اَللهُ إِلَيْهِ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ)
قَدْ قَطَعَ اَلسَّبَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، كَلَّا مَا كَانَ ذَلِكَ وَلَا
يَكُونُ حَتَّى تَقُومَ اَلسَّاعَةُ، وَيَظْهَرَ أَمْرُ اَلله (عزَّ وجلَّ) وَهُمْ
كَارِهُونَ. يَا مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، لَا يَدْخُلْكَ اَلشَّكُّ فِيمَا
قَدِمْتَ لَهُ، فَإِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) لَا يُخَلِّي اَلْأَرْضَ مِنْ
حُجَّةٍ...»(٣٨٧).
الوسائط بين السماء والأرض منهج إلهي:
حقيقة الارتباط بالسماء كانت لغاية، وإنَّ هذه الغاية التي يتَّجه إليها الإنسان
تكوينيًّا، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً
فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق: ٦)، لا تتمُّ إلَّا أنْ يكون هناك وسائط يقع على عاتقهم
تأمين هذه المهمَّة، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القَصَص: ٥١)، وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ
أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ (النساء:
٨٠)، وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ
لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرضُ﴾ (النساء: ٤٢)، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ (آل
عمران: ٣٢).
وقد حفلت كُتُب الأخبار بأشكال مختلفة من الآثار لبيان هذه الحقيقة، وإليك جملة
منها:
* في (الكافي) بسنده عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ
اَلله (عليه السلام): إِنَّ اَللهَ أَجَلُّ وَأَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ
بِخَلْقِهِ، بَلِ اَلْخَلْقُ يُعْرَفُونَ بِالله، قَالَ: «صَدَقْتَ»، قُلْتُ: إِنَّ
مَنْ عَرَفَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ لِذَلِكَ
اَلرَّبِّ رِضاً وَسَخَطاً،
-----------------
(٣٨٧) كمال الدِّين (ص ٤٨٦ و٤٨٧/ باب ٤٥/ ح ٨).
وَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ رِضَاهُ وَسَخَطُهُ إِلَّا
بِوَحْيٍ أَوْ رَسُولٍ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِهِ اَلْوَحْيُ فَقَدْ يَنْبَغِي لَهُ
أَنْ يَطْلُبَ اَلرُّسُلَ، فَإِذَا لَقِيَهُمْ عَرَفَ أَنَّهُمُ اَلْحُجَّةُ،
وَأَنَّ لَهُمُ اَلطَّاعَةَ اَلمُفْتَرَضَةَ. وَقُلْتُ لِلنَّاسِ: تَعْلَمُونَ
أَنَّ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) كَانَ هُوَ اَلْحُجَّةَ مِنَ اَلله
عَلَى خَلْقِهِ؟ قَالُوا: بَلَى، قُلْتُ: فَحِينَ مَضَى رَسُولُ اَلله (صلَّى الله
عليه وآله) مَنْ كَانَ اَلْحُجَّةَ عَلَى خَلْقِهِ؟ فَقَالُوا: اَلْقُرْآنُ،
فَنَظَرْتُ فِي اَلْقُرْآنِ فَإِذَا هُوَ يُخَاصِمُ بِهِ اَلمُرْجِئُ
وَاَلْقَدَرِيُّ وَاَلزِّنْدِيقُ اَلَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى يَغْلِبَ
اَلرِّجَالَ بِخُصُومَتِهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ اَلْقُرْآنَ لَا يَكُونُ حُجَّةً
إِلَّا بِقَيِّمٍ، فَمَا قَالَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ كَانَ حَقًّا، فَقُلْتُ لَهُمْ:
مَنْ قَيِّمُ اَلْقُرْآنِ؟ فَقَالُوا: اِبْنُ مَسْعُودٍ قَدْ كَانَ يَعْلَمُ،
وَعُمَرُ يَعْلَمُ، وَحُذَيْفَةُ يَعْلَمُ، قُلْتُ: كُلَّهُ؟ قَالُوا: لَا، فَلَمْ
أَجِدْ أَحَداً يُقَالُ: إِنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا عَلِيًّا (عليه
السلام)، وَإِذَا كَانَ اَلشَّيْءُ بَيْنَ اَلْقَوْمِ فَقَالَ هَذَا: لَا أَدْرِي،
وَقَالَ هَذَا: لَا أَدْرِي، وَقَالَ هَذَا: لَا أَدْرِي، وَقَالَ هَذَا: أَنَا
أَدْرِي، فَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا (عليه السلام) كَانَ قَيِّمَ اَلْقُرْآنِ،
وَكَانَتْ طَاعَتُهُ مُفْتَرَضَةً، وَكَانَ اَلْحُجَّةَ عَلَى اَلنَّاسِ بَعْدَ
رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، وَأَنَّ مَا قَالَ فِي اَلْقُرْآنِ فَهُوَ
حَقٌّ، فَقَالَ: «رَحِمَكَ اَللهُ»(٣٨٨).
* وفي (الغيبة للنعماني): قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَلَا
إِنَّ اَلْعِلْمَ اَلَّذِي هَبَطَ بِهِ آدَمُ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ
وَجَمِيعَ مَا فُضِّلَتْ بِهِ اَلنَّبِيُّونَ إِلَى خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ فِي
عِتْرَةِ خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ، فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ، بَلْ أَيْنَ
تَذْهَبُونَ يَا مَنْ نُسِخَ مِنْ أَصْلَابِ أَصْحَابِ اَلسَّفِينَةِ هَذَا
مَثَلُهَا فِيكُمْ، فَكَمَا نَجَا فِي هَاتِيكَ مَنْ نَجَا فَكَذَلِكَ يَنْجُو مِنْ
هَذِهِ مَنْ يَنْجُو، وَيْلٌ لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ»(٣٨٩).
إنَّ هذه الوسائط تُمثِّل المرآة التي تعكس لنا إرادة الله سبحانه وتعالى ومنهجه
الذي وضعه لإيصالنا إليه، وإنَّ هذا المنهج حصريٌ، ومن يريدُ أنْ يأمنْ
-----------------
(٣٨٨) الكافي (ج ١/ ص ١٦٨ و١٦٩/ باب الاضطرار إلى الحجَّة/ ح ٢).
(٣٨٩) الغيبة للنعماني (ص ٥١).
على نفسه من
الهلاك وينجو يوم القيامة، عليه أن يصلَ من خلاله، فعليه تقبُّل ما يقوله الأولياء
وطاعتهم.
جاءت هذه الفقرة المباركة لتُحدِّثنا عن هذه الحالة التي زرعتها السماء في الأرض
وقد اقتضتها تكوينيَّة الإنسان وعجزه عن إدراك ما به يرتبط بالله سبحانه وتعالى،
فلم يبقَ له من سبيل إلَّا أنْ يلجأ لتلك الوسائط التي بمقدار ارتباطه بها تعكس في
مرآة روحه صور العبوديَّة، ليُجسِّدها بعد ذلك عملاً تطبيقيًّا.
* * *
«صَاحِبُ يَوْمَ اَلْفَتْحِ»
تحدَّث القرآن الكريم وكذا الروايات
الشريفة عن الفتح ويومه في عدَّة آيات وروايات من بينها:
* في (تفسير القمِّي): ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ
قَرِيبٌ﴾ [الصفّ: ١٣]، يَعْنِي فِي اَلدُّنْيَا بِفَتْحِ اَلْقَائِمِ، وأيضاً قال:
فَتْحُ مَكَّةَ(٣٩٠).
* وفي (كمال الدِّين) بسنده عَنْ ثَابِتِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَيِّدِ
اَلْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ سَيِّدِ اَلشُّهَدَاءِ
اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سَيِّدِ اَلْأَوْصِيَاءِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى
الله عليه وآله): «اَلْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ أَنْتَ
يَا عَلِيُّ، وَآخِرُهُمُ اَلْقَائِمُ اَلَّذِي يَفْتَحُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَى
يَدَيْهِ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا»(٣٩١).
* وفي رواية ثالثة قيَّدت النفع تبعاً للآية الشريفة: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا
يَنْفَعُ
-----------------
(٣٩٠) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٣٦٦).
(٣٩١) كمال الدِّين (ص ٢٨٢/ باب ٢٤/ ح ٣٥).
الَّذِينَ...﴾ (السجدة: ٢٩)، بأنَّ النفع إنَّما يحصل من هذا الفتح لمن
كان يؤمن ويوقن بأنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) صاحب الفتح(٣٩٢).
وهذا المقطع الشريف من دعاء الندبة المبارك يتساءل عن صاحب هذا الفتح وعن اليوم
الذي طال انتظاره، رغم أنَّ الآيات والروايات الشريفة وصفته بأنَّه قريب، وأنَّه
مبين محبوب.
نعم حلول ذلك اليوم قريباً مشروط بالإيمان والتقوى، فعسى هذه النفس تركن إليهما
ليأتي خير الفاتحين بصاحب يوم الفتح.
خطوات في طريق يوم الفتح:
اعلم أنَّه سيسبق ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) جملة من العلامات - سنشير إليها
بعد قليل -، وتنتهي بظهوره (عجَّل الله فرجه) فترة الغيبة التامَّة الكبرى.
تبدأ تدريجيًّا أحداث الظهور بالتكشُّف، وينتهي بذلك عصر طويل عاشته البشريَّة
بعيدة عن مباشرة إمامها، وحُرِمَت طيلة قرون عديدة منه.
كيف يعرف الإمام (عجَّل الله فرجه) أنَّ وقت خروجه قد حان؟
هناك العديد من الطُّرُق التي يمكن أنْ يتعرَّف الإمام (عجَّل الله فرجه) من خلال
أيٍّ منها على وقت ظهوره، ومنها:
١ - بتحقُّق العلامات التي دلَّت على أوان الظهور، فهو جزماً عارف بانطباقها على
مصاديقها الحقيقيَّة.
٢ - أنَّه (عجَّل الله فرجه) يعلم ذلك من خلال النداء باسمه واسم أبيه (عليهما
السلام)، وهو الأقدر على معرفة هذا النداء وتمييزه، فَعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام) وَقَالَ: «يُنَادَى بِاسْمِ
اَلْقَائِمِ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، قُمْ»(٣٩٣).
-----------------
(٣٩٢) راجع: ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٢٤٦/ باب ٧١/ ح ٣٧).
(٣٩٣) الغيبة للنعماني (ص ٢٨٧/ باب ١٤/ ح ٦٤).
٣ - قتل النفس الزكيَّة التي يُرسِلها الإمام (عجَّل الله فرجه) إلى مكَّة
المكرَّمة حيث وَرَدَ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي
حَدِيثٍ طَوِيلٍ إِلَى أَنْ قَالَ: «يَقُولُ اَلْقَائِمُ (عليه السلام)
لِأَصْحَابِهِ: يَا قَوْمِ إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يُرِيدُونَنِي، وَلَكِنِّي
مُرْسِلٌ إِلَيْهِمْ لِأَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِي أَنْ
يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ. فَيَدْعُو رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ لَهُ: اِمْضِ
إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقُلْ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَنَا رَسُولُ فُلَانٍ
إِلَيْكُمْ، وَهُوَ يَقُولُ لَكُمْ: إِنَّا أَهْلُ بَيْتِ اَلرَّحْمَةِ، وَمَعْدِنُ
اَلرِّسَالَةِ وَاَلْخِلَافَةِ، وَنَحْنُ ذُرِّيَّةُ مُحَمَّدٍ وَسُلَالَةُ
اَلنَّبِيِّينَ، وَإِنَّا قَدْ ظُلِمْنَا وَاُضْطُهِدْنَا وَقُهِرْنَا وَاُبْتُزَّ
مِنَّا حَقُّنَا مُنْذُ قُبِضَ نَبِيُّنَا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَنَحْنُ
نَسْتَنْصِرُكُمْ فَانْصُرُونَا. فَإِذَا تَكَلَّمَ هَذَا اَلْفَتَى بِهَذَا
اَلْكَلَامِ أَتَوْا إِلَيْهِ فَذَبَحُوهُ بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ، وَهِيَ
اَلنَّفْسُ اَلزَّكِيَّةُ، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ اَلْإِمَامَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ:
أَلَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يُرِيدُونَنَا، فَلَا يَدَعُونَهُ
حَتَّى يَخْرُجَ فَيَهْبِطُ مِنْ عَقَبَةِ طُوًى فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ
عَشَرَ...»(٣٩٤).
٤ - لو لم يكن بيدنا نصٌّ يدلُّ على كيفيَّة معرفته (عجَّل الله فرجه) بزمان خروجه،
فإنَّا نجزم بعد القطع بعصمته وإمامته أنَّ اتِّصاله بالغيب يقتضي أنْ يعلم بزمان
خروجه إذا حان موعده على نحو الجزم.
وليس حصول هذه الأُمور على نحو مانعة الجمع، فقد تجتمع مع بعضها وقد تحصل واحدة
منها.
كيف يمكن لنا أنْ نعرفه (عجَّل الله فرجه) إذا خرج؟
١ - بانطباق العلامات التي تقدَّم الحديث عنها على نحو الجزم أو الاطمئنان، قال
الشيخ النعماني (رحمه الله): (هذه العلامات... وتواترها واتِّفاقها موجبة ألَّا
يظهر القائم (عليه السلام) إلَّا بعد مجيئها وكونها)(٣٩٥).
-----------------
(٣٩٤) بحار الأنوار (ج ٥٢/ ص ٣٠٧/ ح ٨١)، عن سرور أهل الإيمان (ص ٩٣ و٩٤).
(٣٩٥) الغيبة للنعماني (ص ٢٩١).
٢ - أنْ لا يُسئَل عن شيء إلَّا أجاب عنه، كما ورد ذلك عن الإمام الباقر (عليه
السلام): «... وَلَا يُسْئَلُ عَنْ شَيْءٍ بَيْنَ صَدَفَيْهَا إِلَّا
أَجَابَ»(٣٩٦).
٣ - أنْ يظهر الإعجاز على يديه(٣٩٧).
٤ - انتشار العَلَم من نفسه ونطقه للإمام (عليه السلام) بالخروج، وكذا نطق السيف:
* في (كمال الدِّين) بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث طويل جاء فيه:
«... وَهَكَذَا يَكُونُ سَبِيلُ اَلْقَائِمِ (عليه السلام) لَهُ عَلَمٌ إِذَا حَانَ
وَقْتُ خُرُوجِهِ اِنْتَشَرَ ذَلِكَ اَلْعَلَمُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْطَقَهُ اَللهُ
(عزَّ وجلَّ)، فَنَادَاهُ: اُخْرُجْ يَا وَلِيَّ اَلله فَاقْتُلْ أَعْدَاءَ اَلله،
وَلَهُ سَيْفٌ مُغْمَدٌ إِذَا حَانَ وَقْتُ خُرُوجِهِ اِقْتَلَعَ ذَلِكَ اَلسَّيْفُ
مِنْ غِمْدِهِ، وَأَنْطَقَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَنَادَاهُ اَلسَّيْفُ: اُخْرُجْ
يَا وَلِيَّ اَلله فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَقْعُدَ عَنْ أَعْدَاءِ
اَلله...»(٣٩٨).
علامات الظهور من أين جاءت؟ وما هي دلالتها؟
ذُكِرَ لمعرفة ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) عدَّة علامات، وجاءت الأخبار بذكرها،
قال الشيخ المفيد (قدّس سرّه): (قد جاءت الأخبار بذكر علامات لزمان قيام القائم
المهدي (عجَّل الله فرجه) وحوادث تكون أمام قيامه وآيات ودلالات، فمنها: خروج
السفياني، وقتل الحسني...)، ثمّ ذكر العشرات من العلامات إلى أنْ قال: (كما جاءت
بذلك الأخبار، ومن جملة هذه الأحداث محتومة ومنها مشترطة، والله أعلم بما يكون،
وإنَّما ذكرناها على حسب ما ثبت في الأُصول وتضمَّنها الأثر المنقول)(٣٩٩).
-----------------
(٣٩٦) الغيبة للنعماني (ص ٢٤٩ و٢٥٠/ باب ١٣/ ح ٤١).
(٣٩٧) المسائل العشر في الغيبة (ص ١٢٢).
(٣٩٨) كمال الدِّين (ص ١٥٥ و١٥٦/ باب ٧/ ح ١٧).
(٣٩٩) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٦٨ - ٣٧٠).
كما وذكر الشيخ الطبرسي (رحمه الله) عين عبارته المتقدِّمة(٤٠٠).
قال الشيخ النعماني (رحمه الله): (هذه العلامات التي ذكرها الأئمَّة (عليهم السلام)
مع كثرتها واتِّصال الروايات وتواترها واتِّفاقها موجبة ألَّا يظهر القائم (عليه
السلام) إلَّا بعد مجيئها وكونها، إذ كانوا قد أخبروا أنْ لا بدَّ منها، وهم
الصادقون، حتَّى إنَّه قيل لهم: نرجو أنْ يكون ما نُؤمِّل من أمر القائم (عليه
السلام) ولا يكون قبله السفياني، فقالوا: «بَلَى وَاَلله، إِنَّهُ لَمِنَ
اَلمَحْتُومِ اَلَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ»، ثمّ حقَّقوا كون العلامات الخمس التي
أعظم الدلائل والبراهين على ظهور الحقِّ بعدها، كما أبطلوا أمر التوقيت، وقالوا:
«مَنْ رَوَى لَكُمْ عَنَّا تَوْقِيتاً فَلَا تَهَابُوا أَنْ تُكِذِّبُوهُ كَائِناً
مَنْ كَانَ، فَإِنَّا لَا نُوَقِّتُ»، وهذا من أعدل الشواهد على بطلان أمر كلِّ
مَنِ ادَّعى أو ادُّعي له مرتبة القائم ومنزلته، وظهر قبل مجيء هذه
العلامات...)(٤٠١)(٤٠٢).
فما أدقَّها من عبارة، وأخصره من تعبير عن أُمور عديدة.
وبذلك يتبيَّن لنا أنَّ معنى العلامات وماهيَّتها في كونها حوادث تكون قبل قيام
الإمام (عجَّل الله فرجه) أو معه، وتكون دالَّة على ظهوره.
تقسيم العلامات إلى المحتوم وغيره:
ذكرت الروايات عدَّة تقسيمات للعلامات من أهمّها انقسامها إلى المحتومة وغير
المحتومة، وممَّا دلَّ على ذلك:
ما روي عَنْ مُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه
السلام) يَقُولُ:
-----------------
(٤٠٠) تاج المواليد (ص ٧٠ - ٧٤).
(٤٠١) الغيبة للنعماني (ص ٢٩١ و٢٩٢).
(٤٠٢) من أجمل ما تمتاز به المهدويَّة أنَّ الاستدلال عليها متعدِّد الجوانب أو
الجهات، وتُعَدُّ روايات العلامات قبل قيام الإمام (عجَّل الله فرجه) من أدلَّة صحَّتها.
«مِنَ اَلْأَمْرِ مَحْتُومٌ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِمَحْتُومٍ،
وَمِنَ اَلمَحْتُومِ خُرُوجُ اَلسُّفْيَانِيِّ فِي رَجَبٍ»(٤٠٣).
وفي نصٍّ آخر عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ
مُسَمًّى عِنْدَهُ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا أَجَلَانِ: أَجَلٌ مَحْتُومٌ، وَأَجَلٌ
مَوْقُوفٌ»، فَقَالَ لَهُ حُمْرَانُ: مَا اَلمَحْتُومُ؟ قَالَ: «اَلَّذِي لله
فِيهِ اَلمَشِيئَةُ»، قَالَ حُمْرَانُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَجَلُ
اَلسُّفْيَانِيِّ مِنَ اَلمَوْقُوفِ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «لَا
وَاَلله إِنَّهُ لَمِنَ اَلمَحْتُومِ»(٤٠٤).
وفي نصٍّ ثالث: «وَإِنَّ اَلسُّفْيَانِيَّ مِنَ اَلمَحْتُومِ اَلَّذِي لَا بُدَّ
مِنْهُ»(٤٠٥).
وتلاحظ تعريف الإمام (عليه السلام) للمحتوم بأنَّه لا بدَّ منه، وقسمه على كون
السفياني منه.
العلامات المحتومة:
١ - روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسندٍ تامٍّ(٤٠٦) عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ،
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «قَبْلَ قِيَامِ
اَلْقَائِمِ خَمْسُ عَلَامَاتٍ مَحْتُومَاتٍ: اَلْيَمَانِيُّ، وَاَلسُّفْيَانِيُّ،
وَاَلصَّيْحَةُ، وَقَتْلُ اَلنَّفْسِ اَلزَّكِيَّةِ، وَاَلْخَسْفُ
بِالْبَيْدَاءِ»(٤٠٧).
٢ - وروى الشيخ الطوسي (رحمه الله) عَنْ أَبِي حَمْزَةَ اَلثُّمَالِيِّ، قَالَ:
قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ
-----------------
(٤٠٣) الغيبة للنعماني (ص ٣١٠ و٣١١/ باب ١٨/ ح ٢).
(٤٠٤) الغيبة للنعماني (ص ٣١٢ و٣١٣/ باب ١٨/ ح ٥)؛ هذا ولكن الصحيح ما ورد في بحار
الأنوار (ج ٥٢/ ص ٢٤٩/ ح ١٣٣) عن الغيبة للنعماني، وفيه: قَالَ لَهُ حُمْرَانُ: مَا
اَلمَحْتُومُ؟ قَالَ: «اَلَّذِي لَا يَكُونُ غَيْرُهُ»، قَالَ: وَمَا اَلمَوْقُوفُ؟
قَالَ: «هُوَ اَلَّذِي لله فِيهِ اَلمَشِيَّةُ...»، فراجع.
(٤٠٥) الغيبة للنعماني (ص ٣١٣/ باب ١٨/ ح ٦).
(٤٠٦) سوى الحسين بن الحسن بن أبان، ويمكن توثيقه بعدَّة وجوه ذُكِرَت في محلِّها.
أمَّا عمر بن حنظلة فقد تقدَّمت وجوه توثيقه، فراجع.
(٤٠٧) كمال الدِّين (ص ٦٥٠/ باب ٥٧/ ح ٧).
اَلله (عليه السلام): «إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام)
كَانَ يَقُولُ: خُرُوجُ اَلسُّفْيَانِيِّ مِنَ اَلمَحْتُومِ، وَاَلنِّدَاءُ مِنَ
اَلمَحْتُومِ، وَطُلُوعُ اَلشَّمْسِ مِنَ اَلمَغْرِبِ مِنَ اَلمَحْتُومِ»،
وَأَشْيَاءُ كَانَ يَقُولُهَا مِنَ اَلمَحْتُومِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه
السلام): «وَاِخْتِلَافُ بَنِي فُلَانٍ مِنَ اَلمَحْتُومِ، وَقَتْلُ اَلنَّفْسِ
اَلزَّكِيَّةِ مِنَ اَلمَحْتُومِ...»(٤٠٨).
ومنه يظهر أنَّ عدد المحتوم أكثر ممَّا في النصِّ السابق.
هذا، وليُعلَم أنَّه ليس كلُّ ما ورد في نصٍّ هو من علامات الظهور، بل بعضها لعلَّه
من علامات أشراط الساعة.
٣ - وذكرت عدَّة مصادر وعدَّة روايات بأسانيد مختلفة: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا
اَلْأَمْرِ اِنْكِسَافَ اَلْقَمَرِ لِخَمْسٍ تَبَقَّى، وَاَلشَّمْسِ لِخَمْسَ
عَشْرَةَ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَعِنْدَهُ يَسْقُطُ حِسَابُ
اَلمُنَجِّمِينَ»(٤٠٩).
وفي نصٍّ آخر أنَّها آية لم تكن منذ أهبط الله آدم (عليه السلام) أبداً، حتَّى إنَّ
بعضهم أراد أنْ يُصحِّح للإمام (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله،
تَنْكَسِفُ اَلشَّمْسُ فِي آخِرِ اَلشَّهْرِ وَاَلْقَمَرُ فِي اَلنِّصْفِ، فَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِنِّي أَعْلَمُ مَا تَقُولُ، وَلَكِنَّهُمَا
آيَتَانِ لَمْ تَكُونَا مُنْذُ هَبَطَ آدَمُ (عليه السلام)»(٤١٠).
وهذا اللسان قد يدخل في الحتميَّات.
٤ - روى الشيخ النعماني (رحمه الله) بسند تامٍّ عَنْ عَبْدِ اَلمَلِكِ بْنِ
أَعْيَنَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَجَرَى ذِكْرُ
اَلْقَائِمِ (عليه السلام)، فَقُلْتُ لَهُ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَاجِلاً وَلَا
يَكُونَ سُفْيَانِيٌّ، فَقَالَ: «لَا وَاَلله إِنَّهُ لَمِنَ اَلمَحْتُومِ اَلَّذِي
لَا بُدَّ مِنْهُ»(٤١١).
-----------------
(٤٠٨) الغيبة للطوسي (ص ٤٣٥/ ح ٤٢٥).
(٤٠٩) الغيبة للنعماني (ص ٢٨٠/ باب ١٤/ ح ٤٦)، كمال الدِّين (ص ٦٥٥/ باب ٥٧/ ح ٢٥).
(٤١٠) الكافي (ج ٨/ ص ٢١٢/ ح ٢٥٨).
(٤١١) الغيبة للنعماني (ص ٣١٢/ باب ١٨/ ح ٤).
٥ - وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «اَلنِّدَاءُ مِنَ اَلمَحْتُومِ،
وَاَلسُّفْيَانِيُّ مِنَ اَلمَحْتُومِ، وَاَلْيَمَانِيُّ مِنَ اَلمَحْتُومِ،
وَقَتْلُ اَلنَّفْسِ اَلزَّكِيَّةِ مِنَ اَلمَحْتُومِ، وَكَفٌّ يَطْلُعُ مِنَ
اَلسَّمَاءِ مِنَ اَلمَحْتُومِ»، قَالَ: «وَفَزْعَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تُوقِظُ
اَلنَّائِمَ، وَتُفْزِعُ اَلْيَقْظَانَ، وَتُخْرِجُ اَلْفَتَاةَ مِنْ
خِدْرِهَا»(٤١٢).
العلامات غير الحتميَّة:
والمراد من غير الحتمي من العلامات هو ما يمكن أنْ يقع وما يمكن أنْ لا يقع، بخلاف
الحتمي الذي لا بدَّ منه.
روى الشيخ النعماني (رحمه الله) بسندٍ تامٍّ عن الإمام الباقر (عليه السلام) في
حديث طويل ذكر فيه العلامات، جاء فيه: «... أَوَّلُهَا اِخْتِلَافُ بَنِي
اَلْعَبَّاسِ...، وَمُنَادٍ يُنَادِي مِنَ اَلسَّمَاءِ...، فَأَوَّلُ أَرْضٍ
تَخْرَبُ أَرْضُ اَلشَّامِ، ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثِ
رَايَاتٍ: رَايَةِ اَلْأَصْهَبِ، وَرَايَةِ اَلْأَبْقَعِ، وَرَايَةِ
اَلسُّفْيَانِيِّ، فَيَلْتَقِي اَلسُّفْيَانِيُّ بِالْأَبْقَعِ فَيَقْتَتِلُونَ،
فَيَقْتُلُهُ اَلسُّفْيَانِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، ثُمَّ يَقْتُلُ اَلْأَصْهَبَ،
ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا اَلْإِقْبَالَ نَحْوَ اَلْعِرَاقِ،
وَيَمُرُّ جَيْشُهُ بِقِرْقِيسِيَاءَ، فَيَقْتَتِلُونَ بِهَا، فَيُقْتَلُ بِهَا
مِنَ اَلْجَبَّارِينَ مِائَةُ أَلْفٍ، وَيَبْعَثُ اَلسُّفْيَانِيُّ جَيْشاً إِلَى
اَلْكُوفَةِ...، فَيُصِيبُونَ مِنْ أَهْلِ اَلْكُوفَةِ قَتْلاً وَصُلْباً
وَسَبْياً، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَتْ رَايَاتٌ مِنْ قِبَلِ
خُرَاسَانَ...، وَمَعَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ اَلْقَائِمِ...، وَيَبْعَثُ
اَلسُّفْيَانِيُّ بَعْثاً إِلَى اَلمَدِينَةِ، فَيَنْفَرُ اَلمَهْدِيُّ مِنْهَا
إِلَى مَكَّةَ...، حَتَّى يَدْخُلَ مَكَّةَ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ عَلَى سُنَّةِ
مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام)...، فَيَنْزِلُ أَمِيرُ جَيْشِ
اَلسُّفْيَانِيِّ اَلْبَيْدَاءَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ: يَا
بَيْدَاءُ، بِيدِي اَلْقَوْمَ، فَيَخْسِفُ بِهِمْ...»، إلى أنْ يقول: «...
وَاَلْقَائِمُ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ...، فَيَجْمَعُ اَللهُ عَلَيْهِ أَصْحَابَهُ
ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً...»(٤١٣).
-----------------
(٤١٢) الغيبة للنعماني (ص ٢٦١ و٢٦٢/ باب / ح ١١).
(٤١٣) الغيبة للنعماني (ص ٢٨٨ - ٢٩١/ باب ١٤/ ح ٦٧).
وقد ذكر الشيخ المفيد (قدّس سرّه) جملة من العلامات غير الحتميَّة، بل وبعض المحتومة بما نصُّه: (قَدْ جَاءَتِ اَلْأَخْبَارُ بِذِكْرِ عَلاَمَاتٍ لِزَمَانِ قِيَامِ اَلْقَائِمِ اَلمَهْدِيِّ (عليه السلام) وَحَوَادِثَ تَكُونُ أَمَامَ قِيَامِهِ وَآيَاتٍ وَدَلَالَاتٍ، فَمِنْهَا: خُرُوجُ اَلسُّفْيَانِيِّ، وَقَتْلُ اَلْحَسَنِيِّ، وَاِخْتِلَافُ بَنِي اَلْعَبَّاسِ فِي اَلمُلْكِ اَلدُّنْيَاوِيِّ، وَكُسُوفُ اَلشَّمْسِ فِي اَلنِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَخُسُوفُ اَلْقَمَرِ فِي آخِرِهِ عَلَى خِلَافِ اَلْعَادَاتِ، وَخَسْفٌ بِالْبَيْدَاءِ، وَخَسْفٌ بِالمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِالمَشْرِقِ، وَرُكُودُ اَلشَّمْسِ مِنْ عِنْدِ اَلزَّوَالِ إِلَى وَسَطِ أَوْقَاتِ اَلْعَصْرِ، وَطُلُوعُهَا مِنَ اَلمَغْرِبِ، وَقَتْلُ نَفْسٍ زَكِيَّةٍ بِظَهْرِ اَلْكُوفَةِ فِي سَبْعِينَ مِنَ اَلصَّالِحِينَ، وَذَبْحُ رَجُلٍ هَاشِمِيٍّ بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ، وَهَدْمُ سُورِ اَلْكُوفَةِ، وَإِقْبَالُ رَايَاتٍ سُودٍ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ، وَخُرُوجُ اَلْيَمَانِيِّ، وَظُهُورُ اَلمَغْرِبِيِّ بِمِصْرَ وَتَمَلُّكُهُ لِلشَّامَاتِ، وَنُزُولُ اَلتُّرْكِ اَلْجَزِيرَةَ، وَنُزُولُ اَلرُّومِ اَلرَّمْلَةَ، وَطُلُوعُ نَجْمٍ بِالمَشْرِقِ يُضِيءُ كَمَا يُضِيءُ اَلْقَمَرُ ثُمَّ يَنْعَطِفُ حَتَّى يَكَادَ يَلْتَقِي طَرَفَاهُ، وَحُمْرَةٌ تَظْهَرُ فِي اَلسَّمَاءِ وَتَنْتَشِرُ فِي آفَاقِهَا، وَنَارٌ تَظْهَرُ بِالمَشْرِقِ طُولاً وَتَبْقَى فِي اَلْجَوِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَخَلْعُ اَلْعَرَبِ أَعِنَّتَهَا وَتَمَلُّكُهَا اَلْبِلَادَ وَخُرُوجُهَا عَنْ سُلْطَانِ اَلْعَجَمِ، وَقَتْلُ أَهْلِ مِصْرَ أَمِيرَهُمْ، وَخَرَابُ اَلشَّامِ، وَاِخْتِلَافُ ثَلَاثَةِ رَايَاتٍ فِيهِ، وَدُخُولُ رَايَاتِ قَيْسٍ وَاَلْعَرَبِ إِلَى مِصْرَ، وَرَايَاتِ كِنْدَةَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَوُرُودُ خَيْلٍ مِنْ قِبَلِ اَلمَغْرِبِ حَتَّى تُرْبَطَ بِفِنَاءِ اَلْحِيرَةِ، وَإِقْبَالُ رَايَاتٍ سُودٍ مِنَ اَلمَشْرِقِ نَحْوَهَا، وَبَثْقٌ فِي اَلْفُرَاتِ حَتَّى يَدْخُلَ اَلمَاءُ أَزِقَّةَ اَلْكُوفَةِ، وَخُرُوجُ سِتِّينَ كَذَّاباً كُلُّهُمْ يَدَّعِي اَلنُّبُوَّةَ، وَخُرُوجُ اِثْنَيْ عَشَرَ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ كُلُّهُمْ يَدَّعِي اَلْإِمَامَةَ لِنَفْسِهِ، وَإِحْرَاقُ رَجُلٍ عَظِيمِ اَلْقَدْرِ مِنْ شِيعَةِ بَنِي اَلْعَبَّاسِ بَيْنَ جَلُولَاءَ وَخَانِقِينَ، وَعَقْدُ اَلْجِسْرِ مِمَّا يَلِي اَلْكَرْخَ بِمَدِينَةِ اَلسَّلَامِ، وَاِرْتِفَاعُ رِيحٍ سَوْدَاءَ بِهَا فِي أَوَّلِ اَلنَّهَارِ، وَزَلْزَلَةٌ حَتَّى يَنْخَسِفَ كَثِيرٌ مِنْهَا، وَخَوْفٌ يَشْمَلُ أَهْلَ اَلْعِرَاقِ، وَمَوْتٌ ذَرِيعٌ فِيهِ، وَنَقْصٌ مِنَ اَلْأَنْفُسِ وَاَلْأَمْوَالِ وَاَلثَّمَرَاتِ، وَجَرَادٌ يَظْهَرُ فِي أَوَانِهِ وَفِي غَيْرِ أَوَانِهِ
حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى اَلزَّرْعِ وَاَلْغَلَّاتِ،
وَقِلَّةُ رَيْعٍ لِمَا يَزْرَعُهُ اَلنَّاسُ، وَاِخْتِلَافُ صِنْفَيْنِ مِنَ
اَلْعَجَمِ، وَسَفْكُ دِمَاءٍ كَثِيرَةٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَخُرُوجُ اَلْعَبِيدِ
عَنْ طَاعَةِ سَادَاتِهِمْ وَقَتْلُهُمْ مَوَالِيَهُمْ، وَمَسْخٌ لِقَوْمٍ مِنْ
أَهْلِ اَلْبِدَعِ حَتَّى يَصِيرُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَغَلَبَةُ اَلْعَبِيدِ
عَلَى بِلَادِ اَلسَّادَاتِ، وَنِدَاءٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ حَتَّى يَسْمَعَهُ أَهْلُ
اَلْأَرْضِ كُلُّ أَهْلِ لُغَةٍ بِلُغَتِهِمْ، وَوَجْهٌ وَصَدْرٌ يَظْهَرَانِ مِنَ
اَلسَّمَاءِ لِلنَّاسِ فِي عَيْنِ اَلشَّمْسِ، وَأَمْوَاتٌ يُنْشَرُونَ مِنَ
اَلْقُبُورِ حَتَّى يَرْجِعُوا إِلَى اَلدُّنْيَا فَيَتَعَارَفُونَ فِيهَا
وَيَتَزَاوَرُونَ، ثُمَّ يُخْتَمُ ذَلِكَ بِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مَطْرَةً
تَتَّصِلُ، فَتُحْيَا بِهَا اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا، وَتُعْرَفُ
بَرَكَاتُهَا، وَتَزُولُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّ عَاهَةٍ عَنْ مُعْتَقِدِي اَلْحَقِّ
مِنْ شِيعَةِ اَلمَهْدِيِّ (عليه السلام)، فَيَعْرِفُونَ عِنْدَ ذَلِكَ ظُهُورَهُ
بِمَكَّةَ، فَيَتَوَجَّهُونَ نَحْوَهُ لِنُصْرَتِهِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ
اَلْأَخْبَارُ)(٤١٤).
أين يكون الإمام (عجَّل الله فرجه) أوائل ظهوره؟
تذكر الروايات أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) يكون في المدينة، ومنها ما رواه الشيخ
النعماني (رحمه الله) بسند صحيح عن الإمام الباقر (عليه السلام): «... وَيَبْعَثُ
اَلسُّفْيَانِيُّ بَعْثاً إِلَى اَلمَدِينَةِ، فَيَنْفَرُ اَلمَهْدِيُّ مِنْهَا
إِلَى مَكَّةَ، فَيَبْلُغُ أَمِيرَ جَيْشِ اَلسُّفْيَانِيِّ أَنَّ اَلمَهْدِيَّ
قَدْ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَيَبْعَثُ جَيْشاً عَلَى أَثَرِهِ، فَلَا يُدْرِكُهُ
حَتَّى يَدْخُلَ مَكَّةَ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ عَلَى سُنَّةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ
(عليه السلام)...»(٤١٥).
اجتماع الـ(٣١٣):
بعد عدَّة أحداث، ومنها إرسال الإمام (عجَّل الله فرجه) النفس الزكيَّة إلى أهل
مكَّة وقتلهم له، يتحرَّك الإمام (عجَّل الله فرجه)، فقد ورد: «... فَإِذَا بَلَغَ
ذَلِكَ اَلْإِمَامَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ:
-----------------
(٤١٤) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٦٨ - ٣٧٠).
(٤١٥) الغيبة للنعماني (ص ٢٨٨ - ٢٩١/ باب ١٤/ ح ٦٧).
أَلَا أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ أَهْلَ
مَكَّةَ لَا يُرِيدُونَنَا، فَلَا يَدْعُونَهُ حَتَّى يَخْرُجَ فَيَهْبِطُ مِنْ
عَقَبَةِ طُوًى فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً عِدَّةِ أَهْلِ
بَدْرٍ، حَتَّى يَأْتِيَ اَلمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ، فَيُصَلِّي فِيهِ عِنْدَ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَيُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى اَلْحَجَرِ
اَلْأَسْوَدِ، ثُمَّ يَحْمَدُ اَللهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيَذْكُرُ اَلنَّبِيَّ
(صلَّى الله عليه وآله) وَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَمْ
يَتَكَلَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ اَلنَّاسِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يَضْرِبُ عَلَى
يَدِهِ وَيُبَايِعُهُ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ...»(٤١٦).
خطبة الإمام (عجَّل الله فرجه) في مكَّة:
في نصِّ صحيح جاء فيه: «... فَيَقُومُ اَلْقَائِمُ بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ
فَيُصَلِّي وَيَنْصَرِفُ وَمَعَهُ وَزِيرُهُ...»، ثمّ يخطب بالناس وهي خطبة محاججة
يذكر فيها صلته بالأنبياء (عليهم السلام) والقرآن إلى أنْ يقول: «... أَلَا إِنَّا
نَسْتَنْصِرُ اَللهَ اَلْيَوْمَ وَكُلَّ مُسْلِمٍ، وَيَجِيءُ وَاَلله
ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً فِيهِمْ خَمْسُونَ اِمْرَأَةً
يَجْتَمِعُونَ بِمَكَّةَ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، قَزَعاً كَقَزَعِ اَلْخَرِيفِ،
يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً...، يُبَايِعُونَهُ بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ ،
وَمَعَهُ عَهْدُ نَبِيِّ اَلله وَرَايَتُهُ وَسِلَاحُهُ وَوَزِيرُهُ مَعَهُ،
فَيُنَادِي اَلمُنَادِي بِمَكَّةَ بِاسْمِهِ وَأَمْرِهِ مِنَ اَلسَّمَاءِ حَتَّى
يَسْمَعَهُ أَهْلُ اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ، اِسْمُهُ اِسْمُ نَبِيٍّ، مَا أَشْكَلَ
عَلَيْكُمْ فَلَمْ يُشْكِلْ عَلَيْكُمْ عَهْدُ نَبِيِّ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله) وَرَايَتُهُ وَسِلَاحُهُ، وَاَلنَّفْسُ اَلزَّكِيَّةُ مِنْ وُلْدِ
اَلْحُسَيْنِ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ هَذَا فَلَا يُشْكِلُ عَلَيْكُمْ
اَلصَّوْتُ مِنَ اَلسَّمَاءِ بِاسْمِهِ وَأَمْرِهِ...»(٤١٧).
والأحداث كثيرة والبحث في تفاصيلها يُخرِجنا عن رسم الشرح.
بلوغ ملكه جميع الأرض:
فقد روي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «... وَإِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى سَيَجْرِى سُنَّتَهُ
-----------------
(٤١٦) بحار الأنوار (ج ٥٢/ ص ٣٠٧/ ح ٨١)، عن سرور أهل الإيمان (ص ٩٤).
(٤١٧) تفسير العيَّاشي (ج ١/ ص ٦٤ - ٦٦/ ح ١١٧).
فِي اَلْقَائِمِ مِنْ وُلْدِي، فَيُبَلِّغُهُ
شَرْقَ اَلْأَرْضِ وَغَرْبَهَا...، فَيَمْلَأُ اَلْأَرْضَ بِهِ عَدْلاً وَقِسْطاً
كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(٤١٨).
أيُّها الموالي لا تُوقِّت وتُطبِّق ما لم تجزم:
من الطبيعي أنْ يستعجل الإنسان، فهو قد خُلِقَ من عجل، ومن الطبيعي أنْ يستعجل
المؤمن الخير ويسارع إليه، إذ قد ندبه الله تعالى لذلك، لكنَّ في عدَّة روايات ورد
الذمُّ للاستعجال!
من هنا ينفتح أمامنا باب صعب لمن ولجه بغير منهج ودراية، وسهل لمن سار على نهج
الهداية باتِّباعه آثار أهل الولاية.
نحنُ نعلمُ أنَّنا نعيش في زمان غيبة وانتظارٍ، وهي حالة بطبيعتها تورثنا صفة
الترقُّب، فيُولَد لدينا الاستعجال للمترقَّب، وهنا جاء منهج أهل البيت (عليهم
السلام) بذمِّ المستعجلين رغم ممدوحيَّة الانتظار ومحبوبيَّة أنْ يُعجِّل الله
تعالى بفرج العدل الغائب، وأيُّنا يكره أنْ يرى العدل منتشراً؟
إلَّا أنَّه لمَّا كان للاستعجال آفات جسام وأمراض فتَّاكة تُهلِك الإنسان ومَنْ
سار خلفه، فقد جاء النهي من أهل البيت (عليهم السلام) عن الاستعجال موائماً للحالة
التي نعيشها، فنحنُ في زمن التمحيص نعيش بين زوايا ثلاثة:
الأُولى بكذب الوقَّاتين، والثانية بهلاك المستعجلين، والزاوية الثالثة بنجاة
المسلِّمين، وكانت النتيجة: وإلينا يصيرون.
فالوقَّات رغم أنَّه يُنظِّر إلَّا أنَّ الخير جاء بتكذيبه لاستعجاله.
فَعَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اَلله
(عليه السلام)، إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ
-----------------
(٤١٨) كمال الدِّين (ص ٣٩٤/ باب ٣٨/ ح ٤).
مِهْزَمٌ، فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ،
أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا اَلْأَمْرِ اَلَّذِي نَنْتَظِرُ مَتَى هُوَ؟ فَقَالَ: «يَا
مِهْزَمُ، كَذَبَ اَلْوَقَّاتُونَ، وَهَلَكَ اَلمُسْتَعْجِلُونَ، وَنَجَا
اَلمُسَلِّمُونَ»(٤١٩).
أمَّا المنظِّر للاستعجال والمتلبِّس به فهو هالك، لأنَّه سيصير إلى غير أهل البيت
(عليهم السلام) اتِّباعاً وانحرافاً، إذ لم يَأن أوانهم، وهو مستعجل في النتيجة،
فلا بدَّ أن يتَّبع أشخاصاً أُخَر غيرهم، فيكون قد أهلك نفسه وأضلَّ غيره، وهو
الصفة العمليَّة لهذا المرض.
فيما يكون المسلِّم صائراً مع أهل البيت (عليهم السلام)، وهو كما قلنا من معاني
حديث الثقلين في الاتِّباع والتسليم والتمسُّك.
فلِمَ العجلة(٤٢٠) إذا كان غير المستعجل هو الناجي والمستعجل هالك ومنحرف وضالٌّ؟
أفيُعقَل أنْ يطلب العاقل استعجالاً فيه هلاك نفسه ومَنْ يسير خلفه؟
ألَا ينبغي لنا أنْ نتروَّى ونلتمس من معين ما رفدنا به أهل البيت (عليهم السلام)
مخارج نجاة، فنبتعد بذلك عن تيه الأفكار والنظريَّات؟
لا لشيء إلَّا لاستعجال الخير من البسطاء وترويج النظريَّات من غير العلماء، إذ
الصالح العاقل قاصد للنجاة، فلا يُروِّج لنظريَّة باطلة يكون بها ضالّاً لنفسه
ومضلّاً بتصديرها لغيره إلَّا للاستعجال، فلِمَ العجلة؟
التوقيت وأدلَّة ذمِّه:
التوقيت: هو ذكر وقت محدَّد بيوم أو شهر من سنة معيَّنة أو غيرهما من
-----------------
(٤١٩) الكافي (ج ١/ ص ٣٦٨/ باب كراهيَّة التوقيت/ ح ٢).
(٤٢٠) قال الراغب في مفرداته (ص ٣٢٣/ مادَّة عجل): (العجلة طلب الشيء وتحرِّيه قبل
أوانه، وهو من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومة في عامَّة القرآن، حتَّى قيل:
العجلة من الشيطان).
الألفاظ
الدالَّة عليهما، كالعقد والقرن، أو ما يفهم العرف أنَّه تحديد، وهذا يتنافى وما
ذكرته الروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام).
فعن أبي خالد الكابلي يسأل الإمام الباقر (عليه السلام) عن التوقيت، فيُجيبه (عليه
السلام): «... سَأَلْتَنِي وَاَلله يَا أَبَا خَالِدٍ عَنْ سُؤَالٍ مُجْهِدٍ،
وَلَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ أَمْرٍ مَا كُنْتُ مُحَدِّثاً بِهِ أَحَداً، وَلَوْ
كُنْتُ مُحَدِّثاً بِهِ أَحَداً لَحَدَّثْتُكَ...»(٤٢١).
وفي نصٍّ آخر: «... مَنْ أَخْبَرَكَ عَنَّا تَوْقِيتاً فَلَا تَهَابَنَّ أَنْ
تُكَذِّبَهُ، فَإِنَّا لَا نُوَقِّتُ لِأَحَدٍ وَقْتاً»(٤٢٢).
وعندما سُئِلَ الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) عن ذلك، أجاب (عجَّل الله فرجه) في
توقيع إسحاق بن يعقوب: «... وَأَمَّا ظُهُورُ اَلْفَرَجِ فَإِنَّهُ إِلَى اَلله
تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَكَذَبَ اَلْوَقَّاتُونَ»(٤٢٣).
من أدلَّة بطلان التوقيت: ما يمكن أنْ يُستَدلَّ به على بطلان التوقيت من وجوه من
غير ما روي أعلاه أُمور، منها:
١ - الأصل في معرفة المستقبل على نحو الجزم واليقين ممنوعة، لأنَّه من الغيب،
والاطِّلاع عليه ليس متيسِّراً لكلِّ أحد، قال تعالى: ﴿يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ
السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً﴾ (الأحزاب: ٦٣)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ (لقمان: ٣٤).
وفي خصوص الإمام الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه) وظهوره، فقد روي في أنَّه
(عجَّل الله فرجه) من الغيب، وأنَّه (عجَّل الله فرجه) كالساعة، فعن الإمام الرضا
(عليه السلام): «... وَأَمَّا مَتَى فَإِخْبَارٌ عَنِ اَلْوَقْتِ، فَقَدْ
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّ اَلنَّبِيَّ
(صلَّى الله عليه وآله) قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اَلله، مَتَى يَخْرُجُ اَلْقَائِمُ
مِنْ ذُرِّيَّتِكَ؟ فَقَالَ (صلَّى الله عليه وآله): مَثَلُهُ مَثَلُ اَلسَّاعَةِ
اَلَّتِي ﴿لَا
-----------------
(٤٢١) الغيبة للنعماني (ص ٢٩٩ و٣٠٠/ باب ١٦/ ح ٢).
(٤٢٢) الغيبة للنعماني (ص ٣٠٠/ باب ١٦/ ح ٣).
(٤٢٣) كمال الدِّين (ص ٤٨٣ - ٤٨٥/ باب ٤٥/ ح ٤).
يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ [الأعراف: ١٨٧]»(٤٢٤).
٢ - أنَّ الوقت كان معلوماً عند أهل البيت (عليهم السلام)، ولكنَّ الناس أشاعته
وكشفته فرفعه الله تعالى، وممَّا دلَّ على أنَّه كان موجوداً عندهم عدَّة نصوص،
منها:
أ - عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ اَلصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ
اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «قَدْ كَانَ لِهَذَا اَلْأَمْرِ وَقْتٌ، وَكَانَ فِي
سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، فَحَدَّثْتُمْ بِهِ وَأَذَعْتُمُوهُ، فَأَخَّرَهُ
اَللهُ (عزَّ وجلَّ)»(٤٢٥).
ب - عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: قُلْتُ
لَهُ: مَا لِهَذَا اَلْأَمْرِ أَمَدٌ يُنْتَهَى إِلَيْهِ وَيُرِيحُ أَبْدَانَنَا؟
قَالَ: «بَلَى، وَلَكِنَّكُمْ أَذَعْتُمْ فَأَخَّرَهُ اَللهُ»(٤٢٦).
ج - عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ اَلْبَاقِرَ (عليه السلام) يَقُولُ: «يَا
ثَابِتُ، إِنَّ اَللهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَقَّتَ هَذَا اَلْأَمْرَ فِي سَنَةِ
اَلسَّبْعِينَ، فَلَمَّا قُتِلَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام) اِشْتَدَّ غَضَبُ اَلله
فَأَخَّرَهُ إِلَى أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، فَحَدَّثْنَاكُمْ بِذَلِكَ فَأَذَعْتُمْ
وَكَشَفْتُمْ قِنَاعَ اَلسِّتْرِ، فَلَمْ يَجْعَلِ اَللهُ لِهَذَا اَلْأَمْرِ
بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتاً عِنْدَنَا، ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٣٩]»(٤٢٧).
٣ - ما دلَّ على أنَّه لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله تعالى ذلك
اليوم حتَّى يخرج المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهو يدلُّ على تعذُّر التوقيت له
(عجَّل الله فرجه).
وممَّا روي في ذلك ما نقله الشيخ الصدوق (رحمه الله) في باب الوصيَّة من لدن آدم
(عليه السلام) حيث قال: (... وقد وردت الأخبار الصحيحة بالأسانيد القويَّة أنَّ
-----------------
(٤٢٤) كمال الدِّين (ص ٣٧٢ و٣٧٣/ باب ٣٥/ ح ٦).
(٤٢٥) الغيبة للنعماني (ص ٣٠٣/ باب ١٦/ ح ٨).
(٤٢٦) الغيبة للنعماني (ص ٢٩٩/ باب ١٦/ ح ١).
(٤٢٧) الغيبة للنعماني (ص ٣٠٣ و٣٠٤/ باب ١٦/ ح ١٠).
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أوصى بأمر الله تعالى...)، إلى أنْ يقول: (وأوصى
الحسن بن عليٍّ إلى ابنه حجَّة الله القائم بالحقِّ الذي لو لم يبقَ من الدنيا
إلَّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج فيملأها عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت
جوراً وظلماً)(٤٢٨).
فكونه (عجَّل الله فرجه) يخرج حتماً ولو في آخر يوم يكشف عن عدم القدرة على تحديد
هذا اليوم بنحو الجزم والعلم.
تطابق الأسماء لا يعني العلاميَّة:
وقد ادَّعى الانطباق جماعة، ظنًّا منهم أنَّ التطابق في الأسماء أو الصفات أو
الألقاب كاليماني أو الخراساني أو غيرهما كافٍ في إثبات ذلك، فإنَّ المشابهة في
الاسم أو اللقب أو بعض الصفات الجسديَّة غير كافية، إذ يوجد في زمانٍ واحدٍ منها
المئات بل أكثر، فيكون الجزم بها لبعضهم دون غيرهم ترجيح بلا مرجِّح.
وممَّا ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) في مقام تعجُّبهم ممَّن يقوم بتطبيق
الأشخاص والأولياء والأحداث خطأً، ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال:
«قَبْلَ هَذَا اَلْأَمْرِ اَلسُّفْيَانِيُّ وَاَلْيَمَانِيُّ وَاَلمَرْوَانِيُّ
وَشُعَيْبُ بْنُ صَالِحٍ، فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا هَذَا؟!»(٤٢٩)، وذكر المحقِّق في
هامش الحديث تفسيراً له: (أي كيف يقول محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل المعروف بابن
طباطبا: إنِّي القائم؟).
وفي (الغيبة للنعماني) في سؤال ابن حازم للإمام الصادق (عليه السلام) وزعم أحد
المغيريَّة أنَّ محمّد بن عبد الله بن الحسن هو القائم، والدليل على ذلك أنَّ اسمه
اسم النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) واسم أبيه اسم أب النبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله)، فجاء الجواب: إِنْ كُنْتَ تَأْخُذُ بِالْأَسْمَاءِ فَهُوَ ذَا فِي وُلْدِ
اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام) مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلله بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَ
لِي: إِنَّ هَذَا
-----------------
(٤٢٨) من لا يحضره الفقيه (ج ٤/ ص ١٧٧/ ح ٥٤٠٢).
(٤٢٩) الغيبة للنعماني (ص ٢٦٢/ باب ١٤/ ح ١٢).
اِبْنُ أَمَةٍ - يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اَلله بْنِ
عَلِيٍّ -، وَهَذَا اِبْنُ مَهِيرَةٍ - يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اَلله بْنِ
اَلْحَسَنِ بْنِ اَلْحَسَنِ -، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «فَمَا
رَدَدْتَ عَلَيْهِ؟»، فَقُلْتُ: مَا كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ أَرُدُّ عَلَيْهِ،
فَقَالَ: «أَوَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ اِبْنُ سَبِيَّةٍ - يَعْنِي اَلْقَائِمَ
(عليه السلام) -؟»(٤٣٠).
الإمام (عجَّل الله فرجه) هو الساعة:
وممَّا روي في هذا المعنى ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله)، قال: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ اَلْهَمَدَانِيُّ (رضي الله عنه)، قَالَ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اَلسَّلاَمِ بْنِ
صَالِحٍ اَلْهَرَوِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ دِعْبِلَ بْنَ عَلِيٍّ اَلْخُزَاعِيَّ
يَقُولُ: أَنْشَدْتُ مَوْلَايَ اَلرِّضَا عَلِيَّ بْنَ مُوسَى (عليه السلام)
قَصِيدَتِيَ...، بَكَى اَلرِّضَا (عليه السلام) بُكَاءً شَدِيداً، ثُمَّ رَفَعَ
رَأْسَهُ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: «... وَبَعْدَ اَلْحَسَنِ اِبْنُهُ اَلْحُجَّةُ
اَلْقَائِمُ اَلمُنْتَظَرُ فِي غَيْبَتِهِ، اَلمُطَاعُ فِي ظُهُورِهِ، لَوْ لَمْ
يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)
ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فَيَمْلَأَ اَلْأَرْضَ عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ
جَوْراً، وَأَمَّا مَتَى فَإِخْبَارٌ عَنِ اَلْوَقْتِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّ اَلنَّبِيَّ (صلَّى الله عليه
وآله) قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اَلله، مَتَى يَخْرُجُ اَلْقَائِمُ مِنْ
ذُرِّيَّتِكَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): مَثَلُهُ مَثَلُ اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي ﴿لَا
يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ لَا
تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ [الأعراف: ١٨٧]»(٤٣١).
ففي جملة من النصوص ومنها ما تقدَّم أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مَثَله
مَثَل الساعة التي لا يجليها لوقتها إلَّا هو، ولا تأتي إلَّا بغتة، وأنَّ ظهوره
ممَّا يُتوقَّع صباحاً ومساءً، جاء عنصر المفاجئة من أبرز عناصر الظهور، وركَّزت
عليه النصوص مع أنَّ هناك عناصر أُخرى لا ينبغي إغفالها بحال من الأحوال،
-----------------
(٤٣٠) الغيبة للنعماني (ص ٢٣٥/ باب ١٣/ ح ١٢).
(٤٣١) كمال الدِّين (ص ٣٧٢ و٣٧٣/ باب ٣٥/ ح ٦).
الظهور
منظومة تعتمد على عناصر كثيرة وكواشف متعدِّدة من أهمّها الإيمان أنَّ الغيب هو
الفاعل المؤثِّر في الأحداث.
عنصر المفاجأة في الظهور:
عنصر المفاجأة قد نتحيَّر به، ونتحيَّر في فرضه، كما قد نتحيَّر أنَّه (عجَّل الله
فرجه) كيف سيظهر بشكل مفاجئ، وبأنَّ الحدث خارج عن سياقاته الطبيعيَّة، وآثاره لا
يمكن احتسابها في إطار أفضل الإمكانات المتاحة، مثلاً لو نظرنا إلى فايروس كورونا
وما حصل في أيَّامه وأصاب العالم وأقعد الدول المقتدرة عن اتِّخاذ مواقف حقيقيَّة
وأصابها بالعجز والخمول، لماذا؟
لأنَّ عنصر المفاجأة فيه كان سريعاً، وليس معنى ذلك أنَّه لم يكن معلوماً سابقاً،
كيف وقد تقدَّم الحديث بما يناسب عن وضع العلامات له (عجَّل الله فرجه) من قِبَل
أهل البيت (عليهم السلام)؟
شاهد ممَّا شاهدناه من حدث - فايروس كورونا - وكيف وقع وكيف تمَّ التعامل معه، هذا
ينبغي أنْ يُشكِّل لنا نافذة نتعلَّم منها كيفيَّة التعامل مع الأحداث برويَّة وضمن
أُصول معتمدة، وليس بالاعتماد على أفكار ارتجاليَّة وتصرُّفات وليدة الحَدَث.
إذا رجعنا إلى النصوص مرَّةً أُخرى نجدها عالجت نظائر هذه الأحداث بشكل كلِّي،
ووضعت ضوابط محدَّدة لضبط التعامل مع الوقائع الجزئيَّة وفي أيِّ زمان أو مكان
حصلت.
علاميَّة الصيحة بعيدة عن التلاعب:
وليكن معلوماً أنَّ الصيحة من أهمّ العلامات إنْ لم تكن أهمّها، فهي بعيدة عن يد
التلاعب والادِّعاء، لأنَّها سماويَّة ومرتبطة بالغيب مباشرةً، في ذات
الوقت حدَّدت
النصوص محدِّدات غاية في الضبط والإتقان لمن يلاحظها، فهي من حيث الزمان محدَّدة،
ومن حيث الكيف محدَّدة.
فهي بلسان ممثِّل الغيب إلى الأرض جبرئيل (عليه السلام).
وعندما يُسئَل الإمام (عليه السلام) عن السبيل لمعرفة الصيحة المحقَّة من المبطلة،
فإنَّه (عليه السلام) يُجيب أنَّ مَنْ يعرفها هو مَنْ عرف مسبقاً بها!
أي مَنْ تعامل معها وفق الضوابط المحدَّدة من قِبَل أهل الغيب المطَّلعين على
جزئيَّاتها وأدقّ تفاصيلها، وليس من المنطقي أنْ نعرف الصيحة تفصيلاً دون أنْ نعرف
الأحداث الأُخرى المؤثِّرة فيها، أو أنَّها علامة لأجل ماذا، هذا هو معنى المعرفة
ضمن الآليَّات والضوابط - أي من خلال المعرفة بروايات أهل البيت (عليهم السلام)،
ومنه ننطلق إلى فهم عنصر المفاجأة في القضيَّة المهدويَّة حتَّى لا تكون عرضة
للتفسيرات المنفلتة والتطبيقات المستعجلة والانفعاليَّة.
إنَّ القضيَّة المهدويَّة على عاتقها رسم النهاية السعيدة للعالم، والتي تقدَّمها
الآلاف من الأنبياء والصلحاء كلُّهم كانوا في دائرة الإعداد لهذا الحَدَث، فليس من
المنطقي أنْ تُوضَع أدواتها بيد أشخاص انفعاليِّين أو أصحاب نزعات مصلحيَّة، إنَّها
الفاعل الأوَّل في الأحداث وليس المنفعل الأخير المترجَم على لسان الجُهَّال
والمسترسلين، هذا الحَدَث العالمي المشاهد من قِبَلنا جميعاً دون تميُّز في أيِّ
شيء بجميع حيثيَّاته رسالة لفهم تأثير الغيب الفاعل ينبغي أنْ نُدرِكه ونقرأه كما
يُراد لنا قراءته ضمن آليَّاته ومحكماته.
الاستعداد التامُّ لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) بلا توقيت
وتطبيق:
نسمع في المجالس والأندية أنَّ الأحداث تسير باتِّجاه قرب ظهور الإمام (عجَّل الله
فرجه)، وهي مقولة صادقة إلى حدٍّ كبير، فإنَّ الأحداث من زمن الرسول (صلَّى الله
عليه وآله) تسير باتِّجاه النهاية، وإنَّما قبل النهاية هو حتميَّة ظهور الإمام
(عجَّل الله فرجه)، فمن الطبيعي أنْ
يكون لكلِّ حَدَث مدخليَّة في ظهور الإمام
(عجَّل الله فرجه)، ولكنَّ الذي ينبغي أنْ يُلتفَت إليه وبعناية عاملان: الأوَّل
منهما - وهو الأهمّ -: ما هو مقدار حظِّنا من هذه الأحداث إيجاباً في ظهوره (عجَّل
الله فرجه).
ومعنى ذلك أنَّ كلَّ فرد من المؤمنين ينبغي أنْ يكون له دور إيجابي فعَّال، على
المستوى الفردي والنفسي في علاقته مع الإمام (عجَّل الله فرجه)، ومقدار ذلك في
تقريب فرج الإمام (عجَّل الله فرجه)، فضلاً عن أنْ يكون له دور اجتماعي في هذا
الحَدَث الكوني الكبير. وهنا تأتي مرحلة الإعداد والاستعداد، فلا بدَّ على الفرد
أنْ يعدَّ نفسه بشكل دقيق لأنْ يكون عنصراً فعَّالاً ومؤثِّراً بحركة الظهور من
خلال عدَّة عوامل شرعيَّة وأخلاقيَّة وسلوكيَّة، فلا بدَّ أنْ يلتزم بمضامين
الشريعة التزاماً حرفيًّا ولا يحيد عن ذلك، فضلاً عن خُلُقه الرفيع المؤثِّر في
المجتمع، المترجِم كلُّ ذلك إلى سلوك عملي ينهض بالأفراد الآخرين إلى حالة التأسِّي
بهذا الفرد الذي ما انفكَّ يعدُّ نفسه استعداداً للظهور المقدَّس.
فالإنسان المؤمن الذي تقع في رأس قائمة أولويَّاته - بعد نعمة الاتِّباع لأهل البيت
والتسليم لهم والانقياد والطاعة لما صدر عنهم (عليهم السلام) - مسألة الظهور
للحجَّة المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، يبحث عن كلِّ صغيرة وكبيرة تُؤثِّر إيجاباً في
تفعيل هذه العقيدة لدى نفسه، كما أنَّه يسعى جاهداً لإزالة ما يُؤثِّر على ضعفها أو
خمولها فضلاً عن انحسارها بسبب العوامل السلبيَّة، داخليَّة كانت في نفسه، أو
خارجيَّة من محيطه.
تأثير الفرد المهدوي في المجتمع:
أمَّا العامل الآخر فهو عامل اجتماعي، فكما يُطلَب من الفرد أنْ يُؤسِّس لنفسه
عقيدة وثقافة وسلوكاً يُؤثِّر إيجاباً في تعجيل فرج المولى، فكذلك على المستوى
الاجتماعي ينبغي أنْ يكون هذا الفرد مؤثِّراً في تشكيل بيئة مهدويَّة تؤثِّر
إيجاباً في دفع الناس اتِّجاه الاهتمامات المهدويَّة، ونشر ثقافة الانتظار من خلال
المجالس والأندية التي تفتقر كثيراً لهذه الثقافة.
فالفرد الذي أعدَّ لنفسه منهجاً صحيحاً في هذا المضمار لا بدَّ أنْ لا يجعله حبيساً
في أدراج أُفُق النفس، بل لا بدَّ من إخراجه من خلال سلوك يمارسه، أو فكر ينشره،
لتكون بذلك حظوته عند إمامه (عجَّل الله فرجه) كحظوة إبراهيم الخليل (عليه السلام)
عند ربِّه، إذ جُعِلَ أُمَّةً رغم فرديَّته، لأنَّه حمل على مستوى الفكر والسلوك
هموم إنقاذ الأُمّةَ بأسرها من براثن ما كانت تعيشه.
وهكذا المأمول من الفرد المهدوي الذي أعدَّ نفسه إعداداً صحيحاً للظهور.
فكلُّ حَدَث نراه اليوم له مدخليَّة، ولكنَّه لا بدَّ أنْ ينضبط في إطار الشريعة
المقدَّسة، ولا بدَّ أنْ يتحدَّد بحدود ما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام).
وسيأتي عند شرح الفقرة: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَنَفْسِي» ما يرتبط بالمقام من
جهة وجوب نصرته وإنْ قبل قيام دولته.
* * *
يتحدَّث هذا المقطع الندبي المبارك
عن الراية وأهمّيَّتها في أدبيَّات الولاء، حيث تُمثِّل الراية قديماً، بل ولا زالت
رمزاً من رموز العزَّة والإباء، وتُجسِّد عقيدة الانتماء.
أعلام الدول يُضحِّي لأجل رفعتها وعلوِّها الكبار والصغار، ولا يسمحون بإهانتها أو
التجاوز عليها وإنْ كلَّف ذلك المال والنفس.
ليس للراية أو العَلَم أيُّ قيمة إذا جُرِّد عن الإضافة، وتبرز قيمته بما يُضاف
إليه، وإلَّا فلا يعدو مظهر العَلَم الخارجي سوى قطعة قماش ذات قيمة زهيدة ماليًّا،
ولكن بعد إضافته لشيء مقدَّس يتقدَّس بذلك، فإضافتها للوطن يُصيِّرها تُمثِّله،
وإضافتها لشخص يجعلها تُمثِّله، وهكذا.
تُطلَق الراية مجازاً على ذوات وأشخاص بعد انصهارهم في العقيدة أو الفكرة التي
يؤمنون بها، فيكونون راية للحقِّ وعلامة عليه، بهم يُعرَف الحقُّ والهدى والعدل كما
تجسَّد ذلك في كون النبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) علامة للرحمة ومكارم
الأخلاق، وأمير المؤمنين (عليه السلام) علامة للحقِّ والهدى، وكذلك الإمام الحسن
(عليه السلام) علامة للكرم، والإمام الحسين (عليه السلام) علامة للإباء والعزَّة،
والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) علامة للعدل والقسط، وهكذا.
هذا، ولا يخفى أنَّ جميع الأئمَّة (عليهم السلام) هم راية الهدى ومصباح الدجى،
فَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، عَنْ آبَائِهِ
(عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «إِنَّ اَللهَ
عَهِدَ إِلَيَّ عَهْداً، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ بَيِّنْهُ لِي، قَالَ: اِسْمَعْ،
قُلْتُ: سَمِعْتُ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ عَلِيًّا رَايَةُ اَلْهُدَى
بَعْدَكَ، وَإِمَامُ أَوْلِيَائِي، وَنُورُ مَنْ أَطَاعَنِي، وَهُوَ اَلْكَلِمَةُ
اَلَّتِي أَلْزَمَهَا اَللهُ اَلمُتَّقِينَ، فَمَنْ أَحَبَّهُ فَقَدْ أَحَبَّنِي،
وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَقَدْ أَبْغَضَنِي، فَبَشِّرْهُ بِذَلِكَ»(٤٣٢).
فجعل الله تعالى على لسان نبيِّه الكريم (صلَّى الله عليه وآله) الإمام عليًّا
(عليه السلام) راية الهدى وعلامة على الطاعة وحُبِّ المؤمنين له.
إنَّ المقطع الشريف - كما جملة من الروايات - يتحدَّث عن كون الإمام المهدي (عجَّل
الله فرجه) هو ناشر راية الهدى، بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو راية
الهدى لدين محمّد (صلَّى الله عليه وآله) على ما تقدَّم في بيان هداية المهدي وإلى
ماذا يهدي.
-----------------
(٤٣٢) أمالي الطوسي (ص ٢٤٥/ ح ٤٢٨/٢٠).
هذه الراية التي يتحدَّث عنها الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فيقول: «...
أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَللهَ تَعَالَى وَلَهُ اَلْحَمْدُ اِبْتَلَانَا أَهْلَ
اَلْبَيْتِ بِبَلَاءٍ، حَسَنٍ حَيْثُ جَعَلَ رَايَةَ اَلْهُدَى وَاَلْعَدْلِ
وَاَلتُّقَى فِينَا، وَجَعَلَ رَايَةَ اَلضَّلَالَةِ وَاَلرَّدَى فِي
غَيْرِنَا...»(٤٣٣).
هذا، وتحدَّثت أخبار أُخرى عن راية لها قدرة تكوينيَّة بالإضافة لبُعدها العقائدي
في الهداية، فَعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام):
«لَمَّا اِلْتَقَى أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَأَهْلُ اَلْبَصْرَةِ
نَشَرَ اَلرَّايَةَ - رَايَةَ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) -،
فَزَلْزَلَتْ أَقْدَامُهُمْ، فَمَا اِصْفَرَّتِ اَلشَّمْسُ حَتَّى قَالُوا: آمِنَّا
يَا اِبْنَ أَبِي طَالِبٍ...، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ صِفِّينَ سَأَلُوهُ نَشْرَ
اَلرَّايَةِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَتَحَمَّلُوا عَلَيْهِ بِالْحَسَنِ
وَاَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام) وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ (رضي الله عنه)، فَقَالَ
لِلْحَسَنِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ لِلْقَوْمِ مُدَّةً يَبْلُغُونَهَا، وَإِنَّ هَذِهِ
رَايَةٌ لَا يَنْشُرُهَا بَعْدِي إِلَّا اَلْقَائِمُ (صَلَوَاتُ اَلله
عَلَيْهِ)»(٤٣٤).
* * *
«مُؤَلِّفُ شَمْلِ اَلصَّلَاحِ وَاَلرِّضَا»
يتحدَّث هذا المقطع الشريف عن
المهمَّة التي يقوم بها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وتعدُّ من أولى أولويَّات
قيامه بالعدل والقسط، حيث يقوم بجمع الناس وشمل الأُمَّة على كلمة صالحة - كلمة
التوحيد -، وبها يصلح أمر الأُمَّة، ويرضى بعضها على بعض، ويرضى الله تعالى عنها
بهذا.
يقوم (عجَّل الله فرجه) بعد ظهوره وبعد انتشار الفرقة والنزاعات بين الناس بشكل
كبير حتَّى يصعب أنْ تجد فرداً من أفراد الأُمَّة ليس له منازعة في دين أو فكر أو
-----------------
(٤٣٣) مناقب آل أبي طالب (ج ٣/ ص ٣٠٥).
(٤٣٤) الغيبة للنعماني (ص ٣١٩/ باب ١٩/ ح ١).
دنيا، هذا لا يعني أنَّ هذه الحالة لم تكن موجودة مسبقاً إلَّا أنَّها ستكون على
أشدّها قبل أوان ظهوره، فيقوم بالمهمَّة التي ادُّخِرَ من أجلها، وهي لم شمل الناس
والتأليف بينهم.
وفي المقطع دلالة لطيفة على أنَّه لا يقوم بجمع الشمل بين الناس وأفراد الأُمَّة
وحسب، بل إنَّه يقوم بتأليف قلوب هذه الأُمَّة، وكأنَّ المقطع يقول: إنَّ الجمع
الذي سوف يحصل في زمانه ظاهري وواقعي، شمل تراه العين وتأليف وتألف في أعماق النفس
وداخل القلوب.
اعلم أنَّ جمع الناس ليس بالأمر العسير لمن له إمكانات ولديه قدرات، ولكن أنْ يجمع
جميع الناس ويُؤلِّف بين قلوبهم هذه مهمَّة نادرة، قال تعالى: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا
فِي الْأَرضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ﴾ (الأنفال: ٦٣).
وجمع الناس وتأليف قلوبهم يتَّبع الأمر الذي عليه يجتمعون وتتألَّف لأجله قلوبهم،
والمقطع الشريف يُبيِّن أنَّ ما يتألفون عليه هو الصلاح - مطلق الصلاح وعلى مختلف
الأصعدة وفي جميع الميادين -، فإنَّ الاجتماع على كلِّ أمر صلاحٍ هو ما سيقوم به،
وليس ذلك وحسب، بل إنَّهم يقومون بذلك وهم على الرضا والقبول لوجود الإمام المهدي
(عجَّل الله فرجه) بين ظهرانيِّهم، فهو الذي يهديهم إلى هذا الجمع الفريد والنادر،
حيث لم يسبق للكون أنْ شاهد هذه الحالة من الجمع على الصلاح والرضا.
بعض خصائص دولة الصلاح والرضا:
بعد أنْ تضع الحرب أوزارها، بل وفي أثنائها، تبدأ مرحلة بناء الدولة المهدويَّة،
ودلَّت الأخبار على الدولة ومعالمها والأحكام والآثار التي ستتضمَّنها، ومنها:
* إقامة العدل، والحكم بين أهل الأديان في بداية الدولة بكُتُبهم:
وممَّا دلَّ على ذلك ما رواه الشيخ النعماني (رحمه الله) بسنده عَنِ اَلْإِمَامِ
اَلْبَاقِرِ (عليه السلام)، قَالَ: «... إِذَا قَامَ قَائِمُ أَهْلِ اَلْبَيْتِ
قَسَمَ بِالسَّوِيَّةِ، وَعَدَلَ فِي اَلرَّعِيَّةِ، فَمَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ
أَطَاعَ اَللهَ، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَى اَللهَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ
اَلمَهْدِيُّ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ، وَيَسْتَخْرِجُ
اَلتَّوْرَاةَ وَسَائِرَ كُتُبِ اَلله (عزَّ وجلَّ) مِنْ غَارٍ بِأَنْطَاكِيَةَ،
وَيَحْكُمُ بَيْنَ أَهْلِ اَلتَّوْرَاةِ بِالتَّوْرَاةِ، وَبَيْنَ أَهْلِ
اَلْإِنْجِيلِ بِالْإِنْجِيلِ، وَبَيْنَ أَهْلِ اَلزَّبُورِ بِالزَّبُورِ، وَبَيْنِ
أَهْلِ اَلْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَتُجْمَعُ إِلَيْهِ أَمْوَالُ اَلدُّنْيَا مِنْ
بَطْنِ اَلْأَرْضِ وَظَهْرِهَا، فَيَقُولُ لِلنَّاسِ: تَعَالَوْا إِلَى مَا
قَطَعْتُمْ فِيهِ اَلْأَرْحَامَ، وَسَفَكْتُمْ فِيهِ اَلدِّمَاءَ اَلْحَرَامَ،
وَرَكِبْتُمْ فِيهِ مَا حَرَّمَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَيُعْطِي شَيْئاً لَمْ
يُعْطَهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَيَمْلَأُ اَلْأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً وَنُوراً
كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً وَشَرًّا»(٤٣٥).
* اكتمال العقول وانتشار دين الإسلام:
وممَّا دل على ذلك ما رواه الشيخ الكليني (رضي الله عنه) بسنده عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
اَلْبَاقِرِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ اَللهُ يَدَهُ
عَلَى رُؤُوسِ اَلْعِبَادِ، فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ، وَكَمَلَتْ بِهِ
أَحْلَامُهُمْ»(٤٣٦).
وروى الشيخ المفيد (قدّس سرّه): (إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) حَكَمَ
بِالْعَدْلِ، وَاِرْتَفَعَ فِي أَيَّامِهِ اَلْجَوْرُ، وَآمَنَتْ بِهِ اَلسُّبُلُ،
وَأَخْرَجَتِ اَلْأَرْضُ بَرَكَاتِهَا، وَرُدَّ كُلُّ حَقٍّ إِلَى أَهْلِهِ، وَلَمْ
يَبْقَ أَهْلُ دِينٍ حَتَّى يُظْهِرُوا اَلْإِسْلَامَ، وَيَعْتَرِفُوا
بِالْإِيمَانِ، أَمَا سَمِعْتَ اَللهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران:
٨٣]، وَحَكَمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِحُكْمِ دَاوُدَ وَحُكْمِ مُحَمَّدٍ (عليهما
السلام)...)(٤٣٧).
-----------------
(٤٣٥) الغيبة للنعماني (ص ٢٤٢ و٢٤٣/ باب ١٣/ ح ٢٦).
(٤٣٦) الكافي (ج ١/ ص ٢٥/ كتاب العقل والجهل/ ح ٢١).
(٤٣٧) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٨٤).
* كثرة البركات وطول الأعمار:
وممَّا ورد في ذلك ما روي عَنِ اَلمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا
عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ أَشْرَقَتِ
اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَاِسْتَغْنَى اَلْعِبَادُ عَنْ ضَوْءِ اَلشَّمْسِ،
وَذَهَبَتِ اَلظُّلْمَةُ، وَيُعَمَّرُ اَلرَّجُلُ فِي مُلْكِهِ حَتَّى يُولَدَ لَهُ
أَلْفُ ذَكَرٍ لَا يُولَدُ فِيهِمْ أُنْثَى، وَتُظْهِرُ اَلْأَرْضُ كُنُوزَهَا
حَتَّى يَرَاهَا اَلنَّاسُ عَلَى وَجْهِهَا، وَيَطْلُبُ اَلرَّجُلُ مِنْكُمْ مَنْ
يَصِلُهُ بِمَالِهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ زَكَاتَهُ فَلَا يَجِدُ أَحَداً يَقْبَلُ
مِنْهُ ذَلِكَ، اِسْتَغْنَى اَلنَّاسُ بِمَا رَزَقَهُمُ اَللهُ مِنْ
فَضْلِهِ»(٤٣٨).
وَعَنْهُ (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)
بَنَى فِي ظَهْرِ اَلْكُوفَةِ مَسْجِداً لَهُ أَلْفُ بَابٍ، وَاِتَّصَلَتْ بُيُوتُ
أَهْلِ اَلْكُوفَةِ بِنَهْرَيْ كَرْبَلَاءَ»(٤٣٩).
* يُعلِّم الأحكام والقرآن كما نزل:
وممَّا ورد في ذلك ما رواه الشيخ المفيد (قدّس سرّه) أيضاً عَنْ جَابِرٍ، عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قَامَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ
(عليهم السلام) ضَرَبَ فَسَاطِيطَ لِمَنْ يُعَلِّمُ اَلنَّاسَ اَلْقُرْآنَ عَلَى
مَا أَنْزَلَ اَللهُ (جلَّ جلاله)...»(٤٤٠).
* إخراج العلم المكنون وبثُّه بين الناس:
وممَّا ورد في ذلك ما رواه قطب الدِّين الراوندي (رحمه الله) بسنده عَنْ أَبَانٍ،
عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «اَلْعِلْمُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ
جُزْءاً، فَجَمِيعُ مَا جَاءَتْ بِهِ اَلرُّسُلُ جُزْءَانِ، فَلَمْ يَعْرِفِ
اَلنَّاسُ حَتَّى اَلْيَوْمِ غَيْرَ اَلْجُزْءَيْنِ، فَإِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ
أَخْرَجَ اَلْخَمْسَةَ وَاَلْعِشْرِينَ جُزْءاً فَبَثَّهَا فِي اَلنَّاسِ، وَضَمَّ
إِلَيْهَا اَلْجُزْءَيْنِ حَتَّى يَبُثَّهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ جُزْءاً»(٤٤١).
-----------------
(٤٣٨) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٨١).
(٤٣٩) المصدر السابق.
(٤٤٠) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٨٦).
(٤٤١) الخرائج والجرائح (ج ٢/ ص ٨٤١/ ح ٥٩).
* اختلاف حساب السنين ونزول الملائكة على المؤمنين وخدمتهم لهم:
وممَّا ورد في ذلك ما رواه الشيخ المفيد (قدّس سرّه) عَنْ عَبْدِ اَلْكَرِيمِ
اَلْخَثْعَمِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «... تَطُولُ لَهُ
اَلْأَيَّامُ وَاَللَّيَالِي حَتَّى تَكُونَ اَلسَّنَةُ مِنْ سِنِيهِ مِقْدَارَ
عَشْرِ سِنِينَ مِنْ سِنِيكُمْ...»(٤٤٢).
وروى الطبري الشيعي (رحمه الله) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي
اَلْحَسَنِ اَلرِّضَا (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ يَأْمُرُ
اَللهُ اَلمَلَائِكَةَ بِالسَّلَامِ عَلَى اَلمُؤْمِنِينَ، وَاَلْجُلُوسِ مَعَهُمْ
فِي مَجَالِسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ وَاحِدُ حَاجَةً أَرْسَلَ اَلْقَائِمُ مِنْ
بَعْضِ اَلمَلَائِكَةِ أَنْ يَحْمِلَهُ، فَيَحْمِلُهُ اَلمَلَكُ حَتَّى يَأْتِيَ
اَلْقَائِمَ، فَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَرُدَّهُ، وَمِنَ اَلمُؤْمِنِينَ مَنْ
يَسِيرُ فِي اَلسَّحَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَطِيرُ مَعَ اَلمَلَائِكَةِ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَمْشِي مَعَ اَلمَلَائِكَةِ مَشْياً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْبِقُ
اَلمَلَائِكَةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَحَاكَمُ اَلمَلَائِكَةُ إِلَيْهِ،
وَاَلمُؤْمِنُونَ أَكْرَمُ عَلَى اَلله مِنَ اَلمَلَائِكَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يُصَيِّرُهُ اَلْقَائِمُ قَاضِياً بَيْنَ مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ
اَلمَلَائِكَةِ»(٤٤٣).
وروى الشيخ المفيد (قدّس سرّه) عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه
السلام)، قَالَ: «... مِقْدَارُ كُلِّ سَنَةٍ عَشْرُ سِنِينَ مِنْ سِنِيكُمْ
هَذِهِ، ثُمَّ يَفْعَلُ اَللهُ مَا يَشَاءُ»، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ
فِدَاكَ، فَكَيْفَ تَطُولُ اَلسِّنُونَ؟ قَالَ: «يَأْمُرُ اَللهُ تَعَالَى
اَلْفَلَكَ بِاللُّبُوثِ وَقِلَّةِ اَلْحَرَكَةِ، فَتَطُولُ اَلْأَيَّامُ لِذَلِكَ
وَاَلسِّنُونُ»، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اَلْفَلَكَ إِنْ
تَغَيَّرَ فَسَدَ، قَالَ: «ذَلِكَ قَوْلُ اَلزَّنَادِقَةِ...»(٤٤٤).
شبهة حكم المهدي (عجَّل الله فرجه) بغير شريعة الإسلام وجوابها:
قال بعض السلفيَّة: (... بل إنَّ الحكم والقضاء في دولة المنتظَر يُقام على غير
شريعة المصطفى...، إذا قام قائم آل محمّد حكم بحكم داود وسليمان ولا
-----------------
(٤٤٢) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٨١).
(٤٤٣) دلائل الإمامة (ص ٤٥٤ و٤٥٥/ ح ٤٣٤/٣٨).
(٤٤٤) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٨٥).
يسأل
بيِّنة...، ولا يحتاج إلى بيِّنة...، اُنظر كيف يحلم واضعو هذه الروايات - الذين
لبسوا ثوب التشيُّع زوراً وبهتاناً - بدولة تحكم بغير شريعة الإسلام)(٤٤٥).
قلتُ: في مقام دفع هذه الفرية، الحديث يقع في نقاط:
١ - أنَّ النصوص التي ذكرت حكم الإمام (عجَّل الله فرجه) بحكم داود (عليه السلام)
فسَّرت وجه هذا الحكم: «لَا يَسْأَلُ بَيِّنَةً، يُعْطِي كُلَّ نَفْسٍ
حَقَّهَا»(٤٤٦).
ووجه التشبيه بداود أنَّه كان يحكم بعلمه لا يحتاج إلى بيِّنة، كذلك هو (عجَّل الله
فرجه) كما ورد: «حَكَمَ فِيهِمَا بِحُكْمِ اَلله لَا يُرِيدُ عَلَيْهِمَا
بَيِّنَةً»(٤٤٧)، وهذا النصُّ يُفسِّر حكم داود أنَّه حكم الله، ولأنَّه واقعي لا
يحتاج إلى بيِّنة.
٢ - في باب القضاء يجوز للقاضي أنْ يحكم بعلمه فكيف بالمعصوم، وممَّا ورد في ذلك:
أ - قال البهوتي: (وله (صلَّى الله عليه وآله) أنْ يقضي ويفتي وهو غضبان، وأنْ يقضي
بعلمه ويحكم لنفسه وولده، ويشهد لنفسه وولده، ويقيل شهادة مَنْ يشهد له (صلَّى الله
عليه وآله) أو لولده، لحديث خزيمة، ولأنَّه معصوم)(٤٤٨).
ب - قال ابن قدامة: (... بناءً على أنَّ القاضي هل له أنْ يقضي بعلمه؟ على روايتين،
لأنَّ قاضي دمشق أخبره به في علمه، ومذهب الشافعي في هذا كقول القاضي هاهنا)(٤٤٩).
-----------------
(٤٤٥) أُصول مذهب الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة (ج ٢/ ص ٨٧٢).
(٤٤٦) الكافي (ج ١/ ص ٣٩٧ و٣٩٨/ باب في الأئمَّة ݜ أنَّهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم
داود.../ ح ٢).
(٤٤٧) الكافي (ج ٣/ ص ٥٠٣/ باب منع الزكاة/ ح ٥).
(٤٤٨) كشف القناع (ج ٥/ ص ٣٧).
(٤٤٩) المغني (ج ١١/ ص ٤٧٨).
ج - قال ابن رشد: (إنَّ العلماء أجمعوا على أنَّ القاضي يقضي بعلمه)(٤٥٠).
د - قال ابن عبد البرِّ: (... ففي هذا الخبر قضاء عمر بعلمه فيما قد علمه قبل
ولايته)(٤٥١)، وفيه قصَّة ينبغي عدم تفويت مراجعتها.
شبهة أنَّ دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تخالف أحكام
الإسلام:
إنْ قيل: إنَّ دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تخالف أحكام الإسلام في عدَّة
موارد، منها ما نقله هذا المستشكل، قال القفاري: (... وكذلك يُغيِّر منتظَرهم شريعة
الإسلام فيما يتعلَّق بالجزية من أهل الكتاب، وتنصُّ رواياتهم أنَّ منتظَرهم بهذا
المنهج يخالف هدي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فتقول: «وَلَا يَقْبَلُ
صَاحِبُ هَذَا اَلْأَمْرِ اَلْجِزْيَةَ، كَمَا قَبِلَهَا رَسُولُ اَلله (صلَّى الله
عليه وآله)»)، انتهى كلامه.
وليته أكمل الرواية حيث قالت: «وَهُوَ قَوْلُ اَلله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا
تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾ [الأنفال: ٣٩]»(٤٥٢).
ثمّ قال: (ويكفي هذا الاعتراف في تأكيد خروجه عن سُنَّة رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) وتبديله لها عمداً...)(٤٥٣).
والجواب عنها:
١ - أنَّ وضع الجزية من مختصَّات الحاكم المعصوم، فله فرضها وله رفعها.
٢ - أنَّ خصوصيَّة الإمام (عجَّل الله فرجه) في هذا الحكم ظاهرة في النصِّ الذي
بتره صاحب الشبهة، فلخصوصيَّة إظهار الدِّين لا يأخذ الجزية.
-----------------
(٤٥٠) بداية المجتهد (ج ٢/ ص ٣٨٥).
(٤٥١) الاستذكار (ج ٧/ ص ٩٥).
(٤٥٢) تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٦٠/ ح ٤٩).
(٤٥٣) أُصول مذهب الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة (ج ٢/ ص ٨٧١ و٨٧٢).
٣ - أنَّ هناك نصوص أُخرى تدلُّ على أنَّ اليهودي والناصبي وغيرهم يعطون
الجزية(٤٥٤)، فإذا لم تُقيَّد تلك بزمان معيَّن، فالتعارض ثمّ التساقط وترجع للأصل
في المسألة.
شبهة أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سيُغيِّر كتاب الله
(عزَّ وجلَّ):
إنْ قيل: كيف يُسوَّغ لكم متابعة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وهو سيُغيِّر
كتاب الله تعالى، وهذا ما قاله نفس المستشكل السابق: (وتصف روايات أُخرى عندهم ما
يقوم به منتظَرهم من محاولة لصرف الناس عن القرآن بدعوى أنَّه محرَّف، وإخراج كتاب
آخر مخالف له، وسعيه لتضليل الناس بدعوى أنَّ كتابه هو الكتاب الكامل الذي أُنزل
على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وقيام (العجم) بالسعي لنشره بين الناس،
وتعليمهم إيَّاه، ومواجهتهم صعوبة بالغة لتغيير ما في أفئدة الناس وأذهانهم من كتاب
الله...، أنَّها تفصح عن مكنون نفوس واضعيها وأهدافها ضدَّ شريعة الإسلام...، وأنَّ
منازعتهم لحكم ولاة المسلمين...، يرمي إلى إزالة الحكومة الإسلاميَّة لإقامة دولة
أُخرى في مكانها تحكم بحكم القائم الموعود)(٤٥٥).
ويقول: (... وهكذا يقوم المزعوم بأمر جديد، وكتاب جديد، وسُنَّة جديدة، وقضاء
جديد...)(٤٥٦).
والجواب عنهما:
١ - لنسأل صاحب الشبهة: ألم تروِ مصادر الحديث عندك: «يُوشَك الإسلام أنْ يُدرَس
فلا يبقى إلَّا اسمه، ويُدرَس القرآن فلا يبقى إلَّا رسمه»(٤٥٧)،
-----------------
(٤٥٤) راجع: تفسير فرات الكوفي (ص ٢٩٢ و٢٩٣/ ح ٣٩٥/٨).
(٤٥٥) أُصول مذهب الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة (ج ٢/ ص ٨٧٤).
(٤٥٦) أُصول مذهب الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة (ج ٢/ ص ٨٨٢ و٨٨٣).
(٤٥٧) كنز العُمَّال (ج ١١/ ص ١٨١/ ح ٣١١٣٧).
وفي نصٍّ آخر:
«يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلَّا اسمه، ولا من القرآن إلَّا
رسمه»(٤٥٨)؟
فما معنى اندراس القرآن والإسلام وعدم بقاء شيء منهما؟ والنصُّ الآخر يُعبِّر: «لا
يبقى»، فهل مَنْ يُرجِع الإسلام إلى عهد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يكون قد
أتى بدين جديد؟!
روى مسلم في صحيحه: «إنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ»(٤٥٩)، مع أنَّ
عدد المسلمين الآن أضعاف مضاعفة بالقياس إليه حينما بدأ، فليست الغربة المقصودة هنا
غربة عدد وإنَّما غربة أحكام وتعاليم، وهو ما يُؤكِّد أنَّ المهدي (عجَّل الله
فرجه) عندما يخرج هو الذي سيُرجِع الإسلام جديداً، ويُخرجه من غربته ويُعيد سُنَّة
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) كما صدرت منه.
فما سيأتي به الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) نحن مذعنون له مسلِّمون به، لأنَّ
ساكن السماء قبل ساكن الأرض عنه راضٍ.
وقد كان بإمكان صاحب الشبهة أنْ يراجع تفسير الآية: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ﴾ (التوبة: ٣٣)، في كُتُبه ليعرف ما يقوم به المهدي (عجَّل الله فرجه)(٤٦٠).
والغريب أنَّ هؤلاء يتَّهموننا بما في كُتُبهم، وكأنَّ هناك داءً فيهم لا دواء له،
وقد لاحظنا في شُبُهات مرَّت نظير هذا.
يقول الطبري: (... ذلك عند خروج عيسى حين تصير المِلَل كلُّها واحدة...، إذا خرج
عيسى (عليه السلام) اتَّبعه أهل كلِّ دين)(٤٦١)، فلا ينقضي العجب أنَّ
-----------------
(٤٥٨) خلق أفعال العباد للبخاري (ص ٤٨).
(٤٥٩) صحيح مسلم (ج ١/ ص ٩٠).
(٤٦٠) يُراجَع: تفسير الطبري، والسمعاني، والواحدي، والثعلبي، وغيرها.
(٤٦١) تفسير الطبري (ج ١٠/ ص ١٥٠).
المهدي
(عجَّل الله فرجه) إذا قضى بحكم داود (عليه السلام) صار يهوديًّا وعلمانيًّا وماسونيًّا، أمَّا إذا اتَّبعوا عيسى (عليه السلام) فهم موحِّدون مسلمون، ولا أدري
لماذا عيسى وليس المهدي؟!
٢ - الإسلام الجديد والكتاب الجديد والقضاء الجديد، هو على مَنْ لم يسمع به يكون
جديداً وليس ابتداعاً في الدِّين، وهو إنَّما جاء لنشر الدِّين وهداية الكون إليه.
وهو جديد لأنَّ الناس لم يُطبِّقوه بشكل صحيح وإنْ كان أصله موجوداً بين
ظهرانيِّهم.
* * *
«أَيْنَ اَلطَّالِبُ بِدَمِ اَلمَقْتُولِ بِكَرْبَلَاءِ»
هذا المقطع الندبي هو مقطع الحزن
والعاطفة، وفي ذات الوقت هو بصيص الأمل للمحزونين المكلومين والمظلومين، والذي من
خلال الإيمان بما سيتحقَّق على يد المنتقم، فإنَّهم يأملون في أنْ يبصر كلُّ مؤمن
مظلوم في المستقبل تحقُّق الوعد الإلهي في تجسيد الوفاء بالاقتصاص.
ومن المعلوم أنَّ تحقُّق النتائج مرهون بالمقدَّمات المستقيمة والمفاهيم الصحيحة.
وأنَّ أيَّة عمليَّة إصلاح لا بدَّ أنْ تأخذ في مسارها بُعدين:
البُعد المفاهيمي: وهذا ما قام به الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله).
والبُعد العملي: المتمثِّل بسلوك الإمام الحسين (عليه السلام) حيث خرج يطلب الإصلاح
في أُمَّة جدِّه (صلَّى الله عليه وآله) بعد انحراف المفاهيم ليترتَّب على هذا
انحراف
السلوك على أيدي أصحاب الأغراض النفعيَّة، فتمثَّلت ثورة الحسين (عليه
السلام) بعمليَّة إرجاع المفاهيم الإنسانيَّة والإسلاميَّة إلى نصابها الصحيح من
خلال عمليَّة الإصلاح التي خرج (عليه السلام) من أجلها.
ليكتمل كلُّ ذلك على يد صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه).
ومن هذا المنطلق يجب أنْ نفهم القضيَّة الحسينيَّة وارتباطها بالقضيَّة المهدويَّة.
إشكاليَّة الثأر بطلب دم الإمام الحسين (عليه السلام)
من قِبَل الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه):
تدلُّ جملة من الروايات الشريفة على أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عندما
يخرج سيطلب بالقصاص والثأر من قتلة الإمام الحسين (عليه السلام)، وواجهت هذه
الروايات جملة من النقود، وحاولت أنْ تُوجِد بيئة تستهدف مفهوم الثأر إلى الحدِّ
الذي يُوجِب التشنيع والاستهجان على مَنْ يستعمل هذا المفهوم.
وفي ثنايا شرح هذه الفقرة نقوم بتسليط الضوء بشكل مناسب لما يُثار حول مقولة الثأر
ودفع ما أُثير عليها.
الثأر: (الطلب بالدم، وقيل: الدم نفسه...)(٤٦٢).
والظاهر أنَّ مفهوم الثأر يختلف عند المجتمعات رغم أنَّه من أقدمها لديهم.
ولعلَّ الأنسب أنْ يقال: الثأر حقٌّ عند شخص أو جهة يُؤخَذ قصاصاً.
ويُعَدُّ الأخذ بالثأر - ضمن نطاق (الجروح قصاص) - من العادات الاجتماعيَّة، فلا
تخلو أُمة من وجود حالات الثأر، يتجلَّى ذلك بأدنى مطالعة لتاريخ الأُمَم القديم
والحديث، فإنَّ مفردة الثأر من أدبيَّات كلِّ أُمَّة، وما ينبغي أنْ يقال: هل هو
ثأر انتقام أم ثأر نظام؟
-----------------
(٤٦٢) لسان العرب (ج ٤/ ص ٩٧/ مادَّة ثأر).
فثأر أُمَّة للدفاع عن عرضٍ مغتصب هو ثأر مقدَّس ودفاع مشروع، وثأر أُمَّة للدفاع
عن السيادة والعَلَم والوطنيَّة والأمن ومقام الجلالة وما إلى ذلك هو دفاع مشروع
تقرُّه القوانين ويتبعه العقلاء في كلِّ البلدان. وكما أنَّ للدول مقدَّسات، وكذا
للنُّظُم الاجتماعيَّة والعقلائيَّة سيادة وهيبة، كذلك توجد مقدَّسات للنُّظُم
الدِّينيَّة والدساتير الشرعيَّة، والأشخاص القائمون على حفظ هذا النظام - أبرزهم
الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) - فانتهاك حقوقهم والتعدِّي عليهم من أوضح
مصاديق انتهاك السيادة الدِّينيَّة، والمطالبة بحقوقهم - أخذ الثأر - من أوضح
مصاديق الدفاع المقدَّس وحفظ النظام.
الثأر عند الأمَم ومراحل تطوُّره:
ثقافة الثأر في المجتمعات من القضايا الواضحة، فإنَّ التاريخ البشري شهد العديد من
الصراعات التي نجمت عن طلب الثأر، وهذا الثأر نجم عنه صراع آخر، وهكذا.
فالثأر غريزة بشريَّة لا يخلو منها أحد، وإنْ كان العقلاء والحكماء يُروِّضون هذه
الغريزة ويجعلونها في دائرة النفع والفائدة.
ثقافة الثأر موجودة لدى جميع المجتمعات الإنسانيَّة، نعم هي تتعنون بعنوان القانون
فتكون قصاصاً، وبعنوان الانتقام فتكون ثأراً، فلولا الثأر القانوني أو الانتقامي
لما انتظمت الحياة ولأصبحت غابة، ولكان الطغاة والمجرمون والسُّرَّاق هم السادة على
البشريَّة.
نعم تجاوُزُ الحدِّ في الانتقام خلَّف العديد من الكوارث في الصراعات وعلى جميع
الجغرافيات.
فإذا قرأنا التاريخ الإنساني فإنَّنا لا نجد أيَّ استثناء، فلم يخلُ زمان أو مكان
من حوادث الثأر.
حتَّى في التاريخ الحديث للأُمَم التي تدَّعي الرقيَّ والتطوُّر نجد حالات الثأر
والانتقام بوضوح، ويكفي في هذا الصدد ما حصل من قِبَل الأمريكيِّين مع اليابانيِّين
والانتقام منهم بسبب الهجوم على (بيرل هاربور)(٤٦٣). كما أنَّ أغلب ما قام به
النازي هتلر هو عمليَّات ثأر وانتقام لما لحق بألمانيا من ذلٍّ وهوان في معاهدات
سابقة، وهكذا لمن يتصفَّح تاريخ الأُمَم الأُوروبيَّة والأمريكيَّة وغيرها سواء
الحديثة منها أم القديمة(٤٦٤).
أمَّا الأمثلة على واقع ذلك في القبائل العربيَّة التي كان يحكمها النظام القبلي
فكثيرة، قد سطرها التراث الشعري والنثري للعرب قبل الإسلام، أمَّا بعده فمَنْ
تسلَّط على رقاب المسلمين بعد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) جسَّد مبدأ الثأر
والانتقام من العائلة النبويَّة بوضوح، وواقعة الطفِّ أجلى مصداق.
هذا من أجل مصاديق الظلم والخروج عن الحق.
ويبدو أنَّه عندما نرجع إلى أوَّليَّات مبدأ الثأر نجد أنَّه وُضِعَ كقانون يحمي
الفرد من أنْ يُؤخَذ غيلةً وغدراً من قِبَل أقرب مقرَّبيه(٤٦٥).
فنظام الثأر قانون يحمي الفرد، وتطوَّر بتطوُّر الأفراد والمجتمعات، فتوسَّع ليدخل
في نطاق العشيرة أو القبيلة أو السلطة لكي تحميه من وقوع الأذى والإهانة أو
التعدِّي على حقوقه أو الاعتداء عليه، فالثأر الذي سنَّه الأفراد لحفظ نفوسهم
وممتلكاتهم واعتباراتهم، تطوَّر إلى قانونٍ عامٍّ ينشده وينادي به الجميع
-----------------
(٤٦٣) غارة جويَّة نفَّذتها القوَّات اليابانيَّة عام (١٩٤١م) على الأُسطول
الأمريكي في المحيط الهادئ، أسفر الهجوم عن قتل ما يقرب من (٣٠٠٠) شخص، فكان الردُّ
الأمريكي ثأراً قاسياً.
(٤٦٤) تشير بعض الدراسات إلى أنَّ خُمُس الكرة الأرضيَّة كان يعيش النزاعات وحروب
الأخذ بالثأر في منتصف القرن الماضي.
(٤٦٥) الثأر طبيعة بشريَّة أم نظام اجتماعي للدكتور قاسم عبده قاسم، مقال منشور من
قِبَل دار عين للدراسات، بتصرُّف.
ليُحقِّق
العدالة لهم، فعامل حفظ التوازن في هذه الحياة يكمن في القانون الذي ترجع بنيته إلى
حفظ الحقوق المتمثِّل بأخذ الثأر ممَّن يتطاول على الآخرين بعقوبات جزائيَّة مختلفة
حسب القوانين والأعراف والتقاليد، فالثأر في وجه من وجوهه هو في الحقيقة الوجه غير
المرئي للقصاص الذي به حياة الأفراد والمجتمعات.
الثأر مقولة حقٍّ:
قال تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾
(الإسراء: ٣٣)، وقال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة: ١٧٩)، وقال
تعالى: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ (المائدة: ٤٥).
يظهر من هذه الآيات وأمثالها أنَّ شرع الإسلام - بل كلُّ شرع - قد سنَّ في قانونه
نظام العقوبة، بل إنَّ العقوبة هي حياة النظام، ولإقامة نظام القصاص أُصول وقواعد
من الشهود والبيِّنات والتثبُّت في إثبات الحقوق، ثمّ يأتي دور القصاص في استرداد
الحقوق.
الثأر والقصاص عند أهل الكتاب:
الكتاب المقدَّس يقول الكثير بشأن الانتقام، وتحمل الكلمات العبريَّة واليونانيَّة
المترجمة (نقمة) أو (انتقام) أو (ثأر) فكرة العقاب في معناها الأصلي، وممَّا ورد
بشأن ذلك في وصيَّة الربِّ لموسى وأمره بالانتقام: (وأمر الربُّ موسى: انتقم نقمة
لبني إسرائيل من المديانيِّين)(٤٦٦)، وفي سفر صموئيل الأوَّل (١٤ - ٣٢): (وثار
الشعب على الغنيمة، فأخذوا غنماً وبقراً وعجولاً، وذبحوا على الأرض
-----------------
(٤٦٦) موقع إجابات أسئلة كتابيَّة (gotquestions)، حول سؤال: (ماذا يقول الكتاب المقدَّس بشأن الانتقام؟).
وأكل الشعب على
الدم)، وتنقل لنا بعض عبارات المزامير عبارات الانتقام: (خاصم يا ربِّ مخاصمي، قاتل
مقاتلي، امسك مجناً وترساً وانهض إلى معونتي، واشرع رمحاً وصدَّ تلقاء مطاردي، اقض
لي يا الله، وخاصم مخاصمي، بك ننطح مضايقينا بسمك ندوس القائمين علينا)(٤٦٧).
وفي معجم اللَّاهوت الكتابي يقول: (الانتقام في لغتنا اليوم يعني إيقاع العقاب على
التعدِّي بالردِّ على الشرِّ بالشرِّ، أمَّا في لغة الكتاب فيشير الانتقام أوَّلاً
إلى استعادة البرِّ، وإلى الانتصار على الشرِّ... كان على أعضاء القبيلة، في
المجتمعات الرُّحَّل التي كان إسرائيل منها عند نشأته، أنْ يتبادلوا تولِّي الحماية
والدفاع عن ذواتهم، أمَّا عند حدوث قتل إنسان فكان وليُّ الدم ويُعرَف عندهم باسم (جويل)
هو الذي يأخذ بثأر القبيلة فيقتل القاتل (عدد ٣٥/٢١) غير أنَّه بجانب باعث التضامن،
كان ثَمَّة اقتناع بأنَّ الدم المسفوك، كدم هابيل، يقتضي الثأر (راجع: تكوين ٤/١٠،
أيُّوب ١٦/١٨) على هذا النحو كان ينبغي صيانة العدل، وحتَّى بعد أنْ صار إسرائيل
شعباً حضريًّا فقد حافظ على هذه العادة (راجع: صموئيل ٣/٢٢ - ٢٧)، وقد يقال عن يوم
الربِّ: إنَّه يوم الانتقام (إرميا ٤٦/١٠)، حينئذٍ سيثأر الله للعدل كما سيثأر
لشرفه، وبهذا المعنى يمكن القول بأنَّ الله وحده يستطيع أنْ ينتقم (لنفسه) برٌّ،
عدل، خلاص، انتقام: ذلك ما سيأتي به يوم الربِّ (إشعيا ٥٩/ ١٧ - ١٨)، فبقدر ما يكون
شعب إسرائيل أميناً على العهد، يستطيع أنْ يرفع شكواه إلى (جويل) إلى (إله النقمات))(٤٦٨).
-----------------
(٤٦٧) المزمور (٤٤/٥) و(٤٣/١) و(٣٥/١ - ٣).
(٤٦٨) في موقع البشارة، الموسوعة المسيحيَّة العربيَّة الإلكترونيَّة.
روايات القصاص في كتاب (وسائل الشيعة)(٤٦٩):
ومن بين تلك الأحاديث الكثيرة التي تضمَّنتها الأبواب الآنفة الذكر:
١ - عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلاً ضَرَبَ
رَجُلاً سَوْطاً لَضَرَبَهُ اَللهُ سَوْطاً مِنْ نَارٍ»(٤٧٠).
٢ - وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ١٧٩]، «...
لِأَنَّ مَنْ هَمَّ بِالْقَتْلِ فَعَرَفَ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ فَكَفَّ
لِذَلِكَ عَنِ اَلْقَتْلِ كَانَ ذَلِكَ حَيَاةَ اَلَّذِي هَمَّ بِقَتْلِهِ،
وَحَيَاةً لِهَذَا اَلْجَانِي اَلَّذِي أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ، وَحَيَاةً
لِغَيْرِهِمَا مِنَ اَلنَّاسِ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ اَلْقِصَاصَ وَاجِبٌ لَا
يَجْتَرُونَ عَلَى اَلْقَتْلِ مَخَافَةَ اَلْقِصَاصِ»(٤٧١).
٣ - وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) فِي حَدِيثٍ يَقُولُ فِيهِ
اَلرَّاوِيُّ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ قَتَلَهُ اَلْقِصَاصُ، لَهُ دِيَةٌ؟ فَقَالَ:
«لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْ أَحَدٍ»، وَقَالَ: «مَنْ قَتَلَهُ
اَلْحَدُّ فَلَا دِيَةَ لَهُ»(٤٧٢)، وفي نصٍّ آخر: «مَنِ اُقْتُصَّ مِنْهُ فَهُوَ
قَتِيلُ اَلْقُرْآنِ»(٤٧٣).
وهذه الأحاديث ظاهرة، بل بعضها صريح في أنَّ الشريعة الإسلاميَّة أقرَّت القصاص،
وأنَّ به حياة الناس ونظام المجتمع وردعاً للاعتداء، وأنَّها نظَّمت عمليَّة العقاب
وردع المخالفة وحفظ النظام الفردي والاجتماعي بدقَّة عالية، ووضعت لكلِّ اعتداء
مهما صغر حجمه عقاباً يناسبه وبعقوبات مختلفة ذكرتها الروايات مفصَّلاً، وأشارت
النصوص السابقة إلى بعض منها.
-----------------
(٤٦٩) وسائل الشيعة (ج ٢٩/ ص ٩ - ٤٠٤).
(٤٧٠) وسائل الشيعة (ج ٢٩/ ص ٢٢ و٢٣/ ح ٣٥٠٥٥/٧).
(٤٧١) وسائل الشيعة (ج ٢٩/ ص ٥٣ و٥٤/ ح ٣٥١٣٤/٦).
(٤٧٢) وسائل الشيعة (ج ٢٩/ ص ٦٣/ ح ٣٥١٥٧/١).
(٤٧٣) وسائل الشيعة (ج ٢٩/ ص ٦٤/ ح ٣٥١٥٨/٢).
الثأر وعقوبة الإعدام في مسلاَّت القوانين:
نعتمد في هذه القراءة على ما صدر من الأُمَم المتَّحدة في إطار سلسلة اجتماعات -
بين عامي (٢٠١٢ - ٢٠١٤م) - عقدتها المفوضيَّة السامية لحقوق الإنسان، تناولت فيها
عقوبة الإعدام وخلفيَّاتها وما إلى ذلك، وجاء من ضمن البحوث المنشورة(٤٧٤) بحث حمل
عنوان (أديان العالم وعقوبة الإعدام) نقتبس منه عدَّة مواضع:
عند البوذيَّة: (... تشير الأدلَّة إلى أنَّ معظم دول جنوب شرق آسيا طبَّقت عقوبة
الإعدام قبل وقت طويل منذ نشوء البوذيَّة وانتشارها في الهند في فترة (٤٠٠) إلى
(٥٠٠) سنة قبل الميلاد).
(توموكو ساساكي)، وهو عضو سابق في البرلمان الياباني تناول موضوع القصاص بقوله:
(يُعَدُّ القصاص أحد التعاليم الأساسيَّة في البوذيَّة اليابانيَّة، فإذا ما ارتكب
شخص عملاً شرِّيراً فعليه أنْ يُكفِّر عن ذلك من حياته، فإذا أزهقت روحاً فعليك أنْ
تُقدِّم حياتك مقابل ذلك).
يقول (شريلا برابهوبادا) مؤسِّس حركة (هاري كريشنا): (إنَّ السبب وراء معاقبة
القاتل بالقتل هو كي لا يعاني في حياته الأُخرى الذنب العظيم الذي اقترفه...).
مقوِّمات بناء الدولة في الإسلام وعلاقتها بما جرى على سيِّد
الشهداء (عليه السلام):
جاء الإسلام كشريعة مكمِّلة لما سبق من الشرائع، وامتدادٍ لها لبناء
-----------------
(٤٧٤) الابتعاد عن عقوبة الإعدام (الحُجَج، التوجُّهات، الآفاق) لإيفان شيمونوفيتش (ص ١٧٥ - ١٨٥). يُراجَع بحث أديان العالم وعقوبة الإعدام لماريو مارازيتي، المتحدِّثة باسم جمعيَّة سانت إيجيدو، وعضو حالي في البرلمان الإيطالي.
الإنسان، حيث
تكفَّلت قوانينه بجميع مناحي الحياة، فما من حادثة أو حركة إلَّا ولها الحكم
المناسب والتقنين الذي يتكفَّل حفظ الحقوق والواجبات.
فمنذ بدايات الإسلام، كان دور النبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) في بناء
المسلمين يقوم على أساس كون الإسلام ديناً يُنظِّم الحياة، وما إنْ وطأت قدماه
الشريفتان المدينة المنوَّرة حتَّى شرع ببناء الأُسُس التي تقوم عليها الدولة،
وتسلَّم هو بنفسه المناصب القياديَّة العليا من القضاء والإدارة المدنيَّة
والعسكريَّة والماليَّة، وبنى المنظومة الفكريَّة والاجتماعيَّة والأخلاقيَّة
والعقائديَّة للمسلمين، وفي ظرف (١٠) سنوات أصبحت دولته من أقوى الدول وأعدلها
وأحفظها لحقوق الإنسان وكرامته، وهيَّأ أفضل السُّبُل وأسهلها لبسط العدل وأخذ
الحقوق والالتزام بالواجبات، منطلِقاً من منظومة إلهيَّة متكاملة أعطته الصلاحيَّات
الكاملة.
ولنا أنْ نسأل: ما هي مقوِّمات بناء الدولة التي أرادها الإسلام وأسَّس لها النبيُّ
الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)؟
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ من المقوِّمات الأساسيَّة لأيِّ دولة هو وجود شعب وأرض
وسلطة، إذ لا يمكن قيام دولة بدونها، والسلطة هي التي تُنظِّم شؤون الشعب على تلك
الأرض ضمن أنظمة وقوانين وعلى مستويات مختلفة، وبمقدار حفظ الدولة للعدل تتميَّز،
وبمقدار إخفاقها فيه تنحدر وتتلاشى.
انحراف مسار الدولة بعد رحيل النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله):
بعد النبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) تعرَّض المسلمون إلى انتكاسة كبيرة من
عدَّة جهات، ومنها تنصيب مَنْ ليس بأهل لإدارة شؤون الدولة، ومن هذا المنطلق
تأسَّست لدى المسلمين جملة من المفاهيم الخاطئة والمنحرفة عن جادَّة العدل في بناء
الدولة.
استُبدِلَت مفاهيم (العدل، القسط، حرمة الظلم، كره الظالمين) بمفاهيم مغايرة لها
تماماً «تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ،
فَاسْمَعْ وَأَطِعْ»(٤٧٥)، حتَّى إنَّ جملة من الصحابة وبعد واقعة الحَرَّة في
المدينة وتسلُّط يزيد ابن معاوية على الرقاب - وأخذه البيعة من المسلمين على أنْ
يكونوا عبيداً -، وأنَّ الخروج عليه وخلع طاعته يوجب الميتة الجاهليَّة.
فدخل الإسلام في حالة من غياب الوعي لم يستفق منها الأغلبُ إلى يومنا هذا، حيث
بُنيت المنظومة المعرفيَّة والسلوكيَّة تحت نظر الحاكم الظالم وسياطه.
ولعلَّ أغلب ما يُثار حول الإسلام في زماننا من شُبُهات وتشكيكات منشؤها المنظومة
الفكريَّة الخاطئة التي تأسَّست على مفاهيم مغلوطة، فنشأ من ذلك تراث منسوب للدِّين
مبنيٌّ على أُسُس محجوجة عقلاً وعقلائيًّا، كان الهدف من ورائها تثبيت سلطة الحاكم
الظالم مهما كان الثمن، حتَّى إنَّ أبواق السلطة آنذاك كانت تخشى أنْ تبوح ببعض
الحقائق الواضحة(٤٧٦).
لقد تمَّ استخدام الدِّين أسوأ استخدام لتحصيل مآرب السلطة وديموميَّة بقائها،
فانقلبت المفاهيم رأساً على عقب، وصدقت على ذلك الزمان مقولة النبيِّ الأكرم (صلَّى
الله عليه وآله) التي نقلها الخبر الصحيح عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ
أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «قَالَ اَلنَّبِيُّ (صلَّى الله عليه
وآله): كَيْفَ بِكُمْ إِذَا فَسَدَتْ نِسَاؤُكُمْ، وَفَسَقَ شَبَابُكُمْ، وَلَمْ
تَأْمُرُوا بِالمَعْرُوفِ، وَلَمْ تَنْهَوْا عَنِ اَلمُنْكَرِ، فَقِيلَ لَهُ:
وَيَكُونُ ذَلِكَ، يَا رَسُولَ اَلله؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ
بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ اَلمَعْرُوفِ، فَقِيلَ
-----------------
(٤٧٥) صحيح مسلم (ج ٦/ ص ٢٠).
(٤٧٦) عن أبي هريرة، قال: (حفظت عن رسول الله [(صلَّى الله عليه وآله)] وعاءين،
فأمَّا أحدهما فبثثته، وأمَّا الآخر فلو بثثته قُطِعَ هذا البلعوم). صحيح البخاري
(ج ١/ ص ١٠١/ ح ١١٢).
لَهُ: يَا رَسُولَ اَلله، وَيَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ،
كَيْفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ اَلمَعْرُوفَ مُنْكَراً، وَاَلمُنْكَرَ
مَعْرُوفاً»(٤٧٧).
فتغيَّرت المنظومة من ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ (النحل:
٩٠)، إلى (أنَّ العدل هو ما يراه السلطان)، هذا هو فعلاً ما حصل، فقد بَنَت السلطةُ
بالمال والسلاح منظومة معرفيَّة دينيَّة أُحاديَّة الطرف، ليس فيها مجال لسماع
الرأي الآخر فضلاً عن العمل به، ومَنْ يجرؤ على المخالفة فسوف تقوم الدولة بسحقه
واستخدام أشدّ وسائل الإقصاء والتنكيل به وبمن يتبعه.
من هنا صار الخروج على الدولة - وإنْ كانت تمارس أشدّ وأقسى أنواع الظلم - ظلماً
ومحرَّماً وغير مشروع.
وقد قادت الدولة الفاسدة مشروعها من خلال حروب إعلاميَّة منظَّمة انتهت إلى تكذيب
مَنْ يدَّعي أنَّ لديه القدرة على إقامة العدل.
فلاحظ أنَّ الإمام الحسين بن عليٍّ (عليه السلام) سبط نبيِّ الإسلام (صلَّى الله
عليه وآله) وابن فاطمة (عليها السلام) يخرج للحرب ومعه حريمه وأولاده وإخوته ولا
يخرج معه إلَّا نفر قليل، فأيُّ ماكنة إعلاميَّة ضخمة منعت الناس عن اللحوق به
والقتال معه دفعاً للظلم عن أنفسهم.
في الحقيقة مَنْ ينظر إلى الأحداث التاريخيَّة في تلك الفترة، يؤمن أنَّ الإسلام لم
يبقَ منه شيء على الأرض سوى الاسم.
من هنا رفع الأئمَّة (عليهم السلام) من بعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) شعار
النصرة لحركته (عليه السلام) فقط، ولم يدخلوا ميدان الحرب العسكريَّة، فمَنْ هو
الذي يكون أفضل من الحسين (عليه السلام) ليقود الإصلاح في أُمَّة جدِّه؟! ومع ذلك
يُقتَل شرَّ قتلة عرفتها البشريَّة.
-----------------
(٤٧٧) الكافي (ج ٥/ ص ٥٩/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/ ح ١٤).
الحركة الحسينيَّة والبناء الدِّيني لإصلاح المنظومة الفكريَّة
والسلوكيَّة للمجتمع:
بعد الانهيار الكبير لمنظومة الدِّين على مختلف الصُّعُد، لم يكن من بُدٍّ إلَّا
أنْ يخرج الإمام الحسين (عليه السلام) ليرفع راية الإصلاح وإرجاع الأُمور إلى
نصابها التي كانت على عهد النبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، ولم يكن مهمًّا
له أنْ يتحقَّق الانتصار العسكري، بل كان يعلم بعدم تحقُّقه، وأنَّه مقتول ومَنْ
معه لا محالة.
فقد ورد في جملة من الروايات ما يفيد هذا المعنى، ومنها ما رواه الشيخ المفيد (قدّس
سرّه) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ (رضي الله عنها) أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اَلله
(صلَّى الله عليه وآله) مِنْ عِنْدِنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَغَابَ عَنَّا طَوِيلاً،
ثُمَّ جَاءَنَا وَهُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ وَيَدُهُ مَضْمُومَةٌ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اَلله، مَا لِي أَرَاكَ شُعْثاً مُغْبَرًّا؟ فَقَالَ: «أُسْرِيَ بِي فِي
هَذَا اَلْوَقْتِ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ اَلْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ: كَرْبَلَاءُ،
فَأُرِيتُ فِيهِ مَصْرَعَ اَلْحُسَيْنِ اِبْنِي وَجَمَاعَةٍ مِنْ وُلْدِي وَأَهْلِ
بَيْتِي، فَلَمْ أَزَلْ أَلْقِطُ دِمَاءَهُمْ، فَهَا هِيَ فِي يَدِي»، وَبَسَطَهَا
إِلَيَّ، فَقَالَ: «خُذِيهَا وَاِحْتَفِظِي بِهَا»، فَأَخَذْتُهَا، فَإِذَا هِيَ
شِبْهُ تُرَابٍ أَحْمَرَ...(٤٧٨).
خرج (عليه السلام) وهو يعلم بمصيره وأنَّه مقتول ويقول: «إِنِّي لَمْ أَخْرُجْ
أَشِراً وَلَا بَطِراً وَلَا مُفْسِداً وَلَا ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ
لِطَلَبِ اَلْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي (صلَّى الله عليه وآله)، أُرِيدُ أَنْ
آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ اَلمُنْكَرِ، وَأَسِيرُ بِسِيرَةِ جَدِّي
وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ
اَلْحَقِّ فَاللهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ»(٤٧٩).
إنَّ الحسين (عليه السلام) رسم خارطة إصلاح واضحة المعالم.
من هنا نفهم أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) عندما كان يُعرَض عليهم القيام والنهوض،
-----------------
(٤٧٨) الإرشاد (ج ٢/ ص ١٣٠)؛ وهناك نصوص عديدة في هذا الصدد من المناسب مراجعة كتاب
كامل الزيارات للشيخ جعفر بن محمّد بن قولويه من (ص ١٢١ - ١٦٠)، للاطِّلاع عليها.
(٤٧٩) بحار الأنوار (ج ٤٤/ ص ٣٢٩ و٣٣٠).
وذلك عندما يتراءى لبعضٍ أنَّ الوقت قد حان، فإنَّهم يقولون: «مَا أَنْتَ مِنْ
رِجَالِي، وَلَا اَلزَّمَانُ زَمَانِي»(٤٨٠)، وفي ذات الصدد عندما يأتي أحدهم إلى
الإمام الصادق (عليه السلام) بكتاب أبي مسلم، فيقول (عليه السلام) له: «لَيْسَ
لِكِتَابِكَ جَوَابٌ»(٤٨١)، وفي نصٍّ آخر أجلى من سابقيه يقول اَلمُعَلَّى بْنُ خُنَيْسٍ: ذَهَبْتُ بِكِتَابِ عَبْدِ اَلسَّلَامِ بْنِ نُعَيْمٍ وَسَدِيرٍ وَكُتُبِ
غَيْرِ وَاحِدٍ إِلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) حِينَ ظَهَرَتِ
اَلمُسَوِّدَةُ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ وُلْدُ اَلْعَبَّاسِ بِأَنَّا قَدْ قَدَّرْنَا
أَنْ يَؤُولَ هَذَا اَلْأَمْرُ إِلَيْكَ، فَمَا تَرَى؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِالْكُتُبِ
اَلْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: «أُفٍّ أُفٍّ، مَا أَنَا لِهَؤُلَاءِ بِإِمَامٍ، أَمَا
يَعْلَمُونَ أَنَّه إِنَّمَا يَقْتُلُ اَلسُّفْيَانِيَّ»(٤٨٢).
يقول الشيخ المفيد (قدّس سرّه) في سيرة الأئمَّة (عليهم السلام) على عدم الخروج بعد
شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أنْ يقوم الإمام الحجَّة بن الحسن (عليهما
السلام): (إنَّ ملوك الزمان إذ ذاك كانوا يعرفون من رأي الأئمَّة (عليهم السلام)
التقيَّة، وتحريم الخروج بالسيف على الولاة، وعيب مَنْ فعل ذلك من بني عمِّهم
ولومهم عليه، وأنَّه لا يجوز عندهم تجريد السيف حتَّى تركد الشمس عند زوال، ويُسمَع
نداء من السماء باسم رجل بعينه، ويُخسَف بالبيداء، ويقوم آخر أئمَّة الحقِّ بالسيف
ليزيل دولة الباطل، وكانوا لا يكبرون بوجود مَنْ يوجد منهم، ولا بظهور شخصه، ولا
بدعوة مَنْ يدعو إلى إمام، لأمانهم مع ذلك من فتق يكون عليهم به، ولاعتقادهم قلَّة
عدد مَنْ يصغي إليهم في دعوى الإمامة لهم، ويُصدِّقهم فيما يُخبِرون به من منتظَر
يكون لهم)(٤٨٣).
-----------------
(٤٨٠) المِلَل والنِّحَل للشهرستاني (ج ١/ ص ١٥٤)، ردُّ الإمام الصادق (عليه
السلام) على كتاب أرسله أبو مسلم إليه.
(٤٨١) الكافي (ج ٨/ ص ٢٧٤/ ح ٤١٢).
(٤٨٢) الكافي (ج ٨/ ص ٣٣١/ ح ٥٠٩).
(٤٨٣) الفصول العشرة (ص ٧٤).
فكان دور الأئمَّة (عليهم السلام) منصبًّا على بيان أنَّ الإمام الحسين (عليه
السلام) قتيل الله وقتيل رسوله (صلَّى الله عليه وآله)، وأنَّه مصلح هذه الأُمَّة
على امتداد الزمان، فينبغي أنْ يكون حاضراً عند الناس في كلِّ زمان ومكان، فكانوا
(عليهم السلام) يُؤكِّدون - كلَّما سنحت فرصة - على ارتباط الإمام الحسين (عليه
السلام) برسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وأنَّه امتداد له، وأنَّ الله تعالى
وأنبياءه وملائكته قد لعنوا قاتل الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام)، وأنَّ قتله كان
معلوماً لدى جميع الأنبياء والملائكة، وبكى لذلك جميع ما خلق الله تعالى حتَّى
السماء والأرض، وأكَّدوا (عليهم السلام) على إحياء ذكر الحسين (عليه السلام) بمختلف
درجات الإحياء(٤٨٤).
فالروايات الشريفة التي نطالعها في هذا الصدد تُبرِز هذه الصورة، وأنَّ الحركة
الحسينيَّة هي الحركة الوحيدة القادرة على بناء المنظومة الدِّينيَّة الصالحة
لقيادة البشريَّة نحو الأفضل، وأنَّ ركيزة هذه الحركة هو العدل، وأنَّ الاعوجاج
الموجود في كلِّ زمان إنَّما هو في الابتعاد عن هذه المنظومة.
فإنَّه وإنْ كان التعتيم شديداً وقاسياً، إلَّا أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام)
استطاعوا وبجدارة إيصال المنظومة الحسينيَّة إلينا، بل وإلى البشريَّة - لو اطَّلعت
-، فما علينا سوى تفعيل المقدار الذي يقع علينا والباقي بعهدة الإمام (عجَّل الله
فرجه) الذي ينتظر أنْ يقوم الآخرون بأدوارهم في الاستمداد من العطاء الحسيني.
نعم لا زال التعتيم وبحجم كبير يمنع الكثير من أصحاب القلوب النقيَّة من الوصول إلى
هذه المنظومة الإلهيَّة، وهنا يأتي دور الرائدين والمخلصين من
-----------------
(٤٨٤) من المناسب جدًّا الاطلاع على فهرست كتاب كامل الزيارات للشيخ جعفر بن محمّد بن قولويه (رحمه الله)، وهو من أعظم الكُتُب تأليفاً ومؤلِّفاً، فإنَّ فيه أبواباً كثيرة تُوضِّح الصورة التي أبرزها الأئمَّة (عليهم السلام) لمقام الإمام الحسين (عليه السلام) وأهمّيَّته في الإصلاح الدِّيني والارتباط القلبي وتجسيد المبادئ التي خرج من أجلها.
العارفين بالحسين
(عليه السلام) ونهضته في تعريفها للناس بالأُسلوب والطريقة المؤثِّرة والنافعة.
وهذا ما يحتاج إلى وجود الإمام (عليه السلام) - في إطار منظومة عقائديَّة متكاملة
-، فيكون الطلب بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) هو طلب بالثأر للعدل المستلَب على
مرِّ الزمان، فهل يبقى لمقولة: (إنَّه انتقام شخصي) وغيرها ممَّا ستسمعه من مقولات
وشُبُهات معنى؟
الشُّبُهات المثارة حول الثأر المهدوي:
أُثيرت حول النصوص التي دلَّت على أنَّ الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه) يأخذ
بثأر الإمام الحسين (عليه السلام) عدَّة أسئلة وإشكالات يرجع في الغالب غيرها من
الإشكالات والشُّبُهات الأُخرى إلى واحدة منها.
الشبهة الأُولى: الثأر المهدوي نزاع بين قبيلتين:
الصراع بين العلويِّين والأُمويِّين صراع ممتدٌّ إلى زمان النبيِّ الأكرم (صلَّى
الله عليه وآله)، بل ما قبله، وهذه النصوص التي تتحدَّث عن الثأر المهدوي إنَّما
تتحدَّث عن هذا الصراع الشخصي، ولا علاقة لها بالعقيدة والدفاع عنها.
والجواب عن ذلك:
١ - أنَّ الصراع بين بيت النبوَّة وبني أُميَّة ليس صراعاً قبليًّا، بل هو صراع
مبادئ، فقد روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّا وَآلُ أَبِي
سُفْيَانَ أَهْلُ بَيْتَيْنِ تَعَادَيْنَا فِي اَلله، قُلْنَا: صَدَقَ اَللهُ،
وَقَالُوا: كَذَبَ اَللهُ، قَاتَلَ أَبُو سُفْيَانَ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله)، وَقَاتَلَ مُعَاوِيَةُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، وَقَاتَلَ
يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ اَلْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام)،
وَاَلسُّفْيَانِيُّ يُقَاتِلُ اَلْقَائِمَ (عليه السلام)»(٤٨٥).
-----------------
(٤٨٥) معاني الأخبار (ص ٣٤٦/ باب معنى قول الصادق (عليه السلام): «إِنَّا وَآلُ أَبِي سُفْيَانَ أَهْلُ بَيْتَيْنِ تَعَادَيْنَا فِي اَلله (عزَّ وجلَّ)»/ ح ١).
٢ - لو تنزَّلنا فما المانع أنْ يكون الصراع القبلي صراع مبادئ وقيم - مع ذلك
يُسمِّيه البعض قبليًّا -، فليس كلُّ صراع قبلي باطلاً، فهناك من الصراعات
القبليَّة ما يتشرَّف به أبناؤها كقبيلتي همدان ومذحج اللتين أبليتا بلاءً قلَّ
نظيره في نصرة الإسلام، فحميَّة أبناء القبيلة ونصرتهم للدِّين والمبادئ حميَّة
قيميَّة وليست تعصبيَّة.
ويُؤكِّد هذا المعنى أنَّ القبائل في المجتمع الإنساني منطلق لبناء المنظومات التي
أسَّست الدول والقوانين، وتقدَّم أنَّ هذه الأنظمة وُجِدَت لحفظ النظام وعدم
التعدِّي على الحقوق وتحجيم أو إنهاء أفعال الظلمة، ولولا هذا الوجود القبلي لما
كان للوجود الإنساني أنْ يرى التطوُّر والرقيَّ المدني، فقوانين القبائل هي نواة
بناء المجتمعات، ولا زالت تتمتَّع بمساحة واسعة من الاحترام والدور في بناء النظم
وحفظ الحقوق، فليس كلُّ ما يمتُّ إلى القبيلة ممقوتاً ومذموماً.
الشبهة الثانية: أهل البيت (عليهم السلام) بيت الرحمة والعفو، وهذا
لا ينسجم مع الثأر والانتقام:
صدور روايات عن أهل بيت الرحمة والعفو (عليهم السلام) تطالب بالانتقام والثأر لا
نتعقَّله، فمَنْ كانت سمتهم العفو عن ظالمهم وكظم الغيض عمَّن اعتدى عليهم كيف
يُتصوَّر في حقِّهم أنْ يمارسوا الانتقام والثأر؟
إنَّ هذه المقولة لا يصحُّ الحديث فيها أمام هذه الذوات المملوءة عطفاً ولطفاً
ورحمةً، فهم فيض الوجود وأوسع أبواب الرحمة الإلهيَّة.
فلا بدَّ من رفض هذه الروايات، ولعلَّها افتُعِلَت في أزمنة متأخِّرة من قِبَل
الغلاة لتحقيق أهداف ضيِّقة.
قبل الجواب عن هذه الشبهة نستعرض جملة من الروايات الواردة في هذا الصدد والتي
تحدَّثت عن الثأر لشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) على يد الحجَّة بن الحسن
(عجَّل الله فرجه)، وهي:
١ - عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ
إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾ [الإسراء: ٣٣]، قَالَ: «ذَلِكَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ،
يَخْرُجُ فَيَقْتُلُ بِدَمِ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَلَوْ قَتَلَ أَهْلَ
اَلْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ مُسْرِفاً، وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾
لَمْ يَكُنْ لِيَصْنَعَ شَيْئاً يَكُونُ سَرَفاً»، ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله
(عليه السلام): «يَقْتُلُ وَاَلله ذَرَارِيَّ قَتَلَةِ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)
بِفَعَالِ آبَائِهَا»(٤٨٦).
فعظم المصيبة يستدعي هذا الفعل، أي إنَّه إنْ فعل، فليس في فعله إسراف لعظيم ما
وقع، ولكنَّه لا يفعل إلَّا بما يناسب مقامه وشأنه، فلا يأخذ بالجريمة إلَّا مَنْ
يرتضي فعال الآباء الذين لو أُتيحت لهم الفرصة لكرَّروها.
٢ - عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام) فِي
قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾
[البقرة: ١٩٣]، قَالَ: «أَوْلَادُ قَتَلَةِ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)»(٤٨٧).
وقد أفرد الشيخ جعفر بن محمّد بن قولويه (رحمه الله) في كتابه القيِّم (كامل
الزيارات) باباً تحت عنوان (ما نزل من القرآن بقتل الحسين (عليه السلام) وانتقام
الله (عزَّ وجلَّ) ولو بعد حين)، وممَّا جاء فيه بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «... وَاَلله لَقَدْ قُتِلَ قَتَلَةُ
اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام) وَلَمْ يُطْلَبْ بِدَمِهِ بَعْدُ»(٤٨٨).
فالانتقام من الله تعالى.
٣ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه
السلام): «لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام) مَا كَانَ ضَجَّتِ
اَلمَلَائِكَةُ إِلَى اَلله بِالْبُكَاءِ، وَقَالَتْ: يُفْعَلُ هَذَا بِالْحُسَيْنِ
صَفِيِّكَ وَاِبْنِ نَبِيِّكَ؟»، قَالَ: «فَأَقَامَ اَللهُ لَهُمْ ظِلَّ
اَلْقَائِمِ (عليه السلام)، وَقَالَ: بِهَذَا أَنْتَقِمُ لِهَذَا»(٤٨٩).
-----------------
(٤٨٦) كامل الزيارات (ص ١٣٥ و١٣٦/ ح ١٥٧/٥).
(٤٨٧) كامل الزيارات (ص ١٣٦/ ح ١٥٨/٦).
(٤٨٨) كامل الزيارات (ص ١٣٤/ ح ١٥٤/٢).
(٤٨٩) الكافي (ج ١/ ص ٤٦٥/ باب مولد الحسين بن عليٍّ (عليه السلام)/ ح ٦).
فالمنتقم هو الله تعالى بواسطة الإمام (عجَّل الله فرجه).
٤ - عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)،
قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْقَائِمُ وَاَلله يَقْتُلُ ذَرَارِيَّ قَتَلَةِ
اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام) بِفِعَالِ آبَائِهَا»(٤٩٠).
٥ - وفي الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اَلسَّلَامِ بْنِ صَالِحٍ اَلْهَرَوِيِّ، قَالَ:
قُلْتُ لِأَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى اَلرِّضَا (عليه السلام): يَا
اِبْنَ رَسُولِ اَلله، مَا تَقُولُ فِي حَدِيثٍ رُوِيَ عَنِ اَلصَّادِقِ (عليه
السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا خَرَجَ اَلْقَائِمُ قَتَلَ ذَرَارِيَّ قَتَلَةِ
اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام) بِفِعَالِ آبَائِهَا»، فَقَالَ (عليه السلام): «هُوَ
كَذَلِكَ»، فَقُلْتُ: فَقَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى﴾ [الأنعام: ١٦٤]، مَا مَعْنَاهُ؟ فَقَالَ: «صَدَقَ اَللهُ فِي جَمِيعِ
أَقْوَالِهِ، لَكِنَّ ذَرَارِيَّ قَتَلَةِ اَلْحُسَيْنِ يَرْضَوْنَ أَفْعَالَ
آبَائِهِمْ وَيَفْتَخِرُونَ بِهَا، وَمَنْ رَضِيَ شَيْئاً كَانَ كَمَنْ أَتَاهُ،
وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً قُتِلَ فِي اَلمَشْرِقِ فَرَضِيَ بِقَتْلِهِ رَجُلٌ فِي
اَلْمَغْرِبِ لَكَانَ اَلرَّاضِي عِنْدَ اَلله شَرِيكَ اَلْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا
يَقْتُلُهُمُ اَلْقَائِمُ إِذَا خَرَجَ لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِ آبَائِهِمْ...»(٤٩١).
وتوجيه هذا المضمون يظهر جليًّا من استعمالات العرب، فهو مَنْ يخاطبهم بلغتهم،
فمثلاً يقال للرجل الذي غزا قومه قوماً آخرين وقتلوهم: أغرتم وفعلتم كذا، فيقول
العربي: فعلنا ببني فلان وسبيناهم، ولا يريد أنَّه باشر ذلك بنفسه، ولكنَّه يفخر،
ولأنَّ هؤلاء الخلف راضون بفعال السلف ويرون صواب فعلهم، فصحَّ أنْ يقال: أنتم
فعلتم.
٦ - وفي بعض نصوص الأدعية والزيارات وردت مضامين مشابهة لما ذكرته الروايات بصيغة
الدعاء والطلب، منها:
أ - ما في مقطع من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام): «... فَأَسْأَلُ اَللهَ
اَلَّذِي أَكْرَمَ
-----------------
(٤٩٠) ثواب الأعمال (ص ٢١٧).
(٤٩١) علل الشرائع (ج ١/ ص ٢٢٩/ باب ١٦٤/ ح ١).
مَقَامَكَ أَنْ يُكْرِمَنِي بِكَ، وَيَرْزُقَنِي طَلَبَ ثَارِكَ
مَعَ إِمَامٍ مَنْصُورٍ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)...»، وفي مقطع
آخر منه: «... وَأَنْ يَرْزُقَنِي طَلَبَ ثَارِكُمْ مَعَ إِمَامٍ مَهْدِيٍّ نَاطِقٍ
لَكُمْ...»(٤٩٢).
ب - وفي مقطع آخر من زيارة الإمام الحسين (عليه السلام): «... وَأَنْ يُوَفِّقَنِي
لِلطَّلَبِ بِثَارِكُمْ مَعَ اَلْإِمَامِ اَلمُنْتَظَرِ اَلْهَادِي مِنْ آلِ
مُحَمَّدٍ...»(٤٩٣).
بعد هذا الاستعراض يتبيَّن لنا:
١ - أنَّ جملة من الروايات المتقدِّمة نطمئنُّ بصدورها، فإنكارها دون مبرِّر مجازفة
وقول بلا دليل.
٢ - لا يصحُّ رفض رواية صحَّ صدورها إلَّا لسبب وجيه، ومنه أنْ تكون مخالفة للكتاب
والسُّنَّة، فيُستكشَف صدورها تقيَّةً مثلاً، وفي المقام لا يوجد مبرِّر لرفض هذه
الروايات لموافقتها للكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾
(البقرة: ١٧٩).
فإنْ قيل: إنَّ هذا يخالف قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
(الأنعام: ١٦٤).
قلنا: إنَّ الإمام (عليه السلام) تكفَّل بجواب ذلك بقوله: «لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِ
آبَائِهِمْ».
٣ - جميع الإلهيِّين يعتقدون بأنَّ الله تعالى هو منتهى الرحمة واللطف والرأفة، وفي
ذات الوقت يعتقدون بأنَّه أعدل العادلين وأحكم الحاكمين، وأنَّه لا يضيع حقًّا، بل
ذرَّة من عملٍ، وما حصل مع الحسين (عليه السلام) بوصفه امتداداً طبيعيًّا للنبيِّ
الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) يقتضي إنزال أشدّ العقوبات في مَنْ أجرم بحقِّه
فعلاً أو قولاً.
-----------------
(٤٩٢) كامل الزيارات (ص ٣٢٩ و٣٣٠/ ح ٥٥٦/٩).
(٤٩٣) مستدرك الوسائل (ج ١٠/ ص ٤١٣/ ح ١٢٢٧٣/١٦).
وقد تقدَّم وصف قتله وانتهاك حرمته في بعض النصوص السابقة أنَّه قتل للإسلام،
وتعطيل للحلال والحرام، وأنَّ على هذا المصاب حزن جميع الوجود، أفلا يحقُّ لهذه
الوجودات الحزينة أنْ تستردَّ حقَّها المسلوب طيلة قرون ودهور؟ أليس هذا هو العدل؟
٤ - تقدَّم في نصوص عديدة أنَّ ما خرج من أجله الحسين (عليه السلام) ليس منفعة
شخصيَّة أو حقًّا مغتصباً، إنَّما هو إصلاح إنساني ديني، فهو خرج من أجل إرجاع
المبادئ إلى نصابها وإعطاء الحقوق لأهلها، فالدفاع عن مظلمته والاقتصاص من قتلته هو
دفاع عن النظام الإنساني والدِّيني ومبادئ العدل والحقِّ.
الشبهة الثالثة: لو قتل أهل الأرض لم يكن مسرفاً وجوابها:
بعض الروايات تقول: لو قتل أهل الأرض لم يكن مسرفاً، وهذا لا يُعقَل، إذ لو سلَّمنا
أنَّ الراضي بقتله شريك في الجرم، فليس معنى ذلك أنَّ جميع أهل الأرض مشتركون فيه،
فكيف ساغ تجويز قتل أهل الأرض جميعاً انتقاماً؟
والجواب عن ذلك:
١ - أنَّ ما ورد في هذا النصِّ فرض «لَوْ قَتَلَ»، ومع ذلك فهو مقيَّد بتقيُّدات
كثيرة ذكرناها في الروايات المتقدِّمة، من قبيل التقييد بـ«لِرِضَاهُمْ بِفِعْلِ
آبَائِهِمْ»، كما ذكر المستشكل، فهو من باب ذكر العامِّ والمطلق اعتماداً على وجود
المخصِّص والمقيِّد.
٢ - أنَّ المقصود من هذا النصِّ أنَّ كلَّ مَنْ رضي بهذا الفعل، فلو أنَّ أهل الأرض
رضوا لكانوا مستحقِّين للقصاص.
٣ - الاعتداء على المعصوم ليس هو اعتداء على ذاته فقط، بل على مقامه، ومَنْ له مقام
لا يضاهى فيكون قتل العالَم أيسر من قتله والتجاوز عليه، ولذلك نجد الإمام (عليه
السلام) في نفس الحديث بعد أنْ قال: «فَلَوْ قَتَلَ أَهْلَ اَلْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ
مُسْرِفاً»، أي إنَّ واقع ما حصل على الحسين (عليه السلام) لا يضاهيه شيء، ولا
يُسمَّى الانتقام له إسرافاً ولو كان بقتل كلِّ أهل الأرض إنْ كانوا راضين بفعل
القتل، ولكنَّه في ذات الوقت يقول (عليه السلام): «لَمْ يَكُنْ لِيَصْنَعَ شَيْئاً
يَكُونُ سَرَفاً»، أي هذا منه ليس سرفاً لواقع ما حصل على الحسين (عليه السلام).
الشبهة الرابعة: رجحان العفو واستحبابه ينافي الأخذ بالثأر وجوابها:
دلَّت الروايات على رجحان العفو واستحباب العفو عن القاتل من قِبَل المؤمنين، وأهل
البيت (عليهم السلام) أولى بذلك منهم، وهذا يتنافى مع مقولة الثأر والانتقام التي
ينسبها أتباع المذهب إليهم.
والجواب عن ذلك:
١ - أنَّ الروايات التي تحدَّثت عن العفو هي تتحدَّث عن مقام آخر غير مقام إثبات
الحقِّ، فبعد أنْ يثبت الحقُّ ويتجلَّى حجم الاعتداء ويعترف المعتدي يأتي دور
العفو، أمَّا مَنْ لا يعترف بذلك ويتمادى ويرضى بفعل الآباء والأجداد، فإنَّ العفو
عن أمثال هؤلاء يُعَدُّ جبناً وتخاذلاً، وهو نقص في كمالات الإنسان فضلاً عن
المعصوم، فالذي يُعَدُّ كمالاً ورفعةً هو العفو بعد اعتراف المذنب وإقراره. نعم، لا
بدَّ أنْ يكون الإقرار في ظرف مناسب، وليس بعد فوات الأوان كما حصل مع فرعون
﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا
الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * الْآنَ
وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس: ٩٠ و٩١).
٢ - أنَّ الحقَّ الذي يطالب بإسقاطه صاحب الشبهة ليس هو حقًّا تابعاً لشخص إنَّما
هو حقٌّ عامٌّ، حقُّ الاعتداء على منصب الإمامة.
الشبهة الخامسة: الثأر يُشكِّل أزمة خطاب عالمي:
سلَّمنا أنَّ ما سيقوم به الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو من الأُمور الحسنة
عقلاً
وشرعاً، بل هو لازم لما تقدَّم من وجوه، ولكن ذلك لا ينفي أنَّ التصريح به
منفِّر على مستوى الخطاب العالمي، فإنَّ الجمهور العريض من الناس بعيدون عن الدِّين
ولا يرغبون به لما يتصوَّرونه من تقييد لحُرّيَّاتهم، فإذا انظمَّ إليه أمثال هذا
الخطاب العدواني، فإنَّه سيُؤكِّد ما في أذهانهم من شُبُهات حول الدِّين، فكان
الراجح على المشرِّع ترك مثل هكذا خطاب لما فيه من المنفِّريَّة الظاهريَّة.
والجواب عن ذلك:
١ - إذا سلَّمنا أنَّ هناك حسناً في أخذ الثأر، بل هو كذلك لما فيه من إقامة للعدل
ونظم الحياة، فلا وجه للإشكال على ذلك بأنَّ إثارته منفِّرة منه، مع أنَّ أمثال هذه
العبارات لا زالت مستعملة إلى يومنا هذا من أكثر الدول والمنظَّمات العالميَّة التي
تتصدَّر المشهد الحقوقي العالمي، كما تقدَّم.
٢ - الخطاب الدِّيني خاضع لضوابط وآليَّات، هي في العادة تلاحظ العرف ومرتكزاته وما
يتعامل به في خطاباته، فهو يستخدم نفس الأدوات والموادِّ التي يستعملها الناس في
التعبير عن مقاصدهم، واستعماله لهذه المفردات يعني أنَّ الطابع العامَّ من الناس
يألفها ويأنس بها، أمَّا أنَّها لا تروق للبعض، فالإشكال حينئذٍ في هذا البعض
ونظرته الضيِّقة تجاه الخطاب الدِّيني، وفي العادة مهما كان الخطاب موزوناً فإنَّه
لا يكون مرضيًّا من قِبَل الجميع، نعم قد يكون مرضيًّا من قِبَل الغالب.
٣ - أنَّ الخطاب الدِّيني كما يلاحظ عنصر اللفظ وأدائه للمعنى، أيضاً يلاحظ في بعض
خطاباته البُعد المشاعري للخطاب، إذ يقصد من ورائه إيجاد حالة من الارتباط الروحي
بقضيَّة معيَّنة فيُصدر جملة من الخطابات الوجدانيَّة، فالقضيَّة مقصودة للشارع
المقدَّس وإنْ لم ترق للبعض.
٤ - لو فرضنا أنَّ الشارع أراد أنْ يُغيِّر الخطاب، فما هو اللفظ المناسب لواقع هذه
القضيَّة مع المحافظة على بُعدها القانوني والوجداني؟ فإنَّ أمثال هذه
القضايا ليست توقيفيَّة، فلكلِّ شخص حرّيَّة التعبير بما يراه مناسباً شريطة الحفاظ على المعنى
وحيثيَّاته الدخيلة فيه، ولعلَّنا لا نجد لفظة مناسبة لتأدية هذين الأمرين كالتي
استعملها الشارع المقدَّس.
٥ - نُسلِّم أنَّ بعض الألفاظ التي استعملها الشارع المقدَّس في التعبير عن مقاصده
هي منحصرة بزمن معيَّن أو أكثر مناسبة للزمن الذي صدر فيه النصُّ والقريب منه، كما
في لفظة (السيف) كسلاح عند ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، فإنَّ المتداول - زمان
النصِّ - هو هذا، ولو تصدَّى الشارع لبيان السلاح في زمان الظهور فقد يكون منفِّراً
لعدم فهمه من الناس آنذاك، فجاء بلفظة تتناسب والمستعمَل في زمان النصِّ، ولا
خصوصيَّة لها، لما نجزم من أنَّه لا يريدها بعينها، وإنَّما هي تعبير كنائي عن
الآلات العسكريَّة المستعملة، ولعلَّ الأمر كذلك في مقامنا بالنسبة للفظة (الثأر).
الشبهة السادسة: لماذا لا يثأر الشيعة لرسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) ويقتصرون على الثأر للحسين (عليه السلام)؟
الشيعة تنادي دائماً بالثأر للحسين (عليه السلام) «يَا لَثَارَاتِ اَلْحُسَيْنِ»،
ولا تنادي بالثأر لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فهم يرون أنَّه انتُهِكَ
مقامه وحُرِّفَ الإسلام من بعده، كما أنَّهم لا ينادون بالثأر لفاطمة (عليها
السلام) مع أنَّهم يعتقدون أنَّ الاعتداء الذي وقع عليها كبير جدًّا، كما ولا
ينادون بالثأر للإمام عليٍّ (عليه السلام) مع أنَّهم يرون أنَّ كلَّ المصائب ناشئة
من مصيبة إقصاء الإمام عليٍّ (عليه السلام)، كما ولا ينادون بالثأر للإمام الحسن
(عليه السلام) المظلوم، وهكذا بقيَّة الأئمَّة (عليهم السلام)، فلماذا لا يكون هناك
ثأر لهم كما للإمام الحسين (عليه السلام)، فهل هو أفضل منهم؟ أو إنَّ ذلك حالة
انتقائيَّة؟
والجواب عن ذلك:
١ - الأحكام الصادرة من الشريعة بهدف تنظيم حياة الإنسان استُعمِلَت فيها عدَّة
أساليب، فبعض الأحكام جاء بيانها مع بيان علَّتها، وبعضها الآخر
أرجع فيها الشارع
المقدَّس إلى العرف بين الناس، وبعض ثالث تعبَّدنا بالحكم دون أدنى معرفة بالأسباب
الموجبة له، ونحن نأخذ به تعبُّداً، إيماناً منَّا بكبرى حكمة الشارع المقدَّس
وهادفيَّته، وأنَّه بصدد تقديم الأفضل في مقام التشريع للإنسان، فالإيمان بمشرِّع
بهذا المستوى يسدُّ الباب عن السؤال عمَّا وراء الحكم من دواعٍ، وهذا موجود لدى
الكثير من الدول في تشريعاتها، فجهاز المخابرات في أغلب الدول يُشرِّع ويمارس
قوانين قد يراها الناس أنَّها تُقيِّد حرّيَّتهم أو تضرُّ بمصالحهم الشخصيَّة، بل
وبعض النوعيَّة، ولكنَّهم لا يسألون عن ذلك بعد الفراغ عن أنَّ هناك مصلحة عليا
وراء هذا التشريع أو تلك الممارسة.
فإغماض ملاكات التشريعات في بعض الأحيان هو بذاته حكمة، وهكذا في قطاعات عديدة
كالجيش أو الصناعات الحربيَّة الدقيقة، بل حتَّى جملة من الصناعات الطبّيَّة أو
الهندسيَّة أو الإلكترونيَّة، يتمُّ كتمان الملاك وراء التشريع، ويُكتفى بقاعدة
أنَّ المصلحة العامَّة تقتضي ذلك. وهنا لعلَّ المصلحة العامَّة للدِّين تقتضي ذلك،
فما المانع أنْ يكون الخطاب الدِّيني موجَّهاً تجاه قضيَّة واحدة ولا يعني ذلك بحال
من الأحوال عدم أهمّيَّة القضايا الأُخرى؟!
٢ - أنَّ الذي وقع على الحسين (عليه السلام) في حقيقته عظيم جدًّا، ولا نبالغ إذا
قلنا: إنَّه لم يقع مثل ما وقع عليه على أحد أبداً، باعتبار مقامه السامي من جهة،
ودناءة مقام عدوِّه من جهة ثانية، وتنوُّع الظلم عليه من جهة ثالثة، واستخفاف
عدوِّه بكلِّ مبدأ إنساني وديني في هذه الواقعة، فكلُّ ما يمكن تصوُّره من فضائع
وفجائع قد وقعت في واقعة واحدة عليه (عليه السلام).
فهذه الجهة وجهات أُخرى قد لا نلحظها وغيرها ممَّا هو في ذهن القارئ وهي ما كانت
وراء إبراز هذه القضيَّة كشاخص في المظلوميَّة وضرورة النظر إليها والمطالبة بها
على طول الزمان.
٣ - أنَّ الحسين (عليه السلام) تجسَّدت فيه المظلوميَّة السابقة واللَّاحقة،
والحادثة المروّعة في كربلاء هي بحقٍّ تُمثِّل أُسوة المظلوميَّة، فالحسين (عليه
السلام) اجتمعت فيه مظلوميَّات مَنْ سبق وسيلحقه حتَّى عبَّرت بعض النصوص
المتقدِّمة أنَّه ثأر الله تعالى، وبالثأر له يتمُّ الثأر للأنبياء والأولياء.
٤ - لو كانت الخطابات الشرعيَّة موجَّهة باتِّجاهات متعدِّدة فخطاب منها باتِّجاه
أخذ الثأر لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأُخرى باتِّجاه أخذ الثأر لأمير
المؤمنين (عليه السلام)، وثالث باتِّجاه أخذ الثأر لفاطمة (عليها السلام)، وهكذا،
فإنَّ أفراد الأُمَّة سوف تتبعثر وتتشتَّت جهودهم، فلا بدَّ من وجود شخصيَّة تكون
فيها المظلوميَّة بارزة وجليَّة إلى حدٍّ يصعب إنكارها من قِبَل الأغلب إنْ لم نقل
الجميع.
٥ - لا دليل على أنَّ الروايات أغفلت أو أهملت الأخذ بالثأر لهم، كما ورد في
النصِّ: «أَيْنَ اَلطَّالِبُ بِذُحُولِ اَلْأَنْبِيَاءِ وَأَبْنَاءِ
اَلْأَنْبِيَاءِ»، بل هو كما ترى عامٌّ يشمل جميع الأنبياء (عليهم السلام).
الشبهة السابعة: الثأر مخالف للسيرة العقلائيَّة:
أغلب الأُمَم تعرَّضت لحوادث مروّعة، وقَصَص الظلم وانتهاك الحقوق للأفراد
والمجتمعات تملأ التاريخ، ومع ذلك فإنَّ العالم اليوم تناسى تلك الأحداث التي مرَّت
عليه وتغلَّب على الصعاب والظلم الذي مرَّ ليعيش بسلام مع الظالمين له، فسيرة
العقلاء تقضي بترك الثأر والابتعاد عن تجسيد حالة الانتقام.
والجواب عن ذلك:
١ - أنَّ قَصَص الثأر المنسيَّة لم يمسحها التاريخ من سجلَّاته، ولا زالت تُقرَأ في
اليوم الواحد آلاف المرَّات، فالظلم لا يمسحه التغاضي عنه. إنَّ المظلومين عبر
التاريخ لم يتناسوا ظالميهم، ولا يزالون يطالبون بحقوقهم، ولكنَّ
الظالمين لا زالوا
إلى اليوم يمارسون ظلمهم بمنع المظلومين من المطالبة بحقوقهم، وتهديدهم عسكريًّا أو
اقتصاديًّا.
٢ - أنَّ هناك ظلماً على فرد، وآخر على أفراد ومجتمع، وثالثاً على مبدأ، ولا نظنُّ
أنَّ أحداً يُفرِّط بالأوَّل أو الثاني، فكيف يُفرِّط بالثالث؟ فهل فرَّطت دولة من
الدول في حقِّها الأوَّلي والأصلي على أرضها أو في سيادتها؟
نجزم أنَّ أيًّا من ذلك لا وجود له، فلماذا يطالب مَنْ يستميت بالدفاع عن حقِّه
بالتغاضي عن مبدأ وعقيدة مبنيَّة على إرجاع الحقِّ المستلَب لشخص فيض الوجود وقطب
عالم الإمكان؟
٣ - أنَّما يكون للشبهة وجه لو سلَّمنا أنَّ الظلم الذي وقع على الإمام الحسين
(عليه السلام) قد انتهى ولا أثر له اليوم، ولكن هذا الظلم لا زال مستمرًّا على أيدي
مَنْ يرضون بالفعال السابقة، فلو كان قد انتهى لكان هناك وجه في التغاضي عنه، أمَّا
مع استمراره كيف يطلب التغاضي عنه؟
٤ - أنَّ صاحب الحقِّ والمخوَّل في التنازل عنه موجود، فليس من الصحيح التحدُّث
نيابةً عنه في قضيَّة هي من مهامِّه، وهو أعرف بما يقوم به، وما ينبغي له فعله أو
تركه.
الخاتمة:
أنَّ مَنْ يتابع حركة الإمام الحسين (عليه السلام) وما صدر عنه من أقوال وأفعال
يلاحظ أنَّه (عليه السلام) يضع إصلاحاً انتظاريًّا: «اَللَّهُمَّ فَخُذْ لَنَا
بِحَقِّنَا، وَاُنْصُرْنَا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ»(٤٩٤)، بعد أنْ حصر
خروجه بـ«إِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلَاحِ»(٤٩٥)،
-----------------
(٤٩٤) بحار الأنوار (ج ٤٤/ ص ٣٨٣).
(٤٩٥) بحار الأنوار (ج ٤٤/ ص ٣٢٩ و٣٣٠).
فهذا الخروج معلوم أنَّه
لا يُعطي ثماره إلَّا بعد انتظار وصبر، ولذلك سيبقى محرِّكاً للحسِّ البشري،
وداعياً له أنْ يُمهِّد للإصلاح الشامل.
فذلك المصلح المظلوم خرج لإصلاحنا، فلا بدَّ أنْ نرفع من ظلامته ونأخذ بثأره «...
إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُمْ إِلَى يَوْمِ
اَلْقِيَامَةِ...، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُبَلِّغَنِي اَلمَقَامَ اَلمَحْمُودَ لَكُمْ
عِنْدَ اَلله، وَأَنْ يَرْزُقَنِي طَلَبَ ثَارِكُمْ مَعَ إِمَامٍ مَهْدِيٍّ نَاطِقٍ
لَكُمْ...»(٤٩٦)، فطلب الثأر رزق من الله تعالى نحصل عليه عندما نستحضر القضيَّة
وننتظرها ونُمهِّد لها، فما لم تُفهَم حركة الإصلاح الحسيني لا تُفهَم حركة الإصلاح
المهدوي، فالدم الحسيني لا يسكن حتَّى يحصل الثأر ممَّن سفكه مع يد مصلح آخر
الزمان، يقول الإمام الحسين (عليه السلام) عن ذلك مخاطباً ولده السجَّاد (عليه
السلام): «يَا وَلَدِي يَا عَلِيُّ، وَاَلله لَا يَسْكُنُ دَمِي حَتَّى يَبْعَثَ
اَللهُ اَلمَهْدِيَّ فَيَقْتُلَ عَلَى دَمِي مِنَ اَلمُنَافِقِينَ
اَلْكَفَرَةِ...»(٤٩٧).
لذلك نجد الروايات المتكرِّرة ألمحت إلى هذا الترابط كما في اختيار يوم عاشوراء
للقيام المهدوي «... يَقُومُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَهُوَ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي
قُتِلَ فِيهِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، لَكَأَنِّي بِهِ فِي
يَوْمِ اَلسَّبْتِ اَلْعَاشِرِ مِنَ اَلمُحَرَّمِ قَائِماً بَيْنَ اَلرُّكْنِ
وَاَلمَقَامِ...»(٤٩٨).
وفي نصٍّ آخر في معرض تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ
ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ﴾ (الحج: ٦٠) فإنَّ الله تعالى سوف
ينصر الحسين (عليه السلام) «يَعْنِي بِالْقَائِمِ مِنْ وُلْدِهِ»(٤٩٩)، وهذا توصيف
جميل جدًّا لتجسيد حالة الأخذ بالثأر التي تشمل ثقافة الانتظار رجاء ظهور القائم
(عجَّل الله فرجه).
-----------------
(٤٩٦) كامل الزيارات (ص ٣٢٩ و٣٣٠/ ح ٥٥٦/٩).
(٤٩٧) مناقب آل أبي طالب (ج ٣/ ص ٢٣٨).
(٤٩٨) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٧٩).
(٤٩٩) تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٨٧).
فلا بدَّ من إيقاظ حالة الشعور الدائم بالتقصير والاستعداد للنصرة على حدٍّ عبارة
الإمام (عجَّل الله فرجه): «فَلَئِنْ أَخَّرَتْنِي اَلدُّهُورُ، وَعَاقَنِي عَنْ
نَصْرِكَ اَلمَقْدُورُ...، فَلَأَنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً، وَلَأَبْكِيَنَّ
عَلَيْكَ بَدَلَ اَلدُّمُوعِ دَماً، حَسْرَةً عَلَيْكَ وَتَأَسُّفاً عَلَى مَا
دَهَاكَ وَتَلَهُّفاً، حَتَّى أَمُوتَ بِلَوْعَةِ اَلمُصَابِ وَغُصَّةِ
اَلْاِكْتِيَابِ»(٥٠٠).
فالثأر المهدوي للحسين (عليه السلام) قضيَّة عقلائيَّة ولغة دينيَّة في استرداد
الحقوق وإيقاف عجلة الظلم المستمرِّ على الذوات المقدَّسة.
* * *
«أَيْنَ اَلمَنْصُورُ عَلَى مَنِ اِعْتَدَى عَلَيْهِ وَاِفْتَرَى»
جاء في (تفسير فرات الكوفي) بسنده
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾، قَالَ: «اَلْحُسَيْنُ (عليه
السلام)»، ﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾ [الإسراء: ٣٣]،
قَالَ: «سَمَّى اَللهُ اَلمَهْدِيَّ مَنْصُوراً كَمَا سَمَّى أَحْمَدَ وَمُحَمَّداً
مَحْمُوداً، وَكَمَا سَمَّى عِيسَى اَلمَسِيحَ»(٥٠١).
البحث عن نصرة الإمام (عليه السلام) وحدودها يقع في عدَّة عناوين:
مراتب النصرة:
لنصرة الإمام (عليه السلام) عدَّة مستويات تختلف باختلاف زمان وجوده بين الناس،
وباختلاف الظروف وما يريده (عليه السلام) من الناس، ففي زمان ظهور رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله) كانت النصرة مطلوبة بكلِّ مراتبها، كاللسان والمال والنفس وكلِّ
شيء، وممَّا دلَّ على وجوب نصرة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، بل الأنبياء
(عليهم السلام) عدَّة آيات، منها:
-----------------
(٥٠٠) المزار لابن المشهدي (ص ٥٠١).
(٥٠١) تفسير فرات الكوفي (ص ٢٤٠/ ح ٣٢٤).
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ
كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ﴾ (آل عمران: ٨١).
إنْ قلتَ: إنَّ النصرة التي كانت مطلوبة في زمان الأئمَّة والأنبياء (عليهم السلام)
مختصَّة بزمان حياتهم ولا تشمل حال الغيبة، لعدم ظهور الإمام الواجب نصرته فيها.
قلتُ: صحيح أنَّ الإمام في زمان الغيبة ليس بظاهر بين الناس، ولكن هذا لا يعني
انتفاء جميع مراتب النصرة، فإنَّ النصرة لها مراتب عديدة، وفي كلِّ مرتبة منها
أدوار مختلفة تتناسب مع حال الأشخاص والظروف المحيطة بهم وإمكاناتهم واستعداداتهم،
وما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك كلُّه، ومن مراتب النصرة: اللسان، وإنْ لم يتيسَّر
فنصرة القلب مقدورة للجميع وبدون استثناء.
وهل يا ترى يصحُّ أنْ يقال: إنَّ الإمام (عليه السلام) غائب، فلا تجب معرفته، ولا
يلزم الإيمان به؟
فكما أنَّ لمعرفة الإمام (عليه السلام) مراتب، فكذا لنصرته.
ليست النصرة غيبيَّة محضة:
إنَّ مراتب النصرة وظروف الحاجة إليها وإنِ اختلفت، وهي حسب قدرة الأفراد ومقدار
نصرتهم، إلَّا أنَّها حاضرة وبقوَّة في عدَّة مفردات مهدويَّة كالانتظار والتمهيد
والإعداد، وهذه مفردات مرضيَّة ومقبولة، وتُعبِّر عن واقع يعيشه المؤمن بخروج
الإمام (عجَّل الله فرجه)، ومَنْ يترقَّب حصول ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) -
صباحاً ومساءً - حتَّى وإنْ لم يتحقَّق ذلك في زمانه فأمله لا ينقطع عند الرجعة.
بعض الروايات الشريفة علَّقت ظهوره (عجَّل الله فرجه) على وجود حلقة يقوم بها،
وهي
على طوائف، منها ما جعلت الخروج معلَّقاً عليها مطلقاً، ولعلَّها الأكثر اعتباراً
من جهة سندها، ومنها ما قيَّدت ذلك بالخروج من مكَّة، والأمر لا يُؤثِّر كثيراً،
لأنَّ كلامنا في توقُّف ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) وقيامه على العنصر البشري،
وهذا التوقُّف الذي لا شكَّ فيه يستتبع أنْ يكون كلُّ فرد من أفراد هذه الحلقة
بموصفات خاصَّة، وأنْ يتلبَّس بها في إطار القاعدة العامَّة من الاختيار، وأنَّ
الناس لا يُجبَرون على كمالاتهم وملكاتهم خصوصاً المؤثِّرة في عقيدتهم وتديُّنهم.
النصرة للإمام (عليه السلام) في كلمات الأعلام:
ذُكِرَت مفردة (النصرة) على لسان العديد من علماء الطائفة، وليس في خصوص الخطاب
الخاصِّ بالموالين، بل حتَّى في موارد الحجاج مع الخصوص، ممَّا يعكس كونها مفردة من
المفردات الراسخة والمعروفة في الطائفة حتَّى عُدَّت لوضوحها من المفردات التي
يصحُّ الاحتجاج بها مع الخصوم، وممَّن ذكر ذلك جماعة، منهم:
* السيِّد المرتضى (قدّس سرّه)، قال في (الشافي): (وبيَّنَّا أنَّ سبب الغيبة هو
فعل الظالمين وتقصيرهم فيما يلزم من تمكين الإمام فيه والإفراج بينه وبين التصرُّف
فيهم، وبيَّنَّا أنَّهم مع الغيبة متمكِّنون من مصلحتهم بأنْ يزيلوا السبب الموجب
للغيبة ليظهر الإمام وينتفعوا بتدبيره وسياسته)(٥٠٢).
* أبو الصلاح الحلبي (رحمه الله)، قال في (تقريب المعارف): (كيفيَّة الجمع بين
فَقْد اللطف بعدم ظهوره وثبوت التكليف: وأمَّا فَقْد اللطف بظهوره متصرِّفاً ورهبةً
لرعيَّته مع ثبوت التكليف الذي وجوده مرهوباً لطف فيه مع عدمه، فإنَّ اختصاص هذا
اللطف بفعل المكلَّف لتمكُّنه من إزاحة علَّة نفسه بمعرفة الحجَّة
-----------------
(٥٠٢) الشافي في الإمامة (ج ٣/ ص ١٥٠).
المدلول على
وجوده وثبوت إمامته وفرض طاعته وما في ذلك من الصلاح وقدرته على الانقياد، وحسن
تكليفه مع تمكين الإمام وإرهابه أهل البغي لطف فيه...، وتكليفه لازم له وإنْ فقد
لطفه بالرئاسة، لوقوف المصلحة في ذلك على إيثاره معرفة الإمام والانقياد له
باختياره دون إلجائه) (٥٠٣).
* الشيخ الطوسي (قدّس سرّه)، قال في (تلخيص الشافي): (وما يرجع إلى الإمام هو قبول
هذا التكليف، وتوطينه نفسه على القيام به. وما يرجع إلى الأُمَّة هو تمكين الإمام
من تدبيرهم، ورفع الحوائل والموانع عن ذلك، ثمّ طاعته والانقياد له والتصرُّف على
تدبيره. فما يرجع إلى الله تعالى هو الأصل والقاعدة، ولا بدَّ من تقدُّمه وتمهُّده.
ويتلوه ما يرجع إلى الإمام، ويتلو الأمرين ما يرجع إلى الأُمَّة)(٥٠٤).
إنْ قلتَ: وجوب تمكين الإمام (عليه السلام) ونصرته على الأُمَّة عامٌّ، وينصرف إلى
خصوص زمان حضوره، فلا يشمل زمان الغيبة وقبل الظهور.
قلتُ: هذا الانصراف لا معنى له بعد عموم الدليل وعدم وجود مخصِّص صريح يُخصِّص زمان
النصرة بزمان دون زمان أو حال دون حال ولو في القدر المتيقَّن من النصرة، بل صريح
كلام السيِّد المرتضى وشيخ الطائفة (قدّس سرّهما) لزوم النصرة للإمام الغائب (عجَّل
الله فرجه).
نعم مراتب النصرة تختلف باختلاف الأزمان.
نصرة العاجز:
وردت عدَّة أسئلة إلى أهل البيت (عليهم السلام) عن الأشخاص ممَّن لا يتمكَّن من
نصرتهم ويعجز عنها، وهذا الحديث متفرِّع على لزومها - ولو في بعض مراتبها - وإلَّا
فلا معنى للسؤال عن مرتبة العجز عن النصرة ما لم تكن هناك مراتب أُخرى
-----------------
(٥٠٣) تقريب المعارف (ص ٤٤٢ و٤٤٣).
(٥٠٤) تلخيص الشافي (ج ١/ ص ١٠٧).
ولازمة.
وممَّا جاء من روايات بيَّنت جواب هذا السؤال ووظيفة الناس تجاه النصرة ما ورد في
التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام): «قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
اَلصَّادِقُ (عليه السلام): قَوْلُهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: ٦]، يَقُولُ: أَرْشِدْنَا لِلصِّرَاطِ اَلمُسْتَقِيمِ،
أَرْشِدْنَا لِلُزُومِ اَلطَّرِيقِ اَلمُؤَدِّي إِلَى مَحَبَّتِكَ، وَاَلمُبَلِّغِ
إِلَى جَنَّتِكَ، وَاَلمَانِعِ مِنْ أَنْ نَتَّبِعَ أَهْوَاءَنَا فَنَعْطَبَ، أَوْ
أَنْ نَأْخُذَ بِآرَائِنَا فَنَهْلِكَ...، ثُمَّ قَالَ اَلصَّادِقُ (عليه السلام):
طُوبَى لِلَّذِينَ هُمْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله):
يَحْمِلُ هَذَا اَلْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ
تَحْرِيفَ اَلْغَالِينَ، وَاِنْتِحَالَ اَلمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ
اَلْجَاهِلِينَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، إِنِّي عَاجِزٌ
بِبَدَنِي عَنْ نُصْرَتِكُمْ، وَلَسْتُ أَمْلِكُ إِلَّا اَلْبَرَاءَةَ مِنْ
أَعْدَائِكُمْ، وَاَللَّعْنَ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ حَالِي؟ فَقَالَ لَهُ
اَلصَّادِقُ (عليه السلام): حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم
السلام)، عَنْ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ضَعُفَ
عَنْ نُصْرَتِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ، فَلَعَنَ فِي خَلَوَاتِهِ أَعْدَاءَنَا،
بَلَّغَ اَللهُ صَوْتَهُ جَمِيعَ اَلْأَمْلَاكِ مِنَ اَلثَّرَى إِلَى اَلْعَرْشِ،
فَكُلَّمَا لَعَنَ هَذَا اَلرَّجُلُ أَعْدَاءَنَا لَعْناً سَاعَدُوهُ فَلَعَنُوا
مَنْ يَلْعَنُهُ، ثُمَّ ثَنَّوْا فَقَالُوا: اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى عَبْدِكَ
هَذَا، اَلَّذِي قَدْ بَذَلَ مَا فِي وُسْعِهِ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى أَكْثَرَ
مِنْهُ لَفَعَلَ، فَإِذَا اَلنِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ اَلله تَعَالَى: قَدْ أَجَبْتُ
دُعَاءَكُمْ، وَسَمِعْتُ نِدَاءَكُمْ، وَصَلَّيْتُ عَلَى رُوحِهِ فِي
اَلْأَرْوَاحِ، وَجَعَلْتُهُ عِنْدِي مِنَ اَلمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيارِ»(٥٠٥).
ورواه العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في (بحار الأنوار)، والميرزا التقي (رحمه
الله) في (مكيال المكارم)(٥٠٦).
فلو لم تكن النصرة واجبة - ولو في بعض مراتبها - لكان الإمام (عليه السلام) يقول
له: لا يجب عليك، ولا معنى لسؤالك عن النصرة في حالة العجز.
فنصرته (عجَّل الله فرجه) في زمان غيبته ثابتة وإنْ حصل كلام في مقدارها.
* * *
-----------------
(٥٠٥) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص ٤٤-٤٧).
(٥٠٦) بحار الأنوار (ج ٣٧/ ص ٢٢٢ و٢٢٣/ ح ١١)، مكيال المكارم (ج ٢/ ص ٣٩٠ و٣٩١).
«أَيْنَ اَلمُضْطَرُّ اَلَّذِي يُجَابُ إِذَا دَعَا»
هذا المقطع من دعاء الندبة هو من
أكثر المقاطع لهيباً وامتلاءً بالألم والشوق، إذ يُلقي المؤمن بنفسه في بحر
الانتظار الموجع، ويُطلِق من قلبه صيحة الباحث عن مخلِّصه (عجَّل الله فرجه)
الغائب، فقوله: «أَيْنَ اَلمُضْطَرُّ اَلَّذِي يُجَابُ إِذَا دَعَا...» هو نداء
وجوديٌّ يتجاوز حدود اللغة والمكان، ليُعبِّر عن تمزُّق الإنسان المنتظِر بين وعيه
بعظمة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وحقيقة غيبته التي تُثقِل الوجود بأسره.
الإمام (عجَّل الله فرجه) هو الواسطة بين الخلق والخالق في إيصال الفيض الإلهي، وهو
الذي بوجوده تُحفَظ الأرض ومَنْ عليها، لكنَّه الآن في غيبة، غيبة اقتضتها الحكمة
الإلهيَّة صوناً له من بطش الظالمين، وتمحيصاً للأُمَّة.
هذه الغيبة جعلت الإمام (عجَّل الله فرجه)، من حيث موقعه الكوني، في حالة (اضطرار)،
لأنَّ مهمَّته الكبرى في إقامة العدل معطَّلة قهراً، لا عجزاً ذاتيًّا. فالمضطرُّ
هنا ليس إنساناً مكروباً في زاوية مظلمة، بل هو قلب العالم الذي اختُزِنَ فيه الأمل
والعدل والفرج، لكنَّه ينتظر أمر الله تعالى.
أمَّا قوله: «اَلَّذِي يُجَابُ إِذَا دَعَا»، فيضعنا أمام المفارقة المؤلمة: هو
المضطرُّ الذي لو رفع يديه بالدعاء لزلزلت السماء، ولأجاب الله تعالى نداءه، لأنَّه
خليفة الله (عزَّ وجلَّ) وحجَّته ومُجري إرادته في الأرض، وهو الذي لا يُرَدُّ له
دعاء. ومع ذلك، فإنَّ الدعاء الذي تنتظره البشريَّة جمعاء، دعاء الإذن بالظهور، لم
يُؤذَن له به بعد!
وهذا من أعظم ألوان البلاء للإمام (عجَّل الله فرجه) والأُمَّة معاً. وهكذا تتشكَّل
دائرة وجدانيَّة رهيبة: نحن ندعو للإمام، وهو يدعو لنا، ونحن نشعر باضطراره كما
يشعر هو بآلامنا، وعيوننا على السماء ننتظر أمر الله (عزَّ وجلَّ).
على المستوى الوجداني، هذه العبارة تخرج من حيِّز الدعاء إلى حيِّز الصرخة، إنَّها
ليست مجرَّد جملة تُقال، بل جرحٌ مفتوحٌ في قلب كلِّ مؤمن. حين
ينطق بها المنتظِر،
يشعر أنَّها تجري من قلبه لا من لسانه، كأنَّها اختزال لكلِّ مشاعر الغربة والوحدة
والخوف من أنْ يطول الانتظار. يشعر بأنَّ العالم متوقِّف، معطَّل، مشلول، لأنَّ
المضطر الذي يملك مفاتيح الفرج ما زال غائباً. وكلَّما ردَّد هذه العبارة، تحوَّل
قلبه إلى مقام حضور الإمام (عجَّل الله فرجه)، يحاكيه، يبكي معه، ينتظره لا كمنتظِر
خارجي، بل كجزء من منظومة الاضطرار التي تملأ الوجود كلَّه.
هذه الجملة أيضاً تحمل بُعداً أخلاقيًّا، فهي دعوة للمؤمن لأنْ يشعر بالمسؤوليَّة
تجاه زمن الغيبة، لا أنْ يكتفي بالندبة والحزن. فالمضطرُّ الذي يُجاب إذا دعا ينتظر
جيلاً يستحقُّ الدعاء، وأُمَّة مهيَّأة لنزول الفرج. فكلَّما نطق المؤمن بهذه
العبارة، سمع صداها يرتدُّ عليه سائلاً: هل أنت من المنتظِرين الصادقين؟ هل أنت
ممَّن يُمهِّدون للفرج أم ممَّن يُطيلون زمن الغيبة بأفعالهم؟
حديث من قلب كلِّ مؤمن:
إلهي..
أين المضطرُّ الذي يجابُ إذا دعا؟
أين القلبُ الذي وَسِعَ همَّ الأرض فلم يضق به صدرُه، بل صبَّه على أعتابِكَ دموعاً
خفيَّة؟
أين العينُ التي لا تنامُ في جوفِ الغيب، ترقبُ عبيدَكَ المتلوِّينَ بألمِ الفقد،
المشرئبِّينَ إلى شمسِهِم التي حجبتها سُحُبُ الامتحان؟
أين المضطرُّ الذي لولا اضطراره، لركدتِ السماواتُ، وانطفأتِ النجومُ، وغفتِ الأرضُ
في سباتِ العدم؟
إلهي..
كيف أشتكي فقدَه، وهو الشاكي إليك فقرَنا إليكَ؟
كيف أقولُ: مضى العمرُ في الانتظار، وأنا ما ذقتُ من الانتظارِ سوى قشرِهِ، أمَّا
لبُّهُ، ففي صدرِه الذي ضاقَ على وسعتِه، اتَّسَعَ لنا وضاقَ عليه؟
إلهي..
أأبكي نفسي، أم أذوبُ في بكاءِ مَنْ بُعِثَ ليكونَ رحمةً للعالمين، وغابَ عنِّي، لا
جزعاً من قضاء، بل امتثالاً لأمرِكَ، انتظاراً لأمرِكَ، تهيُّباً لمشهدِكَ؟
إلهي..
أليس هوَ المضطرُّ الذي وعدتَ أنْ تُجيبَ إذا دعا؟
فأينَ وعدُكَ؟
أينَ إجابتُكَ؟
أوَ تأذنُ لي أنْ أقول: عَجِّل - يا ربِّ - فرجَه، فإنَّهُ وليُّك في الأرض، وهو
شهيدُكَ الحيُّ فينا؟
مولاي الغائب..
مولاي الذي ما غبتَ إلَّا عن عيوننا، لا عن قلوبنا..
يا بنَ فاطمةَ، يا جُرْحَ اللهِ المفتوحِ في الكون..
أمَا آنَ لنا أنْ نسمعَ دعوتَكَ المجهولةَ في جوفِ الليل؟
أمَا آنَ لدمعِكَ أنْ ينهمرَ مطراً علينا، يغسِلُ أدرانَ الغيابِ من قلوبِنا؟
أمَا آنَ للكونِ أنْ يسمعَ صوتَكَ الذي لو خُيِّرَ بينه وبينَ كلِّ أصواتِهِ،
لاختاركَ نطقاً أبداً؟
اللَّهمَّ..
عَجِّل لوليِّكَ الفرج، واجعلنا من شيعته الصادقين، ومن المنتظِرين الذين لا
يملُّهم طولُ الغياب، ولا يُنسيهم ليلُ الشوقِ وجهَ النهار.
* * *
«أَيْنَ صَدْرُ(٥٠٧) اَلخَلَائِقِ»
يسأل الداعي عن الإمام الذي تجب
عليه طاعته، وبه تمام صلاته وصيامه وجميع أعماله على ما تقدَّم في عدَّة مواضع من
هذا الشرح، يسأل عن صدر الخلائق وأوَّلهم وإمامهم، وكيف يتَّصل به ويأخذ منه البرَّ
والخير.
فهذه الفقرة من جهة تُبيِّن أهمّيَّة الإمامة وأنَّها الأوَّل من الدِّين وصدر كلِّ
شيء، فإنَّه ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) هو القائد والمبيِّن
للحقِّ والعدل، بل هو الحقُّ والعدل. وممَّا لا شكَّ فيه أنَّه في زماننا هذا قد
غاب عن الأُمَّة، فيجب على المكلَّف أنْ لا يخل بوظيفته وإنْ حصلت الغيبة، لأنَّ
الإخلال بها إخلال بالتوحيد، هذا من جهة.
ومن جهة أُخرى الفقرة مرتبطة بما تقدَّم من حديث عن غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه)،
فحيث هو إمام الأُمَّة وصدرها فلا بدَّ من وجوده بين أفراد الأُمَّة، والسيرة قائمة
على الاتِّصال المباشر ورؤية الأئمَّة (عليهم السلام) ممَّن سبقوا الإمام (عجَّل
الله فرجه)، في حين أنَّ الغيبة منعت من ذلك.
الحالة القائمة قبل الغيبة هي أنَّ مَنْ كان من المؤمنين يرغب في لقاء الإمام (عليه
السلام) كان بإمكانه ذلك رغم الصعوبات التي تواجه اللقاء خصوصاً بالنسبة للإمامين
العسكريَّين (عليهما السلام)، إلَّا أنَّ الحال اختلف بعد رحيل الإمام العسكري
(عليه السلام).
وترتَّب على هذا الاختلاف تكوين نظام دقيق يفي بحاجة الناس ويُقلِّل الضرر بمقدار
ما يمكن، فتسلَّم زمام أمر إدارة بعض شؤون الناس جماعة من أعيان الطائفة عُرِفُوا
بالسفراء والنُّوَّاب الخاصِّين للإمام (عجَّل الله فرجه) - بتعيين مباشر من قِبَل
الإمام (عجَّل الله فرجه) -، واستمرَّت نيابتهم الخاصَّة ما يقرب من (٧٠) سنة،
مارسوا
-----------------
(٥٠٧) جاء في العين للفراهيدي (ج ٧/ ص ٩٤/ مادَّة صدر: (الصدر: أعلى مقدَّم كلِّ شيء، وصدر القناة أعلاها، وصدر الأمر أوَّله).
خلالها عدَّة أدوار من بين أهمّها حفظ المجتمع الشيعي وحفظ عقائده ودينه. وعُرِفَت هذه الفترة بالنيابة الخاصَّة، التي أعقبها فترة النيابة العامَّة حيث يُنيب عن الإمام (عجَّل الله فرجه) في بعض وظائفه وممَّا تصحُّ النيابة فيه جماعة من الفقهاء ضمن شرائط دقيقة ومحكمة بُحِثَت في محلِّها من كُتُب علم الكلام والفقه وغيرهما.
هذا المقطع تقدَّم الحديث عنه في
عدَّة مواضع من هذا الشرح حيث أثبتنا انتساب الإمام (عجَّل الله فرجه) إلى العترة
الطاهرة، ومن بين ما يُذكَر في هذا المقام، الآتي:
* ما روي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَلله اَلْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «اَلمَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، اِسْمُهُ اِسْمِي،
وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، أَشْبَهُ اَلنَّاسِ بِي خَلْقاً وَخُلْقاً، تَكُونُ بِهِ
غَيْبَةٌ وَحَيْرَةٌ تَضِلُّ فِيهَا اَلْأُمَمُ، ثُمَّ يُقْبِلُ كَالشِّهَابِ
اَلثَّاقِبِ يَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً
وَظُلْماً»(٥٠٨).
* عَنْ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «... وَلَيَبْعَثَنَّ اَللهُ رَجُلاً
مِنْ وُلْدِي فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ يُطَالِبُ بِدِمَائِنَا، وَلَيَغِيبَنَّ
عَنْهُمْ تَمْيِيزاً لِأَهْلِ اَلضَّلَالَةِ حَتَّى يَقُولَ اَلْجَاهِلُ: مَا لله
فِي آلِ مُحَمَّدٍ مِنْ حَاجَةٍ»(٥٠٩).
* قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «اَلمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي مِنْ
وُلْدِ فَاطِمَةَ»(٥١٠).
* * *
-----------------
(٥٠٨) كمال الدِّين (ص ٢٨٦/ باب ٢٥/ ح ١).
(٥٠٩) الغيبة للنعماني (ص ١٤٣/ باب ١٠/ ح ١).
(٥١٠) الغيبة للطوسي (ص ١٨٥ و١٨٦/ ح ١٤٥).
الفقرة الثانية والثلاثون
«يَا اِبْنَ اَلسَّادَةِ اَلمُقَرَّبِينَ، يَا اِبْنَ اَلنُّجَبَاءِ
اَلْأَكْرَمِينَ، يَا اِبْنَ اَلهُدَاةِ اَلمُهْتَدِينَ [اَلمَهْدِيِّينَ]، يَا
اِبْنَ اَلْخِيَرَةِ اَلمُهَذَّبِينَ، يَا اِبْنَ اَلْغَطَارِفَةِ(٥١١)
اَلْأَنْجَبِينَ، يَا اِبْنَ اَلخَضَارِمَةِ(٥١٢) اَلمُنْتَجَبِينَ، يَا اِبْنَ
اَلْقَمَاقِمَةِ(٥١٣) اَلْأَكْرَمِينَ [اَلْأَكْبَرِينَ]، يَا اِبْنَ اَلْأَطَايِبِ
اَلمُعَظَّمِينَ اَلمُطَهَّرِينَ [اَلمُسْتَظْهِرِينَ]، يَا اِبْنَ اَلْبُدُورِ
اَلمُنِيرَةِ، يَا اِبْنَ اَلسُّرُجِ اَلمُضِيئَةِ، يَا اِبْنَ اَلشُّهُبِ
اَلثَّاقِبَةِ، يَا اِبْنَ اَلْأَنْجُمِ اَلزَّاهِرَةِ، يَا اِبْنَ اَلسُّبُلِ
اَلْوَاضِحَةِ، يَا اِبْنَ اَلْأَعْلَامِ اَللَّائِحَةِ، يَا اِبْنَ اَلْعُلُومِ
اَلْكَامِلَةِ، يَا اِبْنَ اَلسُّنَنِ اَلمَشْهُورَةِ، يَا اِبْنَ اَلمَعَالِمِ
اَلمَأْثُورَةِ، يَا اِبْنَ اَلمُعْجِزَاتِ اَلمَوْجُودَةِ، يَا اِبْنَ
اَلدَّلَائِلِ اَلمَشْهُودَةِ، يَا اِبْنَ اَلصِّرَاطِ اَلمُسْتَقِيمِ،
-----------------
(٥١١) الغطريف السيِّد الشريف، قاله غير واحد، راجع: العين (ج ٤/ ص ٤٦٥/ مادَّة
غطرف). وفي تهذيب اللغة (ج ٨/ ص ١٩٨): (السخيُّ السريُّ الشابُّ). وعلى هذا فيكون
معناه إمَّا شرفاء السادة وإمَّا سُخاتهم. وهذا ما تقدَّم ذكره في عدَّة مواضع،
وهكذا في جملة من الفقرات التي يتكرَّر فيها ذكر عدَّة أوصاف لأهل البيت (عليهم
السلام)، لبيان سموِّ مقامهم وعلوِّ شأنهم وحيازتهم لأعلى المقامات وأسمى الصفات
وأعلاها.
(٥١٢) الخضرم يأتي بمعنى كثير الماء، على ما ذكره غير واحد، منهم الخليل (رحمه
الله) في العين (ج ٤/ ص ٣٢٩/ مادَّة خضرم).
(٥١٣) تأتي بعدَّة من المعاني، منها: السيِّد، ومنها: البحر، ومنها: الكثير. يراجع
لذلك عدَّة مصادر، منها: العين في عدَّة مواضع، وتهذيب اللغة، وغيرهما. ولعلَّ
المقصود منها هنا إمَّا السيِّد أو البحر أو المركب منها كما لو أُريد به الكناية
عن السيِّد صاحب الخير الكثير كالبحر بنحو تعدُّد الدالِّ والمدلول.
يَا اِبْنَ اَلنَّبَإِ اَلْعَظِيمِ، يَا اِبْنَ مَنْ هُوَ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ لَدَى اَلله عَلِيٌّ حَكِيمٌ، يَا اِبْنَ اَلْآيَاتِ وَاَلْبَيِّنَاتِ، يَا اِبْنَ اَلدَّلَائِلِ اَلظَّاهِرَاتِ، يَا اِبْنَ اَلْبَرَاهِينِ اَلْوَاضِحَاتِ اَلْبَاهِرَاتِ، يَا اِبْنَ اَلحُجَجِ اَلْبَالِغَاتِ، يَا اِبْنَ اَلنِّعَمِ اَلسَّابِغَاتِ، يَا اِبْنَ طه وَاَلمُحْكَمَاتِ، يَا اِبْنَ يس(٥١٤) وَاَلذَّارِياتِ، يَا اِبْنَ اَلطُّورِ وَاَلْعادِياتِ، يَا اِبْنَ مَنْ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى دُنُوًّا وَاِقْتِرَاباً مِنَ اَلْعَلِيِّ اَلْأَعْلَى...»
هذه الفقرة تتضمَّن عدَّة مقاطع
تمَّ التطرُّق إلى معظمها في طيَّات بحوث الفقرات المتقدِّمة من جهة أوصاف الأئمَّة
(عليهم السلام) وانتسابهم للنَّسَب الطاهر المعظَّم، وبيان حقائقهم الملكوتيَّة
بمقدار ما بيَّنته الروايات الشريفة، وكيفيَّة تفرُّعهم وعلومهم وخصائصهم وغير ذلك.
وممَّا تضمَّنته أيضاً بنحو التأكيد أو التأييد أو التوسعة، هو الحديث عن العديد من
الألقاب والمفاهيم التي تُوضِّح عظمة الإمام (عجَّل الله فرجه) ومقامه الرفيع عند
المولى (عزَّ وجلَّ)، هذه الألقاب تُؤكِّد على سموِّ مكانته، وترمز إلى صفاته
الإلهيَّة وعلاقته العميقة بالله تعالى ورسالاته.
* ابن مَنْ دنا فتدلَّى فكان قاب قوسين أو أدنى: عبارة تشير إلى مقامٍ عظيم للإمام
(عجَّل الله فرجه)، وهي مأخوذة من سورة النجم حيث وصف الله تعالى ما حصل من قرب
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) إلى الحضرة الإلهيَّة بقوله (جلَّ من قائل):
﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ (النجم: ٩)، فهي تُعبِّر عن القرب اللَّامتناهي بلحاظ بقيَّة المخلوقات، وليس هو من القرب المكاني، على ما مرَّ عليك
في بحث عوالم الأكوان.
-----------------
(٥١٤) ذكرنا في شرح زيارة آل يس في معرض بيان جملة من هذه المعاني العديد من المفاهيم اللغويَّة والقرآنيَّة، فراجع.
وعندما نقول: ابن مَنْ دنا فتدلَّى فكان قاب قوسين أو أدنى،
نشير إلى ذلك المعنى من القرب، فالإمام (عجَّل الله فرجه) هو بتلك المثابة من القرب
من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
فالإمام - وبمقتضى ما تقدَّم من مقامات مرَّت عليك في هذا الدعاء - قد ارتقى إلى
مقام روحي ومعنوي عظيم لا يمكن أنْ يدانيه أحد، حيث جسَّد القرب الكامل والمطلق من
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، فاستحقَّ بهذا القرب أنْ ينال هذا المقام الذي
تحدَّث عنه الدعاء المبارك.
الفقرة تشير إلى العلاقة العميقة والفريدة بينهما، وفي كلِّ شيء فهو التجسيد الحيُّ
له، وهو الامتداد الطبيعي لمقامه وصفاته وخصائصه - سوى ما دلَّ الدليل على اختصاصها
به (صلَّى الله عليه وآله) -، فليس فقط يُراد من القرب هو القرب النَّسَبي، بل مطلق
القرب.
فتدلَّى، معنى عميق وعجيب قد لا يُفهَم بهذه السهولة، هذه الكلمة تُبرِز حركة تدنٍّ
أو اقتراب بشكل لا يخطر على القلب، هذا القرب يُعبِّر عن مقام لا نظير له.
فقاب قوسين أو أدنى، استعارة عن درجة من القرب التي لا يمكن لأيِّ كائن بشري أنْ
يصل إليها سوى النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله).
الفقرة بجميع مقاطعها تحمل دلالات كبيرة على المكانة السامية للإمام (عجَّل الله
فرجه)، وتكشف عن عظمة نَسَبه، وصفاته، وعلاقته بالله تعالى، والأنبياء (عليهم
السلام)، والنبي الخاتم (صلَّى الله عليه وآله)، والعترة الطاهرة (عليهم السلام).
وممَّا يناسب تأكيده وبحثه في إطار مقاطع هذه الفقرة الأُمور التالية:
الأنساب أُصول هذا العالم:
بها يُحترَز عن الخطأ في نَسَب الناس، وتحظى بأهمّيَّة بالغة لدى الأُمَم والشعوب
على امتداد الزمان، خصوصاً لدى العرب حيث كان لهم اهتمام بالغ
بها، إذ كانوا
يُقسِّمون النَّسَب إلى ما عُرِفَ عندهم بطبقات الأنساب، حتَّى تميَّزوا عن غيرهم
بذلك، حتَّى بلغ أمر اهتمامهم أنَّ لكلِّ قبيلة منهم نسَّابة خاصًّا بهم.
وفي الأديان برز الاهتمام جليًّا بالنَّسَب حتَّى وردت فيه العديد من النصوص، فقد
أشار القرآن الكريم إلى أهمّيَّة الأنساب في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: ١٣).
ويبدو أنَّ لدى الإنسان غريزة تدفعه لمعرفة جذوره وأُصوله، حيث يترتَّب عليها
العديد من الآثار الاجتماعيَّة والدِّينيَّة والماليَّة، قال تعالى: ﴿وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: ٢١٤)، وقال تعالى: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ
خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ (البقرة: ٢١٥).
معنى النَّسَب:
اتِّصال شيء بشيء وانتسابه إليه من القرابة والعلَّة، ومن خلاله يتعارف الناس فيما
بينهم ويعرفون درجة القرابة والعلَّة مع بعضهم. ومن شدَّة الاهتمام به تشكَّل ومنذ
القِدَم علم خاصٌّ به يُعرَف بعلم الأنساب له قواعده وأُصوله، وعلى أساس هذه
الأُصول بُنيت التركيبات الاجتماعيَّة التي تطوَّرت من العائلة والأُسرة إلى البطون
والعشائر والقبائل وغيرها، حتَّى انتهى نَسَب العرب مثلاً إلى رجلين: عدنان وقحطان.
من الآثار المترتِّبة على النَّسَب:
هو اعتباره في إمامة الأئمة (عليهم السلام)، قَالَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه
السلام): «إِنَّ اَلْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ، غُرِسُوا فِي هَذَا اَلْبَطْنِ مِنْ
هَاشِمٍ، لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ، وَلَا تَصْلُحُ اَلْوُلَاةُ مِنْ
غَيْرِهِمْ»(٥١٥).
-----------------
(٥١٥) نهج البلاغة (ص ٢٠١/ الخطبة ١٤٤).
من هنا نجد الأئمَّة (عليهم السلام) عندما كانوا يتحدَّثون عن خصائص الإمام وصفاته
كانوا يذكرون الأنساب الطاهرة، وأنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) بما له من وظيفة لا
بدَّ أنْ تكون فيه خاصّيَّة النَّسَب الطاهر في الأصلاب إلى آدم (عليه السلام)،
فَعَنْ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «إِنِّي وَأَهْلَ بَيْتِي كُنَّا
نُوراً يَسْعَى بَيْنَ يَدَيِ اَلله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ
اَللهُ (عزَّ وجلَّ) آدَمَ (عليه السلام) بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ سَنَةٍ،
فَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ (عليه السلام) وَضَعَ ذَلِكَ اَلنُّورَ فِي صُلْبِهِ
وَأَهْبَطَهُ إِلَى اَلْأَرْضِ...، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)
يَنْقُلُنَا مِنَ اَلْأَصْلَابِ اَلْكَرِيمَةِ إِلَى اَلْأَرْحَامِ اَلطَّاهِرَةِ،
وَمِنَ اَلْأَرْحَامِ اَلطَّاهِرَةِ إِلَى اَلْأَصْلاَبِ اَلْكَرِيمَةِ مِنَ
اَلْآبَاءِ وَاَلْأُمَّهَاتِ، لَمْ يَلْتَقِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى سِفَاحٍ
قَطُّ»(٥١٦).
وفي عدَّة زيارات للأئمَّة (عليهم السلام)، ومنها زيارة الإمام الحسين (عليه
السلام) ورد هذا التعبير: «أَشْهَدُ أَنَّكَ كُنْتَ نُوراً فِي اَلْأَصْلَابِ
اَلشَّامِخَةِ وَاَلْأَرْحَامِ اَلمُطَهَّرَةِ»(٥١٧).
وفي زيارة أُخرى لهم (عليهم السلام): «لَمْ تَزَالُوا بِعَيْنِ اَلله يَنْسَخُكُمْ
فِي أَصْلَابِ كُلِّ مُطَهَّرٍ، وَيَنْقُلُكُمْ فِي أَرْحَامِ
اَلمُطَهَّرَاتِ»(٥١٨).
إلَّا أنَّنا نجد - مع الأسف - بعضاً ممَّن لا يعي ما يقول أو يتربَّص بأهل الطهارة
في أنسابهم تغطيةً على دناءة أنساب غيرهم ممَّن تقدَّمهم بغير وجه حقٍّ، نجد من
هؤلاء الطعن في إيمان أطهر نَسَب عرفته البشريَّة، فينال من عبد المطَّلب وعبد الله
وآمنة وأبي طالب والسيِّدة نرجس والدة الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه).
القراءة الأوَّليَّة للموروث الدِّيني تُنبئ بوضوح أنَّ هذه الأسماء نقيَّة طاهرة
من الدنس أو الشكِّ أو غير ذلك(٥١٩).
* * *
-----------------
(٥١٦) كمال الدِّين (ص ٢٧٥/ باب ٢٤/ ح ٢٥).
(٥١٧) مصباح المتهجِّد (ص ٧٢١).
(٥١٨) الكافي (ج ٤/ ص ٥٥٩/ باب زيارة مَنْ بالبقيع).
(٥١٩) وسيأتي التعرُّض لإثبات طهارتها وإسلامها بعدَّة أدلَّة في فقرة لاحقة.
الفقرة الثالثة والثلاثون
«لَيْتَ شَعْرِي أَيْنَ اِسْتَقَرَّتْ بِكَ اَلنَّوَى، بَلْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ
أَوْ ثَرَى [أَوِ اَلثَّرَى]، أَبِرَضْوَى أَمْ غَيْرِهَا أَمْ ذِي طُوًى، عَزِيزٌ
عَلَيَّ أَنْ أَرَى اَلخَلْقَ وَلَا تُرَى، وَلَا أَسْمَعُ لَكَ حَسِيساً وَلَا
نَجْوَى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ لَا تُحِيطَ بِي دُونَكَ اَلْبَلْوَى [تُحِيطَ بِكَ
دُونِيَ اَلْبَلْوَى]، وَلَا يَنَالَكَ مِنِّي ضَجِيجٌ وَلَا شَكْوَى، بِنَفْسِي
أَنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نَازِحٍ مَا
يَنْزَحُ [نَزَحَ] عَنَّا، بِنَفْسِي أَنْتَ أُمْنِيَّةُ شَائِقٍ تَمَنَّى
[يَتَمَنَّى] مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ ذَكَرَا فَحَنَّا، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ
عَقِيدِ عِزٍّ لَا يُسَامَى، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ أَثِيلِ مَجْدٍ لَا يُحَازَى
[يُجَازَى] [يُحَاذِي]، بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ تِلَادِ نِعَمٍ لَا تُضَاهَى،
بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نَصِيفِ شَرَفٍ لَا يُسَاوَى، إِلَى مَتَى أُجَارُ [أَحَارُ]
فِيكَ يَا مَوْلَايَ، وَإِلَى مَتَى وَأَيَّ خِطَابٍ أَصِفُ فِيكَ وَأَيَّ نَجْوَى،
عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أُجَابَ دُونَكَ وَأُنَاغَى [أَوْ أُنَاغَى]، عَزِيزٌ عَلَيَّ
أَنْ أَبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ اَلْوَرَى، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكَ
دُونَهُمْ مَا جَرَى، هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ اَلْعَوِيلَ
وَاَلْبُكَاءَ، هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَأُسَاعِدَ جَزَعَهُ إِذَا خَلَا، هَلْ قَذِيَتْ
عَيْنٌ فَتَسْعَدُهَا [فَسَاعَدَتْهَا] عَيْنِي عَلَى اَلْقَذَى، هَلْ إِلَيْكَ يَا
بْنَ أَحْمَدَ سَبِيلٌ فَتُلْقَى، هَلْ يَتَّصِلُ يَوْمُنَا مِنْكَ بِغَدِهِ
فَنَحْظَى، مَتَى نَرِدُ مَنَاهِلَكَ اَلرَّوِيَّةَ فَنَرْوَى
[فَنَرْوِي]، مَتَى نَنْتَفِعُ [نَنْقَعُ] مِنْ عَذْبِ مَائِكَ فَقَدْ طَالَ اَلصَّدَى، مَتَى نُغَادِيكَ وَنُرَاوِحُكَ فَتَقَرَّ عُيُونُنَا [فَنَقِرَّ مِنْهَا عَيْناً]، مَتَى تَرَانَا [نَرَانَا] وَنَرَاكَ وَقَدْ نَشَرْتَ لِوَاءَ اَلنَّصْرِ، تُرَى أَتَرَانَا [أَنَرَانَا] نَحُفُّ بِكَ وَأَنْتَ تَؤُمُّ اَلمَلَأَ، وَقَدْ مَلَأْتَ اَلْأَرْضَ عَدْلاً، وَأَذَقْتَ أَعْدَاءَكَ هَوَاناً وَعِقَاباً، وَأَبَرْتَ اَلْعُتَاةَ وَجَحَدَةَ اَلحَقِّ، وَقَطَعْتَ دَابِرَ اَلمُتَكَبِّرِينَ، وَاِجْتَثَثْتَ أُصُولَ اَلظَّالِمِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ: اَلحَمْدُ لله رَبِّ اَلْعَالَمِينَ»
تُعتبَر هذه الفقرة من الدعاء من
أعمق الفقرات في التعبير عن شدَّة الحنين والتطلُّع لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)
حيث تظهر فيها المشاعر عند الداعي، وهي تُعبِّر عن الألم والحزن العميق، وعن الأسى
واللوعة لغياب الإمام (عجَّل الله فرجه)، ويعكس الداعي من خلال مقاطع الدعاء مشاعره
في الفقدان والتوق إلى اللقاء به (عجَّل الله فرجه).
وإليك توضيحاً لبعض المقاطع الرئيسة في هذه الفقرة:
«لَيْتَ شَعْرِي أَيْنَ اِسْتَقَرَّتْ بِكَ اَلنَّوَى».
تنطلق هذه الكلمات من قلب يعتصره الشوق والألم والأسى والتفجُّع، فالداعي يتمنَّى
لو يعلم أين انتهى بمولاه المسير، وأيُّ أرض تخفيه عن أبصار المؤمنين. لكن كيف
للأرض أنْ تخفيك عن قلوب المؤمنين، وأنت النور الذي لا يُحجَب؟!
إنَّ غيابك سيِّدي عن الأعين لا يعني غيابك عن القلوب التي تنبض بحبِّك، ولا
الأرواح التي تتوق للقياك، فالجهل بمكانك يزيد من وطأة الغيبة، ويُعمِّق الجراح
والآلام في النفوس المثقلة بألم الفراق والحيرة.
وكأنَّه كُتب على هذه النفس أنْ تتخبَّط في ظلمات البُعد عنك، عاجزة عن الاهتداء
إلى طريقك، فتظلُّ متلهِّفة لحضورك، متعطِّشة لظهورك.
سيِّدي إنَّه سؤال يُعبر عن الحيرة والأسى، وكأنَّ الجهل بمكانك يزيد من وطأة
الغيبة على قلوبنا.
هذه الكلمات من دعاء الندبة تفيض بشوق عميق وحنين موجع للإمام الغائب (عجَّل الله
فرجه) حيث يقف المؤمن المحروق القلب أمام غيابه حائراً بين ألم الفقد وأمل اللقاء،
فهي كلمات تُعبِّر عن غربتين: غربة الإمام (عجَّل الله فرجه) في غيبته، وغربة
المؤمن في انتظاره.
يُجسِّد السؤال: «أَيْنَ اِسْتَقَرَّتْ بِكَ اَلنَّوَى، بَلْ أَيُّ أَرْضٍ
تُقِلُّكَ أَوْ ثَرَى، أَبِرَضْوَى أَمْ غَيْرِهَا أَمْ ذِي طُوًى» حيرة المشتاق
الذي يبحث في كلِّ مكانٍ عن حسيس إمامه (عجَّل الله فرجه)، إنَّها ليست مجرَّد
كلمات عاطفيَّة، بل صرخة وجدانيَّة تعكس حاجة الإنسان إلى عدالة رجل السماء
الموعود، وتحمل في عمقها رجاءً حارًّا وثقةً مطلقةً بوجوده وتدبيره لنا، بل وبعودته
وظهوره الذي سيعيد العدل والقسط إلى الكون.
حين يسأل المؤمن فهذه الكلمات ليست مجرَّد استفسار مكاني، بل تعبير عن حيرة
عاطفيَّة وروحيَّة كبيرة وعميقة لا تسعها الكلمات يبحث من خلالها هذا الداعي المؤمن
عن أثر الإمام في كلِّ زاوية من الأرض، وقد مرَّت عليك في عدَّة فقرات من هذا الشرح
الوجد والألم والحنين إلى الإمام وطلب بعض المؤمنين اللقاء به (عجَّل الله فرجه)،
نحن نعلم يقيناً أنَّ الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) يتردَّد بيننا ويمشي في
أسواقنا ويطأ فرشنا ولكن لا نعرفه.
هذه الفقرة من الدعاء كالبركان الذي يغلي في روح المنتظِر لإمامه (عجَّل الله
فرجه)، وهو يُعبِّر عن علاقة إيمانيَّة ووجدانيَّة أعلى من مستوى العلاقة العلميَّة
والمعرفيَّة
المجرَّدة - والتي هي حسنة ومطلوبة جزماً -، فهو ينبض بروح التعلُّق
بالإمام (عجَّل الله فرجه) كما تعكسه روايات عديدة مرَّ بعضها، وممَّا جاء فيها:
«إِذَا أَدْرَكْتَ هَذَا اَلزَّمَانَ فَادْعُ بِهَذَا اَلدُّعَاءِ: اَللَّهُمَّ
عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ
نَبِيَّكَ، اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي
رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ
إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي»(٥٢٠).
فهذا الدعاء يشير إلى أنَّ معرفة الإمام ليست مسألة فكريَّة فقط، بل هي مسألة
وجدانيَّة.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام)،
قَالَ: قُلْتُ: مَا تَأْوِيلُ قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ
أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠]،
فَقَالَ: «إِذَا فَقَدْتُمْ إِمَامَكُمْ فَلَمْ تَرَوْهُ، فَمَاذَا
تَصْنَعُونَ؟»(٥٢١).
* * *
«أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ ثَرَى»
هذا التعبير يرتقي بألم الغياب إلى
مستوى الانهيار الروحي والكارثة النفسيَّة، فهو تصوير وجداني بالغ التأثير، يُجسِّد
حالة العجز والانكسار أمام غياب الإمام (عجَّل الله فرجه).
أيُّ تراب ينال شرف قربك؟
هذه هي نفوس المؤمنين التي أضناها الفقد، وأظمأها غيابك، فازدادت شوقاً واحتراقاً
بنورك الموعود.
-----------------
(٥٢٠) الكافي (ج ١/ ص ٣٣٧/ باب في الغيبة/ ح ٥).
(٥٢١) الإمامة والتبصرة (ص ١٢٥/ ح ١٢٤).
أمَّا نفوس أهل الظلم والانحراف، فهي منذ أنْ حادت عن هديك، لا تزال غارقة في ظلمات
الجور والابتعاد، تتخبَّط في أودية العصيان، بعيدة كلَّ البُعد عن سبيل الحقِّ
والنور.
إنَّ غيبتك يا سيِّدي ليست غياباً فقط عن المكان، بل هي ألم حاضر في الزمان، جرح
مفتوح في قلوب المحبِّين، لا يلتئم إلَّا بظهورك الذي تنتظره الأرض والسماء ليعود
للكون اتِّزانه، وللحقِّ نوره، وللإنسانيَّة خلاصها.
الحياة - في ظلِّ هذه الغيبة - امتلأت ظلماً وجوراً، فغابت معاني الطمأنينة،
وتكاثرت الآلام، ولولا وصيَّة أهل البيت (عليهم السلام) بالصبر والانتظار لكان هذا
الألم الحارق اللَّاهب كافياً ليهوي بنفوسنا وأرواحنا إلى الهلاك. وكيف لا يكون
كذلك وهو غيبات للطف الله ورحمته ورأفته عنّا.
الداعي يعجُّ متسائلاً عن المكان الذي يوجد فيه الإمام (عجَّل الله فرجه)، وهل هناك
أرض معيَّنة اختارها لتكون موضع غيبته، كي يذهب إليها ويسكن فيها عسى أنْ يحظى
بنظرة منه (عجَّل الله فرجه)، أو أنَّه في مكانه البعيد عن الأعين، تخفيه حكمة
الباري تعالى؟
إنَّه تساؤل تملؤه الحيرة والشوق، حيث يودّ قلب كل مؤمن أنْ يُدرِك أين يستقرُّ
مولاه، وأين محطُّ تلك الرحمة الإلهيَّة التي تحملها روحه، كي تكون ملاذاً للأرض
ومَنْ عليها.
* * *
«عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَى اَلخَلْقَ وَلَا تُرَى»
يُعبِّر هذا النداء عن ألم لا يُوصَف يعتصر قلب الداعي حيث شعورٌ مريرٌ حين يرى الخلق يمضون في حياتهم، بينما الإمام (عجَّل الله فرجه) - الذي هو النور الإلهي
والقائد الربَّاني - غائب عن أنظاره. إنَّه عذاب يمزج بين البعد عن الإمام (عجَّل الله فرجه) والحسرة على حرمان العالم من حضوره الذي يحمل معه الهداية والعدل.
* * *
«بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا»
آهٍ.. يا صاحبَ الغيبة، يا غائباً
حاضراً، يا ساكناً في طيَّات الأرواح، وإنْ حُجِبَت عنك الأبصار.. أُفديك بنفسي،
أُسلِّمكَ روحي، أضعُ وجودي كلَّه بين يديك، لا عن تصنُّع، بل عن حُبٍّ استغرقني
حتَّى ما عدتُ أرى لنفسي وجوداً إلَّا بك، ومنك، وإليك.
أنتَ غائبٌ، نعم، لكنَّك حاضرٌ فينا بما لا تُدرِكه العيون، حاضرٌ في أقدارنا، في
لطف الله تعالى الساري في تفاصيل حياتنا، حاضرٌ في تأييدكَ، حاضرٌ في لطفك الخفي
الذي يمنع الأرض أنْ تميد بأهلها، حاضرٌ كالشمس إذا جلَّلها السحاب، نراها بنورها
وإنْ حجبتها عيوننا.
غيبتُكَ امتحانٌ لنا، لكنَّ حضورك رحمةٌ مدَّخرةٌ في غيبتك، أنتَ الغائبُ الحاضر،
الذي لا تخلو منه القلوبُ المتيقِّظة، ولا الأرواحُ المستظِلَّة بظلِّ الله (عزَّ
وجلَّ)، ولا الأيَّامُ التي تحملُ في باطنها خيوط تدبيركَ المنتظَر.
أيُّ مقامٍ هذا الذي يُسنِده إليك الدعاء؟
مقامُ مَنْ غابَ عن أعيننا، لكنَّه لم يغب عن ذواتنا، مقامُ مَنِ احتجبَ ستراً، لا
بُعداً، مقامُ مَنْ لو خلا منَّا لهلكنا، ولو خلا قلبٌ مؤمنٌ من ذِكرِه لتزلزلت
عليه دنياه.
إنَّه غيابٌ ممزوج بالحضور، وإنَّه احتجابٌ لا يقطعُ شعاعَ الوصل، بل يُربِّينا،
يُربِّي أشواقنا، يُعظِّم لهفتنا، يُنضِج انتظارنا.
وهنا تتجلَّى اللوعة:
يا مولاي.. غبتَ عنَّا لتكونَ فينا أعظم حضوراً، واحتجبتَ لتكونَ في القلوب أرسخَ
سلطاناً. لولا غيبتُكَ، لركنَّا إلى العيان، ولولا غيبتُكَ، ما عرفنا قيمة الشوق،
ولولا غيبتُكَ، ما ذقنا طعم الرجاء.
غيبتُكَ امتحانٌ، لكنَّها نعمة، لأنَّك ما غبتَ إلَّا لتتمَّ مشيئة الله تعالى في
نصرك، وما احتجبتَ إلَّا لتشرق في قلوبنا شمسُ الولاء الخالص، وما احتجبتَ إلَّا
ليكون ظهورك عيداً لا يُضاهيه عيد.
سيِّدي أنتَ أولى بي من نفسي، أنتَ معنى حياتي، أنتَ الغائب الذي بدونك أشعر
بالغربة وإنْ كنتُ بين أهلي، وبلقياكَ أشعرُ بالوطن وإنْ كنتُ في المنافي.
أنتَ الذي لم يخلُ منَّا..
لأنَّك في صلواتنا، في دعائنا، في بكائنا، في رجائنا، في أحلامنا، في هواجس قلوبنا،
في تفاصيل يومنا..
بنفسي أنت..
أيُّ كلمةٍ هذه التي تقفُ فيها النفسُ خاشعة، كأنَّها تسلخُ نفسها من ذاتها لتقول:
أنتَ، لا أنا..
أنتَ الروحُ حين تجفُّ الأرواحُ.
أنتَ النبضُ حين ينطفئُ القلبُ.
أنتَ الرجاءُ الذي لا يموتُ، وإنْ ماتَت الآمالُ الصغيرةُ في دروبِ الانتظار.
بنفسي أنت من مغيَّبٍ لم يخلُ منَّا..
لم تخلُ الأرضُ من أثرِ قدَمِكَ، وإنْ غابت خطاكَ عنها.
لم تخلُ القلوبُ من بردِ ظلِّكَ، وإنْ لم تَرَكَ العيونُ.
لم تخلُ الأرواحُ من اسمكَ، وإنْ نسيته الألسنُ.
آه يا مولاي..
أيُّ غيابٍ هذا الذي صارَ فيه الغائبُ أقربَ من كلِّ حاضر.
أيُّ حجابٍ هذا الذي صارَ فيه المحجوبُ شمساً لا تخبو تحتَ سُحُبِ الغياب.
أيُّ ابتلاءٍ هذا الذي صارَ فيه الفقدُ ميدانَ الحضورِ الخالصِ، لا حضورَ الجوارحِ،
بل حضورَ الأرواح.
مولاي..
في كلِّ ركعةٍ أسجدُها، تسري أسماؤكَ في وجداني.
في كلِّ دمعةٍ أذرفُها، يرتسمُ وجهكَ في قلبي.
في كلِّ انتظارٍ أعيشه، تكتملُ صورتُكَ التي لم أُبصرها قطُّ، لكنَّني أحملُها
نقشاً على جدارِ النفس.
مولاي..
لم تخلُ منا، بل نحنُ الذين خَلَونا من أنفسِنا حين نسيناكَ.
نحنُ الذين غِبنا عنكَ حين اعتقدنا أنَّنا نراكَ في المحسوسات فقط.
أنتَ حاضرٌ، حضورَ الرمزِ في التاريخِ، حضورَ الرجاءِ في قلوبِ اليائسين، حضورَ
الأملِ في صلواتِ المتعبين.
هذا، وتتحدَّث جملة من الآيات الكريمة عن رقابة الله تعالى والنبيِّ الأكرم (صلَّى
الله عليه وآله) على هذه الأُمَّة - وكذا عن رقابة الإمام (عجَّل الله فرجه) رغم
غيابه فهو الرقيب الشاهد -، من قبيل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ
رَقِيباً﴾ (النساء: ١)، وقوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾
(البقرة: ١٤٣).
عين الله تعالى في خلقه:
ويجدر بنا قبل الحديث عن الذي يراقبنا أنْ نبحث عن مسألة أُخرى في غاية الأهمّيَّة
حاصلها: هل نحن بحاجة إلى مَنْ يراقبنا؟
قد يقول بعضنا: إنَّني أملك شهادةً عاليةً أو سلطةً ونفوذاً أو جاهاً، وما إلى ذلك
من الأُمور التي تغنيني عن أنْ أقع تحت سلطة الرقابة.
فالعلم مثلاً قد يُصوِّر لصاحبه - أي العالِم - أنَّك لا تحتاج لمن يراقبك!
وحُسْنُ الخُلُق قد يُصوِّر للشخص أنَّه لا يحتاج إلى مَنْ يراقبه ليضبط إيقاعات
تصرُّفاته!
وهكذا قد يرد هذا التساؤل.
والجواب:
في الحقيقة لا يمكن أنْ نتصوَّر شخصاً مهما كانت مكانته يستغني عن وجود رقيبٍ يضبط
له مفاهيمه وتصرُّفاته.
وقد يطالب البعض بالدليل على هذه المقولة.
وإنَّما هو الوجدان، فإنَّنا نشعر بوجداننا أنَّنا مهما امتلكنا من علم أو سلطة أو
جاه فإنَّنا بحاجة إلى الرقابة.
وما سيرة العقلاء بيننا في جعل جميع إدارات مفاصل الدولة تحت الرقابة إلَّا
لاستشعارٍ بضرورة ذلك.
إذا اتَّفقنا على ضرورة الرقابة، فتعالوا معي لنلقي نظرة على أصنافها المختلفة،
ونلاحظ حاجتنا وإلى أيِّ رقيبٍ نثق أنْ نركن وبرقابته نأمن؟
إنَّ للرقابة أصنافاً مختلفة:
١ - إلهيَّة أشارت إليها الآية الأُولى.
٢ - نبويَّة أشارت إليها الآية الثانية.
٣ - وتنبثق من هذه الرقابة رقابة ولويَّة للإمام (عليه السلام) بمقتضى ولايته على
الأُمَّة وهدايته لها.
وقد دلَّت نصوص عديدة على ذلك، منها هذا المقطع: «اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا عَيْنَ
اَلله فِي خَلْقِهِ»، وهو جزء من زيارة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يوم
الجمعة(٥٢٢).
٤ - وهناك رقابة ذاتيَّة ينبغي أنْ يكون عليها الإنسان، تشير إليها جملة من الآيات
أيضاً، كقوله تعالى: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ (القيامة: ١٤).
بل إنَّ القرآن الكريم يُحدِّثنا عن شهادة بعض جوارحنا على أنفسنا ولولا كون هذه
الجوارح تُدرِك أفعالنا وتُسجِّلها علينا لما كان من وجهٍ للحديث عن شهادتها علينا،
إذ يقول تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (يس: ٦٥).
فالآية ظاهرة في أنَّ الجارحة تراقب تصرُّفات الإنسان وتضبط حركاته وسكناته، بل
وتضبط وجهة الحركة ومقصدها.
والذي يتابع هذا المضمار يجد أنَّ علم الاجتماع بتناول هذه المسألة بشكل جدِّي
أكثر، واستُفيد منها في الواقع الاجتماعي فضلاً عن الفردي بشكل أكبر، ونتج عن ذلك
أفكار رائعة في التخلُّص من مشاكل ذاتيَّة أو اجتماعيَّة كان يصعب إلى حدٍّ كبير
السيطرة عليها.
فضَبْطُ الإنسان لإيقاعاته يدخل في هذا المضمار، سواءً كان هذا الضبط ناشئاً من
أعماقه من دون أنْ يكون هناك مؤثِّر خارجي، أو كان بواعز المؤثِّر الخارجي، لا فرق
من هذه الجهة.
ونستعين هنا لأجل ذلك بجملة من الآداب التي نتحلَّى بها في قضايا دينيَّة
-----------------
(٥٢٢) جمال الأُسبوع (ص ٤١).
أو
اجتماعيَّة لتقريب فكرتنا في ضرورة استشعار رقابة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
في زماننا، وجعلها مؤشِّراً يضبط إيقاع أفكارنا ومعتقداتنا وسلوكيَّاتنا.
تنصُّ جملة من الآداب الدِّينيَّة في كثير من العبادات الشرعيَّة على أنَّ هناك
تصرُّفات وهيئات ينبغي أنْ يتحلَّى بها الشخص ليُحصِّل الرتبة السامية من عمله الذي
يقوم به.
مثلاً في الصلاة بعد تجاوز مرحلة أداء الواجبات والشرائط التي بها يكون امتثال
التكليف من قِبَل العبد.
تأتي مرحلة الآداب التي تسمو بهذا العمل إلى أعلى رتبه، أو تنخفض به إلى أدنى رتبه،
وهو ما يُعبَّر عنها في اللسان الفقهي بمستحبَّات الصلاة ومكروهاتها، فهذان
الحدَّان يقومان بتغيير الحقيقة الصلاتيَّة من كونها فعلاً يُلَفُّ بخرقةٍ - كما
روي ذلك عَنِ اَلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله): «إِنَّ مِنَ اَلصَّلاَةِ
يُقْبَلُ مِنْهَا نِصْفُهَا، وَثُلُثُهَا، وَرُبُعُهَا، وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ اَلثَّوْبُ اَلْخَلَقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ
صَاحِبِهَا»(٥٢٣)، بل في بعض الأخبار أنَّ الصلاة تدعو عليه وتقول له:
«ضَيَّعْتَنِي ضَيَّعَكَ اَللهُ»(٥٢٤) - إلى كونها فعلاً يوجب أنْ يكون العبد يسمع
بسمع الله ويبصر ببصره وينظر بنظره(٥٢٥)، وإنَّه لَفارقٌ كبير. وليس هذا الفارق
الكبير إلَّا بسبب آداب هي إلى حدٍّ ما تُشكِّل مظاهر خارجيَّة للصلاة. ومن هذه
الحالة ننطلق إلى الآداب الاجتماعيَّة التي انعقدت عليها عادات المجتمعات وتقاليدهم
فصارت أعرافاً ملزمة يُستهجَن، بل يُعاقَب من يتجاوزها، وهي في ذات الوقت مظاهر
خارجيَّة على مستوى الحديث أو الملبس وأمثالهما.
-----------------
(٥٢٣) عوالي اللئالي (ج ١/ ص ٤١١/ ح ٧٨).
(٥٢٤) الكافي (ج ٣/ ص ٢٦٨/ باب من حافظ على صلاته أو ضيَّعها/ ح ٤).
(٥٢٥) راجع: الكافي (ج ٢/ ص ٣٥٢ و٣٥٣/ باب من آذى المسلمين واحتقرهم/ ح ٧ و٨).
إنَّ المجتمع يهتمُّ ولا أقلَّ يراقب:
١ - المظهر الخارجي للأشخاص.
٢ - الكلام والألفاظ المعبِّرة عن المعاني.
فهما يُشكِّلان عندنا - بل حتَّى عند الشريعة - قيمةً عاليةً، ولعلَّ ذلك لأجل أنَّ
للمظهر والألفاظ قابليَّة الكشف عن الحقائق الداخليَّة بنسبة ما، ولذا قال تعالى:
﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ (الفتح: ٢٩).
ولا يخفى على مَنْ لامس علم البيان والبديع أنَّ الألفاظ لها آداب، ولحُسن الحديث
وأدبه ممَّا شغل أهل هذا الفنِّ طويلاً، وجعلهم يضبطون أوضاعه ويُنظِّمونه في إطار
قواعد كلَّما طبَّقناها أكثر اقتربنا من الهدف.
وكذلك فيما يرتبط بالمظهر وخصوصاً في زماننا هذا نجد أنَّ هناك مؤسَّسات تُدرِّسُ
هذا الفنَّ، وأنَّ الشخصيَّات الكبيرة اجتماعيًّا تخضع لنظام تدريسي وتدريبي، وأنَّ
هناك أموالاً طائلة تُصرَف في سبيل ضبط المظهر.
وهنا سؤال: لماذا نقصد المظاهر والألفاظ ونتابعها؟
في الحقيقة إنَّنا نجهل الأشخاص المحيطين بنا، ولأجل التعرُّف عليهم أكثر نتشبَّثُ
بالمظاهر والألفاظ لتكشف لنا بعض حقيقة هؤلاء.
ومن زاوية أُخرى فإنَّ الانجذاب للمظهر الحسن والكلام الجميل يُعَدُّ من الأُمور
الوجدانيَّة، لاحظ معي قوله تعالى في هذه الآية: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ﴾ (البقرة: ٢٤٧)، فإنَّ الله سبحانه وتعالى يتحدَّث في مقام التفضُّل
على عبده أنَّه زاده بسطةً في جسمه، بل إنَّ في قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ (القَصَص: ٧٩) إشعاراً لما للزينة من أثر في النفس
والانجذاب والميل إلى صاحبها والتأثُّر به، وعَنْ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه
السلام): «تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ اَلمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ
لِسَانِه»(٥٢٦).
-----------------
(٥٢٦) نهج البلاغة (ص ٥٤٥/ ح ٣٩٢).
فالمظهر غالباً كما الألفاظ كاشفٌ عن الأشخاص.
ومن هنا يحسنُ بنا إدارة الكلمات كما المظهر ونعرف متى نتكلَّم، وكيف نتكلَّم،
وبماذا نتكلَّم، لأنَّه بضبط ذلك نضبط مقدار تأثيرنا في الناس.
والسؤال الآخر: كيف لي أنْ أملكَ هذه الأشياء؟
في الحقيقة أنَّ رقابة المجتمع كلَّما كانت صارمة ومنضبطة كانت قادرة على إيجاد هذه
الأشياء في الناس المتفاعلين معها، فلو أنَّ شخصاً طُلِبَ منه أنْ يتكلَّم في
مجتمعٍ معيَّن، تراه يقوم باستعدادات وتهيئة مقدَّمات وتدريبات كثيرة لكي ينجح في
هذه المهمَّة، لماذا؟ لأنَّنا نراقبه.
وليكن، وما تأثير رقابتنا عليه؟!
في الحقيقة أنَّ الرقابة التي يتمتَّع بها المجتمع تُشكِّل أهمّيَّة كبيرة، لأنَّ
هذا الشخص لو فشل في هذه المهمَّة فإنَّه سيخسر وضعاً اجتماعيًّا ونفسيًّا وربَّما
ماليًّا.
لو حاولنا نقل هذه الحقيقة التي نمارسها لمرَّات عديدة في اليوم الواحد إلى علاقتنا
بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فما الذي سنرى؟
نحن نعرف جيِّداً أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) هو المرآة التي تعكس وجودنا بجميع
حيثيَّاته إلى الله سبحانه وتعالى، لأنَّه هو العين التي تراقبنا، فعلى هذا الأساس
إذا أردنا أنْ نعرف صحَّة فعلٍ من أفعالنا أو بطلانه أو رفض عملٍ أو قبوله فإنَّنا
لا بدَّ أنْ نستكشف ذلك من خلال علاقتنا بالإمام (عجَّل الله فرجه)، ومتى ضُبِطَت
هذه العلاقة حقيقةً وشكلاً ولفظاً فإنَّها ستنتج أطيب النتائج المرجوَّة، وعلى سبيل
المثال، فإنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) عندما أراد أنْ يتحدَّث عن أثر الإمام في
الأعمال - وبطبيعة الحال أنَّ الإمام عندما يتحدَّث وانطلاقاً من وظيفته فإنَّه
يتحدَّث عمَّا يُؤثِّر على ضبط
العلاقة بين الإنسان وربِّه في الجانب العبادي -،
فنراه يقول (عليه السلام): «بِالْإِمَامِ تَمَامُ اَلصَّلَاةِ وَاَلزَّكَاةِ
وَاَلصِّيَامِ وَاَلْحَجِّ...»(٥٢٧).
فإذا سألْنا: لماذا به تمام الأعمال؟ لماذا لا يكون تمام الصلاة بالمظهر الذي نلقى
به الله تعالى عندما نكون في الصلاة، وبالألفاظ التي نأتي بها عندما نُؤدِّيها؟
لماذا يكون الإمام (عليه السلام) هو تمام الصلاة والزكاة والصيام؟ فإنَّنا نجد
الجواب على لسان الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: «نَحْنُ شُهَدَاءُ اَلله
عَلَى خَلْقِهِ»(٥٢٨).
فلا بدَّ لنا عند القيام بأيِّ عملٍ أنْ نستشعر رقابة الإمام (عجَّل الله فرجه)
علينا وعينه الناظرة إلينا على مستوى روحنا وضبط العلاقة معه، وعلى مستوى مظهرنا
وما يُؤثِّر في تلك العلاقة، وعلى مستوى ألفاظنا وكيف تكون مقوّية لتلك العلاقة
وضابطةً ومؤثِّرةً فيها.
والله تعالى يقول: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: ١٠٥)، فالإمام (عليه السلام) يرى كلَّ ما نقوم به من
أعمال ويراقب حقيقة العمل ومظهره، وينبغي بعد استحضار هذه الحقيقة في نفوسنا أنْ
نجعل أعمالنا من أجمل ما يمكن أن يراه الإمام (عجَّل الله فرجه) حتَّى نصير مصداقاً
لقول الإمام الرضا (عليه السلام) عندما سأله ابن الجهم: جُعِلْتُ فِدَاكَ،
أَشْتَهِي أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا عِنْدَكَ، قَالَ: «اُنْظُرْ كَيْفَ أَنَا
عِنْدَكَ»(٥٢٩).
* * *
-----------------
(٥٢٧) الكافي (ج ١/ ص ٢٠٠/ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته/ ح ١).
(٥٢٨) الكافي (ج ١/ ص ١٩٠/ باب في أنَّ الأئمَّة شهداء الله (عزَّ وجلَّ) على خلقه/
ح ٢).
(٥٢٩) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ٥٤/ باب ٣١/ ح ١٩٢).
«عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ تُحِيطَ بِكَ دُونِيَ اَلْبَلْوَى»
لفظة تتكسَّر على مذاق الشفاه كقطرة
المطر على شفير الوجود، تحمل في طيَّاتها أسرار العقيدة وأشواق القلب.
ليست كلمة تقال، بل هي دمعة الكون على خدِّ الزمان، وصرخة الروح في مهبط الغيبة.
«عَزِيزٌ عَلَيَّ» تتنزَّل هذه الكلمة كالندى على أوراق القلب اليابسة، فتحمل في
حرفها الأوَّل أسرار الوجود، وفي حرفها الأخير دمعة الماضي الحائر بين يدي المصير.
هي زفرة القدر تتدفَّق بين ضلوع الزمان، وأُنشودة الحنين تتردَّد في أزقَّة الغيبة
الطويلة.
«عَزِيزٌ عَلَيَّ» هذا النداء الموجع يحمل في طيَّاته حقيقة الوجود بأكمله: أنْ
تكون الحقيقة غائبة والأمل حاضراً، أنْ تكون القدوة محجوبة والولاية ظاهرة.
الإمام (عجَّل الله فرجه) في غيبته كالشمس وراء السُّحُب، يُنير ولا يُرى، يحفظ ولا
يُحاط به، يشعر بألمنا ونحن نعجز عن إدراك ألمه.
المفارقة العميقة تكمن في أنَّ هذه الإحاطة بالبلوى ليست إلَّا اختباراً لقدرتنا
على الفهم والصبر.
فكلَّما ازدادت المحنة حول الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، كان ذلك دليلاً على عمق
حاجتنا إليه، وكلَّما عظمت الغيبة، كان ذلك برهاناً على ضعفنا وحاجتنا للتكامل.
في هذا المشهد الأسير بين الألم والأمل، تتجلَّى أسمى درجات العبوديَّة: أنْ تشعر
بالعجز فتُسلِّم، وأنْ ترى البلوى فتصبر، وأنْ تُدرِك الغيبة فتشكر. فالغيبة ليست
عقوبة عند البعض، بل هي رحمة متجدِّدة، لأنَّها تحمل في طيَّاتها درساً عميقاً في
معنى الولاية الحقيقيَّة: أنْ تؤمن بما لا ترى، وأنْ تُحِبَّ مَنْ لا تلتقي.
«عَزِيزٌ عَلَيَّ» ليست شكوى من قدر، بل هي صرخة إيمان بأنَّ هذا الفراق لن يدوم.
إنَّها دموع تُروي أرض الانتظار، فكلُّ دمعةٍ تُسقى بها الأرض تُنبِت زهرة أملٍ
بقرب اللقاء.
في عمق هذا النداء، يُولَد سرٌّ عجيب: فكلَّما اشتدَّ الحصار، ازدادت القلوب
تعلُّقاً. وكلَّما طال الانتظار، تعمَّق الإيمان. الغيبة ليست غياباً، بل حضورٌ
مختلف. البلوى ليست نهاية، بل بدايةٌ لصحوة. الألم ليس عقوبة، بل محكٌّ يُظهِر صدق
العبوديَّة.
«عَزِيزٌ عَلَيَّ» هذه الكلمة العظيمة تحمل في داخلها جميع أصوات العُشَّاق على
مرِّ التاريخ: صرخة زينب (عليها السلام) في كربلاء، وأنين الصادقين في زمن الغيبة،
ودعاء المؤمنين على أظافر السحر.
جميعها تجتمع في هذه العبارة التي تصف ألم الوجود وحسرة العجز.
إنَّ البلوى المحيطة بالإمام (عجَّل الله فرجه) هي امتداد لبلوى الأُمَّة، فما
يعانيه هو يعكس ما تعانيه الرعيَّة. هذه العلاقة التبادليَّة تكشف عن سرِّ العقيدة
في ارتباط مصير الإمام بالأُمَّة.
والعجز عن حماية الإمام (عجَّل الله فرجه) ليس نقصاً في المؤمن، بل هو جزء من حكمة
الابتلاء الإلهي، حيث يصبح الشعور بالعجز دافعاً للتكامل الروحي والعملي.
«أَنْ تُحِيطَ بِكَ دُونِيَ اَلْبَلْوَى» الإحاطة هنا تحمل بُعداً وجوديًّا، فكما
أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) محيط بكلِّ شيء، فإنَّ الإمام - بحسب معتقدنا - محيط بأُمور
الأُمَّة والناس وغير ذلك، وهذه الإحاطة تكشف عن عمق العلاقة الوجوديَّة بين الإمام
والمأموم.
وهذا النداء يعكس إشكاليَّة العلاقة بين القدرة الإلهيَّة والإرادة البشريَّة، حيث
يبقى المؤمن في حالة توازن دقيق بين التسليم لقضاء الله (عزَّ وجلَّ) والسعي لنصرة
إمامه.
إذا رجعنا إلى المفهوم من مقولة الداعي «تُحِيطَ بِكَ دُونِيَ» نجدها تطرح
إشكاليَّة الغيبة من منظور علم الكلام، إذ كيف يجمع الإمام بين كونه حجَّة الله على
خلقه وكونه غائباً عنهم؟
الجواب يكمن في أنَّ الغيبة ليست غياباً عن الوظيفة، بل هي تحوُّل في كيفيَّة
أدائها.
ومفهوم «اَلْبَلْوَى» يتجاوز المعنى اللغوي إلى المعنى الكلامي، حيث يصبح الابتلاء
وسيلة لإثبات حاجة الأُمَّة إلى الإمام، والإمام إلى الأُمَّة، في دائرة من التكامل
الوجودي.
في زاوية من زوايا الروح والوجدان نجد أنَّ هذا المقطع يرسم لوحة بأنامل الحنين
وألوان الشوق الممزوج بالدموع، حيث يقف المؤمن على شاطئ الغيبة، يرى سفينة النجاة -
إمام زمانه (عجَّل الله فرجه) - تتمايل في بحرٍ من المحن، وهو واقفٌ على الشاطئ
مكتوف اليدين. يا للقسوة! أنْ ترى الشمس تُحجَب بالسُّحُب، وأنت تعلم أنَّ بإمكانك
إزالة السُّحُب، لكن الأقدار قيَّدت يديك!
أيُّها الوَله المشتاق اعلم أنَّ البلوى ليست حدثاً عابراً، بل هي زلزالٌ يهزُّ
أركان الولاية. فكيف يُحاصَر البحرُ بقطراته؟
وكيف تُحيط الظلماتُ بالنور المبين؟
إنَّها معجزة المعاناة، حيث يصبح الحجاب نفسه محنة، والغيبة عين البلاء. الألم ليس
في ابتلاء الإمام (عجَّل الله فرجه)، بل في أنْ نكون نحن سبب بلواه، بأنْ نكون
غائبين عنه وهو الحاضر، ضائعين وهو الهادي، عاجزين وهو القويُّ.
وهنا تتساقط الكلمات كنجومٍ في ليل الغيبة الطويل، كلُّ كلمةٍ منها شهادةُ حُبٍّ
ترفض اليأس.
هذه الكلمات هي مرآة تعكس أسمى معاني الولاية: أنْ تُحِبَّ حتَّى لو لم تلمس، أنْ
تنتظر حتَّى لو طال الزمن، أنْ تؤمن حتَّى لو احتجبت الأنوار. إنَّها قصيدةُ قلبٍ
يخفق بين جرح الحاضر وأمل المستقبل، بين ألم الفراق ووعد اللقاء.
في النهاية، تتحوَّل الأنَّة إلى نشيد، والدموع إلى بصائر، والغيبة إلى شمسٍ تُشرِق
من وراء الأُفُق. فما كان النداء إلَّا بداية الطريق، وما كان الألم إلَّا مقدَّمة
الفرج. فليستمرُّ النداء، وليتواصل العطش، فكلُّ صرخة شوقٍ تُقرِّب موعد اللقاء،
وكلُّ دمعة حنينٍ تُسرِع بزمان الظهور.
وحقٌّ لكلِّ متلهِّف وَلِهٍ أنْ يقول: اللَّهُمَّ اجعلني من الذين إذا اشتدَّت
بحجَّتك البلوى، كانوا أحقّ بحملها دونه، وإذا احتجب نوره، كانوا أولى باستضاءة
ذِكره. واجعل غيبته لي ميراث صبر، وانتظاره لي وسيلة قرب، حتَّى ألج من باب الحُبِّ
إلى رحاب اللقاء، ومن ظلمات الغيبة إلى نور الظهور.
* * *
«بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ نَازِحٍ مَا يَنْزَحُ [نَزَحَ] عَنَّا»
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا مَنْ حضورك
في الأرواح لا يغيب..
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا مَنْ فيك تطمئنُّ الأرواح وتسكن الأوجاع، يا مَنْ إذا ذكرته
القلوب انتفضت، وإذا نادته الأفئدة استجاب صداها من أقاصي الوجود.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا مَنْ كنت الشوق الذي لا ينطفئ، ومُنى العيون التي لا تكتمل
إلَّا بلقائك.
أنتَ المعنى الذي يعجز الفهم عن إدراكه، والعطر الذي يملأ الأرجاء رغم المسافات،
وأنت في غيبتك أزهى من كلِّ بزوغ، وأطهر من كلِّ نور، يا من قلب الأرض يشتاق
لرؤيتك، وعيون الناس تترقَّب طلعتك، وكلُّ نفس تؤمن أنَّك النور الذي يُبدِّد
الظلام.
مولاي.. كيف للسماء أنْ تغلق أبوابها إذا تنفَّست أنفاسك في جنباتها؟
يا مَنِ اشتاقت إليك الأكوان، فكيف إذا تساءل الزمان: متى يكون الفرج؟!
يا مَنْ غيَّبك الزمان، وما غبت عن قلوب المحبِّين..
أنتَ سرُّ الوجود الذي لا يُدرِكه غير القلب الطاهر..
يا مَنْ سكنت في كلِّ مهبٍّ من مهاب الرياح، وفي كلِّ ثنيَّة من زوايا الأرض.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا مَنْ عشت في ضمير الكون، وتغلغلت في كلِّ فكرة حيَّة، وملأت
أُفُق الزمان بأطيافك.
أنت الغائب الذي إذا حضر امتلأ الزمان به، وإذا غاب امتلأ المكان لشوقك، ولا يغفل
عنك قلب إلَّا اشتاق.
أنت الحقيقة المخفيَّة في خبايا الحياة، والتي لا تنكشف إلَّا لعين أضاءها نورك.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، لأنَّك السرُّ الذي به حياة كلِّ موجود، وأنت اليقين الذي لا
يُخطِئه العقل، لأنَّك الغيب الذي تراه العيون بين ثنايا الظلام، وأنت في كلِّ
لحظة، في كلِّ شوق، في كلِّ أُمنية.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا سرَّ الله في أرضه، يا عين الله الناظرة، يا باب الله الذي
منه يُؤتى.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا مَنْ تحمَّلتَ جفاءنا، وجُبتَ في ليالي الغيبة تنظر إلينا،
تخاف علينا ونحن لا نخاف على أنفسنا، تشتاق إلينا ونحن في لهونا غافلون.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا مَنْ بك يُحيي الله القلوب بعد موتها، وبك يبصر العيون بعد
عماها.
مولاي.. أأنت الغائب أم نحن؟!
أأنت المهاجر أم نحن الذين هجرناك؟!
والله ما غبت إلَّا عن عين أُغشي عليها، وما نزحت إلَّا عن قلب خرب لاهٍ تيهان، وما
احتجبت إلَّا من نفس غاصت في وحل العصيان.
سيِّدي، لو انجلت حُجُبنا لرأيناك معنا، بين أنفاسنا، في زوايا وحدتنا، في قلق
ليلنا وسكينة سحرنا.
مولاي، «بِنَفْسِي أَنْتَ»، أي نفسي التي لا قيام لها إلَّا بذكرك، ولا أمان لها
إلَّا تحت جناحك، نفسي التي تاهت في مفاوز العمر وما اهتدت إلَّا إليك، نفسي التي
لم تعرف الركون إلَّا في ظلِّ حُبِّك، نفسي التي تتقطَّع شوقاً إليك وتتلظَّى
انتظاراً لنور طلعتك.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا بقيَّة الله، يا مَنْ تُحيي الموات بنظرة، وتسكب على الجراح
شفاء، يا مَنْ يملأ الأرض قسطاً كما مُلِئَت جوراً، يا مَنْ ننتظره لا انتظار
الغائب فحسب، بل انتظار الغاية الكبرى، انتظار النور الذي يُبعَث في العروق فيُعيد
للوجود بهاءه، انتظار الكلمة التي ستُصفى بها الأرض من شائبة ظلمها.
سيِّدي، اغفر لي تقصيري، واغفر لوجودي المشوب بالنقص، وعلِّقني بحُبِّك حتَّى لا
أرى لنفسي ذاتاً إلَّا في ظلِّك، ولا أرجو فوزاً إلَّا بلقائك، ولا أرتقب صبحاً
إلَّا طلوعك، ولا أرتل دعاءً إلَّا باسمك، ولا أُقيم صلاةً إلَّا بخشوع حضور معك.
مولاي، علِّقني بكَ حتَّى لا أحتاج إلى دليل، واملأني بنور حضورك وإنْ طالت الغيبة،
فقد علمتُ أنَّك ما غبت عن قلب أحياك، ولا نزحت عن قلب سكن هواك، بل كنت دائماً
أقرب من القريب، وأحنُّ من الأُمِّ، وأرأف من الأب، وأعطف من كلِّ ناصحٍ ووليٍّ.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا مَنْ لو علمتُ أنَّك تغيب طرفة عين عنِّي، لانطفأ كلُّ
قنديل في داخلي، وارتجَّ كياني حتَّى لا أستقيم بعدها أبداً.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، لأنَّك سرُّ اشتعال قلوب المحبِّين، يا مَنْ سُمِّيت غائباً
وما غبت، بل نحن الذين غبنا عنك، حجبنا بغفلتنا، وسجننا جهلنا، وطوَّقنا عجزنا،
فصرنا نفتش عنك بين الأزمنة، وأنَّ حضورك لا يُقاس بالمسافة، بل يُقاس بالبصيرة.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، لأنَّك معنى الوجود الخالص، النور الذي تشعُّ به خزائن الغيب،
اليد التي تمتدُّ بالرحمة للقلوب المستوحشة، القلب الذي يخفق لكلِّ مظلوم ومهموم،
أنت ملاذ كلِّ مَنْ ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأُفُق كلِّ مَنِ استحكم اليأس في
صدره.
يا مَنْ لا يغيب عنك صوت ملهوف ولا أنين موجوع، يا مَنْ صبرت على شيعتك، وتحمَّلت
أعباء الغيبة من أجلهم.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، لأنَّك بقيَّة الله في أرضه، واليد المدَّخرة لنصرته.
«بِنَفْسِي أَنْتَ»، لأنَّك البرهان الناطق بأنَّ الله لم يخلق الخلق عبثاً، ولم
يتركهم سدًى، لأنَّك الشاهد القائم بيننا وبين الغيب، لأنَّك ميزان العدل، ومكيال
الحقِّ، وسراج الهداية.
أنت الغائب الذي بتوقك يتهجَّد الصالحون، وباسمك ترتفع الأدعية والأنات، في كلِّ
خلوة وسحر ومحضَر.
يا مَنْ إذا ذكرتُك، طابت لي الدنيا، وإنْ نسيتُك، استوحشت الأرض وإنِ
ازدحمت، يا
مَنِ اشتياقي إليك ليس نزق نفس، بل توق روح عرفت مقامها، وفهمت سرَّ انشدادها إليك.
فإنِّي بك وإليك، وقلبي ما عرف الأمان إلَّا حين ارتبط بذِكرك، ولا طمع في النجاة
إلَّا في ظلِّ رايتك.
مولاي.. يا شمساً لا تأفل، يا بدراً لا يحتجب، يا أمل الأرض والسماء، «بِنَفْسِي
أَنْتَ»، يا مَنْ سكنت شغاف القلب حتَّى صار خافقه باسمك، «بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا
مَنْ لا تهدأ روحي إلَّا عند تذكُّرك، ولا تطمئنُّ نفسي إلَّا حين أُناجيك، ولا
تشرق شمسي إلَّا إذا رفعت إليك ندائي.
مولاي.. كيف لا أُذيب ذاتي في حُبِّك، وأنت عطر كلِّ المعاني الجميلة، وصوت كلِّ
الصلوات الصاعدة، وأمل كلِّ مهموم في ظلماء ليله؟
مولاي.. ما بال الدهور تتعاقب، وأنت ما زلت موعوداً نُردِّد اسمك في قلوبنا، وتبكيك
أعيننا، وتشتاق إليك أرواحنا؟ ما بال الأرض تضيق بما رحبت، وما بال السماء تنتظر
أمر ربِّها، ونحن بين هذا وذاك نذيب أعمارنا في انتظارك؟! مولاي.. هل تأذن لنا
بلحظة بوح لا يقاطعها ظنٌّ، ولا يشوبها وجلٌ، ولا يحجبها شيء من شوائب الدنيا؟
مولاي.. «بِنَفْسِي أَنْتَ»، يا مَنْ إنْ حللت في الزمان فتحت خزائن الغيب، وانكشفت
الأسرار، واستوى على سوقه حلم الأنبياء، ويا مَنْ إذا أقبلتَ، اكتملت حلقات الحقِّ،
وانجبر كسر المظلومين، ومُدَّت يد العدل إلى القلوب المحطَّمة، ورفرفت راية النور
على هامات الناس أجمعين.
مولاي.. علِّمني أنْ أكون من المنتظِرين حقًّا، لا بلسان يُردِّد اسمك ثمّ ينساك،
بل بقلب يحيى بك في كلِّ نبضة، وجوارح تسابق الساعات في نصرتك.
* * *
«بِنَفْسِي أَنْتَ أُمْنِيَةِ شَائِقٍ يُتَمَنَّى»
تعبير يفيض بالوجد والشوق، حيث يضع
الداعي نفسه في مقام الفداء للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي يُمثِّل أمل
الحياة الكبرى، والحلم الذي يراود القلوب المتعطِّشة لرؤيته.
هذه الفقرة تختزل في كلماتها القليلة كلَّ معاني الولاء والتقديس، وأعلى قِيَم
الفداء والتضحية، فالإمام (عجَّل الله فرجه) ليس مجرَّد قائد غائب، بل هو الأُمنية
الأسمى والغاية القصوى التي يتمنى تحقيقها كلُّ مؤمن، وتسكن في أعماق قلوبهم،
وتظلُّ حاضرة في كلِّ لحظة من حياتهم، مهما طالت غيبة إمامهم (عجَّل الله فرجه).
فالإمام (عجَّل الله فرجه) هو الرمز للأمل الذي لا ينطفئ، والنور الذي لا يغيب.
إنَّ التمنِّي هنا ليس مجرَّد رغبة عابرة، بل هو تضحية دائمة وحبٌّ عميق ينساب في
أرواح المحبِّين الصادقين، وكأنَّ حياتهم ذاتها معلَّقة على تحقيق هذه الأُمنية
التي تُمثِّل لقاء الإمام في ظهوره.
هذا التعبير يُبرِز مدى التعلُّق الروحي والعاطفي بالإمام (عجَّل الله فرجه)، حيث
يصبح الحلم بلقائه - في ظلِّ غيبته الطويلة - مصدراً للقوَّة والصبر، ورمزاً
لاستمرار الأمل والانتظار وسط الظلمات والآلام التي يعيشها المؤمن في غيابه. إنَّه
نداء ينبض بالولاء، يُردِّد صداه كلُّ قلب شائق، متلهِّف لليوم الذي تتجلَّى فيه
أُمنيته برؤية إمامه (عجَّل الله فرجه) المنقذ.
* * *
«بِنَفْسِي أَنْتَ مِنْ عَقِيدِ عِزٍّ لَا يُسَامَى»
هذا التعبير يُجسِّد مكانة الإمام (عجَّل الله فرجه) كرمز للعزَّة المطلقة والقوَّة الإلهيَّة التي
لا تُدانيها أيُّ
قوَّة بشريَّة أو مكانة دنيويَّة، فهو (عجَّل الله فرجه) قمَّة المجد والفخر،
عقيدةً وإيماناً، ومثلاً أعلى لا يمكن لأيِّ شخص أنْ يبلغه أو أنْ يقترب منه.
فقول الداعي: «عَقِيدِ عِزٍّ»، يبرز من خلاله المعنى العميق لارتباطه بعزَّة الله
تعالى التي ترفع أوليائها، فهو (عجَّل الله فرجه) ليس فقط رمزاً للعدل، بل تجسيدٌ
للعزَّة الإلهيَّة التي تُنير دروب المؤمنين وتدفعهم للتمسُّك بالحقِّ والثبات أمام
المحن.
وقول الداعي: «لَا يُسَامَى»، هذا يُؤكِّد على تفرُّد هذه العزَّة وعلوِّ مقام
الإمام (عجَّل الله فرجه)، فلا شيء في هذا العالم يمكن أنْ يضاهي مكانته، ولا أحد
يستطيع أنْ يدنو من سموِّه، إنَّه مصدر الفخر للمؤمنين، تاجٌ يُزيِّن رؤوسهم،
وقوَّة تجعلهم صامدين في وجه الظلم والجور، بانتظار ظهوره المبارك الذي سيُعيد
للكون عدالته وللإنسانيَّة كرامتها.
بهذا التعبير يتجسَّد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كرمزٍ لا يُضاهى للعزَّة
الربَّانيَّة التي تمنح أتباعها الأمل في تحقيق النصر والخلاص من الظلم والفساد،
ليظلَّ مناراً مضيئاً في قلب كلِّ مؤمن، وعنواناً للعزِّ الذي لا ينقطع.
* * *
«إِلَى مَتَى أَحَارُ فِيكَ يَا مَوْلَايَ»
هذا التعبير يفيض بالشوق والتلهُّف،
حيث يرفع الداعي صوته متسائلاً، متألِّماً من طول الغياب، ومشتاقاً للحظة الظهور.
إنَّه سؤال يحمل بين كلماته معاناة المؤمنين الذين يئنون تحت وطأة الظلم والفساد،
متطلِّعين إلى منقذهم ومخلِّصهم. هذا التساؤل ليس مجرَّد استفسار عن الوقت، بل هو
نداء يحمل وجداناً مليئاً بالحُبِّ والاحتراق، وكأنَّ القلب يخاطب
الإمام (عجَّل الله فرجه) مباشرةً: إلى متى ستظلُّ الغيبة جاثمة على أرواحنا؟ وإلى متى سنبقى ننتظر عودتك يا سيِّدي لتملأ الأرض عدلاً بعد أنْ مُلِئَت جوراً؟
* * *
«هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلُ مَعَهُ اَلْعَوِيلَ وَاَلْبُكَاءَ»
تساؤل يفيض بالألم والوحدة، حيث
يُعبِّر الداعي عن شعورٍ عميق بالعجز في مواجهة المحنة الطويلة التي طالت بغياب
الإمام (عجَّل الله فرجه)، إنَّه نداء يبحث فيه الداعي عن رفيق في الحزن، ومعين
يواجه معه هذه الغيبة الموجعة، ليشاركه البكاء والتضرُّع، وكأنَّ البكاء نفسه يصبح
وسيلة للتخفيف من ثقل هذه المعاناة، إنَّ هذا السؤال ليس مجرَّد طلب للمساعدة، بل
هو تصوير لحالة وجدانيَّة من الوحدة التي يشعر بها المؤمن في غياب الإمام (عجَّل
الله فرجه)، وكأنَّه يقول: هل هناك من يشاركني هذه الحرقة؟ هل هناك من يعينني في
هذه المحنة التي تكاد تستهلكني؟
إنَّه شعور بالضياع في عالم يفتقد العدالة والقسط، حيث يصبح البكاء تعبيراً عن
الشوق والاحتياج الملحِّ لعودة الإمام (عجَّل الله فرجه)، وفي هذا التعبير أيضاً
تكمن دعوة للتآزر، فالداعي لا يبحث فقط عن مَنْ يشاركه الألم، بل أيضاً عن مَنْ
يعينه على البكاء والعويل، ليحمل معه عبء الانتظار والحنين، فيكون البكاء صورة من
صور التضامن الروحي والوجداني في وجه المحنة.
هذا النداء يُبرِز بوضوح كيف أنَّ الغيبة ليست مجرَّد غياب جسدي، بل محنة وجوديَّة
تحمل أثقالها النفوس المحبَّة، وتتحوَّل معها الدموع إلى لغة مشتركة تُعبِّر عن
الحنين، والألم، والأمل الذي لا ينطفئ في قلوب المنتظِرين.
* * *
«مَتَى نَرِدُ مَنَاهِلَكَ اَلرَّوِيَّةَ فَنَرْوَى»
عبارة تحمل شوقاً عميقاً وتوقاً
صادقاً إلى تلك اللحظة التي يلتقي فيها الداعي بإمامه (عجَّل الله فرجه)، ليغترف من
معين علمه وحكمته، ويُشبِع ظمأ روحه التي أنهكها طول الغياب.
فالمناهل الرويَّة، هي منابع الحكمة والمعرفة التي يمتلكها الإمام (عجَّل الله
فرجه)، وهي منابع عذبة، متدفِّقة، لا تنضبُّ، يرتوي منها كلُّ مَنْ تاقت نفسه
للحقِّ وأرهقه التيه في ظلمات الجهل والباطل، وهي ليست مجرَّد معرفة عقليَّة، بل هي
نور يُحيي الأرواح، وعدل يروي العطشى من منهل نهر اليقين بعد ظمأ طويل. وهنا الداعي
يرى في الإمام (عجَّل الله فرجه) ذلك الغيث الموعود الذي سيُحيي قلوب الأُمَّة،
فيمنحها حياة جديدة مليئة بالعدل، والرحمة، والهداية.
هذا المقطع، تعبير عن توق عميق إلى اليوم الذي تعود فيه الأرض إلى استقامتها بظهور
الإمام (عجَّل الله فرجه)، وأنَّ هذا الارتواء المرتقب سيمحو آثار العطش الذي طال
أمده، ليبقى الأمل مشرقاً في القلوب، رغم كلِّ محن الغياب.
* * *
«مَتَى تَرَانَا وَنَرَاكَ وَقَدْ نَشْرَتَ لِوَاءَ اَلنَّصْرِ»
هذا التعبير ينبض بالشوق والرجاء،
حيث يطرح الداعي تساؤلاً ملؤه الأمل والتوق إلى اللحظة التي يلتقي فيها بالإمام
(عجَّل الله فرجه)، في ظلِّ عودته الظافرة التي يرفع فيها لواء النصر، ويُحقِّق
العدل في الأرض.
إنَّه تساؤل ينبثق من أعماق قلب مؤمنٍ يشتاق إلى رؤية إمامه المنتظَر (عجَّل الله
فرجه) وهو يقود الأُمَّة إلى الفتح الكبير، ويستعيد الحقوق المسلوبة، ويُعيد
التوازن للعالم الذي اختلَّ بفعل الظلم والفساد.
هذا المقطع، يشير إلى لحظة تحقُّق النصر الإلهي، حيث يحمل الإمام (عجَّل الله فرجه)
راية الحقِّ، ويفتح طريق العدل الذي يغمر الأرض ويُطهِّرها من جور الطغاة.
يقول المقطع على لسان الداعي: إنَّه ليس مجرَّد نصر سياسي أو دنيوي، بل هو نصر من
نوع آخر، نصر يبعث في القلوب السكينة، ويُطهِّر النفوس، ويُعيد للأُمَّة كرامتها
وسؤددها.
الداعي يتمنَّى أنْ يعيش هذه اللحظة المرتقبة، التي يجتمع فيها الحقُّ والعدل،
وينطمس فيها الجور والظلم، ويُطوَّق فيها عنق الأرض لواء النصر الإلهي، إنَّه أملٌ
يُحيي فيه الروح، وتستجيب له أعمق أماني المؤمنين الذين يرقبون ظهور الإمام (عجَّل
الله فرجه) ليضعوا أقدامهم على أرض تملؤها العدالة، وتغمرها الرحمة، وتشرق فيها شمس
الغائب. هذا النداء يُعبِّر عن حالة انتظار مليئة باليقين، بأنَّ ذلك اليوم
سيتحقَّق، وأنَّ النصر الذي يُنتظَر ليس بعيداً، بل هو وعدٌ قريب سيأتي على أيدي
الإمام (عجَّل الله فرجه)، ليشرق العالم من جديد بنور الهداية الإلهيَّة.
* * *
«أَتَرَانَا نَحُفُّ بِكَ وَأَنْتَ تَؤُمُّ اَلمَلَأَ»
هذه الفقرة تحمل بين ثناياها أسمى
آمال الداعي وأعمق أمانيه، حيث يُعبِّر عن حلمه الكبير في أنْ يكون من الذين يحيطون
بالإمام (عجَّل الله فرجه)، يرافقونه ويسيرون في ركب نصره وعزَّته، هو يتمنَّى أنْ
يراه (عجَّل الله فرجه) وهو يقود العالم إلى العدل، يُحقِّق النصر الذي طال
انتظاره، ويقضي على كلِّ مظاهر الجور والفساد.
الفقرة تُعبِّر عن الرغبة العميقة في أنْ يكون المؤمن قريباً من الإمام (عجَّل الله
فرجه)، يعايش لحظات الظهور ويشارك في تحقيق هذه المرحلة العظيمة المنتظَرة، وفي
الروايات ما يُعبِّر عن بعض ذلك، ومنها ما رواه العلَّامة المجلسي (رحمه الله):
عَنِ
اَلْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ:
«لَهُ كَنْزٌ بِالطَّالَقَانِ مَا هُوَ بِذَهَبٍ، وَلَا فِضَّةٍ، وَرَايَةٌ لَمْ
تُنْشَرْ مُنْذُ طُوِيَتْ، وَرِجَالٌ كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ زُبَرُ اَلْحَدِيدِ، لَا
يَشُوبُهَا شَكٌّ فِي ذَاتِ اَلله، أَشَدُّ مِنَ اَلْحَجَرِ، لَوْ حَمَلُوا عَلَى
اَلْجِبَالِ لَأَزَالُوهَا، لَا يَقْصِدُونَ بِرَايَاتِهِمْ بَلْدَةً إِلَّا
خَرَّبُوهَا، كَأَنَّ عَلَى خُيُولِهِمُ اَلْعِقْبَانَ، يَتَمَسَّحُونَ بِسَرْجِ
اَلْإِمَامِ (عليه السلام) يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ اَلْبَرَكَةَ، وَيَحُفُّونَ بِهِ،
يَقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ فِي اَلْحُرُوبِ، وَيَكْفُونَهُ مَا يُرِيدُ فِيهِمْ،
رِجَالٌ لَا يَنَامُونَ اَللَّيْلَ، لَهُمْ دَوِيٌّ فِي صَلَاتِهِمْ كَدَوِيِّ
اَلنَّحْلِ، يَبِيتُونَ قِيَاماً عَلَى أَطْرَافِهِمْ، وَيُصْبِحُونَ عَلَى
خُيُولِهِمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ، هُمْ أَطْوَعُ لَهُ مِنَ
اَلْأَمَةِ لِسَيِّدِهَا، كَالمَصَابِيحِ كَأَنَّ قُلُوبَهُمُ اَلْقَنَادِيلُ،
وَهُمْ مِنْ خَشْيَةِ اَلله مُشْفِقُونَ، يَدْعُونَ بِالشَّهَادَةِ،
وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ يُقْتَلُوا فِي سَبِيلِ اَلله، شِعَارُهُمْ: يَا لَثَارَاتِ
اَلْحُسَيْنِ، إِذَا سَارُوا يَسِيرُ اَلرُّعْبُ أَمَامَهُمْ مَسِيرَةَ شَهْرٍ،
يَمْشُونَ إِلَى اَلمَوْلَى إِرْسَالاً، بِهِمْ يَنْصُرُ اَللهُ إِمَامَ
اَلْحَقِّ»(٥٣٠).
إنَّ الحفَّ بالإمام (عجَّل الله فرجه) لا يعني مجرَّد التواجد الجسدي حوله، بل
يعني الانخراط في مشروعه الإلهي، واحتضان قِيَمه من العدالة والإصلاح والمساواة
والقسط، والوقوف في صفِّه لتحقيق الأمن والسلام ونشر الإسلام الأصيل على الأرض.
هناك - قريباً إنْ شاء الله تعالى - حيث الإمام (عجَّل الله فرجه) هو قائد الملأ،
يحكم بالعدل ويقود العالم.
الداعي لا يتمنَّى فقط أنْ يكون قريباً من الإمام (عجَّل الله فرجه)، بل يتمنَّى
أنْ يكون جزءاً من هذه الملحمة الكبرى، التي يرى فيها الإمام (عجَّل الله فرجه) وهو
يسود الأرض بالعدل، ويعيد الحقَّ إلى نصابه.
هذه الكلمات الندبيَّة المباركة تُمثِّل أسمى درجات التمنِّي والانتظار، فهي
-----------------
(٥٣٠) بحار الأنوار (ج ٥٢/ ص ٣٠٧ و٣٠٨/ ح ٨٢)، عن سرور أهل الإيمان (ص ٩٦ و٩٧).
تعبير
عن الفخر والشرف الكبير الذي ينتظره المؤمنون في اللحظة التي سيقف فيها الإمام
(عجَّل الله فرجه)، قائداً للعدل، ومنقذاً للبشريَّة، ويكونون هم من المقرَّبين
والحافِّين حوله، يشاركونه في بناء العالم الجديد، والذي تتنسَّم فيه الأرض عبير
السلام والإيمان والإسلام الحقِّ.
نظرة المؤمن للحياة:
وُجِدَ الناس في هذه الدنيا ومصيرهم إلى غيرها، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ
الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت: ٦٤).
يُدرِك هذه الحقيقة جميع الناس، إلَّا أنَّ مَنْ يعمل لها هم أقلّ القليل.
نحن على يقين تامٍّ أنَّنا سنغادر هذه الحياة إلى حياة أُخرى رغم شدَّة تمسُّكنا
بها.
نسير جميعاً إلى تلك الدار، وكلُّ ساعة تنقضي من أعمارنا تُقرِّبنا إلى دار
مستقرِّنا.
هذه الحقيقة الناصعة الحاضرة في وجدان ومرتكزات جميع بني آدم، يتمُّ تغييبها بقصد
أو بغيره.
وكم من نظير لهذا في الكثير من قضايا الإنسان العلميَّة والعمليَّة، الدِّينيَّة أو
الدنيويَّة. ومن بين تلكم القضايا الواضحة الحضور والارتكاز، والمغيبة في ذات
الوقت، هي العقيدة بالإمام الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه)، فهو الإمام الحاضر
الذي يجب على الناس الإيمان بإمامته الفعليَّة واليقين بحضوره معنا، ولكن بعض مَنْ
يؤمن بهذه العقيدة لا يستحضرها، ولا يرى حضور الإمام (عجَّل الله فرجه) في نفسه
ووجدانه فضلاً عن أنْ يتعامل معه (عجَّل الله فرجه) بأنَّه حاضر ويراقب الناس
ويُوجِّههم من وراء الغيب بما فيه صلاحهم، قال (عجَّل الله فرجه): «نَحْنُ وَإِنْ
كُنَّا نَاوِينَ بِمَكَانِنَا اَلنَّائِي عَنْ مَسَاكِنِ اَلظَّالِمِينَ، حَسَبَ
اَلَّذِي أَرَانَاهُ اَللهُ تَعَالَى لَنَا مِنَ اَلصَّلَاحِ
وَلِشِيعَتِنَا
اَلمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ مَا دَامَتْ دَوْلَةُ اَلدُّنْيَا لِلْفَاسِقِينَ،
فَإِنَّا نُحِيطُ عِلْماً بِأَنْبَائِكُمْ، وَلَا يَعْزُبُ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ
أَخْبَارِكُمْ، وَمَعْرِفَتُنَا بِالذُّلِّ اَلَّذِي أَصَابَكُمْ مُذْ جَنَحَ
كَثِيرٌ مِنْكُمْ إِلَى مَا كَانَ اَلسَّلَفُ اَلصَّالِحُ عَنْهُ شَاسِعاً،
وَنَبَذُوا اَلْعَهْدَ اَلمَأْخُوذَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ. إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا نَاسِينَ
لِذِكْرِكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اَللَّأْوَاءُ أوَ اِصْطَلَمَكُمُ
اَلْأَعْدَاءُ، فَاتَّقُوا اَللهَ (جلَّ جلاله)، وَظَاهِرُونَا عَلَى
اِنْتِيَاشِكُمْ مِنْ فِتْنَةٍ قَدْ أَنَافَتْ عَلَيْكُمْ، يَهْلِكُ فِيهَا مَنْ
حُمَّ أَجَلُهُ، وَيُحْمَى عَنْهَا مَنْ أَدْرَكَ أَمَلَهُ، وَهِيَ أَمَارَةٌ
لِأُزُوفِ حَرَكَتِنَا، وَمُبَاثَّتِكُمْ بِأَمْرِنَا وَنَهْيِنَا، وَاَللهُ
مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ اَلمُشْرِكُونَ...»(٥٣١).
ورغم أنَّ المهدويَّة قد دلَّت عليها الأدلَّة اليقينيَّة القطعيَّة، إلَّا أنَّنا
نشعر بالوجدان غيابها عند بعض الناس.
حتَّى عبرت بعض الروايات بأنَّ جملة من هؤلاء يصل به التشكيك إلى حدِّ إنكار
الولادة وعدم الإيمان بها، كما جاء في ما رواه اَلمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَاَلتَّنْوِيهَ،
أَمَا وَاَلله لَيَغِيبَنَّ إِمَامُكُمْ سِنِينَ مِنْ دَهْرِكُمْ، وَلَيُمَحَّصَنَّ
حَتَّى يُقَالَ: مَاتَ، قُتِلَ، (هَلَكَ)، بِأَيِّ وَادٍ سَلَكَ؟ وَلَتَدْمَعَنَّ
عَلَيْهِ عُيُونُ اَلمُؤْمِنِينَ، وَلَتُكْفَأُنَّ كَمَا تُكْفَأُ اَلسُّفُنُ
بِأَمْوَاجِ اَلْبَحْرِ، فَلَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَخَذَ اَللهُ مِيثَاقَهُ،
وَكَتَبَ فِي قَلْبِهِ اَلْإِيمَانَ، وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَلَتُرْفَعَنَّ
اِثْنَتَا عَشْرَةَ رَايَةً مُشْتَبِهَةً لَا يُدْرَى أَيٌّ مِنْ أَيٍّ»، قَالَ:
فَبَكَيْتُ، وَقُلْتُ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ؟ فَقَالَ: «يَابَا عَبْدِ اَلله»،
وَنَظَرَ إِلَى اَلشَّمْسِ دَاخِلَةً إِلَى اَلصُّفَّةِ، قَالَ: «فَتَرَى هَذِهِ
اَلشَّمْسَ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «وَاَلله لَأَمْرُنَا أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ
اَلشَّمْسِ»(٥٣٢).
في مقابل هؤلاء هناك مَنْ يرى وجود الإمام (عجَّل الله فرجه) حاضراً في كلِّ زاوية
-----------------
(٥٣١) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٢٢ و٣٢٣).
(٥٣٢) الغيبة للطوسي (ص ٣٣٧ و٣٣٨/ ح ٢٨٥).
ومقطع من وجوده، فيرى ما لا يراه غيره، ويستشعر ما لا يستشعره الناس، ويتعامل مع
وجود الإمام الغائب على أنَّه عين الله تعالى في الخلق، والرقيب عليهم، فَعَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «نَحْنُ اَلمَثَانِي اَلَّذِي أَعْطَاهُ
اَللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً (صلَّى الله عليه وآله)، ونَحْنُ وَجْهُ اَلله
نَتَقَلَّبُ فِي اَلْأَرْضِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَنَحْنُ عَيْنُ اَلله فِي
خَلْقِهِ، وَيَدُهُ اَلمَبْسُوطَةُ بِالرَّحْمَةِ عَلَى عِبَادِه، عَرَفَنَا مَنْ
عَرَفَنَا، وَجَهِلَنَا مَنْ جَهِلَنَا...»(٥٣٣).
وفي الزيارة المخصوصة به (عجَّل الله فرجه) في يوم الجمعة: «اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ
يَا حُجَّةَ اَلله فِي أَرْضِهِ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا عَيْنَ اَلله فِي
خَلْقِهِ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نُورَ اَلله اَلَّذِي يَهْتَدِي بِهِ
اَلمُهْتَدُونَ، وَيُفَرَّجُ بِهِ عَنِ اَلمُؤْمِنِينَ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ
أَيُّهَا اَلمُهَذَّبُ اَلْخَائِفُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا اَلْوَلِيُّ
اَلنَّاصِحُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا سَفِينَةَ اَلنَّجَاةِ، اَلسَّلَامُ
عَلَيْكَ يَا عَيْنَ اَلْحَيَاةِ...»(٥٣٤).
وهؤلاء القلَّة من الناس ممَّن يملك هذا الإيمان، قد وصفتهم بعض الروايات بأنَّهم
أعزّ من الكبريت الأحمر، لأنَّهم يؤمنون به سواداً على بياض، ولكن هذا الإيمان
العلمي كان حافزاً لهم على تجسيده والتماسه في كلِّ زاوية من زوايا وجودهم، فإنَّهم
يرون ما لا يرى الناس بسبب عقيدتهم بالإمام (عجَّل الله فرجه) على حدِّ تعبير أمير
المؤمنين (عليه السلام) حينما قال: «فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا اَلدُّنْيَا إِلَى
اَلْآخِرَةِ وَهُمْ فِيهَا، فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّمَا
اِطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ اَلْبَرْزَخِ فِي طُولِ اَلْإِقَامَةِ فِيهِ،
وَحَقَّقَتِ اَلْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا، فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ
لِأَهْلِ اَلدُّنْيَا حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى اَلنَّاسُ،
وَيَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ...»(٥٣٥).
العين الثانية، هكذا يجب أنْ تُقرَأ القضايا ذات الاهتمام الكبير، والتي تُؤثِّر
-----------------
(٥٣٣) الكافي (ج ١/ ص ١٤٣/ باب النوادر/ ح ٣).
(٥٣٤) جمال الأُسبوع (ص ٤١).
(٥٣٥) نهج البلاغة (ص ٣٤٢ و٣٤٣/ ح ٢٢٢).
على تغيير مسار الإنسان من زاوية الواقع لا بعين واحدة، أي إنَّ الإنسان لا بدَّ
أنْ يقرأ ما يُؤثِّر في بناء عقيدته وسلوكه بعين ثانية.
ولا نبالغ إذا قلنا: إنَّ هذه الحالة هي التي تجرف الإنسان وتجعله أسير أفكار لا
تمتُّ بصلة للعقيدة التي ينبغي أنْ يتحلَّى بها، ويُنظِّم على أساسها ممارسات تقوده
إلى طريق النجاة.
فينبغي لنا لوزن الأحداث وضبط الأفكار وعدم انفلات أيٍّ منهما وانبعاث أفكار
متأثِّرة بواقعٍ آنيٍّ، أنْ ننظر بعين ثانية.
هذه الفقرة تُعبِّر عن الأمل العميق
في أنْ يشهد الداعي لحظة ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، حيث يملأ الأرض بالعدل
الذي يُطفئ نيران الظلم، ويُعيد حقوق المظلومين. كما يتمنَّى أنْ يرى أعداء الحقِّ
وقد نالوا جزاءهم العادل، معذَّبين ومهزومين، إذ إنَّ هذا العقاب ليس مجرَّد عقوبة
دنيويَّة، بل هو انتصارٌ لحقٍّ إلهي يُستعاد، وذلٌّ على الطغاة الذين ظلموا
البشريَّة وعبثوا بالأرواح والحقوق طيلة عهود متمادية.
وفي النهاية، تكتمل الصورة التي يرنو إليها الداعي: لحظة النصر والتسليم الكامل لله
تعالى، حيث تُرفَع الأفواه بالشكر والامتنان لله الذي قضى بهذا الفرج، واستجاب
لدعوات المؤمنين وانتظارهم.
«اَلْحَمْدُ لله رَبِّ اَلْعَالَمِينَ»، هذا التعبير عن الشكر العميق للرحمة
الإلهيَّة التي جلبت النصر، وإعلانٌ عن رضا المؤمنين وسعادتهم برؤية الحقِّ قد
تحقَّق، وملأ الأرض بركاتٍ وسلاماً بعد فترة طويلة من الشدائد والانتظار.
إنَّها لحظة نهاية الظلم وبداية الحقِّ، حيث تتنفَّس الأرض هواءً جديداً، وتستعيد
البشريَّة طهارتها وأمانها وسلامها وإسلامها الأصيل.
حكومة المستقرِّ وخاتمة الأمر:
لا يمرُّ يوم من الأيَّام في زماننا هذا إلَّا ونجد للقفزات العلميَّة والتطوُّر
النوعي الهائل صدًى أو خبراً يُحدِّثنا عن زاوية حصل فيها ابتكار، أو برنامج لو
أُخبرنا به قبل مشاهدته لكان ضرباً من الخيال، واتِّهاماً للمتحدِّث به بالجنون.
فبين أيدينا التطوُّر الهائل في وسائل الاتِّصال ونقل المعلومات إلكترونيًّا، وفي
مجال الفضاء واكتشاف الكواكب والمجرَّات، إذ يقف العقل مذهولاً لما توصَّل إليه
الإنسان من اكتشافات وحصل عليه من معلومات، والمسيرة في تقدُّم متسارع منقطع
النظير، فلا يكاد يمرُّ يوم، بل ساعة إلَّا وهناك قفزة علميَّة واكتشاف في مجالٍ
ما.
وإذا رجعنا إلى الروايات التي تتحدَّث عن التقدُّم العلمي في زمن الظهور المبارك
لصاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) نجد أنَّ بعضاً منها تتحدَّث عن نسبة ما يصل إليه
العالم من العلم قبل الظهور، ونسبة ما سيصل إليه بعده، وأُخرى تُحدِّثنا عن جوانب
من ذلك التطوُّر أو الانقلاب الكوني الهائل في عصر الظهور.
وأبحاث من هذا القبيل لا يمكن الوقوف عليها والتماس نتائجها إلَّا بالاستعانة
بالروايات التي تُمثِّل بالنسبة لها المجسَّات والكواشف التي تطلُّ على الواقع
ويُبصَر من خلالها بمقدار ما تحدَّثت عنه الروايات، إذ بمعزل عن ذلك لا يمكن للفرد
أنْ يلتمس الحقائق مجرَّدة عنها.
وإذا سرَّحنا النظر في هذين النموذجين من الروايات، نجد أنَّ النموذج الأوَّل الذي
يجري عمليَّة المقايسة بين ما قبل وما بعد الظهور يُعطي نسبة الأربعة عشر ضعفاً لما
وصل إليه العالم قياساً بما قبل، فخذ أيَّ نموذج من النماذج التي تلحظ فيها
تطوُّراً متزايداً، ويكاد كلُّ نحو من أنحاء هذا التطوُّر يُوقِف العقل ذهولاً،
فإذا أردت مقايستها بما بعد الظهور فاضربها بأربعة عشر مرَّة تطوُّراً لتلتمس
الحالة التي سيكون عليها التطوُّر في عصر الظهور المبارك. والأمر متروك لك في
اختيار النماذج ومقايستها بهذه النسبة، وهي في حدِّ ذاتها نسبة لا يمكن الجزم
بأنَّها هي فقط دون غيرها زيادة، إذ إنَّ الأحاديث التي أرادت المقايسة بين ما قبل
وما بعد تحدَّث بعضها عن أنَّ للعلم سبعاً وعشرين جزءاً، وقالت: إنَّ جميع ما قبل
الظهور هو بجزئين سينضمَّان إلى الخمسة والعشرين جزءاً وسيبثُّها القائم (عجَّل
الله فرجه) جميعاً في العالم حين ظهوره، وتلك الأجزاء - غير الاثنين - فسرِّح عنان
الفكر في استخراج النتائج.
فَعَنْ أَبَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «اَلْعِلْمُ
سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُزْءاً، فَجَمِيعُ مَا جَاءَتْ بِهِ اَلرُّسُلُ جُزْءَانِ،
فَلَمْ يَعْرِفِ اَلنَّاسُ حَتَّى اَلْيَوْمِ غَيْرَ اَلْجُزْءَيْنِ، فَإِذَا قَامَ
اَلْقَائِمُ أَخْرَجَ اَلْخَمْسَةَ وَاَلْعِشْرِينَ جُزْءاً فَبَثَّهَا فِي
اَلنَّاسِ، وَضَمَّ إِلَيْهَا اَلْجُزْءَيْنِ حَتَّى يَبُثَّهَا سَبْعَةً
وَعِشْرِينَ جُزْءاً»(٥٣٦).
بينما نجد النموذج الثاني الذي يتحدَّث عن زوايا ضيِّقة جدًّا في لوحة الظهور
الكبيرة، فيُعطي لنا صوراً نلتمس بها الواقع آنذاك، فانخفاض كلِّ مرتفع وارتفاع
كلِّ منخفض يعني زلزلة جميع الموازين، ولكنَّها زلزلة علميَّة حتَّى يصل الحال إلى
أنْ يُصوِّر لكَ الكون - بل هو الواقع وليس صوراً - أنَّه كشعرة في راحة يده.
-----------------
(٥٣٦) الخرائج والجرائح (ج ٢/ ص ٨٤١/ ح ٥٩).
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «إِنَّهُ
إِذَا تَنَاهَتِ اَلْأُمُورُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ رَفَعَ اَللهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ مُنْخَفِضٍ مِنَ اَلْأَرْضِ، وَخَفَّضَ لَهُ كُلَّ
مُرْتَفِعٍ مِنْهَا حَتَّى تَكُونَ اَلدُّنْيَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ
رَاحَتِهِ...»(٥٣٧).
ثمّ تُعطينا الأحاديث صورة أُخرى لما سيكون عليه التطوُّر في زمن الظهور، فتُبرِز
لنا أنَّ الرؤية بالعين المجرَّدة بعد الظهور تختلف عنها عمَّا قبله، فالذي هو
بالمشرق سيتجاوز نظره إبَّان الظهور المشرق كلَّه إلى المغرب.
فَعَنْ أَبِي اَلرَّبِيعِ اَلشَّامِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه
السلام) يَقُولُ: «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ مَدَّ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)
لِشِيعَتِنَا فِي أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ اَلْقَائِمِ بَرِيدٌ...» الحديث(٥٣٨).
ثمّ تنقلنا روايات أُخرى إلى مقطع آخر، إلى اللباس وشؤونه، فتُحدِّثنا بأنَّ لباس
المؤمن يختلف عمَّا قبل، فهو يتغيَّر بتغيُّر الذي يلبسه، فإذا طال الإنسان طالت
ملابسه معه، وكذا إذا قصر، ويتغيَّر لونها تغيُّراً لحُبِّه ومشيئته وإرادته، فإذا
أراد الملابس السوداء تحوَّلت ملابسه إلى اللون الأسود، وإذا أراد البيضاء فكذلك،
وهي على هذا المنوال تتغيَّر تلوُّناً ومقاساً ونوعيَّةً حسب رغبته وإرادته(٥٣٩).
-----------------
(٥٣٧) كمال الدِّين (ص ٦٧٤/ باب ٥٨/ ح ٢٩).
(٥٣٨) الكافي (ج ٨/ ص ٢٤٠ و٢٤١/ ح ٣٢٩).
(٥٣٩) عَنِ اَلمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)،
قَالَ: «إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) اِسْتَنْزَلَ اَلمُؤْمِنُ
اَلطَّيْرَ مِنَ اَلْهَوَاءِ، فَيَذْبَحُهُ، فَيَشْوِيهِ، وَيَأْكُلُ لَحْمَهُ،
وَلَا يَكْسِرُ عَظْمَهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: اِحْيَ بِإِذْنِ اَلله، فَيَحْيَا
وَيَطِيرُ، وَ كَذَلِكَ اَلظِّبَاءُ مِنَ اَلصَّحَاَرِي، وَيَكُونُ ضَوْءُ
اَلْبِلَادِ نُورَهُ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى شَمْسٍ وَلَا قَمَرٍ، وَلَا يَكُونُ
عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ مُؤْذٍ، وَلَا شَرٌّ، وَلَا إِثْمٌ، وَلَا فَسَادٌ
أَصْلاً، لِأَنَّ اَلدَّعْوَةَ سَمَاوِيَّةٌ، لَيْسَتْ بِأَرَضِيَّةٍ، وَلَا
يَكُونُ لِلشَّيْطَانِ فِيهَا وَسْوَسَةٌ، وَلَا عَمَلٌ، وَلَا حَسَدٌ، وَلَا
شَيْءٌ مِنَ اَلْفَسَادِ، وَلَا تَشُوكُ اَلْأَرْضُ وَاَلشَّجَرُ، وَتَبْقَى
زُرُوعُ اَلْأَرْضِ قَائِمَةً، كُلَّمَا أُخِذَ مِنْهَا شَيْءٌ نَبَتَ مِنْ
وَقْتِهِ، وَعَادَ كَحَالِهِ، وَإِنَّ اَلرَّجُلَ لَيَكْسُو اِبْنَهُ اَلثَّوْبَ
فَيَطُولُ مَعَهُ كُلَّمَا طَالَ، وَيَتَلَوَّنُ عَلَيْهِ أَيَّ لَوْنٍ أَحَبَّ
وَشَاءَ، وَلَوْ أَنَّ اَلرَّجُلَ اَلْكَافِرَ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ، أَوْ تَوَارَى
خَلْفَ مَدَرَةٍ، أَوْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، لَأَنْطَقَ اَللهُ ذَلِكَ اَلسِّتْرَ
اَلَّذِي يَتَوَارَى فِيهِ، حَتَّى يَقُولَ: يَا مُؤْمِنُ، خَلْفِي كَافِرٌ
فَخُذْهُ، فَيَأْخُذُهُ وَيَقْتُلُهُ، وَلَا يَكُونُ لِإِبْلِيسَ هَيْكَلٌ يَسْكُنُ
فِيهِ، وَاَلْهَيْكَلُ: اَلْبَدَنُ، وَيُصَافِحُ اَلمُؤْمِنُونَ اَلمَلَائِكَةَ،
وَيُوحَى إِلَيْهِمْ، وَيُحْيَوْنَ وَيَجْتَمِعُونَ اَلمَوْتَى بِإِذْنِ اَلله»،
قَالَ: «يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ زَمَانٌ لَا يَكُونُ اَلمُؤْمِنُ إِلَّا
بِالْكُوفَةِ، أَوْ يَحِنُّ إِلَيْهَا». دلائل الإمامة (ص ٤٦٢ و٤٦٣/ ح ٤٤٣/٤٧).
تلك الصور المتلوِّنة التي هي جزء صغير، ونافذة محدودة، عكسها لنا أهل البيت (عليهم
السلام) عن شكل ما سيكون عليه الكون أيَّام الظهور المبارك. والظاهر أنَّ ذلك يكون
في إطار الأسباب والمسبَّبات، ولا يحتاج إلى الكرامات إلَّا بمقدار استدعاء الضرورة
به. فهذا التطوُّر الهائل سيحدث في نطاق الحالة الطبيعيَّة للرقيِّ الحاصل في ذلك
الزمن المبارك.
اليوم العالمي للقيام المهدوي:
إدارة شؤون الكون وتنصيب الأفراد المؤهَّلين لها حقيقة نزعت إليها النفس البشريَّة
منذ وُجِدَت على هذه البسيطة، دونما حاجة إلى تشريع وإيجاد، وإذا كان ثَمَّة ما
يستدعي ذلك فإنَّما هو موازين الاختيار وضوابط تلبية تلك الحاجة، فإذا ما رُوعيت
تلك الموازين ونُصِبَ الفرد المؤهَّل لها تحقَّقت للبشريَّة الحياة الرغيدة
والسعادة المنشودة.
وعلى هذا النمط، ولأجل هذا النزوع جرت سيرة الناس والسُّنَن الإنسانيَّة على اعتبار
يوم التنصيب، واتِّخاذ القادة من أعيادها.
فلا نجد أُمَّةً أو شعباً تتاح له فرصة الوقوف خلف قائده المختار، إلَّا ويتَّخذ
ذلك اليوم عيداً ورمزاً وطنيًّا أو دينيًّا أو قوميًّا.
ونحن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ينبغي علينا أنْ ندأب على ذلك لما في هذا
التجسيد من تجذير وتعميق لروح الولاء وعقد الطاعة في يوم تنصيب وليِّ الله الأعظم
(عجَّل الله فرجه) واتِّخاذه من قِبَل السماء قائداً وإماماً للبشريَّة، لتحقيق
الأُمنية العالميَّة في سيادة العدل.
فإنَّ يوم تنصيب مهدي آل محمّد (عليهم السلام) خليفة لله على عباده هو العيد
العالمي واليوم الأُمَمي.
وهو اليوم الذي اجتمعت فيه أحلام البشريَّة، واقتربت من التحقُّق.
وعلى المحبِّ التوَّاق لهذا الفتح الإلهي، والانقلاب الكوني أنْ يُجدِّد العهد مع
هذا القائد السماوي، وأنْ يتَّخذ من هذا اليوم عيداً له.
* * *
الفقرة الرابعة والثلاثون
«اَللَّهُمَّ أَنْتَ كَشَّافُ اَلْكُرَبِ [اَلْكُرُوبِ] وَاَلْبَلْوَى، وَإِلَيْكَ
أَسْتَعْدِي فَعِنْدَكَ اَلْعَدْوَى، وَأَنْتَ رَبُّ اَلْآخِرَةِ وَاَلْأُولَى،
فَأَغِثْ يَا غِيَاثَ اَلمُسْتَغِيثِينَ عُبَيْدَكَ اَلمُبْتَلَى، وَأَرِهِ
سَيِّدَهُ يَا شَدِيدَ اَلْقُوَى، وَأَزِلْ عَنْهُ بِهِ اَلْأَسَى وَاَلجَوَى،
وَبَرِّدْ غَلِيلَهُ يَا مَنْ هُوَ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوَى، وَمَنْ إِلَيْهِ
اَلرُّجْعَى وَاَلمُنْتَهَى، اللَّهُمَّ وَنَحْنُ عَبِيدُكَ اَلتَّائِقُونَ إِلَى
وَلِيِّكَ، اَلمُذَكِّرِ بِكَ وَنَبِيِّكَ، خَلَقْتَهُ لَنَا عِصْمَةً وَمَلَاذاً،
وَأَقَمْتَهُ لَنَا قَوَاماً وَمَعَاذاً، وَجَعَلْتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَّا
إِمَاماً، فَبَلِّغْهُ مِنَّا تَحِيَّةً وَسَلَاماً، وَزِدْنَا بِذَلِكَ يَا رَبِّ
إِكْرَاماً، وَاجْعَلْ مُسْتَقَرَّهُ لَنَا مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً، وَأَتْمِمْ
نِعْمَتَكَ بِتَقْدِيمِكَ إِيَّاهُ أَمَامَنَا حَتَّى تُورِدَنَا جِنَانَكَ
[جَنَّاتِكَ] وَمُرَافَقَةَ اَلشُّهَدَاءِ مِنْ خُلَصَائِكَ، اَللَّهُمَّ صَلِّ
عَلَى حُجَّتِكَ وَوَلِيِّ أَمْرِكَ، وَصَلِّ عَلَى جَدِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِكَ
اَلسَّيِّدِ اَلْأَكْبَرِ، وَصَلِّ عَلَى عَلِيٍّ أَبِيهِ اَلسَّيِّدِ اَلْقَسْوَرِ،
وَحَامِلِ اللِّوَاءِ فِي اَلمَحْشَرِ، وَسَاقِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ نَهَرِ
اَلْكَوْثَرِ، وَاَلْأَمِيرِ عَلَى سَائِرِ اَلْبَشَرِ، اَلَّذِي مَنْ آمَنَ بِهِ
فَقَدْ ظَفَرَ [شَكَرَ]، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ [وَمَنْ أَبَا فَقَدْ]
خَطَرَ وَكَفَرَ، صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ وَعَلَى نَجْلِهِمَا
اَلمَيَامِينِ اَلْغُرَرِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا أَضَاءَ قَمَرٌ، وَعَلَى
جَدَّتِهِ اَلصِّدِّيقَةِ اَلْكُبْرَى فَاطِمَةَ اَلزَّهْرَاءِ بِنْتِ مُحَمَّدٍ
اَلمُصْطَفَى، وَعَلَى مَنِ اِصْطَفَيْتَ مِنْ آبَائِهِ اَلْبَرَرَةِ، وَعَلَيْهِ
أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ وَأَتَمَّ وَأَدْوَمَ وَأَكْبَرَ وَأَوْفَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْفِيَائِكَ وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَصَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً لَا غَايَةَ لِعَدَدِهَا، وَلَا نِهَايَةَ لِمَدَدِهَا، وَلَا نَفَادَ لِأَمَدِهَا، اَللَّهُمَّ وَأَقِمْ [أَعِزَّ] بِهِ اَلحَقَّ، وَأَدْحِضْ بِهِ اَلْبَاطِلَ، وَأَدِلْ [أَدِلَّ] بِهِ أَوْلِيَاءَكَ، وَأَذْلِلْ بِهِ أَعْدَاءَكَ، وَصِلِ اللَّهُمَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وُصْلَةً تُؤَدِّي إِلَى مُرَافَقَةِ سَلَفِهِ، وَاِجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِحُجْزَتِهِمْ، وَيُمَكَّنُ [وَيَمْكُثُ] فِي ظِلِّهِمْ، وَأَعِنَّا عَلَى تَأْدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ، وَاَلْاِجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ، وَاَلَاِجْتِنَابِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَاُمْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ، وَهَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَفَوْزاً عِنْدَكَ، وَاِجْعَلْ صَلَاتَنَا [صَلَوَاتِنَا] بِهِ مَقْبُولَةً، وَذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً، وَدُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً، وَاِجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً، وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً، وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً، وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ اَلْكَرِيمِ، وَاِقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ، وَاُنْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا اَلْكَرَامَةَ عِنْدَكَ، ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِكَ، وَاِسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ (صلَّى الله عليه وآله) بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيًّا رَوِيًّا هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ [أَظْمَأُ] بَعْدَهُ، يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ»
فقرات لا تحتاج إلى شرح نكتفي بذكر
بعض معانيها، ونعتمد على ما تقدَّم من بحوث في بيان مضامينها:
«اَللَّهُمَّ أَنْتَ كَشَّافُ اَلْكُرَبِ وَاَلْبَلْوَى، وَإِلَيْكَ
أَسْتَعْدِي فَعِنْدَكَ اَلْعَدْوَى، وَأَنْتَ رَبُّ اَلْآخِرَةِ واَلْأُولَى».
في هذا المقطع وبهذه الكلمات العميقة التي تخرج من قلب الداعي، يلتقي التوسُّل
بأسمى معاني الإيمان والتوكُّل والرجاء، حيث يُظهِر العبد
حالته النفسيَّة التي
تتأرجح بين الألم الشديد والتطلُّع إلى رحمة الله تعالى وفضله، هو يتوجَّه إلى
ربِّه سبحانه، ولا يرجو سواه، طالباً الفرج والنصر بإظهار أمر سيِّده (عجَّل الله
فرجه) بعد أنِ اشتدَّت أوقات الغمِّ وتعسَّر المخرج، ليتنفَّس صدره بأملٍ جديد.
هذه الكلمات ليست مجرَّد دعاء، بل هي صرخة من قلب يعصره الحزن، متمنّياً أنْ يرفع
البلاء ويُستجاب الرجاء، فالذي لا يعجزه شيء هو الله تعالى، وهو وحده القادر على
إزالة الأحزان والهموم التي تُثقِل الأرواح والنفوس والأبدان، وهو (عزَّ اسمه) وحده
القادر على إجابة الدعوات التي ترتفع من على شفاه قلوب المؤمنين المحزونة المغمومة.
يتوجَّه الداعي إلى مَنْ بيده وحده حلَّ الأزمات وتسكين الأوجاع، فهو القادر على
رفع البلاء في أيِّ لحظة شاء.
يتوجَّه الداعي إلى الله تعالى المالك الحقيقي لكلِّ الأُمور في الدنيا والآخرة،
والذي لا شيء يحدث إلَّا بإرادته، ولا مخرج من الضيق إلَّا بتقديره، فهو وحده (عزَّ
اسمه وجلَّت عظمته) الذي يملك زمام التغيير، وبيده مقاليد الأُمور، وإذا أراد شيئاً
أنْ يقول له: كن فيكون، هذا التوسُّل يعكس إيماناً عميقاً بأنَّ الله تعالى هو
الوحيد القادر على تغيير الحال في لحظة.
وهكذا، في قلب هذه الكلمات، يكمن أمل عميق في أنَّ الله سبحانه وتعالى سيكشف
الغمَّة عن المؤمنين، ويُعجِّل بظهور الفرج، ليخرج إمامهم ووليُّهم من غيبته، وينشر
العدل في الأرض.
* * *
في هذه الكلمات التي تفيض من أعماق
وجود الداعي، تعبيراً عن أقوى أنواع التوسُّل وأشدّها توقاً إلى الفرج وطلب التعجيل
بفرج المولى ورؤيته ظاهراً ناشراً راية عدله وقسطه، حيث يتوجَّه الداعي إلى غياث
المستغيثين الذي لا يلجأ إليه أحد في الشدائد إلَّا أمدَّه بالعون، فهو أقرب إلى
الإنسان - خصوصاً المؤمن - من حبل وريده وروحه التي بين جنبيه، فلا يردُّ سائلاً،
ولا يُخيِّب رجاءً.
في هذا النداء يطلب الداعي المدد من الله تعالى والعون، بل يصرخ مستغيثاً من أعماق
قلب أنهكه الزمن ووطأته غيبات الأمل، يستغيث بالله تعالى من البلاء الذي طوَّقه،
علَّه يُمَدُّ بمعونة إلهيَّة ترفع عنه المعاناة، وتريه الفرج عن سيِّده.
هنا وفي هذا الموقع من الدعاء يتوجَّه الداعي إلى الله سبحانه وتعالى بأسمى آيات
التوسُّل، رافعاً يديه بالدعاء ليكشف الغمَّة عن الأُمَّة، ويزيل الهمَّ عن قلوب
المؤمنين، خاصَّةً في غيبة إمامهم الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه)، ففي هذه
الكلمات يظهر النداء العميق من عبدٍ مبتلى بقلبٍ محزون ينتظر الفرج العظيم.
فقد زادت وتزداد معانات المؤمنين بغياب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي هو
سبب الأمل والفرج.
يتوسَّل الداعي إلى الله تعالى ليُري إمامه وسيِّده (عجَّل الله فرجه) في يوم
ظهوره، حيث يتحقَّق العدل، وينتصر الحقُّ، ويزول الظلم.
هذه الكلمات تُترجِم أسمى أمانٍ وتطلُّعات من قلوب المؤمنين الذين يتوقون لرؤية
الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وقد أقام دولة العدل والقسط، التي سيزول بها
كلُّ ما علق في القلوب من أسى وحزن جراء الغيبة المستمرَّة الممتدَّة للإمام (عجَّل
الله فرجه).
في هذه الدعوة يُعبِّر المؤمن عن أمله العميق في انتظار الفرج، وهو أملٌ لا ينقطع رغم طول الغيبة، عسى أنْ يبرد الألم الحارق في القلب الذي لا يطفئه إلَّا ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه).
هذه الكلمات تفيض بالحبِّ والولاء
للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وتُعبِّر عن أسمى درجات التوجُّه إلى الله سبحانه
وتعالى في طلب العون والفرج والنصرة.
في هذه الدعوة يظهر التوسُّل العميق والتضرُّع الصادق من المؤمنين الذين يتطلَّعون
إلى لقاء إمامهم (عجَّل الله فرجه) الذي هو عِصمتهم وملاذهم، وهو القائم على شؤونهم
والمصلح لأحوالهم.
في هذه الفقرة يظهر الخضوع التامُّ لله تعالى، حيث يُعلِن المؤمنون عن أنفسهم
كعبيدٍ مخلِصين، يتوقون إلى الخلاص والعدل الذي يُجسِّده الإمام (عجَّل الله فرجه)،
هذا التوق يُعبِّر عن الافتقار المستمرِّ إلى الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه)،
الذي هو أملهم ومرجعهم في مواجهة الظلم والفساد.
في هذا المقطع يتوجَّه الداعي نحو الله سبحانه وتعالى، طالباً تذكير العالم بوجود
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي هو الركيزة التي تُذكِّر الناس بهدى الله
تعالى على ما تقدَّم مكرَّراً.
فالإمام (عجَّل الله فرجه) - وكما تقدَّم - هو العصمة التي تحمي المؤمنين من
الضلال، والملاذ الآمن الذي يلجأون إليه في زمن المحن، وهو مصدر الأمان للمؤمنين في
غيبته، وهو الذي يقيهم من التشتُّت والفرقة، وهو الذي جعله الله تعالى لتثبت
الأُمَّة على الهدى، ليطلب الداعي من الباري (عزَّ اسمه) إبلاغ مولاه (عجَّل الله
فرجه) التحيَّة والسلام: «فَبَلِّغْهُ مِنَّا تَحِيَّةً وَسَلَاماً...»، إلى آخر
مقاطع هذه الفقرة.
الختام هو أنْ نُسقى من حوض نبيِّنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله) شربةً لا نظمأ
بعدها أبداً، كما ورد في الدعاء: «وَاِسْقِنَا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ (صلَّى الله
عليه وآله) بِكَأْسِهِ وَبِيَدِهِ رَيًّا رَوِيًّا هَنِيئاً سَائِغاً لَا ظَمَأَ
بَعْدَهُ».
وبهذا نختتم هذه السفرة الروحيَّة والمعنويَّة، التي حملت بين سطورها ودواخلها
معاني عميقة من الوجدان، ومن العقيدة الراسخة، ومن السلوك المستنير، وهي دعوة أنْ
نعيش على تلك المبادئ السامية، ونأمل أنْ نكون على هديها في كلِّ لحظة من حياتنا.
* * *
١ - القرآن الكريم.
٢ - الابتعاد عن عقوبة الإعدام (الحُجَج، التوجُّهات، الآفاق): إيفان شيمونوفيتش.
٣ - إثبات الوصيَّة للإمام عليِّ بن أبي طالب: عليُّ بن الحسين بن عليٍّ الهذلي
المسعودي/ ط ٣/ ١٤٢٦هـ/ أنصاريان/ قم.
٤ - الاحتجاج: أحمد بن عليٍّ الطبرسي/ تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/
١٣٨٦هـ/ دار النعمان/ النجف الأشرف.
٥ - الاختصاص: الشيخ المفيد/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري والسيِّد محمود الزرندي/ ط
٢/ ١٤١٤هـ/ دار المفيد للطباعة والنشر/ بيروت.
٦ - إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط ٢/ ١٤١٥هـ/ مطبعة أمير/ انتشارات
الشريف الرضي/ قم.
٧ - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/
دار المفيد/ بيروت.
٨ - الاستذكار: ابن عبد البرِّ/ تحقيق: سالم محمّد عطا ومحمّد عليّ معوض/ ط ١/
٢٠٠٠م/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
٩ - اشتقاق أسماء الله: عبد الرحمن بن إسحاق البغدادي النهاوندي أبو القاسم
الزجَّاجي/ تحقيق: عبد الحسين المبارك/ ط ٢/ ١٤٠٦هـ/ مؤسَّسة الرسالة.
١٠ - الأُصول الستَّة عشر: عدَّة محدِّثين/ تحقيق: ضياء الدِّين المحمودي/ ط ١/
١٤٢٣هـ/ دار الحديث.
١١ - أُصول مذهب الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة: ناصر بن عبد الله بن عليٍّ
القفاري/ ط ٢/ ١٤١٥هـ.
١٢ - أضواء على دعاء كميل: السيِّد عزُّ الدِّين بحر العلوم/ ط ٢/ دار الزهراء/
بيروت.
١٣ - الاعتقادات في دين الإماميَّة: الشيخ الصدوق/ تحقيق: عصام عبد السيِّد/ ط ٢/
١٤١٤هـ/ دار المفيد/ بيروت.
١٤ - الإفصاح في فقه اللغة: حسين يوسف موسى وعبد الفتَّاح الصعيدي/ ط ٤/ ١٤١٠هـ/
مكتب الإعلام الإسلامي/ قم.
١٥ - إقبال الأعمال: السيِّد عليُّ بن طاوس/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط ١/
١٤١٤هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
١٦ - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ط ١/ ١٤١٧هـ/ مركز الطباعة والنشر في مؤسَّسة البعثة/
قم.
١٧ - الأمالي: الشيخ الطوسي/ تحقيق: مؤسَّسة البعثة/ ط ١/ ١٤١٤هـ/ دار الثقافة/ قم.
١٨ - الأمالي: الشيخ المفيد/ تحقيق: حسين الأُستادولي وعليّ أكبر الغفاري/ ط ٢/
١٤١٤هـ/ دار المفيد/ بيروت.
١٩ - الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط ١/ ١٤٠٤هـ/ مدرسة الإمام الهادي (عليه
السلام)/ قم.
٢٠ - أنوار الحقيقة وأطوار الطريقة وأسرار الشريعة: السيِّد حيدر الآملي/ تحقيق
وتصحيح: السيِّد محسن الموسوي التبريزي/ ط ١/ ١٣٨٢ش/ الناشر: نور على نور/ قم.
٢١ - الأنوار اللَّامعة في شرح الزيارة الجامعة (شرح آل كاشف الغطاء): عبد الله
شبر/ ط ١/ ط١/ ١٤٠٣هـ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
٢٢ - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: العلَّامة المجلسي/
تحقيق: يحيى العابدي الزنجاني وعبد الرحيم الربَّاني الشيرازي/ ط ٢/ ١٤٠٣هـ/
مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
٢٣ - بداية المجتهد ونهاية المقتصد: ابن رشد/ تنقيح وتصحيح: خالد العطَّار/ طبعة
جديدة منقَّحة ومصحَّحة/ ١٤١٥هـ/ دار الفكر/ بيروت.
٢٤ - البداية والنهاية: ابن كثير/ تحقيق وتدقيق وتعليق: عليّ شيري/ ط ١/ ١٤٠٨هـ/
دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
٢٥ - البرهان في تفسير القرآن: هاشم البحراني/ مؤسَّسة البعثة/ قم.
٢٦ - بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمّد (عليهم السلام): محمّد بن الحسن ابن
فرُّوخ (الصفَّار)/ تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوجه باغي/ ١٤٠٤هـ/
منشورات الأعلمي/ طهران.
٢٧ - البيان في تفسير القرآن: السيِّد الخوئي/ ط ٤/ ١٣٩٥هـ/ دار الزهراء/ بيروت.
٢٨ - تاج المواليد في مواليد الأئمَّة ووفياتهم: الشيخ الطبرسي/ ط ١٤٠٦هـ/ مكتبة
آية الله المرعشي/ قم.
٢٩ - تاريخ بغداد أو مدينة السلام: الخطيب البغدادي/ دراسة وتحقيق: مصطفى عبد
القادر عطا/ ط ١/ ١٤١٧هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
٣٠ - تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة: السيِّد شرف الدِّين عليّ
الحسيني الأسترآبادي/ ط ١/ ١٤٠٧هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
٣١ - التبيان في تفسير القرآن: الشيخ الطوسي/ تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي/ ط ١/
١٤٠٩هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
٣٢ - تُحَف العقول عن آل الرسول: ابن شعبة الحرَّاني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر
الغفاري/ ط ٢/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم
المشرَّفة.
٣٣ - تحفة الأزهار وزلال الأنهار في نَسَب أبناء الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام):
ضامن بن شدقم/ ط ١/ ١٣٧٨ش/ دفتر نشر ميراث مكتوب/ طهران.
٣٤ - تصحيح اعتقادات الإماميَّة: الشيخ المفيد/ تحقيق: حسين دركاهي/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/
دار المفيد/ بيروت.
٣٥ - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): المنسوب إلى الإمام العسكري(عليه
السلام)/ ط ١ محقَّقة/ ١٤٠٩هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
٣٦ - تفسير الرازي (مفاتيح الغيب): فخر الدِّين محمّد بن عمر التميمي البكري الرازي
الشافعي/ ط ٣.
٣٧ - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن): محمّد بن جرير الطبري/ تقديم:
الشيخ خليل الميس/ ضبط وتوثيق وتخريج: صدقي جميل العطَّار/ ١٤١٥هـ/ دار الفكر/
بيروت.
٣٨ - تفسير العيَّاشي: محمّد بن مسعود العيَّاشي/ تحقيق: السيِّد هاشم الرسولي
المحلَّاتي/ المكتبة العلميَّة الإسلاميَّة/ طهران.
٣٩ - تفسير القمِّي: عليُّ بن إبراهيم القمِّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيِّب
الموسوي الجزائري/ ط ٣/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
٤٠ - تفسير الميزان (الميزان في تفسير القرآن): العلَّامة الطباطبائي/ مؤسَّسة
النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٤١ - تفسير فرات الكوفي: فرات بن إبراهيم الكوفي/ تحقيق: محمّد الكاظم/ ط ١/
١٤١٠هـ/ مؤسَّسة طبع ونشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي/ طهران.
٤٢ - تقريب المعارف: أبو الصلاح الحلبي/ تحقيق: فارس الحسُّون/ ط ١٤١٧هـ.
٤٣ - تلخيص الشافي: الشيخ الطوسي/ ط ١/ ١٣٨٢ش/ انتشارات المحبِّين/ قم.
٤٤ - تنقيح المقال في علم الرجال: الشيخ عبد الله المامقاني/ تحقيق: الشيخ محمّد
رضا المامقاني/ ط ١/ ١٤٣١هـ/ مؤسَّسة أهل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
٤٥ - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق وتعليق: السيِّد حسن الموسوي الخرسان/ ط
٣/ ١٣٦٤هـ/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
٤٦ - تهذيب اللغة: أبو منصور محمّد بن أحمد الأزهري/ تعليق: عمر سلامي وعبد الكريم
حامد/ ط ١/ ١٤٢١هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
٤٧ - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ ط ٢/ ١٣٦٨ش/ مطبعة
أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
٤٨ - جمال الأُسبوع: ابن طاوس/ تحقيق: جواد القيُّومي/ ط ١/ ١٣٧١ش/ مطبعة أختر
شمال/ مؤسَّسة الآفاق.
٤٩ - جواهر الكلام: الشيخ الجواهري/ تحقيق: عبَّاس القوجاني/ ط ٢/ ١٣٦٥ش/ مطبعة
خورشيد/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
٥٠ - حوار مع فضل الله حول الزهراء (سلام الله عليها): السيِّد هاشم الهاشمي/ ط ٢/
١٤٢٢هـ/ دار الهدى/ قم.
٥١ - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ بإشراف: السيِّد محمّد باقر الموحِّد
الأبطحي/ ط ١/ ١٤٠٩هـ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
٥٢ - الخصال: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ١٣٦٢ش/ مؤسَّسة النشر
الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٥٣ - خلق أفعال العباد: محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي/ ط ١/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة
الرسالة/ بيروت.
٥٤ - الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدِّين السيوطي/ دار المعرفة/
بيروت.
٥٥ - الدعوات (سلوة الحزين): قطب الدِّين الراوندي/ ط ١/ ١٤٠٧هـ/ مطبعة أمير/
مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
٥٦ - دلائل الإمامة: محمّد بن جرير الطبري الشيعي/ ط ١/ ١٤١٣هـ/ مؤسَّسة البعثة/
قم.
٥٧ - رجال الطوسي (الأبواب): الشيخ الطوسي/ ط ١/ ١٤١٥هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.
٥٨ - رجال الكشِّي (اختيار معرفة الرجال): الشيخ الطوسي/ تحقيق: السيِّد مهدي
الرجائي/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.
٥٩ - رجال النجاشي (فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة): أبو العبَّاس أحمد ابن عليّ بن
أحمد بن العبَّاس النجاشي الأسدي الكوفي/ ط ٥/ ١٤١٦هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٦٠ - الرواشح السماويَّة: السيِّد محمّد باقر الداماد (الميرداماد)/ تحقيق:
غلامحسين قيصريهها ونعمة الله الجليلي/ ط ٢/ ١٤٢٢هـ/ دار الحديث.
٦١ - روضة الواعظين: محمّد بن الفتَّال النيسابوري/ تقديم: السيِّد محمّد مهدي
السيِّد حسن الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
٦٢ - زاد المعاد: العلَّامة محمّد باقر المجلسي/ تعريب وتعليق: علاء الدِّين
الأعلمي/ ط ١/ ١٤٢٣هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
٦٣ - سرور أهل الإيمان في علامات صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه): السيِّد بهاء
الدِّين عليّ النيلي النجفي/ ط ١/ ١٤٢٦هـ/ دليل ما/ قم.
٦٤ - سعد السعود: ابن طاوس/ ١٣٦٣هـ/ مطبعة أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
٦٥ - سِيَر أعلام النبلاء: شمس الدِّين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي/ إشراف
وتخريج: شعيب الأرنؤوط/ تحقيق: حسين الأسد/ ط ٩/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
٦٦ - الشافي في الإمامة: الشريف المرتضى/ ط ٢/ ١٤١٠هـ/ مؤسَّسة إسماعيليان/ قم.
٦٧ - شذرات الذهب في أخبار من ذهب: عبد الحيِّ العكري الدمشقي (ابن العماد
الحنبلي)/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
٦٨ - شرح أُصول الكافي: مولى محمّد صالح المازندراني/ تعليق: الميرزا أبو الحسن
الشعراني/ ضبط وتصحيح: السيِّد عليّ عاشور/ ط ١/ ١٤٢١هـ/ دار إحياء التراث العربي/
بيروت.
٦٩ - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربيَّة): إسماعيل بن حمَّاد الجوهري/ تحقيق: أحمد
عبد الغفور العطَّار/ ط ٤/ ١٤٠٧هـ/ دار العلم للملايين/ بيروت.
٧٠ - صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي/ ط ٢/ ١٤١٠هـ/ أوقاف مصر.
٧١ - صحيح مسلم: مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
٧٢ - الصحيفة السجَّاديَّة: تحقيق: محمّد باقر الأبطحي/ ط ١/ ١٤١١هـ/ مطبعة نمونه/
مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ومؤسَّسة الأنصاريان/ قم.
٧٣ - عِلَل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم/ ١٣٨٥هـ/
منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.
٧٤ - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ تحقيق: مجتبى العراقي/ ط ١/ ١٤٠٣هـ/
مطبعة سيِّد الشهداء (عليه السلام)/ قم.
٧٥ - العين: الخليل الفراهيدي/ ط ٢/ ١٤٠٩هـ/ مؤسَّسة دار الهجرة.
٧٦ - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ
حسين الأعلمي/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
٧٧ - الغارات: إبراهيم بن محمّد الثقفي الكوفي/ تحقيق: السيِّد جلال الدِّين
الحسيني الأرموي المحدِّث.
٧٨ - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: فارس حسُّون كريم/ ط ١/ ١٤٢٢هـ/ أنوار
الهدى.
٧٩ - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط ١/
١٤١١هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
٨٠ - فرحة الغريِّ في تعيين قبر أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام): السيِّد عبد
الكريم بن طاوس الحسني/ تحقيق: السيِّد تحسين آل شبيب الموسوي/ ط ١/ ١٤١٩هـ/ مركز
الغدير للدراسات الإسلاميَّة.
٨١ - الفردوس الأعلى: الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء/ تعليق: السيِّد محمّد عليٍّ
القاضي الطباطبائي/ ط ٣/ ١٤٠٢هـ/ مكتبة فيرزآبادي/قم.
٨٢ - الفصول العشرة: الشيخ المفيد/ تحقيق: الشيخ فارس الحسُّون/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/ دار
المفيد/ بيروت.
٨٣ - الفصول المختارة: الشيخ المفيد/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/ دار المفيد/ بيروت.
٨٤ - الفضائل: شاذان بن جبرئيل القمِّي (ابن شاذان)/ ١٣٨١هـ/ منشورات المطبعة
الحيدريَّة ومكتبتها/ النجف الأشرف.
٨٥ - فقه الصادق (عليه السلام): السيِّد محمّد صادق الروحاني/ ط ٣/ ١٤١٤هـ/ مؤسَّسة
دار الكتاب/ قم.
٨٦ - فلاح السائل: رضيُّ الدِّين عليُّ بن طاوس.
٨٧ - قاموس الرجال: الشيخ محمّد تقي التستري/ ط ٢/ ١٤١٠هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي
التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٨٨ - القاموس المحيط: مجد الدِّين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي.
٨٩ - قَصَص الأنبياء: قطب الدِّين الراوندي/ تحقيق: الميرزا غلام رضا عرفانيان
اليزدي الخراساني/ ط ١/ ١٤١٨هـ/ انتشارات الهادي.
٩٠ - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط ٥/ ١٣٦٣ش/ مطبعة حيدري/
دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
٩١ - كامل الزيارات: جعفر بن محمّد بن قولويه/ تحقيق: الشيخ جواد القيُّومي/ ط ١/
١٤١٧هـ/ مؤسَّسة نشر الفقاهة.
٩٢ - كتاب سُلَيم: سُلَيم بن قيس الهلالي الكوفي/ تحقيق: محمّد باقر الأنصاري
الزنجاني/ ط ١/ ١٤٢٢هـ/ دليل ما.
٩٣ - كشف الغمَّة في معرفة الأئمَّة: عليُّ بن أبي الفتح الإربلي/ ط ٢/ ١٤٠٥هـ/ دار
الأضواء/ بيروت.
٩٤ - كشف المحجَّة لثمرة المهجة: السيِّد عليُّ بن طاوس/ ١٣٧٠هـ/ المطبعة
الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
٩٥ - كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشر: أبو القاسم عليُّ بن محمّد
الخزَّاز القمِّي الرازي/ تحقيق: السيِّد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري الخوئي/
١٤٠١هـ/ انتشارات بيدار.
٩٦ - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/
١٤٠٥هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٩٧ - كنز العُمَّال في سُنَن الأقوال والأفعال: علاء الدِّين عليّ المتَّقي بن حسام
الدِّين الهندي البرهان فوري (المتَّقي الهندي)/ ضبط وتفسير: الشيخ بكري حيَّاني/
تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقَّا/ ١٤٠٩هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
٩٨ - لسان العرب: أبو الفضل جمال الدِّين محمّد بن مكرم الإفريقي المصري (ابن
منظور)/ ١٤٠٥هـ/ نشر أدب الحوزة/ قم.
٩٩ - مثير الأحزان: محمّد بن جعفر بن أبي البقاء هبة الله بن نما الحلِّي/ ١٣٦٩هـ/
المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
١٠٠ - مجمع البحرين: الشيخ فخر الدِّين الطريحي/ ط ٢/ ١٣٦٢ش/ مرتضوي.
١٠١ - مجمع البيان في تفسير القرآن: أمين الإسلام أبو عليٍّ الفضل بن الحسن الطبرسي/
قدَّم له: السيِّد محسن الأمين العاملي/ ط ١/ ١٤١٥هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
١٠٢ - مجمع الرسائل (موسوعة السيِّد الخوئي): السيِّد الخوئي/ ط ٤/ ١٤٣٠هـ/ مؤسَّسة
إحياء آثار الإمام الخوئي/ قم.
١٠٣ - مجموعة الفتاوى: ابن تيميَّة/ طبعة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم.
١٠٤ - المحاسن: أحمد بن محمّد بن خالد البرقي/ تصحيح وتعليق: السيِّد جلال الدِّين
الحسيني المحدِّث/ ١٣٧٠هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
١٠٥ - المحتضر: حسن بن سليمان الحلِّي/ تحقيق: سيِّد عليّ أشرف/ ط ١/ ١٤٢٤هـ/
انتشارات المكتبة الحيدريَّة/ مطبعة شريعت.
١٠٦ - مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلِّي/ ط ١/ ١٣٧٠هـ/ منشورات المطبعة
الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
١٠٧ - المزار الكبير: محمّد بن جعفر المشهدي/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط
١/ ١٩١٩هـ/ نشر القيُّوم/ قم.
١٠٨ - المسائل العشر في الغيبة: الشيخ المفيد/ تحقيق: فارس تبريزيان الحسُّون/ مركز
الأبحاث العقائديَّة/ قم.
١٠٩ - مستدرك الوسائل: الميرزا النوري/ ط ١ المحقَّقة/ ١٤٠٨هـ/ مؤسَّسة آل البيت
(عليهم السلام) لإحياء التراث/بيروت.
١١٠ - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ تحقيق عدَّة محقِّقين/ ط ١/ ١٤١٦هـ/ مؤسَّسة
الرسالة/ بيروت.
١١١ - مصباح الفقاهة: تقرير بحث السيِّد الخوئي للتبريزي/ ط الأُولى المحقَّقة/
مكتبة الداوري/ قم.
١١٢ - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط ١/ ١٤١١هـ/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.
١١٣ - المصنَّف: أبو بكر عبد الرزَّاق بن همَّام الصنعاني/ عُني بتحقيق نصوصه
وتخريج أحاديثه والتعليق عليه: حبيب الرحمن الأعظمي.
١١٤ - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/
١٣٧٩هـ/مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
١١٥ - معجم البلدان: شهاب الدِّين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي
البغدادي/ ١٣٩٩هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
١١٦ - معدن الجواهر ورياضة الخواطر: أبو الفتح الكراجكي/ تحقيق: السيِّد أحمد
الحسيني/ ط ٢/ ١٣٩٤هـ.
١١٧ - المغني: ابن قدامة/ دار الكتب العربي/ بيروت.
١١٨ - مفاهيم القرآن: الشيخ السبحاني/ ط ٤/ ١٤٢١هـ/ مؤسَّسة الإمام الصادق (عليه
السلام)/ قم.
١١٩ - المفردات في غريب القرآن: أبو القاسم الحسين بن محمّد المعروف بالراغب
الأصفهاني/ تحقيق: صفوان عدنان داوودي/ ط ٢/ ١٤٢٧هـ/ طليعة النور.
١٢٠ - مقاتل الطالبيِّين: أبو الفرج الأصفهاني/ تقديم وإشراف: كاظم المظفَّر/ ط ٢/
١٣٨٥هـ/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.
١٢١ - مقتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): ابن أبي الدنيا/ ط ١/ ١٤١١هـ/ مجمع
إحياء الثقافة الإسلاميَّة/ قم.
١٢٢ - مكارم الأخلاق: حسن بن الفضل الطبرسي/ ط ٦/ ١٣٩٢هـ/ منشورات الشريف الرضي.
١٢٣ - مكيال المكارم: ميرزا محمّد تقي الأصفهاني/ تحقيق: عليّ عاشور/ ط ١/ ١٤٢١هـ/
مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
١٢٤ - ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: العلَّامة المجلسي/ تحقيق وتصحيح:
السيِّد مهدي الرجائي/ ط ١/ ١٤٠٦هـ/ مكتبة آية الله المرعشي/ قم.
١٢٥ - المِلَل والنِّحَل: الشهرستاني/ دار المعرفة/ بيروت.
١٢٦ - الملهوف على قتلى الطفوف: السيِّد عليُّ بن طاوس/ ط ١/ ١٤١٧هـ/ أنوار الهدى/
قم.
١٢٧ - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط ٢/
مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
١٢٨ - مناقب آل أبي طالب: محمّد بن عليِّ بن شهرآشوب المازندراني/ ١٣٧٦هـ/ المكتبة
الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
١٢٩ - المنتظم في تاريخ الأُمَم والملوك: عبد الرحمن بن عليِّ بن محمّد ابن الجوزي/
دراسة وتحقيق: محمّد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا/ راجعه وصحَّحه: نعيم
زرزور/ ط ١/ ١٤١٢هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
١٣٠ - نهاية الأحكام في معرفة الأحكام: العلَّامة الحلِّي/ تحقيق: السيِّد مهدي
الرجائي/ ط ٢/ ١٤١٠هـ/ مؤسَّسة إسماعيليان/ قم.
١٣١ - النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدِّين ابن الأثير/ تحقيق: طاهر أحمد
الزاوي ومحمود محمّد الطناحي/ ط ٤/ ١٣٦٤ش/ مؤسَّسة إسماعيليان/ قم.
١٣٢ - نهج البلاغة: خُطَب أمير المؤمنين (عليه السلام)/ ما اختاره وجمعه: الشريف
الرضي/ تحقيق: الدكتور صبحي صالح/ ط ١/ ١٣٨٧هـ، وبشرح محمّد عبدة/ ط ١/ ١٤١٢هـ/ دار
الذخائر/ قم.
١٣٣ - وسائل الشيعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة): الحرُّ العاملي/
ط ٢/ ١٤١٤هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
١٣٤ - ينابيع المودَّة لذوي القربى: سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي/ تحقيق:
السيِّد عليّ جمال أشرف الحسيني/ ط ١/ ١٤١٦هـ/ دار الأُسوة.
* * *
