تأمّلات في دعاء الافتتاح

تأمّلات في دعاء الافتتاح

المؤلف: السيد محمد تقي المدرسي

الفهرس

تمهيد..................7
1 - الحمد والدعاء..................17
2 - توحيد الله..................27
3 - خزائن الله.. لا تنفذ..................39
4ـ علاقة الإنسان.. بالله..................51
5 - الدعاء ومعالجة الغيب والشهود..................65
6 - حاجة الإنسان إلى الله..................77
7 - الاعتماد على الله..................87
8 - معرفة الرسول..................97
9 - معرفة الوصي..................107
10 - حجج الله على العباد..................117
11 - دور الامام المنتظر..................127
12 - أسس الدولة الاسلامية..................143
13 - الايمان بالآخرة..................155

تمهيد

الدُّعاء، صنفٌ من المناجاة بين العبد وربّه، يتضمَّن - فيما يتضمن - ايحاءات ذاتية للداعي نفسه، بما يتلفّظه لسانه، قد تنتشله من وهدة اليأس، وقد تستنهض همّته للثورة والجهاد، وقد تُذكَّرُه بما كاد ينساه من واجبات حيال دينه وعقيدته ورسالته.
هذا، فضلاً عن أن الدُّعاء (سلاح المؤمن) - كما ورد في الحديث الشريف ـ، سلاحه الذي يرفعه بوجه الظالمين اذا أعيتهُ السبل.. كما فعل الإمام زين العابدين (عليه السلام)..، وسلاحه الذي يمتشقه في حربه الضروس مع نفسه الأمّارة بالسوء (انّ النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربّي).. وسلاحه في مسيرته الحثيثة نحو السمِّو والتكامل والارتقاء، سلاحُه في كدحه الحتمي نحو الحق تبارك وتعالى.

(٧)

قال الرسول الأعظم (صّلى الله عليه وآله وسلم): (ألا ادلكم على سلاح يُنجيكم من عدوَّكم ويدر رزقكم؟ قالوا: نعم. قال: تدعون بالّليْل والّنهار، فأن سلاح المؤمن الدُّعاء).
ودعاء (الافتتاح)، الجليل المضامين، الذي (يفتتح) به المؤمنون أمسيّات شهر رمضان، المفعمة بالأيمان والنور والّطاعات، لا يخرج عن هذه القاعدة المباركة، ناهيك عن مدَّه لـ (جسور) العلاقة الواعية، بين المربوب والرّب سبحانه، العلاقة التي تستدر الفيوضات والبركات الألهية لتنثال على المؤمن وتغسل أدران نفسه كما يغسل المطر المنهمر الشَّجر.
وأيضاً، يتضمن دعاء الافتتاح المبارك، جوانب عرفانية مشرقة، يعتبر المجتمع الأيماني بأمسّ الحاجة اليها، من قبيل معرفة الله وتوحيده، معالجة مسألة الغيب والشهود، الأيمان بالآخرة.. الى آخره.
ومن منطلق محاولة تفسير وتوضيح وشرح وتحليل هذا الدعاء العظيم، تُهدي صحيفة (العمل الإسلامي) قراءها المؤمنين هذا الكتاب، طالبةً بذلك وجه الله تعالى.
وممّا يجدر ذكره، ان موضوع الكتاب، مُسَتلُّ ومُقتبَس، من مجموعة محاضرات لسماحة السيد محمد تقي المدرّسي، كان قد ألقاها على المُصلين خلال شهر رمضان الكريم عام 1403 هجري، وصيغت ونُشرت في كتاب (الدّعاء، معراج الروح ومنهاج الحياة) في محرم الحرام من عامنا هذا (1405).

(٨)

نرجو أنْ يتقبل الله طاعات المؤمنين، ويتقبل عملنا هذا بأحسن القبول.. وما توفيقنا إلا بالله، عليه توكّلنا واليه نُنيب.

هيئة تحرير (العمل الإسلامي)
شعبان المعّظم 1405هـ.

(٩)

دعاء الافتتاح

(اللهم اِنّي أفْتَتِحُ الثَّناَءَ بَحمدِك، وانت مُسددٌ للصواب بمنِك، وأيقنتُ أنك أنتَ أرحمُ الراحمين في مَوضع العفوِ والرحمة، وأشد المعاقبين في موضوع النكال والنقمة، واعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة، اللهم أذنت لي في دُعائك ومسألتِك، فأسمع يا سميعُ مدحتي، وأجب يا رحيمُ دَعوتي، وأقل يا غفورُ عَثرتي، فكم يا إلهي مِن كُربَةٍ قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرةٍ قد أقلتهاـ ورَحمةٍ قد نَشرتها، وحلقةِ بلاء قد فَككتها، الحْمَدُ لله الَّذي لَمْ يَتَّخذْ صاحِبةً ولا وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شريكٌ في المُلكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيُّ مِنَ الذلِ وكبره تكبيراً، والحمدُ لله بجميع محامده كلها، على جميع نعمه كلها، الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه، ولا منازع له

(١١)

في امره، الحمد لله الذي لا شريك له في خلقه، ولا شبيه له في عظمته، الحمد لله الفاشي في الخلق امرُه وحمدُه، الظاهر بالكرم مجده، الباسط بالجُودِ يَدَهُ، الذي لا تنقصُ خزائنه، ولا تزيدُهُ كثرةُ العطاء إِلا جُوداً وكرَماً، انه هو العزيزُ الوهاب، اللهم اني اسألكَ قليلاً من كثير، مع حاجة بي اليه عظيمة، وغناكَ عنه قديمٌ، وهو عندي كثير، وهو عليك سهل يسير، الله ان عفوكَ عن ذنبي وتجاوزك عن خطيئتي، وصَفحِك عن ظُلمي، وسترَكَ على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جُرمي، عندما كان من خطأي وعمدي، اطمعني في ان اسألك ما لا استوجِبُه منك الذي رزقتني من رحمتك، واريتني من قُدرتك، وعرّفتني من اجابتك، فصرت ادعوك امناً، واسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدِلاً عليك فيما قصدْتُ فيه اليك، فان ابطأ عني عتبتُ بجهلي عليك، ولعل الذي ابطأ عني، هو خير لي لعِلمِك بعاقبة الامور، فلم ارَ مولىً كريماً اصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ يا رب، انكَ، تدعوني فاولي عنك، وتتحببُ الي فاتبغضُ اليك، وتتوددُ اليّ فلا اقبلُ منك، كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة لي، والاحسانِ اليّ والتفضل عليّ بجودك وكرمكَ، فارحم عبدك الجاهل، وجُد عليه بفضل احسانك انك جوادٌ كريم.

(١٢)

الحمدُ لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخر الرياح، فالق الاصباح، ديان الدين، رب العالمين. الحمدُ للهِ على حلمه بعدَ علمه، والحمدُ للهِ على عفوه بعد قدرته، والحمدُ لله على طول اناته في غضبه، وهو قادرٌ على ما يريد، الحمدُ لله خالقِ الخلق، باسط الرزق، فالقِ الاصباح، ذي الجلال والاكرام، والفضل والانعام، الذي بَعُد فلا يُرى، وقرُبَ فشهِد النجوى.. تبارَك وتعالى، الحمدُ لله الذي ليس له منازع يعادله، ولا شبيه يشاكله، ولا ظهير يعاضده، قهر بعزَّته الاعزاء، وتواضع لعظمته العظماء، فبلغَ بقدرته ما يشاءُ، الحمدُ للهِ الذي يُجيبُني حِين اُناديه، ويَسْتُرُ عليّ كُلَ عَوْرَةٍ وَاَنا اَعْصيه، وَيُعَظّمُ النعمةَ عليّ فلا اجازيه، فَكَم مِن مَوْهِبَة هَنيئةٍ قَدْ اَعْطاني، وعَظيمَة مَخُوفَةٍ قَدْ كفاني، وبَهْجْةِ مُونقَةٍ قَدْ اَراني، فَُثني عليهِ حامداً، وَاَذكُرُه مُسَبِّحاً، الحمدُ للهِ الذي لا يُهْتَكُ حِجابُه، ولا يُغْلَقُ بابه، ولا يُرَدُّ سائِلُه، ولا يُخَيَّبُ آمِلُهُ، الحمدُ للهِ الذي يُؤمنُ الخائفين، ويُنَجِّي الصالِحين، ويَرْفَعُ المُستَضعَفِين، ويَضَعُ المُستُكُبرين، وَيُهْلِكُ مُلُوكاً وَيَسْتَخْلِفُ آخَرين، والحمدُ للهِ قاصِم الجَبارين، مُبِيِر الظالمِيِن، مُدرِكِ الهاربِيِن، نكالِ الظالِميِن، صَرِيِخ المُسْتَصْرِخِين، مَوْضِعِ حاجاتِ الطالِبِين، مُعْتَمَدِ المؤمِنين، اَلحَمْدُ للهِ الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها، وترجف الارض وعماّرها وتموج البِحارُ، وَمَنْ يَسْبَحُ في غَمَراتِها.

(١٣)

اَلحَمدُ لله الذي هَدَانا لِهذا وما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لولا اَنْ هَانا الله، الحَمْدُ للهِ الذي يَخْلُقُ وَلَمْ يُخْلَق، وَيَرْزُقُ ولا يُرْزَق، وَيُطعِمُ ولا يُطعَمْ، وَيُمِيتُ الاحياء، وَيُحيي المَوْتى، وَهو حَيُّ لا يَمُوت، بِيَدِه الخير، وَهو عل كلِ شَيءٍ قّديرٌ.

اَللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ عبدِك،ورَسولِك، وَاَمينِك، وصفيَّك، وحَبيبك، وخِيرَتك من خلقك، وحافِظِ سِرَّك، وَمُبَّلِغِ رِسالاتِكَ، اَفضَلأ واَحسَن واَجَمل واَكَمل واَزكى واَنمى واَطيبَ واَطهَرَ واَسْنَى واَكَثْرَ ما صَلَيْتَ وباركْتَ وتَرحَّمْتَ وتَحَنَّنْتَ وسَلَّمْتَ على احدٍ من عبادِك وانبيائِك ورُسُلِك وصِفْوتكَ، واَهلِ الكرامةِ عليكَ مِنْ خَلقِكَ، اَللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلى عَلِيٍّ اَميرِ اْلمُؤْمِنينِ، وَوَصيِ رسولِ ربِ العالمين، عَبْدِكَ وَوَليكَ، واَخي رسولِك، وَحُجَّتِكَ على خلقِك، وآيَتِك الكُبرى، والنَبَأِ اْلعظيمِ، وَصَلِّ عَلى الصِدِّيِقةِ الطاهِرَة، فاطمةَ الزهراء، سَيدِةِ نساءِ العالمين. وَصَلِّ على سِبْطَي الرحمة، وامامَي الهُدى: اَلْحَسَنِ وَاْلحُسَيْنِ، سَيِّدَي شبابِ اَهلِ اْلجَنَّةِ. وَصَلِّ على اَئِمةِ المسلمين: عَلِّيِ بْنِ اَلحُسَيْنَ، ومُحَّمدِ بْنِ عَلِّيِ، وَجَعْفرِ بْنِ مُحَمَّدِ، وَمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، وَعَلِّيِ بْنِ مُوسى، وَمُحمَّدِ بْنِ عَلِّي، وَعَلِّي بْنِ مُحَمِّدٍ، وَاْلحَسَنِ بْنِ عَلِّيٍ، وَالخَلَف اْلهادي اْلمهْدِيَ، حُجَجِكَ على عِبادِك، وأمنائِك في بِلادك.. صلاة كثيرةٌ دائمةً، اَللَّهْمَّ وَصَلِّ عَلى وَليّ امرِكَ القائِم المُؤَمَل، والعَدلِ

(١٤)

المنتظَر، وحُفّهُ بملائكَتِك المُقَربين، واَيّجهُ بِرُوح القدُسِ يا ربَ اْلعالمينَ، اَللَّهْمَّ اجْعَلْهُ الداعِيَ إلى كتابِك، والقائَمِ بديِنِك، اِسْتَخْلفهُ في الارض كما استَخْلَفْتَ الذينَ مِن قَبله، مَكِّن له دينه الذي ارتضْيتَه له، اَبْدِلهً من بَعدِ خوفه اَمناً، يَعْبُدُكَ لا يُشْرِكُ بكَ شيئاً، اَللَّهُمَّ اَعِزَّه واَعْزِز به، وانصُرْهُ وانتَصِر به، واْنُصرهُ نَصْراً عَزِيزاً، واَفْتَح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لَدُنْكَ سُلطاناً نصيراً، اللهم اظهر به دينكَ وَسُنةَ نَبِيك، حتى لا يَسْتَخفِيَ بِشَيء من الحقِ، مَخافَةَ اَحَدٍ منَ الخَلْق.

اللّهم اِنا نَرْغَبُ اليكَ في دولةٍ كريمةٍ تُعِزُّ بها الاسلامَ واَهلَه، وتُذِلً بِها النِفاقَ واَهله، وتَجْعَلُنا فيها من الدُعاةِ إلى طاعَتِك، والقادَةِ إلى سَبيِلِك، وترزُقُنا بها كرامةَ الدنيا والاخرة، اَللَّهْمَّ ما عَرَفتنا من الحق فَحَّملناه، وما قَصُرْنا عَنْهُ فَبَلّغْنَاهُ.

اَللَّهُمَّ اَلُمُمْ بِهِ شَعثنا، واَشعَبْ به صَدْعَنا، واَرْتُق به فَتْقَنا، وكَثِّر به قِلِّتَنا، واَعزِزْ به ذِلَتَنا، واَغنِ به عائلَنا، واقْضِ به عن مُغَرَمِنا، واَجْبُر به فَقْرَنا، وَسُدَ به خَلَتَنا، وَيَسِّر به عُسْرِنا، وَبِّيض به وُجُوهنا، وفُكَ به اَسْرَنا، واَنجِح به طَلِبَتَنا، واَنجِز به مَواعِيدَنا، واسْتَجب به دَعْوَتَنا، واَعْطِنا به سْؤلَنا، وَبَلغْنا به من الدنيا والآخرة آمالنا، واَعْطِنا به فوقَ رَغْبَتِنا، يا خيرَ المسؤولين، واَوْسَعَ المُعْطِين، اِشْفِ به صُدُورَنا، واَذْهِب به غَيْضَ قلوبنا، وَاْهدِنا به لما اْختُلِفَ فيه من الحقِ باذنِك اِنكَ تَهْدِي من تشاء إلى صراط مستقيم، وَاْنصُرنا بهِ على

(١٥)

عَدُوِكَ وَعَدُوْنا اله الحقِ آمين.

اَللَّهُمَّ إنّا نَشكُو اليكَ فَقْدَ نبينا، صلواتُكَ عليهِ وآلهِ، وغيَبَةَ وَلينا، وكَثْرَة عَدُوِّنا، وِقلّةَ عَدَدِنا، وشِدّة الفتن بنا، وتَظاهُرَ الزمانِ علينا، فَصَلِّ على محمد وآله، وِاَعِنا على ذلك بِفَتْح منك تُعَجِّلُه، وبِضُرٍّ تَكشِفُه، وَنَصْرٍ تُعزِّه، وَسُلطانِ حقٍ تُظهِرُه، ورحمةٍ مِنكَ تُجلِلُناها، وعافيةٍ منكَ تُلْبِسُناها برحمتك يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ)
(اللهم بِرَحَمتِك في الصالحين فَاَدْخِلنا، وفي عِليين فَارْفَعنا، وبِكَأس مِن مَعِين من عَيْنٍ سَلْسَبيل فَاسْقِنا، ومِنَ الحُوِر العِيْن بِرَحمِتك فَزَوِّجنا، ومِنَ الوِلدانِ المُخَلَّدِين كَأنهم لؤلؤ مَكنَون فَأخْدِمنا، ومِن ثِمارِالجَنَّةِ، وَلُحوم الطَيْرِ فَاَطْعِمْنا، ومِن ثِيابِ السُنْدُسِ وَالحَرِير والأسْتَّبْرَقِ فَاَلبِسْنا، وَليلةَ القَدْرِ،، وَحَجَّ بَيْتِكَ الحرام، وَقَتْلاً في سَبيِلكَ فَوَفِق لنا، وصالِحَ الدُعاءِ وَالمَسْألةِ فَاسْتَجِبْ لنا، واذا جَمَعْتَ الأوَلين والآخِرين يَوْمَ القِيامَةِ فارحمنا، وَبَراءةً من النار فَاكْتُبْ لَنا، وفي جَهَنَّمَ فَلا تَغُلنَّا، وفي عذابِكَ وَهَوانِك فلا تَبْتًلِنا، ومِنَ الزَّقُوم وَالضَرِيع فلا تُطْعِمُنا، وَمَعَ الشياطِين فَلا تَجْعَلنا، وفِي النارِ عَلى وُجُوهِنا فلا تكْبُبْنا، ومن ثياب النارِ، وسَرابيلِ القَطِرانِ فلا تُلْبِسْنا، ومِن كلِّ سُوءٍ يا لا إلهَ إلاّ أنْتَ بحقِ لا أله إلا أنت فَنَجِّنا).

(١٦)

1 - الحمد والدعاء
(اللهم اني أفتتِح الثناء بَحمدِك، وانت مُسددٌ للصواب بمنِك، وأيقنتُ أنك أنتَ أرحمُ الراحمين في مَوضع العفوِ والرحمة، وأشد المعاقبين في موضوع النكال والنقمة، واعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة، اللهم أذنت لي في دُعائك ومسألتِك، فأسمع يا سميعُ مدحتي، وأجب يا رحيمُ دَعوتي، وأقل يا غفورُ عَثرتي، فكم يا إلهي مِن كُربَةٍ قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرةٍ قد أقلتهاـ ورَحمةٍ قد نَشرتها، وحلقةِ بلاء قد فَككتها..).

(١٧)

(اللهم اِني افتتحُ الثناء بِحَمدِك، وانتَ مُسددٌ للصوابِ بِمَنَّك).
ينبغي للداعي ان يبدأ حديثه ودعاءه بالثناء على الله سبحانه وتعالى، والثناء على الله قد يكون بالشكر لله وحده، وقد يكون بتسبيحه سبحانه وتعالى وتقديسه، (اللهم اني افتتح الثناء بحمدك)، سوف يكون اول ثنائي لك حمدي لك، وقد تعني هذه الجملة ان الثناء انما هو بما وهب الله لنا واعطانا من فضل يجب ان نحمده عليه، فثنائي عليك انما يكون بحمدك، فلولا انك رزقتني القدرة على الثناء ووفقتني للدعاء كيف كنت استطيع ان احمدك أو اثني عليك..
(وانت مسدد للصواب بمنك..)
ان حسن الافتتاح لا يدل على حسن الختام، فربما يكون الإنسان في مفتتح حياته، ومفتتح حديثه حسناً صالحاً، صائباً لكنه ينحرف بعدئذ تحت تأثيرات مختلفة،

(١٩)

لذلك فنحن نطلب من رب القدرة لتستمر استقامتنا على الصواب: (وانت مسدد للصواب بمنك)، انت الذي تسددني للصواب.
حينما يرمي الإنسان سهماً ويصيب الهدف، يكون قد سدّد الرمية، لانها اصابت هدفها، ونحن حينما ندعو ربنا نطلب منه ان يسدد دعوتنا للصواب ويستجيبها، وهو المسدد للصواب، إلا اننا يجب ان لا نغفل عن ان نعم الله تعالى علينا ومنها تسديده لنا للصواب ليس امراً نستحقه نتيجة اعمالنا وجهدنا، وانما هي بمن الله سبحانه وتعالى لذلك فاننا نقول في دعائنا وبكل خشوع: (وانت مسدد للصواب بمنك..).
(وأيقنتُ انت ارحم(1) الراحمين في موضع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تكتب بعض كتب الادعية كلمة (وأيقنتُ) بضمير المخاطب أي (وأيقنت) ويعني هذا الاتجاه ان الله هو الذي ايقن بانه ارحم الراحمين.. اذ ان كثيراً ممن يقرأون الدعاء قد لا يكونون من الموقنين، فكيف يمكن لغير الموقن ان يقول (وايقنتُ انك انت ارحم الراحمين) في الوقت الذي لم يصل بعد الى مرحلة اليقين؟ اما نحن فنفضل القراءة المعروفة وهي (وايقنتُ) بضمير المتكلم، لاننا لا نعرف هل ان استخدام كلمة (اليقين) في الله سبحانه وتعالى له معنى ام لا، ثم من جهة اخرى: ان الادعية هي - في الغالب - اعتبارات أي انها تجعل الإنسان يفكر وكأنه من الموقنين، مثلاً: حين تقول: (اللهم اني وعزتك من النادمين) فليس هذا اخباراً عن حالة سابقة، وانما هو انشاء لهذه الحالة، والادعية هي عادة مجموعة انشاءات إلا انها تتحدث بلغة الماضي ولكن تعبيراً عن الحاضر، اذن حينما نقول: (وايقنتُ) يعني اننا ينبغي ان نرتفع الى درجة اليقين، واذا لم اكن من (الموقنين) فعلاً فانني يجب ان اكرر هذا الايحاء حتى ارتفع الى هذا المستوى، بل وتعبيراً عن رغبتي الشديدة في بلوغ مرحلة اليقين.

(٢٠)

العفو والرحمة واشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة..)
ينبغي ان يكون الداعي بين اليأس والرجاء أو بتعبير افضل بين الخوف والامل (يدعونه رغباً ورهباً)، خوفاً واملا، لذلك ترى في بداية دعاء الافتتاح يضع الإمام الدعاة بين الرغبة والرهبة (وايقنتُ انك انت ارحم الراحمين في موضع العفو والرحمة)، اذا كنت أهلاً للعفو والرحمة، فان الرحمة تنزل عليك بحيث لا تستطيع استيعابها، مثلاً: حينما تهطل الامطار من السماء كمظهر من مظاهر رحمة الله، فانها تكون من الكثرة بحيث تفيض الاودية بالماء، ولا تستطيع ان تستوعب الكمية الهائلة من الامطار التي تنزل من السماء، أو اذا فتح الله على الإنسان ابواب الرزق، فانه يغمر الإنسان بحيث لا يعرف ماذا يصنع به، هذا اذا كان الإنسان مستحقاً للرحمة.

(٢١)

اما اذا كان الإنسان مستحقاً للعذاب فان العذاب يأتيه بشدة وبصورة لا يتصورها، اذن، فان الإنسان بين امرين:
اما رحمة واسعة نسألها من الله، واما عذاب شديد نستجير بالله منه، (وايقنت انك انت)، وليس غيرك يا رب (ارحم الراحمين في موضع العفو والرحمة)، فاذا كنتَ مذنباً ودعوتَ الله سبحانه وتعالى، مددت اليه يد الضراعة والمسكنة ليغفر لك ذنبك، فان الله لا يعفو عن الذنب فقط، وانما يزيدك من رحمته، وهذا من اسماء الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان المذنب يطلب من الله ان يتجاوز عن سيئاته ويغفر له ذنوبه من قبيل: ترك الصلاة، ايذاء الناس وتضييع حقوقهم، اتهامهم واغتيابهم، تضليل الآخرين.. الخ، فان الله يغفر له ان شاء الله، ويزيده من نعمه بان يعطيه الايمان، والتقوى، والرحمة من عنده، (واشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة)، واذا اراد ربنا ان يجازي احداً وان ينتقم منه، فان عذابه يكون شديداً، وما نراه في هذه الدنيا من انواع العذاب التي حلت بالاقوام الكافرة مثل:
قوم لوط أو بلاد عاد أو ثمود أو اصحاب الايكة، وما نعرفه من غرق فرعون وآل فرعون في اليم، كل هذا

(٢٢)

شيء بسيط جداً من عذاب الله سبحانه وتعالى، اما عذابه الشديد ونكاله ونقمته فهي في الآخرة.
(واعظم المتجبرين في موضع الكبرياء والعظمة)
كل ابناء آدم يذنبون إلا المعصومين منهم، ولكن على الإنسان ان لا يتحدى ربه، فبعض الذنوب يرتكبها الإنسان في حالة التحدي لله عز وجل.
ان كبرياء الله وعظمته لن تسمحا لاحد بان يتحداه، وعلى العبد ان يحذر من تحدي جبار السموات والارض بكثرة الذنوب والاصرار عليها، مما قد يصل الى درجة يخاطبه الله تعالى فيها:
(عبدي افعل ما شئت فاني لن اغفر لك ابداً).(2)
فعن ابي عبد الله الصادق (ع) قال:
(من همَّ بالسيئة فلا يعملها فانه ربما عمل العبد السيئة فيراه الرب فيقول: وعزنّي وجلالي لا أغفر لك أبداً).(3)
وقد جاء في دعاء (أبي حمزة الثمالي) ما يشير الى هذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) وسائل الشيعة ج2ص248.
(3) وسائل الشيعة ج2ص248.

(٢٣)

المفهوم، اذ يقول الدعاء:
(الهي لم اعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفسي، وغلبني هواي، واعانني عليها شقوتي، وغرّني سترك المُرخى عليّ، فقد عصيتك وخالفتك بجهدي، فالآن من عذابك مَن يستنقذني، ومن ايدي الخصماء غداً مَن يخلصني..)
وعلى الإنسان ان يسارع الى التوبة من الذنب، ولا يترك الذنوب تتراكم في حياته فانها تكون اصعب للمغفرة ثم ان تراكم الذنوب على قلب الإنسان تميت قلبه وتجعله ابعد عن الهداية، فيجب ان يبادر الإنسان الى محوها بالتوبة.
(اللهم اذنت لي في دعائك ومسألتك فاسمع يا سميع مدحتي واجب يا رحيم دعوتي، واقل يا غفور عثرتي)
ان من اشد العذاب الذي ينتقم الله به من الكفار والمشركين في نار جهنم هو ان الله سبحانه وتعالى لا يأذن لهم بسؤاله عن شيء، فاهل النار لا يحق لهم التحدث مع الله، إلا ان الله لم يغلق باب التحدث معه وسؤاله التوبة والمغفرة في وجه المذنبين في الدنيا، فانت العبد الضعيف المحتاج المسكين الذي لا تملك لنفسك شيئاً، تتحدى ربك

(٢٤)

وتذنب الذنب ثم تستغفره وتطلب منه العفو والتوبة، هو يغفر لك، انه فتح امامك، باب المغفرة وآذن لك بالتوبة في الدنيا اما في يوم الحساب فان الله يغلق هذا الباب، فعلينا ان نستغل الفرصة، ونبادر الى التوبة طلب الغفران، (اللهم آذنت لي في دعائك)، الهي: انت الذي بدأت بالفضل واعطيتني الاذن بالدعاء والمسألة (فاسمع يا سميع مدحتي)، اذن فانا أبدأ دعائي بمدح الله وحمده سبحانه وتعالى (واجب يا رحيم دعوتي، واقل يا غفور عثرتي)، اننا نطلب من الله ان يغفر لنا كل العثرات، والزلل والذنوب والهفوات، وان يقبلها أي: يعتبرها وكأنها لم تكن، فالاقالة تعني انك حينما تشتري بضاعة، ثم تكتشف انها لا تفيدك، فترجع الى البائع وتطلب منه ان يستردها ويعيد لك نقودك وكأن لم يكن بيع ولا شراء، هذه هي الاقالة، ونحن نطلب من الله ان يعتبر ذنوبنا وكأنها لم تكن، ويمحيها من صفحات اعمالنا: (واقل يا غفور عثرتي).
(فكم يا الهي من كربة قد فرجتها، وهموم قد كشفتها، وعثرة قد اقلتها، ورحمة قد نشرتها، وحلقة بلاء قد فككتها..)
يا الهي، اذا غفرت لنا ذنوبنا، واقلت عثراتنا فليست هي المرة الأولى، فما اكثر الذنوب التي غفرتها، والكربات التي فرجتها، والعثرات التي اقلتها..

(٢٥)

ان الداعي يجب ان يتذكر كربه التي فرجها الله، وهمومه التي كشفها الله، وعثراته التي اقالها الله سبحانه وتعالى، فان هذا التذكر ادعى لان يفتح الله ابواب الاجابة امامه.
ولكن لا ينحصر فضل الله على الإنسان بكشف الهموم، واقالة العثرات، وتفريج الكربات، بل اكثر من ذلك: (ورحمة قد نشرتها وحلقة بلاء قد فككتها)، قد يشعر الإنسان احياناً وكأن البلاء قد حاصره من كل مكان وقد أعيته مذاهب الحياة، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت، فاذا به يرى البلاء من كل مكان: اصدقاؤه يخونونه، اقاربه يتركونه، مجتمعه يرفضه، والحكومة تلاحقه، ومن جهة أخرى: جسمه ضعيف والمرض يهجم عليه، وكأن البلاء يهاجمه من كل مكان وليس له أي امل ولا يستطيع ان يمد يده الى أي انسان، هنالك يتجه قلبه الى الله سبحانه وتعالى فيفك الله عنه حلقة البلادء ويجعله ينطلق في الحياة، وتعود كل المياه الى مجاريها، وتغمره رحمة الله ولطفه. إلا ان مشكلة الإنسان انه ينسى كل ذلك، فأنا وانت لا شك قد ابتلينا في فترات من حياتنا بانواع البلاء والمشاكل، ولم يفك حلقة البلاء عنا إلا الله تعالى، ولكننا نسينا تلك اللحظات الصعبة، والدعاء يذكرنا بكل ذلك ويزرع في قلوبنا الامل بالله والرجاء برحمته.

(٢٦)

2 - توحيد الله
(.. الحْمَدُ لله الَّذي لَمْ يَتَّخذْ صاحِبةً ولا وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شريكٌ في المُلكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيُّ مِنَ الذلِ وكبره تكبيراً، الحمدُ لله بجميع محامده كلها، على جميع نعمه كلها، الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه، ولا منازع له في امره، الحمد لله الذي لا شريك له في خلقه، ولا شبيه له في عظمته، الحمد لله الفاشي في الخلق امرُه وحمدُه، الظاهر بالكرم مجده، الباسط بالجود يده..)

(٢٧)

عن ابي عبد (عليه السلام) انه قال: (ان الله تبارك وتعالى خلق إسماً بالحروف غير منعوت، وباللفظ غير منطق، وبالشخص غير مجسّد، وبالتشبيه غير موصوف، وباللون غير مصبوغ، منفي عنه الاقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم، مستتر غير مستور، فجعله كلمة تامة على اربعة أجزاء معاً ليس منها واحد قبل الآخر، فاظهر منها ثلاثة اسماء لفاقة الخلق اليها، وحجب واحداً منها، وهو الاسم المكنون المخزون بهذه الاسماء الثلاثة التي اظهرت، فالظاهر هو (الله وتبارك وسبحان) لكل اسم من هذه اربعة اركان، فذلك اثني عشر ركناً، ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين إسماً فعلاً منسوباً اليها.
فهو الرحمن الرحيم، القدوس، الخالق، الباريء، المصور، الحي، القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، العليم، الخبير، السميع، البصير، الحكيم، العزيز، الجبار، المتكبر العلي، العظيم، المقتدر، القادر، السلام المؤمن، المهيمن، المنشيء، البديع، الرفيع، الجليل، الكريم، الرازق، المحيي،

(٢٨)

المميت، الباعث، الوارث.
فهذه الاسماء، وما كان من الاسماء الحسنى حتى تتم ثلاثمائة وستين فهي نسبة لهذه الاسماء الثلاثة، وهذه الاسماء الثلاثة اركان وحجب للاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الاسماء الثلاثة، وذلك قوله عز وجل:
(قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيَّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى).(4)
الله، تبارك، سبحانه، هذه اصول (اسماء الله) الحسنى، واسم (الله) تشتق منه اسماء أخرى كالعليم، القدير، الخبير، البصير، السميع، الحكيم، وما أشبه، هذه الاسماء التي تدل على صفات الله الذاتية - حسب تعبير علماء الكلام - واسم (تبارك) تشتق منه ايضاً مجموعة اسماء هي (اسماء الفعل) فتبارك يعني: اعطى البركة، وكل ما يعطيه الله سبحانه وتعالى لخلقه فهو بركة، واسماء الفعل هي: الخالق، الرازق، الفاعل لما يشاء، المصور، الباريء، وما اشبه، هذه الاسماء التي تدل على افعال الله سبحانه وتعالى، والاسم الثالث هو (سبحان)، وهو اسم يدل على تنزيه ربنا عن التشبيه بالخلق، وعن اتخاذ المثل له، وتجزئته سبحانه وتعالى، مثل اسم الصمد، احد، لم يكن له كفواً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) بحار الانوار/ج4/ص166.

(٢٩)

احد، هذه هي اسماء الله سبحانه وتعالى ويشتق منها ثلاثمائة وستون إسماً على الأقل، من كل اسم تشتق مجموعة اسماء، تتفرع منها أسماء أخرى.
وفي هذه الفقرة من الدعاء، نتلو بعضاً من اسماء التسبيح والتنزيه التي يرمز اليها اسم (السبحان)، يقول بعض العلماء ان اعظم اسماء الله هو اسم (السبحان، وان اعظم الاذكار هو (سبحان الله) لذلك فان افضل الاذكار في الركوع والسجود هو (سبحان الله)، كما ان التسبيحات الاربع التي تُقرأ في الركعات الثلاثة والرابعة من الفرائض، تبتدأ بـ (سبحان الله)، حتى في التكبيرات التي تتلى عقب الفرائض والمشهورة باسم (تكبيرات الزهراء) قال بعض العلماء ان الافضل الابتداء بـ(سبحان الله) ثم (الحمد لله) ثم (الله اكبر) بعكس ما هو المتعارف عند عامة الناس.
والسؤال هو: لماذا اسم (السبحان) هو من أعظم أسماء الله؟
الجواب: لان الإنسان يعرف بفطرته ان له خالقاً:
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (30/الروم)

(٣٠)

وفي آية أخرى يقول ربنا سبحانه وتعالى:
(وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على انفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا..) (172/الأعراف)
إذن، ان فطرة العبودية لله، وفطرة الاعتراف بالخالق مرتكزة في كل النفوس إلا ان مشكلة الإنسان الحقيقية هي انه يريد ان يفهم الله وان يحيط معرفة بالله، يريد ان يلمس وان يحس ربه، لذلك فهو يشبه ربه بخلقه. وهنا مكمن الانحراف في العبادة، اذ ان الإنسان يتجه مرة لكي يصنع صنماً ويعبده ويقول هذا ربي، ومرة أخرى يتخذ نوعاً من النباتات والاشجار والحيوانات ليعبدها من دون الله، والبعض الآخر يعبد الشمس أو القمر، أو النجوم، فالجميع معترفون بان لهم خالقاً، ولكن من هو هذا الخالق؟ هنا مكمن الاشتباه، واساس ضلالة الإنسان وانحرافه، اذ ان يشبه خالقه بخلقه. اما لو عرف الإنسان هذه الحقيقة: ان ربه تعالى عن الاحاطة بالعلم، وانه منزه وسبوح وقدوس عن التشبيه بالخلق، لو عرف بان الله اكبر من ان يُوصف، الاقتراب الى الله سبحانه وتعالى ولكن هناك مشكلة أخرى تعترض البشر حتى المؤمنين

(٣١)

بالله منهم، فحينما يريدون ان يقتربوا الى الله تأتي المخلوقات وتحجبهم عن الخالق، فيتوجه الإنسان الى المخلوق عوض التوجه الى الخالق، و(سبحان الله) هو الذكر الذي يقربك الى الله سبحانه وتعالى، لانه يبعدك عن التشبيه، ولذلك جاء في القرآن الكريم:
(سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم) (1/الصف)
فالسموات والارض بما تدل على محدوديتها وحاجتها وضعفها وعجزها وانها قد ابتدأت في لحظة، وسوف تنتهي في لحظة وفي ساعة معينة، ان هذه السموات والارض تسبح الله، أي تنزهه وتقدسه عن صفات السموات والارض، ومن إبرزها (المخلوقية) بينما صفة الله تعالى هي (الخالقية) ومن صفات السموات والارض: العجز والحاجة، بينما صفات الله تعالى هي: الغنى والقدرة.
وربما نستطيع ان نعتبر البرهان الذي توصل عبره النبي ابراهيم الى اثبات وجود الله واتجه الى عبادته، هو من قبيل هذا الامر، حيث انه لما رأى الكوكب، والقمر، والشمس، وقال عن كل واحد منها: هذا ربي، ولكنه لما

(٣٢)

رأى افولها، وانها لا يمكن ان تكون آلهة، توصل الى هذه النتيجة:
(إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفاً وما أنا من المشركين) (79/الأنعام)
فتوجه الى خالق الكوكب، والقمر، والشمس..
هذا البرهان هو في هذا الاتجاه، اذ ان الإنسان يشبه ربه اولاً بالمخلوقات، إلا انه بعد الدقة والتعمق يعرف ان الخالق لا يمكن ان يكون مثل المخلوق، لان المخلوق بصفاته المعروفة غير قادر على الاستقلالية، فالمحدود يحتاج الى من يحده، والعاجز يحتاج الى من يعطيه القدرة، والضعيف يحتاج الى القوي، فاذن يجب ان يكون الخالق قوياً، عزيزاً، وقادراً.
لذلك كلما سبّحنا الله وقدسناه ونزهناه سبحانه وتعالى، كلما اقتربنا اليه، والآن لنتأمل فقرات الدعاء:
(الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً)
لماذا لم يقل لم يتخذ ولداً ولا صاحبة، لان الإنسان - في البدء - يتخذ لنفسه صاحبة وزوجة، ثم بعد ذلك يولد له الاولاد. والله الخالق منزه عن ذلك، (ولم يكن له شريك في الملك) الملكوت لله سبحانه وتعالى ليس له شريك فيه، (ولم يكن له ولي من الذل) الصالحون من عباد الله هم اولياء الله: أشهد أن علياً ولي الله، ولكن ليس لله ولي من الذل، أي انه لا يحتاج الى احد، غني عن العالمين، بل العالمون جميعاً يحتاجون اليه، والإنسان اذا اراد ان يعمل عملاً، فلا بد ان يعينه فيه مجموعة من الاعوان والانصار، اما الله فهو لا يحتاج الى احد، امره اذا اراد شيئاً ان يقول له: كن فيكون. لا يحتاج الى من يعينه في خلق السموات والارض، أو يساعده في تدبير شؤون السموات والارض (ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً)، فالله اكبر مما يصفه الإنسان ومما تتوهمه العقول.. ان محاولة توهم الله تعالى تجر الإنسان الى عبادة المخلوق.. وهذا هو الذي ادى بالسامري واتباعه ان يتوهموا ربهم في عجل خلقوه بايديهم:
(فأخرج لهم عجلاً جسداً له خُوار، فقالوا هذا الهكم واله موسى فنسي) (88/طه)

(٣٤)

(وكبره تكبيراً..) أي لا يجب ان يكون هناك أي توهم لله، فالله فوق الأوهام، والخيال، كلما توهمته في ذهنك فهو مخلوق وليس بخالق. الخالق فوق توهم الإنسان، والمطلوب في معرفتك بالله هو ان تخرجه من حدود التعطيل والتشبيه، فلا هو من خلقه ولا هو عدم، هو شيء لا كالاشياء، اما كيف؟ لا كيف له.. أين؟ لا أين له؟ متى؟ لا متى له. ما هي علامته؟ لا علامة له. ان كل هذه الحروف غير صادقة في الله هذه كلها صفات المخلوق.
(الحمد لله بجميع محامده كلها، على جميع نعمه كلها، الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه، الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه، ولا منازع له في امره، الحمد لله الذي لا شريك له في خلقه، ولا شبيه له في عظمته..)
بعد ان ذكر الدعاء بعضاً من أسماء الله السبحانية التي تقدسه وتنزهه عن كل نقص وعجز، يشير في هذه الفقرة الى اسماء الفعل التي يرمز اليها اسم (تبارك): (الحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها) هل يستطيع الإنسان ان يستغني عن أي نعمة من نعم الله؟ أو هل يستطيع أن يحصل على هذه النعم من غيره؟ واي نعمة من النعم التي اعطاها الله لنا لا يستحق بها حمداً جديداً؟ كل النعم نحتاجها، وكل النعم من عنده، وكلها بحاجة الى الحمد، لذلك فاننا نحمدها جميعاً وفي جملة

(٣٥)

صغيرة ونقول: (الحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها) ولكن ماذا يعني بجميع محامده كلها؟
الجواب: اننا قد نحمد الله بتعابير مختلفة، فنقول: الحمد لله، حمدك يارب، نحمدك يا الله، لك الحمد يا حامد ويا حميد، إلا اننا هنا نحمد الله بجميع محامده على جميع نعمه.
(الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه) حينما ملك الله فليس هناك ملك آخر يستطيع ان يضاد ربنا، هذا ما نعترف به بألسنتنا. ويأتي الدعاء لكي يعمل على ادخال هذه الحقيقة الى القلب، حتى تتحول جزءاً من جنان البشر ومن تركيبته الداخلية، ان الإنسان كثيراً ما يقول: (الحمد لله الذي لا مضاد له في ملكه) ولكنه حين العمل يخضع للطاغوت، وللانظمة المستكبرة، يخضع لغير الله سبحانه وتعالى، ان ما تقر به السنة البشر يجب ان يتحول الى ايمان قلبي ينعكس بدوره على مواقف واعمال الإنسان في حياته اليومية. (ولا منازع له في امره) اذا امر الله امراً، انتهى كل شيء، فلا معقب لحكمه، ولا احد يستطيع ان يقول لماذا؟ أو ان يقف بوجه امر الله، فلو اراد الله ان يرفع إنساناً، لا يستطيع العالم كله ان يضعه، ولو شاء الله ان يضع إنساناً ويهينه، فان كل قوى العالم لا تستطيع مجتمعة ان تكرمه، ان امر الله ومشيئته لا منازع لهما ولا يقدر احد

(٣٦)

ان يتحداهما (الحمد لله الذي لا شريك له في خلقه ولا شبيه له في عظمته) فعندما خلق السموات والارض لم يتخذ شريكاً، وعظمة الله ليست مما تصل اليها عظمة احد. (الحمد لله الفاشي في الخلق امره وحمده) كان اليهود يقولون بان الله سبحانه وتعالى مغلول اليدين، لا يقدر على شيء، وقد كانت لهذه الفكرة امتدادات، منها الكفر بعقيدة (البداء). والايمان (بالبداء) يعني الايمان بان الله سبحانه وتعالى قادر ان يتخذ قراراً جديداً في كل لحظة وفي كل شأن من الشؤون، فليس هناك ما يحتم على الله شيئاً ابداً، فالله فوق الحتميات، اذا اراد الله الآن وفي هذه اللحظة ان يعدم الكون كله، لفعل ذلك في اقل من طرفة عين، فهو الفاشي في الخلق امره.
أفلا يستطيع الذي خلق الكون اول مرة واعطاه الوجود، ان يعدمه ويسلب منه نعمة الوجود في لحظة واحدة؟ ان من اهم عقائدنا ومن اكثرها تقدمية وحضارية وحرية هي عقيدة (البداء) ففي اعتقادنا يستطيع الله ان يغير وان يبدل القدر، ينزل عليك البلاء ثم تدعوا الله سبحانه وتعالى، فيرفع القدر، هذا هو (البداء) وليس كل ما خط في اللوح المحفوظ هو الذي يحدث حتماً ودون أي تغيير.. ان التغيير ممكن، لذلك نقرأ في ادعية شهر رمضان المبارك (اللهم ان كنت من الاشقياء فامحني من الاشقياء واكتبني من السعداء) فاذا كان اسمي في اللوح المحفوظ

(٣٧)

مكتوباً من الاشقياء فانني ادعو الله، واعمل الصالحات، والتمس الى الرب الكريم، فيستجيب الله لي، ويغير ذلك القرار: (الحمد لله الفاشي في الخلق امره وحمده) امر الله منتشر في الخلق وهو قادر على ان يغير ويبدل في كافة الامور والشؤون حسب مشيئته الحكيمة، وكذلك الامر بالنسبة الى حمد الله، وهذا يعني ان امره حميدٌ ايضاً.
(الظاهر بالكرم مجده) ان مجد الله وعظمته يظهران بالكرم، فالله لا يستخدم عظمته ومجده وقدرته في ظلم المخلوقات، وقمع الضعفاء والعاجزين كما يفعل بعض المخلوقين حينما يحصل على القوة والعظمة الظاهرية، اما الله فانه ذو مجدٍ وكرمٍ في آن واحد، (الباسط بالجود يده) اما جود الله ويده فانهما مبسوطان على كل الخلائق، ولولا جود الله ونعمه التي يبسطها بيده على الخلق، لانعدم الوجود ولتحول كل شيء الى رماد.

(٣٨)

3 - خزائن الله.. لا تنفذ
(.. الحمد لله الفاشي في الخلقِ امرهُ وحمدُه، الظاهر بالكرم مجدُه، الباسط بالجودِ يده، الذي لا تنقصُ خزائنه، ولا تزيدُهُ كثرةُ العطاء إِلا جُوداً وكرَماً، انه هو العزيزُ الوهاب، اللهم اني اسألكَ قليلاً من كثير، مع حاجة بي اليه عظيمة، وغناكَ عنه قديمٌ، وهو عندي كثير، وهو عليك سهل يسير، اللهم ان عفوكَ عن ذنبي وتجاوزك عن خطيئتي، وصَفحَك عن ظُلمي، وسترَكَ على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جُرمي، عندما كان من خطأي وعمدي، اطمعني في ان اسألك ما لا استوجِبُه منك الذي رزقتني من رحمتك، واريتني من قُدرتك، وعرّفتني من اجابتك، فصرت ادعوك امناً، واسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدِلاً عليك فيما قصدْتُ فيه اليك، فان ابطأ عني عتبتُ بجهلي عليك، ولعل الذي ابطأ عني، هو خير لي لعِلمِك بعاقبة الامور...)

(٣٩)

(الحمد لله الفاشي في الخلق امره وحمده، الظاهر بالكرم مجده، الباسط بالجود يده، الذي لا تنقص خزائنه ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً، انه هو العزيز الوهاب)
كيف تنقص خزائنه بكثرة العطاء، بل ولا تزيده إلا جوداً وكرماً؟
الجواب: ان عطاء الله سبحانه وتعالى انما هو من خزائن لا تنفذ، ان خزائن الله عظيمة وكبيرة ولا نفاذ لها، لان خزائن الله، ورحمته، ونعمه انما هي من كلمةواحدة: (كن) فيكون، ان الله تبارك وتعالى يخلق بكلمة (كن) واحدة، ملايين الكرات وملايين المجرات، فكيف تنفذ خزيتنه من كانت قدرته بهذه السعة؟
إلا ان الامر هو ابعد من هذا الواقع بكثير، اذ ان كثرة العطاء من قبل الله، ليس فقط لا تنقص خزائنه، بل وتزيده جوداً وكرماً.

(٤١)

فالله يهب للإنسان العقل، والإنسان يعرف بعقله ربه فيدعوه، فيزيده الله من فضله ويعطيه الايمان، فاذا زُوِّد بالعقل والايمان، يعرف ان رحمة الله واسعة، وفضله عميم فيدعوه، فيزيده اليقين، ثم يدعو فيدخله الجنة، ثم يدعو فيرفعه الله الى درجة الرضوان، فنعم الله متسلسلة، وكلما اعطى نعمة استتبعها بنعمة أخرى،وهكذا نرى ان كثرة العطاء تزيد الله كرماً وجوداً وعطاءاً، لذلك فلو اعطانا الله نعمة واحدة، فلا يجوز لنا ان نيأس، بل علينا ان ننتظر نعماً أخرى تتلاحق بعدها.
إذ ان عطاء الله الكثير لا يعني ان ربنا سيصبح بخيلاً سبحانه وتعالى عن ذلك، فعطاؤه لا محدود، وجوده لا يقف عند حد.
ان الله يخاطب رسوله محمداً (ص) الذي جعله من اشرف الخلائق اجمعين وفضله على الانبياء والمرسلين واعطاه ما لم يعط احداً من النعم والشرف والذكر الحسن، حتى قرن اسمه باسمه، يخاطبه قائلاً:
(ومن الليل فتهجّد به نافلة لك، عسى ان يبعثك ربك مقاماً محموداً) (79/الاسراء)

(٤٢)

ويقول له أيضاً: (وقل ربِّ زدني علماً) (114/طه)
وهذا يعني: حتى رسول الله الذي اعطاه الله هذه النعم الكثيرة، مع ذلك لا يقول له ربه: كفى، بل يحثه على الدعاء والسؤال حتى يزيده الله من فضله وعطائه، فالله اذن: (لا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً..)
أتدري من هو البخيل العاجز الفقير؟
أنه.. نحن، اذا وقف الواحد منا بجانب البحر، ولكنه لم يأخذ شيئاً من الماء، فهل يكون البحر بخيلاً؟ اذا وقف العطشان على شاطئ النهر، ولكنه لم يمد يده ليغترف غرفة ويروي بها ظمأه، فمن هو البخيل: النهر الجاري، ام هذا الإنسان؟
والإنسان الذي لا يطلب الفضل والنعمة من الله، هو البخيل.
اما رب الرحمة فهو واسع العطاء، ولا حدود لجوده وكرمه، فالله يقول: ادعوني استجب لكم.. ولكن الإنسان يبخل بهذا الدعاء، فيُحرم نفسه من عطاء ربه.

(٤٣)

وهكذا كلما كان تطلع الإنسان ابعد، وهمته ارفع، كلما استوعب رحمة الله سبحانه وتعالى اكثر، ولذلك فان على الإنسان ان يستغل اوقات الدعاء: ليالي الجمعة، شهر رمضان المبارك، وفي الاسحار، ليمد يده لرحمة الله ولبحر جوده، وان لا يطلب من الله اشياءاً تافهة وبسيطة، بل عليه ان يطلب كلما عظم من الامور، ليس لنفسه فحسب، وانما لاخوانه المؤمنين ايضاً، ومن هنا يقول الفقهاء انه يستحب في صلاة الليل ان يدعو الإنسان لاربعين مؤمناً: (من قدم اربعين مؤمناً، واستغفر لهم ثم دعى لنفسه يستجيب الله دعاءه فيهم وفي نفسه..)(5)، فالله تعالى كريم، ويبقى على الإنسان ان يكون كريماً - أيضاً - حينما يدعو ربه، ويطلب منه: (ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً انه هو العزيز الوهاب) انه القوي القادر المهيمن وهو (الوهاب) الذي لا تنقطع هباته اللامتناهية عن عباده.
بعد سرد هذه المجموعة من النعوت الفاضلة والاسماء الحسنى لله، نواصل الدعاء ونقول:
(اللهم اني أسألك قليلاً من كثير مع حاجة بي اليه عظيمة، وغناك عنه قديم، وهو عندي كثير، وهو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) بحار الانوار - ج/90/ص383.

(٤٤)

عليك سهل يسير..)
ان ما يطلبه الإنسان من الله مهما كان عظيماً وهاماً في تصوره، إلا انه قليل جداً اذا قيس بملكوت الله وجبروته وقدرته اللامحدودة، ويستطيع الواحد منا ان يعرف هذه الحقيقة من خلال المعادلة التالية: انني واحد من اربعة آلاف مليون بشر يعيشون على وجه الكرة الارضية، وقد عاش قبلهم وسيعيش بعدهم الوف الملايين، ثم ان هذه الارض اذا قيست الى المجرة التي نحن فيها، فانها تشبه الذرة التائهة في صحراء واسعة، والمجرة التي نحن فيها بالنسبة الى سائر المجرات التي نعرفها هي الأخرى كالذرة التائهة في الفضاء اللامتناهي. واما الكون الذي نعرفه، فهو بالنسبة الى رحمة الله يعتبر اصغر من الذرة التائهة، اذن فكل ما نطلبه من الله العلي القدير من المغفرة، والرحمة والعافية، والرزق والفلاح، فهو شيء قليل جداً من بحر جوده اللامتناهي، ولكن بالرغم من تفاهة طلباتنا وصغر حجمها بالنسبة الى رحمة الله الواسعة، فان حاجتنا اليها شديدة: (مع حاجة بي اليه عظيمة) ان حاجتنا نحن الى رحمة الله عظيمة لانه لا نحصل على احد سواه نسأله من رحمته، كما لا يمكننا ان نتحمل عذاب الله وهجرانه وغضبه ان لم يغفر لنا: (وغناك عنه قديم) فكل ما يحتاج اليه الإنسان، فان الله غني عنه.. فيارب انت غني عني وعن عذابي، فلماذا تعذبني؟

(٤١)

انك لا تنقصك المغفرة فلماذا لا تغفر لي؟ وهذه هي لغة الالحاح في الدعاء، وعلى الإنسان العاجز الضعيف ان يطلب دائماً من ربه بالحاح واصرار، لانه هو المحتاج الى عطاء ربه، (وهو عندي كثير، وهو عليك سهل يسير) ان ما نطلبه من الله كثير عندنا، إلا انه عند الله سهل ويسير، فحينما خلق الله سبحانه وتعالى السموات والارض بكلمة واحدة وقال لها: كن، هل اصابه تعب أو لغوب؟ كلا.. ان ربنا سبحانه وتعالى اعز واعلى من ان يعتريه تعب أو لغوب، وكذلك الامر بالنسبة الى الاستجابة لدعواتنا، فانها اسهل وايسر من كل شيء على الله سبحانه وتعالى.
(اللهم ان عفوك عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي، وصفحك عن ظلمي، وسترك على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي، عندما كان من خطأي وعمدي، اطمعني في ان اسألك ما لا استوجبه منك الذي رزقتني من رحمتك، واريتني من قدرتك، وعرفتني من اجابتك..)
ان اهم حاجة للإنسان هو ان يرفع الحواجز بينه وبين الله، وان الحاجز الرئيسي بين الإنسان وبين ربه هو حاجز الذنوب، فالله لا يحتجب خلقه إلا ان تحجبهم الذنوب دونه، اذن فان السؤال الاول هو ان يعفو الله من

(٤٦)

ذنوبنا، ويتجاوز عن خطيئاتنا، ويصفح عن ظلمنا، ويستر على قبيح اعمالنا، ويحلم عن جرائمنا الكثيرة، والله تعالى يستجيب لنا في كل ذلك ويغمرنا برحمته الواسعة، ولطفه العميم، وهذه الرحمة هي التي تجعلنا نسأل الله اكثر.. فاكثر.. ونمد اليه ايدينا، اننا اذنبنا ذنوباً كثيرة، ولكن الله لم يؤاخذنا بها، ولم يعذبنا بالرغم من استمرارنا على الذنوب، بل العكس هو الصحيح اذ لا تزال رحمته تشملنا من كل جهة ويزيدنا من نعمه، ويلوح لنا بالمغفرة، ويدعونا للتوبة والعودة اليه مهما اذنبنا واخطأنا.
ان هذه الرحمة من ربنا سبحانه وتعالى تشجعنا على ان نذهب الى بابه ونسأله مع ان وجوهنا مسودة بالذنوب، لكن وجهه الكريم هو الذي يجعلنا نسأله سبحانه وتعالى.
ان الله خلق العباد ليرحمهم لا ليعذبهم: (سبحان من لا يعتدي على اهل مملكته، سبحان من لا يؤاخذ اهل الارض بالوان العذاب)، (اللهم ان عفوك عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي وصفحك عن ظلمي وسترك على قبيح عملي، وحلمك عن كثير جرمي، عندما كان من خطأي وعمدي اطمعني..) كل هذه النعم المتتالية تجعلني اطمع: (في ان اسألك ما لا استوجبه منك)، كل تلك التي جعلتني انا الفقير الذي لا أستوجب رحمتك، ان اطرق

(٤٧)

بابك واسألك من رحمتك الواسعة، (الذي رزقتني من رحمتك واريتني من قدرتك ، وعرفتني من اجابتك) فكم من المرات، ييأس الإنسان من الحياة، ويعجز عن حل مشاكله، إلا انه باللجوء الى الله، والطلب منه، تتفتح عليه ابواب رحمة الله، ويريه من قدرته ليزداد ايماناً، ويعرّفه من اجابته لكي لا ييأس بعد ذلك من شيء، ويعتمد على الله في حل مشاكله.
(فصرت أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً، لا خائفاً ولا وجلاً، مدلاً عليك فيما قصدت فيه اليك، فان أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الامور)
حينما يرتكب الإنسان خطأ تجاه صديقه، أو من هو اكبر منه في أي مجال من مجالات الحياة، ويحاول ان يعتذر عن ذلك الخطأ، تنتابه حالة من القلق: هل سيقبل الطرف الآخر عذره، ان انه سيرده على اعقابه؟ إلا اننا بازاء الله سبحانه وتعالى، وبالرغم من كل ذنوبنا، واخطائنا، ومعاصينا، لا نعيش هذا القلق، بل ندعوه وقلوبنا مطمئنة، ونسأله المغفرة ونحن نشعر بالامن: (فصرت ادعوك آمناً وأسألك مستأنساً) ولكن بالاضافة الى حالة الاطمئنان والامن القلبي، فانني (مستأنس) أيضاً، لانني اعرف انني مُقبل على مناهل رحمة الله وينابيع عفوه

(٤٨)

ومغفرته، وسوف ارتوي منها بكل راحة واُنس (لا خائفاً ولا وجلاً)، فما دمت ادعو الرب الرحيم الذي يحب عباده فلا داعي للخوف والوجل، إلا ان الإنسان المذنب المقصر يذهب ابعد من هذا: (مدلاً عليك فيما قصدت فيه اليك) فهو يتدلل على ربه، ولكن كيف؟
(فان أبطأ عني عتبت بجهلي عليك) فقد يتأخر الله في الاستجابة لدعوات الإنسان المذنب العاصي لسبب من الاسباب، فينبري بجهله وغروره معاتباً ربه: (ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي) فنحن لا نعرف كامل مصالحنا ولا نعرف الحكمة وراء عدم استجابة الله سبحانه وتعالى لبعض دعواتنا، فقد يطلب احدنا من ربه ان يرزقه مالاً كثيراً، أو يعطيه سلطة وحكومة، من دون ان يعرف ان المال الكثير، والسلطة تفسده وتجعله ينسى نفسه ويطغى على الآخرين وبذلك يستحق عذاب الله الشديد، اذن فقد يكون التأخر في الاستجابة لبعض دعواتنا لأجل مصلحتنا التي لا نستطيع ان نعرفها.

(٤٩)

4ـ علاقة الإنسان.. بالله
(... فلم ارَ مولىً كريماً اصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ يا رب، انكَ، تدعوني فاولي عنك، وتتحببُ الي فاتبغضُ اليك، وتتوددُ اليّ فلا اقبلُ منك، كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي، والاحسانِ اليّ والتفضل عليّ بجودك وكرمكَ، فارحم عبدك الجاهل، وجُد عليه بفضل احسانك انك جوادٌ كريم. الحمدُ لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخر الرياح، فالق الاصباح، ديان الدين، رب العالمين. الحمدُ للهِ على حلمه بعدَ علمه، والحمدُ للهِ على عفوه بعد قدرته، والحمدُ لله على طول اناته في غضبه، وهو قادرٌ على ما يريد...)

(٥١)

(... فلم ارَ مولىً كريماً اصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ يا رب، انكَ، تدعوني فاولي عنك، وتتحببُ الي فاتبغضُ اليك، وتتوددُ اليّ فلا اقبلُ منك..)
ان العلاقة بين الإنسان وربه، علاقة غريبة، فبينما الإنسان هو المحتاج والفقير، والمفروض ان يكون هو الذي يسعى نحو ربه ويفتش عن الوسائل التي تقربه اليه زلفى، نجد ان العكس هو الصحيح في اكثر الاحيان، اذ ان الله تعالى هو الذي يدعو الإنسان ويتحبب اليه، بينما الإنسان يرفض الاستجابة، ويبتعد عن الله استجابة لضغوط الاهواء، والشهوات، ومتع الحياة، وهذه الفقرة من دعاء (الافتتاح) تسلط الضوء على هذه المفارقة الغريبة في علاقة الإنسان بربه:
(... فلم ارَ مولىً كريماً اصبر على عبدٍ لئيم منك عليّ يا رب)
بالرغم من حاجة الإنسان اليه وعبوديته له، وبالرغم

(٥٣)

من لؤمه الذي يتجلى في ارتكاب الذنوب والاصرار على المعاصي، إلا ان الله يصبر عليه وعلى ذنوبه واخطائه، فلا يوجد اصبر من الله على عباده المذنبين، والدليل على ذلك هو: (انك تدعوني فاولي عنك)، فكم يحدث ان الله تعالى يدعونا للصلاة مثلاً عبر المؤذن الذي ينادي في اوقات الفرائض: حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على خير العمل، إلا اننا لا نستجيب، ونبقى مشغولين بالاعمال التافهة؟
فالله يدعونا ونحن نوليّ عنه.
(وتتحبب الي فاتبغض اليك)، فالله يحبك ويريدك ان تحبه، يريد ان تكون بينك وبينه علاقة حب متبادلة، ورب العزة بيده كل شيء، وهو يتفضل عليك بالنعم المتواترة حتى تحبه، ويريدك ان تخضع له وتعبده، وتطيع تعاليمه حتى يحبك، إلا انك ترفض ذلك عمليا: (وتتحبب الي فاتبغض اليك)، فكلما يهدي الله الينا هدايا طيبة حتى نحبه، نحن نعكس الامر ونرسل له بذنوبنا، وفي دعاء ابي حمزة الثمالي:
(ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا بعمل قبيح)
(وتتودد الي فلا أقبل مننك)، يرسل الله للإنسان

(٥٤)

رسالة الحب والود، إلا ان الإنسان لا يقبل بذلك ويردها دون ان يفتح الرسالة، والقرآن هو رسالة الله للإنسان، فكم نحن نقرأ القرآن؟
واذا قرأنا القرآن في شهر رمضان المبارك كعادة موروثة، فهل نتدبر في آياته، ام ان كل اهتمامنا ينصب على كمية الآيات والسور التي نقرأها في كل يوم؟
(كأن لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي، والاحسانِ اليّ والتفضل عليّ بجودك وكرمكَ، فارحم عبدك الجاهل، وجُد عليه بفضل احسانك انك جوادٌ كريم..)
(فأرحم عبدك الجاهل، وجد عليه بفضل احسانك، انك جواد كريم..)
هذا الإنسان العاجز الضعيف الذي لا يستطيع ان يواصل الحياة لحظة واحدة من دون نعم الله، وألطافه، ومن دون حب الله ووده، يرفض تحبب الله وتودده، وكأن له اليد العليا على خالق الكون، وله الفضل والطول عليه: (كأن لي التطول عليك) إلا ان هذا النوع من العلاقة السلبية التي يقيمها الإنسان بينه وبين ربه لا يمنع الله من مواصلة الرحمة والنعمة للإنسان: (فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي والاحسان الي، والتفضل علي بجودك

(٥٥)

وكرمك).
وفي دعاء ابي حمزة الثمالي ايضاً نقرأ مثل هذه الفقرات:
(الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وان كنت بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني، وان كنت بخيلاً حين يستقرضني.. الحمد لله الذي لا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الذي لا أرجو غيره ولو رجوت غيره لأخلف رجائي.. فربي احمد شيء عندي واحق بحمدي)
وهكذا تحكم بني آدم هذه المفارقة: كلما غمره الله بلطفه ورحمته كلما رد الإنسان بالذنب والجفاء، والإنسان انما يرتكب الذنب تحت ضغط الشهوات، ووقوع الإنسان في الخطأ هو امر طبيعي، والله تعالى يغفر له ذلك.
اما الجفاء فهو أسوأ من الذنب بكثير، وهو يعني ان لا يسأل الإنسان ربه، ولا يدعوه في شيء، ولا يستغفره من ذنوبه، واذا جافى الإنسان ربه وقاطعه، فالى من يلجأ؟ وهل هناك غير الله نلتمس منه حوائجنا، ونلجأ اليه في الرخاء والشدة؟
نحن نحيا بلطف الله ورحمته، ونعيش على ارضه وتحت سمائه، وبيده كل حركاتنا وسكناتنا، فكيف اذن

(٥٦)

نقاطعه ونجافيه؟
(روي أن الحسين (ع) جاءه رجل وقال: أنا رجل عاصٍ، ولا أصبر على المعصية، فعظني بموعظة، فقال (ع): أفعل خمسة أشياء واذنب ما شئت. فأول ذلك: لا تأكل رزق الله وأذنب ما شئت، والثاني أخرج من ولاية الله واذنب ما شئت، والثالث: اطلب موضعاً لا يراك الله واذنب ما شئت، والرابع: إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك فادفعه عن نفسك واذنب ما شئت، والخامس: إذا أدخلتك مالك في النار فلا تدخل في النار واذنب ما شئت).(6)
(فأرحم عبدك الجاهل، وجد عليه بفضل احسانك انك جواد كريم)
وهكذا يتضرع الإنسان الى ربه طالباً رحمته، ومعترفاً بجهله، وحاجته الملحة الى فضل الله واحسانه، وبهذا التضرع ينتهي القسم الاول من دعاء الافتتاح، وكما قلنا سابقاً ان الادعية المأثورة تبدأ عادة بحمد الله وتنزيهه وتسبيحه، ثم بعد ذلك يأتي دور التضرع لله وطلب الحاجة منه، لذلك فان القسم الاول من دعاء الافتتاح إبتدأ بالحمد والثناء والتسبيح ثم انتقل الى الطلب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(6) بحار الأنوار ـ78/ص126.

(٥٧)

والتضرع، وهكذا ايضاً يبتدأ القسم الثاني برحلة جديدة في الحمد والتسبيح والتنزيه، ثم ينتقل بعدئذ الى الطلب، وفي هذا القسم يبدأ الطلب بالصلاة على النبي محمد (ص) ثم الصلاة على الائمة المعصومين (ع) وفي نهاية الدعاء نجد مجموعة من الطلبات الاستراتيجية الهامة التي تتعلق بمصير الإنسان في الحياة، وبواقعه السياسي وبقضايا المواجهة مع اعداء الامة الإسلامية.
(الحمد لله مالكِ الملك، مجري الفلك، مسخرِ الرياح، فالق الاصباح، ديان الدين، رب العالمين)
ربما يكون هنالك فرق بين معرفة الله، وبين مجرد الايمان بالله، فحالة (المعرفة) هي حالة متقدمة عن الايمان، اذ ان (المعرفة) هي الرؤية القلبية المباشرة، وحالة المعرفة والعرفان هي حالة الاتصال الغيبي بين قلب الإنسان وبين رب الإنسان، فكيف تحصل حالة العرفان هذه؟ ان من وسائل الوصول الى حالة العرفان هو الايمان التفصيلي، أو تفصيلات الايمان، فنحن بصورة مجملة مؤمنون بان هذا الكون الواسع قد خلقه الله سبحانه وتعالى وانه هو الذي يدبر اموره، هذا هو الايمان، اما اذا اراد الإنسان ان يصل الى (معرفة الله) والى اتصال قلبه بالله والى درجة اليقين، فان عليه ان يفصِّل هذا الايمان المجمل، وان يتوجه الى كل جزء من مخلوقات الله في الكون ويتدبر في خلقه وصنعه،

(٥٨)

فيتدبر في خلق الله لهذا الكون، وهذه الشجرة، وهذا البستان، وهذه الشمس، وهذا القمر، وهذه النجمة، وهذه الكرة، وهكذا.. حتى ينبعث في قلب الإنسان نور اليقين، وتغمره حالة المعرفة، ويصل الى ما وصل اليه الإمام علي (ع) الذي يقول حسب ما روي عنه:
(ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ومعه وبعده)
فكل شيء يراه الإنسان يتجلى فيه اسم من اسماء الله سبحانه وتعالى فحينما يرى الشجرة لا يفكر في ثمرتها وقيمتها فقط، بل يفكر ايضاً في اتقان الصنع وابداع الخلق وجمال الصورة ونظام الحياة، ومن خلال اتقان الصنع يصل الإنسان الى اسم الله البديع المدبر، ومن خلال قوة ومتانة الصنع يقول: سبحان الله القوي القدير، ومن خلال تفاعل الشجرة مع الكون، يقول سبحان الله مدبر الامور، المقدر الحكيم. فاذن كل شيء يهدي الأنسان العارف الى اسم من اسماء الله، واذا عرف الإنسان ربه عبر اسمائه الحسنى سبحانه، فانه يزداد تألقاً في سماء الايمان كلما عرف اسماً جديداً من اسماء الله عزوجل، ويرتقي درجة جديدة من درجات اليقين.
من هنا نجد ان القسم الثاني من (دعاء الافتتاح) يبدأ بحمد الله وثنائه مشيراً الى تفاصيل الابداع والاتقان في الخلق، في محاولة لدفع الإنسان المؤمن الى المزيد من التدبر

(٥٩)

والتفكر في صنع الله ليكسب المزيد من اليقين والمعرفة: (الحمد لله مالك الملك) فالملك كله لله: (مجري الفلك) ان كل شيء في هذا الكون يجري ويدور، فالارض تدور حول نفسها وتدور حول الشمس، والشمس بذاتها تدور وتتحرك والكرات كلها في حالة دوران مستمر فمن الذي يجريها ويحركها؟ هو الله سباحنه وتعالى! هذا هو احد المعاني لجريان الفلك، اما المعنى الآخر فهو: السفينة، فالله تعالى هو الذي يجريها وسط البحار المتلاطمة بواسطة القوانين الطبيعية التي وضعها رب العالمين: (مسخر الرياح) اننا نعرف بان حركة الرياح انما هي بسبب تحولات تحدث في الشمس، فالرياح تحدث في الارض اذا حدث انفجار ما في عمق الشمس، ولكن الامر هو ابعد وادق من ذلك، فالرياح تتحرك بانتظام دقيق، وهي التي تدير الكثير من شؤون الكون، والرياح مثل رسل الله سبحانه وتعالى، تلقح الاشجار وتكشف السحب وتغير الهواء وتجري السفن في اعالي البحار ومئات العمليات الأخرى التي تقوم بها الرياح، فمن الذي ينظمها ويهديها ويحركها غير الله سبحانه وتعالى؟ وبعض الرياح تكون رياح عذاب حينما تهب على القرية المذنبة وتبيدها عن آخرها، بينما القرية القريبة منها تكون بعيدة عن تأثيرات الرياح، ان الرياح لا تعقل شيئاً، فمن الذي يوجهها، ويحركها حسب مصلحة معينة غير الله تعالى؟

(٦٠)

(فالق الاصباح) وهو الذي فلق الصبح وجعله ينفجر من ضمير الظلام الدامس لتتنفس الحياة، وتدور عجلة البشرية في نشاط دائب، (ديان الدين رب العالمين) والله هو الذي يعطي جزاء الناس ويحاسبهم على كل صغيرة وكبيرة، لانه رب العالمين.
(الحمد لله على حلمه بعد علمه، والحمد لله على عفوه بعد قدرته، والحمد لله على طول انانه في غضبه وهو قادر على ما يريد..)
في هذه الفقرة من الدعاء نجد مظاهر أخرى من المفارقة السابقة التي ذكرناها في علاقة الإنسان بربه، فالله تعالى يحلم عن الإنسان المذنب العاصي بالرغم من علمه بكل ذلك، فانت قد تغتاب شخصاً لا يسمعك، ولكن الله يراك ويسمعك، وما من ذنب يرتكبه الإنسان إلا ويراقبه الله ويراه، جاء في حديث شريف ان ابراهيم النبي عليه الصلاة والسلام اراه الله ملكوت السموات والارض وكشف عن بصره الغطاء، فرأى كل ما يدور من احداث: رأى رجلاً يزني بامرأة في مكان ما، وآخر يسرق من بيت ما، وثالث يعتدي على صاحبه ويقتله، وهكذا مجموعة كبيرة من الذنوب والمعاصي، وكان النبي يرى كل ذلك ويملأه العجب، وهو نبي معصوم ويخشى الله سبحانه وتعالى، ويعرف الله حق معرفته.

(٦١)

عن رسول الله (ص) قال:
(إن ابراهيم الخليل لما رفع في الملكوت، وذلك قول ربي* وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين* قوى الله بصره لما رفعه دون السماء حتى أبصر الأرض ومن عليها ظاهرين ومستترين، فرأى رجلاً وأمرأة على فاحشة، فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما بالهلاك فهلكا، ثم رأى آخرين فدعا عليهما فهلكا، ثم رأى آخرين فهم بالدعاء عليهما بالهلاك، فأوحى الله اليه:
يا إبراهيم إكفف دعوتك عن عبادي وإمائي فاني انا الغفور الرحيم، الجبار الحليم، لا تضرني ذنوب عبادي كما لا تنفعني طاعتهم، ولست اسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبادي فانما انت عبد نذير، لا شريك في المملكة، ولا مهيمن عليّ ولا على عبادي، وعبادي معي بين خلال ثلاث: اما تابوا اليّ فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم، وسترت عيوبهم، واما كففت عنهم عذابي لعلمي بانه سيخرج من اصلابهم ذريات مؤمنون، فارفق بالآباء الكافرين، وأتأنى بالامهات الكافرات، وارفع عنهم عذابي ليخرج ذلك المؤمن من اصلابهم، فاذا تزايلوا حق بهم عذابي، وحاق

(٦٢)

بهم بلائي، وان لم يكن هذا ولا هذا فان الذي اعددته لهم من عذابي اعظم مما تريدهم به، فان عذابي لعبادي علي حسب جلالي وكبريائي..
يا ابراهيم فخلّ بيني وبين عبادي فاني ارحم بهم منك، وخلّ بيني وبين عبادي فاني أنا الجبار الحليم، العلام الحكيم، ادبرهم بعلمي، وأنفذ فيهم قضائي وقدري).(7)
وهكذا نجد ان الله تعالى يحلم عن عباده بعد علمه بكل معاصيهم، وهو قادر على ان ياخذهم إلا انه يعفو عنهم (الحمد لله على عفوه بعد قدرته)، وكذلك يصبر الله طويلاً على عبده ولا ينزل عليه غضبه، فقد يمهل الله انساناً عشرات السنين وهو سادر في الذنوب والمعاصي لعله يهتدي في النهاية ويعود إلى رشده (والحمد لله على طول أناته في غضبه) كل ذلك (وهو قادر على ما يريد) ولان الله يعفو، ويحلم ويصبر على المذنبين بالرغم من قدرته وجبروته، كان العفو، والحلم، والصبر من اسمائه الحسنى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(7) بحار الأنوار - 12/ص60.

(٦٣)

5 - الدعاء ومعالجة الغيب والشهود
(... الحمدُ لله خالقِ الخلق، باسط الرزق، فالقِ الاصباح، ذي الجلال والاكرام، والفضل والانعام، الذي بَعُد فلا يُرى، وقرُبَ فشهِد النجوى.. تبارَك وتعالى، الحمدُ لله الذي ليس له منازع يعادله، ولا شبيه يشاكله، ولا ظهير يعاضده، قهر بعزَّته الاعزاء، وتواضع لعظمته العظماء، فبلغَ بقدرته ما يشاء..)

(٦٥)

* (الحمدُ لله خالقِ الخلق، باسط الرزق، فالقِ الاصباح، ذي الجلال والاكرام، والفضل والانعام، الذي بَعُد فلا يُرى، وقرُبَ فشهِد النجوى.. تبارَك وتعالى)
ان التأمل في هذه الفقرة من الدعاء يصل بنا إلى عدة افكار من ابرزها ما يلي:
الفكرة الاولى: ان هناك علاقة وثيقة بين (خالق الخلق) و(باسط الرزق)، اذ انه حسب ما يبدو لنا من آيات القرآن الحكيم ومن التدبر في طبيعة الكون الذي نعيشه، هو ان خلق الله سبحانه وتعالى للاشياء لم يكن بتحويلها من العدم إلى الوجود، بل ان ذات الاشياء لا تزال هي: العدم. انما الله تعالى رش عليها وميضاً من نور الوجود، فهي موجودة بالله، قائمة به، وربنا هو القيوم على كل شيء ولو ان ربنا ترك الموجودات لحظة واحدة لانعدمت، ولم يبقَ منها شيء. ان كل هذه السموات العملاقة، وهذا الفضاء اللامتناهي بما فيه من مجرات

(٦٧)

هائلة، انما هي قائمة باذن الله:
(ان الله يمسك السموات والارض ان تزولا، ولئن زالتا إن امسكهما من أحدٍ من بعده) (41/فاطر)
ان مفهوم العطاء المستمر والفيض المستمر، هو مفهوم يتناسب مع الرزق، لان الذي اعطى الوجود للاشياء لا يزال يعطي لها تكامل هذا الوجود، واستمراريته واحتياجاته بصورة منتظمة.
ان وجودنا بحاجة في استمراره إلى الله سبحانه وتعالى، والوجه الظاهر لهذه الحقيقة هو رزق الله سبحانه وتعالى، فلو امسك الله رزقه عنا، لو امسك هذا الاوكسجين الذي نتنفسه، وهذا الاكل الذي نتغذى به ومن خلاله تنمو خلايا وانسجة جسمنا، لكان مصيرنا الموت بالطبع، ليس الموت وحده، بل والتفتت والتحول إلى تراب.
اذن فلو امسك الله تعالى عن الخلق رزقه المستمر، والعطاء المتواصل لانتهى المخلوق، من هنا نكشف مدى العلاقة بين الامرين:
(خالق الخلق) و(باسط الرزق) فالذي خلق الخلق

(٦٨)

هو الذي يبسط الرزق وينشره، والرزق هنا هو اشمل مما يتصوره الإنسان في الوهلة الأولى، اذ انه يشمل كل مقومات الوجود واستمرارية الحياة، (فالق الاصباح) وهذا هو الآخر يرتبط بقضية الرزق واستمراريته، اذ ان الصباح هو خير فرصة للجميع للتحرك والسعي لاكتساب الرزق، والله هو الذي يغلق الصبح ويفجره ليتنفس من بطن الظلام: (فالق الاصباح، ذي الجلال والاكرام)..
الفكرة الثانية: ان الرؤية الاسلامية هي رؤية عمومية كلية تربط الموجودات الظاهرة بالغيبيات الباطنة.. والحقائق المركبة بالحقائق المجردة، وهذه الفكرة تتجلى في هذه الفقرة من الدعاء، حيث يربط بين الخلق الاول الذي لم نشهده، وبين الرزق المبسوط المتجدد الذي نراه ونلمسه كلّ لحظة، وهذا الرزق المشهود هو خير دليل على ذلك الخلق الغيبي، وهكذا يربط الدعاء بين ذلك الغيب وهذا الشهود، بين ذلك الماضي وهذا الحاضر، بين ذلك الذي لم نره وهذا الذي لا نزال نراه في كل لحظة، هذا من جهة..
ومن جهة أخرى، نرى ان هذه الفقرة تربط بين الخلق الاول والرزق المتجدد وفلق الاصباح وجلال الله واكرامه كمجموعة مترابطة من الحقائق، وبين ان ربنا قريب يسمع النجوى، وبعيد بجلاله وعظمته فهو قريب

(٦٩)

من جهة، بعيد من جهة، قريب لانه مهيمن، محيط سميع بصير، وبعيد لانه عظيم جليل لا يشبه خلقه، يقول الدعاء: (الذي بَعُدَ فلا يُرى) هل يستطيع الانسان المحدود ان يرى الله سبحانه وتعالى من ان يُرى؟ انه بعيد من هذه الناحية، بعيد عن رؤية العين وبعيد عن أوهام الخيال (وقرُب فشهد النجوى) لو ناجى الانسان صاحبه بصوت منخفض لا يسمعه احد، فان الله سبحانه وتعالى يسمعه قبل صاحبه، ولذلك فهو من هذه الجهة قريب إلى الإنسان، بل هو اقرب اليه من حبل الوريد: (وقَرُبَ فشهد النجوى تبارك وتعالى..)..
ان تبارك يرمز إلى سلسلة من اسماء الله الخالق الرازق الباسط القابض. واسم تعالى يرمز إلى سلسلة اخرى من اسماء الله: سبوح قدوس منزه، وكل الاسماء التي تنتهي إلى تقديس الله..
* (الحمد لله الذي ليس له منازع يعادله، ولا شبيه يشاكله، ولا ظهير يعاضده، قهر بعزته الاعزاء، وتواضع لعظمته العظماء، فبلغَ بقدرته ما يشاء)
جاء في حديث مروي عن الامام علي عليه الصلاة والسلام انه قال في صفة المؤمنين:(عظم الخالق في انفسهم فصغر ما سواه) هذه المعادلة تتجلى في قلوب المؤمنين الصادقين فكلما عظم الخالق في

(٧٠)

انفسهم، كلما صغرت الخلائق في اعينهم، ووجدوا ما دون الله، تافهاً لا يساوي شيئاً ولا يقدر على شيء، لذلك فان قلوبهم لا تتعلق بحطام الدنيا، ولا يدخل فيها حب الماديات.. بل حب ما سوى الله.
وفي بعض الكتب: ان عيسى (ع) كان مع بعض الحواريين في بعض سياحته، فمروا على بلدٍ، فلما قربوا منه وجدوا كنزاً على الطريق، فقال من معه: إئذن لنا يا روح الله ان نقيم ههنا ونجد ونحوز هذا الكنز لئلا يضيع، فقال (ع) لهم: اقيموا ههنا وانا ادخل البلد ولي فيه كنز أطلبه، فلما دخل البلد، وجال فيه رأى داراً خربة فدخلها فوجد فيها عجوزة، فقال لها: انا ضيفك في هذه الليلة، وهل في هذه الدار احد غيرك، قالت: نعم لي ا بن مات ابوه وبقي يتيماً في حجري، وهو يذهب إلى الصحاري ويجمع الشوك ويأتي البلد فيبيعها، ويأتيني بثمنها نتعيش به، فهيأت لعيسى (ع) بيتاً، فلما جاء ولدها قالت له: بعث الله لنا في هذه الليلة ضيفاً صالحاً. يسطع من جبينه انوار الزهد والصلاح، فاغتنم خدمته وصحبته، فدخل الابن على عيسى (ع)، وخدمه واكرمه، فلما كان في بعض الليل سأل عيسى (ع) الغلام عن حاله ومعيشته وغيرها، فتفرس (ع) فيه آثار العقل والفطانة والاستعداد للترقي على مدارج الكمال، لكن وجد فيه ان قلبه مشغول بهم عظيم، فقال له: يا غلام ارى قلبك

(٧١)

مشغولاً بهمٍّ لا يبرح فاخبرني به لعله يكون عندي دواء دائك، فلما بالغ عيسى (ع) قال: نعم في قلبي همٌ وداء لا يقدر على دوائه احد إلا الله تعالى، فقال: اخبرني به لعل الله يلهمني ما يزيله عنك، فقال الغلام: اني كنت يوماً احمل الشوك إلى البلد فمررت بقصر ابنة الملك فنظرت إلى القصر، فوقع نظري عليها فدخل حبّها شغاف قلبي، وهو يزداد كل يوم ولا أرى لذلك دواء إلا الموت، فقال عيسى (ع): ان كنت تريدها انا احتال لك حتى تتزوجها، فجاء الغلام إلى امه، واخبرها بقوله، فقالت امه: يا ولدي. اني لا اظن هذا الرجل يعد بشيء لا يمكنه الوفاء به، فاسمع له واطعه في كل ما يقول: فلما اصبحوا قال عيسى (ع) للغلام: اذهب إلى باب الملك فاذا اتى خواص الملك ووزراؤه ليدخلوا عليه، قل لهم: ابلغوا الملك عني اني جئته خاطباًكريمته، ثم ائتني واخبرني بما جرى بينك وبين الملك، فاتى الغلام باب الملك، فلما قال ذلك لخاصة الملك. ضحكوا وتعجبوا من قوله، ودخلوا على الملك، واخبروه بما قال الغلام مستهزئين به، فاستحضره الملك، فلما دخل على الملك وخطب ابنته قال الملك مستهزئاً به: انا لا اعطيك ابنتي إلا ان تأتيني من اللآليء واليواقيت والجواهر الكبار كذا وكذا.. ووصف له ما لا يوجد في خزانة ملك من ملوك الدنيا. فقال الغلام: أنا اذهب واتيك بجواب هذا الكلام، فرجع إلى عيسى (ع) فاخبره بما جرى، فذهب

(٧٢)

عيسى (ع) به إلى خربة كانت فيها احجار ومدر كبار، فدعا الله تعالى فصيّرها كلها من جنس ما طلب الملك واحسن منها، فقال: يا غلام خذ منها ما تريد واذهب به إلى الملك، فلما اتى الملك بها تحيّر الملك واهل مجلسه في امره، وقالوا: لا يكفينا هذا، فرجع إلى عيسى (ع) فاخبره، فقال: اذهب إلى الخربة وخذ منها ما تريد، واذهب بها اليهم، فلما رجع باضعاف ما اتى به اولاً زادت حيرتهم، وقال الملك: ان لهذا شأناً غريباً، فخلا بالغلام واستخبره عن الحال، فاخبره بكل ما جرى بينه وبين عيسى (ع)، وما كان من عشقه لابنته، فعلم الملك ان الضيف هو عيسى (ع)، فقال: قل لضيفك يأتيني ويزوجك ابنتي، فحضر عيسى (ع) وزوجها منه، وبعث الملك ثياباً فاخرة إلى الغلام فالبسها اياه، وجمع بين وبين ابنته تلك الليلة، فلما اصبح طلب الغلام وكلّمه فوجده عاقلاً فهماً ذكياً، ولم يكن للملك ولد غير هذه الابنة، فجعل الغلام ولي عهده ووارث ملكه، وامر خواصه واعيان مملكته ببيعته وطاعته.
فلما كانت الليلة الثانية مات الملك فجأة، وأجلسوا الغلام على سرير الملك، واطاعوه، وسلموا اليه خزائنه، فاتاه عيسى (ع) في اليوم الثالث ليودّعه، فقال الغلام: ايها الحكيم ان لك عليّ حقوقاً لا اقوم بشكر واحد منها لو بقيت ابد الدهر، ولكن عرض في قلبي البارحة امر لو

(٧٣)

لم تجبني عنه لا أنتفع بشيء مما حصّلتها لي. فقال: وما هو؟
قال الغلام: انك اذا قدرت على ان تنقلني من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الدرجة الرفيعة في يومين فلم لا تفعل هذا بنفسك، واراك في تلك الثياب، وهذه الحالة، فلما احضى في السؤال. قال عيسى (ع): ان العالم بالله وبدار كرامته، وثوابه، والبصير بفناء الدنيا وخستها ودناءتها، لا يرغب إلى هذا الملك الزائل، وهذه الامور الفانية، وان لنا في قربه تعالى، ومعرفته ومحبته لذات روحانية، لا نعد تلك اللذات الفانية عندها شيئاً.
فلما اخبره بعيوب الدنيا وآفاتها ونعيم الاخرة ودرجاتها، قال الغلام: فلي عليك حجة أخرى، لم أخترت لنفسك ما هو اولى واحرى، واوقعتني في هذه البلية الكبرى؟
فقال له عيسى (ع): انما اخترت لك ذلك لامتحنك في عقلك وذكائك، وليكون لك الثواب في ترك هذه الامور الميسرة لك اكثر واوفى، وتكون حجة على غيرك.
فترك الغلام الملك، ولبس أثوابه البالية، وتبع عيسى (ع) فلما رجع عيسى إلى الحواريين. قال: هذا كنزي الذي كنت أظنه في هذا البلد فوجدته والحمد لله.(8)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8) بحار الأنوار14/ص280.

(٧٤)

وحينما تتجلى عظمة الله في نفس الإنسان وتصغر الدنيا في عينه، فان كل مصائب الدنيا ومشاكلها تهون امامه، من هنا نرى ان الانبياء العظام يضربون للبشرية خير الامثلة في الصبر، والاستقامة، والتحدي، ومقاومة الضغوط والمشاكل، ذلك لانه عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في اعينهم، فالنبي ابراهيم عليه الصلاة والسلام، يستجيب لنداء ربه، ويُقدم على ذبح ابنه،ثم بعد ذلك يترك ذريته في أرض لا زرع فيها ولا ضرع، وفي المواجهة مع الطاغوت يُرمى به في لهيب النار، فلا يتكلم ولا حتى بكلمة واحدة، وكذلك النبي نوح الذي صبر تسعمائة وخمسين عاماً يدعو قومه، وهكذا بالنسبة إلى بقية الرسل والانبياء فمن اين حصلوا على هذا التعالي والتكامل؟ كيف تساموا على الدنيا وما فيها؟ كيف استقاموا؟ ان وراءهم ينبوعاً من النور والارادة، ينبوعاً من القوة.
انه ينبوع الايمان بالله، فقد تجلت عظمة الله في انفسهم فهانت عليهم الدنيا. ونحن بدورنا مدعوون لكي نعمق هذاا لايمان إلى درجة الاستهانة بكل الصعاب والمشاكل. ان الايمان العميق هو الذي يمنح الإنسان قدرة فائقة على الصمود في سجون الطغاة ومقاومة فريدة لكل اساليب التعذيب. والايمان هو الذي يجعل المؤمن المجاهد يستقبل حكم الاعدام بابتسامة عريضة، لان المشنقة سوف

(٧٥)

تعرج به إلى الله سبحانه وتعالى.
ان الايمان بالله وعظمته لا يجعلنا نفقد توازننا واستقامتنا في لحظات المواجهة الحاسمة مع الحياة.
والفقرة التالية من الدعاء تشير إلى هذه الفكرة: (الحمد لله الذي ليس له منازع يعادله ولا شبيه يشاكله)، فليس هناك من ينازع الله، ويكون عدلاً له، ولا شبيه يشبه ربنا (ولا ظهير يعاضده) ثم يقول الدعاء: (قهر بعزته الاعزاء) فكل الاعزاء اذلة ومقهورون لجبار السموات والارض، (وتواضع لعظمته العظماء، فبلغ بقدرته ما يشاء)، ان قدرة الله تعالى لا متناهية، وهي تحيط بكل شيء، وبكل ما يشاء ربنا العزيز القدير.

(٧٦)

6 - حاجة الإنسان إلى الله
(.. الحمدُ للهِ الذي يُجيبُني حِين اُناديه، ويَسْتُرُ عليّ كُلَ عَوْرَةٍ وَاَنا اَعْصيه، وَيُعَظّمُ النعمةَ عليّ فلا اجازيه، فَكَم مِن مَوْهِبَة هَنيئةٍ قَدْ اَعْطاني، وعَظيمَة مَخُوفَةٍ قَدْ كفاني، وبَهْجْةِ مُونقَةٍ قَدْ اَراني، فَأثني عليهِ حامداً، وَاَذكُرُه مُسَبِّحاً، الحمدُ للهِ الذي لا يُهْتَكُ حِجابُه، ولا يُغْلَقُ بابه، ولا يُرَدُّ سائِلُه، ولا يُخَيَّبُ آمِلُه...)

(٧٧)

يتجلى ذكر الله سبحانه وتعالى، عندما يذكر الانسان اسماءه الحسنى، ويذكِّر نفسه في ذات الوقت باضطراره وضعفه وحاجته إلى الله سبحانه، فلو استطاع الانسان ان يعرف نفسه، وان يصل بمعرفته لنفسه درجة يعلم بها ان كلما اصابه من خير فهو من الله، وما اصابه من شر فهو من نفسه، ويعلم بها ان طبيعته مرتكزة في حل الضعف والعدم والعجز والعجل، لو وصل الانسان إلى هذا المستوى من المعرفة، لوصل إلى قمة العبودية وذروة الطاعة له، فالله سبحانه وتعالى يريد ان يعرفك نفسك من خلال اعمالك الصالحة، واذا عرفت نفسك معرفة حقيقية فانك تستطيع ان تعرف ربك ايضاً:
(من عرف نفسه فقد عرف ربه)
وبالطبع ليست العملية بهذه السهولة - كما قد يتصور بعض الناس - اذ ان وصول الانسان إلى هذا المستوى من المعرفة بحاجة إلى عمل كثير ومركز ومستمر

(٧٩)

 كيف؟
نستطيع تحديد الاجابة من خلال ما جاء في بعض الاحاديث من: ان الاروح خلقت قبل الاجسام بألفي عام، وانها كانت موجودة في عالم الاشباح وهذا العالم يختلف عن عالم الذر، ثم انتقلت إلى عالم الذرن ومن عالم الذر إلى عالم النسل ومن عالم النسل تنتقل إلى البرزخ، ومن البرزخ إلى يوم القيامة، ومن يوم القيامة إلى المصير النهائي، اما إلى الجنة أو إلى النار.
عن علي بن احمد، عن محمد بن ابي عبد الله، عن محمد بن اسماعيل البرمكي عن جعفر بن سليمان، عن ابي ايوب الخزاز، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): لا ي علة جعل الله عزوجل الارواح في الابدان بعد كونها في ملكوته الاعلى في ارفع محل؟ فقال (عليه السلام): (إن الله تبارك وتعالى علم ان الارواح في شرفها وعلوها متى ما تركت على حالها نزع اكثرها إلى دعوى الربوبية دونه عزوجل فجعلها بقدرته في الابدان التي قدر لها في ابتداء التقدير نظراً لها ورحمة بها، واحوج بعضها إلى بعض، وعلق بعضها على بعض، ورفع بعضها على بعض، ورفع بعضها فوق بعض درجات، وكفى بعضها ببعض، وبعث اليهم رسله، واتخذ عليهم حججه مبشرين ومنذرين، يأمرون بتعاطي العبودية والتواضع لمعبودهم

(٨٠)

بالانواع التي تعبدهم بها، ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات في الآجل. ومثوبات في العاجل ومثوبات في الآجل ليرغبهم بذلك في الخير ويزهدهم في الشر، وليذلهم بطلب المعاش والمكاسب، فيعلموا بذلك انهم بها مربوبون وعباد مخلوقون، ويقبلوا على عبادته فيستحقوا بذلك نعيم الابد وجنة الخلد، ويامنوا من النزوع إلى ما ليس لهم بحق.
ثم قال (عليه السلام): يا ابن الفضل! انا لله تبارك وتعالى احسن نظراً لعباده منهم لانفسهم، إلا ترى انهم لا ترى فيهم إلا محباً للعلو على غيره حتى أنه يكون منهم لمن قدنزع إلى دعوى الربوبية، ومنهم من نزع إلى دعوى النبوة بغير حقها. ومنهم من نزع إلى دعوى الامامة بغير حقها، وذلك مع ما يرون في انفسهم من النقص والعجز والضعف والمهانة والحاجة والفقر والآلام والمناوبة عليهم والموت الغالب لهم والقاهر لجميعهم - يا ابن الفضل ان الله تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلا الاصلح لهم، ولا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس انفسهم يظلمون).(9)
والتأكيد على قراءة الادعية المأثورة انما هو من اجل ان تتحول روح الاستقلال، والشعور بالاستغناء والطغيان،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9) بحار الأنوارـ ج58/ص133.

(٨١)

إلى روح العبودية والذلة والاحساس بالحاجة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا شك ان العبودية والذلة لله سبحانه، تختلف عنها امام الخلق، فالعبودية لله عِزٌّ، والذل امام الله سبحانه وتعالى فخر، واستعطاء الله غنى، لذلك نقرأ في هذه المقطوعة من دعاء الافتتاح:
(الحمد لله الذي يجيبني حين اناديه)
فانا ضعيف امام الله، واحتاج اليه في كل شؤوني، وحينما اناديه القاه مجيباً (ويستر عليَّ كل عورة وانا اعصيه)، فكل انسان لا يخلو من عورة وعيب، وافتضاح الناس امام بعضهم البعض في الدنيا يعني عجز الانسان عن التعامل مع الاخرين، ولذلك كان الانسان بحاجة إلى ان يستر الله عيوبه في الدنيا والاخرة، إلا اننا احوج إلى ستر الله في الاخرة منا إلى ستره في الدنيا. اذ ان افتضاح عيوب الانسان وتعريته في الدنيا لا يتعدى الدائرة الاجتماعية الضيقة التي يعيش فيها الفرد، وهي عبارة عن عدد محدود من الافراد بينما في يوم القيامة حيث يقف الواحد منا مع مئات المليارات من البشر، امام الله سبحانه وتعالى، فان افتضاح الانسان وتعريته امام هذا العدد الهائل من الناس لامر صعب وشاق للغاية.
اذن، فنحن نحمد الله على انه يستر عوراتنا، وحمد الله يجب ان يتجسد في الكف عن معصية الله: (ويستر

(٨٢)

عليّ كل عورة وأنا أعصيه)
فستر الله تعالى على الانسان يجب ان يتحول إلى رادع عن المعصية، وليس دافعاً، للتوغل في الذنوب، واذا لم يكن للانسان ايمان راسخ يمنعه عن المعصية، فلا بد ان يتمتع - على الاقل - بالحياء من الله الذي يستر العيوب، والعورات عن الخلائق.
(ويعظم النعمة عليّ فلا اجازيه)
فالله تعالى يبارك لنا في حياتنا، بل كل جزء من حياتنا هو نعمة عظيمة من الله، الزوجة والاولاد نعم من الله، والعزة والحرية والقدرة هي الاخرى نعم من الله، إلا اننا بازاء كل نعم الله العظيمة لا نجازيه، بل نواصل العيش غافلين عن كل ذلك: (ويعظم النعمة عليّ فلا اجازيه.. فكم من موهبة هنيئة قد اعطاني وعظيمة مخوفة قد كفاني).
ان مواهب الله غالباً ما تكون واضحة يعرفها الانسان ويلمسها في حياته، واحياناً يشكر الله عليها، إلا ان لطف الله الخفي هو ما يدفعه الله عن الانسان من عظائم الامور والاخطار، فالانسان معرض في اية لحظة لمئات الاخطار والمشاكل: للمرض، والفقر، والهزيمة، والموت. والله تعالى هو الذي يدفع كل ذلك عن الانسان.

(٨٣)

(له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله) (11/الرعد)
فلكل انسان عدد من الملائكة الذين وكلهم الله به، وهم بمثابة الحراس الذين يحفظونه من التعرض للاخطار، ولو عاد كل واحد منا إلى نفسه لتذكر عشرات الموارد التي كاد يتعرض فيها لاخطار جسيمة، إلا ان يداً غيبية كانت تنقذه، وتدفعه بعيداً عن ذلك.
يقول الطب الحديث ان السبب الظاهر لمرض السرطان هو وجود خلية فاسدة في أي منطقة من مناطق الجسم، تقوم هذه الخلية بتوليد المثل فتحول كل الخلايا المجاورة لها إلى خلايا فاسدة ايضا، وحينذاك تتسع الرقعة لتشمل مساحة كبيرة من الجسم يستحيل علاجها على الطب.
ويضيف الطب الحديث: ان هذه الخلية الفاسدة هي موجودة في كل جسم منذ الولادة، إلا انها غير نشطة لاسباب غير معروفة طبياً، ويحدث احياناً وفي بعض الاجسام - ولاسباب غير معروفة ايضا - ان تنشط وتتحرك هذه الخلية الفاسدة وتقوم بافساد اكبر قدر ممكن من الخلايا المجاورة شيئاً فشيئاً.

(٨٤)

اذن، فكل واحد منا مهدد بالاصابة بهذا المرض الخطير، وكل لحظة من حياتنا يمكن ان تتحول إلى لحظة النهاية والموت بالسرطان، لكن الله سبحانه وتعالى يبعد كل هذه التهديدات وهذه المخاطر عنا، هل نحن نشكره؟ كلا..
(فكم من موهبة هنيئة قد اعطاني، وعظيمة مخوفة قد كفاني، وبهجة مونقة قد اراني)، ان كل ما في الحياة من جمال وروعة يعطيه الله لنا، وهو دليل آخر على ضعفنا وحاجتنا إلى رحمته وفضله، ولكن كيف؟
احياناً حينما تكون في الصحراء قد ضقت ذرعاً بالظلام والبرد والوحشة فترى الصبح بتألقه وضيائه يقدم عليك فينفتح قلبك، وتنشرح نفسك، وتجدد آمالك، هذه هي البهجة المونقة، والروعة والجمال، واحياناً تكون جالساً عصراً في جو حار وخانق ومزعج، وفجأة ترى السماء قد امتلأت سحاباً وامطرت مطراً حسناً، والجو آخذ في البرد، فتنتعش وتغمرك بهجة مونقة.
إذن، فهناك لحظات البهجة والسرور يغمر الله الانسان بها ليشعر انه بحاجة إلى الله دائماً وابداً.. (وبهجة مونقة قد اراني، فاثني عليه حامداً، واذكره مسبّحاً..).
فمن جهة اثني على الله أي أذكره بالخير، وأحمده،

(٨٥)

وفي نفس الوقت اجري ذكر الله على لساني واسبحه وانزهه عن ان يشبه المخلوقين: (الحمد لله الذي لا يُهتك حجابه)، هل استطاع احد ان يصل إلى الله سبحانه وتعالى؟ فحجابه لا يهتك، وهو مستور في سرادقات عرشه وبعزة مجده (ولا يُغلَق بابه)، ابواب الناس تغلق في الليل، حتى اكثر الحكومات عدالة تغلق مكاتبها في فترات معينة من اليوم إلا ان ابواب الله تبقى مفتوحة في أي وقت من الاوقات، يستطيع الانسان ان يطرقها في اية لحظة يحتاج فيها إلى ربه: (ولا يغلق بابه، ولا يرد سائله) وحينما يطرق الانسان باب ربه فانه لابد ان يجد الاجابة الملائمة، فالله لا يرد من يسأله ويدعوه (ولا يخيب آمله)، لا يحتاج الانسان ان يسأل ربه، بل يكفي ان تأمل ربك في قلبك، حتى تجد الله عند قلبك المنكسر، فالله يستحيل ان يخيب آمله، إلا ان الشرط هو ان لا نخادع انفسنا، وان يكون أملنا في الله وحده، لا نشرك به أحداً.

(٨٦)

7 - الاعتماد على الله
(الحمدُ للهِ الذي يُؤمنُ الخائفين، ويُنَجِّي الصالِحين، ويَرْفَعُ المُستَضعَفِين، ويَضَعُ المُستُكُبرين، وَيُهْلِكُ مُلُوكاً وَيَسْتَخْلِفُ آخَرين، والحمدُ للهِ قاصِم الجَبارين، مُبِيِر الظالمِيِن، مُدرِكِ الهاربِيِن، نكالِ الظالِميِن، صَرِيِخ المُسْتَصْرِخِين، مَوْضِعِ حاجاتِ الطالِبِين، مُعْتَمَدِ المؤمِنين، اَلحَمْدُ للهِ الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها، وترجف الارض وعمارها، وتموج البِحارُ، وَمَنْ يَسْبَحُ في غَمَراتِها. اَلحَمدُ لله الذي هَدَانا لِهذا وما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لولا اَنْ هَدانا الله، الحَمْدُ للهِ الذي يَخْلُقُ وَلَمْ يُخْلَق، وَيَرْزُقُ ولا يُرْزَق، وَيُطعِمُ ولا يُطعَمْ، وَيُمِيتُ الاحياء، وَيُحيي المَوْتى، وَهو حَيُّ لا يَمُوت، بِيَدِه الخير، وَهو عل كلِ شَيءٍ قّدير..)

(٨٧)

تعالج الادعية المأثورة واقعاً نفسياً للانسان ينعكس في تصرفاته الاجتماعية، وعندما نتأمل في فقرة من فقرات الدعاء لابد ان نتساءل: أي واقع تعالجه هذه الفقرة؟ واي انحراف تصححه؟ واي ضعف يسعى الدعاء من اجل ان يجيره؟ واي عجز يسعى من اجل ان يقيمه؟
وبتعبير اخر: ما هو الهدف المباشر وراء هذه الكلمة أو تلك من الدعاء؟
وحينما نتعمق في كل ذلك فانه ينفعنا اولاً في معرفة نواحي الضعف في انفسنا، وثانياً في معرفة كيفية معالجة هذه النواحي عبر الدعاء وعبر ما يثيره في انفسنا من احساسات، وما يعلمنا من دروس.
وفي حالة التأمل في كلمة من كلمات الدعاء، يجب ان لا نقتصر على فهم الدعاء فحسب، وانما علينا ان نصل إلى تلك الطريقة التي اتبعها الدعاء من اجل معالجة هذه الناحية من النقص في انفسنا، واذا وصلنا إلى تلك

(٨٩)

الطريقة فيمكن ان نستفيد منها ولو بصورة غير صورة الدعاء.
فمثلاً علينا ان نسأل: من اجل ماذا تسعى هذه الفقرة من الدعاء؟
الجواب: انها تجبر ضعفاً موجوداً في واقع النفس البشرية، انه ضعف الانسان امام الطبيعة وخوفه منها، ضعف الانسان امام المجتمع وخشيته منه، ضعف الانسان امام السلطات التي تمثل القوى الاجتماعية وخوفه منها، هذا الضعف لابد أن يجبر لكي يتكامل الانسان، فالانسان الخائف الذي يخشى الطبيعة، أو المجتمع، أو السلطة الفاسدة الحاكمة، لا يكون انساناً متكاملاً ولا مستقلاً، بل اكاد اقول ولا انساناً مؤمناً، لان المؤمن لا يكون جباناً، ان المؤمن الذي يترك دينه خوفاً من الناس وخوفاً من المجتمع وخوفاً من الطبيعة، ماذا ينفعه ايمانه؟ الايمان هو سلاح الانسان ضد الطبيعة، والحصن الذي يحافظ على استقلال المؤمن، فاذا كان هذا الحصن مخترقاً، فكيف ينفع الانسان؟ ماذا ينفع الايمان الذي لا يحصن استقلالك؟ انه يشبه الدواء الذي لا ينفعك في حالة المرض، وانما يفيدك فقط حينما تكون متمتعاً بكامل صحتك.. فما هي فائدة هذا الدواء اذن؟
الايمان هو حصن المؤمن وسلاحه، والانسان

(٩٠)

يستخدم سلاحه ضد عدوه، وضد كل ما يخاف منه، والانسان بطبيعته وفطرته يخشى الطبيعة، ويخشى الظلام، والهوام والدواب، يخشى الظواهر الطبيعية كالرعد والبرق والرياح، ومن هنا نشأت عبادة البشر - عبر التاريخ - للظواهر الطبيعية، اذ انهم كانوا يخشونها فيتحولون إلى عبادتها، ولذلك كان كل مجتمع يعبد الظاهرة الطبيعية التي يعايشها ويخاف منها، فمنهم من يعبد الرعد، والبرق، والسحاب، ومنهم من يعبد البحر اذا كان يعيش على سواحل البحار، وهناك من يعبد النهر لانه يسكن على شاطئه، وهكذا نجد الاقباط السابقين في مصر كانوا يعبدون النيل لانهم كانوا يعيشون على ضفافه وكانوا يطعمونه كل عام واحدة من اجمل فتياتهم.
ولهذا السبب كان جماعة من الناس يعبدون رؤساء العشائر رموز القوة الاجتماعية، وكانت الاصنام عادة رموزاً لقوى اجتماعية معينة.
كل ذلك لان في طبيعة الانسان تكمن حالة الانسحاب والتبعية، حالة الذل التي تجعله يعبد ما يخشاه ويخافه.
وهذه الفقرة من الدعاء تجبر هذا الضعف البشري، اذ تقول للانسان بانك قوي حتى لو لم تملك السلاح، والقوة المادية، اذ انك تملك التوكل على الله والاعتماد

(٩١)

عليه، تملك سلاحاً امضى من أي سلاح، وهو سلاح الدعاء، فعندما تدخل على حاكم فاسد جبار، اقرأ هذا الدعاء لكي تغمر قلبك قوة في المواجهة، وعندما تواجه انحرافاً اجتماعياً، فاقرأ هذا الدعاء حتى يمنحك القدرة على مقاومته وتصحيحه.
اذن، فان كل دعاء يعالج واقعاً نفسياً، وضعفاً قائماً في النفس البشرية، وعند التدبر في الدعاء يجب ان نحاول اكتشاف الاهداف المباشرة من وراء كل فقرة، وكلمة، على هذا الاساس نواصل التدبر في هذه الفقرة من دعاء الافتتاح:
(الحمد لله الذي يؤمن الخائفين..)
الخوف هو الوتر الحساس في حياة الانسان، والذي تؤكد عليه هذه الفقرة من الدعاء في بدايتها، فالذي يخاف ويرتجف من السلطان الجائر، كيف يستطيع مقاومته، والذي يخاف الطبيعة ومظاهرها، كيف يمكنه تسخيرها والاستفادة منها.. اذن باي حبل يستطيع هذا الخائف ان يعتصم حتى يطمئن قلبه، وتسكن نفسه؟ الجواب: بحبل الله الذي يؤمن الخائفين، والمؤمن هو من اسماء الله الحسنى (وينجي الصالحين)، اذا كانت اعمالك صالحة فلا تخشى احداً أو شيئاً لان الله تعالى سوف ينجيك وينقذك اذا واجهت اية مصاعب، (ويرفع المستضعفين)، واذا

(٩٢)

استضعفك الاخرون.. سلبوا قدراتك واستثمروك اقتصادياً واعلامياً، وغلقوا في وجهك مسارب الحياة والتقدم فان هناك رب العزة الذي يرفع المستضعفين وياخذ بايديهم إلى ساحل النجاة والحياة الحرة الكريمة، ولكن بشرط واحد هو ان تبقى في نفس المستضعف شعلة الامل متوهجة، وان لا ينتهي إلى اليأس والقنوط والاستسلام للواقع الفاسد.
(ويضع المستكبرين)، لا يمكن ان يستمر الطغاة والمستكبرون في تسلطهم الظالم على الشعوب المستضعفة، ان هذا لا يتفق مع سنن الله في الحياة، فلابد ان يُدحر الله كل المستكبرين والطواغيت، وان يرفع في مكانهم الذي استُضعفوا ويجعلهم ائمة.
(ويهلك ملوكاً ويستخلف آخرين)، ان هؤلاء الملوك، والطغاة، والجبابرة الذين يمسكون بين اصابعهم مصائر الشعوب، ويتلاعبون بمقدرات الامم المستضعفة، لا يشكلون قوة حقيقية في الحياة، فالله القاهر يهلك الملوك ويقضي على الطغاة ويستخلف مكانهم آخرين.
(والحمد لله قاصم الجبارين)، الذين يتجبرون في الارض ويحسبون انفسهم انصاف آلهة ويزرعون الخوف والهلع في قلوب الجماهير ويعيثون في الأرض فساداً سوف يقصم الله ظهورهم (قاصم الجبارين مبير الظالمين)، أما

(٩٣)

الظالمون الذين يظلمون الناس فان الله يهلكهم عن اخرهم ويبيدهم ابادة تامة، وما أكثر عبر الحياة في هذا المجال، فاين هؤلاء الذين كانوا يظلمون الناس في هذه البلاد (إيران)؟
لقد ابادهم الله، وشتت شملهم في آفاق الارض، (مُدرك الهاربين)، وهل يستطيع الظالم ان يهرب؟ اجل، قد يهرب من ايدي المظلومين، إلا انه لا يستطيع الهرب من الله القاهر الجبار، فالله مدركه اينما يولي وجهه، فهو (مدرك الهاربين نكال الظالمين)، سوف يعذبهم عذاباً شديداً، (صريخ المستصرخين)، ذلك الذي يستصرخ ربه، ويدعوه إلى اغاثته، فان الله صريخه، أي يجيبه ويكون عند استغاثته. (موضع حاجات الطالبين)، الذين يطلبون من الله حاجاتهم مهما تكن كثيرة، فان الله موضع حاجاتهم يستجيب لهم، فان الآمال والطموحات الكبيرة لا تتحقق إلا بالله، (معتمد المؤمنين)، أما المؤمنون فانهم يعتمدون على الله سبحانه وتعالى ويتوكلون عليه، هذا بالنسبة إلى الطغاة والقوى الاجتماعية.
اما في مجال القوى الطبيعية، فيقول الدعاء:
(الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها)، الانسان يخشى السماء وما فيها من رعود وبروق، ويرجو رحمة الله من السماء ايضا، إلا ان الحقيقة هي غير ذلك، فالسماء لا تشكل خطراً يُخاف منه، اذ ان

(٩٤)

السماء وسكانها ترتعد من خشية الله سبحانه وتعالى فلماذا نخشى الطبيعة اذن؟
(الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها، وترجف الارض وعمارها)، فالارض والذين يعمرون الارض ويحيونها يرتجفون خوفاًمن الله وخشيته (وتموج البحار ومن يسبح في غمراتها)، هذه الحيوانات البحرية الهائلة، التي يزن بعضها (100) طن، ويصل طول بعضها ثلاثين متراً، كل هذه ترتعد فرقاً وخشية من رب العالمين..
اذن، يجب ان لا يخشى الانسان المؤمن الظواهر الطبيعية.. ان لا يخاف السماء والارض والبحار، فكل هذه مخلوقات لله ومسخرات بأمره.
والآن، ما دمنا قد وصلنا إلى هذه المرحلة واكتشفنا بان الملوك، والجبابرة والظالمين والمستكبرين لا يشكلون اية قوة بازاء الله رب العالمين، وانه سوف يبيدهم عن آخرهم، وان السماء والارض والبحار وكل ظواهر الطبيعة ليست عدوة الانسان حتى يخاف منها ويخشاها، بل هي كلها ترتعد وترتجف امام ملكوت الله، علينا اذن ان نحمد الله على هدايته ايانا إلى هذه الحقيقة الايمانية.. لقد كنا سابقاً نخشى مخلوقات الله فنعبدها من دونه، ولكن الله هدانا إلى الصراط السوي.

(٩٥)

(الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا نهتدي لولا ان هدانا الله)، فالله تعالى هو الذي يعِّرف نفسه بنفسه، ولولا هداية الله للانسان لظلّ سادراً في غوايته، والانسان هو المخلوق العاجز الضعيف الذي يحتاج الله في كل شيء، والله هو الغني القيوم، هو الذي يخلق الاشياء، ولا يخلقه شيء، ويرزق الانسان ولا يحتاج إلى رزق احد، ويُطعم البشر ولا حاجة له إلى الطعام.. بيده الموت والحياة والنشور.. بل هو القادر على كل شيء ولا يعجزه امر:
(..الحَمْدُ للهِ الذي يَخْلُقُ وَلَمْ يُخْلَق، وَيَرْزُقُ ولا يُرْزَق، وَيُطعِمُ ولا يُطعَمْ، وَيُمِيتُ الاحياء، وَيُحيي المَوْتى، وَهو حَيُّ لا يَمُوت، بِيَدِه الخير، وَهو عل كلِ شَيءٍ قّدير..)

(٩٦)

8 - معرفة الرسول
(..اَللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ عبدِك،ورَسولِك، وَاَمينِك، وصفيَّك، وحَبيبك، وخِيرَتك من خلقك، وحافِظِ سِرَّك، وَمُبَّلِغِ رِسالاتِكَ، اَفضَلأ واَحسَن واَجَمل واَكَمل واَزكى واَنمى واَطيبَ واَطهَرَ واَسْنَى واَكَثْرَ ما صَلَيْتَ وباركْتَ وتَرحَّمْتَ وتَحَنَّنْتَ وسَلَّمْتَ على احدٍ من عبادِك وانبيائِك ورُسُلِك وصِفْوتكَ، واَهلِ الكرامةِ عليكَ مِنْ خَلقِكَ..)

(٩٧)

كانت الفقرات السابقة من دعاء الافتتاح تركز - في الغالب - على المفردة الاولى من مفردات الدعاء، وهو: ذكر الله سبحانه وتعالى، والتذلل له في مقام العبودية، اما الفقرات التالية فانها تدعو إلى ترسيخ العقائد الاسلامية، ومن ابرز هذه العقائد بعد ذكر الله وبعد الايمان به ومعرفته، هو معرفة الرسول (ص) ومعرفة الائمة الهداة من آل بيته (ع)، وبالطبع لا تكفي هنا المعرفة الفوقية التي نسميها بالاسلام، بل لابد ان تتحول هذه المعرفة إلى معرفة راسخة في قلب الانسان، تنعكس على اعماله وتصرفاته، وبالذات فيما يخص اولياء الله من الانبياء والصديقين والصالحين، اذ يجب ان تتحول المعرفة إلى حب، والى نوع من الانسجام النفسي يجعل الانسان يتبعهم دون صعوبة، يقول الدعاء:
(..اللهم صَلِّ على محمدٍ عبدِك،ورَسولِك، وَاَمينِك، وصفيَّك، وحَبيبك، وخِيرَتك من خلقك، وحافِظِ سِرَّك، وَمُبَّلِغِ رِسالاتِكَ، اَفضَلأ واَحسَن واَجَمل

(٩٩)

واَكَمل واَزكى واَنمى واَطيبَ واَطهَرَ واَسْنَى واَكَثْرَ ما صَلَيْتَ وباركْتَ وتَرحَّمْتَ وتَحَنَّنْتَ وسَلَّمْتَ على احدٍ من عبادِك وانبيائِك ورُسُلِك وصِفْوتكَ، واَهلِ الكرامةِ عليكَ من خلقك..)
تحتوي هذه الفقرة على عدة مفردات ابرزها الصلاة على النبي، ثم الصلاة من طرف خفي على الصديقين والانبياء والصالحين والسابقين على النبي، ومن ثم تحديد صفات النبي (ص). والان لنتأمل في كل فقرة من الفقرات، وفي البدء نسأل: ماذا تعني الصلاة على النبي؟ ولماذا نحن معنيون بهذه الصلاة ونؤكدها ونقدمها بين يدي دعواتنا إلى الله سبحانه وتعالى. لماذا؟
ان فلسفة الصلاة على النبي تتحدد من خلال النقاط الثلاث التالية:
النقطة الاولى: تحديد العلاقة بيننا وبين الرسول، وهي علاقة الحب والعطاء، لقد بذل الرسول (ص) مجهوداً ضخماً لتبليغ الرسالة الاسلامية، وتحمل المسؤوليات الجسام في هذا السبيل، وقد هدانا الله بسببه، فما هو عطاؤنا للرسول؟
نحن لا نملك شيئاً نعطيه لرسول الله (ص)، وهو الاخر لا يطلب منا اجراً، ان نهاية الاعتراف بالشكر للرسول (ص)

(١٠٠)

تكمن في الصلاة عليه، في ان ندعو الله ليجزيه خير الجزاء.
إن شكرنا لخدمات رسول الله وجهوده ومساعيه (ص) من اجل انقاذنا وانقاذ البشرية من ظلمات الجهل والجهالة والشرك، هو ان ندعو الله بان يجزيه اجراً حسناً.
النقطة الثانية: تحديد العلاقة بين الله والرسول (ص) وهي الاخرى علاقة العطاء، فليس رسول الله ابناً لله سبحانه وتعالى، ولا هو غني عن رب العالمين، بل العكس تماماً، انه عبد ومحتاج إلى الله، وهذه العلاقة هي العلاقة بين رسول الله وبين رب العالمين، لذلك فاننا نطلب من الله ان يعطي للرسول، وهذا لا يكون إلا بسبب حاجة الرسول إلى رحمة الله سبحانه وفضله وعطائه.
النقطة الثالثة: كما سبق وان قلنا اذا دعا الانسان بلسان غيره فسوف يُستجاب دعاؤه، فدعاؤك لي مستجاب، ودعائي لك مستجاب ايضاً، وبما اننا قد اذنبنا، فاننا لا نملك وجوهاً كريمة امام الله، وان ذنوباً تحول بيننا وبين الله، لذلك فاننا ندعو لرسول الله ونصلي عليه، وهو (ص) يدعو لنا، ودعاء الرسول شفاعته:
(ولو انهم اذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً) (64/النساء)

(١٠١)

لو ان الرسول يدعو لنا ويشفع لنا فان دعاءه مستجاب، وهذا لا يعني ان دعاء الرسول أو استغفاره لقومه يحتم على الله شيئاً، ولكن يعني ان وجه الرسول كريم عند الله ونحن نقدم هذا الوجه بين يدي حاجاتنا ونتوسل إلى ربنا فيستجيب الله سبحانه.
أما المفردة الاخرى في هذه الفقرة من الدعاء، فهي بيان مواصفات الرسول (ص) وابرزها ما يلي:
(إنه عبد الله) اننا نقول عادة اشهد ان محمداً عبده ورسوله، وهذا يعني اننا نقدم صفة العبودية على صفة الرسالة، والسبب في ذلك هو اننا نريد أن ننفي عن انفسنا غبار الشرك، لان الانسان حينما يعظم احداً في نفسه، يقع فريسة لوساوس الشيطان التي تدعوه إلى اشراكه في عبادة الله، لذلك فاننا نؤكد على ان رسول الله (ص) بالرغم من عظمته وشرف مقامه، إلا انه بالتالي عبد الله سبحانه وتعالى، وهذا امر ضروري للغاية، لان كثيراً من الناس حينما يحبون احداً، يدفعهم حبهم لكي يرفعون المحبوب إلى مستوى الالوهية وهذا خطير جداً، اذ ان رفع الاولياء أو الانبياء والصالحين إلى مستوى الالوهية يضع حجاباً بين الانسان وبين الاقتداء بسيرة صاحب الشأن.
(ورسولك وامينك)، انه حمل رسالة الله الينا، وكان اميناً في رسالته لم يغير ولم يبدل، ان ايمانناً بامانة رسول الله

(١٠٢)

 يجعلنا نعتقد بان أي مخالفة صغيرة أو كبيرة لرسول الله تعني مخالفة لله سبحانه وتعالى:
(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (7/الحشر)
(وصفيك)، ان الله تعالى اصطفى الرسول من بين خلقه، أي انه لو كان في عصر الرسول من هو اكثر جدارة بحمل الرسالة لكان الله يجعل رسالته في ذلك الانسان، اذن اختيار الله للرسول انما كان بسبب انه كامل الشخصية، وليس عبثاً ومن دون حكمة.
(وحبيبك) والرسول هو حبيب الله، يحبه الله وهو يحب الله، ونحن نحب الرسول، وفي مهرجان الحب يشترك الجميع، فيرتفعون إلى مستوى التفاعل والانسجام.
(وخيرتك من خلقك) أي الذي اخترته من خلقك وهذا المعنى قريب من معنى (صفيك).
(وحافظ سرك)، فلله تعالى سر مستودع عند رسوله، وهذا السر ينتقل عبر اولياء الله، اذن، هنالك اشياء لم نعلمها، وهي مفهومة للقيادة المعصومة.

(١٠٣)

ان عقولنا مهما سمت فهي لا تصل إلى مستوى عقول القيادة.
(ومبلغ رسالاتك)، تبليغ الرسالة ليس عملاً سهلاً لان تبليغ الرسالة يعني ان الانسان يتجرد عن كل شيء:
(يا أيها الرسول بلغْ ما اُنزل اليك من ربك وانْ لم تفعلْ فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (76/المائدة)
أما المفردة الثالثة وهي طبيعة الصلاة، فالدعاء يصف الصلاة على النبي بـ (أفضل واحسن واجمل واكمل وازكى وانمى واطيب واطهر واسنى...)
فماذا تعني هذه الكلمات؟
الجواب: ان الصلاة تعني رحمة الله سبحانه وتعالى لعباده، وهي ليست بشكل واحد ولا بدرجة واحدة، ولا تأتي في ظرف واحد، وان رحمة الله مختلفة درجاتٍ واوقاتٍ وألواناً، ونحن نطلب لرسول الله أفضلها واحسنها واجملها، واكملها وازكاها.. والتعابير هذه تدل على نوع الرحمة التي تطلبها لرسول الله (ص).

(١٠٤)

ثم ان الصلاة على النبي (ص) لا تعني منع الصلاة على عباد الله الصالحين. ان رحمة الله واسعة تشمل الرسول وغير الرسول، لذلك يقول الدعاء: (.. وأكثر ما صليت وباركت وترحمت وتحننت وسلمت على احد من عبادك وانبيائك ورسلك وصفوتك واهل الكرامة عليك من خلقك)، هذه الصلاة هي من طرف خفي، وبصورة غير مباشرة لانبياء الله والصالحين من عباده وصفوته واهل الكرامة عليه.
وهنا يجب ان نشير إلى اننا - بالرغم من صلاتنا على الرسول - إلا اننا مقصرون بازائه، ذلك لان المطلوب منا هو ان نعرف سيرته وآدابه، واخلاقه الحسنة، ثم نقتدي به عملياً في حياتنا اليومية، إلا اننا نرى الاكثرية الساحقة من المسلمين لا يعرفون سيرة الرسول، ولا يقرأون كتاباً واحداً حول الرسول طيلة حياتهم، فكيف يواجهون غداً رسول الله (ص)؟
ان من ابسط حقوق الرسول علينا هو ان نقرأ سيرته ونتعمق في حياته ثم نطبق كل ذلك في سلوكنا بشكل كامل.

(١٠٥)

9 - معرفة الوصي
بسم الله الرحمن الرحيم
(.. اَللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلى عَلِيٍّ اَميرِ اْلمُؤْمِنينِ، وَوَصيِ رسولِ ربِ العالمين، عَبْدِكَ وَوَليكَ، واَخي رسولِك، وَحُجَّتِكَ على خلقِك، وآيَتِك الكُبرى، والنَبَأِ اْلعظيمِ..)

(١٠٧)

بعد الصلاة على الرسول، ينتقل الدعاء للصلاة على وصيه وخليفته من بعده وهو الامام علي ابن ابي طالب..
ان في صلاتنا ودعائنا للامام علي نفس الفوائد ونفس المفردات التي ذكرناها في الصلاة على النبي محمد (ص)، ونحن ايضاً لا نستطيع ان نقدم للامام علي (ع) الذي غيَر مسار التاريخ والذي اعطانا نموذجاً للحكومة الإسلامية، والذي لم يدعْ طاقة ولا قوة يمتلكها إلا بذلها في سبيل الله، نحن لا نملك ان نقدم له شكراً أو اجراً وانما فقط نستطيع ان نصلي عليه وندعو الله لكي يؤتيه اجره، ويرضيه عنا بما شاء سبحانه وتعالى (اللهم وصل على علي امير المؤمنين ووصي رسول رب العالمين عبدك ووليك واخي رسولك)، كما في الرسول كذلك في الامام، يجب ان لا يدفعنا تعظيمنا له وحبنا اياه، إلى تأليهه، والغلو فيه، فهو عبد الله وولي من اوليائك الصالحين، واخو

(١٠٩)

رسول الله، وحجة الله على خلقه:
(وحجتك على خلقك وآيتك الكبرى)
في هذه الفقرات تستوقفنا كلمة (وآيتك الكبرى)، فكيف يكون الإمام علي عليه الصلاة والسلام الآية الكبرى لرب العالمين؟
قبل ان نجيب عن هذا السؤال لابد ان نشير إلى حقيقة ان كل شيء في الكون هو آية لله سبحانه وتعالى:
(وفي كل شيء له آية تدلّ على انه واحد)
وتتفاضل آيات الله سبحانه وتعالى، ليس بالنسبة إلى الله، لان الله عزوجل يخلق الكون من دون ان يتعب أو يمسه لغوب، انما اذا اراد شيئاً يقول له: (كن) فيكون، وخلقه لملايين المجرات لا يختلف عن خلقه للبعوضة الصغيرة، وانما تختلف الايات بالتفاضل فيما بينها، وبما اعطاها الله سبحانه وتعالى من قدرات. ومن آيات الله التي نعرفها وهي قريبة منا الملائكة الذين يعتبرون من أعظم آيات الله سبحانه وتعالى، لان ملائكة الله هم الموكلون بالكون، فيهم حملة عرش الله وملائكة السماء وملائكة الارض والبحار، والرياح، والجبال، وكل هذه تستجيب لامر الله عبر ملائكته الموكلين بها، واذا عدنا إلى سورة البقرة نجد ان الله سبحانه وتعالى امر جميع ملائكته

(١١٠)

بالسجود لآدم ابي البشر!
لماذا؟ لان آدم هو خليفة الله، وهو مستودع روح الله سبحانه:
(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (29/الحجر)
ذلك الروح الذي يقول عنه ربنا في آية أخرى:
(ويسألونك عن الروح قلْ الروح من امرِ ربي وما أوتيتُم من العلم إلا قليلاً) (85/الأسراء)
ويقول سبحانه وتعالى عنه ايضاً:
(ليلة القدر خير من الف شهر* تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل آمر* سلام هي حتى مطلع الفجر) (3 - 5/القدر)
ان هذا الروح الذي نفخ الله منه في آدم هو من أهم خلق الله، يؤيد به الله عباده المكرمين، لذلك امر الله كل ملائكته فيما بينهم حملة عرشه، والكروبيين، وملائكة

(١١١)

السموات والارض، وملائكة المجرات المختلفة كلها، ان يسجدوا لآدم.. لماذا؟ لان آدم فيه الروح! اذن، فان آدم الذي استوعب الروح ونفخ الله فيه من روحه اصبح افضل كل الخلق.
واذا كان افضل الخلق، فهو آية كبرى بالنسبة إلى الآيات الأخرى! فالسماء والارض والجبال والمجرات كلها آيات الله، ولكن آدم آية كبرى، لان السماء والارض والجبال والبحار والانهار وكل المخلوقات الأخرى مستجيبة للملائكة، والملائكة بدورها سجدت لآدم عليه الصلاة والسلام، واذا عرفنا بأن خاتم النبيين سيدنا ونبينا محمداً (ص)، هو أشرف وأعظم من كل الانبياء، بل انه مكمل رسالاتهم، لانه خاتمهم. لو عرفنا ذلك فلابد ان نعرف ان وصي خاتم النبيين، والذي هو صنوه ونفسه، حيث يقول ربنا سبحانه وتعالى في آية المباهلة:
(وانفسنا وانفسكم) (61/آل عمران)
وقد ورد في اكثر تفاسير المسلمين، ان المراد (بانفسنا)، هنا هو الإمام علي عليه الصلاة والسلام، فلابد ان نعرف بان علياً هو افضل من آدم.

(١١٢)

اذن اذا كانت السموات مستجيبة للملائكة، والملائكة ساجدة لآدم، وعلي أفضل من آدم عليه الصلاة والسلام، فما هي الآية الكبرى لرب العالمين؟ هل السموات؟ أم الملائكة؟ أم ذلك الذي تسجد الملائكة له ولامثاله، أم انه علي ابن ابي طالب، خليفة رسول الله خاتم الانبياء؟
وهنا لابد ان نطرح هذا السؤال: لماذا يفضل الله بني آدم على الملائكة، بل على المخلوقات كلها؟
الجواب: لان الله حمّل علمه لبني آدم، وحمّل بني آدم شيئاً قد يكون اهم من العلم وهو الحرية والارادة، وجعل المشيئة في قلب بني آدم!
أما الملائكة فقد جعل الله لهم الروح وأعطاهم الايمان، والعلم والفضيلة إلا انه لم يعطهم الشهوات!، فالملائكة يعبدون الله دون ان يأخذهم الأرق والنوم والتعب، وعبادتهم لله هي من سجيتهم، أما الحيوانات فالأمر بالنسبة لها اوضح، لان الله لم يعطها العقل ولا العلم ولا الارادة بل هي كتلة من الغرائز والشهوات، فالحيوانات ليست مفضلة على بني آدم، اما الإنسان، فقد اعطاه الله العلم والعقل والارادة، ثم ركب عليه الشهوات، فاذا اتبع هذا الإنسان عقله وعبد الله سبحانه وتعالى، واختار بحريته الكاملة هذا الطريق، كان قريباً إلى

(١١٣)

الله ومكرماً عنده، لانه كان مخيراً بين ان يهبط وبين ان يرتفع، ولكنه اختار الارتفاع بفعله! فعظمة الإنسان تنبع من انه هو الذي يريد، هو الذي يقرر، اما الملائكة فهي لا تقرر، باعتبارها هي مخلوقة في هذا الاتجاه، تريد ولكن ليس بصعوبة، وعلي ابن ابي طالب يجسد القمة في هذا الارتفاع والسمو بعد رسول الله (ص).
إن علياً يحمل جسمه المبارك في غزوة (اُحد) سبعين جراحاً تحتاج إلى العلاج ولكنه، وقبل ان يستريح من عناء القتال والجروح، يأتيه منادي رسول الله (ص) يدعوه إلى الحرب من جديد فيتحمل كل ذلك الاذى والجراح ويتوجه من جديد إلى ساحة الحرب. كان بامكانه أن يأكل مصفى العسل ولباب القمح، وان يلبس افضل الملابس وهو امير المؤمنين والله لم يحرم عليه ذلك ولكنه لم يفعل. كان يقسم الاموال بين الناس بالسوية وكان بامكانه ان لا يفعل ذلك.
كان بامكانه ان ينام الليل ولكنه في الليلة الواحدة كان يصلي الف ركعة.
كان علي يُغشى عليه في الليل من كثرة الصلاة وعبادة الله، وفي النهار تراه على باب اليتامى والمساكين، وكان لا يترك عبادة إلا واتى بها.

(١١٤)

يذكر لنا التاريخ إنّ الامامَ علياً كان يأتي إلى المسجد قبيل الفجر فيصلي بالناس الصبح ثم يعقب إلى ان تطلع الشمس وتنتشر، ثم ينتقل من محرابه إلى مكان آخر من المسجد يقضي بين الناس، ويحل مشاكلهم، ثم كان يتركهم ويتحرك في اسواق الكوفة، ينادي في الناس: اتقوا الله، التاجر فاسق حتى يتفقه، عليكم بالفقه ثم التجارة، ثم يتمشى في أزقة الكوفة لعله يجد ذا حاجة لم يجد إلى المسجد سبيلاً، لعله يجد فقيراً، أو مسكيناً فيساعده، أو لعله يجد فساداً فيصلحه. وبعد صلاة الظهرين يأتي إلى بيته ويسأل زوجته: هل عندكم شيء أم أفوت؟ فاذا وجد شيئاً تغدى به، وان لم يكن هناك شيء يقضي ذلك النهار جائعاً، وعندما يصير الليل يصلي صلاة المغرب والعشاء جماعة بالناس ثم يعود إلى العبادة إلى الصباح، فمتى تكون الراحة ومتى يكون النوم؟
والآن، ألا يُعتبَر هذا الانسان المثالي آية كبرى من آيات الله؟ إلا إنَ علياً هو تلميذ تربى في حجر الرسول (ص) وهو يقول انني عبد من عبيد محمد، اذن فكل حياة علي هي دليل صادق على حقانية الرسالة الإسلامية، ولذلك كان (النبأ العظيم).
ثم كما كان علي آية كبرى في الجهاد، والصبر، والعبادة، والزهد، كذلك هي الزهراء فاطمة بنت محمد،

(١١٥)

التي تلقت اصول الرسالة في بيت أبيها الرسول.
إنها آية كعلي، ولكن بلون آخر وبصورة أخرى، تزهر الزهراء صلوات الله عليها لأهل السماء كما تزهر النجوم لأهل الارض، كانت تقف في محراب عبادتها وكان النور يشع من محرابها إلى عنان السماء، كانت تتعبد وتصلي لربها من اول الليل حتى الصباح، وكانت تدعو للجيران والمؤمنين والمؤمنات ولشيعتها وللرساليين عبر التاريخ ثم المجاهدين، ثم في الصباح يقول لها ابنها الحسن: اماه دعوت لكل الناس ولكن أين نصيبنا نحن.
فتقول: يا بني إعلم (الجار ثم الدار)، فاطمة الزهراء هي كفء علي، إلا إنها امرأة وعلي عليه الصلاة والسلام رجل!

(١١٦)

10 - حجج الله على العباد
(.. وصلِّ على الصِدِّيِقةِ الطاهِرَة، فاطمةَ الزهراء، سَيدِةِ نساءِ العالمين. وصلِّ على سِبْطَي الرحمة، وامامَي الهُدى:الحسنِ والحسينِ، سَيِّدَي شبابِ اَهلِ الجنة. وَصَلِّ على اَئِمةِ المسلمين: علي بن الحسينَ، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والخَلَف الهادي المهدي، حُجَجِكَ على عِبادِك، وأمنائِك في بِلادك.. صلاة كثيرة دائمة..)

(١١٧)

من هو الحجة؟ ولماذا؟
ان معرفة الانسان بالله وبالرسالة والرسول وبالتالي معرفته بيوم البعث والنشور وكل اصول العقيدة الاسلامية، ليست بدرجة واحدة، وانما هي ذات درجات متفاوتة على سلوك الانسان وعلى اخلاقياته وعلى مدى استقامته امام الضغوط التي يتعرض لها، ولا يكفي في المعارف الالهية - أو بتعبير شائع في العقائد الاسلامية - مجرد الاقتناع الاولي بان لهذا الكون الهاً، كما لا يكفي مجرد الاقتناع بوجود الانبياء ووجود نبينا (ص) وهكذا الائمة (عليهم السلام) بل لا بد أن تتحول القناعة إلى معرفة والمعرفة إلى يقين. والادعية كفيلة - اذا تدبرنا فيها - بان تحول معارفنا الالهية إلى يقين منا بها، حتى تنعكس هذه المعارف عملياً في سلوكياتنا وفي شخصياتنا وفي مدى إستقامتنا.
ولقد غفل ابناء الامة وبالذات علماؤها وقياداتها عن هذا الدور الهام للادعية المأثورة، لذلك فان الدعاء لم

(١١٩)

يلق ذلك الاهتمام الدراسي المطلوب.
وهذه الفقرة من دعاء الافتتاح تذكرنا بدور الائمة (عليهم السلام) وذلك عبر الصلاة عليهم وعلى جدهم النبي محمد (ص)، إذ أنّ هذا التركيز على الائمة من خلال الصلاة عليهم انما يعمق الصلة بين ابناء الامة وبين قادتهم وائمتهم.
ونجد في هذه الفقرة ان الائمة يوصلون بـ (حججك على عبادك، وامنائك في بلادك)، فما هي الحجة؟ ولماذا اختار الله سبحانه وتعالى للامة المرحومة اربعة عشر حجة؟ لماذا لم يكتفِ ربنا الحكيم بسيدنا ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وانما اختار لنا بعد الرسول، الامام علي بن ابي طالب حجة، وفاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام حجة، وإحدى عشر اماماً من نسلها حججاً من قبله على عباده، لماذا؟
الجواب: تعني (الحجة) ان هذا الانسان يكون (حجة) بينك وبين الله، اذا اتبعته واطعته وجعلته مقتداك وهاديك، فان الله سبحانه وتعالى يستقبل منك. لا يسألك اكثر من ذلك في يوم القيامة، فاذا اتبعت علي بن ابي طالب واقتديت بسيرته كاملة دون تحريف، فسوف تكون عند الله من الفائزين، لان علي بن ابي طالب هو نسخة تطبيقية من القرآن الحكيم من دون زيادة ولا نقيصة، هو

(١٢٠)

القرآن الناطق وصنو القرآن، قال رسول الله (ص):
(إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي اهل بيتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)
وقال:
(علي مع القرآن، والقرآن مع علي)
اذن فاتباع علي (ع) والاقتداء بسيرته هو اتباع واقتداء بالقرآن الحكيم، اذن، فاذا كان علي هو الصورة المجسدة لقيم الرسالة الالهية، إلى هذه الدرجة فانه يكون (حجة).
أما السؤال الثاني فهو لماذا اذن نحن نحتاج إلى اربعة عشر حجة؟
انما نحتاج إلى هؤلاء الحجج وبالذات الائمة عليهم الصلاة والسلام لان الزمان يختلف، وقد تكون هذه هي حكمة تعدد الائمة عليهم الصلاة والسلام، فليست الظروف دائماً متشابهة، فقد يكون الاسلام حاكماً في ظرف من الظروف، وقد يكون الكفر هو الحاكم في ظرف آخر، وقد يكون النفاق هو الحاكم في ظرف ثالث.
والانسان المسلم قد يكون في ظرف من الظروف سجيناً، وقد يكون شهيداً، وقد يكون حاكماً، وقد يكون عالماً، فصفات الانسان وصفات المجتمع والظروف الاجتماعية

(١٢١)

 وتطورات المجتمع مختلفة ومتفاوتة، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية: جعل الله سبحانه وتعالى هذا الدين آخر الاديان، ورسولنا محمداً (ص) خاتم النبيين، ولا يأتي بعد رسولنا نبي، ولا بعد كتابنا كتاب، وقد يطول عمر البشرية لملايين السنين، فاننا لا نعرف متى تقوم الساعة:
(قل انما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلاّ هو..) (187/الأعراف)
اذن، فان البشرية تحتاج إلى حجج وائمة على مختلف الظروف وفي مختلف الحالات، سواء كافراد أو كمجتمعات، فمثلاً: نحن بحاجة إلى امام يعلمنا كيف ينبغي ان يحكم الانسان، يعلمنا ذلك بسيرته لا بكلامه، حتى تكون سيرته لنا حجة نقتدي بها، اننا نحتاج إلى صورة متكاملة للحاكم الاسلامي المثالي، فمن اين نجد هذه الصورة؟
ـ: نجدها في علي بن ابي طالب عليه الصلاة والسلام، فبالرغم من ان النبي (ص) ايضاً كان حاكماً، إلا انه لم تبرز معالم الحكومة في وقته بقدر ما تجلت رسالته.
أما علي بن ابي طالب فقد كان - ولو لفترة قصيرة - حاكماً بكل معنى الكلمة.

(١٢٢)

فكيف كانت سيرة علي - الحاكم؟
لنلق الضوء على نقطة واحدة من هذه السيرة ثم نقارنها بوضوح حكام المسلمين اليوم:
كان الامام علي خليفة رسول الله، وحاكماً على كل الامة الإسلامية، وفي ذات الوقت كان قائداً للقوات المسلحة، وكان يعيش حالة حرب مع معاوية الذي كان قد تمرد على الامام الشرعي، في هذه الظروف التي كانت الاخطار فيه تحدق بالامام، وكان خطر الاغتيال قائماً، باعتبار ان هناك متمردين في صفوف جيشه ولم تكن حادثة اغتيال الامام علي اول حادثة اغتيال في الاسلام، ولا اول حادثة اغتيال الحاكم، بالرغم من كل ذلك، فان الامام علياً يخرج من بيته وحده إلى المسجد لاداء صلاة الفجر، واول ما يفعله في المسجد هو الاذان، فمن هو ويؤذن أذان الصبح ويوقظ المسلمين للصلاة.
أما في الليل فيخرج الامام إلى اطراف الكوفة يفتش عن المكروبين والمستضعفين واصحاب المآسي، لكي يحل لهم مشاكلهم، واما حياته الشخصية، فانه يذهب إلى

(١٢٣)

السوق ويشتري ما يحتاج اليه، ويحمل متاعه بنفسه إلى بيته، وحينما يعترضه احد المؤمنين ويحاول ان يحمل عنه المتاع، يرد عليه الامام بانه هو الذي يحمل اثقاله يوم القيامة ولا احد غيره.
هذه هي سمات الحاكم الاسلامي يجسدها الامام علي (ع) ويتحول بذلك إلى (حجة) علينا، اذ انه لا يخاف في الله لومة لائم.
يذكر التاريخ ان شخصاً من القيادات العسكرية في جيش الامام اُدين بشرب الخمر، فجاء به إلى مسجد الكوفة، ثم اقام عليه الحد (ثمانين جلدة) وبعد ان تمت العملية، قام الرجل ونظر إلى الامام وقال يا امير المؤمنين، صحبتك ذل ولكن مفارقتك كفر. فاجابه الامام: هذا هو العز.
اذن فالامام علي هو مثال حي للحاكم الاسلامي. ونحن نحتاج إلى مثالٍ يقتدى به السجين المسلم، فنجده في الامام موسى بن جعفر عليه الصلاة والسلام، فالكثير منا قد يتعرض لسجون الطغاة. وقد يتأفف في البداية على دخوله السجن، اذ انه سيخسر عمره، ولا يكون قادراً على الانتاج والعطاء، إلا انه حينما يقتدي بالامام موسى بن جعفر الذي قضى ردحاً طويلاً في سجون الطغاة، يجد ان الامام يشكر الله على انه وفر له فرصة لعبادته وهكذا يستغل فترات السجن في عبادة الله وصقل شخصيته

(١٢٤)

الايمانية عبر هذا الطريق.
ونحن نحتاج إلى من يقدم دمه في سبيل الله، فنقتدي في ذلك بالامام الحسين عليه الصلاة والسلام. ونحتاج إلى فقيه يربي العلماء والمفكرين ويوجه الامة إلى تفاصيل الشريعة الإسلامية، فنقتدي بالامام الباقر والامام الصادق (عليهما السلام)، ونحتاج إلى من يمثل دور الشخصية الثانية في الدولة الاسلامية، فنقتدي بالامام علي بن موسى الرضا عليه الصلاة والسلام، وهكذا نجد اننا نحتاج في ظروف حياتنا المختلفة إلى ائمة نقتدي بسيرتهم وهداهم. ولان الظروف مختلفة، والاشخاص مختلفون، فاننا نحتاج إلى ائمة لمختلف الظروف، ولا شك ان الائمة ليسوا لنا فقط، بل هم لكل الاجيال القادمة، فالاسلام سوف ينتشر ويعم الارض كلها، وسوف تواجه الامة قضايا جديدة ودقيقة، وسوف تطرح على الساحة مشاكل حضارية وعميقة، حينئذٍ يتجلى بعض دور الائمة عليهم الصلاة والسلام.
اذن فالائمة هم حجج الله على العباد، أي انهم قدوات يجب ان تهتدي الامة بهداهم، وان تقتفي مسيرتهم حسب اختلاف الظروف والازمنة.
وهنا يجب ان نشير إلى ان العنصر النسوي الذي يشكل نصف المجتمع البشري، وهو بحاجة إلى حجة يقتدي بسيرتها في مختلف الظروف، فبالرغم من ان المرأة تقتدي

(١٢٥)

بسيرة الائمة عليهم الصلاة والسلام، في الظروف والقضايا المشتركة بين الرجال والنساء، إلا انها تحتاج إلى قدوة نسائية للظروف والقضايا الخاصة بالمرأة، لذلك فقد جعل الله تعالى للامة الاسلامية حجة نسائية متمثلة في شخصية فاطمة الزهراء (عليها افضل الصلاة والسلام).
من هنا يتضح دور (الحجة) في حياة الامة، والسر في تعدد (حجج الله على عباده) وهم الرسول الاعظم، وابنته الزهراء، والائمة الاثنا عشر (عليهم افضل الصلاة والسلام)، لذلك نجد ان هذه الفقرة من الدعاء تأتي بعد الصلاة على النبي، لتذكر المسلمين بالحجج والقدوات عبر الصلاة عليهم.
(.. وَصَلِّ عَلى الصِدِّيِقةِ الطاهِرَة، فاطمةَ الزهراء، سَيدِةِ نساءِ العالمين. وَصَلِّ على سِبْطَي الرحمة، وامامَي الهُدى:اَلْحَسَنِ وَاْلحُسَيْنِ، سَيِّدَي شبابِ اَهلِ اْلجَنَّةِ. وَصَلِّ على اَئِمةِ المسلمين: عَلِّيِ بْنِ اَلحُسَيْنَ، ومُحَّمدِ بْنِ عَلِّيِ، وَجَعْفرِ بْنِ مُحَمَّدِ، وَمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، وَعَلِّيِ بْنِ مُوسى، وَمُحمَّدِ بْنِ عَلِّي، وَعَلِّي بْنِ مُحَمِّدٍ، وَاْلحَسَنِ بْنِ عَلِّيٍ، وَالخَلَف اْلهادي اْلمهْدِيَ، حُجَجِكَ على عِبادِك، وأمنائِك في بِلادك.. صلاة كثيرةٌ دائمةً..)

(١٢٦)

11 - دور الامام المنتظر
(اَللَّهْمَّ وَصَلِّ عَلى وَليّ امرِكَ القائِم المُؤَمَل، والعَدلِ المُمنتظَر، وحُفّهُ بملائكَتِك المُقَربين، واَيّدهُ بِرُوح القدُسِ يا ربَ اْلعالمينَ.
اَللَّهْمَّ اجْعَلْهُ الداعِيَ إلى كتابِك، والقائَمِ بديِنِك، اِسْتَخْلفهُ في الارض كما استَخْلَفْتَ الذينَ مِن قَبله، مَكِّن له دينه الذي ارتضْيتَه له، اَبْدِلهً من بَعدِ خوفه اَمناً، يَعْبُدُكَ لا يُشْرِكُ بكَ شيئاً.
اللهم اَعِزَّه واَعْزِز به، وانصُرْهُ وانتَصِر به، واْنُصرهُ نَصْراً عَزِيزاً، واَفْتَح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لَدُنْكَ سُلطاناً نصيراً، اللهم اظهر به دينكَ وَسُنةَ نَبِيك، حتى لا يَسْتَخفِيَ بِشَيء من الحقِ، مَخافَةَ اَحَدٍ منَ الخَلْق.
اللهمُ اِنا نَرْغَبُ اليكَ في دولةٍ كريمةٍ تُعِزُّ بها الاسلامَ واَهلَه، وتُذِلً بِها النِفاقَ واَهله، وتَجْعَلُنا فيها من الدُعاةِ إلى طاعَتِك، والقادَةِ إلى سَبيِلِك، وترزُقُنا بها كرامةَ الدنيا والاخرة.
اللهم ما عَرَفتنا من الحق فَحَّملناه، وما قَصُرْنا عَنْهُ فَبَلّغْنَاهُ..)

(١٢٧)

ما هو دور الامام الحجة؟
ان يكون للانسان قائد الهي يرتبط به قلبياً ونفسياً وعقلياً وخطياً، ان ذلك ليعتبر وسيلة لتكامل الانسان كفرد أو كمجتمع، وتوجهه المستمر نحو النموذج السماوي المرسوم والمعين له، وهذا بعض من فلسفة ايماننا نحن بالامام المهدي (صلوات الله عليه) الذي نؤمن به اماماً شاهداً علينا وقريباً منا، ومطلعاً ورقيباً على اعمالنا، ويتجلى هذا الايمان في ليلة القدر حيث تتنزل الملائكة والروح بمقادير العباد.
بسم الله الرحمن الرحيم
(أنا أنزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلةُ القدرِ* ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألف شهر* تنزلُ الملائكةُ والروح فيها بأذنِ ربهم من كل أمر* سلامٌ هي حتى مطلع الفجر) (1 - 5/ القدر)

(١٢٩)

في هذه الليلة المباركة تنزل الملائكة بتقديرات حكيمة:
(فيها يفرق كل امر حكيم) (4/الدخان)
ان كل التطورات التي يجب ان تحدث خلال العام الواحد تُقدر من قبل الله تعالى في ليلة القدر، ان صحة الانسان ومرضه وفقره وغناه، وكرامته بين الناس أو ذلته، وكذلك تقدم الامة وتخلفها، حضارتها أو جاهليتها.. كل هذه المقادير ترسم وتحدد في ليلة القدر:
(فيها يُفْرَقُ كلُّ اَمرٍ حكيم. أمراً مِن عندنا) (4 - 5/الدخان)
ولكن السؤال هو: على مَن تتنزل الملائكة بمقادير الحياة والعباد؟
في الجواب نقول: ان من تكريم الله لبني آدم هو ان جعل من انفسهم حججاً لله على الخلق تتنزل عليهم الملائمة، ففي كل عصور التاريخ ومنذ آدم حتى هذا اليوم فان الملائكة تنزل في ليلة القدر على (بشر)، ففي عهد ادم كانت تنزل على آدم، ثم بعده على شيث، وبعده على ادريس، وبعده على ابراهيم، وموسى، وعيسى، والنبي

(١٣٠)

محمد عليه الصلاة والسلام، ثم بعد الرسول على اوصيائه الائمة المعصومين الواحد بعد الاخر، اما الان فانها تتنزل على الامام المهدي المنتظر، لانه حجة الله على عباده، والدعاء حينما يصلي على الامام الحجة، انما لكي يعمق العلاقة بين المؤمنين وبين حجة الله:
(اللهم وصلِّ على ولي امرِك القائم (عليه السلام) المؤمل، والعدلِ المُنتظر، وحُفَّة بملائكتِك المُقرَبين، واَيِدهُ بِرُوح القُدُسِ يا رب العالمين)
وروح القدس هنا قد يعني تلك الروح التي تتنزل في ليلة القدر، وهو الذي ايد الله به عباده المؤمنين، والانبياء والاوصياء وهو الذي قال عنه ربنا سبحانه وتعالى:
(يسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي) (85/الاسراء)
يقول الدعاء: (ولي امرك القائم المؤمل..)، فالامام

(١٣١)

الحجة يقوم بالامر.. (فيها يفرق كل امر حكيم* امراً من عندنا)، ولكن ماذا يعني (الامر) هنا؟
ان لله تعالى قضاء وقدراً وله امراً وسنةً، وسنن الله تعالى هي القوانين التي وضعها للكون، ثابتة لا تتغير، ولكن امر الله فوق قوانين الكون، والامام الحجة هو مكلف من قبل الله وباذن الله وبتفويض من الله، وبقدرة الله وباسم الله، ان يكون له الامر.(10)
الاهداف الحقيقية للانسان:
لكل انسان في هذه الدنيا اهداف يبذل من اجل تحقيقها مساعيه الجادة، وهدف الانسان - سواء كان شريفاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(10) جرت العادة عندنا ان نقف منتصبين حينما يُذكر اسم (القائم) فماذا تعني؟
ان هذا القيام يرمز إلى استعدادنا للمعركة التي لا بد ان يخوضها الحق ضد الباطل تحت قيادة الامام الحجة، وهو يعني ايضاً اننا نتمنى ان نكون من جنود الامام ومن المجاهدين تحت لوائه.

(١٣٢)

ام وضيعاً، سليماً ام سقيماً - هو الذي يحدد مسار حياته ومساعيه التي يبذلها، فمن كان هدفه الوصول إلى نقطة معينة، فان كل حركته وكل جهده سوف ينصب باتجاه تلك النقطة.
اما اذا كان هدفه هو الوصول إلى نقطة تقابل تلك النقطة في الاتجاه، فان الحركات والتوجهات والجهود هي الاخرى سوف تتوجه إلى تلك النقطة، وليس سواءاً: التحرك شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً، كذلك هدف الانسان هو الذي يحدد مسار حياته. ولكن مشكلة الانسان انه لا يعرف بالضبط ما هو الهدف السليم الذي ينبغي السعي اليه، أو بتعبير افضل، ان مشكلة الانسان، إنه ليس هو الذي يحدد هدفه في الحياة! إنما الاخرون هم الذين يملون عليها اهدافاً ليست من اهدافه الحقيقية، وانه بعد فترة ليست بالقصيرة يكتشف زيف تلك الاهداف، وان كل مساعيه وحركاته انما كانت باتجاه نقطة خاطئة، وبذلك فهو لم يخدم نفسه انما خدم الاخرين أو خدم الشيطان:
(قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالاً* الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً)(130 - 104/الكهف)

(١٣٣)

ان الذين ينقادون لابواق الاعلام الغربية أو الشرقية، ويتبعون ما تقوله اجهزة الدعاية الحكومية لهم، سوف يكتشفون ان هذه الاجهزة لم تكن امينة معهم، اذ جعلتهم في وضع استهدفوا غايات لم تكن في مصلحتهم، مثلاً ان الكثير من الذين غرّر بهم صدام وساقهم إلى جبهات القتال، ضد الاسلام يكتشفون بعد الموت أو قبله، بان العملية كانت خدعة كبرى تعرضوا لها! وانهم تحركوا وبذلوا جهودهم ودماءهم ولكن ليس في سبيل خيرهم وما ينفعهم، وانما في سبيل اهواء حاكم طاغية.
اذن، فالمشكلة الأولى للانسان هي ان اهدافه لا تكون - في الغالب - اهدافاً حقيقية، اما المشكلة الأخرى فهي ان اهداف الانسان قد لا تكون منسجمة مع فطرته، وطاقاته.
فالكثير منا يلخص كل حياته في قوالب ضيقة، واهداف محدودة جداً، لانه لا يعرف نفسه ولا يعرف حجم ما اودعه الله فيه من طاقات. لقد خلقه الله لكي يصبح سيد الطبيعة وسيد الكون وملكاً في الجنة تخدمه الملائكة! ولكن النظرة الضيقة إلى الذات، تجعل الإنسان ينتخب لنفسه هدفاً ضيقاً يسعى بكل ما يملك من مساعي في سبيل الوصول اليه، وهذا هو الآخر يخسر نفسه. ومن الناس من تكون اهدافه وتطلعاته عالية، إلا انها تكون

(١٣٤)

شخصية، فكل هدفه - مثلاً - ان يُصبح ثرياً! ويمتلك الاموال والعقارات، أو يكسب شهرة واسعة، أو ان يصبح سلطاناً، ثم ماذا؟ماذا بالنسبة للآخرين؟ لا شيء! وحينما يكون هدف الانسان شخصياً فان هذا الهدف سوف يتعارض ويصطدم باهداف الآخرينّ وبالتالي يؤدي إلى نشوب صراع اجتماعي يكون البقاء فيه للاقوى.
والادعية المأثورة تحاول - من خلال معانيها الحميدة - تصحيح هدف الانسان ومسيرته في الحياة، وذلك عبر ترسيخ القناعات التالية في الإنسان:
أولاً: إن عليك ان تحدد لنفسك هدفك.
ثانياً: أن تكون انت الذي ترسم هذا الهدف لنفسك وليس الاخرون هم الذين يملونه عليك.
ثالثاً: إن هذا الهدف يجب أن يكون هدفاً عالياً وليس دانياً.
رابعاً: أن يكون هدفاً مشتركاً بينك وبين الاخرين ولا يكون هدفاً ذاتياً، فبدل ان ترهق نفسك لكي تصبح سلطاناً، الافضل ان تعمل انت والمجموعة التي تعرفها، انت والمجتمع الذي تعيش فيه، تعملون معاً من اجل سلطان عادل، فحينما يكون هناك سلطان عادل، فان خيره سوف يكون عميماً، وبدل ان تسعى من اجل اكتساب الثروة

(١٣٥)

التي قد تأتي عن طريق تخلف الامة وانتشار الفقر، وترسيخ تبعية الامة للاجنبي، بدل ذلك اسعوا جميعاً في بناء حضارة ينعم الجميع بخيراتها، اعملوا من اجل ان تكون بلادكم بلاداً متقدمة صناعية لكي يستفيد الكل منها، وبدل ان تعمل من اجل ان تعيش انت وحدك في حياة مرفهة، حاول ان تنشر الاخلاق الفاضلة في المجتمع، فاذا انتشرت الاخلاق الفاضلة فان الجميع سوف يعيشون حالة جيدة، في اطمئنان وسكينة.
اذن، فان من اهداف الدعاء هو تصحيح مسار الإنسان واهدافه العظمى، وحينما يرسم الانسان لنفسه تلك الاهداف العظمى فانه ينسجم مع الاخرين، اولاً، ثم انه يبذل قصارى جهده من اجل تحقيق تلك الاهداف.
فحينما يكون هدف الانسان هدفاً ذاتياً، كأن يصبح ثرياً، فانه سوف يتكاسل ويتقاعس عن العمل لانه لا يشعر بشخصيته الحقيقية.
أما حينما يكون الهدف اقامة حكم الله في الارض، فان الانسان يبذل كل جهوده من اجل تحقيق الهدف، ومهما طال المسير فانه يزداد عزماً واصراراً، لذلك فانه يفجر كل طاقاته، فيكون بذلك الإنسان المتكامل، الانسان اللامنتهي، الانسان اللامحدود، لانه يعرف بانه حتى لو بلغ الثمانين من العمر فان امامه أهدافاً لا بد ان يحققها،

(١٣٦)

فيكون نشيطاً على الدوام، حتى لو كان شيخاً كبيراً، اذ انه يملك طاقة نفسية هائلة، لذلك نرى رجلاً كسليمان بن صرد الخزاعي (رضوان الله عليه) يقود معركة فدائية وقد جاوز عمره التسعين سنة دون ان يرهقه الشيب! والسبب لانه يمتلك شعلة الهدف العالي في ضميره، فتدفعه نحو تفجير طاقاته، وفي نهاية دعاء الافتتاح، نقرأ ما يرسم لنا اهدافنا الحقيقية في الحياة وتطلعاتنا، ويتمحور الدعاء حول مولانا وامامنا الحجة بن الحسن المهدي عجل الله تعالى فرجه وجعلنا من انصاره واعوانه:
(اللهم اجعله الداعي إلى كتابك والقائمَ بدينك، اِستَخْلِفهُ في الارض كما اسْتَخْلَفت الذين من قبله، مكن لَه دينه الذي ارتضَيْتَه له، اَبْدِلهُ مِن بَعدِ خوفِه اَمناً، يَعْبُدُك لا يُشرِك بكَ شيئ)
وهنا يجب ان نشير إلى عدة ملاحظات:
أولاً: اذا دعوت انت وانا وكل المؤمنين فان الله سبحانه وتعالى قد يجيب دعواتنا، فنحن لنا اثر بقدر معين في مسيرة هذا الكون وفي مستقبله.
فباستطاعة الواحد منا ان يعمل من اجل قرب فرج الامام الحجة (ع)، وذلك عبر الدعاء بروح الامل، وليس بروح اليأس والقنوط.

(١٣٧)

ثانياً: الدعاء يتضمن في نفس الوقت نوعاً من التطلع، أي ان على الانسان ان يجعل في برامج حياته: العمل المستمر من اجل الوصول إلى هذا الهدف، من اجل تهيئة الوسائل وتمهيد الطرق لظهور الامام الحجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه. فالدعاء في الحقيقة هو تعبير عن برنامج تطلعات المؤمن واهدافه.
ثالثاً: حينما يدعو الانسان لامامه المنتظر، فانه بذلك يؤدي جزءاً من حقه عليه.
كما يؤدي ذلك إلى ترسيخ علاقة الاقتداء والتبعية بالامام.
(اللهم اجعله الداعي إلى كتابك والقائمَ بدينك، اِستَخْلِفهُ في الارض كما اسْتَخْلَفت الذين من قبله، مكن لَه دينه الذي ارتضَيْتَه له)
هذا الدين هو دين الإسلام ولكنه الإسلام الكامل، الإسلام غير المشوه وغير المزيف، والذي يعمل الامام الحجة على نشره في ارجاء الارض، وتمكينه من قلوب البشرية.
(اَبْدِلهُ مِن بَعدِ خوفِه اَمناً، يَعْبُدُك لا يُشرِك بكَ شيء)
فالامام الحجة هو في حالة خوف ووجل على مصير

(١٣٨)

هذا الدين.
وهو يترقب لمئات السنين لحظة الظهور التي يأذن بها الله تعالى، فهو يعيش حالة التشرد والهجرة الدائمة بانتظار اللحظة الموعودة، وكذلك الإنسان المؤمن يجب ان يتحمل الصعاب والمشاكل ريثما يحقق اهدافه وتطلعاته.
(اللهم اعزه واعزز به، وانصره وانتصر به، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً، واجعل له من لدنك سلطاناً نصير)
اننا نقرأ في القرآن:
(وقلْ ربي اَدخلني مُدَخَل صِدْق، واَخْرجني مخْرجَ صِدْق، واَجْعَل لي مِن لَدُنك سلطاناً نصيراً) (80/الأسراء)
فنحن نطلب من الله ان يجعل لنا سلطاناً ويجعل لنا قوة، ولكن ليس قوة ذاتية، وإنما قوة الهية، بعيدة عن الشهوات والاهواء وتراكمات السلبيات في المجتمع، وهكذا نطلب من الله في هذا الدعاء ان يجعل للامام الحجة سلطاناً نصيراً.
(اللهم اظهر به دينك، وسنة نبيك، حتى لا يستخفي بشيء من الحق، مخافة احد من الخلق)

(١٣٩)

اننا نتجرع الالام حينما نرى ان سنن رسول الله قد محيت، وان معالم الرسالة قد درست، وان احكام الله تخالَفُ جهراً في كل البلاد الاسلامية، وفي كثير من الاوقات نضطر إلى السكوت تقية، إلا اننا هنا نسأل الله سبحانه وتعالى ان يُظهر الامام الحجة حتى لا تكون هناك تقية، حتى يكون الإسلام هو السائد.
ثم يبدأ الدعاء برسم خريطة الاهداف الحقيقية للانسان في الحياة، فالهدف ليس هو امتلاك العقار، والزوجة والاولاد، والتمتع بهذه الامور، انما الهدف الاساسي هو ان يكون للانسان دور فعال وبناء في تصحيح مسيرة الحياة:
(اللهم إنّا نرغب اليك في دولة كريمة تعز بها الاسلام واهله، وتذل بها النفاق واهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والاخرة)
اذن، فالهدف الاول هو: اقامة حكومة اسلامية حقيقية، ليس حكومة اسلامية منافقة تطبق اسلاماً مزيفاً ينسجم مع مشتهيات الغرب أو الشرق.
والهدف الثاني: هو ان يكون للانسان في هذه الحكومة الدور الطليعي، فلا ننتظر ان يأتي غيرنا لبناء

(١٤٠)

الدولة الاسلامية. انما نحن الذين نبني، نحن الدين نقوم بهذا الدور الطبيعي: (وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك)، يكون لنا دور طليعي قولاً وعملاً، فالدعوة إلى طاعة الله، هو الدور الطليعي قولاً، اما القيادة إلى سبيله، فيعني الدور الطليعي عملياً وميدانياً.
(وترزقنا بها كرامة الدنيا والاخرة)، هذا هو هدف الدولة الاسلامية، والكرامة تعني الاستقلال والخير والفضيلة، فالهدف الاسمى للدولة الاسلامية ليس الوصول إلى تقدم مادي حتى ولو كان هذا التقدم على حساب الاستقلال، أو على حساب الفضيلة، أو على حساب الاحسان إلى الناس. ولنضرب مثلاً بالامريكيين الذين تقدموا حضارياً، ولكن على حساب الشعوب، على حساب الفضيلة، و(اسرائيل) ايضاً متقدمة حضارياً، ولكن على حساب استقلالها؛ باعتبارها دويلة ذيلية مرتبطة بالغرب، بلغاريا ايضاً متقدمة ولكن على حساب استقلالها لانها تابعة للشرق، اما الدولة الاسلامية فانها تنشد التقدم ولكن إلى جانب الاستقلال، تريد الاستقلال والى جانبه الفضيلة.
(اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه، وما قصرنا عنه فبلغناه)

(١٤١)

ولكن كيف نصل إلى الهدف المقدس؟
عبر وسيلتين:
الوسيلة الاولى: (ما عرفتنا من الحق فحملناه)، نتحمل مسؤولية مقدار ما نعرفه من الحقائق، فاذا كنت اعرف ان الجهاد واجب، فعليّ ان اتحمل مسؤوليته.
الوسيلة الثانية: (وما قصرنا عنه فبلغناه)، فاذا كنت اشعر بنقص في معلوماتي وثقافتي الدينية، كان عليّ ان اسعى لكي اسد هذا النقص، فبمقدار ما يعرف الانسان من دينه عليه ان يطبق، والمقدار الذي لا يعرفه، عليه ان يبحث عنه حتى يعرفه.

(١٤٢)

12 - اسس الدولة الاسلامية
(اَللَّهُمَّ اَلُمُمْ بِهِ شَعثنا، واَشعَبْ به صَدْعَنا، واَرْتُق به فَتْقَنا، وكَثِّر به قِلِّتَنا، واَعزِزْ به ذِلَتَنا، واَغنِ به عائلَنا، واقْضِ به عن مُغَرَمِنا، واَجْبُر به فَقْرَنا، وَسُدَ به خَلَتَنا، وَيَسِّر به عُسْرِنا، وَبِّيض به وُجُوهنا، وفُكَ به اَسْرَنا، واَنجِح به طَلِبَتَنا، واَنجِز به مَواعِيدَنا، واسْتَجب به دَعْوَتَنا، واَعْطِنا به سْؤلَنا، وَبَلغْنا به من الدنيا والآخرة آمالنا، واَعْطِنا به فوقَ رَغْبَتِنا، يا خيرَ المسؤولين، واَوْسَعَ المُعْطِين، اِشْفِ به صُدُورَنا، واَذْهِب به غَيْضَ قلوبنا، وَاْهدِنا به لما اْختُلِفَ فيه من الحقِ باذنِك اِنكَ تَهْدِي من تشاء إلى صراط مستقيم، وَاْنصُرنا بهِ على عَدُوِكَ وَعَدُوْنا اله الحقِ آمين، اَللَّهُمَّ إنّا نَشكُو اليكَ فَقْدَ نبينا، صلواتُكَ عليهِ وآلهِ، وغيَبَةَ وَلينا، وكَثْرَة عَدُوِّنا، وِقلّةَ عَدَدِنا، وشِدّة الفتن بنا، وتَظاهُرَ الزمانِ علينا، فَصَلِّ على محمد وآله، وِاَعِنا على ذلك بِفَتْح منك تُعَجِّلُه، وبِضُرٍّ تَكشِفُه، وَنَصْرٍ تُعزِّه، وَسُلطانِ حقٍ تُظهِرُه، ورحمةٍ مِنكَ تُجلِلُناها، وعافيةٍ منكَ تُلْبِسُناها برحمتك يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ)

(١٤٣)

الدولة الإسلامية الحقة هي التي تقوم على اسس الهية، وابرز هذه الاسس هو تمحور الدولة حول قيادة ربانية، ولذلك فهي تعطي للمجتمع الانساني النتائج التي ذكرت في نهاية دعاء الافتتاح، وهذه النتائج هي في ذات الوقت تطلعات ينبغي على كل مؤمن ان يسعى من اجل تحقيقها بكل ما يملك من امكانات.
إن الادعية المأثورة تنعكس في ضمير الانسان الذي يدعو بها في صورة تطلعات وبرامج عملية يندفع لتحقيقها في الواقع الخارجي، فحينما ترفع يدك - في شهر رمضان - ضارعاً إلى الله، وتقول: (اللهم اَدْخِل على اَهلِ القُبورِ السُرور، اللهم اَغنِ كُلَ فاسدٍ من اُمورِ المسلمين، اللهم غيِّر سوء حالِنا بِحُسن حالك..) حينما تدعو الله سبحانه وتعالى بهذه الدعوات، فان ذلك لا يعني فقط انك تحرك لسانك بهذه العبارات، أو تتمنى تحقيق هذه الامور، وانما يعني ايضاً ان تجعل هذا برنامج حياتك، فتسعى من اجل

(١٤٥)

ان تُدخِلَ السرور إلى قبور الموتى وذلك بمزيد الطاعة التي نبعث بثوابها اليهم، وبمزيد من الانسجام والتعاون فيما اذا كان الشهيد أو الراحل رجلاً يتطلع إلى الانسجام كما لو كان قائداً واماماً.
وحينما تقول: (اللهم اَشْبع كلّ جائع) فانك تسعى من اجل سد جوعة الناس الجائعين، وكذلك حينما تقول: (اللهم اَصلح كلَ فاسدٍ من امور المسلمين) فانك يجب ان تسعى باصلاح بين الناس بصورة منتظمة، اذن فان الادعية كما هي من العبد المسكين، من المخلوق الضعيف إلى الخالق القوي لكي يستجيب له ويحقق ذلك بصورة غيبية، فهو ايضاً برنامج عملي يجب ان يطبقه الانسان ويسعى من اجل تحقيقه.
ثم من جهة أخرى قد تعيش بعض المجتمعات البشرية في اوحال التخلف والظلم والاستضعاف إلى درجة تفقد معها حتى مجرد الطموح والامل، ومجرد الامنية والحلم في ان تصل إلى مستوى متقدم من العيش والحياة.
مثلاً: المجتمعات التي تعيش في بعض بلاد آسيا النائية، أو في بعض مناطق افريقيا، أو مناطق اميركا اللاتينية، هذه المجتمعات المستضعفة لا تفكر في ان تمتلك في يوم من الايام قنبلة نووية أو ان تحصل استقلالاً كاملاً في مواجهة الشرق والغرب، فمن اجل اعادة الانسان إلى

(١٤٦)

انسانيته، وتذكيره بانك ايها الانسان تستطيع ان تبني حياة رفيعة، وان تغيرها، لا بد ان تتحدى الظروف التي جعلتك تعيش هذه الحياة سواءاً كشخص تصارع الطبيعة، أو كمجتمع تصارع سائر المجتمعات من اجل الحصول على حياة حرة.. من اجل تذكير الانسان بهذه الحقيقة نحن بحاجة إلى الادعية التي تقول لنا: اذا اصبحت حياتك صعبة، وظروفكم معقدة، واوضاعكم شاذة واذا ادبرت الدنيا عنكم، فلا يعني ذلك انكم فعلاً اصبحتم لا تستحقون التقدم، ولا تستحقون الكرامة، ولا يعني ان ترضوا بهذه الحالة، وبالعكس، عليكم دائماً ان تسألوا الله ان افضل من هذا الواقع ممكنة، وتسعون من اجل الوصول اليها، وهكذا لا تنطفيء فيكم جذوة الامل، ولا تموت في انفسكم روح التقدم، ونحن نقرأ الفقرة الأخيرة من دعاء الافتتاح ضمن هذا الاطار ونقول: (اللهم المم به شَعَثَنا) والشَعث يعني: التناثر والتشرذم والتشتت الذي يمزق المجتمع بعضه عن البعض الآخر، اللهم المم به هذا التشرذم والتشتت حتى تصبح امتنا وحدة واحدة.
(واشعب به صدعنا) فحصون بلادنا مهدمة، فيها ثغرات يتسلل منها العدو، ولا تسد هذه الثغرات إلا بالتضرع إلى الله سبحانه وتعالى بالسؤال (واشعب به

(١٤٧)

صدعنا) هذا الصدع في جدار بلادنا وامتنا لا نستطيع ان نسده إلا بعون الله ونصره، وبنظرة واحدة إلى العالم الإسلامي نهتدي إلى عمق التشتت الموجود في كل مكان، فكل جماعة تتمزق إلى قوميات واقليميات ووطنيات مزيفة، حتى ان كل قرية تعيش بنفسها دون ارتباط جذري ببقية اجزاء الامة. هذا هو التشتت، اما الصدع فهو اقوى من التشتت، أي انه اظهر للعين، (فاسرائيل) صدع، وروسيا في افغانستان صدع، وماركوس في الفلبين صدع.
(وارتق به فتقنا) الفتق هو أقل من الصدع إلا انه بدوره شيء يُرى، ونستطيع ان نعتبر وجود الانظمة العميلة في البلاد الاسلامية نوعاً من الفتق الذي يجب ان تتحرك الامة لرتقه بعون الله تعالى.
(وكثِّر به قلتنا) نحن قد نكون كثيرين مشتتين فنحتاج إلى الوحدة، وقد نكون قليلين نحتاج إلى زيادة عددية، ان القلة - بحد ذاتها - لا تُعتبر نقطة سلبية لو كانت مجتمعة القلوب ومتآلفة النفوس، إلا ان هذه القلة المتآلفة يجب ان تزداد وتتضاعف حتى تشمل كل فئات الامة الإسلامية، لذلك فاننا ندعو الله بقولنا: (وكثر به قلتنا).
(وأعزز به ذلتنا) إنّ مشكلة الانسان الذليل هي انه شيئاً فشيئاً يشعر وكأنه خُلِق ذليلاً فلا يقاوم الظلم، والعدوان، والاذلال، ان الاستكبار العالمي يسعى اليوم في

(١٤٨)

شتى بقاع الارض لاذلال المسلمين واستعبادهم، لذلك فانه يستخدم المواد الكيمياوية لابادة المسلمين على جبهة الحرب العدوانية العراقية ضد الاسلام، كما يستخدم الروس ابشع الاساليب لتقتيل عشرات الالوف من المسلمين في افغانستان، و(اسرائيل) تهتك حرمات المسلمين في جنوب لبنان، والنظام العراقي يمارس اشنع الوسائل لتحطيم معنويات الشعب المسلم في العراق، اليست كل هذه الممارسات العدوانية بحق المسلمين هي اساليب جهنمية لاذلال المسلمين؟ واذا لم نقاوم كل هذه الممارسات، واذا لم نتحول إلى امة مجاهدة لكسب العزة والكرامة، فان الذلة ستنغرس في نفوسنا: (واعزز به ذلتنا).
(واَغنِ به عائِلنا) تُعتبر البلاد الاسلامية من بين البلاد الاكثر تخلفاً في العالم، وقد قرأت مرة تقريراً كان يصف (بنغلادش) بانها من اكثر البلاد تخلفاً في العالم، ومن الذي يعيش في هذا البلد غير الملايين من المسلمين؟ وهكذا الامر بالنسبة لكثير من البلاد الاسلامية وبالذات الافريقية منها والتي تعيش شعوبها حياة المسكنة والتخلف المريع. اننا يجب ان نعرف ان الله لم يخلقنا حتى نعيش بهذا الشكل من الفقر والتخلف، وان هناك اساليب ووسائل يجب ان نبحث عنها ونتبعها حتى نقضي على حياة المسكنة والتخلف: (واَغن به عائلنا، واقضِ به عن مغرمنا، واجبر به فقرنا) هناك فرق بين المسكنة التي يعبر

(١٤٩)

عنها هذا الدعاء بكلمة (عائلنا) وبين الفقر، والمسكنة تعني ان لا يملك الانسان حتى قوت يومه، بينما الفقر يعني ان حياة الفرد غير متوازنة مع حياة سائر الناس، فالفقير قد يملك بيتاً واثاثاً جيداً، إلا انه يُعتبر فقيراً لانه لا يمتلك سيارة اذا كان يعيش في مجتمع كل افراده يمتلكون السيارات الخاصة، ان بلادنا بشكل عام تُعتبر من البلاد الفقيرة. وحينما يريدون تضليلنا يطلقون علينا اسم (البلاد النامية) بينما في الحقيقة بلادنا لا تنمو كما يجب، فمعدلات النمو في بلادنا اقل من المعدل الذي ينبغي ان يكون عليه. ان نمو السكان هو اكبر من نمو الاقتصاد، اذن فان بلادنا ليست نامية، والدليل هو وجود الفجوة الواسعة بين الجنوب والشمال، ويجب ان نعترف باننا فقراء حتى نسعى للقضاء على الفقر: (واجبر به فقرنا. وسُدّ به خَلّتنا) أي مواضع الفقر (ويَسِّر به عسرنا) يجب على الانسان ايضاً ان يسعى وبعون الله إلى تيسير ما تعسّر من حياته، وهذا الدعاء يدفع الانسان لكي يرفض الاستسلام إلى واقعه الصعب وحياته العسيرة بل عليه ان يسعى للتغيير نحو الافضل: (وبيض به وجوهنا).
(وفُكَ به اَسرنا، واَنجِح به طلبتنا) حقق تطلعاتنا عبر وليك الغائب الذي تبعثه لانقاذنا (وانجز به مواعيدنا) لقد وعدنا الله بان ينصرنا على الاعداء، ونحن بحاجة إلى القيادة التي نلتف حولها لينقذنا الله بها، وينجز وعده بنصرنا

(١٥٠)

(واستجب به دعوتنا واعطنا به سؤلنا وبلغنا به في الدنيا والآخرة آمالنا) ان كل آمالنا ستتحقق، ولا يجوز ان ييأس الانسان ويقنط من ذلك، وانما تحقق الامال يحتاج إلى الوسيط وهو الحجة الغائب ومن ينوب عنه.
(واَعطنا به فوق رغبتنا) اننا نطلب من الله سبحانه وتعالى ان لا يقتصر فقط على الاستجابة لطلباتنا، ذلك لان عقل الانسان محدود، وطلباته ايضا تكون محدودة، فندعو الله الذي يعرف عمق حاجاتنا ان يعطينا اكثر مما نطلب وفوق رغبتنا: (واعطنا به فوق رغبتنا، يا خير المسؤولين) من افضل من الله، يسأله الانسان حاجاته؟ اذ يستطيع الانسان ان يسأله أي شيء، وفي أي وقت شاء، فلا تحجبه عن عباده المؤمنين حواجب، وبابه مفتوح للداخلين، والتقرب اليه والسؤال منه لا يحتاج إلى شفيع ولا دليل ولا تصنع، وهو فوق كل ذلك يعطي السائل اضعاف ما يطلب. فهو: (خير المسؤولين، واوسع المعطين، واشفِ به صدورنا) هذه هي قمة الطلبات، اذ قد تكون هنالك دولة اسلامية ومجتمع مسلم، دولة تحكمها قوانين اسلامية، ومجتمع يخضع في علاقاته الظاهرية لقيم الاسلام، وقد تكون هناك حالة من الحركة والغنى والتقدم والرفاه والعزة، ولكن يظل القلب مريضاً، فلا يستفيد الانسان من كل تلك النعم، لان القلب لا يتمتع بالعافية، والصفاء، والاطمئنان، تماماً كالانسان الحسود الذي وان امتلك كل ما في الدنيا من نعم،

(١٥١)

إلا انه لا يرتاح له بال لانه يحسد الآخرين على ما يمتلكون من نعم الله.
اذن، فاننا نحتاج إلى شيء اعظم من كل النعم، إلا وهو: شفاء الصدور والقلوب.
(وأذهب به غيظ قلوبنا) وشفاء الصدور لا يعني فقط ان يجعلك الله صابراً وقانعاً وراضياً ولا يعني فقط ان يصبح قلبك صافياً من الحسد والحقد. بل وايضاً ان يخلو قلبك من كل غيض، فاذا كنت تحمل في قلبك عقدة سقوط الاستكبار، واعداء الدين والانسان مثلاً: فانك تطلب من الله ان يذهب هذا الغيظ من قلبك وذلك باسقاط اعداء الانسانية ودحر الحكومات الشيطانية والقوى المستكبرة في العالم.
(واهدنا به لما اختلف فيه من الحق باذنك) من فوائد الحكومة الاسلامية والقيادة الرسالية انها تحسم الخلافات القائمة على اساس الهداية إلى الحق والصواب: (وآهدنا به لما اختلف فيه من الحق باذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم وآنصرنا به على عدوك وعدونا إله الحق آمين) بالتالي مهما تكون هناك دولة اسلامية وحكومة اسلامية فانه تبقى هناك مجموعات من الاعداء، نأمل في الانتصار عليها، ونطلب من الله ان يعيننا في ذلك.
وفي نهاية دعاء الافتتاح نشكو إلى الله من المستكبرين:

(١٥٢)

اصحاب القوة، واصحاب السلطان الذين يظلمون ويقهرون المستضعفين الذين يعيشون حياة التخلف والتمزق، فنقول: (اللهم إنّا نشكو اليك فقد نبينا صلواتك عليه وآله، وغيبة ولينا، وكثرة عدونا، وقلة عددنا، وشدة الفتن بنا) نشكو إلى الله من الفتن الكثيرة التي تهجم على الامة من كل صوب، أليست (اسرائيل) والانظمة الطاغوتية ومن ورائهما قوى الاستكبار العالمي هي فتن هذه الامة؟
(وتظاهر الزمان علينا) فروسيا تغزو امتنا من جهة، واميركا تتامر من جهة اخرى، وفرنسا من جهة ثالثة وبريطانيا من جهة رابعة، وهكذا تتحالف كل قوى الشر ضدنا.
(وتظاهر الزمان علينا فصلٍّ على محمد وآله واعنَنا على ذلك بفتح منك تعجله، وبضر تكشفه، ونصر تعزه، وسلطان حق تظهره، ورحمة منك تجللناها، وعافية منك تلبسناها، برحمتك يا ارحم الراحمين).

(١٥٣)

13 - الايمان بالآخرة
(اللهم بِرَحَمتِك في الصالحين فَاَدْخِلنا، وفي عِليين فَارْفَعنا، وبِكَأس مِن مَعِين من عَيْنٍ سَلْسَبيل فَاسْقِنا، ومِنَ الحُوِر العِيْن بِرَحمِتك فَزَوِّجنا، ومِنَ الوِلدانِ المُخَلَّدِين كَأنهم لؤلؤ مَكنَون فَأخْدِمنا، ومِن ثِمارِالجَنَّةِ، وَلُحوم الطَيْرِ فَاَطْعِمْنا، ومِن ثِيابِ السُنْدُسِ وَالحَرِير والأسْتَّبْرَقِ فَاَلبِسْنا، وَليلةَ القَدْرِ،، وَحَجَّ بَيْتِكَ الحرام، وَقَتْلاً في سَبيِلكَ فَوَفِق لنا، وصالِحَ الدُعاءِ وَالمَسْألةِ فَاسْتَجِبْ لنا، واذا جَمَعْتَ الأوَلين والآخِرين يَوْمَ القِيامَةِ فارحمنا، وَبَراءةً من النار فَاكْتُبْ لَنا، وفي جَهَنَّمَ فَلا تَغُلنَّا، وفي عذابِكَ وَهَوانِك فلا تَبْتًلِنا، ومِنَ الزَّقُوم وَالضَرِيع فلا تُطْعِمُنا، وَمَعَ الشياطِين فَلا تَجْعَلنا، وفِي النارِ عَلى وُجُوهِنا فلا تكْبُبْنا، ومن ثياب النارِ، وسَرابيلِ القَطِرانِ فلا تُلْبِسْنا، ومِن كلِّ سُوءٍ يا لا إلهَ إلاّ أنْتَ بحقِ لا أله إلا أنت فَنَجِّنا..).(11)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11) اشرنا في بداية الحديث إلى ارتباطنا بالامام هو ارتباط خطي، أي اننا يجب ان نرتبط بخط الامام المستقيم، فماذا يعني؟
نحن لا نعتبر الفقيه الذي هو ولي الامر، لا نعتبره قائداً بالذات، انما نعتبر قيادته منبعثة من نيابته العامة للامام الحجة (ع) اذن فنحن في كل قضية نبحث عن رأي الامام الحجة وعن موقفه، بل حتى الفقيه الولي هو الاخر يبحث عن رأي الامام الصائب لكي يبني فتواه ومواقفه على ذلك الاساس لانه يعتمد شرعية قيادته من مدى التزامه بخط الامام الحجة، ولذلك فاننا نظل ملتزمين بقيادة الفقيه الولي ما دام هو يلتزم السير على الصراط المستقيم، اما اذا انحرف - لا سمح الله - فان ارتباطنا ينقطع فوراً، اذ ان ارتباطنا الحقيقي هو بخط الامام الحجة، وبقدر ما يمثل الفقيه هذا الخط ويجسده فاننا نلتزم به، والا فلا.

(١٥٥)

ان الايمان بيوم البعث هو جزء اساسي من العقائد الإسلامية التي تؤكد الادعية - في بعض جوانبها - على ترسيخها في النفس، وتجدر الاشارة إلى ان هنالك فرقاً بين ترسيخ العقيدة وبين شرحها وبيانها، فشرح العقيدة، قد يكون عبر حديث عقلائي، بينما ترسيخ العقيدة لا يكون إلا عبر معاناة نفسية وتفاعل نفسي بين الإنسان وبين تلك العقيدة، مثلاً هناك فرق واضح بين أن تؤمن بالاخرة ايماناً مبنياً على البراهين والادلة العقلية، وبين ان تؤمن بها عبر تصور مشاهد الآخرة. فتتصور مشهدك وانت محمول على اكتاف الاصدقاء إلى مثواك الاخير، لا تعرف ما هو مصيرك، وتتصور نفسك وانت مفترش على لامغتسل تقلبك ايدي الصالحين من اخوانك أو جيرانك، وتتصولا تلاشي جسمك في القبر، ثم خروجك من قبرك عرياناً ذليلاً لا تعرف إلى اين تتجه، تقف خمسين الف عاماً في صحراء المحشر، تلك الصحراء المحفوفة بالمخاطر والاهوال وهكذا تتصور النار والجنة، وتتصور العقاب والنعيم.

(١٥٧)

ان كل هذه التصورات هي التي ترسخ العقيدة في ذهنك وليس مجرد الاعتقاد استدلالي البرهاني، ان الايمان بالاخرة يجب ان يترسخ في النفس إلى درجة يجعل الإنسان هذا الايمان جزءً من تفكيره وتوجهاته.
يقول احد علماء الغرب واسمه (براتراتسن) في كتابه المسمى (في التربية):
(إن رجال الكهنوت يربون أولادهم على الايمان بالآخرة والعمل من أجلها).
ثم يضيف الكاتب:
أنا شخصياً لا أؤمن بالاخرة، لكن الذي يؤمن بالاخرة يؤمن بانه سيعيش هناك طويلاً، خالداً، أما في النار والعذاب واما في الجنة والنعيم، لا بد ان يربى ابنه على هذا الاساس، لان الدنيا بالنسبة إلى ذلك اليوم لا شيء، فما هي قيمة سبعين سنة اذا قيست بملايين السنين؟ هي لحظة واحدة فقط، اذن الذي يؤمن بالاخرة لا يمكنه أن يعيش كما يعيش الذي لا يؤمن بها، فهناك إختلاف واسع بين حياتهما.
جاء في بعض الاحاديث:
(عجبت لمَن أيقنَ بالموت كيف يضحك؟)
ان تصور الموت وحده، وتصور هذه النهاية التي لا

(١٥٨)

عودة منها، يكفي لكي يجعلك لا تضحك ابداً في حياتك، فكيف بتصور ما وراء الموت، والموت هو من ابسط مراحل يوم القيامة، ان الموت الذي يخافه الانسان في دنياه، يتمناه اهل النار يوم القيامة، لانه اسهل بكثير من اهوال العذاب والنار، تقول الاية الكريمة:
(ونادوا يا مالك ليقضِ علينا ربك قال انكم ماكثون) (77/الزخرف)
وفي المجمع عن أمير المؤمنين (ع) في تفسير هذه الآية قال: ان اهل النار ولضعفهم لم يتلفظوا القول بالتمام ولذلك اختصروا فقالوا ليقضِ علينا ربك يعني: سلْ ربك أن يقضي علينا، أن يميتنا، قال انكم ماكثون لا خلاص لكم بموت وغيره.
إذن، فالايمان المجرد بوجود الآخرة، يختلف عن تصور الإنسان وعن المراحل التفصيلية لها. وربما تشير إلى ذلك كلمة الظن في الآية الكريمة التالية، حينما يقول ربنا:
(واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة إلا على الخاشعين* الذين يظنون انهم ملاقوا ربهم، وانهم

(١٥٩)

اليه راجعون) (45 ،46/البقرة)
ان كلمة (الظن) ربما تهدي إلى هذا (التصور) أي ان تصورك للقاء الحافل الحاسم الذي يجري بينك وبين الله سبحانه وتعالى، هذا التصور يهز ضميرك، يهزك من الاعماق، والادعية المأثورة تخلق لنا هذا التصور حينما تتعرض لمسألة الاخرة، وتفاصيل الموت والحشر والعذاب والنعيم.
والدعاء التالي الذي سنتأمل فيه قد جاء في سياق ترسيخ الايمان بالاخرة:
(اللهم برحمتك في الصالحين فادخلنا وفي عليين فارفعنا)، وليس المهم ان يُكتب اسمك في الجرائد والمجلات، أو يُبث اسمك في الاذاعة، انما المهم ان يُدخلك الله سبحانه وتعالى في جبهة الصالحين، وان يرفعك في اعلى عليين، فكم يحتاج الانسان إلى ترسيخ ايمانه ويقينه، حتى يربي في نفسه هذه الصفة، حتى لا يفكر في من يتكلم عنه، لا يفكر في الشهرة، لا يفكر في اقوال الناس حوله، وانما يفكر - فقط - في موقف الله منه، وكيف ينظر الله اليه، وهل يرفعه في عليين أم لا؟
ان التاريخ يشهد ان اناساً ملكوا العالم كله، إلا انهم

(١٦٠)

اندحروا وانتهوا لانهم لم يكونوا من الصالحين.
فرعون كان في عصره اقوى من أمريكا وروسيا اليوم، واقوى من كل دول العالم في عصره، ولكن اين هو فرعون اليوم؟ لم يبقَ منه إلا جسده المحنط في متاحف القاهرة والذي جعله الله عبرة للاخرين.
إذن، فليست الشهرة الدنيوية في المهمة، انما المهم هو ان يرتفع شأنك عند الله سبحانه وتعالى.
ومثال قرآني آخر: هل يعرف احد اسماء السحرة الذين امنوا برب موسى، وتمردوا على فرعون، وضحوا من اجل ايمانهم؟ لا احد يعرف شيئاً عنهم إلا ان الله رفعهم في اعلى عليين.
(وبكأس من معين من عين سلسبيل فاسقن)
قرأت في بعض الاحاديث ان هناك حوض ماء يشرب منه المؤمنون قبل الدخول في الجنة، وهو الذي يسمى (بحوض الكوثر) وهذا الماء - حسب الروايات - يحمل عدة خصائص، من أهمها:
1 - حينما يموت الانسان، فان جسمه سيتغير كثيراً، ثم حينما يُبعث من جديد وينتشر في صحراء المحشر المحفوف بالاهوال، والذي يقول عنه ربنا سبحانه وتعالى:

(١٦١)

(فكيف تتقون ان كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً) (17/المزمل)
فان جسمه يصاب بتغيرات اكثر ويصبح مشوهاً وذلك لان صحراء المحشر رغم انها كبيرة وواسعة جداً، إلا انها مزدحمة بمليارات البشر، وفيها تلال وحفر وعقارب ونيران وعذاب وظلمة، ومن جهة ثالثة فان اكثر الناس يدخلون نار جهنم ولو لفترات قصيرة جداً:
(وان منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً) (71/مريم)
وذلك من اجل تطهير الناس من ذنوبهم، اذا لم تكن قد مُحيت بالاستغفار في الدنيا، وحينما يخرج هذا الجسم من النار يحمل، بلا شك، (ومن الحور العين برحمتك فزوجنا)، الحور جمع (حوراء) وهي تعني المرأة ذات العين التي اشتد سواد سوادها، وبياض بياضها، أي لم يخالط البؤبؤ لون آخر غير السواد، كما لم يخالط البياض اية الوان أخرى، و(العين) جمع (عيناء) وهي تعني المرأة ذات العينين الواسعتين. اذن، فان كلتا الصفتين تعودان إلى العين باعتبار عين الانسان تحمل الكثير من معالم الجمال

(١٦٢)

بل وتجسد جمال الانسان، باعتبار الروح تتجلى عبر العين (ومن الحور العين برحمتك فزوجنا، ومن الولدان المخلدين كانهم لؤلؤ مكنون فاخدمنا)، والولدان المخلدون هم مجموعات كبيرة من الشباب الصغار الذين يسخرهم الله لخدمة المؤمنين في الجنة، وتهيئة كل وسائل الراحة، والرفاه لهم، فهم يقدمون للمؤمن كل الخدمات التي يطلبها، (ومن الولدان المخلدين كأنهم لؤلؤ مكنون فاخدمنا)، واللؤلؤ هو شيء جميل جداً، ولكن قد صورة مشوهة وعاهات مؤلمة، ولكي يتخلص الانسان المؤمن من تغيرات القبر، وتشوهات صحراء المحشر، وعاهات وامراض جهنم، فانه يشرب من هذه الماء قبل دخول الجنة.. هذا الماء الذي يُعيد جسم الانسان إلى اجمل صورته في ريعان الشباب ثم بعد ذلك يدخل الجنة.
2 - ان هذا الماء هو ماء الحياة، ومن يشرب منه فانه لا يصيبه الموت ولا يصيبه تعب ولا نصب ولا مرض، ومن هنا فان المؤمن يدخل الجنة شاباً جميلاً معافى من جهة، ومحصناً ضد اية سلبيات وامراض جسمية من جهة ثانية بفضل هذا الماء، يقول الدعاء: (وبكأس من معين، من عين سلسبيل فاسقنا).

(١٦٣)

يعتريه شيء من الغبار، اما اللؤلؤ الذي كان مكنوناً فانه يتألق بياضاً وجمالاً حينما يخرج إلى النور، كذلك هم الولدان المخلدون (ومن ثمار الجنة ولحوم الطير فاطعمنا)، وفي الجنة ثمار ولحوم مختلفة تقدم للانسان حسبما يشتهي، اما بالنسبة إلى الطير فان المستفاد من الروايات هو ان طيور الجنة تحلق في الاجواء في اسراب جماعية، وحينما يشتهي المؤمن واحداً منها، يكفي ان يشير اليه حتى يحضر امامه فوراً وعلى صورة طبق مشوي، والاغرب من ذلك، هو انه بعد ان يأكل المؤمن منه، فان الطير تتجمع اجزاؤه ويعود إلى الطيران من جديد مفتخراً على سائر الطيور لان المؤمن قد أكل منه.
وفي الحقيقة فان المؤمن مَلِك في الجنة، وتصبح الملائكة، والحور، والولدان، والطيور، والاشجار، والانهار، وكل شيء رهن اشارته. وحسب ما جاء في بعض الاحاديث، فان المؤمن يملك في الجنة من الارض والخدم، ومن القاعات والبيوت والخيل والاشجار ما يمكنه ان يدعو جميع اهل الارض إلى وليمة طعام في يوم واحد.
(ومن ثياب السندس والحرير والاستبرق فالبسنا)، الثوب الحرير معروف، اما السندس فهو الديباج الرقيق، واما الاستبرق فهو الديباج الغليظ، أو الحرير المنسوج مع خيوط الذهب.
كانت هذه هي تطلعات المؤمن في الآخرة، اما للوصول اليها فنحن بحاجة إلى توفيق الهي في الدنيا، يكون

(١٦٤)

طريقاً للوصول إلى الجنة ونعيمها الدائم، وهو كالتالي:
(وليلة القدر، وحج بيتك الحرام، وقتلاً في سبيلك فوفق لنا) فالذي يوفقه الله تعالى لتغيير نفسه في ليلة القدر والبدء بحياة جديدة، يكون فيها رضا الله سبحانه وتعالى، وثم يحج بيت الله الحرام، معلناً بذلك رفضه لكل الآلهة المزيفة على الارض والطواغيت الذين يجعلون من انفسهم انداداً لله، ثم تدركه الشهادة مجاهداً في سبيل دينه وربه، فانه يكون من اهل الجنة بلا شك، والانسان لا بد ان يدركه الموت، ولكن ما احلى الموت حينما يأتي عبر الشهادة، وان اهم فوائد الشهادة في سبيل الله، هو غفران ذنوبه كلها، لان الله تعالى يشهد للقتيل في سبيله بالجنة.
(وصالح الدعاء والمسألة فاستجب لنا)، إننا ندعو الله كثيراً، ولكن بعض هذه الادعية قد لا تكون مفيدة لنا، اذن فاننا نسأل الله أن يستجيب الدعاء الصالح من دعواتنا.
(واذا جمعت الاولين والاخرين يوم القيامة فارحمنا)، تقول الروايات ان الله سبحانه وتعالى قسم رحمته إلى مئة جزء، نشر جزءً واحداً منها على اهل الدنيا، وادخر تسعة وتسعين جزءً منها ليوم القيامة، فرحمة الله واسعة في هذا اليوم، ولولا رحمة الله لهلك الناس اجمعون، وربما نستطيع ان نقول: لولا رحمة الله لما دخل في الجنة

(١٦٥)

احد. ونشير هنا إلى قصة ذلك الرجل العابد الزاهد الذي كان متفرغاً للعبادة والصلاة والابتهال، وكان يدعو الله دائماً ان يُدخله الجنة بعمله هو، وليس برحمته سبحانه.
وفي احدى الليالي رأى في الحلم ان القيامة قد قامت، وقد جاء دوره للحساب، ونُصب امامه الميزان ثم وضعت أعماله في احدى كفتي الميزان، فاذا بها كثيرة، من صلوات وابتهالات وعبادات وما إلى ذلك، اما الكفة الثانية فلم توضع فيها ذنوب، اما لانه لم تكن له ذنوب تُذكر، أو ان الله كان قد غفر له ذنوبه، وانما وضعت فيها رُمانة واحدة كان قد اكلها في حياته، وكانت هي - بالطبع - نعمة واحدة من ملايين نعم الله الأخرى عليه، واذا بكفة الرمانة ترجح على كفة الاعمال الصالحة الكثيرة، فاكتشف الرجل خطأ تصوره، اذ ان كل اعماله في الدنيا لم تكن تساوي رمانة واحدة من نعم الله عليه.
اذن، فاننا مهما نكون صالحين ومطهرين من الذنوب والمعاصي، فاننا نكون بحاجة إلى رحمة الله في الاخرة، تماماً كما في الدنيا.
(وبراءة من النار فاكتب لنا)، نفهم من هذا ان الذين لا يدخلون النار ينبغي ان تكون لديهم (براءة) مخصوصة تكون بمثابة بطاقة دخول الجنة، ويبدو من بعض الاحاديث ان نار جهنم تفصل بين صحراء المحشر، وبين

(١٦٦)

الجنة، والذي يدخل الجنة لا بد ان ينطلق عبر جهنم، فالذي يملك (براءة) من النار فانه يعبر جهنم عن طريق الجسر المسمى بـ (الصراط) وهناك من يتمتع بامتيازات كبيرة فانه يعبر جهنم في فترة قصيرة جداً، وقبل ان يرتد اليه طرفه. اما الذي لا يملك بطاقة (البراءة) فانه يجب ان يدخل نار جهنم ثم يخرج منها شاقاً طريقه إلى الجنة.
اذا دخل من هذا الجانب متى يخرج؟ الله العالم، حسب ذنوبه، اما انه اذا دخل في جهنم فمتى يخرج منها؟ فان هذا يرتبط بحجم ذنوبه وأعماله الصالحة والسيئة، وتقول الروايات ان بعض الناس يمكث في جهنم ثلاثمائة ألف عام، لكي تُصفى اجسامهم، وتُزكى نفوسهم من آثار الذنوب والمعاصي، ثم يدخلون بعد ذلك الجنة، اذن فاننا ندعو الله: (وبراءة من النار فاكتب لنا، وفي جهنم فلا تغلنا)، وفي جهنم اغلال من نار تحيط باصحابها، والغل قد يكون سبعين ذراعاً بحيث يُلف به الانسان من قدمه إلى رأسه.
(وفي عذابك وهوانك فلا تبتلنا)، أي لا تمتحننا بتسليط العذاب والهوان علينا، (ومن الزقوم والضريع فلا تطعمنا)، ان الزقوم هو نوع من اشجار النار كما تشعر بذلك الآيات القرآنية التالية التي تصف الزقوم:
(انها شجرة تخرج من أصل الجحيم* طلعُها

(١٦٧)

كأنه رؤوس الشياطين* فانهم لآكلون منها فمالئون منها البطون) (64 - 66/الصافات)
والزقوم - كما قيل - اسم شجرة صغيرة الورق، مرة، كريهة الرائحة، ذات لبن اذا اصاب جسد الانسان ادى به إلى اورام خبيثة.
أما الضريع فهو نوع اخر من طعام اهل النار، تشير اليه الآية السادسة من سورة الغاشية:
(ليس لهم طعام إلاّ من ضريع لا يُسمن ولا يغني من جوع) (5 - 6/الغاشية)
وقيل: الضريع هو اخبث وابشع انواع الشوك.
(ومع الشياطين فلا تجعلنا)، كل انسان في النار يجد إلى جانبه شيطانه الذي كان يوسوس له في الدنيا، والشيطان يلاقي جزاءه في النار ويُعذَّب، إلا انه يؤذي صاحبه في نفس الوقت أيضاً.
(وفي النار على وجوهنا فلا تكببنا)، ان الله وضع نار جهنم اساساً في مكان عميق جداً، لذلك فان المجرمين يكبون على وجوههم في النار، وبعض المجرمين يُلقى بهم

(١٦٨)

في نار جهنم وتستغرق فترة سقوطهم حتى وصولهم إلى قعر جهنم مدة سبعين سنة، فنسأل الله ان لا يكبنا على وجوهنا في النار.
(ومن ثياب النار وسرابيل القطران فلا تلبسنا)، القطران هي مادة سوداء نتنة تطلى بها اجسامهم فتصير كالسرابيل عليهم.
والنيران تحيط باهل النار حتى تصبح وكأنها الثياب تغطيهم.
(ومن كل سوء يا لا اله إلا انت، بحق لا اله إلا انت فنجنا)، فالله تعالى هو القادر على ان ينجينا من كل سوء في الدنيا والاخرة، ولكن علينا نحن ان نسأل الله بجد والحاح ان يفعل ذلك بنا.

(١٦٩)