الإعداد الروحي لعصر الظهور
تأليف: السيّد علاء الدين الموسوي
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام)
الطبعة الثالثة: 1433هـ
رقم الإصدار: 126
فهرست الموضوعات
المحور الأوّل: الإعداد الروحي العامّ..................4
المعالم الأساسية لطريقة أهل البيت (عليهم السلام) في الإعداد الروحي..................6
المَعْلم الأوّل: الرجوع إلى الفطرة..................7
الآثار النفسية للفطرة..................10
الشخصية الحقيقية للإنسان..................13
بطلان قول الأشاعرة..................15
استعراض وتلخيص..................17
المَعْلَم الثاني: التفكّر..................18
العبادة وآثارها..................18
وسائل تقوية العقل..................21
الخلاصة..................23
المَعْلَم الثالث: العبودية..................24
آثار الشعور بالعبودية..................26
المَعْلَم الرابع: تبسيط الأمور وتيسيرها..................33
التزكية والعُجب..................37
المراحل العملية للتزكية..................45
الخطوة الأولى: تشخيص الأمراض..................45
كيف نشخّص أمراض قلوبنا؟..................47
ملاحظة هامّة..................50
الخطوة الثانية: علاج المرض القلبي..................51
طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في العلاج..................51
من موارد العلاج..................55
قصَّة جميلة وعبرة بالغة..................55
مناشئ الحقد..................57
الذكرى تنفع المؤمنين..................58
العوامل المساعدة في التزكية..................58
المحور الثاني: الإعداد الروحي الخاصّ..................61
خصائص زمن الظهور..................61
متطلّبات زمن الظهور..................66
أوّلاً: الصدق مع النفس..................66
ثانياً: التفقّه..................66
ثالثاً: البصيرة الكاملة..................68
الظهور مرحلة العمل الجاد لا النعيم فقط..................69
قصَّة هارون المكّي..................72
أهلية لقاء الإمام (عليه السلام) ..................73
مصادر التحقيق..................76
باسمه تعالى
هذه هي الطبعة الثالثة من هذا الكرّاس الذي يُعنى بتربية النفس على طريقة أهل البيت (عليهم السلام) بالمفهوم العامّ للتربية، وبالمفهوم الخاصّ الملاحظ فيه زمن الظهور المبارك.
وقد بذل مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام) جهوداً مشكورة في مراجعته وتخريج مصادره بعد أن أعدتُ قراءته وأضفت إليه وعدَّلت فيه.
جزاهم الله خيراً وتقبَّل أعمالهم وبارك لنا في أعمالنا وجعلها مثمرة طيّبة.
صفر الخير/ 1433هـ
السيّد علاء الدين الموسوي
المحور الأوّل: الإعداد الروحي العامّ
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها﴾ (الشمس: 9 و10).
حديثنا في مستهلّ هذه الدورة المباركة في هذا الشهر الكريم في هذا البلد الكريم(1) سيكون عن الإعداد الروحي بلحاظ زمن الظهور، إذ يراد التعرّض لجملة من المواضيع المرتبطة بالإعداد الروحي للمؤمن الذي ينتظر الفرج ويهيّئ نفسه لنصرة الإمام المهدي (عليه السلام).
الإعداد الروحي للمؤمن تارةً يُنظر إليه كجهد ضروري لكلّ مؤمن بهدف الوصول إلى الكمال والرقي بشكل عامّ، وأخرى بما هو مقدّمة من مقدّمات التهيّؤ للظهور، الإعداد الروحي هو تعبير آخر عن التزكية التي ذكرها القرآن الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها﴾, فالتزكية بشكل عامّ هي هدف مقدَّس لكافّة المؤمنين, وكلّ إنسان مؤمن، وهو في أيّ مرحلة من مراحل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شهر رمضان المبارك من العام (1426هـ)، في البلدة الطيّبة النجف الأشرف على مشرّفها آلاف التحيّة والسلام.
حياته, وفي أيّ مقطع من مقاطع التاريخ, مطالَب بأن يزكّي نفسه، وهذا أمر نحن مطالبون به أيضاً كما طولب به المؤمنون في صدر الإسلام والمؤمنون التابعون بعد ذلك، وهكذا كلّ طبقات المسلمين كانوا يقرؤون هذه الآية ويفهمون منها ذلك المعنى، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها﴾.
إذن التزكية أمر مطلوب للجميع، هدف للجميع، وواجب على الجميع.
وتارةً ننظر إلى التزكية من وجهة نظر الظهور، أو من هذه الزاوية، زاوية التهيّؤ والاستعداد لنصرة الإمام المهدي (عليه السلام) والمشاركة في نشر العدل في الأرض تحت راية الإمام المنتظر (عليه السلام).
إذن هنا مقامان:
المقام الأوّل: التزكية بشكل عامّ، أي الإعداد الروحي الضروري في كلّ زمان ومكان واللازم لكلّ مكلَّف، وهو أمر مطلوب واجب على كلّ المسلمين في جميع العصور.
والمقام الثاني: إعداد روحي وتزكية بالشكل الخاصّ الذي يرتبط بمشروع الإمام المهدي في إصلاح الناس وإصلاح الأرض ونشر العدل، وحديثنا سيبدأ بالمقام الأوّل، وينتهي بالمقام الثاني.
أُريد أن أُفهرس الحديث لكي يكون مسيرنا فيه واضحاً، كيف سنتحدَّث عن هذه المسألة - مسألة التزكية - في مراحلها العديدة؟
المعالم الأساسية لطريقة أهل البيت (عليهم السلام) في الإعداد الروحي:
الأمر الأوّل الذي سنتحدَّث فيه: التعرّض لطريقة أهل البيت (عليهم السلام) في إعداد وتزكية المؤمن روحياً، والفرق بين هذه الطريقة وبين طريقة غيرهم من المتصوّفة والعرفاء، وهذا عنوان مهمّ جدّاً سوف نبدأ به الحديث.
أهل البيت (عليهم السلام) كما تعلمون هم أئمّة الخلق، وهم المفسّرون الشرعيون لهذا القرآن الكريم، ونحن نعتقد أنَّهم لم يتركوا شيئاً ممَّا يهمّ الإنسان في حياته صغيراً كان أو كبيراً، إلاَّ وتناولوه بتعاليمهم وأرشدوا إلى جوانب صلاحه وحذَّروا من عواقب فساده.
ومن تلك المواضيع المهمّة, موضوع التزكية الذي هو من الأمور الخطيرة في حياة الإنسان.
التزكية تعني: إعادة صياغة الروح، إعادة صياغة النفس، السيطرة على النفس بكلّ جوانبها لإعادتها إلى (خالص الإنسانية)، والذي هو بالنتيجة (حقيقة العبودية لله تعالى)، وهذا أمر ليس بالهيّن، أمرٌ مهمّ للغاية أن يكون الإنسان قادراً على السيطرة على نفسه، وعلى التحكّم في غرائزه، وعلى إعادة صياغة روحه، ليعود بها إلى حدود الفطرة، ويبقيها على حقيقة الإنسانية.
لا يمكن أن نفترض أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) تركوا هذا الأمر
سدى ولم يتعرَّضوا له, أو أنَّهم كانوا حياديين تجاهها, فلم يكن عندهم طريقة خاصّة للتهذيب وأسلوب خاصّ للتزكية، لا بدَّ وأن نعترف بأنَّ التزكية واجب على المؤمن، وقد أرشد القرآن الكريم الناس إلى الأسلوب الصحيح لتحقيق ذلك، وأكمل أهل البيت (عليهم السلام) ذلك البيان القرآني ببياناتهم ورواياتهم حول هذا الأمر.
إذن يجب أن نعلم أنَّ لأهل البيت (عليهم السلام) طريقة خاصّة في التزكية هي طريقة القرآن نفسه، وهي تختلف عن الطرق الأخرى التي راجت في العصور السابقة بين الطوائف الإسلاميّة المختلفة، من تصوّف، ومن عرفان، وبقيت ذيولها إلى يومنا هذا. فما هي إذن طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في التزكية؟ هذا أمر مهمّ يجب أن نتعرَّف عليه.
والجواب: هو أنَّ أسلوب أهل البيت (عليهم السلام) في تربية النفوس والأرواح يعتمد على معالم وأركان أساسية:
المَعْلم الأوّل: الرجوع إلى الفطرة:
أوّلها: هو إرجاع الناس إلى الفطرة والتأكيد على الرجوع إلى النفس، حيث سيجد الإنسان ضالَّته داخل نفسه, ليس بعيداً عنها, ولا بمنأى عن جوانحها.
القرآن الكريم يشير إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ (الروم: 30).
الأئمّة (عليهم السلام) بدورهم جاءوا وفسَّروا هذه الآيات التي تتحدَّث عن الفطرة، فصرَّحوا عن الفطرة ﴿فِطْرَتَ اللهِ...﴾ بأنَّها
تعني التوحيد، بمعنى: أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) خلق الناس وأودع فيهم هذه الفطرة وأودع فيها توحيده والإيمان به والتصديق بوجوده.
الله تبارك وتعالى حينما خلق الإنسان لم يخلقه موجوداً بلا توجيه، بل خلق في داخله عقلاً يقبل التوجيه. عقلاً يقبل الكلام، يقبل النصيحة، يفهم، ولولا هذا العقل لما صحَّ التكليف، هذا العقل هو تعبير آخر عن الفطرة، أحكام العقل الأساسية التي نعترف بها هي عبارة أخرى عن الفطرة، العقل الإنساني بما هو عقل، سواء كان الإنسان مسلماً أو غير مسلم، هو الفطرة بعينها, أيّ إنسان عاقل يحمل عقلاً كاملاً تامّاً يجد من القبيح والمستهجن أن يخون الأمانة، هذه مسألة إنسانية عامّة بغضّ النظر عن التعاليم الدينية. هذه هي الفطرة، الطبع الإنساني يأبى نكاح الأمثال، وهذه أيضاً مسألة فطرية، الفطرة رُكّب فيها ذلك، فإذن العقل هو عبارة أخرى عن الفطرة، والله (عزَّ وجلَّ) عندما خلقنا أودع فينا هذه الفطرة بما فيها من أساسيات، بما فيها من مفاهيم أصيلة على أساسها تتفرَّع الفضائل، وعلى أساسها يتعلَّم الإنسان الخير.
أهل البيت (عليهم السلام) حاولوا بأساليب عديدة ومتنوّعة أن يُرجعوا الناس إلى الفطرة التي دعا إليها القرآن وأكَّد على ضرورتها وأهمّيتها ومركزيتها.
إذن هذا مَعْلَم أوّل من معالم طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في تربية الناس وتزكيتهم، التأكيد على الفطرة والرجوع إليها، والتأكيد على أنَّ من أراد التزكية فعليه أن يرجع إلى فطرته وإلى ذاته.
هذه المسألة لا بدَّ من التوقّف عندها بالشرح:
الفطرة صفحة بيضاء نقيّة، ولذلك حينما يولد الطفل وإلى أن يبلغ سنّ التكليف نعتبره وجوداً طاهراً لا شوائب فيه، لا حقَّ يتعلَّق في عهدته، لا ذنب يتعلَّق في ذمَّته.
الله (عزَّ وجلَّ) جعل فطرة الطفل فطرة توحيد، توحيد الطفل يعني معرفته بربّه، تلك المعرفة الكامنة في أعماقه, والممزوجة بوجوده, والتي تجعل بكاءه تسبيحاً لربّه (كما ورد في بعض الروايات)(2), ولكن لا تفقهون تسبيحهم.
توحيدٌ كامل، لكن الطفل لا يستطيع أن يعبّر عنه أو يبدي تفاصيله، إلاَّ أنَّ الظروف غير الصالحة التي تحيط بالطفل من الأجواء الاجتماعية، ومن المؤثّرات الثقافية والإعلامية، كلّ ذلك يُراكِم على تلك الفطرة الغبار حتَّى يخفي معالمها، يخفي حقيقتها، فيكبر الإنسان مسيحياً أو يهودياً، أو يكبر مخالفاً لأهل البيت (عليهم السلام)، أو يكبر شيعياً لكن مع شيء من الضعف في بعض الكمالات والفضائل.
إذن الفطرة هي أساس الفضائل وأساس التوحيد في وجودنا، لكن الإنسان حينما يعيش في مجتمع ما يتأثَّر بظروف ذلك المجتمع لا محالة، كما أكَّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «كلّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا تضربوا أطفالكم على بكائهم، فإنَّ بكائهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأربعة أشهر الصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأربعة أشهر الدعاء لوالديه». (علل الشرائع 1: 81/ باب 73/ ح 1).
مولود يولد على الفطرة، حتَّى يكون أبواه يهّودانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه»(3)، الفطرة هي أساس الخير، فإذا أراد الإنسان أن يرجع إلى الخير فلا بدَّ أن يرجع إليها كما خُلِق، هناك عبارات رشيقة فيما يتعلَّق ببعض الأعمال وثوابها كقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمّه»(4).
هذه أمنية بالنسبة إلى المؤمن، كلّ مؤمن يتمنّى أن يُوفَّق لعملٍ يُرجعه إلى هذا الحدّ من النقاء والطهارة.
إذن أهل البيت (عليهم السلام) أكَّدوا علينا أنَّه إذا أردتم التزكية فارجعوا إلى الفطرة التي جئتم معها إلى الدنيا.
ارجعوا إلى تلك الفطرة التي يتحدَّث عنها الله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها﴾ (الروم: 30)، ففطرة الله دائماً نظيفة نقيّة.
فالمَعْلَم الأوّل من معالم طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في تربيتنا وتزكيتنا هي إرجاعنا إلى الفطرة. وهنا نتساءل: ما هي الآثار النفسية لهذه الطريقة؟
الآثار النفسية للفطرة:
هناك بعض الآثار النفسية لهذا الأسلوب الرائع.
منها: أنَّ أسلوب القرآن الذي هو أسلوب أهل البيت (عليهم السلام)، حينما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) شرح الأخبار 1: 190؛ عدَّة الداعي: 311.
(4) صحيح البخاري 2: 141؛ عوالي اللئالي 2: 92/ ح 245 بتفاوت يسير.
يَدعو الإنسان لأن يكون طاهراً سويّاً تائباً إلى الله يقول له: ارجع إلى الفطرة المودعة في داخل وجودك وفي شغاف قلبك، هذا الإرجاع يعطي الإنسان الشعور بأنَّ الشيء المطلوب منه ليس بأمر بعيد وليس بأمر صعب وشاقّ، لأنَّه يحيله إلى شيء في داخله هو أقرب إليه من أيّ شيء آخر، يحيله إلى نفسه بالذات لا إلى شيء آخر.
لاحظوا المدارس الأخلاقية الأخرى التي تدعو إلى التزكية عن طريق التصوّف أو العرفان، تلك المدارس تضع الإنسان على طريق متاهة. في تلك المدارس يشعر الإنسان أنَّه يسعى إلى شيء غريب خارج وجوده، ولذا يشعر السائر في طريق التزكية بأنَّ غايته بعيدة ونائية، أمَّا في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فإنَّه يشعر أنَّه مدعو إلى الرجوع إلى نفسه، لا إلى شيء غيرها.
الإنسان تارةً يقال له: إذا أردت حلّ مشكلتك فهي في بيتك، الحلّ في دارك، فإنَّه سوف يطمئنّ ويحسّ أنَّ الهدف ليس بعيداً، أمَّا إذا قيل له: إنَّ الشيء الذي تطلب في الصحراء، وإنَّ المساحة التي تبحث فيها ليس لها حدود، كم سيكون ذلك صعباً على الإنسان؟ وكم سيحدث ذلك يأساً، وإعراضاً عن المسير؟
أمَّا أهل البيت (عليهم السلام) فإنَّهم قالوا: ابحث عن ضالَّتك في قلبك، في داخل نفسك، الفطرة السليمة هي الضالَّة، ابحث عن تلك الفطرة وأزل الغبار المتراكم عنها والشوائب والأوساخ النائمة بسبب تناقضات الحياة وستجد ضالَّتك التي تحييك، والتي ترجعك إنساناً كاملاً، وهي التي تجعلك أقرب ما تكون إلى ربّك.
فالدعوة إلى الفطرة لها أثر نفسي بالغ في تيسير السلوك إلى الله تعالى وتسهيل الأمر على الناس.
وقد يتصوَّر البعض أنَّ السير إلى الله تعالى هو من أصعب الأمور وأشقّها, وأنَّ السائر إليه تعالى لا بدَّ أن يلتزم بأعمال شاقّة وأذكار طويلة وممارسات خاصّة. ممَّا يجعل التزكية عملية خاصّة بالنخبة من الناس, أمَّا عامّة الناس فلا طريق لهم إلى ذلك, لصعوبة ذلك ومشقَّته. فلا الشاب يرغب في ذلك, ولا المرأة تتقبَّل ذلك، ولا الكاسب، ولا العامل، ولا غيرهم من عامّة البشر ممَّن يعمل ويكسب ويجهد لتحصيل لقمة العيش, إذ لا يجد مجالاً للالتزامات الصعبة التي يفترضها الصوفي, أو مدَّعي العرفان، فيحيد عنها وعن أصل السير.
وحتَّى من سار طبقاً لتلك الطريقة الصعبة سرعان ما سيصيبه التعب والجهد والملل، فيترك السير والسلوك دون رجعة لأنَّه إنسان له متطلّبات، وذلك الأسلوب لا يراعي متطلّباته كبشر.
أمَّا إذا رجعنا إلى أهل البيت (عليهم السلام) وهم أطبّاء النفوس والأرواح, وبهم تزكى الأنفس, سنجد عندهم ما نريد بكلّ بساطة ويسر, إذ يقول سيّدهم الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «بعثت بالشريعة السهلة السمحاء»(5)، التي لا تعقيد فيها, و لا احتكار ولا اختصاص. هي ليست خاصّة بمجموعة من الناس يسمّون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) الحبل المتين: 90.
بالصوفيين, ولا بالعرفانيين, هي شريعة لعامّة البشر ميسَّرة لهم جميعاً، فقالوا (عليهم السلام): «أعبد الناس من أقام على الفرائض»(6).
هذا هو التيسير الذي يجعل من الشريعة طريقاً لنجاة عامّة البشر.
وقالوا (عليهم السلام): «من ورع عن محارم الله (عزَّ وجلَّ) فهو من أورع الناس»(7).
من هو أورع الناس؟ هل هو من انعزل في صومعته ولم يعرف من الحياة وابتلاءاتها ومشاكلها شيئاً؟ هل هو من انكفأ على نفسه وترك الناس والدنيا دون أن يترك عليها شيئاً من بصماته؟ واكتفى بالأذكار والعبادة الأنانية التي لا نفع فيها لأحد إلاَّ لنفسه؟
الكفّ عن المحارم هو الطريق إلى الله تعالى, وهو وسام المتَّقي العارف الورع، الذي يعيش كالناس ويبتلى كالناس, ويتَّقي الله تعالى ليكون من عباده الصالحين. فالورع في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هو ذلك الإنسان الطبيعي المعايش للحياة والممارس لمصاعبها والمتدرّع بالتقوى والورع في مواجهة مطبّاتها وامتحاناتها.
الشخصية الحقيقية للإنسان:
روح الإيمان التي أودعت في الإنسان هي الشخصية الحقيقية للإنسان, فقد ورد عنهم (عليهم السلام): أنَّ للإنسان أربعة أرواح: روح الغضب, وروح القوَّة, وروح الشهوة, وروح الإيمان(8). روح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) تحف العقول: 489.
(7) من لا يحضره الفقيه 4: 358.
(8) راجع: بصائر الدرجات: 465 - 470/ باب 14/ ح 1 - 6.
الغضب يشترك فيها مع الحيوان, وكذلك روح الشهوة, وهكذا روح القوَّة, أمَّا الروح التي تميّزه عن غيره من المخلوقات فهي روح الإيمان التي تمثّل الشخصية الحقيقية له.
في هذه الروح أودع الله تعالى جملة من الأساسيات التي يستطيع الإنسان بها تمييز الحقّ من الباطل, والحسن من القبيح. هنا اختلف المسلمون, فقال بعضهم وهم الأشاعرة: إنَّ الإنسان عاجز عن تشخيص الحسن من القبح في الأشياء، ولا بدَّ له أن يستعين بالشرع ليكتشف ذلك، فلا قبح ولا حسن إلاَّ بمعونة الشريعة وببيانها.
وقالت الإمامية: إنَّ الإنسان قادر على معرفة الحسن والقبح في الأشياء بغضّ النظر عن توجيهات الشريعة. وهذا ما يشكّل فرقاً مهمّاً في موقف هذه المسالك العقائدية من العقل ودوره في بناء العقيدة.
نحن نعتقد بدور بالغ للعقل في هذه العملية, فهو قادر على الاستقلال في الفهم والتعرّف على حسن الأشياء وقبحها, وبذلك يمكن الاستدلال على مبدأ التوحيد والنبوّة وغيرها من المبادئ العقائدية. وبدون هذه الفكرة وهي (استقلال العقل بالحسن والقبح) لا يمكن الوصول إلى الفهم الصحيح للتوحيد والإثبات العلمي له ولبقيّة العقائد اللاحقة له كالنبوّة.
إنَّ غاية ما يمكن الاستدلال به على صدق النبيّ هو المعجزة التي يأتي بها, وذلك لأنَّنا نقول عادةً: إنَّ من القبيح على الله تعالى أن يظهر المعجز على يد الكاذب, وهذا يستبطن اعترافاً مسبقاً بأنَّ هناك قبيحاً ندركه قبل ثبوت نبوّة النبيّ, أمَّا لو كان الأمر كما يقول الأشاعرة, وأنَّه لا
قبيح إلاَّ ما قبَّحه الشرع, فكيف نحكم بقبح إظهار المعجزة على يد الكاذب؟ والمفروض أنَّنا نتحدَّث في مرحلة ما قبل ثبوت نبوّة النبيّ وقبل ثبوت أوامر ونواهي للشريعة عن طريقه. كيف لنا أن نعرف القبيح من الحسن قبل أن يثبت لنا نبوّة هذا النبيّ؟ وإذا لم تكن نبوّته ثابتة إلى الآن كيف لنا أن نعرف قبح إظهار المعجزة على يد الكاذب؟
إذن مع ما يقوله الأشاعرة لا يمكن إثبات نبوّة النبيّ عن طريق المعاجز، نعم على ما يذهب إليه الإمامية يكون الأمر واضحاً إذ يكون هناك اعتراف مسبق بقدرة عقلية مستقلَّة في إدراك الحسن والقبح تقضي بقبح إظهار المعجزة على يد الكاذب ومن ثَمَّ يثبت صدق نبوّة النبيّ.
بطلان قول الأشاعرة:
من الشواهد على بطلان قول الأشاعرة الذي يلغي دور العقل.. هو أنَّ من يعيش في الغاب من القبائل البدائية, مع أنَّها لم تطَّلع على الشرائع الإلهية ولم يصلها شيء من التوجيهات الشرعية, هي مع ذلك تعيش ملتزمةً لجملة من القوانين, من يخون عقوبته كذا, ومن يقتل عقوبته كذا, وهذا يعني أنَّهم يدركون أموراً لا بدَّ أن يُلتزم بها وأموراً لا بدَّ من الابتعاد عنها, وهذا تعبير آخر عن شعورهم بالحسن والقبح مع أنَّ الشريعة لم تصلهم.
فلو كان الإنسان فاقداً للشعور بالحسن، وفاقداً للشعور بالقبيح لما استطاع أبداً أن يقنّن أيّ قانون، ولما كان عنده أيّ
موقف في الحياة، لكنَّنا نجد أولئك أصحاب مواقف يكرهون شيئاً ويحبّون آخر، فهم يشعرون أنَّ أموراً معيَّنة تدخل في الجيّد وأموراً أخرى تدخل في السيّئ، هذا شاهد!
الشاهد الآخر:
إنَّنا بأنفسنا لو عرض علينا بعض الأمور (غير المنسجمة مع الفطرة السليمة) وقيل: هذا حلال أتتقبَّل نفوسنا ذلك؟ الشارع المقدَّس لو قال: يجوز لك سلب الآخرين حقوقهم, سنجد ذلك قبيحاً جدّاً، لا يتقبَّل الإنسان أن يفكّر فيه فضلاً عن ارتكابه, المؤمن الذي يعيش هذه الحالة حتَّى لو فُتح له المجال لا يفعل، هناك أمور نحن نشعر بقبحها، هذه لم تأتِ من الشريعة، الشريعة جاءت بدور مكمّل، أمَّا هذا فأساساً هو مركوز في داخل الفطرة.
ومن الشواهد الواضحة على ذلك هو أنَّ الظلمة مع ارتكابهم للظلم يحاولون تصويره بأنَّه هو العدل ويتبرَّؤون من صفة الظلم قدر إمكانهم, وما ذلك إلاَّ لشعورهم الفطري بقبح الظلم وحسن العدل.
نرجع إلى حديثنا: هذه النقطة - نقطة الفطرة - التي يرجعنا إليها أهل البيت (عليهم السلام) هي أسلوب أهل البيت (عليهم السلام) في تربية البشر، الأسلوب الذي يثبت الناس على مبدأ أخلاقي من جهة ومبدأ عقائدي من جهة أخرى، لأنَّ العقائد تنبثق من ذلك، وذلك ما نسمّيه: (القبح والحسن العقليين)، مسألة تُبحث في العقائد بشكل مفصَّل، وهي محلّ خلاف بيننا وبين الأشاعرة.
طبعاً المعتزلة إلى جانبنا في هذه القضيّة بالخصوص.
استعراض وتلخيص:
نستعرض ما تقدَّم بشكل سريع.
أهل البيت (عليهم السلام) لهم أسلوب خاصّ في التزكية، أسلوبهم الخاصّ مبني على التيسير لا على التعقيد، أوّل معالم هذا الأسلوب: تأكيده على الفطرة، والفطرة تعني عقل الإنسان، أو روح الإيمان التي ذكرناها والتي هي واحدة من تلك الأرواح: 1 - روح الإيمان، 2 - روح القوَّة، 3 - روح الشهوة، 4 - روح الدرج، روح الإيمان هي روح الفطرة، وهي العقل المودع فيه تلك المعارف والمشاعر الأساسية، هذه الفطرة وهذه الروح هي التي يجب أن نبحث عنها ونرجع إلى ذواتنا لإزالة الغبار عنها حتَّى تظهر حقائق الإنسان جليّة من جديد، حقيقة الإنسان تظهر بهذا الجهد، بأن يرجع الإنسان إلى ذاته.
هذا هو المَعْلَم الأوّل من معالم أسلوب أهل البيت (عليهم السلام) في التربية والتزكية.
المَعْلَم الثاني: التفكّر:
المَعْلَم الثاني المهمّ الذي يؤكّد عليه أهل البيت (عليهم السلام) هو (التفكّر)، «تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة»(9)، لنرجع إلى العبادة التي قارنها أهل البيت (عليهم السلام) مع التفكّر لنرى آثار العبادة، ثمّ نأتي ونرى آثار التفكّر المضروبة في ستّين لنحصل على آثار التفكّر ساعة واحدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9) بحار الأنوار 66: 293؛ تفسير الرازي 2: 188.
العبادة وآثارها:
من الواضح أنَّ الإنسان الذي يقف بين يدي ربّه ويتعلَّق به فكأنَّه يعرج إلى خالقه، طبعاً لا نقصد عبادة الساهي ولا الغافل، بل عبادة الإخلاص والتوجّه، مثل هذه العبادة ما هي آثارها في النفس؟
لا شكَّ أنَّ من آثارها: تصفية النفس وتزكيتها، لأنَّها نوع من الارتباط بالغيب، ومعراج للمؤمن، «الصلاة معراج المؤمن»(10)، يعني أنَّ روحه تعرج إلى بارئها مع أنَّها لا زالت في بدنه، تصوَّروا ستّين سنة يتعبَّد الإنسان لربّه على هذه الشاكلة، ما عسى أن تكون لها من آثار روحية؟! لا يمكن لنا أن نحصي أو أن نتوقَّع حجم تلك الآثار، لأنَّها آثار عظيمة وعالية جدّاً.
النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول بكلّ صراحة وبساطة: «تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة»، خير من آثار تترتَّب على عبادة ستّين سنة في النفس وفي القلب، عجباً لهذا الأسلوب وهذه الطريقة كيف توصل إلى هذه النتائج الباهرة والسريعة، بعبارة أخرى: إنَّ الإنسان إذا جلس ساعة مع نفسه في مكان لا يشغله أحد، ولا شيء بينه وبين نفسه يفكّر بربّه، يفكّر بذنوبه، يفكّر بتأريخه وماضيه، يفكّر في نعم الله عليه، بعد ساعة سيخرج أفضل وأقرب إلى الله تعالى، وأصفى نفساً وأنقى روحاً، ممَّن تعبَّد الله ستّين سنة، الواقع أنَّ هذه المسألة مرتبطة بالتزكية وبالفطرة، التفكّر هو من أكبر العوامل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) تفسير الرازي 1: 266.
وأنجح الأساليب لإزالة الغبار عن الفطرة، وهو من أكبر الوسائل لتحقيق النتيجة المطلوبة من البحث، هذا البحث الداخلي الذي يبحث فيه الإنسان عن ذاته وعن حقيقته وعن إنسانيته، كأنَّ الإنسان يمسك في يده ضوءاً كاشفاً يبحث فيه عن دخائل نفسه وفي زوايا روحه حتَّى يجد الفطرة ويزيل عنها التراب وينظّفها.
التفكّر عبادة، بل هو خير من العبادة الشكلية، لكن له أصول وآداب.
العقل من العطايا المقدَّسة التي أعطاها الله للإنسان وجعل نتيجتها وثمراتها مباركة دائماً، وليس لدينا نتاج عقلي غير مبارك، بل كلّ ما كان نتاجاً للعقل السليم فهو مبارك.
قد يسأل سائل: أنَّه قد يكون هناك أُناس يستخدمون عقولهم في الباطل.
نقول: هذا ليس عقلاً، بل هو نكراء، وقد ذكر ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) حين أتاه أحد الأشخاص وكان يسمع الأمير (عليه السلام) يتحدَّث عن العقل، فقال له: يا مولاي وما ذلك الذي في معاوية؟ (معاوية داهية، مدبّر وسياسي محنَّك)، قال (عليه السلام): الذي في معاوية هو النكراء وليس العقل، النكراء شيء يشبه العقل ولكنَّه النسخة الشيطانية منه، العقل ليس هذا، العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان(11).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه سُئل: ما العقل؟ قال: «ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان»، قال: قلت له: فالذي كان في معاوية؟ قال: «تلك النكراء، تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل». (الكافي 1: 11/ كتاب العقل والجهل/ ح 3).
فإذن ليس لدينا نتاج عقلي سيّئ، لكن علينا أن لا نشتبه فالعقل إنَّما هو العقل الكامل، العقل السليم، العقل الذي يستند إلى الحقائق، وليس الذي يستند إلى الحدس وإلى الظنّيات، الإنسان - طبعاً الناقص - حينما يريد أن يحكم على شيء يستند إلى معلوماته، وبما أنَّ معلوماته ناقصة وذهنه قاصر، فقد يصدر أحكاماً خاطئة، نحن كلّنا خطّاؤون وقد نخطأ في التفكير.
قد تقول لي: كيف تقول: إنَّ العقل نتائجه دائماً سالمة وطيّبة؟
أقول: نحن نقصد بالعقل الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، والذي هو دائماً كامل في أهل البيت (عليهم السلام)، هذا العقل الذي لا يلحقه شيء من الغبار أو السوء أو عدم الوضوح، هذا العقل الذي نقصده الذي هو في داخلنا مغمور بالأتربة والغبار، ما الذي يخرج هذا العقل من هذه الحفرة العميقة ويخلّصه من هذا المصير الأسود؟ التفكّر يفعل ذلك، يعني تحريك العقل نفسه، نفس العقل إذا تحرَّك من جديد يحيي نفسه، ويضع يده على مواقع الخطأ والسوء والنقص ويرفعها، التفكّر عملية لا بدَّ منها للإنسان للمحافظة على عقله والوصول به إلى الكمال.
وسائل تقوية العقل:
والعقل هبة كبيرة من الله، وهناك وسائل للحفاظ عليه وتقويته، وهناك وسائل لطمسه، فمن وسائل تقوية العقل:
1 - التفكّر والمراجعة، «ليس منّا من لم يحاسب نفسه»(12)، محاسبة النفس نوع من التفكّر، في كلّ يوم يحاسب المرء نفسه: ما الذي فعل؟ ما الذي قال؟ هذا يحيي العقل ويقوّيه.
2 - استشارة العقلاء، وقد ورد عنهم (عليهم السلام): «وَمَنْ شَاوَرَ الرَّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا»(13).
أمَّا ما يضعّف العقل فأمور منها:
1 - الحديث في الباطل، وفي ما لا ينفع.
2 - الكلام الكثير والهذر.
3 - الاستخارة في غير محلّها.
البعض يستخير على الأكل والشرب والنوم و...، ولا يعتمد على عقله، بل لا يعطي فرصة لعقله كي يعمل عمله ويؤدّي دوره، وبذلك يحكم على عقله بالجمود والتكلّس لأنَّه عطَّله عن أداء دوره الطبيعي، وهذا مثله مثل اليد إذا شدَّها الإنسان إلى ظهره مدَّة من الزمن دون أن يسمح لها بالحركة الطبيعية ستتكلَّس ولن تعود قادرة على الحركة المعتادة الطبيعية، وبعد فترة إذا فتح يده سيكتشف أنَّها عاجزة عن الحركة، وستحتاج إلى مدَّة من العلاج الطبيعي حتَّى يتمكَّن من تحريكها واستخدامها لتعود إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12) عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه وتاب إليه». (الكافي 2: 453/ باب محاسبة العمل/ ح 2).
(13) نهج البلاغة 4: 41/ ح 161.
سابق قوَّتها وفعّاليتها، العقل الذي يجمّده الإنسان فترة طويلة أو قصيرة ثمّ يحتاجه فلن يقدر على مساعدته، سيجده حين الحاجة عاجزاً أو ضعيفاً، لماذا؟ لأنَّه لم يعطِه دوره، لم يدرّبه على العمل، ولم يعطِه فرصة التفكير، بل حبسه وعطَّله، فالاستخارة قبل التفكير تنتج ذلك. مع تأكيدنا على ورود الاستخارة وشرعيَّتها بل واستحبابها, لكن بأصولها وآدابها الواردة عنهم (عليهم السلام)، بالشكل الذي يحفظ للعقل دوره في اتّخاذ القرارات.
نعم، حينما تفكّر ولا تصل إلى نتيجة وتقف أمام مفترق طرق حينذاك يأتي دور الاستخارة، هناك روايات تؤكّد على استحباب الاستخارة وأنَّها مستحبّة(14)، طبعاً الاستخارة تأتي بمعنيين:
1 - طلب الخير من الله (عزَّ وجلَّ) والتوكّل على الله والإقدام على العمل، وهذا لازم ضروري في جميع الأحوال والأعمال.
2 - هي العملية التي نجريها بالسبحة أو بالقرآن، وهذه هي التي نعنيها في حديثنا ونقول: إنَّ استخدامها يجب أن يكون طبقاً لتوجيهات أهل البيت (عليهم السلام)، وإنَّ المبالغة في استخدامها أو الاعتماد عليها في غير محلّها قد يؤدّي إلى ضعف العقل وجموده.
إذن الاستخارة تأتي بعد التفكير وبعد إعطاء العقل دوره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14) راجع: من لا يحضره الفقيه 1: 562 و563/ باب صلاة الاستخارة/ ح 1550 - 1555.
الخلاصة:
نرجع إذن ونقول: التفكّر ممَّا يقويّ العقل، وهناك أمور من شأنها أن تضعّف العقل، والعقل إذا ضعف وأصبح الإنسان أحمقاً، سيضعف كلّ شيء في حياته، روحه تضعف، عمله سيعود بلا قيمة، إذا كان الله يعطي للعاقل والعالم ثواباً استثنائياً على أعماله فلن يكون نصيب الجاهل والأحمق من ذلك إلاَّ اليسير، ولذلك تقول الرواية: «نوم العالم أفضل من عبادة العابد الجاهل»(15)، الجاهل مستيقظ يعبد ويُصلّي، والعالم بعقله المستنير نائم في تلك اللحظة، ولكن الله تعالى يسجّل للعالم ثواباً أفضل من ثواب الجاهل في يقظته، لاحظوا أثر العقل، العقل أصبح محوراً للثواب والعقاب، والرواية صريحة إذ تقول: «إنَّما أُجازي العباد على قدر عقولهم».(16)
المَعْلَم الثالث: العبودية:
قال الله تعالى: ﴿قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (مريم: 30).
هذا المَعْلَم هو تأكيد أهل البيت (عليهم السلام) على العبودية، حثّ الناس على توفير صفة العبودية والشعور بالحاجة والذلّ بين يدي الله تبارك وتعالى. الآية الكريمة التي قدَّمنا بها الحديث توضّح الأسلوب الذي عرَّف به عيسى (عليه السلام) نفسه أمام الناس، وتعلمون أنَّ الإنسان في أوّل لقاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
(15) مكارم الأخلاق: 441.
(16) بحار الأنوار 61: 196، عن الكامل لابن عدي 1: 165.
يحاول أن يعرّف نفسه بتعريف واقعي بالغ في النفوس، النبيّ عيسى (عليه السلام) في أوّل لقائه مع الناس قال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾، وأوّل كلمة عرَّف نفسه بها هي أنَّه ﴿عَبْدُ اللهِ﴾.
إذن العبودية لله، وقد اعتبرها الأنبياء والصالحون حجر الزاوية في شخصية الإنسان المؤمن، لذلك نجد أهل البيت (عليهم السلام) في تصرّفاتهم وفي أعمالهم شديدي التواضع لله، اقرؤوا أدعيتهم كدعاء أبي حمزة، ودعاء السحر، ودعاء الافتتاح وغيره، تجدون في هذه الأدعية روح التواضع، حينما يأتي جماعة ويسلّمون على أمير المؤمنين (عليه السلام) ويعظّمونه جدّاً إلى درجة تقترب من الغلو، الرواية تقول: إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) فزع ونزل عن دابته وعفَّر خدَّيه في التراب وهو يقول: «إنَّما أنا عبد من عبيد الله»(17)، لم يقل: أنا عبد متميّز، بل يذلّل نفسه إلى هذه الدرجة، يقول: أنا واحد من هؤلاء العبيد، وهكذا بقيّة الأئمّة الأطهار، حينما يبتلى الإمام الصادق (عليه السلام) ببعض الغلاة الذين يدَّعون عليهم باطلاً وينسبون إليه بعض ما لا يليق إلاَّ بالخالق، نجده (عليه السلام) يلعن أولئك ويقول: «... ها أنا ذا بين أظهركم لحم رسول الله، وجلد رسول الله، أبيت على فراشي خائفاً وجلاً مرعوباً، يأمنون وأفزع، وأنا خائف ساهر وجل أتقلقل بين الجبال البراري، أبرأ إلى الله ممَّا قال فيَّ الأجدع البرّاد عبد بني أسد أبو الخطّاب لعنه الله...»(18).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17) أنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5: 6.
(18) اختيار معرفة الرجال 2: 492/ ح 403.
إذن أسلوب أهل البيت (عليهم السلام) هو التركيز على العبودية، وقد مارسوا ذلك في حياتهم، في تصرّفاتهم، في أقوالهم، وقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يجلس جلسة العبد - كما في الروايات -(19)، ويأكل مع الفقراء، وإذا دُعي إلى طعام الفقراء استجاب، كلّ ذلك تواضعاً منه لله تبارك وتعالى، وحينما يُتعب نفسه بالعبادة يأتيه جبرائيل يقول: ﴿طه * ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى﴾ (طه: 1 و2)، يقول له: «أفلا أكون عبداً شكوراً»(20).
صحيح أنَّ الله ضمن لي الجنّة والدرجة والمنزلة ولكنّي أُحبّ أن أكون عبداً شكوراً.
آثار الشعور بالعبودية:
دعنا ندخل إلى آثار هذا الشعور (الشعور بالعبودية):
الشعور بالعبودية يخرج الإنسان من أوصاف الرذيلة التي يتلبَّس بها الطواغيت، الإنسان مغرور متكبّر، ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى﴾ (العلق: 6 و7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَلَقَدْ كَانَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَأكُلُ عَلَى الأرْض، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَيَخْصِفُ بـِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بـِيَدِهِ ثَوْبَهُ...» (نهج البلاغة 2: 59/ الخطبة 160).
(20) عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله لِمَ تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: يا عائشة ألا أكون عبداً شكوراً؟»، قال: «وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه وتعالى: ﴿طه * ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى﴾». (الكافي 2: 95/ باب الشكر/ ح 6).
الرواية تقول: «ثلاث لولا أن يبتلى بها الإنسان لادَّعى ما ادَّعى وإنَّه معهنَّ لوثاب: 1 - الموت 2 - الفقر 3 - المرض»(21)، هذه ثلاثة أشياء الله أرغم بها أنف الإنسان، لكن مع ذلك هو وثّاب، الوثّاب أي إنَّه يتطاول إلى ما هو أكثر من حدّه، ويتوقَّع ما هو أكبر من حجمه، فرعون كان يمرض ومع ذلك كان يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى﴾ (النازعات: 24)، والغريب في ادّعاءه أنَّه (الأعلى) حيث كانت عندهم أرباب مختلفة يزعمونها، فلم يقل: أنا ربّ الأرزاق، أنا ربّ القوَّة، ربّ الجيوش، لا بل قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى﴾، هكذا بلغ به الغرور، مع أنَّه كان ضئيل الجسم، وكان يعلم بأنَّه يموت كما يموت الغير، إذن ما هو دواء الإنسان؟ ما هو دواء هذه الصفات الرذيلة التي تخرج الإنسان عن حدّه وتجعله مبغوضاً لله (عزَّ وجلَّ) بعيداً من رحمته مطروداً من عطائه؟ الدواء هو العبودية، العبودية هي الصفة التي إذا وفَّرها الإنسان في نفسه فقد وضع يده على سرّ الأسرار، أحد الأشخاص (وهو عنوان البصري) قصد المدينة وأراد أن يتشرَّف بخدمة الإمام الصادق (عليه السلام)، ويأخذ عنه العلم، فرفضه الإمام (عليه السلام)، فاغتمَّ لذلك وخرج من عنده ودخل مسجد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فصلّى ركعتين واستجار برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: اللّهمّ بحقّ رسولك أعطف قلب جعفر بن محمّد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لولا ثلاث في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء: المرض، والموت، والفقر، وكلّهنَّ فيه وإنَّه معهنَّ لوثّاب». (الدعوات للراوندي: 171/ ح 479).
عليَّ، حتَّى يفتح بابه ويعطيني من علمه، بعد هذا الدعاء استقبله الإمام وبدأ (عليه السلام) يعطيه شيئاً من الإرشادات لطلب العلم، والرواية جميلة جدّاً أنصح الإخوة والأخوات بقراءتها، وقد جاء في ضمنها قوله (عليه السلام) له: «واطلب في نفسك حقيقة العبودية»(22).
هذه الجوهرة التي يجب أن نبحث عنها وأن نصرف أوقاتنا وحياتنا بحثاً عنها، جوهرة العبودية، هذه إذا استطاع الإنسان أن يكتشفها ويرعاها وتكون هي محور حياته يكون قد دخل في عباد الله الصالحين، ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ (النمل: 19)، فالله تعالى يُدخل برحمته أُناساً في عباده الصالحين، أولئك الذين يستشعرون ويعيشون العبودية الحقّة.
العبودية الحقّة أمر واضح وخفي في نفس الآن، قد تسأل: أنا أعلم أنّي عبد الله، كلّنا يعلم بذلك، لا أحد يدَّعي أنَّه هو الخالق، ولا أحد يدَّعي أنَّه هو الشريك لله، ولا أحد من المسلمين يدَّعي أنَّه مخلوق لغير الله، كلّنا نسلّم أنَّنا عبيد مربوبون مخلوقون لله تبارك وتعالى، إذن ما الذي نريده ونطلبه من حقيقة العبودية أكثر من ذلك؟
المسألة ليست أن نعرف أنَّنا مخلوقون مربوبون، وأن نقول ذلك، بل هي أن نعيش ذلك لحظة بلحظة، أن نعيش العبودية لحظة بلحظة، أن نعيش حالة الحاجة والافتقار إلى الله في جميع الساعات والآنات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(22) راجع نصّ الرواية في: مشكاة الأنوار: 562 - 565؛ بحار الأنوار 1: 225/ ح 17.
والأحوال، حينما أخرج إلى عملي صباحاً وأتعرَّض لمشكلة، لمن سأفزع أوّل ما أفزع؟ هل أفزع إلى الله تعالى أم إلى غيره؟ بمن سيتعلَّق قلبي به أم بغيره؟ هذا هو المقياس.
لاحظوا حينما يقع الإنسان في ضيق أو في مشكلة إلى أين يفزع قلبه؟ أوّل جهة يتعلَّق بها القلب ما هي؟ أنَّه يعبدها، إذا كان قد فزع إلى الله فهو قد عبد الله، وإذا فزع إلى فلان وفلان بأن يقول: أنا عندي فلان القوي، أو العشيرة الفلانية، أو العنوان الفلاني، أو الجهة الفلانية القويّة، ففي الواقع المعبود هو تلك الجهات. الإنسان حينما يتضايق مادّياً أو تضغطه مشاكل الحياة هل يلجأ إلى غير الله؟ طبعاً ليس هناك مانع من الاستعانة بالخلق، ولا نقول: إنَّ اللجوء إلى غير الله كفر أو شرك أبداً، لكن نقول: القلب بمن يتعلَّق، فلا مانع من أن يستعين الإنسان بشخص، «الناس بالناس»، لا أحد يقدر أن يستغني عن الناس نهائياً، لذلك روي أنَّ شخصاً كان في حضرة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فقال: اللّهمّ أغنني عن خلقك، الإمام (عليه السلام) صحّح له وقال له: لا تقدر، هذا أمر غير ممكن، أنت سألت الله (عزَّ وجلَّ) أمراً غير ممكن، ما دمت إنساناً مخلوقاً لا بدَّ أن تحتاج إلى الخلق، «إنَّما قل: اللّهمّ أغنني عن شرار خلقك»(23).
فلينظر إلى الناس كأسباب، وينظر إلى الله (عزَّ وجلَّ) كعلَّة أولى وأساسية وأخيرة، الله إذا أراد شيئاً جرى ذلك الشيء وإذا لم يرد لا يجري، هذه هي العبودية التي نبحث عنها، العبودية في مقام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) روي أنَّه قال بحضرته رجل: اللّهمّ أغنني عن خلقك، فقال (عليه السلام): «ليس هكذا، إنَّما الناس بالناس، ولكن قل: اللّهمّ أغنني عن شرار خلقك». (تحف العقول: 278).
العمل، حينما نُمتحن بأنواع الامتحانات في الحياة, إلى أين تفزع قلوبنا وإلى أين تلجأ؟ هنا يقع الكلام.
العبودية الحقّة هي التي تجعل الإنسان يستغني بالله عن كلّ شيء، فتجد المؤمن (العبد الحقّ) نادراً ما يسأل الناس وإذا فعل فبقدر الضرورة والحاجة الملحَّة فقط، وإذا سألهم لا يعقد الأمل في قلبه بهم بل بمشيئة الله تعالى وقدرته.
تلك العبودية هي التي تتجسَّد من الإنسان إذا واجه تكليفاً شرعياً صعباً، لا يناقش ويقول: هذا الحكم الشرعي ليس له معنى، وهذا ليس له محلّ، وهو إن كان تشريعاً إسلامياً لكنَّنا لدينا قراءة مختلفة والزمن اختلف، الموسيقى لماذا هي محرَّمة؟ وأنَّ الموسيقى الآن جزء من الثقافة وأصبحت جزءاً من الفنون، إلى آخره من هذه الطرق الملتوية. العبد الحقيقي هو ذلك الإنسان الذي يسلّم لأوامر الله ولا يناقش فيها ولا يحاول أن يتهرَّب منها بأعذار مختلفة، أمَّا الذي يناقش في هذه المسائل فليس بعبد، بل جعل نفسه شريكاً مع الله، لأنَّ من يناقش في التشريع الإلهي بعد ثبوته عنده، فكأنَّما جعل لنفسه حقّ النقض على الله تعالى وتشريعاته وهو حقّ لا يكون إلاَّ للشريك، وأمَّا العبد المملوك فلا يعطي لنفسه ذلك الحقّ.
إذن العبودية مواقف وليست أقوال، العبودية معاني في القلب وليست قشوراً. العبودية هي التي جعلت إبراهيم (عليه السلام) - أبو الأنبياء - يقف ذلك الموقف العظيم حينما كان في الهواء
وقد رُميَ بالمنجنيق وما بينه وبين أن يقع في النار الملتهبة المحرقة إلاَّ ثوانٍ قليلة جدّاً، إذ يأتيه جبرائيل مكلَّفاً من الله تعالى أن أدرك خليلي إبراهيم، فيأتيه وهو في الهواء، قال: هل من حاجة؟ قال: أمَّا إليك فلا، وأمَّا إلى الله فنعم، قال: فاسأل ربّك، قال: علمه بحالي يغني عن سؤالي(24).
هذا الحدّ من العبودية، هذه الدرجة من التوحيد إنَّما نشأت من ذلّ إبراهيم بين يدي ربّه، وعبوديته الحقّة, تلك العبودية هي التي بلغت بإبراهيم تلك الكرامة وأن يقول الله (عزَّ وجلَّ) للنار: ﴿يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ﴾ (الأنبياء: 69)، يقع إبراهيم في النار ويقينه لا يختلف، يسقط في النار ويقينه لا ينتهي بالله تعالى، يجد نفسه في وسط النار ويقينه قائم لا يقلّ ولا يضعف، وإذا بالنار لا تحرقه.
هذا هو الذي نطلبه، العبودية التي أكَّد عليها أهل البيت (عليهم السلام) هي تلك الحالة والشعور من العبد إزاء ربّه بالتصاغر ونفي أيّ قيمة للعبد إزاء الله تعالى، ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ﴾ (يونس: 49).
قل - الله يلقّن العبد ويلقّن البشر عن طريق نبيّه - هذه المقالة، واشعر بها، وعشها في كلّ لحظاتك، لا أكون لحظة متكبّراً، واللحظة الأخرى أعود عبداً، حينما أقف بين يدي الله تعالى أُصلّي وأتواضع وتخشع جوارحي، وحينما أُولّي عن الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(24) راجع نصّ الرواية في: تفسير جوامع الجامع 2: 530.
وألتفت إلى معيشتي وإلى عملي وإلى أيّ مجال من مجال الحياة أستكبر، وأعود ذلك المتكبّر الذي يناقش في الأحكام الشرعية أو يحاول التخلّص منها.
في كلّ لحظة من حياتنا إذا لم يكن الله (عزَّ وجلَّ) ممسكاً بأيدينا ومقوّماً لوجودنا لسقطنا مباشرة، الطفل الصغير هذا الذي يأتي إلى الدنيا ولا يستطيع أن يمشي إلاَّ أن يمسك الكبير بيده، الكبير إذا أراد من الطفل أن يقع فليس هناك حاجة بأن يدفع الطفل ليسقط، يكفي فقط أن يسحب يده عنه، فإذا سحب يده فالطفل سيقع تلقائياً لأنَّه هو بنفسه غير قادر على المشي، الإنسان هكذا، علينا أن نستذكر هذا المثل دائماً، نعيش هذه الحالة أبداً، إنَّ الله تعالى إذا أراد أن يسحب منّا التوفيق فقط ويرفع يده عنّا، ويكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ما الذي يحصل بنا؟
لا يحتاج السقوط إلى أن يرمي بنا أو يسقطنا، هو فقط يرفع يده وإذا بنا ننهار، لأنَّنا بوجودنا وبكلّ قدراتنا مرتبطون بهذا المطلق، مرتبطون بتلك القدرة الفاعلة، فإذا رُفع هذا اللّطف عنّا سنجد أنفسنا بلا ظهر وبلا سند، بلا قوَّة، بلا أيّ مقوّم في هذه الحياة، سنسقط.
فما هي قيمتي إذا صار عندي أموال، أو إذا أصبحت فلاناً بن فلان، أو أصبحت رئيساً ووجيهاً.
فرعون أمهله الله أربعين سنة بعد دعاء موسى (عليه السلام) عليه(25)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25) عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كان بين قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما﴾ [يونس: 89]، وبين أخذ فرعون أربعين عاماً» (الكافي 2: 489/ باب من أبطأت عليه الإجابة/ ح 5).
ثمّ رفع عنه يده في لحظة واحدة وهي لحظة الغرق، انتهى فرعون ومن معه، ما قيمة فرعون في تلك اللحظة؟ وما قيمة جيوش فرعون وسطوة فرعون، وأين عاد الناس الذين كانوا يخافونه، وأين أصبحت دولته؟ دولة فرعون من أعظم دول التاريخ، سقطت في لحظة واحدة.
إذن الإنسان (العبد لله تعالى) عليه أن يعيش دائماً حالة الضعف المستمرّ أمام الله (عزَّ وجلَّ)، ويعيش دائماً مخافة أن يرفع الله تعالى يده عنه، ويكِله إلى نفسه، فهو متعلّق دائماً به وبرحمته. كلَّما تعرَّض لمشكلة فقلبه وعينه وجوارحه متَّجهة إليه، وكلَّما تعرَّض لبلاء فيده ترفع إليه، قلبه لا يذهب إلى غيره، لماذا؟ لأنَّ القلب هو الفطرة كما ذكرنا.
هذا القلب، هذا المكان المقدَّس الطاهر لا ينبغي أن يرتبط بغير خالقه، فإذا ارتبط بغير خالقه، وأصبح غير الخالق هو المفزع صار القلب ملوَّثاً وأصبح مشركاً، لذلك فإنَّ الشرك على أنواع: هناك شرك يستحقّ به الإنسان القتل، يعني يكون الإنسان نجساً وذلك إذا صرَّح الإنسان بأنَّه يعبد غير الله مثلاً. وهناك نوع آخر وهو أن يفزع الإنسان إلى البشر في مشاكله وهمومه.
وهذا نوع من الحماقة من الإنسان، الإنسان الذي يعلم أنَّه فقير ومع ذلك يفزع إلى من لا يدركه، وهو يعلم أنَّه لا مدرك حقيقي له إلاَّ الله، ثمّ يأتي يتشبَّث بفقير مثله أو أسوأ منه، هذا شيء غريب، الإنسان عادةً إذا أراد أن يحلَّ مشكلة يذهب إلى
القوي، وإذا أراد أن يسدَّ فقراً يذهب إلى الغني، أمَّا أن يأتي فقيراً مثله أو أضعف منه, فهذه حماقة وعلينا أن نخرج أنفسنا من هذه الدائرة، وننظر دائماً إلى القوي العزيز الذي يستحقّ اللجوء إليه.
إذن يجب على الإنسان أن يكون عبداً داخراً إلى الله، والداخر هو الذليل الذي لا يشعر بقيمة نفسه أمام ربّه. ولكم أن تقرؤوا الأحاديث والروايات والأدعية، هذا دعاء (أبي حمزة الثمالي) العظيم أرجو أن لا يفوتكم، إن لم تقدروا على قراءته كاملاً فقسّطوه، ففيه من الدروس والإرشادات والروح العالية ما لا يستغني عنه المؤمن، نحن لولا بركات أهل البيت (عليهم السلام) في أدعيتهم ما علمنا ولا عرفنا كيف نخاطب وندعو ربّنا في ليالي رمضان وغيره من الأيّام.
المَعْلَم الرابع: تبسيط الأمور وتيسيرها:
مَعْلَم آخر من المعالم في طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في تربية النفس وتزكيتها، هذا المَعْلَم هو: تبسيط الأمور وتيسيرها، في طريق التزكية هناك أساليب مختلفة، وهناك درجات من السهولة والصعوبة، أهل البيت (عليهم السلام) كأئمّة للجميع (لا نعتقد أنَّ الإمام الصادق مثلاً إمام لنا فقط)، بل هو (عليه السلام) إمام الخلق أجمعين، إمام الثقلين، أي إمام الإنس والجنّ، الإمام مسؤول عن الجميع، مسؤول عن إرشاد الجميع وعن هدايتهم، فما يصدر منه من تعاليم ليس صادراً لي فقط، أو لفلان الذي في الحوزة، أو للشيعة
فقط، بل هو صادر للخلق أجمع، وكذلك الإمام المهدي (عليه السلام) عندما يظهر سنجد الشعوب جميعاً تستفيد من ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) على حدًّ سواء، هذه الروايات والأدعية ستكون في متناول كلّ الشعوب.
ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) ثقافة إنسانية عامّة، ثقافة عالمية، لا تتحدَّد بشخص، ولا تتحدَّد بشعب.
ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنَّها ثقافة تتناول كلّ مستويات البشر، وكلّ مستويات التفكير، وكلّ مستويات الصبر عند الناس.
لاحظوا: تارةً تُوجَّه لي دعوة أن أتكلَّم في دورة من الدرس لطلاَّب ومستويات معيَّنة، عندها سيكون الحديث في مستوى معيَّن، أمَّا عندما يقال لي: سيّدنا الحديث سيكون للملأ، حينئذٍ يجب عليَّ أن أتحدَّث بطريقة يفهمها كلّ الناس وكلّ المستويات، الإمام (عليه السلام) حينما يتحدَّث في التزكية والتربية الأخلاقية فهو يخاطب الخلق أجمعين، ويطلب منهم جميعاً أن يصلحوا نفوسهم, ولا يمكن افتراض خصوصية لنخبة معيَّنة في هذا الخطاب.
موضوع التزكية حينما تحدَّث عنه أهل البيت (عليهم السلام) تحدَّثوا مع كلّ مستويات الخلق، ولكن في بعض الأحيان كانوا (عليهم السلام) يتحدَّثون مع بعض الأصحاب بمستوى معيَّن، مثلاً: عندما يأتي زرارة أو محمّد بن مسلم الثقفي، فالإمام (عليه السلام) يتحدَّث معهم بمستوياتهم الفكرية والعلمية العالية، هؤلاء فقهاء عظماء، لكن
الأئمّة (عليهم السلام) في مشروعهم التربوي والثقافي تحدَّثوا للناس جميعاً، لأنَّه مشروع إنساني عامّ لا يُستبعد منه أحد. والتزكية ليست حكراً على محمّد بن مسلم أو زرارة.
أرشدوا الناس إلى أيسر الطرق، أقلّ الناس يستطيع أن يهتدي، ويستطيع أن يكون واصلاً إلى رضوان الله تعالى، من الإنسان العامل ذي الحرفة البسيطة في الشارع إلى الإنسان العالم، كلّهم يستفيد من كلام أهل البيت (عليهم السلام) كلٌّ بقدره.
من هنا ينبغي التنبيه على ما يشيع في بعض الأوساط من أساليب معقَّدة وصعبة للتزكية، هذه يجب أن يضع عليها الإنسان علامة استفهام، يعني عندما تجلس عند أحد تسمع منه: أنَّك إذا أردت أن يصفو قلبك، وتبلغ إلى مراتب ينكشف لك الغيب، أو تصبح شفّافاً، فعليك بالالتزام بهذه الأذكار، في أوقات معيَّنة، في حال معيَّن، أن لا تأكل في بيت أحد، تأكل في بيتك من خبز ولبن حيث تعرف من أين اشتريته، أمَّا إذا دُعيت إلى مكان فلا تأكل، حينما تريد أن تمارس الذكر تجلس وحدك لا يراك أحد ولا ترى أحداً، الذكر ليس (100) مرَّة أو ألف مرَّة بل عشرات الآلاف من المرَّات، هذه التعاليم (وهي موجودة) عندما نسمعها يجب أن نضع عليها علامة استفهام.
السؤال الأوّل الذي نوجّهه إلى مصدر هذه التعاليم، نقول له: من أين لك هذا؟ من أين جئت بهذه التعاليم؟ كيف نصَّبت نفسك طبيباً، هل أنت مخوَّل بهذه الطبابة؟ وهل كلّ من يدَّعي
الطبابة نصدّقه؟ كلّ من ادَّعى أنَّه جرّاح أو طبيب يستطيع اليوم أن يفتح عيادة ويمارس تطبيب الناس وعلاجهم؟ لا طبعاً، بل هناك إجراءات قانونية معيَّنة يثبت بها أنَّه طبيب حقيقي ومخوَّل بممارسة النوع الفلاني من التطبيب, وإلاَّ سيلقى القبض عليه ويكون تحت طائلة القانون.
جيّد، هذا في مجال البدن نحن حريصون جدّاً على أن لا نسلّم أبداننا إلى المدَّعين، في مجال الروح الأمر سيكون أصعب وأخطر بكثير، نقول لمن يدَّعي هذا المقام ويعطي هذه التعاليم: إن كان هذا الكلام من أهل البيت (عليهم السلام) فجيّد جدّاً ولا بدَّ أن يكون كلامه مسنداً بالمصادر المعتبرة عند الطائفة، (أصول الكافي, أو مهج الدعوات, أو المصباح) أو غيرها. وأمَّا إذا قلت لي: إنَّها من مجرّبات الأصحاب أو من مجرّباتي الشخصية، أقول لك: المعذرة، أنا لا أُسلّم قلبي الذي أُريد مداواته وروحي التي أُريد تصفيتها إلى من لا أثق بصلاحيَّته، بل أُسلّم قلبي وروحي إلى الأطبّاء الحقيقيين وهم أهل البيت (عليهم السلام)، أو من حمل عنهم ونقل عنهم، ودواء الروح لا يأتي إلاَّ من الوحي وأطبّاء النفوس، إذن نرجع فنقول: هذه الأساليب تجدونها عند بعض من يدَّعي القرب والمقامات والأساليب الصوفية أو العرفان الفلسفي.
وقد رأينا كثيراً ممَّن مارسوا هذه الأساليب وساروا خلف أولئك الناس قد تعبوا، لأنَّه عمل مُضْنٍ جدّاً، وليس كلّ إنسان
يقدر على ذلك، فبعضهم ينهار، وبعضهم يصاب بلوثة في عقله، وبعضهم يهرب.
هذه الأساليب ليست أساليب أهل البيت (عليهم السلام)، بل أساليبهم مبنيّة على التيسير، على الفطرة، لأنَّ المخاطب بذلك كلّ الناس ليكون كلّ الناس قادرين على التزكية. ولذلك تجدون في باب الذكر في أصول الكافي في آخر المجلَّد الثاني في فضل قراءة القرآن وفي فضل الذكر تجدون أذكاراً مذكورة مثلاً: أنَّ ذكر (لا إله إلا الله) يملأ الميزان، وما في الميزان شيء أثقل من (اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد) وغير ذلك من أذكار أداؤها سهل على الناس(26)، فطريقة أهل البيت مبنيّة على التيسير والسهولة، أمَّا التعقيد فهذا أمر غريب على طريقتهم ونحن أيضاً يجب أن نستوحش منه.
التزكية والعُجب:
أهل البيت (عليهم السلام) أكَّدوا أنَّ هذا الأمر (وهو التزكية) أمر طبيعي وفطري في الإنسان، ولا يُعَدُّ ذلك العمل شيئاً يستحقُّ من الإنسان أن يعجب بنفسه، لماذا؟ لأنَّ الإنسان في صدد أن يرجع إلى إنسانيته، أهل البيت (عليهم السلام) يبسّطون الأمر لنا لكي يخرجونا من الرياء، أكَّدوا (عليهم السلام) أنَّ عملية التزكية والسير إلى الله إنَّما هي عملية بسيطة، وليس هناك داع أن يشعر الإنسان بعجب أو يرائي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(26) راجع: الكافي 2: 491 - 547.
الناس، وإنَّما هي قضيّة من قبيل أن يقع إنسان في الوحل فيسرع إلى داره يغسل بدنه ويرجع كما كان، هل هذه قضيّة يمكنه أن يفتخر بها؟ أو يقول للناس: أنظروا ذهبت إلى الحمام! ليس في هذا شيء يستحقُّ الفخر، بل بالعكس حينما يكون الإنسان قد رجع إلى حقيقته وغسل الأدران عن نفسه يكون قد أخذ وضعه الطبيعي ولا يحتاج أن يرائي أحداً، أو أن يشعر أنَّ له فضلاً على أحد من الناس.
لكن المؤسف أنَّ هناك الكثير ممَّن يلزم نفسه ببرامج التزكية يشعر بالعجب، فيرى لنفسه فضلاً على الآخرين، ودالّة على الله نفسه، هذا في الواقع هلاك، بدل أن يخرج هذا نفسه من حفرة الاستكبار يطمس نفسه ويغرق نفسه في وحل التكبّر والعُجب.
الإمام دائماً عندما كان يرشد أصحابه إلى التزكية يرشدهم إليها بهذا الشكل، ارجع إلى فطرتك، إلى ذاتك، إلى حقيقتك، نظّف نفسك لا أكثر، فالإنسان الذي ينظّف نفسه ليس له أن يرائي، ولا يوجد هناك داع بأن يعجب بنفسه، هذه هي الحقيقة التي يجب أن ندركها دائماً، حينما يوفَّق أحدنا لصلاة الليل، ويوفَّق للصوم وللصدقة، ومجاهدة النفس، يعني يوفَّق للتزكية بشكل عامّ عليه أن يتواضع أمام الله (عزَّ وجلَّ) وأن يكون خائفاً وخجلاً من ربّه، ما هذه الأوساخ التي لحقت بي؟ أحتاج إلى عمر طويل حتَّى أغسلها عن نفسي.
مع الأسف بعض من الناس عندما يُصلّي صلاة الليل أو غيرها من الأعمال يتوقَّع من الناس أن يسلّموا عليه بشكل خاصّ أو يقبّلوا يده وما إلى ذلك، ما الذي جرى؟ وما الذي حدث؟ كونك بدأت بتزكية نفسك ولا فخر في ذلك، أن يكون الإنسان قد بدأ ينظّف نفسه من الأدران، أيكون ذلك داعياً إلى التكبّر والغرور!؟ ينبغي لنا أن نلتفت إلى هذه الجهة، فهذا محور أساسي من محاور طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في التزكية وهو أنَّ التزكية تنقية للأدران عن النفس وإرجاعها إلى الفطرة وإلى القلب الناصع، فإذن ليس هناك داع للرياء، ولا للتكبّر ولا للشعور بالأفضلية على أحد.
أحد المراجع جاءه بعض الطلبة فجلس عنده، وجاء جماعة إلى المرجع من منطقة في العراق وطلبوا من السيّد المرجع بأنَّنا نريد عالماً يُصلّي بنا جماعة ويُعلّمنا الأحكام الشرعية، يقول هذا الطالب: المرجع نظر إليَّ وقال: تعال إلى جنبي، ثمّ قال: هل يمكنك أن تذهب معهم إلى منطقتهم تُصلّي بهم جماعة وتعلّمهم الأحكام الشرعية؟ يقول الطالب: وكنت طلبة في بداية حياتي ولا أتقن هذه الأمور بشكل جيّد، قلت: سيّدنا أنا أخاف من الرياء ومن العُجب، أجابني السيّد بجواب نفعني إلى منتهى حياتي (الرجل عندما قصَّ لي هذه القصّة كان عمره 70 سنة، عالم جليل ووكيل لكلّ المراجع) يقول: سمعت هذا الكلام وأنا شاب وتربَّيت بهذه الكلمة.
يقول: قال لي: هذا العمل (أي صلاة الجماعة وتعليم الأحكام) لا يستوجب العُجب ولا الرياء وإنَّما هي صلاة كما تُصلّي في بيتك، صلّي بهم جماعة، فالأمر لا يستحقُّ أن تضخّمه بهذه الدرجة.
يقول: أرجعني إلى حقيقة أنَّ أعمالنا يسيرة ولا تستحقُّ من الإنسان أن يرائي أو يعجب به.
نقول: إذن موضوع التزكية بالضبط هكذا، فهو ليس أمراً يستحقُّ العُجب ولا التكبّر، بل هو أمر يستحقُّ التخفّي وليس الرياء، فهو يحتاج إلى التخفّي أكثر من الإظهار، كما قلنا: إنَّ الإنسان يغتسل لإزالة الأوساخ عن بدنه، فهل هذا يحتاج إلى الإظهار، هكذا يجب أن نتعامل مع أدراننا وعيوبنا.
بعض من الناس يمارسون أعمالاً رياضية روحية، فعندما يذهبون إلى مكان ما لا يأكلون من طعام الناس، هذا في الواقع خروج عن حدود الشرع وإيذاء للمؤمنين من حيث لا يشعرون، إنَّهم يقعون في خطأ وفي ذنب إيذاء المؤمن، اذهب وكُلْ ولا عليك أن تسأل: من أين أتيت بهذا الطعام؟ نعم إلاَّ إذا كان الإنسان من غير المسلمين.
فإذن لاحظوا برنامج أهل البيت (عليهم السلام) الذي هو برنامج الفطرة، ففيه لا يقع الإنسان في حيرة ومشاكل، بل بالعكس يأخذه أخذاً لطيفاً سمحاً يوصله إلى الغاية، ويصبح الإنسان صاحب ذوق وصاحب أخلاق مع الناس.
أمَّا الأساليب الأخرى التي فيها التعقيد والالتواء فهي في الواقع قد تؤدّي إلى عداوات بين الناس ونفرة منهم، لأنَّ الشخص بتلك الممارسات الغريبة في الواقع يجرح ذاك ويؤلم قلب هذا ويصدم ذاك، وبالنتيجة هو يظنّ بأنَّه سائر إلى الله وإذا به يؤذي الناس ويجمع عداوات دون أن يشعر، لكن السالك في طريق أهل البيت (عليهم السلام) يجمع محبَّة القلوب إلى رضا الله تعالى، «كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، حبّبونا إلى الناس ولا تبغّضونا إليهم»(27).
كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يمشي ومعه جماعة سكب ماء إلى جنبهم فبادر واحد من جماعة أمير المؤمنين يقول: يا مولاي هذا الماء نجس، التفت له أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له بما معناه: وما عليك ألاَّ تكون قد سألت وقد نظرت...، لماذا تسأل (كلّ شيء لك طاهر حتَّى تعلم بنجاسته)(28)، فنحن غاية ما نصله من الإيمان أن نلتزم بأوامر الله والأحكام الفقهية لا أن نكون مسلمين أكثر من نفس الإسلام.
الله (عزَّ وجلَّ) (هكذا قال): ﴿آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59)، ما علمت أنَّه نجس طهّره، وما لم تعلم لا تسأل، أمَّا بهذا التشدّد فالمرء ينأى عن الفقه ويقترب من الشيطان.
لاحظوا الرواية: شخص جلس عند الإمام الصادق (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(27) الحكايات للمفيد: 93؛ وسائل الشيعة 12: 8/ ح (15502/8).
(28) عن عمّار الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «... كلّ شيء نظيف حتَّى تعلم أنَّه قذر». (تهذيب الأحكام 1: 285/ ح 832/119).
فذكر سيرة رجل فقال: فلان عاقل، فقال له الإمام: «وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان؟»، يقول: استغربت، ذهبت إلى الرجل، فقلت له: ما هي قضيّتك؟ ذكرتك عند الإمام فقال فيك كذا، فتأسَّف وقال: نعم عندي وسواس بالطهارة مبتلى بالوضوء والصلاة، صدق الإمام الشيطان متسلّط عليَّ(29).
إنَّ مسألة تزكية النفس مسألة مصيرية بالنسبة لنا، فكما أنَّ الإنسان يهتمُّ ببدنه وأعضاء بدنه، ويقطع المسافات الطويلة طلباً للعافية وطلباً للأطبّاء الأفضل، ويصرف كلّ ما بوسعه لإجراء عملية أو شراء دواء، ينبغي له أن يشعر ويهتمّ أكثر بخطورة الأمراض الروحية والقلبية، طبعاً المسألة واضحة والفرق واضح.
البدن مهما جرى عليه ولحق به من أذىً وأمراض سينتهي ذلك بالوفاة. والوفاة بالنسبة إلى البدن هو أن ينزع الإنسان ذلك اللباس ويلقيه بعيداً، هذه هي الوفاة، البدن هو لباس لا أكثر، ثوب بالٍ لحقه المرض، لحقه الشيب، فيرفعه الإنسان ويلقيه بعيداً.
فبعد الموت ينتهي الإنسان من مشاكل البدن وذلك المرض الذي كان يشعر به في الدنيا، لأنَّ المرض كان متعلّقاً بالبدن.
أمَّا مشكلة الروح، فتعالَوا لننظر إلى أنَّ الأمراض التي تتعلَّق بالروح هل تغادرنا بعد الموت؟ الحسد والبغض وإيذاء الآخرين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29) راجع نصّ الرواية في: الكافي 1: 12/ كتاب العقل والجهل/ ح 10.
هل تفارقنا بعد الموت؟ كلاَّ، فإنَّ هذه الصفات كلّها تتعلَّق بالروح، والروح لا تموت وإنَّما تنتقل.
إنَّما يُنقلون من دار أعمال * * * إلى دار شقوة أو رشاد(30)
ما يتعلَّق بالروح لا يزول، بل ينتقل معها إلى ذلك العالم، وأمَّا ما يتعلَّق بالبدن فيزول وينحلّ بزوال وانحلال البدن.
فإذا كانت الروح على جانب من الصفاء والطهارة فإنَّها ستُبقي صاحبها سعيداً حتَّى بعد الموت، وأمَّا والعياذ بالله إذا كانت الروح فيها شيء من الرذائل فلن تترك الإنسان بعد الموت بل تبقى تنتقل معه كما هي، وتبقى عنصر إزعاج للإنسان في عالم الروح والبرزخ والآخرة. ولذلك نؤكّد على علاج الروح أكثر من علاج البدن، لكن بعض البشر يتعاملون بشكل عكسي تماماً، لا نرى أحداً يقلق من أنَّه لماذا هو حسود مثلاً، أو أنَّه إنسان حقود، لا يقلق، ولا يذهب إلى طبيب نفساني ليعالج نفسه، بينما لو اكتشف أنَّه مريض في بدنه فماذا سيعمل؟ إنَّه سوف يسارع إلى الأطبّاء المتخصّصين، إذن لا بدَّ لنا وقبل أن ندخل في المراحل العملية لتزكية النفس والإعداد الروحي أن نلتفت جيّداً إلى أهمّية ذلك الأمر وخطورته، أخطر شيء في مستقبل الإنسان هو تلك الروح. أهمّ ما يحدّد مصير الإنسان من حيث الجنّة والنار وأهمّ ما يحدّد مكان الإنسان هو تلك الروح. وعلى هذا فمن لا يعتني بروحه ولا بقلبه فإنَّه إنسان غافل، غافل عن مصيره، وغافل عن مستقبله.
هذه كمقدّمة يجب أن تكون واضحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(30) البيت لأبي العلاء المعرّي، أنظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20: 181.
بعد الموت ليس هناك تجربة أخرى وامتحان آخر، وليس هناك مجال أن نترجّى الله ونقول: أرجعنا إلى الدنيا مرَّة أخرى حتَّى ندخل تجربة جديدة، ﴿قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها﴾ (المؤمنون: 99 و100).
الكافر عندما يواجه مصيره يرى بأنَّه كم كان يجب عليه أن يتوجَّه إلى روحه ويهتمّ بها لكنَّه لم يفعل، يتوسَّل بالله أن يُرجِعه، ولكن هيهاتَ.
إذن علينا أن ندرك ذلك من الآن ونحن أحياء، هذه نعمة من الله بأنَّ نكون من الأحياء، نسأل الله أن يبارك بهذه النعمة، في هذه اللحظة، الأموات يغبطوننا على لحظة حياة، على النفس الواحد الذي يصعد وينزل، لماذا؟ لأنَّنا قادرون بهذا النفس أن نكسب رضا الله (عزَّ وجلَّ)، نفعل خيراً، نكتسب علماً، نمشي على طريق نجاة، هذه فرصة لا زالت مفتوحة أمامنا لإصلاح هذه النفس، فإنَّ عالم البرزخ مستقبل قريب وليس ببعيد.
إذا أدركنا هذا الكلام وأصبح في نفوسنا حرصٌ على تزكية النفس علينا أن نبدأ الآن بالسؤال: ما الذي علينا فعله الآن ؟
المراحل العملية للتزكية:
أنا أُريد أن أسير على هذا الطريق: طريق التزكية وإعداد النفس، أُريد أن أكون إنساناً كاملاً، أُريد أن أكون إنساناً كما يحبّ أهل البيت (عليهم السلام)، فكيف يحصل هذا؟
الخطوة الأولى: تشخيص الأمراض:
المرحلة الأولى في تزكية النفس وتصفيتها هي: وضع اليد على عيوبها، وكشف ستورها، الأمراض التي أصبحت جزءاً من القلب ينبغي أن أكشفها بضوء كاشف وأُشخّصها، تشخيص الأمراض هي المرحلة الأولى والضرورية جدّاً لتزكية النفس، وأمَّا إذا كان الإنسان لا يعترف بمرضه أو لا يعرف مرضه فكيف له أن يعالج ذلك؟
ما هي الأمراض والعلل التي أحملها في قلبي وأنا غير ملتفت إليها، بعض الناس قد يشخّص نفسه فيعلم أنَّه حسود، فيجب أن يضع هذه الصفة بالصدارة، بعض الناس لا يدري أنَّه حسود، ويعتقد أنَّه إنسان طيّب مع كلّ الناس كما يرى نفسه، لكنَّه حينما يتعرَّض لتجربة قاسية تظهر هذه الصفة, والمرض ليس دائماً يكون على السطح، بل في باطن نفسه، فإذا تعرَّض الإنسان لامتحان شديد يظهر على السطح.
مثلاً: أحمد بن هلال العبرتائي أحد أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) كان قد صاحَبَ الهادي والعسكري (عليهما السلام)، وكان في مرحلة الإمام المهدي (عليه السلام) في زمن الغيبة الصغرى.
رجل صاحَبَ الأئمّة (عليهم السلام) وروى عنهم، فكان يعتقد بنفسه أنَّه رجل ذو شخصية كبيرة، وفعلاً هو كذلك فيما بين الشيعة.
هذا الرجل حجَّ في حياته أربعاً وخمسين حجّة عشرون منها ماشياً، وفعل ما فعل من الخير، رجل من حيث الصلاة والحجّ والارتباط بالأئمّة (عليهم السلام) ومن حيث الشخصية الاجتماعية والعلمية جيّد جدّاً. امتُحن هذا الرجل امتحاناً عسيراً، أظهر المرض الدفين من داخل قلبه.
في زمن الغيبة الصغرى كان (عليه السلام) يعيّن نوّاباً له، كما تعلمون الغيبة الصغرى لمدَّة سبعين سنة كان فيها للإمام نوّاب خاصّون معيَّنون بأسمائهم. هذا الرجل كان يرى نفسه أفضل الموجودين، فبدأ يعظّم فضائله في نفسه، لماذا تخرج الوكالة من الإمام (عليه السلام) إلى محمّد بن عثمان العمري، عظم عليه ذلك، وهو يعلم أنَّ محمّد بن عثمان هو الوكيل، فغلب عليه الحسد، هنا ظهر المرض الكامن منه، هذا المرض لم ينشأ في تلك اللحظة، بل كان موجوداً منذ شبابه، إلاَّ أنَّه كان كامناً لا يخرج، فخرج المرض بهزَّة عنيفة وأودى بصاحبه فأهلكه، بأن تجاهل وكالة السفير الثاني وادَّعى أنَّه لا يعلم بصدقها.
طبعاً الإمام عندما يعيّن وكيلاً يجعل دلائل لصدقه، يعطيه دليلاً أمام الناس بأنَّه هو الوكيل، ولكنَّه نفى وجود دليل على وكالة السفير الثاني، وعاقبة ذلك توغّله في الانحرافات حتَّى أخرج الإمام توقيعاً بلعن أحمد بن هلال ولعن من لا يلعنه(31).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31) نصّ ما خرج من الناحية المقدَّسة إلى القاسم بن العلاء في لعن أحمد بن هلال العبرتائي: «قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنّع ابن هلال لا رحمه الله، بما قد علمت لم يزل، لا غفر الله له ذنبه، ولا أقاله عثرته، يداخل في أمرنا بلا إذن منّا ولا رضى، يستبدّ برأيه، فيتحامي من ديوننا، لا يمضي من أمرنا إلاَّ بما يهواه ويريد، أراده الله بذلك في نار جهنَّم، فصبرنا عليه حتَّى بتر الله بدعوتنا عمره. وكنّا قد عرَّفنا خبره قوماً من موالينا في أيّامه لا رحمه الله، وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاصّ من موالينا، ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال لا رحمه الله، وممَّن لا يبرأ منه...». (اختيار معرفة الرجال 2: 816/ ح 1020).
لماذا؟ أين ذهبت صحبة الأئمّة (عليهم السلام)؟ أين ذهب كلّ هذا العمل؟ كلّها ذهبت هباءً منثوراً بسبب مرض كان كامناً في داخل القلب ثمّ خرج في وقت من الأوقات وفاجأ الإنسان فأرداه.
لاحظوا خطورة أن يهمل الإنسان المرض في بدايته، مرض القلب يجب أن يعالج سريعاً ولا يُترك، لأنَّه إذا ترك يكبر ويكبر حتَّى يتسلَّط على الإنسان في حالة امتحان ويصرعه كما فعل بهذا الرجل، إذن المرحلة الأولى هي تشخيص الأمراض.
كيف نشخّص أمراض قلوبنا؟
والجواب: أوّلاً: الإنسان وكما قال تعالى: ﴿بَلِ الإنسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ﴾ (القيامة: 14 و15)، الإنسان أبصر الناس بنفسه، أبصر الناس بقلبه، يعرف ما لا يعرفه غيره عن نفسه، فالإنسان بمعرفته بنفسه يكون قادراً على تشخيص الأمراض، وهناك أمور واضحة ليست صعبة، الإنسان يعرف نفسه أنَّه عصبي، أو حقود، أو هو إنسان محبّ للدنيا.
ثانياً: بعض الأحيان وفي بعض الصفات لا يقدر الإنسان أن يشخّص نفسه، تصبح هذه الصفات مخفيّة عنه، لماذا؟ لأنَّه غافل، ولأنَّه أحياناً يحيطه جوّ من المدح أو جوّ من الإعجاب، هذا الإنسان ينسى نفسه ويتصوَّر أنَّه الوحيد الجيّد البعيد من كلّ سوء ولا عيب فيه، هذا طبعاً من أضرار المديح الزائد.
لدينا في الروايات أنَّه يُكره للإنسان أن يمدح شخصاً بوجهه حتَّى لا تغرّر به كأنَّك تغطّي على عيوبه، طبعاً هذا غير
إعطاء الإنسان حقّه، «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق»(32)، فالتقدير والشكر يجب أن يكون موجوداً، وهو غير المديح الزائد للناس بغير ما فيهم.
المتملّقون أعداء الإنسان، لماذا؟ لأنَّهم يخفون عنه حقيقته، بينما الصديق الحقيقي هو الذي يريني نفسي في مرآة قلبه «المؤمن مرآة المؤمن»(33)، هذا أسلوب من أساليب التعرّف على النفس وهو الاستعانة بالمؤمنين، أنظر إلى نفسي في مرآة أخي المؤمن، يعني أرجو أخي المؤمن الصادق المحبّ أن يخبرني بما عندي من عيوب، «رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي»(34)، التعرّف على النفس من خلال المؤمنين المخلصين، لا بالمتملّقين به حالة الأطماع ويتفرَّقون عنه حالة الابتلاء.
ثالثاً: مراقبة النفس ومحاسبتها دائماً، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يجعل النفس بلا حصانة، النفس أمّارة بالسوء، فيها نزوات ووثبات، فلم يتركها سدى، بل جعل عليها رقيباً من نفسها، هناك صمّام أمان في داخل النفس، ﴿لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ (القيامة: 2)، النفس اللوّامة هي العنصر الرقيب الذي جعله الله في نفس كلّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(32) عن محمود بن أبي بلاد، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: «من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله (عزَّ وجلَّ)». (عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 27/ ح 2).
(33) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «يا كميل، المؤمن مرآة المؤمن، لأنَّه يتأمَّله فيسدّ فاقته ويجمل حالته...». (تحف العقول: 173).
(34) عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: «أحبّ إخواني إليَّ من أهدى إليَّ عيوبي». (الكافي 2: 639/ باب من يجب مصادقته ومصاحبته/ ح 5).
أحد، كلّ منّا لديه نفس أمّارة بالسوء، وفي نفس الوقت أودع فيه نفساً لوّامة والتي نسمّيها الضمير أو الوجدان، عندما نقول: هذا الإنسان ليس عنده ضمير، يعني ليس عنده رقيب من نفسه على نفسه، ليس عنده نفس لوّامة، أو أنَّها مخفيّة عنده، أو ميّتة.
إذن بالنفس اللوّامة يستطيع الإنسان أن يراقب نفسه ويراقب أعماله وردود فعله، الإنسان كيف يكتشف تلك الصفات؟ يكتشفها حينما يتعرَّض لمواقف معيَّنة فيعلم أنَّه يحمل تلك الصفة.
لو فرضنا أنَّه اكتشف في مجال تخصّصه أنَّ زميلاً أو زميلةً مثلاً يتفوَّق عليه في هذا المجال فَقُدَّر لذلك وحصل على ما هو مخصَّص من جائزة أو منصب.
هنا يستطيع الإنسان أن يكتشف أنَّه هل هو سليم النفس من هذه الجهة أو لا، هل يغبط أو يحسد، يغبط يعني ماذا؟ يعني يحبّ الخير لصاحبه ويحبّه لنفسه أيضاً، أمَّا الحسد فيعني أنَّه يقول: لا، ليت هذا الشيء لي وليس لفلان.
الإنسان المؤمن إنسان متيقّظ لا غافل، أعوذ بالله من الغفلة التي تجعل هذه الأمور تعبر وتمرّ دون أن يكتشفها الإنسان، بينما التيقّظ هو الذي يستطيع به الإنسان أن يكتشف دواخل نفسه.
الإنسان إذا التزم برقابة نفسه واستنصح الإخوة المؤمنين، وحاول دائماً أن يجعل هذه النفس تحت المجهر، حينئذٍ سيصل إلى نتيجة بنّاءة ومفيدة وهي أنَّه معرَّض للمشاكل والأمراض وأنَّ بإمكانه أن يسجّلها ويحصيها، فإذا فعل ذلك حينئذٍ تبدأ مرحلة العلاج والمداواة.
ملاحظة هامّة:
حينما نقول: إنَّ تشخيص المرض هو المرحلة الأولى فليس معناه أنَّه نبقى في المرحلة الأولى حتَّى نشخّص كلّ الأمراض ثمّ نبدأ بالعلاج، القضيّة ليس فيها ترتّب زمني، بل هذه المراحل زمنياً متوازية في نفس اللحظة وفي نفس اليوم، أنت حينما تكتشف مرضاً فالمفروض أن تعالج هذا المرض، صحيح أنَّ عملية التزكية على مراحل، لكن لا يُتوهَّم أنَّ هذه المراحل مترتّبة زمنياً، لا، بل هي متوازية زمنياً، مرحلة اكتشاف المرض متزامنة مع مرحلة العلاج.
الخطوة الثانية: علاج المرض القلبي:
إذن علينا أن نعرف من أين نبدأ بالعلاج، ومن أين نأخذ العلاج.
العلاج كما ذكرنا في الأحاديث السابقة ينبغي أن يُؤخذ من مصدره الأساس، ما دامت المسألة روحية وقلبية لا بدَّ أن تؤخذ من أطبّاء القلوب وأطبّاء النفوس والأرواح الذين عندهم شهادة تخوّلهم بذلك، ولا أحد من البشر يملك ذلك إلاَّ أهل البيت (عليهم السلام) والأنبياء والحجج الذين جعل الله ذلك إليهم وجعل نفوس الخلق طيّعة في أيديهم، وجعلهم مطَّلعين على ما في قلوب الناس، هؤلاء هم الأطبّاء.
إذن علمنا إلى أين نذهب لأخذ العلاج، بعد ذلك نسلّم أنفسنا إليهم، وليس لدينا أيّة نظرية، وإنَّما تكون نظريَّتهم وما يوجّهون إليه (عليهم السلام)، هو الدواء الوحيد, فهم الأيدي الأمينة الربّانية.
طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في العلاج:
لنرى توجيهات أئمّتنا (عليهم السلام) في هذا المجال:
الطبيب عادةً يُعطي الجرعة المناسبة في الوقت المناسب بشكل يؤدّي إلى النتيجة المطلوبة، أمَّا إذا زادت الجرعة عن تحمّل المريض فإنَّه سيموت أو يتعرَّض لمضاعفات.
أهل البيت (عليهم السلام) يعطون الدواء جرعات بحسب مستويات الناس.
في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: اجتهدت في العبادة وأنا شاب، فقال لي أبي: «يا بني دون ما أراك تصنع، فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) إذا أحبَّ عبداً رضي عنه باليسير»(35).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يا علي إنَّ هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض نفسك إلى عبادة ربّك، فإنَّ المُنبَت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع»(36).
ما معنى المنبت؟ المنبت: هو المنقطع، المنبت هو الذي يركب الفرس (مثلاً) من الكوفة يريد أن يصل المدينة، فإذا كانت المسافة بين الكوفة والمدينة تُقطع بثلاثة أيّام بشكل طبيعي مع استراحة مع إطعام للدابة... الخ، هذا الرجل يريد أن يقطع المسافة بيوم واحد، فيقول الإمام: لا تكن كذلك، لماذا؟
لأنَّ هذه الدابّة ستموت إذا لم ترحها وتسقها في الطريق، فتجد نفسك واقفاً في الطريق لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقيت،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(35) الكافي 2: 87/ باب الاقتصاد في العبادة/ ح 5.
(36) الكافي 2: 87/ باب الاقتصاد في العبادة/ ح 6.
الظهر يعني الدابة، فالإمام يضرب هذا المثل: (لا تكن كالمنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع)، هذا الدرس نستفيد منه في كلّ مجالات علاج الأمراض، فعندما يريد الإنسان أن يعالج نفسه من شيء لا يهلك نفسه لا يقسو على نفسه، بعض الناس يريد أن يعالج نفسه فيلزم نفسه بتكاليف ثقيلة جدّاً وكأنَّه يريد أن ينتقم منها. هذا خطأ، «إنَّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق»، هذه الرواية جميلة وتشير إلى شيء، وهو أنَّ هذا الدين محكم، فمن أراد أن يسير إليه فليسر إليه برفق. النفس الإنسانية لها إقبال ولها إدبار، العنف يجعلها تدبر، العنف يجعلها كالمنبت والمنقطع.
هذا أسلوب لأهل البيت (عليهم السلام) يمكن أن نسمّيه: (أسلوب الجرعات) أو (أسلوب الرفق).
نحن عندما نبدأ نتعرَّف على الأمراض ونريد أن نعالجها علينا أن نعالجها تدريجياً، ولا نتوقَّع من العلاج أن يشفينا من هذا المرض بيوم أو في شهر، علينا أن نتحلّى بالصبر والتحمّل حتَّى نصل إلى النتيجة.
إذن الأمر الأوّل هو الرفق الذي «لم يوضع على شيء إلاَّ زانه، ولا نزع من شيء إلاَّ شانه»(37).
في موضوع التزكية ينبغي أن نكون رفقاء على أنفسنا، يرجع الإنسان إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام) وهي في هذا المجال كثيرة، الإنسان الذي يلتزم بمراجعة الروايات يجد تفاعلاً خاصّاً معها، لأنَّها صادرة من معدن الوحي والتنزيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(37) الكافي 2: 119/ باب الرفق/ ح 6.
هذا أسلوب، أمَّا الأمر الثاني فهو طبعاً الآيات الكريمة فإنَّ فيها ما يرشد إلى ذلك، وقصص القرآن الكريم مليئة بالعبر، ففيها ما يرشد إلى مساوئ الحقد والحسد والتجبّر والتكبّر والخيانة وما إلى ذلك، مثلاً: قصَّة زليخا وما فعلته، حيث كانت تظنّ أنَّها رابحة، فوصلت إلى نتيجة أودت بها إلى حال بحيث أصبحت فقيرة عجوز تجلس في طريق يوسف (عليه السلام) تستجدي الرحمة والعطف، هذا درس، وهكذا فرعون تجبّره وتكبّره جعله بالنتيجة جسداً مرمياً على الشاطئ، ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ (يونس: 92).
أنجاه ببدنه ليكون آية، يريد أن يراه الناس الذين أرعبهم فرعون لمئات السنين وادَّعى عليهم الربوبية وإذا به مرمي على الشاطئ ليس له قيمة، مصير التكبّر هو هذا. وهكذا مصير قارون الذي خرج بأمواله وموكبه العجيب الذي كان يرعب الناس، بحيث أنَّ بعض الناس كادوا أن يخرجوا من دينهم عندما نظروا إلى قارون وأمواله، ﴿يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ﴾ (القصص: 79)، لكن قارون كان يعتقد أنَّ هذا من عنده، ﴿إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (القصص: 78)، لأنَّه كان يعتقد أنَّه بذكائه حصل على ما حصل، الله جعل عاقبته أن خسف به وبماله الأرض.
فالإنسان المؤمن عندما يقرأ هذه العبر يعرف أنَّ هذه الصفة التي يحملها لا تؤدّي إلى نتيجة. من هنا يستفيد الإنسان شيئاً آخر وهو أنَّ قصص الناس العادية وهذا التاريخ البشري مليء بالعبر، قراءة التاريخ مفيدة. التاريخ ليس تخصّصاً علمياً
فقط، بل هو عبرة للناس. ففي كلّ قصَّة من قصص البشر عبرة لنا ودرس، الحكمة تقول وقد كتبها أحد الطواغيت على قصره: (لو دامت لغيرك ما اتَّصلت إليك) أو (ما وصلت إليك).
ما معنى هذا؟ معناه أنَّه لو دام الملك لغيرك لبقي ذلك للغير ولم تكن النوبة تصل إليك، لكن نحن دائماً للأسف نقرأ التاريخ ونغمض أعيننا عن عبره.
من موارد العلاج:
1 - الكتاب الكريم والروايات الشريفة بما تحمل من توجيهات وعبر وقصص.
2 - التاريخ البشري: هذه العبر أمامك تملأ تاريخ حياتنا التي نعيشها الآن.
من الأمور المفيدة أيضاً في العلاج هو: إلزام النفس بالعكس، يعني إذا دعتني مشاعر الحسد إلى احتقار صاحبي فعليَّ أن أُقاوم ذلك الشعور وألزم نفسي باحترامه وأظهر له الاحترام عملياً، أجبر نفسي على ذلك.
قصَّة جميلة وعبرة بالغة:
بعض علمائنا كان جالساً في مجلس علم في ضمن مجموعة من العلماء، فجرى حديث علمي بينه وبين أحدهم، الحديث العلمي كان في مسألة شرعية فأصبحت مورد نقاش، نقاش ليس فيه سوء إلاَّ أنَّ ذلك الرجل الثاني بدرت منه كلمة، قال له: شيخنا ما هذا الحديث أنت رجل
ليس عملك هذا، وكان في كلامه نوع من الإهانة، هذا الشخص سكت وتأمَّل لحظات، يقول: خاطبت نفسي وقلت لها: يا نفس أهذا الذي تريدين؟ سوَّلت لي النقاش حتَّى سمعت هذه الإهانة، سأريك كيف هو الأدب (مخاطباً نفسه)، سأذبحك على محراب التواضع، قام من مكانه واتَّجه إلى ذلك العالم الذي هو المعتدي وهو الخاطئ وأخذ يده وقبَّلها ورجع إلى مكانه.
هذا هو غاية التواضع، غاية جهاد النفس، وحينما رجع إلى مجلسه وانفضَّ المجلس إلى خير، أتى إليه جماعته وقالوا: شيخنا لِمَ فعلت ذلك؟ أنت على حقّ وهو المخطأ، فحدَّثهم بالقصَّة وقال لهم: أنا أردت أن أُعاقب نفسي لأنَّها انجرَّت إلى الجدال أكثر ممَّا ينبغي، وأردت أن أذبح هذه النفس المتكبّرة على محراب التواضع.
هذه الحالة - حالة إجبار النفس على عكس الشعور الداخلي - هو الذي يربّي ويروّض النفس على الصفة الصالحة ويبعدها عن الرذيلة، فمن يشعر بحسد اتّجاه أحد فعليه أن يلزم نفسه باحترامه أكثر، ومن يشعر تجاه أحد بحقد فعليه أن يجبر نفسه على حبّ ذلك الشخص.
مناشئ الحقد:
لنقف عند هذه القضيّة قليلاً:
الحقد والكراهية قد تنشأ من مناشئ عديدة، لكنَّها كنتيجة شيء مظلم في القلب، كيف يستطيع الإنسان أن يتخلَّص من هذا الظلام؟ دائماً ولا بدَّ أن تكون في الإنسان نقطة حقّ، تأمَّل في شخصيته فهو إنسان
مؤمن (طبعاً نحن لا نتحدَّث عن من يستحقّ الحقد) مثل أعداء الله ورسوله، كلامنا عن المؤمنين، في الجوّ الإيماني لا ينبغي لأحد أن يحقد على أحد، أو يبغض أحداً، حاول أن تجد في شخصية المقابل نقطة ولو واحدة مضيئة، ومن تلك النقطة سوف تحبّه وتشعر بالودّ إزائه.
ليس هناك إنسان لا يحمل صفة ليس فيها خير، ولو بملاحظته خلال أيّام أو معاشرة تكتشف فيه صفات جيّدة، بل لعلَّ العلاقة تصبح حميمة جدّاً، ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصّلت: 34)، من أين تأتي هذه العلاقة وهذه المحبّة؟ من التعرّف على الآخرين من جهة الحسن، من الجهات الإيجابية، نعم أنت تقدر أن تقول: في فلان وفلان كذا سلبيات، لكن نقول: عدّد إيجابياته، حاول أن تكتشف في الناس نقاط إيجابياتهم ونقاط الحسن فيهم، ولا تنظر إلى القبح فتبقى دائماً في دوّامة الحقد، وسوف تعيش في جهنَّم دائماً إلى أن تموت. الإنسان يدرك السوء لكن يحمله على محامل حسنة، البشر ناقصون خطّاءون، حاول أن تفتح عيناً أخرى على المحاسن فستجد في كلّ أحد محاسن، ليس هناك إنسان يخلو من محاسن.
هذا أيضاً أسلوب من أساليب قلع الحقد من القلب.
القلب سوف يتبدَّل إلى قبول للناس، إلى استيعاب للناس، إلى معايشة مع الناس وتحمّل للآخرين، واعلم أنَّك مثلما أنت الآن مدعو إلى تحمّل الناس، فالناس أيضاً مدعوون إلى ذلك، أي إلى تحمّل أخطائك وعيوبك، لا تعتقد أنَّك مبرَّئ من العيوب.
الذكرى تنفع المؤمنين:
من الأمور المؤثّرة أيضاً التذكرة، ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات: 55)، ينبغي للإنسان أن يسمع المواعظ ويقرأها بشكل دائم، فإنَّ المواعظ مثل الماء الذي يسقي النبتة، النبتة إذا بذرت تحتاج إلى مداراة حتَّى تكبر وتثمر وتصبح شجرة، فالسقي لنبتة الصلاح في القلب، السقي الدائم لها هو الاستمرار في قراءة المواعظ وسماعها.
في نهاية حديثنا نقول: إنَّنا تحدَّثنا عن أسلوب أهل البيت (عليهم السلام)، وتحدَّثنا عن المراحل العملية للتزكية التي هي مراحل تبدأ بالتعرّف على المرض ثمّ بعلاجه رجوعاً إلى أهل البيت (عليهم السلام).
العوامل المساعدة في التزكية:
هنا عوامل مساعدة للتزكية من أهمّها:
العامل الأوّل: كثرة زيارة الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) التي تعين الإنسان على سلوك هذا الطريق وتصفية باطنه. ومنها: التواصل الروحي معهم، لأنَّ مثل ذلك مثل إنسان يتواصل مع طبيب روحي، فهؤلاء هم أطبّاء النفوس، وهؤلاء أطبّاء ليس فقط يعطوننا دواءً نتناوله، وإنَّما نفوسهم دواء لنا، والتواصل مع نفس المعصوم دواء لنا، لماذا؟ لأنَّك حينما تدخل إلى حرم المعصوم فهناك تتكوَّن عندك عدَّة أمور:
أوّلاً: حضورك هناك يستحقُّ الإكرام، ثانياً: حضورك مع
الوعي (تزوره عارفاً بحقّه)، ادخل لزيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) استحضر هذا الرجل الذي عاش في هذه الديار النجف والكوفة كخليفة للمسلمين، إماماً عليهم، أباً للأيتام والأرامل، عاش كحاكم أرأف ما يكون بالناس، كبطل قام الإسلام بسيفه، حينما تزور زيارة من هذا القبيل تكون قد تواصلت روحياً مع الإمام، يعني فتحت طريقاً بينك وبين قلب الإمام، السعيد من يوفَّق لذلك.
بعض العلماء يروي أنَّه رأى في المنام ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) مليئاً بالزوّار، إلاَّ أنَّ هؤلاء الناس على غير أشكالهم وصورهم، بحسب صفاتهم، بحسب أمراضهم النفسية، يقول: لكنّي أراهم يدخلون باباً إلى الإمام الحسين (عليه السلام) بأشكال كريهة، ويخرجون من تلك الباب الأخرى بعد تمام زيارتهم بشراً أسوياء كُمَّل بأشكال جميلة.
الأثر الذي يحصل عليه الإنسان من زيارة أبي عبد الله (عليه السلام) هو أنَّه وكرامةً من الله وحبّاً للحسين (عليه السلام) يخرج من قبر الحسين (عليه السلام) وقد غفرت ذنوبه ويرجع إلى أهله كيوم ولدته أُمّه.
العامل الثاني المساعد على ذلك: هو أن يكون لك من هو عون في طريق الله، حبَّذا أن يكون للإنسان رفيق يعينه على تذكرة نفسه، ويعينه على الطاعة وعلى العبادة وعلى التزكية ويذكّره بالأخطاء، الناصح المحبّ الذي لا يرضى لك أن تكون من أصحاب النار، والسعيد السعيد من حصل على شيء من هذا القبيل.
* * *
المحور الثاني: الإعداد الروحي الخاصّ
حديثنا السابق كان حول التزكية بشكل عامّ، اليوم نتحدَّث في الإعداد الروحي الخاصّ المرتبط بمرحلة الظهور.
خصائص زمن الظهور:
الظهور زمنٌ له خصائص، بحسب هذه الخصائص ينبغي أن يُهيّئ الإنسان نفسه ويعدّها حسب متطلّبات تلك المرحلة.
أوّل خصائص مرحلة الظهور أنَّها مرحلة الحقائق ومرحلة انكشاف الزيف وسقوط الأقنعة، ففي زمن الإمام (عليه السلام) لن يستطيع أحد أن يلبس حقيقته عن الإمام كأن يتنكَّر بوجه آخر غير وجهه الحقيقي. الإمام (عليه السلام) يعلم ما في النفوس، ويسير بالناس سيرة نبيّ الله داود (عليه السلام)، أي سيحكم بما يعلم، بعلمه الواقعي.
قد يطرح هنا سؤال: ما الفرق بين سيرة داود وحكمه وسيرة نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
الجواب: هناك فرق فقهي، نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يحكم على الظواهر بالشهود وبالبيّنة، أمَّا داود (عليه السلام) فإنَّه كان يحكم بناءً على علمه الواقعي وهكذا الإمام المهدي (عليه السلام) سوف يحكم بناءً على علمه الواقعي، الله (عزَّ وجلَّ)
أعطاه علماً بواقع الأشياء بحيث لا يحتاج إلى بيّنة أو شهادة أحد وسيستفيد من ذلك العلم مباشرةً بلا حاجة إلى وسائط.
إذن هي مرحلة الحقائق، مرحلة الصدق، مرحلة انكشاف الزيف، مرحلة سقوط الأقنعة وظهور الإنسان على حقيقته، وممَّا ورد من الروايات المهمّة في هذا المجال أنَّ الإمام (عليه السلام) إذا ظهر مسح على رؤوس الخلائق فاكتملت أحلامهم(38)، اكتمال الحلوم هو جانب من جوانب ما نقول، وإن مرحلة الظهور هي مرحلة الحقيقة لا مرحلة الوهم ولا مرحلة العناوين الزائفة، العقل إذا اكتمل فلا يحتاج مع كماله إلى أن يتلبَّس بقناع معيَّن ليوهم أو يلبّس الحقائق. العقل الكامل يترفَّع عن الزيف وعن الكذب، فهو عقل حقيقي يتعامل بموضوعية وواقعية مع الحياة. تصوَّروا هذه العقول, إذا مسح الإمام على رؤوس الناس فاكتملت عقولهم، تصوَّروا النتيجة، النتيجة أنَّهم سيتعاملون مع الحياة بواقعية وصدق، ويتعاملون كما هم ودون أيّ تلبيس أو تنكّر أو وجوه زائفة.
هذا الأمر يدعو إلى التوقّف كثيراً، نحن الآن في هذه الحياة قد ضرب الله تعالى علينا ستره, والرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) تقول: «لو تكاشفتم ما تدافنتم»(39)، لو علم أحدنا ما في نفس الآخر فقد لا يكون مستعدّاً حتَّى لدفنه، ويعتبره غير مسلم أصلاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38) عن مولى لبني شيبان، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «إذا قام قائمنا (عليه السلام) وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم». (كمال الدين: 675/ ح 30).
(39) أمالي الصدوق: 531/ ح (718/9).
ولو كشف الله ما في النفوس والخواطر لكانت الحياة صعبة فيما بين الناس، لكن الله (عزَّ وجلَّ) برحمته وحتَّى تسير الحياة ويكتمل نظام الحياة, رحم الناس وأعطاهم فرصة لإكمال نفوسهم وتزكيتها، يؤخّر الكشف فلا يكشف حقائقي أمام الناس ولا يكشف حقائق الناس أمامي.
هذه الستور المضروبة بعضها مضروب من الله (عزَّ وجلَّ)، وبعضه نحن نضربه على أنفسنا ونخفي أنفسنا خلفه، هذا يجعل مسألة المعايشة مسألة سهلة وممكنة في هذه الحياة. أمَّا في ذلك الزمان، الزمان الذي لا مجال فيه للفساد ولا متَّسع فيه للإفساد، الزمن الذي يراد فيه أن يطبّق الإمام (عليه السلام) أطروحة السماء كاملة بلا تأخير، في ذلك الوقت لا يؤخّر الإمام حكماً أو موقفاً شرعياً لأجل التقيّة أو المداراة.
بل ينبغي تنفيذ الأحكام الشرعية بحذافيرها دون حذر من أحد أو تقيّة أو خوف. فلا بدَّ أن نقف إذن أمام هذه الحقيقة: حقيقة أنَّه زمن واقعي، زمن لا يتَّحمل إخفاءً أو تلبيساً أو تنكّراً أبداً.
وعلى هذا فماذا سيكون التكليف؟
الذي يريد أن يعدّ نفسه من الآن لزمن الحقائق عليه أن يبدأ من الآن بتصفية شؤونه وأموره، وتعديل أوضاعه بشكل إذا جاء وقت الحقيقة ووصل وقت الصدق لا ينكشف أو ينفضح، فيكون هو كما هو، كما أنا الآن أكون في ذلك الزمن دون أيّة فضيحة أو مشكلة، الإمام (عليه السلام) حينما يخرج (الروايات تقول): إنَّه
ينتزع بعض الأملاك من الناس (يقول: هذا ليس بيتك أخرج منه)، فيعيد الأملاك والحقوق إلى أصحابها الحقيقيين حتَّى إذا اشتريت بها الدور(40).
إذن هو زمن الحقيقة والصدق، فالإنسان لا بدَّ من الآن أن يعدّ نفسه ليحل عليه الظهور ويكون من السعداء بالإمام لا من الأشقياء به، أن يحلّ علينا زمن الظهور ونحن سعداء بذلك لا نخفي أنفسنا خجلاً، ولا نخفي أنفسنا خوفاً من الإمام، أن نصلح شؤوننا، أن نكون على بصيرة ممَّا في أيدينا من أموال وممتلكات ومتعلّقات، ومن كلّ القضايا الشرعية، ونكون على يقين أنَّنا ذووا صفحات بيضاء نستطيع بها أن نقابل الإمام (عليه السلام) ونقول: يا مولانا نحن منتظرون، ونحن سعداء بظهورك، ونحن في خدمتك.
فعلى الإنسان أن يكون دائماً مع حقيقته ولا يبتعد عنها، ما معنى ذلك؟ بعض الناس يعطي لنفسه عناوين أكبر من واقعه، ويعطي لنفسه واجهات وأسماء أكبر ممَّا يستحقّ، فيبقى يعيش هذا الوهم، ويفرض على من حوله أن يعيش بهذا الوهم، ويبقى هكذا إلى أن يظهر الإمام (عليه السلام) وإذا بالإمام يفاجئه بالقول: أنت لا قيمة لك، هذا العنوان الكبير الذي كنت تعيش به والاسم الكبير الذي حملته والجاه العريض الذي حصَّلته، هذا كلّه مزيَّف ليس له أيّ أصل، ارجع إلى حجمك الطبيعي، بحكم الإمام يرجع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(40) في الرواية: «يبلغ من ردّ المهدي المظالم حتَّى لو كان تحت ضرس إنسان شيء انتزعه حتَّى يردّه». (الملاحم والفتن لابن طاووس: 143/ ح 169).
الإنسان بواقع الصدق في زمن الظهور إلى حجمه الطبيعي، ﴿هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ (المائدة: 120)، مثل يوم القيامة.
في يوم القيامة هل يقدر إنسان أن يفرض عناوينه الباطلة أمام الله (عزَّ وجلَّ)؟ كلاَّ، فإنَّ مقدار علمي هو هذا الذي سأُحاسب عليه، ومقدار تقواي هو الذي سأُعامل على أساسه، وهكذا الإمام ليس عنده مجاملة مع أحد، ولا يخضع لأوهامنا أو يخضع لموازيننا التي نعيشها الآن والمبنيّة على الاعتبارات الباطلة، فالإمام يأتي وينسفها تماماً. فعلينا أن نكون مهيَّئين للحقيقة، مهيَّئين إلى أن ننظر إلى أنفسنا بين يدي الإمام بحجمنا الطبيعي، فإذا كان كذلك يكون مهمّاً للإنسان أن يعيش الآن كما يعيش في ذلك الوقت، وأن يعيش في زمن الظهور كما يعيش الآن.
وأن يظهر أمام الإمام وأمام الناس كما هو الآن، لماذا أعيش الزيف إلى أن يظهر الإمام ويرجعني إلى حجمي الطبيعي فتكون هناك الفضيحة والهتك. قد يُطرد الإنسان من حضرة الإمام (عليه السلام) لأنَّه مدَّعي، إنسان مثلاً يدَّعي الاجتهاد، فهذه الدعوى خطيرة والمسألة ليست هيّنة، فالادّعاء جدّاً خطير، أن يدَّعي الإنسان الاجتهاد، يعني أن يكون نائباً للإمام المعصوم الغائب، نائباً عنه في بعض المسائل التي يتولاَّها الإمام في الناس فإذا كان والعياذ بالله هذا المدَّعي كاذباً أو مبطلاً أو دجّالاً فما هو موقفه أمام الإمام في زمن الحقيقة والصدق؟
أين سيكون محلّ هذا الإنسان؟ سيخفي نفسه، سيختبئ في جحر في الأرض، لن يستطيع أن يقابل الإمام (عليه السلام)، وإذا استطاع أن يقابل الإمام ويأتي إليه سيعاقبه عقوبة ليست باليسيرة، لأنَّ الدعوى دعوى خطيرة.
فعلى هذه قِسْ ما سواها، كلّ ما نصنعه لأنفسنا من عناوين باطلة وزائلة في هذه المرحلة من الحياة علينا أن نحسب له حساب مرحلة الظهور، فإنَّ تلك المرحلة لا تتحمَّل كذباً ولا زيفاً ولا باطلاً.
فينبغي على المؤمن أن يعدَّ نفسه إعداداً روحياً حقيقياً في هذا المجال.
كيف يكون الإنسان واقعياً حتَّى لا يتفاجأ إذا أصبحت مرحلة الظهور مرحلة فعلية؟
متطلّبات زمن الظهور:
هناك أمور معينة عليه أن يلتزم بها:
أوّلاً: الصدق مع النفس:
عليه أن يكون صادقاً مع نفسه وأن لا يدَّعي لنفسه باطلاً، والإنسان الصادق مع نفسه سعيد وليس للاضطراب إلى قلبه سبيل، سعيد مع نفسه، سعيد مع الآخرين، يحترمه الناس. الإنسان الذي لا يعطي لنفسه أكبر من حجمها إنسانٌ محترم، مُحِبّ ومحبوب من قبل الناس.
ثانياً: التفقّه:
ترويض النفس على أحكام الله (عزَّ وجلَّ)، الفقه عندنا مسألة جدّاً مهمّة، هذا الفقه الذي نعتبره أعظم تراث ورثناه من أهل البيت
(عليهم السلام) وأغلى جوهرة ورثناها من الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) فقه تعب عليه الأئمّة (عليهم السلام)، وتوارثه أصحابهم وقتلوا من أجله، استشهد عشرات، بل مئات من أجل أن تكتب صفحة، في سبيل أن يُؤلَّف كتاب في الفقه، وما سيرة الشهيد الأوّل والثاني (رضي الله عنهما) ببعيدة عنّا، صاحب اللمعة وشارح اللمعة - كتاب اللمعة الفقهي - كلاهما شهيدان من شهداء هذا الطريق، الفقه الذي بين أيدينا لا تتصوَّر أنَّه مسألة سهلة، يأتي البعض يستهزأ يقول: أنتم يا أهل الحوزة مشغولون بالأغسال وبالحيض والنفاس، يستهزأ وكأنَّ أحكام هذه الأمور أحكام يُستهزأ بها. هذا الذي يتكلَّم بهذا الأسلوب يستهزأ بأحكام الله في الواقع، الدين شمل بأحكامه كلّ نواحي الحياة، فالإنسان ينبغي أن يعطي قيمة لكلّ حكم شرعي والذي هو في الواقع تراث السماء.
من الأمور التي تُعين على التهيّؤ لزمن الظهور وأن يكون الإنسان في ذلك الزمن إنساناً سويّاً ومقبولاً عند الإمام (عليه السلام) أن يكون متفقّهاً في دينه، ليس بمعنى أن يكون مجتهداً بالضرورة، لا، بل أن تكون المرأة عارفة بأحكامها، والرجل عارفاً بأحكام عمله وجملة ابتلاءاته, أن يكون كلّ إنسان في أيّ موقع من مواقع الحياة عارفاً بأحكام عمله وحياته.
صلاته، شكوك صلاته، صيامه، زكاته، خمسه، الطهارة والنجاسة، أحكام المعاملة والبيع والشراء، فيكون محصّناً ومكتملاً فقهياً من هذه الجهات.
ثالثاً: البصيرة الكاملة:
الأمر الآخر الذي يجعله مهيّأ بشكل كامل لزمن الظهور: العقيدة الصريحة والواضحة، والبصيرة الكاملة، لو جاء الإنسان في زمن الظهور وعقائده متزلزلة وغير ثابتة، ولم يدرس العقائد بشكل كافٍ، ولم يتعرَّف على مقامات الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) بشكل كافٍ، فإنَّه قد يقع في بلاء.
قد يأتي ويرى الإمام (عليه السلام) يحكم بحكم فيعترض على الإمام، فيقدّمه الإمام ويضرب رأسه، لدينا رواية تقول: بينما الرجل بين يدي الإمام المهدي يأمر وينهي يعني أنَّه أحد القادة, من الأشخاص الذين يأمرون وينهون بأمر الإمام وإذا بالإمام يقدّمه ويضرب رأسه(41).
لماذا؟ هل الإمام عنده شهوة للقتل؟ أبداً، الناس إذا لم تكن عقائدها كاملة بأهل البيت (عليهم السلام) سيُمتحنون امتحانات عسيرة، في بعض هذه الامتحانات قد يسقطون. إذ قد يفاجئنا الإمام ويقول: إنَّ هذا الحكم الشرعي الذي اعتدتم عليه في المرحلة السابقة خطأ، حكم الله الواقعي ليس هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(41) عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «يقضي القائم بقضايا ينكرها بعض أصحابه ممَّن قد ضرب قدّامه بالسيف، وهو قضاء آدم (عليه السلام)، فيقدّمهم فيضرب أعناقهم، ثمّ يقضي الثانية فينكرها قوم آخرون ممَّن قد ضرب قدّامه بالسيف وهو قضاء داود (عليه السلام)، فيقدّمهم فيضرب أعناقهم، ثمّ يقضي الثالثة فينكرها قوم آخرون ممَّن قد ضرب قدّامه بالسيف، وهو قضاء إبراهيم (عليه السلام)، فيقدّمهم فيضرب أعناقهم. ثمّ يقضي الرابعة وهو قضاء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلا ينكرها عليه أحد». (بحار الأنوار 52: 389/ ح 207).
فإذا كانت عقائدنا قويّة بالإمام، ونعتقد أنَّ هذا هو المعصوم الحجّة من الله علينا ولا يردّ عليه بشطر كلمة نقول له: سمعاً وطاعةً، وكلّ نتائج اجتهاداتنا نرميها في البحر إذا أمر هو، ولا نناقشه ونقول له: لا هذه شريعة جدّك وأنت خالفت الشريعة، فهناك أُناس قد لا يوجد عندهم تحمّل فيقولون: لا، هذا حكم قد اعتدنا عليه، سيقول له الإمام: أنا حجّة الله عليك فإن قبل منه فذاك، وإن لم يقبل ذلك فيقدَّم ويقتل.
فعلى الإنسان أن يبني عقيدته بناءً ثابتاً ابتداءً من التوحيد وانتهاءً بالمعاد. فعلى الإخوة أن يكونوا حريصين على أن يحضروا دروس العقائد ودورات العقائد، حتَّى إذا كانوا قد مرّوا بدروس سابقة فعليهم أن يحضروا مراراً وتكراراً، فإنَّ في كلّ درس فائدة، وفي كلّ دورة شرح جديد يستفيد الإنسان منه.
الظهور مرحلة العمل الجاد لا النعيم فقط:
مرحلة الظهور هي أيضاً مرحلة المهام والمسؤوليات الجسام، فالمسألة ليست فقط أن نمنّي أنفسنا برخاء زمن الظهور ونعيم ذلك الزمن، لا بل هناك مسؤوليات تترتَّب علينا. مسؤوليات تترتَّب على المؤمنين، بالأخصّ وكما تعلمون أنَّ الإمام سيتولّى شأن العالم، لكن هذا حينما يظهر ويبدأ بالتدريج بمسح الكفر ونشر الإسلام، جيوش وقتال، عمل دؤوب، إرسال الناس إلى أطراف البلاد، تعليم، يعني هل نتصوَّر أنَّ الصين مثلاً ستدخل في
طاعة الإمام وأنَّهم سيصبحون في ليلة واحدة عارفين بأحكام الله ومطيعين وقارئين للقرآن؟ إنَّهم يحتاجون إلى من يعلّمهم وإلى من يرشدهم.
على هذا ينبغي علينا نحن كنخبة شيعية تحمّل هذا الهمّ وتحمّل أهمّية المرحلة وتعرّف قدر المرحلة أن تتهيَّأ لهذه المسؤوليات الجسام.
من الذي سيحمل فكرة الإمام ودعوة الإمام إلى أطراف الأرض؟ الكفّار أنفسهم؟ الكفّار إنَّما ينتظرون الكلمة أن تخرج من هنا بالأخصّ من النجف، ذكرنا في عدَّة مرّات أنَّ الإمام (عليه السلام) سيتَّخذ من هذه المدينة المباركة عاصمة له، يعني عاصمة العالم. من هنا سينطلق الناس، المبلّغ والمبلّغة، القائد العسكري، الحاكم الذي سيحكم أطراف الأرض، إنَّهم سينطلقون من هنا. الإمام مقرُّ حكومته الكوفة، ومحلّ عبادته ودار سكناه السهلة. فهذه بقعة ليست هيّنة، ونحن أُناس نعيش الآن في بقعة خاصّة، فإذن علينا أن نتحمَّل مسؤوليات خاصّة.
فالمسألة ليست فجائية، بل علينا أن نعدّ أنفسنا لذلك اليوم. الإمام إذا أراد مجموعة من النساء المؤمنات لتعليم نساء بلد ما فإنَّه يُرسل إليهنَّ امرأة، لكن ليست امرأة جاهلة ليس لها معرفة بالأمور الشرعية, أبداً، نعم الإمام يستطيع بمعجزة أن يحوّلها إلى عالمة, هذا ممكن، إلاَّ أنَّ الأمور لا تجري بالمعاجز دائماً.
الإمام إذا رأى طبقة من النساء واعية متمسّكة بعقيدتها حريصة على خدمة الإسلام فأوّل ما يكلّفها هي، ويرتضيها.
فتكون النساء حينئذٍ الجند الثقافي للإمام في نشر الوعي بين نساء العالم. نحن حينما نتحرَّك في زمن الظهور باتّجاه العالم بقيادة الإمام سنتحرَّك عسكرياً، هذا صعيد، وسنتحرَّك تحرّكاً موازياً لذلك وهو التحرّك الثقافي والديني الذي به نعلّم الناس وهذا صعيد آخر، فالقضيّة ليست قضيّة سيف فقط، فالسيف للظَلَمة، وللمعاندين ولمن لا يقبل الدين ولمن يقف بوجه المهدي (عليه السلام)، أمَّا الحركة الثقافية التي علينا أن ننشأها في ذلك الوقت بإمرة الإمام المهدي (عليه السلام) حركة فكرية تحتاج إلى كفاءات وإلى مستويات متعدّدة، وهذا ما يرتّب علينا هذه المسؤولية بأن نعدّ أنفسنا ثقافياً وفكرياً وعقائدياً لتحمّل هذه المسؤوليات الجسام.
فإذن مرحلة الظهور ليست هي فقط مرحلة نعيم، وإنَّما هي مرحلة بناء، مرحلة عمل، مرحلة جهد وجهاد، وهذا أوّل ما يقع علينا قبل غيرنا، لأنَّنا نحن الشيعة نفترض بأنفسنا أن نكون أقرب الناس إلى فكر الإمام وأكثر الناس شوقاً إلى لقائه وظهوره ونعيش في بقعة سيتَّخذها الإمام عاصمة له.
إذا كانت المرحلة القادمة هي مرحلة المسؤوليات فعلينا إذن أن نعدّ أنفسنا لهذه المسؤوليات ثقافياً ونفسياً، الإعداد النفسي بمعنى أن يكون الإنسان طوع يمين الإمام، هذه مسألة قد لا تحصل لكلّ أحد، حتَّى من يدرس العقائد ويتفقَّه قد لا تكون نفسه مطواعة.
قصَّة هارون المكّي:
نأتي بمثل من التاريخ، في الرواية أنَّه دخل سهل بن حسن الخراساني على الإمام الصادق (عليه السلام) فسلَّم عليه ثمّ جلس، فقال له: يا ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لكم الرأفة والرحمة وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حقّ تقعد عنه وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال له (عليه السلام): «اجلس يا خراساني رعى الله حقّك»، ثمّ قال: «يا حنفية اسجري التنّور»، فسجَّرته حتَّى صار كالجمرة وابيضَّ علوّه، ثمّ قال: «يا خراساني قم فاجلس في التنور»، فقال الخراساني: يا سيّدي يا بن رسول الله لا تعذّبني بالنار أقلني أقالك الله، قال: «قد أقلتك»، فبينا هم كذلك إذ أقبل (هارون المكّي) ونعله في سبّابته، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله، فقال له الصادق (عليه السلام): «الق النعل من يدك واجلس في التنّور»، فألقى النعل من سبّابته ثمّ جلس في التنّور، وأقبل الإمام يحدّث الخراساني حديث خراسان حتَّى كأنَّه شاهد لها، ثمّ قال: «قم يا خراساني وانظر ما في التنّور»، قال: فقمت إليه فرأيته متربّعاً، فخرج إلينا وسلَّم علينا، فقال الإمام: «كم تجد يا خراساني بخراسان مثل هذا؟»، فقلت: والله ولا واحداً. فقال الإمام (عليه السلام): «لا والله ولا واحد، أمَا إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت»(42).
نرجع إلى حديثنا السابق، إذن زمن الظهور هو زمن رئاسة الإمام وحكومة الإمام، وزمن الحقيقة والصدق التي لا يُقبل غيرها. نحن لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(42) مناقب آل أبي طالب 3: 362 و363.
نقول: يجب على الجميع أن يصبحوا كهارون المكّي، بذلك الخضوع التامّ للإمام، لأنَّ درجة هارون المكّي صعبة جدّاً بالنسبة للناس، إلاَّ أنَّ علينا توفير ولو درجة من ذلك التسليم.
لا ينبغي لنا أن نعترض على بيانات المعصوم، من الآن نجد بعض الناس يناقش الروايات، ليس لأنَّها ضعيفة، بل لأنَّها غير معقولة وكأنَّ عقله حاكم على كلام الأئمّة (عليهم السلام)، بعض الناس يحاول أن يرد رواية أو يضعّف أخرى فيقول: هذه لا يتحمّلها عقلي، هذا نفسه سيعترض على الإمام (عليه السلام) في مرحلة الظهور.
لا يقول أحد: نحن صنميّون، بل هذا الخضوع ناتج من عقيدتنا الواضحة المبرهنة بأنَّ الإمام معصوم مفترض الطاعة.
فثمرة العقيدة هي الخضوع التامّ للإمام (عليه السلام) - «وَثِقُوا بـِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ» - كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) واصفاً بعض أصحابه(43).
أهلية لقاء الإمام (عليه السلام):
المسألة الأخيرة التي نذكرها في الإعداد الروحي للنفس في استقبال مرحلة الظهور هي: مسألة أنَّنا سنكون في ذلك الوقت وجهاً لوجه مع المعصوم، الآن نحن محرومون من النظر إلى وجهه الشريف، محرومون من سماع صوته مباشرة وكلامه، لا نستطيع تداول الكلام معه والجلوس إليه، لكن هذا سيرتفع في ذلك الوقت، سيكون هذا كلّه ممكناً بالنسبة للمؤمنين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(43) نهج البلاغة 2: 109/ الخطبة: 182.
فعلينا كمؤمنين أن نهيّئ أنفسنا لذلك اللقاء. اللقاء الذي يتمنّاه كلّ مؤمن، اللقاء الذي بكى من أجله المئات، بل الملايين من المؤمنين منذ أكثر من ألف سنة، وتهجَّدوا في ليلهم ونهارهم حتَّى يتشرَّفوا بنظرة واحدة إلى إمامهم (عليه السلام).
إنَّ ضعف نفوسنا من الموانع، في الواقع الإنسان عليه أن يتيقَّن أنَّ لقاء الإمام (عليه السلام) ليس أمراً هيّناً وسهلاً، هناك علماء أجلّة وُفّقوا للقاء الإمام فأُغمي عليهم من نور وجهه الشريف، فما بال الإنسان في زمن الظهور يجلس مع الإمام ويتحدَّث معه، أيّ قابلية هذه يجب أن تتوفَّر فينا حتَّى نحظى بهذا الشرف؟ يقولون: إنَّ هناك سنخية إذا حصلت يمكن لأحد أن يجالس أحداً، أمَّا إذا كان هناك تباين تامّ فلن يكون الاجتماع وارداً.
نحن نرى الآن في هذا الزمان بعضاً من الناس يقول: أنا لا أجلس مع فلان نهائياً على طاولة سياسية أو تجارية، على أيّ صعيد من أصعدة النشاطات لا يستعدّ أن يجلس مع البعض الآخر، يقول: بيني وبينه تباين، أو ليس هناك بيننا نقطة لقاء.
هذا كلام صحيح منطقي، هنا أيضاً طبّقوا هذا الكلام، إذا كنّا نحن في وادٍ في أخلاقنا وتقوانا وعبادتنا وطهارة نفوسنا والإمام في وادٍ آخر فكيف لنا أن نحظى بشرف مجالسته؟ وكيف يسمح لنا الإمام أن نجلس إليه ونتقرَّب من حضرته؟
المسانخة ضرورية ولو بنسبة معيَّنة، إذا استطاع الإنسان أن يوفّر لنفسه نسبة من الطهارة ودرجة من القرب إلى الله (عزَّ وجلَّ) يكون
قد أعدَّ نفسه لذلك اللقاء الفريد. نحن الآن أحياء وما ندري ماذا سيكون بعد دقائق أو بعد أيّام، الله مَنَّ علينا بالحياة وفي هذه اللحظات في هذا الشهر المبارك رمضان شهر الخير وشهر البركة من عام (1426) للهجرة المباركة وجعلنا من أهل كرامته، هذه فرصة من حصل عليها فهو السعيد، ومن أضاعها فهو الغافل الخاسر.
نسأل الله أن يجعلنا من الذين أعدَّهم الله خدّاماً وجنوداً لإمامنا (عليه السلام)، وممَّن وفَّقهم لصيام هذا الشهر وقيامه وتلاوة كتابه فيه، ببركة محمّد وآله الطاهرين.
* * *
القرآن الكريم.
اختيار معرفة الرجال: الطوسي/ مط بعثت/ مؤسسة آل البيت/ 1404هـ .
الأمالي: الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط1/ 1417هـ/ مؤسسة البعثة.
بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ ط 2/ 1403هـ/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.
بصائر الدرجات: الصفّار/ 1404هـ/ منشورات الأعلمي/ طهران.
تحف العقول: الحرّاني/ ط 2/ 1404هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
التفسير الكبير: الفخر الرازي/ ط 3.
تفسير جوامع الجامع: الطبرسي/ ط1/ 1418هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي.
تهذيب الأحكام: الطوسي/ ط 3/ 1364ش/ دار الكتب الإسلاميّة.
الحكايات: الشيخ المفيد/ ط2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
الدعوات: الراوندي/ ط1/ 1407هـ/ مط أمير/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.
شرح الأخبار: القاضي النعمان المغربي/ ت محمّد الجلالي/ ط2/ 1414هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد/ ت محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط1/ 1378هـ/ دار إحياء الكتب العربية/ بيروت.
صحيح البخاري: البخاري/ 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.
عدّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ مكتبة وجداني/ قم.
علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.
عوالي اللئالي: الأحسائي/ ط1/ 1403هـ/ مط سيّد الشهداء/ قم.
عيون أخبار الرضا: الصدوق/ 1404هـ/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
الكافي: الشيخ الكليني/ ط5/ 1363ش/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
الكامل: عبد الله بن عدي/ ط3/ 1409هـ/ دار الفكر/ بيروت.
كمال الدين: الصدوق/ 1405هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
مشكاة الأنوار: علي الطبرسي/ ط1/ 1418هـ/ دار الحديث.
مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط6/ 1392هـ/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
الملاحم والفتن: ابن طاووس/ ط1/ 1416/ مؤسسة صاحب الأمر/ أصفهان.
من لا يحضره الفقيه: الصدوق/ ط2/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376هـ/ المكتبة الحيدرية/ النجف.
نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412هـ/ مط النهضة/ دار الذخائر/ قم.
وسائل الشيعة: الحرّ العاملي/ ط2/ 1414هـ/ مؤسسة آل البيت/ قم.
* * *