نعمة الرضا في عصر الظهور
من محاضرات المرجع الديني سماحة آية الله العظمى
السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله
الفهرس
المهدي نور الله (عزَّ وجلَّ)
رضا الناس في كلام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)
السبب في رضا الناس
الغنى الشامل
كمال العقل
إيمان اليهود بالإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)
عيسى (عليه السلام) والمهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)
سؤال
حديث مع أهل العلم
امتحان العلماء الكبير
كيفية الإرشاد
خلاصة الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطاهرين، واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
قال الله تعالى في كتابه الكريم: «وأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا»(1).
فسّر وأوّل علماء العامّة فضلاً عن الشيعة هذه الآية الكريمة بالإمام المهدي المنتظر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه وعجل الله تعالى فرجه الشريف(2).
لقد كانت الأرض منذ خُلقت وإلى اليوم وستبقى أبداً مشرقة بنور الله تعالى، ولكنّ هذا الإشراق وحصول النورانية في الأرض سيتحقّق بشكل كامل ومطلق بعد ظهور إمام العصر المهديّ المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)(3).
ويُفهم من الروايات الشريفة المرويّة عن الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) أنّ أمور الأرض أعمّ من الإنسان والحيوان والسماء - بمقدار ما تتعلّق بالأرض كبركات السماء التي تنزل على الأرض والتي تبعث فيها الحياة والبهجة - تتأثّر بهذه النورانية المطلقة. فتُنزل السماء بركاتها وتخرج الأرض كنوزها(4).
رضا الناس في كلام النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)
هناك رواية عن النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) حول خصوصيات عصر ظهور الإمام الحجّة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) نقلتها أهم المصادر الحديثية عند العامّة ومنها الصحاح الستّة، فضلاً عن الكتب الأربعة للشيعة، جاء فيها: «يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض»(5).
أمّا المقصود من ساكن السماء فليس واضحاً بالنسبة لنا بالطبع، ولكن مما لا شكّ فيه أن المقصود من ساكن الأرض هم الناس.
ومن الواضح أنّ عبارة ساكن الأرض - حسب الاصطلاح العلمي - مطلقة وتشمل كلّ سكّان الأرض، أي يرضى عنه أهل الأرض كافّة، وأنّ هذا الرضا لا يختصّ بفريق خاصّ من الناس دون فريق.
ومما لاشكّ فيه أيضاً أنه لم يتّفق أنْ رضي سكّان الأرض جميعاً في يوم ما عن أحد، فإنّ الناس لم يطبقوا في الرضا حتى على الأنبياء (عليهم السلام) ومنهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، إذ لم يكن الناس بأجمعهم راضين عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتى في نفس جزيرة العرب التي بُعث فيها، وليس فقط لم يقبلوا به وبرسالته، وإنما أيضاً عرّضوه للأذى، بل كان هناك من جيرانه من يؤذيه.
إذاً فالخصوصية التي يمتاز بها الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه الشريف وعصره عن بقية العصور أنه يرضى عنه جميع سكّان الأرض. وهذا الموضوع بحد ذاته يُعدّ معجزة، بالإضافة إلى الإعجاز في أصل وجود الإمام عجل الله فرجه وبقائه حيّاً طيلة قرون، وهي معجزة عظيمة حقاً؛ فإنه وإن كانت الشمس والسماء والمجرّات بل كلّ موجود معجزات عظيمة ولكن وجود المعصومين الأربعة عشر من المعجزات الإلهية المهمّة.
لعلّ سائلاً يسأل: ما الذي يحدث بحيث يرضى الناس قاطبة عن الإمام الحجّة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؟
فنقول في الجواب: لعلّ مقدّمات وجود هذه الحالة تتوفّر بنحو ما، بحيث يصبح الإنسان حتى مع وجود نفسه الأمّارة - التي تسوقه دوماً نحو الأهواء والأنانيّات - راضياً عن الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
قد يقال أيضاً: ولكن كيف يمكن - مع ذلك - أن يرضى جميع الناس عن شخص واحد خلافاً لطبيعتهم وما هو مشهور حتى الآن؟
ونوضّح الإجابة بالقول: مع ما تقدّم منّا أنّ هذه الحالة معجزة إلهية، وأن وقوعها بإرادة الله تعالى لن يكون مستحيلاً، ولكنا في مقام التبيين العقلي نقول:
أوّلاً: يمكن أن يتحقّق ذلك بصورة تكوينية وبالإرادة الإلهية في ظلّ النورانية الكاملة للأرض «وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا». بحيث يرى الناس أنّ سعادتهم وفلاحهم كامنان في الرضا التامّ الشامل عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
ثانياً: إنّ السبب الرئيسي لعدم الرضا الاجتماعي - غالباً - هي النقائص والاحتياجات المادّية، وهذه تزول في زمن الظهور المبارك للإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، لأنّ مشكلة المال بصفته وسيلة إزالة الحرمان والنقص، سوف تحلّ، وإذا حُلّت هذه المشكلة فإنّ بوسع كلّ فرد أن يتمتّع وببساطة بوسائل الراحة والرفاه، ويزول التفاوت الطبقي الذي هو العامل الأساسي للسخط أو عدم الرضا الاجتماعي، ومن ثمَّ فلا تبقى أرضية لذلك؛ فإنّ (غالبية) الناس إنما يسخطون على الأوضاع بسبب الظلم والنواقص التي يعانون منها، وليس العدالة ووفور النعمة. ولاشكّ في أنّ عصر الظهور لا يحمل إلا رسالة نشر العدل الذي يستتبع وفور النعمة والخير والبركة.
حسب الروايات الموجودة في هذا المجال: يبعث الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، شخصاً ليعلن للناس أن من كانت عنده حاجة للمال فليراجع المراكز المعنيّة، وعندما يراجعون تلك المراكز يرون الأموال مكدّسة بعضها فوق بعض، ويصابون بالدهشة عندما يلاحظون أنّ الناس غير مقبلين على أخذ الأموال رغم الإعلان العام الذي يبيح لهم ذلك.
ولعلّ دهشة هؤلاء تعود إلى أنهم كانوا من الشاهدين لمعاناة الناس في تأمين الغذاء والمنزل و... قبيل الظهور، فيصابون بالدهشة عندما يرون كلَّ هذه الأموال موجودة ولا يكترث بها أحد، مع حاجتهم السابقة وكثيرين غيرهم لقليل منه.
وعلى أيّ حال، فإنّ وضع المجتمع في عصر الظهور يتغيّر بصورة كلية وتُحلّ مشكلة الفقر مع كل آثارها وتداعياتها الفردية والاجتماعية.
لا شكّ أنه - وكما ورد في روايات عصر الظهور - لو استطاع الناس أن يؤمّنوا حاجتهم من المال بسهولة وكانت الأموال متوفرة لديهم، فإنّ المال سيفقد قيمته الفعلية ويكون كالتراب الملقى في الطرقات لا يكترث به أحد ولا يجد دافعاً لكنزه بعد أن فقد فاعليته السابقة ودوره المضخم في تغيير معادلات الحياة؛ لأن المال في الحقيقة وسيلة لتأمين حاجات الإنسان، وحيث إن الحاجات آنئذ مؤمّنة وكل شيء مبذول، فالبضائع في الأسواق والخدمات في المراكز كلّها مجانية، فتزول من ثَمَّ أرضية الحرص على جمع المال. فمثلاً: إذا حلّ عليك ضيفٌ فبإمكانك أن تعدّ كل ما تحتاجه من السوق مجّاناً ولا حاجة إلى المال، والأكثر من ذلك لو دفعت مبلغاً إزاء ما تتقاضاه من السوق فإن البائع لا يجد ضرورة لتسلّم ذلك المال منك.
سيفقد المال والذهب قيمته الفعلية وكما ورد في الروايات، عندما يعلن للناس أنه من كان راغباً في اقتناء الذهب فبإمكانه المراجعة للمراكز الموجودة فيه، يأتي فردٌ - مثلاً - ويملأ ظرفه من الذهب، ثم وبعد أن يخطو عن خطوات يسأل نفسه: ولمن أحمله؟ وحيث لم يجد إجابة مقنعة على سؤاله يعيد الذهب إلى مكانه(6).
إنه عالم استثنائي من كلّ جهة. ومن تلك الجهات أن عقل الناس وبقدرة الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) التي يزوّدها به الله تعالى، يصبح كاملاً.
فقد روي: «إذا قام قائمنا وضع يده على رؤوس العباد فجمع به عقولهم وأكمل به أحلامهم»(7).
وليس المقصود باليد هذه اليد العادية بل هي القدرة، كما يقول الله تعالى: «يد اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(8).
فإذا كمل عقل الإنسان صلحت أخلاقه، فيُبعد عن نفسه الحرص، لأنّ الحرص يكون حيث ثمة فائدة منه مفروضة للإنسان. فمثلاً: لو كان الفرد بحاجة إلى ثلاثة ملايين دينار لتأمين معاشه طيلة سنة ولكنه يفكّر في مستقبله المجهول والنفقات غير المتوقعة فيصاب بالحرص، ومن ثم فإنه لو حصل حتى على مئة مليون دينار يبقى عنده هذا الهاجس، ويدّخر الأكثر لذلك المستقبل المجهول، أما إذا كان يرى الأرض مشرقة بنور ربّها، والناس أصبحوا متساويين فيما بينهم، والمشكلات تحلّ بالأخوة، فإنه لا يبقى عنده آنذاك أيّ داع للقلق من المستقبل والحرص بسببه.
بناء على هذا إنّ من خصائص مجتمع عصر ظهور الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي سيكون مشرقاً بنور الله تعالى أنّ العوامل التي تلعب دوراً اليوم في حلّ المشكلات ومنها المال تفقد بريقها ويسود بدلاً منها قيم سامية كالأخوة والإيمان.
إيمان اليهود بالإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)
ورد في الروايات أنّ الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بعد أن يظهر في مكّة المكرمة يتّجه إلى بيت المقدس ويدعو علماء اليهود للاجتماع في سفح جبل في بيت المقدس، ثم إنه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يشقّ الجبل بقدرة الله تعالى ويخرج منه الألواح التي نزلت على النبي موسى على نبينا وآله و(عليه السلام) ويدعو اليهود للنظر فيها. ويفرح اليهود بذلك فرحاً عظيماً لأنهم قد سمعوا منذ قرون باسم التوراة فقط ولكنهم كانوا محرومين حتى ذلك الزمان من رؤيته، ثم يريهم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) اسمه في ألواح التوراة، فيؤمنون به(9).
أي إن اليهود الذين ملأوا الدنيا فتناً لأنفسهم وللآخرين وكانوا يخلقون المشاكل دائماً يصبحون مسلمين وشيعة اثني عشرية في زمرة أنصار الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وهم الذين قال الله تعالى عنهم: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ»(10).
فهذه الآية الكريمة تجعل اليهود على رأس الذين هم أشدّ عداوة للمؤمنين، يليهم المشركون. فتصوّروا لو أنّ اليهود مع كلّ هذا الوصف، آمنوا بالإسلام وبالإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فكم من المشكلات التي يعاني منها البشر اليوم سوف تحلّ؟ لا شك أن آلاف المشكلات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية وغيرها ستختفي من المجتمع.
فعلى سبيل المثال: يقال إن علاج مرض السكر قد تمّ اكتشافه منذ عدّة سنين، ولم يُنشر رغم أن الملايين من المصابين بهذا المرض يصارعون الموت. ولو أنّ هذا العلاج بُذل لهم لشفوا خلال مدّة قصيرة، ولكن اليهود يمنعون من نشره لأنهم - كما يقال - باحتكارهم وسائل تحليل السكّر في الدم والأدوية المضادّة لمرض السكّري يحصلون على مدخولات خيالية في الدقيقة الواحدة.
عيسى (عليه السلام) والمهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)
يوم يظهر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يهبط النبي عيسى على نبينا وآله وعليه والسلام في بيت المقدس من السماء، ويحضر القسسة وعلماء النصارى الذين كذبوا على النبي عيسى (عليه السلام) فيعرفونه ويتحلّقون حوله ويظهرون الحبّ له ويفتدونه بأرواحهم. وهكذا من غير علمائهم عندما يرون النبي عيسى (عليه السلام) بأعينهم حاضراً بينهم يسعون إليه لكسب التكليف منه بتقريب أنفسهم إليه. في تلك الأثناء يشير النبي عيسى (عليه السلام) إلى الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ويقول: «هذا إمامكم وإمامي».
ويفهمهم بذلك أن له أيضاً إماماً، وأنّ الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هو الإمام الذي يجب أن يتبعه الجميع.
وتضيف الرواية قائلة: «فيتبعه النصارى»، أي يتبعون الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
وحيث إن مفردة النصارى في الرواية وردت محلاة بالألف واللام، فهي إذاً تفيد العموم، أي يتبعه جميع النصارى ويصبحون مسلمين وشيعة إمامية.
حقّاً إنه يوم مشهود؛ في ذلك اليوم يتجلّى الفردوس في الدنيا ونرى صورة مصغّرة للجنة التي وُعد بها المؤمنون في القرآن والروايات ودعوا إليها. نسأل الله تعالى أن يطيل في أعمارنا لتتصل بعصر الظهور المبارك، ولو كان مقدراً لنا أن نموت قبل ذلك فنسأله أن يعيدنا إلى الدنيا لنشهد ذلك اليوم لنستنشق عبير العدالة الشاملة، فإن العيش حينذاك لذيذ وجميل حقّاً.
سؤال
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في المقام هو: ألا يوجد تنافٍ بين هذه الطائفة من الروايات التي تبيّن أنّ جميع الناس في عصر ظهور الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) راضون، وتلك التي تتحدّث عن استشهاد عدّة بين يدي الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف)؟
الجواب الكامل لهذا السؤال بحاجة إلى بحث مفصّل، ولكنا نقول على سبيل الاختصار: إنه لا يوجد أيّ تنافٍ بين هذه الروايات؛ لأنّ لكلّ مطلق مقيّداً ولكلّ عامّ خاصّاً، وكلام الأئمة (عليهم السلام) ليس مستثنى في هذا، فإن لكلامهم العامّ أيضاً - على كلّ حال - ما يخصّصه، ومن ثَمّ لهذا المورد أيضاً استثناء، ولكن بالجملة لا يكون في ذلك اليوم شخص عاتباً على الأوضاع أو معترضاً على غياب العدالة؛ لأن العدالة يومئذ عامّة وشاملة.
وممّا لا شك فيه أيضاً أنّ الطواغيت يقفون في وجه الإمام الحجة سلام الله عليه في أوّل ظهوره ويدخلون معه في صراع ومواجهة، ويواجههم الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بدوره حتى يقضي على شرورهم؛ لأنه يجب بحكم العقل الوقوف في وجه الظالم والقاتل ومقابلته بالمثل.
ثمة نكتة ينبغي للعلماء أن يلتفتوا إليها، وهي أنّ هذه الشريحة من المجتمع - أعني العلماء - قد تكون المشاكل التي يعانون منها هي نفس المشكلات التي يعاني منها عامة الناس كالمشكلة المالية مثلاً، وهذا ليس بالأمر المهمّ؛ لأن رجل العلم الديني - من الطالب المبتدئ حتى المرجع الديني - مشتركون في هذه المشكلة، كما يشاركهم في هذه المشكلة كثير من الناس، بل حتى الشخص الثري قد يخسر في تجارة مثلاً أو يواجه مشكلات مالية بأيّ سبب من الأسباب. وهكذا بالنسبة للابتلاء بالأمراض، فهو ليس مما يختصّ بالعلماء، فكلّ شخص يمكن أن يصاب في يوم ما بمرض صعب العلاج أو عاديّ أو وعكة صحية.
وهكذا وجود الأعداء، فكلّ شخص من المحتمل أن يوجد هناك من يعاديه، بل كل الناس الأشرار يعادون الناس الطيبين والأخيار، ومن ثم فهذه المشكلة هي الأخرى لا ينحصر وجودها عند العلماء.
خذ حتى السجن والتعذيب والإعدام أمثلة وهي من المشاكل التي قد يواجهها أيّ إنسان ومنهم العالم وطالب العلم - لا سمح الله -، وهكذا المشكلات السياسية والاجتماعية و... .
إذاً لا مشكلة خاصّة بالعلماء؛ لأنّ من طبيعة الدنيا أن يمتزج الهمّ فيها بالفرح، وكلّ من يعيش في هذه الدنيا يواجه - لا جَرَم - هذه المشكلات.
برأيي أن المشكلة التي تختصّ بالعلماء ولا شأن للآخرين بها هي الامتحان الكبير الذي وسوف يمتحنون به، ومُمتحِنهم في ذلك الامتحان هو الإمام الحجة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
ولقد كان هذا الامتحان موجوداً في زمن الأئمة من آبائه الطاهرين (عليهم السلام) وهو موجود اليوم أيضاً، حيث يواجه العلماء هذا الامتحان الكبير.
روى الحارث بن المغيرة وهو مَن ذكره علماء الرجال بعبارة «ثقة ثقة ثقة»، وكان من الأصحاب الأجلاّء والمعتمدين للإمام الصادق (عليه السلام) وقد نقل روايات كثيرة؛ قال في رواية صحيحة السند تماماً أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) رآني وقال:
«لأحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم»(11).
إن الدلالات التوكيدية في كلمة «لأحملنّ» تشير إلى أهمية الموضوع؛ فاستعمال لام القسم ونون التوكيد الثقيلة معناه: قسماً بالله إنّي فاعل ذلك حتماً.
ويُفهم من ظاهر الرواية أن الحارث كان من المقرّبين للإمام (عليه السلام) ولذا بيّن له أصل المسألة من دون أية مقدّمات.
كذلك يُفهم أنه كان مستعدّاً تماماً لسماع مثل هذا الكلام.
إنني أسأل نفسي أحياناً: لو كنت مكان الحارث وكنت أواجَه بحديث يحمّل المسؤولية مثل هذا، فما كنت أفعل؟
على أيّ حال، لا شك أنّ هذا الخطاب لا يختصّ بالحارث بن المغيرة، وأن علماء اليوم والعصور المختلفة جميعاً مخاطبون به.
ومن الواضح أنّ كلمة العلماء لا تنحصر بمراجع التقليد بل هي تعمّ كل أهل العلم وتشملهم جميعاً من أدنى مستوى إلى أعلى مستوى.
إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) أفهم العلماء جميعاً - حسب هذا الحديث - أنهم ليسوا مسؤولين عن أعمالهم فقط، بل هم مسؤولون أيضاً عن ذنوب غيرهم من الشيعة. وفي يوم القيامة يسأل من العلماء: لماذا شرب الشاب الفلاني الخمر؟ ولماذا أفسد؟ أو فسدت عقيدته؟ و... .
وليس المقصود من السفاهة الواردة في الحديث السفاهة بمعناها الشرعي الاصطلاحي؛ لأنّ السفيه بذلك المعنى لا تكليف بحقّه، ومن لا تكليف له فلا ذنب له، بل هو بمعنى السفهاء الذي أشار إليه القرآن الكريم أيضاً في قوله تعالى: «سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ»(12).
بناءً على هذا، فإنَّ العلماء مسؤولون عن أعمال السفهاء من الناس، ولا تنتهي مسؤوليتهم عند هذا الحدّ، بل تشمل جميع الشؤون الاجتماعية والفردية والعائلية وغيرها.
فعلى سبيل المثال: لو حصلت قطيعة بين عائلتين أو عوائل سواء كانوا من أقارب العالم أو غيرهم من عامَة الناس الذين يطّلع على أحوالهم وأعمالهم عادة، فعلى العالم أن يسعى لإصلاحهم أو إزالة خصوماتهم والصلح بينهم، وإلاّ كتبت عثراتهم وأخطاؤهم في صحيفة ذلك العالم، فيُسأل يوم القيامة: لماذا تخاصَم فلان وفلان؟ أو لِم لم يصل فلان رحمه؟ ولِم لم تنصح فلاناً إذ سفه ولم تذكّره بتكليفه الشرعي؟
ينبغي أن يكون التعامل الإرشادي للعلماء بنحو لا يدفع المذنبين للعناد وردّة الفعل. وحسب اصطلاح العلماء يجب أن توفّر مقدّمات الوجود أوّلاً، أي تهيّأ لتلك الموارد أجواء تسوق الناس ولاسيّما الشباب صوب الهداية، واستماع النصح والعمل به.
صحيح أن هذه الرواية لم يجر الحديث فيها عن الشباب والشيوخ بل كان الكلام مطلقاً ويشمل جميع الناس، ولكن حيث إن الشباب معرضون للخطر أكثر، يجب أن نلتفت إليهم أكثر؛ لأنهم في الخطوط الأمامية التي تتلقّى - عادة - الضربات الاجتماعية وتتأثّر بها بشدّة.
ينبغي الالتفات إلى أنّ علماء جميع العصور، وحتى علماء عصر الغيبة وعصر الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) - كانوا ومازالوا وسيظلّون - هم المخاطبين بحديث الإمام الصادق (عليه السلام)، فلقد ورد في بعض الروايات أنه إذا تحدّث أحد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بشيء فسائر الأئمة (عليهم السلام) متفقون معه.
سأل أحد الأشخاص الإمام (عليه السلام) قال: لو بلغني حديث عن أحد الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ثم نسيت الإمام الذي نُقل عنه الحديث، فهل يجوز لي أن أنسبه إلى أي واحد من الأئمة المعصومين (عليهم السلام)؟ قال الإمام: «نعم، لأنهم لا فرق بينهم».
فهم نور واحد وروح واحدة في اثني عشر بدناً، لكلّهم قول واحد وعمل واحد وهدفٌ واحد. فمثلاً لو حارب الإمام الحسين (عليه السلام) أحداً فالإمام الحسن (عليه السلام) حرب له أيضاً، أو صبر الإمام الحسن (عليه السلام) ولم يحارب فالإمام الحسين (عليه السلام) يصبر معه ولا يحارب. بكلمة أخرى: إن لهم (عليهم السلام) منطقاً واحداً ولكن بعبارات مختلفة.
إذاً العلماء أمام امتحان صعب، والإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لا يختلف منطقه عن منطق جدّه الإمام الصادق (عليه السلام) وسوف يحاسب العلماء ويحمّلهم ذنوب السفهاء.
فالعلماء الذين يعيشون اليوم عليهم أن يكونوا مستعدّين للاستجواب الذي سيعترضون له من قبل الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وأن يعدّوا الإجابة عن ذنوب سفهاء عصرهم. وهذا يعني أن المسؤولية خطيرة وأنّ على كلّ واحد من العلماء أن يعمل حدّ إمكانه وقدرته على هداية الناس ويخلق الأرضية اللازمة لتلك الهداية.
وحيث إن لربّ الأسرة تأثيراً مباشراً على أفراد أسرته، فلو كانت أخلاقه سيئة - أو حسنة - تأثّر أولاده وزوجته بذلك، إذاً ينبغي للإنسان أن يبدأ التغيير والهداية من أسرته، بأن ينتهج نهجاً مرضيّاً عند الله تعالى ليكون قدوة حسنة لجميع أفراد أسرته ويكون سبباً بصدقه وسلوكه الصائب في تشكيل شخصية المحيطين به بالخصائص نفسها، وهكذا يؤثّر الأب والابن والتلامذة والأساتذة والأصدقاء بعضهم في بعض، وإن كان التأثير يختلف من شخص لآخر شدّة وضعفاً ولكنه حاصل على كلّ حال.
فإن أدّى العالم واجبه إزاء زوجته وأولاده وأقربائه وذويه بنحو جيّد، استطاع حين مطالعة صحيفة أعماله أن يقول لإمام العصر (عجل الله تعالى فرجه الشريف): يا بن رسول الله لقد بذلتُ جهدي.
لا شكّ أنّ أئمتنا هم أئمّة العدل، وإذا أدّى أحدنا واجبه حسب مقدرته حقّاً ولم يقصّر، فسيعذرونه، وإذا قبل الأئمة عذر أحد لم يكتب الله تعالى في ذلك ذنباً له في صحيفة أعماله، وعامله بلطفه.
لقد حدّث الإمام الصادق (عليه السلام) الحارث بن المغيرة ونبّهه إلى مسؤوليته بكلّ صراحة نظراً لقربه من الإمام (عليه السلام).
جدير بالذكر أن أمثال الحارث كانوا قلّة في أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) هذا في حين كان تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) يتراوح عددهم - كما ذكر المؤرخون - بين أربعة آلاف إلى عشرين ألف، ولكن الأشخاص الموثوقين كالحارث كانوا قليلين.
إنّ الذين وفّقهم الله تعالى في هذا الأمر ليطلبوا من الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) في هذه الأيام العظيمة أيام ميلاده المبارك أن يزيد من بركاته عليهم وأن يضاعف في توفيقهم، وأما الذين كانوا موفَّقين بنسبة أقلّ أو لم يوفَّقوا حتى الآن - لأسبابٍ - في أداء هذا الواجب الإلهي فعليهم أن يمدّوا يد الضراعة إلى الإمام وأن يطلبوا منه العون في هذا السبيل، وليكونوا واثقين أن الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لن يبخل عليهم وسيشملهم بألطافه؛ لأنه كريم من أولاد الكرام وهو غصن شجرة الرسالة المثمرة المباركة.
اعلموا أنكم لو طلبتم العون منه صادقين جادّين فسيعينكم حتماً. لاشكّ أن في أداء الوظيفة والواجب عناء ومشقة، ويتطلّب الفكر والمشورة والتخطيط والاستقامة والصبر والتحمل والأمل والتواضع وحسن الخلق وبشر الوجه ونحوها. فلو حاز العلماء على هذه الخصوصيات واستمدّوا في هذه المناسبة من الإمام المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بتواضع فإنّهم سيوفَّقون برعايته، ومن وفّق سيزاد في توفيقه إن شاء الله تعالى.
أرجو من الله تعالى ببركة الوجود المبارك لمولانا بقية الله الأعظم الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أن يجعلكم في زمرة أنصاره الحقيقين وأتباعه المطيعين وسائر أهل البيت المعصومين (عليهم السلام) إن شاء الله تعالى. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الزمر: الآية 69.
(2) منهم العلامة الشيخ إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن حمويه الحمويني المتوفى 722 في درر السمطين - مخطوط - قال: «... قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): والذي بعثني بالحق بشيراً لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي، ينزل روح الله عيسى بن مريم فيصلّي خلفه وتشرق الأرض بنور ربّها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب». شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي: ج4 ص93 – 94.
ومنهم العلامة القندوزي في ينابيع المودة (ص 448 ط إسلامبول) قال: عن الحسين بن خالد قال: قال علي بن موسى الرضا رضي الله عنه: لا دين لمن لا ورع له وإن أكرمكم عند الله أتقاكم أي أعملكم بالتقوى.
ثم قال: إنّ الرابع من ولدي ابن سيّدة الإماء يطهّر الله به الأرض من كل جور وظلم وهو الذي يشكّ الناس في ولادته وهو صاحب الغيبة فإذا خرج أشرقت الأرض بنور ربّها. شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي: ج 13 ص 364.
(3) عنهم (عليهم السلام): «إن قائمنا إذا قام أشرقت الأرض بنور ربها فاستغنى العباد عن ضوء الشمس فذهبت الظلمة». روضة الواعظين للفتّال النيسابوري، ص 264.
(4) روى علي بن عقبة عن أبيه قال: إذا قام القائم حكم بالعدل وارتفع في أيامه الجور وآمنت به السبل وأخرجت الأرض بركاتها وردّ كل حقّ إلى أهله ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الاسلام ويعترفوا بالايمان. أما سمعت الله عزّ وجل يقول: «وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا»، وحكم في الناس بحكم داود وحكم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) فحينئذ تظهر الأرض كنوزها وتبدي بركاتها فلا يجد الرجل منكم يومئذ موضعاً لصدقته ولا لبرّه لشمول الغناء جميع المؤمنين... إنّ دولتنا آخر الدول ولم يبقَ أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء. وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). روضة الواعظين: ص265.
(5) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «أبشّركم بالمهديّ يُبعث في أمّتي على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحاً. فقال رجل: وما صحاحاً؟ قال: السوية بين الناس». كشف الغمة، للإربلي: ج3 ص270.
(6) روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «أبشروا بالمهدي، رجل من قريش من عترتي، يخرج في اختلاف من الناس وزلزال، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، ويرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، ويقسم المال بالسوية، ويملأ قلوب أمة محمد غنى، ويسعهم عدله حتى أنه يأمر منادياً فينادي:
- من له حاجة إلى المال يأتيه. فما يأتيه أحد إلا رجل واحد يأتيه فيسأله. فيقول له المهدي: ائت السادن حتى يؤتيك. فيأتيه فيقول: أنا رسول المهدي أرسلني إليك لتعطيني. فيقول: احثُُ. فيحثي فلا يستطيع أن يحمله، فيلقي حتى يكون قدر ما يستطيع أن يحمله، فيخرج به، فيندم فيقول: أنا كنت أجشع الأمّة نفساً، كلّهم دعي إلى هذا المال فتركوه غيري، فيردّ عليه. فيقول السادن: إنا لا نقبل شيئاً أعطيناه». ينابيع المودة للقندوزي: ج 3 ص 344.
(7) بصائر الدرجات ص 117.
(8) سورة الفتح: الآية 10.
(9) روى علي بن عقبة، عن أبيه قال: «إذا قام القائم (عليه السلام) حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الأرض بركاتها، وردّ كلّ حقّ إلى أهله، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الاسلام ويعترفوا بالإيمان، أما سمعت الله (عزَّ وجلَّ) يقول: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي: ج2 ص290.
(10) سورة المائدة: 82.
(11) الكافي: ج1 ص 162 ح 169.
(12) سورة البقرة: 142.