التراث المهدوي
استقراء التطور الفكري في مسيرة التراث المهدوي الشيعي
مجتبى السادة
إشراف وتقديم:
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
الفهرس
مقدَّمة المركز...................٣
الإهداء...................٧
المقدَّمة...................٩
الفصل الأوَّل: التراث
المهدوي الشيعي...................١٣
التعريف...................١٦
قبل بدء
البحث...................١٧
الهدف من
الدراسة...................١٩
إحصائيَّات عن التراث
المهدوي الشيعي...................٢٠
أوَّلاً: إحصائيَّات عن
المهدي في القرآن الكريم...................٢١
ثانياً: إحصائيَّات عن
المهدي في السُّنَّة الشريفة...................٢٢
ثالثاً: إحصائيَّات عن
الكُتُب التي تتعلَّق بالمهدي...................٢٣
رابعاً: إحصائيَّات
متنوِّعة تتعلَّق بالمهدي...................٢٥
تكامل فكرة المخلِّص في
التراث الإنساني...................٢٨
مراحل تطوُّر التراث
المهدوي...................٣٠
الفصل الثاني: طور
الأُمنية...................٣٣
مرحلة ما قبل الإسلام (آدم
(عليه السلام) - البعثة ٦١٠م)...................٣٥
بشارات الأديان
القديمة...................٣٦
التراث اليهودي (العهد
القديم)...................٣٦
التراث المسيحي (العهد
الجديد)...................٤٠
المخلِّص (المهدي) في تراث
الأديان المختلفة...................٤٤
المخلِّص في تراث
الصابئة...................٤٥
المخلِّص في تراث
الزرادشتيَّة...................٤٥
المخلِّص في تراث
الهنود...................٤٦
المخلِّص في تراث
البوذيِّين...................٤٧
الاختلاف في تشخيص هويَّة
المخلِّص...................٤٧
المصداق الحقيقي للمخلِّص
في التراث الدِّيني...................٤٩
الفصل الثالث: طور
التأسيس...................٥٣
مرحلة صدر الإسلام (البعثة
١٣ قبل هـ - ٢٦٠هـ)...................٥٥
الوضع السياسي والفكري في
هذه المرحلة...................٥٥
المهدويَّة في التراث
الإسلامي...................٥٨
مصنَّفات مهدويَّة في هذه
المرحلة...................٦٤
مقتطفات من المشهد الأدبي
في هذه المرحلة...................٦٨
الفصل الرابع: طور
الواقع...................٧٣
مرحلة الغيبة الصغرى (٢٦٠
- ٣٢٩هـ)...................٧٥
الوضع السياسي والفكري في
هذه المرحلة...................٧٥
نظام
السفارة...................٧٧
خصوصيَّة الأُطروحة
المهدويَّة الشيعيَّة...................٧٨
مراحل غياب الإمام المهدي
(عجَّل الله فرجه)...................٧٩
التراث المهدوي المكتوب في
هذه المرحلة...................٨٢
١ - تواقيع الناحية
المقدَّسة...................٨٣
٢ - كُتُب ومصنَّفات
الشيعة...................٨٥
٣ - شعراء الشيعة في زمن
الغيبة الصغرى...................٨٧
الفصل الخامس: طور
التأصيل...................٩١
مرحلة بداية الغيبة الكبرى
(٣٢٩ - ٤٤٧هـ)...................٩٣
الوضع السياسي والفكري في
هذه المرحلة...................٩٤
تأصيل التراث الحديثي
الشيعي...................١٠٢
أهمُّ كُتُب التراث
المهدوي الشيعي...................١٠٥
التراث المهدوي المكتوب في
هذه المرحلة...................١١٤
الشعر في هذه
المرحلة...................١١٧
تواقيع الناحية المقدَّسة
في هذه المرحلة...................١١٨
الفصل السادس: طور
الركود...................١٢١
مرحلة التقلُّبات
الطائفيَّة (٤٤٧ - ٩٠٧هـ)...................١٢٣
الوضع السياسي والفكري في
هذه المرحلة...................١٢٣
عوامل ركود الحركة
الفكريَّة في التراث المهدوي...................١٣٤
التراث المهدوي المكتوب في
هذه المرحلة...................١٣٥
أهمُّ ما صُنِّف عن الإمام
المهدي في هذه المرحلة...................١٣٧
مقتطفات من المشهد الأدبي
في هذه المرحلة...................١٣٩
الفصل السابع: طور
التفريع...................١٤٣
مرحلة انتشار التوسيع (٩٠٧
- ١١٤٨هـ)...................١٤٥
الوضع السياسي والفكري في
هذه المرحلة...................١٤٥
التراث المهدوي المكتوب في
هذه المرحلة...................١٥٢
أهمُّ ما صُنِّف عن الإمام
المهدي في هذه المرحلة...................١٥٣
المشهد الأدبي في هذه
المرحلة...................١٥٨
الفصل الثامن: طور
الدفاع...................١٦١
مرحلة دحض الشُّبُهات عن
العقيدة المهدويَّة (١١٤٩ - ١٣٩٠هـ)...................١٦٣
الوضع السياسي في هذه
المرحلة...................١٦٣
الوضع الفكري في هذه
المرحلة...................١٧٠
استغلال بعض سمات الثقافة
المهدويَّة من قِبَل أعداء الإسلام...................١٧٢
التراث المهدوي المكتوب في
هذه المرحلة...................١٨٥
أهمُّ ما صُنِّف عن الإمام
المهدي في هذه المرحلة...................١٨٧
المشهد الأدبي في هذه
المرحلة...................١٩١
الفصل التاسع: طور
التجديد...................١٩٥
مرحلة العصر الحديث
(١٣٩٠هـ - اليوم الموعود)...................١٩٧
الوضع السياسي في هذه
المرحلة...................١٩٧
الوضع الفكري في هذه
المرحلة...................٢٠٠
مصنَّفات مهدويَّة رائدة
في بداية المرحلة...................٢٠٦
التراث المهدوي المكتوب في
هذه المرحلة...................٢١٣
أوَّلاً: كُتُب ومؤلَّفات
مهدويَّة كثيرة...................٢١٣
ثانياً: مجلَّات ونشرات
تخصُّصيَّة تعني بالشأن المهدوي...................٢١٥
ثالثاً: دراسات وبحوث
أكاديميَّة مهدويَّة...................٢١٦
مقتطفات من المشهد الأدبي
في هذه المرحلة...................٢١٨
الفصل العاشر: طور
التطبيق...................٢٢١
مرحلة الحضارة المهدويَّة
(اليوم الموعود - يوم القيامة)...................٢٢٣
لمحة سياسيَّة
وتاريخيَّة...................٢٢٣
لمحة لأحداث مستقبليَّة
(تكون تاريخاً)...................٢٢٥
التراث الدِّيني
السماوي...................٢٢٧
الفصل الحادي عشر: ضياع
التراث، آفاق مستقبليَّة...................٢٣٣
(١) ضياع
التراث...................٢٣٥
أسباب ضياع التراث المهدوي
الشيعي...................٢٣٥
هل التراث المهدوي الشيعي
مفقود؟...................٢٣٨
(٢) آفاق
مستقبليَّة...................٢٤١
الخاتمة: خادم يخاطب
مولاه...................٢٤٥
المصادر
والمراجع...................٢٤٩
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدَّمة المركز:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء والمرسَلين، محمّد
وآله الطاهرين.
المهدويَّة تُمثِّل ركناً أساسيًّا في البنية الفكريَّة والعقديَّة للمذهب الإمامي،
حيث تتجسَّد فيها آمال المستضعَفين، وتطلُّعات العدالة الإلهيَّة، والرؤية الشاملة
لمستقبل الإنسان والحضارة. وقد حظيت هذه العقيدة باهتمامٍ بالغٍ في مختلف العصور،
فجسَّدها العلماء والمؤرِّخون والشعراء، لتُشكِّل جزءاً لا يتجزَّأ من ذاكرة
الأُمَّة الشيعيَّة وهويَّتها الثقافيَّة.
وقد جاء هذا الكتاب لمتابعة ورصد مراحل نشوء وتطوُّر التراث المهدوي، مستنداً إلى
منهجٍ يرصد السياقات التاريخيَّة والسياسيَّة، ويربطها بالإنتاج الفكري والعَقَدي
الذي رافق كلَّ مرحلة من مراحل تطوُّر التراث المهدوي.
وقد تمَّ تقسيم الكتاب إلى فصول متسلسلة، تبدأ من الجذور الأُولى لفكرة المخلِّص في
الفكر الدِّيني والإنساني، مروراً بمراحل التأسيس، والتأصيل، والركود، والتوسعة،
والدفاع، والتجديد، ثمّ تنتهي بمرحلة التطبيق وآفاق المستقبل، مع تحليلٍ وافٍ
للأحداث، ورصدٍ دقيقٍ للمصادر، وتوثيقٍ شاملٍ للمؤلَّفات والشخصيَّات التي ساهمت في
بناء هذا التراث.
المنهج العامُّ
للكتاب:
اعتمد هذا العمل على منهج يُقسِّم التراث المهدوي إلى أطوار زمنيَّة، حيث يُلاحظ
كلَّ طور من حيث ما أنتجه من تراث مكتوب أو شفهي، وما شهده من مواقف، وقد تمثَّلت
هذه الأطوار في أحد عشر فصلاً متسلسلاً، كالتالي:
الفصل الأوَّل: التراث المهدوي الشيعي: يبدأ الكتاب بتحديد المفاهيم وتعريف التراث
المهدوي، متناولاً دوافع الدراسة، وأهمّيَّتها، ثمّ ينتقل إلى عرض النصوص والروايات
المرتبطة بالإمام المهدي في القرآن الكريم، والسُّنَّة النبويَّة، كما يتعرَّض
لفكرة (المخلِّص) في الثقافات الإنسانيَّة القديمة.
الفصل الثاني: طور الأُمنية (ما قبل الإسلام): يتناول البشارات السابقة على البعثة
النبويَّة، وما تضمَّنته التوراة والإنجيل، بل والنصوص الدِّينيَّة القديمة، كما
يستعرض تصوُّرات الزرادشتيِّين، والهنود، والبوذيِّين، وغيرهم عن (المنقذ)،
ليُبيِّن أنَّ فكرة (المنتظَر) سبقت ظهور الإسلام.
الفصل الثالث: طور التأسيس (البعثة إلى ٢٦٠هـ): يتناول نشأة العقيدة المهدويَّة في
ظلِّ الوحي، من القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة، ويناقش بدايات تدوين الحديث
المهدوي. كما يعرض لأبرز المؤلَّفات الشعريَّة والأدبيَّة في تلك المرحلة، مسلِّطاً
الضوء على أسماء لامعة مثل: دعبل الخزاعي وابن الرومي، ممَّن عبَّروا عن تطلُّع
الأُمَّة إلى يوم الخلاص.
الفصل الرابع: طور الواقع (الغيبة الصغرى: ٢٦٠ - ٣٢٩هـ): يتناول هذا الفصل التحدِّي
الأبرز المتمثِّل بغيبة الإمام (عجَّل الله فرجه)، ويبحث في منظومة (السفارة) التي
أُسِّست للتواصل مع الإمام (عجَّل الله فرجه)، ومكانة التواقيع المهدويَّة، إضافةً
إلى تأريخٍ مختصر لأهمّ المؤلَّفات والوثائق التي تنتمي لهذه المرحلة الانتقاليَّة
الحرجة.
الفصل الخامس:
طور التأصيل (٣٢٩ - ٤٤٧هـ): يرصد هذا الفصل محاولات العلماء لتقعيد العقيدة
المهدويَّة ضمن نسقٍ علمي، من خلال تدوين الكُتُب العقائديَّة المتخصِّصة، مثل:
كتاب الغيبة للنعماني، وكمال الدِّين وتمام النعمة للصدوق، والغيبة للطوسي، وغيرها.
كما يتناول تأثير الدول الشيعيَّة الناشئة، كالبويهيَّة والعبيديَّة والفاطميَّة
والحمدانيَّة فيه.
الفصل السادس: طور الركود (٤٤٧ - ٩٠٧هـ): في هذا الطور، يُسلِّط الكتاب الضوء على
مرحلة تراجع التأليف والنشاط الفكري في القضيَّة المهدويَّة، نتيجةً للاضطرابات
السياسيَّة والفكريَّة، كسيطرة السلاجقة والمغول. ومع ذلك، يشير إلى استمرار النبض
المهدوي في بعض النتاجات المتفرِّقة، الأدبيَّة والحديثيَّة.
الفصل السابع: طور التفريع (٩٠٧ - ١١٤٨هـ): مرحلة جديدة من التوسعة بدأت مع الدولة
الصفويَّة، حيث شهدت العقيدة المهدويَّة نشاطاً في مجالات مختلفة كالعقيدة، والفقه،
والأدب. كما رصد المؤلِّف تحوُّل قضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من فكرة
عقائديَّة إلى عنصر مركزي في هويَّة الدولة.
الفصل الثامن: طور الدفاع (١١٤٩ - ١٣٩٠هـ): مرحلة المواجهة الفكريَّة المباشرة مع
التيَّارات المنحرفة، كالبابيَّة والبهائيَّة، والتي حاولت اختطاف المهدويَّة لصالح
مشاريعها المنحرفة. حيث يستعرض الكاتب ردود علماء الشيعة، وتوسُّع التأليف الدفاعي،
مع تحليل سياقات هذه المواجهة وتأثيراتها الثقافيَّة.
الفصل التاسع: طور التجديد (١٣٩٠هـ - المعاصر): يُركِّز هذا الفصل على الصحوة
المهدويَّة المعاصرة، خاصَّةً بعد انتصار الثورة الإسلاميَّة في إيران، وما تلاها
من توسُّع مذهل في الدراسات المهدويَّة، وتأسيس مراكز متخصِّصة، وظهور مجلَّات
أكاديميَّة، ونشاط كبير في الأوساط الحوزويَّة والجامعيَّة.
الفصل العاشر:
طور التطبيق (ما بعد الظهور - قيام الساعة): ينتقل المؤلِّف إلى المستقبل المنظور،
فيتحدَّث عن مرحلة الظهور وما بعدها، من تشكيل الدولة المهدويَّة، وملامح الحكم
العادل، وتحوُّل المعارف الإلهيَّة إلى واقع معيش، وتكامل التجربة البشريَّة على
يديه (عجَّل الله فرجه).
الفصل الحادي عشر: ضياع التراث وآفاق المستقبل: يختتم الكاتب بتأمُّلات في ما ضاع
من التراث المهدوي، والجهود المطلوبة لاستعادته، مؤكِّداً أنَّ الحضور المهدوي في
الذاكرة الجماعيَّة للأُمَّة لم يكن يوماً غائباً بالكامل، بل هو حيٌّ، لكنَّه
يحتاج إلى مشروعٍ متجدِّد يُعيد تنظيمه وإحياءه واستثماره.
ختاماً: إنَّ هذا الجهد المتواضع لا يدَّعي الإحاطة بجميع أبعاد التراث المهدوي،
لكنَّه يطمح إلى أنْ يكون خطوةً جادَّة في سبيل فهمٍ أعمق لهذه العقيدة، وتجذيرها
في الوعي المعاصر، وصون تراثها من الضياع، وتوجيه أنظار الباحثين إلى ما يمكن
إنجازه مستقبلاً في هذا الميدان الغنيِّ.
نسأل الله تعالى أنْ يُوفِّق الكاتب لمزيد من الجهد وبذل الوسع لخدمة القضيَّة
المهدويَّة، كما نبتهل إليه تعالى أنْ يجعلنا وإيَّاه من أنصاره ومقوِّية سلطانه
والمستشهدين تحت لوائه.
مركز الدراسات
التخصُّصيَّة
في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
(١٤٤٧هـ)
إلى التي أعطت
ولم تأخذ..
إلى صاحبة النَّسَب العريق والإيمان العميق..
إلى أميرة الروم وريحانة آل شمعون..
إلى المهاجرة من قصور الملوك والقياصرة إلى بيت النبوَّة والإمامة..
إلى مَنْ تركت ديارها شوقاً إلى شمس الولاية..
إلى مَنْ زارتها فاطمة الزهراء ومريم البتول..
إلى مَنِ اجتمع الأنبياء والأوصياء لخطبتها..
إلى مَنِ اسمها في الإنجيل (العتيدة)..
إلى مَنْ بشَّرها الإمام الهادي بالموعود..
إلى ابنة حواريي عيسى، وزوجة وليِّ الله، وأُمِّ بقيَّة الله..
إلى مَنْ هي مِنْ سلالة الأوصياء وأُمِّ خاتمهم..
إلى ذروة الكمال والشرف والوعاء الحاضن للقائم المنتظَر..
إلى مليكة بنت يشوعا حفيدة قيصر الروم..
إلى سيِّدة الإماء (نرجس) والدة الإمام المهدي..
إليك يا أُمَّ الفضائل والمناقب العالية، أرفع أوراق ولائي وثنائي، وأُهدي صفحات
كتابي الذي يتحدَّث عن ولدكِ (صاحب الزمان)، راجياً من حنانكِ التفضُّل بقبول هذا
القليل، وأنا طامع في أنْ تنالني شفاعتكِ وشفاعة ابنكِ (عجَّل الله فرجه).
نسأل الله أنْ نُوفَّق لنكون من خُلَّص خدمته وأنصاره والمستشهدين بين يديه.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدَّمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلقه أجمعين محمّد وآله
الطيِّبين الطاهرين.
أمَّا بعد..
العقيدة المهدويَّة قضيَّة عامَّة تخصُّ البشريَّة كلَّها، وهي أيضاً مسألة
مركزيَّة في الدِّين الإسلامي، وإنَّ جميع الجهود والتضحيات التي قام بها الأنبياء
والرُّسُل والأوصياء ستُؤتي ثمارها على يديه الطاهرة، وستتحقَّق أحلامهم، وستظهر
بواسطته ثمرة الإسلام.
إنَّ عقيدة المهدي الموعود وظهوره آخر الزمان، تُعتبَر مورد قبول جميع الفِرَق
الإسلاميَّة، فالإسلام بركنيه القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة هما المصدر والمنبع
لدى المسلمين بكافَّة أطيافهم للإيمان والاعتقاد بفكرة المهدي المنتظَر.. فقد أشار
القرآن الكريم إلى القضيَّة المهدويَّة بطُرُق وأساليب شتَّى، وبمنهج محدَّد، وكذلك
أخبر عنها الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)،
وتحدَّث عنها الصحابة والتابعين، وكتب عنها العلماء جيلاً بعد جيل وإلى زماننا هذا.
ومن هذا المنطلق كانت المهدويَّة حتميَّة ويقينيَّة، وانتشرت طوال التاريخ الإسلامي
لدى أغلب الفِرَق الإسلاميَّة.
مصنَّفات عديدة كُتِبَت في العقيدة المهدويَّة ومن جوانب شتَّى، حتَّى غدا البحث في
المهدويَّة ميداناً معرفيًّا له مزاياه المنفردة، وأتباع مدرسة أهل البيت (عليهم
السلام) في الطليعة، ممَّا شكَّل ثروة فكريَّة هائلة.
تواجه الباحث حول
التراث المهدوي الشيعي مصاعب كبيرة، من قبيل أنَّ المعلومات والبيانات المتوفِّرة
حول هذا الموضوع لا يمكن أنْ تكون وافية لدراسة قائمة على الموضوعيَّة ومنهج البحث
العلمي، وذلك للحجم الهائل لهذا التراث وسعته، بالإضافة لضياع الكثير من مفرداته..
ولذا انبثقت هذه الدراسة التي سنحاول فيها إنْ شاء الله دراسة التطوُّر المعرفي في
الثقافة المهدويَّة الشيعيَّة على ضوء المسار التاريخي، ورغم أهمّيَّة هذا الموضوع
إلَّا أنَّه لم ينل نصيبه من اهتمام الباحثين والمختصِّين الشيعة إلَّا قليلاً،
وظلَّ يفتقر للدراسات التي تتناول تاريخ تطوُّره، علماً بأنَّنا لسنا في مقام الرصد
والاستقصاء لتلك المصنَّفات التي عنيت بتدوين القضيَّة المهدويَّة.
من الحقائق الثابتة أنَّ العقيدة المهدويَّة منذ فجر التاريخ وإلى يوم القيامة لن
تتغيَّر أو تتطوَّر، ولكن فهمنا لها هو الذي يتغيَّر ويتطوَّر، ومع مرور الأيَّام
نستوعب مفاهيمها أكثر فأكثر.. فالسؤال الذي يثير اهتمامنا: ما هي أهمُّ مراحل هذا
التطوُّر في تكامل فكرة المخلِّص في التراث المعرفي الإنساني؟.. إذاً دراسة التراث
المهدوي الشيعي والتغيُّرات التي طرأت عليه عبر مراحل التاريخ، يُعطينا فكرة واضحة
عن تطوُّر فهم الإنسانيَّة واستيعابها للمهدويَّة، علماً بأنَّ إدراكنا في الوقت
الحالي لا زال قاصراً للإحاطة بجميع جوانبها حيث يُخيِّم عليه ضباب وحجاب (الغيبة).
لقد تشكَّل التراث المهدوي الشيعي على مدى مساحة من الزمن تزيد على (١٤٠٠) عام
تطوَّرت فيها الأفكار والمعارف والعلوم، ومثل هذه المساحة الزمنيَّة تتطلَّب أنْ
نندفع لالتقاط عناصر هذا التطوُّر وفق سياق المسيرة التاريخيَّة.
وهذا يتطلَّب منَّا دراسة مجمل الظروف والمؤثِّرات ومناخات المعرفة
والفكر والسياسة
والأحداث بشكلٍ عامٍّ، وعليه فما نُقدِّمه هنا هو رؤية أوَّليَّة لتقويم تطوُّر
الأداء الفكري في التراث المهدوي.. إنَّ استقراء التطوُّر المعرفي المهدوي ومن خلال
دراسة شاملة للكُتُب ذي الشأن المهدوي يمكن أنْ نختزله في تسع مراحل وأطوار
أساسيَّة، سنتحدَّث بتفصيل مناسب عن كلِّ واحدٍ من هذه الأطوار، وهذا هو صلب البحث،
ونُسلِّط الضوء على المستجدَّات المتراكمة في الثقافة المهدويَّة عبر المسيرة
التاريخيَّة للتراث المهدوي الشيعي، وتأثير الأوضاع السياسيَّة على النتاج الفكري
المهدوي، ونبدأ من فجر التاريخ مروراً بالعصر الإسلامي ووقتنا الحالي، واستشفاف
أولويَّات المرحلة وآفاق المستقبل.
علماً أنَّ اهتمامنا في هذا الكتاب لن ينصبَّ على الكمِّ، وإنَّما في الكيف..
ونُحِبُّ في هذه المقدَّمة أنْ نجيب باختصار على تساؤل قد يُثار لمن يقرأ هذا
الكتاب، وخاصَّةً لمن يطَّلع على سعة التراث المهدوي الشيعي، فيتعجَّب من كيفيَّة
استعراض هذا التراث وقراءة سياقه ومساره في هذه الصفحات المحدودة، والجواب على ذلك
من عدَّة وجوه:
أوَّلاً: أنَّ التراث المهدوي الشيعي مع كثرته وسعته ممتلئ بالتكرار.
ثانياً: أنَّنا في هذا الكتاب سنُركِّز على القضايا الكبرى التي تميَّز بها التراث
المهدوي في مراحله التاريخيَّة، ولا نهتمُّ كثيراً بالتفاصيل.
ثالثاً: نُسلِّط الضوء على الأطوار الفكريَّة وعلاقة الأوضاع السياسيَّة آنذاك
والحرّيَّة المتاحة على التراث المهدوي وما تضمَّنه من تطوُّر أو انكماش أو
تغيُّرات جوهريَّة في معارفه ومستواه الفكري.
وفي ختام هذه المقدَّمة نُنوِّه إلى أنَّ هذه الدراسة اليتيمة، وهذا الجهد المتواضع
إنَّما هو باكورة ونواة لبحوث ودراسات قادمة في مثل هذا الموضوع - إنْ شاء الله -،
نتمنَّى أنْ تتبنَّاها مؤسَّسات علميَّة، فمثل هذه الأعمال تحتاج إلى
جهود مؤسَّسات تخصُّصيَّة تقوم بدراسات تحليليَّة ونقد موضوعي للتراث المهدوي الشيعي، ويُنفِّذها باحثون مختصُّون يعتمدون الموضوعيَّة في أبحاثهم، ونأمل أنْ يفتح هذا العمل البحثي باباً مهمًّا لدراسات فكريَّة مستقبليَّة أُخرى تتناول جوانب مهمَّة من تراثنا المهدوي الشيعي.
* * *
ينطلق الشيعة
الإماميَّة في نظرتهم إلى المهدويَّة من معتقد الإمامة، وضرورة وجود إمام في كلِّ
زمانٍ، قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾
(البقرة: ٣٠)، وهذا ما يُميِّز الأُطروحة الشيعيَّة الإماميَّة، فاهتمَّ علماء
الإماميَّة بالعقيدة المهدويَّة اهتماماً بالغاً، فكتبوا في ذلك مصنَّفات عديدة،
وفي جميع جوانب الثقافة والمعرفة المهدويَّة، وعلى جميع مراحل وأطوار التاريخ
الإسلامي، ومن زمن مبكَّر يعود بعضها إلى ما قبل ولادة الإمام (م ح م د) بن الإمام
الحسن العسكري (عليه السلام)، وبعضها إلى زمن الغيبة الصغرى، واستمرَّ العلماء على
هذا المنوال وإلى يومنا الحاضر.
لقد بذل أعلامنا العظام جهوداً كبيرة في سبيل ربط الأُمَّة فكريًّا وعاطفيًّا
بقائدها ومن جوانب شتَّى، كناحية التثقيف الفكري، والإعداد الروحي والنفسي للمجتمع
الشيعي، بالمستوى المناسب لعظمة هذه الشخصيَّة الإلهيَّة، وعظمة الدور المناط به.
بالتأكيد هناك أثرٌ واضحٌ للحضور الدائم للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في
يوميَّات الطائفة الشيعيَّة عبر القرون المختلفة، وقد أنعكس ذلك في التراث المهدوي
الشيعي، والذي يدلُّ على عمق الولاء وتجذُّر القضيَّة المهدويَّة في نفوس أبنائها.
منذ منتصف القرن الثالث الهجري وعلى مدى قرون عديدة انقضت من عمر الرسالة
الإسلاميَّة كانت شخصيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) محور هذا التاريخ ومركزه
باعتباره إمام الزمان، فالعلاقة جدُّ وثيقة بين المؤمنين وخاتم الأوصياء، وعلى هذا
الأساس وبدوافع عقائديَّة وتاريخيَّة وحضاريَّة كانت القضيَّة المهدويَّة
ميدان بحث
وتحقيق وتوثيق ودراسة، وقد بذل فيها المئات من العلماء جهوداً ضخمة منذ بداية القرن
الثالث الهجري وإلى يومنا، حتَّى غدا البحث في المهدويَّة ميداناً معرفيًّا له
مزاياه المنفردة، يغوص فيه الباحثون لاكتشاف نفائسه وأسراره.. وقد كان أتباع أهل
البيت (عليهم السلام) في الطليعة، ولهم الدور الأساس في ازدهار الثقافة المهدويَّة
وتألُّق مجدها وإبقاء أثرها في المعرفة الإنسانيَّة والفكر العالمي المزدحم بأُطُر
متنوِّعة من القِيَم والحضارات، ممَّا شكَّل ثروة تراثيَّة فكريَّة هائلة.
التعريف:
التعريف والمفهوم(١): (التراث المهدوي الشيعي) مصطلح شامل يتَّسع لكلِّ ما له علاقة
بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من نصوص القرآن والسُّنَّة واجتهادات العلماء،
وهو لا يقتصر بالضرورة على الإنتاج المعرفي، بل يتَّسع ليشمل كلَّ ما خلَّفه الشيعة
عبر العصور من أشكال متعدِّدة ثقافيَّة وفنّيَّة وفكريَّة، وبشتَّى اللغات، وفي
كلِّ بقعة من بقاع الأرض.. وبعبارة مختصرة: هو السجلُّ الكامل للنشاط الشيعي في
مجال القضيَّة المهدويَّة.
إنَّ التراث المهدوي الشيعي تتَّضح أبرز صوره في الكُتُب والمصنَّفات وضروب التأليف
التي تُعطي انطباعاً كبيراً عن أهمّيَّة القضيَّة المهدويَّة، والمحاضرات
الإسلاميَّة للعلماء والخطباء، والشعر المهدوي بشتَّى أشكاله، وفي العصر الحديث
الأفلام الوثائقيَّة المهدويَّة، بالإضافة للأشكال الأُخرى من أنواع التراث، ممَّا
كان له بالغ الأثر في المحافظة على المهدويَّة الأصيلة وصونها من الانحراف والتضليل
والتهميش.
-----------------
(١) التراث بشكلٍ عامٍّ هو الهويَّة الثقافيَّة للأُمَم.
قبل بدء البحث:
تواجه الباحث والمحقِّق حول التراث المهدوي الشيعي مصاعب جمَّة وعقبات كبيرة، من
قبيل أنَّ المعلومات والبيانات المتوفِّرة حول هذا الموضوع لا يمكن أنْ تكون وافية
لدراسة قائمة على الموضوعيَّة ومنهج البحث العلمي، وذلك للأسباب التالية:
١ - الكُتُب والمصنَّفات الشيعيَّة القديمة التي كُتِبَت في مجال العقيدة
المهدويَّة تكاد تكون كلُّها مفقودة، وإنَّ معظم التراث المهدوي الشيعي في مرحلة
الإسلام الأوَّل وكذلك في عصر الغيبة الصغرى قد ضاع تماماً، وبشكل متعمِّد بفعل
الأيدي الآثمة، ولا نجد في عصرنا الحالي إليه سبيلاً.
٢ - محاربة السُّلُطات الحاكمة الظالمة للعقيدة المهدويَّة، ومحاولة تحريف
مفاهيمها، كونها تُمثِّل التهديد الحقيقي لتلك الأنظمة، وبالخصوص في فترة ظهور
المهدويَّة إبَّان الدولة العبَّاسيَّة، ممَّا دفعها لاتِّخاذ بعض الإجراءات بمنع
تدوين أيِّ حديث شريف أو كتابة أيِّ شيء له علاقة بالمهدي.. إضافةً إلى ذلك انحياز
معظم الحكومات قديماً وحديثاً إلى مذهبها الدِّيني والعقدي، فنرى بعض البلدان التي
تأخذ بمذهب معيَّن، تُؤكِّد على مذهبها وتنشر كُتُب المتون والشروح حوله، وتُلغي
لصالحه تراث الفِرَق الإسلاميَّة الأُخرى، ويصل منطق الإلغاء والتغييب إلى حدِّ
الحظر والمنع لكُتُب المذاهب والأُطروحات المختلفة، ممَّا أثَّر سلباً على التراث
المهدوي الشيعي.
٣ - أنَّ ممَّا يزيد مشقَّة الباحث في دراسة شاملة عن التراث المهدوي، انعدام أو
قلَّة توفُّر الدراسات المهدويَّة التاريخيَّة المتخصِّصة، والتي تواكب التغيُّرات
التي طرأت على التراث في العصور المختلفة، كذلك عند دراسة الظروف المرتبطة
والمؤثِّرة في الثقافة المهدويَّة في زمن معيَّن، يتطلَّب التعرُّف على
البيئة الفكريَّة
والسياسيَّة والاجتماعيَّة وخصائص الظرف التاريخي لتلك الفترة، والتي يصعب جمعها
وتحليلها بشكل موضوعي، ممَّا يجعل ذلك تحدّياً رئيسيًّا في هذا الإطار.
٤ - استغلال أعداء الإسلام الواقع النفسي السيِّئ للمجتمع الإسلامي، فيعملون خلف
الستار بتبنِّي ونشر وترويج بعض ملابسات المشكِّكين في العقيدة المهدويَّة، وذلك
بدعم ومساندة الحركات المنحرفة كالبابيَّة والبهائيَّة والقاديانيَّة والأحمديَّة،
وكذلك الحركات المشبوهة حديثاً كمدَّعين للسفارة حاليًّا، فأنتجت هذه الجماعات بعض
الكتابات التي ترتبط بالشأن المهدوي كُتِبَت بأقلام مشبوهة تُسوِّق لأفكارها
المنحرفة، فتداخلت بشكل خفي وخطير مع تراثنا، ممَّا يجعلنا بحاجة إلى تصفية التراث
وخاصَّةً في العصر الحديث.
٥ - من الأسباب التي تردع الباحثين عن سبر أغوار هذا التراث هي تعدُّد اللغات
المكتوب بها، نظراً لانتشار الإسلام على رقعة واسعة من الأرض، ومع أنَّ معظم التراث
المهدوي كُتُب باللغة العربيَّة إلَّا أنَّ جزءاً غير بسيط قد كُتِبَ باللغات
الأُخرى للشعوب الإسلاميَّة وخاصَّةً في العصور المتأخِّرة.. وهذا الأمر مهمٌّ
نظراً لأنَّ هناك العديد من المخطوطات التي كُتِبَت أو تمَّ طباعتها بعد ترجمتها
إلى هذه اللغات، وهي تُعتبَر مراجع مهمَّة في دراسة التراث المهدوي.
من هنا نلاحظ أنَّ البحث حول التراث المهدوي بالغ العُسر، فإنَّ ما في متناول
أيدينا من أو عن التراث المهدوي لا يُعطينا معلومات شاملة وافية عنه.. حيث إنَّ
الكثير من كُتُب التراث المهدوي الشيعي القديمة مفقوداً وضائعاً ومجهولاً.
الهدف من الدراسة:
إنَّ ملامح الثقافة المهدويَّة المعاصرة تشكَّلت من المفاهيم والأفكار الإسلاميَّة
الأصيلة التي بُنِيَ عليها أُسُسه، ومن التراث المهدوي الواسع الذي تواصلت معه
وانطلقت منه.. لذا انبثقت هذه الدراسة للتعريف بتاريخ التراث المهدوي الشيعي، ومدى
استجابة التغيُّرات والمستجدَّات فيه لمتطلِّبات كلِّ مرحلة تاريخيَّة، وسيكون
تركيزنا فيها على نقطتين جوهريَّتين:
أوَّلاً: إعطاء رؤية واضحة عن التراث المهدوي الشيعي، ومجرى الأحداث التاريخيَّة
المؤثِّرة في مسيرة القضيَّة المهدويَّة، ليتَّضح لنا الأزمنة الفكريَّة التي مرَّ
بها التراث، والمؤثِّرات الجوهريَّة على النتاج الثقافي المهدوي لكلِّ مرحلة.
ثانياً: استقراء التطوُّر المعرفي في التراث المهدوي الشيعي على ضوء المسار
التاريخي، وسيكون معيارنا في رصد التطوُّر في المنظومة الفكريَّة المهدويَّة هو
المنهج العلمي المتَّبع في كلِّ مرحلة تاريخيَّة، وسنُركِّز على منهجين: المنهج
الروائي والمنهج العقلي، ومدى اتِّساع استخدام كلِّ منهج في مصنَّفات الفترات
الزمنيَّة المختلفة.
ورغم أهمّيَّة هذا الموضوع في الثقافة المهدويَّة إلَّا أنَّه لم ينل نصيبه من
اهتمام الباحثين والمختصِّين الشيعة إلَّا قليلاً.. ونحن ليس في مقام الرصد
والاستقصاء لكلِّ المصنَّفات والكتابات التي عنيت بالقضيَّة المهدويَّة، إنَّما
نحاول إعطاء قراءة سريعة وتسليط الضوء على بعض النشاطات الفكريَّة في تلك المراحل
المتعاقبة من التاريخ الثقافي الإمامي، وإبراز المساهمات المميَّزة المرتبطة بالشأن
المهدوي لرجال الفكر أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
لم تكن النيَّة فقط لعرض أفكار العلماء الشيعة، بل الحرص ينصبُّ على فهم الواقع
الذي عاشت فيه وانبثقت منه هذه الأفكار، إذن الغاية من البحث
والدراسة هو
التعرُّف على التحوُّلات الفكريَّة في الأُمَّة الإسلاميَّة في مبدأ الإمامة
وبالأخصِّ في الإمامة الخاتمة (المهدوية)، والمستجدَّات المتعلِّق بالتراث المهدوي
وفتح آفاق مستقبليَّة.
إنَّ من إحدى غايات هذه الدراسة هو سدُّ حاجة المكتبة الإسلاميَّة من هذه الكُتُب،
نظراً لأنَّ مصنَّفات كلِّ مرحلة في العموم تتعرَّض لخصوصيَّات معيَّنة دون الإشارة
إلى الواقع المعاصر للأفكار أو الأوضاع السياسيَّة السائدة، بالإضافة إلى أنَّ هناك
ارتباطاً وثيقاً بين الأفكار والمعارف المهدويَّة المطروحة وبين الواقع السياسي
الذي يعيشه الشيعة في تلك المرحلة.. هذا ما نجده من أنَّ معظم كتابات العلماء
الأوائل كان اهتمامهم الأساسي مُنصبًّا على قضايا الإمامة والغيبة وما يرتبط بها من
مسائل وتفريعات، ويشابه في ذلك ما نلاحظه في الوقت الحاضر من كثرة الكتابات
المرتبطة بالانتظار والاهتمام بالمستقبل والمتمثِّلة بإبراز علامات الظهور وأخبار
الملاحم والفتن، ولذلك فالمعرفة والثقافة المهدويَّة ارتبطت بالظروف السياسيَّة
للأُمَّة الإسلاميَّة، وبالحاجة لتوجُّهات فكريَّة معيَّنة.
وعليه فإنَّ هذه الدراسة تسعى إلى عرض الأفكار المرتبطة بالمخلِّص (الإمام المهدي)
السائدة في العصور التاريخيَّة المختلفة، وكذلك عرض الأوضاع السياسيَّة والحرّيَّة
الفكريَّة المؤثِّرة في ذلك الوقت.
إحصائيَّات عن التراث المهدوي
الشيعي:
أهمُّ ما يُميِّز أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) على طول التاريخ هو
حضاريَّة الفكر والممارسة والموقف، فقد انحاز الشيعة إلى العلم وحرّيَّة الرأي،
ووصلوا إلى مكانة رفيعة في خدمة الإسلام، وذلك لإيمانهم بأنَّ الإسلام يقوى وينتشر
بالعلم، وبإتاحة
الفرصة والحرّيَّة لعلماء المسلمين بمختلف فِرَقهم ومذاهبهم للتعبير عن رأيهم،
ممَّا شكَّل تراثاً ثقافيًّا ضخماً يتناول شتَّى فروع المعرفة.. فقد اهتمَّت مدرسة
أهل البيت (عليهم السلام) اهتماماً كثيراً بآليَّة المعرفة، وبالأخصِّ فيما يرجع
إلى تدوين العلوم والمعارف والأحاديث الشريفة، ممَّا كان له بالغ الأثر في دور
النهوض الفكري والمعرفي، والارتقاء بالمشهد الثقافي الإسلامي.
وبنظرة سريعة وبتتبُّع موجز نجد أنَّ الكُتُب والدراسات المهدويَّة تحتلُّ مساحة
واسعة من البحوث والتقصِّي المعرفي، فالمكتبة المهدويَّة خزانة عظيمة متشعِّبة
الأبعاد ومتعدِّدة الجوانب، ومن أجل تسليط الضوء على أهمّيَّة التراث المهدوي وحجمه
وغزارته، نودُّ الإشارة إلى ما وقع في أيدينا من المراجع التاريخيَّة والتي تفصح عن
حجم التراث الثقافي المهدوي، وتُعطينا فكرة عن تصانيف علماء الشيعة عبر مراحل
التاريخ.. فمن قبل ولادته (عجَّل الله فرجه) تمَّ تدوين عدد من الكُتُب عن موضوع
الغيبة وللأسف ضاع معظمها، فما زال علماء الشيعة عبر القرون وفي كلِّ عام وإلى
وقتنا الحاضر يُؤكِّدون على أهمّيَّة المشروع الإلهي المهدوي ومن جميع جوانب الفكر
والثقافة وعلى كافَّة الأصعدة، بكتابة المصنَّفات والبحوث وإلقاء الشعر والدروس
والنصح والإرشاد تأسّياً بالأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا يجعل دائرة
ما يُدوَّن في الثقافة المهدويَّة والمعلومات المرتبطة بها واسعة جداً.. وباستعراض
بعض البيانات الإحصائيَّة نعرف حجم التراث المهدوي وسعته:
أوَّلاً: إحصائيَّات عن المهدي في
القرآن الكريم:
إنَّ الآيات القرآنيَّة المفسَّرة والمؤوَّلة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
حسب ما ورد في الأحاديث الشريفة كثيرة جدًّا، ومن أراد التوسعة والاطِّلاع
تفصيليًّا يمكن مراجعة الموسوعات والكُتُب التالية(٢):
-----------------
(٢) النور الغائب (ص ٥٤).
* المهدي في
القرآن، للسيِّد صادق الشيرازي، وقد ذكر فيه (١٠٦) آية شريفة.
* إلزام الناصب في إثبات الحجَّة الغائب، للشيخ عليٍّ اليزدي الحائري، وقد ذكر فيه
(١٣٣) آية شريفة.
* المحجَّة فيما نزل في القائم الحجَّة، للسيِّد هاشم البحراني، وقد ذكر فيه (١٢٠)
آية شريفة.
* معجم أحاديث الإمام المهدي، المجلَّد السابع، للهيأة العلميَّة في مؤسَّسة
المعارف الإسلاميَّة، وقد ذكر فيه (٢٢٠) آية شريفة.
وهذه مجرَّد أمثلة، وهناك مصادر ومصنَّفات عديدة في هذا المجال يمكن الرجوع إليها.
ثانياً: إحصائيَّات عن المهدي في
السُّنَّة الشريفة:
الناظر في أُمَّهات المراجع الحديثيَّة (الروائيَّة) والتفسيريَّة لكلِّ المذاهب
الإسلاميَّة يعلم دون شكٍّ أنَّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) أوَّل مَنْ طرح
موضوع المهدي المنتظَر في الإسلام، وتحدَّث عن اسمه وهويَّته ونَسَبه وأحواله
وعلامات ظهوره ودولته، وهكذا نجد أنَّ مصنَّفات حديثيَّة كثيرة قد خصَّصت فيها
فصلاً مستقلًّا عن المهدي المنتظَر، فهناك ما يربو على (١٥٠) كتاباً ورسالةً يُذكر
فيها العشرات أو المئات من الأحاديث المرويَّة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
وأهل بيته (عليهم السلام) في شأن المهدي(٣).. وللاطِّلاع عليها وأخذ نبذة عن
بياناتها وإحصائيَّاتها يمكن مراجعة الكُتُب والموسوعات التالية(٤):
* معجم أحاديث الإمام المهدي، الطبعة الثانية، ثمانية مجلَّدات، ذكر ما
-----------------
(٣) أصالة
المهدويَّة في الإسلام (ص ٨).
(٤) رؤى مهدويَّة (ص ٩٧ و٩٨).
مجموعه (١٨٦١)
حديثاً متعلِّق بالمهدي، حيث استُخرِجَت من مصادر مختلفة أكثر من (٤٠٠) مصدر(٥).
* منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر، للشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني، أحصى عدد
(٥٣٠٣) حديثاً ممَّا رواه الفريقان في موضوع المهدي.
* كتاب المهدي، للسيِّد صدر الدِّين الصدر، نقل فيه (٤٠٠) حديثاً عن النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله) رواها أهل العامَّة في كُتُبهم ومصادرهم الحديثيَّة توافق الأحاديث
التي رواها أتباع أهل البيت (عليهم السلام).
* كتابنا الفجر المقدَّس(٦)، أشرنا فيه لإحصائيَّة كبيرة حول هويَّة ونَسَب الإمام
المهدي تفوق (٤٠٠٠) حديثاً.
وهذه مجرَّد أمثلة أشرنا إليها، وغيرها الكثير من المصنَّفات الحديثيَّة يمكن
الرجوع والاطِّلاع عليها في هذا المجال.
ثالثاً: إحصائيَّات عن الكُتُب
التي تتعلَّق بالمهدي:
كثيرة هي الكُتُب التي تتحدَّث عن صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)، وعندما جلنا في
هذا العالَم وجدناه غنيًّا حافلاً ينضح بكلِّ ما يتوق إليه الباحث، فبعض تلك
الكُتُب مضى على تأليفها عدَّة قرون وبعضها كتبها معاصرون، بما فيها كُتُب أُلِّفت
قبل ولادة الإمام (٢٥٥هـ)، وأنَّ المؤلِّف توفَّى قبل هذا التاريخ بسنيين، ككتاب
(الغيبة) لأبي الحسن بن عليِّ بن فضَّال توفَّى (٢٢٤هـ)(٧)، وكتاب (الفتن) لنعيم بن
حمَّاد الخزاعي المروزي المتوفَّى سنة (٢٢٩هـ)(٨)، وكتاب
-----------------
(٥) معجم أحاديث
الإمام المهدي (ج ١/ ص ٦).
(٦) الفجر المقدَّس (ص ٢٨ و٢٩).
(٧) المهدي المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة (ص ١٨ و١٩).
(٨) الفتن لنعيم بن حمَّاد المروزي (ت ٢٢٩هـ/ ٨٤٤م).
(المسند) لأحمد
بن حنبل (١٦٠ - ٢٤٠هـ) وفيه (١٣٦) حديثاً يتعلَّق بالمهدي المنتظَر(٩)، وكُتُب
الفضل بن شاذان المتوفَّى (٢٥٨ أو ٢٦٠هـ) التالية(١٠): القائم، الغيبة، الرجعة
وأحاديثها.. وعليه فابتداءً من النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وإلى يومنا
هذا، فقد كُتِبَ وتُرجم ما يزيد على ألفي كتاب مرتبط بالشأن المهدوي، وذلك باللغة
العربيَّة وبلغات أُخرى مختلفة ينطق بها المسلمون، وقد كتبها(١١) علماء المدرستين
الشيعة والسُّنَّة.
عندما نتتبَّع ما كُتِبَ في القضيَّة المهدويَّة وممَّا وُجِدَ في المكتبات أو
دُوِّن في الفهارس والمعاجم، فإنَّ ما صُنِّف في ذلك عبر القرون لا يكاد يُحصى،
وهذه الأرقام للتوضيح:
* بيانات كتاب (اقرأ حول الإمام المهدي)، فقد دُوِّن فيه أسماء الكُتُب التي
أُلِّفت حول إمام الزمان (عجَّل الله فرجه)، واشتملت الفهرسة على (٧٤٤) كتاباً مع
ذكر عنوان الكتاب والمؤلِّف وتاريخ الطبع، وقد أُشير في مقدَّمة الكتاب إلى النقاط
التالية:
١ - الكُتُب المذكورة في الفهرس كلُّها باللغة العربيَّة.
٢ - لا ندَّعي أنَّنا ذكرنا أسماء كلِّ الكُتُب التي كُتِبَت في هذا الميدان، بل
إنَّنا أدرجنا ما استطعنا الوصول إليه(١٢).
* بيانات (معجم ما كُتِبَ عن الرسول وأهل البيت (عليهم السلام))(١٣)، نجده يتضمَّن
معلومات كافية عن (١١٤٤) كتاب من تصنيف رقم (٢٢٢١٨) إلى
-----------------
(٩) اقرأ حول
الإمام المهدي (ص ١٨).
(١٠) المهدي المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة (ص ٢١ و٢٢).
(١١) أصالة المهدويَّة في الإسلام (ص ٩).
(١٢) اقرأ حول الإمام المهدي (ص ١٤).
(١٣) معجم ما كُتِبَ عن الرسول وأهل البيت (عليهم السلام) (ج ٩/ القسم ١٤).
رقم (٢٣٣٦٢)
مجموع ما أحصاه المؤلِّف عن الإمام (م ح م د) بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرجه)،
ويمتاز هذا المعجم عن غيره في سعة حجمه وكثرة عناوينه، فهو لم يقتصر على الكُتُب
والدراسات المستقلَّة التي كُتِبَت عن الإمام، بل اعتنى بتوثيق ما نُشِرَ في
المؤتمرات والندوات والدوريَّات وبلغات مختلفة، وقد اعترف الأُستاذ الرفاعي بأنَّه
ربَّما فاتته بعض المصادر حتَّى وقت كتابة المعجم.
* اعتنى مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بطبع
موسوعة متنوِّعة حول القضيَّة المهدويَّة، تحت عنوان (الإمام المهدي في مصادر علماء
الشيعة، من القرن الثاني الهجري إلى القرن الحادي عشر)(١٤)، وذلك بتجميع (٦٠) بحثاً
ودراسةً لم تُطبَع مستقلَّة، بل طُبِعَت ودُمِجَت مع بحوث أُخرى ضمن الموسوعات
العقائديَّة والروائيَّة لعلمائنا الأعلام.
ربَّما يستكثر بعض الأفراد عندما يرى مئات الكُتُب المؤلَّفة في الشأن المهدوي، مع
شدَّة المحنة ومعارضة الحكم السياسي القائم في أغلب أطوار التاريخ الإسلامي.. ولكن
الواقع أنَّ هناك تفريطاً وتقصيراً في هذا المجال، فالبخاري ومسلم مثلاً لم يذكرا
في صحيحيهما ولا رواية واحدة صريحة عن المهدي (عجَّل الله فرجه).. ومن جهة أُخرى لم
تقتصر الثقافة المهدويَّة على الشيعة وحدهم، بل شارك أهل العامَّة في رفد التراث
المهدوي الإسلامي بما يُؤكِّد أهمّيَّة الأمر وضرورة تشكيل العقليَّة الإسلاميَّة
المتكاملة.
رابعاً: إحصائيَّات متنوِّعة
تتعلَّق بالمهدي:
تراث حضاري كبير يتعلَّق بشأن المنقذ والمخلِّص، قديماً من أعماق التاريخ، وحديثاً
من رفوف الفلسفة الغربيَّة، ومن كافَّة الأديان والمذاهب السماويَّة وغيرها، وفي
جميع الجوانب الفكريَّة وعلى كافَّة الأساليب والوسائل
-----------------
(١٤) الطبعة الأُولى (١٤٣٠هـ)، ثلاثة مجلَّدات.
المتنوِّعة:
كُتُب وشعر، خطابة ودروس، عقيدة وفكر، وهكذا يتنوَّع التراث الإنساني فيما يخصُّ
المنجي الموعود، وحتماً لا نستغرب من أهمّيَّة هذا الموضوع للبشريَّة كافَّة، فهو
النهاية الطبيعيَّة لمسار التاريخ الإنساني، وما هذه الأرقام إلَّا توضيح لحجم هذا
التراث:
* معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(١٥)، ذكر بشارات الأديان والكُتُب
السماويَّة وغيرها، وقد أحصيناها فاشتملت على الآتي:
١ - العهد القديم: أشار إلى المخلِّص في (٥٤) نصٍّ.
٢ - العهد الجديد: أشار إلى المنقذ في (٤٥) نصٍّ.
٣ - كُتُب الهندوس: أشارت إلى الموعود (٧) مرَّات.
٤ - كُتُب الزرادشتيَّة: أشارت إلى المنجي (٦) مرَّات.
إشارات صريحة ورمزيَّة للمستقبل المشرق الذي ينتظر البشريَّة في آخر الزمان، على يد
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وإنِ اختلف الاسم والنعت.
* الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة(١٦): هذا المصنَّف المميَّز والفريد من نوعه،
والذي أخذ موقعه الطبيعي في مكتبة الثقافة والأدب الإنساني، والتي تحتوي على عدد
كبير وضخم جدًّا من القصائد الشعريَّة المهدويَّة بقسميه الفصيح والشعبي، فقد ذكرت
(١٧٦٣) قصيدةً لـ (٥٩٢) شاعراً، اشتملت على الآتي:
١ - قصائد الشعر الفصيح: (١١٣٨) قصيدة لـ (٤٠٩) شاعر.
٢ - قصائد الشعر الشعبي: (٥٥٧) قصيدة لـ (١٤٣) شاعر.
٣ - قصائد الأناشيد والجلوات: (٦٨) قصيدة لـ (٤٠) شاعر.
-----------------
(١٥) معجم أحاديث
الإمام المهدي (ج ١/ قسم بشارات الأديان).
(١٦) الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة، الطبعة الأُولى، عشرة مجلَّدات.
* الموقع
الإلكتروني(١٧) لمركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)،
يحتوي على الكثير من حقول التوعية المهدويَّة وبأشكال متنوِّعة، وهي بمجموعها تضاف
إلى قائمة التراث المهدوي الشيعي:
١ - المكتبة الصوتيَّة تحتوي على (٣٦٩٠) ملفاً صوتياً مهدوياً.
٢ - المكتبة المرئيَّة تحتوي على (٣٠٧٣) ملفاً فيديوياً مهدوياً.
٣ - قسم المقالات يحتوي على (٨٦٦) مقالة ترتبط بالشأن المهدوي.
٤ - معرض الصور والتصاميم المهدويَّة (٤٠٣٦) صورة مهدوية.
٥ - قسم الأسئلة والأجوبة المهدويَّة (١٣٣٤) سؤالاً وجواباً مهدوياً.
بالإضافة للأُمور الأُخرى كالمسابقات والقَصَص والألعاب، ممَّا يمكننا أنْ نضيفه
إلى أحد فروع التراث المهدوي الشيعي.
لا أظنُّ أحداً يشكُّ في أهمّيَّة (البيلوغرافيا)(١٨)، هذا العلم الذي أصبح اليوم
منهجاً في البحث العلمي، ومادَّةً دراسيَّة في جامعات العالم.. آملين من عرض هذه
المعلومات والبيانات والإحصائيَّات الموجزة والمختصرة، أنْ تُعطي فكرة عامَّة عن
مكانة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند المسلمين وفي فضاء الثقافة الدِّينيَّة
والإنسانيَّة، وأنْ يُقدِّم صورة حقيقيَّة عن الإنتاج الثقافي المرتبط بالقضيَّة
المهدويَّة في التراث الفكري والأدبي الشيعي، والحجم الهائل لهذا التراث، الذي يعكس
ويختزل أبعاداً روحيَّة وفكريَّة ودينيَّة عميقة، ويُجسِّد مصداقيَّة التعاطي
العملي مع القضيَّة المهدويَّة، وتعزيز ثقافتها ورفد معرفتها بشكل لا يمكن تجاهله.
من هنا نقول: ليس من السهل على الباحث أنْ يجد طريقة عبر هذا الثراء
-----------------
(١٧) الإحصائيَّات أُخِذَت من الموقع بتاريخ (٩/ربيع الأوَّل/١٤٣٩هـ) الموافق (٧/يناير/٢٠١٨م).
(١٨) البيلوغرافيا: تعني البيانات المتعلِّقة بالكُتُب مثل اسم المؤلِّف والعنوان والطبعة وعدد الصفحات، ووصف الكُتُب وترتيبها وفهرستها.
الفكري، بأنْ
يدرس ويتتبَّع مراحل تطوُّر هذا التراث المهدوي عبر مراحل التاريخ الإسلامي، وذلك
للحجم الهائل لهذا النتاج الإنساني في هذا المجال وتشعُّب فروعه، بالإضافة لضياع
الكثير من المخطوطات الأساسيَّة الهامَّة كتوقيعات الناحية المقدَّسة، أو
المصنَّفات التي دُوِّنت قبل ولادته (عجَّل الله فرجه).
تكامل فكرة المخلِّص في التراث
الإنساني:
إنَّ المهدويَّة كعقيدة ومنهج ربَّاني وُجِدَت من بداية تاريخ البشريَّة، منذ وجود
آدم في الجنَّة، فعندما خاطب الله (جلَّ وعلا) إبليس اللعين وقال له: ﴿قَالَ
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ (الحجر: ٣٦ -
٣٨)(١٩)، الوقت المعلوم: أي وقت ظهور المهدي، فكان هذا الخطاب يشير للمهدويَّة قبل
أنْ تُخلَق البشريَّة من نسل آدم (عليه السلام)، ومستقبلاً فإنَّ المهدويَّة باقية
إلى يوم القيامة حيث نهاية المطاف ستؤول الأُمور في الأرض إلى المتَّقين الصالحين،
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ
الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء:
١٠٥)(٢٠)، فالسؤال الذي يُثير اهتمامنا: المهدويَّة منذ جنَّة آدم وإلى يوم القيامة
هل تغيَّرت أو تطوَّرت أو تبدَّلت؟.. أم أنَّ فهمنا لها هو الذي تغيَّر وتطوَّر،
وفكرنا وإدراكنا بدأ يستوعب مفاهيم المهدويَّة أكثر فأكثر؟.. ما هي أهمُّ مراحل هذا
التطوُّر في تكامل فكرة المخلِّص في التاريخ البشري؟.. علماً بأنَّها كعقيدة
ربَّانيَّة واحدة ثابتة لا تتغيَّر، ولكن فكر الإنسان هو الذي يتطوَّر في استيعابها
وفهمها، مثل (القرآن الكريم)
-----------------
(١٩) عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى اَلرِّضَا (عليه السلام): «... ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾، وَهُوَ يَوْمُ خُرُوجِ قَائِمِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ...». كمال الدِّين (ص ٣٧١ و٣٧٢/ باب ٣٥/ ح ٥).
(٢٠) عَنِ اَلْإِمَامِ اَلْبَاقِرِ (عليه السلام): «﴿عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) وَأَصْحَابُهُ...». تفسير القمِّي (ج ٢/ ص ٧٧).
منذ نزوله على
الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وإلى يوم القيامة هو نفسه ثابت محفوظ لا
يتغيَّر، ولكن تفسيرنا وفهمنا له يتغيَّر ويتطوَّر مع مرور الزمن.. كذلك العقيدة
المهدويَّة بما هي حقائق لا تتغيَّر، إنَّما التطوُّر يكون في فهم هذه الحقائق في
إطار السقف الفكري والمعرفي لكلِّ مرحلة وجيل، فإدراك حقيقة المهدويَّة يتطلَّب
مراعاة تطوُّر الذهن البشري، وفي كلِّ مرحلة تاريخيَّة استيعاب ما يمكن إدراكه من
مفاهيمها ومعارفها.
إنَّ دراسة التراث المهدوي الإنساني والتغيُّرات التي طرأت عليه عبر مراحل التاريخ
يُعطينا فكرة واضحة عن تطوُّر فهمنا واستيعابنا للمهدويَّة، ولكن عقلنا يظلُّ
قاصراً للإحاطة بجميع جوانبها حيث يُخيِّم عليه حاليًّا ضباب وحجاب (الغيبة)، وبشكل
موجز يمكن رؤيتها كما في العصور التالية:
* في العصور التي قبل الإسلام كانوا ينظرون للمخلِّص (المهدي) من ناحية فلسفيَّة
ونظريَّة بحتة، فهي إحدى الأُمنيات الكبرى للشعوب المضطهدة، فتظلُّ في نظرهم
أفكاراً وأحلاماً مستقبليَّة يتمنَّون تطبيقها، باعتبارها حاجة فطريَّة بشريَّة
وضرورة إنسانيَّة، قد بشَّرت بها الديانات السماويَّة ونظَّرت لها الأُطروحات
والفلسفات البشريَّة التي تحلم بمستقبل زاهر وسعيد للبشريَّة، دون الإشارة إلى
تفاصيل ذلك المستقبل.
* في العصر الإسلامي بدأت ملامح المهدويَّة تتَّضح، وبدأنا نعرف شخصيَّة القائد (م
ح م د بن الإمام العسكري)، فهويَّته ونَسَبه وخصائصه واضحة بالنسبة لنا، ومنذ عام
(٢٥٥هـ) بدأنا نشعر بفضل وجوده، فبلغت فكرة المخلِّص أوجها، ومُنِحَت كلُّ الأبعاد
وكلُّ التفاصيل الجديدة، فالموعود الإسلامي هو المصداق الحقيقي والوحيد لمفهوم
المخلِّص العالمي بأشمل صورة، والرؤية الإسلاميَّة الإماميَّة هي الرؤية
الواقعيَّة.
* في عصرنا
الحالي بدأنا نفهم بعض معالم وسمات عهده الميمون، وخصائص وامتيازات عصره المتألِّق
بالسعادة والأمان، وأصبحنا نُدرك معنى الدولة العالميَّة الواحدة وبعض طُرُق
وأساليب الإدارة والقضاء والصحَّة والاتِّصال فيها، ونفهم ونؤمن بالمستقبل المشرق
للبشريَّة على يد القائد الإلهي الموعود، بعكس النظرة التشاؤميَّة السوداويَّة
لفلاسفة ومنظِّري الغرب.. ولكن رؤيتنا لحقيقة المهدويَّة تظلُّ قاصرة أيضاً يُخيِّم
عليها حجاب الغيبة، فنحن أقرب للنظري والفلسفي منه للتطبيقي والعملي.
* في عصر الظهور وظلِّ الدولة الفاضلة سيكون فهم البشريَّة لحقيقة المهدويَّة من
خلال الواقع الميداني، فحينما يعيشون في كنف الإمام (عجَّل الله فرجه) ويشاهدون
انتشار التوحيد والعدل على كافَّة المعمورة، ويشعرون بنتائج التقدُّم العلمي في
كلِّ الأصعدة المادّيَّة والمعنويَّة، حينها سيكون إدراكهم للمهدويَّة أكثر منَّا..
أمَّا نحن في زمن الغيبة الكبرى فمهما كان حظُّنا من عمق في الرؤية وبُعد في الفكر
والعقل سيكون بالتأكيد إدراكنا واستيعابنا لحقيقة المهدويَّة محدوداً وقاصراً.
مراحل تطوُّر التراث المهدوي:
من المهمِّ أنْ لا ننسى ونحن ندرس مراحل أو أطوار التراث المهدوي وبالخصوص الجانب
الشيعي منه بأنَّ السياسات التي تمارسها السلطات الحاكمة والعقيدة الدِّينيَّة التي
تتبنَّاها؛ لها تأثير عميق على ثقافة المجتمع، وأنَّ تفاعل العلماء على مرِّ العصور
التاريخيَّة مع ما كان متاحاً من الحرّيَّة الفكريَّة واضح الأثر في كتاباتهم
ونتاجهم الفكري والمعرفي.. فالعلماء أقدر على البوح بمكنون فكرهم والتعبير عن
عقيدتهم متى ما سنحت لهم الفرصة، وهكذا نجد أنَّ البحوث والكتابات المهدويَّة في
بعض مراحل التاريخ ينتزعها العلماء خلسةً في
غياب
الرقيب المتمثِّل في الهجمة الفكريَّة السلطويَّة المعادية، وفي خضمِّ هذا الصراع
الفكري الخطير يقفز علماء الشيعة في محاولات استباقيَّة لإثراء الفكر الإنساني
بالثقافة المهدويَّة بأكثر تفاصيلها وبالحفاظ على أصالة العقيدة وترسيخها لدى
الأُمَّة.
إنَّ استقراء التطوُّر المعرفي في التراث الشيعي ومن خلال دراسة شاملة للكُتُب
المتعلِّقة بالشأن المهدوي وعلى ضوء المسار التاريخي، يمكن لنا التأكيد بأنَّ
ثقافتنا المرتبطة بالشأن المهدوي منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا مرَّت بمراحل
تحوُّلات كبيرة، علماً بأنَّه ليس بالضرورة تتبُّع التاريخ بكامله، حتَّى نتمكَّن
من التعرُّف على أهمّ الملامح أو التغييرات التاريخيَّة التي لها تأثير على مسار
المعارف المهدويَّة.. وسنقوم بالتعرُّف على المتغيَّرات في سياقات الثقافة
المهدويَّة، فمن خلال دراسة فترات تاريخيَّة متعاقبة وبحسب التسلسل الزمني، يمكن
أنْ نختزل هذه التغيُّرات والمستجدَّات أو بمعنى آخر التطوُّرات في تسعة أطوار
أساسيَّة محدَّدة المعالم بالغة التأثير، وأنْ نُقسِّمها إلى مراحل مختلفة، وهي:
١ - طُور الأُمنية.
٢ - طور التأسيس.
٣ - طور الواقع.
٤ - طور التأصيل.
٥ - طور الركود.
٦ - طور التفريع.
٧ - طور الدفاع.
٨ - طور التجديد.
٩ - طور التطبيق.
ولنتحدَّث بتفصيل مناسب وبعرض موجز عن كلِّ واحدٍ من هذه الأطوار وعن ثمرة كلِّ مرحلة مختلفة، ونُسلِّط الضوء على أبرز التطوُّرات الفكريَّة أو المستجدَّات التي طرأت على الثقافة المهدويَّة.
* * *
مرحلة ما قبل الإسلام (آدم (عليه
السلام) - البعثة ٦١٠م):
بدأت فكرة المخلِّص من أعماق التاريخ، من فجر الإنسان، من زمن أب البشر آدم (عليه
السلام) وقصَّته بالتحديد مع إبليس (السجود - الوقت المعلوم)، واستمرَّت الفكرة في
أُفُق الإنسانيَّة تتَّصل بمحطَّات مختلفة في كلِّ مراحل التاريخ، وبنظرة فاحصة
شاملة في تاريخنا البشري نجد أنَّ هذه الفكرة مفصليَّة ودقيقة تختزل في عقليَّة
الإنسان وتتطوَّر مع الزمن.. فمسألة المنقذ والمخلِّص من المواضيع البارزة في
المسيرة البشريَّة واهتماماتها المتَّصلة بالعدل، بل هي إحدى الأُمنيات الكبرى عند
الأنبياء والرُّسُل والشعوب والأُمَم منذ القِدَم.
لا شكَّ أنَّ الإيمان بحتميَّة ظهور المخلِّص وإقامة الدولة الفاضلة العادلة في
كلِّ الأرض من الأُمور المشتركة والمتَّفق عليها عند جميع الأديان السماويَّة، وهو
أمر شائع أيضاً عند الأُمَم القديمة والديانات والفلسفات البشريَّة.. وهذه الحقيقة
من المسلَّمات لمن درس عقيدة المخلِّص والتاريخ الدِّيني، فمن المؤكَّد عدم خلوِّ
ديانة من الديانات من فكرة المنجي، وأنَّ هذه الفكرة ماثلة باطِّراد في التراث
الدِّيني الإنساني، وهي قاسم مشترك بين أكثر الحضارات، كونها حاجة إنسانيَّة
فطريَّة ومبدأ يُجسِّد في نهاية المطاف إلى السعادة والرفاه، وهذا هو حلم
الإنسانيَّة الكبير.
إنَّ مبدأ المخلِّص عقيدة عريقة للغاية في التاريخ الدِّيني، فانتشار جذور هذه
الفكرة في جميع الأديان السماويَّة يدلُّ على قاعدة مشتركة رسَّخها الوحي الإلهي
فيها جميعاً، إذن المسألة المهدويَّة في الأصل فكرة دينيَّة سماويَّة منذ القِدَم.
بشارات الأديان القديمة:
إنَّ الإيمان بفكرة ظهور المصلح العالمي (المخلِّص أو المهدي) ثابتة عند جميع
الأديان السماويَّة وغير السماويَّة، ومدوَّنة في المصادر الدِّينيَّة المعتبرة
لديهم.. وإنَّ الينابيع التي تستقي منها الأديان عقائدها هي الوحي الإلهي، الذي
بشَّر منذ البدء بالمهدويَّة، ولذا جاءت بشائر وإشارات عديدة في الكُتُب السماويَّة
بهذا الخصوص، وقد حفل الكتاب المقدَّس(٢١) المتداول عند اليهود والنصارى بأنباء
المخلِّص الموعود وأخبار دولته الفاضلة.
التراث اليهودي (العهد
القديم)(٢٢):
الشعب اليهودي من قبل أنْ يُبعَث النبيُّ عيسى (عليه السلام) وبعد بعثته لا يزالون
ينتظرون موعودهم المؤمَّل، فهم لم يؤمنوا بالسيِّد المسيح (عليه السلام) ورسالته،
بل خُيِّل لهم بأنَّهم قتلوه وصلبوه، فموعودهم لم يظهر حتَّى الآن.
إذا تأمَّلنا في التراث اليهودي الدِّيني نجد فيه تصويراً لملامح ثلاثة منتظَرين:
السيِّد المسيح (عليه السلام) النبيِّ القادم، الرسول الأعظم محمّد (صلَّى الله
عليه وآله) النبيِّ الخاتم، الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) المخلِّص.. ومع وضوح
هذه الرؤية وتلك الملامح في آثار الديانة اليهوديَّة وأسفار التوراة وكُتُب أُخرى،
إلَّا أنَّ اليهود لم يؤمنوا بالمسيح (عليه السلام) ولا بالنبيِّ محمّد (صلَّى الله
عليه وآله)، وعليه فما زالوا منتظرين كلَّ البشائر
-----------------
(٢١) الكتاب
المقدَّس: يتكوَّن من مجموعة كُتُب تُسمَّى أسفاراً، ويعتقد اليهود والمسيحيُّون
أنَّها كُتِبَت بوحي وإلهام.. الكُتُب (٤٦) الأُولى مشتركة بين اليهود
والمسيحيِّين، يطلق عليها اليهود اسم التناخ، أمَّا المسيحيُّون فيُسَمُّونها العهد
القديم، ليضيفوا إليها (٢٧) كتاباً آخر يُشكِّلون العهد الجديد.
(٢٢) العهد القديم: الجزء الأكبر من الكتاب المقدَّس، ويحتوي على (٤٦) سفراً، وهي
عبارة عن جميع كُتُب اليهود، ويُعرَف عندهم باسم التناخ، وهو يحتوي على أسفار موسى
الخمسة )التوراة(، والأسفار التاريخيَّة، وأسفار الأنبياء والحكمة، كزبور داود.
والإشارات التي
وردت في نصوص كُتُبهم.. فإنَّ البشائر المذكورة في آثار اليهود الدِّينيَّة
واقعيَّة وصحيحة، وقد تحقَّق قسم منها والقسم الآخر سيتحقَّق، إلَّا أنَّ اليهود لم
يقبلوا منطق العقل والحقِّ والمعجزة لا من النبيِّ عيسى (عليه السلام) ولا من
الرسول المصطفى (صلَّى الله عليه وآله)، رغم الإشارات الصريحة بهذين النبيَّين
العظيمين التي وردت في كُتُبهم.. إلَّا أنَّهم سوف يقبلون بمنطق القوَّة والسطوة
القاهرة آخر الزمان للموعود الثالث (الإمام المهدي) وعدله، فقد ورد في روايات أهل
البيت (عليهم السلام) أنَّ جماعة من اليهود تلتفُّ حول الدجَّال وتسانده(٢٣).
هناك مجموعة من كُتُب وآثار اليهود الدِّينيَّة (العهد القديم/التوراة أو التناخ)
التي ورد فيها الحديث عن المخلِّص والمنتظَر الموعود، وهي كثيرة نذكر منها:
١ - التوراة: أسفار موسى الخمسة.
٢ - سفر دانيال.
٣ - زبور داود.
٤ - سفر حجي.
٥ - سفر زكريَّا.
٦ - سفر إشعياء.
٧ - سفر إرمياء.
٨ - أمثال سليمان.
لقد ورد في العهد القديم أقوال تؤكد فكرة المخلِّص، وقد بلغت النبؤات في هذا المجال
العشرات(٢٤)، وسنذكر بعضها كشواهد فقط:
-----------------
(٢٣) الإمام
المهدي في الأديان (ص ٧١ - ٧٣)، بتصرُّف.
(٢٤) من أراد التوسُّع والاطِّلاع على جميع البشارات حول المخلِّص، فليرجع إلى معجم
أحاديث الإمام المهدي (ج ١/ قسم بشارات الأديان).
* جاء في المزمور (٧٢) من زبور داود (عليه السلام) ما نصُّه: (اللَّهُمَّ أعطِ شريعتك للمَلِك، وعدلك لابن المَلِك، يدين شعبك بالعدل، ومساكينك بالحقِّ، تحمل الجبال سلاماً للشعب والآكام بالبرِّ، يقضي لمساكين الشعب، يُخلِّص بني البائسين ويسحق الظالم، يخشونك ما دامت الشمس وقدام القمر إلى دور فدور، ينزل مثل المطر على الجزاز، ومثل الغيوث الذارفة على الأرض، يشرق في أيَّامه الصديق، وكثرة السلام إلى أنْ يضمحلَّ القمر، ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض)(٢٥).. هذا النصُّ واضح المعالم في ذكر الرسول محمّد (صلَّى الله عليه وآله) صاحب شريعة الله إلى الناس كافَّة (شريعتك للمَلِك)، وفقرة (وعدلك لابن المَلِك) إشارة إلى المخلِّص الموعود الذي سيُقيم العدل في الأرض على أساس شريعة أبيه ويحكم العالم.. فسَّر اليهود(٢٦) بأنَّ المقصود بـ(المَلِك) في هذا المزمور هو نفسه نبيُّ الله داود (عليه السلام)، و(ابن المَلِك) ابنه سليمان، ولكن هذا ينافي الحقيقة، فكما هو معروف أنَّ النبيَّ داود لم يكن صاحب شريعة لكي يقول: (اللَّهُمَّ أعطِ شريعتك للمَلِك)، لأنَّه (عليه السلام) لم يأتِ بشريعة مستقلَّة، بل كان خاضعاً لشريعة موسى (عليه السلام).. كذلك ادِّعاء النصارى بأنَّ هذه البشارة قد وردت بحقِّ عيسى (عليه السلام) فإنَّه ادِّعاء باطل أيضاً، لأنَّ عيسى بن مريم (عليه السلام) لم يكن صاحب سلطة يحكم بها ولم يحكم ولا يوماً واحداً ولا خاض حرباً، حتَّى يُوصَف بالمَلِك، بالإضافة إلى أنَّه (عليه السلام) لم يكن له ابن، فهو لم يتزوَّج في حياته حتَّى يقال: (وعدلك لابن المَلِك).. وفي الحقيقة فإنَّ جميع الأوصاف الواردة في هذا المزمور (٧٢) تُعَدُّ من أقوى البشارات في حقِّ كلٍّ من رسول الله محمّد (صلَّى الله عليه وآله) الذي تمَّ التعبير عنه بالمَلِك، وإلى حفيده الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) المعبَّر عنه بابن المَلِك.
-----------------
(٢٥) الكتاب المقدَّس، العهد القديم (ص ٨٨٢/ المزمور ٧٢/ النصُّ ١ - ٨)؛ وفيه: (اللَّهُمَّ أعطِ أحكامك للمَلِك، وبرَّك لابن المَلِك).
(٢٦) الإمام المهدي في الأديان (ص ٨٠ و٨١)، بتصرُّف.
* جاء في الإصحاح
(١١) من سفر إشعياء ما نصُّه: (ويكون في ذلك اليوم سيرفع القائم راية للشعوب،
إيَّاه تطلب الأُمَم ويكون محلُّه مجداً)(٢٧).. ففي هذه الفقرة جاءت الإشارة إلى
الإمام بأحد ألقابه الذي اشتهر بها وهو (القائم)، وإنَّما سُمِّي بالقائم لقيامه
بالحقِّ كما في روايات أهل البيت (عليهم السلام)(٢٨)، وأنَّ شعوب العالم تنتظر عهده
الميمون. وفي هذا النصِّ دلالة أُخرى جديرة بالانتباه وهي أنَّ حركة الإمام (القائم
المهدي) عالميَّة، كما صرَّح بذلك القرآن وقبله الزبور.
* جاء في الإصحاح (٤٦) من سفر إرميا ما نصُّه: (اصعدي أيَّتها الخيل، وهيجي أيَّتها
المركبات، ولتخرج الأبطال...، فهذا اليوم للسيِّد ربِّ الجنود يوم نقمة للانتقام من
مبغضيه، فيأكل السيف ويشبع ويرتوي من دمهم، لأنَّ للسيِّد ربِّ الجنود ذبيحةً في
أرض الشمال عند نهر الفرات)(٢٩).. يُشير هذا النصُّ إلى واقعة عظيمة عند نهر
الفرات، حيث يُذبَح هناك أحد أولياء الله المقرَّبين، لأنَّ النصَّ ينسب هذه
الذبيحة إلى (الله) ممَّا يدلُّ على سموِّ مكانته ورفعة مقامه، وسيقوم وليٌّ لله
وهو (السيِّد ربُّ الجنود) بالانتقام لذبح هذا الوليِّ المقرَّب والأخذ بثأره،
ويقتل مبغضيه بعد معارك عنيفة يخوضها ضدَّهم.. ولم ينقل لنا التاريخ ولا الكُتُب
السماويَّة أنَّ هناك وليًّا لله ذُبِحَ عند الفرات غير الإمام الحسين ابن عليِّ بن
أبي طالب (عليهما السلام) والذي يأخذ بثأره هو
-----------------
(٢٧) الكتاب
المقدَّس، العهد القديم (ص ١٠٠٥ و١٠٠٦/ سفر إشعياء/ الإصحاح ١١/ النصُّ ١٠)؛ وفيه:
(ويكون في ذلك اليوم أنَّ أصل يسي القائم راية...).
(٢٨) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)،
قَالَ: «... وَإِنَّمَا سُمِّيَ اَلْقَائِمُ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى
أَمْرٍ قَدْ ضَلُّوا عَنْهُ، وَسُمِّيَ بِالْقَائِمِ لِقِيَامِهِ بِالْحَقِّ».
الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٨٣).
(٢٩) الكتاب المقدَّس، العهد القديم (ص ١١٥٠/ سفر إرميا/ الإصحاح ٤٦/ النصُّ ٩
و١٠).
ولده المهدي
(عجَّل الله فرجه)(٣٠)، فشعار المهدي المنتظَر حين خروجه: (يا لثارات الحسين)(٣١).
هذه شذرات من النصوص عن المخلِّص الموعود التي وردت في العهد القديم، وهناك نصوص
أُخرى عديدة (حوالي ٥٤ نصٍّ)(٣٢) أعرضنا عن ذكرها مخافة التطويل.
بشكلٍ عامٍّ: اليهود تمنَّوا أنْ يكون المخلِّص يهوديًّا من نسل داود، لذلك حاولوا
تأويل بعض النصوص وإخفاء البعض الآخر، لأنَّهم عرفوا أنَّ (المخلِّص) هو من نسل
إسماعيل (عليه السلام)، ووضعوا في أسفارهم علامات خروجه بشكل لا يمتُّ إلى الواقع
بصلة، بل هي مجموعة من الأُمنيات.
التراث المسيحي (العهد
الجديد)(٣٣):
لقد بشَّر النبيُّ عيسى (عليه السلام) بظهور نبيٍّ آخر الزمان وبأوصيائه الاثني
عشر، وبقي ذلك راسخاً في التراث المسيحي، وذلك يعود لأنَّ المسيحيَّة هي آخر
الديانات قبل الإسلام، فتكون الدلالات والإشارات والبشائر محفوظة فيها أكثر وأوضح،
وحيث إنَّ مسألة رفع الله تعالى السيِّد المسيح وطول عمره وعودته مرَّةً ثانيةً
يقرُّ بها المسيحيُّون، لذا فهم يستوعبون ويُدرِكون أيَّ قضيَّة شبيهة لذلك..
-----------------
(٣٠) المهدي
الموعود في الأديان السماويَّة الثلاث، مقالة للأُستاذ نزار مصطفى، الموقع
الإلكتروني (الموعود)، بتصرُّف.
(٣١) سرور أهل الإيمان (ص ٩٧).
(٣٢) ارجع إلى فقرة إحصائيَّات متنوِّعة، بشارات الأديان والكُتُب السماويَّة.
(٣٣) العهد الجديد: الجزء الثاني من الكتاب المقدَّس لدى المسيحيِّين، ويحتوي على
(٢٧) سفراً، وهي الأناجيل الخمسة، بالإضافة إلى أعمال الرُّسُل والرسائل وسفر
الرؤيا.. وأطلقوا عليه العهد الجديد أي العهد الذي يبدأ بظهور النبيِّ عيسى على
ساحة الدعوة إلى الله.
الاعتقاد بمرحلة
آخر الزمان وترقُّب ظهور المخلِّص تُمثِّل أصلاً مسلَّماً به من حيث الأساس في
الديانة المسيحيَّة بمذاهبها الأساسيَّة الثلاثة: الكاثوليك، البروتستانت،
الأُرثوذكس، فالمسيحي من أيِّ طائفة كان يعتقد بالعودة الحتميَّة الثانية للمسيح
(عليه السلام) ليُرسي قواعد العدل الإلهي على وجه المعمورة في آخر الزمان.
على أيَّة حالٍ، فإنَّنا نجد البشائر بالمخلِّص الموعود حاضرة في التراث المسيحي
الدِّيني بشكل واضح، ونشير هنا إلى بعض كُتُب وآثار المسيحيِّين الدِّيني (العهد
الجديد/ الإنجيل والرسائل والرؤيا) التي وردت فيها تلك البشائر والإشارات حول ظهور
الموعود في آخر الزمان:
١ - إنجيل متَّى.
٢ - إنجيل مرقس.
٣ - إنجيل لوقا.
٤ - إنجيل يوحنَّا.
٥ - إنجيل برنابا.
٦ - أعمال الرُّسُل.
٧ - مكاشفات أو رؤيا يوحنَّا.
هناك نصوص عديدة حول المخلِّص الموعود وردت في العهد الجديد، وقد بلغت البشارات في
هذا المجال العشرات(٣٤) نذكر شواهد منها:
* جاء في الإصحاح (١٢) من سفر رؤيا يوحنَّا، صاحب إنجيل يوحنَّا ما نصُّه: (وظهرت
آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس، والقمر تحت
-----------------
(٣٤) مَنْ أراد التوسُّع والاطِّلاع على جميع البشارات حول المخلِّص، يرجع إلى: معجم أحاديث الإمام المهدي (ج ١/ قسم بشارات ا لأديان).
رجليها، وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً، وهي حبلى تصرخ متمخِّضة متوجِّعة لتلد، وظهرت آية أُخرى في السماء، هو ذا تنِّين عظيم أحمر له سبعة رؤوس وعشرة قرون، وعلى رؤوسه سبعة تيجان، وذنبه يجرُّ ثُلُث نجوم السماء، فطرحها إلى الأرض، والتنِّين وقف أمام المرأة العتيدة أنْ تلد حتَّى يبتلع ولدها متَّى ولدت، فولدت ابناً ذَكَراً عتيداً أنْ يرعى جميع الأُمَم بعصاً من حديد، واختُطِفَ ولدها إلى الله وإلى عرشه، والمرأة هربت إلى البريَّة حيث لها موضع معدٌّ من الله)(٣٥).. في هذه الرؤيا التنبُّؤيَّة الأساسيَّة إشارة إلى ملحمة إلهيَّة، فسَّرها علماء الكنيسة بأنَّ المرأة المتسربلة هي مريم (عليها السلام)، وأنَّ الكواكب الاثني عشر هم الحواريِّين، وأنَّ الابن الذي يرعى الأُمَم بعصاه - يرمز للمخلِّص الموعود - فسَّروه بأنَّه المسيح عيسى بن مريم.. هذا التفسير ينافي الحقيقة والواقع، فالسيِّدة مريم لم يكن لها نسل كثير، وليس لها سوى ابنها الوحيد نبيُّ الله عيسى (عليه السلام)، وكذلك عيسى لم يكن له نسل، ولم يقم بالجهاد ومقاومة الطغاة، بل جاءت دعوته سلمية لأنَّه لم يجد الأعوان، والسيِّدة مريم لم يكن لها دور في تبليغ رسالة السماء مع ابنها.. إذن التفسير المنطقي والمطابق للواقع بالتأكيد هو: أنَّ هذه المرأة المتسربلة العظيمة هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وأنَّ الكواكب الاثني عشر هم نسلها الأئمَّة الأطهار، والذي كان لهم دور عظيم في إرساء قواعد الإسلام ومقاومة الطغاة فقُتِلُوا جميعاً في سبيل ذلك، والإكليل الذي على رأس المرأة إشارة للقيادة والإمامة، والشمس هو والد المرأة لأنَّه كالشمس يملأ الأرض نورًا وهو النبيُّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله)، وأنَّ القمر يرمز إلى زوجها لأنَّه يضيء الليل فيكفي أنْ نقول: إنَّه عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ولقد كان بحقٍّ قمراً ينير في ليل فتنة، ثمّ
-----------------
(٣٥) الكتاب المقدَّس، العهد الجديد (ص ٤٠٨/ سفر رؤيا يوحنَّا/ الإصحاح ١٢/ النصُّ ١ - ٦).
أشارت الرؤيا إلى
امرأة أُخرى (العتيدة) وهي السيِّدة نرجس والدة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)،
والتنِّين رمز للمخاطر التي تحيط بولادته، أي: إنَّ السلطة الظالمة (المعتمد
العبَّاسي) كان يريد قتل هذا الغلام بعد ولادته، والذَّكَر العتيد في النصِّ هو
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، (واختُطِفَ ولدها إلى الله وإلى عرشه) أي: إنَّ
الله غيَّب هذا الطفل، وهذه إشارة جوهريَّة إلى غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه).. يُلاحَظ في هذه البشارة الإنجيليَّة تناولها لخصوصيَّات المخلِّص الموعود
لا تنطبق إلَّا على أبرز ما يُميِّز عقيدة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) والواقع
التاريخي الذي مرَّت به، وتهدي هذه البشارة أيضاً إلى حقيقة أنَّ (المخلِّص/
المهدي) هو خاتم هؤلاء الاثني عشر كوكباً، وأنَّه سيغيب بأمر إلهي.
* جاء في الإصحاح (١٤) من سفر رؤيا يوحنَّا ما نصُّه: (ثمّ رأيت مَلاكاً طائراً في
وسط السماء معه بشارة أبديَّة، ليُبشِّر الساكنين على الأرض وكلَّ أُمَّة وقبيلة
ولسان وشعب، منادياً بصوت عظيم: خافوا الله وأعطوه مجداً، لأنَّه قد جاءت ساعة
دينونته، واسجدوا لصانع السماء والأرض والبحر وينبايع المياه)(٣٦).. هذا النصُّ
إشارة إلى (الصيحة السماويَّة) التي هي إحدى علامات ظهور الإمام المهدي المحتومة،
وهذا مصداق لقوله تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ
الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ
ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ (ق: ٤١ و٤٢)، فالذي ينادي من السماء هو جبريل
(عليه السلام) وقد عبَّرت عنه الرؤيا بـ(الملاك الطائر)، ثمّ نجد تأكيداً على مسألة
مهمَّة أُخرى تتعلَّق بتفاصيل هذا النداء، وهو يطابق ما جاء في روايات أهل البيت
(عليهم السلام)، حيث إنَّ هذا الصوت
-----------------
(٣٦) الكتاب المقدَّس، العهد الجديد (ص ٤١٠ و٤١٢/ سفر رؤيا يوحنَّا/ الإصحاح ١٤/ النصُّ ٦ و٧).
والنداء: يسمعه
كلُّ سُكَّان الأرض وكلٌّ بحسب لغته(٣٧)، يُبشِّرهم بخروج القائم المهدي، والتوصية
بالسجود شكراً لله لكلِّ مَنْ وُفِّق لبلوغ نعمة إدراك العهد الميمون بظهور القائم
المهدي (عجَّل الله فرجه).
هذه مقتطفات من رؤيا القدِّيس يوحنَّا، وهناك نصوص أُخرى عديدة عن المخلِّص موجودة
في أناجيل وأسفار النصارى (حوالي ٤٥ نصٍّ)(٣٨) لم نشر إليها مراعاةً لمنهج البحث.
بشكلٍ عامٍّ: علماء النصارى قالوا(٣٩): إنَّ المخلِّص الذي جاء ذكره في أسفار العهد
القديم هو عيسى بن مريم، لكنَّهم توقَّفوا عند تفسير النصوص التي تدلُّ على وحدة
الكيان بين المخلِّص الموعود والنبيِّ الخاتم، لأنَّهم واجهوا الكثير من
الإشكاليَّات، لعدم تطابق أوصاف المخلِّص مع أوصاف نبيِّهم وما جرى معه، فعجزوا عن
تفسير ما جاء في كُتُبهم وأسفارهم حول الموعود، ولم يتمكَّنوا من تفسيرها تفسيراً
منطقيًّا يُرضي العقل ويحاكي الواقع.
المخلِّص (المهدي) في تراث
الأديان المختلفة:
إنَّ الأصل في مسألة المخلِّص أنَّها فكرة دينيَّة، وهي من المبادئ التي جاءت بها
الأديان السماويَّة منذ القِدَم، وأنَّ الاعتقاد بهذا المبدأ شائع في الديانات
القديمة، وعند الكثير من الأُمَم التي لا ترجع إلى الأديان السماويَّة، إذ يؤمن بها
-----------------
(٣٧) قال الشيخ
المفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٦٨ و٣٦٩): (قَدْ جَاءَتِ اَلْأَخْبَارُ
بِذِكْرِ عَلَامَاتٍ لِزَمَانِ قِيَامِ اَلْقَائِمِ اَلمَهْدِيِّ (عليه السلام)
وَحَوَادِثَ تَكُونُ أَمَامَ قِيَامِهِ وَآيَاتٍ وَدَلَالَاتٍ، فَمِنْهَا: ...
وَنِدَاءٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ حَتَّى يَسْمَعَهُ أَهْلُ اَلْأَرْضِ كُلُّ أَهْلِ
لُغَةٍ بِلُغَتِهِمْ).
(٣٨) ارجع إلى فقرة إحصائيَّات متنوَّعة، بشارات الأديان والكُتُب السماويَّة.
(٣٩) المهدي الموعود في الأديان السماويَّة الثلاث، مقالة للأُستاذ نزار مصطفى،
الموقع الإلكتروني (الموعود)، بتصرُّف.
كثير من البشر
ومنهم الوثنيُّون، وبالرغم من اختلاف الأديان والعقائد إلَّا أنَّ جميع البشر يأمل
بمجيء يوم تتخلَّص فيه البشريَّة من الظلم والفساد والاستبداد ويحلُّ فيها العدل
والأمن والسلام.
بشائر وتنبُّوءات كثيرة حول المخلِّص نجدها في التراث الدِّيني غير السماوي وفي
آثار الحكماء القدامى، بل حتَّى في الآثار المصريَّة والهنديَّة والصينيَّة القديمة
توجد بها دلالات وإشارات حول المنقذ.. وسنعرض بعض الشواهد من تلك البشائر التي
ذكرتها الكُتُب الدِّينيَّة المختلفة(٤٠):
المخلِّص في تراث الصابئة:
إحدى الديانات السماويَّة، وهم أتباع نبيِّ الله يحيى، ويعتقدون بأنَّهم توارثوا
كُتُبهم المقدَّسة بصورها الحاليَّة عن آدم وشيث، ومنها انحدرت إلى نوح، وبعد
الطوفان إلى سام ثمّ ولده رام حتَّى وصلت إلى يحيى بن زكريَّا، بالإضافة لصُحُف
إدريس و إبراهيم.. وأبرز كُتُبهم: الكنز العظيم (الصُّحُف التي أنزلها الله على
أنبياء الصابئة)، تعاليم يحيى، سرُّ المعموديَّة المقدَّسة، كتاب البروج، وهذا
الكتاب الأخير يتحدَّث عن المستقبل وعن الموعود الذي سيأتي في آخر الزمان، ويوجد في
تراثهم الدِّيني إشارة إلى حرب آخر الزمان: (حرب أبناء النور مع أبناء الظلام)..
والجدير ذكره أنَّ الصابئة يعتقدون أنَّنا الآن نعيش في زمن ظهور المنقذ(٤١).
المخلِّص في تراث الزرادشتيَّة:
تُعرَف بالمجوسيَّة، وهي ديانة قديمة، وكان الدِّين الرسمي للإمبراطوريَّات
الأخمينيَّة والبارثيَّة والساسانيَّة، ظهرت في بلاد فارس قبل
-----------------
(٤٠) الإمام
المهدي في الأديان (ص ٨٩ - ٩١)، بتصرُّف.
(٤١) الإمام المهدي في الأديان (ص ١٠٣ و١٠٤)، بتصرُّف.
(٣٥٠٠) سنة..
هناك مجموعة من كُتُب الزرادشتيَّة جاء فيها الكثير من التنبُّؤات حول المخلِّص
الموعود وأخبار آخر الزمان، ومن جملة هذه الكُتُب: كتاب جاماسب، كتاب زند بهمن يسن،
كتاب أوستا، كتاب قصَّة دينيك، كتاب رسالة زرادشت.. ويعتقدون أنَّ المخلِّص الموعود
هو (بهرام شاه)، وأنَّه من نسل زرادشت، وينتظرون عودته.
وجاء في كتاب (جاماسب) وهو من الكُتُب المقدَّسة عندهم: (من ذرّيَّة ابنة هذا
النبيِّ التي اشتهرت بـ(شمس العالم وملكة الزمان) رجل يصل إلى الخلافة، ويحكم
الدنيا بخير، وهو آخر خليفة لهذا النبيِّ، من وسط العالم أي مكَّة، ويدوم مُلكه إلى
يوم القيامة)(٤٢).
وجاء في كتاب (الزند) ممَّا أخبر به زرادشت حول المخلِّص، حيث قال: (سيظهر في آخر
الزمان رجل اسمه (أستدريكا) ومعناه الرجل العالِم، يُزيِّن العالَم بالدِّين
والعدل، ثمّ يظهر في زمانه (بتيارة) - أي الدجَّال - يوقع الآفة في مُلكه، وأمره
عشرين سنة، ثمّ يظهر بعد ذلك (أستدريكا) على أهل العالَم ويُحيي العدل ويُميت
الجور، ويردُّ السُّنَن المغيَّرة إلى أوضاعها الأُوَل، وينقاد له الملوك وتُيسَّر
له الأُمور، وينصر الدِّين الحقَّ، ويحصل في زمانه الأمن والدعة، وسكون الفتن وزوال
المحن)(٤٣).
المخلِّص في تراث الهنود:
يوجد ارتباط كبير بين الديانات الهنديَّة المتعدِّدة كالبراهميَّة والهندوسيَّة
والسيخ، وهناك الكثير من المعتقدات المشتركة، ومن بينها الاعتقاد بالمخلِّص
-----------------
(٤٢) معجم أحاديث
الإمام المهدي (ج ١/ ص ٧٥).. وللاطِّلاع على الكثير من بشارات الزرادشتيَّة في
كُتُبهم المقدَّسة ارجع إلى قسم بشارات الأديان.
(٤٣) محبوب القلوب (ص ٣٥٩).
الموعود في آخر
الزمان، وقد تناول تراثهم الدِّيني موضوع المنقذ في كثير من كُتُبهم مثل:كتاب ما
للهند، كتاب وشن جوك، كتاب ديد، كتاب أُوبانيشاد، كتاب باتيكل، كتاب شاكموني، كتاب
باسك.. ويعتقدون بعودة (ويشنو) وينتظرونه، وجاء في كتاب أُوبانيشاد: (إنَّ المطهِّر
(ويشنو) سيظهر في آخر الزمان وهو راكب على فرس أبيض وبيده سيف قد جُرِّد من غلافه،
كأنَّه نجم ذو ذنب يلمع، يقتل الأراذل، ويُحيي حياة جديدة، ويُعيد الطهارة)(٤٤).
المخلِّص في تراث البوذيِّين:
البوذيَّة تُعتبَر من الديانات القديمة في العالم، نشأت في شمال الهند في حدود (٥٦٠
- ٤٨٠) قبل الميلاد عن طريق التعاليم التي تركها بوذا، ومن كُتُبهم المقدَّسة:
سوترا بيتاكا، فينايا بيتاكا، أبهيدارما بيتاكا، والكتاب الأخير يتضمَّن مناقشات في
الفلسفة والعقائد، وقد ورد في التراث الدِّيني للبوذيَّة بشارات عن المنقذ، وأنَّ
مسألة الانتظار مطروحة في الأعراف البوذيَّة، وأنَّهم ينتظرون مخلِّصهم ومنقذهم
(بوذا الخامس).
إذن لكلِّ أُمَّة من الأُمَم معتقداتها وثقافتها الخاصَّة، وكلُّ دين ومذهب له
منقذه ومخلِّصه الذي سيظهر في آخر الزمان، ممَّا جعل مسألة المخلِّص أو المهدي في
التراث الدِّيني تتناسب مع ثقافة شعوب كلِّ دين، وتُشكِّل محوراً مركزيًّا في
المنظومة الفكريَّة العقديَّة البشريَّة.
الاختلاف في تشخيص هويَّة
المخلِّص:
موسى والتوراة، وعيسى والإنجيل، ومحمّد والقرآن، كلُّهم بشَّر بفكرة المخلِّص،
فالمهدي (عجَّل الله فرجه) أو المنقذ ليس تجسيداً لعقيدةٍ إسلاميَّةٍ ذات طابع ديني
-----------------
(٤٤) معجم أحاديث الإمام المهدي (ج ١/ ص ٧٢).. وللاطِّلاع على الكثير من بشارات الهنود في كُتُبهم المقدَّسة ارجع إلى قسم بشارات الأديان.
فحسب، بل هو
عنوان طموح اتَّجهت إلية البشريَّة بمختلف أديانها ومذاهبها، فجميع الأديان
والمِلَل تنتظره، فقد اتَّفق الجميع على فكرة المهدي والانتظار لهذا المنقذ،
واختلفوا في اسمه وفي شخصه وفي نَسَبه، وهذا الاختلاف لا يضرُّ في أصل الفكرة
المترسِّخة الأصيلة، فالكلُّ متَّفق على المبدأ والمنشأ والمفهوم، وإنِ اختلفوا في
صفته ومكان قدومه.
إنَّ اختلاف الأديان والفِرَق والمذاهب في تشخيص هويَّة المخلِّص الموعود، رغم
اتِّفاقهم على حتميَّة ظهوره ناشئ من تفسير النصوص والبشارات السماويَّة وتأويلها
استناداً إلى عوامل خارجة عنها وليس إلى تصريحات أو إشارات في النصوص نفسها، بمعنى
أنَّ تحديد هويَّته لا ينطلق من النصوص والبشارات في التراث الدِّيني السماوي، بل
ينطلق من انتخاب شخصيَّة (من الكيان الدِّيني الخاصِّ) ومحاولة تطبيق النصوص عليها،
بالإضافة للعوامل السياسيَّة أو التعصُّب الدِّيني، فضلاً عن الرغبة في الفوز
بافتخار أنَّ صاحب هذا الدور التاريخي المهمِّ شخصيَّة تنتمي لكيانهم.
ذُكِرَ في التراث الدِّيني لبعض المذاهب والأديان أسماء عديدة ومختلفة للمخلِّص
الموعود، كُلٌّ حسب رؤيته وتفسيره لهذه الشخصيَّة المهمَّة والذي تنتظرها البشريَّة
منذ القِدَم، نذكر بعض هذه الأسماء للمثال(٤٥):
١ - نحن المسلمون نُسمِّيه المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، وهو الإمام الثاني
عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، من ذرّيَّة فاطمة الزهراء (عليها السلام)،
وابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كما بشَّر به الرسول (صلَّى الله عليه
وآله).
٢ - السيِّد الميكائيلي لدى اليهود، ويعتقدون أنَّه من نسل النبيِّ داود.
٣ - النصارى يرون أنَّه المسيح (عليه السلام) وينتظرون عودته.
-----------------
(٤٥) النور الغائب (ص ٢٣ و٢٤).
٤ -
الزرادشتيُّون ينتظرون عودة (بهرام شاه) ويعتقدون أنَّه من نسل زرادشت.
٥ - البوذيُّون ينتظرون ظهور (بوذا).
٦ - الأحباش ينتظرون عودة مَلِكهم (تيودور).
٧ - الهنود يعتقدون بعودة (ويشنو).
٨ - الأسبان ينتظرون مَلِكهم (روذريق).
٩ - المغول ينتظرون قائدهم (جنكيز خان).
كذلك يعتقد بالفكرة قدامى المصريِّين والصينيِّين وعندهم أسماء متعدِّدة.
المصداق الحقيقي للمخلِّص في
التراث الدِّيني:
إنَّ مَنْ يمعن النظر في نصوص التراث الدِّيني السماوي ويتأمَّل البشارات فيها، يرى
بوضوح أنَّها تُقدِّم مواصفات للمنقذ العالمي لا تنطبق إلَّا على المهدي المنتظَر
طبقًا للأُطروحة الشيعيَّة الإماميَّة، وبالتأكيد فمَنْ لم يتعرَّف على آراء مدرسة
أهل البيت (عليهم السلام) في المهدويَّة لن يستطيع التوصُّل إلى المصداق الذي
تتحدَّث عنه بشارات الكُتُب السماويَّة والقرآن الكريم.. وكنموذج على تأثير هذه
المعرفة، وعندما يكون البحث والدراسة بأُسلوب علمي وموضوعي وبعيداً عن التعصُّب
الدِّيني سيصل الباحث للحقيقة وإلى نتيجة منطقيَّة واقعيَّة، ونشير هنا إلى بعض
الشخصيَّات العلميَّة وهم من مشارب شتَّى، كنماذج بحثوا الموضوع بحيادٍ علمي
فتوصَّلوا للحقيقة، مثل:
* القاضي الساباطي من أعلام القرن (١٢) الهجري، إذ كان في بداية أمره عالماً
نصرانيًّا، ثمّ أسلم واتَّبع المذهب السُّنِّي وألَّف كتابه (البراهين الساباطيَّة)،
كانت نتيجة تحقيقه عندما تناول إحدى البشارات الواردة في كُتُب إشعياء (العهد
القديم) بشأن المخلِّص وبعد أنْ ناقش تفسير اليهود والنصارى دحض
آراءهم وقال:
(إنَّ قول الإماميَّة أقرب لما يتناوله هذا النصُّ وإنَّ هدفي الدفاع عن أُمَّة
محمّد (صلَّى الله عليه وآله) مع قطع النظر عن التعصُّب لمذهب، لذلك ذكرت لك أنَّ
ما يدَّعيه الإماميَّة يتطابق مع هذا النصِّ)(٤٦).
* الأُستاذ محمد صادق فخر الإسلام(٤٧) الذي كان نصرانيًّا واعتنق الإسلام وانتمى
لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وألَّف كتابه الموسوعي (أنيس الأعلام) في ردِّ
اليهود والنصارى، وتناول فيه دراسة البشارات وانطباقها على الإمام المهدي بن الحسن
العسكري (عجَّل الله فرجه).
* فعل مثله أيضاً الأُستاذ محمّد رضا رضائي الذي أعرض عن اليهوديَّة وكان من
علمائها واعتنق الإسلام، وألَّف كتاب (منقول رضائي) الذي بحث فيه موضوع البشارات
وأثبت النتيجة نفسها.
* أكَّد النتيجة نفسها الأُستاذ سعيد أيُّوب(٤٨) وهو باحث مسلم من أهل السُّنَّة
الذي استطاع الاهتداء إلى المصداق الذي تتحدَّث عنه بشارات الكُتُب السماويَّة
عندما تعرَّف على عقيدة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في المهدي المنتظَر (عجَّل
الله فرجه)، حيث يقول في كتابه (المسيح الدجَّال) عندما ناقش بشارة سفر الرؤيا
ليوحنَّا،
-----------------
(٤٦) الإمام
المهدي في الأديان (ص ٢٠).
(٤٧) محمّد صادق الملقَّب فخر الإسلام (١٢٥٠ - ١٣٣٠هـ)، اشتهر بتحوُّله من
المسيحيَّة إلى الإسلام حيث ولد في عائلة مسيحيَّة تسكن مدينة أُروميَّة في إيران،
إلَّا أنَّه أسلم فيما بعد وصار من علماء المسلمين الشيعة.
(٤٨) وُلِدَ في مصر سنة (١٩٤٤م) في أُسرة سُنّيَّة المذهب، وهو مفكِّر ومؤلِّف قدير
وداعية، وهو صاحب الكتاب الرائع (معالم الفتن) صدر عام (١٤١٦هـ) الذي يُعَدُّ من
أكثر الكُتُب صراحةً وواقعيَّةً في دراسة فتنة افتراق المسلمين بعد ابتعادهم عن آل
البيت (عليهم السلام)، وكان سبب اهتدائه إلى التشيُّع هو: الاقتناع بالأُطروحة
المهدويَّة الشيعيَّة بعد بحثٍ شاقٍّ في أوضاع الأُمَم السابقة وفتن المسلمين بعد
وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، ودراسته للمهدويَّة أو فكرة المخلِّص عند
اليهود والمسيحيِّين والمسلمين، في مؤلَّفه القيِّم كتاب: عقيدة المسيح الدجَّال،
صدر عام (١٤١١هـ).
الإصحاح (١٢):
(هذه هي أوصاف المهدي، وهي نفس أوصافه عند الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة)(٤٩)،
ودعم قوله بتعليق أورده في الهامش بأنْ وضَّح عقيدة الشيعة في الإمام المهدي ونبذة
مختصرة عن سيرته.
إذن فدراسة الأُطروحة المهدويَّة الإماميَّة تفتح آفاقاً أوسع للاهتداء للمصداق
الحقيقي للمخلِّص، الذي تناول التراث الدِّيني السماوي خصوصيَّاته طبقاً لدلالات
نصوص البشارات الواردة فيها.
* * *
-----------------
(٤٩) عقيدة المسيح الدجَّال في الأديان (ص ٣٧٩).
مرحلة صدر الإسلام (البعثة ١٣ قبل
هـ - ٢٦٠هـ):
تعود جذور القضيَّة المهدويَّة عند المسلمين إلى صدر الإسلام الأوَّل، وإلى
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) الذي بشَّر بظهور حفيده وأخبر بتطهير الأرض من
الظلم والفساد على يديه، حيث كانت مسألة المهدي من الأُمور البديهيَّة ومن المسائل
المسلَّم بها لدى المسلمين، فكانوا ينتظرون ظهور رجل يقيم العدل ويمحق الباطل
ويُصلِح شأن العالم، ولهذا لم يكونوا يتساءلون عن أصل الموضوع وعنوانه، بل كانت
معظم استفساراتهم تدور حول مسائل فرعيَّة، عن هويَّته ونَسَبه، عن اسمه وكنيته، عن
صفاته وخصاله، عن غيبته وأحواله، عن علامات ظهوره ودولته إلى غير ذلك من
الاستفسارات.. نعم لقد بنى الرسول (صلَّى الله عليه وآله) دعائم المهدويَّة على
أساس الوحي الإلهي، باعتبارها إحدى القضايا الإسلاميَّة المصيريَّة، وهكذا نجد أنَّ
ما يتعلَّق بالمهدي الموعود إنَّما يشغل جانباً هامًّا ومساحة كبيرة من أحاديث
الرسول (صلَّى الله عليه وآله) وأقواله (أكثر من ٥٦٣ حديث)(٥٠)، تضمَّنته المصادر
الحديثيَّة والروائيَّة العديدة، وصرَّح العلماء بتواترها وحتميَّة ظهوره (عجَّل
الله فرجه)، ممَّا جعلها من العقائد الإسلاميَّة الصحيحة والمتَّفق عليها بين
المدارس والمذاهب الإسلاميَّة.
الوضع السياسي والفكري في هذه
المرحلة:
هذه المرحلة التاريخيَّة (طور التأسيس) تميَّزت بأنَّها مرَّت بأربعة عصور مختلفة،
وهي:
-----------------
(٥٠) معجم أحاديث الإمام المهدي، مجموع أحاديث المجلَّدات الأُولى عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
* السيرة
النبويَّة (٥٢ق هـ - ١١هـ): وقيام أوَّل دولة إسلاميَّة قادها الرسول الأكرم (صلَّى
الله عليه وآله)، واتَّخذت المدينة المنوَّرة قاعدة لها، ثمّ ما لبثت أنْ شملت
الجزيرة العربيَّة، وهي السيرة العطرة التي يجب أنْ يتَّخذ منها المسلمون القدوة
الحسنة.
* العصر الإسلامي الأوَّل (١١ - ٤١هـ): تولَّى فيها أربعة حُكَّام، كانت المدينة
المنوَّرة ثمّ الكوفة عاصمة لها.
* عصر الدولة الأُمويَّة (٤١ - ١٣٢هـ): تولَّى فيها (١٤) حاكماً، وكانت دمشق هي
عاصمة الأُمويِّين.
* عصر الدولة العبَّاسيَّة (١٣٢ - ٦٥٦هـ): تولَّى فيها (٣٧) حاكماً، وكانت بغداد هي
عاصمة العبَّاسيِّين.
بعد وفاة النبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) كانت مسألة المهدي معروفة لدى
المسلمين كافَّة، ويروي أحاديثها الكثير من الصحابة، ولكن ممَّا يُؤسَف له عقب ذلك
حوادث مريرة كإقصاء الإمام عليٍّ (عليه السلام) عن الخلافة ومصادرة ميراث فاطمة
الزهراء (عليها السلام) من أبيها، مروراً إلى الحروب والفتن الداخليَّة في زمن
خلافة أمير المؤمنين إلى أنْ سقط شهيداً في المحراب يوم (٢١) رمضان من عام (٤٠هـ)،
ولـمَّا تصدَّى الإمام الحسن (عليه السلام) للخلافة بعده، كان معاوية (حكم ٤١ -
٦٠هـ) قد أحكم قبضته على الشام ومناطق أُخرى وآل الأمر إلى بني أُميَّة، فسيطروا
على وسائل القوَّة والنفوذ، فاستُشهِدَ الحسن مسموماً، واستُشهِدَ الحسين في مذبحة
عاشوراء (٦١هـ)، إلى أنْ آلت الأُمور باجتياح جيش يزيد (حكم ٦٠ - ٦٤هـ) المدينة
المنوَّرة، والإعدامات التي طالت الكثير من الصحابة، وآلاف المآسي والآلام، وقد
عانى أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم في العهد الأُموي كلَّ صنوف الظلم والقهر،
واستولى بنو أُميَّة على مقدَّرات المسلمين
وأصبح الحكم
وراثيًّا عائليًّا.. وجاء بنو العبَّاس بعدهم بنفس المنهج، وكان نصيب العلويِّين
ومَنْ ناصرهم في هذه الحقبة التاريخيَّة القتل والتشريد والسجن.
وممَّا يُؤلِم القلب ويبعث على الأسى والأسف أيضاً، أنَّ أوَّل الأعمال التي قام
بها الخلفاء بعد وفاة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنْ منعت رواية وكتابة
أحاديث الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، وحُرِقَ كلُّ ما وصلت إليه أيديهم من
الأحاديث والروايات النبويَّة الشريفة، فلم يعد بوسع أحد من المسلمين أنْ يروي
حديثاً أو يحتجَّ بحديث إلَّا إذا كان هذا الحديث مؤيِّداً لدولة الخلافة أو
تصرُّفاتها وسياساتها، أمَّا فيما يخصُّ الأحاديث المتعلِّقة بالإمامة أو الولاية
من بعد النبيِّ أو المتضمِّنة مكانة أهل البيت (عليهم السلام) وفضائلهم فقد كانت
محظورة وممنوعة منعاً تامًّا، ممَّا حرم الأُمَّة تلك الكنوز الثمينة وخسرت النهل
من مدينة العلم.. وتأثَّرت القضيَّة المهدويَّة سلباً تبعاً لذلك، كغيرها من
القضايا الإسلاميَّة الرئيسيَّة بضياع وفقدان أحاديث وتعليمات المصطفى (صلَّى الله
عليه وآله)، واستمرَّ هذا المنع قرابة مائة عام إلى زمن خلافة عمر بن عبد العزيز
(٩٩ - ١٠١هـ) الذي سمح بكتابة ورواية أحاديث الرسول (صلَّى الله عليه وآله).
خلال تلك الحقبة المريرة من الزمن، بذل الأئمَّة (عليهم السلام) جهوداً كبيرةً في
ربط الأُمَّة فكريًّا وعاطفيًّا بالقضيَّة المهدويَّة وبأهدافها، فمن خلال البشارات
والتأكيدات الكثيرة الصادرة عن أهل البيت (عليهم السلام) في الإمام الثاني عشر
(عجَّل الله فرجه) تأصَّلت العقيدة المهدويَّة وترسَّخت الحالة التفاعليَّة مع
المهدويَّة في عمق الواقع الفكري والنفسي للأُمَّة، وفي وعيها ووجدانها، فتحصَّنت
الثقافة المهدويَّة الأصيلة في أوساط المجتمع الإسلامي، وأصبحت واقعاً لا مفرَّ
منه، ممَّا دفع الأنظمة الحاكمة إلى محاربتها ومحاولة تحريف مفاهيمها ورؤاها، كونها
تُمثِّل التهديد الحقيقي لتلك الأنظمة، ممَّا دعاها إلى مطاردة الفكرة بكلِّ
تفاصيلها
والحظر
عليها بشكل يُخفي معالمها، وخير مثال لهذه المحاربة الشرسة ضدَّ الفكرة والعقيدة
المهدويَّة، أنَّ البخاري ومسلم لم يرويا أيَّ حديث صريح بالمهدي المنتظَر، خاصَّةً
وأنَّ الشيخين قد كتبا صحيحيهما بالتاريخ المرتقب لولادة الإمام (عجَّل الله
فرجه)(٥١)، وكان مجرَّد ذكر لفظة المهدي يثير الرعب في أوصال أركان الدولة
العبَّاسيَّة.
المهدويَّة في التراث الإسلامي:
انبثقت جذور الاعتقاد بالأُطروحة المهدويَّة عند الشيعة الإماميَّة من ركنيّ
الإسلام الكتاب والعترة، فشقَّ الاعتقاد طريقه بيسر وسهولة باعتبار أنَّ أصل
القضيَّة ومنبع الفكرة هي المصادر الرئيسيَّة للشريعة الإسلاميَّة:
القرآن الكريم:
يمكننا أنْ نتلمَّس الآيات الكريمة التي تشير إلى المهدي المنتظَر، فقد تطرَّق كتاب
الله إلى القضيَّة المهدويَّة بطُرُق وأساليب شتَّى، ويمكن تلخيص منهج القرآن
بالآتي:
أوَّلاً: تحدَّث القرآن الكريم عن وجود إمام لكلِّ زمان: بالعنوان العامِّ
(الإمامة) بمعنى ضرورة وجود إمام لكلِّ عصر وزمان، وهذا دلالة واضحة على وجود
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ننتخب بعضاً من هذه الآيات الكريمة:
* قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾
(الإسراء: ٧١).
* قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ
هَادٍ﴾ (الرعد: ٧).
-----------------
(٥١) الإمام (م ح
م د) بن الحسن العسكري (المهدي) وُلِدَ يوم (١٥/ شعبان/ ٢٥٥هـ).
- محمّد بن إسماعيل البخاري، صاحب الصحيح (١٩٤ - ٢٥٦هـ).
- مسلم بن الحجَّاج النيسابوري، صاحب الصحيح (٢٠٦ - ٢٦١هـ).
أي إنَّهما عاشا في نفس الفترة التي وُلِدَ فيها الإمام المهدي تقريباً، وكتبا
صحيحيهما في الوقت المرتقب لذلك.
* قال تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: ٥٩).
فالآيات الكريمة تشير إلى عقيدة الإمامة، والمهدويَّة هي الإمامة الباقية والحاضرة.
ثانياً: بشَّر القرآن الكريم بوعد إلهي بنشر العدل والقسط على كافَّة الأرض: وعد
إلهي وبشارة سماويَّة بأنَّ العالم سينعم بعصر مشرق مفعم بالإيمان والعدل والسلام،
على يد المنقذ والمخلِّص الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، نختار بعضاً من هذه
الآيات الكريمة:
* قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ﴾ (النور: ٥٥).
* قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ
بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾
(الأنبياء: ١٠٥).
* قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾
(القَصَص: ٥).
لم يتحقَّق الوعد الإلهي، ولم يحل اليوم الذي يسود فيه الإسلام ربوع الأرض.. نحن
ننتظر تحقُّق ذلك بخروج المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
ثالثاً: ذكر القرآن الكريم بعض ملامح عصر الظهور: إشارات ودلالات قرآنيَّة عديدة
تُخبِر العالم والمؤمنين ببعض الحوادث المرافقة لقيام المهدي المنتظَر (عجَّل الله
فرجه)، نقتطف بعضاً من هذه الآيات الكريمة:
* قال تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ
مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ﴾ (ق: ٤١ و٤٢)، مصداق
لعلامة الصيحة
السماويَّة (من المحتوم): وهي صوت ونداء من السماء في شهر رمضان في ليلة القدر،
يسمعه أهل الأرض كلُّهم، وكلُّ قوم بلغتهم، قبل الظهور المبارك(٥٢).
* قال تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ (الشعراء: ٤)،
مصداق لعلامة ركود الشمس (من غير المحتوم): وهي توقُّف الشمس عن الحركة من الزوال
إلى العصر في شهر رجب، قبل الظهور المبارك(٥٣).
* قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ
وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾ (النساء: ٤٧)، مصداق لعلامة خسف
البيداء (من المحتوم): وهي تحويل وجوه شخصين من جيش السفياني إلى القفاء، وهو الجيش
الغازي والمتَّجه لمكَّة أثناء ظهور المهدي بها(٥٤).
-----------------
(٥٢) قال الشيخ
المفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٦٨ و٣٦٩): (قَدْ جَاءَتِ اَلْأَخْبَارُ
بِذِكْرِ عَلَامَاتٍ لِزَمَانِ قِيَامِ اَلْقَائِمِ اَلمَهْدِيِّ (عليه السلام)
وَحَوَادِثَ تَكُونُ أَمَامَ قِيَامِهِ وَآيَاتٍ وَدَلَالَاتٍ، فَمِنْهَا: ...
وَنِدَاءٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ حَتَّى يَسْمَعَهُ أَهْلُ اَلْأَرْضِ كُلُّ أَهْلِ
لُغَةٍ بِلُغَتِهِمْ).
(٥٣) عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ
مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾، قَالَ:
«سَيَفْعَلُ اَللهُ ذَلِكَ بِهِمْ»، قُلْتُ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «بَنُو أُمَيَّةَ
وَشِيعَتُهُمْ»، قُلْتُ: وَمَا اَلْآيَةُ؟ قَالَ: «رُكُودُ اَلشَّمْسِ مَا بَيْنَ
زَوَالِ اَلشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ اَلْعَصْرِ...». الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٧٣).
(٥٤) عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ اَلْجُعْفِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ اَلْبَاقِرُ (عليه السلام): «يَا جَابِرُ، اِلْزَمِ
اَلْأَرْضَ وَلَا تُحَرِّكْ يَداً وَلَا رِجْلاً حَتَّى تَرَى عَلَامَاتٍ
أَذْكُرُهَا لَكَ إِنْ أَدْرَكْتَهَا...، فَيَنْزِلُ أَمِيرُ جَيْشِ
اَلسُّفْيَانِيِّ اَلْبَيْدَاءَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ: يَا
بَيْدَاءُ، بِيدِي اَلْقَوْمَ، فَيَخْسِفُ بِهِمْ، فَلَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ إِلَّا
ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، يُحَوِّلُ اَللَّهُ وُجُوهَهُمْ إِلَى أَقْفِيَتِهِمْ، وَهُمْ
مِنْ كَلْبٍ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا
مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا...﴾
اَلْآيَةَ». الغيبة للنعماني (ص ٢٨٨ - ٢٩٠/ باب ١٤/ ح ٦٧).
هذه أمثلة ونماذج
لبعض علامات اليوم الموعود وإرهاصات الظهور ذكرها القرآن الكريم، فسَّرتها الروايات
الشريفة بعلامات ظهور المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
من هنا نُؤكِّد أنَّ لفظة أو مصطلح (المهدي) لم يُذكر في القرآن صراحةً، ولكن هناك
بعض الآيات الكريمة مفسَّرة ومؤوَّلة في المهدي المنتظَر.. ويمتلك التراث المهدوي
الإمامي مجموعة كبيرة من الكُتُب والأبحاث التي تتحدَّث عن الإمام المهدي في
القرآن، بعكس مكتبات المدارس الإسلاميَّة الأُخرى التي تفتقر إلى مثل هذا النوع من
الكُتُب.. من أمثلة كُتُب الإماميَّة في هذا المجال: المحجَّة فيما نزل في القائم
الحجَّة للسيِّد هاشم البحراني، المهدي في القرآن والسُّنَّة للسيِّد صادق
الشيرازي، معجم أحاديث الإمام المهدي (الآيات المفسَّرة)، (المجلَّد السابع) للهيأة
العلميَّة في مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة، هذه المصادر تذكر الروايات والأحاديث عن
الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) التي وردت في
تفسير الآيات أو تأويلها أو تطبيقها أو الاستشهاد بها في القضيَّة المهدويَّة.
السُّنَّة الشريفة:
إنَّ مسألة المهدويَّة في الإسلام لها أعمق الجذور وأعلى درجات الأصالة والصحَّة من
جهة الحديث، باعتبار أنَّ الرسول (صلَّى الله عليه وآله) أوَّل مَنْ طرح موضوع
المهدويَّة في الإسلام، وكان يُبشِّر الأُمَّة بظهوره في كلِّ منتدى ومحفل،
ويتحيَّن الفُرَص للإخبار عنه، بحيث إنَّ النصوص والروايات الشريفة قد تواترت حول
المهدي وأخباره وعلامات ظهوره، ويمكن القول: إنَّ موضوع المهدي قد احتلَّ مساحة
واسعة من الحديث والرواية.
أجمع عمداء أهل بيت النبوَّة والأئمَّة الأطهار، الذين ورثوا علميّ النبوَّة
والكتاب، والذين اختارهم الله، وأعدَّهم وأهَّلهم لقيادة الأُمَّة ومرجعيَّتها طوال
عصر ما بعد النبوَّة، والذين سمَّاهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بأسمائهم
قبل أنْ يُولَد تسعة
منهم.. على
أنَّهم قد سمعوا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يُبشِّر بالمهدي المنتظَر
ويُسمِّيه باسمه: (م ح م د بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن
محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، حفيد النبيِّ الأكرم، وحفيد ابنته
فاطمة الزهراء، ويُكنَّى بأبي القاسم)، وأنَّهم سمعوا رسول الله يصفه وصفاً دقيقاً،
ويُؤكِّد على حتميَّة ظهوره، وأنَّ هذا المهدي (عجَّل الله فرجه) هو الإمام الثاني
عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهكذا حسم أهل بيت النبوَّة اسم المهدي
المنتظَر، واسم أبيه وجدِّه وكنيته.
نشير إلى بعض من الأحاديث النبويَّة الشريفة الصحيحة والمتواترة والتي تدلُّ على
ولادة ووجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حاليًّا، وإنْ لم ترد هذه الروايات
بخصوصه وعنوانه، ولكنَّها واضحة الدلالة:
* قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ
اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابُ اَلله، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ
مِنَ اَلْآخَرِ، وَلَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ».
* عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ يَقُولُ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى اَلنَّبِيِّ
(صلَّى الله عليه وآله) فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «هَذَا اَلدِّينُ لَا يَنْقَضِي
حَتَّى يَمِضِيَ فِيهِمْ اِثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً»، ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ
خَفِيَ عَلَيَّ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ».
* قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ
إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
في ضوء هذه الأحاديث الثلاثة المتواترة عند المسلمين (الثقلين، الأئمَّة الاثني
عشر، إمام الزمان)، والتي تحمل دليلاً إضافيًّا على صدق وصحَّة صدورها عن رسول الله
(صلَّى الله عليه وآله)، عدا الحكم بصحَّة أسانيدها من قِبَل جميع علماء الحديث،
وأنَّه من شواهد النبوَّة لأنَّه كان مأثوراً في بعض الصحاح والمسانيد قبل أنْ
يكتمل عدد الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) مباشرةً، ولكنَّها
بالدلالة الالتزاميَّة تدلُّ على
أنَّ الإمام
(عجَّل الله فرجه) قد وُلِدَ وتحقَّقت ولادته، وهو حاليًّا موجود ويعيش بيننا، ومن
المحتوم والمؤكَّد أنَّه لا يمكن أنْ تخلو الأرض من حجَّة لله على عباده.
الجدير ذكره في التراث الإسلامي بالنسبة للأحاديث المتعلِّقة بالمهدي:
* المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) حقيقة دينيَّة، بشَّر بها الرسول الأكرم
(صلَّى الله عليه وآله)، وثبت وجود مئات الأحاديث عن النبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله) بهذا الخصوص.
* روى أحاديث المهدي عدد كبير من الصحابة، مثل: أهل بيت النبوَّة وآل محمّد، زوجات
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، طائفة كبيرة من الصحابة.
* أخرج أحاديث المهدي جمع كبير من علماء الحديث، ودوَّنوا ذلك في كُتُبهم ومسانيدهم،
وأجمعوا على أنَّها قد صدرت من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بالفعل.
* صرَّح جمعٌ من أهل الاختصاص بعلوم الحديث بصحَّة وتواتر الأحاديث المتعلِّقة
بالمهدي، مثل: يوسف الكنجي الشافعي، وسليمان القندوزي الحنفي، والألباني.
* أجمعت الأُمَّة الإسلاميَّة بكون المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من عترة
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، والكلُّ متَّفق على أنَّ المهدي من صلب الإمام
عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن أحفاد فاطمة الزهراء (عليها السلام).
* كُتِبَ عن الإمام المهدي ودُوِّنت الروايات والأحاديث بهذا الخصوص، حتَّى قبل أنْ
يُولَد (عجَّل الله فرجه) وتتحقَّق الفكرة.
المسلمون بشكلٍ عامٍّ قد آمنوا بفكرة خروج المهدي آخر الزمان، ومصدر اعتقادهم في
ذلك الآيات القرآنيَّة والأحاديث الشريفة، وسلَّموا بأنَّ الوعد الإلهي والبشارة
النبويَّة سوف تتحقَّق، فأصل المهدويَّة كعقيدة مسلَّم بها من قِبَل عامَّة
المسلمين إلَّا مَنْ شذَّ وندر.
ومن هذا المنطلق - الكتاب الكريم والسُّنَّة الشريفة - فإنَّ التراث
المهدوي شغل
حيِّزاً كبيراً من الثقافة الإسلاميَّة، ممَّا دفع المهتمِّين نحو البحث والتنقيب
في زواياه المختلفة، فمن خلال مقارنة المصنَّفات المهدويَّة القديمة والمتأخِّرة
يتوصَّل الباحث إلى نتائج عن التطوُّر التاريخي الذي طرأ على هذا التراث.. ولتجنُّب
سوء الفهم والتباس الأمر يلزم التأكيد على ضرورة التفريق بين جهتين(٥٥) من هذا
التراث:
الجهة الأُولى: التراث المرتبط بالوحي، وهو عبارة عن الآيات القرآنيَّة والأحاديث
الشريفة الموثوقة الصدور المرتبطة بالشأن المهدوي، والذي أضفى صفة القداسة عليه،
وهذا الجانب من التراث الفكري (العقدي) لا يقبل إلَّا الصواب وموافقة الحقِّ
والواقع، وهو الذي يُحدِّد الإطار الدِّيني والمنظور الفكري والمعرفي.
الجهة الثانية: التراث المرتبط بالنتاج الإنساني المتغيِّر، وهو عبارة عن الآراء
والأفكار والنظريَّات المرتبطة بالشأن المهدوي، وهذا الجانب من التراث الفكري يقبل
الصواب والخطأ، وهو الذي يُحدِّد الإطار الزمني والمنظور التاريخي والحضاري.
بالتأكيد ليس هناك انفصال بين هاتين الجهتين في التراث المهدوي الشيعي، بل هناك
وحدة وترابط وتناسق في الجانب المعرفي في المنظومة الفكريَّة المهدويَّة الشيعيَّة.
مصنَّفات مهدويَّة في هذه
المرحلة:
في ظلِّ الظروف المأساويَّة العصيبة والأوضاع الأمنيَّة الحسَّاسة، كان الأئمَّة
(عليهم السلام) وهم معدن العلم وموضع الرسالة ينتهزون الفُرَص لتذكير الناس
-----------------
(٥٥) من التراث إلى الاجتهاد (ص ٢٤١ و٢٤٢)، بتصرُّف.
بالقضيَّة
المهدويَّة، والإجابة على كلِّ الأسئلة المتعلِّقة بالشأن المهدوي.. ولذا فقد صنَّف
علماء الشيعة المعاصرون للأئمَّة (عليهم السلام) من عهد أمير المؤمنين وإلى عهد
العسكري (عليهما السلام) ما يزيد على (٦٦٠٠ مصنَّف)(٥٦) في الأحاديث المرويَّة من
طريق أهل البيت (عليهم السلام)، وامتاز من بين هذه المصنَّفات (٤٠٠ أصل(٥٧))
عُرِفَت بالأُصول الأربعمائة(٥٨) التي شكَّلت أساس الجوامع الروائيَّة للشيعة، حيث
يمكن القول: إنَّ موضوع المهدي قد احتلَّ مساحة واسعة من الحديث والرواية، فقد ذكرت
المجاميع الحديثيَّة والكُتُب الروائيَّة التي بأيدينا حاليًّا أكثر من (٨٧٥
حديثاً)(٥٩) عن الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام).
نودُّ الإشارة إلى الحجم الهائل من التراث (الفكري - العقائدي) في الثقافة
الإسلاميَّة في هذه المرحلة فيما يتعلَّق بالقضيَّة المهدويَّة، فهناك أكثر من
مائتي آية قرآنيَّة ترتبط تفسيراً أو تأويلاً بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)،
بالإضافة لوجود عدد كبير من الروايات الشريفة (النبويَّة وأهل البيت) التي بشَّرت
بالمهدي وتحدَّثت عن أحواله وأخباره، فضلاً عن توفُّر بعض الكُتُب التي تنتمي إلى
المدرستين (الشيعة والسُّنَّة) كُتِبَت في الشأن المهدوي، وأُلِّفت قبل ولادته
(عجَّل الله فرجه)، وأنَّ المؤلِّف توفَّى قبل ذلك بسنين، مثل:
-----------------
(٥٦) الشيعة في
مسارهم التاريخي (ص ٤٢٢).
(٥٧) الأصل: هو الكتاب الحديثي الذي تكون الأحاديث المدوَّنة فيه من مسموعات صاحب
الكتاب من المعصوم مباشرةً، أو ممَّن سمع عن الإمام مباشرةً أصلاً، وذلك لكونه
التسجيل الأوَّل لتلك الأحاديث والأصل الذي يُرجَع إليه.
(٥٨) الأُصول الأربعمائة: هي (٤٠٠) كتاب حديثي دوَّنها (٤٠٠) من مشاهير علماء القرن
الثاني الهجري وكبار محدِّثي ذلك العصر من أتباع الأئمَّة (عليهم السلام).. وللأسف
فمعظمها قد ضاع وتُلِفَ، لكن مضامينها محفوظة في الكُتُب المجموعة منها كالكافي
مثلاً.
(٥٩) معجم أحاديث الإمام المهدي، مجموع أحاديث المجلَّدات ٥ و٦ و٧ من حديث ٥٦٤ إلى
حديث ١٤٣٩.
* الدكتور جواد
عليّ في رسالته (المهدي المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة)(٦٠) ذكر عناوين أكثر
من (١٨) كتاب في موضوع المهدي وأسماء مؤلِّفيها من الشيعة، كُتِبَت قبل ولادته
(عجَّل الله فرجه) بعناوين (الغيبة، القائم، الرجعة).. نذكر بعض من مؤلِّفي
وكُتَّاب(٦١) هذه المرحلة في موضوع المهدي (عجَّل الله فرجه):
١ - الحسن بن محبوب الذي سبق الغيبة بقرن في تأليف كتابه (المشيخة) الذي أورد فيه
أخبار وروايات الغيبة عن الإمام الصادق (عليه السلام).
٢ - عليُّ بن حسن الطائي، من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام)، ألَّف كتاباً في
الغيبة.
٣ - عليُّ بن عمر الأعرج الكوفي، من أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام)، كتب في
الغيبة.
٤ - الحسن بن عليِّ بن أبي حمزة، من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام)، ألَّف في
الغيبة.
٥ - عبَّاس بن هشام الناشري، توفَّى سنة (٢٢٠هـ)، صنَّف في الغيبة.
٦ - عليُّ بن مهزيار الأهوازي، فقد روى عن الإمام الجواد والإمام الهادي (عليهما
السلام)، وله كتابان: (الملاحم) و(القائم)(٦٢).
٧ - عليُّ بن الحسن بن فضَّال، من أصحاب الهادي والعسكري (عليهما السلام)، كتب في
الغيبة.
* الفضل بن شاذان الأزدي النيشابوري، عاصر بعض الأئمَّة (عليهم السلام)، توفَّى سنة
(٢٥٨ أو ٢٦٠هـ)، كان عالماً وأديباً، ألَّف أكثر من (١٨٠) كتاباً، له خمسة
-----------------
(٦٠) المهدي
المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة (ص ١٨ - ٢٨).
(٦١) حوارات حول المنقذ (ص ١٢٨).
(٦٢) دروس في تاريخ عصر الغيبة (ص ٢٠).
كُتُب في الشأن
المهدوي(٦٣)، وهي بعناوين: (الغيبة، إثبات الرجعة، الملاحم، الحجَّة البليغة في
إثبات القائم، كتاب حذو النعل بالنعل).. وتظهر أهمّيَّة كتابي (الغيبة) و(إثبات
الرجعة) لأنَّ المؤلِّف ذكر روايات تتحدَّث عن تفاصيل كثيرة تتعلَّق بالإمام المهدي
لم يألفها الشيعة، فالإمام لم يكن قد وُلِدَ آنذاك، بمعنى: أنَّه كان قد تحدَّث عن
الغيبة قبل حدوث الغيبة الصغرى.. وللأسف لم تصلنا أيٌّ من هذه الكُتُب الخمسة،
ولذلك يتعيَّن على مَنْ يريد الحصول على الأثر المتبقِّي من تراث هذا العالم الجليل
أنْ يراجع الكُتُب(٦٤) التي نقلت عنه مباشرةً وبدون واسطة، مثل: كتاب كفاية المهتدي
لمعرفة المهدي للسيِّد محمّد مير لوحي الأصفهاني، وكتاب الأربعون (كشف الحقِّ) لآقا
مير محمّد صادق الخاتون آبادي.
* كتاب (الفتن) للحافظ نعيم بن حمَّاد الخزاعي المروزي، وهو من أهل العامَّة،
تُوفِّي سنة (٢٢٩هـ)، يحتوي كتابه على (٢٠٠٤) رواية تتحدَّث عن علامات الساعة
الصغرى والكبرى، وأخبار المهدي، ونزول عيسى بن مريم، وأحداث آخر الزمان، (وقد شحن
المؤلِّف كتابه بعدد كبير من الروايات والأحاديث، وقد تفرَّد برواية بعضها، وضمَّنه
الغثَّ والسمين والصحيح والمنكر، وكرَّر بعضها في أكثر من موضع)(٦٥).. وقد قسَّم
كتابه إلى عشرة أبواب، ووضع لكلِّ باب عدداً من العناوين، وبهذا يكون نعيم أوَّل من
صنَّف كتاباً مستقلاً في هذا الموضوع، فهذا المصنَّف يُعَدُّ مصدراً في موضوعه، أخذ
منه الكثير من كبار المؤلِّفين من الخاصَّة والعامَّة ونقلوا بعض أحاديثه، وقد روى
عنه كلٌّ من البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجة وآخرين.. ويهمُّنا أنَّ المؤلِّف
توفَّى
-----------------
(٦٣) المهدي
المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة (ص ٢١).
(٦٤) مختصر كفاية المهتدي (ص ١١ - ١٣/ المقدَّمة).
(٦٥) مقدَّمة المنتخب من كتاب الفتن لنعيم بن حمَّاد، إعداد وتحقيق: عبد الكريم
العقيلي.
قبل ولادة الإمام
المهدي (عجَّل الله فرجه) بستَّة وعشرين سنة تقريباً، وهذا المصنَّف(٦٦) أوَّل ما
صُنِّف من نوعه، وجزء من تراثنا الإسلامي (ينبغي دراسته والاطِّلاع عليه للاستفادة
ممَّا ورد فيه)، وهو أقدم كتاب من تراث أهل العامَّة وصل إلينا في موضوع المهدي، في
عصرنا الحالي.
* مسند أحمد: لأحمد بن محمّد بن حنبل الشيباني الذهلي (١٦٤ - ٢٤١هـ)، كتاب مسند في
الحديث النبوي يحتوي على أكثر من (٤٠) ألف حديث نبوي، ومؤلِّفه إمام المذهب الحنبلي
في الفقه، رابع الأئمَّة الأربعة عند أهل السُّنَّة، يُعتبَر المسند من أشهر كُتُب
الحديث وأوسعها عند أهل العامَّة، أورد فيه (١٣٦ حديثاً)(٦٧) يتعلَّق بالمهدي
الموعود.
مقتطفات من المشهد الأدبي في هذه
المرحلة:
إلى جانب الكتابة الروائيَّة (تدوين الأحاديث الشريفة) ظهرت المهدويَّة في التراث
الأدبي في هذه الحقبة، بحيث نستطيع القول: إنَّ التغنِّي بالمهدي والتعلُّق بالأمل
بانتظار المهدي أصبح سائغاً لدى الشعراء، وذلك لوضوح فكرة المهدي المنتظَر وغيبته
عند جميع المسلمين واعتبارها من المسائل الإسلاميَّة البديهيَّة، مثل:
* نعثل (أبا عمارة) من الصحابة:
قَدِمَ رجل يهودي يقال له: نعثل على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يسأله عن
أُمور كثيرة، فأجابه الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، فأسلم الرجل، فأنشأ شعراً(٦٨):
-----------------
(٦٦) أحتفظ بنسخة
من هذا الكتاب في مكتبتي الخاصَّة، طبع المكتبة الحيدريَّة ١٤٢٤هـ، يحتوي على ٥٢٧
صفحة.
(٦٧) جُمِعَت هذه الأحاديث في كتاب أحاديث المهدي من مسند أحمد بن حنبل للسيِّد
محمّد جواد الجلالي.
(٦٨) كفاية الأثر (ص ١١ - ١٦).
صلَّى العليُّ ذو
العلى * * * عليك يا خير البشرْ
أنت النبيُّ المصطفى * * * والهاشمي المفتخرْ
بك اهتدينا [رشدنا] * * * وفيك نرجو ما أمرْ
ومعشر سمَّيتهم * * * أئمَّة اثنا عشرْ
حباهم ربُّ العلى * * * ثمّ صفَّاهم من كدرْ
قد فاز مَنْ والاهم * * * وخاب مَنْ عفى الأثرْ
آخرهم يشفي الظمأ * * * وهو الإمام المنتظَرْ
عترتك الأخيار لي * * * والتابعون ما أمرْ
مَنْ كان منكم معرضاً * * * فسوف يصلى بسقرْ
* إسماعيل محمّد
الحميري(٦٩) (١٠٥ - ١٧٣هـ):
من كبار شعراء الشيعة، وُلِدَ في عمان، عاصر الإمام الصادق (عليه السلام)، ولقَّبه
الإمام بـ(سيِّد الشعراء)، ولقى الإمام الكاظم (عليه السلام)، وهو شاعر مكثر، له في
مدح بني هاشم وحدهم (٢٣٠٠) قصيدة، وكان يقول: (مَنْ يأتيني بمنقبة لعليٍّ لم أقل
فيها شعراً لأُعطيَّنه عشرة آلاف)، عاش في الكوفة والبصرة، في فترة انهيار الدولة
الأُمويَّة ونشوء الدولة العبَّاسيَّة، وأدرك الملوك الخمسة الأُوَل من بني
العبَّاس، توفَّى ببغداد، نظم عدَّة قصائد في غيبة الإمام المنتظَر وخروجه، ننتخب
من قصيدته (له غيبة) هذه الأبيات:
ولكن روينا عن
وصيِّ محمّد * * * ولم يكُ فيما قاله بالمكذَّبِ
بأنَّ وليَّ الأمر يُفقَد لا يُرى * * * سنيناً كفعل الخائف المترقِّبِ
-----------------
(٦٩) الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة (ج ١/ ص ٣٣٨ و٣٣٩).
يسير بنصر الله
من بيت ربِّه * * * على سؤدد منه وأمر مسبَّبِ
فلمَّا رُوِيَ أنَّ ابن خولة غائب * * * صرفنا إليه قولنا لم نُكذِّب(٧٠)
وقلنا هو المهدي والقائم الذي * * * يعيش به من عدله كلُّ مجدِبِ
فإنْ قلت لا فالحقُّ قولك والذي * * * أمرتَ فحتم غير ما متعصِّبِ
وأُشهد ربِّي أنَّ قولك حجَّة * * * على الخلق طُرًّا من مطيع ومذنبِ
بأنَّ وليَّ الأمر والقائم الذي * * * تطَّلع نفسي نحوه بتطرُّبِ
له غيبة لا بدَّ من أنْ يغيبها * * * فصلَّى عليه الله من متغيِّبِ
فيمكث حيناً ثمّ يظهر حينه * * * فيملأ عدلاً كلَّ شرق ومغربِ
فذاك أمين الله سرًّا وجهرةً * * * ولستُ وإنْ عوتبتُ فيه بمعتِبِ
* دعبل الخزاعي
(١٤٨ - ٢٢٠هـ):
اسمه دعبل بن عليِّ بن رزين الخزاعي، وُلِدَ في الكوفة، من مشاهير شعراء العصر
العبَّاسي، عاصر بعض الأئمَّة (عليهم السلام)، ومات في نواحي طوس، عُرِفَ عنه شدَّة
ولائه لآل البيت (عليهم السلام) والجهر بحبِّهم، واعتُبِرَت قصيدته (مدارس آيات)
إحدى قِمَم البلاغة العربيَّة، دخل يوماً على الإمام الرضا (عليه السلام) وأنشد هذه
القصيدة، ومنها هذه الأبيات يذكر فيها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
فَلَوْلَا
اَلَّذِي أَرْجُوهُ فِي اَلْيَوْمِ أَوْ غَدٍ * * * تَقَطَّعَ قَلْبِي إِثْرَهُمْ
حَسَرَاتِ
خُرُوجُ إِمَامٍ لَا مَحَالَةَ خَارِجٌ * * * يَقُومُ عَلَى اِسْمِ اَلله
وَاَلْبَرَكَاتِ
-----------------
(٧٠) قال الشيخ الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص ٣٣): (فلم يزل السيِّد [إسماعيل الحميري] ضالًّا في أمر الغيبة، يعتقدها في محمّد بن الحنفيَّة حتَّى لقى الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، ورأى منه علامات الإمامة، وشاهد فيه دلالات الوصيَّة، فسأله عن الغيبة، فذكر له أنَّها حقٌّ ولكنَّها تقع في الثاني عشر من الأئمَّة (عليهم السلام)، وأخبره بموت محمّد بن الحنفيَّة، وأنَّ أباه شاهد دفنه، فرجع السيِّد عن مقالته، واستغفر من اعتقاده، ورجع إلى الحقِّ عند اتِّضاحه له، ودان بالإمامة).
يُمَيِّزُ فِينَا
كُلَّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ * * * وَيَجْزِي عَلَى اَلنَّعْمَاءِ وَاَلنَّقِمَاتِ
فَيَا نَفْسُ طِيبِي ثُمَّ يَا نَفْسُ أَبْشِرِي * * * فَغَيْرُ بَعِيدٍ كُلُّ مَا
هُوَ آتِ
بكى الإمام الرضا
(عليه السلام) بكاءً شديداً، ثمّ رفع رأسه إليَّ فقال لي: «يَا خُزَاعِيُّ، نَطَقَ
رُوحُ اَلْقُدُسِ عَلَى لِسَانِكَ بِهَذَيْنِ اَلْبَيْتَيْنِ»(٧١).
* محمّد بن إسماعيل بن صالح الصيمري، تُوفِّي حدود سنة (٢٥٥هـ):
من خيار الشيعة، كان أديباً شاعراً، من شعراء الإمام الهادي (عليه السلام)، قال
قصيدة(٧٢) يُرثي بها الإمام الهادي ويُعزِّي ابنه الإمام العسكري (عليه السلام)،
أوَّلها:
الأرض خوفاً زُلزت زلزالها * * * وأخرجت من جزع أثقالَها
ثمّ يُعدِّد الأئمَّة ويُكمِلهم للمهدي وذلك قبل ميلاده، جاء فيها:
عشر نجوم أفلت في
فلكها * * * ويُطلِع الله لنا أمثالها
بالحسن الهادي أبي محمّد * * * تُدرِك أشياع الهدى آمالها
وبعده مَنْ يُرتجى طلوعه * * * يظلُّ جوَّاب الفلا جوالها
ذو الغيبة الطولى بالحقِّ التي * * * لا يقبل الله مَنْ استطالها
يا حُجَج الرحمن إحدى عشرة * * * آلت بثاني عشرها مآلها
* ابن الرومي
(٢٢١ - ٢٨٣هـ):
اسمه: أبو الحسن عليُّ بن عبَّاس بن جريح، الشهير بابن الرومي لأنَّه رومي الأصل،
وُلِدَ في بغداد، شاعر كبير من شعراء العصر العبَّاسي، وعُرِفَ بأنَّه شاعر الإمام
العسكري (عليه السلام)، وله في مودَّة ذي القربى من آل الرسول (صلَّى الله عليه
وآله) أشواط بعيدة، واختصَّ بمدحهم والدفاع عنهم، عاصر ثمانية من الخلفاء
-----------------
(٧١) كمال
الدِّين (ص ٣٧٢/ باب ٣٥/ ح ٦).
(٧٢) اللؤلؤ المرتَّب (ص ٥٠).
العبَّاسيِّين، توفَّى مسموماً ودُفِنَ ببغداد في زمن الغيبة الصغرى، له قصيدة بعنوان )الدهر لونان)(٧٣) يخاطب فيها بني العبَّاس ويُذكِّرهم بالأمل الموعود، جاء فيها:
غررتم لأنْ صدقتم
أنَّ حالة * * * تدوم لكم والدهر لونان أخرجُ
لعلَّ لهم في منطوى الغيب ثائراً * * * سيسمو لكم والصبح في الليل مولجُ
بجيش تضيق الأرض من زفراته * * * له زجل ينفي الوحوش وهزمجُ
إذا شيم بالأبصار أبرق بيضه * * * بوارق لا يستطعهنَّ المحمجُ
جمهور كبير من الشعراء آمن بحقيقة المهدي المنتظَر في صدر الإسلام، فنظموا قصائد وأبياتاً شعريَّة تتغنَّى فيه قبل ولادته، كـ: الكميت بن زيد الأسدي (ت ١٢٦هـ)، ومصعب بن وهب النوشجاني (معاصر للرضا)، الأمر الذي يدلُّ على شيوع الإيمان بالعقيدة المهدويَّة وحتميَّة ظهوره عند جميع الأوساط العلميَّة والأدبيَّة الشيعيَّة.
* * *
-----------------
(٧٣) حياة الإمام المهدي (عليه السلام) (ص ٢٢٨).
مرحلة الغيبة الصغرى (٢٦٠ -
٣٢٩هـ):
تمتاز هذه البرهة الزمنيَّة في تاريخ الشيعة بأهمّيَّة خاصَّة، إذ قارب هذا
العصر على سبعين عاماً، بدأً بوفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في الثامن
من ربيع الأول عام (٢٦٠هـ) وتولِّي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الولاية
والإمامة، وانتهى في الخامس عشر من شعبان عام (٣٢٩هـ) بوفاة السفير عليٍّ السمري
رابع وآخر نائب خاصٍّ للإمام المهدي.. ففي هذه الفترة انتقل الشيعة إلى مرحلة جديدة
في العلاقة مع القيادة الشرعيَّة، فالشيعة قبل هذا التاريخ لم يعتادوا مسألة غياب
المعصوم، حيث إنَّ غيبة الإمام الأخير من العترة الطاهرة انعطافة مغايرة في تاريخ
الشيعة وذات إشكاليَّة مختلفة، إذ إنَّ عدم حضور الإمام المعصوم المباشر بين شيعته
وقاعدته الشعبيَّة، أوجب من الناحية العمليَّة معالجة هذا الفراغ الناشئ، فالإمام
الغائب هو آخر الأوصياء وإمام الزمان.
الوضع السياسي والفكري(٧٤) في هذه
المرحلة:
الوضع السياسي:
تزامن فترة الغيبة الصغرى مع حكم ستَّة خلفاء عبَّاسيِّين، من الخليفة الخامس عشر
المعتمد (٢٥٦ - ٢٧٩هـ)، وحتَّى الخليفة العشرين الراضي (٣٢٢ - ٣٢٩هـ)، وكان الوضع
خلالها مشابهاً لما سبقه قبل عصر الغيبة حيث غلبة الموالي لاسيَّما الأتراك،
وانحدار السلطة المركزيَّة نحو الضعف والانهيار،
-----------------
(٧٤) بحوث في الحياة السياسيَّة لأهل البيت (عليهم السلام) (ص ٣٢٧ - ٣٣٠)، بتصرُّف.
ومع كلِّ هذا
الضعف لم يتوقَّف الخلفاء العبَّاسيُّون عن ظلم الناس وهضم حقوقهم، وكان الإرهاب
سيِّد الموقف لاسيَّما في عصر المعتضد (٢٧٩ - ٢٨٩هـ) الذي كان الأمر في عهده حادًّا
والسيف يقطر دماً على حدِّ تعبير الشيخ الطوسي(٧٥).. وبعد أنْ نقل المعتصم الخلافة
من بغداد إلى سامرَّاء عام (٢٢٠هـ) قام المعتضد العبَّاسي بإرجاعها إلى بغداد.. ومن
المشاكل التي واجهت العالم الإسلامي في عصر الغيبة الصغرى ظهور القرامطة وتمرُّدهم
عام (٢٧٧هـ) وفتنتهم وممارستهم للظلم والجور طيلة (٣٠ عاماً)، وهذا ما استدعى
ممارسة السلطة العبَّاسيَّة الظلم ضدَّ الشيعة بذريعة انتساب هذه الفرقة إليهم
وتصاعد أجواء الكبت ضدَّ الشيعة.. ففي هذه الفترة من التاريخ ظهرت أيضاً دول
مستقلَّة، فانقسم العالم الإسلامي إلى ثلاثة أنظمة: الحكومة العبَّاسيَّة في بغداد،
الحكومة الأُمويَّة في الأندلس، الحكومة الفاطميَّة في مصر.
الوضع الفكري:
بدأت حركة تدوين المصادر الروائيَّة في هذه الفترة بعد أنْ مُنِعَت كتابة الحديث في
أوائل القرن الأوَّل الهجري إلى فترة خلافة عمر بن عبد العزيز (٩٩ - ١٠١هـ) الذي
أمر بتدوين وضبط الأحاديث النبويَّة وحوادث تاريخ الإسلام، إلَّا أنَّ الأمر لم
يلقَ رواجاً في ظلِّ العصر العبَّاسي الأوَّل، واستمرَّ الوضع كذلك حتَّى عصر
الغيبة الصغرى، حيث صُنِّفت فيه كُتُب عديدة، منها أربعة كُتُب من أصل ستَّة كُتُب
مهمَّة لأهل العامَّة عُرِفَت فيما بعد بالصحاح الستَّة، والأربعة هي: (سُنَن ابن
ماجة، سُنَن أبي داود، سُنَن الترمذي، سُنَن النسائي).. وللشيعة صُنِّف الكتاب
الشهير (الكافي) في هذه الفترة أيضاً.
-----------------
(٧٥) الغيبة للطوسي (ص ٢٩٦/ ح ٢٤٩).
ففي ظلِّ هذا
الوضع الأمني والسياسي المتأزِّم والذي نشأ عقب استشهاد الإمام العسكري (عليه
السلام) - الإمام الحادي عشر للشيعة الإماميَّة - فإنَّ حُكَّام الدولة
العبَّاسيَّة يُدرِكون تماماً أنَّ المهدي - آخر الأوصياء، والثاني عشر من الأئمَّة
المعصومين - الذي بشر به النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) ستزول دولتهم على يديه
ويُقوِّض عروشهم ويُدمِّر كيانهم، ولهذا كانوا متأهِّبين لدفع الأخطار مهما كان
الثمن، وبذلوا أقصى جهودهم للقضاء عليه، وهكذا نجد أنَّ التاريخ يُعيد نفسه كقصَّة
موسى وفرعون.. ومن أجل هذا كانت منازل بني هاشم تخضع لمراقبة شديدة، خاصَّةً منزل
الإمام العسكري (عليه السلام)، ففي الثامن من ربيع الأوَّل عام (٢٦٠هـ) أصدر
الخليفة العبَّاسي المعتمد أمراً يقتضي بتفتيش جميع بيوت (سامرَّاء) والبحث عن
الصبيِّ الموعود(٧٦).
فكيف يتصرَّف الإمام المهدي في جوٍّ خانق ملئ بالجواسيس والعيون؟ وكيف يتسنَّى له
حماية نفسه من بطش الطغاة؟.. وتحذيراً من خطر القتل وإبقاء نفسه الشريفة لأجل إظهار
الدِّين وبأمر إلهي قرَّر اعتزال الناس بالغيبة والاستتار(٧٧).
نظام السفارة:
حرم الناس في زمن الغيبة من الاتِّصال بالإمام مباشرةً، فكان لا بدَّ من إيجاد
طريقة تحاول أنْ تعالج فراغ الغيبة من خلال الصلة بالإمام الغائب مع
-----------------
(٧٦) المصادر
الشيعيَّة الإماميَّة تُؤكِّد أنَّ الإمام المهدي المنتظَر وُلِدَ يوم الجمعة (١٥)
شعبان عام (٢٥٥هـ)، ووالده الإمام الحسن العسكري توفَّى يوم (٨/ ربيع الأوَّل/
٢٦٠هـ)، وعمر الإمام المهدي خمس سنوات تقريباً.
(٧٧) عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ اَلْإِمَامِ اَلصَّادِقِ (عليه السلام)، قَالَ:
«لِلْقَائِمِ غَيْبَةٌ قَبْلَ قِيَامِهِ»، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ عَلَى
نَفْسِهِ اَلذَّبْحَ». كمال الدِّين (ص ٤٨١/ باب ٤٤/ ح ١٠).
توفُّر الحماية
التامَّة له، فوُجِدَت مسألة (السفارة) كنوع من الارتباط غير المباشر من خلال سفير
أو وكيل أو نائب خاصٍّ يُعيِّنه الإمام (عجَّل الله فرجه) بنفسه، وكانت مهمَّة
السفراء رفع حوائج الناس والسعي في حلِّ مشاكلهم، وكانت الأسئلة تُسجَّل في ورقة
فيأتي جوابها بتوقيعه (عجَّل الله فرجه)، حتَّى اصطُلِحَ عليها بتواقيع الناحية
المقدَّسة.
إنَّ الغيبة الصغرى هي حقبة انتقاليَّة تتَّسم بتحوُّلات طالت علاقة إمام الزمان
بقاعدته الشعبيَّة، وهو أمر واقع تاريخيًّا تبرز فيه السفارة كمقوِّم أساسي لهذه
المرحلة، ولولا وجود هذا النظام في بداية زمن الغيبة الصغرى لكان للشيعة مسارٌ
منحرف عن المنحى الطبيعي لحركة الدعوة واتِّجاه الرسالة، ممَّا سيدفع الناس إلى
تناسي الإمام (عجَّل الله فرجه) والإصغاء لما أشاعته السلطة العبَّاسيَّة عن وفاة
العسكري (عليه السلام) دون وجود خلف له، لهذا كان لا بدَّ من مرحلة قصيرة من
الاحتجاب عن الناس تُمهِّد للغيبة التامَّة.
هذا التطوُّر التاريخي لمسألة الاتِّصال بالمعصوم (الإمام المهدي) وابتكار نظام
السفارة في المسيرة الشيعيَّة، أدَّى إلى تفاعل الأُمَّة وجدانيًّا وعمليًّا مع
القيادة الربَّانيَّة المتمثِّلة في إمام الزمان (المهدي)، وذلك تجسيداً لمبدأ
الإمامة بكلِّ ما تحمله من دلالات عقائديَّة وروحيَّة، فكريَّة وعمليَّة.
خصوصيَّة الأطروحة المهدويَّة
الشيعيَّة:
تولَّى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الإمامة والولاية بعد استشهاد والده الإمام
الحسن العسكري (عليه السلام) عام (٢٦٠هـ)، وهذه خصوصيَّة وميزة تُحسَب إلى المدرسة
الإماميَّة حيث إنَّها بدَّلت وحوَّلت حالة الأُمنية والأمر النظري في القضيَّة
المهدويَّة إلى حالة واقعيَّة موجودة، فهي بذلك تنتظر مهديًّا محدَّداً، معروف
الهويَّة والشخصيَّة، وُلِدَ في عصره، وهو الآن حاضر موجود.
مراحل غياب الإمام المهدي (عجَّل
الله فرجه):
بناءً على الوضع الأمني والسياسي المتأزِّم في بداية فترة إمامته، وتناغماً مع
الدور الإلهي الكبير المناط به تحقيقه، احتجب الإمام عن الناس بأمر إلهي إلى أنْ
يأذن الله بظهوره في اليوم الموعود.
يُقسِّم الشيعة الإماميَّة احتجاب واختفاء الإمام المهدي إلى مرحلتين، ويُطلِقون
عليها مصطلح الغيبة:
الأُولى: الغيبة الصغرى (٢٦٠ - ٣٢٩هـ):
بدأت منذ وفاة أبيه الإمام العسكري (عليه السلام)، إلَّا أنَّ الإمام المهدي كان
يلتقي بخيار المؤمنين والصالحين، وبدأت ترتيبات عصر إمامته وقيادته للمجتمع، وتعيين
سفراء له:
* السفير الأوَّل: عثمان بن سعيد العمري (٢٦٠ - ٢٦٥هـ)، ولمدَّة (٥ سنوات) تقريباً.
* السفير الثاني: ابنه محمّد بن عثمان العمري (٢٦٥ - ٣٠٥هـ)، ولمدَّة (٤٠ سنة).
* السفير الثالث: أبو القاسم حسين بن روح النوبختي (٣٠٥ - ٣٢٦هـ)، ولمدَّة (٢١
سنة).
* السفير الرابع: عليُّ بن محمّد السمري (٣٢٦ - ٣٢٩هـ)، ولمدَّة (٣ سنين).
وإنْ لم يكن أمر السفارة غريباً على أذهان الموالين (الشيعة) بعد أنْ كان نظام
الإمامين الهادي و العسكري (عليهما السلام) قائماً على ذلك بشكل طبيعي واعتيادي..
بعد استشهاد الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) في سامرَّاء، واحتجاب الإمام
المهدي عن الناس، لم يعد هناك من سبب لوجود السفير الأوَّل
في سامرَّاء،
فانتقل إلى بغداد وأقام بجانب الكرخ (الحي) الذي يسكنه الشيعة، وأصبحت بغداد حينها
مركز حركة الناحية المقدَّسة والشيعة، وكان الموالون أو الوكلاء يحملون المال
للسفير من مراكز وأقطاب بعيدة ويُقدِّمون له أسئلتهم، وبدوره ينقلها للإمام الغائب.
كان مركز السفراء الأربعة بمدينة بغداد، ولهم وكلاء (٢٠ وكيلاً) في المُدُن
الإسلاميَّة المختلفة، وكنموذج نشير إلى بعض منهم:
١ - الشيخ إبراهيم بن مهزيار في الأهواز.
٢ - الشيخ أحمد بن إسحاق الأشعري في قم.
٣ - الشيخ حاجز بن يزيد الوشَّاء في الريِّ.
٤ - الشيخ داود بن قاسم الجعفري في سامرَّاء.
٥ - الشيخ محمّد بن صالح الهمداني في همدان.
٦ - الشيخ القاسم بن العلاء في أذربيجان.
٧ - الشيخ محمّد بن شاذان بن نعيم في نيسابور.
ففترة الغيبة الصغرى دامت على التحديد تسعاً وستِّين عاماً وستَّة أشهر وخمسة عشر
يوماً، وانتهت بوفاة رابع وآخر سفير ونائب خاصٍّ للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..
هذا وكانت السفارة في بداية عهدها (زمن السفير الأوَّل) عبارة عن جهاد كبير وتضحية
عظمى، فالسفير كان حلقة الوصل بين الإمام والأُمَّة، والظروف الأمنيَّة والسياسيَّة
العصيبة في تلك الفترة لم تكن لتساعد على أيِّ صلة بالإمام المهدي، إضافةً إلى أنَّ
القواعد الشعبيَّة لم تكن لتعتاد على نظام السفارة والنيابة الخاصَّة في بدايتها،
ولكن مع الدرجة الرفيعة والمنزلة الكبيرة التي حظيت بها السفارة الصادقة داخل
المجتمع الإسلامي ولدى أوساط القواعد الشعبيَّة، ونظراً لأهمّيَّة هذا الموقع
الحسَّاس بما يحمله من إمكانيَّات مادّيَّة
ومعنويَّة، برز
العديد من الأصوات التي ادَّعت حصولها على شرف السفارة (كذباً وزوراً)، فابتدأت في
عهد السفير الثاني الادِّعاءات الكاذبة في زمن الغيبة الصغرى، وتوالت الادِّعاءات
في زمن الغيبة الكبرى وإلى يومنا هذا، وهذا من أكبر الفتن عند الشيعة الإماميَّة.
هذا وكانت هناك أهداف أساسيَّة من وراء الغيبة الصغرى وتعيين السفراء كنُوَّاب
ووكلاء يقومون مقامه (عجَّل الله فرجه) تتمثَّل في:
١ - كانت ضروريَّة لإيجاد الارتباط بين الإمام المهدي وبين الخواصِّ من شيعته،
وكانت فترة (٧٠ سنة) كافية لإثبات وجود الإمام، وترسيخ ثقافة الغيبة عند الناس.
٢ - تهيئة الأُمَّة وخاصَّة القواعد الشعبيَّة الموالية للأئمَّة (عليهم السلام)
لاستيعاب مفهوم الغيبة الكبرى، وتعويدهم عليها تدريجيًّا، وعدم مفاجئتهم بذلك.
٣ - قيام السفارة بمصالح المجتمع وشؤون الأُمَّة، وتعويد الناس على الارتباط
بالعلماء أثناء غيبة الإمام واختفائه عن مسرح الحياة.
الثانية: الغيبة الكبرى (٣٢٩هـ - اليوم الموعود):
كانت وفاة السفير الرابع يوم الخامس عشر من شعبان عام (٣٢٩هـ) إيذاناً بابتداء عصر
الغيبة الكبرى، وكان التوقيع (نصٌّ بالغ الأهمّيَّة) الصادر عن الإمام (عجَّل الله
فرجه) إلى عليٍّ السمري قبل وفاته بستَّة أيَّام هو الإعلان عن انتهاء أمد الغيبة
الصغرى وانقطاع السفارة والنيابة الخاصَّة(٧٨) وبدء عصر الغيبة الكبرى.. وبدأت
مرحلة جديدة هي مرحلة النيابة العامَّة: فالنائب العامُّ لم يُشخَّص بالاسم،
وإنَّما شُخِّص بالصفة (ملكة الفقاهة).
من التكاليف المطلوبة إسلاميًّا في فترة الغيبة (سواءً الصغرى أو الكبرى)،
-----------------
(٧٨) لا يوجد نائب خاصٌّ، من زمن انتهاء الغيبة الصغرى إلى صدور الصيحة السماويَّة آخر الزمان.
ومن الضروريَّات
العقائديَّة الواضحة في مدرسة الشيعة الإماميَّة: الإيمان بوجود الإمام المهدي (م ح
م د بن الإمام الحسن العسكري) والاعتراف به كإمام مفترض الطاعة وقائد فعلي للأُمَّة
والالتزام بذلك، وإنْ لم يكن عمله ظاهراً للعيان، ولا شخصه معروفاً لدى الناس،
فإنَّه الإمام الثاني عشر، ومعرفته تُنقِذ من موتة الجاهليَّة(٧٩)، ارتكازاً على
الأدلَّة العقليَّة المنطقيَّة والأدلَّة النقليَّة الصحيحة.
في واقع الأمر، تُشكِّل فترة الغيبة الصغرى مرحلة جديدة في تاريخ الشيعة، وأنَّ
ماهيَّة التحوُّل فيها تنطوي على تهيئة الأُمَّة (القواعد الشعبيَّة الشيعيَّة)
لمرحلة الغيبة الكبرى (الغياب التامُّ لإمام الزمان) وتحويل السلطة التشريعيَّة إلى
العلماء والمراجع (علماء مميَّزون غير معصومين)، ولكن من غير تحديد أو تعيين أيِّ
شخص للنيابة العامَّة.. وتنطوي هذه الفترة أيضاً على تجاوز المرحلة السابقة فترة
عصر الأئمَّة (عليهم السلام).
التراث المهدوي المكتوب في هذه
المرحلة:
تأسيساً على تراث المرحلة السابقة، التي بذل فيها الأئمَّة (عليهم السلام) جهوداً
كبيرةً في ربط الأُمَّة فكريًّا وعاطفيًّا بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، يمكن
القول: إنَّ هذه الفترة امتداد لتلك مع بعض التغيُّرات التي تتناسب مع ظروف وأجواء
المرحلة.. فالنشاط الفكري والثقافي والقيادي الذي مارسته المهدويَّة داخل الدائرة
الشيعيَّة الخاصَّة، تميَّز بمستوى معيَّن من الخصوصيَّة والتركيز والسرّيَّة يناسب
مع الوضع الأمني الذي كان سائداً، ويهدف إلى ربط الأُمَّة بقائدها الشرعي ورفع
مستوى الوعي الدِّيني والعقائدي والفكري للأُمَّة، وتعبئتها نفسيًّا لاستقبال
الحَدَث القادم المهمِّ (الغيبة التامَّة).
-----------------
(٧٩) مصداق لحديث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) المتواتر والمعروف: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
إنَّ التراث
المهدوي في هذه المرحلة يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:
١ - تواقيع الناحية المقدَّسة:
إنَّ فترة إمامة المهدي تحفُّ بها خصوصيَّات، ومن أهمّها وأبرزها قضيَّة غيبته،
وتمَّ تجاوز هذا الأمر عن طريق نظام السفارة، فالسفير كان همزة وصل بين الإمام
وشيعته، ولذا كانت أسئلة واستفسارات الشيعة في هذا العصر وإجابات الإمام المهدي
عليها يتمُّ نقلها وتداولها عبر السفير، وعُرِفَت بـ(تواقيع الناحية
المقدَّسة)(٨٠)، وهي كثيرة جدًّا وعلى امتداد ما يقرب من سبعين سنة، قد جُمِعَت في
حينها بواسطة عبد الله بن جعفر الحميري(٨١)، وجمعها أيضاً آخرون.. وللأسف الشديد
(وأُكرِّرها مرارًا)، فإنَّ أغلب رسائل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والذي
يُقدَّر عددها بين (حدود ٨٨٢٠ رسالة في الحدِّ الأدنى)(٨٢) أو (حدود
-----------------
(٨٠) التوقيع:
عبارة عن جواب مكتوب يُجيب به الإمام (عجَّل الله فرجه) على سؤال أو أسئلة ترد
عليه، وربَّما يصدر ابتداءً من دون أنْ يسبق السؤال.. و(توقيع الناحية المقدَّسة)
اختصَّ هذا المصطلح بما صدر عن الإمام المهدي، أمَّا ما صدر عن بقيَّة الأئمَّة
المعصومين فيُطلَق عليه عبارة (المكاتبة)، وهي الأشهر بالنسبة للأجوبة المكتوبة
الصادرة منهم.. للتوسُّع ارجع إلى: مجلَّة الموعود (العدد الأوَّل/ ١٤٣٧هـ/ مقال
الشيخ نزار آل سنبل القطيفي).
(٨١) المهدي المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة (ص ١٠٤).
(٨٢) حساب الحدِّ الأدنى كالآتي:
٧٠ سنة (ضرب) ١٢ شهر = ٨٤٠ شهراً.
وباعتبار كلِّ شهرين رسالة على الأقلّ كما صرَّح أحد الوكلاء (القاسم بن العلاء -
وكيل منطقة أذربيجان).
٨٤٠ شهر (قسمة) ٢ رسالة كلَّ شهرين = ٤٢٠ رسالة لكلِّ وكيل على الأقلّ.
عدد الوكاء ٢٠ وكيل (بالإضافة) لسفير الفترة = ٢١ شخص.
٤٢٠ رسالة (ضرب) ٢١ شخص = ٨٨٢٠ رسالة كحدٍّ أدنى صادرة من الإمام في زمن الغيبة
الصغرى.
٢٨٨٠٠
رسالة في الحدِّ الأعلى)، وقد أكَّد السيِّد محمّد القبانجي مدير مركز الدراسات
التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، أنَّ هذا الرقم أقلّ من الحدِّ
الأعلى لرسائل الإمام بكثير، حيث قال: (فيكون مجموع التواقيع الواصلة للوكلاء عن
طريق السفراء (٢٨٨٠٠) توقيع، هذا عدا مئات، بل آلاف التواقيع المباشرة من السفير
إلى صاحب الشأن والحاجة)(٨٣)، فمعظم هذه التواقيع المقدَّسة (ويا للأسف) ضاع ولم
تصل لنا.. فالذي بين أيدينا حاليًّا من هذه التواقيع والرسائل الثمينة لا يتجاوز
(٨٥) توقيعاً(٨٤)، منها: (٣٩) دعاء، (١٥) مسائل فقهيَّة، (٣١) أُمور عامَّة
وخاصَّة، وعلى أكبر تقدير (١٠٩) توقيعاً كما جاء في المجلَّد السابع من مكاتيب
الأئمَّة (عليهم السلام)، أمَّا البقيَّة الكبرى منها قد ضاع، وهذه إحدى المصائب في
القضيَّة المهدويَّة.
إنَّ تواقيع الناحية المقدَّسة هي عبارة عن أحاديث شريفة تُمثِّل سُنَّة المعصوم،
وصلت إلينا على شكل (رسائل مكتوبة)، ونستشفُّ بين ثنايا هذه التوقيعات لمحات نيِّرة
وجَّهها (عجَّل الله فرجه) إلى شيعته، بالإضافة إلى التعرُّف على تعاليم مدرسة
الأئمَّة (عليهم السلام).. وقد بادر بعض من العلماء في العصر الحديث إلى جمع هذا
التراث النفيس ممَّا كتبه الإمام المهدي، فرفدوا بعملهم هذا ميدان البحث والتحقيق،
ونشير إلى بعض هذه المصنَّفات:
* كلمة الإمام المهدي، للسيِّد حسن مهدي الحسيني الشيرازي، توفَّى (١٤٠٠هـ).
-----------------
(٨٣) صحيفة صدى
المهدي، العدد ١٤، شهر رجب ١٤٣١هـ، من المفترض أنْ يكون الحدُّ الأعلى للرسائل
الواصلة للوكلاء ٣٣٦٠٠ رسالة، باعتبار رسالتين كلَّ شهر، ٢٠ وكيل، ٧٠ سنة.
(٨٤) قد تكون هناك مجموعة فقرات متفرِّقة ولكن في الحقيقة تعود كلُّها إلى توقيع
واحد، حيث جرى تقطيع التوقيع الذي جاء مفصَّلاً إلى مقتطفات ومقاطع، وتمَّ تفريقها
على أبواب مختلفة من الكُتُب الروائيَّة لمناسبة أو أُخرى.
* موسوعة توقيعات
الإمام المهدي، للشيخ محمّد تقي أكبر نجاد، منشورات مسجد جمكران، طُبِعَ (١٤٢٧هـ).
* مكاتيب الإمام المهدي، للشيخ عليٍّ الأحمدي الميانجي، طُبِعَ (١٤٣١هـ).
* موسوعة كلمات الإمام المهدي، مؤسَّسة الإمام الهادي - قم، طُبِعَ (١٤٣٣هـ).
٢ - كُتُب ومصنَّفات الشيعة:
في فترة متأخِّرة من هذه المرحلة، كانت هناك مساهمات واضحة من علماء الشيعة في
تدوين الحديث الشريف وترتيب أبوابه، باعتبار أنَّ هذه الفترة من التاريخ تستوجب هذا
النوع من التأليف عقب انتهاء عصر الأئمَّة (عليهم السلام)، وبدأ الاهتمام بجمع
أحاديثهم وتداولها والتقيُّد بها، وذلك لكشف الأحكام وتوضيح المسائل.. وكذلك في
القضيَّة المهدويَّة فنحن في صدد غيبته عن أُمَّته وشيعته، ولذا كثرت المصنَّفات في
هذه الفترة التي تتحدَّث عن الغيبة، فمن المصنَّفات التي دُوِّنت وكُتِبَت في هذه
المرحلة، النماذج التالية:
١ - كتاب (صاحب الزمان): أبو العنبس محمّد بن إسحاق بن أبي العنبس الصيمريُّ،
وُلِدَ في الكوفة عام (٢١٣هـ)، وتوفَّى ببغداد عام (٢٧٥هـ).
٢ - محمّد بن الحسن بن فرُّوخ الصفَّار، المتوفَّى سنة (٢٩٠هـ)، دوَّن عن المهدي
فصلاً(٨٥) في كتابه (بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد (عليهم السلام)).
٣ - عبد الله بن جعفر بن الحسين أبو العبَّاس الحميري القمِّي، توفَّى بعد سنة
(٢٩٠هـ)، اعتُبِرَ أكبر عالم في مدينة قم في عصره، نقل الصدوق والطوسي
-----------------
(٨٥) نُشِرَ هذا الفصل في: مصادر علماء الشيعة (ج ١/ ص ١٩ - ٣٤).
الكثير عنه في
كُتُبهما، له الكُتُب التالية(٨٦): (الغيبة والحيرة، المسائل والتوقيعات، مسائل عن
محمّد بن عثمان العمري، قرب الإسناد إلى صاحب الأمر).
٤ - محمّد بن مسعود بن محمّد بن أيُّوب العيَّاشي، توفَّى في نهاية القرن الثالث
الهجري، كان أديباً غزير الإنتاج، كان في بداية تعلُّمه يتبع مدرسة الخلفاء،
ولكنَّه سرعان ما انتمى إلى الشيعة، ومن عناوين كُتُبه(٨٧) التي وصلنا خبرها:
(الغيبة، الرجعة).
٥ - ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني الرازي، المتوفَّى سنة (٣٢٩هـ)، صاحب
الكتاب الشهير (الكافي) أحد الأُصول الأربعة عند الشيعة الإماميَّة، والانتهاء من
تأليفه بعد جهد دام عشرين عاماً (٣٠٠ - ٣٢٠هـ)، عقد في أُصول الكافي خمسة أبواب(٨٨)
عن صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه).
٦ - كتاب (الغيبة): عليُّ بن محمّد بن عليِّ بن سالم بن رباح بن قيس السوَّاق القلا،
توفَّى بداية القرن الرابع الهجري.
٧ - كتاب (دلائل خروج القائم (عجَّل الله فرجه)): أبو عليٍّ الحسن بن محمّد بن أحمد
الصفَّار البصري.
٨ - كتاب (الحجَّة في إبطاء القائم (عجَّل الله فرجه)): أبو الحسين محمّد بن بحر
الرهني السجستاني (الشيباني) المتكلِّم، توفَّى في سنة (٣٣٠هـ).
٩ - كتاب (الغيبة): أبو بكر محمّد بن القاسم البغدادي، معاصر ابن همَّام الذي
تُوفِّي سنة (٣٣٢هـ).
١٠ - عبد العزيز بن يحيى الجلودي، وُلِدَ في ضواحي البصرة، وعاش في
-----------------
(٨٦) المهدي
المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة (ص ٢٢).
(٨٧) المهدي المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة (ص ٢٣).
(٨٨) نُشِرَ هذا الفصل في: مصادر علماء الشيعة (ج ١/ ص ٨٧ - ١٠٧).
زمن الغيبة
الصغرى، كتب كثيراً في التاريخ، ولديه كتاب بعنوان (أخبار المهدي)(٨٩)، توفَّى سنة
(٣٣٢هـ).
١١ - أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي، المتوفَّى سنة (٣٣٤هـ)، صاحب كتاب (الهداية
الكبرى)، عقد فيه الباب الرابع عشر(٩٠) عن الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله
فرجه).
٣ - شعراء الشيعة في زمن الغيبة
الصغرى:
إلى جانب الفقهاء والعلماء الذين حاولوا تدعيم المذهب الشيعي، كان الشعراء كذلك
يدافعون عن الهدف نفسه، فكان لهم تأثير عميق في المجتمع لأنَّهم لم ينظموا الشعر
طمعاً في المال والجاه، بل تحرَّكوا دفاعاً عن الحقيقة.. فقد كان الشعر في ما مضى
يحتلُّ موقعاً في غاية الأهمّيَّة، فإلى جانب البلاغة والأدب فإنَّه يُعَدُّ في
طليعة الإعلام الموجِّه للمجتمع، ويقوم بما تقوم به الوسائل الإعلاميَّة في العصر
الراهن.. وقد تحرَّك الشعراء الشيعة دفاعاً عن عقيدتهم، ودفاعاً عن آرائهم في مسائل
الإمامة والخلافة والولاية، ومن الطبيعي هذا الدور والمساهمة منهم حيث صوت الشعر من
أقوى الأصوات في الدفاع عن مدرسة التشيُّع، والمحور الأساس في هذه الفترة هو الإمام
المهدي وغيبته، وكان لأشعارهم تأثير كبير في النفوس المقهورة، فاستطاعت أنْ تكسبهم
بنغمتها الحزينة، التي تنبع من قلب الشاعر الحزين على فقد إمامه وغيبته والمصائب
التي تحلُّ على شيعته.
يتمتَّع الشعراء الشيعة الذين كانوا يُصرِّحون بالحقيقة ويدافعون عن العقيدة بمنزلة
رفيعة لدى محبِّي أهل البيت، ولذا فقد كان هؤلاء الشعراء يتعرَّضون للملاحقة
والمطاردة والاضطهاد سواء في الحكم الأُموي أو الحكم
-----------------
(٨٩) المهدي
المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة (ص ٢٥).
(٩٠) نُشِرَ هذا الفصل في: مصادر علماء الشيعة (ج ١/ ص ١٠٩ - ١٨٢).
العبَّاسي. غير
أنَّ عددهم كان ضئيلاً في العصر الأُموي قياساً إلى العصر العبَّاسي، وقد استمرَّت
سياسة الاضطهاد بحقِّ الشعراء الشيعة في العصر العبَّاسي الأوَّل، ولكن العصر
العبَّاسي الثاني شهد قدراً من الانفراج بسبب تنامي عدد الشعراء الشيعة وضعف السلطة
العبَّاسيَّة.
في هذه المرحلة التاريخيَّة صدح الشعراء الشيعة بحقّيَّة المهدويَّة والغيبة، وقيلت
أشعار كثيرة على لسانهم.. أمَّا ما يخصُّ عدد الشعراء الشيعة وتراجم حياتهم في هذه
الفترة، فقد تعرَّض لإحصائهم السيِّد محسن الأمين، وقد أثبت إحصاءات دقيقة لهم في
موسوعته الرائعة (أعيان الشيعة)(٩١)، ويمكن أنْ نتعرَّف على جميع الشعراء الشيعة
منذ صدر الإسلام وحتَّى زمن متأخِّر، وفي زمن الغيبة الصغرى، ذكر الأسماء التالية
من الشعراء الشيعة:
وليد بن عبيد الطائي البحتري توفَّى (٢٨٤هـ)، الشريف محمّد بن صالح بن عبد الله
الحجازي البغدادي توفَّى في القرن (٣هـ)، نصر بن نصير الحلواني توفَّى في القرن
(٣هـ)، عليُّ بن محمّد بن منصور بن بسَّام توفَّى (٣٠٢هـ)، أحمد بن عبيد الله بن
محمّد بن عمَّار الثقفي توفَّى (٣١٤هـ)، نصر بن أحمد البصري توفَّى (٣١٧هـ)، محمّد
بن أحمد البلدي توفَّى بداية القرن (٤هـ)، أحمد بن علويه الأصبهاني توفَّى (٣٢٠هـ)،
أبو بكر محمّد بن حسن بن دريد توفَّى (٣٢١هـ)، محمّد بن أحمد بن إبراهيم طباطبا
الحسني توفَّى (٣٢٢هـ)، محمّد بن مزيد بن محمود البوشنجي توفَّى (٣٢٥هـ)، محمّد بن
أحمد بن عبيد الله الكاتب البصري المعروف بالمفجِّع توفَّى (٣٢٧هـ)، عليُّ بن
عبَّاس النوبختي توفَّى (٣٢٩هـ)، أبو نصر القاسم بن أحمد الحروري توفَّى (٣٣٢هـ)،
أحمد بن محمّد الجزري الصنوبري توفَّى (٣٣٤هـ)، محمّد بن يحيى الصولي توفَّى
(٣٣٥هـ)... وغيرهم كثير.
-----------------
(٩١) أعيان الشيعة (ج ١/ ص ١٦٦ - ١٨١).
ومن الملاحظ في
تراث هذه الفترة أنَّه:
أوَّلاً: لم يتحدَّث أيُّ كتاب من كُتُب الشيعة في زمن الغيبة الصغرى (الكافي
مثلاً)، أو في الفترة التي بعدها مثل كُتُب (النعماني والمفيد والصدوق والمرتضى
والطوسي) عن اختفاء الإمام المهدي في السرداب.. نستغرب إذن! من أين جاء هذا
الادِّعاء والتصوُّر لمخالفي الشيعة في أُطروحتهم المهدويَّة؟ هل يستطيعون أنْ
يُجيبونا عن هذا التساؤل والاستفسار؟
ثانياً: لماذا لم يكتب أغلب السفراء الأربعة أو يُدوِّنوا أيَّ كتاب؟
فالسفراء الأربعة الكرام وهم على درجة كبيرة من وفرة العلم وغزارة العقل، ومن أعلام
الفقهاء وجهابذة العلماء قد تجنب أغلبهم تأليف وتدوين الكُتُب ونشر أفكارهم
والترويج لمعتقدهم كتابةً، وذلك للأسباب التالية:
* لم تكن شخصيَّتهم تُطرَح في المجتمع كعلماء، وإنَّما كتُجَّار وأصحاب مهن لكي
تبقى مسألة السفارة في طيِّ الكتمان والخفاء، فقد كان السفير الأوَّل (عثمان
العمري) يتظاهر ببيع السمن حتَّى لُقِّب بالسمَّان، وكذلك ابنه محمّد السفير
الثاني، فكانت الأسئلة والحقوق الشرعيَّة تصل إليه، فيجعلها في زقاق السمن ويرفعها
للإمام (عجَّل الله فرجه)، وهكذا أُخفيت حلقة الوصل بين الإمام وقاعدته الشعبيَّة.
* السفارة أمرٌ سرِّي ومهمٌّ للغاية، وهؤلاء السفراء يجب أنْ لا يشعر الجهاز
العبَّاسي تجاههم بخطر، ودون أنْ يُثيروا أيَّ شكوك حول علاقتهم بالإمام، فإنَّ
الكُتُب لو أُلِّفت من قِبَلهم فمن الممكن أنْ تصل إلى أيدي رجال السلطة التي تجدُّ
كلَّ الجدِّ في مراقبة العلماء والبحث عن إلصاق التُّهَم بهم، واحتماليَّة كشف
شخصيَّتهم الحقيقيَّة كبير جدًّا.
* سيراً على نهج الأئمَّة (عليهم السلام)، بصفتهم معلِّمين وأساتذة مهمَّتهم توجيه
المجتمع، فاقتصروا في نشر آرائهم ونتاجهم الفكري عن طريق الرواية الشفويَّة.
* * *
مرحلة بداية الغيبة الكبرى (٣٢٩ -
٤٤٧هـ):
في أواخر الغيبة الصغرى ورد في يوم (٩) شعبان عام (٣٢٩هـ) نصٌّ بالغ
الأهمّيَّة من الناحية المقدَّسة للسفير الرابع (عليٍّ السمري)، يُخبِره فيه
بانتهاء نظام السفارة وابتداء الغيبة الكبرى، وأنَّه لا ظهور إلَّا بإذن الله (عزَّ
وجلَّ)، فغيبة المهدي تُشكِّل حَدَثاً غير اعتيادي لم يعهد من قبل، ولو جاءت بدون
مقدَّمات وممهِّدات لشكَّلت مفاجأة للشيعة، وربَّما أثَّر في معتقداتهم، ولكن
التمهيد الذي سبق عبر السفراء الأربعة واحتجاب الإمام في الغيبة الصغرى، جعل الشيعة
تعتاد على عدم رؤية الإمام، وأنَّ الجيل الذي كان معتاداً على الاتِّصال بقيادته
الشرعيَّة والرجوع لها في كلِّ الأُمور قد انتهى، والجيل الجديد تعوَّد على غيبة
الإمام، فعندما حدثت الغيبة الكبرى لم تُشكِّل صدمة لهم، إذ ألفوا هذا النمط من
الغياب والاحتجاب في زمن الغيبة الصغرى.
غيبة الإمام المهدي لا تعني انسحابه عن دور القيادة والتوجيه للمجتمع الإسلامي،
فغيبته هي (غيبة عنوان)(٩٢)، فهو (الإمامة الخاتمة)، وهو الإمام الثاني عشر
للمسلمين، ونظام الإمامة ممتدٌّ متَّصل إلى يوم القيامة، لأنَّه نظام إلهي قائم على
أساس العناية واللطف بالعباد.. فالإمام في مرحلة الغيبة الكبرى يمارس دوره أو
مشروعه من خلال النيابة العامَّة وليس النيابة الخاصَّة (السفارة)، بمعنى أنَّ
الإمام عيَّن نُوَّاباً عامِّين عنه وهم (الفقهاء)، ولم يُعيِّن شخصاً بعينه
-----------------
(٩٢) غيبة العنوان: هي أنَّ الناس يرون الإمام المهدي بشخصه، دون أنْ يكونوا عارفين أو ملتفتين إلى حقيقة أنَّه المهدي، وهذا هو الشائع في عصر الغيبة الكبرى.
وإنَّما طرح
عنواناً عامًّا، ووضع له مواصفات معيَّنة، فمَنْ توفَّرت فيه هذه المواصفات فهو من
نُوَّاب الإمام، ويجب على الأُمَّة في هذه المرحلة أنْ ترتبط بالإمام الحجَّة من
خلال الارتباط بنُوَّابه، فالإمام سدَّ كلَّ الأبواب إلَّا باباً واحداً، وجعل
الأُمَّة مرتبطة بهذا الباب، وهو ربط الأُمَّة بالعلماء والفقهاء.. في الواقع
تُشكِّل الغيبة التامَّة في بداياتها حَدَثاً استثنائيًّا ومنعرجاً حادًّا في مسيرة
الشيعة، حيث انتهاء عصر النصِّ الشرعي، فأصبحوا في مواجهة وضع غير اعتيادي، ممَّا
تحتَّم على الفقهاء تمثُّل سِيَر الأئمَّة (عليهم السلام)، والقيام بجزء من دوره
(عجَّل الله فرجه)، والتصدِّي لقيادة الشيعة.
لقد احتلَّ علماء الإماميَّة (الفقهاء) موقعهم الجديد استناداً لأحاديث تُبيِّن
دورهم ومسؤوليَّتهم في عصر الغيبة الكبرى: لقد أصدر الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه) توقيعاً عن طريق السفير الثاني في جوابه لإسحاق بن يعقوب، جاء فيه: «وَأَمَّا
اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا،
فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ، وَأَنَا حُجَّةُ اَلله عَلَيْهِمْ»(٩٣)، وفي حديث
آخر عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في بيانه لمسؤوليَّة الشيعة ومواصفات
الفقيه المعتمد في عصر الغيبة، جاء فيه: «فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَ اَلْفُقَهَاءِ
صَائِناً لِنَفْسِهِ، حَافِظاً لِدِينِهِ، مُخَالِفاً لِهَوَاهُ، مُطِيعاً لِأَمْرِ
مَوْلَاهُ، فَلِلْعَوَامِّ أَنْ يُقَلِّدُوهُ»(٩٤).
الوضع السياسي والفكري في هذه
المرحلة:
الوضع السياسي:
في أواخر الغيبة الصغرى وهي فترة انكماش الدولة العبَّاسيَّة وضعفها ووهنها فأُطلق
عليه (عصر الضعف والانحطاط السياسي العبَّاسي)، وكان من
-----------------
(٩٣) كمال
الدِّين (ص ٤٨٤/ باب ٤٥/ ح ٤).
(٩٤) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص ٣٠٠/ ح ١٤٣).
أبرز مظاهره
استقلال الولاة في شؤون ولايتهم، بل وتأسيسهم دولاً مستقلَّة، وتدخُّل الحرس التركي
في تعيين الخلفاء وعزلهم، وصار الخليفة العبَّاسي لا حول له ولا قوَّة، ووصل الحال
ذروته في عهد الخليفتين: الراضي (٣٢٢ - ٣٢٩هـ)، والمتَّقي (٣٢٩ - ٣٣٣هـ)، ممَّا
أدَّى إلى ضعف الدولة، وتمَّت السيطرة على بغداد عاصمة الخلافة وحاضرة العالم
الإسلامي من قِبَل البويهيِّين عام (٣٣٤هـ).
الدولة البويهيَّة (٣٢٠ - ٤٤٧هـ، ٩٣٢ - ١٠٥٥م):
نشأت دولة البويهيِّين وهم شيعة اثنا عشريَّة بالأساس نتيجة جهود ثلاثة إخوة (عليٌّ
و الحسن وأحمد)، كان أبوهم (بويه) رجل ديلمي فقير، يعمل صيَّاداً على شواطئ بحر
قزوين، برز أكبر الإخوة (عليٌّ) بمهارته الحربيَّة وشجاعته حتَّى أضحى هو وأخوه
الحسن من القادة البارزين في جيش مَلِك الدولة الزياريَّة (مرداويج)، فمنح القائد
العسكري (عليَّ بن بويه) ولاية صغيرة في أقصى جنوب إقليم فارس، فأظهر الإخوة
الثلاثة كفاءة وقدرة عالية في حفظ الأمن وإدارة الولاية، وعندما قُتِلَ مرداويج على
يد الأتراك سنة (٣٢٢هـ)، أُتيحت الفرصة لأبناء بويه السيطرة على بلاد فارس، وتأسيس
دولتهم غير المركزيَّة والتي تتشكَّل من ثلاثة فروع مقسَّمة على الإخوة الثلاثة:
١ - فرع فارس: استولى الأخ الأكبر (عليٌّ) على فارس، وأسَّس فرعاً لدولتهم استمرَّ
حكمهم فيه إلى حدود سنة (٤٤٧هـ/ ١٠٥٥م).
٢ - فرع الريِّ: استولى الأخ الثاني (الحسن) على الريِّ وهمدان وأصفهان، وحكموا
المنطقة حتَّى سنة (٤٢٠هـ/ ١٠٢٩م).
٣ - فرع بغداد: استولى الأخ الأصغر (أحمد) على الأهواز وكرمان وبغداد، ودام حكمهم
حتَّى سنة (٤٤٧هـ/ ١٠٥٥م).
السيطرة على
بغداد:
كانت الأحوال في العراق مضطربة جدًّا لوقوعها تحت نفوذ القوَّاد الأتراك، وقلَّة
الموارد الماليَّة، فعندما أحسَّ الناس في العراق بفشل الحكومة وفساد جهاز الخلافة،
وجدوا في البويهيِّين القوَّة المناسبة لإنقاذ الدولة، فكاتب الأهالي القائد أحمد
بن بويه في الأهواز وطلبوا منه المساعدة في إنقاذ بغداد، فشاع خبر قدوم الجيش
البويهي إلى بغداد، ساد الهرج والمرج بين الأتراك واضطربوا وهربوا إلى الشمال،
وهكذا دخل أحمد بن بويه بجيوشه بغداد يوم (١١) جمادى الأُولى عام (٣٣٤هـ) بصورة
سلميَّة دون إراقة الدماء، رحَّب الخليفة العبَّاسي المستكفي (٣٣٣ - ٣٣٤هـ) بأحمد
بن بويه ولقَّبه بـ(معزِّ الدولة)، ولقَّب أخاه عليًّا بـ(عماد الدولة)، وأخاه
الحسن بـ(ركن الدولة)، وبدأ العصر البويهي.
بزغ نجم الدولة البويهيَّة الشيعيَّة بعد فترة وجيزة(٩٥) من الغيبة الكبرى (٣٢٩هـ)،
وإمساكها بالسلطة الفعليَّة للدولة العبَّاسيَّة (٣٣٤هـ)، وإحالة الخلافة
العبَّاسيَّة (منصب الخليفة) إلى موقع رمزي معنوي صوري.. بالرغم من كون البويهيِّين
يعتنقون المذهب الشيعي الإمامي، إلَّا أنهم سلكوا سبيلاً وسطاً بين جميع الميول
والاتِّجاهات الدِّينيَّة، فلم ينحازوا لمذهب على حساب مذهب آخر، بل تركوا الناس
أحراراً في معتقداتهم وآرائهم، بيد أنَّهم كانوا يُؤثِرون مصالحهم السياسيَّة على
الاعتبارات الدِّينيَّة، ولعلَّ اتِّباع سياسة التسامح مع
-----------------
(٩٥) نكتة تاريخيَّة: بدأت الغيبة الكبرى قبل خمس سنوات من استيلاء البويهيِّين على بغداد.. بالتأكيد بداية الغيبة (٣٢٩هـ) لم يكن محض صدفة، بل هو بتلطُّف إلهي، فلو افترضنا جدلاً أنَّ الغيبة الصغرى ما زالت مستمرَّة ونظام السفارة ما زال موجوداً، لكان هناك تعارض وتصادم بين الحُكَّام البويهيِّين وبين سفراء الإمام (السفير الخامس افتراضاً)، ولتغيَّر حال الفقهاء والقاعدة الشعبيَّة الشيعيَّة تجاه البويهيِّين أو العكس، ولما حدث هذا التطوُّر الفكري والثقافي في مسيرة الشيعة في هذه الفترة التاريخيَّة.
جميع السُّكَّان،
هذه التوفيقيَّة هي التي أسهمت في أنْ هدأت الأحوال واستقرَّ الأمن في البلاد، وهذا
ممَّا ساعد على ترعرع العلم والثقافة.
الوضع الفكري:
امتاز العصر البويهي في العراق (٣٣٤ - ٤٤٧هـ) بالتمتُّع بالحرّيَّة الدِّينيَّة
والفكريَّة والثقافيَّة المتاحة لجميع أفراد المجتمع في بغداد حاضرة العالم
الإسلامي، وهي بداية مرحلة جديدة في الأوضاع الفكريَّة الحرَّة البعيدة عن
التزمُّت.. في الواقع إنَّ المجتمع الإسلامي تقدَّم خطوات واسعة في مضمار التقدُّم
العلمي، حيث كان كلُّ أمير من فروع الدولة البويهيَّة يستقطب أهل العلم والأدب إلى
مجلسه وينالون التكريم والإغداق والتشجيع، إذ أصبح كلُّ فرع بمثابة مركز حضاري
مستقلٍّ، ولهذا اعتُبِرَت هذه الفترة من أزهر العصور الثقافيَّة، وذلك لإطلاق
الحرّيَّة الفكرية للعلماء والأُدباء، وقد لعب عضد الدولة البويهي (٣٦٧ - ٣٧٢هـ)
دوراً مهمًّا بهذا الخصوص، فقد كان معظم حُكَّام ووزراء الدولة البويهيَّة
يُحِبُّون العلم والعلماء ويُؤثِرون مجالسة الأُدباء، وقد برز من الوزراء ابن
العميد والصاحب بن عبَّاد وسابور بن أردشير، وأثرهم كبير في تشجيع العلماء وازدهار
الشعر والأدب، لأنَّهما جمعا إلى جاه الوزارة الأدب والفكر أيضاً.. وتمتَّع العلماء
والفقهاء بالحرّيَّة الكاملة، فظهر آثارها في نواحي التقدُّم العلمي والفكري،
ونتيجةً لتأسيس دور العلم والمكتبات والمدارس ومراكز التعليم في بيوت العلماء
وغيرها من المؤسَّسات الفكريَّة، فقد أسهمت هذه المؤسَّسات في حركة النهضة
العلميَّة التي شهدتها بغداد في القرن الرابع الهجري والنصف الأوَّل من القرن
الخامس الهجري، فعُدَّت هذه الفترة من أزهى العصور الفكريَّة والثقافيَّة، وقد نبغ
في هذه الفترة علماء كثيرون من مختلف المذاهب الإسلاميَّة أمثال: الكليني وابن
قولويه والصدوق والمفيد والرضي
والمرتضى
والطوسي، وأيضاً الكثير من علماء الفِرَق الإسلاميَّة الأُخرى أمثال: الماوردي
والشيرازي والفيروزآبادي والجويني والباقلاني وابن الصبَّاغ والدامغاني، وغيرهم من
العلماء والفقهاء والمحدِّثين الذين ازدهر بهم عصر الدولة البويهيَّة(٩٦).
الدولة الحمدانيَّة (٣١٧ - ٣٩٤هـ):
كان الحمدانيُّون وهم شيعة اثنا عشريَّة، يحكُمون الجزيرة الفراتيَّة وشمال الشام
بحلول زمن الفتح الفاطمي لمصر، واتَّخذوا من حلب عاصمة لهم، دام حكمهم في الموصل
(٣١٧ - ٣٨٩هـ) وحلب (٣٣٠ - ٣٩٤هـ) (٧٧ سنة).. فترة حكم حلب كان العصر الذهبي للدولة
الحمدانيَّة، وذلك في عهد مؤسِّس الإمارة الحلبيَّة سيف الدولة، وخلفه كُلٌّ من
ابنه سعد الدولة، ثمّ حفيده سعيد الدولة.. وبعد سنة (٩٦٩م) أعقبت الدولة الفاطميَّة
في مصر الدولة الإخشيديَّة، وبسط الفاطميُّون حُكمهم على فلسطين ودمشق ولبنان،
وحاولوا أنْ يمدُّوا هذا الحكم إلى الشام الشماليَّة، ولكن سعد الدولة وقف في وجه
الجيش الفاطمي، فلم يخسر إلَّا حمص التي انضمَّ واليها الحمداني إلى الفاطميِّين،
ولمَّا خلف سعيد الدولة أباه سعد الدولة، أرسل الفاطميُّون جيشاً كبيراً لمعاودة
الكرَّة على البلاد الحمدانيَّة، فلم يكن من سعيد الدولة إلَّا أنِ استنجدَّ
بالبيزنطيِّين الذين أرسلوا إليه قوَّة عسكريَّة كبيرة، ولكنَّها هُزِمَت على يد
الفاطميِّين الذين ضربوا الحصار على حلب مدَّة طويلة دون أنْ تستسلم، استمرَّت
الإمارة الحمدانيَّة قائمة إلى أنْ تُوفِّي سعيد الدولة سنة (١٠٠٣م)، فانقضَّ
الفاطميُّون على حلب ودخلوها، لتزول بذلك الدولة الحمدانيَّة في الشام، وقد زالت في
الموصل قبل ذلك وعادت إلى كنف الدولة العبَّاسيَّة الواقعة تحت الحماية البويهيَّة.
-----------------
(٩٦) الدور الحضاري للشيعة الإماميَّة (ج ١/ ص ٩٥ و٩٦).
شهدت الحياة
الفكريَّة والثقافية في عهد الدولة الحمدانيَّة نهضة كبيرة ونشاطاً ملحوظاً، فظهر
الكثير من العلماء والأطبَّاء والفقهاء والفلاسفة والأُدباء والشعراء، وتمكَّن سيف
الدولة من جعل حلب بيئة خصبة للعلوم والآداب والفنون، فقد فتح قصره لكلِّ فنَّان
موهوب وأديب لامع وشاعر عظيم، بالإضافة لعلماء الدِّين والفلسفة والتاريخ والفلك،
فتوافد عليه حملة العلم ونوابغ الشعراء من جميع الأقطار الإسلاميَّة، وكان ممَّن
وفد عليه الشيخ محمّد بن إبراهيم المعروف بالنعماني في سنة (٣٤٢هـ) صاحب كتاب
الغيبة الشهير والمعروف بـ(غيبة النعماني)، فأصبح البلاط الحمداني مرتع مشاهير
العلماء والأُدباء والشعراء أمثال المتنبِّي وأبي الفتح عثمان بن جنِّي النحوي، وقد
أجزل سيف الدولة العطاء للشعراء بسبب محبَّته للشعر وإجادته نظمه، كما كان يتحبَّب
إلى الكُتَّاب ويمنح المؤرِّخين الشيء الكثير من عطاياه، كما اشتهر جماعة من أهل
بيته في نظم الشعر كابن عمِّه أبي فراس الحمداني، هذا وقد اجتمع في بلاط سيف الدولة
أشهر اللغويِّين والنحويِّين في زمانه مثل أبي عليٍّ الفارسي وابن خالويه وابن
جنِّي، فضلاً عن الواعظ ابن نباتة والفيلسوف الكبير أبي نصر محمّد الفارابي الذي
كتب في الطبِّ والمنطق والسياسة والرياضيَّات والكيمياء.
من التراث المهدوي الذي كُتِبَ في الشام في زمن الدولة الحمدانيَّة أو على أطراف
عهدها، مجموعة من المصنَّفات نذكر منها:
١ - كتاب (غيبة النعماني): لأبي عبد الله محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني،
المشهور بابن أبي زينب (ت ٣٦٠هـ)، والذي كتبه في حلب سنة (٣٤٢هـ) في عهد الدولة
الحمدانيَّة، ويُعتبَر هذا المصنَّف أقدم كتاب شيعي في موضوع المهدي موجود لدينا في
عصرنا الحالي، وسوف نتطرَّق للكتاب لاحقاً.
٢ - كتاب (تقريب
المعارف): تأليف أبي الصلاح تقي بن نجم الحلبي (٣٧٤ - ٤٤٧هـ)، وُلِدَ وتوفَّى في
مدينة حلب، والذي تطرَّق فيه إلى موضوع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في (٥٠)
صفحة في مبحث (إثبات إمامة الحجَّة بن الحسن ووجه الحكمة في غيبته)، ويبرهن على ذلك
بأدلَّة عقليَّة ونقليَّة ثاقبة، فعند قراءة كتابه نستطيع أنْ نتوصَّل إلى مقدار ما
من مقامه العلمي السامي، ونلاحظ مدى سعته العلميَّة على المطالب الكلاميَّة التي
أوردها بحيث يلقي الحجَّة على المخالف بشكل قاطع، وبه براهين منطقيَّة وفلسفيَّة
عميقة، وتطرَّق إلى مسائل بكر لم يسبقه فيها أحد.. ويتأكَّد لنا فضله عند ملاحظة
قول أُستاذه الشيخ الطوسي في حقِّه: (ثقة، له كُتُب، قرأ علينا وعلى المرتضى)(٩٧).
٣ - كتاب (كنز الفوائد): تأليف أبي الفتح محمّد بن عليِّ بن عثمان الكراجكي
الطرابلسي نزيل الرملة، وقد توفَّى بالشام في مدينة صور عام (٤٤٩هـ)، والذي تطرَّق
فيه إلى موضوع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في (١٨) صفحة في مبحث (الكلام في
الغيبة وسببها).. وفيه تناول أُمَّهات المسائل الخلافية المتعلِّقة بالغيبة، وأسهب
في عرضها ومناقشتها كلاميًّا، وتفنيد ما حولها من آراء أُخرى، ويُدلي بالأدلَّة
والبراهين العقليَّة والعلميَّة على صحَّة ما يذهب إليه، كما يمتاز بأُسلوبه الواضح
الخالي من التعقيد حيث طرحها على شكل سؤال وجواب: (فإنْ قال السائل... قيل له)، وقد
كان للمؤلِّف العديد من المناظرات الكلاميَّة مع علماء الطوائف والأديان الأُخرى،
وبالخصوص الإسماعيليَّة في فترة بروز الدولة الفاطميَّة.
الدولة الفاطميَّة (٢٩٧ - ٥٦٧هـ):
هي إحدى دول الخلافة الإسلاميَّة، والوحيدة بين دول الخلافة التي اتَّخذت من المذهب
الشيعي (الإسماعيلي) مذهباً رسميًّا لها، فبعد أنْ ضعُفت
-----------------
(٩٧) رجال الطوسي (ص ٤١٧/ الرقم ٦٠٣٤/١).
الدولة
العبَّاسيَّة وانتشرت الاضطرابات في ربوع الدولة العبَّاسيَّة، وتمرَّدت الكثير من
الولايات على الخليفة العبَّاسي خاصَّةً الولايات البعيدة عن المركز، شكَّل أبو عبد
الله الشيعي (توفَّى ٢٩٨هـ) جيشاً وتوجَّه إلى المغرب العربي، فهاجم دولة الأغالبة،
فسقطت بيده عام (٢٩٧هـ) ودخل عاصمتها، وتابع سيره حتَّى دخل مدينة القيروان فأقام
فيها، وبايع الإمام الحادي عشر للشيعة الإسماعيليَّة عبيد الله بن الحسين (ت ٣٢٢هـ)
بالخلافة ولُقِّب بالمهدي، وقام ببناء مدينة جديدة تقع على الساحل التونسي سمَّاها
المهديَّة واتُّخِذَت عاصمةً للدولة الفاطميَّة.
الفاطميُّون في مصر:
استغلَّ الفاطميُّون ضعف الدولة الإخشيديَّة وتفكُّكها، فاستطاع القائد الفاطمي
جوهر الصقلي دخول مصر فاتحاً، وكان ذلك في عام (٣٥٨هـ)، ودخل مصر دون أنْ تحدث
مواجهات مع المصريِّين، كما أنَّه عامل أهلها معاملة حسنة وأمَّنهم على عقيدتهم
فدخل مُدُنهم دون حرب وأصبحت مصر ولاية فاطميَّة، وبعد مرور أربع سنوات انتقلت
عاصمة الخلافة الفاطميَّة إلى مصر، حيث أنشأوا في عهد المعزِّ لدين الله مدينة
القاهرة في عام (٣٦٢هـ) وبنوا فيها الجامع الأزهر ودار الحكمة.
رغم كون الدولة الفاطميَّة قامت على أساس مذهبي، إلَّا أنَّها كانت مثالاً يُحتذى
في التسامح واحترام التعدُّديَّة المذهبيَّة والفكريَّة، فلعب الأزهر والمساجد في
العصر الفاطمي دوراً هامًّا في الحركة العلميَّة والدِّينيَّة، فلم يقتصر دور
الأزهر الفاطمي على نشر المذهب الإسماعيلي، بل ضمَّ حلقات علميَّة للمذاهب الأُخرى،
فكانت به خمس عشرة حلقة للمالكيَّة، ومثلها للشافعيَّة، وثلاث حلقات لأصحاب أبي
حنيفة.. كذلك في العهد الفاطميِّ بدأ الشيعة يتحرَّكون
في بلاد الشام
وينشطون ثقافيًّا وسياسيًّا وعاشوا فترة حرّيَّة واستقرار، فكانت سياستهم متَّسقة
تماماً نحو فرض نوع من التفاهم بين شتَّى المذاهب الإسلاميَّة، لأنَّهم انطلقوا من
كونهم أئمَّة لكافَّة المسلمين.
شملت الدولة الفاطميَّة مناطق وأقاليم واسعة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط،
فامتدَّ نطاقها على طول الساحل المتوسِّطي من المغرب إلى مصر، ثمّ توسَّع الخلفاء
الفاطميُّون أكثر فضمُّوا إلى ممتلكاتهم جزيرة صقليَّة والشام والحجاز، فأضحت
دولتهم أكبر دولة استقلَّت عن الدولة العبَّاسيَّة، والمنافس الرئيسي لها على زعامة
المسلمين.
نهايتها: استمرَّت الدولة الفاطميَّة ما يقارب (٢٧٠) عاماً، وقد كانت خاتمتها عام
(٥٦٧هـ) حينما قدم صلاح الدِّين الأيُّوبي إلى مصر بأمر من نور الدِّين زنكي، وأنهى
حكم الفاطميِّين.
بشكلٍ عامٍّ كانت بلاطات الحُكَّام الشيعة (البويهيُّون، والفاطميُّون،
والحمدانيُّون) منتديات للعلماء والمفكِّرين، ومراكز لاستقطاب أكبر عدد من ذوي
العقول والمعرفة، فالمنافسة العلميَّة الشديدة والخصبة بين هذه الدول، أهَّلت هذه
الفترة بأنْ يُطلَق عليها عصر النهضة في الحضارة الإسلاميَّة، وبلغت قمَّة مجدها في
القرن الرابع والنصف الأوَّل من القرن الخامس الهجري الذي عُرِفَ بالعصر الذهبي
لعلماء المسلمين الذين يدين لهم العالم بالكثير.
تأصيل التراث الحديثي الشيعي:
إنَّ الأساس للنهضة الفكريَّة الضخمة التي شهدتها هذه المرحلة من عمر التاريخ
الإسلامي (٣٠٠ - ٤٥٠هـ) والتي وصل إليها العالم الإسلامي وعلى مختلف المستويات
والميادين، هو بسبب أجواء الانفتاح والحرّيَّة التي وفَّرتها الدول الشيعيَّة
الثلاث (البويهيَّة، الحمدانيَّة، الفاطميَّة) في هذه الفترة، فأخذت الحركة
الثقافيَّة
دورها الطبيعي في النموِّ والازدهار، وذلك بعد أنْ وفَّروا لها المناخ المناسب
والأرضيَّة الخصبة وتبنَّوا علماءها وأُدباءها ودعموهم معنويًّا ومادّيًّا، وامتازت
هذه الحقبة التاريخيَّة بأنِ احتشد فيها طائفة من رجال الفكر قلَّ أنْ يحتشدوا في
عصر واحد، لأنَّهم تمتَّعوا بحرّيَّة مذهبيَّة وفكريَّة ودعم من الحُكَّام،
بالإضافة إلى أنَّهم لم يتعرَّضوا لأيِّ اضطهاد لأسباب مذهبيَّة أو يتعرَّضوا
للإرهاب الفكري.
برز الفكر الشيعي الإمامي وشهد تطوُّراً علميًّا فريداً في هذه الفترة، وبخاصَّة في
بغداد التي أنجبت أعلاماً في مختلف العلوم الإسلاميَّة، فقصدها العلماء من مختلف
الأمصار والمُدُن الإسلاميَّة.. فأفرزت أجواء الحرّيَّة المتاحة، وتوافد العلماء من
كلِّ الفِرَق والطوائف الإسلاميَّة صراعاً ثقافيًّا بين الأجناس والمذاهب المختلفة،
ممَّا نتج عنه طفرة ثقافيَّة وغزارة في نتاج علوم الدِّين والعقيدة والفقه
والفلسفة، وذلك لحاجة كلِّ طائفة أو فرقة إلى إيجاد المبرِّر الدِّيني والعقدي في
تدعيم موقفها.. وفي وسط هذا التجمُّع العلمي الكبير برز بعض العلماء والفقهاء
الشيعة وفرضوا وجودهم على أعلام العالم الإسلامي، لما أثاروه من قضايا فكريَّة في
التراث الإسلامي والمعتقدات الشرعيَّة، منهم:
١ - الشيخ الصدوق (٢٠٦ - ٣٨١هـ).
٢ - الشيخ المفيد (٣٣٦ - ٤١٣هـ).
٣ - الشريف المرتضى (٣٥٥ - ٤٣٦هـ).
٤ - الشيخ الطوسي (٣٨٥ - ٤٦٠هـ).
هؤلاء الجهابذة العظام من أهل التخصُّص الدِّيني في المذهب الإمامي الشيعي، قد
بيَّنوا في مصنَّفاتهم أصالة العقيدة الإماميَّة، كذلك من المواضيع الكلاميَّة التي
أعطوها اهتماماً كبيراً هو موضوع الإمام المهدي وأحواله وظهوره وغيبته و...، فهم
أصحاب رأي سديد ومنهج عقلي وعلمي أصيل، يلمُّون
بالدقائق
المذهبيَّة، ويغوصون في أعماق القضيَّة المهدويَّة، ويجلون الخافي في الأُمور
الكلاميَّة، وخاصَّةً عند رؤية الاختلاف الكبير والكثير في المهدويَّة عند الفِرَق
الإسلاميَّة، ويتجلَّى ذلك بوضوح عند مطالعة مصنَّفاتهم الشهيرة في هذا الموضوع،
فقد تركوا تراثاً علميًّا يتَّسم بالقوَّة والعمق والأصالة.
الوضع السياسي العامُّ في هذه المرحلة التاريخيَّة شكَّل إطاراً مؤاتياً لاندفاع
الحركة الفكريَّة للشيعة قدماً، ففي رحم هذه المرحلة بدأت حركة تدوين نشطة تظهر عند
كافَّة المذاهب الإسلاميَّة المختلفة، فأُمَّهات كُتُب الروايات الشيعيَّة
والمرتبطة بالمذهب الإمامي كُتِبَت في العهد البويهي بعد غيبة الإمام المهدي، وبدأت
تتَّضح ملامح المدرسة الشيعيَّة الاثني عشريَّة، وأصبحت مؤلَّفات الإماميِّين في
هذه الفترة مصادر أساسيَّة ومرجعيَّة، وفيها كُتِبَت الأُصول الحديثيَّة المرجعيَّة
للشيعة (الكُتُب الأربعة)، وهي:
١ - كتاب (الكافي) للشيخ محمّد بن يعقوب الكليني المعروف بثقة الإسلام (٢٥٥ -
٣٢٩هـ) الذي عاش في زمن الغيبة الصغرى واستقرَّ ببغداد، وقد اشتمل كتابه على
(١٦٠٩٩) حديثاً.
٢ - كتاب (من لا يحضره الفقيه) للشيخ محمّد بن عليِّ بن بابويه المعروف بالشيخ
الصدوق (٣٠٦ - ٣٨١هـ) الذي عاش في الريِّ تحت رعاية ركن الدولة البويهي، وقد اشتمل
كتابه على (٩٠٤٤) حديثاً.
٣ - كتاب (تهذيب الأحكام) للشيخ محمّد بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (٣٨٥ -
٤٦٠هـ) الذي عاش في بغداد، وقد اشتمل كتابه على (١٣٥٩٠) حديثاً.
٤ - كتاب (الاستبصار) لشيخ الطائفة الطوسي، وقد اشتمل كتابه على (٥٥١١) حديثاً.
فهذه الكُتُب
الأربعة هي اعتماد الإماميَّة في علم الحديث، فمجموع الأحاديث فيها (٤٤٢٤٤) حديثاً،
وهي التي يُعوِّل عليها فقهاء الطائفة في استنباط الأحكام الشرعيَّة، وقد أُلِّفت
في عصر يمتاز بالحرّيَّة الفكريَّة بمدينة بغداد.. إجمالاً هذه الكُتُب تُقدِّم
فكرة عمَّا كانت عليه تصانيف علماء الشيعة في هذا العصر من سعة وشمول وعمق، ممَّا
كان له بالغ الأثر في المحافظة على أحكام الشريعة الغرَّاء وسُنَنها وآدابها.
أهمُّ كُتُب التراث المهدوي
الشيعي:
كان من البديهي تأصيل التراث المهدوي الشيعي في هذه الفترة، فكتابة مصنَّفات
مهدويَّة مرجعيَّة للشيعة لم يأتِ من فراغ، بل هو مواكب للحركة العلميَّة
والفكريَّة التي تبنَّاها الأُمراء البويهيُّون.
إنَّ مجرَّد مراجعة إجماليَّة لتصنيفات فقهاء الشيعة في المرحلة الأولى من عصر
الغيبة الكبرى، تُظهِر حاجة وخطورة مسألة الغيبة، وحفظ التراث الإسلامي المرتبط
بالشأن المهدوي، فانصرف العلماء لكتابة مصنَّفات مستقلَّة عن عِلَل الغيبة وبلورة
العقيدة في موضوع الإمام المهدي المنتظَر، وأنَّ الدافع الأكبر من ورائها يكمن في
رفع الحيرة والشكِّ الذي أصاب بعض الشيعة.. نشير إلى أهمّ النماذج، وهي التي بحقٍّ
تستحقُّ أنْ يُطلَق عليها: المراجع (الأُمُّ) في القضيَّة المهدويَّة النقليَّة
والعقليَّة، فهي التي أصَّلت المهدويَّة، بمحافظتها على الروايات الشريفة للرسول
الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) في العقيدة المهدويَّة
الشيعيَّة، فكما هو ثابت فإنَّ الوحي هو مرجعيَّة التأصيل في المرتبة الأُولى، وذلك
لضبط الثوابت، وكذلك هو مصدر المعرفة لعالم الغيب، ولذا انطلق علماء هذه المرحلة من
الحرص على تثبيت السُّنَّة والأحاديث الشريفة والمحافظة على النصوص الشرعيَّة
المرتبطة بالشأن المهدوي.. ففي بداية الغيبة الكبرى كانت مهمَّة
ترسيخ
عقائد الشيعة بإمامهم كبيرة وصعبة، لذا ترى العلماء بدأوا بتأصيل العقيدة
المهدويَّة بتجميع روايات أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك، ثمّ بردِّ الشُّبُهات
عنه (عجَّل الله فرجه) بمناظراتهم ودروسهم وخُطَبهم ومؤلَّفاتهم، ونشير إلى أهمّها،
وهي:
١ - كتاب (غيبة النعماني):
لأبي عبد الله محمّد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني المشهور بابن أبي زينب، من
كبار محدِّثي الشيعة في أوائل القرن الرابع الهجري، وهو من تلامذة الكليني، ولُقِّب
بالكاتب لأنَّه كتب الكافي بخطِّه طوال عشرين سنة، وهذه أحد أسباب شهرته، توفَّى
بحلب عام (٣٦٠هـ) في عهد الدولة الحمدانيَّة.
كتاب الغيبة للنعماني أثر ثمين خصَّه مؤلِّفه في موضوع الإمام المهدي، ابتدأه
المؤلِّف بمقدَّمة طويلة ذكر فيها سبب تأليفه لهذا الكتاب، وهو: (فإنَّا رأينا
طوائف من العصابة المنسوبة إلى التشيُّع...، قد تفرَّقت كلمُها وتشعَّبت
مذاهبها...، وشكُّوا جميعاً إلَّا القليل في إمام زمانهم، ووليِّ أمرهم، وحجَّة
ربِّهم)(٩٨)، وهذا ما دعاه إلى جمع الروايات الخاصَّة بموضوع الغيبة.. صدَّر كتابه
بطائفة من النصوص على إمامته (عجَّل الله فرجه)، ثمّ الأحاديث الدالَّة على أنَّ
الله لا يُخلي الأرض من حجَّة، ويذكر بعد ذلك عدَّة أحاديث في غيبة الإمام المهدي
وصفته وسيرته وحكمه وآياته وفضله، وكذا العلامات التي تكون قبل قيامه، ومواضيع
أُخرى كلَّها تتعلَّق بالإمام الثاني عشر المهدي (عجَّل الله فرجه).. يمكن تصنيف
أبواب الكتاب على ثلاثة أقسام: فقسم يختصُّ بالاعتقاد بالغيبة، والثاني مختصٌّ بعصر
الغيبة، والثالث في عصر الظهور وعلائمه، وكلُّ هذه الأقسام تكون في (٢٦) باباً..
اشتمل كتاب الغيبة على (٤٧٨ رواية) لكلِّ باب ما يناسبه من الروايات،
-----------------
(٩٨) الغيبة للنعماني (ص ٢٧ و٢٨/ مقدَّمة المؤلِّف).
أمَّا المصادر
والمنابع التي اغترف النعماني منها رواياته فقد نقل عن (١٨) شيخاً من مشايخه، نذكر
منهم(٩٩):
* أبو العبَّاس أحمد بن محمّد بن سعيد (ابن عقدة) (ت ٣٣٣هـ)، ونقل عنه ما يقرب
(١٤٠) رواية.
* أبو عليٍّ محمّد بن همَّام الإسكافي (ت ٣٣٢ أو ٣٣٦هـ)، ونقله عنه (٦٥) رواية.
* محمّد بن يعقوب الكليني (ت ٣٢٩هـ)، نقل من الكافي بحدود (٥٧) رواية.
* عليُّ بن أحمد البندنيجي، نقل عنه (٥١) رواية.
* عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الموصلي، نقل عنه ما يزيد على (٥٠) رواية.
وقد اكتفى المؤلِّف بجمع الروايات وتصنيفها بلا إضافة تعليق أو شرح إلَّا في حالات
نادرة، مكتفياً أيضاً بنقل الرواية في باب واحد من دون تكرار لها في الأبواب
الأُخرى.. ويُعَدُّ الكتاب من نفائس الكُتُب المدوَّنة في هذا الباب، وقد امتدحه
الشيخ المفيد في (الإرشاد)(١٠٠)، بعد استعراضه للروايات الخاصَّة بالإمام المهدي،
قائلاً: (وهذا طرف يسير ممَّا جاء في النصوص على الثاني عشر من الأئمَّة (عليهم
السلام)، والروايات في ذلك كثيرة قد دوَّنها أصحاب الحديث من هذه العصابة وأثبتوها
في كُتُبهم المصنَّفة، فممَّن أثبتها على الشرح والتفصيل محمّد بن إبراهيم المكنَّى
أبا عبد الله النعماني في كتابه الذي صنَّفه في الغيبة).. أصبح كتاب
-----------------
(٩٩) مجلَّة
الموعود، العدد الرابع، ذو الحجَّة ١٤٣٨هـ، (ص ١٤٥)، الشيخ النعماني وكتابه
(الغيبة) للشيخ عامر الجابري.
(١٠٠) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥٠).
النعماني بعد
القرن الرابع الهجري مصدراً معتمداً عند علماء الشيعة لمن كتب بعده عن الغيبة، كما
في (الإرشاد) للمفيد، و(إعلام الورى) للطبرسي، و(الملاحم) لابن طاووس، والإربلي في
(كشف الغمَّة)، والعلَّامة الحلِّي في (المستجاد)، كذلك سار المتأخِّرون على
منوالهم مثل العلَّامة المجلسي في (بحار الأنوار)، والحرِّ العاملي في (إثبات
الهداية).
دوَّن النعماني هذا المصنَّف وهو في حلب (الشام)، وفرغ من تأليفه في شهر ذي الحجَّة
من سنة (٣٤٢هـ)(١٠١)، قال الشيخ آقا بزرك الطهراني في (الذريعة)(١٠٢): (يظهر من بعض
المواضع أنَّ الكتاب كان موسوماً أو معروفاً بـ(ملاء العيبة في طول الغيبة))، وهذا
المصنَّف أقدم كتاب شيعي وصل إلينا في موضوع المهدي في عصرنا الحالي.
٢ - كتاب (كمال الدِّين وتمام النعمة):
لمحمّد بن عليِّ بن بابويه القمِّي المعروف بالشيخ الصدوق (٣٠٦ - ٣٨١هـ)، وهو من
كبار علماء الإماميَّة، صاحب كتاب (من لا يحضره الفقيه) أحد الكُتُب الحديثيَّة
الأربعة للشيعة.
كتب هذا المصنَّف بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لإزالة بعض الشُّبُهات
التي أُثيرت عند الشيعة حول المهدويَّة، حيث قال الشيخ الصدوق عن سبب تأليفه
الكتاب: (إنَّ الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا: أنِّي لمَّا قضيت وطري من زيارة
عليِّ بن موسى الرضا (صلوات الله عليه) رجعت إلى نيسابور وأقمت بها،
-----------------
(١٠١) الغيبة
للنعماني (ص ١٣/ مقدَّمة المحقِّق). وهناك بحث للسيِّد محمّد جواد الشبيري الزنجاني
بعنوان (النعماني ومصادر الغيبة) يُثبِت فيه أنَّ كتاب الغيبة يعود تأليفه إلى سنة
(٣٣٦هـ)، راجع: مجلَّة تراثنا (العدد ١٢٧ و١٢٨/ رجب - ذو الحجَّة ١٤٣٧هـ/ ص ٤٢).
(١٠٢) الذريعة (ج ١٦/ ص ٧٩/ الرقم ٣٩٨).
فوجدت أكثر
المختلفين إليَّ من الشيعة قد حيَّرتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم (عليه
السلام) الشبهة، وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقائيس، فجعلت أبذل مجهودي
في إرشادهم إلى الحقِّ وردِّهم إلى الصواب بالأخبار الواردة في ذلك عن النبيِّ
والأئمَّة (صلوات الله عليهم))(١٠٣).
يُعَدُّ هذا الكتاب من المصنَّفات القيِّمة عند الشيعة الاثني عشريَّة، يبحث
المؤلِّف فيه روائيًّا عن شخصيَّة الإمام (م ح م د) بن الحسن العسكري، وما يختصُّ
بوجوده وغيبته، وما يدور حوله في (٥٨) باباً.. يتعرَّض المؤلِّف في مقدَّمة الكتاب
إلى ذكر مجموعة من الأبحاث، حول خليفة الله ووجوب طاعته وضرورة عصمته، ثمّ يتطرَّق
إلى إثبات الغيبة والحكمة منها، ثمّ يبارز المنكرين ويُجيب عن الشُّبُهات ويردُّ
على شكوك المخالفين، وكلُّ ذلك مع ذكر البراهين من القرآن وصحيح الأخبار عن النبيِّ
والأئمَّة.
٣ - كتاب (المسائل العشر في الغيبة)(١٠٤):
لمحمّد بن محمّد النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد وابن المعلِّم
(٣٣٦ - ٤١٣هـ)، وهو عالم جليل انتهت إليه رياسة الإماميَّة في وقته.
الكتاب هو عبارة عن دفع أهمّ الشُّبُهات التي كانت تُثار آنذاك حول موضوع الإمام
المنتظَر، وهذه الشُّبُهات ردَّها الشيخ المفيد بأحلى ردٍّ وأوجزه، ففي هذه الرسالة
الصغيرة حجمها ترى فيها من المعلومات ما لا تجدها في غيرها.
عالج الشيخ هذه الإشكالات بعلاج جذريٍّ وناقشها من جميع الجهات،
-----------------
(١٠٣) كمال
الدِّين (ص ٢/ مقدَّمة المؤلِّف).
(١٠٤) مقدَّمة المسائل العشر في الغيبة، بتصرُّف.
بحيث لم يبقَ في
قلب أحدٍ شكٌّ ولا شبهة، وعند النظر في الكتاب وقياسه بذلك الزمان والمكان الذي كان
فيهما الشيخ المفيد، تتَّضح أهمّيَّة الكتاب ومدى فائدته.
تعرَّض الشيخ في فصله الأوَّل لردِّ كون استتار ولادة المهدي خارجة عن العرف، وفي
الثاني لردِّ مَنْ تمسَّك بإنكار جعفر عمِّ الإمام، وفي الثالث لردِّ مَنْ تمسَّك
بوصيَّة الإمام العسكري لأُمِّه دون ولده، وفي الرابع لردِّ مَنْ تمسَّك بعدم
الداعي لإخفاء الإمام العسكري ولده، وفي الخامس لردِّ مَنِ ادَّعى أنَّه مستتر لم
يرَه أحد منذ وُلِدَ، وفي السادس لردِّ مَنِ ادَّعى نقض العادة بطول عمره (عجَّل
الله فرجه)، وفي السابع لردِّ مَنْ تمسَّك بأنَّه إذا لم يظهر فلا فائدة في وجوده،
وفي الثامن لردِّ مَنْ تمسَّك بأنَّا في غيبة صاحبنا ساوينا السبائيَّة
والكيسانيَّة و...، وفي التاسع لردِّ مَنِ ادَّعى تناقض غيبة الإمام مع إيجاب
الإمامة وأنَّ فيها مصلحة للأنام، وفي العاشر لردِّ مَنْ تمسَّك بأنَّ الخلق كيف
يعرفه إذا ظهر والمعجز مخصوص بالأنبياء.
فتعرَّض الشيخ المفيد لردِّ كلِّ هذه الشُّبُهات، واعتمد في ردِّه على: الآيات
القرآنيَّة والحِكَم والقَصَص الواردة عن الأنبياء والحكماء والأمثلة التي يقبلها
كلُّ ضمير حيٍّ ودراسة تاريخيَّة كاملة لذاك الزمان وملوكه، واعتمد على الأدلَّة
العقليَّة، شأنه شأن الكُتُب الكلاميَّة العميقة.. فيُعَدُّ كتابه من الكُتُب
الكلاميَّة ذات البحث العميق، والعبارة الدقيقة الصعبة، فالقارئ يحتاج إلى الوقوف
على عباراته واحدة بعد أُخرى، والتأمُّل فيها ليصل إلى ما يقصده المؤلِّف.
تاريخ تأليف الكتاب: بدأ بتأليفه في أواخر سنة (٤١٠هـ)، وانتهى منه في سنة (٤١١هـ)،
وذلك لصغر حجم الكتاب.
٤ - كتاب (المقنع في الغيبة):
للسيِّد عليِّ بن الحسين بن موسى بن محمّد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام
موسى الكاظم
(عليه السلام)، المعروف بالشريف والمرتضى وعلم الهدى، والمكنَّى بأبي القاسم (٣٥٥ -
٤٣٦هـ)، وهو فقيه ومن متكلِّمي الإماميَّة ومرجعهم بعد وفاة أُستاذه الشيخ المفيد.
الكتاب(١٠٥) من خيرة وأنفس ما كُتِبَ في هذا الموضوع بالرغم من صغر حجمه، كانت غيبة
الإمام المهدي المنتظَر، من أهمّ المحاور التي دارت عليها البحوث الكلاميَّة(١٠٦)
منذ بداية عصر الغيبة الكبرى سنة (٣٢٩هـ) وحتَّى يومنا هذا، وكانت مسألة الإمامة
وما يرتبط بها محور علم الكلام الأساسي منذ يوم السقيفة إلى يومنا هذا وسيبقى حتَّى
ظهور الإمام المهدي.
نقف اليوم بكلِّ إكبار أمام شخص فريد بذل جهده في الذبِّ عن العقيدة بكُتُبه
الكلاميَّة العديدة، ومنها: (المقنع في الغيبة)، صنَّف كتابه بأُسلوب ونسق مميَّز
على طريقة (فإنْ قيل... قلنا)، فجاء قويَّ الحجَّة، متين السبك، دحض فيه شُبُهات
المخالفين، وأثبت غيبة الإمام المهدي وعِلَلها وأسبابها والحكمة الإلهيَّة التي
اقتضتها.. ثمّ أتبع الكتاب بجزء مكمِّل لمطالبه، بحث فيه عن علاقة الإمام الغائب
المنتظَر بأوليائه أثناء الغيبة، وكيفيَّة تعامل شيعته معه أثناءها، مجيباً على
كلِّ التساؤلات خلال تلك البحوث.
قال المرتضى في أوَّل كتابه عن سبب تأليف الكتاب: (جرى في مجلس الوزير السيِّد(١٠٧)
- أطال الله في العزِّ الدائم بقاءه، وكبت حُسَّاده وأعداءه - كلام
-----------------
(١٠٥) المقنع في
الغيبة (ص ١١ - ١٨/ مقدَّمة المحقِّق)، بتصرُّف.
(١٠٦) عُرِّف علم الكلام بأنَّه (علم يُقتدَر معه على إثبات الحقائق الدِّينيَّة
بإيراد الحُجَج عليها ودفع الشُّبه عنها).
(١٠٧) قال الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة (ج ٢٢/ ص ١٢٣): هو (الوزير المغربي:
أبو الحسن عليُّ بن الحسين بن عليِّ بن هارون بن عبد العزيز الأراجني)، وزير الحاكم
الفاطمي.
في غيبة صاحب
الزمان... ودعاني ذلك إلى إملاء كلام وجيز فيها...)(١٠٨)، علماً بأنَّ المرتضى
ألَّف كتابه هذا بعد كتابيه (الشافي في الإمامة) و(تنزيه الأنبياء والأئمَّة) حيث
أحال في مواضع متفرِّقة منه إليهما.
تظهر أهمّيَّة الكتاب ومنزلته الرفيعة إذا علمنا أنَّ شيخ الطائفة الطوسي قد أورد
مقاطع كبيرة ومهمَّة منه وضمَّنها كتابه (الغيبة) في فصل (الكلام في الغيبة)، وكذلك
العلَّامة المجلسي قد ذكر كتاب (المقنع في الغيبة) ضمن مصادر كتابه (بحار الأنوار)،
كما نقل الطبرسي (ت ٥٤٨هـ) مقاطع مهمَّة من الكتاب في كتابه (إعلام الورى بأعلام
الهدى).. فاهتمام هؤلاء الأعلام بإيراد مقاطع مهمَّة أو اقتباسهم منه في
مصنَّفاتهم، دليل على تقدُّم المرتضى في هذا الميدان.
٥ - كتاب (غيبة الطوسي):
لمحمّد بن الحسن بن عليِّ بن الحسن والمعروف بشيخ الطائفة (٣٨٥ - ٤٦٠هـ) من كبار
علماء الإماميَّة، وصاحب كتابي (التهذيب) و(الاستبصار)، وهما من الكُتُب الروائيَّة
الرئيسيَّة عند الشيعة، حضر درس الشيخ المفيد والسيِّد المرتضى، تسنَّم كرسي الكلام
في بغداد، وقام بتأسيس الحوزة العلميَّة في النجف، أحدث قفزة نوعيَّة في عمليَّة
الاجتهاد واستقلال المدرسة الإماميَّة قبالة المدارس الأُخرى.
ألَّف الشيخ الطوسي هذا الكتاب في بغداد سنة (٤٤٧هـ)، وذكر سبب تأليفه لهذا الأثر
القيِّم قائلاً: (فإنِّي مجيب إلى ما رسمه الشيخ الجليل - أطال الله بقاءه - من
إملاء كلام في غيبة صاحب الزمان، وسبب غيبته، والعلَّة التي لأجلها طالت غيبته،
وامتداد استتاره مع شدَّة الحاجة إليه وانتشار الحيل ووقوع الهرج والمرج وكثرة
الفساد في الأرض وظهوره في البرِّ والبحر، ولِمَ لم يظهر، وما
-----------------
(١٠٨) المقنع في الغيبة (ص ٣١).
المانع منه، وما
المحوج إليه، والجواب عن كلِّ ما يُسئَل في ذلك من شُبَه المخالفين، ومطاعن
المعاندين، وأنا مجيب إلى ما سأله، وممتثل ما رسمه)(١٠٩).
يُعتبَر كتاب الغيبة للشيخ الطوسي من أفضل المصادر المهمَّة في المعارف المهدويَّة
التي يعتمدها الباحثون، وذلك لشموليَّة وعمق ودقَّة المعلومات فيه، بحث الشيخ
بدقَّة قضيَّة الغيبة وعقيدة الشيعة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وردَّ على
الشُّبُهات المثارة حولها، ردَّ اعتراضات المعاندين وفنَّد إشكالاتهم، وقدَّم
إجابات محكمة لتساؤلات الفِرَق الشيعيَّة المختلفة كالناووسيَّة والكيسانيَّة
والواقفيَّة والمحمّديَّة والفطحيَّة، وأتى بالردِّ المناسب عليها استناداً إلى
أدلَّة قرآنيَّة وروائيَّة متقنة وبراهين عقليَّة رصينة، كذلك سلَّط الشيخ الأضواء
بشكل تفصيلي على الوكلاء والسفراء وهي من الأُمور التي لازمت مسألة الغيبة، كذلك
استعرض الغيبتين الصغرى والكبرى وبيان فلسفتهما وتعليل طول عمره الشريف.
يُعَدُّ مرجعاً مهمًّا عند الشيعة في الثقافة المهدويَّة، وذلك لأنَّ المؤلِّف ذو
خبرة وإحاطة عالية بالعلوم الإسلاميَّة، بالإضافة لتوفُّر المصادر المهمَّة بين يدي
الكتاب أثناء تدوينه الكتاب، والتي يمكن تقسيمها إلى قسمين(١١٠):
القسم الأوَّل: وهي المصادر الموجودة بين أيدينا حاليًّا، مثل: الكافي، وغيبة
النعماني، وكمال الدِّين وتمام النعمة للصدوق، والمسائل في الغيبة للشيخ المفيد،
والذخيرة للسيِّد المرتضى، وكتاب مسائل عليِّ بن جعفر، وكذلك كتاب سُلَيم بن قيس
الهلالي.
القسم الثاني: المصادر غير الموجودة بين أيدينا حاليًّا، مثل: كتاب الضياء في
الردِّ على المحمّديَّة والجعفريَّة لسعد بن عبد الله الأشعري القمِّي، وكتاب
-----------------
(١٠٩) الغيبة
للطوسي (ص ١ و٢/ مقدَّمة المؤلِّف).
(١١٠) موقع ويكي شيعة: الموسوعة الإلكترونيَّة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
الرجعة وكتاب
القائم للفضل بن شاذان، وكتاب أخبار الوكلاء الأربعة لابن نوح الصيرفي، وكتاب
الأوصياء وكتاب الغيبة للشلمغاني، وكتاب في نصرة الواقفة لعليِّ بن أحمد العلوي.
وهذا ما يرفع القيمة العلميَّة للكتاب ويُبيِّن مدى أهمّيَّته، وكلمة الشيخ الآغا
بزرك الطهراني في التعريف بالكتاب تُبيِّن مكانته حيث يقول: (يتضمَّن هذا الكتاب
أقوى الحُجَج والبراهين العقليَّة والنقليَّة على وجود الإمام الثاني عشر...، ويدفع
الكتاب شُبُهات المخالفين والمعاندين الذين يُنكِرون وجوده أو ظهوره بحيث يزول معها
الريب)(١١١).
وبنظرة شاملة لهذه الكُتُب الخمسة نجد أنَّ: كتاب (الغيبة) لابن أبي زينب النعماني،
و(كمال الدِّين وتمام النعمة) للشيخ الصدوق، قد اشتملا على روايات الغيبة، فتمَّ
تصنيف وتبويب الروايات الشريفة إلى موضوعات مختلفة، فانتهج المؤلِّفان المنحى
الروائي في الغالب.. في حين كتاب (الفصول العشرة في الغيبة) للشيخ المفيد، وكتاب
(المقنع في الغيبة) للشريف المرتضى، انتهج المؤلِّفان المنحى العقلي حيث اقتصرا على
تناول أبحاث الغيبة من الناحية العقليَّة والكلاميَّة فقط.. بينما كتاب (الغيبة)
للشيخ الطوسي قد اهتمَّ بالمنهجين معاً حيث ذكر روايات كثيرة بالإضافة إلى المباحث
العقليَّة، ممَّا جعله كتاباً جامعاً مميَّزاً في موضوعه.
التراث المهدوي المكتوب في هذه
المرحلة(١١٢):
وهنا نذكر على طريق الاختصار بعض مَنْ ألَّف من العلماء عن موضوع الإمام المهدي
(عجَّل الله فرجه) والدفاع عنه في هذه المرحلة.. نذكر منهم:
-----------------
(١١١) الغيبة
للطوسي (ص ٢٤).
(١١٢) مقدَّمة المسائل العشر في الغيبة، والإمام المهدي المنتظَر عند الشيعة الاثني
عشريَّة، بتصرُّف.
١ - كتاب (الغيبة
وكشف الحيرة): أبو الحسن سلامة بن محمّد بن إسماعيل (أسماء) بن عبد الله بن موسى بن
أبي الأكرم الأرْذني (الأزوني)، المتوفَّى سنة (٣٣٩هـ).
٢ - كتاب (المهدي): أبو موسى عيسى بن مهران المستعطِف، توفَّى في حدود (٣٤٥هـ).
٣ - كتاب (الغيبة): أبو محمّد الحسن بن حمزة بن عليِّ بن عبد الله بن محمّد ابن
الحسن بن الحسين بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، المعروف
بالطبري والمرعش، كان من أجلَّاء الطائفة وفقهائها، تُوفِّي سنة (٣٥٨هـ).
٤ - كتاب (الغيبة وذكر القائم (عجَّل الله فرجه)): أبو محمّد الحسن بن محمّد بن
يحيى ابن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي
طالب (عليهم السلام)، المعروف بابن أخي طاهر، المتوفَّى في ربيع الأوَّل سنة
(٣٥٨هـ).
٥ - محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني، المعروف بابن أبي زينب الكاتب، تلميذ ثقة
الإسلام الكليني، له كتاب (الغيبة)، ويُعرَف هذا الكتاب بـ(ملاء العيبة في طول
الغيبة)، كُتِبَ هذا الكتاب في أواخر عام (٣٤٢هـ)، توفَّى بالشام (حلب) حوالي عام
(٣٦٠هـ).
٦ - كتاب (كمال الدِّين وتمام النعمة) و(الرسالة الأُولى في الغيبة)، و(الرسالة
الثانية في الغيبة) و(الرسالة الثالثة في الغيبة): أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن
الحسين بن موسى بن بابويه القمِّي، المعروف بالصدوق، توفَّى سنة (٣٨١هـ).
٧ - كتاب (الغيبة): أبو الحسن حنظلة بن زكريَّا بن حنظلة بن خالد بن العيار التميمي
القزويني، توفَّى سنة (٣٨٥هـ).
٨ - كتاب (إزالة الران عن قلوب الإخوان في الغيبة): أبو عليٍّ محمّد بن أحمد بن
جنيد الكاتب الإسكافي، من شيوخ الشيخ المفيد، توفَّى في النصف الثاني من القرن
الرابع الهجري.
٩ - كتاب
(الغيبة): أبو محمّد عبد الوهَّاب المادرائي (البادرائي)، توفَّى في نهاية القرن
الرابع أو بداية الخامس الهجري.
١٠ - كتاب (ما نزل من القرآن في صاحب الزمان والوكلاء الأربعة): أبو عبد الله أحمد
بن محمّد بن عبيد الله بن الحسن بن عيَّاش بن إبراهيم بن أيُّوب الجوهري، صديق
النجاشي، توفَّى سنة (٤٠١هـ).
١١ - كتاب (المسائل العشر في الغيبة) و(الغيبة) و(الإرشاد) و(مختصر في الغيبة)
و(النقض على الطلحي في الغيبة) و(أربع رسائل أُخرى في موضوع الغيبة) و(جوابات
الفارقيِّين في الغيبة) و(الجوابات في خروج الإمام المهدي): محمّد بن محمّد بن
النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد، توفَّى (٤١٣هـ).
١٢ - كتاب (أخبار الوكلاء الأربعة): أحمد بن عليِّ بن العبَّاس بن نوح أبو العبَّاس
الصيرفي، نزيل البصرة، فقيهاً بصيراً بالحديث والرواية، وهو أُستاذ الشيخ النجاشي،
تُوفِّي حدود النيِّف والعشرة بعد الأربعمائة.
١٣ - كتاب (الأربعين حديثاً في ذكر المهدي): الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله
الأصبهاني، المتوفَّى سنة (٤٣٠هـ)، وذكر المهدي ونعوته وحقيقة مخرجه وثبوته، ومناقب
المهدي.
١٤ - كتاب (المقنع في الغيبة) و(رسالة في غيبة الحجَّة): أبو القاسم عليُّ ابن
الحسين المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى المتوفَّى سنة (٤٣٦هـ)، كما خصَّص جزءاً
من كتاب (الشافي) و(تنزيه الأنبياء) لموضوع الغيبة أيضاً.
١٥ - كتاب (البرهان على طول عمر صاحب الزمان) و(الاستطراف في ذكر ما ورد في الغيبة
في الإنصاف): أبو الفتح محمّد بن عليِّ بن عثمان الكراجكي، المتوفَّى سنة (٤٤٩هـ).
١٦ - كتاب
(الشفاء والجلاء في الغيبة): أحمد بن عليٍّ الرازي (ابن الخضيب) الأيادي (٣٧٠ -
٤٥٠هـ).
١٧ - كتاب (الغيبة): أبو الحسن أحمد بن محمّد بن عمران بن موسى الجرَّاح المعروف
بابن الجندي، أُستاذ الشيخ النجاشي، توفَّى في منتصف القرن الخامس الهجري.
١٨ - كتاب (الغيبة وكشف الحيرة): أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عبد الله ابن قضاعة
بن صفوان بن مهران الجمَّال، المعروف بالصفواني، الشريك مع النعماني في القراءة على
ثقة الإسلام الكليني، توفَّى في منتصف القرن الرابع الهجري.
١٩ - كتاب (الغيبة): أبو الفرج المظفَّر بن عليِّ بن الحسين الحمداني الأسدي، قرأ
على المفيد وحضر مجلس درس المرتضى والطوسي، توفَّى في منتصف القرن الخامس الهجري.
٢٠ - كتاب (الغيبة): أبو جعفر محمّد بن الحسن بن عليٍّ الطوسي، توفَّى سنة (٤٦٠هـ).
هذه بعض الكتابات المستقلَّة في موضوع الإمام المهدي صُنِّفت في هذه الحقبة
التاريخيَّة.
الشعر في هذه المرحلة:
نظم الشعراء الكثير من القصائد عن الإمام المهدي في هذه الفترة أيضاً، لم نتطرَّق
لها أو نذكر أسماء الشعراء مراعاةً للاختصار، وقد ذكر السيِّد محسن الأمين في
موسوعته الرائعة (أعيان الشيعة) أسماء (٧٨) شاعراً مشهوراً من الشيعة في هذه
المرحلة التاريخيَّة، مع لمحة موجزة صغيرة عن كلِّ شخصية، وكان من بينهم الصاحب بن
العبَّاد والشريف الرضي والشريف المرتضى،
وقيل: (لولا
الرضي لكان المرتضى أشعر الناس، ولولا المرتضى لكان الرضي أعلم الناس)(١١٣).
ونقتطف عدَّة أبيات(١١٤) من قصيدة إسماعيل بن عبَّاد بن العبَّاس الطالقاني (٣٢٦ -
٣٨٥هـ) المعروف بـ(الصاحب بن عبَّاد) من كبار علماء وأُدباء الشيعة الإماميَّة،
وأحد أعيان ووزراء العصر البويهي:
بمحمّد ووصيِّه
وابنيهما * * * وبعابد وبباقرين وكاظمِ
ثمّ الرضا ومحمّد ثمّ ابنه * * * والعسكري المتَّقي والقائمِ
أرجو النجاة من المواقف كلِّها * * * حتَّى أصير إلى نعيم دائمِ
تواقيع الناحية المقدَّسة في هذه
المرحلة:
ذكر الشيخ الطبرسي في (الاحتجاج) كتابين(١١٥) أرسلهما الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه) إلى الشيخ المفيد، يتضمَّنان بعض التوجيهات العالية، وبعض الأخبار
المستقبليَّة الصادقة، وذلك وفقاً للمصلحة العامَّة في أوَّل زمان الغيبة الكبرى.
-----------------
(١١٣) أعيان
الشيعة (ج ١/ ص ١٧٤ و١٧٥).
(١١٤) شرح إحقاق الحقِّ (ج ٣٣/ ص ٣).
(١١٥) بخصوص سند هاتين الرسالتين قال السيِّد محمّد صادق الصدر (رحمه الله) في
تاريخ الغيبة الصغرى (ج ٢/ ص ١٣٨) بعد أنْ ناقش السند: (يُعطي ظنًّا كافياً بصحَّة
السند، وإنْ كان لا يبلغ حدَّ الإثبات التاريخي). أشار المحدِّث البحراني (رحمه
الله) إلى صحَّة الرسالتين في لؤلؤة البحرين (ص ٣٤٧ - ٣٥١). أمَّا السيِّد أبو
القاسم الخوئي (رحمه الله) ذهب في معجم رجال الحديث (ج ١٨/ ص ٢٢٠): حيث قال: (هذه
التوقيعات لا يمكننا الجزم بصدورها من الناحية المقدَّسة، فإنَّ الشيخ المفيد (قدّس
سرّه) قد تولَّد بعد الغيبة الكبرى بسبع أو تسع سنين، وموصِل التوقيع إلى الشيخ
المفيد (قدّس سرّه) مجهولٌ، هَبْ أنَّ الشيخ المفيد جزم بقرائن أنَّ التوقيع صدر من
الناحية المقدَّسة، ولكنْ كيف يمكننا الجزم بصدوره من تلك الناحية؟ على أنَّ رواية
الاحتجاج لهذين التوقيعين مرسلةٌ، والواسطة بين الطبرسي والشيخ المفيد مجهولٌ).
نقتطف من الرسالة
الأُولى المؤرَّخة في أواخر شهر صفر عام (٤١٠هـ) هذا المقطع: «... إِنَّا غَيْرُ
مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا نَاسِينَ لِذِكْرِكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ
لَنَزَلَ بِكُمُ اَللَّأْوَاءُ أَوِ اِصْطَلَمَكُمُ اَلْأَعْدَاءُ»(١١٦).
من الرسالة الثانية المؤرَّخة في غرَّة شوَّال (٤١٢هـ) نقتطف هذه الفقرة: «وَلَوْ
أَنَّ أَشْيَاعَنَا وَفَّقَهُمْ اَللهُ لِطَاعَتِهِ عَلَى اِجْتِمَاعٍ مِنَ
اَلْقُلُوبِ فِي اَلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَمَا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ
اَلْيُمْنُ بِلِقَائِنَا، وَلَتَعَجَّلَتْ لَهُمُ اَلسَّعَادَةُ بِمُشَاهَدَتِنَا
عَلَى حَقِّ اَلْمَعْرِفَةِ وَصِدْقِهَا مِنْهُمْ بِنَا، فَمَا يَحْبِسُنَا
عَنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَّصِلُ بِنَا مِمَّا نَكْرَهُهُ وَلَا نُؤْثِرُهُ مِنْهُمْ،
وَاَللهُ اَلمُسْتَعَانُ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ»(١١٧).
كلا الخطابين(١١٨) وصلا للشيخ المفيد في أواخر أيَّام عمره (ت ٤١٣هـ)، ويكون مضى
على وفاة الشيخ عليٍّ السمري (السفير الرابع والأخير) ما يزيد على الثمانين عاماً
بقليل، أي على انتهاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى عام (٣٢٩هـ).
* * *
-----------------
(١١٦) الاحتجاج
(ج ٢/ ص ٣٢٣).
(١١٧) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٢٥)؛ وفيه: (أشياعاً) بدل (أشياعنا).
(١١٨) لقراءة الرسالتين والاطِّلاع على شرح المفاهيم والتنبُّؤات الرئيسيَّة التي
وردت فيهما، ارجع إلى: تاريخ الغيبة الصغرى (ج ٢/ ص ١٣٧ - ١٧١).
مرحلة التقلُّبات الطائفيَّة (٤٤٧
- ٩٠٧هـ):
تمتاز هذه الحقبة الزمنيَّة في تاريخ الشيعة بتحوُّلات سياسيَّة وفكريَّة
خاصَّة، إذ بدأت مرحلة التعصُّب الطائفي الذي قادها بني سلجوق.. ففي هذا العصر
نلاحظ أنَّ المصنَّفات فيه ذات طابع دفاعي (مناظرات عقديَّة)، وذلك بسبب الظروف
والأوضاع السياسيَّة والاجتماعيَّة، وانعكس ذلك على السياق العامِّ للفكر المهدوي،
فعاش حالة من الانكماش والتراجع لمسار المعارف المهدويَّة في التراث الشيعي.
الوضع السياسي والفكري في هذه
المرحلة:
استمرَّت الدولة البويهيَّة قائمة حتَّى دخل السلاجقة بغداد عام (٤٤٧هـ)، فانتهت
بذلك مرحلة الحرّيَّة الفكريَّة، وبدأت مرحلة التعصُّب الطائفي، فسرعان ما انحاز
السلاجقة إلى الاتِّجاه السلفي المتشدِّد، وأسرفوا في الفتك والبطش، ووقعت فتن
وأحداث خطيرة بسبب انحيازاتهم المذهبيَّة، وتُعَدُّ الفترة (٤٤٧هـ وما بعدها) من
أسوأ ما شهدته بغداد (حاضرة العالم الإسلامي)، فقد ضاع من خلالها كثير من التراث
الشيعي، وأُخمد صوت الفكر والعلم وتعرَّض رجاله للاضطهاد والتنكيل، وهذا الذي
يُفسِّر لنا حالة التراجع في المعارف والثقافة المهدويَّة.
الوضع السياسي:
الدولة السلجوقيَّة (٤٢٩ - ٥٨٣هـ):
تأسَّست على يد سلالة السلاجقة، وهي سلالة تركيَّة، لقد ظهرت الدولة
عندما قاد طغرل
بك حفيد سلجوق حرباً مع الدولة الغزنويَّة في إقليم خراسان، تمكَّن على إثرها من
السيطرة على مدينتي مرو ونيسابور في عام (٤٢٩هـ)، وكذلك انتصر طغرل في العامِّ ذاته
على الغزنويِّين، وأدَّت إلى الظهور الحقيقي للدولة السلجوقيَّة.
واصل طغرل تقدُّمه نحو الغرب، فخاض حرباً مع الدولة البويهيَّة في إيران والعراق،
واستغلَّ فرصة استنجاد الخليفة العبَّاسي القائم بأمر الله (حكم ٤٢٢ - ٤٦٧هـ) ليسير
نحو بغداد، ويقبض على آخر حُكَّام بني بويه (أبي نصر خسرو فيروز) وسجنه حتَّى مات،
وسيطر على بغداد في عام (٤٤٧هـ)، وينتهي بذلك فترة حكم البويهيِّين، وعيَّن الخليفة
العبَّاسي طغرل (سلطاناً)، وخطب باسمه.. وبعد موت طغرل (ت ٤٥٥هـ) ورث ابن أخيه ألب
أرسلان مقاليد الحكم، فتابع توسعة الدولة، فخاض حروب مع الإمبراطورية البيزنطيَّة،
فانتزع منها جورجيا وأرمينيا ومعظم الأناضول في عام (٤٦٣هـ)، ولمَّا توفَّى أرسلان
عام (٤٦٥هـ) بعد معاركه مع البيزنطيِّين، تولَّى الحكم ابنه مَلِك شاه الذي توسَّعت
الدولة في عهده أكثر، وبعد وفاة السلطان مَلِك شاه (ت ٤٨٥هـ) انتهى عصر النفوذ
العسكري السلجوقي، وبدأت الدولة بالانحدار والضعف تدريجيًّا، ومع أنَّ دولتهم عاشت
لأكثر من قرن بعد ذلك إلَّا أنَّها كانت متفكِّكة وضعيفة، فسرعان ما بدأت الدولة
تنقسم وتتفكَّك إلى دويلات عدَّة، وانتهت في سنة (٥٨٣هـ).
استقلال الخلافة العبَّاسيَّة (٥٨٣ - ٦٥٦هـ):
في عام (٥٨٣هـ) هدَم الخليفة العبَّاسي الناصر لدين الله قصور السلاجقة بالمخرم،
لمحو أثرهم وابتداء صفحة جديدة من سموِّ الخلافة وقوَّتها، ولا شكَّ أنَّ للظروف
السياسيَّة الجديدة تأثيراً إيجابيًّا واضحاً على النشاط الفكري
وخصوصاً في عهد
الناصر لدين الله (حكم ٥٧٥ - ٦٢٢هـ)، الذي كُتِبَ على يده انقراض السلاجقة، وكان
يميل إلى التشيُّع ويرى رأي الإماميَّة.
كان للخليفة العبَّاسي الناصر لدين الله دورٌ كبيرٌ في بعث أجواء إيجابيَّة في
الوسط الشيعي، بعد قضائه على نفوذ قادة الجيش ووضعه حدًّا للتسلُّط السلجوقي
واعتناقه التشيُّع، وهي أجواء امتدَّت لفترة قبل أواخر الدولة العبَّاسيَّة عام
(٦٥٦هـ).
وبعد الناصر تولَّى الظاهر بأمر الله (٦٢٢ - ٦٢٣هـ)، ودام حكمه تسعة أشهر، وخلفه
المستنصر بالله (حكم ٦٢٣ - ٦٤٠هـ)، والذي اتَّصف عهده بالهدوء والرخاء، ونلاحظ خلال
هذه الفترة التي تمتدُّ حتَّى نهاية الخلافة العبَّاسيَّة في بغداد، أنَّها فترة
فريدة بالنسبة للوضع الشيعي، فقد تسنَّم خلالها الشيعة مناصب سياسيَّة رفيعة، وحظوا
باحترام وتقدير الخليفة والديوان.
في العاشر من جمادى الآخرة سنة (٦٤٠هـ) توفَّى الخليفة المستنصر، واضعاً رحيله
نهاية للهدوء والاسترخاء الذي شهده المسلمون في عهده، ليبدأ عهدًا جديداً في زمن
خلافة ابنه عبد الله الملقَّب بالمستعصم بالله (حكم ٦٤٠ - ٦٥٦هـ)، ولم يكن يملك
خصال والده، فقد كان قليل الخبرة مستضعف الرأي، وقد اختلَّت في عهده الأوضاع
السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وكان عهده سجلًّا متواصلاً من الفوضى
والاضطراب في الداخل، والمصائب والويلات في الخارج، فقد نشبت في أيَّامه الخلافات
بين الحنفيَّة والحنابلة وبين السُّنَّة والشيعة، وفي أحداث الفتن أمر ابنه
وسكرتيره بهدم الكرخ واضطهاد الشيعة.
إنَّ الضعف الذي أصاب الخلافة العبَّاسيَّة في عهد المستعصم وقع في ظلِّ تهديدات
خارجيَّة خطيرة للغاية، وهي أنَّ سرايا التتار تتواصل على ثغور الدولة، والخليفة لم
يُحرِّك ساكناً، فاجتاح التتار مدينة بغداد حاضرة الدولة
العبَّاسيَّة
وعاصمة الخلافة الإسلاميَّة يوم الأربعاء (٩/ صفر/ ٦٥٦هـ)، وسقطت على يد المغول
بقيادة هولاكو، وقُتِلَ المستعصم رفسًّا يوم (٢٤/ صفر/ ٦٥٦هـ)، وانتهى الحكم
العبَّاسي(١١٩).
الدولة الإيلخانيَّة المغوليَّة (٦٥٦ - ٧٣٦هـ):
سقطت الخلافة العبَّاسيَّة على أيدي المغول، وحكموا العراق بعد ذلك.. فأصل المغول
عبارة عن قبائل كبيرة يُمثِّلون شعباً بدوياً عاشوا على السهول الواسعة في الهضبة
الأسيويَّة (هضبة منغوليا) بأطراف الصين، يُعتبَر جنكيزخان (حكم ٦٠٣ - ٦٢٤هـ) أعظم
قوَّادهم على الإطلاق، وهو الذي أخضع جميع المغول والتتار تحت راية واحدة وكوَّن
منهم جيشاً ضخماً، وهو واضع دستور المغول الشهير (الياسا)، زحف بجيوشه على الدولة
الخوارزميَّة، فدمَّرها واستولى على آسيا الوسطى وفارس، وانسحب بعد ذلك إلى بلاده
حيث توفَّى.
لم يكن هولاكو (حفيد جنكيزخان) قد تجاوز (٣٦) من عمره حين عهد إليه أخوه (منكو)
زعيم المغول بمهمَّة عسكريَّة، فخرج على رأس جيش قوامه (٢٥٠) ألف جندي بالإضافة إلى
كبار القادة والفرسان.. حقَّق هولاكو هدفه الأوَّل بالاستيلاء على قلاع
الإسماعيليَّة وأُمراء الفرس عام (٦٥٤هـ)، ثمّ مضى في تحقيق هدفه الآخر بالاستيلاء
على بغداد والقضاء على الخلافة العبَّاسيَّة بصورة تامَّة، وفعلاً سقطت بغداد عام
(٦٥٦هـ)، وقتل المغول عدداً كبيراً من أهلها، ودمَّروا معظم معالم مدينة بغداد،
وقضوا على المكتبات ودور العلم التي تحتوي على وثائق تاريخيَّة ثمينة وكُتُب
علميَّة كثيرة، حتَّى إنَّ مياه نهر دجلة أصبحت سوداء نتيجة لكمّيَّة الحبر الهائلة
من الكُتُب التي أُلقي بها بالنهر.. اهتزَّ العالم الإسلامي لسقوط بغداد، وبهذا
أفلت شمس الخلافة العبَّاسيَّة عنها بعد أنْ
-----------------
(١١٩) الفقيه والدولة (ص ١١٥ - ١٣٣)، بتصرُّف.
أشرقت عليها أكثر
من خمسة قرون.. استمرَّ هولاكو في زحفه نحو الشام ومصر، فاستولى على حلب وحمص ودمشق
عام (٦٥٨هـ)، وقتها عاد هولاكو إلى تبريز لاختيار الحاكم الجديد للمغول (أخاه أريك
بوكيه)، سار جيش المغول نحو مصر، ولكن عسكر مصر خرج بقيادة قطز والظاهر بيبرس،
والتقى الجيشان في (٢٥/ رمضان/ ٦٥٨هـ) في موقعة (عين جالوت) بفلسطين وهُزِمَ المغول
وطُرِدُوا من دمشق، وأصبحت بلاد الشام حتَّى نهر الفرات تحت حكم المماليك.
بعد حَدَثين هزَّا كيان الدولة المغوليَّة الجنكيزيَّة:
* حدثت نزاعات داخليَّة عائليَّة على الحكم، فقضى قوباي (الأخ الأكبر لهولاكو) على
أريك بوكيه وسيطر على مغول الصين.
* إضافة للحَدَث الثاني المهمُّ وهو الهزيمة القاسية للمغول في عين جالوت.
فقرَّر هولاكو الانفصال بالمناطق التي تحت يديه، فانشقَّت الدولة المغوليَّة الكبرى
إلى دولة بالصين وأُخرى بإيران والعراق، وشكَّل هولاكو دولته الإيلخانيَّة (٦٥٦ -
٧٣٦هـ) وعاصمتها تبريز، وظلَّت سلطة هولاكو غير مستقرَّة، وصار الحكم وراثيًّا في
نسل هولاكو.
إنَّ سوء العلاقة مع دولة المغول في الصين وقبائل المغول الأُخرى، والمناوشات
المتكرِّرة مع دولة المماليك في مصر والشام بعد معركة عين جالوت، بالإضافة لعوامل
أُخرى كثيرة تظافرت وأصبحت بمرور الوقت معضلات للدولة ومعوِّقات استقرارها، كان
اعتناق الإسلام هو السبيل الأمثل للخروج من هذه الأزمات، فقرَّر الإيلخان السابع
محمود غازان (حكم ٦٩٤ - ٧٠٣هـ) أنْ يفتتح عهده بفرض الإسلام وفق أحد المذاهب
السُّنّيَّة ديناً للدولة في مطلع
شعبان (٦٩٤هـ) أي
بعد (٣٥) سنة على تأسيس الدولة، وبدأ الحُكَّام المغول يُقدِّمون أنفسهم باعتبارهم
مسلمين(١٢٠).
في الواقع إنَّ المغول اكتشفوا أنَّ اعتناقهم للإسلام واتِّباعهم للمذهب (الحنفي)
السُّنِّي يُحبِط مشروعهم السياسي، ويحدُّ من حركة التوسُّع المغولي، وذلك للتناقض
بين الاستراتيجيَّة العسكريَّة والأيديولوجيَّة الجديدة، إضافةً للأوضاع الداخليَّة
التي ساهم علماء الحنفيَّة في خلقها وإحداثهم للفتن الداخليَّة وإيذاء أتباع
المذاهب الأُخرى، فتفجَّر السجال المذهبي في فورة عارمة بات من الصعب ضبطها.. إلى
أنَّ بدأ التحوُّل الأيديولوجي الثاني، فانتقل السلطان الجايتوخان - غيَّر اسمه
إلى: محمّد خدابنده - إلى مذهب التشيُّع وإقراره مذهباً رسميًّا للدولة
الإيلخانيَّة عام (٧٠٩هـ)، أي بعد نحو (١٥) عاماً على التحوُّل الأوَّل، وذلك ببركة
جهود العلامة الحلِّي، فخرجت الدولة من المعارك المذهبيَّة وسمح للحرّيَّات
الدِّينيَّة، كما سمح للمذاهب الأُخرى أنْ تقيم طقوسها بحرّيَّة تامَّة.
الدولة الجلائريَّة في العراق (٧٣٦ - ٨١٣هـ):
بعد أنْ توفَّى آخر حاكم إيلخاني ولم يُعقِّب ذرّيَّةً، شبَّ الصراع بين الطامعين،
واستطاع حسن بن حسين جلائر أنْ يستولي على السلطة ويُؤسِّس دولته، وهو أمير مغولي
ليس من أحفاد هولاكو، وقد استطاع أبناؤه أنْ يضمُّوا أذربيجان وتبريز والموصل.
وفي عهد آل جلاتر وهم من أصل قبيلة مغوليَّة (فرع من قبيلة إلقا)،
-----------------
(١٢٠) عادةً الشعوب المحكومة والمسيطَر عليها تأخذ بحضارة الشعوب المستعمرة، ولكن هنا انعكست القاعدة، باعتبار أنَّ المغول بدو وليست لديهم حضارة عريقة، وشعروا أنَّ المسلمين أفضل منهم، فذابوا في المجتمع الإسلامي واتَّبعوا الإسلام.
والتي كانت
مواطنهم في باد ما وراء النهر، غير أنَّها تنتمي إلى تجمُّع قبائل تتريَّة لا ينحدر
منها أصل قبيلة جنكيز خان.. الدولة الجلائريَّة دولة شيعيَّة، ولها بصماتها الواضحة
على التشيُّع، فاهتمَّت بالعمران في العاصمة بغداد، واهتمَّت أيضاً بالأماكن
الشيعيَّة المقدَّسة، وقد تشرَّف أحد أبناء مؤسِّس الدولة حسن الجلائري ببناء الحرم
الحسيني في كربلاء، ومع تمسُّكهم بحبِّ آل البيت (عليهم السلام) لم يمنع أنْ تكون
دولتهم تمتاز بالنظرة الإنسانيَّة وعدم التعصُّب لمذهب من المذاهب.
وفي عهدهم مرَّت بالعراق عاصفة مغوليَّة جديدة يقودها تيمورلنك، وصل بغداد سنة
(٧٩٦هـ) واستولى عليها، وبعد وفاته سنة (٨٠٧هـ) وتفكُّك إمبراطوريَّته عاد أحمد
الجلائري إلى العراق.
دولة القره قوينلو (التركمانيَّة الأُولى) في العراق (٨١٣ - ٨٧٢هـ)(١٢١):
قبيلة تركمانيَّة جاءت في الأصل من تركستان الغربيَّة والتي كانت المذاهب
السُّنّيَّة سائدة لديهم، بعد أنْ قتل السلطان قره يوسف الحاكم أحمد الجلائري،
استبدَّ بالأمر في كلِّ المناطق الخاضعة للجلائريِّين، وكانت تبريز العاصمة
الرئيسيَّة، أمَّا بغداد والعراق فكانت ولاية تابعة لهم.
دولة آلاق قوينلو (التركمانيَّة الثانية) في العراق (٨٧٢ - ٩١٤هـ):
قبيلة تركمانيَّة حكمت ولم يعرف العراق الاستقرار خلال هذا العهد، واستمرَّ تدهور
الأُسرة إلى أنْ سقطت بغداد في يد الدولة الصفويَّة سنة (٩١٤هـ).
الوضع الفكري:
يمكن إدراك انعكاسات التحوُّل السيَّاسي عقب انهيار الدولة البويهيَّة، وقيام
الدولة السلجوقيَّة التي اعتنقت المذهب الشافعي، وأعادت التضييق على
-----------------
(١٢١) موجز التاريخ الإسلامي (ص ٢٨٧ و٢٨٩)، بتصرُّف.
الشيعة ملاحقةً
وفتكاً، لاسيَّما مع الوزير السلجوقي عميد المُلك الكندري (قُتِلَ ٤٥٦هـ) في نهاية
النصف الأوَّل من القرن الخامس الهجري، والذي قاد حملة كراهية ضدَّ الشيعة وفتك
بهم، وأمر بلعنهم في المساجد، وكان من آثارها الهجوم على دار الشيخ الطوسي، ونهب
كُتُبه وإحراق كرسيِّه الذي كان يجلس عليه للتدريس، وإحراق مكتبات أُخرى في بغداد،
ممَّا أجبرت الشيخ الطوسي على الهجرة إلى مدينة النجف، وانتقل تبعاً لذلك مركز
المرجعيَّة من بغداد إلى النجف الأشرف في عام (٤٤٨هـ).. فكانت حملة السلاجقة عنيفة
ضدَّ الفكر الإمامي، وإتلاف التراث الشيعي المودَع في خزائن الكُتُب ودور العلم،
وقاموا بتأسيس دور علم بديلة (المدارس النظَّاميَّة) واتِّخاذها وسيلةً لمقاومة
التشيُّع على الصعيد الفكري.
الظروف السياسيَّة الجديدة أدَّت إلى تداعيات واهتمامات جديدة للعلماء الشيعة والتي
انصَّبت على حماية المذهب الشيعي والحفاظ عليه من الاندثار، فغلب المنحى الإخباري
وتنامي الميول الانعزاليَّة والانغلاق على الذات، فيما تُمهِّد هذه الأجواء الطريق
إلى اتِّجاه سلفي يقتصر على النصِّ.. وعلى امتداد أكثر من قرن انحسر النشاط العلمي
التجديدي في الوسط الشيعي، فيما انتعشت البحوث التقليديَّة، التي برزت في صورة
محاججات ومناظرات عقديَّة بين الشيعة والسُّنَّة، وأدَّى إلى وقوع الفتن
والاضطرابات الداخليَّة.
وفي ظروف عصيبة كهذه، لجأت المذاهب الدِّينيَّة للاعتصام بالتراث الخاصِّ الداخلي،
والاكتفاء بالحدِّ الأدنى من الأعمال التي تُظهِر هويَّة المذهب.. وقد ساد هذا
المنحى بصورة متفاوتة منذ وفاة (شيخ الطائفة الطوسي)، فقد اتَّبع هذا المنهج ابنه
أبي عليٍّ الطوسي (ت ٥١٥هـ)، وكان محدِّثاً، وخلفه ابنه أبو نصر الطوسي (ت ٥٤٠هـ)،
كما برز فيما بعد أحمد بن عليٍّ الطبرسي المعروف بالشيخ
الطبرسي (ت
٦٢٠هـ)، وقد كرَّس هؤلاء جهودهم في الإبقاء على نقاوة النصِّ الدِّيني، وتصفيته من
الاجتهادات والتدخُّلات العقليَّة.
بقيت الميول السلفيَّة تتنامى وسط الشيعة وتنتشر على مساحات واسعة في العراق وإيران
وغيرها، حتَّى الربع الأخير من القرن السادس الهجري، لتبدأ إرهاصات تحوُّل علمي
بظهور محمّد بن منصور بن إدريس الحلِّي (ت ٥٩٨هـ)، إيذانًا بنهاية عصر التقليد
المطلق لشيخ الطائفة الطوسي الذي أطبقت شخصيَّته العلميَّة على الحركة الفكريَّة
الشيعيَّة لفترة طويلة من الزمن، وبظهور ابن إدريس الذي شهد انهيار الدولة
السلجوقيَّة واستقلال الخلافة العبَّاسيَّة (٥٨٣هـ)، والأجواء الجديدة المؤاتية
والباعثة على استئناف النشاط الفقهي التجديدي، وخصوصاً في عهد الناصر لدين الله
العبَّاسي، الذي كُتِبَ على يده نهاية دولة بني سلجوق، وأتاح بعض الحرّيَّة
للعلماء(١٢٢).
وفي مقابل ذلك، برز في مرحلة لاحقة السيِّد عليُّ بن طاووس (ت ٦٦٤هـ) كمعبِّر عن
الاتِّجاه الإخباري، ولا يخفى أنَّ النزعة الإخباريَّة التي واجهت الاتِّجاه
الأُصولي الاجتهادي تُشكِّل منعطفاً خطيراً في انفتاح الحوزة العلميَّة، إذ إنَّها
تُحدِّد دور الفقيه على تصنيف الأخبار ونقلها دون الاجتهاد والفتوى.
في ضوء التحوُّلات الكبرى وخصوصاً تحوُّل المغول إلى التشيُّع، والمناخ التحرُّري
الذي عاشه فقهاء الشيعة، شهد المذهب الشيعي الاثنا عشري في هذه الفترة انتعاشاً في
مجالي الفقه والعقائد، بخلاف الفقه السُّنِّي الذي شهد فترة ركود، هذا الانتعاش
الذي تأكَّد بعد الإعلان الذي أصدره هولاكو بالأمان لأهل الحلَّة في العراق، وانتقل
على أثره معظم علماء الشيعة وبعض علماء السُّنَّة
-----------------
(١٢٢) الفقيه والدولة (ص ١١٢ - ١١٤)، بتصرُّف.
إلى الحلَّة،
التي بدأت تشهد نشاطاً علميًّا تجديديًّا، حيث انتقلت الزعامة للحوزة العلميَّة في
الحلَّة من القرن السابع إلى القرن التاسع الهجري.
على الرغم من إعادة إطلاق حركة التجديد الفقهي مع بروز جعفر بن الحسن المعروف
بالمحقِّق الحلِّي (٦٠٢ - ٦٧٦هـ) صاحب الكتاب المعروف (شرائع الإسلام)، وبعده أبو
المنصور بن الحسن بن يوسف بن المطهَّر المعروف بالعلَّامة الحلِّي (٦٤٨ - ٧٢٦هـ)
والذي كان له دورٌ أساسيٌّ في تشيُّع الدولة المغوليَّة (الإيلخانيَّة)، وبعدهما
الفقيه العاملي محمّد بن مكِّي الجزيني المعروف بالشهيد الأوَّل (٧٣٤ - ٧٨٦هـ) صاحب
الكتاب المشهور (اللمعة الدمشقيَّة).. وعلى الرغم من ذلك إلَّا أنَّنا لا نقع على
تطوُّرات تُذكر في التراث المهدوي الشيعي في هذه الفترة التاريخيَّة، وأنَّ مسار
التطوُّر المعرفي المهدوي أقرب إلى الانكماش منه إلى التجديد والانطلاق،
فالمصنَّفات المهدويَّة تقف عند حدود النقل والاقتباس الجامد للنصوص، والسعي إلى
تصنيف وتجميع الروايات والنصوص وإدراجها في عناوين محدَّدة، وخير مثال على هذا
المنهج في هذه الحقبة التاريخيَّة:
* كتاب (الملاحم والفتن) لابن طاووس، توفَّى عام (٦٦٤هـ).
* كتاب (الاحتجاج) لأبي منصور أحمد الطبرسي، توفَّى عام (٦٢٠هـ).
* كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى) لأبي عليٍّ الفضل الطبرسي، توفَّى عام (٥٤٨هـ).
أمَّا بالنسبة لعلماء مدرسة الحلَّة البارزين، لا نجد لهم أيَّ تصانيف مستقلَّة
مرتبطة بالشأن المهدوي، إنَّما بعض البحوث الصغيرة المتفرِّقة هنا وهناك في
مصنَّفاتهم الأُخرى.. ونستشفُّ من قراءتنا لبعض هذه الصفحات المحدودة التي كُتِبَت
عن القضيَّة المهدويَّة، أنَّهم لم يولوها المزيد من الاهتمام، إنَّما تدخل
ضمن مبحثهم
للإمامة باعتبارها الإمامة الخاتمة أو الردِّ على بعض الشُّبُهات المتعلِّقة
بالغيبة، ونجد ذلك عند مطالعتنا لبعض الكُتُب العقائديَّة التي كُتِبَت في هذه
الفترة الزمنيَّة(١٢٣)، مثل:
* كتاب (المسلك في أُصول الدِّين): للمحقِّق الحلِّي (ت ٦٧٦هـ)، نجد به ثمان صفحات
في مباحث متعلِّقة بالغيبة.
* كتاب (كشف الغمَّة في معرفة الأئمَّة): لعليِّ بن عيسى الإربلي (ت ٦٩٢هـ)، نجد به
(٢٤) صفحة في ذكر الإمام الثاني عشر، ثمان صفحات كردِّ شُبُهات المخالفين، وبقيَّة
الصفحات روايات المعصومين، وقَصَص من لقائه، وشعر قيل في مدحه (عجَّل الله فرجه).
* كتاب (النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة): لميثم البحراني (ت ٦٩٩هـ)، نجد
به (٦) صفحات في ردِّ شُبُهات المخالفين عن الغيبة.
* كتاب (المحتضر): للحسن بن سليمان الحلِّي (ت ٨٠٢هـ)، نجد به ثمان صفحات في ذكر
الإمام المهدي كروايات شريفة عن المعصومين (عليهم السلام).
* كتاب (اللَّوامع الإلهيَّة في المباحث الكلاميَّة): لجمال الدِّين مقداد السيوري
الحلِّي (ت ٨٢٦هـ)، نجد به أربع صفحات في موضوع الغيبة.. وكذلك كتابه (إرشاد
الطالبين إلى نهج المسترشدين)، نجد به صفحتين عن غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه).
-----------------
(١٢٣) للاطِّلاع
بشكل تفصيلي على مباحث تتعلَّق بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في هذه الفترة
الزمنيَّة، والتي كُتِبَت في مصنَّفات غير مستقلَّة بالإمام المهدي، إنَّما ضمن
المصنَّفات العقائديَّة والروائيَّة المختلفة.. يفضل الرجوع إلى: موسوعة الإمام
المهدي في مصادر علماء الشيعة من القرن الثاني إلى القرن الحادي عشر الهجري، في
ثلاثة مجلَّدات كبيرة، إعداد وتقديم مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي،
الطبعة الثانية، ١٤٤٣هـ.
(١٢٤) المهدي المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة (ص ٣٥ - ٤٢).
إجمالاً هذه
الصفحات القليلة في الموضوع المهدوي، لا يخلو بعضها من منحى عقلي وكلامي، إلَّا
أنَّها كُتِبَت بطابع المساجلات والمناظرات ومحاكاة للردود على شُبُهات المخالفين
القديمة عن عِلَل الغيبة، ومعتمدة في الأساس على كُتُب الشيخ المفيد والشريف
المرتضى.
عوامل ركود الحركة الفكريَّة في
التراث المهدوي:
يُؤرَّخ للركود الثقافي في هذه الحقبة من تاريخ التراث المهدوي في الفترة ما بين
وفاة الشيخ الطوسي (ت ٤٦٠هـ) وبدايات القرن العاشر الهجري، وقد ساعدت في ذلك مجموعة
من العوامل من قبيل:
١ - انهيار الدولة البويهيَّة التي كانت تُمثِّل الظهير القوي للمراكز العلميَّة
والداعم الأساسي لرجال الفكر والمعرفة، وخصوصاً مع كون البديل تمثَّل في الحكومة
السلجوقيَّة (٤٤٧ - ٥٨٣هـ) التي لم تألُ جهداً في التضييق على الشيعة وعلمائها،
والمواقف التعسُّفيَّة الذي اتَّخذته تجاه دور العلم والمكتبات وإحراق خزائن العلم
الشيعيَّة.
٢ - عظمة شخصيَّة الشيخ الطوسي وإبداعاته الكبيرة في مجالي الفقه والأُصول ومكانته
العلميَّة، ممَّا جعله مهيمناً على الوسط الشيعي، فعلى امتداد أكثر من قرن انحسر
النشاط العلمي التجديدي في الأوساط العلميَّة، ولم يكن من الهيِّن على أحد أنْ يعدو
نظريَّات شيخ الطائفة، مكتفين فقط بشرح آرائه واستجلاء غوامضها.. إلى أنْ ظهر
العالم محمّد بن إدريس الحلِّي (ت ٥٩٨هـ) في الحلِّة بالعراق، ليضع حدًّا للتبعيَّة
لآراء الطوسي، ويُفعِّل منهج الاجتهاد والاستنباط القائم على النقد والتحليل.
٣ - توجه الأوساط العلميَّة (الحوزة) نحو الفقه والأُصول والتركيز عليهما، ولم يكن
العطاء العقلي والاجتهاد والتجديد في القضيَّة المهدويَّة بالمستوى
الرفيع الذي وصلت
إليه في مجال الدراسات النقليَّة والفقه وأُصوله حيث تمحورت الدراسة الحوزويَّة
حولهما.. بل هناك ما يشير إلى وجود موقف رافض ومعارض للدراسات الفلسفيَّة
والعقليَّة وبالخصوص في حوزة النجف الأشرف، وقد ألقى ذلك بظلاله على نتاجاتهم في
مجال التراث المهدوي.
كلُّ ذلك ساعد في انحسار النشاط الفكري، وأنَّ جوًّا من السكون ساد الوسط العلمي
الشيعي، وعاد طابع المحاكاة والنقل الحرفي يصبغ المجال الثقافي الشيعي خلال هذه
الفترة، فغلبت روح التقليد على علماء هذه المرحلة، وانعكس ذلك على التراث المهدوي،
فلم نجد التجديد أو التطوير الذي يُذكر في المصنَّفات ذو الشأن المهدوي في هذه
الفترة.
التراث المهدوي المكتوب في هذه
المرحلة:
عند مراجعة التراث المهدوي في هذه المرحلة، نجد أثر الاتِّجاه النقلي واضحاً في
مصنَّفاته، ولم نلحظ أيَّ إضافات جديدة مهمَّة ذات منحى عقلي في هذا الشأن، فعند
قراءة كتاب مهدوي بارز من هذه الفترة مثل كتاب ابن طاووس (ت ٦٦٤هـ) نموذجاً:
* كتاب (الملاحم والفتن في ظهور الغائب المنتظَر) كما هو مشهور ومطبوع بهذا العنوان
حاليًّا، أو كما سمَّاه مؤلِّفه (التشريف بالمنن في التعريف بالفتن)، وهو مقارب في
عنوانه ومضمونه للكُتُب التي نقل منها، وهو مثال جيِّد يُوضِّح مستوى الحركة
الفكريَّة المهدويَّة المرحليَّة.. يُعتبَر الكتاب من المصنَّفات الحديثيَّة
(الروايات) في الشأن المهدوي، وهو من المختصرات الجامعة التي تتناول عدداً كبيراً
من المسائل المندرجة تحت أبواب (الفتن)، يجمعها كلُّها بصورة شاملة وبصيغة موجزة،
ويُعتبَر هذا الكتاب تقليداً في منهجه وأُسلوبه
وطريقة عرضه
للمسائل، فأوَّل عمل قام به مؤلِّفه هو اختيار مصادره التي يعتمدها، وحدَّد ثلاثة
كُتُب أساسيَّة في هذا الموضوع:
١ - كتاب الفتن: لنعيم بن حمَّاد المروزي (ت ٢٢٨هـ).
٢ - كتاب الفتن: لأبي صالح السليلي بن أحمد الحسَّاني (نسخة عام ٣٠٧هـ).
٣ - كتاب الفتن: لأبي يحيى زكريَّا بن الحارث البزَّار (نسخة عام ٣٩١هـ).
صيغ الكتاب في (٣٤٦) باب، وكلُّ باب إلى عدد من الفصول، ويُمثِّل كتاب نعيم بن
حمَّاد النصيب الأكبر من كتابه حيث اختار منه (٢١١) باب، وكتاب السليلي (٨٤) باب،
وكتاب البزَّار (٥١) باب، بالإضافة لبعض المواضيع البسيطة والمتفرِّقة الذي جمعها
من هنا وهناك.. والغالبيَّة العظمى للكتاب عبارة عن نقل روايات للعامَّة وليس من
رواياتنا، والسيِّد ابن طاوس أراد أنْ يقيم الدليل على العامَّة بأنَّ علماءهم
ومحدِّثيهم يتحدَّثون بحديث العلامات وليس الشيعة فحسب، والملاحظ أنَّ بعض المواضيع
المختارة تخالف بعض الثوابت للمذهب الشيعي الاثني عشري، فمثلاً في الباب (١٦٢ في
اسم المهدي) يذكر أحاديث عديدة منسوبة للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) عن طريق أهل
العامَّة ومن مصادره التي اعتمدها: (المهدي: يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي)،
بقراءة إجماليَّة، نجد أنَّ الكتاب ليس به أيَّة إضافة فكريَّة أو منحى عقلي،
إنَّما منغمس في النقل واختيار الأحاديث وتصنيفها.
بإمكاننا عبر قراءة سريعة لبعض كُتُب التراث الشيعي، أنْ نجد تفسيراً واضحاً لمثل
هذا النوع من الكُتُب، وربَّما وجد ابن طاووس في المصنَّفات النقليَّة لمن كان قبله
ما يفتح الشهيَّة على هذا النوع من التصنيف، من قبيل الطبرسي في (الاحتجاج)،
والطبري في (دلائل الإمامة)، والطرازي في (الدعاء والزيارة).
أهمُّ ما صُنِّف عن الإمام المهدي
في هذه المرحلة(١٢٤):
١ - كتاب (الغيبة): محمّد بن زيد بن عليٍّ الفارسي، المتوفَّى بعد سنة
(٤٧٦هـ)(١٢٥).
٢ - كتاب (المسألة في مولد صاحب الزمان): محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفري، توفَّى
سنة (٥٦٣هـ).
٣ - كتاب (ترتيب الأدلَّة فيما يلزم خصوم الأئمَّة دفعه عن الغائب والغيبة): أحمد
بن الحسين بن عبد الله المهراني الآبي، توفَّى في (ق ٦هـ).
٤ - كتاب (الغيبة): الأشرف بن الغرِّ بن هاشم المعروف بتاج العلى (ت ٦١٠هـ).
٥ - كتاب (الملاحم والفتن في ظهور الغائب المنتظَر): عليُّ بن طاووس (ت ٦٦٤هـ).
٦ - كتاب (الرجاء): الحسن بن سليمان بن محمّد بن خالد الحلِّي، توفَّى في (ق ٨هـ).
٧ - كتاب (الأنوار المضيئة في الحكمة الشرعيَّة المستنبطة من الآيات الإلهيَّة في
أحوال صاحب العصر والزمان)، وكتاب (الغيبة): عليُّ بن عبد الله بن فخار النجفي،
توفَّى نهاية (ق ٨هـ).
٨ - كتاب (السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان)، وكتاب (الغيبة)، وكتاب (سرور أهل
الإيمان في علائم ظهور صاحب الزمان): عليُّ بن عبد الكريم النيلي كان حيًّا سنة
(٨٠٣هـ).
هناك بعض البحوث والمصنَّفات المهمَّة كُتِبَت عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
في
-----------------
(١٢٥) سرور أهل الإيمان (ص ٥/ مقدَّمة المحقِّق).
هذه البرهة
الزمنيَّة، ولكنَّها لم تُكتَب مستقلَّة إنَّما دُمِجَت ضمن سياق كُتُب عقائديَّة
أو مجموعات أُخرى لعلمائنا الأعلام، وطُبِعَت عام (١٤٣٠هـ) في موسوعة (الإمام
المهدي في مصادر علماء الشيعة) نختار منها بعض العناوين كأمثلة:
١ - مؤتمر علماء بغداد في الإمامة والخلافة، تأليف: مقاتل عطيَّة البغدادي (ت
٥٠٥هـ).
٢ - روضة الواعظين، تأليف: محمّد بن الفتَّال النيسابوري (ت ٥٠٨هـ).
٣ - إعلام الورى بأعلام الهدى، تأليف: أمين الإسلام الطبرسي (ت ٥٤٨هـ).
٤ - الخرائج والجرائح، تأليف: قطب الدِّين الراوندي (ت ٥٧٣هـ).
٥ - الثاقب في المناقب، تأليف: محمّد بن عليٍّ الطوسي المعروف بابن حمزة (ت ٥٨٥هـ).
٦ - عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار، تأليف: يحيى بن الحسن الأسدي
المعروف بابن البطريق (ت ٦٠٠هـ).
٧ - مجموعة ورَّام، تأليف: ورَّام بن أبي فراس المالكي الأشتري (ت ٦٠٥هـ).
٨ - المنقذ من التقليد، تأليف: محمود الحمصي الرازي، توفَّى أوائل القرن (٧هـ).
٩ - الاحتجاج، تأليف: أبو منصور أحمد بن عليٍّ الطبرسي (ت ٦٢٠هـ).
١٠ - كشف المحجَّة لثمرة المهجة، تأليف: عليُّ بن طاووس (ت ٦٦٤هـ).
١١ - مختصر البصائر، تأليف: الحسن بن سليمان الحلِّي (ت ٨٠٢هـ).
١٢ - مشارق أنوار اليقين في أسرار مولانا أمير المؤمنين، تأليف: رجب البرسي (ت
٨١١هـ).
مقتطفات من المشهد الأدبي في هذه
المرحلة:
نظم الشعراء في هذه الفترة الزمنيَّة الكثير من القصائد عن الإمام المهدي (عجَّل
الله فرجه)، وكانت النزعة باتِّجاه الثأر واضحة، علماً بأنَّ كلَّ الشعر الشيعي في
شتَّى مراحله التاريخيَّة ينصبُّ في معظمه على الثأر التاريخي، والتشديد في أكثره
على بني أُميَّة، فهم المثال الأعلى للطغيان والظلم الذي أسَّسوه لمن أتى بعدهم..
فإنَّ الشعراء الشيعة على طول التاريخ يشعرون بغَصَص في داخلهم لواقعة الطفِّ وما
جرى فيها وما بعدها تدفعهم للنداء بالثأر واستنهاض الإمام المهدي للخروج والأخذ
بثأر جدِّه الإمام الحسين، ومن أمثلة الشعر الشيعي في هذه الحقبة التاريخيَّة
الداعية للانتقام والأخذ بالثأر:
قصيدة الشاعر صالح بن عبد الوهَّاب الحلِّي المعروف بابن العرندس (ت ٨٤٠هـ)، له
قصيدة رائيَّة شهيرة تحتوي على أكثر من (١٠٠) بيت، مطلعها:
طوايا نظامي في الزمانِ لها نشرُ * * * يُعطِّرها من طيب ذكراكم نشرُ
نظمها في مدح أهل البيت (عليهم السلام)، وعرَّج على مصائب واقعة كربلاء، وجاء فيها هذا البيت الرائع المؤلم:
أيُقتَلُ ظمآناً حسينُ بكربلا * * * وفي كلِّ عضوٍ من أنامله بحرُ
نختار من القصيدة الأبيات التي يُعرِّج فيها على الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ويُعرِّفه ويُحدِّد هويَّته ونَسَبه ويدعوه للثار:
فليس لأخذ الثارِ
إلَّا خليفةٌ * * * يكون لكسر الدِّينِ من عدلِه جَبْرُ
تحفُّ به الأملاكُ من كلِّ جانبٍ * * * ويَقدُمُه الإقبالُ والعزُّ والنصرُ
عَواملُه في الدارعينَ شوارعٌ * * * وحاجِبُه عيسى وناظِرُه الخِضْرُ
تُظلِّلُه حقًّا
عِمامةُ جدِّه * * * إذا ما ملوكُ الصيدِ جلَّلها الجبرُ
محيطٌ على علمِ النبوَّة صدرُهُ * * * فطوبى لعلمٍ ضمَّه ذلك الصدرُ
هو ابنُ الإمام العسكريِّ محمّدُ التَّـ * * * ـقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلَمُ
الحَبْرُ
سليلُ عليٍّ الهادي ونجلُ محمّدِ الـ * * * ـجوادِ ومَنْ في أرضِ طوسٍ له قبرُ
عليٌّ الرضا وهو ابنُ موسى الذي قضى * * * ففاح على بغدادَ من نَشرِه عطرُ
وصادق وعدٍ إنَّه نجلُ صادق * * * إمامٌ به في العلمِ يفتخرُ الفخرُ
وبهجةُ مولانا الإمامِ محمّد * * * إمامٌ لعلمِ الأنبياءِ له بَقْرُ
سُلالةُ زين العابدين الذي بكى * * * فمِنْ دمعِهِ يُبْسُ الأعاشيبِ مُخْضَرُّ
سَليلُ حُسينِ الفاطميِّ وحيدرِ الـ * * * ـوصيِّ فمِنْ طُهْرٍ نما ذلك الطُّهْرُ
له الحسَنُ المسمومُ عمٌّ فحبَّذا الـ * * * إمامُ الذي عمَّ الورى جُودُه الغَمْرُ
سميُّ رسولِ الله وارثُ عِلْمِهِ * * * إمامٌ على آبائه نزلَ الذِّكْرُ(١٢٦)
كذلك نقتطف قصيدة رائعة في هذه المرحلة التاريخيَّة للشاعر أبي الحسن جمال الدِّين عليِّ بن عبد العزيز بن أبي محمّد الملقَّب بـ(الخليعي)، وقد سكن الحلَّة إلى أنْ مات في حدود سنة (٧٥٠هـ) ودُفِنَ بها، يتشوَّق في قصيدته إلى ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ويذكر فيها نَسَبه ويُعدِّد بعض مناقبه، جاء فيها:
طُلَّاب العلى
بالسمهري المقوم * * * وضرب الطلى مرمى إلى كلِّ مغنمِ
وضربة عضب باتر الحدِّ مرهف * * * وصهوة مهر أعوجي مطهمِ
ألَا في سبيل الله نفس تقدَّمت * * * وتاقت إلى نصر الإمام المعظَّمِ
إلى نصر مغوار طويل نجاده * * * على فتك أعداء الإله مصمَّمِ
-----------------
(١٢٦) القصيدة كاملة موجودة في: الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة (ج ٣/ ص ٢٧٤ - ٢٨٣).
إلى القائم
المهدي من آل أحمد * * * إلى العروة الوثقى إلى البطل الكمي
كريم نجاد طالبي مناسب * * * إلى ذروة المجد الحسيني ينتمي
مناقب جلَّت أنْ تعدَّ لواصف * * * فبالعقل لا تُحصى ولا بالتوهُّمِ
يقوم مع الركن اليماني قانتاً * * * يؤمُّ بروح الله عيسى بن مريمِ
ومن حوله غرُّ الملائك عُكَّف * * * وأنصاره من كلِّ أشوس معلَّمِ
ويسري وأسد الغاب حول ركابه * * * إلى نهج يهدي إلى الرشد أقومِ(١٢٧)
برز شعراء كثيرون في هذه الحقبة التاريخيَّة لم نتطرَّق لهم أو نذكر قصائدهم أو نشير إلى أسمائهم مراعاةً للاختصار، وقد ذكر السيِّد محسن الأمين أسماء (٧٠) شاعراً مشهوراً من الشيعة عاشوا في هذه الفترة، في موسوعته الرائعة (أعيان الشيعة)(١٢٨).
* * *
-----------------
(١٢٧) حياة
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) (ص ٢٣٨ و٢٣٩).
(١٢٨) أعيان الشيعة (ج ١/ ص ١٧٥ - ١٧٧).
مرحلة انتشار التوسيع (٩٠٧ -
١١٤٨هـ):
تمتاز هذه الفترة الزمنيَّة بتحوُّلات مفصليَّة سياسيَّة وفكريَّة في تاريخ
الشيعة، إذ بدأت مرحلة انتشار وتوسُّع التشيُّع، ففي بداية القرن العاشر الهجري ظهر
الشاه إسماعيل (مؤسِّس الدولة الصفويَّة) ذو النزعة الشيعيَّة، وجعل إيران دولة
واحدة، والمذهب الشيعي الإمامي مذهباً رسميًّا للدولة.. وتميَّزت هذه الفترة
بانفتاح المجال السياسي أمام فقهاء الشيعة، وعلاقة الدِّين بالسياسة، والولاية
العامَّة للفقيه بصفته نائباً للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وارتفع الاضطهاد عن
الشيعة في إيران خاصَّة.
الوضع السياسي والفكري في هذه
المرحلة:
إنَّ الهجوم المغولي على إيران، أشاع الخراب والدمار والظلم والمعاناة في المجتمع
الإيراني، ممَّا دفعه إلى الانهيار الروحي والأخلاقي، وهو ما وفَّر قاعدة مناسبة
لنموِّ ظاهرة ترك الدنيا والنظر إلى الحياة نظرة تشاؤميَّة، أعادت الحياة إلى
التصوُّف المتجذِّر في فارس، فتكاثرت مراكز المتصوِّفة، وأصبح التصوُّف جسراً بين
التسنُّن والتشيُّع في إيران، وإضافةً لعوامل أُخرى تهيَّأت الأرضيَّة المناسبة
لانتشار المذهب الشيعي.
الوضع السياسي:
الدولة الصفويَّة (٩٠٧ - ١١٤٨هـ):
يُنسَب الصفويُّون إلى جدِّهم الأعلى الشيخ صفي الدِّين إسحاق الأردبيلي، وهو تركي
سُنِّي على مذهب الشافعي، وكان شيخ طريقة صوفيَّة، انتقل إلى أردبيل (التابعة للحكم
في مقاطعة أذربيجان)، ومن هذا الاسم صفي
الدِّين أخذت
السلالة الصفويَّة اسمها.. اعتنق أحد أحفاد الشيخ صفي الدِّين، وهو الشيخ جنيد
المذهب الشيعي الاثني عشري، وترتَّب على ذلك أنْ راح يعمل على نشره في المناطق
المجاورة، وقام برحلة إلى الأناضول والشام، حيث التشيُّع منتشر في تلك المناطق،
ويقول الدكتور طقوش عن هذه الرحلة: فـ(قرَّر استقطاب التركمان إلى صفِّه من خلال
تبنِّيه لشعائرهم في التشيُّع، وأشاع بأنَّ دولة العلويِّين الموعودة التي ستظهر في
آخر الزمان هي وشيكة القيام بقيادته وهو سيحارب في جيش المهدي، واضعاً بذلك البنى
التأسيسيَّة لمشروع سياسي يهدف إلى إنشاء دولة)(١٢٩)، فالتفَّ حوله عشرات الآلاف من
التركمان الشيعة في الأناضول، وتمَّت على يديه الانعطافة في تحوُّل الحركة
الصوفيَّة إلى حركة سياسيَّة، بعد أنْ تهيَّأ لها الجوُّ السياسي بتفتُّت
إمبراطوريَّة تيمورلنك.
وخطا ابنه (حيدر) خطوة أُخرى في دفع الحركة الصوفيَّة إلى التشيُّع، وذلك باتِّخاذه
شعاراً يُميِّز أتباعه عن غيرهم على صورة قلنسوة حمراء ذات اثنتي عشرة ذؤابة، كناية
عن الأئمَّة، وعُرِفَ بتاج حيدر، واضعاً بذلك نواة لقوَّة عسكريَّة.. وتوالت
الأحداث بعد ذلك بسرعة حتَّى تولَّى رئاسة الأُسرة ابنه إسماعيل، فالتفَّت حوله
القبائل التركمانيَّة، ودانت بالولاء والحماس له، طبعت شخصيَّة الفتى إسماعيل (١٤
عاماً) بهالة من القداسة باعتباره القائد العسكري والملهم الروحي لهذه القبائل في
إطار قوَّة عسكريَّة عُرِفَت بـ(القزلباش)(١٣٠)، وانطلق الجيش من أردبيل وقاده
بنفسه للغزو والفتح، وكانت إيران يومذاك موزَّعة الأطراف بين عديد من الملوك
والأُمراء ورؤساء القبائل، فاستخلصها منهم الواحد تلو الآخر ووحَّدها تحت سلطانه.
-----------------
(١٢٩) تاريخ
الدولة الصفويَّة (ص ٤٤).
(١٣٠) أي ذوو الطرابيش الحمراء المزوَّدة باثنتي عشر ذؤابة.
في سنة (٩٠٦هـ)
استولى على شيروان، وفي سنة (٩٠٧هـ) انتزع تبريز من أيدي الآق قوينلو واتَّخذها
عاصمة لدولته الناشئة، (ذكرت المدوَّنات [الصفويَّة] أنَّ المَلِك الشابَّ اجتمع
ليلة الجمعة بأركان دولته وبحث معهم [إعلان أنَّ المذهب الشيعي هو المذهب الرسمي
والوحيد في الدولة]، وقد أثار بعضهم مخاوف حقيقيَّة جراء هذا الأمر الخطير، فأكثر
من ثُلُثي سُكَّان تبريز هم من أهل السُّنَّة، وقد تحدث ردَّة فعل شعبيَّة ترفض
وجود مَلِك شيعي. ولكن المَلِك حسم المسألة في صبيحة الجمعة وطلب من خطيب شيعي بارز
ارتقاء المنبر في مسجد جمعة تبريز، وقُرِئَت الخطبة بأسماء أئمَّة أهل البيت (عليهم
السلام). وعندما ارتفع أذان الصلاة دوَّت كلمات (أشهد أنَّ عليًّا وليُّ الله،
وحيَّ على خير العمل) من فوق منائر المسجد ومن ثَمَّ من كلِّ مساجد البلاد، وقد
استقبل أهالي مدينة قم العريقة في تشيُّعها هذا الإعلان بفرح كبير)(١٣١).
وقُدِّر لهذا الفتى الشجاع (٨٩٢ - ٩٣٠هـ) أنْ يقوم عام (٩٠٧هـ) بخطوتين مثيرتين
للغاية:
أوَّلاً: تأسيس دولة جديدة قويَّة، استطاعت أنْ تُوحِّد إيران تحت راية واحدة.
ثانياً: إعلان المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري مذهباً رسميًّا في البلاد.
قاد الشاه إسماعيل (حكم ٩٠٧ - ٩٣٠هـ) جيوشه محقِّقاً انتصارات متلاحقة تمكَّن في
سنة (٩٠٩هـ) من السيطرة على كيلان، وفي سنة (٩١٢هـ) سيطر على ديار بكر، وفي سنة
(٩١٤هـ) دخلت بغداد في حكمه.
-----------------
(١٣١) نشوء وسقوط الدولة الصفويَّة (ص ٣٥).
جاء قيام الدولة
الصفويَّة ليكون إحدى الحوادث الكبرى في تاريخ إيران، ولكن قرار التشيُّع كلَّف
الدولة الصفويَّة الكثير، فقد وجدت نفسها بين فكَّي كمَّاشة: الأُوزبك المتعصِّبين
في الشرق، والعثمانيِّين المدجَّجين بالسلاح في الغرب، وسرعان ما وجدت الدولة
الصفويَّة الفتيَّة نفسها تخوض حروباً مصيريَّة في حدودها الشرقيَّة والغربيَّة.
وفي عام (٩٣٠هـ) وفي الثامنة والثلاثين من العمر توفَّى شاه إسماعيل تاركاً على
العرش نجله طهماسب (حكم ٩٣٠ - ٩٨٤هـ)، وهكذا انطوت الفترة التأسيسيَّة ليبدأ عهد
جديد من حياة الدولة، فاتَّجهت إلى بناء جبهة داخليَّة قويَّة تستند إلى قاعدة
مذهبيَّة جديدة.. توالت الأحداث، وفي عهد الشاه عبَّاس الأوَّل (٩٩٦ - ١٠٣٨هـ)
ترتَّبت الأوضاع الداخليَّة للدولة وارتقت إلى مصافِّ الدول الكبرى في المنطقة، ففي
الواقع الداخلي طوَّر الجهاز العسكري وقام بإنجازات إنشائيَّة في الحقل المدني،
وعالج الأوضاع الخارجيَّة كذلك سيطر على خراسان وأجزاء من أفغانستان وقندهار
وأذربيجان وديار بكر والعراق وأجزاء من الخليج مثل جزيرة هرمز والبحرين، وحسن
العلاقات مع بعض دول أُوربا.
حكم الدولة الصفويَّة (١١) مَلِك من عام (٩٠٧) وحتَّى عام (١١٤٨) هجري، وقد أصاب
الدولة الصفويَّة الضعف والفتور بعد وفاة خامس ملوكهم عبَّاس الكبير سنة (١٠٣٨هـ)،
ليبلغ ذروته في عهد الشاه حسين (١١٠٥ - ١١٣٥هـ) تاسع الملوك، فأغرى ضعف الدولة
الصفويَّة الدول الأُخرى في السيطرة على مناطقها، فاحتلَّت القبائل الأفغانيَّة
أجزاء من إيران، وكذلك فعلت الدولة العثمانيَّة مع المناطق الغربيَّة، واحتلَّت
روسيا القيصريَّة المناطق الشماليَّة، وهنا يظهر نادر شاه الأفشاري (١١٠٠ - ١١٦٠هـ)
كقائد عسكري
على مسرح
الأحداث، فقد تمكَّن نادر شاه بجيش من أفراد قبيلته (الأفشار) من الاستيلاء على
إقليم خراسان، وأخذ يمسك بزمام الأُمور ممَّا جعل طهماسب الثاني ابن الشاه حسين
يُعيِّنه قائداً للجيش الصفوي، ممَّا يسَّر له الظهور وتدعيم قوَّته، وتمكَّن من
إلحاق الهزيمة بالأفغان، واسترداد الأراضي التي كان الروس قد سيطروا عليها وكذلك
العثمانيُّون، ثمّ توجَّه إلى أصفهان عام (١١٤٨هـ) وعزل الشاه عبَّاس الثالث الصفوي،
وأعلن سقوط الدولة الصفويَّة التي دامت قرابة قرنين ونصف، وقيام دولة جديدة
محلَّها.
الوضع الفكري:
برزت حاجة الدولة الصفويَّة في بداية تأسيسها إلى إيجاد قاعدة فقهاء شيعة حيث لا
يمكن العثور عليهم في تبريز، فاتَّجهت الأنظار إلى الخارج وبالخصوص العراق ولبنان
والحواضر الشيعيَّة، فبدأ الاتِّصال بالعلماء والفقهاء للاستفادة منهم في إدارة
الشؤون الدِّينيَّة وما يتَّصل بالحقوق الشرعيَّة والتشكيلات القضائيَّة.. وقد كان
لعلماء جبل عامل في لبنان الذين تربَّوا في مدرسة الشهيد الأوَّل (قُتِلَ ٧٨٦هـ)
دور كبير في تعميق التشيُّع من خلال بناء فقهي وفكري متين، وكان دورهم أشدّ تأثيراً
من علماء الشيعة الذين هاجروا من العراق والبحرين.. وفي عهد المَلِك طهماسب أصبحت
استمالة علماء جبل عامل للتوجُّه إلى إيران من السياسات الأساسيَّة للحكومة
الصفويَّة، وإنَّ اتِّصال الشيخ عليّ عبد العال الكركي (٨٧٠ - ٩٤٠هـ) بالشاه
إسماعيل والحفاوة التي حظي بها، ثمّ لقاءه شاه طهماسب وتسنُّمه منصب شيخ
الإسلام(١٣٢) في عهده، فلأوَّل مرَّة في تاريخ الشيعة يتقلَّد الفقيه منصب النيابة
(الولاية) العامَّة عن
-----------------
(١٣٢) أعلى منصب ديني رسمي في الدولة الصفويَّة.
الإمام المهدي،
بمعنى أنْ يصبح الفقيه المصدر الرئيسي لإضفاء الشرعيَّة على السلطة، فهذا بداية
مرحلة تطوُّر كبير للمؤسَّسة الدِّينيَّة في الدولة الصفويَّة، ومن ناحية أُخرى
تطوُّر في الفكر الإمامي الشيعي بتجربة جديدة لعلاقة الفقيه مع السلطان، فالشيعة
بعد غيبة الإمام المهدي في أمسّ الحاجة إلى مسوِّغات شرعيَّة لطريقة التعامل مع
السلطان...
ومع انتشار التشيُّع وثقل مراكزه في بعض الحواضر الإسلاميَّة، وتبوُّء العلماء
والفقهاء مناصب قياديَّة في الدولة الصفويَّة، وهو ما يتماهى مع حاجة الصفويِّين
إلى تدعيم أركان حكمهم عبر كسب شرعيَّة دينيَّة تُمكنِّهم من بسط سلطتهم بشكل كامل،
وكان هذا يُشكِّل الطابع والسياق العامَّ في الدولة الصفويَّة.. ولكن عند تقييم
التجربة الصفويَّة في إيران، ودراسة عهد كلِّ مَلِك بشكلٍ مستقلٍّ نجد الاختلاف في
التعامل كالآتي: (لقد كان شاه إسماعيل يجمع في شخصيَّته الزعامتين الروحيَّة
والزمنيَّة، واعتُبِرَ إلى حدٍّ كبير نائباً للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..
أمَّا شاه طهماسب فقد أعلن وبصراحة مثيرة أنَّ الشيخ الكركي - وهو عالم عربي لا
يعرف الفارسيَّة ولا التركيَّة - هو نائب الإمام المهدي، وأنَّه هو الحاكم الحقيقي
لإيران، وأنَّه مفوَّض في إدارة شؤون الدولة.. وعندما جاء شاه عبَّاس إلى الحكم...
أصبح هو الحاكم المطلق لإيران والدكتاتور الذي لا يُسئَل عمَّا يفعل)(١٣٣)، كلُّ
ذلك أدَّى إلى أنْ يكثر الحديث عن دور (الفقيه الجامع للشروط) في شؤون الحكم وتوسيع
هذا الدور باعتباره نائباً للإمام الغائب، فانطلق جدال فقهي وسياسي حادٌّ وسط فقهاء
الشيعة في القرن العاشر الهجري حول العلاقة مع السلطة وقبل ذلك مشروعيَّتها، فبرزت
آراء فقهيَّة معارضة لما يطرحه
-----------------
(١٣٣) نشوء وسقوط الدولة الصفويَّة (ص ١٧٣).
الكركي وتيَّار
جبل عامل، بدأت مع الفاضل إبراهيم القطيفي(١٣٤) الذي كان متحفِّظاً تجاه التعاون مع
السلطة الصفويَّة.
شهدت العقود الأخيرة من عمر الدولة الصفويَّة صراعات فكريَّة في أكثر من جبهة وعلى
أكثر من صعيد:
١ - صراع محتدم بين الفقهاء بشكلٍ عامٍّ والحركة الصوفيَّة.
٢ - صراع بين أهل الحديث وبين أهل الفلسفة وطُلَّاب الحكمة.
٣ - صراع آخر بين الإخباريِّين والأُصوليِّين.
٤ - صراع بين المسلمين والتبشير المسيحي بسبب الانفتاح على أُوربا.
هذه التحوُّلات والصراعات الفكريَّة هيَّأت الأجواء لظهور كُتُب (حديث وروايات)
مميَّزة في هذه الحقبة، يمكن الإشارة إلى أبرزها:
* كتاب (الوافي) للفيض الكاشاني (ت ١٠٩١هـ)، حيث تمحورت أحاديثه حول الأُصول
والفروع.
* كتاب (وسائل الشيعة) للحرِّ العاملي (١٠٣٣ - ١١٠٤هـ)، وقد فرَّع وقسَّم الأحاديث
إلى أبواب مختلفة.
* موسوعة (بحار الأنوار) للعلَّامة المجلسي (١٠٣٧ - ١١١٠هـ)، أكبر موسوعة ضمَّت
معظم تراث الشيعة.
وتُعتبَر هذه الكُتُب من أهمّ ما أضافه العصر الصفوي إلى المكتبة الشيعيَّة في حقل
الدراسات الفقهيَّة والعلوم الإسلاميَّة، وهذه المصنَّفات الحديثيَّة قد
-----------------
(١٣٤) الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي، هاجر عام (٩١٣هـ) من مسقط رأسه القطيف إلى النجف الأشرف، كان حيًّا إلى سنة (٩٤٥هـ)، كان زميل دراسة مع الشيخ الكركي عند أُستاذهما الشيخ عليِّ بن هلال الجزائري، وقد كان بين المحقِّق الكركي والفاضل القطيفي جدال في مسائل كثيرة، فقد كانا ممثِّلين لخطَّين متوازيين في ما يرتبط بالتعامل مع السلطات الزمنيَّة في زمان الغيبة.
أكملت سلسلة
كُتُب الحديث الأربعة القديمة، ذات القيمة التاريخيَّة لفقه الإماميَّة وتطوُّره.
التراث المهدوي المكتوب في هذه
المرحلة(١٣٥):
نشير بشكل مختصر لبعض مصنَّفات علماء الشيعة في موضوع الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه) في هذه المرحلة التاريخيَّة.. نذكر منها:
١ - كتاب (رسالة في الغيبة): الشيخ عليّ عبد العال الكركي (ت ٩٤٠هـ).
٢ - كتاب (رسالة في مناهج تسميات المهدي): محمّد باقر بن سيِّد شمس الحسيني الداماد
(ت ١٠٤٠هـ).
٣ - كتاب (تفريج الكربة عن المنتقم لهم في الرجعة): محمود بن فتح الله الحسيني
الكاظمي (ت ١٠٨٥هـ).
٤ - كتاب (رسالة في الرجاء): السيِّد محمّد مؤمن الحسيني الأسترآبادي (ت ١٠٨٨هـ).
٥ - كتاب (الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة): محمّد بن الحسن الحرُّ العاملي
(ت ١١٠٤هـ).
٦ - كتاب (رسالة في الرجعة): محمود بن فتح الله الحسيني الكاظمي، كان معاصراً
لمحمّد بن الحسن الحرِّ العاملي.
٧ - كتاب (المحجَّة فيما نزل في القائم الحجَّة)، و(تبصرة الوليِّ فيمن رأى
المهدي)، و(مولد القائم (عليه السلام)): السيِّد هاشم بن سليمان الكتكاني البحراني
(ت ١١٠٧هـ).
٨ - كتاب (بحار الأنوار) المجلَّدات (٥١ و٥٢ و٥٣)، و(علائم الظهور)،
-----------------
(١٣٥) الإمام المهدي المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة.. بالإضافة لمصادر أُخرى وكُتُب متوفِّرة.
و(توقيعات صاحب
الزمان): العلَّامة محمّد باقر بن محمّد تقي الأصفهاني المجلسي (ت ١١١٠هـ).
٩ - كتاب (عوالم العلوم والمعارف في أحوال الإمام الحجَّة بن الحسن المهدي): عبد
الله بن نور الله البحراني الأصفهاني (ت ١١١٤هـ)، من تلامذة المجلسي، طُبِعَ في (٥)
مجلَّدات.
١٠ - كتاب (ضياء العالمين): أبو الحسن الشريف العاملي، من تلاميذ المجلسي.
١١ - كتاب (جنَّة الخلود في الآثار المتعلِّقة بالأئمَّة): المولى محمّد رضا
الإمامي (ت ١١٣٧هـ).
وغيرها من المصنَّفات والمؤلَّفات الكثير الذي يدخل ضمن التراث الشيعي المهدوي.
أهمُّ ما صُنِّف عن الإمام المهدي
في هذه المرحلة:
نقتطف بعض المصنَّفات المهدويَّة البارزة والتي كُتِبَت في زمن العهد الصفوي،
ونلاحظ فيها كثرة التفريعات والتبويبات، وكُتِبَت على شكل موسوعات من كثرة التفصيل
في المعارف المهدويَّة والتوسُّع فيها أو التطرُّق إلى أبواب جديدة، نتكلَّم عن
بعضها بشكل تعريفي موجز:
* كتاب أو موسوعة (بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار) لشيخ
الإسلام العلَّامة محمّد باقر بن محمّد تقي الأصفهاني المجلسي (١٠٣٧ - ١١١٠هـ).
يُعتبَر من أشهر الكُتُب الحديثيَّة والروائيَّة لدى الشيعة الاثني عشريَّة، كتبه
المجلسي في أصفهان في زمن الدولة الصفويَّة، ويُعَدُّ من أكبر موسوعات الحديث
إطلاقاً، حيث يتكوَّن من (١١٠) مجلَّدات ضخمة.. وصُنِّف على شكل دائرة
معارف، وقد حظيت
باهتمام كبير من قِبَل الباحثين بسبب ما اشتملت عليه من الأحاديث مع ذكر سندها
الموصل للأئمَّة المعصومين (عليهم السلام)، ولترتيبها الموضوعي والشروح والتعليقات
التي زيَّنتها في ذيل أكثر الأحاديث والروايات، إضافةً إلى التحقيقات الكلاميَّة
والتاريخيَّة والفقهيَّة والتفسيريَّة والأخلاقيَّة والحديثيَّة واللغويَّة التي
اشتملت عليها.. لقد أشار المجلسي إلى السبب والغاية الذي دعاه لتدوين الموسوعة،
فذكر من ذلك:
١ - حرصه على طلب العلم، وأنَّه لا ينفع إلَّا إذا أُخِذَ من عين صافية وعن ينابيع
الوحي (الكتاب والعترة).
٢ - حفظ تراث أهل البيت (عليهم السلام) من الضياع، وذلك بتتبُّع الأُصول المعتبرة
المهجورة إمَّا لاستيلاء السلاطين المخالفين عليها، أو قلَّة اعتناء جماعة
المتأخِّرين بها.
٣ - أنْ يصبح الكتاب من المراجع والمصادر المهمَّة للفقهاء وطلبة العلوم
الدِّينيَّة.
دوَّن المجلسي الموسوعة في النصف الثاني من عمره وبعد أنْ طوى مدارج عالية في العلم
والتأليف، وحظي بدعم مادِّي ومعنوي من الدولة الصفويَّة.. وقد بذل جهداً كبيراً في
جمع الموسوعة وتأليفها حيث أرسل الكثير من الطُّلَّاب إلى شتَّى المُدُن والبلدان
للبحث عن المخطوطات والمصادر وجمعها في مكان واحد، فساعده تلامذته في إنجاز العمل،
إلَّا أنَّه قام بالعبء الأساسي والأصلي بنفسه، والإشراف على جميع مراحل تدوين
الموسوعة وإنَّما اقتصر عمل التلاميذ على الجمع وكتابة الآيات والأحاديث تحت
العناوين والأبواب.. أمَّا مصادر الموسوعة كاملة فقد اعتمد على (٣٨٧) مصدراً
شيعيًّا، و(٨٥) كتاباً من مصادر العامَّة لإثبات الحجَّة والدليل أحياناً أو لتأييد
ما ورد في المصادر الشيعيَّة أحياناً أُخرى، و كذلك اعتمد على كُتُب اللغة والشروح.
تحتوي موسوعة
البحار على عناوين ومواضيع عديدة ويتفرَّع من كلِّ عنوان أبواب شتَّى، ففي
(المجلَّد الثالث عشر) طبقاً للطبعة الحجريَّة ذات الخمس والعشرين مجلَّداً،
والطبعة الحديثة ذات المائة وعشرة أجزاء (المجلَّدات ٥١ إلى ٥٣) اشتمل على موضوع
(في تاريخ الإمام الثاني عشر)، وتفرَّع منه (٣٦) باباً، وهي بعناوين متفرِّقة في
أحوال الحجَّة المنتظر (عجَّل الله فرجه) ذكر فيه أخبار ولادته ونصوص إمامته وعلَّة
غيبته وعلائم ظهوره ومَنْ رآه و...، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ هذا الكتاب وجُلُّه
روايات وأخبار أهل البيت (عليهم السلام) يشارك في تثبيت الحقائق العقائديَّة،
ويُثبِت أنَّ قضيَّة الإمام المهدي هي قضيَّة إسلاميَّة عامَّة.
كان المنهج المعتمد عند المصنِّف أنَّه يورد تحت كلِّ باب الآيات المتعلِّقة به
مباشرةً أو بالاستعانة بالقرائن الحافَّة به كالقرينة التاريخيَّة أو الحديثيَّة أو
التفسيريَّة المناسبة للموضوع مع شيء من التفسير والتوضيح، ثمّ يذكر الروايات
المتعلِّقة بالباب، ويشرح بعض مفردات الحديث الشريف، وفي مقام النقد والردِّ على
الشُّبُهات العقليَّة يميل في معظم الأوقات إلى الطريقة الإخباريَّة أي في مقام
الردِّ والجواب من خلال ما ورد في الروايات، ممَّا يُشكِّل رؤية (حديثيَّة
وروائيَّة) متكاملة عن القضيَّة المهدويَّة من تتبُّع الروايات المتناثرة والتبويب
الموضوعي لها.. وقد اعتمد في الجزء المتعلِّق بموضوع الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه) على أكثر من (٥٤) مصدراً شيعيًّا، بالإضافة إلى ذلك هناك خصائص أُخرى امتازت
بها الموسوعة من قبيل:
١ - كونها أوسع الكُتُب الحديثيَّة والروائيَّة عند الشيعة الإماميَّة، فإنَّها
دائرة للمعارف الشيعيَّة.
٢ - تعتمد الموسوعة على أهمّ الكُتُب الحديثيَّة المعتبرة، والتي تُشكِّل المصادر
والمراجع.
٣ - عدم التقطيع
في الروايات، بل يأتي بالرواية بتمامها.
٤ - حفظ الأمانة في النقل، فإنَّه ينقل ما في المصادر والمراجع وإنْ كان الخبر
ضعيفاً عنده.
٥ - حذف المكرَّرات في الروايات والاكتفاء بذكر عناوين المصادر المتشابهة في ذكر
الرواية.
٦ - بيان الآيات القرآنيَّة في صدر الأبواب بما يتعلَّق بالموضوعات والعناوين.
٧ - بيان بعض التوضيحات اللغويَّة والعلميَّة وشرح مفردات بعض الروايات بعنوان
(بيان).
وقد استغرق جمع الموسوعة وتدوينها ما يقرب من أربعة وثلاثين سنة كاملة (١٠٧٢ -
١١٠٦هـ).
* كتاب أو موسوعة (عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار) للعلَّامة
الشيخ عبد الله بن نور الله البحراني الأصفهاني (ت ١١١٤هـ) من أعلام تلامذة شيخ
الإسلام العلَّامة المجلسي.
الشيخ البحراني عالم دين ومحدِّث شيعي اشتهر بتأليفه موسوعة عوالم العلوم، الذي
يزيد عددها وحجمها على مجلَّدات (البحار)، فعدد مجلَّدات الموسوعة مائة وتسعة
وعشرين جزءاً.. هذا الكتاب أخذه البحراني من بحار الأنوار كتاب أُستاذه المجلسي مع
تنظيم دقيق وتنسيق جيِّد في ترتيب الأحاديث وتبويبها، وقد انتقد عليه جماعة
واعتبروا كتابه تحويراً شائناً عن البحار، ولذا لم يُرزَق من الحظِّ ما رُزِقَ
البحار.
طُبِعَ في العصر الحديث(١٣٦) بعض أجزاءه بشكلٍ مستقلٍّ، منها كتاب
-----------------
(١٣٦) طُبِعَ عام (١٤٣٢هـ) في قم المقدَّسة، بتحقيق ومستدركات السيِّد محمّد باقر الموحِّد الأبطحي.
(أحوال الإمام
الحجَّة) في (٥) مجلَّدات كبيرة في (٢٦٢٥) صفحة، وهي عبارة عن الجزء (٢٦) من الطبعة
الحجريَّة القديمة. تحتوي موسوعة العوالم في أحوال الحجَّة على (٢١) قسم، وتفرَّع
من كلِّ قسم أبواب شتَّى، حتَّى بلغت (٣٦٢) باب، تحدَّثت عن نَسَبه وأحوال أُمِّه
وولادته ونصوص إمامته وغيبته وظهوره ومواضيع أُخرى كثيرة متفرِّقة في القضيَّة
المهدويَّة.
* كتاب (الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة) للشيخ محمّد بن الحسن الحرِّ
العاملي (١٠٣٣ - ١١٠٤هـ).
اهتمَّ الشيخ بموضوع الرجعة لأنَّه يُعَدُّ من إحدى عقائد الشيعة الإماميَّة الاثني
عشريَّة، إذ لا قائل بهذه العقيدة غيرهم، والمرتبطة بشكل وثيق بالعقيدة المهدويَّة..
يقول الشيخ في مقدَّمة كتابه(١٣٧): (إنَّ الذي وصل إلينا في هذا المعنى قد تجاوز
حدَّ التواتر المعنوي، وأوجب لأهل التسليم العلم القطعي اليقيني)(١٣٨)، وقد قسَّم
كتابه إلى اثني عشر باباً، تشمل على أكثر من ستّمائة حديث، وأربعة وستِّين آية من
القرآن، وأدلَّة كثيرة وعبارات المتقدِّمين والمتأخِّرين، وجواب الشُّبُهات وغير
ذلك، من قبيل الاستدلال على الرجعة وإمكانها ووقوعها، والأدلَّة المعتمدة الواردة
في الإخبار بها، وأنَّها وقعت في الأُمَم السابقة، وأنَّنا موعودون بها في آخر
الزمان في هذه الأُمَّة، بالإضافة لبعض المواضيع المتعلِّقة بهذا الشأن، مثل (هل
بعد دولة المهدي دولة أم لا؟).
تطرَّق الشيخ في الكتاب عن الرجعة بشكل شامل وبتفصيلٍ وافٍ، فتعرَّض إلى كلِّ
نواحيها وجوانبها عقلاً ونقلاً وتفسيراً وحديثاً، شارحاً لبعض الأحاديث الغامضة،
ويردُّ الشُّبُهات بالأدلَّة القاطعة على مَنْ أنكر واستبعد
-----------------
(١٣٧) طُبِعَ عام
(١٤٢٨هـ)، بتحقيق مشتاق المظفَّر، في ٥١٢ صفحة.
(١٣٨) الإيقاظ من الهجعة (ص ٣٦/ مقدَّمة المؤلِّف).
ذلك، فلم يترك
الشيخ أيَّ موضوع من المواضيع التي تختصُّ بالرجعة إلَّا وتطرَّق له بالتفصيل،
بالإضافة للإثباتات الاستدلاليَّة المستخلَصة من الآيات الشريفة والأحاديث
المتواترة عن أهل البيت (عليهم السلام).
* كتاب (المحجَّة فيما نزل في القائم الحجَّة (عجَّل الله فرجه)) للسيِّد هاشم بن
سليمان الكتكاني الحسيني البحراني (ت ١١٠٧هـ).
يُعتبَر أوَّل مصنَّف في هذا الباب وبهذا الأُسلوب حيث جمع فيه الآيات القرآنيَّة
النازلة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على ضوء الروايات الواردة عن أهل
البيت (عليهم السلام)، وهو من الكُتُب القيِّمة في هذا المجال، ويحتوي على (١٢٠)
آية ابتداءً من سورة البقرة إلى سورة العصر، مرتَّبة على ترتيب السور والآيات، وقد
كتبه بعد أنِ انتهى من تأليف (تفسير البرهان)، يقول البحراني عن كتابه المحجَّة:
(ألَّفته من تفسير أهل البيت (عليهم السلام)، وربَّما كانت الآية قد نزلت فيه وفي
آبائه الطاهرين، فاقتصرت في هذا الكتاب على ذكر الرواية فيه (عليه السلام)، وأُحيل
في الرواية في آبائه على كتاب (البرهان في تفسير القرآن) المعمول من رواية أهل
البيت (عليهم السلام))(١٣٩).
المحجَّة كتاب قيِّم لم يسبقه أحد على هذا النهج، وعلاوة على خصوصيَّات الكتاب
ومنهجه، فإنَّ فيه ميزة أُخرى، وهي نقله مباشرةً من كُتُب مفقودة اليوم ولا أثر
لها، مثل: كتاب (الهداية) للحسين بن حمدان الخصيبي، وكتاب (كشف البيان) لمحمّد بن
الحسن الشيباني.. انتهى من تأليفه قبل (٢٢/ ذي الحجَّة ١١٠٤هـ).
المشهد الأدبي في هذه المرحلة:
الأُدباء والشعراء الشيعة منتشرون طوال التاريخ الإسلامي، لم يسع المجال للتطرُّق
لبعض قصائدهم الخالدة أو نشير إلى أسمائهم وذلك مراعاةً لمنهج الكتاب
-----------------
(١٣٩) المحجَّة فيما نزل في القائم الحجَّة (عليه السلام) (ص ١٥/ مقدَّمة المؤلِّف).
وللاختصار، وقد
ذكر السيِّد محسن الأمين أسماء (٤٣) شاعراً مشهورًا من الشيعة عاشوا في هذه الحقبة
التاريخيَّة، في موسوعته الرائعة (أعيان الشيعة)(١٤٠).
بعض القصائد المهدويَّة في هذه الفترة لقيت حظًّا وافراً من الشهرة والانتشار، مثل
قصيدة الشيخ محمّد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجبعي العاملي المعروف بالشيخ
البهائي (ت ١٠٣٠هـ) المسماة: (الفوز والأمان في مدح المهدي صاحب الزمان)، والبعض
يُسمِّيها (روح الجنان)، والتي خصَّصها بمدح الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في
ثلاثة وستِّين بيتاً، يخاطب الشاعر فيها الإمام المهدي ويطلب إليه بأنْ يقوم
ويُخلِّص المؤمنين من الظلم والظالمين، ويتكلَّم عن صفات أنصاره وأعوانه، والتي
مطلعها:
سَرى البرقُ من نجدٍ فجدَّد تذكاري * * * عهوداً بِحزوَى والعذيبِ وذي قارِ
وجاء فيها:
خليفةُ ربِّ
العالمين وظلُّهُ * * * على ساكن الغبراءِ من كلِّ ديَّارِ
هو العروةُ الوثقى الذي مَنْ بذيله * * * تمسَّكَ لا يخشى عظائمَ أوزارِ
إمامُ هدًى لاذَ الزمانُ بظلِّه * * * وألقى إليه الدهرُ مقودَ خوَّارِ
ومقتدرٍ لو كَلَّفَ الصمَّ نُطْقَها * * * بأجذارها فاهتْ إليه بأجذارِ
علومُ الورى في جنب أبحرِ علمِهِ * * * كغَرْفَةِ كفٍّ أو كغمسةِ منقارِ
فلو زار أفلاطونُ أعتابَ قدسه * * * ولم يُعْشِهِ عنها سواطعُ أنوارِ
رأى حكمةً قدسيَّةً لا يشوبها * * * شوائبُ أنظارٍ وأدناسُ أفكارِ
بإشراقها كلُّ العوالم أشرقت * * * لما لاحَ في الكونينِ من نورها الساري
إمامُ الورى طوْدُ النُّهى منبعُ الهدى * * * وصاحبُ سرِّ الله في هذه الدارِ
-----------------
(١٤٠) أعيان الشيعة (ج ١/ ص ١٧٧ - ١٨١).
ومنها أيضاً:
أيا حجَّةَ الله
الذي ليس جارياً * * * بغير الذي يرضاه سابقُ أقدارِ
ويا مَنْ مقاليدُ الزمان بكفِّه * * * وناهيكَ من مجد به خصَّه الباري
أغث حَوْزَةَ الإسلام واعمُرْ ربوعَه * * * فلم يبقَ فيها غيرُ دارسِ آثارِ
وأنقذْ كتابَ الله من يد عُصبة * * * عصوا وتمادوا في عتوٍّ وإصرارِ
وأنعشْ قلوباً في انتظارك قُرِّحت * * * وأضجرها الأعداء أيَّةَ إضجارِ
وخلِّص عبادَ الله من كلِّ غاشم * * * وطهِّر بلادَ الله من كلِّ كفَّارِ
وعجِّلْ فداكَ العالمونَ بأسرهم * * * وبادرْ على اسمِ الله من غير إنظارِ
تجدْ من جنود الله خير كتائب * * * وأكرمَ أعوان وأشرفَ أنصارِ
مدح الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وذكر مناقبه في القصيدة جاء وفق الأحاديث الشريفة والآيات القرآنيَّة، لذلك أثَّرت الأبيات على المتلقِّي كثيراً، وقد أعجب بها قاضي القضاة بدمشق، وطلب من معاصره الأديب أحمد المنيني الحنفي أنْ يشرحها، فطُبِعَ شرحها في سبعين صفحة في آخر كتاب الكشكول للبهائي.
* * *
مرحلة دحض الشُّبُهات عن العقيدة
المهدويَّة (١١٤٩ - ١٣٩٠هـ):
بعد انتهاء الدولة الصفويَّة والتعاقب السريع لدول عديدة على حكم إيران،
والتدخُّل الأجنبي السافر في البلاد الإيرانيَّة، أفرزت هذه الظروف واقعاً نفسياً
محبطاً وسيِّئاً لدى الإيرانيِّين، فدخل الشيعة في عهد الدولة القاجاريَّة في صراع
ومواجهة مع فِرَق هدَّامة وضالَّة كالبابيَّة والبهائيَّة وهي صنيعة الاستعمار
الأجنبي، والتي استغلَّت بعض سمات القضيَّة المهدويَّة في بداية إنطلاق دعوتها،
ممَّا دفع علماء الشيعة في الردِّ على ادِّعاءاتهم ومزاعمهم وفضح خبث مخطَّطاتهم.
الوضع السياسي في هذه المرحلة:
الدولة الأفشاريَّة (١١٤٩ - ١١٦٣هـ)(١٤١):
كان نادر شاه أوَّل ملوكها، والذي يرجع أصله إلى عشيرة أفشار التركمانيَّة، التي
كان وطنها الأصلي تركستان، وقد نزحت نحو أذربيجان خوفاً من الغزو المغولي، ثمّ
أجبرها الشاه إسماعيل الصفوي على تركها واستقرَّت في شمال خراسان في منطقة (أبيورد)..
عاش نادر شاه في بداية حياته في شظف العيش، حيث كان والده (إمام قلي بيك) فقيراً
وراعياً للجمال، بدأ نادر حياته العسكريَّة بانضمامه إلى عساكر حاكم أبيورد، وكان
طموحه أنْ يحكم خراسان كلَّها، فاجتمع حوله عدد كبير من عشائر الأفشار التركمانيَّة
وأكراد قوجان، فسيطر على خراسان بعد أنْ أنهى حكم محمود السبيستاني، بدأ نادر
يُوسِّع دائرة
-----------------
(١٤١) موسوعة تاريخ إيران السياسي (ج ٣/ ص ٨٧ - ١١٩).
نفوذه بسرعة
فائقة بمهاراته العسكريَّة وحنكته السياسيَّة، وبسبب ضعف السلاطين الصفويِّين
وترهُّل الدولة الصفويَّة في أيَّامها الأخيرة، عزل عبَّاس الثالث الصفوي، ونصب
نفسه شاهاً جديداً على إيران عام (١١٤٨هـ)، وهو الذي أنقذ إيران من الاحتلال
الأجنبي وإرجاع الوحدة السياسيَّة إليها، حيث طرد الأفغانيِّين والأُوزبك والروس
والعثمانيِّين من إيران.. ولكن هذه الحال لم تدم طويلاً، إذ دخلت إيران بعد مقتل
نادر شاه عام (١١٦٠هـ) في دوَّامة من الفوضى والاضطرابات الدمويَّة، وقد تمكَّن
كريم خان الزندي من استغلال الظروف وتأسيس دولة الزنديِّين.
الدولة الزنديَّة (١١٦٦ - ١٢٠٩هـ)(١٤٢):
مؤسِّس الدولة كريم خان الزندي والذي تنتسب أُسرته إلى (قبيلة لك) الكرديَّة، كان
كريم جندياً في جيش نادر شاه، وبشجاعته الفائقة وحزمه شاع صيته بين الناس، وبعد
مقتل نادر تقلَّد كريم خان المناصب العسكريَّة الرفيعة في عهد عادل شاه.. وقد دخلت
البلاد الإيرانيَّة بعد عام (١١٦٠هـ) في حروب داخليه قاسية، فاستغلَّ كريم خان
الأوضاع القلقة والمضطربة التي اجتاحت إيران للاستحواذ على السلطة والحكم، فتمَّ له
ذلك عام (١١٦٦هـ)، ولكن بعد مماته (١١٩٣هـ) دبَّ الخلاف والنزاع بين أخلافه
ولاسيَّما أبنائه وإخوانه وتقاتلوا وضعفت الدولة الزنديَّة، وبعد قتل لطف عليّ خان
الزندي عام (١٢٠٩هـ) في طهران، أفلت دولة الزنديِّين إلى الأبد، وقامت مكانها
الدولة القاجاريَّة.
الدولة القاجاريَّة (١٢٠٩هـ - ١٣٤٣هـ)(١٤٣):
تنحدر سلالة القاجار من إحدى قبائل القزلباش البدويَّة من التركمان،
-----------------
(١٤٢) موسوعة
تاريخ إيران السياسي (ج ٣/ ص ١٣٥ - ١٦٢).
(١٤٣) موسوعة تاريخ إيران السياسي (ج ٣/ ص ١٧٧ - ٣٥٠).
وهي إحدى القبائل
السبع التي أسهمت في تأسيس الدولة الصفويَّة، في بداية تشكيل كيانهم السياسي استولى
القاجار على منطقة أسترآباد (شمال شرق إيران)، استطاع قائد القبيلة آغا محمّد خان
أنْ يستولي على الحكم في بلاد فارس بعد قيامه سنة (١٢٠٩هـ) بالقضاء على الزند في
كرمان، ثمّ القضاء على الأفشاريِّين في خراسان، فوحَّد البلاد واتَّخذ لنفسه لقب
الشاه.. كان آغا محمّد خان (١٢٠٩ - ١٢١١هـ) مؤسِّس الدولة القاجاريَّة يحلم ببعث
سطوة الصفويِّين وإحياء إمبراطوريَّة نادر شاه الأفشاري الواسعة، استطاع أنْ يحكم
كلَّ إيران وضمَّ لها جورجيا، ولكنَّه أُغتيل عام (١٢١١هـ)، وجاء بعده ابن أخيه فتح
عليّ شاه (١٢١٢ - ١٢٥٠هـ)، وفي عهده تغلغل النفوذ الروسي والبريطاني في إيران بشكل
كبير، وبسبب القيادة السياسيَّة الفاشلة والخسائر العسكريَّة في عهده، تدهورت أوضاع
البلاد وسارت من سيِّئ إلى أسوأ، وانسلخت مناطق كثيرة من القوقاز وأجزاء من سواحل
بحر قزوين من إيران بموجب معاهدة (كلستان عام ١٢٢٨هـ)، وكذلك معاهدة (تركمان جاي
عام ١٢٣٤هـ) مع روسيا القيصريَّة، والامتيازات التي حصل عليها الروس نتيجةً لهذه
المعاهدات، فتعرَّضت كرامة إيران كدولة للمساس، وأدَّت كذلك إلى نتائج اقتصاديَّة
واجتماعيَّة ونفسيَّة وخيمة بالنسبة للإيرانيِّين.
في عهد ناصر الدِّين شاه (١٢٦٤هـ - ١٣١٣هـ) حدث تنافس شديد بين الدولتين
البريطانيَّة والروسيَّة من أجل الاستحواذ على ثروات إيران وبسط نفوذهما،
وتدخُّلاتهما السافرة في مقدَّرات إيران الاقتصاديَّة والسياسيَّة يتصاعد يوماً بعد
آخر، وبدأ الضعف والفساد يدبُّ في أوصال الدولة الإيرانيَّة.. وأصبح اقتصاد البلاد
يُنظِّمه البريطانيُّون عن طريق ممارساتهم الاحتكاريَّة وحصولهم على تنازلات كبيرة
بعد معاهدة باريس (١٢٧٤هـ) مع الحكومة البريطانيَّة.
ومن الانتفاضات
الداخليَّة المهمَّة التي حدثت في زمن الدولة القاجاريَّة:
* ثورة التنباك: حين منح المَلِك ناصر الدِّين شاه القاجاري حقَّ بيع وشراء التبغ
في إيران لصالح شركة بريطانيَّة، فجاءت فتوى المرجع محمّد حسن الشيرازي (١٣٠٩هـ)،
الذي نصُّها: (بسم الله الرحمن الرحيم، استعمال التنباك والتتن حرام بأيِّ نحوٍ
كان، ومَنِ استعمله كمَنْ حارب الإمام المنتظَر (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف))،
وكانت هذه الفتوى بمثابة ثورة ضدَّ الاستعمار البريطاني، وتهدف إلى صيانة البلاد من
تغلغل النفوذ الأجنبي ومن الاحتكارات الاستعماريَّة، وعلى إثر ذلك حدثت اضطرابات
وتظاهرات في أماكن متعدِّدة في إيران، تُطالب بإلغاء الامتياز بصورة كاملة، وأخيراً
اضطر الشاه القاجاري تحت ضغط الجماهير إلى الإعلان عن إلغاء الامتياز كاملاً.
* الحركة الدستوريَّة: في عهد مظفَّر الدِّين شاه القاجاري (١٣١٤ - ١٣٢٣هـ) ثارت
الجماهير الإيرانيَّة للمطالبة بإقرار دستور للبلاد وإعلان الثورة ضدَّ الشاه
وأتباعه، فبرز كلٌّ من آية الله (محمّد الطباطبائي) وآية الله (عبد الله البهبهائي)
اللَّذين كان لهما دورٌ كبيرٌ في إذكاء روح الثورة لدى أبناء الشعب الإيراني، وتحت
ضغط الجماهير أصدر الشاه يوم (٩/ جمادى الآخرة/ ١٣٢٤هـ) قانون (فرمان) يقضي بإنشاء
مجلس نيابي منتخب مهمَّته (البحث في أحوال الدولة وحماية المصالح العامَّة)، وتمَّ
تشكيل لجنة ضمَّت من بين أعضائها عدداً من رجال الدِّين لدراسة اللوائح التشريعيَّة
على ضوء الشريعة الإسلاميَّة ووفقاً للمذهب الشيعي الاثني عشري، وافتُتِحَ مجلس
الشورى في طهران بصورة رسميَّة يوم (١٤/ جمادى الثانية/ ١٣٢٤هـ)، وتمَّت صياغة
الدستور وصادق عليه الشاه، وكان الدستور الجديد في كثير من نصوصه ترجمة للدستور
البلجيكي، ولكن لجنة الصياغة حرصت على أنْ يكون موافقاً للشريعة
الإسلاميَّة ولا
يخالفها، وتُوضِّح إحدى موادِّه أنْ يكون في كلِّ دورة من دورات المجلس لجنة
مؤلَّفة من خمسة أشخاص من الفقهاء المجتهدين يدرسون جميع اللوائح التشريعيَّة، فإذا
وجدوا ما يخالف الشريعة رفضوه، وأنَّ قراراتهم في هذا الصدد واجبة التنفيذ، وأنَّ
هذا الشرط في الدستور لا يمكن تغييره إلى حين ظهور إمام العصر والزمان (عجَّل الله
فرجه).
أدَّى تدخُّل الحكومتين الروسيَّة والبريطانيَّة المباشر في الأوضاع الداخليَّة
للحكومة الدستوريَّة إلى فشلها وسقوطها، فبعد عامين من إقامة الحكم الدستوري، واجهت
البلاد اقتصاداً منهاراً، وعاشت في ظلِّ التأزُّم السياسي في طهران، والنزاعات
العشائريَّة في الأقاليم، وخزينة الدولة على وشك الإفلاس، حيث كانت دولتا الاستعمار
تبذل ما في وسعهما للوقوف ضدَّ أيَّة بادرة تُهدِّد وضعهما المتميِّز في إيران،
ودأبتا على توجيه السياسة الإيرانيَّة وفق مصالحهما، وظهر هذا جليًّا عندما أعلنت
الدولتان أنَّ الحكومة الإيرانيَّة لا يحقُّ لها عقد اتِّفاقيَّات مع دول أُخرى
إلَّا بعلمهما وبموافقتهما، وعلى إثر الأحداث المتعاقبة والتدخُّلات الاستعماريَّة
السافرة، فقد وجدت الحكومة الدستوريَّة أنَّ الضغط الروسي شديد ويزداد باطِّراد
يوماً بعد يوم، وأنَّ بريطانيا تقف بإصرار إلى جانب روسيا، ووصل الأمر إلى حدٍّ أنْ
هدَّدت روسيا بأنَّها ستبعث قوَّاتها لاحتلال طهران، ما أدَّى إلى انحلال الحكومة
الدستوريَّة في شوَّال (١٣٢٩هـ).
حدثت بعد ذلك تطوُّرات خطيرة، وإيران أضناها الضعف العسكري والسياسي والاقتصادي،
وكانت الحالة السياسيَّة أكثر تدهوراً ممَّا كانت عليه، وأصبحت إيران في عهد
المَلِك السادس محمّد عليّ شاه (١٣٢٤ - ١٣٢٦هـ) مقسَّمة إلى مناطق نفوذ روسي
وبريطاني وعثماني، وما كان بقدرة المَلِك الشابِّ أحمد شاه (١٣٢٦ - ١٣٤٣هـ) آخر
الحُكَّام القاجاريِّين أنْ يواجه الأحداث
السياسيَّة في
بلاده بفاعليَّة لضعف إرادته وجبنه.. وهكذا قد استسلمت إيران لمستقبل مجهول تحت
سطوة احتلال أجنبي بشكل خطير للغاية، لذا لم يكن بوسع إيران أنْ تبقى بعيدة عن
الحرب العالميَّة الأُولى، حيث تحوَّلت إلى إحدى ساحات الصراع بين الجيش الروسي
والبريطاني من جهة، والدولة العثمانيَّة المتحالفة مع ألمانيا من جهة أُخرى.
بشكلٍ عامٍّ حكم الدولة القاجاريَّة (٧) ملوك، واتَّخذوا من مدينة طهران عاصمة لهم،
وبعد خروج روسيا من الحرب العالميَّة الأُولى انسحبت من إيران، واتَّجهت الدولة
القاجاريَّة نحو الضعف والتدهور الشديد والنهاية تحت حكم أحمد شاه، حيث دبَّ الصراع
بين القادة العسكريِّين للاستحواذ على السلطة.
الدولة البهلويَّة (١٣٤٣ - ١٣٩٩هـ):
لقد دفعت ظروف التغلغل الاستعماري الكبير في إيران، وبسبب الحرب العالميَّة
الأُولى، وتدهور السلطة المركزيَّة والأوضاع الاقتصاديَّة المتردّية والحالة
الأمنيَّة المضطربة، وعدم رضا الشعب عن حُكَّامهم إلى ظهور حركات مناوئة للسلطة
المركزيَّة.. وبانتهاء الحرب العالميَّة تخلَّصت بريطانيا من منافسيها في إيران
وأصبحت السيِّد المطلق في السياسة الإيرانيَّة، وكانت معاهدة عام (١٣٣٧هـ/ ١٩١٩م)
مع بريطانيا بمثابة فرض حماية استعماريَّة على إيران.
بعد وصول النظام القاجاري إلى الانحلال التامِّ، جاء الانقلاب الذي قاده رضا خان
بهلوي عسكريًّا، وضياء الدِّين طباطبائي سياسيًّا في (١٣/ جمادى الآخرة/ ١٣٣٩هـ)
وبمباركة من الاستخبارات البريطانيَّة، ممَّا شكَّل تحوُّلاً خطيراً في تاريخ إيران
الحديث والمعاصر.
كان رضا خان بهلوي (١٢٩٥ - ١٣٦٣هـ) من ضبَّاط الجيش القاجاري، فتأسَّست الدولة إثر
الانقلاب الذي قام به رضا بهلوي في
(١٣٣٩هـ)، ومن
ثَمَّ في سنة (١٣٤٣هـ) خلع الشاه أحمد ميرزا القاجاري آخر شاهات الدولة القاجاريَّة،
وأصبح مَلِكاً لإيران، وهو الذي غيَّر اسم البلاد من فارس إلى إيران.. واتَّبع
سياسة داخليَّة تقوم على فصل الدِّين عن السياسة، وإسكات المؤسَّسات الدِّينيَّة
وقمعها ومنعها من التأثير على مجريات الأُمور السياسيَّة، تأسّياً بأُسلوب كمال
أتاتورك التركي، وكان في صراع دائم مع رجال الدِّين، خصوصاً عندما أصدر توجيهات
مناهضة لوجود الحجاب في المجال العامِّ.
كانت لسياسة رضا خان الخارجيَّة وفشله في المناورة على حساب توازن القوى الدوليَّة
الدور الأساسي في سقوطه، فخلال الحرب العالميَّة الثانية سيطرت روسيا وبريطانيا على
إيران، فأجبروه على التنحِّي لصالح ابنه محمّد رضا سنة (١٣٦٠هـ)، وذلك بسبب علاقته
الشخصيَّة مع هتلر، ونُفِيَ إلى جنوب إفريقيا حيث مات هناك(١٤٤).
خلفه ابنه محمّد رضا بهلوي (١٣٣٨ - ١٤٠٠هـ) وكان يُلقَّب بـ(شاهنشاه) أي مَلِك
الملوك، اتَّبع سياسة ليِّنة في بداية حكمه مع الشعب لإصلاح ما لحق بهم من ظلم وجور
في ظلِّ حكم والده المطلق.. ثمّ بدأت علائم النفور تظهر على العلاقات بين إيران
والاتِّحاد السوفيتي، وبدأت الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة تدخل على خطِّ نيل
الامتيازات الاقتصاديَّة، وفي عهده انجلت قوَّات الاحتلال (الحلفاء) عن الأراضي
الإيرانيَّة بعد ستَّة أشهر من انتهاء الحرب، وفي عهد رئيس الوزراء الدكتور مصدِّق
تمَّ تأميم النفط..
-----------------
(١٤٤) توفَّى رضا بهلوي في مدينة جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا يوم (٦/ شعبان/ ١٣٦٣هـ) الموافق (٢٦/ يوليو/ ١٩٤٤هـ)، إثر نوبة قلبيَّة، فنُقِلَ جثمانه إلى القاهرة حيث دُفِنَ بمسجد الرفاعي في (٢٨/ أُكتوبر/ ١٩٤٤م)، وفي عام (١٩٥٠م) نُقِلَ الرفات إلى إيران ودُفِنَ في مدينة الريِّ.
وأخيراً تفرَّد
الشاه بالسلطة، وتزامن عهده بمجابهة حادَّة مع المؤسَّسات الدِّينيَّة، وأخفق الشاه
من احتواء الزخم المتزايد لرجال الدِّين، ممَّا أدَّى إلى سقوط نظامه عام (١٣٩٩هـ)،
إثر انتفاضة شعبيَّة قادها الإمام الخميني، وقامت مكانها الجمهوريَّة الإسلاميَّة
حيث رافقتها تغييرات سياسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة جذريَّة في كافَّة أرجاء
إيران، فاضطرَّ إلى ترك إيران في (١٧/ صفر/ ١٣٩٩هـ)، وتوفَّى في مصر.
الوضع الفكري في هذه المرحلة:
اقتفت الدولة القاجاريَّة سيرة التشيُّع الصفوي، فأقرَّت تمذهب الدولة وذلك لغاية
تحصيل الشرعيَّة واستقرار السلطة، ولكن السمة المحدِّدة للتمذهب القاجاري أنَّه يقع
خارج نطاق حركة الدولة، أي إنَّ النشاط الدِّيني مستقلٌّ عن الحكومة، ولذا فالدولة
القاجاريَّة لم تحمل رسالة دينيَّة أو مذهبيَّة محدَّدة.
ابتدأ فصل جديد من الصراع الإخباري - الأُصولي في العهد القاجاري، في سجال فقهي
تُحرِّكه أغراض سياسيَّة محدَّدة، ويتمحور السجال حول النصِّ والاجتهاد، وحمل راية
الأخبار الميرزا محمّد الأخباري (ق ١٢٣٢هـ) وكان يعدُّ باب الاجتهاد مقفلاً منذ
غيبة الإمام المهدي، فيما حمل الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت ١٢٢٨هـ) راية
الأُصوليِّين، وكان يرى بأنَّ حقَّ الاجتهاد مكفول لكبار العلماء الحائزين على ملكة
الاجتهاد(١٤٥).
تنبَّه القاجاريُّون الورثة التاريخيِّين للصفويِّين لمستوى وعي فقهاء الشيعة في
الميدان السياسي حيث كان دورهم محوريًّا في الحوادث السياسيَّة كثورة التنباك
والحركة الدستوريَّة، فبدأ ملوك القاجار يُشجِّعون المنحى القريب إلى نزعتهم
-----------------
(١٤٥) الفقيه والدولة (ص ٢٩٧ - ٣٠١)، بتصرُّف.
التسلُّطيَّة،
والحدُّ من تأثيرات النزعة العقلانيَّة التحرُّريَّة في الفكر الشيعي وترسيخ الفكر
الانعزالي الصوفي، وفي هذه الفترة ظهرت الفرقة الشيخيَّة(١٤٦) بزعامة الشيخ أحمد
زين الدِّين الأحسائي (١١٦٦ - ١٢٤١هـ)، الذي أقام في كرمنشاه، وخصَّه ركن الدولة
الميرزا محمّد عليّ بالأُعطيات، وكان مقرَّباً لدى المَلِك القاجاري فتح عليّ شاه
(حكم ١٢١٢ - ١٢٥٠هـ)، الذي دعاه للإقامة في طهران، في سياق خطَّة لتطوير التيَّار
الإخباري والصوفي داخل التشيُّع بما يتيح له فرصة وقف تمدُّد التيَّار الأُصولي
الاجتهادي المهيَّأ للعب دور سياسي احتجاجي داخل الدولة.
على أيَّة حالٍ، فقد نجح التيَّار الأُصولي في تقويض محاولات تهميشه، فنشر موجة
عارمة ضدَّ الشيخ الأحسائي(١٤٧) انطلقت من قزوين واتَّصلت بباقي المناطق
الإيرانيَّة، فاضطرَّ للرحيل إلى العراق ومنه إلى الحجاز وتوفَّى في طريقه إلى
الحجِّ، وحمل الراية من بعده تلميذه السيِّد كاظم الرشتي (١٢١٢ - ١٢٥٥٩هـ)
-----------------
(١٤٦) الشيخيَّة:
هم جماعة ينتسبون للمذهب الشيعي الإمامي، ولا يختلفون في الأُصول وأُمَّهات المسائل
العقائديَّة عن باقي الإماميَّة، وقد ظهرت هذه الفرقة عندما التفَّ جماعة من
الإماميَّة حول الشيخ الأحسائي، وتعصَّبوا له وأفرطوا في الرجوع إليه، حتَّى بلغ
بهم الأمر أنْ رفضوا الرجوع لعلماء الإماميَّة بعد ممات شيخهم، واشترطوا في مَنْ
يرجعون إليه أنْ يكون شيخيًّا منتمياً لمدرسة وأفكار الأحسائي، وهذا الإفراط في
الولاء والتبعيَّة لمن كان على وفق منهج الشيخ وفكره، بالإضافة إلى التعصُّب الشديد
لبعض أفكاره وما طرحه من آراء أو مَنْ جاء بعده من مدرسته، وخالفوا فيها كلَّ علماء
الإماميَّة، هذان السببان هما ما جعل هذه الفرقة الشيعيَّة الإماميَّة مميَّزة.
(١٤٧) الشيخ أحمد بن زين الدِّين بن إبراهيم آل صقر، الأب الروحي للمدرسة الشيخيَّة،
من أهل الأحساء الواقعة بشرق الجزيرة العربيَّة، والتي يقطنها أكثريَّة من الشيعة
الاثني عشريَّة، حيث وُلِدَ بقرية المطيرفي الأحسائيَّة عام (١١٦٦هـ/ ١٧٥٣م)، وكانت
الأحساء حينها تابعة للدولة السعوديَّة الأُولى، وتوفَّى في منطقة هدية قرب المدينة
المنوَّرة أثناء ذهابه إلى الحجِّ عام (١٢٤١هـ/ ١٨٢٦م).
من كربلاء.. وبعد
أنْ توفَّى المؤسِّس الأوَّل (الشيخ الأحسائي) والثاني (السيِّد الرشتي)، وقع خلاف
في هذه الجماعة في خصوص مَنْ يخلف السيِّد الرشتي، فجماعة اتَّبعت (ميرزا حسن بن
عليّ القراجه داغي)، وهم الذين يُعرَفون بالإحقاقيَّة، وجماعة اتَّبعوا (محمّد كريم
خان بن إبراهيم الكرماني)، وهم الذين عُرِفُوا بالكرمانيَّة والركنيَّة، أمَّا
البعض الآخر وهم قلَّة فقد اتَّبعوا (عليّ محمّد رضا الشيرازي)، وهم المعرفون
بالبابيَّة، والذين انقسموا بعد ذلك للبهائيَّة والأزليَّة، وكلا الشقَّين خرجوا عن
دين الإسلام بإجماع علماء الشيعة وعلماء الشيخيَّة، وبالتالي لا يمكن احتسابهم من
الفرقة الشيخيَّة، لأنَّهم أعلنوا بصريح العبارة أنَّ ما عندهم هو دين جديد جاء
لينسخ الإسلام.
استغلال بعض سمات الثقافة
المهدويَّة من قِبَل أعداء الإسلام:
ظهرت الحركة البابيَّة في عهد الدولة القاجاريَّة، فبعد وفاة السيِّد كاظم الرشتي
في كربلاء، ففي الليلة الخامسة من جمادي الأُولى سنة (١٢٦٠هـ) الموافق (٢٣/ مارس/
١٨٤٤) ميلادي - أي بعد مرور (١٠٠٠) عام على بداية الغيبة الصغرى - ادَّعى أحد
تلامذة الرشتي وهو (عليّ محمّد) أنَّه الباب للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ثمّ
بعد ذلك ادَّعى أنَّه هو المهدي بنفسه، ثمّ أخيراً ادَّعى النبوَّة.. في المراحل
الأُولى من ادِّعاءاتهم كان نبيُّ البابيَّة هو الرسول محمّد (صلَّى الله عليه
وآله)، وبعد أنْ ترقَّى عليّ محمّد الباب في ادِّعاءاته حتَّى بلغ أنِ ادَّعى
النبوَّة والوحي، فصار (الباب عليّ محمّد) هو نبيُّ البابيَّة.
نبذة تاريخيَّة يسيرة عن البابيَّة ونشوئها:
وُلِدَ عليّ محمّد في مدينة شيراز الإيرانيَّة في (١/ محرَّم/ ١٢٣٥هـ)، وبعد أنْ
مات والده الميرزا رضا الشيرازي وهو في سنينه الأُولى، تكفَّل خاله السيِّد عليّ
التاجر بإعالته وتربيته، فتعلَّم مبادئ اللغتين العربيَّة والفارسيَّة في مسقط
رأسه،
وعندما كبر وبلغ
سنَّ الحُلُم، أخذه خاله إلى متجره وعلَّمه شؤون التجارة، ثمّ بعد ذلك اصطحبه معه
إلى مدينة بوشهر للاشتغال بالتجارة، وخلال فترة مكوثه في بوشهر، كان مهتمًّا كثيراً
بالعلوم الغريبة (السحر، الطلسمات، علم الحروف...)، ومنغمساً في الخلوات والرياضات
الروحيَّة الشاقَّة، نصحه خاله ووعظه كثيراً لترك هذه الأفعال المخالفة في جُلِّها
للشريعة الإسلاميَّة، ولكنَّه لم ينتهِ عن ذلك، ممَّا دفع الخال لاستشارة عائلته في
خصوص ما آل إليه حال ابن أُخته اليتيم، وخلصوا في النهاية لإرساله إلى كربلاء
والنجف، لعلَّ قربه من العتبات المقدَّسة ومن العلماء تردعه عن ذلك، وعندما بلغ
سنَّ العشرين من عمره، سافر إلى العراق عام (١٢٥٨) هجري بطلب وإلحاح من أقاربه، سكن
كربلاء مدَّة خمس سنوات والتقى فيها بالسيِّد كاظم الرشتي زعيم المدرسة الشيخيَّة
في تلك الفترة، وظلَّ يتردَّد على درسه، وكان يتكلَّم مع بعض تلامذة السيِّد الرشتي
البارزين كـ(الميرزا حسن جوهر)، و(الملَّا محمّد المامقاني)، و(الحاجّ محمّد كريم
خان الكرماني) بألفاظ وعبارات خارجة عن قواعد الشريعة الإسلاميَّة، فهجروه ونبذوه
في مجالسهم، وبعد أنْ شعر بالوحدة انطوى على نفسه وأظهر حالة من الزهد والتقشُّف،
ممَّا دفع بالبعض التأثُّر به، فكان كلَّما استأنس بفرد ووثق به، خاطبه بقوله:
(أُدخلوا البيوت من أبوابها)، ويُكثِر من ذكر الحديث النبوي «أَنَا مَدِينَةُ
اَلْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا»، ويقصد من ذلك أنَّ الوصول للإمام المهدي لا يتمُّ
إلَّا من خلال باب، وهذا الباب هو عليّ محمّد نفسه، ومن تلك الفترة أطلق على نفسه
لقب (الباب) وسُمِّي أتباعه بـ(البابيَّة).
علاقته بالمخابرات الروسيَّة:
جاء إلى العراق جاسوس روسي عن طريق إيران، وقد كان في السابق سكرتيراً في السفارة
الروسيَّة في طهران، فتظاهر بالإسلام وسمَّى نفسه (الشيخ
عيسى لنكراني)
بينما كان اسمه الحقيقي (كينياز دالكوركي)، وقد ارتدى لباس رجال الدِّين وحضر درس
السيِّد كاظم الرشتي في مدينة كربلاء، وهناك التقى بعليّ محمّد واستطاع الجاسوس أنْ
يُكوِّن صداقة وثيقة بينهما.
يذكر الجاسوس الروسي (كينياز دالكوركي) في مذكَّراته(١٤٨)، فيقول: (سأل طالب تبريزي
يوماً السيِّد كاظم الرشتي في مجلس تدريسه، فقال: أيُّها السيِّد أين صاحب الأمر؟
وأيُّ مكانٍ متشرِّف به الآن؟ فقال السيِّد: أنا لا أعلم، لعلَّه هنا - يقصد مكان
التدريس - ويكون الآن متشرِّفاً بحضوره بيننا، ولكنِّي لا أعرفه.. فيقول كينياز:
فأنا وبسرعة البرق طرأت بخاطري فكرة، وفي ليلة من الليالي التي كان فيها عليّ محمّد
مدخِّناً فيها الغليون والحشيش، وكنت أنا صاحياً جمعت نفسي في حضوره وأنا بحالة
الخضوع والخشوع، فقلت له: يا حضرة صاحب الأمر تفضَّل وترحَّم عليًّا، فأنت غير مخفي
عليًّا أنت هو وهو أنت، عندها تبسَّم (الباب) ولم يتفوَّه بشيء لا نفياً ولا
إثباتاً، وأنا كنت مصمِّماً أنْ أُحدث في مذهب الشيعة اختلافاً، وكنت أسأل (الباب)
بعض المسائل السهلة وكان هو أيضاً يُجيب بأجوبة لم يكن لها مفهوم، فقد كان يعتقد
أنَّه باب العلم، نعم كان (الباب) أحسن آلة لهذا العمل والغرض، شاء أم لم يشأ ذلك،
فمع أنَّه كان متلوِّناً وخمول العنصر، إلَّا أنِّي حركته وسيَّرته كانت الحشيشة
والرياضة أيضاً معاونتين لي في ذلك، وعلى الرغم أنَّه لم يزل متردِّداً وخائفاً من
ادِّعاء أنَّه (صاحب الأمر وإمام الزمان)، وكان يقول لي: ليس اسمي المهدي، فقلت له:
أنا أُسمِّيك المهدي، فسافر أنت إلى طهران، وأنا أُعطيك الكلمة والعهد أنْ أعينك
-----------------
(١٤٨) مذكَّرات دالكوركي (ص ٦٥ - ٧٦).. من حسن الحظِّ أنَّ هذه المذكَّرات تمَّت طباعتها، فيمكن قراءة نشأة هذه الفرقة الضالَّة وتاريخ مؤسِّسي البابيَّة والبهائيَّة ودور المخابرات الروسيَّة في تأسيسها.. كذلك اُنظر إلى كتاب: البهائيَّة تحت المجهر (ص ١٧٢ - ١٧٧).
وأُوازرك حتَّى
يؤمن بك جميع أهل إيران، أنت أبعِد نفسك عن حالة التردُّد والخوف فقط، ولا تكن
متلوِّناً فإنَّ الناس يقبلون منك، وقلت له: منِّي النقد والمال ومنك ادِّعاء
المبشِّريَّة والبابيَّة وأنَّك صاحب الزمان، أجل مع أنَّه كان في البداية مستكرهاً
ولم يقبل ما اقترحت عليه فإنِّي قد قرأت في أُذُنه حتَّى أطمعته وأقنعته فقبل كامل
ما قلت له، وقلت له: إنَّك لا تعلم أنَّ وراء الأمر هذا القول جيش منظَّم، فأرضيته
بذلك.. فيقول كينياز: فذهب إلى البصرة ومنها إلى بوشهر وكتب ودعاني إلى الإيمان به
فاستجبت دعوته، و كان مُدَّعاه أنَّه نائب إمام العصر و باب العلم، وأنا كتبت في
جوابه: إنَّك إمام العصر نفسه الذي أوَّل مَنْ آمن به الشيخ عيسى اللنكراني الذي
كان رفيق حجرته في كربلاء، وبعد أنْ ذهب إلى إيران مباشرةً نشرت وأشهرت في العتبات
المقدَّسة أنَّ حضرة إمام العصر قد ظهر وعليّ محمّد الشيرازي كان إمام العصر، وكان
يحضر محضر تدريس السيِّد الرشتي و الناس لم يعرفوه)(١٤٩).
بعد أنْ كانت دعوته في العراق سرّيَّة عاد إلى إيران فاستقرَّ في مدينة بوشهر التي
فيها كتب كتابه (البيان)(١٥٠) بنسختيه العربيَّة والفارسيَّة، والذي يدَّعي أنَّهما
-----------------
(١٤٩) هذا ما
ذكره الجاسوس الروسي في مذكَّراته، وقد تكون نسبة كبيرة من التفاصيل مبالغاً فيها
أو غير صحيحة، ولكن ذلك لا يمنع من أنْ تكون المخابرات الروسيَّة لها الدور الرئيسي
في نشأة البابيَّة في إيران، كما كان للبريطانيِّين دور رئيسي في نشأة القاديانيَّة
في الهند.
(١٥٠) كتاب البيان: الكتاب المقدَّس لدى البابيِّين، وادَّعى الباب أنَّه معجز،
وأنَّه لا يقدر الجنُّ والإنس على أنْ ياتوا بمثله، وهو مزيج من الزندقة والإلحاد
والزرادشتيَّة والإسلام.. وقد قسَّم (الباب) كتابه البيان إلى (١٩) واحداً (فصلاً)،
كلُّ واحدٍ مكوَّن من (١٩) باباً، وكتاب البيان جزء كتبه بالعربي وجزء بالفارسي،
أحد عشر واحداً بالعربي، والذي كتبه بالفارسي ثمانية آحاد.. فأُسلوب العربي جاء على
نهج القرآن الكريم، فيأتي ببعض آيات القرآن متفرِّقة فيُؤلِّف ما بينها تأليفاً
يُشوِّه صورتها، أو أدعية ملفَّقة من فقرات أدعية أهل البيت (عليهم السلام)، وإنْ
جاء بألفاظ غير ذلك رأيته كأنَّه تعمَّد فيها الغلط والألحان ومخالفة قواعد اللغة
العربيَّة..
أمَّا الأُسلوب الفارسي فجاء من خُطَب فارسيَّة أُلِّفت من كلمات المتصوِّفة
وأشعارهم.. بشكلٍ عامٍّ فالكتاب: ضعيف العبارة وضحل المعنى، ولذا فالبابيُّون
والبهائيُّون يخفونه ويعتبرونه من الأسرار، بعكس الكُتُب السماويَّة الأُخرى
كالقرآن والإنجيل فهي منتشرة في كلِّ مكانٍ.. للاطِّلاع على كتابي (البيان)
و(الأقدس) ارجع لكتاب: البابيُّون والبهائيُّون في حاضرهم وماضيِّهم (ص ٨١ - ١٣٠)،
فقد وضع نصَّ (نسخ) الكتابين في كتابه، ونشر محتواهم.
وحي من الله، ومن
هناك بدأ يُرسِل أتباعه إلى المُدُن الإيرانيَّة.. والدعاة الذين توجَّهوا إلى
شيراز، التقوا بعالم شيراز وإمام جمعتها أبي تراب الشيرازي، وعرضوا عليه أفكارهم
والدخول في الدِّين الجديد للباب، فأخبر الحاكم بالأمر، فجلب الدعاة واستنطقهم، ثمّ
طلب من الفقهاء الحكم في أمرهم، فحكموا عليهم بالكفر والخروج من الإسلام، وكان ذلك
في (٢/ شعبان/ ١٢٦١هـ).. ثمّ أرسل مَنْ يُحضِر الباب نفسه من بوشهر إلى شيراز،
فجاؤوا به مقيَّداً إلى شيراز في (١٩/ رمضان/ ١٢٦١هـ).. وبعد أنْ ناظروه وعرفوا
مقالته(١٥١) وادِّعاءه بأنَّه أفضل من النبيِّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله) وأنَّ
كتابه (البيان) أفضل من القرآن، قسم من الفقهاء أفتى بكفره وقتله، وقسم حكم عليه
بالجنون والسفه، فأمر الوالي الحرس فجرُّوه وضربوه، وأُخِذَ للمسجد، فتوجَّه
(الباب) إلى كبير مجتهدي شيراز أبي تراب الشيرازي، وقبَّل يده معلناً له عن توبته،
واستغفاره لله ممَّا كان يدَّعيه، ثمّ أُودع بعد ذلك السجن.
تنقَّل بين السجون الإيرانيَّة فمن شيراز إلى أصفهان ومنها إلى قلعة جهريق
-----------------
(١٥١) للاطِّلاع على تفاصيل المناظرة والمحاورة التي كانت بين عليّ محمّد (الباب) وبين علماء شيراز، ومنهم: الميرزا محمّد حسن النوري، والآغا محمّد مهدي الكلباسي، فأفتى العلماء بقتله بحسب ما رأوه من دعاويه.. ارجع إلى كتاب: البابيَّة والبهائيَّة (ص ٢٣٠ - ٢٣٤).. وكذلك تفاصيل المحاورة مع علماء تبريز ومنهم: الملَّا محمّد المامقاني (رئيس علماء الشيخيَّة) وزميل عليّ محمّد في درس الرشتي، والملَّا محمود نظام العلماء، وقد رأى العلماء كفره وأفتوا بقتله أيضاً (ص ٢٣٥ - ٢٤٤) من نفس الكتاب.
في مدينة باكو
بأذربيجان.. ورغبةً في إنهاء هذا الأمر بعد أنْ بدأ أتباعه وأنصاره يثيرون القلاقل
والاضطرابات في جميع أنحاء إيران، أمر (الأمير نظام) رئيس الوزارة في حكومة ناصر
الدِّين شاه القاجار (حكم ١٢٦٤ - ١٣١٣هـ) بإرسال (الباب) إلى مدينة تبريز لكي يحاكم
أمام مجموعة من الفقهاء وعلماء الدِّين المعروفين والحكم عليه، وقاموا بطرح الأسئلة
عليه بخصوص طبيعة دعوته، وبعد الاطِّلاع على مزاعمه حُكِمَ عليه بالقتل، ونُفِّذ
حكم الإعدام رمياً بالرصاص في تبريز يوم الاثنين (٢٧/ شعبان/ ١٢٦٥هـ)، ومع أحد
أتباعه (الزنوزي).
(أثار مقتله حنق بعض أتباعه فصمَّموا على اغتيال ناصر الدِّين شاه أخذاً بثأره، وفي
(١٩) شوَّال سنة (١٢٦٨هـ) بينما كان الشاه يتنزَّه خارج قصره عند سفح جبل شمران
تقدَّم نحوه رجلان وبيد أحدهما عريضة وهما يصرخان: الظليمة الظليمة، الغوث الغوث،
فلمَّا مدَّ الشاه يده لتسلُّم العريضة عاجله الثاني بطلق ناري أصاب فخذه إصابة
خفيفة، وسرعان ما تداركه الحرس فقتلوا أحد الرجلين وأمسكوا بالثاني جريحاً، وكانت
محاولة الاغتيال هذه إيذاناً ببدء حملة واسعة النطاق في أنحاء إيران للبحث عن
البابيِّين والقضاء عليهم)(١٥٢)، فأخذ البابيُّون يتحوَّلون إلى حركة سرّيَّة
وخلايا تنتشر في الخفاء في أرجاء العالم.
تطوُّر البابيَّة إلى البهائيَّة:
هناك ارتباط وثيق بين تاريخ البابيَّة والبهائيَّة، ويعتبر البهائيُّون (البابَ) هو
المبشِّر بالدِّين البهائي والممهِّد لظهور (بهاء الله)، وبما أنَّ جذور البهائيَّة
تعود إلى البابيَّة، نشير باختصار شديد إلى العلاقة بينهم، وكيف تطوَّرت الحركة
البابيَّة إلى الديانة البهائيَّة ودور الاستعمار في ذلك:
-----------------
(١٥٢) موسوعة تاريخ إيران السياسي (ج ٣/ ص ٢٤٢).
بعد إعدام الباب
وما تبع ذلك من شغب وأحداث ومحاولة فاشلة لاغتيال ناصر الدِّين شاه القاجاري من
قِبَل البابيِّين، قُبِضَ على الكثير منهم وزجُّوا بهم في السجون، وكان منهم حسين
عليّ النوري المازندراني (١٢٣٣ - ١٣٠٩هـ) الملقَّب (بهاء الله)، وأخوه غير الشقيق
يحيى النوري المازندراني (١٢٤٧ - ١٣٣٠هـ) الملقَّب (صبح الأزل)(١٥٣)، ثمّ توسَّطت
السفارة الروسيَّة في أمر هذين الأخوين فقبل الشاه أنْ يُطلِق سراحهما بشرط أنْ
يخرجا من إيران، فأخلي سبيلهما ونُفِيَا إلى بغداد، والتي كانت تابعة آنذاك للحكومة
العثمانيَّة.
أقام البهاء وصبح الأزل في بغداد إحدى عشر سنة (١٢٦٩ - ١٢٨٠هـ)، وكان أكثريَّة
البابيِّين يعتقدون أنَّ (صبح الأزل) هو الوصيُّ الحقيقي والخليفة الأصلي للباب،
وخلال السنوات التي قضاها البابيُّون في بغداد كانوا يقومون بدعايات نشطة لمذهبهم
في العراق وإيران، ووثَّقوا علاقاتهم بعدد من أفراد الأُسرة القاجاريَّة المعارضة
للسلطة الحاكمة، وبسبب شكاوي الأهالي من فساد وعبث البابيِّين، وتحت ضغوط من
الحكومة القاجاريَّة، أمر السلطان العثماني بأخذهم إلى (أسطنبول) عاصمة الدولة
العثمانيَّة، وبقوا بها مدَّة أربعة أشهر، ثمّ أُخِذُوا إلى مدينة أدرنة وبقوا بها
مدَّة خمس سنوات، وأثناء وجودهما في أدرنة زاد الخلاف بين الأخوين على زعامة الحركة
البابيَّة، فلجأ البهاء للحيل والمكائد والخدع والمكر، وبعد أنْ وثَّق علاقته مع
كبار البابيِّين من أهل الحلِّ والعقد، أظهر ما كان يضمره وأعلن الدعوة إلى نفسه،
بأنَّه هو الذي بشَّر الباب بقدومه بكنيته (مَنْ يُظهِره الله)، وهكذا اختلف
البابيُّون وتفرَّقوا إلى فرقتين متخاصمتين
-----------------
(١٥٣) مناصب بعض أفراد الأُسرة: والدهم (عبَّاس بزردك النوري) مسؤول كبير في وزارة الماليَّة في الحكومة القاجاريَّة في طهران، وكان أحد إخوة البهاء يعمل كاتباً في السفارة الروسيَّة بطهران، وزوج أُخته الميرزا مجيد كان يعمل سكرتيراً للسفير الروسي في طهران.
(الأزليَّة
والبهائيَّة)، ولكن أصبحت كفَّة البهاء هي الراجحة، واستمرَّ الخلاف بين الأخوين،
وأخذ كلُّ واحدٍ منهم يدسُّ السمَّ لأخيه.. ونتيجةً لذلك أصدر السلطان عبد العزيز
العثماني قرار في سنة (١٢٨٥هـ) بنفي صبح الأزل مع أصحابه القلَّة وعدد من
البهائيِّين إلى فاماغوستا بقبرص، وكذلك نُفِيَ البهاء وكثير ممَّن تبعه وعدد من
الأزليِّين إلى عكَّا بفلسطين، وبقوا إلى أنْ مات كلٌّ منهما في منفاه الأخير، وقد
أمضى البهاء مدَّة (٢٤) سنة في فلسطين، وتوفَّى عام (١٣٠٩هـ)، ودُفِنَ هناك.
بعد إعدام الباب لم ينقطع دور الروس عن متابعة وتوجيه الحركة، فكان دعمهم ومساندتهم
مستمرَّة، فقد كانت لهم اليد الطولى في إطلاق سراح البهاء والأزل من السجن، وكذلك
الدور المهمُّ في التمويل وحشد الأتباع لهم.. وبالرجوع إلى مذكَّرات الجاسوس الروسي
(دالكوركي) وهو يتحدَّث عن دور المخابرات الروسيَّة في توجيه الحركة ومساندة
الأخوين في منفاهم، يقول: (في بغداد أرسلت لهم كُتُباً وأمرتهم أنْ يستنسخوا منها
نُسَخاً كثيرة، وكانوا يُهيِّئون في كلِّ شهر بعض الرسائل والمنشورات ويُرسِلونها
للذين كانوا منخدعين بالباب ولم يروه، وكان قسم من أعمال السفارة (الروسيَّة في
طهران) منحصراً في تهيئة هذه الرسائل وتنظيم أعمال البابيَّة... ولكن لم تكن لنا
الجرأة بإظهار الأمر للمطَّلعين وأهل العقل والمعرفة، وقد كانت سفارة الإنجليز
تراقبنا دائماً، وكان الأمر مزعجاً لنا... كنَّا نجلب أنظار العوامِّ للحركة
ونُقنِعهم بقليل من المال، ومَنْ كان متوارياً من البابيِّين في إيران، فإنِّي كنت
أُعطيه المال لزيارة كربلاء واللقاء مع الأخوين في بغداد، حتَّى اجتمع حوله جمع من
الصعاليك، وكلُّ مَنْ كان أبوه متوفيًّا من شباب العوامِّ كنَّا نقول له: إنَّ أباك
كان بابيًّا فلِمَ لا تتَّبع أباك؟ وبمثل هذه المكائد والحيل كنَّا نورد السُّذَّج
في مسلك البابيَّة... كنت
أبعث في كلِّ شهر
ألفين أو ثلاثة آلاف تومان إيراني، ثمّ نفتهم الدولة العثمانيَّة من بغداد إلى
أسطنبول ومن هناك إلى أدرنة، والدولة الروسيَّة كانت تدعمهم وقد بنت لهم المأوى
والمسكن، وأهمُّ أفكارهم ومعتقداتهم كانت تُلقَّن إليهم بواسطة وزارة الخارجيَّة...
وعلمت فيما بعد أنَّ تحرُّكات رقبائنا (الإنجليز) سبب اختلافهما)(١٥٤).
ينبغي أنْ نشير إلى الانعطافة في مسيرة الحركة، فمنذ أنْ نُفِيَ الأخوان وأتباعهما
إلى فلسطين وقبرص انقطعت علاقتهما بروسيا، وقد خصَّصت الحكومة البريطانيَّة لهم
راتباً كافياً، وكان الإنجليز يتابعون الحركة البابيَّة لغرض الإفادة منها لأغراضهم
السياسيَّة.. وبعد الحرب العالميَّة الأُولى ودخول فلسطين وقبرص تحت السيطرة
البريطانيَّة توثَّقت علاقة الحركة بالإنجليز، وترسَّخت الدعوة البهائيَّة في عهد
الابن عبَّاس أفندي المعروف بـ(عبد البهاء)، وقلَّدوه أرفع وسام ونال لقب (السير)
من بريطانيا لقاء الخدمات التي أسداها لهم.
الدوافع التي أدَّت لانتشار البابيَّة في إيران:
إنَّ الواقع النفسي السيِّئ والمرير للمجتمع الإيراني، قد أوحى لأعداء الإسلام
باستغلال هذه الحالة النفسيَّة، وجدوى استثمارها وتوظيفها في خدمة أهدافهم وتحقيق
مآربهم، وتمَّ ذلك بتشويه العقيدة الإسلاميَّة الأصيلة باستخدام فكرة المهدويَّة..
إنَّ الأرضيَّة في زمن الشاه محمّد القاجاري ووزارة الميرزا الأقاسي الإيرواني كانت
مهيَّأة لظهور وادِّعاء مهدويَّة أُخرى وإمام زمان جديد في إيران، فلم يمضِ على
هزيمة الشاه فتح عليّ وخسرانه مُدُن القفقاز إلَّا خمسة عشر عاماً حتَّى خسر الشاه
محمّد بلاد الأفغان، ومن جهة أُخرى كانت موجة السخط والتذمُّر من قِبَل الشعب
الإيراني قد بلغت أوجها لما يعانيه من
-----------------
(١٥٤) البهائيَّة تحت المجهر (ص ١٩٤ و١٩٥).
ظلم
الحُكَّام وانتشار الفقر وتدهور الحالة الاقتصاديَّة وخسران جزء من أرض البلد
وتسلُّط الأجانب عليه، وقد اتَّبع الروس والإنجليز سياسة متحمسة تماماً للصيد في
الماء العكر، فاستغلَّت المخابرات الروسيَّة الفرصة وبواسطة جاسوسهم (كينياز
دالكوركي)، وما هي إلَّا فترة وجيزة حتَّى سمع الإيرانيُّون أنَّ إمام الزمان
(المهدي) قد ظهر، وذلك بادِّعاء عليّ محمّد (الباب) بالمهدويَّة، وأنَّ عهد ظلم
الحُكَّام وجور أُمراء القاجار وعتوِّهم قد ولَّى، وقريباً تتحوَّل إيران بل العالم
كلُّه إلى جنَّة من الزهور، ويستأصل جذور الظلم والجور إلى الأبد والمحظوظ مَنْ طار
صوبه، وبواسطة أساليب الحيل والمكر والخديعة ووسائل الخبث الاجتماعي والسياسي انطلت
الخديعة على البسطاء والمحرومين من أهل ذلك الزمان، ممَّا أدَّى إلى انتشار الإشاعة
الكاذبة وتصديقها، فبهذا المكر والخداع وصاحبه حاجة الناس للهروب من الظلم والجور
توافد البسطاء والسُّذَّج على (البابيَّة) اعتقاداً منهم بأنَّ مَنْ يسبق إلى
اللحاق بعليّ محمّد (مدَّعي البابيَّة والمهدويَّة) يكون من أنصاره (٣١٣)، فتحقَّق
للعدوِّ الأجنبي ما أراد وهدف إليه.
الادِّعاءات والمزاعم:
نظرة عابرة على ادِّعاءات البابيَّة وعقائد البهائيَّة والنظر والتدقيق في الأفكار
والتعاليم لأتباعهم، يُوضِّح ما نصبه الاستعمار من شراك وخداع وما اختلقه من حركات
وفِرَق تهدف لإضعاف الإسلام وتمزيق المسلمين.. فإطلالة سريعة على هذه المزاعم
تُظهِر لنا حقيقتهم وتناقضاتهم:
أوَّلاً: ادَّعى عليّ محمّد في البداية أنَّه نائب عن الإمام المنتظَر، وأنَّه
الباب الذي من خلاله يُؤتى للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، صرَّح بذلك في كتابه
(أحسن القَصَص).
ثانياً: ادَّعى
بعد ذلك أنَّه الإمام المهدي المنتظَر نفسه، وأنَّه الرابع عشر من المعصومين، صرَّح
بذلك في كتابه (البيان).
ثالثاً: ادَّعى بعد ذلك أنَّه نبيٌّ، بعثه الله وأرسله وأوحى إليه وأنزل عليه
كتاباً، وقد قال ذلك في كتابه (البيان) أيضاً.
رابعاً: ادَّعى أنَّه جاء بشريعة مخالفة لشريعة القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة.
خامساً: ادَّعى خليفته حسين عليّ (البهاء) أنَّ الله بعثه وأرسله بآيات بيِّنات،
وأنَّه روح المسيح جاء مرَّةً أُخرى، وأنَّه جاء بكتاب سمَّاه (الأقدس) بشريعة
وأحكام جديدة، استهدفت نسخ الشريعة الإسلاميَّة.
سادساً: ادَّعى (البهاء) بنزول الوحي عليه بفكرة دين عالمي جديد يُوحِّد الجنس
البشري ويصهره في بوتقة واحدة، ولذا سُمّيت بالديانة البهائيَّة.
كلُّ هذه الأُسُس الواهية والتناقضات في ادِّعاءات (الباب والبهاء) أصدق شاهد وأوضح
دليل على كذب المزاعم وبطلان أساسها، ومن الواضح أنَّ البابيَّة والبهائيَّة
تدرَّجت في طرح مزاعمها للوصول إلى هدف نسخ الدِّين الإسلامي.. وجميع هذه الخزعبات
هي تطوُّر تدريجي عن فكرة (الباب) الذي ابتدأ دعواه بأنَّه الواسطة والباب للوصول
للإمام المهدي، مستفيداً من تصديق الناس لفكرة المهدي المنتظَر وفكرة المخلِّص
الموعود، ثمّ تدرَّجت إلى المهدويَّة والنبوَّة والأُلوهيَّة، وهذا ما يُؤكِّد أنَّ
الادِّعاءات ما هي إلَّا سراب وخداع، يكمن وراءها أهداف خبيثة للمستعمرين.
إنَّ التدقيق في ادِّعاءات الفرقة البابيَّة وعقائد الديانة البهائيَّة يُرشِدنا
إلى أنَّ مؤسِّسي البابيَّة والأزليَّة والبهائيَّة - وبغضِّ النظر عن الانحرافات
الأخلاقيَّة - لم يكن لهم من العلم والمعرفة حتَّى بمستوى طالب المدرسة الإعداديَّة
سواءً في
اللغة العربيَّة
أو غيرها من المعارف، فكيف بالمسائل الفلسفيَّة والعرفانيَّة الدقيقة أو المعايير
الفكريَّة الصحيحة في علم المنطق أو مناهج الثقافة والعلوم، كلُّ ذلك سبَّب حيرتهم
وتخبُّطهم وتناقض أقوالهم.
الحقيقة التي لا تخفى على أحد، أنَّ المغذِّي والداعم والمساند للبابيَّة
والبهائيَّة حاليًّا، والذي ساعدهم في البقاء والانتشار هو الصهيونيَّة
والماسونيَّة، والتي وضعت كامل خبراتها تحت تصرُّف هذه الحركات الهدَّامة التي تعمل
لتقويض القِيَم النبيلة للدِّين الإسلامي والمعتقدات الربَّانيَّة الأصيلة.
الكُتُب الشيعيَّة في الردِّ على البابيَّة والبهائيَّة:
في ضوء التحوُّلات الخطيرة التي حدثت بظهور فِرَق ضالَّة انبرى علماء الشيعة
للتصدِّي للانحرافات والبِدَع، وكان لهم الدور الأكبر في محاربة ومجابهة الفرقة
البابيَّة الضالَّة والتي تفرَّعت منها الديانة البهائيَّة، فبرزت العديد من
المصنَّفات العربيَّة والفارسيَّة في الردِّ على ضلالاتهم وادِّعاءاتهم.. بالإضافة
إلى أنَّ كثيراً من علماء المسلمين ومن كافَّة المذاهب الإسلاميَّة قد كتبوا في
الردِّ على هذه الفرقة الضالَّة وأخرجوهم من الإسلام بفتاوي صريحة، وأبرزها لشيوخ
وعلماء الأزهر(١٥٥)، فمن الكُتُب الشيعيَّة نذكر طائفة يسيرة من هذه الكُتُب(١٥٦):
* إزهاق الباطل: للحاجِّ محمّد كريم خان الكرماني، زعيم الشيخيَّة الكرمانيَّة في
عصره.
-----------------
(١٥٥) جاء في
جواب سؤال موجَّه إلى لجنة الفتوى بالأزهر ما يلي: (نفيد بأنَّ مذهب البهائيَّة
مذهب باطل، ليس من الإسلام في شيء، بل إنَّه ليس من اليهوديَّة ولا النصرانيَّة،
ومَنْ يعتنقه من المسلمين يكون مرتدًّا خارجاً عن دين الإسلام). النصيحة
الإيمانيَّة في كشف فضائح البابيَّة والبهائيَّة (ص ٢٨٤).
(١٥٦) معظم هذه العناوين ذُكِرَت في موسوعة الذريعة للشيخ آغا بزرك الطهراني، وقد
أحصى الشيخ أكثر من هذا العدد بكثير.. بالإضافة لمصادر أُخرى متفرِّقة.
* باب الأبواب في
تاريخ بدء ظهور الباب: للميرزا محمّد مهدي خان (الدكتور التبريزي) نزيل القاهرة
والملقَّب بزعيم الدولة.
* البابيُّون والبهائيُّون: للدكتور همايون همَّتي المعاصر، وهو مختصر في البابيَّة
والبهائيَّة.
* البهائيَّة تحت المجهر: للسيِّد أحمد بن عبد العزيز الفالي، بتحقيق وتقديم ولده
الخطيب السيِّد محمّد باقر الفالي.
* تاريخ البابيَّة: للسيِّد عبد الرزَّاق الحسني البغدادي، جعله في البداية بعنوان
(البابيُّون في التاريخ)، وأصله مقالات نُشِرَت في مجلَّة العرفان الصيداويَّة، ثمّ
جمعها في هذا الكتاب.
* الحُجَج الرضويَّة في تأييد الهداية المهدويَّة والردِّ على البابيَّة: للسيِّد
محمّد بن محمود الحسيني اللواساني الطهراني نزيل مشهد، والمتُوفَّى بها سنة
(١٣٥٦هـ).
* الحقائق الدِّينيَّة في الردِّ على البهائيَّة: لمحمّد باقر الجلالي، وطُبِعَ سنة
(١٣٦٩هـ).
* رجم الشيطان في ردِّ أهل البيان: للشيخ عبد الرحيم البروجردي.
* الشمس المضيئة: للحاجِّ محمّد كريم خان الكرماني (١٢٢٥ - ١٢٨٨هـ)، مطبوع في تبريز.
* صواعق البرهان في ردِّ دلائل الإيقان: للحاجِّ زين العابدين بن محمّد الكرماني
(١٢٧٦ - ١٣٦٠هـ).
* قلع الباب: للميرزا أبي القاسم الزنجاني، في الردِّ على البابيَّة.
* البابيَّة والبهائيَّة: للشيخ محمّد جواد البلاغي، فرغ من كتابته في شعبان
(١٣٣٩هـ).
* كشف الظلمة عن عقيدة البابيَّة وردُّهم: للحاجِّ حسين قلي الداغستاني.
* هذه هي
البهائيَّة: للسيِّد محمّد شعاع فاخر الأهوازي.
* بارقه حقيقت: من تأليف البابيَّة الإيرانيَّة قدس إيران التي أسلمت في فترة لاحقة
وألَّفت هذا الكتاب (فارسي).
* إحقاق الحقِّ لصاحب الزمان وإطفاء النيران الموقودة من صاحب البيان: للميرزا
محمّد تقي التاجر الهمداني (فارسي).
* هداية المتعلِّمين في معرفة الضالِّين: للميرزا شفيع العراقي، فرغ منه سنة
(١٣٤٩هـ) (فارسي).
* الردُّ على الميرزا عليّ محمّد الباب: لمحمّد تقي بن حسين عليّ الهروي الأصفهاني
(فارسي).
* الردُّ على فوائد البابي الكلبايكاني: للميرزا عليّ أكبر بن الميرزا شير محمّد
الهمداني، وهو في ردِّ كتاب (الفوائد) للبابي أبي الفضل كلبايكاني (فارسي).
التراث المهدوي المكتوب في هذه
المرحلة(١٥٧):
نشير بشكل مختصر لبعض مصنَّفات علماء الشيعة في موضوع الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه) ودحض الشُّبُهات والأفكار المنحرفة والدفاع عن العقيدة المهدويَّة الأصيلة في
هذه المرحلة التاريخيَّة، أضافةً لكُتُب الردِّ على البابيَّة والبهائيَّة.. نذكر
منها الكُتُب التالية:
١ - كتاب (ذخيرة المحشر في أحوال الإمام المنتظَر): الشيخ محمّد بن عبد الله أبو
عزيز الخطِّي البحراني (ت ١٢٠٠هـ).
٢ - كتاب (نور الأنوار في آثار ظهور الحجَّة ورجعة الأئمَّة الأطهار): عليّ أصغر بن
عليّ أكبر البروجردي، انتهى من تأليفه سنة (١٢٢٣هـ).
-----------------
(١٥٧) الإمام المهدي المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة.. بالإضافة لمصادر أُخرى وكُتُب متوفِّرة.
٣ - كتاب (رسالة
في غيبة صاحب العصر والزمان خليفة الرحمن): السيِّد دلدار عليّ بن محمّد
الناصرآبادي (ت ١٢٢٥هـ).
٤ - كتاب (الرجعة): الشيخ أحمد بن زين الدِّين الأحسائي (ت ١٢٤١هـ).
٥ - كتاب (علامات الظهور وأحوال الإمام المستور): السيِّد عبد الله شبَّر (ت
١٢٤٢هـ).
٦ - كتاب (كشف الحقِّ أو الأربعون): محمّد صادق الخاتون آبادي (ت ١٢٧٢هـ).
٧ - كتاب (الشهاب الثاقب في أحوال الإمام الغائب): عليُّ بن الحسين بن عليٍّ
البغدادي الحائري (ت ١٢٧٧هـ).
٨ - كتاب (الإمام الثاني عشر): نجف عليّ بن محمّد رضا الزنوزي التبريزي، انتهى من
تأليفه سنة (١٢٨٠هـ).
٩ - كتاب (الغيبة): السيِّد أسد الله الأصفهاني (ت ١٢٩٠هـ).
١٠ - كتاب (الحجَّة البليغة في إثبات وجود إمام العصر): السيِّد محمّد حسين
الشهرستاني (ت ١٣١٥هـ).
١١ - كتاب (جنَّة المأوى في ذكر مَنْ فاز بلقاء الحجَّة)، و(النجم الثاقب في أحوال
الإمام الحجَّة الغائب) فرغ منه سنة (١٣٠٣هـ)، و(كشف الأستار عن وجه الغائب عن
الأبصار): حسين بن محمّد تقي النوري الطبرسي (ت ١٣٢٠هـ).
١٢ - كتاب (إلزام الناصب في إثبات الحجَّة الغائب): عليُّ بن زين العابدين اليزدي
الحائري (ت ١٣٣٣هـ)، انتهى من تأليفه سنة (١٣٢٧هـ)، طُبِعَ في مجلَّدين.
١٣ - كتاب (بشارة الإسلام في علامات صاحب الزمان): مصطفى إبراهيم حيدر الكاظمي،
انتهى من تأليفه سنة (١٣٣٢هـ).
١٤ - كتاب (تاريخ
الإمام الثاني عشر) جزء من موسوعة منتهى الآمال في تواريخ النبيِّ والآل: الشيخ
عبَّاس بن محمّد رضا القمِّي (ت ١٣٥٩هـ).
وغيرها من المصنَّفات والمؤلَّفات الكثير الكثير، لا يسع المجال لإحصائها، ممَّا
يُشكِّل ثروة هائلة ضمن التراث الشيعي المهدوي.
أهمُّ ما صُنِّف عن الإمام المهدي
في هذه المرحلة:
نشير إلى بعض المصنَّفات المهدويَّة البارزة والتي كُتِبَت في زمن العهد القاجاري،
نتكلَّم عنها بشكل تعريفي موجز:
* كتاب (البابيَّة والبهائيَّة) للشيخ محمّد جواد البلاغي (١٢٨٢ - ١٣٥٢هـ):
هذا الأثر النفيس كتبه العلَّامة البلاغي للردِّ على ضلالات البابيَّة والبهائيَّة
وتفنيد مزاعمهم ودحض ادِّعاءاتهم، وقد سمَّاه مؤلِّفه (نصائح الهدى والدِّين إلى
مَنْ كان مسلماً وصار بابيًّا)، فقد تعرَّض فيه لمجمل عقائدهم وشُبُهاتهم فنقضها
وردَّها، فأورد ثلاث مقالات في ما كان يفترض بالبابيَّة أنْ تقوله، وذكر نحو عشرة
من موانع الاعتقاد بشُبُهاتهم، وأشار إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام) ليكون
البرهان أقوى والحجَّة ألزم، وقد اشتمل الكتاب على (١٤٩) حديثاً.. ذكر في الكتاب
ثمان شُبُهات، هي عمدة ما احتجَّت به هذه الفرقة المنحرفة للتمسُّك بعقيدتهم
الباطلة، وأجاب عنها الجواب الشافي، بالأدلَّة الشرعيَّة والحُجَج المفحمة،
بالإضافة لذلك ضمَّن كتابه مباحث لغويَّة وكلاميَّة وتاريخيَّة، كما ترجم لرؤوس هذه
الفرقة الضالَّة وعرض تاريخ حياتهم ونشوء فِرَقهم.
هذا وعلاوة على كلِّ خصوصيَّات الكتاب وفوائده، فإنَّ فيه ميزة نادرة أُخرى، وهي
نقله مباشرةً من كتاب (الغيبة) ونقل منه (١٩) حديثاً، وكتاب
(الرجعة) ونقل
منه حديثاً واحداً، وهي من مصنَّفات الشيخ الفضل بن شاذان النيسابوري (ت ٢٦٠هـ)،
وهما كتابان يُعَدَّان من الكُتُب المفقودة التي لا أثر لها اليوم.
ممَّا تقدَّم يظهر جليًّا مدى أهمّيَّة ونفاسة هذا الكتاب، ولاسيَّما في مجال ردِّ
الشُّبُهات التي تختصُّ بعقيدتنا بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، إلَّا أنَّ
فوائده شملت غير هذا الجانب، وفيه منافع جمَّة في وقتنا الحالي، وذلك للأسباب
التالية:
- إنَّ أتباع البابيَّة والبهائيَّة اليوم، وإنْ كانوا شرذمة قليلين، إلَّا أنَّهم
تسنَّموا مناصب عالية في مجالات شتَّى وخصوصاً في المجال الأكاديمي.
- يُعتبَر الكتاب بحقٍّ ردًّا على كلِّ مَنْ يحاول إنكار العقيدة بالإمام المهدي،
وأنَّه ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
- يُعَدُّ الكتاب ردًّا على كلِّ مَنْ يدَّعي النيابة عن الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه) أو المهدويَّة أو النبوَّة وحتَّى الأُلوهيَّة.
- انتشار الفِرَق الهدَّامة والمنحرفة في رقعة العالم الإسلامي، وذلك بدسائس
استعماريَّة وصهيونيَّة تهدف للقضاء على الإسلام وخلق جرثومة الانحراف من داخله.
وقد تمَّ الانتهاء من كتابته في شهر شعبان سنة (١٣٣٩هـ) في النجف الأشرف في زمن
الدولة العثمانيَّة (العراق)، وعهد الدولة القاجاريَّة (إيران).
* كتاب (مع أحمد أمين في حديث المهدي والمهدويَّة) للشيخ محمّد أمين زين الدِّين
(١٣٣٣ - ١٤١٩هـ):
هذا المصنَّف القيِّم كتبه الشيخ زين الدِّين للردِّ على افتراءات أحمد أمين المصري
على الشيعة، والتي كان ينشرها في كتاباته، فكُلِّف من قِبَل المرجعيَّة (السيِّد
محسن الحكيم) للردِّ على مزاعمه الباطلة في كتابه (المهدي والمهدويَّة)
الذي عالج فيه
الفكرة بطريقة سلبيَّة، فقد حاول الأديب المصري أنْ يشرح فكرة المهدي بعض الشرح
وأنْ يلمَّ بتاريخها كلَّ الإلمام، ولكن قلَّة المصادر لديه قصرت به عن الغاية فلم
يُوضِّح في الشرح ولم ينصف في التاريخ، إضافةً إلى أنَّه لم يبحث في المصادر التي
بين يديه، فدفعه ذلك إلى مخالفة المنقول والمعقول من أجل عمليَّة الترويج لما يكتب
حتَّى يزيل النقص لديه، فيكون سبب إزالتها (خالف تُعرَف)..
جاء ردُّ الشيخ زين الدِّين بجدارة من بلاغة الأُسلوب وعمق الفكرة وغور النظر،
وبالرغم من أنَّ الردَّ من الكُتُب الصغيرة في الحجم (٨٠ صفحة) إلَّا أنَّها كبيرة
النفع، ويمكن اعتباره (معجم في صغره).. فأوضح أصل الفكرة وأنَّ المصلح المنتظَر في
أحاديث الأديان السماويَّة السابقة مألوفة وقبل مجيء الإسلام، والمهدي في ديوان
الخلفاء من مبدأ الإمامة، والمهدي في التاريخ كحقيقة لا يختلف عليها اثنان، وذكر
بعض أحاديث الرسول في المهدي التي رواها الصحابة والتابعيُّون.. وقد كان نقاشه
فكريًّا عقليًّا بالحجَّة والدليل، وأوضح عثرات الكاتب ومواقع ضعفه وردَّ على
أقواله وأهوائه وفنَّدها، وقد تمَّ الانتهاء من كتابته في شهر ذي الحجَّة سنة
(١٣٧٠هـ) في النجف الأشرف.
* كتاب (البرهان على وجود صاحب الزمان) للسيِّد محسن الأمين الحسيني العاملي (١٢٨٤
- ١٣٧١هـ).
والكتاب عبارة عن ملحمة شعريَّة ولائيَّة تصدَّى فيها للردِّ على بعض الشُّبُهات
التي أُثيرت ضدَّ العقيدة المهدويَّة، وهو كتاب قيِّم وفريد من نوعه وبهذا الأُسلوب
الأدبي والمنهج الدفاعي، يقول المؤلِّف عن سبب تأليفه الكتاب(١٥٨): (فقد وردت إلى
النجف الأشرف - على ساكنه السلام - أيَّام مجاورتنا به قصيدة من بغداد - في (٢٥)
بيت - لم يُسَمَّ ناظمها، وهي في شأن الإمام المهدي القائم
-----------------
(١٥٨) البرهان على وجود صاحب الزمان (ص ٧/ مقدَّمة المؤلِّف).
المنتظَر (عجَّل
الله فرجه)، أشار قائلها إلى الخلاف الواقع في أنَّه (عجَّل الله فرجه) وُلِدَ أو
سيُولَد، واختار هو الثاني، مستدلًّا عليه بأُمور ذكرها في قصيدته، فأشار جمع من
الأصحاب بأنْ نعارضها بقصيدة تكون جواباً لها أُسوةً بمَنِ انتدب لذلك من شعراء
النجف الأشرف وأُدبائه وغيرهم، فاستخرت الله تعالى ونظمت في جوابها قصيدة على وزن
أبياتها وقافيتها - بعنوان (أتى سائلاً) في (٣٠٩) بيت - وضمَّنتها بعض ما يُثبِت
إمامة الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) ووجود قائمهم وغيبته من العقل والنقل
القطعيَّين، والأحاديث المجمع عليها عند علماء الفريقين، وأوضحنا عدم دلالة ما ذكره
ناظم القصيدة على امتناع غيبته، وأشرنا إلى أسماء بعض مَنْ وافقنا على ذلك من علماء
أهل السُّنَّة وأسماء كُتُبهم...، ثمّ علَّقنا على القصيدتين شروحاً لطيفة
ضمَّنَّاها فوائد كثيرة، وأوردنا ذلك كلَّه في هذا المجموع المسمَّى بـ(البرهان على
وجود صاحب الزمان).. ونقتطف من القصيدة الجوابيَّة الأبيات التالية:
التي مطلعها:
نأوا وبقلبي من فراقهم جمرُ * * * وفي الخدِّ من دمعي لبينهم غمرُ
ومن مقدَّمتها:
فمن قائل في
القشر لُبُّ وجوده * * * ومن قائل قد نضَّ عن لُبِّه القشرُ
وما منهم إلَّا مقرٌّ بأنَّه * * * غداً يمتلي من عدله البرُّ والبحرُ
فقمت مجيباً قائلاً قول منصف * * * وقد بان لي من أمره الحلو والمرُّ
سقطت على ذي خبرة وتجارب * * * وليس أخو جهل كمن عنده خبرُ
إليك عقوداً راح ينظمها الفكر * * * هي الدُّرُّ لا ما قلَّد الجيدُ والنحرُ
وسحر بيان من لساني قد محا * * * بمتَّضح البرهان ما موَّه السحرُ
أبنتُ به نهج الصواب لمن وعى * * * ومنه لذي عينين قد وضح الفجرُ
وجاءت خاتمتها:
وسمعاً إمام
العصر منِّي قصيدة * * * كغانيةٍ حسناء أبرزها الخدرُ
لحضرتك العلياء عفواً زففتها * * * وليس لها غير القبول لها مهرُ
بمدحكم ازدانت وحُلِّي جيدها * * * ومن ذكركم قد راح يحسدها العطرُ
وقد كانت قضيَّة
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) منشأً للتساؤلات والإشكالات، ومبعثاً للنقاش
والجدال، فانبرى علماء الشيعة في الدفاع بحماس عن هذه العقيدة الحقَّة، والتصدِّي
لمن يحاول طمس نور الحقيقة، وهذا الكتاب أو هذه القصيدة الولائيَّة خير شاهد للدفاع
عن الإمامة الخاتمة.
المشهد الأدبي في هذه المرحلة:
الأُدباء والشعراء الشيعة منتشرون طوال التاريخ الإسلامي، لم يسع المجال للتطرُّق
لبعض قصائدهم الخالدة أو نشير إلى أسمائهم وذلك مراعاةً لمنهج الكتاب ولاختصار، وقد
ذكر السيِّد محسن الأمين أسماء (١٧٤) شاعر مشهور من الشيعة عاشوا في هذه الحقبة
التاريخيَّة، في موسوعته الرائعة (أعيان الشيعة)(١٥٩).
بعض القصائد المهدويَّة في هذه الفترة لقيت حظًّا وافراً من الشهرة والانتشار، مثل:
* قصيدة (الله يا حامي الشريعَهْ) للسِّيد حيدر بن سليمان بن داود الحسيني الحلِّي
(١٢٤٦ - ١٣٠٤هـ)، وقد اشتهر الشاعر بقصائد الحوليَّات، وهذه القصيدة من أشهر
قصائده، وهي في (٧٢) بيت، وقصَّتها معروفة، وهي تتعرَّض للواقع السياسي المؤلم
للشيعة وأوضاعهم وظروفهم الحرجة، وتتطرَّق
-----------------
(١٥٩) أعيان الشيعة (ج ١/ ص ١٧٧ - ١٨١).
بوضوح لظاهرة الانتظار والاستنهاض في الشعر المهدوي وراثياً جدَّه الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذه مقتطفات من القصيدة الخالدة(١٦٠):
مَاتَ التصبُّرُ
بانتظارك * * * أيُّهَا المُحيِي الشَّريعَهْ
فَانهَض فَما أبقى التحمُّل * * * غيرَ أحشاءٍ جَزُوعَهْ
قد مَزَّقت ثوبَ الأسى * * * وشَكَت لواصِلِها القطيعَهْ
فالسيف إنَّ بِهِ شفاء * * * قلوبِ شِيعَتِكَ الوَجيعَهْ
فَسواه منهم ليس يُنعش * * * هذه النفس الصريعَهْ
طالَت حِبال عواتق * * * فمتى تعود به قطيعَهْ
كم ذا القعود ودينُكم * * * هُدِمَت قواعدُهُ الرفيعَهْ
تنعى الفروعُ أُصولَه * * * وأُصولُهُ تنعى فروعَهْ
فيه تَحَكَّم مَنْ أباح * * * اليوم حرمتَهُ المنيعَهْ
فاشحذ شبا عضب له * * * الأرواحُ مذعنةٌ مطيعَهْ
إنْ يَدعُهَا خَفَّت لدعوَته * * * وإنْ ثَقُلَت سريعَهْ
واطلب به بدم القتيل * * * بكربلا في خير شِيعَهْ
ماذا يُهيجُك إنْ صَبرتَ * * * لِوقعَةِ الطفِّ الفظيعَهْ
أتُرى تجيءُ فجيعة * * * بأَمَضِّ من تلك الفيجعَهْ
حيث الحسين على الثرى * * * خيل العدى طَحَنَت ضُلوعَهْ
قَتَلَتهُ آلُ أُميَّة * * * ظامٍ إلى جنبِ الشريعَهْ
ورضيعُه بدم الوريد * * * مخضَّبٌ فاطُب رضيعَهْ
-----------------
(١٦٠) ديوان السيِّد حيدر الحلِّي (ج ١/ ص ٣٧).
يا غيرةَ الله
اهتفي * * * بحمِيَّة الدِّين المنيعَهْ
وظُبى انتقامك جرِّدِي * * * لِطُلى ذوي البغي التليعَهْ
وَدَعي جنودَ الله تملأُ * * * هذه الأرض الوسيعَهْ
فَمُغَيَّبٌ كالبدر ترتقب * * * الورى شوقاً طلوعَهْ
* قصيدة (في الإمام المهدي ورثاء الحسين) للسيِّد رضا بن محمّد بن هاشم المشهور بالهندي (١٢٩٠-١٣٦٢هـ)، وهي قصيدة في الإمام الحسين (عليه السلام) مطلعها:
أيَّان تنجز لي يا دهرُ ما تعدُ * * * قد عَشَّرت فيك آمالي ولا تلدُ
وفيها يذكر الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) فيقول:
يا صاحبَ العصر
أدركنا فليس لنا * * * وردٌ هني ولا عيشٌ لنا رغدُ
طالت علينا ليالي الانتظار فهل * * * يا ابن الزكيِّ لليل الانتظار غدُ
فاكحل بطلعتك الغرَّا لنا مُقلاً * * * يكاد يأتي على إنسانها الرمدُ
ها نحن مرمى لنبل النائبات وهل * * * يغني اصطبارٌ وهي من درعه الجلدُ
وقصيدته هذه يلاحظ فيها روعة الصورة وقوَّة العبارة وجودة السبك، وأنَّ شعره مفهوم لعوامِّ الناس، إضافةً إلى أنَّها تُحرِّك المشاعر وتدغدغ العواطف، وفيها يستنهض الشاعر الإمام المهدي بأبيات يقول فيها:
فانهض فدتك بقايا
أنفس ظفرت * * * بها النوائب لمَّا خانها الجَلَدُ
هبْ أنَّ جندك معدود فجدُّك قد * * * لاقى بسبعينَ جيشاً ما له عددُ
غداة جاهدَ من أعدائه نفراً * * * جدُّوا بإطفاءِ نورِ الله واجتهدوا(١٦١)
* * *
-----------------
(١٦١) ديوان السيِّد رضا الهندي (ص ٤٤ - ٤٦).
مرحلة العصر الحديث (١٣٩٠هـ -
اليوم الموعود):
يمكن تحديد طور التجديد والازدهار في الثقافة والمعارف المهدويَّة في
التاريخ المعاصر بالمخاضات الفكريَّة والتحوُّلات الثقافيَّة التي مرَّت على العالم
الإسلامي بشكلٍ عامٍّ والشيعة بشكلٍ خاصٍّ قبل قيام الثورة الإسلاميَّة في إيران
بعقد من الزمن، حيث بدأت ملامح هذا الطور بالظهور مع النشاط الفكري الذي قام به بعض
علماء الشيعة في هذه الفترة على أكثر من صعيد من الجدل المحموم حول شكل الحكومة
الإسلاميَّة التي يجب أنْ تحتضنه الدولة، وتجلَّت ثمرته بقفزة نوعيَّة في مجال
القضيَّة المهدويَّة بشقَّيه الفكري والعملي.
الوضع السياسي في هذه المرحلة:
لقد ألقى مشهد العالم بعد الحرب العالميَّة الأُولى والثانية بظلاله على العالم
الإسلامي، فرافق ذلك تقلُّبات سياسيَّة كبرى أدَّت إلى انهيار الخلافة الإسلاميَّة
المتمثِّلة في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، فانعكست تداعياته وآثاره على شعوب
المنطقة، وعاش العراق وإيران نفس الوضع وشهد نفس التأثير الذي اجتاحه من أقصاه إلى
أقصاه، وهذا ما نلمسه في مجمل السياق السياسي والفكري الذي عاشه شعوب المنطقة
تباعاً في هذه المرحلة، فمن الواقع المرِّ لانتداب الأجنبي وسقوط ثورة العشرين في
العراق وإقامة الكيان الصهيوني، ممَّا ولَّد بداية حراك سياسي وفكري نشط، لم يكن
منقطع الصلة عن تاريخ المنطقة وتجاربه السابقة من حركة التنباك والمشروطة وتأميم
النفط في إيران وثورة العشرين في العراق والمخاضات والتحوُّلات الجديدة في العالم
الإسلامي.
انتهت
الإمبراطوريَّة العثمانيَّة بصفتها السياسيَّة بتاريخ (١٢/ ربيع الأوَّل/ ١٣٤١هـ)،
وأُزيلت بوصفها دولة بعد توقيعها على معاهدة لوزان في (١١/ ذي الحجَّة/ ١٣٤١هـ)،
وزالت نهائيًّا في (١٩/ ربيع الأوَّل/ ١٣٤٢هـ) عند قيام الجمهوريَّة التركيَّة..
سيطر الحلفاء على أراضي الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، وعانى الوطن العربي من
الاستعمار الأجنبي على معظم أراضيه بدءاً من القرن التاسع عشر الميلادي ومروراً
بالقرن العشرين، وتمَّت توقيع اتِّفاقيَّة سايكس بيكو السرّيَّة عام
(١٩١٦م/١٣٣٤هـ)، ووعد بلفور المشؤوم عام (١٩١٧م/١٣٣٦هـ)، وأصبحت كلٌّ من سورية
ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وكلٌّ من العراق والأُردنِّ وفلسطين تحت الانتداب
البريطاني، وأُنشئ الكيان الصهيوني.
العراق: كان العراق مركزاً للدولة الإسلاميَّة في خلافة الإمام عليِّ بن أبي طالب
(عليه السلام)، ثمّ كان حاضرة العالم الإسلامي خلال العهد العبَّاسي، وبعد سلسلة من
التحوُّلات السياسيَّة أصبح العراق تحت حكم البويهيِّين، ثمّ السلاجقة، ثمّ سقط بيد
المغول عام (٦٥٦هـ)، ثمّ أصبح العراق ضمن سيطرة الدولة العثمانيَّة في القرن العاشر
الهجري، ولكن بشكل متقطِّع كان تحت سيطرة الدولة الصفويَّة أحياناً وأوقات أُخرى
تحت مظلَّة الدولة العثمانيَّة.
بعد دخول العثمانيِّين الحرب العالميَّة الأُولى في حلف مع ألمانيا، قامت بريطانيا
باحتلال العراق عام (١٣٣٧هـ) وأصبحت تحت إدارتها المباشرة، ولكن على إثر ثورة
العشرين في العراق وفتوى المرجع الدِّيني الشيخ محمّد تقي الشيرازي(١٦٢) (ت ١٣٣٨هـ)
ضدَّ الاحتلال البريطاني عُقِدَ مؤتمر القاهرة عام
-----------------
(١٦٢) نصُّ الفتوى التي أصدرها آية الله الميرزا محمّد تقي الشيرازي: (بسم الله الرحمن الرحيم، مطالبة الحقوق واجبة على العراقيِّين، ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسُّل بالقوَّة الدفاعيَّة، إذا امتنع الإنجليز عن قبول مطالبهم).
(١٩٢٠م/١٣٣٨هـ)
بحضور ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطاني آنذاك للنظر في الوضع في العراق،
والذي أعلن عن تغيير الحكومة البريطانيَّة سياستها بالتحوُّل من استعمار مباشر إلى
حكومة إدارة وطنيَّة تحت الانتداب، وأقرَّت إنشاء دولة ملكيَّة في (١٣٤٠هـ) وعيَّنت
فيصل بن الحسين مَلِكاً، ثمّ نال العراق استقلاله رسميًّا عام (١٩٣٢م/١٣٥١هـ)، وعقب
حركة (١٤) تمُّوز ١٩٥٨م/١٣٧٨هـ) انتهى العهد المَلِكي وقام نظام جمهوري، وفي عام
(١٩٦٣م/١٣٨٢هـ) قام حزب البعث بانقلاب عسكري وأُعدم الرئيس عبد الكريم قاسم، وفي
زمن حكم البعث وقعت الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة واستمرَّت لمدَّة ثمان سنوات
(١٤٠٠ - ١٤٠٨هـ)، وكذلك حرب الخليج الثانية باحتلال الكويت (١٤١٠ - ١٤١١هـ)، وفي
أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة للعراق عام (٢٠٠٣م/١٤٢٤هـ)
تدهور الوضع السياسي والأمني، وحدث تفجير ضريح الإمامين عليٍّ الهادي والحسن
العسكري عند فجر يوم الأربعاء (٢٤/محرَّم/١٤٢٧هـ) وصدور احتجاجات من كافَّة أنحاء
العالم الإسلامي، وفي عام (٢٠١١م/١٤٣٢هـ) غادرت القوَّات الأمريكيَّة البلاد.
إيران: شهدت حكم العائلة البهلويَّة (١٣٤٣ - ١٣٩٩هـ) استلهام الطابع العلماني لنظام
الحكم، وإعادة إحياء القوميَّة الفارسيَّة، وحملات تغريب ثقافيَّة واجتماعيَّة،
ومنابذة المظاهر الدِّينيَّة الإسلاميَّة إلى حدود القمع، وبدأ زمن جديد في إيران
الحديثة، وكان أبرز مظاهره التدخُّل الأجنبي السافر والعلني في مجمل الشؤون
الداخليَّة والخارجيَّة لإيران.. على ضوء ذلك بدأت تتشكَّل في المسرح الإيراني
تيَّارات سياسيَّة عديدة تطالب بالتغيير وضرورة إحداث تبدُّل في الحياة
السياسيَّة.. كان للشخصيَّات ذات التوجُّه الإسلامي دور بارز ووجود كبير في تحريك
الجماهير، فبدأت المظاهرات ضدَّ الشاه في (أُكتوبر ١٩٧٧م/
شوَّال ١٣٩٧هـ)،
وتطوَّرت إلى حملة المقاومة المدنيَّة واشتدَّت في (يناير ١٩٧٨م/ صفر ١٣٩٨هـ)
الإضرابات والمظاهرات والتي شلَّت البلاد بين (أُغسطس وديسمبر ١٩٧٨م/ رمضان ١٣٩٨
إلى محرَّم ١٣٩٩هـ).. فانتفض الشعب في ثورة غاضبة شملت جميع مناطق البلاد، فعلى إثر
ذلك غادر محمّد رضا بهلوي البلاد يوم (١٦ يناير ١٩٧٩م/ ١٧ صفر ١٣٩٩هـ) بذريعة طلب
العلاج، بعد أنْ عيَّن شابور بختيار (أحد قادة الجبهة الوطنيَّة المعارضة) رئيساً
جديدًا للوزراء، وعاد آية الله الخميني إلى طهران في (١ فبراير ١٩٧٩م/ ٤ ربيع
الأوَّل ١٣٩٩هـ) بعد (١٤) عاماً في النفي متلقّياً ترحيبات عدَّة ملايين من
الإيرانيِّين، فتحوَّلت إيران من نظام ملكي تحت حكم الشاه واستبدلته بالنظام
الجمهوري المؤسَّس على نظريَّة (ولاية الفقيه) في ظلِّ قائد الثورة آية الله
الخميني وبدعم عديد من المنظَّمات السياسيَّة والحركات الطُّلَّابيَّة والجماهير
الإيرانيَّة.
الثورة الإسلاميَّة في إيران كانت أوَّل ثورة يقودها علماء الدِّين وتصل إلى
الانتصار في التاريخ الإسلامي.. أمَّا عن صدى الثورة الإيرانيَّة على الصعيد
الإقليمي فقد كان بمثابة إعلان على قدرة التيَّار الدِّيني معتمداً على القوى
الشعبيَّة لا العسكريَّة على الوصول إلى السلطة السياسيَّة حتَّى في البلدان التي
تنعم بالمساندة الأمريكيَّة، وهو أمر ساعد بالتالي على تحفيز حركات التحرُّر
المستضعفة والدِّينيَّة منها بشكلٍ خاصٍّ ونهضة الصحوة الإسلاميَّة في العالم
الإسلامي في العقود الأخيرة.
الوضع الفكري في هذه المرحلة:
على ضوء التحوُّلات والأوضاع السياسيَّة الجديدة في العالم الإسلامي بدأت تتشكَّل
في المشهد السياسي حركات وتيَّارات التغيير ذات الأيديولوجيَّات والمشارب الفكريَّة
المختلفة، من بينها حركات التغيير الشيعيَّة في إيران والعراق
ولبنان
والمتجذِّرة في بنية المؤسَّسة الدِّينيَّة، ممَّا شكَّل ملامح مرحلة جديدة من
النهوض الفكري والسياسي، وبعض التيَّارات السياسيَّة تعتمد صيغة الإسلام السياسي
كأيديولوجيَّة إصلاحيَّة، تنطلق من مبادئ الإسلام ومفاهيمه.. هذا الحراك السياسي
والفكري والذي برزت ملامحه بشكل واضح في هذه المرحلة من عمر الأُمَّة الإسلاميَّة،
كوَّن الركيزة التي تمخَّضت عنها كتابات مهدويَّة مميَّزة وبارزة، ومن جانب آخر حدث
تطوُّر عملي في مفهوم الغيبة والانتظار فانبثقت الثورة الإيرانيَّة عام (١٣٩٩هـ)..
ويُلاحَظ في هذه الحقبة الزمنيَّة عدَّة نقاط:
أوَّلاً: المخاضات الفكريَّة:
بدأت هذه المرحلة قريب نهاية القرن الرابع عشر الهجري، نتيجة النشاط الفكري (ذات
الاتِّجاه العقلي والتحليلي) والذي انطلق في الكتابات المهدويَّة على يد بعض
مفكِّري الشيعة، فقد ساعدت مؤلَّفات وكتابات الروَّاد (محمّد صادق الصدر ومحمّد
باقر الصدر) في تعزيز المدرسة العقليَّة والتحليليَّة على مسرح الثقافة المهدويَّة،
حيث تجلَّت جهودهما ببلوغ نهضة فكريَّة في مجال المعارف المهدويَّة، وانفتاح أبواب
جديدة في البحث المهدوي (عقلاً وتحليلاً) وما تحمل هذه الكتابات من دلالات ومعطيات
غير مسبوقة في التراث المهدوي الشيعي من بعد الغيبة وحتَّى تاريخ هذه المؤلَّفات،
مضافاً لذلك تقلَّص جموح الاتِّجاه (الروائي).. يلزم قبل كلِّ شيء التأكيد على
أنَّه لم يكن لدى الشيعة قبل هذا الوقت نظرة كلّيَّة واسعة وشاملة للقضيَّة
المهدويَّة كما نظَّر إليها السيِّد محمّد باقر الصدر وحلَّل جزئيَّاتها السيِّد
محمّد صادق الصدر، فأصبح الشيعة تتمتَّع بتحليل كلِّي وتحليل جزئي في القضيَّة
المهدويَّة، ومن هذه المصنَّفات الجديدة والرائعة انطلقت مرحلة التجديد الفعليَّة
في الثقافة والمعارف المهدويَّة، فتبع ذلك لاحقاً كتابات مهدويَّة كثيرة جدًّا لم
يسبق في حجمها وكثافتها مثيل في تاريخ التراث
المهدوي الشيعي،
سواء من ناحية الكمّيَّة أو الكيفيَّة أو التنوُّع الفكري، ويمكن تقسيم المصنَّفات
المهدويَّة المعاصرة إلى إحدى المناهج التالية:
* المنهج العقلي، مثل الكُتُب التالية: موسوعة الإمام المهدي للسيِّد محمّد صادق
الصدر، بحث حول المهدي للسيِّد محمّد باقر الصدر، نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ
للشيخ مرتضى المطهَّري، مقدَّمة كتاب كلمة الإمام المهدي للسيِّد حسن الشيرازي.
* المنهج التحليلي، مثل الكُتُب التالية: موسوعة الإمام المهدي للسيِّد محمّد صادق
الصدر، عصر الظهور للشيخ عليٍّ الكوراني، سيكولوجيَّة الانتظار للأُستاذ يوسف مدن
(منهج التحليل النفسي والاجتماعي في عقيدة الانتظار)(١٦٣)، العدُّ التنازلي في
علائم ظهور المهدي للشيخ عبَّاس تبريزيان، علامات الظهور بحث في فقه الدلالة
والسلوك للشيخ جلال الدِّين الصغير.
* المنهج الروائي التقليدي وبتبويب جديد، مثل الكُتُب التالية: منتخب الأثر في
الإمام الثاني عشر للشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني (ثلاثة مجلَّدات)، يوم الخلاص
في ظلِّ القائم المهدي للأُستاذ كامل سليمان، معجم أحاديث الإمام المهدي للهيأة
العلميَّة في مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة (ثمانية مجلَّدات).
* كتابات مهدويَّة شاملة ذات أُطروحات مميَّزة، مثل الكُتُب التالية: حوارات حول
المنقذ للشيخ إبراهيم الأميني، الإمام المهدي من المهد إلى الظهور للسيِّد محمّد
كاظم القزويني، حياة الإمام المنتظَر المصلح الأعظم للشيخ باقر
-----------------
(١٦٣) كتاب سيكولوجيَّة الانتظار: يتَّبع منهجاً جديداً هو منهج التحليل النفسي - الاجتماعي الذي يتناول عقيدة الانتظار كظاهرة سيكولوجيَّة واجتماعيَّة ودينيَّة مؤثِّرة في التكوين العقلي والنفسي للمؤمنين بالإمام المهدي، وفي وعيهم واتِّجاهاتهم وسلوكهم.. طُبِعَ الكتاب عام (١٤٢٢هـ)، دار الهادي، بيروت.
شريف القرشي،
دولة الإمام المهدي للسيِّد مرتضى المجتهدي السيستاني، فقه علامات الظهور للشيخ
محمّد السند.
ثانياً: الادِّعاءات الكاذبة:
ظهرت في العصر الحديث دعوات وشُبُهات كثيرة حول المهدويَّة، وذلك بادِّعاء بعض
الأفراد أنَّهم الإمام المهدي بعينه، ومن جانب آخر أفراد يدَّعون الصلة بالإمام
المهدي ويتجاوزون ذلك إلى التبليغ عنه، بل ادَّعى البعض أنَّه نبيٌّ مرسَل من الله
جاء ليُخلِّص البشريَّة من الظلم والجور.. كلُّ تلك الادِّعاءات الكاذبة (الظاهرة)
ليست جديدة في التاريخ الإسلامي، بل هي قديمة ومتكرِّرة ومنذ عصور الإسلام الأُولى
وحتَّى اليوم، ولكن الظروف في السنوات الأخيرة أفرزت مناخاً كوَّن أحوالاً نفسيَّة
وفكريَّة ساعدت على انطلاق هذه الدعاوى من جديد وإنِ اختلفت وجوه المدَّعين.. ولذا
نلحظ أنَّ معدَّل ونسبة عدد المدَّعين (للمهدويَّة والسفارة) في العصر الحديث يظلُّ
مرتفعاً جدًّا ومتضخِّماً مقارنةً بالحالات المتشابهة في التاريخ، وقد بدأت حالات
الادِّعاءات المزوَّرة تزداد، وقد يكون الأمر مطمئناً لو أنَّ معظم الأدعياء في
الأعوام الأخيرة انتهى بهم الأمر للعلاج في مستشفيات الأمراض العقليَّة والنفسيَّة،
لكن المثير أنَّ بعضهم انتهى به الحال لقضاء فترة عقوبة بالسجن، بمعنى أنَّ القضاء
تأكَّد من انتفاء شبهة الخلل العقلي أو أيَّ خلل في حالتهم النفسيَّة.. ممَّا
يدفعنا للتساؤل: مَنْ يقف خلف هذه الادِّعاءات ويُقدِّم الدعم والمساندة لهم؟
أ - ادِّعاء المهدويَّة:
بين فترة وأُخرى يظهر في أوساط المجتمع الإسلامي (من أهل العامَّة) أشخاص يزعمون
أنَّهم المهدي المنتظَر، وأنَّ الله بعثهم وأرسلهم وألهمهم بأنْ ينقذوا البشريَّة
من الفساد والظلم والجور، فيُثيرون ضجَّة مفتعلة ثمّ ما تلبث
دعواتهم أنْ تموت
في عقرها وتنتهي بفشل ذريع.. نذكر كمثال لبعض أسماء مَنْ سوَّلت لهم أنفسهم أنْ
يدَّعوا المهدويَّة كذباً وزوراً في العصر الحديث(١٦٤).
* مدَّعي المهدويَّة في مكَّة المكرَّمة عام (١٤٠٠هـ): سيطر جهيمان العتيبي على
الحرم المكِّي مع بعض المؤيِّدين له بالأسلحة وحاصروا المصلِّين، وادَّعى صهره
محمّد عبد الله القحطاني أنَّه المهدي المنتظَر، هاجمت القوَّات السعوديَّة بمساندة
فِرَق من الكوماندوز العصابة المحتلَّة للحرم، فسقط المهدي المزعوم قتيلاً في
الهجوم، وقُبِضَ على زعيمهم جهيمان وأُعدِمَ لاحقاً مع أفراد عصابته.
* مدَّعي المهدويَّة في الكويت عام (١٤١١هـ): بعد أنْ عاد الكويتي حسين موسى
اللحيدي من سفرة سياحيَّة طويلة في ألمانيا (٥ سنوات) بدأت عليه مظاهر التديُّن،
فادَّعى في بداية أمره بأنَّه جدُّ المهدي، ورأى أنَّ المدَّة ستطول تطوَّرت
أُطروحته وادَّعى المهدويَّة، أخذ بتوسيع نشاطه في منطقة القصيم وما لبث أنْ سُجِنَ
بالسعوديَّة، وبعد خروجه رجع للكويت، فاجتهد في توسيع حركته وتوجَّه للشبكة
الإلكترونيَّة (النت) حتَّى إنَّه عُرِفَ بمهدي النت، وألَّف أكثر من (١٩) كتاباً
يبثُّ فيها خزعبلاته وسمومه.
لا شكَّ أنَّ أعداء الإسلام يقفون وراء بعض مدَّعي المهدويَّة، وللأسف تكمن الخطورة
في انتشار ظاهرة ادِّعاء المهدويَّة المزيَّفة وتكرار فشلها لمرَّات عديدة، بأنْ
يُؤدِّي إلى اقتران هذا الفشل بتكوين كره نفسي وعقلي عند المسلمين لفكرة المهدويَّة
الأصيلة (التي ستخرج آخر الزمان وتنشر العدل والقسط)، وتدفع كذلك المجتمع الإسلامي
لتكوين مواقف مضادَّة لها وتنفير الناس من حولها، وهذا ما يطمح لتحقيقه الأعداء.
-----------------
(١٦٤) للاطِّلاع على مزيد من الادِّعاءات الكاذبة في العصر الحديث، ارجع إلى كتابنا: النور الغائب (ص ١٤٥/ الباب الثاني بعنوان: ادِّعاءات كاذبة حديثاً)، وقد ذكرنا فيه قَصَص عديدة من الادِّعاءات حديثاً.
ب - ادِّعاء
السفارة:
في الآونة الأخيرة ظهرت حالات من بعض أفراد الشيعة مَنْ يدَّعي الصلة بالإمام
المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه قد قام بتكليفهم كسفراء له، وتلك هي دعوة
البابيَّة نفسها، بمعنى أنَّ مَنْ يريد أمراً ما من الإمام (عجَّل الله فرجه) فلا
بدَّ أنْ يعود إليهم، وهم بدورهم يُؤدُّون ذلك إلى المهدي.. إنَّ ادِّعاء النيابة
الخاصَّة (السفارة) في زمن الغيبة الكبرى من أكبر الفتن، علماً بأنَّ هذا الزعم
الكاذب بدأ منذ عصر الغيبة الصغرى، وبالتحديد في عهد السفير الثاني (محمّد بن عثمان
العمري) واستمرَّ حتَّى يومنا هذا.. سنشير إلى بعض الدعاوي الجديدة التي ظهرت في
العصر الحديث ونذكر أسماءهم(١٦٥):
* جماعة السفارة في البحرين: ظهرت جماعة أُطلِقَ عليها (باب المولى) حيث ادَّعى عبد
الوهَّاب حسن أحمد البصري (بحريني) في فترة بقائه في السجن (بالمنامة) الاتِّصال
بسفير الإمام المهدي في المنام، وأنَّه يتلقَّى الأوامر والنواهي عنه، ثمّ ادَّعى
رؤيته للإمام (عجَّل الله فرجه) وأنَّه مسدَّد من قِبَله، فتبعه وأيَّده بعض
السجناء، وعند خروجهم من السجن في نهاية الثمانينات نشطوا في تكثير جماعتهم،
وأنشأوا لهم جمعيَّة باسم (جمعيَّة التجديد الثقافيَّة الاجتماعيَّة).. تصدَّى
فضلاء البحرين لهذه الحركة المشؤومة، وناقشوا مؤسِّسها حيث أظهر العجز وأذعن ببطلان
ما زعمه، إلَّا أنَّ الدعوى استعادت أنفاسها من جديد، فأصدر بعض المراجع فتاوى
بانحرافهم، وأصدر علماء البحرين بيان جاء فيه: (مَنْ أطلق على نفسه (نائب باب
المولى) إنَّما هو أمر باطل، وأنَّ الدعوى المذكورة بدعة صريحة منافية للمذهب
الجعفري ومقرَّراته الثابتة بالنصِّ وإجماع الطائفة كاملاً)(١٦٦).
-----------------
(١٦٥) للاطِّلاع
على تفاصيل أكثر من ادِّعاء السفارة الكاذبة في العصر الحديث، ارجع إلى كتابنا:
النور الغائب (ص ١٥١ - ١٩١).
(١٦٦) النور الغائب (ص ١٧٢).
* جماعة السفارة
في العراق: توجد جماعة أُطلِقَ عليها (أنصار الإمام المهدي) حيث ادَّعى أحمد
إسماعيل صالح من عشيرة (البوسويلم) بالعراق، الاتِّصال بالإمام المهدي وأنَّه
يتلقَّى الأوامر والتعليمات منه مباشرةً، بل أَمَرَه بالتبليغ عنه، وأنَّه مرسَل من
قِبَله ووصيُّه واليماني الموعود، ولذا أطلق على نفسه (أحمد الحسن اليماني)،
وابتدأت مزاعمه في النجف الأشرف عام (١٤٢٣هـ).. هناك الكثير من الأدلَّة حول ارتباط
أحمد الحسن وحركته المشبوهة بالأجهزة الأمنيَّة للنظام البعثي السابق، وحاليًّا
ارتباط مخابراتي أجنبي بالخارج، يعتمدون في ترويج أفكارهم على الرؤى والأحلام، كذلك
يشترون النفوس بالأموال حيث إنَّ مخابرات إحدى الدول الخليجيَّة تدعمهم بالمال،
وزعيمهم أحمد الحسن مقيم في عاصمة تلك الدولة الخليجيَّة، وتُوفِّر لهم الدعم
والحماية.. ومن أوضح ارتباطهم بأعداء الإسلام أنَّهم يرفعون نجمة داود كشعار
للجماعة.
لا شكَّ أنَّ أعداء الإسلام والمذهب يقفون وراء بعض مدَّعي السفارة، وللأسف تكمن
الخطورة في ذلك أنَّ في ترويجهم لهذه الفكرة استفادة مباشرة أو عن طريق غير مباشر
لهم، حيث إنَّه يجب الاستغناء عن المرجعيَّة الدِّينيَّة الشيعيَّة، لأنَّ الفقهاء
يعيشون مرحلة الحكم الظاهري (حسب قواعد الاجتهاد الفقهي)، وهذه المرحلة قد انتهت
بظهور السفير (الواسطة) الذي يرجع للإمام (عجَّل الله فرجه) مباشرةً، وبالتالي ينقل
الأحكام والمسائل الحقَّ والصدق والمطابقة للواقع وحكم الله تعالى، وهذا ما يطمح له
الأعداء بضرب المرجعيَّة.
مصنَّفات مهدويَّة رائدة في بداية
المرحلة:
لقد دوَّن العلماء في بداية هذه المرحلة آثار مهدويَّة مميَّزة ورائدة، أدرجوا فيها
معلومات وأفكاراً في غاية الأهمّيَّة، لا يمكن الظفر بها في الكُتُب المهدويَّة
السابقة، وكنماذج يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى الكُتُب التالية:
* كتاب (موسوعة
الإمام المهدي) للسيِّد محمّد صادق الصدر (١٣٦٢ - ١٤١٩هـ):
الموسوعة من المصنَّفات الضخمة في هذا المجال، تحتوي على ما يقارب (٢٥٠٠) صفحة، وهي
ذات طابع تاريخي عقائدي، وتأتي ضمن سياق الكتابات الفكريَّة التحليليَّة القائمة
على الدليل، وتشمل على أربعة أجزاء، وهي:
- كتاب: تاريخ الغيبة الصغرى، وانتهى من تأليفه في (٨) ربيع الثاني عام (١٣٩٠هـ).
- كتاب: تاريخ الغيبة الكبرى، وانتهى من تأليفه في (٨) رمضان عام (١٣٩٠هـ).
- كتاب: تاريخ ما بعد الظهور، وانتهى من تأليفه في (١١) رمضان عام (١٣٩٢هـ).
- كتاب: اليوم الموعود بين الفكر المادِّي والدِّيني، وانتهى من تأليفه في (١٢)
محرَّم عام (١٣٩٦هـ).
هذا المصنَّف الرائع والموسوعة القيِّمة ليست كتاباً تاريخياً يتناول تاريخ
القضيَّة المهدويَّة، بل إنَّها كتاب فكري تحتوي على الكثير ممَّا يُعَدُّ أصيلاً
مبتكراً في بابه، استخدم المؤلِّف فيها أُسلوب تعدُّد الأُطروحات بكثرة، كأُسلوب
توضيحي يحاور محدودي الثقافة والرؤية ويمنحهم أُفُقاً أوسع ورؤية أكثر شموليَّة
للأحداث وبصورة تحليليَّة.
إنَّها تحاول إعطاء صيغة متكاملة وخالصة من الشوائب عن تاريخ الإمام المهدي (عجَّل
الله فرجه) من وجهة النظر الإماميَّة، ابتداءً بميلاده ومروراً بغيبته وانتهاءً
بظهوره ودولته.. يعالج المؤلِّف الفكرة من ناحية عقائديَّة ويُؤرِّخ لها ويدفع
الشُّبُهات عنها، وقد اتَّبع منهجاً تحليلياً لأهمّ الحوادث والاتِّجاهات التي كانت
سائدة في تلك
الحقبة التاريخيَّة (تاريخ الغيبة الصغرى وتاريخ الغيبة الكبرى) أو المستقبليَّة
(عندما تطرَّق لعلامات الظهور واليوم الموعود)، فالكتاب اتِّجاهه تاريخي كما يدلُّ
على ذلك عناوين أجزاءه، ولكنَّه تكفَّل بمحاولة تصفية ما قيل أو يقال في القضيَّة
المهدويَّة، ممَّا قد يكون مشوباً بالأساطير، ومحاولة الاقتصار على إثبات ما قام
عليه الدليل العقائدي والتاريخي والعقلي.
بذل السيِّد محمّد صادق الصدر جهوداً كبيرة في بحوثه عن الإمام المنتظَر، وأصدر
كتابه هذا الذي بدأ بتأليفه قبل عام (١٣٩٠هـ)، وهو العام الذي أنهى فيه الجزء
الأوَّل، ولم يكن عمره يتجاوز الثامنة والعشرين، وقد انتهى من إكمال الجزء الرابع
(اليوم الموعود) في عام (١٣٩٦هـ) وكان عمره آنذاك أربعة وثلاثين عاماً.
قال الشهيد محمّد باقر الصدر في تقديمه وتعريفه بهذا الكتاب: (وسأقتصر على هذا
الموجز من الأفكار تاركاً التوسُّع فيها وما يرتبط بها من تفاصيل إلى الكتاب
القيِّم الذي أمامنا، فإنَّنا بين يدي موسوعة جليلة في الإمام المهدي (عليه السلام)
وضعها أحد أولادنا وتلامذتنا الأعزاء، وهو العلَّامة البحَّاثة السيِّد محمّد
الصدر، وهي موسوعة لم يسبق لها نظير في تاريخ التصنيف الشيعي حول المهدي (عليه
السلام) في إحاطتها وشمولها لقضيَّة الإمام المنتظَر من كلِّ جوانبها، وفيها من سعة
الأُفُق وطول النفس العلمي واستيعاب الكثير من النكات واللفتات ما يُعبِّر عن
الجهود الجليلة التي بذلها المؤلِّف في إنجاز هذه الموسوعة الفريدة، وإنِّي لأحسُّ
بالسعادة وأنا أشعر بما تملأه هذه الموسوعة من فراغ وما تُعبِّر عنه من فضل ونباهة
وألمعيَّة)(١٦٧).
-----------------
(١٦٧) تاريخ الغيبة الصغرى (ج ١/ ص ٩٠ من مقدَّمة السيِّد محمّد باقر الصدر) كُتِبَ يوم (١٧/ جمادى الثانية/ ١٣٩٧هـ).
* كتاب (بحث حول
المهدي) للسيِّد محمّد باقر الصدر (١٣٥٣ - ١٤٠٠هـ):
هذا الأثر العلمي القيِّم وهذه الصياغة الفكريَّة الفذَّة دراسة حول قضيَّة الإمام
المهدي والتعريف بها ومناقشة الشُّبُهات المثارة حولها، يُعتبَر هذا البحث من أفضل
المصنَّفات المهدويَّة ذات المنهج العقلي في الوسط الشيعي، لما توفَّر فيه من أبحاث
مبتكرة وفتحه لآفاق جديدة أمام الباحثين المهدويِّين، وقد لا يُصدَّق أنَّ هذا
الكتاب وهو في أعلى القِمَم الفكرية في التراث المهدوي، جاء في بحث عقائدي صغير لا
يتجاوز حجمه (حدود ٨٠ صفحة)، وكُتِبَ في فترة زمنيَّة قصيرة جدًّا (بدأ كتابته في
١٣ جمادى الثانية سنة ١٣٩٧هـ، ووقع الفراغ منه عصر يوم السابع عشر من الشهر نفسه)،
أي استغرق في كتابة هذا البحث المميَّز والفريد من نوعه خمسة أيَّام فقط.
المفكِّر الإسلامي السيِّد محمّد باقر الصدر بحث هذا الموضوع بحثاً عقليًّا
وتنظيريًّا، ولم يورد فيه الآيات القرآنيَّة والروايات الشريفة الدالَّة على
الموضوع، ذلك لأنَّ البحث كان عبارة عن مقدَّمة لكتاب موسَّع هو (موسوعة الإمام
المهدي للسيِّد محمّد صادق الصدر)، غير أنَّه جاء بحثاً متكاملاً استوعب مرتكزات
الموضوع وأغنى جوانبه.
عالج الشهيد الصدر في هذا الكتاب موضوع المهدي المنتظَر معالجة جديدة، تختلف عن
الدراسات والبحوث الكثيرة التي تناولت هذا الموضوع على امتداد التاريخ الإسلامي،
وذلك للطرح العلمي والمنطقي الذي اعتمده (المنهج العقلي)، فلم ينطلق السيِّد محمّد
باقر الصدر في بحثه من بديهيَّات ومقدَّمات مُسلَّم بها عند الأطراف، ولم يعتمد
تتبُّع القضيَّة في كُتُب التفسير والرواية أو مناقشة ما ورد بشأنها من أسانيد،
وإنَّما سلك مسلكاً آخر فأحدث منهجاً جديداً
في الثقافة
المهدويَّة والتعامل معها، قائم على أساس التحوُّل من العقل إلى الواقع وذلك بإعطاء
الأولويَّة للواقع ومن غير مصادرة الأحكام العقليَّة، وهكذا نجد أنَّ الدافع
العقائدي قد لازم النهج الذي خطَّه بالتحصُّن بالواقع.. فبدأ بطرح الاستفهامات
والشُّبُهات المثارة حول القضيَّة، وعرض التساؤلات والإشكالات المنتزعة ممَّا قيل
ويقال حولها، ثمّ شرع في معالجتها بأُسلوبه الخاصِّ، بالمناقشة العميقة والدقيقة
معتمداً الدليل العقلي، ومستنداً إلى معطيات العلم والحضارة المعاصرة في إثبات
المهدويَّة وبلورة معالمها، كما قام بنقد وردِّ الشُّبُهات المثارة حول عقيدة
الإيمان بوجود المهدي المصلح، وأورد الأدلَّة العقليَّة والعلميَّة المثبتة لذلك،
فأبدع في وضع القضيَّة في محلِّها الطبيعي ضمن إطار العقيدة الإسلاميَّة التي تقوم
أساساً على العقلانيَّة والواقعيَّة والبرهان.
أفكار وأُطروحات السيِّد محمّد باقر الصدر في هذا البحث لم تكن تستند على تراكمات
معرفيَّة سابقة عليها، إنَّما هي اجتهادات وابتكارات لا تُحسَب إلَّا على مؤلِّفها،
وهذا من أكثر ما يُميِّز هذا العطاء الفكري الذي يُؤرِّخ لتحوُّل فكري في غاية
الأهمّيَّة، فعندما ننظر لسياق أو مسار تطوُّر المعارف المهدويَّة، نعتبر هذه
الدراسة من أبرز الانعطافات الفكريَّة في التراث المهدوي الشيعي في العصر الحديث.
* كتاب (نهضة المهدي في ضوء فلسفة التاريخ) للشيخ مرتضى المطهَّري (١٣٣٨ - ١٤٠٠هـ):
أحد العناوين المميَّزة للشيخ المطهَّري، وهو يُعَدُّ من الإضافات المهمَّة في مجال
فلسفة التاريخ، ففي الكتاب يقارن الشيخ بين طريقتين مختلفتين في تفسير تكامل
التاريخ: الطريقة الآليَّة (المادّيَّة الديالكتيكيَّة)، والطريقة الإنسانيَّة..
ولا يخفى سرُّ التركيز على المدرسة الماركسيَّة، وحصر المقارنة بين النظريَّة
اليساريَّة
والنظريَّة
الإسلاميَّة، فالظروف التاريخيَّة التي عاشها المجتمع الإيراني قبل الثورة وامتداد
الفكر اليساري وانتشاره في أوساط واسعة من المثقَّفين، دعا لهذا التأكيد على نقد
(النظرية الديالكتيكيَّة).. ولكن هذا السياق التاريخي أو الظرفي للدراسة لا يُنقِص
البتَّة من قيمة الأفكار التي أوردها الشيخ وتألُّقها.
لقد تطرَّق إلى الأساس الذي يقوم عليه كلُّ اتِّجاه، والنتائج التي تترتَّب عليه..
ويرى الشيخ أنَّ جوهر الاختلاف بين هذين الاتِّجاهين يعود أساساً إلى اختلاف
النظريَّتين في تفسير الإنسان وطبيعة المجتمع المثالي الذي تؤمن به كلٌّ من هاتين
الرؤيتين وسُبُل الانتظار البنَّاء التي تدعو إليها (النظريَّة المهدويَّة).
باختصار حاول المطهَّري أنْ يُعطي عبر هذه الدراسة رؤية ناضجة على مركزيَّة فكرة
المهدي ونهضته في نسيج التفسير الإسلامي (الإنساني) للتاريخ، وكيف تُمثِّل هذه
النظريَّة تجسيداً لأهداف الصالحين والمجاهدين على طريق الحقِّ(١٦٨).
* كتاب (كلمة الإمام المهدي) للسيِّد حسن مهدي الشيرازي (١٣٥٤ - ١٤٠٠هـ):
من الكُتُب القيِّمة والمهمَّة في موضوعه، وتنبع أهمّيَّته وتميُّزه من المكانة
الخاصَّة للمقدَّمة التي كتبها المؤلِّف في بداية الكتاب، حيث ناقش السيِّد
الشيرازي فيها ما ذهب إليه المشكِّكون في أصل وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
وظهوره وقد اعتراهم الشكُّ في قضيَّته.. فساق السيِّد في مقدَّمة كتابه ظواهر ترتبط
بخصوص الإمام المهدي، مثل ظاهرة اليأس والتشكيك، وذكر أمثلة لتلك الظواهر والأسئلة
والاستفسارات والشُّبُهات التي يطرحها عادةً المشكِّكون وبالخصوص في العصر الحديث،
فطرح إشكالات جديدة ترتبط بمعطيات العلوم الحديثة والمتأثِّرة بعامل الحضارة
المادّيَّة، مثل:
-----------------
(١٦٨) النظريَّة المهدويَّة في فلسفة التاريخ (ص ١٧)، بتصرُّف.
- ظاهرة التشكيك
في قدرته على السيطرة العالميَّة بعد ظهور الأسلحة الحديثة.
- ظاهرة التشكيك في إيجابيَّة فكرة المصلح المنتظَر والتي تُعبِّر عن معادلة الخير
والشرِّ.
وغيرها من ظواهر اليأس والتشكيك، وقد كان السيِّد إيجابيًّا في طرح هذه الظواهر
ومناقشتها، فقال: (نحاول أنْ نناقش هذه الظواهر على أساس سؤال يقول: هل هذه الظواهر
صحّيَّة أو غير صحّيَّة، فالظواهر إذا كانت صحّيَّة تُعبِّر عن شيء، وإذا كانت غير
صحّيَّة تعكس أمراض مجتمعها)(١٦٩)، تطرَّق السيِّد للظواهر بشكل تفصيلي وحاور
المشكِّكين بالمنطق والعقل وبمعطيات العلم الحديث، وكان ردُّه علميًّا ودينيًّا،
واستخدم أُسلوباً يعتمد على النواحي العقليَّة والعلميَّة، فجاء نقاشه علمياً
راقياً وبلغة عصريَّة، إضافةً لاستخدامه الشواهد التاريخيَّة والأدلَّة
الدِّينيَّة، ممَّا أسقط أقوال المشكِّكين وفنَّد آراءهم.. ممَّا جعل الكتاب (ونقصد
به المقدَّمة) بحثاً رائعاً ومميَّزاً، وقفزة نوعيَّة في مجال تحليل ظواهر اليأس
والتشكيك.
كتب السيِّد (١٢٠) صفحة كمقدَّمة لكتاب كلمة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)،
والذي أثبت فيه رسائل الإمام وأدعيته وأقواله واشتمل على الكثير ممَّا يُنسَب
للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).. وللأسف اقتصرت المقدَّمة على هذه الصفحات، ولكن
المؤلِّف لم ينتهِ بعد ممَّا أراد إثباته فيه، فهذه المقدَّمة تعاني من عدم إكمال
نتيجة رصاصات الغدر من حزب البعث العراقي عصر يوم الجمعة (١٦/ جمادى الثانية/
١٤٠٠هـ).
-----------------
(١٦٩) كلمة الإمام المهدي (ص ٤٢/ المقدَّمة).
التراث المهدوي المكتوب في هذه
المرحلة:
نشير بشكل مختصر لبعض مصنَّفات الشيعة في موضوع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في
العصر الحديث، حيث صُنِّفت المئات من الكُتُب بحثاً وتمحيصاً وتحقيقاً، وكشف الكثير
من الجوانب الغامضة عن تاريخ القضيَّة المهدويَّة، وأزاحت النقاب عن الخلفيَّات
والحقائق السياسيَّة في ذلك العصر، فتوسَّع التراث المهدوي في هذه المرحلة بشكل
كبير جدًّا، وتنوَّع فيها النشاط الفكري على أكثر من صعيد.. نشير إلى هذا التنوُّع،
ونذكر بعض عناوين المصنَّفات في هذا العصر:
أوَّلاً: كُتُب ومؤلَّفات
مهدويَّة كثيرة:
١ - كتاب (حياة أُولي النهى: الإمام المنتظَر أمل المعصومين الأطهار): للشيخ محمّد
رضا الحكيمي، الطبعة الأُولى، عام (١٤١٥هـ).
٢ - كتاب (المهدي المنتظَر في الفكر الإسلامي): للسيِّد ثامر هاشم العميدي، الطبعة
الأُولى، عام (١٤١٧هـ).
٣ - كتاب (الإمام المهدي المنتظَر وأدعياء البابيَّة والمهدويَّة بين النظريَّة
والواقع): للسيِّد عدنان البكَّاء، الطبعة الأُولى، عام (١٤١٩هـ).
٤ - كتاب (معجم الملاحم والفتن - أربعة مجلَّدات): للسيِّد محمود بن مهدي الموسوي
الده سرخي الأصفهاني، الطبعة الأُولى، عام (١٤٢٠هـ).
٥ - كتاب (أصالة المهدويَّة في الإسلام): للشيخ مهدي فقيه الإيماني، الطبعة
الأُولى، عام (١٤٢٠هـ).
٦ - كتاب (علامات المهدي المنتظَر في خُطَب الإمام عليٍّ ورسائله وأحاديثه): للشيخ
مهدي حمد الفتلاوي، الطبعة الأُولى، عام (١٤٢١هـ).
٧ - كتاب (الطور المهدوي): للأُستاذ عالم سبيط النيلي، الطبعة الأُولى، عام
(١٤٢٤هـ).
٨ - كتاب (الإمام
المنتظَر من ولادته إلى دولته): للسيِّد عليِّ بن محمّد الحسيني الصدر، الطبعة
الأُولى، عام (١٤٢٤هـ).
٩ - كتاب (استعدُّوا أنصار الإمام صاحب الزمان): للشيخ حسين كنجي، الطبعة الأُولى،
عام (١٤٢٥هـ).
١٠ - كتاب (ذلك يوم الخروج): للسيِّد حسين المدرِّسي، الطبعة الأُولى، عام
(١٤٢٦هـ).
١١ - كتاب (المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي): للشيخ عليٍّ الكوراني العاملي،
الطبعة الأُولى، عام (١٤٢٧هـ).
١٢ - كتاب (الأمل الموعود، حروف أدبيَّة وبحوث علميَّة في صاحب الزمان من أرض
القطيف - ثلاثة مجلَّدات): للشيخ لؤي محمّد شوقي آل سنبل، الطبعة الأُولى، عام
(١٤٣٠هـ).
١٣ - كتاب (الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة - عشرة مجلَّدات): للحاجِّ عبد القادر
الشيخ عليّ أبي المكارم، الطبعة الأُولى، عام (١٤٣١هـ).
١٤ - كتاب (النظرية المهدويَّة في فلسفة التاريخ): للشيخ الأسعد بن عليّ قيدارة،
الطبعة الأُولى، عام ١٤٣٢هـ).
١٥ - كتاب (الإمام المنتظَر، قراءة في الإشكاليَّات - خمسة مجلَّدات): للسيِّد عبد
الله الغريفي، الطبعة الأُولى، عام (١٤٣٣هـ).
١٦ - كتاب (الإمام المهدي سيرته، علاماته، ظهوره - أربعة مجلَّدات): للسيِّد مرتضى
فيَّاض الحسيني، توفَّى عام (١٤٣٥هـ).
١٧ - كتاب (أمل الإنسان - الإمام المهدي في الفكر الإسلامي الأصيل): إعداد مركز نون
للتأليف، الطبعة الأُولى، عام (١٤٣٥هـ).
١٨ - كتاب (رؤى
مهدويَّة): للسيِّد مجتبى السادة، الطبعة الأُولى، عام (١٤٣٧هـ).
بالإضافة للكتابات المميَّزة والمنشورات الرائعة للمراكز المتخصِّصة في القضيَّة
المهدويَّة، والتي كثير من نتاجها الثقافي يواكب حاجات ومتطلِّبات العصر الحالي،
ودورها البارز في إثراء الثقافة المهدويَّة، بالإضافة لاهتمامهم الخاصِّ بحفظ
التراث المهدوي الشيعي.
ثانياً: مجلَّات ونشرات
تخصُّصيَّة تعني بالشأن المهدوي:
تطوُّر جديد حدث في التراث المهدوي، حيث نشأت وصدرت في هذه الفترة الزمنيَّة بعض
المجلَّات والنشرات الثقافيَّة الدوريَّة العلميَّة المتخصِّصة في موضوع الإمام
المهدي، حيث أدرك أصحابها أهمّيَّة دور المتابعة الثقافيَّة وفاعليَّتها في تنمية
وعي المجتمع بالفكر الأصيل، ومكانة الإعلام المهدوي كطرف مهمٍّ في دحض الشُّبُهات
والأفكار المنحرفة الموجَّهة ضدَّ العقيدة المهدويَّة.. وكنماذج نذكر بعضاً من هذه
الدوريات:
١ - مجلَّة (موعود)، شهريَّة باللغة الفارسيَّة، تصدر عن مؤسسه فرهنگي موعود
(المؤسَّسة الثقافيَّة موعود) طهران إيران، صدر العدد الأوَّل في شهر ذي القعدة عام
(١٤١٧هـ)، وصدر العدد (١٩٣) في شهر جمادى الآخرة عام (١٤٣٨هـ).
٢ - مجلَّة (الانتظار)، فصليَّة، صدرت عن مركز الدراسات
التخصُّصيَّة في
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، النجف - العراق، صدر العدد الأوَّل في شهر جمادى
الأُولى عام (١٤٢٦هـ)، وصدر العدد الأخير (١٧) في شهر جمادى الآخرة عام (١٤٣٠هـ).
٢ - صحيفة (صدى المهدي)، شهريَّة، صدرت عن مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام
المهدي (عجَّل الله فرجه)، النجف - العراق، صدر العدد الأوَّل في شهر جمادى الآخرة
عام (١٤٣٠هـ)، وصدر العدد الأخير (٨٣) في شهر جمادى الأُولى عام (١٤٣٧هـ).
٤ - مجلَّة (انتظار موعود)، علميَّة شهريَّة باللغة الفارسيَّة، تصدر عن مؤسسه
بنياد فرهنگي حضرت مهدى موعود (المؤسَّسة الثقافيَّة للإمام المهدي الموعود)، قم
المقدَّسة - إيران، صدر العدد الأوَّل في شهر ذي الحجَّة عام (١٤٣٢هـ)، وصدر العدد
(٥١) في شهر ذي القعدة عام (١٤٣٧هـ).
٥ - مجلَّة (الموعود)، علميَّة تخصُّصيَّة بحثيَّة، نصف سنويَّة، تصدر عن مركز
الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، النجف - العراق، صدر
العدد الأوَّل في شهر جمادى الآخرة عام (١٤٣٧هـ)، وصدر العدد الثامن عشر في شهر ذي
الحجَّة عام (١٤٤٦هـ).
هذه الدوريات المهدويَّة تُعطي مؤشِّراً على ازدهار الفكر والمعارف المهدويَّة في
هذه المرحلة، حيث تميَّز نتاج المجلَّات العلميَّة المتخصِّصة بالعصريَّة وتوطيد
العلوم الأكاديميَّة المهدويَّة، وخلق جوٍّ من الدراسة والنقد بين العلماء
والمفكِّرين في مجال القضيَّة المهدويَّة، وهذه دلائل على رقيِّ المستوى العلمي
الذي وصلت إليه الثقافة المهدويَّة حديثاً.
ثالثاً: دراسات وبحوث أكاديميَّة
مهدويَّة:
تطوُّر جديد آخر في التراث المهدوي، حيث بدأت تظهر في هذه الفترة بعض من الدراسات
الأكاديميَّة والتي ترتبط بالشأن المهدوي، أو بمعنى آخر أخذت المسألة المهدويَّة
تشقُّ طريقها للبحوث التعليميَّة الجامعيَّة ولكن بخجل شديد جدًّا، فلا زال هناك
إجحاف واسع للقضيَّة المهدويَّة في الوسط الجامعي وبالخصوص في بحوث الدراسات
العليا، بالرغم من أنَّها قضيَّة إنسانيَّة حيويَّة
تتَّسع لكلِّ
مجالات الحياة، وتحتوي في طيَّاتها ثراء علمياً متنوِّعاً.. ومن أمثلة الدراسات
الجامعيَّة التي ظهرت أخيراً في الوسط الشيعي البحوث التالية:
١ - بحث بعنوان (الاعتقاد بمنجي العالم في القرآن والعهدين)، كرسالة ماجستير
للطالب: كاظم مزعل جابر الأسدي، من جامعة آل البيت العالميَّة، قم المقدَّسة -
إيران، عام (١٤٢٦هـ).
٢ - بحث بعنوان (عقيدة انتظار المهدي في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر)، كرسالة
ماجستير للطالبة: ناهدة محمّد زبون، كلّيَّة العلوم السياسيَّة، جامعة بغداد -
العراق، عام (١٤٢٧هـ).
٣ - بحث بعنوان (النُّوَّاب الأربعة ومرويَّاتهم الفقهيَّة)، كرسالة ماجستير
للطالبة: ندى سهيل عبد محمّد، كلّيَّة الفقه، جامعة الكوفة - العراق، عام (١٤٢٨هـ).
٤ - بحث بعنوان (وراثة الأرض في القرآن الكريم والكُتُب السماويَّة)، كرسالة
ماجستير للطالبة: نور مهدي كاظم الساعدي، كلّيَّة الفقه، جامعة الكوفة - العراق،
عام (١٤٣٣هـ).
٥ - بحث بعنوان (قصائد الاستنهاض بالإمام الحجَّة في الشعر العراقي للحقبة ١٢٠٠ -
١٣٠٠هـ، دراسة تحليليَّة)، كرسالة ماجستير للطالب: حسن هادي مجيد العوَّادي،
كلّيَّة التربية، جامعة كربلاء - العراق، عام (١٤٣٤هـ).
٦ - بحث بعنوان (الأساليب الانشائيَّة في التوقيعات المهدويَّة - دراسة نحويَّة)،
كرسالة ماجستير للطالب: بدر حسين عليّ المحمّداوي، قسم اللغة العربيَّة، كلّيَّة
التربية، جامعة الكوفة - العراق، عام (١٤٣٤هـ).
هذه البحوث والدراسات الأكاديميَّة تُعطي مؤشِّراً على التجديد والتطوير في الثقافة
المهدويَّة في هذه المرحلة، وتنبع أهمّيَّة هذه الدراسات من
الأُسلوب
المنظَّم في جمع وتوثيق المعلومات، والخطوات العلميَّة الممنهجة في كتابة هذه
البحوث، ممَّا يساهم في إنتاج مصنَّفات ذات مصداقيَّة علميَّة، وينعكس ذلك
إيجابيًّا على الرقيِّ بمستوى الثقافة والمعارف المهدويَّة.
مقتطفات من المشهد الأدبي في هذه
المرحلة:
واكب الشعراء التحوُّلات السياسية والمخاضات الفكريَّة في هذه المرحلة، فنظموا
الكثير من القصائد عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وكانت الحالة الأدبيَّة
تُعبِّر عن الواقع النفسي السيِّئ للأُمَّة الإسلاميَّة وكثرة الإحباطات، فأثَّر
هذا في نفوس الشعراء وأدركوا بأنَّ الإجادة في التعبير عن قضايا الأُمَّة
ومشكلاتها، لا تتمُّ إلَّا برفد نتاجهم الشعري بالموروث العقائدي والتاريخي، فوجدوا
في القصائد المهدويَّة متنفَّساً لهم لبثِّ شكواهم إلى صاحب الزمان (عجَّل الله
فرجه).
استطاع الأدب الشيعي في القصائد المهدويَّة أنْ ينحى في اتِّجاهين، وتجلَّى ذلك في:
قصائد (الاستنهاض) والأخذ بالثأر، وقصائد (الانتظار) وتعجيل الظهور، فالغرضان
الشعريَّان الاستنهاض والانتظار نجده أكثر التصاقاً بقضيَّة الإمام المهدي، وهذا
يُعَدُّ نوعاً من أنواع التجديد في الشعر العربي، وتعبيراً صادقاً عن الحياة
الأدبيَّة، وعن مكنونات النفس وآمال المجتمع، ويُحسَب للشعراء كتوفيق بين الفنِّ
والمضمون، وكتزاوج بين قِيَم تراث الماضي وتطلُّعات المستقبل، فأبدع الضمير الشيعي
بقصائد مهدويَّة رائعة:
* من قصائد الاستنهاض الحديثة (صاحب الأمر ضاقت الصدور فينا)، للشاعر مهدي جناج
الكاظمي، معاصر وُلِدَ عام (١٣٧٠هـ) في الكاظميَّة بالعراق:
حليفُ الثأرِ يا
ذخرَ الحسينِ * * * ويا حلمَ الخلاصِ بكلِّ عينِ
أتاكَ الدهرُ يا مولاهُ يسعى * * * أسيرَ الروحِ مغلولَ اليَدَينِ
لقد حاقتْ بنو
الطاغوتِ فينا * * * وعصبةُ مَنْ أباحَ القِبلَتَينِ
تُطاردُنا الرماحُ بكلِّ أرضٍ * * * ونُقْتَلُ كلَّ يومٍ مَرَّتَينِ
وتسلبُنا الديارَ وأنتَ أدرى * * * بما صنعتْ بنا في الغَيْبَتَينِ
وقُبَّةُ جَدِّكَ (الهادي) جراحٌ * * * تسيلُ على ضريحِ الكوكبينِ
لقد بكتِ السماءُ دماً عبيطاً * * * وعرشُ الله ناحَ بمُقلَتَينِ
كما هدموا البقيعَ فنُحْتَ قبلاً * * * ودمعُكَ شاهدٌ في الحالتينِ
إلينا أيُّها الثاوي برضوى * * * بنا قد ضاقَ صدرُ الخافِقَينِ
فليس هناك من فرجٍ قريبٍ * * * سواكَ وحقِّ ربِّ المشرقينِ(١٧٠)
* من قصائد الانتظار الحديثة: (في ظلال (متى)): للشاعر جاسم محمّد الصحيح، معاصر وُلِدَ عام (١٣٨٤هـ) في الأحساء.. نقتطف منها هذه الشذرات، والتي مطلعها:
اِنْتَظِرْ، مهمَا دَعَوْنَاكَ البِدَارا * * * نحن في الغيبِ زرعناكَ انتظارا
وجاء فيها:
إنَّ في
أعماقِكُمْ شمساً، فلا * * * تطلبوا من غير عينيها النَّهارَا
لا تقولوا: عَربَدَ الرَّمْلُ، ولم * * * يُولَدِ (المهديُّ) من قلبِ الصحارَى
يُولَدُ (المهديُّ) من أعماقِنا * * * ثمّ يمتدُّ على الدنيا مَنارَا
نحن في غُربتِنا أسرى (متى) * * * يا (متى) حَسْبُ المحبِّينَ أَسارَا
يا (متى) ما زلتِ في أيَّامِنا * * * موسماً نجترُّ منه الاجترارَا
ألفُ عامٍ والقوافي تلتظي * * * بكِ حتَّى صارَتِ الأحرفُ نارَا
-----------------
(١٧٠) الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة (ج ٧/ ص ١٩٥ و١٩٦).
وخاطب الإمام قائلاً:
سيِّدي جئنا وما
جئنا إلى * * * منبعِ الذكرى.. فلم نَرْوِ الجِرارَا
لم نزلْ نستنبتُ الشوقَ الذي * * * لو سَرَى في الشوكِ أضحَى جُلَّنارَا
وهنا أحلامُنا لو سَكَنَتْ * * * في غُرابٍ لَأحالَتْهُ هَزارَا
زَوِّجوا آمالَكُمْ أعمالَكُمْ * * * تُنجِبوا من رَحِمِ الضعفِ انتصارَا
وافهَموا (المهديَّ) فالحبُّ متى * * * أدركَ الفهمَ تجلَّى وأنارَا
رُبَّما يُشرِقُ من أعماقِكُمْ * * * فارسٌ ملَّ هناك الانتظارَا(١٧١)
* * *
-----------------
(١٧١) الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة (ج ٢/ ص ٢٦ - ٣٠).
مرحلة الحضارة المهدويَّة (اليوم
الموعود - يوم القيامة):
مرحلة زمنيَّة من تاريخ البشريَّة (مستقبليَّة)، سوف تمتاز بتحوُّلات
مفصليَّة وانعطافات جوهريَّة تشمل كافَّة نواحي حياة الإنسان المعاصر للعهد
الميمون، لم تمرّ على البشريَّة مثلها من قبل.. ففي هذه الحقبة من تاريخ الإنسان
على الأرض ستختلف المعيشة والحياة على المعمورة بشكل جذري وعلى جميع الأصعدة، وذلك
بسبب الأوضاع والأجواء المثاليَّة التي يخلقها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في
كافَّة جوانب الحياة، حيث النضج والرشد العقلي والروحي والأخلاقي للإنسان، فتتميَّز
دولته الفاضلة بتعانق النظريَّة والتطبيق.
الثقافة والفكر المهدوي للناس سيتطوَّر ويصل إلى أوج قمَّته، فعندما ترتفع ستارة
الغيبة عن مسرح الإمامة، وتنفتح البشريَّة على الحقيقة المهدويَّة بشكلها الواقعي
كما أرادها الله سبحانه وتعالى، ويُدرِك البشر معنى القيادة الربَّانيَّة
المتمثِّلة في المهدويَّة، ستتحقَّق حينها الأُمنية الكبرى لجميع الأُمَم السابقة
وكافَّة الأديان.. إنَّها المحطَّة الأخيرة والحقبة المشرقة في تاريخ البشريَّة،
وذلك عندما تعيش في كنف ورعاية الإمام (عجَّل الله فرجه) في ظلِّ الحضارة
المهدويَّة.
لمحة سياسيَّة وتاريخيَّة:
منذ فجر التاريخ وإلى يومنا هذا والبشريَّة تعيش قصَّة تراجيديَّة(١٧٢) بين
الأضداد، بين الخير والشرِّ، وبين الظلم والعدل، والمسيرة الإنسانيَّة تنتظر المنقذ
-----------------
(١٧٢) تراجيديا: أصل الكلمة من (اليونانيَّة) الكلاسيكيَّة، ومعناها بالعربي (مأساة).
الموعود
ليُخلِّصها من أتون الحرب وأشكال القهر والجور.. فيبدأ الإمام بهدم الواقع الفاسد
الذي قامت عليه البشريَّة على طول تاريخها المرير، ويبدأ القائد بتطبيق وسائل
مختلفة كلّيًّا في إدارة الحياة لم يألفها الناس من قبل، ويبدأ عمليَّة البناء
والعروج بالإنسانيَّة إلى النفحة الإلهيَّة والعدل الربَّاني والقسط السماوي، فتحدث
انعطافة تاريخيَّة كبيرة ومرحلة تحوُّلات مفصليَّة حاسمة على البشريَّة لتصل إلى
رحاب الحضارة المهدويَّة.
لمحة سياسيَّة:
ستتميَّز حكومة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بمواصفات معيَّنة: إنَّها
حكومة(١٧٣) ربَّانيَّة محمّديَّة مهدويَّة، لا مثيل لها في تاريخ البشريَّة،
فالنظام السياسي في دولة العدل الإلهي يُمثِّل نموذجاً فريداً من نوعه، فهي حكومة:
* ليست ملكيَّة: لا تعرف الاستبداد أو الديكتاتوريَّة.
* ليست أُرستقراطيَّة: لا تعرف الإقطاعيَّة أو تتسلَّط فيها نخبة معيَّنة.
* ليست ديمقراطيَّة: لن يكون لشعوب العالم دور في انتخابها.
* ليست عسكريَّة: وزراؤها من غير المؤسَّسة العسكريَّة.
* ليست ائتلافيَّة: لا يوجد أحزاب في الدولة.
* لا تشبه أيًّا من الأنظمة السياسيَّة التي نعرفها قديماً أو حديثاً.
بل هي حكومة إلهيَّة سماويَّة، حيث الحاكم الأعلى معيَّن ومُنصَّبْ من قِبَل الله
سبحانه وتعالى (أصل الإمامة)(١٧٤)، وهذه إرادة الخالق ووعد ربَّاني بأنَّ
-----------------
(١٧٣) ينبغي
التمييز بين الدولة والحكومة.. فالدولة: هي كيان شامل يضمن الحكومة والشعب والإقليم
بالإضافة للسيادة، والحكومة: هي الهيأة السياسيَّة والإداريَّة العليا التي تشرف
على تنظيم شؤون الشعب.
(١٧٤) الإمامة: منصب إلهي هو امتداد للنبوَّة، ورئاسة عامَّة في أُمور الدنيا
والدِّين، والقيام بقيادة الأُمَّة وحفظ الشريعة وهداية الناس وبيان الأحكام
الشرعيَّة وتطبيقها بين المسلمين نيابةً عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله).
الأرض يرثها
الصالحون.. وسيكون النظام التشريعي في الدولة لله (عزَّ وجلَّ) وليس من خصائص الشعب
أو نُوَّابه (تطبيق أحكام الشريعة الإسلاميَّة)، والقيادة العليا في الدولة
ربَّانيَّة (معصومة) وحكومة عادلة تبسط نفوذها وتمتدُّ حدودها إلى أقصى العالم
وتشمل جميع الشعوب والبلاد.. إنَّها حكومة تميط اللثام عن وجه الرؤية القرآنيَّة
لمستقبل مشرق للإنسان، حيث التوحيد والعدل والحضارة المهدويَّة.
لمحة لأحداث مستقبليَّة (تكون
تاريخاً):
مخاضات سياسيَّة وصراع بين تيَّارات متنافسة في الساحة (منطقة الشرق الأوسط)، فتصبح
المنطقة ميداناً لمعارك عسكريَّة متعدِّدة، فيعيش الشعب المسلم حالة من التوتُّر
والارتباك نتيجة عوامل عدم الاستقرار السياسي والأمني.
قبل الظهور:
أحداث سياسيَّة ووقائع عسكريَّة وظواهر كونيَّة ستقع في المستقبل أخبرنا عنها
النبيُّ محمّد وآله (عليهم السلام)، وهي ذات علاقة بالظهور مباشرةً، وقد حُدِّدت
الأماكن والأزمنة فيها بشكل دقيق، ولكن من غير تحديد لعام الظهور.. بنظرة سريعة على
الجغرافيا السياسيَّة في منطقة الظهور، نجد أنَّ هناك أحداثاً خاصَّة أُطلِقَ عليها
بالعلامات الحتميَّة والتي لا بدَّ من وقوعها، عن الإمام الصادق (عليه السلام)
أنَّه قال: «لِلْقَائِمِ خَمْسُ عَلَامَاتٍ: ظُهُورُ اَلسُّفْيَانِيِّ،
وَاَلْيَمَانِيِّ، وَاَلصَّيْحَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ، وَقَتْلُ اَلنَّفْسِ
اَلزَّكِيَّةِ، وَاَلْخَسْفُ بِالْبَيْدَاءِ»(١٧٥).
الأُولى: السفياني: خروج رجل من آل أبي سفيان من ناحية الشام من الوادي اليابس،
ويُمثِّل رمزاً للحُكَّام المسلمين الظالمين ومناهض للمهدي، وهو مدعوم من قِبَل
الروم، يستولي على محافظات الشام الخمس، يشارك في معركة قرقيسيا، ثمّ يغزو العراق
ويرتكب مجازر بشعة، ويغزو الحجاز ويكون خسف
-----------------
(١٧٥) الغيبة للنعماني (ص ٢٦١/ باب ١٤/ ح ٩).
البيداء بجيشه،
يخرج في شهر رجب في سنة زوجيَّة قبل عام الظهور، ويفصل بينه وبين ظهور المهدي
(عجَّل الله فرجه) في مكَّة ستَّة أشهر فقط.
الثانية: اليماني: خروج سيِّد حسيني من نسل زيد بن عليِّ بن الحسين (عليه السلام)
من ناحية اليمن، ولذا أُطلِقَ عليه اليماني، وتصف الأحاديث حركته بأنَّها راية هدى
وهو يدعو للإمام، يخرج في شهر رجب في نفس يوم خروج السفياني والخراساني، وسوف
يتوجَّه إلى العراق والشام، ويشارك مع الخراساني في قتال السفياني، وهو أحد أفراس
الرهان في المنطقة.
الثالثة: الصيحة من السماء: حدث كوني غريب، وهو صوت ونداء من السماء (صوت جبرائيل)
يسمعه أهل الأرض جميعاً، كلُّ قوم بلغتهم، يحدث هذا الصوت في شهر رمضان.. وهو دليل
واضح من الله سبحانه وتعالى إلى كلِّ الناس على قرب ظهور المهدي، وهذه العلامة
إعجاز إلهي وهامَّة جدًّا حيث لا يمكن التلاعب بها، وهي أوضح وأصدق علامة لقرب ظهور
الإمام، وقد أشار لها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ
يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ
بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ (ق: ٤١ و٤٢).. ثمّ تعقبها عمليَّة
تكذيب عالميَّة واسعة (بقيادة إبليس) للتعمية على هذا الإعلان وتشويهه، فيقال: إنَّ
هذا الصوت هو من سحر الشيعة.. وبين الصيحة وبين اليوم الموعود ثلاثة أشهر ونصف
الشهر.
الرابعة: قتل النفس الزكيَّة: وهو الشابُّ الحسيني الذي يبعثه الإمام المهدي(عجَّل
الله فرجه) لأهل مكَّة لتهيئة الأجواء للحركة المباركة، فينقل في يوم الخامس
والعشرين من ذي الحجَّة، أي قبل الظهور بخمس عشرة ليلة، خطاباً شفهيًّا من الإمام
(عجَّل الله فرجه) إلى الحجاج في بيت الله الحرام، وقبل أنْ يُكمِل كلامه تُرتكَب
جريمة قتله في الحرم المكِّي بين الركن والمقام.. وهذا الحَدَث آخر العلامات قبل
الظهور الشريف.
الخامسة: خسف
البيداء: الخسف الذي يقع بجيش السفياني، القادم من الشام إلى الحجاز، والمتَّجه إلى
مكَّة المكرَّمة للقضاء على حركة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في بداية
ظهورها.. ومكان الخسف أرض البيداء الواقعة بين مكَّة المكرَّمة والمدينة
المنوَّرة.. وهذا الخسف كمعجزة إلهيَّة من الدلالات القويَّة على صدق وحقيقة ارتباط
المهدويَّة الصادقة بالغيب.
إنَّ علامات الظهور انتظمت في عقد واحد، فإذا انفرطت منه حبَّة تابعها الباقي نظام
كنظام الخرز.. وبشكلٍ عامٍّ وباختصار يمكننا أنْ نصف الوضع السياسي في المنطقة قبل
الظهور بمدَّة وجيزة بالآتي:
- الحجاز: فراغ سياسي واضطراب أمني.
- الشام: مقسَّم إلى خمس مناطق (كور)، وسيطرة السفياني على مقاليد الأُمور.
- العراق: ثلاثة تيَّارات سياسيَّة متباينة، ودولة ضعيفة.
- اليمن: سيطرة تيَّار موالي للإمام المهدي بقيادة اليماني.
- إيران: سيطرة تيَّار موالي للإمام المهدي بقيادة الخراساني.
التراث الدِّيني السماوي:
الذي يتابع النصوص الإسلاميَّة والروايات الشريفة التي تتكلَّم عن ظهور الإمام
المهدي (عجَّل الله فرجه) وقيام دولته المباركة، يجد أنَّ حضارة آل محمّد (صلَّى
الله عليه وآله) هي الوارثة الحقيقية لكلِّ القِيَم والتراث الذي جاء به الأنبياء
والمرسَلون والأئمَّة (عليهم السلام)، ولذا نلمس بصورة دقيقة العلاقة الوثيقة بين
الحضارة التي يقيمها (عجَّل الله فرجه) وبين القِيَم والمعارف السماويَّة السابقة..
فدولة العدل الإلهي إضافةً إلى عصمة قيادتها فإنَّها تستجمع خاصَّةً تجارب ووعي
ونضج المسيرة الربَّانيَّة في الحياة.
إنَّ كلَّ العطاء
الإلهي للأنبياء السابقين والخصوصيَّات الرساليَّة التي ميَّز الله بها بعض
أنبيائه، والتي يُعبَّر عنها بـ(مواريث الأنبياء)، قد وصل جميعها إلى خاتم الأنبياء
محمّد (صلَّى الله عليه وآله)، وقد وردت روايات مستفيضة تُؤكِّد وصولها إلى
الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) من بعده، وجميعها موجودة الآن عند آخر الذخائر
الإلهيَّة (بقيَّة الله)، قال الإمام الباقر (عليه السلام): «إِذَا ظَهَرَ
اَلْقَائِمُ (عليه السلام) ظَهَرَ بِرَايَةِ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)،
وَخَاتَمِ سُلَيْمَانَ، وَحَجَرِ مُوسَى وَعَصَاهُ...»(١٧٦).
وبهدف إثراء البحث نشير إلى بعض مواريث الأنبياء المودَعة عند الإمام المهدي (عجَّل
الله فرجه) والتي سيُخرجها للناس عند ظهوره المقدَّس، ويُعتبَر هذا دليلاً وعلامة
صدق على إمامته وأنَّه صاحب المنصب الإلهي في زمانه.
إنَّ الحديث عن العطاء الإلهي وتراث الأنبياء وآثار الأصفياء والإمامة يجرُّنا
للحديث عن الجفر.. وهنا لا بدَّ من التعرُّف على حقيقة محتواه ومضمونه(١٧٧) على ضوء
الروايات الشريفة، حيث أخبر الأئمَّة عن جفار أربعة موجودة عندهم، أحدها كتاب
والثلاثة الأُخرى أوعية ومخازن لمحتويات ذات قيمة معنويَّة كبيرة، وهي:
١ - كتاب الجفر: كتاب خاصٌّ عند الأئمَّة (عليهم السلام) حجمه صغير (لا يتجاوز جلد
شاة)، لا ينظر فيه سوى المعصومين (نبيٌّ أو وصيُّ نبيٍّ)(١٧٨)، صيغ بطريقة رمزيَّة
خاصَّة يفهم منها المعصوم العلوم المتقدِّمة التي يحتويها.. والكتاب
-----------------
(١٧٦) الغيبة
للنعماني (ص ٢٤٤/ باب ١٣/ ح ٢٨).
(١٧٧) للتوسُّع في موضوع الجفر، ارجع إلى كتاب: حقيقة الجفر عند الشيعة للشيخ أكرم
بركات العاملي.
(١٧٨) كتاب الجفر يحتوي على علوم لا طاقة لغير نبيِّ أو وصيٍّ على تحمُّلها، ولذا
هو غير متاح للناس للاطِّلاع عليه، فهو كتاب (سرِّي)، والنظر فيه من اختصاص شؤون
صاحب المنصب الإلهي، وهو من إملاء النبيِّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله) وكتابة
الإمام عليٍّ (عليه السلام).
يشمل على علم
المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وهو عبارة عن لوح
القضاء والقدر.
٢ - الجفر الأبيض: عبارة عن وعاء(١٧٩) فيه كُتُب مقدَّسة، يحتوي على كُتُب الأنبياء
السابقين (الخالصة من أيِّ تحريف)، بالإضافة إلى كُتُب أهل البيت (عليهم السلام)
الخاصَّة، ويشمل الآتي:
* كُتُب الأنبياء: الكُتُب المنزَلة من الله سبحانه وتعالى على أنبيائه العظام،
ومجموعها (١٠٤ كتاب وصحيفة)، ولكن ما حصل في التاريخ هو ضياع لبعضها وتحريف في
البعض الآخر، وهي:
- صُحُف آدم (١٠ صحائف).
- صُحُف شيث (٥٠ صحيفة).
- صُحُف إدريس (٣٠ صحيفة).
- صُحُف إبراهيم (١٠ صحائف).
- زبور داود.
- توراة موسى.
- إنجيل عيسى.
- فرقان محمّد (القرآن الكريم).
* مصحف فاطمة: كتاب للسيِّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وبخطِّ أمير المؤمنين
(عليه السلام)، خالٍ من الأحكام الشرعيَّة، وعنوان محتواه هو (علم ما يكون) ويشتمل
على أسماء كلِّ مَلِك يملك في الأرض.
* كتاب الجامعة: كتاب للإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، صحيفة طولها
-----------------
(١٧٩) وعاء ومخزن للكُتُب من جلد شاة (ماعز أو ضأن)، ويُفهَم من تسميته بالأبيض أنَّه يرمز إلى الكفِّ.
سبعون ذراعاً
تحتوي على الأحكام الفقهيَّة من حلال وحرام إلى أنْ تصل إلى الأرش في الخَدَش،
وكلِّ شيء يحتاج الناس إليه.
* كُتُب وصُحُف أُخرى: مثل كتاب الوصيَّة (الكتاب المختوم)، صحيفة الفرائض (أحكام
الإرث)، صحيفة في ذؤابة سيف رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
من هنا نعرف ميزة وجود هذه الكُتُب المقدَّسة عند الأئمَّة (عليهم السلام)، حيث
إنَّ هذا التراث السماوي إحدى علامات معرفة الإمام الحقِّ والوصيِّ الشرعي، إضافةً
إلى جنبة العلم الخاصِّ الذي هو شرط أساسي من شروط الإمام وصاحب المنصب الربَّاني.
٣ - الجفر الأحمر: عبارة عن مخزن ووعاء(١٨٠) فيه سلاح رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله)، وإنَّ الذي يفتح هذا الجفر هو صاحب السيف الذي يفتحه للقتل، وهو الإمام
المهدي (عجَّل الله فرجه).. ويتكوَّن هذا السلاح من: مغفر(١٨١) رسول الله ودرعه
وسيفه.
وسلاح رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عند المسلمين كتابوت السكينة عند بني
إسرائيل(١٨٢)، فكما كان تابوت الحكمة والسكينة علامة المنصب الإلهي المتمثِّل
(بالنبوَّة والمُلك)، فكذلك سلاح رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) هو علامة المنصب
الإلهي المتمثِّل (بالإمامة)، فمَنْ يوجد عنده السلاح فهو الإمام الحقُّ والوصيُّ
الشرعي الواجب طاعته.
٤ - الجفر الكبير: هو وعاء كبير من جلد ثور (مدبوغ كالجراب)، ويحتوي في داخله على
الجفر الأبيض والجفر الأحمر.
إنَّ الروايات والنصوص الإسلاميَّة تُؤكِّد وجود جملة من المختصَّات
-----------------
(١٨٠) وعاء ومخزن
لمختصَّات سلاح النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) من جلد شاة، ويُفهَم من تسميته
بالأحمر أنَّه يرمز إلى الدم.
(١٨١) المغفر: آلة من آلات القتال، على شكل (غطاء للرأس - خوذة) يحمي به المحارب
وجهه ورأسه من الطعنات.
(١٨٢) يوجد في المجلَّد الأوَّل من الكافي باب بعنوان: إنَّ مَثَل سلاح رسول الله
(صلَّى الله عليه وآله) مَثَل التابوت في بني إسرائيل، ذُكِرَ فيه أربعة أحاديث
بهذا المعنى.
(أدوات المعجزة)
وصلت للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عن طريق جدِّه رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) وسلسلة آبائه الطاهرين (عليهم السلام)، بعضها يختصُّ بالأنبياء السابقين
والبعض الآخر يختصُّ بالرسول (صلَّى الله عليه وآله)، وهي كثيرة نذكر منها:
* مختصَّات الأنبياء السابقين:
- عصا النبيِّ موسى (عليه السلام)، آية لنبوَّته وإحدى معجزاته.
- حجر النبيِّ موسى (عليه السلام)، استخدمه في التيه مع قومه.
- تابوت الحكمة والسكينة، علامة النبوَّة والمُلك عند بني إسرائيل.
- قميص النبيِّ إبراهيم والنبيِّ يوسف (عليهما السلام)، الحماية من النار وعودة
البصر.
- خاتم النبيِّ سليمان (عليه السلام)، ويرمز إلى المُلك.
* مختصَّات النبيِّ محمّد (صلَّى الله عليه وآله):
- سلاح رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، المغفر والدرع والسيف.
- خاتم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ونقشه: محمّد رسول الله.
- الراية: هي من ورق الجنَّة، نشرها الرسول (صلَّى الله عليه وآله) يوم بدر، ونشرها
أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الجمل، ولا ينشرها بعدهما إلَّا القائم (عجَّل
الله فرجه).
كلُّ هذا العطاء الإلهي وهذا التراث السماوي موجود حاليًّا عند بقيَّة الله وآخر
الذخائر الربَّانيَّة، ويُعَدُّ من خصائص المهدويَّة في هذه المرحلة، فيستخدم
(عجَّل الله فرجه) بعضها في بداية ظهوره كحجر موسى وراية رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله)، والبعض الآخر يستفيد منها لاحقاً لإلقاء الحجَّة على جميع الأُمَم
وأصحاب الديانات المختلفة بصدق إمامته وأنَّه صاحب المنصب الإلهي في هذا الزمان..
فهذه الوسائل وأدوات المعجزة ستساعده على نشر التوحيد وبسط العدل على كافَّة أرض
المعمورة، وحينها يتَّضح للناس جزء من حقيقة المهدويَّة بعد أنِ انكشف لهم غطاء
الغيبة، حينها سيُدرِك العالم المعنى الحقيقي لكلمة (بقيَّة الله).
* * *
أسباب ضياع التراث المهدوي
الشيعي:
إنَّ البشريَّة فقدت الكثير من التراث الشيعي، واندثر المئات من الكُتُب
المهدويَّة الشيعيَّة نتيجة الحرق والإتلاف المتعمَّد لها، ممَّا أدَّى إلى ضياع
جهود العلماء ورجال الفكر والأدب الذين أثروا المكتبات آنذاك بنتاج فكري إنساني..
فالمحن التي واجهها التراث عبر العصور المختلفة والمتمثِّلة في القضاء عليه،
وملاحقة علماء الشيعة ومضايقتهم والتنكيل بهم، بل وصل الحدُّ إلى قتلهم، والعبث
بالتراث الفكري والتفنُّن في تدميره والقضاء عليه، وقد تعدَّدت وسائل إتلاف الكُتُب
الشيعيَّة (ومن ضمنها التراث المهدوي) من خلال حرقها أو دفنها أو رميها في المياه
أو غير ذلك من وسائل الإتلاف، ممَّا أدى إلى عواقب وخيمة على الحركة الفكريَّة
وتطوُّرها.
الأسباب التي أدَّت إلى ضياع التراث المهدوي عديدة، نذكر بعضها باختصار:
* أسباب تعود للأوضاع الأمنيَّة التي خلقتها الحكومات الظالمة والمستبَّدة على طول
التاريخ الإسلامي والتي تحارب أفكار وكُتُب الفِرَق الإسلاميَّة الأُخرى المغايرة
لمذهبها الرسمي.
* أسباب نفسيَّة بحتة ومنشؤها الخوف من اقتناء الكُتُب الشيعيَّة، باعتبارها
محرَّمة وممنوعة ويُعاقَب صاحبها، كما حدث في بعض الظروف التاريخيَّة (كعصر الغيبة
الصغرى مثلاً).
* أسباب مصدرها
الحقد الطائفي والتعصُّب الأعمى والجهل القاتل، وحرقهم لكُتُب الطوائف الإسلاميَّة
المختلفة، كالسلاجقة والمماليك والأيُّوبيِّين.
* أسباب خارجيَّة متمثِّلة في غزو أو احتلال البلاد الإسلاميَّة من قِبَل المستعمر
الأجنبي (مثل المغول) وتدمير المكتبات وخزائن العلم وحرقها أو سرقة محتوياتها
النفيسة.
بالإضافة لأسباب أُخرى عديدة أدَّت جميعها إلى ضياع الكثير من التراث الشيعي
والمهدوي والمرتبط به.. ومن الفواجع التي لحقت بالمكتبات الشيعيَّة في عصور التاريخ
الإسلامي، تدمير مثل خزائن العلم التالية:
١ - مكتبة أبي نصر (سابور بن أردشير) نسبةً إلى مؤسِّسها سابور وزير بهاء الدولة
البويهي، بالكرخ ببغداد، وكانت تحتوي على الأُصول المعتبرة.. دُمِّرت على يد طغرل
بيك السلجوقي عام (٤٤٧هـ)، فأفقدت الأُمَّة الإسلاميَّة تراثاً ثقافيًّا ذا
أهمّيَّة كبرى.
٢ - مكتبة السيِّد المرتضى (علم الهدى)، واحدة من أهمّ خزائن الكُتُب في بغداد
آنذاك حيث كانت تضمُّ (ثمانين ألف) كتاب، وكذلك دار علم الشريف الرضي، دمَّرها
السلاجقة عندما سيطرو على بغداد عام (٤٤٧هـ).
٣ - مكتبة شيخ الطائفة الطوسي، حيث كُبِسَت داره من قِبَل السلاجقة عام (٤٤٨هـ)،
وأُحرقت كُتُبه وكرسي تدريسه (الكلام)، وعلى إثر ذلك غادر الشيخ الطوسي بغداد إلى
النجف الأشرف.
٤ - مكتبة الصاحب بن عبَّاد، وكانت من أشهر المكتبات في الريِّ (بلاد فارس) يوم
ذاك، وقيل: إنَّه جمع فيها ما يحتاج في نقلها إلى أربعمائة جمل، ومجموع كُتُبها
يفوق (٢٠٠) ألف مجلَّد، دمَّرها السلطان محمود الغزنوي.
٥ - مكتبة ابن العميد، وزير ركن الدولة البويهي، خزانة علم ضخمة في
الريِّ، احتوت
على الكثير من الرسائل والكُتُب القديمة، وتولَّى مسؤوليَّة أمانتها العالم
والمؤرِّخ والأديب مسكويه، دُمِّرت على يد الغزنويِّين.
٦ - مكتبة (دار الحكمة) أُنشأت في عهد الدولة الفاطميَّة في مصر عام (٣٩٥هـ)، احتوت
على مليون وستّمائة ألف مجلَّد، وظلَّت مركزاً ثقافيًّا ومنارةً للعلم لمدَّة تقارب
القرنين، حتَّى دُمِّرت على يد الأيُّوبيِّين، فأحرق العابثون الكثير من محتوياتها،
وبعضهم جعل من جلودها نعالاً له.
٧ - خزانة الكُتُب في حلب، أنشأها سيف الدولة الحمداني، وكان المتولِّي عليها ثابت
بن أسلم الحلبي النحوي، وبعد قتل المتولِّي أحرقوا المكتبة المشتملة على عشرة آلاف
كتاب، من مختلف المعارف والعلوم.
٨ - مكتبة (بيت الحكمة) التي أُنشأت في العصر العبَّاسي، دمَّرها المغول أثناء
اجتياحهم بغداد عام (٦٥٦هـ)، كما دمَّروا (٣٦) مكتبة في بغداد تضمُّ مئات الآلاف من
الكُتُب، وإنَّ مياه نهر دجلة بقيت سوداء لمدَّة ستَّة أشهر، وذلك بسبب حبر الكُتُب
التي رُميت فيه.
لا شكَّ أنَّ زلزالاً مدمِّراً عصف بالتراث الشيعي، ففداحة التلف وضخامة الضياع
نتيجةً للتعصُّب المذهبي والمنهج الجاهلي وعقاب المنتصر الغالب والتنكيل بالخصوم،
حرم الإنسانيَّة من ثروة فكريَّة غنيَّة بالكنوز والنفائس نتيجة حرق خزائن علم لا
تعوُّض.. ولو كُتِبَ البقاء لمؤلَّفات الشيعة في القرنين الرابع والخامس الهجري
الذي كان في قمَّة العطاء، لكانت دور الكُتُب حاليًّا أغنى ما تكون بالآثار
الشيعيَّة، فعندما نفقد (الأُصول الأربعمائة) مثلاً: وهي عبارة عن أربعمائة كتاب
حديثي دوَّنها أربعمائة من مشاهير علماء القرن الثاني الهجري، وكبار محدِّثي ذلك
العصر من أصحاب الإمامين جعفر الصادق وموسى الكاظم (عليهما السلام)، وجميعها ضاع
واندثر نتيجة العمليَّات المخزية
من حرق المكتبات
الشيعيَّة.. يا ترى كم كُتِمَ عنَّا من أحاديث رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
وأهل بيته (عليهم السلام)، وكم كان فيها أحاديث صحيحة مسلسلة عن رسول الله (صلَّى
الله عليه وآله) في حقِّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد ضاعت منَّا بسبب هذا
النوع من الكتمان، وأيُّ الحقائق والمعلومات التي كانت فيها.. لكن ماذا تقول على
الجهل والحقد الأعمى؟! ممَّا يعكس أعلى درجات التخلُّف! ولكن قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ
أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (التوبة: ٣٢).
تلك الأحداث حقائق تاريخيَّة مؤلمة، كنَّا نتوقَّعها نهاية المطاف للكوارث التي
حلَّت بالتراث المهدوي الشيعي في مجال نهب وحرق الكُتُب والمكتبات الشيعيَّة، وأنْ
تكون فعلاً من التاريخ وحَدَثاً مظلماً من الماضي.. وإذا بنا نشهد المسلسل يتكرَّر
والمأساة تعود من جديد في العصور اللَّاحقة والحديثة من تدمير وسرقة للتراث الفكري
الإسلامي بشكلٍ عامٍّ والشيعي بشكلٍ خاصٍّ، من قِبَل الاستعمار الأجنبي والحكومات
الطائفيَّة الظالمة!
هل التراث المهدوي الشيعي مفقود؟
* التراث المهدوي الشيعي لا يزال مفقوداً: بحكم الواقع الإحصائي، وذلك لأنَّ إحصاء
ما نُشِرَ من هذا التراث المرتبط بالشأن المهدوي، ومقارنته بما لم يزل مخطوطاً أو
بما ضاع مع الزمن، يدلُّ على أنَّ نسبة التراث المتوفِّر بين أيدينا من تراث الرسول
(صلَّى الله عليه وآله) وتراث أهل البيت (عليهم السلام) وتراث الناحية المقدَّسة أو
تراث علماء الشيعة لا يزيد على عشرة بالمئة من مجموع التراث الحقيقي أو أقلّ من
ذلك.
* التراث المهدوي الشيعي لا يزال مفقوداً: بحكم تداعيات الكتمان والأوضاع
الأمنيَّة، فقد مرَّ الشيعة في ظروف وواقع حياة أمنيَّة متأزِّمة عقب استشهاد
الإمام العسكري وفترة الغيبة الصغرى، فكانت القاعدة الأساس عدم
نشر تواقيع
الناحية المقدَّسة، واقتضى الأمر بعض الأحيان تمزيقها من قِبَل أصحابها، ممَّا
خسَّر البشريَّة رسائل مهمَّة لإمام الزمان، الذي لم يصل لنا منها إلَّا أقلّ من
(٠.٢٥%) ربع بالمائة(١٨٣).
* التراث المهدوي الشيعي لا يزال مفقوداً: بحكم محاربة الأعداء له، وذلك لأنَّ هذا
التراث ظلَّ ممتدًّا في الزمان والمكان ردحاً طويلاً من الوقت، فمرَّ بمنحنيات
كثيرة ولم يعرف ثبات الأحوال، حيث جاءت حكومات التعصُّب الطائفي (مثل السلاجقة)
وحملات الاستعمار الأجنبي (مثل المغول)، فكان ما كان فأُحرقت الكثير من كُتُب العلم
والفكر للطائفة الشيعيَّة وضاع الكثير من التراث المهدوي.
* التراث المهدوي الشيعي لا يزال مفقوداً: بحكم عدم اكتشافه والاطِّلاع عليه، فهذا
التراث يُعتبَر من أثمن الكنوز العلميَّة في التاريخ الإنساني، وذلك لدوره
المتوقَّع في مستقبل البشريَّة، لكنَّنا لم نستكشفه أو نستفيد منه، فنحن الذين
ننتسب لهذا التراث لا نُدرِك قيمته العلميَّة، وهو غير مستكشَف بالكامل لدينا أو
بكامل محتوياته ومضامينه، كما أنَّه مغيَّب وغير معروف لعموم المؤمنين.
* التراث المهدوي الشيعي لا يزال مفقوداً: بحكم منطق الإلغاء والتغييب للعقيدة
المهدويَّة ومحاولة تحريف مفاهيمها، فنرى انحياز بعض السلطات الحاكمة لمذهبها
وإلغاء أو محاربة تراث الفِرَق الإسلاميَّة الأُخرى، ويصل منطق الإلغاء والتغييب
بسبب النظرة الأُحادية الضيِّقة إلى حدَّ منع كُتُب المذاهب الأُخرى، وعدم الاعتراف
بثراء التراث المهدوي.
* التراث المهدوي الشيعي لا يزال مفقوداً: بحكم عدم الوعي به وإدراك
-----------------
(١٨٣) (توقيعاً واحداً تقريباً وصل إلينا من مجموع (٤١١) توقيعاً على الأقلّ في السنة الواحدة من سني عصر الغيبة الصغرى). صحيفة صدى المهدي (العدد ١٤/ شهر رجب ١٤٣١هـ/ مقال السيِّد محمّد القبانجي مدير مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)).
أهمّيَّته، وذلك
لأنَّنا حين ننظر في المصنَّفات المهدويَّة الحديثة (الكتابات الجديدة)، لا نجد في
مراجع هؤلاء الكُتَّاب مخطوطة واحدة اعتمدوا عليها أو بحثوا عنها في خزائن العلم،
بمعنى أنَّهم اعتمدوا على المنشور المعلوم، بينما هذا المعلوم لا يُمثِّل إلَّا
أقلّ القليل من جملة التراث المهدوي الحقيقي.
* التراث المهدوي الشيعي لا يزال مفقوداً: بحكم انعدام الخطَّة المنهجيَّة للاهتمام
به، من ناحية التنقيب عن الضائع منه، وكذلك طبع ونشر المخطوط منه، بالإضافة لإرسال
البعثات العلميَّة للحصول على النُّسَخ الخطّيَّة الحبيسة في خزائن المخطوطات
ببلدان الشرق والغرب، ثمّ تحقيقها ونشرها.
وعلى هذا النحو صار التراث المهدوي الشيعي مفقوداً ومجهولاً وضائعاً، ولذلك جاءت
هذه الدراسة لتُعرِّفنا بأهمّيَّته وبحجمه، وتصرخ بصوتٍ عالٍ تطالب بانتشال الثروات
المهدويَّة العلميَّة المدفونة في زوايا المكتبات، أو التراث الضخم الذي تراكم
الغبار عليه، ممَّا يجعل إخراجه إلى عالم النور وبسرعة قصوى أمراً ضروريًّا وملحًّا
قبل أنْ يُتلَف مع الزمن.. فالواجب علينا أنْ نطلَّ على المخطوطات القريبة منَّا،
وأنْ نتعرَّف على الكثير من ذخائر التراث المهدوي المنزوي في الخزانات الخطّيَّة..
ومن جهة أُخرى نصبُّ اهتمامنا في البحث عن التراث المهدوي الإسلامي المسروق في
مكتبات الشرق والغرب، فما زال هذا الكنز بعيداً عن دائرة الضوء، وعلينا أنْ نُقبِل
على البحث عنه واكتشافه ونشره، فنزيد نسبة المعروف من هذا التراث ونُقلِّل المفقود
والمجهول منه.
ينبغي الحفاظ على التراث المهدوي الشيعي وإنقاذه من الضياع والاندثار، ولا بدَّ أنْ
يستوعب المؤمنون هذه المعادلة: إنَّ حماية التراث الفكري والحفاظ عليه هي حماية
للهويَّة الذاتيَّة والحفاظ عليها، فتراث الأُمَم ركيزة أساسيَّة من ركائز الهويَّة
الثقافيَّة.
* * *
لقد استعرضنا في
الصفحات السابقة مسيرة التراث المهدوي الشيعي، ولم يكن استعراضنا هذا ضرباً من
التاريخ، بالقدر الذي كان يهدف إلى تتبُّع واستقراء التطوُّر المعرفي والفكري في
المسار التصاعدي والمستجدَّات المتراكمة في الثقافة المهدويَّة، فلم نقارب الوقائع
والأحداث التاريخيَّة إلَّا بالمقدار الذي يُقرِّبنا من المفاهيم والتصوُّرات، ومن
وراء ذلك كنَّا نرمي في نهاية المطاف إلى فتح آفاق مستقبليَّة جديدة:
١ - التراث المهدوي المرتبط بالوحي الإلهي (بشقَّيه الكتاب والسُّنَّة) والذي
يُميِّز التراث الشيعي عن غيره، وهو على قدر كبير من الأهمّيَّة، فإنَّنا نجد
الجانب المرتبط بالسُّنَّة الشريفة ومرويَّات العترة الطاهرة قد ضاع الكثير منه،
وخسرت الإنسانيَّة ثروات علميَّة هائلة، لذا فالمسؤوليَّة التاريخيَّة تفرض علينا
البحث والتنقيب عن الضائع والمفقود منه، وذلك على أكثر من صعيد:
* الأحاديث الشريفة المتعلِّقة بالشأن المهدوي والتي لم تصلنا.
* توقيعات الناحية المقدَّسة والتي فقدنا معظمها.
* المصنَّفات المهدويَّة القديمة لعلماء الطائفة التي ضاعت.
٢ - المراجعات والتجديدات في الثقافة المهدويَّة من مظاهر النضج والتطوُّر، والتراث
المهدوي يحمل منطلقات ومرتكزات تأسيسيَّة وتأصيليَّة متينة.. فهناك ضرورة بأنْ
نستوحي من تراثنا روح التقدُّم والعصر ونندفع نحو
التجديد
والابتكار، فنحافظ على المسار التصاعدي للمعارف المهدويَّة، ولن يتمَّ ذلك إلَّا
بالتوسُّع في الدراسات والبحوث ذات المنهج العقلي والتحليلي، وأنْ تواكب كتاباتنا
القادمة المستوى الفكري للحياة الإنسانيَّة المعاصرة، بل نطمح أنْ تتقدَّم عليه
وتكون رائدة في هذا المجال، وأنْ يكون هناك اقتران دائم بين المهدويَّة والمستقبل
المشرق للبشريَّة، وألَّا خلاص نهائي لمآزق شعوب العالم إلَّا بالتطبيق الفعلي
لدولة العدل الإلهي على يد الإمام المهدي.
٣ - المهدويَّة حركة عالميَّة لا تقتصر على طائفة معيَّنة أو دين معيَّن، بل هي
لكلِّ البشريَّة.. والترجمة اللغويَّة من أوضح الصور والأمثلة على التواصل بين
الثقافات والحضارات المختلفة، ولها دور وخصوصيَّة في رفد الثقافة والمعارف
المهدويَّة من خلال الأخذ والعطاء، وكذلك لها بالغ الأثر في التواصل ثقافيًّا مع
الآخر (غير المسلم)، إضافةً لحسن الأثر في حفظ التراث وحمايته من الاندثار،
فيتحتَّم أنْ يكون عندنا برنامج جادٌّ لترجمة المصنَّفات المهدويَّة المميَّزة
(القديمة والحديثة)، بحيث يواكب حركة التأليف والتدوين حركة ترجمة نشطة من اللغة
العربيَّة إلى اللغات الأُخرى والعكس، فنخلق فرصة للانفتاح على الحضارات الأُخرى،
وعندما ننهل من تراثنا المهدوي الصفحات المشرقة وننقلها للآخر ونُعرِّفه
بالمهدويَّة الأصيلة، فإنَّ ذلك يعكس نظرتنا الإيجابيَّة لتراثنا.
٤ - إنَّ الجامعات التعليميَّة الإسلاميَّة لم تُعطِ القضيَّة المهدويَّة اهتماماً
كافياً أو عناية بالشكل التي تستحقُّ، فمراجعة سريعة لعناوين أُطروحات الماجستير
والدكتوراه تكشف لنا صورة الإهمال المفجع للمسألة المهدويَّة، حتَّى إنَّ المرء
ليُصاب بالدهشة عندما يجد مئات الأبحاث حول الفِرَق الضالَّة والهدَّامة، بينما لا
يجد شيئاً يُذكر حول الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).. ولنا أنْ نتساءل عن أسباب
مثل هذا الإهمال والعزوف عن البحث والدراسة في العقيدة المهدويَّة
وارتياد
آفاقها؟.. أمَا آن لجامعاتنا أنْ تستفيد من هذه الثروة العلميَّة الزاخرة، ونجعلها
محوراً لدراستنا وأبحاثنا الأكاديميَّة، ونُوسِّع نطاق البحث فيها، ونُسخِّر
الإمكانيَّات الجامعيَّة للنهل من التراث المهدوي الضخم؟! فالمهدويَّة كمشروع حضاري
عالمي (إلهي) ينتظر محاولة الاستكشاف واستشراف رؤى المستقبل.
٥ - إنَّ دراسة الأولويَّات الراهنة وخصوصيَّات المرحلة المعاصرة، تجعلنا نضع
منهجاً لمسيرة التراث المهدوي القادم والمستقبلي، ولكن عند النظر لميزان
أولويَّاتنا حاليًّا نجده مختلًّا وبه مفارقات عجيبة، فكثير من اهتماماتنا
الحاليَّة منصَّبة على علامات الظهور، لذا يجب معرفة متطلِّبات المرحلة وترتيبها
حسب الأهمّيَّة وتقديم الأهمّ على المهمِّ.. فمثلاً أيُّهما أولى: أنْ تُؤلِّف
كتاباً يتكلَّم عن علامات الظهور والتي تدلُّ على اليوم الموعود، ويُرتِّبها
ويُصنِّفها الكاتب بناءً على الروايات، ويشرحها على ضوء التحليل العلمي والمنطقي
لديه، أم تُؤلِّف كتاباً يتكلَّم عن شرائط الظهور والتي ترتبط بمقتضيات النجاح
لليوم الموعود، ويُقدِّم أُطروحات جديدة في مسيرة التمهيد المهدوي؟.. إذن ينبغي أنْ
نتحلَّى برؤية منهجيَّة شاملة تخلق لنا ثقافةً وسلوكاً (فقه الأولويَّات المهدويَّة)
يرسم لنا ملامح ومتطلِّبات المراحل التاريخيَّة حسب أهمّيَّتها فلا ننشغل
بالجزئيَّات عن الأساسيَّات، ممَّا يضمن أنْ تواكب كتاباتنا مقتضيات العصر ومسيرة
التمهيد المهدوي.
٦ - إنَّ قراءة مسيرة التراث المهدوي الشيعي ودراسته بقدر كبير من الوعي والإدراك
التاريخي والحضاري، ودمجها مع متطلِّبات مسيرة التمهيد المهدوي وأولويَّات المرحلة
المعاصرة، يرسم لنا ضرورة الانتقال من الماضي إلى الانفتاح على العصر والنظر إلى
المستقبل واستشراف آفاقه وتحدّياته، ومن هذه
التحدّيات
والأولويَّات الهامَّة في وقتنا الحالي هو تعريف المهدويَّة لدى الشعوب غير المؤمنة
بدين الإسلام، فحقائق المهدويَّة مجهولة لديهم ولا تعرف شيئاً عنه، وإذا حان موعد
ظهوره لا تعرف ماذا سيفعل وماذا سيُحقِّق وماذا سينشر، فكيف إذاً لمثل هذه الشعوب
أنْ تؤمن به حين ظهوره، وكيف ستُؤيِّده وتؤازره، وهي لا تعرف أدنى معلومات أو حقائق
عن قضيَّته وأهدافه.. إذن نحن بحاجة لإيصال الثقافة المهدويَّة والمعارف
الربَّانيَّة لكلِّ شعوب العالم، فهذه ضرورة ملحَّة تقتضيها مرحلتنا التاريخيَّة
المعاصرة، فهل أخذنا على عاتقنا التبشير للمهدويَّة وبشكل إيجابي لدى الآخر غير
المسلم، فنوصل المهدويَّة الأصيلة للشعوب وللمؤسَّسات الأكاديميَّة والإعلاميَّة
العالميَّة، ونخاطبهم باللغة والأُسلوب الذي يُؤثِّر فيهم؟!
نحن نراهن على مستقبل التراث المهدوي وأفكاره ومعارفه، وقدرته على صنع المستقبل
المشرق للبشريَّة، والمحافظة على فاعليَّة ثقافته.. فأمام الكتابات والدراسات
المهدويَّة مسار طويل من البناء والإنجاز والتقدُّم، لأنَّ البحث عن موقع رائد في
فضاء الفكر العالمي والتواصل مع الحضارات المختلفة، ليس مجرَّد رغبة أو دعوة إنَّما
هو فعل متراكم من التطوُّر المستمرِّ والقدرة على صنع ثقافة تواكب متطلِّبات العصر
وحاجات المستقبل.. وفي ختام بحثنا نطرح هذا السؤال: كيف نستطيع أنْ نستلهم من
تراثنا المهدوي آفاقاً مستقبليَّة، ونبعث روح الإبداع والابتكار في أقلامنا، ونندفع
نحو التطوير والتجديد في ثقافتنا المهدويَّة؟
* * *
السلام عليك يا
بقيَّة الله، السلام عليك يا ابن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، السلام عليكم
يا أهل بيت النبوَّة، ومعدن العلم، وموضع الرسالة ورحمة الله وبركاته.
مولاي: يطيب لي أنْ أُخاطبك، فمن أجمل لحظات حياتي أنْ أُكلِّمك أو أكتب لك أو أكتب
عنك.. سيِّدي هذا كتابي الرابع الذي أسطره عنك، وللحقِّ أقول: كم تزيدك الأيَّام
جمالاً وبهاءً، لدرجة لم أتوقَّف عن التفكير بك أبداً، فكلَّما قرأت أو كتبت عنك
أكتشف جانباً آخر من مقامك لم أكن أعرفه، ممَّا يجعلني ألمس فيك مقام الإمامة وأدرك
معناها.
مولاي: حاجتنا إليك ضروريَّة، فأنت تُمثِّل الضمان الحقيقي لحفظ الإسلام ومتابعة
المسيرة بعد النبوَّة الخاتمة، إضافةً إلى دورك في قيادة الأُمَّة وتحقيق الأهداف
الإلهيَّة في المجتمع البشري، فنحن مكلَّفون يا إمامي باقتفاء أثرك والسير على نهجك
والالتزام بأمرك والثبات على ولايتك، وكلُّ ذلك يقتضي معرفتك.. يا صاحب العصر، إنَّ
معرفتك أساس لمعرفة الله ومعرفة رسوله ومعرفة طريق الهداية والثبات على الصراط
المستقيم والإنقاذ من الجاهليَّة، والجهل بك يُؤدِّي إلى الانحراف والكفر والإلحاد
والضلال عن الدِّين والبُعد عن طريق النجاة.
مولاي: معرفتك ميزان الحقيقة وأُمُّ المعارف، فأنتم سفينة النجاة، ممَّا يدعنا
نتساءل: ما هي المعرفة المطلوبة؟ هل يكفي معرفة اسمك وهويَّتك فقط،
أم أنَّ هناك
معرفة أهمّ؟.. إنَّ معرفة الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) نوعان أو على
درجتين:
الأُولى: معرفة لعامَّة الناس، وذلك الحدُّ الأدنى المطلوب، وهي: (الإقرار بأنَّه
إمام مفترض الطاعة)، بمعنى: الإقرار: أي الالتزام بذلك قولاً وعملاً، أنَّه أي (م ح
م د) ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، إمام: وهو القائد الذي يُتَّبع،
مفترض: التعيين الإلهي والاصطفاء، الطاعة: التسليم له في كلِّ أمر (التكليف
الشرعي).. وبمعنى آخر يمكن القول: إنَّ المعرفة هي تمام الحجَّة بلزوم الطاعة.
الثانية: معرفة خاصَّة، وهي للمؤمنين والعاشقين والعارفين، إنَّها المعرفة
الحقيقيَّة، معرفة المأموم بالإمام، والتابع بالمتبوع، والرعيَّة بالقائد، معرفة
كلِّ ما يتعلَّق به من اسم وهويَّة وتاريخ، وعلامات الظهور وشرائط اليوم الموعود،
معرفة فضائله ومناقبه ومقاماته عند الله، معرفة الواجبات تجاهه والسير على خطاه
وانتظاره والتمهيد لخروجه وتحقيق أهدافه.
مولاي: العارف بحقِّك يُدرِك أنَّك الخليفة في الأرض، وأنَّك بقيَّة الله والسبيل
إليه، وأنَّك الشمس الطالعة والقمر المنير والأنجم الزاهرة، وأنَّك داعي الله
وربَّاني آياته، وباب الله وناصر حقِّه، وحجَّة الله ودليل إرادته، وتالي كتاب الله
وترجمانه، وأنَّك ميثاق الله ووعده، وأنَّك العَلَمُ المنصوب والعِلْمُ المصبوب،
وأنَّك الغوث والرحمة الواسعة، وأنَّك أمل المستضعفين ورجاء الصالحين، وأنَّك بداية
الخير ونهاية الشرِّ، وبداية العدل ونهاية الظلم، وأنَّك من آل يس ومرآة كاملة
المَظهَر للرسول ولأمير المؤمنين، وأنَّك وآباءك أفضل خلق الله، فالبحر نقطة في
فضاء فضلكم.. سيِّدي أيُّ مقامٍ خصَّك الله به حتَّى عجزت عقولنا عن إدراكه وفهمه،
وكم منقبة كبيرة وكرامة عظيمة ومنزلة رفيعة وشرف شامخ لم نُدرِكه.. حقًّا الإمام
المهدي (روحي فداه) فخرنا، الذي ظلمناه ولم نعرفه حقَّ المعرفة.
مولاي: سبيلك لا
خفاء فيه، وعلاماتك مضيئة، وطريقك ومنهجك واضح لأصحاب البصائر، فالمسيرة انطلقت من
الرسول الأكرم وبكم تُختَم، فمَنْ لحق بركبكم نجا، ومَنْ تخلَّف عنكم هلك.. سيِّدي
معرفتك ترجمة عمليَّة صحيحة للالتزام بخطِّ الله تعالى، حينما ينسجم فعلنا مع قولنا
ويوافق سرُّنا علانيتنا، وهذا سلوك طريق المعرفة.. سيِّدي معرفتك لها وسائل ودلائل،
والارتباط بك يُترجَم إلى إيمان وتمهيد، ومحبَّتك وعشقك يُحتِّم علينا معرفة
نُوَّابك الفقهاء وتطبيق أحكامهم.
مولاي: إنَّ إيماننا بوجودك يزرع في أنفسنا الأمل بالخلاص والاطمئنان إلى الفرج
والنصر، وإنَّ معرفتك مفتاح جميع أبواب الخير والسعادة والرحمة.. يكفينا يا سيِّدي
الأمل بالانتظار والثقة بالظهور، واليقين بأنَّ الاستخلاف في الأرض سيتحقَّق بأبهى
صورة له على يديك.. سيِّدي نحن أصحاب الحظوة الذين وفَّقهم الله تعالى لنكون من
شيعتك ومحبِّيك، نحن المنتظرون وبكلِّ شوق لرؤيتك ورؤية عهدك، من دون أنْ نتوقَّف
لحظة واحدة عن الاستعداد والتمهيد لظهورك.. نُؤكِّد لك يا مولاي أنَّنا متمسِّكون
بالولاية، وثابتون على نهجها، ومستعدُّون للدفاع عنها، ونعيش حالة اليقين بالفرج
والظهور، ولا يخفى عليك سيِّدي فلقد بلغ عشقنا وشوقنا لكم مبلغاً عظيماً.
مولاي: كلُّ يوم يمرُّ علينا يُقرِّبنا من يومك الموعود، وإنَّ الأيَّام تُؤكِّد
مدى حُبِّي لك، ورغبتي الصادقة في قضاء ما بقي من حياتي في التعرُّف على فضائلك
ومناقبك، لقد اكتملت حياتي بوجودك، وأشرقت شمسك في سماء كياني، وصارت أُمنيتي
الوحيدة أنْ ترضى عنِّي حتَّى آخر يوم بعمري، وقلبي واقف على ساحل بحر جودك وكرمك
يرجو الشفاعة، فمتى تمنُّ عليَّ برشفة من ماء فضائلكم؟.. إلهي أُقسم عليك بمحمّد
وآله، والقرآن وآياته، أنْ أُسْعِدَ قلب
إمامي صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه).. يا يوسف الزهراء، ويا قرَّة عين البتول، أوف لنا الكيل وتصدَّق علينا، وانظر لنا نظرة رحيمة، فتحنَّن علينا بأنْ تجعلنا من همِّك وتحت عين رعايتك، فنحن متأكِّدون بأنَّك لا تنسى محبِّيك ورعاياك.. اللَّهُمَّ لا تُفرِّق بيننا وبينه أبداً في الدنيا والآخرة، واجعلنا من شيعته وأنصاره وأعوانه، ووفِّقنا لخدمته وأنْ نحظى برؤيته، اللَّهُمَّ عجِّل فرجه وسهِّل مخرجه.
والحمد لله ربِّ العالمين
* * *
١ - القرآن
الكريم.
٢ - الاحتجاج: أحمد بن عليٍّ الطبرسي/ تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/
١٣٨٦هـ/ دار النعمان/ النجف الأشرف.
٣ - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ ط ٢/ ١٤١٤هـ/
دار المفيد/ بيروت.
٤ - أصالة المهدويَّة في الإسلام في نظر أهل السُّنَّة والجماعة: الشيخ مهدي فقيه
الإيماني/ ترجمة: السيِّد محمّد رضا المهري/ ط ١/ ١٤٢٠هـ/ مؤسَّسة المعارف
الإسلاميَّة/ قم.
٥ - أعيان الشيعة: السيِّد محسن الأمين/ تحقيق وتخريج: حسن الأمين/ دار التعارف
للمطبوعات/ بيروت.
٦ - اقرأ حول الإمام المهدي: مهدي حسن علاء الدِّين/ ط ١/ ١٩٩٩م/ بيروت.
٧ - الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الأديان: الشيخ مهدي خليل جعفر/ ط ١/
١٤٢٩هـ/ دار المحجَّة البيضاء.
٨ - الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في مصادر علماء الشيعة (من القرن الثالث إلى
القرن الحادي عشر): إعداد وتحقيق: مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي
(عجَّل الله فرجه)/ ط ٢/ ١٤٤٣هـ/ النجف الأشرف.
٩ - الإيقاظ من
الهجعة: الحرُّ العاملي/ تحقيق: مشتاق المظفَّر/ ط ١/ ١٤٢٢هـ/ مطبعة نكارش/ دليل
ما/ قم.
١٠ - البابيَّة والبهائيَّة أو نصائح الهدى والدِّين إلى مَنْ كان مسلماً وصار
بابيًّا: الشيخ محمّد جواد البلاغي/ تصحيح وإعداد: السيِّد محمّد عليّ الحكيم/ ط ١/
١٤٢٤هـ/ دار المحجَّة البيضاء/ بيروت.
١١ - البابيُّون والبهائيُّون في حاضرهم وماضيهم: السيِّد عبد الرزَّاق الحسني/ ط
١/ ١٣٧٦هـ/ مطبعة العرفان/ صيدا.
١٢ - بحوث في الحياة السيَّاسيَّة لأهل البيت (عليهم السلام): إعداد: مركز نون
للتأليف والترجمة/ الناشر: جمعيَّة المعارف الإسلاميَّة الثقافيَّة/ ط ١/ ١٤٣٢هـ.
١٣ - البرهان على وجود صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه): السيِّد محسن الأمين الحسيني
العاملي/ تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله
فرجه)/ ط ٢/ ١٤٤١هـ/ النجف الأشرف.
١٤ - البهائيَّة تحت المجهر: أحمد عبد العزيز الفالي/ نقحَّه وأشرف على إخراجه:
محمّد باقر الموسوي الفالي/ ط ١/ ١٤٣٣هـ/ دار العلوم/ بيروت.
١٥ - تاريخ الدولة الصفويَّة (في إيران): الدكتور محمّد سهيل طقُّوش/ ط ١/ ١٤٣٠هـ/
دار النفائس/ بيروت.
١٦ - تاريخ الغيبة الصغرى: السيِّد محمّد الصدر/ ١٤١٢هـ/ دار التعارف/ بيروت.
١٧ - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): المنسوب إلى الإمام العسكري(عليه
السلام)/ ط ١ محقَّقة/ ١٤٠٩هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
١٨ - تفسير القمِّي: عليُّ بن إبراهيم القمِّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيِّب
الموسوي الجزائري/ ط ٣/ ١٤٠٤هـ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
١٩ - حوارات حول
المنقذ: العلَّامة الشيخ إبراهيم الأميني/ ترجمة: كمال السيِّد/ ط ٢/ ١٤٢١هـ/
مؤسَّسة أنصاريان/ قم.
٢٠ - حياة الإمام المهدي (عليه السلام): الشيخ باقر شريف القرشي/ ط ١/ ١٤١٧هـ.
٢١ - دروس في تاريخ عصر الغيبة: مسعود بور سيِّد آقائي وآخرون/ تعريب: أنور الرصافي/
ط ١/ ١٤٢٨هـ/ منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلاميَّة/ قم.
٢٢ - الدور الحضاري للشيعة الإماميَّة خلال القرنين الرابع والخامس الهجريَّين (٣٠٠
- ٥٠٠هـ): عبد الإله عليّ حسن البلداوي/ ط ١/ ٢٠١٢م/ مركز عكبرا للدراسات والبحوث/
العراق.
٢٣ - ديوان السيِّد حيدر الحلِّي: السيِّد حيدر الحلِّي/ تحقيق: عليٌّ الخاقاني.
٢٤ - ديوان السيِّد رضا الهندي: السيِّد رضا الهندي الموسوي/ جمع: السيِّد موسى
الموسوي/ مراجعة وتعليق: السيِّد عبد الصاحب الموسوي/ ط ١/ ١٤٠٩هـ/ دار الأضواء/
بيروت.
٢٥ - الذريعة إلى تصانيف الشيعة: آغا بزرك الطهراني/ ط ٣/ ١٤٠٣هـ/ دار الأضواء/
بيروت.
٢٦ - رجال الطوسي (الأبواب): الشيخ الطوسي/ ط ١/ ١٤١٥هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.
٢٧ - رؤى مهدويَّة (شذرات فكريَّة في القضيَّة المهدويَّة): مجتبى السادة/ ط ١/
١٤٣٧هـ/ أطياف للنشر والتوزيع/ المملكة العربيَّة السعوديَّة/ القطيف.
٢٨ - سرور أهل الإيمان في علامات صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه): السيِّد بهاء
الدِّين عليّ النيلي النجفي/ ط ١/ ١٤٢٦هـ/ دليل ما/ قم.
٢٩ - شرح إحقاق
الحقِّ: السيِّد شهاب الدِّين المرعشي النجفي/ تصحيح: السيِّد إبراهيم الميانجي/
منشورات مكتبة آية الله المرعشي/ قم.
٣٠ - عقيدة المسيح الدجَّال في الأديان (قراءة في المستقبل): سعيد أيُّوب/ ط ٢/
١٤٢٣هـ/ دار الهادي/ بيروت.
٣١ - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: فارس حسُّون كريم/ ط ١/ ١٤٢٢هـ/ أنوار
الهدى.
٣٢ - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط ١/
١٤١١هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
٣٣ - الفتن: أبو عبد الله نعيم بن حمَّاد المروزي/ تحقيق وتقديم: سهيل زكار/
١٤١٤هـ/ دار الفكر/ بيروت.
٣٤ - الفجر المقدَّس (المهدي (عليه السلام) إرهاصات اليوم الموعود وأحداث سنة
الظهور): مجتبى السادة/ ط ١/ ١٤٢١هـ/ دار الخليج العربي للطباعة والنشر/ بيروت.
٣٥ - الفقيه والدولة (الفكر السياسي الشيعي): فؤاد إبراهيم/ الطبعة الجديدة/
١٤٣٣هـ/ دار المرتضى/ بيروت.
٣٦ - الكتاب المقدَّس (العهد الجديد): الكنيسة/ ١٩٨٠م/ دار الكتاب المقدَّس.
٣٧ - الكتاب المقدَّس (العهد القديم): الكنيسة/ ١٩٨٠م/ دار الكتاب المقدَّس.
٣٨ - كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشر: أبو القاسم عليُّ بن محمّد
الخزَّاز القمِّي الرازي/ تحقيق: السيِّد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري الخوئي/
١٤٠١هـ/ انتشارات بيدار.
٣٩ - كلمة الإمام
المهدي: السيِّد حسن الشيرازي/ ط ٢/ ١٤٠٣هـ/ هيأة محمّد الأمين (صلَّى الله عليه
وآله).
٤٠ - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/
١٤٠٥هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
٤١ - اللؤلؤ المرتَّب: السيِّد محمّد رضا الشاه عبد العظيمي/ مراجعة وتقديم:
السيِّد عليٌّ الهاشمي/ ط ٢/ ١٣٨٦هـ/ مكتبة الثقافة الدِّينيَّة/ النجف الأشرف.
٤٢ - لؤلؤة البحرين (في الإجازات وتراجم رجال الحديث): العلَّامة الشيخ يوسف بن
أحمد البحراني/ حقَّقه وعلَّق عليه: العلَّامة السيِّد محمّد صادق بحر العلوم/ ط ١/
١٤٢٩هـ/ مكتبة فخراوي/ المنامة.
٤٣ - محبوب القلوب (المقالة الأُولى في أحوال الحكماء وأقوالهم من آدم (عليه
السلام) إلى بداية الإسلام): قطب الدِّين محمّد بن الشيخ عليٍّ الاشكوري الديلمي
اللَّاهيجي/ تقديم وتصحيح: الدكتور إبراهيم الديباجي والدكتور حامد صدقي/ ط ١/
١٤٢٠هـ/ مرآة التراث/ طهران.
٤٤ - المحجَّة فيما نزل في القائم الحجَّة (عليه السلام): السيِّد هاشم البحراني،
تحقيق وتعليق: محمّد منير الميلاني/ ١٤١٣هـ/ مؤسَّسة النعمان/ بيروت.
٤٥ - مختصر كفاية المهتدي لمعرفة المهدي (عجَّل الله فرجه): السيِّد محمّد مير لوحي
الأصفهاني/ ترجمة وتحقيق: السيِّد ياسين الموسوي/ ط ٢/ ١٤٤٣هـ/ مركز الدراسات
التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ النجف الأشرف.
٤٦ - مذكَّرات دالكوركي: كينياز دالكوركي/ تعريب: السيِّد أحمد الموسوي الفالي/
مركز القائميَّة بأصفهان.
٤٧ - المسائل
العشر في الغيبة: الشيخ المفيد/ تحقيق: فارس تبريزيان الحسُّون/ مركز الأبحاث
العقائديَّة/ قم.
٤٨ - معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ ط
٢/ ١٤٢٨هـ/ مسجد مقدَّس جمكران/ قم.
٤٩ - معجم رجال الحديث: السيِّد الخوئي/ ط ٥/ ١٤١٣هـ.
٥٠ - معجم ما كُتِبَ عن الرسول وأهل البيت (صلوات الله عليهم): عبد الجبَّار
الرفاعي/ ط ١/ ١٣٧١ش/ سازمان چاپ وانتشارات وزارت فرهنگ وارشاد اسلامي.
٥١ - المقنع في الغيبة: الشريف المرتضى/ تحقيق: محمّد عليّ الحكيم/ ط ١/ ١٤١٦هـ/
مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ قم.
٥٢ - من التراث إلى الاجتهاد (الفكر الإسلامي وقضايا الإصلاح والتجديد): زكي
الميلاد/ ط ١/ ٢٠٠٤م/ المركز الثقافي العربي.
٥٣ - المهدي المنتظَر عند الشيعة الاثني عشريَّة: جواد عليّ/ ترجمه عن الألمانيَّة:
د. أبو العيد دودو/ ط ١/ منشورات الجمل/ ألمانيا.
٥٤ - موجز التاريخ الإسلامي: أحمد معمور العسيري/ ط ١/ ١٤١٧هـ.
٥٥ - الموسوعة الشعريَّة المهدويَّة: الحاجّ عبد القادر الشيخ عليّ أبو المكارم/ ط
١/ ١٤٣١هـ/ دار العلوم/ بيروت.
٥٦ - موسوعة تاريخ إيران السياسي (من بداية الدولة الصفويَّة إلى نهاية الدولة
القاجاريَّة): الدكتور حسن كريم الجافّ/ ط ١/ ١٤٢٨هـ/ الدار العربيَّة للموسوعات/
بيروت.
٥٧ - نشوء وسقوط الدولة الصفويَّة: كمال السيِّد/ ط ١/ ١٤٢٦هـ/ مكتبة فدك/ قم.
٥٨ - النصيحة
الإيمانيَّة في كشف فضائح البابيَّة والبهائيَّة: الحسيني الحسيني معدِّي/ ط ١/
٢٠٠٧م/ دار الكتاب العربي/ دمشق - القاهرة.
٥٩ - النظريَّة المهدويَّة في فلسفة التاريخ: الأسعد بن عليٍّ قيدارة/ ط ١/ ١٤٣٣هـ/
مركز الأبحاث العقائديَّة/ قم.
٦٠ - النور الغائب (الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والادِّعاءات الكاذبة في العصر
الحديث): مجتبى السادة/ ط ١/ ١٤٢٨هـ.
* * *
