جنَّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجة (عليه السلام) أو معجزته في الغيبة الكبرى

جنَّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجة (عليه السلام)

أو معجزته في الغيبة الكبرى

تأليف: خاتمة المحدثين آية الله الشيخ ميرزا حسين النوري (قدس سره)
المتوفى سنة 1320 للهجرة
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
رقم الإصدار: 37
الطبعة الثانية 1442هـ

الفهرس

مقدّمة المركز..................3
تنبيه..................7
مقدّمة المؤلِّف..................9
من فاز بلقاء الحجَّة (عجَّل الله فرجه) (تسع وخمسون حكاية)..................13
الحكاية (1) [قصَّة محمود الفارسي]..................15
الحكاية (2) [مكاشفات للسيِّد ابن طاوس (قدّس سرّه)]..................22
الحكاية (3) [مُدُن يحكمها أبناء الحجَّة (عجَّل الله فرجه)]..................28
الحكاية (4) [السيِّد رضي الدِّين الآوي ودعاء العبرات]..................42
الحكاية (5) [قصَّة الحاجّ عليّ المكّي]..................48
الحكاية (6) [دعاء عن الحجَّة (عجَّل الله فرجه) للشفاء من المرض]..................49
الحكاية (7) [دعاء منسوب إليه (عجَّل الله فرجه) لدفع الظلم]..................50
الحكاية (8) [قصَّة بناء مسجد جمكران]..................53
الحكاية (9) [مكاشفة للسيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه)]..................59
الحكاية (10) [جواب استفتاء للسيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه)]..................61
الحكاية (11) [مكاشفة ثانية للسيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه)]..................62
الحكاية (12) [تشرُّف وكرامة للسيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه)]..................62
الحكاية (13) [مكاشفة ثالثة للسيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه)]..................64
الحكاية (14) [السيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه) في مسجد السهلة]..................65
الحكاية (15) [قصَّة الشيخ محمّد حسن السريرة]..................66
الحكاية (16) [قصَّة الحاجّ عبد الواعظ]..................70
الحكاية (17) [قصَّة السيِّد جعفر القزويني]..................72
الحكاية (18) [قصَّة الحلاق]..................73
الحكاية (19) [البدوي في الحرم العلوي]..................74
الحكاية (20) [قصَّة السيِّد محمّد عليّ العاملي]..................76
الحكاية (21) [قصَّة السيِّد محمّد عليّ العاملي والبطِّيخات الثلاث]..................78
الحكاية (22) [الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) يُتِمُّ نسخ الكتاب]..................81
الحكاية (23) [المعمَّر بن غوث السنبسي وزوال مُلك بني العبَّاس]..................82
الحكاية (24) [قصَّة الشيخ إبراهيم القطيفي]..................84
الحكاية (25) [الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) يرثي الشيخ المفيد (قدّس سرّه)]..................85
الحكاية (26) [فارس الصحراء]..................85
الحكاية (27) [نور في سرداب الغيبة]..................86
الحكاية (28) [الشيخ الدخني]..................87
الحكاية (29) [البغدادي الغريق]..................89
الحكاية (30) [قصَّة جماعة من أهل البحرين]..................91
الحكاية (31) [إشعاع في فضاء مسجد الكوفة]..................94
الحكاية (32) [المريض البورمي]..................96
الحكاية (33) [تضوع المسك في سرداب الغيبة]..................101
الحكاية (34) [مقام الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) في النعمانيَّة]..................103
الحكاية (35) [الحجَّة (عجَّل الله فرجه) يزور أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الأحد]..................104
الحكاية (36) [استخارة منسوبة لصاحب الأمر (عجَّل الله فرجه)]..................104
الحكاية (37) [إخبار الإمام (عجَّل الله فرجه) لشخص بمدَّة عمره]..................106
الحكاية (38) [قصَّة الشيخ الحرِّ العاملي صاحب الوسائل]..................108
الحكاية (39) [مصطفى الحمود خادم في سرداب الغيبة]..................108
الحكاية (40) [دعاء علَّمه الإمام (عجَّل الله فرجه) لشخص]..................109
الحكاية (41) [المتوكِّل بن عمير ورؤيته للإمام (عجَّل الله فرجه)]..................110
الحكاية (42) [معمَّر بن أبي الدنيا صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام)]..................113
الحكاية (43) [تُرزَق علم التوحيد بعد حين]..................116
الحكاية (44) [فتح السليمانيَّة]..................118
الحكاية (45) [تعريفه (عجَّل الله فرجه) بقبر حمزة بن القاسم]..................122
الحكاية (46) [يا معاشر عنزة قد جاء الموت الزؤام]..................124
الحكاية (47) [ياقوت السمَّان]..................130
الحكاية (48) [معاقبة مؤذي الزائرين]..................133
الحكاية (49) [الشهيد والقافلة]..................135
الحكاية (50) [كرامة للشيخ محمّد ابن الشيخ حسن]..................136
الحكاية (51) [شفاء مريض ببركة الصاحب (عجَّل الله فرجه)]..................137
الحكاية (52) [أتُحِبّ أنْ أُلحقك برفقائك؟]..................138
الحكاية (53) [الحاجُّ والبدوي]..................139
الحكاية (54) [كم هو عذب صوت القرآن]..................141
الحكاية (55) [صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) يدعو للشيعة]..................142
الحكاية (56) [نور في الليلة المظلمة]..................147
الحكاية (57) [الهندي الغريق]..................147
الحكاية (58) [تفضَّل فقد فُتِحَت الباب]..................150
الحكاية (59) [زائر الكاظمين (عليهما السلام)]..................154
فائدتان مهمَّتان..................161
الأُولى: [تكذيب مدَّعي الرؤية في زمن الغيبة الكبرى]..................163
الثانية: [أثر المداومة على بعض الأعمال]..................171
المصادر والمراجع....................187

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المركز:
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمّد وآله الطاهرين.
الاعتقاد بالمهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) من الأُمور المجمع عليها بين المسلمين، بل من الضروريّات التي لا يشوبها شكٌّ(1).
وقد جاءت الأخبار الصحيحة المتواترة عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنَّ الله تعالى سيبعث في آخر الزمان رجلاً من أهل البيت (عليهم السلام) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، وجاء أنَّ ظهوره من المحتوم الذي لا يتخلَّف، حتَّى لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد، لطوَّل الله (عزَّ وجلَّ) ذلك اليوم حتَّى يظهر.
وكيف وأنّى يتخلَّف وعد الله (عزَّ وجلَّ) في إظهار دينه على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون؟! وكيف لا يُحقِّق تعالى وعده للمستضعفين المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وبتمكين دينهم الذي ارتضى لهم، وإبدالهم من بعد خوفهم أمناً، ليعبدوه تعالى لا يُشركون به شيئاً؟!
وقد أجمع المسلمون على أنَّ المهديَّ المنتظر (عجَّل الله فرجه) من أهل البيت (عليهم السلام)، وأنَّه من ولد فاطمة (عليها السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) روي عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنَّه قال: «من أنكر خروج المهدي فقد كفر بما أُنزل على محمّد».
راجع: شرح إحقاق الحقِّ (ج 13/ ص 235 و236/ باب من أنكر خروج المهدي فقد كفر).

(٣)

وأجمع الإماميَّة - ومعهم عدد من علماء أهل السُّنَّة - أنَّه (عجَّل الله فرجه) من ولد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فأثبتوا اسمه ونعته وهويَّته الكاملة.
هكذا فقد اعتقد الإماميَّة - ومعهم بعض علماء أهل السُّنَّة - أنَّ المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) قد وُلِدَ فعلاً، وأنَّه حيٌّ يُرزَق، لكنَّه غائب مستور.
وماذا تُنكِر هذه الأُمَّة أنْ يستر الله (عزَّ وجلَّ) حجَّته في وقت من الأوقات؟ وماذا تُنكِر أنْ يفعل الله تعالى بحجَّته كما فعل بيوسف (عليه السلام)، أنْ يسير في أسواقهم ويطأ بُسُطهم وهم لا يعرفونه، حتَّى يأذن الله (عزَّ وجلَّ) له أنْ يُعرِّفهم بنفسه كما أذن ليوسف ﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي﴾ (يوسف: 90)(2).
أوَلم يُخلِف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في أُمَّته الثقلين: كتاب الله وعترته، وأخبر بأنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليه الحوض؟!
أوَلم يُخبِر (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنَّه سيكون بعده اثنا عشر خليفة كلُّهم من قريش، وأنَّ عدد خلفائه عدد نقباء موسى (عليه السلام)؟!
وإذا كان الله تعالى لم يترك جوارح الإنسان حتَّى أقام لها القلب إماماً لتردَّ عليه ما شكَّت فيه، فيقرُّ به اليقين ويبطل الشكُّ، فكيف يترك هذا الخلق كلَّهم في حيرتهم وشكِّهم واختلافهم لا يُقيم لهم إماماً يردُّون إليه شكَّهم وحيرتهم(3)؟!
وحقًّا ﴿لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحجّ: 45).
ولا ريب أنَّ للعقيدة الشيعيَّة في المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) - وهي عقيدة قائمة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) الاستدلال منتزع من الكافي (ج 1/ ص 384 و385/ باب في الغيبة/ ح 4).
(3) انظر محاججة هشام بن الحَكَم مع عمرو بن عبيد في كمال الدِّين (ص 237 - 239/ باب 21/ ح 23).

(٤)

على الأدلَّة القويمة العقليَّة - رجحاناً كبيراً على عقيدة من يرى أنَّ المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) لم يُولَد بعد، يقرُّ بذلك كلُّ من ألقى السمع وهو شهيد إلى قول الصادق المصدَّق (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليَّةً»(4).
ناهيك عن أنَّ من معطيات الاعتقاد بالإمام الحيِّ أنَّها تمنح المذهب غناءً وحيويَّة لا تخفى على من له تأمُّل وبصيرة(5).
ولا ريب أنَّ إحساس الفرد المؤمن أنَّ إمامه معه يعاني كما يعاني، وينتظر الفرج كما ينتظر، سيمنحه ثباتاً وصلابةً مضاعفة، ويستدعي منه الجهد الدائب في تزكية نفسه وتهيئتها ودعوتها إلى الصبر والمصابرة والمرابطة، ليكون في عداد المنتظرين الحقيقيِّين لظهور مهديِّ آل محمّد (عليه وعليهم السلام)؛ خاصَّة وأنَّه يعلم أنَّ اليُمْن بلقاء الإمام لن يتأخَّر عن شيعته لو أنَّ قلوبهم اجتمعت على الوفاء بالعهد، وأنَّه لا يحبسهم عن إمامهم إلَّا ما يتَّصل به ممَّا يكرهه ولا يُؤثِره منهم(6).
ولا يُماري أحد في فضل الإمام المستور الغائب - غيبة العنوان لا غيبة المعنون - في تثبيت شيعته وقواعده الشعبيَّة المؤمنة وحراستها، كما لا يماري في فائدة الشمس وضرورتها وإنْ سترها السحاب.
كيف، ولولا مراعاته ودعائه (عجَّل الله فرجه) لاصطلمها الأعداء ونزل بها اللأواء؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) حديث مشهور تناقله علماء الطرفين في مجاميعهم الحديثيَّة بتعابير تتَّفق في مضمونها. انظر على سبيل المثال: مسند أحمد (ج 4/ ص 96)؛ مسند أبي داود (ص 259)؛ المصنَّف لابن أبي شيبة (ج 8/ ص 598/ ح 42)؛ المعجم الأوسط للطبراني (ج 6/ ص 70)؛ مجمع الزوائد (ج 5/ ص 218 و225)؛ وغيرها من المصادر.
(5) انظر كلام المستشرق الفرنسي الفيلسوف هنري كاربون في مناقشاته مع العلَّامة الطباطبائي في كتاب (الشمس الساطعة).
(6) راجع: الاحتجاج (ج 2/ ص 325)، عنه بحار الأنوار (ج 53/ ص 181/ ح 8).

(٥)

ولا يشكُّ أحد من الشيعة أنَّ إمامه أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء(7).
وقد وردت روايات متكاثرة عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) تنصبُّ في مجال ربط الشيعة بإمامهم المنتظر (عجَّل الله فرجه)، وجاء في بعضها أنَّه (عجَّل الله فرجه) يحضر الموسم فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه(8)، وأنَّه (عجَّل الله فرجه) يدخل عليهم ويطأ بُسُطهم، كما وردت روايات جمَّة في فضل الانتظار، وفي فضل إكثار الدعاء بتعجيل الفرج، فإنَّ فيه فرج الشيعة.
وقد عني مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهديِّ (عجَّل الله فرجه) بالاهتمام بكلِّ ما يرتبط بهذا الإمام الهمام (عجَّل الله فرجه)، سواءً بطباعة ونشر الكُتُب المختصَّة به (عجَّل الله فرجه)، أو إقامة الندوات العلميَّة التخصُّصيَّة في الإمام (عجَّل الله فرجه) ونشرها في كُتيِّبات أو من خلال شبكة الانترنيت، ومن جملة نشاطات هذا المركز نشر سلسلة التراث المهدويِّ، ويتضمَّن تحقيق ونشر الكُتُب المؤلَّفة في الإمام المهديِّ (عجَّل الله فرجه)، من أجل إغناء الثقافة المهدويَّة، ورفداً للمكتبة الإسلاميَّة الشيعيَّة.
نسأله (عزَّ من مسؤول) أنْ يأخذ بأيدينا، وأنْ يُبارك في جهودنا ومساعينا، وأنْ يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، والحمد لله ربِّ العالمين.
والكتاب الذي بين يدي القارئ المحترم ألَّفه الشيخ النوري (قدّس سرّه) كاستدراك لما ورد في البحار الشريف للعلَّامة المجلسي (قدّس سرّه)، وقد انتزعناه من هناك لنُقدِّمه ككتابٍ مستقلٍّ لعُشَّاق الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(7) قال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «النجوم أمان لأهل السماء فإذا ذهبت ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض». كمال الدِّين (ص 235/ باب 21/ ح 19).
(8) راجع: كمال الدِّين (ص 470/ باب 43/ ح 8).

(٦)

تنبيه:
لـمَّا كانت بعض القَصص والحكايات المذكورة في الكتاب لا تنسجم مع التحليل العلمي والسندي، لذا قمنا بالتعليق عليها، وتركنا البعض الآخر في بقعة الإمكان، إذ إنَّ الهدف الأساس من كتابة مثل هذه الحكاياة هو إيجاد الارتباط الروحي والقلبي مع المولى صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه)، فليس من الضروري معاملة هذه الحكايات على أساس البحث السندي الدقيق المتَّبع في أروقة الحوزة العلميَّة والمناهج الدراسيَّة، إذ إنَّ المتحصَّل الإجمالي من هذه الحكايات وغيرها العشرات بل المئات هو حصول العلم الإجمالي بوقوع أمثال هذه اللقاءات في عصر الغيبة الكبرى، وهذا ما يفيدنا في هذا الباب، وليس المهمُّ تحقيق صحَّة كلِّ قضيَّة وواقعة.

مدير المركز
السيِّد محمّد القبانچي

(٧)

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلِّف:
الحمد لله الذي أنار قلوب أوليائه بضياء معرفة وليِّه المحجوب عن الأبصار، وشرح صدور أحبَّائه بنور محبَّة صفيِّه المستور عن الأغيار، علا صنعه المتقن عن أنْ يتطرَّق إليه توهُّم العبث والجهالة، وحاشا قضاؤه المحكم أنْ يترك العباد في تيه الضلالة.
والصلاة على البشير النذير والسراج المنير، صاحب المقام المحمود والحوض المورود واللواء المعقود، أوَّل العدد الحميد المحمود الأحمد أبي القاسم محمّد، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين الهادين الأنجبين، خصوصاً على عنقاء قاف القدم القائم فوق مرقاة الهِمَم، الاسم الأعظم الإلهي الحاوي للعلم الغير المتناهي، قطب رحى الوجود ومركز دائرة الشهود، كمال النشأة ومنشأ الكمال، جمال الجمع ومجمع الجمال، المتوشِّح(9) بالأنوار الإلهيَّة المربَّى تحت أستار الربوبيَّة، مطلع الأنوار المصطفويَّة ومنبع الأسرار المرتضويَّة، ناموس(10) الله الأكبر وغاية نوع البشر، أبي الوقت ومربِّي الزمان الذي هو للحقِّ أمين وللخلق أمان، ناظم المناظم الحجَّة القائم، ولعنة الله على أعدائهم والمنكرين لشرف مقامهم إلى يوم يُدعى كلُّ أُناس بإمامهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9) في النسخة: (المترشِّح)، إلَّا أنْ يُراد المترشِّح من الأنوار الإلهيَّة.
(10) في النسخة: (ناموس ناموس)، وهو خطأ.

(٩)

وبعد فيقول العبد المذنب المسيء حسين بن محمّد تقي النوري الطبرسي نوَّر الله بصيرته برؤية إمامه، وجعله نصب عينيه في يقظته ومنامه:
إنِّي منذ هاجرت ثانياً من المشهد المقدَّس الغروي، وأسكنت ذرّيَّتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيت الحجَّة القائم المهدي (عليه آلاف السلام والتحيَّة من الله المَلِك العليِّ) مشهد والده وجدِّه (عليهما السلام) ومغيبه لما أراد الله إنفاذ أمره وإنجاز وعده، أكثر البلاد موطئاً للحُجَج بعد طيبة وأُمِّ القرى، وأفضلها عندهم لطيب الهواء وقلَّة الداء وعذوبة الماء، الممدوح بلسان الهادي (عليه السلام): «وأُخرجت إليها كرهاً، ولو أُخرجت عنها أُخرجت كرهاً»(11). المدعو تارةً بسامرَّا، وأُخرى بسُرَّ من رأى، طهَّرها الله تعالى من الأرجاس، وجعلها شاغرة عن أشباه الناس، كان يختلج في خاطري، ويتردَّد في خلدي أنْ أبتغي وسيلة بقدر الوسع والميسور إلى صاحب هذا القصر المشيد والبيت المعمور، فلم أهتدِ إلى ذلك المرام سبيلاً، ولم أجد لما أتمنَّاه هادياً ولا دليلاً. فمضى على ذلك عشر سنين، فقلت: يا نفس، هذا والله هو الخسران المبين إنْ كنتِ لا تجدين ما يليق عرضه على هذا السلطان العظيم القدر والشان، فلا تُقصِّرين عن قبرة أهدى جرادة إلى سليمان، وهو بمقام من الرأفة والكرم، لا يحوم حوله نبيٌّ ولا رسول من الروح إلى آدم، فكيف بغيره من طبقات الأُمَم، يقبل البضاعة ولو كانت مزجاة، ويتأسَّى بجدِّه الأطهر في إجابة الدعوات، ولو إلى كراع شاة.
فبينما أنا بين اليأس والطمع والصبر والجزع، إذ وقع في خاطري أنَّه قد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11) إشارة إلى ما روي عنه (عليه السلام) أنَّه قال يوماً لأبي موسى من أصحابه: «أُخرجت إلى سُرَّ من رأى كرهاً، ولو أُخرجت عنها أُخرجت كرهاً»، قال: قلت: ولِـمَ يا سيِّدي؟ فقال: «لطيب هوائها، وعذوبة مائها، وقلَّة دائها»، ثمّ قال: «تُخرَب سُرَّ من رأى حتَّى يكون فيها خان وقفاً للمارَّة، وعلامة خرابها تدارك العمارة في مشهدي بعدي». راجع: مناقب آل أبي طالب (ج 4/ ص 417).

(١٠)

سقط عن قلم العلَّامة المجلسي (رضوان الله عليه) في باب من رآه (عليه السلام) في الغيبة من المجلَّد الثالث عشر من (البحار)، جماعة فازوا بشرف اللقاء، وحازوا السبق الأعلى والقدح المعلَّى، فلو ضبط أساميهم الشريفة، ونقل قَصصهم الطريفة، وغيرهم من الأبرار الذين نالوا المنى بعد صاحب البحار، فيكون كالمستدرك للباب المذكور، والمتمِّم لإثبات هذا المهمّ المسطور، لما قصر شأنه من الجرادة والكراع، فعسى أنْ يكون سبباً للقرب إلى حضرته ولو بشبر، فيقرب إلى المتقرِّب إليه بباع أو ألف ذراع.
فاستخرت الله تعالى وشرعت في المقصود مع قلَّة الأسباب، وألحقت بمن أدرك فيض حضوره الشريف من وقف على معجزة منه (عليه السلام) أو أثر يدلُّ على وجوده المقدَّس الذي هو من أكبر الآيات وأعظم المعاجز، لاتِّحاد الغرض ووحدة المقصود، ثمّ ما رأيته في كُتُب أصحابنا فنشير إلى مأخذه ومؤلِّفه، وما سمعته فلا أنقل منه إلَّا ما تلقَّيته من العلماء الراسخين، ونواميس الشرع المبين، أو من الصلحاء الثقات الذين بلغوا من الزهد والتقوى والسداد محلًّا لا يُحتَمل فيهم عادةً تعمُّد الكذب والخطأ، بل سمعنا أو رأينا من بعضهم من الكرامات ما تُنبئ عن علوِّ مقامهم عند السادات، وقد كنَّا ذكرنا جملة من ذلك متفرِّقاً في كتابنا (دار السلام)، ونذكر هنا ما فيه وما عثرنا عليه بعد تأليفه، وسمَّيته (جنَّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، أو معجزته في الغيبة الكبرى).
ولم نذكر ما هو موجود في (البحار)، حذراً من التطويل والتكرار، وها نحن نشرع في المرام، بعون الله المَلِك العلَّام، وإعانة السادات الكرام، عليهم آلاف التحيَّة والسلام.

* * *

(١١)

الحكاية الأولى: [قصَّة محمود الفارسي]

حدَّث السيِّد المعظَّم المبجَّل، بهاء الدِّين عليُّ بن عبد الحميد الحسيني النجفي النيلي المعاصر للشهيد الأوَّل في كتاب (الغيبة)، عن الشيخ العالم الكامل القدوة المقرئ الحافظ المحمود الحاجّ المعتمر شمس الحقِّ والدِّين محمّد بن قارون، قال: دُعيت إلى امرأة، فأتيتها وأنا أعلم أنَّها مؤمنة من أهل الخير والصلاح، فزوَّجها أهلها من محمود الفارسي المعروف بأخي بكر، ويقال له ولأقاربه: بنو بكر، وأهل فارس مشهورون بشدَّة التسنُّن والنصب والعداوة لأهل الإيمان، وكان محمود هذا أشدّهم في الباب، وقد وفَّقه الله تعالى للتشيُّع دون أصحابه.
فقلت لها: وا عجباه، كيف سمح أبوكِ بكِ وجعلك مع هؤلاء النواصب؟ وكيف اتَّفق لزوجكِ مخالفة أهله حتَّى يرفضهم(12)؟
فقالت: يا أيُّها المقرئ إنَّ له حكاية عجيبة إذا سمعها أهل الأدب حكموا أنَّها من العجب.
قلت: وما هي؟
فقالت: سَلْه عنها سيُخبرك.
قال الشيخ: فلمَّا حضرنا عنده قلت له: يا محمود، ما الذي أخرجك عن ملَّة أهلك، وأدخلك مع الشيعة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(12) في النسخة: (ترفضهم).

(١٥)

فقال: يا شيخ، لـمَّا اتَّضح لي الحقُّ تبعته، اعلم أنَّه قد جرت عادة أهل الفرس(13) أنَّهم إذا سمعوا بورود القوافل عليهم خرجوا يتلقَّونهم، فاتَّفق أنَّا سمعنا بورود قافلة كبيرة، فخرجت ومعي صبيان كثيرون وأنا إذ ذاك صبيٌّ مراهق، فاجتهدنا في طلب القافلة بجهلنا، ولم نُفكِّر في عاقبة الأمر، وصرنا كلَّما انقطع منَّا صبيٌّ من التعب خلُّوه إلى الضعف، فضللنا عن الطريق، ووقعنا في وادٍ لم نكن نعرفه، وفيه شوك، وشجر ودغل، لم نرَ مثله قطُّ، فأخذنا في السير حتَّى عجزنا وتدلَّت ألسنتنا على صدورنا من العطش، فأيقنَّا بالموت، وسقطنا لوجوهنا.
فبينما نحن كذلك إذا بفارس على فرس أبيض، قد نزل قريباً منَّا، وطرح مفرشاً لطيفاً لم نرَ مثله، تفوح منه رائحة طيِّبة، فالتفتنا إليه وإذا بفارس آخر على فرس أحمر عليه ثياب بيض، وعلى رأسه عمامة لها ذؤابتان، فنزل على ذلك المفرش، ثمّ قام فصلَّى بصاحبه، ثمّ جلس للتعقيب، فالتفت إليَّ وقال: يا محمود!
فقلت بصوت ضعيف: لبَّيك يا سيِّدي.
قال: ادن منِّي.
فقلت: لا أستطيع(14) لما بي من العطش والتعب.
قال: لا بأس عليك.
فلمَّا قالها حسبت كأنْ قد حدث في نفسي روح متجدِّدة، فسعيت إليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13) الظاهر أنَّه بالفتح، موضع للهذيل أو بلد من بلدانهم، كما في القاموس. (منه (رحمه الله)).
أقول: بل هو بالضمِّ، لما سبق قبل أسطر من قوله: (وأهل فارس مشهورون بشدَّة التسنُّن والنصب والعداوة).
[الظاهر أنَّها بالفتح، وتوجد حاليًّا منطقة بين بغداد وسامرَّاء تُعرَف بهذا الاسم، والظاهر أنَّها المقصودة].
(14) هذا هو الظاهر، والنسخة: (لم أستطع). (منه (رحمه الله)).

(١٦)

حبواً، فمرَّ(15) يده على وجهي وصدري ورفعها إلى حنكي فردَّه حتَّى لصق بالحنك الأعلى ودخل لساني في فمي، وذهب ما بي، وعدت كما كنت أوَّلاً.
فقال: قم وائتني بحنظلة من هذا الحنظل.
وكان في الوادي حنظل كثير، فأتيته بحنظلة كبيرة، فقسمها نصفين، وناولنيها، وقال: كُلْ منها، فأخذتها منه.
ولم أقدم على مخالفته، وعندي(16) أمرني(17) أنْ آكل الصَّبِر، لما أعهد من مرارة الحنظل، فلمَّا ذقتها فإذا هي أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحاً من المسك، شبعت ورويت.
ثمّ قال لي: ادع صاحبك.
فدعوته، فقال بلسان مكسور ضعيف: لا أقدر على الحركة.
فقال له: قم لا بأس عليك.
فأقبل إليه حبواً، وفعل معه كما فعل معي، ثمّ نهض ليركب، فقلنا: بالله عليك يا سيِّدنا إلَّا ما أتممت علينا نعمتك وأوصلتنا إلى أهلنا.
فقال: لا تعجلوا، وخطَّ حولنا برمحه خطَّة، وذهب هو وصاحبه.
فقلت لصاحبي: قم بنا حتَّى نقف بإزاء الجبل ونقع على الطريق، فقمنا وسرنا وإذا بحائط في وجوهنا، فأخذنا في غير تلك الجهة فإذا بحائط آخر، وهكذا من أربع جوانبنا.
فجلسنا وجعلنا نبكي على أنفسنا، ثمّ قلت لصاحبي: ائتنا من هذا الحنظل لنأكله، فأتى به فإذا هو أمرُّ من كلِّ شيء، وأقبح، فرمينا به، ثمّ لبثنا هنيئة وإذا قد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(15) فأمرَّ (ظ).
(16) أي وعندي من العقيدة والنظر أنَّه أمرني أنْ آكل الصَّبِر.
(17) هكذا في النسخة.

(١٧)

استدار من الوحش ما لا يعلم إلَّا الله عدده، وكلَّما أرادوا القرب منَّا منعهم ذلك الحائط، فإذا ذهبوا زال الحائط، وإذا عادوا عاد.
قال: فبتنا تلك الليلة آمنين حتَّى أصبحنا، وطلعت الشمس واشتدَّ الحرُّ وأخذنا العطش فجزعنا أشدّ الجزع، وإذا بالفارسين قد أقبلا وفعلا كما فعلا بالأمس، فلمَّا أرادا مفارقتنا قلنا له: بالله عليك إلَّا أوصلتنا إلى أهلنا.
فقال: أبشرا فسيأتيكما من يوصلكما إلى أهليكما.
ثمّ غابا. فلمَّا كان آخر النهار إذا برجل من فراسنا(18)، ومعه ثلاث أحمرة، قد أقبل ليحتطب، فلما رآنا ارتاع منَّا وانهزم، وترك حميره، فصحنا إليه باسمه، وتسمَّينا له فرجع، وقال: يا ويلكما، إنَّ أهاليكما قد أقاموا عزاءكما، قوما لا حاجة لي في الحطب.
فقمنا وركبنا تلك الأحمرة، فلمَّا قربنا من البلد، دخل أمامنا، وأخبر أهلنا، ففرحوا فرحاً شديداً، وأكرموه وخلعوا(19) عليه.
فلمَّا دخلنا إلى أهلنا سألونا عن حالنا، فحكينا لهم بما شاهدناه، فكذَّبونا، وقالوا: هو تخييل لكم من العطش.
قال محمود: ثمّ أنساني الدهر حتَّى كأنْ لم يكن، ولم يبقَ على خاطري شيء منه حتَّى بلغت عشرين سنة، وتزوَّجت وصرت أخرج في المكاراة، ولم يكن في أهلي أشدّ منِّي نصباً لأهل الإيمان، سيّما زوَّار الأئمَّة (عليهم السلام) بسُرَّ من رأى، فكنت أكريهم الدوابَّ بالقصد لأذيَّتهم بكلِّ ما أقدر عليه من السرقة وغيرها، وأعتقد أنَّ ذلك ممَّا يُقرِّبني إلى الله تعالى.
فاتَّفق أنِّي كريت دوابِّي مرَّة لقوم من أهل الحلَّة، وكانوا قادمين إلى الزيارة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18) هكذا في النسخة.
(19) في النسخة: (وأخلعوا).

(١٨)

منهم ابن السهيلي وابن عرفة وابن حارب وابن الزهدري، وغيرهم من أهل الصلاح، ومضيت إلى بغداد، وهم يعرفون ما أنا عليه من العناد، فلمَّا خلوا بي من الطريق وقد امتلاؤا عليَّ غيظاً وحنقاً لم يتركوا شيئاً من القبيح إلَّا فعلوه بي وأنا ساكت لا أقدر عليهم لكثرتهم، فلمَّا دخلنا بغداد ذهبوا إلى الجانب الغربي فنزلوا هناك، وقد امتلأ فؤادي حنقاً.
فلمَّا جاء أصحابي قمت إليهم، ولطمت على وجهي وبكيت، فقالوا: ما لك؟ وما دهاك؟ فحكيت لهم ما جرى عليَّ من أُولئك القوم، فأخذوا في سبِّهم ولعنهم، وقالوا: طب نفساً فإنَّا نجتمع معهم في الطريق إذا خرجوا، ونصنع بهم أعظم ممَّا صنعوا.
فلمَّا جنَّ الليل، أدركتني السعادة، فقلت في نفسي: إنَّ هؤلاء الرفضة لا يرجعون عن دينهم، بل غيرهم إذا زهد يرجع إليهم، فما ذلك إلَّا لأنَّ الحقَّ معهم، فبقيت مفكِّراً في ذلك، وسألت ربِّي بنبيِّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنْ يريني في ليلتي علامة أستدلُّ بها على الحقِّ الذي فرضه الله تعالى على عباده.
فأخذني النوم، فإذا أنا بالجنَّة قد زُخْرِفَت، فإذا فيها أشجار عظيمة، مختلفة الألوان والثمار، ليست مثل أشجار الدنيا، لأنَّ أغصانها مدلاة، وعروقها إلى فوق، ورأيت أربعة أنهار: من خمر، ولبن، وعسل، وماء، وهي تجري وليس لها جرف(20) بحيث لو أرادت النملة أنْ تشرب منها لشربت، ورأيت نساء حسنة الأشكال، ورأيت قوماً يأكلون من تلك الثمار، ويشربون من تلك الأنهار، وأنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(20) الجرف بالضمِّ وبضمَّتين ما تجرفته السيول، وأكلته من الأرض، ومنه المثل: (فلان يبني على جرف هار، لا يدري ما ليل من نهار)، وجمعه أجرف، ويقال للجانب الذي أكله الماء من حاشية النهر أيضاً، أو هو بضمَّتين، فكأنَّه أراد أنَّ تلك الأنهار كان لها جداول مستوية وكانت المياه تجري فيها مملوءة، بحيث لو أرادت النملة أنْ تشرب منها لشربت، ولم تقع فيها.

(١٩)

لا أقدر على ذلك، فكلَّما أردت أنْ أتناول من الثمار تصعد إلى فوق، وكلَّما هممت أنْ أشرب من تلك الأنهار تغور إلى تحت، فقلت للقوم: ما بالكم تأكلون وتشربون وأنا لا أُطيق ذلك؟
فقالوا: إنَّك لم تأتِ(21) إلينا بعد.
فبينا أنا كذلك وإذا بفوج عظيم.
فقلت: ما الخبر؟
فقالوا: سيِّدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد أقبلت، فنظرت فإذا بأفواج من الملائكة على أحسن هيأة، ينزلون من الهواء إلى الأرض، وهم حافُّون بها، فلمَّا دنت وإذا بالفارس الذي قد خلَّصنا من العطش بإطعامه لنا الحنظل قائماً بين يدي فاطمة (عليها السلام)، فلمَّا رأيته عرفته، وذكرت تلك الحكاية، وسمعت القوم يقولون: هذا (م ح م د) بن الحسن القائم المنتظر، فقام الناس وسلَّموا على فاطمة (عليها السلام).
فقمت أنا وقلت: السلام عليكِ يا بنتِ رسول الله.
فقالت: وعليك السلام يا محمود، أنت الذي خلَّصك ولدي هذا من العطش؟
فقلت: نعم، يا سيِّدتي.
فقالت: إنْ دخلت مع شيعتنا أفلحت.
فقلت: أنا داخل في دينكِ ودين شيعتكِ، مقرٌّ بإمامة من مضى من بنيكِ، ومن بقي منهم.
فقالت: أبشر فقد فزت.
قال محمود: فانتبهت وأنا أبكي، وقد ذهل عقلي ممَّا رأيت، فانزعج أصحابي لبكائي، وظنُّوا أنَّه ممَّا حكيت لهم، فقالوا: طب نفساً فوَالله لننتقمنَّ من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(21) في النسخة: (لا تأتي).

(٢٠)

الرفضة، فسكتُ عنهم حتَّى سكتوا، وسمعت المؤذِّن يُعلِن بالأذان، فقمت إلى الجانب الغربي ودخلت منزل أُولئك الزوَّار، فسلَّمت عليهم.
فقالوا: لا أهلاً ولا سهلاً، اخرج عنَّا لا بارك الله فيك.
فقلت: إنِّي قد عدت معكم، ودخلت عليكم لتُعلِّموني معالم ديني، فبهتوا من كلامي.
وقال بعضهم: كذب، وقال آخرون: جاز أنْ يصدق. فسألوني عن سبب ذلك، فحكيت لهم ما رأيت، فقالوا: إنْ صدقت فإنَّا ذاهبون إلى مشهد الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فامض معنا حتَّى نُشيِّعك هناك.
فقلت: سمعاً وطاعةً.
وجعلت أُقبِّل أيديهم وأقدامهم، وحملت أخراجهم وأنا أدعو لهم حتَّى وصلنا إلى الحضرة الشريفة، فاستقبلنا الخُدَّام، ومعهم رجل علوي كان أكبرهم، فسلَّموا على الزوَّار، فقالوا له: افتح لنا الباب حتَّى نزور سيِّدنا ومولانا، فقال: حبًّا وكرامةً، ولكن معكم شخص يريد أنْ يتشيَّع، ورأيته في منامي واقفاً بين يدي سيِّدتي فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها)، فقالت لي: يأتيك غداً رجل يريد أنْ يتشيَّع، فافتح له الباب قبل كلِّ أحد، ولو رأيته الآن لعرفته.
فنظر القوم بعضهم إلى بعض متعجِّبين، فقالوا: فشرع ينظر إلى واحد واحد، فقال: الله أكبر، هذا والله هو الرجل الذي رأيته.
ثمّ أخذ بيدي، فقال القوم: صدقت يا سيِّد وبررت، وصدق هذا الرجل بما حكاه، واستبشروا بأجمعهم وحمدوا الله تعالى.
ثمّ إنَّه أدخلني الحضرة الشريفة، وشيَّعني، وتولَّيت وتبرَّيت.
فلمَّا تمَّ أمري قال العلوي: وسيِّدتك فاطمة تقول لك: سيلحقك بعض

(٢١)

حطام الدنيا فلا تحفل به، وسيخلفه الله عليك، وستحصل في مضايق فاستغث بنا تنجُ.
فقلت: السمع والطاعة، وكان لي فرس قيمتها مائتا دينار فماتت وخلف الله عليَّ مثلها وأضعافها، وأصابني مضايق فندبتهم ونجوت، وفرَّج الله عنِّي بهم، وأنا اليوم أُوالي من والاهم، وأُعادي من عاداهم، وأرجو بهم حسن العاقبة.
ثمّ إنِّي سعيت إلى رجل من الشيعة، فزوَّجني هذه المرأة، وتركت أهلي، فما قبلت أتزوَّج منهم.
وهذا ما حكا لي في تاريخ شهر رجب [سنة] ثمان وثمانين وسبعمائة هجريَّة، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة على محمّد وآله.

الحكاية الثانية: [مكاشفات للسيِّد ابن طاوس (قدّس سرّه)]

قال السيِّد الجليل صاحب المقامات الباهرة والكرامات الظاهرة رضي الدِّين عليُّ بن طاوس في كتاب (غياث سلطان الورى) على ما نقله عنه المحدِّث الأسترآبادي في (الفوائد المدنيَّة) في نسختين كانت إحداهما بخطِّ الفاضل الهندي، ما لفظه:
يقول عليُّ بن موسى بن جعفر بن طاوس: كنت قد توجَّهت أنا وأخي الصالح محمّد بن محمّد بن محمّد القاضي الآوي (ضاعف الله سعادته، وشرَّف خاتمته) من الحلَّة إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، في يوم الثلاثاء سابع عشر شهر جمادي الأُخرى سنة إحدى وأربعين وستّمائة، فاختار الله لنا المبيت بالقرية التي تُسمَّى: دورة بن سنجار، وبات أصحابنا

(٢٢)

ودوابُّنا في القرية، وتوجَّهنا منها أوائل نهار يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر المذكور، فوصلنا إلى مشهد مولانا عليٍّ (صلوات الله وسلامه عليه) قبل ظهر يوم الأربعاء المذكور، فزرنا، وجاء الليل في ليلة الخميس تاسع عشر جمادي الأُخرى المذكورة، فوجدت من نفسي إقبالاً على الله، وحضوراً وخيراً كثيراً، فشاهدت ما يدلُّ على القبول والعناية والرأفة وبلوغ المأمول والضيافة، فحدَّثني أخي الصالح محمّد بن محمّد الآوي (ضاعف الله سعادته) أنَّه رأى في تلك الليلة في منامه كأنَّ في يدي لقمة وأنا أقول له: هذه من فم مولانا المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد أعطيته بعضها.
فلمَّا كان سحر تلك الليلة، كنت على ما تفضَّل الله به من نافلة الليل، فلمَّا أصبحنا به من نهار الخميس المذكور، دخلت الحضرة حضرة مولانا عليٍّ (صلوات الله عليه) على عادتي، فورد عليَّ من فضل الله وإقباله والمكاشفة ما كدت أسقط على الأرض، ورجفت أعضائي وأقدامي، وارتعدت رعدة هائلة، على عوائد فضله عندي وعنايته لي، وما أراني من برِّه لي ورفدي، وأشرفت على الفناء ومفارقة دار الفناء والانتقال إلى دار البقاء، حتَّى حضر الجمال محمّد بن كنيلة، وأنا في تلك الحال، فسلَّم عليَّ، فعجزت عن مشاهدته، وعن النظر إليه، وإلى غيره، وما تحقَّقته، بل سألت عنه بعد ذلك، فعرَّفوني به تحقيقاً، وتجدَّدت في تلك الزيارة مكاشفات جليلة، و بشارات جميلة.
وحدَّثني أخي الصالح محمّد بن محمّد بن محمّد الآوي (ضاعف الله سعادته) بعدَّة بشارات رواها لي، منها أنَّه رأى كأنَّ شخصاً يقصُّ عليه في المنام مناماً، ويقول له: قد رأيت كأنَّ فلاناً - يعني عنِّي(22)، وكأنَّني كنت حاضراً لـمَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(22) قد تكرَّر في الحكاية قوله: (يعني عنَّي) وأمثاله، وهي من لغة أهل العراق المولِّدين، وكأنَّه يستعمل (يعني) بمعنى (يُكنِّي)، أي يُكنِّي بفلان عنِّي.

(٢٣)

كان المنام يُقَصُّ عليه - راكب فرساً، وأنت - يعني الأخ الصالح الآوي - وفارسان آخران قد صعدتم جميعاً إلى السماء.
قال: فقلت له: أنت تدري أحد الفارسين من هو؟
فقال صاحب المنام: في حال النوم لا أدري، فقلت أنت - يعني عنيِّ -: ذلك مولانا المهدي (صلوات الله وسلامه عليه).
وتوجَّهنا من هناك لزيارة أوَّل رجب بالحلَّة، فوصلنا ليلة الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة بحسب الاستخارة، فعرَّفني حسن بن البقلي يوم الجمعة المذكورة أنَّ شخصاً فيه صلاح يقال له: عبد المحسن، من أهل السواد قد حضر بالحلَّة، وذكر أنَّه قد لقيه مولانا المهدي (صلوات الله عليه) ظاهراً في اليقظة، وقد أرسله إلى عندي برسالة، فنفذت قاصداً وهو محفوظ بن قرا فحضرا ليلة السبت ثامن عشر من جمادي الآخرة المقدَّم ذكرها.
فخلوت بهذا الشيخ عبد المحسن فعرَّفته، فهو رجل صالح لا يشكُّ النفس في حديثه، ومستغنٍ عنَّا، وسألته، فذكر أنَّ أصله من حصن بشر، وأنَّه انتقل إلى الدولاب الذي بإزاء المحولة المعروفة بالمجاهديَّة، ويُعرَف الدولاب بابن أبي الحسن، وأنَّه مقيم هناك، وليس له عمل بالدولاب ولا زرع، ولكنَّه تاجر في شراء غليلات وغيرها، وأنَّه كان قد ابتاع غلَّة من ديوان السرائر وجاء ليقبضها، وبات عند المعيديَّة في المواضع المعروفة بالمحبر.
فلمَّا كان وقت السحر كره استعمال ماء المعيديَّة، فخرج بقصد النهر، والنهر في جهة المشرق، فما أحسَّ بنفسه إلَّا وهو في قل السلم، في طريق مشهد الحسين (عليه السلام)، في جهة المغرب، وكان ذلك ليلة الخميس تاسع عشر شهر جمادي الآخرة من سنة إحدى وأربعين وستّمائة التي تقدَّم شرح بعض ما تفضَّل الله عليَّ فيها وفي نهارها في خدمة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).

(٢٤)

فجلست أُريق ماءً، وإذا فارس عندي ما سمعت له حسًّا، ولا وجدت لفرسه حركةً ولا صوتاً، وكان القمر طالعاً، ولكن كان الضباب كثيراً(23).
فسألته عن الفارس وفرسه، فقال: كان لون فرسه صدءاً، وعليه ثياب بيض، وهو متحنِّك بعمامة ومتقلِّد بسيف.
فقال الفارس لهذا الشيخ عبد المحسن: كيف وقت الناس؟
قال عبد المحسن: فظننت أنَّه يسأل عن ذلك الوقت، قال: فقلت: الدنيا عليه ضباب وغبرة.
فقال: ما سألتك عن هذا، أنا سألتك عن حال الناس.
قال: فقلت: الناس طيِّبين مرخَّصين آمنين في أوطانهم وعلى أموالهم.
فقال: تمضي إلى ابن طاوس، وتقول له كذا وكذا، وذكر لي ما قال (صلوات الله عليه)، ثمّ قال عنه (عليه السلام): فالوقت قد دنا، فالوقت قد دنا.
قال عبد المحسن: فوقع في قلبي وعرفت نفسي أنَّه مولانا صاحب الزمان (عليه السلام)، فوقعت على وجهي، وبقيت كذلك مغشيًّا عليَّ إلى أنْ طلع الصبح، قلت له: فمن أين عرفت أنَّه قصد ابن طاوس عنَّي(24)؟
قال: ما أعرف من بني طاوس إلَّا أنت، وما في قلبي إلَّا أنَّه قصد بالرسالة إليك.
قلت: أيّ شيء فهمت بقوله (عليه السلام): فالوقت قد دنا فالوقت قد دنا؟ هل قصد وفاتي قد دنا، أم قد دنا وقت ظهوره (صلوات الله وسلامه عليه)؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(23) الضباب: ندى كالغبار يغشى الأرض، وقيل: سحاب رقيق كالدخان، يقال له بالفارسيَّة: (مِهْ).
(24) هكذا في النسخة، والصحيح: (قصدني عن ابن طاوس). (منه (رحمه الله)).
أقول: قد عرفت أنَّ ناقل الحكاية من أهل السواد، فإذا عدَّى (عنِّي) و(قصد) بـ (عن) الجارَّة يُضمِّنه معنى الكناية، كأنَّه قال: (كنَّى بابن طاوس عنِّي)، ومعناه على لغته ظاهر.

(٢٥)

فقال: بل قد دنا وقت ظهوره (صلوات الله عليه).
قال: فتوجَّهت ذلك الوقت(25) إلى مشهد الحسين (عليه السلام)، وعزمت أنَّني ألزم بيتي مدَّة حياتي أعبد الله تعالى، وندمت كيف ما سألته (صلوات الله عليه) عن أشياء كنت أشتهي أسأله فيها.
قلت له: هل عرَّفت بذلك أحداً؟
قال: نعم، عرَّفت بعض من كان عرف بخروجي من المعيديَّة، وتوهَّموا أنِّي قد ضللت وهلكت بتأخيري عنهم، واشتغالي بالغشية التي وجدتها، ولأنَّهم كانوا يروني طول ذلك النهار يوم الخميس في أثر الغشية التي لقيتها من خوفي منه (عليه السلام)، فوصَّيته أنْ لا يقول ذلك لأحد أبداً، وعرضت عليه شيئاً، فقال: أنا مستغنٍ عن الناس وبخير كثير.
فقمت أنا وهو، فلمَّا قام عنِّي نفذت له غطاءً، وبات عندنا في المجلس على باب الدار التي هي مسكني الآن بالحلَّة، فقمت وكنت أنا وهو في الروشن(26) في خلوة، فنزلت لأنام، فسألت الله زيادة كشف في المنام في تلك الليلة أراه أنا، فرأيت كأنَّ مولانا الصادق (عليه السلام) قد جاءني بهديَّة عظيمة، وهي عندي وكأنَّني ما أعرف قدرها، فاستيقظت وحمدت الله، وصعدت الروشن لصلاة نافلة الليل، وهي ليلة السبت ثامن عشر جمادي الآخرة، فأصعد فتح(27) الإبريق إلى عندي، فمددت يدي، فلزمت عروته لأُفرغ على كفِّي، فأمسك ماسك فم الإبريق وأداره عنِّي ومنعني من استعمال الماء في طهارة الصلاة، فقلت: لعلَّ الماء نجس،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(25) اليوم (خ).
(26) الروشن: أصلها فارسيَّة، قال الفيروزآبادي: (الروشن: الكوة)، لكن المراد بقرينة ما بعده: الغرفة المشرفة.
(27) فتح: اسم غلامه. (منه (رحمه الله)).

(٢٦)

فأراد الله أنْ يصونني عنه، فإنَّ لله (عزَّ وجلَّ) عليَّ عوائد كثيرة أحدها مثل هذا وأعرفها، فناديت إلى فتح، وقلت: من أين ملأت الإبريق؟ فقال: من المصبَّة(28)، فقلت: هذا لعلَّه نجس، فاقلبه وطهِّره(29)(30) واملأه من الشطِّ، فمضى وقلبه وأنا أسمع صوت الإبريق وشطفه، وملأه من الشطِّ وجاء به، فلزمت عروته وشرعت أقلب منه على كفِّي، فأمسك ماسك فم الإبريق وأداره عنِّي ومنعني منه.
فعدت وصبرت، ودعوت بدعوات، وعاودت الإبريق وجرى مثل ذلك، فعرفت أنَّ هذا منع لي من صلاة الليل تلك الليلة، وقلت في خاطري: لعلَّ الله يريد أنْ يجري عليَّ حكماً وابتلاءً غداً ولا يريد أنْ أدعو الليلة في السلامة من ذلك، وجلست لا يخطر بقلبي غير ذلك. فنمت وأنا جالس، وإذا برجل يقول لي - يعني عبد المحسن الذي جاء بالرسالة -: كأنَّه ينبغي أنْ تمشي بين يديه، فاستيقظت ووقع في خاطري أنَّني قد قصَّرت في احترامه وإكرامه، فتبت إلى الله (جلَّ جلاله)، واعتمدت ما يعتمد التائب من مثل ذلك، وشرعت في الطهارة، فلم يُمسَك أبداً [فم] الإبريق وتُرِكْتُ على عادتي، فتطهَّرت وصلَّيت ركعتين، فطلع الفجر، فقضيت نافلة الليل، وفهمت أنَّني ما قمت بحقِّ هذه الرسالة. فنزلت إلى الشيخ عبد المحسن، وتلقَّيته وأكرمته، وأخذت له من خاصَّتي ستانير(31) ومن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(28) في الأصل المطبوع: (المسبَّة) بالسين، وهو تصحيف.
(29) في نسخة الفاضل الهندي: (فاشطفه)، وهو الأصحّ لغةً، وبقرينة ما يأتي. (منه (رحمه الله)).
أقول: الشطف: الغسل، وهي لغة سواد أهل العراق، ليست بأصيلة.
(30) في النسخة: (واطهره).
(31) ستانير، كذا في النُّسَخ، والظاهر أنَّه مخفَّف (ستَّة دنانير)، كذا بخط المؤلِّف (رحمه الله).
أقول: بل هو مقطوع به، لما يأتي بعده من التصريح بذلك، وهو مثل قولهم: (ستِّي) مخفَّف (سيِّدتي).

(٢٧)

غير خاصَّتي خمسة عشر ديناراً ممَّا كنت أحكم فيه كمالي(32)، وخلوت به في الروشن، وعرضت ذلك عليه، واعتذرت إليه، فامتنع من قبول شيء أصلاً.
وقال: إنَّ معي نحو مائة دينار، وما آخذ شيئاً، اعطه لمن هو فقير، وامتنع غاية الامتناع.
فقلت: إنَّ رسول مثله (عليه الصلاة والسلام) يُعطى لأجل الإكرام لمن أرسله لا لأجل فقره وغناه، فامتنع، فقلت له: مبارك، أمَّا الخمسة عشر فهي من غير خاصَّتي، فلا أُكرهك على قبولها، وأمَّا هذه الستَّة دنانير فهي من خاصَّتي فلا بدَّ أنْ تقبلها منِّي، فكاد أنْ يؤيسني من قبولها، فألزمته فأخذها وعاد تركها، فألزمته فأخذها، وتغدَّيت أنا وهو، ومشيت بين يديه كما أُمرت في المنام إلى ظاهر الدار، وأوصيته بالكتمان.
والحمد لله، وصلَّى الله على سيِّد المرسَلين محمّد وآله الطاهرين.

الحكاية الثالثة: [مُدُن يحكمها أبناء الحجَّة (عجَّل الله فرجه)]

في آخر كتاب في التعازي عن آل محمّد (عليهم السلام) ووفاة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) تأليف الشريف الزاهد أبي عبد الله محمّد بن عليِّ بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي الحسيني (رضي الله عنه)، عن الأجلّ العالم الحافظ حجَّة الإسلام سعيد بن أحمد بن الرضي، عن الشيخ الأجلّ المقرئ خطير الدِّين حمزة بن المسيّب بن الحارث، أنَّه حكى في داري بالظفريَّة بمدينة السلام في ثامن عشر شهر شعبان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، قال: حدَّثني شيخي العالم ابن أبي القاسم(33) عثمان بن عبد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(32) أي مثل مالي.
(33) كذا في نسخة كشكول المحدِّث البحراني. (منه (رحمه الله)).

(٢٨)

الباقي بن أحمد الدمشقي في سابع عشر جمادى الآخرة من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، قال: حدَّثني الأجلّ العالم الحجَّة كمال الدِّين أحمد بن محمّد بن يحيى الأنباري بداره بمدينة السلام ليلة عاشر شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، قال:
كنَّا عند الوزير عون الدِّين يحيى بن هبيرة في رمضان بالسنة المقدَّم ذكرها، ونحن على طبقة، وعنده جماعة، فلمَّا أفطر من كان حاضراً وتقوَّض(34) أكثر من حضر خاصراً(35)، أردنا الانصراف، فأمرنا بالتمسِّي عنده، فكان في مجلسه في تلك الليلة شخص لا أعرفه، ولم أكن رأيته من قبل، ورأيت الوزير يُكثِر إكرامه، ويُقرِّب مجلسه، ويصغي إليه، ويسمع قوله، دون الحاضرين. فتجارينا الحديث والمذاكرة، حتَّى أمسينا وأردنا الانصراف، فعرَّفنا بعض أصحاب الوزير أنَّ الغيث ينزل، وأنَّه يمنع من يريد الخروج، فأشار الوزير أنْ نُمسي عنده، فأخذنا نتحادث، فأفضى الحديث حتَّى تحادثنا في الأديان والمذاهب ورجعنا إلى دين الإسلام، وتفرُّق المذاهب فيه.
فقال الوزير: أقلّ طائفة مذهب الشيعة، وما يمكن أنْ يكون أكثر منهم في خطَّتنا هذه، وهم الأقلّ من أهلها، وأخذ يذمُّ أحوالهم، ويحمد الله على قتلهم في أقاصي الأرض.
فالتفت الشخص الذي كان الوزير مقبلاً عليه، مصغياً إليه، فقال له: أدام الله أيَّامك أحدث بما عندي فيما قد تفاوضتم فيه أو أعرض عنه، فصمت الوزير، ثمّ قال: قل ما عندك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(34) يقال: تقوَّض الحلق والصفوف: انتقضت وتفرَّقت.
(35) في الأصل المطبوع: (من حضر حاضراً)، وهو تصحيف، والصحيح ما في الصلب، ومعناه أنَّه قام أكثر أهل المجلس وكلٌّ منهم وضع يده على خاصرته، من طول الجلوس وكسالته.

(٢٩)

فقال: خرجت مع والدي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، من مدينتنا وهي المعروفة بالباهيَّة، ولها الرستاق الذي يعرفه التُّجَّار، وعدَّة ضياعها ألف ومائتا ضيعة، في كلِّ ضيعة من الخلق ما لا يُحصي عددهم إلَّا الله، وهم قوم نصارى، وجميع الجزائر التي كانت حولهم، على دينهم ومذهبهم، ومسير بلادهم وجزائرهم مدَّة شهرين، وبينهم وبين البرِّ مسير عشرين يوماً، وكلُّ من في البرِّ من الأعراب وغيرهم نصارى وتتَّصل بالحبشة والنوبة، وكلُّهم نصارى، ويتَّصل بالبربر، وهم على دينهم، فإنَّ حدَّ هذا كان بقدر كلِّ من في الأرض، ولم نضف إليهم الإفرنج والروم. وغير خفي عنكم من بالشام والعراق والحجاز من النصارى.
واتَّفق أنَّنا سرنا في البحر، وأوغلنا، وتعدَّينا الجهات التي كنَّا نصل إليها، ورغبنا في المكاسب ولم نزل على ذلك حتَّى صرنا إلى جزائر عظيمة كثيرة الأشجار، مليحة الجدران فيها المُدُن الملدودة(36) والرساتيق.
وأوَّل مدينة وصلنا إليها وأُرسي المراكب بها، وقد سألنا الناخداه: أيّ شيء هذه الجزيرة؟
قال: والله إنَّ هذه جزيرة لم أصل إليها ولا أعرفها، وأنا وأنتم في معرفتها سواء.
فلمَّا أرسينا بها، وصعد التُّجَّار إلى مشرعة تلك المدينة، وسألنا ما اسمها؟ فقيل: هي المباركة.
فسألنا عن سلطانهم وما اسمه.
فقالوا: اسمه الطاهر.
فقلنا: وأين سرير مملكته؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(36) الملدودة: معناها أنَّ تلك المُدُن قد جُعِلَت فيها لديدة كثيرة: وهي الروضة الخضراء الزهراء.

(٣٠)

فقيل: بالزاهرة.
فقلنا: وأين الزاهرة؟
فقالوا: بينكم وبينها مسيرة عشر ليال في البحر، وخمس وعشرين ليلة في البرِّ، وهم قوم مسلمون.
فقلنا: من يقبض زكاة ما في المركب لنشرع في البيع والابتياع؟
فقالوا: تحضرون عند نائب السلطان.
فقلنا: وأين أعوانه؟
فقالوا: لا أعوان له، بل هو في داره، وكلُّ من عليه حقٌّ يحضر عنده، فيُسلِّمه إليه.
فتعجَّبنا من ذلك، وقلنا: ألَا تدلُّونا عليه؟
فقالوا: بلى.
وجاء معنا من أدخلنا داره، فرأيناه رجلاً صالحاً عليه عباءة، وتحته عباءة وهو مفترشها، وبين يديه دواة يكتب منها من كتاب ينظر إليه، فسلَّمنا عليه فردَّ علينا السلام وحيَّانا، وقال: من أين أقبلتم؟
فقلنا: من أرض كذا وكذا، فقال: كلُّكم؟
فقلنا: لا، بل فينا المسلم واليهودي والنصراني.
فقال: يزن اليهودي جزيته، والنصراني جزيته، ويناظر المسلم عن مذهبه.
فوزن والدي عن خمس نفر نصارى: عنه، وعنِّي، وعن ثلاثة نفر كانوا معنا، ثمّ وزن تسعة نفر كانوا يهوداً، وقال للباقين: هاتوا مذاهبكم، فشرعوا معه في مذاهبهم.
فقال: لستم مسلمين، وإنَّما أنتم خوارج، وأموالكم محلٌّ للمسلم المؤمن،

(٣١)

وليس بمسلم من لم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر وبالوصيِّ والأوصياء من ذرّيَّته حتَّى مولانا صاحب الزمان (صلوات الله عليهم).
فضاقت بهم الأرض، ولم يبقَ إلَّا أخذ أموالهم، ثمّ قال لنا: يا أهل الكتاب، لا معارضة لكم فيما معكم، حيث أُخذت الجزية منكم، فلمَّا عرف أُولئك أنَّ أموالهم معرَّضة للنهب، سألوه أنْ يحتملهم إلى سلطانهم، فأجاب سؤالهم، وتلا: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42].
فقلنا للناخداه والربَّان(37) وهو الدليل: هؤلاء قوم قد عاشرناهم وصاروا رفقة، وما يحسن لنا أنْ نتخلَّف عنهم أينما يكونوا نكون معهم، حتَّى نعلم ما يستقرُّ حالهم عليه؟
فقال الربَّان: والله ما أعلم هذا البحر أين المسير فيه، فاستأجرنا ربَّاناً ورجالاً، وقلعنا القلع(38)، وسرنا ثلاثة عشر يوماً بلياليها حتَّى كان قبل طلوع الفجر، فكبَّر الربَّان، فقال: هذه والله أعلام الزاهرة ومنائرها وجدرها، إنَّها قد بانت، فسرنا حتَّى تضاحى النهار.
فقَدِمنا إلى مدينة لم ترَ العيون أحسن منها، ولا أحقّ(39) على القلب، ولا أرقّ من نسيمها، ولا أطيب من هوائها، ولا أعذب من مائها، وهي راكبة البحر، على جبل من صخر أبيض كأنَّه لون الفضَّة، وعليها سور إلى ما يلي البحر، والبحر يحوط الذي يليه منها، والأنهار منحرفة في وسطها يشرب منها أهل الدور والأسواق، وتأخذ منها الحمامات وفواضل الأنهار تُرمى في البحر، ومدى الأنهار فرسخ ونصف، وفي تحت ذلك الجبل بساتين المدينة وأشجارها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(37) الناخدا، مأخوذ من الفارسيَّة، ومعناه معروف. والرُّبَّان كرُمَّان: رئيس الملاحين.
(38) القلع: شراع السفينة، وقلعنا: أي رفعنا وأصلحنا الشراع لتسير السفينة.
(39) أخفّ (خ).

(٣٢)

ومزارعها عند العيون، وأثمار تلك الأشجار لا يُرى أطيب منها ولا أعذب، ويرعى الذئب والنعجة عياناً، ولو قصد قاصد لتخلية دابَّة في زرع غيره لمارعته، ولا قطعت قطعة حمله، ولقد شاهدت السباع والهوامَّ رابضة في غيض تلك المدينة، وبنو آدم يمرُّون عليها فلا تُؤذِيهم.
فلمَّا قَدِمنا المدينة وأرسى المركب فيها، وما كان صحبنا من الشوابي والذوابيح من المباركة بشريعة الزاهرة، صعدنا فرأينا مدينة عظيمة عيناء كثيرة الخلق، وسيعة الربقة، وفيها الأسواق الكثيرة، والمعاش العظيم، وترد إليها الخلق من البرِّ والبحر، وأهلها على أحسن قاعدة، لا يكون على وجه الأرض من الأُمَم والأديان مثلهم وأمانتهم، حتَّى إنَّ المتعيِّش بسوق يردُّه إليه من يبتاع منه حاجة إمَّا بالوزن أو بالذراع، فيبايعه عليها، ثمّ يقول: أيا هذا زن لنفسك واذرع لنفسك.
فهذه صورة مبايعاتهم، ولا يُسمَع بينهم لغو المقال، ولا السفه، ولا النميمة، ولا يسبُّ بعضهم بعضاً، وإذا نادى المؤذِّن الأذان لا يتخلَّف منهم متخلِّف ذكراً كان أو أُنثى إلَّا ويسعى إلى الصلاة، حتَّى إذا قُضِيَت الصلاة للوقت المفروض رجع كلٌّ منهم إلى بيته حتَّى يكون وقت الصلاة الأُخرى، فيكون الحال كما كانت.
فلمَّا وصلنا المدينة، وأرسينا بمشرعتها، أمرونا بالحضور إلى عند السلطان، فحضرنا داره، ودخلنا إليه إلى بستان صور في وسطه قبَّة من قصب، والسلطان في تلك القبَّة، وعنده جماعة، وفي باب القبَّة ساقية تجري.
فوافينا القبَّة، وقد أقام المؤذِّن الصلاة، فلم يكن أسرع من أنْ امتلأ البستان بالناس، وأُقيمت الصلاة، فصلَّى بهم جماعةً، فلا والله لم تنظر عيني أخضع منه لله، ولا ألين جانباً لرعيَّته، فصلَّى من صلَّى مأموماً.

(٣٣)

فلمَّا قُضِيَت الصلاة التفت إلينا وقال: هؤلاء القادمون؟
قلنا: نعم، وكانت تحيَّة الناس له أو مخاطبتهم له: (يا ابن صاحب الأمر).
فقال: على خير مقدم.
ثمّ قال: أنتم تُجَّار أو ضياف؟
فقلنا: تُجَّار.
فقال: من منكم المسلم، ومن منكم أهل الكتاب؟
فعرَّفناه ذلك؟
فقال: إنَّ الإسلام تفرَّق شُعَباً، فمن أيِّ قبيل أنتم؟
وكان معنا شخص يُعرَف بالمقري ابن دربهان بن أحمد(40) الأهوازي، يزعم أنَّه على مذهب الشافعي، فقال له: أنا رجل شافعي.
قال: فمن على مذهبك من الجماعة؟
قال: كلُّنا إلَّا هذا حسَّان بن غيث فإنَّه رجل مالكي.
فقال: أنت تقول بالإجماع؟
قال: نعم.
قال: إذاً تعمل بالقياس.
ثمّ قال: بالله يا شافعي تلوت ما أنزل الله يوم المباهلة؟
قال: نعم.
قال: ما هو؟
قال قوله تعالى: ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 61].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(40) اسمه دربهان بن أحمد، كذا في كشكول الشيخ يوسف البحريني. (منه (رحمه الله)).

(٣٤)

فقال: بالله عليك مَنْ أبناء الرسول؟ ومَنْ نساؤه؟ ومَنْ نفسه يا بن دربهان؟
فأمسك.
فقال: بالله هل بلغك أنَّ غير الرسول والوصيِّ والبتول والسبطين دخل تحت الكساء؟
قال: لا.
فقال: والله لم تنزل هذه الآية إلَّا فيهم، ولا خُصَّ بها سواهم.
ثمّ قال: بالله عليك يا شافعي ما تقول فيمن طهَّره الله بالدليل القاطع، هل يُنجِّسه المختلفون؟
قال: لا.
قال: بالله عليك هل تلوت: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33]؟
قال: نعم.
قال: بالله عليك مَنْ يعني بذلك؟
فأمسك، فقال: والله ما عنى بها إلَّا أهلها.
ثمّ بسط لسانه وتحدَّث بحديث أمضى من السهام، وأقطع من الحسام، فقطع الشافعي ووافقه، فقام عند ذلك فقال: عفواً يا ابن صاحب الأمر انسب إليَّ نسبك.
فقال: أنا طاهر بن محمّد بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليٍّ الذي أنزل الله فيه: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12]، هو والله الإمام المبين، ونحن الذين أنزل الله في حقِّنا: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 34].

(٣٥)

يا شافعي، نحن أهل البيت، نحن ذرّيَّة الرسول، ونحن أُولو الأمر، فخرَّ الشافعي مغشيًّا عليه لما سمع منه، ثمّ أفاق من غشيته وآمن به، وقال: الحمد لله الذي منحني بالإسلام، ونقلني من التقليد إلى اليقين.
ثمّ أمر لنا بإقامة الضيافة، فبقينا على ذلك ثمانية أيَّام، ولم يبقَ في المدينة إلَّا من جاء إلينا وحادثنا، فلمَّا انقضت الأيَّام الثمانية سأله أهل المدينة أنْ يقوموا لنا بالضيافة، ففتح لهم في ذلك، فكثرت علينا الأطعمة والفواكه، وعُمِلَت لنا الولائم، ولبثنا في تلك المدينة سنة كاملة، فعلمنا وتحقَّقنا أنَّ تلك المدينة مسيرة شهرين كاملة برًّا وبحراً.
وبعدها مدينة اسمها الرائقة، سلطانها القاسم بن صاحب الأمر (عليه السلام)، مسيرة ملكها شهرين، وهي على تلك القاعدة، ولها دخل عظيم.
وبعدها مدينة اسمها الصافية، سلطانها إبراهيم بن صاحب الأمر (عليه السلام) بالحكام(41).
وبعدها مدينة أُخرى اسمها ظلوم، سلطانها عبد الرحمن بن صاحب الأمر (عليه السلام)، مسيرة رستاقها وضياعها شهران.
وبعدها مدينة أُخرى اسمها عناطيس، سلطانها هاشم بن صاحب الأمر (عليه السلام)، وهي أعظم المُدُن كلِّها، وأكبرها، وأعظم دخلاً، ومسيرة ملكها أربعة أشهر.
فيكون مسيرة المُدُن الخمس والمملكة مقدار سنة، لا يوجد في أهل تلك الخطط والمُدُن والضياع والجزائر غير المؤمن الشيعي الموحِّد القائل بالبراءة والولاية، الذي يقيم الصلاة، ويُؤتي الزكاة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، سلاطينهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(41) هكذا في النسخة.

(٣٦)

أولاد إمامهم، يحكمون بالعدل وبه يأمرون، وليس على وجه الأرض مثلهم، ولو جُمِعَ أهل الدنيا لكانوا أكثر عدداً منهم على اختلاف الأديان والمذاهب.
ولقد أقمنا عندهم سنة كاملة نترقَّب ورود صاحب الأمر إليهم، لأنَّهم زعموا أنَّها سنة وروده، فلم يُوفِّقنا الله تعالى للنظر إليه، فأمَّا ابن دربهان وحسَّان فإنَّهما أقاما بالزاهرة يرقبان رؤيته، وقد كنَّا لـمَّا استكثرنا هذه المُدُن وأهلها سألنا عنها، فقيل: إنَّها عمارة صاحب الأمر (عليه السلام) واستخراجه.
فلمَّا سمع عون الدِّين ذلك نهض ودخل حجرة لطيفة، وقد تقضَّى الليل، فأمر بإحضارنا واحداً واحداً، وقال: إيَّاكم إعادة ما سمعتم أو إجراءه على ألفاظكم، وشدَّده وتأكَّد علينا، فخرجنا من عنده ولم يعد أحد منَّا ممَّا سمعه حرفاً واحداً حتَّى هلك.
وكنَّا إذا حضرنا موضعاً واجتمع واحدنا بصاحبه، قال: أتذكر شهر رمضان؟ فيقول: نعم، ستراً لحال الشرط.
فهذا ما سمعته ورويته، والحمد لله وحده، وصلواته على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين، والحمد لله ربّش العالمين.
قلت: وروى هذه الحكاية مختصراً الشيخ زين الدِّين عليُّ بن يونس العاملي البياضي في الفصل الخامس عشر من الباب الحادي عشر من كتاب (الصراط المستقيم)، وهو أحسن كتاب صُنِّف في الإمامة، عن كمال الدِّين الأنباري... إلخ، وهو صاحب رسالة (الباب المفتوح إلى ما قيل في النفس والروح) التي نقلها العلَّامة المجلسي بتمامها في (السماء والعالم).
وقال السيِّد الأجلُّ عليُّ بن طاوس في أواخر كتاب (جمال الأُسبوع)، وهو الجزء الرابع من السمات والمهمَّات بعد سوقه الصلوات المهدويَّة المعروفة التي أوَّلها: «اللَّهُمَّ صلِّ على محمّد المنتجب في الميثاق»، وفي آخرها: «وصلِّ على وليِّك

(٣٧)

وولاة عهدك والأئمَّة من ولده، وزد في أعمارهم، وزد في آجالهم، وبلِّغهم أقصى آمالهم ديناً ودنياً وآخرة...» إلخ.
والدعاء الآخر مروي عن الرضا (عليه السلام) يُدعى به في الغيبة، أوَّله: «اللَّهُمَّ ادفع عن وليِّك»، وفي آخره: «اللَّهُمَّ صلِّ على ولاة عهدك في الأئمَّة من بعده...» إلخ.
قال - بعد كلام له في شرح هذه الفقرة - ما لفظه: (ووجدت رواية متَّصلة الإسناد بأنَّ للمهدي (صلوات الله عليه) أولاد جماعة ولاة في أطراف بلاد البحر، على غاية عظيمة من صفات الأبرار)، والظاهر بل المقطوع أنَّه إشارة إلى هذه الرواية. والله العالم.
ورواه أيضاً السيِّد الجليل عليُّ بن عبد الحميد النيلي في كتاب (السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان)، عن الشيخ الأجلّ الأمجد الحافظ حجَّة الإسلام سعيد الدِّين رضي البغدادي، عن الشيخ الأجلّ خطير الدِّين حمزة بن الحارث بمدينة السلام... إلخ(42).
ورواه المحدِّث الجزائري في (الأنوار)، عن المولى الفاضل الملقَّب بالرضا عليِّ بن فتح الله الكاشاني، قال: روى الشريف الزاهد...(43).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(42) انظر: المنتقى من السلطان المفرِّج لأهل الإيمان/ الحكاية الخامسة عشرة.
(43) تحقيق حول الحكاية:
تنبيه: حتَّى لا يخلو كتابنا هذا من فوائد جمَّة هي كالتتمَّة، لا بدَّ أنْ نُنبِّه القارئ اللبيب على عدَّة أُمور تتعلَّق بالحكاية، فمنها:
أوَّلاً: في أحوال راوي الحكاية:
قال السيِّد الشهيد محمّد عليّ القاضي الطباطبائي بعد هذه الحكاية ما نصُّه:
(ناقل هذه الحكاية لم يُعرَف شخصه ولم يُعلَم اسمه، فهو عندنا مجهول الحال، فلا يمكن الاعتماد ←

(٣٨)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

→ عليه، ولا على خبره والركون إليه، والعجب من هؤلاء الأخباريِّين كيف يعتمدون على تلك القَصص والحكايات الغريبة وينقلونها في كُتُبهم من غير لفت نظر إلى أغلاطها، ويُشوِّهون بها وجه الحقيقة في كُتُب الشيعة كما أنَّ أهل السُّنَّة شوَّهوا كُتُبهم بأخبار كعب الأحبار وأبي هريرة وأمثالهما ومن أقاصيص الوضَّاعين والدسَّاسين بحيث لا تُعَدُّ ولا تُحصى، ولو رمنا حصرها لأعيى القلم وأعقب السأم) انتهى. (الأنوار النعمانية: ج 2/ هامش ص 64).
وقال الشيخ محمّد تقي التستري صاحب (قاموس الرجال): (... وإنْ نقله النوري عن البياضي والنيلي والجزائري، ونقل إشارة عليِّ بن طاوس إليه إلَّا أنَّها كلَّها ينتهي إلى الأنباري، وأنَّه كان عند ابن هبيرة الوزير وحدَّثه (شخص) لم يعرفوه بذلك! فلو نقل ذلك عنه جميع بني آدم لما خرج عن كونه خبر رجل واحد شاذٍّ بلا شاهد) انتهى. (الأخبار الدخيلة: ج 1/ ص 148).
ثانياً: تحقيق حول تواريخ الحكاية:
أ - روى الحكاية سعيد بن أحمد الرضي عن خطير الدِّين أحمد بن المسيّب في (18) شعبان سنة (544هـ)، عن أبي القاسم عثمان الدمشقي في (17) جمادى الآخرة سنة (543هـ)، عن كمال الدِّين أحمد بن محمّد الأنباري في (10) شهر رمضان سنة (542هـ)، والتأريخ الأخير أورده النيلي في كتابه (المفرِّج...)، وهو الصحيح، وإلَّا أكثر الناقلين للحكاية كالسيِّد هاشم البحراني والسيِّد الجزائري والعلَّامة النوري وغيرهم صرَّحوا بأنَّ الأنباري سمعها في (10) رمضان سنة (543هـ)، وهذا اشتباه منهم، فإذا كان سمعها في رمضان سنة (543هـ) فكيف حدَّث الدمشقي في جمادى الآخرة سنة (543هـ)؟! والحال أنَّ شهر رمضان بعد شهر جمادى الآخرة بثلاثة شهور، فهذا الاشتباه في النقل لا يستقيم مع تواريخ الحكاية، ولعلَّه تصحيف، والصحيح ما أثبته النيلي من تاريخ للحكاية، أي في سنة (542هـ).
ب - أنَّ الوزير عون الدِّين ابن هبيرة استوزر للخليفة المقتفي لأمر الله سنة (544هـ)، وبعده استوزره الخليفة المستنجد إلى أنْ تُوفِّي الوزير في سنة (560هـ)، والحكاية واقعة في سنة (542هـ)، فإذن هذا التأريخ لا يستقيم مع تأريخ وزارة ابن هبيرة التي ابتدأها في سنة (544هـ).
جـ - أنَّ الأنباريَّ حدَّث بالحكاية بعد هلاك الوزير على ما نصَّه الأنباري في آخر الحكاية: (... فخرجنا من عنده ولم يعد أحد منَّا ممَّا سمعه حرفاً واحداً حتَّى هلك...)، والمعلوم أنَّ الوزير هلك في سنة (560هـ)، فينبغي أنْ يكون الأنباريُّ نقل هذه الحكاية بعد سنة (560هـ). ←

(٣٩)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

→ ثالثاً: الحكاية وصاحب كتاب (التعازي):
نسب عدَّة من علمائنا الأعلام هذه الحكاية إلى صاحب كتاب (التعازي)، وهذه النسبة مردودة لأمرين، وهما:
الأمر الأوَّل: أنَّ صاحب كتاب (التعازي) هو أبو عبد الله محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عبد الرحمن العلوي بن القاسم بن محمّد البطحائي بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام)، وهو من طبقة تلاميذ الصدوق المتوفَّى (381هـ)، له كتاب (التعازي)، وكتاب (فضل الكوفة)، وتوفَّى في سنة (445هـ). (طبقات أعلام الشيعة: ج 5/ ص 170).
فكيف يكون صاحب كتاب (التعازي) المتوفَّى في (445هـ) نقل حكاية في كتابه واقعة في (542هـ)؟!
فوقع في هذا الوهم عدَّة من الأعلام على ما صرَّحوا به في كُتُبهم، فمنهم:
1 - المقدَّس الأردبيلي (ت 993هـ) في كتابه حديقة الشيعة (ص 765/ انتشارات معارف إسلامي).
2 - الرضا عليُّ بن فتح الله الكاشاني على ما نقله عنه السيِّد نعمة الله الجزائري (ت 1112هـ) في كتابه الأنوار النعمانية (ج 2/ ص 58).
3 - السيِّد هاشم البحراني (ت 1107هـ) في كتابه تبصرة الوليِّ (ص 252/ تحقيق مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة).
4 - الميرزا حسين النوري (ت 1320هـ) في كتابه النجم الثاقب (ج 2/ ص 58/ ترجمة وتحقيق السيِّد ياسين الموسوي/ الحكاية الثانية)، وكتابه جنة المأوى (ص 213/ المطبوع مع البحار ج 53/ الحكاية الثالثة).
5 - الشيخ آقا بزرك الطهراني في كتابه الذريعة (ج 4/ ص 205)، ثمّ صرَّح في (ج 5/ ص 106) بعدم صحَّة هذه النسبة.
6 - الشيخ حُسين الشاكري في كتابه موسوعة المصطفى والعترة (ج 17/ ص 203 و220)/ نشر الهادي/ قم).
وغيرهم من الأعلام، ولعلَّ هذا الاشتباه حصل من أنَّ أحد رواة كتاب (التعازي) دوَّن الحكاية في آخر كتاب (التعازي) فنُسِبَت بعده إلى صاحب كتاب (التعازي)، ونسخة العلَّامة النوري (رحمه الله) من كتاب (التعازي) على ما صرَّح به تلميذه آقا بزرك الطهراني في الذريعة (ج 4/ ص 205) مستنسخة من الخزانة الرضويَّة، وطريق الرواية عن مؤلِّفه هكذا: (أخبرني الشيخ الجليل العفيف ←

(٤٠)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

→ أبو العبَّاس أحمد بن الحسين بن وجه المجاور قراءةً عليه في داره بمشهد مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في شهر الله سنة إحدى وسبعين وخمسمائة (لعلَّ هذا هو كاتب الحكاية في نسخة كتاب التعازي)، قال: حدَّثنا الشيخ الأجلّ الأمير أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن شهريار الخازن بالغريِّ في ربيع الأوَّل سنة ستّ عشرة وخمسمائة، قال: حدَّثنا الشريف النقيب أبو الحسين زيد بن ناصر الحسيني (رحمه الله) في شوَّال سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة بمشهد أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: حدَّثنا الشريف أبو عبد الله محمّد بن عليِّ بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي، عن عليِّ بن العبَّاس البجليِّ...) إلى آخر السند. (أوردت سند الكتاب لفائدة ثانية أيضاً حتَّى يُعرَف الفرق بين تأريخ رواية الكتاب عن المؤلِّف وتاريخ الحكاية).
الأمر الثاني: أنَّ موضوع كتاب (التعازي) هو ما يتعلَّق بالتعزية والتسلية عند فقد الأحبَّة والأولاد، مبتدئاً بذكر وفاة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما جرى عليه عند موت أولاده...، وليس للحكاية علاقة بموضوع الكتاب بتاتاً.
رابعاً: الخلط بين حكاية المدائن الخمس وحكاية الجزيرة الخضراء:
اشتبه على الكثير في الردِّ على حكاية الجزيرة الخضراء الواقعة في سنة (699هـ) وبين هذه الحكاية الواقعة في سنة (542هـ)، فمن أراد التفصيل فليراجع كتاب الجزيرة الخضراء وقضيَّة مثلَّث برمودا للشيخ ناجي النجَّار (ط دار البلاغة).
خامساً: ناقلو الحكاية:
غير من ذكرنا في الفقرة الثالثة:
1 - السيِّد ابن طاوس (ت 664هـ) في كتابه (جمال الأُسبوع) على ما صرَّح به العلَّامة النوري في مستدرك الوسائل (ج 3/ ص 70) وذكرها السيِّد بالإشارة.
2 - زين الدِّين محمّد عليّ بن يونس البياضي (ت 877هـ) في كتابه الصراط المستقيم (ج 2/ ص 265/ فصل 15/ ط المكتبة الرضويَّة).
3 - السيِّد نعمة الله الجزائري (ت 1112هـ) في كتابه الأنوار النعمانيَّة (ج 2/ ص 58).
وأخيراً: قال الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة (ج 5/ ص 106): (... لا يمكن أنْ يكون داعي العلماء من إدراجه في كُتُبهم المعتمدة بيان لزوم الاعتماد عليها أو الحكم بصحَّتها مثلاً أو جعل الاعتقاد بصدقها واجباً، حاشاهم عن ذلك، بل إنَّما غرضهم من نقل هذه الحكايات مجرَّد الاستيناس بذكر الحبيب وذكر دياره والاستماع لآثاره مع ما فيها من رفع الاستبعاد عن حياته في دار الدنيا وبقائه متنعِّماً فيها في أحسن عيش وأفره حال، بل مع السلطنة والملك له ولأولاده واستقرارهم في ممالك واسعة هيَّأ الله لهم لا يصل إليها من لم يرد الله وصوله، وقد احتفظ العلماء بتلك الحكايات في قبال المستهزئين بالدِّين بقولهم: (لِـمَ لا يخرج جليس السرداب بعد ألف سنة؟ وكيف تمتُّعه بالدنيا؟ وما أكله وشربه ولبسه وغيرها من لوازم حياته؟)، وهم بذلك القول يبرهنون على ضعف عقولهم، فمن كان عاقلاً مؤمناً بالله ورسوله وكتابه يكفيه في إثبات قدرة الله تعالى على تهيئة جميع الأسباب المعيشيَّة في حياة الدنيا له (عليه السلام)).

(٤١)

الحكاية الرابعة: [السيِّد رضي الدِّين الآوي ودعاء العبرات]

قال آية الله العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) في آخر (منهاج الصلاح في دعاء العبرات): الدعاء المعروف وهو مرويٌّ عن الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، وله من جهة السيِّد السعيد رضي الدِّين محمّد بن محمّد بن محمّد الآوي (قدّس سرّه) حكاية معروفة بخطِّ بعض الفضلاء في هامش ذلك الموضع:
روى المولى السعيد فخر الدِّين محمّد بن الشيخ الأجلّ جمال الدِّين، عن والده، عن جدِّه الفقيه يوسف، عن السيِّد الرضي المذكور أنَّه كان مأخوذاً عند أمير من أُمراء السلطان جرماغون مدَّة طويلة مع شدَّة وضيق، فرأى في نومه الخلف الصالح المنتظر، فبكى وقال: يا مولاي، اشفع في خلاصي من هؤلاء الظلمة.
فقال (عليه السلام): ادع بدعاء العبرات.
فقال: ما دعاء العبرات؟
فقال (عليه السلام): إنَّه في مصباحك.
فقال: يا مولاي، ما في مصباحي؟
فقال (عليه السلام): انظره تجده، فانتبه من منامه، وصلَّى الصبح، وفتح المصباح، فلقي ورقة مكتوبة فيها هذا الدعاء بين أوراق الكتاب، فدعا أربعين مرَّة.

(٤٢)

وكان لهذا الأمير امرأتان إحداهما عاقلة مدبِّرة في أُموره، وهو كثير الاعتماد عليها، فجاء الأمير في نوبتها، فقالت له: أخذت أحداً من أولاد أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)؟
فقال لها: لِـمَ تسألين عن ذلك؟
فقالت: رأيت شخصاً وكأنَّ نور الشمس يتلألأ من وجهه، فأخذ بحلقي بين إصبعيه، ثمّ قال: أرى بعلكِ أخذ ولدي، ويُضيِّق عليه من المطعم والمشرب.
فقلت له: يا سيِّدي، من أنت؟
قال: أنا عليُّ بن أبي طالب، قولي له: إنْ لم يخل عنه لأخربنَّ بيته.
فشاع هذا النوم للسلطان، فقال: ما أعلم ذلك.
وطلب نوَّابه، فقال: من عندكم مأخوذ؟
فقالوا: الشيخ العلوي، أمرت بأخذه.
فقال: خلُّوا سبيله، وأعطوه فرساً يركبها، ودلُّوه على الطريق، فمضى إلى بيته. انتهى.
وقال السيِّد الأجلّ عليُّ بن طاوس في آخر (مهج الدعوات): ومن ذلك ما حدَّثني به صديقي والمواخي لي محمّد بن محمّد القاضي الآوي ضاعف الله (جلَّ جلاله) سعادته وشرَّف خاتمته، وذكر له حديثاً عجيباً وسبباً غريباً، وهو أنَّه كان قد حدث له حادثة، فوجد هذا الدعاء في أوراق لم يجعله فيها بين كُتُبه، فنسخ منه نسخة، فلمَّا نسخه فقد الأصل الذي كان قد وجده...، إلى أنْ ذكر الدعاء وذكر له نسخة أُخرى من طريق آخر تخالفه.
ونحن نذكر النسخة الأُولى تيمُّناً بلفظ السيِّد، فإنَّ بين ما ذكره ونقل العلَّامة أيضاً اختلافاً شديداً، وهي:

(٤٣)

بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ
اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا رَاحِمَ اَلْعَبَرَاتِ، وَيَا كَاشِفَ اَلْكُرُبَاتِ، أَنْتَ اَلَّذِي تَقْشَعُ سَحَائِبَ اَلْمِحَنِ وَقَدْ أَمْسَتْ ثِقَالاً، وَتَجْلُو ضَبَابَ اَلْإِحَنِ وَقَدْ سَحَبَتْ أَذْيَالاً، وَتَجْعَلُ زَرْعَهَا هَشِيماً، وَعِظَامَهَا رَمِيماً، وَتَرُدُّ اَلمَغْلُوبَ غَالِباً، وَاَلمَطْلُوبَ طَالِباً، إِلَهِي فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ نَادَاكَ: إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْتَ لَهُ مِنْ نَصْرِكَ أَبْوَابَ اَلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْتَ لَهُ مِنْ عَوْنِكَ عُيُوناً، فَالْتَقَى مَاءُ فَرَجِهِ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْتَهُ مِنْ كِفَايَتِكَ عَلى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ.
يَا رَبِّ إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، يَا رَبِّ إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، يَا رَبِّ إِنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاِفْتَحْ لِي مِنْ نَصْرِكَ أَبْوابَ اَلسَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجِّرْ لِي مِنْ عُيُونِكَ لِيَلْتَقِيَ مَاءُ فَرَجِي عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَاِحْمِلْنِي يَا رَبِّ مِنْ كِفَايَتِكَ عَلى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ.
يَا مَنْ إِذَا وَلَجَ اَلْعَبْدُ فِي لَيْلٍ مِنْ حَيْرَتِهِ يَهِيمُ، وَلَمْ يَجِدْ صَرِيخاً يَصْرُخُهُ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا حَمِيمٍ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَجَدَ يَا رَبِّ مِنْ مَعُونَتِكَ صَرِيخاً مُعِيناً وَوَلِيًّا يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، يُنَجِّيهِ مِنْ ضِيقِ أَمْرِهِ وَحَرَجِهِ، وَيُظْهِرُ لَهُ اَلمُهِمَّ مِنْ أَعْلَامِ فَرَجِهِ.
اَللَّهُمَّ فَيَا مَنْ قُدْرَتُهُ قَاهِرَةٌ، وَآيَاتُهُ بَاهِرَةٌ، وَنَقِمَاتُهُ قَاصِمَةٌ لِكُلِّ جُبَارٍ، دَامِغَةٌ لِكُلِّ كَفَوْرٍ خَتَّارٍ، صَلِّ يَا رَبِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاُنْظُرْ إِلَيَّ يَا رَبِّ نَظْرَةً مِنَ نَظَرَاتِكَ رَحِيمَةً، تَجْلُو بِهَا عَنِّي ظُلْمَةً وَاقِفَةً مُقِيمَةً، مِنْ عَاهَةٍ جَفَّتْ مِنْهَا اَلضُّرُوعُ، وَقَلَفَتْ(44) مِنْهَا اَلزُّرُوعُ، وَاِشْتَمَلَ بِهَا عَلَى اَلْقُلُوبِ اَلْيَأْسُ، وَجَرَتْ بِسَبَبِهَا اَلْأَنْفَاسُ.
اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَ[أَسْأَلُكَ] حِفْظاً حِفْظاً لِغَرَائِسَ غَرَسَتْهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(44) يريد أنَّها يبست حتَّى تقشَّر لحاؤها وانتشر عنها.

(٤٤)

يَدُ اَلرَّحْمَنِ، وَشِرْبُهَا مِنْ مَاءِ اَلْحَيَوَانِ، أَنْ تَكُونَ بِيَدِ اَلشَّيْطَانِ تُجَزُّ، وَبِفَأْسِهِ تُقْطَعُ وَتُحَزُّ.
إِلَهِي مَنْ أَوْلَى مِنْكَ أَنْ يَكُونَ عَنْ حِمَاكَ حَارِساً وَمَانِعاً، إِلَهِي إِنَّ اَلْأَمْرَ قَدْ هَالَ فَهَوِّنْهُ، وَخَشُنَ فَأَلِنْهُ، وَإِنَّ اَلْقُلُوبَ كَاعَتْ(45) فَطَمِّنْهَا، وَاَلنُّفُوسَ اِرْتَاعَتْ فَسَكِّنْهَا.
إِلَهِي تَدَارَكْ أَقْدَاماً قَدْ زَلَّتْ، وَأَفْهَاماً فِي مَهَامِهِ(46) اَلْحَيْرَةِ ضَلَّتْ، أَجْحَفَ اَلضُّرُّ بِالمَضْرُورِ فِي دَاعِيَةِ اَلْوَيْلِ وَاَلثُّبُورِ، فَهَلْ يَحْسُنُ مِنْ فَضْلِكَ أَنْ تَجْعَلَهُ فَرِيسَةَ اَلْبَلاَءِ وَهُوَ لَكَ رَاجٍ، أَمْ هَلْ يَحْمُلُ مِنْ عَدْلِكَ أَنْ يَخُوضَ لُجَّةَ اَلْغمَاءِ وَهُوَ إِلَيْكَ لَاجٍ.
مَوْلَايَ لَئِنْ كُنْتُ لَا أَشُقُّ عَلَى نَفْسِي فِي اَلتُّقَى، وَلَا أَبْلُغُ فِي حَمْلِ أَعْبَاءِ اَلطَّاعَةِ مَبْلَغَ اَلرِّضَا، وَلَا أَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ قَوْمٍ رَفَضُوا اَلدُّنْيَا، فَهُمْ خُمْصُ اَلْبُطُونِ [مِنَ اَلطَّوَى]، عُمْشُ اَلْعُيُونِ مِنَ اَلْبُكَاءِ، بَلْ أَتَيْتُكَ يَا رَبِّ بِضَعْفٍ مِنَ اَلْعَمَلِ، وَظَهْرٍ ثَقِيلٍ بِالْخَطَاءِ وَاَلزَّلَل، وَنَفْسٍ لِلرَّاحَةِ مُعْتَادَةٍ، وَلِدَوَاعِي اَلتَّسْوِيفِ مُنْقَادَةٍ، أَمَا يَكْفِيكَ يَا رَبِّ وَسِيلَةً إِلَيْكَ وَذَرِيعَةً لَدَيْكَ أَنِّي لِأَوْلِيَائِكَ مُوَالٍ، وَفِي مَحَبَّتِكَ مُغَالٍ، أَمَا يَكْفِينِي أَنْ أَرُوحَ فِيهِمْ مَظْلُوماً، أَوْ أَغْدُوَ مَكْظُوماً، وَأَقْضِيَ بَعْدَ هُمُومٍ هُمُوماً، وَبَعْدَ وُجُومٍ وُجُوماً.
أَمَا عِنْدَكَ يَا رَبِّ بِهَذِهِ حُرْمَةٌ لَا تَضِيعُ، وَذِمَّةٌ بِأَدْنَاهَا يَقْتَنِعُ، فَلِمَ لَا تَمْنَعُنِي(47) يَا رَبِّ وَهَا أَنَا ذَا غَرِيقٌ، وَتَدَعُنِي بِنَارِ عَدُوِّكَ حَرِيقٌ، أَتَجْعَلُ أَوْلِيَاءَكَ لِأَعْدَائِكَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(45) رجل كع كاع، وهو الذي لا يمضي في عزم ولا حزم، وهو الناكص على عقبيه. (لسان العرب: ج 8/ ص 312).
(46) المَهْمَه البلدة القفر، المفازة والبرّيَّة القفر. (لسان العرب: ج 13/ ص 542).
(47) في النسخة: (يمنعني)، والصحيح ما أثبتناه.

(٤٥)

مَصَائِدَ، وَتُقَلِّدُهُمْ مِنْ خَسْفِهِمْ قَلاَئِدَ، وَأَنْتَ مَالِكُ نُفُوسِهِمْ لَوْ قَبَضْتَهَا جَمَدُوا، وَفِي قَبْضَتِكَ مَوَادُّ أَنْفَاسِهِمْ لَوْ قَطَعْتَهَا خَمَدُوا.
وَمَا يَمْنَعُكَ يَا رَبِّ أَنْ تَكُفَّ بَأْسَهُمْ، وَتَنْزِعَ عَنْهُمْ مِنْ حِفْظِكَ لِبَاسَهُمْ، وَتُعْرِيَهُمْ مِنْ سَلَامَةٍ بِهَا فِي أَرْضِكَ يَسْرَحُونَ، وَفِي مَيَدَانِ اَلْبَغْيِ عَلَى عِبَادِكَ يَمْرَحُونَ.
اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَدْرِكْنِي وَلَـمَّا يُدْرِكْنِي اَلْغَرَقُ، وَتَدَارَكْنِي وَلَـمَّا غَيَّبَ شَمْسِي اَلشَّفَقُ(48).
إِلَهِي كَمْ مِنْ [عَبْدٍ] خَائِفٍ اِلْتَجَأَ إِلَى سُلْطَانٍ فَآبَ عَنْهُ مَحْفُوفاً بِأَمْنٍ وَأَمَانٍ، أَفَأَقْصِدُ يَا رَبِّ بِأَعْظَمَ مِنْ سُلْطَانِكَ سُلْطَاناً، أَمْ أَوْسَعَ مِنْ إِحْسَانِكَ إِحْسَاناً، أَمْ أَكْثَرَ مِنِ اِقْتِدَارِكَ اِقْتِدَاراً، أَمْ أَكْرَمَ مِنِ اِنْتِصَارِكَ اِنْتِصَاراً.
اَللَّهُمَّ أَيْنَ أَيْنَ كِفَايَتُكَ اَلَّتِي هِيَ نُصْرَةُ اَلمُسْتَغِيثِينَ مِنَ اَلْأَنَامِ، وَأَيْنَ عِنَايَتُكَ اَلَّتِي هِيَ جُنَّةُ اَلمُسْتَهْدَفِينَ لِجَوْرِ اَلْأَيَّامِ، إِلَيَّ إِلَيَّ بِهَا، يَا رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ، إِنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ اَلرَّاحِمِينَ.
مَوْلَايَ تَرَى تَحَيُّرِي فِي أَمْرِي، وَتَقَلُّبِي فِي ضُرِّي، وَاِنْطِوَايَ عَلَى حُرْقَةِ قَلْبِي وَحَرَارَةِ صَدْرِي، فَصَلِّ يَا رَبِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَجُدْ لِي يَا رَبِّ بِمَا أَنْتَ أَهْلُهُ فَرَجاً وَمَخْرَجاً، وَيَسِّرْ لِي يَا رَبِّ نَحْوَ اَلْيُسْرِ(49) مَنْهَجاً، وَاِجْعَلْ لِي يَا رَبِّ مَنْ نَصَبَ لِي حِبَالاً لِيَصْرَعَنِي بِهَا صَرِيعَ مَا مَكَرَهُ، وَمَنْ حَفَرَ لِي اَلْبِئْرَ لِيُوقِعَنِي فِيهَا وَاقِعاً فِيمَا حَفَرَهُ(50)، وَاِصْرِفِ اَللَّهُمَّ عَنِّي مِنْ شَرِّهِ وَمَكْرِهِ وَفَسَادِهِ وَضُرِّهِ مَا تَصْرِفُهُ عَمَّنْ قَادَ نَفْسَهُ لِدِينِ اَلدَّيَّانِ، وَمُنَادٍ يُنَادِي لِلْإِيمَانِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(48) في النسخة: (للشفق)، والصحيح ما أثبتناه من المصادر.
(49) في النسخة: (اليسرى)، والصحيح ما أثبتناه من المصادر.
(50) في بعض المصادر: (واجعل من ينصب الحبالة لي ليصرعني بها صريعاً فيما مكر، ومن يحفر لي البئر ليوقعني فيما حفر). انظر: صحيفة المهدي (ص 143).

(٤٦)

إِلَهِي عَبْدُكَ عَبْدُكَ، أَجِبْ دَعْوَتَهُ، وَضَعِيفُكَ ضَعِيفُكَ فَرِّجْ غُمَّتَهُ، فَقَدِ اِنْقَطَعَ كُلُّ حَبْلٍ إِلَّا حَبْلُكَ، وَتَقَلَّصَ كُلُّ ظِلٍّ إِلَّا ظِلُّكَ.
مَوْلَايَ دَعْوَتِي هَذِهِ إِنْ رَدَدْتَهَا أَيْنَ تُصَادِفُ مَوْضِعَ اَلْإِجَابَةِ، وَمَخِيلَتِي(51) إِنْ كَذَّبْتَهَا أَيْنَ تُلَاقِي مَوْضِعَ اَلْإِجَابَةِ، فَلاَ تَرُدَّ عَنْ بَابِكَ مَنْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ بَاباً، وَلَا يَمْتَنِعُ دُونَ جَنَابِكَ مَنْ لَا يَعْرِفُ سِوَاهُ جَنَاباً.
وَيَسْجُدُ وَيَقُولُ: إِلَهِي إِنَّ وَجْهاً إِلَيْكَ بِرَغْبَتِهِ تَوَجَّهَ فَاَلرَّاغِبُ خَلِيقٌ بِأَنْ تُجِيبَهُ، وَإِنَّ جَبِيناً لَكَ بِابْتِهَالِهِ سَجَدَ حَقِيقٌ أَنْ يَبْلُغَ مَا قَصَدَ، وَإِنَّ خَدًّا إِلَيْكَ(52) بِمَسْأَلَتِهِ يَعَفر(53) جَدِيرٌ بِأَنْ يَفُوزَ بِمُرَادِهِ وَيَظْفَرَ، وَهَا أَنَا ذَا يَا إِلَهِي قَدْ تَرَى تَعْفِيرَ خَدِّي(54) وَاِبْتِهَالِي وَاِجْتِهَادِي فِي مَسْأَلَتِكِ وَجَدِّي، فَتَلَّقَ(55) يَا رَبِّ رَغَبَاتِي بِرَأْفَتِكَ(56) قَبُولاً، وَسَهِّلْ إِلَيَّ طَلِبَاتِي بِرَأْفَتِكَ وُصُولاً، وَذَلِّلْ لِي قُطُوفَ ثَمَرَةِ إِجَابَتِكَ تَذْلِيلاً.
إِلَهِي لَا رُكْنَ أَشَدَّ مِنْكَ فَآوِيَ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَقَدْ أَوَيْتُ إِلَيْكَ وَعَوَّلْتُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِي عَلَيْكَ، وَلَا قَوْلٌ أَسَدُّ مِنْ دُعَائِكَ، فَأَسْتَظْهِرَ بِقَوْلٍ سَدِيدٍ، وَقَدْ دَعَوْتُكَ كَمَا أَمَرْتَ، فَاسْتَجِبْ لِي بِفَضْلِكَ كَمَا وَعَدْتَ، فَهَلْ بَقِيَ يَا رَبِّ إِلَّا أَنْ تُجِيبَ، وَتَرْحَمَ مِنِّي اَلْبُكَاءَ وَاَلنَّحِيبَ، يَا مَنْ لَا إِلَهَ سِوَاهُ، وَيَا مَنْ يُجِيبُ اَلمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ.
رَبِّ اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلظَّالِمِينَ، وَاِفْتَحْ لِي وَأَنْتَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ، وَاُلْطُفْ بِي يَا رَبِّ وَبِجَمِيعِ اَلمُؤْمِنِينَ وَاَلمُؤْمِنَاتِ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ(57).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(51)ب في النسخة: (ويجعلني)، والصحيح ما أثبتناه من المصادر.
(52) في الصحيفة المهديَّة (ص 146): (عندك).
(53) في الصحيفة المهديَّة (ص 146): (تعفر).
(54) في الصحيفة (ص 146): (وهذا يا إلهي تعفير خدِّي وابتهالي).
(55) في الصحيفة (ص 146): (فلق).
(56) في الصحيفة (ص 146): (برحمتك).
(57) هناك اختلاف في التعابير في روايات الدعاء.

(٤٧)

الحكاية الخامسة: [قصَّة الحاجّ عليّ المكّي]

في كتاب (الكَلِم الطيِّب والغيث الصيِّب) للسيِّد الأيد المتبحِّر السيِّد عليّ خان شارح الصحيفة ما لفظه:
رأيت بخطِّ بعض أصحابي من السادات الأجلَّاء الصلحاء الثقات ما صورته: سمعت في رجب سنة ثلاث وتسعين وألف الأخ العالم العامل جامع الكمالات الإنسيَّ والصفات القدسيَّة الأمير إسماعيل بن حسين بيك بن عليِّ بن سليمان الحائري الأنصاري أنار الله تعالى برهانه يقول: سمعت الشيخ الصالح التقي المتورِّع الشيخ الحاجّ عليًّا المكّي قال:
إنِّي ابتليت بضيق وشدَّة ومناقضة خصوم، حتَّى خفت على نفسي القتل والهلاك، فوجدت الدعاء المسطور بعد في جيبي من غير أنْ يعطينيه أحد، فتعجَّبت من ذلك، وكنت متحيِّراً، فرأيت في المنام أنَّ قائلاً في زيِّ الصلحاء والزُّهَّاد يقول لي: إنَّا أعطيناك الدعاء الفلاني فادع به تنج من الضيق والشدَّة، ولم يتبين لي من القائل، فزاد تعجُّبي، فرأيت مرَّة أُخرى الحجَّة المنتظر (عليه السلام)، فقال: ادع بالدعاء الذي أعطيتكه، وعلِّم من أردت.
قال: وقد جرَّبته مراراً عديدة، فرأيت فرجاً قريباً، وبعد مدَّة ضاع منِّي الدعاء برهة من الزمان، وكنت متأسِّفاً على فواته، مستغفراً من سوء العمل، فجاءني شخص وقال لي: إنَّ هذا الدعاء قد سقط منك في المكان الفلاني، وما كان في بالي أنْ رحت إلى ذلك المكان، فأخذت الدعاء، وسجدت لله شكراً، وهو:
بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ
رَبِّ أَسْأَلُكَ مَدَداً رُوحَانِيًّا تُقَوِّي بِهِ قِوَايَ(58) اَلْكُلِّيَّةِ وَاَلْجُزْئِيَّةِ، حَتَّى أَقْهِرَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(58) في النسخة: (قوى)، وما أثبتناه من المصادر.

(٤٨)

بِمَبَادِئ(59) نَفْسِي كُلَّ نَفْسٍ قَاهِرَة، فَتَنْقَبِضَ لِي إِشَارَةُ رَقَائِقِهَا(60) اِنْقِبَاضاً تَسْقُطُ بِهِ قُوَاهَا حَتَّى لَا يَبْقَى فِي اَلْكَوْنِ ذُو رُوحٍ إِلَّا وَنَارُ قَهْرِي قَدْ أَحْرَقَتْ ظُهُورَهُ، يَا شَدِيدُ يَا شَدِيدُ، يَا ذَا اَلْبَطْشِ اَلشَّدِيدِ، يَا قَهَّارُ، أَسْأَلُكَ بِمَا أَوْدَعْتَهُ عِزْرَائِيلَ مِنْ أَسْمَائِكَ اَلْقَهْرِيَّةِ، فَانْفَعَلَتْ لَهُ اَلنُّفُوسُ بِالْقَهْرِ، أَنْ تُودِعَنِي هَذَا اَلسِّرَّ فِي هَذِهِ اَلسَّاعَةِ حَتَّى أُلَيِّنَ بِهِ كُلَّ صَعْبٍ، وَأُذَلِّلَ بِهِ كُلَّ مَنِيعٍ، بِقُوَّتِكَ يَا ذَا اَلْقُوَّةِ اَلمَتِينَ.
تقرأ ذلك سحراً ثلاثاً إنْ أمكن، وفي الصبح ثلاثاً، وفي المساء ثلاثاً، فإذا اشتدَّت الأمر على من يقرأه يقول بعد قراءته ثلاثين مرَّة: يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ، يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ، أَسْأَلُكَ اَللُّطْفَ بِمَا جَرَتْ بِهِ اَلمَقَادِيرُ.

الحكاية السادسة: [دعاء عن الحجَّة (عجَّل الله فرجه) للشفاء من المرض]

الشيخ إبراهيم الكفعمي في كتاب (البلد الأمين) عن المهدي (عليه السلام): من كتب هذا الدعاء في إناء جديد بتربة الحسين (عليه السلام)، وغسله وشربه، شُفِيَ من علَّته:
بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ
بِسْمِ اَللهِ دَوَاءٌ، وَاَلْحَمْدُ لِلهِ شِفَاءٌ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ كِفَاءٌ، هُوَ اَلشَّافِي شِفَاءً، وَهُوَ اَلْكَافِي كِفَاءً، أُذْهِبُ اَلْبَأْسَ بِرَبِّ اَلنَّاسِ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُهُ سُقْمٌ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ اَلنُّجَبَاءِ.
ورأيت بخطِّ السيِّد زين الدِّين عليِّ بن الحسين الحسيني (رحمه الله) أنَّ هذا الدعاء تعلَّمه رجل كان مجاوراً بالحائر (على مشرِّفه السلام) [عن] المهدي(عليه السلام) في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(59) في النسخة: (عبادي)، وما أثبتناه من المصادر.
(60) في بعض المصادر: (دقائقها).

(٤٩)

منامه، وكان به علَّة فشكاها إلى القائم (عجَّل الله فرجه)، فأمره بكتابته وغسله وشربه، ففعل ذلك فبرأ في الحال.

الحكاية السابعة: [دعاء منسوب إليه (عجَّل الله فرجه) لدفع الظلم]

السيِّد الجليل عليُّ بن طاوس في (مهج الدعوات): وجدت في مجلَّد عتيق ذكر كاتبه أنَّ اسمه الحسين بن عليِّ بن هند، وأنَّه كتب في شوَّال سنة ستٍّ وتسعين وثلاثمائة دعاء العلوي المصري بما هذا لفظ إسناده:
دعاء علَّمه سيِّدنا المؤمَّل (صلوات الله عليه) رجلاً من شيعته وأهله في المنام، وكان مظلوماً ففرَّج الله عنه وقتل عدوَّه.
حدَّثني أبو عليٍّ أحمد بن محمّد بن الحسين وإسحاق بن جعفر بن محمّد العلوي العريضي بحرَّان، قال: حدَّثني محمّد بن عليٍّ العلوي الحسيني وكان يسكن بمصر، قال:
دهمني أمر عظيم وهمٌّ شديد من قِبَل صاحب مصر، فخشيته على نفسي، وكان سعى بي إلى أحمد بن طولون، فخرجت من مصر حاجًّا، فصرت من الحجاز إلى العراق، فقصدت مشهد مولانا وأبي(61) الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام) عائذاً به ولائذاً بقبره ومستجيراً به من سطوة من كنت أخافه، فأقمت بالحائر خمسة عشر يوماً أدعو وأتضرَّع ليلي ونهاري، فتراءى لي قيِّم الزمان (عليه السلام) ووليُّ الرحمن وأنا بين النائم واليقظان، فقال لي: يقول لك الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام): يا بنيَّ، خفت فلانا؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(61) في البحار (ج 51/ ص 307) لم يرد يذكر (وأبي).

(٥٠)

فقلت: نعم أراد هلاكي، فلجأت إلى سيِّدي (عليه السلام) أشكو إليه عظيم ما أراد بي.
فقال (عليه السلام): هلَّا دعوت الله ربَّك (عزَّ وجلَّ) وربَّ آبائك بالأدعية التي دعا بها من سلف من الأنبياء (عليهم السلام)؟ فقد كانوا في شدَّة فكشف الله عنهم ذلك.
قلت: وما ذا أدعوه؟
فقال (عليه السلام): إذا كان ليلة الجمعة فاغتسل وصلِّ صلاة الليل، فإذا سجدت سجدة الشكر دعوت بهذا الدعاء وأنت بارك على ركبتك، فذكر لي دعاءً.
قال: ورأيته في مثل ذلك الوقت يأتيني وأنا بين النائم واليقظان.
قال: وكان يأتيني خمس ليال متواليات يُكرِّر عليَّ هذا القول والدعاء حتَّى حفظته، وانقطع مجيئه ليلة الجمعة، فاغتسلت وغيَّرت ثيابي وتطيَّبت وصلَّيت صلاة الليل، وسجدت سجدة الشكر، وجثوت على ركبتي، ودعوت الله (جلَّ وتعالى) بهذا الدعاء، فأتاني ليلة السبت فقال لي: قد أُجيبت دعوتك يا محمّد، وقُتِلَ عدوُّك عند فراغك من الدعاء عند(62) من وشى به إليه.
فلمَّا أصبحت ودَّعت سيِّدي وخرجت متوجِّهاً إلى مصر، فلمَّا بلغت الأُردن وأنا متوجِّه إلى مصر رأيت رجلاً من جيراني بمصر وكان مؤمناً، فحدَّثني أنَّ خصمي قبض عليه أحمد بن طولون، فأمر به، فأصبح مذبوحاً من قفاه، قال: وذلك في ليلة الجمعة، فأمر به فطُرِحَ في النيل.
وكان فيما أخبرني جماعة من أهلينا وإخواننا الشيعة أنَّ ذلك كان فيما بلغهم عند فراغي من الدعاء كما أخبرني مولاي (صلوات الله عليه).
ثمّ ذكر له طريقاً آخر عن أبي الحسن عليِّ بن حمَّاد البصري، قال: أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمّد العلوي، قال: حدَّثني محمّد بن عليٍّ العلوي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(62) بيد من وشى (ط).

(٥١)

الحسيني المصري، قال: أصابني غمٌّ شديد، ودهمني أمر عظيم، من قِبَل رجل من أهل بلدي من ملوكه، فخشيته خشية لم أرج لنفسي منها مخلصاً.
فقصدت مشهد ساداتي وآبائي (صلوات الله عليهم) بالحائر، لائذاً بهم، عائذاً بقبرهم، ومستجيراً من عظيم سطوة من كنت أخافه، وأقمت بها خمسة عشر يوماً أدعو وأتضرَّع ليلاً ونهاراً، فتراءى لي قائم الزمان ووليُّ الرحمن (عليه وعلى آبائه أفضل التحيَّة والسلام)، فأتاني بين النائم واليقظان، فقال لي: يا بنيَّ خفت فلاناً؟
فقلت: نعم، أرادني بكيت وكيت، فالتجأت إلى ساداتي (عليهم السلام) أشكو إليهم ليُخلِّصوني منه.
فقال: هلَّا دعوت الله ربَّك وربَّ آبائك بالأدعية التي دعا بها أجدادي الأنبياء (صلوات الله عليهم) حيث كانوا في الشدَّة، فكشف الله (عزَّ وجلَّ) عنهم ذلك؟
قلت: وبماذا دعوه به لأدعوه؟
قال (عليه وعلى آبائه السلام): إذا كان ليلة الجمعة قم واغتسل وصلِّ صلواتك، فإذا فرغت من سجدة الشكر فقل وأنت بارك على ركبتيك، وادع بهذا الدعاء مبتهلاً.
قال: وكان يأتيني خمس ليالٍ متواليات يُكرِّر عليَّ القول وهذا الدعاء حتَّى حفظته، وانقطع مجيئه في ليلة الجمعة، فقمت واغتسلت وغيَّرت ثيابي وتطيَّبت وصلَّيت ما وجب عليَّ من صلاة الليل، وجثوت على ركبتي، فدعوت الله (عزَّ وجلَّ) بهذا الدعاء، فأتاني (عليه السلام) ليلة السبت كهيأته التي يأتيني فيها، فقال لي: قد أُجيبت دعوتك يا محمّد، وقُتِلَ عدوُّك، وأهلكه الله (عزَّ وجلَّ) عند فراغك من الدعاء.
قال: فلمَّا أصبحت لم يكن لي همٌّ غير وداع ساداتي (صلوات الله عليهم) والرحلة نحو المنزل الذي هربت منه، فلمَّا بلغت بعض الطريق إذا رسول

(٥٢)

أولادي وكُتُبهم بأنَّ الرجل الذي هربت منه جمع قوماً واتَّخذ لهم دعوة، فأكلوا وشربوا وتفرَّق القوم، ونام هو وغلمانه في المكان، فأصبح الناس ولم يُسمَع له حسٌّ، فكُشِفَ عنه الغطاء، فإذا به مذبوحاً من قفاه، ودماؤه تسيل، وذلك في ليلة الجمعة، ولا يدرون من فعل به ذلك، ويأمرونني بالمبادرة نحو المنزل.
فلمَّا وافيت إلى المنزل وسألت عنه وفي أيِّ وقتٍ كان قتله، فإذا هو عند فراغي من الدعاء.
ثمّ ساق (رحمه الله) الدعاء بتمامه، وهو طويل ولذا تركنا نقله حذراً من الخروج عن وضع الكتاب، مع كونه في غاية الانتشار، وهذه الحكاية موجودة في باب المعاجز من (البحار)(63)، وإنَّما ذكرناها لذكر السند وتكرُّر الطريق.

الحكاية الثامنة: [قصَّة بناء مسجد جمكران]

في (تاريخ قمّ) تأليف الشيخ الفاضل الحسن بن محمّد بن الحسن القمِّي من كتاب (مونس الحزين في معرفة الحقِّ واليقين)، من مصنَّفات أبي جعفر محمّد ابن بابويه القمِّي ما لفظه بالعربيَّة:
باب ذكر بناء مسجد جمكران بأمر الإمام المهدي (عليه صلوات الله الرحمن وعلى آبائه المغفرة):
سبب بناء المسجد المقدَّس في جمكران بأمر الإمام (عليه السلام) على ما أخبر به الشيخ العفيف الصالح حسن بن مثلة الجمكراني، قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(63) باب ما ظهر من معجزاته (صلوات الله عليه) الرقم (23)، راجع (ج 51/ ص 307).

(٥٣)

كنت ليلة الثلاثا السابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة ثلاث وتسعين(64) وثلاثمائة نائماً في بيتي، فلمَّا مضى نصف من الليل فإذا بجماعة من الناس على باب بيتي فأيقظوني، وقالوا: قم وأجب الإمام المهدي صاحب الزمان فإنَّه يدعوك.
قال: فقمت وتعبَّأت وتهيَّأت، فقلت: دعوني حتَّى ألبس قميصي، فإذا بنداء من جانب الباب: هو ما كان قميصك، فتركته وأخذت سراويلي، فنودي: ليس ذلك منك فخذ سراويلك، فألقيته وأخذت سراويلي ولبسته، فقمت إلى مفتاح الباب أطلبه فنودي: الباب مفتوح.
فلمَّا جئت إلى الباب رأيت قوماً من الأكابر، فسلَّمت عليهم، فردُّوا ورحَّبوا بي، وذهبوا بي إلى موضع هو المسجد الآن، فلمَّا أمعنت النظر رأيت أريكة فُرِشَت عليها فراش حسان، وعليها وسائد حسان، ورأيت فتى في زيِّ ابن ثلاثين متَّكئاً عليها، وبين يديه شيخ، وبيده كتاب يقرؤه عليه، وحوله أكثر من ستِّين رجلاً يُصَلُّون في تلك البقعة، وعلى بعضهم ثياب بيض، وعلى بعضهم ثياب خضر.
وكان ذلك الشيخ هو الخضر (عليه السلام)، فأجلسني ذلك الشيخ (عليه السلام)، ودعاني الإمام (عليه السلام) باسمي، وقال: اذهب إلى حسن بن مسلم، وقل له: إنَّك تعمر هذه الأرض منذ سنين وتزرعها، ونحن نخربها، زرعت خمس سنين، والعام أيضاً أنت على حالك من الزراعة والعمارة، ولا رخصة لك في العود إليها، وعليك ردَّ ما انتفعت به من غلَّات هذه الأرض ليُبنى فيها مسجد. وقل لحسن بن مسلم: إنَّ هذه أرض شريفة قد اختارها الله تعالى من غيرها من الأراضي وشرَّفها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(64) سيجيء بيان في لفظ (التسعين) من المؤلِّف (رحمه الله) (ص 59).

(٥٤)

وأنت قد أضفتها إلى أرضك، وقد جزاك الله بموت ولدين لك شابَّين فلم تنتبه من غفلتك، فإنْ لم تفعل ذلك لأصابك من نقمة الله من حيث لا تشعر.
قال حسن بن مثلة: [قلت]: يا سيِّدي، لا بدَّ لي في ذلك من علامة، فإنَّ القوم لا يقبلون ما لا علامة ولا حجَّة عليه، ولا يُصدِّقون قولي.
قال: إنَّا سنُعلِم هناك، فاذهب وبلِّغ رسالتنا، واذهب إلى السيِّد أبي الحسن وقل له: يجيء ويحضره ويطالبه بما أخذ من منافع تلك السنين، ويعطيه الناس حتَّى يبنوا المسجد، ويُتِمّ ما نقص منه من غلَّة رهق ملكنا بناحية أردهال ويُتِمّ المسجد، وقد وقفنا نصف رهق على هذا المسجد ليُجلَب غلَّته كلَّ عام ويُصرَف إلى عمارته.
وقل للناس: ليرغبوا إلى هذا الموضع ويعزروه ويُصَلُّوا هنا أربع ركعات للتحيَّة في كلِّ ركعة يقرأ سورة الحمد مرَّة، وسورة الإخلاص سبع مرَّات ويُسبِّح في الركوع والسجود سبع مرَّات، وركعتان للإمام صاحب الزمان (عليه السلام) هكذا: يقرأ الفاتحة، فإذا وصل إلى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ كرَّره مائة مرَّة، ثمّ يقرؤها إلى آخرها، وهكذا يصنع في الركعة الثانية، ويُسبِّح في الركوع والسجود سبع مرَّات، فإذا أتمَّ الصلاة يُهلِّل(65) ويُسبِّح تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فإذا فرغ من التسبيح يسجد ويُصلِّي على النبي وآله مائة مرَّة.
ثمّ قال (عليه السلام) ما هذه حكاية لفظه: فمن صلَّاها فكأنَّما في البيت العتيق.
قال حسن بن مثلة: قلت في نفسي: كأنَّ هذا موضع أنت تزعم أنَّما هذا المسجد للإمام صاحب الزمان مشيراً إلى ذلك الفتى المتَّكئ على الوسائد، فأشار ذلك الفتى إليَّ أنْ اذهب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(65) الظاهر أنَّه يقول: «لا إله إلَّا الله وحده وحده». (منه (رحمه الله)).

(٥٥)

فرجعت فلمَّا سرت بعض الطريق دعاني ثانيةً، وقال: إنَّ في قطيع جعفر الكاشاني الراعي معزاً يجب أنْ تشتريه، فإنْ أعطاك أهل القرية الثمن تشتريه وإلَّا فتُعطي من مالك، وتجيء به إلى هذا الموضع، وتذبحه الليلة الآتية، ثمّ تُنفِق يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر رمضان المبارك لحم ذلك المعز على المرضى، ومن به علَّة شديدة، فإنَّ الله يشفي جميعهم، وذلك المعز أبلق، كثير الشعر، وعليه سبع علامات سود وبيض: ثلاث على جانب وأربع على جانب، سود وبيض كالدراهم.
فذهبت، فأرجعوني ثالثةً، وقال (عليه السلام): تقيم بهذا المكان سبعين يوماً أو سبعاً، فإنْ حملت على السبع انطبق على ليلة القدر، وهو الثالث والعشرون، وإنْ حملت على السبعين انطبق على الخامس والعشرين من ذي القعدة، وكلاهما يوم مبارك.
قال حسن بن مثلة: فعدت حتَّى وصلت إلى داري، ولم أزل الليل متفكِّراً حتَّى أسفر الصبح، فأدَّيت الفريضة، وجئت إلى عليِّ بن المنذر، فقصصت عليه الحال، فجاء معي حتَّى بلغت المكان الذي ذهبوا بي إليه البارحة، فقال: والله إنَّ العلامة التي قال لي الإمام واحد منها أنَّ هذه السلاسل والأوتاد هاهنا.
فذهبنا إلى السيِّد الشريف أبي الحسن الرضا، فلمَّا وصلنا إلى باب داره رأينا خُدَّامه وغلمانه يقولون: إنَّ السيد أبا الحسن الرضا ينتظرك من سحر، أنت من جمكران؟
قلت: نعم، فدخلت عليه الساعة، وسلَّمت عليه وخضعت، فأحسن في الجواب، وأكرمني ومكَّن لي في مجلسه، وسبقني قبل أنْ أُحدِّثه وقال: يا حسن بن مثلة، إنِّي كنت نائما فرأيت شخصاً يقول لي: إنَّ رجلاً من جمكران يقال له: حسن ابن مثلة يأتيك بالغدو، ولتُصدِّقنَّ ما يقول، واعتمد على قوله، فإنَّ قوله قولنا، فلا تردَّنَّ عليه قوله، فانتبهت من رقدتي، وكنت أنتظرك الآن.

(٥٦)

فقصَّ عليه الحسن بن مثلة القَصص مشروحاً، فأمر بالخيول لتُسرَج، وتخرَّجوا فركبوا، فلمَّا قربوا من القرية رأوا جعفر الراعي وله قطيع على جانب الطريق، فدخل حسن بن مثلة بين القطيع، وكان ذلك المعز خلف القطيع، فأقبل المعز عادياً إلى الحسن بن مثلة، فأخذه الحسن ليُعطي ثمنه الراعي ويأتي به، فأقسم جعفر الراعي أنِّي ما رأيت هذا المعز قطُّ، ولم يكن في قطيعي إلَّا أنِّي رأيته وكلَّما أُريد أنْ آخذه لا يمكنني، والآن جاء إليكم، فأتوا بالمعز كما أمر به السيِّد إلى ذلك الموضع وذبحوه.
وجاء السيِّد أبو الحسن الرضا (رضي الله عنه) إلى ذلك الموضع، وأحضروا الحسن ابن مسلم واستردُّوا منه الغلَّات، وجاؤوا بغلَّات رهق، وسقَّفوا المسجد بالجزوع(66)، وذهب السيِّد أبو الحسن الرضا (رضي الله عنه) بالسلاسل والأوتاد وأودعها في بيته، فكان يأتي المرضى والأعلَّاء(67) ويمسُّون أبدانهم بالسلاسل فيشفيهم الله تعالى عاجلاً ويصحون.
قال أبو الحسن محمّد بن حيدر: سمعت بالاستفاضة أنَّ السيِّد أبا الحسن الرضا في المحلَّة المدعوَّة بموسويَّان من بلدة قمّ، فمرض بعد وفاته ولد له، فدخل بيته وفتح الصندوق الذي فيه السلاسل والأوتاد، فلم يجدها.
انتهت حكاية بناء هذا المسجد الشريف، المشتملة على المعجزات الباهرة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(66) الجازع: الخشبة تُوضَع في العريش عرضاً وتُطرَح عليها قضبان الكرم، فإنْ نعت تلك الخشبة قلت: خشبة جازعة، وكلُّ خشبة معروضة بين شيئين ليُحمَل عليها شيء فهي جازعة، كذا في أقرب الموارد.
أقول: وأمَّا الجزوع، فإنَّما هو جمع جزع، إلَّا أنْ يكون تصحيف (الجذوع)، وكلاهما في هذا المورد بمعنى، ويقال له بالفارسيَّة: (تير).
(67) جمع عليل كأجلَّاء جمع جليل، والعليل من به عاهة أو آفة.

(٥٧)

والآثار الظاهرة التي منها وجود مثل بقرة بني إسرائيل في معز من معزى هذه الأُمَّة.
قال المؤلِّف: لا يخفى أنَّ مؤلِّف (تاريخ قمّ) هو الشيخ الفاضل حسن بن محمّد القمِّي، وهو من معاصري الصدوق (رضوان الله عليه)، وروى في ذلك الكتاب عن أخيه حسين بن عليِّ بن بابويه (رضوان الله عليهم)، وأصل الكتاب على اللغة العربيَّة، ولكن في السنة الخامسة والستِّين بعد ثمانمائة نقله إلى الفارسيَّة حسن بن عليِّ بن حسن بن عبد المَلِك بأمر الخاجا فخر الدِّين إبراهيم بن الوزير الكبير الخاجا عماد الدِّين محمود بن الصاحب الخاجا شمس الدِّين محمّد بن عليٍّ الصفي.
قال العلَّامة المجلسي في أوَّل (البحار): إنَّه كتاب معتبر، ولكن لم يتيسَّر لنا أصله، وما بأيدينا إنَّما هو ترجمته، وهذا كلام عجيب، لأنَّ الفاضل الألمعي الآميرزا محمّد أشرف صاحب كتاب (فضائل السادات) كان معاصراً له ومقيماً بأصفهان، وهو ينقل من النسخة العربيَّة، بل ونقل عنه الفاضل المحقِّق الآغا محمّد عليٍّ الكرمانشهاني في حواشيه على (نقد الرجال)، في باب الحاء في اسم الحسن، حيث ذكر الحسن بن مثلة، ونقل ملخَّص الخبر المذكور من النسخة العربيَّة، وأعجب منه أنَّ أصل الكتاب كان مشتملاً على عشرين باباً.
وذكر العالم الخبير الآميرزا عبد الله الأصفهاني تلميذ العلَّامة المجلسي في كتابه الموسوم بـ (رياض العلماء) في ترجمة صاحب هذا التاريخ: إنَّه ظفر على ترجمة هذا التاريخ في قمّ، وهو كتاب كبير حسن كثيرة الفوائد في مجلَّدات عديدة.
ولكنِّي لم أظفر على أكثر من مجلَّد واحد، مشتمل على ثمانية أبواب بعد الفحص الشائع.

(٥٨)

وقد نقلنا الخبر السابق من خطِّ السيِّد المحدِّث الجليل السيِّد نعمة الله الجزائري عن مجموعة نقله منه، ولكنَّه كان بالفارسيَّة فنقلناه ثانياً إلى العربيَّة ليلائم نظم هذا المجموع.
ولا يخفى أنَّ كلمة (التسعين) الواقعة في صدر الخبر بالمثنَّاة فوق ثمّ السين المهملة، كانت في الأصل (سبعين) مقدَّم المهملة على الموحَّدة، واشتبه على الناسخ، لأنَّ وفاة الشيخ الصدوق كانت قبل التسعين، ولذا نرى جمعاً من العلماء يكتبون في لفظ السبع أو السبعين: بتقديم السين أو التاء، حذراً عن التصحيف والتحريف، والله تعالى هو العالم.

الحكاية التاسعة: [مكاشفة للسيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه)]

ما حدَّثني به العالم العامل، والعارف الكامل، غوَّاص غمرات الخوف والرجاء، وسيَّاح فيافي الزهد والتقى، صاحبنا المفيد، وصديقنا السديد، الآغا عليّ رضا بن العالم الجليل الحاجّ المولى محمّد النائيني (رحمهما الله)، عن العالم البدل الورع التقي، صاحب الكرامات والمقامات العاليات، المولى زين العابدين بن العالم الجليل المولى محمّد السلماسي (رحمه الله) تلميذ آية الله السيِّد السند، والعالم المسدَّد، فخر الشيعة، وزينة الشريعة، العلَّامة الطباطبائي السيِّد محمّد مهدي المدعو ببحر العلوم (أعلى الله درجته)، وكان المولى المزبور من خاصَّته في السرِّ والعلانية.
قال: كنت حاضراً في مجلس السيِّد في المشهد الغروي إذ دخل عليه لزيارته المحقِّق القمِّي صاحب (القوانين) في السنة التي رجع من العجم إلى العراق زائراً لقبور الأئمَّة (عليهم السلام) وحاجًّا لبيت الله الحرام، فتفرَّق من كان في المجلس وحضر

(٥٩)

للاستفادة منه، وكانوا أزيد من مائة، وبقيت ثلاثة من أصحابه أرباب الورع والسداد البالغين إلى رتبة الاجتهاد.
فتوجَّه المحقِّق الأيد إلى جناب السيِّد وقال: إنَّكم فزتم وحزتم مرتبة الولادة الروحانيَّة والجسمانيَّة، وقرب المكان الظاهري والباطني، فتصدَّقوا علينا بذكر مائدة من موائد تلك الخوان، وثمرة من الثمار التي جنيتم من هذه الجنان، كي ينشرح به الصدور، ويطمئنَّ به القلوب.
فأجاب السيِّد من غير تأمُّل، وقال: إنِّي كنت في الليلة الماضية قبل ليلتين أو أقل - والترديد من الراوي - في المسجد الأعظم بالكوفة، لأداء نافلة الليل عازماً على الرجوع إلى النجف في أوَّل الصبح، لئلَّا يتعطَّل أمر البحث والمذاكرة. وهكذا كان دأبه في سنين عديدة.
فلمَّا خرجت من المسجد أُلقي في روعي الشوق إلى مسجد السهلة، فصرفت خيالي عنه، خوفاً من عدم الوصول إلى البلد قبل الصبح فيفوت البحث في اليوم، ولكن كان الشوق يزيد في كلِّ آنٍ، ويميل القلب إلى ذلك المكان، فبينا أُقدِّم رجلاً وأُؤخِّر أُخرى، إذا بريح فيها غبار كثير، فهاجت بي وأمالتني عن الطريق، فكأنَّها التوفيق الذي هو خير رفيق، إلى أنْ ألقتني إلى باب المسجد.
فدخلت فإذا به خالياً عن العباد والزوَّار، إلَّا شخصاً جليلاً مشغولاً بالمناجاة مع الجبَّار بكلمات ترقُّ القلوب القاسية، وتسح الدموع من العيون الجامدة، فطار بالي، وتغيَّرت حالي، ورجفت ركبتي، وهملت دمعتي من استماع تلك الكلمات التي لم تسمعها أُذُني ولم ترَها عيني، ممَّا وصلت إليه من الأدعية المأثورة، وعرفت أنَّ الناجي يُنشِئها في الحال، لا أنَّه يُنشِد ما أودعه في البال.
فوقفت في مكاني مستمعاً متلذذاً إلى أنْ فرغ من مناجاته، فالتفت إليَّ

(٦٠)

وصاح بلسان العجم: مهدي بيا، أي هلمَّ يا مهدي، فتقدَّمت إليه بخطوات فوقفت، فأمرني بالتقدُّم، فمشيت قليلاً ثمّ وقفت، فأمرني بالتقدُّم وقال: إنَّ الأدب في الامتثال، فتقدَّمت إليه بحيث تصل يدي إليه ويده الشريفة إليَّ، وتكلَّم بكلمة.
قال المولى السلماسي (رحمه الله): ولـمَّا بلغ كلام السيِّد السند إلى هنا أضرب عنه صفحاً، وطوى عنه كشحاً، وشرح في الجواب عمَّا سأله المحقِّق المذكور قبل ذلك عن سرِّ قلَّة تصانيفه مع طول باعه في العلوم، فذكر له وجوهاً، فعاد المحقِّق القمِّي فسأل عن هذا الكلام الخفي، فأشار بيده شبه المنكر بأنَّ هذا سرٌّ لا يُذكر.

الحكاية العاشرة: [جواب استفتاء للسيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه)]

حدَّثني الأخ الصفي المذكور، عن المولى السلماسي (رحمه الله تعالى)، قال:
كنت حاضراً في محفل إفادته، فسأله رجل عن إمكان رؤية الطلعة الغرَّاء في الغيبة الكبرى، وكان بيده الآلة المعروفة لشرب الدخان المسمَّى عند العجم بغليان، فسكت عن جوابه وطأطأ رأسه، وخاطب نفسه بكلام خفي أسمعه، فقال ما معناه: ما أقول في جوابه وقد ضمَّني (صلوات الله عليه) إلى صدره، وورد أيضاً في الخبر تكذيب مدَّعي الرؤية في أيام الغيبة؟ فكرَّر هذا الكلام.
ثمّ قال في جواب السائل: إنَّه قد ورد في أخبار أهل العصمة تكذيب من ادَّعى رؤية الحجَّة (عجَّل الله فرجه).
واقتصر في جوابه عليه من غير إشارة إلى ما أشار إليه.

(٦١)

الحكاية الحادية عشرة: [مكاشفة ثانية للسيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه)]

وبهذا السند عن المولى المذكور، قال: صلَّينا مع جنابه في داخل حرم العسكريَّين (عليهما السلام)، فلمَّا أراد النهوض من التشهُّد إلى الركعة الثالثة عرضته حالة، فوقف هنيئة ثمّ قام.
ولـمَّا فرغنا تعجَّبنا كلُّنا، ولم نفهم ما كان وجهه، ولم يجترء أحد منَّا على السؤال عنه إلى أنْ أتينا المنزل، وأحضرت المائدة، فأشار إليَّ بعض السادة من أصحابنا أنْ أسأله منه، فقلت: لا، وأنت أقرب منَّا.
فالتفت (رحمه الله) إليَّ وقال: فيم تقاولون؟
قلت وكنت أجسر الناس عليه: إنَّهم يريدون الكشف عمَّا عرض لكم في حال الصلاة.
فقال: إنَّ الحجَّة (عجَّل الله فرجه) دخل الروضة للسلام على أبيه (عليه السلام)، فعرضني ما رأيتم من مشاهدة جماله الأنور إلى أنْ خرج منها.

الحكاية الثانية عشرة: [تشرُّف وكرامة للسيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه)]

بهذا السند عن ناظر أُموره في أيَّام مجاورته بمكَّة، قال: كان (رحمه الله) مع كونه في بلد الغربة منقطعاً عن الأهل والإخوة، قويّ القلب في البذل والعطاء، غير مكترث بكثرة المصارف، فاتَّفق في بعض الأيَّام أنْ لم نجد إلى درهم سبيلاً، فعرَّفته الحال، وكثرة المؤنة، وانعدام المال، فلم يقل شيئاً، وكان دأبه أنْ يطوف بالبيت بعد الصبح ويأتي إلى الدار، فيجلس في القبَّة المختصَّة به، ونأتي إليه

(٦٢)

بغليان فيشربه، ثمّ يخرج إلى قبَّة أُخرى تجتمع فيها تلامذته من كلِّ المذاهب، فيُدرِّس لكلٍّ على مذهبه.
فلمَّا رجع من الطواف في اليوم الذي شكوته في أمسه نفود النفقة، وأحضرت الغليان على العادة، فإذا بالباب يدقُّه أحد، فاضطرب أشدّ الاضطراب، وقال لي: خذ الغليان وأخرجه من هذا المكان، وقام مسرعاً خارجاً عن الوقار والسكينة والآداب، ففتح الباب، ودخل شخص جليل في هيأة الأعراب، وجلس في تلك القبَّة، وقعد السيِّد عند بابها، في نهاية الذلَّة والمسكنة، وأشار إليَّ أنْ لا أُقرِّب إليه الغليان.
فقعدا ساعة يتحدَّثان، ثمّ قام، فقام السيِّد مسرعاً وفتح الباب، وقبَّل يده وأركبه على جمله الذي أناخه عنده، ومضى لشأنه، ورجع السيِّد متغيِّر اللون وناولني براة(68)، وقال: هذه حوالة على رجل صرَّاف، قاعد في جبل الصفا، واذهب إليه وخذ منه ما أُحيل عليه.
قال: فأخذتها وأتيت بها إلى الرجل الموصوف، فلمَّا نظر إليها قبَّلها وقال: عليَّ بالحماميل.
فذهبت وأتيت بأربعة حماميل، فجاء بالدراهم من الصنف الذي يقال له: ريال فرانسه، يزيد كلُّ واحدٍ على خمسة قرانات العجم، وما كانوا يقدرون على حمله، فحملوها على أكتافهم، وأتينا بها إلى الدار.
ولـمَّا كان في بعض الأيَّام ذهبت إلى الصرَّاف لأسأل منه حاله وممَّن كانت تلك الحوالة، فلم أرَ صرَّافاً ولا دُكَّاناً، فسألت عن بعض من حضر في ذلك المكان عن الصرَّاف، فقال: ما عهدنا في هذا المكان صرَّافاً أبداً، وإنَّما يقعد فيه فلان، فعرفت أنَّه من أسرار المَلِك المنَّان، وألطاف وليِّ الرحمن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(68) البراة: حلقة من صفر أو غيره تُجعَل في لحم أنف البعير. (شرح الشافية: ج 2/ ص 102).

(٦٣)

وحدَّثني بهذه الحكاية الشيخ العالم الفقيه النحرير المحقِّق الوجيه، صاحب التصانيف الرائقة، والمناقب الفائقة، الشيخ محمّد حسين الكاظمي المجاور بالغريِّ (أطال الله بقاه)، عمَّن حدَّثه من الثقات، عن الشخص المذكور.

الحكاية الثالثة عشرة: [مكاشفة ثالثة للسيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه)]

حدَّثني السيِّد السند، والعالم المعتمد، المحقِّق الخبير، والمضطلع البصير السيِّد عليٌّ سبط السيِّد (أعلى الله مقامه)، وكان عالماً مبرزاً، له (شرح النافع)، حسن نافع جدًّا، وغيره، عن الورع التقي النقي الوفي الصفي السيِّد مرتضى صهر السيِّد (أعلى الله مقامه) على بنت أُخته، وكان مصاحباً له في السفر والحضر، مواظباً لخدماته في السرِّ والعلانية، قال:
كنت معه في سُرَّ من رأى في بعض أسفار زيارته، وكان السيِّد ينام في حجرة وحده، وكان لي حجرة بجنب حجرته، وكنت في نهاية المواظبة في أوقات خدماته بالليل والنهار، وكان يجتمع إليه الناس في أوَّل الليل إلى أنْ يذهب شطر منه في أكثر الليالي.
فاتَّفق أنَّه في بعض الليالي قعد على عادته، والناس مجتمعون حوله، فرأيته كأنَّه يكره الاجتماع، ويُحِبُّ الخلوة، ويتكلَّم مع كلِّ واحدٍ بكلام فيه إشارة إلى تعجيله بالخروج من عنده، فتفرَّق الناس ولم يبقَ غيري، فأمرني بالخروج، فخرجت إلى حجرتي متفكِّراً في حالته في تلك الليلة، فمنعني الرقاد، فصبرت زماناً، فخرجت متخفّياً لأتفقَّد حاله، فرأيت باب حجرته مغلقاً، فنظرت من شقِّ الباب وإذا السراج بحاله وليس فيه أحد، فدخلت الحجرة، فعرفت من وضعها أنَّه ما نام في تلك الليلة.

(٦٤)

فخرجت حافياً متخفّياً أطلب خبره، وأقفو أثره، فدخلت الصحن الشريف، فرأيت أبواب قبَّة العسكريَّين مغلقة، فتفقَّدت أطراف خارجها فلم أجد منه أثراً، فدخلت الصحن الأخير الذي فيه السرداب، فرأيته مفتَّح الأبواب.
فنزلت من الدرج حافياً متخفّياً متأنّياً بحيث لا يسمع منِّي حسٌّ ولا حركة، فسمعت همهمة من صفة السرداب، كأنَّ أحداً يتكلَّم مع الآخر، ولم أُميِّز الكلمات إلى أنْ بقيت ثلاثة أو أربعة منها، وكان دبيبي أخفى من دبيب النملة في الليلة الظلماء على الصخرة الصمَّاء، فإذا بالسيِّد قد نادى في مكانه هناك: يا سيِّد مرتضى ما تصنع؟ ولِـمَ خرجت من المنزل؟
فبقيت متحيِّراً ساكتاً كالخشب المسندة، فعزمت على الرجوع قبل الجواب، ثمّ قلت في نفسي: كيف تخفى حالك على من عرفك من غير طريق الحواسِّ؟ فأجبته معتذراً نادماً، ونزلت في خلال الاعتذار إلى حيث شاهدت الصفة، فرأيته وحده واقفاً تجاه القبلة، ليس لغيره هناك أثر، فعرفت أنَّه يناجي الغائب عن أبصار البشر (عليه السلام) المَلِك الأكبر، فرجعت حريًّا لكلِّ ملامة، غريقاً في بحار الندامة إلى يوم القيامة.

الحكاية الرابعة عشرة: [السيِّد بحر العلوم (قدّس سرّه) في مسجد السهلة]

حدَّث الشيخ الصالح الصفي الشيخ أحمد الصدتوماني، وكان ثقةً تقيًّا ورعاً، قال:
قد استفاض عن جدِّنا المولى محمّد سعيد الصدتوماني وإنَّ من تلامذة السيِّد (رحمه الله) أنَّه جرى في مجلسه ذكر قضايا مصادفة رؤية المهدي (عليه السلام)، حتَّى تكلَّم

(٦٥)

هو في جملة من تكلَّم في ذلك، فقال: أحببت ذات يوم أنْ أصل إلى مسجد السهلة في وقت ظننته فيه فارغاً من الناس، فلمَّا انتهيت إليه وجدته غاصًّا بالناس، ولهم دوي، ولا أعهد أنْ يكون في ذلك الوقت فيه أحد.
فدخلت فوجدت صفوفاً صافِّين للصلاة جامعة، فوقفت إلى جنب الحائط على موضع فيه رمل، فعلوته لأنظر هل أجد خللاً في الصفوف فأسدّه، فرأيت موضع رجل واحد في صفٍّ من تلك الصفوف، فذهبت إليه ووقفت فيه.
فقال رجل من الحاضرين: هل رأيت المهدي (عليه السلام)؟ فعند ذلك سكت السيِّد وكأنَّه كان نائماً ثمّ انتبه، فكلَّما طُلِبَ منه إتمام المطلب لم يتمّه.

الحكاية الخامسة عشرة: [قصَّة الشيخ محمّد حسن السريرة]

حدَّث الشيخ الفاضل العالم الثقة الشيخ باقر الكاظمي المجاور في النجف الأشرف آل الشيخ طالب نجل العالم العابد الشيخ هادي الكاظمي، قال:
كان في النجف الأشرف رجل مؤمن يُسمَّى الشيخ محمّد حسن السريرة، وكان في سلك أهل العلم ذا نيَّة صادقة، وكان معه مرض السعال إذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دم، وكان مع ذلك في غاية الفقر والاحتياج، لا يملك قوت يومه، وكان يخرج في أغلب أوقاته إلى البادية إلى الأعراب الذين في أطراف النجف الأشرف، ليحصل له قوت ولو شعير، وما كان يتيسَّر ذلك على وجه يكفيه، مع شدَّة رجائه، وكان مع ذلك قد تعلَّق قلبه بتزويج امرأة من أهل النجف، وكان يطلبها من أهلها، وما أجابوه إلى ذلك لقلَّة ذات يده، وكان في همٍّ وغمٍّ شديد من جهة ابتلائه بذلك.

(٦٦)

فلمَّا اشتدَّ به الفقر والمرض، وأيس من تزويج البنت، عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنَّه من أصابه أمر فواظب الرواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة الأربعاء، فلا بدَّ أنْ يرى صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) من حيث لا يعلم ويقضي له مراده.
قال الشيخ باقر (قدّس سرّه): قال الشيخ محمّد: فواظبت على ذلك أربعين ليلة بالأربعاء، فلمَّا كانت الليلة الأخيرة وكانت ليلة شتاء مظلمة، وقد هبَّت ريح عاصفة، فيها قليل من المطر، وأنا جالس في الدكَّة التي هي داخل في باب المسجد، وكانت الدكَّة الشرقيَّة المقابلة للباب الأوَّل تكون على الطرف الأيسر، عند دخول المسجد، ولا أتمكَّن الدخول في المسجد من جهة سعال الدم، ولا يمكن قذفه في المسجد وليس معي شيء أتَّقي فيه عن البرد، وقد ضاق صدري، واشتدَّ عليَّ همِّي وغمِّي، وضاقت الدنيا في عيني، وأُفكِّر أنَّ الليالي قد انقضت، وهذه آخرها، وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شيء، وقد تعبت هذا التعب العظيم، وتحمَّلت المشاقَّ والخوف في أربعين ليلة، أجيء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة، ويكون لي الإياس من ذلك.
فبينما أنا أُفكِّر في ذلك، وليس في المسجد أحد أبداً وقد أوقدت ناراً لأُسخن عليها قهوة جئت بها من النجف، لا أتمكَّن من تركها لتعوُّدي بها، وكانت قليلة جدًّا، إذا بشخص من جهة الباب الأوَّل متوجِّهاً إليَّ، فلمَّا نظرته من بعيد تكدَّرت وقلت في نفسي: هذا أعرابي من أطراف المسجد، قد جاء إليَّ ليشرب من القهوة، وإنِّي بلا قهوة في هذا الليل المظلم، ويزيد عليَّ همِّي وغمِّي.
فبينما أنا أُفكِّر إذا به قد وصل إليَّ وسلَّم عليَّ باسمي وجلس في مقابلي، فتعجَّبت من معرفته اسمي، وظننته من الذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف الأشرف، فصرت أسأله من أيِّ العرب يكون.

(٦٧)

قال: من بعض العرب، فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف، فيقول: لا، لا، وكلَّما ذكرت له طائفة قال: لا، لست منها.
فأغضبني وقلت له: أجل أنت من طريطرة، مستهزءاً، وهو لفظ بلا معنى، فتبسَّم من قولي ذلك وقال: لا عليك من أينما كنت، ما الذي جاء بك إلى هنا؟
فقلت: وأنت ما عليك السؤال عن هذه الأُمور؟
فقال: ما ضرَّك لو أخبرتني؟
فتعجَّبت من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه، فمال قلبي إليه، وصار كلَّما تكلَّم ازداد حبِّي له، فعملت له السبيل من التتن، وأعطيته، فقال: أنت اشرب، فأنا ما أشرب.
وصببت له في الفنجان قهوة وأعطيته، فأخذه وشرب شيئاً قليلاً منه، ثمّ ناولني الباقي، وقال: أنت اشربه.
فأخذته وشربته، ولم ألتفت إلى عدم شربه تمام الفنجان، ولكن يزداد حبِّي له آناً فآناً.
فقلت له: يا أخي، أنت قد أرسلك الله إليَّ في هذه الليلة تأنسني، أفلا تروح معي إلى أنْ نجلس في حضرة مسلم (عليه السلام)، ونتحدَّث؟
فقال: أروح معك، فحدِّث حديثك.
فقلت له: أحكي لك الواقع، أنا في غاية الفقر والحاجة، مذ شعرت على نفسي، ومع ذلك معي سعال أتنخَّع الدم، وأقذفه من صدري منذ سنين، ولا أعرف علاجه، وما عندي زوجة، وقد علق قلبي بامرأة من أهل محلِّتنا في النجف الأشرف، ومن جهة قلَّة ما في اليد ما تيسَّر لي أخذها. وقد غرَّني هؤلاء الملَّائيَّة(69) وقالوا لي: اقصد في حوائجك صاحب الزمان وبت أربعين ليلة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(69) من اصطلاحات أهل العراق.

(٦٨)

الأربعاء في مسجد الكوفة فإنَّك تراه ويقضي لك حاجتك، وهذه آخر ليلة من الأربعين، وما رأيت فيها شيئاً، وقد تحمَّلت هذه المشاقّ في هذه الليالي، فهذا الذي جاء بي هنا، وهذه حوائجي.
فقال لي وأنا غافل غير ملتفت: أمَّا صدرك فقد برأ، وأمَّا الامرأة فتأخذها عن قريب، وأمَّا فقرك فيبقى على حاله حتَّى تموت.
وأنا غير ملتفت إلى هذا البيان أبداً، فقلت: ألَا تروح إلى حضرة مسلم؟
قال: قم.
فقمت وتوجَّه أمامي، فلمَّا وردنا أرض المسجد فقال: ألَا تُصلِّي صلاة تحيَّة المسجد؟
فقلت: أفعل.
فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد، وأنا خلفه بفاصلة، فأحرمت الصلاة وصرت أقرأ الفاتحة.
فبينما أنا أقرأ وإذا يقرأ الفاتحة قراءة ما سمعت أحداً يقرأ مثلها أبداً، فمن حسن قراءته قلت في نفسي: لعلَّه هذا هو صاحب الزمان، وذكرت بعض كلمات له تدلُّ على ذلك، ثمّ نظرت إليه بعد ما خطر في قلبي ذلك، وهو في الصلاة، وإذا به قد أحاطه نور عظيم منعني من تشخيص شخصه الشريف، وهو مع ذلك يُصلِّي وأنا أسمع قراءته، وقد ارتعدت فرائصي، ولا أستطيع قطع الصلاة خوفاً منه، فأكملتها على أيِّ وجهٍ كان، وقد علا النور من وجه الأرض، فصرت أندبه وأبكي وأتضجَّر وأعتذر من سوء أدبي معه في باب المسجد، وقلت له: أنت صادق الوعد، وقد وعدتني الرواح معي إلى مسلم.
فبينما أنا أُكلِّم النور، وإذا بالنور قد توجَّه إلى جهة مسلم(70)، فتبعته، فدخل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(70) في النسخة: (المسلم).

(٦٩)

النور الحضرة، وصار في جوِّ القبَّة، ولم يزل على ذلك ولم أزل أندبه وأبكي حتَّى إذا طلع الفجر عرج النور.
فلمَّا كان الصباح التفت إلى قوله: أمَّا صدرك فقد برأ، وإذا أنا صحيح الصدر، وليس معي سعال أبداً، وما مضى أُسبوع إلَّا وسهَّل الله على أخذ البنت من حيث لا أحتسب، وبقي فقري على ما كان كما أخبر (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين).

الحكاية السادسة عشرة: [قصَّة الحاجّ عبد الواعظ]

حدَّثني العالم الجليل، والفاضل النبيل، مصباح المتَّقين، وزين المجاهدين، السيِّد الأيد مولانا السيِّد محمّد ابن العالم السيِّد هاشم بن مير شجعاعتعلي الموسوي الرضوي النجفي المعروف بالهندي (سلَّمه الله تعالى)، وهو من العلماء المتَّقين، وكان يؤمُّ الجماعة في داخل حرم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وله خبرة وبصيرة بأغلب العلوم المتداولة، وهو الآن من مجاوري بلدتنا الشريفة عمرها الله تعالى بوجود الأبرار والصلحاء.
قال: كان رجل صالح يُسمَّى الحاجّ عبد الواعظ، كان كثير التردُّد إلى مسجد السهلة والكوفة، فنقل لي الثقة الشيخ باقر ابن الشيخ هادي المقدَّم ذكره، قال: وكان عالماً بالمقدّمات وعلم القراءة وبعض علم الجفر، وعنده ملكة الاجتهاد المطلق إلَّا أنَّه مشغول عن الاستنباط لأكثر من قدر حاجته بمعيشة العيال، وكان يقرء المراثي ويؤمُّ الجماعة، وكان صدوقاً خيِّراً معتمداً، عن الشيخ مهدي الزربجاوي، قال:
كنت في مسجد الكوفة، فوجدت هذا العبد الصالح خرج إلى النجف بعد نصف الليل ليصل إليه أوَّل النهار، فخرجت معه لأجل ذلك أيضاً.

(٧٠)

فلمَّا انتهينا إلى قريب من البئر التي في نصف الطريق لاح لي أسد على قارعة الطريق، والبرّيَّة خالية من الناس ليس فيها إلَّا أنا وهذا الرجل، فوقفت عن المشي، فقال: ما بالك؟
فقلت: هذا الأسد.
فقال: امش ولا تبال به.
فقلت: كيف يكون ذلك؟
فأصرَّ عليَّ، فأبيت، فقال لي: إذا رأيتني وصلت إليه ووقفت بحذائه ولم يضرّني، أفتجوز الطريق وتمشي؟
فقلت: نعم.
فتقدَّمني إلى الأسد حتَّى وضع يده على ناصيته، فلمَّا رأيت ذلك أسرعت في مشيي حتَّى جزتهما وأنا مرعوب، ثمّ لحق بي، وبقي الأسد في مكانه.
قال (نوَّر الله قلبه): قال الشيخ باقر: وكنت في أيَّام شبابي خرجت مع خالي الشيخ محمّد عليّ القارئ - مصنِّف الكُتُب الثلاثة الكبير والمتوسِّط والصغير، ومؤلِّف كتاب التعزية، جمع فيه تفصيل قضيَّة كربلا من بدئها إلى ختامها بترتيب حسن وأحاديث منتخبة - إلى مسجد السهلة، وكان في تلك الأوقات موحشاً في الليل ليس فيه هذه العمارة الجديدة، والطريق بينه وبين مسجد الكوفة كان صعباً أيضاً ليس بهذه السهولة الحاصلة بعد الإصلاح.
فلمَّا صلَّينا تحيَّة مقام المهدي (عليه السلام) نسي خالي سبيله وتتنه، فذكر ذلك بعد ما خرجنا وصرنا في باب المسجد، فبعثني إليها.
فلمَّا دخلت وقت العشاء إلى المقام فتناولت ذلك، وجدت جمرة نار كبيرة تلهب في وسط المقام، فخرجت مرعوباً منها، فرآني خالي على هيأة الرعب، فقال لي: ما بالك؟

(٧١)

فأخبرته بالجمرة، فقال لي: سنصل إلى مسجد الكوفة، ونسأل العبد الصالح عنها، فإنَّه كثير التردُّد إلى هذا المقام، ولا يخلو من أنْ يكون له علم بها.
فلمَّا سأله خالي عنها قال: كثيراً ما رأيتها في خصوص مقام المهدي (عليه السلام) من بين المقامات والزوايا.

الحكاية السابعة عشرة: [قصَّة السيِّد جعفر القزويني]

قال (نضَّر الله وجهه): وأخبرني الشيخ باقر المزبور، عن السيِّد جعفر ابن السيِّد الجليل السيِّد باقر القزويني الآتي ذكره، قال:
كنت أسير مع أبي إلى مسجد السهلة، فلمَّا قاربناها قلت له: هذه الكلمات التي أسمعها من الناس أنَّ من جاء إلى مسجد السهلة في أربعين أربعاء فإنَّه يرى المهدي (عليه السلام)، أرى أنَّها لا أصل لها.
فالتفت إليَّ مغضباً وقال لي: ولِـمَ ذلك؟ لمحض أنَّك لم ترَه؟ أوَ كلَّ شيء لم ترَه عيناك فلا أصل له؟
وأكثر من الكلام عليَّ حتَّى ندمت على ما قلت، ثمّ دخلنا معه المسجد، وكان خالياً من الناس، فلمَّا قام في وسط المسجد ليُصلِّي ركعتين للاستجارة أقبل رجل من ناحية مقام الحجَّة (عليه السلام) ومرَّ بالسيِّد فسلَّم عليه وصافحه، والتفت إليَّ السيِّد والدي وقال: فمن هذا؟
فقلت: أهو المهدي (عليه السلام)؟
فقال: فمن؟
فركضت أطلبه، فلم أجده في داخل المسجد ولا في خارجه.

(٧٢)

الحكاية الثامنة عشرة: [قصَّة الحلاق]

وقال (أصلح الله باله): وأخبر الشيخ باقر المزبور، عن رجل صادق اللهجة كان حلَّاقاً، وله أب كبير مسنٌّ، وهو لا يُقصِّر في خدمته، حتَّى إنَّه يحمل له الإبريق إلى الخلاء، ويقف ينتظره حتَّى يخرج فيأخذه منه، ولا يفارق خدمته إلَّا ليلة الأربعاء فإنَّه يمضي إلى مسجد السهلة، ثمّ ترك الرواح إلى المسجد، فسألته عن سبب ذلك، فقال:
خرجت أربعين أربعاء، فلمَّا كانت الأخيرة لم يتيسَّر لي أنْ أخرج إلى قريب المغرب، فمشيت وحدي وصار الليل، وبقيت أمشي حتَّى بقي ثلث الطريق، وكانت الليلة مقمرة.
فرأيت أعرابيًّا على فرس قد قصدني، فقلت في نفسي: هذا سيسلبني ثيابي، فلمَّا انتهى إليَّ كلَّمني بلسان البدو من العرب، وسألني عن مقصدي، فقلت: مسجد السهلة.
فقال: معك شيء من المأكول؟
فقلت: لا.
فقال: أدخل يدك في جيبك - هذا نقل بالمعنى -، وأمَّا اللفظ: دورك يدك لجيبك.
فقلت: ليس فيه شيء.
فكرَّر عليَّ القول بزجر حتَّى أدخلت يدي في جيبي، فوجدت فيه زبيباً كنت اشتريته لطفل عندي، ونسيته فبقي في جيبي.
ثمّ قال لي الأعرابي: أُوصيك بالعود، أُوصيك بالعود، أُوصيك بالعود. والعود في لسانهم اسم للأب المسنِّ.

(٧٣)

ثمّ غاب عن بصري، فعلمت أنَّه المهدي (عليه السلام)، وأنَّه لا يرضى بمفارقتي لأبي حتَّى في ليلة الأربعاء، فلم أعد.

الحكاية التاسعة عشرة: [البدوي في الحرم العلوي]

وقال (أدام الله إكرامه): رأيت في رواية ما يدلُّ على أنَّك إذا أردت أنْ تعرف ليلة القدر، فاقرأ (حم الدخان) كلَّ ليلة في شهر رمضان مائة مرَّة إلى ليلة ثلاث وعشرين، فعملت ذلك، وبدأت في ليلة الثلاث والعشرين أقرأ على حفظي بعد الفطور إلى أنْ خرجت إلى الحرم العلوي في أثناء الليل، فلم أجد لي موضعاً أستقرُّ فيه إلَّا أنْ أجلس مقابلاً للوجه، مستدبراً للقبلة، بقرب الشمع المعلَّق، لكثرة الناس في تلك الليلة.
فتربَّعت واستقبلت الشبَّاك، وبقيت أقرأ (حم)، فبينما أنا كذلك إذ وجدت إلى جنبي أعرابيًّا متربِّعاً أيضاً، معتدل الظهر، أسمر اللون، حسن العينين والأنف والوجه، مهيباً جدًّا كأنَّه من شيوخ الأعراب إلَّا أنَّه شابٌّ، ولا أذكر هل كان له لحية خفيفة أم لم تكن، وأظنُّ الأوَّل.
فجعلت في نفسي أقول: ما الذي أتى بهذا البدوي إلى هذا الموضع؟ ويجلس هذا الجلوس العجمي؟ وما حاجته في الحرم؟ وأين منزله في هذا الليل؟ أهو من شيوخ الخزاعة وأضافه بعض الخدمة مثل الكليددار أو نائبه؟ وما بلغني خبره، وما سمعت به.
ثمّ قلت في نفسي: لعلَّه المهدي (عليه السلام)، وجعلت أنظر في وجهه، وهو يلتفت يميناً وشمالاً إلى الزوَّار من غير إسراع في الالتفات ينافي الوقار، وجلست امرأة قدَّامي لاصقة بظهرها ركبتي، فنظرت إليه متبسِّماً ليراها على هذه الحالة

(٧٤)

فيتبسَّم على حسب عادة الناس، فنظر إليها وهو غير متبسِّم(71)، ورجع إلى النظر يميناً وشمالاً، فقلت: أسأله أنَّه أين منزله؟ أو مَنْ هو؟ فلمَّا هممت بسؤاله انكمش فؤادي انكماشاً تأذَّيت منه جدًّا، وظننت أنَّ وجهي اصفرَّ من هذه الحالة، وبقي الألم في فؤادي حتَّى قلت في نفسي: اللَّهُمَّ إنِّي لا أسأله، فدعني يا فؤادي وعد إلى السلامة من هذا الألم، فإنِّي قد أعرضت عمَّا أردت من سؤاله، وعزمت على السكوت، فعند ذلك سكن فؤادي، وعدت إلى التفكُّر في أمره.
وهممت مرَّة ثانية بالاستفسار منه، وقلت: أيّ ضرر في ذلك؟ وما يمنعني من أنْ أسأله؟ فانكمش فؤادي مرَّة ثانية عند ما هممت بسؤاله، وبقيت متألِّماً مصفرًّا حتَّى تأذَّيت، وقلت: عزمت أنْ لا أسأله ولا أستفسر إلى أنْ سكن فؤادي، وأنا أقرأ لساناً وأنظر إلى وجهه وجماله وهيبته، وأُفكِّر فيه قلباً، حتَّى أخذني الشوق إلى العزم مرَّة ثالثة على سؤاله، فانكمش فؤادي وتأذَّيت في الغاية، وعزمت عزماً صادقاً على ترك سؤاله، ونصبت لنفسي طريقاً إلى معرفته غير الكلام معه، وهو أنِّي لا أُفارقه وأتبعه حيث قام ومشى حتَّى أنظر أين منزله إنْ كان من سائر الناس، أو يغيب عن بصري إنْ كان الإمام (عليه السلام).
فأطال الجلوس على تلك الهيأة، ولا فاصل بيني وبينه، بل الظاهر أنَّ ثيابي ملاصقة لثيابه، وأحببت أنْ أعرف الوقت والساعة، وأنا لا أسمع من كثرة أصوات الناس صوت ساعات الحرم، فصار في مقابلي رجل عنده ساعة، فقمت لأسأله عنها وخطوت خطوة، ففاتني صاحب الساعة لتزاحم الناس، فعدت بسرعة إلى موضعي ولعلَّ إحدى رجلي لم تفارقه، فلم أجد صاحبي، وندمت على قيامي ندماً عظيماً، وعاتبت نفسي عتاباً شديداً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(71) في النسخة: (متبسِّم إليَّ)، والظاهر زيادة (إليَّ).

(٧٥)

الحكاية العشرون: [قصَّة السيِّد محمّد عليّ العاملي]

قصَّة العابد الصالح التقي السيِّد محمّد العاملي (رحمه الله) ابن السيِّد عبَّاس (سلَّمه الله) [آل العبَّاس شرف الدِّين] الساكن في قرية جشيث من قرى جبل عامل، وكان من قصَّته أنَّه (رحمه الله) لكثرة تعدِّي الجور عليه خرج من وطنه خائفاً هارباً مع شدَّة فقره وقلَّة بضاعته، حتَّى إنَّه لم يكن عنده يوم خروجه إلَّا مقداراً لا يسوى قوت يومه، وكان متعفِّفاً لا يسأل أحداً.
وساح في الأرض برهة من دهره، ورأى في أيَّام سياحته في نومه ويقظته عجائب كثيرة، إلى أنْ انتهى أمره إلى مجاورة النجف الأشرف (على مشرِّفها آلاف التحية والتُّحَف)، وسكن في بعض الحجرات الفوقانيَّة من الصحن المقدَّس، وكان في شدة الفقر، ولم يكن يعرفه بتلك الصفة إلَّا قليل، وتُوفِّي (رحمه الله) في النجف الأشرف، بعد مضيِّ خمس سنوات من يوم خروجه من قريته.
وكان أحياناً يراودني، وكان كثير العفَّة والحياء، يحضر عندي أيَّام إقامة التعزية، وربَّما استعار منِّي بعض كُتُب الأدعية لشدَّة ضيق معاشه، حتَّى إنَّ كثيراً ما لا يتمكَّن لقوته إلَّا [على] تميرات، يواظب الأدعية المأثورة لسعة الرزق، حتَّى كأنَّه ما ترك شيئاً من الأذكار المرويَّة والأدعية المأثورة.
واشتغل بعض أيَّامه على عرض حاجته على صاحب الزمان (عليه سلام الله المَلِك المنَّان) أربعين يوماً، وكان يكتب حاجته، ويخرج كلَّ يوم قبل طلوع الشمس من البلد من الباب الصغير الذي يُخرَج منه إلى بحر، ويبعد عن طرف اليمين مقدار فرسخ أو أزيد بحيث لا يراه أحد ثمّ يضع عريضته في بندقة من الطين ويودعها أحد نوَّابه (سلام الله عليه) ويرميها في الماء، إلى أنْ مضى عليه ثمانية أو تسعة وثلاثون يوماً.

(٧٦)

فلمَّا فعل ما يفعله كلَّ يوم ورجع قال: كنت في غاية الملالة وضيق الخُلُق وأمشي مطرقاً رأسي، فالتفت فإذا أنا برجل كأنَّه لحق بي من ورائي، وكان في زيِّ العرب، فسلَّم عليَّ، فرددت عليه السلام بأقلّ ما يُرَدُّ، وما التفت إليه لضيق خُلُقي، فسايرني مقداراً وأنا على حالي، فقال بلهجة أهل قريتي: سيِّد محمّد ما حاجتك؟ يمضي عليك ثمانية أو تسعة وثلاثون يوماً تخرج قبل طلوع الشمس إلى المكان الفلاني وترمي العريضة في الماء تظنُّ أنَّ إمامك ليس مطَّلعاً على حاجتك؟
قال: فتعجَّبت من ذلك، لأنِّي لم أطلع أحداً على شغلي، ولا أحد رآني، ولا أحد من أهل جبل عامل في المشهد الشريف لم أعرفه، خصوصاً أنَّه لابس الكفّيَّة والعقال، وليس مرسوماً في بلادنا، فخطر في خاطري وصولي إلى المطلب الأقصى، وفوزي بالنعمة العظمى، وأنَّه الحجَّة على البرايا، إمام العصر (عجَّل الله فرجه).
وكنت سمعت قديماً أنَّ يده المباركة في النعومة بحيث لا يبلغها يد أحد من الناس، فقلت في نفسي: أُصافحه فإنْ كان يده كما سمعت أصنع ما يحقُّ بحضرته، فمددت يدي وأنا على حالي لمصافحته، فمدَّ يده المباركة فصافحته، فإذا يده كما سمعت، فتيقَّنت الفوز والفلاح، فرفعت رأسي، ووجَّهت له وجهي، وأردت تقبيل يده المباركة، فلم أرَ أحداً.
قلت: ووالده السيِّد عبَّاس حيٌّ إلى حال التأليف، وهو من بني أعمام العالم الحبر الجليل، والسيِّد المؤيَّد النبيل، وحيد عصره، وناموس دهره، السيِّد صدر الدِّين العاملي المتوطِّن في أصبهان تلميذ العلَّامة الطباطبائي بحر العلوم (أعلى الله مقامهما).

(٧٧)

الحكاية الحادية والعشرون: [قصَّة السيِّد محمّد عليّ العاملي والبطِّيخات الثلاث]

وحدَّث السيِّد الصالح المتقدِّم ذكره (قدَّس الله روحه)، قال: وردت المشهد المقدَّس الرضوي (عليه الصلاة والسلام) للزيارة، وأقمت فيه مدَّة، وكنت في ضنك وضيق مع وفور النعمة، ورخص أسعارها، ولـمَّا أردت الرجوع مع سائر الزائرين لم يكن عندي شيء من الزاد حتَّى قرصة لقوت يومي، فتخلَّفت عنهم، وبقيت يومي إلى زوال الشمس، فزرت مولاي وأدَّيت فرض الصلاة، فرأيت أنِّي لو لم ألحق بهم لا يتيسَّر لي الرفقة عن قريب، وإنْ بقيت أدركني(72) الشتاء ومتُّ من البرد، فخرجت من الحرم المطهَّر مع ملالة الخاطر، وقلت في نفسي: أمشي على أثرهم، فإنْ متُّ جوعاً استرحت، وإلَّا لحقت بهم، فخرجت من البلد الشريف وسألت عن الطريق، وصرت أمشي حتَّى غربت الشمس وما صادفت أحداً، فعلمت أنِّي أخطأت الطريق، وأنا ببادية مهولة لا يُرى فيها سوى الحنظل، وقد أشرفت من الجوع والعطش على الهلاك، فصرت أكسر حنظلة حنظلة لعلِّي أظفر من بينها بحبحب(73)، حتَّى كسرت نحواً من خمسمائة، فلم أظفر بها، وطلبت الماء والكلاء حتَّى جنَّني الليل، ويئست منهما، فأيقنت الفناء، واستسلمت للموت، وبكيت على حالي، فتراءى لي مكان مرتفع، فصعدته، فوجدت في أعلاها عيناً من الماء، فتعجَّبت وشكرت الله (عزَّ وجلَّ) وشربت الماء، وقلت في نفسي: أتوضَّأ وضوء الصلاة وأُصلِّي لئلَّا ينزل بي الموت وأنا مشغول الذمَّة بها، فبادرت إليها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(72) في النسخة: (أدركتني).
(73) الحبحب: البطِّيخ الشامي الذي تسميه أهل العراق: الرقِّي، والفرس: الهندي. قاله الفيروزآبادي. والظاهر أنَّه يشبه الحنظل من حيث الصورة.

(٧٨)

فلمَّا فرغت من العشاء الآخرة أظلم الليل وامتلأ البيداء من أصوات السباع وغيرها، وكنت أعرف من بينها صوت الأسد والذئب، وأرى أعين بعضها تتوقَّد كأنَّها السراج، فزادت وحشتي إلَّا أنِّي كنت مستسلماً للموت، فأدركني النوم لكثرة التعب، وما أفقت إلَّا والأصوات قد انخمدت، والدنيا بنور القمر قد أضاءت، وأنا في غاية الضعف، فرأيت فارساً مقبلاً عليَّ، فقلت في نفسي: إنَّه يقتلني لأنَّه يريد متاعي فلا يجد شيئاً عندي فيغضب لذلك فيقتلني، ولا أقلَّ من أنْ تصيبني منه جراحة.
فلمَّا وصل إليَّ سلَّم عليَّ، فرددت عليه السلام، وطابت منه نفسي، فقال: ما لك؟
فأومأت إليه بضعفي، فقال: عندك ثلاث بطِّيخات، لِـمَ لا تأكل منها؟
فقلت: لا تستهزء بي(74)، ودعني على حالي.
فقال لي: انظر إلى ورائك، فنظرت، فرأيت شجرة بطِّيخ عليها ثلاث بطِّيخات كبار، فقال: سدَّ جوعك بواحدة، وخذ معك اثنتين، وعليك بهذا الصراط المستقيم، فامش عليه، وكُلْ نصف بطِّيخة أوَّل النهار، والنصف الآخر عند الزوال، واحفظ بطِّيخة فإنَّها تنفعك، فإذا غربت الشمس، تصل إلى خيمة سوداء، يوصلك أهلها إلى القافلة، وغاب عن بصري.
فقمت إلى تلك البطِّيخات، فكسرت واحدة منها، فرأيتها في غاية الحلاوة واللطافة كأنِّي ما أكلت مثلها، فأكلتها، وأخذت معي الاثنتين، ولزمت الطريق، وجعلت أمشي حتَّى طلعت الشمس، ومضى من طلوعها مقدار ساعة، فكسرت واحدة منهما وأكلت نصفها، وسرت إلى زوال الشمس، فأكلت النصف الآخر، وأخذت الطريق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(74) في النسخة: (لا تستهزءني).

(٧٩)

فلمَّا قرب الغروب بدت لي تلك الخيمة، ورآني أهلها، فبادروا إليَّ وأخذوني بعنف وشدَّة، وذهبوا بي إلى الخيمة كأنَّهم زعموني جاسوساً، وكنت لا أعرف التكلُّم إلَّا بلسان العرب، ولا يعرفون لساني، فأتوا بي إلى كبيرهم، فقال لي بشدَّة وغضب: من أين جئت؟ تصدقني وإلَّا قتلتك.
فأفهمته بكلِّ حيلة شرحاً من حالي.
فقال: أيُّها السيِّد الكذَّاب لا يعبر من الطريق الذي تدَّعيه متنفِّس إلَّا تلف أو أكله السباع، ثمّ إنَّك كيف قدرت على تلك المسافة البعيدة في الزمان الذي تذكره، ومن هذا المكان إلى المشهد المقدَّس مسيرة ثلاثة أيَّام؟ أصدقني وإلَّا قتلتك، وشهر سيفه في وجهي، فبدا له البطِّيخ من تحت عبائي، فقال: ما هذا؟
فقصصت عليه قصَّته، فقال الحاضرون: ليس في هذا الصحراء بطِّيخ، خصوصاً هذه البطِّيخة التي ما رأينا مثلها أبداً.
فرجعوا إلى أنفسهم، وتكلَّموا فيما بينهم، وكأنَّهم علموا صدق مقالتي، وأنَّ هذه معجزة من الإمام (عليه آلاف التحيَّة والثناء والسلام)(75)، فأقبلوا عليَّ، وقبَّلوا يدي، وصدَّروني في مجلسهم، وأكرموني غاية الإكرام، وأخذوا لباسي تبرُّكاً به، وكسوني ألبسة جديدة فاخرة، وأضافوني يومين وليلتين.
فلمَّا كان اليوم الثالث أعطوني عشرة توامين، ووجَّهوا معي ثلاثة منهم حتَّى أدركت القافلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(75) ويأتي في ذيل الحكاية الثالثة والخمسين دفع ما ربَّما يُتوهَّم في هذه الحكاية وأمثالها من عدم وجود شاهد فيها على كون المستغاث هو الحجَّة (عليه السلام). (منه (رحمه الله)).

(٨٠)

الحكاية الثانية والعشرون: [الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) يُتِمُّ نسخ الكتاب]

[قال]: السيِّد الشهيد القاضي نور الله الشوشتري في (مجالس المؤمنين) في ترجمة آية الله العلَّامة الحلِّي (قدّس سرّه) أنَّ من جملة مقاماته العالية أنَّه اشتهر عند أهل الإيمان أنَّ بعض علماء أهل السُّنَّة ممَّن تتلمذ(76) عليه العلَّامة في بعض الفنون ألَّف كتاباً في ردِّ الإماميَّة، ويقرأ للناس في مجالسه ويضلُّهم، وكان لا يُعطيه أحداً خوفاً من أنْ يردَّه أحد من الإماميَّة، فاحتال (رحمه الله) في تحصيل هذا الكتاب إلى أنْ جعل تتلمذه عليه وسيلة لأخذه الكتاب منه عارية، فالتجأ الرجل واستحيى من ردِّه، وقال: إنِّي آليت على نفسي أنْ لا أعطيه أحداً أزيد من ليلة، فاغتنم الفرصة في هذا المقدار من الزمان.
فأخذه منه وأتى به إلى بيته لينقل منه ما تيسَّر منه، فلمَّا اشتغل بكتابته وانتصف الليل غلبه النوم، فحضر الحجَّة (عليه السلام) وقال: ولِّني الكتاب وخذ في نومك.
فانتبه العلَّامة وقد تمَّ الكتاب بإعجازه (عليه السلام)(77). وظاهر عبارته يوهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(76) هذا هو الصحيح، يقال: تلمذ له وتتلمذ: صار تلميذاً له، والتلميذ المتعلِّم والخادم، وعن بعضهم هو الشخص الذي يُسلِّم نفسه لمعلِّم ليُعلِّمه صنعته، سواء كانت علماً أو غيره، فيخدمه مدَّة حتَّى يتعلَّمها منه. وأمَّا ما في الأصل المطبوع: (تلمَّذ) بتشديد الميم، فهو من الأغلاط المشهورة.
(77) ورأيت هذه الحكاية في مجموعة كبيرة، من جمع الفاضل الألمعي عليُّ بن إبراهيم المازندراني وبخطِّه، وكان معاصراً للشيخ البهائي (رحمه الله)، هكذا: الشيخ الجليل جمال الدِّين الحلِّي، كان علَّامة علماء الزمان...، إلى أنْ قال: وقد قيل: إنَّه كان يطلب من بعض الأفاضل كتاباً لينتسخه، وهو كان يأبى عليه، وكان كتاباً كبيراً جدًّا، فاتَّفق أنْ أخذه منه شرطاً بأنْ لا يبقى عنده غير ليلة واحدة، وهذا كتاب لا يمكن نسخه إلَّا في سنة أو أكثر، فآلى به الشيخ (رحمه الله)، وشرع في كتابته في تلك الليلة، فكتب منه صفحات وملَّه، وإذا برجل دخل عليه من الباب بصفة أهل الحجاز، فسلَّم وجلس، ثمّ قال: أيُّها الشيخ أنت مصطر لي الأوراق وأنا أكتب، فكان الشيخ يمصطر له الورق وذلك الرجل يكتب، وكان لا يلحق المصطر بسرعة كتابته، فلما نقر ديك الصباح وصاح، وإذا الكتاب بأسره مكتوب تماماً. وقد قيل: إنَّ الشيخ لـمَّا ملَّ الكتابة نام، فانتبه فرأى الكتاب مكتوباً. والله أعلم. (منه (رحمه الله)).

(٨١)

أنَّ الملاقاة والمكالمة كان في اليقظة، وهو بعيد، والظاهر أنَّه في المنام، والله العالم.

الحكاية الثالثة والعشرون: [المعمَّر بن غوث السنبسي وزوال مُلك بني العبَّاس]

في مجموعة نفيسة عندي كلُّها بخطِّ العالم الجليل شمس الدِّين محمّد بن عليِّ بن الحسن الجباعي جدِّ شيخنا البهائي، وهو الذي ينتهي نسخ الصحيفة الكاملة إلى الصحيفة التي كانت بخطِّه، وكتبها من نسخة الشهيد الأوَّل (رحمه الله)، وقد نقل عنه عن تلك المجموعة وغيرها العلَّامة المجلسي كثيراً في (البحار)، وربَّما عبَّر هو وغيره كالسيِّد نعمة الله الجزائري في أوَّل شرح الصحيفة عنه بصاحب الكرامات، ما لفظه:
قال السيِّد تاج الدِّين محمّد بن معية الحسني (أحسن الله إليه): حدَّثني والدي القاسم بن الحسن بن معية الحسني (تجاوز الله عن سيِّئاته) أنَّ المعمَّر بن غوث السنبسي ورد إلى الحلَّة مرَّتين، إحداهما قديمة لا أُحقِّق تاريخها، والأُخرى قبل فتح بغداد بسنتين، قال والدي: وكنت حينئذٍ ابن ثمان سنوات، ونزل على الفقيه مفيد الدِّين ابن جهم، وتردَّد إليه الناس، وزاره خالي السعيد تاج الدِّين بن معية، وأنا معه طفل ابن ثمان سنوات، ورأيته وكان شخصاً طوالاً من الرجال،

(٨٢)

يُعَدُّ في الكهول، وكان ذراعه كأنَّه الخشبة المجلدة، ويركب الخيل العتاق، وأقام أيَّاماً بالحلَّة، وكان يحكي أنَّه كان أحد غلمان الإمام أبي محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري (عليهما السلام)، وأنَّه شاهد ولادة القائم (عليه السلام).
قال والدي (رحمه الله): وسمعت الشيخ مفيد [الدِّين] بن جهم يحكي بعد مفارقته وسفره عن الحلَّة أنَّه قال: أخبرنا بسرٍّ لا يمكننا الآن إشاعته، وكانوا يقولون: إنَّه أخبره بزوال مُلك بني العبَّاس، فلمَّا مضى لذلك سنتان أو ما يقاربهما أُخِذَت بغداد وقُتِلَ المستعصم، وانقرض مُلك بني العبَّاس، فسبحان من له الدوام والبقاء.
وكتب ذلك محمّد بن عليٍّ الجباعي من خطِّ السيِّد تاج الدِّين يوم الثلاثاء في شعبان سنة تسع وخمسين وثمانمائة.
ونقل قبل هذه الحكاية عن المعمَّر خبرين(78) هكذا من خطِّ ابن معية ويرفع الإسناد عن المعمَّر بن غوث السنبسي، عن أبي الحسن الداعي بن نوفل السلمي، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: «إنَّ الله خلق خلقاً من رحمته لرحمته برحمته، وهم الذين يقضون الحوائج للناس، فمن استطاع منكم أنْ يكون منهم فليكن».
وبالإسناد عن المعمَّر بن غوث السنبسي، عن الإمام الحسن بن عليٍّ العسكري (عليهما السلام) أنَّه قال: «أحسن ظنَّك ولو بحجر يطرح الله شرَّه فيه فتتناول حظَّك منه».
فقلت: أيَّدك الله، حتَّى بحجر؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(78) وروى هذين الخبرين الشيخ الفاضل ابن أبي جمهور الأحسائي في أوَّل كتاب غوالي اللئالي مسنداً عن شيخ الفقهاء أبي القاسم جعفر بن سعيد المحقِّق (رحمه الله)، عن مفيد [الدِّين] ابن جهم المذكور، عن المعمر بن غوث السنبسي، عن أبي الحسن العسكري (عليه السلام)، مثله. وهذا ممَّا يشبهه بصحَّة الحكاية المذكورة، مع أنَّ سندها في أعلى درجات الصحَّة. (منه (رحمه الله)).

(٨٣)

قال: «أفلا ترى حجر الأسود؟».
قلت: أمَّا الولد فهو القاضي السيِّد النسَّابة تاج الدِّين أبو عبد الله محمّد بن القاسم، عظيم الشأن جليل القدر، استجاز منه الشهيد الأوَّل لنفسه ولولديه محمّد وعليٍّ ولبنته ستِّ المشايخ(79).
وأمَّا والده فهو السيِّد جلال الدِّين أبو جعفر القاسم بن الحسن بن محمّد ابن الحسن بن معية بن سعيد الديباجي الحسني، الفقيه الفاضل العالم الجليل عظيم الشأن، تلميذ عميد الرؤساء وابن السكون، ومعاصر العلَّامة والراوي للصحيفة الشريفة الكاملة عنهما، عن السيِّد بهاء الشرف المذكور في أوَّل الصحيفة كما تبيَّن في محلِّه.
وأمَّا ابن جهم فهو الشيخ الفقيه محمّد بن جهم، وهو الذي لـمَّا سأل الخواجة نصير الدِّين عن المحقِّق أعلم تلامذته في الأُصوليِّين، أشار إليه وإلى سديد الدِّين والد العلَّامة.

الحكاية الرابعة والعشرون: [قصَّة الشيخ إبراهيم القطيفي]

العالم الجليل الشيخ يوسف البحريني في (اللؤلؤة) في ترجمة العالم الشيخ إبراهيم القطيفي المعاصر للمحقِّق الثاني، عن بعض أهل البحرين، أنَّ هذا الشيخ دخل عليه الإمام الحجَّة (عليه السلام) في صورة رجل يعرفه الشيخ، فسأله: أيّ الآيات من القرآن في المواعظ أعظم؟
فقال الشيخ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(79) مخفَّف: (سيِّدة المشايخ).

(٨٤)

فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [فُصِّلت: 40].
فقال: صدقت يا شيخ، ثمّ خرج منه.
فسأل أهل البيت: خرج فلان؟
فقالوا: ما رأينا أحداً داخلاً ولا خارجاً.

الحكاية الخامسة والعشرون: [الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) يرثي الشيخ المفيد (قدّس سرّه)]

[قال]: السيِّد القاضي نور الله الشوشتري في (مجالس المؤمنين) ما معناه أنَّه وجد هذه الأبيات بخطِّ صاحب الأمر (عليه السلام) مكتوباً على قبر الشيخ المفيد (قدّس سرّه):

لا صوت الناعي بفقدك إنَّه * * * يوم على آل الرسول عظيم
إنْ كنت قد غُيِّبت في جدث الثرى * * * فالعدل والتوحيد فيك مقيم
والقائم المهدي يفرح كلَّما * * * تُليت عليك من الدروس علوم
الحكاية السادسة والعشرون: [فارس الصحراء]

في (الصراط المستقيم) للشيخ زين الدِّين عليِّ بن يونس العاملي البياضي: قال مؤلِّف هذا الكتاب عليُّ بن محمّد بن يونس:
خرجت مع جماعة تزيد على أربعين رجلاً إلى زيارة القاسم بن موسى الكاظم (عليه السلام)(80)، فكنَّا عن حضرته نحو ميل من الأرض، فرأينا فارساً معترضاً،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(80) هذا القاسم عظيم القدر، جليل الشأن، روى الكليني في الكافي في باب الإشارة والنصِّ على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) (راجع: ج 1/ ص 314) بسند معتبر عن أبي إبراهيم (عليه السلام) في خبر طويل أنَّه قال لزيد بن سليط: «أُخبرك يا أبا عمارة أنِّي خرجت من منزلي، فأوصيت إلى ابني فلان، وأشركت معه بنيَّ في الظاهر وأوصيته في الباطن [فأفردته وحده]، ولو كان الأمر إليَّ لجعلته في القاسم ابني لحبِّي إيَّاه ورأفتي عليه، ولكن ذلك إلى الله (عزَّ وجلَّ) يجعله حيث يشاء».
وقال السيِّد الجليل عليُّ بن طاوس في (مصباح الزائر): ذكر زيارة أبرار أولاد الأئمَّة (عليهم السلام)، إذا أردت زيارة أحد منهم كالقاسم بن الكاظم والعبَّاس بن أمير المؤمنين أو عليِّ بن الحسين المقتول بالطفِّ (عليهم السلام) ومن جرى في الحكم مجراهم، تقف على المزور... إلخ.
ومن الأخبار المشهورة وإنْ لم نعثر على مأخذها ما روي عن الرضا (عليه السلام) أنَّه قال ما معناه: «من لم يقدر على زيارتي فليزر أخي القاسم بحلَّة»، والله العالم. (منه (رحمه الله)).

(٨٦)

فظننَّاه يريد أخذ ما معنا، فخبَّينا ما خفنا عليه، فلمَّا وصلنا رأينا آثار فرسه ولم نرَه، فنظرنا ما حول القبلة، فلم نرَ أحداً، فتعجَّبنا من ذلك مع استواء الأرض، وحضور الشمس، وعدم المانع، فلا يمتنع أنْ يكون هو الإمام (عليه السلام) أو أحد الأبدال.
قلت: وهذا الشيخ جليل القدر عظيم الشأن، صاحب المصنَّفات الرائقة، وصفه الشيخ إبراهيم الكفعمي في بعض كلماته في ذكر الكُتُب التي ينقل عنها بقوله: ومن ذلك (زبدة البيان وإنسان الإنسان المنتزع من مجمع البيان) جمع الإمام العلَّامة، فريد الدهر، ووحيد العصر، مهبط أنوار الجبروت، وفاتح أسرار الملكوت، خلاصة الماء والطين، جامع كمالات المتقدِّمين والمتأخِّرين، بقيَّة الحُجَج على العالمين، الشيخ زين الملَّة والحقِّ والدِّين، عليِّ بن يونس لا أخلى الله الزمان من أنوار شموسه وإيضاح براهينه ودروسه بمحمّد وآله (عليهم السلام).

الحكاية السابعة والعشرون: [نور في سرداب الغيبة]

حدَّثني مشافهةً العالم العامل فخر الأواخر وذخر الأوائل، شمس فلك

(٨٦)

الزهد والتقى، وحاوي درجات السداد والهدى، الفقيه المؤيَّد النبيل، شيخنا الأجلّ الحاجّ المولى عليُّ بن الحاجّ ميرزا خليل الطهراني المتوطِّن في الغريِّ حيًّا وميِّتاً، وكان يزور أئمَّة سامرَّاء في أغلب السنين، ويأنس بالسرداب المغيب، ويستمدُّ فيه الفيوضات، ويعتقد فيه رجاء نيل المكرمات.
وكان يقول: إنِّي ما زرت مرَّةً إلَّا ورأيت كرامة ونلت مكرمة، وكان يستر ما رآه، غير أنَّه ذكر لي وسمعه عنه غيري: أنِّي كثيراً ما وصلت إلى باب السرداب الشريف في جوف الليل المظلم، وحين هدوء من الناس، فأرى عند الباب قبل النزول من الدرج نوراً يشرق من سرداب الغيبة على جدران الدهليز الأوَّل، ويتحرَّك من موضع إلى آخر، كأنَّ بيد أحد هناك شمعة مضيئة، وهو ينتقل من مكان إلى آخر فيتحرَّك النور هنا بحركته، ثمّ أنزل وأدخل في السرداب الشريف فما أجد أحداً ولا أرى سراجاً.

الحكاية الثامنة والعشرون: [الشيخ الدخني]

حدَّثني السيِّد الثقة التقي الصالح السيِّد مرتضى النجفي (رحمه الله)، وقد أدرك الشيخ شيخ الفقهاء وعمادهم الشيخ جعفر النجفي، وكان معروفاً عند علماء العراق بالصلاح والسداد، وصاحبته سنين سفراً وحضراً فما وقفت منه على عثرة في الدِّين، قال:
كنَّا في مسجد الكوفة مع جماعة فيهم أحد من العلماء المعروفين المبرزين في المشهد الغروي، وقد سألته عن اسمه غير مرَّة فما كشف عنه، لكونه محلّ هتك الستر، وإذاعة السرِّ.
قال: ولـمَّا حضرت وقت صلاة المغرب جلس الشيخ لدى المحراب

(٨٧)

للصلاة، والجماعة في تهيئة الصلاة بين جالس عنده ومؤذِّن ومتطهِّر، وكان في ذلك الوقت في داخل الموضع المعروف بالتنُّور ماء قليل من قناة خربة، وقد رأينا مجراها عند عمارة مقبرة هانئ بن عروة، والدرج التي تنزل إليه ضيِّقة مخروبة، لا تسع غير واحد.
فجئت إليه وأردت النزول، فرأيت شخصاً جليلاً على هيأة الأعراب قاعداً عند الماء يتوضَّأ، وهو في غاية من السكينة والوقار والطمأنينة، وكنت مستعجلاً لخوف عدم إدراك الجماعة، فوقفت قليلاً، فرأيته كالجبل لا يُحرِّكه شيء، فقلت وقد أُقيمت الصلاة ما معناه: لعلَّك لا تريد الصلاة مع الشيخ؟
أردت بذلك تعجيله، فقال: لا.
قلت: ولِـمَ؟
قال: لأنَّه الشيخ الدخني.
فما فهمت مراده، فوقفت حتَّى أتمَّ وضوءه، فصعد وذهب، ونزلت وتوضَّأت وصلَّيت، فلمَّا قضيت الصلاة وانتشر الناس وقد ملأ قلبي وعيني هيأته وسكونه وكلامه، فذكرت للشيخ ما رأيت وسمعت منه، فتغيَّرت حاله وألوانه، وصار متفكِّراً مهموماً، فقال: قد أدركت الحجَّة (عليه السلام) وما عرفته، وقد أخبر عن شيء ما اطَّلع عليه إلَّا الله تعالى. اعلم أنِّي زرعت الدخنة(81) في هذه السنة في الرحبة، وهي موضع في طرف الغربي من بحيرة الكوفة، محلّ خوف وخطر من جهة أعراب البادية المتردِّدين إليه، فلمَّا قمت إلى الصلاة ودخلت فيها ذهب فكري إلى زرع الدخنة وأهمَّني أمره، فصرت أتفكَّر فيه وفي آفاته.
هذا خلاصة ما سمعته منه (رحمه الله) قبل هذا التاريخ بأزيد من عشرين سنة، وأستغفر الله من الزيادة والنقصان في بعض كلماته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(81) الدُّخن - بالضمِّ -: حَبُّ الجاورس، أو حَبٌّ أصغر منه، أملس جدًّا، بارد يابس، حابس للطبع.

(٨٨)

الحكاية التاسعة والعشرون: [البغدادي الغريق]

في كتاب (نور العيون) تأليف الفاضل الخبير الألمعي السيِّد محمّد شريف الحسيني الأصبهاني، عن أُستاذه العالم الصالح الزاهد الورع الآميرزا محمّد تقي ابن الآميرزا محمّد كاظم بن الآميرزا عزيز الله ابن المولى محمّد تقي المجلسي الملقَّب بالألماسي، وهو من العلماء الزاهدين، وكان بصيراً في الفقه والحديث والرجال، وقد ذكرنا شرح حاله في (رسالة الفيض القدسي في ذكر أحوال العلَّامة المجلسي (رضوان الله عليه)).
قال في رسالة له في ذكر من رآه (عليه السلام) في الغيبة الكبرى: حدَّثني بعض أصحابنا، عن رجل صالح من أهل بغداد، وهو حيٌّ إلى هذا الوقت أي سنة ستّ وثلاثين بعد المائة والألف، قال:
إنِّي كنت قد سافرت في بعض السنين مع جماعة، فركبنا السفينة وسرنا في البحر، فاتَّفق أنَّه انكسرت سفينتنا، وغرق جميع من فيها، وتعلَّقت أنا بلوح مكسور، فألقاني البحر بعد مدَّة إلى جزيرة، فسرت في أطراف الجزيرة، فوصلت بعد اليأس من الحياة بصحراء فيها جبل عظيم.
فلمَّا وصلت إليه رأيته محيطاً بالبحر إلَّا طرفاً منه يتَّصل بالصحراء، واستشممت منه رائحة الفواكه، ففرحت وزاد شوقي، وصعدت قدراً من الجبل حتَّى إذا بلغت إلى وسطه في موضع أملس مقدار عشرين ذراعاً لا يمكن الاجتياز منه أبداً، فتحيَّرت في أمري، فصرت أتفكَّر في أمري، فإذا أنا بحيَّة عظيمة كالأشجار العظيمة تستقبلني في غاية السرعة، ففررت منها منهزماً مستغيثاً بالله تبارك وتعالى في النجاة من شرِّها كما نجَّاني من الغرق.

(٨٩)

فإذا أنا بحيوان شبه الأرنب قصد الحيَّة مسرعاً من أعلى الجبل حتَّى وصل إلى ذنبها، فصعد منه حتَّى إذا وصل رأس الحيَّة إلى ذلك الحجر الأملس وبقي ذنبه فوق الحجر، وصل الحيوان إلى رأسها وأخرج من فمه حمة(82) مقدار إصبع فأدخلها في رأسها، ثمّ نزعها وأدخلها في موضع آخر منها وولَّى مدبراً، فماتت الحيَّة في مكانها من وقتها، وحدث فيها عفونة كادت نفسي أنْ تطلع من رائحتها الكريهة، فما كان بأسرع من أنْ ذاب لحمها، وسال في البحر، وبقي عظامها كسُلَّم ثابت في الأرض يمكن الصعود منه.
فتفكَّرت في نفسي، وقلت: إنْ بقيت هنا أموت من الجوع، فتوكَّلت على الله في ذلك، وصعدت منها حتَّى علوت الجبل، وسرت من طرف قبلة الجبل، فإذا أنا بحديقة بالغة حدَّ الغاية في الغضارة والنضارة والطراوة والعمارة، فسرت حتَّى دخلتها وإذا فيها أشجار مثمرة كثيرة، وبناء عالٍ مشتمل على بيوتات، وغُرَف كثيرة في وسطها.
فأكلت من تلك الفواكه، واختفيت في بعض الغُرَف وأنا أتفرَّج الحديقة وأطرافها، فإذا أنا بفوارس قد ظهروا من جانب البرِّ قاصدي الحديقة، يقدمهم رجل ذو بهاء وجمال وجلال، وغاية من المهابة، يُعلَم من ذلك أنَّه سيِّدهم، فدخلوا الحديقة، ونزلوا من خيولهم وخلّوا سبيلها، وتوسَّطوا القصر، فتصدَّر السيِّد وجلس الباقون متأدِّبين حوله.
ثمّ أحضروا الطعام، فقال لهم ذلك السيِّد: إنَّ لنا في هذا اليوم ضيفاً في الغرفة الفلانيَّة، ولا بدَّ من دعوته إلى الطعام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(82) الحمة - وزان ثبة -: الإبرة يضرب بها الزنبور والحيَّة ونحو ذلك أو يلدغ بها، وتاؤها عوض عن اللَّام المحذوفة، لأنَّ أصلها حمو أو حمى.

(٩٠)

فجاء بعضهم في طلبي، فخفت وقلت: اعفني من ذلك، فأخبر السيِّد بذلك.
فقال: اذهبوا بطعامه إليه في مكانه ليأكله، فلمَّا فرغنا من الطعام، أمر بإحضاري وسألني عن قصَّتي، فحكيت له القصَّة، فقال: أتُحِبّ أنْ ترجع إلى أهلك؟
قلت: نعم.
فأقبل على واحد منهم، وأمره بإيصالي إلى أهلي، فخرجت أنا وذلك الرجل من عنده.
فلمَّا سرنا قليلاً قال لي الرجل: انظر فهذا سور بغداد، فنظرت إذا أنا بسوره، وغاب عنِّي الرجل، فتفطَّنت من ساعتي هذه، وعلمت أنِّي لقيت سيِّدي ومولاي (عليه السلام)، ومن سوء حظي حرمت من هذا الفيض العظيم، فدخلت بلدي وبيتي في غاية من الحسرة والندامة.
قلت: وحدَّثني العالم الفقيه النبيه الصفي الحاجّ المولى الهادي الطهراني (قدّس سرّه) أنَّه رأى هذه الحكاية في الرسالة المذكورة، والظاهر أنَّ اسمها (بهجة الأولياء).

الحكاية الثلاثون: [قصَّة جماعة من أهل البحرين]

وفيه: وعن المولى المتَّقي المذكور، قال: حدَّثني ثقة صالح من أهل العلم من سادات شولستان، عن رجل ثقة، أنَّه قال:
اتَّفق في هذه السنين أنَّ جماعة من أهل بحرين عزموا على إطعام جمع من المؤمنين على التناوب، فأطعموا حتَّى بلغ النوبة إلى رجل منهم لم يكن عنده شيء، فاغتمَّ لذلك وكثر حزنه وهمُّه، فاتَّفق أنَّه خرج ليلة إلى الصحراء، فإذا

(٩١)

بشخص قد وافاه، وقال له: اذهب إلى التاجر الفلاني وقل: يقول لك محمّد بن الحسن: أعطني الاثني عشر ديناراً التي نذرتها لنا، فخذها منه وأنفقها في ضيافتك.
فذهب الرجل إلى ذلك التاجر، وبلَّغه رسالة الشخص المذكور.
فقال التاجر: قال لك ذلك محمّد بن الحسن بنفسه؟
فقال البحريني: نعم.
فقال: عرفته؟
فقال: لا.
فقال التاجر: هو صاحب الزمان (عليه السلام)، وهذه الدنانير نذرتها له.
فأكرم الرجل، وأعطاه المبلغ المذكور، وسأله الدعاء، وقال له: لما قبل نذري أرجو منك أنْ تعطيني منه نصف دينار وأعطيك عوضه.
فجاء البحريني وأنفق المبلغ في مصرفه.
وقال ذلك الثقة: إنِّي سمعت القصَّة عن البحريني بواسطتين.
وممَّا استطرفناه من هذا الكتاب ويناسب المقصود أنَّ المؤلِّف ذكر في باب من رأى(83) أربعة عشر حكاية، ذكرنا منها اثنتين، وإحدى عشرة منها موجودة في (البحار)، وذكر في الرابعة عشر قصَّة عجيبة.
قال: يقول المؤلِّف الضعيف محمّد باقر الشريف: إنَّ في سنة ألف ومائة وثلاث وسبعين كنت في طريق مكَّة المعظَّمة، صاحبت رجلاً ورعاً موثَّقاً يُسمَّى حاجّ عبد الغفور في ما بين الحرمين، وهو من تُجَّار تبريز يسكن في اليزد، وقد حجَّ قبل ذلك ثلاث مرَّات، وبنى في هذا السفر على مجاورة بيت الله سنتين، ليُدرِك فيض الحجِّ ثلاث سنين متوالية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(83) أي إنَّ العلَّامة المجلسي (قدّس سرّه) ذكر في كتاب (البحار) في باب من رأى الإمام الحجَّة (عليه السلام).

(٩٢)

ثمّ بعد ذلك في سنة ألف ومائة وستَّة وسبعين، حين معاودتي من زيارة المشهد الرضوي (على صاحبه السلام) رأيته أيضاً في اليزد، وقد مرَّ في رجوعه من مكَّة بعد ثلاث حجَّات إلى بندر صورت من بنادر هند لحاجة له، ورجع في سنة إلى بيته، فذكر لي عند اللقاء:
إنِّي سمعت من مير أبو طالب أنَّ في السنة الماضية جاء مكتوب من سلطان الإفرنج إلى الرئيس الذي يسكن بندر بمبئي من جانبه ويُعرَف بجندر، أنَّ في هذا الوقت ورد علينا رجلان عليهما لباس الصوف، ويدَّعي أحدهما أنَّ عمره سبعمائة وخمسين سنة، والآخر سبعمائة سنة، ويقولان: بعثنا صاحب الأمر (عليه السلام) لندعوكم إلى دين محمّد المصطفى (عليه السلام)، ويقولان: إنْ لم تقبلوا دعوتنا ولم تتديَّنوا بديننا يُغرق البحر بلادكم بعد ثمان أو عشر سنين - والترديد من الحاجّ المذكور -، وقد أمرنا بقتلهما، فلم يعمل فيهما الحديد، ووضعناهما على الأثواب وقيناره(84) فلم يحترقا، فشددنا أيديهما وأرجلهما وألقيناهما في البحر فخرجا منه سالمين.
وكتب إلى الرئيس أنْ يتفحَّص في أرباب مذاهب الإسلام واليهود والمجوس والنصارى، وأنَّهم هل رأوا ظهور صاحب الأمر (عليه السلام) في آخر الزمان في كُتُبهم أم لا؟
قال الحاج المزبور: وقد سألت من قسِّيس كان في بندر صورت عن صحَّة المكاتبة المذكورة، فذكر لي كما سمعت.
وسلالة النجباء مير أبو طالب وميرزا بزرك الإيراني، وهم الآن من وجوه معارف البندر المذكور نقلا لي كما ذكرت، وبالجملة الخبر مشهور منتشر في تلك البلدة، والله العالم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(84) كذا في الأصل المطبوع.

(٩٣)

الحكاية الحادية والثلاثون: [إشعاع في فضاء مسجد الكوفة]

حدَّثني العالم النبيل، والفاضل الجليل، الصالح الثقة العدل الذي قلَّ له البديل، الحاجّ المولى محسن الأصفهاني المجاور لمشهد أبي عبد الله (عليه السلام) حيًّا وميِّتاً، وكان من أوثق أئمَّة الجماعة، قال: حدَّثني السيِّد السند، والعالم المؤيَّد، التقي الصفي السيِّد محمّد بن السيِّد مال الله بن السيِّد معصوم القطيفي (رحمهم الله)، قال:
قصدت مسجد الكوفة في بعض ليالي الجُمَع، وكان في زمان مخوف لا يتردَّد إلى المسجد أحد إلَّا مع عُدَّة وتهيئة، لكثرة من كان في أطراف النجف الأشرف من القُطَّاع واللصوص، وكان معي واحد من الطلَّاب.
فلمَّا دخلنا المسجد لم نجد فيه إلَّا رجلاً واحداً من المشتغلين، فأخذنا في آداب المسجد، فلمَّا حان غروب الشمس عمدنا إلى الباب فأغلقناه، وطرحنا خلفه من الأحجار والأخشاب والطوب(85) والمدر إلى أنْ اطمئننَّا بعدم إمكان انفتاحه من الخارج عادة. ثمّ دخلنا المسجد، واشتغلنا بالصلاة والدعاء، فلمَّا فرغنا جلست أنا ورفيقي في دكَّة القضاء مستقبل القبلة، وذاك الرجل الصالح كان مشغولاً بقراءة دعاء كميل في الدهليز القريب من باب الفيل بصوتٍ عالٍ شجي، وكانت ليلة قمراء صاحية، وكنت متوجِّهاً إلى نحو السماء.
فبينا نحن كذلك فإذا بطيب قد انتشر في الهواء، وملأ الفضاء أحسن من ريح نوافج المسك الأذفر، وأروح للقلب من النسيم إذا تسحَّر، ورأيت في خلال أشعَّة القمر إشعاعاً كشعلة النار، قد غلب عليها، وانخمد في تلك الحال صوت ذلك الرجل الداعي، فالتفت فإذا أنا بشخص جليل، قد دخل المسجد من طرف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(85) الطوب: الآجر، بلغة أهل مصر.

(٩٤)

ذلك الباب المنغلق في زيِّ لباس الحجاز، وعلى كتفه الشريف سجَّادة كما هو عادة أهل الحرمين إلى الآن، وكان يمشي في سكينة ووقار، وهيبة وجلال، قاصداً باب المسلم، ولم يبقَ لنا من الحواسِّ إلَّا البصر الخاسر، واللبُّ الطائر، فلمَّا صار بحذائنا من طرف القبلة، سلَّم علينا.
قال (رحمه الله): أمَّا رفيقي فلم يبقَ له شعور أصلاً، ولم يتمكَّن من الردِّ، وأمَّا أنا فاجتهدت كثيراً إلى أنْ رددت عليه في غاية الصعوبة والمشقَّة، فلمَّا دخل باب المسجد وغاب عنَّا تراجعت القلوب إلى الصدور، فقلنا: من كان هذا؟ ومن أين دخل؟
فمشينا نحو ذلك الرجل، فرأيناه قد خرق ثوبه ويبكي بكاء الواله الحزين، فسألناه عن حقيقة الحال، فقال: واظبت هذا المسجد أربعين ليلة من ليالي الجمعة طلباً للتشرُّف بلقاء خليفة العصر، وناموس الدهر (عجَّل الله فرجه)، وهذه الليلة تمام الأربعين ولم أتزوَّد من لقائه ظاهراً، غير أنِّي حيث رأيتموني كنت مشغولاً بالدعاء فإذا به (عليه السلام) واقفاً على رأسي، فالتفت إليه (عليه السلام) فقال: چه ميكني، أو چه ميخواني، أي ما تفعل؟ أو ما تقرأ؟ - والترديد من الفاضل المتقدِّم -، ولم أتمكَّن من الجواب، فمضى عنِّي كما شاهدتموه.
فذهبنا إلى الباب فوجدناه على النحو الذي أغلقناه، فرجعنا شاكرين متحسِّرين.
قلت: وهذا السيِّد كان عظيم الشأن، جليل القدر، وكان شيخنا الأُستاذ العلَّامة الشيخ عبد الحسين الطهراني (أعلى الله مقامه) كثيراً ما يذكره بخير ويثني عليه ثناءً بليغاً، قال: كان (رحمه الله) تقيًّا صالحاً، وشاعراً مجيداً، وأديباً قارئاً، غريقاً في بحار محبَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وأكثر ذكره وفكره فيهم ولهم، حتَّى إنَّا كثيراً ما نلقاه في الصحن الشريف، فنسأله عن مسألة أدبيَّة فيجيبنا، ويستشهد في خلال كلامه

(٩٥)

بما أنشده هو وغيره في المراثي، فتتغيَّر حاله فيشرع في ذكر مصائبهم على أحسن ما ينبغي، وينقلب مجلس الشعر والأدب إلى مجلس المصيبة والكرب، وله (رحمه الله) قصائد رائقة في المراثي، دائرة على ألسن القُرَّاء، منها القصيدة التي أوَّلها:

ما لي إذا ما الليل جنا * * * أهفو لمن غنى وحنا

وهي طويلة، ومنها القصيدة التي أولها:

ألقت لي الأيَّام فضل قيادها * * * فأردت غير مرامها ومرادها

إلخ.
ومنها القصيدة التي يقول فيها في مدح الشهداء:

وذوي المروَّة والوفا أنصاره * * * لهم على الجيش اللهام زئير
طهرت نفوسهم بطيب أُصولها * * * فعناصر طابت لهم وحجور
عشقوا العنا للدفع لا عشقوا * * * العنا للنفع لكن أمضي المقدور
فتمثَّلت لهم القصور وما بهم * * * لولا تمثَّلت القصور قصور
ما شاقهم للموت إلَّا وعدة الر * * * حمن لا ولدانها والحور

إلخ.

الحكاية الثانية والثلاثون: [المريض البورمي]

في شهر جمادي الأُولى من سنة ألف ومائتين وتسعة وتسعين ورد الكاظمين (عليهما السلام) رجل اسمه آقا محمّد مهدي، وكان من قاطني بندر ملومين من بنادر ماجين وممالك برمه، وهو الآن في تصرُّف الإنجريز، ومن بلدة كلكتة قاعدة سلطنة ممالك الهند إليه مسافة ستَّة أيَّام من البحر مع المراكب الدخانيَّة،

(٩٦)

وكان أبوه من أهل شيراز، ولكنَّه وُلِدَ وتعيَّش في البندر المذكور، وابتلى قبل التاريخ المذكور بثلاث سنين بمرض شديد، فلمَّا عوفي منه بقي أصمّ أخرس.
فتوسَّل لشفاء مرضه بزيارة أئمَّة العراق (عليهم السلام)، وكان له أقارب في بلدة كاظمين (عليهما السلام) من التُّجَّار المعروفين، فنزل عليهم، وبقي عندهم عشرين يوماً، فصادف وقت حركة مركب الدخان إلى سُرَّ من رأى لطغيان الماء، فأتوا به إلى المركب وسلَّموه إلى راكبيه، وهم من أهل بغداد وكربلا، وسألوهم المراقبة في حاله والنظر في حوائجه لعدم قدرته على إبرازها، وكتبوا إلى بعض المجاورين من أهل سامرَّا للتوجُّه في أُموره.
فلمَّا ورد تلك الأرض المشرَّفة والناحية المقدَّسة، أتى إلى السرداب المنوَّر بعد الظهر من يوم الجمعة العاشر من جمادي الآخرة من السنة المذكورة، وكان فيه جماعة من الثقات والمقدَّسين، إلى أنْ أتى إلى الصفة المباركة، فبكى وتضرَّع فيها زماناً طويلاً، وكان يكتب قبيله(86) حاله على الجدار، ويسأل من الناظرين الدعاء والشفاعة.
فما تمَّ بكاؤه وتضرُّعه إلَّا وقد فتح الله تعالى لسانه، وخرج بإعجاز الحجَّة (عليه السلام) من ذلك المقام المنيف مع لسان ذلق، وكلام فصيح، وأُحضر في يوم السبت في محفل تدريس سيِّد الفقهاء وشيخ العلماء رئيس الشيعة، وتاج الشريعة، المنتهى إليه رياسة الإماميَّة سيِّدنا الأفخم وأُستاذنا الأعظم الحاجّ الآميرزا محمّد حسن الشيرازي (متَّع الله المسلمين بطول بقائه)، وقرأ عنده متبرِّكاً سورة المباركة الفاتحة بنحو أذعن الحاضرون بصحَّته وحسن قراءته، وصار يوماً مشهوداً ومقاماً محموداً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(86) هكذا في النسخة.

(٩٧)

وفي ليلة الأحد والاثنين اجتمع العلماء والفضلاء في الصحن الشريف فرحين مسرورين، وأضاؤوا فضاءه من المصابيح والقناديل، ونظموا القصَّة ونشروها في البلاد، وكان معه في المركب مادح أهل البيت (عليهم السلام) الفاضل اللبيب الحاجّ ملَّا عبَّاس الصفَّار الزنوزي البغدادي، فقال - وهو من قصيدة طويلة ورآه مريضاً وصحيحاً -:

وفي عامها جئت والزائرين * * * إلى بلدة سرَّ من قد رآها
رأيت من الصين فيها فتى * * * وكان سميُّ إمام هداها
يشير إذا ما أراد الكلام * * * وللنفس منه...(87) براها
وقد قيَّد السقم منه الكلام * * * وأطلق من مقلتيه دماها
فوافا إلى باب سرداب من * * * به الناس طرًّا ينال مناها
يروم بغير لسان يزور * * * وللنفس منه دهت بعناها
وقد صار يكتب فوق الجدار * * * ما فيه للروح منه شفاها
أروم الزيارة بعد الدعاء * * * ممَّن رأى أسطري وتلاها
لعلَّ لساني يعود الفصيح * * * وعلِّي أزور وأدعو الإلها
إذا هو في رجل مقبل * * * تراه ورى البعض من أتقياها
تأبَّط خير كتاب له * * * وقد جاء من حيث غاب ابن طاها
فأومى إليه ادع ما قد كتب * * * وجاء فلمَّا تلاه دعاها
وأوصى به سيِّداً جالساً * * * أنْ ادعو له بالشفاء شفاها
فقام وأدخله غيبة الإ * * * مام المغيَّب من أوصياها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(87) كذا.

(٩٨)

وجاء إلى حفرة الصفة * * * التي هي للعين نور ضياها
وأسرج آخر فيها السراج * * * وأدناه من فمه ليراها
هناك دعا الله مستغفراً * * * وعيناه مشغولة ببكاها
ومذ عاد منها يريد الصلاة * * * قد عاود النفس منه شفاها
وقد أطلق الله منه اللسان * * * وتلك الصلاة أتمّ أداها

ولـمَّا بلغ الخبر إلى خرِّيت صناعة الشعر السيِّد المؤيَّد الأديب اللبيب فخر الطالبيِّين، وناموس العلويِّين، السيِّد حيدر بن السيِّد سليمان الحلِّي (أيَّده الله تعالى) بعث إلى سُرَّ من رأى كتاباً صورته:
بسم الله الرحمن الرحيم
لـمَّا هبَّت من الناحية المقدَّسة نسمات كرم الإمامة، فنشرت نفحات عبير هاتيك الكرامة، فأطلقت لسان زائرها من اعتقاله، عند ما قام عندها في تضرُّعه وابتهاله، أحببت أنْ أنتظم في سلك من خدم تلك الحضرة، في نظم قصيدة تتضمَّن بيان هذا المعجز العظيم ونشره، وأنْ أُهنِّئ علَّامة الزمن وغرَّة وجهه الحسن، فرع الأراكة المحمّديَّة، ومنار الملَّة الأحمديَّة، علم الشريعة، وإمام الشيعة، لأجمع بين العبادتين في خدمة هاتين الحضرتين، فنظمت هذه القصيدة الغرَّاء، وأهديتها إلى دار إقامته وهي سامرَّا، راجياً أنْ تقع موقع القبول، فقلت ومن الله بلوغ المأمول:

كذا يظهر المعجز الباهر * * * ويشهده البرُّ والفاجر
وتُروى الكرامة مأثورة * * * يُبلِّغها الغائب الحاضر
يقرُّ لقوم بها ناظر * * * ويقذي لقوم بها ناظر
فقلب لها ترحاً واقع * * * وقلب بها فرحاً طائر

(٩٩)

أجل طرف فكرك يا مستدلُّ * * * وأنجد بطرفك يا غائر
تصفَّح مآثر آل الرسول * * * وحسبك ما نشر الناشر
ودونكه نباء صادقاً * * * لقلب العدوِّ هو الباقر
فمن صاحب الأمر أمس استبان * * * لنا معجز أمره باهر
بموضع غيبته مذ ألم * * * أخو علَّة داؤها ظاهر
رمى فمه باعتقال اللسان * * * رام هو الزمن الغادر
فأقبل ملتمساً للشفاء * * * لدى من هو الغائب الحاضر
ولقَّنه القول مستأجر * * * عن القصد في أمره جائر
فبيناه في تعب ناصب * * * ومن ضجر فكره حائر
إذ انحلَّ من ذلك الاعتقال * * * وبارحه ذلك الضائر
فراح لمولاه في الحامدين * * * وهو لآلائه ذاكر
لعمري لقد مسحت داءه * * * يد كلِّ خلق لها شاكر
يد لم تزل رحمة للعباد * * * لذلك أنشأها الفاطر
تحدر وإنْ كرهت أنفس * * * يضيق شجى صدرها الواغر
وقل إنَّ قائم آل النبيِّ * * * له النهي وهو هو الآمر
أيمنع زائره الاعتقال * * * ممَّا به ينطق الزائر
ويدعوه صدقاً إلى حلِّه * * * ويقضي على أنَّه القادر
ويكبو مرجيه دون الغياث * * * وهو يقال به العاثر

(١٠٠)

فحاشاه بل هو نعم المغيث * * * إذا نضنض الحارث الفاغر(88)
فهذي الكرامة لا ما غدا * * * يُلفِّقه الفاسق الفاجر
أدم ذكرها يا لسان الزمان * * * وفي نشرها فمك العاطر
وهنِّ بها سُرَّ من را ومن * * * به ربعها آهل عامر
هو السيِّد الحسن المجتبى * * * خضم الندى غيثه الهامر
وقل يا تقدَّست من بقعة * * * بها يهب الزلَّة الغافر
كلا اسميك في الناس باد له * * * بأوجههم أثر ظاهر
فأنت لبعضهم سُرَّ من * * * رأى وهو نعت لهم ظاهر
وأنت لبعضهم ساء من * * * رأى وبه يُوصَف الخاسر
لقد أطلق الحسن المكرمات * * * مهياك فهو بهيٌّ سافر
فأنت حديقة زهو به * * * وأخلافه روضك الناضر
عليم تربَّى بحجر الهدى * * * ونسج التقى برده الطاهر

إلى أنْ قال (سلَّمه الله تعالى):

كذا فلتكن عترة المرسَلين * * * وإلَّا فما الفخر يا فاخر
الحكاية الثالثة والثلاثون: [تضوع المسك في سرداب الغيبة]

حدَّثني الثقة العدل الأمين آغا محمّد المجاور لمشهد العسكريَّين (عليهما السلام)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(88) الحارث: لقب الأسد. والفاغر: الذي فتح فاه. يقال: نضنض لسانه: إذا حرَّكه. فالسبع إذا فغر فاه ونضنض لسانه أشدّ ما يكون.

(١٠١)

المتولِّي لأمر الشموعات لتلك البقعة العالية، فيما ينيف على أربعين سنة، وهو أمين السيِّد الأجلّ الأُستاذ (دام علاه)، عن أُمِّه، وهي من الصالحات، قالت:
كنت يوماً في السرداب الشريف، مع أهل بيت العالم الربَّاني والمؤيَّد السبحاني المولى زين العابدين السلماسي المتقدِّم ذكره (رحمه الله)، وكان حين مجاورته في هذه البلدة الشريفة لبناء سورها.
قالت: وكان يوم الجمعة، والمولى المذكور يقرأ دعاء الندبة، وكنَّا نقرؤها بقراءته، وكان يبكي بكاء الواله الحزين، ويضجُّ ضجيج المستصرخين، وكنَّا نبكي ببكائه، ولم يكن معنا فيه غيرنا.
فبينا نحن في هذه الحالة وإذا بشرق مسك ونفحته قد انتشر في السرداب وملاء فضاءه وأخذ هواءه واشتدَّ نفاحه، بحيث ذهبت عن جميعنا تلك الحالة، فسكتنا كأنَّ على رؤوسنا الطير، ولم نقدر على حركة وكلام، فبقينا متحيِّرين إلى أنْ مضى زمان قليل، فذهب ما كنَّا نستشمُّه من تلك الرائحة الطيِّبة، ورجعنا إلى ما كنَّا فيه من قراءة الدعاء، فلمَّا رجعنا إلى البيت سألت المولى (رحمه الله) عن سبب ذلك الطيب، فقال: ما لكِ والسؤال عن هذا؟ وأعرض عن جوابي.
وحدَّثني الأخ الصفي العالم المتَّقي الآغا عليّ رضا الأصفهاني الذي مرَّ ذكره، وكان صديقه وصاحب سرِّه، قال: سألته يوماً عن لقائه الحجَّة (عليه السلام)، وكنت أظنُّ في حقِّه ذلك كشيخه السيِّد المعظَّم العلَّامة الطباطبائي كما تقدَّم، فأجابني بتلك الواقعة حرفاً بحرف، وقد ذكرت في (دار السلام) بعض كراماته ومقاماته (رحمة الله عليه).

(١٠٢)

الحكاية الرابعة والثلاثون: [مقام الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) في النعمانيَّة]

قال الفاضل الجليل النحرير الآميرزا عبد الله الأصفهاني الشهير بالأفندي في المجلَّد الخامس من كتاب (رياض العلماء) في ترجمة الشيخ ابن [أبي] الجواد النعماني أنَّه ممَّن رأى القائم (عليه السلام) في زمن الغيبة الكبرى، وروى عنه (عليه السلام).
ورأيت في بعض المواضع نقلاً عن خطِّ الشيخ زين الدِّين عليِّ بن الحسن ابن محمّد الخازن الحائري تلميذ الشهيد أنَّه قد رأى ابن أبي جواد النعماني مولانا المهدي (عليه السلام)، فقال له: يا مولاي، لك مقام بالنعمانيَّة، ومقام بالحلَّة، فأين تكون فيهما؟
فقال له: أكون بالنعمانيَّة ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء، ويوم الجمعة وليلة الجمعة أكون بالحلَّة، ولكن أهل الحلَّة ما يتأدَّبون في مقامي، وما من رجل دخل مقامي بالأدب يتأدَّب، ويُسلِّم عليَّ وعلى الأئمَّة، وصلَّى عليَّ وعليهم اثني عشر مرَّة، ثمّ صلَّى ركعتين بسورتين، وناجى الله بهذا المناجاة، إلَّا أعطاه الله تعالى ما يسأله، أحدها المغفرة.
فقلت: يا مولاي، علِّمني ذلك.
فقال: قل: اللَّهُمَّ قد أخذ التأديب منِّي حتَّى مسَّني الضرُّ وأنت أرحم الراحمين، وإنْ كان ما اقترفته من الذنوب أستحقُّ به أضعاف أضعاف ما أدَّبتني به، وأنت حليم ذو أناة، تعفو عن كثير، حتَّى يسبق عفوك ورحمتك عذابك.
وكرَّرها عليَّ ثلاثاً حتَّى فهمتها.
قلت: والنعمانيَّة بلد بين واسط وبغداد، والظاهر أنَّ منه الشيخ أبا عبد الله محمّد بن محمّد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب الشهير بالنعماني المعروف بابن أبي

(١٠٣)

زينب تلميذ الكليني، وهو صاحب الغيبة والتفسير، وهو والشيخ الصفواني المعاصر له، قد ضبط كلُّ واحدٍ منهما نسخة الكافي، ولذا ترى أنَّه قد يقع في الكافي كثيراً: وفي نسخة النعماني كذا، وفي نسخة الصفواني كذا.

الحكاية الخامسة والثلاثون: [الحجَّة (عجَّل الله فرجه) يزور أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الأحد]

[قال] السيِّد الأجلّ عليُّ بن طاوس في (جمال الأُسبوع) أنَّه شاهد أحد صاحب الزمان (عليه السلام) وهو يزور بهذه الزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في اليقظة لا في النوم، يوم الأحد وهو يوم أمير المؤمنين (عليه السلام):
[اَلسَّلَامُ] عَلَى اَلشَّجَرَةِ اَلنَّبَوِيَّةِ، وَاَلدَّوْحَةِ اَلْهَاشِمِيَّةِ اَلمُضِيئَةِ، اَلمُثْمِرَةِ بِالنُّبُوَّةِ، اَلمُونِعَةِ بِالْإِمَامَةِ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى ضَجِيعَيْكَ آدَمَ وَنُوحٍ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ اَلطَّيِّبِينَ اَلطَّاهِرِينَ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى اَلمَلاَئِكَةِ اَلمُحْدِقِينَ بِكَ، وَاَلْحَافِّينَ بِقَبْرِكَ، يَا مَوْلَايَ يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ هَذَا يَوْمُ اَلْأَحَدِ، وَهُوَ يَوْمُكَ وَبِاسْمِكَ، وَأَنَا ضَيْفُكَ فِيهِ وَجَارُكَ، فَأَضِفْنِي يَا مَوْلَايَ وَأَجِرْنِي، فَإِنَّكَ كَرِيمٌ تُحِبُّ اَلضِّيَافَةَ، وَمَأْمُولٌ بِالْإِجَابَةِ(89)، فَافْعَلْ مَا رَغِبْتُ إِلَيْكَ فِيهِ، وَرَجَوْتُهُ مِنْكَ، بِمَنْزِلَتِكَ وَآلِ بَيْتِكَ عِنْدَ اَللهِ وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَكُمْ، وَبِحَقِّ اِبْنِ عَمِّكَ رَسُولِ اَللهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْكُمْ أَجْمَعِينَ.

الحكاية السادسة والثلاثون: [استخارة منسوبة لصاحب الأمر (عجَّل الله فرجه)]

العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) في (منهاج الصلاح)، قال: نوع آخر من الاستخارة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(89) في جمال الأُسبوع (ص 38): (ومأمور بالإجابة).

(١٠٤)

رويته عن والدي الفقيه سديد الدِّين يوسف بن عليِّ بن المطهَّر (رحمه الله)، عن السيِّد رضي الدِّين محمّد الآوي الحسيني، عن صاحب الأمر (عليه السلام)، وهو أنْ يقرأ فاتحة الكتاب عشر مرَّات، وأقلّه ثلاث مرَّات، والأدون منه مرَّة، ثمّ يقرأ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ عشر مرَّات، ثمّ يقرأ هذا الدعاء ثلاث مرَّات:
اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ لِعِلْمِكَ بِعَوَاقِبِ اَلْأُمُورِ، وَأَسْتَشِيرُكَ لِحُسْنِ ظَنِّي بِكَ فِي اَلمَأْمُولِ وَاَلمَحْذُورِ، اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ اَلْأَمْرُ اَلْفُلَانِيُّ قَدْ نِيطَتْ بِالْبَرَكَةِ أَعْجَازُهُ وَبَوَادِيهِ، وَحُفَّتْ بِالْكَرَامَةِ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيهِ، فَخِرْ لِي فِيهِ خِيَرَةً تَرُدُّ شَمُوسَهُ ذَلُولاً، تَقْعَضُ أَيَّامَهُ سُرُوراً.
اَللَّهُمَّ إِمَّا أَمْرٌ فَأْتَمِرُ، وَإِمَّا نَهْيٌ فَأَنْتَهِي، اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِرَحْمَتِكَ خِيَرَةً فِي عَافِيَةٍ.
ثمّ يقبض على قطعة من السبحة، ويضمر حاجته، ويخرج إنْ كان عدد تلك القطعة زوجاً فهو (افعل)، وإنْ كان فرداً (لا تفعل)، أو بالعكس.
قال الكفعمي (رحمه الله): (نيطت) تعلَّقت، وناط الشيء تعلَّق، وهذا منوط بك أي متعلِّق، والأنواط المعاليق، ونيط فلان بكذا أي تعلَّق، قال الشاعر:

وأنت زنيم نيط في آل هاشم * * * كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

وأعجاز الشيء آخره، وبواديه أوَّله، ومفتتح الأمر ومبتداه. ومهله وعنفوانه وأوائله وموارده وبدائهه وبواديه نظائر. وشوافعه وتواليه وأعقابه ومصادره ورواجعه ومصائره وعواقبه وأعجازه نظائر.
وقوله: (شموسه) أي صعوبته، ورجل شموس: أي صعب الخُلُق، ولا تقل: شموص بالصاد. وأشمس الفرس منع ظهره.
والذلول ضدُّ الصعوبة.
وتقعض أي تردُّ وتعطف، وقعضت العود عطفته، وتقعص بالصاد

(١٠٥)

تصحيف، والعين مفتوحة، لأنَّه إذا كانت عين الفعل أو لامه أحد حروف الحلق كان الأغلب فتحها في المضارع.
قال في (البحار): وفي كثير من النُّسَخ بالصاد المهملة، ولعلَّه مبالغة في السرور، وهذا شائع في العرب والعجم، يقال لمن أصابه سرور عظيم: مات سروراً. أو يكون المراد به الانقضاء، أي تنقضي بالسرور، والتعبير به لأنَّ أيَّام السرور سريعة الانقضاء، فإنَّ القعص الموت سريعاً، فعلى هذا يمكن أنْ يُقرَأ على بناء المعلوم والمجهول. و(أيَّامه) بالرفع والنصب معاً.
قال الشهيد (رحمه الله) في (الذكرى): ومنها الاستخارة بالعدد، ولم يكن هذه مشهورة في العصور الماضية، قبل زمان السيِّد الكبير العابد رضي الدِّين محمّد الآوي الحسيني المجاور بالمشهد المقدَّس الغروي (رضي الله عنه)، وقد رويناها عنه وجميع مرويَّاته عن عدَّة من مشايخنا، عن الشيخ الكبير الفاضل جمال الدِّين ابن المطهَّر عن السيِّد الرضي، عن صاحب الأمر (عليه السلام)، وتقدَّم عنه (رحمه الله) حكاية أُخرى.
وهذه الحكاية ذكرها المحقِّق الكاظميني في مسألة الإجماع في بعض وجوهه في عداد من تلقَّى عن الحجَّة (عليه السلام) في غيبته الكبرى بعض الأحكام سماعاً أو مكاتبةً.

الحكاية السابعة والثلاثون: [إخبار الإمام (عجَّل الله فرجه) لشخص بمدَّة عمره]

في كتاب (إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات) للشيخ المحدِّث الجليل محمّد ابن الحسن الحرِّ العاملي (رحمه الله)، قال: قد أخبرني جماعة من ثقات الأصحاب أنَّهم رأوا صاحب الأمر (عليه السلام) في اليقظة، وشاهدوا منه معجزات متعدِّدات، وأخبرهم بعدَّة مغيَّبات، ودعا لهم بدعوات مستجابات، وأنجاهم من أخطار مهلكات.

(١٠٦)

قال (رحمه الله): وكنَّا جالسين في بلادنا في قرية مشغر في يوم عيد، ونحن جماعة من أهل العلم والصلحاء، فقلت لهم: ليت شعري في العيد المقبل من يكون من هؤلاء حيًّا ومن يكون قد مات؟
فقال لي رجل كان اسمه (الشيخ محمّد)، وكان شريكنا في الدروس: أنا أعلم أنِّي أكون في عيد آخر حيًّا، وفي عيد آخر حيًّا، وعيد آخر إلى ستَّة وعشرين سنة.
وظهر منه أنَّه جازم بذلك من غير مزاح.
فقلت له: أنت تعلم الغيب؟
قال: لا، ولكنِّي رأيت المهدي (عليه السلام) في النوم وأنا مريض شديد المرض، فقلت له: أنا مريض وأخاف أنْ أموت، وليس لي عمل صالح ألقى الله به.
فقال: لا تخف، فإنَّ الله تعالى يشفيك من هذا المرض، ولا تموت فيه بل تعيش ستًّا وعشرين سنة.
ثمّ ناولني كأساً كان في يده، فشربت منه وزال عنِّي المرض وحصل لي الشفاء، وأنا أعلم أنَّ هذا ليس من الشيطان.
فلمَّا سمعت كلام الرجل كتبت التاريخ، وكان سنة ألف وتسعة وأربعين، ومضت لذلك مدَّة وانتقلت إلى المشهد المقدَّس سنة ألف واثنين وسبعين، فلمَّا كانت السنة الأخيرة وقع في قلبي أنَّ المدَّة قد انقضت، فرجعت إلى ذلك التاريخ وحسبته فرأيته قد مضى منه ستّ وعشرون سنة، فقلت: ينبغي أنْ يكون الرجل مات.
فما مضت مدَّة نحو شهر أو شهرين حتَّى جاءتني كتابة من أخي - وكان في البلاد - يُخبرني أنَّ الرجل المذكور مات.

(١٠٧)

الحكاية الثامنة والثلاثون: [قصَّة الشيخ الحرِّ العاملي صاحب الوسائل]

وفي الكتاب المذكور، قال (رحمه الله): إنِّي كنت في عصر الصبى وسنِّي عشر سنين أو نحوها أصابني مرض شديد جدًّا حتَّى اجتمع أهلي وأقاربي وبكوا وتهيَّأوا للتعزية، وأيقنوا أنِّي أموت تلك الليلة.
فرأيت النبيَّ والأئمَّة الاثني عشر (صلوات الله عليهم)، وأنا فيما بين النائم واليقظان، فسلَّمت عليهم وصافحتهم واحداً واحداً، وجرى بيني وبين الصادق (عليه السلام) كلام، ولم يبقَ في خاطري إلَّا أنَّه دعا لي.
فلمَّا سلَّمت على الصاحب (عليه السلام) وصافحته، بكيت وقلت: يا مولاي، أخاف أنْ أموت في هذا المرض، ولم أقضِ وطري من العلم والعمل.
فقال (عليه السلام): لا تخف فإنَّك لا تموت في هذا المرض، بل يشفيك الله تعالى، وتعمّر عمراً طويلاً، ثمّ ناولني قدحاً كان في يده فشربت منه وأفقت في الحال وزال عنِّي المرض بالكلّيَّة وجلست، وتعجَّب أهلي وأقاربي، ولم أُحدِّثهم بما رأيت إلَّا بعد أيَّام.

الحكاية التاسعة والثلاثون: [مصطفى الحمود خادم في سرداب الغيبة]

وحدَّثني الثقة الأمين آغا محمّد المتقدِّم ذكره، قال: كان رجل من أهل سامرَّاء من أهل الخلاف يُسمَّى مصطفى الحمود، وكان من الخُدَّام الذين دَيدنهم أذيَّة الزوَّار، وأخذ أموالهم بطُرُق فيها غضب الجبَّار، وكان أغلب أوقاته في السرداب المقدَّس على الصفة الصغيرة، خلف الشبَّاك الذي وضعه هناك [ومن

(١٠٨)

جاء] من الزوَّار ويشتغل بالزيارة، يحول الخبيث بينه وبين مولاه فيُنبِّهه على الأغلاط المتعارفة التي لا تخلو أغلب العوامِّ منها، بحيث لم يبقَ لهم حالة حضور وتوجُّه أصلاً.
فرأى ليلة في المنام الحجَّة من الله المَلِك العلَّام (عليه السلام)، فقال له: إلى متى تُؤذي زوَّاري ولا تدعهم أنْ يزوروا؟ ما لك وللدخول في ذلك؟ خلِّ بينهم وبين ما يقولون.
فانتبه، وقد أصمَّ الله أُذُنيه، فكان لا يسمع بعده شيئاً، واستراح منه الزوَّار، وكان كذلك إلى أنْ ألحقه الله بأسلافه في النار.

الحكاية الأربعون: [دعاء علَّمه الإمام (عجَّل الله فرجه) لشخص]

الشيخ الجليل أمين الإسلام فضل بن الحسن الطبرسي صاحب التفسير في كتاب (كنوز النجاح)، قال:
دعاء علَّمه صاحب الزمان (عليه سلام الله المَلِك المنَّان) أبا الحسن محمّد ابن أحمد بن أبي الليث (رحمه الله تعالى) في بلدة بغداد، في مقابر قريش، وكان أبو الحسن قد هرب إلى مقابر قريش والتجأ إليه من خوف القتل، فنُجِّي منه ببركة هذا الدعاء.
قال أبو الحسن المذكور: إنَّه علَّمني أنْ أقول: اَللَّهُمَّ عَظُمَ اَلْبَلَاءُ، وَبَرِحَ اَلْخَفَاءُ، وَاِنْقَطَعَ اَلرَّجَاءُ، وَاِنْكَشَفَ اَلْغِطَاءُ، وَضَاقَتِ اَلْأَرْضُ، وَمَنَعَتِ اَلسَّمَاءُ، وَإِلَيْكَ يَا رَبِّ اَلمُشْتَكَى، وَعَلَيْكَ اَلمُعَوَّلُ فِي اَلشِّدَّةِ وَاَلرَّخَاءِ، اَللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ أُولِي اَلْأَمْرِ اَلَّذِينَ فَرَضْتَ عَلَيْنَا طَاعَتَهُمْ، فَعَرَّفْتَنَا بِذَلِكَ مَنْزِلَتَهُمْ، فَفَرِّجْ عَنَّا بِحَقِّهِمْ فَرَجاً عَاجِلاً كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ، يَا مُحَمَّدُ يَا عَلِيُّ اِكْفِيَانِي فَإِنَّكُمَا

(١٠٩)

كَافِيَايَ، وَاُنْصُرَانِي فَإِنَّكُمَا نَاصِرَايَ، يَا مَوْلَايَ يَا صَاحِبَ اَلزَّمَانِ اَلْغَوْثَ اَلْغَوْثَ [اَلْغَوْثَ]، أَدْرِكْنِي أَدْرِكْنِي أَدْرِكْنِي.
قال الراوي: إنَّه (عليه السلام) عند قوله: «يا صاحب الزمان» كان يشير إلى صدره الشريف.

الحكاية الحادية والأربعون: [المتوكِّل بن عمير ورؤيته للإمام (عجَّل الله فرجه)]

قال العالم النحرير، النقَّاد البصير، المولى أبو الحسن الشريف العاملي الغروي تلميذ العلَّامة المجلسي، وهو جدُّ شيخ الفقهاء في عصره صاحب (جواهر الكلام) من طرف أُمِّه، وينقل عنه في الجواهر كثيراً، صاحب التفسير الحسن الذي لم يُؤلَّف مثله وإنْ لم يبرز منه إلَّا قليل إلَّا أنَّ في مقدَّماته من الفوائد ما يشفي العليل، ويروي الغليل، وغيره، قال في كتاب (ضياء العالمين)، وهو كتاب كبير منيف على ستِّين ألف بيت، كثير الفوائد، قليل النظير، قال في أواخر المجلَّد الأوَّل منه في ضمن أحوال الحجَّة (عليه السلام) بعد ذكر قصَّة الجزيرة الخضراء مختصراً، ما لفظه:
ثمّ إنَّ المنقولات المعتبرة في رؤية صاحب الأمر (عليه السلام) سوى ما ذكرنا كثيرة جدًّا حتَّى في هذه الأزمنة القريبة، فقد سمعت أنا من ثقات أنَّ مولانا أحمد الأردبيلي رآه (عليه السلام) في جامع الكوفة، وسأل منه مسائل، وأنَّ مولانا محمّد تقي والد شيخنا رآه في الجامع العتيق بأصبهان، والحكاية الأُولى موجودة في (البحار)، وأمَّا الثانية فهي غير معروفة، ولم نعثر عليها إلَّا ما ذكره المولى المذكور (رحمه الله) في شرح مشيخة الفقيه في ترجمة المتوكِّل بن عمير راوي الصحيفة.
قال (رحمه الله): إنِّي كنت في أوائل البلوغ طالباً لمرضاة الله، ساعياً في طلب

(١١٠)

رضاه، ولم يكن لي قرار بذكره، إلى أنْ رأيت بين النوم واليقظة أنَّ صاحب الزمان (صلوات الله عليه) كان واقفاً في الجامع القديم بأصبهان قريباً من باب الطنبى الذي الآن مدرسي، فسلَّمت عليه وأردت أنْ أُقبِّل رجله، فلم يدعني وأخذني، فقبَّلت يده، وسألته عن(90) مسائل قد أشكلت عليَّ.
منها أنِّي كنت أُوسوس في صلاتي، وكنت أقول: إنَّها ليست كما طُلِبَت منِّي وأنا مشتغل بالقضاء، ولا يمكنني صلاة الليل، وسألت عنه شيخنا البهائي (رحمه الله)، فقال: صلِّ صلاة الظهر والعصر والمغرب بقصد صلاة الليل، وكنت أفعل هكذا، فسألت من(91) الحجَّة (عليه السلام): أُصلِّي صلاة الليل؟
فقال: صلِّها، ولا تفعل كالمصنوع الذي كنت تفعل، إلى غير ذلك من المسائل التي لم يبقَ في بالي.
ثمّ قلت: يا مولاي، لا يتيسَّر لي أنْ أصل إلى خدمتك كلَّ وقت، فأعطني كتاباً أعمل عليه دائماً.
فقال (عليه السلام): أعطيت لأجلك كتاباً إلى مولانا محمّد التاج، وكنت أعرفه في النوم.
فقال (عليه السلام): رح وخذ منه.
فخرجت من باب المسجد الذي كان مقابلاً لوجهه إلى جانب دار البطِّيخ (محلَّة من أصبهان)، فلمَّا وصلت إلى ذلك الشخص، فلمَّا رآني قال لي: بعثك الصاحب (عليه السلام) إليَّ؟
قلت: نعم.
فأخرج من جيبه كتاباً قديماً، فلمَّا فتحته ظهر لي أنَّه كتاب الدعاء، فقبَّلته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(90) في النسخة: (وسألت عنه)، ومقتضى السياق ما أثبتناه.
(91) في النسخة: (عن)، ومقتضى السياق ما أثبتناه.

(١١١)

ووضعته على عيني وانصرفت عنه متوجِّها إلى الصاحب (عليه السلام)، فانتبهت ولم يكن معي ذلك الكتاب.
فشرعت في التضرُّع والبكاء والحوار لفوت ذلك الكتاب إلى أنْ طلع الفجر، فلمَّا فرغت من الصلاة والتعقيب، وكان في بالي أنَّ مولانا محمّد(92) هو الشيخ، وتسميته بالتاج لاشتهاره من بين العلماء.
فلمَّا جئت إلى مدرسته وكان في جوار المسجد الجامع، فرأيته مشتغلاً بمقابلة الصحيفة، وكان القاري السيِّد صالح أمير ذو الفقار الجرفادقاني، فجلست ساعة حتَّى فرغ منه، والظاهر أنَّه كان في سند الصحيفة، لكن للغمِّ الذي كان لي لم أعرف كلامه ولا كلامهم، وكنت أبكي، فذهبت إلى الشيخ وقلت له رؤياي وكنت أبكي لفوات الكتاب، فقال الشيخ: أبشر بالعلوم الإلهيَّة، والمعارف اليقينيَّة، وجميع ما كنت تطلب دائماً.
وكان أكثر صحبتي مع الشيخ في التصوُّف، وكان مائلاً إليه، فلم يسكن قلبي، وخرجت باكياً متفكِّراً إلى أنْ أُلقي في روعي أنْ أذهب إلى الجانب الذي ذهبت إليه في النوم، فلمَّا وصلت إلى دار البطِّيخ رأيت رجلاً صالحاً اسمه آغا حسن، وكان يُلقَّب بـ (تاجا)، فلمَّا وصلت إليه وسلَّمت عليه قال: يا فلان، الكُتُب الوقفيَّة التي عندي كلُّ من يأخذه من الطلبة لا يعمل بشروط الوقف وأنت تعمل به، وقال: وانظر إلى هذه الكُتُب وكلَّ ما تحتاج إليه خذه.
فذهبت معه إلى بيت كُتُبه، فأعطاني أوَّل ما أعطاني الكتاب الذي رأيته في النوم، فشرعت في البكاء والنحيب، وقلت: يكفيني، وليس في بالي أنِّي ذكرت له النوم أم لا.
وجئت عند الشيخ وشرعت في المقابلة مع نسخته التي كتبها جدُّ أبيه مع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(92) يعني الشيخ البهائي (رحمه الله).

(١١٢)

نسخة الشهيد وكُتُب الشهيد نسخته مع نسخة عميد الرؤساء وابن السكون، وقابلها مع نسخة ابن إدريس بواسطة أو بدونها، وكانت النسخة التي أعطانيها الصاحب مكتوبة من خطِّ الشهيد، وكانت موافقة غاية الموافقة حتَّى في النُّسَخ التي كانت مكتوبة على هامشها، وبعد أنْ فرغت من المقابلة شرع الناس في المقابلة عندي، وببركة إعطاء الحجَّة (عليه السلام) صارت الصحيفة الكاملة في جميع البلاد كالشمس طالعة في كلِّ بيت، وسيّما في أصبهان، فإنَّ أكثر الناس لهم الصحيفة المتعدِّدة، وصار أكثرهم صلحاء وأهل الدعاء، وكثير منهم مستجابو الدعوة، وهذه الآثار معجزة لصاحب الأمر (عليه السلام)، والذي أعطاني الله من العلوم بسبب الصحيفة لا أُحصيها.
وذكرها العلَّامة المجلسي (رضوان الله عليه) في إجازات (البحار) مختصراً.

الحكاية الثانية والأربعون: [معمَّر بن أبي الدنيا صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام)]

حدَّث السيِّد الجليل والمحدِّث العليم النبيل، السيِّد نعمة الله الجزائري في مقدَّمات (شرح العوالي)، قال: حدَّثني وأجازني السيِّد الثقة هاشم بن الحسين الأحسائي في دار العلم شيراز، في المدرسة المقابلة للبقعة المباركة، مزار السيِّد محمّد عابد (عليه الرحمة والرضوان)، في حجرة من الطبقة الثانية، على يمين الداخل، قال: حكى لي أُستاذي الثقة المعدَّل الشيخ محمّد الحرفوشي (قدَّس الله تربته)، قال:
لما كنت بالشام عمدت يوماً إلى مسجد مهجور بعيد من العمران، فرأيت شيخاً أزهر الوجه، عليه ثياب بيض، وهيأة جميلة، فتجارينا في الحديث، وفنون

(١١٣)

العلم، فرأيته فوق ما يصفه الواصف، ثمّ تحقَّقت منه الاسم والنسبة، ثمّ بعد جهد طويل قال: أنا معمَّر بن أبي الدنيا صاحب أمير المؤمنين، وحضرت معه حروب صفِّين، وهذه الشجَّة في رأسي وفي وجهي من زجَّة فرسه(93).
ثمّ ذكر لي من الصفات والعلامات ما تحقَّقت معه صدقه في كلِّ ما قال، ثمّ استجزته كُتُب الأخبار، فأجازني عن أمير المؤمنين وعن جميع الأئمَّة (عليهم السلام) حتَّى انتهى في الإجازة إلى صاحب الدار (عجَّل الله فرجه)، وكذلك أجازني كُتُب العربيَّة من مصنِّفيها كالشيخ عبدالقاهر والسكَّاكي وسعد التفتازاني، وكُتُب النحو عن أهلها، وذكر العلوم المتعارفة.
ثمّ قال السيِّد (رحمه الله): إنَّ الشيخ محمّد الحرفوشي أجازني كُتُب الأحاديث الأُصول الأربعة، وغيرها من كُتُب الأخبار بتلك الإجازة، وكذلك أجازني الكُتُب المصنَّفة في فنون العلوم، ثمّ إنَّ السيِّد (رضوان الله عليه) أجازني بتلك الإجازة كلَّما أجازه شيخه الحرفوشي، عن معمَّر بن أبي الدنيا صاحب أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأمَّا أنا فأضمن ثقة المشايخ السيِّد والشيخ، وتعديلهما وورعهما، ولكنِّي لا أضمن وقوع الأمر في الواقع على ما حكيت، وهذه الإجازة العالية لم تتَّفق لأحد من علمائنا، ولا محدِّثينا، لا في الصدر السالف، ولا في الأعصار المتأخِّرة. انتهى.
وقال سبطه العالم الجليل السيِّد عبد الله صاحب (شرح النخبة)، وغيره في إجازته الكبيرة لأربعة من علماء حويزة، بعد نقل كلام جدِّه، وكأنَّه (رضي الله عنه) استنكر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(93) في الأصل المطبوع: (رمحة فرسه)، وهو تصحيف. والمراد بالزجَّة: الشكيمة من اللجام: وهي الحديدة المعترضة في فم الفرس فيها الفاس، وقد كانت تلك الحديدة مزجَّجة على ما في نسخة كمال الدِّين قال: (وكان لجام دابَّته حديداً مزجَّجاً، فرفع الفرس رأسه فشجَّني هذه الشجَّة التي في صدغي).

(١١٤)

هذه القصَّة أو خاف أنْ تُنكر عليه، فتبرَّأ من عهدتها في آخر كلامه، وليست بذلك، فإنَّ معمَّر بن أبي الدنيا المغربي له ذكر متكرِّر في الكُتُب، وقصَّة طويلة في خروجه مع أبيه في طلب ماء الحياة، وعثوره عليه دون أصحابه، مذكورة في كُتُب التواريخ وغيرها، وقد نقل منها نبذاً صاحب (البحار) في أحوال صاحب الدار(94)، وذكر الصدوق في كتاب (إكمال الدِّين) أنَّ اسمه عليُّ بن عثمان بن خطَّاب بن مرَّة بن مؤيَّد الهمداني، إلَّا أنَّه قال: معمَّر أبي الدنيا بإسقاط (بن)، والظاهر أنَّه هو الصواب كما لا يخفى، وذكر أنَّه من حضرموت والبلد الذي هو مقيم فيه طنجة، وروى عنه أحاديث مسندة بأسانيد مختلفة.
وأمَّا ما نقله الشيخ في مجالسه عن أبي بكر الجرجاني أنَّ المعمَّر المقيم ببلدة طنجة تُوفِّي سنة سبع عشرة وثلاثمائة، فليس بمنافٍ شيئاً، لأنَّ الظاهر أنَّ أحدهما غير الآخر، لتغاير اسميهما وقصَّتيهما وأحوالهما المنقولة، والله يعلم. انتهى.
وشرح حال المعمَّر مذكور في آخر فتن (البحار).
وقال السيِّد الجليل المعظَّم والحبر المكرَّم السيِّد حسين ابن العالم العليم السيِّد إبراهيم القزويني (رحمه الله) في آخر إجازته لآية الله بحر العلوم: وللعبد طريق آخر إلى الكُتُب الأربعة وغيرها لم تسمح الأعصار بمثلها، وهو ما أجاز لي السيِّد السعيد الشهيد السيِّد نصر الله الحائري، عن شيخه مولانا أبي الحسن، عن شيخه الفاضل السيِّد نعمة الله، عن شيخه السيِّد هاشم الأحسائي...، إلى آخر ما نقلناه.
والشيخ محمّد الحرفوشي من الأجلَّاء، قال الشيخ الحرُّ في (أمل الآمل): الشيخ محمّد بن عليِّ بن أحمد الحرفوشي الحريري العاملي الكركي الشامي كان فاضلاً عالماً أديباً ماهراً محقِّقاً مدقِّقاً شاعراً أديباً منشياً حافظاً، أعرف أهل عصره بعلوم العربيَّة. وذكر له مؤلَّفات في الأدبيَّة وشرح قواعد الشهيد، وغيرها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(94) راجع باب ذكر أخبار المعمَّرين (ج 51/ ص 225)، كمال الدِّين (ج 3/ ص 220).

(١١٥)

وذكره السيِّد عليّ خان في (سلافة العصر) وبالغ في الثناء عليه، وقال: إنَّه تُوفِّي سنة (1059هـ).

الحكاية الثالثة والأربعون: [تُرزَق علم التوحيد بعد حين]

حدَّثني سيِّد الفقهاء، وسناد العلماء، العالم الربَّاني، المؤيَّد بالألطاف الخفيَّة، السيِّد مهدي القزويني، الساكن في الحلَّة السيفيَّة، صاحب التصانيف الكثيرة والمقامات العالية (أعلى الله تعالى مقامه) فيما كتب بخطِّه، قال: حدَّثني والدي الروحاني وعمِّي الجسماني جناب المرحوم المبرور العلَّامة الفهَّامة، صاحب الكرامات، والإخبار ببعض المغيَّبات، السيِّد محمّد باقر نجل المرحوم السيِّد أحمد الحسيني القزويني، أنَّ في الطاعون الشديد الذي حدث في أرض العراق من المشاهد وغيرها في عام ستٍّ وثمانين بعد المائة والألف، وهرب جميع من كان في المشهد الغروي من العلماء المعروفين وغيرهم، حتَّى العلَّامة الطباطبائي والمحقِّق صاحب كشف الغطاء وغيرهما بعد ما تُوفِّي منهم جمٌّ غفير، ولم يبقَ إلَّا معدودين من أهله، منهم السيِّد (رحمه الله).
قال: وكان يقول: كنت أقعد اليوم في الصحن الشريف، ولم يكن فيه ولا في غيره أحد من أهل العلم إلَّا رجلاً معمَّماً من مجاوري أهل العجم، كان يقعد في مقابلي، وفي تلك الأيَّام لقيت شخصاً معظَّماً مبجَّلاً في بعض سكك المشهد ما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده، مع كون أهل المشهد في تلك الأيَّام محصورين، ولم يكن يدخل عليهم أحد من الخارج، قال: ولما رآني قال ابتداءً منه: أنت تُرزَق علم التوحيد بعد حين.
وحدَّثني السيد المعظَّم، عن عمِّه الجليل أنَّه (رحمه الله) بعد ذلك في ليلة من

(١١٦)

الليالي قد رأى مَلَكين نزلا عليه، بيد أحدهما عدَّة ألواح فيها كتابة، وبيد الآخر ميزان، فأخذا يجعلان في كلِّ كفة من الميزان لوحاً يوزنونها، ثمّ يعرضون الألواح المتقابلة عليَّ فأقرؤها، وهكذا إلى آخر الألواح، وإذا هما يقابلان عقيدة كلِّ واحدٍ من خواصِّ أصحاب النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وخواصِّ أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) مع عقيدة واحد من علماء الإماميَّة من سلمان وأبي ذرٍّ إلى آخر البوَّابين، ومن الكليني والصدوقين والمفيد والمرتضى والشيخ الطوسي إلى بحر العلوم خالي العلَّامة الطباطبائي ومن بعده من العلماء.
قال: فاطَّلعت في ذلك المنام على عقائد جميع الإماميَّة من الصحابة وأصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) وبقيَّة علماء الإماميَّة، وإذا أنا محيط بأسرار من العلوم لو كان عمري عمر نوح (عليه السلام) وأطلب هذه المعرفة لما أحطت بعشر معشار ذلك، وذلك بعد أنْ قال المَلَك الذي بيده الميزان للمَلَك الآخر الذي بيده الألواح: اعرض الألواح على فلان، فإنَّا مأمورون بعرض الألواح عليه، فأصبحت وأنا علَّامة زماني في العرفان.
فلمَّا جلست من المنام، وصلَّيت الفريضة وفرغت من تعقيب صلاة الصبح، فإذا بطارق يطرق الباب، فخرجت الجارية، فأتت إليَّ بقرطاس مرسول من أخي في الدِّين المرحوم الشيخ عبد الحسين الأعشم(95) فيه أبيات يمدحني فيها، فإذا قد جرى على لسانه في الشعر تفسير المنام على نحو الإجمال، قد ألهمه الله تعالى ذلك، وأمَّا أبيات المدح فمنها قوله شعراً:

نرجو سعادة فالي إلى سعادة فالك * * * بك اختتام معال قد افتتحن بخالك

وقد أخبرني بعقائد جملة من الصحابة المتقابلة مع بعض العلماء الإماميَّة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(95) هكذا في النسخة، ولعلَّ الصحيح: (الشيخ عبد الحسين الأعسم).

(١١٧)

ومن جملة ذلك عقيدة المرحوم خالي العلَّامة بحر العلوم في مقابلة عقيدة بعض أصحاب النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الذين هم من خواصِّه، وعقيدة علماء آخرين الذين يزيدون على السيِّد المرحوم المذكور أو ينقصون إلَّا أنَّ هذه الأُمور لـمَّا كانت من الأسرار التي لا يمكن إباحتها لكلِّ أحد، لعدم تحمُّل الخلق لذلك، مع أنَّه (رحمه الله) أخذ عليَّ العهد ألَّا أبوح به لأحد، وكانت تلك الرؤيا نتيجة قول ذلك القائل الذي تشهد القرائن بكونه المنتظر المهدي.
قلت: وهذا السيِّد المبجَّل كان صاحب أسرار خاله العلَّامة بحر العلوم وخاصَّته، وصاحب القبَّة المواجهة لقبَّة شيخ الفقهاء صاحب (جواهر الكلام)، في النجف الأشرف.
وحدَّثني السيِّد المعظَّم المزبور وغيره بجملة من كراماته ذكرناها في (دار السلام).

الحكاية الرابعة والأربعون: [فتح السليمانيَّة]

حدَّثني جماعة من الأفاضل الكرام، والصلحاء الفخام، منهم السيِّد السند والحبر المعتمد، زبدة العلماء الأعلام، وعمدة الفقهاء العظام، حاوي فنون الفضل والأدب، وحائز معالي الحسب والنسب، الآميرزا صالح (دام علاه) ابن سيِّد المحقِّقين ونور مصباح المجاهدين، وحيد عصره، وفريد دهره، سيِّدنا المعظَّم السيِّد مهدي المتقدِّم ذكره (أعلى الله مقامه، ورفع في الخلد أعلامه)، وقد كنت سألت عنه (سلَّمه الله) أنْ يكتب لي تلك الحكايات الآتية المنسوبة إلى والده المعظَّم التي سمعتها من الجماعة، فإنَّ أهل البيت أدرى بما فيه، مع ما هو عليه من الإتقان والحفظ والضبط والصلاح والسداد والاطِّلاع، وقد صاحبته في طريق

(١١٨)

مكَّة المعظَّمة ذهاباً وإياباً، فوجدته (أيَّده الله) بحراً لا ينزح وكنزاً لا ينفد، فكتب إليَّ مطابقاً لما سمعته من تلك العصابة.
وكتب أخوه العالم النحرير، وصاحب الفضل المنير، السيِّد الأمجد السيِّد محمّد (سلَّمه الله تعالى) في آخر ما كتبه:
سمعت هذه الكرامات الثلاثة سماعاً من لفظ الوالد المرحوم المبرور (عطَّر الله مرقده).
صورة ما كتبه:
بسم الله الرحمن الرحيم
حدَّثني بعض الصلحاء الأبرار من أهل الحلَّة، قال: خرجت غدوة من داري قاصداً داركم لأجل زيارة السيِّد (أعلى الله مقامه)، فصار ممرِّي في الطريق على المقام المعروف بقبر السيِّد محمّد ذي الدمعة، فرأيت على شبَّاكه الخارج إلى الطريق شخصاً بهي المنظر يقرأ فاتحة الكتاب، فتأمَّلته فإذا هو غريب الشكل، وليس من أهل الحلَّة.
فقلت في نفسي: هذا رجل غريب قد اعتنى بصاحب هذا المرقد، ووقف وقرأ له فاتحة الكتاب، ونحن أهل البلد نمرُّ ولا نفعل ذلك.
فوقفت وقرأت الفاتحة والتوحيد، فلمَّا فرغت سلَّمت عليه، فردَّ السلام، وقال لي: يا عليُّ، أنت ذاهب لزيارة السيِّد مهدي؟
قلت: نعم.
قال: فإنِّي معك.
فلمَّا صرنا ببعض الطريق قال لي: يا عليُّ، لا تحزن على ما أصابك من الخسران وذهاب المال في هذه السنة، فإنَّك رجل امتحنك الله بالمال فوجدك مؤدّياً للحقِّ، وقد قضيت ما فرض الله عليك، وأمَّا المال فإنَّه عرض زائل يجيء ويذهب.

(١١٩)

وكان قد أصابني خسران في تلك السنة لم يطَّلع عليه أحد مخافة الكسر، فاغتممت في نفسي وقلت: سبحان الله كسري قد شاع وبلغ حتَّى إلى الأجانب، إلَّا أنِّي قلت له في الجواب: الحمد لله على كلِّ حالٍ.
فقال: إنَّ ما ذهب من مالك سيعود إليك بعد مدَّة، وترجع كحالك الأوَّل، وتقضي ما عليك من الديون.
قال: فسكت وأنا مفكِّر في كلامه حتَّى انتهينا إلى باب داركم، فوقفت ووقف، فقلت: ادخل يا مولاي فأنا من أهل الدار.
فقال لي: ادخل أنت، أنا صاحب الدار.
فامتنعت، فأخذ بيدي وأدخلني أمامه، فلمَّا صرنا إلى المسجد وجدنا جماعة من الطلبة جلوساً ينتظرون خروج السيِّد (قدّس سرّه) من داخل الدار لأجل البحث.
ومكانه من المجلس خالٍ لم يجلس فيه أحد احتراماً له، وفيه كتاب مطروح، فذهب الرجل، وجلس في الموضع الذي كان السيِّد (قدّس سرّه) يعتاد الجلوس فيه، ثمّ أخذ الكتاب وفتحه، وكان كتاب شرائع المحقِّق (قدّس سرّه)، ثمّ استخرج من الكتاب كراريس مسودَّة بخطِّ السيِّد (قدّس سرّه)، وكان خطُّه في غاية الضعف لا يقدر كلُّ أحد على قراءته، فأخذ يقرأ في تلك الكراريس ويقول للطلبة: ألَا تعجبون من هذه الفروع وهذه الكراريس؟ هي بعض من جملة كتاب (مواهب الأفهام في شرح شرائع الإسلام)، وهو كتاب عجيب في فنِّه لم يبرز منه إلَّا ستّ مجلَّدات من أوَّل الطهارة إلى أحكام الأموات.
قال الوالد (أعلى الله درجته): لـمَّا خرجت من داخل الدار رأيت الرجل جالساً في موضعي، فلمَّا رآني قام وتنحَّى عن الموضع، فألزمته بالجلوس فيه، ورأيته رجلاً بهي المنظر، وسيم الشكل في زيٍّ غريب، فلمَّا جلسنا أقبلت عليه بطلاقة وجه وبشاشة، وسؤال عن حاله، واستحييت أنْ أسأله مَنْ هو؟ وأين وطنه؟

(١٢٠)

ثمّ شرعت في البحث، فجعل الرجل يتكلَّم في المسألة التي نبحث عنها بكلام كأنَّه اللؤلؤ المتساقط، فبهرني كلامه، فقال له بعض الطلبة: اسكت ما أنت وهذا. فتبسَّم وسكت.
قال (رحمه الله): فلمَّا انقضى البحث قلت له: من أين كان مجيئك إلى الحلَّة؟
فقال: من بلد السليمانيَّة.
فقلت: متى خرجت؟
فقال: بالأمس خرجت منها، وما خرجت منها حتَّى دخلها نجيب باشا فاتحاً لها عنوة بالسيف، وقد قبض على أحمد باشا الباباني المتغلِّب عليها، وأقام مقامه أخاه عبد الله باشا.
وقد كان أحمد باشا المتقدِّم قد خلع طاعة الدولة العثمانيَّة وادَّعى السلطنة لنفسه في السليمانيَّة.
قال الوالد (قدّس سرّه): فبقيت مفكِّراً في حديثه، وأنَّ هذا الفتح وخبره لم يبلغ إلى حُكَّام الحلَّة، ولم يخطر لي أنْ أسأله: كيف وصلت إلى الحلَّة وبالأمس خرجت من السليمانيَّة؟ وبين الحلَّة والسليمانية ما تزيد على عشرة أيَّام للراكب المجدِّ.
ثمّ إنَّ الرجل أمر بعض خدمة الدار أنْ يأتيه بماء، فأخذ الخادم الإناء ليغترف به ماء من الحبِّ، فناداه: لا تفعل، فإنَّ في الإناء حيواناً ميِّتاً، فنظر فيه، فإذا فيه سام أبرص ميِّت، فأخذ غيره وجاء بالماء إليه، فلمَّا شرب قام للخروج.
قال الوالد (قدّس سرّه): فقمت لقيامه، فودَّعني وخرج، فلمَّا صار خارج الدار قلت للجماعة: هلَّا أنكرتم على الرجل خبره في فتح السليمانيَّة، فقالوا: هلَّا أنكرت عليه؟
قال: فحدَّثني الحاجّ عليّ المتقدِّم بما وقع له في الطريق، وحدَّثني الجماعة بما وقع قبل خروجي من قراءته في المسودَّة، وإظهار العجب من الفروع التي فيها.

(١٢١)

قال الوالد (أعلى الله مقامه): فقلت: اطلبوا الرجل، وما أظنُّكم تجدونه، هو والله صاحب الأمر (روحي فداه).
فتفرَّق الجماعة في طلبه، فما وجدوا له عيناً ولا أثراً، فكأنَّما صعد في السماء أو نزل في الأرض.
قال: فضبطنا اليوم الذي أخبر فيه عن فتح السليمانيَّة، فورد الخبر ببشارة الفتح إلى الحلَّة بعد عشرة أيَّام من ذلك اليوم، وأُعلن ذلك عند حُكَّامها بضرب المدافع المعتاد ضربها عند البشائر، عند ذوي الدولة العثمانيَّة.
قلت: الموجود فيما عندنا من كُتُب الأنساب أنَّ اسم ذا الدمعة حسين، ويُلقَّب أيضاً بذي العبرة، وهو ابن زيد الشهيد ابن عليِّ بن الحسين (عليهما السلام)، ويُكنَّى بأبي عاتقة، وإنَّما لُقِّب بذي الدمعة لبكائه في تهجُّده في صلاة الليل، وربَّاه الصادق (عليه السلام)، فأرثه علماً جمًّا، وكان زاهداً عابداً، وتُوفِّي سنة خمس وثلاثين ومائة، وزوَّج ابنته بالمهدي الخليفة العبَّاسي، وله أعقاب كثيرة، ولكنَّه سلَّمه الله أعرف بما كتب.

الحكاية الخامسة والأربعون: [تعريفه (عجَّل الله فرجه) بقبر حمزة بن القاسم]

قال (سلَّمه الله): وحدَّثني الوالد (أعلى الله مقامه)، قال: لازمت الخروج إلى الجزيرة مدَّة مديدة لأجل إرشاد عشائر بني زبيد إلى مذهب الحقِّ، وكانوا كلُّهم على رأي أهل التسنُّن، وببركة هداية الوالد (قدّس سرّه) وإرشاده، رجعوا إلى مذهب الإماميَّة كما هم عليه الآن، وهم عدد كثير يزيدون على عشرة آلاف نفس، وكان في الجزيرة مزار معروف بقبر الحمزة بن الكاظم، يزوره الناس ويذكرون له كرامات كثيرة، وحوله قرية تحتوي على مائة دار تقريباً.

(١٢٢)

قال (قدّس سرّه): فكنت أستطرق الجزيرة وأمرُّ عليه ولا أزوره، لما صحَّ عندي أنَّ الحمزة بن الكاظم مقبور في الريِّ مع عبد العظيم الحسني، فخرجت مرَّة على عادتي ونزلت ضيفاً عند أهل تلك القرية، فتوقَّعوا منِّي أنْ أزور المرقد المذكور فأبيت، وقلت لهم: لا أزور من لا أعرف.
وكان المزار المذكور قلَّت رغبة الناس فيه لإعراضي عنه، ثمّ ركبت من عندهم وبت تلك الليلة في قرية المزيديَّة عند بعض ساداتها، فلمَّا كان وقت السحر جلست لنافلة الليل وتهيَّأت للصلاة، فلمَّا صلَّيت النافلة بقيت أرتقب طلوع الفجر وأنا على هيأة التعقيب إذ دخل عليَّ سيِّد أعرفه بالصلاح والتقوى، من سادة تلك القرية، فسلَّم وجلس، ثمّ قال: يا مولانا، بالأمس تضيَّفت أهل قرية الحمزة، وما زرته؟
قلت: نعم.
قال: ولِـمَ ذلك؟
قلت: لأنِّي لا أزور من لا أعرف، والحمزة بن الكاظم مدفون بالريِّ.
فقال: رُبَّ مشهور لا أصل له، ليس هذا قبر الحمزة بن موسى الكاظم وإنْ اشتهر أنَّه كذلك، بل هو قبر أبي يعلى حمزة بن القاسم العلوي العبَّاسي أحد علماء الإجازة وأهل الحديث، وقد ذكره أهل الرجال في كُتُبهم، وأثنوا عليه بالعلم والورع.
فقلت في نفسي: هذا السيِّد من عوامِّ السادة، وليس من أهل الاطِّلاع على الرجال والحديث، فلعلَّه أخذ هذا الكلام عن بعض العلماء، ثمّ قمت لأرتقب طلوع الفجر، فقام ذلك السيِّد وخرج، وأغفلت أنْ أسأله عمَّن أخذ هذا، لأنَّ الفجر قد طلع، وتشاغلت بالصلاة.
فلمَّا صلَّيت جلست للتعقيب حتَّى طلع الشمس، وكان معي جملة من

(١٢٣)

كُتُب الرجال، فنظرت فيها وإذا الحال كما ذكر، فجاءني أهل القرية مسلِّمين عليَّ وفي جملتهم ذلك السيِّد، فقلت: جئتني قبل الفجر وأخبرتني عن قبر الحمزة أنَّه أبو يعلى حمزة بن القاسم العلوي، فمن أين لك هذا وعمَّن أخذته؟
فقال: والله ما جئتك قبل الفجر ولا رأيتك قبل هذه الساعة، ولقد كنت ليلة أمس بائتاً خارج القرية - في مكان سمَّاه - وسمعنا بقدومك فجئنا في هذا اليوم زائرين لك.
فقلت لأهل القرية: الآن لزمني الرجوع إلى زيارة الحمزة، فإنِّي لا أشكُّ في أنَّ الشخص الذي رأيته هو صاحب الأمر (عليه السلام).
قال: فركبت أنا وجميع أهل تلك القرية لزيارته، ومن ذلك الوقت ظهر هذا المزار ظهوراً تامًّا على وجه صار بحيث تُشَدُّ الرحال إليه من الأماكن البعيدة.
قلت: في (رجال النجاشي): حمزة بن القاسم بن عليِّ بن حمزة بن الحسن ابن عبيد الله بن العبَّاس بن عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، أبو يعلى، ثقة جليل القدر من أصحابنا كثير الحديث، له كتاب (من روى عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) من الرجال)، وهو كتاب حسن.
وذكر الشيخ الطوسي أنَّه يروي عن سعد بن عبد الله، ويروي عنه التلعكبري (رحمه الله) إجازةً، فهو في طبقة والد الصدوق.

الحكاية السادسة والأربعون: [يا معاشر عنزة قد جاء الموت الزؤام]

قال (أيَّده الله): وحدَّثني الوالد (أعلى الله مقامه)، قال: خرجت يوم الرابع عشر من شهر شعبان من الحلَّة أُريد زيارة الحسين (عليه السلام) ليلة النصف منه،

(١٢٤)

فلمَّا وصلت إلى شطِّ الهنديَّة، وعبرت إلى الجانب الغربي منه، وجدت الزوَّار الذاهبين من الحلَّة وأطرافها، والواردين من النجف ونواحيه، جميعاً محاصرين في بيوت عشيرة بني طرف من عشائر الهنديَّة، ولا طريق لهم إلى كربلاء، لأنَّ عشيرة عنزة قد نزلوا على الطريق، وقطعوه عن المارَّة، ولا يدعون أحداً يخرج من كربلا ولا أحداً يلج إلَّا انتهبوه.
قال: فنزلت على رجل من العرب، وصلَّيت صلاة الظهر والعصر، وجلست أنتظر ما يكون من أمر الزوَّار، وقد تغيَّمت السماء ومطرت مطراً يسيراً.
فبينما نحن جلوس إذ خرجت الزوَّار بأسرها من البيوت متوجِّهين نحو طريق كربلا، فقلت لبعض من معي: اخرج واسأل: ما الخبر؟
فخرج ورجع إليَّ وقال لي: إنَّ عشيرة بني طرف قد خرجوا بالأسلحة الناريَّة، وتجمَّعوا لإيصال الزوَّار إلى كربلا ولو آل الأمر إلى المحاربة مع عنزة.
فلمَّا سمعت قلت لمن معي: هذا الكلام لا أصل له، لأنَّ بني طرف لا قابليَّة لهم على مقابلة عنزة في البرِّ، وأظنُّ هذه مكيدة منهم لإخراج الزوَّار عن بيوتهم، لأنَّهم استثقلوا بقاءهم عندهم وفي ضيافتهم.
فبينما نحن كذلك إذ رجعت الزوَّار إلى البيوت، فتبيَّن الحال كما قلت، فلم تدخل الزوَّار إلى البيوت وجلسوا في ظلالها والسماء متغيِّمة، فأخذتني لهم رقَّة شديدة، وأصابني انكسار عظيم، وتوجَّهت إلى الله بالدعاء والتوسُّل بالنبيِّ وآله، وطلبت إغاثة الزوَّار ممَّا هم فيه، فبينما أنا على هذا الحال إذ أقبل فارس على فرس رابع(96) كريم لم أرَ مثله، وبيده رمح طويل، وهو مشمر عن ذراعيه، فأقبل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(96) يعني أنَّه داخل في السنة الخامسة، يقال: أربع الغنم: دخلت في السنة الرابعة، والبقر وذوات الحافر: دخلت في السنة الخامسة، وذوات الخفِّ دخلت في السابعة.

(١٢٥)

يخب به جواده(97) حتَّى وقف على البيت الذي أنا فيه، وكان بيتاً من شعر مرفوع الجوانب، فسلَّم، فرددنا عليه السلام، ثمّ قال: يا مولانا - يُسمِّيني باسمي - بعثني من يُسلِّم عليك، وهم كنج محمّد آغا وصفر آغا، وكانا من قوَّاد العساكر العثمانيَّة، يقولان: فليأتِ بالزوَّار، فإنَّا قد طردنا عنزة عن الطريق، ونحن ننتظره مع عسكرنا في عرقوب السليمانيَّة على الجادَّة.
فقلت له: وأنت معنا إلى عرقوب السليمانيَّة؟
قال: نعم.
فأخرجت الساعة وإذا قد بقي من النهار ساعتان ونصف تقريباً، فأمرت(98) بخيلنا، فقُدِّمت إلينا.
فتعلَّق بي ذلك البدوي الذي نحن عنده، وقال: يا مولاي، لا تخاطر بنفسك وبالزوَّار، وأقم الليلة حتَّى يتَّضح الأمر.
فقلت له: لا بدَّ من الركوب لإدراك الزيارة المخصوصة.
فلمَّا رأتنا الزوَّار قد ركبنا، تبعوا أثرنا بين ماشٍ(99) وراكبٍ، فسرنا والفارس المذكور بين أيدينا كأنَّه الأسد الخادر، ونحن خلفه، حتَّى وصلنا إلى عرقوب السليمانيَّة، فصعد عليه وتبعناه في الصعود، ثمّ نزل وارتقينا على أعلى العرقوب، فنظرنا ولم نرَ له عيناً ولا أثراً، فكأنَّما صعد في السماء أو نزل في الأرض، ولم نرَ قائداً ولا عسكراً.
فقلت لمن معي: أبقي شكٌّ في أنَّه صاحب الأمر؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(97) الخبب: مراوحة الفرس بين يديه ورجليه، أي قام على إحداهما مرَّة وعلى الأُخرى مرَّة، وقيل: هو السرعة.
(98) في النسخة: (فقلت).
(99) في النسخة: (حاشر)، والسياق يقتضي ما أثبتناه.

(١٢٦)

فقالوا: لا والله.
وكنت وهو بين أيدينا أُطيل النظر إليه كأنِّي رأيته قبل ذلك، لكنَّني لا أذكر أين رأيته، فلما فارقنا تذكَّرت أنَّه هو الشخص الذي زارني بالحلَّة، وأخبرني بواقعة السليمانيَّة.
وأمَّا عشيرة عنزة، فلم نرَ لهم أثراً في منازلهم، ولم نرَ أحداً نسأله عنهم سوى أنَّا رأينا غبرة شديدة مرتفعة في كبد البرِّ، فوردنا كربلا تخب بنا خيولنا، فوصلنا إلى باب البلاد، وإذا بعسكر على سور البلد، فنادوا: من أين جئتم؟ وكيف وصلتم؟ ثمّ نظروا إلى سواد الزوَّار، ثمّ قالوا: سبحان الله هذه البرّيَّة قد امتلأت من الزوَّار، أجل أين صارت عنزة؟
فقلت لهم: اجلسوا في البلد وخذوا أرزاقكم ولمكَّة ربٌّ يرعاها.
ثمّ دخلنا البلد فإذا أنا بكنج محمّد آغا جالساً على تخت قريب من الباب، فسلَّمت عليه، فقام في وجهي، فقلت له: يكفيك فخراً أنَّك ذُكِرَت باللسان.
فقال: ما الخبر؟
فأخبرته بالقصَّة، فقال لي: يا مولاي، من أين لي علم بأنَّك زائر حتَّى أُرسل لك رسولاً؟ وأنا وعسكري منذ خمسة عشر يوماً محاصرين في البلد لا نستطيع أنْ نخرج خوفاً من عنزة.
ثمّ قال: فأين صارت عنزة؟
قلت: لا علم لي سوى أنِّي رأيت غبرة شديدة في كبد البرِّ كأنَّها غبرة الظعائن، ثمّ أخرجت الساعة وإذا قد بقي من النهار ساعة ونصف، فكان مسيرنا كلُّه في ساعة، وبين منازل بني طرف وكربلا ثلاث ساعات، ثمّ بتنا تلك الليلة في كربلا.
فلمَّا أصبحنا سألنا عن خبر عنزة، فأخبر بعض الفلَّاحين الذين في بساتين

(١٢٧)

كربلا قال: بينما عنزة جلوس في أنديتهم وبيوتهم إذا بفارس قد طلع عليهم على فرس مطهَّم، وبيده رمح طويل، فصرخ فيهم بأعلى صوته: يا معاشر عنزة قد جاء الموت الزؤام(100)، عساكر الدولة العثمانيَّة تجبَّهت عليكم(101) بخيلها ورجلها، وها هم على أثري مقبلون، فارحلوا، وما أظنُّكم تنجون منهم.
فألقى الله عليهم الخوف والذلَّ حتَّى إنَّ الرجل يترك بعض متاع بيته استعجالاً بالرحيل، فلم تمضِ ساعة حتَّى ارتحلوا بأجمعهم وتوجَّهوا نحو البرِّ.
فقلت له: صف لي الفارس، فوصف لي وإذا هو صاحبنا بعينه، وهو الفارس الذي جاءنا، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة على محمّد وآله الطاهرين.
حرَّره الأقلّ ميرزا صالح الحسيني
قلت: وهذه الحكاية سمعتها شفاهاً منه (أعلى الله مقامه)، ولم يكن هذه الكرامات منه ببعيدة، فإنَّه ورث العلم والعمل من عمِّه الأجلّ الأكمل السيِّد باقر القزويني، خاصَّة السيِّد الأعظم، والطود الأشيم، بحر العلوم (أعلى الله تعالى درجتهم). وكان عمُّه أدَّبه وربَّاه وأطلعه على الخفايا والأسرار، حتَّى بلغ مقاماً لا يحوم حوله الأفكار، وحاز من الفضائل والخصائص ما لم يجتمع في غيره من العلماء الأبرار.
منها: أنَّه بعد ما هاجر إلى الحلَّة واستقرَّ فيها وشرع في هداية الناس وإيضاح الحقِّ وإبطال الباطل، صار ببركة دعوته من داخل الحلَّة وأطرافها من الأعراب قريباً من مائة ألف نفس شيعيًّا إماميًّا مخلصاً، موالياً لأولياء الله، ومعادياً لأعداء الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(100) الزؤام من الموت: الكريه، أو المجهز السريع.
(101) هكذا في النسخة.

(١٢٨)

بل حدَّثني (طاب ثراه) أنَّه لـمَّا ورد الحلَّة لم يكن في الذين يدعون التشيُّع من علائم الإماميَّة وشعارهم، إلَّا حمل موتاهم إلى النجف الأشرف، ولا يعرفون من أحكامهم شيئاً حتَّى البراءة من أعداء الله، وصاروا بهدايته صلحاء أبرار أتقياء، وهذه منقبة عظيمة اختصَّ بها من بين من تقدَّم عليه وتأخَّر.
ومنها: الكمالات النفسانيَّة من الصبر والتقوى، وتحمُّل أعباء العبادة، وسكون النفس، ودوام الاشتغال بذكر الله تعالى، وكان (رحمه الله) لا يسأل في بيته عن أحد من أهله وأولاده ما يحتاج إليه من الغداء والعشاء والقهوة والغليان وغيرها عند وقتها، ولا يأمر عبيده وإماءه بشيء منها، ولولا التفاتهم ومواظبتهم لكان يمرُّ عليه اليوم والليلة من غير أنْ يتناول شيئاً منها مع ما كان عليه من التمكُّن والثروة والسلطنة الظاهرة. وكان يجيب الدعوة، ويحضر الولائم والضيافات، لكن يحمل معه كُتُباً ويقعد في ناحية ويشتغل بالتأليف، ولا خبر له عمَّا فيه القوم، ولا يخوض معهم في حديثهم إلَّا أنْ يُسئَل عن أمر ديني فيُجيبهم.
وكان دأبه في شهر الصيام أنْ يُصلِّي المغرب في المسجد ويجتمع الناس، ويُصلِّي بعده النوافل المرتَّبة في شهر رمضان، ثمّ يأتي منزله ويفطر ويرجع ويُصلِّي العشاء بالناس، ثمّ يُصلِّي نوافلها المرتَّبة، ثمّ يأتي منزله والناس معه على كثرتهم، فلمَّا اجتمعوا واستقرُّوا شرع واحد من القُرَّاء فيتلو بصوت حسن رفيع آيات من كتاب الله في التحذير والترغيب والموعظة، ممَّا يذوب منه الصخر الأصمّ ويرقُّ القلوب القاسية، ثمّ يقرأ آخراً خطبة من مواعظ (نهج البلاغة)، ثمّ يقرأ آخراً تعزية أبي عبد الله (عليه السلام)، ثمّ يشرع أحد من الصلحاء في قراءة أدعية شهر رمضان ويتابعه الآخرون إلى أنْ يجيء وقت السحور، فيتفرَّقون ويذهب كلٌّ إلى مستقرِّه.
وبالجملة فقد كان في المراقبة ومواظبة الأوقات والنوافل والسُّنَن والقراءة

(١٢٩)

مع كونه طاعناً في السنِّ آية في عصره، وقد كنَّا معه في طريق الحجِّ ذهاباً وإياباً وصلَّينا معه في مسجد الغدير والجحفة، وتُوفِّي (رحمه الله) الثاني عشر من ربيع الأوَّل سنة (1300هـ) قبل الوصول إلى سماوة، بخمس فراسخ تقريباً، وقد ظهر منه حين وفاته من قوَّة الإيمان والطمأنينة والإقبال وصدق اليقين ما يقضي منه العجب، وظهر منه حينئذٍ كرامة باهرة بمحضر من جماعة من الموافق والمخالف ليس هنا مقام ذكرها.
ومنها: التصانيف الرائقة الكثيرة، في الفقه والأُصول والتوحيد والكلام وغيرها، ومنها كتاب في إثبات كون الفرقة الناجية فرقة الإماميَّة، أحسن ما كُتِبَ في هذا الباب، طوبى له وحسن مآب.

الحكاية السابعة والأربعون: [ياقوت السمَّان]

حدَّثني العالم الجليل، والحبر النبيل، مجمع الفضائل والفواضل، الصفي الوفي المولى عليٌّ الرشتي (طاب ثراه)، وكان عالماً برًّا تقيًّا زاهداً حاوياً لأنواع العلم بصيراً ناقداً، من تلامذة السيِّد السند الأُستاذ الأعظم (دام ظلُّه)، ولـمَّا طال شكوى أهل الأرض حدود فارس ومن والاه إليه من عدم وجود عالم عامل كامل نافذ الحكم فيهم أرسله إليهم، عاش فيهم سعيداً، ومات هناك حميداً (رحمه الله). وقد صاحبته مدَّة سفراً وحضراً ولم أجد في خُلُقه وفضله نظيراً إلَّا يسيراً.
قال: رجعت مرَّة من زيارة أبي عبد الله (عليه السلام) عازماً للنجف الأشرف من طريق الفرات، فلمَّا ركبنا في بعض السُّفُن الصغار التي كانت بين كربلا وطويرج، رأيت أهلها من أهل حلَّة، ومن طويرج تفترق طريق الحلَّة والنجف،

(١٣٠)

واشتغل الجماعة باللهو واللعب والمزاح، رأيت واحداً منهم لا يدخل في عملهم، عليه آثار السكينة والوقار، لا يمازح ولا يضاحك، وكانوا يعيبون على مذهبه ويقدحون فيه، ومع ذلك كان شريكاً في أكلهم وشربهم، فتعجَّبت منه إلى أنْ وصلنا إلى محلٍّ كان الماء قليلاً، فأخرجنا صاحب السفينة، فكنَّا نمشي على شاطئ النهر، فاتَّفق اجتماعي مع هذا الرجل في الطريق، فسألته عن سبب مجانبته عن أصحابه، وذمِّهم إيَّاه، وقدحهم فيه، فقال: هؤلاء من أقاربي من أهل السُّنَّة، وأبي منهم وأُمِّي من أهل الإيمان، وكنت أيضاً منهم، ولكن الله منَّ عليَّ بالتشيُّع ببركة الحجَّة صاحب الزمان (عليه السلام).
فسألت عن كيفيَّة إيمانه، فقال: اسمي ياقوت، وأنا أبيع الدهن عند جسر الحلَّة، فخرجت في بعض السنين لجلب الدهن، من أهل البراري خارج الحلَّة، فبعدت عنها بمراحل، إلى أنْ قضيت وطري من شراء ما كنت أُريده منه، وحملته على حماري ورجعت مع جماعة من أهل الحلَّة، ونزلنا في بعض المنازل ونمنا، وانتبهت فما رأيت أحداً منهم وقد ذهبوا جميعاً، وكان طريقنا في برّيَّة قفر، ذات سباع كثيرة، ليس في أطرافها معمورة إلَّا بعد فراسخ كثيرة.
فقمت وجعلت الحمل على الحمار، ومشيت خلفهم، فضلَّ عنِّي الطريق، وبقيت متحيِّراً خائفاً من السباع، والعطش في يومه، فأخذت أستغيث بالخلفاء والمشايخ وأسألهم الإعانة، وجعلتهم شفعاء عند الله تعالى، وتضرَّعت كثيراً فلم يظهر منهم شيء.
فقلت في نفسي: إنِّي سمعت من أُمِّي أنَّها كانت تقول: إنَّ لنا إماماً حيًّا يُكنَّى أبا صالح يُرشِد الضالَّ، ويغيث الملهوف، ويعين الضعيف، فعاهدت الله تعالى إنْ استغثت به فأغاثني أنْ أدخل في دين أُمِّي.
فناديته واستغثت به، فإذا بشخص في جنبي، وهو يمشي معي، وعليه

(١٣١)

عمامة خضراء، قال (رحمه الله) - وأشار حينئذٍ إلى نبات حافَّة النهر -، وقال: كانت خضرتها مثل خضرة هذا النبات.
ثمّ دلَّني على الطريق، وأمرني بالدخول في دين أُمِّي(102)، وذكر كلمات نسيتها، وقال: ستصل عن قريب إلى قرية أهلها جميعاً من الشيعة.
قال: فقلت: يا سيِّدي، أنت لا تجيء معي إلى هذه القرية؟
فقال ما معناه: لا، لأنَّه استغاث بي ألف نفس في أطراف البلاد أُريد أنْ أغيثهم.
ثمّ غاب عنِّي، فما مشيت إلَّا قليلاً حتَّى وصلت إلى القرية، وكان في مسافة بعيدة، ووصل الجماعة إليها بعدي بيوم.
فلمَّا دخلت الحلَّة ذهبت إلى سيِّد الفقهاء السيِّد مهدي القزويني (طاب ثراه)، وذكرت له القصَّة، فعلَّمني معالم ديني، فسألت عنه عملاً أتوصَّل به إلى لقائه (عليه السلام) مرَّةً أُخرى، فقال: زر أبا عبد الله (عليه السلام) أربعين ليلة الجمعة.
قال: فكنت أزوره من الحلَّة في ليالي الجُمَع إلى أنْ بقي واحدة، فذهبت من الحلَّة في يوم الخميس، فلمَّا وصلت إلى باب البلد، فإذا جماعة من أعوان الظلمة يطالبون الواردين التذكرة، وما كان عندي تذكرة ولا قيمتها، فبقيت متحيِّراً والناس متزاحمون على الباب، فأردت مراراً أنْ أتخفَّى وأجوز عنهم فما تيسَّر لي، وإذا بصاحبي صاحب الأمر (عليه السلام) في زيِّ لباس طلبة الأعاجم عليه عمامة بيضاء في داخل البلد، فلمَّا رأيته استغثت به، فخرج وأخذني معه، وأدخلني من الباب، فما رآني أحد، فلمَّا دخلت البلد افتقدته من بين الناس، وبقيت متحيِّراً على فراقه (عليه السلام)، وقد ذهب عن خاطري بعض ما كان في تلك الحكاية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(102) في الأصل المطبوع: (ثمّ دلَّه على الطريق وأمره بالدخول في دين أُمِّه) إلخ، وأظنُّه تصحيفاً.

(١٣٢)

الحكاية الثامنة والأربعون: [معاقبة مؤذي الزائرين]

حدَّثني العالم الجليل والمولى النبيل العدل الثقة الرضي المرضي الآميرزا إسماعيل السلماسي، وهو من أوثق أهل العلم والفضل وأئمَّة الجماعة في مشهد الكاظم (عليه السلام)، عن والده العالم العليم المتقدِّم ذكره المولى زين العابدين السلماسي أو عن أخيه الثقة الصالح الأكبر منه في السنِّ الآميرزا محمّد باقر (رحمه الله)، قال (سلَّمه الله)، والترديد لتطاول الزمان لأنَّ سماعي لهذه الحكاية يقرب من خمسين سنة.
قال: قال والدي: ممَّا ذُكِرَ من الكرامات للأئمَّة الطاهرين (عليهم السلام) في سُرَّ من رأى في المائة الثانية، والظاهر أنَّه أواخر المائة أو في أوائل المائة الثالثة بعد الألف من الهجرة، أنَّه جاء رجل من الأعاجم إلى زيارة العسكريَّين (عليهما السلام)، وذلك في زمن الصيف وشدَّة الحرِّ، وقد قصد الزيارة في وقت كان الكليددار في الرواق ومغلقاً أبواب الحرم، ومتهيِّئاً للنوم، عند الشبَّاك الغربي.
فلمَّا أحسَّ بمجيء الزوَّار فتح الباب وأراد أنْ يزوره، فقال له الزائر: خذ هذا الدينار واتركني حتَّى أزور بتوجُّه وحضور، فامتنع المزور وقال: لا أخرم القاعدة، فدفع إليه الدينار الثاني والثالث، فلمَّا رأى المزور كثرة الدنانير ازداد امتناعاً ومنع الزائر من الدخول إلى الحرم الشريف وردَّ إليه الدنانير.
فتوجَّه الزائر إلى الحرم وقال بانكسار: بأبي أنتما وأُمِّي أردت زيارتكما بخضوع وخشوع، وقد اطَّلعتما على منعه إيَّاي، فأخرجه المزور، وغلق الأبواب ظنًّا منه أنَّه يرجع إليه ويعطيه بكلِّ ما يقدر عليه، وتوجَّه إلى الطرف الشرقي قاصداً السلوك إلى الشبَّاك الذي في الطرف الغربي.
فلمَّا وصل إلى الركن وأراد الانحراف إلى طرف الشبَّاك، رأى ثلاثة أشخاص مقبلين صافِّين إلَّا أنَّ أحدهم متقدِّم على الذي في جنبه بيسير، وكذا

(١٣٣)

الثاني ممَّن يليه، وكان الثالث هو أصغرهم، وفي يده قطعة رمح، وفي رأسه سنان، فبهت المزور عند رؤيتهم، فتوجَّه صاحب الرمح إليه وقد امتلأ غيظاً واحمرَّت عيناه من الغضب، وحرَّك الرمح مريداً طعنه قائلاً: يا ملعون بن الملعون، كأنَّه جاء إلى دارك أو إلى زيارتك فمنعته.
فعند ذلك توجَّه إليه أكبرهم مشيراً بكفِّه مانعاً له قائلاً: جارك ارفق بجارك، فأمسك صاحب الرمح، ثمّ هاج غضبه ثانياً محرِّكاً للرمح قائلاً ما قاله أوَّلاً، فأشار إليه الأكبر أيضاً كما فعل، فأمسك صاحب الرمح.
وفي المرَّة الثالثة لم يشعر المزور أنْ سقط مغشيًّا عليه، ولم يفق إلَّا في اليوم الثاني أو الثالث وهو في داره أتوا به أقاربه بعد أنْ فتحوا الباب عند المساء لـمَّا رأوه مغلقاً فوجدوه كذلك، وهم حوله باكون، فقصَّ عليهم ما جرى بينه وبين الزائر والأشخاص، وصاح: ادركوني بالماء فقد احترقت وهلكت، فأخذوا يصبُّون عليه الماء وهو يستغيث، إلى أنْ كشفوا عن جنبه فرأوا مقدار درهم منه قد اسودَّ، وهو يقول: قد طعنني صاحب القطعة.
فعند ذلك أشخصوه إلى بغداد، وعرضوه على الأطبَّاء، فعجز الأطبَّاء من علاجه، فذهبوا به إلى البصرة وعرضوه على الطبيب الإفرنجي، فتحيَّر في علاجه، لأنَّه جسَّ يده(103) فما أحسَّ، بما يدلُّ على سوء المزاج، وما رأى ورماً ومادةً في الموضع المذكور، فقال مبتدئاً: إنِّي أظنُّ أنَّ هذا الشخص قد أساء الأدب مع بعض الأولياء فاشتدَّ بهذا البلاء.
فلمَّا يئسوا من العلاج رجعوا به إلى بغداد، فمات في الرجوع إمَّا في الطريق أو في بغداد، والظاهر أنَّ اسم هذا الخبيث كان حسَّاناً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(103) يقال: جسَّ الشيء يجسُّ - بالضمِّ -: مسَّه بيده ليتعرَّفه. والمراد أنَّه أخذ نبضه فلم يجد اختلالاً في الدم يكون سبباً لاحتراقه والتهابه.

(١٣٤)

الحكاية التاسعة والأربعون: [الشهيد والقافلة]

(بغية المريد في الكشف عن أحوال الشهيد) للشيخ الفاضل الأجلّ تلميذه محمّد بن عليِّ بن الحسن العودي، قال في ضمن وقائع سفر الشهيد (رحمه الله) من دمشق إلى مصر ما لفظه:
واتَّفق له في الطريق ألطاف إلهيَّة، وكرامات جليَّة حكى لنا بعضها.
منها: ما أخبرني به ليلة الأربعاء عاشر ربيع الأوَّل سنة ستِّين وتسعمائة أنَّه في الرملة مضى إلى مسجدها المعروف بالجامع الأبيض لزيارة الأنبياء والذين في الغار وحده، فوجد الباب مقفولاً وليس في المسجد أحد، فوضع يده على القفل وجذبه فانفتح، فنزل إلى الغار واشتغل بالصلاة والدعاء، وحصل له إقبال على الله بحيث ذهل عن انتقال القافلة، فوجدها قد ارتحلت، ولم يبقَ منها أحد، فبقي متحيِّراً في أمره مفكِّراً في اللحاق مع عجزه عن المشي وأخذ أسبابه ومخافته، وأخذ يمشي على أثرها وحده، فمشى حتَّى أعياه التعب، فلم يلحقها، ولم يرَها من البعد.
فبينما هو في هذا المضيق إذ أقبل عليه رجل لاحق به وهو راكب بغلاً، فلمَّا وصل إليه قال له: اركب خلفي.
فردفه ومضى كالبرق، فما كان إلَّا قليلا حتَّى لحق بالقافلة(104) وأنزله وقال له: اذهب إلى رفقتك.
ودخل هو في القافلة، قال: فتحرَّيته مدَّة الطريق أنِّي أراه ثانياً فما رأيته أصلاً، ولا قبل ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(104) في النسخة: (لحق به القافلة)، والسياق يقتضي ما أثبتناه.

(١٣٥)

الحكاية الخمسون: [كرامة للشيخ محمّد ابن الشيخ حسن]

قال الشيخ الأجلّ الأكمل الشيخ عليّ ابن العالم النحرير الشيخ محمّد ابن المحقِّق المدقِّق الشيخ حسن ابن العالم الربَّاني الشهيد الثاني في (الدُّرِّ المنثور) في ضمن أحوال والده الأمجد، وكان مجاوراً بمكَّة حيًّا وميِّتاً: أخبرتني زوجته بنت السيِّد محمّد بن أبي الحسن (رحمه الله) وأُمُّ ولده أنَّه لـمَّا تُوفِّي كنَّ يسمعن عنده تلاوة القرآن، طول تلك الليلة.
وممَّا هو مشهور أنَّه كان طائفاً فجاءه رجل بورد من ورد شتاء ليست في تلك البلاد، ولا في ذلك الأوان، فقال له: من أين أتيت؟
فقال: من هذه الخرابات، ثمّ أراد أنْ يراه بعد ذلك السؤال فلم يرَه.
قلت: ونقل نظيره في (البحار)(105) عن شيخه وأُستاذه السيِّد المؤيَّد الأمجد الآميرزا محمّد الأسترآبادي صاحب الكُتُب في الرجال وآيات الأحكام وغيرها.
ويحتمل الاتِّحاد وكون الوهم من الراوي لاتِّحاد الاسم والمكان والعمل، والله العالم.
وهذا المقام من الشيخ المزبور غير بعيد، فقد رأينا في ظهر نسخة من شرحه على (الاستبصار) وكانت من متملِّكاته، وكان في مواضع منها خطُّه وفي ظهره خطُّ ولده المذكور ما صورته:
انتقل مصنِّف هذا الكتاب وهو الشيخ السعيد الحميد بقيَّة العلماء الماضين وخلف الكملاء الراسخين أعني شيخنا ومولانا ومن استفدنا من بركاته العلوم الشرعيَّة من الحديث والفروع والرجال وغيره، الشيخ محمّد بن الشهيد الثاني من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(105) راجع: البحار (ج 52/ ص 176).

(١٣٦)

دار الغرور إلى دار السرور ليلة الاثنين العاشر من شهر ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثين من هجرة سيِّد المرسَلين، وقد سمعت منه (قدَّس الله روحه) قبيل انتقاله بأيَّام قلائل مشافهةً، وهو يقول لي: إنِّي أنتقل في هذه الأيَّام، عسى الله أنْ يعينني عليها، وكذا سمعه غيري، وذلك في مكَّة المشرَّفة، ودفنَّاه برَّد الله مضجعه في المعلى قريباً من مزار خديجة الكبرى، حرَّره الفقير إلى الله الغني حسين بن حسن العاملي المشغري عامله الله بلطفه الخفي والجلي بالنبيِّ والوليِّ والصحب الوفي في التاريخ المذكور.
ونقل في (الدُّرِّ المنثور) هذه العبارة عن النسخة المذكورة التي كانت عنده، ورزقنا الله زيارته.
وفي (أمل الآمل): الشيخ حسين بن الحسن العاملي المشغري كان فاضلاً صالحاً جليل القدر شاعراً أديباً قرأ عليَّ.

الحكاية الحادية والخمسون: [شفاء مريض ببركة الصاحب (عجَّل الله فرجه)]

ما في كتاب (الدمعة الساكبة) لبعض الصلحاء من المعاصرين في آخر اللمعة الأُولى، من النور السادس منه، في معجزات الحجَّة (عليه السلام).
قال: فالأولى أنْ يُختَم الكلام بذكر ما شاهدته في سالف الأيَّام، وهو أنَّه أصاب ثمرة فؤادي ومن انحصرت فيه ذكور أولادي، قرَّة عيني عليّ محمّد (حفظه الله الفرد الصمد)، مرض يزداد آناً فآناً ويشتدُّ، فيورثني أحزاناً وأشجاناً إلى أنْ حصل للناس من برئه اليأس، وكانت العلماء والطلَّاب والسادات الأنجاب يدعون له بالشفاء في مظانِّ استجابة الدعوات كمجالس التعزية وعقيب الصلوات.

(١٣٧)

فلمَّا كانت الليلة الحادية عشرة من مرضه، اشتدَّت حاله وثقلت أحواله وزاد اضطرابه، وكثر التهابه، فانقطعت بي الوسيلة، ولم يكن لنا في ذلك حيلة، فالتجأت بسيِّدنا القائم (عجَّل الله ظهوره وأرانا نوره)، فخرجت من عنده وأنا في غاية الاضطراب ونهاية الالتهاب، وصعدت سطح الدار، وليس لي قرار، وتوسَّلت به (عليه السلام) خاشعاً، وانتدبت خاضعاً، وناديته متواضعاً، وأقول: يا صاحب الزمان أغثني، يا صاحب الزمان أدركني، متمرِّغاً في الأرض، ومتدحرجاً في الطول والعرض، ثمّ نزلت ودخلت عليه، وجلست بين يديه، فرأيته مستقرُّ الأنفاس مطمئنُّ الحواسِّ قد بلَّه العرق لا بل أصابه الغرق، فحمدت الله وشكرت نعماءه التي تتوالى، فألبسه الله تعالى لباس العافية ببركته (عليه السلام).

الحكاية الثانية والخمسون: [أتُحِبّ أنْ أُلحقك برفقائك؟]

العالم الفاضل السيِّد عليّ خان الحويزاوي في كتاب (خير المقال) عند ذكر من رأى القائم (عليه السلام)، قال:
فمن ذلك ما حدَّثني به رجل من أهل الإيمان ممَّن أثق به أنَّه حجَّ مع جماعة على طريق الأحساء في ركب قليل، فلمَّا رجعوا كان معهم رجل يمشي تارةً ويركب أُخرى، فاتَّفق أنَّهم أولجوا في بعض المنازل أكثر من غيره ولم يتَّفق لذلك الرجل الركوب، فلمَّا نزلوا للنوم واستراحوا، ثمّ رحلوا من هناك لم يتنبَّه ذلك الرجل من شدَّة التعب الذي أصابه، ولم يفتقدوه هم، وبقي نائماً إلى أنْ أيقظه حرُّ الشمس.
فلمَّا انتبه لم يرَ أحداً، فقام يمشي وهو موقن بالهلاك، فاستغاث بالمهدي (عليه السلام)، فبينما هو كذلك، فإذا هو برجل في زيِّ أهل البادية، راكب ناقته، قال: فقال: يا هذا، أنت منقطع بك؟

(١٣٨)

قال: فقلت: نعم.
قال: فقال: أتُحِبّ أنْ أُلحقك برفقائك؟
قال: قلت: هذا والله مطلوبي لا سواه.
فقرب منِّي وأناخ ناقته، وأردفني خلفه، ومشى فما مشينا خطا يسيرة إلَّا وقد أدركنا الركب، فلمَّا قربنا منهم أنزلني وقال: هؤلاء رفقاؤك، ثمّ تركني وذهب.

الحكاية الثالثة والخمسون: [الحاجُّ والبدوي]

وفيه: ومن ذلك ما حدَّثني به رجل من أهل الإيمان من أهل بلادنا، يقال له: الشيخ قاسم، وكان كثير السفر إلى الحجِّ، قال: تعبت يوماً من المشي، فنمت تحت شجرة، فطال نومي ومضى عنِّي الحاج كثيراً، فلمَّا انتبهت علمت من الوقت أنَّ نومي قد طال وأنَّ الحاجَّ بعد عنِّي، وصرت لا أدري إلى أين أتوجَّه، فمشيت على الجهة وأنا أصيح بأعلى صوتي: يا أبا صالح - قاصداً بذلك صاحب الأمر(عليه السلام)، كما ذكره ابن طاوس في كتاب (الأمان فيما يقال عند إضلال الطريق) -، فبينا أنا أصيح كذلك وإذا براكب على ناقة وهو على زيِّ البدو، فلمَّا رآني قال لي: أنت منقطع عن الحاجِّ؟
فقلت: نعم.
فقال: اركب خلفي لأُلحقك بهم.
فركبت خلفه، فلم يكن إلَّا ساعة وإذا قد أدركنا الحاجَّ، فلمَّا قربنا أنزلني وقال لي: امض لشأنك.
فقلت له: إنَّ العطش قد أضرَّ بي، فأخرج من شداده ركوة فيها ماء، وسقاني منه، فوَالله إنَّه ألذُّ وأعذب ماء شربته.

(١٣٩)

ثمّ إنِّي مشيت حتَّى دخلت الحاجَّ والتفت إليه فلم أرَه، ولا رأيته في الحاجِّ قبل ذلك، ولا بعده، حتَّى رجعنا.
قلت: إنَّ الأصحاب ذكروا أمثال هذه الوقائع في باب من رآه (عليه السلام) بناءً منهم على أنَّ إغاثة الملهوف كذلك في الفلوات، وصدور هذه المعجزات والكرامات لا يتيسَّر لأحد إلَّا لخليفة الله في البريَّات، بل هو من مناصبه الإلهيَّة كما يأتي في الفائدة الأُولى.
وأبو صالح كنيته عند عامَّة العرب، يُكَنُّونه به في أشعارهم ومراثيهم وندبهم، والظاهر أنَّهم أخذوه من الخبر المذكور، وأنَّه (عليه السلام) المراد من أبي صالح الذي هو مرشد الضالِّ في الطريق، ولو نوقش في ذلك وادُّعي إمكان صدورها من بعض الصلحاء والأولياء فهو أيضاً يدلُّ على المطلوب، إذ لا يستغيث شيعته ومواليه (عليه السلام) إلَّا من هو منهم، وواسطة بينهم وبين إمامهم الغائب عنهم، بل هو من رجاله وخاصَّته وحواشيه وأهل خدمته، فالمضطرُّ رأى من رآه (عليه السلام).
وقال الشيخ الكفعمي (رحمه الله)، في هامش جنَّته عند ذكر دعاء أُمِّ داود: قيل: إنَّ الأرض لا تخلو من القطب، وأربعة أوتاد، وأربعين أبدالاً، وسبعين نجيباً، وثلاثمائة وستِّين صالحاً.
فالقطب هو المهدي (عليه السلام)، ولا يكون الأوتاد أقلّ من أربعة، لأنَّ الدنيا كالخيمة والمهدي كالعمود وتلك الأربعة أطنابها، وقد يكون الأوتاد أكثر من أربعة، والأبدال أكثر من أربعين، والنجباء أكثر من سبعين، والصلحاء أكثر من ثلاثمائة وستِّين.
والظاهر أنَّ الخضر وإلياس من الأوتاد، فهما ملاصقان لدائرة القطب.
وأمَّا صفة الأوتاد، فهم قوم لا يغفلون عن ربِّهم طرفة عين، ولا يجمعون

(١٤٠)

من الدنيا إلَّا البلاغ، ولا تصدر منهم هفوات الشرِّ، ولا يُشتَرط فيهم العصمة من السهو والنسيان، بل من فعل القبيح، ويُشتَرط ذلك في القطب.
وأمَّا الأبدال فدون هؤلاء في المراقبة، وقد تصدر منهم الغفلة فيتداركونها بالتذكُّر، ولا يتعمَّدون ذنباً.
وأمَّا النجباء فهم دون الأبدال.
وأمَّا الصلحاء، فهم المتَّقون الموفون بالعدالة، وقد يصدر منهم الذنب فيتداركونه بالاستغفار والندم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: 201]، جعلنا الله من قسم الأخير، لأنَّا لسنا من الأقسام الأُوَل لكن ندين الله بحبِّهم وولايتهم ومن أحبَّ قوماً حُشِرَ معهم.
وقيل: إذا نقص أحد من الأوتاد الأربعة وُضِعَ بدله من الأربعين، وإذا نقص أحد من الأربعين وُضِعَ بدله من السبعين، وإذا نُقِصَ أحد من السبعين، وُضِعَ بدله من الثلاثمائة وستِّين، وإذا نقص أحد من الثلاثمائة وستِّين وُضِعَ بدله من سائر الناس.

الحكاية الرابعة والخمسون: [كم هو عذب صوت القرآن]

حدَّثني العالم الفاضل الصالح الورع في الدِّين الآميرزا حسين اللَّاهيجي المجاور للمشهد الغروي (أيَّده الله)، وهو من الصلحاء الأتقياء، والثقة الثبت عند العلماء، قال: حدَّثني العالم الصفي المولى زين العابدين السلماسي المتقدِّم ذكره (قدَّس الله روحه) أنَّ السيِّد الجليل بحر العلوم (أعلى الله مقامه) ورد يوماً في حرم أمير المؤمنين (عليه آلاف التحيَّة والسلام)، فجعل يترنَّم بهذا المصرع:

(١٤١)

چه خوش است صوت قرآن * * * ز تو دل ربا شنيدن

فسُئِلَ (رحمه الله) عن سبب قراءته هذا المصرع، فقال: لـمَّا وردت في الحرم المطهَّر رأيت الحجَّة (عليه السلام) جالساً عند الرأس يقرأ القرآن بصوتٍ عالٍ، فلمَّا سمعت صوته قرأت المصرع المزبور، ولـمَّا وردت الحرم ترك قراءة القرآن، وخرج من الحرم الشريف.

الحكاية الخامسة والخمسون: [صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) يدعو للشيعة]

رأيت في ملحقات كتاب (أنيس العابدين)، وهو كتاب كبير في الأدعية والأوراد ينقل عنه العلَّامة المجلسي في المجلَّد التاسع عشر من (البحار)، والآميرزا عبد الله تلميذه في الصحيفة الثالثة، ما لفظه: نُقِلَ عن ابن طاوس (رحمه الله) أنَّه سمع سحرا في السرداب عن صاحب الأمر (عليه السلام) أنَّه يقول:
اللَّهُمَّ إنَّ شيعتنا خُلِقَت من شعاع أنوارنا وبقيَّة طينتنا، وقد فعلوا ذنوباً كثيرة اتِّكالاً على حبِّنا وولايتنا، فإنْ كانت ذنوبهم بينك وبينهم فاصفح عنهم فقد رضينا، وما كان منها فيما بينهم فأصلح بينهم وقاص بها عن خُمُسنا، وأدخلهم الجنَّة، وزحزحهم عن النار، ولا تجمع بينهم وبين أعدائنا في سخطك.
قلت: ويوجد في غير واحد من مؤلَّفات جملة من المتأخِّرين الذين قاربنا عصرهم والمعاصرين هذه الحكاية بعبارة تخالف العبارة الأُولى، وهي هكذا:
اللَّهُمَّ إنَّ شيعتنا منَّا خُلِقُوا من فاضل طينتنا، وعُجِنُوا بماء ولايتنا، اللَّهُمَّ اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه اتِّكالاً على حبِّنا وولائنا يوم القيامة، ولا تؤاخذهم بما اقترفوه من السيِّئات إكراماً لنا، ولا تقاصهم يوم القيامة مقابل أعدائنا فإنْ خفَّت موازينهم فثقِّلها بفاضل حسناتنا.

(١٤٢)

ولم نجد أحداً منهم إلى الآن أسند هذه الحكاية إلى أحد رواها عن السيِّد أو رآها في واحد من كُتُبه، ولا نقله العلَّامة المجلسي ومعاصروه ومن تقدَّم عليه إلى عهد السيِّد، ولا يوجد في شيء من كُتُبه الموجودة التي لم يكن عندهم أزيد منها.
نعم الموجود في أواخر (المهج) وقد نقله في (البحار) أيضاً هكذا: كنت أنا بسُرَّ من رأى، فسمعت سحراً دعاء القائم (عليه السلام)، فحفظت منه [من] الدعاء لمن ذكره: «الأحياء والأموات(106)، وأبقهم - أو قال: وأحيهم - في عزِّنا وملكنا وسلطاننا ودولتنا»، وكان ذلك في ليلة الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وستّمائة.
وأظنُّ وإنْ كان بعض الظنِّ إثماً أنَّ ما نقلناه أوَّلاً مأخوذ من كلام الحافظ الشيخ رجب البرسي ونقل كلماته بالمعنى، فإنَّه قال في أواخر (مشارق الأنوار) بعد نقل كلام (المهج) إلى قوله: «ملكنا» ما لفظه: «ومملكتنا، وإنْ كان شيعتهم منهم وإليهم وعنايتهم مصروفة إليهم»، فكأنَّه (عليه السلام) يقول:
اللَّهُمَّ إنَّ شيعتنا منَّا ومضافين إلينا، وإنِّهم قد أساؤوا وقد قصَّروا وأخطأوا، رأونا صاحباً لهم رضاً منهم، وقد تقبَّلنا عنهم بذنوبهم، وتحمَّلنا خطاياهم، لأنَّ معوَّلهم علينا، ورجوعهم إلينا، فصرنا لاختصاصهم بنا واتِّكالهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(106) كذا في الأصل المطبوع، وهكذا المصدر (ص 368)، لكنَّه ذكر قبل ذلك دعاء عن الحجَّة (عليه السلام) ولفظه: «إلهي بحقِّ من ناجاك، وبحقِّ من دعاك في البرِّ والبحر، تفضَّل على فقراء المؤمنين والمؤمنات بالغناء والثروة، وعلى مرضى المؤمنين والمؤمنات بالشفاء والصحَّة، وعلى أحياء المؤمنين والمؤمنات باللطف والكرم، وعلى أموات المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والرحمة، وعلى غرباء المؤمنين والمؤمنات بالردِّ إلى أوطانهم سالمين غانمين، بحقِّ محمّد وآله الطاهرين»، فكأنَّه يريد أنَّه سمع ذلك الدعاء، وقد زيد فيه عند ذكر أحياء المؤمنين قوله: «وأحيهم في عزِّنا وملكنا...» إلخ، فتحرَّر.

(١٤٣)

علينا كأنَّا أصحاب الذنوب، إذ العبد مضاف إلى سيِّده، ومعوَّل المماليك إلى مواليهم.
اللَّهُمَّ اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه اتِّكالاً على حبِّنا وطمعاً في ولايتنا وتعويلاً على شفاعتنا، ولا تفضحهم بالسيِّئات عند أعدائنا، وولِّنا أمرهم في الآخرة كما ولَّيتنا أمرهم في الدنيا، وإنْ أحبطت أعمالهم فثقِّل موازينهم بولايتنا، وارفع درجاتهم بمحبَّتنا. انتهى.
وهذه الكلمات كما ترى من تلفيقاته شرحاً لكلمات الإمام (عليه السلام) تقارب العبارة الشائعة، وعصره قريب من عصر السيِّد، وحرصه على ضبط مثل هذه الكلمات أشدّ من غيره، فهو أحقّ بنقلها من غيره لو صحَّت الرواية وصدقت النسبة، وإنْ لم يكن بعيداً من مقام السيِّد بعد كلام (مهجه)، بل له في كتاب (كشف المحجَّة) كلمات تُنبئ عن أمر عظيم ومقام كريم، منها قوله:
واعلم يا ولدي محمّد ألهمك الله ما يريده منك، ويرضى به عنك، أنَّ غيبة مولانا المهدي (صلوات الله عليه) التي حيَّرت(107) المخالف وبعض المؤالف هي من جملة الحُجَج على ثبوت إمامته، وإمامة آبائه الطاهرين (صلوات الله على جدِّه محمّد وعليهم أجمعين)، لأنَّك إذا وقفت على كُتُب الشيعة وغيرهم، مثل كتاب الغيبة لابن بابويه، وكتاب الغيبة للنعماني، ومثل كتاب الشفاء والجلاء، ومثل كتاب أبي نعيم الحافظ في أخبار المهدي ونعوته وحقيقة مخرجه وثبوته، والكُتُب التي أشرت إليها في الطوائف، وجدتها أو أكثرها تضمَّنت قبل ولادته أنَّه يغيب (عليه السلام) غيبة طويلة، حتَّى يرجع عن إمامته بعض من كان يقول بها، فلو لم يغب هذه الغيبة كان طعناً في إمامة آبائه وفيه، فصارت الغيبة حجَّة لهم (عليهم السلام) وحجَّة له على مخالفيه في ثبوت إمامته وصحَّة غيبته، مع أنَّه (عليه السلام) حاضر مع الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(107) في النسخة: (تحيَّرت)، وما أثبتناه من الكشف.

(١٤٤)

على اليقين، وإنَّما غاب من لم يلقه عنهم لغيبتهم عن حضرة المتابعة له ولربِّ العالمين.
ومنها قوله فيه: وإنْ أدركت يا ولدي موافقة توفيقك لكشف الأسرار عليك عرَّفتك من حديث المهدي (صلوات الله عليه) ما لا يشتبه عليك، وتستغني بذلك عن الحُجَج المعقولات ومن الروايات، فإنَّه صلَّى الله عليه حيٌّ موجود على التحقيق، ومعذور عن كشف أمره إلى أنْ يأذن له تدبير الله الرحيم الشفيق، كما جرت عليه عادة كثير من الأنبياء والأوصياء، فاعلم ذلك يقيناً واجعله عقيدةً وديناً، فإنَّ أباك عرفه أبلغ من معرفة ضياء شمس السماء.
ومنها قوله: واعلم يا ولدي محمّد زيَّن الله (جلَّ جلاله) سرائرك وظواهرك بموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، أنَّني كنت لـمَّا بلغتني ولادتك بمشهد الحسين (عليه السلام) في زيارة عاشورا قمت بين يدي الله (جلَّ جلاله) مقام الذلِّ والانكسار والشكر لما رأفني به من ولادتك من المسارِّ والمبارِّ، وجعلتك بأمر الله (جلَّ جلاله) عبد مولانا المهدي (عليه السلام) ومتعلِّقاً عليه، وقد احتجنا كم مرَّة عند حوادث حدث لك إليه ورأيناه في عدَّة مقامات في مناجات، وقد تولَّى قضاء حوائجك بإنعام عظيم في حقِّنا وحقِّك لا يبلغ وصفي إليه.
فكن في موالاته والوفاء له وتعلُّق الخاطر به على قدر مراد الله (جلَّ جلاله) ومراد رسوله ومراد آبائه (عليهم السلام) ومراده (عليه السلام) منك، وقدِّم حوائجه على حوائجك عند صلاة الحاجات، والصدقة عنه قبل الصدقة عنك وعمَّن يعزُّ عليك، والدعاء له قبل الدعاء لك، وقدِّمه (عليه السلام) في كلِّ خير يكون وفاء له، ومقتضياً لإقباله عليك وإحسانه إليك، واعرض حاجاتك عليه كلَّ يوم الاثنين ويوم الخميس من كلِّ أُسبوع بما يجب له من أدب الخضوع.

(١٤٥)

ومنها قوله بعد تعليم ولده كيفيَّة عرض الحاجَّة إليه (عليه السلام): واذكر له أنَّ أباك قد ذكر لك أنَّه أوصى به إليك، وجعلك بإذن الله (جلَّ جلاله) عبده، وأنَّني علَّقتك عليه فإنَّه يأتيك جوابه (صلوات الله وسلامه عليه). وممَّا أقول لك يا ولدي محمّد ملأ الله (جلَّ جلاله) عقلك وقلبك من التصديق لأهل الصدق، والتوفيق في معرفة الحقِّ: إنَّ طريق تعريف الله (جلَّ جلاله) لك بجواب مولانا المهدي (صلوات الله وسلامه عليه) على قدرته (جلَّ جلاله) ورحمته، فمن ذلك ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني في كتاب (الوسائل) عمَّن سمَّاه، قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أنَّ الرجل يُحِبُّ أنْ يفضي إلى إمامه ما يُحِبُّ أنْ يفضي به إلى ربِّه، قال: فكتب: «إنْ كانت لك حاجة فحرِّك شفتيك فإنَّ الجواب يأتيك».
ومن ذلك ما رواه هبة الله بن سعيد الراوندي في كتاب (الخرائج)، عن محمّد بن الفرج، قال: قال لي عليُّ بن محمّد (عليهما السلام): «إذا أردت أنْ تسأل مسألة فاكتبها، وضع الكتاب تحت مصلَّاك، ودعه ساعة ثمّ أخرجه وانظر فيه»، قال: ففعلت، فوجدت ما سألته عنه موقعاً فيه.
وقد اقتصرت لك على هذا التنبيه، والطريق مفتوحة إلى إمامك لمن يريد الله (جلَّ جلاله) عنايته به، وتمام إحسانه إليه.
ومنها قوله في آخر الكتاب: ثمّ ما أوردناه بالله (جلَّ جلاله) من هذه الرسالة ثمّ عرضناه على قبول واهبه صاحب الجلالة نائبه (عليه السلام) في النبوَّة والرسالة، وورد الجواب في المنام، بما يقتضي حصول القبول والإنعام، والوصيَّة بأمرك، والوعد ببرِّك وارتفاع قدرك. انتهى.
وعليك بالتأمُّل في هذه الكلمات، التي تفتح لك أبواباً من الخير والسعادات، ويظهر منها عدم استبعاد كلِّ ما يُنسَب إليه من هذا الباب، والله الموفِّق لكلِّ خير وثواب.

(١٤٦)

الحكاية السادسة والخمسون: [نور في الليلة المظلمة]

قال العالم الفاضل المتبحِّر النبيل الصمداني الحاجُّ المولى رضا الهمداني في المفتاح الأوَّل من الباب الثالث من كتاب (مفتاح النبوَّة) في جملة كلام له في أنَّ الحجَّة (عليه السلام) قد يُظهِر نفسه المقدَّسة لبعض خواصِّ الشيعة:
إنَّه (عليه السلام) قد أظهر نفسه الشريفة قبل هذا بخمسين سنة لواحد من العلماء المتَّقين المولى عبد الرحيم الدماوندي الذي ليس لأحد كلام في صلاحه وسداده.
قال: وقال هذا العالم في كتابه: إنِّي رأيته (عليه السلام) في داري في ليلة مظلمة جدًّا بحيث لا تبصر العين شيئاً واقفاً في جهة القبلة وكان النور يسطع من وجهه المبارك حتَّى أنِّي كنت أرى نقوش الفراش بهذا النور.

الحكاية السابعة والخمسون: [الهندي الغريق]

في كتاب (المقامات) للعالم الجليل المحدِّث السيِّد نعمة الله الجزائري حكاية أُخرى: حدَّثني رجل من أوثق إخواني في شوشتر في دارنا القريبة من المسجد الأعظم، قال:
لـمَّا كنَّا في بحور الهند تعاطينا عجائب البحر، فحكى لنا رجل من الثقات قال: روى من أعتمد عليه أنَّه كان منزله في بلد على ساحل البحر، وكان بينهم وبين جزيرة من جزائر البحر مسير يوم أو أقلّ، وفي تلك الجزيرة مياههم وحطبهم وثمارهم وما يحتاجون إليه، فاتَّفق أنَّهم على عادتهم ركبوا في سفينة قاصدين تلك الجزيرة، وحملوا معهم زاد يوم.

(١٤٧)

فلمَّا توسَّطوا البحر أتاهم ريح عدلهم عن ذلك القصد، وبقوا على تلك الحالة تسعة أيَّام حتَّى أشرفوا على الهلاك من قلَّة الماء والطعام، ثمّ إنَّ الهوى(108) رماهم في ذلك اليوم على جزيرة في البحر، فخرجوا إليها، وكان فيها المياه العذبة والثمار الحلوة وأنواع الشجر، فبقوا فيها نهاراً ثمّ حملوا منها ما يحتاجون إليه وركبوا سفينتهم، ودفعوا(109).
فلمَّا بعدوا عن الساحل نظروا إلى رجل منهم بقي في الجزيرة، فناداهم ولم يتمكَّنوا من الرجوع، فرأوه قد شدَّ حزمة حطب ووضعها تحت صدره، وضرب البحر عليها قاصداً لحوق السفينة، فحال الليل بينهم وبينه وبقي في البحر.
وأمَّا أهل السفينة، فما وصلوا إلَّا بعد مضيِّ أشهر، فلمَّا بلغوا أهلهم أخبروا أهل ذلك الرجل فأقاموا مأتمه، فبقوا على ذلك عاماً أو أكثر، ثمّ رأوا أنَّ ذلك الرجل قَدِمَ إلى أهله، فتباشروا به، وجاء إليه أصحابه، فقصَّ عليهم قصَّته.
فقال: لـمَّا حال الليل بيني وبينكم بقيت تُقلِّبني الأمواج وأنا على الحزمة يومين حتَّى أوقعتني على جبل في الساحل، فتعلَّقت بصخرة منه، ولم أطق الصعود إلى جوفه لارتفاعه، فبقيت في الماء، وما شعرت إلَّا بأفعى عظيمة، أطول من المنار وأغلظ منها، فوقعت على ذلك الجبل، ومدَّت رأسها تصطاد الحيتان من الماء فوق رأسي، فأيقنت بالهلاك، وتضرَّعت إلى الله تعالى، فرأيت عقرباً يدبُّ على ظهر الأفعى، فلمَّا وصل إلى دماغها لسعتها بإبرته، فإذا لحمها قد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(108) المراد منه: الرياح.
(109) يستعمل أصحاب السُّفُن والزوارق آلات خشبيَّة طويلة يُسمِّيها أهل جنوب العراق بـ (المردي) لتنطلق زوارقهم وسُفُنهم في المياه الضحلة، والدفع هو عمليَّة ركز المردي في الطين وضغطه بقوَّة لينطلق الزورق في فوق سطح الماء.

(١٤٨)

تناثر عن عظامها، وبقي عظم ظهرها وأضلاعها كالسُّلَم العظيم الذي له مراقي يسهل الصعود عليها.
قال: فرقيت على تلك الأضلاع حتَّى خرجت إلى الجزيرة شاكراً لله تعالى على ما صنع، فمشيت في تلك الجزيرة إلى قريب العصر، فرأيت منازل حسنة مرتفعة البنيان إلَّا أنَّها خالية لكن فيها آثار الإنس.
قال: فاستترت في موضع منها، فلمَّا صار العصر رأيت عبيداً وخدماً كلُّ واحد منهم على بغل، فنزلوا وفرشوا فُرُشاً نظيفة، وشرعوا في تهيئة الطعام وطبخه، فلمَّا فرغوا منه رأيت فرساناً مقبلين، عليهم ثياب بيض وخضر، ويلوح من وجوههم الأنوار، فنزلوا وقُدِّم إليهم الطعام.
فلمَّا شرعوا في الأكل قال أحسنهم هيأةً وأعلاهم نوراً: ارفعوا حصَّة من هذا الطعام لرجل غائب، فلمَّا فرغوا ناداني: يا فلان بن فلان أقبل، فعجبت منه، فأتيت إليهم، ورحَّبوا بي، فأكلت ذلك الطعام، وما تحقَّقت إلَّا أنَّه من طعام الجنَّة، فلمَّا صار النهار ركبوا بأجمعهم، وقالوا لي: انتظر هنا، فرجعوا وقت العصر، وبقيت معهم أيَّاماً، فقال لي يوماً ذلك الرجل الأنور: إنْ شئت الإقامة معنا في هذه الجزيرة أقمت، وإنْ شئت المضيَّ إلى أهلك أرسلنا إلى معك من يُبلغك بلدك.
فاخترت على شقاوتي بلادي، فلمَّا دخل الليل أمر لي بمركب وأرسل معي عبداً من عبيده، فسرنا ساعة من الليل، وأنا أعلم أنَّ بيني وبين أهلي مسيرة أشهر وأيَّام، فما مضى من الليل قليل منه إلَّا وقد سمعنا نبيح الكلاب، فقال لي ذلك الغلام: هذا نبيح كلابكم.
فما شعرت إلَّا وأنا واقف على باب داري، فقال: هذه دارك، انزل إليها.
فلمَّا نزلت، قال لي: قد خسرت الدنيا والآخرة، ذلك الرجل صاحب

(١٤٩)

الدار (عليه السلام)، فالتفت إلى الغلام فلم أرَه، وأنا في هذا الوقت بينكم نادماً على ما فرَّطت، هذه حكايتي.
وأمثال هذه الغرائب كثيرة لا نُطوِّل الكلام بها.
قلت: قد ذكرنا حكاية عن كتاب (نور العيون)(110) تقرب من هذه إلَّا أنَّ بينهما اختلاف كثير، والله العالم بالاتِّحاد والتعدُّد(111).

الحكاية الثامنة والخمسون: [تفضَّل فقد فُتِحَت الباب]

حدَّثني جماعة من الأتقياء الأبرار، منهم السيِّد السند، والحبر المعتمد، العالم العامل، والفقيه النبيه، الكامل المؤيَّد المسدَّد، السيِّد محمّد ابن العالم الأوحد السيِّد أحمد ابن العالم الجليل، والحبر المتوحِّد النبيل، السيِّد حيدر الكاظمي (أيَّده الله تعالى)، وهو من أجلَّاء تلامذة المحقِّق الأُستاذ الأعظم الأنصاري (طاب ثراه) وأحد أعيان أتقياء بلد الكاظمين (عليهما السلام) وملاذّ الطلَّاب والزوَّار والمجاورين، وهو وإخوته وآباؤه أهل بيت جليل، معروفون في العراق بالصلاح والسداد، والعلم والفضل والتقوى، يُعرَفون ببيت السيِّد حيدر جدِّه (سلَّمه الله تعالى).
قال فيما كتبه إليَّ وحدَّثني به شفاهاً أيضاً: قال محمّد بن أحمد بن حيدر الحسني الحسيني: لـمَّا كنت مجاوراً في النجف الأشرف لأجل تحصيل العلوم الدِّينيَّة وذلك في حدود السنة الخامسة والسبعين بعد المائتين والألف من الهجرة النبويَّة، كنت أسمع جماعة من أهل العلم وغيرهم من أهل الديانة يصفون رجلاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(110) راجع الحكاية التاسعة والعشرين، والظاهر بل المسلَّم اتِّحادهما.
(111) من حقِّ البعض التوقُّف إزاء مثل هذه الحكاية، فإنَّها أقرب إلى الأُسطورة منها للواقع.

(١٥٠)

يبيع البقل وشبهه أنَّه رأى مولانا الإمام المنتظر (سلام الله عليه)، فطلبت معرفة شخصه حتَّى عرفته، فوجدته رجلاً صالحاً متديِّناً، وكنت أُحِبُّ الاجتماع معه في مكان خالٍ لأستفهم منه كيفيَّة رؤيته مولانا الحجَّة (روحي فداه)، فصرت كثيراً ما أُسلِّم عليه وأشتري منه ممَّا يتعاطى ببيعه، حتَّى صار بيني وبينه نوع مودَّة، كلُّ ذلك مقدَّمة لتعرُّف خبره المرغوب في سماعه عندي حتَّى اتَّفق لي أنِّي توجَّهت إلى مسجد السهلة للاستجارة فيه، والصلاة والدعاء في مقاماته الشريفة ليلة الأربعاء.
فلمَّا وصلت إلى باب المسجد رأيت الرجل المذكور على الباب، فاغتنمت الفرصة وكلَّفته المقام معي تلك الليلة، فأقام معي حتَّى فرغنا من العمل الموظَّف في مسجد سهيل وتوجَّهنا إلى المسجد الأعظم مسجد الكوفة على القاعدة المتعارفة في ذلك الزمان، حيث لم يكن في مسجد السهلة معظم الإضافات الجديدة من الخُدَّام والمساكن.
فلمَّا وصلنا إلى المسجد الشريف، واستقرَّ بنا المقام، وعملنا بعض الأعمال الموظَّفة فيه، سألته عن خبره والتمست منه أنْ يُحدِّثني بالقصَّة تفصيلاً، فقال ما معناه:
إنِّي كنت كثيراً ما أسمع من أهل المعرفة والديانة أنَّ مَنْ لازم عمل الاستجارة في مسجد السهلة أربعين ليلة أربعاء متوالية بنيَّة رؤية الإمام المنتظر (عليه السلام) وُفِّق لرؤيته، وأنَّ ذلك قد جُرِّبت مراراً، فاشتاقت نفسي إلى ذلك، ونويت ملازمة عمل الاستجارة في كلِّ ليلة أربعاء، ولم يمنعني من ذلك شدَّة حرٍّ ولا برد ولا مطر ولا غير ذلك، حتَّى مضى لي ما يقرب من مدَّة سنة، وأنا ملازم لعمل الاستجارة وأبات(112) في مسجد الكوفة على القاعدة المتعارفة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(112) قال الفيروز آبادي: بات يفعل كذا يبيت ويبات بيتاً ومبيتاً وبيتوتةً: أي يفعله ليلاً وليس من النوم، ومن أدركه الليل فقد بات.

(١٥١)

ثمّ إنِّي خرجت عشيَّة يوم الثلاثاء ماشياً على عادتي، وكان الزمان شتاءً، وكانت تلك العشيَّة مظلمة جدًّا لتراكم الغيوم مع قليل مطر، فتوجَّهت إلى المسجد وأنا مطمئنٌّ بمجيء الناس على العادة المستمرَّة، حتَّى وصلت إلى المسجد، وقد غربت الشمس واشتدَّ الظلام وكثر الرعد والبرق، فاشتدَّ بي الخوف وأخذني الرعب من الوحدة، لأنِّي لم أصادف في المسجد الشريف أحداً أصلاً، حتَّى إنَّ الخادم المقرَّر للمجيء ليلة الأربعاء لم يجئ تلك الليلة.
فاستوحشت لذلك للغاية، ثمّ قلت في نفسي: ينبغي أنْ أُصلِّي المغرب وأعمل عمل الاستجارة عجالةً وأمضي إلى مسجد الكوفة، فصبَّرت نفسي، وقمت إلى صلاة المغرب فصلَّيتها، ثمّ توجَّهت لعمل الاستجارة وصلاتها ودعائها، وكنت أحفظه.
فبينما أنا في صلاة الاستجارة إذ حانت منِّي التفاتة إلى المقام الشريف المعروف بمقام صاحب الزمان (عليه السلام)، وهو في قبلة مكان مصلَّاي، فرأيت فيه ضياءً كاملاً، وسمعت فيه قراءة مصلِّ، فطابت نفسي، وحصل كمال الأمن والاطمينان، وظننت أنَّ في المقام الشريف بعض الزوَّار وأنا لم أطَّلع عليهم وقت قدومي إلى المسجد، فأكملت عمل الاستجارة، وأنا مطمئنُّ القلب.
ثمّ توجَّهت نحو المقام الشريف ودخلته، فرأيت فيه ضياءً عظيماً لكنِّي لم أرَ بعيني سراجاً، ولكنِّي في غفلة عن التفكُّر في ذلك، ورأيت فيه سيِّداً جليلاً مهاباً بصورة أهل العلم، وهو قائم يُصلِّي، فارتاحت نفسي إليه، وأنا أظنُّ أنَّه من الزوَّار الغرباء، لأنِّي تأمَّلته في الجملة فعلمت أنَّه من سكنة النجف الأشرف.

(١٥٢)

فشرعت في زيارة مولانا الحجَّة (سلام الله عليه) عملاً بوظيفة المقام، وصلَّيت صلاة الزيارة، فلمَّا فرغت أردت أُكلِّمه في المضيِّ إلى مسجد الكوفة، فهبته وأكبرته، وأنا أنظر إلى خارج المقام، فأرى شدَّة الظلام، وأسمع صوت الرعد والمطر، فالتفت إليَّ بوجهه الكريم برأفة وابتسام، وقال لي: تُحِبُّ أنْ تمضي إلى مسجد الكوفة؟
فقلت: نعم يا سيِّدنا، عادتنا أهل النجف إذا تشرَّفنا بعمل هذا المسجد نمضي إلى مسجد الكوفة، ونبات فيه، لأنَّ فيه سُكَّاناً وخُدَّاماً وماءً.
فقام، وقال: قم بنا نمضي إلى مسجد الكوفة.
فخرجت معه وأنا مسرور به وبحسن صحبته، فمشينا في ضياء وحسن هواء وأرض يابسة لا تعلق بالرجل وأنا غافل عن حال المطر والظلام الذي كنت أراه، حتَّى وصلنا إلى باب المسجد وهو (روحي فداه) معي وأنا في غاية السرور والأمن بصحبته، ولم أرَ ظلاماً ولا مطراً.
فطرقت باب الخارجة عن المسجد، وكانت مغلقة، فأجابني الخادم: مَن الطارق؟
فقلت: افتح الباب.
فقال: من أين أقبلت في هذه الظلمة والمطر الشديد؟
فقلت: من مسجد السهلة.
فلمَّا فتح الخادم الباب التفت إلى ذلك السيِّد الجليل فلم أرَه، وإذا بالدنيا مظلمة للغاية، وأصابني المطر، فجعلت أُنادي: يا سيِّدنا يا مولانا تفضل فقد فُتِحَت الباب.
ورجعت إلى ورائي أتفحَّص عنه وأُنادي، فلم أرَ أحداً أصلاً، وأضرَّ بي الهواء والمطر والبرد في ذلك الزمان القليل.

(١٥٣)

فدخلت المسجد وانتبهت من غفلتي وكأنِّي كنت نائماً فاستيقظت، وجعلت ألوم نفسي على عدم التنبُّه لما كنت أرى من الآيات الباهرة، وأتذكَّر ما شاهدته وأنا غافل من كراماته من الضياء العظيم في المقام الشريف مع أنِّي لم أرَ سراجاً، ولو كان في ذلك المقام عشرون سراجاً لما وفي بذلك الضياء، وذكرت أنَّ ذلك السيِّد الجليل سمَّاني باسمي مع أنِّي لم أعرفه ولم أرَه قبل ذلك.
وتذكَّرت أنِّي لـمَّا كنت في المقام كنت أنظر إلى فضاء المسجد، فأرى الظلام الشديد، وأسمع صوت المطر والرعد، وأنِّي لـمَّا خرجت من المقام مصاحباً له (سلام الله عليه) كنت أمشي في ضياء بحيث أرى موضع قدمي، والأرض يابسة والهواء عذب، حتَّى وصلنا إلى باب المسجد، ومنذ فارقني شاهدت الظلمة والمطر وصعوبة الهواء، إلى غير ذلك من الأُمور العجيبة التي أفادتني اليقين بأنَّه الحجَّة صاحب الزمان (عليه السلام) الذي كنت أتمنَّى من فضل الله التشرُّف برؤيته، وتحمَّلت مشاقَّ عمل الاستجارة عند قوَّة الحرِّ والبرد لمطالعة حضرته (سلام الله عليه)، فشكرت الله تعالى شأنه، والحمد لله.

الحكاية التاسعة والخمسون: [زائر الكاظمين (عليهما السلام)]

وقال (أدام الله أيَّام سعادته) في كتابه إليَّ: حكاية أُخرى اتَّفقت لي أيضاً، وهي أنِّي منذ سنين متطاولة كنت أسمع بعض أهل الديانة والوثاقة يصفون رجلاً من كسبة أهل بغداد أنَّه رأى مولانا الإمام المنتظر (سلام الله عليه)، وكنت أعرف ذلك الرجل، وبيني وبينه مودَّة، وهو ثقة عدل، معروف بأداء الحقوق الماليَّة، وكنت أُحِبُّ أنْ أسأله بيني وبينه، لأنَّه بلغني أنَّه يُخفي حديثه ولا يُبديه إلَّا لبعض الخواصِّ ممَّن يأمن إذاعته خشية الاشتهار، فيهزأ به من يُنكِر ولادة

(١٥٤)

المهدي وغيبته أو ينسبه العوامُّ إلى الفخر وتنزيه النفس، وحيث إنَّ هذا الرجل في الحياة لا أُحِبُّ أنْ أُصرِّح باسمه خشية كراهته(113).
وبالجملة فإنِّي في هذه المدَّة كنت أُحِبُّ أنْ أسمع منه ذلك تفصيلاً حتَّى اتَّفق لي أنِّي حضرت تشييع جنازة من أهل بغداد في أواسط شهر شعبان من هذه السنة، وهي سنة اثنتين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبويَّة الشريفة في حضرة الإمامين: مولانا موسى بن جعفر وسيِّدنا محمّد بن عليٍّ الجواد (سلام الله عليهما)، وكان الرجل المزبور في جملة المشيِّعين، فذكرت ما بلغني من قصَّته، ودعوته وجلسنا في الرواق الشريف عند باب الشبَّاك النافذ إلى قبَّة مولانا الجواد (عليه السلام)، فكلَّفته بأنْ يُحدِّثني بالقصَّة، فقال ما معناه:
إنَّه في سنة من سني عشرة السبعين(114)، كان عندي مقدار من مال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(113) ومن عجيب الاتِّفاق أنِّي لـمَّا اشتغلت بتأليف هذه الرسالة صادف أيَّام الزيارة المخصوصة، فخرجت من سامرَّاء، ولـمَّا دخلت بلد الكاظمين (عليهما السلام) نزلت على جنابه (سلَّمه الله)، فسألته عمَّا عنده من تلك الوقائع، فحدَّثني بهذه الحكاية، فسألته أنْ يكتب إليَّ، فقال: إنِّي سمعتها منذ سنين، ولعلَّه سقط عنِّي منها شيء، وصاحبها موجود نسأله مرَّةً أُخرى حتَّى نكتبها كما هي، إلَّا أنَّ لقائي أيَّاه صعب جدًّا، فإنَّه منذ اتَّفقت له هذه القصَّة قليل الأُنس بالناس، إذا جاء من بغداد للزيارة يدخل الحرم ويزور ويقضي وطره ويرجع إلى بغداد ولا يطَّلع عليه أحد، فيتَّفق أنِّي لا أراه في السنة إلَّا مرَّة أو مرَّتين في الطريق، فقلت له (سلَّمه الله): إنِّي أزور المشهد الغروي وأرجع إلى آخر الشهر، ونرجو من الله أنْ يتَّفق لقاؤكم إيَّاه في هذه المدَّة، ثمّ قمت من عنده ودخلت منزلي، فدخل عليَّ (سلَّمه الله) بعد زمان قليل من هذا اليوم، وقال: كنت في منزلي فجاءني شخص وقال: جاؤوا بجنازة من بغداد في الصحن الشريف وينتظرونك للصلاة عليه، فقمت وذهبت معه ودخلت الصحن وصلَّيت عليها، وإذا بالمؤمن الصالح المذكور وهو فيهم، إلى آخر ما ذكره (أيَّده الله تعالى)، وهذه من بركات الحجَّة (عليه السلام). (منه (رحمه الله)).
(114) إمَّا أنْ يكون المراد في العقد السابع من عمره، أو أحد سنوات العشرة السابعة من القرن الذي عاشه صاحب القصَّة.

(١٥٥)

الإمام (عليه السلام) عزمت على إيصاله إلى العلماء الأعلام في النجف الأشرف، وكان لي طلب على تُجَّارها، فمضيت إلى زيارة أمير المؤمنين (سلام الله عليه) في إحدى زياراته المخصوصة، واستوفيت ما أمكنني استيفاؤه من الديون التي كانت لي، وأوصلت ذلك إلى متعدِّدين من العلماء الأعلام من طرف الإمام (عليه السلام)، لكن لم يفِ بما كان عليَّ منه، بل بقي عليَّ مقدار عشرين توماناً، فعزمت على إيصال ذلك إلى أحد علماء مشهد الكاظمين.
فلمَّا رجعت إلى بغداد أحببت أداء ما بقي في ذمَّتي على التعجيل، ولم يكن عندي من النقد شيء، فتوجَّهت إلى زيارة الإمامين (عليهما السلام) في يوم خميس، وبعد التشرُّف بالزيارة دخلت على المجتهد (دام توفيقه) وأخبرته بما بقي في ذمَّتي من مال الإمام (عليه السلام)، وسألته أنْ يُحوِّل ذلك عليَّ تدريجاً، ورجعت إلى بغداد في أواخر النهار حيث لم يسعني لشغل كان لي، وتوجَّهت إلى بغداد ماشياً لعدم تمكُّني من كراء دابَّة.
فلمَّا تجاوزت نصف الطريق رأيت سيِّداً جليلاً مهاباً متوجِّهاً إلى مشهد الكاظمين (عليهما السلام) ماشياً، فسلَّمت عليه، فردَّ عليَّ السلام، وقال لي: يا فلان - وذكر اسمي -، لِـمَ لم تبقَ هذه الليلة الشريفة ليلة الجمعة في مشهد الإمامين؟
فقلت: يا سيِّدنا، عندي مطلب مهمٌّ منعني من ذلك.
فقال لي: ارجع معي وبت هذه الليلة الشريفة عند الإمامين (عليهما السلام) وارجع إلى مهمِّك غداً إنْ شاء الله.
فارتاحت نفسي إلى كلامه، ورجعت معه منقاداً لأمره، ومشيت معه بجنب نهرٍ جارٍ تحت ظلال أشجار خضرة نضرة، متدلّية على رؤوسنا، وهواء عذب، وأنا غافل عن التفكُّر في ذلك، وخطر ببالي أنَّ هذا السيِّد الجليل سمَّاني باسمي مع أنَّه(115) لم أعرفه، ثمّ قلت في نفسي: لعلَّه هو يعرفني وأنا ناسٍ له.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(115) الظاهر لم أُعرِّفه باسمي.

(١٥٦)

ثمّ قلت في نفسي: إنَّ هذا السيِّد كأنَّه يريد منِّي من حقِّ السادة، وأحببت أنْ أُوصل إلى خدمته شيئاً من مال الإمام الذي عندي، فقلت له: يا سيِّدنا، عندي من حقِّكم بقيَّة، لكن راجعت فيه جناب الشيخ الفلاني لأُؤدِّي حقَّكم بإذنه - وأنا أعني السادة -، فتبسَّم في وجهي.
وقال: نعم، وقد أوصلت بعض حقِّنا إلى وكلائنا في النجف الأشرف أيضاً.
وجرى على لساني أنِّي قلت له: ما أدَّيته مقبول؟
فقال: نعم.
ثمّ خطر في نفسي أنَّ هذا السيِّد يقول بالنسبة إلى العلماء الأعلام: «وكلائنا»، واستعظمت ذلك: ثمّ قلت: العلماء وكلاء على قبض حقوق السادة، وشملتني الغفلة.
ثمّ قلت: يا سيِّدنا، قُرَّاء تعزية الحسين (عليه السلام) يقرؤون حديثاً أنَّ رجلاً رأى في المنام هودجاً بين السماء والأرض فسأل عمَّن فيه، فقيل له: فاطمة الزهراء وخديجة الكبرى.
فقال: إلى أين يريدون؟
فقيل: زيارة الحسين (عليه السلام) في هذه الليلة ليلة الجمعة.
ورأى رقاعاً تتساقط من الهودج، مكتوب فيها: أمان من النار لزوَّار الحسين (عليه السلام) في ليلة الجمعة، هذا الحديث صحيح؟
فقال (عليه السلام): نعم زيارة الحسين (عليه السلام) في ليلة الجمعة أمان من النار يوم القيامة.
قال: وكنت قبل هذه الحكاية بقليل قد تشرَّفت بزيارة مولانا الرضا (عليه السلام)، فقلت له: يا سيِّدنا، قد زرت الرضا عليَّ بن موسى (عليهما السلام)، وقد بلغني أنَّه ضمن لزوَّاره الجنَّة، هذا صحيح؟

(١٥٧)

فقال (عليه السلام): هو الإمام الضامن.
فقلت: زيارتي مقبولة؟
فقال (عليه السلام): نعم مقبولة.
وكان معي في طريق الزيارة رجل متديِّن من الكسبة، وكان خليطاً لي وشريكاً في المصرف، فقلت له: يا سيِّدنا، إنَّ فلاناً كان معي في الزيارة زيارته مقبولة؟
فقال: نعم، العبد الصالح فلان بن فلان زيارته مقبولة.
ثمّ ذكرت له جماعة من كسبة أهل بغداد كانوا معنا في تلك الزيارة، وقلت: إنَّ فلاناً وفلاناً وذكرت أسماءهم كانوا معنا، زيارتهم مقبولة؟
فأدار (عليه السلام) وجهه إلى الجهة الأُخرى وأعرض عن الجواب، فهبته وأكبرته وسكت عن سؤاله، فلم أزل ماشياً معه على الصفة التي ذكرتها حتَّى دخلنا الصحن الشريف، ثمّ دخلنا الروضة المقدَّسة من الباب المعروف بباب المراد، فلم يقف على باب الرواق، ولم يقل شيئاً حتَّى وقف على باب الروضة من عند رجلي الإمام موسى (عليه السلام)، فوقفت بجنبه، وقلت له: يا سيِّدنا، اقرأ حتَّى أقرأ معك.
فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أمير المؤمنين، وساق على باقي أهل العصمة (عليهم السلام) حتَّى وصل إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
ثمّ التفت إليَّ بوجهه الشريف، ووقف متبسِّماً وقال: أنت إذا وصلت إلى السلام على الإمام العسكري ما تقول؟
فقلت: أقول: السلام عليك يا حجَّة الله يا صاحب الزمان.
قال: فدخل الروضة الشريفة، ووقف على قبر الإمام موسى (عليه السلام) والقبلة بين كتفيه، فوقفت إلى جنبه، وقلت: يا سيِّدنا، زر حتَّى أزور معك.

(١٥٨)

فبدأ (عليه السلام) بزيارة أمين الله الجامعة المعروفة، فزار بها وأنا أُتابعه، ثمّ زار مولانا الجواد (عليه السلام)، ودخل القبَّة الثانية قبَّة محمّد بن عليٍّ (عليهما السلام) ووقف يُصلِّي، فوقفت إلى جنبه متأخِّراً عنه قليلاً، احتراماً له، ودخلت في صلاة الزيارة، فخطر ببالي أنْ أسأله أنْ يبات معي تلك الليلة لأتشرَّف بضيافته وخدمته، ورفعت بصري إلى جهته، وهو بجنبي متقدِّماً عليَّ قليلاً فلم أرَه.
فخفَّفت صلاتي، وقمت وجعلت أتصفَّح وجوه المصلِّين والزوَّار لعليِّ أصل إلى خدمته، حتَّى لم يبقَ مكان في الروضة والرواق إلَّا ونظرت فيه، فلم أرَ له أثراً أبداً، ثمّ انتبهت وجعلت أتأسَّف على عدم التنبُّه لما شاهدته من كراماته وآياته من انقيادي لأمره [مع] ما كان لي من الأمر المهمِّ في بغداد، ومن تسميته إيَّاي مع أنِّي لم أكن رأيته ولا عرفته، ولـمَّا خطر في قلبي أنْ أدفع إليه شيئاً من حقِّ الإمام (عليه السلام) وذكرت له أنِّي راجعت في ذلك المجتهد الفلاني لأدفع إلى السادة بإذنه، قال لي ابتداءً منه: نعم وأوصلت بعض حقِّنا إلى وكلائنا في النجف الأشرف.
ثمّ تذكَّرت أنِّي مشيت معه بجنب نهرٍ جارٍ تحت أشجار مزهرة متدلّية على رؤوسنا، وأين طريق بغداد وظلِّ الأشجار الزاهرة في ذلك التاريخ؟ وذكرت أيضاً أنَّه سمَّى خليطي في سفر زيارة مولانا الرضا باسمه، ووصفه بالعبد الصالح، وبشَّرني بقبول زيارته وزيارتي، ثمّ إنَّه أعرض بوجهه الشريف عند سؤالي إيَّاه عن حال جماعة من أهل بغداد من السوقة كانوا معنا في طريق الزيارة، وكنت أعرفهم بسوء العمل، مع أنَّه ليس من أهل بغداد، ولا كان مطَّلعاً على أحوالهم لولا أنَّه من أهل بيت النبوَّة والولاية، ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق.
وممَّا أفادني اليقين بأنَّه المهدي (عليه السلام) أنَّه لـمَّا سلَّم على أهل العصمة (عليهم السلام) في

(١٥٩)

مقام طلب الإذن، ووصل السلام إلى مولانا الإمام العسكري، التفت إليَّ وقال لي: أنت ما تقول إذا وصلت إلى هنا؟
فقلت: أقول: السلام عليك يا حجَّة الله يا صاحب الزمان، فتبسَّم ودخل الروضة المقدَّسة، ثمّ افتقادي إيَّاه وهو في صلاة الزيارة لـمَّا عزمت على تكليفه بأنْ أقوم بخدمته وضيافته تلك الليلة، إلى غير ذلك ممَّا أفادني القطع بأنَّه هو الإمام الثاني عشر (صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين)، والحمد لله ربِّ العالمين.
وينبغي أنْ يُعلَم أنَّ هذا الرجل والرجل المتقدِّم ذكره في القصَّة السابقة هما من السوقة، وقد حدَّثاني بهذين الحديثين باللغة المصحَّفة التي هي لسان أهل هذا الزمان، فاللفظ منِّي، مع المحافظة التامَّة على المعنى، فهو حديث بالمعنى.
وكتب أقلّ أهل العلم: محمّد بن أحمد بن الحسن الحسيني الكاظمي مسكناً.
قلت: ثمّ سألته (أيَّده الله تعالى) عن اسمه وحدَّثني غيره أيضاً أنَّ اسمه الحاجّ عليّ البغدادي، وهو من التُّجَّار، وأغلب تجارته في طرف جدَّة ومكَّة وما والاها، بطريق المكاتبة.
وحدَّثني جماعة من أهل العلم والتقوى من سكنة بلدة الكاظم (عليه السلام) بأنَّ الرجل من أهل الصلاح والديانة والورع، والمواظبين على أداء الأخماس والحقوق، وهو في هذا التاريخ طاعن في السنِّ(116)، أحسن الله عاقبته.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(116) يقال: طعن في السنِّ: شاخ وهرم.

(١٦٠)

الأولى: [تكذيب مدَّعي الرؤية في زمن الغيبة الكبرى]

روى الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) عن الحسن بن أحمد المكتَّب، والطبرسي في (الاحتجاج) مرسَلاً أنَّه خرج التوقيع إلى أبي الحسن السمري:
«يا عليُّ بن محمّد السمري(117)، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميت ما بينك وما بين ستَّة أيَّام، فاجمع أمرك، ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامَّة، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد [طول](118) الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي مِن شيعتي مَن يدَّعي المشاهدة، ألَا فمَن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذَّاب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم»(119).
وهذا الخبر بظاهره ينافي الحكايات السابقة وغيرها ممَّا هو مذكور في (البحار)، والجواب عنه من وجوه:
الأوَّل: أنَّه خبر واحد مرسَل، غير موجب علماً، فلا يعارض تلك الوقائع والقَصص التي يحصل القطع عن مجموعها، بل ومن بعضها المتضمِّن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها من غيره (عليه السلام)، فكيف يجوز الإعراض عنها لوجود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(117) في النسخة: (اسمع)، وهي زائدة.
(118) سقطت من النسخة.
(119) راجع غيبة الشيخ (ص 257)، وقد أخرجه في البحار باب أحوال السفراء (ج 51/ ص 361)، عن غيبة الشيخ وكمال الدِّين (ج 2/ ص 193)، فراجع.

(١٦٣)

خبر ضعيف لم يعمل به ناقله، وهو الشيخ في الكتاب المذكور كما يأتي كلامه فيه، فكيف بغيره والعلماء الأعلام تلقُّوها بالقبول، وذكروها في زُبُرهم وتصانيفهم، معوِّلين عليها معتنين بها.
الثاني: ما ذكره في (البحار) بعد ذكر الخبر المزبور ما لفظه: (لعلَّه محمول على من يدَّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة على مثال السفراء، لئلَّا ينافي الأخبار التي مضت وسيأتي فيمن رآه (عليه السلام)، والله يعلم)(120).
الثالث: ما يظهر من قصَّة الجزيرة الخضراء، قال الشيخ الفاضل عليُّ بن فاضل المازندراني: فقلت للسيِّد شمس الدِّين محمّد وهو العقب السادس من أولاده (عليه السلام): يا سيِّدي، قد روينا عن مشايخنا أحاديث رُويت عن صاحب الأمر (عليه السلام) أنَّه قال لـمَّا أُمِرَ بالغيبة الكبرى: من رآنِّي بعد غيبتي فقد كذب، فكيف فيكم من يراه؟
فقال: صدقت إنَّه (عليه السلام) إنَّما قال ذلك في ذلك الزمان لكثرة أعدائه من أهل بيته، وغيرهم من فراعنة بني العبَّاس، حتَّى إنَّ الشيعة يمنع بعضها بعضاً عن التحدُّث بذكره، وفي هذا الزمان تطاولت المدَّة وأيس منه الأعداء، وبلادنا نائية عنهم، وعن ظلمهم وعنائهم... الحكاية(121).
وهذا الوجه كما ترى يجري في كثير من بلاد أوليائه (عليهم السلام).
الرابع: ما ذكره العلَّامة الطباطبائي في رجاله في ترجمة الشيخ المفيد بعد ذكر التوقيعات(122) المشهورة الصادرة منه (عليه السلام) في حقِّه ما لفظه:
(وقد يشكل أمر هذا التوقيع بوقوعه في الغيبة الكبرى، مع جهالة المبلِّغ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(120) راجع: البحار (ج 52/ ص 151/ باب من ادَّعى الرؤية في الغيبة الكبرى).
(121) راجع: البحار (ج 52/ ص 172/ باب نادر فيمن رآه (عليه السلام)).
(122) ذكرها المجلسي (رحمه الله) في باب ما خرج من توقيعاته (عليه السلام)، راجع: البحار (ج 53/ ص 174 - 178).

(١٦٤)

ودعواه المشاهدة المنافية بعد الغيبة الصغرى، ويمكن دفعه باحتمال حصول العلم بمقتضى القرائن، واشتمال التوقيع على الملاحم والإخبار عن الغيب الذي لا يطَّلع عليه إلَّا الله وأولياؤه بإظهاره لهم، وأنَّ المشاهدة المنفيَّة أنْ يشاهد الإمام (عليه السلام) ويعلم أنَّه الحجَّة (عليه السلام) حال مشاهدته له، ولم يعلم من المبلِّغ ادُّعاؤه لذلك).
وقال (رحمه الله) في فوائده في مسألة الإجماع بعد اشتراط دخول كلِّ من لا نعرفه: (وربَّما يحصل لبعض حفظة الأسرار من العلماء الأبرار العلم بقول الإمام (عليه السلام) بعينه على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في مدَّة الغيبة، فلا يسعه التصريح بنسبة القول إليه (عليه السلام) فيُبرزه في صورة الإجماع، جمعاً بين الأمر بإظهار الحقِّ والنهي عن إذاعة مثله بقول مطلق)، انتهى.
ويمكن أنْ يكون نظره في هذا الكلام إلى الوجه الآتي.
الخامس: ما ذكره (رحمه الله) فيه أيضاً بقوله: (وقد يُمنَع أيضاً امتناعه في شأن الخواصِّ وإنْ اقتضاه ظاهر النصوص بشهادة الاعتبار، ودلالة بعض الآثار).
ولعلَّ مراده بالآثار الوقائع المذكورة هنا وفي (البحار) أو خصوص ما رواه الكليني في (الكافي) والنعماني في غيبته والشيخ في غيبته بأسانيدهم المعتبرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «لا بدَّ لصاحب هذا الأمر من غيبة، ولا بدَّ له في غيبته من عزلة، وما بثلاثين من وحشة»(123).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(123) راجع: الكافي (ج 1/ ص 340)، غيبة النعماني (ص 99)، غيبة الشيخ (ص 111)، وقد ذكره المجلسي (رضوان الله عليه) في (ج 52/ ص 153 و157)، وقال: يدلُّ على كونه (عليه السلام) غالباً في المدينة وحواليها، وعلى أنَّ معه ثلاثين من مواليه وخواصِّه، إنْ مات أحدهم قام آخر مقامه.
أقول: ويُؤيِّده ما رواه الشيخ في غيبته (ص 111) عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين، إحداهما تطول حتَّى يقول بعضهم: مات، ويقول بعضهم: قُتِلَ، ويقول بعضهم: ذهب، حتَّى لا يبقى على أمره من أصحابه إلَّا نفر يسير لا يطَّلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره إلَّا المولى الذي يلي أمره».

(١٦٥)

وظاهر الخبر كما صرَّح به شُرَّاح الأحاديث أنَّه (عليه السلام) يستأنس بثلاثين من أوليائه في غيبته.
وقيل: إنَّ المراد أنَّه على هيأة مَنْ سنُّه ثلاثون أبداً، وما في هذا السنِّ وحشة، وهذا المعنى بمكان من البعد والغرابة.
وهذه الثلاثون الذين يستأنس بهم الإمام (عليه السلام) في غيبته لا بدَّ أنْ يتبادلوا في كلِّ قرن، إذ لم يُقدَّر لهم من العمر ما قُدِّر لسيِّدهم (عليه السلام)، ففي كلِّ عصر يوجد ثلاثون مؤمناً وليًّا يتشرَّفون بلقائه.
وفي خبر عليِّ بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي المروي في إكمال الدِّين وغيبة الشيخ(124) ومسند فاطمة (عليها السلام) لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري، وفي لفظ الأخير أنَّه قال له الفتى الذي لقيه عند باب الكعبة وأوصله إلى الإمام (عليه السلام): ما الذي تريد يا أبا الحسن؟
قال: الإمام المحجوب عن العالم.
قال: ما هو محجوب عنكم، ولكن حجبه سوء أعمالكم... الخبر.
وفيه إشارة إلى أنَّ من ليس له عمل سوء فلا شيء يحجبه عن إمامه (عليه السلام)، وهو من الأوتاد أو من الأبدال في الكلام المتقدِّم عن الكفعمي (رحمه الله).
وقال المحقِّق الكاظمي في أقسام الإجماع الذي استخرجه من مطاوي كلمات العلماء وفحاوي عباراتهم، غير الإجماع المصطلح المعروف:
وثالثها أنْ يحصل لأحد من سفراء الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه وصلَّى عليه) العلم بقوله إمَّا بنقل مثله له سرًّا، أو بتوقيع أو مكاتبة، أو بالسماع منه شفاهاً، على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في زمن الغيبة، ويحصل ذلك لبعض حملة أسرارهم، ولا يمكنهم التصريح بما اطَّلع عليه، والإعلان بنسبة القول إليه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(124) ونقله المجلسي (رحمه الله) في (ج 52/ ص 9 و32)، فراجع.

(١٦٦)

والاتِّكال في إبراز المدَّعى على غير الإجماع من الأدلَّة الشرعيَّة، لفقدها. وحينئذٍ فيجوز له إذا لم يكن مأموراً بالإخفاء، أو كان مأموراً بالإظهار لا على وجه الإفشاء أنْ يُبرزه لغيره في مقام الاحتجاج بصورة الإجماع، خوفاً من الضياع وجمعاً بين امتثال الأمر بإظهار الحقِّ بقدر الإمكان، وامتثال النهي عن إذاعة مثله لغير أهله من أبناء الزمان، ولا ريب في كونه حجَّة، أمَّا لنفسه فلعلمه بقول الإمام (عليه السلام)، وأمَّا لغيره فلكشفه عن قول الإمام (عليه السلام) أيضاً، غاية ما هناك أنَّه يستكشف قول الإمام (عليه السلام) بطريق غير ثابت، ولا ضير فيه، بعد حصول الوصول إلى ما أُنيط به حجّيَّة الإجماع، ولصحَّة هذا الوجه وإمكانه شواهد تدلُّ عليه:
منها: كثير من الزيارات والآداب والأعمال المعروفة التي تداولت بين الإماميَّة ولا مستند لها ظاهراً من أخبارهم، ولا من كُتُب قدمائهم الواقفين على آثار الأئمَّة (عليهم السلام) وأسرارهم، ولا أمارة تشهد بأنَّ منشأها أخبار مطلقة، أو وجوه اعتباريَّة مستحسنة هي التي دعتهم إلى إنشائها وترتيبها والاعتناء لجمعها وتدوينها كما هو الظاهر في جملة منها، نعم لا نضائق في ورود الأخبار في بعضها.
ومنها: ما رواه والد العلَّامة وابن طاوس عن السيِّد الكبير العابد رضي الدِّين محمّد بن محمّد الآوي... إلى آخر ما مرَّ في الحكاية السادسة والثلاثين(125).
ومنها: قصَّة الجزيرة الخضراء المعروفة المذكورة في (البحار)، وتفسير الأئمَّة (عليهم السلام)، وغيرها.
ومنها: ما سمعه منه عليُّ بن طاوس في السرداب الشريف(126).
ومنها: ما علَّم محمّد بن عليٍّ العلوي الحسيني المصري في الحائر الحسيني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(125) راجع الحكاية السادسة والثلاثين (ص 104).
(126) راجع الحكاية الخامسة والخمسين (ص 142).

(١٦٧)

وهو بين النوم واليقظة، وقد أتاه الإمام (عليه السلام) مكرَّراً وعلَّمه إلى أنْ تعلَّمه في خمس ليال وحفظه، ثمّ دعا به واستُجيب دعاؤه، وهو الدعاء المعروف بالعلوي المصري، وغير ذلك.
ولعلَّ هذا هو الأصل أيضاً في كثير من الأقوال المجهولة القائل، فيكون المطَّلع على قول الإمام (عليه السلام) لـمَّا وجده مخالفاً لما عليه الإماميَّة أو معظمهم، ولم يتمكَّن من إظهاره على وجهه، وخشي أنْ يضيع الحقُّ ويذهب عن أهله، جعله قولاً من أقوالهم، وربَّما اعتمد عليه وأفتى به من غير تصريح بدليله، لعدم قيام الأدلَّة الظاهرة بإثباته.
ولعلَّه الوجه أيضاً فيما عن بعض المشايخ من اعتبار تلك الأقوال أو تقويتها بحسب الإمكان، نظراً إلى احتمال كونها قول الإمام (عليه السلام) ألقاها بين العلماء، كيلا يجمعوا على الخطاء، ولا طريق لإلقائها حينئذٍ إلَّا بالوجه المذكور.
وقال السيِّد المرتضى في كتاب (تنزيه الأنبياء) في جواب من قال: فإذا كان الإمام (عليه السلام) غائباً بحيث لا يصل إليه أحد من الخلق ولا ينتفع به، فما الفرق بين وجوده وعدمه... إلخ:
(قلنا: الجواب: أوَّل ما نقوله: إنَّا غير قاطعين على أنَّ الإمام لا يصل إليه أحد، ولا يلقاه بشر، فهذا أمر غير معلوم، ولا سبيل إلى القطع عليه...) إلخ.
وقال أيضاً في جواب من قال: إذا كانت العلَّة في استتار الإمام خوفه من الظالمين واتِّقاءه من المعاندين، فهذه العلَّة زائلة في أوليائه وشيعته، فيجب أنْ يكون ظاهراً لهم - بعد كلام له -:
(وقلنا أيضاً: إنَّه غير ممتنع أنْ يكون الإمام يظهر لبعض أوليائه ممَّن لا يخشى من جهته شيئاً من أسباب الخوف، وإنَّ هذا ممَّا لا يمكن القطع على

(١٦٨)

ارتفاعه وامتناعه، وإنَّما يعلم كلُّ واحد من شيعته حال نفسه، ولا سبيل له إلى العلم بحال غيره).
وله في كتاب (المقنع في الغيبة) كلام يقرب ممَّا ذكره هناك.
وقال الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) في كتاب (الغيبة) في الجواب عن هذا السؤال - بعد كلام له -:
(والذي ينبغي أنْ يُجاب عن هذا السؤال الذي ذكرناه عن المخالف أنْ نقول: إنَّا أوَّلاً لا نقطع على استتاره عن جميع أوليائه، بل يجوز أنْ يبرز لأكثرهم، ولا يعلم كلُّ إنسان إلَّا حال نفسه، فإنْ كان ظاهراً له فعلَّته مزاحة، وإنْ لم يكن ظاهراً علم أنَّه إنَّما لم يظهر له لأمر يرجع إليه وإنْ لم يعلمه مفصَّلاً لتقصير من جهته...) إلخ(127).
وتقدَّم كلمات للسيِّد عليِّ بن طاوس تناسب المقام، خصوصاً قوله: (مع أنَّه (عليه السلام) حاضر مع الله (جلَّ جلاله) على اليقين، وإنَّما غاب من لم يلقه عنهم، لغيبته عن حضرة المتابعة له، ولربِّ العالمين)(128).
وفيما نقلنا من كلماتهم وغيرها ممَّا يطول بنقله الكتاب كفاية لرفع الاستبعاد وعدم حملهم الخبر على ظاهره، وصرفه إلى أحد الوجوه التي ذكرناها.
السادس: أنْ يكون المخفي على الأنام، والمحجوب عنهم، مكانه (عليه السلام) ومستقرُّه الذي يقيم فيه، فلا يصل إليه أحد، ولا يعرفه غيره حتَّى ولده، فلا ينافي لقاءه ومشاهدته في الأماكن والمقامات التي قد مرَّ ذكر بعضها، وظهوره عند المضطرِّ المستغيث به، الملتجئ إليه التي انقطعت عنه الأسباب وأُغلقت دونه الأبواب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(127) راجع: البحار (ج 51/ ص 196)، عن كتاب الغيبة للشيخ الطوسي (قدّس سرّه) (ص 75).
(128) راجع الحكاية الخامسة والخمسين (ص 142).

(١٦٩)

وفي (دعوات) السيِّد الراوندي، و(مجموع الدعوات) للتلعكبري، و(قبس المصباح) للصهرشتي في خبر أبي الوفاء الشيرازي أنَّه قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في النوم: وأمَّا الحجَّة، فإذا بلغ منك السيف للذبح - وأومأ بيده إلى الحلق - فاستغث به فإنَّه يغيثك، وهو غياث وكهف لمن استغاث، فقل: يا مولاي، يا صاحب الزمان، أنا مستغيث بك. وفي لفظ: وأمَّا صاحب الزمان، فإذا بلغ منك السيف هنا - ووضع يده على حلقه - فاستعن به، فإنَّه يعينك.
وممَّا يُؤيِّد هذا الاحتمال ما رواه الشيخ والنعماني في كتابي الغيبة عن المفضَّل ابن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين، إحداهما تطول، حتَّى يقول بعضهم: مات، ويقول بعضهم: قُتِلَ، ويقول بعضهم: ذهب، حتَّى لا يبقى على أمره من أصحابه إلَّا نفر يسير، لا يطَّلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره إلَّا الذي [يلي] أمره»(129).
وروى الكليني عن إسحاق بن عمَّار: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «للقائم غيبتان، إحداهما قصيرة والأُخرى طويلة، الغيبة الأُولى لا يعلم بمكانه فيها إلَّا خاصَّة شيعته، والأُخرى لا يعلم بمكانه فيها إلَّا خاصَّة مواليه».
ورواه النعماني، وفي لفظه بدون الاستثناء في الثاني.
ورواه بسند آخر عنه (عليه السلام)، قال: «للقائم غيبتان إحداهما قصيرة والأُخرى طويلة، الأُولى لا يعلم بمكانه إلَّا خاصَّة [شيعته، والأُخرى لا يعلم بمكانه إلَّا خاصَّة] مواليه في دينه»(130).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(129) راجع: غيبة الشيخ (ص 111)، غيبة النعماني (ص 89)، وقد أخرجه المجلسي (رحمه الله) في (ج 52/ ص 153)، فراجع.
(130) الكافي (ج 1/ ص 340)، غيبة النعماني (ص 89).

(١٧٠)

وليس في تلك القَصص ما يدلُّ على أنَّ أحداً لقيه (عليه السلام) في مقرِّ سلطنته ومحلِّ إقامته.
ثمّ لا يخفى على الجائس في خلال ديار الأخبار أنَّه (عليه السلام) ظهر في الغيبة الصغرى لغير خاصَّته ومواليه أيضاً، فالذي انفرد به الخواصُّ في الصغرى هو العلم بمستقرِّه، وعرض حوائجهم عليه (عليه السلام) فيه، فهو المنفيُّ عنهم في الكبرى، فحالهم وحال غيرهم فيها كغير الخواصِّ في الصغرى، والله العالم.

الثانية: [أثر المداومة على بعض الأعمال]

أنَّه قد عُلِمَ من تضاعيف تلك الحكايات أنَّ المداومة على العبادة، والمواظبة على التضرُّع والإنابة، في أربعين ليلة الأربعاء في مسجد السهلة أو ليلة الجمعة فيها أو في مسجد الكوفة أو الحائر الحسيني (على مشرِّفه السلام) أو أربعين ليلة من أيِّ الليالي في أيِّ محلٍّ ومكانٍ، كما في قصَّة الرُّمَّان المنقولة في (البحار)(131) طريق إلى الفوز بلقائه (عليه السلام) ومشاهدة جماله، وهذا عمل شائع، معروف في المشهدين الشريفين، ولهم في ذلك حكايات كثيرة، ولم نتعرَّض لذكر أكثرها لعدم وصول كلِّ واحدٍ منها إلينا بطريق يُعتَمد عليه، إلَّا أنَّ الظاهر أنَّ العمل من الأعمال المجرَّبة، وعليه العلماء والصلحاء والأتقياء، ولم نعثر لهم على مستندٍ خاصٍّ وخبر مخصوص، ولعلَّهم عثروا عليه أو استنبطوا ذلك من كثير من الأخبار التي يستظهر منها أنَّ للمداومة على عمل مخصوص من دعاء أو صلاة أو قراءة أو ذكر أو أكل شيء مخصوص أو تركه في أربعين يوماً تأثير في الانتقال والترقِّي من درجة إلى درجة، ومن حالة إلى حالة، بل في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(131) بحار الأنوار (ج 52/ ص 176).

(١٧١)

النزول كذلك، فيُستَظهر منها أنَّ في المواظبة عليه في تلك الأيَّام تأثير لإنجاح كلِّ مهمٍّ أراده.
ففي (الكافي): «ما أخلص عبد الإيمان بالله»، وفي رواية: «ما أجمل عبد ذكر الله أربعين صباحاً إلَّا زهَّده في الدنيا، وبصَّره داءها ودواءها، وأثبت الحكمة في قلبه، [وأنطق بها لسانه]»(132).
وفي النبوي المروي في (لُبِّ اللباب) للقطب الراوندي: «من أخلص العبادة لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(133).
وفي أخبار كثيرة ما حاصلها: النطفة تكون في الرحم أربعين يوماً، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، فمن أراد أنْ يدعو للحبلى أنْ يجعل الله ما في بطنها ذَكَراً سويًّا يدعو ما بينه وبين تلك الأربعة أشهر.
وفي (الكافي) أنَّه قيل للكاظم (عليه السلام): إنَّا روينا عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنَّه قال: «من شرب الخمر لم يُحتَسب له صلاته أربعين يوماً...»، إلى أنْ قال: «إذا شرب الخمر بقي في مشاشه أربعين يوماً، على قدر انتقال خلقته»، ثمّ قال: «كذلك جميع غذاء أكله وشربه يبقى في مشاشه أربعين»(134).
وورد أنَّ من ترك اللحم أربعين صباحاً ساء خُلُقه، لأنَّ انتقال النطفة في أربعين يوماً، ومن أكل اللحم أربعين صباحاً ساء خُلُقه، ومن أكل الزيت وادَّهن به لم يقربه الشيطان أربعين يوماً، ومن شرب السويق أربعين صباحاً امتلأت كتفاه قوَّةً، ومن أكل الحلال أربعين يوماً نوَّر الله قلبه.
وفي (أمالي الصدوق) في خبر بهلول النبَّاش والتجاؤه إلى بعض جبال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(132) الكافي (ج 2/ ص 16/ باب الإخلاص/ ح 6).
(133) وأخرجه السيوطي في الجامع الصغير عن حلية الأولياء كما في السراج المنير (ج 3/ ص 323).
(134) الكافي (ج 6/ ص 402).

(١٧٢)

المدينة وتضرُّعه وإنابته أربعين يوماً، وقبول توبته في يوم الأربعين، ونزول الآية فيه وذهاب النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) عنده، وقراءتها عليه، وبشارته بقبول التوبة، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) لأصحابه: «هكذا تداركوا(135) الذنوب كما تداركها بهلول».
وورد أنَّ داود (عليه السلام) بكى على الخطيئة أربعين يوماً.
وأحسن من الجميع شاهداً أنَّه تعالى جعل ميقات نبيِّه موسى أربعين يوماً.
وفي النبوي أنَّه ما أكل وما شرب ولا نام ولا اشتهى شيئاً من ذلك في ذهابه ومجيئه أربعين يوماً شوقاً إلى ربِّه.
وفي (تفسير العسكري (عليه السلام)): كان موسى (عليه السلام) يقول لبني إسرائيل: إذا فرَّج الله عنكم وأهلك أعداءكم آتيكم بكتاب من عند ربِّكم يشمل على أوامره ونواهيه ومواعظه وعِبَره وأمثاله، فلمَّا فرَّج الله عنهم أمره الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يأتي للميعاد ويصوم ثلاثين يوماً عند أصل الجبل...، إلى أنْ قال: فأوحى الله إليه: صُمْ عشراً آخر، وكان وعد الله أنْ يعطيه الكتاب بعد أربعين ليلة.
بل ورد أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أُمِرَ أنْ يهجر خديجة أربعين يوماً قبل يوم بعثته.
ومن الشواهد التي تناسب المقام ما روي بالأسانيد المعتبرة عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «من دعا إلى الله تعالى أربعين صباحاً بهذا العهد كان من أنصار قائمنا، فإنْ مات قبله أخرجه الله من قبره وأعطاه بكلِّ كلمة ألف حسنة، ومحى عنه ألف سيِّئة، وهو: اللَّهُمَّ ربَّ النور العظيم...» الدعاء(136).
وفي (إكمال الدِّين) في حديث حكيمة في ولادة المهدي (صلوات الله عليه) أنه (عليه السلام) لـمَّا وُلِدَ وسجد، وشهد بالتوحيد والرسالة، وإمامة آبائه (عليهم السلام)، قالت:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(135) في النسخة: (تدارك)، وما أثبتناه من أمالي الصدوق (ص 100/ ح 76/3).
(136) أخرجه المجلسي (رحمه الله) في باب الرجعة تحت الرقم (111)، عن مصباح الزائر. راجع (ص 95) من المجلَّد (53) من البحار.

(١٧٣)

فصاح أبو محمّد الحسن (عليه السلام) فقال: «يا عمَّة تناوليه فهاتيه»، قالت: فتناولته وأتيت به نحوه، فلمَّا مثلت بين يدي أبيه وهو على يدي، سلَّم على أبيه، فتناوله الحسن (عليه السلام) والطير ترفرف على رأسه، فصاح بطير منها فقال: «احمله واحفظه وردَّه إلينا في كلِّ أربعين يوماً».
فتناوله الطير وطار به في جوِّ السماء، وأتبعه سائر الطيور، فسمعت أبا محمّد (عليه السلام) يقول: «أستودعك الذي استودعته أُمَّ موسى (عليه السلام)»، فبكت نرجس فقال لها: «اسكتي فإنَّ الرضاع محرَّم عليه إلَّا من ثديك».
إلى أنْ قال: قالت حكيمة: فلمَّا أنْ كان بعد أربعين يوماً رُدَّ الغلام، ووجَّه إليَّ ابن أخي فدعاني، فدخلت عليه فإذا أنا بصبي يمشي بين يديه...، إلى أنْ قال: قالت حكيمة: فلم أزل أرى ذلك الصبي كلَّ أربعين يوماً إلى أنْ رأيته رجلاً قبل مضيِّ أبي محمّد (عليه السلام)... الخبر(137).
واعلم أنَّا قد ذكرنا في الفصل الأوَّل من المجلَّد الثاني من كتابنا (دار السلام) أعمالاً مخصوصة عند المنام للتوسُّل إلى رؤية النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمَّة (عليهم السلام) في المنام، وأكثرها مختصٌّ بالنبيِّ وبعضها بالوصيِّ (صلوات الله عليهما)، ولعلَّه يجري في سائر الأئمَّة ما جرى لهما (صلوات الله عليهما) لبعض عمومات المنزلة، وبذلك صرَّح المحقِّق الجليل المولى زين العابدين الجرفادقاني (رحمه الله) في شرح المنظومة، حيث قال في شرح قوله في غايات الغسل:

ورؤية الإمام في المنام * * * لدرك ما يقصد من مرام

إنَّه يدلُّ عليه النبوي المروي في (الإقبال) في أعمال ليلة النصف من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(137) أخرجه المجلسي (رحمه الله) في باب ولادته وأحوال أُمِّه (عليه السلام)، راجع (ج 51/ ص 14)، كمال الدِّين (ج 2/ ص 102).

(١٧٤)

شعبان: «فأحسن الطهر...» إلى أنْ قال: «ثمّ سأل الله تعالى أنْ يراني من ليلته يراني».
ولكن فيه مضافاً إلى استهجان خروج المورد عن البيت إلَّا بتكلُّف، لا يخفى أنَّ الظاهر، بل المقطوع أنَّ نظر السيِّد (رحمه الله) إلى ما رواه الشيخ المفيد (رحمه الله) في الاختصاص عن أبي المغرى(138)، عن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، قال: سمعته يقول: «من كانت له إلى الله حاجة وأراد أنْ يرانا، وأنْ يعرف موضعه، فليغتسل ثلاث ليال يناجي بنا، فإنَّه يرانا ويغفر له بنا، ولا يخفى عليه موضعه...» الخبر(139).
قوله (عليه السلام): «يناجي بنا» أي يناجي الله تعالى بنا، ويعزم عليه ويتوسَّل إليه بنا أنْ يُرينا إيَّاه، ويعرف موضعه عندنا(140). وقيل: أي يهتمُّ برؤيتنا، ويُحدِّث نفسه بنا ورؤيتنا ومحبَّتنا، فإنَّه يراهم، أو يسألنا ذلك.
وفي (الجنَّة الواقية) للشيخ إبراهيم الكفعمي: رأيت في بعض كُتُب أصحابنا أنَّه من أراد رؤية أحد من الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) أو الوالدين(141) في نومه فليقرأ: والشمس، والقدر، والجحد، والإخلاص، والمعوذتين ثمّ يقرأ الإخلاص مائة مرَّة ويُصلِّي على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) مائة مرَّة، وينام على الجانب الأيمن على وضوئه فإنَّه يرى من يريده إنْ شاء الله تعالى، ويُكلِّمهم بما يريد من سؤال وجواب.
ورأيت في نسخة أُخرى هذا بعينه، غير أنَّه يفعل ذلك سبع ليالٍ بعد الدعاء الذي أوَّله: «اَللُّهَمُّ أَنْتَ اَلْحَيُّ اَلَّذِي...» إلخ، وهذا الدعاء رواه السيِّد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(138) في الاختصاص: (أبي المغراء).
(139) راجع: الاختصاص (ص 90).
(140) في نسخة الاختصاص المطبوع: (وأنْ يعرف موضعه عند الله).
(141) في النسخة: (الوالدان).

(١٧٥)

عليُّ بن طاوس في (فلاح السائل)، مسنداً عن بعض الأئمَّة (عليهم السلام)، قال: إذا أردت أنْ ترى ميِّتك، فبت على طهر، وانضجع على يمينك، وسبِّح تسبيح فاطمة (عليها السلام).
وقال الشيخ الطوسي في (مصباحه): ومن أراد رؤيا ميِّت في منامه فليقل [في منامه]: «اَللَّهُمَّ أَنْتَ اَلْحَيُّ اَلَّذِي لَا يُوصَفُ، وَاَلْإِيمَانُ يُعْرَفُ مِنْهُ، مِنْكَ بَدَأَتِ(142) اَلْأَشْيَاءُ وَإِلَيْكَ تَعُودُ، فَمَا أَقْبَلَ مِنْهَا كُنْتَ مَلْجَأَهُ وَمَنْجَاهُ، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَلْجَأٌ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، فَأَسْأَلُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَأَسْأَلُكَ بِبِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، وَبِحَقِّ حَبِيبِكَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) سَيِّدِ اَلنَّبِيِّينَ، وَبِحَقِّ عَلِيٍّ خَيْرِ اَلْوَصِيِّينَ، وَبِحَقِّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ، وَبِحَقِّ اَلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ اَللَّذَيْنِ جَعَلْتَهُمَا سَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ أَجْمَعِينَ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَهْلِ بِيْتِهِ(143)، وَأَنْ تُرِيَنِي مَيِّتِي فِي اَلْحَالِ اَلَّتِي هُوَ فِيهَا»، فإنَّك تراه إنْ شاء الله تعالى(144).
ومقتضى إطلاق صدر الخبر أنْ يكون للداعي إذا عمل بهذه النسخة أنْ يُبدِّل آخر الدعاء بما يناسب رؤية الإمام الحيِّ والنبيِّ الحيِّ، بل الظاهر أنْ يكون له ذلك إنْ أراد رؤية كلَّ واحد من الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) حيًّا كان أو ميِّتاً.
بل في كتاب (تسهيل الدواء) بعد ذكر الدعاء المذكور: وذكر مشايخنا (رضوان الله عليهم) أنَّ من أراد أنْ يرى أحداً من الأنبياء أو أئمَّة الهدى (صلوات الله عليهم) فليقرأ الدعاء المذكور...، إلى قوله: أنْ تُصلِّي على محمّد وآل محمّد، ثمّ يقول: أنْ تريني فلاناً، ويقرأ بعده سورة والشمس، والليل، والقدر،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(142) في المصباح: (بدت).
(143) في المصباح: (وآله).
(144) مصباح المتهجِّد (ص 122).

(١٧٦)

والجحد، والإخلاص، والمعوذتين، ثمّ يقرأ مائة مرَّة سورة التوحيد، فكلُّ من أراده يراه ويسأل عنه ما أراده، ويجيبه إنْ شاء الله.
وحيث بلغ بنا الكلام إلى هذا المقام، فالأولى أنْ نتبرَّك بذكر بعض الأعمال المختصرة للغاية المذكورة، بناءً على ما احتملناه وصرَّح به المحقِّق المذكور، وهو من أعاظم العلماء الذين عاصرناهم.
فمنها: ما في (فلاح السائل) للسيِّد عليِّ بن طاوس لرؤيا أمير المؤمنين (عليه السلام) في المنام، قال: إذا أردت ذلك، فقل عند مضجعك:
«اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا مَنْ لُطْفُهُ خَفِيٌّ، وَأَيَادِيهِ بَاسِطَةٌ لَا تَنْقَضِي، أَسْأَلُكَ بِلُطْفِكَ اَلْخَفِيِّ، اَلَّذِي مَا لَطُفْتَ بِهِ لِعَبْدٍ إِلَّا كُفِيَ، أَنْ تُرِيَنِي مَوْلَايَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فِي مَنَامِي».
وحدَّثني بعض الصلحاء الأبرار (طاب ثراه) أنَّه جرَّبه مراراً.
ومنها: ما في (المصباح) للكفعمي و(تفسير البرهان) عن كتاب (خواصِّ القرآن) عن الصادق (عليه السلام) أنَّ من أدمن قراءة سورة المزمِّل رأى النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وسأله ما يريد، وأعطاه الله كلَّ ما يريد من الخير.
ومنها: ما رواه الأوَّل أنَّ من قرأ [سورة] القدر عند زوال الشمس مائة مرَّة رأى النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في منامه.
ومنها: ما في المجلَّد الأوَّل من كتاب المجموع الرائق للسيِّد الجليل هبة الله ابن أبي محمّد الموسوي المعاصر للعلَّامة (رحمه الله) أنَّ من أدمن تلاوة سورة الجنِّ رأى النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وسأله ما يريد.
ومنها: ما فيه أنَّ من قرأ سورة الكافرون نصف الليل من ليلة الجمعة، رأى النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
ومنها: قراءة دعاء المجير على طهارة سبعاً عند النوم، بعد صوم سبعة أيَّام، رواه الكفعمي في (جنَّته).

(١٧٧)

ومنها: قراءة الدعاء المعروف بالصحيفة المروي في (مهج الدعوات) خمس مرَّات على طهارة.
ومنها: ما رواه الكفعمي عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «من قرأ سورة القدر بعد صلاة الزوال وقبل الظهر إحدى وعشرين مرَّة، لم يمت حتَّى يرى النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)».
ومنها: ما في بعض المجاميع المعتبرة أنَّ من أراد أنْ يرى سيِّد البريَّات في المنام فليُصَلِّ ركعتين بعد صلاة العشاء بأيِّ سورة أراد، ثمّ يقرأ هذا الدعاء مائة مرَّة: «بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، يَا نُورَ اَلنُّورِ، يَا مُدَبِّرَ اَلْأُمُورِ، بَلِّغْ مِنِّي رُوحَ مُحَمَّدٍ وَأَرْوَاحَ آلِ مُحَمَّدٍ تَحِيَّةً وَسَلَاماً».
ومنها: ما في (جنَّة) الكفعمي عن كتاب (خواصِّ القرآن) أنَّه من قرأ ليلة الجمعة بعد صلاة يُصلِّيها من الليل الكوثر ألف مرَّة، وصلَّى على محمّد وآل محمّد ألف مرَّة رأى النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في نومه.
تلك عشرة كاملة، وباقي الأعمال والأوراد والصلوات يُطلَب من كتابنا المذكور(145)، فإنَّ فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين.
ولنختم هذه المقالة الشريفة بذكر ندبة أنشأها السيِّد السند الصالح الصفي إمام شعراء العراق، بل سيِّد الشعراء في الندب والمراثي على الإطلاق، السيِّد حيدر ابن السيِّد سليمان الحلِّي، المؤيَّد من عند المَلِك العلي، وقد جمع (أيَّده الله تعالى) بين فصاحة اللسان، وبلاغة البيان، وشدَّة التقوى، وقوَّة الإيمان، بحيث لو رآه أحد لا يتوهَّم في حقِّه القدرة على النظم، فكيف بأعلى مراتبه، أنشأها بأمر سيِّد الفقهاء السيِّد المهدي القزويني النزيل في الحلَّة في السنة التي صار عمر پاشا والياً على أهل العراق، وشدَّد عليهم، وأمر بتحرير النفوس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(145) يريد كتابه دار السلام، فراجع.

(١٧٨)

لإجراء القرعة، وأخذ العسكر من أهل القرى والأمصار سواء الشريف فيه والوضيع، والعالم فيه والجاهل، والعلوي فيه وغيره، والغني فيه والفقير، فاشتدَّ عليهم الأمر، وعظم البلاء، وضاقت الأرض، ومُنِعَت السماء، فأنشأ السيِّد هذه الندبة المشجية، فرأى واحد من الصلحاء المجاورين في النجف الأشرف الحجَّة المنتظر (عليه السلام)، فقال له ما معناه: قد أقلقني السيِّد حيدر، قل له: لا يُؤذيني فإنَّ الأمر ليس بيدي، ورفع الله عنهم القرعة في أيَّامه وبعده بسنين، وهي هذه:

يا غمرة من لنا بمعبرها * * * موارد الموت دون مصدرها
يطفح موج البلا الخطير بها * * * فيغرق العقل في تصوُّرها
وشدَّة عندها انتهت عظماً * * * شدائد الدهر مع تكثُّرها
ضاقت ولم يأتِها مفرِّجها * * * فجاشت النفس من تحيُّرها
الآن رجس الضلالة استغرق * * * الأرض فضجَّت إلى مطهِّرها
وملَّة الله غُيِّرت فغدت * * * تصرخ لله من مغيِّرها
من مخبري والنفوس عاتبة * * * ماذا يُؤدِّي لسان مخبرها
لِـمَ صاحب الأمر عن رعيَّته * * * أغضى فغضت بجور أكفرها
ما عذره نصب عينه أُخِذَت * * * شيعته وهو بين أظهرها
يا غيرة الله لا قرار على * * * ركوب فحشائها ومنكرها
سيفك والضرب إنَّ شيعتكم * * * قد بلغ السيف حزَّ منحرها
مات الهدى سيِّدي فقم وأمت * * * شمس ضحاها بليل عيثرها(146)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(146) العيثر - وهكذا العثير -: التراب والعجاج، وما قلبت من تراب بأطراف سابع رجلك إذا مشيت لا يُرى للقدم أثر غيره. وقد عيثر القوم: إذا أثاروا العيثر.

(١٧٩)

واترك منايا العدى بأنفسهم * * * تكثر في الروع من تعثُّرها
لم يشفِ من هذه الصدور سوى * * * كسرك صدر القنا بموغرها(147)
وهذه الصُّحُف محو سيفك للأ * * * عمار منهم أمَّحى لأسطرها(148)
فالنُّطَف اليوم تشتكي وهي في * * * رحام منها إلى مصوِّرها
فالله يا ابن النبيِّ في فئة * * * ما ذخرت غيركم لمحشرها
ماذا لأعدائها تقول إذا * * * لم تُنجِها اليوم من مدمرها
أشُقَّة البعد دونك اعترضت * * * أم حجبت منك عين مبصرها
فهاك قلب قلوبنا ترهاً * * * تفطرَّت فيك من تنضرُّها
كم سهرت أعين وليس سوى * * * انتظارها غوثكم بمسهرها
أين الحفيظ العليم للفئة * * * المضاعة الحقِّ عند أفخرها
تغضي وأنت الأب الرحيم لها * * * ما هكذا الظنُّ في ابن أطهرها
إنْ لم تغثها لجرم أكبرها * * * فارحم لها ضعف جرم أصغرها
كيف رقاب من الجحيم بكم * * * حرَّرها الله في تبصرُّها
ترضى بأنْ تسترقَّها عصب * * * لم تله عن نأيها ومزهرها
إنْ ترضَ يا صاحب الزمان بها * * * ودام للقوم فعل منكرها
ماتت شعار الإيمان واندفنت * * * ما بين خمر العدى وميسرها
أبعد بها خطَّة تزاد لها * * * لا قرَّب الله دار مؤثرها
الموت خير من الحياة بها * * * لو تملك النفس من تخيُّرها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(147) أوغر صدره: أحماه من الغيظ وأوقده.
(148) أمَّحى - بتشديد الميمِّ -: أصله انمحى فأُدغم النون في الميم.

(١٨٠)

ما غرَّ أعداءنا بربِّهم * * * وهو مليء بقصم أظهرها
مهلاً فللّه من بريَّته * * * عوائد جلَّ قدر أيسرها
فدعوة الناس إنْ تكن حُجِبَت * * * لأنَّها ساء فعل أكثرها
فرُبَّ جرى حشى لواحدها! * * * شكت إلى الله في تصوُّرها
تُوشَك أنفاسها وقد صعدت * * * أنْ تحرق القوم في تسعُّرها
* * *

وله (أيَّده الله تعالى) ندبة أُخرى تجري في هذا المجرى، تورث في العين قذى، وفي القلب شجى:

أقائم بيت الهدى الطاهر * * * كم الصبر فتَّ حشى الصابر
وكم يتظلَّم دين الإ * * * له إليك من النفر الجائر
يمدُّ يداً تشتكي ضعفها * * * لطبِّك في نبضها الفاتر
ترى منك ناصره غائباً * * * وشرك العدى حاضر الناصر
فنوسع سمعك عتباً يكاد * * * يثيرك قبل ندا الآمر
نهزُّك لا مؤثراً للقعود * * * على وثبة الأسد الخادر
ونوقض عزمك لا بائتاً * * * بمقلة من ليس بالساهر
ونعلم أنَّك عمَّا تروم * * * لم يكُ باعك بالقاصر
ولم تخشَ من قاهر حيث ما * * * سوى الله فوقك من قاهر
ولا بدَّ من أنْ نرى الظالمين * * * بسيفك مقطوعة الدابر
بيوم به ليس تبقى ضباك * * * على دارع الشرك والحاسر
ولو كنت تملك أمر النهوض * * * أخذت له أُهبة الثائر

(١٨١)

وإنَّا وإنْ ضرستنا الخطوب * * * لنعطيك جهد رضى العاذر
ولكن نرى ليس عند الإله * * * أكبر من جاهك الوافر
فلو نسأل الله تعجيله * * * ظهورك في الزمن الحاضر
لوافتك دعوته في الظهور * * * بأسرع من لمحة الناظر
فثقف عدلك من ديننا * * * قنا عجمتها يد الآطر
وسكن أمنك منَّا حشى * * * غدت بين خافقتي طائر
إلام وحتَّى مَ تشكو العقام * * * لسيفك أم الوغى العاقر
ولم تتلظَّى عطاش السيوف * * * إلى ورد ماء الطلى الهامر(149)
أمَا لقعودك من آخر * * * أثرها فديتك من ثائر
وقدها يميت ضحى المشرقين * * * بظلمة قسطلها المائر
يردن بمن لا يغير الحمام * * * أو درّك الوتر بالصادر
وكلُّ فتى حنيت ضلعه * * * على قلب ليث شرى هامر(150)
يُحدِّثه أسمر حاذق * * * بزجر عقاب الوغا الكاسر
بأنَّ له أنْ يسر مستميتاً * * * لطعن العدى أوبة الظافر
فيغدو أخفّ لضمِّ الرماح * * * منه لضمِّ المها العاطر
أُولئك آل الوغى الملبسون * * * عدوَّهم ذلَّة الصاغر
هم صفوة المجد من هاشم * * * وخالصة الحسب الفاخر
كواكب منك بليل الكفاح * * * تحفُّ بنيرها الباهر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(149) الهامر: الهاطل السيَّال.
(150) من قولهم: همر الفرس الأرض: ضربها بحوافره شديداً.

(١٨٢)

لهم أنت قطب وغى ثابت * * * وهم لك كالفلك الدائر
ظماء الجياد ولكنَّهم * * * رؤوا المثقف والباتر
كماة تلقب أرماحهم * * * برضاعة الكبد الواغر
وتُسمَّى سيوفهم الماضيات * * * لدى الروع بالأجل الحاضر
فإنْ سدَّدوا السمر حكوا السماء * * * وسدُّوا الفضاء على الطائر
وإنْ جرَّدوا البيض فالصافنات * * * تعوم ببحر دم زاخر
فثَمَّة طعن قنا لا تقيل * * * أسنَّتها عثرة الغادر
وضرب يؤلف بين النفوس * * * وبين الردى أُلفة القاهر
ألَا أين أنت أيا طالباً * * * بماضي الذحول وبالغابر
وأين المعدُّ لمحو الضلال * * * وتجديد رسم الهدى الداثر
وناشر راية دين الإله * * * وناعش جدِّ التقى العاثر
ويا بن العلى ورثوا كابراً * * * حميد المآثر عن كابر
ومدحهم مفخر المادحين * * * وذكرهم شرف الذاكر
ومن عاقدوا الحرب أنْ لا تنام * * * عن السيف عنهم يد الشاهر
تدارك بسيفك وتر الهدى * * * فقد أمكنتك طلى الواتر
كفى أسفاً أنْ يمرَّ الزمان * * * ولست بناهٍ ولا آمر
وأنْ ليس أعيننا تستضيء * * * بمصباح طلعتك الزاهر
على أنَّ فينا اشتياقاً إليك * * * كشوق الربا للحيا الماطر
عليك إمام الهدى غرماً * * * غداً البرّ تلقى من الفاخر
لك الله حلمك غرّ النعام * * * فأنساهم بطشة القادر

(١٨٣)

وطول انتظارك فتَّ القلوب * * * وأغضى الجفون على عائر
فكم ينحت الهم أحشاءنا * * * وكم تستطيل يد الجائر
وكم نصب عينك يا ابن النبيِّ * * * نساط بقدر البلا الفاتر
وكم نحن في كهوات الخطوب * * * نناديك من فمها الفاغر
ولم تكُ منَّا عيون الرجا * * * ء بغيرك معقودة الناظر
أصبراً على مثل حزِّ المدى * * * ونفحة جمر الغضا الساغر
أصبراً وهذي تيوس الضلال * * * قد أمنت شفرة الجازر
أصبراً وسرب العدى واقع * * * يروح ويغدو بلا ذاعر
نرى سيف أوَّلهم منتضى * * * على هامنا بيد الآخر
به تعرق اللحم منَّا وفيه * * * تشظى العظام يد الكاسر
وفيه يسوموننا خطَّة * * * بها ليس يرضى سوى الكافر
فنشكو إليهم ولا يعطفون * * * كشكوى العقيرة للعاقر
وحين البطان التقت حلقتاه * * * ولم نرَ للبغي من زاجر(151)
عججنا إليك من الظالمين * * * عجيج الجمال من الناحر
* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(151) البطان للقتب: الحزام الذي يُجعَل تحت بطن البعير، ويقال: (التقت حلقتا البطان) للأمر إذا اشتدَّ، وهو بمنزلة التصدير للرحل.

(١٨٤)

تمَّت الرسالة الشريفة بيد مؤلِّفها العبد المذنب المسيء حسين بن محمّد تقي النوري الطبرسي، في عصر يوم الأحد الثالث عشر من شوَّال المكرَّم سنة (1302هـ)، في بلدة سُرَّ من رأى حامداً مصلِّياً مستغفراً.
اللَّهُمَّ وفِّقه وكلَّ المؤلِّفين والبانين للخير، بحقِّ محمّد وآله.

* * *

(١٨٥)

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.
2 - الاحتجاج: أحمد بن عليٍّ الطبرسي/ تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/ 1386هـ/ دار النعمان/ النجف الأشرف.
3 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ الناشر: جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميَّة/ قم.
4 - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: العلَّامة المجلسي/ تحقيق: يحيى العابدي الزنجاني وعبد الرحيم الربَّاني الشيرازي/ ط 2/ 1403هـ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
5 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير: جلال الدِّين السيوطي/ ط 1/ 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.
6 - المصنَّف: ابن أبي شيبة/ تحقيق وتعليق: سعيد اللحَّام/ ط 1/ 1409هـ/ دار الفكر/ بيروت.
7 - الطبقات الكبرى: محمّد بن سعد/ دار صادر/ بيروت.
8 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.
9 - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ مكتبة الصدوق/ طهران.

(١٨٧)

10 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
11 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 3/ 1388هـ.
12 - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1405هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
13 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار صادر/ بيروت.
14 - المعجم الكبير: سليمان بن أحمد الطبراني/ تحقيق وتخريج: حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2/ دار إحياء التراث العربي.
15 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهرآشوب/ 1376هـ/ المكتبة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
16 - وسائل الشيعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة): الحرُّ العاملي/ ط 2/ 1414هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.

* * *

(١٨٨)