نظم الدرر في الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)
شرح القصيدة الصاحبية لآية الله السيد رضا الموسوي الهندي في إثبات القضية المهدوية
السيد جواد السيد علاء الموسوي الهندي
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام
المهدي (عجَّل الله فرجه)
الطبعة الأولى - ١٤٤٧هـ
الفهرس
مقدِّمة المركز...................٣
الأدبُ
العَقَائِديُّ...................٣
الشعرُ العَقائديُّ
الحَوزَوِيُّ...................٥
الشاعرُ
والقصيدةُ...................٥
دعاءٌ
وخاتمةٌ...................٦
مقدِّمة
المحقِّق:...................٧
تقديم...................٩
(١) تعريف مختصر بصاحب
القصيدة...................١١
(٢) تعريف بالقصيدة
البغداديَّة...................١٩
(٣) تعريف بالقصيدة المراد
شرحها...................٢٣
المقدِّمة...................٣١
لا خلاف في حقيقة المنقذ
المسمَّى بالمهدي...................٣٥
حسنيٌّ أم
حسينيٌّ؟...................٣٦
تاريخ الولادة
الشريفة...................٣٨
مقالة فيها مجموعة من
الأبحاث الكلاميَّة...................٣٩
الحكمة الإلهيَّة من
الخلق...................٣٩
وجوب بعث الأنبياء (عليهم
السلام)...................٤٢
تنزيه الأنبياء (عليهم
السلام) من السَّهو...................٤٥
وجوب عصمة الأنبياء (عليهم
السلام)...................٤٧
تأويل ما يُوهِم عدم عصمة
الأنبياء (عليهم السلام)...................٤٩
ذكر المعجزة وشروطها
ودلالتها على النبوَّة...................٥١
التحسين والتقبيح
العقليَّان...................٥٤
أدلَّة الحسن والقبح
العقليَّين...................٥٦
لماذا ينتصر الأنبياء
(عليهم السلام) تارةً ويُهزَمون أُخرى؟...................٥٨
قاعدة
اللطف...................٦١
ما الفائدة من إمامٍ
غائب؟...................٧١
الفصل الأوَّل:أدلَّة
إمامة المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته...................٨١
الدليل الأوَّل: حديث
الاثني عشر إماماً أو خليفةً...................٨٦
الجهة الأُولى: سند
الحديث...................٨٦
الجهة الثانية: دلالة
الحديث، مَنْ هم الاثنا عشر؟...................٨٨
إثبات أنَّ الاثني عشر هم
أئمَّتنا (عليهم السلام) لا غير...................٨٩
تفصيل مثالب الخلفاء وعدم
إمكان انطباق حديث الاثني عشر عليهم...................٩٥
أوَّلاً: أبو
بكر...................٩٥
ثانياً: عمر بن
الخطَّاب...................٩٨
ثالثاً: عثمان بن
عفَّان...................١٠٥
المثالب العامَّة لبني
أُميَّة...................١١٤
نتيجة ما
تقدَّم...................١١٧
إثبات أنَّ المهدي (عجَّل
الله فرجه) هو آخر هؤلاء الاثني عشر...................١١٩
الدليل الثاني: حديث
الثقلين...................١٢١
أمَّا جهة
الصدور...................١٢١
وأمَّا جهة
الدلالة...................١٢٤
الأمر الأوَّل: مَنْ هم
أهل البيت (عليهم السلام)؟...................١٢٤
الأمر الثاني: دلالته على
المطلوب...................١٢٦
تفصيل مملٌّ في دلالة
الحديث...................١٢٨
ربط الحديث بمطلوبنا وهو
إمامة المهدي (عجَّل الله فرجه)...................١٣٢
الدليل الثالث: حديث ميتة
الجاهليَّة...................١٣٤
الجهة الأُولى: سند
الحديث...................١٣٤
الجهة الثانية: دلالة
الحديث...................١٣٥
الدليل الرابع: قاعدة
اللطف...................١٣٧
الدليل الخامس: الروايات
المتواترة...................١٣٨
ذكر روايات المخالفين
الدالَّة على إمامة المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته...................١٤٠
الطائفة الأُولى: ما جاء
في (فرائد السمطين)...................١٤١
الطائفة الثانية: ما جاء
في (ينابيع المودَّة)...................١٤٥
الطائفة الثالثة: ما روي
في غيرهما من الكُتُب...................١٤٧
الدليل السادس: حساب
الاحتمالات...................١٥٤
العوامل الموصلة إلى
اليقين بإمامته وغيبته (عجَّل الله فرجه)...................١٥٦
ذكر بعض أسماء علماء
السُّنَّة المعترفين بغيبته أو بولادته (عجَّل الله فرجه)...................١٥٧
ذكر طرف ممَّن ادَّعى أو
ادُّعيت له المهدويَّة...................١٨٠
ذكر جماعة ممَّن رآه
(عجَّل الله فرجه)...................١٨٤
نتيجة ما
تقدَّم...................١٩٤
خطاب أخٍ مشفق مع
المخالفين السُّنَّة...................١٩٦
تزييف دليل المخالفين على
صحَّة خلافة أبي بكر...................١٩٦
هل مضى النبيُّ (صلَّى
الله عليه وآله) دون نصٍّ؟...................١٩٧
جواب الدعوى
الأُولى...................١٩٧
هل انعقد إجماعٌ على خلافة
أبي بكر؟...................٢٠١
الجواب عن الدعوى
الثانية...................٢٠١
عدالة
الصحابة...................٢٠٨
دعوى وجود النصِّ على أبي
بكر...................٢١١
الفصل الثاني: شُبُهات
وردود...................٢١٥
شبهة استلزام الاختفاء
للجبن...................٢٢٣
ذكر طرف من غيبات الأنبياء
(عليهم السلام)...................٢٢٥
شبهة طول
العمر...................٢٣٠
فرية
السرداب...................٢٣٥
أسباب الغيبة ووجوه الحكمة
فيها...................٢٣٨
الخاتمة...................٢٤٥
المصادر
والمراجع...................٢٥١
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدِّمة المركز:
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين.
جاءَ في الحديثِ الشريفِ عن الإمامِ الحسنِ العسكريِّ، عن أبيه الإمامِ عليٍّ
الهادي (عليهما السلام)، قولُه البليغُ المشرق:
«لَوْ لَا مَنْ يَبْقَى بَعْدَ غَيْبَةِ قَائِمِكُمْ (عليه السلام) مِنَ
اَلْعُلَمَاءِ اَلدَّاعِينَ إِلَيْهِ، وَاَلدَّالِّينَ عَلَيْهِ، وَاَلذَّابِّينَ
عَنْ دِينِهِ بِحُجَجِ اَلله، وَاَلمُنْقِذِينَ لِضُعَفَاءِ عِبَادِ اَلله مِنْ
شِبَاكِ إِبْلِيسَ وَمَرَدَتِهِ، وَمِنْ فِخَاخِ اَلنَّوَاصِبِ، لَمَا بَقِيَ
أَحَدٌ إِلَّا اِرْتَدَّ عَنْ دِينِ اَلله، وَلَكِنَّهُمُ اَلَّذِينَ يُمْسِكُونَ
أَزِمَّةَ قُلُوبِ ضُعَفَاءِ اَلشِّيعَةِ كَمَا يُمْسِكُ صَاحِبُ اَلسَّفِينَةِ
سُكَّانَهَا، أُولَئِكَ هُمُ اَلْأَفْضَلُونَ عِنْدَ اَلله (عزَّ وجلَّ)»(١).
الأدبُ العَقَائِديُّ:
لئن كان الشعرُ الجاهليُّ قبيلَ بزوغِ فجرِ الإسلامِ سابحاً في فضاءاتِ الغزلِ
والتشبيبِ والخمرةِ والكرمِ والحماسةِ، فإنَّ الإسلامَ - وقد ألقى أنوارَه على
الأرض - أحدثَ تحوُّلاً جذريًّا في الفكرِ والأدبِ، فغدت العقيدةُ محوراً رئيساً في
الخطابِ الشعريِّ، وغدا الأدبُ منبراً للدعوةِ ومجالاً للتبليغِ، فانبثقَ الأدبُ
العقائديُّ من رحمِ الرسالةِ، منذ بزوغِ شمسِها على أُفُقِ الجزيرةِ.
غير أنَّ هذا المسارَ لم يَسْلَم من النكوص، فقد نكصَ بعد وفاةِ النبيِّ
-----------------
(١) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٢٦٠).
الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، وتحوَّلَ في بلاطاتِ بني أُميَّة وبني العبَّاس إلى
وسيلةٍ لتلميعِ اللهوِ والمجون، وانسلخَ عن روحِه العقائديَّةِ، وانغمست أبياتُه في
ترفِ القصورِ وعبثِ السياسةِ.
أمَّا مدرسةُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، فقد حفظت لهذا الأدبِ وجهَه النقيَّ
وسبيلَه الإيمانيَّ، وأعلت شأنَه، لما له من أثرٍ في تعميقِ الولاءِ وغرسِ
الإيمانِ، وفتحِ نوافذِ الوعيِ على المظلوميَّةِ الكبرى التي عصفت بسادتِها
الأطهار. ومن هنا نجدُ عشراتِ الأحاديثِ تحثُّ على نظمِ الشعرِ فيهم، وتعدُ بكنوزِ
الأجرِ والثوابِ لكلِّ من أنشدَ في مظلوميَّتِهم وذادَ عن حقِّهم، حتَّى قال الإمام
الصادق (عليه السلام): «مَنْ قَالَ فِينَا بَيْتَ شِعْرٍ بَنَى اَللهُ تَعَالَى
لَهُ بَيْتاً فِي اَلْجَنَّةِ»(٢).
ولم يكن دعمُهم (عليهم السلام) معنويًّا فحسب، بل فاضت أياديهم بالكرمِ على شعراءِ
الولاءِ، وكانوا يستقبلون القصائدَ في مجالسِهم، يُكرمون شعراءَهم مادّيًّا
وروحيًّا، فتألَّقت قصائدُهم وتوهَّجَ حُسْنُها في سماءِ المودَّةِ والطهرِ. وما
ضاقَتْ هذه المقدِّمةُ بسَوقِ الشواهدِ، ولكنَّ للقارئِ أنْ يغترفَ من مظانِّها ما
يرويهِ من نبعِ الولاءِ وسِيَرِ أولياءِ الشعرِ.
لقد أولى أهلُ البيتِ (عليهم السلام) هذا النمطَ من الأدبِ عنايةً بالغةً، لِمَا له
من أثرٍ بليغٍ في حفظِ العقيدةِ في النفوس، ولذا اختصَّ هذا الشعرُ لديهم بمكانةٍ
لم يحظَ بها سائرُ ألوانِ الأدب، إذ كان بعضُها ممَّا يعارضُ روحَ الدِّين، كما جاء
في قوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾
(الشعراء: ٢٢٤)، فكان الشعرُ في غيرِ العقيدةِ - كما قيل - (أعذبُه أكذبُه)(٣)،
لأنَّه يقيمُ بنيانه على أجنحةِ الخيالِ، ويبتعدُ عن أرضِ الواقعِ والصدقِ.
-----------------
(٢) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج ١/ ص ١٥/ ح ١).
(٣) تفسير ابن كثير (ج ١/ ص ٦٣).
الشعرُ العَقائديُّ الحَوزَوِيُّ:
وفي رياضِ الحوزةِ العلميَّةِ، نَبَغَتْ أقلامُ العلماءِ، وتجلَّت فيها أزهى الصورِ
الأدبيَّةِ، فالحوزةُ، كما هي رائدةٌ في الفقهِ والأُصولِ والتفسيرِ والكلامِ، فهي
أيضاً حاملةُ لواءِ الدفاعِ عن العقيدةِ شعراً ونثراً. وقد تميَّز أدبُها
العقائديُّ عمَّا سواه، فبينما نقرأ للكميتِ ودعبلَ ما يمسُّ العقيدةَ عَرَضاً،
ويُلقي ضوءاً عامًّا، نجد علماءَ الطائفةِ يتوغَّلون في لبابِ العقيدةِ، ويتصدَّون
للشُّبُهاتِ الدقيقةِ بمنطقِ البيانِ الشعريِّ، فيمزجون بين حرارةِ الإيمانِ
وسلاسةِ البيانِ.
وقد تَجلَّى هذا الامتيازُ في قصيدةِ (الصاحبيَّة) للعالمِ الربَّانيِّ والشاعرِ
الأديبِ آيةِ الله السيِّد رضا الهندي (رضوان الله عليه)، حيث أبدع في سبكِ
الأبياتِ مزجاً بين جلالِ الفكرِ وجمالِ الشعرِ.
الشاعرُ والقصيدةُ:
كان من الأليقِ أنْ نُفردَ مقاماً خاصًّا للحديثِ عن الشاعرِ وقصيدتِه، وعن السياقِ
التاريخيِّ والوجدانيِّ الذي أحاطَ بها، وعن ميزاتِ أُسلوبِه الأدبيِّ والفقهيِّ،
إلَّا أنَّ مَنْ تصدَّى لذلك - وهو فضيلةُ السيِّد جواد الهندي، ابنُ أخينا الفاضل
سماحةِ السيِّد علاء الدِّين الموسوي الهندي (دام عزُّه) - قد تكفَّلَ هذه
المهمَّةَ بما هو أهلٌ لها، فأبدع في تحقيقِ القصيدةِ وشرحِها، وأوفى حقَّ الشاعرِ
الجليلِ، وسبرَ أغوارَ المعاني، وأبرزَ دقائقَ المقاصدِ، بما أُوتيَ من علمٍ نافع
وأدبٍ رفيعٍ وقلمٍ سيَّال.
غير أنَّ في القصيدةِ لمسةً ينبغي الوقوفُ عندها، وهي أنَّ الشعرَ إذا خالطَهُ
جفافُ العلومِ الصريحةِ وأثقالُ البرهانِ العقليِّ، كادَ أنْ يفقدَ نبضَ الأدبِ
وسحرَ الجمالِ، فيُسمَّى حينئذٍ منظومةً تعليميَّةً لا شعريَّةً خياليَّةً. غير
أنَّ فقيهَنا السيِّدَ
رضا الهندي قد أبدع في التوليفِ بين المتناقضين: عمقِ
المعارفِ ونفَسِ الأدبِ، فصاغَ من قصيدةِ (الصاحبيَّة) تحفةً شعريَّةً نقيَّةً،
تنضحُ بالروحِ والعقلِ معاً، فتسرحُ في حدائقِها المعاني، وتنسابُ في حناياها
العواطفُ الرقيقةُ، وتنبضُ بالحكمةِ والبيانِ.
دعاءٌ وخاتمةٌ:
نسألُ اللهَ (جلَّ جلاله) أنْ يُفيضَ الرحمةَ والرضوانَ على فقيهنا الشاعرِ، وأنْ
يُعلي مقامَه ببركةِ ما نظمَ من دُرَرِ البيانِ، كما نسأله تعالى أنْ يُسبغَ
التوفيقَ والسدادَ على محقِّقِ القصيدةِ وشارحِها جناب السيِّدِ جواد الهندي
الموسوي، وأنْ ينهلَ المؤمنون من يراعه المزيدَ من نفحاتِ العلمِ ونفائسِ المعرفة.
وكلُّ ذلك، بلطفِ اللهِ وعينِ رعايةِ صاحبِ العصرِ والزمانِ (عجَّل الله فرجه)، إنْ
شاء الله تعالى.
المدير العامُّ
السيِّد محمّد القبانچي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدِّمة المحقِّق:
الحمد لله على جميع آلائه، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا وآله.
وبعد..
فإنَّ القصيدة الدُّرِّيَّة الموسومة بـ: (الصاحبيَّة) لسيِّدنا الجدِّ العلَّامة
الفقيه شيخ الأدب في العراق والعالم آية الله السيِّد رضا الموسويِّ الهنديِّ
النجفيِّ (قدِّس سرّه) - التي كتبها ردًّا على القصيدة البغداديَّة الشهيرة - قد
جاءت حاويةً لرؤوس المطالب المهدويَّة الشريفة، قد أماط صاحبها عن الحقِّ ستاره،
وأزاح عن الصواب غباره، وكَشَفَ ما انطوت عليه القصيدة البغداديَّة من الخرافات
الكاسدة، والشُّبَه الفاسدة، وأوضح - بما لا مزيد عليه - أنَّ قعاقع القوم كصريرِ
باب، أو كطنينِ ذباب، وأنَّ الحقَّ الصراح مع الفرقة المحقِّة الناجية، مستعيناً
بما خصَّه الله تعالى من جليل المواهب، وجزيل المناقب، فيا لها خريدةً فريدةً،
حَوَت الحِكَمَ العالية بأفصح كلام، ورتَّبَتْ الحقائق الصافية بأحسن نظام، فجزاه
الله عن نبيِّه (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) وإمام زمانه
(عجَّل الله فرجه) خيراً، وأشركنا في ثوابه، وهدانا إلى اقتفاء أثره وخطاه.
وقد رأيتُ - وأنا القصير الذراع القليل الباع - أنْ أُزيِّنها بشَرحٍ وَسَطٍ بين
الإيجاز والإطناب، يفتح أقفالها، ويكشف أستارها، فيجعلها من الوضوح كعلمٍ في رأسه
نار، أو كالشمس في رابعة النهار، لتبلغ من الفائدة أقصاها، ومن الثمرة أطيبَها
وأحلاها، متوكِّلاً على الله تعالى، ومتزوِّداً من بركة جوار مولانا أمير المؤمنين
(عليه السلام).
وقد اعتمدتُ في ذلك كلِّه على الروايات الشريفة، وكُتُب العلماء الأعلام (رضوان
الله عليهم) المُعدَّة لهذه القضيَّة الشريفة، فما كان به صواباً فهو منهم، وما كان
غلطاً فهو منِّي، ورجائي من الله تعالى أنْ يتقبَّله ويستر عيوبه.
والحمد لله أبداً، والصلاة على نبيِّه وآله أولياء النِّعَم.
جواد السيِّد علاء الموسوي الهندي
لثلاث بقين من شهر الصيام لسنة ١٤٤٦هـ
النجف الأشرف
تقديم
يشتمل على أُمور:
١ - ترجمة مختصرة لصاحب القصيدة (طاب ثراه).
٢ - تعريف بالقصيدة البغداديَّة المردود عليها.
٣ - تعريف بالقصيدة الصاحبيَّة المراد شرحها.
@١
العلَّامة الكبير المجتهد آية الله السيِّد رضا الموسوي الهندي (طاب ثراه)
تُوفِّي سنة (١٣٦٢هـ)
(١) تعريف مختصر بصاحب القصيدة(٤)
هو جدُّنا العلَّامة الكبير المجتهد شيخ الأدب في العراق والعالم آية الله السيِّد
رضا الموسويُّ الهنديُّ (طاب ثراه)، وُلِدَ بالنَّجف في الثَّامن من ذي القعدة لسنة
(١٢٩٠هـ)، وأبوه هو الفقيه الكبير والمرجع الشَّهير آية الله العظمى السيِّد محمَّد
بن هاشم الموسويُّ الهنديُّ (طاب ثراه) المتوفَّى سنة (١٣٢٣هـ)، وشقيقه الأكبر هو
العلَّامة الأديب آية الله السيِّد باقر الموسويُّ الهنديُّ (طاب ثراه) المتوفَّى
سنة (١٣٢٩هـ).
وقد اشتهر المترجَم له منذ صغره بالصَّلاح والتقوى، وحِدَّة الذكاء والفطنة، وله في
صغره قُصَّة مشهورة مع سيِّد الطائفة آية الله العظمى الميرزا المجدِّد الشيرازي
(طاب ثراه)، وحاصلها: أنَّه تعلَّم القرآن بمدَّة أيسر من المألوف بين الصبيان،
فأُعْجِبَ به الميرزا المجدِّد (طاب ثراه) وقال في جملة ما قال: (العلم نورٌ يقذفُه
الله في قلب من يشاء)(٥) وهو حديث نبويٌّ معروف،
-----------------
(٤) اُنظر تمام ترجمته في مقدَّمة ديوانه المطبوع بعنوان: (ديوان السيِّد رضا
الموسوي الهندي)، وفي آل الهندي في النجف (ص ١٣٦ وما بعدها)، وأعيان الشيعة (ج ٧/ ص
٢٣)، ومعارف الرجال (ج ١/ ص ٣٢٤)، وطبقات أعلام الشيعة (ج ١٤/ ص ٧٦٨ وما بعدها)،
وهكذا عرفتهم (ج ١/ ص ٢٣)، وأدب الطفِّ (ج ٩/ ص ٢٤١ وما بعدها).
(٥) هذا اللفظ مشتهر في الألسن وكلمات العلماء والمؤلِّفين على أنَّه حديث نبويٌّ،
غير أنَّني لم أجده كذلك في مجاميع الحديث الخاصّيَّة والعامّيَّة، بل هو مرويٌّ عن
مالك بن أنس كما في تفسير ابن أبي حاتم (ج ١٠/ ص ٤٢)، نعم في رواية نقلها صاحب
البحار (طاب ثراه) عن خطِّ الشيخ البهائي (طاب ثراه) أنَّ الصادق (عليه السلام)
قال: «ليس العلم بالتعلُّم، إنَّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى
أنْ يهديه» بحار الأنوار (ج ١/ ص ٢٢٥). وربَّما يعارضه ما ورد في غيره من الأخبار
المصرِّحة بأنَّ: «العِلْمَ بِالتَعَلُّم» كما في وصيِّة الإمام الكاظم (عليه
السلام) لهشام المرويَّة في الكافي (ج ١/ ص ٦٥)، ويمكن الجمع بينهما: بأنْ يكون
المراد من العلم في الأوَّل الحكمة وكمال العقل، وفي الثاني: المعنى العرفي الظاهر
للعلم الذي قد يجتمع مع الأوَّل إذا اقترن بالإخلاص والتوفيق، وقد يفترق عنه إذا لم
يقترن بهما، كذا أفاد العلَّامة الوالد (دام بقاؤه)، والله العالم.
فحفظه السيِّد رضا، وكان أوَّل
حديثٍ يحفظه(٦)، وبقي طوال مدَّة مكثه في سامرَّاء مع والده محلَّ عناية المجدِّد
(طاب ثراه) وحبِّه ورعايته.
وتلمذ في جملة من العلوم على والده (طاب ثراه)، ودرس الفقه والأُصول على الأُستاذ
الأكبر الآخوند الخراساني (طاب ثراه)، وآية الله العظمى الشيخ محمّد طه نجف (طاب
ثراه)، وآية الله الفاضل الشربياني (طاب ثراه)، وآية الله الشيخ حسن ابن الشيخ صاحب
الجواهر (طاب ثراهما).
وقد بَرَزَ بين الفضلاء النابهين والعلماء المحصِّلين، حتَّى شهد له أُستاذه آية
الله العظمى الشيخ نجف (طاب ثراه) بالاجتهاد المطلق سنة (١٣٢٢هـ)(٧).
قال عنه الشيخ حرز الدِّين (طاب ثراه): (وكان عالماً، فاضلاً، ورعاً، زاهداً،
عابداً، أديباً، شاعراً، بارعاً، مثالاً للإباء والعزِّ والشَّرف والنبل، وكان
أُصوليًّا، منطقيًّا، عروضيًّا، مستحضراً للموادِّ اللُّغويَّة، فارساً في
العربيَّة والمعاني والبيان)(٨).
وقال العلَّامة المتبحِّر السيِّد الأمين (طاب ثراه): (كان عالماً، فاضلاً أديباً،
شاعراً، من الطبقة الممتازة بين شعراء عصره)(٩).
-----------------
(٦) آل الهندي في النجف (ص ١٣٦).
(٧) المصدر السابق (ص ١٣٧).
(٨) معارف الرجال (ج ١/ ص ٣٢٤ و٣٢٥).
(٩) أعيان الشيعة (ج ٧/ ص ٢٣).
وقال العلَّامة السماوي (طاب ثراه): (فاضلٌ له في كلِّ قدر من العلوم مغرفةٌ،
وبكُلِّ رمز مكتومٍ معرفةٌ، وله في الفقه والأُصول يدٌ ذات صفة، عاشرته فرأيته
أديباً، رقيق الشعر، بديعَهُ، سهلَهُ، ممتنعَهُ، وشاعراً خفيف الروح قويَّ الشعور،
منسجمَ الطبع، سيَّالَهُ، وكاتباً حسن الكتابة، سديد الإصابة)(١٠).
وقال العلَّامة الكبير الشيخ كاشف الغطاء (طاب ثراه) في حصونه المنيعة: (فاضل
معاصر، وشاعر بارع، وناثر ماهر، له إلمامٌ بجملة من العلوم، ولسانه فاتح كلِّ رمزٍ
مكتوم، ومعرفته بالفقه والأُصول لا تُنكر، وفضائله لا تكادُ تُحصر، رقيق الشعر،
سهلَهُ، ممتنعَهُ، خفيف الروح، حسن الأخلاق، طيَّب الأعراق، طريف المعاشرة، لطيف
المحاورة، جيِّد الكتابة، وأفكاره لا تخطأ الإصابة)(١١).
وقال العلَّامة الأُوردباديُّ (طاب ثراه): (نيقدٌ ضمَّ إلى شرف العلم زهوَ الأدب،
وإلى علوِّ النَّسَب حليةَ الفضل، قلَّد الدهر من حقائقه الناصعة بعقود عسجديَّة،
وكساه من الفخر به نسائج الدِّمَقْس والحرير، ليس هو بالشاعر الذي يسم بنات أفكاره
بالعار فيزفُّها إلى مَنْ لا كفاية له، شأنَ مَنْ لم تشمخ به نفسُه إلى أوج يرفعه
عن خطَّة الخسف، فهي لا تبرح تتهادى إمَّا إلى إمامٍ معصوم، أو رجل دينيٍّ زعيم، أو
صاحبٍ كريم، أو يصدح فيها بحكمةٍ بالغة، أو حقيقة راهنة، فهو سيِّد الشعراء، ونابغة
العلم والأدب)(١٢).
وقال العلَّامة الجليل السيِّد عليّ تقي النقوي (طاب ثراه): (علَّامة العلماء
الأعلام، وسيِّد الأُدباء العظام... هو أحد أفذاذ العترة الطاهرة، والعلم الوحيد
-----------------
(١٠) الطليعة (ج ١/ ص ٣٤٣).
(١١) عنه في آل الهندي في النجف (ص ١٤٠).
(١٢) سبائك التبر فيما قيل في المجدِّد الشيرازي وآله من الشعر (ص ٢٢٩)، في
الحاشية.
من
أفاضل الشيعة وأعلامها، حاز علماً جَمًّا، وشرفاً خطيراً، وتسنَّمَ من الأدب ذروةً
عالية، فعاد مُجليًّا في حلبات النظم والكتابة... فهو مُمَثِّلٌ بعلمه الغزير
وكماله الزَّاهر كياناً خالداً لسلفه الكرام... ونبغ في الأدب حتَّى لم يضارعْهُ
أحدٌ مِمَّن سواه في مقدرته الباهرة وفكرته الباهرة)(١٣).
ويروي (طاب ثراه) بالإجازة عن والده، وعن زعيم الطَّائفة الأكبر السيِّد أبي الحسن
الأصفهاني (طاب ثراه)، وعن آية الله الشيخ أسد الله الزَّنجاني (طاب ثراه)، وعن آية
الله السيِّد حسن الصدر (طاب ثراه)، وغيرهم.
وهو (طاب ثراه) من النوادر الذين جمعوا بين الفقاهة، والدرجة العليا من الشعر
والأدب الرَّصين، بحيث يظنُّ مَنْ يقف على شعره أنَّه اختصَّ به ولم يصرف عنايته
لغيره، وإذا رأى شهادات الأعلام في حقِّه يظنُّ أنَّه قضى سنينه معتكفاً على الفقه
والأُصول ولا حظَّ له بغيرهما، فحُقَّ أنْ يقال له: شاعر الفقهاء، وفقيه الشعراء.
وقد حمل راية الأدب في النَّجف زمناً طويلاً يزيد على أربعين سنة(١٤)، حتَّى
لُقِّبَ بشيخ الأدب في العراق والعالم(١٥).
وقال الأديب الكبير الأُستاذ جعفر الخليلي (رحمه الله): (وعلى الرغم من أنَّ أبرز
صفاته لم ينحصر بالأدب وحده؛ فقد كان فقيهاً، غزير المادَّة، واسع الاطِّلاع، وكان
من مشاهير تلامذة الأُستاذ الأكبر الآخوند، وله في العلوم الدِّينيَّة جولات وصولات
يعرفها المتَّصلون به والمحيطون بها... وعرفت أنَّه زاول الأدب زمناً طويلاً، فأبدع
فيه إبداعاً كان المُجَلِّي فيه بين جمعٍ كبير من الأُدباء والعباقرة في
-----------------
(١٣) أقرب المجازات إلى مشايخ الإجازات (ص ٤٤٥ و٤٤٦).
(١٤) طبقات أعلام الشيعة (ج ١٤/ ص ٧٦٩).
(١٥) أدب الطفِّ (ج ٩/ ص ٢٤٢).
زمانه،
ولقد ولع في البديع ولعاً سما به إلى منزلةٍ قَلَّ مَن ارتفع إليها من قبل، وإنَّ
لديَّ الكثير من الشواهد في نظمه ونثره، ومنها مقامات إذا شئتها شعراً كانت شعراً
ببحورٍ مختلفة وقوافٍ مختلفة، وإنْ شئتها نثراً كانت نثراً سجعاً أو مرسَلاً، ولم
يكن هذا غريباً بمقدار غرابة خلوِّ هذه المقامات من التَّكلُّف، فقد كان إمامَ
البديع وشيخَ الأُدباء، فضلاً عن كونه عالماً من علماء الفقه المعروفين...)(١٦).
وشعره في أهل البيت (عليهم السلام) نارٌ على منار، وقصيدته الكوثريَّة التي يقول
فيها:
سَوَّدْتُ
صَحِيْفَةَ أَعْمَالِيْ * * * وَوَكَلْتُ اَلْأَمْرَ إِلَى حَيْدَرْ
هُوَ كَهْفِيْ مِنْ نِوَبِ اَلدُّنْيَا * * * وَشَفِيْعِيْ فِيْ يَوْمِ اَلمَحْشَرْ
من أشهر ما قيل
في أمير المؤمنين (عليه السلام) على الإطلاق، إنْ لم تكن الأشهر، فإنَّها مُذْ
كَتَبَها صاحبها وإلى يومك هذا يحفظها صغار الشيعة وكبارهم من جميع البلدان،
ويُردِّدونها وينشدونها في المحافل والمهرجانات.
وكذا مراثيه الحسينيَّة العصماء التي لا يخلو منبر من ذكرها، ومَنْ مِنْ حُضَّار
المجالس الحسينيَّة الشريفة لا يعرف بائيَّته التي يقول فيها:
صَلَّتْ عَلَى جِسْمِ اَلْحُسَيْنِ سُيُوْفُهُمْ * * * فَغَدَا لِسَاجِدَةِ اَلظُّبَا مِحرَابا
إلى غيرها من
قصائده الشهيرة الجامعة بين قوَّة المعاني وجزالة الألفاظ مع سهولتها وسلاستها، فهي
- كما وصفها الأعلام المتقدِّمون - سهلة ممتنعة.
وله جملة من المؤلَّفات الَّتي نعرف أكثرها بعنوانها دون أنْ نعلم لمخطوطاتها
أثراً، وهي:
١ - الميزان العادل بين الحقِّ والباطل(١٧)، وهي رسالة في الردِّ على
-----------------
(١٦) هكذا عرفتهم (ج ١/ ص ٢٧ و٢٨).
(١٧) الذريعة (ج ٢٣/ ص ٣١٥/ برقم: ٩١٢٨).
الكتابيِّين،
ألَّفها استجابةً لطلب الشيخ حسن عليّ بن بدر القطيفي المهاجر حينئذٍ إلى الهند
ليحمل الهنود على مقاطعة الإنجليز، وقد طبعها المذكور على نفقته في بغداد سنة
(١٣٣١هـ)، وتقرَّر فيما بعد تدريسها في مدارس الدولة، ولكن سلطات الاحتلال
البريطاني منعت نشرها، وطُبِعَتْ محقَّقةً سنةَ (١٤١٧هـ).
٢ - بلغة الرَّاحل(١٨)، في أُصول الدِّين الخمسة، وبعض أسرار الشريعة، وجملة من
الأخلاق المستحسنة، لم يُطبَع، ومخطوطه مفقود.
٣ - الوافي في شرح الكافي في العروض والقوافي (للخطيب القزويني)، مفقود.
٤ - شرح على باب الطهارة(١٩) من كتاب والده: (اللآلئ الناظمة للأحكام اللازمة) في
الفقه، والأصل والشرح كلاهما مفقود.
٥ - سبيكة العسجد في التاريخ بأبجد(٢٠)، كتاب في فنِّ نظم التواريخ، في نحو لم
يُسبَقْ إليه، مفقود.
٦ - الرحلة الحجازيَّة(٢١)، رسالة في وصف رحلته إلى الحجِّ سنة (١٣٤٧هـ)، مفقودة.
٧ - دُرَر البحور في العروض، مفقود.
٨ - تقريرات أُستاذه الفقيه آية الله السيِّد محمَّد بحر العلوم (ت ١٣٢٦هـ)، مفقود.
٩ - شرح كتاب (غاية الإيجاز)(٢٢) في الفقه لوالده، مفقود.
-----------------
(١٨) الذريعة (ج ٣/ ص ١٤٧/ برقم: ٤٠٥).
(١٩) ذكره في الذريعة (ج ١٨/ ص ٢٦٦) تحت كتاب والده المذكور.
(٢٠) الذريعة (ج ١٢/ ص ١٣٦/ برقم: ٩٢١).
(٢١) الذريعة (ج ١٠/ ص ١٦٨/ برقم: ٣١٩).
(٢٢) الذريعة (ج ١٣/ ص ٤٧٥/ برقم: ١٤٠٥).
١٠ - ديوان شعره، جمعه الأُستاذ الشهيد السيِّد موسى الموسوي الهندي (طاب ثراه)،
وحقَّقه جدُّنا الدكتور السيِّد عبد الصاحب الموسوي الهندي (طاب ثراه)، وهو مطبوع
متداول، وسيُعاد طبعه في قابل الأيَّام بإذن الله تعالى.
وقد أرسله مرجع الأُمَّة السيِّد أبو الحسن الأصفهاني وكيلاً عنه في ناحية
الفيصليَّة بالمشخاب، فكان هناك مرجعاً في الشؤون الدِّينيَّة والدنيويَّة وسائر
الأُمور(٢٣).
وظلَّ في تلك الناحية حتَّى تُوفِّيَ فيها فُجأةً يومَ الأربعاء الواحد والعشرين من
جمادى الأُولى لسنة (١٣٦٢هـ)(٢٤)، وحُمِلَ جثمانه بتشييع عظيمٍ إلى النَّجف على
الرؤوس لمسافات طويلة، ووصل إليها يوم الخميس الثاني والعشرين، وصَلَّى عليه
السيِّد أبو الحسن الأصفهاني (طاب ثراه)، وأُقيمت له العديد من مجالس الفاتحة
بالنَّجف من مختلف الطبقات، وعلى رأسها مجلس السيِّد أبي الحسن (طاب ثراه)، قال
الشيخ حرز الدِّين: (وتَأسَّفَهُ كثيرٌ من أهل
-----------------
(٢٣) طبقات أعلام الشيعة (ج ١٤/ ص ٧٦٩).
(٢٤) ذكر كلٌّ من السيِّد الأمين (طاب ثراه) في أعيانه (ج ٧/ ص ٢٣)، والآغا بزرك
(طاب ثراه) في طبقاته (ج ١٤/ ص ٧٦٩)، والشيخ حرز الدِّين (طاب ثراه) في معارفه (ج
١/ ص ٣٢٦)، والسيِّد موسى الهندي (طاب ثراه) في القسم الأوَّل المطبوع من كتابه آل
الهندي في النجف (ص ١٨٦) أنَّ وفاته كانت في يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى
الأُولى، بينما ذَكَرَ الشَّيخ السماوي في الطليعة (ج ١/ ص ٣٥٣) أنَّه تُوفِّي يوم
الأربعاء الواحد والعشرين ووصل جثمانه إلى النَّجف يوم الخميس، وخالف الأغا بزرك
نفسه في الذريعة (ج ٢٣/ ص ٣١٥) وجعله الأربعاء أيضاً، ويبدو أنَّ الأعلام
المتقدِّمين اعتبروا يوم وصول جثمانه واشتهار خبر وفاته -وهو الخميس - يومَ وفاته،
وقد تراجع السيِّد موسى الهندي (طاب ثراه) في القسم الثاني المخطوط من كتابه
المذكور وذكر أنَّ يوم الوفاة كان الأربعاء لا الخميس، وهو المعتمد عندنا، لاسيَّما
مع النظر إلى المسافة بين المشخاب والنَّجف مع كونه حُمِلَ على الرؤوس ولم يُنقَل
بالمركبات، فضلاً عن أنَّه وجه الجمع الواضح بين القولين.
الفضل والدِّين لفضله وقدسيَّته
وأنَّه مات ولم يُعرَفْ قدرُه ومنزلتُه العلميَّة والأدبيَّة)(٢٥).
ودُفِنَ في مقبرة الأُسرة في الحويش جنبَ والده وشقيقه، قدَّس الله أرواحهم وجمع
بيننا وبينهم.
* * *
-----------------
(٢٥) معارف الرجال (ج ١/ ص ٣٢٦).
(٢) تعريف بالقصيدة البغداديَّة
جاءت من بغداد
إلى النجف الأشرف سنةَ (١٣١٧هـ) قصيدةٌ استبعد فيها ناظمها وجود الإمام الحجَّة
(عجَّل الله فرجه) وغيبته، وملأها بالشُّبَه والمغالطات والتشكيكات.
وناظمها بغداديٌ لا نعلم مِنْ هويَّته - على سبيل اليقين - سوى أنَّه آلوسي، ولا
يهمُّنا معرفة ذلك أكثر ممَّا يهمُّنا دفع ما زخرف به قصيدته.
وقد تصدَّى لجوابها جماعةٌ من علماء النجف وأُدبائها، كالميرزا النوري صاحب
المستدرك (طاب ثراه) الذي ردَّها بتأليف كتابه الشهير (كشف الأستار عن وجه الغائب
عن الأبصار)، والعلَّامة السيِّد محسن الأمين (طاب ثراه) بقصيدةٍ شَرَحَها في كتابٍ
سمَّاه: (البرهان على وجود صاحب الزمان)، والعلَّامة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء
(طاب ثراه) بقصيدةٍ في (٢٤٠) بيتاً، والعلَّامة الشيخ محمّد جواد البلاغي (طاب
ثراه) بقصيدةٍ في (١١٠) أبيات، وغيرهم.
ومِمَّنْ ردَّها أيضاً سيِّدنا الجدُّ الناظم (طاب ثراه) في قصيدته التي نقصد شرحها
في هذا الكتاب، وكان عمره الشريف آنذاك سبعاً وعشرين سنة.
ودونك نصُّ القصيدة البغداديَّة مع شيء من الإيضاح:
١ - أَيَا
عُلَمَاءَ اَلْعَصْرِ يَا مَنْ لهُمْ خُبْرُ * * * بِكُلِّ دَقيقٍ حَارَ في
مِثْلِهِ اَلْفِكْرُ
٢ - لَقَدْ حَارَ مِنِّي اَلْفِكْرُ بِالْقَائِمِ اَلَّذِيْ * * * تَنَازَعَ فِيهِ
اَلنَّاسُ وَاشْتَبَهَ اَلْأَمْرُ
٣ - فَمِنْ قَائِلٍ فِيْ اَلْقِشْرِ لُبُّ وُجُودِهِ * * * وَمِنْ قَائِلٍ قَدْ
ذُبَّ عَنْ لُبِّهِ اَلْقِشْرُ
أقول: في هذا البيت الأخير إشارة إلى النزاع في أنَّه (عجَّل الله فرجه) مولود أو لا، فقوله: (فَمِنْ قَائِلٍ فِيْ اَلْقِشْرِ لُبُّ وُجُودِهِ) كناية عن أنَّه (عجَّل الله فرجه) لم يُولَد ولا زال في القشر، وهو قول جمهور المخالفين، وقوله: (وَمِنْ قَائِلٍ قَدْ ذُبَّ عَنْ لُبِّهِ اَلْقِشْرُ) كناية عن أنَّه (عجَّل الله فرجه) وُلِدَ، وأنَّه ارتفع عنه القشر.
٤ - وَأَوَّلُ هَذَيْنِ اَلَّلذَيْنِ تَقَرَّرَا * * * بِهِ اَلْعَقْلُ يَقْضِي وَاَلْعَيَانُ وَلَا نُكْرُ
أقول: يريد أنَّ عدم ولادته وعدم وجوده (عجَّل الله فرجه) هو الذي يقضي به العقل، ويشهد به الوجدان والعيان الخارجي، بمعنى: أنَّ وجوده وغيبته أمر باطل إمكاناً وثبوتاً بحكم العقل، وكذلك وقوعاً وإثباتاً لعدم الدليل عليها، وسيأتي الردُّ على ذلك مفصَّلاً.
٥ - وَكَيْفَ وَهَذَا اَلْوَقْتُ دَاعٍ لِمثْلِهِ * * * فَفِيهِ تَوَالَى اَلْظُّلْمُ وَاِنْتَشَرَ اَلَشَّرُّ
أقول: وهذا أوَّل إشكالاته الواهية على الغيبة، وهو أنَّ شرط ظهوره (عجَّل الله فرجه) على فرض غيبته هو انتشار الظلم والشرِّ في العالم، وها هو العالم يغصُّ بالظلم والشرِّ، فلو كان مولوداً وموجوداً لما جاز أنْ يظلَّ غائباً مع تحقُّق شرط ظهوره، ولكان اختفاؤه قبيحاً بحكم العقل، فيتحصَّل من ذلك أنَّه غير مولود وغير موجود، وسيأتي جوابه.
٦ - وَمَا هُوَ إِلَّا نَاشِرُ اَلْعَدْلِ وَاَلهُدَى * * * فَلَوْ كَانَ مَوجُوْداً لَمَا وُجِدَ اَلجَوْرُ
أقول: وهذا أيضاً من إشكالاته الواهية، وهو أنَّه (عجَّل الله فرجه) لو كان موجوداً للزم عدم وجود الجور؛ لأنَّ وظيفته - بمقتضى كونه إماماً على الخلق - هي نشر العدل ورفع الظلم والجور، وبما أنَّ الجور موجود فهذا يعني أنَّه (عجَّل الله فرجه) غير موجود.
٧ - وَإِنْ
قِيلَ مِنْ خَوْفِ اَلطَّغَاةِ قَدِ اِخْتَفَى * * * فَذَاكَ لَعَمْرِي لَا
يُجَوِّزُهُ اَلْحِجْرُ
٨ - وَلَا اَلنَّقْلُ كَلَّا إِذْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ * * * إِلَى وَقْتِ عِيسَى
يَسْتَطِيْلُ لَهُ اَلْعُمْرُ
أقول: هذا إشكال على كونه (عجَّل الله فرجه) غائباً خوفاً من القتل، وهو أنَّ العقل
والنقل لا يُجوِّزان ذلك، أمَّا العقل: فلأنَّ غيبته لأجل الخوف تنافي إمامته وكماله المفترض، وأمَّا النقل: فلأنَّ الثابت هو أنَّه سيعيش إلى وقت عيسى (عليه السلام)، فلا خوفَ عليه أصلاً لكي يغيب بسبب الخوف، وهذا من أسخف إشكالاته وأوهنها، وسيأتي جوابها جميعاً.
٩ - وَأَنْ
لَيْسَ بَيْنَ اَلنَّاسِ مَنْ هُوَ قَادِرٌ * * * عَلَى قَتْلِهِ وَهُوَ
اَلمُؤَيِّدُهُ اَلنَّصْرُ
١٠ - وَأَنَّ جَمِيعَ اَلْأَرْضِ تَرْجِعُ مِلْكَهُ * * * وَيَمْلَؤُهَا قِسْطاً
وَيَرْتَفِعُ اَلمَكْرُ
أقول: هذه إشارة إلى الروايات النبويَّة المتواترة الواصفة للمهدي (عجَّل الله فرجه) ودولته.
١١ - وَإِنْ
قيلَ مِنْ خَوْفِ اَلْأَذَاةِ قَدِ اِخْتَفَى * * * فَذَلِكَ قَوْلٌ عَنْ مَعَايِبَ
يَفْتَرُّ
١٢ - فَهَلَّا بَدَا بَيْنَ اَلْوَرَى مُتَحَمِّلاً * * * مَشَقَّةَ نُصْحِ
اَلخَلْقِ مَنْ دَأْبُهُ اَلصَّبْرُ
١٣ - وَمِنْ عَيْبِ هَذَا اَلْقَوْلِ لَا شَكَّ أَنَّهُ * * * يَؤُولُ إِلَى جُبْنِ
اَلْإِمَامِ وَيَنْجَرُّ
أقول: حاصل هذه الجعجعة أنَّه (عجَّل الله فرجه) لا يمكن أنْ يغيب بسبب الخوف من الأذى؛ لأنَّ ذلك ينافي الصبر ويُؤدِّي إلى الجبن، وهو منزَّهٌ عنه، فالواجب بمقتضى إمامته أنْ يظهر للورى ويتحمَّل مشقَّة التبليغ ويصبر على الأهوال والصعوبات لو كان موجوداً، وسيأتي جوابه.
١٤ - وَحَاشَاهُ
مِنْ جُبْنٍ وَلَكِنْ هُوَ اَلَّذِي * * * غَدَا يَخْتَشِيهِ مَنْ حَوَى اَلْبَرُّ
وَاَلْبَحْرُ
١٥ - وَيَرْهَبُ مِنْهُ اَلْبَاسِلُوْنَ جَمِيْعُهُمْ * * * وَتَعْنُو لَهُ حَتَّى
اَلمُثَقَّفَةُ اَلْسُّمْرُ
١٦ - عَلَى أَنَّ هَذَا اَلْقَوْلَ غَيْرُ مُسَلَّمِ * * * وَلَا يَرْتَضيهِ
اَلْعَبْدُ كَلَّا وَلَا اَلحُرُّ
١٧ - فَفِيْ اَلْهِنْدِ أَبْدَى اَلمَهْدَوِيَّةَ كَاذِبٌ * * * وَمَا نَالَهُ
قَتْلُ وَلَا نَالَهُ ضُرُّ
أقول: هذا إشكال آخر على فرض غيبته خوفاً من القتل، وهو أنَّه لا يوجد خوف عليه من القتل أصلاً إذا ظهر؛ إذ قد ادَّعى المهدويَّة غير واحد في الهند وغيرها ولم يصبهم ضرر.
١٨ - وَإِنْ
قَيْلَ هَذَا اَلْاِخْتَفَاءُ بِأَمْرِ مَنْ * * * لَهُ اَلْأَمْرُ فِي
اَلْأَكْوَانِ وَاْلَحَمْدُ وَاَلشُّكْرُ
١٩ - فَذَلِكَ أَدْهَى اَلدَّاهِيَاتِ وَلَمْ يَقُلْ * * * بِهِ أَحَدٌ إِلَّا
أَخُو اَلسَّفَهِ اَلْغَمْرُ
٢٠ - أَيَعْجَزُ رَبُّ اَلخَلْقِ عَنْ نَصْرِ حِزْبِهِ * * * عَلَى غَيْرِهُمْ؟!
كَلَّا فَهَذَا هُوَ اَلْكُفْرُ
أقول: حاصل جميع
هذه الأبيات المتقدِّمة هو أنَّ الغيبة باطلة؛ إذ المقتضي لظهوره - وهو كثرة الظلم
- موجود، والمانع منه مفقود، فلا بدَّ أنْ يظهر لو كان موجوداً.
فإنْ قيل: المانع من ظهوره هو خوف القتل، فهو باطل؛ لأنَّه يعلم بعدم قدرة أحد على
قتله، وأنَّه يستطيل له العمر، ويُؤيِّده النصر الإلهي، ويملك جميع الأرض.
وإنْ قيل: المانع هو خوف الأذى الذي لا يصل إلى القتل، فهو باطل أيضاً؛ لأنَّه
يستلزم جبنه وعدم صبره على مشقَّة واجبه تجاه الخلق، ناهيك عن أنَّ الخوف المذكور
غير حاصل أصلاً؛ لأنَّه قد ظهر مدَّعٍ للمهدويَّة في الهند ولم يصبه أيُّ ضرر.
وإنْ قيل: المانع من ظهوره هو أمر الله تعالى له بالاختفاء، فهو باطل أيضاً؛ لأنَّه
تعالى قادر على نصره وإزالة موانع ظهوره، فلا موجبَ لأنْ يأمره بالاختفاء ويترك
الخلق بدون إمام، وسيأتي جواب ذلك كُلِّه.
٢١ - فَحَتَّامَ
هَذَا اَلْاِخْتِفَاءُ وَقَدْ مَضَى * * * مِنَ اَلدَّهْرِ آلَافٌ وَذَاكَ لَهُ
ذِكْرُ
٢٢ - وَمَا أَسْعَدَ اَلسَّرْدَابَ فِي سُرَّ مَنْ رَأَى * * * لَهُ اَلْفَضْلُ
عَنْ أُمِّ اَلْقُرَى وَلَهُ اَلْفَخْرُ
٢٣ - فَيَا لَلْأَعَاجِيْبِ اَلَّتِي مِنْ عَجِيبِهَا * * * أَنِ اِتَّخَذَ
اَلسَّرْدَابَ بُرْجاً لَهُ اَلْبَدْرُ
أقول: هذه من أكاذيبهم الشنيعة علينا، وهي أنَّه (عجَّل الله فرجه) غاب في السرداب في سامرَّاء ويعيش به، مع أنَّ أحداً من الشيعة لم يقل بذلك كما سيأتي.
٢٤ - فَيَا
عُلَمَاءَ اَلمُسْلِمِينَ فَجَاوِبُوا * * * بِحَقٍّ وَمِنْ رَبِّ اَلْوَرَى لَكُمُ
اَلْأَجْرُ
٢٥ - وَغُوْصُوا لَنَيْل اَلدُّرِّ أَبْحُرَ عِلْمِكُمْ * * * فَمِنْهَا لَنَا لَا
زَالَ يُسْتَخْرَجُ اَلدُّرُ
* * *
(٣) تعريف بالقصيدة المراد شرحها
طُبِعَتْ هذه
القصيدة الشريفة بعنوان (القصيدة الصاحبيَّة) مع القصيدة الكوثريَّة الشَّهيرة -
لنفس الشاعر - في النَّجف الأشرف مراراً، وقد اشتهرت حفظاً وإنشاداً في المحافل
والمجالس الولائيَّة، وقد تقدَّم أنَّه (طاب ثراه) نظمها حين كان في السابعة
والعشرين من عمره، وهي على بحر الطويل.
وهذه مقدِّمة صاحبها (طاب ثراه) كما نقلها السيِّد البراقي (طاب ثراه) في كتابه
المخطوط (السرِّ المكنون): (بسم الله تعالى، الحمد لله الذي غاب عن ظلم الوهم في
حُجَب الأنوار، فشهدته العقول بما له من الآثار، وصلَّى الله على رسوله ونبيِّه،
وأمين وحيه وصفيِّه، محمَّد سيِّد البشر، وآله الميامين الغُرَر، وخلفائه الاثني
عشر، المختومين بِسَميِّه المنتظَر، عجَّل الله فرجه وسهَّل مخرجه وجعلنا من أنصاره
المقتبسين من أشعَّة أنواره... هذا.
وبعد: فقد وردت إلينا قصيدةٌ غريبة ما هي من الدَّهر بأوَّل عجيبة، تُعرب عن براعة
ناظمها وسعة باعه، وكثرة وقوفه على التواريخ واطِّلاعه، وتبحرُّهِ في العلوم
وإمتاعه، حيث ابتدأها بـ: (أيا علماء العصر...)، فتحامى عن جوابها علماء العصر،
ووكَّلوا أمرها إلى أُدباء المصر؛ لأنَّ جواب مثلها لا يليق بالعلماء الجهابذة، بل
يكفيهم إيَّاه أقلُّ التلامذة، فأجابوا وأجبت، وانتدبوا وانتدبت، وأنا أقلُّ أهل
الصناعة بضاعةً، وأعياهم في حلبة اليراعة براعةً، فقلت...) انتهى.
وهذا هو نصُّ القصيدة:
يُمَثِّلُكَ
اَلشَّوْقُ اَلمُبَرِّحُ وَاَلْفِكْرُ * * * فَلَا حُجُبٌ تُخْفِيْكَ عَنِّيْ وَلَا
سِتْرُ
وَلَوْ غِبْتَ عَنِّيْ أَلْفَ عَامٍ فَإِنَّ لِيْ * * * رَجَاءَ وِصَالٍ لَيْسَ
يَقْطَعُهُ اَلدَّهْرُ
تَرَاكَ بِكُلِّ اَلنَّاسِ عَيْنِيْ فَلَمْ يَكُنْ * * * لِيَخْلُوَ رَبْعٌ مِنْكَ
أَوْ مَهْمَهٌ قَفْرُ
وَمَا أَنْتَ إلَّا اَلشَّمْسُ يَنْأَى مَحَلُّهَا * * * وَيُشْرِقُ مِنْ
أَنْوَارِهَا اَلْبَرُّ وَاَلْبَحْرُ
تَمَادَى زَمَانُ اَلْبُعْدِ وَاِمْتَدَّ لَيْلُهُ * * * وَمَا أَبْصَرَتْ عَيْنِيْ
مُحَيَّاكَ يَا بَدْرُ
وَلَوْ لَمْ تُعَلِّلْنِيْ بِوَصْلِكَ لَمْ يَكُنْ * * * لِيَأْلَفَ قَلْبِيْ مِنْ
تَبَاعُدِكَ اَلصَّبْرُ
وَلَكِنَّ عُقْبَى كُلِّ ضِيْقٍ وَشِدَّةٍ * * * رَخَاءٌ وَإِنَّ اَلْعُسْرَ مِنْ
بَعْدِهِ يُسْرُ
وَإِنَّ زَمَانَ اَلظُّلْمِ إِنْ طَالَ لَيْلُهُ * * * فَعَنْ كَثَبٍ يَبْدُوْ
بِظَلْمَائِهِ اَلْفَجْرُ
وَيُطْوَى بِسَاطُ اَلْجَوْرِ فِيْ عَدْلِ سَيِّدٍ * * * لِأَلْوِيَةِ اَلدِّيْنِ
اَلْحَنِيْفِ بِهِ نَشْرُ
هُوَ اَلْقَائِمُ اَلمَهْدِيُّ ذُوْ اَلْوَطْأَةِ اَلَّتِيْ * * * بِهَا يَذَرُ
اَلْأَطْوَادَ يَرْجُحُهَا اَلذَّرُّ
هُوَ اَلْغَائِبُ اَلمَأْمُوْلُ يَوْمُ ظُهُوْرِهِ * * * يُلَبِّيْهِ بَيْتُ اَلله
وَاَلرَّكْنُ وَاَلْحَجْرُ
هُوَ اِبْنُ اَلْإِمَامِ اَلْعَسْكَرِيِّ مُحَمَّدٌ * * * بِذَا كُلِّهِ قَدْ
أَنْبَأَ اَلمُصْطَفَى اَلطُّهْرُ
فَأَخْبَارُهُمْ عَنْهُ بِذَاكَ كَثِيْرَةٌ * * * وَأَخْبَارُنَا قَلَّتْ لَهَا
اَلْأَنْجُمُ اَلزُّهْرُ
وَمَوْلِدُهُ (نُوْرٌ) بِهِ يُشْرِقُ اَلْهُدَى * * * وَقِيْلَ لِظَامِيْ
اَلْعَدْلِ: مَوْلِدُهُ (نَهْرُ)
فَيَا سَائِلاً عَنْ شَأْنِهِ اِسْمَعْ مَقَالَةً * * * هِيَ اَلدُّرُّ
وَاَلْفِكْرُ اَلمُحِيطُ لَهَا بَحْرُ
أَلَمْ تَدْرِ أَنَّ اَللهَ كَوَّنَ خَلْقَهُ * * * لِيَمْتَثِلُوْهُ كَيْ
يَنَالَهُمُ اَلْأَجْرُ
وَمَا ذَاكَ إلَّا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ * * * وَإلَّا فَمَا فِيْهِ إِلَى
خَلْقِهِمْ فَقْرُ
وَيَعْلَمُ أنَّ اَلْفِكْرَ غَاَيةُ وُسْعِهِمْ * * * وَهَذَا مَقَامٌ دُوْنَهُ
يَقِفُ اَلْفِكْرُ
فَأَكْرَمَهُمْ بِالمُرْسَلِيْنَ أَدِلَّةً * * * لِمَا فُيْهِ يُرْجَى اَلنَّفْعُ
أَوْ يُخْتَشَى اَلضُّرُ
وَلَمْ يُؤْمَنِ اَلتَّبْلِيْغُ مِنْهُمْ مِنَ اَلْخَطَا * * * إذَا كَانَ
يَعْرُوْهُمْ مِنَ اَلسَّهْوِ مَا يَعْرُوْ
وَلَوْ أَنَّهُمْ يَعْصُوْنَهُ لَاقْتَدَى اَلْوَرَى * * * بِعِصْيَانِهِمْ
فِيْهِمْ وَقَامَ لَهُمْ عُذْرُ
فَنَزَّهَهُمْ عَنْ وَصْمَةِ اَلسَّهْوِ وَاَلْخَطَا * * * كَمَا لَمْ يُدَنِّسْ
ثَوْبَ عِصْمَتِهِمْ وِزْرُ
وَأَيَّدَهُمْ بِالمُعْجِزَاتِ خَوَارِقَاً * * * لِعَاَدَاتِنَا؛ كَيْ لَا
يُقَالَ: هِيَ اَلسِّحْرُ
وَلَمْ أَدْرِ لِمْ دَلَّتْ عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِمْ * * * إذَا لَمْ يَكُنْ
لِلْعَقْلِ نَهْيٌ وَلَا أَمْرُ
وَمَنْ قَالَ لِلْنَّاسِ: اُنْظُرُوْا فِيْ اِدِّعَائِهِمْ * * * فَإنْ صَحَّ
فَلْيَتْبَعْهُمُ اَلْعَبْدُ وَاَلْحُرُّ
وَلَوْ أَنَّهُمْ فِيْمَا لَهُمْ مِنْ مَعَاجِزٍ * * * عَلَى خَصْمِهِمْ طُوْلَ
اَلمَدَى لَهُمُ اَلنَّصْرُ
لَغَالَى بِهِمْ كُلُّ اَلْأَنَامِ وَأَيْقَنُوْا * * * بَأَنَّهُمُ اَلْأَرْبَابُ
وَاِلْتَبَسَ اَلْأَمْرُ
كَذَلِكَ تَجْرِيْ حِكْمَةُ اَلله فِيْ اَلْوَرَى * * * وَقُدْرَتُهُ، فِيْ كُلِّ
شَيْءٍ لَهُ قَدْرُ
وَكَانَ خِلَافَ اَللُّطْفِ - وَاَللَّطْفُ وَاجِبٌ - * * * إذَا مِنْ نَبِيٍّ أَوْ
وَصِيٍّ خَلَا عَصْرُ
أَيُنْشِئُ لِلْإِنْسَانِ خَمْسَ جَوَارِحٍ * * * تُحِسُّ وَفِيْهَا تُدْرَكُ
اَلْعَيْنُ وَاَلْأَثْرُ
وَقَلْبَاً لَهَا مِثْلَ اَلْأَمِيْرِ يَرُدُّهَا * * * إذَا أَخْطَأَتْ فِيْ
اَلْحِسِّ وَاِشْتَبَهَ اَلْأَمْرُ
وَيَتْرُكُ هَذَا اَلْخَلْقَ فِيْ لَيْلِ ضَلَّةٍ * * * بِظَلْمَائِهِ لَا
تَهْتَدِيْ اَلْأَنْجُمُ اَلزُّهْرُ؟!
فَذَلِكَ أَدْهَى اَلدَّاهِيَاتِ وَلَمْ يَقُلْ * * * بِهِ أَحَدٌ إلَّا أَخُوْ
اَلسَّفَهِ اَلْغَمْرُ
فَأَنْتَجَ هَذَا اَلْقَوْلُ - إِنْ كُنْتَ مُصْغِيَاً - * * * وُجُوْبَ إِمَامٍ
عَادِلٍ أَمْرُهُ اَلْأَمْرُ
وَإِمْكَانَ أَنْ يَقْوَى - وَإِنْ كَانَ غَائِبَاً - * * * عَلَى رَفْعِ ضُرِّ
اَلنَّاسِ إِنْ نَالَهَا اَلضُّرُّ
وَإِنْ رُمْتَ نَجْحَ اَلسُؤْلِ فَاطْلُبْ (مَطَالِبَ اَلْـ * * * ـسَؤُوْلِ)
فَمَنْ يَسْلُكْهُ يَسْهُلْ لَهُ اَلْأَمْرُ
فَفِيْهِ أَقَرَّ (اَلشَّافِعِيُّ اِبْنُ طَلْحَةٍ) * * * بِرَأْيٍ عَلَيْهِ كُلُّ
أَصْحَابِنَا قَرُّوْا
وَجَادَلَ مَنْ قَالُوْا خِلَافَ مَقَالِهِ * * * فَكَانَ عَلَيْهِمْ فِيْ
اَلْجِدَالِ لَهُ نَصْرُ
وَكَمْ (لِلْجُوَيْنِيِّ) اِنْتَظَمْنَ فَرَائِدٌ * * * مِنْ اَلدُّرِّ لَمْ
يَسْعَدْ بِمَكْنُوْنِهَا اَلْبَحْرُ
(فَرَائِدُ سِمْطَيْنِ) اَلمَعَانِي بِدُرِّهَا * * * تَحَلَّتْ لِأَنَّ اَلْحُلْيَ
أَبْهَجَهُ اَلدُرُّ
فَوَكِّلْ بِهَا عَيْنَيْكَ فَهِيْ كَوَاكِبٌ * * * لِدُرِّيِّهَا أَعْيَانِيَ
اَلْعَدُّ وَاَلْحَصْرُ
وَرِدْ مِنْ (يَنَابِيْعِ المَوَدَّةِ) مَوْرِدَاً * * * بِهِ يَشْتَفِيْ - مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَصْدُرَ - اَلصَّدْرُ
وَفَتِّشْ عَلَى (كَنْزِ اَلْفَوَائِدِ) فَاسْتَعِنْ * * * بِهِ فَهْوَ نِعْمَ
اَلذُّخْرِ إِنْ أَعْوَزَ اَلذُّخْرُ
وَلَاحَظْ بِهِ مَا قَدْ رَوَاهُ (اَلْكَرَاجِكِيْ) * * * مِنْ خَبَرِ
(اَلْجَارُوْدِ) إِنْ أَغْنَتْ اَلنُّذْرُ
وَقَدْ قِيْلَ قِدْمَاً فِيْ اِبْنِ خَوْلَةَ إِنَّهُ * * * لَهُ غَيْبَةٌ
وَاَلْقَائِلُوْنَ بِهِ كُثْرُ
وَفِيْ غَيْرِهِ قَدْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ * * * وَمَا هُمْ قَلِيْلٌ فِيْ
اَلْعِدَادُ وَلَا نَزْرُ
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلْيَقِيْنِ بِقَائِمٍ * * * يَغِيْبُ وَفِيْ تَعْيِيْنِهِ
اِلْتَبَسَ اَلْأَمْرُ
وَكَمْ جَدَّ فِيْ اَلتَّفْتِيْشِ طَاغِيْ زَمَانِهِ * * * لِيُفْشِيَ سِرَّ اَلله
فَانْكَتَمَ اَلسِّرُّ
وَحَاَوَلَ أَنْ يَسْعَى لِإِطْفَاءِ نُوْرِهِ * * * وَمَا رِبْحُهُ إلَّا
اَلنَّدَامَةُ وَاَلْخُسْرُ
وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ * * * مِنَ اَلْعِتْرَةِ اَلْهَادِيْنِ
فِيْ شَأْنِهِ خُبْرُ
وَحَسْبُكَ عَنْ هَذَا حَدِيْثٌ مُسَلْسَلٌ * * * لِعَائِشَةٍ يُنْهِيْهُ
أَبْنَاؤهَا اَلْغُرُّ
بَأَنَّ اَلنَّبِيَّ اَلمُصْطَفَى كَانَ عِنْدَهُمْ * * * وَجِبْرِيْلُ إِذْ جَاءَ
اَلْحُسَيْنُ وَلَمْ يَدْرُوْا
فَأَخْبَرَ جِبْرِيْلُ اَلنَّبِيَّ بِأَنَّهُ * * * سَيُقْتَلُ عُدْوَانَاً
وَقَاتِلُهُ شِمْرُ
وَأَنَّ بَنِيْهِ تِسْعَةٌ ثُمَّ عَدَّهُمْ * * * بِأَسْمَائِهِمْ وَاَلتَّاسِعُ
اَلْقَائِمُ اَلطُّهْرُ
وَأَنْ سَيُطِيْلُ اَللهُ غَيْبَةَ شَخْصِهِ * * * وَيَشْقَى بِهِ مِنْ بَعْدِ
غَيْبَتِهِ اَلْكُفْرُ
وَمَا قَالَ فِيْ أَمْرِ اَلْإِمَامَةِ أَحْمَدٌ * * * وَأَنْ سَيَلِيْهَا
اِثْنَانِ بَعْدَهُمُ عَشْرُ
فَقَدْ كَادَ أَنْ يَرْوِيهِ كُلُّ مُحَدِّثٍ * * * وَمَا كَاَدَ يَخْلُوْ مِنْ
تَوَاتُرِهِ سِفْرُ
وَفِيْ جُلِّهَا: أَنَّ اَلمُطِيْعَ لِأَمْرِهِمْ * * * سَيَنْجُوْ إذَا مَا حَاقَ
فِيْ غَيْرِهِ اَلمَكْرُ
فَفِيْ «أَهْلِ بَيْتِي فُلْكُ نُوْحٍ» دِلَالَةٌ * * * عَلَى مَنْ عَنَاهُ
بِالْإِمَامَةِ يَا حَبْرُ
فَمَنْ شَاءَ تَوْفِيْقَ اَلنُّصُوْصِ وَجَمْعَهَا * * * أَصَابَ وَبِالتَّوْفِيْقِ
شُدَّ لَهُ أَزْرُ
وَأَصْبَحَ ذَا جَزْمٍ بِنَصْبِ وُلَاتِنَا * * * لِرَفْعِ اَلْعَمَى عَنَّا بِهِمْ
يُجْبَرُ اَلْكَسْرُ
وَآخِرُهُمْ هَذَا اَلَّذِيْ قُلْتَ: إِنَّهُ * * * (تَنَازَعَ فِيْهِ اَلنَّاسُ
وَاِشْتَبَهَ اَلْأَمْرُ)
وَقَوْلُكَ: إِنَّ اَلْوَقْتَ دَاعٍ لِمِثْلِهِ * * * إِذَا صَحَّ لِمْ لَا ذُبَّ
عَنْ لُبِّهِ اَلْقِشْرُ؟!
وَقَوْلُكَ: إِنَّ اَلْاِخْتِفَاءَ مَخَافَةً * * * مِنَ اَلْقَتْلِ شَيءٌ لَا
يُجَوِّزُهُ اَلْحِجْرُ
فَقُلْ لِيْ لِمَاذَا غَابَ فِيْ اَلْغَارِ أَحْمَدٌ * * * وَصَاحِبُهُ
اَلصِّدِّيْقُ إِذْ حَسُنَ اَلْحِذْرُ؟!
وَلِمْ أُمِرَتْ أُمُّ اَلْكَلِيْمِ بِقَذْفِهِ * * * إِلَى نِيْلِ مِصْرٍ حِيْنَ
ضَاقَتْ بِهِ مِصْرُ؟!
وَكَمْ مِنْ رَسَوْلٍ خَافَ أَعْدَاهُ فَاخْتَفَى * * * وَكَمْ أَنْبِيَاءٍ مِنْ
أَعَادِيهِمُ فَرُّوْا؟!
أَيَعْجَزُ رَبُّ اَلْخَلْقِ عَنْ نَصْرِ دِيْنِهِ * * * عَلَى غَيْرِهِمْ؟! كَلَّا
فَهَذَا هُوَ اَلْكُفْرُ
وَهَلْ شَارَكُوْهُ فِيْ اَلَّذِيْ قُلْتَ: إِنَّهُ * * * (يَؤوْلُ إِلَى جُبْنِ
اَلْإِمَامِ وَيَنْجَرُّ)؟
فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا كَانَ فِيْهِمْ بِأَمْرِ مَنْ * * * لَهُ اَلْأَمْرُ فِيْ
اَلْأَكْوَانِ وَاَلْحَمْدُ وَاَلشُّكْرُ
فَقُلْ فِيْهِ مَا قَدْ قُلْتَ فِيْهِمْ فَكُلُّهُمْ * * * عَلَى مَا أَرَادَ
اَللهُ أَهْوَاؤُهُمْ قَصْرُ
وَإِظْهَارُ أَمْرِ اَلله مِنْ قَبْلِ وَقْتِهِ اَلْـ * * * ـمُؤَجَّلِ لَمْ
يُوْعَدْ عَلَى مِثْلِهِ اَلنَّصْرُ
وَلَيْسَ بِمَوْعُوْدٍ إِذَا قَامَ مُسْرِعَاً * * * إِلَى وَقْتِ (عِيْسَى)
يَسْتَطِيْلُ لَهُ اَلْعُمْرُ
وَإِنْ تَسْتَرِبْ فِيْهِ لِطُوْلِ بَقَائِهِ * * * أَجَابَكَ (إِدْرِيْسٌ)
وَ(إِلْيَاسُ) وَ(اَلْخَضْرُ)
وَمَكْثُ نَبِيِّ اَلله (نُوْحٍ) بِقَوْمِهِ * * * - كَذَا نَوْمُ أَهْلِ
اَلْكَهْفِ - نَصَّ بِهِ اَلذِّكْرُ
وَقَدْ وُجِدَ اَلدَّجَالُ فِيْ عَهْدِ أَحْمَدٍ * * * وَلَمْ يَنْصَرِمْ مِنْهُ
إِلَى اَلسَّاعَةِ اَلْعُمْرُ
وَقَدْ عَاشَ (عُوْجٌ) أَلْفَ عَامٍ وَفَوْقَهَا * * * وَلَوْلَا عَصَى مُوْسَى
لَأَخَّرَهُ اَلدَّهْرُ
وَمَنْ بَلَغَتْ أَعْمَارُهُمْ فَوْقَ مَائَةٍ * * * وَمَا بَلَغَتْ أَلْفَاً
فَلِيْسَ لَهْمْ حَصْرُ
وَمَا أَسَعَدَ اَلسِّرْدَابَ فِيْ (سُرَّ مَنْ رَأَى) * * * وَأَسْعَدُ مِنْهُ
(مَكَّةٌ) فَلَهَا اَلْبِشْرُ
سَيُشْرِقُ نُوْرُ اَلله مِنْهَا، فَلَا تَقُلْ: * * * (لَهُ اَلْفَضْلُ عَنْ أُمِّ
اَلْقُرَى وَلَهَا اَلْفَخْرُ)
فَإِنْ أَخَّرَ اَللهُ اَلظُّهُوْرَ لِحِكْمَةٍ * * * بِهِ سَبَقَتْ فِيْ عِلْمِهِ
وَلَهُ اَلْأَمْرُ
فَكَمْ مِحْنَةٍ لله بَيْنَ عِبَادِهِ * * * يُمَيَّزُ فِيْهَا فَاجِرُ اَلنَّاسِ
وَاَلْبَرُّ
وَيَعْظُمُ أَجْرُ اَلصَّابِرِيْنَ لِأَنَّهَمْ * * * أَقَامُوْا عَلَى مَا دُوْنِ
مَوْطِئِهِ اَلْجَمْرُ
وَلَمْ يَمْتَحِنْهُمْ كَيْ يَحِيْطَ بِعِلْمِهِمْ * * * عَلِيْمٌ تَسَاوَى
عِنْدَهُ اَلسِّرُ وَاَلْجَهْرُ
وَلَكِنْ لِيَبْدُوْ عِنْدَهُمْ سُوْءُ مَا اِجْتَرَوْا * * * عَلَيْهِمْ فَلَا
يَبْقَى لِآثِمِهِمْ عُذْرُ
وَإنِّيْ لَأَرْجُوْ أَنْ يَحِيْنَ ظُهُوْرُهُ * * * لِيَنْتَشِرَ اَلمَعْرُوْفُ
فِيْ اَلنَّاسِ وَاَلْبِرُّ
وَيُحْيِيْ بِهِ قَطْرُ اَلْحَيَا مَيِّتَ اَلثَّرَى * * * وَيَمْطُرُهَا فَيْضُ
اَلنَّجِيْعِ فَتَحْمَرُّ
وَيَطْهُرُ وَجْهُ اَلْأَرْضِ مِنْ كُلِّ مَأْثَمٍ * * * وَرِجْسٍ فَلَا يَبْقَى
عَلَيْهَا دَمٌ هَدْرُ
وَتَشْقَى بِهِ أَعْنَاقُ قَوْمٍ تَطَاوَلَتْ * * * فَتَأْخُذُ مِنْهَا حَظَّهَا
اَلْبِيْضُ وَاَلسُّمْرُ
فَكَمْ مِنْ كِتَابِيٍّ عَلَى مُسْلِمٍ عَلَا * * * وَآخَرَ حَرْبِيٍّ بِهِ شَمَخَ
اَلْكِبْرُ
وَخُذْهُ جَوَابَاً شَافِيَاً لَكَ كَافِيَاً * * * مَعَانِيْهِ آيَاتٌ
وَأَلْفَاظُهُ سِحْرُ
وَمَا هُوَ - إِنْ أَنْصَفْتَهُ - قَوْلُ شَاعِرٍ * * * وَلَكِنَّهُ عِقْدٌ
تَحَلَّى بِهِ اَلشِّعْرُ
وَلَوْ شِئْتُ إِحْصَاءَ اَلْأَدِلَّةِ كُلِّهَا * * * عَلَيْكَ لَكَلَّ اَلنَّظْمُ
عَنْ ذَاكَ وَاَلنَّثْرُ
فَكَمْ قَدْ رَوَى أَصْحَابُكُمْ مِنْ رِوَايَةٍ * * * هِيَ اَلصَّحْوُ
لِلْسَّكْرَانِ، وَاَلشُّبَهُ اَلسُّكْرُ
وَفِيْ بَعْضِ مَا أَسْمَعْتُهُ لَكَ مَقْنَعٌ * * * إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيْ أُذْنِ
سَامِعِهِ وَقْرُ
وَإِنْ عَادَ إِشْكَالٌ فَعُدْ قَائِلاً لَنَا: * * * (أَيَا عُلَمَاءَ اَلْعَصْرِ
يَا مَنْ لَهْمْ خُبْرُ)
والآن نشرع في
شرحها وبيان مطالبها مستعينين بالله تعالى، وقد قسَّمناها على أربعة أقسام:
١ - مقدِّمة.
٢ - فَصْلٌ أوَّل: في الأدلَّة الإثباتيَّة على إمامته وغيبته (عجَّل الله فرجه).
٣ - فَصْلٌ ثانٍ: في دفع جملة من الشُّبُهات.
٤ - خاتمة.
* * *
المقدِّمة
١ - يُمَثِّلُكَ اَلشَّوْقُ اَلمُبَرِّحُ وَاَلْفِكْرُ * * * فَلَا حُجُبٌ
تُخْفِيْكَ عَنِّي وَلَا سِتْرُ
٢ - وَلَوْ غِبْتَ عَنِّيْ أَلْفَ عَامٍ فَإِنَّ لِي * * * رَجَاءَ وِصَالٍ لَيْسَ
يَقْطَعُهُ اَلدَّهْرُ
٣ - تَرَاكَ بِكُلِّ اَلنَّاسِ عَيْنِيْ فَلَمْ يَكُنْ * * * لِيَخْلُوَ رَبْعٌ
مِنْكَ أَوْ مَهْمَهٌ قَفْرُ
مبرِّح: شديد،
والمَهْمَه: الأرض غير المسكونة، بخلاف الرَّبْع.
ابتدأ (قدِّس سرّه) ببراعة الاستهلال قبل الشروع في المقصد الرئيس، ذاكراً العلاقةَ
الروحيَّة بين المُنتظِر والمُنتظَر (عليه السلام).
يقول: شوقي الشديد إليك وتفكري بك يجعلك كالحاضر لا يخفيك عنِّي ستر ولا حجاب،
ومهما غيَّبك الدهر سنينَ طويلة فإنِّي سأضلُّ راجياً لقاءَك دون يأس.
* * *
٤ - وَمَا أَنْتَ إلَّا اَلشَّمْسُ يَنْأَى مَحَلُّهَا * * * وَيُشْرِقُ مِنْ
أَنْوَارِهَا اَلْبَرُّ وَاَلْبَحْرُ
ينأى: يبعد.
يقول: ليس لطول الفراق أنْ ينسيني ويشغلني عنك وأنا ألمس بركاتك ونِعمَك رغم غيابك
عن البصر، وما حالك إلَّا كحال الشمس إذ تغيب وراء الغيوم ومع ذلك تشرق ببركتها
الدنيا ببرِّها وبحرها.
وهذا مأخوذ من جملة من الأخبار، كقول الصادق (عليه السلام) لمَّا سُئِلَ: كَيْفَ
يَنْتَفِعُ اَلنَّاسُ بِالْحُجَّةِ اَلْغَائِبِ اَلمَسْتُورِ؟ فَقَالَ: «كَمَا
يَنْتَفِعُونَ بِالشَّمْسِ إِذَا سَتَرَهَا اَلسَّحَابُ»(٢٦).
* * *
-----------------
(٢٦) أمالي الصدوق (ص ٢٥٣).
٥ - تَمَادَى زَمَانُ اَلْبُعْدِ وَاِمْتَدَّ لَيْلُهُ * * * وَمَا أَبْصَرَتْ عَيْنِيْ مُحَيَّاكَ يَا بَدْرُ
محيَّاك:
مَلقاك.
يقول: لقد طال ليل الفراق بيننا، ولم تبصرك عيني بعدُ يا بدر، مع أنَّ البدر شأنه
الظهور ليلاً.
* * *
٦ - وَلَوْ لَمْ تُعَلِّلْنِيْ بِوَصْلِكَ لَمْ يَكُنْ * * * لِيَأْلَفَ قَلْبِيْ
مِنْ تَبَاعُدِكَ اَلصَّبْرُ
٧ - وَلَكِنَّ عُقْبَى كُلِّ ضِيْقٍ وَشِدَّةٍ * * * رَخَاءٌ وَإِنَّ اَلْعُسْرَ
مِنْ بَعْدِهِ يُسْرُ
يقول: لو لم أكن
موعوداً بأنَّك ستظهر يوماً ما، وأنَّي سألقاك آخراً، لم يكن ليتعوَّد قلبي فراقك
ويألف الصبر عليه، ولكنَّ وعدَك لي باللُقيا جعلني أصبر وأصبر، آمِلاً تحقُّقَ ذلك
الوعد؛ معلِّلاً نفسي بأنَّ كلَّ عسرٍ بعده يسر، وكلَّ شدَّة وضيقة بعدها رخاء، وقد
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ
بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾
(الأنبياء: ١٠٥).
وقوله: (ولكنَّ عقبى.. رخاء) يُحتمَل فيه أنْ يكون (عقبى) ظرفاً متعلِّقاً بخبر
(لكنَّ) المتقدِّم و(رخاء) اسمها المنصوب، فيكون التقدير: ولكنَّ رخاءً موجودٌ في
عقبى كلِّ ضيق وشدَّة.
ويحتمل أنْ يكون (عقبى) هو اسم (لكنَّ)، و(رخاء) خبرها المرفوع، فيكون الإخبار عن
عقبى الضيق والشدَّة بأنَّه رخاء، وعلى كليهما يستقيم المعنى وإنْ كان الثاني أقرب،
وهو ما أثبتناه في النظم.
* * *
٨ - وَإنَّ زَمَانَ اَلظُّلْمِ إِنْ طَالَ لَيْلُهُ * * * فَعَنْ كَثَبٍ يَبْدُوْ
بِظَلْمَائِهِ اَلْفَجْرُ
عن كثب: عن
قريب.
جعل لزمان الظلم ليلاً ينتهي بطلوع فجر العدل، فكما أنَّ كلَّ ليل لا بدَّ
أنْ
ينتهي ويلوح الفجر، فكذلك كلُّ ظلم لا بدَّ أنْ ينتهي ويُطوى بساطه ويظهر العدل
والقسط.
وليس رائد ذلك العدل ومنهي ذلك الظلم إلَّا هذا المخاطَب الذي وُعِدْنا بأنَّه
سيملأ الأرض عدلاً وقسطًا كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
* * *
٩ - وَيُطْوَى بِسَاطُ اَلجَوْرِ فِيْ عَدْلِ سَيِّدٍ * * * لِأَلْوِيَةِ
اَلدِّيْنِ اَلحَنِيْفِ بِهِ نَشْرُ
يُطوى بساط
الجور: كناية عن انتهاء أمده وانقضائه، كما أنَّ المجالس يُطوى بساطها بعد
انتهائها، والبساط: الفراش ونحوه.
ومعنى العجز: أنَّ هذا السيِّد الموعود تُنشَر به ألوية الدِّين الحنيف، وهي كناية
عن انتصار الدِّين وسواده وظفره؛ لأنَّ من لوازم المنتصر في العادة أنْ تنتشر
ألويته ويسود شعاره.
* * *
١٠ - هُوَ اَلْقَائِمُ اَلمَهْدِيُّ ذُوْ اَلْوَطْأَةِ اَلَّتِيْ * * * بِهَا
يَذَرُ اَلْأَطْوَادَ يَرْجُحُهَا اَلذَّرُّ
الوطأة: الأخذة،
يقال: وطأ القوم وطئاً، أي أخذهم أخذاً.
ويذر: يدع، والأطواد: الأعمدة الضخمة، وهي هاهنا كناية عن رؤوس الكفر.
و(يرجحها) أي: يرجح عليها بحيث يكون أعظم منها، والذرُّ: حبَّات التراب الصغيرة في
الهواء.
يقول: إنَّه القائم المهدي الذي إذا ظهر يطأ رؤوس الكفر وطأةً يتركهم إثرها حقيرين
صاغرين بحيث ترجحهم وتعلو عليهم حبَّات التراب الصغيرة.
* * *
١١ - هُوَ اَلْغَائِبُ اَلمَأْمُوْلُ يَوْمُ ظُهُوْرِهِ * * * يُلَبِّيْهِ بَيْتُ اَلله وَاَلرَّكْنُ وَاَلحَجْرُ
المأمول:
المتوقَّع المرتجى. ويُلبِّيه: يستجيب له ويطيعه.
أقول: يحتمل أنْ يكون (يوم) ظرفاً منصوباً متعلِّقاً بـ(يُلبِّيه) فيكون المعنى: هو
الغائب المأمول، وسيُلبِّيه بيت الله والركن والحجر في يوم ظهوره.
ويحتمل أنْ يكون (يوم) نائبَ فاعلٍ مرفوعاً لاسم المفعول (المأمول) وتكون جملة
(يُلبِّيه...) مستأنفة جديدة، ويكون المعنى: هو الغائب الذي يومُ ظهورِه مأمول
متوقَّع مرتجى، ويطيعه بيت الله والركن والحجر.
والأقرب: الثاني، لكن لا مع كون جملة (يُلبِّيه) مستأنفةً لا علاقة لها بجملة
الصدر؛ بل مع كونها جملة حاليَّة من الضمير في (ظهوره) الراجع إليه (عجَّل الله
فرجه)، فيكون المعنى: أنَّه القائم الذي نتأمَّل يومَ ظهوره حالَ كونه يُلبِّيه بيت
الله والركن والحجر(٢٧).
وكيفما كان ففي مضمون العجز - وهو أنَّه (عجَّل الله فرجه) يُلبِّيه بيت الله
والركن والحجر عند ظهوره - إشارةٌ إلى ما ثبت عندنا من أنَّه يظهر أوَّل مرَّة في
مكَّة عند الكعبة المشرَّفة، وقد روى الشيخ (رحمه الله) في (غيبته) بسنده إلى أبي
جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «كَأَنِّي بِالْقَائِمِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ
اَلسَّبْتِ قَائِماً بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ جَبْرَئِيلُ
يُنَادِي اَلْبَيْعَةَ لله فَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً
وَجَوْراً»(٢٨).
وروى الكليني (رحمه الله) بسنده إلى بكير بن أعين، قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ
اَلله (عليه السلام)
-----------------
(٢٧) فإنْ قلتَ: قد منع النحاة مجيء الحال من المضاف إليه إلَّا في حالات ثلاث،
وشيءٌ منها غير متحقَّق هاهنا!
قلتُ: قد أجازه سيبويه مطلقاً - وحسبك به -، فيتوجَّه ما قلنا على مذهبه. اُنظر:
شرح ابن عقيل (ج ٢/ ص ٢٦٧).
(٢٨) الغيبة للطوسي (ص ٤٥٣).
لِأَيِّ عِلَّةٍ وَضَعَ اَللهُ اَلْحَجَرَ فِي اَلرُّكْنِ اَلَّذِي هُوَ فِيهِ وَلَمْ يُوضَعْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: «إِنَّ اَللهَ تَعَالَى وَضَعَ اَلْحَجَرَ اَلْأَسْوَدَ وَهِيَ جَوْهَرَةٌ أُخْرِجَتْ مِنَ اَلْجَنَّةِ إِلَى آدَمَ فَوُضِعَتْ فِي ذَلِكَ اَلرُّكْنِ لِعِلَّةِ اَلْمِيثَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ حِينَ أَخَذَ اَللهُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ فِي ذَلِكَ اَلمَكَانِ، وَفِي ذَلِكَ اَلمَكَانِ تَرَاءَى لَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ اَلمَكَانِ يَهْبِطُ اَلطَّيْرُ عَلَى اَلْقَائِمِ (عليه السلام)، فَأَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُهُ ذَلِكَ اَلطَّيْرُ، وَهُوَ وَاَلله جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، وَإِلَى ذَلِكَ اَلمَكَانِ يُسْنِدُ اَلْقَائِمُ ظَهْرَهُ، وَهُوَ اَلْحُجَّةُ وَاَلدَّلِيلُ عَلَى اَلْقَائِمِ»(٢٩).
* * *
١٢ - هُوَ اِبْنُ اَلْإِمَامِ اَلْعَسْكَرِيِّ مُحَمَّدٌ * * * بِذَا كُلِّهِ قَدْ
أَنْبَأَ اَلمُصْطَفَى اَلطُّهْرُ
١٣ - فَأَخْبَارُهُمْ عَنْهُ بِذَاكَ كَثِيْرَةٌ * * * وَأَخْبَارُنَا قَلَّتْ
لَهَا اَلْأَنْجُمُ اَلزُّهْرُ
اعلم أنَّ
الأخبار الواردة في الحجَّة (عجَّل الله فرجه) من طُرُقنا وطُرُق المخالفين من
الكثرة بمكان عظيم يكون وصفها بالمتواترة معه تقليلاً من شأنها؛ حتَّى إنَّها وصلت
إلى حوالي ألفين حديث في (معجم أحاديث الإمام المهدي) المطبوع المتداول.
ومئاتٌ من تلكم الأخبار نبويَّة محمّديَّة (صلَّى الله على صاحبها وآله)، وإلى هذا
يشير الناظم (قدِّس سرّه) في عجز البيت الأوَّل.
لا خلاف في حقيقة المنقذ المسمَّى
بالمهدي:
ومن ذلك تعلم أنَّ حقيقة المنقذ الناشر للعدل المسمَّى بالمهدي ليست موضعاً للنقاش
إجمالاً، ولا نزاع فيها بين جميع المسلمين؛ إلَّا أنَّ جملةً من التفاصيل
المحوريَّة وقعت محلّاً للخلاف والنزاع الطويل المعروف بين أتباع مذهب أهل البيت
(عليهم السلام) ومخالفيهم.
-----------------
(٢٩) الكافي (ج ٤/ ص ١٨٥).
ومن أهمّ تلك التفاصيل ما أشار إليه (قدِّس سرّه) بقوله: (هو ابن الإمام العسكري
محمَّد)، فإنَّه اشتمل على أمرين:
الأوَّل: أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) هو ابن الإمام الحسن بن عليٍّ العسكري
(عليهما السلام)؛ وقد خالف في ذلك القوم فزعموا أنَّ العسكري (عليه السلام) لم يعقب
ومات دون ولد، أو أنَّه أعقب ولداً اسمه (محمَّد) لكنَّه مات، وأنَّ المهدي (عجَّل
الله فرجه) لم يُولَد بعد، وأنَّ اسمه (محمّد بن عبد الله)، مستندين في ذلك إلى ما
رواه محدِّوثهم كأبي داود في (سُنَنه)(٣٠)، وابن حبَّان في (صحيحه)(٣١)، والحاكم في
(مستدركه)(٣٢) عن ابن مسعود عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بألفاظ متفاوتة
لمعنى واحد، وهذا لفظ أبي داود: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ
لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ، حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلاً مِنِّي - أَوْ
مِنْ أَهْلِ بَيْتِي - يُوَاطِئُ اِسْمُهُ اِسْمِي، وَاِسْمُ أَبِيهِ اِسْمُ أَبِي،
يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»(٣٣).
حسنيٌّ أم حسينيٌّ؟
الثاني - وهو متفرِّع عن الأوَّل -: أنَّه (عجَّل الله فرجه) من ذرّيَّة الإمام
الحسين الشهيد (عليه السلام)، ومع أنَّ أكثرهم قد وافقنا فيه، إلَّا أنَّ بعضاً من
الشواذِّ - كابن حجر في (صواعقه)(٣٤) - خالفوا زاعمين أنَّه من ذرّيَّة الإمام
الحسن المجتبى (عليه السلام) - بعد اتِّفاقنا وإيَّاهم على أنَّه من ذرّيَّة فاطمة
(عليها السلام) -، ودليلهم على ذلك مردود كما ستسمع، وأمَّا نحن فنصوصنا على أنَّه
من ذرّيَّة الحسين (عليه السلام) تربو على المائة، بل في نصوصهم هم ما يدلُّ على
ذلك صريحاً.
-----------------
(٣٠) يأتي تخريجه عند ذكر لفظه عن وهلة.
(٣١) صحيح ابن حبَّان (ج ١٥/ ص ٢٣٧).
(٣٢) المستدرك على الصحيحين (ج ٤/ ص ٤٦٤).
(٣٣) سُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٣٠٩).
(٣٤) الصواعق المحرقة (ج ٢/ ص ٦٧٩).
ففي (عقد الدُّرَر) عَنْ حُذَيْفَةَ (رضي الله عنه)، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ
اَلله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم) فَذَكَرَنَا رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه
[وآله] وسلم) بِمَا هُوَ كَائِنٌ، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا
إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى
يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلاً مِنْ وُلْدِي اِسْمُهُ اِسْمِي»، فَقَامَ سَلْمَانُ
اَلْفَارسِيُّ (رضي الله عنه)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَلله، مِنْ أَيِّ وُلْدِكَ؟
قَالَ: «هُوَ مِنْ وَلَدِي هَذَا»، وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى اَلْحُسَيْنِ (عليه
السلام)(٣٥).
وذكر هذا الحديث صاحب (ذخائر العقبى) وقال: (فيحمل ما ورد مطلقاً فيما تقدَّم على
هذا المقيَّد)(٣٦).
قلتُ: يريد أنَّ الأخبار المطلقة التي تفيد أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) من ولد
فاطمة (عليها السلام) دون تحديد كونِه من ولد الحسن أو الحسين (عليهما السلام)
تُحمَل على هذا الخبر المقيَّد بأنَّه (عجَّل الله فرجه) من ذرّيَّة الحسين (عليه
السلام)؛ فيُنتهى إلى نتيجة أنَّ المهدي من ذرّيَّة فاطمة (عليها السلام) بطريق
الحسين (عليه السلام) عملاً بقاعدة حمل المطلق على المقيَّد المعروفة.
وقد استدلَّ القائلون بأنَّه من نسل الحسن (عليه السلام) بما رواه أبو داود في
(سُنَنه) عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ وَنَظَرَ إِلَى اِبْنِهِ
اَلْحَسَنِ، فَقَالَ: «إِنَّ اِبْنِي هَذَا سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اَلله،
وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ يُشْبِهُهُ فِي
اَلْخُلُقِ ، وَلَا يُشْبِهُهُ فِي اَلْخَلْقِ، يَمْلَأُ الْأَرْضَ
عَدْلاً...»(٣٧).
وقد ردَّ الأعلام الاستدلالَ بها من وجوه:
أوَّلاً: اختلاف النقل عن (سُنَن أبي داود)؛ فإنَّ صاحب (عقد الدُّرَر) نقلها
مذكوراً فيها (الحسين) لا (الحسن)، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن الركون إلى هذه
الرواية الوحيدة؟
-----------------
(٣٥) عقد الدُّرَر في أخبار المنتظَر (ص ٨٣).
(٣٦) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى (ص ١٨٣).
(٣٧) سُنَن أبي داود (ج ٢/ ص ٣١١).
ثانياً: ورود احتمال التصحيف فيها جدًّا؛ إذ التشابه بين لفظي (الحسن) و(الحسين)
قريب معتدٌّ به.
ثالثاً: مخالفتها لمشهور علمائهم، ولأخبار أُخرى أصحَّ سنداً ومتناً، وقد تقدَّم
بعضها.
* * *
١٤ - وَمَوْلِدُهُ (نُوْرٌ) بِهِ يُشْرِقُ اَلهُدَى * * * وَقِيْلَ لِظَامِيْ اَلْعَدْلِ: مَوْلِدُهُ (نَهْرُ)
ظامي العدل:
المتطلِّع إليه إلى حدِّ الظمأ.
قال جدُّنا الأديب الدكتور السيِّد عبد الصاحب الموسوي الهندي (رحمه الله) معلِّقاً
عليه: (في هذا البيت إشارة إلى تاريخ ميلاد الإمام المهدي (عليه السلام)، وفيه
قولان:
أوَّلهما: أنَّه وُلِدَ سنة (٢٥٦هـ)، وذلك ما تشير إليه كلمة (نور) في صدر البيت؛
إذ إنَّ مجموع هذه الكلمة بحساب التاريخ الأبجدي: ٢٥٦.
وثانيهما: أنَّه وُلِدَ سنة (٢٥٥هـ)، وذلك ما تشير إليه كلمة (نهر) في عجز البيت
ومجموعها: ٢٥٥)(٣٨).
قلتُ: الأشهر نصًّا وقولاً هو الثاني، وعليه أعاظم الأصحاب كالكليني(٣٩)،
والمفيد(٤٠)، والطوسي(٤١) رضوان الله عليهم أجمعين، والأوَّل مرويٌّ(٤٢).
-----------------
(٣٨) ديوان السيَّد رضا الهندي (ص ٢٧/ الهامش رقم ١).
(٣٩) الكافي (ج ١/ ص ٥١٤).
(٤٠) الإرشاد (ص ٣٣٩).
(٤١) الغيبة للطوسي (ص ٢٦١).
(٤٢) اُنظر: كمال الدِّين (ص ٤٣٠).
وقد اقتصر (طاب ثراه) على أشهر قولين، وثَمَّة أقوال أُخَرُ كثيرة.
ولا يخفى ما في مناسبة النور للإشراق في الصدر والنهر للظمأ في العجز من لطف.
* * *
مقالة فيها مجموعة من الأبحاث الكلاميَّة:
١٥ - فَيَا سَائِلاً عَنْ شَأْنِهِ اِسْمَعْ مَقَالَةً * * * هِيَ اَلدُّرُّ وَاَلْفِكْرُ اَلمُحِيطُ لَهَا بَحْرُ
هذه مقدِّمة
كلاميَّة ذكرها الناظم (طاب ثراه) مبيِّناً فيها علَّةَ الخلق - وهي التكليف -
لينتقل منها إلى وجوب إعلام الخلق بالتكاليف الإلهيَّة، ثمّ إلى وجوب بعثة الأنبياء
(عليهم السلام)، ثمّ إلى وجوب اللطف الإلهي، ثمّ إلى وجوب وجود إمامٍ في كلِّ زمن
بعد انقضاء عصر النبوَّة بمقتضى ذلك اللطف، فيثبت بذلك عقلاً وجوب وجود الإمام
الحجَّة (عجَّل الله فرجه) حيًّا يُرزَق، وسيذكر في طيَّات ذلك مطالب جانبيَّة لها
تعلُّق بهذه المقامات.
الحكمة الإلهيَّة من الخلق:
١٦ - أَلَمْ
تَدْرِ أَنَّ اَللهَ كَوَّنَ خَلْقَهُ * * * لِيَمْتَثِلُوْهُ كَيْ يَنَالهُمُ
اَلْأَجْرُ
١٧ - وَمَا ذَاكَ إلَّا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ * * * وَإلَّا فَمَا فِيْهِ إِلَى
خَلْقِهِمْ فَقْرُ
وهذا هو المطلب
الأوَّل من مطالب المقدِّمة؛ ويتعرَّض فيه الناظم (طاب ثراه) إلى الغرض الذي لأجله
أوجد الباري تعالى الخلق.
ولبسط الكلام مع ما يقتضيه من مقدِّمات نقول:
إنَّ كلمة الشيعة الإماميَّة متَّفقة على وجوب الحكمة الإلهيَّة عقلاً، التي معناها
أنَّه (عزَّ وجلَّ) لا يفعل إلَّا لغرض وعلَّة، خلافاً للأشاعرة - الذين هم جمهور
أهل السُّنَّة - إذ منعوا أنْ يكون شيءٌ من أفعاله تعالى ذا غرض وغاية وعلَّة
معيَّنة(٤٣).
-----------------
(٤٣) اُنظر: شرح المواقف (ج ٨/ ص ٢٠٢).
دليلنا: أنَّ الفعل دون غرض وغاية عبثٌ، فلو كان (عزَّ وجلَّ) يفعل لا لغرض لكان
عابثاً - حاشاه -، والعبث قبيح عقلاً، فيكون ممتنعاً امتناعَ كلِّ قبيح عليه (عزَّ
وجلَّ).
ووجه امتناع كلِّ قبيح عليه: أنَّ فعلَ الشيء بالنسبة إلى القادر الحكيم لا يكون
إلَّا بعد تحقُّق أمرين: وجود الداعي إليه عنده، وعدم وجود الصارف والمانع عنه،
وكلاهما مفقود هاهنا.
أمَّا فقدان الأوَّل فلوضوح أنَّ القبيح لا داعي فيه بالنسبة إلى الله تعالى؛
ضرورةَ أنَّه - أي: الداعي - لا يخلو من ثلاث:
- أنْ يكون الحسن الموجود في الفعل، والفرض هاهنا أنَّه قبيح لا حسن فيه.
- أنْ يكون افتقار الفاعل له وحاجته إليه - كالحال فيمن يسرق لحاجته إلى المال أو
الطعام ونحو ذلك مع علمه وإقراره بقبح السرقة -، وهو ممتنع على الباري (عزَّ وجلَّ)
بعد أنْ كان الواجبَ الغنيَّ الذي لا يفتقر إلى شيء، بل كلُّ ما دونه مفتقر في
وجوده وبقائه إليه تعالى.
- أنْ يكون جهله تعالى بقبح القبيح، وهو باطل أيضاً كما لا يخفى.
فتحصَّل: أنَّ الداعي إلى فعل القبيح مفقود بالنسبة إليه تعالى.
وأمَّا فقدان الثاني - وهو عدم وجود الصارف - فلأنَّ الصارف والمانع عن فعل القبيح
موجود متحقِّق، وهو علمه تعالى بالقبح الموجود في الفعل مع انعدام الحاجة إليه.
فتحصَّل: أنَّ القبيح بالنسبة إلى الباري تعالى لا داعي له، وثَمَّة صارف ومانع
عنه، وكلَّما كان الحال كذلك امتنع عقلاً صدور الفعل من القادر الحكيم، وبالتالي
فالقبيح ممتنع عقلاً على الباري (عزَّ وجلَّ).
والعبث - بلا شكٍّ - من جملة القبائح العقليَّة والعقلائيَّة والعرفيَّة، فيمتنع
عليه تعالى.
وحجَّة الأشاعرة غير الشاعرة: أنَّ وجود العلَّة والغرض وراء أفعال الباري تعالى
يستلزم افتقاره (عزَّ وجلَّ) إلى ذلك الغرض؛ لأنَّه - أي: الغرض - يعود إلى مصلحته
ونفعه، والافتقار باطل عليه بالضرورة.
والجواب أوضح من أنْ يخفى؛ فإنَّ الغرض لا يجب أنْ يكون راجعاً إليه تعالى، بل قد
يكون راجعاً إلى غيره، كحفظ المصالح الإنسانيَّة وإصلاح النظام الكوني ونحو ذلك، إذ
النفع في هذين الغرضين لا يعود إليه (عزَّ وجلَّ) بل إلى مخلوقاته، وإذا كان كذلك
فلا يكون تعالى مفتقراً إليه حتَّى يلزم الإشكال.
ويا عجباً من هؤلاء القوم إذ يدَّعون أنَّ في هذا لزوماً لافتقار المولى فيمنعونه،
والحال أنَّهم يقبلون افتقاره (عزَّ وجلَّ) لصفاته الزائدة على ذاته التي يقولون
بها، ولا يمانعون استكماله تعالى بها! فيُجوِّزونَ أنْ يحتاج في علمه مثلاً إلى شيء
خارج عن ذاته وهو صفة العلم الزائدة المغايرة له!
ويا عجباً منهم أيضاً إذ يمنعون وجود الأغراض والعِلَل، ومع ذلك يقولون بحجّيَّة
القياس الذي لا يتمُّ إلَّا إذا كان للأحكام الشرعيَّة عِلَلٌ حتَّى يمكن تسرية
الحكم المعيَّن من مورد إلى آخر لاشتراكهما في العلَّة!
والحاصل: أنَّ كلَّ فعل إلهيٍّ لا بدَّ أنْ يكون وراءه غرض وغاية وعلَّة لأجلها
صَدَر الفعل من الساحة المقدَّسة.
والأدلَّة النقليَّة المنبِّهة إلى ذلك كثيرة، كقوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾
(المؤمنون: ١١٥).
وذلك الغرض لا بدَّ أنْ يكون غرضاً صالحاً عادلاً حسناً، ولا يمكن أنْ يكون قبيحاً
- كالإضرار الظالم - لأنَّ إرادة القبيح قبيحة، وقد تقدَّم أنَّه (عزَّ وجلَّ) لا
يفعل القبيح.
وحينئذٍ نقول: فما غرضه تعالى من خلق الخلق؟
والجواب: هو نفعهم والتفضُّل عليهم بتعريضهم لفرصة تحصيل الثواب والسعادة
الأبديَّة.
ثمّ نقول مجدَّداً: وكيف يُعرِّضُهم (عزَّ وجلَّ) للثواب ويمنحهم الفرصة لتحصيله؟
والجواب: بفرض تكاليف وقوانين إلهيَّة مَنِ امتثلها وجرى عليها استحقَّ الثواب،
ومَنْ خالفها وجانبَها استحقَّ العذاب، وذلك هو التكليف.
فإنْ قلتَ: فلماذا لا يُثيبهم مباشرةً دون توسُّط التكليف مع قدرته على ذلك؟
قلتُ: لأنَّ الثواب مشتمل على التعظيم، وهم قبل التكليف وامتثال الأوامر لا
يستحقُّون تعظيماً؛ إذ لم يفعلوا شيئاً يوجب ذلك لهم، وتعظيمُ مَنْ لا يستحقُّ
قبيحٌ عقلاً، فتكون إثابتهم كذلك، وقد علمتَ أنَّ القبيح ممتنع عليه تعالى، فوجب
توسُّط التكليف ليستحقَّ الثواب مَنْ يستحقَّ ويُحرَمَهُ مَنْ لا يستحقَّ.
ولذلك قال (طاب ثراه): (كوَّن خلقه.. ليمتثلوه) بالتكليف (كي ينالهم الأجر) والثواب
والنفع (وما ذلك إلَّا رحمةً بعباده)، إذ الغرض من الخلق راجع إليهم لا إليه
(وإلَّا فما فيه) أي في الباري (عزَّ وجلَّ) (إلى خلقهم فقر)، بل هم المفتقرون إليه
(عزَّ وجلَّ).
* * *
وجوب بعث الأنبياء (عليهم
السلام):
ثمّ قال (طاب ثراه):
١٨ - وَيَعْلَمُ
أنَّ اَلْفِكْرَ غَاَيةُ وُسْعِهِمْ * * * وَهَذَا مَقَامٌ دُوْنَهُ يَقِفُ
اَلْفِكْرُ
١٩ - فَأَكْرَمَهُمْ بِالمُرْسَلِيْنَ أَدِلَّةً * * * لِمَا فُيْهِ يُرْجَى
اَلنَّفْعُ أَوْ يُخْتَشَى اَلضُّرُ
أقول: بعد أنْ خلق الله تعالى عباده لينفعهم ويتفضَّل عليهم، ووجب
توسُّط التكليف لاستحقاق الثواب
أو العقاب بناءً على امتثال الأوامر والأحكام الإلهيَّة، وجبت جملة من الشروط في
ذلك التكليف عقلاً، كقدرة العبد المكلَّف عليه، ونحوه.
ومن أهمّ شروط التكليف: أنْ يكون العبد عالماً به؛ لأنَّ تكليف الجاهل ومحاسبته على
ما يجهله قبيح عقلاً وضرورةً، فلا يمكن لله تعالى أنْ يحاسب عباده على التكليف
بالصلاة مثلاً دون أنْ يعلمهم ويبلغهم به لتقام عليهم الحجَّة ويستحقُّوا المحاسبة
والمؤاخذة، ولو لم يبلغهم به ومع ذلك حاسبهم وآخذهم عليه لكان سبحانه فاعلاً
للقبيح، كما أنَّ الأب مثلاً لو أراد شيئاً من ولده ولم يخبره به ثمّ عاقبه لأنَّه
لم يفعله لكان فاعلاً للقبيح عند العقلاء ومستحقًّا للذمِّ.
ومع أنَّ بعضاً من التكاليف ضروريٌّ بديهيٌّ يُدركه الإنسان بعقله مستقلًّا دون
حاجة إلى إعلام وإبلاغ - كوجوب معرفة الخالق تبعاً لوجوب دفع الضرر المحتمل ولزوم
شكر المنعم اللَّذين يفرضهما العقل - غير أنَّ السواد الأعظم من التكاليف والأحكام
نظريٌّ لا يحصل إلَّا بالكسب والإعلام.
ومن ثَمَّ كان واجباً على الباري (عزَّ اسمه) بمقتضى لطفه وكرمه وعدله أنْ يُبلِّغَ
العباد بذلك السواد الأعظم، ليعرفوه فيعملوا به ويكتسبوا السعادة والنجاة.
وحينئذٍ نقول: وكيف يكون ذلك التبليغ والإعلام الإلهي؟
والجواب: بإرسال الأنبياء (عليهم السلام) ليُبلَّغوا عن الله تعالى رسالته وشرائعه
وأحكامه، ثمّ نَصْبِ الأئمَّة (عليهم السلام) بعدهم - كما سيأتي -، فمَنِ اتَّبعهم
وأطاعهم والتزم بتلك الأحكام استحقَّ الثواب، ومَنْ جحدهم وعاندهم وأعرض عنهم
استحقَّ العذاب.
وبذلك لا تبقى للناس حجَّة وذريعة بعدم العلم، كما قال تعالى: ﴿رُسُلاً
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: ١٦٥)، وقال: ﴿وَمَا
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (الإسراء: ١٥).
ولهذا ورد عن الكاظم (عليه السلام) قوله: «إِنَّ لله عَلَى اَلنَّاسِ حُجَّتَيْنِ:
حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا اَلظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ
وَاَلْأَنْبِيَاءُ وَاَلْأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، وَأَمَّا اَلْبَاطِنَةُ
فَالْعُقُولُ»(٤٤).
والحاصل: أنَّ النبوَّة واجبة في حكمة الله تعالى.
ومن حماقة الأشاعرة أنَّهم أنكروا وجوبها عليه تعالى تذرُّعاً بأنْ ليس لأحد إيجاب
شيء عليه تعالى، غفلةً منهم أو تغافلاً عن أنَّ المقصود من وجوبها عليه هو أنَّه
تعالى أوجبها على نفسه بمقتضى حكمته وكرمه وعدله، لا أنَّ شيئاً خارجاً عنه أوجبها
عليه، كما يشير إليه تعالى في قوله: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام: ١٢).
وسيأتي: أنَّ اللطف واجب، والنبوَّة - بلا شكٍّ - أعظمُ مصاديق اللطف إلى جنب
الإمامة، وهما يشتركان في مفهوم وجود الرئيس المطاع الآمر بالواجبات والناهي عن
المحرَّمات والمرشد إلى كلِّ ما فيه خير والزاجر عن كلِّ ما فيه شرٌّ.
ولذلك قال (طاب ثراه): (ويعلم) (عزَّ وجلَّ) (أنَّ الفكر) أي: قوَّة التفكير
المودعة في عقولهم التي يعالجون بها ما يعرض عليهم من معطيات ومقدِّمات فيتوصَّلون
بالتفكير - قليلاً كان أم كثيراً - إلى العلم بالشيء (غاية وسعهم) أي: غاية ما
يستطيعون فعله في سبيل تحصيل العلم، (وهذا مقام) أي مقام امتثال الخالق ومتابعة
أوامره وتكاليفه (دونه يقف الفكر) أي: إنَّ مجرَّد الفكر لا يكفي
-----------------
(٤٤) الكافي (ج ١/ ص ١٦/ ضمن وصيِّته (عليه السلام) لهشام بن الحَكَم).
بنفسه في الوصول إلى العلم بالتكاليف الإلهيَّة، بل لا بدَّ معه من الإعلام والإبلاغ، (فأكرمهم) بمقتضى لطفه وكرمه وحكمته (بالمرسَلين أدلةً) جمع دليل وهو ما يوصل إلى المجهول، (لما فيه يُرجى النفع أو يُختشى الضرُّ) وهو الأحكام الإلهيَّة؛ لأنَّ امتثالها يوجب النفع والثواب وتركها يوجب الضرّ والعذاب.
* * *
تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) من
السَّهو:
ثمّ قال (طاب ثراه):
٢٠ - وَلَمْ يُؤْمَنِ اَلتَّبْلِيْغُ مِنْهُمْ مِنَ اَلخَطَا * * * إذَا كَانَ يَعْرُوْهُمْ مِنَ اَلسَّهْوِ مَا يَعْرُوْ
أقول: بعد أنْ
أشار (طاب ثراه) إلى وجوب النبوَّة إجمالاً، عرَّج على بعض متعلَّقاتها المهمَّة
التي وقعت محلّاً للخلاف بين فِرَق المسلمين.
وذكر أوَّلاً مسألة جواز السهو عليهم من عدمه، وسيذكر بعدها مسألة العصمة، وربَّما
كان الأولى أنْ يُقدِّم الثانية على الأُولى؛ لأنَّ في نفي السهو ترقّياً عن إيجاب
العصمة التي هي ترك المعاصي وعدم الإخلال بالواجب كما سيأتي.
والسهو هو: الغفلة عن الشيء وتوجُّه البال إلى غيره.
وقد روى أهل الخلاف أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) سها في صلاته خمس
مرَّات(٤٥)!
ونحن معشر الإماميَّة نقول: إنَّ السهو ممتنع على الأنبياء (عليهم السلام) قاطبةً،
لاسيَّما في العبادات؛ لأنَّه لو جاز عليهم السهو في مثلها لجاز عليهم في تبليغ
الدِّين وأداء الرسالة، فينتفي الغرض الإلهي من بعثتهم، وهو محال؛ لأنَّه تعالى لا
يُضيِّع أغراضه.
وكيف يجوز عليهم مثل ذلك وهو منفِّرٌ للناس عنهم، ومسقطٌ لمحلِّهم في
-----------------
(٤٥) اُنظر: صحيح البخاري (ج ٢/ ص ٦٧ و٦٨/ ح ١٢٢٤ و١٢٢٩، وج ٩/ ص ٨٧/ ح ٧٢٤٩، وصحيح مسلم (ج ١/ ص ٤٠٣ و٤٠٤/ ح ٥٧٣ و٥٧٤).
القلوب،
ومنقصٌ من مكانتهم وقداستهم، ومنزلٌ لهم منزلةَ عامَّة الناس الذين يسهون ويغفلون ويخطؤون؟! والحال أنَّهم إنَّما بُعِثُوا لينقاد البشر إليهم غاية الانقياد
ويُعظِّموهم ويُطيعوهم ليسيروا بهم في طريق النجاة ويُحقِّقوا لهم السعادة في
دنياهم وآخرتهم.
وكيف يجوز عليهم مثل ذلك والحال أنَّ العباد مأمورون باتِّباعهم وتقليدهم كما في
قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: ٧)؟! فلو كان يجوز عليهم السهو في
التبليغ لأمكن أنْ يُبلِّغوا حكماً خاطئاً ويكون اتِّباعهم في ذلك واجباً بمقتضى
أمره تعالى، والأمر باتِّباع الخطأ قبيح مستحيل عليه (عزَّ وجلَّ).
وهل للعقل السليم تجويز أنْ يختار الله تعالى إنساناً ليُبلِّغ عنه دينه وشريعته
ويأمر الناس باتِّباعه وإطاعته والتسليم إليه، فإذا به يُبلِّغُ سهواً خلافَ ما حكم
به الله تعالى بأنْ يوجب حراماً ويُحرِّم واجباً مثلاً، ويكون لزاماً على الناس أنْ
يتَّبعوه في ذلك؟!
وعلى أيَّة حالٍ فالأدلَّة على نفي السهو متضافرٌ عقليُّها ونقليُّها(٤٦)، وعليه
إجماع الطائفة.
على أنَّ شيخنا الصدوق (رحمه الله) جوَّز ذلك على النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)
كما هو معروف عنه، مدَّعياً أنَّ سهوه ليس كسهو عامَّة الناس؛ لأنَّه - أي: سهو
الناس - من الشيطان، والشيطان لا سلطان له على نبيٍّ أو وصيٍّ، بل سهوه (صلَّى الله
عليه وآله) من الله تعالى ليعلم أنَّه بشر مخلوق(٤٧).
وقد بيَّن علماؤنا أنَّه (رضوان الله عليه) اعتمد في ذلك على أخبار شاذَّة،
-----------------
(٤٦) اُنظرها جميعاً في: حقُّ اليقين للمحدِّث الكبير السيِّد عبد الله شُبَّر (ص
١٣٨ وما بعدها).
(٤٧) اُنظر: من لا يحضره الفقيه (ج ١/ ص ٣٥٩).
بعضها
عامِّيٌّ، وبعضها خاصِّيٌّ ضعيف معارض بالأخبار الكثيرة الصحيحة والأدلَّة
العقليَّة الواضحة، وأنَّ ما ذهب إليه اشتباهٌ ظاهر، مهجورٌ بينهم، فلا يضرُّ في
الإجماع.
ولا يقدح ذلك في عظمته وجلالة شأنه وفضله في الطائفة، كيف؟! وجهده في حفظ الأحاديث
الشريفة وتشييد مباني المذهب الحقِّ يعرفه القاصي والداني، وشدَّة تورُّعه وقداسة
نفسه أشهر من فلق الصبح، وكلُّ عالم - مهما علا قدره وشأنه - في معرض الخطأ
والاشتباه بمقتضى عدم عصمته، ولنعم ما قيل(٤٨):
ومَن ذا الذي
تُرضى سجاياهُ كلُّها؟! * * * كفى المرءَ نبلاً أنْ تُعَدَّ معايبُهْ
* * *
وجوب عصمة الأنبياء (عليهم
السلام):
ثمّ قال (طاب ثراه):
٢١ - وَلَوْ
أَنَّهُمْ يَعْصُوْنَهُ لَاقْتَدَى اَلْوَرَى * * * بِعِصْيَانِهِمْ فِيْهِمْ
وَقَامَ لهُمْ عُذْرُ
٢٢ - فَنَزَّهَهُمْ عَنْ وَصْمَةِ اَلسَّهْوِ وَاَلخَطَا * * * كَمَا لَمْ
يُدَنِّسْ ثَوْبَ عِصْمَتِهِمْ وِزْرُ
أقول: هذه إشارة
إلى وجوب عصمة الأنبياء (عليهم السلام).
والعصمة: ملكة وقوَّة خفيَّة يتلطَّف بها الله تعالى على الإنسان بحيث لا يجد في
نفسه معها داعياً لارتكاب المعاصي والإخلال بالواجب مع قدرته على ذلك.
فليس معناها أنَّه لا يستطيع ارتكابها؛ إذ لا فضيلة في ذلك، بل هو خلاف الإرادة
والاختيار والتكليف؛ لوضوح أنَّ غير القادر على فعل القبيح لا يُمدَح
-----------------
(٤٨) القائل: يزيد بن محمّد المهلبي كما في بهجة المجالس للقرطبي (ج ٢/ ص ٦٥٣).
على تركه ما
لم يكن مستطيعاً له وقادراً عليه ومع ذلك تَرَكَه، كما أنَّ مَنْ قُيِدَّ بدنه -
مثلاً - وأمامه طعام غير مباح - وهو جائع - لا يُمدَح على عدم أكله إيَّاه، ما لم
يكن ذلك في متناول يده فتركه تعفُّفاً وتنزُّهاً.
بل لو كان معنى العصمة عدمَ القدرة على ارتكاب المعصية لكان مخالفاً للتكليف، الذي
ما هو إلَّا ساحة سباق إلى الكمالات الرابحُ فيها مَنْ غلب عقله على هواه واختار
أنْ يطيع الله تعالى فيرتفع بذلك درجةً ويسمو مكانةً باستحقاقه، ولا يكون ذلك مع
عدم قدرته أصلاً على عدم الطاعة كما هو واضح.
وقد اختلف المسلمون في وجوب عصمة الأنبياء (عليهم السلام) على أقوال كثيرة
متهافتة(٤٩):
فمن قائلٍ بوجوبها عليهم (عليهم السلام) من الكبائر حَسْب.
ومن قائل بوجوبها من الصغائر حَسْب.
ومن قائل بوجوبها منهما عمداً لا سهواً.
ومن قائل بوجوبها عمداً وسهواً لكن في خصوص زمان النبوَّة والرسالة، فجوَّز عليهم
الكفر وسائر الذنوب قبل البعثة، وهو قول جمهور المخالفين.
والذي نقوله معشر الإماميَّة: إنَّ الواجب في كلِّ أحدٍ ينصبه الله تعالى ليُبلِّغ
دينه ويحفظ شريعته - نبيًّا كان أم إماماً - أنْ يكون معصوماً منزَّهاً من كلِّ
صغيرة وكبيرة، عمداً وسهواً، في زمان البعثة أو الإمامة وقبله، من أوَّل الولادة
إلى آخر العمر، وجوباً تقتضيه حكمة الله تعالى.
والأدلَّة العقليَّة على ذلك كثيرة لا يُنكِرها ذو لُبٍّ سليم:
منها: ما ذكره (طاب ثراه) في البيت الأوَّل؛ وهو عين ما تقدَّم في نفي
-----------------
(٤٩) اُنظرها في: إرشاد الطالبين للمقداد السيوري (ص ٣٠٣ و٣٠٤).
السهو مِنْ
أنَّهم لو ارتكبوا المعصية لوجب على الناس اتِّباعهم فيها، ولكان لهم في ذلك عذر
أمام الله تعالى؛ لأنَّه أمرهم باتِّباع الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) في
أقوالهم وأفعالهم، فيكون (عزَّ وجلَّ) مغرياً بالمعاصي بل آمراً بها، وهو باطل
محال.
ومنها: أنَّ عدم العصمة يستلزم انتفاء الغرض الإلهي من البعثة، لأنَّه (عزَّ وجلَّ)
إنَّما بعثهم لهداية الناس إلى مصالحهم وإقامة الحجَّة عليهم، فلو لم يكونوا
معصومين لجاز أنْ يأمروا الناس بما فيه مفسدتهم وخراب أمرهم، فينتفي أصل الغرض
والغاية من بعثتهم، وهو باطل محال لا يُجوِّزه عاقل على الله تعالى مع إيمانه
بحكمته العظمى وتدبيره المطلق؛ لأنَّ الحكيم لا يُضيِّع أغراضه.
ومنها: أنَّ عدم العصمة يستلزم عدم الوثوق بالشرائع الإلهيَّة؛ لإمكان أنْ يخطأ
الأنبياء أو الأئمَّة (عليهم السلام) في تبليغها وأدائها لو لم يكونوا معصومين، وهو
محال لا يُجوِّزه أحد.
ومنها: أنَّ عدم العصمة وارتكاب المعاصي والقبائح يُؤدِّي إلى سقوط محلِّهم من
القلوب، سواءً أحصل ذلك منهم قبل بعثتهم أم بعدها.
أمَّا بعدها: فواضح.
وأمَّا قبلها: فلوضوح أنَّ مَنْ كان يفعل القبائح قبل بعثته يصعب على الناس بعدها
أنْ يُعظِّموه أشدّ التعظيم دون أنْ يكون محلُّه في قلوبهم متزلزلاً بنسبة معيَّنة
لأجل ما كان يصدر منه سابقاً، وقد تقدَّم أنَّه لا بدَّ ألَّا يكون معه ما يُنفِّر
الناس عنه لاستلزام ذلك انتفاء الغرض من بعثته، وهو محال.
وغير ذلك كثير.
تأويل ما يُوهِم عدم عصمة
الأنبياء (عليهم السلام):
وأمَّا مثل قوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ﴾ (طه:
١٢١)، فمحمول على ترك الأولى، لا ترك التشريع الإلهي والأمر الربَّاني الذي ينافي
العصمة، بمعنى:
أنَّه (عليه السلام) لم يعصِ أمراً إلهيًّا إلزاميًّا أو استحبابيًّا، بل خَالَفَ إرشاداً محضاً إلى ما هو أولى له وأنفع، دون أنْ تكون له
مدخليَّة في العصمة، نظير ما لو أخبر الأب ولده - على وجه النصيحة والإرشاد لا
الأمر - أنَّ دراسة الطبِّ - مثلاً - أفضل له من دراسة الفيزياء، وخالف الولد ذلك
ودرس الفيزياء، فإنَّه لم يعصِ بذلك أمراً وجَّهه إليه والده، بل ترك ما أرشده إليه
وأشار بأنَّه الأولى والأنفع، وليس عليه إلَّا هذا المقدار من العتاب، ولن يحقَّ
للأب أنْ يقول: (إنَّه عصاني) إلَّا مجازاً بمعنى أنَّه تَرَك الأولى، لا بمعنى
أنَّه خالف أمري؛ لأنَّه لم يأمره على نحو الحقيقة أصلاً.
فهكذا آدم (عليه السلام) في هذه الحادثة المعروفة، فلا يضرُّ ذلك في عصمته عن
المعاصي.
والكلام هو الكلام في غيرها من الآيات الموهمة وقوعَ المعصية من بعض الأنبياء
(عليهم السلام).
والذي دعانا إلى تأويل هذه الآيات وصرفها عن ظواهرها هو ثبوت المنافي له - أي
لظاهرها - عقلاً ونقلاً؛ وهو وجوب العصمة المطلقة للأنبياء (عليهم السلام)، فلا
بدَّ من تأويل تلك الظواهر بما يناسب ذلك الثابت القطعي؛ لئلَّا يقع التكاذب
والتعارض بين كلام الله تعالى والثابت من كلام نبيِّه وآله (صلى الله عليهم أجمعين)
الذي يعود إليه (عزَّ وجلَّ)، وكذلك لئلَّا يتعارض كلامه (عزَّ وجلَّ) مع الدليل
العقلي القطعي، إذ لا يمكن التعارض بينهما في الحقيقة؛ فإنَّ المقصود بالظاهر من
أيِّ كلام هو الاحتمال الأقرب بحسب اللغة إلى مراد المتكلِّم الواقعي، مع بقاء
احتمال أنْ يريدَ شيئاً آخر قائماً، ولكنَّنا نأخذ بذلك الاحتمال الأقرب عملاً
بالظاهر وجرياً على طريقة العقلاء، دون أنْ ندَّعي أنَّه مراده الواقعي قطعاً
وجزماً، ومن ثَمَّ فإذا قام الدليل على أنَّ مراده هو معنى آخر
مخالف للظاهر، أخذنا به، وهاهنا قد قام الدليل القطعي فعلاً على أنَّ الاحتمال الظاهر من الآيات - الذي
يفضي إلى عدم عصمتهم - ليس مراداً من قِبَل المولى، فلا بدَّ من ترك ذلك الظاهر
والأخذ بغيره، فتدبَّر جيِّداً.
وقد استوفى الحديث في المسألة وما يتعلَّق بها وتأويل الآيات المزبورة السيِّد
المرتضى (رضي الله عنه) في كتابه (تنزيه الأنبياء)، فاغتنم منه.
ولذلك قال (قدِّس سرّه): (ولو أنَّهم) أي: الأنبياء (عليهم السلام) (يعصونه) تعالى
(لاقتدى الورى بعصيانهم فيهم وقام لهم) أي للورى (عذر)، وهو أنَّ الله تعالى أمرهم
بالاقتداء بالأنبياء مطلقاً، فلا يمكن أنْ يؤاخذهم إنِ اقتدوا بهم في المعصية.
ذكر المعجزة وشروطها ودلالتها على
النبوَّة:
٢٣ - وَأَيَّدَهُمْ بِالمُعْجِزَاتِ خَوَارِقَاً * * * لِعَاَدَاتِنَا؛ كَيْ لَا يُقَالَ: هِيَ اَلسِّحْرُ
بعد أنْ أشار
(طاب ثراه) إلى وجوب بعثة الأنبياء (عليهم السلام) والفائدة منها، عرَّج على ذكر
الطريقة التي بها يُعرَف أنَّ الإنسان الفلاني نبيٌّ مرسَل حقًّا من الله (عزَّ
وجلَّ) أو لا، ليتميَّز الصادق من الكاذب، وينسدَّ المجال أمام المدَّعين المفترين.
وطلبُ البرهان والدليل على أيِّ دعوى هو مقتضى الفطرة الإنسانيَّة، وقانون العقل
المودَع من قِبَل الخالق تعالى في البشر.
وأيُّ دعوى أعظم خطراً وأدعى لطلب البرهان عليها من دعوى التبليغ عن الله تعالى؟!
ولذلك جعل الله تعالى طريقاً وبرهاناً يفرضه العقل ولا مجال فيه للتلبيس والتدليس
يُعرَف به النبيُّ الصادق ويُميَّز عن غيره.
وذلك الطريق هو: أنَّ كلَّ مَنِ ادَّعى النبوَّة وظهرت المعجزة على يده فهو نبيٌّ.
والمعجزة هي: الإتيان بالأمر الخارق للعادة، المطابق للدعوى، المقرون بالتحدِّي،
المتعذِّر على الخلق الإتيان بمثله.
وباشتمالها على مجموع هذه الشروط تكون المعجزة دليلاً عقليًّا قطعيًّا على صدق
مدَّعي النبوَّة، وتتميَّز عن أعمال السحرة والكذَّابين والمرتاضين وأصحاب الأعمال
الشيطانيَّة العجيبة، وينقطع سبيل الادِّعاء والافتراء أمامهم.
وتفصيل تلك الشروط:
أوَّلاً: ألَّا يكون إبداعها بالبحث والتعلُّم والفكر والتجارب، كما في الأُمور
العجيبة المخترعة في هذه الأعصار، من قبيل الأسلحة الحربيَّة المدمِّرة، وسماع
الأخبار من البلاد النائية، والسفر إلى الأقطار البعيدة في الجوِّ والبرِّ والبحر،
فإنَّ مثل ذلك لا يكون معجزةً؛ لعدم خرقه للعادة بعد أنْ كان من عادة البشر
التطوُّر التدريجي في سائر حقول العلم والصناعة والتكنولوجيا.
ولئن كان نفس الاختراع خارقاً للعادة جديداً على الناس، فالأدوات التي استخدمها
المخترع للتوصُّل إليه عاديَّة، لا كالأداة التي يتوصَّل بها النبيُّ إلى معجزته؛
فإنَّها خارقة للعادة، وفوق طاقة البشر بما فيها من تأييد إلهي وإعانة ربَّانيَّة.
ثانياً: أنَ يدَّعي صاحبها النبوَّة معها، وبذلك تتميَّز عن الخيالات التي تظهر على
أيدي السحرة والكهنة وأمثالهم، فإنَّهم في الغالب لا يدَّعون النبوَّة قبيل
أعمالهم، ولو ادَّعوا لما ظهرت على أيديهم الخوارق الحقيقيَّة، بل لمَنَعَها الله
تعالى منعاً تكوينيًّا، لطفاً منه بعباده ورحمةً، لئلَّا يشتبه الأمر عليهم ويلتبس
ويتَّبعوا كاذباً يُودي بهم إلى المهالك، فينتفي أصل الغرض من البعثة، وإذا ظهر على
أيديهم شيء فعلاً فليس إلَّا تخييلاً وتلبيساً، وليس خرقاً واقعيًّا للنواميس
الطبيعيَّة.
ناهيك عن أنَّ إجراء المعجزة من قِبَل الله تعالى على يد الكاذب قبيح، لأنَّه بذلك
يُغري العباد ويحثُّهم على اتِّباعه، والقبيح ممتنع عليه تعالى.
فَمِنْ فضلِ الله تعالى ولطفه بعباده أنْ منع أغلب أُولئك الفسقة عن ادِّعاء تلك
المنزلة الرفيعة، كما أنَّ رحمته سبحانه مَنَعَت من ظهور الخوارق الحقيقيَّة على
أيديهم، ولعلَّ بعضهم عَلِمَ ذلك فامتنع عن دعوى النبوَّة.
وقد خالَفَ في هذا الأشاعرةُ غير الشاعرة تبعاً لما أسَّسوه من عدم وجوب شيء عليه
تعالى أصلاً - وقد تقدَّم بيانه وجوابه - فجوَّزوا - باللازم - أنْ يجري الله
المعجزة على يد الكاذب المفتري، ويبعث نبيًّا يكون - والعياذ بالله - فاسقاً هاتكاً
للحُرُمات مخلّاً بالواجبات داعياً إلى الضلال والمهالك! نستجير به سبحانه من مثل
هذه القبائح.
هذا، وقد تظهر بعض الخوارق على أيدي الأئمَّة (عليهم السلام) والعلماء والصالحين
تفضُّلاً من الله تعالى عليهم، وما كان من هذا القبيل - وإنْ كان من الله تعالى -
إلَّا أنَّه كذلك لا يُسمَّى معجزة؛ لعدم اقترانه بدعوى النبوَّة، بل يُسمَّى
كرامةً.
ثالثاً: مطابقتها لدعوى صاحبها أو لما يُطْلَبُ منه أنْ يفعله لإثبات نبوَّته، فلو
كانت مخالفة لذلك لم تكن دالَّة على صدقه، كما اشتهر عن مسيلمة الكذَّاب من أنَّه
طلب منه الناس أنْ يمسح يده على عين أرمد ليشفى، فلمَّا مسح عليها عميت عينه،
وسألوه أيضاً أنْ يبصق في بئر قليلة النبع حتَّى يكثر نبعها ويفيض ماؤها، فلمَّا
بصق فيها يَبُسَتْ من حينها وذهب ما كان فيها من الماء القليل(٥٠).
فإعماء العين بالمسح عليها وإيباس البئر بالبصق فيه لا شكَّ في أنَّهما أمران
خارقان للعادة، لكنَّهما لا ينطبق عليهما مفهوم المعجزة التي تُصدِّق صاحبَها، كيف!
وهما في الحقيقة يُكذِّبانه ويفضحانه بمخالفتهما لما يدَّعيه.
-----------------
(٥٠) تاريخ الخميس للدياربكري (ج ٢/ ص ١٥٨).
رابعاً: أنْ تكون مقرونة بالمغالبة والتحدِّي، ودعوة الناس إلى الإتيان بمثلها إنِ
استطاعوا، ليتمكَّن بذلك صاحبها من الاستشهاد بها على نبوَّته، وسدِّ الطريق أمام
منكريها.
وبهذا يخرج ما يفعله الأطبَّاء والمخترعون من الأُمور العجيبة عن مفهوم المعجزة
مرَّةً أُخرى - لو سلَّمنا كون ما يفعلونه خارقاً للعادة أصلاً - لأنَّهم لا
يفعلونها تحدّياً ومغالبةً مع الناس.
ولو قُدِّرَ أنْ فعلوها تحدّياً؛ فستخرج مجدَّداً بالشرط الآتي.
خامساً: ألَّا يوجد مَنْ يقدر على فعل عمله والإتيان بمثله.
فيخرج الأطبَّاء والمخترعون وأشباههم مرَّةً ثالثة؛ لأنَّ لهم نظراء قبلهم وبعدهم
يفعلون مثل أعمالهم، فإنَّ كلَّ اختراع مسبوق بشبيهه وملحوق بأحسن منه.
فبهذه الشروط الخمسة تكون المعجزة دالَّةً بشكل قاطع على نبوَّة صاحبها، ويكون
واجباً على الناس بعدها تصديقه واتِّباعه ليُبلِّغهم أحكامه تعالى ويسير بهم السير
القويم، ولا يبقى للكذَّابين والمدَّعين مجال.
* * *
التحسين والتقبيح العقليَّان:
ثمّ قال (طاب ثراه):
٢٤ - وَلَمْ أَدْرِ لِمْ دَلَّتْ عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِمْ * * * إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَقْلِ نَهْيٌ وَلَا أَمْرُ
أقول: هذه إشارة
بارعة منه (طاب ثراه) إلى إحدى أهمّ المسائل الكلاميَّة الخلافيَّة بين المسلمين،
لمناسبة المقام لذلك كما سيأتي.
والمسألة هي مسألة الحسن والقبح العقليَّين المعروفة، والتي وقعت محلّاً للنزاع بين
العدليَّة - وهم الإماميَّة والمعتزلة - والأشاعرة.
وحاصلها: أنَّ العقل هل له أنْ يُدرك بذاته حسنَ بعض الأفعال كالعدل وقبحَ بعضٍ آخر
كالظلم مستقلّاً بغضِّ النظر عن حكم الشارع المقدَّس (عزَّ وجلَّ)، أم إنَّ الحاكم
بذلك هو الشارع حصراً، فما حَسَّنَهَ هو الحسن، وما قبَّحه هو القبيح، ولا حكم
للعقل في ذلك البتَّة؟
فخالف الأشاعرة مقتضى عقولهم وقالوا بالثاني(٥١)، فجوَّزوا بذلك على الله تعالى أنْ
يفعل القبائح أو يأمر بها فتصير بذلك محاسن، وأنْ يترك المحاسن وينهى عنها فتصبح
بذلك قبائح، إذ لا فعلَ يتَّصف بنفسه بالقبح لكي يمتنع عليه تعالى، بل اتِّصافُ
كلِّ فعل بالحسن أو القبح متوقِّف على فعله تعالى له أو تركه إيَّاه، فإذا فعله أو
أمر به صار حسناً، وإذا تركه ونهى عنه صار قبيحاً.
فلا بدعَ ولا عجب حينئذٍ فيما لو أخلف تعالى وعده بإثابة المتَّقين ومعاقبة العاصين
يوم القيامة، وألقى بموسى (عليه السلام) في جهنَّم وأدخل فرعون الجنَّة، إذ ليس ذلك
قبيحاً قبل أنْ يفعله تعالى أو يتركه! تعالى سبحانه عن ذلك علوًّا كبيراً!
وقلنا معشر الإماميَّة: إنَّ ضرورة العقل قاضية بأنَّ بعض الأفعال حسن في ذاته
حتَّى قبل أنْ يفعله الباري تعالى أو يأمر به، وبعضها قبيح في ذاته حتَّى قبل أنْ
يتركه الباري تعالى وينهى عنه، بمعنى أنَّ فاعلها يستحقُّ المدح أو الذمَّ آجلاً،
والثواب أو العقاب آجلاً(٥٢)، دون حاجةٍ للعقل في إدراك ذلك إلى تحسين
-----------------
(٥١) اُنظر: شرح
المقاصد (ج ٢/ ص ١٤٨).
(٥٢) أي: في الآخرة؛ وذلك لأنَّ معنى المدح والذمِّ بالنسبة إلى الله تعالى ليس
إلَّا الثواب والعقاب. وخلاصة المطلب: أنَّ العقلاء يحكمون بحسن بعض الأشياء وقبحها
بمعنى استحقاق صاحبها المدح أو الذمَّ، والله تعالى من العقلاء، بل هو سيِّدهم
وخالقهم، فكذلك يحكم باستحقاق المدح أو الذمِّ، وليس معنى المدح والذمِّ بالنسبة
إليه تعالى إلَّا الثواب والعقاب، راجع في ذلك مبحث التحسين والتقبيح العقليَّين في
الجزء الثاني من أُصول الشيخ المظفَّر (قدِّس سرّه).
الشارع
المقدَّس أو تقبيحه؛ لأنَّه تعالى أودع هذه القدرة التمييزيَّة فيه من الأساس.
ولسنا ندَّعي الموجبة الكلّيَّة - أي إنَّ العقل قادر على استكشاف حسن أو قبح جميع
الأفعال -، بل غاية ما ندَّعيه هو الموجبة الجزئيَّة - وهو أنَّه قادر على إدراك
حكم بعض الأفعال لا جميعها -، ونقرُّ بأنَّ العقل يجهل أحكام السواد الأعظم منها
بشهادة الكتاب والسُّنَّة والأخبار، وليس له أنْ يُدركها مستقلّاً عن الشريعة
المقدَّسة، لكن لا مجال لإنكار قدرته على إدراك بعض منها.
أدلَّة الحسن والقبح العقليَّين:
وأدلَّتنا على ذلك كثيرة:
منها: أنَّ كل إنسان سليم العقل يُدرك بعقله وفطرته حسن بعض الأفعال وقبح بعض آخر
بينه وبين نفسه؛ ولذلك لو خُيِّر أحدنا بين فعلين أحدهما حسن والآخر قبيح مع تساوي
الجزاء والعاقبة والجهد المبذول لاختار بطبعه وفطرته الحسنَ منهما، وما ذلك إلَّا
لإدراكه ما فيه من حُسْن وما في الفعل الآخر مِن قُبْح فرجَّحَهُ عليه.
ومنها: أنَّ الحسن والقبح لو كانا معتمدين على الشرع خاصَّةً لما وجدنا منكري
الشرائع والملاحدة يحكمون بحسن بعض الأفعال كالعدل وإنقاذ الغريق وبقبح بعض آخر
كالظلم وقتل البريء ونحوه مع أنَّهم لا يؤمنون بشرع ولا دين، ممَّا يعني أنَّ
ثَمَّة طرفاً غير الشرع دعاهم إلى الحكم بالحسن والقبح، وهو العقل.
ومنها: أنَّه لو لم يكن العقل حاكماً مستقلّاً بالحسن أو القبح لجاز على الباري
(عزَّ وجلَّ) أنْ يفعل القبيح؛ لأنَّه حينئذٍ لا يكون قبيحاً قبل أنْ يفعله تعالى.
ويترتَّب على ذلك: انتفاء جميع الشرائع الإلهيَّة وعدم الوثوق بها؛ إذ لن يمتنع
حينئذٍ عليه تعالى أنْ يُرسِل نبيًّا كذَّاباً، لعدم قبح ذلك عليه!
كما سيُؤدِّي إلى انسداد باب معرفة النبيِّ وإثبات دعواه؛ إذ لن يقبح عليه تعالى
أنْ يجري المعجزة على يد الكذَّاب، فيمكن للناس عندئذٍ أنْ يقولوا لصاحب المعجزة:
لا دلالة في معجزتك هذه على صدقك في دعواك النبوَّة، إذ قد يكون الله تعالى قد أجرى
على يدك المعجزة مع أنَّك كذَّاب؛ لأنَّ ذلك غير قبيح عليه! وليس لك أنْ تقول:
إنَّه تعالى حكم بقبح ذلك على نفسه، إذ يقال في ردِّك: قد يكون كاذباً في ذلك؛
لأنَّ الكذب ليس قبيحاً عليه! فيُفحَم النبيُّ وتنقطع به السُّبُل! نستعيذ بالله
تعالى من مخالفة ضرورة العقل والوقوع في مثل هذه الطامَّات.
فلا بدَّ من الاعتراف والإقرار بطرف آخر يحكم بنفسه بقبح تصديق الكاذب وإجراء
المعجزة على يده، لكي يمتنع ذلك على الله تعالى، وتبقى دلالة المعجزة على النبوَّة
قطعيَّة لا خدشة فيها.
وذلك الطرف هو العقل، ولمْ يودِعْه الله (عزَّ وجلَّ) في البشر إلَّا ليستعملوه في
إدراك ذلك وغيره من المعارف الحقَّة.
ومِنْ عجبٍ أنْ يُضطَّر الإماميَّة (أنار الله برهانهم) إلى إثبات هذه الحقيقة مع
كونها فطريَّة بديهيَّة يُدركها كلُّ البشر حتَّى الأطفال، لولا أنْ خالف الأشاعرة
عقولهم وكابروا فطرتَهم جهلاً وعناداً، حتَّى كانوا خليقين بقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (الحشر: ١٤).
وإذا عرفت هذا تعرف وجه إشارة الناظم (طاب ثراه) إلى هذه المسألة هنا بعد أنْ ذكر
المعجزة؛ فإنَّ دلالة المعجزة على النبوَّة متوقِّفة على القول بالحسن والقبح
العقليَّين، وأنَّ للعقل أمراً ونهياً في بعض الأفعال، ولولا ذلك لما دلَّت المعجزة
على النبوَّة، ولانسدَّ طريق معرفة النبيِّ.
* * *
٢٥ - وَمَنْ قَالَ لِلْنَّاسِ: اُنْظُرُوْا فِيْ اِدِّعَائِهِمْ * * * فَإنْ صَحَّ فَلْيَتْبَعْهُمُ اَلْعَبْدُ وَاَلحُرُّ
أقول: لعلَّه
إشارة إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: ١١١)، وغيره من الآيات الحاثَّة على طلب
البرهان والنظر في الادِّعاءات قبل قبولها.
ووجه مناسبة هذا مع البيت السابق هو أنَّه تعالى لو لم يودع في نفوس البشر القوَّة
القادرة على النظر والتمييز بين الحقِّ والباطل والحسن والقبيح لَما أمرهم بذلك،
وتلك القوَّة هي العقل الذي له شأن التمييز المذكور.
فلهذا البيت نوع اتِّصالٍ بالبيت السابق في سياق إثبات الحسن والقبح العقليِّين.
* * *
لماذا ينتصر الأنبياء (عليهم
السلام) تارةً ويُهزَمون أُخرى؟
٢٦ - وَلَوْ أَنَّهُمْ فِيْمَا لهُمْ مِنْ مَعَاجِزٍ * * * عَلَى خَصْمِهِمْ طُوْلَ
اَلمَدَى لهُمُ اَلنَّصْرُ
٢٧ - لَغَالَى بِهِمْ كُلُّ اَلْأَنَامِ وَأَيْقَنُوْا * * * بَأَنَّهُمُ
اَلْأَرْبَابُ وَاِلْتَبَسَ اَلْأَمْرُ
٢٨ - كَذَلِكَ تَجْرِيْ حِكْمَةُ اَلله فِيْ اَلْوَرَى * * * وَقُدْرَتُهُ، فِيْ
كُلِّ شَيْءٍ لَهُ قَدْرُ
أقول: هذه إشارة
مهمَّة قدَّمها (طاب ثراه) ليستفيد منها فيما بعد؛ وهي أنَّ طريقة الدنيا وسيرة
الأنبياء (عليهم السلام) جرت وفقَ الحكمة الإلهيَّة - المحدِّدة للمصالح الظرفيَّة
والدائمة - بحيث بقيت وسطاً بين الإفراط والتفريط.
وبيان ذلك: أنَّه تعالى بعد أنْ أرسل الأنبياء (عليهم السلام) وأيَّدهم وأثبت
دعواهم بالمعجزات القاطعات، ونصرهم في العديد من المواقف؛ ليعتقد بهم الناس أنبياء
ولا يُفرِّطوا بهم، فإنَّه في نفس الوقت لم يجعلهم معصومين من الهزيمة والأذى
والقتل والتشريد والحبس وسائر أنواع الظلم، فتارةً تراهم ظافرين منتصرين على
أعدائهم، وتارةً تراهم يُقتَلون ويُحبَسون ويلحقهم سائر أنواع الأذى.
والحكمة في ذلك: أنَّهم لو كانوا دائمي النصر والظفر على أعدائهم لغالى بهم الناس
وأفرطوا وجعلوهم أرباباً، كما أنَّهم لو كانوا دائمي الهزيمة لفرَّطوا بهم ولم
يعتقدوا بنبوَّتهم.
ولأجل ذلك اقتضت المصلحة أنْ ينتصروا وتظهر على أيدهم المعجزة تارةً؛ لكي تتمَّ
الحجَّة على الناس، وأنْ يُهزَموا ويُقتَلوا ويُقهَروا تارةً أُخرى؛ ليعلم الناس
أنَّهم ليسوا أرباباً مع إيمانهم بنبوَّتهم بسبب المعاجز التي ظهرت على أيديهم
مسبقاً.
بل إنَّ جماعة غير يسيرة من البشر قد اتَّخذت بالفعل بعضَ الأنبياء والأولياء
(عليهم السلام) أرباباً رغم ذلك، فكيف لو كانوا دائمي النصر والغلبة؟!
فهذا هو الجواب فيما لو سأل أحد: لماذا لم ينصر اللهُ الأنبياءَ (عليهم السلام) في
بعض محنهم ومصاعبهم؟ ألَا يستطيع نصرهم ورفع موانع الظفر عنهم؟
وقد ذكر هذا الجواب سيِّدنا ومولانا واسطة صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) السفير
الثالث الشيخ الحسين بن روح (رضي الله عنه) فيما رواه الشيخ (رحمه الله) في (غيبته)
بسنده عن محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رحمه الله)، قال: كُنْتُ عِنْدَ
اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه) مَعَ
جَمَاعَةٍ (مِنْهُمْ) عَلِيُّ بْنُ عِيسَى اَلْقَصْرِيُّ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ
فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ عَمَّا
بَدَا لَكَ، فَقَالَ اَلرَّجُلُ: أَخْبِرْنِي عَنِ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)
أَهُوَ وَلِيُّ اَلله؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَاتِلِهِ لَعَنَهُ
اَللهُ أَهُوَ عَدُوُّ اَلله؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ اَلرَّجُلُ: فَهَلْ يَجُوزُ
أَنْ يُسَلِّطَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) عَدُوَّهُ عَلَى وَلِيِّهِ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو
اَلْقَاسِمِ (قدِّس سرّه): اِفْهَمْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ، اِعْلَمْ أَنَّ
اَللهَ تَعَالَى لَا يُخَاطِبُ اَلنَّاسَ بِمُشَاهَدَةِ اَلْعَيَانِ، وَلَا
يُشَافِهُهُمْ بِالْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ
رُسُلاً مِنْ أَجْنَاسِهِمْ وَأَصْنَافِهِمْ بَشَراً مِثْلَهُمْ، وَلَوْ بَعَثَ
إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنْ غَيْرِ صِفَتِهِمْ وَصُوَرِهِمْ لَنَفَرُوا عَنْهُمْ،
وَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا جَاؤُوهُمْ وَكَانُوا
مِنْ جِنْسِهِمْ يَأْكُلُونَ وَيَمْشُونَ فِي اَلْأَسْواقِ قَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ مِثْلُنَا لَا نَقْبَلُ مِنْكُمْ حَتَّى تَأْتُوا بِشَيْءٍ نَعْجِزُ عَنْ أَنْ نَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَنَعْلَمَ أَنَّكُمْ مَخْصُوصُونَ دُونَنَا بِمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُمُ اَلمُعْجِزَاتِ اَلَّتِي يَعْجِزُ اَلْخَلْقُ عَنْهَا. فَمِنْهُمْ مَنْ جَاءَ بِالطُّوفَانِ بَعْدَ اَلْإِعْذَارِ وَاَلْإِنْذَارِ، فَفَرَّقَ جَمِيعَ مَنْ طَغَى وَتَمَرَّدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُلْقِيَ فِي اَلنَّارِ فَكَانَتْ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلَاماً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْرَجَ مِنَ اَلْحَجَرِ اَلصَّلْدِ اَلنَّاقَةَ وَأَجْرَى مِنْ ضَرْعِهَا لَبَناً، وَمِنْهُمْ (مَنْ) فَلَقَ لَهُ اَلْبَحْرَ، وَفَجَّرَ لَهُ (مِنَ اَلْحَجَرِ) اَلْعُيُونَ، وَجَعَلَ لَهُ اَلْعَصَا اَلْيَابِسَةَ ثُعْبَاناً تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْرَأَ اَلْأَكْمَهَ (وَاَلْأَبْرَصَ)، وَأَحْيَا اَلمَوْتَى بِإِذْنِ اَلله، وَأَنْبَأَهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنِ اِنْشَقَّ لَهُ اَلْقَمَرُ وَكَلَّمَتْهُ اَلْبَهَائِمُ مِثْلَ اَلْبَعِيرِ وَاَلذِّئْبِ وَغَيْرِ ذلك. فَلَمَّا أَتَوْا بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَعَجَزَ اَلْخَلْقُ مِنْ أُمَمِهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ كَانَ مِنْ تَقْدِيرِ اَلله (جلَّ جلاله) وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ وَحِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ أَنْبِيَاءَهُ مَعَ هَذِهِ اَلْمُعْجِزَاتِ فِي حَالٍ غَالِبِينَ وَأُخْرَى مَغْلُوبِينَ، وَفِي حَالٍ قَاهِرِينَ وَأُخْرَى مَقْهُورِينَ، وَلَوْ جَعَلَهُمْ (عزَّ وجلَّ) فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ غَالِبِينَ وَقَاهِرِينَ وَلَمْ يَبْتَلِهِمْ وَلَمْ يَمْتَحِنْهُمْ، لَاتَّخَذَهُمُ اَلنَّاسُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَلَمَا عُرِفَ فَضْلُ صَبْرِهِمْ عَلَى اَلْبَلَاءِ وَاَلْمِحَنِ وَاَلْاِخْتِبَارِ. وَلَكِنَّهُ جَعَلَ أَحْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ كَأَحْوَالِ غَيْرِهِمْ، لِيَكُونُوا فِي حَالِ اَلْمِحْنَةِ وَاَلْبَلْوَى صَابِرِينَ، وَفِي [حَالِ] اَلْعَافِيَةِ وَاَلظُّهُورِ عَلَى اَلْأَعْدَاءِ شَاكِرِينَ، وَيَكُونُوا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُتَوَاضِعِينَ، غَيْرَ شَامِخِينَ وَلَا مُتَجَبِّرِينَ، وَلِيَعْلَمَ اَلْعِبَادُ أَنَّ لَهُمْ (عليهم السلام) إِلَهاً هُوَ خَالِقُهُمْ وَمُدَبِّرُهُمْ فَيَعْبُدُوهُ وَ يُطِيعُوا رُسُلَهُ، وَيَكُونُوا حُجَّةً لله ثَابِتَةً عَلَى مَنْ تَجَاوَزَ اَلْحَدَّ فِيهِمْ وَاِدَّعَى لَهُمُ اَلرُّبُوبِيَّةَ، أَوْ عَانَدَ وَخَالَفَ وَعَصَى وَجَحَدَ بِمَا أَتَتْ بِهِ اَلْأَنْبِيَاءُ وَاَلرُّسُلُ، وَلِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ. قَالَ مُحَمَّدُ اِبْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه): فَعُدْتُ إِلَى اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قدِّس سرّه) مِنَ اَلْغَدِ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: أَتَرَاهُ ذَكَرَ لَنَا يَوْمَ أَمْسِ [مِنْ] عِنْدِ نَفْسِهِ؟ فَابْتَدَأَنِي
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، لَئَنْ أَخِرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفَنِي اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِيَ اَلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ فِي دِينِ اَلله بِرَأْيِي وَمِنْ عِنْدِ نَفْسِي، بَلْ ذَلِكَ مِنَ اَلْأَصْلِ وَمَسْمُوعٌ مِنَ اَلْحُجَّةِ (صَلَوَاتُ اَلله وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ)(٥٣).
* * *
قاعدة اللطف:
ثمّ قال (طاب ثراه):
٢٩ - وَكَانَ خِلَافَ اَللُّطْفِ - وَاَللَّطْفُ وَاجِبٌ - * * * إذَا مِنْ نَبِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ خَلَا عَصْرُ
أقول: هذا هو
الدليل العقلي على وجوب وجود الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) حيًّا يُرزَق؛ وهو
في حقيقته دليل عامٌّ على وجوب وجود إمام معصوم في كلِّ عصر، ومنه يُنتقَل إلى كون
ذلك الإمام المعصوم هو الحجَّة المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وتعيينه عن طريق
الأدلَّة النقليَّة الدالَّة عليه.
وأساس الدليل هو قاعدة مهمَّة تفرَّد بها الشيعة الإماميَّة؛ وهي وجوب اللطف على
الله تعالى بمقتضى حكمته وعدله.
واللطف هو: ما يُقرِّبُ العبد إلى إتيان الطاعة ويُبعِّدُه عن ارتكاب المعصية، من
دون أنْ يصل إلى حدِّ الإجبار على فعل الطاعة وترك المعصية.
بيان ذلك: أنَّ العاقل الحكيم إذا كان عنده غرض وقصد يريد الوصول إليه، وكان يعلم
أنَّه لا يحصل إلَّا بشرط أنْ يفعل شيئاً معيَّناً، وبدونه لن يتحقَّق غرضه،
فالواجب عليه عقلاً أنْ يأتي به، ولو تركه لاعتبره العقلاء ناقضاً لغرضه وقصده،
ونقض الغرض والقصد خلاف الحكمة.
ومثاله: ما إذا أراد أحد الناس شيئاً من فلان، وكان يعلم أنَّ فلاناً لا يفعل ذلك
الشيء إلَّا إذا فعل هو شيئاً معيَّناً من قبيل ملاطفته أو زيارته وما شابه
-----------------
(٥٣) الغيبة للطوسي (ص ٣٢٤ - ٣٢٦).
ذلك،
فإنَّ الواجب عليه حينئذٍ بنظر العقلاء أنْ يفعله لأجل أنْ يُحقِّق غرضه، ولو تركه
لاعتبره العقلاء مفوِّتاً وناقضاً لغرضه ومراده.
ولمَّا كان غرضه تعالى من خلق العباد هو تعريضهم للثواب والسعادة الأبديَّة عن طريق
طاعته وعبادته، وكان يعلمُ أنَّ ذلك الغرض لا يتحقَّق إلَّا بالتفضُّل والتلطُّف
عليهم بما من شأنه أنْ يُقرِّبهم من طاعته - الذي هو الغرض من خلقهم - فالذي تقتضيه
حكمته العالية هو أنْ يُوفِّر لهم ذلك، ولو لم يُوفِّره فأدَّى إلى عدم طاعتهم
وانغمارهم في العصيان، فسيكون سبحانه وتعالى مفوِّتاً لغرضه؛ لأنَّه كان يستطيع
تحقيقه عن طريق توفير ما من شأنه أنْ يُقرِّبهم من الطاعة - إنْ أخذوا به - ولم
يفعل، حاشاه من ذلك.
ولا يصل ذلك إلى حدِّ الإجبار، بمعنى: أنَّ تقريبهم إلى الطاعة لا يصل إلى حدِّ أنْ
يجبرهم ويرغمهم عليها؛ لوضوح أنَّ الإجبار يخالف التكليف والامتحان، بل غاية الأمر
أنَّه يُهيِّأ لهم أسباب الطاعة ودواعيها، فمَنِ اتَّبعها وأخذ بها نجا وسعد، ومَنْ
أعرض عنها هلك وخسر، ليبقى الاختبار والامتحان الإلهي متحقِّقاً.
ومن أهمّ مصاديق اللطف بلا شكٍّ ولا إشكال وجود رئيس مطاع معصوم مفترض الطاعة،
يحثُّهم على الطاعة ويزجرهم عن المعصية، وله في نفوسهم وقع وهيبة.
وسرُّ ذلك واضح؛ فإنَّ البشر خطَّائون ذوو أهواء وغرائز شهوانيَّة وشيطانيَّة،
وكلٌّ منهم يسعى إلى تحقيق هواه ولو أدَّى إلى أنْ يظلم غيره، ودواعي الفساد
والضلالة تجد طريقها بسهولة إلى غالبهم، فلو تُركوا على رسلهم وهواهم لأفسدوا الأرض
برمَّتها، ولهلك كلُّهم أو أغلبهم، ولما أمكن لهم أنْ يُحقِّقوا الغرض من خلقهم.
فلا بدَّ على الخالق الحكيم صاحب الغرض أنْ ينصب لهم رئيساً يكون من جنسهم وقريباً
منهم ومعايشاً لهم من جهة لئلَّا يستوحشوه؛ ومن جهة أُخرى يكون خالياً ممَّا يعروهم
ويكتنفهم من دواعي الضلال والفساد، بعيداً عن تحقيق الأهواء والشهوات الشخصيَّة،
ولا سبيل للشيطان وجنوده عليه، ليكون مناراً لهم ومعتصماً وملجئاً في دينهم
ودنياهم.
أمَّا في دينهم: فواضح؛ إذ إنَّه سيحثُّهم على الطاعة ويمنعهم من المعصية ويعظهم
ويقيم عليهم الحدود والديَّات والتعزيرات، فيكون سبباً محوريًّا في تقريبهم إلى
النجاة والسعادة الأُخرويَّة.
وأمَّا في دنياهم: فلأنَّه سيحكمهم بالعدل والحكمة في الأُمور الدنيويَّة، ويقضي
بينهم بالحقِّ، ويمنع الظلم والتعدِّي والتنازع، وسيرشدهم بمقتضى عصمته وعلمه
وتأييده الإلهي إلى كلِّ ما فيه الخير لهم في حياتهم.
فظهر بذلك: أنَّ وجود الإمام المطاع الذي يشتمل على الشروط والصفات المتقدِّمة لهو
من أعظم مصاديق اللطف وأسباب النجاة، بل هو أعظمها كما ستسمع عن قليل.
وعليه: فيستحيل على الله تعالى أنْ يترك أيَّ عصر من العصور بدون أنْ ينصب له
إماماً ولو للحظة واحدة، لأنَّ الحاجة إليه باقية مدى العصور.
وأحاديثنا في ذلك متواترة، وثبت عند مخالفينا بغير نكير أنَّ النبيَّ (صلَّى الله
عليه وآله) قال: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً
جَاهِلِيَّةً»(٥٤)، فيجب وفق هذا الحديث أنْ يكون ثَمَّة إمام مستحقٍّ للبيعة في
كلِّ عصر وإلَّا لزم التكليف بغير المقدور كما هو واضح.
ولك أنْ تسأل: أليس مجرَّد إعلام الخلق بالأحكام الشرعيَّة والتكاليف
-----------------
(٥٤) مسند أبي يعلى (ج ١٣/ ص ٣٦٦)؛ صحيح ابن حبَّان (ج ١٠/ ص ٤٣٤).
الإلهيَّة
والجزاء والعقاب والمعاد ويوم القيامة كافياً في حثِّهم على الطاعة وزجرهم عن
المعصية؟
والجواب: نعم ليس ذلك كافياً؛ إذ كما أنَّ دواعي الطاعة والفطرة موجودة وقويَّة،
فكذلك تأثير الشيطان موجود ودواعي الفساد والانحراف والشهوات قويَّة، وغالب البشر
يميل إليها ويرتكبها رغم علمه بأنَّها على خلاف الصواب، كما هو واضح جدًّا.
ناهيك عن أنَّ علم العباد بالتكليف إنَّما هو شرط في أصل التكليف؛ بمعنى أنَّه
يستحيل على الله تعالى أنْ يضع التكليف دون أنْ يُحقِّق شرطه وهو الإبلاغ والإعلام،
وحيث كان مجرَّد علمهم بالحقِّ لا يكفي في ارتداع أغلبهم، وكان الله تعالى عالماً
بذلك، فوجب عليه حينئذٍ أنْ يتفضَّل عليهم بشيء زائد على شروط التكليف، وهو توفير
أسباب القرب من الطاعة والابتعاد عن المعصية، ولو لم يفعله لكان مفوِّتاً لغرضه كما
تقدَّم.
بل إنَّ غالب البشر غارق في المعاصي رغم وجود اللطف المذكور؛ فما ظنُّك لو لم يكن
موجوداً أصلاً؟!
ولك أنْ تسأل مجدَّداً: أليس نصب الأنبياء (عليهم السلام) والنبيِّ الأكرم (صلَّى
الله عليه وآله) وما فعله من إرشاد البشر وتعليمهم ووعظهم كافياً؟ فما الحاجة إلى
الأئمَّة بعده؟
والجواب: صحيحٌ أنَّ وجود النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) كان محقِّقاً للطف
المذكور، ولكنَّه بعد رحيله (صلَّى الله عليه وآله) كان سيبقى مكانه شاغراً لو لم
ينصب الله تعالى إماماً يخلفه، مع أنَّ العلَّة العقليَّة الداعية لوجوب اللطف ونصب
الإمام باقية بعده؛ لوضوح أنَّ البشر باقون على حالهم وعلى فسادهم وضلالهم وجهلهم
وشهواتهم، فلا بدَّ من نصب مَنْ يحلُّ مكانه ويشغل موضعه (صلَّى الله عليه وآله)
لاستمرار الحاجة إليه، والتاريخ شاهد عدل على ما وقع به الناس بعد النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله) من ارتداد ومفاسد لا يصفها لسان ولا يحوطها بيان بعد مدَّة يسيرة
جدًّا من رحيله.
فإنْ عدت سائلاً: ولماذا جعلتم وجود الإمام أعظم مصاديق اللطف؟
كان الجواب: أنَّ ما من شأنه أنْ يُقرِّب إلى الطاعة ويُبعِّد عن المعصية ثلاثة
أُمور:
- العقل والفطرة الداعيان إلى طاعة الله تعالى والزاجران عن معصيته.
ولكن لا يخفى أنَّهما قد تُغطِّي عليهما دواعي الفساد والضلالة كالشهوات وتأثير
الشيطان وهوى النفس، كما قال تعالى: ﴿خَتَمَ اللهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ﴾ (البقرة: ٧)، وقال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ﴾ (البقرة: ٧٤)، وقال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ﴾ (البقرة: ١٠)، وقال: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ﴾ (المائدة: ١٠٣)، وغير ذلك من الآيات التي لا تحصى عدداً.
- القرآن العزيز والسُّنَّة الشريفة وتعاليم الدِّين.
ومع كونهما سببَين كافييَن وعظيمَين في ارتداع الإنسان واستقامته، إلَّا أنَّك ترى
ما وقع بعد رحيل النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) من هجران القرآن والتلاعب بمعانيه
وتأويله وفق الأهواء الشخصيَّة والمقاصد الضيِّقة والمزاجات الكاسدة، ومثله بل أسوء
منه ما وقع في السُّنَّة الشريفة من حذف وزيادة ونقصان وتأويل وتشويه، فكلاهما لم
يسلم من دواعي الفساد ووساوس الشيطان، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ
الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾
(الفرقان: ٣٠).
الإمام المعصوم الذي هو رئيس مُهاب مطاع لا تمسُّه دواعي الفساد يردع الناس عن
القبائح ويأمرهم بالمحاسن وله في قلوبهم هيبة ووقع وتأثير، وإنْ لم يرتدعوا عن
القبائح من تلقاء أنفسهم وتبعاً لما تمليه عليه عقولهم وفطرتهم وما يقرأونه
ويسمعونه من الكتاب والسُّنَّة، فإنَّه سيردعهم ردعاً ويحكم فيهم بما يُرضي الله
تعالى ويُنفِّذ أحكام الدِّين بحذافيرها ويُقيم عليهم الحدود والتعزيرات التي من
شأنها أنْ تُصلِح أمرهم ولو بالخوف والتحذير إنْ أمكنه ذلك، كما أنَّ
الدساتير
والقوانين الدوليَّة لا يلتزم بها الناس إنْ لم يكن ثَمَّة رئيس وحاكم يُنفِّذها
ويحرص على جريانها.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى
الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾ (غافر: ٥٣)، وقوله:
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ
تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا
يَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: ٦٦).
فإنَّه تعالى أورث بني إسرائيل سبب الهدى وهو التوراة، ولكنَّهم مع ذلك لم يرتدعوا
عن الضلال وسوء الأعمال، لغلبة دواعي الفساد عليهم وضعف نفوسهم وإيمانهم.
والحاصل: أنَّ العقل هدى لمن عمل به، والكتاب والسُّنَّة هدى لمن عمل بهما، إلَّا
أنَّ قليلاً من الناس يقتطف ثمرتهما فينجو ويسعد، وكثيراً منهم لا يقتطفها ويعرض
عنها فيهلك ويخسر، فلا بدَّ من إمام مطاع مُهاب يخشونه ويحذرون عقابه يدفعهم إلى
تطبيقهما دفعاً، كما اعترف به خليفتهم عمر بن الخطَّاب فيما ثبت عنه: (لَما يزع
الله بالسلطان أعظم ممَّا يزع بالقرآن)(٥٥)، ويزع بمعنى: يمنع.
فإنْ قلتَ: فإذا كان الحال كذلك وكان وجود الرئيس المطاع - نبيًّا كان أم إماماً -
أعظم سبب لارتداع الناس كما تزعمون، فلماذا لم يحصل ذلك رغم وجودهم؟ فإنَّ غالب
البشر طغى عليهم الفسق والضلال والظلم والفجور في زمن الأنبياء والأئمَّة (عليهم
السلام) وإلى الآن، فأين اللطف وأين ثمرته؟
قلنا: إنَّ هذا يرجع إلى سوء فهم السائل لوظيفة الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام)،
ولمعنى اللطف الذي قدَّمناه.
-----------------
(٥٥) تاريخ بغداد (ج ١/ ص ١٧٢)، وقد نُسِبَ إلى غيره في مصادر أُخرى.
بيان ذلك: أنَّ غلبة الباطل والفساد من سُنَن البشر التي لا تنفكُّ عنهم، كما قال
تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (البقرة: ٣٠)، وقال: ﴿وَلَا
تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (الأعراف: ١٧)، وقال: ﴿وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (يوسف: ١٠٣)، وغيرها من
الآيات الكثيرة المبيِّنة لحال البشر وسلوكهم الدائم، والتأريخ الإنساني بكلِّ
عصوره وحتَّى الآن شاهد على هذه الحقيقة.
نعم لا شكَّ في أنَّ الحقَّ سيغلب وينتصر أخيراً، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا
عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥)، وباعتقادنا أنَّ المراد من ذلك
هو قيام دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
ومن هنا نقول: إنَّ إرسال الأنبياء ونصب الأئمَّة (عليهم السلام) ليس الهدف الإلهي
منه هو انتصار الحقِّ كلّيًّا وغلبته على الأرض وعموميَّته لسائر البشر، بل الهدف
هو إقامة الحجَّة عليهم، وأداء الواجب تجاههم بمقتضى الحكمة والعدالة الربَّانيَّة؛
وهو توفير أسباب الطاعة والنجاة الواضحة بين أيديهم، لكي يتسنَّى لهم الاختيار بعد
ذلك؛ فإنْ شاؤوا اهتدوا، وإنْ شاؤوا كفروا، فيتحقَّق الامتحان والاختبار الإلهي
وينال السعادة مَنْ يستحقُّها ويُحرَم منها مَنْ لا يستحقُّها، كما قال تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ
مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾
(الأنفال: ٤٢)، وقال: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (النساء:
١٦٥).
نعم! صحيحٌ أنَّه يجب عليهم أنْ ينشروا العدل والصلاح إذا تمكَّنوا من ذلك وسنحت
لهم الفرصة، وإلَّا فلا يلزمهم أكثر من بيان الحقِّ وتبليغه، ولا لوم عليهم إنْ لم
يتمكَّنوا من نشر الحقِّ بسبب عدم إفساح المجال لهم من قِبَل البشر.
وهكذا الكلام في اللطف المتمثِّل بالأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام)؛ فإنَّه لا
يلزم من وجودهم أنْ يكون غالب البشر صالحاً فعلاً، بل غاية الأمر أنَّهم سبب عظيم
للصلاح يجب على الله تعالى أنْ يُوفِّره بمقتضى حكمته، فإذا قدَّرهم الناس وشكروا
نعمتهم وأخذوا بهم وفسحوا لهم المجال لينشروا الصلاح كانت نتيجة ذلك سوادَ العدل
والخير والصلاح فيهم، وإنْ أعرضوا عنهم وحاربوهم ونابذوهم فهم الخاسرون وهم
الملامون، وليس على الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) حينئذٍ جناح ولا لوم بعد أنْ
أدَّوا مهمَّتهم المتمثِّلة بتبليغ الأحكام على الوجه الذي لا يبقى معه للناس على
الله حجَّة في يوم القيامة إنْ لم يمتثلوها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ (الإنسان: ٣)،
وقال: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً﴾ (الجنّ: ١٦)، وقال: ﴿وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: ٩٦).
وحيث كان أغلب الناس عبداً للشيطان، وأسيراً لهواه وشهواته، جرت سُنَّة البشر فعلاً
على محاربة الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) ومنعهم عن نشر العدل والصلاح، فكان
الخلل لا منهم (عليهم السلام)، بل من البشر الذين لم يستغلُّوا اللطف الإلهي ولم
يجتنوا ثمرته.
والحاصل: أنَّ وجود اللطف لا يلزم منه أنْ يقترب الناس من الطاعة ويبتعدوا عن
المعصية فعلاً وبتًّا، بل يعتمد الأمر عليهم، فإنِ انقادوا له وأخذوا به استحقُّوا
بذلك السعادة والنجاة، وإنْ أعرضوا عنه فهم الخاسرون.
وإنَّما اللَّازم أنْ يبقى اللطف - وهو مجرَّد نصب الإمام ووجوده - موجوداً قابلاً
للاستفادة منه لمن يريد ذلك.
وبهذا يتَّضح الجواب عن السؤال المتقدِّم بما لا غبار عليه، وكذلك الجواب عن قول الخصم الآلوسي:
وَمَا هُوَ إِلَّا نَاشِرُ اَلْعَدْلِ وَاَلهُدَى * * * فَلَوْ كَانَ مَوجُوْداً لَمَا وُجِدَ اَلجَوْرُ
فلاحظ وتأمَّل.
* * *
ثمّ قال (طاب ثراه):
٣٠ - أَيُنْشِئُ
لِلْإِنْسَانِ خَمْسَ جَوَارِحٍ * * * تُحِسُّ وَفِيْهَا تُدْرَكُ اَلْعَيْنُ
وَاَلْأَثْرُ
٣١ - وَقَلْبَاً لَهَا مِثْلَ اَلْأَمِيْرِ يَرُدُّهَا * * * إذَا أَخْطَأَتْ فِيْ
اَلْحِسِّ وَاِشْتَبَهَ اَلْأَمْرُ
٣٢ - وَيَتْرُكُ هَذَا اَلخَلْقَ فِيْ لَيْلِ ضَلَّةٍ * * * بِظَلْمَائِهِ لَا
تَهْتَدِيْ اَلْأَنْجُمُ اَلزُّهْرُ؟!
٣٣ - فَذَلِكَ أَدْهَى اَلدَّاهِيَاتِ وَلَمْ يَقُلْ * * * بِهِ أَحَدٌ إلَّا
أَخُوْ اَلسَّفَهِ اَلْغَمْرُ
أقول: هذه إشارة
إلى مناظرة شهيرة للمتكلِّم الجليل هشام بن الحَكَم(رضي الله عنه) مع عمرو بن عبيد
شيخ المعتزلة، وقد أثبت فيها هشام وجوب الإمامة عقلاً، وهي كما في (أُصول الكافي):
عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: كَانَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه
السلام) جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ: حُمْرَانُ بْنُ أَعْيَنَ
وَمُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ وَهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ وَاَلطَّيَّارُ وَجَمَاعَةٌ
فِيهِمْ هِشَامُ بْنُ اَلْحَكَمِ وَهُوَ شَابٌّ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه
السلام): «يَا هِشَامُ، أَلَا تُخْبِرُنِي كَيْفَ صَنَعْتَ بِعَمْرِو بْنِ
عُبَيْدٍ، وَكَيْفَ سَأَلْتَهُ؟»، فَقَالَ هِشَامٌ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله،
إِنِّي أُجِلُّكَ وَأَسْتَحْيِيكَ وَلَا يَعْمَلُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ،
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَافْعَلُوا»، قَالَ
هِشَامٌ: بَلَغَنِي مَا كَانَ فِيه عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَجُلُوسُهُ فِي مَسْجِدِ
اَلْبَصْرَةِ، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَدَخَلْتُ
اَلْبَصْرَةَ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ، فَأَتَيْتُ مَسْجِدَ اَلْبَصْرَةِ، فَإِذَا
أَنَا بِحَلْقَةٍ كَبِيرَةٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعَلَيْهِ شَمْلَةٌ
سَوْدَاءُ مُتَّزِراً بِهَا مِنْ صُوفٍ، وَشَمْلَةٌ مُرْتَدِياً بِهَا، وَاَلنَّاسُ
يَسْأَلُونَهُ، فَاسْتَفْرَجْتُ
اَلنَّاسَ، فَأَفْرَجُوا لِي، ثُمَّ قَعَدْتُ فِي آخِرِ اَلْقَوْمِ عَلَى رُكْبَتَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا اَلْعَالِمُ، إِنِّي رَجُلٌ غَرِيبٌ تَأْذَنُ لِي فِي مَسْأَلَةٍ؟ فَقَالَ لِي: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَكَ عَيْنٌ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَا مِنَ اَلسُّؤَالِ، وَشَيْءٌ تَرَاهُ كَيْفَ تَسْأَلُ عَنْهُ، فَقُلْتُ: هَكَذَا مَسْأَلَتِي، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، سَلْ وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ حَمْقَاءَ، قُلْتُ: أَجِبْنِي فِيهَا، قَالَ لِي: سَلْ، قُلْتُ: أَلَكَ عَيْنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَرَى بِهَا اَلْأَلْوَانَ وَاَلْأَشْخَاصَ، قُلْتُ: فَلَكَ أَنْفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَشَمُّ بِهِ اَلرَّائِحَةَ، قُلْتُ: أَلَكَ فَمٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أَذُوقُ بِهِ اَلطَّعْمَ، قُلْتُ: فَلَكَ أُذُنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ قَالَ: أَسْمَعُ بِهَا اَلصَّوْتَ، قُلْتُ: أَلَكَ قَلْبٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ بِه؟ قَالَ: أُمَيِّزُ بِه كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَى هَذِهِ اَلْجَوَارِحِ وَاَلْحَوَاسِّ، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ فِي هَذِهِ اَلْجَوَارِحِ غِنًى عَنِ اَلْقَلْبِ؟ فَقَالَ: لَا، قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ وَهِيَ صَحِيحَةٌ سَلِيمَةٌ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ اَلْجَوَارِحَ إِذَا شَكَّتْ فِي شَيْءٍ شَمَّتْهُ أَوْ رَأَتْهُ أَوْ ذَاقَتْهُ أَوْ سَمِعَتْهُ رَدَّتْهُ إِلَى اَلْقَلْبِ، فَيَسْتَيْقِنُ اَلْيَقِينَ وَيُبْطِلُ اَلشَّكَّ، قَالَ هِشَامٌ: فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنَّمَا أَقَامَ اَللهُ اَلْقَلْبَ لِشَكِّ اَلْجَوَارِحِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: لَا بُدَّ مِنَ اَلْقَلْبِ وَإِلَّا لَمْ تَسْتَيْقِنِ اَلْجَوَارِحُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مَرْوَانَ، فَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ جَوَارِحَكَ حَتَّى جَعَلَ لَهَا إِمَاماً يُصَحِّحُ لَهَا اَلصَّحِيحَ وَيَتَيَقَّنُ بِهِ مَا شُكَّ فِيهِ، وَيَتْرُكُ هَذَا اَلْخَلْقَ كُلَّهُمْ فِي حَيْرَتِهِمْ وشَكِّهِمْ وَاِخْتِلَافِهِمْ لَا يُقِيمُ لَهُمْ إِمَاماً يَرُدُّونَ إِلَيْهِ شَكَّهُمْ وَحَيْرَتَهُمْ وَيُقِيمُ لَكَ إِمَاماً لِجَوَارِحِكَ تَرُدُّ إِلَيْهِ حَيْرَتَكَ وَشَكَّكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ وَلَمْ يَقُلْ لِي شَيْئاً، ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: أَنْتَ هِشَامُ بْنُ اَلْحَكَمِ؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: أَمِنْ جُلَسَائِهِ، قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ اَلْكُوفَةِ، قَالَ: فَأَنْتَ إِذاً هُوَ، ثُمَّ ضَمَّنِي إِلَيْهِ وَأَقْعَدَنِي فِي مَجْلِسِهِ وَزَالَ عَنْ مَجْلِسِهِ وَمَا نَطَقَ حَتَّى قُمْتُ. قَالَ: فَضَحِكَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام) وَقَالَ: «يَا
هِشَامُ، مَنْ
عَلَّمَكَ هَذَا؟»، قُلْتُ: شَيْءٌ أَخَذْتُهُ مِنْكَ وَأَلَّفْتُهُ، فَقَالَ:
«هَذَا وَاَلله مَكْتُوبٌ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى»(٥٦).
وقوله (طاب ثراه) الأخير: (فذلك أدهى الداهيات ولم يقل...) ضمَّنه من بيت الناظم
الآلوسي في قصيدته وقَلَبَهُ عليه.
* * *
ثمّ قال (طاب ثراه):
٣٤ - فَأَنْتَجَ هَذَا اَلْقَوْلُ - إِنْ كُنْتَ مُصْغِيَاً - * * * وُجُوْبَ إِمَامٍ عَادِلٍ أَمْرُهُ اَلْأَمْرُ
أقول: يريد أنَّ الدليل العقلي المتقدِّم ينتج بلا شكٍّ ولا ريب وجوبَ وجود الإمام العادل المعصوم المفترض الطاعة في كلِّ عصر لمن يرى ويسمع، وأمَّا مَنْ جعل أصابعه في عينه وأُذُنه فلا غرو أنْ يبقى معانداً مشكِّكاً بالرغم منها.
* * *
ثمّ قال (طاب ثراه):
٣٥ - وَإِمْكَانَ أَنْ يَقْوَى - وَإِنْ كَانَ غَائِبَاً - * * * عَلَى رَفْعِ ضُرِّ اَلنَّاسِ إِنْ نَالَهَا اَلضُّرُّ
أقول: أشار (طاب
ثراه) بهذا البيت إلى إحدى الشُّبُهات المعروفة والمتداولة كثيراً حول غيبته (عجَّل
الله فرجه)؛ وهي: ما الفائدة من إمام غائب لا يحكم ولا يُفتي ولا يقضي ولا يُعطي
ولا يأخذ ولا يتصرَّف ولا يراه أحد؟
وقد قال الناصب ابن تيميَّة ما معناه: (إنَّ مهدي الرافضة لا خير فيه؛ إذ لا نفع
ديني ولا دنيوي لغيبته)(٥٧).
-----------------
(٥٦) الكافي (ج ١/ ص ١٦٩ - ١٧١).
(٥٧) اُنظر: منهاج السُّنَّة النبويَّة (ج ٨/ ص ١٣٨).
وربَّما كان ينبغي على السيِّد الجدِّ الناظم (طاب ثراه) أنْ يُؤخِّر الردَّ عليها
بعد أنْ يُثبِت إمكان الغيبة أوَّلاً، ثمّ يُثبِت وقوعها وحصولها بالأدلَّة
الإثباتيَّة وأنَّ صاحبها هو مهديُّنا المنتظَر (عجَّل الله فرجه) المعصوم المنصوب
من قِبَل الله تعالى؛ إذ بعد ذلك يتأتَّى السؤال عن الفائدة من هذه الغيبة التي
تمَّ إثباتها، ويكون الردُّ عليها أوضح وأسهل، ولكن كأنَّه (طاب ثراه) ذكرها قبل
أنْ يُثبِت إمامته وغيبته (عجَّل الله فرجه) ليُدلِّل على أنَّ جوابها يُستفاد
ممَّا بعدها؛ إذ بعد ثبوت الإمامة والغيبة لا يبقى مجال لمثل هذه الشبهة الواهية،
بل الواجب التسليم بأمر الله تعالى والاعتراف بالعجز عن إدراك مصالح الأُمور
وأسرارها كما سيتَّضح عن قليل.
وكيف كان؛ فإنَّنا سنذكر الجواب كاملاً بما لا يُبقي سبيلاً للشبهة، فنقول والله
المستعان:
إنَّ المؤمن الحقيقي بعد أنْ يؤمن بالله (عزَّ وجلَّ) ويتيقَّن بعلمه وقدرته وحكمته
وأنَّه لا يفعل شيئاً إلَّا وفيه نفع للعباد، فإذا ثبت عندئذٍ شيءٌ عنه تعالى
بالدليل القطعي ولم يستطع الوصول إلى وجه الحكمة والمصلحة فيه، فإنَّ مقتضى إيمانه
ومفاد عقله هو التسليم، دون أنْ يعتبر خفاء وجه الحكمة سبباً كافياً في التشكيك
بذلك الأمر الثابت في حال من الأحوال؛ بل لا يعدُّه إلَّا شبهةً في قبال بديهة،
فإنْ وجد لها جواباً فبها ونعمت، وإلَّا فإنَّه يبقى مؤمناً مسلِّماً به ومعترفاً
بالعجز أمام حكمة الله تعالى وأسرار تصرُّفه في الخلق.
ولمَّا كانت قضيَّة المهدي (عجَّل الله فرجه) من أوضح ثوابت الإسلام، وكانت غيبته
ثابتةً بالأدلَّة والبراهين القطعيَّة، ومثلها إمامته وعصمته وكونه لا يصدر إلَّا
عن أمر الله تعالى كما سيأتي مفصَّلاً في شرح الأبيات القادمة، فلن يبقى لمثل هذه
الشبهة حينئذٍ مجال للتسلُّل إلى قلب المؤمن البصير، وسيحكم بأنَّ مجرَّد ثبوت
الإمامة والغيبة بالدليل الوافي رادٌّ كافٍ لها، وسيقول: لا بدَّ من أنَّ لها
أسباباً
ومصالح ومنافع في علم الله تعالى؛ غاية الأمر أنَّها خفيت عليَّ لجهلي
وقصوري، كما خفيت عليَّ وجوه المصالح في كثير من الأحكام الشرعيَّة الثابتة من قبيل
رمي الجمرات في الحجِّ، وكون صلاة الصبح أو الظهر بذلك العدد من الركعات، وكون
الزكاة في خصوص الغلَّات الأربع، وغير ذلك من الأُمور التعبُّديَّة، فمجرَّدُ عدم
علمي بالمصلحة والمنفعة لا يعني عدم وجودها في علم الله بعد تيقُّني بحكمته ولطفه،
وتيقُّني بثبوتها عنه تعالى.
وسيأتي عرض الأدلَّة التي تفيد اليقين بالغيبة بنحو يجعلها ثابتة عن الله تعالى
ورسوله (صلَّى الله عليه وآله) بلا أدنى شكٍّ.
وقد ثبت عند جميع المسلمين بلا مخالف أنَّ الخضر (عليه السلام) موجود منذ آلاف
السنين ولكنَّه غائب عن الأنظار لا يعرفه أحد؛ فلماذا لا يسأل أحد عن وجه النفع في
غيبته؟!
بل قد ثبت عند مخالفينا في (صحيح مسلم) - في حديث تميم الداري(٥٨) - أنَّ المسيح
الدجَّال الكافر المضلَّ موجود منذ آلاف السنين في جزيرة لا أحد من البشر فيها
محبوساً مغلولاً حتَّى يأذن الله بخروجه.
فينبغي أنْ يُسئَل ويقال: ما النفع في غيبة هذا الكافر اللعين لهذه المدَّة من
الزمن التي تزيد كثيراً على ما ندَّعيه من غيبة إمامنا (عجَّل الله فرجه)؟! ومن
حبسه في الجزيرة؟! ولماذا حُبِسَ؟! ومَنْ يتكفَّل لوازم عيشه؟!
أليس إبقاء الدجَّال المعادي لله ولرسوله حيًّا مدى هذه القرون أحقّ بالتحيُّر
والسؤال عن وجه الحكمة والنفع فيه من إبقاء المهدي - الذي هو إمام معصوم بشَّر به
النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) وسيملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت ظلماً - وغيبته بعد
أنْ أجبره الظالمون على الاختفاء؟!
-----------------
(٥٨) صحيح مسلم (ج ٤/ ص ٢٢٦/ ح ٢٩٤٢).
وهل يقبل السُّنِّي المخالف أنْ يردَّ هذا الحديث - الوارد في (صحيح مسلم) بثلاثة
طُرُق وغيره من الصحاح - لمجرَّد جهله بالجواب عن الأسئلة المتقدِّمة؟!
وكم من الأُمور لم ينكشف وجه الحكمة فيها إلَّا بعد انقضائها، كما حصل في قصَّة
الخضر وموسى (عليهما السلام) لمَّا خفي عليه وجه خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة
الجدار ولم يظهر له إلَّا بعد افتراقهما رغم كونه نبيًّا!
وكم من الأسرار الإلهيَّة التي تخفى علينا ولا نعرف لها وجهاً!
أوَلَمْ يمدح الله تعالى المؤمنين بالغيب في قوله: ﴿هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: ٢ و٣)،
وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ (الملك: ١٢)؟!
والحاصل: أنَّه بعد ثبوت إمامة المهدي (عجَّل الله فرجه) وثبوت غيبته - بالأدلَّة
القاطعة التي سيأتي تفصيلها - لا مجال للتوقُّف في شأنه لمجرَّد جهل وجه الحكمة
والنفع فيها، ولئن أصرَّ المخالف على ذلك فنحن بدورنا نُصِرُّ على أنْ يُجيب على
الأسئلة المتقدِّمة حول وجه النفع في غيبة الخضر (عليه السلام) والمسيح الدجَّال
وغيرهما.
هذا، وبالرغم من أنَّ هذا الجواب شافٍ ووافٍ وكافٍ، ولسنا مضطرِّين بعده إلى جواب
السؤال عن الفائدة من الغيبة ومن الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه) بعد أنْ كان
سؤالاً غير ملزمين بإجابته كما لم نكن ملزمين بالإجابة عمَّا عداه من حقائق الدِّين
الثابتة التي لا نعرف أسرارها وخفاياها، إلَّا أنَّه أبى أصحابنا وعلماؤنا الأبرار
(أنار الله حجَّتهم) إلَّا أنْ يلزموا الخصم المعاند بذكر جملة من الفوائد العظيمة
المستفادة من الأخبار الشريفة، غيرَ قاصدين بذلك حصر الواقع بها، بل مجرَّد بيان ما
يمكن إدراكه منها وإنْ كان ليس مستوفياً لها كما هي في علم الله تعالى قطعاً.
ونحن بدورنا ننقل جملة ممَّا ذكروه (قدَّس الله أرواحهم):
أوَّلاً: أنَّ اللطف الذي يُحقِّقه الإمام (عليه السلام) نوعان:
أ - لطفٌ من نفس وجوده.
ب - لطفٌ من تصرُّفه ورئاسته.
فأمَّا اللطف الذي يُحقِّقه نفسُ وجوده الشريف فهو حاصل على كلِّ حالٍ؛ بمعنى أنَّه
قدرٌ متيقَّن لا ينفكُّ عنه، سواء كان غائباً أم حاضراً، ويكفينا منه أنَّه لولا
وجوده في الأرض لساخت بأهلها، والروايات الواردة في ذلك من طُرُق الشيعة لا تُحصى
كثرةً.
وأمَّا من طُرُق المخالفين فقد جاء في (مسند أحمد)(٥٩)، وذخائر العقبى(٦٠)،
و(المعجم الكبير)(٦١)، و(كنز العُمَّال)(٦٢)، و(ينابيع المودَّة)(٦٣) بألفاظ
متفاوتة لمعنى واحد عَنْ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ:
«اَلنُّجُومُ أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ؛ فَإِذَا ذَهَبَتِ اَلنُّجُومُ ذَهَبَ
أَهْلُ اَلسَّمَاءِ، وَأَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلْأَرْضِ، وَإِذَا ذَهَبَ
أَهْلُ بَيْتِي ذَهَبَ أَهْلُ اَلْأَرْضِ».
وفي (المستدرك على الصحيحين) عَنْهُ (صلَّى الله عليه وآله): «اَلنُّجُومُ أَمَانٌ
لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ، فَإِنْ طَمَسَتِ اَلنُّجُومُ أَتَى أَهْلَ اَلسَّمَاءِ مَا
يُوعَدُونَ، وَأَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَهْلُ بَيْتِي
أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»(٦٤).
-----------------
(٥٩) مسند أحمد (ج ٢/ ص ٦٧١).
(٦٠) ذخائر العقبى (ص ١٧).
(٦١) المعجم الكبير للطبراني (ج ٧/ ص ٢٢).
(٦٢) كنز العُمَّال (ج ١٢/ ص ٩٦).
(٦٣) ينابيع المودَّة (ج ٢/ ص ١٠٤).
(٦٤) المستدرك على الصحيحين (ج ٣/ ص ٤٥٧).
فهذا لطفٌ ونفع ناشئ من مجرَّد وجوده (عجَّل الله فرجه) رغم غيبته، وأيُّ لطف ونفع
أعظم من ذلك بنظر المنصف؟!
وأمَّا اللطف الذي يكون من تصرُّفه وحكمه ورئاسته للناس؛ فينبغي أنْ يكون حاله
واضحاً بعد ما قدَّمناه في بيان معنى اللطف في البيت السابق، إذ قلنا: إنَّ
اللَّازم على الإمام (عليه السلام) أنْ يُوفِّر نفسه لهداية الناس وتقريبهم من
الطاعة وإبعادهم عن المعصية، فإنْ قبلوا به وأتاحوا له الفرصة ليسير على الصراط
المستقيم فبها ونعمت، وإنْ منعوه ظلماً وإجراماً فاللَّائمة عليهم لا عليه، وهذا هو
الحال في إمامنا (عجَّل الله فرجه) فإنَّه اضطرَّ إلى الغيبة بسبب رفض الناس له
وملاحقتهم إيَّاه بنيَّة قتله كما قتلوا آباءه الطاهرين (عليهم السلام) واحداً تلو
الآخر.
ولذلك قالت مولاتنا الزهراء (عليها السلام) في خطبتها لنساء المهاجرين والأنصار في
خضمِّ حديثها عن انقلابهم على أمير المؤمنين (عليه السلام) وإبعادهم إيَّاه عن
الحكم وماذا كان سيفعل لو انقادوا له وبايعوه وأطاعوه: «وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً
سُجُحاً، لَا يَكْلُمُ خِشَاشُهُ، وَلَا يُتَعْتَعُ رَاكِبُهُ، وَلَأَوْرَدَهُمْ
مَنْهَلاً نَمِيراً فَضْفَاضاً تَطْفَحُ ضِفَّتَاهُ، وَلَأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً...
وَلَفُتِحَتْ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتُ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ»(٦٥).
فما ذنبه (روحي فداه) إنْ تكالب الناس على ظلمه وهضمه وإقصائه من منصبه الذي نصبه
الله فيه فمنعوه من أنْ يفتح عليهم بركات الأرض والسماء؟! بل الذنب كلُّ الذنب،
واللوم كلُّ اللوم عليهم ليس غير، وهم الظالمون لأنفسهم والمانعون الخيرَ عنها، وهم
المعرضون عن الفائدة التي تحصل من تصرُّف الإمام ورئاسته التي هي الفائدة العظمى
والنفع الأكبر، كما قال تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: ١١٨).
-----------------
(٦٥) معاني الأخبار (ص ٣٥٥).
وقد أوجز المحقِّق الخواجة الطوسي (رضي الله عنه) ذلك بأوجز عبارة وأبلغ كلمة إذ
قال: (وجوده لطف، وتصرُّفه لطف آخر، وغيبتُه منَّا)(٦٦).
ثانياً: أنَّه (عجَّل الله فرجه) لا شكَّ في أنَّه يرعى شيعته ويتصرَّف في شؤونهم
ويدعو لهم، ولولا دعاؤه ورعايته لما أبقى أعداء أهل البيت (عليهم السلام) لهم
باقية، وقد صرَّح بذلك (عجَّل الله فرجه) بنفسه على ما جاء في رسالته إلى الشيخ
المفيد (طاب ثراه) المذكورة في (الاحتجاج) وغيره، إذ قال (عجَّل الله فرجه):
«إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا نَاسِينَ لِذِكْرِكُمْ،
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اَللَّأْوَاءُ، وَاِصْطَلَمَكُمُ
اَلْأَعْدَاءُ»(٦٧).
ثالثاً: أنَّ الله تعالى يدفع العذاب العامَّ عن أهل الأرض إكراماً لوجوده الشريف
بينهم، كما هو حال جدِّه (صلَّى الله عليه وآله)؛ إذ قال تبارك وتعالى فيه: ﴿وَمَا
كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ (الأنفال: ٣٣).
وقد اعترف بذلك المخالف المتعصِّب ابن حجر الهيتمي صاحب الكتاب الشهير (الصواعق
المحرقة)، فقال: (الآية السابعة: قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ أشار (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم) إلى
وجود ذلك المعنى في أهل بيته، وأنَّهم أمان لأهل الأرض كما كان هو (صلَّى الله عليه
[وآله] وسلم) أماناً لهم، وفي ذلك أحاديث كثيرة يأتي بعضها)(٦٨).
رابعاً: أنَّه (عجَّل الله فرجه) - بالرغم من غيبته - يحفظ الدِّين وأركانه وأساسه
ويحرسه من حيث لا يعلم الناس، وهذه الدعوى واضحة على معتقد الإماميَّة (أنار الله
برهانهم).
وأمَّا على معتقد القوم، فيدلُّ عليه قوله (صلَّى الله عليه وآله) في أحاديث الاثني
عشر
-----------------
(٦٦) التجريد (ص ٣٨٩).
(٦٧) الاحتجاج (ج ٢/ ص ٣٢٣).
(٦٨) الصواعق المحرقة (ج ٢/ ص ٤٤٥).
خليفة المتواترة كما سيأتي: «لَا يَزَالُ هَذَا اَلدِّينُ عَزِيزاً
مَنِيعاً...»، وقوله: «لَا يَزَالُ اَلدِّينُ قَائِماً...»(٦٩) وغير ذلك؛ فإنَّه
إذا ثبت أنَّ هؤلاء الاثني عشر هم أئمَّتنا (عليهم السلام) وأنَّ مهديَّنا (عجَّل
الله فرجه) هو آخرهم - كما ستسمع مفصَّلاً - فسيثبت بوضوح أنَّ الدِّين محفوظ دائم
بدوام وجوده الشريف وإنْ كان غائباً عن الأنظار، وهذا الأمر بحدِّ نفسه فائدة كافية
عظمى لا تخفى على ذي لُبٍّ.
خامساً: روى أصحابنا بعدَّة طُرُق(٧٠) أنَّ الانتفاع به (عجَّل الله فرجه) يكون
كالانتفاع بالشمس حين تحتجب بالسحاب، وروى مثل ذلك القندوزي السُّنِّي الحنفي في
(ينابيع المودَّة)(٧١)، والحمويني السُّنِّي - شيخ الإمام الذهبي الشهير صاحب
(سِيَر أعلام النبلاء) - في (فرائد السمطين)(٧٢)، وقد أشار إليه السيِّد الجدُّ
(طاب ثراه) في بيته المتقدِّم في صدر القصيدة:
وَمَا أَنْتَ إلَّا اَلشَّمْسُ يَنْأَى مَحَلُّهَا * * * وَيُشْرِقُ مِنْ أَنْوَارِهَا اَلْبَرُّ وَاَلْبَحْرُ
وقد ذكر
العلَّامة المجلسي (طاب ثراه) في معناه وجوهاً(٧٣) ننقلها بالمعنى:
أوَّلاً: أنَّ كافَّة النِّعَم كالوجود والعلم والهداية تصل إلى الخلق
بتوسُّطه(عجَّل الله فرجه) بعد أنْ ثبت أنَّه - وآباءه الطاهرين - العلَّة
الغائيَّة للخلق، وبه ينزل القطر وتفتح أبواب البركات، رغم كونه غائباً عن الأبصار.
ثانياً: أنَّ الشمس المحجوبة بالسحاب كما يتهيَّأ الناس لظهورها لينتفعوا بها أكثر،
فكذلك هو (عجَّل الله فرجه) يتهيَّأ الناس لظهوره وينتظرونه في كلِّ وقت وزمان.
-----------------
(٦٩) سيأتي تخريجهما.
(٧٠) اُنظرها في: منتخب الأثر (ج ٢/ ص ٢٦٧ وما بعدها).
(٧١) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٣٩٩).
(٧٢) فرائد السمطين (ج ١/ ص ٤٦).
(٧٣) بحار الأنوار (ج ٥٢/ ص ٩٣ وما بعدها).
ثالثاً: أنَّ منكر وجوده (عجَّل الله فرجه) كمنكر وجود الشمس لمجرَّد غيابها خلف
السحاب.
رابعاً: أنَّ الشمس قد تكون غيبتها أنفع للخلق أحياناً فيما إذا كان غيابها يُسبِّب
نزول المطر ولطف الجوِّ ونحو ذلك، فكذلك غيبته (عجَّل الله فرجه) قد تكون أصلح لهم
في هذا الزمان لوجوه لا نعرفها.
خامساً: أنَّ الشمس لا يمكن رؤيتها والإحاطة بها بكامل البصر إذا كانت بارزة ظاهرة،
وقد تتسبَّب بعمى العين وتضرُّرها، بخلاف ما إذا كانت مغطَّاة بالسحاب، فكذلك شمس
ذاته المقدَّسة (عجَّل الله فرجه) قد يكون ظهورها أضرَّ لبصائر بعض الناس لعدم
تحمُّلهم الإحاطة بها، فيُؤدِّي إلى إنكارهم الحقَّ وعمى بصيرتهم عنه لضعف قلوبهم،
فكان غيابها أنفع من هذه الجهة.
سادساً: أنَّ الشمس قد تخرج من السحاب من بعض الجهات والزوايا من الأرض فيراها بعض
ولا يراها الآخر، فكذلك هو (عجَّل الله فرجه) قد يظهر لبعض مَنْ هو أهل لرؤيته
(عجَّل الله فرجه) ويختفي عن الباقين.
سابعاً: أنَّه (عجَّل الله فرجه) كالشمس في عموم النفع والفائدة لكلِّ الأرض، ومَنْ
لا ينتفع به فهو أعمى كغير المنتفع بالشمس المضيئة.
ثامناً: أنَّ الشمس كما أنَّ شعاعها يدخل البيوت بقدر ما فيها من المنافذ والشبابيك
التي تسمح بدخول الضوء من خلالها وبقدر ارتفاع الموانع عنها، فكذلك هو (عجَّل الله
فرجه) ينتفع به كلُّ مَنْ كان مستعدًّا لذلك عمليًّا وروحيًّا، قابلاً له، رافعاً
لموانعه من الذنوب والمعاصي التي تُلوِّث القلب، وأمَّا مَنْ صدَّ عنه وأنكره ولم
يؤمن به فلا جرم لن ينتفع به كحال مَنْ يسدُّ منافذ بيته وشبابيكه فيُحرم نفسه من
ضوء الشمس.
* * *
الفصل الأوَّل: أدلَّة إمامة المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته
وهي:
١ - حديث الاثني عشر إماماً.
٢ - حديث الثقلين.
٣ - حديث ميتة الجاهليَّة.
٤ - قاعدة اللطف.
٥ - الروايات المتواترة.
٦ - حساب الاحتمالات.
ثمّ قال (طاب ثراه):
٣٦ - وَإِنْ
رُمْتَ نَجْحَ اَلسُؤْلِ فَاطْلُبْ (مَطَالِبَ اَلْـ * * * ـسَؤُوْلِ) فَمَنْ
يَسْلُكْهُ يَسْهُلْ لَهُ اَلْأَمْرُ
٣٧ - فَفِيْهِ أَقَرَّ (اَلشَّافِعِيُّ اِبْنُ طَلْحَةٍ) * * * بِرَأْيٍ عَلَيْهِ
كُلُّ أَصْحَابِنَا قَرُّوْا
٣٨ - وَجَادَلَ مَنْ قَالُوْا خِلَافَ مَقَالِهِ * * * فَكَانَ عَلَيْهِمْ فِيْ
اَلْجِدَالِ لَهُ نَصْرُ
٣٩ - وَكَمْ (لِلْجُوَيْنِيِّ) اِنْتَظَمْنَ فَرَائِدٌ * * * مِنْ اَلدُّرِّ لَمْ
يَسْعَدْ بِمَكْنُوْنِهَا اَلْبَحْرُ
٤٠ - (فَرَائِدُ سِمْطَيْنِ) اَلمَعَانِي بِدُرِّهَا * * * تَحَلَّتْ لِأَنَّ
اَلحُلْيَ أَبْهَجَهُ اَلدُرُّ
٤١ - فَوَكِّلْ بِهَا عَيْنَيْكَ فَهِيْ كَوَاكِبٌ * * * لِدُرِّيِّهَا أَعْيَانِيَ
اَلْعَدُّ وَاَلحَصْرُ
٤٢ - وَرِدْ مِنْ (يَنَابِيْعِ المَوَدَّةِ) مَوْرِدَاً * * * بِهِ يَشْتَفِيْ -
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَصْدُرَ - اَلصَّدْرُ
٤٣ - وَفَتِّشْ عَلَى (كَنْزِ اَلْفَوَائِدِ) فَاسْتَعِنْ * * * بِهِ فَهْوَ نِعْمَ
اَلذُّخْرِ إِنْ أَعْوَزَ اَلذُّخْرُ
٤٤ - وَلَاحَظْ بِهِ مَا قَدْ رَوَاهُ (اَلْكَرَاجِكِيْ) * * * مِنْ خَبَرِ
(اَلجَارُوْدِ) إِنْ أَغْنَتْ اَلنُّذْرُ
٤٥ - وَقَدْ قِيْلَ قِدْمَاً فِيْ اِبْنِ خَوْلَةَ إِنَّهُ * * * لَهُ غَيْبَةٌ
وَاَلْقَائِلُوْنَ بِهِ كُثْرُ
٤٦ - وَفِيْ غَيْرِهِ قَدْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ * * * وَمَا هُمْ قَلِيْلٌ فِيْ
اَلْعِدَادُ وَلَا نَزْرُ
٤٧ - وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلْيَقِيْنِ بِقَائِمٍ * * * يَغِيْبُ وَفِيْ تَعْيِيْنِهِ
اِلْتَبَسَ اَلْأَمْرُ
٤٨ - وَكَمْ جَدَّ فِيْ اَلتَّفْتِيْشِ طَاغِيْ زَمَانِهِ * * * لِيُفْشِيَ سِرَّ
اَلله فَانْكَتَمَ اَلسِّرُّ
٤٩ - وَحَاَوَلَ أَنْ يَسْعَى لِإِطْفَاءِ نُوْرِهِ * * * وَمَا رِبْحُهُ إلَّا
اَلنَّدَامَةُ وَاَلخُسْرُ
٥٠ - وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ * * * مِنَ اَلْعِتْرَةِ
اَلهَادِيْنِ فِيْ شَأْنِهِ خُبْرُ
٥١ - وَحَسْبُكَ عَنْ هَذَا حَدِيْثٌ مُسَلْسَلٌ * * * لِعَائِشَةٍ يُنْهِيْهُ
أَبْنَاؤهَا اَلْغُرُّ
٥٢ - بَأَنَّ اَلنَّبِيَّ اَلمُصْطَفَى كَانَ عِنْدَهُمْ * * * وَجِبْرِيْلُ إِذْ
جَاءَ اَلحُسَيْنُ وَلَمْ يَدْرُوْا
٥٣ - فَأَخْبَرَ جِبْرِيْلُ اَلنَّبِيَّ بِأَنَّهُ * * * سَيُقْتَلُ عُدْوَانَاً
وَقَاتِلُهُ شِمْرُ
٥٤ - وَأَنَّ بَنِيْهِ تِسْعَةٌ ثُمَّ عَدَّهُمْ * * * بِأَسْمَائِهِمْ
وَاَلتَّاسِعُ اَلْقَائِمُ اَلطُّهْرُ
٥٥ - وَأَنْ سَيُطِيْلُ اَللهُ غَيْبَةَ شَخْصِهِ * * * وَيَشْقَى بِهِ مِنْ بَعْدِ
غَيْبَتِهِ اَلْكُفْرُ
٥٦ - وَمَا قَالَ فِيْ أَمْرِ اَلْإِمَامَةِ أَحْمَدٌ * * * وَأَنْ سَيَلِيْهَا
اِثْنَانِ بَعْدَهُمُ عَشْرُ
٥٧ - فَقَدْ كَادَ أَنْ يَرْوِيهِ كُلُّ مُحَدِّثٍ * * * وَمَا كَاَدَ يَخْلُوْ
مِنْ تَوَاتُرِهِ سِفْرُ
٥٨ - وَفِيْ جُلِّهَا: أَنَّ اَلمُطِيْعَ لِأَمْرِهِمْ * * * سَيَنْجُوْ إذَا مَا
حَاقَ فِيْ غَيْرِهِ اَلمَكْرُ
٥٩ - فَفِيْ «أَهْلِ بَيْتِي فُلْكُ نُوْحٍ» دِلَالَةٌ * * * عَلَى مَنْ عَنَاهُ
بِالْإِمَامَةِ يَا حَبْرُ
٦٠ - فَمَنْ شَاءَ تَوْفِيْقَ اَلنُّصُوْصِ وَجَمْعَهَا * * * أَصَابَ
وَبِالتَّوْفِيْقِ شُدَّ لَهُ أَزْرُ
٦١ - وَأَصْبَحَ ذَا جَزْمٍ بِنَصْبِ وُلَاتِنَا * * * لِرَفْعِ اَلْعَمَى عَنَّا
بِهِمْ يُجْبَرُ اَلْكَسْرُ
٦٢ - وَآخِرُهُمْ هَذَا اَلَّذِيْ قُلْتَ: إِنَّهُ * * * (تَنَازَعَ فِيْهِ
اَلنَّاسُ وَاِشْتَبَهَ اَلْأَمْرُ)
أقول: اعلم أنَّ
الكلام في وجوده وغيبته (عجَّل الله فرجه) يقع في مقامين: مقام الإمكان، ومقام
الوقوع.
ونعني بمقام الإمكان أنْ يكون نفس وجوده وغيبته مدى هذه السنين ممكناً عقلاً، مع
غمض النظر عمَّا إذا كان واقعاً فعلاً أو لا، فنقول: أيجوز ويمكن عقلاً وجود شخص
وغيبته بهذا النحو، أم يمتنع ويستحيل كامتناع اجتماع النقيضين مثلاً؟
وأمَّا مقام الوقوع؛ فيأتي بعد إثبات الإمكان، فيقال: صحيحٌ أنَّ هذا الأمر يمكن
حصوله عقلاً ولا يستلزم محذوراً عقليًّا، ولكن هل وقع فعلاً؟ وهل ثَمَّة دليل
إثباتي على وجود هذا الشخص المسمَّى بهذا الاسم وحصول غيبته في الخارج بهذا النحو
المدَّعى؟
فأمَّا الكلام عن المقام الأوَّل، فلا نحتاج للإطالة فيه؛ إذ من الواضح جدًّا أنَّ
وجوده (عجَّل الله فرجه) وغيبته وطول عمره بالنحو الذي ندَّعيه ليس ممَّا يستحيل
عقلاً كاستحالة اجتماع النقيضين مثلاً، بل العقل يُجوِّزه ويحكم بإمكانه بحدِّ
ذاته.
ناهيك عن أنَّ أقوى دليل على إمكان الشيء هو تحقُّق ولو فرد واحد له، وسيأتي ذكر
العديد من غيبات الأنبياء (عليهم السلام) والعديد من المعمَّرين الذين طال بهم
العمر قدراً أكثر من الذي ندَّعيه في صاحبنا (عجَّل الله فرجه)، والوقوع أدلُّ دليل
على الإمكان.
والتفصيل: أنَّ غاية ما يمكن للخصم أنْ يستعمله لاستبعاد الغيبة عقلاً أُمور:
أوَّلاً: جهة عدم الفائدة فيه (عجَّل الله فرجه) مع غيابه.
وقد تقدَّم الجواب عن هذه الجهة مفصَّلاً، فراجع.
ثانياً: جهة طول عمره بهذا الحدِّ غير المتعارف.
وسيأتي ذكر الجواب عنه مفصَّلاً وتعداد جمع من المعمَّرين الذين اعترف المخالفون
بهم وبطول أعمارهم.
ثالثاً: أنَّ الداعي لظهوره موجود ومتحقِّق، فلو كان موجوداً لظهر.
فإنْ قيل: إنَّما غاب بأمر الله تعالى، فهو محال؛ لأنَّ الله قادر على نصره ورفع
الموانع عنه، فلماذا يأمره بالاختفاء؟
وإنْ قيل: إنَّ غيبته بسبب خوفه القتل، فهو محال أيضاً؛ لأنَّه يستلزم جبنه (عجَّل
الله فرجه)، وحاشاه من الجبن.
وسيأتي جواب الجميع مفصَّلاً.
وأمَّا المقام الثاني فهو الذي ينبغي الحديث فيه واستيفاء حاله؛ وهو مقام ذكر
الأدلَّة القاطعة على وجود المهدي (عجَّل الله فرجه) وحصول غيبته فعلاً.
ومن هذا الترتيب تعرف أنَّه ربَّما كان ينبغي فنّيًّا على السيِّد الجدِّ (طاب
ثراه) أنْ يُقدِّم الحديث في إثبات إمكان الغيبة أوَّلاً ويدفع عنها هذه الشُّبُهات
المتقدِّمة، ثمّ ينتقل إلى إثبات وقوعها بالأدلَّة النقليَّة والأحاديث المتواترة،
وبعد ذلك يذكر أسماء علماء المخالفين الذين اعترفوا بوجوده وغيبته (عجَّل الله
فرجه)، لكنَّه (طاب ثراه) قدَّم وأخَّر، وكأنَّه اعتبر الإيرادات العقليَّة السابقة
مجرَّد شُبُهات يُجاب عليها بعد أنْ يتمَّ إثبات وقوع الغيبة بالأدلَّة النقليَّة،
والأمر سهل.
ونحن بدورنا سنجري على ترتيبه، فسنبدأ بالمقام الثاني - وهو مقام ذكر الأدلَّة
الإثباتيَّة - ونشير مع كلِّ دليل إلى الموضع الذي أشار (طاب ثراه) إليه فيه،
ولكنَّنا سنُقدِّم في نفس تلك الأدلَّة ونُؤخِّر، فنقول والله الموفِّق:
إنَّه بعد ما يثبت إمكان وقوع الغيبة، وإمكان بقائه (عجَّل الله فرجه) حيًّا طول
هذه السنين، فليس علينا بعد ذلك إلَّا أنْ نُثبِت إمامته ووجوده وغيبته فعلاً بما
يُلزِمُ القوم، ولنا على ذلك أدلَّة لا تُبقي شكًّا، ولا تدع ريبةً، وسنقتصر على
أهمّها:
الدليل الأوَّل: حديث الاثني عشر
إماماً أو خليفةً:
وإليه أشار السيِّد الجدُّ الناظم (طاب ثراه) بقوله:
وَمَا قَالَ
فِيْ أَمْرِ اَلْإِمَامَةِ أَحْمَدٌ * * * وَأَنْ سَيَلِيْهَا اِثْنَانِ بَعْدَهُمُ
عَشْرُ
فَقَدْ كَادَ أَنْ يَرْوِيهِ كُلُّ مُحَدِّثٍ * * * وَمَا كَاَدَ يَخْلُوْ مِنْ
تَوَاتُرِهِ سِفْرُ
والكلام يقع فيه
من جهتين:
الأُولى: سنده وصحَّته.
الثانية: دلالته على مطلوبنا، وهو إمامة مولانا صاحب العصر (عجَّل الله فرجه)
وغيبته.
الجهة الأُولى: سند الحديث:
اعلم أنَّ هذا الحديث متواترٌ لا يجرؤ مخالفونا على التشكيك به طرفة عين بعد وروده
في أصحّ صحاحهم بألفاظ عديدة؛ ففي البخاريِّ عَنْ جَابِرَ بْنَ
سَمُرَةَ: سَمِعْتُ
اَلنَّبِيَّ يَقُولُ: «يَكُونُ اِثْنَا عَشَرَ أَمِيراً»، فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ
أَسْمَعْهَا، فَقَالَ أَبِي: إِنَّهُ قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»(٧٤).
وفي مسلم عَنْ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ أَيْضاً: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى
اَلنَّبِيِّ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ هَذَا اَلْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى
يَمْضِي فِيهِمْ اِثْنَا عَشَرَ خَلْيفَةً»، قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ
خَفِيَ عَلَيَّ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ
قُرَيْشٍ»(٧٥).
وفي لفظ آخر لمسلم: «لَا يَزَالُ هَذَا اَلدِّينُ عَزِيزاً مَنِيعاً...»(٧٦)، وفي
(مسند مسدَّد): «كُلُّهُمْ يَعْمَلُ بِالْهُدَى وَدِينِ اَلْحَقِّ...»(٧٧)، وقريب
من ذلك ما أخرجه كلٌّ من أبي داود في (سُنَنه)(٧٨)، والترمذي في (سُنَنه)(٧٩)،
وأحمد في (مسنده)(٨٠)، والحاكم في (مستدركه)(٨١)، والطيالسي في (مسنده)(٨٢)،
والطبراني في (معجمه الكبير)(٨٣)، وغيرهم.
وقد عدَّ المحقِّق الصافي (طاب ثراه) أحاديث الاثني عشر خليفة إلى (٢٧١) حديثاً في
كتابه الفريد: (منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر).
فالحديث كما ترى متواتر جزماً، فلا مجال للحديث في صحَّته عند مخالفينا، ولو لم يكن
مرويًّا إلَّا في الصحيحين لكفى، ولذلك لا تجد أحداً منهم يناقش في
-----------------
(٧٤) صحيح البخاري (ج ٩/ ص ٨١/ ح ٧٢٢٢).
(٧٥) صحيح مسلم (ج ٣/ ص ٤٥٢/ ح ١٨٢١).
(٧٦) صحيح مسلم (ج ٣/ ص ٤٥٣/ ح ١٨٢١).
(٧٧) عنه مسنداً في المطالب العالية لابن حجر (ج ١٨/ ص ٣٤٧/ ح ٤٤٨٤).
(٧٨) سُنَن أبي داود (ج ٤/ ص ١٠٦/ ح ٤٢٧٩).
(٧٩) سُنَن الترمذي (ج ٤/ ص ٨٠/ ح ٢٢٢٣).
(٨٠) مسند أحمد (ج ٣٤/ ص ٤٤٩/ ح ٢٠٨٧٩).
(٨١) المستدرك على الصحيحين (ج ٣/ ص ٧١٦/ ح ٦٥٨٩).
(٨٢) مسند أبي داود الطيالسي (ج ٢/ ص ٦٠٧/ ح ١٣٧٤).
(٨٣) المعجم الكبير (ج ٢/ ص ٢٢٦/ ح ١٩٣٦).
صحَّته، بل في
دلالته وتعيين أُولئك الاثني عشر مَنْ هم؟ وهو الكلام الآتي في الجهة الثانية.
الجهة الثانية: دلالة الحديث،
مَنْ هم الاثنا عشر؟
لم يثبت علماء المخالفين على رأي في تحديد الأئمَّة الاثني عشر، بل وقعوا في حيرة
عظمى ألجأتهم إلى تأويلات ومخارج تُضحِك الثكلى؛ إذ ليس عدد الخلفاء الذين يقولون
بشرعيَّتهم اثني عشر، بل هم إمَّا أقلُّ من ذلك إنِ اقتصرنا على الخلفاء الأربعة،
وإمَّا أكثر إنْ أضفنا إليهم خلفاء بني أُميَّة وبني العبَّاس، هذا من جهة. ومن جهة
أُخرى: لا يستطيعون الاعتراف بالمصداق الواضح الوحيد الذي اجتمع فيه العدد والصفة
المذكوران في الحديث، وهو أئمَّتنا (عليهم السلام)، فوقعوا في حيص وبيص.
ولعلَّ أشهر ما قيل في المسألة عندهم(٨٤): إنَّهم الخلفاء الأربعة، ثمّ معاوية، ثمّ
يزيد، ثمّ عبد المَلِك بن مروان، ثمّ الوليد بن عبد المَلِك، ثمّ سليمان بن عبد
المَلِك، ثمّ عمر بن عبد العزيز، ثمّ يزيد بن عبد المَلِك، ثمّ هشام بن عبد
المَلِك.
فهؤلاء هم الاثنا عشر الذين «كُلُّهُمْ يَعْمَلُ بِالْهُدَى وَدِينِ اَلْحَقِّ»!
ونحن نقول: إنَّ المنصف العاقل البصير لا يتردَّد بعد التأمُّل في أنَّ هؤلاء
الاثني عشر لا يمكن أنْ يكونوا غير أئمَّتنا (صلوات الله عليهم أجمعين) بدءاً من
سيِّدهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ووصولاً إلى التاسع من ولد سيِّد الشهداء
(عليه السلام) وهو صاحبنا (عجَّل الله فرجه).
وقد جاء حديث جابر بن سمرة الذي قال فيه: (فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا) أو:
(ثُمَّ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ خَفِيَ عَلَيَّ) بلفظ آخر في (ينابيع المودَّة)، وهو:
ثُمَّ أَخْفَى
-----------------
(٨٤) اُنظر: شرح العقيدة الطحاويَّة (ص ٤٨٩).
صَوْتَهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا اَلِّذِي أَخْفَى صَوْتَهُ؟ قَالَ:
قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»(٨٥). وهذا التقييد - كما ترى - يُقطِعُنا
شوطاً كبيراً في إثبات مطلوبنا، ولكنَّنا لن نتمسَّك به ونقول: من الواضح أنَّ
مشايخ المخالفين قد حرَّفوه إلى «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ» ليهربوا من هذه الورطة -
مع أنَّ مثل ذلك معهود منهم -، بل سنتنزَّل ونلتزم بلفظهم «كُلُّهُمْ مَنْ
قُرَيْشٍ» ونُثبِت مطلوبنا بناءً عليه، لتعرف مدى وضوح مذهبنا وقوَّة موقفنا.
إثبات أنَّ الاثني عشر هم
أئمَّتنا (عليهم السلام) لا غير:
فنقول: لنا على أنَّ المقصود هو أمير المؤمنين وبنوه (عليهم السلام) من هؤلاء
الاثني عشر دلائل وقرائن لا تُبقي شكًّا ولا تدع ريبةً:
القرينة الأُولى: أنَّ خليفة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) لا بدَّ أنْ يكون
عالماً عاقلاً شريفاً مطاعاً شجاعاً كريماً تقيًّا ورعاً، حاوياً للخصال الحميدة
ومنزَّهاً عن الصفات القبيحة، بعد أنْ كان هو (صلَّى الله عليه وآله) مبعوثاً
لهداية الناس وتزكيتهم وحملهم على الطُّرُق المستقيمة، فلا بدَّ أنْ يكون خليفته
والقائم مقامه له الشيء الكثير من ذلك، وهذا واضح وبديهيٌّ، وبه صرَّح (صلَّى الله
عليه وآله) بنفسه في اللفظ المتقدِّم: «كُلُّهُمْ يَعْمَلُ بِالْهُدَى وَدِينِ
اَلْحَقِّ».
وكذلك جَعَلهم (صلَّى الله عليه وآله) في ألفاظ أُخرى بمنزلة نقباء بني
إسرائيل(٨٦)، وأنَّ قيام الدِّين وعزَّته بهم(٨٧)، فهل ترى أنَّ ذلك يحصل في أيِّ
أحدٍ يتَّفق له أنْ يظفر بالخلافة بواسطة السيف والمال أو لا يحصل إلَّا فيمن كان
حاوياً لتلك الصفات الحميدة المتقدِّمة؟!
-----------------
(٨٥) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٢٩٠).
(٨٦) مسند أحمد (ج ٦/ ص ٣٢١/ ح ٣٧٨١)، وغيره.
(٨٧) تقدَّم تخريجه.
فالنتيجة: أنَّ علامة هؤلاء الاثني عشر أمران: كونهم من قريش، وكونهم شبيهين
للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وسائرين بسيرته الشريفة.
ونحن لا نعرف رجالاً يجتمع فيهم هذا العدد مع هاتين الصفتين إلَّا أئمَّتنا (صلوات
الله عليهم أجمعين)؛ فإنَّهم أطيب فرع من قريش وهو فرع النبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله)، كما أنَّهم الوحيدون - ممَّن ادُّعيت له الخلافة - الذين أجمعت الأُمَّة
برمَّتها وبكلِّ طوائفها وفِرَقها ومذاهبها على طهارتهم وعفَّتهم وتقواهم وشرفهم
وعلمهم وصلاحهم واستحقاقهم للخلافة والرئاسة، فهم المصداق الوحيد الذي انعقد إجماع
الأُمَّة على انطباق الحديث عليه، وأمَّا غيرهم ففيهم ما تعرف وستعرف مفصَّلاً.
ويُغنيك عن هذا كلِّه أنَّه قد عُرِفَ في التاريخ كثرة أعدائهم واضطهادهم لهم وطمس
ذكرهم وحذف مناقبهم، ووضع الأحاديث والمناقب لغيرهم ممَّن غصب الخلافة، غير أنَّك
مع ذلك تجد أنَّ ما وصل من مناقبهم - بعد كلِّ الجهود التي بذلها أُولئك الذين
سيطروا على العباد والبلاد وأنفقوا الأموال - فاقت جميع مَنْ سواهم، ولا تجد أحداً
غيرهم من الصحابة والتابعين مُدِحَ على لسان النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) مثلهم،
حتَّى اعترف بذلك إمامهم أحمد بن حنبل فقال: (ما روي لأحد من الفضائل أكثر ممَّا
روي لعليِّ بن أبي طالب)(٨٨).
وأمَّا غيرهم ممَّن غصب الخلافة ونحَّاهم عن مناصبهم التي نصبهم الله تعالى فيها،
فقد بذلوا كلَّ جهد لتبييض وجوههم وتحسين صورتهم في التأريخ من خلال الكذب على رسول
الله (صلَّى الله عليه وآله) ووضع الأحاديث المادحة لهم على لسانه، إلَّا أنَّ
عوراتهم بقيت - بالرغم من ذلك - لائحة، ومثالبهم واضحة، مع أنَّهم كانت بيدهم
السلطة والأموال وجميع المقادير، وكان الوضَّاعون كأبي هريرة
-----------------
(٨٨) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (ج ٢/ ص ٣٥٨).
وغيره يتزاحمون على
أبوابهم ليضعوا فيهم الأحاديث طلباً للدنيا مقابل الآخرة، وذلك كلُّه واضح يعرفه
أدنى مطَّلع على التاريخ.
ولئن لم ترضَ بهذا، فحسبك أنَّ الواجب عقلاً في النبيِّ والإمام كما تقدَّم أنْ
يكون معصوماً؛ للأدلَّة الكثيرة التي تقدَّم تفصيلها، وحيث نعلم أنَّ أحداً غير
أئمَّتنا (عليهم السلام) لم تُدَّعَ له العصمة، بل قام الإجماع على عدم عصمة جميع
مَنْ سواهم بدءاً من أبي بكر ووصولاً إلى المستعصم العبَّاسي، يثبت بلا ريب أنَّهم
(عليهم السلام) خلفاء النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) دون غيرهم؛ لأنَّهم الوحيدون
الذين ادُّعيت لهم العصمة، ونصَّ تعالى في محكم كتابه الكريم على عصمتهم في قوله: ﴿إِنَّمَا
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: ٣٣)، الدالُّ على العصمة والطهارة من الذنوب.
وقد ثبت في صحاح المخالفين أنَّ المراد بأهل البيت هنا ليس إلَّا عليًّا وفاطمة
والحسنين (عليهم السلام)؛ فقد رووا(٨٩) أنَّه لمَّا نزلت آية التطهير جمع (صلَّى
الله عليه وآله) عليًّا وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وألقى عليهم كساءً
وقال: «اَللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، أَذْهِبْ عَنْهُمُ
اَلرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً».
فبعد ملاحظة كلِّ ذلك والنظر إليه بعين البصيرة، هل يبقى مجال للتردُّد في مراد
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) من الخلفاء الاثني عشر في الحديث المذكور؟!
القرينة الثانية: أنَّه قد ورد غير هذا الحديث أحاديث أُخرى لا تُحصى كثرةً مفادها:
أنَّ النجاة تكون بالتمسُّك بالكتاب وأهل البيت (عليهم السلام)، وأنَّهما لن يفترقا
حتَّى يردا على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) الحوض، وهو حديث الثقلين المعروف
الذي سنتكلَّم فيه مفصَّلاً فيما بعد ونجعله دليلاً مستقلّاً، ولكنَّنا سننتفع منه
هنا أيضاً قرينةً قويَّة على المراد من الاثني عشر في الحديث الذي نحن فيه، فنقول:
-----------------
(٨٩) سُنَن الترمذي (ج ٦/ ص ١٧٤/ ح ٣٨٧١)؛ مسند أحمد (ج ٤٤/ ص ١١٩/ ح ٢٦٥٠٨).
قد تقدَّم أنَّ حديث الاثني عشر خليفة يُثبِت وجود اثني عشر رجلاً صالحاً لخلافة
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) ومؤهَّلاً لها، وبهم يكون بقاء الدِّين وعزَّته،
وبعد أنْ نلاحظه ثمّ نلاحظ الأحاديث الآمرة بالتمسُّك بالعترة الطاهرة وأنَّ النجاة
تكون باتِّباعهم، فطريق الجمع الواضح بينهما هو أنَّ أُولئك الاثني عشر هم نفسهم
أهل بيته الذين أمر بالتمسُّك بهم وجَعَلهم عِدل القرآن، إذ ليس بين يدينا احتمال
آخر إلَّا أحد أمرين:
- أنْ نلتزم بوجود خلفاء وأئمَّة في العترة الطاهرة غير أُولئك الاثني عشر، وهذا
باطل لأنَّه يخالف الأخبار الصريحة الحاضرة لهم في هذا العدد.
- أنْ نطرح أحد الحديثين، وهذا باطل أيضاً ولا يلتزم به أحد؛ لأنَّ كليهما ثابت
وصحيح، بل متواتر.
فلم يبقَ إلَّا أنْ نجمع بينهما بالطريقة المتقدِّمة؛ لأنَّه الخيار الوحيد الذي
ينسجم به الحديثان وليس فيه أيُّ محذور.
القرينة الثالثة: ما أشار إليه السيِّد الجدُّ الناظم (طاب ثراه) بقوله:
فَفِيْ «أَهْلِ بَيْتِي فُلْكُ نُوْحٍ» دِلَالَةٌ * * * عَلَى مَنْ عَنَاهُ بِالْإِمَامَةِ يَا حَبْرُ
وهو ما رواه
مخالفونا بعشرة طُرُق - كما في (غاية المرام) للعلَّامة البحراني(٩٠) - عن رسول
الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه قال: «مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي مَثَلِ سَفِينَةِ
نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ»، بألفاظ كثيرة
متفاوتة يسيراً لمعنى واحد.
وفيه دلالة واضحة على أنَّ المراد بأُولئك الاثني عشر هم أهل بيته (صلَّى الله عليه
وآله) لا غير؛ وهو طريق الجمع الوحيد بين الحديثين، كما تقدَّم في حديث الثقلين.
القرينة الرابعة: أنَّ المسلمين فرقتان: فرقة تقول بوجوب هذا العدد وهو
-----------------
(٩٠) غاية المرام (ج ٣/ ص ١٣ وما بعدها).
الاثني عشر
وانحصار خلفاء الحقِّ به، وفرقة تقول بعدم وجوب هذا العدد وعدم الانحصار به.
والذين يقولون بالعدد هم الشيعة الذين يقولون مع ذلك بأنَّ أُولئك الاثني عشر هم
أمير المؤمنين (عليه السلام) وبنوه، وأمَّا الذين لا يقولون بالعدد فهم مضافاً إلى
ذلك لا يقولون بإمامة أئمَّتنا (عليهم السلام).
وينتج من ذلك أنَّه لا قائل بوجوب العدد مع القول بأنَّ الاثني عشر غير أئمَّتنا
(عليهم السلام)، فيتحصَّل من ذلك إجماع مركَّب ينفي هذا القول الثالث، وعليه فيكون
القول بأنَّ هذا العدد واجب مع القول بأنَّ الاثني عشر ليسوا أئمَّتنا (عليهم
السلام) خرقاً للإجماع الحاصل بين المسلمين، فيثبت أنَّ المراد بهؤلاء الاثني عشر
على فرض وجوب عدد الاثني عشر كما هو المستفاد من الأحاديث المتواترة لا يمكن أنْ
يكون غير أئمَّتنا (عليهم السلام).
القرينة الخامسة: أنَّ كلَّ ما سوى ما قلناه في تعيين أُولئك الاثني عشر ظاهر
الفساد ولا يمكن قبوله؛ فإنَّ أحسن ما قيل هو ما تقدَّم نقله من أنَّهم الخلفاء
الأربعة، ثمّ معاوية، ثمّ ابنه يزيد، ثمّ عبد المَلِك، ثمّ ابنه الوليد، ثمّ أخوه
سليمان، ثمّ عمر بن عبد العزيز، ثمّ يزيد بن عبد المَلِك، ثمّ أخوه هشام، والدليل
على ذلك أنَّه ورد في بعض ألفاظ الحديث قوله (صلَّى الله عليه وآله) في وصف الاثني
عشر: «يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمُ اَلنَّاسُ»، وهؤلاء قد اجتمع عليهم الناس، فهم
المرادون من الحديث إذن.
ووجوه الفساد في هذا الكلام كثيرة:
ما بالهم أخرجوا الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) من تعداد هؤلاء الخلفاء مع أنَّه
بايعه الصحابة ويعدُّه أكثر علمائهم ومؤرِّخيهم خامسَ الخلفاء الراشدين وأنَّ نبوءة
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بأنَّ الخلافة بعده ثلاثون سنة تحقَّقت به (عليه
السلام)؟!
فإنْ قيل: إنَّه (عليه السلام) لم يجتمع عليه الناس؛ لأنَّ أهل الشام لم يبايعوه.
قلنا: فيلزم على هذا أنْ يخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً لأنَّه كذلك لم
يبايعه أهل الشام، فلماذا عدُّوه (عليه السلام) ولم يعدُّوا ولده (عليه السلام)؟
أنَّ الظاهر من قوله (صلَّى الله عليه وآله): «يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمُ اَلنَّاسُ»
كون ذلك باختيارهم ورضاهم، لا جبراً وكرهاً.
ومعلومٌ لكلِّ مَنْ طالع التاريخ - كما سيأتي تفصيله - أنَّ خلافة أبي بكر لم يجتمع
عليها المهاجرون والأنصار؛ بل إنَّ كثيراً منهم لم يبايع إلَّا بعد الضرب والتهديد
بالقتل، بل بقي سعد بن عبادة شيخ الأنصار غير مبايع حتَّى قتلوه وألصقوا تهمة قتله
بالجنِّ، وكذلك لم يبايعه أمير المؤمنين (عليه السلام) والمقداد وسلمان وأبو ذرٍّ
وعمَّار إلَّا بعد اللتيَّا والتي(٩١)، وهذا كافٍ جدًّا في عدم تحقُّق اجتماع الناس
عليه اختياراً.
ومعلومٌ أكثر من ذلك أنَّ خلافة بني أُميَّة لم تقم إلَّا بالسيف والدماء والتخويف،
فكيف يصدق عليهم بعد ذلك أنَّهم «يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمُ اَلنَّاسُ»؟!
فإنْ قال الخصم: سلَّمنا أنَّ اجتماع الناس لم يحصل لهؤلاء المذكورين، ولكنَّه كذلك
لم يحصل لأصحابكم (عليهم السلام)، فكيف حصرتم الحديث بهم؟
قلنا: إنَّه بعد ما يثبتُ بالقرائن المتقدِّمة واللَّاحقة - التي لم تثبت لغيرهم -
أنَّهم (عليهم السلام) المقصودون بالحديث حصراً، يصبح تأويل مثل هذه العبارة سهلاً
على معنى: أنَّهم يجتمع الناس على فضلهم وأهليَّتهم للخلافة والإمامة، وذلك حاصل
فعلاً بلا نكير بين المسلمين بجميع طوائفهم كما تقدَّم.
أنَّه كما ورد أنَّهم «يَجْتَمِعُ عَلَيْهِمُ اَلنَّاسُ» فكذلك ورد أنَّهم:
«كُلُّهُمْ يَعْمَلُ
-----------------
(٩١) سيأتي تخريج ذلك كلِّه.
بِالْهُدَى وَدِينِ اَلْحَقِّ»، فلا يكفي الاجتماع لوحده
علامةً عليهم، بل لا بدَّ مع ذلك من صلاحهم وتقواهم وعملهم بالحقِّ.
وقد ثبت بلا مخالف أنَّ بعضاً - كقدر متيقَّن - من هؤلاء المذكورين -مثل يزيد بن
معاوية والوليد بن يزيد بن عبد المَلِك - كان فاسقاً شارباً للخمر كافراً بالله
تعالى؛ فكيف ينطبق عليه الحديث؟!
بل الحقُّ والإنصاف الذي لا يخفى على مَنْ نظر في التاريخ بعين بصيرته أنَّ أحداً
من هؤلاء المذكورين لا يصلح لخلافة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) إلَّا أمير
المؤمنين (عليه السلام)، لعدم انطباق القيد المذكور - وهو العمل بالهدى ودين الحقِّ
- عليهم، لا وفق معتقدنا ورواياتنا فحسب، بل وفق ما رواه مخالفونا فيهم، وسنذكر لك
في ذلك ما يُغنيك ويكفيك.
تفصيل مثالب الخلفاء وعدم إمكان
انطباق حديث الاثني عشر عليهم:
أوَّلاً: أبو بكر:
فهذا أبو بكر - شيخهم ورئيسهم ومرجعهم وأوَّل مَنْ فتح باب غصب الخلافة
الإلهيَّة وتنحية أصحابها عنها - لو تصفَّحت التاريخ وكُتُب القوم قليلاً لوجدت من
أفعاله ما يكفي في الحكم بعدم استحقاقه للخلافة، فلنذكر بعضاً منها:
أوَّلاً: أنَّه سمَّى نفسه خليفة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بغير حقٍّ؛ وذلك
أنَّ إجماع المسلمين - وهو الدليل الذي يتمسَّكون به لتصحيح خلافته - قائم على عدم
وصاية رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) له؛ لأنَّهم بينَ قائل بأنَّه (صلَّى الله
عليه وآله) أوصى إلى خصوص أمير المؤمنين (عليه السلام) وهم الشيعة، وقائلٍ آخر
بأنَّه (صلَّى الله عليه وآله) لم يوصِ لأحدٍ أصلاً وترك الأمر شورى وهم المخالفون
السُّنَّة، وليس ثَمَّة قائل بحصول الوصيَّة على أبي بكر من المسلمين.
وقد اعترف عمر بذلك وقال: (لئن لا أستخلف فإنَّ رسول الله لم يستخلف، وإنْ أستخلف
فإنَّ أبا بكر قد استخلف)، رواه مسلم(٩٢).
فكان الأولى أنْ يُسمِّي أبو بكر نفسَه خليفةَ عمر وأبي عبيدة الجرَّاح، لا خليفة
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)؛ لأنَّهما هما مَنِ استخلفه وبايعه وأرغم الناس
على بيعته لا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).
وقد ذكر ذلك - أي تسمية أبي بكر نفسَه خليفة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) -
ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة)(٩٣)، والسيوطي في (تاريخ الخلفاء)(٩٤)، وابن حجر
في (الصواعق المحرقة)(٩٥).
ثانياً: عصيانه أمرَ النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وتخلُّفه عن جيش أُسامة في
القصَّة المعروفة؛ وقد قال النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله): «جَهِّزُوا جَيْشَ
أُسَامَةَ، لَعَنَ اَللهُ اَلمُتَخَلِّفَ عَنْ جَيْشِ أُسَامَةَ»(٩٦)، فتشمله لعنة
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) مع عمر وأبي عبيدة، لأنَّهم كانوا من جيش أُسامة
وتخلَّفوا عنه ليُرتِّبوا أمر السقيفة، وما ظنُّكَ في مَنْ يلعنه النبيُّ (صلَّى
الله عليه وآله)؛ أيستحقُّ خلافة المسلمين؟
ثالثاً: اعترافه بلسانه بأنَّ له شيطاناً يعتريه، قال: (إِنَّ لِي شَيْطَاناً
يَعْتَرِينِي، فَإِنِ اِسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنِ زِغْتُ فَقَوِّمُونِي)،
كما نقلته المصادر الكثيرة(٩٧).
-----------------
(٩٢) صحيح مسلم (ج ٣/ ص ٤٥٥/ ح ١٨٢٣).
(٩٣) الإمامة والسياسة (ج ١/ ص ٣٠).
(٩٤) تاريخ الخلفاء (ص ٨٨).
(٩٥) الصواعق المحرقة (ج ١/ ص ٢٥٧).
(٩٦) المِلَل والنِّحَل (ج ١/ ص ٢٣)؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج ٦/ ص ٥٢).
(٩٧) اُنظر: مسند أحمد (ج ١/ ص ١٤)، ومجمع الزوائد (ج ٥/ ص ١٨٣)، والإمامة والسياسة
(ج ١/ ص ١٦)، والمجتبى لابن دريد (ص ٢٧)، وعيون الأخبار لابن قتيبة (ج ٢/ ص ٢٣٤)،
وكنز العُمَّال (ج ٣/ ص ١٢٦)، والرياض النضرة (ج ١/ ص ١٦٧)، وتاريخ الطبري (ج ٣/ ص
٢٠٣ و٢١٠)، وتاريخ ابن كثير (ج ٥/ ص ٢٤٧).
رابعاً: اعتراف صاحبه ومدبِّر أمره عمر بأنَّ بيعته كانت فلتة، كما في (صحيح
البخاري)؛ قال: (كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً، وَقَى اَللهُ
اَلمُسْلِمِينَ شَرَّهَا، فَمَنْ عَادَ مِثْلِهَا فَاقْتُلُوهُ).
فإمَّا أنْ يكون عمر صادقاً؛ فتكون بيعة أبي بكر فلتة وسقطة، وإمَّا أنْ يكون
كاذباً، فيكون أبو بكر قد استخلف كاذباً - أعني عمر - وجعله خليفة على المسلمين بعد
موته، فعلى كلِّ التقدير يكون أبو بكر قد ارتكب ما يُخرجه عن أهليَّة الخلافة.
خامساً: أنَّه طالما كان يقول كما اشتهر عنه: (أَقِيلُونِي، لَسْتُ
بِخَيْرِكُمْ)(٩٨).
فإنَّه إذا كان صادقاً في قوله هذا، كان ظالماً غاصباً للخلافة مع علمه بأنَّه لا
يستحقُّها، وإنْ كان كاذباً؛ فلا يستحقُّ الخلافة جزماً، والتواضع لا محلَّ له
هاهنا.
سادساً: أنَّه فعل ما فعل مع بضعة رسول الله السيِّدة الزهراء (عليها السلام) في
قضيَّة فدك المعروفة عندما غَصَبَها حقَّها ومنعها إرثها وكذَّبها وردَّ قولها، مع
أنَّها المنصوص على عصمتها بآية التطهير، والتي قال فيها أبوها (صلَّى الله عليه
وآله): «يَغْضَبُ اَللهُ لِغَضَبِهَا وَيَرْضَى لِرِضَاهَا»(٩٩)، واخترع حديثاً لم
يسمعه أحد غيره من المسلمين وهو: «نَحْنُ مَعَاشِرُ اَلْأَنْبِيَاءِ لَا نُوَرِّثُ»
مع قلَّة علمه ورواياته، وتَجَاهَلَ نصوصَ القرآن الصريحة في أنَّ الأنبياء (عليهم
السلام) يُورِّثون، والقضيَّة مشهورة، وتفاصيلها المشجية مسطورة.
سابعاً: أمره بالهجوم على الدار والتهديد بحرقها لأجل أنْ يُجبِر أمير
-----------------
(٩٨) اُنظر المصادر السابقة.
(٩٩) صحيح البخاري (ج ٥/ ص ٢١/ ح ٣٧١٤)؛ صحيح مسلم (ج ٤/ ص ٩٠٢/ ح ٢٤٤٩)؛ المستدرك
على الصحيحين (ج ٣/ ص ١٦٧/ ح ٤٧٣٠).
المؤمنين
(عليه السلام) على بيعته، كما رواه ابن أبي شيبة في (مصنَّفه)(١٠٠)، والبلاذري في
(أنساب الأشراف)(١٠١)، والطبري في (تاريخه)(١٠٢)، وابن عبد ربِّه في (العقد
الفريد)(١٠٣)، وابن قتيبة في (الإمامة والسياسة)(١٠٤).
وأمَّا باقي أحداث القضيَّة غير مجرَّد الهجوم والتهديد بالإحراق، فلم تروَ في
مصادرهم، ولذا لم نذكرها.
فهذه بعض أفعاله، ولم يسعنا استيفاءها كلَّها، ولكنَّ ما ذكرناه كافٍ ووافٍ في
المراد، وهو عدم صلاحه بحالٍ من الأحوال لخلافة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)
والدخول في حديث الاثني عشر، وإلَّا فإنَّ الذي يدَّعي خلافة رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله) بغير حقٍّ، ويلعنه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لعصيانه أوامره،
وله شيطان يعتريه، ويتمسَّك بمنصب لا يستحقُّه باعترافه، ويظلم ابنة رسول الله
(صلَّى الله عليه وآله) وعزيزته، ويعترف صاحبُه بأنَّ بيعته فلتة، هل تراه يصلح
لخلافة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)؟! أم هل تراه ينطبق عليه قيد: «يَعْمَلُ
بِالْهُدَى وَدِينِ اَلْحَقِّ»؟!
ثانياً: عمر بن الخطَّاب:
وهذا عمر بن الخطَّاب: مهندس السقيفة ومدبِّرها، وثاني مَنْ ركب الخلافة بعد أبي
بكر، وله من الأفعال الدالَّة على عدم صلاحه لها جزماً ما لا يُحصيه قلم ولا لسان،
فلنذكر منها طرفاً:
أوَّلاً: رميه للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بأنَّه يهجر أو أنَّه غلبه الوجع،
ومنعه إيَّاه من كتابة الوصيَّة التي بها صلاح المسلمين بعد وفاته (صلَّى الله عليه
وآله)، رغم قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا
-----------------
(١٠٠) المصنَّف لابن أبي شيبة (ج ١/ ص ٥٧١).
(١٠١) أنساب الأشراف (ج ١/ ص ٥٨٦).
(١٠٢) تاريخ الطبري (ج ٢/ ص ٤٣٣).
(١٠٣) العقد الفريد (ج ٣/ ص ٦٣).
(١٠٤) الإمامة والسياسة (ص ١٢).
وَحْيٌ يُوحَى﴾
(النجم: ٤)، وهي قضيَّة معروفة مشهورة مرويَّة في الصحاح لا يُنكِرها أحد(١٠٥).
ثانياً: تخلُّفه عن جيش أُسامة ودخوله في لعنة النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) كما
تقدَّم في أبي بكر.
ثالثاً: هجومه بنفسه على دار النبوَّة وتهديده بإحراقه وقيادته لتلك العصبة المجرمة
التي لم تراعِ للبيت الطاهر حرمةً ولا ذماماً، وقد تقدَّم نقل مصادر المخالفين التي
ذكرت ذلك.
رابعاً: جهلُه عندما تُوفِّي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بأنَّ ﴿كُلُّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران: ١٨٥)، وأنَّ الموت جائز عليه (عليه
السلام)، فقال في حينها: (مَا مَاتَ رَسُولُ اَلله) ونحو ذلك، حتَّى خطب أبو بكر في
الناس وقرأ قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
مَيِّتُونَ﴾ (الزمر: ٣٠)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ (آل عمران: ١٤٤)، فقال عمر:
(هَذَا فِي كِتَابِ اَلله؟) إلى آخر القصَّة المعروفة، وهي مرويَّة في (صحيح
البخاري)(١٠٦).
خامساً: تحريمه للمتعتين: متعة النساء ومتعة الحجِّ، وقد كانتا مباحتين في عصر
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، فحرَّمهما وغيَّر في دين الله ونسخ أحكامه، مع
أنَّ ذلك ليس من شأنه ولا يحقُّ له، كما لا يخفى على كلِّ مسلم.
أمَّا متعة النساء: فقد أجمع المسلمون قاطبة على أنَّها كانت مباحة في صدر الإسلام،
وإنَّما اختلفوا في وقوع النسخ فيها وتحريمها بعد ذلك.
وقد دلَّ على جوازها قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ
بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ
-----------------
(١٠٥) صحيح البخاري (ج ١/ ص ٣٤/ ح ١١٤)؛ صحيح مسلم (ج ٣/ ص ٢٥٩/ ح ١٦٣٧)؛ سُنَن
النسائي (ج ٥٥/ ص ٣٦٦/ ح ٥٨٢١)؛ وغير ذلك.
(١٠٦) صحيح البخاري (ج ٥/ ص ٦/ ح ٣٦٦٧).
أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ (النساء: ٢٤)، على ما
جاء في (تفسير الطبري) عن ابن عبَّاس وأُبيِّ بن كعب والحَكَم وسعيد بن جبير ومجاهد
وقتادة وشعبة وأبي ثابت(١٠٧).
وفي (تفسير البغوي): عن جمعٍ(١٠٨).
وفي (تفسير القرطبيِّ): (وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة)(١٠٩).
وفي (أحكام القرآن) للجصَّاص: عن عدَّة(١١٠).
وفي (تفسير الخازن): عن قوم(١١١).
وفي (تفسير ابن كثير): عن جمع من الصحابة والتابعين(١١٢).
وفي (الدُّرِّ المنثور) للسيوطي: عن جمع من الصحابة والتابعين بطريق الطبراني وعبد
الرزَّاق والبيهقيِّ وابن جرير وعبد بن حميد وأبي داود وابن الأنباري(١١٣).
وقال الفخر الرازي في (تفسيره): (اتَّفقوا على أنَّها كانت مباحة في ابتداء
الإسلام)(١١٤).
وروى البخاريُّ ومسلم في (صحيحيهما) عن سلمة بن الأكوع وعن جابر قال: (خَرَجَ
عَلَيْنَا مُنَادِي رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ
اَلله (صلَّى الله عليه وآله) قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا.. يَعْنِي
مُتْعَةَ اَلنِّسَاءِ)(١١٥).
-----------------
(١٠٧) جامع البيان (ج ٨/ ص ١٧٥ وما بعدها).
(١٠٨) تفسير البغوي (ج ٢/ ص ١٩٣ وما بعدها).
(١٠٩) تفسير القرطبي (ج ٥/ ص ١٣٠).
(١١٠) أحكام القرآن للجصَّاص (ج ٣/ ص ٩٥).
(١١١) تفسير الخازن (ج ١/ ص ٣٦١).
(١١٢) تفسير ابن كثير (ج ٢/ ص ٢٢٦).
(١١٣) الدُّرُّ المنثور (ج ٢/ ص ٤٨٣ وما بعدها).
(١١٤) تفسير الرازي (ج ١٠/ ص ٤١).
(١١٥) صحيح البخاري (ج ٧/ ص ١٣/ ح ٥١١٧)؛ صحيح مسلم (ج ٢/ ص ١٠٢٢/ ح ١٤٠٥)، واللفظ له.
وروى مسلم في (صحيحه) عن عطاء، قال: (قَدِمَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اَلله مُعْتَمِراً
فَجِئْنَاهُ فِي مَنْزِلِهِ، فَسَأَلَهُ اَلْقَوْمُ عَنْ أَشْيَاءَ ثُمَّ ذَكَرُوا
اَلمُتْعَةَ، فَقَالَ: نَعَمْ اِسْتَمْتَعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولُ اَلله (صلَّى
الله عليه وآله) وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَر)(١١٦).
ثمّ منعها عمر في عصره كما روى مسلم في (صحيحه) عن أبي نضرة، قال: (كُنْتُ عِنْدَ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَلله، فَأَتَاهُ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ اِبْنَ عَبَّاسٍ
وَاِبْنَ اَلزُّبَيْرِ اِخْتَلَفَا فِي اَلمُتْعَتَيْنِ، فَقَالَ جَابِرٌ:
فَعَلْنَاهُمَا مَعَ رَسُولِ اَلله ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْهُمَا فَلَمْ نَعُدْ
لَهُمَا)(١١٧).
فهذه كما ترى أحاديثهم الواردة في أصحّ صحاحهم المثبتة لما نقول، وهو أنَّ عمر
حرَّم شيئاً حلَّله رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وهذا لعمري تبديلٌ واضح لشرع
الله، وقد تركنا كثيراً من الأحاديث الأُخرى الدالَّة عليه؛ رعايةً للاختصار، وإنْ
رمت استيفاء حال المسألة فعليك برسالة الشيخ المفيد (رضي الله عنه) فيها، وعليك
أيضاً بما كتبه عنها السيِّد شرف الدِّين (قدِّس سرّه) في كتابه (الفصول المهمَّة)،
والعلَّامة الأميني (قدِّس سرّه) في (غديره)، وقد أفرد كلٌّ من العَلَمين
المعاصرَين: السيِّد جعفر مرتضى العاملي (قدِّس سرّه) والسيِّد عليٍّ الميلاني
(حفظه الله) كتاباً مفصَّلاً بعنوان زواج المتعة.
وأمَّا متعة الحجِّ أو حجُّ التمتُّع: فلا خلاف بين المسلمين منذ القِدَم وحتَّى
الآن على شرعيَّتها وبقاء حكمها، وقد دلَّ عليها قوله تعالى: ﴿فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾
(البقرة: ١٩٦).
وقال كلٌّ من مالك(١١٨) والشافعي في أحد قوليه(١١٩): هي أفضل أنواع الحجِّ.
-----------------
(١١٦) صحيح مسلم (ج ٦/ ص ١٠٢٣/ ح ١٤٠٥).
(١١٧) صحيح مسلم (ج ٢/ ص ٩١٤/ ح ١٢٤٩).
(١١٨) نيل الأوطار (ج ٥/ ص ٤١).
(١١٩) فتح العزيز (ج ٧/ ص ١٠٦).
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ شرعيَّتها مجمع عليها بلا مخالف، ولذلك لا تراهم يناقشون
فيها، بل يناقشون في أنَّ عمر حرَّمها أو لم يُحرِّمها، فيدَّعون أنَّه لم يفعل ذلك
ولم يُحرِّمها، فليس علينا عندئذٍ إلَّا أنْ نُثبِت تحريمه لها من صحاحهم، فنقول:
قد روي ذلك في أحاديث كثيرة جدًّا عندهم؛ منها ما في الصحيحين عن عمران بن حصين،
قال: (أُنْزِلَتْ آيَةُ اَلمُتْعَةِ فِي كِتَابِ اَلله، فَفَعَلْنَاهَا مَعَ
رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) وَلَمْ يَنْزِلْ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ وَلَمْ
يَنْهَ عَنْهَا حَتَّى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ)(١٢٠).
ثمّ علَّق البخاري بعد إيراده هذا الحديث كما في بعض النُّسَخ: (يُقال: إنَّه عمر).
ونقله عنه ابن كثير ثمّ عقَّب بقوله: (وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرَّحاً به
أنَّ عمر (رضي الله عنه) كان ينهى الناس عن التمتُّع، ويقول: إنْ نأخذ بكتاب الله
فإنَّ الله يأمر بالتمام. يعني قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ [البقرة: ١٩٦]. وفي نفس الأمر لم يكن عمر (رضي الله
عنه) ينهى عنها محرِّماً لها، إنَّما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجِّين
ومعتمرين)(١٢١).
ولا تجدهم يجرؤون على إنكار أنَّه كان ينهى عنها، ولكنَّهم يُأَوِّلون نهيه
ويدَّعون أنَّه لم يكن يقصد به التحريم كما قال ابن كثير في عبارته المتقدِّمة، ولك
أنْ تراجع غيره لتجد تسالمهم على أنَّه نهى عنها مع زعمهم أنَّ نهيه لم يكن
للتحريم.
فالأمر كما ترى؛ إذ ألزموا أنفسهم واعترفوا بأنَّه كان ينهى عن شيء حلَّله
-----------------
(١٢٠) صحيح البخاري (ج ٦/ ص ٢٧/ ح ٤٥١٨).
(١٢١) تفسير ابن كثير (ج ١/ ص ٣٩٩).
رسول
الله (صلَّى الله عليه وآله) وأجمع عليه الصحابة، غير أنَّهم لجأوا إلى تأويله
وصرفه عن ظاهره، وهذا التأويل لا نقبله؛ لأنَّه على خلاف الأصل والظاهر، فضلاً عن
أنَّ رجلاً سوَّلت له نفسه أنْ يقول: (حَسْبُنَا كِتَابُ اَلله) ويمنع النبيَّ
(صلَّى الله عليه وآله) من كتابة الوصيَّة زاعماً أنَّه - والعياذ بالله - يهجر،
ويُحرِّم زواج المتعة الذي نصَّ الكتاب على جوازه، ليس غريباً عليه بعد ذلك أنْ
يستمرَّ بهذه السيرة ويجري عليها فيُحرِّم شيئاً آخر ويُبدِّل شريعة الله تعالى
مرَّةً أُخرى ومرَّات.
وقد روى النسائي في (سُنَنه) عن عمر نفسه أنَّه قال: (وَاَلله إِنِّي لَأَنْهَاكُمْ
عَنِ اَلمُتْعَةِ، وَإِنَّهَا فِي كِتَابِ اَلله، وَلَقَدْ فَعَلَهَا رَسُولُ
اَلله، يَعْنِي مُتْعَةَ اَلْحَجِّ)(١٢٢).
فانظر له كيف يتشدَّق ويتبجَّح بتغيير شرع الله تعالى وتبديل سُنَّة النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله)!
واللطيف أنَّ ولده عبد الله قد أنكر ذلك عليه فيما رواه الترمذي في (سُنَنه) من
أنَّ رجلاً من أهل الشام سأل ابن عمر عن متعة الحجِّ، فقال: (هِيَ حَلَالٌ، فَقَالَ
اَلشَّامِيُّ: إِنَّ أَبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا. فَقَالَ اِبْنُ عُمَرَ:
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَبِي نَهَى عَنْهَا وَقَدْ صَنَعَهَا رَسُولُ اَلله،
أَأَمْرُ أَبِي يُتَّبَعُ أَمْ أَمْرُ رَسُولِ اَلله؟!)(١٢٣)، وروي بألفاظ أُخرى
متفاوتة.
سادساً: تعطيلُه لحدٍّ من حدود الله تعالى؛ وهو حدُّ الزنا على المغيرة بن شعبة في
القصَّة المعروفة، وحاصلها: أنَّ المغيرة - الذي كان عامله على الكوفة - زنى
بامرأة، ورآه أربعة من الصحابة، ولمَّا شهدوا عليه واستحقَّ بذلك الحدَّ، لقَّن عمر
الشاهد الرابع أنْ يمتنع عن الشهادة، ليبقى الثلاثة لوحدهم فيُجلَدوا بحدِّ القذف
ويُفضَحوا، ففعل الشاهد ذلك وحصل عمر على مبتغاه، فعطَّل حدَّ
-----------------
(١٢٢) سُنَن النسائي (ج ٥/ ص ١٥٥٣/ ح ٢٧٣٦).
(١٢٣) سُنَن الترمذي (ج ٢/ ص ١٧٥/ ح ٨٢٤).
الله تعالى وظلم
أُولئك الشهود الصادقين كرامةً للمغيرة بن شعبة، وهي قصَّة مشهورة رواها كلٌّ من
الطبري(١٢٤) وابن الأثير(١٢٥) وغيرهما(١٢٦).
سابعاً: ابتداعه لصلاة التراويح التي لم تكن على عهد النبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله)، واعترف بنفسه أنَّها بدعة وقال: (نِعْمَ اَلْبِدْعَةُ هَذِهِ) كما في
البخاري(١٢٧).
ثامناً: جهله بكتاب الله تعالى والأحكام الشرعيَّة، كما ورد في أحاديث كثيرة
مشتهرة، حتَّى كان يعترف بذلك بنفسه ويقول: (كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ)،
أخرجه أحمد(١٢٨).
وكانت النساء تخاصمه في كتاب الله فتغلبه(١٢٩).
وكان يلجأ لأمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب المسائل وحلِّ المشاكل حتَّى قال
قوله الشهير: (لَوْلَا عَلِيُّ لَهَلَكَ عُمَرُ)(١٣٠)، وقوله: (أَعُوذُ بِالله مِنْ
مُعْضِلَةٍ وَلَا أَبَا حَسَنٍ لَهَا)(١٣١).
وكان لا يعرف تفسير الأبِّ في قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا﴾ (عبس: ٣١)، كما أخرج الحاكم في (مستدركه)(١٣٢).
وعجباً من رجلٍ يمنع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) من كتابة الوصيَّة قائلاً:
(حَسْبُنَا كِتَابُ اَلله) وهو لا يفقه من كتاب الله شيئاً!
-----------------
(١٢٤) تاريخ الطبري (ج ٤/ ص ٢٠٧ وما بعدها).
(١٢٥) تاريخ ابن الأثير (ج ٢/ ص ٢٨٨ وما بعدها).
(١٢٦) كابن خلكان في تاريخه (ج ٢/ ص ٤٥٥ وما بعدها).
(١٢٧) صحيح البخاري (ج ٣/ ص ٤٥/ ح ٢٠١٠).
(١٢٨) كتاب الزهد (ص ٩٤/ ح ٥٩٣).
(١٢٩) اُنظر: تفسير ابن كثير (ج ٢/ ص ٢٤٣)، وتفسير القرطبي (ج ٥/ ص ٨٧).
(١٣٠) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج ١/ ص ١٨).
(١٣١) اُنظر: فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (ج ٢/ ص ٦٤٧/ ح ١١١٠).
(١٣٢) المستدرك على الصحيحين (ج ٢/ ص ٥٥٩/ ح ٣٨٩٧).
فهذه قطرة من بحر بالنسبة إلى أفعاله وسيرته التي فصَّلها صاحب (البحار) (رضي الله
عنه)(١٣٣) وغيره من العلماء والمؤلِّفين، ونحن نقتصر على هذا المقدار رعايةً
للاختصار، على أنَّ فيه كفايةً وغنى في إثبات مطلوبنا، وهو عدم استحقاقه للخلافة
البتَّة.
وإلَّا فإنَّ رجلاً يسبُّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) ويتَّهمه بالهجران،
ويعصي أمره بالالتحاق بجيش أُسامة فتشمله لعنته، ويهجم على دار ابنته ويُهدِّد
بإحراقه، ويُغيِّر أحكام الله تعالى ويُعطِّل حدوده، ويجهل الكتاب ويفتقر إلى غيره
في أداء مهامِّ الخلافة، هل تراه منطبقاً عليه قولُ النبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله): «يَعْمَلُ بِالْهُدَى وَدِينِ اَلْحَقِّ)؟!
ثالثاً: عثمان بن عفَّان:
وأمَّا عثمان بن عفَّان: فكلُّ ما سيأتي من الذمِّ العامِّ لبني أُميَّة يشمله، فهو
أوَّل مَنْ غصب الخلافة من بني أُميَّة، وقد عثى في الأرض فساداً حتَّى ضاق
المسلمون منه ذرعاً، وقاموا عليه وقتلوه في داره، كما قال أمير المؤمنين (عليه
السلام) في الشقشقية: «... إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ اَلْقَوْمِ نَافِجاً
حِضْنَيْهِ، بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَه بَنُو أَبِيهِ
يَخْضَمُونَ مَالَ اَلله خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ، إِلَى أَنِ
اِنْتَكَثَ عَلَيْه فَتْلُهُ، وَأَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ، وَكَبَتْ بِهِ
بِطْنَتُهُ»(١٣٤).
وأمَّا مثالبه الخاصَّة فهي لا تُحصى؛ فلنسطر لك طرفاً منها:
أوَّلاً: أنَّه استعمل منصبه لينصب الفاسقين والظالمين من قرابته بني أُميَّة ولاةً
ورؤساء، فأوطأهم رقاب الناس، وولَّاهم الولايات، وأقطعهم القطائع حتَّى أفنى بيت
المال في سبيلهم، كلُّ ذلك رعايةً لحرمة القرابة، وعدولاً عن
-----------------
(١٣٣) راجع: بحار الأنوار (ج ٣٠/ ص ٥٢٩ وما بعدها).
(١٣٤) نهج البلاغة بشرح محمّد عبده (ج ١/ ص ٣٥).
رعاية حرمة الدِّين،
وقد حذَّره عمر من ذلك قبل موته وقال له: (إِذَا وُلِّيتَ هَذَا اَلْأَمْرَ
فَاتَقِّ وَلَا تَحْمِلَ بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رِقَابِ اَلنَّاسِ)، كما ذكره
البلاذري في (الأنساب)(١٣٥)، وابن سعد في (الطبقات)(١٣٦).
ولا بأس في ذكر نماذج لذلك ذكرها ابن أبي الحديد في (شرح النهج)(١٣٧):
منها: أنَّه عندما فتحت إفريقيا في عهده أخذ كلَّ خُمُسها ووهبه لابن عمِّه مروان
بن الحَكَم.
ومنها: أنَّ عبد الله بن خالد بن أسيد الأُموي طلب منه صلة فأعطاه أربعمائة ألف
درهم.
ومنها: أنَّه أعطى مروان فدكاً المغصوبة من الزهراء (عليها السلام).
ومنها: أنَّه أعطى أخاه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح فيء إفريقيا كلَّه دون أنْ
يشاركه فيه أحد.
ومنها: أنَّه أعطى أبا سفيان مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان
بمائة ألف، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان وبكى،
فقال عثمان: أتبكي أنْ وصلتُ رحمي؟ قال: لا ولكن أبكي لأنِّي أظنُّكَ أنَّكَ أخذت
هذا المال عوضاً عمَّا كنتَ أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله)، والله لو أعطيتَ مروان مائة درهم لكان كثيراً، فقال: ألقِ المفاتيح يا
ابن أرقم فإنَّا سنجد غيرك!
ومنها: أنَّه أتاه أبو موسى الأشعري مرَّةً بأموال كثيرة من العراق، فقسَّمها
كلَّها في بني أُميَّة.
-----------------
(١٣٥) أنساب الأشراف (ج ٥/ ص ١٦).
(١٣٦) طبقات ابن سعد (ج ٣/ ص ٢٤٧).
(١٣٧) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج ١/ ص ١٩٨ وما بعدها).
ومنها: أنَّه أعطى الحارث بن الحَكَم - وهو أخو مروان - مائة ألف بعد أنْ زوَّجه
ابنته.
وغير ذلك كثير.
ثانياً: أنَّه نصب أخاه من أُمِّه الوليد بن عقبة بن أبي معيط والياً على الكوفة،
مع أنَّ الوليد هو الفاسق الذي نزل فيه قوله تعالى: ﴿إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ (الحجرات: ٦)، باتِّفاق
المفسِّرين(١٣٨).
وهو الفاسق الذي نزل فيه قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ
مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً﴾ (السجدة: ١٨) كما نصَّ الجمهور؛ قال ابن
الجوزي في تفسيره: (إِنَّ اَلْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ قَالَ
لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَا أَحَدُّ مِنْكَ سِنَاناً، وَأَبْسَطُ مِنْكَ
لِسَانًا، وَأَمْلَأُ لِلْكَتِيبَةِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: «اُسْكُتْ
فَإنَّما أَنْتَ فَاسِقٌ»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ، فَعَنَى بِالمُؤْمِنِ
عَلِيًّا، وبِالْفَاسِقِ اَلْوَلِيدَ، رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ اِبْنِ
عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَعَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
لَيْلَى، وَمُقَاتِلٌ)(١٣٩).
وكان الوليد شرَّاباً للخمر مشهوراً، حتَّى إنَّه أثناء ولايته على الكوفة صلَّى
بالناس وهو سكران كما هو معروف في التاريخ، قال ابن عبد البرِّ في (الاستيعاب):
(ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ شَيْبَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ اِبْنِ شَوْذَبٍ، قَالَ: صَلَّى
اَلْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بِأَهْلِ اَلْكُوفَةِ صَلَاةَ اَلصُّبْحِ أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ، ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَزِيدُكُمْ؟! فَقَالَ عَبْدُ
اَلله بْنُ مَسْعُودٍ: مَا زِلْنَا مَعَكَ فِي زِيَادَةٍ مُنْذُ اَلْيَوْم).
ثمّ قال: (وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ اَلْأَجْلَحِ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي حَدِيثِ اَلْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ حِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ،
فَقَالَ اَلْحُطَيْئَةُ:
-----------------
(١٣٨) كما لا يخفى على مَنْ نظر في التفاسير؛ وقال ابن عبد البرِّ في الاستيعاب (ج
٤/ ص ١٥٥٣): (لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن - فيما علمت - أنَّ قوله: ﴿إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ نزلت في الوليد بن عقبة...).
(١٣٩) زاد المسير (ج ٣/ ص ٤٤١).
شَهِدَ
اَلْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ * * * إِنَّ اَلْوَلِيدَ أَحَقُّ
بِالْعُذْرِ
نَادَى وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُمْ * * * أَأَزِيدُكُمْ؟ سُكْراً وَمَا يَدْرِي
فَأَبَوْا أَبَا وَهْبٍ وَلَوْ أَذِنُوا * * * لَقَرَنْتُ بَيْنَ اَلشَّفْعِ
وَاَلْوَتْرِ).
ثمّ قال: (وخبر
صلاته بهم سكران وقوله لهم: أزيدكم؟ بعد أنْ صلَّى الصبح أربعاً مشهورٌ من رواية
الثقات من نقل أهل الحديث وأهل الأخبار) (١٤٠).
وقد جلده أمير المؤمنين (عليه السلام) حدَّ الخمر رغماً عن أنف عثمان، قال المسعودي
في (مروج الذهب): (وأشاعوا بالكوفة فعله، وظهر فسقه ومداومته شرب الخمر، فهجم عليه
جماعة من المسجد منهم أبو زينب بن عوف الأزدي وجندب بن زهير الأزدي وغيرهما، فوجدوه
سكران مضطجعاً على سريره لا يعقل، فأيقظوه من رقدته، فلم يستيقظ، ثمّ تقايأ عليهم
ما شرب من الخمر، فانتزعوا خاتمه من يده وخرجوا من فورهم إلى المدينة، فأتوا عثمان
بن عفَّان، فشهدوا عنده على الوليد أنَّه شرب الخمر، فقال عثمان: وما يُدريكما
أنَّه شرب خمراً؟ فقالا: هي الخمر التي كنَّا نشربها في الجاهليَّة، وأخرجا خاتمه
فدفعاه إليه، فزجرهما ودفع في صدورهما، وقال: تنحَّيا عنِّي. فخرجا من عنده وأتيا
عليَّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأخبراه بالقصَّة، فأتى عثمانَ وهو يقول: «دفعت
الشهود، وأبطلت الحدود؟!»، فقال له عثمان: فما ترى؟ قال: «أرى أنْ تبعث إلى صاحبك
فتحضره، فإنْ أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدرأ عن نفسه بحجَّة أقمتَ عليه
الحدَّ»، فلمَّا حضر الوليد دعاهما عثمان، فأقاما الشهادة عليه ولم يُدْلِ بحجَّة،
فألقى عثمان السوط إلى عليٍّ، فقال عليٌّ لابنه الحسن: «قم يا بنيَّ فأقم عليه ما
أوجب الله عليه»، فقال: يكفينيه بعضُ مَنْ ترى، فلمَّا نظر إلى امتناع الجماعة عن
-----------------
(١٤٠) الاستيعاب (ج ٤/ ص ١٥٥٥٤ و١٥٥٥).
إقامة الحدِّ عليه توَقّياً لغضب عثمان لقرابته منه، أخذ عليٌّ السوطَ ودنا منه،
فلمَّا أقبل نحوه سبَّهُ الوليد، وقال: «يا صاحب مكث!»، فقال عقيل بن أبي طالب وكان
ممَّن حضر: إنَّك لتتكلَّم يا ابن أبي مُعَيْط كأنَّك لا تدري مَنْ أنت، وأنت علج
من أهل صفوريَّة - وهي قرية بين عكاء واللجون، من أعمال الأُردنِّ، من بلاد
طبريَّة، كانَ ذَكَرَ أنَّ أباه كان يهوديًّا منها - فأقبل الوليد يرُوغ من عليٍّ،
فاجتذبه عليٌّ فضرب به الأرض، وعلاه بالسوط، فقال عثمان: ليس لك أنْ تفعل به هذا،
قال: «بل وشرًّا من هذا إذا فسق ومنع حقَّ الله تعالى أنْ يُؤخَذَ منه!»)(١٤١).
ونحن ننقل هذا النصَّ شاهداً على أصل القصَّة دون أنْ نُسلِّم بكلِّ ما ورد فيه؛
لاسيَّما ما ذكره من أنَّ الأمير (عليه السلام) أمر ولده الحسن (عليه السلام) بجلد
الوليد فلم يفعل توقّياً من عثمان؛ لاعتقادنا باستحالة عصيانه (عليه السلام) أمراً
لأبيه وإمامه (عليه السلام)؛ كيف! وهو المعصوم بنصِّ آية التطهير، فضلاً عن أنَّ
عثمان أقلّ باعاً وأقصر ذراعاً من أنْ يتوقَّاه مثلُ الحسن (عليه السلام).
ثالثاً: أنَّه نصب ابن عمِّه سعيد بن العاص الظالم والياً على الكوفة بعد الوليد بن
عقبة، قال المسعودي عنه: (فَلَمَّا اِتَّصَلَتْ أَيَّامُ سَعِيدٍ بِالْكُوفَةِ
ظَهَرَتْ مِنْهُ أُمُورٌ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ، وَاِبْتَزَّ اَلْأَمْوَالَ، وَقَالَ
فِي بَعْضِ اَلْأَيَّامِ أَوْ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ: إِنَّمَا هَذِهِ
اَلسَّوَادُ قَطِينٌ لِقُرَيْشٍ. فَقَالَ لَهُ اَلْأَشْتَرُ: أَتَجْعَلُ مَا
أَفَاءَ اَللهُ عَلَيْنَا بِسُيُوفِنَا وَمَرَاكِزِ رِمَاحِنَا بُنْيَاناً لَكَ
وَلِقَوْمِكَ؟ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى عُثْمَانَ فِي سَبْعِينَ رَاكِباً فَذَكَرَ سُوءَ
سِيرَةِ سَعِيدٍ وَسَأَلُوهُ عَزْلَهُ...)(١٤٢).
رابعاً: أنَّه ردَّ عمَّه الحَكَم بن أبي العاص بن أُميَّة - وهو أبو مروان بن
الحَكَم - إلى المدينة بعد أنْ طرده منها رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وامتنع
كلٌّ من أبي بكر
-----------------
(١٤١) مروج الذهب (ج ٢/ ص ٣٣٥).
(١٤٢) مروج الذهب (ج ٢/ ص ٣٧٧).
وعمر من ردِّه، فخالف بذلك سيرة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)
وسيرة الشيخين، وذلك مشهور معروف ذكره أرباب السِّيَر والتاريخ كالمسعودي(١٤٣) واليعقوبي(١٤٤) وابن عبد ربِّه(١٤٥) وابن أبي الحديد(١٤٦) وغيرهم.
وقد روى المخالفون أخباراً كثيرة في لعن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) للحَكَم،
وبلغ من فسقه وسوء أدبه وقبيح معدنه أنَّه كان يستهزأ بالنبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله) - والعياذ بالله تعالى - ويُقلِّده لغرض الإضحاك، حتَّى قال له (صلَّى الله
عليه وآله) بعد أنْ رآه يفعل ذلك مرَّةً: «كَذَلِكَ فَلْتَكُنْ»، فبقي الحَكَم
مختلجاً يرتعش كالمجنون من يومئذٍ(١٤٧).
خامساً: أنَّه ضرب الصحابي المتَّفق على جلالته بين جميع المسلمين أبا ذرٍّ الغفاري
(رضوان الله عليه)، وأهانه وطرده من المدينة إلى الربذة، حتَّى مات هناك وحيداً،
وهي القصَّة المعروفة المشهورة التي لا يُنكِرها القوم.
وكان سبب ذلك أنَّ أبا ذرٍّ (رضوان الله عليه) اعترض وأنكر على عثمان استبداده
بأموال المسلمين وتقسيمها في عشيرته وقرابته، فوصل الحال إلى أنْ أمر بضربه وإخراجه
من المدينة وتسييره إلى الربذة، وقد استنكر ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) وجمع
من الصحابة، وهي قصَّة طويلة كثيرة التفاصيل مذكورة في كُتُب التأريخ(١٤٨).
وكان ممَّا قاله له أمير المؤمنين (عليه السلام) حين وداعه إيَّاه كما في (النهج):
«يَا
-----------------
(١٤٣) مروج الذهب (ج ٢/ ص ٣٣٤).
(١٤٤) تاريخ اليعقوبي (ج ٢/ ص ١٦٤).
(١٤٥) العقد الفريد (ج ٥/ ص ٣٥).
(١٤٦) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج ١/ ص ١٩٨).
(١٤٧) الاستيعاب (ج ١/ ص ٣٦٣).
(١٤٨) اُنظر: تاريخ الطبري (ج ٤/ ص ٢٨٣ وما بعدها)، وأنساب الأشراف (ج ٦/ ص ١٦٦ وما
بعدها)، وتاريخ اليعقوبي (ج ٢/ ص ١٧١ وما بعدها).
أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ غَضِبْتَ لله، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ، إِنَّ
اَلْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ، فَاتْرُكْ فِي
أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ، وَاُهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ
عَلَيْهِ، فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ، وَمَا أَغْنَاكَ عَمَّا
مَنَعُوكَ، وَسَتَعْلَمُ مَنِ اَلرَّابِحُ غَداً، وَاَلْأَكْثَرُ حُسَّداً»(١٤٩).
سادساً: أنَّه ضرب عمَّار بن ياسر (رضوان الله عليه)، وهو الصحابي الذي أجمع
المسلمون على علوِّ منزلته وجلالته، مع أنَّه كان شيخاً ضعيفاً كبير السنِّ، قال
السيِّد المرتضى (رضي الله عنه) في (الشافي): (ضَرْبُ عَمَّارٍ مِمَّا لَمْ
يَخْتَلِفْ فِيْهِ اَلرُّوَاةُ وَإِنَّمَا اِخْتَلَفُوْا فِيْ سَبَبِهِ، فَرَوَى
عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ اَلْكَلْبِيُ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ فِي إِسْنَادِهِ
أَنَّهُ كَانَ فِي بَيْتِ اَلمَالِ بِالمَدِينَةِ سَفَطٌ فِيهِ حُلِيٌّ وَجَوْهَرٌ،
فَأَخَذَ مِنْهُ عُثْمَانُ مَا حَلَّى بِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ، فَأَظْهَرَ اَلنَّاسُ
اَلطَّعْنَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَكَلَّمُوهُ فِيهِ بِكُلِّ كَلَامٍ شَدِيدٍ حَتَّى
غَضِبَ فَخَطَبَ، وَقَالَ: لَنَأْخُذَنَّ حَاجَتَنَا مِنْ هَذَا اَلْفَيْءِ
وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفُ أَقْوَامٍ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام): «إِذاً
تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُحَالُ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ». فَقَالَ عَمَّارٌ: أُشْهِدُ
اَللهَ أَنْ أَنْفِيَ أَوَّلُ رَاغِمٍ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ عُثْمَانُ: أَعَلَيَّ
يَا اِبْنَ يَاسِرٍ وَسُمَيَّةَ تَجْتَرِي؟ خُذُوهُ. فَأَخَذُوهُ، وَدَخَلَ
عُثْمَانُ فَدَعَا بِهِ وَضَرَبَهُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ)(١٥٠).
سابعاً: أنَّه أتمَّ الصلاة أربعاً بمنى مع كونه مسافراً، على خلاف سيرة النبيِّ
(صلَّى الله عليه وآله) وسيرة الشيخين، والأحاديث في ذلك لا تُنكر عندهم:
فمنها: ما رواه كلُّ من البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: (صَلَّى بِنَا
عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِعَبْدِ اَلله بْنِ
مَسْعُودٍ، فَقَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اَلله بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ
أَبِي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ
اَلطُّرُقُ، فَيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ
مُتَقَبَّلَتَانِ!)(١٥١).
-----------------
(١٤٩) نهج البلاغة بشرح محمّد عبده (ج ٢/ ص ١٧).
(١٥٠) الشافي (ج ٤/ ص ٢٨٩).
(١٥١) صحيح البخاري (ج ٢/ ص ٤٣/ ح ١٠٨٤)؛ صحيح مسلم (ج ١/ ص ٤٨٣/ ح ٦٩٥).
وما رواه البخاري ومسلم أيضاً - باختلاف يسير في اللفظ - عن عبد الله ابن عمر، قال:
(صَلَّى رَسُولُ اَلله بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَعُمَرُ
بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُثْمَانُ صَدْراً مِنْ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ
صَلَّى بَعْدُ أَرْبَعاً)(١٥٢).
فهذا تبديل واضح لحكم من أحكام الله تعالى باعتراف الصحابة وبرواية البخاري ومسلم.
وغير ذلك كثيرٌ ممَّا لم نذكره، وقد فصَّله العلَّامة (رحمه الله) في (البحار) خير
تفصيل(١٥٣)، وهذا المقدار الذي ذكرناه كافٍ في مطلوبنا، وهو أنَّ عثمان لا يمكن أنْ
يكون مشمولاً بحديث الاثني عشر الذين «كُلُّهُمْ يَعْمَلُ بِالْهُدَى وَدِينِ
اَلْحَقِّ» بحال من الأحوال، كما لا يخفى على مَنْ نظر في هذه الأفعال بعين
البصيرة.
وأمَّا معاوية بن أبي سفيان؛ فحاله أشهر وأوضح من أنْ نُطيل الكلام فيه، وما سيأتي
من الذمِّ العامِّ لبني أُميَّة يشمله، ويكفيه ذمًّا من مصادر المخالفين دعاء رسول
الله (عليهم السلام) عليه لمَّا دعاه فلم يجبه لأنَّه كان مشتغلاً بالأكل، فقال
(صلَّى الله عليه وآله): «لَا أَشْبَعَ اَللهُ بَطْنَهُ»، كما في (صحيح مسلم)(١٥٤).
ودعاء النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) عليه وعلى صاحبه عمرو بن العاص لمَّا سمعهما
يتغنَّيان، فقال: «اَللَّهُمَّ أَرْكِسْهُمَا فِي اَلْفِتْنَةِ رَكْساً وَدَعْهُمَا
إِلَى اَلنَّارِ دَعًّا»(١٥٥).
وقوله (صلَّى الله عليه وآله): «إِذَا رَأَيْتُمْ مُعَاوْيَةَ عَلَى مِنْبَرِي
فَاقْتُلُوهُ»(١٥٦).
ويكفيه أنَّه خرج على أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي بايعه المهاجرون والأنصار
-----------------
(١٥٢) صحيح البخاري (ج ٢/ ص ٤٢/ ح ١٠٨٢)؛ صحيح مسلم (ج ١/ ص ٤٨٢/ ح ٦٩٤)، واللفظ
له.
(١٥٣) بحار الأنوار (ج ٣٠/ ص ١٤٩ وما بعدها).
(١٥٤) صحيح مسلم (ج ٤/ ص ٢٠١٠/ ح ٢٦٠٤).
(١٥٥) مسند أحمد (ج ٤/ ص ٤٢١/ ح ١٩٢٨١)؛ المعجم الكبير (ج ١١/ ص ٣٨/ ح ١٠٩٧٠).
(١٥٦) تاريخ مدينة دمشق (ج ٥٩/ ص ١٥٥ وما بعدها)؛ تاريخ الطبري (ج ١٠/ ص ٥٨).
بيعة شرعيَّة بالاتِّفاق، وتسبَّب بقتل عشرات الآلاف من المسلمين، وترأس الفئة التي
روي متواتراً عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أنَّه وصفها بالباغية في قوله:
«وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ اَلْفِئَةُ اَلْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اَلله
وَيَدْعُونَهُ إِلَى اَلنَّارِ»، كما في الصحيحين(١٥٧)، وقد اتَّفق المخالفون على
ذلك لوروده فيهما، لكنَّهم يقولون: اجتهد فأخطأ!
وممَّا يزيدك بصيرةً في وضوح فسقه وطغيانه وضلاله أنَّ جمعاً من علماء المخالفين لم
يسعهم إلَّا أنْ يعترفوا بذلك، حتَّى قال عنه الحافظ المحدِّث عليُّ بن الجعد أحد
شيوخ البخاري: (مات والله معاوية على غير الإسلام)، كما نقله أحمد ابن حنبل(١٥٨).
وقصَّة مقتل الإمام النسائي صاحب (السُّنَن) في الشام مشهورة؛ وحاصلها أنَّه لمَّا
دخلها لاحَظَ نصبهم وبغضهم لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فأخذ يُعدِّد فضائله على
المنبر، فطلب منه الشاميُّون أنْ يذكر فضائل معاوية، فقال: (لا أعرف له فضيلةً غير
«لَا أَشْبَعَ اَللهُ بَطْنَهُ»)، فضربوه ضرباً مبرحاً حتَّى قتلوه.
وأمَّا ولده يزيد؛ فهو المجرم اللعين الذي قتل سيِّد الشهداء (عليه السلام)، وقتل
صحابة المدينة واستباحها في وقعة الحرَّة، ورمى الكعبة بالمنجنيق، وكلُّ واحدٍ من
هذه الثلاثة - التي اتَّفق جميع المسلمين على أنَّها وقعت في عصره المشؤوم - كافٍ
في إثبات كفره ونفاقه فضلاً عن عدم أهليَّته للخلافة، عليه لعائن الله تعالى وخلقه
وملائكته أجمعين.
وأمَّا باقي خلفاء بني أُميَّة فحالهم أشهر وأوضح من أنْ نذكره، ولك أنْ تراجع
كُتُب التأريخ لتنظر في مساوئهم، وسنكتفي بذكر الذمِّ العامِّ لبني أُميَّة الذي
يشملهم كما يشمل مَنْ تقدَّمهم.
-----------------
(١٥٧) صحيح البخاري (ج ٤/ ص ٢١/ ح ٢٨١٢)، واللفظ له؛ صحيح مسلم (ج ٤/ ص ٢٢٣٦/ ح
٢٩١٦).
(١٥٨) مسائل الإمام أحمد لابن هانئ (ص ٤١٩/ ح ١٨٦٦).
المثالب العامَّة لبني أُميَّة:
قد ورد في ذمِّ بني أُميَّة أحاديث كثيرة:
منها: ما أخرجه أبو يعلى الموصلي في (مسنده) عن أبي برزة، قال: (كَانَ أَبْغَضُ
اَلْأَحْيَاءِ إِلَى رَسُولِ اَلله بَنُو أُمَيَّةَ وَثَقِيفٍ وَبَنُو
حَنِيفَةَ)(١٥٩)، وأخرجه الحاكم في (مستدركه) بتغيير طفيف وقال: (هذا حديث صحيح على
شرط الشيخين [أي: البخاري ومسلم] ولم يُخرِّجاه)(١٦٠)، ومثله ما أخرجه الطبراني في
(معجمه الكبير) عن عمران بن الحصين، قال: (مَاتَ رَسُولُ اَلله وَهُوَ يُبْغِضُ
ثَلَاثَ قَبَائِلَ...)(١٦١).
ومنها: ما أخرجه الحاكم في (مستدركه) عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله)، قال: «إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي سَيَلْقَوْنَ مِنْ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي
قَتْلاً وَتَشْرِيداً، وَإِنَّ أَشَدَّ قَوْمِنَا لَنَا بُغْضاً بَنُو أُمَيَّةَ،
وَبَنُو اَلمُغَيْرَةِ، وَبَنُو مَخْزُومٍ»، قال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم
يُخرِّجاه)(١٦٢).
ومنها: ما في (تاريخ ابن أبي خيثمة) بسنده عن أبي هريرة: (أنَّ رسول الله رأى في
المنام أنَّ ولد الحَكَم يرتقون منبره وينزون عليه، فأصبح كالمغيظ، فقال: «مَا
بَالُ وُلْدِ اَلْحَكَمِ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِي نَزْوَ اَلْقِرَدَةِ؟»)(١٦٣)،
وأخرجه أيضاً سنداً ومتناً أبو يعلى الموصلي في (مسنده)، وعلَّق عليه المحقِّق حسين
أسد بقوله: (إسناده صحيح)(١٦٤).
والحَكَم: هو الحَكَم بن أبي العاص والد مروان بن الحَكَم الأُموي الذي صارت
الخلافة إليه ثمّ إلى ولده عبد المَلِك وباقي ذرّيَّته.
-----------------
(١٥٩) مسند أبي يعلى (ج ١٣/ ص ٤١٣/ ح ٧٤٢١).
(١٦٠) المستدرك على الصحيحين (ج ٤/ ص ٤٨٠/ ح ٨٥٢٩).
(١٦١) المعجم الكبير (ج ١٨/ ص ١٦٩/ ح ١٠٢٢).
(١٦٢) المستدرك على الصحيحين (ج ٤/ ص ٥٣٤/ ح ٨٥٠٠).
(١٦٣) تاريخ ابن أبي خيثمة (السفر الثالث) (ج ٢/ ص ٧٤/ ح ١٧٩١).
(١٦٤) مسند أبي يعلى (ج ١١/ ص ٣٤٨/ ح ٦٤٦١).
وقد اشتهر في التاريخ أنَّ بني أُميَّة كانوا يسبُّون عليًّا (عليه السلام) على
المنابر سبعين سنة، من زمن معاوية وحتَّى زمن عمر بن عبد العزيز، وقد اعترف به ابن
حجر في (فتح الباري) حيث قال: (ثمّ اشتدَّ الخطب فتنقَّصوه واتَّخذوا لعنه على
المنابر سُنَّة)(١٦٥)، وقال الزمخشري في (ربيع الأبرار) على ما حُكِيَ عنه: (كان في
أيَّام بني أُميَّة أكثر من سبعين ألف منبر يُلعَن عليها عليُّ بن أبي طالب بما
سنَّه لهم معاوية في ذلك)(١٦٦).
وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عند مخالفينا:
ففي (صحيح مسلم) بسنده إلى عامر بن سعد بن أبي وقَّاص، قال: (أَمَرَ مُعَاوْيَةُ
سَعْداً، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا اَلتُّرَابِ؟)، ثُمَّ أَنْكَرَ
عَلَيْهِ سَعْدٌ ذَلِكَ وَذَكَرَ بَعْضاً مِنْ فَضَائِلِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ
(عليه السلام))(١٦٧).
وفي (سُنَن الترمذي) مثله(١٦٨).
وفي (سُنَن ابن ماجة) بسنده إلى عبد الرحمن بن سابط، قال: (قَدِمَ مُعَاوِيَةُ فِي
بَعْضِ حَجَّاتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَذَكَرُوا عَلِيًّا، فَنَالَ
مِنْهُ، فَغَضِبَ سَعْدٌ، وَقَالَ: تَقُولُ هَذَا لِرَجُلٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اَلله
يَقُولُ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ»...؟!)(١٦٩).
وقد اعترف بذلك شيخ إسلامهم ابن تيميَّة، فقال: (وأمَّا حديث سعد لمَّا أمره معاوية
بالسبِّ فأبى...، فهذا حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه)(١٧٠).
-----------------
(١٦٥) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (ج ٧/ ص ٧١).
(١٦٦) عنه في موسوعة الغدير للعلَّامة الأميني (ج ٢/ ص ١٠٢).
(١٦٧) صحيح مسلم (ج ٤/ ص ١٨٧١/ ح ٢٤٠٤).
(١٦٨) سُنَن الترمذي (ج ٦/ ص ٨٦/ ح ٣٧٢٤).
(١٦٩) سُنَن ابن ماجة (ج ١/ ص ٤٥/ ح ١٢١).
(١٧٠) منهاج السُّنَّة النبويَّة (ج ٥/ ص ٤٢).
وغير ذلك من الأحاديث والشواهد التي لا يُنكِرها منصف.
فثبت بما تقدَّم: أنَّ خلفاء بني أُميَّة كانوا يسبُّون أمير المؤمنين (عليه
السلام) بدءاً من معاوية ومروراً بولده يزيد وعبد المَلِك والوليد وسليمان حتَّى
استلم عمر بن عبد العزيز الخلافة فمَنَعَ ذلك وأوقف السبَّ، وما ذلك إلَّا لبغضهم
وكرههم له (عليه السلام).
وقد ثبت عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بلا مخالف: أنَّه قال لأمير المؤمنين
(عليه السلام): «لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا
مُنَافِقٌ»، رواه مسلم في (صحيحه)(١٧١) وغيره(١٧٢).
وثبت عنه أيضاً بطُرُق وأسانيد متعدِّدة أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) قال: «مَنْ
سَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ سَبَّنِي، وَمَنْ سَبَّنِي فَقَدْ سَبَّ اَللهَ»، أخرجه كلٌّ
من الحاكم في (مستدركه)(١٧٣)، والنسائي في (خصائصه)(١٧٤)، وأحمد في (مسنده)(١٧٥).
فيثبت حينئذٍ على لسان النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) أنَّ بني أُميَّة منافقون،
وأنَّهم سابُّون لله تعالى، وسابُّ الله تعالى كافر.
ونحن إذ نكتفي بذكر هذا المقدار من القبائح الواضحة المرويَّة بالأحاديث الصحيحة
عند مخالفينا، نقول: هل يقبل ذو العقل السليم أنْ يكون بنو أُميَّة أبغض الناس إلى
رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وأنْ يكونوا قردةً في نظره، ومنافقين وسابِّين
لله تعالى، ثمّ في نفس الوقت يقصدهم ويعنيهم (صلَّى الله عليه وآله) بقوله: (يكون
بعدي اثنا عشر خليفة، كلُّهم يعمل بالهدى ودين الحقِّ، وبهم قوام الدِّين
وعزَّته)؟! وهل هذا إلَّا التناقض القبيح الذي يستحيل وقوعه منه (صلَّى الله عليه
وآله)؟!
-----------------
(١٧١) صحيح مسلم (ج ١/ ص ٨٦/ ح ٧٨)، بلفظ مختلف يسيراً، والمعنى واحد.
(١٧٢) كالترمذي في سُنَنه (ج ٦/ ص ٨٢/ ح ٣٧١٧)، والنسائي في سُنَنه (ج ٨/ ص ١١٧/
ح ٥٠٢٢)، وابن ماجة في سُنَنه (ج ١/ ص ٤٢/ ح ١١٤).
(١٧٣) المستدرك على الصحيحين (ج ٣/ ص ١٣٤٠/ ح ٤٦١٦).
(١٧٤) خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) (ص ١١١/ ح ٩١).
(١٧٥) مسند أحمد (ج ٤٤/ ص ٣٢٩/ ح ٢٦٧٤٧).
نتيجة ما تقدَّم:
وبعد هذا البيان الطويل والتفصيل المملِّ - رغم أنَّنا راعينا فيه الاختصار ولم
نستوفِ كلَّ ما يتعلَّق به - لا أحسب منصفاً يتردَّد طرفة عين في أنَّ هؤلاء الاثني
عشر الذين ذكرهم ابن حجر - بدءاً من أبي بكر ووصولاً إلى الوليد بن يزيد - لا يمكن
أنْ يكونوا مقصودَ النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بالاثني عشر خليفة الذين كلُّهم
يعمل بالهدى ودين الحقِّ، وبهم يكون قوام الدِّين وعزَّته.
ناهيك عن أنَّ هذا الحديث ليس مجرَّد إخبار محض عن المستقبل من قِبَل النبيِّ
(صلَّى الله عليه وآله) حتَّى يمكن أنْ يكون هؤلاء هم المقصودين به رغم فسقهم
وظلمهم، بل هو في الحقيقة إعلان وأمر باتِّباعهم والالتفاف حولهم والتمسُّك بهم؛
لاسيَّما مع النظر إلى كثرة مرَّات صدور هذا الحديث عن النبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله) المشعر بأهمّيَّته وخطره، ولاسيَّما مع تقييد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)
لهم بأنَّ عزَّة الدِّين ودوامه بهم، وأنَّهم «كُلُّهُمْ يَعْمَلُ بِالْهُدَى
وَدِينِ اَلْحَقِّ»، كما تقدَّم مراراً.
وبعد ملاحظة هذا وملاحظة القرائن الأُخرى العديدة من قبيل أنَّ الاثني عشر الذين
ندَّعيهم (عليهم السلام) قد أجمعت الأُمَّة على طهارتهم وتقواهم وصلاحهم وشرفهم
وعفَّتهم ونزاهتهم، وملاحظة حديث الثقلين الآمر بالتمسُّك بهم، وآية التطهير
الدالَّة على عصمتهم، وحديث سفينة نوح المؤكِّد على أنَّ النجاة تكون بهم، لا يبقى
أدنى شكٍّ في أنَّهم (عليهم السلام) هم المقصودون بحديث الاثني عشر.
القرينة السادسة: أنَّ الوارد في ألفاظ الحديث مِنْ أنَّ هؤلاء الاثني عشر بهم يكون
بقاء الدِّين وعزَّته، وإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها ووقعت الأهوال ينسجم جدًّا مع
ما ورد عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) في أهل البيت (عليهم السلام) الذين
ندَّعي كونَهم المقصودين بالحديث؛ وهو ما تقدَّم نقله عن جمع من المصادر عن
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله): «اَلنُّجُومُ أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ؛
فَإِذَا ذَهَبَتِ اَلنُّجُومُ ذَهَبَ أَهْلُ اَلسَّمَاءِ، وَأَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ
لِأَهْلِ اَلْأَرْضِ، وَإِذَا ذَهَبَ أَهْلُ بَيْتِي ذَهَبَ أَهْلُ
اَلْأَرْضِ»(١٧٦).
وكذلك ما نقلناه عن (المستدرك على الصحيحين) عنه (صلَّى الله عليه وآله):
«اَلنُّجُومُ أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ، فَإِنْ طَمَسَتِ اَلنُّجُومُ أَتَى
أَهْلَ اَلسَّمَاءِ مَا يُوعَدُونَ، وَأَهْلُ بَيْتِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا
ذَهَبَ أَهْلُ بَيْتِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»(١٧٧).
قال المتعصِّب ابن حجر في (صواعقه): (وفي أحاديث الحثِّ على التمسُّك بأهل البيت
إشارة إلى عدم انقطاع متأهِّل منهم للتمسُّك به إلى يوم القيامة كما أنَّ الكتاب
العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما يأتي ويشهد لذلك الخبر السابق:
«فِي كُلِّ خَلَفٍ مِنْ أُمَّتِي عُدُولٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي»...)(١٧٨).
فهذه قرينة واضحة جدًّا على أنَّ المراد بأُولئك الاثني عشر ليسوا إلَّا أهل البيت
(عليهم السلام)، وأنَّهم لا يخلو أيُّ عصر من إمام منهم.
القرينة السابعة: أنَّ المستفاد من الحديث كما هو واضح أنَّ هؤلاء الاثني عشر
معيَّنون بالنصِّ بدلالة تشبيههم في بعض ألفاظه بنقباء بني إسرائيل الذين قال عنهم
تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾ (المائدة: ١٢).
وليس في الأُمَّة أحدٌ جاء التعيين - أو ما يمكن أنْ يكون تعييناً - له بلسان
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) غير أئمَّتنا (عليهم السلام)، ولذلك تجد أنَّ جمهور
المخالفين قائلون بأنَّ الإمامة
-----------------
(١٧٦) مسند أحمد (ج ٢/ ص ٦٧١)؛ ذخائر العقبى (ص ١٧)؛ المعجم الكبير للطبراني (ج ٧/
ص ٢٢)؛ كنز العُمَّال (ج ١٢/ ح ٩٦)؛ ينابيع المودَّة (ج ٢/ ص ١٠٤).
(١٧٧) المستدرك على الصحيحين (ج ٣/ ص ٤٥٧).
(١٧٨) الصواعق المحرقة (ج ٢/ ص ٤٤٢).
والخلافة ليست بالنصِّ، ويعترفون بأنَّ أبا بكر لم ينصَّ عليه النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله)، بل اجتمع عليه الصحابة فصارت خلافته
شرعيَّة.
وأمَّا أئمَّتنا (عليهم السلام) فقد جاء التعيين الصريح لهم بالعشرات، بل المئات من
الروايات من طُرُقنا، وهي متواترة تواتراً يلزمنا ويلزم مخالفينا على حدٍّ سواء،
على أنَّ كثيراً منها مرويَّة بطُرُقهم وكُتُبهم، كما سيأتي تفصيله مستقلّاً كدليل
برأسه على إمامته وغيبته (عجَّل الله فرجه)، فارتقب.
إثبات أنَّ المهدي (عجَّل الله
فرجه) هو آخر هؤلاء الاثني عشر:
وبعد ذلك يبقى علينا أنْ نُثبِت كونَ صاحبنا (عجَّل الله فرجه) خاتم هؤلاء الاثني
عشر وأنَّه حيٌّ موجود غائب، فنقول: إنَّه بعدما أجمعت الأُمَّة على موت أمير
المؤمنين (عليه السلام) ومَنْ بعده من الأئمَّة (عليهم السلام) وصولاً إلى الإمام
الحادي عشر منهم وهو العسكري (عليه السلام)، فلا بدَّ أنْ يكون ولدُه وهو الإمام
الثاني عشر حيًّا موجوداً منذ وفاة أبيه وحتَّى الآن؛ لتصريح هذا الحديث المتواتر
بأنَّ هؤلاء الاثني عشر مستمرُّون واحداً تلو الآخر إلى يوم القيامة، وبعد انقضائهم
جميعاً يحصل الهرج والمرج وتبدأ أهوال القيامة، وتصريح حديث الثقلين بعدم تفرُّقهما
حتَّى يردا على رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) الحوض، وحيث لم يحصل ذلك بعدُ،
نعرف أنَّ الإمام الثاني عشر حيٌّ موجودٌ ولكنَّه غائب عن الأبصار منذ سنة (٢٦٠)
للهجرة وهي السنة التي تُوفِّي فيها العسكري (عليه السلام).
ناهيك عن أنَّه بعدما ثبتت إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وعصمته، فيكفي في
إثبات إمامة مَنْ بعده هو تعيين الأمير (عليه السلام) له، وبعد ثبوت الثاني يكفي في
ثبوت الثالث تعيينه كذلك، وهكذا.
وقد ثبت عن كلِّ واحدٍ من هؤلاء الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام) تعيينه للحجَّة بن
الحسن المنتظَر (عجَّل الله فرجه) إماماً ثاني عشر له غيبة طويلة بما فاق حدَّ
التواتر كما سيأتي، وهذا كافٍ في إثبات إمامته ووجوده الشريف وغيبته.
على أنَّنا نقول: قد جاء التصريح في روايات مخالفينا على أنَّ المهدي (عجَّل الله
فرجه) خليفة شرعي، وإذا ثبت بمقتضى الحديث الذي نتكلَّم فيه أنَّ عدد الخلفاء
الشرعيِّين منحصر باثني عشر، وأنَّهم مستمرُّون إلى يوم القيامة، وثبت أنَّ الحادي
عشر من أُولئك الخلفاء - وهو العسكري (عليه السلام) - قد استُشهِدَ، يثبتُ أنَّ
المهدي الذي هو الخليفة الثاني عشر حيٌّ منذ ذلك الحين وحتَّى الآن، إذ لو كان
ميِّتاً أو غير مولود لحصلت الأهوال واضطربت الأرض وقامت الساعة كما ينصُّ الحديث،
وكلُّ ذلك لم يحصل بعد بالوجدان.
وأمَّا التصريح؛ فقد روى الحاكم في (مستدركه) والكنجي في (بيانه) وغيرهما قول رسول
الله (صلَّى الله عليه وآله) في حديث: «... ثُمَّ يَجِيءُ خَلِيفَةُ اَلله
اَلمَهْدِيُّ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فَأْتُوهُ فَبَايِعُوهُ فَإِنَّهُ خَلِيفَةُ
اَلله اَلمَهْدِيُّ»، قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين [أي: البخاري
ومسلم] ولم يُخرِّجاه)(١٧٩).
وروى مسلم في صحيحه عنه (صلَّى الله عليه وآله): «يَكُونُ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ
خَلِيفَةٌ يَقْسِمُ اَلمَالَ وَلَا يَعُدُّهُ»(١٨٠).
وفي (عقد الدُّرَر) عنه (صلَّى الله عليه وآله): «يَخْرُجُ اَلمَهْدِيُّ وَعَلَى
رَأْسِهِ غَمَامَةٌ، فِيهَا مَلَكٌ يُنَادِي: هَذَا هُوَ اَلمَهْدِيُّ خَلِيفَةُ
اَلله فَاتَّبِعُوهُ»(١٨١).
وقد اعترف بذلك جمع من علمائهم، كأبي داود صاحب (السُّنَن) الذي جعل حديث الاثني
عشر في أوَّل كتاب المهدي(١٨٢)، ممَّا يدلُّ على أنَّه يراه منهم.
-----------------
(١٧٩) المستدرك على الصحيحين (ج ٤/ ص ٥٤٧/ ح ٨٥٣١).
(١٨٠) صحيح مسلم (ج ٤/ ص ٢٢٣٥/ ح ٢٩١٤).
(١٨١) عقد الدُّرَر (ص ٢٠٥).
(١٨٢) اُنظر: سُنَن أبي داود (ج ٤/ ص ١٠٦/ ح ٤٢٧٩).
ومثله ابن كثير الذي صرَّح بذلك في (تفسيره) إذ قال: (والظاهر أنَّ منهم المهدي
المبشَّر به في الأحاديث)(١٨٣).
واعترف به أيضاً المجمع الفقهي التابع للأمانة العامَّة لرابطة العالم الإسلامي في
جوابه لاستفتاء عن الإمام الموعود، إذ جاء فيه: (هو آخر الخلفاء الراشدين الاثني
عشر الذين أخبر عنهم النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) في الصحاح)(١٨٤).
فهذا تمام الكلام عن الدليل الأوَّل وهو حديث الاثنا عشر، وقد بيَّنَّاه بما لا
مزيد عليه، وما لو وقف عليه المنصف بعين البصيرة لما تردَّد طرفة عين في مرادنا
ومطلوبنا.
الدليل الثاني: حديث الثقلين:
ولم يشر إليه السيِّد الجدُّ الناظم (طاب ثراه)، ولكنَّه في غاية الأهمّيَّة فلا
نعدو ذكره.
والكلام فيه - كسابقه - يقع في جهتين: جهة الصدور، وجهة الدلالة.
أمَّا جهة الصدور:
فالحديث من المتواترات الواضحات التي لا يُشكِّك فيها إلَّا متعصِّب عنيد؛ فقد روي
في طُرُق المخالفين بتسعة وثلاثين طريقاً، ومن طُرُقنا باثنين وثمانين طريقاً، كما
ذكر السيِّد البحراني (قدِّس سرّه) في (غاية المرام)(١٨٥).
ولو لم يروه إلَّا مسلم في (صحيحه)(١٨٦)، والترمذي في (سُنَنه)(١٨٧)، والنسائي
-----------------
(١٨٣) تفسير ابن كثير (ج ٣/ ص ٥٩).
(١٨٤) أحاديث المهدي من مسند أحمد (ص ١٦٢ - ١٦٦).
(١٨٥) غاية المرام (ج ٢/ ص ٣٠٤ وما بعدها).
(١٨٦) يأتي تخريجه عند ذكر لفظه عن قريب.
(١٨٧) سُنَن الترمذي (ج ٥/ ص ٣٢٨/ ح ٣٧٨٦).
في
(سُنَنه)(١٨٨)، لكفى وأغنى، فكيف إذا رواه - مضافاً إلى هؤلاء - أحمد بن حنبل في
(مسنده)(١٨٩)، والحاكم في (مستدركه)(١٩٠)، وابن أبي عاصم في (سُنَّته)(١٩١)، وأبو
يعلى في (مسنده)(١٩٢)، والطبراني في (معجمه)(١٩٣)، بألفاظ وطُرُق عديدة، وغيرهم من
أعلام المحدِّثين السُّنَّة؟!
فالحديث - كما ترى - متواترٌ لا مجال لإنكاره.
ولك أنْ تراجع كتاب (حديث الثقلين) للعلَّامة الشيخ نجم الدِّين العسكري (رحمه
الله)، وكتاب (في رحاب حديث الثقلين) للعلَّامة الأحمدي الميانجي (رحمه الله)، لترى
الكمَّ الهائل العجيب من رواة الحديث وطُرُقه وألفاظه ممَّا لا تراه في غيره من
الأحاديث إلَّا النادر جدًّا.
والعجب من البخاري إذ أعرض عن روايته دون كلِّ هؤلاء المحدِّثين تعصُّباً وعناداً،
ولكن لا عجب!
ولنكتفِ بذكر لفظ (صحيح مسلم) عن زيد بن أرقم من خطبة رسول الله (صلَّى الله عليه
وآله) بخُمٍّ: «أَيُّهَا اَلنَّاسُ! إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ
يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ،
أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اَلله فِيهِ اَلْهُدَى وَاَلنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اَلله
وَاِسْتَمْسِكُوا بِهِ»، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اَلله وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ
قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اَللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي»، قَالَ
يَزُيدُ بْنُ حَيَّانَ: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ، نِسَاؤُهُ؟ قَالَ: أَيْمُ اَلله،
إِنَّ اَلمَرْأَةَ تَكُونُ مَعَ اَلرَّجُلِ اَلْعَصْرَ مِنَ اَلدَّهْرِ ثُمَّ
يُطَلِّقُهَا
-----------------
(١٨٨) سُنَن النسائي (ج ٧/ ص ٣٢٠/ ح ٨١١٩).
(١٨٩) يأتي تخريجه عند ذكر لفظه عن قريب.
(١٩٠) المستدرك على الصحيحين (ج ٣/ ص ١١٠/ ح ٤٦٣٣).
(١٩١) كتاب السُّنَّة (ج ٢/ ص ٣٥٠ و٣٥١/ ح ٧٥٤).
(١٩٢) مسند أبي يعلى (ج ٢/ ص ٢٩٧/ ح ١٠٢١).
(١٩٣) المعجم الكبير (ج ٣/ ص ٦٦/ ح ٢٦٨٠).
فَتَرْجِعُ إِلَى أَبِيهَا وَقَوْمِهَا، أَهْلُ بَيْتِهِ أَصْلُهُ
وَعَصَبَتُهُ اَلَّذِينَ حُرِّمُوا اَلصَّدَقَةَ بَعْدَهُ(١٩٤).
ولفظ أحمد في (مسنده) عنه (صلَّى الله عليه وآله): «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمُ
مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي اَلثَّقَلَيْنِ، وَأَحَدُهُمَا
أَكْبَرُ مِنَ اَلْآخَرِ: كِتَابُ اَلله (عزَّ وجلَّ) حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ
السَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، أَلَا إِنَّهُمَا لَنْ
يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ»(١٩٥).
والغريب أنَّك تجد السائد بين المخالفين هو حديث «كِتَابُّ اَلله وَسُنَّتِي»، مع
ظنِّهم بأنَّ حديث «كِتَابِ اَلله وَعِتْرَتِي» ضعيف أو موضوع؛ في حين أنَّ
المتواتر هو الثاني دون الأوَّل، والأوَّل لا يعدو عن كونه من أخبار الآحاد، وما
ذلك إلَّا لتغرير مشايخهم بهم واستجهالهم إيَّاهم.
قال ابن حجر في (صواعقه المحرقة): (ثمّ اعلم أنَّ لحديث التمسُّك بذلك طُرُقاً
كثيرة وردت عن نيِّف وعشرين صحابيًّا، ومرَّ له طُرُق مبسوطة في حادي عشر الشُّبَه،
وفي بعض الطُّرُق أنَّه قال ذلك بحجَّة الوداع بعرفة، وفي أُخرى أنَّه قاله
بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أُخرى أنَّه قال ذلك بغدير خُمٍّ،
وفي أُخرى أنَّه قاله لمَّا قام خطيباً بعد منصرفه من الطائف، كما مرَّ. ولا تنافي؛
إذ لا مانع من أنَّه كرَّر ذلك عليهم في تلك المواطن وغيرها، اهتماماً بشأن الكتاب
العزيز والعترة الطاهرة)(١٩٦).
أقول: مقتضى ما ذكره أخيراً أنْ يكون الشاهدون على الحديث آلافاً مؤلَّفة، وأنْ
يكون رواته بالمئات، لا بالعشرات فحسب، فلاحظ.
-----------------
(١٩٤) صحيح مسلم (ج ٤/ ص ١٨٧٣/ ح ٢٤٠٨).
(١٩٥) مسند أحمد (ج ٣/ ص ١٤/ ح ١٠٧٢٠).
(١٩٦) الصواعق المحرقة (ج ٢/ ص ٤٤٠).
وأمَّا جهة الدلالة:
فتتوقَّف على بيان أمرين:
الأوَّل: بيان المراد من قوله (صلَّى الله عليه وآله): «أَهْلُ بَيْتِي».
الثاني: بيان دلالة الأمر بالتمسُّك بهم على عصمتهم وإمامتهم (عليهم السلام).
الأمر الأوَّل: مَنْ هم أهل البيت
(عليهم السلام)؟
لا شكَّ في أنَّ المراد من أهل البيت في الحديث هم أئمَّتنا (عليهم السلام) بدءاً
من الأمير (عليه السلام) ومروراً بأولاده الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، ولنا
على ذلك دلائل تُلزم المخالف ولا تُبقي شكًّا عند المنصف:
- أنَّ المعنى اللغوي لألفاظ الحديث يُثبِت ما ندَّعيه؛ وذلك أنَّ كثيراً من ألفاظ
الحديث الواردة تشتمل على كلمة (العترة) مضافاً إلى أهل البيت، وهذا يعني أنَّ
مراده (صلَّى الله عليه وآله) من أهل بيته عترته، ومن الواضح أنَّ معنى العترة لغةً
هو ولد الرجل وذرّيَّته، قال في (لسان العرب): (وعِتْرةُ الرجل: أَقْرِباؤه من ولدٍ
وغيره، وقيل: هم قومُه دِنْياً، وقيل: هم رهطه وعشيرته الأَدْنَون مَنْ مَضى منهم
ومَن غَبَر؛ ومنه قول أَبي بكر (رضي الله عنه): نحن عِتْرةُ رسولُ الله (صلَّى الله
عليه [وآله] وسلم) التي خرج منها وبَيْضَتُه التي تَفَقَأَتْ عنه، وإِنَّما جِيبَت
العرَبُ عنَّا كما جِيَبت الرحى عن قُطْبها. قال ابن الأَثير: لأَنَّهم من قريش.
والعامَّة تَظُنُّ أَنَّها ولدُ الرجل خاصَّة وأَنَّ عترة رسولُ الله (صلَّى الله
عليه [وآله] وسلم): ولدُ فاطمة (رضي الله عنها)؛ هذا قول ابن سيِّده. وقال الأَزهري
(رحمه الله): وفي حديث زيد بن ثابت قال: قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه [وآله]
وسلم): «إِنِّي تَارِكٌ فِيْكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ خَلْفِي: كِتَابَ اَلله
وَعِتْرَتِي فَإِِنَّهُمَا لَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ».
وقال: قال محمّد بن إِسحاق: وهذا حديث صحيح. ورفعَه نحوَه زيدُ بن أَرقم وأَبو سعيد
الخدري، وفي بعضها: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اَلله
وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي»، فجعل العترة أَهْلَ البيت. وقال أَبو عبيد وغيره:
عِتْرةُ الرجل وأُسْرَتُه وفَصِيلتُه رهطه الأَدْنَون.
وقال ابن الأَثير: عِتْرةُ
الرجل أَخَصُّ أَقارِبه. وقال ابن الأَعرابي: العِتْرة ولدُ الرجل وذرّيَّته
وعِقُبُه من صُلْبه، قال: فعِتْرةُ النبيِّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم) ولدُ
فاطمة البَتُول (عليها السلام). وروي عن أَبي سعيد قال: العِتْرةُ ساقُ الشجرة،
قال: وعِتْرةُ النبيِّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم) عبدُ المطَّلب ولده، وقيل:
عِتْرتُه أَهل بيته الأَقربون وهم أَولاده وعليٌّ وأَولاده. وقيل: عِتْرتُه
الأَقربون والأَبعدون منهم. وقيل: عِتْرةُ الرجل أَقرباؤُه من ولد عمِّه دِنْياً.
ومنه حديث أَبي بكر (رضي الله عنه) قال للنبيِّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم) حين
شاوَرَ أَصحابَه في أسَارَى بدر: عتْرتُك وقَوْمُك؛ أَراد بِعِتْرتِه العبَّاسَ
ومَنْ كان فيهم من بني هاشم، وبقومه قُرَيشاً. والمشهور المعروف أَنَّ عتْرتَه
أَهلُ بيته، وهم الذين حُرِّمَت عليهم الزكاة والصدقة المفروضة، وهم ذوو القربى
الذين لهم خُمُسُ الخُمُسِ المذكور في سورة الأَنفال)(١٩٧).
فإنَّ هذه الأقوال الكثيرة تتضمَّن قدراً متيقَّناً متَّفقاً عليه بين الجميع، وهو
ذرّيَّته الطاهرة المنحصرة بنسل فاطمة (عليها السلام)، فما زاد على ذلك مفتقرٌ إلى
الدليل، بل الأدلَّة قائمة على خلافه كما ستسمع.
على أنَّ الفيُّومي نقل عن الأزهري قوله: (وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنَّ العترة
ولد الرجل وذرّيَّته وعقبه من صلبه، ولا تعرف العرب من العترة غير ذلك)(١٩٨).
- أنَّه قد ورد التعيين الصريح من النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) لأهل بيته، وهو
ما تقدَّم نقله من أنَّه عندما نزلت آية التطهير جمع (صلَّى الله عليه وآله) عليًّا
وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وألقى عليهم كساءً وقال: «اَللَّهُمَّ
هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَخَاصَّتِي، أَذْهِبْ عَنْهُمُ اَلرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ
تَطْهِيراً»(١٩٩).
-----------------
(١٩٧) لسان العرب (ج ٤/ ص ٥٣٨).
(١٩٨) المصباح المنير (ج ٢/ ص ٣٩١).
(١٩٩) سُنَن الترمذي (ج ٦/ ص ١٧٤/ ح ٣٨٧١)؛ مسند أحمد (ج ٤٤/ ص ١١٩/ ح ٢٦٥٠٨).
وروى أحمد في (مسنده) عن أنس أنَّه (صلَّى الله عليه وآله): (كَانَ يَمُرُّ
بِبَيْتِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْفَجْرِ، فَيَقُولُ:
«اَلصَّلَاةَ يَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾
[الأحزاب: ٣٣]»)(٢٠٠).
- أنَّ الأمر بالتمسُّك بهم يقتضي عصمتهم كما سيأتي؛ إذ لا يمكن للنبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله) الناطق عن الوحي أنْ يأمر بالتمسُّك والاتِّباع المطلق لغير
المعصوم؛ لأنَّه لو أخطأ وعصى واتَّبعه الناس في ذلك لكان النبيُّ (صلَّى الله عليه
وآله) حينئذٍ آمراً بالمعصية - والعياذ بالله -، وهذا في الغاية من الوضوح.
وحيث ثبت كما تقدَّم أنَّه ليس في الأُمَّة معصوم غير أئمَّتنا (عليهم السلام)، فلا
يمكن أنْ يكون المراد من هؤلاء الذين أمرنا النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله)
بالتمسُّك بهم مطلقاً غيرهم.
الأمر الثاني: دلالته على
المطلوب:
لا يخفى أنَّ دلالة هذا الحديث على إمامتهم (عليهم السلام) في الوضوح كالشمس، ولا
أدري كيف لمن أُوتي أدنى مسكة أنْ ينظر فيه وفي تواتره وفي لفظه ثمّ يشكُّ في أنَّ
أهل بيته (عليهم السلام) هم الأئمَّة والخلفاء بعده وأنَّهم المعتصَم من الضلالة.
لاسيَّما إذا لاحظه مع حديث الاثني عشر الذي تقدَّم، وحديث سفينة نوح، وحديث
الكساء، وآية التطهير، وحديث الغدير.
بل إنَّ أهمّ موقف صدر فيه هذا المرسوم الإلهي النبوي عن لسان النبيِّ (صلَّى الله
عليه وآله) هو موقف غدير خُمٍّ الذي أعلن فيه أيضاً عن ولاية أمير المؤمنين (عليه
السلام)، وقد وردا مجموعَين في لفظ واحد فيما رواه الحاكم في (مستدركه):
«كَأَنَّنِي قَدْ دُعِيتُ فَأَجَبْتُ، إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ اَلْآخَرِ: كِتَابَ اَلله، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي،
فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا، فَإِنَّهُمَا لَنْ
-----------------
(٢٠٠) مسند أحمد (ج ٢١/ ص ٤٣٤/ ح ١٤٠٤٠).
يَفْتَرِقَا حَتَّى
يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ، إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) مَوْلَايَ، وَأَنَا وَلِيُّ
كُلِّ مُؤْمِنٍ، مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اَللَّهُمَّ وَالِ
مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»(٢٠١).
فانظر إلى لسانه (صلَّى الله عليه وآله) بعين الفهم والبصيرة تجده لسانَ أب رحيم
مودع لأبنائه وعياله وفي مقام وصايتهم بما يحفظهم ويلمُّ شعثهم ويعصمهم من المهالك
في دينهم ودنياهم بعد رحيله، فهو - بحقٍّ - أجلى مصاديق الإعلان الرسمي عن الخليفة
والحاكم بعده، ولا أدري ولن أدري أنْ كيف لعاقل أنْ ينظر في هذا الحديث المتواتر
بأعلى معاني التواتر والوارد بهذه الألفاظ الكثيرة الدالَّة كلِّها على أنَّه
(صلَّى الله عليه وآله) نصب أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفةً مطلقاً على الناس
يقوم مقامه ويكون أولى من المؤمنين بأنفسهم كما كان هو (صلَّى الله عليه وآله)، ثمّ
يُنكِر إمامتهم ويتمسَّك بغيرهم من عُبَّاد الأوثان وشاربي الخمر ومعاقري المعاصي
ومزاولي الظلم وسافكي الدماء المحرَّمة الذين تقدَّم ذكرهم وبيان أحوالهم.
ولا يظننَّ ظانٌّ أنَّنا نتمسَّك هنا بالأساليب الخطابيَّة دون الأدلَّة
البرهانيَّة؛ بل المسألة بنفسها من الوضوح بمكانٍ بحيث لا يعدو الاستدلال عليها عن
الخطابة كحال الاستدلال على طلوع الشمس، ولولا إغماض أُولئك القوم عن الحقِّ
الواضح، ووضعهم أصابعَهم في آذانهم أمام الداعي الناصح، وعنادهم وتمسُّكهم
بالتأويلات السخيفة في قبال كلِّ هذه الأدلَّة، وتشبُّثهم بدليلٍ واهٍ على خلافة
أبي بكر كما سيجيء، لما اضطرَّ الشيعة الإماميَّة إلى توضيح الواضحات الذي هو من
أشكل المشكلات، والله المستعان وإليه المشتكى!
وليت شعري، ماذا سيكون جواب هؤلاء لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يوم لا ينفع
مال ولا بنون إذا سألهم عن إعراضهم عن أهل بيته (عليهم السلام) رغم تصريحاته
وبياناته - التي لا تُحصى كثرةً في ألفاظها ومواضعها وطُرُقها وظروفها - بأنَّهم
-----------------
(٢٠١) المستدرك على الصحيحين (ج ٣/ ص ١١٨/ ح ٤٥٧٦).
سفينة نوح مَنْ ركبها نجا ومَنْ تخلَّف عنها غرق، وأنَّهم أمان لأهل الأرض، وأنَّهم
المعصومون المطهَّرون، وأنَّهم عِدل القرآن، وأنَّهم المعتصَم من الضلالة
والقيِّمون على أمر المسلمين - وغير ذلك ممَّا لو رمنا استيفاءَه لاستغرق العُمْرَ
والحِبْر - ويخاصمهم في تمسُّكهم بتلك التأويلات والمخارج التي لا تنهض لمعارضة
أخبار الآحاد فضلاً عن هذه الثابتات؟!
تفصيل مملٌّ في دلالة الحديث:
وإنْ أبيت إلَّا التفصيل في دلالة الحديث، أجبناك قائلين:
أوَّلاً: أنَّ قوله (صلَّى الله عليه وآله): «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشَكُ أَنْ
يَأْتِينِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبُ...» إخبار ظاهر عن دنوِّ موته ورحيله، وتوطئة
لأهمّيَّة الإعلان الذي سيُعلنه وأنَّه لأجل كونه سيغيب عنهم.
ثانياً: وقوله (صلَّى الله عليه وآله): «إِنَّي تَارِكٌ» وصيَّة واضحة في هذين
الثقلين الشريفين، وأنَّه سيتركهما يقومان مقامه ويكونان بمنزلة نفسه الطاهرة
للمسلمين، كما صرَّح به في بعض ألفاظ الحديث بقوله: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ
خَلِيفَتَيْنِ»(٢٠٢).
وواضحٌ جدًّا أنَّ معنى كونهم (عليهم السلام) القائمين مقامه هو أنَّهم الأئمَّة
المعصومون الواجبو الطاعة بعده، وأنَّ لهم (عليهم السلام) كلَّ ما كان له (صلَّى
الله عليه وآله) من وجوب الانقياد والمراعاة والتعظيم والإكرام.
ثالثاً: أنَّ مقتضى جعلهم (عليهم السلام) عِدلاً للقرآن الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه هو كونهم معصومين وعاصمين مثله؛ إذ من الواضح أنَّ صدور أيِّ
مخالفة منهم - سواءً كانت عمداً أم سهواً - سيكون افتراقاً عن القرآن، وسيمنع من
التسوية بينهما الثابتة بنصِّ هذا الحديث، وبالتالي سيكون تكذيباً للنبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله) إذ أخبر بعدم الافتراق الدائم بمقتضى (لن) التأبيديَّة.
-----------------
(٢٠٢) مسند أحمد (ج ٣٥/ ص ٤٥٦/ ح ٢١٥٧٨)؛ مجمع الزوائد (ج ٩/ ص ١٦٢).
فضلاً عن أنَّ كونهم عاصمين لنا من الضلالة يقتضي كونهم معصومين منها بداهةً؛ لأنَّ
فاقد الشيء لا يُعطيه.
وعليه، فيكون قولهم (عليهم السلام) بمنزلة القرآن في العصمة من الضلالة ووجوب
الاتِّباع.
رابعاً: أنَّ مقتضى جمعهم (عليهم السلام) والقرآنَ في الأمر بالتمسُّك هو لزوم
التمسُّك بكليهما على حدٍّ سواء، وأنَّ أحدهما لا يُغني عن الآخر.
خامساً: أنَّ مقتضى لزوم التمسُّك بهم (عليهم السلام) هو أنَّهم - إلى جنب القرآن -
المصدر الوحيد المتعيَّن في الرجوع إليه في الدِّين دون غيره، إذ لو كان في غيرهم
مَنْ هو أفضل منهم لأمر (صلَّى الله عليه وآله) بالتمسُّك به.
كما أنَّ مقتضى تسويتهم بالقرآن الكريم الذي هو كلام الخالق العظيم يقتضي تميُّزهم
المطلق عن جميع مَنْ سواهم من البشر؛ وأنَّهم أفضل وأحقّ من الجميع بمنصب الرئاسة
الدِّينيَّة وحفظ الشريعة.
قال ابن حجر في (صواعقه): (ثمّ إنَّ الذين وقع الحثُّ عليهم منهم إنَّما هم
العارفون بكتاب الله وسُنَّة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض،
ويُؤيِّده الخبر السابق: «وَلَا تُعِلِّمُوهُمْ فِإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ»،
وتميَّزوا بذلك عن بقيَّة العلماء؛ لأنَّ الله أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً،
وشرَّفهم بالكرامات الباهرة، والمزايا المتكاثرة، وقد مرَّ بعضها)(٢٠٣).
سابعاً: وما قد يقال(٢٠٤): إنَّ العترة تشمل جميع بني هاشم، فلماذا تخصُّونها
بالأمير (عليه السلام) وأولاده (عليهم السلام)؟!
مدفوع: بأنَّه بعد معرفة الدلالات السابقة من ضرورة كون المقصودين
-----------------
(٢٠٣) الصواعق المحرقة (ج ٢/ ص ٤٤٢).
(٢٠٤) الإمام الصادق لأبي زهرة (ص ١٩٩).
هنا معصومين وعاصمين ومتميَّزين في العلم والفضيلة لا يبقى مجال لدعوى أنَّ المراد منهم عموم
بني هاشم؛ لأنَّهم - وإنْ كانوا بغالبهم صالحين كرماء - لا تنطبق الصفات المذكورة
على جميعهم جزماً، فلا بدَّ من التخصيص ببعض بني هاشم، وقد جاء التخصيص من النبيِّ
(صلَّى الله عليه وآله) نفسه في قوله: «هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي» مشيراً إلى
الأربعة (عليهم السلام) كما تقدَّم، وكذلك في قضيَّة المباهلة وغيرها.
بل قد جاء التخصيص من الله تعالى في آية التطهير الدالَّة على عصمتهم المشترطة في
انطباق هذا الحديث - أي حديث الثقلين والأمر بالتمسُّك بهم - عليهم، كما لا يخفى.
ثامناً: وما يُقال(٢٠٥): إنَّ هذا الحديث وارد بلفظ آخر وهو: «كِتَابَ اَلله
وَسُنَّتِي» فيقع التعارض بينهما، ويتعيَّن تقديم الحديث المشتمل على لفظ
السُّنَّة؛ لمساعدة الاعتبار على ذلك وهو ثبوت قدسيَّتها وعصمتها عند الجميع،
ومساعدة النقل أيضاً؛ لأنَّه أوثق صدوراً من الحديث المشتمل على لفظ «وَعِتْرَتِي».
في غاية السخافة؛ فإنَّه قد تقدَّم أنَّ اللفظ المتواتر في جميع طبقاته إنَّما هو
لفظ «كِتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي»، وهو المرويُّ في الصحاح، وأمَّا لفظ:
«وَسُنَّتِي» فلا يعدو عن أنْ يكون من أخبار الآحاد إنْ سلَّمنا صحَّة سنده، فلا
يرقى لمعارضة المتواتر كما هو مقتضى بديهيَّات البحث العلمي، ناهيك عن أنَّ احتمال
التحريف فيه ليس عزيزاً بالمرَّة مع ما هو معلوم من التحريفات والأكاذيب التي حصلت
في عهدَي بني أُميَّة وبني العبَّاس.
على أنَّه ليس بين اللفظين تعارض أصلاً؛ إذ لا مانع أبداً من أنْ يقول (صلَّى الله
عليه وآله): (تمسَّكوا بكتاب الله وعترتي) حيناً، ويقول حيناً آخر: (تمسَّكوا بكتاب
الله وسُنَّتي)، فيصير مجموع الأُمور العاصمة ثلاثة.
-----------------
(٢٠٥) المصدر السابق.
بل يمكن التوحيد بين العترة والسُنَّة بسهولة بالغة؛ لأنَّهم (عليهم السلام) لا
ينطقون إلَّا عن سُنَّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وأحكامه، وهو (صلَّى الله
عليه وآله) مصدر علومهم ومنبع فضيلتهم وإليه ترجع أعمالهم.
ولذلك قال ابن حجر في (صواعقه): (وفي رواية: «كِتَابَ اَلله وَسُنَّتِي»، وهي
المراد من الأحاديث المقتصرة على الكتاب؛ لأنَّ السُّنَّة مبيَّنة له، فأغنى ذكره
عن ذكرها، والحاصل: أنَّ الحثَّ وقع على التمسُّك بالكتاب والسَّنَّة وبالعلماء
بهما من أهل البيت، ويُستفاد من مجموع ذلك بقاء الأُمور الثلاثة إلى قيام
الساعة)(٢٠٦).
والعجب من بعض الباحثين المخالفين(٢٠٧) إذ تمسَّك - في هذه النقطة وفي النقطة
السابقة - بمثل هذه السفاسف التي لا يحسن بالمرء أنْ يردَّ عليها لولا أنْ جَرَّهُ
إليها هو وأمثاله ممَّن جرى على ديدن أسلافه الذين لم يدعوا حقًّا صريحاً مذكوراً
في أصحّ صحاحهم إلَّا تركوه ولجأوا إلى كلِّ ما قد يُخرجهم عن الالتزام به، فوقعوا
في الطامَّات والمضحكات، وطعنوا في صحاصهم - التي يتشدَّقون بها - دون شعور.
تاسعاً: أنَّ قوله (صلَّى الله عليه وآله) في غدير خُمٍّ - الذي هو نفس الموقف الذي
صدر فيه حديث الثقلين -: «أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟»(٢٠٨)، يدفع
كلَّ ما قد يُطرَح من تأويل بعيد من قبيل أنَّ مراده (صلَّى الله عليه وآله) هو
مجرَّد المحبَّة والنصرة لا الولاية والخلافة والإمامة.
كما أنَّ قرينة الحال تدفعه أيضاً؛ فإنَّ هذين الحديثين - حديث الغدير وحديث
الثقلين - كلاهما صَدَر عنه (صلَّى الله عليه وآله) عند رجوعه من حجَّة الوداع بعد
أنْ
-----------------
(٢٠٦) الصواعق المحرقة (ج ٢/ ص ٤٣٩).
(٢٠٧) محمّد أبو زهرة في كتابه (الإمام الصادق) كما تقدَّم تخريجه.
(٢٠٨) مسند أحمد (ج ٣٥/ ص ٣٢/ ح ٢٢٩٤٥)؛ سُنَن ابن ماجة (ج ١/ ص ٤٣/ ح ١١٦)؛
السُّنَّة لابن أبي عاصم (ص ٥٩٢/ ح ١٣٦٩)؛ المعجم الكبير للطبراني (ج ٥/ ص ١٩٥/ ح
٥٠٦٨).
أوقف آلاف المسلمين وأذاع فيهم أنْ يتجمَّعوا ويسمعوا، ثمّ قدَّم لذلك بأنَّه
يُوشَك رحيله وأنَّه تاركهم ومنقلب إلى ربِّه، فهل ترى مناسباً بعد ذلك بأدنى وجه
أنْ يُخبرهم بأنَّه يُحِبُّ أهل بيته وأولاده وأنَّ عليهم أنْ يُحِبُّوهم رغم علمهم
جميعاً بذلك وإخباره (صلَّى الله عليه وآله) به مراراً ودلالة آية القربى عليه؟!
وأيُّ مناسبة في أنْ يُوقِف عشرات الآلاف من المسلمين عن مسيرهم ويدعوهم للتجمُّع
والاستماع ويأمر أصحابه بأنْ يجعلوا له منبراً من المتاع ليصعد عليه ويبتدئ ببيان
أنَّه يُوشَك أنْ يرحل إلى ربِّه (عزَّ وجلَّ) ويُقرِّر أولويَّته بأنفسهم منهم،
ثمّ يقول بعد ذلك: أنا أُحِبُّ ابن عمِّي وأخي الذي نشأ في حجري عليَّ بن أبي طالب،
وأُحِبُّ ابنتي فاطمة وولديها فعليكم بحُبِّهم؟!
وأيُّ مناسبة في أنْ يجعلهم عِدل القرآن، ويُعلِن أنَّه مخلِّفهم والقرآنَ، وأنَّهم
لو تمسَّك بهم الناس لنجوا من الضلالة، ثمّ يكون ذلك لمجرَّد إيجاب المحبَّة
والاحترام لهم لا جعل الإمامة والخلافة المطلقة فيهم؟!
أفيرضى مَنْ أنعم الله تعالى عليه بنعمة العقل وأمره بإطاعة نبيِّه (صلَّى الله
عليه وآله) مثل هذا التأويل البعيد السخيف الذي لا دليل عليه، بل كلُّ الأدلَّة
والقرائن على خلافه؟! وهل تراه واثقاً ومطمئنًّا به جواباً أمام الله تعالى في يوم
القيامة؟!
ربط الحديث بمطلوبنا وهو إمامة
المهدي (عجَّل الله فرجه):
بعد أنْ ثبت أنَّ أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) معصومون ومنزَّهون ومنصوص عليهم
بالخلافة من النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بحديث الاثني عشر وحديث الثقلين الذي
نحن فيه، نقول بعد ذلك:
أوَّلاً: أنَّ الحديث يدلُّ بوضوح على أنَّ هذين الثقلين لن يتفرَّقا حتَّى يوم
القيامة، وأنَّ العترة الطاهرة باقية إلى جنب الكتاب حتَّى يردا عليه (صلَّى الله
عليه وآله) الحوض، كما هو صريح لفظ الحديث.
ثانياً: أنَّ الأمر بالتمسُّك بهم (عليهم السلام) واتِّباعهم مطلق باقٍ ببقاء
الأرض، وهذا يقتضي وجود رجل مؤهَّل من العترة في هذا العصر يكون صالحاً للتمسُّك به
ومشتملاً على العصمة التي هي شرط في تحقُّق العاصميَّة من الضلال المذكورة في
الحديث، متَّصفاً بكلِّ ما لآبائه الطاهرين (عليهم السلام) من صفات وشمائل وخصال
حميدة، كما اعترف به ابن حجر صاحب (الصواعق) في قوله المتقدِّم: (وفي أحاديث الحثِّ
على التمسُّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهِّل منهم للتمسُّك به إلى يوم
القيامة كما أنَّ الكتاب العزيز كذلك)(٢٠٩).
ثالثاً: أنَّ عدم وجود إمام ظاهر يدَّعي المنصب المذكور بين ظهرانينا، وعدم وجود
مَنْ تنطبق عليه هذه الصفات، لا يُبقي لنا خياراً إلَّا أنْ نقول بأنَّ الإمام غائب
لا يُعرَف بشخصه؛ لاستحالة عدم وجوده في الأرض ولو للحظة واحدة، وهذه الاستحالة -
كما تقدَّم - عقليَّة بمقتضى قاعدة اللطف المتقدِّم شرحها، ونقليَّة أيضاً بدلالة
حديث الاثني عشر، وحديث «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ»، وحديث
الثقلين الذي نحن فيه، وغير ذلك.
وبالجملة: بين يدينا خيارات ثلاثة:
- أنْ يكون الإمام غير موجود أصلاً.
- أنْ يكون الإمام موجوداً وظاهراً.
- أنْ يكون الإمام موجوداً لكنَّه غائب عن الأبصار.
والأوَّل باطل بالعقل والنقل، ومثله الثاني بشهادة الوجدان الخارجي، فيتعيَّن
الثالث وهو المطلوب.
رابعاً: أنَّنا لا نعرف أحداً ادُّعيت له العصمة والإمامة، ودلَّت النصوص والأحاديث
والشواهد التاريخيَّة وأقوال العلماء والمؤرِّخين - من الشيعة وغيرهم
-----------------
(٢٠٩) الصواعق المحرقة (ج ٢/ ص ٤٤٢).
كما سيأتي -
على إمامته وغيبته، غير الحجَّة بن الحسن العسكري (عليهما السلام)، فيتعيَّن أنْ
يكون هو إمام هذا العصر الغائب، ومن يدَّعِ خلاف ذلك فعليه أنْ يُبرز لنا مصداقاً
آخر قام عليه من الأدلَّة مثل ما قام على صاحبنا (عجَّل الله فرجه).
وبعد هذا البيان الوافي المسبوق بتلك المقدِّمات الطويلة يحقُّ لنا أنْ نقول: الآن
قد حصحص الحقُّ من البَين ووضح الصبحُ لذي عينين، والحمد لله ربِّ العالمين.
الدليل الثالث: حديث ميتة
الجاهليَّة:
والكلام فيه من جهتين:
الجهة الأُولى: سند الحديث:
اعلم أنَّ معنى الحديث متواتر من طُرُقنا، ومستفيض على أقلِّ التقادير عند
المخالفين؛ فإنَّه مرويٌّ في (صحيح مسلم)، ولفظه: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي
عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(٢١٠).
ومثله ما رواه أحمد في (مسنده)(٢١١)، وابن حبَّان في (صحيحه)(٢١٢)، والأصفهاني في
(حلية أوليائه)(٢١٣)، والطبراني في (معجمه الكبير)(٢١٤)، بأسانيدهم إلى النبيِّ
(صلَّى الله عليه وآله)، قال: «مَنْ مَاتَ بِغَيْرِ إِمَامٍ مَاتَ مِيتَةً
جَاهِلِيَّةً».
وروى ابن أبي عاصم في كتاب (السُّنَّة)(٢١٥)، وأبو يعلى في (مسنده)(٢١٦)،
-----------------
(٢١٠) صحيح مسلم (ج ٣/ ص ١٤٧٨/ ح ١٨٥١).
(٢١١) مسند أحمد (ج ٢٨/ ص ٨٨/ ح ١٦٨٧٦).
(٢١٢) صحيح ابن حبَّان (ج ٣/ ص ٢٩٦/ ح ٢٤٣٨).
(٢١٣) حلية الأولياء (ج ٣/ ص ٢٢٤/ ح ٤٤).
(٢١٤) المعجم الكبير (ج ١٩/ ص ٣٨٨/ ح ١٠٢٢).
(٢١٥) السُّنَّة (ج ٢/ ص ٥٠٣/ ح ١٠٥٧).
(٢١٦) مسند أبي يعلى (ج ١٣/ ص ٣٦٦/ ح ٧٣٧٥).
والهيثمي
في (مجمع الزوائد)(٢١٧)، عنه (صلَّى الله عليه وآله): «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ
عَلَيْهِ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
الجهة الثانية: دلالة الحديث:
ودلالة الحديث على مطلوبنا تتمثَّل بنقاط:
أوَّلاً: معنى الحديث أنَّ مَنْ مات ولم يعتقد بوجود إمام مفترض الطاعة مات ميتة
جاهليَّة، فيجب عليه الاعتقاد بأنَّ عليه إماماً، سواء عرفه بشخصه وهويَّته، أم لم
يعرفه بعد البحث الوافي المعذِّر له أمام الله تعالى.
قال ابن حبَّان: (معناه: مَنْ مات ولم يعتقد أنَّ له إماماً يدعو الناس إلى طاعة
الله حتَّى يكون قوام الإسلام به عند الحوادث والنوازل، مقتنعاً في الانقياد على
مَنْ ليس نعتُه ما وصفنا، مات ميتة جاهليَّة)(٢١٨).
ثانياً: أنَّ هذا الوجوب مطلق غير مقيَّد بزمن أو عصر معيَّن، ومقتضى ذلك لابدّيَّة
وجود إمام مفترض الطاعة صالح للاعتقاد به في كلِّ عصر؛ لكي يكون التكليف الإلهي
المذكور مقدوراً وممكناً، وإلَّا - أي وإنْ لم يُوجَد إمام في كلِّ عصر - للزم
التكليف بغير المقدور؛ إذ لا إمام لكي يُعتَقَدَ به عندئذٍ.
وبقول آخر: لا يمكن للخالق تعالى أنْ يأمرنا بالاعتقاد بالإمام ومعرفته ومبايعته،
والحال أنَّه لا إمام موجوداً أصلاً لكي نعتقد به ونبايعه، لاستحالة أنْ يُكلِّفنا
- وهو الحكيم العادل - بالمستحيل علينا.
ويشير إليه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ
بِإِمَامِهِمْ﴾ (الإسراء: ٧١)؛ فإنَّ دعوة الناس بإمامهم فرع وجوده.
-----------------
(٢١٧) مجمع الزوائد (ج ٥/ ص ٢١٨/ ح ٩١٠٢).
(٢١٨) صحيح ابن حبَّان (ج ٣/ ص ٢٩٦).
نعم من الممكن أنْ يجهل بعضٌ أو كثيرٌ من الناس إمامهم، ويكونوا معذورين بشرط أنْ
يكون ذلك بعد البحث التامِّ المعذِّر أمام الله تعالى؛ إذ ليس اللَّازم علمَ الجميع
به فعلاً، وإنَّما اللَّازم وجود الإمام بحيث يمكن امتثال الأمر بمعرفته والاعتقاد
به، وهذا متَّحد مع ما تقدَّم في حديث الاثني عشر من أنَّهم باقون إلى يوم القيامة،
وما تقدَّم في حديث الثقلين مِنْ بقاء العترة مع القرآن حتَّى يردا الحوض.
فكلُّ واحد من هذه الأحاديث الثلاثة يدلُّ على وجوب وجود إمام في كلِّ عصر بمفرده،
فضلاً عمَّا إذا انضمَّ إلى أخويه وشكَّل معهما دلالة ثلاثيَّة قطعيَّة على هذا
المعنى.
ثالثاً: أنَّ هذا الإمام الذي هو موجود قطعاً، بما أنَّ مصداقه غير ظاهر وغير
معروف، ولم يدَِّعِ الإمامة مَنْ يصلح لها بشهادة الضرورة والوجدان الخارجي، فلا
بدَّ أنْ يكون غائباً غير ظاهر، إذ الخيارات - كما تقدَّم في الحديث السابق -
ثلاثة:
- أنْ يكون معدوماً.
- أنْ يكون موجوداً، وظاهراً.
- أنْ يكون موجوداً، لكنَّه غائب لا يُعرَف بشخصه.
فإذا علمنا أنَّ الاحتمالين الأوَّلَيْن باطلان، يتعيَّن الاحتمال الثالث.
رابعاً: أنَّنا لا نعرف مصداقاً يصلح لأنْ يكون الإمام المفترض الطاعة الذي يُنجي
الاعتقاد به من ميتة الجاهليَّة غير صاحبنا (عجَّل الله فرجه)، ولا نعرف أحداً
ادُّعي له هذا الأمر وقامت على إمامته وغيبته الأدلَّة المتكاثرة مثله ولا قريباً
منه (عجَّل الله فرجه)، فوَجَبَ أنْ يكون هو الإمام الغائب المفترض الطاعة.
وبذلك يتمُّ مطلوبنا، والحمد لله ربِّ العالمين.
الدليل الرابع: قاعدة اللطف:
وقد تقدَّم بيانُها وشرحُها مفصَّلاً تحت قول السيِّد الجدِّ (طاب ثراه):
وَكَانَ خِلَافَ اَللُّطْفِ - وَاَللَّطْفُ وَاجِبٌ - * * * إذَا مِنْ نَبِيٍّ أَوْ وَصِيٍّ خَلَا عَصْرُ
فراجع.
وحاصلها: وجوب وجود إمام في كلِّ عصر يُبعِّد الناس عن المعصية ويُقرِّبهم إلى
الطاعة ويزجرهم عن القبائح ويحثُّهم على المحاسن ويعصمهم من الضلالة، وهذا الوجوب
منشؤه حكم العقل باستحالة تضييع الحكيم المطلق (عزَّ وجلَّ) لغرضه من الخلق الذي هو
عبادتهم وطاعتهم له ليُحقِّقوا السعادة الأبديَّة والراحة السرمديَّة، فيجب عليه
بمقتضى ذلك أنْ ينصب إماماً ليهتدي به مَنْ شاء ويعرض عنه مَنْ شاء.
ومن مقتضيات ذلك وجوب كون الإمام المنصوب معصوماً؛ وإلَّا لما تحقَّق الغرض منه وهو
عصمة الناس من الضلالة، إذ لو كان هو بنفسه يقع في الضلالة لكان بنفسه محتاجاً إلى
العاصم، فكيف يعصم غيره؟!
والنتيجة: أنَّه يجب وجود إمام في كلِّ عصر، ويجب كونه معصوماً.
وقد لاحظتَ أنَّ الأحاديث الثلاثة السابقة - أعني حديث الاثني عشر إماماً، وحديث
الثقلين، وحديث ميتة الجاهليَّة - كلَّها تدلُّ على هذا الوجوب، ولو لم تدلَّ لكان
حكم العقل هذا وحده كافياً، ولكن أبى الله تعالى ورسوله(صلَّى الله عليه وآله)
إلَّا تكثير الحجَّة وتوضيحها على الناس بحيث نصَبَا عليها كلَّ هذه الطُّرُق مع
أنَّ كلَّ واحدٍ منها بمفرده يكفي لإثبات الحقيقة، ومع ذلك ترى جحود الجاحدين وعناد
المعاندين إلى يومنا هذا، والله المستعان.
ثمّ نقول على الطريقة التي تكرَّرت في الأحاديث السابقة: إنَّنا لا نعلم أحداً
منصوصاً على عصمته وإمامته وغيبته في هذا العصر غير صاحبنا (عجَّل الله فرجه)،
فيتعيَّن أنْ يكون هو الإمام (عجَّل الله فرجه).
الدليل الخامس: الروايات
المتواترة:
اعلم أنَّ الأحاديث الواردة في تعيين شخص المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)
وإمامته وغيبته لا تُحصى عدداً، فهي متواترة بأعلى معاني التواتر، ومن ثَمَّ فهي
دليل قطعي على مدَّعانا ومطلوبنا مضافاً إلى الأدلَّة المتقدِّمة واللَّاحقة.
وإنْ شئت الوقوف على تلك الروايات بتمامها فعليك بكتابَي: (منتخب الأثر) لآية الله
العظمى الشيخ الصافي (طاب ثراه)، و(الإمام الثاني عشر) لآية الله العظمى السيِّد
الحكيم (طاب ثراه).
ولسنا بصدد الاحتجاج برواياتنا على القوم، بل بصدد الاحتجاج بالتواتر المفيد للعلم
الذي يلزمنا ويلزمهم على حدٍّ سواء؛ فإنَّه صحيحٌ أنَّه ليس لنا الاحتجاج عليهم
بأخبار الآحاد الواردة من طُرُقنا؛ لاعتقادهم بكذب رواتنا وعدم وثاقتهم، ولكنَّ
الخبر الذي يصل في كثرة طُرُقه وألفاظه إلى حدٍّ يمتنع تواطؤ رواته على وضعه
واختلاقه لا يُفرَّق فيه بين الرواة الثقات وغيرهم باعترافهم(٢١٩)، فحتَّى لو لم
يعتقدوا بوثاقة رواتنا فالتواتر يلزمهم مع ذلك.
على أنَّهم يعترفون بصدق رواتنا وتورُّعهم وتحرُّزهم، ويأخذون بالأحاديث التي صحَّت
عنهم بناءً على ذلك، فيقولون عن الواحد منهم: (صدوق، لا يكذب)، ثمّ يستدركون
بقولهم: (إلَّا أنَّه شيعي)، أو: (لكنَّه يترفَّض)(٢٢٠)، ونحو ذلك.
واعجبْ له مِنْ استدراكٍ يُرادُ به الذمَّ وهو في الحقيقة أعظم المدح!
ومع ما هو معلوم من حقد القوم وتنفُّرهم من أصحابنا (رضوان الله
-----------------
(٢١٩) راجع: الإحكام للآمدي (ج ٢/ ص ٢٧).
(٢٢٠) من أمثلة ذلك قول الذهبي في ميزان الاعتدال (ج ١/ ص ٤٣٢) عن الحارث بن حصيرة:
(صدوق، لكنَّه رافضي).
عليهم)، تعلم مدى
ما كانوا عليه من الوثاقة والورع والصدق بحيث لم يسع أعداءهم إلَّا أنْ يعترفوا به.
وقد ذكر العلَّامة الأكبر آية الله السيِّد شرف الدِّين (طاب ثراه) في (مراجعاته)
مائة رجل من رواة الشيعة اعتمد عليهم محدِّثو المخالفين وعلمائهم، ونَقَلَ كلماتهم
في توثيقهم وتصديقهم، فراجعه إنْ شئت(٢٢١).
وحتَّى لو لم يكن الحال كذلك، فالتواتر - كما تقدَّم - كافٍ ووافٍ، ومع تحقُّقه لا
يبقى للنظر في حال الرواة أيُّ معنى، ولو أصرُّوا عليه ففيما سمعته للتو مَقْنَعٌ
وكفاية للمنصف.
وليس لهم أنْ يُنكِروا تواتر مثل هذا المضمون المروي بعشرات الطُّرُق ومئات
الألفاظ، وأنَّى لهم ذلك مع أنَّهم عدُّوا مثل حديث «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ عَلَى
اَلنَّارِ» متواتراً، في حين أنَّ رواته ثمانية كما ذكر السيوطي في (قطف الأزهار
المتناثرة)(٢٢٢)، فكيف بهذه الأحاديث التي بلغ عدد رواتها العشرات وألفاظها
المئات؟!
وقد عدَّ المحقِّق الصافي (طاب ثراه) في (منتخب الأثر):
- واحداً وتسعين حديثاً في أنَّ الأئمَّة أوَّلهم عليٌّ (عليه السلام) وآخرهم
الحجَّة بن الحسن المهدي.
- ومائة وسبعة أحاديث في أنَّ الأئمَّة اثنا عشر تسعة منهم من ولد الحسين (عليه
السلام) وتاسعهم قائمهم.
- وخمسين حديثاً في تعيين الأئمَّة الاثني عشر بأسمائهم ومنهم الحجَّة المهدي.
-----------------
(٢٢١) المراجعات (ص ٢٣٣ وما بعدها).
(٢٢٢) قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة (ص ٥٩).
- ومائة وستِّين حديثاً في أنَّ الحجَّة المهدي من الأئمَّة التسعة من ولد الحسين
(عليهم السلام).
- ومائة وثمانية وأربعين حديثاً في أنَّه التاسع من ولد الحسين (عليه السلام).
- وتسعة وتسعين حديثاً في أنَّه السادس من ولد الصادق (عليه السلام).
- وثمانية وتسعين حديثاً في أنَّه الخامس من ولد موسى بن جعفر الكاظم (عليه
السلام).
- وخمساً وتسعين حديثاً في أنَّه الرابع من ولد عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام).
- وتسعين حديثاً في أنَّه الثالث من ولد عليِّ بن محمّد الجواد (عليه السلام).
- ومائة وستَّة وأربعين حديثاً في أنَّه ابن الحسن بن عليٍّ العسكري (عليه السلام).
فكيف لا تُشكِّل هذه الأعداد الهائلة تواتراً في المعنى؟!
والحاصل: أنَّ كثرة هذه الأحاديث توجب بلا شكٍّ تواتراً معنويًّا ينتج عنه العلم
القطعي بصدور هذا المضمون - وهو أنَّ المهدي هو الحجَّة بن الحسن (عليهما السلام)
الحيُّ الغائب - عن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)، وعن الأئمَّة الأطهار (عليهم
السلام) الذين ثبتت إمامتهم وحجّيَّة قولهم في تعيين الإمام بعدهم كما تقدَّم.
ذكر روايات المخالفين الدالَّة
على إمامة المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته:
على أنَّ في روايات المخالفين وطُرُقهم ما يدلُّ على مطلوبنا ومدَّعانا، بل قد ذكر
المحدِّث البحراني (طاب ثراه) في (غاية المرام) مائة وخمسة وستِّين حديثاً في ذلك
من طُرُق المخالفين(٢٢٣)! ولا أدري كيف لا يُشكِّل هذا الكمُّ تواتراً أو استفاضة
على أقلّ القليل.
ولسنا بصدد استيفائها، ولكنَّنا سنذكر منها ما ذكره سيِّدنا الجدُّ الناظم (طاب
ثراه) بتقسيمه إلى طوائف ثلاثة وفقَ ترتيبه في النظم، وهي:
-----------------
(٢٢٣) غاية المرام (ج ٧/ ص ٧٧ وما بعدها).
- ما ورد في (فرائد السمطين) للحمويني.
- ما ورد في (ينابيع المودَّة) للقندوزي.
- ما ورد في غير ذلك من الكُتُب.
وسنزيد على ما ذكره (طاب ثراه) جملةً من الأخبار بقدر المستطاع.
الطائفة الأُولى: ما جاء في
(فرائد السمطين):
وهي ما رواه الشيخ إبراهيم الحمويني الجويني الشافعي الذي هو من أعيان علماء
المخالفين - وسيأتي ذكر حاله عند تعداد المعترفين به (عجَّل الله فرجه) منهم - في
كتابه الشهير: (فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطَين)، وقد أشار إليها
السيِّد الجدُّ الناظم (طاب ثراه) بقوله:
وَكَمْ
(لِلْجُوَيْنِيِّ) اِنْتَظَمْنَ فَرَائِدٌ * * * مِنْ اَلدُّرِّ لَمْ يَسْعَدْ
بِمَكْنُوْنِهَا اَلْبَحْرُ
(فَرَائِدُ سِمْطَيْنِ) اَلمَعَانِي بِدُرِّهَا * * * تَحَلَّتْ لِأَنَّ اَلْحُلْيَ
أَبْهَجَهُ اَلدُرُّ
فَوَكِّلْ بِهَا عَيْنَيْكَ فَهِيْ كَوَاكِبٌ * * * لِدُرِّيِّهَا أَعْيَانِيَ
اَلْعَدُّ وَاَلْحَصْرُ
وهي كثيرة
جدًّا، فلنقتصر منها على عشرة:
أوَّلاً: ما رواه بإسناده الطويل إلى عبد الله بن عبَّاس، عن رسول الله (صلَّى الله
عليه وآله)، قال: «إِنَّ خُلَفَائِي وَأَوْصِيَائِي وَحُجَجَ اَلله عَلَى
اَلْخَلْقِ بَعْدِي اَلْاِثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ أَخِي وَآخِرُهُمْ وَلَدِي»،
قِيلَ: يَا رَسُولَ اَلله، وَمَنْ أَخُوكَ؟ قَالَ: «عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ»،
قِيلَ: فَمَنْ وَلَدُكَ؟ قَالَ: «اَلمَهْدِيُّ اَلَّذِي يَمْلَأُهَا قِسْطاً
وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ
بَشِيراً وَنَذِيراً لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ
لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فِيهِ وَلَدِي اَلمَهْدِيُّ،
فَيَنْزِلُ رُوحُ اَلله عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، وَتُشْرِقُ
اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَيَبْلَغُ سُلْطَانُهُ اَلمَشْرِقَ
وَاَلمَغْرِبَ»(٢٢٤).
-----------------
(٢٢٤) فرائد السمطين (ج ٢/ ص ٣١٢).
ثانياً: وبإسناده إلى ابن عبَّاس، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله) يَقُولُ: «أَنَا وَعَلِيٌّ واَلْحَسَنُ واَلْحُسَيْنُ وتِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ
اَلْحُسَيْنِ مُطَهَّرُونَ مَعْصُومُونَ»(٢٢٥).
ثالثاً: وبإسناده إلى ابن عبَّاس، قال: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله): «أَنَا سَيِّدُ اَلنَّبِيِّينَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سَيِّدُ
اَلْوَصِيِّينَ وَإِنَّ أَوْصِيَائِي بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَآخِرُهُمُ اَلْقَائِمُ»(٢٢٦).
رابعاً: وبإسناده إلى مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: قَالَ رَسُولُ
اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «أَنَا وَارِدُكُمْ عَلَى اَلْحَوْضِ، وَأَنْتَ يَا
عَلِيُّ اَلسَّاقِي، وَاَلْحَسَنُ اَلرَّائِدُ، وَاَلْحُسَيْنُ اَلْآمِرُ،
وَعَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ اَلْفَارِطُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ اَلنَّاشِرُ،
وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّائِقُ، وَمُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ مُحْصِي
اَلمُحِبِّينَ وَاَلمُبْغِضِينَ وَقَامِعُ اَلمُنَافِقِينَ، وَعَلِيُّ بْنُ مُوسَى
مُزَيِّنُ اَلمُؤْمِنِينَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مُنْزِلُ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ
دَرَجَاتِهِمْ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ خَطِيبُ شِيعَتِهِ وَمُزَوِّجُهُمُ
اَلْحُورَ اَلْعِينَ، وَاَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ سِرَاجُ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ
يَسْتَضِيئُونَ بِهِ، وَاَلمَهْدِيُّ شَفِيعُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حَتَّى لَا
يَأْذَنُ اَللهُ إِلَّا لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضى»(٢٢٧).
خامساً: وبإسناده إلى عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله):
«يَخْرُجُ اَلمَهْدِيُّ عَلَى رَأْسِهِ مَلَكٌ يُنَادِي: إِنَّ هَذَا اَلمَهْدِيُّ
فَاتَّبِعُوهُ»(٢٢٨).
سادساً: وبإسناده عن أبي سليمان راعي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، قال:
سَمِعْتُ رَسُولَ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) يَقُولُ: «لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِي
إِلَى اَلسَّمَاءِ قَالَ اَلْجَلِيلُ (جَلَّ وَعَلَا): ﴿آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ﴾، قُلْتُ: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾
[البقرة: ٢٨٥]، قَالَ: صَدَقْتَ يَا مُحَمَّدُ، مَنْ خَلَّفْتَ فِي أُمَّتِكَ؟
قُلْتُ: خَيْرَهَا، قَالَ: عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ؟
-----------------
(٢٢٥) فرائد السمطين (ج ٢/ ص ٢٦٧).
(٢٢٦) فرائد السمطين (ج ٢/ ص ٦٦٦).
(٢٢٧) فرائد السمطين (ج ٢/ ص ٦٨٣).
(٢٢٨) فرائد السمطين (ج ٢/ ص ٦٧٤).
قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَبِّ،
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي أَطْلَعْتُ إِلَى اَلْأَرْضِ إطْلَاعَةً
فَاخْتَرْتُكَ مِنْهَا، فَشَقَقْتُ لَكَ اِسْماً مِنْ أَسْمَائِي، فَلَا أُذْكَرُ
فِي مَوْضِعٍ إِلَّا وَذُكِرْتَ مَعِي، فَأَنَا اَلمَحْمُودُ وَأَنْتَ مُحَمَّدٌ،
ثُمَّ أَطْلَعْتُ فَاخْتَرْتُ مِنْهَا عَلِيًّا، وَشَقَقْتُ لَهُ اِسْماً مِنْ
أَسْمَائِي، فَأَنَا اَلْأَعْلَى وَهُوَ عَلِيٌّ. يَا مُحَمَّدُ إِنِّي خَلَقْتُكَ
وَخَلَقْتُ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَاَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ وَاَلْأَئِمَّةَ مِنْ
وُلْدِهِ مِنْ سِنْخِ نُورٍ مِنْ نُورِي، وَعَرَضْتُ وَلَايَتَكُمْ عَلَى أَهْلِ
اَلسَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ اَلْأَرَضِ، فَمَنْ قَبِلَهَا كَانَ عِنْدِي مِنَ
اَلمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ جَحَدَهَا كَانَ عِنْدِي مِنَ اَلْكَافِرِينَ. يَا
مُحَمَّدُ، لَوْ أَنَّ عَبْداً مِنْ عَبِيدِي عَبَدَنِي حَتَّى يَنْقَطِعَ أَو
يَصِيرَ كَالشَّنِّ اَلْبَالِي، ثُمَّ أَتَانِي جَاحِداً لِوَلَايَتَكُمْ، مَا
غَفَرْتُ لَهُ حَتَّى يُقِرَّ بِوَلَايَتِكُمْ. يَا مُحَمَّدُ، أَتُحِبُّ أَنْ
تَرَاهُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَبِّ، فَقَالَ لِي: اِلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِ
اَلْعَرْشِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَاَلْحَسَنِ
وَاَلْحُسَيْنِ وَعَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِىٍّ وَجَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَعَلِيِّ بْنِ مُوسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ وَاَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَاَلمَهْدِيِّ في
ضَحْضَاحٍ مِنْ نُورٍ قِيَاماً يُصَلُّونَ، وَهُوَ فِي وَسَطِهِمْ - يَعْنِي
اَلمَهْدِيَّ - كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ
اَلْحُجَجُ، وَهُوَ اَلثَّائِرُ مِنْ عِتْرَتِكَ، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي إِنَّهُ
اَلْحُجَّةُ اَلْوَاجِبَةُ لِأَوْلِيَائِي، وَاَلمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِي»(٢٢٩).
سابعاً: وبإسناده إلى ابن عبَّاس، قال: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه
وآله): «إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِمَامُ أُمَّتِي وَخَلِيفَتِي عَلَيْهَا
بَعْدِي، وَمِنْ وُلْدِهِ اَلْقَائِمُ اَلمُنْتَظَرُ اَلَّذِي يَمْلَأُ اَللهُ بِهِ
اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، وَاَلَّذِي
بَعَثَنِي بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً إِنَّ اَلثَّابِتِينَ عَلَى اَلْقَوْلِ
بِإِمَامَتِهِ فِي زَمَانِ غَيْبَتِهِ لَأَعَزُّ مِنَ اَلْكِبْرِيتِ اَلْأَحْمَرِ»،
فَقَامَ إِلَيْهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اَلله اَلْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اَلله، وَلِلْقَائِمِ مِنْ وُلْدِكَ غَيْبَةٌ؟ قَالَ: «إِيْ وَرَبِّي
لَيُمَحِّصُ اَللهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقُ اَلْكَافِرِينَ. يَا جَابِرُ،
إِنَّ
-----------------
(٢٢٩) فرائد السمطين (ج ٢/ ص ٦٨١).
هَذَا اَلْأَمْرُ مِنْ أَمْرِ اَلله، وَسِرٌّ مِنْ سِرِّ اَلله، عِلْمُهُ
مَطْوِيٌّ عَنْ عِبَادِهِ، فَإِيَّاكَ وَاَلشَّكَّ فَإِنَّ اَلشَّكَّ فِي أَمْرِ
اَلله (عزَّ وجلَّ) كُفْرٌ»(٢٣٠).
ثامناً: وبإسناده إلى أبي سعيد الخدري، عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، قال:
«اَلمَهْدِيُّ مِنَّا أَهْلَ اَلْبَيْتِ، رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي أَشَمُّ اَلْأَنْفِ،
يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً»(٢٣١).
تاسعاً: وبإسناده إلى حذيفة بن اليمان، قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اَلله (صلَّى الله
عليه وآله)، فَذَكَّرَنَا رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) بِمَا هُوَ
كَائِنٌ، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ
لَطَوَّلَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلاً
مِنْ وُلْدِي اِسْمُهُ اِسْمِي»، فَقَامَ سَلْمَانُ (رضي الله عنه)، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اَلله، مِنْ أَيِّ وُلْدِكَ؟ قَالَ: «هُوَ مِنْ وَلَدِي هَذَا»، وَضَرَبَ
بِيَدِهِ عَلَى اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)(٢٣٢).
عاشراً: وبإسناده إلى الإمام الثامن الضامن عليِّ بن موسى الرضا (صلوات الله عليه)
- الذي قد تقدَّم إثبات إمامته وعصمته وكون قوله الشريف بمنزلة قول النبيِّ الأكرم
(صلَّى الله عليه وآله) -، قال: «لَا دِينَ لِمَنْ لَا وَرَعَ لَهُ، وَلَا إِيمَانَ
لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣]، أَيْ أَعْمَلُكُمْ بِالتَّقِيَّةِ»،
فَقِيلَ لَهُ: إِلَى مَتَى، يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله؟ قَالَ: «إِلى يَوْمِ
اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ، وَهُوَ يَوْمُ خُرُوجِ قَائِمِنَا، فَمَنْ تَرَكَ
اَلتَّقِيَّةَ قَبْلَ خُرُوجِ قَائِمِنَا فَلَيْسَ مِنَّا»، فَقِيلَ لَهُ: يَا
اِبْنَ رَسُولِ اَلله، وَمَنِ اَلْقَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ؟ قَالَ:
«اَلرَّابِعُ مِنْ وُلْدِي، اِبْنُ سَيِّدَةِ اَلْإِمَاءِ، يُطَهِّرُ اَللهُ بِهِ
اَلْأَرْضَ مِنْ كُلِّ جَوْرٍ، وَيُقَدِّسُهَا مِنْ كُلِّ ظُلْمٍ، وَهُوَ اَلَّذِي
يَشُكُّ اَلنَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ اَلْغَيْبَةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ،
فَإِذَا خَرَجَ أَشْرَقَتِ
-----------------
(٢٣٠) فرائد السمطين (ج ٢/ ص ٣٣٦).
(٢٣١) فرائد السمطين (ج ٢/ ص ٣٣٠).
(٢٣٢) فرائد السمطين (ج ٢/ ص ٣٢٦).
اَلْأَرْضُ بِنُورِهِ، وَوَضَعَ مِيزَانَ اَلْعَدْلِ
بَيْنَ اَلنَّاسِ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً، وَهُوَ اَلَّذِي تُطْوَى لَهُ
اَلْأَرْضُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ ظِلٌّ، وَهُوَ اَلَّذِي يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ
اَلسَّمَاءِ يَسْمَعُهُ جَمِيعُ أَهْلِ اَلْأَرْضِ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ يَقُولُ:
أَلَا إِنَّ حُجَّةَ اَلله قَدْ ظَهَرَتْ عِنْدَ بَيْتِ اَلله فَاتَّبِعُوهُ،
فَإِنَّ اَلْحَقَّ مَعَهُ وَفِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنْ
نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا
خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤]»(٢٣٣).
الطائفة الثانية: ما جاء في
(ينابيع المودَّة):
وهي ما ذكره القندوزي الحنفي في كتابه (ينابيع المودَّة لذوي القربى)، وقد أشار
إليها السيِّد الجدُّ (طاب ثراه) بقوله:
وَرِدْ مِنْ (يَنَابِيْعِ المَوَدَّةِ) مَوْرِدَاً * * * بِهِ يَشْتَفِيْ - مِنْ قَبْلِ أَنْ يَصْدُرَ - اَلصَّدْرُ
وهي كثيرة،
فلننقل منها خمساً:
أوَّلاً: ما نقله عن (فرائد السمطين) بسنده إلى ابن عبَّاس في حديث طويل قال فيه
النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) لنعثل اليهودي: «إِنَّ وَصِيِّي عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، وَبَعْدَهُ اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ، تَتْلُوهُ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ مِنْ
صُلْبِ اَلْحُسَيْنِ»، قَالَ [نعثل]: يَا مُحَمَّدُ، فَسَمِّهِمْ لِي، قَالَ:
«إِذَا مَضَى اَلْحُسَيْنُ فَابْنُهُ عَلِيٌّ، فَإِذَا مَضَى عَلِيٌّ فَابْنُهُ
مُحَمَّدٌ، فَإِذَا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ جَعْفَرٌ، فَإِذَا مَضَى جَعْفَرٌ
فَابْنُهُ مُوسَى، فَإِذَا مَضَى مُوسَى فَابْنُهُ عَلِيٌّ، فَإِذَا مَضَى عَلِيٌّ
فَابْنُهُ مُحَمَّدٌ، فَإِذَا مَضَى مُحَمَّدٌ فَابْنُهُ عَلِيٌّ، فَإِذَا مَضَى
عَلِيٌّ فَابْنُهُ اَلْحَسَنُ، فَإِذَا مَضَى اَلْحَسَنُ فَاِبْنُهُ اَلْحُجَّةُ
مُحَمَّدُ اَلمَهْدِيُّ، فَهَؤُلَاءِ اِثْنَا عَشَرَ...»(٢٣٤).
ثانياً: ما نقله عن (المناقب) بسنده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله
(صلَّى الله عليه وآله) في حديث طويل قال فيه (صلَّى الله عليه وآله) لجندل
اليهودي: «أَوْصِيَائِي اَلْاِثْنَا عَشَرَ»، قَالَ جَنْدَلُ: هَكَذَا
وَجَدْنَاهُمْ فِي اَلتَّوْرَاةِ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اَلله، سَمِّهِمْ
-----------------
(٢٣٣) فرائد السمطين (ج ٢/ ص ٣٣٦ و٣٣٧).
(٢٣٤) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٢٨٢).
لِي،
فَقَالَ: «أَوَّلُهُمْ سَيِّدُ اَلْأَوْصِيَاءِ أَبُو اَلْأَئِمَّةِ عَلِيٌّ، ثُمَّ
اِبْنَاهُ اَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ، فَاسْتَمْسِكْ بِهِمْ وَلَا يَغُرَّنَّكَ
جَهْلُ اَلْجَاهِلِينَ، فَإِذَا وُلِدَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ زَيْنُ
اَلْعَابِدِينَ يَقْضِي اَللهُ عَلَيْكَ، وَيَكُونُ آخِرُ زَادِكَ مِنَ اَلدُّنْيَا
شَرْبَةَ لَبَنٍ تَشْرَبُهُ»، فَقَالَ جَنْدَلُ: وَجَدْنَا فِي اَلتَّوْرَاةِ وَفِي
كُتُبِ اَلْأَنْبِيَاءِ: إِيلْيَا وَشَبَّراً وَشَبِيراً، فَهَذِهِ اِسْمُ عَلِيٍّ
وَاَلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ، فَمَنْ بَعْدَ اَلْحُسَيْنِ؟ وَمَا أَسَامِيهِمْ؟
قَالَ: «إِذَا اِنْقَضَتْ مُدَّةُ اَلْحُسَيْنِ فَاَلْإِمَامُ اِبْنُهُ عَلِيٌّ
وَيُلَقَّبُ بِزَيْنِ اَلْعَابِدِينَ، فَبَعْدَهُ اِبْنُهُ مُحَمَّدٌ وَيُلَقَّبُ
بِالْبَاقِرِ، فَبَعْدَهُ اِبْنُهُ جَعْفَرٌ يُدْعَى بِالصَّادِقِ، فَبَعْدَهُ
اِبْنُهُ مُوسَى يُدْعَى بِالْكَاظِمِ، فَبَعْدَهُ اِبْنُهُ عَلِيٌّ يُدْعَى
بِالرِّضَا، فَبَعْدَهُ اِبْنُهُ مُحَمَّدٌ يُدْعَى بِالتَّقِيِّ وَاَلزَّكِيِّ،
فَبَعْدَهُ اِبْنُهُ عَلِيٌّ يُدْعَى بِالنَّقِيِّ وَاَلْهَادِيِّ، فَبَعْدَهُ
اِبْنُهُ اَلْحَسَنُ يُدْعَى بِالْعَسْكَرِيِّ، فَبَعْدَهُ اِبْنُهُ مُحَمَّدٌ
يُدْعَى بِالمَهْدِيِّ وَاَلْقَائِمِ وَاَلْحُجَّةِ، فَيَغِيبُ ثُمَّ يَخْرُجُ،
فَإِذَا خَرَجَ يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً
وَظُلْماً، طُوبَى لِلصَّابِرِينَ فِي غَيْبَتِهِ، طُوبَى لِلْمُقِيمِينَ عَلَى
مَحَبَّتِهِمْ»(٢٣٥).
ثالثاً: ما نقله عن (المناقب) أيضاً بسنده عن أبي الطفيل عامر بن وائلة، عن أمير
المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل قال فيه (عليه السلام) لرجل يهودي:
«وَاَلَّذِي يَسْكُنُ مَعَهُ فِي اَلْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ اَلْأَئِمَّةِ اَلْاِثْنَا
عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ أَنَا وَآخِرُنَا اَلْقَائِمُ اَلمَهْدِيُّ»(٢٣٦).
رابعاً: ما نقله عن كتاب (مودَّة القربى) بسنده إلى جابر، قال: قال رسول الله
(صلَّى الله عليه وآله): «أَنَا سَيِّدُ اَلنَّبِيِينَ، وَعَلِيٌّ سَيِّدُ
اَلْوَصِيِّينَ، وَإِنَّ أَوْصِيَائِي بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ عَلِيٌّ
وَآخِرُهُمُ اَلمَهْدِيُّ»(٢٣٧).
خامساً: ما رواه بسنده إلى مولانا الرضا (عليه السلام)، قال: «اَلْخَلَفُ
اَلصَّالِحُ مِنْ وُلْدِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اَلْعَسْكَرِيِّ، هُوَ صَاحِبُ
اَلزَّمَانِ، وَهُوَ اَلمَهْدِيُّ»(٢٣٨).
-----------------
(٢٣٥) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٢٨٤ و٢٨٥).
(٢٣٦) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٢٨٧).
(٢٣٧) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٣٨٤).
(٢٣٨) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٣٩٢).
الطائفة الثالثة: ما روي في
غيرهما من الكُتُب:
وهي كثيرة، إنْ شئت استيفاءها فعليك بـ(منتخب الأثر) كما نصحناك مراراً، وأمَّا نحن
فسنقتصر على ذكر خمسة:
أوَّلاً: ما أشار إليه السيِّد الجدُّ (طاب ثراه) بقوله:
وَفَتِّشْ عَلَى
(كَنْزِ اَلْفَوَائِدِ) فَاسْتَعِنْ * * * بِهِ فَهْوَ نِعْمَ اَلذُّخْرِ إِنْ
أَعْوَزَ اَلذُّخْرُ
وَلَاحَظْ بِهِ مَا قَدْ رَوَاهُ (اَلْكَرَاجِكِيْ) * * * مِنْ خَبَرِ
(اَلْجَارُوْدِ) إِنْ أَغْنَتْ اَلنُّذْرُ
وهو ما رواه
الكراجكي (طاب ثراه) في كتابه (كنز الفوائد) بطريق المخالفين، ورواه أيضاً ابن
عيَّاش الجوهري في (المقتضب)(٢٣٩).
قال الكراجكي: أَخْبَرَنَا اَلْقَاضِي أَبُو اَلْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ
اَلسَّبَّاطُ اَلْبَغْدَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اَلله أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ اَلْبَغْدَادِيُّ اَلْجَوْهَرِيُّ اَلْحَافِظُ،
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ لَاحِقِ بْنِ سَابِقٍ، - قَالَ:
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اَلسَّائِبِ اَلْكَلْبِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ اَلشَّرْقِيِّ بْنِ اَلْقُطَامِيِّ -، عَنْ تَمِيمِ اِبْنِ
وَهْلَةَ اَلمُرِّيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي اَلْجَارُودُ بْنُ اَلمُنْذِرِ
اَلْعَبْدِيُ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ عَامَ اَلْحُدَيْبِيَةِ وَحَسُنَ
إِسْلَامُهُ، وَكَانَ قَارِئاً لِلْكُتُبِ عَالِماً بِتَأْوِيلِهَا عَلَى وَجْهِ
اَلدَّهْرِ وَسَالِفِ اَلْعَصْرِ، بَصِيراً بِالْفَلْسَفَةِ وَاَلطِّبِّ، ذَا
رَأْيٍ أَصِيلٍ وَوَجْهٍ جَمِيلٍ، أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ
اَلْخَطَّابِ، قَالَ: وَفَدْتُ عَلَى رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) فِي
رِجَالٍ مِنْ عَبْدِ اَلْقَيْسِ ذَوِي أَحْلَامٍ وَأَسْنَانٍ وَفَصَاحَةٍ وَبَيَانٍ
وَحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، فَلَمَّا بَصُرُوا بِهِ (صلَّى الله عليه وآله) رَاعَهُمْ
مَنْظَرُهُ وَمَحْضَرُهُ عَنْ بَيَانِهِمْ وَاعْتَرَاهُمُ اَلرَّعْدَاءُ فِي
أَبْدَانِهِمْ، فَقَالَ زَعِيمُ اَلْقَوْمِ: لِي دُونَكَ مَنْ أَمَّمْتَ بِنَا
أَمِّمْهُ فَمَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ، فَاسْتَقْدَمْتُ دُونَهُمْ
إِلَيْهِ، فَوَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ
الله، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، ثُمَّ أَنْشَأْتُ أَقُولُ:
-----------------
(٢٣٩) مقتضب الأثر (ص ٥٠ وما بعدها).
يَا نَبِيَّ
اَلْهُدَى أَتَتْكَ رِجَالٌ * * * قَطَعَتْ قَرْدَداً وَآلاً فَآلَا
جَابَتِ اَلْبِيدَ وَاَلمَهَامَةَ حَتَّى * * * غَالَهَا مِنْ طُوَى اَلسُّرَى مَا
غَالَا
قَطَعَتْ دُونَكَ اَلصَّحَاصِحَ تَهْوَى * * * لَا تَعُدُّ اَلْكَلَالَ فِيكَ
كَلَالَا
كُلُّ دَهْنَاءَ يَقْصُرُ اَلطَّرْفُ عَنْهَا * * * أَرْقَلَتْهَا قِلَاصُنَا
إِرْقَالَا
وَطَوَتْهَا اَلْعَتَاقُ تَجْمَحُ فِيهَا * * * بِكُمَاةٍ مِثْلَ اَلنُّجُومِ
تَلَالَا
ثُمَّ لَمَّا رَأَتْكَ أَحْسَنَ مَرْأًى * * * أُفْحِمَتْ عَنْكَ هَيْبَةً
وَجَلَالَا
تَتَّقِي شَرَّ بَأْسِ يَوْمٍ عَصِيبٍ * * * هَائِلٍ أَوْجَلَ اَلْقُلُوبَ وَهَالَا
وَنِدَاءً لِمَحْشَرِ اَلنَّاسِ طُرًّا * * * وَحِسَاباً لِمَنْ تَمَادَى ضَلَالَا
نَحْوَ نُورٍ مِنَ اَلْإِلَهِ وَبُرْهَانٍ * * * وَبِرٍّ وَنِعْمَةٍ لَنْ تَنَالَا
وَأَمَانٌ مِنْهُ لَدَى اَلْحَشْرِ وَاَلنَّشْرِ * * * إِذِ اَلْخَلْقُ لَا يُطِيقُ
سُؤَالَا
فَلَكَ اَلْحَوْضُ وَاَلشَّفَاعَةُ وَاَلْكَوْثَرُ * * * وَاَلْفَضْلُ إِذْ يُنَصُّ
اَلسُّؤَالَا
خَصَّكَ اَللهُ يَا ابْنَ آمِنَةَ اَلْخَيْرِ * * * إِذَا مَا بَكَتْ سِجَالٌ
سِجَالَا
أَنْبَأَ اَلْأَوَّلُونَ بِاسْمِكَ فِينَا * * * وَبِأَسْمَاءٍ بَعْدَهُ تَتَلَالَا
قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) بِصَفْحَةِ وَجْهِهِ اَلمُبَارَكِ شِمْتُ مِنْهُ ضِيَاءً لَامِعاً سَاطِعاً كَوَمِيضِ اَلْبَرْقِ، فَقَالَ: «يَا جَارُودُ، لَقَدْ تَأَخَّرَ بِكَ وَبِقَوْمِكَ اَلمَوْعِدُ»، وَقَدْ كُنْتُ وَعَدْتُهُ قَبْلَ عَامِي ذَلِكَ أَنْ أَفِدَ إِلَيْهِ بِقَوْمِي، فَلَمْ آتِهِ وَأَتَيْتُهُ فِي عَامِ اَلْحُدَيْبِيَةِ، فَقُلْتُ: مَا كَانَ إِبْطَائِي عَنْكَ إِلَّا أَنَّ جُلَّةَ قَوْمِي أَبْطَئُوا عَنْ إِجَابَتِي حَتَّى سَاقَهَا اَللهُ إِلَيْكَ لَمَّا أَرَادَ لَهَا بِهِ مِنَ اَلْخَيْرِ لَدَيْكَ. وَأَمَّا مَنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَحَظُّهُ فَاتَ مِنْكَ، فَتِلْكَ أَعْظَمُ حَوْبَةً وَأَكْبَرُ عُقُوبَةً، وَلَوْ كَانُوا مِمَّنْ رَآكَ لَمَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، وَكَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ، قُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالُوا: هُوَ سَلْمَانُ اَلْفَارِسِيُّ ذُو اَلْبُرْهَانِ اَلْعَظِيمِ وَاَلشَّأْنِ اَلْقَدِيمِ، فَقَالَ سَلْمَانُ: وَكَيْفَ عَرَفْتَهُ أَخَا عَبْدِ اَلْقَيْسِ مِنْ
قَبْلِ إِتْيَانِهِ؟ فَأَقْبَلْتُ عَلَى رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) وَهُوَ يَتَلَأْلَأُ وَيُشْرِقُ وَجْهُهُ نُوراً وَسُرُوراً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله، إِنَّ قُسًّا كَانَ يَنْتَظِرُ زَمَانَكَ وَيَتَوَكَّفُ إِبَّانَكَ وَيَهْتِفُ بِاسْمِكَ وَأَبِيكَ وَأُمِّكَ وَبِأَسْمَاءٍ لَسْتُ أُصِيبُهَا مَعَكَ وَلَا أَرَاهَا فِيمَنِ اِتَّبَعَكَ، قَالَ سَلْمَانُ: فَأَخْبِرْنَا فَأَنْشَأْتُ أُحَدِّثُهُمْ وَرَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) يَسْمَعُ وَاَلْقَوْمُ سَامِعُونَ وَاعُونَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله، لَقَدْ شَهِدْتُ قُسًّا وَقَدْ خَرَجَ مِنْ نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ أَيَادٍ إِلَى صَحْصَحٍ ذِي قَتَادٍ وَسَمُرٍ وَعَتَادٍ، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ بِنَجَادٍ، فَوَقَفَ فِي إِضْحِيَانِ لَيْلٍ كَالشَّمْسِ رَافِعاً إِلَى اَلسَّمَاءِ وَجْهَهُ وَإِصْبَعَهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اَللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ اَلسَّبْعَةِ اَلْأَرْقِعَةِ، وَاَلْأَرَضِينَ اَلمُمْرِعَةِ، وَبِمُحَمَّدٍ وَاَلثَّلَاثَةِ اَلمَحَامِدَةِ مَعَهُ، وَاَلْعَلِيِّينَ اَلْأَرْبَعَةِ، وَسِبْطَيْهِ اَلتَّبِعَةِ اَلْأَرْفِعَةِ، وَاَلسَّرِيِّ اَلْأَلْمِعَةِ، وَسَمِيِّ اَلْكَلِيمِ اَلضَّرِعَةِ، وَاَلْحَسَنِ ذِي اَلرِّفْعَةِ، أُولَئِكَ اَلنُّقَبَاءُ اَلشَّفَعَةُ، وَاَلطَّرِيقُ اَلمَهْيَعَةُ، دَرَسَةُ اَلْإِنْجِيلِ، وَحَفَظَةُ اَلتَّنْزِيلِ، عَلَى عَدَدِ اَلنُّقَبَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مُحَاةُ اَلْأَضَالِيلِ، نُفَاةُ اَلْأَبَاطِيلِ، اَلصَّادِقُو اَلْقِيلِ، عَلَيْهِمْ تَقُومُ اَلسَّاعَةُ، وَبِهِمْ تُنَالُ اَلشَّفَاعَةُ، وَلَهُمْ مِنَ اَلله فَرْضُ اَلطَّاعَةِ، ثُمَّ قَالَ: اَللَّهُمَّ لَيْتَنِي مُدْرِكُهُمْ وَلَوْ بَعْدَ لَأْيٍ مِنْ عُمُرِي وَمَحْيَايَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
مَتَى أَنَا
قَبْلَ اَلمَوْتِ لِلْحَقِّ مُدْرِكُ * * * وَإِنْ كَانَ لِي مِنْ بَعْدِ هَاتِيكَ
مُهْلِكُ
وَإِنْ غَالَنِي اَلدَّهْرُ اَلْحَرُونُ بِقَوْلِهِ * * * فَقَدْ غَالَ مَنْ
قَبْلِي وَمَنْ بَعْدُ يُوشِكُ
فَلَا غَرْوَ أَنِّي سَالِكٌ مَسْلَكَ اَلْأُولَى * * * وَشِيكاً وَمَنْ ذَا
لِلرَّدَى لَيْسَ يَسْلُكُ
ثُمَّ آبَ يُكَفْكِفُ دَمْعَهُ وَيَرِنُّ رَنِينَ اَلْبِكْرَةِ قَدْ بُرِيَتْ بِبُرَاةٍ، وَهُوَ يَقُولُ:
أَقْسَمَ قُسٌّ
قَسَمَا * * * لَيْسَ بِهِ مُكْتَتِمَا
لَوْ عَاشَ أَلْفَيْ عُمُرٍ * * * لَمْ يَلْقَ مِنْهَا سَأَمَا
حَتَّى يُلَاقِيَ أَحْمَدَا * * * وَاَلنُّقَبَاءَ اَلْحُكَمَا
هُمْ أَوْصِيَاءُ أَحْمَدَ * * * أَكْرَمُ مَنْ تَحْتَ اَلسَّمَا
يَعْمَى اَلْعِبَادُ عَنْهُمُ * * * وَهُمْ جِلَاءٌ لِلْعَمَى
لَسْتُ بِنَاسٍ ذِكْرَهُمْ * * * حَتَّى أَحُلَّ اَلرَّجَمَا
ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله، أَنْبِئْنِي أَنْبَأَكَ اَللهُ بِخَبَرٍ عَنْ هَذِهِ اَلْأَسْمَاءِ اَلَّتِي لَمْ نَشْهَدْهَا وَأَشْهَدَنَا قُسٌّ ذِكْرَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «يَا جَارُودُ، لَيْلَةٌ أُسْرِيَ بِي إِلَى اَلسَّمَاءِ أَوْحَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيَّ أَنْ سَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا عَلَى مَا بُعِثُوا، فَقُلْتُ لَهُمْ: عَلَى مَا بُعِثْتُمْ؟ فَقَالُوا: عَلَى نُبُوَّتِكَ وَوَلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَاَلْأَئِمَّةِ مِنْكُمَا، ثُمَّ أَوْحَى إِلَيَّ أَنِ اِلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِ اَلْعَرْشِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عَلِيٌّ وَاَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ وَعَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَاَلْحَسَنُ بْنِ عَلِيٍّ وَاَلمَهْدِيُّ (عليهم السلام) فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نُورٍ يُصَلُّونَ، فَقَالَ لِيَ اَلرَّبُّ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ اَلْحُجَجُ لِأَوْلِيَائِي، وَهَذَا اَلمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِي»، قَالَ اَلْجَارُودُ: فَقَالَ سَلْمَانُ: يَا جَارُودُ، هَؤُلَاءِ اَلمَذْكُورُونَ فِي اَلتَّوْرَاةِ وَاَلْإِنْجِيلِ وَاَلزَّبُورِ، فَانْصَرَفْتُ بِقَوْمِي وَأَنَا أَقُولُ:
أَتَيْتُكَ يَا
ابْنَ آمِنَةَ اَلرَّسُولَا * * * لِكَيْ بِكَ أَهْتَدِي اَلنَّهْجَ السَّبِيلَا
فَقُلْتَ فَكَانَ قَوْلُكَ قَوْلَ حَقٍّ * * * وَصِدْقٍ مَا بَدَا لَكَ أَنْ
تَقُولَا
وَبَصَّرْتَ اَلْعَمَى مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ * * * وَكُلٌّ كَانَ مِنْ عَمَهٍ
ضَلِيلَا
وَأَنْبَأْنَاكَ عَنْ قُسِّ اَلْأَيَادِي * * * مَقَالًا فِيكَ ظَلْتَ بِهِ
جَدِيلَا
وَأَسْمَاءٍ عَمَتْ عَنَّا فَآلَتْ * * * إِلَى عِلْمٍ وَكُنْتُ بِهِ جَهُولَا(٢٤٠)
ثانياً: ما أشار إليه السيِّد الجدُّ (طاب ثراه) بقوله:
وَحَسْبُكَ عَنْ
هَذَا حَدِيْثٌ مُسَلْسَلٌ * * * لِعَائِشَةٍ يُنْهِيْهُ أَبْنَاؤهَا اَلْغُرُّ
بَأَنَّ اَلنَّبِيَّ اَلمُصْطَفَى كَانَ عِنْدَهُمْ * * * وَجِبْرِيْلُ إِذْ جَاءَ
اَلْحُسَيْنُ وَلَمْ يَدْرُوْا
-----------------
(٢٤٠) كنز الفوائد (ج ٢/ ص ١٣٦ وما بعدها).
فَأَخْبَرَ جِبْرِيْلُ اَلنَّبِيَّ بِأَنَّهُ * * * سَيُقْتَلُ عُدْوَانَاً
وَقَاتِلُهُ شِمْرُ
وَأَنَّ بَنِيْهِ تِسْعَةٌ ثُمَّ عَدَّهُمْ * * * بِأَسْمَائِهِمْ وَاَلتَّاسِعُ
اَلْقَائِمُ اَلطُّهْرُ
وَأَنْ سَيُطِيْلُ اَللهُ غَيْبَةَ شَخْصِهِ * * * وَيَشْقَى بِهِ مِنْ بَعْدِ
غَيْبَتِهِ اَلْكُفْرُ
وهو ما روي بطُرُق متعدِّدة(٢٤١) عن عائشة، قالت: كَانَتْ لَنَا مَشْرَبَةٌ، وَكَانَ اَلنَّبِيُّ إِذَا أَرَادَ لِقَاءَ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) لَقِيَهُ فِيهَا، فَلَقِيَهُ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) مَرَّةً فِيهَا وَأَمَرَنِي أَلَّا يَصْعَدَ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) وَلَمْ نَعْلَمْ حَتَّى غَشَاهَا، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: «مَنْ هَذَا؟»، فَقَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «اِبْنِي»، فَأَخَذَهُ اَلنَّبِيُّ (صلَّى الله عليه وآله) فَأَجْلَسَهُ عَلَى فَخِذِهِ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: «أَمَا إِنَّهُ سَيُقْتَلُ»، قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «وَمَنْ يَقْتُلُهُ؟»، قَالَ: «أُمَّتُكَ»، قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «أُمَّتِي تَقْتُلُهُ؟»، قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ بِالْأَرْضِ اَلَّتِي يُقْتَلُ فِيهَا»، فَأَشَارَ جَبْرَئِيلُ إِلَى اَلطَّفِّ بِالْعِرَاقِ، وَأَخَذَ عَنْهُ تُرْبَةً حَمْرَاءَ فَأَرَاهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: «هَذِهِ مِنْ تُرْبَةِ مَصْرَعِهِ»، فَبَكَى رَسُولُ
-----------------
(٢٤١) رواه أبو المفضَّل الشيباني، عن عبد الله بن جعفر بن محمّد، عن عبد الله بن
عمر بن الخطَّاب الزيَّات، عن الحارث بن محمّد، عن محمّد بن سعد الواقدي، عن محمّد
بن عمر، عن موسى بن محمّد بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سَلَمة، عن عائشة.
ورواه بطريق آخر عن محمّد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي النحوي، قال أبو
المفضَّل: وحدَّثني الحسن بن عليِّ بن زكريَّا البصري، عن عبد الله بن جعفر الرملي
بالبصرة. وأبي عبد الله بن أبي الثلج، عن شبابة بن سوار، عن شعبة، عن قتادة، عن
الحسن البصري، عن أبي سَلَمة، عن عائشة.
ورواه بطريق ثالث عن البوشنجي، عن أبي كريب محمّد بن العلاء، عن إسماعيل بن صبيح
السكري، عن أبي بشر، عن محمّد بن المنكدر، عن أبي سَلَمة، عن عائشة.
ورواه بطريق رابع عن محمّد بن جعفر القرميسيني، عن إسحاق بن إبراهيم، عن محمّد بن
بشَّار، عن محمّد بن جعفر، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أبي سَلَمة، عن عائشة.
ورواه بطريق خامس عن أبي العبَّاس بن كشمرد، عن خلَّاد بن أشيم أبي بكر، عن النضر
بن شبيل، عن هشام بن جابر، عن أبي سَلَمة، عن عائشة.
راجع: كفاية الأثر للخزَّاز (ج ١/ ص ١٨٧ وما بعدها).
اَلله (صلَّى الله عليه وآله)،
فَقَالَ لَهُ جَبْرَئِيلُ: «لَا تَبْكِ، فَسَوْفَ يَنْتَقِمُ اَللهُ مِنْهُمْ
بِقَائِمِكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ»، فَقَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله):
«حَبِيبِي جَبْرَئِيلُ، وَمَنْ قَائِمُنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ؟»، قَالَ: «هُوَ
اَلتَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)، كَذَا أَخْبَرَنِي رَبِّي
(جلَّ جلاله) أَنَّهُ سَيَخْلُقُ مِنْ صُلْبِ اَلْحُسَيْنِ وَلَداً سَمَّاهُ
عِنْدَهُ عَلِيًّا خَاضِعٌ لله خَاشِعٌ، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ صُلْبِ عَلِيٍّ
اِبْنَهُ وَسَمَّاهُ عِنْدَهُ مُحَمَّداً قَانِتاً لله سَاجِداً، ثُمَّ يُخْرِجُ
مِنْ صُلْبِ مُحَمَّدٍ اِبْنَهُ وَسَمَّاهُ عِنْدَهُ جَعْفَراً نَاطِقٌ عَنِ اَلله
صَادِقٌ فِي اَلله، وَيُخْرِجُ اَللهُ مِنْ صُلْبِهِ اِبْنَهُ وَسَمَّاهُ عِنْدَهُ
مُوسَى وَاثِقٌ بِالله مُحِبٌّ فِي اَلله، وَيُخْرِجُ اَللهُ مِنْ صُلْبِهِ
اِبْنَهُ وَسَمَّاهُ عِنْدَهُ عَلِيًّا اَلرَّاضِيَ بِالله وَاَلدَّاعِيَ إِلَى
اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَيُخْرِجُ مِنْ صُلْبِهِ اِبْنَهُ وَسَمَّاهُ عِنْدَهُ
مُحَمَّداً اَلمُرَغِّبَ فِي اَلله وَاَلذَّابَّ عَنْ حَرَمِ اَلله، وَيُخْرِجُ
مِنْ صُلْبِهِ اِبْنَهُ وَسَمَّاهُ عِنْدَهُ عَلِيًّا اَلمُكَتَفِيَ بِالله
وَاَلْوَلِيَّ لله، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ صُلْبِهِ اِبْنَهُ وَسَمَّاهُ اَلْحَسَنَ
مُؤْمِنٌ بِالله مُرْشِدٌ إِلَى اَلله، وَيُخْرِجُ مِنْ صُلْبِهِ كَلِمَةَ
اَلْحَقِّ وَلِسَانَ اَلصِّدْقِ وَمُظْهِرَ اَلْحَقِّ حُجَّةَ اَلله عَلَى
بَرِيَّتِهِ، لَهُ غَيْبَةٌ طَوِيلَةٌ، يُظْهِرُ اَللهُ تَعَالَى بِهِ
اَلْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَيَخْسِفُ بِهِ اَلْكُفْرَ وَأَهْلَهُ»(٢٤٢).
ثالثاً: ما رواه أبو عبد الله أحمد بن عيَّاش في (المقتضب) بإسناده إلى وَكِيعِ
اِبْنِ اَلْجَرَّاحِ، عَنِ اَلرَّبِيعِ بْنِ سَعْدٍ بْنِ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ
سَلِيطٍ، قَالَ: قَالَ اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام): «مِنَّا اِثْنَا
عَشَرَ مَهْدِيًّا، أَوَّلُهُمْ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
(عليه السلام)، وَآخِرُهُمْ اَلتَّاسِعُ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ اَلْقَائِمُ
بِالْحَقِّ، يُحْيِي اَللهُ بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَيُظْهِرُ بِهِ
اَلدِّينَ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ اَلمُشْرِكُونَ ، لَهُ غَيْبَةٌ
يَرْتَدُّ فِيهَا قَوْمٌ وَيَثْبُتُ عَلَى اَلدِّينِ فِيهَا آخَرُونَ،
فَيُؤْذَوْنَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: ٤٨]، أَمَا إِنَّ اَلصَّابِرَ فِي
غَيْبَتِهِ عَلَى اَلْأَذَى وَاَلتَّكْذِيبِ، بِمَنْزِلَةِ اَلمُجَاهِدِ
بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)»(٢٤٣).
-----------------
(٢٤٢) تقدَّم تخريجه وطُرُقه في الهامش السابق.
(٢٤٣) مقتضب الأثر (ص ٤١).
رابعاً: ما رواه ابن عيَّاش أيضاً بسنده عَنْ زَاذَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) يَوْماً، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ قَالَ: «يَا سَلْمَانُ، إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلَا رَسُولاً إِلَّا جَعَلَ لَهُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً»، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اَلله، لَقَدْ عَرَفْتُ هَذَا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتَابَيْنِ، قَالَ: «يَا سَلْمَانُ، فَهَلْ عَرَفْتَ مَنْ نُقَبَائِيَ اَلْاِثْنَا عَشَرَ اَلَّذِينَ اِخْتَارَهُمُ اَللهُ لِلْإِمَامَةِ مِنْ بَعْدِي؟»، فَقُلْتُ: اَللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «يَا سَلْمَانُ، خَلَقَنِيَ اَللهُ مِنْ صَفْوَةِ نُورِهِ وَدَعَانِي فَأَطَعْتُهُ، وَخَلَقَ مِنْ نُورِي نُورَ عَلِيٍّ (عليه السلام) فَدَعَاهُ إِلَى طَاعَتِهِ فَأَطَاعَهُ، وَخَلَق َ مِنْ نُورِي وَنُورِ عَلِيٍّ فَاطِمَةَ فَدَعَاهَا فَأَطَاعَتْهُ، وَخَلَقَ مِنِّي وَمِنْ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ اَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ فَدَعَاهُمَا فَأَطَاعَاهُ، فَسَمَّانَا اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِخَمْسَةِ أَسْمَاءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، فَاللهُ مَحْمُودٌ وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَاَللهُ اَلْعَلِيُّ وَهَذَا عَلِيٌّ، وَاَللهُ فَاطِرٌ وَهَذِهِ فَاطِمَةُ، وَاَللهُ ذُو اَلْإِحْسَانِ وَهَذَا اَلْحَسَنُ، وَاَللهُ اَلمُحْسِنُ وَهَذَا اَلْحُسَيْنُ، ثُمَّ خَلَقَ مِنَّا وَمِنْ نُورِ اَلْحُسَيْنِ تِسْعَةَ أَئِمَّةٍ فَدَعَاهُمْ فَأَطَاعُوهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) سَمَاءً مَبْنِيَّةً، أَوْ أَرْضاً مَدْحِيَّةً، أَوْ هَوَاءً وَماءً وَمَلَكاً أَوْ بَشَراً، وَكُنَّا بِعِلْمِهِ أَنْوَاراً نُسَبِّحُهُ وَنَسْمَعُ لَهُ وَنُطِيعُ»، فَقَالَ سَلْمَانُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا لِمَنْ عَرَفَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: «يَا سَلْمَانُ، مَنْ عَرَفَهُمْ حَقَّ مَعْرِفَتِهِمْ وَاِقْتَدَى بِهِمْ، فَوَالَى وَلِيَّهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَهُوَ وَاَلله مِنَّا يَرِدُ حَيْثُ نَرِدُ وَيَسْكُنُ حَيْثُ نَسْكُنُ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله، فَهَلْ يَكُونُ إِيمَانٌ بِهِمْ بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ؟ فَقَالَ: «لَا، يَا سَلْمَانُ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اَلله، فَأَنَّى لِي لِجَنَابِهِمْ؟ قَالَ: «قَدْ عَرَفْتَ إِلَى اَلْحُسَيْنِ»، قَالَ: «ثُمَّ سَيِّدُ اَلْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ، ثُمَّ وَلَدُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ بَاقِرُ عِلْمِ اَلْأَوَّلِينَ وَاَلْآخِرِينَ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلمُرْسَلِينَ، ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لِسَانُ اَلله اَلصَّادِقُ، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ اَلْكَاظِمُ غَيْظَهُ صَبْراً فِي اَلله، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى اَلرِّضَا لِأَمْرِ اَلله، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ اَلْجَوَادُ اَلمُخْتَارُ مِنْ خَلْقِ اَلله، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْهَادِي إِلَى اَلله، ثُمَّ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ اَلصَّامِتُ اَلْأَمِينُ عَلَى دِينِ اَلله
اَلْعَسْكَرِيُّ، ثُمَّ اِبْنُهُ حُجَّةُ اَلله فُلاَنٌ - سَمَّاهُ بِاسْمِهِ -
اِبْنُ اَلْحَسَنِ اَلمَهْدِىُّ، وَاَلنَّاطِقُ اَلْقَائِمُ بِحَقِّ اَلله»(٢٤٤).
خامساً: ما رواه ابن عيَّاش أيضاً بسنده إلى سَلْمَانَ اَلْفَارِسِيِّ، قَالَ:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) وَاَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ
(عليهما السلام) عَلَى فَخِذِهِ، إِذْ تَفَرَّسَ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ لَهُ: «يَا
أَبَا عَبْدِ اَلله، أَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ اَلسَّادَةٍ، وَأَنْتَ إِمَامٌ اِبْنُ
إِمَامٍ، أَخُو إِمَامٍ، أَبُو أَئِمَّةٍ تِسْعَةٍ، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ
إِمَامُهُمْ أَعْلَمُهُمْ أَحْكَمُهُمْ أَفْضَلُهُمْ»(٢٤٥).
الدليل السادس: حساب الاحتمالات:
من الأدلَّة العقلائيَّة التي من شأنها أنْ تُوصِل إلى العلم: ما يُسمَّى بحساب
الاحتمالات، وهو: تراكم الاحتمالات الناشئة من طُرُقٍ وقرائنَ عدَّةٍ لا يوجب كلُّ
واحدٍ منها بنفسه وبمفرده إلَّا نسبةً من الاحتمال، إلَّا أنَّ مجموعها بعد حساب
تلك الاحتمالات وضمِّها إلى بعضها ينتج النسبة الكاملة، وهي العلم واليقين.
ومعنى ذلك: أنَّنا عندما نتلقَّى أمراً معيَّناً من طريق لا يُورث اليقين ولا
الوثوق، فصحيحٌ أنَّنا لن نُرتِّب عليه علماً ولا عملاً، إلَّا أنَّه - بمقتضى
الطبع - سيُولِّد عندنا احتمالاً بنسبة معيَّنة، وعند ورود نفس الأمر بطريق آخر
مثله، فسيرتفع الاحتمال نسبةً معيَّنة، وهكذا يرتفع شيئاً فشيئاً كلَّما قام طريق
أو قرينة أُخرى عليه، فإنْ كثر عدد الطُّرُق والقرائن وتراكمت حتَّى وصل مجموع
نِسَب الاحتمال الحاصلة منها إلى المائة، فسيصير ذلك الأمر المذكور معلوماً
ومتيقَّناً، بفضل حساب تلك الاحتمالات بمجموعها، لاسيَّما مع عدم معارضته من شيء
آخر.
-----------------
(٢٤٤) مقتضب الأثر (ص ٢٤).
(٢٤٥) مقتضب الأثر (ص ٢٧).
فلو أخبرنا أحد بأنَّ نيزكاً مدمِّراً وقع في الجانب الآخر من الأرض مثلاً، فلن
يحصل عندنا يقين بحصوله لمجرَّد ذلك الخبر، ولكن سيتولَّد عندنا احتمال بنسبة خمسة
بالمائة مثلاً، ثمّ إنْ أخبرنا بنفس الأمر شخص ثانٍ، فسيرتفع الاحتمال إلى عشرة
بالمائة، وكذلك إنْ أخبرنا به شخص ثالث، ورابع، وخامس، وسادس، فستزداد نسبة حصول
الأمر كلَّما قام طريق وقرينة جديدة عليه.
وأيضاً إذا لاحظنا مع ذلك بعض الأوضاع الخارجيَّة الدالَّة عليه من قبيل وصول
الرياح السامَّة وظهور بعض الآثار في السماء ونحو ذلك، فسترتفع نسبة الاحتمال أيضاً
وتُضاف إلى مجموع الاحتمالات.
وعندئذٍ، ستتراكم هذه الأُمور وتُضاف كلُّ نسبة منها إلى المجموع، حتَّى تصل إلى
النسبة القطعيَّة اليقينيَّة، وذلك مع أنَّ كلَّ واحدٍ منها بمفرده لا يُولِّد
إلَّا احتمالاً قليلاً، لكنَّه بعد انضمامه إلى الاحتمالات الحاصلة من مجموع
الأُمور الأُخرى بعد أنْ نجمعها ونضيفها إلى بعضها، سيُوصلنا إلى الحدِّ المطلوب
وهو نسبة المائة بالمائة المتكوِّنة - مثلاً - من خمسة بالمائة، مضافة إلى ثلاثة
بالمائة، مضافة إلى عشرة بالمائة، مضافة إلى عشرين بالمائة... إلى آخره.
وهذه الطريقة - التي تصلح لإثبات أيِّ مدَّعى بشرطها وشروطها - لا نجازف إنْ قلنا:
إنَّ من أوضح مواردها ومجاريها على الإطلاق ما نحن فيه من قضيَّة ولادته وغيبته
(عجَّل الله فرجه)، لأنَّها قد اجتمع فيها من القرائن والطُّرُق ومناشئ الاحتمال ما
يُشكِّل بمجموعه يقيناً لا غطش فيه.
ولستُ أقول: إنَّ كلَّ واحدٍ من الدلائل والقرائن التي ذكرناها على مطلوبنا لا يكفي
بحيث نحتاج إلى أنْ نضمَّه إلى غيره بحساب الاحتمالات؛ إذ قد تقدَّم أنَّ كلَّ
واحدٍ من حديث الاثني عشر إماماً وحديث الثقلين وحديث ميتة الجاهليَّة وقاعدة اللطف
والأخبار المتواترة كافٍ بمفرده في إثبات المطلوب.
بل أقول: لو شاء المخالف أنْ يرفض تلك الأدلَّة الواضحة الجليَّة الوافية،
ويتكلَّفَ تضعيفَها والتقليل منها بغير وجه حقٍّ، فنستطيع مرتاحي البال أنْ نتنزل
معه ونقبل تضعيفه لها، ومع ذلك نُثبت قضيَّتنا بهذا الطريق؛ وهو حساب الاحتمالات
الناشئة منها بمجموعها مع غيرها من القرائن الآتي ذكرها.
وليس هذا إلَّا لنُثبت مدى وضوح القضيَّة أكثر فأكثر، ومدى قوَّة موقفنا وأدلَّتنا،
ومدى ضعف المخالفين ووهن أدلَّتهم الذي يلجؤهم دائماً إلى تضعيف الصحاح أو تأويلها
بالوجوه البعيدة السخيفة.
العوامل الموصلة إلى اليقين
بإمامته وغيبته (عجَّل الله فرجه):
وعليه، فلنذكر هنا ما يتيسَّر لنا من العوامل التي لا بدَّ أنْ تُشكِّل بمجموعها
يقيناً بحساب الاحتمالات الناشئة منها:
أوَّلاً: ما تقدَّم من حديث الاثني عشر إماماً الدالُّ على عدم انقطاع وجود إمام
منهم إلى يوم القيامة، وحديث الثقلين الدالُّ على عدم افتراق العترة عن الكتاب إلى
يوم القيامة، وحديث ميتة الجاهليَّة الدالُّ على وجوب وجود إمام في كلِّ عصر، فإنَّ
هذه الأحاديث المتَّفق عليها بين الفريقين لو لم يكن كلُّ واحدٍ منها دالّاً على
مطلوبنا بمفرده - كما هو كذلك - فهي على أقلّ القليل تُشكِّل بمجموعها نسبة احتمال
كبيرة بمطلوبنا كما لا يخفى.
ثانياً: ما تقدَّم من الإخبارات الكثيرة جدًّا من النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)
والأئمَّة الأطهار (عليهم السلام) عن صاحبنا (عجَّل الله فرجه) وإمامته وغيبته،
فإنَّ المخالف لو شاء أنْ يتعسَّف ويتجرَّد عن كلِّ معايير الإنصاف ويرفض جميع تلك
الأحاديث ويُنكِر أنَّها تنتج العلم واليقين، فإنَّه لا يسعه أنْ يُنكِر أنَّها
تُسبِّب نسبةَ احتمال معتدًا بها على أقلّ القليل.
ثالثاً: تباني الشيعة وتسالمهم المطلق منذ زمن الغيبة الصغرى إلى الآن على
القضيَّة، سواءٌ في ذلك عوامُّهم الذين لم يعهد منهم الناس إلَّا الخير والصلاح
والأدب كما ربَّاهم أئمَّتهم (عليهم السلام)، وعلماؤهم الذين لا يجرؤ أحد على إنكار
منازلهم العلميَّة العظيمة ونفوسهم العالية وصدقهم وورعهم وتقواهم وتحرُّزهم الشديد
في إثبات أقلّ المعارف الدِّينيَّة خطراً، فضلاً عن مثل هذه القضيَّة المصيريَّة.
رابعاً: اعتراف جمع كبير جدًّا من علماء السُّنَّة المخالفين بالولادة والإمامة
والغيبة تارةً، وبمجرَّد الولادة أُخرى، والمقام في تعدادهم يطول، وقد أطال فيه
جماعة من الأعلام والباحثين، حتَّى أوصله بعضهم إلى مائة وثماني وعشرين اسماً(٢٤٦).
وأمَّا أنا، فلن أذكر في هذا المختصر إلَّا مَنْ وقفت على كلمته بعيني، مع ذكر حاله
واعتباره عند المخالفين، وتوثيق كلِّ كلمة بمصدرها، ومَنْ شاء استيفاء الأسماء
فليرجع إلى ما أشرت إليه توًّا.
ذكر بعض أسماء علماء السُّنَّة
المعترفين بغيبته أو بولادته (عجَّل الله فرجه):
فدونك أسماءهم وكلماتهم:
الأوَّل: الشيخ كمال الدِّين محمّد بن طلحة الشافعي، قال عنه الذهبي في (سِيَر
أعلام النبلاء): (أَبُو سَالِمٍ مُحَمَّدُ بنُ طَلْحَةَ بنِ مُحَمَّدٍ
اَلْقُرَشِيُّ، اَلْعَلَّامَةُ اَلْأَوْحَدُ، كَمَال اَلدِّيْنِ، أَبُو سَالِمٍ
مُحَمَّد بن طَلْحَةَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ حَسَنٍ اَلقُرَشِيّ، اَلْعَدَوِيُّ،
اَلنَّصِيْبِيُّ، اَلشَّافِعِيُّ. وُلِدَ: سَنَةَ اِثْنَتَيْنِ وَثَمَانِيْنَ
وَخَمْسِ مائَةٍ، وَبَرَعَ فِي اَلمَذْهَب وَأُصُوْلِهِ...)(٢٤٧).
-----------------
(٢٤٦) اُنظر: دفاع عن الكافي (ص ٥٦٨ - ٥٩٢).
(٢٤٧) سِيَر أعلام النبلاء (ج ٢٣/ ص ٢٩٣).
وقد أشار إليه السيِّد الجدُّ الناظم (طاب ثراه) بقوله:
وَإِنْ رُمْتَ
نَجْحَ اَلسُؤْلِ فَاطْلُبْ (مَطَالِبَ اَلْـ * * * ـسَؤُوْلِ) فَمَنْ يَسْلُكْهُ
يَسْهُلْ لَهُ اَلْأَمْرُ
فَفِيْهِ أَقَرَّ (اَلشَّافِعِيُّ اِبْنُ طَلْحَةٍ) * * * بِرَأْيٍ عَلَيْهِ كُلُّ
أَصْحَابِنَا قَرُّوْا
وَجَادَلَ مَنْ قَالُوْا خِلَافَ مَقَالِهِ * * * فَكَانَ عَلَيْهِمْ فِيْ
اَلْجِدَالِ لَهُ نَصْرُ
قال في كتابه
الشهير (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول): (الباب الثاني عشر في أبي القاسم (عليه
السلام) محمّد بن الحسن الخالص بن عليٍّ المتوكِّل بن محمّد القانع بن عليٍّ الرضا
بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليٍّ زين العابدين بن الحسين
الزكي بن عليٍّ المرتضى أمير المؤمنين بن أبي طالب، المهدي الحجَّة الخلف الصالح
المنتظَر عليهم السلام ورحمة الله وبركاته)(٢٤٨).
ثمّ مدحه وأثنى عليه وذكر الأحاديث الدالَّة عليه من صحاحهم، وبعد ذلك دخل في نقاش
طويل جدًّا مع المنكرين له (عجَّل الله فرجه)، وأجاب على شُبُهاتهم وإشكالاتهم،
ولذلك قال السيِّد الجدُّ (طاب ثراه):
وَجَادَلَ مَنْ قَالُوْا خِلَافَ مَقَالِهِ * * * فَكَانَ عَلَيْهِمْ فِيْ اَلْجِدَالِ لَهُ نَصْرُ
ونحن مضطَرُّون
هنا إلى نقل تمام عبارته رغم طولها؛ لعظم فائدتها، ولإشارة السيِّد الجدِّ (طاب
ثراه) إليها.
فقال بعد أنْ أورد تلك الأحاديث: (فإنْ قال معترض: هذه الأحاديث الكثيرة بتعدادها
الصريحة بجملتها وأفرادها، متَّفقٌ على صحَّة أسْنَادها، ومجمعٌ على نقلها عن رسول
الله وإيرادها، وهي صحيحة صريحة في إثبات كون المهدي من ولد فاطمة، وأنَّه من رسول
الله، وأنَّه من عترته، وأنَّه من أهل بيته، وأنَّ اسمه يواطئ اسمه، وأنَّه يملأ
الأرضَ قسطاً وعدلاً، وأنَّه من ولد عبد المطَّلب،
-----------------
(٢٤٨) مطالب السؤول (ص ٣١١).
وأنَّه من سادات الجنَّة، وذلك
ممَّا لا نزاع فيه، غير أنَّ ذلك لا يدلُّ على أنَّ المهدي الموصوف بما ذكره من
الصفات والعلامات هو هذا أبو القاسم محمّد بن الحسن الحجَّة الخلف الصالح! فإنَّ
ولد فاطمة كثيرون، وكلُّ مَنْ يُولَد من ذرّيَّتها إلى يوم القيامة يصدق عليه أنَّه
من ولد فاطمة وأنَّه من العترة الطاهرة، وأنَّه من أهل البيت، فيحتاجون مع هذه
الأحاديث المذكورة إلى زيادة دليل على أنَّ المهدي المراد هو الحجَّة المذكور
ليتمَّ مرامكم.
فجوابه: أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) لمَّا وصف المهدي بصفات متعدِّدة من
ذكر اسمه ونَسَبه ومرجعه إلى فاطمة وإلى عبد المطَّلب، وأنَّه أجلى الجبهة أقنى
الأنف، وعدَّد الأوصاف الكثيرة التي جمعتها الأحاديث الصحيحة المذكورة آنفاً،
وجعلها علامة ودلالة على أنَّ الشخص الذي يُسمَّى بالمهدي وتثبت له الأحكام
المذكورة هو الشخص الذي اجتمعت تلك الصفات فيه، ثمّ وجدنا تلك الصفات المجعولة
علامة ودلالة مجتمعة في أبي القاسم محمّد الخلف الصالح دون غيره، فيلزم القول بثبوت
تلك الأحكام له وأنَّه صاحبها، وإلَّا فلو جاز وجود ما هو علامة ودليل ولا يثبت ما
هو مدلوله قَدَحَ ذلك في نصبها علامة ودلالة من رسول الله.
فإنْ قال المعترض: لا يتمُّ العمل به بالعلامة والدلالة إلَّا بعد العلم باختصاص من
وُجِدَت فيه بها دون غيره وتعيُّنه لها، فأمَّا إذا لم يُعلَم تخصيصه وانفراده بها
فلا يحكم له بالدلالة، ونحن نُسلِّم أنَّه من زمن رسول الله إلى ولادة الخلف الصالح
الحجَّة محمّد ما وُجِدَ من ولد فاطمة شخص جمع تلك الصفات التي هي العلامة والدلالة
غيره، لكن وقت بعثة المهدي وظهوره وولايته هو في آخر أوقات الدنيا عند ظهور
الدجَّال ونزول عيسى بن مريم، وذلك سيأتي بعد مدَّة مديدة ومن الآن إلى ذلك الوقت
المتراخي الممتدِّ أزمان متجدِّدة، وفي العترة
الطاهرة من سلالة فاطمة (عليها
السلام) كثرة يتعاقبون ويتوالدون إلى ذلك الإبَّان، فيجوز أنْ يُولَد من السلالة
الطاهرة والعترة النبويَّة مَنْ يجمع تلك الصفات فيكون هو المهدي المشار إليه في
الأحاديث المذكورة، ومع هذا الاحتمال والإمكان كيف يبقى دليلكم مختصًّا بالحجَّة
محمّد المذكور؟!
فالجواب: أنَّكم إذا عرفتم أنَّه إلى وقت ولادة الخلف الصالح وإلى زماننا هذا لم
يوجد مَنْ جمع تلك الصفات والعلامات بأسرها سواه، فيكفي ذلك في ثبوت تلك الأحكام له
عملاً بالدلالة الموجودة في حقِّه.
وما ذكرتموه من احتمال أنْ يتجدَّد مستقبلّاً في العترة الطاهرة مَنْ يكون بتلك
الصفات لا يكون قادحاً في إعمال الدلالة ولا مانعاً من ترتيب حكمها عليها، فإنَّ
دلالة الدليل راجحة لظهورها واحتمال تجدُّد ما يعارضها مرجوح، ولا يجوز ترك الراجح
بالمرجوح، فإنَّه لو جوَّزنا ذلك لامتنع العمل بأكثر الأدلَّة المثبتة للأحكام، إذ
ما من دليل إلَّا واحتمال تجدُّد ما يعارضه متطرِّق إليه، ولم يمنع ذلك من العمل به
وفاقاً.
والذي يُوضِّح ذلك ويُؤكِّده أنَّ رسول الله فيما أورده الإمام مسلم بن الحجَّاج في
صحيحه يرفعه بسنده قال لعمر بن الخطَّاب: «يَأْتِي عَلَيْكَ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ
اَلْيَمَنِ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرِ بْنِ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنَ كَانَ بِهِ
بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعُ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ
لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اَلله لَأَبَرَّ قَسَمَهُ، فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ
يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ».
فالنبيُّ ذكر اسمه ونَسَبه وصفته، وجعل ذلك علامة ودلالة على أنَّ المسمَّى بذلك
الاسم المتَّصف بتلك الصفات لو أقسم على الله لأبرَّه وأنَّه أهل لطلب الاستغفار
منه، وهذه منزلة عالية ومقام عند الله عظيم.
فلم يزل عمر بعد وفاة رسول الله وبعد وفاة أبي بكر يسأل أمداد اليمن
من الموصوف
بذلك، حتَّى قَدِمَ وفد من اليمن فسألهم فأُخبر بشخص متَّصف بذلك فلم يتوقَّف عمر
في العمل بتلك العلامة والدلالة التي ذكرها رسول الله، بل بادر إلى العمل بها
واجتمع به وسأله الاستغفار وجزم أنَّه المشار إليه في الحديث النبوي لمَّا علم تلك
الصفات فيه مع وجود احتمال أنْ يتجدَّد في وفود اليمن مستقبلّاً مَنْ يكون بتلك
الصفات، فإنَّ قبيلة مراد كثيرة والتوالد فيها كثير، وعين ما ذكرتموه من الاحتمال
موجود.
وكذلك قضيَّة الخوارج لمَّا وصفهم رسول الله بصفات ورتَّب عليها حكمهم، ثمّ بعد ذلك
لمَّا وجدها عليٌّ موجودة في أُولئك في واقعة حروراء والنهروان، جزم بأنَّهم هم
المرادون بالحديث النبوي وقاتلهم وقتلهم، فعمل بالدلالة عند وجود الصفة مع احتمال
أنْ يكون المرادون غيرهم.
وأمثال هذه الدلالة والعمل بها مع قيام الاحتمال كثيرة.
فعُلِمَ أنَّ الدلالة الراجحة لا تُترَك لاحتمال المرجوح.
ونزيده بياناً وتقريراً، فنقول: لزوم ثبوت الحكم عند وجود العلامة والدلالة لمن
وُجِدَت فيه أمر يتعيَّن العمل به والمصير إليه، فمَنْ تركه وقال بأنَّ صاحب
الصفات المراد بإثبات الحكم له ليس هو هذا بل شخص غيره سيأتي، فقد عدل عن النهج
القويم ووقف نفسه موقف المليم.
ويدلُّ على ذلك أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لمَّا أنزل في التوراة على موسى أنَّه يبعث
النبيَّ العربي في آخر الزمان خاتم الأنبياء ونعته بأوصافه وجعلها علامة ودلالة على
إثبات حكم النبوَّة له، وصار قوم موسى يذكرونه بصفاته ويعلمون أنَّه يُبعَث، فلمَّا
قرب زمان ظهوره وبعثه صاروا يُهدِّدون المشركين به ويقولون: سيظهر الآن نبيٌّ نعته
كذا وصفته كذا ونستعين به على قتالكم، فلمَّا بُعِثَ ووجدوا العلامات والصفات
بأسرها التي جُعِلَت دلالةً على نبوَّته أنكروه وقالوا: ليس هذا هو، بل
هو غيره
وسيأتي، فلمَّا جنحوا إلى الاحتمال وأعرضوا عن العمل بالدلالة الموجودة في الحال
أنكر الله تعالى عليهم كونهم تركوا العمل بالدلالة التي ذكرها لهم في التوراة
وجنحوا إلى الاحتمال.
وهذه القصَّة من أكبر الأدلَّة وأقوى الحُجَج على أنَّه يتعيَّن العمل بالدلالة عند
وجودها وإثبات الحكم لمن وُجِدَت تلك الدلالة فيه.
فإذا كانت الصفات التي هي علامة ودلالة لثبوت تلك الأحكام المذكورة موجودة في
الحجَّة الخلف الصالح محمّد تعيَّن إثبات كون المهدي المشار إليه من غير جنوح إلى
الاحتمال بتجدُّد غيره في الاستقبال.
فإنْ قال المعترض: نُسلِّم لكم أنَّ الصفات المجعولة علامة ودلالة إذا وُجِدَت
تعيَّن العمل بها ولزم إثبات مدلولها لمن وُجِدَت فيه، لكن نمنع وجود تلك العلامة
والدلالة في الخلف الصالح محمّد، فإنَّ من جملة الصفات المجعولة علامة ودلالة أنْ
يكون اسم أبيه مواطئاً لاسم أبي النبيِّ، هكذا صرَّح الحديث النبوي على ما
أوردتموه، وهذه الصفة لم تُوجَد فيه فإنَّ اسم أبيه الحسن واسم أبي النبيِّ عبد
الله، وأين الحسن من عبد الله؟! فلم توجد هذه الصفة التي هي جزء من العلامة
والدلالة وإذا لم يوجد جزء العلَّة لا يثبت حكمها فإنَّ الصفات الباقية لا تكفي في
إثبات تلك الأحكام، إذ النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) لم يجعل تلك الأحكام ثابتة
إلَّا لمن اجتمعت تلك الصفات فيه كلُّها التي جزؤها مواطأة اسمَي الأبوين في حقِّه،
وهذه لم تجتمع في الحجَّة الخلف، فلا تثبت تلك الأحكام له، وهذا إشكال قويٌّ.
والجواب: لا بدَّ قبل الشروع في تفصيل الجواب من بيان أمرين يُبنى عليهما الغرض:
الأوَّل: أنَّه شائع في لسان العرب إطلاق لفظة الأب على الجدِّ الأعلى، وقد
نطق
القرآن الكريم بذلك فقال تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحجّ: ٧٨]، وقال تعالى حكايةً عن يوسف: ﴿وَاتَّبَعْتُ
مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ [يوسف: ٣٨]، ونطق بذلك النبيُّ
(صلَّى الله عليه وآله) في حديث الإسراء أنَّه قال: «قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ:
أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ»، فعُلِمَ أنَّ لفظة الأب تُطلَق على الجدِّ وإنْ علا، فهذا
أحد الأمرين.
الأمر الثاني: إنَّ لفظة الاسم تُطلَق على الكنية وعلى الصفة، وقد استعملها الفصحاء
ودارت بها ألسنتهم ووردت في الأحاديث حتَّى ذكرها الإمامان البخاري ومسلم (رضي الله
عنهما) كلٌّ منهما يرفعه إلى سهل بن سعد الساعدي (رضي الله عنه) أنَّه قال عن عليٍّ
(رضي الله عنه) أنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم) سمَّاه بأبي تراب،
ولم يكن له اسم أحبُّ إليه منه، فأطلق لفظة الاسم على الكنية. ومثل ذلك قال الشاعر:
أجلُّ قدرك أنْ تُسمَّى مؤنَّثة * * * ومَنْ كنَّاكِ فقد سمَّاك للعرب
ويُروى: ومَنْ
يصفكِ.
فأطلق التسمية على الكناية أو الصفة، وهذا شائع ذائع في لسان العرب.
فإذا وضح ما ذكرناه من الأمرين، فاعلم - أيَّدك الله بتوفيقه - أنَّ النبيَّ (صلَّى
الله عليه [وآله] وسلم) كان له سبطان: أبو محمّد الحسن، وأبو عبد الله الحسين،
ولمَّا كان الحجَّة الخلف الصالح محمّد من ولد أبي عبد الله الحسين ولم يكن من ولد
أبي محمّد الحسن، وكانت كنية الحسين أبا عبد الله، فأطلق النبيُّ (صلَّى الله عليه
[وآله] وسلم) على الكنية لفظ الاسم لأجل المقابلة بالاسم في حقِّ أبيه، وأطلق على
الجدِّ لفظة الأب فكأنَّه قال: يواطئ اسمه اسمي فهو محمّد وأنا محمّد وكنية جدِّه
اسم أبي إذ هو أبو عبد الله وأبي عبد الله، لتكون تلك الألفاظ المختصرة جامعة
لتعريف صفاته وإعلام أنَّه من ولد أبي عبد الله الحسين بطريق جامع موجز، وحينئذٍ
تنتظم الصفات وتوجد بأسرها مجتمعة للحجَّة الخلف الصالح محمّد.
وهذا بيان شافٍ كافٍ في إزالة ذلك الإشكال، فافهمه.
وأمَّا ولده فلم يكن له ولد ليُذكر لا أُنثى ولا ذَكَر.
وأمَّا عمره فإنَّه وُلِدَ في أيَّام المعتمد على الله، خاف فاختفى وإلى الآن فلم
يمكن ذكر ذلك إذ مَنْ غاب وإنِ انقطع خبره لا توجب غيبته وانقطاع خبره الحكم بمقدار
عمره ولا بانقضاء حياته، وقدرة الله تعالى واسعة وحكمه وألطافه بعباده عظيمة
عامَّة، ولوازم عظماء العلماء أنْ يُدركوا حقائق مقدوراته وكنه قدرته لم يجدوا إلى
ذلك سبيلاً، ولا تقلب طرف تطلُّعهم إليه حسيراً وحده كليلاً، وأملى عليهم لسان
عجزهم عن الإحاطة به ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إِلَّا قَلِيلاً﴾ (الإسراء: ٨٥).
وليس ببدع ولا مستغرب تعمير بعض عباد الله المخلصين ولا امتداد عمره إلى حين، فقد
مدَّ الله تعالى أعمار جمع كثير من خلقه من أصفيائه وأوليائه ومن مطروديه وأعدائه.
فمن الأصفياء عيسى (صلوات الله عليه) ومنهم الخضر (عليه السلام) وخلق آخرون من
الأنبياء (عليهم السلام) طالت أعمارهم حتَّى جاز كلُّ واحدٍ منهم ألف سنة أو قاربها
كنوح (عليه السلام) وغيره.
وأمَّا من الأعداء المطرودين فإبليس، وكذلك الدجَّال، ومن غيرهم كعاد الأُولى كان
فيهم مَنْ عمره ما يقارب الألف، وكذلك لقمان صاحب لبد.
وكلُّ هذه لبيان اتِّساع القدرة الربَّانيَّة في تعمير بعض خلقه.
فأيُّ مانع يمنع من امتداد عمر الخلف الصالح إلى أنْ يظهر فيعمل ما حكم الله تعالى
له به؟)(٢٤٩)، انتهى كلامه.
-----------------
(٢٤٩) مطالب السؤول (ص ٣١٣- ٣٢٠).
أقول: وأنت ترى أنَّه ألزم نفسه بروايتهم الدالَّة على أنَّ اسم أبيه (عجَّل الله
فرجه) عبد الله لا الحسن، ولذلك لجأ إلى هذا التأويل البعيد، وأمَّا نحن فلا نحتاجه
بعد ما تقدَّم.
الثاني: محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي، المعروف بالحافظ الكنجي، قال عنه
أبو شامة المقدسي: (كان من أهل الفقه والعلم بالحديث)(٢٥٠)، وقال عنه الصفدي: (كان
إماماً محدِّثاً)(٢٥١).
له كتاب (كفاية الطالب)، قال فيه بعد أنْ عدَّد الأئمَّة (صلوات الله عليهم) ووصل
إلى الإمام العسكري (عليه السلام): (وخَلَّف ابنَه وهو الإمام المنتظَر، ونختم
الكتاب بذكره مفرداً...)(٢٥٢)، ثمّ ختم الكتاب بذكره (عجَّل الله فرجه) وتفصيل
أحواله تحت عنوان: (البيان في أخبار صاحب الزمان).
الثالث: نور الدِّين عليُّ بن محمّد بن الصبَّاغ المالكي، الذي أكثر السمهودي النقل
عنه في (جواهر العقدين)، وقال عنه الزركلي في (الأعلام): (فقيه مالكي)(٢٥٣).
قال في كتابه (الفصول المهمَّة): (الفصل الثاني عشر، في ذكر أبي القاسم محمّد
الحجَّة الخلف الصالح ابن أبي محمّد الحسن الخالص، وهو الإمام الثاني عشر...)(٢٥٤).
الرابع: شمس الدِّين أبو المظفَّر البغدادي الحنفي، سبط ابن الجوزي الشهير، قال عنه
الذهبي في (سِيَر أعلام النبلاء): (شَمْسُ الدِّيْنِ، أَبُو المُظَفَّرِ
-----------------
(٢٥٠) الذيل على الروضتين (ص ٢٠٨).
(٢٥١) الوافي بالوفيات (ج ٥/ ص ١٦٦).
(٢٥٢) كفاية الطالب (ص ٤٥٨).
(٢٥٣) الأعلام (ج ٥/ ص ٨).
(٢٥٤) الفصول المهمَّة (ج ٢/ ص ١٠٩٥).
يُوْسُف بن قُزْغُلِيِّ بن عَبْدِ اللهِ التُّرْكِيُّ، العَوْنِيُّ، الهُبَيْرِيُّ،
البَغْدَادِيُّ، الحَنَفِيُّ، سِبْط الإِمَام أَبِي الفَرَجِ ابْن الجَوْزِيِّ...)،
إلى أنْ قال: (انتَهَتْ إِلَيْهِ رِئَاسَةُ الوَعْظِ وَحُسنِ التَّذكِيرِ
وَمَعْرِفَةِ التَّارِيْخِ، وَكَانَ حُلو الإِيرَادِ، لَطيف الشَّمَائِل، مليح
الهَيْأَة، وَافِرَ الحُرْمَةِ، لَهُ قبُول زَائِد، وَسُوْق نَافق بِدِمَشْق،
أَقْبَل عَلَيْهِ أَوْلَاد المَلِك العَادل، وَأَحَبُّوهُ، وَصَنَّفَ (تَارِيْخ
مرَآة الزَّمَان) وَأَشيَاء)(٢٥٥).
قال في كتابه الشهير (تذكرة الخواصِّ): (هو محمّد بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن
عليٍّ الرضا بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب،
وكنيته: أبو عبد الله، وأبو القاسم، وهو الخلف الحجَّة، صاحب الزمان، القائم،
والمنتظَر، والتالي، وهو آخر الأئمَّة...)(٢٥٦).
الخامس: محيي الدِّين ابن عربي، المسمَّى عند مريديه بالشيخ الأكبر، وهو رئيس
المتصوِّفة على الإطلاق، وحاله أشهر من أنْ نُفصِّله.
وكان على مذهب المخالفين، متعصِّباً له، وفي كُتُبه ما يدلُّ على ذلك صريحاً(٢٥٧).
قال في (الفتوحات المكّيَّة) في الباب السادس والستِّين بعد الثلاثمائة على ما نقله
عنه الشعراني في (اليواقيت والجواهر)(٢٥٨) الذي هو من أشهر شروحات (الفتوحات)
وأكثرها اعتباراً: (اعلم أنَّه لا بدَّ من خروج المهدي، لكن لا يخرج حتَّى تملأ
الأرض جوراً وظلماً، وهو من عترة رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم) من ولد
فاطمة رضي الله تعالى عنها، جدُّه الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، ووالده الإمام
الحسن
-----------------
(٢٥٥) سِيَر أعلام النبلاء (ج ٢٣/ ص ٢٩٧).
(٢٥٦) تذكرة الخواصِّ (ج ٢/ ص ٥٠٦ و٥٠٧).
(٢٥٧) راجع: كتاب ابن عربي سُنِّي متعصِّب للعلَّامة المحقِّق السيِّد جعفر مرتضى
العاملي (طاب ثراه) لتطَّلع على حقيقة حاله.
(٢٥٨) اليواقيت والجواهر (ج ٢/ ص ١٣٤).
العسكري ابن الإمام عليٍّ النقي - بالنون - ابن الإمام محمّد التقي - بالتاء
- ابن الإمام عليٍّ الرضا ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن
الإمام محمّد الباقر ابن الإمام زين العابدين عليٍّ ابن الإمام الحسين ابن الإمام
عليِّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه...).
ومن المؤسف أنَّنا راجعنا الطبعات الحديثة المتوفِّرة من (الفتوحات) فوجدنا هذا
الكلام محذوفاً من الموضع المذكور، ولكنَّنا لن نتَّهم أيدي المخالفين الأمينة
بحذفه؛ إذ ربَّما أكلته الماعز كما أكلت قرآن عائشة(٢٥٩)!
السادس: أبو المواهب عبد الوهَّاب الشعراني الشافعي، من أكبر أئمَّة الصوفيَّة
وأشهرهم على الإطلاق، حتَّى إنَّهم ألَّفوا فيه كُتُباً خاصَّة بأحواله وسيرته، من
قبيل كتاب: (الشعراني، إمام التصوُّف في عصره)، وكتاب: (التصوُّف الإسلامي والإمام
الشعراني)، وغير ذلك.
قال في كتابه (اليواقيت والجواهر)(٢٦٠): (وهو من أولاد الإمام الحسن العسكري (عليه
السلام)، ومولده (عليه السلام) ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وهو
باقٍ إلى أنْ يجتمع بعيسى بن مريم (عليه السلام)، فيكون عمره إلى وقتنا هذا وهو سنة
ثمان وخمسين وتسعمائة، سبعمائة سنة وستّ وستِّين سنة. هكذا أخبرني الشيخ حسن
العراقي المدفون فوق كوم الريش المطلِّ على بركة رطلى بمصر المحروسة عن الإمام
المهدي (عليه السلام) حين اجتمع به، ووافقه على ذلك شيخنا سيِّدي عليٌّ الخوَّاص
رحمهما الله تعالى).
السابع: الشيخ حسن العراقي المذكور في كلام الشعراني المتقدِّم، واعترافه به (عجَّل
الله فرجه) مذكور فيه.
-----------------
(٢٥٩) اُنظر: سُنَن ابن ماجة (ج ١/ ص ٦٢٥/ ح ١٩٤٤).
(٢٦٠) اليواقيت والجواهر (ج ٢/ ص ٥٦١).
الثامن: الشيخ عليٌّ الخوَّاص المذكور أيضاً في كلام الشعراني المتقدِّم، وتصديقه
لقول الشيخ حسن العراقي في شأنه (عجَّل الله فرجه) موجود في ذيله.
التاسع: الشيخ عبد الله ابن الخشَّاب البغدادي المعروف، ذكره ابن خلِّكان في (وفيات
الأعيان) بقوله: (العالم المشهور في الأدب والنحو والتفسير والحديث والنَّسَب
والفرائض والحساب وحفظ القرآن العزيز بالقراءات الكثيرة، وكان متضلِّعاً من العلوم،
وله فيها اليد الطولى)(٢٦١).
ومدحه السيوطي مدحاً عالياً في (بغية الوعاة)(٢٦٢).
له كتاب في تواريخ مواليد الأئمَّة (عليهم السلام) ووفياتهم، وهو كتاب صغير معروف
ينقل عنه ابن الصبَّاغ المالكي في (الفصول المهمَّة)، ذكر في آخره بعد أنْ ذكر
الإمام العسكري (عليه السلام) باباً بعنوان: (ذكر الخلف الصالح)، واستعرض فيه
الروايات الواردة فيه (عجَّل الله فرجه)(٢٦٣).
العاشر: الفضل بن روزبهان، المخالف المتعصِّب المعروف، صاحب كتاب (إبطال نهج
الباطل) الذي ردَّ فيه على كتاب (نهج الحقِّ) للعلَّامة الحلِّي (رحمه الله)، وردَّ
عليه القاضي التستري (رحمه الله) بكتابه المشهور جدًّا (إحقاق الحقِّ).
وقد ملأ الفضل كتابه سبًّا وشتماً للعلَّامة (رحمه الله)، وافتراءً وكذباً على
الشيعة، إلَّا أنَّه مع ذلك لم يسعه إنكار المهدي (عجَّل الله فرجه) وأنَّه الثاني
عشر بعد أبيه العسكري (عجَّل الله فرجه)، فقال في شعر عدَّد فيه أهل البيت (عليهم
السلام):
سلامٌ على
السيِّد العسكري * * * إمامٌ يُجَهِّز جيش الصَّفا
سلامٌ على القائم المنتظَر * * * أبي القاسم القرم نور الهدى
-----------------
(٢٦١) وفيَّات الأعيان (ج ٣/ ص ١٠٢).
(٢٦٢) بغية الوعاة (ج ٢/ ص ٢٩).
(٢٦٣) تاريخ مواليد الأئمَّة (ص ٤٤).
سيطلع كالشمس في غاسقٍ * * * يُنجِّيه من سيفه المنتقى
ترى يملأ الأرض من عدله * * * كما مُلِئَت جور أهل الهوى(٢٦٤)
الحادي عشر:
الشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي البلخي الحنفي، صاحب كتاب (ينابيع المودَّة)
المعروف المذكور في النظم، وقد تقدَّم نقل اعترافه، والروايات التي ذكرها في كتابه
هذا الناصَّة على إمامته ووجوده وغيبته (عجَّل الله فرجه).
الثاني عشر: صلاح الدِّين الصفدي، صاحب الكتاب الكبير المعروف: (الوافي
بالوفيَّات)، قال القندوزي في (ينابيع المودَّة): (قال الشيخ الكبير العارف بأسرار
الحروف صلاح الدِّين الصفدي في (شرح الدائرة): إنَّ المهدي الموعود هو الإمام
الثاني عشر من الأئمَّة، أوَّلهم سيِّدنا عليٌّ (رضي الله عنه)، وآخرهم المهدي، رضي
الله عنهم ونفعنا الله بهم)(٢٦٥).
الثالث عشر: عبد الرحمن بن محمّد البسطامي الحنفي، قال عنه القندوزي في (الينابيع):
(كان أعلم علماء زمانه في علم الحروف؛ قدَّس الله أسراره ووهب لنا علومه
وعرفانه)(٢٦٦).
قال في شعر:
ويظهر ميم المجد
من آل أحمد * * * ويظهر عدل الله في الناس أوَّلا
كما قد روينا عن عليٍّ الرضا * * * وفي كنز علم الحرف أضحى محصَّلا
وقال أيضاً:
ويخرج حرف الميم من بعد شينه * * * بمكَّة نحو البيت بالنصر قد علا
-----------------
(٢٦٤) شرح إحقاق الحقِّ (ج ١/ ص ٨٠).
(٢٦٥) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٣٤٧).
(٢٦٦) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ١٩٥).
فهذا هو المهدي بالحقِّ ظاهر * * * سيأتي من الرحمن للخلق مرسَلا
ويملأ كلَّ الأرض بالعدل رحمةً * * * ويمحو ظلام الشرك والجور أوَّلا(٢٦٧)
الرابع عشر:
جلال الدِّين الرومي المعروف، إمام الصوفيَّة، صاحب (المثنوي) الذي اشتهر في
الأقطار، نقل عنه القندوزي شعراً فارسيًّا يعترف فيه بصاحبنا (عجَّل الله
فرجه)(٢٦٨).
الخامس عشر: عليُّ بن شهاب الدِّين الهمداني، من أكابرهم، ممدوح كثيراً(٢٦٩).
له كتاب (المودَّة في القربى)، اعترف فيه بصاحبنا صريحاً (عجَّل الله فرجه)(٢٧٠).
السادس عشر: إمام المخالفين على الإطلاق، وشيخ مفسِّريهم ومتكلِّميهم، ورئيسهم - بل
رئيس الكلِّ - في المعقولات، فخر الدِّين الرازي، وحاله وشهرته وتعصُّبه في مذهبه
كالنور على الطور، حتَّى أُطلِقَ عليه لقب (فخر المشكِّكين) و(إمام المشكِّكين)
لكثرة تشكيكاته في الثوابت عموماً، وفي فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ودلائل
إمامته خصوصاً.
له الكتاب المعروف (الشجرة المباركة في أنساب الطالبيَّة)، قال فيه: (أمَّا الحسن
العسكري، فله ابنان وبنتان، أمَّا الابنان، فأحدهما: صاحب الزمان...)(٢٧١).
السابع عشر: الخطيب الخوارزمي المعروف، صاحب (المناقب)، وقد تقدَّم نقل الأحاديث
الدالَّة عليه (عليه السلام) التي رواها في كتابه المذكور.
-----------------
(٢٦٧) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٣٣٧).
(٢٦٨) ينابيع المودَّة (ج ٣/ ص ٣٥١).
(٢٦٩) اُنظر: نفحات الأُنس في حضرات القدس (ص ٤٤٧).
(٢٧٠) المودَّة في القربى، مطبوع ضمن ينابيع المودَّة (ج ٢/ ص ٣١٤ - ٣١٩).
(٢٧١) الشجرة المباركة في أنساب الطالبيَّة (ص ٩٢).
الثامن عشر: سعد الدِّين الحمويني صاحب الكتاب المعروف (فرائد السمطين) الذي نقلنا
عنه طرفاً من الأحاديث الدالَّة عليه (عجَّل الله فرجه).
التاسع عشر: شمس الدِّين محمّد بن طولون الصالحي الدمشقي، مؤرِّخ معروف، وفقيه
مشهور(٢٧٢).
قال في كتابه (الأئمة الاثنا عشر): (وثاني عشرهم ابنه محمّد بن الحسن. وهو أبو
القاسم محمّد بن الحسن ابن عليٍّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليٍّ الرضا بن موسى
الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليٍّ زين العابدين ابن الحسين بن عليِّ
بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، ثاني عشر الأئمَّة الاثني عشر على اعتقاد الإماميَّة،
المعروف بالحجَّة).
ثمّ قال: (كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، ولمَّا
تُوفِّي أبوه المتقدِّم ذكره (رضي الله عنهما) كان عمره خمس سنين)(٢٧٣).
العشرون: ابن حجر الهيتمي المكِّي، صاحب (الصواعق المحرقة)، وحاله في التعصُّب
لمذهب المخالفين أشهر من أنْ يُذكر، ويكفيه كتابه المذكور الذي اشتهر في الأقطار.
قال في (الصواعق) عند حديثه عن العسكري (عليه السلام): (ولم يُخلِّف غير ولده أبي
القاسم محمّد الحجَّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة،
ويُسمَّى القائم المنتظَر)(٢٧٤).
الواحد والعشرون: ابن خلِّكان، المؤرِّخ المعروف، صاحب كتاب (وفيَّات الأعيان)
المشهور جدًّا.
-----------------
(٢٧٢) اُنظر ترجمته المفصَّلة في: الكواكب السائرة (ج ٢/ ص ٥١).
(٢٧٣) الأئمَّة الاثنا عشر (ص ١١٧).
(٢٧٤) الصواعق المحرقة (ج ٢/ ص ٦٠١).
قال في الكتاب المذكور عنه (عجَّل الله فرجه): (وكانت ولادته يوم الجمعة منتصف
شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، ولمَّا تُوفِّي أبوه - وقد سبق ذكره - كان عمره خمس
سنين)(٢٧٥).
الثاني والعشرون: القاضي ابن الأزرق الفارقي، صاحب (تاريخ ميافارقين) الشهير.
قال - كما نقله عنه ابن خلِّكان في المصدر السابق -: (إنَّ الحجة المذكور وُلِدَ
تاسع شهر ربيع الأوَّل سنة ثمان وخمسين ومائتين، وقيل: في ثامن شعبان سنة ستٍّ
وخمسين، وهو الأصحّ)، وهذا اعتراف واضح بالولادة الشريفة.
الثالث والعشرون: عماد الدِّين الأصفهاني الكاتب، صاحب الكُتُب المعروفة من قبيل:
(خريدة القصر وجريدة أهل العصر).
قال في كتابه: (البستان الجامع) في أحداث سنة مائتين وتسع وخمسين هجريَّة: (مولد
أبي القاسم محمّد المنتظَر بسُرَّ مَنْ رأى، يوم الجمعة ثاني عشر شهر رمضان)(٢٧٦).
الرابع والعشرون: شمس الدِّين الذهبي، صاحب (سِيَر أعلام النبلاء) وغيره من الكُتُب
المعروفة، المسمَّى عندهم بشيخ الإسلام، وحاله وتعصُّبه لمذهب المخالفين أشهر من
أنْ يُذكر.
قال في تاريخه الكبير المسمَّى بـ(تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام) بولادته
(عجَّل الله فرجه): (وأمَّا ابنه محمَّد بْن الْحَسَن الَّذِي يدعوه الرَّافضة
القائم الخَلَف الحُجَّة، فوُلِدَ سنة ثمانٍ وخمسين، وقيل: سنة ستٍّ وخمسين. عاشَ
بعد أَبِيهِ سنتين ثمّ عُدِمَ، ولم يُعلَم كيف مات)(٢٧٧)، وهذا اعتراف صريح
بالولادة، ثمّ رجمٌ بالغيب وادِّعاء لموته (عجَّل الله فرجه).
-----------------
(٢٧٥) وفيات الأعيان (ج ٤/ ص ١٧٦).
(٢٧٦) البستان الجامع (ص ١٩٠).
(٢٧٧) تاريخ الإسلام (ج ١٩/ ص ١١٣).
الخامس والعشرون: زين الدِّين ابن الوردي، الفقيه الشافعي، والعالم المعروف، له
كتاب التاريخ المسمَّى، وشرح ألفية ابن مالك، وله منظومة (البهجة الورديَّة) في
الفقه الشافعي، قال عنها ابن حجر العسقلاني: (وأُقسم بالله لم ينظم أحد بعده الفقه
إلَّا وقصر دونه)(٢٧٨)، وشرحها كثير من علمائهم.
قال في تاريخه: (وَالْحسن العسكري وَالِد مُحَمَّد المنتظَر صَاحب السرداب،
والمنتظَر ثَانِي عشرهم ويُلقَّب أَيْضاً الْقَائِم وَالْمهْدِي وَالْحجَّة، ومولد
المنتظَر سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. وتزعم الشِّيعَة أَنَّه دخل السرداب فِي
دَار أَبِيه بسامرَّاء وَأُمُّه تنظر إِلَيْهِ فَلم يعد إِلَيْهَا وَكَانَ عمره تسع
سِنِين حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَسِتِّينَ على خلاف فِيهِ)(٢٧٩)، وهذا
اعتراف صريح بالولادة.
السادس والعشرون: ابن الشحنة الحلبي الحنفي، من أجلَّة علمائهم باتِّفاقهم، ممدوح
كثيراً، قال عنه السخاوي في (الضوء اللَّامع): (وَقد وَصفه شَيخنَا فِي تَرْجَمَة
أَبِيه من الدُّرَر بِالْإِمَامِ الْعَلَّامَة، وَفِي إنبائه بالعلَّامة، بل ترْجم
لَهُ هُوَ فِيهِ وَقَالَ أَنِ اشْتغل قَدِيماً ونبغ وتميَّز فِي الْفِقْه وَالْأَدب
والفنون، وَأَنَّه لمَّا رَجَعَ من الْقَاهِرَة إِلَى حلب يَعْنِي قبل الْقرن
أَقَامَ ملازماً للاشتغال والتدريس)(٢٨٠).
قال في كتابه (روض المناظر): (ووُلِدَ لهذا الحسن محمَّد المنتظَر ثاني عشرهم،
ويُقال له: العالم، والحجَّة، والمهدي، وُلِدَ في سنة خمسٍ وخمسين ومائتين)(٢٨١)،
وهذا اعتراف بالولادة.
السابع والعشرون: المؤرِّخ الشهير ابن الأثير، صاحب الكُتُب والمصنَّفات المعروفة،
وحاله أشهر من البيان.
-----------------
(٢٧٨) الدُّرَر الكامنة (ج ٢/ ص ٢٧٢).
(٢٧٩) تاريخ ابن الوردي (ج ١/ ص ٢٢٣).
(٢٨٠) الضوء اللَّامع (ج ١٠/ ص ٤).
(٢٨١) روض المناظر (ص ١٥٧).
قال في (الكامل في التاريخ) عند حديثه عن العسكري (عليه السلام): (وهو والد محمّد
الذي يعتقدونه المنتظَر...)(٢٨٢)، فإنَّه تسليمٌ واضح بالولادة مع إنكار
المهدويَّة.
الثامن والعشرون: الملَّا عليٌّ القاري الهروي الحنفي، من أكابرهم، قال عنه العصامي
في (سمط النجوم العوالي): (الجامع للعلوم العقليَّة والنقليَّة، والمتضلِّع من
السُّنَّة النبويَّة، أحد جماهير الأعلام، ومشاهير أُولي الحفظ والأفهام)(٢٨٣)،
ومدحه المحبِّي كثيراً في (خلاصة الأثر)(٢٨٤).
قال في كتابه (مرقاة المفاتيح): (فأوَّلهم عليٌّ، فالحسن، فالحسين، فزين العابدين،
فمحمّد الباقر، فجعفر الصادق، فموسى الكاظم، فعليٌّ الرضا، فمحمّد التقي، فعليٌّ
النقي، فحسن العسكري، فمحمّد المهدي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين على ما ذكره
زبدة الأولياء خواجة محمّد بارسا في كتاب (فصل الخطاب) مفصَّلة، وتبعه مولانا نور
الدِّين عبد الرحمن الجامي في أواخر (شواهد النبوَّة) وذكر فضائلهم ومناقبهم
وكراماتهم ومقاماتهم مجملة، وفيه ردٌّ على الروافض حيث يظنُّون بأهل السُّنَّة
أنَّهم يبغضون أهل البيت باعتقادهم الفاسد ووهمهم الكاسد)(٢٨٥).
التاسع والعشرون: عبد الله بن محمّد الشبراوي الشافعي، من أئمَّة الأزهر، قال عنه
المرادي في (سلك الدُّرَر): (الشيخ الإمام العالم العلَّامة والفاضل الهمام البحر
الفهَّامة الناظم الناثر الأوحد المفنِّن)(٢٨٦).
قال في كتابه (الإتحاف بحُبِّ الأشراف): (الثاني عشر من الأئمَّة أبو
-----------------
(٢٨٢) الكامل في التاريخ (ج ٧/ ص ٢٧٤).
(٢٨٣) سمط النجوم العوالي (ج ٤/ ص ٤٠٢).
(٢٨٤) خلاصة الأثر (ج ٣/ ص ١٨٥).
(٢٨٥) مرقاة المفاتيح (ج ٩/ ص ٣٨٦٤).
(٢٨٦) سلك الدُّرَر (ج ٣/ ص ١٠٧).
القاسم محمّد
الحجَّة الإمام، قيل: هو المهدي المنتظَر، وُلِدَ الإمام محمّد الحجَّة ابن الإمام
الحسن الخالص (رضي الله عنه) بسُرَّ مَنْ رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين
ومائتين قبل موت أبيه بخمس سنين، وكان أبوه قد أخفاه حين وُلِدَ وستر أمره لصعوبة
الوقت وخوفه من الخلفاء؛ فإنَّهم كانوا في ذلك الوقت يتطلَّبون الهاشميِّين
ويقصدونهم بالحبس والقتل ويريدون إعدامهم. وكان الإمام محمّد الحجة يُلقَّب أيضاً
بالمهدي والقائم والمنتظَر والخلف الصالح وصاحب الزمان وأشهرها المهدي...)، إلى أنْ
قال: (وهم اثنا عشر إماماً، مناقبهم عليَّة وصفاتهم سنيَّة ونفوسهم شريفة أبيَّة
وأُرومتهم كريمة محمّديَّة. وهم: محمّد الحجَّة بن الحسن الخالص بن عليٍّ الهادي بن
محمّد الجواد بن عليٍّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن
عليٍّ زين العابدين ابن الإمام الحسين أخي الإمام الحسن ولدي الليث الغالب عليِّ بن
أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين)(٢٨٧).
الثلاثون: خير الدِّين الزركلي، العالم الوهَّابي المعروف، صاحب موسوعة (الأعلام)
الشهيرة.
اعترف في موسوعته المذكورة بولادته (عجَّل الله فرجه) وأنَّه دخل السرداب ولم يخرج
منه(٢٨٨).
الواحد والثلاثون: عارف أحمد عبد الغني، له كتاب (الجوهر الشفَّاف في أنساب السادة
الأشراف)، قال فيه عند ذكره للإمام العسكري (عليه السلام): (وهو والد الإمام
المهدي، ثاني عشر الأئمَّة عند الإماميَّة، وهو القائم المنتظَر عندهم)(٢٨٩)،
فإنَّه اعتراف بالولادة وتشكيك بالمهدويَّة والقائميَّة كما هو واضح.
-----------------
(٢٨٧) الإتحاف بحُبِّ الأشراف (ص ١٧٩ و١٨٠).
(٢٨٨) الأعلام للزركلي (ج ٦/ ص ٨٠).
(٢٨٩) الجوهر الشفَّاف (ج ١/ ص ١٦٠ و١٦١).
الثاني والثلاثون: الشريف أنس الكتبي الحسيني، له تحقيق على كتاب (تحفة الطالب)،
قال في تعليقته عليه عند ذكر الماتن للمهدي (عجَّل الله فرجه): (أقول: اختفى الإمام
المهدي في سنٍّ مبكَّر، والأمر مسلَّم بين الشيعة والسُّنَّة على اختفائه وعدم
ظهوره، وقد أثبتت لنا الكُتُب التاريخيَّة أنَّ المهدي دخل السرداب وهو صغير
السنِّ)(٢٩٠).
الثالث والثلاثون: يحيى بن سلامة الدياربكري الطنزي الحصكفي، له أبيات في مدحهم
(عليهم السلام)، قال في واحد منها:
الحسن التالي ويتلو تلوه * * * محمّد بن الحسن المفتقدُ
وقال بعدها ليدفع شبهة التشيُّع عن نفسه:
فلا يظنُّ رافضي
أنَّني * * * وافقته أو خارجي مفسدُ
محمّد والخلفاء بعده * * * أفضل خلق الله فيما أجدُ
هم أسَّسوا قواعد الدِّين لنا * * * وهم بنوا أركانه وشيَّدوا
ومَنْ يخن أحمد وأصحابه * * * فخصمه يوم المعاد أحمدُ
والشافعي مذهبي مذهبه * * * لأنَّه في قوله مؤيَّدُ
تبعته في الأصل والفرع معاً * * * فليتبعني الطالب المسترشدُ
إلى آخر أبياته،
نقلها ابن كثير في (البداية والنهاية)(٢٩١).
الرابع والثلاثون: الدكتور عبد السلام الترمانيني، له كتاب (أحداث التاريخ
الإسلامي)، قال فيه عند حديثه عن العسكري (عليه السلام): (وهو والد محمّد المهدي
الإمام المنتظَر الذي دخل السرداب واختفى)(٢٩٢).
-----------------
(٢٩٠) تحفة الطالب (ص ٥٥).
(٢٩١) البداية والنهاية (ج ١٢/ ص ٢٩٧ و٢٩٨).
(٢٩٢) أحداث التاريخ الإسلامي (ج ٢/ م ١/ ص ١٧١).
الخامس والثلاثون: عبد المَلِك بن حسين المكِّي العصامي، مؤرِّخ معروف. قال في
كتابه (سمط النجوم العوالي): (خلف وَلَده مُحَمَّدًا أوحده وَهُوَ الإِمَام
مُحَمَّد الْمهْدي بن الْحسن العسكري بن عَليٍّ التقي بن مُحَمَّد الْجواد بْن
عليٍّ الرِّضَا بن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر بن
عَليٍّ زين العابدين ابن الْحُسَيْن بن عَليِّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم أَجْمَعِينَ، وُلِدَ يَوْم الْجُمُعَة منتصف شعْبَان سنة خمس وَخمسين
وَمِائَتَيْنِ، وَقيل: سنة سِتٍّ، وَهُوَ الصَّحِيح. أُمُّه أُمُّ ولد اسْمهَا:
أصقيل، وَقيل: سوسن، وَقيل: نرجس. كنيته: أَبُو الْقَاسِم. ألقابه: الْحجَّة،
وَالْخَلَف الصَّالح، والقائم، والمنتظَر، وَصَاحب الزَّمَان، وَالْمهْدِي، وَهُوَ
أشهرها. صفته: شَابٌّ مَرْبُوع الْقَامَة، حسن الْوَجْه وَالشعر، أقنى الْأنف، أجلى
الْجَبْهَة. وَلمَّا تُوفِّي أَبوهُ كَانَ عمره خمس سِنِين. وشيعته يَقُولُونَ:
إِنَّه دخل السرداب سنة خمس وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وعمره سبع عشرَة سنة، وهم
ينتظرون خُرُوجه فِي آخر الزَّمَان من السرداب، وأقاويلهم فِيهِ كَثِيرَة، وَالله
أعلم أَيَّ ذَلِك يكون) (٢٩٣).
السادس والثلاثون: محمّد أمين السويدي، قال عنه المفسِّر الشهير الآلوسي: (كان ذلك
الشيخ من كبار المتتبِّعين...، كان لأهل السُّنَّة برهاناً، وللعلماء المحدِّثين
سلطاناً، ما رأيت أكثر منه حفظاً، ولا أعذب منه لفظاً، ولا أحسن منه وعظاً، ولا
أفصح منه لساناً، ولا أوضح منه بياناً، ولا أكمل منه وقاراً، ولا آمَن منه جاراً،
ولا أكثر منه حِلماً، ولا أكبر منه بمعرفة الرجال علماً، ولا أغزر منه عقلاً، ولا
أوفر منه في فنِّه فضلاً، ولا أليَن منه جانباً، ولا آنس منه صاحباً...) (٢٩٤).
-----------------
(٢٩٣) سمط النجوم العوالي (ج ٤/ ص ١٥٠).
(٢٩٤) غرائب الاغتراب (ص ١٧).
اعترف في كتابه (سبائك الذهب) بالولادة(٢٩٥).
السابع والثلاثون: يوسف بن يحيى السلمي، في كتابه المعروف المطبوع (عقد الدُّرَر في
أخبار المنتظَر).
وثَمَّة غير هؤلاء كثيرٌ، سواء ممَّن نصَّ عليهم الأصحاب والمؤلِّفون ووقفوا على
كلماتهم ولكنَّنا لم نذكرهم لغير واحد من الأسباب، أم ممَّن لم ينصُّوا عليهم ولم
يطَّلعوا على كلماتهم، وربَّما يكونون أكبر من هذا العدد بكثير.
ويحسن عندي هنا أنْ أنقل عبارة الميرزا النوري (طاب ثراه) في كتابه العظيم (كشف
الأستار) بعد أنْ ذكر ما تيسَّر له من أسماء علمائهم المعترفين بالقضيَّة، قال:
(إنَّ هذا القول من الإماميَّة إذا وافقه من أهل السُّنَّة مثل هؤلاء، هل يجوز
عدُّهُ مِنَ المناكير والهفوات؟ وعدُّ قائله من أرباب الضلالات والجهالات؟ بل من
السفهاء والمجانين كما وقع لجملة من المؤلِّفين؟ وهل هذا إلَّا من قلَّة الاطِّلاع
أو عدم المبالاة بآداب الشريعة أو للعجز عن إثبات المدَّعى فيردُّ دعوى الخصم
بالسبِّ والافتراء؟ مع أنَّه المفتري على أهل السُّنَّة والجماعة بأنَّهم ذهبوا إلى
عدم ولادة المهدي! مع أنَّ فيهم الذين عرفت أنَّهم جزموا بها، وفيهم مثل الشيخ
الأكبر محيي الدِّين جازماً معلناً في كتابه الذي ملأت الآفاقَ نُسَخه، بل هو
الخائن لعدم نقله القول الآخر عن الجماعة في مقام نقل الأقوال الذي لا يجوز فيه
إظهار العصبيَّة وإخفاء الحقيقة)(٢٩٦).
والحاصل: أنَّ هذا العامل القويَّ إذا انضمَّ مع العوامل السابقة المتمثِّلة بتلك
الأحاديث التي لا تُحصى كثرةً، والأدلَّة المتقدِّمة الساطعة كالنار على المنار،
فكيف لا يُشكِّل معها يقيناً قطعيًّا بحساب الاحتمالات؟
-----------------
(٢٩٥) سبائك الذهب (ص ٧٨).
(٢٩٦) كشف الأستار (ص ٢٤١).
العامل الخامس: السلوك العامُّ للمسلمين الكاشف عن تبانيهم وتسالمهم على أنَّ مهديًّا يظهر في آخر الزمان وله غيبة، ووضوح هذه الفكرة عندهم، وقد أشار إليه السيِّد الجدُّ الناظم (طاب ثراه) بقوله:
وَقَدْ قِيْلَ
قِدْمَاً فِيْ اِبْنِ خَوْلَةَ إِنَّهُ * * * لَهُ غَيْبَةٌ وَاَلْقَائِلُوْنَ بِهِ
كُثْرُ
وَفِيْ غَيْرِهِ قَدْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ * * * وَمَا هُمْ قَلِيْلٌ فِيْ
اَلْعِدَادُ وَلَا نَزْرُ
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلْيَقِيْنِ بِقَائِمٍ * * * يَغِيْبُ وَفِيْ تَعْيِيْنِهِ
اِلْتَبَسَ اَلْأَمْرُ
فإنَّ من أهمّ
مصاديق ذلك التباني هو ادِّعاءات المهدويَّة التي كثرت عند المسلمين حتَّى قبل
ولادته (عجَّل الله فرجه)، سواءً أكان الادِّعاء على يد نفس الشخص كما هو الأكثر،
أم كان بريئاً منه كما في المذكور في النظم؛ وهو السيِّد الجليل العالم محمَّد ابن
أمير المؤمنين (عليه السلام)، المعروف بمحمّد ابن الحنفيَّة، نسبةً إلى أُمِّه خولة
الحنفيَّة التي دُعِيَ بها ليتميَّز عن غيره من أولاد الأمير (عليه السلام).
ولا يخفى أنَّه (رضوان الله عليه) من أجلّ أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام) غير
الحسنين (عليهما السلام)، وكان موضع ثقة أبيه (عليه السلام)، وصاحب رايته في مواقف
مهمَّة مثل حرب الجمل، وكان مضرب المثل في الشجاعة والكرم والشيم الحسنة والخصال
الحميدة.
وقد أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) ولده الإمام الحسن (عليه السلام) به خيراً
عند مماته، فقال (عليه السلام): «وَأُوصِيكَ بِأَخِيكَ مُحَمَّدٍ خَيْراً،
فَإِنَّهُ شَقِيقُكَ وَابْنُ أَبِيكَ، وَقَدْ تَعْلَمُ حُبِّي لَهُ»(٢٩٧).
وروي أنَّ الإمام الحسن (عليه السلام) بدوره أوصى أخاه سيِّد الشهداء (عليه السلام)
به خيراً، فقال له: «يَا أَخِي أُوصِيكَ بِمُحَمَّدٍ أَخِيكَ خَيْراً، فَإِنَّهُ
جِلْدَةُ مَا بَيْنَ اَلْعَيْنَيْنِ»(٢٩٨).
-----------------
(٢٩٧) أمالي المفيد (ص ٢٢٢).
(٢٩٨) الأخبار الطوال (ص ٢٠٣).
وكان على جانب عالٍ من الإيمان بالإمامة، والتسليم لأخويه (عليهما السلام)، ثمّ
لابن أخيه الإمام زين العابدين (عليه السلام)(٢٩٩).
وقد اشترك العامَّة والخاصَّة في مدحه وإجلاله وتقديره والإذعان له بالعلم والمنزلة
الرفيعة، حتَّى قال الزهري فيه: (كان محمَّدُ ابن الحنفيَّة أعقلَ الناس
وأشجعهم)(٣٠٠).
وقد ادُّعيت له المهدويَّة والغيبة كما ذكر السيِّد الناظم (طاب ثراه)، وستسمع
تفصيل ذلك عن وهلة.
ذكر طرف ممَّن ادَّعى أو ادُّعيت
له المهدويَّة:
لا يخفى أنَّ ادَّعاء المهدويَّة أمر حاصل كثيراً، قديماً وحديثاً، ويعود مبدؤه إلى
قبل ولادة المهدي الحقِّ (عجَّل الله فرجه) وغيبته، وغالباً ما يكون - كما تقدَّم -
بادِّعائها من شخص معيَّن لنفسه، وأحياناً يكون بادِّعائها من قِبَل غيره له وهو
منه بريء.
والذي يهمُّنا هنا هو ذكر خصوص مَنِ ادَّعاها أو ادُّعيت له قبل ولادته (عجَّل الله
فرجه) من هؤلاء، ليتبيَّن أنَّ فكرة المهدي الذي يغيب ثمّ يخرج ويُصلِح الأرض
متسالمٌ عليها بين المسلمين منذ صدر الإسلام، ولولا ذلك لما حصلت تلك الادِّعاءات،
وهم كما يلي:
أوَّلاً: السبئيَّة، وهم أصحاب عبد الله بن سبأ، ظهروا ما بعد سنة أربعين للهجرة،
واتَّخذوا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلهاً، وقالوا بعدم موته، وإنَّه غائب يظهر
في آخر الزمان ويملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جوراً، وهم أوَّل مَنْ وقف على إمام
في الإسلام(٣٠١).
-----------------
(٢٩٩) اُنظر: معجم رجال الحديث (ج ١٧/ ص ٥٥).
(٣٠٠) عيون الأخبار لابن قتيبة (ج ١/ ص ١١١).
(٣٠١) اُنظر: المِلَل والنِّحَل (ج ١/ ص ١٧٤)، وفِرَق الشيعة (ص ٣٣).
وللعلَّامة السيِّد مرتضى العسكري (رحمه الله) كتاب مهمٌّ في شأن ابن سبأ المذكور،
فراجعه.
ثانياً: الكيسانيَّة المشار إليهم في النظم، وهم المدَّعون لإمامة محمّد ابن
الحنفيَّة (رضي الله عنه) وغيبته وظهوره في آخر الزمان، ظهروا ما بعد سنة ثمانين
للهجرة، وتشعَّبوا فِرَقاً كثيرةً، فبعضهم قال ذلك(٣٠٢)، وبعضهم قال: إنَّ المهدي
هو ولده الأكبر عبد الله(٣٠٣)، ولهم أقوال أُخرى فاسدة عجيبة.
ولا يخفى أنَّ ابن الحنفيَّة (رضي الله عنه) بريء منهم ومن دعواهم، فإنَّه كان
يتولَّى أخويه الحسنين (عليهما السلام)، ثمّ عليَّ بن الحسين (عليهما السلام) كما
تقدَّم.
ولم يكن عدد الكيسانيِّين قليلاً، بل كان القائلون به كثراً كما ذكر السيِّد الجدُّ
(طاب ثراه) في النظم، حتَّى إنَّ الشاعر العظيم الشهير إسماعيل بن محمّد الحميري
(رحمه الله) المعروف بالسيِّد كان منهم في أوائل أمره، حتَّى هداه الله بأبي عبد
الله الصادق (عليه السلام) وصار من أخصّ أوليائه(٣٠٤)، وهو القائل في ذلك:
تجعفرتُ باسم الله، والله أكبرُ * * * وأيقنتُ أنَّ الله يعفو ويغفرُ
وأشعاره في
التشيُّع لا تُحصى كثرةً، ولا تُحاط شهرةً.
ثالثاً: المغيريَّة، وهم أتباع المغيرة بن سعيد العجلي الذي زعم أنَّ محمّد بن عبد
الله بن الحسن المحض - الملقَّب بالنفس بالزكيَّة - هو المهدي المنتظَر، وقد ظهروا
في الثُّلُث الأوَّل من القرن الثاني للهجرة(٣٠٥).
رابعاً: المنصوريَّة، وهم أتباع أبي منصور العجلي الذي ادَّعى النبوَّة
-----------------
(٣٠٢) الفَرْق بين الفِرَق (ص ١٧).
(٣٠٣) فِرَق الشيعة (ص ٤٩).
(٣٠٤) اُنظر: معجم رجال الحديث (ج ٤/ ص ٩١).
(٣٠٥) اُنظر: الفَرْق بين الفِرَق (ص ٢٢٩)، والمِلَل والنِّحَل (ج ١/ ص ١٧٦).
لنفسه(٣٠٦)،
وادَّعى أنَّ السادس من ولده هو المهدي المنتظَر(٣٠٧)، وهي مساوقة للمغيريَّة في
الزمن.
خامساً: أصحاب عبد الله بن معاوية الذين ادَّعوا أنَّه القائم المهدي الذي بشَّر به
النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) ويملك الأرض ويملؤها قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت
ظلماً وجوراً(٣٠٨)، وظهرت في النصف الأوَّل من القرن الثاني.
سادساً: الخرَّميَّة، وهي الفرقة التي تتولَّى أبا مسلم الخراساني، القائد
العبَّاسي المعروف، فقال بعض منهم: إنَّه لم يمت ولن يموت حتَّى يظهر فيملأ الأرض
عدلاً(٣٠٩)، وظهرت في القرن الثاني.
سابعاً: الناووسيَّة، وهم القائلون بمهدويَّة الإمام الصادق (عليه السلام) وغيبته،
وأنَّه لا يموت حتَّى يظهر، ولُقِّبوا بذلك نسبةً إلى رئيسهم عجلان بن ناووس(٣١٠).
ثامناً: الإسماعيليَّة الخالصة، وهم القائلون بإمامة إسماعيل (رضوان الله عليه) ابن
الإمام الصادق (عليه السلام) بالرغم من أنَّه مات في حياة أبيه (عليه السلام)،
وزعموا أنَّه لم يمت، وأنَّه القائم من آل محمّد(٣١١)، وهو (رضوان الله عليه) بريء
من ذلك كلِّه؛ فإنَّه لم يحصل إلَّا بعد موته.
تاسعاً: القرامطة، وهم القائلون بإمامة محمّد بن إسماعيل ابن الإمام الصادق (عليه
السلام)، وأنَّه رسول، وأنَّه القائم المهدي(٣١٢).
-----------------
(٣٠٦) الفَرْق بين الفِرَق (ص ٢٣٤).
(٣٠٧) مدَّعو المهدويَّة (ص ١٣٧).
(٣٠٨) فِرَق الشيعة (ص ٣٥).
(٣٠٩) مروج الذهب (ج ٣/ ص ٢٤٤).
(٣١٠) فِرَق الشيعة (ص ٦٧).
(٣١١) فِرَق الشيعة (ص ٦٧ و٦٨).
(٣١٢) فِرَق الشيعة (ص ٧٢).
عاشراً: الواقفيَّة، وهم من أشهر الفِرَق المنشقَّة عن الاثني عشريَّة، وقد وقف
أصحابها على الإمام الكاظم (عليه السلام) ولم يؤمنوا بإمامة ولده الرضا (عليه
السلام) بعده، وزعموا أنَّ الكاظم (عليه السلام) لم يمت، بل هو حيٌّ لا يموت حتَّى
يملك شرق الأرض وغربها ويملأها كلَّها عدلاً كما مُلِئَت جوراً، وهو القائم
المهدي(٣١٣).
وثَمَّة غيرها كثيرٌ من الفِرَق والادِّعاءات التي تركناها طلباً للاختصار(٣١٤).
ويكفي في بطلان هذه الفِرَق وغيرها انقراضها، وقيام الأدلَّة المتكاثرة على بطلانها
رغم أنَّ مجرَّد عدم الدليل كافٍ في ردِّها، بخلاف الفرقة المحقَّة التي قامت عليها
ما سمعت وتسمع من الأدلَّة القاطعة.
والآن نقول: ما منشأ كلِّ هذه الدعاوى المشتركة في أنَّ مهديًّا وعد به
النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) يغيب ثمّ يظهر ويملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت
جوراً؟
والجواب: ما ذكره السيِّد الجدُّ (طاب ثراه) في النظم:
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلْيَقِيْنِ بِقَائِمٍ * * * يَغِيْبُ وَفِيْ تَعْيِيْنِهِ اِلْتَبَسَ اَلْأَمْرُ
بمعنى: أنَّ هذه
الادِّعاءات تكشف عن تباني المسلمين وتسالمهم منذ صدر الإسلام على فكرة القائم
الغائب، ووضوح مفهومها لديهم مع اختلافهم في تعيين مصداقها.
وهذا التباني عامل إضافي يضيف نسبةً غير قليلة لحساب الاحتمالات القائمة على
مطلوبنا، كما لا يخفى.
العامل السادس: رؤية عدد غير قليل من الناس له (عجَّل الله فرجه) وشهادتهم بوجوده،
فإنَّه - بلا شكٍّ - عامل قويٌّ يضيف نسبةً معتدًّا بها إلى حساب الاحتمالات، إنْ
لم نعتبره دليلاً مستقلّاً.
-----------------
(٣١٣) فِرَق الشيعة (ص ٨٠).
(٣١٤) راجع: كتاب مدَّعو المهدويَّة والسفارة للدكتور كنعان.
ألَا يرى الخصم أنَّه لو وُلِدَ مولود ما، فأخبره بولادته شخصٌ واحد ثقة، فسيثق
بقوله ويُصدِّق بولادته؟
وإنْ تذرَّعَ باحتمال عدم وثاقة المخبر، فماذا لو تعدَّد المخبرون وتكاثروا
متَّفقين على الولادة المذكورة؟ أيحسبُ عاقلاً يتردَّد في تصديقها أو يطلب أكثر من
ذلك للبناء عليها؟! وهل يتعامل العقلاء فيما بينهم إلَّا بمثل هذه الإخبارات
أصلاً؟!
ولكنَّنا بالرغم من هذا سنستمرُّ بالتنزُّل مع الخصم - راجين ألَّا نضرب القاع -
ونفترض - لا عقلائيًّا - أنَّ هذه الإخبارات لا تصلح لوحدها إثباتاً للولادة، ولا
أحسبه يجرؤ بعد ذلك على إنكار أنَّها تضيف نسبةً قويَّةً إلى حساب الاحتمالات الذي
لو أنصف الحقَّ من نفسه وترك التعصُّب والعناد لوجد أنَّه تجاوز حدَّ اليقين
أضعافاً.
ذكر جماعة ممَّن رآه (عجَّل الله
فرجه):
وعليه، فلنذكر هنا ما يتيسَّر ممَّن رآه وشهد بوجوده، وهم - كما فصَّلهم العلَّامة
البحراني (قدِّس سرّه) في كتابه الفريد (تبصرة الوليِّ فيمن رأى القائم المهدي) -:
أوَّلاً: السيِّدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام)، وقد ذكر السيِّد
البحراني (طاب ثراه) في كتابه المزبور ثمانية روايات في ذلك، نقتصر على واحدة منها،
وهي ما رواه الشيخ الصدوق (رضي الله عنه) في (كمال الدِّين) بسنده إليها، قالت:
بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَقَالَ: «يَا عَمَّةِ،
اِجْعَلِي إِفْطَارَكِ هَذِهِ اَللَّيْلَةَ عِنْدَنَا فَإِنَّهَا لَيْلَةُ
اَلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيُظْهِرُ فِي
هَذِهِ اَللَّيْلَةِ اَلْحُجَّةَ وَهُوَ حُجَّتُهُ فِي أَرْضِهِ»، قَالَتْ:
فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ أُمُّهُ؟ قَالَ لِي: «نَرْجِسُ»، قُلْتُ لَهُ: جَعَلَنِي
اَللهُ فِدَاكَ مَا بِهَا أَثَرٌ، فَقَالَ: «هُوَ مَا أَقُولُ لَكِ»، قَالَتْ:
فَجِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ جَاءَتْ تَنْزِعُ خُفِّي، وقَالَتْ لِي:
يَا سَيِّدَتِي وسَيِّدَةَ أَهْلِي، كَيْفَ أَمْسَيْتِ؟
فَقُلْتُ: بَلْ أَنْتِ سَيِّدَتِي وَسَيِّدَةُ أَهْلِي، قَالَتْ: فَأَنْكَرَتْ قَوْلِي وَقَالَتْ: مَا هَذَا، يَا عَمَّةِ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّ اَللهَ تَعَالَى سَيَهَبُ لَكِ فِي لَيْلَتِكِ هَذِهِ غُلَاماً سَيِّداً فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ، قَالَتْ: فَخَجِلَتْ وَاِسْتَحْيَتْ، فَلَمَّا أَنْ فَرَغْتُ مِنْ صَلَاةِ اَلْعِشَاءِ اَلْآخِرَةِ أَفْطَرْتُ وَأَخَذْتُ مَضْجَعِي فَرَقَدْتُ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي جَوْفِ اَللَّيْلِ قُمْتُ إِلَى اَلصَّلَاةِ، فَفَرَغْتُ مِنْ صَلَاتِي وَهِيَ نَائِمَةٌ لَيْسَ بِهَا حَادِثٌ، ثُمَّ جَلَسْتُ مُعَقِّبَةً ثُمَّ اِضْطَجَعْتُ ثُمَّ اِنْتَبَهْتُ فَزِعَةً وَهِيَ رَاقِدَةٌ، ثُمَّ قَامَتْ فَصَلَّتْ وَنَامَتْ، قَالَتْ حَكِيمَةُ: وَخَرَجْتُ أَتَفَقَّدُ اَلْفَجْرَ، فَإِذَا أَنَا بِالْفَجْرِ اَلْأَوَّلِ كَذَنَبِ اَلسِّرْحَانِ وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَدَخَلَنِي اَلشُّكُوكُ، فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) مِنَ اَلمَجْلِسِ، فَقَالَ: «لَا تَعْجَلِي يَا عَمَّةِ، فَهَاكِ اَلْأَمْرُ قَدْ قَرُبَ»، قَالَتْ: فَجَلَسْتُ وَقَرَأْتُ الم اَلسَّجْدَةَ وَيس، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذِ اِنْتَبَهَتْ فَزِعَةً، فَوَثَبْتُ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: اِسْمُ اَلله عَلَيْكِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهَا: أَتُحِسِّينَ شَيْئاً، قَالَتْ: نَعَمْ يَا عَمَّةِ، فَقُلْتُ لَهَا: اِجْمَعِي نَفْسَكِ وَاِجْمَعِي قَلْبَكِ فَهُوَ مَا قُلْتُ لَكِ، قَالَتْ: فَأَخَذَتْنِي فَتْرَةٌ وَأَخَذَتْهَا فَتْرَةٌ، فَانْتَبَهْتُ بِحِسِّ سَيِّدِي، فَكَشَفْتُ اَلثَّوْبَ عَنْهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ (عليه السلام) سَاجِداً يَتَلَقَّى اَلْأَرْضَ بِمَسَاجِدِهِ، فَضَمَمْتُهُ إِلَيَّ، فَإِذَا أَنَا بِهِ نَظِيفٌ مُتَنَظِّفٌ، فَصَاحَ بِي أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «هَلُمِّي إِلَيَّ اِبْنِي يَا عَمَّةِ»، فَجِئْتُ بِهِ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ يَدَيْهِ تَحْتَ أَلْيَتَيْهِ وَظَهْرِهِ، وَوَضَعَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ أَدْلَى لِسَانَهُ فِي فِيهِ، وَأَمَرَّ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَسَمْعِهِ وَمَفَاصِلِهِ، ثُمَّ قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله)»، ثُمَّ صَلَّى عَلَى أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ وَعَلَى اَلْأَئِمَّةِ (عليهم السلام) إِلَى أَنْ وَقَفَ عَلَى أَبِيهِ، ثُمَّ أَحْجَمَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «يَا عَمَّةِ، اِذْهَبِي بِهِ إِلَى أُمِّهِ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهَا وَأْتِينِي بِهِ»، فَذَهَبْتُ بِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَرَدَدْتُهُ، فَوَضَعْتُهُ فِي اَلمَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَمَّةِ، إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلسَّابِعِ فَأْتِينَا»، قَالَتْ حَكِيمَةُ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ جِئْتُ لِأُسَلِّمَ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، وَكَشَفْتُ اَلسِّتْرَ لِأَتَفَقَّدَ سَيِّدِي (عليه السلام) فَلَمْ أَرَهُ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ،
مَا فَعَلَ سَيِّدِي؟ فَقَالَ: «يَا عَمَّةِ،
اِسْتَوْدَعْنَاهُ اَلَّذِي اِسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى (عليه السلام)»، قَالَتْ
حَكِيمَةُ: فَلَمَّا كَانَ فِي اَلْيَوْمِ اَلسَّابِعِ جِئْتُ فَسَلَّمْتُ
وَجَلَسْتُ، فَقَالَ: «هَلُمِّي إِلَيَّ اِبْنِي»، فَجِئْتُ بِسَيِّدِي (عليه
السلام) وَهُوَ فِي اَلْخِرْقَةِ، فَفَعَلَ بِهِ كَفَعْلَتِهِ اَلْأُولَى، ثُمَّ
أَدْلَى لِسَانَهُ فِي فِيهِ كَأَنَّهُ يُغَذِّيهِ لَبَناً أَوْ عَسَلاً، ثُمَّ
قَالَ: «تَكَلَّمْ يَا بُنَيَّ»، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اَللهُ»، وَثَنَّى بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ
وَعَلَى اَلْأَئِمَّةِ اَلطَّاهِرِينَ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)
حَتَّى وَقَفَ عَلَى أَبِيهِ (عليه السلام)، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ اَلْآيَةَ: ﴿بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ
لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا
كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القَصَص: ٥ و٦]. قَالَ مُوسَى: فَسَأَلْتُ عُقْبَةَ
اَلْخَادِمَ عَنْ هَذِهِ، فَقَالَتْ: صَدَقَتْ حَكِيمَةُ(٣١٥).
ثانياً: العجوز القابلة، كما رواه الشيخ الطوسي (رضي الله عنه) في (غيبته) بسنده
إلى حنظلة بن زكريَّا، قال: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ بِلَالِ بْنِ دَاوُدَ
اَلْكَاتِبُ، وَكَانَ عَامِّيًّا بِمَحَلٍّ مِنَ اَلنَّصْبِ لِأَهْلِ اَلْبَيْتِ
(عليهم السلام) يُظْهِرُ ذَلِكَ وَلَا يَكْتُمُهُ، وَكَانَ صَدِيقاً لِي يُظْهِرُ
مَوَدَّةً بِمَا فِيهِ مِنْ طَبْعِ أَهْلِ اَلْعِرَاقِ، فَيَقُولُ - كُلَّمَا
لَقِيَنِي -: لَكَ عِنْدِي خَبَرٌ تَفْرَحُ بِهِ وَلَا أُخْبِرُكَ بِهِ،
فَأَتَغَافَلُ عَنْهُ، إِلَى أَنْ جَمَعَنِي وَإِيَّاهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ،
فَاسْتَقْصَيْتُ عَنْهُ وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُخْبِرَنِي بِهِ، فَقَالَ: كَانَتْ
دُورُنَا بِسُرَّ مَنْ رَأَى مُقَابِلَ دَارِ اِبْنِ اَلرِّضَا - يَعْنِي أَبَا
مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) -، فَغِبْتُ عَنْهَا دَهْراً
طَوِيلاً إِلَى قَزْوِينَ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ قَضَى لِيَ اَلرُّجُوعُ إِلَيْهَا،
فَلَمَّا وَافَيْتُهَا وَقَدْ كُنْتُ فَقَدْتُ جَمِيعَ مَنْ خَلَّفْتُهُ مِنْ
أَهْلِي وَقَرَابَاتِي إِلَّا عَجُوزاً كَانَتْ رَبَّتْنِي، وَلَهَا بِنْتٌ
مَعَهَا، وَكَانَتْ مِنْ طَبْعِ اَلْأَوَّلِ مَسْتُورَةً صَائِنَةً لَا تُحْسِنُ
اَلْكَذِبَ، وَكَذَلِكَ مَوَالِيَاتٌ لَنَا بَقِينَ فِي اَلدَّارِ، فَأَقَمْتُ
عِنْدَهُنَّ أَيَّاماً ثُمَّ عَزَمْتُ اَلْخُرُوجَ، فَقَالَتِ اَلْعَجُوزَةُ:
كَيْفَ تَسْتَعْجِلُ
-----------------
(٣١٥) كمال الدِّين (ص ٤٥٤).
اَلْاِنْصِرَافَ وَقَدْ غِبْتَ زَمَاناً؟ فَأَقِمْ عِنْدَنَا لِنَفْرَحَ بِمَكَانِكَ، فَقُلْتُ لَهَا عَلَى جِهَةِ اَلْهُزْءِ: أُرِيدُ أَنْ أَصِيرَ إِلَى كَرْبَلَاءَ، وَكَانَ اَلنَّاسُ لِلْخُرُوجِ فِي اَلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ لِيَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، أُعِيذُكَ بِالله أَنْ تَسْتَهِينَ مَا ذَكَرْتَ أَوْ تَقُولَهُ عَلَى وَجْهِ اَلْهُزْءِ، فَإِنِّي أُحَدِّثُكَ بِمَا رَأَيْتُهُ يَعْنِي بَعْدَ خُرُوجِكَ مِنْ عِنْدِنَا بِسَنَتَيْنِ: كُنْتُ فِي هَذَا اَلْبَيْتِ نَائِمَةً بِالْقُرْبِ مِنَ اَلدِّهْلِيزِ، وَمَعِي اِبْنَتِي، وَأَنَا بَيْنَ اَلنَّائِمَةِ وَاَلْيَقْظَانَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ حَسَنُ اَلْوَجْهِ نَظِيفُ اَلثِّيَابِ طَيِّبُ اَلرَّائِحَةِ، فَقَالَ: يَا فُلَانَةُ، يَجِيئُكِ اَلسَّاعَةَ مَنْ يَدْعُوكِ فِي اَلْجِيرَانِ، فَلَا تَمْتَنِعِي مِنَ اَلذَّهَابِ مَعَهُ وَلَا تَخَافِي، فَفَزِعْتُ، فَنَادَيْتُ اِبْنَتِي، وَقُلْتُ لَهَا: هَلْ شَعَرْتِ بِأَحَدٍ دَخَلَ اَلْبَيْتَ؟ فَقَالَتْ: لَا، فَذَكَرْتُ اَللهَ وَقَرَأْتُ وَنِمْتُ، فَجَاءَ اَلرَّجُلُ بِعَيْنِهِ وَقَالَ لِي مِثْلَ قَوْلِهِ، فَفَزِعْتُ وَصِحْتُ بِابْنَتِي، فَقَالَتْ: لَمْ يَدْخُلِ اَلْبَيْتَ أَحَدٌ، فَاذْكُرِي اَللهَ وَلَا تَفْزَعِي، فَقَرَأْتُ وَنِمْتُ، فَلَمَّا كَانَ فِي اَللَّيْلَةِ اَلثَّالِثَةِ جَاءَ اَلرَّجُلُ وَقَالَ: يَا فُلَانَةُ قَدْ جَاءَكِ مَنْ يَدْعُوكِ وَيَقْرَعُ اَلْبَابَ فَاذْهَبِي مَعَهُ، وَسَمِعْتُ دَقَّ اَلْبَابِ، فَقُمْتُ وَرَاءَ اَلْبَابِ وَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: اِفْتَحِي وَلَا تَخَافِي، فَعَرَفْتُ كَلَامَهُ، وَفَتَحْتُ اَلْبَابَ، فَإِذَا خَادِمٌ مَعَهُ إِزَارٌ، فَقَالَ: يَحْتَاجُ إِلَيْكِ بَعْضُ اَلْجِيرَانِ لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ، فَادْخُلِي، وَلَفَّ رَأْسِي بِالمُلَاءَةِ وَأَدْخَلَنِي اَلدَّارَ وَأَنَا أَعْرِفُهَا، فَإِذَا بِشِقَاقٍ مَشْدُودَةٍ وَسَطَ اَلدَّارِ وَرَجُلٌ قَاعِدٌ بِجَنْبِ اَلشِّقَاقِ، فَرَفَعَ اَلْخَادِمُ طَرَفَهُ، فَدَخَلْتُ وَإِذَا اِمْرَأَةٌ قَدْ أَخَذَهَا اَلطَّلْقُ، وَاِمْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ خَلْفَهَا كَأَنَّهَا تَقْبَلُهَا، فَقَالَتِ اَلمَرْأَةُ: تُعِينُنَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَعَالَجْتُهَا بِمَا يُعَالَجُ بِهِ مِثْلُهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا قَلِيلاً حَتَّى سَقَطَ غُلَامٌ، فَأَخَذْتُهُ عَلَى كَفِّي وَصِحْتُ: غُلَامٌ غُلَامٌ، وَأَخْرَجْتُ رَأْسِي مِنْ طَرَفِ اَلشِّقَاقِ أُبَشِّرُ اَلرَّجُلَ اَلْقَاعِدَ، فَقِيلَ لِي: لَا تَصِيحِي، فَلَمَّا رَدَدْتُ وَجْهِي إِلَى اَلْغُلاَمِ قَدْ كُنْتُ فَقَدْتُهُ مِنْ كَفِّي، فَقَالَتْ لِيَ اَلمَرْأَةُ اَلْقَاعِدَةُ: لَا تَصِيحِي، وَأَخَذَ اَلْخَادِمُ بِيَدِي وَلَفَّ رَأْسِي بِالمُلَاءَةِ وَأَخْرَجَنِي مِنَ اَلدَّارِ وَرَدَّنِي إِلَى دَارِي وَنَاوَلَنِي صُرَّةً، وَقَالَ لِي: لَا تُخْبِرِي بِمَا رَأَيْتِ أَحَداً، فَدَخَلْتُ اَلدَّارَ وَرَجَعْتُ إِلَى فِرَاشِي فِي هَذَا اَلْبَيْتِ وَاِبْنَتِي نَائِمَةٌ بَعْدُ، فَأَنْبَهْتُهَا وَسَأَلْتُهَا: هَلْ عَلِمْتِ بِخُرُوجِي وَرُجُوعِي؟ فَقَالَتْ: لَا، وَفَتَحْتُ اَلصُّرَّةَ فِي ذَلِكَ اَلْوَقْتِ، وَإِذَا فِيهَا عَشَرَةُ
دَنَانِيرَ عَدَداً، وَمَا أَخْبَرْتُ بِهَذَا أَحَداً إِلَّا فِي هَذَا اَلْوَقْتِ
لَمَّا تَكَلَّمْتَ بِهَذَا اَلْكَلَامِ عَلَى حَدِّ اَلْهُزْءِ، فَحَدَّثْتُكَ
إِشْفَاقاً عَلَيْكَ، فَإِنَّ لِهَؤُلَاءِ اَلْقَوْمِ عِنْدَ اَلله (عزَّ وجلَّ)
شَأْناً وَمَنْزِلَةً، وَكُلُّ مَا يَدَّعُونَهُ حَقٌّ، قَالَ: فَعَجِبْتُ مِنْ
قَوْلِهَا وَصَرَفْتُهُ إِلَى اَلسُّخْرِيَّةِ وَاَلْهُزْءِ وَلَمْ أَسْأَلْهَا
عَنِ اَلْوَقْتِ، غَيْرَ أَنِّي أَعْلَمُ يَقِيناً أَنِّي غِبْتُ عَنْهُمْ فِي
سَنَةِ نَيِّفٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَرَجَعْتُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى فِي
وَقْتٍ أَخْبَرَتْنِي اَلْعَجُوزَةُ بِهَذَا اَلْخَبَرِ فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي وِزَارَةِ عُبَيْدِ اَلله بْنِ سُلَيْمَانَ لَمَّا
قَصَدْتُهُ(٣١٦).
ثالثاً ورابعاً: نسيم الخادم ومارية، فيما رواه الصدوق (رضي الله عنه) بسنده إلى
السيَّاري، قال: حَدَّثَتْنِي نَسِيمُ وَمَارِيَةُ، قَالَتَا: إِنَّهُ لَمَّا
سَقَطَ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ جَاثِياً عَلَى رُكْبَتَيْهِ
رَافِعاً سَبَّابَتَيْهِ إِلَى اَلسَّمَاءِ ثُمَّ عَطَسَ فَقَالَ: «اَلْحَمْدُ لله
رَبِّ اَلْعالَمِينَ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، زَعَمَتِ
اَلظَّلَمَةُ أَنَّ حُجَّةَ اَلله دَاحِضَةٌ، لَوْ أُذِنَ لَنَا فِي اَلْكَلَامِ
لَزَالَ اَلشَّكُّ»(٣١٧).
خامساً: أبو غانم الخادم وأصحاب العسكري (عليهم السلام) الذين أراهم إيَّاه، فيما
رواه الصدوق (رضي الله عنه) أيضاً بسنده إلى أبي غانم الخادم، قال: وُلِدَ لِأَبِي
مُحَمَّدٍ وَلَدٌ، فَسَمَّاهُ مُحَمَّداً، فَعَرَضَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ يَوْمَ
اَلثَّالِثِ وَقَالَ: «هَذَا صَاحِبُكُمْ مِنْ بَعْدِي وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ،
وَهُوَ الْقَائِمُ اَلَّذِي تَمْتَدُّ إِلَيْهِ اَلْأَعْنَاقُ بِالْاِنْتِظَارِ،
فَإِذَا اِمْتَلَأَتِ اَلْأَرْضُ جَوْراً وَظُلْماً خَرَجَ فَمَلَأَهَا قِسْطاً
وَعَدْلاً»(٣١٨).
سادساً: أبو هارون، فيما رواه الصدوق (رضي الله عنه) أيضاً بسنده إلى محمّد بن
الحسن الكرخي، قال: سَمِعْتُ أَبَا هَارُونَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ:
(رَأَيْتُ صَاحِبَ اَلزَّمَانِ وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ اَلْجُمُعَةِ سَنَةَ
سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ)(٣١٩).
-----------------
(٣١٦) الغيبة للطوسي (ص ٢٦٨).
(٣١٧) كمال الدِّين (ص ٤٣٠).
(٣١٨) كمال الدِّين (ص ٤٦١).
(٣١٩) كمال الدِّين (ص ٤٦٢).
سابعاً: معاوية بن حكيم، ومحمّد بن أيُّوب بن نوح، ومحمّد بن عثمان العمري، في جملة
أربعين رجلاً، فيما رواه الصدوق (رضي الله عنه) أيضاً بسنده إلى الثلاثة المذكورين،
قالوا: عَرَضَ عَلَيْنَا اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) اِبْنَهُ (عليه
السلام) وَنَحْنُ فِي مَنْزِلِهِ، وَكُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلاً، فَقَالَ: هَذَا
إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، أَطِيعُوهُ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فَتَهْلِكُوا فِي أَدْيَانِكُمْ، أَمَا إِنَّكُمْ لَا
تَرَوْنَهُ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا»(٣٢٠).
ثامناً: عمر الأهوازي، فيما رواه الكليني (رضي الله عنه) بسنده إلى جعفر بن محمّد
المكفوف، عن عمر الأهوازي، قال: أَرَانِي أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) اِبْنَهُ،
وَقَالَ: «هَذَا صَاحِبُكُمْ مِنْ بَعْدِي»(٣٢١).
تاسعاً: الشيخ الجليل أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه)، فيما رواه
الكليني (رضي الله عنه) بواسطة واحدة إلى عبد الله بن جعفر الحميري، قال:
اِجْتَمَعْتُ أَنَا وَاَلشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو (رحمه الله) عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ
إِسْحَاقَ، فَغَمَزَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ اَلْخَلَفِ،
فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ
وَمَا أَنَا بِشَاكٍّ فِيمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ، فَإِنَّ اِعْتِقَادِي
وَدِينِي أَنَّ اَلْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ إِلَّا إِذَا كَانَ قَبْلَ
يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْماً، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ رُفِعَتِ
اَلْحُجَّةُ وَأُغْلِقَ بَابُ اَلتَّوْبَةِ فَلَمْ يَكُ ﴿يَنْفَعُ
نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ [الأنعام: ١٥٨]، فَأُولَئِكَ أَشْرَارٌ مِنْ خَلْقِ
اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَهُمُ الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ اَلْقِيَامَةُ، ولَكِنِّي
أَحْبَبْتُ أَنْ أَزْدَادَ يَقِيناً، وإِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) سَأَلَ
رَبَّهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي اَلمَوْتَى، ﴿قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة:
٢٦٠]، وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي
اَلْحَسَنِ(عليه السلام) قَالَ: سَأَلْتُه وَقُلْتُ: مَنْ أُعَامِلُ أَوْ عَمَّنْ
آخُذُ وَقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ لَهُ: «اَلْعَمْرِيُّ
-----------------
(٣٢٠) كمال الدِّين (ص ٤٦٥).
(٣٢١) الكافي (ج ١/ ص ٣٢٨).
ثِقَتِي، فَمَا أَدَّى
إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي، وَمَا قَالَ لَكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُولُ،
فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ فَإِنَّه اَلثِّقَةُ اَلمَأْمُونُ»، وَأَخْبَرَنِي أَبُو
عَلِيٍّ أَنَّه سَأَلَ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ
لَهُ: «اَلْعَمْرِيُّ وَاِبْنُهُ ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ عَنِّي
فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، وَمَا قَالَا لَكَ فَعَنِّي يَقُولَانِ، فَاسْمَعْ لَهُمَا
وَأَطِعْهُمَا فَإِنَّهُمَا اَلثِّقَتَانِ اَلمَأْمُونَانِ»، فَهَذَا قَوْلُ
إِمَامَيْنِ قَدْ مَضَيَا فِيكَ، قَالَ: فَخَرَّ أَبُو عَمْرٍو سَاجِداً وَبَكَى،
ثُمَّ قَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ رَأَيْتَ اَلْخَلَفَ مِنْ
بَعْدِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)؟ فَقَالَ: إِي وَاَلله وَرَقَبَتُهُ مِثْلُ
ذَا - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ -، فَقُلْتُ لَهُ: فَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ لِي:
هَاتِ، قُلْتُ: فَالْاِسْمُ، قَالَ: مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَنْ
ذَلِكَ، وَلَا أَقُولُ هَذَا مِنْ عِنْدِي، فَلَيْسَ لِي أَنْ أُحَلِّلَ وَلَا
أُحَرِّمَ وَلَكِنْ عَنْهُ (عليه السلام)، فَإِنَّ اَلْأَمْرَ عِنْدَ اَلسُّلْطَانِ
أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ مَضَى وَلَمْ يُخَلِّفْ وَلَداً، وَقَسَّمَ مِيرَاثَهُ
وَأَخَذَهُ مَنْ لَا حَقَّ لَه فِيهِ، وَهُوَ ذَا عِيَالُهُ يَجُولُونَ لَيْسَ
أَحَدٌ يَجْسُرُ أَنْ يَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ أَوْ يُنِيلَهُمْ شَيْئاً، وَإِذَا
وَقَعَ اَلْاِسْمُ وَقَعَ اَلطَّلَبُ، فَاتَّقُوا اَللهَ وَأَمْسِكُوا عَنْ
ذَلِكَ(٣٢٢).
ثمّ عقَّب الكليني (رضي الله عنه) قائلاً: (وَحَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَصْحَابِنَا
ذَهَبَ عَنِّي اِسْمُه أَنَّ أَبَا عَمْرٍو سَأَلَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ
عَنْ مِثْلِ هَذَا، فَأَجَابَ بِمِثْلِ هَذَا)(٣٢٣).
عاشراً: محمّد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فيما رواه الكليني (رضي
الله عنه) بواسطة واحدة عنه، قال: (رَأَيْتُهُ بَيْنَ اَلمَسْجِدَيْنِ وَهُوَ
غُلَامٌ)(٣٢٤).
أقول: نكتفي بهذا القدر من التفصيل رعايةً للاختصار، ولكنَّنا نذكر باقي الأسماء
مجرَّدةً دون ذكر الروايات، ونحيل مَنْ يريد قراءتها إلى كتاب السيِّد البحراني
(طاب ثراه) السالف الذكر:
-----------------
(٣٢٢) الكافي (ج ١/ ص ٣٧٧ و٣٧٨).
(٣٢٣) المصدر نفسه.
(٣٢٤) الكافي (ج ١/ ص ٣٧٨).
الحادي عشر: أبو عليٍّ ابن المطهَّر.
الثاني عشر: إبراهيم بن عبدة النيسابوري.
الثالث عشر: رشيق صاحب المادراي.
الرابع عشر: كامل بن إبراهيم.
الخامس عشر: أبو عبد الله ابن صالح.
السادس عشر: إبراهيم بن إدريس.
السابع عشر: جعفر بن عليٍّ.
الثامن عشر: أبو محمّد الوجناني، عمَّن رآه.
التاسع عشر: أبو نصر طريف الخادم.
العشرون: يعقوب بن منفوس.
الواحد والعشرون: غانم أبو سعيد الهندي.
الثاني والعشرون: محمّد بن شاذان الكابلي.
الثالث والعشرون: ظريف أبو نصر.
الرابع والعشرون: عبد الله السوري.
الخامس والعشرون: جعفر بن الإمام الهادي (عليه السلام).
السادس والعشرون: الحسن بن وجناء النصيبي.
السابع والعشرون: إبراهيم بن مهزيار.
الثامن والعشرون: أحمد بن إسحاق الوكيل.
التاسع والعشرون: سعد بن عبد الله القمِّي.
الثلاثون: عليُّ بن إبراهيم بن مهزيار.
الواحد والثلاثون: أبو نعيم الأنصاري في جملة ثلاثين رجلاً.
الثاني والثلاثون: أبو الأديان.
الثالث والثلاثون: محمّد بن جعفر الحميري، ومعه وفد قمّ.
الرابع والثلاثون: أبو القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه).
الخامس والثلاثون: أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري.
السادس والثلاثون: محمّد بن أحمد المحمودي، ومعه جماعة.
السابع والثلاثون: إبراهيم بن محمّد بن أحمد الأنصاري، في جملة ثلاثين رجلاً.
الثامن والثلاثون: محمّد بن أحمد بن خلف.
التاسع والثلاثون: يوسف بن أحمد الجعفري.
الأربعون: أحمد بن عبد الله الهاشمي، في جملة تسعة وثلاثين رجلاً.
الواحد والأربعون: الحسن بن عبد الله التميمي.
الثاني والأربعون: إسماعيل بن عليٍّ النوبختي.
الثالث والأربعون: يعقوب بن يوسف.
الرابع والأربعون: صاحب الصرَّة ابن أبي سورة.
الخامس والأربعون: عليُّ بن بلال، ومعه جماعة.
السادس والأربعون: جعفر بن محمّد بن عمرو، ومعه جماعة.
السابع والأربعون: أبو طاهر بن بلال.
الثامن والأربعون: أبو الحسين بن أبي العلاء الكاتب.
التاسع والأربعون: ابن جعفر القيِّم.
الخمسون: عيسى بن مهدي الجواهري.
وغيرهم ممَّن ذكر السيِّد (طاب ثراه) في (التبصرة)، فراجعه.
وحينئذٍ نقول - كما أشرنا مسبقاً -: إنَّ ولادة أيِّ شخص تثبت بإقرار أبيه، وشهادة
القابلة، دون حاجة إلى أنْ يراه أحد غيرهما، فكيف لو شهد بوجوده عشرات الأشخاص،
ورأوه وسمعوه، وصدرت منه إليهم رسائل
ووصايا، ولمسوا منه المعجزات والكرامات،
وصرَّحَ بولادته مؤرِّخو العامَّة فضلاً عن الخاصَّة، وكان له وكلاء وسفراء
معروفون، وروايات وأدعية وكلمات مأثورة، وأجيال متكاثرة منذ عشرات القرون من
المؤمنين به والمتيقِّنين بوجوده، ودلَّ على وجوده وإمامته كلُّ ما تقدَّم من
الأدلَّة؟!
أمن العدل، بل العقل أنْ يُطالِبَ الخصم بأكثر من هذا للإيمان بالحقِّ الصراح؟! أم
تُراه يقول كما قال الكُفَّار للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله): ﴿وَقَالُوا
لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ
لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا
تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ
تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ
زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى
تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا
بَشَراً رَسُولاً﴾ (الإسراء: ٩٠ - ٩٣).
العامل السابع: ما ذكره السيِّد الجدُّ الناظم (طاب ثراه) بقوله:
وَكَمْ جَدَّ
فِيْ اَلتَّفْتِيْشِ طَاغِيْ زَمَانِهِ * * * لِيُفْشِيَ سِرَّ اَلله فَانْكَتَمَ
اَلسِّرُّ
وَحَاَوَلَ أَنْ يَسْعَى لِإِطْفَاءِ نُوْرِهِ * * * وَمَا رِبْحُهُ إلَّا
اَلنَّدَامَةُ وَاَلْخُسْرُ
وهو تصرُّف
العبَّاسيِّين عند ولادته (عجَّل الله فرجه) الذي يشير إلى علمهم بأنَّه المهدي
القائم من آل محمّد (عليهم السلام) الذي يُهدِّد وجوده السلطات الظالمة.
وذلك أنَّ المعتمد العبَّاسي بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) أمر شرطته
بتفتيش داره رأساً على عقب، بحثاً عن ولده (عجَّل الله فرجه) الذي لم يكن له من
العمر إلَّا خمس سنوات، وفَعَلَ ما فَعَلَ مع مواليه وجواريه وأصحابه(٣٢٥).
فللعاقل أنْ يسأل بعد أنْ يطَّلع على هذا الجزء من التاريخ - وحقٌّ له ذلك -:
-----------------
(٣٢٥) اُنظر: الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٣٦).
ما
الداعي للخليفة الحاكم أنْ يقدم على مثل هذا الفعل؟ وما الذي شغله عن مُلكه وسلطته
وسائر شؤون دولته الكبيرة إلى البحث والتفتيش عن غلام عمره خمس سنوات؟
ولا جوابَ عن ذلك إلَّا أنَّه - كمن سبقه من الخلفاء - كان عالماً بأنَّ ولداً
يُولَد للعسكري (عليه السلام) يملأ الأرض عدلاً كما مُلِئَت جوراً، فما كان له
إلَّا أنْ يُفتِّش عنه تفتيشاً حثيثاً لعلَّه يصيبه فيقتله ويستريح من خطره، ولكنَّ
الله تعالى نجَّاه وغيَّبه عنه، كما قال السيِّد الجدُّ (طاب ثراه) بعد البيتين
السابقين:
وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ * * * مِنَ اَلْعِتْرَةِ اَلْهَادِيْنِ فِيْ شَأْنِهِ خُبْرُ
فهذا عامل سابع
يضاف إلى حساب الاحتمالات.
ونعيد الآن فنقول: هذه العوامل السبعة إنْ لم يكن كلُّ واحدٍ منها دليلاً على
مطلوبنا، فلا يمكن لعاقل أنْ يتردَّد في أنَّها بمجموعها تنتج يقيناً مضاعفاً به،
وبهذا يتمُّ هذا الدليل بحمد الله تعالى.
نتيجة ما تقدَّم:
فها نحن قد سطَّرنا عليك ما أردنا تسطيره من الأدلَّة الساطعة والبراهين القاطعة -
التي لا معارض لها - على مذهبنا الحقِّ، وعلى إمامة أمير المؤمنين(عليه السلام)
وبنيه (عليهم السلام) وصولاً إلى الحجَّة بن الحسن القائم (عجَّل الله فرجه)، ومن
الظاهر الجلي أنَّنا لم نستوفِ الحديث في ذلك ولم نستقصِ كلَّ الأدلَّة؛ فإنَّها لا
تُحصى كثرةً، وفي كُتُب متكلِّمي أصحابنا شفاء الغليل، ودواء العليل، لاسيَّما
الشيخ المفيد (رضي الله عنه) في كُتُبه المعروفة، وعلم الهدى المرتضى (رضي الله
عنه) في شافيه الذي - لم يُكتَب في الإمامة مثلُهُ - وغيره من كُتُبه العظيمة،
والعلَّامة الحلِّي (رضي الله عنه) في كُتُبه الغرَّاء التي أشهرها (منهاج الكرامة)
و(نهج الحقِّ)، ومنها كتاب (الألفين) الذي سطَّر فيه ألفي دليل
على إمامة أمير
المؤمنين (عليه السلام)، والسيِّد المحدِّث البحراني (رضي الله عنه) في (غاية
المرام)، وغيرهم من الأكابر والأعلام الذين لا يَعرِف حقَّهم بكماله غيرُ الله
تعالى ورسوله (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).
وأنت - أيُّها اللبيب - بعد أنْ قرأتها قراءة متمعِّن، ونظرت فيها نظرةَ طالبِ
حقٍّ، متجرِّداً عن كلِّ ما يعرو النفس المريضة والقلب الضعيف من دواعي العصبيَّة
وعدم الإنصاف التي تُعمي عن إبصار الحقِّ وإنْ كان شمساً في ظهوره ووضوحه، تعرف ما
دعانا إلى التمسُّك بهذا المذهب، ويتَّضح عندك ما دفع أبناءه إلى التمسُّك به منذ
القرون الأُولى حتَّى الآن دون أنْ يثنيهم عن ذلك حدُّ السيوف، وما هو إلَّا أنَّه
الحقُّ الصراح الذي نزل به جبرئيل وحياً عن اللطيف الخبير على نبيِّه الأكرم (صلَّى
الله عليه وآله).
وكيف لا يكفي كلَّ ذي إنصاف مثلُ حديث الاثني عشر إماماً الذي لا تفسيرَ معقول له
إلَّا تفسير الإماميَّة، ومثل حديث الثقلين الحاصر لأسباب الهداية بالقرآن والعترة
(عليهم السلام)، ومثل حديث سفينة نوح، وحديث باب حطَّة، وآية التطهير، مع ملاحظة
ذلك مع ما تقرَّر من وجوب وجود الإمام عقلاً، وحديث ميتة الجاهليَّة الناصِّ على
الوجوب المذكور، والأحاديث المتكاثرة المتواترة على إمامتهم (عليهم السلام) وإمامته
(عجَّل الله فرجه)، وما قدَّمناه من العوامل المفيدة لليقين بطريقة حساب
الاحتمالات، وغير ذلك ممَّا لا يُحصى كثرةً من الأدلَّة التي لا تعدو عن كونها
موضِّحةً للواضحات بعد هذه البراهين، لاسيَّما إذا قارنه مع الأدلَّة التي أقامها
مخالفوهم على مذهبهم، ولم يجد غير دليل الإجماع الذي هو أوهن من بيت العنكبوت كما
سيأتي؟!
اللَّهُمَّ فاشهد علينا أنَّ هذا ديننا وهذه عقيدتها، وأنَّ هذه أدلَّتنا وذريعتنا
في اتِّخاذه دون غيره من المذاهب، فلتنظرْ كلُّ نفس ما قدَّمت يوم لا ينفع مال
ولا بنون، ﴿هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ
وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ﴾ (يونس: ٣٠).
خطاب أخٍ مشفق مع المخالفين
السُّنَّة:
ويحسن عندي هنا أنْ أُوجِّه الخطاب إلى إخواني في الشهادتين من المخالفين، وأسألهم
- سؤالَ مستفهمٍ لا مستنكر - عن موقفهم أمام هذه الأدلَّة، وبماذا سيجيبون ربَّهم
(عزَّ وجلَّ) إذا سألهم عن سبب إعراضهم عن المنصوص على هدايتهم وعاصميتهم من الضلال
بطُرُق الفريقين، واتِّخاذهم فلاناً وفلاناً بدلاً عنهم في دينهم وعقيدتهم؟ وعلى
ماذا اعتمدوا في قبال هذه البراهين الواضحة المستندة إلى السُّنَّة والعقل
القطعيَّين؟
وبما أنَّ الحديث وصل إلى هذه النقطة، فلا بأس أنْ نعرض ما ذكره القوم دليلاً على
صحَّة خلافة أبي بكر ومَنْ بعده، ليقارنه ذو العقل والإنصاف مع أدلَّتنا فينظر ما
إذا كان يقوى ليكون مجرَّد قرينة بسيطة على خلافها، فضلاً عن أنْ يكون دليلاً في
قبالها.
تزييف دليل المخالفين على صحَّة
خلافة أبي بكر:
فنقول: إنَّ عمدة ما تذرَّع به القوم لتصحيح خلافة أبي بكر هو دعواهم قيامَ الإجماع
من الصحابة عليه، بعد أنْ لم ينصَّ النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) على خليفة بعده.
فهاهنا دعويان في الحقيقة:
الأُولى: أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) لم ينصَّ على مَنْ يخلفه في أُمَّته.
الثانية: أنَّ الصحابة أجمعوا على بيعة أبي بكر، وهذا كافٍ في صحَّتها وشرعيَّتها.
هل مضى النبيُّ (صلَّى الله عليه
وآله) دون نصٍّ؟
جواب الدعوى الأُولى:
ويمكن لأدنى مسلم علماً واطِّلاعاً أنْ يدفع الدعوى الأُولى العجيبة التي تُضحِك
الثكلى وتُجهِض الحُبلى بأنْ يقول: إنَّ نبيَّنا (صلَّى الله عليه وآله) هو الحريص
على كلِّ صغيرة وكبيرة تخصُّ المسلمين، والمشفق عليهم غاية الإشفاق، لا يقف في ذلك
دون غاية، ولا يقصر عن نهاية، بشهادة الله تعالى في قوله: ﴿لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: ١٢٨)، حتَّى إنَّه
لم يبخل عليهم بأدنى الأُمور وأقلّها من قبيل كيفيَّة الاستنجاء والتطهير وأحكام
التخلِّي، فكيف له - وهو المعصوم المكلَّف بحفظ الدِّين - أنْ يغفل عن أعظم الأُمور
وأخطرها وهو تعيين خليفة يقوم مقامه ويسير بسيرته لكي يضمن بذلك استمرار منهجه
وطريقته، ويقطع احتماليَّة حصول الفتنة والخلاف في المسلمين بعده، بل يُلقي الحبل
على الغارب، ويترك مصير الإسلام - مع علمه بأنَّهم القاصرون الخطَّاؤون الحديثو
عهدٍ بالجاهليَّة - إليهم؟!
مع اعترافهم بأنَّه (صلَّى الله عليه وآله) لم يكن يترك أمراً للمسلمين إلَّا
وحدَّد لهم فيه طريقاً، ولم يكن يُوكِل لهم تعيين الأُمراء والرؤساء، بل كان
المتولِّي بنفسه لتحديد مَنْ يخلفه في كلِّ صغيرة وكبيرة، حتَّى إنَّه (صلَّى الله
عليه وآله) قال لسريَّته التي أنفذها إلى مؤتة - وفق روايتهم -: «إِنْ أُصِيبَ
زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى اَلنَّاسِ، فَإِنْ
أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اَلله بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى اَلنَّاسِ»(٣٢٦)، ولم يترك
المدينة عند خروجه إلى تبوك إلَّا بعد أنْ جعل أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفته
عليها، وقال له قولته الخالدة: «أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى»(٣٢٧).
-----------------
(٣٢٦) تاريخ الطبري (ج ٣/ ص ٣٦).
(٣٢٧) صحيح البخاري (ج ٥/ص ١٩/ح ٣٧٠٦)؛ صحيح مسلم (ج ٤/ص ١٨٧١/ح ٢٤٠٤).
وليتهم ساووا نبيَّهم (صلَّى الله عليه وآله) بأبي بكر الذي زعموا أنَّه كان على
القدر الكافي من البصيرة والاهتمام بمصير الأُمَّة قبيل وفاته عندما عيَّن عمر
خليفةً له ودفع خطر الفتنة، ولكنَّهم لم يخطر في بالهم مثل ذلك في النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله) عندما زعموا أنَّه مضى دون نصٍّ!
أو ليتهم ساووه (صلَّى الله عليه وآله) بعمر الذي لم يمت حتَّى جعلها في ستَّة، ولم
يتركها مرسَلةً دون أيِّ رأي أو إشارة!
ولكن ماذا ترجو من قوم جوَّزوا عليه (صلَّى الله عليه وآله) اللهو واللعب واستماع
الغناء، ونزَّهوا أبا بكر عن ذلك(٣٢٨)، وجوَّزوا أنْ يجهل (صلَّى الله عليه وآله)
حكم الصلاة على المنافقين، ويعرفه عمر، فيأخذ بثوب النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)
ويزجره قائلاً: (يَا رَسُولَ اَلله، أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ
أَنْ تُصَلِّي عَلَيْهِ؟)، فينزل قوله تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ
عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً﴾ (التوبة: ٨٤) مصدِّقاً لعمر، ومخطِّئاً
للنبيِّ (صلَّى الله عليه وآله)(٣٢٩)! وغير ذلك من تنقيصاتهم له (صلَّى الله عليه
وآله) إكراماً للشيخين ممَّا يشيب له الرأس(٣٣٠).
وصفوة الكلام في المسألة: أنَّ الإمامة لمَّا كانت خلافة إلهيَّة قائمة مقام
النبوَّة، انحصر بمقتضى العقل أنْ يكون تعيين صاحبها راجعاً إلى المستخلِف الذي هو
الله تعالى، والنبيُّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) بما هو معبِّرٌ عن إرادته
تعالى، ناهيك عن أنَّ العصمة شرط قاطع فيها - كما تقدَّم - وهي أمر خفي لا يطَّلع
عليه إلَّا مَنْ يعلم الغيب، وهو الله تعالى والنبيُّ (صلَّى الله عليه وآله).
والسُّنَّة الإلهيَّة جارية على التعيين والتحديد وعدم ترك الأمر للناس في القرآن
الكريم، فقد قال تعالى في آدم (عليه السلام): ﴿إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: ٣٠).
-----------------
(٣٢٨) صحيح البخاري (ج ٢/ ص ١٦/ ح ٩٤٩).
(٣٢٩) صحيح البخاري (ج ٦/ ص ٦٨/ ح ٤٦٧٢).
(٣٣٠) راجع في ذلك: كتاب الإمامة الكبرى للقزويني (ج ١/ ص ٧٧ وما بعدها).
وقال تعالى في إبراهيم (عليه السلام): ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: ١٢٤).
وقال تعالى في داود (عليه السلام): ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾
(ص: ٢٦).
وفي قصَّة موسى وهارون (عليهما السلام) لم يترك موسى (عليه السلام) تعيين خليفته في
بني إسرائيل لهم، بل عيَّنه بنفسه إذ قال له: ﴿اخْلُفْنِي
فِي قَوْمِي﴾ (الأعراف: ١٤٢).
وقال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ
مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ (القَصَص: ٦٨).
وغير ذلك من الدلائل والشواهد التي لا تُحصى كثرةً.
كما أنَّ ترك التعيين للناس ينقض الغرض من نصب الإمام والرئيس من أساسه؛ فإنَّه
يلزم منه وقوع التناحر والاختلاف الناشئ من الأهواء والجهل وغير ذلك ممَّا لا يخلو
منه غير المعصوم، فيُؤدِّي إلى تتابع الفتن وفساد النظام واندثار معالم الإسلام،
وكلُّ ذي عين يرى بوضوح نتيجة ترك الاختيار للناس في تاريخ الإسلام من الحروب
العظيمة والدماء الكثيرة.
ولو لم يصلنا أيُّ نصٍّ وتعيين من النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) للإمام بعده،
لبقيت هذه الحجَّة العقليَّة قائمة، ولما صدَّقنا بأنَّه مضى ولم ينصّ، ولقلنا: لا
بدَّ من أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) نصَّ وعيَّن، ولكنَّ النصَّ لم يصل إلينا.
فكيف وبين يدينا حديث الغدير، وحديث الثقلين، وحديث الاثني عشر إماماً، وحديث
المنزلة، وغير ذلك من النصوص والأدلَّة التي لا تُحصى كثرةً على تعيينه (صلَّى الله
عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) إماماً فيما لا يُحاط من المواطن
والمواقف؟!
فأنت ترى أيُّها العاقل أنَّك بين فريقين:
فريق يزعم هذا الزعم العجيب الفظيع، وهو أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) مضى
ولم ينصّ، دون أنْ يعبأ بما قدَّمناه من الأدلَّة وغيره ممَّا لم نذكره، وعندما
يواجهه
الجمع الهائل من النصوص الصريحة الواضحة في تعيين أمير المؤمنين (عليه
السلام) يعمد إلى تأويلها بكلِّ تأويل فاسد بعيد لا يرضاه منصف، دون أنْ يكون له
داعٍ إلى التأويل غير هواه وعصبيَّته، وتقليده الأعمى لأسلافه، وإصراره على تبرئة
بعض الأسماء من الصحابة وتقديسها وإنْ كان الثمنُ التنقيصَ من النبيِّ
الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) والإعراض عن أوامره!
وفريق آخر يعمل بمقتضى عقله، ويُنزِّه النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) عن أنْ يمضي
دون نصٍّ، ويلتزم بالأدلَّة العقليَّة والنقليَّة الواضحة في ذلك، وعندما يواجه
النصوص الصريحة من نبيِّه (صلَّى الله عليه وآله) التي يُعيِّن به خليفته، يأخذ بها
كما هي، ويقول: السمع والطاعة، ويضرب كلَّ ما يخالفها عرض الحائط، ولا يبالي ما إنْ
كان المخالف من أصاغر الناس أو من أكابر الصحابة!
فليعرض المسلم العاقل هذه المعادلة على نفسه، ويتبع ما يقوده عقله وضميره إليه،
ويرفض تقليد رؤساء الضلال فيه، لئلَّا يكون في زمرة الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿وَإِذْ
يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ
النَّارِ﴾ (غافر: ٤٧).
وهذا البيان كافٍ في إثبات المطلوب وإنْ كان يسيراً، وإن رمت استيفاء الأدلَّة عليه
فراجع المطوَّلات(٣٣١).
ولله دَرُّ الشاعر العبدي (رضوان الله عليه) إذ قال(٣٣٢):
وقالوا رسول
الله ما اختار بعده * * * إماماً ولكنَّا لأنفسنا اخترنا
أقمنا إماماً إنْ أقام على الهدى * * * أطعنا وإنْ ضلَّ الهداية قوَّمْنا
فقلنا إذا أنتم إمامُ إمامكم * * * بحمدٍ من الرحمن تُهْتُمْ ولا تُهْنا
-----------------
(٣٣١) مثل: دلائل الصدق للمحقِّق المظفَّر (ج ٤/ ص ٢٥٠ وما بعدها).
(٣٣٢) مناقب آل أبي طالب (ج ١/ ص ٢٢٢).
ولكنَّنا اخترنا الذي اختار ربُّنا * * * لنا يوم خُمٍّ ما اعتدينا ولا حلنا
سيجمعنا يوم القيامة ربُّنا * * * فتُجزَون ما قلتم ونُجزى الذي قلنا
هدمتم بأيديكم قواعد دينكم * * * ودين على غير القواعد لا يُبنى
ونحن على نور من الله واضح * * * فيا ربِّ زدنا منك نوراً وثبِّتنا
هل انعقد إجماعٌ على خلافة أبي
بكر؟
الجواب عن الدعوى الثانية:
وأمَّا دعوى وقوع الإجماع على بيعة أبي بكر، فأعجب وأغرب وأوهن.
ونحن نمنعها من وجهين:
الوجه الأوَّل: بمنع الكبرى؛ وهي أنَّ إجماع الناس حجَّة في هذه القضيَّة، فإنَّ
مجرَّد اتِّفاق أُمَّة من الأُمَم على أمر بما هو اتِّفاق لا يكشف بوجه من الوجوه
عن إرادة الله تعالى المبنيَّة على عِلَل ومصالح ومفاسد لا يعلمها إلَّا هو مع جواز
الخطأ على كلِّ واحدٍ منهم، لاسيَّما مع ما هو واضح من ابتناء اتِّفاقاتهم غالباً
على دوافع بشريَّة لا تُعبِّر عن الحكمة الإلهيَّة، من قبيل العادات والانفعالات
النفسيَّة ونحو ذلك، وكلُّ ما ذكروه دليلاً على حجّيَّته مردود بسهولة(٣٣٣).
نعم إنَّما يكون الإجماع حجَّة إذا كان كاشفاً عن قول مَنْ قولُه حجَّة، وهو
المعصوم، بحيث كان داخلاً في المجمعين عاصماً لهم، وأمَّا إذا لم يكن داخلاً فيهم
فلا عاصم لهم، فيبقى احتمال غلطهم بأجمعهم قائماً، كما حقَّقه علماؤنا في
محلِّه(٣٣٤).
وإلَّا فلو كان كلُّ اتِّفاق حجَّة بما هو اتِّفاق لوجب أنْ يكون اتِّفاق الأُمَم
الأُخرى حجَّةً ودليلاً أيضاً!
-----------------
(٣٣٣) راجع: أُصول المظفَّر (ج ٢/ ص ٩٩).
(٣٣٤) راجع: مبحث الإجماع من كتاب أُصول المظفَّر.
هذا بالنسبة إلى اتِّفاق جميع الناس، فكيف باتِّفاق اثنين فقط هما عمر وأبو عبيدة
كما سيأتي؟!
والمتتبِّع للتاريخ بأدنى تتبُّع يُدرك بسهولة أنَّ منشأ ابتداع القوم للإجماع
مصدراً مقابلاً للكتاب والسُّنَّة ليس إلَّا وقوعهم في ورطة تصحيح مذهبهم القائم
على بيعة أبي بكر التي لم يقم دليل عليها، فلجأوا إلى تأسيس فكرة الإجماع دليلاً
ثالثاً في قبالهما؛ لأنَّ وجودهم يتوقَّف عليه.
فانظر لحال هؤلاء القوم، ولاحظ كيف أنَّ الإجماع حقيقتهم، وهم حقيقة الإجماع، واحمد
الله تعالى على ما حباك من اتِّباع المذهب الحقِّ الذي لا تُحصى دعائمه وأدلَّته من
القرآن والسُّنَّة المتواترة المتَّفق عليها بين الفريقين.
الوجه الثاني: بتسليم الكبرى - تنزُّلاً - ومنع الصغرى، بأنْ نقول: سلَّمنا أنَّ
إجماع الناس على بيعة أبي بكر حجَّة تُصحِّح خلافته وتضفي عليها الشرعيَّة، ولكن
أنَّى للقوم إثبات وقوع هذا الإجماع المزعوم؟! وكيف يمكن لأدنى ناظر في التاريخ
ومطالع لما حصل في السقيفة وما بعدها أنْ يُصدِّق حصوله؟!
فإنَّ ممَّا لا خلاف فيه تأريخيًّا امتناعَ أمير المؤمنين (عليه السلام) - الذي
يدور الحقُّ معه حيثما دار - عن البيعة مدَّة حياة الزهراء (عليها السلام) بعد
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) - وهي ستَّة أشهر على روايتهم - حتَّى أُجبِرَ
عليها، ومعه أصحابه المقداد وأبو ذرٍّ وسلمان وعمَّار والزبير، وكذا امتناع الأنصار
عن بيعته وجنوحهم إلى زعيمهم سعد بن عبادة الذي لم يبايع حتَّى قتله الجنُّ بسهم
المغيرة بن شعبة، وغيرهم ممَّن لم يبايع من قبيل أبي سفيان - وحكايته في استنهاض
أمير المؤمنين (عليه السلام) لقتال أبي بكر معروفة -، وأُبيّ بن كعب، وفروة بن عمرو
بن ودقة الأنصاري، وأبان وخالد وعمرو أبناء سعيد بن العاص، والبراء بن عازب، وبريدة
الأسلمي، وخزيمة ابن ثابت، وابن التيهان، وسهل بن حنيف وأخوه عثمان، وحذيفة بن
اليمان،
وأبي أيُّوب الأنصاري، ومالك بن نويرة - المقتول ظلماً على يد خالد بن
الوليد - وأخوه متمم(٣٣٥)، فالإجماع - بمعنى اتِّفاق الجميع - لم يحصل قطعاً.
قال ابن عبد البرِّ في (الاستيعاب) متحدِّثاً عن أبي بكر: (بويع له بالخلافة في
اليوم الذي مات فيه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في سقيفة بني ساعدة، ثمّ بويع
له البيعة العامَّة يوم الثلاثاء من غدِّ ذلك اليوم، وتخلَّف عن بيعته سعد بن عبادة
وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش)(٣٣٦).
والمعلوم عند كلِّ مَنْ طالع شيئاً من التاريخ(٣٣٧) أنَّ الذي حصل في السقيفة هو
أنَّ عمر وأبا عبيدة بن الجرَّاح لوحدهما عقدا البيعة لأبي بكر وأجبرا الناس عليها،
ولم يكن كلُّ الصحابة حاضراً، فضلاً عن أنْ يكون راضياً، ومن هنا كانت هذه البيعة
فلتة كما قال عمر في (صحيح البخاري)(٣٣٨).
وفي شرح ابن أبي الحديد عن البراء بن عازب: (لم أزل محبًّا لبني هاشم، فلمَّا
قُبِضَ رسول الله خفت أنْ تتملأ قريش على إخراج الأمر عنهم...)، إلى أنْ قال: (فلم
ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم
محتجزون بالأزر الصنعانيَّة، لا يمرُّون بأحد إلَّا خبطوه وقدَّموه، فمدُّوا يده
على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى...)(٣٣٩).
ولذلك ترى القوم بعد أنِ اختاروا أنَّ الإجماع واختيار الناس هو طريق
-----------------
(٣٣٥) اُنظر: الاستيعاب (ج ٢/ ص ٩٣٧ وما بعدها).
(٣٣٦) نفس المصدر.
(٣٣٧) اُنظر: تاريخ الطبري (ج ٣/ ص ٢١٨ وما بعدها)، تاريخ ابن كثير (ج ٥/ ص ٢٤٥ وما
بعدها)، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج ٦/ ص ٥ وما بعدها).
(٣٣٨) صحيح البخاري (ج ٨/ ص ١٦٨/ ح ٦٨٣٠).
(٣٣٩) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج ١/ ص ٢١٩).
تعيين الإمام،
اضطرُّوا - في قضيَّة أبي بكر - إلى مخالفة ما ذهبوا إليه، والعدول إلى أنَّ
المعتبر هو اتِّفاق أهل الحلِّ والعقد، لا جميع الناس.
ولكنَّ بنيانهم منهدم ومسعاهم خائب بالرغم من ذلك كما لا يخفى عليك بعد ما تقدَّم؛
إلَّا أنْ يدَّعوا أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس من أهل الحلِّ والعقد
فيخالفوا جميع المسلمين ويُفتضَحوا، فضلاً عن غيره ممَّن يعترفون بأنَّه من أكابر
الصحابة كالعبَّاس بن عبد المطَّلب والمقداد وسلمان وعمَّار وأبي ذرٍّ والزبير
وغيرهم ممَّن تقدَّم ذكره.
فأدَّاهم ذلك إلى خبطة جديدة تعجب لها العقول ويضحك منها المثكول؛ وهي كفاية الواحد
والاثنين من أهل الحلِّ والعقد، ليُصحِّحوا بذلك استخلاف عمر وأبي عبيدة لأبي بكر.
قال صاحب (المواقف) وشارحها: (وإذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة، فاعلم أنَّ
ذلك لا يفتقر إلى الإجماع من جميع أهل الحلِّ والعقد، إذ لم يتمّ عليه دليل من
العقل والسمع، بل الواحد والاثنان كافٍ في ثبوت الإمامة، ووجوب اتِّباع الإمام على
أهل الإسلام، وذلك لعلمنا بأنَّ الصحابة - مع صلابتهم في الدِّين وشدَّة محافظتهم
على أُمور الشرع كما هو حقُّها - اكتفوا في عقد الإمامة بذلك المذكور من الواحد
والاثنين، كعقد عمر لأبي بكر، وعقد عبد الرحمن بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا في عقدها
اجتماع من بالمدينة من أهل الحلِّ والعقد، فضلاً عن إجماع الأُمَّة من علماء أمصار
الإسلام ومجتهدي جميع أقطارها، وعليه انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا)(٣٤٠).
ونحن نقول:
أوَّلاً: اعترف بعدم حصول إجماع الناس على بيعة أبي بكر، بل ولا إجماع
-----------------
(٣٤٠) شرح المواقف (ج ٨/ ص ٣٥٢).
أهل الحلِّ
والعقد، ثمّ ادَّعى كفاية الواحد والاثنين، والعجيب أنَّه استدلَّ على ذلك بعدم
الدليل على اعتبار الجميع، وكأنَّ الأصل هو كفاية الواحد والاثنين فيكون عدمها
مفتقراً إلى الدليل! والحال أنَّه يدَّعي طريقاً ويُثبِت سبيلاً لأعظم قضايا
الدِّين وأخطرها وهي تعيين الإمام والرئيس، وليت شعري أيكون الدليل إلَّا على
المدَّعي؟! أم إنَّ الأصل هو الجواز والصحَّة في مثل هذه القضيَّة التي يكون
إثباتها إثباتاً لشيء زائد في الدِّين؟!
ألَا ترى أنَّ كلامه هذا من قبيل ما لو ادَّعى أحد بأنَّ الطهارة للصلاة يكفي فيها
المسح على مواضع الوضوء بأوراق الشجر مثلاً دون الوضوء والتيمُّم، وإذا سألناه عن
الدليل قال: لم يأتِ دليل على منعه! في حين أنَّه يدَّعي طريقاً جديداً للطهارة
الشرعيَّة فيجب عليه الدليل المثبت له ولا يكفيه عدم الدليل على منعه!
وكلُّ ما ذكروه دليلاً على حجّيَّة الإجماع - من قبيل الحديث المعروف: «لَا
تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ» - إنْ صحَّ فإنَّما يُثبِت حجّيَّة إجماع
الأُمَّة بأجمعها، ومدَّعاهم - وهو كفاية خصوص أهل الحلِّ والعقد أو الواحد
والاثنين منهم - أخصّ من ذلك كما لا يخفى.
فضلاً عن أنَّ دعوى الاكتفاء بالواحد والاثنين - فضلاً عن سخافتها من جهة أنَّها
فرع القول بعدم وجود النصِّ كما تقدَّم بيانه - لا يقبلها عقل سليم طريقاً لتعيين
مَنْ يُحدِّد مصير الأُمَّة الإسلاميَّة ويرسم طريقها، لاسيَّما وأنَّ أهل الحلِّ
والعقد كثيرون، فمن الممكن جدًّا أنْ يختار اثنان منهم أحداً، ويختار اثنان آخران
ثانياً، وهكذا إلى أنْ يتكاثر عدد الأئمَّة في آنٍ واحدٍ مع صحَّة إمامة كلٍّ منهم
لتحقُّق هذا المعيار فيه، فيحصل الهرج والمرج وتندثر معالم الدِّين وتتفاقم الفتن!
وأمَّا قوله الأخير: (إجماع الأُمَّة من علماء أمصار الإسلام ومجتهدي جميع
أقطارها)، فظاهر الكذب بعد مخالفة الشيعة لذلك بمختلف فِرَقهم.
ومن عجائب الدهور قول الماوردي في المقام: (اختلف العلماء في عدد مَنْ تنعقد به
الإمامة منهم على مذاهب شتَّى، فقالت طائفة: لا تنعقد إلَّا بجمهور أهل العقد
والحلِّ من كلِّ بلد، ليكون الرضا به عامًّا، والتسليم لإمامته إجماعاً، وهذا مذهب
مدفوع ببيعة أبي بكر (رضي الله عنه) على الخلافة باختيار مَنْ حضرها، ولم ينتظر
ببيعته قدوم غائب عنه)(٣٤١).
فإنَّه جاء ليستدلَّ على صحَّة الطريقة التي حصلت بها بيعة أبي بكر، فاستدلَّ
بالطريقة التي حصلت بها بيعة أبي بكر!
وفيه من المصادرة والدوريَّة ما هو أوضح من الشمس في الظهور، وما ليس يخفى مثله على
أصاغر الطلبة، فلا أدري كيف يخفى على مثل هؤلاء المحقِّقين لولا أنَّ هواهم
وتقديسهم الأعمى للشيخين اضطرَّهم إلى المكابرة والتكلُّف بحيث أودى بهم إلى ركوب
مثل هذه الأغلاط في خصوص مسألة الإمامة دون غيرها!
ثانياً: أنَّه ادَّعى أنَّ الصحابة تلقَّوا تعيين عمر وأبي عبيدة - وحدهما - لأبي
بكر بالقبول، ولم يعترضوا، فيكشف ذلك عن كونه كافياً صحيحاً.
وليت شعري إنْ كان هذا غفلةً عمَّا لم يُنكِره أحد من المؤرِّخين من مخالفة الجمع
الكبير المتقدِّم - وعلى رأسهم سيِّد المسلمين (عليه السلام) - فطامَّة عظيمة، وإنْ
كان تغافلاً ووقاحةً منه عليهم فطامَّة أعظم، ونكبة أدهى، ولا حول ولا قوَّة إلَّا
بالله.
وعلى كلِّ حالٍ قد اتَّضح الآن - وبهذا البيان المختصر جدًّا - كيف أنَّ مستندهم
الذي تركوا لأجله نصوص النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) في أمير المؤمنين (عليه
السلام) وأهل
-----------------
(٣٤١) الأحكام السلطانيَّة (ص ٢٣).
بيته (عليهم السلام) هو اختيار عمر وأبي عبيدة وحدهما لأبي بكر،
ولأجله ضربوا رأي كلِّ مَنْ سواهما من الصحابة عرض الحائط، وأوجبوا طاعته على جميع
الخلق، وجعلوا الخارج عنها مستحقًّا للقتل، واعتبروا ذلك حجَّة تُسوِّغ لهم ترك
سفينة نوح وباب حطَّة ومَنْ هو من النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بمنزلة هارون من
موسى (عليها السلام)، واتِّخاذ هذه الزمرة الظالمة بديلاً عنه.
فظهر مدى ضعف دليلهم الأقوى في المقام، وكيف أنَّ دعوى الإجماع المزعوم أوهن من بيت
العنكبوت.
وإنِّي لأستظرف هنا قول علَّامتهم التفتازاني في (شرح المقاصد): (إنَّ جمهور علماء
الملَّة وعلماء الأُمَّة أطبقوا على ذلك، وحسن الظنِّ بهم يقضي بأنَّهم لو لم
يعرفوه بدلائل وإمارات لما أطبقوا عليه)(٣٤٢)، وقوله: (يجب تعظيم الصحابة والكفُّ
عن مطاعنهم، وحمل ما يوجب بظاهره الطعن فيهم على محامل وتأويلات، سيَّما المهاجرين
والأنصار)(٣٤٣).
فإنَّه يدلُّك على أنَّهم ملتفتون إلى مدى وهن دعوى الإجماع، وخلوِّ إمامة صاحبهم
عن الدليل، فلم يبقَ لهم في المسألة إلَّا الاعتماد على حسن الظنِّ بمَنْ قام ألف
دليل على سوء حاله كما تقدَّم!
ولا أحسبني مضطرًّا إلى بيان مدى سخف التذرُّع بحسن الظنِّ في هذه المسألة
العقائديَّة العظمى التي يقف فيها تحديد خليفة النبيِّ ورئيس الدِّين من بعده وناقل
أحكامه ومنفِّذها على المحكِّ! مع أنَّ صاحب العبارتين المتقدِّمتين نفسه يقول في
موضع آخر من كتابه المذكور: (واعتبروا في أدلَّتها اليقين؛ لأنَّه لا عبرة بالظنِّ
في الاعتقاديات بل في العمليَّات)(٣٤٤).
-----------------
(٣٤٢) شرح المقاصد (ج ٢/ ص ٢٩٨).
(٣٤٣) شرح المقاصد (ج ٢/ ص ٣٠٣).
(٣٤٤) شرح المقاصد (ج ١/ ص ٦).
ولو كانوا أنفسهم يعتقدون بحسن الظنِّ طريقاً ومنهجاً في هذه المسألة التي هي من
أعظم الأُصول، فلماذا لم يجروها في رواة الفروع الذين تتبَّعوا أحوالهم ونبشوا
مساوئهم ووقفوا لهم على كلِّ صغيرة وكبيرة ولم يحسنوا الظنَّ بهم؟!
عدالة الصحابة:
فإنْ قيل: إنَّ الصحابة ثبت فضلهم وعدالتهم وتقواهم وصلابتهم في الدِّين، فينبغي
حسن الظنِّ بهم، بخلاف الرواة الذين لم يثبت ذلك فيهم، فيجب تمحيص حالهم وإخضاعهم
لعمليَّة الجرح والتعديل، ولا يكون لحسن الظنِّ بهم مجال.
قلتُ: وأنَّى ثبت فضل القوم وتقواهم وصلابتهم وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ
قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾ (آل عمران: ١٤٤)؟!
وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فيهم كما في البخاري وغيره: «لَتَتَّبِعُنَّ
سُنَنَ مَنْ قَبْلِكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ
دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اَلله، اَلْيَهُودُ
وَاَلنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟!»(٣٤٥)، ومن المعلوم أنَّ اليهود والنصارى خانوا
أنبيائهم وانحرفوا عن طريقتهم ومسخوا شرائعهم.
وهم الذين حاولوا قتله (صلَّى الله عليه وآله) عند رجوعه من تبوك إلى المدينة في
قصَّة العقبة المعروفة المرويَّة في كُتُب الفريقين(٣٤٦).
وأخبار الحوض المتواترة - المرويَّة في البخاري ومسلم مرَّات عديدة، وفي غيرهما
بعشرات الطُّرُق - تصرخ بارتداد الصحابة بعده (صلَّى الله عليه وآله).
-----------------
(٣٤٥) صحيح البخاري (ج ٤/ ص ١٦٩/ ح ٣٤٥٦).
(٣٤٦) اُنظر: البداية والنهاية (ج ٥/ص ٢٤)، والمغازي (ج ٣/ص ١٠٤٢)، وسائر كُتُب
السيرة والتاريخ.
ومن ألفاظها ما رواه البخاري في (صحيحه) عن أبي هريرة، عنه (صلَّى الله عليه وآله):
«بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ
مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ: هَلُمَّ، فَقُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى
اَلنَّارِ وَاَللهِ، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ اِرْتَدُّوا
بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمُ اَلْقَهْقَرَى، ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا
عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ؟ قُلْتُ:
أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى اَلنَّارِ وَاَللهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ:
إِنَّهُمُ اِرْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمُ اَلْقَهْقَرَى، فَلَا أُرَاهُ
يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ اَلنَّعَمِ»(٣٤٧)، وفي لفظ آخر للبخاري
أيضاً: «لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ
لِأُنَاوِلَهُمْ اِخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَصْحَابِي، يَقُولُ:
لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»(٣٤٨).
وهم الذين جادلوا في خروجه إلى بدر وكرهوا رأيه في الجهاد، واعتقدوا أنَّه فيما
دبَّره على غير الصواب، فنزل فيهم قوله تعالى: ﴿كَمَا
أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا
يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ (الأنفال: ٥ و٦).
وهم الذين أظهروا الأمانة والطاعة، وأضمروا الخيانة والمعصية، حتَّى نزل فيهم قوله
تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ
وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنفال:
٢٧).
وهم الذين شكُّوا يوم الخندق في وعيد الله ورسوله، وخبثت نيَّاتهم، فنزل فيهم: ﴿إِذْ
جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا﴾
(الأحزاب: ١٠).
وهم الذين نكثوا عهد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، ونقضوا ما عقده عليهم في
بيعته تحت
-----------------
(٣٤٧) صحيح البخاري (ج ٨/ ص ١٢١/ ح ٦٥٨٧).
(٣٤٨) صحيح البخاري (ج ٩/ ص ٤٦/ ح ٧٠٤٩).
الشجرة، وأنفذهم إلى قتال خيبر فولَّوا الدُّبُر، فنزل فيهم: ﴿وَلَقَدْ
كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ
اللهِ مَسْئُولاً﴾ (الأحزاب: ١٥).
وهم الذين انهزموا يوم حنين، وأسلموا النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) للأعداء، ولم
يبقَ معه إلَّا أمير المؤمنين (عليه السلام) وجماعة من بني هاشم، فنزل فيهم قوله
تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ
فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرضُ بِمَا رَحُبَتْ
ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ (التوبة: ٢٥).
وقد اعترف العلَّامة المذكور بسوء حالهم في نفس الكتاب إذ قال: (... يعني أنَّ ما
وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كُتُب التواريخ
والمذكور على ألسنة الثقات يدلُّ بظاهره على أنَّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقِّ،
وبلغ حدَّ الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد، والحسد واللداد، وطلب
المُلك والرئاسة والميل إلى اللذَّات والشهوات؛ إذ ليس كلُّ صحابي معصوماً، ولا
كلُّ مَنْ لقي النبيَّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم) بالخير موسوماً)(٣٤٩).
ثمّ إنَّ القوم إذا كانوا على هذه الدرجة من الصلابة في دينهم بحيث يُستبعَد فيهم
الانحراف والإعراض عن نصِّ النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) وغصب الخلافة، فلماذا
أسرعت تلك العصبة إلى إتمام أمر البيعة وتركوا دفن نبيِّهم (صلَّى الله عليه وآله)
وبايعوا لأبي بكر - دون انتظار اجتماع جميع الصحابة وسائر أهل الحلِّ والعقد -
خوفاً من وقوع الفتنة والانحراف كما يدَّعون؟!
ألَا ترى كيف أنَّهم يُثبِتون صلابة الصحابة عندما يحتاجون لإثباتها كما في هذا
المقام ليستبعدوا مخالفتهم للنصِّ النبوي على أمير المؤمنين (عليه السلام)،
وينسونها أو يتناسونها في مقام آخر عندما يُبرِّرون إسراع القوم للسقيفة وتركهم دفن
-----------------
(٣٤٩) شرح المواقف (ج ٢/ ص ٣٠٦).
النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) بأنَّهم خافوا على الإسلام؟! وإلَّا فكيف يُخَافُ
من وقوع الانحراف فيهم إذا كانت لهم مثل هذه الصلابة؟!
ولماذا خاف عمر منهم الفساد في قوله للزبير عندما استأذنه في الخروج للغزو:
(اُقْعُدْ فِي بَيْتِكَ فَوَاَلله إِنِّي لَأَجِدُ بِطَرَفِ اَلمَدِينَةِ مِنْكَ
وَمِنْ أَصْحَابِكَ أَنْ تَخْرُجُوا فَتُفْسِدُوا عَلَيَّ أَصْحَابَ
مُحَمَّدٍ!)(٣٥٠) إذا كانوا بهذه الصفة؟!
ولله دَرُّ الأزري (رضوان الله عليه) إذ يقول:
أتعجب من أصحاب
أحمد إذ رضوا * * * بتأخير ذي فضل وتقديم ذي جهل؟!
فأصحاب موسى في زمان حياته * * * رضوا بدلاً عن بارئ الخلق بالعجل
كما أنَّ من
عجيب مفارقاتهم وعظيم إجرامهم: غلوُّهم هذا في هؤلاء الأعراب الأجلاف المتسمِّين
بالصحابة، ومبالغتهم في تنزيههم غاية المبالغة، مع قيام كلِّ هذه الأدلَّة الصارخة
- وغيرها - على حقيقة حالهم، ولا يفعلون مثل ذلك في الأنبياء والمرسَلين المنصوص
على عصمتهم وطهارتهم في الكتاب الكريم، ولا يخطر في بالهم أنْ يبذلوا بعضَ هذا
الجهد في تنزيههم ونفي الشُّبُهات عنهم، بل تراهم ينسبون إليهم ما تقشعرُّ منه
الجلود وترتعد له الأبدان(٣٥١)، ويغتاظون منَّا إذا نفينا شيئاً منها عنهم (عليهم
السلام) كما يغتاظون إذا أثبتنا شيئاً منها للصحابة!
دعوى وجود النصِّ على أبي بكر:
ومن مضحكات المقام دعوى بعض العوامِّ - كالحسن البصري على ما نقله عنه في (شرح
المواقف)(٣٥٢) - وجود النصِّ النبوي على استخلاف أبي بكر،
-----------------
(٣٥٠) المستدرك على الصحيحين (ج ٣/ ص ١٢٩/ ح ٤٦١٢).
(٣٥١) وقد استوفى الحديث عن ذلك الشريف المرتضى (رضي الله عنه) في كتابه (تنزيه
الأنبياء) فراجعه.
(٣٥٢) شرح المواقف (ج ٨/ ص ٣٥٤).
وهو تقديم النبيِّ (صلَّى
الله عليه وآله) إيَّاه للصلاة في الناس في مرضه، مع أنَّ المرويَّ عندهم
أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) خرج يتوكَّأ على رجلين أثناء صلاة أبي بكر ونحَّاه عن
الإمامة وصلَّى فيهم، وأنَّه (صلَّى الله عليه وآله) قال لعائشة بنت أبي بكر
غاضباً: «إِنَّكُنَّ لَصُوَيْحِبَاتُ يُوسُفَ»(٣٥٣)، ممَّا يكشف عن أنَّ ابنته هي
التي قدَّمته ولم يُقدِّمه النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله).
وهذا إنْ حصل فليس إلَّا تنحيةً لأبي بكر وطرداً له وإقصاءً، لا تعييناً له
واستخلافاً!
ولماذا يُقدِّمه النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) للصلاة ثمّ يخرج ويُنحِّيه عنها
أمام الناس لولا أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) لم يرد أنْ تكون هذه الصلاة مستمسكاً
عليه مدى الدهر؟!
ومَنْ لا يرضاه النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) إماماً لصلاة واحدة، فكيف يرضاه
إماماً للبلاد والعباد وحافظاً للشرع؟!
ولو كانت هذه الحادثة استخلافاً لأبي بكر، فلماذا لم يشر أحد من رؤوس السقيفة -
حتَّى صاحبها - إليها؟ ولماذا لم يحتجُّوا بها عندما نازعهم الأنصار على الخلافة؟
بل لماذا قال أبو بكر نفسه: (رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ اَلرَّجُلَيْنِ) -
مشيراً إلى عمر وأبي عبيدة - إذا كان النبيُّ قد نصَّ عليه؟! أذلك لجهله بالنصِّ
إنْ كان حاصلاً أم علمه به مع إعراضه عنه؟!
وكيف ينسجم أنْ يأمر النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) أبا بكر - مع غيره - بالخروج
في جيش أُسامة، ويلعن مَنْ يتخلَّف عنه، ثمّ يأمره بالصلاة في الناس؟!
ولو سلَّمنا تنزُّلاً أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) قدَّمه للصلاة، وأتمَّها
ولم يقطعها عليه،
-----------------
(٣٥٣) اُنظر: صحيح البخاري (ج ١/ ص ١٦٩ و١٨٢)؛ الموطَّأ (ج ١/ ص ١٧١/ ح ١٨٣)؛ مسند أحمد (ج ٥/ ص ٣٦١)؛ سُنَن الترمذي (ج ٥/ ص ٦١٣/ ح ٣٦٧٢)؛ تاريخ الطبري (ج ٣/ ص ١٩٦ و١٩٧).
فأيُّ عقلٍ وأيُّ قانونٍ يُجيز الاستدلال بالإمامة الصغرى على
الإمامة العظمى؟! وكيف تكون الإمامة في صلاة واحدة دالَّة على إمامة الدِّين ورئاسة
المسلمين في جميع شؤونهم الشاملة لإمامة الجماعة وغيرها؟! لاسيَّما في مثل هذا
الرجل الذي لا يمكن تجويز استحقاقه للخلافة بعد قراءة أدنى مقدار من أفعاله
المرويَّة في صحاح المخالفين ممَّا قدَّمناه وغيره.
كما أنَّه يمكن لنا أنْ نقول وفق منطق عمر وأصحابه: إنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه
وآله) كما كان يهجر أو غلبه الوجع - حاشاه - في رزيَّة الخميس، فربَّما كان قد يهجر
أو غلبه الوجع عندما قدَّم أبا بكر للصلاة!
وإذا كان التأمير بصلاة واحدة دالّاً على الإمامة الكبرى، فلماذا لا يدلُّ تأميره
(صلَّى الله عليه وآله) لأُسامة بن زيد على الجيش - الذي فيه أبو بكر وعمر -
عليها؟! مع أنَّ ولايته تشمل إمامة الصلاة وغيرها.
بل قد روى المخالفون(٣٥٤) أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) صلَّى صلاةً كاملة خلف عبد
الرحمن بن عوف، فلم يكتفِ بتقديمه للإمامة دون أنْ يقطع عليه صلاته فحسب، بل صلَّى
بنفسه الشريفة خلفه، أفلا يجب أنْ تكون هذه الحادثة أدلَّ وأوضح على إمامة عبد
الرحمن من حادثة أبي بكر بما لا مقارنة فيه؟! فلماذا لم يأتمُّوا به ولم يستدلُّوا
بها على إمامته؟!
ولماذا يعترف عمر بصريح لسانه في (صحيح مسلم) أنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله)
مضى ولم يستخلف(٣٥٥)، إنْ كانت هذه الحادثة استخلافاً لأبي بكر؟!
وهل هذه إلَّا محاولة بائسة أُخرى من القوم لإيجاد ما يصلح دليلاً على مذهبهم بعد
أنْ أدركوا مدى سخافة دعوى الإجماع ووهنها؟!
-----------------
(٣٥٤) اُنظر: صحيح ابن خزيمة (ج ٣/ ص ٦٩/ ح ١٦٤٢).
(٣٥٥) اُنظر: صحيح مسلم (ج ٣/ ص ٤٥٥/ ح ١٨٢٣).
وهل ترضى لنفسك أيُّها الأخ المسلم المخالف أنْ تتذرَّع بمثل هذا الكلام يوم لا ينفع مال ولا بنون في قبال تلك الأدلَّة القطعيَّة والنصوص الصارخة على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي أجمع أصحابكم على روايتها ثمّ أوَّلوها بكلِّ تأويل بعيد عجيب مع عدم امتلاكهم في قبالها غير هذين الدليلين اللَّذين عرفتَ مدى ضعفهما وسخفهما؟!
* * *
ثمّ قال (طيَّب الله تربته):
٦٣ -
وَقَوْلُكَ: إِنَّ اَلْوَقْتَ دَاعٍ لِمِثْلِهِ * * * إِذَا صَحَّ لِمْ لَا ذُبَّ
عَنْ لُبِّهِ اَلْقِشْرُ؟!
٦٤ - وَقَوْلُكَ: إِنَّ اَلْاِخْتِفَاءَ مَخَافَةً * * * مِنَ اَلْقَتْلِ شَيءٌ لَا
يُجَوِّزُهُ اَلْحِجْرُ
٦٥ - فَقُلْ لِيْ لِمَاذَا غَابَ فِيْ اَلْغَارِ أَحْمَدٌ * * * وَصَاحِبُهُ
اَلصِّدِّيْقُ إِذْ حَسُنَ اَلْحِذْرُ؟!
٦٦ - وَلِمْ أُمِرَتْ أُمُّ اَلْكَلِيْمِ بِقَذْفِهِ * * * إِلَى نِيْلِ مِصْرٍ
حِيْنَ ضَاقَتْ بِهِ مِصْرُ؟!
٦٧ - وَكَمْ مِنْ رَسَوْلٍ خَافَ أَعْدَاهُ فَاخْتَفَى * * * وَكَمْ أَنْبِيَاءٍ
مِنْ أَعَادِيهِمُ فَرُّوْا؟!
٦٨ - أَيَعْجَزُ رَبُّ اَلخَلْقِ عَنْ نَصْرِ دِيْنِهِ * * * عَلَى غَيْرِهِمْ؟!
كَلَّا فَهَذَا هُوَ اَلْكُفْرُ
٦٩ - وَهَلْ شَارَكُوْهُ فِيْ اَلَّذِيْ قُلْتَ: إِنَّهُ * * * (يَؤوْلُ إِلَى
جُبْنِ اَلْإِمَامِ وَيَنْجَرُّ)؟
٧٠ - فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا كَانَ فِيْهِمْ بِأَمْرِ مَنْ * * * لَهُ اَلْأَمْرُ
فِيْ اَلْأَكْوَانِ وَاَلحَمْدُ وَاَلشُّكْرُ
٧١ - فَقُلْ فِيْهِ مَا قَدْ قُلْتَ فِيْهِمْ فَكُلُّهُمْ * * * عَلَى مَا أَرَادَ
اَللهُ أَهْوَاؤُهُمْ قَصْرُ
٧٢ - وَإِظْهَارُ أَمْرِ اَلله مِنْ قَبْلِ وَقْتِهِ اَلْـ * * * ـمُؤَجَّلِ لَمْ
يُوْعَدْ عَلَى مِثْلِهِ اَلنَّصْرُ
٧٣ - وَلَيْسَ بِمَوْعُوْدٍ إِذَا قَامَ مُسْرِعَاً * * * إِلَى وَقْتِ (عِيْسَى)
يَسْتَطِيْلُ لَهُ اَلْعُمْرُ
أقول: بعد أنْ
ذَكَر (طاب ثراه) الأدلَّة الإثباتيَّة على إمامته وولادته وغيبته (عجَّل الله
فرجه)، انتقل إلى الإجابة عن الشُّبُهات التي ذَكَرها الناظم الآلوسي في قصيدته.
وهذا الجمع من الأبيات جواب عن قوله:
وَكَيْفَ
وَهَذَا اَلْوَقْتُ دَاعٍ لِمثْلِهِ * * * فَفِيهِ تَوَالَى اَلْظُّلْمُ
وَاِنْتَشَرَ اَلَشَّرُّ
وَمَا هُوَ إِلَّا نَاشِرُ اَلْعَدْلِ وَاَلهُدَى * * * فَلَوْ كَانَ مَوجُوْداً
لَمَا وُجِدَ اَلجَوْرُ
وَإِنْ قِيلَ مِنْ خَوْفِ اَلطَّغَاةِ قَدِ اِخْتَفَى * * * فَذَاكَ لَعَمْرِي لَا
يُجَوِّزُهُ اَلْحِجْرُ
وَلَا اَلنَّقْلُ كَلَّا إِذْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ * * * إِلَى وَقْتِ عِيسَى
يَسْتَطِيْلُ لَهُ اَلْعُمْرُ
وَإِنْ قيلَ مِنْ خَوْفِ اَلْأَذَاةِ قَدِ اِخْتَفَى * * * فَذَلِكَ قَوْلٌ عَنْ
مَعَايِبَ يَفْتَرُّ
أَيَعْجَزُ رَبُّ اَلخَلْقِ عَنْ نَصْرِ حِزْبِهِ * * * عَلَى غَيْرِهُمْ؟! كَلَّا
فَهَذَا هُوَ اَلْكُفْرُ
وهو يشتمل على
شبهة رئيسة تستبطن شُبُهات أُخرى، وهي: أنَّ المقتضي لظهوره (عجَّل الله فرجه) -
وهو انتشار الظلم والجور في العالم - حاصل ومتحقِّق، فلو كان مولوداً وموجوداً
بيننا لوجب أنْ يظهر ويزيل الظلم، وبما أنَّه لم يظهر، فهو غير موجود.
فإنْ قلتم: يوجد مانع من ظهوره؛ وهو خوفه من القتل، فهذا يُبطِله الحجر - أي العقل
- والنقل.
أمَّا العقل: فلأنَّه يستلزم الجبن، وحاشاه من الجبن.
وأمَّا النقل: فلأنَّه قد ثبت في الروايات المتواترة أنَّه لا يصل إليه الطغاة، ولا
يستطيعون قتله، وأنَّه سيعيش إلى زمن عيسى (عليه السلام)، فلا واقع موضوعي لخوفه.
فإنْ قلتم: إنَّ غيبته بأمر من الله تعالى، فهذا باطل أيضاً؛ لأنَّه تعالى قادر على
نصره وإزالة الموانع عن ظهوره، فلماذا يأمره بالاختفاء؟!
ونحن نختار أنَّه غاب بأمر الله تعالى لجملة من الأسباب والحِكَم والمصالح التي لا
يجب أنْ نعرفها بأجمعها، ولكنَّنا نعرف بعضاً منها عن طريق الروايات الآتي ذكرها.
ومن تلك المصالح والأسباب: الحفظ من القتل، وهذه الشُّبُهات الواهية مردودة
بأجمعها.
وقد أجاب عنها السيِّد الجدُّ (طاب ثراه) نقضاً وحلّاً.
أمَّا النقض، فمن وجوه:
أوَّلاً: ما ذكره (طاب ثراه) بقوله:
فَقُلْ لِيْ لِمَاذَا غَابَ فِيْ اَلْغَارِ أَحْمَدٌ * * * وَصَاحِبُهُ اَلصِّدِّيقُ إِذْ حَسُنَ اَلْحِذْرُ؟!
وهو أنَّ
النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) قد غاب في الغار واختفى عن طغاة قريش، مع علمه
بأنَّهم لا يصلون إليه، وأنَّه سيبقى وسيصل إلى يثرب وسيعيش حتَّى يفتح مكَّة، فلنا
أنْ نقول للناظم الآلوسي وفق منطقه: ألَا يستلزم غياب النبيِّ (صلَّى الله عليه
وآله) واستتاره عن الطغاة جبنَه - حاشاه -؟
فما كان جواباً هنا، كان جواباً عن شُبهتك في ولده المهدي (عجَّل الله فرجه).
ثمّ نقول له مجدَّداً: إنَّ النبيَّ (صلَّى الله عليه وآله) كان يعلم بأنَّهم لا
يصلون إليه ولا يقتلونه، وبالتالي فلا موضوعيَّة لخوفه منهم، فلماذا غاب واستتر
عنهم؟ فما كان جواباً هنا، كان جواباً هناك عن ولده (عجَّل الله فرجه).
ثمّ نقول له مجدَّداً: ألم يستطع الله تعالى أنْ يرفع عن نبيِّه الموانع التي جعلته
يغيب ويستتر في الغار؟ وأنْ ينصره في المدَّة التي عذَّبه فيها المشركون أصناف
العذاب كالشتم والهجر والضرب والرمي بالأحجار والإدماء والحبس في الشعب؟ فهل ذلك
لعجزه تعالى عن نصر حزبه كما تقول؟!
فما كان جواباً هنا، كان جواباً هناك.
وسيأتي تفصيل هذه الأجوبة الذي يُحَلُّ به هذا الإشكال المشترك بين هذه الأحوال.
وقوله (طاب ثراه): (وَصَاحِبُهُ اَلصِّدِّيقُ) إشارة إلى ما ورد في (بصائر الدرجات)
عن خالد بن نجيح، قال: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله: جُعِلْتُ فِدَاكَ، سَمَّى
رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله) أَبَا بَكْرٍ اَلصِّدِّيقَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»،
قَالَ: [قَلْتُ]: فَكَيْفَ؟ قَالَ: «حِينَ كَانَ مَعَهُ فِي اَلْغَارِ قَالَ
رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): إِنِّي لَأَرَى سَفِينَةَ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ تَضْطَرِبُ فِي اَلْبَحْرِ
ضَالَّةً، قَالَ: يَا رَسُولَ اَلله،
وَإِنَّكَ لَتَرَاهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتَقْدِرُ أَنْ تُرِيَنِيهَا؟ قَالَ:
اُدْنُ مِنِّي، قَالَ: فَدَنَا مِنْهُ، فَمَسَحَ عَلَى عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
اُنْظُرْ، فَنَظَرَ أَبُو بَكْرٍ فَرَأَى اَلسَّفِينَةَ وَهِيَ تَضْطَرِبُ فِي
اَلْبَحْرِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى قُصُورِ أَهْلِ اَلمَدِينَةِ، فَقَالَ فِي
نَفْسِهِ: اَلْآنَ صَدَّقْتُ أَنَّكَ سَاحِرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله
عليه وآله): اَلصَّدِّيقُ أَنْتَ»(٣٥٦).
وقوله: (إِذْ حَسُنَ اَلْحِذْرُ) لا يخلو من إشارة إلى بعض الجواب الحلِّي الآتي.
ثانياً: ما ذكره (طاب ثراه) بقوله:
وَلِمْ أُمِرَتْ أُمُّ اَلْكَلِيْمِ بِقَذْفِهِ * * * إِلَى نِيْلِ مِصْرٍ حِيْنَ ضَاقَتْ بِهِ مِصْرُ؟!
وحاصله: أنَّ
القرآن الكريم قد نصَّ على أنَّ الله تعالى أمَرَ أُمَّ موسى (عليه السلام) برميه
في النيل عندما لاحقه فرعون، فلنا أنْ نسأل الخصم: لماذا يأمرها الله تعالى بذلك مع
أنَّه يستطيع نصرها ورفع الأسباب الداعية لافتراقها عن ولدها؟! وهل ذلك لعجزه
تعالى؟! فما كان جواباً هنا، كان جواباً هناك.
ثالثاً: أنَّ كثيراً من الأنبياء (عليهم السلام) وقعت لهم الغيبة والاختفاء، فيحقُّ
لنا أنْ نعترض على غيباتهم بنفس اعتراضات الخصم المتقدِّمة على غيبة صاحبنا (عجَّل
الله فرجه) من استلزام الجبن ونسبة العجز إلى الله تعالى، فما يُجيب به عنها، نجيب
به عن صاحبنا (عجَّل الله فرجه).
وسيأتي ذكر جملة من غيبات الأنبياء (عليهم السلام).
ونضيف نقضاً رابعاً؛ وهو أنَّه تعالى كما يستطيع إزالة الموانع عن ظهوره إذا كان
حيًّا، فكذلك يستطيع إيجاده وتعجيل ولادته إنْ لم يكن حيًّا ولم يُولَد بعد،
فالإشكال وارد على الحالَين، فلنا أنْ نقول للناظم الآلوسي: لماذا يُؤخِّر الله
تعالى ولادته ليزيل الظلم والجور عن الأرض؟! ألعجزه تعالى عن إيجاده ونصره وإزالة
الموانع عن ولادته؟! فما كان جواباً هنا، كان جواباً هناك.
-----------------
(٣٥٦) بصائر الدرجات (ص ٤٢٢).
وأمَّا الحلُّ: فما ذكره السيِّد الجدُّ (طاب ثراه) بقوله:
فَإِنْ قُلْتَ:
هَذَا كَانَ فِيْهِمْ بِأَمْرِ مَنْ * * * لَهُ اَلْأَمْرُ فِيْ اَلْأَكْوَانِ
وَاَلْحَمْدُ وَاَلشُّكْرُ
فَقُلْ فِيْهِ مَا قَدْ قُلْتَ فِيْهِمْ فَكُلُّهُمْ * * * عَلَى مَا أَرَادَ
اَللهُ أَهْوَاؤُهُمْ قَصْرُ
وَإِظْهَارُ أَمْرِ اَلله مِنْ قَبْلِ وَقْتِهِ اَلْـ * * * ـمُؤَجَّلِ لَمْ
يُوْعَدْ عَلَى مِثْلِهِ اَلنَّصْرُ
وَلَيْسَ بِمَوْعُوْدٍ إِذَا قَامَ مُسْرِعَاً * * * إِلَى وَقْتِ (عِيْسَى)
يَسْتَطِيْلُ لَهُ اَلْعُمْرُ
وحاصله: أنَّنا
بعد أن علمنا وقطعنا بإمامة الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه) وعصمته وغيبته
بالأدلَّة المتقدِّمة، نقطع بأنَّه لا يصدر إلَّا عن أمر ربِّه تعالى، وأنَّ أفعاله
مقصورة على إرادته تعالى.
فإذا ظَهَر وأعلن نفسه، كما فعل جدُّه النبيُّ (صلَّى الله عليه وآله) بعد انتهاء
الدعوة السرّيَّة، علمنا أنَّ ذلك بأمره تعالى، وإذا غاب واستتر ولم يتحرَّك ولم
يُجيِّش الجيوش كما فعل جدُّه (صلَّى الله عليه وآله) طوال سنين الدعوة السرّيَّة
رغم انتشار الظلم والفساد في قريش، علمنا أنَّ ذلك أيضاً بأمره تعالى، وليس لنا بعد
ذلك الاعتراض؛ لأنَّه تعالى ﴿لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ
وَهُمْ يُسْئَلُونَ﴾ (الأنبياء: ٢٣).
وأمَّا شبهة: أنَّه (عجَّل الله فرجه) ناشر العدل ورافع الظلم، فبما أنَّ الظلم
موجود والعدل منحسر، فلا بدَّ من أنَّه غير موجود.
فجوابها قد تقدَّم في الحديث عن اللطف، وقلنا هناك: إنَّ غلبة الباطل والفساد من
سُنَن البشر التي لا تنفكُّ عنهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا
أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (البقرة:
٣٠)، وقال: ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾
(الأعراف: ١٧)، وقال: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ
حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (يوسف: ١٠٣)، وغير ذلك من الآيات، غير أنَّ الحقَّ
سيغلب وينتصر أخيراً، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥)، وباعتقادنا أنَّ المراد من ذلك هو قيام
دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
ومن هنا نقول: إنَّ وجود الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) لا يلزم منه انتصار
الحقِّ كلّيًّا وغلبته على الأرض وعموميَّته لسائر البشر، بل اللَّازم الذي لا
يفارق وجودهم هو إقامة الحجَّة على الناس، وأداء الواجب تجاههم بمقتضى الحكمة
والعدالة الربَّانيَّة المتمثِّلة بتوفير أسباب الطاعة والنجاة الواضحة بين أيديهم،
لكي يتسنَّى لهم الاختيار بعد ذلك؛ فإنْ شاؤوا اهتدوا، وإنْ شاؤوا كفروا، فيتحقَّق
الامتحان والاختبار الإلهي وينال السعادة مَنْ يستحقُّها ويُحرَم منها مَنْ لا
يستحقُّها، كما قال تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ
بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ (الأنفال: ٤٢)، وقال: ﴿رُسُلاً
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ﴾ (النساء: ١٦٥).
نعم، صحيحٌ أنَّه يجب عليهم أنْ ينشروا العدل والصلاح إذا تمكَّنوا من ذلك وسنحت
لهم الفرصة، وإلَّا فلا يلزمهم أكثر من بيان الحقِّ وتبليغه، ولا لوم عليهم إنْ لم
يتمكَّنوا من نشر الحقِّ بسبب عدم إفساح المجال لهم من قِبَل البشر.
ولأجل هذا ترى الأنبياء (عليهم السلام) قد قُتِّلوا ولوحقوا وكُذِّبوا من قِبَل
أقوامهم، ولم ينجح أحدٌ منهم في نشر العدل في العالم بشكلٍ تامٍّ، وكثيرٌ منهم غاب
وستر الدعوة، ولم يحقَّ لمسلم أنْ يعترض على ذلك ويقول: لماذا لم يُظهروا الحقَّ؟!
ولماذا لم ينصرهم الله تعالى؟!
وصاحبنا (عجَّل الله فرجه) موعود بتحقيق هذا الهدف، وموعود بأنَّه يعيش حتَّى يقيم
دولة العدل، ولكنَّه إنَّما وُعِدَ بذلك في حال امتثل أمر الله تعالى وانتظر إذنه
في الخروج والظهور، ولم يُوعَد به إنْ خالف أمرَ ربِّه وقام مسرعاً.
وبقول آخر: إنَّ الوعد الإلهي لانتصاره وبقائه حيًّا (عجَّل الله فرجه) مشروط
بامتثاله
أمرَ ربِّه تعالى وعدم خروجه عن تقديره وترتيبه المبني على المصالح التي
لا يعلمها غيره إلَّا بإذنه، وحيث كانت الغيبة واقعة بأمره تعالى، وكان الظهور
موقوفاً على أمره تعالى أيضاً، وجب عليه (عجَّل الله فرجه) تطبيق ذلك بحذافيره لكي
يتحقَّق له الوعد ويستطيل له العمر، وأمَّا لو استعجل وظهر لنشر الحقِّ قبل الإذن
الإلهي فليس موعوداً بشيء من هذا القبيل.
وهذا مراد الجدُّ الناظم (طاب ثراه) بقوله:
وَإِظْهَارُ
أَمْرِ اَلله مِنْ قَبْلِ وَقْتِهِ اَلْـ * * * ـمُؤَجَّلِ لَمْ يُوْعَدْ عَلَى
مِثْلِهِ اَلنَّصْرُ
وَلَيْسَ بِمَوْعُوْدٍ إِذَا قَامَ مُسْرِعَاً * * * إِلَى وَقْتِ (عِيْسَى)
يَسْتَطِيْلُ لَهُ اَلْعُمْرُ
وبه يظهر الجواب عن قول الآلوسي:
وَإِنْ قيلَ
مِنْ خَوْفِ اَلْأَذَاةِ قَدِ اِخْتَفَى * * * فَذَلِكَ قَوْلٌ عَنْ مَعَايِبَ
يَفْتَرُّ
وَلَا اَلنَّقْلُ كَلَّا إِذْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ * * * إِلَى وَقْتِ عِيسَى
يَسْتَطِيْلُ لَهُ اَلْعُمْرُ
شبهة استلزام الاختفاء للجبن:
وأمَّا شبهة أنَّ ذلك يستلزم الجبن: فواضحة البطلان بالنقوضات المتقدِّمة بأفعال
الأنبياء (عليهم السلام) وعلى رأسهم النبيِّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) حين
اختفى عن قريش بغار حراء، وسيأتي تعداد بعض غيبات الأنبياء (عليهم السلام).
ومن الواضح: أنْ ليس كلُّ خوف جبناً؛ بل للخوف معنيان:
خوف بمعنى تأثُّر الإنسان بحيث يفقد صوابه ويظهر عليه العيُّ والفزع والذهول، كما
حصل للشيخين عند هروبهما في غير واحدة من معارك المسلمين(٣٥٧)، وهذا هو المسمَّى
بالجبن، وهو المذموم الذي لا شكَّ في تنزُّه الإمام (عجَّل الله فرجه) عنه.
-----------------
(٣٥٧) قد فصَّل ذلك واستوفى مصادره المحقِّق السيِّد جعفر مرتضى العاملي (رحمه الله) في الانتصار (ج ٦/ ص ٣٣٧ وما بعدها).
وخوف بمعنى التفاته إلى الخطر فيحذر منه ويتحرَّك لدفعه بكامل عقله وتوازنه مع عدم
ارتباكه وذهوله، وهذا النوع لا بدَّ من اتِّصاف المرء به وإلَّا كان متهوِّراً ناقص
العقل، كما إذا انتبه أحد - مثلاً - إلى عدوٍّ يتوجَّه نحوه، فإنَّه إذا تحضَّر
لصدِّه ورفع خطره دون ذهول فسيُعتبَر عاقلاً شجاعاً، وإذا أعرض عن حماية نفسه
فسيُعتبَر متهوِّراً ألقى بنفسه إلى التهلكة.
ولذلك تراه (صلَّى الله عليه وآله) استتر في الغار ولم يخرج منه مجابهاً للمشركين
ومعلناً عن نفسه، لأنَّه موضع حَسُنَ فيه الاستتار والحذر، مع أنَّ أحداً لا يشكُّ
في أنَّه (صلَّى الله عليه وآله) أشجع الخلق قاطبةً، كما أشار إليه الناظم (طاب
ثراه) بقوله: (... إِذْ حَسُنَ اَلْحِذْرُ).
وكذلك تجد القرآن الكريم يصف موسى (عليه السلام) بأنَّه أوجس في نفسه خيفة، وكذلك
إبراهيم (عليه السلام)، فهل يكون ذلك جبناً فيهما حاشاهما؟!
والحاصل: أنَّ استتار صاحبنا (عجَّل الله فرجه) خوفاً من القتل ليس عيباً؛ لأنَّه
ليس من الخوف المستلزم للجبن، كما أنَّ استتار الأنبياء (عليهم السلام) لم يكن
كذلك.
وليس الخوف من القتل هو العلَّة التامَّة لغيبته، بل العلَّة التامَّة هي إرادته
تعالى وتقديره المحكم، ولا شكَّ في أنَّ له فيها مصالحَ وأسباباً نعلم بعضها بطريق
الروايات من قبيل السبب المذكور، ونجهل بعضها الآخر.
وأمَّا اعتراض الآلوسي على ذلك بأنَّه تعالى يستطيع نصره ودفع الظالمين عنه، فلماذا
يأمره بالاستتار؟! وهل هو عاجز عن ذلك؟!
فيكفي في ردِّه النقض بما تقدَّم من المظالم والمصائب التي وقعت على الأنبياء
(عليهم السلام) وألجأتهم إلى الهرب والاستتار.
ولكنَّنا نحلُّه أيضاً بأنْ نقول: إنَّ لله تعالى عِلَلاً ومصالح في كلِّ ما يفعله،
وعدم رفعه لموانع الظهور لا يعني أنَّه - حاشاه - عاجز عن ذلك، كما لم يعنِ عدمُ
رفعه لموانع إظهار الدعوة المحمّديَّة طيلة السنين الثلاث أنَّه عاجز.
وأمَّا تحديد العِلَل والمصالح الداعية إلى الغيبة، فليس لنا المطالبة بها، ولا
نحتاج لمعرفتها أصلاً، وما علينا إلَّا الخضوع والتسليم للتدبير الإلهي بعد ثبوت
أنَّه تدبيرٌ إلهي بالأدلَّة المتقدِّمة على إمامته وعصمته وغيبته (عجَّل الله
فرجه).
نعم يمكننا التوصُّل إلى بعضها بمعونة النقل والاعتبار، وسيأتي ذكر ذلك إنْ شاء
الله تعالى.
ذكر طرف من غيبات الأنبياء (عليهم
السلام):
لا يخفى على المتتبِّع أنَّ صاحبنا (عجَّل الله فرجه) لم ينفرد ولم يشذ بغيبته، بل
إنَّ له في ذلك أُسوة بالأنبياء (عليهم السلام)، كما ورد في جملة من الأخبار، منها
ما رواه الصدوق (رضي الله عنه) في (كمال الدِّين) بسنده عن سعيد بن جبير، قال:
سَمِعْتُ سَيِّدَ اَلْعَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ اَلْحُسَيْنِ (عليهما السلام)
يَقُولُ: «فِي اَلْقَائِمِ مِنَّا سُنَنٌ مِنَ سُنَنِ اَلْأَنْبِيَاءِ (عليهم
السلام)، سُنَّةٌ مِنْ آدَمَ وَسُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ وَسُنَّةٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ
وَسُنَّةٌ مِنْ مُوسَى وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَى وَسُنَّةٌ مِنْ أَيُّوبَ وَسُنَّةٌ
مِنْ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله)، فَأَمَّا مِنْ آدَمَ وَمِنْ نُوحٍ فَطُولُ
اَلْعُمُرِ، وَأَمَّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَخَفَاءُ اَلْوِلَادَةِ وَاِعْتِزَالُ
اَلنَّاسِ، وَأَمَّا مِنْ مُوسَى فَالْخَوْفُ وَاَلْغَيْبَةُ، وَأَمَّا مِنْ عِيسَى
فَاخْتِلاَفُ اَلنَّاسِ فِيهِ، وَأَمَّا مِنْ أَيُّوبَ فَالْفَرَجُ بَعْدَ
اَلْبَلْوَى، وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدٍ (صلَّى الله عليه وآله) فَالْخُرُوجُ
بِالسَّيْفِ»(٣٥٨).
وقد سبق منَّا الوعد بذكر ما يتيسَّر من غيبات الأنبياء (عليهم السلام)، وهاهنا
أداؤه:
أوَّلاً: غيبة إدريس (عليه السلام)، روى الصدوق (رضي الله عنه) في (كمال الدِّين)
قصَّتها الطويلة بسنده عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)(٣٥٩).
ثانياً: غيبة صالح (عليه السلام)، فيما رواه الصدوق (رضي الله عنه) في (كمال
الدِّين)، قال:
-----------------
(٣٥٨) كمال الدِّين (ص ٥٧٧).
(٣٥٩) كمال الدِّين (ص ١٥٧ وما بعدها).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
اَلْوَلِيدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحَسَنِ
اَلصَّفَّارُ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ اَلله وَعَبْدُ اَلله بْنُ جَعْفَرٍ
اَلْحِمْيَرِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي
اَلْخَطَّابِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ
زَيْدٍ اَلشَّحَّامِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ
صَالِحاً (عليه السلام) غَابَ عَنْ قَوْمِهِ زَمَاناً، وَكَانَ يَوْمَ غَابَ
عَنْهُمْ كَهْلاً مُبْدَحَ اَلْبَطْنِ، حَسَنَ اَلْجِسْمِ، وَافِرَ اَللِّحْيَةِ،
خَمِيصَ اَلْبَطْنِ، خَفِيفَ اَلْعَارِضَيْنِ مُجْتَمِعاً، رَبْعَةً مِنَ
اَلرِّجَالِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ لَمْ يَعْرِفُوهُ بِصُورَتِهِ،
فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ: طَبَقَةٌ جَاحِدَةٌ لَا
تَرْجِعُ أَبَداً، وَأُخْرَى شَاكَّةٌ فِيهِ، وَأُخْرَى عَلَى يَقِينٍ...»(٣٦٠).
ثالثاً: غيبة إبراهيم (عليه السلام)، قال الصدوق (رضي الله عنه): وأمَّا غيبة
إبراهيم خليل الرحمن (صلوات الله عليه) فإنَّها تشبه غيبة قائمنا (صلوات الله
عليه)، بل هي أعجب منها؛ لأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) غيَّب أثر إبراهيم (عليه السلام)
وهو في بطن أُمِّه حتَّى حوَّله (عزَّ وجلَّ) بقدرته من بطنها إلى ظهرها، ثمّ أخفى
أمر ولادته إلى وقت بلوغ الكتاب أجله، حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ
اَلْحَسَنِ (رضي الله عنهما)، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اَلله، عَنْ
يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ:
«كَانَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) مُنَجِّماً لِنُمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ،
وَكَانَ نُمْرُودُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ، فَنَظَرَ فِي اَلنُّجُومِ
لَيْلَةً مِنَ اَللَّيَالِي، فَأَصْبَحَ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ فِي لَيْلَتِي
هَذِهِ عَجَباً، فَقَالَ لَهُ نُمْرُودُ: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ مَوْلُوداً
يُولَدُ فِي أَرْضِنَا هَذِهِ، فَيَكُونُ هَلَاكُنَا عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا
يَلْبَثُ إِلَّا قَلِيلاً حَتَّى يُحْمَلَ بِهِ، فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ نُمْرُودُ،
وَقَالَ لَهُ: هَلْ حَمَلَتْ بِهِ اَلنِّسَاءُ؟ فَقَالَ: لَا، وَكَانَ فِيمَا
أُوتِيَ بِهِ مِنَ اَلْعِلْمِ أَنَّهُ سَيُحْرَقُ بِالنَّارِ، وَلَمْ يَكُنْ
أُوتِيَ أَنَّ اَللهَ تَعَالَى
-----------------
(٣٦٠) كمال الدِّين (ص ١٦٦).
سَيُنْجِيهِ»، قَالَ: «فَحَجَبَ اَلنِّسَاءَ عَنِ
اَلرِّجَالِ، فَلَمْ يَتْرُكْ اِمْرَأَةً إِلَّا جُعِلَتْ بِالمَدِينَةِ حَتَّى لَا
يَخْلُصَ إِلَيْهِنَّ اَلرِّجَالُ»، قَالَ: «وَوَقَعَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ عَلَى
اِمْرَأَتِهِ، فَحَمَلَتْ بِهِ، وَظَنَّ أَنَّهُ صَاحِبُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى
نِسَاءٍ مِنَ اَلْقَوَابِلِ لَا يَكُونُ فِي اَلْبَطْنِ شَيْءٌ إِلَّا عَلِمْنَ
بِهِ، فَنَظَرْنَ إِلَى أُمِّ إِبْرَاهِيمَ، فَأَلْزَمَ اَللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ
مَا فِي اَلرَّحِمِ اَلظَّهْرَ، فَقُلْنَ: مَا نَرَى شَيْئاً فِي بَطْنِهَا،
فَلَمَّا وَضَعَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بِهِ أَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ
إِلَى نُمْرُودَ، فَقَالَتْ لَهُ اِمْرَأَتُهُ: لَا تَذْهَبْ بِابْنِكَ إِلَى
نُمْرُودَ فَيَقْتُلَهُ، دَعْنِي أَذْهَبْ بِهِ إِلَى بَعْضِ اَلْغِيرَانِ
أَجْعَلْهُ فِيهِ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ أَجَلُهُ، وَلَا يَكُونَ أَنْتَ
تَقْتُلُ اِبْنَكَ، فَقَالَ لَهَا: فَاذْهَبِي بِهِ، فَذَهَبَتْ بِهِ إِلَى غَارٍ،
ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ، ثُمَّ جَعَلَتْ عَلَى بَابِ اَلْغَارِ صَخْرَةً، ثُمَّ
اِنْصَرَفَتْ عَنْهُ، فَجَعَلَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) رِزْقَهُ فِي إِبْهَامِهِ،
فَجَعَلَ يَمُصُّهَا فَيَشْرَبُ لَبَناً، وَجَعَلَ يَشِبُّ فِي اَلْيَوْمِ كَمَا
يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي اَلْجُمْعَةِ وَيَشِبُّ فِي اَلْجُمْعَةِ كَمَا يَشِبُّ
غَيْرُهُ فِي اَلشَّهْرِ، وَيَشِبُّ فِي اَلشَّهْرِ كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي
اَلسَّنَةِ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اَللهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ إِنَّ أُمَّهُ قَالَتْ
لِأَبِيهِ: لَوْ أَذِنْتَ لِي حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى ذَلِكَ اَلصَّبِيِّ فَأَرَاهُ
فَعَلْتُ، قَالَ: فَافْعَلِي، فَأَتَتِ اَلْغَارَ، فَإِذَا هِيَ بِإِبْرَاهِيمَ
(عليه السلام) وَإِذَا عَيْنَاهُ تَزْهَرَانِ كَأَنَّهُمَا سِرَاجَانِ،
فَأَخَذَتْهُ وَضَمَّتْهُ إِلَى صَدْرِهَا وَأَرْضَعَتْهُ ثُمَّ اِنْصَرَفَتْ
عَنْهُ، فَسَأَلَهَا أَبُوهُ عَنِ اَلصَّبِيِّ، فَقَالَتْ لَهُ: قَدْ وَارَيْتُهُ
فِي اَلتُّرَابِ، فَمَكَثَتْ تَعْتَلُّ وَتَخْرُجُ فِي اَلْحَاجَةِ وَتَذْهَبُ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) فَتَضُمُّهُ إِلَيْهَا وَتُرْضِعُهُ ثُمَّ
تَنْصَرِفُ، فَلَمَّا تَحَرَّكَ أَتَتْهُ أُمُّهُ كَمَا كَانَتْ تَأْتِيهِ
وَصَنَعَتْ كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ، فَلَمَّا أَرَادَتِ اَلْاِنْصِرَافَ أَخَذَ
بِثَوْبِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ لَهَا: اِذْهَبِي بِي مَعَكِ،
فَقَالَتْ لَهُ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أَبَاكَ».
ثمّ قال الصدوق: (فلم يزل إبراهيم (عليه السلام) في الغيبة مخفياً لشخصه، كاتماً
لأمره، حتَّى ظهر فصدع بأمر الله تعالى ذكره وأظهر الله قدرته فيه. ثمّ غاب (عليه
السلام) الغيبة الثانية، وذلك حين نفاه الطاغوت عن مصر...)(٣٦١).
-----------------
(٣٦١) كمال الدِّين (ص ١٦٧ وما بعدها).
رابعاً: غيبة يوسف (عليه السلام)، قال الصدوق (رضي الله عنه): (وأمَّا غيبة يوسف
(عليه السلام) فإنَّها كانت عشرين سنة لم يدهن فيها ولم يكتحل ولم يتطيَّب ولم يمسّ
النساء حتَّى جمع الله ليعقوب شمله وجمع بين يوسف وإخوته وأبيه وخالته، كان منها
ثلاثة أيَّام في الجُبِّ، وفي السجن بضع سنين، وفي المُلك باقي سنيه. وكان هو بمصر
ويعقوب بفلسطين، وكان بينهما مسيرة تسعة أيَّام، فاختلفت عليه الأحوال في غيبته من
إجماع إخوته على قتله، ثمّ إلقائهم إيَّاه في غيابت الجُّبِّ، ثمّ بيعهم إيَّاه
بثمن بخس دراهم معدودة، ثمّ بلواه بفتنة امرأة العزيز، ثمّ بالسجن بضع سنين، ثمّ
صار إليه بعد ذلك مُلك مصر، وجمع الله (تعالى ذكره) شمله وأراده تأويل رؤياه)(٣٦٢)،
ثمّ ذكر الأخبار الواردة فيها.
خامساً: غيبة موسى (عليه السلام)، قال الصدوق (رضي الله عنه): وَأَمَّا غَيْبَةُ
مُوسَى اَلنَّبِيِّ (عليه السلام)، فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ اَلْآدَمِيُّ اَلرَّازِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ اَلنَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِيهِ آدَمَ بْنِ أَبِي
إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اَلمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنْ سَيِّدِ اَلْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ
سَيِّدِ اَلشُّهَدَاءِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ
اَلْوَصِيِّينَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صَلَوَاتُ
اَلله عَلَيْهِمْ)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلَّى الله عليه وآله): «لَمَّا
حَضَرَتْ يُوسُفَ (عليه السلام) اَلْوَفَاةُ جَمَعَ شِيعَتَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ،
فَحَمِدَ اَللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ حَدَّثَهُمْ بِشِدَّةٍ تَنَالُهُمْ،
يُقْتَلُ فِيهَا اَلرِّجَالُ وَتُشَقُّ بُطُونُ اَلْحَبَالَى وَتُذْبَحُ
اَلْأَطْفَالُ حَتَّى يُظْهِرَ اَللهُ اَلْحَقَّ فِي اَلْقَائِمِ مِنْ وُلْدِ
لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَهُوَ رَجُلٌ أَسْمَرُ طُوَالُ، وَنَعَتَهُ لَهُمْ
بِنَعْتِهِ، فَتَمَسَّكُوا بِذَلِكَ، وَوَقَعَتِ اَلْغَيْبَةُ وَاَلشِّدَّةُ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ مُنْتَظِرُونَ قِيَامَ اَلْقَائِمِ أَرْبَعَ مِائَةِ
سَنَةٍ حَتَّى إِذَا بُشِّرُوا بِوِلَادَتِهِ وَرَأَوْا عَلَامَاتِ ظُهُورِهِ
وَاِشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ اَلْبَلْوَى وَحُمِلَ عَلَيْهِمْ
-----------------
(٣٦٢) كمال الدِّين (ص ١٧١).
بِالْخَشَبِ وَاَلْحِجَارَةِ، وَطُلِبَ اَلْفَقِيهُ اَلَّذِي كَانُوا يَسْتَرِيحُونَ إِلَى أَحَادِيثِهِ، فَاسْتَتَرَ، وَرَاسَلُوهُ فَقَالُوا: كُنَّا مَعَ اَلشِّدَّةِ نَسْتَرِيحُ إِلَى حَدِيثِكَ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى بَعْضِ اَلصَّحَارِي، وَجَلَسَ يُحَدِّثُهُمْ حَدِيثَ اَلْقَائِمِ وَنَعْتَهُ وَقُرْبَ اَلْأَمْرِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً قَمْرَاءَ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ مُوسَى (عليه السلام)، وَكَانَ فِي ذَلِكَ اَلْوَقْتِ حَدِيثَ اَلسِّنِّ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ دَارِ فِرْعَوْنَ يُظْهِرُ اَلنُّزْهَةَ، فَعَدَلَ عَنْ مَوْكِبِهِ وَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ وَتَحْتَهُ بَغْلَةٌ وَعَلَيْهِ طَيْلَسَانُ خَزٍّ، فَلَمَّا رَآهُ اَلْفَقِيهُ عَرَفَهُ بِالنَّعْتِ، فَقَامَ إِلَيْهِ وَاِنْكَبَّ عَلَى قَدَمَيْهِ فَقَبَّلَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: اَلْحَمْدُ لله اَلَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِيَكَ، فَلَمَّا رَأَى اَلشِّيعَةُ ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّهُ صَاحِبُهُمْ، فَأَكَبُّوا عَلَى اَلْأَرْضِ شُكْراً لله (عزَّ وجلَّ)، فَلَمْ يَزِدْهُمْ عَلَى أَنْ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُعَجِّلَ اَللهُ فَرَجَكُمْ، ثُمَّ غَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَخَرَجَ إِلَى مَدِينَةِ مَدْيَنَ، فَأَقَامَ عِنْدَ شُعَيْبٍ مَا أَقَامَ، فَكَانَتِ اَلْغَيْبَةُ اَلثَّانِيَةُ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلْأُولَى، وَكَانَتْ نَيِّفاً وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَاِشْتَدَّتِ اَلْبَلْوَى عَلَيْهِمْ، وَاِسْتَتَرَ اَلْفَقِيهُ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا صَبْرَ لَنَا عَلَى اِسْتِتَارِكَ عَنَّا، فَخَرَجَ إِلَى بَعْضِ اَلصَّحَارِي وَاِسْتَدْعَاهُمْ وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ مُفَرِّجٌ عَنْهُمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ: اَلْحَمْدُ لله، فَأَوْحَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: قَدْ جَعَلْتُهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً لِقَوْلِهِمْ: اَلْحَمْدُ لله، فَقَالُوا: كُلُّ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَلله، فَأَوْحَى اَللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: قَدْ جَعَلْتُهَا عِشْرِينَ سَنَةً، فَقَالُوا: لَا يَأْتِي بِالْخَيْرِ إِلَّا اَللهُ، فَأَوْحَى اَللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: قَدْ جَعَلْتُهَا عَشْراً، فَقَالُوا: لَا يَصْرِفُ اَلسُّوءَ إِلَّا اَللهُ، فَأَوْحَى اَللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: لَا تَبْرَحُوا فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي فَرَجِكُمْ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ مُوسَى (عليه السلام) رَاكِباً حِمَاراً، فَأَرَادَ اَلْفَقِيهُ أَنْ يُعَرِّفَ اَلشِّيعَةَ مَا يَسْتَبْصِرُونَ بِهِ فِيهِ، وَجَاءَ مُوسَى حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ اَلْفَقِيهُ: مَا اِسْمُكَ؟ فَقَالَ: مُوسَى، قَالَ: اِبْنُ مَنْ؟ قَالَ: اِبْنُ عِمْرَانَ، قَالَ: اِبْنُ مَنْ؟ قَالَ: اِبْنُ قَاهِثِ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: بِمَا ذَا جِئْتَ؟ قَالَ: جِئْتُ بِالرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَ يَدَهُ، ثُمَّ
جَلَسَ بَيْنَهُمْ، فَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ وَأَمَرَهُمْ
أَمْرَهُ ثُمَّ فَرَّقَهُمْ، فَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ اَلْوَقْتِ وَبَيْنَ فَرَجِهِمْ
بِغَرْقِ فِرْعَوْنَ أَرْبَعُونَ سَنَةً»(٣٦٣).
شبهة طول العمر:
٧٤ - وَإِنْ
تَسْتَرِبْ فِيْهِ لِطُوْلِ بَقَائِهِ * * * أَجَابَكَ (إِدْرِيْسٌ) وَ(إِلْيَاسُ)
وَ(اَلخَضْرُ)
٧٥ - وَمَكْثُ نَبِيِّ اَلله (نُوْحٍ) بِقَوْمِهِ * * * - كَذَا نَوْمُ أَهْلِ
اَلْكَهْفِ - نَصَّ بِهِ اَلذِّكْرُ
٧٦ - وَقَدْ وُجِدَ اَلدَّجَالُ فِيْ عَهْدِ أَحْمَدٍ * * * وَلَمْ يَنْصَرِمْ
مِنْهُ إِلَى اَلسَّاعَةِ اَلْعُمْرُ
٧٧ - وَقَدْ عَاشَ (عُوْجٌ) أَلْفَ عَامٍ وَفَوْقَهَا * * * وَلَوْلَا عَصَى
مُوْسَى لَأَخَّرَهُ اَلدَّهْرُ
٧٨ - وَمَنْ بَلَغَتْ أَعْمَارُهُمْ فَوْقَ مَائَةٍ * * * وَمَا بَلَغَتْ أَلْفَاً
فَلِيْسَ لَهمْ حَصْرُ
أقول: هذا جواب
عن الشبهة الواهية القائمة على استبعاد أنْ يطول عمر إنسانٍ إلى هذا الحدِّ، وهو
ألف ومائة وواحد وتسعين سنة بناءً على كون ولادته الشريفة (عجَّل الله فرجه) سنة
(٢٥٥هـ).
وجوابها: أنَّه مجرَّد استبعاد، ولا قيمة لمثله فيما يثبت بالأدلَّة القطعيَّة،
ويكفي أنَّ طول العمر بهذا النحو لا شكَّ في أنَّه ممكن عقلاً.
بل لا نُسلِّم أنَّه مستبعدٌ؛ لكثرة وقوعه في التاريخ بنحو لا يكون الاستبعاد معه
عقلائيًّا، ومن عادة العقلاء - بل عامَّة البشر - أنَّهم لا يتعجَّبون من شيء ولا
يستبعدونه إذا تكرَّر بمقدار معيَّن، ألَا ترى أنَّ اختراع الطائرات الحديثة مثلاً
كان في أوَّل أمره متعجَّباً ومستبعَداً، ولو أخبر الناسَ شخصٌ في حينها أنَّه رأى
طائرة في السماء فسيحصل في نفوسهم - بمقتضى العادة - شيء من التعجُّب والإنكار،
فإذا رأوا طائرة بأنفسهم سيُصدِّقون وجودها مع بقاء الدهشة فيهم، وأمَّا الآن في
هذا العصر الذي يرى البشر فيه العشرات منها تطير في السماء صار
-----------------
(٣٦٣) كمال الدِّين (ص ١٧٥).
أمرها طبيعيًّا وليس
مستبعَداً، وهكذا كُلُّ أمرٍ يتكرَّر ويكون له نظائر وإنْ كان في حدِّ نفسه غريباً.
وعند الرجوع إلى التاريخ نجد كثيراً من المعمَّرين الذين وصلوا إلى هذا العدد من
السنين أو جاوزوه أو نقصوا عنه، وإذا كان الحال كذلك فلا مكان للاستبعاد ولا موجب
له، فضلاً عن كونه لا قيمة له في قبال ما تقدَّم من الأدلَّة القطعيَّة.
وقد ذكر سيِّدنا الجدُّ الناظم (طاب ثراه) سبعةً من أُولئك المعمَّرين المتَّفق
عليهم، وهم:
أوَّلاً: إدريس (عليه السلام)، فإنَّه لا زال حيًّا لم يمت بنصِّ قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَاهُ
مَكَاناً عَلِيًّا﴾ (مريم: ٥٧)، كما عليه جمهور المفسِّرين(٣٦٤).
ثانياً: إلياس (عليه السلام)، المذكور في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ
إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الصافَّات: ١٢٣).
قال الفخر الرازي في (تفسيره): (في إلْياسَ قَوْلانِ: يُرْوى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أنَّهُ قَرَأَ: (وإنَّ إدْرِيسَ)، وقالَ: إنَّ إلْياسَ هو إدْرِيسُ، وهَذا قَوْلُ
عِكْرِمَةَ، وأمَّا أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ فَهم مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّهُ نَبِيٌّ
مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ، وهو إلْياسُ بْنُ ياسِينَ، مِن ولَدِ هارُونَ أخِي
مُوسى (عليهم السلام))(٣٦٥).
وفي (تفسير الطبري) ما حاصله: أنَّ مَلِك زمانه طلبه ليقتله، فرفعه الله تعالى من
بين أظهرهم(٣٦٦).
ثالثاً: الخضر (عليه السلام)، قال أبو حاتم في (المعمَّرون): (ذكر أبو عبيدة وأبو
اليقظان ومحمَّد بن سلام الجمحي وغيرهم أنَّ أطول بني آدم عمراً الخضر...)(٣٦٧).
-----------------
(٣٦٤) اُنظر: تفسير ابن الجوزي (ج ٣/ ص ١٣٥).
(٣٦٥) تفسير الفخر الرازي (ج ٢٦/ ص ٣٥٣).
(٣٦٦) اُنظر: تفسير الطبري (ج ٢١/ ص ٩٩ و١٠٠).
(٣٦٧) المعمَّرون (ص ٣).
وفي (تذكرة الخواصِّ) لسبط ابن الجوزي: (أنَّ جماعةً طالت أعمارهم كالخضر وإلياس،
فإنَّه لا يُدرى كم لهما من السنين...)(٣٦٨).
ونقل الزمخشري في (ربيع الأبرار) عن مجاهد: (من الأنبياء أربعة أحياء، اثنان منهم
في السماء وهما: إدريس وعيسى، واثنان في الأرض: إلياس والخضر)(٣٦٩).
رابعاً: نوح (عليه السلام) الذي عمَّر على الأقلّ تسعمائة وخمسين سنةً كما في قوله
تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ
وَهُمْ ظَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: ١٤)، ولكنَّ الواضح أنَّ هذا هو الشطر من
عمره الذي دعا فيه قومه، وليس كُلَّه.
وفي (الكشَّاف): أنَّه كان عمره ألفاً وخمسين سنة(٣٧٠)، وفي كتاب (المعمَّرون) لأبي
حاتم السجستاني: أنَّه عاش ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة(٣٧١)، وفي (تفسير الطبري)
بسنده عن عون ابن أبي شدَّاد: أنَّ عمره ألف وستّمائة وخمسين سنة(٣٧٢)، وفي (كمال
الدِّين) عن الصادق (عليه السلام)، قال: «عَاشَ نُوحٌ أَلْفَيْ سَنَةٍ
وَخَمْسَمِائَةٍ»(٣٧٣).
خامساً: أهل الكهف المذكورون في قوله تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ (الكهف: ٢٥).
سادساً: الأعور الدجَّال، وقد تقدَّم ما في حديث تميم الداري المروي في
-----------------
(٣٦٨) تذكرة الخواصِّ (ج ٢/ ص ٥١٣).
(٣٦٩) ربيع الأبرار (ج ١/ ص ٣٢٩ و٣٣٠).
(٣٧٠) الكشَّاف (ج ٣/ ص ٤٤٥).
(٣٧١) المعمَّرون (ص ٤).
(٣٧٢) تفسير الطبري (ج ٢٠/ ص ١٩).
(٣٧٣) كمال الدِّين (ص ٥٥٣).
(صحيح
مسلم)(٣٧٤) من أنَّه حيٌّ منذ عهد النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) على الأقلّ،
وأنَّه محبوس في جزيرة حتَّى يأذن الله بخروجه وتقع الفتنة.
سابعاً: عوج بن عناق، وهو الذي قتله موسى (عليه السلام).
قال ابن الجوزي في (تاريخه): (حكى أبو جعفر الطبري: أنَّ عوجاً عاش ألف سنة، وأنَّه
التقى بموسى، فضرب موسى كعب عوج فقتله، وعناق اسم أبيه، وقال وهب بن منبه: بل اسم
أُمِّه، وكانت من بنات آدم، قال: ووُلِدَ عوج في زمن آدم، وكان جبَّاراً لا يوصف
عظماً، وعمره ثلاثة آلاف وستّمائة سنة حتَّى أدرك موسى...)(٣٧٥).
فهؤلاء المعمَّرون الذين ذكرهم سيِّدنا الناظم (طاب ثراه)، ثمّ قال:
وَمَنْ بَلَغَتْ أَعْمَارُهُمْ فَوْقَ مَائَةٍ * * * وَمَا بَلَغَتْ أَلْفَاً فَلِيْسَ لَهْمْ حَصْرُ
ونحن نذكر
جماعةً ممَّن جاوزوا المائة ولم يبلغوا الألف:
أوَّلاً: آدم (عليه السلام)، ذكر الطبري في (تاريخه) عن ابن عبَّاس أنَّه عاش
تسعمائة وستِّين سنة(٣٧٦).
ثانياً: الحارث بن مضَّاض، ذكر أبو حاتم في (المعمَّرون) أنَّه عاش أربعمائة
سنة(٣٧٧).
ثالثاً: أكثم بن صيفي، حكيم العرب الشهير، ذكر أبو حاتم أنَّه عاش ثلاثمائة وثلاثين
سنة(٣٧٨).
-----------------
(٣٧٤) صحيح مسلم (ج ٤/ ص ٢٢٦/ ح ٢٩٤٢).
(٣٧٥) تاريخ ابن الجوزي (ج ١/ ص ٣٥٤).
(٣٧٦) تاريخ الطبري (ج ١/ ص ١٥٧).
(٣٧٧) المعمَّرون (ص ٥٤).
(٣٧٨) المعمَّرون (ص ١٠).
رابعاً: عبيد بن الأبرص، الشاعر الجاهلي المشهور صاحب المعلَّقة، ذكر أبو حاتم
أنَّهم قالوا: عاش مائتي وعشرين سنة، ويقال: بل ثلاثمائة سنة(٣٧٩).
خامساً: عمرو بن ربيعة، ذكر أبو حاتم أنَّه عاش ثلاثمائة وأربعين سنة(٣٨٠).
سادساً: زهير بن جناب القضاعي، ذكر أبو حاتم أنَّه عاش أربعمائة وعشرين سنة(٣٨١).
سابعاً: طيُّ بن أدد، ذكر أبو حاتم أنَّه عاش خمسمائة سنة(٣٨٢).
ثامناً: حارثة بن عبيد الكلبي، ذكر أبو حاتم عن بعض ولده أنَّه عاش خمسمائة
سنة(٣٨٣).
تاسعاً: عبد المسيح بن عمرو الغسَّاني، ذكر أبو حاتم أنَّه عاش ثلاثمائة وخمسين
سنة(٣٨٤).
عاشراً: قسُّ بن ساعدة، ذكر أبو حاتم أنَّه عاش ثلاثمائة وثمانين سنة(٣٨٥).
ونكتفي بهذا المقدار اليسير، ومَنْ أراد الاستيفاء فعليه بكتاب (المعمَّرون) لأبي
حاتم السجستاني، وكتاب المبرّد المتَّفق معه في العنوان، علماً أنَّ ثَمَّة الكثير
ممَّن بلغوا الألف وجاوزوها غير الذين ذكرناهم، فضلاً عمَّن جاوزوا المائة.
وإنْ كانت الحال هذه فأيُّ مجال يبقى لاستبعاد أنْ يطول عمره (عجَّل الله فرجه) هذا
الحدَّ؟! وأيُّ ذريعة للخصم في دعوى استحالته عقلاً؟!
-----------------
(٣٧٩) المعمَّرون (ص ٧٥).
(٣٨٠) المعمَّرون (ص ٤٤).
(٣٨١) المعمَّرون (ص ٣١).
(٣٨٢) المعمَّرون (ص ٩١).
(٣٨٣) المعمَّرون (ص ٩٤).
(٣٨٤) المعمَّرون (ص ٤٧).
(٣٨٥) المعمَّرون (ص ٨٧).
٧٩ - وَمَا
أَسَعَدَ اَلسِّرْدَابَ فِيْ (سُرَّ مَنْ رَأَى) * * * وَأَسْعَدُ مِنْهُ (مَكَّةٌ)
فَلَهَا اَلْبِشْرُ
٨٠ - سَيُشْرِقُ نُوْرُ اَلله مِنْهَا، فَلَا تَقُلْ: * * * (لَهُ اَلْفَضْلُ عَنْ
أُمِّ اَلْقُرَى وَلَهَا اَلْفَخْرُ)
أقول: هذا جواب
عن فرية الخصم الآلوسي وغيره من المخالفين التي هي اتِّهامنا الاعتقاد بأنَّه
(عجَّل الله فرجه) يعيش في السرداب بسامرَّاء، ومنه يظهر، مع أنَّ شيئاً من أخبارنا
وكُتُبنا لا يحتوي على ذلك منذ زمن الأئمَّة (عليهم السلام) حتَّى يومك هذا.
وقد ذكرها الخصم الآلوسي في قوله:
وَمَا أَسْعَدَ
اَلسَّرْدَابَ فِي سُرَّ مَنْ رَأَى * * * لَهُ اَلْفَضْلُ عَنْ أُمِّ اَلْقُرَى
وَلَهُ اَلْفَخْرُ
فَيَا لَلْأَعَاجِيْبِ اَلَّتِي مِنْ عَجِيبِهَا * * * أَنِ اِتَّخَذَ
اَلسَّرْدَابَ بُرْجاً لَهُ اَلْبَدْرُ
قلتُ: لا يخفى
على اللبيب أنَّ العجيب في المقام إنَّما هو مدى جرأة هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام
على الكذب الصريح القبيح بغير ورع ولا حياء، وهذه كُتُب الشيعة على مرِّ العصور بين
يديك، فانظر فيها لترى ما إنْ كانت هذه الفرية موجودة في شيء منها أو لا، وليتَّضح
لك أيُّنا أكذب وأليق بالافتراء والتزوير.
وممَّن لم يتورَّع عن ارتكاب هذا الافتراء الذهبي في (تاريخ الإسلام) إذ قال: (ولهم
أربعمائة وخمسون سنة ينتظرون ظهوره، ويدَّعون أنَّه دخل سرداباً في البيت الذي
لوالده وأُمُّه تنظر إليه، ولم يخرج منه إلى الآن)(٣٨٦)، وقال في موضع آخر: (وهم
يدَّعون بقاءه في السرداب من أربعمائة وخمسين سنة، وأنَّه صاحب الزمان، وأنَّه حيٌّ
يعلم علم الأوَّلين والآخرين، ويعترفون أنَّه لم يرَه أحد أبداً)(٣٨٧).
والجواب عن هذه الأكاذيب - الدالَّة على ضعف أصحابها وعجزهم عن مجابهة الحجج بالحجج
- من وجوه:
-----------------
(٣٨٦) تاريخ الإسلام (ج ٢٠/ ص ١٦١).
(٣٨٧) تاريخ الإسلام (ج ٢٩/ ص ١١٣).
أوَّلاً: لم يذكر أحدٌ من علماء الشيعة على مرِّ القرون أنَّ غيبته (عجَّل الله
فرجه) في السرداب، ومن يدَّعِ خلاف ذلك فليبرز لنا نصًّا، وإلَّا فهو كاذب مفترٍ
جارٍ على ديدن سلفه الطالح.
ثانياً: لم يذكر أحدٌ من علماء الشيعة أيضاً أنَّه (عجَّل الله فرجه) باقٍ في
السرداب، ولا أنَّه يظهر منه، بل اعتقادنا أنَّه موجود في الأمصار لا يُعلَم مكانه
ولا شخصه، ولذلك نقول في دعاء الندبة الشهير: «لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ اِسْتَقَرَّتْ
بِكَ اَلنَّوَى؟ أَمْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ ثَرَى؟ أَبِرَضْوَى أَمْ
غَيْرِهَا أَمْ ذِي طُوًى؟»(٣٨٨).
وأمَّا ظهوره الشريف، فقد تقدَّم اعتقادنا بأنَّه يظهر في مكَّة، وهذه رواياتنا
تنادي بذلك، من قبيل رواية الشيخ (رحمه الله) في (غيبته) بسنده إلى أبي جعفر
الباقر (عليه السلام)، قال: «كَأَنِّي بِالْقَائِمِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ
اَلسَّبْتِ قَائِماً بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ جَبْرَئِيلُ
يُنَادِي: اَلْبَيْعَةَ لله، فَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً
وَجَوْراً»(٣٨٩).
ورواية ثقة الإسلام (رضي الله عنه) بسنده إلى بكير بن أعين، قال: سَأَلْتُ أَبَا
عَبْدِ اَلله، لِأَيِّ عِلَّةٍ وَضَعَ اَللهُ اَلْحَجَرَ فِي اَلرُّكْنِ اَلَّذِي
هُوَ فِيهِ وَلَمْ يُوضَعْ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: «إِنَّ اَللهَ تَعَالَى وَضَعَ
اَلْحَجَرَ اَلْأَسْوَدَ وَهِيَ جَوْهَرَةٌ أُخْرِجَتْ مِنَ اَلْجَنَّةِ إِلَى
آدَمَ، فَوُضِعَتْ فِي ذَلِكَ اَلرُّكْنِ لِعِلَّةِ اَلْمِيثَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَمَّا أَخَذَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ حِينَ أَخَذَ
اَللهُ عَلَيْهِمُ اَلْمِيثَاقَ فِي ذَلِكَ اَلمَكَانِ، وَفِي ذَلِكَ اَلمَكَانِ
تَرَاءَى لَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ اَلمَكَانِ يَهْبِطُ اَلطَّيْرُ عَلَى اَلْقَائِمِ
(عليه السلام)، فَأَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُهُ ذَلِكَ اَلطَّيْرُ، وَهُوَ وَاَلله
جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، وَإِلَى ذَلِكَ اَلمَكَانِ يُسْنِدُ اَلْقَائِمُ
ظَهْرَهُ، وَهُوَ اَلْحُجَّةُ وَاَلدَّلِيلُ عَلَى اَلْقَائِمِ»(٣٩٠).
-----------------
(٣٨٨) المزار للمشهدي (ص ٥٨١).
(٣٨٩) الغيبة للطوسي (ص ٤٥٣).
(٣٩٠) الكافي (ج ٤/ ص ١٨٥).
إلى غير ذلك من الأخبار، فلا أدري كيف ساغ لهؤلاء مثل هذه النسبة لولا أنَّ الكذب
منهاجهم؟!
وأمَّا السرداب المذكور؛ فلسنا نعظمُّه إلَّا لأنَّه مسكن ثلاثة من الأئمَّة
الأطهار (عليهم السلام)، كما هو شأن سائر مساكن المعصومين (عليهم السلام).
ولأجل ذلك قال سيِّدنا الناظم (طاب ثراه):
وَمَا أَسَعَدَ
اَلسِّرْدَابَ فِيْ (سُرَّ مَنْ رَأَى) * * * وَأَسْعَدُ مِنْهُ (مَكَّةٌ) فَلَهَا
اَلْبِشْرُ
سَيُشْرِقُ نُوْرُ اَلله مِنْهَا، فَلَا تَقُلْ: * * * (لَهُ اَلْفَضْلُ عَنْ أُمِّ
اَلْقُرَى وَلَهَا اَلْفَخْرُ)
فإنَّ سعادة
السرداب إنَّما هي لأجل ما ذكرنا، لا لأجل أنَّه (عجَّل الله فرجه) باقٍ فيه، فضلاً
عن أنَّه يظهر منه، والسعادة الكبرى هي لمكَّة المشرَّفة التي سيشرق نوره (عجَّل
الله فرجه) منها.
ثالثاً: قول الذهبي المتقدِّم: (ويعترفون أنَّه لم يرَه أحد أبداً) كذبٌ عظيم،
كيف؟! وهذه كُتُب أصحابنا تضجُّ بتسمية مَنْ رآه من الناس وتعدادهم، وهذا الكليني
(رضي الله عنه) عقد باباً في (الكافي) بعنوان: (في تسمية مَنْ رآه)(٣٩١)، ومثله
المفيد (رضي الله عنه) الذي عقد باباً في (الإرشاد) بعنوان: (ذكر مَنْ رأى الإمام
الثاني عشر)(٣٩٢)، وقبله الصدوق (رضي الله عنه) في (كمال الدِّين)(٣٩٣)، وقد صنَّف
العلَّامة الأكبر السيِّد هاشم البحراني (رضي الله عنه) كتاباً مستقلّاً لهذا
الغرض، وسمَّاه: (تبصرة الوليِّ في مَنْ رأى القائم المهدي)، وغيرهم من أكابر
المحدِّثين وأعاظم المؤرِّخين وأهل السِّيَر من الأصحاب.
فيا سبحان الله، من أين نقل الذهبي اعترافنا بأنَّه (عجَّل الله فرجه) لم يرَه أحد
أبداً؟!
-----------------
(٣٩١) الكافي (ج ١/ ص ٣٢٩).
(٣٩٢) الإرشاد (ج ٢/ ص ٣٥١).
(٣٩٣) كمال الدِّين (ص ٤٦٤).
والقارئ المنصف بعد أنْ رأى كيف أنَّنا لا ننسب شيئاً إلى القوم إلَّا بأنْ ننقله
من أقوالهم ومصادرهم المعتبرة، ويرى في المقابل كذبهم وافتراءهم علينا بهذه
السُّبُل المخزية، فعليه أنْ يسأل نفسه عن سبب ذلك وعلِّته، ولن يجد جواباً غير
أنَّها حيلة العاجز، وذريعة البائس، وأنَّ الحقَّ مع مَنْ لا يفتقر إلى الكذب
لإثبات مدَّعاه، وما ذاك إلَّا نحن، والحمد لله ربِّ العالمين.
أسباب الغيبة ووجوه الحكمة فيها:
٨١ - فَإِنْ
أَخَّرَ اَللهُ اَلظُّهُوْرَ لِحِكْمَةٍ * * * بِهِ سَبَقَتْ فِيْ عِلْمِهِ وَلَهُ
اَلْأَمْرُ
٨٢ - فَكَمْ مِحْنَةٍ لله بَيْنَ عِبَادِهِ * * * يُمَيَّزُ فِيْهَا فَاجِرُ
اَلنَّاسِ وَاَلْبَرُّ
٨٣ - وَيَعْظُمُ أَجْرُ اَلصَّابِرِيْنَ لِأَنَّهَمْ * * * أَقَامُوْا عَلَى مَا
دُوْنِ مَوْطِئِهِ اَلجَمْرُ
٨٤ - وَلَمْ يَمْتَحِنْهُمْ كَيْ يَحِيْطَ بِعِلْمِهِمْ * * * عَلِيْمٌ تَسَاوَى
عِنْدَهُ اَلسِّرُ وَاَلجَهْرُ
٨٥ - وَلَكِنْ لِيَبْدُوْ عِنْدَهُمْ سُوْءُ مَا اِجْتَرَوْا * * * عَلَيْهِمْ
فَلَا يَبْقَى لِآثِمِهِمْ عُذْرُ
أقول: هذا كلامٌ
على وجه الحكمة في غيبته (عجَّل الله فرجه) الطويلة، ولا يخلو من نوع اتِّصال
بالكلام على وجه النفع فيها، وقد تقدَّم شرحه مفصَّلاً، فراجعه إنْ شئت(٣٩٤).
ونقول هنا: إنَّ المؤمن لا يتمُّ إيمانه إلَّا بعد تسليمه المطلق بإرادة الله تعالى
وأحكامه، ولا يحقُّ له الاعتراض عليها - إذا كانت ثابتة - لمجرَّد عدم علمه بوجوه
الحكمة فيها، وهذا من أوضح الواضحات.
وبعد ما تقدَّم من الأدلَّة القطعيَّة على إمامته (عجَّل الله فرجه) وغيبته، لا
يبقى مجال للاعتراض عليها والتشكيك بوجود الحكمة فيها، إذ سيكون ذلك اعتراضاً على
الله تعالى في الحقيقة، وهو ما لا يجرؤ عليه مسلم.
-----------------
(٣٩٤) اُنظر (ص ٧١) تحت البيت (٣٥).
ولو أصَرَّ الخصم على معرفة وجه الحكمة في الغيبة، فنحن نصرُّ أيضاً على أنْ
يُخبرنا بوجوه الحكمة في غيرها من أحكام الله تعالى وإرادته، وأبسطها - كما سبق -
إبقاء الدجَّال حيًّا في جزيرة منذ زمن النبيِّ (صلَّى الله عليه وآله) حتَّى الآن،
وإبقاء الخضر (عليه السلام) حيًّا منذ آلاف السنين، وغير ذلك من القضايا التي لا
نهتدي إلى أسرارها وشؤونها، إلَّا أنَّنا نُسلِّمُ بها ونقبلها بمقتضى إسلامنا
وإيماننا.
والحاصل: أنَّ للغيبة شأناً إلهيًّا وسرًّا ربَّانيًّا، ولا تختلف عن غيرها من
القضايا التي لا تتَّضح علَّتها التامَّة إلَّا بعد انقضائها، وقد روى الصدوق (رضي
الله عنه) بسنده عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سَمِعْتُ اَلصَّادِقَ جَعْفَرَ
بْنَ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ غَيْبَةً
لَا بُدَّ مِنْهَا، يَرْتَابُ فِيهَا كُلُّ مُبْطِلٍ»، فَقُلْتُ: وَلِمَ، جُعِلْتُ
فِدَاكَ؟ قَالَ: «لِأَمْرٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَنَا فِي كَشْفِهِ لَكُمْ»، قُلْتُ:
فَمَا وَجْهُ اَلْحِكْمَةِ فِي غَيْبَتِهِ؟ قَالَ: «وَجْهُ اَلْحِكْمَةِ فِي
غَيْبَتِهِ وَجْهُ اَلْحِكْمَةِ فِي غَيْبَاتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ حُجَجِ اَلله
تَعَالَى ذِكْرُهُ، إِنَّ وَجْهَ اَلْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ لَا يَنْكَشِفُ إِلَّا
بَعْدَ ظُهُورِهِ، كَمَا لَمْ يَنْكَشِفْ وَجْهُ اَلْحِكْمَةِ فِيمَا أَتَاهُ
اَلْخَضِرُ (عليه السلام) مِنْ خَرْقِ اَلسَّفِينَةِ، وَقَتْلِ اَلْغُلَامِ،
وَإِقَامَةِ اَلْجِدَارِ لِمُوسَى (عليه السلام) إِلَّا وَقْتِ اِفْتِرَاقِهِمَا.
يَا اِبْنَ اَلْفَضْلِ، إِنَّ هَذَا اَلْأَمْرَ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اَلله تَعَالَى،
وَسِرٌّ مِنْ سِرِّ اَلله، وَغَيْبٌ مِنْ غَيْبِ اَلله، وَمَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ
(عزَّ وجلَّ) حَكِيمٌ صَدَّقْنَا بِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا حِكْمَةٌ وَإِنْ
كَانَ وَجْهُهَا غَيْرَ مُنْكَشِفٍ»(٣٩٥).
وهذا الجواب كافٍ لا نحتاج مزيداً عليه، إلَّا أنَّ علماءنا (رضوان الله عليهم)
زادوا عليه واستخرجوا من الأخبار الشريفة أسباباً ووجوهاً من الحِكَم والمصالح، مع
الاعتراف بعدم الإحاطة بها قطعاً، وهي:
أوَّلاً: ما ذكره سيِّدنا الجدُّ الناظم (طاب ثراه) في هذه الأبيات، وحاصله:
-----------------
(٣٩٥) كمال الدِّين (ص ٥١٢).
أنَّ
الله تعالى قد ينزل المحن الطويلة على عباده ليختبرهم ويمتحنهم، ويتميَّز الصالح من
الطالح منهم، ويعظم أجر الصابر فيها، كما قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾
(العنكبوت: ٢)، وهذه الغيبة من تلك المحن.
وقد روى الشيخ (رحمه الله) في (غيبته) بسنده إلى أبي الحسن الكاظم (عليه السلام)،
قال: «أَمَا وَاَلله لَا يَكُونُ اَلَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْيُنَكُمْ حَتَّى
تُمَيَّزُوا وَتُمَحَّصُوا، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا
اَلْأَنْدَرُ...»(٣٩٦).
وروى أيضاً عَنْ جَابِرٍ اَلْجُعْفِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه
السلام): مَتَى يَكُونُ فَرَجُكُمْ؟ فَقَالَ: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، لَا يَكُونُ
فَرَجُنَا حَتَّى تُغَرْبَلُوا، ثُمَّ تُغَرْبَلُوا - يَقُولُهَا ثَلَاثاً - حَتَّى
يُذْهِبَ اَللهُ اَلْكَدِرَ وَيُبْقِيَ اَلصَّفْوَ»(٣٩٧).
وفي (الكافي) عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إِنَّ هَذَا اَلْأَمْرَ لَا
يَأْتِيكُمْ إِلَّا بَعْدَ إِيَاسٍ، لَا وَاَلله حَتَّى تُمَيَّزُوا، وَلَا وَاَلله
حَتَّى تُمَحَّصُوا، وَلَا وَاَلله حَتَّى يَشْقَى مَنْ يَشْقَى وَيَسْعَدَ مَنْ
يَسْعَدُ»(٣٩٨).
وفي (أمالي الطوسي) عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ
زَمَانٌ اَلصَّابِرُ مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى اَلْجَمْرِ»(٣٩٩)،
وإليه الإشارة في قوله (طاب ثراه):
وَيَعْظُمُ أَجْرُ اَلصَّابِرِيْنَ لِأَنَّهَمْ * * * أَقَامُوْا عَلَى مَا دُوْنِ مَوْطِئِهِ اَلْجَمْرُ
فإنْ قيل: وهل يحتاج الله تعالى إلى اختبار الناس وإنزال المحنة فيهم ليتميَّزوا عنده ويظهر صالحهم من طالحهم؟!
-----------------
(٣٩٦) الغيبة للطوسي (ص ٣٣٧).
(٣٩٧) الغيبة للطوسي (ص ٣٦٧).
(٣٩٨) الغيبة للطوسي (ص ٣٦٤).
(٣٩٩) أمالي الطوسي (ص ٤٨٥).
قلنا: جوابه ما ذكره الناظم (طاب ثراه) بقوله:
وَلَمْ
يَمْتَحِنْهُمْ كَيْ يَحِيْطَ بِعِلْمِهِمْ * * * عَلِيْمٌ تَسَاوَى عِنْدَهُ
اَلسِّرُ وَاَلْجَهْرُ
وَلَكِنْ لِيَبْدُوْ عِنْدَهُمْ سُوْءُ مَا اِجْتَرَوْا * * * عَلَيْهِمْ فَلَا
يَبْقَى لِآثِمِهِمْ عُذْرُ
وحاصله: أنَّه
تعالى عالم بما كان ولا يكون، ولا يعزب عن علمه المطلق شيء من السماء والأرض،
ولكنَّه - مع علمه بسرائر الناس ومصائرهم - لا يأخذهم بعلمه المسبق، بل يمتحنهم
ويتيح لهم الفرصة، لئلَّا يكون لهم عذر بأنَّهم لم يُمتحَنوا، وأنَّهم لو فُسِحَ
لهم المجال لأحسنوا وأصلحوا.
ثانياً: الحذر العقلائي من القتل، فإنَّه (عجَّل الله فرجه) كان ملاحقاً من قِبَل
العبَّاسيِّين، ولو ظفروا به لقتلوه، وما زال الخطر عليه من أعداء الدِّين قائماً
حتَّى الآن، وقد سبق أنَّ مثل هذا الحذر لا عيب فيه، بل هو مقتضى العقل وعين
الصواب، وقد فعله النبيُّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) عندما استتر عن المشركين
في الغار، وفعله موسى (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿فَفَرَرْتُ
مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ (الشعراء: ٢١)، إلى غير ذلك من النظائر الذي
سمعت بعضها فيما سلف.
وهذا السبب مذكور في جملة من الأخبار، منها ما رواه الصدوق (رضي الله عنه) بسنده عن
زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لِلْقَائِمِ غَيْبَةٌ قَبْلَ
قِيَامِهِ»، قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ اَلذَّبْحَ»(٤٠٠).
وما رواه (رضي الله عنه) أيضاً عن يونس بن عبد الرحمن، قال: دَخَلْتُ عَلَى مُوسَى
اِبْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام)، فَقُلْتُ لَهُ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، أَنْتَ
اَلْقَائِمُ بِالْحَقِّ؟ فَقَالَ: «أَنَا اَلْقَائِمُ بِالْحَقِّ، وَلَكِنَّ
اَلْقَائِمَ اَلَّذِي يُطَهِّرُ اَلْأَرْضَ مِنْ أَعْدَاءِ اَلله (عزَّ وجلَّ)
وَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً
-----------------
(٤٠٠) كمال الدِّين (ص ٤٨١).
كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً هُوَ اَلْخَامِسُ مِنْ
وُلْدِي، لَهُ غَيْبَةٌ يَطُولُ أَمَدُهَا خَوْفاً عَلَى نَفْسِهِ، يَرْتَدُّ
فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَثْبُتُ فِيهَا آخَرُونَ...»(٤٠١).
فإنْ قيل: إنَّ آباءه الأطهار (عليهم السلام) كذلك كانوا في تقيَّةٍ وخوفٍ من
الظالمين، فلماذا لم يستتروا أيضاً؟
قلنا: ما كان على آبائه (عليهم السلام) خوفٌ يوجب عليهم الاستتار مع التزامهم
التقيَّة وعدم قيامهم بالسيف ولا إعلانهم الحقَّ، وأمَّا هو (عجَّل الله فرجه)
فيظهر بالسيف ويعلن إمامته وقيام دولته، وفرقٌ واضحٌ بين الحالَين(٤٠٢).
أضف إلى ذلك: أنَّ كلَّ واحدٍ من آباءه (عليهم السلام) كان يعلم أنَّ بعده إماماً
يقوم مقامه، وأنَّه لن تنقطع الإمامة بموته، وأمَّا هو (عجَّل الله فرجه) فآخر
الأئمَّة، وبموته تنقطع المسيرة وينتقض الغرض الإلهي ويكذب الوعد النبوي بانتصار
الحقِّ على الظلم، وشتَّان ما بين الموقفين.
ثالثاً: ألَّا تقع في عنقه بيعةٌ لحاكم ظالم، كما ورد في خبر الصدوق (رضي الله عنه)
بسنده إلى أبي عبد الله (عليه السلام): «صَاحِبُ هَذَا اَلْأَمْرِ تُعْمَى
وِلَادَتُهُ عَلَى هَذَا اَلْخَلْقِ لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ
بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ»(٤٠٣)، وغيره.
رابعاً: عقاب البشر على فسادهم المستمرِّ وعصيانهم وطغيانهم وعدم إذعانهم للحقِّ،
وعدم اتِّباعهم لآبائه (عليهم السلام) من قبله، كما في خبر النعماني (رضي الله عنه)
في (غيبته) عن أبي عبد الله (عليه السلام): «وَاِعْلَمُوا أَنَّ اَلْأَرْضَ لَا
تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ لله (عزَّ وجلَّ)، وَلَكِنَّ اَللهَ سَيُعْمِي خَلْقَهُ
عَنْهَا بِظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ وَإِسْرَافِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ...»(٤٠٤)،
وغيره.
-----------------
(٤٠١) كمال الدِّين (ص ٣٦١).
(٤٠٢) ذكر هذا الجواب السيِّد المرتضى (رضي الله عنه) في المقنع في الغيبة (ص ٤٥).
(٤٠٣) كمال الدِّين (ص ٤٧٩).
(٤٠٤) الغيبة للنعماني (ص ١٤٤).
خامساً: تخلية أصلاب الكافرين من المؤمنين، كما في رواية الصدوق (رضي الله عنه)
بسنده عن ابن أبي عمير، عمَّن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام): قُلْتُ لَهُ:
مَا بَالُ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لَمْ يُقَاتِلْ مُخَالِفِيهِ فِي
اَلْأَوَّلِ؟ قَالَ: «لِآيَةٍ فِي كِتَابِ اَلله تَعَالَى: ﴿لَوْ
تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾
[الفتح: ٢٥]»، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا يَعْنِي بِتَزَايُلِهِمْ؟ قَالَ: «وَدَائِعُ
مُؤْمِنُونَ فِي أَصْلَابِ قَوْمٍ كَافِرِينَ، وَكَذَلِكَ اَلْقَائِمُ (عليه
السلام) لَمْ يَظْهَرْ أَبَداً حَتَّى تَخْرُجَ وَدَائِعُ اَلله (عزَّ وجلَّ)،
فَإِذَا خَرَجَتْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ ظَهَرَ مِنْ أَعْدَاءِ اَلله (عزَّ وجلَّ)
فَقَتَلَهُمْ»(٤٠٥)، وغيره.
سادساً: إتمام الحجَّة بأنْ يحكم الأرضَ جميعُ الناس ويكون (عجَّل الله فرجه) آخر
الحاكمين، لئلَّا يقول الناس: لو حكمنا لصنعنا مثل ما صنع، كما ورد في جملة من
الأخبار، من قبيل ما رواه النعماني (رحمه الله) عن أبي عبد الله (عليه السلام)،
قال: «مَا يَكُونُ هَذَا اَلْأَمْرُ حَتَّى لَا يَبْقَى صِنْفٌ مِنَ اَلنَّاسِ
إِلَّا وَقَدْ وُلُّوا عَلَى اَلنَّاسِ، حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّا لَوْ
وُلِّينَا لَعَدَلْنَا، ثُمَّ يَقُومُ اَلْقَائِمُ بِالْحَقِّ وَاَلْعَدْلِ»(٤٠٦).
إلى غير ذلك من الحِكَم والمصالح الموجودة في علم الله تعالى.
* * *
-----------------
(٤٠٥) كمال الدِّين (ص ٦٤١).
(٤٠٦) الغيبة للنعماني (ص ٢٨٢).
الخاتمة
٨٦ - وَإنِّيْ لَأَرْجُوْ أَنْ يَحِيْنَ ظُهُوْرُهُ * * * لِيَنْتَشِرَ
اَلمَعْرُوْفُ فِيْ اَلنَّاسِ وَاَلْبِرُّ
٨٧ - وَيُحْيِيْ بِهِ قَطْرُ اَلحَيَا مَيِّتَ اَلثَّرَى * * * وَيَمْطُرُهَا
فَيْضُ اَلنَّجِيْعِ فَتَحْمَرُّ
أقول: لا بأس
بذكر بعض الأحاديث المناسبة للمقام:
روى الحاكم في (المستدرك على الصحيحين) بسنده إلى أبي سعيد الخدري، عن رسول الله
(صلَّى الله عليه وآله)، قال: «يَخْرُجُ فِي آخِرِ أُمَّتِي اَلمَهْدِيُّ،
يَسْقِيَهُ اَللهُ اَلْغَيْثَ، وَتُخْرِجُ اَلْأَرْضُ نَبَاتَهَا، وَيُعْطِي
اَلمَالَ صِحَاحاً، وَتَكْثُرُ اَلمَاشِيَةُ، وَتَعْظُمُ اَلْأُمَّةُ...»(٤٠٧).
وروى ابن حمَّاد في (الفتن) بسنده إلى أبي سعيد أيضاً، عن رسوله الله (صلَّى الله
عليه وآله)، قال: «تَتَنَعَّمُ أُمَّتِي فِي زَمَنِ اَلمَهْدِيِّ نِعْمَةً لَمْ
يُنَعَّمُوا مِثْلَهَا قَطُّ، تُرْسِلُ اَلسَّمَاءُ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً، وَلَا
يَزْرَعُ اَلْأَرْضَ شَيْئاً مِنَ اَلنَّبَاتِ إِلَّا أَخْرَجَتْهُ...»(٤٠٨).
وفي (كمال الدِّين) عن أبي جعفر (عليه السلام): «اَلمَهْدِيُّ مِنَّا مَنْصُورٌ
بِالرُّعْبِ، مُؤَيَّدٌ بِالظَّفَرِ، تُطْوَى لَهُ اَلْأَرْضُ، وَتَظْهَرُ لَهُ
اَلْكُنُوزُ، وَيَبْلُغُ سُلْطَانُهُ اَلمَشْرِقَ وَاَلمَغْرِبَ، وَيُظْهِرُ اَللهُ
دَيْنَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ اَلمُشْرِكُونَ ، فَلَا يَبْقَى
فِي اَلْأَرْضِ خَرَابٌ إِلَّا قَدْ عَمَرَهُ»(٤٠٩).
وفي (الكافي الشريف) عنه (عليه السلام) أيضاً: «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ
اَللهُ يَدَهُ عَلَى رُؤُوسِ اَلْعِبَادِ، فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ، وَكَمَلَتْ
بِهِ أَحْلَامُهُمْ»(٤١٠).
-----------------
(٤٠٧) المستدرك على الصحيحين (ج ٤/ ص ٦٠١/ ح ٨٦٧٣).
(٤٠٨) الفتن (ص ٢٢٣).
(٤٠٩) كمال الدِّين (ص ٣٣١).
(٤١٠) الكافي (ج ١/ ص ٢٥).
وفي (غيبة النعماني) بسنده عنه (عليه السلام) أيضاً: «إِذَا ظَهَرَ اَلْقَائِمُ ظَهَرَ بِرَايَةِ رَسُولِ اَلله، وَخَاتَمِ سُلَيْمَانَ، وَحَجَرِ مُوسَى وَعَصَاهُ، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فَيُنَادِي: أَلَا لَا يَحْمِلَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ طَعَاماً وَلَا شَرَاباً وَلَا عَلَفاً، فَيَقُولُ أَصْحَابُهُ: إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَنَا وَيَقْتُلَ دَوَابَّنَا مِنَ اَلْجُوعِ وَاَلْعَطَشِ، فَيَسِيرُ وَيَسِيرُونَ مَعَهُ، فَأَوَّلُ مَنْزِلٍ يَنْزِلُهُ يَضْرِبُ اَلْحَجَرَ فَيَنْبُعُ مِنْهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ وَعَلَفٌ، فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَدَوَابُّهُمْ، حَتَّى يَنْزِلُوا اَلنَّجَفَ بِظَهْرِ اَلْكُوفَةِ»(٤١١).
٨٨ - وَيَطْهُرُ
وَجْهُ اَلْأَرْضِ مِنْ كُلِّ مَأْثَمٍ * * * وَرِجْسٍ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهَا
دَمٌ هَدْرُ
٨٩ - وَتَشْقَى بِهِ أَعْنَاقُ قَوْمٍ تَطَاوَلَتْ * * * فَتَأْخُذُ مِنْهَا
حَظَّهَا اَلْبِيْضُ وَاَلسُّمْرُ
أقول: روى
الصدوق في (كمال الدِّين) بسنده عن الحسين بن خالد، قال: قال عليُّ بن موسى الرضا
(عليه السلام): «لَا دِينَ لِمَنْ لَا وَرَعَ لَهُ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا
تَقِيَّةَ لَهُ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) أَعْمَلُكُمْ
بِالتَّقِيَّةِ قَبْلَ خُرُوجِ قَائِمِنَا، فَمَنْ تَرَكَ اَلتَّقِيَّةَ قَبْلَ
خُرُوجِ قَائِمِنَا فَلَيْسَ مِنَّا»، فَقِيلَ لَهُ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله،
وَمَنِ اَلْقَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ؟ قَالَ: «اَلرَّابِعُ مِنْ وُلْدِي،
اِبْنُ سَيِّدَةِ اَلْإِمَاءِ، يُطَهِّرُ اَللهُ بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ كُلِّ
جَوْرٍ، وَيُقَدِّسُهَا مِنْ كُلِّ ظُلْمٍ، اَلَّذِي يَشُكُّ اَلنَّاسُ فِي
وِلَادَتِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ اَلْغَيْبَةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَإِذَا خَرَجَ
أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَوَضَعَ مِيزَانَ اَلْعَدْلِ بَيْنَ
اَلنَّاسِ، فَلَا يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً»(٤١٢).
وروى أيضاً عن عبد العظيم الحسني، قال: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُوسَى (عليهم السلام): إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ اَلْقَائِمَ مِنْ أَهْلِ
بَيْتِ مُحَمَّدٍ اَلَّذِي يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ
جَوْراً وَظُلْماً، فَقَالَ (عليه السلام): «يَا أَبَا اَلْقَاسِمِ، مَا مِنَّا
إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ بِأَمْرِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَهَادٍ إِلَى دِينِ اَلله،
وَلَكِنَّ اَلْقَائِمَ اَلَّذِي يُطَهِّرُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ اَلْأَرْضَ
-----------------
(٤١١) الغيبة للنعماني (ص ٢٤٤).
(٤١٢) كمال الدِّين (ص ٣٧١).
مِنْ أَهْلِ اَلْكُفْرِ وَاَلْجُحُودِ هُوَ اَلَّذِي تَخْفَى عَلَى اَلنَّاسِ
وِلَادَتُهُ، وَيَغِيبُ عَنْهُمْ بِشَخْصِهِ...»(٤١٣).
وروى الصفَّار في (البصائر) بسنده إلى رفيد مولى ابن هبيرة، قال: قُلْتُ لِأَبِي
عَبْدِ اَلله (عليه السلام): جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله، يَسِيرُ
اَلْقَائِمُ بِسِيرَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فِي أَهْلِ
اَلسَّوَادِ؟ فَقَالَ: «لَا. يَا رُفَيْدُ، إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ سَارَ
فِي أَهْلِ اَلسَّوَادِ بِمَا فِي اَلْجَفْرِ اَلْأَبْيَضِ، وَإِنَّ اَلْقَائِمَ
يَسِيرُ فِي اَلْعَرَبِ بِمَا فِي اَلْجَفْرِ اَلْأَحْمَرِ»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ:
جُعِلْتُ فِدَاكَ، وَمَا اَلْجَفْرُ اَلْأَحْمَرُ؟ قَالَ: فَأَمَرَّ إِصْبَعَهُ
إِلَى حَلْقِهِ، فَقَالَ: «هَكَذَا - يَعْنِي اَلذَّبْحَ -»(٤١٤).
وفي خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنهروان المرويَّة في (الغارات): «ثُمَّ
إِنَّ اَللهَ يُفَرِّجُ اَلْفِتَنَ بِرَجُلٍ مِنَّا أَهْلَ اَلْبَيْتِ كَتَفْرِيجِ
اَلْأَدِيمِ، بِأَبِي اِبْنُ خِيَرَةِ اَلْإِمَاءِ، يَسُومُهُمْ خَسْفاً،
وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ، فَلاَ يُعْطِيهِمْ إِلَّا اَلسَّيْفَ هَرْجاً
هَرْجاً، يَضَعُ اَلسَّيْفَ عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَدَّتْ
قُرَيْشٌ عِنْدَ ذَلِكَ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، لَوْ يَرَوْنِي مَقَاماً
وَاحِداً قَدْرَ حَلْبِ شَاةٍ أَوْ جَزْرِ جَزُورٍ لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ بَعْضَ
اَلَّذِي يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، حَتَّى تَقُولُ قُرَيْشٌ: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ
وُلْدِ فَاطِمَةَ لَرَحِمَنَا»(٤١٥).
وفي رواية (المزار) للمشهدي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام): «مَا لِمَنْ
خَالَفَنَا فِي دَوْلَتِنَا مِنْ نَصِيبٍ، إِنَّ اَللهَ قَدْ أَحَلَّ لَنَا
دِمَاءَهُمْ عِنْدَ قِيَامِ قَائِمِنَا، فَالْيَوْمَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا
وَعَلَيْكُمْ ذَلِكَ، فَلَا يَغُرَّنَّكَ أَحَدٌ، إِذَا قَامَ قَائِمُنَا
اِنْتَقَمَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلَنَا أَجْمَعِينَ»(٤١٦).
-----------------
(٤١٣) كمال الدِّين (ص ٣٧٧ - ٣٨٨).
(٤١٤) بصائر الدرجات (ص ١٧٣).
(٤١٥) الغارات (ج ١/ ص ١٢).
(٤١٦) المزار (ص ١٣٥).
وفي الحديث القدسي المروي في (عِلَل الشرائع): «وَلَأُطَهِّرَنَّ اَلْأَرْضَ
بِآخِرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِي»(٤١٧).
وفي (غيبة النعماني) عن أبي جعفر (عليه السلام): «لَوْ يَعْلَمُ اَلنَّاسُ مَا
يَصْنَعُ اَلْقَائِمُ إِذَا خَرَجَ لَأَحَبَّ أَكْثَرُهُمْ أَلَّا يَرَوْهُ مِمَّا
يَقْتُلُ مِنَ اَلنَّاسِ، أَمَا إِنَّهُ لَا يَبْدَأُ إِلَّا بِقُرَيْشٍ فَلاَ
يَأْخُذُ مِنْهَا إِلَّا اَلسَّيْفَ، وَلَا يُعْطِيهَا إِلَّا اَلسَّيْفَ، حَتَّى
يَقُولَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنَّاسِ: لَيْسَ هَذَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَلَوْ كَانَ
مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ لَرَحِمَ»(٤١٨).
أقول: لا يخفى أنَّه (عجَّل الله فرجه) سيُلقي الحجَّة على كلِّ الناس بحيث لا يبقى
في قلب أحد شكٌّ في الحقِّ، فلا يكون غير المؤمن عندها إلَّا معانداً مستحقًّا
للقتل بلا ريب، وهذا الصنف هو الذي يكون خروجه (عجَّل الله فرجه) نقمةً وعذاباً
عليه، بخلاف المؤمنين الصالحين الذين يكونون أسعد الناس بخروجه المبارك وطلعته
الميمونة.
٩٠ - فَكَمْ مِنْ كِتَابِيٍّ عَلَى مُسْلِمٍ عَلَا * * * وَآخَرَ حَرْبِيٍّ بِهِ شَمَخَ اَلْكِبْرُ
أقول: ها نحن نعيش في هذا العصر الذي عاد الإسلام به غريباً مستضعفاً مضطهداً، وها هم الكافرون يشمخون على المسلمين ويذلُّونهم، ويُنزلون بهم أنواع القتل والعذاب والظلم، وليس لنا إلَّا الدعاء بتعجيل ظهوره (عجَّل الله فرجه) ليعود الإسلام عزيزاً، ويرجع الكفر صاغراً ذليلاً، اللَّهُمَّ عجِّل فرجه، وأرنا طلعته، واجعلنا من أنصاره وأعوانه، إنَّك أكرم مسؤول.
٩١ - وَخُذْهُ
جَوَابَاً شَافِيَاً لَكَ كَافِيَاً * * * مَعَانِيْهِ آيَاتٌ وَأَلْفَاظُهُ سِحْرُ
٩٢ - وَمَا هُوَ - إِنْ أَنْصَفْتَهُ - قَوْلُ شَاعِرٍ * * * وَلَكِنَّهُ عِقْدٌ
تَحَلَّى بِهِ اَلشِّعْرُ
٩٣ - وَلَوْ شِئْتُ إِحْصَاءَ اَلْأَدِلَّةِ كُلِّهَا * * * عَلَيْكَ لَكَلَّ
اَلنَّظْمُ عَنْ ذَاكَ وَاَلنَّثْرُ
-----------------
(٤١٧) عِلَل الشرائع (ج ١/ ص ٥).
(٤١٨) الغيبة للطوسي (ص ٢٣٨).
٩٤ - فَكَمْ قَدْ رَوَى أَصْحَابُكُمْ مِنْ رِوَايَةٍ * * * هِيَ اَلصَّحْوُ
لِلْسَّكْرَانِ، وَاَلشُّبَهُ اَلسُّكْرُ
٩٥ - وَفِيْ بَعْضِ مَا أَسْمَعْتُهُ لَكَ مَقْنَعٌ * * * إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيْ
أُذْنِ سَامِعِهِ وَقْرُ
٩٦ - وَإِنْ عَادَ إِشْكَالٌ فَعُدْ قَائِلاً لَنَا: * * * (أَيَا عُلَمَاءَ
اَلْعَصْرِ يَا مَنْ لَهمْ خُبْرُ)
أقول: صَدَق
والله سيِّدُنا الجدُّ الناظم (طاب ثراه)؛ فإنَّه في هذه القصيدة الشريفة أماط عن
الحقِّ ستاره، وأزاح عن الصواب غباره، وكَشَفَ ما انطوت عليه القصيدة البغداديَّة
من الخرافات الكاسدة، والشُّبَه الفاسدة، وأوضح لنا -بما لا مزيد عليه - أنَّ قعاقع
القوم كصريرِ باب، أو كطنين ذباب، وأنَّ الحقَّ الصراح مع الفرقة المحقَّة الناجية،
مستعيناً بما خصَّه الله تعالى من جليل المواهب، وجزيل المناقب، فيا لها خريدةً
فريدةً، حَوَت الحِكَمَ العالية بأفصح كلام، ورتَّبَتْ الحقائق الصافية بأحسن نظام،
فجزاه الله عن نبيِّه (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) وإمام زمانه
(عجَّل الله فرجه) خيراً، وأشركنا في ثوابه، وهدانا إلى اقتفاء أثره وخطاه.
وقد فرغتُ - وأنا العبد القاصر - ممَّا أرجو أنْ أكون قد زَيَّنتُ به هذا العِقْدَ
كما هو خليق، وأجليت ما احتواه من جواهر التحقيق والتدقيق، مع قلَّة علمي وضعف
عزمي، وكان ذلك في صباح السادس والعشرين من شهر الصيام لسنة (١٤٤٦) للهجرة، ورجائي
من الله تعالى أنْ يتقبَّله ويستر عيوبه، وهو المرجَّى الذي لا يخيب ببابه سائل.
والحمد لله أبداً، والصلَّاة على نبيِّه وآله الطاهرين.
* * *
١ - القرآن
الكريم.
٢ - الإتحاف بحُبِّ الأشراف: جمال الدِّين أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن عامر بن
شرف الدِّين القاهري الشافعي الشبراوي (ت ١١٧١هـ)، نشر: منشورات الرضي، مصوَّرة على
النسخة المطبوعة بالمكتبة الأدبيَّة بمصر.
٣ - أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) من مسند أحمد بن حنبل: إعداد: السيِّد محمّد
جواد الحسيني الجلالي، نشر: مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ
المشرَّفة، الطبعة الخامسة، ١٤٠٩هـ.
٤ - الأحكام السلطانيَّة: أبو الحسن عليُّ بن محمّد بن محمّد بن حبيب البصري
البغدادي الشهير بالماوردي (ت ٤٥٠هـ)، الناشر: دار الحديث، القاهرة.
٥ - أحكام القرآن: أحمد بن عليٍّ أبو بكر الرازي الجصَّاص الحنفي (ت ٣٧٠هـ)،
المحقِّق: محمّد صادق القمحاوي، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، تاريخ
الطبع: ١٤٠٥هـ.
٦ - الإحكام في أُصول الأحكام: سيف الدِّين أبو الحسن عليُّ بن محمّد الآمدي (ت ٦٣١
هـ)، علَّق عليه: عبد الرزَّاق عفيفي، قام بتصحيحه: عبد الله ابن عبد الرحمن بن
غديان وعليّ الحمد الصالحي، الناشر: مؤسَّسة النور بالرياض، ١٣٨٧هـ، ثمّ أعاد
طباعته: المكتب الإسلامي (دمشق - بيروت) طبعة ثانية سنة ١٤٠٢هـ (تصويراً).
٧ - الأخبار الطوال: أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (ت ٢٨٢هـ)، تحقيق: عبد المنعم
عامر، مراجعة: الدكتور جمال الدِّين الشيال، الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد
القومي، مصر، الطبعة الأُولى، ١٩٦٠م (طبع: دار إحياء الكتب العربيَّة - عيسى البابي
الحلبي وشركاه).
٨ - أدب الطفِّ أو شعراء الحسين: السيِّد جواد شُبَّر، الناشر: دار المرتضى،
١٤٠٩هـ.
٩ - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: جمال الدِّين مقداد بن عبد الله السيوري
الحلِّي (ت ٨٢٦هـ)، تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي، باهتمام: السيِّد محمود المرعشي،
منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قمّ، ١٤٠٥هـ.
١٠ - الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: أبو عبد الله محمّد بن محمّد ابن
النعمان العكبري البغدادي الشيخ المفيد (٤١٣هـ)، تحقيق: مؤسَّسة آل البيت لتحقيق
التراث، نشر: دار المفيد.
١١ - الاستيعاب في معرفة الأصحاب: أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البرِّ
(ت ٤٦٣هـ)، المحقِّق: عليّ محمّد البجاوي، الناشر: مكتبة نهضة مصر بالقاهرة،
١٣٨٠هـ، وصَوَّرَتْها: دار الجيل، بيروت - لبنان.
١٢ - الأعلام: خير الدِّين بن محمود بن محمّد بن عليِّ بن فارس الزركلي الدمشقي (ت
١٣٩٦هـ)، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر، ٢٠٠٢م.
١٣ - أعيان الشيعة: السيِّد محسن الأمين (ت ١٣٧١هـ)، تحقيق وتخريج: حسن الأمين،
الناشر: دار التعارف للمطبوعات، بيروت.
١٤ - أقرب المجازات إلى مشايخ الإجازات: السيِّد عليّ نقي النقوي (ت ١٤٠٨هـ)،
تقديم: السيِّد محمّد رضا الحسيني الجلالي، أعدَّه ووضع
فهارسه: مركز إحياء التراث
التابع لدار المخطوطات في العتبة العباسيَّة المقدَّسة، الناشر: مكتبة ودار مخطوطات
العتبة العباسيَّة المقدَّسة، كربلاء المقدَّسة، ١٤٣٧هـ.
٩٥ - الأمالي: أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي (ت ٤١٣هـ)،
تحقيق: الحسين أُستاد وليّ وعليّ أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة
العلميَّة، قمّ المقدَّسة، ١٤٠٣هـ.
١٦ - الإمامة الكبرى والخلافة العظمى: السيِّد محمّد حسن القزويني، توثيق وتعليق:
السيِّد جعفر القزويني، نشر: دار القارئ، الطبعة الأُولى، ١٤٢٣هـ.
١٧ - الإمامة والسياسة: أبو محمّد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري (ت ٢٧٦هـ)،
تحقيق: الدكتور طه محمّد الزيني، الناشر: مؤسَّسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع.
١٨ - آل الهندي في النَّجف تراجمهم وآثارهم: السيِّد موسى ابن السيِّد صادق الموسوي
الهندي (ت ١٤٠٠هـ)، الكوكب للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤٤١هـ.
١٩ - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: الشيخ محمّد باقر ابن
محمّد تقي المجلسي (ت ١١١٠هـ)، نشر: مؤسَّسة الوفاء، بيروت، الطبعة الثانية
المصحَّحة، ١٤٠٣هـ.
٢٠ - البداية والنهاية: عماد الدِّين أبو الفداء إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي
المعروف بابن كثير (ت ٧٧٤ هـ)، طبع: مطبعة السعادة، القاهرة، الطبعة الأُولى،
١٣٤٨هـ إلى ١٣٥٨هـ.
٢١ - البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان: عماد الدِّين أبو حامد
محمّد بن
محمّد الأصفهاني (ت ٥٩٧هـ)، المحقِّق: عمر عبد السلام تدمري، الناشر: المكتبة
العصريَّة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الأُولى، ١٤٢٣هـ.
٢٢ - بغية الوعاة في طبقات اللغويِّين والنحاة: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال
الدِّين السيوطي (ت ٩١١هـ)، المحقِّق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: المكتبة
العصريَّة، لبنان/ صيدا.
٢٣ - بهجة المجالس وأُنس المجالس: يوسف بن عبد الله النمري القرطبي ابن عبد البرِّ
(ت ٤٦٣هـ)، تحقيق: محمّد مرسي الخولي، نشر: دار الكُتُب العلميَّة، بيروت، ١٩٨١م.
٢٤ - تاريخ ابن الوردي: عمر بن مظفَّر بن عمر بن محمّد ابن أبي الفوارس، أبو حفص،
زين الدِّين ابن الوردي المعرِّي الكندي (ت ٧٤٩هـ)، الناشر: دار الكُتُب العلميَّة،
لبنان - بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤١٧هـ.
٢٥ - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: شمس الدِّين أبو عبد الله محمّد بن
أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت ٧٤٨هـ)، المحقِّق: عمر عبد السلام التدمري،
الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤١٣هـ.
٢٦ - تاريخ الخلفاء: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدِّين السيوطي (ت ٩١١هـ)،
المحقِّق: حمدي الدمرداش، الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الأُولى، ١٤٢٥هـ.
٢٧ - تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس: حسين بن محمّد بن الحسن الدِّياربَكْري (ت
٩٦٦هـ)، الناشر: المطبعة الوهبيَّة، مصر، ١٢٨٣هـ.
٢٨ - تاريخ الطبري (تاريخ الرُّسُل والملوك): أبو جعفر، محمّد بن جرير الطبري (٢٢٤
- ٣١٠هـ)، المحقِّق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار المعارف بمصر، الطبعة
الثانية، ١٣٨٧هـ، وصَوَّرتْها: دار التراث وغيرها كثير.
٢٩ - تاريخ القزويني في تراجم المنسيِّين والمعروفين من أعلام العراق وغيرهم:
الدكتور جودت القزويني، الناشر: الخزائن لإحياء التراث، بيروت، ١٤٣٣هـ.
٣٠ - التاريخ الكبير المعروف بتاريخ ابن أبي خيثمة: أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة (ت
٢٧٩ هـ)، المحقِّق: صلاح بن فتحي هَلل، الناشر: الفاروق الحديثة للطباعة والنشر،
القاهرة، الطبعة الأُولى، ١٤٢٤هـ.
٣١ - تاريخ اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح الكاتب العبَّاسي
المعروف باليعقوبي، نشر: مؤسَّسة ونشر فرهنگ أهل بيت، قمّ.
٣٢ - تاريخ بغداد (تاريخ مدينة السلام وأخبار محدِّثيها وذكر قطَّانها العلماء من
غير أهلها ووارديها): أبو بكر أحمد بن عليِّ بن ثابت الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣هـ)،
حقَّقه وضبط نصَّه وعلَّق عليه: بشَّار عوَّاد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي،
بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤٢٢هـ.
٣٣ - تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية مَنْ حلَّها من الأماثل أو اجتاز بنواحيها
من وارديها وأهلها: أبو القاسم عليُّ بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي
المعروف بابن عساكر (ت ٥٧١هـ)، دراسة وتحقيق: محبُّ الدِّين أبو سعيد عمر بن غرامة
العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ١٤١٥هـ.
٣٤ - تجريد الاعتقاد: الخواجة نصير الدِّين محمّد بن محمّد الطوسي (ت ٦٧٢هـ)،
تحقيق: السيِّد محمّد جواد الجلالي، نشر: مكتب الإعلام الإسلامي، طهران، ١٤٠٧هـ.
٣٥ - تفسير القرآن العظيم: ابن أبي حاتم الرازي، تحقيق: أسعد محمّد الطبيب، نشر:
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
٣٦ - تفسير القرآن العظيم: عماد الدِّين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي
(ت ٧٧٤هـ)، وضع حواشيه وعلَّق عليه: محمّد حسين شمس الدِّين، الناشر: دار الكُتُب
العلميَّة، بيروت - لبنان، الطبعة الأُولى، ١٤١٩هـ.
٣٧ - جامع البيان عن تأويل آي القرآن: أبو جعفر، محمّد بن جرير الطبري (ت ٣١٠هـ)،
توزيع: دار التربية والتراث.
٣٨ - الجامع الكبير (سُنَن الترمذي): أبو عيسى محمّد بن عيسى الترمذي (ت ٢٧٩هـ)،
حقَّقه وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه: بشَّار عوَّاد معروف، الناشر: دار الغرب
الإسلامي، بيروت، الطبعة الأُولى، ١٩٩٦م.
٣٩ - الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي، تحقيق:
أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكُتُب المصريَّة، القاهرة، الطبعة
الثانية، ١٣٨٤هـ.
٤٠ - جمل من أنساب الأشراف: أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري (ت ٢٧٩هـ)،
حقَّقه وقدَّم له: سهيل زكار ورياض زركلي، الناشر: دار الفكر، بيروت، الطبعة
الأُولى، ١٤١٧هـ.
٤١ - حقُّ اليقين في معرفة أُصول الدِّين: العلَّامة السيِّد عبد الله شُبَّر
(ت ١٢٤٢هـ)، منشورات مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأُولى، ١٤١٨هـ، بيروت.
٤٢ - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت
٤٣٠هـ)، الناشر: مطبعة السعادة بجوار محافظة مصر، عام النشر: ١٣٩٤هـ.
٤٣ - خصائص أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن عليٍّ
الخراساني النسائي (ت ٣٠٣هـ)، المحقِّق: أحمد ميرين البلوشي، الناشر: مكتبة
المعلَّا، الكويت، الطبعة الأُولى، ١٤٠٦هـ.
٤٤ - خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: محمّد أمين بن فضل الله ابن محبِّ
الدِّين بن محمّد المحبِّي الحموي الأصل الدمشقي (ت ١١١١هـ)،
الناشر: دار صادر، بيروت.
٤٥ - الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمأثور: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدِّين
السيوطي (ت ٩١١هـ)، الناشر: دار الفكر، بيروت.
٤٦ - الدُّرَر البهيَّة في تراجم علماء الإماميَّة: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم
(ت ١٣٩٩هـ)، حقَّقه وعلَّق عليه ووضع فهارسه: وحدة التحقيق في مكتبة العتبة
العبَّاسيَّة المقدَّسة، الناشر: مكتبة ودار مخطوطات العتبة العبَّاسيَّة
المقدَّسة، كربلاء المقدَّسة، ١٤٣٤هـ.
٤٧ - الدُّرَر الكامنة في أعيان المائة الثامنة: شهاب الدِّين، أبو الفضل، أحمد بن
عليِّ بن محمّد بن بن محمّد بن أحمد الشهير بابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢ هـ)، الناشر:
دائرة المعارف العثمانيَّة بحيدرآباد الدكن - الهند، الطبعة الثانية، ١٣٩٢هـ.
٤٨ - دلائل الصدق لنهج الحقِّ: الشيخ محمّد حسن المظفَّر، تحقيق ونشر: مؤسَّسة آل
البيت لإحياء التراث، قمّ.
٤٩ - ديوان السيِّد باقر الموسوي الهندي: إعداد وتعليق وتقديم: الدكتور عبد الصاحب
الموسوي، منشورات مركز البحوث العربيَّة الإسلاميَّة، كندا، ١٤١٤هـ.
٥٠ - ديوان السيِّد رضا الموسوي الهندي: جمعه: السيِّد موسى الموسوي الهندي، راجعه
وعلَّق عليه: الدكتور عبد الصاحب الموسوي الهندي، نشر: دار الأضواء، بيروت، الطبعة
الأُولى، ١٩٨٨م.
٥١ - ذخائر العقبى في مناقب ذوى القربى: محبُّ الدِّين أحمد بن عبد الله
الطبري (ت
٦٩٤هـ)، عنيت بنشره: مكتبة القدسي لصاحبها حسام الدِّين القدسي بباب الخلق بحارة الجداوي بدرب سعادة بالقاهرة، عن نسخة: دار الكُتُب المصريَّة، ونسخة الخزانة
التيموريَّة، ١٣٥٦هـ.
٥٢ - الذريعة إلى تصانيف الشيعة: الشيخ محمّد محسن آغا بزرك الطهراني (ت ١٣٨٩هـ)،
الناشر: إسماعيليَّان، قمّ، والمكتبة الإسلامية بطهران، ١٤٠٨هـ.
٥٣ - روض المناظر في علم الأوائل والأواخر: محبُّ الدِّين أبو الوليد محمّد بن
محمّد ابن الشحنة (ت ٨١٥هـ)، تحقيق: السيِّد محمّد مهنى، نشر: دار الكُتُب
العلميَّة، الطبعة الأُولى، ١٤١٧هـ.
٥٤ - الروضتين في أخبار الدولتين النوريَّة والصلاحيَّة: أبو القاسم شهاب الدِّين
عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (ت ٦٦٥هـ)،
تحقيق: إبراهيم الزيبق، نشر: مؤسَّسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤١٨هـ.
٥٥ - الرياض النضرة في مناقب العشرة: أبو العبَّاس، أحمد بن عبد الله بن محمّد،
محبُّ الدِّين الطبري (ت ٦٩٤هـ)، الناشر: دار الكُتُب العلميَّة، الطبعة الثانية.
٥٦ - زاد المسير في علم التفسير: جمال الدِّين أبو الفرج عبد الرحمن بن عليِّ بن
محمّد الجوزي (ت ٥٩٧هـ)، المحقِّق: عبد الرزَّاق المهدي، الناشر: دار الكتاب
العربي، بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤٢٢هـ.
٥٧ - الزهد: أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (ت
٢٤١هـ)، وضع حواشيه: محمّد عبد السلام شاهين، الناشر: دار الكُتُب العلميَّة، بيروت
- لبنان، الطبعة الأُولى، ١٤٢٠هـ.
٥٨ - سلك الدُّرَر في أعيان القرن الثاني عشر: محمّد خليل بن عليِّ بن محمّد بن
محمّد مراد الحسيني، أبو الفضل (ت ١٢٠٦هـ)، الناشر: دار البشائر الإسلاميَّة، دار
ابن حزم، الطبعة الثالثة، ١٤٠٨هـ.
٥٩ - سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي: عبد المَلِك بن حسين ابن عبد
المَلِك العصامي المكِّي (ت ١١١١هـ)، المحقِّق: عادل أحمد عبد الموجود وعليّ محمّد
معوض، الناشر: دار الكُتُب العلميَّة، بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤١٩هـ.
٦٠ - السُّنَّة: أبو بكر بن أبي عاصم، أحمد بن عمرو بن الضحَّاك بن مخلد الشيباني
(ت ٢٨٧هـ)، المحقِّق: محمّد ناصر الدِّين الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي،
بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤٠٠هـ.
٦١ - سُنَن ابن ماجة: ابن ماجة أبو عبد الله محمّد بن يزيد القزويني، وماجة اسم
أبيه يزيد (ت ٢٧٣ هـ)، تحقيق: محمّد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء الكُتُب
العربيَّة - فيصل عيسى البابي الحلبي.
٦٢ - سُنَن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شدَّاد بن
عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (ت ٢٧٥هـ)، المحقِّق: محمّد محيي الدِّين عبد الحميد،
الناشر: المكتبة العصريَّة، صيدا - بيروت.
٦٣ - سُنَن النسائي مع شرح السيوطي وحاشية السندي: صحَّحها جماعة، وقُرِئَت على
الشيخ حسن محمّد المسعودي، الناشر: المكتبة التجاريَّة الكبرى بالقاهرة، الطبعة
الأُولى، ١٣٤٨هـ.
٦٤ - سِيَر أعلام النبلاء: شمس الدِّين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت ٧٤٨ هـ)،
تحقيق: حسين أسد وجماعة وشعيب الأرنؤوط وآخرون، بإشراف: شعيب الأرنؤوط، الناشر:
مؤسَّسة الرسالة، الطبعة الثالثة، ١٤٠٥هـ.
٦٥ - الشافي في الإمامة: الشريف المرتضى عليُّ بن الحسين الموسوي (ت ٤٣٦هـ)، حقَّقه
وعلَّق عليه: السيِّد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، راجعه: السيِّد فاضل الميلاني،
نشر: مؤسَّسة الصادق للطباعة والنشر، قمّ، ١٤١٠هـ.
٦٦ - الشجرة المباركة في أنساب الطالبيَّة: فخر الدِّين محمّد بن عمر التيمي الرازي
(ت ٦٠٦هـ)، تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي، نشر: مكتبة آية الله العظمى المرعشي
النجفي، مطبعة سيِّد الشهداء، قمّ، ١٤٠٩هـ.
٦٧ - شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: قاضي القضاة بهاء الدِّين عبد الله بن عقيل
العقيلي الهمداني المصري (ت ٧٦٩هـ)، ومعه كتاب منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل
لمحمّد محيي الدِّين عبد الحميد، نشر: المكتبة التجاريَّة الكبرى بمصر، الطبعة
الرابعة عشرة، ١٣٨٤هـ.
٦٨ - شرح العقيدة الطحاويَّة: ابن أبي العزِّ الحنفي (ت ٧٩٢ هـ)، حقَّقها وراجعها
جماعة من العلماء، خرَّج أحاديثها: ناصر الدِّين الألباني، الناشر: المكتب
الإسلامي، بيروت - لبنان، الطبعة التاسعة، ١٤٠٨هـ، ثمّ أعاد طبعها (بنفس ترقيم
الصفحات): دار السلام بالقاهرة، ١٤٢٦هـ، وأوقاف قطر ١٤٣٥هـ.
٦٩ - شرح المقاصد في علم الكلام: سعد الدِّين مسعود بن عمر التفتازاني الشافعي (ت
٧٩٣هـ)، نشر: دار المعارف النعمانيَّة، باكستان، ١٤٠١هـ.
٧٠ - شرح المواقف في علم الكلام: الشريف عليُّ بن محمّد بن عليٍّ الحسيني الجرجاني
(ت ١٨١٦م)، مع حاشيتي السيالكوتي والفناري، عني بتصحيحه: محمّد بدر الدِّين
النعساني، الطبعة الأُولى، على نفقة الحاجّ محمّد أفندي، مطبعة السعادة بمصر.
٧١ - شرح نهج البلاغة: عزُّ الدين عبد الحميد بن هبة الله بن أبي الحديد
المعتزلي
(ت ٦٥٦هـ)، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر: دار إحياء الكُتُب العربيَّة -
عيسى البابي الحلبي وشركاه، ١٣٧٨هـ.
٧٢ - صحيح ابن حبَّان (المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في
سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها): أبو حاتم محمّد بن حبَّان بن أحمد التميمي البُستي
(ت ٣٥٤هـ)، المحقِّق: محمّد عليّ سونمز وخالص آي دمير، الناشر: دار ابن حزم، بيروت،
الطبعة الأُولى، ١٤٣٣هـ.
٧٣ - صحيح ابن خزيمة: إمام الأئمَّة، أبو بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة السلمي
النيسابوري (ت ٣١١هـ)، حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه وقَدَّم له: الدكتور
محمّد مصطفى الأعظمي، راجعه وحَكَم على بعض أحاديثه: العلَّامة محمّد ناصر الدِّين
الألباني، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت.
٧٤ - صحيح البخاري: أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري
الجعفي، تحقيق: جماعة من العلماء، نشر: المطبعة السلطانيَّة، بالمطبعة الكبرى
الأميريَّة، ببولاق - مصر، ١٣١١هـ.
٧٥ - صحيح مسلم (المسند الصحيح): أبو الحسين مسلم بن الحجَّاج القشيري النيسابوري
(ت ٢٦١هـ)، تحقيق: محمّد فؤاد عبد الباقي، نشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه،
القاهرة، ثمّ صوَّرته دار إحياء التراث العربي ببيروت وغيرها، ١٣٧٤هـ.
٧٦ - الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة: أحمد بن محمّد بن عليِّ بن
حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، شهاب الدِّين، شيخ الإسلام، أبو العبَّاس (ت ٩٧٤هـ)،
المحقِّق: عبد الرحمن بن عبد الله التركي وكامل محمّد الخرَّاط، الناشر: مؤسَّسة
الرسالة، لبنان، الطبعة الأُولى، ١٤١٧هـ.
٧٧ - الضوء اللَّامع لأهل القرن التاسع: شمس الدِّين أبو الخير محمّد بن
عبد الرحمن
بن محمّد بن أبي بكر بن عثمان بن محمّد السخاوي (ت ٩٠٢هـ)، الناشر: منشورات دار
مكتبة الحياة، بيروت.
٧٨ - طبقات أعلام الشيعة: الشيخ محمّد محسن آغا بزرك الطهراني (ت ١٣٨٩هـ)، الناشر:
دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، بيروت، ١٤٣٠هـ.
٧٩ - طبقات الحنابلة: أبو الحسين محمّد بن أبي يعلى، وقف على طبعه وصحَّحه: محمّد
حامد الفقي، الناشر: مطبعة السُّنَّة المحمّديَّة، القاهرة، ١٣٧١هـ، وصوَّرتها: دار
المعرفة، بيروت.
٨٠ - الطبقات الكبرى: محمّد بن سعد بن منيع الهاشمي البصري المعروف بابن سعد، دراسة
وتحقيق: محمّد عبد القادر عطا، الناشر: دار الكُتُب العلميَّة، بيروت، الطبعة
الأُولى، ١٤١٠هـ.
٨١ - الطليعة من شعراء الشيعة: الشيخ محمَّد السماوي (ت ١٣٧٠هـ)، تحقيق: كامل سلمان
الجبوري، الناشر: دار المؤرِّخ العربي، بيروت، ١٤٢٢هـ.
٨٢ - عقد الدُّرَر في أخبار المنتظَر: يوسف بن يحيى بن عليِّ بن عبد العزيز المقدسي
السلمي الشافعي (ت بعد ٦٥٨هـ)، حقَّقه وراجع نصوصه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه:
الشيخ مهيب بن صالح بن عبد الرحمن البوريني، الناشر: مكتبة المنار، الزرقاء -
الأُردنُّ، الطبعة الثانية، ١٤١٠هـ.
٨٣ - العقد الفريد: أبو عمر، شهاب الدِّين أحمد بن محمّد بن عبد ربِّه بن حبيب بن
حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربِّه الأندلسي (ت ٣٢٨هـ)، الناشر: دار الكُتُب
العلميَّة، بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤٠٤هـ.
٨٤ - عيون الأخبار: أبو محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت ٢٧٦هـ)،
الناشر: دار الكُتُب العلميَّة، بيروت، ١٤١٨هـ.
٨٥ - الغارات: أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد الثقفي الكوفي (ت ٢٨٣هـ)، تحقيق: السيِّد
جلال الدِّين المحدِّث.
٨٦ - غاية المرام وحجَّة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاصِّ والعامِّ: السيِّد
هاشم بن سليمان الموسوي التوبلي البحراني (ت ١١٠٧ - ١١٠٩هـ)، تحقيق: السيِّد عليّ
عاشور، نشر: مؤسَّسة التاريخ العربي، الطبعة الأُولى، بيروت، ١٤٢٢هـ.
٨٧ - الغدير في الكتاب والسُّنَّة والأدب: العلَّامة الشيخ عبد الحسين بن أحمد
الأميني النجفي، عني بنشره: الحاجُّ حسن إيراني صاحب دار الكتاب العربي في بيروت،
الطبعة الرابعة، ١٣٩٧هـ.
٨٨ - غرائب الاغتراب ونزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب: شهاب الدِّين محمود
بن عبد الله الحسيني الألوسي (ت ١٢٧٠هـ)، طبعة بغداد، ١٣٢٧هـ.
٨٩ - الغيبة: شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت ٤٦٠هـ)، تحقيق: الشيخ
عباد الله الطهراني والشيخ عليّ أحمد ناصح، نشر: مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة.
٩٠ - فتح الباري بشرح البخاري: أحمد بن عليِّ بن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢هـ)، رقَّم
كُتُبه وأبوابه وأحاديثه: محمّد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وتصحيح تجاربه: محبُّ
الدِّين الخطيب، الناشر: المكتبة السلفيَّة، مصر، الطبعة الأُولى، ١٣٨٠هـ إلى
١٣٩٠هـ.
٩١ - فتح العزيز بشرح الوجيز (الشرح الكبير): عبد الكريم بن محمّد الرافعي القزويني
(ت ٦٢٣هـ)، الناشر: دار الفكر.
٩٢ - فِرَق الشيعة: الحسن بن موسى النوبختي، تقديم: السيِّد هبة الدِّين
الشهرستاني، منشورات الرضا (عليه السلام)، بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤٣٣هـ.
٩٣ - الفَرْق بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية: أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن
محمّد بن عبد الله البغدادي التميمي الأسفراييني (ت ٤٢٩هـ)، الناشر: دار الآفاق
الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية، ١٩٧٧م.
٩٤ - الفصول المهمَّة في معرفة الأئمَّة: عليُّ بن محمّد أحمد المالكي المكِّي
الشهير بابن الصبَّاغ، حقَّقه ووثَّق أُصوله وعلَّق عليه: سامي الغريري، ١٣٧٩هـ.
٩٥ - فضائل الصحابة: أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني
(ت ٢٤١هـ)، المحقِّق: وصيُّ الله محمّد عبَّاس، الناشر: مؤسَّسة الرسالة، بيروت،
الطبعة الأُولى، ١٤٠٣هـ.
٩٦ - قطف الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة: جلال الدِّين عبد الرحمن بن أبي
بكر الخضيري السيوطي (ت ٩١١هـ)، تحقيق: خليل الدِّين محيي الدِّين الميس، نشر:
المكتب الإسلامي، الطبعة الأُولى، ١٤٠٥هـ.
٩٧ - الكافي: ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني الرازي (ت ٣٢٨ - ٣٢٩هـ)،
صحَّحه وعلَّق عليه: عليّ أكبر الغفاري، نهض بمشروعه: الشيخ محمّد الآخوندي، نشر:
دار الكُتُب الإسلاميَّة، الطبعة الثالثة، ١٣٨٨هـ.
٩٨ - الكامل في التاريخ: عزُّ الدِّين ابن الأثير أبو الحسن عليُّ بن أبي الكرم
الشيباني الجزري (ت ٦٣٠هـ)، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، الناشر: دار الكتاب
العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الأُولى، ١٤١٧هـ.
٩٩ - كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار: الميرزا الشيخ حسين ابن محمّد تقي
النوري (ت ١٣٢٠هـ)، تحقيق: أحمد عليّ مجيد الحلِّي، مراجعة وضبط: وحدة تحقيق مكتبة
العتبة العبَّاسيَّة المقدَّسة، نشر: مكتبة ودار مخطوطات العتبة العبَّاسيَّة
المقدَّسة، الطبعة الأُولى، كربلاء وبيروت، ١٤٣١هـ.
١٠٠ - كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشر: أبو القاسم عليُّ ابن محمّد
بن عليٍّ الخزَّاز القمِّي الرازي، حقَّقه: السيِّد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري
الخوئي، انتشارات بيدار، مطبعة الخيَّام، قمّ، ١٤٠١هـ.
١٠١ - كفاية الطالب في مناقب عليِّ بن أبي طالب، ويليه: البيان في أخبار صاحب
الزمان: الحافظ محمّد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي، تحقيق وتصحيح وتعليق: محمّد
هادي الأميني، نشر: دار إحياء تراث أهل البيت، طهران، الطبعة الثالثة، ١٤٠٤هـ.
١٠٢ - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن عليِّ ابن الحسين
بن بابويه القمِّي (ت ٣٨١هـ)، صحَّحه وعلَّق عليه: عليّ أكبر الغفاري، نشر: مؤسَّسة
النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة.
١٠٣ - كنز العُمَّال في سُنَن الأقوال والأفعال: علاء الدِّين عليّ المتَّقي بن
حسام الدِّين الهندي البرهان فوري (ت ٩٧٥هـ)، ضبطه وفسَّر غريبه: الشيخ بكري حياني،
صحَّحه ووضع فهارسه ومفتاحه: الشيخ صفوة السقا، الناشر: مؤسَّسة الرسالة، الطبعة
الخامسة، ١٤٠٥هـ.
١٠٤ - كنز الفوائد: أبو الفتح محمّد بن عليِّ بن عثمان الكراجكي الطرابلسي (ت
٤٤٩هـ)، تحقيق: الشيخ عبد الله نعمة، نشر: دار الأضواء، بيروت، الطبعة الأُولى،
١٤٠٥هـ.
١٠٥ - الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة: نجم الدِّين محمّد بن محمّد الغزِّي
(ت ١٠٦١هـ)، المحقِّق: خليل المنصور، الناشر: دار الكُتُب العلميَّة، بيروت -
لبنان، الطبعة الأُولى، ١٤١٨هـ.
١٠٦ - لباب التأويل في معاني التنزيل: علاء الدِّين عليُّ بن محمّد بن إبراهيم بن
عمر الشيحي أبو الحسن، المعروف بالخازن (ت ٧٤١هـ)، تصحيح:
محمّد عليّ شاهين،
الناشر: دار الكُتُب العلميَّة، بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤١٥هـ.
١٠٧ - لسان العرب: محمّد بن مكرم بن عليٍّ، أبو الفضل، جمال الدِّين ابن منظور
الأنصاري الرويفعي الإفريقي (ت ٧١١هـ)، الحواشي: اليازجي وجماعة من اللغويِّين،
الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤١٤هـ.
١٠٨ - المجالس (الأمالي): الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن بابويه القمِّي
(ت ٣٨١هـ)، تحقيق ونشر: قسم الدراسات الإسلاميَّة في مؤسَّسة البعثة بقمّ، الطبعة
الأُولى، ١٤١٧هـ.
١٠٩ - المجتنى: أبو بكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت ٣٢١هـ)، الناشر: دائرة
المعارف العثمانيَّة.
١١٠ - مدَّعو المهدويَّة والسفارة (من ١١هـ إلى ٤١١هـ)، رسالة دكتوراه: كنعان جليل
إبراهيم، إشراف: أمل السعدي، الناشر: وزارة الثقافة، العراق - بغداد، الطبعة
الأُولى، ٢٠١٣م.
١١١ - المراجعات: السيِّد عبد الحسين شرف الدِّين الموسوي، تحقيق وتعليق: حسين
الراضي، طُبِعَ على نفقة الجمعيَّة الإسلاميَّة، الطبعة الثانية، بيروت، ١٤٠٢هـ.
١١٢ - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: عليُّ بن سلطان محمّد أبو الحسن نور
الدِّين الملَّا الهروي القاري (ت ١٠١٤هـ)، الناشر: دار الفكر، بيروت - لبنان،
الطبعة الأُولى، ١٤٢٢هـ.
١١٣ - مروج الذهب ومعادن الجوهر: أبو الحسن عليُّ بن الحسين بن عليٍّ المسعودي (ت
٣٤٦هـ)، وضع فهارسه: يوسف أسعد داغر، منشورات دار الهجرة، إيران - قمّ، الطبعة
الثانية، ١٤٠٤هـ.
١١٤ - المزار: الشيخ محمّد بن المشهدي، تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني، نشر:
مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرَّفة، الطبعة الأُولى،
١٤١٩هـ.
١١٥ - مسائل الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل: أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل
بن هلال بن أسد الشيباني (ت ٢٤١هـ)، برواية: إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النسابوري (ت
٢٧٥هـ)، تحقيق: محمّد بن عليٍّ الأزهري، نشر: دار الفاروق الحديثة للطباعة والنشر،
القاهرة، الطبعة الأُولى، ١٤٣٤هـ.
١١٦ - المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله محمّد بن عبد الله الحاكم النيسابوري،
مع تضمينات: الذهبي في التلخيص والميزان، والعراقي في أماليه، والمناوي في فيض
القدير وغيرهم، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا،
الناشر: دار الكُتُب العلميَّة، بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤١١هـ.
١١٧ - مسند أبي داود الطيالسي: أبو داود الطيالسي سليمان بن داود بن الجارود (ت
٢٠٤هـ)، المحقِّق: الدكتور محمّد بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر، مصر،
الطبعة الأُولى، ١٤١٩هـ.
١١٨ - مسند أبي يعلى: أبو يعلى أحمد بن عليِّ بن المثُنَّى بن يحيى بن عيسى ابن
هلال التميمي الموصلي (ت ٣٠٧هـ)، تحقيق: حسين سليم أسد، نشر: دار المأمون للتراث،
دمشق، الطبعة الأُولى، ١٤٠٤هـ.
١١٩ - مسند الإمام أحمد بن حنبل: أحمد بن حنبل الشيباني (ت ٢٤١هـ)، المحقِّق: شعيب
الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرون، إشراف: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر:
مؤسَّسة الرسالة، الطبعة الأُولى، ١٤٢١هـ.
١٢٠ - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: أحمد بن محمّد بن عليٍّ الفيُّومي ثمّ
الحموي، أبو العبَّاس (ت نحو ٧٧٠هـ)، الناشر: المكتبة العلميَّة، بيروت.
١٢١ - المصنَّف في الأحاديث والآثار: أبو بكر عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة الكوفي
العبسي (ت ٢٣٥هـ)، تقديم وضبط: كمال يوسف الحوت، الناشر: (دار التاج - لبنان)،
(مكتبة الرشد - الرياض)، (مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنوَّرة)، الطبعة
الأُولى، ١٤٠٩هـ.
١٢٢ - مطالب السؤول في مناقب آل الرسول: كمال الدِّين محمّد بن طلحة الشافعي (ت
٦٥٢هـ)، طُبِعَ بإشراف: السيِّد عبد العزيز الطباطبائي، نشر: مؤسَّسة البلاغ،
بيروت، الطبعة الأُولى، ١٤١٩هـ.
١٢٣ - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: أبو الفضل أحمد بن عليِّ بن محمّد
بن أحمد بن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢هـ)، المحقِّق: (١٧) رسالة علميَّة قُدِّمت لجامعة
الإمام محمّد بن سعود، تنسيق: سعد بن ناصر بن عبد العزيز الشثري، الناشر: دار
العاصمة، دار الغيث، السعوديَّة، الطبعة الأُولى، ١٤١٩هـ.
١٢٤ - معارف الرجال في تراجم العلماء والأُدباء: الشيخ محمّد حرز الدِّين (ت
١٣٦٥هـ)، تعليق: محمّد حسين حرز الدِّين، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي
النجفي، قمّ، ١٤٠٥هـ.
١٢٥ - معالم التنزيل في تفسير القرآن (تفسير البغوي): محيي السُّنَّة، أبو محمّد
الحسين بن مسعود البغوي (ت ٥١٠هـ)، حقَّقه وخرَّج أحاديثه: محمّد عبد الله النمر
وعثمان جمعة ضميريَّة وسليمان مسلم الحرش، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة
الرابعة، ١٤١٧هـ.
١٢٦ - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين بن
بابويه القمِّي (ت ٣٨١هـ)، عني بتصحيحه: عليّ أكبر الغفاري، ١٣٧٩هـ.
١٢٧ - المعجم الكبير: سليمان بن أحمد بن أيُّوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم
الطبراني (ت ٣٦٠هـ)، المحقِّق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، دار النشر: مكتبة ابن
تيميَّة، القاهرة، الطبعة الثانية.
١٢٨ - المعمَّرون والوصايا: أبو حاتم السجستاني (ت ٢٥٠هـ)، المحقِّق: عبد المنعم
عامر، الناشر: دار إحياء الكُتُب العربيَّة - عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة -
مصر، ١٩٦١م.
١٢٩ - مفاتيح الغيب (التفسير الكبير): أبو عبد الله محمّد بن عمر بن الحسن بن
الحسين التيمي الرازي الملقَّب بفخر الدِّين الرازي خطيب الريِّ (ت ٦٠٦هـ)، دار
إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤٢٠هـ.
١٣٠ - المقالات والفِرَق: سعد بن عبد الله أبو خلف الأشعري، صحَّحه وقدَّم له
وعلَّق عليه: الدكتور محمّد جواد مشكور، مطبعة حيدري، طهران.
١٣١ - المقنع في الغيبة، والزيادة المكمِّلة له: السيِّد الشريف المرتضى أبو
القاسم عليُّ بن الحسين الموسوي (ت ٤٣٦هـ)، تحقيق: السيِّد محمّد عليّ الحكيم، نشر:
مؤسَّسة آل البيت لإحياء التراث، ١٤١٦هـ.
١٣٢ - المِلَل والنِّحَل: أبو الفتح تاج الدِّين محمّد بن عبد الكريم بن أبي بكر
أحمد الشهرستاني (ت ٥٤٨هـ)، تحقيق: عبد العزيز محمّد الوكيل، نشر: مؤسَّسة الحلبي،
١٣٨٧هـ.
١٣٣ - مناقب آل أبي طالب: مشير الدِّين أبو عبد الله محمّد بن عليِّ بن شهرآشوب ابن
أبي نصر بن أبي حبيشي السروي المازندراني (ت ٥٨٨هـ)، قام بتصحيحه وشرحه ومقابلته
على عدَّة نُسَخ خطّيَّة: لجنة من أساتذة النجف الأشرف، قام بطبعه: محمّد كاظم
الكتبي صاحب المكتبة والمطبعة الحيدريَّة، طُبِعَ في المطبعة الحيدريَّة في النجف،
١٣٧٦هـ.
١٣٤ - منهاج السُّنَّة النبويَّة في نقض كلام الشيعة القدريَّة: تقي الدِّين أبو
العبَّاس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمّد ابن
تيميَّة الحرَّاني الحنبلي الدمشقي (ت ٧٢٨هـ)، المحقِّق: محمّد رشاد سالم، الناشر:
جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميَّة، الطبعة الأُولى، ١٤٠٦هـ.
١٣٥ - الموطَّأ: الإمام مالك بن أنس، صحَّحه ورقَّمه وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه:
محمّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ١٤٠٦هـ.
١٣٦ - ميزان الاعتدال في نقد الرجال: شمس الدِّين أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن
عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت ٧٤٨ هـ)، تحقيق: عليّ محمّد البجاوي (ت ١٣٩٩هـ)،
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الأُولى، ١٣٨٢هـ.
١٣٧ - نيل الأوطار: محمّد بن عليّ بن محمّد بن عبد الله الشوكاني اليمني (ت
١٢٥٠هـ)، تحقيق: عصام الدِّين الصبابطي، الناشر: دار الحديث، مصر
الطبعة الأُولى، ١٤١٣هـ.
١٣٨ - هكذا عرفتهم: جعفر الخليلي (ت ١٤٠٥هـ)، انتشارات المكتبة الحيدريَّة، ١٤٢٦هـ.
١٣٩ - الوافي بالوفيات: صلاح الدِّين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي (ت ٧٦٤هـ)،
المحقِّق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، الناشر: دار إحياء التراث، بيروت، ١٤٢٠هـ.
١٤٠ - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أبو العبَّاس شمس الدِّين أحمد ابن محمّد
بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلِّكان البرمكي الإربلي (ت ٦٨١هـ)، المحقِّق: إحسان
عبَّاس، الناشر: دار صادر، بيروت.
١٤١ - ينابيع المودَّة لذوي القربى: سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي، تحقيق:
السيِّد عليّ جمال أشرف الحسيني، الناشر: دار الأُسوة للطباعة والنشر، الطبعة
الأُولى، ١٤١٦هـ.
١٤٢ - اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر: أبو المواهب عبد الوهَّاب بن أحمد
بن عليٍّ الأنصاري الشعراني (ت ٩٧٣هـ)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر،
١٩٥٩م.
* * *
