محكمات السنن في الرد على شبهات أهل اليمن

محكمات السنن في الرد على شبهات أهل اليمن
شبهات الزيدية حول الإمام المهدي (عليه السلام)

تأليف: السيد محمّد عليّ الحلو
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام)

الطبعة الأولى: جمادى الأولى 1428هـ

رقم الإصدار: 57

 

فهرست الموضوعات

مقدمة المركز..................5
الإهداء..................9
مقدمة المؤلف..................11
في معرفة الإمام ذاتاً..................13
الملاحظة الأولى..................19
الملاحظة الثانية..................19
الملاحظة الثالثة..................19
الملاحظة الرابعة..................19
إمكانية معرفة الإمام (عليه السلام) وتشخيصه..................21
الحكمة من غيبة الإمام (عليه السلام)..................24
كيف نشخّص الإمام عند خروجه؟..................28
الفرق بين وجود الإمام في غيبته وعدم وجوده أصلاً..................30
الحكمة لا تقتضي عدمه (عليه السلام) بل وجوده حتّى في غيبته..................31
عصمة الإمام (عليه السلام)..................32
علم الغيب والتفويض عند الأئمّة ماذا يعني؟..................33
الغيبة.. سنةٌ إلهية عند بعض الأنبياء دون بعض كما في بعض الأئمّة دون بعض..................38
عدم جواز البداء في أمر الإمام المهدي (عليه السلام)..................40
لا معنى للتقية في أمر الإمام المهدي (عليه السلام)..................42
كيف وردت أخبار ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)..................51
أوّلاً: أسلوب المراسلات..................52
ثانياً: أسلوب المشاهدة..................52
إمكانية إقامة الحدود في زمن الغيبة..................55
المجمل والمتشابه في حديث الأئمّة (عليهم السلام)..................57
عدم الافتراق بين القرآن والعترة..................60
حفظ النفس لا يعني جبناً، وخلافه تهور غير محمود..................64
الراية اليمانية.. أهدى الرايات..................66
اختلاف الناس في أمر الإمام كما يدعيه المستشكل..................69
القول في دعوى جعفر الكذاب..................73
السؤال الأوّل..................73
السؤال الثاني..................74
الاجتهاد في زمن الغيبة..................77
مصادر التحقيق..................81

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز:
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطيبين الطاهرين، واللّعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين...
أمّا بعد:
فقد أولى الدين الإسلامي الحنيف بعض الأفكار والقضايا العقائدية اهتماماً خاصاً وأولوية مميّزة، ولعلّنا لا نبالغ ولا نذيع سرّاً إذا قلنا: إنّ الثقافة المهدوية تعدّ من أوائل تلك القضايا ترتيباً من حيث الأهمية والعناية التي أولاها المعصومون (عليهم السلام) من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وقد سبقهم إلى ذلك الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فكان ينتهز المناسبة تلو الأخرى ليطبع في ذهن الأمّة وتفكيرها مصطلحات ثقافة انتظار القائد المظفّر، الذي سيرسم ملامح القسط والعدل على ربوع الأرض بعد أن تغرق في غياهب الظلم والجور، محقّقاً بذلك الحلم السرمدي الذي نامت البشرية حالمة به على مرّ العصور، الذي كان هو الأمل الأكبر الذي سعى إليه الأنبياء كافة.
وإذا كانت مقاييس الأهمّية والرفعة والخطر الذي تحظى به كل القضايا تتمثل بطرفين هما: مبدأ ومآل كل قضية. فإنّ قضيتنا المقدّسة - التي نحن بصدد الحديث عنها - لا تدانيها قضية في الفكر الإسلامي.

(٥)

فلو تحقّقنا في مبدأ هذه القضية وأصلها، لوجدنا النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) يعادل بينها وبين مجموع رسالة السماء المباركة الخالدة التي حملها إلى البشرية، فقد ورد عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني)،(1) ولا نجد أنفسنا بحاجة إلى مزيد من التوضيح لأهمية فكرة يُعدّ إنكارها إنكاراً لخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين.
بل يمكن القول بأنّ عدم الإيمان بهذه العقيدة يوازي عدم الإيمان بكل رسائل الأنبياء، وهو الذي عبّر عنه بالضلالة عن الدين. فقد ورد في الدعاء في زمن الغيبة: (اللّهم عرّفني نفسك فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيّك، اللّهم عرّفني رسولك فإنّك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللّهم عرّفني حجّتك فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني)، ومن أوضح الأمور نوع العلاقة والارتباط بين عدم معرفة الحجّة وبين الضلالة عن الدين، إذ أنّ هناك ثوابت ورواسخ لا يمكن أن تنفك بحال من الأحوال عن قاموس الفكر العقائدي الشيعي، بل الإسلامي بكل أطيافه، منها: أنّ الذي يموت دون أن يعرف إمام زمانه، أو دون أن تكون في عنقه بيعة لإمام زمانه يموت ميتة جاهليّة، كما ورد في الأحاديث الشريفة التي تناقلها المحدّثون من الطوائف الإسلاميّة كافة، وأي تعبير أفصح وأصرح من التعبير بالميتة الجاهلية عن بيان الضلالة في الدين؟!
هذا بالنسبة إلى الطرف الأوّل من طرفي مقياس أهمّية القضايا، الذي هو مبدأ هذه القضية وأصلها والإيمان بها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) منتخب الأثر: 492. 

(٦)

وأمّا بالنسبة للطرف الثاني لهذه الفكرة المقدّسة التي حرص النبي والأئمّة من أهل بيته (عليهم السلام) على غرسها في صميم أفكار الفرد المسلم، هو المآل الذي تؤول إليه، أو الثمرة التي تنتجها، فإنّ فيها تحقيق حلم الأنبياء وهدفهم الذي سعوا لأجله على مرّ العصور، والأمنية التي رافقت العقل البشري منذ اليوم الأوّل لترعرعه، لأنّ هذا القائد المؤمّل هو الذي سينزع عن البشرية قيود الظلم والعبودية، وهو الذي سيخلع عليها حلّة العدل والإنصاف، فإنّه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً.
وليس بعيداً عن توقّع كل عاقل، أنّ مثل هذه القضية التي تحمل بين طيّاتها كل هذا المقدار من الأهمية والخطورة ستتعرّض - حالها في ذلك حال كل مفاهيم العدالة الربّانية - إلى وابل من سهام الغدر والعداوة، حيث أنّها تمثّل الخط العقائدي الإسلامي الأصيل الذي رسم ملامحه الناصعة نبي الرحمة (صلّى الله عليه وآله وسلم) وواكبه على ذلك الأئمّة المعصومون (عليهم السلام). فلقد أبت القوانين الدنيوية إلّا أن تضع بإزاء كل حق باطلاً، ينازعه ويناوئه، فتكالب أعداء الحقيقة من كل حدب وصوب ليوجّهوا نبال التشويه والتشكيك، وكل أنواع المحاربة لهذه العقيدة التي هي من مسلّمات العقل الإسلامي، الذي تعامل مع هذه الفكرة منذ أعماق تأريخه، على أنّها أمر لا يمكن الغفلة عنه أو التنكّر له.
وهذا واحد من أهم الأسباب التي حفّزت فينا الشعور بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقنا في الحفاظ والدفاع عن هذه العقيدة المباركة، التي حظيت بهذا المقدار العظيم من الرعاية الإلهية. هذا الأمر هو الذي دفعنا للنهوض لتحمّل جزء من أعباء هذه المسؤولية وإنجاز هذا التكليف الذي لا مناص من تحمّله، وإيصال ما يمكن إيصاله إلى المؤمنين المهتمّين بشؤون دينهم

(٧)

وعقائدهم، وذلك بعون الباري (عزَّ وجلَّ)، ورعاية من المرجع الديني الأعلى سماحة آية الله العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني دام ظلّه الوارف، فكان تأسيس مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام)، وقد عني هذا المركز بالاهتمام بكل ما يرتبط بالإمام المنتظر (عليه السلام).
وكان من بين ما وفقنا الله لإنتاجه سلسلة من الكتب المتخصّصة فيما يتعلّق بالإمام المهدي (عليه السلام)، أسميناها: (سلسلة اعرف إمامك)، نقدّم بين يديك - عزيزي القارئ - هذا الكتاب كحلقة من هذه السلسة التي نسأل الباري (عزَّ وجلَّ) أن يوفّقنا للتواصل في العمل بها لتوفير كل ما يمكن أن يخدم إخواننا المؤمنين وإعطائهم ما يحتاجون في رفد أفكارهم العقائدية المرتبطة بالإمام الغائب (عليه السلام).
وإذ يتقدم المركز بالشكر الجزيل للمجهود العلمي القيم الذي بذله سماحة المؤلف السيد محمّد عليّ الحلو دام عزه فإن من دواعي سروره واعتزازه أن يقدم للقراء وللمكتبة العقائدية الإسلاميّة الكتاب الرابع في سلسلة (اِعرف إمامك) والذي سبقته ثلاثة كتب هي: (القائد المنتظر) و(الغيبة والانتظار) و(علامات الظهور) سائلين المولى تعالى أن يوفقنا لنيل رضاه ورضا أهل بيته الكرام الميامين والحمد لله ربّ العالمين.

مدير المركز
السيد محمّد القبانچي

(٨)

الإهداء:
وأنا على مشارف الانتهاء من هذا الكتاب كانت آخر نظرة وداع لفلذة كبدي (مرتضى) فبعين الله أغمض عينيك عن دنيا جرّعتك غصص الآلام..
ومما يخفّف عزائي أن أمنيتك في خدمة الإمام (عليه السلام) قد تحققت حين أنجزتَ بعض الأعمال..
فإلى روحك الطاهر.. وإلى جسدك الثاوي في ثرى السلام أهدي هذا المجهود..
والدك..

(٩)

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمّد وآله الطاهرين. هذه شبهات وردت من اليمن، ومن مركز البحوث الإسلاميّة، تحت عنوان (سلسلة الموعظة الحسنة) وقدّمها لي أحد المسؤولين الأعزاء العاملين في إذاعة الجمهورية الإسلاميّة في طهران بعد أن وصلت عن طريقه فآثر تقديمها لي للإجابة عنها لحسن ظنه بي مشكوراً، وفي الحقيقة ادّخرت مراجعتها إلى وقتٍ لاحق لانشغالي ببعض التحقيقات في حينها، وبعد تشرفي للاستقرار في نجف العلم والعلماء، شملتني رعاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بمراجعتها وإعادة النظر فيها، ودفعني حرصي على الإجابة عما يتعلق فيها من شؤون مهدوية مع ضعف الإشكالات الواردة، بل مع قلة اطلاع القائمين على صياغة هذه الإشكالات - وهو شأن ما يرد من إشكالات الآخر - لكني آثرت الإجابة عنها لتعلق الإجابات بأمور عقائدية عامة تنفع جميع الاتجاهات الثقافية، سيما ونحن نعيش في ظرفٍ استثنائي يتصيد بعضهم من خلاله غفلة البسطاء، أو يستغفل سذاجة الآخرين، أو يستفيد من حسن نوايا أولئك الذين يبحثون عن الحقيقة فيجدون ذوي المشاريع الثقافية غير البريئة، تُعبئ طاقتها لإضلال هؤلاء وخديعة أولئك.
في هذا الظرف الثقافي المتوجس أجد ضرورة البحث في هذا

(١١)

المجال دون الولوج إلى أعماقه ليشمل جميع الاتجاهات الثقافية الأخرى، ولعل رغبة مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام) هو التصدي لمثل هذه الإشكالات التي يستغل أصحابها براءة الآخرين فيحال البحث عن الحقيقة إلى أطراف تودي بذوي النوايا السليمة، وهذا المركز الحريص على نشر الثقافة المهدوية آثر المشاركة في وقف هذه الهجمات المسعورة للحد من تجاوزات الأفكار الشاذة، وأملنا الوحيد التسديد لجميع العاملين في هذا المركز والتوفيق الدائم.

محمّد عليّ السيد يحيى الحلو
جمادي الأولى 1427هـ
ذكرى شهادة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

(١٢)

في معرفة الإمام ذاتاً
الشبهة الأولى:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).
والسؤال: هل نحن مكلفون بموجب هذا الحديث بمعرفة الإمام ذاتاً، بحيث لو طلب من أحدنا الإشارة إليه وتعيينه وتحديده من بين مجموعة من الناس لاستطاع، أم إنا مكلفون بمعرفة صفته؟
أم أنه يكفينا مجرد معرفة كونه حياً وموجوداً كحجة حتّى لو كان غائباً؟
الجواب:
يُعد هذا الحديث متواتراً بين جميع الفرق الإسلاميّة، وقد روى الحديث أقطاب المحدّثين، فمن الشيعة: الكليني في الكافي، والصدوق في كمال الدين، والحميري في قرب الإسناد، والصفار في بصائر الدرجات، ومن أهل السنة منهم: البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود الطيالسي والطبراني والحاكم والحسكاني وأبو نعيم والبيهقي والنووي والهيثمي وابن كثير.

(١٣)

ولعل البعض يوجه الحديث إلى كل إمام بر أو فاجر، فيشمل بذلك الحاكم الظالم، والسلطان الجائر، والرئيس السفيه وغير ذلك، ولا يعني هذا مقصود الشارع من المعرفة والاتباع، فالعقل لا يحكم بوجوب معرفة الظالم والجائر والسفيه، إذ المعرفة هداية إيصالية توصل عن طريقها إلى الحق، فضلاً عن كونها هداية إرائية تُري الحق والصلاح بهدايتهم إليه، ومن كان هذا شأنه من الظلم والجور فهو غير حقيق بأن يوصل الناس إلى الصلاح لفساده، وفاقدُ الشيء لا يعطيه.
إذن لا يمكن أن يقنعنا الآخرون بإعراضهم عن أهل البيت (عليهم السلام) ليوصلهم الظالم إلى الحق، كما حدث في دعوى إمامة بني أمية وبني العبّاس، ومعلوم أن الذي أباح المدينة ورمى الكعبة بالمنجنيق وقتل سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يكون هادياً مهدياً، ولا يحق لمن مزق القرآن وجعله غرضاً لرمي السهام كالوليد أن يؤم الناس للصلاح، وهكذا الذي قتل الهاشميين بشكل جماعي كالمنصور العبّاسي والذين أحيوا الطرب واللهو في مجالس المجون من العباسيين لا يصدق أن يوصلوا الناس إلى الحق والصلاح، فدعوى وجوب معرفتهم باطلة، إلّا إذا اتصف الإمام بالصلاح والهدى، وسدد بالعصمة والتقوى، وأطاع الله في كل أحواله فهو حقيقٌ به أن يوصل أتباعه إلى منهج الرشاد ويهديهم إلى السداد.
وما يؤيد أن يكون الإمام الذي تجب معرفته، إمام هدى، ما رواه ابن بابويه بسنده إلى أبي جعفر (عليه السلام): (من مات لا يعرف إمامه مات ميتةً جاهلية كفر ونفاق وضلال).(2)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) الإمامة والتبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي: 219 و220/ مؤسسة آل البيت (عليهم السلام).

(١٤)

وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) بنفس الألفاظ، إلّا أن بدل لفظ (نفاق) قال: (كفر وشرك وضلال).(3)
ولا يختلف اثنان أن ولاة الجور وسلاطين الظلم، هم أهل ضلال، وذوو نفاق بإظهارهم الإيمان واستبطانهم الكفر، وإظهارهم التقوى وكتمانهم الفسوق، كما هو في نفاق معاوية بتظاهره بالتقوى. ومثله مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، وخلاف ذلك في تهتك أكثر ولاة الجور من الأمويين حيث لم يحتشموا أحداً من العالمين فاستباحوا كل محرم وهتكوا ستر كل ما ينبغي ستره، حتّى أعلنوا الفجور كما في أحوال الوليد بن عبد الملك ويزيد بن الوليد وأمثالهم من أهل العبث والمجون. ولا يفوتك ما رواه السيوطي في تاريخ الخلفاء، وأمثاله عن ملاحم هؤلاء الأمويين ومثلهم بنو العبّاس الذين ارتكبوا كل محظور، وأباحوا كل محذور. وتاريخ آل أبي سفيان وأيام بني مروان ووقائع بني العبّاس شاهدةٌ على ذلك.
من هنا نستخلص أن يكون الإمام إمام هدى متصفاً بالصلاح، مسدداً بالعصمة، منصوصاً عليه من قبل الله تعالى، وهو مذهب الإمامية واتفاقهم بقضّهم وقَضيضهم.
إذن يجب معرفة الإمام لغرض اتِّباعه، ولا تكفي معرفة صفته دون الاهتداء إلى ذاته، والوقوف عليه بنحو عدم الاشتراك مع غيره، لأن الهداية الإيصالية لا تتم بمجهول، ولا تخضع في كمالاتها لمبهم، ما لم يتم تشخيصه ومعرفته ذاتاً، لا صفةً.
وإلى هذا أشار الصادق (عليه السلام) إلى وجوب التحري عن ذات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(3) السابق.

(١٥)

الإمام والحث على معرفة شخصه دون الاكتفاء بالوقوف على صفته أو بالسماع بأمره فقط.
فقد روى ابن بابويه بسنده عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلحك الله، بلغنا شكواك فأشفقنا، فلو أعلمتنا من بعدك؟ فقال: (إن عليّاً (عليه السلام) كان عالماً، والعلمُ يتوارث، ولا يهلكُ عالمٌ إلّا بقي من بعده من يعلمُ مثل علمه أو ما شاء الله)، قلتُ: أفيسع الناس - إذا مات العالم - أن لا يعرفوا الذي بعده؟
فقال: (أما أهل البلدة فلا - يعني المدينة - وأما غيرهم من البلدان فقدر مسيرهم، إن الله يقول: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(4)).
قال: قلتُ: أرأيت من مات في ذلك؟
قال: (بمنزلة من خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثمّ أدركه الموتُ فقد وقع أجره على الله).
قال: قلتُ: فإذا قدموا بأي شيء يعرفون صاحبهم؟
قال: يُعطى السكينة والوقار والهيبة.(5)
فتشخيص الإمام بمعرفته بالسكينة والوقار والهيبة دلالة على وجوب معرفة الإمام ذاتاً.
وعن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: قلتُ: إذا هلك الإمامُ فبلغ قوماً ليس بحضرتهم؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) التوبة: 122.
(5) الإمامة والتبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي: 219 و220.

(١٦)

قال: (يخرجون كلهم أو يكفيهم أن يخرج بعضهم؟ إن الله (عزَّ وجلَّ) يقول: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ))، قال: (هؤلاء المقيمون في سعةٍ حتّى يرجع إليهم أصحابهم).(6)
فقوله (عليه السلام): (في سعةٍ) مشعرٌ على عدم قبول أعمال المكلفين دون معرفة الإمام، والذي في سعةٍ هو في عذر حتى يعرف الإمام، إلّا أنه مغيى بغاية رجوع الرسول المتفحص عن خبر الإمام، فإذا رجع إليهم وعرفوا أمر الإمام فقد ارتفعت عنهم المعذرية وخوطبوا بالتكليف.
وفي نفس المعنى قال الرواي: إن بلغنا وفاة الإمام، كيف نصنع؟
قال (عليه السلام): (عليكم النفير).
قلت: النفير جميعاً؟
قال: (إن الله يقول: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)) قلت: نفرنا، فمات بعضهم في الطريق؟
قال: فقال: (إن الله يقول: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً))(7) فوجوب التفحص عن الإمام تعذيريٌ حتّى يقفوا على خبر الإمام (عليه السلام)، وإدراك أحدهم الموت وهو في حال التفحص معذور، لأن التفحص بذاته تكليف، وهو مقدمة واجب - على القول بها - يوصل إلى وجوب معرفة الإمام بذاته.
والاقتصار على معرفة الوصف دون معرفة الذات قد يوجب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(6) السابق.
(7) الإمامة والتبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي: 226.

(١٧)

الوقوع في الاشتباه المؤدي إلى الخطأ في تشخيص الإمام، وهو في الشرك سواء.
فعن الإمام جعفر الصادق عن أبيه (عليهما السلام) قال: (من أشرك مع إمام - إمامتُه من عند الله - من ليس إمامتُه من عند الله، كان مشركاً بالله).(8)
ومعنى ذلك أن اتباع غير إمام الحق يوجب عبادة من يعبده من دون الله، وبذلك فسيكون التابع لغير إمام - جزافاً - عابداً لغير الله تعالى أو مشركاً بعبادته سبحانه - كما يستظهر من الرواية -.
هذا في شأن الإمام الحاضر، أما الإمام في زمن الغيبة فيجب معرفته بذاته وخصوصياته، من حيث كونه موجوداً حياً منتسباً إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والذي اسمه (محمّد) بن الحسن العسكري بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ السجاد بن الحسين الشهيد بن عليّ بن أبي طالب، بن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فاطمة عليها وعليهم من الله التحيات الزاكيات.
هذا ما يقتضي معرفة الإمام المهدي ذاتاً في غيبته.
أما ما يخص الإمام المهدي (عليه السلام) فمعرفته بعد ظهوره تتم من خلال معرفة علامات ظهوره ليتسنى لنا تشخيصه ذاتاً، وقد ذكرت علامات الظهور في محلها وتكفلت بها مطولات خاصة في هذا الموضوع، إلّا أن هناك ملاحظات لا بدّ من مراعاتها في هذا الشأن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8) الإمامة والتبصرة من الحيرة لابن بابويه القمي: 231.

(١٨)

الملاحظة الأولى:
إن محاولة إيجاد مصاديق لشخصيات علامات الظهور غير دقيقة وكذلك التشبث ببعض الحوادث وكونها من علامات الظهور بشكل قطعي غير صحيح، نعم إمكانية إيجاد احتمالات مؤيدة بقرائن وشواهد تؤيد انطباق هذه العلامة على ذلك المصداق ومع هذا عدم القطع بذلك، وخلاصة الملاحظة: هو عدم التسرع في الحكم لئلا يؤثر ذلك على صدقية تعاطينا مع علامات الظهور.
الملاحظة الثانية:
الحث على معرفة علامات الظهور وذلك يساعد على بناء الشخصية التكاملية، ولتنمية الشعور بالأمل والابتعاد عن حالة الإحباط واليأس جراء ما يعانيه الفرد الشيعي من الظلم والتنكيل.
الملاحظة الثالثة:
إن التعامل مع أسانيد الروايات إحدى آليات الاستنباط الفقهي أي للوقوف على مدى صحة الرواية من عدمها، أما فيما يخص روايات الظهور فهي أشبه بالحالة الإنسانية التي ترافق الشخص في معرفة المستقبل، واستشراف ما يصبو إليه الإنسان وما تداهمه من أحداثٍ، لذا فهو يحاول أن يبحث عن الحقيقة ويتابع رواية هذه العلامات حرصاً منه على معرفة ما ينتظره من مصير، وهذا شأن أي إنسان بغض النظر عن كونه ثقة أو لا، إذن نحن لا نتحفظ على أسانيد هذه العلامات إذا لم تتعارض مع الكتاب والسنة والعقل.
الملاحظة الرابعة:
يجب أن نراعي في علامات الظهور بما يخص المدن دواعي الرواة

(١٩)

ودوافعهم، فلربما يحاول بعض الرواة التنكيل بمنطقة ما، لدافع سياسي أو عقائدي ليجعل من بعض علامات الظهور مثلبة يطعنُ فيها على أهلها، أو منقصة يستفيد من خلالها بالتنكيل على أتباعها، كما في رواية عبيد الله بن عمرو في مجلس معاوية مخاطباً بها بعض أهل العراق المعروفين بولائهم لعليّ (عليه السلام)، بأن الدجال يخرج من بلدكم ومن منطقة بابل بالضبط، في حين أن روايات الدجال تشير إلى أن قوة يهودية متواجدة في أصفهان يستفيد منها الدجال في تنفيذ خططه وتحركاته، فحاول عبد الله بن عمرو أن يطعن بأهل العراق وفي محضر معاوية بإحدى علامات الظهور ليسخرها لخطه ويوجه فائدتها لمدرسته.

* * *

(٢٠)

إمكانية معرفة الإمام (عليه السلام) وتشخيصه
الشبهة الثانية:
إن قلتم ذاتاً؛ فهل جميع الاثني عشرية الآن عارفون لإمام الزمان (المهدي) ذاتاً ويستطيعون تحديده والإشارة إليه وتمييزه؛ إن قلتم نعم فحددوه لنا، وإن قلتم لا؛ فهل موتاكم موتى جاهلية؟!
الجواب:
قلنا: إن خصوصيات الغيبة لا تقتضي إشارة المكلفين للإمام بذاته، وقولنا (غائب) بمعنى إمكانية مشاهدته محدودة إلّا على خواص شيعته وصفوة مواليه، وإلّا لا معنى أن نطلق على زمانه بزمان الغيبة، نعم خصوصيات معرفة الإمام الغائب تتلخص في التالي:
أوّلاً: معرفة وجوب الحجة وأن الأرض لا تخلو من حجة مشهور أو غائب مستور - كما في بعض كلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) -.
ثانياً: معرفته بشخصه ونسبه وهو:
محمّد بن الحسن العسكري بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن

(٢١)

عليّ السجاد بن الحسين السبط شهيد كربلاء بن عليّ بن أبي طالب، من فاطمة بنت رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ثالثاً: التسليم بأنه حي غائب بأمر الله تعالى، ويظهر بأمره تعالى ليملأها قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
ومعرفته بذاته بهذا المقدار مقتضى حال غيبته صلوات الله عليه، وبهذا المقدار يصدق معرفته ذاتاً لا معرفته صفةً. علماً أن الروايات تدل على أنه صلوات الله عليه لم يكن مختفياً بشخصه بل بعنوانه، فهو يجوب البلدان ويتعايش مع الناس، ويرعى مصالح شيعته، فهو يلتقي (عليه السلام) مع شيعته دون معرفتهم له، ويتابع شؤونهم ويراقب مصالحهم ويلتقي بهم حتّى أن الناس عند ظهوره (عليه السلام) كلٌ يقول اني رأيت هذا الشخص لكثرة تماسه بهم ومخالطته معهم، لكن مقتضى غيبته تخفّيه وعدم اطلاع الناس على شأنه لمصالح لا يعلمها إلّا الله تعالى، وإن كان بعضها منسوباً إلى خوفه من الأعداء وحذره من كيدهم، وتحفظه من مراقبتهم له.
ولا غرابة في ذلك فإن يوسف النبي (عليه السلام) كان يخالط الناس ويتعامل معهم وهم له منكرون حتّى أذن الله تعالى بإعلامهم عن نفسه وإخبارهم عن أمره.
روى الصدوق في كمال الدين بسنده إلى سدير عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: (إن في القائم سنة من يوسف).
قلت: كأنك تذكر خبره أو غيبته؟
فقال لي: (وما تنكر هذه الأمّة أشباه الخنازير أنَّ إخوة يوسف

(٢٢)

كانوا أسباطاً، أولاد أنبياء، تاجروا بيوسف وباعوه وهم إخوته وهو أخوهم، فلم يعرفوه حتّى قال لهم: (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) فما تنكر هذه الأمّة أن يكون الله (عزَّ وجلَّ) في وقت من الأوقات يريد أن يستر حجته عنهم، لقد كان يوسف يوماً ملك مصر، وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوماً، فلو أراد الله تبارك وتعالى أن يعرّفه مكانه لقدر على ذلك، والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة في تسعة أيام إلى مصر، فما تنكر هذه الأمّة أن يكون الله (عزَّ وجلَّ) يفعل بحجته ما فعل بيوسف أن يكون يسير فيما بينهم ويمشي في أسواقهم وهم لا يعرفونه حتّى يأذن الله (عزَّ وجلَّ) له أن يعرّفهم نفسه كما أذن ليوسف (عليه السلام) حين قال لهم: (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ * قالُوا أَ إِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي)(9)).(10)

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9) يوسف: 89 و90.
(10) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: 145.

(٢٣)

الحكمة من غيبة الإمام (عليه السلام)
الشبهة الثالثة:
ما هي الحكمة من غياب الإمام، وكيف يتلاءم الغياب مع أعمال وواجبات الإمامة، خاصة وأن الاثني عشرية يجعلون وجود الإمام لطفاً للعباد، وهل يجوز غياب اللطف عن الملطوف بهم؟!
الجواب:
أن الحكمة من غيبته غائبة عنا، وانكشاف وجه الحكمة سيتم عند ظهوره، وإن كان انكشاف جزء الحكمة أو بعضها هو لحفظ نفسه الشريفة من كيد الأعداء ومطاردتهم إياه، فيجب أن يحفظ وجوده الذي تتم - بهذا الوجود - حكمة الله من خلقه، في تفصيل يأتي في محله.
أما واجبات الإمامة فلا تعارضها غيبته (عليه السلام)، فمجرد وجوده (عليه السلام) هو من ضمن واجبات الإمامة كما أن معرفة الإمام - بغض النظر عن حضوره أو غيبته - تجعل المكلفين ضمن دائرة (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ودخول الأفراد ضمن هذه الدائرة

(٢٤)

أو خروجهم عنها يتعلق بمدى معرفتهم للإمام وعدم معرفتهم به، فإذن وجوده ومعرفة العباد له تكليف آخر يدخل ضمن تكاليف العباد.
على أن وجوده (عليه السلام) وجودٌ للحجة الإلهية التي لولاها لساخت الأرض بأهلها، فمجرد وجوده يُعد من أعظم الفوائد على العباد.
وكذلك الإمام يُعدُ واسطة الفيض الإلهي حاضراً كان أو غائباً، فإن فيوضات الله تعالى لا تنزل على الأرض وأهلها إلّا بواسطة، ولا واسطة لفيوضاته تعالى إلّا الإمام، فوجوده فائدة لنزول الفيض، كما في ليلة القدر فإنها تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم، على الإمام. ولولاه لما تم هذا التنزيل، فعلى من يتم النزول لولا الإمام؟! وإلى هذا أشار الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته لجده الإمام الحسين (عليه السلام) حيث ورد فيها: (... مَنْ أَرَادَ اللهَ بَدَأَ بِكُمْ، بِكُمْ يُبَيِّنُ اللهُ الْكَذِبَ وَبِكُمْ يُبَاعِدُ اللهُ الزَّمَانَ الْكَلِبَ وَبِكُمْ فَتَحَ اللهُ وَبِكُمْ يَخْتِمُ اللهُ وَبِكُمْ يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَ(بِكُمْ) يُثْبِتُ وَبِكُمْ يَفُكُّ الذُّلَّ مِنْ رِقَابِنَا وَبِكُمْ يُدْرِكُ اللهُ تِرَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ يُطْلَبُ بِهَا وَبِكُمْ تُنْبِتُ الْأَرْضُ أَشْجَارَهَا وَبِكُمْ تُخْرِجُ الْأَرْضُ ثِمَارَهَا وَبِكُمْ تُنْزِلُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا وَرِزْقَهَا وَبِكُمْ يَكْشِفُ اللهُ الْكَرْبَ وَبِكُمْ يُنَزِّلُ اللهُ الْغَيْثَ وَبِكُمْ تُسَبِّحُ الْأَرْضُ الَّتِي تَحْمِلُ أَبْدَانَكُمْ...).(11)
وكذلك الإمام يُعدُ شاهداً على أعمال العباد كما في قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(12) فقد ثبت في محله أن الله تعالى يُثيب ويعاقب على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11) من لا يحضره الفقيه 2: 358/ ح 1614.
(12) البقرة: 143.

(٢٥)

الشهادة وهو مقتضى عدله، فلا بدّ من شاهدٍ على أعمال العباد، وهذا الشاهد هو الحجة على الخلق غائباً كان أو حاضراً.
إضافةً إلى ذلك فإن وجود الإمام يبعث على طمأنة النفوس واستقرارها، كما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عند وجوده في المعركة، فهو وإن لم يشارك في قتال؛ إلّا أن وجوده (صلّى الله عليه وآله وسلم) طمأنة للنفوس وتقوية لعزيمة المقاتلين، كما أن شفقته (عليه السلام) على شيعته ورعايته لهم وحرصه عليهم يؤكده دعاؤه لهم، ودعاء الإمام مستجاب عند الله تعالى، وهذا ما نص عليه في رسالته للشيخ المفيد بقوله (عليه السلام): (نحن وإن كنا نائين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح، ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين فانا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، وثبتوا العهد المأخوذ وراء ظهرهم كأنهم لا يعلمون.
إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله جل جلاله وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم).(13)
وليس أدل على فائدة وجوده - حتّى مع غيبته - ما ورد عن الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن فائدة غيبته (عليه السلام) فقال بما أجاب به

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13) الاحتجاج: 497.

(٢٦)

رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حينما سئل بمثل ذلك فقال: (والذي بعثني بالنبوة أنهم ليستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته، كانتفاع الناس بالشمس وإن تجللها سحاب).(14)
أما كون وجوده لطف فإن اللطف هذا لا يتخلف في حال غيبته، وعدم استفادة المكلفين من هذا اللطف يرجع سببه إليهم، فهم اللذين تسببوا في إبعاد اللطف عنهم، فلطف الإمام موجود على أي حال لكن ابتعاد الناس عن لطفه بسبب عدم تهيئة فرص الاستفادة من هذا اللطف، وليس الإمام سبباً في حرمان المكلفين من لطفه، كما أن معرفة الله لطف، وعدم معرفة الكافر لهذا اللطف لا ينفي اللطف عنه، وإنما الكافر فوّت على نفسه فرصة لطف معرفة الله على نفسه.
إذن لا ينافي لطف الإمامة غيبة الإمام (عليه السلام).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(14) كمال الدين: 145.

(٢٧)

كيف نشخّص الإمام عند خروجه؟
الشبهة الرابعة:
كيف سيعرف الاثنا عشرية الإمام المهدي - الغائب - عند خروجه بعد غيابه مئات السنين إن لم يقولوا بوجوب معرفته ذاتاً ولا صفةً؟!
الجواب:
قلنا إن الاثني عشرية يقولون بوجوب معرفة الإمام ذاتاً وصفة ليتم التكليف، وتتم الحكمة من وجوده كذلك.
أما معرفته عند خروجه، فإن آباءه الطاهرين (عليهم السلام) أحاطونا علماً بعلامات ظهوره، وتظافرت أحاديثهم وأقوالهم في هذا الشأن، فإذا تحققت هذه العلائم عرف المكلفون أن ظهوره قد حان واستطاعوا تشخيصه دون أدنى ريب، وإلى هذا أشار الإمام الصادق (عليه السلام) في الصحيح قال: (اِعرف العلامة، فإذا عرفتها لم يضرك تقدّم هذا الأمر أو تأخر).(15)
فأهمية معرفة علامات الظهور يتعلق بأهمية تشخيصه إذن، فلا مشكلة في شأن معرفته (عليه السلام) حتّى لو تباعدت مدة غيبته أو قربت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(15) مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم 2: 170.

(٢٨)

على أن الأئمّة (عليهم السلام) تطرقوا إلى مواصفاته البدنية وعلائمه الفارقة حتّى أن الذين تشرفوا برؤيته (عليه السلام) اعتمد بعضهم على ما روي من علاماته الشخصية فأعانهم ذلك على سرعة تشخيصه وسهولة معرفته.

* * *

(٢٩)

الفرق بين وجود الإمام في غيبته وعدم وجوده أصلاً
الشبهة الخامسة:
ما الفرق بين وجود الغائب وعدمه؟!
الجواب:
يظهر الجواب مما قلناه في الشبهة الثالثة، حيث ذكرنا فوائد وجود الإمام حتّى مع غيبته، وأنه كالشمس إذا جللها السحاب، وتطرقنا في موضع آخر إلى أن قاعدة اللطف تقتضي وجوده حتّى مع غيبته، فلا طعن إذن على غيبته من حيث فائدة وجوده، ومن حيث اللطف ووجوبه.
كما أن التمعن في فوائد وجوده يلمس حقيقة قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي) وهو تصديقٌ لوجود العترة التي لا تفترق عن القرآن إلى يوم القيامة.

* * *

(٣٠)

الحكمة لا تقتضي عدمه (عليه السلام) بل وجوده حتّى في غيبته
الشبهة السادسة:
إذا كان الغياب لحكمة ما؛ فلماذا لا تكون الحكمة سبباً لأن يكون معدوماً، حتّى إذا حان وقته أوجده الله؟!
الجواب:
إن انعدامه خلاف حكمة وجود الإمام، أي خلاف قاعدة اللطف التي تمكّن المكلف أن يكون قريباً للطاعة بعيداً عن المعصية، فمجرد وجوده لطف، وانعدامه خلافٌ لذلك اللطف، وعلى المكلفين طاعة الإمام واتباعه فلا يعقل طاعة معدوم واتباع غير موجود.

* * *

(٣١)

عصمة الإمام (عليه السلام)
الشبهة السابعة:
ما الفائدة من عصمة الإمام وعلمه وهو غائب، واذكروا لنا الفوائد العملية التي انتفع بها سابقاً وينتفع بها حالياً المسلمون عامة والشيعة خاصة من الإمام المهدي في فترة غيبته الطويلة؟!
الجواب:
إن من شرط الإمام عندنا هو القطع على عصمته، وعصمتهُ فرعُ علمهِ - في بحث ليس محله هنا - وإذا قطعنا بإمامة المهدي (عليه السلام) قطعنا بعصمته، على أن العصمة فائدتها تتعلق بوجوب طاعة غير المعصوم للمعصوم، ولا تضر غيبة الإمام في فائدة عصمته، لأن الإمام في غيبته يمارس مهامه كما في حضوره، وفائدة الناس من عصمته كفائدتهم من وجوده، وقد ذكرنا في جوابنا على الشبهة الثالثة بعض فوائده (عليه السلام) وهو في غيبته.

* * *

(٣٢)

علم الغيب والتفويض عند الأئمّة ماذا يعني؟
الشبهة الثامنة:
تحاول الاثنا عشرية إضفاء صفات على أئمّتها عامة وعلى الإمام المهدي - الغائب - خاصة، محاولة منهم إثبات فاعلية ووجود الإمام واستفادتهم منه حال غيابه، من تلك الصفات أنه يطوف العالم، ويعرف شيعته ويتصل بالخلّص منهم، ويلقي إليهم أوامره، وأنه يعلم الغيب ومفوض من الله بالتصرف في الكون، فسبحان الله، هل هذه إلّا صفات رب العالمين؟
الجواب:
تعتقد الإمامية أن الأئمّة لهم ما للأنبياء - إلّا النبوة - فهم خلفاؤهم وأوصياؤهم، وهم حجج الله تعالى بعد الأنبياء، ولكي تتم مهمة التبليغ ومقام الحجية عند الأئمّة فلا بدّ أن يكون ما للأنبياء، للأئمّة كذلك.

(٣٣)

وإذا ثبت ذلك، ثبت ما للأنبياء، للإمام المهدي (عليه السلام) كذلك، فطوافه في العالم - كما ورد في الشبهة - شبيهٌ بعيسى في طوافه بالعالم، فهو يجوب الآفاق، ويسيح في البلدان حتّى سمي المسيح لسياحته.
فقد روى الصدوق عن الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) أنه قال: (في القائم سنّة من موسى، وسنّة من يوسف، وسنّة من عيسى، وسنّة من محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم):
فأما سنّة موسى فخائف يترقب، وأما سنة يوسف فإن أخوته كانوا يبايعونه ويخاطبونه ولا يعرفونه، وأما سنّة عيسى فالسياحة، وأما سنّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) فالسيف).(16)
وفعلاً فكل ما كان للأنبياء فقد ورثه المهدي (عليه السلام)، لوحدة الغرض، ومهمة الرسالة.
أما قولكم: (يعلم الغيب) فلا يعلم الغيب إلّا الله تعالى، لقوله تعالى: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) ثمّ استثنى بقوله تعالى: (إِلّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) فللرسول القابلية على أن يكرمه تعالى بتعليم منه وليس من نفسه، وهو ما يتلاءم مهمة الرسول والأوصياء، كذلك لما تقتضيه مهمة التبليغ وحكمة الرسالة، فلا ينافي اختصاصه تعالى بعلم الغيب وما يفيضه على بعض عباده وصفوته من خلقه تحنناً منه وتكرّماً.
ولا يقتصر ذلك على النبي وأوصيائه، بل يعم المكلفين كذلك،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16) كمال الدين: 39.

(٣٤)

فإنهم يعلمون بعض المغيبات التي أخبر بها النبي وأهل بيته (عليهم السلام) كالقيامة وأحوالها، والنار وأهوالها، والجنّة ونعيمها، والساعة وأشراطها، والعرش والكرسي والملائكة.
إذن كل ما غاب عنك فهو غيب، ولله تعالى أن يُطلع غيبه لمن ارتضاه من رسول، ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) خير الرسل وأوصياؤه خير الأوصياء، فمن أنكر معرفة الغيب عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأوصيائه فقد اتّهمهم بعدم الأهلية، والأهلية هي ارتضاء الله تعالى لرسله المستحقين لمعرفة الغيب كما في قوله تعالى: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ)، والإمام الحجة ورث ذلك عن آبائه الطاهرين عن جده عليهم الصلاة والسلام، فلا محذور من أن يتصف الإمام (عليه السلام) بمعرفة الغيب كما أطلعه عليه ربه تعالى.
أما التفويض فلا يعني تعطيله تعالى، بل هو تأكيده على إرادته وسطوته، وتفويضه منطلقٌ من قدرته وهيمنته سبحانه وتعالى، وإذا عرفنا أن إرادة النبي وأهل بيته (عليهم السلام) هي إرادته تعالى، لا تتخلف عنها طرفة عين أبداً، علمنا أن التفويض لهم إعمالٌ لإرادته وتأكيده لها.
أي أن التفويض على ثلاثة أقسام قسم منها باطل ولا نقول به وقسمان صحيحان والقول بهما إثباتٌ لإرادته تعالى:
أما الأوّل: فهو التفويض في الخلق والإيجاد والرزق والإحياء والإماتة وهذا لا يقول به أحد، وقد أبطل ذلك الإمام الرضا (عليه السلام)

(٣٥)

بقوله: (اللهم من زعم أننا أرباب فنحن منه براء، ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق، فنحن عنه براء كبراءة عيسى بن مريم من النصارى)، وهذا التفويض باطل لا يقول به أحد من الإمامية.(17)
أما الثاني: فهو التفويض في الأحكام والأفعال بأن يثبت ما رآه حسناً ويبطل ما رآه قبيحاً، فيجيز الله تعالى لإثباته إياه.
والثالث: تفويض الإرادة، بأن يريد شيئاً لحسنه ولا يريد شيئاً لقبحه فيجيزه الله تعالى إياه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17) نعم، لا ننفي ذلك بالكلية، بل فوّض الله لحججه كل ما ذكرناه بإذنه تعالى، أي لا تتعدى إرادتهم إرادته تعالى، وهو أمرٌ ممكن في ظل ما أورده القرآن الكريم في إبراء الأكمه وإحياء الموتى، قال تعالى حكاية عن عيسى: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِ اللهِ) (آل عمران: 49)، وهذه سنةُ إبراهيم حين أمره الله تعالى أن يأخذ أربعة من الطير ثمّ أحياهن بدعائه إليه (وَإِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبِّ أَرِني‏ كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبي‏ قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى‏ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكيمٌ) (البقرة: 260)، بل قوم موسى أحيوا بأمر الله حين ضربوا الميت بجزء البقرة فأحياه الله وهم ليسوا أنبياء ولا أئمّة بل فوّض إليهم إحياء الميت بإذن الله تعالى (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى‏ وَيُريكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة: 73)، فالتفويض منسوبٌ إلى الأنبياء لكن بإذن الله تعالى، هذا التفويض القرآني - الذي لا يتعدى إرادة الله تعالى - موجود عند الأئمّة (عليهم السلام)، بل لم يقتصر ذلك على التفويض التكويني بل تعدى إلى التفويض التشريعي وهو ما يُطلق عليه بالولاية التكوينية والولاية التشريعية، وإذا كان الأمر كذلك فلا محذور من ذلك وما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) في الرواية هو فيما إذا قيل فيهم (عليهم السلام) بالتفويض البعيد عن إرادته تعالى فهذا ما لا تقول به الإمامية قطعاً وهو تفويضٌ باطل.

(٣٦)

والقسمان الأخيران لا يتنافيان مع ما ثبت من أنه لا ينطق عن الهوى إلّا بالوحي، لأن كل واحد منها ثبت من الوحي، إلّا أن الوحي تابع لإرادته يعني إرادة النبي، فأوحى إليه كما أنه أراد تغيير القبلة وزيادة الركعتين في الرباعية والركعة في الثلاثية وغير ذلك فأوحى الله تعالى إليه بما أراد.(18)
ولا نريد الإطالة في هذا البحث، وإنما أردنا توضيح معنى التفويض لكيلا تُعدُ تلك شبهةً فعلية.
إذن الإمام المهدي (عليه السلام) يطوف العالم ويعرف شيعته وأنه يعلم الغيب بالمقدار الذي ذكرناه، وأنه مفوضٌ إليه بما أوضحناه.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18) الأقسام الثلاثة من شرح أصول الكافي للمازندراني بتصرفٍ يسير 6: 53.

(٣٧)

الغيبة.. سنةٌ إلهية عند بعض الأنبياء دون بعض كما في بعض الأئمّة دون بعض
الشبهة التاسعة:
لم يرد أن أحد الأئمّة الاثني عشر غاب؛ فلماذا اختلفت السنة الإلهية في الأئمّة عند المهدي حتّى غاب هذا الزمن الطويل، خاصة وأن معظم الأئمّة الاثني عشر ينطبق عليهم نفس علة غياب المهدي وهي الخوف وعدم الناصر (كما تقولون)؟!
الجواب:
متى ما توفر مقتضى الغيبة عند أي إمام فإنه يغيب دون أدنى شك كما غاب الإمام المهدي، والغيبة هي سنة في بعض الأنبياء دون البعض الآخر، فمتى ما ألجأته ظروفه إلى الغيبة غاب، ألا ترى أن موسى (عليه السلام) غاب أربعين ليلة عن قومه ولم يغب مثله عيسى (عليه السلام) هذه المدة؟ وقد غاب عيسى في ظروف لم يغب فيها موسى وهكذا، فلا يعني عدم غيبة أحد الأنبياء وغيبة غيرهم ملاكاً على نبوة من غاب دون من لم يغب.
والحال كذلك عند الأئمّة (عليهم السلام) وقد عرفنا أن الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) احتجبا عن شيعتهما مدةً من الزمن، ومعنى هذا إمكانية غيبة أي إمام إذا اقتضت ظروفه ذلك.

(٣٨)

وإذا علمنا أن مهمة الإمام المهدي (عليه السلام) تختلف عن مهمة آبائه، ودعوته تبعث على قلق الظالمين إذا ما عرفوا أنه يدعو إلى إقامة دولة عدل إلهية عامة شاملة تتهاوى معها عروش الظالمين، علمنا دواعي حذر الحكام من هذه الدعوة وتوجسهم من بثها فهي تحريضٌ على معارضة مثل هكذا حكومات لا تقيم للعدل وزناً ولا ترى للقسط محلاً، ومتى ما كان هدف الإمام المهدي هذا فإن دواعي ملاحقة الظالمين له أكثر، مع أن آباءه لا يدعون إلى إقامة دولة على أنقاض دولة الظالمين وقد التزموا النهج السلمي مع الحاكم وهم مع هذا لم يسلموا من بطش الظالمين وملاحقتهم حتّى لم يبق أحد منهم إلّا وتعرض للتنكيل، ثمّ ينتهي بعد ذلك بقتله سماً وبمحاولات شتى تعرض إليها جميع المؤرخين. إذا عرفنا هذا، فإن الذي يدعو إلى الإطاحة بأنظمة الضلال حريٌ به أن يحفظ نفسه من كل محاولةٍ يسعى إليها الظالمون لتصفيته، والإمام المهدي يجب عليه الابتعاد عن مواطن الضرر، والتحفظ من الهلكة، حتّى يأذن الله له بالفرج والنصر على الظالمين. وهو لم يملك بعد مقومات التغيير وإقامة دولة الحق لعدم الناصر ووجود المؤازر.
والأهم من ذلك أن حفظ نفسه الشريفة من أهم مهامه، وذلك إذا تعرض الإمام للقتل كان ذلك انتهاءً لأمر الإمامة، أي نهايةً لوجود الحجة والتي بغيابها تسيخ الأرض بأهلها، فوجوده (عليه السلام) ضروري لئلا تخلو الأرض من حجة الله على أرضه.

* * *

(٣٩)

عدم جواز البداء في أمر الإمام المهدي (عليه السلام)
الشبهة العاشرة:
لماذا لا نجوز أن الله سبحانه وتعالى قد بدا له في أمره إماتته، ونقل المهدوية إلى غيره ممن سيولد لاحقاً، ويعيش حياةً طبيعية كسائر الأئمّة من آبائه؛ خاصة وأن هناك مرجحاً لذلك وهو طول غيبته التي لها إلى الآن مئات السنين؟!
الجواب:
البداء ليس أمراً ظنياً أو احتمالاً جزافاً، فإن البداء له مفهومه. وخلافه يُعد كفراً فيما اذا نُسبَ الجهل إليه، تعالى الله عما يصفون. فالبداء لا يطرأ في علمه تعالى فعلمه ثابت وحكمته معلومة لديه منذ الأزل، ومن نسب البداء في علمه تعالى؛ نسب الجهل له، ومن نسب الجهل له فقد كفر، ونحن منه براء، ولما كان القول بالبداء تختص به الإمامية دون غيرها، فإن الإمامية تقول إن البداء يعني جهل العباد بمقتضيات الأمر وشرائطه، فلكل أمر شرائطه الخاصة به المحققة له، وأي تخلّفٍ لهذه الشرائط يعدُ تخلفاً لتحقق الأمر، وظن الناس اشتباهاً بنسبة هذه الشرائط لتحقق الأمر الفلاني، سببٌ في جهل الناس بتحقق

(٤٠)

هذا الأمر، فإذا تخلّفت شرائط الحدوث تخلّف معها تحقق الأمر، فيكون بداءً في تحقق الأمر وعدم تحققه بسبب تحقق الشرط وعدم تحققه، وتخلّف المقتضي وعدم تخلّفه وهكذا، فإن البداء وإن نسب لله تعالى لفظاً بقولنا بدا لله شيء، فإن واقعه جهلٌ في علمنا نحن بشرائط الأمر ومقتضياته.
وما يخص الإمام المهدي (عليه السلام) فانا علمنا تحقق أمر وجوده ومقتضى غيبته بطريق يقيني عن أئمّتنا (عليهم السلام)، دون أدنى شك، بل اتفق جميع المسلمين - إلّا من شذ منهم - معنا في وجوده وغيبته، والاتفاق على شخصه بأنه محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام)، عندها لا مكان للبداء هنا في قضية الإمام الحجة طالما لم نجهل شروط قضيته والاتفاق على غيبته، وتواتر نسبه.
وشبهتكم في أن الله تعالى (قد بدا في أمره) باطلةٌ لأنها نسبةُ الجهل إليه تعالى، ولا جهل في علمه سبحانه عما يصفون، ولا شك في شخص الإمام المهدي المعروف بغيبته والمتواتر على نسبه.

* * *

(٤١)

لا معنى للتقية في أمر الإمام المهدي (عليه السلام)
الشبهة الحادية عشرة:
لماذا لا نجوّز أنه شخصية وهمية افترضت من قبل الاثني عشرية تقيةً لئلا يندثر مذهبهم بعد انعدام ذرية الحسن العسكري؛ خاصة وأن هناك مرجحاً لذلك وهو وجود العمل بنظرية التقية لدى الاثني عشرية، ودفاعهم عنها دفاعاً شديداً وتميزهم بهادون سائر المذاهب الإسلاميّة؟!
الجواب:
لم تتفرد الشيعة في ولادة الإمام المهدي بل هي وافقت - أو وافقها - العديد من الفرق الإسلاميّة، بل كلها بشكل يبعث على اليقين بتواتر ولادته عند الجميع، والشاذ منهم شذ عن هذا التواتر ولم يذعن إلى هذا التسالم.
نعم ما يميز الإمامية عن غيرهم، أن قضية الإمام المهدي (عليه السلام) تعاطوا معها بكل جدية وجعلوها هي الأمل الوحيد الذي يحقق آمالهم وينهي آلامهم، خلاف التيارات الدينية (الحاكمة) أو السياسية (المتدينة) التي جعلت قضية الإمام محاولة لتهديد عروشهم وانقضاضاً

(٤٢)

على ملكهم حتّى تعاملوا مع هذه القضية على أنها مسألة افتراضية دخلت الثقافة الإسلاميّة على الرغم من رواياتهم المتواترة في شأن وجود الإمام المهدي، سعياً منهم لإبعاد الذهنية العامة عن طموح الانتظار المهدوي الذي سيُلغي الاعتبار السياسي لهذه الاتجاهات ويتعاطى معها على أساس احتمالات بعيدة التحقق والوقوع.
ولم يقتصر الإقرار بولادة المهدي على الإمامية وحدهم بل شاركهم في ذلك أكابر علماء أهل السنة ومحدّثيهم وأكدوا على ولادته وأنه المولود من الحسن العسكري (عليهما السلام)، وهذه بعض شواهد من ذكر من علماء أهل السنة ولادته، وأقر بأنه محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام).
أوّلاً: محمّد بن طلحة الشافعي المتوفي سنة (652هـ) قال: محمّد بن الحسن الخالص بن عليّ المتوكل بن القانع بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين الزكي بن عليّ المرتضى أمير المؤمنين بن أبي طالب، المهدي الحجة الخلف الصالح المنتظر (عليهم السلام) ورحمته وبركاته. ثمّ قال:

فهذا الخلف الحجة قد أيّده الله * * * هدانا منهج الحق وآتاه سجاياه
وأعلى في ذرى العلياء بالتأييد مرقاه * * * وآتاه حلى فضل عظيم فتحلاّه

(٤٣)

وقد قال رسول الله قولاً قد رويناه * * * وذو العلم بما قال إذا أدرك معناه
يرى الأخبار في المهدي جاءت بمسماه * * * وقد أبداه بالنسبة والوصف وسماه
ويكفي قوله مني لإشراق محياه * * * ومن بضعته الزهراء مجراه ومرساه

إلى أن قال: فأما مولده فبسر من رأى في ثالث وعشرين من شعبان سنة 258هـ.
ثانياً: العلامة سبط ابن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة (654هـ):
قال: فصل في ذكر الحجة المهدي:
هو محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) وكنيته أبو القاسم، وهو الخلف الحجة صاحب الزمان القائم المنتظر والتالي، وهو آخر الأئمّة.(19)
ثالثاً: مؤرخ دمشق شمس الدين بن طولون الحنفي المتوفى سنة (953هـ): قال: وثاني عشرهم ابنه محمّد بن الحسن، وهو أبو القاسم محمّد بن الحسن بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهم).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19) تذكرة الخواص: 325.

(٤٤)

ثمّ قال: وقد نظمتهم على ذلك فقلت:

عليك بالأئمة الاثني عشر * * * من آل بيت المصطفى خير البشر
أبو ترابٍ حسنُ حسينُ * * * وبغض زين العابدين شين
محمد الباقر كم علمٍ درى * * * والصادق ادع جعفراً بين الورى
موسى هو الكاظم وابنه علي * * * لقبه الرضا وقدره علي
محمد التقي قلبه معمور * * * عليّ النقي دُره منثور
والعسكري الحسن المطهر * * * محمّد المهدي سوف يظهر(20)

رابعاً: الشيخ عبد الوهاب الشعراني المتوفى سنة (973 هـ): في كتابه اليواقيت والجواهر: أورد قول ابن عربي والشيخ حسن العراقي والشيخ علي الخواص حيث أثبتوا أن الإمام المهدي (عليه السلام) هو بن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وذكر ذلك مستدلاً على عقيدته.(21)
خامساً: ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة:
قال: أبو القاسم محمّد الحجة وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة ويسمى القائم المنتظر.(22)
سادساً: ابن الصباغ المالكي المتوفي سنة (855 هـ):
في الفصول المهمة، الفصل الثاني عشر، في ذكر أبي القاسم محمّد الحجة الخلف الصالح ابن أبي محمّد الحسن الخالص: قال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(20) الأئمّة الاثني عشر لابن طولون: 117.
(21) اليواقيت والجواهر: 562.
(22) الصواعق المحرقة: 208.

(٤٥)

صاحب الإرشاد:... كان الإمام بعد أبي محمّد الحسن ابنه محمّداً، ولم يخلف أبوه ولداً غيره، وخلفه أبوه غائباً مستتراً بالمدينة، وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين.
ولد أبو القاسم محمّد بن الحجة بن الحسن الخالص بسر من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة، وأما نسبه أباً وأماً فهو أبو القاسم محمّد الحجة بن الخالص بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين.
وأما أمّه فأم ولد يقال لها نرجس خير أمة، وقيل اسمها غير ذلك، وأما كنيته فأبو القاسم وأما لقبه فالحجة والمهدي والخلف الصالح والقائم المنتظر وصاحب الزمان وأشهرها المهدي.(23)
سابعاً: أحمد بن يوسف القرماني الحنفي المتوفى سنة (1019هـ): ذكر في أخبار الدول وآثار الأوّل في الفصل الحادي عشر، في ذكر أبي القاسم محمّد الحجة الخلف الصالح:
وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين آتاه الله فيها الحكمة كما أوتيها يحيى (عليه السلام) صبياً، وكان مربوع القامة، حسن الوجه أقنى الأنف وأجلى الجبهة.(24)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(23) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 287.
(24) أخبار الدول: 353.

(٤٦)

ثامناً: ابن خلكان في وفيات الأعيان:
قال في ترجمة الإمام العسكري (عليه السلام) ما نصه:
أبو محمّد الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى الرضا بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنهم)، أحد الأئمّة الاثني عشر على اعتقاد الإمامية، وهو والد المنتظر صاحب السرداب، ويعرف بالعسكري، وأبوه يعرف أيضاً بهذه النسبة.(25)
تاسعاً: الحافظ أبو الفتح محمّد بن أبي الفوارس الشافعي:
روى في كتابه الأربعين رواية طويلة ذكر فيها أئمّة آل البيت (عليهم السلام) ثمّ قال في آخرها:
ومن أحب أن يلقى الله (عزَّ وجلَّ) وهو من الفائزين فليوال ابنه الحسن العسكري ومن أحب أن يلقى الله (عزَّ وجلَّ) وقد كمل إيمانه وحسن إسلامه فليوال ابنه صاحب الزمان المهدي.(26)
عاشراً: أبو المجد عبد الحق الدهلوي البخاري الحنفي المتوفى سنة (1052هـ) قال في كتابه تحصيل الكمال:
وأبو محمّد الحسن العسكري ولده محمد (رضي الله عنهما) معلوم عند خواص أصحابه وثقاته.(27)
حادي عشر: ابن شحنة الحنفي:
ذكر في تأريخه المسمى بروضة المناظر في أخبار الأوائل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(25) وفيات الأعيان 1: 238.
(26) كشف الأستار: 61، عن كتاب الأربعين لأبي الفتح الشافعي.
(27) كشف الأستار: 61، عن كتاب تحصيل الكمال.

(٤٧)

المطبوع بهامش مروج الذهب في المطبعة الأزهرية المصرية سنة (1303هـ) الجزء الأوّل صفحة 294: وولد لهذا الحسن - يعني الحسن العسكري (عليه السلام)- ولده المنتظر ثاني عشرهم، ويقال له المهدي والقائم والحجة محمّد، ولد في سنة خمس وخمسين ومائتين.(28)
ثاني عشر: أبو المعالي محمّد سراج الدين الرفاعي:
ذكر في كتابه (صحاح الأخبار في نسب السادة الفاطمية الأخيار) في ترجمة الإمام الهادي (عليه السلام) ما نصه:
وأما الإمام عليّ الهادي ابن الإمام محمّد الجواد (عليهما السلام) ولقبه التقي والعالم والفقيه والأمير والدليل والعسكري والنجيب، ولد في المدينة سنة اثنتي عشرة ومائتين من الهجرة، وتوفي شهيداً بالسم في خلافة المعتز العبّاسي يوم الاثنين لثلاث ليالٍ خلون من رجب سنة أربع وخمسين ومائتين، وكان له خمسة أولاد، الإمام الحسن العسكري والحسين ومحمّد وجعفر وعائشة.
فأما الحسن العسكري فأعقب صاحب السرداب الحجة المنتظر ولي الله الإمام محمّد المهدي (عليه السلام).(29)
ثالث عشر: تقي الدين بن أبي منصور:
ذكر الشعراني عنه كلاماً إلى أن يقول: فهناك يترقب خروج المهدي (عليه السلام)، وهو من أولاد الإمام الحسن العسكري ومولده (عليه السلام) ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وهو باق إلى أن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(28) منتخب الأثر: 427.
(29) السابق.

(٤٨)

يجتمع بعيسى بن مريم (عليهما السلام) فيكون عمره إلى وقتنا هذا وهو سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، سبعمائة سنة وست سنين.(30)
رابع عشر: الشيخ حسن العراقي:
هو الذي أخبر تقي الدين بن أبي منصور بوجود المهدي (عليه السلام) وهو بن الحسن العسكري (عليه السلام) فقال: هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كوم الريش المطل على بركة الرطل بمصر المحروسة، عن الإمام المهدي حين اجتمع به.(31)
خامس عشر: صلاح الدين الصفدي:
قال في ينابيع المودة: قال الشيخ الكبير العارف بأسرار الحروف صلاح الدين الصفدي في شرح الدائرة:
إن المهدي الموعود هو الإمام الثاني عشر من الأئمّة، أوّلهم سيدنا عليّ وآخرهم المهدي (رضي الله عنهم) ونفعنا بهم.(32)
هذه بعضُ نماذج ما ورد عن علماء أهل السنة من الإقرار والاعتراف بولادة المهدي، وأنها حقيقة لا يمكن تغاضيها، ولو أردنا استقصاء كل ما ورد عنهم لما استطاعت هذه الدراسة أن تستوعب أقوالهم، ولا حصرت جميع أخبارهم، وإنما حاولنا أن نستعرض بعضها تذكيراً لهذا السائل عن كون ولادة الإمام المهدي أمراً يختص به الإمامية وأنها مسألة دافعها التقية، وهذا غريب حقاً، إذ لا داعي للتقية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(30) اليواقيت والجواهر للشعراني: 562.
(31) اليواقيت الحسان: 562.
(32) كشف الأستار: 77.

(٤٩)

هنا في أمر ولادة الإمام المهدي، ولا مقتضي يبرر استخدام التقية في هذه المسألة، إذ التقية إما لدفع أمر مخوف، أو لتجنب ضرر معين وكلا المقتضيين لا يتوفران في مسألة الإمام المهدي ليجعلا الإمامية مدفوعين تقيةً لذكر ولادته (المفترضة)، وجميع مقتضيات التقية هنا لدفع ضرر محتمل أو لجلب منفعةٍ محتملة غير واردتين في هذا الشأن، وما ارتكبه المستشكل من تمويه غير حقيقي من أن التقية مقتصرة على الإمامية، في غير محله، فالتقية قضية إسلاميّة أكدها القرآن الكريم بقوله: (إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمانِ) فضلاً عن كونها قضية إنسانية يلجأ إليها الإنسان بفطرته دفعاً لخطر يداهمه، أو ضرر محتمل يتقيه.

* * *

(٥٠)

كيف وردت أخبار ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)
الشبهة الثانية عشرة:
كيف تقبلون رواية ولادة الإمام المهدي عن امرأة؛ واحدة فقط وهي جارية أبيه (نرجس) أم أن هناك رواة غيرها، ومن هم؟!
الجواب:
لم تقتصر رواية ولادة الإمام المهدي على امرأة واحدة فقط، ولم يُسمع من السيدة نرجس رضوان الله عليها روايةً عن ولادته، نعم كانت هناك مشاهدات للسيدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) تكفلت في نقل مشاهداتها ضمن روايةٍ صحيحة - ذكرت في محلها من كتب الإمامية فضلاً عن كتب غيرهم - وحاصل هذه الرواية أن الإمام العسكري (عليه السلام) استدعاها ليلة ولادته، ورأت في ولادته (عليه السلام) ما أبهرها ثمّ ناولته إلى أبيه بعد ذلك وانقطعت السيدة حكيمة عن رؤيته إلّا بعض الأحيان وكانت تشاهده في أدواره المختلفة من مرحلة الولادة إلى الرضاعة إلى الصبا، حتّى أدركته بعيد وفاة أبيه (عليه السلام).
على أن رواية الولادة الميمونة لم تقتصر على السيدة حكيمة فحسب، بل سعى الإمام العسكري (عليه السلام) إلى وقوف بعض ثقاته وشيعته على أمر ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) وضمن عدة أساليب:
 

(٥١)

أوّلاً: أسلوب المراسلات:
حيث عمد الإمام العسكري (عليه السلام) إلى أن يراسل بعض شيعته في أمر ولده (محمّد) كما في رسالته الموجهة إلى أحمد بن إسحاق، فقد جاء فيها:
(ولد المولود، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً، فانا لم نظهر عليه إلّا الأقرب لقرابته، والمولى لولايته، أحببنا إعلامك ليسرّك الله به كما سرّنا والسلام).(33)
فقد حاول الإمام (عليه السلام) أن يبث بعض أخبار ولادة ولده (محمّد) بشكل حذر يقتصر على خيرة ثقاته، وأقرب خاصته.
ثانياً: أسلوب المشاهدة:
كان لهذا الأسلوب أثره في شياع ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، فإلى جانب حذر الإمام العسكري وترقبه من النظام والتكتم على ولادة ولده المهدي (عليه السلام)، عمد الإمام العسكري إلى أن يوقف بعض أصحابه (مشاهدةً) على ولادة ولده (محمّد (عليه السلام)).
فقد روى الصدوق بسنده عن محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) ومعاوية بن حكيم ومحمّد بن أيّوب بن نوح قالوا: عرض علينا أبو محمّد الحسن بن عليّ (عليه السلام) ونحن في منزله وكنا أربعين رجلاً فقال: (هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما أنكم لا ترونه بعد يومكم هذا).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(33) بحار الأنوار 5: 16.

(٥٢)

قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلّا أيام قلائل حتّى مضى أبو محمّد (عليه السلام).(34)
وروى الشيخ المفيد بسنده عن محمّد بن إسماعيل بن موسى بن جعفر - وكان أسن شيخ من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالعراق - قال: رأيت بن الحسن بن عليّ بن محمّد (عليهم السلام) بين المسجدين وهو غلام.(35)
وروى عن عمر الأهوازي قال: أرانيه أبو محمّد وقال: (هذا صاحبكم).(36)
وعن أحمد بن إسحاق قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ (عليهما السلام) وأنا أريد أن أسأله عن الخلف بعده، فقال لي مبتدئاً: (يا أحمد بن إسحاق، إن الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم، ولا تخلو إلى يوم القيامة من حجة الله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه ينزل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض). قال: فقلت: يا بن رسول الله فمن الإمام والخليفة بعدك؟
فنهض (عليه السلام) فدخل البيت ثمّ خرج وعلى عاتقه غلام كأن وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء ثلاث سنين فقال: (يا أحمد بن إسحاق لولا كرامتك على الله وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، انه سمي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكنيّه الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً، يا أحمد بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(34) كمال الدين وتمام النعمة 2: 399.
(35) الإرشاد للشيخ المفيد 2: 353 و354.
(36) السابق.

(٥٣)

إسحاق مثله في هذه الأرض مثل الخضر (عليه السلام) ومثله كمثل ذي القرنين، والله ليغيبنّ غيبةً لا ينجو فيها من التهلكة إلّا من يثبته الله على القول بإمامته ووفقه للدعاء بتعجيل فرجه...) إلى آخر الرواية التي يذكر فيها أنه تحدّث مع المهدي (عليه السلام).(37)
وعن يعقوب بن منفوس قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ (عليهما السلام) وهو جالس على دكان في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل فقلت له: سيدي من صاحب هذا الأمر؟ فقال: (ارفع الستر)، فرفعته، فخرج إلينا غلام خماسي له عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين أبيض الوجه، دري المقلتين، شثن الكفين، معطوف الركبتين، في خده الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمّد (عليه السلام) فقال: (هذا صاحبكم)، ثمّ وثب فقال له: (يا بني ادخل إلى الوقت المعلوم)، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثمّ قال لي: (يا يعقوب أنظر من في البيت) فدخلت فما رأيت أحداً.(38)
هذه بعض مشاهدات الذين التقوا بالإمام المهدي (عليه السلام) فضلاً عن رواية أبيه وعمّته وغيرهما عن وقائع ولادته.
فلم يقتصر الأمر في ذلك على والدته في خبر ولادته وإن كنا لم نقف على روايةٍ عن والدته في هذا الشأن.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(37) بحار الأنوار 52: 23.
(38) السابق.

(٥٤)

إمكانية إقامة الحدود في زمن الغيبة
الشبهة الثالثة عشرة:
كيف تجب الحدود على أهلها في حال الغيبة، أم أنها تسقط، وهل يجوز سقوطها مئات السنين؟ وما هي الحكمة إذن من تشريعها؟!
الجواب:
لا تسقط الحدود في حال الغيبة، فهي غير متعلقة بوجود الإمام أو غيبته، فالحكم قائم دون الحاجة إلى حضور الإمام، والحدود يقيمها المجتهد العدل نيابة عن الإمام، إذ تنفيذ الحد لا يتعلق فعلاً بالإمام وإنما وكيله هو الذي يقيم الحدود وينفذها، ماذا لو كان الإمام في بلد بعيد الشقة عن المحدود، هل يعطل الحد حتّى حضور الإمام؟ ونحن نعلم أن المسلمين أقاموا الحدود بعيداً عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) وعن الخلفاء كذلك حيث أوكلت مهمة إقامتها إلى القاضي بعد حكمه بالبينة والشهادة ولا علاقة للحكم بإقرار الإمام أو عدمه. إذن فغيبة الإمام لا تمنع من إقامة الحدود وتنفيذها.
نعم، الأمر يتعلق ببسط يد الإمام وعدم بسطها إذ لا يستطيع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) من بسط نفوذهم في ذلك الوقت فهم يعيشون

(٥٥)

زمن تقية ألجأتهم إلى السكوت عن إقامة الحدود وعدم التصدي لهذا الأمر، في حين يحق للفقيه أن يقيم الحد بنيابته عن الإمام (عليه السلام) فيما إذا أمِنَ الضرر، وارتفع المحذور، وبُسطت يده في التصدي لهذا الأمر، فالقضية إذن في زمن الغيبة تتعلق بإمكانية إقامة الحد من قبل وكلاء الإمام وهم العلماء، فالإمام هنا بمنأى عن يد الظالمين. وتطلع الأمّة للعلماء في قدرتهم لممارسة حق إقامة الحدود هو بعدم التعرض لمحظورية الأنظمة الحاكمة.

* * *

(٥٦)

المجمل والمتشابه في حديث الأئمّة (عليهم السلام)
الشبهة الرابعة عشرة:
في حديث الأئمّة مجمل ومتشابه وتقية، فمن أين لنا بإمام الآن في غياب المعصوم يبين لنا كل ذلك؟!
الجواب:
إن لعلماء الإمامية دوراً مهماً في تعاهد ما ورد عن الأئمّة (عليهم السلام) وبيان المجمل والمتشابه، فقد حرر علماء الإمامية أصول الفقه وآليات الاجتهاد ليتمكن الفقيه من استنباط قضية فقهيةٍ أو مسألةٍ أصولية من خلال ما تتوصل إليه قريحته الاستنباطية وملكته الاجتهادية، فعلم الأصول تتكفل بعض مباحثه عن جهة الصدور وهل كان إلقاء الحديث لتقية من قبل الإمام (عليه السلام) أم لا؟ فضلاً عن بحوث التعارض التي تُظهر المرجحات الدلالية والسندية بين الحديثين أو الأحاديث المتعارضة.
أي كان أئمّة آل البيت (عليهم السلام) يقدمون لأصحابهم ما يمكّنهم من استنباط المسألة الفقهية والإفتاء على ضوئها، روى الكشي عن محمّد بن قولويه قال: حدّثني سعد بن عبد الله قال: حدّثني محمّد بن

(٥٧)

الحسين بن أبي الخطاب عن محمّد بن سنان عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يوماً ودخل عليه الفيض بن المختار فذكر له آية من كتاب الله (عزَّ وجلَّ) تأولها أبو عبد الله (عليه السلام) فقال له الفيض: جعلني الله فداك، ما هذا الاختلاف الذي بين شيعتكم؟ قال: (وأي اختلاف يا فيض؟) فقال له الفيض: إني لأجلس في حلقهم بالكوفة فأكاد أشك في اختلافهم في حديثهم، حتّى أرجع إلى المفضل بن عمر فيوقفني من ذلك على ما تستريح إليه نفسي، ويطمئن إليه قلبي.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (أجل هو كما ذكرت يا فيض، إن الناس أولعوا بالكذب علينا، كأن الله افترضهُ عليهم لا يريد منهم غيره. واني أحدّث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتّى يتأوله على غير تأويله، وذلك أنهم لا يطلبون بحديثنا وبحبنا ما عند الله وإنما يطلبون به الدنيا، وكل يحب أن يدعى رأساً، إنه ليس من عبد يرفع نفسه إلّا وضعه الله، وما من عبد وضع نفسه إلّا رفعه الله وشرفه.
فإذا أردت بحديثنا فعليك بهذا الجالس) وأومأ بيده إلى رجل من أصحابه، فسألت أصحابنا عنه فقالوا: زرارة بن أعين.(39)
وفي حديث آخر روى الكشي بسنده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) عن سليمان بن خالد الأقطع قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (ما أجد أحداً أحيى ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلّا زرارة وأبو بصير ليث المرادي، ومحمّد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(39) اختيار معرفة الرجال: 347.

(٥٨)

هؤلاء حفاظ الدين وأمناء أبي (عليه السلام) على حلال الله وحرامه وهم السابقون إلينا في الدنيا والسابقون إلينا في الآخرة.(40)
هذا في زمن حضور الإمام (عليه السلام) حيث وجّه شيعته إلى رواة حديثهم ليستنبطوه ويحدّثوا به شيعتهم فكيف بغيبة الإمام، فالحاجة إلى العلماء ورواة الحديث أكبر والداعي لذلك أشد وأكثر.
فما يعترضنا من مجمل ومتشابه نرجع به إلى رواة حديثهم وهم العلماء الذين أنعم الله عليهم بمعرفة هذه الأحاديث وأوقفوا منها الأحكام وأوثقوا على شرائع الدين وسُنة سيد المرسلين.
على أن المجمل والمتشابه لم يقتصر في وجوده على أقوال الأئمّة (عليهم السلام)، بل ذلك مطردٌ حتّى في أقوال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) فما يقول المستشكل إذا ورد هذا المجمل والمتشابه في أقواله (صلّى الله عليه وآله وسلم).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(40) المصدر نفسه.

(٥٩)

عدم الافتراق بين القرآن والعترة
الشبهة الخامسة عشرة:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض) فأين الثقل الثاني الآن، وما تفسير عدم مفارقته للقرآن في زمن الغيبة في ظل النظرية الاثني عشرية؟!
الجواب:
يُستدل بالحديث على ثبوت عصمة أهل البيت (عليهم السلام)، وعدم الافتراق بمعنى عدم بطلان عصمتهم، فكما أن القرآن معصومٌ عن الخطأ فكذلك أهل البيت (عليهم السلام) معصومون عن الخطأ عمداً وسهواً، وهذا من جملة ما استدل به الإمامية على إثبات عصمتهم (عليهم السلام).
والافتراق بمعنى الابتعاد، والغيبة لا تعني الافتراق والابتعاد المادي والجسدي، والحضور وعدم الحضور ليس له دلالة على الافتراق وعدمه، بل التمسك بما جاء عنهم صلوات الله عليهم وأنهم عِدلُ القرآن والإقرار بعدم افتراق نهجهم عن القرآن هو المقصود النبوي من الحديث. وخلافه يعني قراءة الحديث قراءة ساذجة سطحية

(٦٠)

تودي بالحديث ومقصوده، وتُفرغ الحديث عن محتواه، كما أن الحديث يشير إلى قضية مهمة، وهي عدم انقطاع الإمامة بحال واستمرارها طالما استمر وجود القرآن، فعدم الافتراق بين القرآن والعترة يعني عدم انقطاع العترة بوجود الإمام، كما أن القرآن لا يرتفع فكذلك الإمامة لا ترتفع، فهما متلازمان غير منقطعين إلى يوم القيامة. ولا يقتصر هذا الفهم على الفهم الإمامي وحده بل هذا فهم المسلمين عموماً - إلّا من شذ عنهم - وقد أشار ابن حجر إلى هذا الحديث وشهرته بل تواترته حيث تُعدُ قراءة ابن حجر لهذا الحديث من أنضج وأرشد قراءة يلتفتُ إليها أحد أكابر أهل السنة إذ قال:
تنبيه: سمى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) القرآن وعترته، وهي بالمثناة الفوقية الأهل والنسل والرهط الأدنون (ثقلين)، لأن الثقل كل نفيس خطير مصون وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن للعلوم اللدنية والأسرار والحكم العلية، والأحكام الشرعية. ولذا حث (صلّى الله عليه وآله وسلم) على الاقتداء والتمسك بهم، والتعلم منهم وقال: (الحمد لله الذي جعل فينا، الحكمة أهل البيت) وقيل: سميا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما، ثمّ الذين وقع الحث عليهم منهم، إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض. ويؤيده الخبر السابق: (ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)، وتميزوا بذلك عن بقية العلماء لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وشرفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة وقد مر بعضها وسيأتي الخبر الذي في قريش، (وتعلموا منهم فإنهم أعلم منكم) فإذا ثبت هذا

(٦١)

العموم لقريش فأهل البيت أولى منهم بذلك لأنهم امتازوا عنهم بخصوصيات لا يشاركهم فيها بقية قريش ثمّ قال:
وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك... إلى آخر حديثه.(41)
إذن، فالتمسك بالعترة لا علاقة له بحضور الإمام أو غيبته، والحديث يشير إلى عدم تعطيل واحد من الكتاب أو العترة، وإلّا لزم تعطيل الآخر لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (لن يفترقا) ولن تفيد التأبيد، أي لا يمكن افتراقهما أبداً، ولما كان القرآن يجري إلى يوم القيامة دون تخلّفٍ أي لا يمكن أن نتصور تعطيله لحظةً واحدة، وهو ما أفاده محمّد بن عليّ الباقر (عليهما السلام) لعبد الرحيم القصير في قوله تعالى: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ).
حيث روى عبد الرحيم القصير قال: كنت يوماً من الأيام عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: (يا عبد الرحيم) قلت: لبيك، قال: (قول الله (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) إذ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): أنا المنذر وعليّ الهاد، ومن الهاد اليوم؟) قال: فسكتُ طويلاً ثمّ رفعتُ رأسي فقلت: جعلت فداك هي فيكم تتوارثونها رجل فرجل حتّى انتهت إليك، فأنت جعلتُ فداك الهاد، قال: (صدقت يا عبد الرحيم، إن القرآن حي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(41) الصواعق المحرقة لابن حجر: 151.

(٦٢)

لا يموت، والآية حيّة لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين)، وقال عبد الرحيم: قال أبو جعفر (عليه السلام): (إن القرآن حي لم يمت، وانه يجري كما يجري الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا).(42)
فقوله (عليه السلام): (إن القرآن حي لا يموت) وقوله: (فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن وأنها جارية في الباقين كما جرت في الماضين) دليل الملازمة بين القرآن وبين العترة وعدم الانفكاك بينهما، وهذا يُبطل قول القائل إن غيبة الإمام (عليه السلام) توجب افتراق القرآن عن العترة لما عرفت أن الإمام مع غيبته له حضورٌ ووجود كوجود الشمس إذا جللها السحاب وقد مر ذكر ذلك.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(42) تفسير العياشي 2: 203.

(٦٣)

حفظ النفس لا يعني جبناً، وخلافه تهور غير محمود
الشبهة السادسة عشرة:
كيف تجمعون بين وصفكم الإمام بالخوف، وبين المعلوم ضرورة من وجوب اشتراط الشجاعة فيه، إنكم تجوزون الجبن في حقه؟
الجواب:
لا علاقة بين تحرز الإنسان من خطر محدق، وبين وصفه بالجبن أو الشجاعة، فالفطرة تقضي بحفظ الإنسان نفسه، إذا ما هدده خطرٌ ما، وعدم التحفظ عن الخطر والوقوع في الهلكة تهورٌ منهيٌ عنه.
ولا يعني أخذ الحيطة للشجاع عند منازلته في الحرب وتوقيه من القتل بالفرار من العدو كحالةِ احتياط يتحفظ بها على نفسه أو ارتداء ما يقيه ويحميه من لامة حرب يدفعُ بها عن نفسه، لا يعني ذلك جبناً.
فلا علاقة بالتحفظ وأخذ الحذر بالشجاعة، فالشجاع تقتضي حكمته التحرز وحفظ النفس، ألا ترى اختفاء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الغار عند هجرته إلى المدينة توقياً من الأعداء عند ملاحقتهم له؟ وكذلك خوف موسى وخروجه من مصر

(٦٤)

خائفاً يترقب حتى دعا ربه أن ينجيه من القوم الظالمين (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّني‏ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ)(43) فحالة الخوف لحفظ النفس أقرها القرآن وأيدتها النواميس الطبيعية. واختفاء الأنبياء الذين واجهوا تهديداً من قبل أعدائهم، تشهد به وقائع التاريخ. والإمام المهدي (عليه السلام) بمقتضى العقل والفطرة يجب أن يحفظ نفسه وأن لا يعرّض نفسه لكيد الأعداء وملاحقة الظالمين، فكانت غيبته حكمة لا تعارضها النواميس ويقتضيها حاله صلوات الله عليه.
ولا ننسى ما تعرضنا إليه من وجوب حفظ نفسه الشريفة وذلك لئلا تنقطع الإمامة بقتله، وتخلو الأرض من الحجة بفقدانه فضلاً عن كونه مكلفاً بإقامة دولة الحق على يديه صلوات الله عليه.

* * *

 

(٦٥)

الراية اليمانية.. أهدى الرايات
الشبهة السابعة عشرة:
جاء في الأحاديث أن أنصار الإمام المهدي صلوات الله عليه هم أهل اليمن وأهل خراسان، وأن الراية اليمانية هي أهدى الرايات.
فما سبب أفضلية الراية اليمانية؟ هل لأنهم زيدية أم لأنهم سيصبحون اثني عشرية؟
الجواب:
نعم ورد في الأحاديث ذلك، ولكن بعض أنصاره (عليه السلام) من أهل اليمن ومن أهل خراسان ولا ينافي ذلك أن من بقية البلدان مَن سيحظى بنصرة الإمام (عليه السلام).
أما كون راية اليماني هي أهدى، فيبدو أن راية اليماني رايةٌ خالصةٌ بولائها للإمام (عليه السلام)، وأن اليماني وأصحابه يرون وجوب نصرة الإمام تكليفاً خالصاً لا يشوبه شيء، أي الولاء الكامل والطاعة التامة للإمام (عليه السلام) من قبل اليماني وجيشه، هذا من ناحية.
ومن ناحيةٍ أخرى فإن عقيدة اليماني الاثني عشرية وأصحابه

(٦٦)

الميامين تؤهلهم إلى أن تكون رايتهم أهدى الرايات، وليس لزيديتها كما ورد في السؤال.
بل العكس فإن خليط الزيدية الذين سيكونون مع الخراساني هو سببٌ مهم في تفضيل راية اليماني على راية الخراساني، وفي تعبير الإمام الباقر (عليه السلام) عن راية اليماني بأنها أهدى كما ورد في النص (وليس في الرايات أهدى من راية اليماني، هي راية هدى لأنه يدعو إلى صاحبكم)(44) فتعليله بقوله (عليه السلام): (لأنه يدعو إلى صاحبكم) واضح من كون اليماني يدعو مباشرةً لنصرة الإمام (عليه السلام)، في حين سيكون الجيش الخراساني ذا تركيبة لخليطٍ سياسي متنوع تحمل معها توجهاتٍ سياسيةٍ مختلفة، وأكثرها خطراً هو ذلك التوجه الزيدي الذي يرى في الخراساني أنه إمام مفترض الطاعة. وكون كل من قام بالسيف وتصدى فهو الإمام المفترض الطاعة. وتكون نصرتهم للخراساني بهذا الداعي البعيد عن نصرة الإمام وتأييده، معتقدين أن خروجهم مع الخراساني هو لهذا الداعي وليس لغيره، لذا ورد أن هؤلاء الخليط من الجيش الخراساني سيعارضون الإمام (عليه السلام) ويعترضون عليه وهم الزيدية كما ورد في نص رواية أبي عبد الله (عليه السلام) إلى أن قال في حال الخراساني الحسني: ويبايعه - أي المهدي (عليه السلام) - سائر العسكر الذي مع الحسني إلّا أربعين ألفاً أصحاب المصاحف المعروفين بالزيدية فإنهم يقولون: ما هذا إلّا سحر عظيم، فيختلط العسكر فيقبل المهدي (عليه السلام) على الطائفة المنحرفة فيعظهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(44) البحار 52: 232.

(٦٧)

ويدعوهم ثلاثة أيام، فلا يزدادون إلّا طغياناً وكفراً، فيأمر بقتلهم فيقتلون جميعاً ثمّ يقول لأصحابه: (لا تأخذوا المصاحف ودعوها تكون عليهم حسرة كما بدلوها وغيروها وحرّفوها ولم يعملوا بما فيها).
إذن فجيش الخراساني - بما فيه هذا الخليط الزيدي - سيشكل تهديداً لحركة الإمام (عليه السلام) وسيعاجلهم الإمام بالتحدي وإحباط محاولاتهم، على أن الزيدية هؤلاء إما أن يكونوا زيديةً حقيقة، مذهباً واتجاهاً، وإما أن يكونوا زيديةً نعتاً لعقائدهم ومبانيهم في كون كل من تصدى بالسيف كان إماماً يجب اتِّباعه وطاعته.
هذا ما دعا الروايات إلى الإشارة بموقف اليماني ورايته التي هي راية هدى. ولا ننسى أن الخراساني سليماً في توجهاته صحيحاً في معتقداته، إلّا أن الكلام في بعض أصحابه وأتباعه.

* * *

(٦٨)

اختلاف الناس في أمر الإمام كما يدعيه المستشكل
الشبهة الثامنة عشرة:
كيف تقيم الاثنا عشرية الحجة على الذين لا يقولون بإمامة، بل بولادة محمّد بن الحسن والذين هم راغبون في النصح وباحثون عن الحقيقة، وهم يسمعون ويقرأون أن القائلين بإمامة الحسن العسكري اختلفوا بعد وفاته في تحديد هوية وشخصية الإمام إلى أربع عشرة فرقة، وان هؤلاء المختلفين أكثرهم من أهل الصلاح والنسك والعبادة والعلم، كما هو معروف في كتب الجرح والتعديل عند الإمامية.
الجواب:
إن القول بوجوب وجود خليفة لهوَ مما لا شك فيه. فالقرآن أشار إلى ضرورة وجود الخليفة قبل أن يخلق الله الخليقة حيث قال (عزَّ وجلَّ): (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(45) فأعلم ملائكته بأنه جعل خليفة قبل أن يخلق العباد، لتتم حكمته تعالى من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(45) البقرة: 20.

(٦٩)

وجود خلقه وهي عبادته تعالى، وإذا كان الغرض من خلقهم هو عبادته فإنهم يحتاجون إلى من يرشدهم لأحكام الله تعالى ويبلغهم رسالاته، وهذا لا يقتصر على زمانٍ دون زمان، ولا على أمّةٍ دون أخرى، إنما تجري الحكمة مجرىً واحداً لا تتخلف ولا تتبدل، وإذا كان الأمر كذلك.
فلا بدّ من وجود خليفة في كل زمان، والحجة لا ترتفع بأي حال وهو قول الصادق (عليه السلام): (الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق).(46) فإذن حتمية وجود الحجة تنشأ من حتمية الطاعة المنبعثة من عبادة الخلق لخالقهم تعالى، وهذا الأمر لا يتحقق إلّا مع وجود الحجة في كل زمان. وقد ورد عن عليّ (عليه السلام) بأسانيد معتبرة: (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجةٍ ظاهر مشهور أو باطن مغمور لئلا تبطل حجج الله وبيّناته).(47)
فبطلان حجج الله وبيناته بسبب عدم من يبلغها ويوصلها إلى الناس، ناشئة من عدم وجود الحجة المبلّغ.
إذا اتضح ذلك، عرفنا أن عدم وجود الحجة في أي زمان سبيل إلى زوال حكمة وجود الخلق وهي عبادته تعالى، فإذن لا بدّ من حجةٍ لزماننا وهو خليفة الحسن العسكري، ولده محمّد المنتظر.
وما ذكره المستشكل من تعدد الآراء بعد شهادة الإمام العسكري (عليه السلام) إلى أربع عشرة فرقة فغير وارد في تاريخ الملل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(46) كمال الدين وتمام النعمة: 16.
(47) كمال الدين وتمام النعمة: 278.

(٧٠)

والفرق والأهواء، ولا يعنينا زيادة أو نقصان هذه الفِرق - إذا صح تعداد المستشكل لهذه الفِرق - فالأمر طبيعي في اختلاف الناس عند مسألةٍ ما، وإمكانية تفسير الآراء واتباع الأهواء أمر يفترضُ فيه تعدد الاتجاهات والفِرق. وهو أمرٌ واردٌ وممكن وليس الأهمية في إحصاء هذه الفرق، بل المهم أن نعرف أن تعدد هذه الفرق وتشتت هذه الآراء واختلاف الأهواء لا يعني تخطئة القضية المختلفِ عليها، فتوحيد الله تعالى اختلفت فيه الآراء إلى ما شاء الله من الأهواء. وتبقى قضية التوحيد في إطارها المعرفي الصحيح الذي أوضحه القرآن الكريم بقوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ليقطع دابر المتوهمين من أهل الملل والآراء المنحرفة في توحيدها، وليس أمر النبوة والدعوة إلى الإسلام بضارها ما اختلفت فيها آراء أهل التفسير واعتقادات أهل الفرق، ولم يضر نبوة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ما اختلف فيه الأشعري عن المعتزلي عن غيرهما من أهل الآراء، وكذا الحال في أمر المهدي وولادته فليس لذلك من أثرٍ في أصل قضيته والتسليم بولادته.
ولا يهم أن يكون الاختلاف من أهل النسك والصلاح والعبادة والعلم - إن ثبت ما تدعوه - فإن الشبهة إذا استفحلت من النفس أودت بصاحبها إلى مخالفة الحق فيحسبه هدى، أو لعله يماري في الحق ليصل إلى ما يرومه من مصلحةٍ تتفقُ مع أهوائه فيضلل الأمر ويلبس الحق بالباطل، وليس أمر إبليس بخافٍ عنا عندما تعارضت قناعاته ورغباته مع السجود لآدم حين أمره الله، وقد عرفنا علمه وعبادته لله تعالى، فلما حان الاختبار لهذه العبادة كانت نزعة الهوى قد

(٧١)

ظهرت على كل طاعته وتملكت إرادته فلم يقوَ على مخالفة ما هو عليه من المصلحة والاعتبار الشخصي الذي ينزع إليه في دواخله ومكنون نفسه، وليس أمر الواقفة ببعيد حين عارضوا إمامة عليّ الرضا (عليه السلام) بعد شهادة والده (عليه السلام) وكانوا في ظاهرهم أهل ورع وتقوى وصلاح، بل كانوا من معتمدي الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في الأموال وغيرها فأرداهم هواهم إلى ما انتهى أمرهم إليه من القول بالوقف على إمامة موسى (عليه السلام) وتكذيب خليفته الرضا (عليه السلام) مع علمهم بأمر الرضا وروايتهم فضله ومنزلته، ومعرفتهم بأن الأمر لا يتم إلّا باثني عشر إمام سمعوا أسماءهم ورووا صفاتهم وهم مع كل هذا لم يقبلوا إلّا الجحد، ولم يرتضوا إلّا الإنكار، ولم يكتفوا إلّا بتأليب الناس على الرضا (عليه السلام) لا لشيء بل لأهوائهم في الإبقاء على ما في أيديهم من الأموال ولتضارب ذلك مع القول والإقرار بإمامة الرضا (عليه السلام)، وبلغ من صلاحهم أن ما يرويه هؤلاء قبل قولهم بالوقف على إمامة موسى (عليه السلام) أن يؤخذ به ويعبر أهل الفن بقولهم: (أخذ ما رووه أيام صلاحهم) وهذا ديدن الأكثر من علمائنا لاعتقادهم بصلاحهم ووثاقتهم قبل انحرافهم، والأمر نفس الأمر في هؤلاء الذين وقفوا عند الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ولا يضر ذلك في قضية الإمام المهدي (عليه السلام) كما هو معروف.

* * *

(٧٢)

القول في دعوى جعفر الكذاب
الشبهة التاسعة عشرة:
وقد وردت على شكل تساؤلات:
السؤال الأوّل:
ما الذي دعى الفطحية وهم العلماء العابدون الورعون إلى القول بإمامة جعفر بن عليّ المسمى عند الجعفرية بجعفر الكذاب؟
الجواب:
هذا كلامٌ عجيب حيث يحتج المستشكل بعقيدة الفطحية في عدم قولهم بإمامة الإمام المهدي (عليه السلام) واعتقادهم بإمامة جعفر الكذاب، والأمر واضحٌ فهؤلاء الفطحية - كما هو معلوم - يعتقدون بإمامة عبد الله الأفطح ابن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وهم مع أنهم يعلمون بوفاة عبد الله في حياة والده الإمام الصادق (عليه السلام) إلّا أنهم مع هذا يصرون على أن عبد الله الأفطح خليفة أبيه. وأمرهم في غاية الغرابة، وإذا كان هذا حالهم فما معنى الاحتجاج بقولهم بإمامة جعفر الكذاب؟! وهل هم يعتقدون بإمامة آبائه من قبل حتّى يحتج علينا بعقيدة المنكرين لإمامة آباء الإمام المهدي (عليه السلام)؟! ووصفهم بالعلم

(٧٣)

والعبادة أمرٌ لا ينفع مع انحراف الاعتقاد، علماً أن الفطحية لم يكن لهم شأنٌ في مسألة إمامة العسكري (عليه السلام) حتّى ينتقلوا إلى القول بإمامة جعفر. وهذه مطولات الملل والنحل تشهد على ذلك حيث لم يكن للفطحية شأنٌ في هذا المقال، نعم الواقفة استمراراً لعنادها قالت بغيبة الحسن العسكري وقد بطل قولهم بوفاته (عليه السلام) والأمر في ذلك يحتاجُ إلى تفصيل ليس محل ذكره هنا.
السؤال الثاني:
لماذا التفت الشيعة أصحاب الحسن العسكري حول جعفر بن عليّ يعزونه ويهنئونه مع تواتر الحديث الذي ينص على أسماء الأئمّة ثمّ تراجعوا حينما رأوا - كما تزعم الاثنا عشرية - محمّد بن الحسن يجذب عمّه حينما أراد أن يصلي على الحسن العسكري؟
الجواب:
كلام المستشكل غير دقيق، فقوله: (إن الشيعة التفت حول جعفر) غير صحيح، فالشيعة أعرف بحال جعفر من غيرهم، وقد سمعوا من أبيه وأخيه ذمهما له، ووقفوا على حال جعفر في الفسق الذي اشتهر به، فكيف يلتفون حوله كما عبّر المستشكل؟ ولم يكن لدى المستشكل سوى رواية أبي الأديان التي ذكر فيها أن الشيعة يعزون جعفراً ويهنئونه، ولم يذكر أبو الأديان مَنْ هؤلاء الشيعة، هل هم فقهاؤهم أم عوامهم وبسطاؤهم؟

(٧٤)

وواضح أن قوله الشيعة يعني عموم الشيعة من بسطائهم، الذين ينبهرون بأدنى دعاية وأبسط ترويج لأمر ينجرون إليه، وينخدعون به. ولو كان فيهم من علمائهم وفقهائهم لذكرهم أبو الأديان، ولم يخف على أبي الأديان حال جعفر مع أن أبا الأديان لم يكن سوى خادم للإمام (عليه السلام) وليس من فقهاء الشيعة في شيء، ومع هذا فقد انكشف عنده أمر جعفر بقوله: فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة، لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق، ويلعب بالطنبور، فقدمت فعزيت وهنيت.(48)
وقوله بعد بيان حاله: (فتقدمت فعزيت وهنيّت) إشارة لمجاراة الوضع العام، ولعل هؤلاء الشيعة الذين فعلوا ما فعله أبو الأديان منكشفٌ لديهم حال جعفر، ومع هذا فهم يعزونه ويهنئونه مراعاةً لظرفٍ عام ترعاه السلطة، وتدعو إليه للإطاحة بمفهوم الإمامة والالتفاف عليها. وتقديم جعفر الذي عرف بسيرته السيئة على أنه هو الإمام مما يُشعر بأن هناك دفعاً خاصاً باتجاه مقولة إمامة جعفر المزيفة ترعاها السلطة والمخالفون لأطروحة إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا لا يعني أن تهنئة الشيعة جاءت عن قناعةٍ باستحقاق جعفر للإمامة كما هي عقيدة أبي الأديان الذي يقول عن جعفر: (إن يكن هذا الإمام فقد حالت الإمامة)(49) مما يشير إلى أن هناك أمراً ضاغطاً توجهت الشيعة بسببه إلى هذا السلوك وهو تهنئة جعفر بالإمامة على أمل أن تنفرج الأمور ليتبين الإمام الحقيقي بعد هذه التشريفات التي يعيشها الناس في تهنئة جعفر برعاية السلطة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(48) بحار الأنوار 50: 332.
(49) السابق.

(٧٥)

ومن يدري، فلعل الشيعة وهي تعيش بطش السلطة قد سلكت أسلوب التمويه حفاظاً على سلامتها من فتك السلطة، إذا هي رفضت عرض جعفر للإمامة لحين ما تنكشف الأمور وتستبين الحقائق.
إذن لم تكن تهنئة بعض الشيعة لجعفر عن قناعةٍ تامةٍ بإمامته. والسلطة تعمل بنفاق مبطن على تقديم جعفر للإمامة وذلك من خلال قول أحمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو أحد رجالات السلطة عند تعريفه لجعفر بقوله: (إن جعفراً معلن بالفسق ماجن شريب للخمور، وأقل من رأيته من الرجال وأهتكهم لستره، فدم(50) خمار قليل في نفسه خفيف، والله لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن عليّ (عليهما السلام) ما تعجبت منه وما ظننت أنه يكون...)(51) وهذه إشارة إلى معرفة السلطة بحقيقة جعفر واستخفافها به فكيف بشيعة الإمام (عليه السلام) تغيب عنهم حقيقة جعفر حتّى ينخدعوا بالقول بإمامته؟ وعلى هذا لم تنخدع الشيعة بجعفر ولم يهنئوه عن قناعةٍ باستحقاقه الإمامة. ولعل من التف حول جعفر كان مثله ممن يعاقر المحرمات فحسبهم الرائي أنهم من شيعة الإمام وليس هم من شيعته ولا من أتباعه، بل هم أصحاب جعفر الذين وكلوا به للترويج له والدعاية من أجله.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(50) الفدم: العيي عن الكلام في رخاوة وقلة فهم.
(51) كمال الدين وتمام النعمة: 42.

(٧٦)

الاجتهاد في زمن الغيبة
الشبهة العشرون:
تقولون بصحة الاجتهاد في زمن الغيبة بعد أن حرمتموه في زمن الأئمّة، فما هو الدليل القطعي على صحته، وهل هذا الدليل مأخوذ عن الأئمّة أم غيرهم، وهل هو موجود في كتبكم المؤلفة قبل عصر الغيبة بينوا لنا ذلك وخرجوه من تلك المصادر.
الجواب:
الاجتهاد هو إعمال الوسع في معرفة الحكم الشرعي باستنباطه من مداركه الشرعية كالكتاب والسنة والتي تشمل سنة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) فضلاً عن سنة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأصول العملية والعقل، أي ما تقتضيه القواعد الشرعية والموازين العقلية.
لم يكن الاجتهاد في زمن الأئمّة (عليهم السلام) واسع النطاق، فقد اقتصر على فهم الواقعة الشرعية من خلال ما يرويه أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) كزرارة بن أعين ويونس بن عبد الرحمن ومحمّد بن مسلم وأبي بصير وأبان بن تغلب وجميل بن دراج ومحمّد بن أبي عمير والحسن بن

(٧٧)

عليّ بن فضال وصفوان بن يحيى وكثير ممن نقل ما سمعه عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على أساس فتوى للحكم الشرعي. وكان ينقله بسنده عن المعصوم الذي يروي عنه، ثمّ اقتصر الرواة - وهم المفتون على ضوء هذه الأحاديث - على نقل الحديث فقط دون ذكر السند على أنه فتوى بما يؤدي إليه اجتهادهم ومعرفتهم في هذا الشأن، وكلما طالت الشقة وبعدت المسافة عن المعصوم أضطر الرواي إلى إعمال رأيه في استخراج واقعة الحكم الشرعي من الحديث، وكان الرواة لكونهم أقرب عهداً بالمعصوم - حتّى لو بعدت الشقة عنهم - فإنهم ليسوا بحاجةٍ إلى جهدٍ كبير لاستنباط الحكم الشرعي من الحديث؛ وذلك لإمكانية اتصالهم بحضرة المعصوم (عليه السلام) في وقت لاحق، وكلما بعدَ الراوي عن المعصوم احتاج إلى جهد أكبر يبذله لتحقيق عمل استنباطي يحصل من خلاله على الحكم الشرعي، وهكذا في الغيبة الكبرى، فإن الإمام الحجة (عليه السلام) حينما بدأت غيبته أرشدهم إلى انقطاع الصلةِ بينه وبين شيعته من خلال سفرائه بعد وفاة آخر سفير للإمام (عليه السلام) وهو محمّد بن عليّ السمري المتوفى سنة (329 هـ)، وانقطاع الاتصال بين الإمام (عليه السلام) وبين شيعته يوجب البحث عن الحكم الشرعي من خلال الاستنباط الفقهي وذلك بإعمال الوسع في الوصول إلى الواقعة الشرعية بشكل يقيني عند توفر الإمارات القطعية كالأحاديث الصحيحة، أو بقضيةٍ ظنية عند عدم توفر الإمارات والاعتماد على الأصول العملية التي هي في حقيقتها تعذيرية.
أو تنجيزية إلى غير ذلك من الأصول، إذن فالاجتهاد لا يحتاج

(٧٨)

إلى دليل صحته ومشروعيته، فهو حالة يضطرُ إليها المكلف للوصول إلى الحكم الشرعي لتفريغ ذمته من التكليف المنجّز عليه، فالمكلف مخاطبٌ بالتكليف، ومعرفة التكليف لا يتأتى إلّا من خلال الوقوف على الحكم الشرعي الناشئ من إعمال الوسع في استخدام آليات الاجتهاد للوصول إلى الحكم الشرعي، وهذا يحدث حتّى في زمن الحضور - أي حضور المعصوم - إذا كان المكلف بعيداً بحيث يتعذر عليه الوصول إليه، فلا يمكن أن يتحلل من التكليف الشرعي لحين لقائه بالمعصوم، بل لا بدّ من استخدام ما يمكنه من الوصول للواقعة الشرعية من خلال اجتهاده في فهم ما ورد عن المعصوم (عليه السلام) من حديث، أو ما يعبّر عنه بانسداد باب العلم وهو ما حدث لدى الصحابة في زمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) حيث أمر معاذ بن جبل حين أمره (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالاجتهاد عند فقد النص حين بعثه إلى اليمن، وكاجتهاد عمار بن ياسر في التيمم حين تمعك في التراب، إلى غير ذلك من مواقف الاجتهاد لدى الصحابة عند فقدهم النص على الواقعة الشرعية.
فقول المستشكل بأن الإمامية تحرّم الاجتهاد في زمن الأئمّة وتجوّزه في زمن الغيبة غير دقيق لما بيناه.
والحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية محمّد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم إلى يوم الدين.

* * *

(٧٩)

مصادر التحقيق

القرآن الكريم.
الأئمّة الاثني عشر: ابن طولون.
الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان.
اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ ت ميرداد الاستربادي/ ت مهدي الرجائي/ مط بعثت/ قم/ 1404هـ.
الإرشاد: الشيخ المفيد/ ت مؤسسة آل البيت/ نشر دار المفيد.
الإمامة والتبصرة من الحيرة: ابن بابويه/ ت مدرسة الإمام المهدي.
بحار الأنوار: المجلسي/ مؤسسة الوفاء/ بيروت/ ط 2/ 1403هـ.
تفسير العياشي: العياشي/ ت هاشم المحلاتي/ ط المكتبة العلمية/ طهران.
شرح أصول الكافي: المازندراني/ ت أبو الحسن الشعراني.
الصواعق المحرقة: ابن حجر العسقلاني/ مط الميمنية/ ط 1/ 1312هـ/ مصر.
الفصول المهمة: ابن الصباغ المالكي/ مط العدل/ ط النجف الأشرف/ ط 1/ 1950م.
كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفاري/ ط 1405هـ.
مكيال المكارم: محمّد تقي الموسوي/ ت عليّ عاشور/ بيروت/ ط 1.
منتخب الأثر: لطف الله الكلبايكاني/ مط سلمان الفارسي/ ط 1/ 1422هـ.

(٨١)

من لا يحضره الفقيه: الصدوق/ ت عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404هـ.
وفيات الأعيان: ابن خلكان/ ت محمّد محي الدين عبد الحميد/ مط السعادة/ ط 1/ 1367هـ/ مصر.

* * *

(٨٢)