رؤى مهدوية - شذرات فكرية في القضية المهدوية

 

رؤى مهدوية
شذرات فكرية في القضية المهدوية


مجتبى السادة
إشراف وتقديم: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
 

 

الفهرس

مقدَّمة المركز...................٣
الإهداء...................٥
المقدَّمة...................٧
الباب الأوَّل: رؤى مهدويَّة في فكر بعض الفِرَق الإسلاميَّة...................١١
تمهيد: أهمّيَّة دراسة الأُطروحات المهدويَّة المختلفة...................١٣
أهمّيَّة دراسة الأُطروحات المهدويَّة المختلفة عند الفِرَق الإسلاميَّة...................١٦
العقيدة المهدويَّة تجمعنا وتُوحِّدنا...................١٧
المؤامرة ضدَّ العقيدة المهدويَّة...................١٨
منهجنا في المقارنة...................١٩
الهدف من الدراسة...................٢١
الفصل الأوَّل: المهدي المنتظَر في الفكر الإباضي...................٢٣
الإباضيَّة: النشأة والعقائد...................٢٥
أوَّلاً: رفض التحكيم...................٢٧
ثانياً: نفي لزوم القرشيَّة في الإمام...................٢٧
مصادر التشريع عند الإباضيَّة...................٢٩
الانتشار التاريخي والحالي...................٢٩
رأي الإباضيَّة في المهدي المنتظَر...................٣٠
مبرِّرات موقف الإباضيَّة من المهدي المنتظَر وأشراط الساعة...................٣٦
خلاصة القول...................٣٨
الفصل الثاني: المهدي المنتظَر في الفكر الإسماعيلي...................٤٣
الطائفة الإسماعيليَّة...................٤٥
الإسماعيليَّة النزاريَّة...................٤٦
الإسماعيليَّة المستعلية الطيِّبة...................٤٧
المهدي المنتظَر في المعتقَد الإسماعيلي (الجذور التاريخيَّة والعقائديَّة)...................٤٨
هويَّة المهدي المنتظَر عند أتباع المذهب الإسماعيلي حاليًّا...................٥٠
هويَّة المهدي عند الفرقة الإسماعيليَّة المستعلية السليمانيَّة...................٥١
هوية المهدي عند الفرقة الإسماعيليَّة النزاريَّة القاسميَّة (الأغاخانيَّة)...................٥٤
خلاصة القول...................٥٧
الفصل الثالث: المهدي المنتظَر في فكر أهل السُّنَّة...................٦١
مذاهب أهل السُّنَّة...................٦٣
المهدي المنتظَر في معتقَد أهل السُّنَّة...................٦٥
هويَّة وصفات وسيرة المهدي عند أهل السُّنَّة...................٦٦
الأحاديث والآثار عند أهل السُّنَّة في المهدي...................٦٨
علامات ظهور المهدي عند أهل السُّنَّة...................٧١
مناقشة أُطروحة أهل السُّنَّة في المهدي...................٧٢
أوَّلاً: سيُولَد في آخر الزمان (المستقبل)...................٧٤
ثانياً: تعيين المهدي للخلافة...................٧٥
ثالثاً: معرفة المهدي حقيقة السُّنَّة...................٧٧
رابعاً: صلاة المسيح خلف المهدي واستيعاب شخصيَّته...................٧٩
خامساً: الإيمان بخوارق الدجَّال وإنكار استئثار المهدي لمثلها...................٨٠
خلاصة القول...................٨٤
الفصل الرابع: المهدي المنتظَر في فكر الشيعة الإماميَّة...................٨٩
نشأة التشيُّع والشيعة...................٩١
تعداد الشيعة في العصر الحاضر...................٩٥
موجز عقائد الشيعة الإماميَّة...................٩٥
مقام الإمامة عند الشيعة الاثني عشريَّة...................٩٧
المهدي المنتظَر في معتقَد الإماميَّة...................١٠٣
جذور وأُسُس الأُطروحة المهدويَّة عند الإماميَّة...................١٠٥
هويَّة وخصائص الإمام المهدي عند الإماميَّة...................١١١
علامات وشروط ظهور المهدي عند الإماميَّة...................١١٩
معالم الدولة المهدويَّة الفاضلة...................١٢٥
إيضاح لشُّبُهات وإشكالات حول الأُطروحة الإماميَّة...................١٢٩
الأوَّل: إنكار ولادته...................١٣١
الثاني: استهجان إمامته المبكَّرة...................١٣٧
الثالث: التشكيك في طول عمره...................١٤٠
الرابع: ما فائدته في غيبته؟...................١٤٤
الخامس: فرية السرداب...................١٥١
خلاصة القول...................١٥٥
الباب الثاني: رؤى مهدويَّة استراتيجيَّة...................١٦٣
الفصل الأوَّل: عند الظهور المقدَّس لماذا شعار يا لثارات الحسين؟...................١٦٨
الأوَّل: الفتح المحمّدي (فتح مكَّة)...................١٦٨
الثاني: الفتح الحسيني (عاشوراء)...................١٦٩
الثالث: الفتح المهدي (الظهور - عاشوراء)...................١٧٢
خلاصة القول...................١٧٥
الفصل الثاني: استراتيجيَّة الأعداء في حربهم ضدَّ الإمام المهدي حاليًّا...................١٧٧
أوَّلاً: نسف العقيدة المهدويَّة من الأساس...................١٨١
ثانياً: خلق حالة من الكره النفسي والعقلي للإمام...................١٨٣
ثالثاً: ضرب المرجعيَّة الدِّينيَّة الشيعيَّة...................١٨٥
رابعاً: محاربة الأرضيَّة الداعمة والمؤيِّدة والمساندة للإمام...................١٨٨
خلاصة القول...................١٩٠
الفصل الثالث: قراءة استراتيجيَّة في مسيرة التمهيد المهدوي...................١٩٣
أوَّلاً: الاستمرار في عرض المسائل الفكريَّة والعقائديَّة...................١٩٥
ثانياً: التصدِّي إلى أعداء الإسلام...................١٩٦
ثالثاً: التبشير للقضيَّة المهدويَّة لدى غير المسلمين...................١٩٦
رابعاً: الاستفادة من أساليب ومناهج الدولة المهدويَّة الفاضلة...................١٩٨
خلاصة القول...................١٩٩
الباب الثالث: رؤى مهدويَّة في علامات الظهور...................٢٠١
الفصل الأوَّل: منهج قراءة علامات الظهور...................٢٠٣
أوَّلاً: معرفة العلامات وتقسيماتها...................٢٠٥
ثانياً: إدراك الأبعاد التربويَّة للعلامات...................٢٠٦
ثالثاً: قراءة علامات الظهور بصورة شاملة...................٢٠٧
رابعاً: استيضاح مصدر الخبر أو العلامة...................٢٠٧
خلاصة القول...................٢٠٨
الفصل الثاني: الحجاز قبل الظهور...................٢١١
مكانة الحجاز في أحداث آخر الزمان...................٢١٣
موقف أهل الحجاز تجاه الإمام...................٢١٤
خسف البيداء وهجمة السفياني على الحجاز...................٢١٥
مكانة الانتظار بين سُكَّان الجزيرة العربيَّة...................٢١٦
الفصل الثالث: الاكتشافات العلميَّة تُترجِم علامات الظهور الغيبيَّة...................٢١٩
أوَّلاً: علامات ظهور عديدة لها علاقة بالشمس...................٢٢٢
ثانياً: اكتشافات علميَّة تُؤكِّد أخباراً غيبيَّة...................٢٢٦
خلاصة القول...................٢٢٩
الخاتمة: ولاء عاشق للمهدي (عجَّل الله فرجه)...................٢٣١
المصادر والمراجع...................٢٣٥

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدَّمة المركز:
الحمد لله الذي بشَّر عباده بوعدٍ لا يُخلَف، وجعل في عقيدة الظهور المهدوي تجسيداً لوعده بنصرة المستضعَفين، وإقامة القسط في الأرض، والصلاة والسلام على خاتم النبيِّين، الذي ترك لأُمَّته تراثاً من البشارات والنصوص التي تُنير ظلمة الانتظار، وتربط الأمل بالمنقذ الإلهي الموعود.
وبعد..
يسرُّ مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أنْ يُقدِّم بين يدي القارئ الكريم هذا الكتاب القيِّم، الذي ألَّفه الباحث الأُستاذ مجتبى السادة، بعد جهدٍ بحثيٍّ طويل ورحلة فكريَّة امتدَّت عبر التاريخ والمذاهب الإسلاميَّة، في سعيٍ واعٍ لإعادة قراءة العقيدة المهدويَّة، لا كخلافٍ طائفي، بل كقضيَّة إنسانيَّة جامعة، تنبع من وجدان الأُمَّة، وتتجاوز الزمان والمكان والطائفة.
لقد انطلق المؤلِّف زاد الله تعالى في توفيقه، من رغبةٍ عميقة في فهم الأبعاد المتعددة لفكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، مستعرضاً التصوُّرات المتنوِّعة التي طرحتها المدارس الإسلاميَّة الكبرى.
فتناول الرؤية الإباضيَّة التي أنكرت وجود المهدي كفرد منتظَر، وحلَّل جذور هذا الإنكار ضمن الإطار العقدي والسياسي. كما تعمَّق في الفكر الإسماعيلي، مبيِّناً كيف ارتبط مفهوم المهدي لديهم بالسلسلة الإماميَّة المتَّصلة، وانعكاسات ذلك في التيَّارات المعاصرة كالأغاخانيَّة والسليمانيَّة.

(٣)

وانتقل الباحث إلى استكشاف الموقف السُّنِّي من القضيَّة المهدويَّة، من خلال الروايات التي تصف المهدي كخليفة آخر الزمان، متناولاً آليَّات ظهوره وعلاماته، قبل أنْ يُفرِد فصولاً موسَّعة لعرض البناء العقدي المتكامل لدى الشيعة الإماميَّة، من ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته، إلى معالم الدولة المهدويَّة.
وقد ناقش أبرز الشُّبُهات المطروحة، وردَّ عليها بلغة علميَّة هادئة، وإبراز الجوانب المشرقة في الرؤية الإماميَّة لمجتمع ما بعد الظهور.
كما اهتمَّ المؤلِّف بتسليط الضوء على البُعد الاستراتيجي للعقيدة المهدويَّة، متناولاً علاقة المشروع المهدوي بالنهضة الحسينيَّة، وأدوات الحرب الفكريَّة والإعلاميَّة التي تُشَنُّ ضدَّ هذه العقيدة، وفي المقابل، قدَّم رؤية تمهيديَّة هادفة، تقوم على الوعي، والحوار، والانفتاح على الآخر.
ولأنَّ علامات الظهور تُمثِّل جانباً محفِّزاً في الخطاب المهدوي، فقد خصَّص لها المؤلِّف حيِّزاً تأمُّليًّا، يجمع بين الرواية والعقل، وينأى عن التوقيتات الجزافيَّة، متأمِّلاً أيضاً إمكانيَّات تفسير بعض العلامات الغيبيَّة الكبرى في ضوء المكتشفات العلميَّة المعاصرة.
ونسأل الله أنْ يجعل هذا العمل المبارك لبنةً في بناء وعي الأُمَّة، وجسراً للحوار، وبذرةً في أرض الانتظار الصادق.

مركز الدراسات التخصُّصيَّة
في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
(١٤٤٧هـ)

(٤)

الإهداء

السلام عليكِ يا سيِّدتي ومولاتي يا فاطمة الزهراء..
السلام عليكِ يا دُرَّة التوحيد، وثمرة النبوَّة، وبرزخ الولاية، سلام المخلِص لكِ في الولاء..
سيِّدتي أُجدِّد العهد والبيعة لكِ ولأبيكِ وبعلكِ وبنيكِ في يومي هذا وما عشت من أيَّامي..
سيِّدتي يا ومضة القدُّوس وسيِّدة نساء الملكوت، كلُّنا شوق لابنكِ: أمير الأُمَّة المحمّديَّة، وخاتم الولاية الإلهيَّة..
السلام عليكِ يا فاطمة يا مَنْ فُطِمَت هي وشيعتها من النار..
السلام عليكِ يا زهراء، يا مَنْ نورها أُزهرت به السماوات..
السلام عليكِ يا صدِّيقة، يا مَنْ صدَّقت بالوحدانيَّة والنبوَّة والولاية وهي في رحم أُمِّها..
السلام عليكِ يا طاهرة، يا مَنْ نُزِّهت عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن..
السلام عليكِ يا مرضيَّة، يا مَنْ رضى الله عنها فاتَّحد رضاها برضاه..
السلام عليكِ يا حوراء، يا مَنْ نطفتها تكوَّنت من ثمار الجنَّة..
السلام عليكِ يا محدَّثة، يا مَنْ تُحدِّثها الملائكة..
السلام عليكِ يا بتول، يا مَنْ بُتِّلت عن النظير..
السلام عليكِ يا مَنِ اسمها في القرآن (الكوثر)، وفي التوراة (هليون)، وفي الإنجيل (متسربلة)..

(٥)

السلام عليكِ يا أُمَّ الأنوار، وأُمَّ النجباء، وأُمَّ الأطهار، وأُمَّ السبطين، وأُمَّ النورين، وأُمَّ الريحانتين، وأُمَّ البررة، وأُمَّ التُّقى، وأُمَّ الخِيَرة، وأُمَّ الرأفة، وأُمَّ العُلا، وأُمَّ الفضائل، وأُمَّ العلوم، وأُمَّ أبيها..
السلام عليكِ يا بضعة المصطفى، وتُفَّاحة الفردوس، وحظيرة القدس، وخامسة أهل الكساء، وثالثة الشمس والقمر، وحجاب الله المرخى، والكوكب الدُّرِّي، والحوراء الإنسيَّة، والذروة الشامخة، ومستودع السرِّ الأعظم..
يا سيِّدتي ومولاتي، يا سيِّدة نساء العالمين، هذه سطور وصفحات عن حفيدكِ يوسف الزهراء.. يا بقيَّة النبوَّة هذه رؤى وأفكار عن بقيَّة الله.. يا حانية، يا صاحبة القلب العطوف والرؤوف، تقبَّلي منِّي هذا الإهداء، وتحنَّني عليَّ بأنْ تجعليني من همِّك.. أسأل الله أنْ يرزقني شفاعتكِ ورؤيتكِ في الآخرة..
والسلام عليكِ ورحمة الله وبركاته.

* * *

(٦)

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدَّمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلقه أجمعين محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين.
أمَّا بعد..
الإيمان بحتميَّة ظهور المنقذ، وإقامة الدولة العالميَّة الفاضلة من نقاط الاشتراك والاتِّفاق البارزة بين جميع الأديان السماويَّة، ومعظم أفراد البشريَّة ينتظرون المخلِّص بفارغ الصبر.. فالقضيَّة المهدويَّة من السُّنَن والنواميس الإلهيَّة، وتحقُّق الأهداف الربَّانيَّة من إرسال الأنبياء والرُّسُل، وهو وعد إلهي في كتابه الكريم.. وهي قضيَّة جميع شعوب وقبائل وحضارات العالم، فهي ضرورة إنسانيَّة، وهي المصداق الحقيقي والوحيد للمخلِّص والمنقذ العالمي.
المهدويَّة الأصيلة تُعَدُّ من ركائز الدِّين الإسلامي العقائديَّة، وأغلب الفِرَق الإسلاميَّة تتَّفق على ظهور المهدي في آخر الزمان.. وإنَّ جميع المساعي والجهود والتضحيات التي قام بها الأنبياء والرُّسُل والأئمَّة والأوصياء، وكذلك حصيلة ونتائج كلِّ المواقف البطوليَّة التي قدَّموها، ستُؤتي ثمارها على يديه المباركتين، وستظهر بواسطته ثمرة الإسلام.. فيتطلَّب منَّا في عجالة أنْ نشير إلى المقام الشامخ والرفيع للإمام صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه)، علماً بأنَّه من المستحيل درك ولمس عظمة الإمام بقيَّة الله، ولكن إذا عرفنا شيئاً من مقامه العظيم، ستسمو وتكبر في أعيننا منزلته، وتزداد علاقتنا ومحبَّتنا له، وسنتقرَّب

(٧)

أكثر وأكثر إلى ساحته القدسيَّة.. فللمهدي المنتظَر مكانة خاصَّة ومقام رفيع عند الله (عزَّ وجلَّ) وعند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، لأنَّه (عجَّل الله فرجه) من كبار سادة أهل الجنَّة، وأنَّ الجنَّة تشتاق إليه، وهو طاووسها، وأنَّ عليه من نور الله جلابيب تتوقَّد، وأنَّه مُلهَم مهديٌّ من الله تعالى وإنْ لم يكن نبيًّا، وأنَّ الله يجري على يديه كثيراً من الكرامات والآيات والمعجزات، فهو بقيَّة الله ووعد الله التي تُعمَر الأرض على يديه، ويكفي المهدي شرفاً ومكانته علوًّا، أنَّ عيسى بن مريم يُصلِّي خلفه ويرضى به إماماً له.
إنَّ الحديث عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو حديث عن الإسلام بنقائه وصفائه، وإنَّ القضيَّة المهدويَّة لها أبعاد كثيرة، عقائديَّة وأخلاقيَّة وثقافيَّة ومعنويَّة، والحديث فيها واسع، فهي تمنح الدِّين الإسلامي جدوى الاستمراريَّة ومعنى الخلود في فضاء الأيديولوجيَّات.. ومن أجل النهوض بالثقافة المهدويَّة الأصيلة، وتعزيز الأهداف التربويَّة في المجتمع الإسلامي جاء هذا الكتاب.. لقد حاول البعض وللأسف حصر الاعتقاد بالمهدي (عجَّل الله فرجه) بالمذهب والمدرسة الإماميَّة، في محاولة مزاجيَّة متعسِّفة لا تنطلق من أُصول علميَّة ولا يسندها الواقع الفكري ولا التراث الثقافي للمدارس الإسلاميَّة المختلفة، وبحوثنا في هذا الكتاب تعضد الحقيقة الناصعة بأنَّ العقيدة المهدويَّة فكرة راسخة ومتأصِّلة في أروقة الفكر الإسلامي.. إنَّ إلقاء الضوء على الآراء المختلفة والمدارس المتناقضة في القضيَّة المهدويَّة، يُغني الفكرة ويُثري المضمون ويُوسِّع دائرة الأُفُق، فالدراسات المقارنة سواء على الصعيد الأكاديمي أو على صعيد اختلاف التيَّارات والمدارس الفكريَّة، إذا ما رُوعيت فيها الموضوعيَّة وأُخِذَت بعين الاعتبار المعايير العلميَّة، فإنَّنا سنحصل على نتائج طيِّبة وسنتعرَّف على أوجه الاختلاف والائتلاف أو نقاط الالتقاء والافتراق، علماً بأنَّ الخلاف في الأُطروحات المهدويَّة هو خلاف في الأساس في عمق آليَّات الفهم الدِّيني، ومع

(٨)

ذلك هي مسألة التقاء لجميع الأديان، إذاً ليست المشكلة في التنوُّع المذهبي ولا الاختلاف الفكري، وإنَّما تكمن في التعصُّب وتحجُّر الأفكار وضيق الأُفُق، ولا ريب أنَّ الحديث عن الوحدة والسلام، وقبول الآخر وثقافة التسامح لا يمكن أنْ يتمَّ إلَّا بالمعرفة، أنْ تعرف ما عندي وأنْ أعرف ما عندك.
إنَّ ما يُميِّز كتابنا هذا أنَّه عبارة عن دراسات وبحوث بحشد ثقافي متعدِّد الأطياف، ويعالج جوانب عديدة ومتنوِّعة في القضيَّة المهدويَّة.. فلقد وقفنا على أُطروحات مهدويَّة مختلفة، وبذلنا جهداً لاستقصاء مدارك نظريَّاتهم وفهم مبانيهم العقديَّة، واستعرض قلمنا بشيء من الإيجاز وبتوضيحٍ عامٍّ أهمّ آراء وأفكار بعض الفِرَق الإسلاميَّة حول المهدي المنتظَر، ووضَّحنا ملامح أُطروحاتهم وسلَّطنا الضوء على أهمّ تصوُّراتهم وجوهر نظريَّتهم.. حتَّى يستطيع القارئ تقييم الأُطروحة بموضوعيَّة وبشكل منصف ومحايد، ويستنتج أيَّهما أقرب إلى الرؤى القرآنيَّة والمنهج النبوي.. وأودُّ أنْ أُشير إلى أنَّ الموضوع الذي بحثته في قسم (الباب الأوَّل) هو العمود الفقري للكتاب، وقد كان بالغ الحسَّاسيَّة والأهمّيَّة، ولا أدَّعي إيفاء الموضوع حقَّه من البحث والاستقصاء، فهناك مدارس أُخرى لم نبحث نظريَّتها المهدويَّة ولم نشر لها كالزيديَّة مثلاً، وكلُّ ما قدَّمته وعالجته في هذه الدراسة كان محاولة أُولى في مجال الدراسات المهدويَّة المقارنة التي تفتقدها المكتبة الإسلاميَّة ودراساتنا الأكاديميَّة، أرجو أنْ تكون فاتحة لغيرها من البحوث الموضوعيَّة والنافعة.
ومن بحوث هذا الكتاب إعطاء لمحة عن بعض الرؤى الاستراتيجيَّة في القضيَّة المهدويَّة (الباب الثاني)، فالعقيدة المهدويَّة قضيَّة عامَّة تخصُّ البشريَّة كلِّها، وهي أيضاً مسألة مركزيَّة في المنظور الإسلامي، فيتحتَّم على المؤمنين أنْ يتحلَّوا بنظرة عميقة وشاملة لأبعاد القضيَّة المهدويَّة، ومعرفة كلِّ ما يُحيط بها وما يُحاك

(٩)

ضدَّها.. ورؤى وأفكار هذا الكتاب هي في الأساس عبارة عن مجموعة بحوث ودراسات سابقة حول الثقافة المهدويَّة وذات أهداف تربويَّة قد كُتِبَت بنظرة شاملة وبتحليل كلِّي.. كما أنَّ من محتويات هذا الكتاب (الباب الثالث) قراءة في علامات الظهور برؤية جديدة، ففي الوقت الراهن زاد اهتمام الناس بكثرة للبحث عن إرهاصات اليوم الموعود، لعلَّهم يجدون بصيص أمل لقرب الفرج، ولذا قد تطرَّقنا لمجموعة من الثوابت التي يجب مراعاتها وإدراكها عند التعامل مع علائم الظهور، بالإضافة للتمتُّع برؤية ثاقبة ونظرة شاملة وبصيرة تحليليَّة فيما يخصُّ أخبار المهدي.
آمل أنْ يكون هذا الكتاب قد تمكَّن من رسم لمحة جديدة عن القضيَّة المهدويَّة، فالثقافة والفكر أهمّ منابع قوَّة المسلمين، وإنَّ تنافس النظريَّات والأُطروحات الفكريَّة عبر الحوار والدراسات تُمثِّل ضرورة بقاء وثراء لهذه النظريَّات.. وإنَّ من أبرز سمات الفكر الأصيل والمتفتح أنَّه يمكن التحاور فيه لأجل إثرائه وبلوغ الحقيقة.. وكتابنا هذا ينتمي لهذه الفئة، إذ إنَّ مضمونه عبارة عن بحوث عقائديَّة مقارنة، ويهدف لملء فراغ في المكتبة الإسلاميَّة ورفداً للحركة العلميَّة، وأنْ يُعبِّد الطريق للثقافة المهدويَّة الأصيلة.
وقبل أنْ أقفل هذه المقدَّمة، أرى من نافلة القول إيضاح أنَّ هذا الكتاب يحكي رؤى موجزة عن قضيَّة الإمام الملهَم العظيم، وإلمامة عابرة بالسيرة العطرة لبقيَّة الله، الذي أُعِدَّ لإقامة الدولة الفاضلة.
وختاماً، أسأله سبحانه وتعالى أنْ أكون قد وُفِّقت في عرض الأُطروحة المهدويَّة الإماميَّة بإيجاز وبجميع مفرداتها وشؤونها الرئيسيَّة شكلاً ومضموناً، وأنْ يجد المسلمون عموماً والمؤمنون خصوصاً شيئاً من الفائدة في هذه البحوث، ونسأل الله القبول.

* * *

(١٠)

المهدي المنتظَر هو شخص يتوقَّع المسلمون ظهوره في الفترة الأخيرة من حياة البشريَّة، أو ما يُعرَف إسلاميًّا بـ(آخر الزمان)، ليكون هذا الشخص حاكماً عادلًا وعظيماً لدرجة أنَّه سينهي الظلم والفساد على وجه الأرض وينشر العدل والإسلام الأصيل كما جاء به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ويحارب وينتصر على أعداء الإسلام، وعلى الرغم من أنَّ المصادر الإسلاميَّة تكاد تجمع على ظهوره إلَّا أنَّها تختلف على شخصيَّته.
إنَّ الاختلافات الفكريَّة والعقائديَّة بين مذاهب المسلمين المتعدِّدة ليس أمراً جديداً، بل هو واقع تاريخي في الأُمَّة الإسلاميَّة، بعد أنْ مزَّقتها الصراعات التاريخيَّة والسياسيَّة، وحوَّلتها إلى مذاهب ومدارس متعدِّدة مختلفة، في فهم الإسلام وطريقة التعامل مع ثقافته وتشريعاته، فلا غرابة أنْ تختلف الأُمَّة في فهمها لعقيدة المهدي الموعود، ولكن هذه الاختلافات لا تمسُّ أصل الإيمان بالمهدويَّة وأصالتها الإسلاميَّة حتَّى في الإطار المذهبي.
إنَّ علم مقارنة الأديان والمذاهب أحد الإنجازات الرفيعة للحضارة الإسلاميَّة، وهذا العلم لم يظهر قبل الإسلام، لأنَّ الأديان المختلفة قبل الإسلام لم يعترف بعضها ببعض، وكان كلُّ دين يعدُّ ما سواه من الأديان قبل ذلك هرطقة وضلال، وخير مثال على ذلك موقف اليهوديَّة من النصرانيَّة.. وبالنسبة للمسلمين، قدَّم القرآن الكريم الدرس المنهجي والموضوعي الأوَّل في مجال مقارنة الأديان، حيث أشارت آيات كثيرة للمقارنة، تحدَّثت فيها عن كثير من الأديان: سماويَّة كانت أو وضعيَّة، فكما تحدَّث عن اليهوديَّة والمسيحيَّة، تحدَّث

(١٥)

 كذلك عن عبدة الأصنام والطاغوت، وسمَّاها القرآن أدياناً مع بطلانها، قال تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: ٦).
أهمّيَّة دراسة الأطروحات المهدويَّة المختلفة عند الفِرَق الإسلاميَّة:
١ - الدراسة تُقدِّم للباحثين ولعموم المسلمين أهمّ العناصر للدفاع عن العقيدة المهدويَّة الإسلاميَّة الأصيلة ضدَّ التحدّيات التي تواجهها، ليس فقط من أتباع التصوُّرات الخاطئة، ولكن أيضاً من التحدّيات التي تنشرها التيَّارات المشبوهة والمنحرفة في العالم الإسلامي.
٢ - إنَّ المثقَّف الواعي والباحث الناجح في القضيَّة المهدويَّة لا يستطيع أنْ يتحاور مع جمهور (أصحاب الأُطروحات المختلفة) بالتي هي أحسن، إلَّا إذا درس ما عندهم من أفكار وتصوُّرات حول المهدويَّة، ووقف على الاختلافات التي يؤمنون بها.
٣ - الدراسة المقارنة للعقيدة المهدويَّة تُقدِّم للمؤمنين معرفة قيِّمة عن العقيدة الإسلاميَّة الأصيلة وقوَّة الدليل ونصاعة البرهان ومتانة الحجَّة، ومكانتها الراقية والعظيمة في فضاء الفكر الإسلامي والإنساني.
٤ - دراسة العقيدة المهدويَّة بشكل مقارن واجب علمي تقتضيه الضرورة الملقاة على عاتق العلماء والباحثين، لتوضيح الحقِّ للناس بطريق علمي سليم بعيداً عن الأهواء والمصالح المذهبيَّة.
٥ - الدراسة المقارنة تُؤكِّد ثقة المؤمن في عقيدته المهدويَّة، وفي مبادئ مذهبه وأُسُسه العقديَّة، وهذا من مقوِّمات الأفضليَّة والامتياز.
٦ - الاطِّلاع على الأُطروحات المهدويَّة المختلفة سلاح للمؤمنين في الحاضر، كما كان سلاحاً لهم في الماضي للدفاع عن العقيدة المهدويَّة الأصيلة.

(١٦)

٧ - الدراسة العميقة للأُطروحات المهدويَّة المختلفة، ستضع أيدينا على متانة المذهب وعلى الدور الذي يحمله لهداية البشر، وسيستفيد المؤمن والباحث في مواجهة (المتحاورين والمجادلين والمتعصِّبين) فيما يعتقدونه نقاط ضعف في المذهب ليهاجموه عن طريقها كـ: طول العمر، الإمامة المبكَّرة، الغيبة، السرداب... إلخ، كذلك لا يجوز أنْ يقف الباحث والمؤمن الواعي موقف المدافع فقط، بل يجب أنْ يعرف كيف يهاجم أحياناً، ولن يتاح ذلك إلَّا إذا تعرَّف على الأُطروحات والتصوُّرات المختلفة ودرسها وأدرك ما حدث لها من تشويه وتحريف على مرِّ السنين.
العقيدة المهدويَّة تجمعنا وتُوحِّدنا:
علم مقارنة الأديان لم يكن معروفاً قبل الإسلام، لأنَّ المقارنة نتيجة للتعدُّد والاعتراف بالآخر، ولم يكن ذلك متوفِّراً قبل الإسلام حيث كلُّ دين ومذهب لا يعترف بالآخر، وقد أدَّت الحرّيَّة والتعدُّديَّة الدِّينيَّة التي وفَّرتها الثقافة والفكر الإسلامي إلى وجود جوٍّ من التسامح الفكري، وهذا أدَّى إلى المخالطة والتواصل والمعايشة التي نتج عنها الحوار والمناقشة، ثمّ ما لبث أنِ اتَّسع الأمر ليشمل جانب الدراسة لديانة أو مذهب الآخر فهماً ووصفاً وتحليلاً ومقارنةً، ممَّا أدَّى إلى نشوء فرع من العلم يُسمَّى علم مقارنة الأديان، يعني أساساً بدراسة المِلَل والنِّحِّل.. وهكذا انبثقت جذور علم المقارنة، حيث إنَّ الإسلام جاء واعترف بالأديان السابقة عليه نظريًّا وواقعيًّا، فمن الناحية النظريَّة يُعلِن أنَّه الحلقة الأخيرة في سلسلة الرسالات السماويَّة، وبالتالي فقد ورث أهمّ ما في الأديان وأضاف إلى ذلك ما تحتاجه البشريَّة في مسيرتها إلى يوم الدِّين، والعقيدة المهدويَّة كأيديولوجيَّة إسلاميَّة هي خلاصة رسالات السماء.. ومن الناحية الواقعيَّة فإنَّ الإسلام يعترف بالوجود الفعلي للجماعات غير المسلمة،

(١٧)

ويتحدَّث عن أهل الكتاب وأهل الذمَّة ويُنظِّم حقوقهم وواجباتهم، وفي الحقبة الأخيرة من تاريخ البشريَّة يأتي التطبيق الواقعي للقضيَّة المهدويَّة، فينتشر التوحيد والعدل والقسط على كافَّة أرض المعمورة، وهكذا تُطبَّق وتُحقَّق أهداف كلِّ الأنبياء والرُّسُل.
القضيَّة المهدويَّة وحقيقة المنقذ - بدون مسمّيات - هي القاعدة المشتركة التي تلتقي عندها كافَّة الأديان والمذاهب الفلسفيَّة، فهم يتَّفقون في أصل الفكرة ويختلفون في المسمّيات فقط.. كذلك الفِرَق والمذاهب الإسلاميَّة المختلفة، فالمهدويَّة هي القاعدة التي تقارب بين المسلمين وتمنح لوحدتهم المستقبليَّة نظريًّا وعمليًّا معنًى زاخراً بالأمل، فأغلب الفِرَق تؤمن بأحقّيَّة وصدق قضيَّة المهدي وتنتظر خروجه آخر الزمان، لتتَّبعه وتنطوي تحت رايته.
فالعقيدة المهدويَّة تجمع وتُوحِّد كلَّ البشريَّة، فهي من الحقائق التي يتشارك في الاعتقاد بها أهل الأديان السماويَّة، وتطمح لها أهل الفلسفات الوضعيَّة، وهي الحقيقة الأخيرة التي بها يتحقَّق وعد الله بنشر التوحيد، وأداء أعظم رسالة إصلاحيَّة عرفتها البشريَّة، وهيمنة الدولة العادلة الفاضلة فتملأ الدنيا قسطاً وعدلاً.
المؤامرة ضدَّ العقيدة المهدويَّة:
لم ننسَ ونحن نكتب هذه البحوث أنَّ هناك حركة تآمريَّة خبيثة ضدَّ العقيدة المهدويَّة قديماً وحديثاً، تتَّخذ تارةً طابعاً سياسيًّا وأُخرى طابعاً فكريًّا، وتستهدف القضاء عليها في وجدان الأُمَّة الإسلاميَّة، وقتل جذوتها الإيمانيَّة وروحيَّتها الإيجابيَّة والتفاؤليَّة في المجتمع الإسلامي.
ومن حلقات التآمر الخبيثة على القضيَّة المهدويَّة، محاولة تحجيمها في إطار مذهبي خاصٍّ، واعتبارها من العقائد الشيعيَّة الخرافيَّة.. نعتقد أنَّ هذه المؤامرة

(١٨)

ليست عفويَّة، بل هي مؤامرة عقائديَّة وسياسيَّة في وقتٍ واحدٍ، تقف وراءها مخابرات دوليَّة معادية للإسلام، وتُنفَّذ بأيدٍ مستأجرة ومشبوهة.
نؤمن وبشكل كبير أنَّ البحث العلمي المقارن في العقيدة المهدويَّة، هو المنهج العلمي الوحيد القادرعلى كشف حقيقة العقيدة المهدويَّة وإثبات أصالتها الإسلاميَّة، ونفي اختصاصها بمذهب معيَّن دون آخر، ومن هذا المنطلق أولينا البحث المقارن اهتماماً خاصًّا، وهذه البحوث التي بين أيدينا تُؤكِّد أصالة المهدويَّة والإيمان الراسخ بها عند الفِرَق الإسلاميَّة، حتَّى صار التشكيك في أصل المهدويَّة شكًّا في البديهيَّات والأبجديَّات التي لا يقرُّها عقل ولا عرف، ولا وزن علمي للشطحات والانحرافات الفكريَّة في القضيَّة.. فالحمد لله لقد فاضت الأدلَّة وتكاثرت البراهين عند معظم الفِرَق الإسلاميَّة على أصالة العقيدة في المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، فاعتبروا المهدويَّة شأناً هامًّا في الإسلام لا يجوز تهوينه أو نكرانه.
منهجنا في المقارنة:
في دراستنا للمهدويَّة عند بعض الفِرَق الإسلاميَّة المختلفة اشتمل بحثنا على تقصِّي التاريخ، والتحليل العلمي، والمقارنة الموضوعيَّة، ممَّا يُعَدُّ من صميم علم الأديان المقارن بأدقّ معانيه المعاصرة، ودراستنا لم تكن قائمة على منهج مقارنة تقليدي(١)، بل اعتمدنا المنهج التحليلي النقدي، والذي يُعَدُّ أحد مناهج دراسة الأديان في الفكر الإسلامي، كذلك في دراستنا سلَّطنا الضوء على أبرز ما يُميِّز كلَّ فرقة عن غيرها في تصوُّرهم عن المهدي المنتظَر، ولقد أخذنا المعلومات

-----------------

(١) كتب الشيخ مهدي حمد الفتلاوي بحثاً بعنوان (مع المهدي المنتظَر في دراسة منهجيَّة مقارنة بين الفكر الإسلامي الشيعي والسُّنِّي) بتاريخ (١٢/٦/١٤١٦هـ)، وهي عبارة عن بحوث فكريَّة تتناول موارد الاتِّفاق والاختلاف العقائدي والتاريخي بين الشيعة والسُّنَّة في موضوع المهدي المنتظَر.

(١٩)

من مصادرها الأصليَّة (آثار علماء الفرقة وتراثها الفكري) وليس نقلاً عن آخرين، ثمّ نُخضِع المعلومات والتصوُّرات للمقارنة والنقاش والبحث والتمحيص العلمي.. نبحث عن منشأ الفكرة وتطوُّرها وخصائص ومميِّزات كلِّ نظريَّة، وفي الأُسُس التي ترتكز عليها الأُطروحات المختلفة، وفي أوجه الاتِّفاق أو الاختلافات الرئيسيَّة فيما بينها.
نظرتنا بشكلٍ عامٍّ لكلِّ أُطروحة كانت نظرة كلّيَّة شاملة، واضعة في الاعتبار المبادئ الأساسيَّة للمذهب، وليس بناءً على الذيول التاريخيَّة للأُطروحة.. لقد اخترنا المنهج الإسلامي في المقارنة(٢) من بين المدارس والمناهج المختلفة.. فالمقارنة بين أُطروحتين أو أكثر إمَّا يقصد مجرَّد التعرُّف والوصف على تلك الأُطروحات، أو يتجاوزه إلى اختيار الأُطروحة الأقوم والأرشد أو يزداد إيماناً وصدقاً بأصالة أُطروحته.. وهدفنا من هذه البحوث المهدويَّة ودراسة الأُطروحات المختلفة هو: التقريب بين المسلمين واستخلاص أوجه الشَّبَه والاختلاف بين النظريَّات المتعدِّدة، ومعرفة صحَّة التصوُّرات وعدمها، وإظهار للحقيقة المهدويَّة الأصيلة بأدلَّة يقينيَّة، وكذلك نستطيع من خلال التباين والمقارنة التعرُّف على صدق العقيدة الإسلاميَّة الأصليَّة وحقيقتها وقوَّة حجَّتها، وعلى ضعف الأُطروحات والنظريَّات الأُخرى، ووهن تصوُّراتها وضعف محتواها وفساد مبناها.

-----------------

(٢) للمقارنة مدرستان:
* المدرسة الغربيَّة: الفكر والمنهج الغربي في المقارنة بين الأديان، يريد فقط التعرُّف على الأديان المختلفة ووصفها، والغرض منه التسوية بين الأديان كلِّها، وهذا فيه الخبث والخطورة.
* المدرسة الإسلاميَّة: الفكر والمنهج الإسلامي في المقارنة بين الأديان والمذاهب، يريد الوصول إلى نتيجة كتفضيل دين أو فكرة على أُخرى كنتيجة من نتائج المقارنة.

(٢٠)

الهدف من الدراسة:
إنَّني أعترف سلفاً بأنَّ هذه البحوث (المهدي المنتظَر في فكر الفِرَق الإسلاميَّة) في غاية الاختصار، والدافع لكتابة هذه الدراسة المتواضعة، والهدف السامي من ورائها، هو الفائدة المرجوَّة من الدراسات المقارنة، والتي تُعتبَر من أعظم عوامل التقريب بين المذاهب الإسلاميَّة، وخاصَّةً إذا كُتِبَت بأقلام تحمل روح التسامح، وتنظر إلى نظيراتها من الفِرَق الأُخرى بعين الاحترام، وتتجنَّب التكفير والتضليل للفِرَق والمدارس المختلفة.
الحرص على التقريب بين المسلمين، والنظر العميق إلى مصالح الإسلام والمسلمين، هو الهدف الماثل أمامنا أثناء الكتابة، وقد سعيت جاهداً التواضع في الحوار، والابتعاد عن أُسلوب التهجُّم والاستخفاف، ونرجو أنْ نكون وُفِّقنا في ذلك.
اخترت أربع أُطروحات مهدويَّة مختلفة للدراسة والنقاش، ولا زلت أتمنَّى أنْ تأتي لي فرصة أكبر ومجال أوسع للبحث والكتابة عن بقيَّة الفِرَق الإسلاميَّة كالزيديَّة والصوفيَّة وغيرها، وإخراج تلك الحقائق الدفينة في نظريَّاتهم المهدويَّة وطرحها على طاولة البحث والنقاش.
وأرجو من الله تعالى أنْ أُوفَّق في هذه الدراسة المتواضعة، للتقريب بين وجهات نظر المسلمين فيما يتعلَّق بالخلافات والتصوُّرات في العقيدة المهدويَّة، كما آمل أنْ تساهم هذه الدراسة في إزاحة الشُّبُهات الباطلة التي أُلصقت بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) نتيجةً للصراعات التاريخيَّة والمذهبيَّة.. علماً بأنَّني حاولت اقتفاء آثار كتاب الله، والاستضاءة بهدي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، والاهتداء بنور ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وفي البحث عن الثوابت الفكريَّة والتاريخيَّة في القضية المهدويَّة.. والحمد لله ربِّ العالمين.

* * *

(٢١)

لا شكَّ أنَّ عقيدة المخلِّص المنتظَر قديمة بقِدَم الزمان، وأنَّها ليست من خصوصيَّات دين الإسلام فقط، فكلُّ الأديان السماويَّة والتي سبقت الإسلام في الزمن بشَّرت بهذه الفكرة، وإنِ اختلفت المسمَّيات.. بل حتَّى الأديان والمذاهب غير السماويَّة وصلت إليها الفكرة وأخذت تُبشِّر به.
الإسلام بركنيه القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة هما المصدر والمنبع لدى المسلمين بكافَّة أطيافهم للإيمان والاعتقاد بهذه الفكرة.. فالمنقذ المخلِّص متواتر عند كثير من أهل الشرائع الأُولى، وأحاديث المهدي المنتظَر متواترة عن نبيِّ الإسلام وعلى ألسنة كافَّة طوائف المسلمين - إلَّا من شذَّ وندر -، علماً بأنَّ صحَّة السند لا تُشترَط في الأحاديث المتواترة، ممَّا أدَّى إلى شهرة الفكرة بين المسلمين على مرِّ العصور.. في هذه السطور نحاول تسليط الضوء على فكرة المهدي المنتظَر عند أتباع المذهب الإباضي، والبحث في أفكارهم عبارة عن بحث في فرقة موجودة من الخوارج، ويُعتبَر مذهبهم المذهب الرسمي في سلطنة عُمان.
الإباضيَّة: النشأة والعقائد:
الإباضيَّة إحدى الطوائف الإسلاميَّة، سُمّيت بهذا الاسم نسبةً إلى (عبد الله بن أباض التميمي)، ولكن المؤسِّس الحقيقي للمذهب هو جابر بن زيد الأزدي، وهو أحد التابعين، ومن تلاميذ ابن عبَّاس، وممَّن روى الحديث عن السيِّدة عائشة وعن عدد من الصحابة، وكان ذا مذهبٍ خاصٍّ به في الفقه.. سياسيًّا، يُنسَب المذهب الإباضي إلى (عبد الله بن أباض المريِّ التميميِّ) الذي عاصر الخليفة الأُموي عبد المَلِك بن مروان (٦٥ - ٨٥هـ).

(٢٥)

ودينيًّا، يذكر الإباضيَّة أنَّ إمامهم الأوَّل الذي أسَّس المذهب هو (جابر بن زيد الأزدي العماني)، ولذلك فإنَّ أغلب الأحاديث النبويَّة يرويها علماء المذهب عن جابر.
ظهر المذهب الإباضي في القرن الأوَّل الهجري في البصرة، فهو يُعتبَر من المذاهب الإسلاميَّة القديمة ومستمرٌّ حتَّى الآن، يقول الإباضيُّون: إنَّ مذهبهم تعود نشأته بالدرجة الأُولى إلى العامل الدِّيني والسياسي، الذي تمثَّل في مبايعة عبد الله بن وهب الراسبي من طرف بعض الصحابة والتابعين الذين أنكروا التحكيم على الإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وشكَّلوا حركةً سياسيَّةً، وكان على رأس تلك الحركة ثلاث شخصيَّات يعود إليها البدء في تأسيس الحركة وبلورة أفكارها ومبادئها، وهم: أبو بلال مرداس بن حدير التميمي، وجابر بن زيد الأزدي، وعبد الله بن أباض.
وكانت هذه النشأة في شوَّال (٣٧هـ).. اشترك أبو بلال في واقعة النهروان عام (٣٨هـ) مع الخوارج، وبعد الهزيمة التي ألحقها بهم الإمام عليٌّ (عليه السلام) انقسم الخوارج عام (٦٤هـ) إلى أربع فِرَق كبرى، وهي(٣):
١ - الأزارقة: وهم المنسوبون إلى نافع بن الأزرق الحنظلي (البصرة)، مقتول سنة (٦٥هـ)، (الفرقة انقرضت ولم يعد لها أثر).
٢ - النجدات: وهم المنسوبون إلى نجدة بن عامر الحنفي (اليمامة)، (الفرقة انقرضت).
٣ - الصفريَّة: وهم المنسوبون إلى عبد الله بن الصفَّار السعدي، (الفرقة انقرضت).
٤ - الإباضيَّة: وهم المنسوبون إلى عبد الله بن أباض التميمي (متوفِّي ٨٦هـ)،

-----------------

(٣) الخوارج والحقيقة الغائبة (ص ١٧٩ - ١٨٨).

(٢٦)

وهو واحد من الذين ثبتوا على المنهج الذي سار عليه أهل النهروان وتتابع عليه الإباضيَّة فيما بعد(٤)، وهي الفرقة الوحيدة المستمرَّة حتَّى الآن.
والعجب أنَّ هذه الفِرَق ظهرت في زمان واحد، فصار للقوم أئمَّة أربعة، كلٌّ يدعو إلى نفسه.. ويرفض أتباع المذهب الإباضي حاليًّا أنْ يُطلَق عليهم أو يسمُّوا بالخوارج، فيقولون: إنَّ كلمة الخوارج تشمئزُّ منها النفس وينقبض منها القلب مثل كلمة (الإرهابي) حاليًّا، وإنَّ حديث المروق والخروج من الإسلام لا ينطبق عليهم، والمتمثِّل في قوله (صلَّى الله عليه وآله): «يَمْرُقُونَ مِنْ اِلْإِسْلَامِ مُرُوقَ اَلسَّهْمِ مِنْ اَلرَّمِيَّةِ»(٥).. ويقولون: إنَّ الاعتبارات التي من أجلها أُطلِقَ المسمَّى على الخوارج لا وجود لها عند الإباضيَّة مطلقاً، وإنَّ كلمة الخوارج لا يجب أنْ تُطلَق إلَّا على الذين خرجوا من الدِّين ومرقوا من الإسلام.
إنَّ المتتبِّع يرى أنَّ الإباضيَّة تلتقي مع الخوارج من الناحية الفكريَّة في قضيَّتين جوهريَّتين، هما:
أوَّلاً: رفض التحكيم:
إنَّ الإباضيَّة والخوارج ينتقدون قبول التحكيم، ويرون أنَّ الإمام عليًّا (عليه السلام) مخطئ في قبوله التحكيم، لأنَّه جعل حقَّه في الخلافة موضع نزاع مع معاوية، وكما أخطأ في قبوله تحكيم الحكمين، فقد أخطأ كذلك في قتاله لأهل النهروان.
ثانياً: نفي لزوم القرشيَّة في الإمام:
فأصلها الحديث الذي ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) الذي يقول: «اَلْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ»(٦)، أو «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»(٧).. ورأى الإباضيَّة وكذلك الخوارج أنَّ

-----------------

(٤) الخوارج والحقيقة الغائبة (ص ١٨٤).
(٥) صحيح البخاري (ج ١٠/ ص ٣٣٣/ ح ٦١٩٣).
(٦) مسند أحمد (ج ٢٩/ ص ٢٠٠/ ح ١٧٦٥٤).
(٧) صحيح البخاري (ج ١١/ ص ٧٠/ ح ٦٤٥٧).

(٢٧)

الخلافة الإسلاميَّة لا تنحصر في قبيلة أو عائلة أو طائفة، وإنَّما يتولَّى أمر المسلمين الأكفأ والأقدر على خدمتهم وتسيير أُمورهم.
أمَّا الخوارج في نظر الإباضيَّة هم طوائف قديمة من الناس من زمن التابعين، رؤوسهم: نافع بن الأزرق، ونجدة بن عامر، وعبد الله بن الصفَّار ومن شايعهم، وسمُّوا خوارج لأنَّهم خرجوا عن الحقِّ وعن الأُمَّة، بالحكم على مرتكب الذنب بالشرك وأنَّ محاربيهم مشركون، ويترتَّب على ذلك ما يترتَّب على حرب المشرك، فاستحلُّوا ما حرَّم الله من الدماء والأموال بالمعصية، وحين أخطأوا في التأويل لم يقتصروا على مجرَّد القول، بل تجاوزوه إلى الفعل، وهم باعتقادهم وعملهم قد خرجوا من الإسلام وخرجوا عن الحقِّ، فهم الذين يمكن أنْ ينطبق عليهم حديث المروق من الدِّين.
إنَّ الإباضيَّة كانت من إحدى الطوائف التي رفضت التحكيم واعتزلت الإمام عليًّا (عليه السلام)، ولذا فأغلب المؤرِّخين ينسب الإباضيَّة إلى الخوارج على وجه العموم، وبعضهم قال: الإباضيَّة أعدل الخوارج، والآخر قال: الإباضيَّة أقرب فِرَق الخوارج إلى أهل السُّنَّة.. ممَّا سبق يتبيَّن لنا أنَّ المذهب الإباضي (المعتدل) أحد فِرَق الخوارج(٨)، وتكوَّن في أوَّل أمره كحركة سياسيَّة، ومع مرور الأيَّام تطوَّر إلى مذهب فقهي كغيره من المذاهب الإسلاميَّة.

-----------------

(٨) وقد أكَّد الشيخ جعفر السبحاني في موسوعته (بحوث في المِلَل والنِّحَل) عندما تطرَّق إلى حُجَج الإباضيَّة ونفيهم أنَّهم فرقة من الخوارج، قال الشيخ السبحاني: (كلُّ ما ذكروه أشبه بالخطابة، وذلك: أنَّ تخصيص اسم الخوارج بالمتطرِّفين منهم كالأزارقة والنجدات تخصيص بلا وجه، فقد أُطلِقَ هذا اللفظ في عصر الإمام عليٍّ (عليه السلام) على مَنْ خرجوا عليه.. وأنَّ تسميتهم بها كان رائجاً في عصر معاوية، أي قبل عام الستِّين (هجريَّة) وقبل أنْ يتسنَّم الأزارقة والنجدات منصَّة القيادة.. ويُستنتَج من ذلك: أنَّ الخوارج أُطلِقَ يوم أُطلِقَ على مَنْ خرج عن طاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنكروا التحكيم عليه من غير فرق بين أوَّلهم أو مَنْ أتى بعدهم). بحوث في المِلَل والنِّحَل (ج ٥/ ص ٢٦٠ و٢٦١)، بتصرُّف.

(٢٨)

مصادر التشريع عند الإباضيَّة:
القرآن والسُّنَّة والإجماع والرأي، وبالنسبة للأحاديث النبويَّة فيعتمدون على المسند الربيع بن حبيب الفراهيدي، ويُطلِق عليه الإباضيَّة: (الجامع الصحيح)، ويعتبرونه من أصحّ كُتُب الحديث سنداً، لأنَّ معظم الأحاديث رواها (الربيع)، عن شيخه (أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة)، عن (جابر بن زيد)، عن أحد الصحابة، وتُوفِّي الربيع بن حبيب بن عمرو الأزدي ما بين عام (١٧١ و١٨٠هـ)، ودُفِنَ في عُمان.
الانتشار التاريخي والحالي:
كما يُحدِّثنا التاريخ(٩) أنَّ الإباضيَّة لم يخرجوا على الدولة الأُمويَّة لا خروجاً سياسيًّا ولا خروجاً دينيًّا، ولكنَّهم لم يكونوا راضين عن سياسة الأُمويِّين.. فهذا عبد الله بن أباض الذي تُنسَب إليه الإباضيَّة لم يرفع السيف في وجه الدولة الأُمويَّة ولكنَّه اكتفى بنقد سياستهم عن طريق المراسلة، وكذلك أبو بلال مرداس فكان ينتقد سياسة الأُمويِّين باللسان ولم يرفع سيفاً(١٠)..
* قامت في عُمان دولة باسم الإباضيَّة في عهد أبي العبَّاس السفَّاح سنة (١٣٢هـ).
* أعلنوا الإمامة في اليمن سنة (١٢٩هـ)، وفي طرابلس شمال إفريقيا سنة (١٤٢هـ)(١١).
* قامت في الشمال الإفريقي دوله إباضيَّة باسم الدولة الرستميَّة أسَّسها (عبد الرحمن بن رستم) الفارسي سنة (١٦٠هـ)، وجعل مدينه تاهرت عاصمتها

-----------------

(٩) الدكتور عمرو خليفة النامي في مقدَّمة تحقيقه لكتاب أجوبة ابن خلفون.
(١٠) ولكن في زمن الإمام عليٍّ (عليه السلام) اشترك في معركة النهروان في صفِّ الخوارج.
(١١) الإمامة في الفقه الإسلامي (ص ٢٢).

(٢٩)

(تيارات حاليًّا، وهي مدينة جزائريَّة)، والتي استمرَّت قرابة (١٢٠) سنة. وبعد سقوط الدولة الإباضيَّة في تاهرت احتفظت التجمُّعات السُّكَّانيَّة الإباضيَّة حتَّى أيَّامنا هذه بنوع من الاستقلال الدِّيني والسياسي، ويقوم مجالس العلماء والتي عُرِفَت في اصطلاح الإباضيَّة بـ(مجالس العزابة) برعاية أُمورهم.
استمرَّ الإباضيُّون يقيمون (الإمامة) في عُمان كلَّما سنحت لهم الفرصة، فإذا ما ضعفت قامت الملكيَّة على أنقاضها وهكذا دواليك، وكانت آخر إمامة استطاع الإباضيُّون إقامتها سنة (١٣٣١هـ)، واستمرَّت حتَّى عام (١٣٧٥هـ)(١٢).
تنتشر الإباضيَّة في الوقت الحالي بشكل أساس في سلطنة عُمان حيث يُشكِّلون حوالي (٧٥%) من العُمانيِّين (١.٨ مليون تقريباً)، وينتشر المذهب أيضاً في وادي ميزاب في الجزائر (٣٥٠ ألف تقريباً)، وفي جبل نفوسة وفي زوارة في ليبيا (٧٠ ألف تقريباً)، وفي جزيرة جربة بتونس (١٠ آلاف تقريباً)، بالإضافة إلى مناطق مختلفة كاليمن والشمال الإفريقي ومصر وزنجبار ومالي وغانا والسعوديَّة وبعض المغتربين في الدول الأجنبيَّة، مَّما يُشكِّل أتباع ومعتنقي المذهب الإباضي حاليًّا في العالم حوالي (٢.٥) مليون شخص، وكان سبب انتشار ووجود أتباع للمذهب الإباضي حاليًّا في كلٍّ من عُمان وشمال إفريقيا، هو قيام دول إباضيَّة في تلك المناطق.
رأي الإباضيَّة في المهدي المنتظَر:
إنَّ المهدي المنتظَر في الفكر الإباضي عبارة عن خرافة لا أساس لها من الصحَّة، ويعتبرون الفكرة من الأُمور الغيبيَّة التي لا ينبغي الإيمان بها إلَّا على أدلَّة قطعيَّة، وفي نظرهم لا توجد أدلَّة قطعيَّة بخصوص المهدي المنتظَر، ولذا

-----------------

(١٢) الإمامة في الفقه الإسلامي (ص ٢٣).

(٣٠)

فهم يُصرِّحون ويُؤكِّدون أنَّ أخبار المهدي قد تسرَّبت للفكر الإسلامي قديماً من أهل الكتاب (وبالخصوص اليهود) الذين أسلموا في بداية العصر الإسلامي الأوَّل، وكانوا يروون أخبار المخلِّص المنتظَر من موروثهم الدِّيني المحرَّف.
يُصرِّح الإباضيَّة عن فكرة المهدي المنتظَر بأنَّها خرافيَّة كما يقول أحد علمائهم: (انتشر بين بعض المسلمين فكرة ظهور رجل خارق في آخر الزمان يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً في فترة لا تتجاوز الأيَّام المعدودة، وأنَّه هو المهدي المنتظَر.. لم يقبل الإباضيَّة بمثل هذه الأفكار لمخالفتها منهج القرآن الكريم الذي وعد المسلمين بالنصر والتمكين في أيِّ زمانٍ ومكانٍ إنْ هم أقاموا منهج الله وشرعه، كما أنَّ تلك الأفكار تنشر في الأُمَّة التخاذل والتواكل وانتظار المجهول دون محاولة للسعي والعمل، وفكرة المهدويَّة ذات أُصول توراتيَّة وهي في حقيقتها بشارة بالنبيِّ الخاتم محمّد (صلَّى الله عليه وآله))(١٣).
عند الرجوع إلى الجذور التاريخيَّة والعقديَّة لنظرة الإباضيَّة للمهدي المنتظَر نجد أنَّ هذه المدرسة خلت مرويَّاتها من الغالبيَّة العظمى من هذا الصنف من الروايات (المهدي المنتظَر أو أشراط الساعة)، كما خلا التنظير العقدي والفقهي عبر تاريخ الفكر الإباضي من الاهتمام بهذه القضايا.. ومع مسيرة الزمن وبفعل حركة التثاقف والتلاقح بين المدرسة الإباضيَّة والمدارس الإسلاميَّة الأُخرى حصل نوع من انتقال بعض هذه القضايا إلى قطاع بسيط جدًّا جدًّا من التفكير الإباضي، لكن لم يصل الأمر إلى دائرة الاعتقاد بها، ونجد هذا الأمر في بعض الكُتُب الإباضيَّة في القرن الهجري السادس، كالدليل والبرهان لأبي يعقوب الوارجلاني (تُوفِّي ٥٧٠هـ) ذكر في (ج ٢/ ص ٣٥): (وقد وردت عن رسول الله [(صلَّى الله عليه وآله)] أخبار المهدي أنَّه يكون في آخر الزمان،

-----------------

(١٣) الإباضيَّة تاريخ ومنهج ومبادئ لزكريَّا خليفة المحرمي.

(٣١)

كادت أخباره أنْ تكون ضروريَّة، وأنَّه يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد إذ مُلِئَت ظلماً وجوراً)، وقال في (ج ٢/ ص ٢٤): (فإنْ كان عن معصوم كان حقًّا، ولا معصوم إلَّا المهدي وعيسى بن مريم (عليهما السلام)).. كذلك ذكر الشيخ القطب في وفاء الضمانة بأداء الأمانة (ج ٥ و٦) عدداً لا يُستهان به من روايات المهدي المنتظَر والدجَّال وعودة المسيح (عليه السلام) دون أنْ يُعلِّق عليها بشيء.. أمَّا الشيخ الجيطالي في قناطر الخيرات (ج ٣/ ص ٤٨٥ - ٤٩١) ذكر عدداً من الأشراط المستقبليَّة للساعة مثل: طلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى (عليه السلام)، والدجَّال، وغيرها.. غير أنَّ الساحة الإباضيَّة شهدت في أواخر القرن الهجري الماضي وبدايات القرن الحالي عودة الإباضيَّة إلى التحفُّظ على فكرة المهدي المنتظَر، وبعض القضايا الغيبيَّة بخلاف ما كان عليه الخطُّ الإباضي العامُّ من عدم الاعتناء بها.. وممَّن تحفَّظوا على فكرة المهدي المنتظَر من علماء الإباضيَّة المتأخِّرين نذكر:
* قال الشيخ أحمد بن حمد الخليلي (المفتي العامُّ الحالي لسلطنة عُمان) موضِّحاً رأي الإباضيَّة في مسألة المهدي المنتظَر(١٤): (علينا نحن أنْ نعمل وأنْ يكون كلُّ واحدٍ منَّا هادياً مهديًّا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وأنْ لا ننتظر مَنْ يظهر بعد حين، على أنَّ الروايات في المهدي فيها الكثير من الاضطراب كما شرح ذلك العلَّامة رشيد رضا، وقد وُضِعَت في المهدي روايات متعدِّدة وادَّعى الكثير من الناس أنَّه هو المهدي المنتظَر، ومن الناس مَنْ قال: إنَّ المهدي من ذرّيَّة الحسين بن عليٍّ، ومنهم مَنْ قال: هو من ذرّيَّة الحسن بن عليٍّ، ومنهم مَنْ قال: هو من ذرّيَّة العبَّاس بن عبد المطَّلب، وهذا ممَّا يدلُّ على أنَّ للاتِّجاه السياسي دخلاً في حبك هذه الروايات).

-----------------

(١٤) محاضرة بعنوان (من أشراط الساعة)، يوليو ١٩٩٨م، الرستاق، سلطنة عُمان؛ نقلاً عن كتاب أشراط الساعة للوهيبي (ص ٢٠٨).

(٣٢)

* أمَّا الشيخ سعيد بن مبروك القنوبي (وهو مرجع الإباضيَّة حاليًّا في الحديث النبوي الشريف)، فقد قال في محاضرة له(١٥): (أحاديث المهدي مكذوبة موضوعة، لم تثبت عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)).
* الشيخ بكلي عبد الرحمن عمر الذي قال في الفتاوى: (أمَّا المهدي فما قيل في الدجَّال فقد حيك مثله فيه من روايات متضاربة أثارت إشكالات يصعب الجمع بينها، اتُّخِذَ المهدي ميداناً، ركض فيه كثير من ذوي الغايات والمطامع في المُلك والسلطان، وكلَّما مضى أحدهم ولم تُحقَّق الآمال التي نيطت به حاولوا لعب ورقته مع آخر، كما كان أصحاب الرايات السوداء والرايات الصفراء ودعوى السفياني قبله، ويبدو لي والله اعلم أنَّها من دسائس المنظَّمات السرّيَّة التي أُسِّست لهدم الإسلام وإفساده بإدخال الخرافات على تعاليمه ومبادئه، ومن وراء ذلك تثبيط أبنائه عن العمل والأخذ بأسباب القوَّة اتِّكالاً على المهدي وانتظار خروجه، فيُقعِدهم ذلك عن الدفاع عنه وصيانة حماه).
* الشيخ عليّ يحيى معمَر في الحلقة الأُولى من موسوعة الإباضيَّة في موكب التاريخ (ص ١٥) حيث عدَّ قضيَّة المهدي المنتظَر من الخرافات التي تسرَّبت إلى المسلمين.
* الشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي حيث قال: (وفي أخبار قومنا أنَّ الله يبعث المهدي ويخرج الدجَّال وينزل عيسى من السماء، وكلُّ ذلك في نفسي بعيد من الصواب، ومعي أنَّ الخضر ميِّت وعيسى كذلك).
* الشيخ أحمد بن سعود السيابي الذي قال في محاضرة له(١٦): (والقول

-----------------

(١٥) في ظلال السُّنَّة، تسجيلات مشارق الأنوار، سلطنة عُمان؛ نقلاً عن كتاب أشراط الساعة للوهيبي (ص ٢١٠).
(١٦) محاضرة الدعوة والتعليم عند الإباضيَّة، أحمد بن سعود السيابي، بهلا، سلطنة عُمان، ٢٠٠٣م.

(٣٣)

بالمهدي المنتظَر ونزول المسيح عيسى (عليه السلام) قدح في خاتميَّة النبوَّة وعصمة هذه الأُمَّة في عدم اجتماعها على ضلال، فهو قدح فيها أنَّها كانت على استقامة، وهي ردٌّ لكلام الله تعالى بقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾ [المائدة: ٣]، وقد يقول قائل من الإخوة الإباضيَّة: إنَّ المسألة وُجِدَت في بعض تآليف علماء الإباضيَّة، فنقول له: إنَّ هذا صحيح، لكنَّه عند التأمُّل نجده تأثُّراً بما في كُتُب الآخرين).
ولمزيد من التوسُّع ومعرفة رأي بقيَّة علماء الإباضيَّة حول المهدي المنتظَر، يفضل مراجعة كتاب(١٧) (أشراط الساعة - النصُّ والتاريخ: ص ٢٠٣ - ٢١١)، للكاتب الإباضي الأُستاذ خالد بن مبارك الوهيبي، والذي جمعها من جانبه من متفرَّق كُتُب ومخطوطات ومحاضرات الإباضيَّة.
وفي مناقشته لرأي الشيعة الإماميَّة في مسألة المهدي المنتظَر، كتب الإباضي الأُستاذ عليُّ بن هلال العبري في رسالة الماجستير (الإمامة في الفقه الإسلامي): (على افتراض أنَّ الإمام (المهدي المنتظَر) لم يختفِ، وظهر على الظالمين والغاصبين، أفتراه يعيش إلى يوم القيامة يسوس الأُمَّة، ويُقيم الكتاب، ويحمل الناس على الجادَّة، أم أنَّه يموت بعد عمر كما مات آباؤه من قبل؟! ومَنِ الذي سيخلفه عندئذٍ، مع حصر الأئمَّة في عدد معيَّن، فإنْ كان سيخلفه نائب فهل النائب يُشترَط [فيه] ما يُشترَط في الإمام؟ وإذا كان الأمر كذلك فما معنى تحديد العدد؟ وإذا كان الإمام سيبقى إلى يوم القيامة فقد حاز من الفضيلة والكرامة ما لم ينله الأئمَّة من قبله)(١٨).
نستشفُّ من قراءتنا لموقف الإباضيَّة من أمر المهدي المنتظَر، أنَّهم يُنكِرون

-----------------

(١٧) نشر مكتبة الغبيراء، سلطنة عُمان، الطبعة الأُولى، ٢٠٠٤م.
(١٨) الإمامة في الفقه الإسلامي (ص ٦٤ و٦٥).

(٣٤)

كثيراً من الأُمور الغيبيَّة وأخبار الملاحم والفتن وأغلب علامات وأشراط الساعة، حتَّى وإنْ كان هناك دليل صريح من القرآن الكريم، مثل:
* إنكار عقيدة المهدي المنتظَر من الأساس، واعتبارها فكرة خرافيَّة تسرَّبت لأفكار المسلمين من اليهود.
* إنكارهم عودة السيِّد المسيح آخر الزمان، وتأكيدهم بأنَّه قد مات.
* إنكارهم طلوع الشمس من المغرب كعلامة من علامات الساعة، واعتبار أنَّ ذلك يخالف القوانين والسُّنَن الكونيَّة.
* إنكارهم خروج الدجَّال آخر الزمان، واعتباره كائناً أُسطورياً خرافي لا وجود له، باعتبار مناقشتهم لروايات ابن صيَّاد والجسَّاسة في (صحيح مسلم).
* إنكارهم خروج يأجوج ومأجوج آخر الزمان، واعتبارهم من القَصَص التاريخيَّة القديمة التي ذكرها الله تعالى في القرآن للعظة والعبرة فقط.
* إنكارهم خروج دابة الأرض آخر الزمان كعلامة من علامات الساعة، ويعتبرون خروجها عند وقوع القول فقط، أي أثناء وجوب العذاب أو الغضب.
* إنكارهم لكثير من أخبار الملاحم والفتن، وأخبار الخضر (عليه السلام)، والسفياني المنتظَر، والقحطاني، وفتح القسطنطينيَّة، واعتبار أنَّ الروايات في هذا الشأن كلَّها لا تصحُّ نسبتها إلى النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله).
ولمزيد من التوسُّع لمعرفة رأي الإباضيَّة في مثل هذه القضايا والأُمور، يفضل الرجوع إلى كُتُبهم التالية:
١ - كتاب (الإباضيَّة تاريخ ومنهج ومبادئ)(١٩) للدكتور زكريَّا المحرمي، راجع الفصل الخاصَّ: موقف الإباضيَّة من أخبار الفتن والملاحم والميزان والصراط.

-----------------

(١٩) نشر مكتبة الغبيراء، الطبعة الأُولى، ٢٠٠٥م، سلطنة عُمان.

(٣٥)

٢ - كتاب (أشراط الساعة - النصُّ والتاريخ)(٢٠)، للشيخ خالد بن مبارك ابن محمّد الوهيبي، راجع الفصل الخاصَّ: تطبيقات في دراسة الأشراط المستقبليَّة للساعة، وقد قال فيه في (ص ٣١٩): (تبيَّن من خلال البحث أنَّ القطاع الأكبر والأعظم وهو المعبِّر عن التوجُّه العامِّ للمذهب الإباضي حول هذه القضايا كان دائراً بين الرفض التامِّ أو التشكيك الذي عُبِّر عنه بالتوقُّف والسكوت...)، إلى أنْ قال: (لا نجد في كتاب الله أيَّ ذكرٍ لكلِّ تلك الأشراط المستقبليَّة كالدجَّال وعودة المسيح (عليه السلام) والمهدي، أو ارتباط بعضها بالساعة وما يكون بين يديها كيأجوج ومأجوج وخروج دابة من الأرض، بينما جُمِعَ مجلَّدات في هذا الشأن من الروايات السُّنّيَّة والشيعيَّة.. لماذا لم تُذكر في كتاب الله تعالى، ووردت بكلِّ هذه الكثافة الهائلة في الروايات؟).
مبرِّرات موقف الإباضيَّة من المهدي المنتظَر وأشراط الساعة:
رفض الإباضيَّة معظم روايات الملاحم والفتن التي وردت في مجموعات الحديث عند كثير من المدارس الإسلاميَّة لأنَّها صوَّرت أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) يعلم الغيب، وأنَّه أخبر ببعض الظواهر والحوادث التي ستحصل قبل يوم القيامة، واعتبروها مخالفة للقواعد وللأُصول المستوحاة من مذهبهم، وذلك للأسباب التالية من وجهة نظرهم:
١ - مخالفة لمنهج القرآن الكريم، حيث إنَّ النبيَّ محمّداً (صلَّى الله عليه وآله) هو آخر الأنبياء والمرسَلين، ولذا فعودة المسيح خرم صريح لهذه العقيدة.
٢ - بروز الطابع المثيولوجي الأُسطوري، وهي عبارة عن خوارق العادات والنواميس والسُّنَن الكونيَّة، كروايات المخلِّص المنتظَر وعودة عيسى (عليه السلام) وظهور الدجَّال.

-----------------

(٢٠) نشر مكتبة الغبيراء، الطبعة الأُولى، ٢٠٠٤م، سلطنة عُمان.

(٣٦)

٣ - تفاعل روايات آخر الزمان مع أحداث زمن تدوينها، حيث تتحدَّث عن أسلحة بدائيَّة (السيف، الرمح، الحربة...)، وهذا يتناقض مع تطوُّر آخر الزمان.
٤ - إنَّ فكرة المخلِّص المنتظَر تسرَّبت إلى المسلمين عن طريق مسلمة أهل الكتاب، وهي ذات أُصول ونزعه يهوديَّة، لاسيَّما أنَّ كعب الأحبار أحد رواتها.
٥ - روايات آخر الزمان تُعطِّل الطاقات، وتُرسِّخ قِيَم الاستبداد والظلم في النفوس، وبخاصَّة روايات المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، فإنَّها تصبُّ لصالح الانتظار السلبي وقيام الفرد المطلق (السوبرمان) بقضيَّة الإصلاح.
إنَّ قراءة متأنّية للمبرِّرات التي أثارها الإباضيَّة عن المهدي المنتظَر وأشراط الساعة، تُوضِّح لنا مدى ضعف منهجهم في التعامل مع هذه القضيَّة الخطيرة (الإمامة)، وتدلُّنا وجهات نظرهم على بساطة تفكيرهم، فليس لديهم ما يدعم رأيهم وإنكارهم من الأدلَّة والمستمسكات الموثوقة، بل الدليل قائم على خلاف ما يذهبون إليه، والبرهان ساطع وقاطع على صحَّة العقيدة في المهدي، لثبوت الدليل من آيات القرآن الكريم، وتواتر الأحاديث الشريفة.. وما التبريرات التي ساقوها إلَّا دليل على ضعفهم في علوم القرآن وأُصول الحديث.. وكيف لا يكون ذلك وأهمُّ كتاب حديث لديهم مسندهم الصحيح الأوَّل، والذي يرجعون إليه في الأحاديث النبويَّة - من وجهة نظرهم - مسند الربيع بن حبيب، لا يحتوي إلَّا على (٧٥٤) حديثاً فقط، ومدوَّنة أبي غانم الخراساني لا يحتوي إلَّا على (١٤٠) حديثاً(٢١) فقط، وهذا يخالف المنطق والواقع والتاريخ وعلم الحديث المتعارف عليه عند جميع الفِرَق الإسلاميَّة، ولذا لا نستغرب خلوَّ مجموعاتهم الحديثيَّة التي رووها من طُرُقهم (على قلَّتها وقلَّة أحاديثها) من هذا

-----------------

(٢١) رواية الحديث عند الإباضيَّة (ص ١١١)؛ أشراط الساعة - النصُّ والتاريخ (ص ١٠٨).

(٣٧)

الصنف من الروايات.. وفوق كلِّ ذلك لم يخلُ صحيحهم الأوَّل (مسند الربيع) من روايتين (حديث ٥٤، وحديث ٤٩٠)(٢٢) تذكر الدجَّال بصراحة.. ومن هنا نُؤكِّد أنَّ كلَّ هذه التبريرات حسب مقاييس البحث العلمي ليس لها قيمة علميَّة.
خلاصة القول:
يتَّضح لنا من تتبُّع أقوال علماء الإباضيَّة، ومن البحث في جذور نشأة المذهب الإباضي، ومن خلال بعض مؤلَّفاتهم والحوارات والنقاشات التي دارت معهم بخصوص المهدي المنتظَر ما يلي:
شعور الإباضيَّة بالمأزق الذي أوقعتهم فيه عقيدتهم في الخلافة (الإمامة)، لرفضهم حديث الرسول (صلَّى الله عليه وآله): «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»، وإنْ كانت هذه النظريَّة تخالف الحديث رقم (٤٤) في الجامع(٢٣) الصحيح الأوَّل لديهم، فبدأ كبار علمائهم يراجعون قضيَّة الخلافة وفكرة المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، فجاؤوا بنظريَّة إنكار أمر المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من الأساس، وساقتهم النظريَّة كذلك إلى إنكار عودة السيِّد المسيح (عليه السلام)، وخروج الدجَّال، وظهور دابة الأرض، ويأجوج ومأجوج، وكثير من أشراط الساعة، ليخرج الفكر الإباضي في نظرهم من المأزق الذي ألمَّ به والجمود الذي أتحفتهم به نظريَّتهم الأُولى في السياسة وعقيدتهم في الخلافة.
لذا تجد أنَّ علماء المذهب الإباضي القدماء لم يحسموا أمرهم في موضوع المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) بعكس علمائهم المتأخِّرين الذين اتَّفقوا على الإنكار، فالخطُّ العامُّ الذي انتهجه جمهور علماء المذهب الإباضي من قضيَّة المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)

-----------------

(٢٢) مسند الربيع (ص ٢٠ و٢١/ ح ٥٤، وص ١٢٨ و١٢٩/ ح ٤٩٠).
(٢٣) روى الربيع بن حبيب في مسنده (ص ١٨/ ح ٤٤): أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ اَلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، قَالَ: «لَا يَزَالُ اَلْأَمْرُ - يَعْنِي اَلْوِلَايَةَ - فِي قُرَيْشٍ مَا دَامَ فِيهِمْ رَجُلَانِ - وَأَشَارَ بَإِصْبَعَيْهِ -، وَلَكِنَّ اَلْوَيْلَ لِمَنْ اِفْتَتَنَ بِالمُلْكِ».

(٣٨)

من خلال تتبُّع مؤلَّفاتهم(٢٤) والتي سكتوا فيها عن الخوض في هذه القضيَّة وأمثالها.. وإنْ كانت بعض الكتابات(٢٥) أشارت إلى موضوع المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) بكلِّ صراحة ككتاب (الدليل والبرهان) لأبي يعقوب الوارجلاني، و(وفاء الضمانة) للقطب.. ولكن يُلاحَظ بشكلٍ عامٍّ أنَّ المدرسة الإباضيَّة خلت مرويَّاتها من الغالبيَّة العظمى من روايات المهدي، كما خلا التنظير الفقهي والعقدي عبر تاريخ الإباضيَّة من الاهتمام بهذه القضيَّة.. إنَّ المتتبَّع لآراء علماء المذهب الإباضي في أحاديث الملاحم والفتن يقرأ فيها تُهَم جريئة يُوجِّهونها إلى حُفَّاظ السُّنَّة ورجال الصحاح والجوامع الحديثيَّة، بالإضافة لتفسيرهم بعض آيات القرآن الكريم ذات العلاقة بالمهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) بغير تفسيرها ومواردها الصحيحة، وهم يقصدون من وراء ذلك تسهيل طريق الإنكار، إذ ألجأتهم الضرورة المذهبيَّة إلى إنكار بعض الحقائق الدامغة للمحافظة على أُسُس ومبادئ مذهبهم.
من هنا نفهم الدوافع لإنكار أصل فكرة المهدي المنتظَر، وقولهم بضعف الروايات واختلاقها، والعجب من ركوب علماء الإباضيَّة هذه الجرأة المفضوحة، إذ إنَّ روايات المهدي المنتظَر ذكرتها كلُّ الجوامع الحديثيَّة والصحاح والمساند عند الفِرَق الإسلاميَّة كافَّة، وخرَّجوها من عدَّة طُرُق، وقال بتواترها معظمهم.
لذا فإنَّ منهجهم المشكِّك في أمر المهدي بمثل تلك التبريرات والتوهُّمات والمغالطات المنكرة، فضلاً عن تعارضه مع الأُصول المعتبرة الإسلاميَّة من أدلَّة قرآنيَّة وروايات متواترة، ينطلق من دوافع وأهداف لا تنسجم مع منهج

-----------------

(٢٤) أشراط الساعة - النصُّ والتاريخ (ص ١٩٣).

(٢٥) أشراط الساعة - النصُّ والتاريخ (ص ٢٠٦).

(٣٩)

الإسلام العامِّ.. فالمبادئ الإسلاميَّة تقوم وتعتمد في جانب مهمٍّ منها على ضرورة الإيمان بالغيب، وقد تكرَّرت الدعوة (الإيمان بالغيب) لعشرات الآيات الكريمة، بل مدحت المؤمنين به(٢٦).. ونتساءل هنا: ما هي الغيبيَّات التي يؤمن بها أتباع المذهب الإباضي في هذه الحياة؟ والسؤال الذي يُلفِت النظر: ما هي الأدلَّة التي يبحث عنها الإباضيَّة في موضوع المهدي المنتظَر؟.. إذ ليس هناك من سبيل إلى ثبوت مثل هذه الأُمور إلَّا بالأدلَّة المعتبرة، وهل بعد ذكر القرآن الكريم وآياته كلام؟ وهل نحتاج إلى دليل آخر؟ بالإضافة للروايات المتواترة والأخبار الصحيحة المرويَّة عن الحبيب المصطفى (صلَّى الله عليه وآله)، وتوفُّر الشواهد وقيام القرائن والمؤيِّدات من العقل والمنطق، وقد ثبت من كلِّ هذه الجهات في أمر المهدي المنتظَر.
الغريب أنَّ الإباضيَّة يتوسَّلون بنفس الذرائع، ويتعلَّلون بنفس الحُجَج والمبرِّرات التي توسَّل بها منكرو ما جاء من أنباء الغيب.. ومن بساطة تفكيرهم وضعف رأيهم من السهل تفنيد حُجَجهم، فإنْ كانوا يقولون: إنَّ أحاديث المهدي تخالف العقل فليُوجِّهوا النقد إلى القرآن، لأنَّه الذي بشَّر به وصنَّفه كوعد إلهي، وإنْ كانوا يقولون: كيف لشخص يعيش مئات السنين؟ فليُوجِّهوا نقدهم للقرآن كذلك، لأنَّه يُخبِرنا عمَّا يخالف الطبيعة في عمر النبيِّ نوح (عليه السلام) والسيِّد المسيح (عليه السلام) وعمر إبليس، وهذا منطق القرآن الكريم.. وعلاوةً على ذلك ما الذي يضرُّ فكرة المهدي إذا آمن بها اليهود وكافَّة الأديان والمذاهب ونسجوا حولها خيوطاً من الآمال؟ ولو أردنا أنْ نُبطِل كلَّ فكرةٍ أو حقٍّ آمن وتمسَّك به اليهود والنصارى لأبطلنا حقائق عديدة كالتوحيد والصدق والأمانة وتحريم الربا وأكل لحم الخنزير.. إلخ.

-----------------

(٢٦) كما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (البقرة: ٢ و٣).

(٤٠)

وأرى أنِّي أمام حقيقة لاذعة، يسوقني إليها الموضوع، ومضطرٌّ للجهر بها وهي: أنَّ مصادر التشريع عند الإباضيَّة كما يقولون هي: القرآن والسُّنَّة والإجماع والرأي، ففي نظرتهم إلى المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وإنكار أمره قد خالفوا القرآن الكريم (المصدر التشريعي الأوَّل) حيث فسَّروا الآيات القرآنيَّة الدالَّة عليه والمبشِّرة به في غير موردها الصحيح، وخالفوا السُّنَّة النبويَّة الشريفة (المصدر التشريعي الثاني) حيث كذَّبوا كلَّ الروايات المتواترة والأخبار الصحيحة واعتبروها مختلقة موضوعة، وخالفوا إجماع المسلمين (المصدر التشريعي الثالث) بمذاهبهم وأطيافهم كافَّة بالإيمان بفكرة المهدي المنتظَر، وهكذا تمسَّك الإباضيَّة برأيهم الشاذِّ بإنكارهم أمر المهدي، وذلك للحفاظ على نظريَّتهم الأُولى والتي قام عليها مذهبهم - وتتَّفق عليها كلُّ فِرَق الخوارج - بأنَّ الخلافة (الإمامة) في نظرهم لا تنحصر في قريش، وهو مخالف لما قاله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)(٢٧)، فكيف يتمُّ الإيمان بالمهدي والروايات تُؤكِّد أنَّ المهدي من أهل البيت (عليهم السلام)، ومن بني هاشم، ومن أولاد فاطمة (عليها السلام)؟ إذاً المهدي من (قريش)، وهذا ما يتعارض مع مبادئ وأُسُس مذهبهم، ولذا لم يكن هناك من مفرٍّ إلَّا بإنكار أمر المهدي، وإنْ كان ذلك يتعارض مع المصادر التشريعيَّة، فإنكار أمر المهدي من وجهة نظرهم أسهل من نسف أساس المذهب.
نسي هؤلاء أو تجاهلوا أنَّ فكرة المهدي كعقيدة نشأت من القول بضرورة وجود إمام معصوم في كلِّ جيل حافظ للشريعة وقرين للكتاب، وقد ترك النبيُّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله) ثقلين لا يفترقان حتَّى يردا عليه الحوض، وشهد القرآن لكلِّ واحدٍ

-----------------

(٢٧) كما في صحيح مسلم (ج ٦/ ص ٤): «لَا يَزَالُ اَلدِّينُ قَائِماً حَتَّى تَقُومَ اَلسَّاعَةُ أَوْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ اِثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»؛ وفي صحيح البخاري (ج ١١/ ص ٧٠/ ح ٦٤٥٧): «يَكُونُ اِثْنَا عَشَرَ أَمِيراً... كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ».

(٤١)

من هذين الثقلين بالعصمة والتسديد والحفظ، وهذا هو المبدأ الحقيقي لفكرة المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) عند الشيعة الإماميَّة.. وإذا حتم الدليل وجوده وبقاءه لأنَّه الأخير من قرناء الكتاب، فليكن غائباً إذا أوجبت الحكمة الإلهيَّة أنْ يغيب، فإنَّ الاختفاء لا يضرُّ بشأن من شؤونه، كما لا يضرُّ بالشمس سترها من وراء السحاب.. خاصَّةً إذا علمنا أنَّ الإيمان بالمهدي المنتظَر عقيدة ورسالة يريد الله تبليغها إلى كافَّة البشر مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥).. وأخيراً نقول كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (يونس: ٣٥).

* * *

(٤٢)

حتميَّة ظهور المنقذ المخلِّص آخر الزمان هو اعتقاد عالمي، فجميع الأديان والمِلَل تنتظر خروج شخص يُخلِّص العالم من الظلم والجور، وينشر القسط والعدل.. المسلمون يعتقدون بالمنقذ المخلِّص للبشريَّة، ويُسَمُّونه (المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه))، ويُؤكِّدون أنَّه من ذرّيَّة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، كما بشَّر به الرسول (صلَّى الله عليه وآله).
إنَّ الإسلام بركنيه القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة هما المصدر والمنبع لدى المسلمين للاعتقاد والإيمان بفكرة المهدي، وعلى ذلك أجمع المسلمون بكافَّة أطيافهم ومذاهبهم.. وفي هذه السطور نحاول تسليط بعض الضوء على فكرة المهدي عند أتباع المذهب الإسماعيلي بفِرَقه المختلفة.
الطائفة الإسماعيليَّة:
تُعتبَر فرقة من المذاهب الإسلاميَّة الشيعيَّة، وتعتقد بإمامة إسماعيل بن الإمام الصادق (عليه السلام) في حياة والده، ومن ثَمَّ اتَّبعت ابنه محمّد بن إسماعيل وقالت بإمامته، على أساس أنَّ الإمامة لا تكون إلَّا من أب إلى ابن ولا تعود القهقرى.
افترقت الطائفة الإسماعيليَّة إلى فِرَق متعدِّدة، وبعض هذه الفِرَق التاريخيَّة قد انتهى وانقرض مثل (القرامطة)(٢٨)، ولكن يوجد في الوقت الحالي أربع فِرَق

-----------------

(٢٨) الإسماعيلَّة القرامطة: كان ظهورهم في بلاد البحرين قديماً، ويُعتبَر الحسن بن بهرام (أبو سعيد الجنابي) مؤسِّس دولة القرامطة، وقد ادَّعى أنَّه المهدي المنتظَر، وحكم بعده ابنه سليمان لمدَّة (٣٠) سنة، وقد هاجم الكعبة المشرَّفة سنة (٣١٩هـ)، واستولى على الحجر الأسود ونقله وأبقاه عنده في منطقة القطيف لأكثر من عشرين سنة.

(٤٥)

رئيسيَّة تُشكِّل أبناء الطائفة الإسماعيليَّة في العالم.. وقد نشأت هذه الفِرَق بعد أنْ حدث نزاع حول الخلافة بعد الإمام الفاطمي المستنصر بالله عام (٤٨٧هـ/ ١٠٩٤م) ممَّا قسَّم الإسماعيليِّين بشكل دائم إلى جماعتين متميِّزتين، هما:
* الفرقة النزاريَّة، وهي التي اتَّبعت وقالت بإمامة نزار بن المستنصر بالله.
* الفرقة المستعلية (الطيِّبة)، وهي التي اتَّبعت وقالت بإمامة المستعلي بن المستنصر بالله.
ومن ثَمَّ انقسمت كلُّ فرقة إلى مجموعتين، ممَّا أدى إلى تشكيل أو تكوين أربع فِرَق مختلفة كالآتي:
الإسماعيليَّة النزاريَّة:
وأتباعها متمركزون حاليًّا في سوريا والعراق وآسيا الوسطى وأُوربا، وقد انقسمت إلى فرقتين:
١ - الفرقة المؤمنيَّة: اتَّبعت وقالت بإمامة الابن الأكبر للإمام شمس الدِّين والمسمَّى (مؤمن)، واستمرَّ أئمَّة هذه الفرقة في الظهور والكشف إلى الإمام الصادق (عليه السلام)، ومن ثَمَّ دخل أئمَّتهم دور الستر وأصبحوا في الوقت الحالي يقولون بستر الإمام، (وهم إسماعيليَّة باكستان وآسيا الوسطى).
٢ - الفرقة القاسميَّة (الأغاخانيَّة): اتَّبعت وقالت بإمامة الابن الأصغر للإمام شمس الدِّين والمسمَّى (قاسم)، ولا زال أئمَّة هذه الفرقة ظاهرين ومعروفين إلى يومنا هذا، (وهم إسماعيليَّة سوريا والشام وأُوربا)، وآخر إمام ظاهر هو الإمام الحالي (كريم شاه الحسيني)(٢٩)، ويعتقدون بعصمته، ويعيش

-----------------

(٢٩) كريم شاه أغاخان الحسيني هو الإمام التاسع والأربعون للإسماعيليِّين النزاريِّين (الفرقة القاسميَّة)، وحصل على لقب الإمامة بالوراثة حيث هو ابن الأمير عليّ خان والأميرة تاج الدولة عليّ خان، وُلِدَ عام (١٩٣٦م) في جنيف، وقضى طفولته المبكَّرة في نيروبي بكينيا، درس لمدَّة تسع سنوات في مدرسة لي روزي في سويسرا، وقد تخرَّج عام (١٩٥٩م) من جامعة هارفارد بأمريكا في تخصُّص التاريخ الإسلامي.. عندما كان في العشرين من عمره تولَّى الإمامة للفرقة القاسميَّة في (١١/ يوليو/ ١٩٥٧م)، خلفاً لجدِّه السلطان محمّد شاه أغاخان.

(٤٦)

حاليًّا في لندن. والغريب من معتقدات هذه الفرقة أنَّها لا تعترف بإمامة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، ويرون أنَّ الإمامة انتقلت من الإمام عليٍّ (عليه السلام) إلى الإمام الحسين (عليه السلام) مباشرةً.


إمام الزمان الحالي للطائفة الإسماعيليَّة القاسميَّة (الأغاخانيَّة)

الإسماعيليَّة المستعلية الطيِّبة:
وأتباعها متمركزون حاليًّا في الهند ومصر واليمن وجنوب السعوديَّة، هذه الفرقة تؤمن أنَّ الأئمَّة دخلوا دور الستر بعد أنْ كانوا في دور الكشف والظهور، وكان آخر إمام لديهم معروف في دور الكشف هو الطيِّب بن الآمر بأحكام الله، ومن ثَمَّ بدأ دور الستر لدى هذه الفرقة وأصبح (الداعي) المنفرد والمطلق في دعوته هو الحجَّة الظاهرة الذي يُمثِّل الإمام في دور الستر، وكان الداعي داود عجب هو آخر داعٍ اتَّفقت عليه جميع الفِرَق المستعلية الطيِّبة.. وبعد وفاته انقسمت المستعلية إلى فرقتين:

(٤٧)

١ - الفرقة الداوديَّة: اتَّبعت وقالت: إنَّ الداعي هو داود قطب من بعد الداعي داود عجب، ويُسمَّى أتباعها بطائفة البهرة بالهند.
٢ - الفرقة السليمانيَّة: اتَّبعت وقالت: إنَّ الداعي المنصوص عليه هو سليمان بن الحسن من بعد الداعي داود عجب، ويتزعَّم أتباعها حاليًّا عائلة المكرمي بنجران السعوديَّة واليمن.
هذه الفِرَق الأربع هي أشهر فِرَق الإسماعيليَّة المعروفة الآن، وينتشر أتباعها حاليًّا في أكثر من (٢٥) دولة في العالم، ويبلغ عددهم أكثر من (١٥) مليون شخص(٣٠).
المهدي المنتظَر في المعتقَد الإسماعيلي (الجذور التاريخيَّة والعقائديَّة):
الإمام هو محور المذهب الإسماعيلي، ومحور العقيدة يدور حول شخصيَّته، فالطائفة الإسماعيليَّة قالت: إنَّ الإمامة تكون لإسماعيل في زمن الإمام الصادق (عليه السلام)، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان فقد مات إسماعيل قبل أبيه (عليه السلام)، فأشكل عليهم الأمر، فلجأ بعضهم إلى فكرة غيبة الإمام، وقالوا: إنَّ إسماعيل لم يمت، بل اختفى وسيظهر بعد ذلك، ولكن غالبيَّة الطائفة (رفضوا فكرة الغيبة لإسماعيل) حيث الواقع والأدلَّة التاريخيَّة تُؤكِّد وفاته، لذا التزموا بقاعدة نقل الإمامة للذرّيَّة، فقالوا بأنَّ الإمام بعد الإمام الصادق (عليه السلام) هو الابن الأكبر لإسماعيل، وهو محمّد الذي تركه أبوه في الثالثة من عمره.
انتشرت لاحقاً فكرة لدى غالبيَّة الإسماعيليِّين الأوائل بعد أنْ ساقت الإمامة في إسماعيل ثمّ في ولده محمّد، فأصبحوا يعتقدون ويقولون: إنَّ محمداً قد ذهب في غيبة وعند عودته (ظهوره الثاني) سوف يبدأ الدور العالمي لحركته بصفته المهدي أو القائم ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً.

-----------------

(٣٠) كما يُصرِّحون هم بذلك، وحسب إحصائيَّاتهم الخاصَّة.

(٤٨)

في عام (٢٩٦هـ) وبعد زمن قصير من استلام عبد الله المهدي الخليفة الفاطمي الأوَّل الذي أسَّس أوَّل دولة إسماعيليَّة فاطميَّة في المهديَّة بإفريقيا (تونس) غيَّر بعض التوجيهات العقائديَّة المرسَلة لأتباعه، فبدلاً من التمسُّك بمهدويَّة محمّد بن إسماعيل الذي قامت الدعوة باسمه ونيابةً عنه، فإنَّ القائد الجديد (عبد الله المهدي) ادَّعى الإمامة و(المهدويَّة) لنفسه، وكذلك الإمامة لأسلافه الذين قادوا الإسماعيليِّين بعد محمّد بن إسماعيل.. كان قادة الإسماعيليِّين المركزيِّين قبل إصلاح وتجديد عبد الله المهدي يتَّخذون لأنفسهم رتبة الحجَّة للإمام الغائب (دور الستر)، وكانت العقيدة أنَّه عبر الحجَّة يمكن للأتباع الاتِّصال بالمهدي المستور(٣١).. على كلِّ حالٍ يتضمَّن إصلاح عبد الله المهدي رفض مهدويَّة محمّد بن إسماعيل التي كانت النقطة المركزيَّة في العقيدة التي عليها غالبيَّة الإسماعيليِّين.
إنَّ دعوة عبد الله المهدي العلنيَّة لإمامته قسَّمت الجماعة الإسماعيليَّة إلى فرعين: قسم قبل دعوته والتي أصبحت فيما بعد العقيدة الرسميَّة، وحافظ هؤلاء (الغالبيَّة) على استمرار الإمامة، وقبلوا تفسير عبد الله المهدي بأنَّ الإمامة الإسماعيليَّة انتقلت ضمن أحفاد الإمام الصادق (عليه السلام) المباشرين.. أمَّا الفرع الآخر وهم (القلَّة) من الإسماعيليِّين المنشقِّين على عبد الله المهدي والذين لم يستطيعوا تأمين قيادة موحَّدة، ولكنَّهم رفضوا دعوة عبد الله المهدي لإمامته، وحافظوا على عقيدتهم الأصليَّة، وأعادوا تأكيدها بعودة محمّد بن إسماعيل بصفته المهدي.
يعتقد الإسماعيليَّة حاليًّا بأنَّ الأرض لا تخلو من إمام ظاهر مكشوف أو

-----------------

(٣١) اُنظر: الكشف (ص ٩٧ و١٠٢).

(٤٩)

خائف مستور، فإنْ كان الإمام ظاهراً جاز أنْ يكون حجَّته مستوراً، وإنْ كان الإمام مستوراً فلا بدَّ أنْ يكون حجَّته (نائبه بمسمَّى الداعي) ظاهراً.. من هنا نرى أنَّ الحركة الإسماعيليَّة تاريخيًّا قد مرَّت بعدَّة أدوار.
* دور الستر: من موت إسماعيل عام (١٤٣هـ) إلى ظهور عبد الله المهدي عام (٢٩٦هـ).
* دور الظهور: بدأ بعد تأسيسهم أوَّل دولة بقيادة عبد الله المهدي، واختلفت الفِرَق بعد ذلك، فالفرقة النزاريَّة القاسميَّة لا زالت في دور الظهور حتَّى الآن.
* دور الستر: عاد من جديد عند الفرقة المستعلية بعد وفاة الطيِّب بن الآمر بأحكام الله عام (٥٢٥هـ)، ويعتقدون أنَّ الأئمَّة المستورين من نسله إلى الآن، ولكن لا يُعرَف عنهم شيء، حتَّى إنَّ أسماءهم غير معروفة، والداعي المطلق (المفترض نائبه وحجَّته) لا يعرفهم.
هويَّة المهدي المنتظَر عند أتباع المذهب الإسماعيلي حاليًّا:
توفَّقنا في فترة سابقة من إجراء حوار(٣٢) ونقاش مع أفراد من فرقتين مختلفتين من أتباع الطائفة الإسماعيليَّة (المستعلية السليمانيَّة، النزاريَّة القاسميَّة)، وكان محور الحديث يدور حول هويَّة المهدي المنتظَر، لنستشفَّ من خلاله ملامح تطوُّر النظريَّة الفكريَّة المهدويَّة عند الإسماعيليَّة حاليًّا، وإلى أيِّ ضفة وصلت الفكرة، وما هي أبرز خطوطها العريضة.. ولا أُخفي سرًّا إنْ قلت: إنَّني بذلت جهداً غير يسير لأحصل على هذه المعلومات، لصعوبة انفتاحهم لمن هم خارج طائفتهم وخارج الدائرة المغلقة الخاصَّة بهم، وتمَّ ذلك بعد إقناعهم بأفضليَّة أنْ

-----------------

(٣٢) بداية من شهر مايو (٢٠١٠م).

(٥٠)

يتمَّ معرفة الرأي من قِبَل معتنقي المذهب وليس من قِبَل مخالفيهم، وخاصَّةً أنَّني من أتباع المذهب الشيعي (الاثني عشري)، ويُعتبَر المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) إمام زمانهم وإمام العصر الغائب، ونودُّ أنْ نتعرَّف على هويَّة المهدي المنتظَر من وجهة نظر مختلفة ومن خلال التصوُّر والمعتقَد الإسماعيلي.. لذا لم أستطع التوسُّع أكثر في الحوار أو التعمُّق في النظريَّة أكثر، حيث إنَّ صعوبة إيجاد المعلومة حول عقائد الإسماعيليَّة تكمن في صعوبة الحديث المنفتح معهم حول عقائدهم خاصَّةً مع شخص من غير أبناء طائفتهم، بالإضافة إلى قلَّة المصادر المتوفِّرة في المكتبات والشبكة العنكبوتيَّة.. والمعلومات التي حصلنا عليها تُوضِّح لنا أبرز ملامح هويَّة المهدي عند الفِرَق الإسماعيليَّة حاليًّا:
هويَّة المهدي عند الفرقة الإسماعيليَّة المستعلية السليمانيَّة:
وكان هذا الحوار الخاصُّ مع أحد رجال الدِّين (من مدينة نجران السعوديَّة) من أتباع هذه الفرقة:
س: هل ينتظر أبناء المذهب الإسماعيلي خروج المهدي آخر الزمان؟
ج: إنَّ الإسماعيليَّة السليمانيَّة وباقي الفِرَق الإسماعيليَّة تؤمن بأنَّ الإمامة لا يحدُّها عدد ولا رقم إنَّما مشيئة الله، وهم يؤمنون كذلك أنَّ الإمامة لا تنقطع عن هذه الدنيا ولم تنقطع منذ أنْ خلق الله الأرض إلى أنْ يرثها، ويتمُّ توارثها ولداً عن والد بأمر الله سبحانه وتعالى واختياره وتدبيره، ولكن يكون هؤلاء الأئمَّة إمَّا مغمورين مستورين بسبب تغلُّب الأضداد وأهل الكبر والعناد وأهل الفساد، أو ظاهرين لإعلاء كلمة الله عندما يأمر الله ويكون لهم الغلبة، مثلما حدث وقت ظهور الإمام المهدي بالله عبد الله بن الحسين من المغرب وقيام الدولة الفاطميَّة.. والإسماعيليَّة يؤمنون أنَّ القائم سيقوم بإذن الله متى ما شاء الله، وينتظرون قيامه بفارغ الصبر، ولكن لا يؤمنون أنَّه وُلِدَ قبل مئات السنين

(٥١)

وأنَّه لا زال حيًّا منذ ذلك الحين إلى قيام الساعة، إنَّما يؤمنون أنَّه سيُولَد من نسل إمام مستور، وأنَّه سيقوم ويقيم العدل ويُعلي كلمة الله ويُحيي شريعة محمّد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وعلى آله)، ونؤمن أنَّه من نسل الحسين بن علي (عليه السلام).
س: مَنْ هو المهدي (عجَّل الله فرجه)؟ وما هو نَسَبه؟ وما اسم أبيه وجدِّه؟
ج: لا أعلم مَنْ هو، فقد يكون وُلِدَ في الوقت الراهن، وقد يكون لا زال في ظهر أبيه، وقد يكون هو الإمام الحالي المستور، أو قد يكون الإمام الحالي المستور هو أبوه أو جدُّه، فلا أعلم هل الإمام الحالي المستور سوف يكون على يديه وقت الكشف والظهور أم لا، فالله ومَنْ شاء يعلمون، ولكنِّي أعلم أنَّه من نسل الحسين بن عليًّ (عليه السلام).
س: هل الفِرَق الإسماعيليَّة الأُخرى تنتظر نفس الشخص (المهدي) أي تتَّفق عليه، أم هناك اختلاف بينهم؟
ج: أعتقد أنَّ جميع الشيعة ينتظرون قيام الإمام القائم (عليه السلام) وليس فقط الإسماعيليَّة، ولكن الاختلاف الواضح بين الشيعة والإسماعيليَّة هو في هويَّة آباء هذا الإمام، فالاثنا عشريَّة يؤمنون أنَّه من نسل موسى الكاظم، والإسماعيليَّة يؤمنون أنَّه من نسل إسماعيل، والإسماعيليَّة النزاريَّة يؤمنون أنَّه من نسل نزار، والإسماعيليَّة المستعلية يؤمنون أنَّه سيكون من نسل المستعلي... إلخ، وهكذا فإنَّ الاختلاف في هويَّة الإمام القائم يكون اختلافاً في نَسَبه ومَنْ يكون آباؤه ومن أيِّ نسلٍ ينحدر.
س: هل هناك علامات للظهور ذُكِرَت عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) تُحدِّد لنا زمن خروج المهدي؟
ج: يوجد لدينا بعض الكُتُب تُوضِّح بعض العلامات، ولكن ليست متوفِّرة لديَّ الآن، أمَّا المشهور بين الشيعة من ظهور الشمس من المغرب فقد

(٥٢)

ظهرت بالنسبة لنا الشمس (الدولة الفاطميَّة من المغرب)، فنحن نؤمن أنَّ كوكب الشمس لن يظهر من المغرب أبداً، بل سيكون المشرق ظهوره والمغرب غروبه من قبل والآن ومن بعد، وكان قصد الرسول (صلَّى الله عليه وعلى آله) ظهور الحقِّ بقوله: الشمس، فشَبَّه الحقَّ بالشمس (هذا مثال بسيط).. وقول الرسول (صلَّى الله عليه وآله): «اِسْمُهُ عَلَى اِسْمِي»، فكان المهدي بالله عبد الله بن الحسين اسمه عبد الله والرسول أحد أسمائه عبد الله، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً﴾ [الجنّ: ١٩].
س: هل هناك كتاب أو كرَّاس تنصحوننا بقراءته لنتعرَّف على المهدي (عجَّل الله فرجه) حسب معتقَد المذهب الإسماعيلي؟
ج: حتَّى لو نصحناك وذكرنا لك اسم الكتاب فلن تجده، لأنَّ أغلب كُتُبنا مخطوطة، والمطبوع قليل منها، ولكن لو استطعت أنْ تحصل على كتاب (الفترات والقرانات)(٣٣)، وهو كتاب إسماعيلي فقد تجد ما تبحث عنه.
س: هل هناك إمام مستور حاليًّا ننتظر خروجه أو ظهوره؟ ومَنْ هو؟
ج: يؤمن الإسماعيليَّة كما ذكرت سابقاً أنَّ الأرض لا يمكن أبداً أنْ تخلو من إمام إمَّا ظاهر مشهور أو مستور مغمور، ونؤمن أنَّ هناك الآن إماماً ولكن لا نعلم نحن العامَّة هل هو الإمام القائم أم لا؟ وهل زمنه زمن ظهور أم لا؟ فهذه أكبر من معرفتنا نحن العامَّة من أبناء المذهب الإسماعيلي. ولا نعلم هويَّته، فآخر إمام ظهر لنا اسمه هو: الإمام أحمد بن محمّد بن هاشم بن نزار بن معد بن الحسين بن عليِّ بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن أحمد بن الطيِّب (أبي القاسم) بن الآمر بأحكام الله أبي عليٍّ المنصور بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد بن المستنصر

-----------------

(٣٣) الفترات والقرانات للداعي جعفر بن الحسن بن فرج بن حوشب، والمشهور بـ (جعفر بن منصور اليمن)، توفَّى سنة (٣٨٠هـ)، والكتاب يبحث في تاريخ الدعوة أثناء فترة استتارها.

(٥٣)

بالله معد أبي تميم بن الظاهر لإعزاز دين الله عليِّ بن الحسن بن الحاكم بأمر الله المنصور أبي عليِّ بن العزيز بالله نزار أبي منصور بن المعزِّ لدين الله معد أبي تميم بن المنصور بالله أبي الطاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمّد بن المهدي بالله عبد الله بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليٍّ زين العابدين بن الحسين أبي عبد الله بن حيدرة الكرَّار عليِّ بن أبي طالب... إلخ، عليهم وعلى آبائهم أفضل الصلاة والسلام أجمعين.
س: هل هناك وقت محدَّد لخروج المهدي تمَّ تحديده، أم أنَّ وقت خروجه سرٌّ من أسرار الله سبحانه وتعالى؟
ج: حسب معلوماتي والله أعلم، فإنَّه لا علم لدينا ولا يوجد لدينا تاريخ محدَّد لخروج القائم (عليه السلام)، إنَّما هذا سرٌّ من أسرار الله يُعلِمه مَنْ يشاء من عباده ومَنِ اصطفى، وهو فضل يُؤتيه مَنْ يشاء بغير حساب.
هوية المهدي عند الفرقة الإسماعيليَّة النزاريَّة القاسميَّة (الأغاخانيَّة):
وفي حوارٍ خاصٍّ مع أحد مثقَّفي هذه الفرقة (من مدينة سلميَّة السوريَّة) جاء فيه:
س: هل ينتظر أبناء المذهب الإسماعيلي (وبالخصوص الفرقة النزاريَّة) خروج المهدي آخر الزمان؟
ج: لا ينتظر المسلمون الإسماعليُّون المهدي آخر الزمان، فبالنسبة لنا نحن المسلمون الشيعة الإسماعيليُّون (الأغاخانيَّة) نعتبر أنَّ الإمام موجود دائم وحيٌّ في هذا الوجود منذ بداية الكون وحتَّى نهايته، ونعتبر أنَّ الإمام يجب أنْ يكون معلوماً ومعروفاً لدى الجماعات، وغير مجهول المكان الجغرافي، لتتمَّ الهداية عن طريقه مباشرةً لأتباعه الأحياء، ولذلك في نظرنا لا تخلو الأرض من الإمام، فهو

(٥٤)

خليفة الله على الأرض، وذلك حسب قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠]، في هذه الآية دلالة واضحة على أنَّ (خلافة) خليفة الله في الأرض موجودة باستمرار لا انقطاع فيها، سُئِلَ الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اَلرَسُولِ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ لَا يَعْرِفُ إِمَامَ دَهْرِهِ حَيًّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، فَقَالَ: «مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اَلْإِمَامَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ أَوْ غَيْرِهِمْ»، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ جَحَدَ اَلْإِمَامَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، كَانَ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ»، (من كتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج ١/ ص ٢٥).
حول هذا الحديث نقول: إنَّ معرفة الإمام معرفة جليَّة واجبة على كلِّ مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، وذلك حسب قول الرسول: «إِمَامَ دَهْرِهِ حَيًّا»، فإنْ مات ولم يعرفه تُعتبَر ميتته ميتة جاهليَّة.
مرَّت في تاريخ الأئمَّة أدوار منها دور ستر (تمَّ إخفاء الإمام عن أعين الأعداء خشية القتل)، ولكن كان هناك دعاة يعرفون مكانه ويتَّصلون به باستمرار، وتتمُّ إيصال المعلومات للأتباع من خلالهم، فلم يكن غائباً عن الوجود بمعنى (الغيبة)، مثلما حصل في زمن الإمام إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ثمّ ولده الإمام محمّد بن إسماعيل، ثمّ ولده عبد الله الملقَّب بالوفيِّ أحمد، ثمّ ولده أحمد الملقَّب بالتقيِّ محمّد، ثمّ ولده الحسين الملقَّب رضي الدِّين عبد الله، ثمّ ولده عبد الله الملقَّب محمّد المهدي التي ظهرت على يديه الدولة الفاطميَّة في المغرب العربي عام (٢٩٦هـ).
س: مَنْ هو المهدي (عجَّل الله فرجه)؟ وما هو نَسَبه؟ وما اسم أبيه وجدِّه؟ وما هي ألقابه؟
ج: أمَّا ما يخصُّ الإمام القائم، فنحن نعتبر الإمام الحيَّ هو قائم الزمان

(٥٥)

الموجود به، وكلُّ إمام حيٍّ هو قائم لزمانه، ولا يوجد عندنا إمام بمعنى المهدي المنتظَر القائم في نهاية الزمان، والذي سيأتي ليملأ الأرض عدلاً بعدما مُلِئَت جوراً، ونَسَب الإمام في كلِّ زمان وعصر يعود للإمام عليِّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء ابنة النبيِّ المصطفى محمّد (صلَّى الله عليه وآله) الذين يعودون بنسبهم إلى النبيِّ إبراهيم من ذرّيَّة الإمام والرسول إسماعيل.. إنَّنا نتَّبع الآن الإمام الحاضر الموجود الإمام كريم شاه الحسيني والذي يرجع نَسَبه إلى عليِّ بن أبي طالب ابن عمِّ نبيِّ هذه الأُمَّة (عليه الصلاة والسلام)، وهو من ملَّة أبينا إبراهيم، وإنَّ كلَّ إمام هو هادٍ ومهدي للزمن الذي هو فيه، فالإمامة لا تنقطع، ذرّيَّة بعضها من بعض، وليس لسُنَن الله تبديلاً.
س: هل الفِرَق الإسماعيليَّة الأُخرى تنتظر نفس الشخص (المهدي) أي تتَّفق عليه، أم هناك اختلاف بينهم؟
ج: هذا السؤال تُجيب عليه الفِرَق الإسماعيليَّة الأُخرى.
س: هل هناك علامات للظهور ذُكِرَت عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) تُحدِّد لنا زمن خروج المهدي؟ وما هي أبرز هذه العلامات؟
س: هل هناك كتاب تنصحوننا بقراءته لنتعرَّف على المهدي (عجَّل الله فرجه) حسب معتقَد المذهب الإسماعيلي؟
س: هل هناك إمام مستور حاليًّا ننتظر خروجه؟ ومَنْ هو؟ وما الاختلاف بين الفِرَق الإسماعيليَّة في ذلك؟
س: هل هناك وقت محدَّد لخروج المهدي (عجَّل الله فرجه) تمَّ تحديده، أم أنَّ وقت خروجه سرٌّ من أسرار الله سبحانه وتعالى؟
ج: لأنَّنا لا ننتظر المهدي آخر الزمان، لذلك لا نملك إجابة لما سألته أو تكلَّمت عنه.

(٥٦)

خلاصة القول:
يتَّضح لنا من النبذة التاريخيَّة الموجزة، والجذور العقائديَّة للإمامة عند أتباع المذهب الإسماعيلي حاليًّا، ومن خلال الحوارات والنقاشات التي دارت بخصوص هويَّة المهدي المنتظَر ما يلي:
إنَّ فكرة المهدي المنتظَر عند أتباع المذهب الإسماعيلي (حاليًّا) هي عبارة عن توليفة تاريخيَّة فلسفيَّة ترتبط من جهة بالإمامة وبالواقع التاريخي لتسلسلها عندهم، ومن جهة أُخرى ترتبط بالوثائق التاريخيَّة والأدلَّة المعتمدة عندهم.. فنظرتهم للمهدي المنتظَر (حاليًّا) تعتمد على ما انتهى إليه مفهومهم للإمامة وتطوُّره التاريخي، وإنْ كان يخالف الدليل الإسلامي والروايات الشريفة للرسول (صلَّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)، ففكرة المهدي عندهم عبارة عن تقليد عشوائي، وعقيدة مبهمة غير مبنيَّة على أدلَّة وأُصول راسخة عميقة، فنظريَّة المهدي عندهم مهدَّدة بالسقوط والانتزاع ومتغيِّرة بالمؤثِّرات والتيَّارات الخارجيَّة (كالتسلسل التاريخي للأئمَّة عندهم)، وهويَّة المهدي في نظرهم سحابة تُحرِّكها الرياح الشرقيَّة والغربيَّة، وكعقيدة هي بناء سقط أو كاد أنْ يسقط (وبالفعل سقطت عند الفرقة النزاريَّة القاسميَّة الأغاخانيَّة) حيث لم يفهموا العقيدة المهدويَّة حقَّ فهمها.. بخلاف عقيدة الشيعة الاثني عشريَّة القائمة على الأدلَّة المنطقيَّة والبراهين العقليَّة والنقليَّة من الكتاب والسُّنَّة المحمّديَّة، حيث إنَّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) بيَّنوا لنا اسم القائم المهدي وأسماء آبائه.. وعليه ووفقاً لتلك النصوص والمصادر الشرعيَّة والأدلَّة الإسلاميَّة وبعيداً عن تأثير المتغيِّرات الخارجيَّة، كُتِبَ الخلود والبقاء للعقيدة المهدويَّة لدى الإماميَّة ما بقي الدهر.
إنَّنا نعتقد أنَّ الحركة الإسماعيليَّة كانت حركة ذات أهداف سياسيَّة سليمة

(٥٧)

منذ البدء، ثمّ انحرفت تاريخيًّا عن خطِّها الصحيح بعد أنْ وقعت في تناقض موت إسماعيل قبل أبيه الإمام الصادق (عليه السلام)، وبناءً على ذلك انحرفت وتشوَّشت نظريَّة المهدي المنتظَر آخر الزمان وقبل ذلك انحراف تسلسل الإمامة بشكلها الأوسع، فضاعت لديهم أبرز ملامح العقيدة المهدويَّة وخطوطها العريضة التي وضَّحها أهل البيت (عليهم السلام).
إنَّ هويَّة المهدي المنتظَر عند جميع الفِرَق الإسماعيليَّة غير واضحة المعالم (الآن)، فقد كانوا في السابق يعتقدون بمهدويَّة محمّد بن إسماعيل والذي تُؤكِّده مصادر إسماعيليَّة قليلة(٣٤) تخصُّ فترة ما قبل المرحلة الفاطميَّة.. أمَّا حاليًّا فبعض الفِرَق تعتقد بأنَّ الإمام الحالي (الفرقة الأغاخانيَّة) هو إمام هادي ومهدي للزمن الذي هو فيه، ولذا فهم لا ينتظرون المهدي آخر الزمان. أمَّا بعض الفِرَق الأُخرى (المستعلية) فيؤمنون بأنَّ المهدي الموعود سيُولَد في المستقبل من نسل إمام مستور، ولكن لا يعرفون اسمه أو اسم أبيه (الإمام مستور)، وبالتالي تظلُّ هويَّة المهدي مبهمة عندهم.
نتعجَّب عندما يذكرون حديث الرسول (صلَّى الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، ودائماً ما يستشهدون بهذا الحديث عند ردِّهم على أهل العامَّة بخصوص الإمام بعد فترة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وأحقّيَّة الإمام عليٍّ (عليه السلام) بالخلافة، ولكن لو سُئَلوا عن إمام زمانهم في الوقت الحالي لتفادي موتة الجاهليَّة! لحاروا في الجواب ولتلعثم اللسان.. ولذا لا نستغرب أنْ يدَّعي عبد الله المهدي (المهدويَّة)، وكذلك يدَّعي القرمطي أبو سعيد الجانبي (المهدويَّة)، وكذلك لا يعترينا الاستغراب عندما يدَّعي شخص عادي (خرِّيج جامعة

-----------------

(٣٤) اُنظر: الكشف (ص ٦٢ و١٠٣ و١١٠ و١٣٥ و١٦٠ و١٩٠)؛ والرشد والهداية (ص ١٩٨).

(٥٨)

أمريكيَّة) أنَّه إمام الزمان ويضع نفسه في مصاف الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام)، وهذا هو الواقع الحالي للفرقة النزاريَّة الأغاخانيَّة.
الحمد لله أنَّنا كشيعة اثني عشريَّة نعرف وننتظر إمام زماننا المهدي المنتظَر الحجَّة بن الحسن العسكري (عجَّل الله فرجه) المولود في (١٥/ شعبان/ ٢٥٥هـ)، ونعرف اسمه وأسماء آبائه الكرام، ونعرف مواصفاته الجسديَّة والخلقيَّة وإمكانيَّاته المعنويَّة والروحيَّة ومكانته الرفيعة عند الله، فهو طاووس أهل الجنَّة حسب الروايات الخاصَّة لأهل البيت (عليهم السلام)(٣٥)، ونعرف علامات ظهوره وعلامات تعيين شخصه، وفوق ذلك نعرف أدقّ تفاصيل القضيَّة المهدويَّة من ولادة وغيبة وظهور كما وضَّحها الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)، وقبل كلِّ هذا يُؤكِّد الاثنا عشريَّة في خطابهم وممارستهم العباديَّة والحياتيَّة أنَّ الأمر ما هو إلَّا وعد إلهي للمؤمنين كما ذُكِرَ في القرآن الكريم، وبذلك ننفرد عن باقي الفِرَق الإسلاميَّة في تحديد شخصيَّة وهويَّة الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) في الوقت الذي تعتقد بقيَّة الفِرَق الإسلاميَّة أنَّه لم يُولَد بعد، فعجَّل الله تعالى فرجه وسهَّل مخرجه.

* * *

-----------------

(٣٥) الطرائف (ص ١٧٨/ ح ٢٨٢).

(٥٩)

إنَّ عقيدة المنقذ المهدي الموعود وظهوره في آخر الزمان، تُعتبَر مورد قبول جميع الفِرَق الإسلاميَّة، فقد أخبر عنها الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، وتحدَّث عنها أهل البيت (عليهم السلام) والصحابة والتابعون، وكتب عنها العلماء جيلاً بعد جيل إلى زماننا هذا، ومن هذا المنطلق كانت مسألة الإمام المنتظَر حتميَّة ويقينيَّة، وفي التاريخ الإسلامي انتشرت فكرة المهدي لدى أغلب الفِرَق الإسلاميَّة باعتبار أنَّ مصدر ومنبع الفكرة والعقيدة هو الشرع الإسلامي بركنيه القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة الشريفة.
مذاهب أهل السُّنَّة:
إنَّ الخلاف والشقاق ظهر في الأُمَّة الإسلاميَّة بعد وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وكانت فكرة الإمامة بذرة الخلاف الأُولى في واقع المسلمين، ومزَّق الأُمَّة فِرَقاً أو فرقتين: فرقة تشايع الخلفاء، وفرقة تشايع (عليًّا) وأهل البيت (عليهم السلام) إلى اليوم الحاضر.
لقد اختلف أهل العامَّة (شيعة الخلفاء) إلى مذاهب كثيرة في الفروع والأُصول، كمذهب سفيان بن عيينة بمكَّة، ومذهب مالك بن أنس بالمدينة، ومذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري بالكوفة، ومذهب الأوزاعي بالشام، ومذهب الشافعي بالعراق، والليث بن سعد بمصر، ومذهب إسحاق بن راهويه بنيسابور، ومذهب أحمد بن حنبل وأبي ثور ببغداد... وغيرها. إلَّا أنَّ أكثر تلك المذاهب انقرضت بين الناس، وظلَّت آراء أصحابها مدوَّنة في بطون

(٦٣)

الكُتُب عند أهل السُّنَّة(٣٦)، وبقيت من تلك المذاهب الأربعة المعروفة فقط، أمَّا كيف نشأت هذه المذاهب وانتشرت دون غيرها، فيمكن الرجوع إلى المصادر المختصَّة وهي عديدة وتطرَّقت لها بالتفصيل(٣٧).. وهم بحسب ظهورهم بالترتيب كالآتي:
١ - المذهب الحنفي: يُنسَب هذا المذهب لأبي حنيفة النعمان بن ثابت (٨٠ - ١٥٠هـ)، وهو من التابعين، تأسَّس المذهب في العراق، وينتشر حاليًّا في دول إسلاميَّة مختلفة، منها: شمال مصر، ووسط آسيا، وتركيا، والعراق، وأفغانستان، وباكستان، وشمال الهند، وسوريا.
٢ - المذهب المالكي: يُنسَب هذا المذهب لمالك بن أنس (٩٣ - ١٧٩هـ)، تأسَّس المذهب في الحجاز (المدينة المنوَّرة) في أوائل القرن الثاني الهجري، وتطوَّرت معالمه على يد تلاميذه من بعده، انتشر في بغداد بسبب دعم السلطة العبَّاسيَّة له، وقد ظهر في البصرة بعد خمسة قرون من تاريخ انتشاره في الحجاز، حاليًّا يتواجد في: الحجاز، وبلاد المغرب العربي، ودول الخليج، والسودان، ووسط وغرب أفريقيا.
٣ - المذاهب الشافعي: يُنسَب هذا المذهب لمحمّد بن إدريس الشافعي (١٥٠ - ٢٠٤هـ)، تأسَّس المذهب في العراق، وينتشر حاليًّا بشكل كبير في: بلاد الشام، وفي فلسطين حيث مسقط رأس الشافعي في غزَّة خاصَّة، وفي مصر، وأندنوسيا، وماليزيا، وشرق أفريقيا، وجنوب الهند، وبقاع مختلفة من البلاد الإسلاميَّة.
٤ - المذهب الحنبلي: يُنسَب هذا المذهب لأحمد بن محمّد بن حنبل

-----------------

(٣٦) مسائل خلافيَّة حار فيها أهل السُّنَّة (ص ١١٨).
(٣٧) مثلاً: بحوث في المِلَل والنِّحَل للشيخ جعفر السبحاني.

(٦٤)

(١٦٤ - ٢٤١هـ)، تأسَّس المذهب في العراق، اهتمَّ ابن حنبل بجمع السُّنَّة وحفظها حتَّى صار من كبار المحدِّثين في عصره، ولذلك يعدُّه البعض (مثل الطبري) محدِّثاً فقط لا فقيهاً، ينتشر مذهبه حاليًّا في: نجد، والخليج، ومصر، وبلاد الشام.
هذه المذاهب هي التي عليها أهل العامَّة في كافَّة الأمصار منذ أنْ حُصِرَ التقليد فيها إلى عصرنا الحاضر، وهؤلاء العلماء الأربعة الذي يجمع على إمامتهم جميع أهل السُّنَّة بكافَّة توجُّهاتهم، وهم متَّفقون على كلِّ الأُصول الفقهيَّة واختلفوا في بعض الفروع، والمسائل الفرعيَّة التي اختلفوا فيها هي التي كوَّنت نشأة المذاهب الفقهيَّة الأربعة.. ومن المسائل المتَّفق عليها بين كافَّة المذاهب وفِرَق أهل العامَّة (الأُطروحة المهدويَّة)، ممَّا دفعنا للتطرُّق لهم جميعاً كأصحاب فكرة ونظريَّة وأُطروحة واحدة في العقيدة المهدويَّة.
المهدي المنتظَر في معتقَد أهل السُّنَّة:
كلُّ الفِرَق الإسلاميَّة (من أهل العامَّة) تتَّفق على أصل الاعتقاد بصحَّة العقيدة المهدويَّة ويحكمون بجهالة مَنْ أنكرها، ويتَّفقون أنَّ المهدي من أهل البيت (عليهم السلام)، وأنَّ دولته حتميَّة الظهور، وأنَّها عالمية النفوذ، وأنَّها من الوعد الإلهي الثابت بالنصِّ القرآني، ويتَّفقون على حتميَّة وقوع بعض العلامات والمقدَّمات من الحوادث المختلفة المبشِّرة بقرب ظهوره.
إنَّ المهدي عند أهل السُّنَّة لا يُشكِّل الشيء الكثير أو المهمَّ، فهو في نظرهم أحد علامات الساعة الكبرى يتبع خروجه نزول عيسى (عليه السلام) وخروج الدجَّال، فلم يرد في أيِّ نصٍّ من النصوص - حسب اعتقادهم - أنَّهم متعبِّدون بانتظاره، بل يعيشون حياتهم ويمارسون عباداتهم وأعمالهم بشكل عادي ولا شيء من ذلك مرهون بوجوده، فإذا وُجِدَ هذا الإنسان الصالح وظهرت أدلَّته القطعيَّة اتَّبعوه.

(٦٥)

ويؤمن أهل السُّنَّة بأنَّ المهدي هو رجل صالح من آل البيت (عليهم السلام)، يُولَد آخر الزمان بعمر إنسان عادي، يعيش بين الناس حياة طبيعيَّة، يدرس في مدارسهم وجامعاتهم، ولا يعرف نفسه أنَّه المهدي، ولا تكون له أيُّ مزايا أُخرى مختلفة عن بقيَّة الناس، فلا يعتقدون بعصمته أو ارتباطه بالسماء، بل يعتبرونه إنساناً عاديًّا متلبِّساً ببعض الذنوب والمعاصي مثل أيِّ إنسان آخر، فإذا اختاره الله تعالى للخلافة تاب عليه وأنقذه من الضلال والمعاصي، فيهديه الله (يُصلِح أمره) في ليلة، ويستدلُّون على ذلك بالرواية: «اَلمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ اَلْبَيْتِ يُصْلِحُهُ اَللهُ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ»(٣٨).. ويرى أهل العامَّة أنَّ المهدي تكون ولادته ومدَّة حياته طبيعيَّة، ويعتقدون أنَّه يُولَد قبل تولِّيه الحكم أو الخلافة ببضعة عقود(٣٩)، ولم يوجد في الأحاديث - بحسب اجتهاد علمائهم - ما يدلُّ على أنَّه يمتاز عن غيره من الناس بشيء من طول العمر أو الغيبة الطويلة أو الاختفاء عن الناس مثلاً.
هويَّة وصفات وسيرة المهدي عند أهل السُّنَّة:
هويَّته:
يؤمنون أنَّه من أهل النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، من كنانة من قريش من بني هاشم من ولد فاطمة وعليٍّ (عليهما السلام)، اسمه اسم النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) محمّد أو أحمد، واسم أبيه عبد الله(٤٠)، وهناك من أهل السُّنَّة مَنْ رجَّح أنْ يكون من سلالة السبط الحسن بن

-----------------

(٣٨) سُنَن ابن ماجة (ج ٢/ ص ١٣٦٧/ ح ٤٠٨٥)؛ مسند أحمد (ج ٢/ ص ٧٤/ ح ٦٤٥).. لكن غاب عنهم أنَّ معنى (يُصلِح أمره في ليلة) المراد منه تمكينه قبضة الحكم والسيطرة على أجهزة الدولة في بلاد الحجاز في ليلة واحدة.
(٣٩) العقد يساوي عشر سنين.
(٤٠) استناداً إلى ما جاء في سُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٣٠٩/ ح ٤٢٨٢): «اِسْمُهُ اِسْمِي، وَاِسْمُ أَبِيهِ اِسْمُ أَبِي».

(٦٦)

عليٍّ (عليهما السلام)، وكنيته أبو عبد الله، وأنَّه أحد الخلفاء القرشيِّين الاثني عشر الذي ذكرهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في حديثٍ رواه البخاري(٤١).
صفاته:
من الصفات التي وردت عنه في بعض الروايات المختلفة من كُتُب سلف أهل العامَّة: المهدي يشبه النبيَّ في الخَلق والخُلق، وأنَّ وجهه كوكب دُرِّي، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، أفرق الثنايا، ومن صفاته انفراج فخذيه وتباعد ما بينهما، لونه لون عربي، عليه عباءتان قطوانيَّتان، يخرج وعلى رأسه غمامة فيها مَلَك ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتَّبعوه.
سيرته:
يُبايَع بمكَّة، ثمّ يذهب إلى الشام وخراسان وغيرهما، ثمّ يكون مقرُّه ببيت المقدس، يُبايَع بين الركن والمقام وهو كاره، يأتي في الرايات السود القادمة من قِبَل المشرق كأنَّ قلوبهم زُبَر الحديد، ويظهر عند انقطاع من الزمن وظهور من الفتن، يكون عطاؤه هنيئاً، يستخرج الكنوز، وتُخرِج الأرض نباتها، وتمطر السماء قطرها، يُسقيه الله الغيث، وتكثر الماشية، يرضى في خلافته أهل الأرض وأهل السماء والطير في الجوِّ، يبعثه الله غياثاً للناس، تنعم الأُمَّة في زمانه نعيماً لم ينعموا مثله قطُّ، يُعطي المال صحاحاً ويحثُّه حثواً لا يعدُّه عدًّا، ويقسمه بالسويَّة، يكون أوَّل ظهور له في البيت الحرام، يقوم بالدِّين آخر الزمان كما قام النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله)، تجري الملاحم على يديه، ويُظهِر الإسلام، يملأ الأرض عدلاً، يحكم خمس أو سبع أو تسع سنوات، ويملك

-----------------

(٤١) جاء في الحديث عن جابر بن سمرة، قال: سَمِعْتُ اَلنَّبِيَّ (صلَّى الله عليه وآله) يَقُولُ: «يَكُونُ اِثْنَا عَشَرَ أَمِيراً... كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ». ذكره البخاري في صحيحه (ج ١١/ ص ٧٠/ ح ٦٤٥٧). وراجع: صحيح مسلم (ج ٦/ ص ٣ و٤)؛ وسُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٣٠٩/ ح ٤٢٧٩ و٤٢٨٠)؛ وسُنَن الترمزي (ج ٣/ ص ٣٤٠/ ح ٢٣٢٣)؛ ومسند أحمد (ج ٣٤/ ص ٣٩٨ - ٥٢٩/ حديث جابر بن سمرة السوائي).

(٦٧)

الدنيا كما مَلَكها ذو القرنين وسليمان، وهو أمير الطائفة التي لا تزال تقاتل على الحقِّ حتَّى ينزل المسيح عيسى بن مريم فيُصلِّي خلفه صلاة الصبح، ثمّ يقتل الدجَّال.
الأحاديث والآثار عند أهل السُّنَّة في المهدي:
قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (صلَّى الله عليه وآله) بمجيء المهدي آخر الزمان، وأنَّه من أهل بيته، وأنَّه يملأ الأرض عدلاً، و... فالأحاديث والآثار الواردة في المهدي عند أهل السُّنَّة كثيرة جدًّا، فقد خرَّج أحاديث المهدي جماعة من أئمَّة الحديث من أهل السُّنَّة، منهم: أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، والبزَّار، والحاكم، والطبراني، وأبو يعلى الموصولي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة.. بل استدرك الحاكم في عدد من الأحاديث على الشيخين (البخاري ومسلم) عن المهدي، وقال: (صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرِّجاه)، وأقرَّه الذهبي على ذلك في (تلخيصه)(٤٢)، ويرى كثير من العلماء على أنَّ أحاديث المهدي بلغت حدَّ التواتر المعنوي(٤٣)، وقد صرَّح بذلك الدكتور عبد العليم عبد العظيم البستوي في رسالة الماجستير بعنوان: (الأحاديث الواردة في المهدي في ميزان الجرح والتعديل)(٤٤)، وقال: (بعد النظر في الأحاديث الواردة في المهدي ودراستها سنداً ومتناً، وصلت إلى ما يلي: إنَّ

-----------------

(٤٢) المهدي المنتظَر للمشوخي (ص ٣٥).
(٤٣) التواتر المعنوي: هو الذي يكتفي فيه بأداء المعنى، ولو اختلفت رواياته عن الجمع الذين تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.. فالأحاديث تكون مختلفة لكنَّها تتَّفق على المعنى الذي نريده، ومثاله هو ما بين أيدينا، وهو حديث خروج المهدي آخر الزمان.
(٤٤) رسالة ماجستير، جامعة المَلِك عبد العزيز، قسم الدراسات العليا، مكَّة المكرَّمة، ١٣٩٨هـ. طُبِعَت في مجلَّدين:
- المجلَّد الأوَّل بعنوان: المهدي المنتظَر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة.
- المجلَّد الثاني بعنوان: الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة.

(٦٨)

خلافة المهدي في آخر الزمان حقٌّ ولا يمكن إنكارها، لثبوت هذه الأحاديث الصحيحة أو الحسنة، ولورود أحاديث أُخرى كثيرة وهي ضعيفة في تفاصيلها ولكنَّها تشارك الصحيحة في أصل الفكرة، وهي (وجود خلافة المهدي)، وهكذا يصبح هذا الأمر متواتراً تواتراً معنويًّا)(٤٥).. ونستعرض بعض الأحاديث الصحيحة في المهدي عند أهل السُّنَّة وننتخب شذرة منها، ولم نشأ إثقال البحث بدرج عدد كبير منها ومصادرها، بل اكتفينا بالإشارة إلى بعضها:
* عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «لَا تَذْهَبُ أَوْ لَا تَنْقَضِي اَلدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ اَلْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اِسْمُهُ اِسْمِي»(٤٦).. نتيجة دراسة الماجستير، البستوي: إسناده صحيح، وقال الألباني: صحيح.
* عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «اَلمَهْدِيُّ مِنِّي، أَجْلَى اَلْجَبْهَةِ، أَقْنَى اَلْأَنْفِ، يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً، وَيَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ»(٤٧).. نتيجة دراسة الماجستير، البستوي: الحديث حسن لشواهده، وقال الألباني: إسناده حسن.
* عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) يَقُولُ: «اَلمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ»(٤٨).. نتيجة دراسة الماجستير، البستوي: إسناده حسن، وقال الألباني: صحيح.

-----------------

(٤٥) المهدي المنتظَر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة (ص ٣٥٥ و٣٥٦).
(٤٦) سُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٣١٠/ ح ٤٢٨٢)؛ سُنَن الترمذي (ج ٣/ ص ٣٤٣/ ح ٢٣١٣)؛ مسند أحمد (ج ٦/ ص ٤٤/ ح ٣٥٧٢)؛ المعجم الكبير (ج ١٠/ ص ١٣٤/ ح ١٠٢١٨).
(٤٧) سُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٣١٠/ ح ٤٢٨٥)؛ مستدرك الحاكم (ج ٤/ ص ٥٥٧)؛ الفتن للمروزي (ص ٢٢٥).
(٤٨) سُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٣١٠/ ح ٤٢٨٤)؛ سُنَن ابن ماجة (ج ٢/ ص ١٣٦٨/ ح ٤٠٨٦)؛ مستدرك الحاكم (ج ٤/ ص ٥٥٧).

(٦٩)

* عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، عَنْ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)، قَالَ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدَّهْرِ إِلَّا يَوْمٌ لَبَعَثَ اَللهُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَأُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً»(٤٩).. نتيجة دراسة الماجستير، البستوي: إسناده صحيح، وقال الألباني: صحيح.
اعتنى العلماء والمحدِّثون من أهل السُّنَّة بجمع أحاديث المهدي في مصنَّفاتهم وكُتُبهم حفاظاً على التراث النبوي، وقد أفردوا قديماً وحديثاً في المهدي المنتظَر مؤلَّفات ذكروا فيها كلَّ ما يختصُّ فيه، ومن هذه الكُتُب والمصنَّفات:
١ - كتاب (الفتن)، تأليف: نعيم بن حمَّاد المروزي الخزاعي، وهو من شيوخ البخاري، توفَّى (٢٢٨هـ).
٢ - كتاب (البيان بأخبار صاحب الزمان)، تأليف: محمّد بن يوسف الكنجي الشافعي، توفَّى (٦٥٨هـ).
٣ - كتاب (عقد الدُّرَر في أخبار المنتظَر)، تأليف: يوسف بن يحيى الشافعي السلمي، توفَّى (٦٨٥هـ).
٤ - كتاب (العرف الوردي في أخبار المهدي)، تأليف: جلال الدِّين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، توفَّى (٩١١هـ).
٥ - كتاب (القول المختصر في علامات المهدي المنتظَر)، تأليف: أحمد بن محمّد بن حجر المكّي الهيتمي، توفَّى (٩٧٤هـ).
٦ - كتاب (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان)، تأليف: عليُّ بن حسام الدِّين المتَّقي الهندي، صاحب كتاب (كنز العُمَّال) الشهير، توفَّى (٩٧٥هـ).

-----------------

(٤٩) سُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٣١٠/ ح ٤٢٨٣)؛ مسند أحمد (ج ٢/ ص ١٦٣/ ح ٧٧٣)؛ المصنَّف لابن أبي شيبة (ج ٨/ ص ٦٧٨ و٦٧٩/ ح ١٩٤).

(٧٠)

علامات ظهور المهدي عند أهل السُّنَّة:
إنَّ علامات الظهور عند مدرسة الخلفاء كثيرة وعديدة، انتخبنا شذرة من الأخبار المستقبليَّة من كُتُب أعلام المدرسة والمصنَّفات المشهورة في هذا الباب كـ: (عقد الدُّرَر)، و(العرف الوردي)، و(القول المختصر)، و(البرهان في العلامات)، ولم نراعِ الترتيب الزمني في تبويب العلامات المختارة، وأيضاً لم نشر إلى الرواية أو الدليل(٥٠) لكلِّ علامة، مراعاةً لمنهج البحث والدراسة، لذا تطرَّقنا للمختصر القليل منها:
* بلاء يُصيب هذه الأُمَّة، حتَّى لا يجد الرجل ملجأً يلجأ إليه من الظلم.
* فتن وأهوال كثيرة، وقتل ذريع بين الكوفة والحيرة.
* خروج ستِّين كذَّاباً كلٌّ منهم يدَّعي أنَّه مرسَل من عند الله.
* يقتل عند كنزكم ثلاثة، كلُّهم ابن خليفة، ثمّ لا يصير إلى واحد منهم.
* رجفة تكون بالشام، يهلك فيها أكثر من مائة ألف إنسان.
* هدم حائط مسجد الكوفة، ممَّا يلي دار عبد الله بن مسعود.
* نزول الترك الجزيرة، ونزول الروم الرملة.
* نداء على سور دمشق: (ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب).
* طلوع نجم بالمشرق يضيء، ثمّ ينعطف حتَّى يلتقي طرفاه أو يكاد.
* خسف قرية من قرى الشام تُسمَّى: (حرستا).
* اختلاف أهل الشام بينهم، والفزعة في شهر رمضان.
* تطلع الرايات السود من قِبَل المشرق (خراسان)، ثمّ يجيء خليفة الله المهدي.

-----------------

(٥٠) لمزيد من التفاصيل والبحث والدراسة، ولمعرفة الكثير عن علامات الظهور عند أهل العامَّة، ننصح بالرجوع إلى الكُتُب الأربعة المذكورة، والاطِّلاع على كلِّ علامة والحديث الشريف الدالِّ عليها، إضافةً للأحاديث والروايات في هذا الباب.

(٧١)

* خروج الأصهب من الجزيرة، خروج الجرهمي من الشام، خروج القحطاني من بلاد اليمن.
* خروج ثلاثة نفر بالشام كلُّهم يطلب المُلك، رجل أبقع ورجل أصهب ورجل من بيت أبي سفيان.
* خروج السفياني ابن آكلة الأكباد من الوادي اليابس.
* ركود الشمس وخسوفها في النصف من شهر الصيام، وخسوف القمر في آخره.
* صوت في ليلة النصف من رمضان، يُوقِظ النائم ويُفزِع اليقظان.
* نداء من السماء لأهل الأرض، ويسمع أهل كلِّ لغةٍ بلغتهم.
* استيلاء السفياني وجنده على الكور الخمس.
* وقعة بقرقيسيا حتَّى تشبع طير السماء وسباع الأرض من جيفهم.
* معمعة في شوَّال، وفي ذي القعدة حرب وقتال، ويُنهَب الحاجُّ في ذي الحجَّة.
* آخر الفتن والعلامات قتل النفس الزكيَّة، أي ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام.
* خسف البيداء بجيش الشام المتوجِّه لمكَّة للقضاء على المهدي.
مناقشة أُطروحة أهل السُّنَّة في المهدي:
يتَّضح لنا من الاستعراض الموجز والسريع لمدرسة المذاهب الأربعة وقراءة تاريخ نشوئها، ومن خلال الاطِّلاع على مؤلَّفات المدرسة وتتبُّع أقوال علمائها، والحوارات والنقاشات العديدة التي دارت بخصوص القضيَّة المهدويَّة:
أنَّ العقيدة في المهدي المنتظَر من العقائد الثابتة المتسالم عليها والمسلَّم بها عند علماء وجمهور أهل السُّنَّة، ويُؤكِّدون الإيمان بأصل وأساس المهدويَّة، ويرون

(٧٢)

أنَّ العقيدة في المهدي من فروع العمل الواجب على الأُمَّة، لا من أُصول الاعتقاد الذي يُبنى عليه الإيمان، وإذا لم تكن المهدويَّة من العقائد فهي ملحق بما يجب الالتزام به، لا كمعتقَد بل باعتبار صدور الخبر الصحيح به.
عندما نبحث في جوهر وتفاصيل الأُطروحة المهدويَّة عند أهل السُّنَّة، ونتعمَّق أكثر في أفكارها وجزئيَّاتها نجد أنَّ المهدي في التصوُّر السُّنِّي كالآتي:
* المهدي شخص عادي من الأُمَّة، وينتسب إلى آل البيت (عليهم السلام).
* سيُولَد آخر الزمان، ويعيش حياة طبيعيَّة وبعمر إنسان عادي.
* يختاره الله لمنصب المهدويَّة، وهو لا يعرف نفسه أنَّه المهدي.
* لا تكون له أيُّ مزايا مختلفة عن بقيَّة الناس، فلا عصمة ولا ارتباط بالسماء.
لمناقشة هذا التصوُّر والأُطروحة ونقد أفكارها، تُثار عدَّة استفسارات وتساؤلات جوهريَّة، ولعلَّ أبسط هذه الأسئلة: إمكانيَّات وكفاءة هذه الشخصيَّة (حسب نظريَّة أهل العامَّة) على تحقيق إنجازات عظيمة بحيث يُحقِّق حلم كلِّ الأنبياء والرُّسُل، والذين عجزوا عن تنفيذه طوال عمر وتاريخ البشريَّة، وذلك بنشر العدل والقسط والتوحيد على كافَّة أرض المعمورة.
إنَّ مَنْ يريد مناقشة ونقد نظريَّة أو أُطروحة مهدويَّة، فعليه أنْ يبدأ بدراسة قاعدتها ومبانيها العقائديَّة أوَّلاً، ويناقش جوهر أفكارها ويتعرَّف على منهجها ورؤاها(٥١).. لقد ثبت أنَّ المنهج الذي اتَّبعته مدرسة الخلفاء في الأُطروحة

-----------------

(٥١) من خلال الحوارات والنقاشات في القضيَّة المهدوية مع جمهور أهل العامَّة، للتصوُّر الشيعي الاثني عشري للمهدويَّة، دائماً يبدأون من الذيول التاريخيَّة للقضيَّة، فيكون محور حديثهم (الولادة، اسم الأُمِّ، السرداب، طول العمر، الغيبة، الإمامة المبكَّرة... إلخ)، ولا يتطرَّقون إلى المباني الأساسيَّة للأُطروحة الشيعيَّة بالبتَّة.

(٧٣)

المهدويَّة جاء مع سياق الواقع السياسي والتاريخي للمسلمين، ممَّا يحفظ لديهم نظريَّة الخلافة وشرعيَّة السقيفة، فأوَّلت وفسَّرت جميع الأفكار في القضيَّة المهدويَّة بما يتناسب مع مبادئ المدرسة، ممَّا أدَّى إلى أنْ تكون النظريَّة المهدويَّة لديهم مفتقرة إلى الدليل والبرهان، ومعتمدة في الكثير من أفكارها على أقوال العلماء واجتهاداتهم، وإنْ خالفت بذلك النصَّ والعقل.
بشذرات من رؤية استراتيجيَّة شاملة، وببعض من تحليل ونقد، سنناقش بعض التصوُّرات عن المهدي والتي انفردت بها مدرسة الخلفاء، وسنرى مدى صدق وواقعيَّة ما تميَّزت به الأُطروحة في فضاء الثقافة الإسلاميَّة والتعاليم الربَّانيَّة، ومدى صحَّة المباني والقواعد التي أسَّست نظريَّتهم في المهدي:
أوَّلاً: سيُولَد في آخر الزمان (المستقبل):
غالبيَّة أهل السُّنَّة يُنكِرون ولادة المهدي، ويقولون: إنَّه سيُولَد في آخر الزمان، والمتصفِّح لكلمات علمائهم وأقوال رجالهم بهذا الموضوع لا يجد لهم أيَّ مستند شرعي ولا علمي ولا تاريخي لإثبات مدَّعاهم، بل كلُّ الأدلَّة والبراهين والروايات تقول: (سيُبعَث، سيخرج، سيظهر...)، ولم نجد أيَّ حديثٍ ولا رواية واحدة على الأقلّ منسوبة للرسول (صلَّى الله عليه وآله) أو حتَّى للصحابة أو حتَّى للتابعيِّين (سواءً كانت ضعيفة أو مختلقة أو مكذوبة) تقول: إنَّه سيُولَد في آخر الزمان، فالمطلوب دليل شرعي واحد فقط يُثبِت أو يُؤكِّد ذلك، وهذا هو الحدُّ الأدنى ومع ذلك لم يتوفَّر.. فلا ندري على ماذا اعتمدت مدرسة الخلفاء على فكرة ولادته في المستقبل؟!
من الواضح أنَّ المسألة في خلفيَّتها الفكريَّة والعقائديَّة تتعلَّق بالموقف من الإمامة، فمدرسة المذاهب الأربعة اضطرَّتها المصلحة المذهبيَّة والتمسُّك بصحَّة وشرعيَّة السقيفة والخلافة ونظريَّة الشورى، إلى ضرورة الجنوح بالمسألة المهدويَّة

(٧٤)

صوب الرؤية المستقبليَّة (سيُولَد في آخر الزمان) فراراً من القول بإمامة أهل البيت (عليهم السلام)، والخوف من انهيار شرعيَّة نظام الخلافة.
كيف نعذر مَنْ فاضت أمامه الأدلَّة وتكاثرت الحقائق بولادة ووجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وجمهور أهل العامَّة لا يستندون في معرض إنكارهم على دليل شرعي متين، ولا على تحليل عقلي عميق، ولا على حقائق علميَّة رصينة، وهم بذلك يرتكبون أخطاءً:
* رفضهم للحقائق من دون دليل.
* عدم قبولهم بالأدلَّة الشرعيَّة الوافرة(٥٢).
إنَّ حقيقة ولادة ووجود الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) ليس أمراً تاريخيًّا فحسب، بل هو أمرٌ له صلةٌ بالمستقبل، ونتائج المستقبل هنا هي مَنْ يحسم حقائق التاريخ.
ثانياً: تعيين المهدي للخلافة:
تساؤلات وإشكالات عديدة تثار حول أُطروحة أهل السُّنَّة في المهدي المنتظَر، وقد يكون هذا السؤال أحد الأركان والأعمدة الرئيسيَّة لهذه الإشكالات، لأنَّه يمسُّ أصل وجوهر المدرسة من الأساس، وينسف المباني الفكريَّة التي قام عليها المذهب (المذاهب الأربعة): هل مهدي مدرسة شيعة الخلفاء منتخب بالشورى، أم معيَّن ومختار من قِبَل الله سبحانه وتعالى؟.. وما الدليل على أقوالكم؟.. فهل أمر المهدي موكَّل لأفراد الأُمَّة ليختاروه بالشورى؟.. إنْ كانت الإجابة (نعم)، وهذا هو الرأي الحقِّ والصواب، فلماذا لا نتَّفق ونُقرِّر من الآن ونختاره؟! هل ننتظر ظلم وجور أكثر من واقعنا الحالي، أم

-----------------

(٥٢) ذكرنا في كتابنا (النور الغائب والادِّعاءات الكاذبة) عشرات الأدلَّة الشرعيَّة والعقليَّة والتاريخيَّة التي تُثبِت ولادة ووجود الإمام المهدي.

(٧٥)

أنَّ أوضاع الأُمَّة الإسلاميَّة تعجبنا؟! هل هناك دليل شرعي على أنَّه منتخب بالشورى؟! حسب الأحاديث الصحيحة والصريحة لدى المدرسة، فإنَّ كلَّ الأدلَّة والبراهين تُؤكِّد أنَّ أمر المهدي بيد الله سبحانه وتعالى، كما جاء في نصِّ العديد من الروايات الصحيحة والمعتبرة (يبعثه الله)(٥٣)، أي إنَّ تعيين واختيار المهدي يتمُّ من قِبَل الله ولا شأن للأُمَّة في ذلك، وهذا يخالف مبادئ وأُسُس مذهبهم، ونظريَّتهم الأُولى في السياسة، وعقيدتهم في الخلافة.
نحن نستغرب أشدَّ الاستغراب! كيف يتمُّ تعيين واختيار المهدي من قِبَل الله بعد مئات السنين وهو الأخير من الأئمَّة والخلفاء(٥٤)، ولم يتمّ تعيين أو تنصيب أو اختيار أيٍّ من الخلفاء الأحدَ عشر الذين قبله، منذ صدر الإسلام

-----------------

(٥٣) ومثال على ذلك ارجع إلى الحديث في بداية البحث عن الإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وفيه: «لَبَعَثَ اَللهُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي».
كذلك عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ اَلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، قَالَ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اِسْمُهُ اِسْمِي»، أُخرج في: سُنَن ابن داود (ج ٢/ ص ٣٠٩/ ح ٤٢٨٢)؛ ومستدرك الحاكم (ج ٤/ ص ٤٤٢)، وقال: (صحيح)، ووافقه الذهبي.
كذلك عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اُلله (صلَّى الله عليه وآله): «لَتَمْلَأَنَّ اَلْأَرْضُ جَوْراً وَظُلْماً، فَإِذَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً بَعَثَ اَللهُ رَجُلاً مِنِّي اِسْمُهُ اِسْمِي». أخرجه البزَّار في مسنده (ج ٨/ ص ٢٥٧/ ح ٣٣٢٣)؛ والحاكم في المستدرك (ج ٤/ ص ٥٥٨)؛ وابن عدي في الكامل (ج ٣/ ص ٩٩)؛ وأبو نعيم في ذكر أخبار أصبهان (ج ٢/ ص ١٣٤)؛ وأحمد في مسنده (ج ١٨/ ص ٢٠٥/ ح ١١٦٦٥).
(٥٤) حديث «اَلْخُلَفَاءُ بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»، و«لَا يَزَالُ هَذَا اَلدِّين قَائِماً مَا وَلِيَهُ اِثْنَا عَشَرَ كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ».. هذا الحديث متواتر، روته الصحاح والمسانيد بطُرُق متعدِّدة وإنِ اختلف في متنه قليلاً، راجع: صحيح البخاري (ج ١١/ ص ٧٠/ ح ٦٤٥٧)؛ صحيح مسلم (ج ٦/ ص ٣ و٤)؛ مسند أحمد (ج ٣٤/ ص ٣٩٨ - ٥٢٩/ حديث جابر بن سمرة السوائي)؛ كذلك أخرج أبو داود في سُنَنه (ج ٢/ ص ٣٠٩/ ح ٤٢٧٩) بلفظ: «لَا يَزَالُ هَذَا اَلدِّينُ قَائِماً حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُمْ اِثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً...». نعم فأهل العامَّة قد اختلفوا في تأويله واضطربوا.

(٧٦)

وحتَّى آخر الزمان؟!.. هذا الموضوع أدَّى إلى اضطراب مدرسة أهل العامَّة في تفسيرهم وتشخيصهم للحقيقة المهدويَّة، بالإضافة إلى أنَّ هذا الحديث يدلُّ على أنَّ فترة إمامة وخلافة الاثني عشر رجلاً الذين أشار لهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) تستوعب جميع مراحل التاريخ الإسلامي ومستقبله.
إنَّ مدرسة الخلفاء لمَّا آمنت منذ البدء بشرعيَّة السقيفة ونظام الخلافة، ورفضت مبدأ التعيين والتنصيب من قِبَل الله، وأقامت تراثها الكلامي والفقهي على هذا الأساس، واضطرَّت إلى تأويل كلِّ ما يعارضه، فانكشف اضطراب آرائها في تحديد هويَّة وأشخاص الخلفاء الاثني عشر، ووقع في مطبَّات يتعذَّر الخروج منها عند ذكر أسمائهم.. إنَّ حديث الخلفاء الاثني عشر هو جوهر مفهوم المهدويَّة، وإنَّ ثبوت وربط المهدي بهذا الحديث، لا يُبقي مجالاً للشكِّ في أصالة المفهوم العقائدي للمهدويَّة الذي تصرُّ عليه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وإنَّ فشل التفسير التاريخي للإمامة والخلافة الاثني عشريَّة من قِبَل مدرسة المذاهب الأربعة، يعني بالنتيجة فشل هذا التفسير بالنسبة إلى المهدويَّة أيضاً.
ثالثاً: معرفة المهدي حقيقة السُّنَّة:
كيف لهذا الشخص العادي أنْ يعرف نفسه أنَّه المهدي الحقيقي المختار من قِبَل الله سبحانه وتعالى؟.. وهذا الشخص حسب تصوُّر أهل العامَّة ليس له ارتباط بالسماء، وكيف يتأكَّد من حقيقة نفسه ومن مهدويَّته؟.. وكيف يتسنَّى للأُمَّة ولجمهور المسلمين أنْ يُصدِّقوه ويؤمنوا بصحَّة دعواه؟.. بالرغم من كثرة مدَّعي المهدويَّة كذباً وبهتاناً، فضلاً على أنَّ هذا الشخص العادي يرتكب بعض الذنوب والمعاصي باعتباره غير معصوم، وفي الوقت نفسه ليس عنده دليل أو إمكانيَّات (كمعجزة أو كرامة) ليُثبِت حقيقة مهدويَّته باعتباره غير مرتبط بالغيب.. ممَّا يضعنا أمام تساؤل كبير وإشكال مهمٍّ جدًّا: كيف السبيل للأُمَّة أنْ

(٧٧)

تُشخِّص أنَّه المهدي المنتظَر الحقيقي؟.. وكيف نستطيع أنْ نُميِّز بينه وبين المدَّعين؟ والأدهى والأمرُّ من ذلك أنَّه لا يعرف حقيقة نفسه، فكيف إذاً نعرفه ونُصدِّقه.
هذا الاستشكال واللبس في الأُطروحة (عدم المعرفة) أدَّى في الواقع إلى سقوط هويَّة المهدي المنتظَر في مدرسة الخلفاء، حتَّى وإنْ ذكرت الأحاديث نَسَبه الشريف، لكن رواياتهم لم تُحدِّد شخصه بالدقَّة باعتباره سيُولَد في المستقبل.. ممَّا ولَّد جرأة على ادِّعائها من قِبَل أشخاص، وكذلك تهيئة الأرضيَّة الفكريَّة والثقافيَّة والمناخ النفسي والاجتماعي لتقمُّص شخصيَّة المهدي (كذباً وزوراً)، ممَّا جعل هذا الشيء رائجاً في المجتمع السُّنِّي أكثر من المجتمع الشيعي، فادِّعاء المهدويَّة من الشائعات (الرائجات) التي اعتاد عليها أبناء العامَّة، فالمهدويَّة بمدلولها السُّنِّي تتيح الفرصة لهكذا نوع من الادِّعاءات، وقد ظهرت في السنوات الأخيرة أكثر من دعوى في هذه القضيَّة(٥٥)، وعدم المعرفة من الأسباب التي تُؤدِّي إلى انتشار ذلك، وهذا من الملابسات والإشكالات التي تُذكر في هذا المجال، وممَّا يُؤخَذ على الأُطروحة لدى المذاهب الأربعة:
أنَّها لا تتَّصف بأيِّ معانٍ غيبيَّة غير مألوفة كالغيبة أو العمر الطويل أو الإمامة المبكَّرة أو الارتباط بالسماء، وللأسف دفعهم جهلهم وعجزهم عن تصوُّر هذه الصفات، إلى إنكار هذا المفهوم عن المهدويَّة واتِّهام مَنْ يؤمن بذلك بالغلوِّ والسذاجة، والاستعاضة عنه بمفهوم آخر للمهدويَّة يخلو من هذه الأبعاد، ممَّا أوقعهم في غموض تحديد شخصيَّة وهويَّة المهدي، وأدَّى إلى أنَّ جمهور الأُمَّة لا يستطيع معرفته، فيظلُّ الأمر ملتبساً على الناس حتَّى وإنْ ظهر

-----------------

(٥٥) ذكرنا في كتابنا (النور الغائب والادِّعاءات الكاذبة) أكثر من (٢٠) قصَّة ادِّعاء كاذب للمهدويَّة، وجميعها وقائع معاصرة حديثة.

(٧٨)

المهدي الحقيقي.. وبعملهم هذا قد انتقلوا من الكمال إلى النقص، فضلاً عن مخالفته للناحية المنطقيَّة التي تقتضي في باب الاعتقاد متابعة الدليل والبرهان أينما وُجِدَ، لا تحريفها باتِّجاه ما تقتضيه الأهواء والمصلحة المذهبيَّة.
رابعاً: صلاة المسيح خلف المهدي واستيعاب شخصيَّته:
إنَّ الأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم (عليه السلام) وصلاته خلف المهدي (عجَّل الله فرجه) ثابتة ومتواترة عند الفريقين شيعة(٥٦) وسُنَّة(٥٧). ولله تعالى حكمة بالغة في ذلك، ألَا وهي التصديق بالمهدي (عجَّل الله فرجه) وتقوية موقعه بين المسلمين أوَّلاً، وبين سائر الشعوب الأُخرى وبالخصوص الشعوب المسيحيَّة ثانياً، وتسهيل مهمَّته (عجَّل الله فرجه) في إقامة دولة العدل الإلهي إلى حدٍّ كبيرٍ.. وفي صلاة المسيح مأموماً خلف المهدي (عجَّل الله فرجه) إثبات بأحقّيَّته (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه الوريث الشرعي لكلِّ الرسالات، ويجب الانضواء تحت قيادته الشرعيَّة، وبالتالي تثبت عالميَّة القضيَّة المهدويَّة.
والسؤال الذي يُطرَح على مدرسة المذاهب الأربعة: كيف يمكن استيعاب مثل شخصيَّة السيِّد المسيح (عليه السلام) بعد نزولها؟! باعتبار أنَّ نزول عيسى (عليه السلام) بحاجة إلى استيعاب علمي وعملي وقيادي من قِبَل المهدي، باعتباره شاهداً له ولرسالة الإسلام.. يحتار جمهور مدرسة الخلفاء عندما تسألهم: هل بإمكان شخص عادي يُولَد في المستقبل، غير مؤيَّد بالمعجزات والعصمة والعلم التامِّ - أي بلا تأييد إلهي - أنْ يستوعب شخصيَّة عظيمة ورسول من أُولي العزم كالسيِّد المسيح (عليه السلام)؟

-----------------

(٥٦) عَنِ اَلْإِمَامِ اَلْبَاقِرِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ عِيسَى يَنْزِلُ قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ إِلَى اَلدُّنْيَا، فَلَا يَبْقَى أَهْلُ مِلَّةِ يَهُودِيٍّ وَلَا نَصْرَانِيٍّ إِلَّا آمَنَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيُصَلِّي خَلْفَ اَلمَهْدِيِّ». تفسير القمِّي (ج ١/ ص ١٥٨).
(٥٧) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ اِبْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ؟». صحيح البخاري (ج ٥/ ص ٤٠١/ ح ٣٠٨٧)؛ صحيح مسلم (ج ١/ ص ٩٤)؛ مسند أحمد (ج ١٤/ ص ١٥٢/ ح ٨٤٣١).

(٧٩)

المهدي على تصوُّر أهل العامَّة لن يكون قادراً على استيعاب شخصيَّة المسيح (عليه السلام)، بل هو غير قادر على استيعاب طوائف المسلمين أصلاً، لوجود مشكلات جوهريَّة تعترضه، منها: مشكلة إثبات كونه المهدي الموعود الحقيقي، فهو من غير ارتباط بالسماء - وهذا ما تتصوَّره أُطروحة أهل السُّنَّة - لن يكون قادراً على كسب القناعة التامَّة من الآخرين بمهدويَّته، بالإضافة إلى الفرق الكبير والشاسع بين إمكانيَّاته الشخصيَّة والقدرات التي يمتلكها السيِّد المسيح (عليه السلام).
بالتعرُّف على الهدي القرآني الذي يفيد بظهور النبيِّ عيسى (عليه السلام) في آخر الزمان مؤيِّداً للمهدي، يقتضي أنْ تكون خلافة أو إمامة المهدي مستوعبة لعيسى النبيِّ الرسول المعصوم المؤيَّد إلهيًّا، ولن تستوعبه هذه المهدويَّة (الأُطروحة السُّنّيَّة) إذا لم تكن معصومة، إلَّا إذا افترضنا أنْ يكون صاحبها نبيًّا - وهذا مخالف للقرآن بخاتميَّة النبوة - أو أنْ نقبل بالمهدي على التصوُّر والطرح الشيعي الذي يستوعب ما عجز عنه المهدي بالأُطروحات الأُخرى، فهو قادر على استيعاب ظاهرة المسيح (عليه السلام)، وقادر أيضاً على استيعاب طوائف أُمَّة جدِّه (صلَّى الله عليه وآله) والبشريَّة كافَّة.
خامساً: الإيمان بخوارق الدجَّال وإنكار استئثار المهدي لمثلها:
الدجَّال حسب التصوُّر السُّنِّي هو: رجل من الناس يهودي، ليس من الجنِّ ولا من الملائكة، يجري عليه ما يجري على البشر، يأكل ويشرب ويبول ويتغوَّط ويمشي في الأسواق، وهو مولود من أبٍ وأُمٍّ (مخلوق) ليثبت لدى الناس، أنَّه ليس إلهاً ولا ربًّا(٥٨).. لقد أَوْلت مدرسة الخلفاء عناية خاصَّة بأحاديث الدجَّال وأعطت اهتماماً يفوق حجم الاهتمام بأحاديث المهدي!!

-----------------

(٥٨) هذا التعريف ذكره القرطبي في كتاب التذكره لمعنى الدجَّال، شرح نجم الدِّين محمّد أمين الكردي للنهاية المكمِّل لكتاب البداية والنهاية لابن كثير، وذُكِرَ هذا التعريف أيضاً في كتاب خلاصة المقال في المسيح الدجَّال لمحمود الغرباوي (ص ١٣)، وكذلك ذُكِرَ في كتاب بشرى البشر في حقيقة المهدي المنتظَر (ص ١٢٧).

(٨٠)

وتكاد تُفقِد أو تُعدِم أحاديث السفياني!! ذُكِرَت الروايات عن الأعور الدجَّال في كلِّ كُتُب السُّنَّة الصحيحة وشروحها وغيرها من الكُتُب، وقد تواترت الأحاديث عنه جملةً وتفصيلاً تواتراً معنويًّا، وليس هناك خلاف بين علماء الحديث على قبول سيرة الدجَّال والإيمان بأنَّه سيخرج آخر الزمان، ثمّ ينزل عيسى بن مريم (عليه السلام) لقتله، وأنَّه من علامات الساعة الكبرى، وأنَّ الإيمان به وبخروجه حقٌّ وواجب، وهذه عقيدة أهل العامَّة فيه.
روايات أهل السُّنَّة في الدجَّال تُؤكِّد أنَّه وُلِدَ من آلاف السنين، فقصَّة تميم الداري (كحديث صحيح)(٥٩) والمشهورة في علم الحديث بقصَّة (الجسَّاسة)(٦٠) تُثبِت أنَّ تميم الداري شاهد الدجَّال محبوساً في إحدى جُزُر البحر أيَّام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأنَّ دابَّة (الجسَّاسة) تقوم برعاية شؤونه من الأكل والشرب وغيره.. والثابت أيضاً في مدرسة المذاهب الأربعة، أنَّ الدجَّال رجل يهودي الأصل يظهر من جهة المشرق، فيدَّعي بين الناس الصلاح والاستقامة والتديُّن، ثمّ يدَّعي النبوَّة، ثمّ يدَّعي الأُلوهيَّة(٦١). ومن الصفات والخوارق التي يتميَّز بها عدوُّ الله عن غيره (حسب أُطروحة شيعة الخلفاء) ما يلي:
* وُلِدَ من آلاف السنين، وهو غائب ومحبوس في إحدى جُزُر البحر (حديث الجسَّاسة).

-----------------

(٥٩) قال الألباني: (حديث الجسَّاسة حديث صحيح، وليس فيه ما يخالف الأحاديث الصحيحة إطلاقاً، وإنَّما فيه تفاصيل ستقع يوماً ما ممَّا لم يرد ذكره في بعض الأحاديث الصحيحة). موسوعة الألباني في العقيدة (ج ٩/ ص ٢٥٩/ باب حول حديث الجساسة ١٥٩٣).
(٦٠) تخريج حديث الجسَّاسة: عن فاطمة بنت قيس، وأبي هريرة، وعائشة، وجابر بن عبد الله: صحيح مسلم (ج ٨/ ص ٢٠٤)؛ سُنَن الترمذي (ج ٣/ ص ٣٥٥ و٣٥٦/ ح ٢٣٥٤)؛ سُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٣١٩ و٣٢٠/ ح ٤٣٢٥)؛ مسند أحمد (ج ٤٥/ ص ٥٧/ ح ٢٧١٠١).
(٦١) أخرج العسقلاني حديثاً يُثبِت ذلك في فتح الباري (ج ١٣/ ص ٧٩).

(٨١)

* يأمر السماء أنْ تمطر فتمطر، والأرض أنْ تُنبِتَ فتُنبِتَ.
* يحبس الشمس عن الناس، ثمّ يُسيِّرها مرَّةً أُخرى.
* قدرته على الإحياء والإماتة لدرجة أنَّه يقتل بعض الرجال ويقسمه نصفين بالمشار، ثمّ يمشي بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً.
* معه نهران: نهر يقول: الجنَّة، ونهر يقول: النار، فمَنْ أُدخل الذي يُسمِّيه الجنَّة فهو النار، ومَنْ أُدخل الذي يُسمِّيه النار فهو الجنَّة.
* يمرُّ بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزكِ، فتتَّبعه كنوزها كيعاسيب النحل.
* أنْ تُطوى له الأرض مهلاً مهلاً، طيُّ فروة الكبش، وأنَّه يسيح في الأرض كلِّها في أربعين يوماً.
* له ثلاث صيحات يسمعها أهل المشرق وأهل المغرب، ويتناول الطير من الجوِّ ويشويه في الشمس.
* يأتي نهر فيأمره أنْ يسيل له فيسيل، ثمّ يأمره أنْ يرجع فيرجع، ثمّ يأمره أنْ ييبس فييبس.
* يأمر جبل طور وجبل زيتا أنْ ينتطحا فينتطحا.
* يأمر الريح فتسير سحاباً من البحر فتُمطِر الأرض.
* تنام عيناه ولا ينام قلبه.
* يتحدَّث جميع لغات أهل الأرض.
وهناك الكثير من عجائب وخوارق الدجَّال(٦٢) صرَّحت بها كُتُب صحاح أهل السُّنَّة، موضِّحة الأساليب التي سيصنعها أو يستخدمها لإغواء البشر.

-----------------

(٦٢) لمعرفة المزيد عن خوارق الدجَّال عند أهل العامَّة، ومعرفة الأحاديث التي صرَّحت بذلك راجع: اقترب خروج المسيح الدجَّال لهشام كمال عبد الحميد؛ وخلاصة المقال في المسيح الدجَّال لمحمود الغرباوي.

(٨٢)

للأسف وأُكرِّرها مراراً.. إنَّ أهل السُّنَّة يُثبِتون ويُؤكِّدون ما يظهر على يد كافر عدوٍّ لله من خوارق وعجائب، ولكن! يُنكِرون ويشكلون استئثار المهدي (عجَّل الله فرجه) لبعض المزايا والكرامات مثل: طول العمر، والإمامة المبكَّرة، والغيبة، وهو وليٌّ من أولياء الله.. فهل المهدي في نظرهم أهون على الله من الدجَّال؟! - أعوذ بالله -، ولكن للأسف المصلحة المذهبيَّة، وهنا مربط الفرس.
من المدهش حقًّا في أُطروحة أهل العامَّة، الإيمان والتصديق بطول عمر وغيبة الدجَّال، إمام الشرك والكفر والضلال آخر الزمان، وإظهارهم لطف الله وعنايته في حفظ حياته، وإطالة عمره قروناً عديدةً، ليخرج بعد ذلك يمارس دور إغواء المجتمع البشري.. بينما يتخلَّى الله سبحانه وتعالى عن حفظ حياة ابن الرسول (صلَّى الله عليه وآله) منقذ البشريَّة من الظلم والجور والضلال، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً وينشر التوحيد!! إنَّ فكرة الغيبة وطول العمر تقوم بالأساس على عقيدة الإيمان بالمعجزة والغيب، ولا يمكن تحقُّق إطالة عمر المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) بدون تدخُّل القدرة الإلهيَّة، فضلاً على أنَّ هذا الأمر ممكن عقلاً، ولم يقم أيُّ دليل شرعي أو علمي على امتناعه أو استحالته.
أليس من العجيب إنكار مزايا وكرامات لوليٍّ من أولياء الله، والإيمان بخوارق وعجائب عدوٍّ من أعداء الله، فما لهم كيف يحكمون؟! والأعجب أنْ ثقل عليهم استيعاب الأُطروحة الشيعيَّة في المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، فأخذوا الأمر بالسخرية والاستهزاء، ولم نرَ هذا الكلام والاستهزاء والاستثقال على خوارق ومزايا منحرفٍ ضالٍّ مدَّعٍ للأُلوهيَّة.
إشكالات ونقاط علميَّة وفكريَّة عديدة يمكن طرحها على طاولة البحث والدراسة والنقاش، ونقد الأُطروحة سلباً من خلالها، من قبيل:

(٨٣)

* الأرضيَّة الفكريَّة الداعمة للادِّعاءات الكاذبة للمهدويَّة والمتكرِّرة في التاريخ والحاضر في وسط مجتمع أهل السُّنَّة.
* عدم التصريح بلفظة المهدي في صحيحي البخاري ومسلم، وتأثير الضغط الأمني والسياسي للسلطة العبَّاسيَّة على ذلك.
* استغلال بعض الملابسات التاريخيَّة في القضيَّة المهدويَّة والتشكيك بنَسَب وهويَّة المهدي.
* التشكيك بعصمة المهدي وأثرها على مستقبل البشريَّة حين ظهوره.
والكثير من النقاط الأُخرى التي يمكن طرحها للنقاش، ولكن لا يهمُّنا هنا الاستطراد في مناقشة ومعالجة هذه المسائل، لأنَّ الغرض من سرد الأمثلة السابقة وبحثها ودراستها باختصار سريع، والتعرُّف على نقاط الضعف والنقد، إنَّما يأتي ضمن سياق إيضاح الأفكار والمبادئ التي تقوم عليها أُطروحة أهل السُّنَّة في المهدي، واستشفاف الحقيقة.
خلاصة القول:
إنَّ نمط التصوُّر السُّنِّي للمهدويَّة يعكس المبادئ الأساسيَّة التي قامت عليها مدرسة الخلفاء من البدء، بشرعيَّة السقيفة ونظام الخلافة والشورى، ورفض التعيين والتنصيب من قِبَل الله سبحانه وتعالى للإمام والخليفة.. وهكذا أصبحت المهدويَّة في أُطروحة أهل العامَّة عبارة عن شخصيَّة عاديَّة غامضة، وإنْ كان من سلالة المصطفى (صلَّى الله عليه وآله)، فهو ليس أكثر من مصلح اجتماعي، وقائد سياسي يحكم بالعدل، ويُطبِّق التعاليم الإسلاميَّة بناءً على اجتهاده، وسوف تسنح له الفرصة بأنْ يُسيطر على بقعة كبيرة من أرض العالم، فيُحقِّق بإمكانيَّاته الشخصيَّة المتواضعة (باعتباره غير مرتبط بالسماء، ومن غير أيِّ مزايا إيمانيَّة

(٨٤)

وعلميَّة وقياديَّة فريدة عالية)!! حلم الأنبياء، ويُجسِّد طموحات المرسَلين وآمال المصلحين، وتتويج البشريَّة بسيادة دولة العدل الإلهي.
إنَّ هذا التصوُّر والأُطروحة في تشخيص المهدي، لا يصمد ولا يبقى ثابتاً أو متيناً على طاولة البحث والدراسة والنقاش، باعتباره يفتقر للأدلَّة الشرعيَّة المتينة أو المنطق العقلي العميق، التي يمكن أنْ تُسنِد هذا الرأى، وفي الحقيقة هذا التصوُّر قائم في الأساس على اجتهاد وآراء علماء المدرسة، وقبل ذلك على القواعد والمبادئ والأُسُس المذهبيَّة التي نشأت عليها.. فمثلاً لا يوجد دليل شرعي واحد (حديث شريف صحيح أو ضعيف) يقول: إنَّ المهدي سيُولَد في المستقبل أو آخر الزمان، غير أقوال وآراء الرجال، كذلك لا تجد دليلاً واحداً يقول: إنَّ المهدي سيتمُّ اختياره من قِبَل الأُمَّة، وأيضاً ليس لديهم أيُّ دليل يُوضِّح: كيف سيعرف المهدي نفسه أو تعرفه الأُمَّة؟.. وهكذا بقيَّة التصوُّرات التي تتبنَّاها المدرسة، وتفتقر للأدلَّة والبراهين التي تُثبِتها.
إنَّ فكرة المهدي المنتظَر انتقلت إلى جمهور مدرسة الخلفاء من خلال الموروث الثقافي والدِّيني وبشكل هامشي.. فالمهدويَّة في مفهوم أهل السُّنَّة ليس لها تأثير في الواقع الإنساني تاريخيًّا وحاضراً، بالإضافة لافتقادها لأيِّ تأثير نفسي أو روحي على واقع الفرد أو المجتمع السُّنِّي، وكذلك ليس لها أيَّ أثر يُذكر في الحياة الفكريَّة أو الثقافيَّة لمدرسة المذاهب الأربعة.. فما زالوا يعتقدون بأنَّ المهدويَّة ليست أكثر من تنبُّؤ مستقبلي أو مسألة مستقبليَّة صرفة، فالمهدي في نظرهم خليفة لا أكثر، وإحدى علامات الساعة الكبرى، ومن غير أيِّ رؤية وتعاليم جامعة شاملة أو رؤية استراتيجيَّة للنجاة تحتضن أفراد البشريَّة كافَّة، وهي بهذا تُبيِّن الحدَّ الأدنى من الحقيقة المهدويَّة.
جوهر القضيَّة المهدويَّة في أُطروحة أهل العامَّة، أنَّها من فروع العمل

(٨٥)

الواجب على الأُمَّة الإيمان به، لا كمعتقَد بل باعتبار صدور الخبر الصحيح به، فهي ليست محور عقائدي هامٍّ، ولا خصائص معيَّنة مترتِّبة على ذلك، شأنه شأن أيِّ علامة من علامات يوم القيامة، فهي مجرَّد إخبار عن مستقبل سعيد للبشريَّة سيكون في نهاية المطاف.. فمهدي أهل العامَّة لم يوجد حتَّى اليوم، فهو مثل مسيح اليهود مجرَّد أمل وفكرة، تجسيدها غير مؤكَّد على الإطلاق، وتجسيدها مرتبط بتاريخ أهل السُّنَّة.
للأسف، لقد جعلوا من المهدويَّة قضيَّة عائمة في المستقبل، بعد أنْ كانت قضيَّة إسلاميَّة أصيلة، متجذِّرة في عمق التاريخ الإسلامي، منطلقة من مبدأ (إمام الزمان)، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(٦٣).. وممَّا يُرثى له حقًّا، أنَّ جمهور مدرسة الخلفاء لا يعرفون إمام زمانهم الحالي، ليُحصِّنوا أنفسهم من موتة الجاهليَّة، وفي عصرنا الحالي ليس هناك مصداق حقيقي أو تطبيق فعلي لهذا الحديث غير الاعتقاد بوجود المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) حيًّا يُرزَق وقائداً وإماماً، ننتظر خروجه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.. فالمسلم الذي يؤمن بحياة النبيِّ عيسى (عليه السلام)، بل وحياة الدجَّال الكافر، ويروي في أصحّ كُتُبه (حديث الجسَّاسة) الصريح في أنَّ الدجَّال كان حيًّا في عصر النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وأنَّه يخرج في آخر الزمان، كيف يعيب أُطروحات المدارس الأُخرى قولهم بولادة وبقاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وينسبهم إلى الجهل وعدم العقل؟ أليس من العجيب، جرأة مدرسة أهل العامَّة وتحاملها على الشيعة إيمانهم بوجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فدراسة(٦٤) كثير من الادِّعاءات الكاذبة للمهدويَّة في المجتمع السُّنِّي، أوضحت

-----------------

(٦٣) أخرجه البخاري في صحيحه (ج ١١/ ص ٨ و٩ و٣٦/ ح ٦٣٠٥ و٦٣٠٦ و٦٣٨٥)؛ ومسلم في صحيحه (ج ٦/ ص ٢١ و٢٢)؛ والحاكم في المستدرك (ج ١/ ص ٧٧).

(٦٤) ذكرنا في كتابنا (النور الغائب والادِّعاءات الكاذبة) أكثر من (٢٠) قصَّة ادِّعاء كاذب للمهدويَّة، وجميعها وقائع معاصرة حديثة، وأوضحنا الأسباب والنتائج لذلك.

(٨٦)

أنَّ هذه الادِّعاءات نتاج إنكار ولادته وبقائه (عجَّل الله فرجه)، ونتاج عدم الاهتداء والاهتمام بعلامات ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه)، ونَسَبه وهويَّته وخصائصه وقدراته ومزاياه المصرَّحة بها في الأحاديث الشريفة.. فهل من اللطف أنْ تُرفَع الحُجَج عن الأرض؟ وهل من اللطف والعدل الإلهي أنْ تُترَك البشريَّة سُدى؟!
الحمد لله، فالشيعة الإماميَّة الاثنا عشريَّة تقرُّ بإمامة (م ح م د) بن الحسن العسكري (عليه السلام)، وتلتزم بها، وتؤمن بأنَّه معيَّن ومُنصَّب (جعل) من الله، وتؤمن به كإمام مفترض الطاعة، وهو خاتم الأوصياء والأئمَّة والخلفاء الاثني عشر الذين ذكرهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وتعترف بعصمته وبمقامه الشامخ، وبمراتب الكمال العالية لديه، وتُحدِّد بوضوح هويَّته ونَسَبه وآباءه وصفاته وعلامات ظهوره، وهم بهذا يقفلون الطريق على كلِّ مَنْ يدَّعي الإمامة والمهدويَّة دجلاً وزوراً وبهتاناً.. فالسلام عليك يا صاحب الزمان، وشريك القرآن، وإمام الإنس والجانِّ، وعجَّل الله تعالى فرجك، وسهَّل مخرجك.

* * *

(٨٧)

إنَّ أصل المهدويَّة (المنقذ) هو محلُّ اتِّفاق جميع المسلمين، وهي فكرة ضروريَّة في الدِّين الإسلامي، ومن صميم السُّنَن والنواميس الإلهيَّة والتعاليم الربَّانيَّة، وهي أيضاً من عقائد الأديان الأُخرى.. فأصل الفكرة (المخلِّص) بصورة موجزة لا تختصُّ بطائفة معيَّنة من البشر ولا بمنطقة من الأرض دون أُخرى، بل هي مسألة عامَّة تستوعب كلَّ الأرض وكلَّ البشر، وهي الأمل لحياة سعيدة تنتظر البشريَّة في المستقبل، حتَّى ترتقي وتصل بمستواها إلى مرحلة الرشد والبلوغ والنضج والكمال، وهذا مضمون الآيات القرآنيَّة والروايات الإسلاميَّة.
نشأة التشيُّع والشيعة:
الشيعة الإماميَّة: طائفة دينيَّة إسلاميَّة، تمتدُّ جذورهم وأصالتهم إلى زمن بداية الرسالة وعهد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، إذاً تُعَدُّ الشيعة أُولى الفِرَق الإسلاميَّة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، واصطُلِحَ وتعارف على أنَّ لفظة (الشيعة) إذا قيلت مطلقة دون تخصيص فإنَّ الذهن ينصرف نحو الاثني عشريَّة أو الجعفريَّة، لكونها الطائفة الأكبر من حيث عدد الأتباع من بين الطوائف الشيعيَّة الأُخرى، وتُسمَّى بذلك تميُّزاً لهم عن الإسماعيليَّة والزيديَّة، ولاعتقادهم بأنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) قد نصَّ على اثني عشر إماماً خلفاء من بعده، بدءاً بالإمام عليٍّ (عليه السلام) وختماً بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فكانت عقيدة الإمامة هي المميِّز الرئيس لها عن بقيَّة الطوائف الإسلاميَّة الأُخرى.
الشيعة في اللغة: هي المشايعة والمناصرة والموالاة، أي الأتباع والأنصار.
الشيعة اصطلاحاً: هم أتباع الإمام عليٍّ (عليه السلام)، أي مَنْ شايع عليًّا وقدَّمه

(٩١)

على جميع الصحابة، واعتقد أنَّه الإمام من بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، بوصيَّة ونصٍّ مباشر منه (صلَّى الله عليه وآله) وبإرادة إلهيَّة(٦٥).
لم يكن ظهور التشيُّع حصيلة لإفرازات سياسيَّة أو صراعات فكريَّة أو جدالات كلاميَّة، بل هو امتداد حقيقي للفكر العقائدي للدِّين الإسلامي، وإنَّه الاستمرار الصحيح لرسالة الإسلام.. لذا فإنَّ التشيُّع بدأ في زمن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، فقد ثبت في الروايات النبويَّة الشريفة أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) أوَّل من أطلق لفظ الشيعة على من أحبَّ عليًّا وتابعه، وقد اعترف بذلك المخالفون وأثبتوه، جاء في (صواعق ابن حجر) أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: «يَا عَلِيُّ إِنَّكَ سَتَقْدِمُ عَلَى اَلله أَنْتَ وَشِيعَتُكَ رَاضِينَ مَرْضِيِّينَ»(٦٦)، وجاء في (الدُّرِّ المنثور) للسيوطي أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: «إِنَّ هَذَا - وأشار إلى عليٍّ (عليه السلام) - وَشِيعَتَهُ لَهُمُ اَلْفَائِزُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ»(٦٧)، وجاء في (تفسير الطبري) في تفسير سورة البيِّنة أنَّ النبيَّ محمّداً (صلَّى الله عليه وآله) قال في تفسير الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البيِّنة: ٧]: «هُمْ أَنْتَ وَشِيعَتُكَ يَا عَلِيُّ»(٦٨).. وقد ثبت تاريخيًّا أيضاً أنَّ اسم الشيعة كان على عهد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وكان يدلُّ على مجموعة من الأتباع والموالين، وهو لقب ثُلَّة من الصحابة في بدء الدعوة الإسلاميَّة، وهم: أبو ذرٍّ الغفاري، وسلمان الفارسي، وعمَّار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وحذيفة بن اليمان، وأبو أيُّوب الأنصاري، وسهل بن حُنَيف، وأبو الهيثم بن التيهان، وأبو الطفيل... وغيرهم، وجميع بني هاشم(٦٩).

-----------------

(٦٥) الشيعة في التاريخ (ص ١٢).
(٦٦) الصواعق المحرقة (ص ١٥٤).
(٦٧) الدُّرُّ المنثور (ج ٦/ ص ٣٧٩).
(٦٨) تفسير الطبري (ج ٣٠/ ص ٣٣٥/ ح ٢٩٢٠٨).
(٦٩) الشيعة رُوَّاد العدل والسلام (ص ٣٢ و٨١).

(٩٢)

منذ عهد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) كان الشيعة يسيرون على نهج الإمام عليٍّ (عليه السلام)، لأنَّه الامتداد الطبيعي للرسول (صلَّى الله عليه وآله) والرسالة، ولذا يعتقد الإماميَّة بأنَّ التشيُّع هو الإسلام الحقيقي، ويُؤكِّدون أنَّ المذهب الشيعي لم يظهر بعد وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، بل يعود تاريخ الشيعة إلى عصر الرسالة المحمّديَّة، وهو الإسلام ذاته، وأنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) وضع أساسه بنفسه على مدار حياته، وأكَّده قبل موته في يوم غدير خمٍّ بنصٍّ جليٍّ عندما أعلن الولاية لعليٍّ (عليه السلام) من بعده.. كما يرون أنَّ الطوائف والفِرَق الإسلاميَّة الأُخرى هي المستحدَثة، ووُضِعَت أُسُسها من قِبَل الحُكَّام والسلاطين وغيرهم بعد ذلك، لتكون لبعض العلماء والفقهاء مكانة سامية عند الناس، باعتبارهم أئمَّة في الدِّين، ليصرفوا الأنظار عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام).
هناك الكثير من الأدلَّة على نشأة التشيُّع في زمن الرسول (صلَّى الله عليه وآله) أشار إليها العلَّامة القرشي(٧٠)، ننتخب شذرة منها:
١ - من مكمِّلات دعوته ورسالته (صلَّى الله عليه وآله) أنْ لا يترك الأمر فوضى من بعده ويهمل شؤون الخلافة.
٢ - من جملة متطلَّبات قيادة الأُمَّة أنْ يختار لها النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) قائداً وإماماً من بعده.
٣ - أنَّه قد أُثِرَت عن الرسول (صلَّى الله عليه وآله) مجموعة ضخمة من الأخبار والروايات الصحيحة كحديث المنزلة والغدير التي تشير إلى الإمام عليٍّ (عليه السلام) خلفاً للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بقيادة الأُمَّة.
٤ - تخلُّف خيار الصحابة عن بيعة الخليفة الأوَّل، واحتجاجهم بأنَّ عليًّا أولى من غيره بمقام رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).

-----------------

(٧٠) حياة الإمام الباقر (عليه السلام) (ج ٢/ ص ٩٦ - ١٠٢).

(٩٣)

٥ - أنَّ وصيَّة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) لعليٍّ (عليه السلام) بأنْ يكون خليفة من بعده كانت شائعة في الأوساط الإسلاميَّة في العصر الأوَّل.
كلُّ ذلك يدلُّ على أنَّ نشأة التشيُّع كان في عهد الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، وهو الذي وضعها وأقامها بنصب الإمام عليٍّ (عليه السلام) خليفة من بعده.
لم يوالِ الشيعة أشخاصاً لمجرَّد أنَّهم ينتمون إلى أُسرة معيَّنة، وإذا كانوا قد والوا مَنْ سمَّاهم القرآن والنبيُّ (أهل البيت)، فلأنَّ الأدلَّة الشرعيَّة قد أمرت بذلك.. وأمَّا سبب تمسُّك الشيعة بمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فقد قال السيِّد عبد الحسين شرف الدِّين: (الأدلَّة الشرعيَّة أخذت بأعناقنا إلى الأخذ بمذهب الأئمَّة من أهل بيت النبوَّة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنزيل، فانقطعنا إليهم في فروع الدِّين وعقائده، وأُصول الفقه وقواعده، ومعارف السُّنَّة والكتاب، وعلوم الأخلاق والسلوك والآداب، نزولاً على حكم الأدلَّة والبراهين، وتعبُّداً بسُنَّة سيِّد النبيِّين والمرسَلين (صلَّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين).. ولو سمحت لنا الأدلَّة بمخالفة الأئمَّة من آل محمّد، أو تمكَّنَّا من تحصل نيَّة القربة لله سبحانه في مقام العمل على مذهب غيرهم، لقصصنا أثر الجمهور، وقفونا إثرهم، تأكيداً لعقد الولاء، وتوثيقاً لعرى الإخاء، لكنَّها الأدلَّة القطعيَّة تقطع على المؤمن وجهته، وتحول بينه وبين ما يروم)(٧١).. والتشيُّع في حقيقته هو النهج الذي خطَّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وهو الإسلام كلُّه في خطِّه الأصيل، ولذلك قال (صلَّى الله عليه وآله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ: كَتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، مَا إِنْ تَمَسَّكَتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَداً»(٧٢).

-----------------

(٧١) المراجعات (ص ٦٠ و٦١/ المراجعة الرابعة).
(٧٢) صحيح مسلم (ج ٧/ ص ١٢٣)؛ وقد صحَّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (ج ٤/ ص ٣٥٥/ ح ١٧٦١)، وذكر مجموعة من طُرُقه.

(٩٤)

تعداد الشيعة في العصر الحاضر:
إنَّ الشيعة طائفة كسائر الفِرَق والطوائف التي لها كيانها، وهم اليوم منتشرون في طول الأرض وعرضها، ويُعَدُّون من الفِرَق الكبرى، ولا يمكن حصر تعداد الشيعة اليوم بكافَّة أرجاء المعمورة لصعوبة ذلك، (ولكن القرائن تشهد على أنَّ الشيعة بطوائفها الثلاث: الإماميَّة والزيديَّة والإسماعيليَّة يُؤلِّفون خُمُس أو رُبُع المسلمين)(٧٣)، حيث تُعتبَر الإماميَّة هي الطائفة الأكبر، وتليها الإسماعيليَّة ثمّ الزيديَّة بنِسَب صغيرة، ويتراوح عدد الشيعة في العالم ما بين (٢٥٠) مليون إلى (٣٠٠) مليون نسمة، وأكثرهم عدداً هم الإماميَّة المعروفون بالاثني عشريَّة.. يُشكِّل الشيعة أغلبيَّة سُكَّان بعض البلدان كإيران والعراق وأذربيجان والبحرين، وفي بعض البلدان هم من كبرى الطوائف كلبنان والكويت، كما يُشكِّلون أقلّيَّات كبيرة في بعض البلدان كبقيَّة دول الخليج وباكستان وأفغانستان والهند وغيرها.. وفي السنوات الأخيرة أخذ التشيُّع في الانتشار في بلاد ينعدم فيها الوجود الشيعي أو يوجد بنسبة صغيرة جدًّا.
موجز عقائد الشيعة الإماميَّة:
روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنِ اَلْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ قَالَ: سَأَلَ اَلمَأْمُونُ (الخليفة العبَّاسي) اَلْإِمَامَ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى اَلرِّضَا (عليه السلام) (الإمام الثامن لدى الشيعة) أَنْ يَكْتُبَ لَهُ مَحْضَ اَلْإِسْلَامِ عَلَى سَبِيلِ اَلْإِيجَازِ وَاَلْاِخْتِصَارِ، فَكَتَبَ (عليه السلام) لَهُ: «أَنَّ مَحْضَ اَلْإِسْلَامِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِلَهاً وَاحِداً أَحَداً فَرْداً صَمَداً قَيُّوماً سَمِيعاً بَصِيراً قَدِيراً قَدِيماً قَائِماً بَاقِياً، عَالِماً لَا يَجْهَلُ، قَادِراً لَا يَعْجِزُ، غَنِيًّا لَا يَحْتَاجُ، عَدْلاً لَا يَجُورُ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ،

-----------------

(٧٣) بحوث في المِلَل والنِّحَل (ج ٦/ ص ٧٥٣ و٧٥٤).

(٩٥)

لَا شِبْهَ لَهُ، وَلَا ضِدَّ لَهُ، وَلَا نِدَّ لَهُ، وَلَا كُفْؤَ لَهُ، وَأَنَّهُ اَلمَقْصُودُ بِالْعِبَادَةِ وَاَلدُّعَاءِ وَاَلرَّغْبَةِ وَاَلرَّهْبَةِ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمِينُهُ وَصَفِيُّهُ، وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَسَيِّدُ اَلمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمُ اَلنَّبِيِّينَ، وَأَفْضَلُ اَلْعَالَمِينَ، لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَلَا تَبْدِيلَ لِمِلَّتِهِ، وَلَا تَغْيِيرَ لِشَرِيعَتِهِ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلله هُوَ اَلْحَقُّ اَلمُبِينُ، وَاَلتَّصْدِيقُ بِهِ وَبِجَمِيعِ مَنْ مَضَى قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِ اَلله وَأَنْبِيَائِهِ وَحُجَجِهِ، وَاَلتَّصْدِيقُ بِكِتَابِهِ اَلصَّادِقِ اَلْعَزِيزِ اَلَّذِي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فُصِّلت: ٤٢]، وَأَنَّهُ اَلمُهَيْمِنُ عَلَى اَلْكُتُبِ كُلِّهَا، وَأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، نُؤْمِنُ بِمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَخَاصِّهِ وَعَامِّهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَقِصَصِهِ وَأَخْبَارِهِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ اَلْمَخْلُوقِينَ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ، وَأَنَّ اَلدَّلِيلَ بَعْدَهُ، وَاَلْحُجَّةَ عَلَى اَلمُؤْمِنِينَ، وَاَلْقَائِمَ بِأَمْرِ اَلمُسْلِمِينَ، وَاَلنَّاطِقَ عَنِ اَلْقُرْآنِ، وَاَلْعَالِمَ بِأَحْكَامِهِ، أَخُوهُ وَخَلِيفَتُهُ وَوَصِيُّهُ وَوَلِيُّهُ وَاَلَّذِي كَانَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ، وَإِمَامُ اَلمُتَّقِينَ، وَقَائِدُ اَلْغُرِّ اَلمُحَجَّلِينَ، وَأَفْضَلُ اَلْوَصِيِّينَ، وَوَارِثُ عِلْمِ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلمُرْسَلِينَ، وَبَعْدَهُ اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ زَيْنُ اَلْعَابِدِينَ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ بَاقِرُ عِلْمِ اَلنَّبِيِّينَ، ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلصَّادِقُ وَارِثُ عِلْمِ اَلْوَصِيِّينَ، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ اَلْكَاظِمُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى اَلرِّضَا، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ اَلْحُجَّةُ اَلْقَائِمُ اَلمُنْتَظَرُ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)، أَشْهَدُ لَهُمْ بِالْوَصِيَّةِ وَاَلْإِمَامَةِ، وَأَنَّ اَلْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةِ اَلله تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَأَوَانٍ، وَأَنَّهُمُ اَلْعُرْوَةُ اَلْوُثْقَى، وَأَئِمَّةُ اَلْهُدَى، وَاَلْحُجَّةُ عَلَى أَهْلِ اَلدُّنْيَا إِلَى أَنْ يَرِثَ اَللهُ اَلْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَهُمْ ضَالٌّ مُضِلٌّ، بَاطِلٌ تَارِكٌ لِلْحَقِّ وَاَلْهُدَى، وَأَنَّهُمُ اَلمُعَبِّرُونَ عَنِ اَلْقُرْآنِ، وَاَلنَّاطِقُونَ عَنِ اَلرَّسُولِ (صلَّى الله عليه وآله) بِالْبَيَانِ، وَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْهُمْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً،

(٩٦)

وَأَنَّ مِنْ دِينِهِمُ اَلْوَرَعَ وَاَلْعِفَّةَ وَاَلصِّدْقَ وَاَلصَّلَاحَ وَاَلْاِسْتِقَامَةَ وَاَلْاِجْتِهَادَ وَأَدَاءَ اَلْأَمَانَةِ إِلَى اَلْبَرِّ وَاَلْفَاجِرِ وَطُولَ اَلسُّجُودِ وَصِيَامَ اَلنَّهَارِ وَقِيَامَ اَللَّيْلِ وَاِجْتِنَابَ اَلمَحَارِمِ وَاِنْتِظَارَ اَلْفَرَجِ بِالصَّبْرِ وَحُسْنَ اَلْعَزَاءِ وَكَرَمَ اَلصُّحْبَةِ»(٧٤).. ثمّ ذكر الإمام فروعاً شتَّى من مختلف أبواب الفقه لا يهمُّنا في المقام ذكرها.
مقام الإمامة عند الشيعة الاثني عشريَّة:
إنَّ مسألة الإمامة لها أهمّيَّتها الخاصَّة عند أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا هو الأصل(٧٥) الذي امتازت به الإماميَّة وافترقت عن سائر فِرَق المسلمين، وأنَّ الشيعة تعتقد أنَّ الإمامة بعد النبوَّة، وهي أصل من أُصول الدِّين، وأنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) قد أوصى قبل رحيله إلى الرفيق الأعلى بالإمامة والولاية إلى الأئمَّة الاثني عشر، أوَّلهم الإمام عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وآخرهم الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
هذا الأصل الاعتقادي عند الشيعة المستند والدليل والأساس فيه هو (الدليل العقلي)، العقل الحاكم بضرورة وجود الإمام المعصوم(٧٦) في كلِّ عصر

-----------------

(٧٤) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ٢/ ص ١٢٩ و١٣٠/ باب ٣٥/ ح ١).
(٧٥) (الإمامة هي الأصل الثالث عند الشيعة الإماميَّة.. ومَنِ اعتقد بالإمامة فهو عند الشيعة الإماميَّة مؤمن بالمعنى الأخصّ، وإذا اقتصر على الأركان الأربعة ولم يؤمن بالإمامة، فهو مسلم ومؤمن بالمعنى الأعمّ.. ولكن لو أنكر الرجل واحداً من (التوحيد - النبوَّة - المعاد) فليس بمسلم ولا مؤمن، وإذا دان بتوحيد الله، ونبوَّة محمّد، واعتقد بيوم الجزاء، فهو مسلم حقًّا، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم دمه وماله وعرضه حرام). أصل الشيعة وأُصولها (ص ٢١٠).
(٧٦) قال تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: ١٢٤)، قال الفخر الرازي في تفسيره (ج ٤/ ص ٤٦ و٤٧): (المسألة الخامسة: قال الجمهور من الفقهاء والمتكلِّمين: الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، واختلفوا في أنَّ الفسق الطارئ هل يُبطِل الإمامة أم لا؟ واحتجَّ الجمهور على أنَّ الفاسق لا يصلح أنْ تُعقَد له الإمامة بهذه الآية، ووجه الاستدلال بها من وجهين: الأوَّل: ما بيَّنَّا أنَّ قوله: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ جواب لقوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾، وقوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ طلب للإمامة التي ذكرها الله تعالى، فوجب أنْ يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة، ليكون الجواب مطابقاً للسؤال، فتصير الآية كأنَّه تعالى قال: لا ينال الإمامة الظالمين، وكلُّ عاصٍ فإنَّه ظالم لنفسه، فكانت الآية دالَّة على ما قلناه. فإنْ قيل: ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً، ولا يصحُّ ذلك في الأئمَّة والقضاة، قلنا: أمَّا الشيعة فيستدلُّون بهذه الآية على صحَّة قولهم في وجوب العصمة ظاهراً وباطناً، وأمَّا نحن فنقول: مقتضى الآية ذلك).

(٩٧)

وزمان بناءً على قاعدة اللطف(٧٧) الإلهي (الإمامة لطف واجب من قِبَل الله سبحانه وتعالى كالنبوَّة)(٧٨)، فالإمام منصوص عليه من قِبَل النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) عن الله (عزَّ وجلَّ)، أو من قِبَل الإمام الذي قبله.
وهكذا يتَّضح مفهوم الإمامة باعتبار أنَّ الإمام هو القائد الذي يحمل مسؤوليَّة الدِّين بعد النبيِّ، وبمعنى آخر استمراراً لوظائف النبوَّة ما عدا تحمُّل الوحي: بيان الأحكام الإلهيَّة (النبوَّة)، وإكمال وظيفة تبليغ الأحكام الإلهيَّة

-----------------

(٧٧) شرح دليل اللطف بشكل أكثر سهولةً ووضوحاً: إنَّ أيَّ بلدٍ يقوم بتصنيع آلة كبيرة ومعقَّدة، لا بدَّ له عندما يقوم ببيعها أو تصديرها من إرسال خبير متخصِّص يشرح ويُعلِّم كيفيَّة عمل الآلة والإشراف على صيانتها، أمَّا الأشياء البسيطة والصغيرة لسنا بحاجة إلى خبير بها.. وعليه فالدِّين الإسلامي لا بدَّ من وجود شخص خبير بأحكامة وتعاليمه، ولا يمكن أنْ يقع في الخطأ (العصمة)، يتحمَّل مهمَّة بيان هذا الدِّين وتوضيحه للناس، وهذا الشخص هو الإمام (في كلِّ عصر وزمان) حسب اعتقاد مدرسة أهل البيت.
(٧٨) (حكم العقل بوجوب اللطف على الله تعالى، وهو فعل ما يُقرِّب إلى الطاعة ويُبعِّد عن المعصية، ويوجب إزاحة العلَّة وقطع المعذرة بدون أنْ يصل إلى حدِّ الإجبار لئلَّا يكون لله على الناس حجَّة، وتكون له الحجَّة البالغة، فالعقل حاكم بوجوب إرسال الرُّسُل وبعثة الأنبياء ليُبيِّنوا للناس ما أراد الله منهم من التكاليف المقرِّبة من الخير والمبعِّدة عن الشرِّ، ويحكموا بينهم بالعدل، وأنْ يكونوا معصومين من الذنوب، منزَّهين عن القبائح والعيوب، لتُقبَل أقوالهم ويُؤمَن منهم الكذب والتحريف، وكما يجب إرسال الرُّسُل من قِبَل الله تعالى يجب نصب أوصياء لهم يقومون مقامهم في حفظ الشريعة وتأديتها إلى الناس ونفي التحريف والتبديل عنها، والحكم بين الناس بالعدل وإنصاف المظلوم من الظالم، ويجب عصمتهم عمَّا عُصِمَ منه الأنبياء). ترجمة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في أعيان الشيعة (ص ٤٤ و٤٥).

(٩٨)

(الإمامة)، وتعتقد مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّ الإمامة ولاية كاملة، وأنَّ الإمام هو الإنسان الكامل وهو حجَّة العصر وإمام الزمان، وهذا الإنسان لا بدَّ من وجوده في كلِّ عصر وزمان، ولولاه لساخت الأرض بأهلها، ولهذا الشخص (الإمام) مقاماتٌ ودرجاتٌ عالية، وأنَّ هذه المرتبة ثابتة للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وللأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) من بعده.. ويتمُّ اختيار هؤلاء الأئمَّة عن طريق التعيين والنصِّ، فإنَّ الإمامة ترتبط بالله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: ٣٠)، فهذه الخلافة الإلهيَّة غير منقطعة، وفي آية أُخرى قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: ١٢٤)، فكما هو واضح أنَّ الإمامة غير النبوَّة والرسالة، وهي جعل إلهي ومنصب ربَّاني مَثَلها مَثَل النبوَّة، ولا شأن للناس أو الأُمَّة بها، فيستحيل فيه على الإنسان أنْ ينال هذا المقام السامي وهذه المرتبة العالية من خلال انتخاب الأُمَّة أو من خلال انتخاب أهل الحلِّ والعقد له، أو من خلال الشورى أو ما شابه ذلك.
إنَّ الإمامة من المسائل الأساس في استمرار الإسلام وضمان له من الانحراف، وقد نصَّت عليها الأدلَّة والبراهين الثابتة من العقل والقرآن والسُّنَّة، فالإمامة مقام بعد النبوَّة، وضروريَّة لحاجة المسلمين والبشر لتوضيح أحكام الله بعد ختم النبوَّة.. والقرآن الكريم ذكر في آيات عديدة مقام الإمامة وأهمّيَّتها، مثل: آية الولاية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: ٥٥)، وآية الطاعة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: ٥٩)، وآية التطير، وآية المباهلة، وآية الإنذار، وآية التبليغ وكثير من الآيات.. وكذلك

(٩٩)

اهتمَّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بأمر الإمامة وصرَّح في أحاديث كثيرة جدًّا بأهمّيَّتها ومكانتها، مثل: حديث الثقلين (الكتاب والعترة)، وحديث إمام الزمان (وموتة الجاهليَّة)، وحديث المنزلة، والطير، والغدير، والسفينة وكثير من الأحاديث النبويَّة الشريفة، وهذه النصوص لم تنفرد بها الإماميَّة، بل روت العامَّة في مصادرها مثل هذه الأحاديث وتفسير الآيات، واتَّفقت مع الإماميَّة بشكل يوجب الحكم بصحَّتها.. وكذلك ورد عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عدد كبير جدًّا من الروايات التي تنصُّ على الأئمَّة الاثني عشر بأسمائهم واحداً واحداً، ومن هذه الروايات قوله لجابر بن عبد الله الأنصاري عندما سأله عن الذين وجبت طاعتهم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩].. فقال (صلَّى الله عليه وآله): «هُمْ خُلَفَائِي يَا جَابِرُ، وَأَئِمَّةُ اَلمُسْلِمِينَ (مِنْ) بَعْدِي، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ اَلمَعْرُوفُ فِي اَلتَّوْرَاةِ بِالْبَاقِرِ، وَسَتُدْرِكُهُ يَا جَابِرُ، فَإِذَا لَقِيتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي اَلسَّلَامَ، ثُمَّ اَلصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ سَمِيِّي وَكَنِيِّي حُجَّةُ اَلله فِي أَرْضِهِ وَبَقِيَّتُهُ فِي عِبَادِهِ اِبْنُ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ»(٧٩).
من مجمل ما تقدَّم، يظهر وبشكلٍ جليٍّ أهمّيَّة الإمامة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) والمقام الرفيع للإمام: (الرئاسة العامَّة، والمرجعيَّة الدِّينيَّة، والولاية الكاملة)(٨٠).. ولا بدَّ أنْ تتوفَّر في الإمام ثلاث خصال لكي يكون إماماً مفترض الطاعة، وهي:

-----------------

(٧٩) كمال الدِّين (ص ٢٥٣/ باب ٢٣/ ح ٣).
(٨٠) من مقامات الإمام أيضاً: شهادة الأعمال ﴿أُمَّةً وَسَطاً﴾، والهداية ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾، وواسطة الفيض ﴿فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، والخلافة ﴿جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾.

(١٠٠)

١ - أنْ يكون معيَّناً من قِبَل الله تعالى ومنصوصاً عليه في كلمات النبيِّ أو الإمام الذي قبله.
٢ - أنْ يكون مؤيَّداً بالعلم الإلهي بحيث لا يحتاج إلى علم الناس وهم يحتاجون إلى علمه.
٣ - أنّ يكون معصوماً(٨١) بحيث لا يخطئ ولا يعصي، كما هو حال الأنبياء (عليهم السلام).
فمَنْ توفَّرت فيه هذه الشرائط مجتمعة كان الإمام، ولو انتفى عنه شرط واحد خرج عن أهلّيَّة الإمامة.
إنَّ الخلاف بين المدارس الإسلاميَّة المختلفة(٨٢) ليس في أيِّ شخص له مثل هذا الأمر، وإنَّما في أصل وجود مثل هذا الشخص، فمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أثبتت المرجعيَّة الدِّينيَّة (جزء من الإمامة) للإمام عليٍّ (عليه السلام) وللأئمَّة من بعده، فهي تستمدُّ أحكامها منهم كما كانت تستمدُّها من الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، وتعتبر أنَّ كلَّ

-----------------

(٨١) العصمة: ملكة نفسانيَّة راسخة في النفس، تعصم الإنسان عن ارتكاب الذنب بصورة مطلقة فلا يرتكب المعاصي مطلقاً، بل لا يُفكِّر فيها أبداً ولا يحوم حولها.. بمعنى آخر: الدرجة القصوى من التقوى.
(٨٢) عالم الاجتماع والتاريخ ابن خلدون استطاع أنْ يُبيِّن حقيقة النظريَّتين الشيعيَّة والسُّنّيَّة في خصوص الإمامة، اُنظر: تاريخ ابن خلدون (ج ١/ ص ١٩٦/ الفصل ٢٧)، وبعبارة مختصرة عرَّف الإمامة عند أتباع مدرسة الخلفاء بقوله: (الإمامة: من المصالح العامَّة التي تُفوَّض إلى نظر الأُمَّة ويتعيَّن القائم لها بتعيينهم)، ثمّ قال: (الإمامة لدى الشيعة: هي ركن الدِّين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبيٍّ إغفاله ولا تفويضه إلى الأُمَّة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر).
وبعبارة مختصرة نُوضِّح أنَّ الإمامة عند الشيعة: هي استمرار للقيام بوظائف الرسالة وهي منصب إلهي، وأنَّ الإمام يتولَّى جميع وظائف الرسول، وعند السُّنَّة: حُصِرَت الإمامة في مجال السلطة والسياسة فقط وتُفوَّض للأُمَّة.

(١٠١)

الأحكام قد بيَّنها الأئمَّة (عليهم السلام) بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، ولديها ما يكفي لحلِّ جميع ما يستجدُّ من مسائل، سواء عبر اللجوء إلى الكتاب والسُّنَّة النبويَّة مباشرةً أو من خلال الأئمَّة (عليهم السلام)، فالله سبحانه وتعالى لم يُنزِل ديناً ناقصاً، بل كاملاً تامًّا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾ (المائدة: ٣)، وأنَّ النبيَّ بلَّغه كاملاً، ولكن الصيغة الكاملة من الأحكام لم يُبلِّغها النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) لعامَّة الناس، وإنَّما خصَّ بها الإمام عليًّا (عليه السلام) والأئمَّة من بعده، وأمرهم ببيانها للناس متى دعت الحاجة إلى ذلك، وهذا يعني أنَّ النبيَّ مبلِّغ عن الله والإمام مبلِّغ عن النبيِّ.. مع الأخذ في الاعتبار عدَّة نقاط جوهريَّة في هذا الجانب لإيضاح المرجعيَّة الدِّينيَّة:
* ما يتضمَّنه القرآن الكريم من أحكام، ليس سوى أحكام مختصرة جدًّا، مضافاً إلى كونها كلّيَّات.
* ما ورد من خلال السُّنَّة النبويَّة من أحكام، فإنَّها مختصرة مجملة أيضاً، ومحدوده ومستجدَّة حسب الحاجة، وليس قبل أوانها.
* إنَّ الإسلام دين يبسط حاكميَّته على جميع شؤون البشر، فبملاحظة الفترة التي عاشها (صلَّى الله عليه وآله)، فالوقت لم يكن كافياً لبيان جميع ما وصله من رسالة الإسلام.
* ضياع الكثير من أحاديث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وذلك بسبب منع تدوين الحديث، وهو أمر ثابت تاريخيًّا.
وبملاحظة هذه النقاط، يظهر بوضوح الحاجة الضروريَّة إلى الإمامة بعد النبوَّة الخاتمة، أي الحاجة إلى المرجعيَّة الدِّينيَّة (وهي جزء من مفهوم الإمامة) لإيضاح أحكام الله في المسائل المستجدَّة في الحياة ومواكبة تطوُّر مسيرة البشريَّة.. ومن هذا الباب والمدخل ترى الشيعة الإماميَّة أنَّ البحث والحديث حول الإمام

(١٠٢)

المهدي (عجَّل الله فرجه) يجب أنْ يكون من هذا المنطلق وبهذا المفهوم، باعتباره الشخص الذي يجمع المسلمون على حتميَّة ظهوره في آخر الزمان، وهو القائد الربَّاني للبشريَّة حاليًّا، وإنَّ أمر وجوده ثابت بكلِّ الأدلَّة العقليَّة المنطقيَّة والنقليَّة الصحيحة، ولهذا تعتقد الإماميَّة وتُؤكِّد بأنَّ وجود الإمام في كلِّ عصر وزمان ضروري لبيان أحكام الدِّين وحقائقه، وإرشاد الناس وهدايتهم، وهذا أصل العقيدة المهدويَّة وحقيقتها عند الشيعة الاثني عشريَّة.. أفكار تثار وأسئلة ينبغي أنْ تُطرَح: ماذا كان سيجري لو أنَّ المسلمين اتَّبعوا أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) وطبَّقوا تعاليمهم وعقائدهم(٨٣)؟ أيُّ وجهٍ كان سيبدو به الإسلام أمام العالم؟
المهدي المنتظَر في معتقَد الإماميَّة:
ينطلق الشيعة الإماميَّة في نظرتهم إلى المهدويَّة من معتقَد الإمامة، فهي الإمامة الباقية، والتي تتفرَّع من النبوَّة، فإنَّنا نجد أنَّ من مهمَّات الإمام - والمهدي المنتظَر إمام الزمان الحاضر - الولاية الكاملة على الأُمَّة وتعليمها وتربيتها، وله حقُّ الحاكميَّة عليها وإدارة شؤونها والهيمنة على مسيرتها.. والإمام هو ذلك الإنسان الحاضر والناظر والراصد لحركة الإسلام في المجتمعات، والشاهد على الناس في مدى استجابتهم وتفاعلهم مع الإسلام.. ممَّا يُؤكِّد أنَّ وجود الإمام في كلِّ عصر وزمان ضرورة لا غنى عنه، وذلك لتحقيق الأهداف الإلهيَّة، وضمن دائرة السُّنَّن الإلهيَّة الجارية وبالطُّرُق الطبيعيَّة (الطوعيَّة والاختياريَّة) وليس بأُسلوب إعجازي قاهر.
ومن هذا المنطلق: ضرورة الإمامة، وضرورة وجود إمام في كلِّ زمانٍ،

-----------------

(٨٣) النتيجة هي الابتعاد عن الضلالة.. «اِئْتُونِي اَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَا تَضِلُّوا بَعْدِي» = لا ضلال أي هداية.. التمسُّك بالكتاب والعترة = الهداية.

(١٠٣)

وطبيعة عمل الإمام في الأُمَّة ضمن السُّنَن الإلهيَّة الاعتياديَّة: يأتي ضمن هذا السياق أيضاً. إنَّ الإرادة الإلهيَّة والمشيئة الربَّانيَّة اقتضت ألَّا يزيد عدد الأئمَّة الأطهار على اثني عشر إماماً ولا ينقص عن هذا، ولم يُترَك هذا العدد للزمن (أي مفتوح وغير محدَّد)، حتَّى لا يكون سبباً في بلبلة أذهان الناس وتحيُّرهم وتضليلهم.. ولأجل هذا وذاك اقتضت الحكمة الإلهيَّة أنْ يطول عمر الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)، بانتظار أنْ تسنح الفرصة له للقيام بالحركة الإصلاحيَّة الشاملة على مستوى العالم بأسره.
بملاحظة جميع ما تقدَّم، فإنَّ غيبة الإمام واتِّخاذه موقعاً آخر يمكن من خلاله مواصلة الاتِّصال بالأُمَّة والتعامل معها، ولو من خلال سفرائه ووكلائه الخاصِّين والعامِّين، وغير ذلك من وسائل تقع تحت اختياره(٨٤).. فإنَّ الغيبة تصبح هي القرار الحكيم الذي يُعطي مسيرة الصلاح والإصلاح عامل استمرار بقوَّة وفاعليَّة أكثر.. ولولا هذه الغيبة فإنَّ فرصة الحفاظ على منجزات الرسالات السماويَّة والتي هي ثمرة جهود الأنبياء عبر التاريخ البشري، لسوف تتقلَّص وتصل إلى درجة الصفر وتُدمَّر وتنتهي الأُطروحة المهدويَّة بأسرها من خلال القضاء على المحور والقلب النابض لها والمتجسِّد في الإمام.. وممَّا يساعد على حفظ الهدف الكبير، وكذلك المحافظة على الروحيَّة الإيجابيَّة والتفاؤل والحيويَّة المؤثِّرة في الأُمَّة، تمَّ إبلاغ الناس بعلامات الظهور.. وبرؤية العلامات تتحقَّق واحدة بعد الأُخرى على صفحات التاريخ ستشحذ العزائم وتستنهض الهمم، ويكون انتظار الفرج بمثابة ماء الحياة الذي يُغذِّي الأُمَّة بالفاعليَّة والنشاط، والعلاج المؤثِّر الناجع على المشكلات والمصاعب والمتاعب.

-----------------

(٨٤) بحث: المهدويَّة في موقعها الطليعي والطبيعي للسيِّد جعفر مرتضى العاملي، موقع موعود الإلكتروني.

(١٠٤)

جذور وأُسُس الأطروحة المهدويَّة عند الإماميَّة:
انبثقت جذور الاعتقاد بالأُطروحة المهدويَّة عند الشيعة الإماميَّة من ركنيّ الإسلام الكتاب والعترة، فشقَّ الاعتقاد طريقه بيسر وسهولة باعتبار أنَّ أصل القضيَّة ومنبع الفكرة هي المصادر الرئيسيَّة للشريعة الإسلاميَّة(٨٥):
القرآن الكريم:
يمكننا أنْ نتلمَّس الآيات الكريمة التي تشير إلى المهدي المنتظَر، فقد تطرَّق كتاب الله إلى القضيَّة المهدوية بطُرُق وأساليب شتَّى، ويمكن تلخيص منهج القرآن في ذلك بالآتي:
أوَّلاً: تحدَّث القرآن الكريم عن وجود إمام لكلِّ زمانٍ: بالعنوان العامِّ (الإمامة)، أشارت آيات عديدة عن ضرورة وأهمّيَّة وجود إمام لكلِّ عصر وزمان، وهي واضحة الدلالة على وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بالدلالة الالتزاميَّة، ننتخب شذرات من هذه الآيات الكريمة:
* قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ (الإسراء: ٧١).
* قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: ٧).
* قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: ٥٩).
فالآيات السابقة تشير إلى عقيدة الإمامة، والمهدويَّة هي الإمامة الباقية والحاضرة.
ثانياً: بشَّر القرآن الكريم بوعد إلهي بنشر العدل والقسط على كافَّة الأرض: وعد إلهي وبشارة سماويَّة بأنَّ العالم سينعم بعصر مشرق مفعم بالإيمان

-----------------

(٨٥) مَنْ أراد التوسُّع في هذا الموضوع، فليرجع لكتابنا النور الغائب، الباب الأوَّل، القسم الثاني: المهدي (عجَّل الله فرجه) في المصادر الإسلاميَّة.

(١٠٥)

والعدل والسلام، على يد منقذ البشريَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، نختار جواهر من هذه الآيات الكريمة:
* قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ﴾ (النور: ٥٥).
* قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥).
* قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصَص: ٥).
لم يتحقَّق الوعد الإلهي، ولم يحل اليوم الذي يسود فيه الإسلام ربوع الأرض.. نحن ننتظر تحقُّق ذلك بخروج المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
ثالثاً: ذكر القرآن الكريم بعض ملامح عصر الظهور: إشارات ودلالات قرآنيَّة عديدة تُخبِر العالم والمؤمنين ببعض الحوادث المرافقة لقيام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، نقتطف زهوراً من هذه الآيات الكريمة:
* قال تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ (ق: ٤١ و٤٢)، مصداق لعلامة الصيحة السماويَّة (من المحتوم)، وهي صوت ونداء من السماء في شهر رمضان في ليلة القدر، يسمعه أهل الأرض كلُّهم، وكلُّ قوم بلغتهم.
* قال تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ (الشعراء: ٤)، مصداق لعلامة ركود الشمس (من غير المحتوم)، وهي توقُّف الشمس عن الحركة من الزوال إلى العصر في شهر رجب.
* قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ (النساء: ٤٧)،

(١٠٦)

مصداق لعلامة خسف البيداء (من المحتوم)، وهي تحويل وجوه أشخاص من جيش السفياني إلى القفاء، وهو الجيش الغازي والمتَّجه لمكَّة أثناء ظهور المهدي بها.
هذه أمثلة ونماذج لبعض علامات اليوم الموعود وإرهاصات الظهور ذكرها القرآن الكريم، فسَّرتها الروايات الشريفة بعلامات ظهور المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
من هنا نُؤكِّد أنَّ مصطلح (المهدي المنتظَر) لم يُذكر في القرآن صراحةً، ولكن هناك بعض الآيات الكريمة مفسَّرة ومؤوَّلة في المهدي المنتظَر.. وتمتلك المكتبة الإماميَّة مجموعة كبيرة من الكُتُب والأبحاث التي تتحدَّث عن الإمام المهدي في القرآن، بعكس مكتبات المدارس الإسلاميَّة الأُخرى التي تفتقر إلى مثل هذا النوع من الكُتُب.
من أمثلة كُتُب الإماميَّة في هذا المجال:
* كتاب (المحجَّة فيما نزل في القائم الحجَّة)، للسيِّد هاشم البحراني.
* كتاب (المهدي في القرآن والسُّنَّة)، للسيِّد صادق الشيرازي.
* كتاب (معجم أحاديث الإمام المهدي) الآيات المفسَّرة، المجلَّد الخامس، الهيأة العلميَّة في مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة.
هذه المصادر تذكر الروايات والأحاديث عن الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) التي وردت في تفسير الآيات أو تأويلها أو تطبيقها أو الاستشهاد بها في القضيَّة المهدويَّة.
السُّنَّة الشريفة:
إنَّ مسألة المهدويَّة في الإسلام لها أعمق الجذور وأعلى درجات الأصالة والصحَّة من جهة الحديث، باعتبار أنَّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) أوَّل مَنْ طرح موضوع المهدويَّة في الإسلام، وكان يُبشِّر الأُمَّة بظهوره في كلِّ منتدى ومحفل، ويتحيَّن الفُرَص للإخبار عنه، بحيث إنَّ النصوص والروايات الشريفة قد تواترت حول

(١٠٧)

المهدي وأخباره وعلامات ظهوره، ويمكن القول: إنَّ موضوع المهدي قد احتلَّ مساحة واسعة من الحديث والرواية.
أجمع عمداء أهل بيت النبوَّة والأئمَّة الأطهار، الذين ورثوا علميّ النبوَّة والكتاب، والذين اختارهم الله، وأعدَّهم وأهَّلهم لقيادة الأُمَّة ومرجعيَّتها طوال عصر ما بعد النبوَّة، والذين سمَّاهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بأسمائهم قبل أنْ يُولَد تسعة منهم.. على أنَّهم قد سمعوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يُبشِّر بالمهدي المنتظَر ويُسمِّيه باسمه: (م ح م د بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، حفيد النبيِّ الأكرم، وحفيد ابنته فاطمة الزهراء، ويُكنَّى بأبي القاسم)، وأنَّهم سمعوا رسول الله يصفه وصفاً دقيقاً، ويُؤكِّد على حتميَّة ظهوره، وأنَّ هذا المهدي (عجَّل الله فرجه) هو الإمام الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهكذا حسم أهل بيت النبوَّة اسم المهدي المنتظَر، واسم أبيه وجدِّه وكنيته.
ننتخب شذرات من الأحاديث النبوَّة الشريفة الصحيحة والمتواترة والتي تدلُّ على ولادة ووجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حاليًّا، وإنْ لم ترد هذه الروايات بخصوصه وعنوانه، ولكنَّها واضحة الدلالة:
* قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابُ اَلله، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ اَلْآخَرِ، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ».
* عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ يَقُولُ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى اَلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله) فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ هَذَا اَلدِّينَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمِضِيَ فِيهِمْ اِثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً»، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيَ عَلَيَّ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ».
* قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».

(١٠٨)

في ضوء هذه الأحاديث الثلاثة المتواترة عند المسلمين (الثقلين، الأئمَّة الاثني عشر، إمام الزمان) والتي تحمل دليلاً إضافيًّا على صدق وصحَّة صدورها عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، عدا الحكم بصحَّة أسانيدها من قِبَل جميع علماء الحديث، وأنَّه من شواهد النبوَّة لأنَّه كان مأثوراً في بعض الصحاح والمسانيد قبل أنْ يكتمل عدد الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) مباشرةً، ولكنَّها بالدلالة الالتزاميَّة تدلُّ على أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) قد وُلِدَ وتحقَّقت ولادته، وهو حاليًّا موجود ويعيش بيننا، ومن المحتوم والمؤكَّد أنَّه لا يمكن أنْ تخلو الأرض من حجَّة لله على عباده.
الأحاديث الشريفة:
بعض الملاحظات الهامَّة حول الأحاديث المتعلِّقة بالمهدي:
* المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) حقيقة دينيَّة، بشَّر بها الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، وثبت وجود مئات الأحاديث عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بهذا الخصوص.
* روى أحاديث المهدي عدد كبير من الصحابة، مثل: أهل بيت النبوَّة وآل محمّد، زوجات النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، طائفة كبيرة من الصحابة.
* أخرج أحاديث المهدي جمع كبير من علماء الحديث ودوَّنوا ذلك في كُتُبهم ومسانيدهم، وأجمعوا على أنَّها قد صدرت من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بالفعل.
* صرَّح جمعٌ من أهل الاختصاص بعلوم الحديث بصحَّة وتواتر الأحاديث المتعلِّقة بالمهدي، مثل: يوسف الكنجي الشافعي، وسليمان القندوزي الحنفي، والألباني، وابن باز.
* أجمعت الأُمَّة الإسلاميَّة بكون المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من عترة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، والكلُّ متَّفق على أنَّ المهدي من صلب الإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن أحفاد فاطمة الزهراء (عليها السلام).

(١٠٩)

* كُتِبَ عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ودُوِّنت الروايات والأحاديث بهذا الخصوص(٨٦) حتَّى قبل أنْ يُولَد (عجَّل الله فرجه) وتتحقَّق الفكرة.
إحصائيَّات:
عدد الأحاديث المتعلِّقة بالمهدي في التراث الإسلامي كثيرة جدًّا، وبالرجوع إلى موسوعة (معجم أحاديث الإمام المهدي) الذي ألَّفته مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة والواقع في خمسة مجلَّدات نجد الكمَّ الهائل من هذه الروايات الشريفة:
١ - المجلَّد الأوَّل والثاني: قد اشتملا على (٥٦٠) حديثاً من الأحاديث المرويَّة عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وبطُرُق الشيعة وأهل العامَّة.
٢ - المجلَّد الثالث والرابع: قد اشتملا على (٨٧٦) حديثاً مسنداً إلى أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، واشترك أهل العامَّة برواية الكثير منها مع الشيعة الإماميَّة.
٣ - المجلَّد الخامس: فقد اشتمل على (٥٠٥) أحاديث، وكلُّها من الأحاديث المفسِّرة لآيات قرآنيَّة.. وغطَّت هذه الأحاديث ما أورده المفسِّرون من الشيعة وأهل العامَّة.
٤ - يتَّضح أنَّ مجموع الأحاديث النبويَّة وروايات أهل البيت (عليهم السلام) (١٤٣٦) حديثاً، وإذا أضفنا لها محتويات المجلَّد الخامس، يكون مجموع الأحاديث المتعلِّقة بالمهدي (١٩٤١) حديثاً مجموع المعجم.
٥ - كتاب (منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر) للشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني، أحصى عدد (٥٣٠٣) حديث ممَّا رواه المسلمون عن القضيَّة المهدويَّة.

-----------------

(٨٦) ولمزيد من الاطِّلاع على أسماء العلماء ومعرفة كُتُبهم ارجع إلى: أصالة المهدويَّة في الإسلام (ص ٥٧ - ٦٨).

(١١٠)

المسلمون بشكلٍ عامٍّ قد آمنوا بفكرة خروج المهدي آخر الزمان، ومصدر اعتقادهم في ذلك الآيات القرآنيَّة والأحاديث الشريفة، وسلَّموا بأنَّ الوعد الإلهي والبشارة النبويَّة سوف تتحقَّق، فأصل فكرة المهدويَّة مسلَّم بها من قِبَل عامَّة المسلمين إلَّا مَنْ شذَّ وندر.
هويَّة وخصائص الإمام المهدي عند الإماميَّة:
أجمع المسلمون على أصل فكرة المهدويَّة في مفهومها العامِّ وخروجها آخر الزمان، ولكن وقع الخلاف بينهم في تحديد شخصه الكريم.. والإمام المهدي حسب تصوُّر الشيعة الإماميَّة يتميَّز بخصائص مهمَّة:
هويَّته:
الاسم: (م ح م د).. اللقب: المهدي.. الكنية: أبو القاسم.. اسم الأب: الإمام الحسن العسكري.. اسم الأُمِّ: السيِّدة نرجس (مليكة) بنت يشوع الذي ينتهي نَسَبه إلى قيصر مَلِك الروم، كما أنَّ أُمَّها ينتهي نَسَبها إلى (شمعون) الذي هو أحد أوصياء السيِّد المسيح ومن حواريه. تاريخ الولادة: يوم الجمعة (١٥/ شعبان/ ٢٥٥هـ) الموافق (٨٦٩م).. نَسَبه الشريف: قرشي، هاشمي، من عترة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، من صلب الإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، من أحفاد فاطمة الزهراء (عليها السلام)، من نسل الإمام الحسين السبط الشهيد (عليه السلام).
إمامته:
هو الإمام الثاني عشر من أئمَّة الهدى (عليهم السلام).. بدأت إمامته من وفاة والده الإمام العسكري (عليه السلام) (٢٦٠هـ) وحتَّى آخر الزمان.. بدء الغيبة الصغرى: (٢٦٠هـ).. بدء الغيبة الكبرى: (٣٢٩هـ).. يوم الخروج (اليوم الموعود): السبت (١٠/ محرَّم) من عام (مجهول عند الناس).. من خصائصه ومميِّزاته الشخصيَّة: (العصمة والعلم التامُّ والارتباط بالغيب و...)، فهي مشابهة تماماً

(١١١)

لخصائص آبائه الأئمَّة الطاهرين، بالإضافة أنَّه يمتاز بمزايا أُخرى كالإمامة المبكَّرة (إمام وهو ابن خمس سنوات)، طول العمر (عمره حاليًّا أكثر من ١١٩٠ سنة)، الغيبة (صغرى و كبرى)، سيُسيطر على العالم كلِّه وينشر التوحيد والعدل.
موجز تاريخي عن ظروف ولادته:
بناءً على البشارات الصادقة من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، بأنَّ نجل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هو آخر الخلفاء والأئمَّة الاثني عشر، وأنَّه المصلح الأعظم الذي ينشر العدل والقسط ويقضي على الظلم والجور، لذا فقد خاف العبَّاسيُّون منه، واعتقدوا أنَّه هو الذي يُقوِّض عروشهم ويُدمِّر كيانهم ويزيل دولتهم القائمة على الظلم والجور، فانتشرت شائعات قويَّة وعلى نطاق واسع مفادها أنَّ مُلك بني العبَّاس سيزول على يد رجل من آل محمّد يقال له: المهدي، وأنَّ ولادته قريبة، وهو ابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
وهكذا نجد أنَّ التاريخ يُعيد نفسه، فكما علم فرعون انهدام صرح طغيانه بواسطة النبيِّ موسى (عليه السلام)، فجمع كيده وبذل جُهده للقضاء عليه وقتله حين ولادته.. كذلك أخذت السلطة العبَّاسيَّة بنفس الإجراءات والاحتياطات فعرَّضت الإمام العسكري (عليه السلام) للسجن والاضطهاد، وفرضت عليه الإقامة الجبريَّة في (مدينة سامرَّاء)، ومنعت شيعته من الاتِّصال به، وقد حاولوا عدَّة مرَّات اغتيال الإمام العسكري (عليه السلام) ليقضوا عليه قبل ولادة ابن له، فجنَّدت الدولة مخابراتها وأجهزتها السرّيَّة للتحرِّي والبحث عن هذا الطفل (المهدي) الذي سيُولَد قريباً، فزرعت الجواسيس والعيون في كلِّ مكانٍ يحيط بالإمام وبالذات في داخل بيته.. هذه الحملة الظالمة من السلطة اضطرَّت الوالد الإمام العسكري (عليه السلام) أنْ يقوم بإجراءات متعدِّدة للتمهيد لإمامة ابنه (المهدي)، منها: أنْ يُخفي نبأ ولادة ابنه عام (٢٥٥هـ)، وألَّا يُطلِع أحداً عليه إلَّا للخواصِّ

(١١٢)

والخُلَّص من شيعته، ولمَّا علم الإمام العسكري (عليه السلام) أنَّه مفارق الحياة، نصَّ على إمامة ولده الوحيد (م ح م د)، وعرَّفه لخواصِّ أصحابه، وثقات شيعته.. ونفَّذ المعتمد العبَّاسي خطَّته باغتيال الإمام العسكري سريعاً فدسَّ له السمَّ، فانتقل الإمام الحادي عشر إلى جوار ربِّه عام (٢٦٠هـ) وهو في مقتبل العمر (٢٨ عاماً)، وآلت الإمامة إلى ابنه (م ح م د) وعمره خمس سنين.. انتشر خبر وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) وهرع رجالات بني هاشم وجميع مَنْ كان في سامرَّاء إلى دار الإمام للفوز بتشييع جثمان الإمام، وجُهِّز الجسد الطاهر لصلاة الجنازة، وانبرى جعفر (أخ الإمام العسكري) للصلاة عليه، فتقدَّم الإمام الصبيُّ (م ح م د) وقال له: «أَنَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَبِي»، ثمّ صلَّى على الجثمان المقدَّس، وأمَّ الجميع دون اعتراض من أحد وسط دهشة الكلِّ (بتحقيق بشارة الرسول)، وتسليمهم بأنَّ هذا الصبيَّ هو القائم مقام أبيه في الإمامة وهو الإمام المنتظَر، وبعد انتهاء مراسم الصلاة اختفى الإمام الصبيُّ.
اضطربت السلطة العبَّاسيَّة اضطراباً شديداً في موضوع الابن، وتساءلت متى وُلِدَ؟! وقدَّرت أنَّه المهدي المنتظَر، وبدأت تستفيق من هول الصدمة، وتتعجَّب كيف أنَّها لم تعرف بولادته! وصدَّقت الإشاعة التي انتشرت بين الناس! وأخذت أجهزتها الأمنيَّة استعدادها للإمساك به والقضاء عليه، فكبست دار الإمام العسكري (عليه السلام)، وكبسوا الدور والمنازل القريبة وفُتِّشت تفتيشاً دقيقاً.. وهكذا اتَّخذ العبَّاسيُّون جميع الإجراءات الحاسمة للتفتيش عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لإلقاء القبض عليه وتصفيته جسديًّا.. وكان من عظيم لطف الله تعالى وعنايته بالإمام المنتظَر أنْ حجبه عن عيون الظالمين من بني العبَّاس، فقد غيَّبه تعالى عن أبصارهم كما غيَّب جدَّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن أبصار قريش حينما اجتمعوا على قتله.

(١١٣)

غيبته:
نجحت خطَّة الإمام العسكري (عليه السلام) بكتمان خبر ولادة ابنه وإخفائه عن عوامِّ الناس، وأثمرت جهوده في الحفاظ على ابنه.. وكذلك فشلت أجهزة السلطة العبَّاسيَّة في القبض على الغلام والقضاء عليه، بعد أنْ تيقَّنت من وجوده، بل عجزت وبكلِّ قوَّتها عن تحديد مكان وجوده، واحتارت أين ذهب الإمام الصغير وكيف اختفى، ولم يجزم أحد بموته، بل ولم يدَّعِ أحد موته.. ممَّا يعني بأنَّ الإمام الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (شريك القرآن وأنَّهما لن يفترقا)(٨٧) ما زال حيًّا يُرزَق، ولكنَّه غائب أو مغيَّب إلهيًّا عن الناس إلى أنْ يأذن الله بظهوره في اليوم الموعود.
يُقسِّم الشيعة الإماميَّة احتجاب أو اختفاء الإمام المهدي إلى مرحلتين، ويُطلِقون عليها مصطلح الغيبة:
الأُولى الغيبة الصغرى(٨٨) (٢٦٠ - ٣٢٩هـ): بدأت منذ وفاة أبيه الإمام العسكري (عليه السلام) في الثامن من ربيع الأوَّل عام (٢٦٠هـ)، وتولِّي الإمام المهدي الإمامة والولاية، ففي هذه الفترة احتجب الإمام عن الناس، إلَّا أنَّه كان يلتقي بخيار المؤمنين والصالحين، وبدأت ترتيبات عصر إمامة المهدي وقيادته للمجتمع، وتعيين سفراء له، وإنْ لم يكن أمر السفارة غريباً على أذهان الموالين (الشيعة) بعد أنْ كان نظام الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) قائماً على ذلك بشكل طبيعي واعتيادي:
* السفير الأوَّل: عثمان بن سعيد العمري، بداية عام (٢٦٠هـ)، ولمدَّة (٥ سنوات) تقريباً.

-----------------

(٨٧) مصداق لحديث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) المتواتر والمعروف بالثقلين.
(٨٨) يقول بعض العلماء: إنَّ الغيبة الصغرى بدأت منذ ولادته (عجَّل الله فرجه) وحتَّى عام (٣٢٩هـ).

(١١٤)

* السفير الثاني: ابنه محمّد بن عثمان العمري، ولمدَّة (٤٠ سنة).
* السفير الثالث: أبو القاسم حسين بن روح النوبختي، ولمدَّة (٢١ سنة).
* السفير الرابع: عليُّ بن محمّد السمري، ولمدَّة (٣ سنين) حتَّى عام (٣٢٩هـ).
ففترة الغيبة الصغرى دامت على التحديد تسعاً وستِّين عاماً وستَّة أشهر وخمسة عشر يوماً.. وانتهت بوفاة رابع وآخر سفير ونائب خاصٍّ للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
هناك أهداف أساسيَّة من وراء الغيبة الصغرى وتعيين السفراء كنُوَّاب ووكلاء مقامه (عجَّل الله فرجه) تتمثَّل في:
١ - كانت ضروريَّة لإيجاد الارتباط بين الإمام المهدي وبين الخواصِّ من شيعته، وكانت فترة (٧٠) سنة كافية لإثبات وجود الإمام، وترسيخ ثقافة الغيبة عند الناس.
٢ - تهيئة الأُمَّة وخاصَّة القواعد الشعبيَّة الموالية للأئمَّة (عليهم السلام) لاستيعاب مفهوم الغيبة الكبرى، وتعويدهم عليها تدريجيًّا، وعدم مفاجئتهم بذلك.
٣ - قيام السفارة بمصالح المجتمع وشؤون الأُمَّة، وتعويد الناس على الارتباط بالعلماء أثناء غيبة الإمام واختفائه عن مسرح الحياة.
الثانية: الغيبة الكبرى (٣٢٩هـ - اليوم الموعود): كانت وفاة السفير الرابع يوم الخامس عشر من شعبان عام (٣٢٩هـ) إيذاناً بابتداء عصر الغيبة الكبرى، وكان التوقيع الصادر عن الإمام (عجَّل الله فرجه) إلى عليٍّ السمري قبل وفاته بستَّة أيَّام هو الإعلان عن انتهاء أمد الغيبة الصغرى وانقطاع السفارة والنيابة الخاصَّة(٨٩) وبدء عصر الغيبة الكبرى.. وبدأت مرحلة جديدة هي مرحلة النيابة العامَّة، فالنائب

-----------------

(٨٩) لا يوجد نائب خاصٌّ، من زمن انتهاء الغيبة الصغرى إلى صدور الصيحة في السماء.

(١١٥)

العامُّ لم يُشخَّص بالاسم، وإنَّما شُخِّص بالصفة (ملكة الفقاهة)(٩٠)، وذلك باعتبار ما ورد من روايات في هذا الخصوص، منها: عن الإمام العسكري (عليه السلام): «... فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ اَلْفُقَهَاءِ صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ، مُطِيعاً لِأَمْرِ مَوْلَاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ»(٩١)، وقد تقلَّد الفقهاء ومراجعنا العظام هذا الدور.. وفي هذه الفترة والمرحلة من الغيبة يكون احتجاب الإمام عن الناس شبه تامٍّ وكامل، وإنْ كانت له (عجَّل الله فرجه) عدَّة لقاءات ومراسلات مع جهابذة العلماء والمتَّقين من أعلام الشيعة.
طُرُق احتجاب الإمام عن الناس: يمكن تصوير تحرُّك ونشاط الإمام خلال احتجابه في عصر الغيبة الكبرى بأحد شكلين:
١ - خفاء الشخص: وهي أنْ يختفي الإمام بجسمه عن الأنظار، فهو يرى الناس ولا يرونه، ويتمُّ ذلك عن طريق الإعجاز الإلهيِّ، مثل ما حدث لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حينما اجتمع مشركو قريش على قتله، وهذا الاحتجاب قد يزول أحياناً عندما توجد مصلحة في زواله.
٢ - خفاء العنوان: وهي أنَّ الناس يرون الإمام المهدي بشخصه، دون أنْ يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقة أنَّه المهدي، وهذا هو الشائع في عصر الغيبة الكبرى، وهذا الاحتجاب يزول ويتحوَّل للشكل الأوَّل عندما يوجد خطر يُهدِّد حياة الإمام أو كشف أمره.

-----------------

(٩٠) (ملكة يحصل عليها الإنسان بعد دراسات مطوَّلة ومعمَّقة في الفقه والأُصول واللغة والمنطق والتفسير وغيرها من علوم، قد تستغرق (٤٠) عاماً من الدراسة المستمرَّة والمثابرة التامَّة، فإذا حصل على هذه الملكة وباقي الصفات المذكورة في محلِّها من العدالة وغيرها، أصبح مؤهَّلاً لأنْ يتصدَّى لبيان شرائع الدِّين، ويتصدَّى ليكون نائباً عامًّا عن الإمام (عجَّل الله فرجه)). صحيفة صدى المهدي (العدد ٧٩/ محرَّم ١٤٣٧هـ).
(٩١) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص ٣٠٠/ ح ١٤٣).

(١١٦)

من التكاليف المطلوبة إسلاميًّا في فترة الغيبة، ومن الضروريَّات العقائديَّة الواضحة في مدرسة الشيعة الإماميَّة: الإيمان بوجود الإمام المهدي (م ح م د ابن الإمام الحسن العسكري)، والاعتراف به كإمام مفترض الطاعة وقائد فعلي للأُمَّة والالتزام بذلك، وإنْ لم يكن عمله ظاهراً للعيان، ولا شخصه معروفاً لدى الناس، فإنَّه الإمام الثاني عشر ومعرفته تُنقِذ من موتة الجاهليَّة(٩٢)، ارتكازاً على الأدلَّة العقليَّة المنطقيَّة والأدلَّة النقليَّة الصحيحة.
صفاته الجسديَّة:
صفات الإمام المهدي الجسديَّة كما وردت في الروايات الشريفة، حيث وصفه جدُّه أمير المؤمنين: «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ أَبْيَضُ اَللَّوْنِ، مُشْرَبٌ بِالْحُمْرَةِ، مُبْدَحُ اَلْبَطْنِ، عَرِيضُ اَلْفَخِذَيْنِ، عَظِيمٌ مُشَاشُ اَلمَنْكِبَيْنِ، بِظَهْرِهِ شَامَتَانِ: شَامَةٌ عَلَى لَوْنِ جِلْدِهِ، وَشَامَةٌ عَلَى شِبْهِ شَامَةِ اَلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله)»(٩٣).. ومن أوصافه (عجَّل الله فرجه) التي وردت على لسان الإمام الباقر (عليه السلام): «إِنَّهُ شَابٌ، أَكْحَلُ اَلْعَيْنَيْنِ، أَزَجُّ اَلْحَاجِبَيْنِ، أَقْنَى اَلْأَنْفِ، كَثُّ اَللِّحْيَةِ، عَلَى خَدِّهِ اَلْأَيْمَنِ خَالٌ، وَعَلَى يَدِهِ اَلْيُمْنَى خَالٌ»(٩٤).. وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، بِالْقَائِمِ عَلَامَتَانِ: شَامَةٌ فِي رَأْسِهِ، وَدَاءُ اَلْحَزَازِ بِرَأْسِهِ، وَشَامَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِنْ جَانِبِهِ اَلْأَيْسَرِ، تَحْتَ كَتِفِهِ اَلْأَيْسَرِ وَرَقَةٌ مِثْلُ وَرَقِ اَلْآسِ»(٩٥).. عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «هُوَ رَجُلٌ أَجْلَى اَلْجَبِينِ، أَقْنَى اَلْأَنْفِ، ضَخْمُ اَلْبَطْنِ، أَزْيَلُ اَلْفَخِذَيْنِ، بِفَخِذِهِ اَلْيُمْنَى شَامَةٌ، أَفْلَجُ اَلثَّنَايَا»(٩٦).

-----------------

(٩٢) مصداق لحديث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) المتواتر والمعروف: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
(٩٣) كمال الدِّين (ص ٦٥٣/باب ٥٧/ ح ١٧).
(٩٤) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٣٤٣).
(٩٥) الغيبة للنعماني (ص ٢٢٤/ باب ١٣/ ح ٥).
(٩٦) الغيبة للنعماني (ص ٢٢٢ و٢٢٣/ باب ١٣/ ح ٢).

(١١٧)

وهنا تنبع الحكمة من ذكر أوصاف الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وعلامات تعيين شخصه، بالإضافة لعلامات ظهوره، لتقطع الطريق أمام مدَّعي المهدويَّة كذباً وبهتاناً.
بعض مزايا المهدويَّة بشكل موجز:
* الاسم: م ح م د (إمام العصر والزمان الحالي)، وعدم معرفته يموت المسلم على الجاهليَّة.
* الأب: الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، الإمام الحادي عشر للمسلمين.
* الأُمَّ: السيِّدة نرجس (مليكة) روميَّة الأصل.
* ولادته: يوم الجمعة (١٥/ شعبان/ ٢٥٥هـ)، وعمره حاليًّا أكثر من ألف عام.
* هو الإمام الثاني عشر للمسلمين، والذي نصَّ عليه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وهو القائد الشرعي الوحيد للعالم الآن.
* يتمتَّع بمزايا الإمامة كـ: العصمة، العلم التامِّ، الولاية التكوينيَّة والتشريعيَّة، الاتِّصال بالغيب.
* لا يزال حيًّا يُرزَق، ويعيش على الأرض، وينتظر الأمر الإلهي له بالخروج.
* يعيش في فترة الغيبة الكبرى، وقد يراه الناس ولا يعرفونه بما يُصطلَح عليه غيبة عنوان.
* له إشراف على العالم، وإحاطته بأخبار العباد والبلاد وكلِّ ما يجري في العالم بإذن الله.
* سيظهر في يوم معلوم عند الله مجهول عندنا(٩٧)، وتحدث علامات حتميَّة قبل ظهوره.

-----------------

(٩٧) السنة والعام الذي سيظهر فيه الإمام مجهول عند الناس.

(١١٨)

* إذا ظهر يحكم الكرة الأرضيَّة كلَّها، وتخضع له جميع الدول والشعوب في العالم.
* يُطبِّق الإسلام الصحيح كما جاء به رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وتنقاد له كافَّة الأديان والمِلَل.
* ينزل النبيُّ عيسى (عليه السلام) من السماء ويُصلِّي خلفه.
* خروجه إحدى علامات يوم القيامة الكبرى.
* يُقتَل إبليس اللعين في عصره الميمون.
* يُحقِّق حلم كلِّ الأنبياء بنشر التوحيد والعدل على الأرض كافَّة.
علامات وشروط ظهور المهدي عند الإماميَّة:
علامات الظهور:
إنَّ أخبار وعلائم الظهور(٩٨) كثر ذكرها في كُتُب وآثار الإماميَّة، ومصدرها روايات رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)، وقد أوضحوها (عليهم السلام) في مسار حديثهم عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وحظيت باهتمامٍ خاصٍّ من قِبَلهم (عليهم السلام)، ويهدفون من وراء تكرار ذكرها إلى تثبيت العقيدة المهدويَّة وترسيخها في أذهان المسلمين على طول العصور، حيث جعلوا من الانتظار الذي أعلنوا ثوابه مسبقاً قاعدة عظيمة يمكن على ضوئها تثبيت القضيَّة المهدويَّة في المجتمع الإسلامي، لذلك نجد أنَّ العلائم موزَّعة الحدث على فترات زمنيَّة متباعدة وعلى طول تاريخ الغيبة، وتنقسم علامات ظهوره (عجَّل الله فرجه) عند الإماميَّة إلى نوعين:
علامات عامَّة: تصف حالة المجتمع من حيث شيوع بعض الظواهر

-----------------

(٩٨) من أراد التوسُّع في هذا الموضوع، فليرجع لكتابنا: الفجر المقدَّس، الفصل الثالث، به أحداث سنة الظهور بالتفصيل والأدلَّة وحسب التسلسل الزمني.

(١١٩)

المنافية للدِّين والأخلاق، أو بعض الأحداث التي جاء ذكرها متناثراً هنا وهناك من حيث الزمان والمكان، ومن دون إشعار بالارتباط بينها وبين العلامات الأُخرى، وليس هناك ارتباط زمني محدَّد أو قريب من عصر الظهور، ولذا لا تُعطى تلك الأهمّيَّة من المتابعة والتأمُّل والتحليل.. ننتخب شذرة منها، ونُركِّز على بعض العلامات العامَّة الموجزة القريبة من الظهور:
* خروج المهدي في وتر من السنين.
* سنة الظهور سنة غيداقة (كثيرة المطر).
* سنة الظهور كثيرة الزلازل والخوف والفتن.
* يخرج في مكَّة المكرَّمة في يوم السبت العاشر من محرَّم في سنة مجهولة عند الناس.
* خروج الخراساني (الرايات السود) من قِبَل المشرق.
* ظهور صدر إنسان ووجهه في عين الشمس.
* ظهور مجسَّم في السماء على شكل يد بشريَّة تشير.
* ركود (توقُّف) الشمس عن الحركة لعدَّة ساعات في رجب.
* كسوف الشمس وخسوف القمر في غير وقتهما في رمضان.
* تقع معركة قرقيسيا في شمال سوريا يُقتَل فيها مائة ألف شخص.
* ثلاث رايات تخرج في الشام (الأصهب، الأبقع، السفياني) تتقاتل مع بعضها.
* تُقسَم الشام إلى خمس كور (محافظات منفصلة).
* خسف قرية من قرى الشام تُسمَّى: حرستا.
* هدم السور الأيمن من مسجد دمشق الكبير (المسجد الأُموي).
* فراغ سياسي وعسكري في الحجاز واضطرابات أمنيَّة شديدة في المنطقة.

(١٢٠)

علامات خاصَّة (المحتومة): وهي عبارة عن ظواهر وأحداث كونيَّة أو حضاريَّة أو عسكريَّة، وقد وضَّحت الروايات تفاصيلها ممَّا يجعلها من هذه الناحية هامَّة وملفتة.. وهي مرتبطة بعصر الظهور مباشرةً، ومرتبطة بعضها ببعض كنظام الخرز، وفي الروايات حُدِّدت الأماكن والأزمنة فيها بشكل قاطع ودقيق، ولكن من غير تحديد للسنة أو العام التي سيظهر بها الإمام، أي يظلُّ العام الذي به اليوم الموعود مجهول لدينا.. وهذه العلامات الخاصَّة تهدف إلى تنبيه المؤمن المنتظِر أنْ يستعدَّ لاستحقاقات اليوم الموعود، ومن المهمِّ متابعتها بدقَّة واهتمام لاستقراء ملامح يوم الظهور.
المحتومات الخمسة: هي علامات خاصَّة أُطلِقَ عليها في الروايات المأثورة بالعلامات الحتميَّة والتي لا بدَّ من وقوعها، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «لِلْقَائِمِ خَمْسُ عَلَامَاتٍ: ظُهُورُ اَلسُّفْيَانِيِّ، وَاَلْيَمَانِيِّ، وَاَلصَّيْحَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ، وَقَتْلُ اَلنَّفْسِ اَلزَّكِيَّةِ، وَاَلْخَسْفُ بِالْبَيْدَاءِ»(٩٩).
الأُولى: السفياني: خروج رجل يقال له: السفياني: (عثمان بن عنبسة من آل أبي سفيان من نسل يزيد بن معاوية) من ناحية الشام من الوادي اليابس، ويُمثِّل رمزاً للحُكَّام المسلمين الظالمين ومناهض للمهدي، وهو مدعوم من قِبَل الروم، يستولي على محافظات الشام الخمس، يشارك في معركة قرقيسيا، ثمّ يغزو العراق ويرتكب مجازر بشعة ضدَّ الشعب العراقي، ويغزو الحجاز ويكون خسف البيداء بجيشه، يخرج في شهر رجب في سنة زوجيَّة قبل عام الظهور، ويفصل بينه وبين ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه) في مكَّة ستَّة أشهر فقط.. وهذا الحدث أو العلامة متَّفق عليه بين الشيعة والسُّنَّة.
الثانية: اليماني: خروج سيِّد حسيني من نسل زيد بن عليِّ بن الحسين (عليه السلام)

-----------------

(٩٩) الغيبة للنعماني (ص ٢٦١/ باب ١٤/ ح ٩).

(١٢١)

من ناحية اليمن، ولذا أُطلِقَ عليه اليماني، وتصف الأحاديث حركته بأنَّها راية هدى، وهو يدعو للإمام، يخرج في شهر رجب في نفس يوم خروج السفياني والخراساني، وسوف يتوجَّه إلى العراق والشام، ويشارك مع الخراساني في قتال السفياني، وهو أحد أفراس الرهان في المنطقة.
الثالثة: الصيحة من السماء: حدث كوني غريب، وهو حدث من عالم الملكوت، وهو صوت ونداء من السماء (صوت جبرائيل) يسمعه أهل الأرض جميعاً، كلُّ قوم بلغتهم، يحدث هذا الصوت في شهر رمضان، ويُخبِر: ألَا إنَّ الحقَّ مع المهدي وشيعته.. وهو دليل واضح من الله سبحانه وتعالى إلى كلِّ الناس على قرب ظهور المهدي، وهذه العلامة إعجاز إلهي وهامَّة جدًّا حيث لا يمكن التلاعب بها، وهي أوضح وأصدق علامة لقرب ظهور الإمام، وقد أشار لها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ (ق: ٤١ و٤٢).. ثمّ تعقبها عمليَّة تكذيب عالميَّة واسعة (بقيادة إبليس اللعين) للتعمية على هذا الإعلان وتشويهه، فيقال: إنَّ هذا الصوت من سحر الشيعة.. وبين الصيحة وبين اليوم الموعود ثلاثة أشهر ونصف الشهر.
الرابعة: قتل النفس الزكيَّة: وهو الشابُّ الحسيني الذي يبعثه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لأهل مكَّة لتهيئة الأجواء للحركة المباركة، فينقل في يوم الخامس والعشرين من ذي الحجَّة، أي قبل ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بخمس عشرة ليلة، خطاباً شفهيًّا من الإمام إلى الحُجَّاج في بيت الله الحرام، وقبل أنْ يُكمِل كلامه تُرتكب جريمة قتله في الحرم المكّي بين الركن والمقام.. وهذا الحدث آخر العلامات، ومتَّفق عليه بين الشيعة والسُّنَّة.
الخامسة: خسف البيداء: الخسف الذي يقع بجيش السفياني القادم من

(١٢٢)

الشام إلى الحجاز، والمتَّجه إلى مكَّة المكرَّمة للقضاء على حركة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في بدايات ظهورها.. ومكان الخسف أرض البيداء الواقعة بين مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة.. وهذا الخسف كمعجزة إلهيَّة من الدلالات القويَّة على صدق وحقيقة ارتباط المهدويَّة الصادقة بالغيب.
إنَّ هذه العلامات الخمس الخاصَّة والحتميَّة، أخبر بها الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والأئمَّة (عليهم السلام) قبل أنْ يُولَد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بأكثر من قرنين.. وبدراسة هذه العلامات نستنتج عدَّة أُمور:
أوَّلاً: معالم الطريق: رسم منهج به تحذيرات وإنذارات مسبقة، ومنارات هدى على الطريق، بإيضاح صورة ومعالم رايات الهدى، وصورة ومعالم رايات الضلال.
ثانياً: مناهج عمل: رؤى عمليَّة ومناهج حركيَّة نستهدي من خلالها للتمهيد لحركة الظهور، وأنْ تأخذ هذه العلامات دورها الموجِّه والراسم لمسار الحركة الرساليَّة في زمن الغيبة الكبرى.
إنَّ علامات الظهور عبارة عن خارطة زمانيَّة ومكانيَّة للمنتظِرين، دالَّة للمؤمنين على إمام زمانهم كي لا يُخدَعوا بالمدَّعين للمهدويَّة، وخير مثال على ذلك (الصيحة وخسف البيداء)، وأنَّ هذا البلاء والظلم قد أزف زواله لقرب ظهور الإمام المنتظَر، وخير مثال على ذلك (السفياني).. فواحدة من مهمَّات علامات الظهور أنَّها تُشخِّص ذلك الوقت الموعود (يوم الظهور) وتدلُّنا عليه، وفي نفس الوقت تزرع الأمل والتفاؤل في نفوس المؤمنين في مواجهة المصاعب والمحن، وما علينا إلَّا أنْ نراقب هذه الخريطة.
شروط الظهور:
ترتكز العقيدة الشيعيَّة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على أنَّه القائد المنقذ والمخلِّص للعالم من الظلم والجور، ومطبِّق للقسط والعدل، وناشر للتوحيد على الأرض

(١٢٣)

المعمورة.. يتحتَّم توفُّر بعض الأبعاد الاستراتيجيَّة الضروريَّة يكون وجودها أساسياً ورئيسياً في بداية نشوء حركة (الفتح المهدوي العالمي) لتحظى هذه الثورة العالميَّة والتغيير الشامل بالنجاح، وتستطيع أنْ تُحقِّق أهدافها المنشودة على المدى القريب والبعيد، وتتوفَّق لإحداث تغيير جذري شامل في حركة ومسيرة البشريَّة، وأهمُّ هذه الأبعاد أو الشروط(١٠٠)، هي:
أوَّلاً: البُعد القيادي: القائد الحكيم، ذو الخبرة والكفاءة لإدارة هذا التغيير الشامل وتأسيس الدولة الفاضلة، وهذه القيادة متمثِّلة في المهدي المنتظَر (الإمام المعصوم).
ثانياً: البُعد الأيديولوجي: العقيدة أو الشريعة أو القوانين التي تُنظِّم أُمور هذه الدولة، والتي تصلح لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وهذه العقيدة متمثِّلة في آخر الأديان السماويَّة (الإسلام).
ثالثاً: البُعد الاستراتيجي المستقبلي: رؤية واضحة وبصيرة ثاقبة للتغيير الشامل، ونظرة مستقبليَّة لتطوُّر المجتمع البشري، وهذه الرؤية متمثِّلة في نشر التوحيد والعدل (دولة آل محمّد).
رابعاً: البُعد البيئي: والمتمثِّل في أبعاد متعدِّدة لها علاقة بتهيئة الظروف البيئيَّة العامَّة التي تساعد على النجاح:
* وجود العدد الكافي من الأفراد والكوادر المنفِّذين والمضحِّين بين يدي القائد العظيم في بداية الحركة (الأنصار ٣١٣).
* يأس شعوب العالم من القوانين والأنظمة الوضعيَّة وتجارب الثورات السابقة، وعدم تحقيق طموح هذه الشعوب بفشل الحلول التي طرحتها النظريَّات والسياسات المختلفة (تهيئة القاعدة الشعبيَّة).

-----------------

(١٠٠) بعض العلماء يضيف إلى الشروط: شرط الإذن الإلهي، وشرط القدرة على مواجهة الأعداء بشكل طبيعي وليس إعجازي.

(١٢٤)

* التقدُّم العلمي والتكنلوجي لتوفير الوسائل التي تساعد القائد على إدارة العالم - ومع اتِّساع نطاقه وحجمه - بيسر وسهولة، وضمان توفير الرفاهية والرخاء الأمثل للبشريَّة لاحقاً.
وبعبارة أُخرى، هذه الأبعاد الاستراتيجيَّة ضروريَّة لبناء الدولة الفاضلة، القائمة على وجود قيادة حكيمة، وأيديولوجيَّة متكاملة، ورؤية استراتيجيَّة مستقبليَّة ثاقبة، وقبول شعبي عالمي وتوفُّر الوسائل لهذا التغيير، ليتسنَّى للدولة النجاح وتحقيق طموح كلِّ الأنبياء.
معالم الدولة المهدويَّة الفاضلة:
تمتاز الأُطروحة المهدويَّة الإماميَّة بأنَّها ترسم نهاية سعيدة ومشرقة لتاريخ البشريَّة، وأنَّ المحطَّة الأخيرة التي سيصل لها الإنسان في مسيرته المستقبليَّة أفضل المراحل وأجمل المحطَّات، عصر متألِّق بالسعادة والرفاهية والخير والعدل والقسط، وانعدام الظلم والجور والحروب والقتل والفساد، عصر تشرق به الأرض بنور ربِّها، نظرة متفائلة إيجابيَّة تحمل روح الأمل الكبير الذي لا يتوقَّف ولا ينطفئ، نظرة تحثُّ على الحيويَّة والنشاط وتدفع للتقدُّم والعمل، نظرة متطابقة مع القرآن الكريم في وراثة الأرض.. بعكس النظريَّات والأُطروحات الفلسفيَّة الغربيَّة التي تُؤكِّد وتقول (بأنَّ الإنسان في تدهور، وأنَّ العالم في تأخُّر، ويسير نحو الأسوأ، وأنَّ البشرية تحفر قبرها بنفسها)(١٠١)، نظرة كلُّها تشاؤم وإحباط، نظرة سوداويَّة قاتمة لمستقبل البشريَّة.
للتعرُّف على معالم وسمات الدولة المهدويَّة وما تمتاز به من خصائص، لا بدَّ

-----------------

(١٠١) ارجع إلى الكُتُب التالية: كتاب الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكاياما (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، وغيره من الكُتُب الغربيَّة في هذا المجال.. كتاب نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ لمرتضى المطهَّري، وكتاب النظريَّة المهدويَّة في فلسفة التاريخ لأسعد قيدارة.

(١٢٥)

أنْ نرسم بعض التصوُّرات والآمال المستقبليَّة عند الشيعة بناءً على الروايات الشريفة عن دولة السماء في الأرض دولة آل محمّد (صلَّى الله عليه وآله):
١ - إسلاميَّة:
الهدف والغاية من بعثة الأنبياء والرُّسُل هو نشر التوحيد والتعاليم الإلهيَّة بين الأُمَم والشعوب، والدِّين الإسلامي هو خلاصة كلِّ الأديان السماويَّة وخاتمها، فدستور الدولة المهدويَّة الأساس هو القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة والعمل على تطبيقهما وتنفيذ أحكامهما، فالإسلام الصحيح كما جاء به الرسول (صلَّى الله عليه وآله) في الدولة الفاضلة هو الدِّين والمعتقَد والنظام والدستور، نظريًّا وعمليًّا وقولاً وفعلاً.
٢ - العالميَّة:
حكومة الإمام (عجَّل الله فرجه) تبسط هيمنتها وسيطرتها على جميع أنحاء العالم، من خلال فتوحاته لكافَّة أركان الكرة الأرضيَّة، وأنْ تكون مقاليد المجتمع البشري بيد الصالحين، ويُشكِّل حكومة عالميَّة واحدة تسقط فيها الحواجز القوميَّة، وتتوحَّد فيها كلُّ البشريَّة تحت ظلِّ سيادة واحدة.. فهو (عجَّل الله فرجه) الوارث الحقيقي للأرض وله الحاكميَّة المطلقة كما وعد الله سبحانه وتعالى الاستخلاف في الأرض.
٣ - العدالة:
هو المعلَم البارز في الدولة المهدويَّة، وهو مدلول أيديولوجي وسياسي يرتبط بأهداف ومناهج وأولويَّات الدولة، يُطبَّق العدل والقسط في أنظمة الدولة وتُترجَم إلى أفعال وأعمال حقيقيَّة، ويُزيل آثار الظلم والجور، فتتحقَّق أحلام الإنسانيَّة في حياة قائمة على العدل والمساواة، ويتشكَّل المجتمع العادل كما دعت وطمحت له الشرائع السماويَّة.

(١٢٦)

٤ - الأمن والقضاء:
في بداية تأسيس الدولة المهدويَّة ستُشَنُّ عمليَّة تطهير واسعة، وإعلان حرب صريحة ضدَّ الظلم والجور، ويتمُّ قلع جذور الفتن والحروب والجريمة من الأساس، فيزول الخوف ويستتبُّ الأمن ويستقرُّ الاطمئنان في المجتمع البشري في ظلِّ دولته (عجَّل الله فرجه).. ويرجع الفضل في ذلك لإعطاء الأهمّيَّة والموقع الكبير للقضاء والمحاكم، والذي سيكون الفصل فيها على أساس الحقائق والواقع وليس على أساس الأدلَّة التي تُثبِت الادِّعاء القائم على الظنِّ والظاهر، فينتشر العدل ويستتبُّ الأمن.
٥ - الازدهار الاقتصادي:
يتنامى التقدُّم الاقتصادي وتُطبَّق سياسة اقتصاديَّة فاعلة، وتُدار الأسواق العالميَّة بكفاءة وفاعليَّة، وتُوزَّع الثروة الماليَّة بشكل عادل، وتُستخرَج الموارد الطبيعية بشكل تكفي الحاجة، إضافةً إلى ذلك فإنَّ الدولة الفاضلة تُوفِّر الغذاء والسكن والتعليم والعلاج، وتضمن للفرد مستقبلاً مريحاً في آخر العمر، فتنعدم الحاجة لجمع المال والاستكثار منه.. فتنقلب القِيَم حينها، فلا يُعَدُّ للمال قيمة تُذكر، بل للتقوى والأخلاق (القلب السليم)، فيعمُّ الرخاء والرفاه الاقتصادي والمعيشي على كلِّ البشريَّة، إلى درجة أنَّه لا يجد الرجل موضعاً لصدقته.
٦ - التقدُّم العلمي والثقافي:
ستكون هناك قفزة في تقدُّم الحياة الإنسانيَّة على الأرض في جميع مرافقها، فيتنامى البُعد المعنوي لدى المجتمع إلى جانب التقدُّم العلمي، فيبرز التقدُّم الصناعي والتقني على أثر تكامل العقول في عصر الإمام (عجَّل الله فرجه)، فتتطوَّر وسائل المعرفة والتعليم وتُكتشَف علوم جديدة (٢٥ حرف كما عبَّرت عنه

(١٢٧)

الروايات)(١٠٢)، فتحدث نهضة علميَّة وقفزة ثقافيَّة هائلة، ونقلة نوعيَّة حضاريَّة في مسيرة البشريَّة من ناحية العلم والمعرفة، بحيث يصنع من العالم جنَّة حقيقيَّة.
٧ - تكامل الصحَّة:
في عهده الميمون ومع تقدُّم العلم وتكامل العقول، يتمُّ في البدء اكتشاف وتوفير العلاج الناجع لكلِّ الأمراض (الجسديَّة، والنفسيَّة، والروحيَّة)، وبعد أنْ تشعَّ أنوار الولاية المهدويَّة في كلِّ مكانٍ وعلى جميع الأشخاص، ستصل أبحاث الإنسانيَّة في مجال الطبِّ والعلاج إلى أعلى مراتبها، فتُكتشَف طُرُق وأساليب جديدة ومبتكرة للشفاء، فتزول الأمراض تدريجيًّا عن المجتمع، وتُمحى من قاموس اللغة في ذلك العصر كلمات مثل المرض والألم، وينال الجميع السلامة والصحَّة الكاملة، فيمتاز أبناء ذلك الزمان بطول العمر، حتَّى يُولَد للرجل ألف ولد.
٨ - الانفتاح على العوالم الأُخرى:
الرحلات الفضائيَّة في عصرنا الحالي بداية الخطوات للانفتاح على عالم الفضاء والوجود، وفي ذلك العصر المشرق سيضحكون على وسائلنا ومناهجنا الحاليَّة (فأقصى ما وصلنا إليه سرعة الضوء)، فعندها تصل الإنسانيَّة إلى الكمال والحضارة الواقعيَّة المطلقة، عصر التكنولوجيا وتسخير السحاب في الفضاء، والتعرُّف على أسباب السماوات، والاستفادة من القدرات الكامنة وراء المادَّة، عصر التطوُّر المادِّي والمعنوي في أعلى مراتبه.. وتسنح الفرصة للبشريَّة الاتِّصال بسُكَّان الكواكب البعيدة، والانفتاح على عالم الموت وحياة البرزخ، وتدخل البشريَّة في عصر ومرحلة جديدة لم تعرفها من قبل.

-----------------

(١٠٢) عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «اَلْعِلْمُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفاً، فَجَمِيعُ مَا جَاءَتْ بِهِ اَلرُّسُلُ حَرْفَانِ، فَلَمْ يَعْرِفِ اَلنَّاسُ حَتَّى اَلْيَوْمِ غَيْرَ اَلْحَرْفَيْنِ، فَإِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) أَخْرَجَ اَلْخَمْسَةَ وَاَلْعِشْرِينَ حَرْفاً فَبَثَّهَا فِي اَلنَّاسِ، وَضَمَّ إِلَيْهَا اَلْحَرْفَيْنِ حَتَّى يَبُثَّهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ حَرْفاً». مختصر بصائر الدرجات (ص ١١٧).

(١٢٨)

إنَّ هذه السمات والمعالم هي الوجه المشرق في ظهوره (عجَّل الله فرجه)، وهذا ما ينتظر الإنسانيَّة على يده المقدَّسة، وهذه هي الرؤية الشيعيَّة وأُسُس نظرتها المستقبليَّة المشرقة والواضحة للأجيال المسلمة وغيرها.. فالحديث عن الخطوط العريضة لدولة المهدي (عجَّل الله فرجه) وعصره الميمون، وما يكتنفه من تطوُّر وأحداث، سيجذب القلوب الطاهرة ويجعلها تنبض بشوق وحماس للوصول ولتحقُّق ذلك العصر المتألِّق.
إيضاح لشُّبُهات وإشكالات حول الأطروحة الإماميَّة:
صعب على البعض أنْ يستوعب العقيدة المهدويَّة حسب الأُطروحة الإماميَّة، فلا زالوا ينظرون إليها من خلال الذيول التاريخيَّة وما يرتبط بها، دون إعمال فكرهم وعقولوهم لدراسة جوهر منهجها ومبانيها العقائديَّة، ممَّا أدَّى إلى أنْ تكون نظرتهم سطحيَّة وهامشيَّة وبعيدة كلُّ البُعد عن الحقيقة.. لذا نجد أنَّ القوم يجهلون الكثير من المعطيات بخصوص الفكر والثقافة المهدويَّة، والتي بقيت ملتبسةً ومشوَّشةً في تراثهم، ولهذا نجد كثرة ظاهرة ادِّعاء المهدويَّة والانتساب إلى عنوانها في أوساطهم، بالإضافة للأهداف المشبوهة للبعض والذي يسعى من خلال بثِّ وإشاعة الشُّبُهات لتشويه صورتها وتزييف حقيقتها بعد استثقالها.
إنَّ العقيدة المهدويَّة مع ثبوت يقينيَّتها وصدقها عقلاً ونقلاً وبالأدلَّة الصحيحة والمتواترة، إلَّا أنَّها لم تسلم من توجيه سهام الشُّبُهات وترادف الإشكالات عليها، فضلاً عن التشكيك بأصل القضيَّة، بل تطاولت بعض الأقلام المغرضة لتصف القضيَّة المهدويَّة بأنَّها من القَصَص والخرافات التي ابتدعتها الشيعة.. ولكن الحقيقة التي يجب إدراكها قبل الإيمان بالأُطروحة المهدويَّة الإماميَّة وتصديق كلِّ ما يتعلَّق بها من قبيل الغيبة وطول العمر و...

(١٢٩)

إلخ، وجوب إدراك ومعرفة حقيقة ومنصب ومقام وعقيدة (الإمامة)، حيث هناك تلازم وارتباط وثيق بين مهدويَّة الشيعة، وبين فهم حقيقة الإمامة الربَّانيَّة لمذهب الاثني عشريَّة في ضوء القرآن الكريم وحديث الثقلين ورواية الخلفاء الاثني عشر وحديث الكساء.. فعند التأمُّل بعمق في الآيات القرآنيَّة والنصوص النبويَّة حول هذه الحقيقة، حينها ستكون هذه الشُّبُهات لا مكان لها من الإعراب، ومن السهل تقبُّلها وتصديقها وإدراك حقيقتها وبمنطق العقل والعلم.
ما زال البعض يحاول إثارة الإشكالات والتساؤلات حول الإمام (م ح م د) بن الحسن العسكري (عليه السلام)، وعادةً تتردَّد هذه الشُّبُهات بكثرة على لسان بعض المتطفِّلين على تراث الثقافة الإسلاميَّة، ولهذا تجدهم يتذرَّعون بحُجَج واهية، كما سيتَّضح ذلك من دراستها ومناقشتها، ومن الذرائع الهزيلة التي تمسَّكوا بها في هذا المقام ما يلي:
* إنكار ولادته.
* استهجان إمامته المبكَّرة.
* التشكيك في طول عمره.
* ما فائدته في غيبته؟
* فرية السرداب.
هذه هي أهمُّ الإشكالات التي يُوجِّهونها للأُطروحة الإماميَّة ويسوقونها في هذا المقام(١٠٣)، وسوف نقف عندها بالمقدار الذي يسمح به البحث، لكي

-----------------

(١٠٣) قام علماء الإماميَّة بالردِّ على هذه الشُّبُهات والإجابة عليها في مؤلَّفات مستقلَّة، ومَنْ أراد التوسُّع والاستفاضة نحيله إلى المصادر المؤلَّفة في هذا المجال مثل: موسوعة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) قراءة في الإشكاليَّات (٥ مجلَّدات) للسيِّد عبد الله الغريفي، وكتاب العقيدة المهدويَّة إشكاليَّات ومعالجات للسيِّد أحمد الإشكوري.. والعديد من الكُتُب في هذا المجال.

(١٣٠)

يتَّضح بجلاء أنَّ تلك الشُّبُهات الباطلة، مخالفة لمنطق العقل ومنهج العلم، وغريبة عن العقيدة الإسلاميَّة وثقافتها، فمنهج الإسلام يقوم على العقل والمنطق، ويعتمد على الفطرة، ويستند إلى الغيب، والمهدويَّة الإماميَّة تنبثق من كلِّ ذلك، وحقيقتها تتوافق مع المنهج القرآني والمنهج النبوي.
الأوَّل: إنكار ولادته:
من الشُّبُهات التي تُثار هنا: هل المهدي وُلِدَ؟ وهل هو موجود حاليًّا أم أنَّه سيُولَد في المستقبل؟ لماذا نعتقد بأنَّ المهدي قد وُلِدَ فعلاً؟ وما المانع من أنْ يُولَد قبل ظهوره بقليل؟ هذا الإشكال هو أهمُّ اختلاف بين الشيعة وأهل العامَّة في موضوع المهدي.
يعتقد الإماميَّة بأنَّ المهدي الموعود هو الإمام الثاني عشر، والذي وُلِدَ بسامرَّاء (العراق) في (١٥/ شعبان) من عام (٢٥٥هـ)، وغيَّبه الله (لحكمة لم ينكشف لنا أبعادها، وتُعتبَر سرًّا من أسرار الله)، أمَّا مدرسة أهل العامَّة فذهب فريق كبير منها إلى أنَّه لم يُولَد بعد وسيُولَد في آخر الزمان.
الإمامة المهدويَّة أمر عقائدي، وللاستدلال على أمر عقائدي نحتاج إلى دليل من ثلاثة:
١ - دليل عقلي: مبنيٌّ على برهان، بمعنى أنَّه مبنيٌّ على بديهيَّة عقليَّة وليس مغالطة أو جدل.
٢ - دليل نقلي (القرآن الكريم): آية محكمة، وليست متشابهة.
٣ - دليل نقلي (السُّنَّة الشريفة): حديث أو رواية قطعيَّة الصدور، قطعيَّة الدلالة.
قطعيَّة الصدور: أي رواية متواترة بحيث تفيد اليقين.
قطعيَّة الدلالة: أي ظاهرة المعنى، ولا تقبل التأويل.

(١٣١)

إنَّ مسألة ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ووجوده وحياته وغيبته (أمر عقائدي - غيبي - كوني)، لا يمكن الاكتفاء فيه بالبحث التاريخي فقط، بل هو إثبات عقائدي وتاريخي في آنٍ واحدٍ، تقوم فيه العقيدة بلعب دور أساسي، فيما يلعب البحث التاريخي فيه دوراً تكميليًّا.. فنحن لا نتحدَّث عن قضيَّة مادّيَّة محسوسة بكلِّ أبعادها، حتَّى نعتمد في إثباتها وإنكارها على المؤرِّخين فقط، وإنَّما نتحدَّث من حيث الأساس عن قضيَّة غيبيَّة (كونيَّة) مرتبطة بسُنَن الله في الكون، أي إنَّ الدليل عليها عقائدي قبل أنْ يكون تاريخي.
الشيعة الإماميَّة يستطيعون أنْ يستدلُّوا بأدلَّة وبراهين عقليَّة ونقليَّة، عقائديَّة وتاريخيَّة وافرة للتأكيد على ولادة المهدي (م ح م د) بن الحسن العسكري (عليه السلام)، ووجوده وغيبته، وبقائه إلى أنْ يأذن الله له بالظهور في اليوم الموعود:
أوَّلاً: الدليل العقلي والناحية العقائديَّة:
الشيعة تقول: إنَّ ولادة المهدي ووجوده ثابت على نحو اليقين بالعقل، فضلًا عن النقل.. (وهذا الأصل الاعتقادي عند الإماميَّة، ليس مستنده الأدلَّة النقليَّة فقط، بل الأساس فيه هو العقل الحاكم بضرورة وجود الإمام الهادي في كلِّ عصر، المنصوص عليه من قِبَل الله تعالى على لسان النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله).. فالمنهج والاستدلال العقلي على ولادة ووجود الإمام المهدي، تُقسِّمه الإماميَّة إلى قسمين:
١ - الدليل العقلي على ضرورة وجود الإمام وتعيينه أو نصبه من قِبَل الله (عزَّ وجلَّ).
٢ - الدليل العقلي على استمراريَّة هذه الإمامة للوصول إلى إمامة المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه).

(١٣٢)

ومن هنا يتبيَّن لماذا طُرِحَت الإمامة في الفكر الشيعي كأصل عقائدي، لا كحكم فقهي فرعي، وهذا هو مبنى الشيعة في اعتقادهم بضرورة الإمامة بعد النبوَّة الخاتمة.. فالله تعالى لم يترك الأرض ولن يتركها على الإطلاق من دون إمام معصوم يحمل مواصفات الرسول (صلَّى الله عليه وآله) ويستمرُّ في أداء الوظيفة الإلهيَّة التي من أجلها بُعِثَ إلى البشريَّة هادياً ونذيراً، وأمَّا إثبات خصوص إمامة (م ح م د) بن الحسن العسكري، فإنَّما يستند فيه العقل إلى النقل بعد ثبوت أصل الدليل العقلي على ضرورة الإمامة)(١٠٤).
إضافةً إلى تلك الأدلَّة والشواهد العقليَّة، فإنَّ هناك الكثير من الروايات التي أشارت إلى أنَّ الأرض لا تخلو من الحجَّة ولولا ذلك لساخت بأهلها، لأنَّ الإمام المعصوم سبب لتنزُّل الرحمة ورفع العذاب عن أُمَّته، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ (الأنفال: ٣٣)، وهناك روايات تُؤكِّد على ضرورة وجود إمام في كلِّ زمانٍ، وعدم إمكانيَّة وجود إنسان على الأرض مع غياب الحجَّة، قال الإمام الرضا (عليه السلام): «لَوْ خَلَتِ اَلْأَرْضُ طَرْفَةَ عَيْنٍ مِنْ حُجَّةٍ لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا»(١٠٥)، وإمامة أهل البيت (عليهم السلام) امتداد لخطِّ النبوَّة والهداية، وأكبر مصداق لامتداد الإمامة هو وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ومن هذا المنطلق كان التأكيد على ضرورة معرفة الإمام في كلِّ زمان، كما في الحديث النبوي: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
ثانياً: الدليل النقلي والناحية التاريخيَّة:
من الناحية التاريخيَّة فقد وردت قصَّة ميلاد الإمام المهدي في عدد كبير من

-----------------

(١٠٤) بحوث في الحياة السياسيَّة لأهل البيت (عليهم السلام) (ص ٣١٦ - ٣٢١/ أدلَّة وجود وإمام المهدي (عجَّل الله فرجه))، بتصرُّف.
(١٠٥) بصائر الدرجات (ص ٥٠٩/ ج ١٠/ باب ١٢/ ح ٨).

(١٣٣)

كُتُب الشيعة، من أهمّها موسوعة (بحار الأنوار) للمجلسي(١٠٦)، وتثبت بالفعل ولادته من حيث المصداقيَّة التاريخيَّة، إضافةً إلى ذلك عرفنا اتِّفاق كلمة المسلمين على تحديد نَسَبه وأنَّه من أهل البيت (عليهم السلام)، وأنَّ ظهوره يكون في آخر الزمان.
للاطِّلاع والتعرُّف على الأدلَّة والبراهين النقليَّة والتاريخيَّة، فقد ذكرنا شذرة من تلك الحُجَج في بداية هذا البحث، في فقرة (جذور وأُسُس الأُطروحة عند الإماميَّة)، - بالإضافة إلى أنَّنا كتبنا بحثاً مطوَّلاً(١٠٧) بعنوان: (اليقين بوجود المهدي) تطرَّقنا فيه إلى الأدلَّة التاريخيَّة والنقليَّة بشيء من التفصيل - ونشير هنا لعناوين تلك الأدلَّة وبعض الشواهد بإيجاز:
١ - الآيات القرآنيَّة (دليل نقلي): التي تُؤكِّد على ضرورة وجود إمام لكلِّ عصر وزمان، بالإضافة للآيات(١٠٨) التي يُستدَلُّ بها على موضوع الإمامة، والآيات التي تشير إلى استمرار الإمامة بعد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، والتي أحصاها العلماء بما يزيد على المائة آية(١٠٩).
٢ - الأحاديث النبويَّة الشريفة (دليل نقلي): التي تطرَّقت إلى الإمام المهدي بعنوانه العامِّ (الإمامة)، فقد تواترت في الدلالة والإشارة إلى أنَّ ظاهرة

-----------------

(١٠٦) بحار الأنوار (ج ٥١/ ص ٢ - ٢٨/ الباب الأوَّل: باب ولادته وأحوال أُمِّه).
(١٠٧) كتابنا النور الغائب (ص ٦٥ - ١٢٥/ الباب الأوَّل: الفصل الثاني: اليقين بوجود المهدي).
(١٠٨) آيات عديدة تُؤكِّد على ضرورة وجود إمام في كلِّ زمانٍ، مثل: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: ٧)، ﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القَصَص: ٥١)، وإيصال القول أي تبليغهم بآيات الله وأحكامه، وهذه لا يقوم بها إلَّا الإمام الربَّاني، وفي زماننا الحاضر هو الإمام المهدي، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: ٣٠)، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصفّ: ٨)، وكلُّها أدلَّة قرآنيَّة قبل الحدوث، أي قبل ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه).
(١٠٩) ارجع إلى عنوان: جذور الأُطروحة المهدويَّة، أمثلة لكُتُب الإماميَّة في هذا المجال.

(١٣٤)

الإمامة مستمرَّة غير منقطعة، ومنها الأحاديث المتواترة: الثقلين، الخلفاء الاثني عشر، إمام الزمان، والتي تفيد بالدلالة الالتزاميَّة بولادة الإمام ووجوده حاليًّا(١١٠).
٣ - إخبار الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والأئمَّة (عليهم السلام) (دليل نقلي): بأنَّه سوف يُولَد للإمام العسكري (عليه السلام) ولد، ثمّ يغيب ويتمتَّع بعمر مديد حتَّى يأذن الله له بالظهور ويملأ الأرض عدلاً.. ممَّا يلزم على كلِّ مسلم تصديق ذلك(١١١).
٤ - شهادة والده والقابلة (دليل تاريخي): شهادة واعتراف والده الإمام العسكري (عليه السلام) بولادة ابنه الإمام المهدي الموعود، وكذلك شهادة السيِّدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام)، وهي القابلة التي أشرفت على الولادة.
٥ - عشرات الشهادات برؤية الإمام (دليل تاريخي): قائمة طويلة من الأسماء، ممَّن رأى الإمام واتَّصل به في مراحل حياته، سواء مع أبيه أو في الغيبة الصغرى أو في الغيبة الكبرى وشهدوا بذلك، وسجَّلتها المصادر التاريخيَّة.
٦ - تصرُّف السلطة العبَّاسيَّة مع الحدث (قرينة تاريخيَّة): بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) تعاملت السلطة مع عائلة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بطريقة تدلُّ على خوفها من مولود خطير خفي عنها، وقد سجَّل التاريخ ذلك، كموقف فرعون من موسى (عليه السلام).
٧ - اعترافات بعض علماء السُّنَّة بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) (قرينة تاريخيَّة): الكُتُب والمصادر تُثبِت اعترافاً صريحاً لأكثر من مائة عالم من أهل السُّنَّة

-----------------

(١١٠) معجم أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) ذكر (٥٦٠) حديثاً مرويًّا عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، راجع عنوان: إحصائيَّات.
(١١١) راجع الإحصاء الذي ذكره الشيخ لطف الله الصافي في منتخب الأثر، والذي يتضمَّن عدد ومجموع الروايات التي رواها الشيعة والسُّنَّة حول الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).. كذلك الإحصائيَّات التي ذُكِرَت في فقرة جذور الأُطروحة.

(١٣٥)

ومن أجيال مختلفة بولادة المهدي، وبعضهم قال بأنَّ ابن الحسن العسكري هو الإمام الموعود بظهوره في آخر الزمان.
٨ - قضيَّة السفارة وتواقيع الناحية المقدَّسة (قرينة تاريخيَّة): خروج التواقيع وأجوبة الإمام على المسائل بواسطة السفراء الأربعة، وبالخطِّ نفسه المعروف للإمام ومن دون تغيير طوال (٧٠ سنة) وبنفس الأُسلوب والمضمون، وهذه مسألة واضحة في تاريخ الشيعة.
٩ - اعترافات علماء الأنساب بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) (قرينة تاريخيَّة): الرجوع إلى أصحاب كلِّ فنٍّ أمر ضروري، ولاسيَّما فيما نحن بصدده من الحديث عن علماء الأنساب، فذكر اسمه الشريف في مصنَّفات الأنساب دليل إثبات على إيمانهم وتصديقهم بولادته، وخاصَّةً إذا كانوا من مذاهب مختلفة، فنجد فيهم من أهل العامَّة والزيدي إلى جانب الشيعي، فأهل مكَّة أعرف بشعابها.
١٠ - قرائن تاريخيَّة عديدة، مثل: شهادة الخدم والإماء برؤية المهدي في بيت الإمام العسكري (عليه السلام).. وضوح فكرة ولادة الإمام وغيبته بين الشيعة وعلى طول مراحل التاريخ من عام (٢٥٥هـ) وحتَّى يومنا هذا.. آثار تدلُّ على وجوده، مثل: أقواله وكلماته وتعليماته ووصاياه وأدعيته وصلواته ورسائله وتوجيهاته.. وغير ذلك من القرائن والشواهد التاريخيَّة، ممَّا لا يُعطي مجالاً للشكِّ بوجوده (عجَّل الله فرجه).
أدلَّة وبراهين وشواهد وقرائن عديدة، وأحاديث وروايات متواترة وصحيحة وواضحة الدلالة على ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).. هل بعد كلِّ هذه الأدلَّة وإضافة القرائن والعوامل المساعدة معها، هل يخالجنا أدنى شكٍّ بولادته ووجوده (عجَّل الله فرجه)؟!.. لنسأل منطق العقل ومنطق العلم بعد هذه البراهين ماذا يقول؟

(١٣٦)

الثاني: استهجان إمامته المبكَّرة:
إنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) خلف أباه في إمامة المسلمين في وقت مبكَّر من حياته الشريفة، وهو يومئذٍ ابن خمس سنين.. وهذا ما يستشكله المخالفون على الشيعة قبولهم وإيمانهم بإمامته وهو في هذه السنِّ الصغيرة، علماً بأنَّ من شروط إمام صلاة الجماعة عند الشيعة (البلوغ)، فكيف بإمامة جميع المسلمين في كافَّة شؤون الحياة، وبتحمُّل مسؤوليَّة تبليغ الشريعة والحفاظ عليها، وهذا من الشُّبُهات التي تُثار وتُطرَح بخصوص الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
إنَّ خصوصيَّة الإمامة المبكَّرة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لهي إمامة حقيقيَّة واقعيَّة تحمل المؤهَّلات الكافية بكلِّ ما في الإمامة من محتوى فكري وروحي، وهي ليست إمامة مفترضة أو مدَّعاة، ويمكن النظر إليها من ناحيتين:
١ - الناحية العقائديَّة:
إنَّ الشيعة الإماميَّة تؤمن بأنَّ الإمامة من أُصول الدِّين، والتي هي من شؤون ربِّ العالمين، وليست من خصائص المكلَّفين، أي إنَّها مسألة عقائديَّة مَثَلها مَثَل النبوَّة تقوم بالدليل والبرهان، ولا تخضع لمقاييس الناس أو المقاييس الفقهيَّة (كالبلوغ - الحجر على الصغير)، فإذا قام الدليل على إمامة الصغير فلا بدَّ من الإذعان لها كما أذعنا لنبوَّة الصغير، وهكذا نجد القرآن الكريم يُصرِّح بثبوت النبوَّة للصبيِّ، وعندنا مثالان على ذلك:
* النبيُّ عيسى بن مريم (عليه السلام)، وهو من أُولي العزم، جُعِلَ نبيًّا وهو رضيع، قال تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (مريم: ٢٩ و٣٠).
* النبيُّ يحيى بن زكريًّا (عليه السلام)، جُعِلَ نبيًّا وهو صبيٌّ ابن تسع سنوات، قال تعالى: ﴿يَا يَحْيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: ١٢).

(١٣٧)

فالنبوَّة مقام رفيع ووسام عظيم لا يتقلَّده إلَّا المؤهَّل لهذه المنزلة ويختاره الله لذلك، وهكذا بالنسبة للإمامة، فهي مقام شامخ ومنزلة رفيعة يتمُّ اختيارها من قِبَل الله سبحانه وتعالى.. فالإمامة امتداد للنبوَّة، فالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ليس نبيًّا، لكن فيه شَبَه من سُنَن الأنبياء، وهؤلاء المجتبون مرتبطون بمهمَّة ربَّانيَّة، وسبحانه وتعالى هو الذي يُزوِّدهم بالعلم والحكمة، ولهذا فإنْ كانت الشبهة والإشكال تُطرَح على الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في إمامته المبكَّرة، فإنَّها أيضاً تُطرَح على الأنبياء قبله، والجواب هنا هو الجواب هناك.
٢ - الناحية التاريخيَّة:
إنَّ الإمامة المبكَّرة قضيَّة ثابتة في التاريخ الإسلامي ولم تكن وهماً من الأوهام، لأنَّ الفرد الذي يبرز على المسرح الاجتماعي والدِّيني وهو صغير، ويُعلِن عن نفسه إماماً روحيًّا وفكريًّا للمسلمين، ويُدين له بالولاء والإمامة تيَّار واسع من المجتمع وقاعدة شعبيَّة عريضة من الشيعة، لا بدَّ أنْ يكون على قدر كبير من العلم والمعرفة وسعة الأُفُق، والتمكُّن من الفقه والتفسير والعقائد، لأنَّه لو لم يكن كذلك لما أمكن أنْ تقتنع القواعد الشعبيَّة بإمامته.. بالإضافة لذلك، لماذا سكتت السلطة العبَّاسيَّة وهي قوَّة معادية، وتعتبر الإمام مصدر خطر كبير يُهدِّد كيانها، ولم تعمل على كشف الحقيقة إذا كانت في صالحها؟ وتفضح هذه الإمامة الصغيرة في السنِّ، وتُبرهِن على عدم كفاءته للإمامة والزعامة الروحيَّة والفكريَّة للأُمَّة.
إنَّ ظاهرة الإمامة المبكَّرة كانت ظاهرة واقعيَّة في حياة أهل البيت (عليهم السلام)، وليست مجرَّد افتراض، ويكفي مثالاً لها في التاريخ الإسلامي الإمامان:
* الإمام محمّد الجواد (عليه السلام)، الإمام التاسع للشيعة، تسلَّم الإمامة وعمره (٦ سنوات).

(١٣٨)

* الإمام عليٌّ الهادي (عليه السلام)، الإمام العاشر للشيعة، تسلَّم الإمامة وعمره (٨ سنوات).
إنَّ التفسير الوحيد لسكوت السلطات العبَّاسيَّة المعاصرة عن عدم استخدام هذه الورقة، هي إدراكها أنَّ الإمامة المبكَّرة حقيقيَّة وليست مصطنعة، فقد حاول العبَّاسيُّون في زمن (المأمون) إفشال إمامة الجواد (عليه السلام) وإحراجه باعتباره صبيًّا، فرتَّبت مناظرة(١١٢) بينه وهو يومئذٍ ابن تسع سنوات، وبين قاضي القضاة يحيى بن أكثم وهو أكبر قامة علميَّة لدى السلطة، ولكنَّه غرق في شبر ماء من علم الإمام الجواد (عليه السلام)، وبالفعل قد أثبت الأئمَّة (عليهم السلام) جدارتهم أمام كلِّ التحدّيات بعيداً عن أعمارهم، بل تحدَّوا بعلمهم وفضلهم كلَّ الشخصيَّات التي كانت ذات صدى علمي في العالم الإسلامي وغيره، ومن هنا نعرف عظمة أهل البيت (عليهم السلام).
نحن ماذا نطلب وننتظر من الإمام المعصوم غير العلم الوافر والخُلُق العظيم وهداية البشر، بالطبع لا ننتظر منه أنْ يكون رياضيًّا مبدعاً أو ملاكماً قويًّا أو مصارعاً ضخماً حتَّى يكون للعمر والوزن دور ومقياس.. كذلك شاهدنا في بعض الأحيان وعلى طوال صفحات التاريخ، بروز أطفال يمتازون بذكاءٍ حادٍّ يفوق الرجال، فعشرات من العباقرة نبغوا في طفولتهم، فعندما يحبو الله هؤلاء العباقرة الصغار بنعمة العقل والنبوغ ليصبحوا نوادر عصرهم وفرائد زمانهم، أفتراه يعجز عن اختيار إنسان لجعله خليفته وحجَّته وإماماً للزمان، ومثالاً وقدوةً لأبناء البشر ومسؤولاً عن شريعته فيهم؟!
مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ترى أنَّ الإمامة منصب إلهي لا يتمتَّع به إلَّا مَنْ

-----------------

(١١٢) مناظرة مشهورة في التاريخ في مسألة محرم قتل صيداً، ذُكِرَت في: الاحتجاج (ج ٢/ ص ٢٤٠ - ٢٤٥)؛ وهناك مناظرات عديدة غيرها.

(١٣٩)

تكتمل لديه صفات أساسيَّة تتلخَّص في العلم والعصمة ومجموعة من صفات الكمال، لا بدَّ للقائد الربَّاني من الاتِّصاف بها، وهذه المواصفات إذا اجتمعت في إنسان جعلته جديراً بها مهما كان عمره، فلا مانع من اجتماعها في طفل لم يبلغ الحُلُم.. لقد ثبت أنَّ النبوَّة والإمامة المبكَّرة حقيقة واقعيَّة من الجهة الإسلاميَّة والناحية التاريخيَّة، فلِمَ الاعتراض إذاً فيما يخصُّ إمامة المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد نال هذا الوسام الربَّاني وهو في الخامسة من عمره المبارك؟
الثالث: التشكيك في طول عمره:
من الشُّبُهات التي تُثار وتُطرَح حول الأُطروحة الإماميَّة بخصوص الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) طول عمره في فترة غيبته: كيف يكون الإمام حيًّا يُرزَق حاليًّا، وقد وُلِدَ في عام (٢٥٥هـ)؟ فهل يمكن في منطق العلم والعقل أنْ يعيش إنسان هذا العمر الطويل؟.. كيف عاش الإمام هذه المدَّة الطويلة التي تزيد على ألف ومائة وثمانين عاماً، ولا يخضع لأعراض الشيخوخة، وتتعطَّل قوانين الطبيعة التي تقضي بهرم الإنسان وفنائه؟
إنَّ امتداد عمر الإنسان مئات السنين وقرون عديدة وفوق الحدِّ الطبيعي أضعافاً مضاعفةً، هو أمر ليس مشاهداً ومألوفاً ويبدو غريباً في حياة الناس، ولكنَّه أيضاً ليس ضمن دائرة المستحيل.. لا بدَّ لنا أنْ نناقش الموضوع بمنطق العقل والعلم وقبل ذلك الدِّين، ونرى ما هو الرأي الصائب والسديد في هذه المسألة:
أوَّلاً: أنَّ إطالة عمر الإنسان أمر ممكن عقلاً وليس مستحيلاً، فبقاء الإنسان قروناً متعدِّدة أمر ممكن منطقيًّا (لا يتعارض مع العقل)، وممكن علميًّا (من وجهة النظر العلميَّة، ومن الناحية النظريَّة)، ولكنَّه لا يزال غير ممكن عمليًّا، إلَّا أنَّ اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان.

(١٤٠)

ثانياً: الأعمار من حيث الطول والقصر مسألة بيد الخالق سبحانه وتعالى، وكذلك فإنَّ عناية الله تعالى قد تتدخَّل لتجميد قوانين الطبيعة، فقد جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم (عليه السلام)، وفلق البحر لموسى (عليه السلام)، وستر النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) عن عيون قريش، وهكذا تكون قوانين الشيخوخة من هذا القبيل مع وليِّ الله المهدي (عجَّل الله فرجه).. فما المانع أنْ يمنحه الله تعالى حياة طويلة ويُبقيه شابًّا مصوناً عن عوارض الشيب، خصوصاً أنَّه القائد المنتظَر المُعَدُّ لليوم الموعود، والدور المطلوب منه استثنائي وفريد؟ وبذلك تصبح هذه الحالة معجزة ربَّانيَّة عطَّلت قانوناً طبيعيًّا.
طول عمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من الحقائق التي لا مجال لإنكارها أو التشكيك فيها، فهو أمر لا يُثير إشكالاً إلَّا حين يُنظَر إليه بالقياسات الطبيعيَّة العاديَّة لا في إطار المشيئة والقدرة الإلهيَّة التي لا تحكمها قوانين الطبيعة، ولإثبات هذه الحقيقة لنستقرئ بعض الأدلَّة والشواهد والبراهين، ونقتطف شذرات من هنا وهناك، ونستضيء بهدي الإسلام ومصادره الرئيسيَّة:
١ - القرآن الكريم:
قد ثبت في كتاب الله أنْ تمتَّع بعض الأفراد بأعمار طويلة، مثل:
* شيخ الأنبياء نوح (عليه السلام): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: ١٤).
* نبيِّ الله يونس (عليه السلام): ﴿لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (الصافَّات: ١٤٤).
* نبيِّ الله عيسى (عليه السلام): ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: ١٥٨).
* أهل الكهف: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ (الكهف: ٢٥).

(١٤١)

* إبليس اللعين: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ (ص: ٧٩ - ٨١).
أليس الله بقادر على حفظ وإبقاء وليِّه المهدي (عجَّل الله فرجه)، الذي وعد أنْ يُحقِّق على يديه: ظهور الإسلام على الدِّين كلِّه، ويُمكِّن له في الأرض، ويجعله من الوارثين؟!
٢ - السُّنَّة الشريفة:
مضافاً للأحاديث الخاصَّة بطول عمره المبارك، والمرويَّة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فإنَّه:
* لا شكَّ في أبديَّة الدِّين الإسلامي إلى يوم القيامة، وباعتبار أنَّ الأئمَّة الأحد عشر آباء الإمام المهدي قد مضوا واستُشهِدُوا، فلا بدَّ من بقاء وإطالة عمره المبارك، مصداقاً لحديث الخلفاء الاثني عشر.
* إنَّ الإمام حيٌّ يُرزَق ولا بدَّ من بقائه لأنَّ هذا الدِّين باقٍ، ولأنَّ هذا القرآن باقٍ، وقد قال الرسول (صلَّى الله عليه وآله): إنَّهما يردان عليَّ الحوض يوم القيامة (القرآن والعترة)، فما دام هذا في الوجود فذاك معه لا يفارقه، مصداقاً لحديث الثقلين.
* إنَّ عدم وجوده وعدم إطالة عمره الشريف، يلزم عدم وجود إمام ربَّاني بين المسلمين، فتكون ميتتهم جاهليَّة، ولزم عدم الحجَّة من الله على الخلق، ولا شكَّ في بطلان هذه الافتراضات، مصداقاً لحديث إمام الزمان.
فيثبت شرعاً كون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) باقياً وعمره طويلاً، حفظه الله ورعاه.
٣ - برهان من التاريخ:
إنَّ التاريخ البشري يزخر بنماذج من المعمَّرين(١١٣)، مثل:

-----------------

(١١٣) كتاب المعمَّرون لأبي حاتم السجستاني، وكتاب مروج الذهب للمسعودي ذكر عدداً من المعمَّرين.. وقد ذُكِرَ العشرات من المعمَّرين في كُتُب التاريخ.

(١٤٢)

* النبيِّ آدم، عاش (٩٣٠) سنة.
* النبيِّ شيث بن آدم، عاش (٩١٢) سنة.
* النبيِّ نوح، عاش (٢٥٠٠) سنة.
* ذي القرنين، عاش (٣٠٠٠) سنة.
* لقمان بن عاد ذي النسور، عاش (٣٥٠٠) سنة.
* الخضر أطول بني آدم عمراً.
ممَّا يُثبِت كون طول عمر الإمام المهدي ليس ممكناً فقط بل طبيعيًّا أيضاً، قياساً مع مسيرة المعمَّرين في تاريخ البشريَّة، ممَّا يُسقِط دعوى المنكرين كون عمر القائد المنتظَر شيء غير مألوف أو لا مثيل له.
٤ - شواهد من الوجدان:
لقد التقى ورأى وشاهد كثير من المؤمنين الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مراراً وتكراراً سواءً في حياة أبيه (عليه السلام) أو في زمن الغيبة الصغرى أو في زمن الغيبة الكبرى، فالذين تشرَّفوا وفازوا بلقائه (عجَّل الله فرجه) كثيرون جدًّا(١١٤) ولا يمكن إحصاؤهم، وقد كتب علماؤنا مصنَّفات عديدة في هذا الموضوع، فرؤيته (عجَّل الله فرجه) حقيقة ثابتة على طول صفحات التاريخ وتُشكِّل مقداراً من التواتر.. فيتحصَّل أنَّ طول عمر الإمام المنتظَر حقيقة لا جدال فيها، فالعيان يُغني عن البرهان، ووجوده يُحَسُّ بالوجدان.
وبناءً على هذا تندفع شبهة استحالة أو استبعاد طول عمره (عجَّل الله فرجه) على ضوء القرآن الكريم والأحاديث النبويَّة ثمّ تواتر الرؤية وشواهد التاريخ، وقبل ذلك لا ننسى أنَّها قدرة الخالق (عزَّ وجلَّ) كمعجزة وكرامة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).. وهنا يحقُّ لنا

-----------------

(١١٤) قَصَص عديدة ذُكِرَت في: بحار الأنوار للمجلسي (ج ٥٢)، وجنَّة المأوى للشيخ النوري، وتبصرة الوليِّ فيمن رأى القائم المهدي للبحراني.

(١٤٣)

أنْ نتساءل: هل هي صدفة أنْ يقوم شخصان فقط بإعادة برمجة الحياة البشريَّة وتفريغ الحضارة الإنسانيَّة من محتواها الفاسد وبنائها من جديد، فيكون لكلٍّ منهما عمر مديد، أحدهما مارس دوره في ماضي البشريَّة وهو النبيُّ نوح، والآخر يمارس دوراً في مستقبل البشريَّة وهو المهدي.. فلماذا نقبل نوحاً الذي ناهز ألف عام على أقلّ تقدير ولا نقبل المهدي؟!
الرابع: ما فائدته في غيبته؟
يتَّفق علماء الإماميَّة على غيبة الإمام المهدي (غيبة عنوان)، ويعتقدون بأنَّه لا زال حيًّا حتَّى يأذن الله له بالظهور.. وهنا تُثار كثير من الأسئلة والإشكالات حول هذا الموضوع، مثل: اليوم وهو غائب ماذا ينفعكم؟ إذا كان وجود الإمام ضرورة عقليَّة دينيَّة، فكيف تُفسِّرون غيبته عن الناس؟ وهل يُنتفَع منه في غيبته؟.. وغيرها من الأسئلة.
في البدء لا بدَّ أنْ نُوضِّح بأنَّ الغيبة ظاهرة عامَّة وليست خاصَّة بالمهدي، فالقرآن الكريم يُثبِت أنَّ الغيبة متكرِّرة في التاريخ، فحدث أنْ غاب بعض الأنبياء عن قومهم فترات من الزمن وإنِ اختلفت مدَّتها، فمثلاً: غيبة نبيِّ الله موسى (عليه السلام) كانت قصيرة، ولكن غيبة نبيِّ الله عيسى (عليه السلام) عن قومه طويلة جدًّا، بل غاب عن البشريَّة كلِّها، وقد مرَّ على غيبته حتَّى الآن ألفي عام، وهناك غيبتان لنبيِّ الله إبراهيم (عليه السلام) وهي شبيهه بغيبة المهدي، ويُخبِر القرآن كذلك عن غيبة أهل الكهف (٣٠٩ سنة)، وغير ذلك من الأنبياء كيونس (عليه السلام) ويوسف (عليه السلام) و...، فغيبة المهدي لها نظائر في الأُمَم السابقة، فالغيبة إذن ظاهرة عامَّة، والسؤال عن علَّة الغيبة وسببها وفائدتها، يكون سؤالاً عامًّا أيضاً، لماذا غاب عيسى؟ ما فائدة نبيٍّ يعيش بعيداً عن قومه؟ ولماذا غاب أهل الكهف؟ ولماذا غاب الإمام المهدي أيضاً؟

(١٤٤)

كما وضَّحنا سابقاً، إنَّ غيبة المهدي (عجَّل الله فرجه) هي غيبة عنوان، فإنَّ الإمام حاضرٌ معنا، غاية الأمر أنَّنا لا نعرفه فقط، فهو ليس بعيداً عن الأُمَّة وشؤونها، بل هو يعيش مع الناس، يشاركهم في حياتهم ويسمعهم ويراهم ويرونه، ويتحسَّس مشاكلهم وآلامهم، إلَّا أنَّ الناس لا تعرفه بعنوانه الحقيقي (المهدي)، وخير مثال على ذلك نبيُّ الله يوسف (عليه السلام)، فقد تعامل مع إخوته في مصر ومع ذلك لم يعرفوه، فانقطاع صلتنا بالإمام بحكم الغيبة لا يعني انقطاع صلته بنا.. فالقرآن يُعرِّفنا أنَّ الوليَّ ربَّما يكون غائباً، ولكنَّه مع ذلك لا يعيش في غفلة عن أُمَّته، بل يتصرَّف في مصالحها ويرعى شؤونها، من دون أنْ يعرفه الناس، كما هو ثابت عن الخضر: ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: ٦٥).
إنَّ الإماميَّة تؤمن وتعتقد بأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) موجود وغائب بناءً على الأدلَّة العقليَّة، مثل أيِّ أصل اعتقادي عند الشيعة، فالأساس فيه هو العقل الحاكم بضرورة وجود الإمام المعصوم في كلِّ عصر من قِبَل الله تعالى على لسان النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، بالإضافة للأدلَّة النقليَّة من القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة التي تُؤكِّد على استمرار الإمامة والخلافة وعدم انقطاعها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: ٣٠)، وتمسُّكاً بأحاديث الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) التي صدرت منهم قبل وقوع الغيبة، بل قبل ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه) بأكثر من مائتين سنة.
من الحقائق التي يجب أنْ لا نغفل عنها، أنَّ إيماننا بالمهدي لا يرتبط بأنفسنا وبمزاجنا، بحيث لو أحببنا نؤمن به ونُصدِّق القضيَّة، أو عندما لا نُحِبُّ نرفض القضيَّة، ليس هكذا القضيَّة المهدويَّة، بل الثابت أنَّ إيماننا بالمهدي بناءً على الأدلَّة والبراهين الحقَّة، وحسب العقل والعلم، وهذا خضوع وتسليم لإرادة الله سبحانه وتعالى، فالأمر كما شاء الله لا كما يشاء خلقه.

(١٤٥)

إنَّ الله قدَّر للمهدي أنْ يكون أحد الأئمَّة الاثني عشر، وقدَّر بحكمته أنْ يكون آخرهم، وأنْ يكون منقذ البشريَّة، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهو الذي يُظهِر الإسلام على الدِّين كلَّه - وكوعد قاطع(١١٥) - نحن كمسلِّمين لإرادة الله لا يسعنا إلَّا أنْ نؤمن بأنَّ عدد الأئمَّة قد اكتمل، وأنَّهم لا يفترقون عن القرآن، وهكذا لا يمكننا إلَّا أنْ نقرَّ بوجود الثاني عشر وغيبته وظهوره بعد غيبته، وأنَّ هذا الظهور قطعاً يكون بعد الغيبة لأنَّه لم يكن له ظهور قبل ذلك، وذلك استمراراً للإمامة الإلهيَّة، ومنجزاً ما وعد الله به خلقه ونبيُّه.. إنَّ غيبة المهدي وظهوره قدَّره الله سبحانه وتعالى، وإنَّه اللطيف الخبير يفعل ما يشاء ولكنَّه لا يفعل إلَّا لحكمة، ونحن لا نتدخَّل في حكمة الله، فمن المؤكَّد أنَّ الإنسان أقصر ذهنيًّا من أنْ يحيط بحكم الخالق العظيم في تصرُّفاته وشؤونه.. إذاً لا بدَّ لنا أنْ نلتزم بفائدة غيبته، وإنْ كنَّا لا نعرف وجه الحكمة منها، وكما قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ وَجْهَ اَلْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ لَا يَنْكَشِفُ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِهِ...»، ثمّ قال: «إِنَّ هَذَا اَلْأَمْرَ أَمْرٌ مِنْ (أَمْرِ) اَلله تَعَالَى، وَسِرٌّ مِنْ سِرِّ اَلله، وَغَيْبٌ مِنْ غَيْبِ اَلله، وَمَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ (عزَّ وجلَّ) حَكِيمٌ صَدَّقْنَا بِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا حِكْمَةٌ وَإِنْ كَانَ وَجْهُهَا غَيْرَ مُنْكَشِفٍ»(١١٦).
الفائدة من الإمام في زمن الغيبة الكبرى:
من الضروري أنْ نشير، أنَّ الفائدة من الإمام لا تتوقَّف أو تنحصر في حال ظهوره فقط، بل هناك فوائد جمَّة حتَّى في حال غيابه واحتجابه عن الناس،

-----------------

(١١٥) قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ (النور: ٥٥).
(١١٦) كمال الدِّين (ص ٤٨١ و٤٨٢/ باب ٤٤/ ح ١١).

(١٤٦)

فالروايات الشريفة تُشبِّه الفائدة من الإمام في غيبته بالشمس إذا سترها السحاب، فالشمس تصل فوائدها من دفئ ونور وغير ذلك وإنْ جلَّلها السحاب، كذلك الإمام وإنْ كان غائباً فإنَّ له فوائد، فعدم علمنا بوجود الفوائد لا يدلُّ على عدمها.. لنستقرئ الأدلَّة النقليَّة والعقليَّة ونستشفَّ بعض من فوائد غيبته:
١ - وجوده أمان لأهل الأرض:
لولا وجوده (عجَّل الله فرجه) لساخت الأرض بأهلها، وبسببه يُدفَع البلاء عن المسلمين، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «أَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلْأَرْضِ، فَإِذَا ذَهَبَ أَهْلُ بَيْتِي ذَهَبَ أَهْلُ اَلْأَرْضِ»(١١٧)، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ (الأنفال: ٣٣).. إنَّ مجرَّد وجوده (عجَّل الله فرجه) هو سبب لبقاء البشر على الأرض، فهو قلب العالم الإنساني، ومن هذه الأدلَّة نلمس لوجود الإمام أثراً تكوينيًّا، ولولاه (عجَّل الله فرجه) لانعدمت الحياة، ولا فرق هنا بين ظهوره وغيابه، فهو كالشمس ودورها في استمرار الحياة على الأرض.
٢ - واسطة الفيض الإلهي:
إنَّ فيوضات الله تعالى لا تنزل على الأرض وأهلها إلَّا بواسطة، وليس هناك شخص في هذا الزمان أهلٌ لها غيره (عجَّل الله فرجه)، فإنَّ الإمام مركز للأُمور الكونيَّة وتنجيز المقدَّرات التكوينيَّة التي تُقدَّر للخلق في ليلة القدر، ففيها تتنزَّل الملائكة والروح على الإمام، ولولاه لما تمَّ هذا التنزيل، قال تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ (القدر: ٤)، فالإمام (عجَّل الله فرجه) مهبط الملائكة، وواسطة وصول النِّعَم الإلهيَّة إلى عباد الله، هذا شأن من شؤون الإمام - حتَّى مع غيبته واحتجابه عن الناس - لا بدَّ من وجوده لتنجيز المقدَّرات الإلهيَّة بواسطته، ووصول الفيض إلى خلقه.

-----------------

(١١٧) كمال الدِّين (ص ٢٠٥/ باب ٢١/ ح ١٩).

(١٤٧)

٣ - له مقام الشاهديَّة على الخلق:
الإمام (عجَّل الله فرجه) يُعَدُّ شاهداً على أعمال العباد، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: ١٤٣)، فالجزاء والحساب يوم القيامة يكون على الأعمال المشهودة، وهذا الشاهد في زماننا الحالي هو إمام الزمان وهو الحجَّة على الخلق، فالإمامة استمرار للنبوَّة، ووجوده (عجَّل الله فرجه) في عصرنا الحاضر كوجود رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في زمانه، فلا بدَّ من وجوده لأجل شاهديَّته، غائباً كان أو حاضراً.
٤ - فوائد عديدة على وجوده الشريف:
فالاستفادة من الإمام (عجَّل الله فرجه) غير متوقِّفة على ظهوره، فوجوده يبعث على طمأنة النفوس واستقرارها وتقوية عزيمة المؤمنين، فهو أمان الله في البلاد والملجأ والمفزع للعباد يُلجَؤ إليه في الشدَّة والرخاء، فالأمل بظهور الإمام يخلق التفاؤل والإيجابيَّة ويبعث على العمل.. علاقة الإمام (عجَّل الله فرجه) مع الأُمَّة ومع قاعدته الشعبيَّة كبيرة وعظيمة، فمن مهامِّه (عجَّل الله فرجه) أنْ يصون الشريعة ويحافظ على الإسلام، ويُسدِّد ويُصوِّب حركة الشيعة ويرعى أُمورهم ويشفق عليهم، والوجدان خير دليل ويُغني عن البيان.
٥ - واجبات الإمامة لا تتعارض مع الغيبة:
مجرَّد وجوده يدخل ضمن دائرة واجبات الإمامة، حيث إنَّ معرفة الإمام - بغضِّ النظر عن حضوره أو غيبته - تُنقِذ المكلَّفين من موتة الجاهليَّة، وعدم معرفته تُدخِل الأفراد ضمن دائرة الجاهليَّة، فإذن وجوده ومعرفته يدخل ضمن تكاليف العباد، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
وعلى أيِّ حالٍ، فغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حكمة بالغة وحقيقة حكيمة،

(١٤٨)

حتَّى إذا لم نعرف حكمتها، وقد قال (عجَّل الله فرجه) عن الفائدة من غيبته: «وَأَمَّا وَجْهُ اَلْاِنْتِفَاعِ بِي فِي غَيْبَتِي فَكَالْاِنْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ إِذَا غَيَّبَتْهَا عَنِ اَلْأَبْصَارِ اَلسَّحَابُ، وَإِنِّي لَأَمَانٌ لِأَهْلِ اَلْأَرْضِ كَمَا أَنَّ اَلنُّجُومَ أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ»(١١٨)، فمنكر وجوده في غيبته كمنكر وجود الشمس خلف السحاب.
أسباب غيابه:
يُطرَح في هذا المقام تساؤلات: لماذا غاب الإمام؟ ما هي الأسباب التي أدَّت إلى غيابه؟ وما هي العلَّة الرئيسة للغيبة؟.. من المؤكَّد تاريخيًّا أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) اضطُهِدُوا جميعاً وشُرِّدوا، وكان يُمارَس بحقِّهم القسوة والظلم، فقد سُجِنَ بعض منهم وحوصر الآخر، وقد استُشهِدُوا جميعاً إمَّا بالسيف أو بالسمِّ.. ومع كلِّ ذلك كان اتِّصالهم بشيعتهم مستمرًّا، وأياديهم على الأُمَّة ظاهرة، وكلَّما رحل واحد منهم خلف مكانه آخر، وفي مرض الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) اهتمَّت السلطة العبَّاسيَّة بالبحث عن ولده، الذي وعد الله في كتابه وعلى لسان رسوله بأنَّه سينشر العدل ويقضي على الظلم والجور، وعلى يديه تزول دول الضلال، وهكذا كانت القوَّات العبَّاسيَّة تُفتِّش عن طفل للإمام العسكري (عليه السلام) لتقتله، أو تبحث عن جنين له لتقضي عليه، ففي هذه الظروف والأجواء، كيف يتسنَّى للإمام المهدي الظهور، وقد وصل الأمر إلى أشدّ حالاته وأصعب مراحله؟ كفرعون موسى ونمرود إبراهيم.
* انحراف الأُمَّة عن نهج رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): إنَّ العلَّة الأساسيَّة للغيبة هي عدم التزام الأُمَّة بشرع الله وتضييعها لحقوق أهل البيت (عليهم السلام)، فحصلت الغيبة حفظاً لآخر الخلفاء الربَّانيِّين (الإمام الثاني عشر)، فالإمام المهدي إذا قُتِلَ فليس

-----------------

(١١٨) كمال الدِّين (ص ٤٨٥/ باب ٤٥/ ح ٤).

(١٤٩)

له مَنْ يخلفه.. علماً بأنَّ علَّة الخوف من القتل ستنتفي عندما تتوفَّر الشروط الموضوعيَّة التي ستُوجَد في عصر الظهور وهي غير متوفِّرة الآن، حيث إنَّ الأُمَّة لا تزال مصرَّة على موانع الظهور.
* لا بيعة لظالم في عنقه: فالإمام المهدي بواسطة غيبته، يكون مستغنياً عن التقيَّة مع حُكَّام عصره، فلا تكون في عنقه بيعة لأحد منهم، لأنَّ زمان ظهوره هو زمان ظهور الحقِّ المطلق بأجلى صوره، فلا يحتجُّ أحد عليه عند خروجه بأنَّه نقض البيعة، وكذلك عدم وجود حقٍّ لأحدٍ من الظالمين عليه أيضاً، حتَّى يلزم مراعاته أخلاقيًّا.. فالغيبة تعني الاستقلال وعدم التقيُّد بالتقيَّة أو البيعة.
* امتحان العباد واختبارهم وتمحيصهم: فمسألة غيبة الإمام والاعتقاد بها من موارد الامتحان، حيث تحتاج إلى نفس مؤمنة مطمئنَّة وإلى عقل كامل يؤمن الدليل، عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: «إِنَّه لَا بُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ هَذَا اَلْأَمْرِ مَنْ كَانَ يَقُولُ بِهِ، إِنَّمَا هِيَ مِحْنَةٌ مِنَ اَلله (عزَّ وجلَّ) اِمْتَحَنَ بِهَا خَلْقَهُ»(١١٩)، وممَّا امتحن الله تعالى به الأُمَم السابقة غيبة أنبيائهم وأوصياء أنبيائهم لاختبار حالهم، وجرت هذه السُّنَّة الإلهيَّة والحقيقة الامتحانيَّة في الأُمَّة المحمّديَّة بغيبة آخر الأوصياء.
إنَّ الغيبة في الواقع تُعَدُّ حرماناً كبيراً للناس من الفوائد المترتِّبة لوجود الإمام، فإذا صدَّ الناس الإمام عن أداء واجبه واضطرُّوه إلى الغيبة، وحالوا بينه وبين أداء رسالته، فعليهم يقع اللوم وعلى عاتقهم تقع المسؤوليَّة.. إنَّ الغيبة في الحقيقة هي إبعاد أهل البيت (عليهم السلام) من قِبَل الظالمين عن القيام بدورهم ومسؤوليَّتهم الربَّانيَّة، لا ابتعاد أهل البيت (عليهم السلام) عن مراتبهم التي رتَّبهم الله فيها.

-----------------

(١١٩) الكافي (ج ١/ ص ٣٣٦/ باب في الغيبة/ ح ٢).

(١٥٠)

من هنا نُؤكِّد أنَّ الإشكالات أو الشُّبُهات التي تُثار حول جدوى إمام غائب، إنَّما تصدر عن الذين لم يُدرِكوا المعنى الحقيقي للإمامة، ولا يرون فيه سوى مفتياً أو منفِّذاً لحدود الله.. طوبى للمؤمنين المتمسِّكين بحبل أهل البيت (عليهم السلام) في غيبة قائمهم، وطوبى للثابتين على ولايتهم.
الخامس: فرية السرداب:
من الإشكالات والتُّهَم التي وُجِّهت للأُطروحة الإماميَّة: هل يمكن أنْ يعيش شخص في سرداب مئات السنين حتَّى موعد ظهوره في آخر الزمان؟.. أليس العقل يمتنع عن تصديق بقائه في مثل هذه الظروف (السرداب) من دون أنْ يقوم أحد بطعامه وشرابه وقضاء حوائجه؟
الأُسطورة:
إنَّ حكاية غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في سرداب وأنَّه حيٌّ يُرزَق، وما زال إلى الآن مختفياً فيه دون طعام أو شراب، وسوف يظهر منه يوماً ما، وأنَّ الشيعة تزور هذا السرداب بقصد الإلحاح على المهدي للخروج.. إنَّ هذا القول في غاية السخف والافتراء، وهذا الاتِّهام التافه لا أصل له، قد ردَّده المخالفون واختلقوا قصَّته ولا زالوا يُكرِّرون هذه الكذبة حتَّى اليوم.. انتقاصاً لمسألة الغيبة، حتَّى يعدَّها الآخرون عمليَّة مستهجنة تدلُّ على سخف فكرة الغيبة، وقد أُلصقت هذه التهمة بالشيعة، ظنًّا منهم بأنَّ الإماميَّة سوف تبحث عن إمامها في السرداب، وتتوقَّع ظهوره فيه.
حقيقة السرداب(١٢٠):
في العهود القديمة كانت أكثر المنازل في المناطق الحارَّة مزوَّدة بسرداب

-----------------

(١٢٠) السرداب: عبارة عن بناء في المنزل تحت الأرض، ينتشر في الأماكن الحارَّة، عادةً يكون بعيداً عن الشمس وقريباً من الرطوبة ويكون بارداً، وهو ما يُعرَف اليوم باسم (القبو).

(١٥١)

لاتقاء حرارة الصيف، وكانت دار الإمام العسكري (عليه السلام) في مدينة سامرَّاء بالعراق بها سرداب أيضاً.. المعروف حاليًّا باسم (سرداب الغيبة)(١٢١)، وهو مكان ومعلَم بارز في العتبة المقدَّسة بسامرَّاء، ويقع في الجهة الغربيَّة من قبري الإمامين عليٍّ الهادي والحسن العسكري (عليهما السلام)، والشيعة تحترم هذا المكان لشرافته وقدسيَّته، ولأنَّه كان جزءاً من بيت الأئمَّة الهادي والعسكري والمهدي (عليهم السلام)، وكان موضعاً لمبيتهم وعبادتهم في بعض الأحيان، وهو مصلَّى للإمام الصبيِّ وأبيه وجدِّه حيث اعتادوا أنْ يعتزلوا فيه للتأمُّل والعبادة، ولتحاشي المزعجين لاسيَّما مضايقات عَسَس الخليفة العبَّاسي، وهو من الأماكن المباركة التي أذن الله أنْ تُرفَع ويُذكر فيها اسمه، وحيث إنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ليس له مكان محدَّد يُقصَد فيه، كان من المفضَّل زيارته في بيته الذي وُلِدَ فيه.. وقد قال الشاعر العلَّامة السيِّد محسن الأمين في قصيدة رائعة بعنوان (أتى سائلًا)(١٢٢):

وما شُرِّفَ السردابُ إلَّا لأنَّه * * * بدارٍ تناهى عندها العزُّ والفخرُ
تشرَّفَ مغناها بسكنى ثلاثةٍ * * * من الآلِ يُستسقى بذكرِهمُ القَطْرُ
وقد أذِنَ الباري تعالى برَفعِها * * * وذكرِ اسمِهِ فيها فطابَ لها الذَّكْرُ

نشأة الأُكذوبة:
قد نشأت شبهة وأُكذوبة السرداب، من زيارة الشيعة لذلك المكان وصلاتهم فيه، وقراءة زيارة الإمام المهدي، فتوهَّم المخالفون أنَّ الشيعة يقولون

-----------------

(١٢١) للتوسُّع عن تاريخ سرداب الغيبة، ارجع إلى: مأثر الكبراء في تاريخ سامرَّاء (ج ١/ ص ٣٥٠) وما بعدها، فقد استوفى الموضوع بحثاً وبيَّن الحقيقة على نحو صحيح وسليم.
(١٢٢) قصيدة (أتى سائلاً) جاءت في (٣٠٩) بيت، وهي عبارة عن قصيدة جوابيَّة لقصيدة وردت من بغداد في (٢٥) بيت لناظم لم يُسَمِّ اسمه، راجع: البرهان على وجود صاحب الزمان للسيِّد محسن الأمين، القصيدة مع شرحها. وكذلك: الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة (ج ٦/ ص ٦٨).

(١٥٢)

بوجوده فيه، وأصبح الموضوع من الشائعات التاريخيَّة المغرضة بلا سند أو تحقيق.. فمن الثابت والمؤكَّد علميًّا وتاريخيًّا أنَّه لا يوجد أحد من الشيعة يعتقد بأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) غاب في السرداب، أو أنَّه ساكن ومقيم فيه، ولم يقله علماؤهم ولا عوامُّهم ولا يوجد مصدر لهذا القول في كُتُب ومؤلَّفات الشيعة.. بل الشيعة تعتقد بوجود المهدي حيًّا يُرزَق في هذه الدنيا يعيش مع الناس يراهم ويرونه، يحضر الحجَّ ويُكلِّم الناس وينصب السفراء ويقبض الأموال ويكتب التوقيعات، ويواكب الأحداث عن كثب، وفرصته كبيرة بأنْ يعيش كأيِّ فردٍ من الناس، ولكن من دون معرفتهم بحقيقة أمره.. وقد قال الشاعر العلَّامة السيِّد محسن الأمين(١٢٣):

وما غاب في السردابِ قطُّ وإنَّما * * * توارى عن الأبصارِ إذ ناله الضُّرُّ
ولا اتَّخذ السردابَ برجاً ومَنْ يكن * * * لنا ناسباً هذا فقولتُه هَذْرُ
بلى أمستِ الدنيا به مُستنيرةً * * * ومنه على أقطارها يعبقُ النَّشْرُ

تُهَم وافتراءات:
ما نُسِجَ حول السرداب من أساطير، ونُظِمَ من شعر ساخر بناءً عليه، لا يجد أساساً حتَّى لو كان واهياً، بل هو محض افتراء، وقد بقيت هذه الأُكذوبة تتداول بين أقلام الجُهَّال وتتطوَّر في عالم الوهم والخيال، وقد علَّق العلَّامة السيِّد محمّد كاظم القزويني: (ويأتي آخر ويضيف إلى هذه الأُكذوبة - من نسج خياله - تهمة أُخرى وافتراءً آخر، فيقول: إنَّ الشيعة يأتون - في كلِّ جمعة - بالسلاح والخيول إلى باب السرداب، ويصرخون وينادون: يا مولانا، اُخرج إلينا! وياليت هؤلاء المنحرفين اتَّفقوا - في هذه الأُكذوبة - على قولٍ واحدٍ، حتَّى لا تنكشف

-----------------

(١٢٣) الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة (ج ٦/ ص ٨٩).

(١٥٣)

سوءتهم، ولا تتساقط أقنعتهم المزيَّفة، ولكن أبى الله إلَّا أنْ يُظهِر الحقَّ ويدمغ الباطل ويفضحه، فتراهم يتفرَّقون على أقوال متناقضة، فيقول أحدهم: إنَّ هذا السرداب في الحلَّة، ويقول آخر: إنَّه في بغداد، ويقول ثالث: إنَّه في سامرَّاء، ويأتي القصيمي من بعدهم فلا يدري أين هو، فيُطلِق لفظ السرداب، ليستر سوءته)(١٢٤).
الحقيقة:
إنَّ غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في السرداب أُسطورة لم يقل بها أحد من الشيعة منذ فجر تاريخهم حتَّى اليوم، وإنَّما افتعلها خصومهم والحاقدون عليهم.. وقد قال الشاعر العلَّامة السيِّد محسن الأمين(١٢٥):

لنا نسبوا شيئاً ولسنا نقولُهُ * * * وعابوا بما لَم يجرِ منَّا له ذِكْرُ
بأنْ غاب في السردابِ صاحبُ عصرِنا * * * وأمسى مقيماً فيه ما بقي الدهرُ
ويخرجُ منه حين يأذنُ ربُّهُ * * * بذلك لا يعروه خوفٌ ولا ذُعْرُ
أبينوا لنا مَنْ قال منَّا بهذه * * * وهل ضمَّ هذا القولَ من كُتْبِنا سِفْرُ
وإلَّا فأنتم ظالمون لنا بما * * * نَسبتمْ وإنْ تأبَوا فموعدُنا الحَشْرُ

اعتقادنا بأنَّ الإمام ليس غائباً في السرداب فهو محلٌّ لسكن والده وجدِّه ومنزله الذي عاش فيه مع والده، فهو موضع مفضَّل لزيارته فيه.. أمَّا الحقيقة فإنَّ الإمام حاضر في قلب الأحداث، وله طريقته وأُسلوبه في معالجة القضايا التي تواجه الأُمَّة، وهذا ما يُفسِّر لنا الحديث الوارد عنه (عجَّل الله فرجه) بأنَّ فائدته حال غيبته كالشمس إذا غيَّبها السحاب.

-----------------

(١٢٤) الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من المهد إلى الظهور (ص ٢٤١).
(١٢٥) الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة (ج ٦/ ص ٨٩ و٩٠).

(١٥٤)

حقيقة الشُّبُهات:
هذه هي الإشكالات، رأينا أنَّ منطقها هزيل بحسب موازين العلم وأُصول المنطق والمنهج السليم، وهكذا انكشف واقعها وأصبح ساقها هشيماً وعودها حطاماً وبناؤها ركاماً.. حتَّى صار التشكيك في القضيَّة المهدويَّة شكًّا في البديهيَّات التي لا يقرُّها العقل ولا العلم.
خلاصة القول:
الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) حسب الأُطروحة الشيعيَّة الإماميَّة هو: (م ح م د) ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وُلِدَ بسامرَّاء (العراق) ليلة النصف من شعبان سنة (٢٥٥هـ)، وهو الإمام الثاني عشر عند الإماميَّة، وهو آخر حُجَج الله على الأرض وخاتم خلفاء رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وآخر أئمَّة المسلمين الاثني عشر.. بعد استشهاد والده عام (٢٦٠هـ) أُنيطت به مهمَّة الإمامة وله من العمر خمس سنين، وجعله الله إماماً وهو طفل كما جعل المسيح نبيًّا وهو رضيع، وبأمر من الله تعالى اختار الغيبة.. وتدرَّج في الاحتجاب عن الناس حيث كانت له غيبتان: الأُولى (الصغرى) ومدَّتها (٦٩) سنة، بدأت عام (٢٦٠هـ) وامتدَّت حتَّى عام (٣٢٩هـ)، وكان اتِّصال الشيعة به عن طريق سفرائه، وهم أربعة وكلاء نصَّ عليهم بأشخاصهم.. والثانية (الكبرى) بدأت عام (٣٢٩هـ) بعد وفاة آخر نائب خاصٍّ له (عليٌّ السمري)، وبذلك انتهت فترة السفارة وبدأت مرحلة الغياب والاحتجاب التامِّ عن الناس إلى أنْ يأذن الله له بالخروج، وليس له في هذه الفترة نُوَّاب محدَّدين، ولكن نيابة عامَّة للفقهاء العدول.. لا زال يعيش في دار الدنيا، وأنَّ مَثَل عمره وحياته كمَثَل عمر وحياة الخضر وعيسى (عليهما السلام) بإعجاز إلهي.. تتَّفق الإماميَّة مع بقيَّة المسلمين على ظهوره آخر الزمان لإزالة

(١٥٥)

الظلم والجور ونشر التوحيد والعدل، ولكن لا يعلم أحد من الناس وقت خروجه بالتحديد، وهناك علامات محتومة تسبق ظهوره، مثل: خروج اليماني في اليمن، خروج السفياني بالشام، الصيحة السماويَّة في رمضان، قتل النفس الزكيَّة في الحرم المكّي، وخسف البيداء بين مكَّة والمدينة، وتعتقد الإماميَّة اعتقاداً صريحاً بخروجه بين الركن والمقام في مكَّة، ثمّ يبايعه الناس.
الشيعة الاثنا عشريَّة لم تقم عقيدتها بوجود المهدي المنتظَر وبضرورة بقائه على الآيات القرآنيَّة والأحاديث المتواترة فقط، وإنَّما يقوم اعتقادهم هذا على أُصول عقديَّة(١٢٦) (أصل الإمامة) وبناءً على أدلَّة عقليَّة ونقليَّة.. فمن منطلق ضرورة الإمامة، وضرورة وجود إمام في كلِّ عصر وزمان، فإنَّ الشيعة ترى من هذا الباب والمدخل يجب أنْ يكون الحديث والبحث والنقاش حول الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فهذا أساس ومبدأ وجوهر العقيدة المهدويَّة عندهم، فالعقيدة المهدويَّة وحدة متكاملة، فكما أنَّ الإسلام وحدة متكاملة والتوحيد وحدة متكاملة، كذلك القضيَّة المهدويَّة، فهي قضيَّة دينيَّة منطقيَّة يساندها العقل والأدلَّة المعتبرة، وهي ليست مسألة تخصُّ الشيعة دون غيرهم، بل هي أكبر وأوسع من ذلك، فهي كمال وخاتم الإمامة، وهي المرحلة السعيدة لنهاية تاريخ الإنسانيَّة في الدنيا.. وبكلِّ تأكيد لا يمكن فهم وإدراك حقيقة غيبة الإمام الثاني عشر قبل إدراك حقيقة الإمامة الربَّانيَّة، حيث هناك تلازم بين حقيقة الإمامة وحقيقة الغيبة، وهذا هو المنهج القرآني والمنهج النبوي الذي يُبيِّن حقيقة المهدويَّة بصورة صحيحة ودقيقة، أمَّا النظرة التجزيئيَّة الفرديَّة الضيِّقة لحقيقة من حقائق المهدويَّة كالغيبة مثلاً أو الإمامة المبكَّرة أو طول العمر، ودون النظر إلى بقيَّة

-----------------

(١٢٦) أُصول الدِّين عند الشيعة الإماميَّة خمسة، وهي: التوحيد، والعدل، والنبوَّة، والإمامة، والمعاد.

(١٥٦)

الحقائق أو دون أخذ نظرة وصورة شاملة عن القضيَّة كلِّها أو دون النظر إليها كوحدة متكاملة، فسوف لن يتمَّ التوصُّل إلى معرفة حقيقتها وجوهرها حسب الأُطروحة الإماميَّة، وإنْ كانت حقائق أساسيَّة مستمدَّة ومنبثقة من القرآن الكريم والأحاديث النبويَّة الشريفة.
كلُّ الشرائع السماويَّة والمذاهب الوضعيَّة وغيرها تنتظر المخلِّص، فقد اتَّفق الجميع على فكرة المنقذ الذي يُخلِّص العالم من الظلم والجور، واختلفوا في اسمه وشخصه ونَسَبه، ومع هذا فإنَّ الإسلام الحنيف والمذهب الشيعي بالخصوص ذكر القضيَّة المهدويَّة ووضَّحها بشكل لم تُبيَّن في دين ومذهب آخر، باعتبار أنَّ القضيَّة المهدويَّة تُمثِّل لدى الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة شيئاً هامًّا ومهمًّا من حيث الموقع العقائدي، فهي تتَّصل بأصل من أُصول الدِّين لديهم (الإمامة)، ومع الأُطروحة المهدويَّة تبلورت فكرة المخلِّص بشكلها النهائي، وبلغت معه أرقى صور نضجها، فالمسلمون متَّفقون على خروج رجل من نسل فاطمة (عليها السلام) في آخر الزمان يُسمَّى (المهدي)، ولكن في البُعد الأساسي المتعلِّق بتحديد ومعرفة شخصيَّة المنقذ، ينقصهم الكثير من المعرفة، بعكس مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فإنَّهم يعرفون شخصيَّة المهدي بالاسم والنَّسَب والهويَّة والعلامة والخصائص وتاريخ الولادة، وعلى أساس ذلك التحديد انفرد الشيعة ببعض الأُمور داخل القضيَّة المهدويَّة أو بالأصحّ اختصَّت الإماميَّة في أُطروحتها ببعض التفاصيل، ومن أهمّها وأكثرها جدلاً ولادته (عجَّل الله فرجه) وغيبته.. فخصوصيَّة المدرسة الإماميَّة في القضيَّة المهدويَّة أنَّها بدَّلت حالة الأُمنية والأمر النظري إلى حالة واقعيَّة موجودة، فوضَّحت للمؤمنين وللعالم أنَّها تنتظر مهديًّا واحداً محدَّداً، وهو من نسل فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومن أحفاد الإمام الحسين (عليه السلام) وابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وقد وُلِدَ في عصره، وهو الآن في فترة الغيبة الكبرى،

(١٥٧)

وسوف يظهر في آخر الزمان عندما يأذن الله تعالى لينشر التوحيد والعدل على كافَّة المعمورة، فالوعي الشيعي مشدود نحو قادم محدَّد مشخَّص وبعلم ومعرفة.. هذا التحديد الدقيق في شخصيَّة وهويَّة المهدي المنتظَر هو تثبيت للعقيدة المهدويَّة وتجسيد للأُمنية الكبرى لجميع أُمَم العالم، إذن مهدي الشيعة عقيدة واقعيَّة جسَّدها التاريخ، بوصفه شخصيَّة تاريخيَّة بسنة ميلاد معيَّنة، وبسنة اختفاء تاريخيَّة معيَّنة، وكان بعد اختفائه على صلة بشيعته خلال الغيبة الصغرى عن طريق سفرائه، فهو إذن شخصيَّة محدَّدة عاشت حياتها في الماضي، فارتبطت عودته بأتباعه الشيعة ارتباطاً وثيقاً، فالمهدي وإنْ ظلَّ محتجباً عن الناس في هذا العالم إلَّا أنَّه يظلُّ حاضراً في قلب شيعته، يقول السيِّد محمّد باقر الصدر(١٢٧): (إنَّ الإسلام حوَّل فكرة المخلِّص من غيب إلى واقع، ومن مستقبل إلى حاضر، ومن فكرة ننتظر ولادتها ونبوءة نتطلَّع إلى مصداقها، إلى واقع قائم ننتظر فاعليَّته وإنسان معيَّن يعيش بيننا بلحمه ودمه، نراه ويرانا، ويعيش مع آمالنا وآلامنا، ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا، ويترقَّب مع الآخرين اللحظة الموعودة)(١٢٨).
قبل أنْ نصل إلى نهاية بحثنا، علينا أنْ نضيف سطوراً نُوضِّح فيها وبنظرة كلّيَّة عن مكانة المهدويَّة وأهمّيَّتها الاستراتيجيَّة عند الإنسانيَّة عموماً والشيعة خصوصاً.. فقراءة سريعة وشاملة للتاريخ البشري وحركة المسيرة الإنسانيَّة في مبدأها ومنتهاها، نجد أصالة فكرة المخلِّص (المهدي) في روافد التراث الإنساني: الدِّين والفلسفة والتاريخ والاجتماع السياسي وفي النظريَّات الوضعيَّة، وكلُّها تشير وتُبشِّر بأنَّ الاعتقاد بالمهدويَّة يتوافق بالإجمال مع تطلُّعات وأحلام

-----------------

(١٢٧) السيِّد محمّد باقر الصدر (١٩٣٥ - ١٩٨٠م)، مرجع ديني شيعي عراقي، مفكِّر وفيلسوف إسلامي، وُلِدَ بالكاظميَّة - بغداد (٢٥/١١/١٣٥٣هـ).
(١٢٨) بحث حول المهدي (ص ٥٥)، بتصرُّف.

(١٥٨)

الإنسانيَّة، فهو منتظَر البشريَّة على الإطلاق، يقول السيِّد محمّد باقر الصدر: (المهدي عنوان لطموح اتَّجهت إليه البشريَّة بمختلف أديانها ومذاهبها وصياغة لإلهام فطري، أدرك الناس من خلاله أنَّ للإنسانيَّة يوماً موعوداً على الأرض، تجد فيه استقرارها وطمأنينتها)(١٢٩).
فكرة المخلِّص والمنقذ كتطلُّع إنساني بشَّرت بها مِلَل العالم كافَّة ولكن بمنهجٍ عامٍّ وافتقاد للتفاصيل، بعكس الأُطروحة الإماميَّة فقد شخَّصت المهدويَّة ووضعت النقاط فوق الحروف وبأدقّ العلامات وأوضح التفاصيل وبشموليَّة المنهج وعالميَّة الرؤية، ولذا نجد لبعض الفلاسفة والمتكلِّمين غير المسلمين آراءً دقيقة ورائعة في وصف الأُطروحة المهدويَّة الشيعيَّة وتأثيرها الهامِّ ودورها الريادي على مسيرة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، يقول المستشرق الفرنسي هنري كوربان(١٣٠) (بأنَّ المهدويَّة تُشكِّل ركناً هامًّا وأساسيًّا في المعتقَد الشيعي جعله يفوق كافَّة المذاهب الإسلاميَّة، وكانت سبباً في رقيِّه وازدهاره)(١٣١)، وفي مكان آخر يقول كوربان: )يجمع التراث الشيعي فكره العميق عن المهدي بما هو خاتم الولاية المحمّديَّة، ويختلف هذا الفكر في ماهيَّته عن تصوُّر المهدي المنتشر في الإسلام السُّنِّي، حيث لا يمكن بداهة أنْ يتَّصل عضويًّا بفكرة الإمامة بالمعنى الشيعي للكلمة، ولا بالتالي بفكرة الباطن وتأويله، أو بما تعنيه من مستقبل...، وكنَّا قد خرجنا بالفارق الواضح والأساسي...، أنَّ محمّداً كان خاتم النبيِّين،

-----------------

(١٢٩) بحث حول المهدي (ص ٥٣)، بتصرُّف.
(١٣٠) هنري كوربان (١٩٠٣ - ١٩٧٨م)، فيلسوف ومستشرق فرنسي، صبَّ اهتمامه على الإسلام في إيران وبشكل خاصٍّ الشيعة، من أهمّ كُتُبه الإمام الثاني عشر في الإسلام الإيراني، مشاهد روحيَّة وفلسفية للإسلام. (موسوعة ويكيبيديا).
(١٣١) تاريخ الفلسفة الإسلاميَّة (ص ١٠٥).

(١٥٩)

لكن في هذا الختم للبعثة النبويَّة، يُدرِك التراث الشيعي مؤشِّر افتتاح دائرة جديدة، دائرة الولاية، دائرة الهداية الروحيَّة)(١٣٢).. ويقول الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكاياما(١٣٣): (إنَّ الشيعة طائر يطير أعلى من مرمى سهامنا وله جناحان: جناح أحمر (الماضي) وجذوره في كربلاء، وجناح أخضر (المستقبل) وهو المهدويَّة وطلب العدالة على يديه، فهم منتظِرون والمنتظِر لا ييأس، وهذا ما يمنعهم من الفناء.. فالشيعة تطير عالياً بهذين الجناحين، بحيث يكون بعيداً عن مرمى سهامنا الاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة.. فكيف يُهزَمون؟)(١٣٤).. وهكذا نجد أنَّ للعقيدة والثقافة المهدويَّة تأثيراً هامًّا وكبيراً على كثير من الأفكار والأنشطة الكلاميَّة والسياسيَّة عند الشيعة، فدورها فاعل وركن أساسي في ظهور الحركات التحرُّريَّة الشيعيَّة تاريخيًّا وحاضراً، وتنير الطريق أمام الأجيال في الحركة والنشاط والجهاد وتضيء في نفوسهم بارقة أمل في التضحية والصمود والتفاؤل بالمستقبل.
بعض الفلاسفة والمستشرقين والبعيدين عن الثقافة الدِّينيَّة وعن تطلُّعات الإنسانيَّة وفكرة المخلِّص، والذين يحملون في نفوسهم نظرة تشاؤميَّة ويقرؤون

-----------------

(١٣٢) الإمام الثاني عشر لهنري كوربان (ص ٥٣ و٥٤).
(١٣٣) يوشيهيرو فرانسيس فوكاياما، عالم سياسة واقتصاد سياسي ومؤلِّف وأُستاذ جامعي أمريكي، وُلِدَ بمدينة شيكاغو في (٢٧/ أُكتوبر/ ١٩٥٢م)، حصل على الدكتوراه في العلوم السياسيَّة من جامعة هارفارد، أمريكي من أُصول يابانيَّة، اشتهر بكتابه: نهاية التاريخ والإنسان الأخير الصادر عام (١٩٩٢م)، والذي يقول فيه: إنَّ المذهب السياسي المخلِّص الذي سيكون في النهاية مذهب كلِّ البشريَّة، هو نظام الديمقراطيَّة الليبراليَّة الغربيَّة على أنَّها النظام الأكمل الذي ينبغي أنْ تبلغه كلُّ البشريَّة على حدِّ قوله. (موسوعة ويكيبيديا).
(١٣٤) قال فوكاياما هذا الكلام في مؤتمر بالقدس عام (١٩٨٦م) عنوانه: معرفة جديدة عن الشيعة، رسم الفكر السياسي للشيعة.

(١٦٠)

مستقبل البشريَّة بعيون سوداء يقولون ويُؤكِّدون: (أنَّ الدنيا سوف تُدمَّر وتُفنى، وأنَّ البشريَّة في تمدُّنها وحضارتها قد وصلت إلى مرحلة بحيث لم يبقَ أمامها إلَّا خطوة واحدة لتسقط في القبر، الذي حفرته لنفسها بيدها)(١٣٥)، فنظريَّة نهاية التاريخ هذه تُعبِّر عن رؤية الغرب لذاته، ولكن غفل هؤلاء بأنَّ هذه الزلَّات والسقطات في السير الأساسي والخطِّ العريض في حياة وتاريخ البشريَّة، هي أُمور جزئيَّة، فالإنسانيَّة منذ البدء كانت تتكامل وتتقدَّم نحو الأفضل، وما التقدُّم والتكامل في الشرائع السماويَّة إلَّا أصدق مثال على ذلك، ولذا فالإنسانيَّة تتحرَّك بأمل وبفطرة وبإيمان نحو المستقبل.. وهذا ما تُؤكِّده الأُطروحة المهدويَّة الإماميَّة التي تُثبِت بأنَّ الفساد الموجود شيء موقَّت، وأنَّ هناك حياة سعيدة وعصر متألِّق ينتظر البشريَّة في المستقبل على يد المنقذ (الإمام المهدي)، وهذا ما يُؤكِّده القرآن الكريم ويُبشِّر به ويعتبره كوعد إلهي(١٣٦) لا بدَّ من تحقيقه، فالاعتقاد بالمهدويَّة يُعطي وضوحاً في الرؤية للتاريخ الإنساني، وفهماً للسُّنَن الإلهيَّة في التاريخ التي تحدَّث عنها القرآن الكريم.. فالمستقبل الذي ينبغي أنْ تُعقَد عليه الآمال، والذي شاءت الإرادة الإلهيَّة أنْ يسير نظام العالم تجاهه هو الطور المهدوي، حيث يلغي الإمام (عجَّل الله فرجه) الصراع بين البشر ويزيل أسبابه المادّيَّة والمعنويَّة، فتتحقَّق مرحلة قيام دولة آل محمّد (صلَّى الله عليه وآله)، يقول المفكِّر مرتضى المطهَّري(١٣٧): (لا الشرُّ والفساد والتعاسة صفات تلازم البشريَّة، ولا التطوُّر المدني المادِّي بقادر على إبادة البشريَّة،

-----------------

(١٣٥) أمل الإنسان (الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الفكر الإسلامي الأصيل) (ص ٦٢).
(١٣٦) قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ (النور: ٥٥).
(١٣٧) الشهيد مرتضى المطهَّري (١٩١٩ - ١٩٧٩م)، عالم دين شيعي إيراني، مفكِّر وفيلسوف إسلامي، وُلِدَ في محافظة خراسان (٣١/١/١٩١٩م).

(١٦١)

بل إنَّ البشريَّة تتَّجه نحو مستقبل مشرق سعيد، تنقلع فيه جذور الظلم والفساد.. وهذه النظريَّة يُبشِّر بها الدِّين، ونهضة المهدي ترتبط بهذه البشرى)(١٣٨). فالقضيَّة المهدويَّة تُمثِّل تفسيراً للتاريخ يتطابق مع النظريَّة القرآنيَّة التي ترى وراثة الأرض لعباد الله الصالحين، ومن وجهة نظر أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم تُمثِّل تجسيداً حيًّا للحقيقة التاريخيَّة، ليس على مستوى المستقبل غير المنظور فحسب، بل على مستوى الحاضر المعاش وتحقيق حكومة العدل الإلهي المطلق في مستقبل البشريَّة.
إنَّ العالم ينتظر بشوق وتلهُّف إلى اليوم الذي تشرق به الدنيا وتضيء فيه الآفاق بالمظهر الإلهي لوليِّ الله الأعظم، وخاصَّةً بعد أنِ اتَّضحت معالم مستقبل البشريَّة الزاهر والعصر المتألِّق الذي ينتظرها.. فكم هو عظيم هذا الحلم، وكم هو كبير هذا الهدف؟!.. فعندما نقول: إنَّ البشريَّة بانتظار المهدي وانتظار راية التوحيد والعدالة ترفرف في العالم، يجب أنْ نعرف أنَّ القائد العظيم (عجَّل الله فرجه) لن يُحقِّق هذا الهدف بمفرده، بل يطلب وينتظر العون والمساعدة منَّا، فهو ينتظرنا أنْ نتكامل ونستعدَّ ليوم ظهوره، فمن الحكمة أنْ نكون من الممهِّدين لإقامة الدولة العادلة، وعضداً له عند خروجه، ويجب أنْ يكون الانتظار الإيجابي هو عنوان المسؤوليَّة العامَّة في هذا العصر، وأنْ يكون همُّنا التطلُّع إلى المستقبل بشكل مستمرٍّ ودائمٍ، فالكلُّ ينتظر أنْ يتحقَّق الفتح المهدوي العالمي بقيادة صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه).
من مجمل ما تقدَّم نقول: هذه هي العقيدة المهدويَّة في فكر شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا هو فكرها الوضَّاء المنبثق من كتاب الله والسُّنَّة النبويَّة الشريفة والمستمدُّ من العقل والعلم، وهذا هو المستقبل الزاهر الذي ينتظر البشريَّة بظهور قائم آل محمّد (صلَّى الله عليه وآله)، وهذه هي أُطروحة خاتمة المطاف لحركة الأنبياء والرُّسُل جميعاً.

* * *

-----------------

(١٣٨) نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ (ص ٦٢).

(١٦٢)

الفصل الأوَّل: عند الظهور المقدَّس لماذا شعار يا لثارات الحسين(١٣٩)؟

-----------------

(١٣٩) دراسة للمؤلِّف نُشِرَت في كلٍّ من:
- مجلَّة الانتظار، العدد السادس، شهر رجب (١٤٢٧هـ)، تصدر من مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، العراق، النجف الأشرف.
- مجلَّة جنَّة الحسين (عليه السلام)، العدد الثاني، محرَّم (١٤٣٢هـ)، مجلَّة حسينيَّة تخصُّصيَّة تعني بنشر الفكر الحسيني، العراق.

(١٦٥)

عندما يظهر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في اليوم الموعود، والذي يصادف يوم عاشوراء من ذلك العام.. يرفع أصحابه (عليهم السلام) شعار (يا لثارات الحسين)، ويهتفون بأعلى أصواتهم بهذا الشعار، كون هذا اليوم هو يوم مقتل جدِّه الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا ما دلَّت عليه روايات الظهور.
إنَّ ثورة سيِّد الشهداء (عليه السلام) وثورة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) منسجمتان معاً في الهدف، وقد كانت نهضة الحسين (عليه السلام) في حقيقتها من بعض مقدَّمات ثورة المهدي (عجَّل الله فرجه) وإنجازاً ليومه الموعود، بصفتها جزءاً من التخطيط الإلهي لإعداد الأُمَّة لليوم المنتظَر.. كما أنَّ ثورة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) دفاع عن قضيَّة الإمام الحسين (عليه السلام) وأخذ بثأره كونها محقِّقة للهدف الأساس المشترك بينهما بتطبيق القسط والعدل وإزالة الظلم والجور والانحراف والكفر.
من هنا كان انطلاق حركة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من زاوية (يا لثارات الحسين) انطلاقاً من نقطة قوَّة متسالَم على صحَّتها ورجحانها، وإنَّ أهمَّ مناسبة يمكن الحديث فيها عن الإمام الحسين (عليه السلام) وأهدافه، هو يوم ذكرى مقتله في العاشر من محرَّم الحرام، ومن هنا كان هذا التوقيت للظهور حكيماً وصحيحاً، بالإضافة إلى أنَّ وجود الإمام الحسين (عليه السلام) كان وما زال وسيبقى في ضمير الأُمَّة خاصَّة والبشريَّة عامَّة حيًّا نابضاً وعلى مختلف المستويات، يُلهِم الأجيال روح الثورة والتضحية والإخلاص.
إذاً.. شعار (يا لثارات الحسين) له من الدلالات الكبيرة والعظيمة الموضِّحة لأهداف الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ورمز لمسيرته، ومن هنا لا بدَّ أنْ نعرف

(١٦٧)

طبيعة الحركتين (الثورتين) وأهدافهما والرابط المشترك، علماً بأنَّ المسيرتين من أجل الإسلام ورسالته السمحاء.. ولكن قبل هذا وذاك لا بدَّ أنْ نعرف شيئاً يسيراً من مسيرة الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) في فتح مكَّة وربطه بـ(الفتح الحسيني) و(الفتح المهدوي) باعتبار أنَّ هناك في التاريخ الإسلامي ثلاثة فتوحات رئيسيَّة أثَّرت وحافظت على رسالة الإسلام:
الأوَّل: الفتح المحمّدي (فتح مكَّة):
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ (النصر: ١ - ٣)، وقال تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ (الفتح: ١).. فما هي العقبة الرئيسيَّة التي واجهت الرسول (صلَّى الله عليه وآله) حتَّى تأخَّر فتح مكَّة مكان بعثته وانطلاق دعوته لسنوات عديدة، حتَّى إنَّه سُمِّي العام الذي فُتِحَت به مكَّة بعام الفتح، ولتوضيح المشكلة الحقيقيَّة التي واجهت الرسول (صلَّى الله عليه وآله) حتَّى تأخَّر الفتح.. لا بدَّ من الرجوع إلى عام الفيل (٥٧٠م) العام الذي وُلِدَ فيه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عندما أراد أبرهة مَلِك اليمن مهاجمة مكَّة المكرَّمة وهدم بيت الله الحرام (الكعبة)، وعند اقتراب الجيش وفي مقدَّمته فيل نزح سُكَّان مكَّة (قريش) من منازلهم إلى الجبال المجاورة، وقال زعيمهم عبد المطَّلب مقولته المشهورة: (للبيت ربٌّ يحميه)، فأقام الله معجزته لحفظ الكعبة المشرَّفة، فأرسل طيراً أبابيل بحجارة من سجِّيل (أكبر من العدسة وأصغر من الحُمُّصة)، وهنا بدأت تتكوَّن فكرة جديدة وتترسَّخ في عقول الناس (ملازمة فكريَّة) بين قدسيَّة بيت الله الحرام وسيادة قريش على مكَّة ممَّا شكَّل قوَّة أدبيَّة ونفوذاً لقريش عند العرب، لأنَّهم جيران بيت الله الحرام وحماته وسدنته، ولأنَّهم يُكرِمون زُوَّار هذا البيت.. ولذا

(١٦٨)

اعتُبِرَ هذا النفوذ الأدبي لقريش أصعب ما واجهه (صلَّى الله عليه وآله) في بداية دعوته بمكَّة، ومع بقاء النبيِّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله) في مكَّة من بداية دعوته ولمدَّة ثلاثة عشر عاماً إلَّا أنَّ الداخلين في الإسلام قليلون، ولم يكن ذلك بتقصير من أساليب الدعوة أو ضعفها، وإنَّما بسبب الفكرة المرسَّخة في عقول الناس بين قدسيَّة البيت الحرام وسيادة قريش، وهنا تنبع الحكمة النبويَّة بالهجرة إلى يثرب، وبمعرفة القائد العظيم لهذه الحقيقة لم يضع في صلح الحديبيَّة مع قريش إلَّا مطلب واحد وهو أنْ تُخلي قريش بينه وبين العرب، وأنْ تتوقَّف عن استغلال نفوذها الأدبي عند العرب لصدِّهم عنه، وأنْ تتوقَّف عن دعاياتها الكاذبة ضدَّه وضدَّ دينه.. وبانتصار الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) على قريش وفتح مكَّة في العام الثامن للهجرة سقطت أعتى الموانع وأقوى العقبات في طريق تقدُّم الدعوة الرساليَّة وانتشار الإسلام.. وذلك إثر تَفكُّك الملازمة الفكريَّة وسقوطها من أذهان الناس، ولذا بدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً من غير مشقَّة أو عناء، ولذا أُطلِقَ على العام الذي فُتِحَت به مكَّة بعام الفتح أو عام الوفود لكثرة توافد قبائل العرب على النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) لتُعلِن قبولها بولايته واعتناقها للإسلام، وأصبح النبيُّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله) زعيماً لجزيرة العرب بلا منازع.
الثاني: الفتح الحسيني (عاشوراء):
كان رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) هو القائد العامُّ والرئيس الأعلى في الحكومة الإسلاميَّة، وقد منحه الله في ذلك صلاحيَّات واسعة حتَّى يمكنه النهوض بهذه المسؤوليَّة الكبرى.. قال الله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب: ٦)، وقال تعالى: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ (المائدة: ٤٨)، ومن هنا فإنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يُمثِّل السلطتين التشريعيَّة

(١٦٩)

والتنفيذيَّة، فارتباطه بالسماء من خلال الوحي الذي يُمثِّل المصدر التشريعي الوحيد يجعله مسؤولاً عن إبلاغ الرسالة الإلهيَّة، كما أنَّ تصدِّيه لقيادة الأُمَّة الإسلاميَّة يجعله المسؤول الأوَّل عن تنفيذ الشريعة السمحاء.. قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ﴾ (النساء: ١٠٥)، ولذا لم تكن مهمَّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) في إبلاغ الرسالة فقط، بل تتعدَّى إلى قيادة المسلمين وتنفيذ شرع الله في الأرض، وكان المسلمون ملزمين بطاعة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) التي تُعَدُّ طاعة لله سبحانه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ (النساء: ٥٩)، ومن هنا فطاعة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) واجبة، فبالإضافة إلى اتِّباعه في التشريع، هناك طاعة أُخرى متوجِّبة له كقائد وحاكم وهي واجبة لأنَّ الله أمر بذلك، ولذا تُعتبَر الحكومة الإسلاميَّة من صميم الدِّين.. وبوفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بدأت تتكوَّن في عقول الناس وأذهانهم (ملازمة فكريَّة جديدة)، وهي: قدسية الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وتعاليم الدِّين الإسلامي من جهة، وقدسيَّة خليفة الرسول أو مَنْ يجلس على كرسي الحكم من جهة أُخرى، فالأصل أنَّ خليفة الرسول مهاب ومحترم وموقَّر لأنَّه القائم مقام الرسول (صلَّى الله عليه وآله) بقيادة الأُمَّة وحفظ الدِّين على أُصوله الصحيحة، فهيبة الخليفة مستمدَّة من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، هذا بالنسبة للخليفة الشرعي المعيَّن بأمر الله ورسوله، والأصل أنَّ الخليفة هو الأعلم و الأفهم بالدِّين والأتقى والأصلح، وهو وليُّ أمر المسلمين، وهو مرجعهم الرسمي في أُمور دينهم ودنياهم.. ولكن للأسف انتشرت تقليعة الغلبة واكتساب الخلافة عن طريق الغصب والقوَّة، وانتقلت مهابة الخليفة الشرعي للخليفة الغالب الذي لا سند لشرعيَّة حكمه غير القوَّة والقوَّة وحدها فقط.. وبما أنَّ الخليفة (الحاكم أو الأمير) هو خليفة

(١٧٠)

الرسول (صلَّى الله عليه وآله) فقد تمتَّع بكلِّ الصلاحيَّات التي كان يتمتَّع بها الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، وأضفت عليه القداسة التي كانت للرسول (صلَّى الله عليه وآله) بوصفه خليفته، وأخذت هذه القداسة للخليفة الحاكم الغالب (غير الشرعي) شيئاً فشيئاً تترسَّخ في عقول الناس وأذهانهم، بل أصبحت التوجيهات والتعليمات التي يُصدِرها الحاكم من صميم تعاليم الدِّين، ولها قدسيَّة باعتباره خليفة الرسول ومستمدًّا قدسيَّته من قدسيَّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، حتَّى وإنْ كانت التعليمات التي يُصدِرها بعيدة كلُّ البُعد عن أحكام الدِّين الحنيف.. وهكذا أصبحت أوامر وتعليمات الحاكم الأُموي مثلاً (معاوية ويزيد) ديناً أو من تعاليم الدِّين وليست أفكاراً خارجيَّة منحرفة، وهنا مكمن الخطر والكارثة التي واجهت الأُمَّة.. ولذا كان لا بدَّ من القيام بعمل جهادي يُوضِّح الحقائق ويُسقِط (الملازمة الفكريَّة) قدسيَّة الحاكم وتعليمات الحاكم.
لقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) يُدرِك ويعي هذه الحقيقة، ويعلم بأنَّ التاريخ ينتظر منه القيام بعمل لإعادة الأُمور إلى نصابها، ومضى سيِّد الشهداء (عليه السلام) في طريقه إلى الهدف الأسمى والغاية القصوى وهو يتمثَّل بقول القائل:

إذا كان دين محمّد لم يستقم * * * إلَّا بقتلي يا سُيوف خذيني(١٤٠)

لقد وقف الحسين (عليه السلام) وقفته الخالدة العظيمة بعد أنْ أدرك أنَّ الأخطار المحدقة برسالة جدِّه لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلَّا بشهادته، ولذا كان الحسين (عليه السلام) يُجسِّد المسؤوليَّة الشرعيَّة والتاريخيَّة الملقاة على عاتقه بقوله: «إِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلَا بَطِراً، وَلَا مُفْسِداً وَلَا ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي (صلَّى الله عليه وآله)، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ اَلمُنْكَرِ»(١٤١).

-----------------

(١٤٠) المجالس الفاخرة (ص ٩٥).
(١٤١) بحار الأنوار (ج ٤٤/ ص ٣٢٩).

(١٧١)

فالشعار والهدف التي انطلقت منها ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإصلاح في أُمَّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) والذي يتضمَّن إعادة الأُمَّة إلى النهج الإسلامي الصحيح، من هنا نجد أنَّ ثورة الحسين (عليه السلام) كانت طوفاناً في وجه هذا العدوِّ الداخلي الخطير الذي يُهدِّد كيان الأُمَّة ويُحطِّم قوَّتها وينخر في جسدها من الداخل (باعتبار أنَّ كيد الداخل أخطر من مؤامرات الخارج).. إنَّ ثورة سيِّد الشهداء (عليه السلام) (الفتح الحسيني) كانت ثورة لتحرير الأُمَّة، كما أنَّها ثورة قِيَم الدِّين، وتحمل في طيَّاتها الفكر والضمير والوعي والمسؤوليَّة التاريخيَّة، ولذا لم يستطع أيُّ حاكم بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) أنْ يحتكر الفقه أو الفقاهة أو الثقافة أو الوحي أو القرآن وتفسيره، بل أصبح الحاكم (سلطة تنفيذيَّة) ووُضِعَ حدٌّ فاصل بين السلطة التنفيذيَّة (الحاكم، المَلِك، الخليفة، أمير المؤمنين، وليُّ الأمر) أو أيُّ مسمَّى آخر كخليفة غير شرعي، وبين الأحكام الشرعيَّة والتعاليم الإسلاميَّة، ومن هنا تنبع عظمة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، إذ أسقطت الملازمة الفكريَّة والذهنيَّة المتمثِّلة بقدسيَّة الدِّين الإسلامي وقدسيَّة مَنْ يجلس على كرسي الحكم باعتباره خليفة الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، ولذا تلاحقت الثورات والحركات بعد نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) كالتوَّابين والمختار الثقفي و... إلخ، ولذا أفضل ما يُطلَق على نهضة أو حركة أو ثورة الإمام الحسين بالفتح الحسيني.
الثالث: الفتح المهدي (الظهور - عاشوراء):
شعار (يا لثارات الحسين (عليه السلام)) الذي سيُرفَع في بداية ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سيُوضِّح الرابط المشترك بين أهدافه وأهداف ثورة سيِّد الشهداء (عليه السلام)، ألَا وهو عودة الإسلام النقي الصافي الصحيح كما جاء به الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، وهذا ما تُوضِّحه بعض الروايات الشريفة من استئناف الإسلام من جديد على

(١٧٢)

يد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(١٤٢)، وهذا هو الرابط المشترك بين الفتح المهدوي والفتح الحسيني وقبل ذلك الفتح المحمّدي.. ولذا يصحُّ لنا أنْ نقول: هناك ثلاثة فتوحات حقيقة في التاريخ الإسلامي (المحمّدي، الحسيني، المهدوي)، وهي في الأساس فتوحات فكريَّة عقليَّة تُوضِّح الحقائق وتُحقِّق أهداف الرسالة الإسلاميَّة وإنْ كان لها طابع عسكري أو سياسي.
إنَّ المهمَّة المراد تنفيذها من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كبرى وعظيمة، فهو مكلَّف بأنْ يقطف جهد الأنبياء والرُّسُل والأوصياء كافَّة، وأنْ يُحقِّق أهدافهم وما تطلَّعوا إليه، وذلك بأنْ يهدي سُكَّان الكرة الأرضيَّة من مختلف الأديان والمذاهب إلى دين الله الحقِّ (كما جاء به النبيُّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله))، ومكلَّف بأنْ يُكوِّن دولة عالميَّة تشمل أقاليم الكرة الأرضيَّة كافَّة وتضمُّ أبناء الجنس البشري المتواجدين على المعمورة كافَّة، ومكلَّف أيضاً بأنْ يجعل المنظومة الإلهيَّة (أحكام الشريعة الإسلاميَّة) قانوناً نافذاً في كافَّة أرجاء دولته العالميَّة، وأنْ ينشر العدل المطلق، ويُحقِّق الكفاية والرخاء التامَّ لكافَّة سُكَّان المعمورة.. وتلك أهداف ومهامٌّ لم يُكلَّف بها أحد قطُّ قبل المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
سيواجه الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) في بداية ظهوره عقبات وصعوبات كثيرة وعديدة سواء على صعيد العالم الإسلامي من تنوُّع المذاهب واختلاف الآراء، فعلى مدار أربعة عشر قرناً تداول المسلمون روايات سُنَّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) سيرةً وحديثاً، ومع وجود المجمل والمبيَّن والعامِّ والخاصِّ إضافةً إلى العوامل الخارجة المؤثِّرة من مكاسب سياسيَّة ومصالح خاصَّة وتغليب الأهواء اختلفت آراء العلماء، وبتحريض وتوجيه من القادة السياسيِّين اختلفت اجتهادات المجتهدين في ترجيح بعض الروايات على بعض أو إسقاط بعض الأحاديث الشريفة أو

-----------------

(١٤٢) راجع: الغيبة للنعماني (ص ٣٣٦/ باب ٢٢ ما رُوِيَ أنَّ القائم (عليه السلام) يستأنف دعاءً جديداً...).

(١٧٣)

تجاهلها، خاصَّةً عندما تتعارض مع المصالح الخاصَّة أو السياسيَّة العامَّة، بالإضافة إلى اجتهاداتهم الخاصَّة في مختلف معارف الإسلام وأحكامه، فتعصَّب كلٌّ لآرائه فتكوَّنت لكلِّ فرقة رؤية خاصَّة للإسلام أوَّلت بموجبها آيات متشابهات في كتاب الله الكريم وحملت عليها آيات محكمات أُخرى.. وهكذا انقسم المسلمون إلى فِرَق ومذاهب، ومضت عليهم قرون طويلة كفَّرت خلالها بعض فِرَق المسلمين الفِرَق الأُخرى، وأحلَّت دماءهم وقتلت مَنْ خالفها في الرأي أحياناً وهدمت ديارهم.. فكيف يمكن للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) توحيد كلمة المسلمين وتوجيههم لاتِّباع تعاليم الإسلام كما جاء به النبيُّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله) مع وجود كلِّ هذه المفارقات؟!
أمَّا على صعيد غير المسلمين.. فهم أكثريَّة والمسلمون أقلّيَّة، فمع تنوُّع وتشتُّت الأديان والمذاهب فهناك الأديان السماويَّة بمختلف مذاهبها وتقسيماتها وهناك أديان غير سماويَّة وهناك الإلحاد.. إضافةً إلى الانحرافات الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة والخواء الفكري والفراغ الروحي، إلى جانب العقبات التي ستواجه الإمام (عجَّل الله فرجه) سواء العسكريَّة منها أو الفنّيَّة وعلى شتَّى المجالات والسُّبُل (الفقر، المرض، القتل، الدمار، الفساد، الجهل، الظلم، الاضطهاد، الكفر، الكوارث الطبيعية، كثرة الفتن، الجوع، قلَّة الأمن والأمان، الجور... إلخ)، بالإضافة إلى الاصطدام مع مصالح الحكومات العالميَّة.
إذا خرج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أعلن ثورة كبرى على الباطل بكلِّ رموزه ومعانيه، وعلى الظلم بكلِّ جبهاته الضالَّة، فيقوم (سلام الله عليه) بإنجاز أعمال لها طابع جذري وجوهري قوي وذات دلالات عظيمة، ليُسقِط بذلك الواقع المتخلِّف الذي يعيشه المسلمون وسُكَّان العالم والذي ترسَّخ في عقولهم وأذهانهم على طول التاريخ.. وسيقوم بإنجاز أعمال لها ملامح فكريَّة وعقليَّة تُوضِّح

(١٧٤)

الحقائق الأصيلة، وإنْ كان لها طابع عسكري وسياسي ليُسقِط بذلك تراكمات وأفكار التاريخ المتخلِّف، وليُزيل بذلك الملازمات الفكريَّة المترسِّخة في عقول الناس وأذهانهم سواء على صعيد المسلمين أو على صعيد سُكَّان العالم، فيحدث هزَّات عنيفة في عقول ونفسيَّات الناس لتتوضَّح لهم الحقيقة ناصعة بعد أنْ ظلُّوا غافلين عنها طوال التاريخ.. وحينها سينطلق فتحه بسهولة وسيفرض نفوذه على العالم الإسلامي في مدَّة قياسيَّة (ثمانية شهور كما تُوضِّح ذلك عدَّة روايات)(١٤٣)، وسيفرض سيطرته على العالم بمساعدة السيِّد المسيح (عليه السلام) في وقت قصير بناءً على المهمَّة الكبرى المنوط به تحقيقها بنشر القسط والعدل على المعمورة كافَّة.
خلاصة القول:
هناك في التاريخ الإسلامي ثلاثة فتوحات حقيقةً: الفتح المحمّدي، والفتح الحسيني، والفتح المهدوي مستقبلاً، وهي في الأساس فتوحات فكريَّة عقليَّة تُوضِّح الحقائق وتزيل تراكمات التاريخ المتخلِّف وتُحقِّق أهداف الرسالة الإسلاميَّة وإنْ كان لهذه الفتوحات طابع عسكري أو سياسي:
الفتح المحمّدي:
أزال بذلك الواقع المتخلِّف الذي ترسَّخ في عقول الناس لعشرات السنين، وهي الملازمة الفكريَّة المتمثِّلة بين قدسيَّة بيت الله الحرام وسيادة قريش على مكَّة.. ممَّا شكَّل لقريش نفوذاً أدبيًّا على العرب لم يستطع الرسول (صلَّى الله عليه وآله) تجاوزه إلَّا بعد فتح مكَّة ومن ثَمَّ دخل الناس في دين الله أفواجاً.

-----------------

(١٤٣) راجع: الإمامة والتبصرة (ص ١١٥/ ح ١٠٣)، والغيبة للنعماني (ص ١٦٧و١٦٨/ باب ١٠/ فصل ٣/ ح ٥، وص ٣١٩و٣٢٠/ باب ١٩/ ح ٢)، وكمال الدِّين (ص ٣١٨/ باب ٣٠/ ح ٥، وص ٣٢٩/ باب ٣٢/ ح ١١).

(١٧٥)

الفتح الحسيني: أزال الواقع المتخلِّف الذي ترسَّخ في عقول الناس (المسلمين) لعشرات السنين وهي الملازمة الفكريَّة المتمثِّلة بين قدسيَّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وتعاليمه وتوجيهاته المؤيَّدة بآيات من القرآن الكريم وبين قدسيَّة خليفة الرسول أو مَنْ يجلس على كرسي الحكم (الخليفة غير الشرعي)، فأصبحت التوجيهات والتعليمات التي يُصدِرها الحاكم (بنو أُميَّة) من صميم تعاليم الدِّين ولها قدسيَّة وإنْ كانت في الحقيقة بعيدة كلُّ البُعد عن تعاليم الدِّين الإسلامي، وهنا تنبع عظمة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) بثورته الخالدة في يوم عاشوراء لتوضيح الحقائق، ومن ثَمَّ بدأت الثورات والحركات الإسلاميَّة تأتي تباعاً لمحاربة الظلم وإزالة القدسيَّة عن الحُكَّام المنحرفين.
الفتح المهدوي (مستقبلاً): سيُزيل بذلك الواقع المتخلِّف الذي ترسَّخ في عقول الناس (المسلمين وغيرهم) لمئات السنين، سواء على الصعيد العقائدي كأديان ومذاهب أو على صعيد الظلم والجور والانحراف والباطل، ولذا سيقوم بإنجاز بعض الأعمال التي لها طابع جذري وجوهري، ممَّا سيُسبِّب هزَّة عنيفة في عقول ونفسيَّات الناس، ومن ثَمَّ سيُسهَّل له القيام بالمهمَّة الكبرى المنوط له تحقيقها بنشر الدِّين الإسلامي على المعمورة وبسط القسط والعدل وبمدَّة قياسيَّة وبالأسباب الطبيعيَّة كافَّة.

* * *

(١٧٦)

الفصل الثاني: استراتيجيَّة الأعداء في حربهم ضدَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حاليًّا(١٤٤)

-----------------

(١٤٤) دراسة للمؤلِّف نُشِرَت في كلٍّ من:
- مجلَّة الانتظار، العدد السادس عشر، شهر محرَّم (١٤٣٠هـ)، تصدر من مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، العراق، النجف الأشرف.
- مجلَّة (موعود) الشهريَّة الإيرانيَّة، نُشِرَت باللغة الفارسيَّة في عدد ٩٦، شهر بهمن (١٣٨٧ش)، الموافق يناير (٢٠٠٩م)، بعنوان (استراتژى دشمنان در جنگ عليه امام مهدي (عجَّل الله فرجه))، ترجمة: سيِّد شاهبور حسيني.

(١٧٧)

أخذ أعداء الإسلام على عاتقهم في السنوات الأخيرة خلق ظروف مناسبة، تفرز مناخاً يساعد على تقويض أمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وجعل مبادئ العقيدة المهدويَّة خاوية وفارغة من محتواها الأصلي.. إنَّ الأعداء بشتَّى توجُّهاتهم يحاربون حاليًّا القضيَّة المهدويَّة وبكلِّ ما يملكون من قوَّة، لأنَّهم يُدرِكون المصير الأسود الذي ينتظرهم، ولذا فقد خطَّطوا ومنذ أمد بعيد لتدمير كلِّ ما يمكن أنْ يُمثِّل قوَّته أو يساعد على إنجاح فتوحاته ونهضته العالميَّة، ولذا لا نستغرب من حجم الهجوم الشرس الذي يشنُّه الأعداء على المهدويَّة في السنوات الأخيرة.. فإنَّ مَنْ يقرأ أخبار الأحداث الأخيرة ومجريات الأُمور الحاليَّة، يُذهِله عظيم البلاء وحجم العداء ضدَّ العقيدة المهدويَّة، ففي ظلِّ إرادة دوليَّة ظالمة متنفِّذة، ودعاية إعلاميَّة ثقافيَّة عدائيَّة، يحاولون دحض الثقافة المهدويَّة، بل يصرُّون على نشر أفكار تُنكِر أصل وجوده (عجَّل الله فرجه)، وتعمل تلك الإرادة الظالمة جاهدة لتنفيذ استراتيجيَّة متكاملة وشاملة، ولإقامة منظومة ثقافيَّة تحمل في طيَّاتها العداء للعقيدة المهدويَّة.
إنَّ مَنْ يراقب أخبار وأحداث الزمن الحالي يجد أنَّ معاداة ومحاربة أمر الإمام المهدي والعقيدة المهدويَّة وصلت إلى قرب الذروة وبمستوى عنيف وخبيث، وذلك عبر خلق حالة من العداء النفسي والفكري والاجتماعي والسياسي للإمام (عجَّل الله فرجه) في أوساط القاعدة الشعبيَّة الموالية له سواء الخاصَّة منها أو العامَّة.. يطمح الأعداء من وراء ذلك التخطيط إلى شنِّ هجمة صاعقة ضدَّ العقيدة المهدويَّة الأصيلة، وإلى تغييب وتهميش فكرة وجود الإمام (عجَّل الله فرجه) وما

(١٧٩)

تحمله هذه العقيدة من روحيَّة تفاؤل وإيجابيَّة وحيويَّة ونشاط ودافعيَّة نحو المستقبل.
إنَّ كلَّ مَنْ يخاف المهدي ولا يتمنَّى خروجه، ويحمل مبادئ وأهداف تخالف ما يحمله المهدي، وتتضارب مصالحه مع مبادئ العدل والقسط الإلهي، تراه يُعلِن العداء للمهدي.. ومن هنا يجب أنْ نُوضِّح: عندما نتكلَّم عن أعداء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حاليًّا، فإنَّما نقصد من خلاله الإشارة إلى الجبهة السياسيَّة المعادية، أو الكيان المخطِّط والمنفِّذ لاستراتيجيَّة حرب وعداء ضدَّ الإمام (عجَّل الله فرجه)، وقد عبَّرت الروايات عنهم باسم (أهل الروم).. إنَّ اليهود والصهيونيَّة العالميَّة يحاربون المهدي لأنَّهم يعرفون أنَّ زوالهم سيتمُّ على يديه، ولأنَّ كلَّ الوثائق القديمة لديهم تُؤكِّد أنَّ حرب المهدي لليهود قادمة لا محالة، وكذلك التوراة القديمة الأصليَّة أنبأت به (عجَّل الله فرجه).
السؤال الكبير الذي يشغلنا ومن المهمِّ أنْ نعرف إجابته: ما هي الخُطَط التي يتَّبعها الأعداء (الصهيونيَّة والغرب) في حربهم ضدَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حاليًّا؟ وكيف يستعدُّون لقدومه؟.. علماً بأنَّ التاريخ يُخبِرنا عن قَصَص استعداد الأعداء لقدوم الأنبياء والرُّسُل، كقصَّة موسى وفرعون، وعيسى واليهود، والرسول (صلَّى الله عليه وآله) واليهود، فكما راقب اليهود والأعداء أخبار ولادة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وخطَّطوا للقضاء عليه في صغره، كذلك هم الآن يراقبون الأحداث ويقرأون علامات ظهور الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه).. ولذا فهم يتَّبعون استراتيجيَّة معيَّنة في حربهم ضدَّه، أو للقضاء عليه.. فما هي هذه الاستراتيجيَّة؟ وما هي أبرز خطوطها وملامحها؟.. إنَّ المنتظِر الحقيقي للإمام والذي يعدُّ نفسه لذلك، لا بدَّ له أنْ يعرف ماذا يحيك الأعداء من دسائس ومؤامرات ضدَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الوقت الحالي، ليتمَّ كشف مخطَّطهم وإسقاط استراتيجيَّتهم.

(١٨٠)

إنَّ طبيعة صراع الأعداء اليوم ضدَّ القضيَّة المهدويَّة، وحركات الصدام والمجابهة التي يتبنَّونها تظلُّ مختلفة في أكثر من ناحية ومقام وفترة وزمان، إلَّا أنَّها في بعض خُطَطها الاستراتيجيَّة وبعض أسمائها وعناوينها واضحة للمؤمنين.. علماً بأنَّنا عندما نتكلَّم عن استراتيجيَّة الأعداء، فإنَّما نتكلَّم عن خطَّة شاملة متكاملة بعيدة المدى، ذات أهداف متعدِّدة، يستخدمون فيها أساليب قديمة وحديثة ومتنوِّعة وخبيثة لمواجهة حجم القضيَّة التي ينتظرونها ويعرفون نتائجها مسبقاً.. ومن هنا يجب علينا أنْ نعي ونفهم ونكشف للمؤمنين أساليب الأعداء الحديثة في حربهم ضدَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حاليًّا، واستعداداتهم للمواجهة اللَّاحقة مستقبلاً.
نستشفُّ من قراءتنا للأوضاع والأحداث الحاليَّة، بعض أبرز خطوط استراتيجيَّة الأعداء والموجَّهة ضدَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) حاليًّا - في الفترة الحاليَّة، وليس في المستقبل أثناء ظهوره -، ويمكن تشخيص هذه الاستراتيجيَّة في النقاط التالية:
أوَّلاً: نسف العقيدة المهدويَّة من الأساس والتشكيك في مصداقيَّتها:
يستغلُّ الأعداء بعض الملابسات التاريخيَّة والفكريَّة في القضيَّة المهدويَّة للتشكيك في العقيدة (سواء من ناحية أصل الفكرة، أو من ناحية الولادة والوجود).. وما هذه الملابسات الظاهريَّة التي يُعلِنونها إلَّا غطاءً مكشوفاً للدافع والسبب الحقيقي، وأُسلوباً من أساليب الحرب والعداء للعقيدة المهدويَّة الأصيلة، وذلك عبر:
* التشكيك في أصل الفكرة: وذلك بإيحاء الأعداء بأنَّ العقيدة المهدويَّة من وهم الخيال، والإيحاء للمؤمنين بأنَّهم يعيشون في الأحلام.. ويختبئ في طيَّات هذا الأُسلوب دوافع وجذور نفسيَّة، وذلك بقتل كلِّ الجوانب الإيجابيَّة للإيمان بالفكرة من روحية التفاؤل والأمل والإيجابيَّة والانتظار لمستقبل باهر، وخلق روحيَّة من اليأس والقنوط والبؤس والتشاؤم.

(١٨١)

* التشكيك في الوجود، وفي أصل الولادة تاريخيًّا، والإيهام بأنَّ الفكرة سوف تُولَد في المستقبل: وذلك لتهيئة الأرضيَّة الفكريَّة والثقافيَّة للمدَّعين المزوَّرين الكذَّابين، وما يتبع ذلك من أضرار، ممَّا جعل مدَّعو المهدويَّة يكثرون في هذا الوقت.. علماً بأنَّ هذا الأُسلوب ليس حديثاً، ولكنَّه يتجدَّد ويستمرُّ عبر الدعم والتشجيع الصريح لكلِّ مَنْ يتبنَّى تلك الأفكار والانحرافات (العقيديَّة) من أهل العامَّة أو من داخل البيت الشيعي (كالقضيَّة المثارة منذ فترة في لندن) ممَّا جعل نسبة معدَّل الادِّعاءات للمهدويَّة حديثاً مرتفعة.
من أساليب الأعداء الفكريَّة والثقافية الخبيثة تبنِّي ونشر وترويج بعض ملابسات المشكِّكين في العقيدة المهدويَّة، مثل:
* القول بعدم التصريح بلفظة المهدي في القرآن الكريم.
* القول بعدم التصريح بلفظة المهدي في صحيحي بخاري ومسلم.
* تضعيف ابن خلدون للأحاديث الواردة في المهدي.
* التركيز على رواية في (سُنَن ابن ماجة): «لَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ»(١٤٥).
* ترويج أنَّ المهدي رجل من الأُمَّة.. أي بدلاً «مِنْ عِتْرَتِي» جعلوها (مِنْ أُمَّتِي)(١٤٦).
* الادِّعاء بأنَّ الفكرة يعود أصلها للديانات السابقة.
* الظنُّ والتشكيك في الاسم.. بإضافة «يُواطِئُ اِسْمُهُ اِسْمِي، (وَاِسْمُ أَبِيِهِ اِسْمُ أَبِي)»(١٤٧).

-----------------

(١٤٥) سُنَن ابن ماجة (ج ٢/ ص ١٣٤٠ و١٣٤١/ ح ٤٠٣٩).
(١٤٦) عقد الدُّرَر (ص ٣٣).
(١٤٧) سُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٣٠٩/ ح ٤٢٨٢).

(١٨٢)

* التأكيد على أنَّ المهدي سيُولَد في المستقبل.
يهدفون من تبنِّي هذه الملابسات: الترويج والإيحاء إلى أنَّ فكرة المهدي غير أصيلة، وليس لها مصدر من القرآن الكريم، بالإضافة إلى شكوك حول أحاديثها من السُّنَّة الشريفة، وبالتالي لا حاجة للاستعداد والانتظار، وإنْ كان لا بدَّ من الإيمان بهذه الفكرة، فإنَّ المهدي المنتظَر هو شخص عادي من الأُمَّة الإسلاميَّة وسيُولَد في المستقبل، وأيُّ فرد بإمكانه تقمُّص شخصيَّته.. كلُّ هذه الأساليب الخادعة والماكرة تضعنا أمام حرب نفسيَّة أشرس من الحرب العسكريَّة، إنَّها حرب الأفكار والقِيَم والمعتقَدات، (علماً بأنَّ كلَّ الملابسات ردَّ عليها العلماء الأفاضل، وتمَّ إيضاح الحقيقة الناصعة تجاهها).
تكمن الخطورة في هذا الأُسلوب من استراتيجيَّة الأعداء، في زجِّ أفكارهم الهدَّامة بأيَّة طريقة ووسيلة، من أجل خدمة أهدافهم وتحقيق مآربهم والتي تتمثَّل في:
* قتل نفسيَّة الأمل والتفاؤل من الإيمان بالعقيدة المهدويَّة، وإجهاض الإيجابيَّة في روحيَّة الانتظار.
* تهيئة الأرضيَّة الفكريَّة والثقافيَّة والمناخ الاجتماعي لمدَّعي المهدويَّة كذباً وزوراً.
ثانياً: خلق حالة من الكره النفسي والعقلي للإمام وللعقيدة المهدويَّة لدى المجتمعات المؤمنة بالفكرة، وذلك عبر دعم ومساندة مدَّعي المهدويَّة والنبوَّة كذباً:
يستغلُّ أعداء الإسلام الواقع النفسي السيِّئ والمرير للمجتمع الإسلامي وكثرة الإحباطات فيه بشتَّى أنواعها، ويعرفون جدوى استثمار الحالة النفسيَّة وتوظيفها لتشويه العقيدة المهدويَّة.. فقد حمل حقد الأعداء على الإمام المهدي

(١٨٣)

(الشخص والفكرة) للانضواء تحت راية المدَّعين لتكثير سوادهم، وتقوية حركاتهم لهدم الإسلام من داخله، وذلك بإغداق الأموال والمساعدات على هؤلاء الأفَّاكين وأتباعهم، وإغراء ضعاف الإيمان للانضمام إلى تلك الحركات الهدَّامة، فكما فعلت روسيا من قبل مع البابيَّة (البهائيَّة) في إيران، ودعمت بريطانيا القاديانيَّة في الهند، كذلك يُجدِّد الأعداء اليوم بقوَّة وبشكل فعَّال الدعم والمساندة لأدعياء المهدويَّة والنبوَّة، ولذا نلحظ أنَّ معدَّل ونسبة عدد المدَّعين (للمهدويَّة والنبوَّة) في العصر الحديث يظلُّ مرتفعاً جدًّا ومتضخِّماً مقارنةً بالحالات المتشابهة في التاريخ، وقد بدأت حالات الادِّعاءات المزوَّرة تزداد، فيما يمكن إطلاق عليها كـ(ظاهرة)، وقد يكون الأمر مطمئناً لو أنَّ معظم الأدعياء في الأعوام الأخيرة انتهى بهم الأمر للعلاج في مستشفيات الأمراض العقليَّة والنفسيَّة، لكن المثير أنَّ بعضهم انتهى به الحال لقضاء فترة عقوبة بالسجن، بمعنى أنَّ القضاء تأكَّد من انتفاء شبهة الخلل العقلي أو خلل في حالتهم النفسيَّة.
وهنا يأتي السؤال المهمُّ: مَنْ يقف خلف هؤلاء الأدعياء ويُقدِّم الدعم والمساندة لهم؟.. تشير الدلائل إلى أنَّ مدَّعي المهدويَّة والنبوَّة (زوراً)، وكذلك الحركات الهدَّامة في الإسلام، المغذِّي الحقيقي لها هو الصهيونيَّة، التي تدعم وتساند ظهور هؤلاء الأدعياء، منتهزة في ذلك الواقع النفسي السيِّئ للمجتمع المسلم وتراكم إحباطاته.. لا نُخفي سرًّا إنْ قلنا: إنَّه يوجد الآن في إسرائيل مركز لتفريخ أدعياء المهدويَّة والنبوَّة (الدعاة العرب)، وذلك بعد تدريبهم تدريباً خاصًّا، ثمّ إطلاقهم في العالم الإسلامي لبثِّ سمومهم وتقويض القِيَم الدِّينيَّة والأخلاقيَّة وتشويه المعتقَدات الأصيلة.. علماً بأنَّ إسرائيل قد شرعت ببناء المحفل البهائي الرئيسي (البهجة) بمدينة عكا، والذي يحوي ضريح (البهاء)، وقد أنفقت عليه (٢٥٠ مليون دولار)، وتمَّ افتتاح حدائقه المتدرِّجة التسع

(١٨٤)

عشرة في (٢٢/مايو/٢٠٠١م) بحضور (٤٥٠٠) شخص يُمثِّلون قيادات البهائيَّة في العالم، تمَّ خلاله مراجعة أساليب وخُطَط استراتيجيَّة الانتشار.
لا يساورنا أدنى شكٍّ في أنَّ أعداء الإسلام يقفون خلف بعض مدَّعي المهدويَّة حديثاً، وتكمن خطورة استراتيجيَّة الأعداء في: أنَّ انتشار ظاهرة ادِّعاء المهدويَّة الكاذبة وبكثرة في العصر الحديث وتكرار فشلها، سيُؤدِّي إلى اقتران هذا الفشل المتكرِّر بتكوين كره نفسي وعقلي للعقيدة المهدويَّة عند الشعوب الإسلاميَّة، ممَّا تدفعها لاتِّخاذ مواقف مضادَّة ومنفِّرة منها.. وليس بمستبعد أنْ يكون الخائفون من العقيدة المهدويَّة الحقَّة هم الذين يدفعون ويغرون بعض السُّذَّج والخبثاء إلى تقمُّص شخصيَّة المهدي الحقيقي واستغلالها، وهدفهم من وراء ذلك فصل الجماهير المؤمنة عن هذه العقيدة الأصيلة.. وربَّما يظنُّ الأعداء أنَّ نجاح أحد المرجفين المزوِّرين في دعواه سيُمهِّد لإقناع الجماهير المسلمة بأنَّ المهدي المذكور في الأحاديث والروايات قد تحقَّقت بشارته، وحينئذٍ فإنَّ فكرة انتظار المهدي الحقيقي (عجَّل الله فرجه) لم يعد لها جدوى، فتتضاءل حالة الاستعداد ويفترُ حماس المؤمنين وكأنْ الأمر لم يكن، وهكذا تموت العقيدة المهدويَّة في النفوس والعقول وتموت معها فاعليَّة ثقافتها.
ثالثاً: استغلال بعض جوانب الثقافة المهدويَّة لضرب المرجعيَّة الدِّينيَّة الشيعيَّة، وذلك عبر دعم ومساندة مدَّعي السفارة والبابيَّة:
إنَّ المرجعيَّة الدِّينيَّة هي المركز الحقيقي والقلعة الحصينة للشيعة، ولذا يحاول الأعداء دوماً ضرب هذا الغصن العنيد والذي عصى على الانحناء.. يستغلُّ الأعداء القضيَّة المهدويَّة وثقافتها، وبالخصوص من ناحية السفارة ومزاياها وذلك لضرب المرجعيَّة الدِّينيَّة للشيعة.. كشف الدكتور مايكل برانت

(١٨٥)

مؤلِّف كتاب (مؤامرة التفريق بين الأديان الإلهيَّة) عن برنامج مدروس للاستخبارات الأمريكيَّة وموجَّه ضدَّ الطائفة الشيعيَّة يقول: (في إحدى جلسات الاستخبارات وبحضور كبار مسؤوليها وحضور ممثِّل للاستخبارات البريطانيَّة بسبب تجاربها الطويلة في الدول الإسلاميَّة، توصَّلنا إلى نتيجة: لا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال مواجهة المذهب الشيعي ومحاربته بصورة مباشرة، وأنَّ هزيمته أمر في غاية الصعوبة، وأنَّه لا بدَّ من العمل خلف الستار.. ومن أجل ذلك خطَّطنا ووضعنا برامج دقيقة وشاملة للمدى البعيد، فتصميمنا كان على ضرب المرجعيَّة الدِّينيَّة وتضعيف عقائد الشيعة وإفسادها، وأنْ نُحرِّف المفاهيم بحيث يبدو للناظر أنَّ الشيعة ليسوا سوى طائفة جاهلة تهوى الخرافات، والأمل معقود في نظرهم على سحق الشيعة بحلول عام (٢٠١٠م)).
قد لا يخفى على كلِّ ذي بصيرة ما يمكن أنْ تلعبه في زماننا هذا الأيدي الصهيونيَّة وعملائها من مكر وحيل وألاعيب لتشويه العقيدة المهدويَّة الأصيلة الحقَّة، ولا يخالجنا أدنى شكٍّ في أنَّ أعداء الإسلام (الصهيونيَّة والغرب) يقفون وراء بعض مدَّعي السفارة.. تكمن الخطورة في هذا الجانب من استراتيجيَّة الأعداء:
أوَّلاً: في خلقهم ودعمهم ومساندتهم لمدَّعي السفارة حديثاً.
ثانياً: بإشاعة وترويج صلة هؤلاء بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في غيبته الكبرى، على نحو يدَّعي أنَّه يتلقَّى منه الأحكام الشرعيَّة والمسائل الفقهيَّة والذي توافق الحقَّ والصدق وتطابق الواقع الذي يريده الله سبحانه وتعالى.. وعند تصديق ذلك يجب حينها الاستغناء عن الفقهاء (المرجعيَّة الدِّينيَّة)، لأنَّ المراجع يعيشون مرحلة الحكم الظاهري (حسب قواعد الاجتهاد الفقهي)، باعتبار أنَّ إصدار الفتوى يتمُّ بناءً على القواعد الاجتهاديَّة وقد تصيب الحقَّ والصدق وتطابق

(١٨٦)

الواقع، أو قد تُخطئ.. أي تظلُّ الفتوى والحكم ظاهريًّا ظنّيًّا أقرب منه إلى الواقع، وهذه المرحلة قد انتهت بظهور السفير (المدَّعي للسفارة والنيابة الخاصَّة) والذي يرجع للإمام المعصوم (عجَّل الله فرجه) مباشرة، وبالتالي ينقل الأحكام والمسائل الحقَّة والمطابقة للواقع.
بناءً على هذه الفكرة، يدعم الأعداء مدَّعي السفارة ويُنشؤون جماعات وحركات حديثة موالية لهم، مثل: جماعة السفارة في البحرين، وجماعة اليماني في العراق، وحركة الأحمديَّة في باكستان، وذلك كامتداد متطوِّر وحديث لحركة البابيَّة والبهائيَّة في إيران، والقاديانيَّة في الهند.. فيتمُّ بذلك إضعاف المرجعيَّة الدِّينيَّة بالاستغناء عنها شيئا فشيئاً، وضرب الجانب المالي والاجتماعي والسياسي لها، ولذا أخذوا لاحقاً بنشر وترويج بعض الأفكار الهدَّامة، مثل (بدعة التقليد، بدعة المرجع الأعلى)، وهكذا.
والمؤلم المقرف في كلِّ هذا، أنْ يجد الأعداء مَنْ يقوم بتنفيذ هذا الجانب من الاستراتيجيَّة نيابةً عنهم، فيتطوَّع المتعصِّبون الجُهَّال من المسلمين بتقديم خدماتهم كهديَّة مجَّانيَّة للأعداء، فترى البعض من هؤلاء الجُهَّال يغلي صدره حقداً على مراجع الدِّين الكبار وعلى بقيَّة العلماء، فيصفهم بأقسى الأوصاف! حتَّى إنَّه يستحلُّ دماءهم لأنَّهم برأيه العقبة الكأداء أمام دعوته، فلو استجابوا له لاستجاب كلُّ الناس.. وهؤلاء هم خوارج العصر، فالواحد منهم يزايد على كلِّ الناس، ويتحدَّى ويعادي كلَّ المراجع العظام، تماماً كالخوارج والذي كان إمامهم حرقوص بن زهير يزايد على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ويرى أنَّه أفضل منه(١٤٨).
نحن الآن أمام أُسلوب خطير للأعداء، تُطبِّقه وتُنفِّذه قلَّة مشبوهة من

-----------------

(١٤٨) راجع: جواهر التاريخ (ج ١/ ص ٣٥٦).

(١٨٧)

مدَّعي السفارة تستهدف النيل من المرجعيَّة الدِّينيَّة الشيعيَّة، والمدهش في الأمر حقًّا أنْ يكون لهؤلاء المدَّعين الضالِّين مريدون وتابعون من شرائح اجتماعيَّة وثقافيَّة مختلفة، يمتثلون لأوامرهم وينساقون خلف مخطَّطاتهم ويُنفِّذون مؤامراتهم بسذاجة وجهل.
رابعاً: محاربة الأرضيَّة الداعمة والمؤيِّدة والمساندة للإمام المهدي قبل خروجه، وذلك بإضعاف قاعدته الشعبيَّة عبر سلسلة من الحروب العسكريَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة:
لقد استطاع اليهود أنْ يعرفوا عن طريق بحوثهم ودراساتهم واطِّلاعهم في الفلسفة والروحانيَّات وتراثهم الدِّيني وكُتُبهم المقدَّسة، وخاصَّة كتابهم السرِّي (الكابلا) وما كشفه المتنبِّئ الفرنسي اليهودي الأصل (نوستر آداموس) من أنَّ زوالهم سيتمُّ على يد المهدي (عجَّل الله فرجه)، ولذا فهم يُدرِكون المصير الأسود الذي ينتظرهم، ويخافون من المجهول ومن المصير المحتوم المتوقَّع لهم.. وعليه فكما كان اليهود في السابق يُزيِّنون لكُفَّار قريش سوء أفعالهم في كواليس السياسة في مكَّة خوفاً ورعباً من ظهور أمر الدولة المحمّديَّة، كذلك هم الآن: فنبوءة خروج القائد العظيم (المهدي المنتظَر) من مكَّة مستقبلاً يُرعِبهم ويقضُّ مضاجعهم.
اليهود يعرفون ومنذ أمد بعيد أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) سيقضي عليهم عندما يظهر، وسيحاربهم في يوم من الأيَّام، وأنَّ ساحة الحرب ستكون منطقة الشرق الأوسط: فمن إيران ستخرج رايات سود لنصرة المهدي، والعراق سيكون مركزاً لدولته وسيتَّخذ من الكوفة عاصمة له ومنها سينطلق لتحرير القدس والقضاء على اليهود، أمَّا الجزيرة العربيَّة (مكَّة) فإنَّ أوَّل ظهوره سيكون منها، أمَّا بلاد الشام فإنَّ السفياني (ألدُّ أعداء الإمام وحليف اليهود والغرب) سيظهر منها، ومصر سيتَّخذها المهدي منبراً إعلاميًا له.

(١٨٨)

إنَّ أخطر ما فعله اليهود، أنَّهم خلقوا لدى نصارى الغرب عقائد جديدة مرتبكة ومشوَّهة وخاطئة فيما يتعلَّق بمنقذ البشريَّة (القضيَّة المهدويَّة)، وبشكل خاصٍّ بالقائد العظيم المنتظَر، ودوره القادم في دمار الحضارة الغربيَّة، ممَّا خلق لديهم حالة من الرعب والقلق من كلِّ ما له علاقة بالمهدي (عجَّل الله فرجه)، ويعلم اليهود علم اليقين، أنَّ المبعوثين عليهم في المرَّة الثانية (كما في القرآن الكريم) بقيادة المهدي (عجَّل الله فرجه) سيخرجون من أرض بابل (وسط العراق)، وهذا ما يُفسِّر مساعيهم الدائمة لتدمير العراق، وشنُّ الحروب عليه بلا هوادة، لهذا فاليهود والغرب والصهيونيَّة - بمقتضى الحسابات السياسيَّة والاستراتيجيَّة - خطَّطوا ومنذ أمد بعيد لتدمير كلِّ ما يمكن أنْ يُمثِّل قوَّة قد يستغلُّها القائد العظيم في حربه القادمة ضدَّهم. وقد قاموا بشنِّ حرب شاملة ضدَّ العراق وإيران، حتَّى عندما يظهر المهدي (عجَّل الله فرجه) لا يجد إلَّا شعباً أنهكته الحروب والحصار ولا يستطيع مساعدة إمامه، ومن ثَمَّ سهولة القضاء عليه.. ومن هنا نعرف الحقيقة وتتَّضح لنا الإجابة على: لماذا هذا الهجوم الشرس على المنطقة وبالخصوص أتباع أهل البيت (عليهم السلام)؟ ولماذا حصلت الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة واستمرت ثمان سنوات وقُتِلَ فيها أعداد كبيرة من الشعبين (موالين لأهل البيت)؟ ثمّ بعد انتهاء الحرب بفترة قصيرة، تجدَّدت الحرب في المنطقة وتكرَّرت (غزو الكويت - احتلال العراق).
والعجيب كأنَّ هناك مَنْ لا يريد للمنطقة أنْ تخلو من الحروب، والأهمُّ في نظرهم هو جعل العراق ساحة حرب لمدَّة طويلة وبلداً غير آمن، وإيجاد المبرِّرات لبقاء القوَّات الغربيَّة فيه، ويزول العجب فيما إذا علمنا أنَّهم يُمهِّدون للمعركة الكبرى (هرمجدون) والتي يتوقَّعون أنْ تكون حرباً نوويَّة واسعة النطاق، يتمُّ القضاء فيها على المؤيِّدين للقائد العظيم (روحي فداه).

(١٨٩)

لا بدَّ أنْ نعرف أنَّ الواقع الخطير الذي تعيشه أُمَّتنا ومنطقتنا اليوم وبتخطيط صهيوني يهودي وتنفيذ أمريكي غربي، جوهر أسبابه وأهدافه هو:
* انتظار القائد العظيم (الإمام المهدي)، ومحاولة القضاء عليه في بداية ظهوره، لأنَّ المصادر التنبُّؤيَّة اليهوديَّة قد أعلنت عن قرب ظهوره خلال سنوات قادمة.
* السيطرة والاستيلاء على كنز الفرات من الذهب والذي يتزايد وجوده مع قرب ظهور المهدي، كما في الروايات(١٤٩).
* وضع أيديهم على منابع النفط في المنطقة والسيطرة على اقتصاديَّاتها وإضعافها سياسيًّا وعسكريًّا.
وقبل ذلك نُؤكِّد أنَّ الذي يقوم به الغرب (الروم) حاليًّا في المنطقة وتحت مظلَّة أمريكيَّة صهيونيَّة إنَّما هو لتهيئة المناخ الملائم لخروج السفياني.
خلاصة القول:
إنَّ أعداء الإمام (عجَّل الله فرجه) يُدرِكون أنَّه قادم لا محالة، ويعلمون أنَّه مزيلهم لا محالة، ولكنَّهم بالمقابل أعلنوا الحرب ضدَّه قبل ظهوره وتمهيداً لمعركتهم المصيريَّة ضدَّه، ومن خلال النظر إلى قَصَص وتجارب التاريخ، ومجريات الأُمور والأحداث الحاليَّة، نستطيع التأكيد بأنَّ هناك مخطَّطاً استراتيجيًّا مدروساً ومعدًّا مسبقاً ويُنفَّذ حاليًّا، وله أبعاد متعدِّدة (سياسيَّة، عسكريَّة، نفسيَّة، فكريَّة...) من أجل محاربة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قبل وبعد ظهوره.. وحتماً لا يخلو احتلال العراق حاليًّا، وما وصل إليه من أوضاع ومن فوضى أمنيَّة وفكريَّة، وظهور بعض الحركات المشبوهة مثل (جند السماء، جماعة اليماني الموعود...) بواحدة من هذه الأبعاد.

-----------------

(١٤٩) راجع: الفتن للمروزي (ص ١٣٩).

(١٩٠)

وهنا يتَّضح لكلِّ ذي بصيرة وبشكلٍ جليٍّ، أنَّ كلَّ ما يجري في المنطقة من مؤامرات ودسائس تُحاك من قِبَل الأعداء، إنَّما هو تنفيذ لأهداف مسبقة وبدافع الوقوف بوجه القضيَّة المهدويَّة ومؤيِّديها، سيَّما القائد العظيم (عجَّل الله فرجه) والذي يُقيم دولة العدل الإلهي، وينشر القسط والعدل في كافَّة المعمورة (روحي لمقدمه الفداء).
وفي الختام نُؤكِّد أنَّ هذا مكرهم، ولكن مكر الله غالب، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: ٣٠).. ووعد الله حقٌّ، ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافَّات: ١٧٢).

* * *

(١٩١)

منذ مئات السنين والمؤمنون المنتظِرون للإمام (عجَّل الله فرجه) ما زالوا يراوحون في مكانهم في المراحل الأُولى في مسائل الترويج والتمهيد المهدوي، فبنظرة استراتيجيَّة ورؤية كلّيَّة شاملة نجد أنَّ مسيرتنا في طريق التمهيد تحفل بالآتي:
أوَّلاً: الاستمرار في عرض المسائل الفكريَّة والعقائديَّة المهدويَّة الأصيلة:
فمنذ بداية الغيبة الكبرى (عام ٣٢٩هـ) وحتَّى أيَّامنا هذه، ونحن نتكلَّم ونكتب ونبحث في بعض القضايا الفكريَّة العقائديَّة ذات الخصوصيَّة المهدويَّة ونُغذِّيها باستمرار، وهي في الأساس مسائل مهمَّة وجوهريَّة وضروريَّة، ولكنَّ بعضاً منها تمَّ تكراره وبكثرة، مثل: استمرار الإمامة وبقائها حتَّى يرث الله الأرض ومَنْ عليها، ووجود وولادة الإمام (عجَّل الله فرجه)، ومسائل الغيبة، الانتظار والفهم الإيجابي والسلبي، وعلامات الظهور، و... إلى غيرها من المسائل التقليديَّة، وهي مهمَّة وأساسيَّة ولا بدَّ من معرفتها والإلمام بها، ولكنَّنا أشبعناها بحثاً ونقاشاً ودراسةً، قديماً وحديثاً.
إنَّه من المفترض أنْ تصبح هذه المسائل من البديهيَّات والمسلَّمات عند كلِّ المؤمنين، ويجب أنْ تكون المعلومات حولها متوفِّرة ومتاحة للجميع عند أيِّ استفسار أو تساؤل.. ولكن لا بدَّ من تجاوز مثل تلك المسائل، والانطلاق والبحث في مسائل حديثة وجديدة، يجب أنْ نتطرَّق إليها ونكتب فيها كي تساعد على التمهيد والترويج للقضيَّة المهدويَّة عند كلِّ أفراد البشر، والبحث في مسائل تهمُّ الشعوب كافَّةً ومن زوايا القضيَّة المهدويَّة.

(١٩٥)

ثانياً: التصدِّي إلى أعداء الإسلام في محاربتهم للقضيَّة المهدويَّة وكشف أساليبهم وخُدَعهم الخبثة:
وفيما يخصُّ هذا المجال فإنَّ هناك قفزات ممتازة لبعض الباحثين للخروج من المربَّع الأوَّل، وذلك بكشف الخُطَط القذرة للأعداء، وذلك باستغلالهم بعض مسائل العقيدة المهدويَّة بهدف القضاء عليها. وقد رأينا وبشكلٍ جليٍّ هذه الأيَّام كيف أنَّ الأيدي الخفيَّة تستغلُّ المنحرفين من الناس، والسُّذَّج من الأفراد لتشويه عقيدة المؤمنين بالقضيَّة المهدويَّة، أيضاً رأينا وبشكل ملفت للنظر كيف أنَّ أعداء الإسلام في دولة العراق وحدها فقط، وجَّهت وحرَّكت المدعو ضياء الكرعاوي (من حركة جند السماء) في النجف الأشرف للقضاء على المرجعيَّة، وعند فشل حركته وانتهائها، دعمت ودفعت بالمدعو أحمد كاطع (اليماني المزعوم) في البصرة لخرق الرايات الممهِّدة للإمام (عجَّل الله فرجه)، وعند كشف أمره وخروجه، حرَّكت ووجَّهت المدعو محمود الصرخي (نائب الإمام المزعوم) في كربلاء وعند افتضاح أمره وهروبه، دعمت وحرَّكت المدعو فاضل المرسومي (الإمام الربَّاني المزعوم) في ديالي وبغداد.. وكلُّ هذه الحركات المنحرفة والمشبوهة حاولت وبشتَّى الطُّرُق تشويه العقيدة المهدويَّة والقضاء عليها.
هكذا هم الأعداء يتحرَّكون وبكلِّ جدّيَّة ومثابرة لمحاربة القضيَّة المهدويَّة، ونحن للأسف ما نزال نتحرَّك وببطء شديد لكشفهم والتصدِّي لادِّعاءاتهم، ولكن بنشاط خجول، وحركة بسيطة، نتحرَّك في هذا المربَّع، وبأُسلوب الدفاع فقط، وليس الوقاية والتحصين ثمّ الهجوم.
ثالثاً: التبشير للقضيَّة المهدويَّة لدى غير المسلمين:
إنَّنا مقصِّرون جدًّا بالتبشير بالقضيَّة المهدويَّة عند الشعوب غير المؤمنة بدين الإسلام (الشعوب الغربيَّة والشرقيَّة)، والتي لم تسمع باسم الإمام

(١٩٦)

المهدي (عجَّل الله فرجه) ولا تعرف شيئاً عنه، وإذا حان موعد ظهوره لا تعرف ماذا سيفعل وماذا سيُحقِّق وماذا سينشر، فكيف إذاً لمثل هذه الشعوب أنْ تؤمن به حين ظهوره؟ وكيف ستُؤيِّده وتُؤازره وهي لا تعرف أدنى معلومات أو حقائق عن قضيَّته وأهدافه؟
فهل أخذنا على عاتقنا التبشير والتمهيد للقضيَّة المهدويَّة وبشكل إيجابي وصحيح وبأساليب محبَّبة لدى الغير؟ خاصَّةً وأنَّ الأعداء يحاولون أنْ يُشوِّهوا وجه الإسلام الناصع فيُضخِّموا إعلاميًّا جرائم داعش والأفعال الوحشيَّة للحركات والجماعات المشبوهة والمحسوبة على المسلمين.. وفوق كلِّ ذلك للأسف نحن غافلون ومقصِّرون جدًّا عن إظهار الوجه المشرق الأصيل للقضيَّة المهدويَّة ونشر ثقافتها وأفكارها والتعريف بالمستقبل الزاهر الذي ينتظر العالم حين يتمُّ تطبيقها وتنفيذها.
يجب علينا أنْ نستفيد من القضايا التي تهمُّ الفرد الغربي والشرقي ويشعر بها ويميل إليها كقضايا الحرّيَّة والعدالة وحقوق الإنسان، والقضايا الاقتصاديَّة كالتوزيع العادل للدخل والمحافظة على الموارد الطبيعة الناضبة والاستخدام الأمثل للطاقة، وقضايا البيئة وحمايتها من التلوُّث، وقضايا الاجتماع السياسي و... إلخ، كذلك يجب علينا أنْ نستفيد من المؤسِّسات الأكاديميَّة والتعليميَّة والإعلاميَّة الغربيَّة لطرح القضيَّة المهدويَّة ونخاطبهم باللغة التي يفهمونها وتُؤثِّر فيهم، وبشكل علمي ونفسي وتدريجي سليم لننجح في ترويج فكرة وعقيدة منقذ البشريَّة الأصيلة.
من المؤسف له أنَّه ليس بأيدينا حاليًّا أيُّ فيلم سينمائي يتحدَّث عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سواءً كان تمثيليًّا أو وثائقيًّا يساعدنا في تعريفه (عجَّل الله فرجه) لدى الآخر غير المسلم، كذلك من المخجل أيضاً أنَّه لا يوجد عندنا أيُّ كتابٍ خاصٍّ عن الإمام (عجَّل الله فرجه)

(١٩٧)

مكتوب بلغة تناسب العقليَّة الغربيَّة والشرقيَّة يساعدنا للتمهيد لقضيَّته.. نحن وحتَّى هذه اللحظة لم ننتقل للمربَّع الثالث وإلى مرحلة التبشير به في مسيرة التمهيد والإعداد لقدومه الشريف، فيُثار لدينا تساؤل كبير ومهمٌّ: متى سيتحقَّق ذلك؟ ومَنْ سيأخذ هذا الواجب من المسئوليَّة على عاتقه؟
رابعاً: الاستفادة من أساليب ومناهج الدولة المهدويَّة الفاضلة:
ممَّا أثبتته الكُتُب الحديثيَّة برواياتها المتواترة أنَّه إذا ظهر الإمام (روحي فداه) سينشر العدل والقسط على أرجاء المعمورة كافَّة، وسيظهر خيرات الأرض وستنعم البشريَّة بالرخاء والرفاهية، هذا ما نُظهِره وما نُؤكِّد عليه في أبحاثنا وفيما ننشره ونقوله.. ونحن حاليًّا بعيدون كلُّ البُعد عن أساليب الحكم والإدارة والتطوُّر العلمي والتقني الذي سيُطبِّقها الإمام (عجَّل الله فرجه) في دولته، بل نحن لم نتعرَّف عليها أو حتَّى نُفكِّر بها، فكيف بدراستها.. نحن أبعد من ذلك بكثير، فحتَّى الآن لم ننقل القضيَّة المهدويَّة إلى مؤسِّساتنا الأكاديميَّة والتعليميَّة، وللأسف لا يوجد عندنا من الرسائل الجامعيَّة (ماجستير ودكتوراه) حول القضيَّة المهدويَّة إلَّا أعداد بسيطة تُعَدُّ على أصابع اليد، وأغلبها تصبُّ في جوانب العقيدة أي في خانة المربَّع الأوَّل.
والسؤال المهمُّ في مسيرة التمهيد هو: متى تصبح القضيَّة المهدويَّة موضوعاً مهمًّا وجوهريًّا في الدراسات الجامعيَّة والأكاديميَّة لدينا؟.. متى تحين الفرصة وننتقل إلى دراسة جميع أبعادها وجوانبها، فمثلاً: هل عرفنا وبحثنا ما سبب أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) يحثي المال حثياً ولا يعدُّه، وكذلك لا يجد المزكِّي - في زمان ظهوره - مَنْ يأخذ منه الزكاة؟ هل درسنا كيف يُظهِر (عجَّل الله فرجه) خيرات الأرض، وكيف يجعل الموارد الطبيعيَّة الناضبة تكفي حاجة البشريَّة؟ وكيف يُعيد صياغة

(١٩٨)

أخلاق وسلوكيَّات كلِّ البشر؟ هل تأمَّلنا الأساليب الإداريَّة والسياسيَّة لحكومة مركزيَّة واحدة تسيطر على الأرض كافَّة، ومع ذلك فإنَّها تنشر التوحيد والعدل والقسط.
إنَّ نواحي عديدة في القضيَّة المهدويَّة تحتاج من المؤمنين الممهِّدين إلى دراستها والتأمُّل فيها، ولكن للأسف نحن غافلون ومقصِّرون عن ذلك.. فكيف إذاً نُمهِّد للإمام (عجَّل الله فرجه) ونساعده في بناء دولته الفاضلة، ونحن لم نُفكِّر حتَّى في أساليب إدارته ومنهج حكمه، ولم نحاول تطبيق أبسط معالم دولته ومناهجها؟.. حقًّا نحن مقصِّرون جدًّا في مسيرة التمهيد والتوطئة المهدويَّة.

خلاصة القول:
إنَّ المؤمنين الممهِّدين لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) ومنذ مئات السنين ما زالوا في المراحل الأُولى في مسيرة التمهيد للطور المهدوي، فكان وما زال شغلهم الشاغل الأُمور الفكريَّة والثقافيَّة للعقيدة المهدويَّة.. فحتَّى الآن لم يتقدَّم المؤمنون خطوات وقائيَّة وتحصينيَّة، فضلاً عن الهجوميَّة في مواجهة خُطَط الأعداء

(١٩٩)

الشرسة، بل ما زالوا متَّخذين موقف الدفاع، وليس التصدِّي لتلك الخُطَط.. فهل يحقُّ لنا أنْ نُسمَّى ممهِّدين، ونحن للأسف لم نُسجِّل أيَّة خطوات تُذكر للدعوة والتبشير لمنقذ البشريَّة لدى الشعوب غير المسلمة، حيث لا يوجد لدينا أيُّ كتاب متخصِّص أو فيلم سينمائي معدٍّ للترويج والتبشير بالقضيَّة المهدويَّة.. وهل نمتلك القدرة والكفاءة للاستفادة من أساليب ومناهج الدولة المهدويَّة الفاضلة، وتطبيق بعض منها في وقتنا الحالي، أم نحن غافلون عن كلِّ ذلك؟
نحن ما زلنا نزحف وببطء شديد في مراحل التمهيد، وأمامنا طريق طويل غير ممهَّد حتَّى نصل إلى أعتاب عصر الظهور، نعم قد نكون ركَّزنا على أنفسنا ونسينا الآخرين، حاولنا أنْ نُربِّي أنفسنا على الاستعداد والتهيئة، وغفلنا عن المجتمع والعالم، علماً بأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مبعوث لكلِّ البشريَّة.
نسأل الله أنْ يساعدنا ويُوفِّقنا في مسيرة التمهيد المهدوي، وأنْ يجعلنا من الممهِّدين للظهور الشريف، وأنْ نكون واعين لحجم المسؤوليَّة الملقاة على عاتقنا وأهلًا لها، وأنْ نحظى بخدمته (عجَّل الله فرجه) والعيش تحت ظلِّ رايته الهادية، عجَّل الله تعالى فرجه، وسهَّل مخرجه.

* * *

(٢٠٠)

في خضمِّ الأخبار السياسيَّة والعسكريَّة المتسارعة التي تمرُّ على العالم الإسلامي، يتساءل كثير من المؤمنين عن علاقة هذا الحدث أو ذاك الخبر بعلامات ظهور الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، فقد ملَّ الناس من الظلم وضجروا من الجور فكثر تطلُّعهم للبحث عن المنقذ والمخلِّص وزاد اهتمامهم بالقضيَّة المهدويَّة وصبَّ تركيزهم للبحث عن إرهاصات اليوم الموعود لعلَّهم يجدون إشارة أو بصيص أمل لقرب الفرج.. ممَّا يتطلَّب من المؤمنين التحلِّي بمزيد من الوعي الثقافي والفكري ليساعدهم على فهم واستيعاب الروايات الشريفة الخاصَّة بالملاحم والفتن، بالإضافة للتأكيد على مجموعة من الثوابت التي يجب مراعاتها عند قراءة علامات الظهور وملامح الفرج، وهي كالتالي:
أوَّلاً: معرفة العلامات وتقسيماتها:
لا بدَّ من معرفة أنَّ علامات الظهور تعني تلك الأخبار أو الحوادث التي ستقع في المستقبل وتكون مؤشِّرة على الظهور وقد أخبر بها الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).. إذاً نحن نتعامل مع روايات صادرة عن المعصومين (عليهم السلام)، فيجب أنْ يكون التعامل ذات صفة شرعيَّة وعلميَّة ونبتعد عن الهوى والمزاجيَّة والسطحيَّة.
عند قراءتنا لروايات الملاحم والفتن يجب مراعاة التقسيمات التالية:
* لا بدَّ أنْ نُفرِّق بين علامات قيام الساعة وهي عشرة: (ظهور المهدي، نزول عيسى، الدجَّال، يأجوج وماجوج، الدابَّة...)، وبين علامات ظهور

(٢٠٥)

الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، حتَّى لا يلتبس علينا الأمر ونُصاب بسوء فهم عند قراءتنا أو اطِّلاعنا على الروايات الشريفة التي تتحدَّث عن أخبار المستقبل وآخر الزمان.
* لا بدَّ من معرفة علامات الظهور (المحتومة) والتي لا بدَّ وأنْ تقع والتي لا يتدخَّل البداء في كلّيَّاتها ولها الكثير من الارتباط بالظهور وتكون مقارنة له، وهي خمس علامات: (اليماني، السفياني، الصيحة، قتل النفس الزكيَّة، خسف البيداء)، وبين علامات الظهور (غير المحتومة) وهي كثيرة والتي لا يمكن الجزم واليقين بأنَّها ستقع.
ثانياً: إدراك الأبعاد التربويَّة للعلامات:
ليس المطلوب من المعصومين (عليهم السلام) أنْ يذكروا كلَّ خبر سيحدث في المستقبل ويشيرون إليه في رواياتهم الشريفة أو ربطه بالقضيَّة المهدويَّة، بل نجدهم (عليهم السلام) يختارون من الأحداث والأخبار المستقبليَّة ما فيه مصلحة من إذاعته والإفصاح عنه، وهنا لا بدَّ من معرفة الأهداف التربويَّة والعقائديَّة من وراء ذكر هذه العلامة أو تلك، حيث إنَّ معرفة العلامات تُعتبَر حالة تعبئة (تثقيفيَّة) تحصن المؤمن من مخاطر المتاهات الفكريَّة، علماً بأنَّ الهدف الأساس من ذكر العلامات هو:
* بعث الأمل وزرع التفاؤل في النفوس عبر مختلف القرون والأجيال.
* الإيعاز للمؤمنين بقرب الظهور والتنبيه إليه.
* خلق حالة إيجابيَّة في روحيَّة الانتظار والاستعداد النفسي للظهور.
* تحصين الأُمَّة من الرايات الضالَّة والمنحرفة.
من هنا نعرف أنَّ علامات الظهور بشكلٍ عامٍّ تجعل العلاقة بين الأُمَّة وإمام زمانها (عجَّل الله فرجه) علاقة دافئة متَّقدة وذات ارتباط مستمرٍّ ومخزون روحي كبير تُغذِّيه الروايات الشريفة الخاصَّة بالعلامات، ولذا صيغت الروايات بلغة كلّيَّة عموميَّة مقصودة، يمكن أنْ تنطبق على قرون مختلفة.

(٢٠٦)

ثالثاً: قراءة علامات الظهور بصورة شاملة:
يتطلَّب من المؤمنين والباحثين أنْ يقرأوا علامات الظهور كلَّها وبصورة دقيقة وشاملة، وليس كلُّ علامة أو خبر مستقلٍّ عن بقيَّة العلامات والأحداث، فلا بدَّ من ربط العلامة الواحدة بجميع العلامات والأحداث الأُخرى المرتبطة بها، ناظمين كلَّ الأحداث في سلك تاريخي واحد لنستطيع ونتمكَّن من إيجاد وتحديد القرائن القويَّة لكلِّ علامة ومدى تحقُّقها، أمَّا الاستغراق في كلِّ حادثة أو علامة بمفردها سيُؤدِّي إلى حالة من التيه والضبابيَّة وتكون حينها كلُّ علامة منعزلة عن الأُخرى ليس بينهما ضابط ولا رابط، فضلاً عن تشتيت الأفكار وبعثرة الجهود.
إنَّ دراسة علامات الظهور جميعها، والاطِّلاع على روايات أهل البيت (عليهم السلام) كلِّها في هذا الخصوص، تُعتبَر مقدَّمة ضروريَّة لرؤية شاملة عن إرهاصات الظهور، فبتحليل منطقي جيِّد ونظرة كلّيَّة مستمدَّة من بصيرة نافذة ووجدان عميق يتسنَّى لنا تحديد القرائن القويَّة لكلِّ علامة، وبضمِّ القرائن مع بعضها البعض نستطيع الإلمام بالصورة الشاملة لوقائع وأحداث وملامح اليوم الموعود.
رابعاً: استيضاح مصدر الخبر أو العلامة:
لا بدَّ من التفريق بين الخبر والتحليل فيما يتعلَّق بأحداث وعلامات عصر الظهور لنعرف مصدر المعلومة ودقَّة صدقها.
* الخبر (علامة): حدث سيقع في المستقبل وأشار إليه أهل البيت (عليهم السلام) في رواياتهم الشريفة وله انعكاساته القريبة أو البعيدة على الظهور، وهو عبارة عن علامة من علامات الظهور.

(٢٠٧)

* التحليل (ليس علامة): ذكر الخبر مع التطرُّق إلى التفاصيل والأسباب والمسبَّبات والانعكاسات المنجرَّة على هذا الحدث، وهو عبارة عن رأي واجتهاد واستنباط الكاتب أو الباحث أو الخطيب يُوضِّح به فهمه للعلامة أو الرواية الشريفة.
فمثال على ذلك عندما يقول الإمام عليٌّ (عليه السلام): «ثُمَّ رَجْفَةٌ تَكُونُ بِالشَّامِ يَهْلِكُ فِيهَا مِائَةُ أَلْفٍ يَجْعَلُهَا اَللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَعَذَاباً عَلَى اَلْكَافِرِينَ»(١٥٠)، فكلمة رجفة (الخبر) مصدرها أمير المؤمنين (عليه السلام) أمَّا تفسيرها أو تحليلها فآراء مختلفة: أحدهم يقول: زلزال أرضي، وآخر يقول: انفجار نووي، وثالث يقول: اضطراب أمني وسياسي وهكذا، فعندما نسمع بزلزال سيكون بالشام أو بانفجار سيقع بالشام أو باضطراب أمني سيحدث في الشام، فلا بدَّ أنْ نعرف أنَّ هذا الكلام عبارة عن تحليل وفهم للرواية وليس خبراً يقيناً صادراً عن معصوم، لذا لا بدَّ أنْ نعرف مصدر المعلومة. الخبر الذي هو عبارة عن علامة من علامات الظهور إذا كان مصدرها المعصومين (عليهم السلام) فهذا صدق ويقين - بعيداً عن موضوع البداء -، أمَّا المعلومة التي مصدرها التفسير والتحليل والفهم فقد تُصيب الحقيقة وقد تُخطئ، ولا يصحُّ أنْ نُطلِق عليها علامة.
ليتسنَّى للمؤمنين الحصول على ملكة وإمكانيَّة التفريق بين الخبر والتحليل لا بدَّ من الاطِّلاع على مجمل روايات أهل البيت (عليهم السلام) الخاصَّة بعلامات الظهور واستيعاب ألفاظها بدقَّة، فضلاً عن دراسة صحَّة الرواية من عدمها.
خلاصة القول:
عند الحديث عن علامات الظهور لا بدَّ من التأكيد على ثوابت أساسيَّة وجوهريَّة تكون واضحة للجميع ومن المسلَّمات: إنَّ قراءة العلامات يجب أنْ لا

-----------------

(١٥٠) الغيبة للطوسي (ص ٤٦١/ ح ٤٧٦).

(٢٠٨)

تُشغِلنا عن معرفة الأبعاد الأُخرى للقضيَّة المهدويَّة مثل الجوانب العقائديَّة وشرائط الظهور وواجبات الانتظار وتهيئة النفس. الابتعاد عن التوقيت المنهي عنه وعدم تصديق مَنْ يُحدِّد سنة الظهور. اجتناب إسقاط الروايات الشريفة أو تطبيق شخصيَّات عصر الظهور على واقعنا الحالي أو على أشخاص بعينهم وعدم الجزم عند تحديد القرائن للعلامات. كذلك في هذا السياق التأكيد على أنْ يكون الحديث عن ملامح يوم الظهور مقدَّمة لتقوية وزيادة ارتباط المؤمنين العاطفي بإمام زمانهم (عجَّل الله فرجه)، حيث إنَّ من واجبنا في عصر الغيبة أنْ نعدَّ أنفسنا لنكون من جنده لاحتمال إدراك زمن خروجه (عجَّل الله فرجه)، نسأل الله أنْ يُوفِّقنا لذلك، فكم نحن توَّاقون لرؤية الإمام (روحي فداه)، وحريصون على الانضمام إلى حركة الفتح التاريخيَّة الفريدة.

* * *

(٢٠٩)

الفصل الثاني: الحجاز قبل الظهور(١٥١)

-----------------

(١٥١) مقابلة أجرتها مجلَّة (موعود) الشهريَّة الإيرانيَّة مع المؤلِّف، ونُشِرَت باللغة الفارسيَّة في عدد (١٠٨)، شهر (بهمن ١٣٨٨ش) الموافق فبراير (٢٠١٠م)، بعنوان (نقش حجاز در عصر ظهور)، ترجمة: سيِّد شاهبور حسيني.

(٢١١)

مكانة الحجاز في أحداث آخر الزمان:
السؤال الأوَّل: ما هي مكانة الحجاز وشبه الجزيرة العربيَّة في أحداث آخر الزمان وعصر ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)؟
الجواب: تكمن أهمّيَّة منطقة الحجاز بوجود الكعبة المشرَّفة (قبلة المسلمين)، ومثوى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فيها، ومن هنا يظهر لنا سبب اختيارها منطلقاً لحركة ونهضة الإمام (عجَّل الله فرجه) وبدء ظهورها ونشأتها من مكَّة المكرَّمة (البيت الحرام)، ومن ثَمَّ توجُّهها إلى المدينة المنوَّرة، وذلك للاستفادة من هدفين:
الأوَّل: إيصال رسالة إلى شعوب العالم كافَّة بأنَّ منطلقات حركة الإمام (عجَّل الله فرجه) دينيَّة وأهدافها إسلاميَّة وأنَّ (الإسلام) هو الأيديولوجيَّة والدستور لحركته، وأنَّه (عجَّل الله فرجه) تابع ومجدِّد لشريعة جدِّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، كذلك يستوعب العالم من شعاره (يا لثارات الحسين) عند ظهوره المقدَّس معالم مدرسته الفكريَّة.. ومن هنا كان الظهور من قلب العالم الإسلامي ومن قبلة المسلمين ليحظى الإمام (عجَّل الله فرجه) بفرصة إيضاح رسالته وأهدافه للعالم كافَّة من بداية انطلاق حركته.
الثاني: الاستفادة من مكانة الكعبة المشرَّفة عند المسلمين، فعندما تكون بداية حركته (عجَّل الله فرجه) من أقدس وأطهر بقعه لديهم، فإنَّ هذه الحركة تحظى باهتمام ومتابعة مستمرَّة من جميع المسلمين وبمذاهبهم وأطيافهم كافَّة، لمكانة مكَّة المكرَّمة (القبلة) لديهم، وهنا يضمن الإمام (عجَّل الله فرجه) استماع المسلمين على الأقلّ لبياناته وخُطَبه، وحينها يصل صوته وأُطروحته لجميع المسلمين.
من هذه النقاط وغيرها يتَّضح لنا عبقريَّة القائد ونجاح استراتيجيَّة

(٢١٣)

حركته، بعكس لو كانت بداية انطلاقها من أيَّة مدينة إسلاميَّة أُخرى، أو من أيَّة عاصمة سياسيَّة أُخرى، قد لا تحظى حركة الإمام (عجَّل الله فرجه) حينها من المتابعة الإعلاميَّة والسياسيَّة والجماهيريَّة، وخاصَّةً في بداية ظهورها ولم تكتمل بعد أسباب قوَّتها، ولم تتشكَّل هيكليَّتها.
موقف أهل الحجاز تجاه الإمام:
السؤال الثالث: كيف سيكون ردُّ فعل ساكني مكَّة والمدينة بالنسبة لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) ودعوته؟ ما هو موقفهم لهذا الأمر؟
الجواب: بسبب الفراغ السياسي والصراع الداخلي على السلطة في منطقة الحجاز في فترة قبيل الظهور، تنشط القوى المعادية لأتباع أهل البيت (عليهم السلام) لعدم وجود منافسٍ قويٍّ لهم في المنطقة.. فتقوم هذه القوى بعدَّة أعمال بمساعدة بقايا شرطة النظام الحاكم آنذاك، وتُبيِّن لنا هذه الأعمال مدى كرههم وعدائهم للإمام (عجَّل الله فرجه) وأتباعه، فمن تلك التصرُّفات في تلك الفترة:
* ارتكاب بقايا النظام الحاكم آنذاك والجماعات التكفيريَّة جريمة بشعة في مدينة الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، وذلك بقتل فتى هاشمي وشقيقته (محمّد وأُخته فاطمة) وصلبهما على باب مسجد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)(١٥٢).. وكلُ ذلك إظهاراً لحقدهم على أتباع وأعوان الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
* في الخامس والعشرين من ذي الحجَّة، قبل الظهور بـ(١٥) يوماً يقوم الإمام (عجَّل الله فرجه) بإرسال رجل هاشمي مندوب عنه للناس في مكَّة المكرَّمة في عمليَّة اختبار وجسِّ نبض وتهيئة للثورة المباركة، فيدخل سفير الإمام محمّد بن الحسن (ذو النفس الزكيَّة) الحرم المكّي ويقف بين الركن والمقام، ويُبلِّغ الناس

-----------------

(١٥٢) الفتن للمروزي (ص ١٩٩).

(٢١٤)

المتواجدين في الحرم المكّي رسالة شفويَّة من الإمام (عجَّل الله فرجه)، فيقوم بقايا شرطة النظام الحاكم في الحجاز بارتكاب جريمة شنعاء لا تقلُّ عن سابقتها، وذلك بقتل رسول الإمام (عجَّل الله فرجه) في الحال بين الركن والمقام في المسجد الحرام في يوم حرام.
من هذه الإحداث وغيرها نجد أنَّ أهل الحجاز في تلك الفترة لا يرغبون في ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، ولا تخفى تلك الرغبة على القائد العظيم، ولذا نجده يُعبِّر عن ذلك بصراحة، كما صرَّحت به الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث طويل: «... يَقُولُ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) لِأَصْحَابِهِ: يَا قَوْمِ، إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يُرِيدُونَنِي، وَلَكِنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْهِمْ لِأَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِي أَنْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ...»(١٥٣)، إلى بقيَّة أحداث قتل ذي النفس الزكيَّة.
خسف البيداء وهجمة السفياني على الحجاز:
السؤال الخامس: من العلامات الحتميَّة للظهور خسف البيداء، رجاءً تحدَّثوا قليلاً عن هذا الموضوع، وعن هجمة جيش السفياني على مدينة الرسول، وكذلك حدِّثونا عن المنطقة التي سيقع فيها الخسف عند قيام الإمام (عجَّل الله فرجه)؟
الجواب: في سنة الظهور يسيطر على منطقة الشام شخص يُمثِّل رمزاً للحُكَّام المسلمين المنحرفين الموالين للغرب والمناهضين للحقِّ وآخرهم، يُسمَّى (السفياني بناءً على نَسَبه)، هذا الشخص المنحرف يحقد على أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم.. ويقوم بعدَّة أعمال إجراميَّة وشنعاء في العالم الإسلامي من قبيل احتلال العراق ومهاجمة إيران، كذلك يطمع في غزو الأراضي المقدَّسة في الحجاز، فعندما يصل إلى مسامعه خروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في مكَّة وضعف حكومة الحجاز وعجزها السياسي والعسكري، يُرسِل السفياني جيشاً ضخماً (لا

-----------------

(١٥٣) بحار الأنوار (ج ٥٢/ ص ٣٠٧/ ح ٨١)، عن سرور أهل الإيمان (ص ٩٣).

(٢١٥)

يكون هو فيه) إلى المدينة المنوَّرة لاحتلالها، فيعيث الجيش بمدينة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) خراباً ودماراً، وينهبها لمدَّة ثلاثة أيَّام، ويرتكب جنوده فيها المجازر بأمر منه، فيكسرون منبر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ويهدمون القبر الشريف.. ثمّ يخرج الجيش من المدينة قاصدا غزو مكَّة المكرَّمة للقضاء على حركة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في بداية ظهورها، فإذا توسَّط الجيش البيداء وهي منطقة واقعة بين مكَّة والمدينة بعد انتهاء الجبال وبداية الأرض المستوية للمسافر من المدينة إلى مكَّة وعلى بُعد اثني عشر ميلاً من منطقة (ذات الجيش)، وهي أرض بيضاء مسطَّحة قرب بدر الكبرى، حيث يصل الجيش منطقة البيداء وقت الليل، فيبيت الجيش فيها، فيأمر الله تعالى جبرائيل (عليه السلام) فيصرخ فيهم صرخة الغضب، وينادي: «يَا بَيْدَاءُ أَبِيدِي اَلْقَوْمَ اَلظَّالِمينَ»، فتنخسف الأرض بهم وبقوَّاتهم المسلَّحة، ولا يفلت منهم إلَّا رجلان (بشير ونذير) يضرب المَلَك على وجهيهما فتحوَّل إلى القفا مصداق لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً﴾ (النساء: ٤٧)، فيذهب (البشير) إلى القائم (عجَّل الله فرجه) ويُبشِّره بهلاك جيش السفياني بالخسف ويتوب على يدي الإمام (عجَّل الله فرجه)، والثاني (النذير) يذهب للسفياني بالشام ليُحذِّره ويُخبِره بهلاك جيشه، ويموت نذير في الحال.
وعند مسير المهدي (عجَّل الله فرجه) من مكَّة متوجِّهاً إلى المدينة المنوَّرة يمرُّ جيشه على موقع الخسف، فيُخبِر الإمام (عجَّل الله فرجه) أنصاره وأعوانه بمكان الخسف.
مكانة الانتظار بين سُكَّان الجزيرة العربيَّة:
نجد أنَّ ارتفاع مستوى الوعي الثقافي لدى أفراد المجتمع الشيعي (الاثني عشري) في المنطقة وانطلاقاً من معرفة علامات الظهور يبعث لديهم حسَّ مراقبة ومتابعة الأحداث، ممَّا يخلق لديهم معرفة برايات الحقِّ والهدى، ومعرفة

(٢١٦)

برايات الضلال والانحراف في عصور الفتنة ومراحل الانتظار، وشاهدنا على ذلك أنَّه لم نجد أحداً من شيعة المنطقة قد تورَّط مع جهيمان العتيبي (مثلاً في حركته وادِّعائه للمهدويَّة في مكَّة عام (١٤٠٠هـ))، وذلك لمعرفتهم بحقائق الأُمور وتحصُّنهم من أحداث المستقبل قبل أنْ يتورَّطوا بالحوادث والعوامل الانحرافيَّة على أرض الواقع.
إضافةً إلى ذلك فإنَّ تطلُّعهم للأُمور ومراقبتهم للأحداث السياسيَّة الجارية في المنطقة حاليًّا وبشكلٍ قويٍّ يبعث لديهم الأمل في ما يواجههم في المستقبل من أحداث ومشاكل، فمن جهة يتحذَّر الشيعة من رايات الضلال والانحرافات العقائديَّة قبل الظهور، ومن جهة أُخرى تستبشر الطائفة خيراً بخروج رايات تدعو إلى الهدى والحقِّ، وهنا تتجسَّد لديهم أهداف الثقافة المهدويَّة بأبعادها التربويَّة.

* * *

(٢١٧)

لا شكَّ أنَّ كلَّ يوم يمضي أو كلَّ سنة تنتهي نقترب أكثر وأكثر من الفجر المقدَّس، ولا شكَّ أنَّ أحداث العصر الحالي بكلِّ ما فيه من إرهاصات وعلامات وفتن واضطرابات قد تُرجِّح فكرة أنَّنا نقترب من مرحلة حسَّاسة من تاريخ البشريَّة، بل نقترب أكثر من دلالات مرحلة ما قبل عصر ظهوره (عجَّل الله فرجه).. بل نجد أنَّ المثقَّف الواعي الذي يتابع أحداث الفترة الزمنيَّة الحاليَّة ويراقبها بدقَّة، ويترصَّدها باهتمام يرى أنَّ أُموراً كونيَّة وأحداثاً بشريَّة لها علاقة بعلامات الظهور (غير الحتميَّة) قد وقعت أو أشرفت على الوقوع، ممَّا يجعل المنتظِرين يعيشون حالة كبيرة من الأمل والتفاؤل والترقُّب لليوم الموعود.. كذلك نجد أنَّ البشريَّة بدأت تتململ من شيوع الظلم والاستبداد والجور والفساد، ممَّا أوصل المجتمع الإنساني إلى حالة من اليأس والقنوط من تحقُّق الإصلاح والعلاج، وفشل كلِّ التجارب الإنسانيَّة السابقة.. وقد بدأ العالم يتَّجه ويتطلَّع بشكل جدِّي وأكثر من ذي قبل إلى الرغبة في تطبيق وتحقيق العدالة السماويَّة، وهكذا نجد يوماً بعد يوم إشارات جديدة تطفو على السطح يعرفها مَنْ يراقب ويهتمُّ ويتتبَّع علامات الظهور ممَّا تُعطينا دلالات تمهيديَّة للطور المهدوي.. ومن هنا لا بدَّ أنْ نشير إلى أنَّ العلم الحديث والجهود البحثيَّة والاكتشافات الأخيرة بدأت تُترجِم علامات الظهور الغيبيَّة، بمعنى أنَّ بعض العلامات الكونيَّة، والتي كنَّا نعتبرها من الغيبيَّات والمعجزات لعدم معرفتنا بطبيعتها وكنهها وكيفيَّة وقوعها.. جاء الوقت الذي بدأت المراكز العلميَّة تُعرِّف طبيعة هذه العلامات (الكونيَّة - الغيبية)، وتُوجِد التفسير العلمي والمنطقي لها وكيفيَّة وقوعها،

(٢٢١)

كالصيحة السماويَّة، كفٍّ بارزة من السماء، خروج صورة إنسان في عين الشمس... إلخ. وغير ذلك من كلمات ومصطلحات كثيرة اعتدنا عليها في الأحاديث والروايات، وكنَّا نحفظها على أنَّها تاريخ مستقبلي بعيد، لقد جاء اليوم لتُترجَم فيه بعض هذه الملامح وتُفسِّر لنا كيفيَّة حدوثها، ممَّا يُقرِّبنا أكثر وأكثر من استيعاب أمر اليوم الموعود بكلِّ ملامحه.
سنتطرَّق في هذه السطور إلى بعض هذه العلامات وكيفيَّة احتماليَّة وقوعها، ومنها:
أوَّلاً: علامات ظهور عديدة لها علاقة بالشمس (وجه وصدر إنسان، توقُّف الشمس عن الحركة، كسوف وخسوف في غير وقتهما):
علامات وأخبار ذكرتها الروايات الشريفة لها علاقة بالشمس، وكنَّا نعتبرها من الغيبيَّات ولا نعرف كيفيَّة حدوثها، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤]، قَالَ: فَقُلْتُ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «بَنُو أُمَيَّةَ وَشِيعَتُهُمْ»، قُلْتُ: وَمَا اَلْآيَةُ؟ قَالَ: «رُكُودُ اَلشَّمْسِ مَا بَيْنَ زَوَالِ اَلشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ اَلْعَصْرِ، وَخُرُوجُ صَدْرِ رَجُلٍ ووَجْهِهِ فِي عَيْنِ اَلشَّمْسِ يُعْرَفُ بِحَسَبِهِ ونَسَبِهِ، ذَلِكَ فِي زَمَانِ اَلسُّفْيَانِيِّ، وَعِنْدَهَا يَكُونُ بَوَارُهُ وَبَوَارُ قَوْمِهِ»(١٥٤).. وعلامة أُخرى لها علاقة بالشمس، عَنْ ثَعْلَبَةَ اَلْأَزْدِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «آيَتَانِ تَكُونَانِ قَبْلَ اَلْقَائِمِ: كُسُوفُ اَلشَّمْسِ فِي اَلنِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَاَلْقَمَرِ فِي آخِرِهِ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، تَنْكَسِفُ اَلشَّمْسُ فِي آخِرِ اَلشَّهْرِ، وَاَلْقَمَرُ فِي اَلنِّصْفِ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «أَنَا أَعْلَمُ بِمَا قُلْتُ، إِنَّهُمَا آيَتَانِ لَمْ تَكُونَا مُنْذُ هَبَطَ آدَمُ (عليه السلام)»(١٥٥)، وفي

-----------------

(١٥٤) إعلام الورى (ج ٢/ ص ٢٨٣).
(١٥٥) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٧٤).

(٢٢٢)

رواية أُخرى إشارة للعلامات التي من الشمس كما في (غيبة الطوسي): (لَا يَخْرُجُ اَلمَهْدِيُّ حَتَّى يَطْلُعَ مَعَ اَلشَّمْسِ آيَةٌ)(١٥٦)..
علامات وأخبار وإشارات كثيرة لها ارتباط بالشمس غير معهودة من قبل تُحيِّر العقول وتُلفِت الأنظار، كنَّا نعتبرها من الغيبيَّات والمعجزات لعدم معرفتنا التفسير العلمي والمنطقي لكيفيَّة حدوثها أو طبيعة وقوعها.
جاءت الاكتشافات العلميَّة الأخيرة وشرحت لنا طبيعة التفاعلات الكيميائيَّة والتغيُّرات الفيزيائيَّة في الشمس، وأشارت التقارير العلميَّة المتخصِّصة بأبحاث الشمس والفضاء بأنَّ هناك خمولاً غير معهود في نشاط الشمس، وتقول العالمة الفلكيَّة الأمريكيَّة أنجيلا سبيك من جامعة ميسوري(١٥٧): (تمرُّ الشمس في مراحل نشاط متفاوتة كلَّ ١١ عاماً، وتشهد الدورات تذبذباً طويل الأمد قد يدوم قرناً)، وكانت الأوساط العلميَّة قد رصدت تراجعاً دوريًّا للنشاط الشمسي، تُمثِّل بخلوِّ الشمس من البقع لفترة (٢٦٦) يوماً في عام (٢٠٠٨م) وحده، وهو ما لم يحدث منذ عام (١٩١٣م)، وإنَّ عام (٢٠٠٩م) كان أكثر خمولاً.. وظاهرة البقع الشمسيَّة (الكلف السوداء) أبرز معالم النشاط الشمسي العالي، فالبقع الشمسيَّة(١٥٨) (شكل ١) هي في الواقع مساحة من الغاز تكون أبرد من المساحة المحيطة بها من السطح المرئي للشمس، وهي ناتجة عن حقول مغناطيسيَّة قويَّة تسدُّ التدفُّق الخارجي للحرارة إلى سطح الشمس من داخلها، وتُعرَف هذه البقع أو الكلف السوداء بأنَّها عبارة عن سحابات غازيَّة مظلمة مكوَّنة أساساً من الهيدروجين وتقع فوق السطح المرئي للشمس قليلاً،

-----------------

(١٥٦) الغيبة للطوسي (ص ٤٦٦/ ح ٤٨٢).
(١٥٧) مجلَّة (نيو ساينتيست) الأُسبوعيَّة المتخصِّصة في العلوم والتنكنولوجيا.

(١٥٨) كتاب الكون لكولين رونان، إصدار المؤسَّسة الأهليَّة للنشر والتوزيع، بيروت.

(٢٢٣)

وهذه البقع مكوَّنة من منطقتين: موضع ظلمة مركزي التي هي منطقة من الظلال المظلمة كلّيًّا وحرارتها تصل إلى (٣٧٠٠) درجة مئويَّة، ومنطقة شبه مظلمة وحرارتها تصل إلى (٥٢٠٠) درجة مئويَّة..


شكل ١

وهذه البقع لها ارتباط وثيق بعلامات الظهور الكونيَّة المرتبطة بالشمس وتُفسِّرها لنا مثل:
* ظهور وجه وصدر إنسان في الشمس: لهذه البقع الشمسيَّة أو الكلف السوداء التي تقع على سطح الشمس أشكالاً متنوِّعة، فمن الممكن أنْ تحتوي الشمس على مئات البقع الشمسيَّة في فترات، ومن الممكن ألَّا تحتوي على أيٍّ منها خلال فترات أُخرى، وهذا ناتج عن النشاط المتواصل للشمس، ويتراوح قطر هذه البقع بين (٩٦٠) كيلومتراً إذا كانت منفردة، و(٩٦٠٠٠) كيلومتراً إذا كانت عبارة عن مجموعة بقع، وأكبر مجموعة من البقع الشمسيَّة تمَّ تسجيل وجودها حتَّى اليوم كان في أبريل (١٩٤٧م)، وكان قطرها حوالي (١٣٠.٠٠٠) كيلومتراً.
ستكون البشريَّة جمعاء على موعد مع حدث تاريخي لم يُسبَق له أنْ حدث من قبل، وهي أنَّ هذه البقع أو الكلف السوداء (بمناطق الظلمة المختلفة) ستتشكَّل أو ستتجسَّد في صورة وجه وصدر إنسان تكون على شكل ملامح شخصيَّة معروفة للبشريَّة ممَّا سيُذهِل الكثيرين.

(٢٢٤)

* ركود الشمس عن الحركة لعدَّة ساعات: يستخدم العلماء المراقبون للشمس عادةً عدد البقع الشمسيَّة على سطح الشمس لتقدير نشاطها، ويصل عدد البقع إلى الكثرة القصوى خلال ما يُوصَف بالذروة الشمسيَّة ثمّ تتراجع لتصل إلى أدنى حدٍّ خلال أيِّ دورة، وخلال الذروة تحدث الانفجارات الشمسيَّة والعواصف الجيومغناطيسيَّة بكمّيَّات كبيرة.
ستشهد البشريَّة في المستقبل حدوث انفجارات هائلة في الشمس لم تحدث بتلك الضخامة من قبل في وقت من فترات الذروة العظمى (القصوى)، فتُؤدِّي إلى توقُّف الشمس عن التحرُّك أو حركة عكسيَّة بطيئة كردَّة فعل على الانفجار وذلك لمدَّة ساعتين أو ثلاث(١٥٩)، فيشعر الناس بتوقُّف الشمس لزيادة طول النهار فجأةً من جهة، ولأنَّ حرارتها تنصبُّ على الأرض أكثر من المألوف من جهة أُخرى.
* الكسوف والخسوف في غير وقتهما: إنَّ فترة النشاط الشمسي المرتفع عندما تبلغ الذروة القصوى تحدث انفجارات هائلة في الشمس وتقوى الحقول المغناطيسيَّة التي تُولِّد البقع الشمسيَّة، وبقوَّة الانفجارات ونشاط الحقول المغناطيسيَّة تكثر البقع الشمسيَّة ممَّا يُؤدِّي إلى إعتام سطح الشمس.
سنشهد في المستقبل حدوث (انفجارين متتاليين - قطبين مغناطيسيَّين قويَّين)، ممَّا سيُؤدِّي إلى إعتام الشمس مرَّتين في الشهر نفسه (رمضان)، ولا تُرسِل الشمس أيَّ أشعَّة، أحدهما يُسبِّب الكسوف وسط الشهر، والآخر يُسبِّب الخسوف آخر الشهر والقمر هلال.. ويكون الكسوف والخسوف العادي في غير وقتهما الاعتيادي، وهذا إحدى علامات الظهور وقبل قيام القائم كما أكَّدت

-----------------

(١٥٩) الفجر المقدَّس (ص ١٠٣).

(٢٢٥)

رواية الإمام الباقر (عليه السلام)، وبسبب تحوُّلات فيزيائيَّة معيَّنة في الشمس(١٦٠)، وليس بسبب اقتراب مذنَّب إلى الأرض كما أشار إلى ذلك (النيلي) في كتابه (الطور المهدوي)(١٦١) ممَّا يُحوِّل واقع الأرض إلى محور مختلف بزاوية ميل جديدة ومشرق ومغرب جديدين سيُؤدِّي إلى ظهور الشمس من مغربها (غلق باب التوبة)، والذي هو إحدى علامات الساعة وليس علامة لقيام المهدي.. إذاً الكسوف والخسوف في غير وقتهما بسبب الشمس، وممَّا يُؤكِّد ذلك حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) عند ذكر الصيحة والنداء في رمضان (٢٣ منه): «وَمِنَ اَلْغَدِ عِنْدَ اَلظُّهْرِ تَتَلَوَّنُ اَلشَّمْسُ وَتَصْفَرُّ فَتَصِيرُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً»(١٦٢)، وهذا دليل واضح على وقوع الخسف للقمر يوم (٢٥ من رمضان) بسبب ظلمة الشمس.
فالدراسات البحثيَّة الحديثة حول الشمس والتقارير العلميَّة الفضائيَّة في السنوات الأخيرة أزاحت النقاب والغموض عن كثير من علامات الظهور المرتبطة بالشمس، حيث كنَّا في السابق لا نجد تفسيراً علميًّا وتطبيقاً منطقيًّا لها، ممَّا دفعنا لاعتبارها من الغيبيَّات، أمَّا الآن فقد ترجمت لنا الدراسات الحديثة كيفيَّة حدوثها وأصبحنا نُدرِك طبيعتها ومنطقيَّة وقوعها.
ثانياً: اكتشافات علميَّة تُؤكِّد أخباراً غيبيَّة لها علاقة بظهور المهدي (عجَّل الله فرجه):
من الأُمور التي أصبحت مألوفة لنا هذه الأيَّام تطوُّر العلم وتقدُّم التكنولوجيا، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة منجزات علميَّة عظيمة واكتشافات هائلة، بل إنَّ ما حقَّقه الإنسان في السنوات العشر الأخيرة من

-----------------

(١٦٠) المصدر السابق.
(١٦١) الطور المهدوي (ص ٢٣٠).
(١٦٢) بحار الأنوار (ج ٥٢/ ص ٢٧٥/ ح ١٦٧)، عن سرور أهل الإيمان (ص ٥٤ و٥٥).

(٢٢٦)

 اختراعات في وسائل الاتِّصالات والإعلام والانترنت وأبحاث الفضاء والتقنيَّة التكنولوجيَّة، لا يمكن مقارنتها بجميع اكتشافاته وانتاجاته خلال عمر الحضارة كلِّها.
وتأسّياً بهذا، فإنَّ مثل هذه المكتشفات العلميَّة تُمكِّن البشريَّة من استيعاب وإدراك بعض الأخبار المستقبليَّة (الغيبيَّة) التي ذُكِرَت في الروايات الشريفة والمتعلِّقة بزمن ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والتي كانت غير مألوفة للأجيال السابقة، حيث كانوا يعتبرونها من المعجزات والكرامات الخاصَّة بصاحب الزمان (عجَّل الله فرجه).. ومن هذه الأخبار والغيبيَّات على كثرتها سنذكر بعض هذه الروايات للفائدة:
* قال الإمام الباقر (عليه السلام): «إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ بَعَثَ فِي أَقَالِيمِ اَلْأَرْضِ فِي كُلِّ إِقْلِيمٍ رَجُلاً يَقُولُ: عَهْدُكَ فِي كَفِّكَ، فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ أَمْرٌ لَا تَفْهَمُهُ وَلَا تَعْرِفُ اَلْقَضَاءَ فِيهِ فَانْظُرْ إِلَى كَفِّكَ وَاِعْمَلْ بِمَا فِيهَا»(١٦٣).. وفي هذه الأيَّام عصر تطوُّر وتقدُّم وسائل الاتِّصالات فإنَّ ذلك من الأُمور الطبيعيَّة والمتوافقة حاليًّا مع الهاتف النقَّال أو النت أو غيره من وسائل الاتِّصال الأُخرى المتوفِّرة حاليًّا.
* قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ مَدَّ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) لِشِيعَتِنَا فِي أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اَلْقَائِمِ بَرِيدٌ، يُكَلِّمُهُمُ فَيَسْمَعُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ»(١٦٤).. وفي هذه الأيَّام عصر التلفزيون والبثِّ الفضائي المباشر أصبح هذا الأمر من الأُمور الطبيعيَّة والمألوفة أيضاً وليس من الغيبيَّات أو الإعجاز.
* قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّهُ إِذَا تَنَاهَتِ اَلْأُمُورُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ

-----------------

(١٦٣) الغيبة للنعماني (ص ٣٣٤/ باب ٢١/ ح ٨).
(١٦٤) الكافي (ج ٨/ ص ٢٤٠ و٢٤١/ ح ٣٢٩).

(٢٢٧)

رَفَعَ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ مُنْخَفِضٍ مِنَ اَلْأَرْضِ، وَخَفَّضَ لَهُ كُلَّ مُرْتَفِعٍ مِنْهَا حَتَّى تَكُونَ اَلدُّنْيَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ رَاحَتِهِ، فَأَيُّكُمْ لَوْ كَانَتْ فِي رَاحَتِهِ شَعْرَةٌ لَمْ يُبْصِرْهَا؟»(١٦٥).. وفي هذه الأيَّام عصر الفضاء والتكنولوجيا أصبح بمقدور أيِّ واحدٍ منَّا أنْ يشاهد أيَّة بقعة في الأرض من الأعلى (تصوير فضائي مباشر) عبر النت بواسطة برنامج معروف اسمه (قوقل ايرث)، وهو أمر عادي وطبيعي وفي متناول الجميع.
* قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اَلمُؤْمِنَ فِي زَمَانِ اَلْقَائِمِ وَهُوَ بِالمَشْرِقِ لَيَرَى أَخَاهُ اَلَّذِي فِي اَلمَغْرِبِ، وَكَذَا اَلَّذِي فِي اَلمَغْرِبِ يَرَى أَخَاهُ اَلَّذِي فِي اَلمَشْرِقِ»(١٦٦).. وفي هذه الأيَّام عصر التطوُّر التقني وتقدُّم وسائل الاتِّصال أصبح ذلك مألوفاً ومتاحاً لكلِّ البشريَّة.
إنَّ تطوُّر التكنولوجيا أضاف الشيء الكثير في مجال الاكتشافات الفضائيَّة للبحث عن حياة ذكيَّة خارج الأرض، واحتمال العثور عليها اليوم بات أفضل من أيِّ وقت مضى، ممَّا يساعدنا لاستيعاب وفهم الروايات الشريفة التي تتكلَّم عن ذلك، والرحلات بين الكواكب والعوالم الأُخرى، عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: «إِنَّ ذَا اَلْقَرْنَيْنِ قَدْ خُيِّرَ اَلسَّحَابَيْنِ فَاخْتَارَ اَلذَّلُولَ، وَذَخَرَ لِصَاحِبِكُمُ اَلصَّعْبَ»، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا اَلصَّعْبُ؟ قَالَ: «مَا كَانَ مِنْ سَحَابٍ فِيهِ رَعْدٌ وَصَاعِقَةٌ أَوْ بَرْقٌ فَصَاحِبُكُمْ يَرْكَبَهُ، أَمَا إِنَّهُ سَيَرْكَبُ اَلسَّحَابَ وَيَرْقَى فِي اَلْأَسْبَابِ أَسْبَابِ اَلسَّمَاوَاتِ اَلسَّبْعِ وَاَلْأَرَضِينَ اَلسَّبْعِ، خَمْسٌ عَوَامِرُ وَاِثْنَانِ خَرَابَانِ»(١٦٧).
إنَّ مجمل الروايات الشريفة السابقة قد ذكرت علامات لظهور الإمام

-----------------

(١٦٥) كمال الدِّين (ص ٦٧٤/ باب ٥٨/ ح ٢٩).
(١٦٦) بحار الأنوار (ج ٥٢/ ص ٣٩١/ ح ٢١٣)، عن سرور أهل الإيمان (ص ١١٥).
(١٦٧) بصائر الدرجات (ص ٤٢٩/ ج ٨/ باب ١٥/ ح ٣).

(٢٢٨)

المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهي إخبار عن مستقبل وعن غيب، ولذا نجد أنَّ لغة تلك الروايات جاءت رمزيَّة تستخدم التشبيه إشارةً إلى بعض الحقائق الغيبيَّة والتي يصعب إدراكها في زمن الأئمَّة (عليهم السلام)، ونجد أنَّ التلميحات تشير إلى ارتفاع بعض حُجُب الغيب أو معجزات وكرامات لتناسب عقليَّة الناس في تلك الفترة، لأنَّها تشير إلى بعض الحقائق التي كان يصعب إدراكها من قِبَلهم في زمن الأئمَّة (عليهم السلام).. ولكنَّنا حاليًّا يجدر بنا أنْ نقول: إنَّ مثل هذه الأخبار يجب أنْ تُكتَب بماء الذهب، وأنْ تُنقَش على صفحات القلوب كمفاخر تنطق بعظمة قائليها (عليهم السلام)، ووالله إنَّ العاقل ليقف خاشعاً أمام هذه الأخبار التي قيلت قبل ثلاثة عشر قرناً، ويفخر بمثل هذه الشخصيَّات الفذَّة، حيث تشعر بأنَّ أهل البيت (عليهم السلام) كأنَّهم قد عايشونا وعاشرونا فوصفوا حياتنا أدقّ وصف، فللّه دَرُّ مَنْ يقتدي بهم ويواليهم.
خلاصة القول:
إنَّ الاكتشافات العلميَّة والاختراعات التقنيَّة الحديثة والتطوُّر الهائل في العقليَّة البشريَّة، وبلوغها درجة من النضج الفكري والثقافي وترجمتها وتفسيرها للأحداث الكونيَّة والعلامات الغيبيَّة، ما هي إلَّا مقدَّمة لظهور الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، بحيث تستطيع الشعوب أنْ تستوعب وتتفهَّم القوانين والأساليب الجديدة التي يتَّخذها القائد المهدي (عجَّل الله فرجه) في دولة العدل الإلهي.
الجدير بالذكر أنَّ هناك مؤشِّرات أُخرى عديدة وقويَّة بدأت تطفو على السطح وتشير إلى اقترابنا أكثر وأكثر من عصر الظهور، أهمُّها الواقع السياسي الحالي وبالخصوص في منطقة الشرق الأوسط، فإنَّه يُشكِّل المناخ الملائم لأجواء الظهور، ولا ننسى كذلك الأزمة الماليَّة العالميَّة والبحث عن بديل أو مخرج منها،

(٢٢٩)

بالإضافة للمشاكل الاجتماعيَّة والفكريَّة والبيئيَّة و... إلخ، والكلُّ يبحث عن الحلِّ ممَّا يجعل ظاهرة اليأس والقنوط بارزة بشكلٍ عامٍّ وهي من الحالات المرافقة للانتظار، ممَّا سيكون له بالغ الأثر في تهيئة الأرضيَّة لتقبُّل اليوم الموعود بأبعاده الحضاريَّة كلِّها.
وهنا يأتي السؤال الكبير والذي من المهمِّ أنْ نعرف الإجابة عليه: ما هو دورنا ومسئوليَّتنا تجاه قضيَّة إمامنا (عجَّل الله فرجه) وقد بدأ يلوح في الأُفُق إرهاصات اليوم الموعود؟.. وهل نحن على مستوى نصرة إمام زماننا (روحي فداه) وقد بدأ العالم يشرأبُّون ذكره؟
وفي الختام نُؤكِّد أنَّ العالم يستعدُّ وبسرعة نحو استقبال الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).. وما نأمله هو أنْ نكون من المدركين لظهوره الشريف وكما قال تعالى: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ (الأعراف: ٧١).

* * *

(٢٣٠)

الخاتمة: ولاء عاشق للمهدي (عجَّل الله فرجه)

السلام عليك يا سيِّدي ومولاي، السلام عليك يا صاحب الأمر والزمان، السلام عليك يا خليفة الرحمن، السلام عليك يا إمامي يا (م ح م د) بن الحسن العسكري، وعلى روحك الطاهرة، ورحمة الله وبركاته.
في البدء أقول: إنَّ الروح إلى مَنْ تهوى تحنُّ، والكلمة التي تخرج من القلب تصل، ولكن يا مولاي لا أعرف أنْ أصف ما يعتريني من أحاسيس تجاهك، فلهفة روحي وحرقة الشوق بقلبي لا تكفيها كلُّ لغات العالم للتعبير عنها، ولذا يا سيِّدي لا أستطيع أنْ أكفَّ عن التفكير بك وفيك.
يا وليَّ الله سوف أبوح لك عمَّا يختلجني من مشاعر لا تخفى عليك، فمن الطفولة وأنا أعشق اسمك، ومن الصغر وأنا أتلهَّف لسماع قَصَصك، ومن بداية مشوار حياتي وأنا أقرأ كلَّ ما يُكتَب عنك:
* حفظت جميع أسمائك وألقابك (يا ماشع وفيذموا) في التوراه، و(مهميد الآخر) في الإنجيل، و(بقيَّة الله) في القرآن، وحجَّة الله وبقيَّة الأنبياء ونور الأصفياء وغوث الفقراء وخاتم الأوصياء ونور الأتقياء والقائم الموعود عند الناس.
* نقشت في مخيَّلتي جميع أوصافك، فعرفتك (أبيض مُشْرَبُ حمرةً)، ورسمت في ملامحك شامتين واحدة تحت كتفك الأيسر مثل ورقة الآس والأُخرى مثل شامة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ورسمت على خدِّك الأيمن (خال) وعلى يدك اليمنى (خال).

(٢٣١)

* وثَّقت جميع علامات ظهورك، فمن لهفتي وشوقي ليوم خروجك، درست كلَّ التفاصيل عن اليماني، والسفياني، والخراساني، والصيحة في رمضان، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف في البيداء، وبقيَّة العلامات راجعتها وحفظتها، الخاصَّة منها والعامَّة، والمحتوم وغيره.
* عرفتك حقَّ المعرفة، فعرفت هويَّتك اسماً ونَسَباً، وصفةً وشخصيَّةً، ومميِّزات وقدرات، وعرفتك إماماً بكلِّ ما لهذه الكلمة من معنى، وعرفت أنَّ وعد الله لا يتحقَّق إلَّا على يديك، وعرفت مكانتك الخاصَّة ومقامك الرفيع عند الله، فأنت طاووس أهل الجنَّة، يا من معرفته نعمة ربَّانيَّة تفوق جميع النِّعَم.
يا مولاي، من كمال سعادة المرء مخاطبة إمام زمانه، فهل نحن بانتظارك يا مولاي أمْ أنت بانتظارنا؟ فنحن كما تعرف مقصِّرون عاجزون مذنبون لا تنطبق علينا شروط الظهور ولا نُحقِّق أبسط مطالبها، فالعذر لله ولك يا سيِّدي على سوء أعمالنا وما نقترفه من إثم وظلم يوميًّا.. سيِّدي تقبَّلني واعف عنِّي وسَلِ الله لي العفو، تقبَّلني يا قرَّة عين الزهراء، تقبَّلني يا خليفة الله، تقبَّلني يا باب الله، تقبَّلني يا برهان الله، تقبَّلني يا جنب الله، ﴿يَا حَسْرَتى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ﴾ (الزمر: ٥٦)، أعتذر إليك سيِّدي على تقصيري وتفريطي وإسرافي فسامحني، ولتعلم يا إمامي بأنَّني لن أترك حلقة بابك حتَّى أسمع الجواب، فقد تعلَّقت آمالي بحبل أنوارك المشعَّة وأنت وسيلتي إلى الله.
يا مولاي، من كمال الولاية أداء حقِّ الإمام، فتعلم دون غيرك ما بداخل قلبي من عشق، فقد طال الصبر وطال الانتظار، فمتى تمنُّ علينا بلقائك وتُسعِدنا بمشاهدتك والسلام عليك، فكم وكم وكم سالت دموعي يا سيِّدي عند ذكراك، ومع ذلك سأظلُّ دوماً على الثبات واليقين لمحبَّتك والاستعداد لنصرتك، وأُجدِّد البيعة لك في يومي هذا وفي كلِّ يوم.

(٢٣٢)

السلام على مَنْ معرفته تمام ديننا، السلام على مَنِ انتظار فرجه أفضل أعمالنا، السلام على مَنْ زيارته ولقاؤه غاية آمالنا، السلام عليك يا قائم آل محمّد ورحمة الله وبركاته.
اللَّهُمَّ عجِّل فرجه، وسهِّل مخرجه.

* * *

(٢٣٣)

المصادر والمراجع

١ - القرآن الكريم.
٢ - الإباضيَّة تاريخ ومنهج ومبادئ: زكريَّا خليفة المحرمي/ ط ١/ ٢٠٠٥م/ مكتبة الغبيراء/ عُمان.
٣ - الإباضيَّة في موكب التاريخ: عليّ يحيى معمَر/ مراجعة: سليمان بن إبراهيم بابزبز/ ط ٣/ ١٤٢٩هـ/مكتبة الضامري/ سلطنة عُمان.
٤ - أجوبة ابن خلفون: أبو يعقوب يوسف خلفون المزاتي/ تحقيق وتعليق: الدكتور عمرو خليفة النامي/ ط ١/ ١٣٩٤هـ/ دار الفتح/ بيروت.
٥ - الاحتجاج: أحمد بن عليٍّ الطبرسي/ تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/ ١٣٨٦هـ/ دار النعمان/ النجف الأشرف.
٦ - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/ دار المفيد/ بيروت.
٧ - أشراط الساعة - النصُّ والتاريخ: خالد بن مبارك الوهيبي/ ط ١/ ٢٠٠٤م/ مكتبة الغبيراء، سلطنة عُمان.
٨ - أصالة المهدويَّة في الإسلام في نظر أهل السُّنَّة والجماعة: الشيخ مهدي فقيه الإيماني/ ترجمة: السيِّد محمّد رضا المهري/ ط ١/ ١٤٢٠هـ/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
٩ - أصل الشيعة وأُصولها: الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء/ تحقيق: علاء آل جعفر/ ط ١/ ١٤١٥هـ/ مؤسَّسة الإمام عليٍّ (عليه السلام).

(٢٣٥)

١٠ - إعلام الورى بأعلام الهدى: الفضل بن الحسن الطبرسي/ ط ١/ ١٤١٧هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
١١ - اقترب خروج المسيح الدجَّال: هشام كمال عبد الحميد/ ٢٠٠٦م/ القاهرة.
١٢ - الإمام الثاني عشر (مشاهد روحيَّة وفلسفيَّة للإسلام في الإطار الإيراني): هنري كوربان/ ترجمة وتحقيق وتقديم: نواف محمود الموسوي/ ط ١/ ١٤٢٨هـ/ دار الهادي/ بيروت.
١٣ - الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من المهد إلى الظهور: السيِّد محمّد كاظم القزويني/ ط ١/ ١٤٢٧هـ/ دار الأنصار/ قم.
١٤ - الإمامة في الفقه الإسلامي (دارسة مقارنة): عليُّ بن هلال بن محمّد العبري/ رسالة ماجستير/ ١٤١٣هـ/ كلّيَّة الفقه وأُصوله في الجامعة الأُردنّيَّة.
١٥ - الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط ١/ ١٤٠٤هـ/ مدرسة الإمام الهادي (عليه السلام)/ قم.
١٦ - أمل الإنسان (الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الفكر الإسلامي الأصيل): إعداد: مركز نون للتأليف والترجمة: ط ١/ ١٤٣٥هـ.
١٧ - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: العلَّامة المجلسي/ تحقيق: يحيى العابدي الزنجاني وعبد الرحيم الربَّاني الشيرازي/ ط ٢/ ١٤٠٣هـ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
١٨ - بحث حول المهدي (عجَّل الله فرجه): السيِّد محمّد باقر الصدر/ تحقيق: عبد الجبَّار شرارة/ ط ١/ ١٤١٧هـ/ مركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة.
١٩ - بحوث في الحياة السيَّاسيَّة لأهل البيت (عليهم السلام): إعداد: مركز نون للتأليف والترجمة/ الناشر: جمعيَّة المعارف الإسلاميَّة الثقافيَّة/ ط ١/ ١٤٣٢هـ.

(٢٣٦)

٢٠ - بحوث في المِلَل والنِّحَل: الشيخ السبحاني/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ مؤسَّسة الإمام الصادق (عليه السلام)/ قم.
٢١ - البرهان والدليل: أبو يعقوب يوسف إبراهيم الوارجلاني/ تحقيق: الشيخ سالم بن حمد الحارثي/ ط ٢/ ١٤٢٧هـ.
٢٢ - بشرى البشر في حقيقة المهدي المنتظَر: الشيخ محمود الغرباوي/ ٢٠٠٤م/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
٢٣ - بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمّد (عليهم السلام): محمّد بن الحسن ابن فرُّوخ (الصفَّار)/ تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوجه باغي/ ١٤٠٤هـ/ منشورات الأعلمي/ طهران.
٢٤ - تاريخ ابن خلدون: ابن خلدون/ ط ٤/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
٢٥ - تاريخ أصبهان (ذكر أخبار أصبهان): أبو نعيم الأصبهاني/ تحقيق وتصحيح: سيِّد كسروي حسن/ ط ١/ ١٤١٠هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
٢٦ - تاريخ الفلسفة الإسلاميَّة: هنري كوربان/ راجعه وقدَّم له: الإمام موسى الصدر والأمير عارف تامر/ ترجمة: نصير مروة وحسن قبيسي/ ط ٢/ ١٩٩٨م/ عويدات للنشر والطباعة/ بيروت.
٢٧ - ترجمة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في أعيان الشيعة: السيِّد محسن الأمين العاملي/ تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ ط ٢/ ١٤٤٢هـ/ النجف الأشرف.
٢٨ - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): المنسوب إلى الإمام العسكري(عليه السلام)/ ط ١ محقَّقة/ ١٤٠٩هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.

(٢٣٧)

٢٩ - تفسير الرازي (مفاتيح الغيب): فخر الدِّين محمّد بن عمر التميمي البكري الرازي الشافعي/ ط ٣.
٣٠ - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن): محمّد بن جرير الطبري/ تقديم: الشيخ خليل الميس/ ضبط وتوثيق وتخريج: صدقي جميل العطَّار/ ١٤١٥هـ/ دار الفكر/ بيروت.
٣١ - تفسير القمِّي: عليُّ بن إبراهيم القمِّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيِّب الموسوي الجزائري/ ط ٣/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
٣٢ - جواهر التاريخ: الشيخ عليٌّ الكوراني العاملي/ ط ١/ ١٤٣٢هـ.
٣٣ - حياة الإمام الباقر (عليه السلام): الشيخ باقر شريف القرشي/ ط ١/ ١٤١٣هـ/ دار البلاغة/ بيروت.
٣٤ - خلاصة المقال في المسيح الدجَّال: الشيخ محمود الغرباوي/ ٢٠٠٤م/ القاهرة.
٣٥ - الخوارج والحقيقة الغائبة: ناصر بن سليمان بن سعيد السابعي/ ط ١/ ١٤٢٠هـ/ مطبعة النهضة/ مسقط.
٣٦ - الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدِّين السيوطي/ دار المعرفة/ بيروت.
٣٧ - الرشد والهداية: ابن حوشب منصور اليمن/ تحقيق: محمّد كامل حسن.
٣٨ - رواية الحديث عند الإباضيَّة (دارسة مقارنة): صالح بن أحمد البوسعيدي/ ط ١/ ١٤٢٠هـ.
٣٩ - سرور أهل الإيمان في علامات صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه): السيِّد بهاء الدِّين عليّ النيلي النجفي/ ط ١/ ١٤٢٦هـ/ دليل ما/ قم.

(٢٣٨)

٤٠ - سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: محمّد ناصر الدِّين الأشقودري الألباني/ ط ١/ ١٤١٥هـ/ مكتبة المعارف/ الرياض.
٤١ - سُنَن ابن ماجة: أبو عبد الله محمّد بن يزيد القزويني (ابن ماجة)/ تحقيق وترقيم وتعليق: محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.
٤٢ - سُنَن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني/ تحقيق وتعليق: سعيد محمّد اللحَّام/ ط ١/ ١٤١٠هـ/ دار الفكر/ بيروت.
٤٣ - سُنَن الترمذي: أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي/ تحقيق وتصحيح: عبد الوَّهاب عبد اللطيف/ ط ٢/ ١٤٠٣هـ/ دار الفكر/ بيروت.
٤٤ - الشيعة رُوَّاد العدل والسلام: الشيخ مجيد الصائغ/ ط ٣/ ١٤٣٥هـ/ مؤسَّسة البلاغ/ بيروت.
٤٥ - الشيعة في التاريخ: السيِّد عبد الرسول الموسوي/ ط ١/ ٢٠٠٢م/ مكتبة مدبولي/ القاهرة.
٤٦ - صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي/ ط ٢/ ١٤١٠هـ/ أوقاف مصر.
٤٧ - صحيح مسلم: مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
٤٨ - الصواعق المحرقة في الردِّ على أهل البدع والزندقة: أحمد بن حجر الهيتمي المكّي/ خرَّج أحاديثه وعلَّق حواشيه وقدَّم له: عبد الوهَّاب عبد اللطيف/ ط ٢/ ١٣٨٥هـ/ مكتبة القاهرة لصاحبها عليّ يوسف سليمان/ القاهرة.
٤٩ - الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: السيِّد عليُّ بن طاوس/ ط ١/ ١٣٩٩هـ/ مطبعة الخيَّام/ قم.

(٢٣٩)

٥٠ - الطور المهدوي: عالم سبيط النيلي/ دار المحجَّة البيضاء.
٥١ - عقد الدُّرَر في أخبار المنتظَر: يوسف بن يحيى المقدسي/ تحقيق: عبد الفتَّاح محمّد الحلو/ ط ١/ ١٣٩٩هـ/ مكتبة عالم الفكر/ القاهرة.
٥٢ - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
٥٣ - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: فارس حسُّون كريم/ ط ١/ ١٤٢٢هـ/ أنوار الهدى.
٥٤ - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط ١/ ١٤١١هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
٥٥ - فتح الباري شرح صحيح البخاري: شهاب الدِّين ابن حجر العسقلاني/ ط ٢/ دار المعرفة/ بيروت.
٥٦ - الفتن: أبو عبد الله نعيم بن حمَّاد المروزي/ تحقيق وتقديم: سهيل زكار/ ١٤١٤هـ/ دار الفكر/ بيروت.
٥٧ - الفجر المقدَّس (المهدي (عليه السلام)، إرهاصات اليوم الموعود وأحداث سنة الظهور): مجتبى السادة/ ط ١/ ١٤٢١هـ/ دار الخليج العربي/ بيروت.
٥٨ - قناطر الخيرات: أبو طاهر إسماعيل بن موسى الجيطالي النفوسي/ تحقيق: سيِّد كسروي حسن وخلَّاف محمود عبد السميع/ ط ١/ ١٤٢٢هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
٥٩ - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط ٥/ ١٣٦٣ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
٦٠ - الكامل في ضعفاء الرجال: عبد الله بن عدي/ تحقيق: يحيى مختار غزاوي/ ط ٣/ ١٤٠٩هـ/ دار الفكر/ بيروت.

(٢٤٠)

٦١ - الكشف (تأويل إسماعيلي لآيات القرآن): جعفر بن منصور اليمن/ تحقيق: شتروطمان/ دار بيبلون/ باريس.
٦٢ - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ١٤٠٥هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٦٣ - مأثر الكبراء في تاريخ سامرَّاء: الشيخ ذبيح الله المحلَّاتي/ ط ١/ ١٣٨٤ش/ المكتبة الحيدريَّة/ قم.
٦٤ - المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة: السيِّد عبد الحسين شرف الدِّين/ مراجعة وتحقيق: محمود بدري/ ط ١/ ١٤٢١هـ/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
٦٥ - مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلِّي/ ط ١/ ١٣٧٠هـ/ منشورات المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
٦٦ - المراجعات: السيِّد عبد الحسين شرف الدِّين/ تحقيق وتعليق: حسين الراضي/ ط ٢/ ١٤٠٢هـ.
٦٧ - مسائل خلافيَّة حار فيها أهل السُّنَّة: الشيخ عليّ آل محسن/ ط ١/ ١٤١٩هـ/ دار الميزان/ بيروت.
٦٨ - المستدرك على الصحيحين (وبذيله التلخيص للذهبي): أبو عبد الله الحاكم النيسابوري/ إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي/ دار المعرفة/ بيروت.
٦٩ - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ تحقيق عدَّة محقِّقين/ ط ١/ ١٤١٦هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
٧٠ - مسند البزَّار (البحر الزخَّار): أبو بكر أحمد بن عمرو العتكي المعروف بالبزَّار/ تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله وآخرون/ ط ١/ ١٩٨٨م - ٢٠٠٩م/ مكتبة العلوم والحِكَم/ المدينة المنوَّرة.

(٢٤١)

٧١ - مسند الربيع (الجامع الصحيح): الربيع بن حبيب بن عمر الأزدي البصري/ إعداد: سعود بن عبد الله بن محمّد الوهيبي/ ط ١/ ١٤١٥هـ/ مكتبة مسقط/ سلطنة عُمان.
٧٢ - المصنَّف: ابن أبي شيبة/ تحقيق وتعليق: سعيد اللحَّام/ ط ١/ ١٤٠٩هـ/ دار الفكر/ بيروت.
٧٣ - المعجم الكبير: سليمان بن أحمد الطبراني/ تحقيق وتخريج: حمدي عبد المجيد السلفي/ ط ٢/ دار إحياء التراث العربي.
٧٤ - المهدي المنتظَر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة: عبد العليم عبد العظيم البستوي/ ط ١/ ١٤٢٠هـ/ المكتبة المكّيَّة/ مكَّة المكرَّمة.
٧٥ - المهدي المنتظَر: إبراهيم المشوخي/ ط ٢/ ١٤٠٦هـ/ مكتبة المنار/ الأُردنّ/ الزرقاء.
٧٦ - موسوعة الألباني في العقيدة: ناصر الدِّين الألباني/ ط ١/ ١٤٣١هـ/ مركز النعمان/ صنعاء.
٧٧ - الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة: الحاجّ عبد القادر الشيخ عليّ أبو المكارم/ ط ١/ ١٤٣١هـ/ دار العلوم/ بيروت.
٧٨ - نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ: الشيخ مرتضى المطهَّري/ ط ٢/ ١٤٢٧هـ/ دار التيَّار الجديد/ بيروت.
٧٩ - النور الغائب (الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والادِّعاءات الكاذبة في العصر الحديث): مجتبى السادة/ ط ١/ ١٤٢٨هـ/ دار الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله).
٨٠ - ينابيع المودَّة لذوي القربى: سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي/ تحقيق: السيِّد عليّ جمال أشرف الحسيني/ ط ١/ ١٤١٦هـ/ دار الأُسوة.

* * *

(٢٤٢)