الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) وأدعياء البابية والمهدوية بين النظرية والواقع
الدكتور السيد عدنان البكاء (رحمه الله)
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
الطبعة الأولى 1444هـ
رقم الإصدار: 274
الفهرس
مقدَّمة المركز..................3
الإهداء..................9
مقدَّمة..................11
الكلمة التي أصبحت كتاباً..................30
منهج البحث..................32
الفصل الأوَّل: الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عقيدة إسلاميَّة..................51
تمهيد..................53
وقفة مع المشكِّكين..................54
البحث الأوَّل: المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من عقائد أهل السُّنَّة..................61
من هو المهدي؟ ومتى وُلِدَ؟..................67
أدلَّة الطائفة الأُولى ومناقشتها..................71
الإمام المهدي من ولد الحسين (عليهما السلام)..................79
البحث الثاني: موقع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من الرسالة وفي أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)..................93
بين يديّ البحث: في نظريَّة الإمامة..................93
الأحاديث المتَّصلة بشخص الإمام (عجَّل الله فرجه) وإخفاء ولادته وغيبته..................103
(1) بعض ما روي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)..................104
(2) بعض ما روي عن الإمام عليٍّ (عليه السلام)..................105
(3) بعض ما روي عن الصدِّيقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)..................106
(4) بعض ما روي عن الإمام الحسن (عليه السلام)..................107
(5) بعض ما روي عن الإمام الحسين (عليه السلام)..................107
(6) بعض ما روي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)..................108
(7) بعض ما روي عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)..................110
(8) بعض ما روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)..................111
(9) بعض ما روي عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)..................116
(10) بعض ما روي عن الإمام عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام)..................118
(11) بعض ما روي عن الإمام محمّد الجواد (عليه السلام)..................120
(12) بعض ما روي عن الإمام عليٍّ الهادي (عليه السلام)..................121
(13) بعض ما روي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)..................123
الخلاصة..................127
البحث الثالث: أهل الكشف من الصوفيَّة يوافقون الإماميَّة في شأن المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)..................130
الفصل الثاني: ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته الصغرى..................141
البحث الأوَّل: إخفاء ولادته (عجَّل الله فرجه) وغيبته الصغرى..................143
1 - إخفاء ولادته (عجَّل الله فرجه)..................143
2- الغيبة الصغرى..................150
البحث الثاني: اضطلاعه (عجَّل الله فرجه) بالإمامة طفلاً..................161
البحث الثالث: نوَّابه (عجَّل الله فرجه)، وبعض توقيعاته..................172
النائب الأوَّل: أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري الأسدي (رضي الله عنه)..................174
من توقيعات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوساطته..................180
النائب الثاني: أبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه)..................187
من توقيعات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوساطته..................190
وفاة الشيخ أبي جعفر العمري (رضي الله عنه)..................193
النائب الثالث: أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي (رضي الله عنه)..................194
كرامات الشيخ ابن روح (رحمه الله)..................198
من توقيعات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوساطته..................202
وفاة الشيخ ابن روح (رضي الله عنه)..................204
النائب الرابع: أبو الحسن عليُّ بن محمّد السمري (رضي الله عنه)..................204
بعض كراماته..................205
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يُخبِر نائبه السمري بوفاته ويأمره بعدم الوصيَّة لأحد..................206
مدَّعو الرؤية في الغيبة الكبرى..................207
الفصل الثالث: الغيبة الكبرى.. كيف؟ ولماذا؟ وإلى متى؟..................209
تمهيد..................211
البحث الأوَّل: لماذا لا يكون الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) رجلاً آخر؟..................213
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام) يُنذرون بالغيبة الكبرى..................216
طول العمر بصورة غير مألوفة..................218
البحث الثاني: ما الحكمة من ذلك؟..................229
انقطاع صلتنا به - بحكم الغيبة - لا يعني انقطاع صلته بنا..................237
البحث الثالث: هل يعني ذلك إمكان المشاهدة؟..................240
الفصل الرابع: ولكن متى؟ لا توقيت ولكن ثَمَّة علامات..................265
تمهيد: حول عوامل التقدير التي تحيل التوقيت..................267
علامات عصر الظهور..................270
البحث الأوَّل: العلامات العامَّة..................272
البحث الثاني: العلامات الخاصَّة..................278
1 - تطاول رعاة الإبل بالبنيان..................278
2 - اتِّصال الكوفة بالنجف والحيرة ثمّ بكربلاء..................279
3 - يرى مَنْ في المشرق مَنْ في المغرب وبالعكس..................281
4 - أنصاره يركبون السحاب، ويصلون إليه في ساعة..................282
5 - الحرب التي يذهب فيها ثلثا الناس أو تسعة أعشارهم..................283
6 - طلوع الشمس من مغربها..................285
7 - ستُّون كذَّاباً يدَّعون النبوَّة..................288
8 - تفرُّق الأمَّة وتقسيمها من الدول المستعمرة..................289
9 - السفور والألبسة القصيرة..................289
10 - حصار العراق..................289
شدَّة محنة الناس بين ظروف العلامات العامَّة والخاصَّة..................292
البحث الثالث: انتظار الفرج، والدعاء بتعجيله..................296
[انتظار الفرجٍ]..................296
الدعاء بتعجيل الفرج..................297
الانتظار لا يعني ترك العمل..................299
الفصل الخامس: ما بعد الظهور..................303
البحث الأوَّل: كيف سينتصر (عجَّل الله فرجه)؟..................305
البحث الثاني: ماذا سيفعل (عجَّل الله فرجه)؟ يأتي بأمر جديد ولكنَّه الإسلام..................327
عمله بعلمه من دون بيِّنة..................336
العدل، والغنى، والأمان بصورة شاملة..................340
ليس بين الناس وبينه بريد..................342
تُؤتى الناس الحكمة في زمنه..................342
الإسلام كما هو في النظريَّة والتطبيق..................344
خطبة المهدي (عجَّل الله فرجه) عند أوَّل ظهوره..................345
يأمر بالمعروف ويزيل البِدَع..................346
يدعو إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله..................347
يقيم الحدود المعطَّلة..................349
أصحابه يُعلِّمون القرآن..................349
الإمام (عجَّل الله فرجه) يبني المساجد..................352
الزاهد المجاهد..................353
المهدي وأصحابه وأثر السجود في جباههم..................353
يُقبِل الناس في زمنه على العبادة..................353
البحث الثالث: الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وعقيدة الرجعة..................355
قد يكون موتهم إراديًّا..................362
أدلَّة الرجعة لدى الإماميَّة..................369
القسم الأوَّل..................370
القسم الثاني..................372
الأدلَّة من السُّنَّة الشريفة..................374
الاستدلال بإجماع الشيعة الإماميَّة..................375
الخاتمة..................377
المصادر والمراجع..................383
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدَّمة المركز:
(للخلق غايات هم سائرون إليها)، كلمة على وجازتها يُشكِّل الإقرار بها أو عدم الإقرار المفترق بين الإيمان وعدم الإيمان، وبين الهدى والضلال، فليس الاختلاف والصراع بين المتألِّهين وخصومهم واقع في مسألة وجود علَّة لهذا الكون أو عدم وجود هذه العلَّة، فحتَّى عتاة الإلحاد يؤمنون أيضاً بوجود سبب أوَّل نشأ عنه هذا الكون وحقيقة انبثق عنها العالم، وإنَّما النزاع والاختلاف واقع في طبيعة ذلك السبب وتلك الحقيقة، وهل لها غاية أو هدف أو ليس الأمر كذلك؟
ومن هنا آمن المؤمنون بالله - بخلاف غيرهم - بأنَّ تلك الغايات والمحطَّات التي تجذب مسار الإنسانيَّة إليها تُمثِّل ركناً عقائديًّا ومقوِّماً دينيًّا بدونه يعود الدِّين بلا معنى أو أثر، وبطبيعة الحال لم يأتِ ذلك من فراغ، بل هو إرث الديانات ورسالات السماء، وهي على كلِّ حالٍ تعاليم الأنبياء وبيانات الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام).
وهذا هو معنى كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في سياق حديثه عن آخر الزمان بأنَّ لله تعالى «بَدَاءَاتٍ وَإِرَادَاتٍ وَغَايَاتٍ وَنِهَايَاتٍ»(1) لا يمكن بحال التخلُّف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي (ج 1/ ص 338/ باب في الغيبة/ ح 7)، الإمامة والتبصرة (ص 120 و121/ ح 115)، الغيبة للنعماني (ص 68 و69/ باب 4/ ح 4)، كمال الدِّين (ص 288 و289/ باب 26/ ح 1)، الاختصاص (ص 209)، الغيبة للطوسي (ص 164 - 166/ ح 127).
عنها أو مغادرتها، لوضوح أنَّ الخلق لم يُفوِّض إليهم رسم معالم هذا الوجود أو الأقدار التي تُسيِّره، فالموت غاية، والقيامة غاية، والبعث والحشر والحساب، وهكذا الثواب والعقاب كلُّها معاني تحكي عن هذه الحقيقة الثابتة.
ومن جملة تلك الغايات والثوابت التي نصَّت عليها الشرائع والكُتُب السماويَّة هي عقيدة المنقذ والمصلح العالمي الذي يأتي بمشروع الحقِّ والعدل، وينهي كلَّ مظاهر الظلم والجور، ومن هنا شكَّلت العقيدة المهدويَّة مسألة محوريَّة ومركزيَّة في المنظومة الدِّينيَّة في صعيدها العقائدي أو السياسي، لتصيغ بعد ذلك الوعي الإسلامي نحو التاريخ القادم.
فالاعتراف بالمهدي (عجَّل الله فرجه) كإمام مفترض الطاعة وقائد فعلي للأُمَّة من أركان الإيمان ومكوِّناته الأساسيَّة التي تُؤلِّف المحتوى العقائدي للإنسان، والتي تندرج تحت مصطلح (أُصول الدِّين)، حتَّى بلغ من شأن هذه العقيدة وقيمتها في الرؤية الكونيَّة للإسلام أنَّ الرسول محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جعل الإيمان بها شرطاً لصحَّة الإيمان به، كما في الحديث القائل: «مَنْ أَنْكَرَ القَائِمَ مِنْ وُلْدِي فَقَدْ أَنْكَرَنِي»(2)، ويقول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث آخر: «مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ أَنْكَرَهُ فِي غَيْبَتِهِ فَقَدْ أَنْكَرَنِي، وَمَنْ كَذَّبَهُ فَقَدْ كَذَّبَنِي، وَمَنْ صَدَّقَهُ فَقَدْ صَدَّقَنِي»(3).
فإنَّ الإيمان بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تعبير عن الإيمان بغائيَّة خلق البشريَّة، تلك الفكرة الأساسيَّة التي يشير إليها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، حيث تدلُّ هذه الآية الكريمة على أنَّ الهدف الأساسي من خلق البشريَّة هو عبادتهم لله الخالق القدير، مع ملاحظة أنَّ المفهوم الصحيح لعبادة الله يعني إيجاد المجتمع الصالح والسوي الذي يرتقي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) كمال الدِّين (ص 412/ باب 39/ ح 8).
(3) كمال الدِّين (ص 411/ باب 39/ ح 6).
في عمومه وظاهرته الاجتماعيَّة إلى الهدف والمقصد من بعثة الأنبياء والرُّسُل (عليهم السلام)، وهو الأمر الذي سجَّله لنا القرآن الكريم في محكم آياته من غير لبس ولا إيهام، يقول تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ﴾ (الحديد: 25).
وبخلاف ذلك تفتقد الحكمة معناها وقيمتها في تلك البعثات، وتعود تلك التضحيات الجسيمة التي سجَّلها الصراع الطويل بين معسكرَيْ الحقِّ والباطل هدراً وعبثاً تترفَّع السماء عن القبول أو الرضا به، ضرورة أنَّ الانتصار المهدوي في أهمّ معانيه هو تعبير عن صوابيَّة القرار الإلهي وسداد حكمته في جعل الخلافة في النوع الإنساني لا في غيره من المخلوقات.
وهذا هو الذي يُفسِّر لنا الإصرار الكبير وحزم المشيئة الإلهيَّة في عدم تخلِّيها عن قيام هذه الدولة العادلة، حتَّى ولو بقي من الدنيا يوم واحد أو ساعة واحدة.
ومن هنا ينطلق الشيعة الإماميَّة في إيمانهم بالعقيدة المهدويَّة من جهات عدَّة وأسباب كثيرة لا يمكن اختزالها في منقول تاريخي أو تبرير كلامي، بل كلُّ ما في الإسلام من معاني ودلالات لا يمكن إلَّا أنْ تُؤدِّي إلى هذا المضمون وذلك المعتقد، وهذا هو أهمّ ما يُميِّز الفهم الشيعي الإمامي لفكرة المهدويَّة، مبتعدين بذلك عن النظرة الساذجة والسطحيَّة التي قد يذهب إليها البعض في تفسيرها كـ(تعويض مُلك ضائع) أو (رفاهيَّة معجَّلة) للمستضعفين في الأرض.
ولأجل ذلك اهتمَّ علماء الشيعة اهتماماً كبيراً بالعقيدة المهدويَّة، وكتبوا الكثير من المؤلَّفات والمصنَّفات، وتناولوها من جميع جوانبها، وعلى جميع مراحل وأطوار تاريخهم الناصع، ابتداءً بالزمن الذي يسبق ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ومروراً بزمن الغيبة الصغرى، ثمّ وصولاً إلى وقتنا الحاضر. وبذلوا الجهود الكبيرة والحثيثة في سبيل ربط الأُمَّة فكريًّا وعاطفيًّا بهذه الدولة وصاحبها (عجَّل الله فرجه)،
وبالمستوى الذي يحاول أنْ يرتقي مع عظمة الدور الذي أُنيط به وأُسند إليه من قِبَل لوح الغيب.
ومن الإنصاف والعدل أنْ يُشاد بتلك الجهود وتلك المساعي التي بُذِلَت وتركت أثراً واضحاً للحضور الدائم للعقيدة المهدويَّة في الوجدان والوعي الشيعي، فكانوا بحقٍّ مصداقاً للعلماء العاملين والمبلِّغين، سواء في جانب البيان والتوضيح أو في جانب الصيانة والدفاع عمَّا يلحق بهذه العقيدة من أباطيل وأوهام يُراد لها التوهين أو الطعن بها بغية إسقاطها من خلال خلط أوراقها والتسبيب بفوضى تقوم على خلق ادِّعاءات مزيَّفة ومحرَّفة تُؤدِّي في نهاية المطاف إلى إصابة المؤمنين بالحيرة والتيه في معرفة ما هو حقٌّ ممَّا هو باطل، حتَّى ينتهي البعض بسبب ذلك إلى وضع عنوان (الخرافة) و(الوهم) على مجمل الفكرة المهدويَّة.
وقد مثَّل هذا الكتاب عزيزي القارئ (الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وأدعياء البابيَّة والمهدويَّة بين النظريَّة والواقع) خطوة في هذا الطريق سعى مؤلِّفه العلَّامة المرحوم السيِّد عدنان البكَّاء بجدٍّ واجتهاد إلى معالجة الكثير من المسائل المهمَّة المرتبطة بالعقيدة المهدويَّة، وتمييز فصولها الحقَّة عمَّا أُلصق بها أو يُراد أنْ يُلصَق بها، لاسيّما من اتِّجاهات قد تنطلي حيلها وخدعها على الكثير من البسطاء بعد أنْ ظهرت لهم بلبوس يتقمَّص التصوُّرات الكلّيَّة التي وردت في التراث المهدوي، لتبتعد عن مناوئة أصل تلك الفكرة أو معارضتها، ليسهل لها اختراقها من جانبها العاطفي والانفعالي للمؤمنين بها، والذي يكون في كثير من الأحيان سبباً للسقوط المرِّ في شراك التدجيل والتزييف فيما لو افتقد الوعي والبصيرة التي ترتكز على حجّيَّة العقل وثوابت النقل.
ولأهمّيَّة هذا الموضوع وخطورته رأى السيِّد البكَّاء (رحمه الله) ضرورة التصدِّي ومواجهة هذه التيَّارات وكشف الأستار التي تتخفَّى وراءها، وهو ما أشار إليه
في مقدَّمته القيِّمة، والتي أفاض فيها حول فكرة الكتاب وكيف بدأت، والأسباب التي دعته لذلك.
ومن الواضح عند مطالعة هذه المقدَّمة ملاحظة البداء البشري الذي كان حاضراً بقوَّة في تأليف هذا الكتاب القيِّم، فبعد أنْ كان القرار الأوَّلي أنْ يكون كُتيِّباً من فصلين اثنين، وإذا به يمتدُّ إلى جزأين كبيرين تتجاوز أبحاثه الفصول العشرة، وإذا بالكتاب يرسم خطَّته بنفسه دون الخطَّة الأُولى، فجاء الجزء الأوَّل منه خاصًّا بموضوعات العقيدة المهدويَّة وما يرتبط بشخص الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وليكون الجزء الثاني مختصًّا بالردِّ على (أدعياء البابيَّة والمهدويَّة).
والذي بين يديك عزيزي القارئ هو ما كتبه السيِّد (رحمه الله) في جزئه الأوَّل دون الجزء الآخر الذي لم يرَ النور بعد أنْ عاجلته المنيَّة وأجاب داعي الحقِّ الذي لبَّى نداءه في سنة (1442هـ/2021م).
وختاماً نتقدَّم بالشكر الجزيل للسادة الأجلَّة أولاد سماحة السيِّد المؤلِّف (رحمه الله) لإجازتهم وإذنهم لمركزنا بتجديد طباعة هذا السِّفر القيِّم، بعد أنْ قام مركز الغدير للدراسات والنشر بطباعته عام (1999م).
راجين من المولى تعالى أنْ يقع عنده موقع القبول والتسديد، وعند صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه) موقع السرور والرضا، إنَّه وليُّ التوفيق.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يُعجِّل في فرج سيِّدنا ومولانا صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه)، ويجعلنا من أنصاره وأعوانه، وأنْ يتقبَّله منَّا بقبولٍ حسنٍ.
مركز الدراسات التخصُّصيَّة
في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
مِن أساتذتي الكرام مَن لا أزال حتَّى الآن أتحسَّس بصماته قلباً وعقلاً، وأنحو منحاه منهجاً ومساراً.
وفي المقدَّمة من هؤلاء بعد والدي العلَّامة السيِّد عليٍّ البكَّاء (رحمه الله)، أُستاذاي العلَّامتان الحجَّتان:
الشيخ محمّد رضا المظفَّر (قدَّس الله نفسه الطاهرة).
والسيِّد محمّد تقي الحكيم (مدَّ الله في عمره المعطاء).
فإليهما: حبًّا، ووفاءً، وتقديراً..
ومن خلالهما إلى جميع العلماء العاملين بصمت واستقامة، من الذين أعطوا ولم يأخذوا، لوجهه سبحانه، أُهدي هذا الكتاب، تواصلاً مع الرسالة، سائلاً الله أنْ يتقبَّل نيَّتي وجهدي، إنَّه سميع مجيب.
عدنان عليّ البكَّاء الموسوي
(1418هـ / 1997م)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين لا شريك له، والصلاة والسلام على خاتم رُسُله، وسيِّد أنبيائه محمّد، وأهل بيته الطاهرين، وعلى أصحابه المخلصين.
لم تكن فكرة الكتابة في موضوع الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) - على ما له من أهمّيَّة بالغة علميًّا ودينيًّا - واردة لديَّ حتَّى بوصفها مشروعاً للمستقبل، فأنا أعلم مدى ما لابس هذا الموضوع من تصوُّرات بسبب الخلاف السياسي والمذهبي بين الفِرَق الإسلاميَّة من جهة، وبسبب التنظيرات الغنوصيَّة(4) الباطنيَّة من جهة أُخرى. وأعلم أيضاً ما دخل الأحاديث المتَّصلة به - نتيجةً لذلك - من وضع وتحريف، وما شاب التصوُّرات حوله من غموض وخلط وتشويش.
هذا يضاف إلى ما في مفردات تاريخه (عجَّل الله فرجه) أصلاً - بحكم كونه آخر أوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - من أُمور غامضة لابدَّ منها لاتِّصالها بالظروف الموضوعيَّة وما تُحتِّمه كيفيَّة التعامل معها في طرف، وبالإرادة والخطَّة الإلهيَّة الخاصَّة بمستقبل الرسالة والأُمَّة، بل البشريَّة بعامَّة في طرف آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) الغنوصيَّة: نسبة إلى غنوصيص في اليونانيَّة، وتعني في العربيَّة: المعرفة، وفضَّلنا استعمالها دون الكلمة العربيَّة لما أخذته من دلالة تأريخيَّة بوصفها خطًّا مقابلاً للأديان السماويَّة المنزلة. جاء في الموسوعة العربيَّة الميسَّرة (ص 2336/ مادَّة غنم): (وهي حركة فلسفيَّة ودينيَّة نشأت في العصر الهلينستي، وأساسها أنَّ الخلاص يتمُّ بالمعرفة أكثر ممَّا يتمُّ بالإيمان والأعمال الخيِّرة...، وأدمجت في تعاليمها شيئاً من السحر والشعوذة، وتأثَّرت بها بعض الفِرَق...) إلخ.
كلُّ ذلك وغيره يحتاج - في البحث والفرز والمعالجة والتفسير - إلى وقت وجهد لا أملكهما.
ثمّ إنَّ بين يديَّ بحوثاً وأطاريح حالت ظروف شخصيَّة - ذاتيَّة وموضوعيَّة - دون إتمامها حتَّى الآن. وكان من دعائي أنْ يفسح الله سبحانه لي مدى أستطيع به إنجازها بالكيفيَّة التي أطمح إليها في المادَّة والمنهج والأُسلوب.
وأفرزت الظروف - في السنوات الأخيرة - مناخاً كوَّن أحوالاً نفسيَّة وفكريَّة ساعدت على أنْ ينجم مرَّةً أُخرى في العراق وخارجه في أوساط العامَّة من الشيعة - على ما تناقله الناس واشتهر بينهم - أفراد يدَّعون الصلة بالإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، ويتجاوزون ذلك إلى التبليغ عنه - بما يناقض بعضه ثوابت الدِّين وضروريَّاته -، بل وإلى ادِّعاء بعض منهم أنَّه الإمام (عجَّل الله فرجه) عينه.
وتلك هي دعوى البابيَّة والمهدويَّة نفسها - كما عرفنا - على امتداد التاريخ الإسلامي.
إنَّها تبدأ بدعوى البابيَّة للإمام (عجَّل الله فرجه)، فالمهدويَّة، ثمّ تنتهي بعدئذٍ إلى دعوى النبوَّة بمعناها الاصطلاحي المستقلِّ الذي ينسخ ويُؤسِّس، بل إلى دعوى الربوبيَّة بناءً على نظريَّة الوحدة المطلقة(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) نعني بـ(الوحدة المطلقة): (وحدة الوجود والموجود) أو (وحدة الواجب والممكن) التي يُسمِّيها أساتذة الفلسفة المعاصرون (وحدة الوجود) قاصدين هذا المعنى، لكن الفلسفة الإسلاميَّة ترى أنَّ الوجود الصرف واحد قطعاً، لأنَّه يعني واجب الوجود سبحانه الذي لا حدَّ ولا ماهيَّة له، أمَّا ما سواه فماهيَّات ممكنة عرضيَّة الوجود، لذلك فهي مركَّبة ومحدودة وفقيرة بما هي بالذات. وسيأتي في الجزء الثاني بيان الفرق النظري والتطبيقي بين النظريَّتين، وإبطال نظريَّة الوحدة المطلقة وجداناً، وفلسفيًّا، ودينيًّا، وبيان ما تُؤدِّي إليه من تناقضات نظريَّة وواقعيَّة.
وسنتحدَّث عنهم بربط ما اشتهر عن الجُدُد بالمعروف عن القدماء، وتأسيساً على ما هو الثابت من القواعد والتنظيرات المشتركة لمثل هذه الدعاوى.
إنَّ مقام المهديَّة، بل النبوَّة في السلوك العرفاني الصوفي المغالي، حقٌّ لمن بلغ مرحلة الفناء، أو درجة الولاية الكبرى كما يُسَمُّونها طبقاً لتحديداتهم في الأسفار الأربعة.
وقد ظهر - في تاريخهم - عدد غير قليل ادَّعى ذلك على القاعدة والنهج اللذين أشرنا إليهما.
ولا يختلف الغلاة من الشيعة - كما يثبت تاريخهم - بدءاً من أبي الخطَّاب، والمغيرة بن سعيد، ومحمّد بن فرات، ومحمّد بن بشير، وأبي منصور العجلي ونظائرهم في السابق، وانتهاءً بآخر بابي ومغالٍ في اللَّاحق، عن غلاة الصوفيَّة من حيث القاعدة والمنطلق الأساس، وما يقوم عليهما من تنظيرات وممارسات، إلَّا في الأُسلوب الذي يمليه عليهم التلاؤم مع مفاهيم الأوساط الشيعيَّة في حركتهم داخلها ابتداءً، وفي المراحل الأُولى.
إنَّهم يتحدَّثون للناس في البداية عمَّا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من أهل بيته (عليهم السلام) من رتبة روحيَّة سماويَّة متقدِّمة مبدأً ومعاداً، ثمّ يبنون على ذلك القول بالإمام الكوني(6) الذي يعني الاسم الظاهر، أو العالم ككلٍّ، ومع أنَّ من يقول بذلك غيرهم يرى أنَّ الاسم غير المسمَّى، وأنَّه لا يخرج بما هو في ذاته عن كونه ممكناً مركَّباً ذا وجود عرضي، فهو فقير بالذات لا استقلال له عن واجب الوجود سبحانه(7). فإنَّ هؤلاء يرون أنَّه عينه تعالى، وهو ما تبرَّأ منه الأئمَّة (عليهم السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) هذا التصوُّر للإمام يماثل تصوُّر الصوفيَّة للقطب. اقرأ: منزل القطب لابن عربي المطبوع ضمن رسائله (ص 437).
(7) اقرأ الهامش في البحث الثاني من الفصل الثاني.
أنفسهم من دون استثناء، ولعنوا القائلين به، بل والمتوقِّفين عن لعنهم، ودعوا عليهم بأذى وإلحاح.
وامتدَّ الغلاة - وهذا هو المهمُّ - من القول بالإمام الكوني المطلق إلى القول بتشخُّصه في المقيَّد، فهو يتمثَّل - عبر التاريخ - بهذا الفرد أو ذاك، فيكون هذا التشخُّص عين الإمام الذي هو عين الله.
وهو قريب - في الصورة - من نظريَّة المُثُل والممثول في الفكر الإمامي الإسماعيلي، مع فارق اقتصار هؤلاء على السلالة الإسماعيليَّة. وإنْ ذكر بعضهم إيمانهم بالولادة الروحانيَّة التي أضافوا بها من ليس من السلالة أصلاً إليها، علاوةً على فارق آخر هو أنَّ من له مُثُلاً من الممثولات إنَّما يبدأ من العقل الأوَّل لا من الذات الإلهيَّة المتعالية عن الصفة، فهم بهذا أقلّ غلوًّا. وبذلك جعل هؤلاء مقام النبيِّ والإمام نوعيًّا لا شخصيًّا.
فليس الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) عندهم إذن شخصاً محدَّداً كإنسان ذاتاً، ونسباً، وموقعاً، وتاريخاً، وغيبةً، وظهوراً... كما وردت به الأحاديث المتواترة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة الاثني عشر من أهل بيته (عليهم السلام) وعن الصحابة والتابعين، بل هو أيُّ شخص من أهل السلوك أو العارفين بلغ بزعمهم درجة الولاية الكبرى.
ولذلك يجب التنبيه إلى أنَّه لا يجوز أنْ تُؤخَذ دعوى الصلة بالإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) لدى هؤلاء على مفهومها الظاهر وإنْ ادَّعوه خداعاً للعوامِّ، بل في الإطار الذي ذكرناه. على أنَّهم - طبقاً لنظريَّة الوحدة المطلقة - لا يرون كلَّ ما ذُكِرَ من الأشخاص المعيَّنين من الرُّسُل والأئمَّة (عليهم السلام) إلَّا أسماء لا تحمل معنى، إنَّها وهم، وباللغة الهندوسيَّة صاحبة هذه النظريَّة أصلاً: (مايا). وإنَّما قصدوا باستعمالها ما أشرنا إليه من الانسجام مع المفاهيم الموروثة والمقدَّسة والمفهومة
عند الناس ابتداءً، وافتضاض قلوب المتديِّنين الملتزمين منهم وعقولهم ريثما يمكن تلقيحها بآرائهم وتفسيراتهم الباطنيَّة. وإلَّا فإنَّ دعوى البابيَّة للإمام (عجَّل الله فرجه)، بل دعوى المهدويَّة حتَّى لو صحَّتا لا تسمحان لهم - كما هو واضح بحكم كون الإمام (عجَّل الله فرجه) وصيًّا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وامتداداً له في الدِّين والدعوة - أنْ يأتوا بما هو على مستوى المناقضة مع موقع الإمام (عجَّل الله فرجه) نفسه، ومع ثوابت الرسالة وضروريَّاتها، بل مع البديهيَّات والضروريَّات العقليَّة أحياناً. وهؤلاء - كما هو ثابت بالتواتر كما ستقرأه في الجزء الثاني من هذا الكتاب إنْ شاء الله - قد جاءوا بذلك، وفي جانبي الأُصول والفروع معاً، وبما لا يقبل بعضه الاعتذار والتأويل.
كان أوَّل مدَّعٍ لذلك في عصر الغيبة الصغرى بين سنتي (260 و328هـ) وبهذا المسلك والأُسلوب، الحسين بن منصور الحلَّاج الذي قُتِلَ سنة (309هـ)، والذي ادَّعى البابيَّة ثمّ المهديَّة والنبوَّة ثمّ انتهى إلى دعوى الربوبيَّة، ويبدو لنا أنَّ من تقدَّمه ومن تأخَّر عنه في الجرأة على دعوى البابيَّة كان على مثل رأيه أصلاً، كالشريعي، والهلالي، والبلالي، والنميري، والشلمغاني الذين صدر التوقيع من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بلعنهم ودمغهم بالكفر والإلحاد.
قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) المتوفَّى سنة (460هـ)، وهو يُنبِّه إلى قواعد هؤلاء وأساليبهم وما ينتهون إليه في ما نقله لنا عَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: (وَكُلُّ هَؤُلَاءِ اَلمُدَّعِينَ (يعني: مدَّعي البابيَّة) إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبُهُمْ أَوَّلاً عَلَى الإِمَامِ [(عليه السلام)]، وَأَنَّهُمْ وُكَلَاؤُهُ، فَيَدْعُونَ اَلضَّعَفَةَ بِهَذَا القَوْلِ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ، ثُمَّ يَتَرَقَّى الأَمْرُ بِهِمْ إِلَى قَوْلِ الحَلَّاجِيَّةِ)(8).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) الغيبة للطوسي (ص 397 و398/ ح 368).
وحين نقلت أُمُّ كلثوم ابنة الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (رحمه الله) (النائب الثاني للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الغيبة الصغرى)، إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رحمه الله) (النائب الثالث)، ما عرفته على إثر زيارة أُمِّ أبي جعفر بن بسطام لها من أنَّ ابن أبي العزاقر الشلمغاني (الذي ادَّعى البابيَّة آنذاك فصدر التوقيع بلعنه) قال لآل بسطام وقد استكتمهم إيَّاه على أنَّه من الأسرار بأنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد حلَّ(9) في أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري، وأنَّ عليًّا (عليه السلام) حلَّ في الحسين بن روح، وأنَّ الزهراء قد حلَّت في أُمِّ كلثوم. قال لها الشيخ ابن روح (رضوان الله عليه): (يَا بُنَيَّةُ، إِيَّاكِ أَنْ تَمْضِي إِلَى هَذِهِ اَلمَرْأَةِ بَعْدَ مَا جَرَى مِنْهَا، وَلَا تَقْبَلِي لَهَا رُقْعَةً إِنْ كَاتَبَتْكِ، وَلَا رَسُولاً إِنْ أَنْفَذَتْهُ إِلَيْكِ، وَلَا تَلْقَيْهَا بَعْدَ قَوْلِهَا، فَهَذَا كُفْرٌ بِالله تَعَالَى وَالحَادٌ قَدْ أَحْكَمَهُ هَذَا اَلرَّجُلُ اَلمَلْعُونُ فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ، لِيَجْعَلَهُ طَرِيقاً إِلَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بِأَنَّ اَللهَ تَعَالَى اِتَّحَدَ بِهِ وَحَلَّ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ اَلنَّصَارَى فِي اَلمَسِيحِ (عليه السلام)، وَيَعْدُو إِلَى قَوْلِ الحَلَّاجِ لَعَنَهُ اَللهُ)(10).
ويُؤكِّد تاريخ أصحاب هذه الدعاوى - بعدئذٍ - أنَّها لم تصدر إلَّا من هذه الأوساط، وعلى أساس القاعدة نفسها، والمسار والأُسلوب نفسيهما.
كتب الشيخ المحدِّث عليُّ بن حسام الحنفي المعروف بالمتَّقي الهندي صاحب كتاب (كنز العُمَّال) المتوفَّى قبل (960هـ) في كتابه (البرهان في علامات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9) الحلول: يعني ظهور المطلق في المقيَّد، كجبرئيل عندما تمثَّل لمريم بشراً سويًّا، هذا معناه لدى المسيحيِّين، وهو معناه لدى أهل (الوحدة المطلقة)، والحلَّاج من أشهر القائلين بها، ولا تعني بمفهوم هؤلاء ولا الصوفيَّة المغالين اثنينيَّة مطلقاً؛ ولذلك كان صدر الدِّين الشيرازي بارعاً عندما شتم الصوفيَّة القائلين بالحلول والاثنينيَّة، في الوقت الذي يرى الحلَّاج مثلاً أعلى، وفي مقام لا أنا إلَّا أنا، كما جاء في تفسير الرازي (ص 243).
(10) الغيبة للطوسي (ص 403 - 405/ ح 378).
مهدي آخر الزمان) ردًّا على محمّد بن يوسف الجونبوري المتوفَّى سنة (910هـ) الذي ادَّعى المهدويَّة في الهند، فأغوى وضلَّل خلقاً كثيراً، فقال في مقدَّمته: (ومعلوم عند أهل الحقِّ أنَّ كثيرا من المشايخ - يعني مشايخ غلاة الصوفيَّة - صدرت عنهم دعوى المهدويَّة)، واعتذر عنهم بإشارة بليغة مؤدَّبة بأنَّها من لوازم أحوالهم.
ولكن الحال - وهذا المهمُّ - لا يُعبِّر عن الحقيقة والواقع، لذلك قال: (وصفتهم كانت مخالفة لما ورد في شأن المهدي من الأحاديث النبويَّة، وآثار الصحابة والتابعين)(11).
والحقُّ أنَّ الأمر كما يقول بشهادة الواقع التاريخي، فإنَّ قائمة من ادَّعى ذلك منهم طويلة في القديم والحديث، وقد ذكرنا عدداً كبيراً ممَّن أنشأ منهم - على أساس هذه الدعوى - طوائف في الجزء الثاني من هذا الكتاب. ويكفينا أنْ نشير هنا إلى أمثلة قريبة كمدَّعي البابيَّة أوَّلاً، ثمّ المهديَّة والنبوَّة ثانياً وثالثاً: عليّ بن محمّد رضا الشيرازي المعروف بـ(الباب)، والذي أُعدم بفتاوى الفقهاء بعد محاكمته في سنة (1263هـ)، وعنه امتدَّت بعدئذٍ طائفة البهائيَّة التي استقلَّت في تعاليمها عن الإسلام جملةً.
فقد أجاب هذا الباب حين سُئِلَ - لدى محاكمته - عمَّا شاع من دعواه المهدويَّة، وما إذا كان يقصد المهدي النوعي أم الشخصي، قائلاً: (بل أنا عين ذلك المهدي الشخصي! أنا الرجل الذي تنتظرونه منذ ألف عام).
ولم يبالِ بأنْ يجرؤ فيدَّعي - رغم ما كشفه منطقه وكتاباته من جهل فاضح - أنَّ مقامه يتقدَّم مقام النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فمقامه النقطة ومقام محمّد الألف!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص 66).
وزعم أنَّ هذيانه الهزيل - أُسلوباً ولغةً ومضموناً - في كتابه (البيان) يفوق القرآن، وأنَّ كلَّ كلمة منه - كما خُيِّل له - معجزة...، وأشباه ذلك.
وألغى أتباعه - في مؤتمر بيداء بديشت - الشريعة الإسلاميَّة، وخطبت قرَّة العين (زارين تاج) التي يُسَمُّونها الطاهرة مطالبة بالإباحة.
أمَّا مدَّعي المهدويَّة في الهند الميرزا غلام أحمد بن مرتضى القادياني المتوفَّى سنة (1908م) الذي أنشأ طائفة لا تزال قائمة حتَّى الآن، فقد ادَّعى أنَّه عين المسيح الموعود، وأنَّه كلُّ الأنبياء، وأنَّه رأى نفسه ذات مرَّة الخالق نفسه سبحانه وقام بعمليَّة الخلق كاملة!
ولا تعليل لذلك وأمثاله - من جرأة وتقحُّم في القول والفعل - بغير ما أشرنا إليه من مسالكهم، وما تُؤدِّي إليه بطبيعتها من هلوسات، طبقاً للمتوقَّع من رؤى الواصلين لها منهم ومقاماتهم، أو الخلق بالخيال لما تصوَّروه طبقاً لما تحدَّث عنه ابن عربي، وإلَّا على اساس القول بالوحدة المطلقة، لا كحالة شهود آنيَّة ضمن حالة استغراق في النظر إلى الله تعالى ليُعتذَر عنها بالحال، والمحو، والسكر، والغياب، والشطح، والنظر بالعين اليمنى، وما أشبه ممَّا ذكروه في الاعتذار عن بعض أهل السلوك(12)، بل بوصفه قاعدة ثابتة تُمثِّل في نظرهم الحقيقة المطلقة، ولذلك أسقطوا على أساسها التكليف بنفي المكلَّف موضوعاً، وقالوا ما شاءوا، وأسَّسوا طوائف استقلَّت عن الإسلام جملةً. لكن القول بنظريَّة الوحدة لا يُعلِّل إلَّا الجرأة واللَّاأُباليَّة. أمَّا ما يرون ويسمعون ويأتون به فله أسباب أُخرى سنتحدَّث عنها في فصول الجزء الثاني من هذا الكتاب بالتفصيل ابتداءً من الأُسُس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12) لم ترد هذه المصطلحات وما تدلُّ عليه عن المعصومين (عليهم السلام) بوصفها عذراً لما يصدر عن أصحابها إلَّا أنْ تكون مصداقاً لفاقد العقل.
ولا يكتفي الغنوصيُّون والباطنيُّون من أصحاب الطُّرُق الضالَّة جميعها، وفي جميع الأُمَم كالبراهمة، والبوذيِّين، واليهود، والنصارى، والمسلمين، ومنهم مدَّعو البابيَّة والمهدويَّة، على ما عُرِفَ من تاريخهم، بالدعوة النظريَّة المجردَّة، أو برسم مناهج سلوكيَّة خاصَّة من شأنها أنْ تُهيِّئ النفوس والأذهان لقبول آرائهم والإيمان بمقاماتهم، بل يتوسَّلون لإثبات خصوصيَّتهم بالإمكانات والقوى الروحيَّة التي هي إمكانات ذاتيَّة لدى كلِّ إنسان تتجلَّى وتقوى حتَّى تبرز بالفعل - بما يتوسَّلون به - إلى صقل أنفسهم وتقوية إراداتهم من الرياضات الخاصَّة المعروفة لديهم جميعهم كالعزلة، والصمت، والصوم المتواصل - بصورها اللَّامشروعة -، وترك اللحوم، والسهر، وإيثار الجلوس في الظلمة أو قلَّة الضوء، وأشباه ذلك. وقد تحصل أيضاً بتلبُّس كائن روحي من عالم آخر بالأسباب السابقة نفسها، وبفتح ذواتهم المطلسمة أصلاً عناية من الله تعالى للصلة بها من قِبَل هذه الكائنات اختياراً، واستدعائها تلباثيًّا كما هو المعروف في تحضير الأرواح، وعند حصولها - بهذه الصورة أو تلك - يكون ما هو شائع في أوساطهم وفي غيرها من الكشف النسبي، والرؤية عن بُعد، وقراءة الأفكار، وخلع البدن إراديًّا، وغير ذلك ممَّا أثبتت الدراسات التاريخيَّة
والباراسايكولوجيَّة المعاصرة انتشارها لدى كلِّ الأُمَم دونما فرق بين ملتزم ومتحلِّل، ومؤمن وكافر(13).
بل يتوسَّل أصحاب هذه المسالك - كما أشرنا في الهامش الأوَّل من هذه المقدَّمة - بالسحر والشعوذة والاستحضار والاستخدام والتسخير لإحداث ما يُسمَّى بالظواهر الخارقة، وهي أيضاً ممَّا أثبتت الدراسات التاريخيَّة والبارسايكولوجيَّة الحديثة شيوعها عند جميع الأُمَم كذلك، من دون فرق بين الملتزم والمتحلِّل من أفرادها، بما أنَّها آثار وضعيَّة لأعمال معيَّنة، وبذلك نفت خصوصيَّتها ودلالتها على سموِّ الذات أو الطاعة لله والقرب منه، وهو ما يحاول هؤلاء الأدعياء الإيهام به، بل هي على العكس تماماً - لحرمتها شرعاً - وسيلة وغاية. ومن أخطر ما عُرِفَ من وسائل هؤلاء أنْ يوجِّهوا الأرواح السفليَّة المسخَّرة لهم - بما توسَّلوا به - من الخلوة والأوراد المعروفة - كأمثال ما يذكره البوني في منبع أُصول الحكمة - إلى أنْ تتلبَّس الموصولين بهم وتناجيهم ليوهموهم أنَّهم أصبحوا بذلك على صلة بالإمام الكوني أو بالله أو بالملائكة لا فرق.
وحين يرى هؤلاء البؤساء - وأغلبهم ساذجون أو جهلة على الأقلّ بهذه العوالم - أنَّهم أصبحوا يسمعون ما لا يسمعه غيرهم، ويرون ما لا يراه سواهم، وحين يُخبَرون بنبأ فيتحقَّق، أو يرون حدثاً بعيداً مكانيًّا فيتأكَّد، أو يُقرَأ لهم طويَّة إنسان فتبرز بعدئذٍ، أو يستحوذ عليهم وينطق بألسنتهم أو يتصرَّف بهم ويُوجِّههم، وأمثال هذه الظواهر المعروفة لدى المروِّجين - قدماء ومحدَثين من دون خصوصيَّة دين أو التزام -، يزدادون اعتقاداً بأنَّهم أصبحوا مقرَّبين، وموصولين بالفعل. وعندها تتأكَّد تنظيرات مدَّعي البابيَّة والمهدويَّة وتوجيهاته وبشاراته عندهم، ويصبحون - بالإيحاء الدائم والمناجاة المستمرَّة - رهن إشارته وقيد أمره ونهيه حتَّى في ما جاوز حدود الله، وخالف سبيله، وخرج على منطق العقل، وميزان الأخلاق العامَّة.
وقد يشتدُّ هذا التلبُّس الشيطاني على بعضهم أحياناً فتربد وجوههم، وتتغيَّر سحناتهم، ويصابون بالكآبة ويلزمون البيوت ويتركون الطعام أيّاماً أو أسابيع، وقد تختلج بعض جوارحهم أو يثغون كالشاة أو يرغون كالبقرة(14)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) ستقرأ ذلك مؤشِّراً إلى عشرات المصادر قديمة وحديثة في الجزء الثاني إنْ شاء الله، ومثل ذلك ما يليها من وسائلهم.
(14) اقرأ في ذلك ما كتبه الحكيم المحدِّث الفيض الكاشاني (رحمه الله) في كتابه الحقائق (ص 243).
ولكنَّهم - وهذا موضع العجب - لا يرون في ذلك بأساً، فهم - كما يعتقدون - على صلة بالإمام، بل هم يرون أنفسهم في نعمة رغم ما أنزله بهم من أذى، وأصارهم إليه من منكر.
إذ لا ينبغي - في نظرهم - لأحدٍ أنْ يحدَّ الإمام أو يضع تصرُّفاته في نطاق المعقول واللَّامعقول، والجائز واللَّاجائز، وما ذلك إلَّا لجهلهم بالله وصفاته أوَّلاً، وبالإمام (عليه السلام) بوصفه حجَّة لله ثانياً، وبمعنى الحدِّ واللَّاحد ثالثاً. ولعدم معرفتهم أيضاً الفرق بين إلمامة المَلَك، وإلمامة الشيطان.
إنَّ ما أشرت إليه واقع قائم لدى أصحاب هذه الدعاوى بشواهده، وليس خيالاً.
إنَّ الأرواح أو الموجودات اللَّامادّيَّة لا يمكن التحقُّق من هويَّتها ومعرفة انتمائها لنثق بها أو نحذر منها، وإنَّ طبيعة ما أعطى الله من الاختيار في عالم الجنِّ والإنس يسمح لها بالادِّعاء والإغواء، ولم يضمن الله لنا العصمة منها ابتلاءً إلَّا بالعقل بوصفه حجَّة ذاتيَّة باطنة، وبالدين بوصفه حجَّة موضوعيَّة ظاهرة، ولذلك فإنَّ المعيار الذي يجب أنْ يظلَّ ماثلاً دائماً أمام من يُبتلى بالصلة بها - إذا لم يمكنه طردها - هو تطابق مفاهيمها وصورة تعاملها وما تعطيه من تعاليم ومعلومات، مع منطق العقل والدِّين، وما يعطيانه من قِيَم وموازين، بمعنى أنْ لا يُعطي - لما استقلَّت به - قيمة، وأنْ لا يعير لادِّعاءاتها بالاً. لقد ذكر القرآن الكريم في عدد من آياته - التي يمكن الرجوع إليها في مادَّة جنٍّ وشيطان وقرين من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم - ما يوجب الاحتياط والحذر من الانسياق وراء ما توحيه كائنات هذا العالم الخفيِّ من الجنِّ والشياطين خوفاً من السقوط في الهاوية التي يتردَّى بها أمثال هؤلاء.
فقال تعالى: ﴿قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى
أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرضِ حَيْرَانَ﴾ (الأنعام: 71).
وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ (الأنعام: 112 و113).
وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ (الأنعام: 121).
وقال تعالى: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأعراف: 30).
وقال سبحانه ردًّا على من يزعم من هؤلاء أنَّه إنَّما كان يطيع الملائكة: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ (سبأ: 40 و41).
وردَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) على من زعم من الغلاة أنَّه رأى وسمع وتجلَّى له، كما ستقرأ ذلك في ما ادَّعاه بعض الغلاة في الفصل الخاصِّ بهم من الجزء الثاني، قائلين: (إنَّه شيطانك، إنَّه المذهب، أو المتكوِّن...).
وجاءت أحاديث كثيرة تقول: إنَّ على يمين كلِّ إنسان مَلَك يُوحي له بالطاعة، وعلى يساره شيطان يأمره بالمعصية(15).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15) روى الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 2/ ص 266 و267/ باب بدون العنوان/ ح 1) بسنده عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، قَالَ: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَلَه أُذُنَانِ عَلَى إِحْدَاهُمَا مَلَكٌ مُرْشِدٌ وَعَلَى الأُخْرَى شَيْطَانٌ مُفْتِنٌ، هَذَا يَأْمُرُه وَهَذَا يَزْجُرُه، الشَّيْطَانُ يَأْمُرُه بِالمَعَاصِي، وَالمَلَكُ يَزْجُرُه عَنْهَا، وهُوَ قَوْلُ الله (عزَّ وجلَّ): ﴿عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 17 و18]».
وفي ذلك، وفي التجارب التي يُقدِّمها التاريخ ما فيه من بلاغ وحجَّة، وقد كتب الباراسايكولوجيُّون والروحيُّون المعاصرون تحت عنوان: مسّ أو استحواذ أو تلبس أو ضربة الشيطان، حوادث مأساويَّة كثيرة جدًّا تتَّصل بذلك، سنتحدَّث عن بعضها في الجزء الثاني أيضاً من هذا الكتاب.
على أنَّه من الممكن، بل من الواقع قطعاً أنْ يكون بعض هؤلاء الأدعياء وبعض أتباعهم مريضاً مصاباً بالبرانويا أو الذهان والهلوسة (بصريَّة أو سمعيَّة أو شمّيَّة أو ذوقيَّة)، فإنَّ بين هؤلاء المرضى - كما يقول أطبَّاء الأمراض النفسيَّة والعقليَّة - مَنْ لا يشعر بأنَّه مريض، بل يتخيَّل نفسه قدِّيساً ووليًّا موصولاً ونبيًّا وما أشبه، ويمشي بوقار، ويجلس بصمت وإطراق، وبشيء من الغياب. وقد يرى أنَّ الناس حمقى ومجانين، وأنَّهم لجهلهم لا يعرفون قدره ولا قيمة أفكاره، بل إنَّ بعض هؤلاء - كما يقول الأطبَّاء - مَنْ يتمتَّع بهيمنة ومنطق وقدرة على الإقناع في جوانب معيَّنة، وقد يملك قابليَّة على الاستبصار، إلَّا أنَّه يبدو خارج الموازين العقليَّة والشرعيَّة، ويبدو مخلطاً بصورة بائسة في جوانب أُخرى. وهناك شواهد كثيرة على أنَّ بعض هؤلاء الأدعياء وبعض أتباعهم من هذا الصنف قطعاً، وأنَّهم لذلك - رغم أذاهم - يستحقُّون العطف بحكم حالهم المرضيَّة، وأنَّهم - إذا لم يعوا ما يقولون أو يفعلون - غير مسؤولين.
وذلك أحد الأسباب التي جعلت بعض المؤمنين يرفض الانسياق مع حملة التشهير ببعضهم، لأنَّها تخلط الحقَّ بالباطل، وتجمع البريء والمذنب، رغم ما ناله من ذلك - لدى الناس - من أذى.
لكنَّه يرى - مع ذلك - أنَّ مكان المرضى - إذا كانت أمراضهم سارية كهؤلاء - الإبعاد والعزل كالمصاب بالإيدز والجذام والكوليرا، حمايةً لعباد الله والضعفاء من خلقه. على أنَّ البعض الآخر من هؤلاء المدَّعين ليس كذلك قطعاً، والأدعياء الجُدُد - بناءً على ما اشتهر عنهم من قواعد وأقوال وممارسات وأساليب ووسائل - لا يختلفون عن أسلافهم الماضين الذين حدَّثنا التاريخ عنهم بشيء، وهو ما نرجو - مخلصين - أنْ يتنبَّه إليه - بالمقارنة مع ما قدَّمناه - بعض من يحسن الظنَّ بهم، فنحن نؤمن بأنَّ في المتَّصلين بهؤلاء من لا يطلب إلَّا الله، ولا يريد إلَّا القرب منه ومرضاته أصلاً، إلَّا أنَّه صار دون أنْ يريد - بما أشرنا إليه من وسائلهم هذه وغيرها - في حال هو أشبه بحال الإمبراطور الذي أوهمه النسَّاجان الماكران بأنَّه يرتدي الثياب التي نسجاها له رغم أنَّه يرى نفسه ويراه الناس عارياً.
فهم لا يُعَدُّون أنْ يكونوا مخدوعين - وباستهواء -، وهو ما يجعلني أرى أنَّ ما سأُورده في هذا الكتاب - من هذه الجهة - لهم لا عليهم.
وبوصول النُّزُر - ممَّا ذكرناه - عمَّا اشتهر عن هؤلاء، من خلال أسئلة المؤمنين، صدرت عن بعض كبار المراجع فتاوى منشورة وأُخرى شفويَّة بتكذيب هؤلاء الأدعياء جملةً وتضليلهم، وإسقاط عدالة المنضوين إليهم والمؤمنين بهم إذا كانوا يعلمون بما صدر عنهم من مخالفات وعلى غير شبهة(16).
ولا شكَّ في أنَّ لهذه الفتاوى أثرها في تحذير المؤمنين الملتزمين بالشرع الواثقين بمراجعه الأعلام (حفظهم الله) وإبعادهم بذلك عنهم، وتضييق دائرة حركتهم في أوساطهم، لكنَّها قليلة الأثر لدى آخرين من المؤمنين ممَّن لا يقنع إلَّا بالتعرُّف المباشر، وتكوين الرأي في مسائل كهذه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) سننشر ذلك في الجزء الثاني، في بحث (البدعة والردَّة في التشريع الإسلامي).
أمَّا بالنسبة للموصولين بهؤلاء، فمن الصعب أنْ يصغي إليها أحد منهم، فضلاً عن التأثُّر بها.
فمن يأخذ بتصوُّره عن الإمام مباشرةً، أو بوساطة هؤلاء الأدعياء، أو بوساطة ما أصحبوهم إيَّاها من الشياطين، لا يرجع إلى الفقهاء بشيء أصلاً. ومن المعروف - في تاريخ أدعياء البابيَّة والمهدويَّة ومن يمتُّون إليهم في المسلك أصلاً - أنَّهم يُصَوِّرون الفقهاء لأتباعهم على أنَّهم أصحاب نفوس وعناوين وكبر، وأنَّهم أهل رسوم وفكر لا يُدركون الحقائق ولا يأنسون بالصلة، وأنَّهم أعداء الإمام (عجَّل الله فرجه)، وهذا هو موقفهم مع كلِّ مَنْ يأبى أنْ يصغي إليهم وإلى شياطينهم أو يقيم لها ولهم وزناً. ثمّ إنَّ مَنْ لا يبالي بأنْ يكون على مستوى المناقضة مع نصوص القرآن الكريم الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ (فُصِّلت: 42)، ومع ثوابت سُنَّة المعصومين (عليهم السلام)، كيف يمكن أنْ يتأثَّر بفتوى؟
لذلك كان من رأيي أنْ يكون التصدِّي لهؤلاء على الصعيد الفكري والفلسفي، بدراسة مفصَّلة لتاريخ هؤلاء الأدعياء، بدءاً من أوَّل ناجم منهم في التاريخ الإسلامي، وبيان أُسُسهم الفلسفيَّة ومنطلقاتهم وأساليبهم ووسائلهم، والشواهد عليها من أقوالهم وأفعالهم، وما قاله كبار العلماء والعارفون فيهم، رجاء أنْ ينتبه بعض مَنْ غرَّر بهم هؤلاء، أو مَنْ يمكن أنْ يُغرِّروا بهم في المستقبل، وهي مهمَّة صعبة نسبيًّا.
وجاءت ذكرى مولد الإمام المهدي المنتظَر ثاني عشر أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، في شهر شعبان من سنة (1417هـ/1997م)، فألقيت في حفل أُقيم بالمناسبة كلمة تحدَّثت فيها بإيجاز عن الإمام (عجَّل الله فرجه). وكان ممَّا ذكرته بعد تواتر الأحاديث فيه - لدى المسلمين من أهل السُّنَّة والشيعة - من دلائل الإثبات،
ظهور دعوات البابيَّة والمهدويَّة - على امتداد التاريخ الإسلامي - في الوسط السياسي والصوفي المغالي، وأنَّ ذلك ما كان ليكون لو لم يوجد للمهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) أساس ثابت ومتواتر لدى الأُمَّة تتوارثه جيلاً بعد آخر حتَّى ينتهي إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة الطاهرين من أهل بيته (عليهم السلام). وانطلقت من ذلك لأُبيِّن ما تصدَّى به العلماء لهؤلاء الأدعياء بدءاً من الأوَّل منهم.
وكان ممَّا ذكرته عدا ما مرَّ مضمونه:
أوَّلاً: عدم تطابق تاريخ هؤلاء الأدعياء مع ما أخبر به الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من أهل بيته (عليهم السلام)، وما جاء عن بعض الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) من تحديد لهويَّة الإمام (عجَّل الله فرجه) اسماً ونسباً، وصفات وموقعاً، وزماناً، وخفاء ولادة وغيبة، وظهوراً.
ثانياً: لم تسبق أيُّ واحدٍ منهم أو ترافقه أو تتأخَّر عنه العلامات والآيات التي تتَّصل بالإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) في هذه الأزمنة الثلاثة المتَّصلة به، كما جاء في هذه الأحاديث.
ثالثاً: عدم تطابق علم أيِّ واحدٍ منهم وخُلُقه وسلوكه على المستوى العامِّ والخاصِّ مع ما هو معروف عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وبروز نزعة الادِّعاء والتآمر عليهم، وكثرة الشطط والتناقض عندهم.
رابعاً: لم يتحقَّق على يد أيِّ واحدٍ منهم ما يفترض تحقيقه لدى ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) على مستوى العالم فضلاً عن الأُمَّة، ومنها أنْ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وأنْ يُوحِّد العالم ويجعل الإسلام - كما أُنزل - محوره وميزانه، بل على العكس فإنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء ترك جرحاً جديداً، وسبيل فرقة مضافاً، بل إنَّ بعضهم ارتكب من المظالم ما استغاثت الأُمَّة منه بالله، واستشفعت إليه بالإمام وآبائه (عليهم السلام) ليُخلِّصهم من شروره.
خامساً: أنَّ الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) ثاني عشر الأئمَّة من أوصياء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال في التوقيع الصادر لنائبه الرابع عليِّ بن محمّد السمري المتوفَّى سنة (329هـ) بعد أنْ أخبره بالغيبة الكبرى: «وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي اَلمُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ»(17).
ولا شكَّ في أنَّ الدافع لمثل هذا التحذير ما أعلمه الله به من ظهور هؤلاء الأدعياء وخداعهم للمؤمنين باسمه (عجَّل الله فرجه)، فأراد أنْ يُنبِّههم إلى عدم قبول ذلك منهم، وإلَّا فإنَّ أهل العلم والإيمان أجلّ وأخشى لله من أنْ يفعلوا شيئاً من ذلك.
سادساً: أنَّ الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) أَمَرَ في التوقيع الذي رواه محمّد بن يعقوب الكليني (رحمه الله) عن إسحاق بن يعقوب، عن محمّد بن عثمان العمري، أنْ يُرجَع في معرفة الأحكام الشرعيَّة إلى رواة حديثهم (عليهم السلام)، ولو كان هناك طريق آخر للصلة المباشرة في الغيبة لنبَّه إليه، فقال (عجَّل الله فرجه): «وَأَمَّا الحَوَادِثُ الوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ، وَأَنَا حُجَّةُ اَلله عَلَيْهِمْ»(18).
سابعاً: أنَّ خروج هؤلاء الأدعياء المدَّعين للمهديَّة والنبوَّة نفسه هو إحدى العلامات التي تسبق ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، فقد ورد في حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رواه الشيخ المفيد (رحمه الله) في (الإرشاد)، قال فيه: «لَا تَقُومُ اَلسَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ اَلمَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، وَلَا يَخْرُجُ اَلمَهْدِيُّ حَتَّى يَخْرُجَ سِتُّونَ كَذَّاباً كُلُّهُمْ يَقُولُ: أَنَا نَبِيٌّ»(19).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17) كمال الدِّين (ص 516/ باب 45/ ح 44)، الغيبة للطوسي (ص 295/ ح 365).
(18) كمال الدِّين (ص 484/ باب 45/ ح 4)، الغيبة للطوسي (ص 291/ ح 247).
(19) الإرشاد (ج 2/ ص 371)؛ ورواه الطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 279)، والمقدسي الشافعي في عقد الدُّرَر (ص 18 و64)، ومرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي في فرائد فوائد الفكر (ص 265).
ثامناً: يكفي في تكذيبهم القاطع - مع غضِّ النظر عن كلِّ ما قدَّمناه - مناقضة ما صدر عنهم لكتاب الله الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾ (فُصِّلت: 42)، ولثوابت السُّنَّة الشريفة، فهما لا يفترقان حتَّى القيامة كما جاء في حديث الثقلين.
الكلمة التي أصبحت كتاباً:
وطلب إليَّ مَنْ أُحِبُّ وأُقدِّر من أهل العلم والفضل، وبعض الأساتذة من المؤمنين، استنساخ الكلمة للإفادة منها ضمن الظرف، فطلبت إمهالي إلى ما بعد رمضان لأُفيد من لياليه في تلافي جوانب النقص فيها، فما يُكتَب للإلقاء غير ما يُكتَب للقراءة، فسأذكر في هذه بعض ما لم يتيسَّر لي ذكره من جوانب ذات أهمّيَّة، وأتوسَّع في ما أوجزت فيه ممَّا يستحقُّ ذلك، وأُشير إلى المصادر والمراجع للإفادة منها لتكون الكلمة أكثر نفعاً.
ورغم شواغل علميَّة طارئة(20) أخذت منِّي جهداً ووقتاً، فقد أصبحت الكلمة عند نهاية شهر رمضان كُتيِّباً أسميته (الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وأدعياء البابيَّة والمهدويَّة بين النظريَّة والواقع)، وقسَّمته - كما ينبغي في مثله - إلى فصلين: الأوَّل في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، والثاني في أدعياء البابيَّة والمهدويَّة. وقدَّرت وأنا أُسلِّم الفصل الأوَّل منه ريثما أُتِمُّ وأستنسخ الفصل الثاني استعجالاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20) منها المشاركة في الندوة العلميَّة التي أقامتها نقابة الأطبَّاء في النجف الأشرف في يوم (18) رمضان من سنة (1417هـ)، المصادف (27/1/1997م) بعنوان: بعض الجوانب الطبّيَّة والدِّينيَّة في الموت، وقد ألقيت فيها بحثاً بعنوان (الروح بين الفلسفة والعلم والقرآن)، وقد اشترك معي في الندوة د. مازن إسماعيل رئيس قسم الباثولوجي في كلّيَّة طبِّ الكوفة، ود. عليّ الشالجي جرَّاح الجملة العصبيَّة في مستشفى صدَّام، وقد قدَّم للندوة وأدارها د. محمّد محيي التلال نقيب الأطبَّاء، وتلتها ندوات أُخرى مماثلة.
للتنضيد في العشرة الأُولى من شوَّال سنة (1417هـ)، أنَّه سيكون بحدود (150) صفحة، لكنَّ الله سبحانه شاء أنْ يكون الأمر غير ذلك، فلدى قراءتي المصادر والمراجع في الموضوع رأيت أنَّ هناك جوانب هامَّة بحاجة لوقفة أطول ممَّا فعلت، وذلك ليُؤدِّي الكتاب شيئاً من الرسالة في موضوعه، ورأيت أنَّ أمرين هامَّين جدًّا لديَّ، هما:
الأوَّل: أنَّ كتابتي عن المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) يجب أنْ لا تكون مدخلاً وتمهيداً للحديث عن أدعياء البابيَّة والمهدويَّة كما هو المقرَّر في البداية، بل أساساً هامًّا تعتمد عليه المناقشة والردُّ عليهم ضمن النقاط من أوَّلاً إلى خامساً في الكلمة بحكم اتِّصالها بتحديد هويَّة الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) التي نستطيع بها نفي سواه.
الثاني: أنَّ هناك بعض المفردات التاريخيَّة والغيبيَّة تثير الشكوك والتساؤل لدى بعض الباحثين، كخفاء ولادته، وغيبتيه الصغرى والكبرى، وامتداد بقائه، وإمكان مشاهدته، وكيفيَّة انتصاره في مثل عصرنا، مع ما نعلم من تقنيَّات السلاح لدى الدول الكبرى غير الإسلاميَّة.
ثمّ لابدَّ بعد ذلك وفي موضوع أدعياء المهدويَّة والبابيَّة من تناول تاريخها، وما اعتمدته من أُسُس فلسفيَّة ودينيَّة، والوقوف عند الفِرَق التي نجمت منها. وما هي مبادئها ووسائلها؟ وما الذي قالته وفعلته؟ وما هو أثرها التاريخي؟
وهكذا امتدَّ الكتاب من فصلين إلى عشرة فصول وقد يكون أكثر، ومن (150) صفحة إلى ما يُقدَّر بـ(800) صفحة وقد يكون أكثر، فبعض فصول الجزء الثاني لم تُكتَب بعد. ذكرت ذلك لأُبيِّن أنِّي لم أرسم لهذا الكتاب خطَّة سابقة بحكم ما أشرت إليه، وإنَّما هو الذي رسم خطَّة نفسه أثناء كتابتي له.
وكنت أُعطي المكتب الذي احتملني صاحبه بإخاء وصبر - جزاه الله
خيراً - ما ينجز لديَّ من صفحات استعجالاً، فالكتاب قد قصدت به بدءاً هدفاً رساليًّا لا عملا علميًّا، وذلك ما أرجو أنْ يكون عذري عمَّا قد يكون أدَّى إليه فقدان الخطَّة العلميَّة ابتداءً من عدم توازن الفصول وبحوثها كمّيًّا وربَّما كيفيًّا، وما أدَّى إليه الاستعجال وتنضيده بالصورة التي ذكرتها من تكرار بعض الأفكار أو الهوامش وأمثال ذلك، ثمّ ما أحدثته تجزئته إلى جزئين في مرحلة متأخِّرة من ملاحظات مضافة.
وقد جعلت الجزء الأوَّل خاصًّا بموضوع الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، بينما يتناول الجزء الثاني أدعياء البابيَّة والمهدويَّة.
منهج البحث:
وقد كان منهج هذا الجزء - كما أملتها الظروف التي ذكرتها - في خمسة فصول يضمُّ كلُّ فصل منها ثلاثة بحوث، بالصورة التالية:
الفصل الأوَّل، ويتضمَّن ثلاثة بحوث:
البحث الأوَّل، وقد عرضنا فيه أوَّلاً: بيان أنَّ الاعتقاد بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عقيدة إسلاميَّة لا شيعيَّة فقط، ووقفنا عند المشكِّكين به ورأسهم ابن خلدون، وذكرنا ما أورده من حيثيَّات هذا التشكيك، ثمّ ما تصدَّى له به كبار العلماء من أهل السُّنَّة من مناقشات تُبطِل كلَّ ما استند إليه من هذه الحيثيَّات بصورة مفصَّلة، وتُقدِّم الأدلَّة على صحَّة الاعتقاد بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وظهوره، وأوردنا عدداً كبيراً من الكُتُب الحديثيَّة التي خرَّجت الأحاديث فيه عن (25) صحابيًّا، وما نصُّوا عليه من صحَّة الكثير منها.
وعدت تحت عنوان (الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من عقائد أهل السُّنَّة)، لأُقدِّم عدداً من كبار العلماء نصُّوا على كون الإيمان به من عقائد أهل السُّنَّة، أو نصُّوا على تواتر الأحاديث فيه ممَّا ينتهي حتماً إلى ذلك.
وتحت عنوان (من هو المهدي؟ ومتى وُلِدَ؟) بيَّنت اختلاف المسلمين وراء القدر المشترك بينهم فيه، فذكرت اختلافهم في جدِّه الأعلى، وما إذا كان الحسن السبط أو الحسين (عليهما السلام). وذكرت أدلَّة الطائفة الأُولى التي رأت أنَّه من ذرّيَّة الحسن (عليه السلام)، وقد اعتمدت على ثلاث روايات نوقشت أوَّلاً بأنَّها ضعيفة سنداً، وبأنَّ إحداها مقطوعة، وثانياً بأنَّها معارضة بروايات أُخرى أكثر وأصحّ، بعضها عن راوي إحدى الروايات السابقة نفسه، ولأنَّهم نصُّوا على ما أُصيب به هذا الراوي من نسيان وخلط، فقد احتملنا أنَّ الأمر في روايته الأُولى كان نتيجةً لذلك، واتَّهمنا دعاة محمّد بن عبد الله الحسني المعروف بالنفس الزكيَّة بهذا التحريف، كالذي حصل من دعاة المهدي العبَّاسي الذين وضعوا ما يجعله من نسل العبَّاس، فأسقطها المحدِّثون ونصُّوا على وضعها من قِبَلهم.
أمَّا الاختلاف في اسم أبيه، وما إذا كان اسمه عبد الله أو غيره، فقد ذكرنا أنَّ أساس القول في أنَّ أباه عبد الله ما جاء في الحديث الوارد عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قوله: «اِسْمُهُ اِسْمِي، وَاِسْمُ أَبِيهِ اِسْمُ أَبِي»، والفقرة الأخيرة مضافة للحديث كما يُثبِت البحث.
فقد أخرج المحدِّثون كأحمد بن حنبل في (المسند)، والترمذي، وأبو داود، والطبراني، والبيهقي أحاديث نصَّ المحدِّثون على صحَّتها، خالية من هذه الفقرة.
وقد احصى الحافظ أبو نعيم الأصفهاني طُرُق الحديث عن الجمِّ الغفير كلّها عن عاصم بن أبي النجود، عن عبد الله بن مسعود، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فوجد أنَّ (23) طريقاً منها الأكثر الغالب يُروى عن طُرُق شتَّى.
ثمّ بعد ذلك طريق آخر رواه غير عاصم، عن زرِّ بن حبيش، وهو عمر بن مرَّة. كلُّ هذه الطُّرُق روت الحديث خالياً من هذه الزيادة إلَّا ما كان من عبد الله
ابن موسى، عن زائدة، عن عاصم، ولذلك فإنَّ المقارنة بين (34) طريقاً خالية من هذه الزيادة بطريق واحد - مضافاً إلى معارضته بأحاديث أُخرى متواترة تُثبِت بالنصِّ أو الاستنباط بأنَّ أباه الحسن (عليه السلام) - تجعلنا نقطع بسقوطه عن الاعتبار، واتِّهام دعاة محمّد ذي النفس الزكيَّة، أو دعاة محمّد بن عبد الله المهدي العبَّاسي بوضعه.
ثمّ أوردنا ثلاث طوائف من الأحاديث التي رواها حُفَّاظ أهل السُّنَّة ومحدِّثوهم، تنصُّ الأُولى منها على أنَّ الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من ذرّيَّة الحسين (عليه السلام)، وتنصُّ الطائفة الثانية بأنَّه التاسع من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، والطائفة الثالثة هو بأنَّه الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وبذلك تثبت أنَّ أباه بحكم الواقع التاريخي الإمام الحسن (عليه السلام) لا عبد الله.
في البحث الثاني من الفصل الأوَّل وتحت عنوان (موقع الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من الرسالة، ومن أحاديث الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)) الذي أردنا أنْ نُبيِّن فيه اتِّساق ما ورد عنهم (عليهم السلام) في كُتُب الشيعة مع ما انتهى إليه البحث الأوَّل، مع إضافة تتَّصل بموقع المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وببعض مفردات تاريخه، التي تبدو لبعض الباحثين على شيء من الغموض. رأينا أنَّه لابدَّ لكي تأخذ الأحاديث المرويَّة عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) موقعها في الاستدلال من حديث موجز عن نظريَّة الإمامة وأدلَّتها، فبذلك تأخذ الأحاديث الواردة عنهم (عليهم السلام) القيمة نفسها المعطاة لأحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بصفتهم أوصياءه وامتداده في العصمة العلميَّة والعمليَّة. وخلصنا بالربط بين الحديث الصحيح الذي ينصُّ على أنَّ الأئمَّة من بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اثنا عشر، وبين أدلَّة الإمامة الأُخرى إلى أنَّ أهمّيَّة الإيمان بالإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) لا تأتي من كونه موضوعاً ثابتاً بالتواتر عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقط، بل لأنَّه - وهذا هو الأهمّ - يتَّصل بأصل
من أُصول العقيدة، وهو الإمامة التي تقتضي أدلَّتها الإيمان بالأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) على نحو العموم المجموعي.
وبذلك فسَّرنا الاهتمام الخاصَّ والاستثنائي الذي أعطاه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصياؤه (عليهم السلام) للحديث عن موضوعه (عجَّل الله فرجه)، بحيث لم يغفل أحد منهم (عليهم السلام) التبشير به والحديث عن كلِّ مفردة من تاريخه، ولولا ذلك لكان من الصعب أنْ يستوعب المؤمنون ما يحيط بتاريخه من ملابسات وغموض. وقد أشرنا إلى أنَّ في الأحاديث الواردة عن كلِّ واحدٍ منهم (عليهم السلام) - عدا تواترها واتِّساقها في الدلالة في ما تحدَّثت عنه من شأنه - وجه دلالة أُخرى مضاف، وهو أنَّها أو بعض كثير منها - كما يقول الشيخ الصدوق (رحمه الله) - رُويت وحُفِظَت في الصُّحُف ودُوِّنت في الكُتُب قبل أنْ تقع الغيبة بمائتي سنة أو أكثر. وقد قدَّمنا عدداً من الكُتُب المؤلَّفة لإيراد الأحاديث الواردة في موضوعه (عجَّل الله فرجه) ابتداءً من عصر الغيبة الصغرى.
ثمّ اخترنا أمثلة ممَّا روي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكلِّ واحدٍ من أوصيائه (عليهم السلام) بإضافة الزهراء فاطمة (عليها السلام) تتناول ما أشرنا إليه من موضوعه وكلِّ مفردات تاريخه، وذكرت في ما أوردته عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ما نصَّ به (عليه السلام) على إمامته وغيبته بعد أنْ أراه لعدد كبير من أصحابه ضمَّ مجلس واحد من أعيانهم أكثر من أربعة وأربعين شخصاً، عدا مناسبات فرديَّة أُخرى كالذي كان من ذلك مع أحمد بن إسحاق الأشعري، وعمرو الأهوازي، وحكيمة بنت الإمام الجواد، وعثمان بن سعيد، وإسماعيل بن عليٍّ النوبختي، وكامل بن إبراهيم المدني، وأبي الأديان(21). أمَّا ما ورد عن الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) نفسه من إشارته إلى نفسه وتاريخه بالصورة التي تحدَّث عنها آباؤه (عليهم السلام)، فقد ذكرته في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) راجع البحث الأوَّل من الفصل الثاني: (ولادته (عجَّل الله فرجه) وغيبته الصغرى).
البحث الأوَّل من الفصل الثاني الذي تناول إخفاء ولادته، واضطلاعه بالإمامة طفلاً، وغيبته الصغرى، لنُدلِّل على أنَّ الخفاء والغيبة كانا نسبيَّين.
وخلصنا - في ضوء هذا البحث - متَّسقاً مع البحث الأوَّل إلى الخلاصة التالية:
1 - أنَّ المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) هو الإمام محمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام)، الثاني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، أوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، المولود في النصف من شعبان سنة (255هـ).
2 - أنَّه لا يوجد فصل نَسَبي ولا زماني بين الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وبين أوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشهود رسالته من آبائه (عليهم السلام)، وأنَّه (عجَّل الله فرجه) داخل - دون انقطاع - في الأئمَّة الاثني عشر الذين نصَّ عليهم الحديث المتَّفق على صحَّته، وما تُعطيه أدلَّة الإمامة الأُخرى من خصوصيَّة العصمة العلميَّة والعمليَّة، والتأييد بالملائكة، والمرتبة التي تجعل المسيح (عليه السلام) يُصلِّي خلفه، ومن الصعب إثبات هذه الخصوصيَّات الثابتة له مع الانقطاع الزمني والنَّسَبي الذي تفترضه النظريَّة الأُخرى.
3 - أنَّ الأحاديث المرويَّة بصورة متواترة فيه تُشخِّصه بكلِّ مفردات تاريخه، وتُفسِّر الجوانب الغامضة منها، وتنظر لها بما يوجد في تاريخ الرُّسُل والأنبياء (عليهم السلام). فهو معروف بها اسماً ونسباً وموقعاً عدديًّا من سلسلة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)، ووالداً ووالدةً، وخفاء ولادة، وصفة، وغيبة صغرى وكبرى، وظهوراً، وما يسبق ذلك من علامات عامَّة وخاصَّة، وما يرافقه ويتأخَّر عنه من آيات وخصوصيَّات زمنه وعالمه، وغير ذلك ممَّا لا يترك مجالاً لادِّعاء موقعه من غيره مطلقاً.
وهي نتائج حاسمة وهامَّة من دون شكٍّ.
في البحث الثالث من الفصل الأوَّل تحدَّثت عن رأي أهل الكشف ممَّن هم من أهل السُّنَّة أصلاً، وموافقتهم لما يراه الإماميَّة من كون الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) هو الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن العسكري. ولم أجعله دعامة أساسيَّة ودليلاً بل مؤيِّداً، لذلك قدَّمت خلاصة البحث قبله، وذكرت في بداية ذلك الإشكال على استدلالي بالكشف مع عدم إيماني بحجّيَّته إذا استقلَّ، وأجبت عنه. ثمّ ذكرت ما وقع به ابن خلدون من خطأ في نسبة هذا الرأي للمتأخِّرين من الصوفيَّة وإشارته إليه مجملاً، واستشهدت على سبيل الإجمال بما أورده أبو بكر البيهقي المتوفَّى سنة (458هـ) والذي سبق ابن خلدون بـ(340) عاماً من نصِّه على موافقة أهل الكشف الإماميَّة في تحديدهم لشخص الإمام ونَسَبه وولادته وغيبته وظهوره، ثمّ استشهدت مفصَّلاً بإيراد ما قاله سبعة من أعلامهم في ذلك.
في البحث الأوَّل من الفصل الثاني تحدَّثنا عن خفاء ولادته، وغيبته الصغرى، وما أثاره ذلك من شكوك.
وقد ناقشنا ما يتَّصل بأمر خفاء ولادته:
أوَّلاً: بما أنذر بها مقدَّماً من الروايات المتواترة عن المعصومين (عليهم السلام)، وبيان أنَّها ممَّا تفرضه الظروف الموضوعيَّة المتَّصلة بالسلطة الحاكمة من جهة، وبعمِّه جعفر الكذَّاب من جهة أُخرى، وقد أشرنا هنا إلى بعض ما قدَّمناه منها.
ثانياً: أنَّ خفاء ولادته كان نسبيًّا، وأشرنا إلى ما مرَّ من أنَّ أباه الحسن (عليه السلام) أراه كما قدَّمنا في الروايات الواردة عنه من الثالثة حتَّى الثامنة إلى عدد كبير من شيعته، ونصَّ (عليه السلام) أمامهم على إمامته، وأوردنا أيضاً من ذلك منها ما لم نورده هناك، وذكرنا عدداً آخر ممَّن شهد بولادته، ورؤيته، ورأى دلائل الإمامة منه.
تحدَّثنا عن غيبته (عجَّل الله فرجه)، وانقطاعه عن الصلة بالناس في الغيبة الصغرى،
فقد ربطناها - كما هو الواقع - بنفس الظروف الموضوعيَّة التي أوجبت إخفاء ولادته (عجَّل الله فرجه)، وذكرنا في الإجابة على التساؤلات:
أوَّلاً: إنذار المعصومين (عليهم السلام) بها، والتنظير لها بما ورد في تاريخ الأنبياء (عليهم السلام).
وأشرنا إلى بعض ما أوردناه من ذلك في البحث الثاني من الفصل الأوَّل.
ثانياً: أنَّها كانت نسبيَّة، وقد أشرنا إلى أهمّ مظاهر حضوره وهم النوَّاب الأربعة، ثمّ ذكرنا عدداً آخر ممَّن شهده ورأى البرهان على إمامته فيها، وقد ذكرنا أنَّهم أحصوا ممَّن رآه ثلاثمائة وأربعة أشخاص.
في البحث الثاني من الفصل الثاني تحدَّثنا عن اضطلاعه بالإمامة طفلاً، وما يثيره من إشكال، وتشكيك بعض الباحثين. وقد سقت من الإجابة أوَّلاً لذوي العقليَّات العلميَّة التي تطلب حتَّى في المسائل التي تتَّصل بالمشيئة الإلهيَّة كالنبوَّة والإمامة شواهد من الواقع عدداً من الأمثلة التي سجَّلها العلماء لأطفال جاوزوا المستويات المعروفة في الذكاء والمواهب الروحيَّة والعقليَّة والقدرة على الاستيعاب بالصورة التي تصبح فيها إشارة للمواهب الإعجازيَّة الأسمى في الرُّسُل وأوصيائهم (عليهم السلام).
ثمّ ذكرت ثانياً ما تحدَّث به القرآن في شأن عيسى ويحيى (عليهما السلام).
ثالثاً: بأنَّ عمره (عجَّل الله فرجه) قريب من عمر اثنين من آبائه، هما: الإمام محمّد الجواد والإمام عليٌّ الهادي (عليهما السلام)، وقد اضطلعا بالإمامة واقعيًّا وبأعلى اشتراطاتها، وتعرَّضا لمحاولة السلطة في اختبارهما، فكانا آية مدهشة.
رابعاً: عدم منطقيَّة الإشكال حول كيفيَّة إمامته مع قيامها واقعاً، وخضوع كبار العلماء والمتكلِّمين لها.
في البحث الثالث من الفصل الثاني تحدَّثنا عن نوَّابه وبعض توقيعاته
بوصفها دليلاً هامًّا يُضاف إلى ما قدَّمناه على كون غيبته (عجَّل الله فرجه) نسبيَّة، وأنَّه (عجَّل الله فرجه) حاضر مع الأُمَّة في كلِّ شأنٍ يتَّصل بها وإنْ لم تتح رؤيته - بصورة مفتوحة - للجميع. وقد وقفنا عند هذا الموضوع خاصَّة لبيان دلالته بحكم الفترة الطويلة التي تمتدُّ إلى ما يجاوز (68) عاماً كان فيها النوَّاب القناة الرئيسيَّة العامَّة من الأُمَّة إليه (عجَّل الله فرجه) ومنه إليها، وأشرنا إلى أنَّ هؤلاء النوَّاب ممَّن لا يدور حولهم شكٌّ لدى الأُمَّة من أيَّة جهة، لأُمور منها:
1 - أنَّهم معروفون لدى الأُمَّة تقًى، وورعاً، وأمانةً، وعلماً، وقرباً من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وكان العلماء من الأُمَّة يُدركون تميُّزهم بخصال أوجبت اختيارهم من دون سواهم.
2 - كانوا موثَّقين من الأئمَّة (عليهم السلام)، ومنصوص عليهم مباشرةً أو بالوساطة، وبصورة تجعلهم بمنزلة اللسان واليد أو ممثِّلين خاصِّين مطلقين، كما جاء في النصوص التي ذكرناها عن النائب الأوَّل عثمان بن سعيد العمري، ثمّ ابنه محمّد بن عثمان (رضوان الله عليهما)، ثمّ الثالث بوساطة الثاني، والرابع بوساطة الثالث.
3 - كانت أجوبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تصدر على يد كلِّ واحدٍ من هؤلاء النوَّاب الأربعة بالخطِّ نفسه المعروف للإمام (عجَّل الله فرجه) لدى بعض ثقات الأُمَّة من دون تغيير، وبالدرجة نفسها من حيث الأُسلوب والمضمون، ممَّا يشير إلى وحدة الجهة التي يصدر عنها النوَّاب.
4 - أظهر الله بوساطة الإمام (عجَّل الله فرجه) على يد كلِّ واحدٍ منهم من الكرامات المعجزة ما أعطى دليلاً قائماً مضافاً على حقيقة صلتهم به. وذكرنا نصًّا للشيخ النعماني (رحمه الله) الذي كان معاصراً لهم يشير إلى ذلك. ثمّ تحدَّثنا عن كلِّ واحدٍ منهم وأشرنا إلى مكانته، وما صدر عنه من كرامات وعلم بما نراه كافياً لتجلية الدلالة
من هذه النواحي الأربع على كلِّ واحدٍ منهم (رضوان الله عليهم). ثمّ ذكرنا ما صدر على يد كلِّ واحدٍ منهم من توقيعات بخاصَّة تلك التي تتَّصل بموضوع كتابنا من جهة أُخرى، أي ما يصلح أنْ تكون أساساً لنفي أو إثبات في موضوعه الخاصِّ بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من جهة، وبقواعد الغلاة، وأدعياء البابيَّة، ومفاهيمهم من جهة أُخرى، وختمناها بتوقيعه (عجَّل الله فرجه) الصادر إلى نائبه الرابع بوقوع الغيبة الكبرى، وتكذيب مدَّعي المشاهدة قبل الصيحة والسفياني.
في الفصل الثالث وعنوانه (الغيبة الكبرى كيف؟ ولماذا؟) تناولنا في البحث الأوَّل الذي يُجيب على السؤال: (لماذا لا يكون المهدي (عجَّل الله فرجه) رجلاً آخر؟)، وهو سؤال تثيره بعض الإشكالات التي أشرنا إليها، وأجبنا بأنَّ ذلك يفرضه ما ثبت من كونه الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) بوصفه آخر الأوصياء (عليهم السلام)، وإذا كان العقل والنقل يقضيان بعدم خلوِّ الأرض من حجَّة، وكان الله قد ختم النبوَّة بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وهو المفروض بحكم رتبته -، فإنَّ المتعيَّن - ورسالته خاتمة الرسالات وأوصياؤه لا أكثر من هؤلاء الاثني عشر (عليهم السلام) - أنْ يكون وصيُّه وامتداده الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) هو صاحب الزمان من عهده الأوَّل حتَّى قيام الساعة.
على أنَّ صفات المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وموقعه والآيات التي تحفُّه كما هو ثابت في الأحاديث المتواترة، لا يمكن تصوُّرها لمن هو دون مستوى الخلافة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمستوى الأخصّ، وليس هناك سوى الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن (عجَّل الله فرجه)، وهو ما أثبتته الروايات المتواترة.
والغيبة الكبرى لا تعني إلَّا غلق الصلة به من جهة الناس لا من جهته لو أراد القيام بالتسديد وإزالة الشُّبُهات تحقيقاً لدوره حجَّةً باقيةً لله، وبما أعطاه الله من وسائل لا تتحدَّد بالصورة المباشرة والمادّيَّة.
ثمّ ذكرنا أنَّ هذه الغيبة - بما ينشأ عنها من حيرة وإشكالات - كالأُولى
أنذر بها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام) قبل أنْ يُولَد المهدي (عجَّل الله فرجه) بأكثر من قرنين، واستمرَّ الإنذار بها حتَّى آخر إمام سبقه، ثمّ منه (عجَّل الله فرجه)، وأشرنا إلى بعض ما قدَّمناه منها في البحث الثاني من الفصل الأوَّل.
وذكرنا تحت عنوان (طول العمر بصورة غير معروفة) أنَّ طول العمر لا يثير إشكالاً إلَّا إذا نُظِرَ إليه ضمن القياسات العاديَّة لا في إطار المشيئة الإلهيَّة التي لا تحكمها القوانين التي تقوم بها أصلاً.
وبقاء الإمام (عجَّل الله فرجه) - بما ذكرناه من الأدلَّة ونظَّرنا لها بمعجزات الأنبياء (عليهم السلام) الخارقة لهذه القوانين - قبلناه على هذا الأساس لا على أساس منطق العلم والتجربة. وأشرنا إلى أنَّ هذا هو السرُّ في اختيار الأئمَّة (عليهم السلام) في التنظير أمثلة من تاريخ الأنبياء (عليهم السلام)، إدراكاً منهم لعدم وجود ما يمكن القياس عليه في المجرى العادي والطبيعي في الحياة، ولنوضع في الإطار نفسه. وذكرنا أنَّ بعض العلماء ساق ليُثبت إمكان طول العمر ووقوعه أمثلة ممَّا ذكر من المعمَّرين، وهو كما قال الشيخ المجلسي (رحمه الله) غير مجدٍ بعد ما ذكرناه، ولعدم إمكان التحقُّق من صحَّة غير ما ذكره القرآن من أخبار الآحاد، ويكفي التنظير بالمسيح (عليه السلام) ونزوله، للإجماع عليه، ولوجود ما يدلُّ عليه في القرآن الكريم كما أشار إليه الكنجي.
وسقنا بالمناسبة ما أثاره بعض الباحثين - وفيهم أعلام - من غيبته وبقائه في السرداب، وبيَّنَّا أنَّه لا أساس له، وأنَّه خلط بما هو جارٍ من زيارة المؤمنين للسرداب والدعاء بتعجيل الفرج له وللمؤمنين.
وفي البحث الثاني تحدَّثنا تحت عنوان (ما الحكمة؟) بافتراض أنَّ السؤال - هنا - يُقصَد به الحكمة من وجود مهدي منتظَر أصلاً بوجهين ينطقان بحاجة البشريَّة لذلك:
الأوَّل: عدم تجاوز البشريَّة لمشاكلها الحادَّة رغم تقدُّمها العلمي، وعدم وجود ما يشير لذلك مستقبلاً.
الثاني: قلَّة ونسبيَّة ما تستطيع أنْ تعرفه من أسرار الكون الهائل السعة والعمق حتَّى في المستقبل، وهو ما يفرض المعلِّم الإلهي دائماً.
وأشرنا - بافتراض أنَّ السؤال قُصِدَ به الحكمة من أنْ يكون هذا المهدي الإمام الثاني عشر - إلى ما أجبنا به في السؤال الأوَّل: لماذا لا يكون المهدي شخصاً آخر؟
أمَّا إذا قُصِدَ به الحكمة من الغيبة الطويلة، فأجبنا بأنَّها انتظار الظرف المهيِّأ لقبول الرسالة الإلهيَّة، وأنَّ ذلك لا يكون إلَّا في آخر ما تبلغه البشريَّة من شوط في النضج والمعرفة.
ودلَّلنا على ذلك بعدم استيعاب الناس ما طرحه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأوصياء من بعده (عليهم السلام) في عصر تأسيس قواعد الرسالة وأُطُرها كما ينبغي، وعدم تجاوبهم معهم نظريًّا وعمليًّا، ممَّا يُحتِّم الغيبة، بانتظار أنْ ينتج من تفاعلهم - مع الواقع التاريخي من جهة، ومع مفاهيم الرسالة من جهة أُخرى - الظرف الملائم لاستيعابها بصورة أفضل، وبالتالي التهيُّؤ لاستقبال الإمام (عجَّل الله فرجه) امتداد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخليفته بالمعنى الأخصّ. وبذلك نفينا أنْ تكون التقيَّة هي السبب للغيبة الكبرى، ورأينا أنَّ طرح بعضهم لها تسامح يقصد به التقيَّة على الرسالة في ظرف لا يقبلها لا التقيَّة الشخصيَّة من قِبَل الإمام (عجَّل الله فرجه)، وقد يكون بعضهم قد نقل ما طرحه الأئمَّة (عليهم السلام) لتفسير الغيبة الصغرى اشتباهاً وخلطاً. وذكرنا أنَّ الغيبة لا تنافي بقاءه حجَّة لله على أهل الأرض، بما أنَّ الغياب لا يمنعه من قيامه بوظيفته في التسديد، والتعليم، والإعانة بما أعطاه الله من وسائل لأداء وظيفته. ولذلك ورد أنَّه (عجَّل الله فرجه) كالشمس من وراء السحاب.
وفي البحث الثالث تحت عنوان (هل يعني ذلك إمكان المشاهدة؟) أجبنا بعدم وجود إشكال في الإمكان عقليًّا وكونيًّا إلَّا من جهة ما ورد عنه (عجَّل الله فرجه) من تكذيب مدَّعي المشاهدة في الغيبة الكبرى، وذكرنا محاولة بعض العلماء تضعيف هذا التوقيع، مع كونه خبراً واحداً، وبذلك لا يصلح - كما رأى - لمقابلة القَصص المتواترة برؤية الإمام (عجَّل الله فرجه)، وإيراد العلماء لهذه القَصص - كما قال - يعني عدم اعتبارهم لهذا التوقيع.
وناقشنا ذلك بنفي ادِّعاء كون الحديث ضعيفاً، وأنَّه من الصحيح وفي أعلى درجات الصحَّة، بل ذهب بعض العلماء إلى القطع بصدوره، لقيام القرينة على ذلك. ونفينا أيضاً أنْ يكون مؤدَّاه - في ما عدا إطلاقه - واحداً بالمعنى اللغوي والعددي الذي قصده لا الأُصولي، لورود أحاديث أُخرى بالمضمون نفسه لكنَّها تستثني مولاه الذي يلي خدمته، أو خاصَّة مواليه الذين هم أخصّ من خاصَّة شيعته، فيكونون خارجين تخصُّصاً كما رأى بعضهم، لأنَّ حجب مَنْ هو خاصَّة غير وارد، وتخصيصاً بحكم هذه النصوص وبها يُقيَّد إطلاق التوقيع السابق.
ثمّ ناقشنا دعوى تواتر مشاهدته بأنَّا قرأنا أكثر من أربعين قصَّة منها، فلم نجد فيها ما يدلُّ على المشاهدة المباشرة للإمام (عجَّل الله فرجه) إلَّا تصوُّر أهلها استناداً لظهور شخص، وصدور كرامة أو معجزة، ومع عدم تشخيص أيٍّ منهم للإمام (عجَّل الله فرجه) من حيث الصورة، فإنَّ من الممكن أنْ يكون ذلك عنه ولأمره لا هو (عجَّل الله فرجه)، فلا تكون دليلاً. بخاصَّة وأنَّ أكثر هذه القَصص تدلُّ على تمثُّل جسم غير مادِّي أصلاً فجأةً، وغيابه فجأةً، وتحوُّله نوراً أحياناً، والاستجابة في كلِّ الأمكنة، وتحت كلِّ ظرف، ممَّا ينفي كونه جسماً بشريًّا مادّيًّا، وتلك هي المشاهدة المنفيَّة، ولذلك فمن المحتمل أنْ تكون الرؤية كشفاً وبالجسم المثالي البرزخي،
فتكون غير داخلة في النفي، إلَّا أنَّ التحقُّق من صحَّتها مع احتمالات الخلط والهلوسة لا يجعلها تُقبَل إلَّا ممَّن لا يدور حولهم الشكُّ عقلاً وعلماً وتقًى.
وذكرنا عمل العلماء بالتوقيع، وما طرحوه من الجمع بينه وبين ما لا مجال لنفيه من القَصص.
وخلصنا إلى أنَّ مدَّعي المشاهدة يُكذَّب في الحالات التالية:
1 - إذا ادَّعى السفارة والتبليغ.
2 - إذا ادَّعى معرفة الإمام حال لقائه به.
3 - إذا كانت دعوى رؤياه بالصورة البشريَّة المادّيَّة.
4 - إذا لم يكن المدَّعي من خاصَّة الموالي.
وفي الفصل الرابع تناولنا تحت عنوان (ولكن متى؟ لا توقيت ولكن ثَمَّة علامات) ما ورد عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) من النهي عن التوقيت، وربطنا ذلك بما ذكرناه من أنَّ ظهوره (عجَّل الله فرجه) منوط بحصول الظرف الذي يتأهَّل فيه العالم لقبول الرسالة الإسلاميَّة بكلِّ أبعادها، والتسليم بمعرفة وقناعة للهدى الإلهي بقيادة آخر الأوصياء (عليهم السلام).
وتقدير الظرف ليس جبريًّا بحكم (اللَّاجبر واللَّاتفويض)، وإنَّما بالأسباب والقوانين المتَّصلة بها في هذا العالم - كما شاء الله لدى خلقه العالم ابتداءً - ليصحَّ التكليف والمسؤوليَّة. وإذا كان في الأسباب ما هو ثابت فإنَّ فيها ما هو متغيِّر، والخيار الإنساني داخل ضمنها من دون شكٍّ. ولذلك فإذا كان بعض هذه الأسباب في موقع المقتضى والشرط فإنَّ بعضها قد يكون بالنسبة إليه في منزلة المانع. وطبقاً لهذه العلاقة بين المقتضيات والشروط والموانع، بما فيها الخيار الإنساني والفاعليَّة الإنسانيَّة، قد يتقدَّم هذا الظرف وقد يتأخَّر، وهو معنى (البداء) كما فسَّره أهل البيت (عليهم السلام).
لذلك لا مجال للإخبارات القاطعة في غير ما هو محتوم، ولهذا السبب نهى الأئمَّة (عليهم السلام) عن التوقيت، أو لأنَّ ظهور الإمام بين يدي الساعة كنذير بعد ختم النبوَّة - كما هو واضح - من الآيات التي تظهر في زمنه، والساعة ترتبط بتقدير كونها تشمل المجموعة الشمسيَّة أو الحجرة، لذلك لا مجال للإخبار بها، وذكروا للظهور وعصره علامات عامَّة وخاصَّة.
ذكرنا بعد أنْ بيَّنا الفرق بينهما في البحث الأوَّل العلامات العامَّة، وفي البحث الثاني العلامات الخاصَّة. ويمكن معرفة ما سقناه في كلٍّ منهما في فهرست الموضوعات.
وفي البحث الثالث تحت عنوان (انتظار الفرج والدعاء بتعجيله) ذكرنا ما وجَّه به الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) شيعتهم من المسلمين لدى اشتداد المحن وتتابع الفتن في ظروف العلامات العامَّة والخاصَّة قبل ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) من انتظار الفرج والدعاء بتعجيله. وقلنا: إنَّ الانتظار تمليه العقيدة لدى المؤمن ببقاء الإمام (عجَّل الله فرجه) وغيبته وظهوره بطبيعتها، وهو بهذا اللحاظ وما يصحبه من مصابرة وتحمُّل للظروف الموضوعيَّة القاسية وانعكاساتها النفسيَّة والمادّيَّة عبادة وجهاد. وهو ما أراد الأئمَّة (عليهم السلام) تأكيده، وبيان قيمته عند الله حين قالوا عن المنتظِر لأمرهم: إنَّه كالمتشحِّط بدمه في سبيل الله، أو كالميِّت في فسطاط المهدي (عجَّل الله فرجه) وعسكره، وهو أيضاً كما أرادوا أنْ يكون حين وجَّهوا إليه نفي للقنوط واليأس، اطمئناناً بوعد الله سبحانه.
أمَّا الدعاء بتعجيل الفرج الذي هو كما قالوا: فرجنا، فلأنَّه من الأسباب الكونيَّة المؤثِّرة في تقدير الظرف المؤهَّل لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) كأيِّ سببٍ كونيٍّ آخر بنصِّ القرآن، (وقد شرحنا معنى السببيَّة لإيضاح دخول الدعاء فيها في الهامش). وناقشنا تحت عنوان (الانتظار لا يعني ترك العمل) ما يتصوَّره
بعضهم من أنَّ الدعوة للانتظار دعوة سلبيَّة وتخديريَّة، بأنَّ الانتظار حالة نفسيَّة طبيعيَّة من الترقُّب لدى المؤمن بمجيء موعود، يلزمها تلقائيًّا الاستعداد - بما هو المفروض المناسب - لاستقباله، ولذلك فهو حافز العمل لا مخدِّر.
الفصل الخامس في البحث الأوَّل أجبنا على سؤال بعضهم: كيف يمكن أنْ ينتصر الإمام (عجَّل الله فرجه) مع تقنيَّات الأسلحة المتطوِّرة لدى الدول الكبرى، وهو مَنْ غاب تقيَّةً في عصر العبَّاسيِّين؟ وناقشنا هذا السؤال ببيان خطأ النظر إلى الإمام (عجَّل الله فرجه) وحركته وإمكانيَّاته بالحسابات التي ينظر فيها للناس الآخرين، وقياس وظيفته وتعامله في الظهور على ما كان في مرحلة إمامته (عجَّل الله فرجه) في عهد التأسيس، وقلنا: إنَّ الإجابة تقتضي أنْ نعود لنتذكَّر ما قلناه في بيان الحكمة من هذه الغيبة، فقد قلنا هناك: إنَّه انتظار للظرف الملائم. ونعني به أوَّلاً أنْ يتهيَّأ العالم بصورة عامَّة في غاية مساره العلمي والعقلي لتقبل الرسالة الإسلاميَّة حين تُطرَح بأبعادها كما أنزلها الله على رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خالية ممَّا ألحقته بها الاجتهادات المختلفة والتطبيقات التاريخيَّة البعيدة، وهناك أكثر من إشارة واقعيَّة للقاء حقيقي بين ما انتهى إليه العلم والفكر وبين أهمّ الركائز التي يقوم عليها الدِّين والدِّين الإسلامي خاصَّة، (أشرنا في الهامش إلى شيء من ذلك).
وذكرنا أنَّ تقدُّم العلم تصحبه موضوعيَّة وسعة أُفُق من شأنهما إيثار الحقِّ والاستجابة له، وسقنا سبعة عوامل تتَّصل بإمكانيَّات الرسالة نفسها من جهة، وما يُعطيه الله للإمام (عجَّل الله فرجه) في عصر الظهور من مدى وقدرات لا يبلغها التصوُّر من جهة ثانية، (وذكرنا ما أشارت إليه الروايات منها)، ثمّ ما لعصر الظهور من خصوصيَّات إيجابيَّة وسلبيَّة (تحدَّثنا عنها) من شأنها أنْ تساعد على هذا النصر من جهة ثالثة. وقلنا: إنَّ هذه العوامل التي تحدَّثنا عنها بتفصيل، بل بعضها كافية للإجابة عن هذا السؤال.
في البحث الثاني تحدَّثنا تحت عنوان (ماذا سيفعل (عجَّل الله فرجه)؟) عمَّا أعطاه أدعياء المهدويَّة لحديث «يَأْتِي بِأَمْرٍ جَدِيدٍ» من معنى محرَّف ينسجم مع ما يحاولونه من هدم الإسلام ونشر البِدَع. وقد ناقشنا ذلك بتفصيل، مبيِّنين مناقضته للثابت من خلود الرسالة، وموقع الإمام (عجَّل الله فرجه) بوصفه وصيًّا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخليفة له، وأشرنا إلى توقُّف العلماء في ما ظاهره النسخ وتفسيرهم له. وأعطينا المعنى الصحيح للحديث في ضوء الواقع من جهة، وما جاءت به الأحاديث عمَّا يفعله الإمام (عجَّل الله فرجه) من جهة ثانية، وخلصنا إلى أنَّ رسالة الإمام (عجَّل الله فرجه) هي رسالة الإسلام نفسها كما أُنزلت على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عارية عن الاجتهادات النظريَّة المختلفة، والتطبيقات التاريخيَّة البعيدة، متَّصلة بما أعطى اللهُ الإمامَ (عجَّل الله فرجه) من إمكانات استثنائيَّة خاصَّة في صورة التطبيق ومداه.
وفي البحث الثالث تحت عنوان (الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وعقيدة الرجعة) ذكرنا ارتباط هذه العقيدة بالإمام (عجَّل الله فرجه) أمراً وشخصاً وزماناً، وذكرنا الآراء الثلاثة المطروحة فيها.
والأوَّل يرى أنَّها تعني رجوع أمر أهل البيت (عليهم السلام) لا رجوع بعض الأموات، وذكرنا ما حملهم على هذا الرأي، وأبطلناه. وأوردنا ما قاله العلماء من أنَّ ما ورد في الرجعة نصوص لا تقبل التأويل.
والرأي الثاني يرى أنَّها تعني رجوع الإمام (عليه السلام) نفسه كعيسى (عليه السلام) الذي لا خلاف بين المسلمين في رجوعه مع أنَّه قد توفَّاه الله، وسقنا ما ذُكِرَ من عدم منافاة هذا الرأي لحياة الإمام (عليه السلام) طبقاً للمفهوم الحقيقي للحياة الذي لا ينافيه الموت بمعناه الذي يعني الانتقال لا بالمعنى العامِّي الشائع من الانقطاع، وأنَّ ذلك لا ينافي أيضاً استمرار مهمَّته في الإمامة التي تعني التوجيه والتسديد والتعليم، للصلة المفتوحة بين أهل السماء والأرض، وكما
هو جبرئيل بالنسبة للرُّسُل (عليهم السلام). وناقشنا ذلك بمنافاته لبقاء التكليف، ولصريح بعض الروايات.
وذكرنا رأياً آخر فحواه أنَّ هذا الموت ليس طبيعيًّا وإنَّما هو إرادي، وهو معروف في تاريخ الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) باسم العروج، ومعروف لدى الحكماء أيضاً وفي الدراسات البارسايكوجيَّة الحديثة باسم الخروج الواعي أو الإرادي من الجسد. ونزع البدن إراديًّا والعودة إليه لا ينافي بقاء الإمام (عليه السلام) في الأرض، وحياته بالصورة المادّيَّة فيها. وهو ما يُفسِّر لنا استجابته لمن شاء الله في أيِّ ظرف وأيِّ مكان، وتمثُّله فجأةً وغيابه فجأةً، ولكن ذلك لا يجعل للرجعة معنًى يتَّصل بشخصه، لأنه لا يختلف عن الرأي المشهور.
أمَّا الرأي الثالث، وهو الذي يدخل ضمن: (ما الذي سيفعل (عجَّل الله فرجه)؟)، ويعني رجوع بعض المؤمنين وبعض الكافرين في زمنه (عجَّل الله فرجه) كآية عظيمة بين يدي الساعة، ومصداق لمعنى كونه النُّذُر الأكبر، وقد ذكرنا أنَّ إنكارها والتشنيع على من يعتقد بها لا يقوم على اعتقاد عدم وقوعها تحت القدرة وإلَّا كان كفراً بالله وبالمعاد الذي هو أصل أساس لدى كلِّ المسلمين، ولا على عدم وقوع الرجعة في التاريخ السابق، لورود آيات عديدة تنصُّ على هذا الوقوع سقنا عدداً منها، وإنَّما على عدم الانتباه إلى أدلَّة وقوعها في المستقبل وفي زمن الإمام (عجَّل الله فرجه). ثمّ ذكرنا عدداً من الآيات التي لا مجال لفهمها بغير الرجعة بصورتها الجزئيَّة مستقبلاً، ثم ما ورد متواتراً عن أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك.
ومع مثل هذه الأدلَّة التي يكفي بعضها لجعل مسألة الرجعة قائمة بوصفها مسألة من ضمن ما جاء به الدِّين شأن كثير من المسائل الأُخرى التي يدين بها المسلمون ممَّا لا تملك أحياناً جزءاً ممَّا تملكه الرجعة من أدلَّة الإثبات، يكون التشهير بها وإسقاط عدالة معتقدها - كما فعل بعضهم - موقف تعصُّب
وانسياق تقليدي مع أقوال قديمة أفرزها الصراع المذهبي لا يرجعان إلى أساس من دين وموضوعيَّة وعدل.
النجف الأشرف
عدنان عليّ البكَّاء الموسوي
الفصل الأوَّل: الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عقيدة إسلاميَّة
تمهيد:
البحث الأوَّل:
المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من عقائد أهل السُّنَّة.
البحث الثاني:
موقع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من الرسالة وفي أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام).
البحث الثالث:
أهل الكشف من الصوفيَّة يوافقون الإماميَّة في شأن المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
تمهيد:
الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وبأنَّه من أهل البيت (عليهم السلام)، من ذرّيَّة عليٍّ وفاطمة (عليهما السلام)، وسيخرج في آخر الزمان، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً، عقيدة إسلاميَّة لا شيعيَّة فقط كما قد يتصوَّر بعضهم، وقد نصَّ عدد كبير من علماء السُّنَّة على أنَّ ذلك من عقائد أهل السُّنَّة، أو نصُّوا على تواتر الأحاديث الواردة فيه، وذلك يعني أيضاً حتميَّة الاعتقاد به، لأنَّ التواتر يوجب العلم. بل لم يخالف في ذلك منهم إلَّا من لا عبرة برأيه في علم الحديث عندهم كابن خلدون المتوفَّى (808هـ)، ومع ذلك فقد اعتبرها من المشهور بين الكافَّة من أهل الإسلام على ممرِّ الأعصار، واعترف بصحَّة بعض ما ورد من الأحاديث فيه.
فقال في مقدَّمة تاريخه: (اعلم أنَّ في المشهور بين الكافَّة من أهل الإسلام على ممرِّ الأعصار أنَّه لابدَّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يُؤيِّد الدِّين، ويُظهِر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلاميَّة، ويُسمَّى بالمهدي، ويكون خروج الدجَّال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأنَّ عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجَّال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتمُّ بالمهدي في صلاته، ويحتجُّون في الشأن بأحاديث خرَّجها الأئمَّة، وتكلَّم فيها المنكرون لذلك، وربَّما عارضوها ببعض الأخبار، وللمتصوِّفة المتأخِّرين في أمر هذا الفاطمي طريقة أُخرى، ونوع من الاستدلال،
وربَّما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم)(22)، وحاول ابن خلدون مناقشة سند بعض ما ورد من تلك الأحاديث، واحتجَّ بعدم رواية البخاري ومسلم لها.
ولم يُقدِّم مَنْ قلَّد ابن خلدون في ذلك أدلَّة مضافة، لذلك ستكون مناقشة ما استند إليه ابن خلدون في التشكيك مناقشة لهم كذلك.
وقفة مع المشكِّكين:
قالوا: (ابن خلدون قفا ما ليس له به علم)، وقد تعرَّض ابن خلدون بسبب ذلك إلى هجوم ماحق من قِبَل علماء السُّنَّة قبل الشيعة، وردُّوا على ما أثاره من وجوه التشكيك، فقال الشيخ عبد المحسن العبَّاد في الردِّ على مَنْ كذَّب بالأحاديث الصحيحة في المهدي (عليه السلام) (ص 28)، وهو يردُّ على الشبهة التي أثارها ابن خلدون:
والجواب:
أوَّلاً: أنَّ ابن خلدون اعترف بسلامة بعضها من النقد، إذ قال بعد إيراد الأحاديث في المهدي (عليه السلام): (فهذه جملة الأحاديث التي خرَّجها الأئمَّة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان، وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلَّا القليل والأقلّ منه)(23).
على أنَّ ابن خلدون فاته الشيء الكثير من الأحاديث، يعني أنَّه أورد بعض ما ورد في المهدي من الأحاديث، وأوهم قارئه في عبارته السابقة أنَّه أورد جملتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(22) تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 311).
(23) تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 322).
ثانياً: أنَّ ابن خلدون مؤرِّخ وليس من رجال الأحاديث، فلا يُعتَدُّ به في التصحيح والتضعيف(24).
ووافقه في ذلك الشيخ محمّد جعفر الكتَّاني في نظم المتناثر (ص 146)، والشيخ جسوس في (شرح الرسالة)، فأكَّدا عدم الاعتداد بابن خلدون في علم الحديث، وعدم الاعتناء بتصحيحه وتضعيفه(25).
ومثلهم في ذلك الشيخ أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث مسند أحمد بن حنبل، فقال: (أمَّا ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قحماً لم يكن من رجالها)، وقال: (إنَّ ابن خلدون لم يُحسِن [فهم] قول المحدِّثين: الجرح مقدَّم على التعديل، ولو اطَّلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئا ممَّا قال)(26).
وذكروا أنَّ مَنْ يعتدَّ بهم في الرواية والدراية قد رووا هذه الأحاديث وقالوا بصحَّة الكثير منها، وذكروا منهم أصحاب السُّنَن الأربعة (الترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وأبي داود)، وأحمد بن حنبل في (المسند)، والطبراني في (المعجم)، وابن حبَّان، والبيهقي في (السُّنَن)، والحاكم في (المستدرك).
وذكر الشيخ مهيب البوريني في مقدَّمته(27) لكتاب (عقد الدُّرَر في أخبار المهدي المنتظَر) للسلمي، المتوفَّى سنة (685هـ)، ممَّن خرج هذه الأحاديث من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(24) مقدَّمة عقد الدُّرَر (ص 17).
(25) راجع: نظم المتناثر من الحديث المتواتر (ص 228).
(26) مسند أحمد (ج 5/ شرح ص 197).
(27) مقدَّمة الشيخ مهيب بن صالح البوريني لكتاب عقد الدُّرَر في أخبار المهدي المنتظَر للعلَّامة يوسف بن يحيى المقدسي السلمي الشافعي، المتوفَّى سنة (685هـ)، وهو ما تقدَّم به في (20/5/1398هـ) إلى قسم الدراسات العليا في جامعة الإمام محمّد بن سعود في الرياض تحقيقاً وتخريجاً رسالةً للماجستير.
الأعلام بدءاً من أوائل القرن الثالث حتَّى منتصف القرن الرابع عشر (52) محدِّثاً، مشيراً إلى كُتُبهم التي خرَّجوها فيها، ومنهم عدا مَنْ ذكرناهم آنفاً:
1 - أبو عبد الله نعيم بن حمَّاد، المتوفَّى سنة (228هـ)، في (الفتن).
2 - يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني، المتوفَّى سنة (228هـ)، في (مسنده).
3 - ابن سعد، المتوفَّى سنة (230هـ)، في (الطبقات).
4 - ابن أبي شيبة، المتوفَّى سنة (235هـ)، في (مصنَّفه).
5 - الحارث بن أبي أُسامة، المتوفَّى سنة (282هـ)، في (مسنده).
6 - البزَّار، المتوفَّى سنة (292هـ)، في (مسنده).
7 - أبو يعلى، المتوفَّى سنة (307هـ)، في (مسنده).
8 - الروياني المتوفَّى سنة (307هـ)، في (مسنده).
9 - ابن جرير الطبري، المتوفَّى سنة (310هـ) في (تهذيب الآثار).
10 - ابن المنادي، المتوفَّى سنة (336هـ)، في (الملاحم).
11 - ابن حبَّان، المتوفَّى سنة (354هـ)، في (صحيحه).
12 - الدارقطني، المتوفَّى سنة (385هـ)، في (الإفراد).
13 - الخطَّابي، المتوفَّى سنة (388هـ)، في (معالم السُّنَن).
14 - الرازي، المتوفَّى سنة (414هـ)، في (الفوائد).
15 - أبو نعيم الأصفهاني، المتوفَّى سنة (430هـ)، في (حلية الأولياء) وكتاب (المهدي).
16 - أبو عمر الداني المقرئ، المتوفَّى سنة (458هـ)، في (سُنَنه).
17 - القاضي عياض، المتوفَّى سنة (544هـ)، في كتاب (الشفاء).
18 - ابن عساكر، المتوفَّى سنة (571هـ)، في (تاريخه).
19 - ابن الجوزي، المتوفَّى سنة (597هـ)، في (تاريخه).
20 - القرطبي، المتوفَّى سنة (671هـ)، في (التذكرة).
21 - ابن تيميَّة، المتوفَّى سنة (728هـ)، في (منهاج السُّنَّة).
22 - أبو الحجَّاج المزِّي، المتوفَّى سنة (742هـ)، في (تهذيب الكمال).
23 - الذهبي، المتوفَّى سنة (742هـ)، في (المستدرك).
24 - ابن قيِّم، المتوفَّى سنة (751هـ)، في (المنار المنيف).
25 - ابن كثير، المتوفَّى سنة (774هـ)، في (تفسيره) وفي (الفتن والملاحم).
26 - ابن حجر العسقلاني، المتوفَّى سنة (852هـ)، في (فتح الباري) و(تهذيب التهذيب).
27 - السخاوي، المتوفَّى سنة (902هـ)، في (فتح المغيث).
28 - والسيوطي، المتوفَّى سنة (911هـ)، في (العرف الوردي).
29 - والسمهودي، المتوفَّى سنة (911هـ)، في (جواهر العقدين).
30 - المناوي، المتوفَّى سنة (1032هـ) في (فيض القدير).
وآخرون كثيرون غيرهم(28).
ثالثاً: ردُّوا محاولته الاستدلال بعدم تخريج الشيخين البخاري ومسلم لأحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأنَّها لو كانت صحيحة عندهما لخرَّجاها بأمرين:
الأوَّل: أنَّ الشيخين (البخاري ومسلم) - كما قال النووي في مقدَّمة شرحه لصحيح مسلم - (لم يلتزما باستيعاب الصحيح، بل صحَّ عنهما تصريحهما بأنَّهما لم يستوعباه، وإنَّما قصدا جمع جُمَل من الصحيح، كما يقصد المصنِّف في الفقه جمع جملة من مسائله لا أنَّه يحصر جميع مسائله)(29).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) مقدَّمة عقد الدُّرَر (ص 20 - 22).
(29) شرح صحيح مسلم للنووي (ج 1/ ص 24).
وقد روى الحافظ ابن حجر في مقدَّمة (فتح الباري) عن الإسماعيلي، عن البخاري أنَّه قال: (لم أُخرِّج في هذا الكتاب إلَّا صحيحاً، وما تركت من الصحيح أكثر)(30).
وأكَّد أبو عمر بن الصلاح أنَّ البخاري ومسلم لم يستوعبا الصحيح في صحيحيهما ولا التزما ذلك، وذكر مضمون الكلمة التي نقلها ابن حجر عنه وقال: (وروينا عن مسلم أنَّه قال: ليس كلُّ شيء عندي صحيح وضعته هاهنا - يعني في كتابه الصحيح - إنَّما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه)(31).
ويكفي شاهداً على ذلك ما استدركه الحاكم النيسابوري عليهما في كتابه (المستدرك) من الأحاديث التي تتوفَّر في أسانيدها شروطهما ولم يُخرِّجاها، وأحاديث المهدي منها.
وما ذكرناه من العلماء الذين خرَّجوها وصحَّحوا الكثير منها ما يكفي في ردِّ هذا الاستدلال.
الثاني: أنَّ بعض الأحاديث الواردة في المهدي أو المتَّصلة به اتِّصالاً لا يمكن فصمه موجودة في الصحيحين، كالحديث الذي رواه البخاري في كتاب بدء الخلق عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ؟»(32).
وكالحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب نزول عيسى، عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(30) مقدَّمة فتح الباري (ص 5).
(31) علوم الحديث (ص 20).
(32) صحيح البخاري (ج 5/ ص 401/ باب نزول عيسى بن مريم (عليهما السلام)/ ح 3087)؛ ورواه مسلم في صحيحه (ج 1/ ص 94/ باب بيان نزول عيسى بن مريم (عليه السلام))، وقد وردت أحاديث أُخرى بهذا المعنى في كلٍّ من البابين المذكورين.
جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه)، قال: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»، قَالَ: «فَيَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام)، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاء، تَكْرِمَةً لِهَذِهِ الأُمَّةَ»(33).
وقد سُمِّي هذا الأمير في أحاديث أُخرى، والأحاديث يُفسِّر بعضها بعضاً، ومن عسى يمكن أنْ يكون هذا الإمام إلَّا المهدي (عجَّل الله فرجه) كما شخَّصته الروايات المتواترة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته وأصحابه؟
وقد ساق من يُعتَدُّ بهم في رواية الحديث أسماء خمسة وعشرين صحابيًّا أُخرجت عنهم أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه).
وقد ألَّف العلَّامة المحدِّث أحمد بن محمّد بن الصدِّيق الغماري المغربي المتوفَّى سنة (1960م) كتاباً بعنوان (إبراز الوهم المكنون من كلام ابن خلدون)، المسمَّى (المرشد المبدي في فساد طعن ابن خلدون في أحاديث المهدي (عليه السلام))، وقد طُبِعَ هذا الكتاب بمطبعة الترقِّي بدمشق سنة (1347هـ).
وفي كتابه (عليُّ بن أبي طالب إمام العارفين) اتَّهم ابن خلدون بأنَّ تشكيكه لم يكن إلَّا تعصُّباً على أهل البيت (عليهم السلام)، فقال - وقد تحدَّث قبل ذلك عن أحد العلماء وموقفه المتعصِّب على آل البيت (عليهم السلام) وهو ابن تيميَّة -: (ومثله في الخبث والنفاق ابن خلدون وإنْ لم يكن عنده من الجرأة ما يساعده على نفث ما في صدره، والتصريح بكلِّ ما يحمله من طيَّات جنبه...)، إلى أنْ يقول: (ثمّ هو مع ذلك لا يجد سبيلاً إلى نفي فضيلة عن عليٍّ وآل بيته الأطهار، أو إلصاق عيب وخطأ بهم إلَّا بادر إلى ذلك، كما صنع هنا، وكما صنع في أحاديث المهدي المنتظَر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) صحيح مسلم (ج 1/ ص 95/ باب بيان نزول عيسى بن مريم (عليه السلام)).
فراراً من إثبات كون المجدِّد الذي يُحيي الله به الدِّين آخر الزمان من آل عليٍّ (عليه السلام)، وعلَّل ذلك - يعني ابن خلدون - بأنَّ آل البيت لم تبقَ لهم عصبيَّة، والملك لا يقوم إلَّا بها)، وردَّ عليه هذا الرأي ردًّا مفحماً(34).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(34) عليُّ بن أبي طالب إمام العارفين (ص 57 - 59).
البحث الأوَّل: المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من عقائد أهل السُّنَّة
نصَّ على أنَّ الإيمان بخروج الإمام المهدي المنتظَر من آل البيت (عليهم السلام) من عقائد أهل السُّنَّة، أو ممَّا تواترت به الأخبار، أو نصَّ على صحَّتها عدد كبير من علماء أهل السُّنَّة، ولم يناقش في ذلك إلَّا من لا شأن له عندهم في علم الحديث كما تقدَّم.
ومن هؤلاء: الحسن بن عليٍّ البربهاري الحنبلي، المتوفَّى سنة (339هـ)، في عقيدته المثبتة ضمن ترجمته من كتاب (طبقات الحنابلة) لابن أبي يعلى الحنبلي(35).
ومنهم: أبو الحسين الآبري السجستاني محمّد بن الحسين، المتوفَّى سنة (363هـ)، قال في كتابه (مناقب الإمام الشافعي): (قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمجيء المهدي، وأنَّه من أهل بيته).
قال الشيخ مهيب البوريني في مقدَّمته: (نقل هذا عنه الإمام ابن القيِّم في كتابه (المنار المنيف)(36) وسكت عنه - يعني أنَّه لم يجد اعتراضاً -، وكذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج 6/ ص 493)(37)، وفي (تهذيب التهذيب) في ترجمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(35) طبقات الحنابلة (ج 2/ ص 20).
(36) المنار المنيف (ص 140).
(37) فتح الباري (ج 6/ ص 358).
محمّد بن خالد الجندي، نقله وسكت عليه(38)، ومثلهما القرطبي في (التذكرة في أحوال الموتى وأُمور الآخرة)(39)، وأبو الحجَّاج المزِّي في كتابه (تهذيب الكمال)(40)، والسيوطي في (العرف الوردي في أخبار المهدي)(41)، ومرعي بن يوسف الكرمي في (فوائد الفكر)(42) كما نقل عنه صدِّيق حسن في (الإذاعة)(43))(44).
ومن هؤلاء: ابن تيميَّة، توفَّى سنة (728هـ)، فقد قال: (إنَّ الأحاديث التي يُحتَجُّ بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة، رواها أبو داود، والترمذي، وأحمد، وغيرهم)، ثمّ قال: (وهذه الأحاديث غَلِطَ فيها طوائف)، وذكر منهم من احتجَّ بحديث أورده ابن ماجة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «لَا مَهْدِيَّ إِلَّا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ»، قال: (وهذا الحديث ضعيف، وقد اعتمد أبو محمّد بن الوليد البغدادي وغيره عليه، وليس ممَّا يُعتمَدُ عليه)(45).
ومن هؤلاء: أحمد بن السرور بن الضياء الحنفي مفتي الأحناف في مكَّة في إجابته على سؤال وُجِّه إليه سنة (952هـ) وإلى المفتين الآخرين لبقيَّة المذاهب السُّنّيَّة الأربعة: (المالكي، والشافعي، والحنبلي) لدى خروج متمهدي في الهند اسمه محمّد بن يوسف الحسيني الجونيوري، وادَّعى أنَّه المهدي، وأنَّ من أنكره فقد كفر، فاتَّبعه كثير من الناس فُتِنُوا به حتَّى توفَّى سنة (910هـ)، فأفتى في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38) تهذيب التهذيب (ج 9/ ص 126/ الرقم 202).
(39) التذكرة في أحوال الموتى وأُمور الآخرة (ج 2/ ص 331).
(40) تهذيب الكمال (ج 25/ ص 149/ الرقم 5181).
(41) العرف الوردي (ص 176).
(42) فرائد فوائد الفكر (ص 339).
(43) الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة (ص 183).
(44) مقدَّمة عقد الدُّرَر (ص 13).
(45) منهاج السُّنَّة (ج 8/ ص ٢٥٤ - 256).
الإجابة بوجوب قمع هذه الطائفة أشدّ القمع، لبطلان عقيدتهم بمخالفتها (ما وردت به النصوص الصحيحة والسُّنَن الصريحة التي تواترت الأخبار بها واستفاضت بكثرة رواتها من أنَّ المهدي الموعود بظهوره في آخر الزمان يخرج مع سيِّدنا عيسى (على نبيِّنا وعليه السلام)، ويساعد سيِّدنا عيسى على قتل الدجَّال، وأنَّه تكون له علامات قبل ظهوره، منها: السفياني، وخسوف القمر في شهر رمضان، وورد أنَّه يُخسَف في شهر رمضان مرَّتين، وكسوف الشمس في نصف رمضان على خلاف ما جرت به العادة عند حساب النجوم...) إلخ.
وأفتى فقيه المالكيَّة محمّد بن الحطَّاب المالكي، المتوفَّى سنة (954هـ)، فقال: (اعتقاد هؤلاء الطائفة في الرجل الميِّت (كان قد تُوفّي منذ 42 عاماً) أنَّه المهدي الموعود بظهوره في آخر الزمان باطل، للأحاديث الصحيحة الدالَّة على صفة المهدي وصفة خروجه وما يتقدَّم بين يدي ذلك من الفتن)، وذكر شيئاً منها، ثمّ قال: (والأحاديث الدالَّة على كون المهدي يملك الأرض...) إلخ.
وأفتى فقيه الشافعيَّة الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي، المتوفَّى سنة (973هـ)، فقال: (اعتقاد هؤلاء الطائفة باطل قبيح، وجهل صريح، وبدعة شنيعة، وضلالة قطعيَّة)، ثمّ ذكر مستنده في ذلك، والأوَّل منه: (مخالفته لصرايح الأحاديث المستفيضة المتواترة بأنَّه من أهل بيت النبيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، وأنَّه يملك الأرض شرقها وغربها، ويملأها عدلاً لم يُسمَع بمثله، وأنَّه يخرج مع عيسى (عليه السلام) فيساعده على قتل الدجَّال...) إلخ.
وأفتى فقيه الحنابلة يحيى بن محمّد الحنبلي، المتوفَّى سنة (963هـ)، فقال: (لا ريبة في فساد هذا الاعتقاد، لما اشتمل عليه من مخالفة الأحاديث الصحيحة بالعناد، فقد صحَّ عنه (عليه الصلاة والسلام) كما رواه الثقات عن الرواة الأثبات أنَّه أخبر بخروج المهدي في آخر الزمان، وذكر مقدَّمات لظهوره، وصفات في
ذاته، وأُمور تقع في زمانه، من أعظمها ما لا يمكن لأحد دعوى أنَّه وقع، وهو نزول عيسى (صلوات الله على نبيِّنا وعليه) في زمانه واجتماعه به وصلاته خلفه، وخروج الدجَّال وقتله...) إلخ(46).
ومن هؤلاء: محمّد السفاريني الحنبلي، المتوفَّى سنة (1188هـ)، قال في كتابه لوامع الأنوار البهيَّة (ج 2/ ص 84): (وقد كثرت بخروجه الروايات حتَّى بلغت حدَّ التواتر المعنوي...، فالإيمان بخروج المهدي واجب كما هو مقرَّر عند أهل العلم، ومدوَّن في عقائد أهل السُّنَّة والجماعة)(47).
ومن هؤلاء: محمّد البرزنجي، المتوفَّى سنة (1103هـ)، قال في كتابه الإشاعة لأشراط الساعة (ص 112): (قد علمت أنَّ أحاديث [وجود] المهدي وخروجه آخر الزمان، وأنَّه من عترة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) من ولد فاطمة (عليها السلام) بلغت حدَّ التواتر المعنوي، فلا معنى لإنكارها)(48).
ومنهم: العلَّامة القاضي الشوكاني، المتوفَّى سنة (1250هـ)، في كتابه (التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظَر والدجَّال والمسيح) قال بعد أنْ ساق الأحاديث الواردة في ذلك: (فتقرَّر أنَّ الأحاديث الواردة في المهدي المنتظَر متواترة)، وقال: (إنَّ ما أمكن الوقوف عليه من الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خمسون حديثاً، وأمَّا الآثار عن الصحابة المصرِّحة بالمهدي فهي كثيرة جدًّا)، وقال: (إنَّ لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك).
ومنهم: الشيخ صدِّيق حسن القنَّوجي، المتوفَّى سنة (1307هـ)، في كتابه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(46) البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص 177 - 183/ الباب 13).
(47) لوامع الأنوار البهيَّة (ج 2/ ص 112).
(48) الإشاعة لأشراط الساعة (ص 215 و216).
الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة (ص 112)، قال: (والأحاديث الواردة في المهدي على اختلاف رواياتها كثيرة جدًّا تبلغ حدَّ التواتر)(49).
وقال في (ص 145): (لا شكَّ في أنَّ المهدي يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام، لما تواتر من الأخبار في الباب، واتَّفق عليه جمهور الأُمَّة خلفاً عن سلف إلَّا من لا يُعتَدُّ بخلافه...، فلا معنى للريب في ذلك الفاطمي الموعود المنتظَر المدلول عليه بالأدلَّة، بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلى حدِّ التواتر)(50).
ومنهم: الشيخ محمّد بن جعفر الكتَّاني، المتوفَّى سنة (1345هـ)، قال: (إنَّ الأحاديث الواردة فيه على اختلاف رواياتها كثيرة جدًّا تبلغ حدَّ التواتر)(51)، وقد ذكرنا ذلك في مناقشته لابن خلدون(52).
وقال الباحث السعودي الشيخ جاسم بن محمّد الياسمين في تعريفه لكتاب (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان) الذي قام بدراسته وتحقيقه: (تتأكَّد قضيَّة المهدي باعتبارها قضيَّة عقيديَّة من عقائد أهل السُّنَّة والجماعة، كما أشار إلى ذلك السفاريني في (لوامع الأنوار)، ولثبوت الأحاديث واستفاضتها حتَّى بلغت حدَّ التواتر المعنوي المفيد للقطع واليقين بمجيء الموعود).
وذكر الباحث المذكور في مقدَّمته (أنَّ الشيخ عليَّ بن حسام المشهور بالمتَّقي الهندي الحنفي صاحب (كنز العُمَّال) قد أورد في كتابه (البرهان) حشداً عظيماً من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(49) الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة (ص 149).
(50) الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة (ص 182 و183).
(51) نقلاً عن مقدَّمة عقد الدُّرَر (ص 53 و54).
(52) قد تقدَّم في (ص 55)، فراجع.
الأحاديث والآثار في موضوع المهدي حتَّى بلغت (274 مائتين وأربعة وسبعين) حديثاً وأثراً)(53).
هذا ما يتَّصل بقضيَّة المهدي (عجَّل الله فرجه) بوصفها عقائديَّة لدى المسلمين من أهل السُّنَّة.
أمَّا الشيعة الإماميَّة الاثنا عشرية فإنَّ القضيَّة لديهم، من حيث الموقع العقائدي، ومن حيث الأحاديث الواردة فيها، تتجاوز ذلك. فهي من حيث الموقع تتَّصل بأصل من أُصول الإيمان لديهم وهو (الإمامة). أمَّا الأحاديث الواردة فيه فتتواصل رواياتها عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، عدا ما ورد عن الصحابة (رضوان الله عليهم) في ما يتَّصل به اسماً وصفةً ودوراً وآباءً وأُمًّا وعلامات ودلائل إمامة حتَّى تصل إلى الآلاف.
وقد أحصى العلَّامة الباحث المحقِّق الشيخ لطف الله الصافي في كلِّ باب ورد في الفصول الأوَّل والثاني والثالث والرابع من كتابه (منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر) عدد ما أورده فيه من الأحاديث، وقد جمعت ما أشار إليه في هذه الأبواب في الفصلين الأوَّل والثاني والأبواب الثلاثة من الفصل الثالث، فكان مجموع الأحاديث المنتخبة ممَّا رواه السُّنَّة والشيعة في ذلك (5303 خمسة آلاف وثلاثمائة وثلاثة أحاديث)(54).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(53) البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ج 2/ ص 473).
(54) قد يقال: إنَّ هذا العدد مبالغ فيه إذا قيس إلى أعداد الأحاديث المهدويَّة.
وهو صحيح نسبيًّا إذا تمَّ ملاحظة الأحاديث المرويَّة في أُمَّهات الكُتُب، فإنِّها لا تصل إلى هذا العدد. إلَّا أنَّه يمكن أنْ يقال: إنَّ الرقم المذكور لوحظ فيه معلومات الروايات، وكلُّ رواية تحوي العشرات من المعلومات المهدويَّة، وبلحاظ هذه المعلومة تكون رواية، وبلحاظ تلك المعلومة هي رواية أُخرى، وهكذا. وهذا لا مانع منه على جواز تقطيع الروايات، لأجله اقتضى التنبيه.
ولكن القضيَّة الهامَّة التي هي موضع الخلاف في ذلك بين المسلمين تتلخَّص في الإجابة عن السؤال التالي:
من هو المهدي؟ ومتى وُلِدَ؟
القدر الذي يشترك في الإيمان به أغلب المسلمين - سُنَّةً وشيعةً -، ويشتركون في تخريج الروايات به في شأن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، هو أنَّه رجل من أهل بيت النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(55).
وأنَّه من ذرّيَّة عليٍّ وفاطمة (عليهما السلام)(56).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(55) الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 232)، المصنَّف لابن أبي شيبة (ج 8/ ص 678/ ح 190)، مسند أحمد (ج 2/ ص 74/ ح 645)، التاريخ الكبير للبخاري (ج 1/ ص 317/ ح 994)، سُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 1367/ ح 4085)، ضعفاء العقيلي (ج 4/ ص 466)، الكامل لابن عدي (ج 7/ ص 185)، طبقات المحدِّثين بأصبهان (ج 1/ ص 380)، العسل المصفَّى (ج 1/ ص 393/ ح 258)، مستدرك الحاكم (ج 4/ ص 557)، تاريخ أصبهان (ج 1/ ص 209)، حلية الأولياء (ج 3/ ص 177)، البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 487)، التذكرة في أحوال الموتى وأُمور الآخرة (ج 2/ ص 330)، عقد الدُّرَر (ص 21 و33 و46 و135 و158)، فرائد السمطين (ج 2/ ص 330 و331/ ح 580 و583)، تهذيب الكمال (ج 31/ ص 181)، ميزان الاعتدال (ج 4/ ص 359)، تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 315 و318)، أسنى المطالب (ص 129)، تهذيب التهذيب (ج 11/ ص 152)، العرف الوردي (ص 79 و80 و81/ ح 2 و5)، الجامع الصغير (ج 2/ ص 672/ ح 9243)، الدُّرُّ المنثور (ج 6/ ص 58)، جواهر العقدين (ج 2/ ص 190)، الصواعق المحرقة (ص 163 و237)، القول المختصر (ص 115 و116).
(56) الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 231)، التاريخ الكبير للبخاري (ج 3/ ص 346، وج 8/ ص 406)، سُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 1368/ ح 4086)، سُنَن أبي داود (ج 2/ ص 310/ ح 4284)، الملاحم لابن المنادي (ص 179/ ح 120/7)، مقاتل الطالبيِّين (ص 98)، المعجم الكبير للطبراني (ج 23/ ص 267)، العسل المصفَّى (ج 1/ ص 371/ ح 251)، مستدرك الحاكم (ج 4/ ص 557)، تاريخ مدينة دمشق (ج 19/ ص 475)، مناقب آل محمّد (ص 71)، البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 486)، ذخائر العقبى (ص 136)، عقد الدُّرَر (ص 15 و21)، تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 314)، العرف الوردي (ص 81/ ح 6، وص 118/ ح 84 و85)، الدُّرُّ المنثور (ج 6/ ص 58)، الجامع الصغير (ج 2/ ص 672/ ح 9241)، سُبُل الهدى والرشاد (ج 10/ ص 173)، الصواعق المحرقة (ص 163 و237)، القول المختصر (ص 116 و131 و149 و150)، كنز العُمَّال (ج 12/ ص 105/ ح 34208، وج 14/ ص 264 و591/ ح 38662 و39675)، البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص 89 و94 و95/ باب 2/ ح 2 و17 و20 و22 و23).
يخرج في آخر الزمان وقد مُلِئَت الأرض ظلماً وجوراً، فيملأها قسطاً وعدلاً(57).
وأنَّ المسيح ينزل فيُصلِّي خلفه في بيت المقدس، ويجاهد معه(58).
وأنَّ اسمه اسم النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (محمّد)(59).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(57) تذكرة الخواصِّ (ص 325)، عقد الدُّرَر (ص 32)، فرائد فوائد الفكر (ص 171).
(58) الفتن لنعيم بن حمَّاد في الفتن (ص 230)، المصنَّف لابن أبي شيبة (ج 8/ ص 679/ ح 195)، صحيح البخاري (ج 5/ ص 400 و401/ باب نزول عيسى بن مريم (عليهما السلام))، صحيح مسلم (ج 1/ ص 94 و95/ باب بيان نزول عيسى بن مريم (عليه السلام))، عقد الدُّرَر (ص 17 و18 و231)، البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 497)، العرف الوردي (ص 113 و160/ح 71 و218)، جواهر العقدين (ج 2/ ص 194)، القول المختصر (ص 153).
وقد مرَّ في (ص 53) ما نقله ابن خلدون عن المشهور بين الكافَّة من أهل الإسلام في مختلف الأعصار، فراجع.
(59) الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 231 و243 و292 و425)، الملاحم لابن المنادي (ص 256/ ح 206/11).
وأنَّه يشبهه خَلقاً(60).
وأنَّه - لدى خروجه - يكون جبرئيل (عليه السلام) على مقدَّمته أو عن يمينه، وميكائيل (عليه السلام) على ساقته أو عن يساره(61).
وأنَّ غمامة على رأسه تُظَلِّله، ومَلَك ينادي: هذا المهدي خليفة الله فاتَّبعوه(62).
وتطلع قبله مع الشمس آية(63).
ثمّ اختلفوا - بعد ذلك - في أنَّه من ذرّيَّة الحسن أو من ذرّيَّة الحسين(64).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(60) سُنَن أبي داود (ج 2/ ص 311/ ح 4290)، عقد الدُّرَر (ص 24 و31)، تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 313)، العرف الوردي (ص 88/ ح 14)، الدُّرُّ المنثور (ج 6/ ص 58)، جواهر العقدين (ج 2/ ص 190)، سُبُل الهدى والرشاد (ج 2/ ص 117)، الصواعق المحرقة (ص 237)، القول المختصر (ص 118)، كنز العُمَّال (ج 13/ ص 647/ ح 37636)، فرائد فوائد الفكر (ص 225).
(61) عقد الدُّرَر (ص 65 و84 و117 و136)، العرف الوردي (ص 163/ ح 224)، القول المختصر (ص 155)، البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص 77/ باب 1/ ح 16).
(62) البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 511)، عقد الدُّرَر (ص 135)، ميزان الاعتدال (ج 2/ ص 679)، العرف الوردي (ص 97/ ح 30)، تاريخ الخميس (ج 2/ ص 288)، القول المختصر (ص 121 و122)، البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص 72/ باب 1/ ح 2)، فرائد فوائد الفكر (ص 271).
(63) المصنَّف للصنعاني (ج 11/ ص 373/ ح 20775)، الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 205)، عقد الدُّرَر (ص 106)، قال: (أخرجه الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، والحافظ أبو عبد الله نعيم بن حمَّاد)، القول المختصر (ص 130)، البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ج 2/ ص 627)، قال المحقِّق جاسم بن محمّد الياسمين: (إسناده صحيح، أخرجه عبد الرزَّاق).
(64) مقدَّمة عقد الدُّرَر (ص 24).
واختلفوا في اسم أبيه أيضاً، هل هو عبد الله أو الحسن؟ وهل أنَّ كنيته أبو عبد الله أو أبو القاسم؟
أمَّا غير الشيعة الإماميَّة من المسلمين فقد اختلفوا على ثلاثة أقوال، فذهب بعض منهم إلى القول بأنَّه من ذرّيَّة الإمام الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأنَّ اسم أبيه عبد الله، وأنَّه لم يُولَد بعد. وذهب بعض آخر إلى التوقُّف، وبعض ثالث وافق الشيعة، وهم أهل الكشف ممَّن هم من أهل السُّنَّة أصلاً.
وقد أشار إلى هذين القسمين الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي صاحب (السُّنَن) المتوفَّى سنة (480هـ)، فقال: (اختلف الناس في أمر المهدي، فتوقَّف جماعة وأحالوا العلم إلى عالمه، واعتقدوا أنَّه واحد من أولاد فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخلقه الله متى شاء يبعثه نصرةً لدينه. وطائفة يقولون: إنَّ المهدي الموعود وُلِدَ يوم الجمعة منتصف شعبان سنة (255هـ)، وهو الإمام الملقَّب بالحجَّة القائم المنتظَر محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام)...، وهو مختفٍ عن أعين الناس، منتظِر خروجه، وسيظهر فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً، ولا امتناع في طول عمره وامتداد أيَّامه كعيسى بن مريم والخضر (عليهما السلام))(65).
قال: (ووافقهم عليه جماعة من أهل الكشف)(66)، ونقل ذلك إلى رأي أهل الكشف ابن خلدون في النصِّ الذي ذكرناه في صدر هذا البحث، وسنذكر جماعة من هؤلاء في ما سيأتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(65) البرهان على وجود صاحب الزمان (ص 137)، عن شُعَب الإيمان.
(66) أبهى المداد (ج 2/ ص 567)، عن شُعَب الإيمان.
أدلَّة الطائفة الأُولى ومناقشتها:
استدلَّت الطائفة الأُولى على قولها بأنَّه من ذرّيَّة الحسن بن عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) بثلاث روايات:
الأُولى: أخرجها نعيم بن حمَّاد عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: نَظَرَ عَلِيٌّ إِلَى الحَسَنِ (عليهما السلام)، فَقَالَ: «إِنَّ اِبْنِي هَذَا سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، سَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ، يَمْلَأُ الأَرْضَ عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»(67).
والثانية: رواها تمَّام في (فوائده) وابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: (يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِ حَسَن مِنْ قِبَلِ اَلمَشْرِقِ لَوْ اِسْتَقْبَلَ بِهِ الجِبَالَ لَهَدَّهَا هَدًّا وَاتَّخَذَ فِيهَا طُرُقاً)(68).
والثالثة: أخرجها الترمذي في (جامعه)، وأبو داود في (سُنَنه)، عن أبي إسحاق السبيعي، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ (رضي الله عنه) وَنَظَرَ إِلَى ابْنِهِ الحَسَنِ، فَقَالَ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ، يُشْبِهُهُ فِي الخُلُقِ، وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الخَلْقِ...، يَمْلَأُ الأَرْضَ عَدْلاً»(69).
والروايات مناقشة سنداً ومعارضة مضموناً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(67) عقد الدُّرَر (ص 23 و24).
(68) البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (93/ باب 2/ ح 14).
(69) سُنَن أبي داود (ج 2/ص 311/ح 4290)؛ ورواه ابن الأثير في جامع الأُصول (ج 10/ ص 332/ ح 7837)، والمقدسي الشافعي في عقد الدُّرَر (ص 24)، وقال: (أخرجه الإمام أبو داود في سُنَنه، والإمام أبو عيسى الترمذي في سُنَنه، والإمام أبو عبد الرحمن النسائي في سُنَنه)، وابن خلدون في تاريخه (ج 1/ ص 313)، والسيوطي في الدُّرُّ المنثور (ج 6/ ص 58)، والسمهودي في جواهر العقدين (ج 2/ ص 190)، وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة (ص 237)، والمتَّقي الهندي في كنز العُمَّال (ج 13/ص 647/ح 37636).
أمَّا الأُولى، فهي أوَّلاً مرويَّة عن عبد الله بن بحير الصنعاني المكنَّى بأبي وائل، وحسبنا في إسقاطها ما نصُّوا عليه من كونه قاصًّا(70)، من جند معاوية، والقاصُّون بصورة عامَّة متَّهمون بعدم الدقَّة والتزيُّد بخاصَّة مَنْ كان منهم في عهد معاوية بالذات، فقد كانوا من جملة من اعتمدهم في تحريف الأحاديث بما يوافق أغراضه. قال ابن حبَّان عن أبي وائل: (يروي العجائب التي كأنَّها معمولة، لا يجوز الاحتجاج به)(71).
وثانياً: أنَّها معارضة بروايات صحيحة كما ستراها في الآتي.
وأمَّا الثانية، فهي غير مرفوعة(72) أوَّلاً، ومع غضِّ النظر عن الكلام في عبد الله بن عمرو بن العاص المناصر لمعاوية في صفِّين، فإنَّ راويها ابن لهيعة عبد الله ابن عقبة الحضرمي ضعيف كما ذكر الذهبي(73).
وهو رواها عن أبي قبيل حيِّ بن هاني المعافري، قال البخاري: (فيه نظر)، وقال أحمد: (أحاديثه مناكير)(74).
وراويها عن ابن لهيعة رشدين بن سعدين مفلح المهري، ضعَّفه أبو زرعة وغيره، قال حرب: (سألت أحمد فضعَّفه)، وقال ابن معين: (لا يُكتَب حديثه)(75).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(70) ميزان الاعتدال (ج 2/ ص 395/ الرقم 4222).
(71) المجروحين لابن حبَّان (ج 2/ ص 25).
(72) ويقصد المؤلِّف (رحمه الله) من أنَّها (غير مرفوعة) أي إنَّها لم تُرفَع إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهي إذن قول لعبد الله وليست رواية عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
(73) ميزان الاعتدال (ج 2/ ص 475/ الرقم 4530).
(74) المغني في الضعفاء (ج 1/ ص 299/ الرقم 1819)، وفيه: (حيُّ بن عبد الله)، تهذيب التهذيب (ج 3/ص 64/ذيل الرقم 140)، تقريب التهذيب (ج 1/ص 253/الرقم 1611).
(75) المغني في الضعفاء (ج 1/ ص 353/ الرقم 2123)، تهذيب التهذيب (ج 3/ ص 240/ الرقم 526).
وهي ثانياً معارضة برواية عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو، قال: (يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ مِنْ قِبَلِ اَلمَشْرِقِ لَوْ اِسْتَقْبَلَتْهُ الجِبَالَ لَهَدَمَهَا وَاتَّخَذَ فِيهَا طُرُقاً)، قال الكنجي الشافعي في (البيان): (رواه الطبراني وأبو نعيم)(76).
وأمَّا الرواية الثالثة، فتُناقَش أوَّلاً بأنَّ السبيعي توفَّى سنة (129هـ)، والإمام عليٌّ (عليه السلام) استُشهِدَ سنة (40هـ)، فلو حسبنا عمره من سنة مقتل الإمام (عليه السلام) لكان (89) عاماً، فكم يكون قد عاش إذاً ليمكن له أنْ يرى الإمام (عليه السلام) ويسمع منه ويحفظ عنه؟ ولو أخذنا بقول من روى أنَّ ولادته كانت في عهد عثمان، ولابدَّ من أنْ يكون في آخرها إنْ صحَّت هذه الرواية، فإنَّ عمره عند عهد الإمام (عليه السلام) حتَّى في آخره ممَّا لا يقبل معه أنْ ينقل عنه شيئاً، لذلك نصَّ المنذري على أنَّه حديث منقطع(77).
ثانياً: أنَّ السبيعي اختلط في آخر عمره، ومن حاول نفي الاختلاط عنه نصَّ على أنَّه شاخ ونسي(78)، وقد يكون وضع اسم الحسن (عليه السلام) مكان اسم الحسين (عليه السلام) بسبب ذلك.
ثالثاً: أنَّ هذا الحديث عن السبيعي معارض بنقل آخر عن السبيعي يذكر فيه اسم الحسين (عليه السلام) مكان اسم الحسن (عليه السلام)، ففي (الجمع بين الصحاح الستَّة) عن أبي إسحاق السبيعي، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) وَنَظَرَ إِلَى اِبْنِهِ الحُسَيْنِ، وَقَالَ: «إِنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(76) البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 513)، عن الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 229 و230)؛ ورواه المقدسي الشافعي في عقد الدُّرَر (ص 223)، وقال: (أخرجه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في صفة المهدي).
(77) مختصر سُنَن أبي داود (ج 3/ ص 118/ ذيل الحديث 4290).
(78) ميزان الاعتدال (ج 3/ ص 270/ الرقم 6393)، تقريب التهذيب (ج 1/ ص 739/ الرقم 5081).
اِبْنِي هَذَا سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ، يُشْبِهُهُ فِي الخَلْقِ وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الخُلُقِ، يَمْلَأُ الأَرْضَ عَدْلاً»(79).
روى ذلك عن أبي إسحاق صاحب (مشكاة المصابيح)(80).
رابعاً: من الممكن أنْ تكون هذه الروايات من وضع دعاة محمّد بن عبد الله بن الحسن المثنَّى المكنَّى بأبي عبد الله، والذي لقَّب نفسه أو لقَّبوه بذي النفس الزكيَّة(81)، فقد كان يتغيَّب ويستخفي، ويدَّعي المهدويَّة، وقد أعلن شاعر من أتباعه ذلك، فقال:
إنَّ الذي يروي الرواة لبيِّنٌ * * * إذا ما ابن عبد الله فيهم تجرَّدا(82)
وتدلُّ أقواله ومواقفه مع الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) وقتله لإسماعيل بن عبد الله بن جعفر، وكان شيخاً في التسعين حين أبيا مبايعته(83) على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(79) عنه الطرائف (ص 177/ ح 279).
(80) عنه ينابيع المودَّة (ج 3/ ص 259/ باب 72/ ح 16).
(81) تدلُّ الأخبار أنَّ ذا النفس الزكيَّة فتًى علوي يُقتَل جوار الكعبة قبل خروج المهدي (عجَّل الله فرجه) بـ(15) يوماً. منها ما رواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 330 و331/ باب 32/ ح 16) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ اَلثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ البَاقِرَ (عليه السلام)، قَالَ: ... قُلْتُ: يا بن رَسُولِ اَلله، مَتَى يَخْرُجُ قَائِمُكُمْ؟ قَالَ: «إِذَا تَشَبَّهَ اَلرِّجَالُ بِالنِّسَاءِ، وَاَلنِّسَاءُ بِالرِّجَالِ...» إلى أنْ قال: «وَقَتْلُ غُلَامٍ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ، اِسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ اَلنَّفْسُ اَلزَّكِيَّةُ...» الحديث.
ومنها ما رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 445/ ح 440) بسنده عَنْ صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: «لَيْسَ بَيْنَ قِيَامِ القَائِمِ وَبَيْنَ قَتْلِ اَلنَّفْسِ اَلزَّكِيَّةِ إِلَّا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً»؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 649/ باب 57/ ح 2) بتفاوت يسير.
(82) مقاتل الطالبيِّين (ص 164).
(83) راجع: الكافي (ج 1/ ص 358 - 366/ باب ما يفصل بين دعوى المحقِّ والمبطل في أمر الإمامة/ ح 17).
أنَّه قليل الورع لا يُستبعَد عليه الادِّعاء والوضع.
وقد ثار محمّد هذا في المدينة المنوَّرة ولم يجاوزها حتَّى قُتِلَ في عهد أبي جعفر المنصور سنة (145هـ)(84).
وربَّما كان دعاته أيضاً وراء إضافة: (اسم أبيه اسم أبي) أو (كنيته أبو عبد الله).
وربَّما شاركهم في هذه خاصَّة دعاة أبي عبد الله محمّد بن عبد الله المنصور الملقَّب بالمهدي، وهو ثالث الخلفاء العبَّاسيِّين، فقد ادُّعيت له المهدويَّة أيضاً، ووُضِعَت لصالح دعواه كما هو في الحسني أحاديث تجعل المهدي من ذرّيَّة العبَّاس، كالذي أخرجه نعيم بن حمَّاد عن كعب، قال: (اَلمَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِ العَبَّاسِ)(85).
وكالذي رواه الدارقطني في (الأفراد)، وابن عساكر في (تاريخه) عن عثمان بن عفَّان، قال: سمعت النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «اَلمَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِ العَبَّاسِ عَمِّي»(86).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(84) راجع: مروج الذهب (ج 3/ ص 294)، ومقاتل الطالبيِّين (ص 176).
(85) الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 230)؛ ورواه السيوطي في العرف الوردي (ص 151 و152/ ح 187)، وابن حجر الهيتمي في القول المختصر (ص 149)، والمتَّقي الهندي في البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (95/ باب 2/ ح 24).
(86) تاريخ مدينة دمشق (ج 53/ ص 414)؛ ورواه المحبُّ الطبري في ذخائر العقبى (ص 206)، والذهبي في تاريخ الإسلام (ج 10/ ص 436)، والسمهودي في جواهر العقدين (ج 2/ ص 198)، والسيوطي في العرف الوردي (ص 174/ ح 253)، وفي تاريخ الخلفاء (ص 296)، وفي الجامع الصغير (ج 2/ ص 672/ ح 9242)، والرياربكري في تاريخ الخميس (ج 2/ ص 288)، وابن حجر الهيتمي في القول المختصر (ص 160)، وفي الصواعق المحرقة (ص 166)، والمتَّقي الهندي في البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص 95/ باب 2/ ح 25).
وقد نصُّوا على ضعفهما وسقوط قيمتهما(87)، وأعرضوا عمليًّا عن اعتبارهما.
إنَّ وضع هذه الأحاديث التي تنسب المهدي (عجَّل الله فرجه) إلى الحسن السبط (عليه السلام) أو إلى العبَّاس (رضي الله عنه)، ثمّ تحريف الحديث النبوي الآخر بعد قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «وَاِسْمُهُ اِسْمِي» بإضافة (واسم أبيه اسم أبي) أو (وكنيته أبو عبد الله)، لا يُستبعَد على مَنْ يجرؤ على ادِّعاء المهدويَّة، فهذا الوضع وهذا التحريف من شأنيهما أنْ يُقرِّبا تطبيق الرواية على كلٍّ منهما لدى العامَّة من الناس من جهات:
1 - من خلال الجدِّ البعيد.
2 - من خلال الأب.
3 - من خلال الكنية.
والدليل على ذلك ما ذكرناه من ضعف أسانيد نسبته للحسن (عليه السلام)، ونسبته للعبَّاس، ومعارضتهما بأحاديث صحيحة متواترة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل البيت (عليهم السلام) كما سيأتي.
أمَّا تحريف الحديث الآخر بإدخال الزيادة التي أشرنا إليها فيه، فيدلُّ عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(87) نصُّوا على أنَّ الرواية الأُولى المرويَّة عن الوليد، عن الشيخ يزيد بن الوليد، عن كعب، ضعيفة الإسناد، فالوليد بن مسلم مدلِّس، وشيخه لم يُسَمَّ.
أمَّا الرواية الثانية فقد قال الدارقطني: (هذا حديث غريب تفرَّد به محمّد بن الوليد) راجع: العرف الوردي (ص 174)، والقول المختصر (ص 160)، والبرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص 96). وقال ابن الجوزي: فيه محمّد بن الوليد المقرئ، قال ابن عدي: يضع الحديث ويصله ويسرق ويقلب الأسانيد والمتون، وقال ابن أبي معشر: هو كذَّاب. راجع: فيض القدير (ج 6/ ص 361).
هذا يُضاف إلى معارضة ما ورد في هذين الحديثين من نسبته للعبَّاس بما لا يُحصى من الأحاديث التي تنسبه لعليِّ وفاطمة والحسين (عليهم السلام).
أنَّ الأحاديث التي رواها الترمذي في (جامعه)، وأبو داود في (سُنَنه)، والنسائي في (سُنَنه)، وأحمد في (مسنده)، والبيهقي في (سُنَنه)، والطبراني في (معجمه)، وأبو عمرو المقرئ في (سُنَنه)، والحافظ أبو نعيم، خالية من هذه الزيادة.
وقد رويت عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة بطُرُق كثيرة، كالذي روي عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا تَنْقَضِي الأَيَّامُ، وَلَا يَذْهَبُ الدَّهْرُ حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، اسْمُهُ يُوَاطِئُ اسْمِي».
وفي صيغة أُخرى عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا تَقُومُ اَلسَّاعَةُ حَتَّى يَلِي الأَرْضَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي اِسْمُهُ اِسْمِي».
وقد أورد الحديث الأوَّل الإمام أحمد بن حنبل في (مسنده) في عدَّة مواضع: (ج 5/ ص 199/ ح 3572 و3573)، وفي (ج 6/ ص 74/ ح 4098، وج 6/ ص 139/ ح 4279).
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على (المسند) عقب كلِّ رواية: (إسناده صحيح).
وأخرج الحديث الثاني الحافظ أبو بكر البيهقي، وأخرجه الترمذي في (سُنَنه) بطريقين، أحدهما عن أبي هريرة بلفظ: «يَلِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي»، وقال: حسن صحيح(88).
وكالذي روي عن عبد الله بن مسعود أيضاً، قال: قال رسول الله: «لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ العَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي - وفي الترمذي: حَتَّى يَمْلِكَ العَرَبَ رَجُلٌ - يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي يَمْلَأُ الأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(88) سُنَن الترمذي (ج 3/ ص 343/ ح 2332).
وقد أخرجه الطبراني في (معجمه الصغير)، وأبو داود في (سُنَنه)، والترمذي في (جامعه)، وقال: حديث حسن صحيح(89).
ويُؤيِّد ذلك أنَّ الحافظ أبا نعيم الأصفهاني قد أحصى - كما نقل ذلك الحافظ محمّد بن يوسف بن محمّد القرشي الكنجي الشافعي - طُرُق الحديث عن الجمِّ الغفير في (مناقب المهدي (عليه السلام)) كلُّها عن عاصم بن أبي النجود، عن عبد الله، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ذكر منها الكنجي (33) طريقاً، الأكثر الغالب منها له طُرُق شتَّى.
ورواه غير عاصم عن زرٍّ أيضاً، وهو عمر بن مرَّة.
وكلُّ هذه الطُّرُق روت أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال في الحديث: «اِسْمُهُ اِسْمِي» من دون زيادة إلَّا ما كان من عبيد الله بن موسى، عن زائدة، عن عاصم، فإنَّه أُضيف فيه: (واسم أبيه اسم أبي).
وبمقارنة (34) طريقاً خالية من هذه الزيادة إلى طريق واحد يُثبِتها يتَّضح لنا سقوط هذا الطريق من الاعتبار مقابلها من دون شكٍّ(90)، مع ما قدَّمناه من دواعٍ منطقيَّة للاتِّهام في وضع هذه الزيادة ووضع (وكنيته أبو عبد الله) كذلك بالدليل نفسه، وإنْ وردت منفردة عن تلك في بعض الأخبار.
قالوا: وربَّما كانت له كنية أُخرى عدا الكنية التي عُرِفَ بها، وهي (أبو القاسم)، والتي وردت في الحديث عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَخْرُجُ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي اِسْمُهُ كِاِسْمِي وَكُنْيَتُهُ كَكُنْيَتِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(89) المعجم الصغير (ج 2/ ص 148)، سُنَن أبي داود (ج 2/ ص 309 و310/ ح 4282)، سُنَن الترمذي (ج 3/ ص 343/ ح 2331).
(90) البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 483 - 485).
يَمْلَأُ الأَرْضَ عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً»، أخرجه سبط ابن الجوزي عن عبد العزيز ابن محمود بن البزَّاز(91).
وفي (الشفاء) للقاضي عياض أنَّ كنيته أبو القاسم، وأنَّه جُمِعَ له بين كنية النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واسمه(92).
وجمع بعضهم له بين الكنيتين، قال سبط ابن الجوزي: (وكنيته أبو عبد الله وأبو القاسم)(93)، وبذلك نُغنى عن التوجيه المتكلَّف الذي حاوله بعضهم في توجيه (واسم أبيه اسم أبي)، كمحمّد بن طلحة الشافعي في (مطالب السؤول)، والكنجي في (البيان)، ونقله الشيخ المجلسي (رحمه الله) في (البحار)(94).
الإمام المهدي من ولد الحسين (عليهما السلام):
بعد مناقشة الأحاديث الواردة في أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) من ذرّيَّة الإمام الحسن ابن عليِّ بن أبي طالب (عليهما السلام)، وأنَّ أباه هو عبد الله، وبيان ضعفها إسناداً، وما يحتمل أنْ يكون من أسباب لوضعها، وبيان معارضتها بأحاديث أُخرى عن الرواة أنفسهم، نعود مرَّةً أُخرى لنُؤكِّد أنَّ عدداً من حُفَّاظ السُّنَّة ومحدِّثيها رووا عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحاديث أُخرى تُصرِّح أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) من ذرّيَّة الحسين (عليه السلام)، أو أنَّه التاسع من ولد الحسين، أو أنَّه الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، فيكون من ولد الحسين أيضاً، لأنَّ تسعة منهم من ولده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(91) تذكرة الخواصِّ (ص 325)؛ ورواه المقدسي الشافعي في عقد الدُّرَر (ص 32).
(92) عنه شرح إحقاق الحقِّ (ج 29/ ص 119).
(93) تذكرة الخواصِّ (ص 325).
(94) مطالب السؤول (ص 487 و488)، البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 483)، بحار الأنوار (ج 51/ ص 86).
فمن أحاديث الطائفة الأُولى ما رواه المقدسي السلمي الشافعي، وقال: (أخرجه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في صفة المهدي (عليه السلام))، ونقل الشيخ مهيب البوريني محقِّق الكتاب أنَّ السيوطي ذكره في الحاوي (ج 2/ ص 63)، وابن القيِّم في المنار المنيف (ص 148) عَنْ حُذَيْفَةَ (رضي الله عنه)، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَذَكَّرَنَا بِمَا هُوَ كَائِنٌ، ثُمَّ قَالَ: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ، لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اليَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلاً مِنْ وُلْدِي اِسْمُهُ اِسْمِي»، فَقَامَ سَلْمَانُ الفَارسيُّ (رضي الله عنه)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَلله، مِنْ أَيِّ وُلْدِكَ هُوَ؟ قَالَ: «هُوَ مِنْ وَلَدِي هَذَا» وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الحُسَيْنِ (عليه السلام)(95).
ومنها: ما روي عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري (رحمه الله)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: هَلْ شَهِدْتَ بَدْراً؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: أَلَا تُحَدِّثُنِي بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فِي عَلِيٍّ (عليه السلام) وَفَضْلِهِ؟ فَقَالَ: بَلَى، أُخْبِرُكَ أَنَّ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَرِضَ مَرْضَةً نَقِهَ مِنْهَا، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ (عليها السلام) تَعُودُهُ، وَأَنَا جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَلَمَّا رَأَتْ مَا بِرَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مِنَ اَلضَّعْفِ خَنَقَتْهَا العَبْرَةُ حَتَّى بَدَتْ دُمُوعُهَا عَلَى خَدِّهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَا يُبْكِيكِ، يَا فَاطِمَةُ؟ أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اَللهَ اِطَّلَعَ إِلَى الأَرْضِ اِطِّلَاعَةً فَاخْتَارَ مِنْهَا أَبَاكِ فَبَعَثَهُ نَبِيًّا، ثُمَّ اِطَّلَعَ ثَانِيَةً فَاخْتَارَ بَعْلَكِ، فَأَوْحَى إِلَيَّ فَأَنْكَحْتُهُ وَاِتَّخَذْتُهُ وَصِيًّا»، ثمّ عدَّد لها الرسول ما أنعم الله به على أهل البيت من الفضل (ذكر ذلك أبو سعيد)، قال: ثمّ قال: «وَمِنَّا مَهْدِيُّ الأُمَّةِ اَلَّذِي يُصَلِّي عِيسَى خَلْفَهُ»، ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى مَنْكِبِ الحُسَيْنِ (عليه السلام)، فَقَالَ: «مِنْ هَذَا مَهْدِيُّ الأُمَّةِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(95) عقد الدُّرَر (82 و83/ ح 32)؛ ورواه الجويني في فرائد السمطين (ج 2/ ص 325 و326/ ح 575)، والقندوزي الحنفي في ينابيع المودَّة (ج 3/ ص 385 و386 و390/ باب 94/ ح 11 و28).
قال: هكذا أخرجه الدارقطني صاحب (الجرح والتعديل)(96).
وروى الكنجي المتوفَّى سنة (658هـ) بإسناده عن الأعمش، عن زرِّ بن حبيش، عن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَبَعَثَ اَللهُ فِيهِ رَجُلاً اِسْمُهُ اِسْمِي وَخَلْقُهُ خَلْقِي، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اَلله، يُبَايَعُ بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ، يَرُدُّ اَللهُ بِهِ اَلدِّينَ، وَيَفْتَحُ لَهُ فُتُوحاً، فَلَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ إِلَّا مَنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ»، فَقَامَ سَلْمَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَلله، مِنْ أَيِّ وُلْدِكَ هُوَ؟ قَالَ: «مِنْ وُلْدِ اِبْنِي هَذَا»، وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الحُسَيْنِ (عليه السلام)(97).
وروى السلمي عن عليٍّ (عليه السلام) حديثاً طويلاً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وما بين يديه من علامات، وعن خروجه وصفاته، وممَّا قال فيه: إنَّه من ولد فاطمة (عليها السلام) من ولد الحسين (عليه السلام)(98).
ومن أحاديث الطائفة الثانية ما رواه العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) في (كشف اليقين) نقلاً عن (مسند أحمد بن حنبل) أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال للحسين (عليه السلام): «هَذَا اِبْنِي إِمَامٌ أَخُو إِمَامٍ اِبْنُ إِمَامٍ، أَبُو أَئِمَّة تِسْعَة، تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ»(99).
وما نقله صدر الأئمَّة أبو المؤيّد الموفَّق بن أحمد المكّي الحنفي المتوفَّى سنة (568هـ) بسنده عن سُلَيم بن قيس الهلالي، عن سلمان (رضي الله عنه)، قال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَإِذَا الحُسَيْنُ عَلَى فَخِذِهِ وَهُوَ يُقَبِّلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَيَلْثِمُ فَاهُ، وَيَقُولُ: «إِنَّكَ سَيِّدُ اِبْنُ سَيِّدٍ أَبُو سَادَةٍ، إِنَّكَ إِمَامُ ابْنُ إِمَامٍ أَبُو أَئِمَّةٍ، إِنَّكَ حُجَّةُ ابْنُ حُجَّةٍ أَبُو حُجَجٍ تِسْعَةٍ مِنْ صُلْبِكَ تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ(100).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(96) البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 502 و503).
(97) البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 510).
(98) عقد الدُّرَر (ص 90 - 99).
(99) كشف اليقين (ص 331).
(100) مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي (ج 1/ ص 212 و213/ ح 7).
وروى أيضاً في مناقب عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) عن الحسين (عليه السلام)، قال: «دَخَلْتُ عَلَى جَدِّي رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَأَجْلَسَنِي عَلَى فَخِذِهِ وَقَالَ لِي: إِنَّ اَللهَ اِخْتَارَ مِنْ صُلْبِكَ يَا حُسَيْنُ تِسْعَة أَئِمَّة تَاسِعُهُمْ قَائِمُهُمْ، وَكُلُّهُمْ فِي الفَضْلِ وَاَلمَنْزِلَةِ عِنْدَ اَلله سَوَاءٌ»(101).
ونقل صاحب (الينابيع) عن الموفَّق بن أحمد أيضاً بسنده عن واثلة بن الأسقع، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رواية أُخرى مماثلة(102).
وروى شيخ الإسلام إبراهيم بن محمّد الجويني الشافعي المتوفَّى سنة (720هـ) بسنده عن الإمام عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال في حديث طويل منه: «وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ إِمَامَا أُمَّتِي بَعْدَ أَبِيهِمَا، وَسَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأُمُّهُمَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالَمِينَ، وَأَبُوهُمَا سَيِّدُ الوَصِيِّينَ، وَمِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ تِسْعَةُ أَئِمَّةٍ تَاسِعُهُمُ القَائِمُ مِنْ وُلْدِي، طَاعَتُهُمْ»(103).
وبسنده عن سُلَيم بن قيس، عن عليٍّ (عليه السلام)، قال: إنَّ عليًّا (عليه السلام) قام في أحد المواقف في المهاجرين والأنصار، فقال: «أَنْشُدُكُمُ اَللهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَامَ خَطِيباً لَمْ يَخْطُبْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا، فَإِنَّ اَللَّطِيفَ الخَبِيرَ أَخْبَرَنِي وَعَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ، فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ شِبْهُ اَلمُغْضَبِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اَلله، أَكُلُّ أَهْلِ بَيْتِكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَوْصِيَائِي مِنْهُمْ، أَوَّلُهُمْ أَخِي وَوَزِيرِي وَوَارِثِي وَخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي وَوَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ بَعْدِي هُوَ أَوَّلُهُمْ، ثُمَّ اِبْنِيَ الحَسَنُ، ثُمَّ اِبْنِيَ الحُسَيْنُ، ثُمَّ تِسْعَةٌ مِنْ وُلْدِ الحُسَيْنِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ حَتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(101) عنه ينابيع المودَّة (ج 3/ ص 395/ باب 94/ ح 45).
(102) ينابيع المودَّة (ج 3/ ص 283 - 285/ باب 76/ ح 2).
(103) فرائد السمطين (ج 1/ ص 54 و55/ ح 19).
يَرِدُوا عَلَيَّ الحَوْضَ، هُمْ شُهَدَاءَ اَلله فِي أَرْضِهِ، وَحُجَّتَهُ عَلَى خَلْقِهِ، وَخُزَّانُ عِلْمِهِ، وَمَعَادِنُ حِكْمَتِهِ، مَنْ أَطَاعَهُمْ أَطَاعَ اَلله، وَمَنْ عَصَاهُمْ عَصَى اَلله»(104).
وروى القندوزي الحنفي عن مجاهد، عن ابن عبَّاس حديثاً مماثلاً(105).
الطائفة الثالثة: روى الإمام مسلم في صحيحه في (كتاب الإمارة) بسندين عن عامر بن سعد، عن جابر بن سمرة، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يَوْمَ الجُمُعَةِ عَشِيَّةَ رَجْمِ الأَسْلَمِيِّ يَقُولُ: «لَا يَزَالُ الدِّينُ قَائِماً حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ يَكُونَ عَلَيْكُمْ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»(106).
وروى الإمام البخاري في صحيحه في (كتاب الأحكام) بسنده عن جابر بن سمرة: «يَكُونُ اِثْنَا عَشَرَ أَمِيراً»، فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا، فَقَالَ أَبِي: إِنَّهُ قَالَ: «كُلُهُمْ مِنْ قُرِيْشٍ»(107).
ورواه الترمذي بسندين مع إضافة «مِنْ بَعْدِي» بعد كلمة (يكون)(108).
وروى الحاكم في (المستدرك) بسنده عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوساً لَيْلَةً عِنْدَ عَبْدِ الله يُقْرِئُنَا القُرْآنَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَلْ سَألتُمْ رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كَمْ يَمْلِكُ هَذِهِ الأُمَّةُ مِنْ خَلِيفَةٍ؟ فَقَالَ عَبْدُ الله: مَا سَأَلَنِي عَنْ هَذَا أَحَدٌ مُنْذُ قَدِمْتُ العِرَاقَ قَبْلَكَ، قَالَ: سَألنَاهُ، فَقَالَ: «اثْنَا عَشَرَ، عِدَّةِ نُقَبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(104) فرائد السمطين (ج 1/ ص 312 - 318/ ح 250).
(105) ينابيع المودَّة (ج 1/ ص 341 - 349/ باب 38/ ح 3).
(106) صحيح مسلم (ج 6/ ص 3 و4)؛ وقد أورد بهذا المضمون سبعة أحاديث أُخرى تأتي قريباً، فانتظر.
(107) صحيح البخاري (ج 11/ ص 70/ ح 6457).
(108) سُنَن الترمذي (ج 3/ ص 340/ ح 2323 و2324).
والحديث رواه كلُّ أصحاب الصحاح والسُّنَن والمسانيد والمعاجم الحديثيَّة، ولم يختلفوا في صحَّته(109).
وقد أظهرت محاولات تطبيقه على الخلفاء الذين حكموا الأُمَّة وقادوها سياسيًّا، كالخلفاء الأربعة، ثمّ الحسن، ثمّ خلفاء بني أُميَّة وبني العبَّاس، عجزاً واضحاً من حيث العدد، ومن حيث الصفة، ومن حيث الأثر بالنسبة للدِّين والأُمَّة.
وإذا أمكن لدى أصحاب هذه المحاولات إدخال الخلفاء الأربعة ثمّ الحسن، فمن هم الآخرون؟
إنَّ السير حسب التسلسل التاريخي لا يأتي الإشكال فيه من انتهاء هذا العدد قبل انتهاء الخلفاء الأُمويِّين فقط، بل سيدخل مَنْ لا يمكن أنْ يكون من حيث الصفة والأثر بالنسبة للدِّين والأُمَّة مقصوداً إجماعاً، فإنَّ تشبيههم بنقباء بني إسرائيل ليس لبيان العدد وإنَّما هو إشارة إلى جنبة علم وهدى سماوي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(109) مستدرك الحاكم (ج 4/ ص 501)؛ ورواه أحمد بن حنبل في مسنده (ج 6/ ص 321 و406/ ح 3781 و3859) بطريقين، وأبو يعلى في مسنده (ج 8/ ص 444/ ح 5031، وج 9/ ص 222/ ح 5322)، والطبراني في المعجم الكبير (ج 10/ ص 157 و158/ ح 10310)، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج 5/ ص 190)، وقال: (رواه أحمد وأبو يعلى والبزَّار)، والسيوطي في تاريخ الخلفاء (ص 13)، وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة (ص 20)، والمتَّقي الهندي في كنز العُمَّال (975) (ج 12/ ص 33/ ح 33857).
ورواه بصيغة أنَّ عدد الخلفاء بعدي عدَّة نقباء موسى: نعيم بن حمَّاد في الفتن (ص 52)، وابن عدي في الكامل (ج 3/ ص 15)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (ج 16/ ص 286)، والسيوطي في الجامع الصغير (ج 1/ ص 350/ ح 2297)، والمتَّقي الهندي في كنز العُمَّال (ج 6/ ص 89/ ح 14971، وج 12/ ص 33/ ح 33859).
يكونون فيه امتداداً للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّ نقباء بني إسرائيل لهم مثل هذه الصفة كما يُفهَم من قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾ (المائدة: 12).
وممَّا يُؤكِّد أنَّ هذه الإشارة هي المقصودة من قِبَل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما بيَّنه في الروايات الأُخرى من الأثر الواقعي لوجود هؤلاء الخلفاء في حياة الدِّين والأُمَّة، ففي رواية أوردها مسلم في صحيحه، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا يَزَالُ هَذَا اَلدِّيْنُ عَزِيزاً»، وفي أُخرى: «لَا يَزَالُ الإِسْلَامُ عَزِيزاً»، وفي رواية ثالثة: «لَا يَزَالُ اَلدِّيِنُ قَائِماً» وفي خامسة وسادسة: «لَا يَزَالُ أَمْرُ اَلنَّاسِ مَاضِياً»(110).
وبالربط بين ما تشير إليه هذه الروايات وبين واقع الخلفاء السياسيِّين - أُمويِّين وعبَّاسيِّين على المستوى الشخصي أو الأمر المتَّصل بالسياسة العامَّة للدولة من حيث علاقتها بالقِيَم والأحكام الإسلاميَّة - يبدو لنا بوضوح أنْ لا مجال لانطباق هذه الأوصاف عليهم.
ومن البيِّن أنَّ هذه الأوصاف تُثبِت أنَّ خلافة هؤلاء الخلفاء الاثني عشر خلافة هدى وعلم قبل كلِّ شيء، وإنْ كان لا ينافيها أنْ تُجمَع إليها الخلافة السياسيَّة، بل ذلك هو المفروض استحقاقاً، لكن إمامتهم لا تتوقَّف عليها إلَّا بمقدار فقدانهم فيها وسيلة في التنفيذ والإيصال، بدليل رجوع الأُمَّة إلى هؤلاء الأئمَّة وإفادتها منهم بما جعل الدِّين قائماً كما مرَّ في الروايات.
إنَّ عزَّة الدِّين ومضيَّ أمر الأُمَّة بهؤلاء الأئمَّة يتَّصل من دون شكٍّ بجانب الهدى والعلم والقدوة الممثِّلة لهما نظريًّا وعمليًّا بوصفهم امتداداً للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كامتداد النقباء الاثني عشر عن موسى (عليه السلام)، وأين خلفاء بني أُميَّة وبني العبَّاس من ذلك؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(110) صحيح مسلم (ج 6/ ص 3 و4).
ثمّ إنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حدَّد هؤلاء بهذا العدد (اثني عشر) لما بينه وبين الساعة كما هو مفاد رواية صحيح مسلم: «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ لَا يَنْقَضِي»، وهو يعني بقاء إمامتهم كلَّ هذه المدَّة مهما طالت، لأنَّه بقاء الرسالة من خلال شاهدها التالي. وذلك ما لا يتطابق مع واقع الخلفاء السياسيِّين الذين جاءوا بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أُمويِّين وعبَّاسيِّين نظريًّا وواقعيًّا، فهم لا أكثر من حُكَّام زمنيِّين تتحدَّد إمامتهم الواقعيَّة بمدَّة حكمهم، فضلاً عن عدم تطابق العدد والصفة.
ولا شكَّ في أنَّ الانتقاء بالصورة التي قام بها بعض الأعلام ليُقدِّم بها مصداقاً واقعيًّا للحديث محاولة بائسة تكشف عن عجز، وأنَّ التحكُّم فيها واضح لدرجة يعجب المرء كيف يمكن أنْ تُطرَح من قِبَل أُولئك العلماء(111).
ولعلَّ خير تفسير لها ما رآه أُستاذنا الحكيم في قوله: (ولعلَّ حيرة كثير من العلماء في توجيه هذه الأحاديث وملاءمتها للواقع التاريخي، كان منشؤها عدم تمكُّنهم من تكذيبها، ومن هنا تضاربت الأقوال في توجيهها، وبيان المراد منها)(112).
لقد أدخل بعض العلماء الذين حاولوا تطبيق الحديث بالصورة التي ذكرناها سابقاً الإمام عليًّا والحسن والمهدي (عليهم السلام)، ولكن مَنْ هم الآخرون؟
إنَّ الدليل النظري الذي تتَّسق شواهده ويتطابق مع الواقع التاريخي قائم بوضوح، ويتمثَّل في خطٍّ يتبنَّاه بعض الأُمَّة، فإذا ما التفتنا إلى ما أشرنا إليه من التشبيه بنقباء بني إسرائيل من جهة، وإلى ما ذُكِرَ من آثار واقعيَّة لإمامتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(111) الأُصول العامَّة للفقه المقارن (ص 178 - 180)؛ واقرأ هذه المحاولات في: دليل المتحيِّرين في بيان الناجين (ص 227 - 233).
(112) الأُصول العامَّة للفقه المقارن (ص 179).
بالنسبة للدِّين والأُمَّة، وإلى امتداد هذه الإمامة إلى قيام الساعة، وربطنا ذلك بحديث الثقلين(113) الذي يقول فيه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ: كَتَابَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(113) مسند ابن الجعد (ص 397)، طبقات ابن سعد (ج 2/ ص 194)، المصنَّف لابن أبي شيبة (ج 7/ ص 175 و176/ كتاب الدعاء/ باب 27/ ح 1 و2 و5، وص 418/ كتاب الفضائل/ باب 1/ ح 41)، مسند أحمد بن حنبل (ج 17/ ص 169 و170/ ح 11104، وص 308 و309/ ح 11211، وج 18/ ص 114/ ح 11561، وج 32/ ص 64/ ح 19313، وج 35/ ص 456/ ح 21578، وص 512/ ح 21654)، فضائل الصحابة له أيضاً (ج 1/ ص 171/ ح 170، وج 2/ ص 572 و585/ ح 968 و990، وص 603/ ح 1032، وص 779 و786/ ح 1382 و1383 و1403)، سُنَن الدارمي (ج 2/ ص431 و432)، صحيح مسلم (ج 7/ ص 122 و123)، سُنَن الترمذي (ج 5/ ص 328 و329/ ح 3876)، السُّنَّة لابن أبي عاصم (ص 336 و337/ ح 754، وص 628 - 631/ ح 1548 و1549 و1552 - 1555 و1558)، مسند البزَّار (ج 3/ ص 89/ ح 864)، مسند أبي يعلى (ج 2/ ص 297 و298/ ح 48/1021، وص 303/ ح 54/1027، وص 376/ ح 166/1140)، صحيح ابن خزيمة (ج 4/ ص 62 و63)، خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام) للنسائي (ص 93)، شرح مشكل الآثار للطحاوي (ج 5/ ص ١٨/ ح 1765، ج 9/ ص 88 و89/ ح 3463 و3464)، معاجم الطبراني الثلاثة: الكبير (ج 3/ ص 65 و66/ ح 2678 - 2681، وص 180 و181/ ح 3052، وج 5/ 153 و154 و165 - 167/ ح 4921 - 4923 و4969 و4971، وص 169 و170/ ح 4980 و4981، وص 182 - 184/ 5025 و5027 و5028، وص 186/ ح 5040)، والأوسط (ج 3/ ص 374 ، وج 4/ ص 33)، والصغير (ج 1/ ص 131 و135)، مستدرك الحاكم (ج 3/ ص 109 و148)، شرح أُصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة (ج 1/ ص 90/ ح 95)، الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد (ص 451 و452)، سُنَن البيهقي (ج 7/ ص 30 و31، وج 10/ ص 113 و114)، تاريخ بغداد (ج 8/ ص 443)، حلية الأولياء (ج 1/ ص 355)، المناقب للخوارزمي (ص 154 و155 و320 و330/ ح 182 و349)، التدوين في أخبار قزوين (ج 3/ ←
اَلله وَأَهْلَ بَيْتِي(114)، وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ»(115).
وبحديث سفينة نوح الذي يقول فيه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي مَثَلُ سَفِينَةِ نُوحٍ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ»(116)، و«إِنَّمَا مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
→ ص 465)، فرائد السمطين (ج 2/ ص 144 - 147/ ح 437 - 439 و441)، مجمع الزوائد (ج 9/ ص 163)، جواهر العقدين (ج 2/ ص 86)، الصواعق المحرقة (ص 228)، وقال: (ولهذا الحديث طُرُق كثيرة عن بضع وعشرين صحابيًّا).
أمَّا طُرُقه لدى الشيعة الإماميَّة فقد بلغت أكثر من (80) طريقاً، فهو صحيح ومتواتر معاً، ولابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة (ص 151) لفتة ممتازة قال: (وفي أحاديث الحثِّ على التمسُّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهِّل منهم للتمسُّك به إلى يوم القيامة، كما أنَّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، ويشهد لذلك الخبر: «فِي كُلِّ خَلَفٍ مِنْ أُمَّتِي عُدُولٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي»).
(114) يُعمِّم بعضهم - بقصد وبغير قصد - مفهوم أهل البيت (عليهم السلام) على كلِّ أقرباء الرسول نسبيًّا وسببيًّا، وهذا صحيح بالمعنى الأعمّ، ولكنَّه ليس صحيحاً بالمعنى الأخصّ كما حدَّده الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لدى وضعه الكساء على الخمسة لدى نزول آية التطهير، وقوله: «اَللَّهُمَّ هَؤلَاءِ أَهْلُ بَيتِي وَخَاصَّتِي»، حتَّى إنَّه لم يسمح لأُمِّ سَلَمة بالدخول معهم. ثمّ لدى خروجه بهؤلاء الخمسة فقط من بين كلِّ ذوي قرباه في المباهلة، وأنزل عليًّا (عليه السلام) منزلة نفسه، وجعل الزهراء (عليها السلام) كلَّ النساء، وجعل الحسنين (عليهما السلام) كلَّ الأبناء. وبعدم السماح لجُنُب أنْ يمكث في المسجد سواهم.
(115) مستدرك الحاكم (ج 3/ ص 148)، بسنده عن زيد بن أرقم، وصحَّحه على شرط البخاري ومسلم.
(116) مستدرك الحاكم (ج 2/ ص 343، وج 3/ ص 150 و151) بسنده عن أبي ذرٍّ، وصحَّحه على شرط مسلم؛ ورواه الطبراني في معاجمه الثلاثة: الكبير (ج 3/ ص 45 و46/ ح 2636 - 2638، وج 12/ ص 27)، والأوسط (ج 5/ ص 355، وج 6/ ص 85)، والصغير (ج 2/ ص 22)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (ج 4/ ص 306) عن ابن عبَّاس، والخطيب في تاريخ بغداد (ج 12/ ص 90) عن أنس.
فِيكُمْ مَثَلُ بَابِ حِطَّةِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ دَخَلَهُ غُفِرَ لَهُ»(117).
وحديث «أَهْل بَيتِي أَمَانٌ لِأُمَّتِي مِنَ الاِخْتِلَافِ»(118).
وإذا عرفنا أنَّه لا يوجد في التاريخ الإسلامي لدى أيِّ فئة من الأُمَّة واقعيًّا خلفاء وأئمَّة في الهدى والعلم تنطبق عليهم هذه الصفات وبهذا العدد إلَّا الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) من الإمام عليٍّ (عليه السلام) إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فإنَّه لا يبقى أمامنا مجال لرؤية أيِّ مصداقٍ آخر سواهم للأئمَّة في هذا الحديث، أو يبقى الحديث من دون مصداق، وذلك ما لا يمكن أنْ يكون.
إنَّ الحديث يحمل بنفسه شاهداً مضافاً على صدقه وصحَّة صدوره عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(117) المعجم الصغير للطبراني (ج 2/ ص 22)، مناحل الشفا (ج 5/ ص 221/ ح 2167)، الأمالي الخميسيَّة (ج 1/ ص 199/ ح 737)، فرائد السمطين (ج 2/ ص 242/ ح 516)، مجمع الزوائد (ج 9/ ص 168)، جواهر العقدين (ج 2/ ص 121 و122)، الصواعق المحرقة (ص 152 و236)، السيرة الحلبيَّة (ج 2/ ص 693)، ينابيع المودَّة (ج 1/ ص 93/ باب 4/ ح 2 - 5، وج 2/ ص 56/ ح 709، وص 443/ باب 59/ ح 221).
(118) مستدرك الحاكم (ج 3/ ص 149) بسندين؛ ورواه بألفاظ متقاربة يسير: ابن حبَّان في المجروحين (ج 2/ ص 236)، والجرجاني في الأمالي الخميسيَّة (ج 1/ ص 203/ ح 756)، والخوارزمي في مقتل الحسين (عليه السلام) (ج 1/ ص 162/ ح 65)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (ج 40/ ص 20)، وابن الجوزي في تذكرة الخواصِّ (ص 291)، والموصلي في مناقب آل محمّد (ص 230/ ح 148)، والمحبُّ الطبري في ذخائر العقبى (ص 17)، والجويني في فرائد السمطين (ج 2/ ص 241 و252 و253/ ح 515 و521 و522)، والسيوطي في الجامع الصغير (ص 557/ ح 9313)، والصالحي الشامي في سُبُل الهدى والرشاد (ج 11/ ص 6 و7)، وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة (ص 187 و235 و236)، والمتَّقي الهندي في كنز العُمَّال (ج 12/ ص 96/ ح 34155).
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عدا الحكم بصحَّة إسناده من قِبَل جميع علماء الحديث، وأنَّه من شواهد النبوَّة، لأنَّه كان مأثوراً في بعض الصحاح والمسانيد(119) قبل أنْ يكتمل عدد الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، فلا يحتمل أنْ يكون من الموضوعات كما يتصوَّر بعضهم مخطئاً بعد اكتمال العدد المذكور(120).
إنَّ بعض المحدِّثين والحُفَّاظ من أهل السُّنَّة ذكروا روايات تتَّسق في دلالتها مع ما ذكرناه من كون هؤلاء الخلفاء هم الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)، قدَّمنا منها بعضاً ونُقدِّم هنا بعضاً آخر.
ومن هؤلاء الحافظ أبو نعيم المتوفَّى سنة (430هـ)، فقد روى بسنده عن ابن عبَّاس، قال: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَحْيَا حَيَاتِي، وَيَمُوتَ مَمَاتِي، وَيَدْخُلَ جَنَّةَ جَنَّةَ عَدْنٍ غَرَسَهَا رَبِّي، فَليُوَالِ عَلِيًّا مِنْ بَعْدِي وَليُوَالِ وَلِيَّهُ، وَلِيَقْتَدِ بِالأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِي، فَإِنَّهُمْ عِتْرَتِي، خُلِقُوا مِنْ طِينَتِي، رُزِقُوا فَهْماً وَعِلْماً، وَوَيْلٌ لَلْمُكَذِّبِينَ بِفَضْلِهِمْ مِنْ أُمَّتِي، لِلْقَاطِعِينَ فِيهِمْ صِلَتِي، لَا أَنَالَهُمُ اَللهُ شَفَاعَتِي»(121).
وروى أبو المؤيّد الموفَّق بن أحمد الخوارزمي الحنفي المتوفَّى سنة (568هـ) بسنده عن عليٍّ (عليه السلام)، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «الأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ أَنْتَ يَا عَلِيُّ، وَآخِرُهُمُ القَائِمُ اَلَّذِي يَفْتَحُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَى يَدَيْهِ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا»(122).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(119) كأحمد بن حنبل صاحب (المسند) الذي وُلِدَ سنة (164هـ) وتُوفّي سنة (241هـ)، وكالبخاري الذي وُلِدَ سنة (194هـ) وتُوفّي سنة (256هـ).
(120) الأُصول العامَّة للفقه المقارن (ص 179).
(121) حلية الأولياء (ج 1/ ص 86).
(122) عنه ينابيع المودَّة (ج 3/ ص 395/ باب 94/ ح 46).
وروى شيخ الإسلام المحدِّث إبراهيم بن محمّد الجويني الشافعي المتوفَّى سنة (720هـ) عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إِنَّ خُلَفَائِي وَأَوْصِيَائِي وَحُجَجَ اَلله عَلَى الخَلْقِ بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ عَلِيٌّ وَآخِرُهُمْ اَلمَهْدِيُّ»(123).
وروى أيضاً عن عباية بن ربعي، عن ابن عبَّاس أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «أَنَا سِيِّدُ اَلمُرْسَلِينَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سِيِّدُ الوَصِيِّينَ، وَإِنَّ أَوْصِيَائِي بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخِرُهُمْ القَائِمُ»(124).
وبذلك يكون المهدي ليس فقط من ذرّيَّة الحسين (عليه السلام) لا من ذرّيَّة الحسن (عليه السلام)، بل يتشخَّص بالإمام محمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام) الثاني عشر بين أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك لا ينفي الروايات التي جعلت أباه عبد الله فقط، بل ينفي ما أُثير من شكوك حول ولادته، ثمّ ينفي اقتطاعه عن سلسلة الأوصياء من آبائه، فالمهدي الذي أثبتت روايات المسلمين له من المكانة ما يجعل المسيح يأتمُّ به ويُصلِّي خلفه، وما يكون بها جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله، هو ابن الأوصياء الأحد عشر الذين هم امتداد لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في العصمة العلميَّة والعمليَّة، التالين له في المكانة، وبذلك فإنَّ منزلته وصفاته وخصائصه ليست مفصولة عن خصائص آبائه وصفاتهم.
إنَّ كثيراً من الأُمَّة إنَّما ترفض إمامة الأئمَّة (عليهم السلام) بالصورة التي يُثبِتها لهم الإماميَّة - بحكم الأدلَّة - بدعوى أنَّ ما يُعطى لهم من خصائص وصفات تكاد تكون نبوَّة جديدة، ولكن هذا يُبطِله أنَّهم في طول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبعده امتداد له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(123) عنه ينابيع المودَّة (ج 3/ ص 295/ باب 78/ ح 2).
(124) فرائد السمطين (ج 2/ ص 313/ ح 564).
وهداة وشهود لرسالته، وأنَّ النبوَّة التي ختمها الله بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنَّما هي النبوَّة بالمعنى الاصطلاحي تلك التي تُؤسِّس ديناً وتنسخ، بدليل إثبات هذه الخصائص للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إجماعاً دون إشكال.
* * *
بين يديّ البحث: في نظريَّة الإمامة:
لكي تأخذ الأحاديث الواردة عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) في المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) موقعها في الاستدلال، لابدَّ من الحديث بإيجاز عن نظريَّة الإمامة لدى الإماميَّة الاثني عشريَّة، فنقول:
إنَّ الثابت لديهم - بصورة قاطعة - بأدلَّتهم المفصَّلة في علم الكلام أنَّ الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) المعروفين تاريخيًّا، من عليٍّ (عليه السلام) حتَّى المهدي (عجَّل الله فرجه)، هم خلفاء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمعنى الكامل لهذه الخلافة، لا يكادون يختلفون عنه إلَّا بما استُثنِيَ من النبوَّة بمفهومها الذي يعني تأسيساً لرسالة أُخرى تنسخ الرسالة السابقة، فتُبقي منها وتُضيف إليها ما شاء الله لهذا النبيِّ ضمن مرحلته التاريخيَّة، فإنَّ ذلك ممَّا لا مجال لأحد أنْ يدَّعيه بعد رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتَّى القيامة، بحكم قوله تعالى: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: 40)، وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا نَبِيَّ بَعْدِي»(125)، وبإجماع المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(125) ورد ذلك في قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليٍّ (عليه السلام): «أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي»؛ رواه مسلم في صحيحه (ج 7/ ص 120/ كتاب فضائل الصحابة) عن عامر بن سعد، والبخاري في صحيحه (ج 5/ ص 129/ كتاب بدء الخلق/ باب غزوة تبوك) بلفظ: «لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي»، وروته جميع كُتُب السُّنَن والمسانيد والمعاجم وصحَّحته، راجع. فضائل الخمسة من الصحاح الستَّة (ج 1/ ص 347 فصاعداً).
لقد ختم الله النبوَّة بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأكمل الدِّين الذي ارتضاه لخلقه برسالته، وذلك هو ما يقتضيه مقامه، بوصفه سيِّداً لخلق الله مبدأً ومعاداً، فلا ينبغي أنْ يسبقه سابق، أو يلحقه لاحق، ولهذا كان من سبقه من الأنبياء تقدمة بين يديه يُمهِّدون له، ويُبشِّرون به، وبرسالته. وإذا كانت النسبة بينهم تسمح بأنْ يكون بعضهم مستقلًّا عن بعض، بحيث ينسخ اللَّاحق بعض أحكام شريعة السابق بحكم تدرُّج تلك الرسالات كمالاً تبعاً للمرحلة، فإنَّ مَنْ يأتون بعد الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يمكن أنْ يكونوا كذلك بحكم مكانته وكمال رسالته، لذلك كانوا - رغم مكانتهم التي تساوي إنْ لم تفضل مكانة أُولئك الأنبياء - خلفاء لا أنبياء. إنَّهم أوصياء له، يمتدُّون عنه، علماً، وهدًى، ودعوةً. لذلك كانوا بعض قواعد الرسالة، ودعائمها الأساس. ورغم أنَّ التأكيد على ذلك رافق الرسالة منذ مولدها قولاً وعملاً، فإنَّ الإعلان العامَّ النهائي تمَّ من قِبَل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حجَّة الوداع في غدير خمٍّ، وفي تلك المناسبة نزل قوله تعالى: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِيناً﴾ (المائدة: 3).
وقد نستطيع أنْ نُدرك معنى ذلك حين نلتفت إلى أنَّ حاجة الناس الماسَّة للحجَّة، أو الإمام المعصوم، لا تنقطع؛ وذلك ما يُؤكِّده العقل والنقل(126)، وملاحظة الواقع، وأنَّ كون القرآن تبياناً لكلِّ شيء إنَّما صحَّ بتأصيله لسُّنَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قوله تعالى: ﴿مَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3 و4)، وقوله تعالى: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(126) راجع: الكافي (ج 1/ ص 178/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة)، وكمال الدِّين (ص 201/ باب 21 العلَّة التي من أجلها يُحتاج إلى الإمام (عليه السلام)).
ثمّ بتأصيله لسُنَّة (أُولي الأمر) بعده بأدلَّتها التالية، فأدخلهما بذلك ضمن تبيانه، وإلَّا فمن الثابت أنَّه من دونهما ليس كذلك.
ومع واقع ختم النبوَّة بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتحاقه كما شاء الله بالرفيق الأعلى، فإنَّ ما يبقى هو امتداده، وخلفاؤه(127)؛ لذلك كان التعريف العامُّ النهائي بها والذي تأخَّر بحكم تأخُّر مرحلته، هو ما أكمل الله به الدِّين وأتمَّ النعمة كما جاء في الآية المنزلة بعد واقعة غدير خمٍّ(128).
إنَّ الأوصياء من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) حملة الرسالة وشهودها مع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبعده على الحدِّ الذي أشار إليه قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ (هود: 17)(129).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(127) ذكر الرازي في تفسيره (ج 11/ ص 137) في الحديث حول الآية الإشكال بأنَّ (إكمال الدِّين) عند نزولها، وهي من آخر ما نزل، يعني أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يعبد الله في دين ناقص، وبما ذكرناه هنا يرتفع الإشكال؛ لأنَّ تأصيل سُنَّة (أُولي الأمر) التي كمل بها الدِّين حاجة للأُمَّة لا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما هو واضح، ولذلك فالرسول في عين الكمال الذي يمكن أنْ يبلغه إنسان شخصاً وديناً.
(128) روى نزولها بعد غدير خُمٍّ الطبري في كتاب الولاية (ص 92/ ح 144)، وابن كثير في تفسيره (ج 2/ ص 15)، والسيوطي في الدُّرِّ المنثور (ج 2/ ص 259)؛ ورواه عدد من الحُفَّاظ كالخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ج 8/ ص 284)، وأبو نعيم في النور المشتعل (ص 56 - 60/ ح 4)، والحسكاني في شواهد التنزيل (ج 1/ ص 200/ باب 32)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (ج 42/ ص 233)، وغيرهم. راجع: الغدير (ج 1/ ص 230 - 236).
(129) ذكر ابن جرير الطبري في تفسيره (ج 12/ ص 22)، وابن أبي حاتم في تفسيره (ج 6/ ص 2014 و2015)، والثعلبي في تفسيره (ج 5/ ص 162)، وابن عطيَّة الأندلسي في المحرَّر الوجيز (ج 3/ ص 157)، والفخر الرازي في تفسيره (ج 17/ ص 201)، والقرطبي في تفسيره (ج 9/ ص 16)، والسيوطي في الدُّرِّ المنثور (ج 3/ ص 324)؛ وذكر الحافظ ابن مردويه في مناقب عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) (ص 261 - 263/ باب 37)، وأبو نعيم الأصبهاني في النور المشتعل (ص 111/ ح 26 - 28)، وفي معرفة الصحابة (ج 1/ ص 105/ ح 346)، والحافظ ابن المغازلي في مناقب عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) (ص 248/ ح 312)، والحسكاني في شواهد التنزيل (ج 1/ ص 359/ باب 63)، وغيرهم، أنَّ المقصود بالشاهد الذي يتلوه منه هو عليٌّ (عليه السلام).
إنَّ كونهم في طوله، ويتلونه مقاماً بحكم انتسابهم إليه هدًى وعلماً لا ينفي أنْ تكون سُنَّتهم في عرض سُنَّته، لأنَّهم منه.
فإنَّه لابدَّ لهذا الشاهد الذي يتلوه منه لكي يكون حجَّة وتكون شهادته شاملة - بعد خاتم الأنبياء - تتناول أبعاد الرسالة، وعمقها، وليواجه فيها كلَّ المجتمعات، وكلَّ الحوادث في جميع الأزمنة والظروف، من أنْ يكون محيطاً بالرسالة، موصولاً بالعلم اللدنِّي مضافاً للعلم الموروث؛ لأنَّ ذلك هو معنى الخلافة الكاملة كما تُثبِته جميع أدلَّتها النظريَّة، بل هو ما صرَّح به الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)، فقد شبَّهوا أنفسهم بالخضر وذي القرنين(130)، وهما ليسا نبيَّين لكنَّهما يتلقَّيان علماً سماويًّا عن الله بنصِّ القرآن الكريم.
ولابد لهذا الشاهد التالي أيضاً من أنْ يكون معصوماً؛ لأنَّ التمثيل الكامل لا يتمُّ من دون ذلك عمليًّا، ولأنَّ العصمة من آثار المعرفة الشاملة الموصولة وآثار الحضور الذي يلازمها، وهو يعني الشعور العميق الدائم بمعنى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد: 4)، وهما لا ينفصلان عن سموِّ الذات من حيث مقامها مبدأً ومعاداً، واختيار العالم لما علمه يقيناً، وانصراف هواه إليه ليس جبراً كما هو واضح.
وهو إشكال يُثار كثيراً عند الحديث عن العصمة لدى الأنبياء والأوصياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(130) راجع: الكافي (ج 1/ ص 268/ باب في أنَّ الأئمَّة بمن يشبهون ممَّن مضى...).
وفي الآيات الكريمة التي تشير إلى اصطفاء البيوت النبويَّة نسبيًّا، ثمّ اصطفاء من يضطلع بالرسالة والإمامة من داخل هذه البيوت(131)، وفي ما يدلُّ عليه حديث الكساء ونزول آية التطهير(132)، وآية المباهلة، وغير ذلك ممَّا يتَّصل بأهل بيت النبيِّ (عليهم السلام) بالمعنى الأخصّ، ما هو كافٍ في البرهنة على ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(131) يشير قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ (آل عمران: 34 و35)، وقوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (العنكبوت: 27) إلى اصطفاء البيوت النبويَّة. ويشير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (الحديد: 26)، وقوله تعالى: ﴿وَبارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ (الصافَّات: 113) إلى اصطفاء نسبي وقياساً للبيوت الأُخرى بدلالة قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ (يوسف 7)، وقوله تعالى: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ﴾ (يوسف: 9)، ومثلهما الآيات التي تشير إلى حالة ابن نوح وأب إبراهيم وزوجتي نوح ولوط. ولذلك فهنالك اصطفاء داخل البيوت النبويَّة كذلك، وكلُّ ما ورد عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) دليل على هذا الاصطفاء الأخصّ داخل البيت النبوي.
(132) روى نزول آية التطهير وإدخال الرسول عليًّا وفاطمة والحسنين تحت المرط: ابن أبي شيبة في مصنَّفه (ج 7/ ص 501/ ح 39 و40)، وابن راهويه في مسنده (ج 3/ ص 678/ ح 728/1271)، وأحمد بن حنبل في مسنده (ج 5/ ص 178 - 181/ ح 3061، وج 28/ ص 195/ ح 16988، وج 44/ ص 118 و119/ ح 26508)، ومسلم في صحيحه (ج 7/ ص 130)، والترمذي في سُنَنه (ج 5/ ص 30 و31 و328/ ح 3258 و3875)، وابن حبَّان في صحيحه (ج 15/ ص 432 و433)، وابن جرير الطبري في تفسيره (ج 22/ ص 9 - 13/ ح 21727 - 21739) بخمسة عشر إسناداً، والطبراني في المعجم الكبير (ج 3/ ص 52 - / ح 2662 - 2669) بثمانية أسانيد، وغيرهم.
وبذلك نستطيع أنْ نُدرك معنى أنْ تُحصَر الولاية بالله ورسوله وبشخص عُطِفَ عليهما وعُيِّن بالفعل والحالة والنصِّ في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55)(133).
ونُدرك أيضاً معنى أنْ يأمر الله تعالى بطاعة (أُولي الأمر) بصورة مطلقة معطوفين على الله ورسوله في قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 59). وما كان ذلك ليكون لولا العصمة؛ لأنَّ فيه مناقضة واضحة للعقيدة والتشريع، إنَّ الأمر بإطاعة (أُولي الأمر) مطلقاً إذا لم يكونوا معصومين يعني حمل الإسلام لنقيضه على عمد.
وتبدو محاولة بعض المفسِّرين لتصحيح ذلك بالقول: إنَّ إطلاق الأمر في الآية مقيَّد بما هو المعلوم من خارجها من أنَّه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) اتِّهام لبلاغة القرآن وإحكام آياته، وممَّن رأى عدم إمكان الأخذ بإطلاق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(133) روى نزولها في عليٍّ (عليه السلام): ابن جرير الطبري في تفسيره (ج 6/ ص 389) بإسنادين، وابن أبي حاتم في تفسيره (ج 4/ ص 1162)، والماتريدي في تفسيره (ج 3/ ص 544)، والطبراني في تفسيره (ج 2/ ص 414)، والسمرقندي في تفسيره (ج 1/ ص 424)، وابن زمنين في تفسيره (ج 2/ ص 33 و34)، والثعلبي في تفسيره (ج 4/ ص 80)، والواحدي في أسباب النزول (ص 133)، والسمعاني في تفسيره (ج 2/ ص 47 و48)، والحسكاني في شواهد التنزيل (ج 1/ ص 209/باب 33)، والزمخشري في كشَّافه (ج 1/ص 624)، والفخر الرازي في تفسيره (ج 12/ ص 26)، وابن عربي في تفسيره (ج 1/ ص 204)، والعزُّ بن عبد السلام في تفسيره (ج 1/ ص 393 و394)، والقرطبي في تفسيره (ج 6/ ص 221)، والبيضاوي في تفسيره (ج 2/ ص 339)، والخازن في تفسيره (ج 2/ ص 56)، وأبو حيَّان الأندلسي في تفسيره (ج 3/ ص 525)، وابن كثير في تفسيره (ج 2/ ص 73 و74)، والسيوطي في الدُّرِّ المنثور (ج 2/ ص 293)، وغيرهم.
الأمر بالطاعة في الآية ورأى أنَّ المقصود أُمراء الحقِّ الزمخشري(134)، وممَّن رأى دلالتها على عصمة (أُولي الأمر)، وحاول إبعادها عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) وتطبيقها على أهل الإجماع الفخر الرازي(135).
وقد ناقشه بقوَّة وأصالة، وبيَّن وجوه الخطأ والمغالطة في كلامه أُستاذنا الحجَّة السيِّد محمّد تقي الحكيم (رحمه الله) بما لم يبقَ معه مجال للنظر إلى ما أثاره من إشكال، ورآه من تطبيق آخر للآية(136).
وممَّا يُؤيِّد القول بأنَّ المقصود بها الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) دون غيرهم قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المتواتر: «مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ»(137).
وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المتَّفق على صحَّته: «عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى»(138).
وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أَنَا مَدِيِنَةُ العِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا»(139).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(134) الكشَّاف (ج 1/ ص 535).
(135) تفسير الرازي (ج 10/ ص 144 - 146).
(136) الأُصول العامَّة للفقه المقارن (ص 159 - 164).
(137) ذكر العلَّامة الأميني (رحمه الله) في الغدير (ج 1/ ص 14 - 61) (110) من الصحابة رووا الحديث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذكر في (ص 62 - 72) (84) تابعيًّا ممَّن رووه، ثمّ ذكر طبقات رواته من العلماء ومصادره، فراجع.
(138) قد تقدَّم في هامش (ص 93) أنَّه رواه البخاري ومسلم وأصحاب كُتُب السُّنَن والمسانيد والمعاجم، وصحَّحته دون خلاف، فراجع.
(139) الغدير (ج 6/ ص 61 - 79)، وقد نقل الحديث عن (143) مصدر سُنِّي، وأوصل عدد من صحَّحه من أهل السُّنَّة إلى (21) عالم. وأصدر العلَّامة الغماري المغربي أحمد بن محمّد بن الصدِّيق كتاباً بعنوان: فتح الملك العليِّ بصحَّة حديث باب مدينة العلم عليٍّ (ط 2/ 1969هـ/ مصر).
وقوله الذي قدَّمنا الحديث عنه، وهو متَّفق على صحَّته في أنَّ الأئمَّة من بعده اثنا عشر(140).
وحديث الثقلين الصحيح والمتواتر معاً، وقد أشرنا إلى ذلك في البحث الأوَّل، ففيه جعل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التمسُّك بالقرآن وأهل البيت (عليهم السلام) عاصماً من الضلالة، وهو ما لا يُتصوَّر بحالٍ من دون أنْ يكونوا معصومين.
وفي قوله في الحديث نفسه: «فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا - يعني الكتاب وأهل البيت - حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ» إشارة واضحة لهذه العصمة علميًّا.
وتُؤكِّد أحاديث أُخرى كثيرة هذا المعنى نفسه.
ويتطابق الدليل النظري الذي أشرنا إليه، وهو متَّسق دلالةً في الآيات والروايات مع الواقع التاريخي لهؤلاء الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) دعوًى، وخلقاً، وعلماً، وعملاً، وآثاراً، ويتطابق عدداً كذلك(141) بحيث لا مجال للمقارنة لأنْ ترى في هذه النصوص عدا نظريَّة الإمامة بالمعنى الذي ذكرناه، ولا مجال لأنْ ترى لها مصداقاً غيرهم.
وفي ضوء ذلك - وهو ما أردناه من الحديث الموجز عن نظريَّة الإمامة لدى الإمامية الاثني عشريَّة - نخلص إلى أمرين هامَّين جدًّا بالنسبة إلى هذا البحث:
أوَّلهما: أنَّ قضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - بحكم كونه أحد الأئمَّة الاثني عشر -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(140) راجع ما تقدَّم في البحث الأوَّل من الفصل الأوَّل؛ ورواه العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 36/ ص 192 - 373) مجملاً ومفصَّلاً (أي مع التسمية) بـ(234) إسناداً، لتنبيه من تصوَّر أنَّ الاثني عشر في الإمامة مختلقة.
(141) راجع: الشاهد الثاني للرسالة (بحث في نظريَّة الإمامة طبقاً لمنهجي الاتِّساق النظري والتطابق الموضوعي) للمؤلِّف.
تتَّصل بالإيمان بالرسالة بوصفها جزءاً أصيلاً منها، وليس فقط من جهة صحَّة الأخبار وتواترها عنه؛ ولذلك فالحديث عنه وبلورة ما يساعد على فهم ما يتَّصل به تاريخيًّا من بعض الجهات الغامضة - كإخفاء ولادته إلَّا عن الخاصَّة، وغيبته الصغرى والكبرى، وسرِّهما من الأهمّيَّة بحيث يساوي أيَّة مسالة عقائديَّة - أساس.
ثانيهما: أنَّ أحاديث الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) - طبقاً لنظريَّة الإمامة - لها نفس القيمة التي تُعطى للأحاديث النبويَّة، بحكم كونهم امتداداً له في العصمة العلميَّة والعمليَّة.
وبهذه الأحاديث سيجد المسلم مدى أوسع من قواعد الرؤية للرسالة أُصولاً وفروعاً بصورة لا محلَّ فيها للتناقض، ولا للاجتهادات المتعارضة.
إنَّ كلَّ المسائل الواقعة والمفترضة لا تُعدَم الإجابة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ضمن هذا التراث الواسع للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولأوصيائه الاثني عشر (عليهم السلام)، وبما يُحقِّق الانسجام الفعلي والكامل بين قواعد العقيدة وما يتَّصل بها من مفاهيم مختلفة، وبين بُناها التشريعيَّة وأحكامها.
ومن بين المسائل التي سنفيد كثيراً من هذه الأحاديث فيها قضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فقد كانت من دون شكٍّ بحاجة لجلاء بعض الجوانب الغامضة فيها قليلاً أو كثيراً في تراث غيرهم.
أمَّا في التراث الوارد عنهم (عليهم السلام) سواء ما رووه عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو ما تحدَّثوا به - وإنْ كان هذا من ذاك -، فقد وضحت تلك المسائل جميعاً.
إنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في هذه الأحاديث المرويَّة عن أحد عشر إماماً مضافاً إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن طريقهم، وإلى الزهراء (عليها السلام)، معروف تماماً اسماً، وشخصاً، ووالداً، ووالدةً، وتاريخاً، وظروف ولادة، وقد حتَّمت التقيَّة إخفاءها إلَّا عن الخاصَّة، ومعروف أيضاً صفةً وغيبةً ونُوَّاباً ودوراً وآثاراً.
وهي من الكثرة بحيث لا يمكن استيعابها في هذا الكتاب، ولا يمكن إيراد حتَّى ما يكفي منها في كلِّ موضوع إلَّا على سبيل الإشارة فقط، فقد أعطى الأئمَّة (عليهم السلام) من عليٍّ (عليه السلام) إلى الحسن العسكري (عليه السلام) لقضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - كما ينبغي - موقعاً مركزيًّا في أحاديثهم بحكم ما يحيطها من ملابسات وشُبَه وشؤون غيبيَّة ليس سهلاً أنْ تستوعب حتَّى من قِبَل المؤمنين لولاهم (عليهم السلام).
ويكفي أنْ تطَّلع على ما كتبه الشيخ الصدوق (رحمه الله) المتوفَّى (381هـ) في (كمال الدِّين وتمام النعمة)، والشيخ الطوسي (رحمه الله) المتوفَّى (460هـ) في (الغيبة)، وكتاب (الغيبة) للشيخ النعماني المعروف بابن أبي زينب تلميذ الكليني وكاتبه (رحمهما الله)، وقد ألَّفه قبل سنة (336هـ)، و(الفصول العشرة) للشيخ المفيد (رحمه الله) المتوفَّى (413هـ)، وكتاب البرهان لأبي الفتح الكراجكي (رحمه الله) المتوفَّى سنة (441هـ)، وكتاب (الحجَّة) للسيِّد هاشم البحراني (رحمه الله) المتوفَّى (1107هـ)، و(كشف الأستار) للشيخ الميرزا حسين النوري (رحمه الله)، وكتاب (البرهان) للسيِّد محسن الأمين (رحمه الله)، ومن الكتب الحديثة التي عنيت بجمع الأحاديث الواردة فيه (عجَّل الله فرجه) (منتخب الأثر) للشيخ لطف الله الصافي (رحمه الله).
قلت: يكفي أنْ تطَّلع على هذه الكُتُب أو بعضها أو على هذا المرجع الأخير فقط، لترى أنَّ ما أشرت إليه ليس من المبالغة في شيء.
لقد ذكرت أنِّي قمت بعمليَّة جمع ما أشار إليه الشيخ الصافي (رحمه الله) في كتابه من أعداد للأحاديث التي أوردها أو أشار إليها في أبواب الفصل الأوَّل والفصل الثاني وأربعة أبواب من الفصل الثالث، فكانت (5303) أحاديث(142)، وهو رقم كبير مهما أسقطنا منه أخذاً للتداخل في الأبواب التي ذكرها، وللتكرار في الحساب. ولذلك فليس أمامي إلَّا أنْ أختار ممَّا ورد عن كلِّ إمام من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(142) راجع ما مرَّ في هامش (ص 66).
الأئمَّة (عليهم السلام) في ما يتَّصل بالمسائل التي أشرت إليها أمثلة من هذه الأحاديث في كلِّ موضوع من الموضوعات السابقة، وحسب أهمّيَّتها في الاستشهاد على القضيَّة.
الأحاديث المتَّصلة بشخص الإمام (عجَّل الله فرجه) وإخفاء ولادته وغيبته:
رغم أنَّا أوردنا في الفصل الأوَّل عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - ممَّا نُقِلَ في مصادر غير الإماميَّة - ما يدلُّ على تشخيص الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه التاسع من ولد الحسين، والثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّ أهمّيَّة هذه المسألة - بحكم الخلاف القائم فيها بين المسلمين - تدعونا للتأكيد عليها بإيراد المزيد من الأحاديث المنقولة في مصادر الإماميَّة وبطُرُقهم. وإنَّا لنجد مثل هذا الاهتمام في الحديث عنها - ولابدَّ من أنْ يكون للسبب نفسه - لدى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) إلى الحدِّ الذي لم يغفل الحديث عنها مكرِّراً أحد منهم، ولم يقتصروا (عليهم السلام) في حديثهم على تشخيص الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، بل تحدَّثوا مسبقاً عن كلِّ ما يتَّصل به ممَّا هو مثار تساؤل وتشكيك - كإخفاء ولادته إلَّا عن الخاصَّة، وغيبته الصغرى والكبرى -، وحاولوا التنظير بما حدث في تاريخ بعض الأنبياء (عليهم السلام)، وقد كان لأحاديثهم في ذلك أبلغ الأثر في تثبيت المؤمنين أمس واليوم، بخاصَّة وأنَّ الأكثر منها تسبق تاريخ ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه) بعشرات السنين.
قال الشيخ الصدوق (رحمه الله) المتوفَّى (381هـ) - وهو يُبيِّن وجه الدلالة في هذه الأحاديث -: (إنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) قد أخبروا بغيبته (عليه السلام)، ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نقل عنهم واستُحفِظَ في الصُّحُف ودُوِّن في الكُتُب المؤلَّفة من قبل أنْ تقع الغيبة بمائتي سنة أو أقلّ أو أكثر، فليس أحد من أتباع الأئمَّة (عليهم السلام) إلَّا وقد ذكر ذلك في كثير من كُتُبه ورواياته، ودوَّنه في مصنَّفاته، وهي الكُتُب التي
تُعرَف بالأُصول مدوَّنة مستحفظة عند شيعة آل محمّد (عليهم السلام) من قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين، وقد أخرجت ما حضرني من الأخبار المسندة في الغيبة في هذا الكتاب - يعني مصادرنا المشار إليه في الهامش - في مواضعها. فلا يخلو حال هؤلاء الأتباع المؤلِّفين للكُتُب أنْ يكونوا علموا الغيب بما وقع الآن من الغيبة، فألَّفوا ذلك في كُتُبهم ودوَّنوه في مصنَّفاتهم من قبل كونها، وهذا محال عند أهل اللبِّ والتحصيل، أو أنْ يكونوا قد أسَّسوا في كُتُبهم الكذب فاتَّفق الأمر لهم كما ذكروا، وتحقَّق كما وضعوا من كذبهم على بعد ديارهم واختلاف آرائهم وتباين أقطارهم ومحالِّهم، وهذا أيضاً محال كسبيل الوجه الأوَّل، فلم يبقَ في ذلك إلَّا أنَّهم حفظوا عن أئمَّتهم المستحفظين للوصيَّة (عليهم السلام))(143).
وسننقل - في ما يأتي - بعض ما ورد في ذلك عن كلِّ واحدٍ من المعصومين (عليهم السلام) بدءاً من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
(1) بعض ما روي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (144):
1 - روى مسنداً عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، اسْمُهُ اسْمِي، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلْقاً وَخُلْقاً، تَكُونُ بِهِ غَيْبَةٌ وَحَيْرَةٌ تَضِلُّ فِيهَا الأُمَمُ، ثُمَّ يُقْبِلُ كَالشِّهَابِ الثَّاقِبِ يَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(145).
ورواه بسند آخر عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(146).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(143) كمال الدِّين (ص 19).
(144) أورد الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين من (ص 286 - 288/ باب 25) عشرات من الأحاديث الواردة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المضمون الذي نذكره عنه هنا.
(145) كمال الدِّين (ص 286/ باب 25/ ح 1).
(146) كمال الدِّين (ص 287/ باب 25/ ح 4).
2 - وروي مسنداً عن عمَّار، قال: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، وَقَتَلَ عَلِيٌّ (عليه السلام) أَصْحَابَ الألوِيَةِ، وَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ، وَقَتَلَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اَلله الجُمَحِيَّ، وَقَتَلَ شَيْبَةَ بْنَ نَافِعٍ، أَتَيْتُ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اَلله، صَلَّى اَللهُ عَلَيْكَ، إِنَّ عَلِيّاً قَدْ جَاهَدَ فِي اَلله حَقَّ جِهَادِهِ، فَقَالَ: «لِأَنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَارِثُ عِلْمِي، وَقَاضِي دَيْنِي، وَمُنْجِزُ وَعْدِي، وَالخَلِيفَةُ بَعْدِي، وَلَوْلَاهُ لَمْ يُعْرَفِ اَلمُؤْمِنُ اَلمَحْضُ، حَرْبُهُ حَرْبِي وَحَرْبِي حَرْبُ اَلله، وَسِلْمُهُ سِلْمِي وَسِلْمِي سِلْمُ اَلله، أَلاَ إِنَّهُ أَبُو سِبْطَيَّ وَالأَئِمَّةِ، مِنْ صُلْبِهِ يُخْرِجُ اَللهُ تَعَالَى الأَئِمَّةَ اَلرَّاشِدِينَ، وَمِنْهُمْ مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ»، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اَلله، مَا هَذَا اَلمَهْدِيُّ؟ قَالَ: «يَا عَمَّارُ، إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ صُلْبِ الحُسَيْنِ تِسْعَةً، وَاَلتَّاسِعُ مِنْ وُلْدِهِ يَغِيبُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30]، يَكُونُ لَهُ غَيْبَةٌ طَوِيلَةٌ يَرْجِعُ عَنْهَا قَوْمٌ وَيَثْبُتُ عَلَيْهَا آخَرُونَ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ يَخْرُجُ فَيَمْلَأُ اَلدُّنْيَا قِسْطاً وَعَدْلاً، وَيُقَاتِلُ عَلَى اَلتَّأْوِيلِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى اَلتَّنْزِيلِ، وَهُوَ سَمِيِّي، وَأَشْبَهُ اَلنَّاسِ بِي...»(147).
(2) بعض ما روي عن الإمام عليٍّ (عليه السلام):
1 - روى الصدوق (رحمه الله) في حديث مسند عن الحسين بن عليٍّ (عليه السلام)، قال: إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِكَ يَا حُسَيْنُ هُوَ القَائِمُ بِالحَقِّ، المُظْهِرُ لِلدِّينِ، وَالبَاسِطُ لِلْعَدْلِ، قَالَ الحُسَيْنُ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟ فَقَالَ (عليه السلام): إِي وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالنُّبُوَّةِ وَاصْطَفَاهُ عَلَى جَمِيعِ البَرِيَّةِ، وَلَكِنْ بَعْدَ غَيْبَةٍ وَحَيْرَةٍ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهَا عَلَى دِينِهِ إِلَّا المُخْلِصُونَ المُبَاشِرُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(147) كفاية الأثر (ص 120 و121).
لِرَوْحِ اليَقِينِ، الَّذِينَ أَخَذَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) مِيثَاقَهُمْ بِوَلَايَتِنَا، وَكَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»(148).
2 - وروى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنِ الأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَوَجَدْتُهُ مُتَفَكِّراً يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، مَا لِي أَرَاكَ مُتَفَكِّراً تَنْكُتُ فِي الأَرْضِ أَرَغِبْتَ فِيهَا؟ (يعني الخلافة)، فَقَالَ: «لَا وَاللهِ مَا رَغِبْتُ فِيهَا وَلَا فِي الدُّنْيَا يَوْماً قَطُّ، وَلَكِنْ فَكَّرْتُ فِي مَوْلُودٍ يَكُونُ مِنْ ظَهْرِي الحَادِيَ عَشَرَ مِنْ وُلْدِي، هُوَ المَهْدِيُّ يَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، تَكُونُ لَهُ حَيْرَةٌ وَغَيْبَةٌ يَضِلُّ فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَهْتَدِي فِيهَا آخَرُونَ...»(149).
(3) بعض ما روي عن الصدِّيقة فاطمة الزهراء (عليها السلام):
1 - وروى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ البَاقِرِ (عليهما السلام)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مَوْلَاتِي فَاطِمَةَ (عليها السلام) وَقُدَّامَهَا لَوْحٌ يَكَادُ ضَوْؤُهُ يَغْشَى الأَبْصَارَ، فِيهِ اثْنَا عَشَرَ اسْماً، ثَلَاثَةٌ فِي ظَاهِرِهِ وَثَلَاثَةٌ فِي بَاطِنِهِ وَثَلَاثَةُ أَسْمَاءَ فِي آخِرِهِ وَثَلَاثَةُ أَسْمَاءَ فِي طَرَفِهِ، فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ اثْنَا عَشَرَ اسْماً، فَقُلْتُ: أَسْمَاءُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَتْ: «هَذِهِ أَسْمَاءُ الأَوْصِيَاءِ، أَوَّلُهُمْ ابْنُ عَمِّي وَأَحَدَ عَشَرَ مِنْ وُلْدِي، آخِرُهُمُ القَائِمُ [صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ]»، قَالَ جَابِرٌ: فَرَأَيْتُ فِيهَا مُحَمَّداً مُحَمَّداً مُحَمَّداً فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ، وَعَلِيًّا وَعَلِيًّا وَعَلِيًّا وَعَلِيًّا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ(150).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(148) كمال الدِّين (ص 304/ باب 26/ ح 16).
(149) كمال الدِّين (ص 288 و289/ باب 26/ ح 1)؛ ورواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 120 و121/ ح 115)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 338/ باب في الغيبة/ح 7)، والمفيد (رحمه الله) في الاختصاص (ص 209)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 336/ ح 282).
(150) رواها بعدَّة صيغ مطوَّلة ومختصرة وبأسانيد متعدِّدة عن جابر في (ص 308 - 313/ باب 28).
(4) بعض ما روي عن الإمام الحسن (عليه السلام):
1 - وروى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَقِيصَا، قَالَ: لَـمَّا صَالَحَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَلَامَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَيْعَتِهِ، فَقَالَ (عليه السلام): «وَيْحَكُمْ مَا تَدْرُونَ مَا عَمِلْتُ، وَاللهِ الَّذِي عَمِلْتُ خَيْرٌ لِشِيعَتِي مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ، أَلَا تَعْلَمُونَ أَنَّنِي إِمَامُكُمْ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ عَلَيْكُمْ وَأَحَدُ سَيِّدَيْ شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ بِنَصٍّ مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَلَيَّ؟»، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الخَضِرَ (عليه السلام) لَـمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ وَأَقَامَ الجِدَارَ وَقَتَلَ الغُلَامَ كَانَ ذَلِكَ سَخَطاً لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، إِذْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً، أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَيَقَعُ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ إِلَّا القَائِمُ الَّذِي يُصَلِّي رُوحُ اللهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) خَلْفَهُ، فَإِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) يُخْفِي وِلَادَتَهُ، وَيُغَيِّبُ شَخْصَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ، ذَلِكَ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ أَخِي الحُسَيْنِ ابْنِ سَيِّدَةِ الإِمَاءِ، يُطِيلُ اللهُ عُمُرَهُ فِي غَيْبَتِهِ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ بِقُدْرَتِهِ فِي صُورَةِ شَابٍّ دُونَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(151).
(5) بعض ما روي عن الإمام الحسين (عليه السلام):
1 - وروى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ (سمَّاه بعضهم)، قَالَ: سَمِعْتُ الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهما السلام) يَقُولُ: «قَائِمُ هَذِهِ الأُمَّةِ هُوَ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ صَاحِبُ الغَيْبَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ وَهُوَ حَيٌّ»(152).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(151) كمال الدِّين (ص 315 و316/ باب 29/ ح 2)؛ ورواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 224 - 226)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 229 و230)، وأحمد ابن عليٍّ الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 9 و10).
(152) كمال الدِّين (ص 317/ باب 30/ ح 2).
2 - وروى أيضاً عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلِيطٍ، قَالَ: قَالَ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهما السلام): «مِنَّا اثْنَا عَشَرَ مَهْدِيًّا أَوَّلُهُمْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخِرُهُمُ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ الإِمَامُ القَائِمُ بِالحَقِّ، يُحْيِي اللهُ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَيُظْهِرُ بِهِ دِيْنَ الحَقِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ، لَهُ غَيْبَةٌ يَرْتَدُّ فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَثْبُتُ فِيهَا عَلَى الدِّينِ آخَرُونَ، فَيُؤْذَوْنَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: ﴿مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: 48]، أَمَا إِنَّ الصَّابِرَ فِي غَيْبَتِهِ عَلَى الأَذَى وَالتَّكْذِيبِ بِمَنْزِلَةِ المُجَاهِدِ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(153).
(6) بعض ما روي عن الإمام عليِّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام):
1 - وروى الصدوق (رحمه الله) أيضاً بسنده عن أبي خالد الكابلي أنَّه حين سأل الإمام عليَّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) عن الأئمَّة الذين افترض الله طاعتهم وأوجب الاقتداء بهم بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذكر له عليًّا، والحسن، والحسين، وذكر أنَّ الأمر انتهى إليه، وأنَّه سيكون من بعده لابنه محمّد الباقر (عليه السلام)، ثمّ ابنه جعفر الصادق (عليه السلام).
وحين سأله أبو خالد عن سرِّ تسميته بالصادق وكلُّهم صادقون بيَّن له (عليه السلام) أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إِذَا وُلِدَ ابْنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام) فَسَمُّوهُ الصَّادِقَ، فَإِنَّ لِلْخَامِسِ مِنْ وُلْدِهِ وَلَداً اسْمُهُ جَعْفَرٌ يَدَّعِي الإِمَامَةَ اجْتِرَاءً عَلَى اللهِ وَكَذِباً عَلَيْهِ».
ثمّ تحدَّث الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فقال: «كَأَنِّي بِجَعْفَرٍ الكَذَّابِ وَقَدْ حَمَلَ طَاغِيَةَ زَمَانِهِ عَلَى تَفْتِيشِ أَمْرِ وَلِيِّ اللهِ وَالمُغَيَّبِ فِي حِفْظِ اللهِ وَالتَّوْكِيلِ بِحَرَمِ أَبِيهِ جَهْلاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(153) كمال الدِّين (ص 317/ باب 30/ ح 3)؛ ورواه (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 69/ ح 36)، وابن عيَّاش (رحمه الله) في مقتضب الأثر (ص 23).
مِنْهُ بِوِلَادَتِهِ، وَحِرْصاً مِنْهُ عَلَى قَتْلِهِ إِنْ ظَفِرَ بِهِ، وَطَمَعاً فِي مِيرَاثِهِ حَتَّى يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ».
وأجاب الإمام (عليه السلام) حين قال له أبو خالد: يا بن رَسُولِ اللهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَائِنٌ؟ قائلاً: «إِي وَرَبِّي إِنَّ ذَلِكَ لَمَكْتُوبٌ عِنْدَنَا فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ المِحَنِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)».
قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ: يا بن رَسُولِ اللهِ، ثُمَّ يَكُونُ مَا ذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ تَمْتَدُّ الغَيْبَةُ بِوَلِيِّ اللهِ (عزَّ وجلَّ) الثَّانِي عَشَرَ مِنْ أَوْصِيَاءِ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَالأَئِمَّةِ بَعْدَهُ. يَا أَبَا خَالِدٍ، إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ القَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ وَالمُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ...»(154).
2 - وروى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ العَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) يَقُولُ: «فِي القَائِمِ مِنَّا سُنَنٌ مِنَ سَبْعَةِ أَنْبِيَاءٍ، سُنَّةٌ مِنْ أَبِينَا آدَمَ (عليه السلام)، وَسُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ، وَسُنَّةٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُوسَى، وَسُنَّةٌ مِنْ عِيسَى، وَسُنَّةٌ مِنْ أَيُّوبَ، وَسُنَّةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمْ)، فَأَمَّا مِنْ آدَمَ وَنُوحٍ فَطُولُ العُمُرِ، وَأَمَّا مِنْ إِبْرَاهِيمَ فَخَفَاءُ الوِلَادَةِ(155) وَاعْتِزَالُ النَّاسِ، وَأَمَّا مِنْ مُوسَى فَالخَوْفُ وَالغَيْبَةُ، وَأَمَّا مِنْ عِيسَى فَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهِ، وَأَمَّا مِنْ أَيُّوبَ فَالفَرَجُ بَعْدَ البَلْوَى، وَأَمَّا مِنْ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فَالخُرُوجُ بِالسَّيْفِ»(156).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(154) كمال الدِّين (ص 319 و320/ باب 31/ ح 2).
(155) ورد في روايات أُخرى تنظير بخفاء الولادة بموسى (عليه السلام)، منها ما رواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 152/ باب 6/ ح 14) بسنده عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «فِي القَائِمِ (عليه السلام) سُنَّةٌ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام)»، فَقُلْتُ: وَمَا سُنَّتُهُ مِنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ؟ قَالَ: «خَفَاءُ مَوْلِدِهِ، وَغَيْبَتُهُ عَنْ قَوْمِهِ»، فَقُلْتُ: وَكَمْ غَابَ مُوسَى عَنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ؟ فَقَالَ: «ثَمَانِي وَعِشْرِينَ سَنَةً»؛ ورواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 109/ ح 95).
(156) كمال الدِّين (ص 321 و322/ باب 31/ ح 3).
(7) بعض ما روي عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام):
1 - وروى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِلَى الجِنِّ وَالإِنْسِ، وَجَعَلَ مِنْ بَعْدِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَصِيًّا، مِنْهُمْ مَنْ مَضَى وَمِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ، وَكُلُّ وَصِيٍّ جَرَتْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنَ الأَوْصِيَاءِ الَّذِينَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَلَى سُنَّةِ أَوْصِيَاءِ عِيسَى (عليه السلام)، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَلَى سُنَّةِ المَسِيحِ»(157).
2 - وروى عَنْ أَبِي أَيُّوبَ المَخْزُومِيِّ، قَالَ: ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ البَاقِرُ (عليهما السلام) سَيْرَ الخُلَفَاءِ الاِثْنَيْ عَشَرَ الرَّاشِدِينَ (صَلَوَاتُ اَللهِ عَلَيْهِم)، فَلَمَّا بَلَغَ آخِرَهُمْ قَالَ: «الثَّانِي عَشَرَ الَّذِي يُصَلِّي عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) خَلْفَهُ، عَلَيْكَ بِسُنَّتِهِ وَالقُرْآنِ الكَرِيمِ»(158).
3- وروى بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الثَّقَفِيِّ الطَّحَّانِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ البَاقِرِ (عليهما السلام) وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ القَائِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ)، فَقَالَ لِي مُبْتَدِئاً: «يَا مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ، إِنَّ فِي القَائِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شَبَهاً مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الرُّسُلِ: يُونُسَ بْنِ مَتَّى، وَيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِم).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(157) كمال الدِّين (ص 326/ باب 32/ ح 4)؛ ورواه (رحمه الله) في الخصال (ص 478/ ح 43)، وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 59/ ح 21)، وابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 134/ ح 146)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 532/ باب فيما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهم السلام)/ ح 10)، والمفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 345)، والكراجكي (رحمه الله) في الاستنصار (ص 17)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 141/ ح 105).
(158) كمال الدِّين (ص 331 و332/ باب 32/ ح 17).
فَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَرُجُوعُهُ مِنْ غَيْبَتِهِ وَهُوَ شَابٌّ بَعْدَ كِبَرِ السِّنِّ. وَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ (عليهما السلام) فَالغَيْبَةُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَعَامَّتِهِ، وَاخْتِفَاؤُهُ مِنْ إِخْوَتِهِ، وَإِشْكَالُ أَمْرِهِ عَلَى أَبِيهِ يَعْقُوبَ (عليه السلام) مَعَ قُرْبِ المَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَأَهْلِهِ وَشِيعَتِهِ. وَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ مُوسَى (عليه السلام) فَدَوَامُ خَوْفِهِ، وَطُولُ غَيْبَتِهِ، وَخَفَاءُ وِلَادَتِهِ، وَتَعَبُ شِيعَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِمَّا لَقُوا مِنَ الأَذَى وَالهَوَانِ إِلَى أَنْ أَذِنَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي ظُهُورِهِ وَنَصْرِهِ وَأَيَّدَهُ عَلَى عَدُوِّهِ. وَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ عِيسَى (عليه السلام) فَاخْتِلَافُ مَنِ اخْتَلَفَ فِيهِ حَتَّى قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: مَا وُلِدَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَاتَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: قُتِلَ وَصُلِبَ. وَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ جَدِّهِ المُصْطَفَى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فَخُرُوجُهُ بِالسَّيْفِ، وَقَتْلُهُ أَعْدَاءَ اللهِ وَأَعْدَاءَ رَسُولِهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَالجَبَّارِينَ وَالطَّوَاغِيتَ، وَأَنَّهُ يُنْصَرُ بِالسَّيْفِ وَالرُّعْبِ، وَأَنَّهُ لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ. وَإِنَّ مِنْ عَلَامَاتِ خُرُوجِهِ: خُرُوجَ السُّفْيَانِيِّ مِنَ الشَّامِ، وَخُرُوجَ اليَمَانِيِّ [مِنَ اليَمَنِ]، وَصَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمُنَادٍ يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ»(159).
4 - وبسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أيضاً، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ البَاقِرَ (عليهما السلام) يَقُولُ: «القَائِمُ مِنَّا مَنْصُورٌ بِالرُّعْبِ، مُؤَيَّدٌ بِالنَّصْرِ، تُطْوَى لَهُ الأَرْضُ، وَتَظْهَرُ لَهُ الكُنُوزُ، يَبْلُغُ سُلْطَانُهُ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبَ، وَيُظْهِرُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ دَيْنَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ، فَلَا يَبْقَى فِي الأَرْضِ خَرَابٌ إِلَّا قَدْ عُمِرَ، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) فَيُصَلِّي خَلْفَهُ...» والرواية طويلة(160).
(8) بعض ما روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام):
1 - روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الأَئِمَّةِ وَجَحَدَ المَهْدِيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(159) كمال الدِّين (ص 327 و328/ باب 32/ ح 7).
(160) كمال الدِّين (ص 330 و331/ باب 32/ ح 16).
كَانَ كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَجَحَدَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نُبُوَّتَهُ»، فَقِيلَ لَهُ: يا بن رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ المَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِكَ؟ قَالَ: «الخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ، يَغِيبُ عَنْكُمْ شَخْصُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ تَسْمِيَتُهُ»(161).
ورواه بسند آخر عن عبد الله بن أبي يعفور(162).
2- وروى بسنده عن السيِّد بن محمّد الحميري - في حديث طويل - يقول فيه للصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام): يا بن رَسُولِ اللهِ، قَدْ رُوِيَ لَنَا أَخْبَارٌ عَنْ آبَائِكَ (عليهم السلام) فِي الغَيْبَةِ وَصِحَّةِ كَوْنِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِمَنْ تَقَعُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّ الغَيْبَةَ سَتَقَعُ بِالسَّادِسِ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَ الأَئِمَّةِ الهُدَاةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أَوَّلُهُمْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخِرُهُمُ القَائِمُ بِالحَقِّ، بَقِيَّةُ اللهِ فِي الأَرْضِ، وَصَاحِبُ الزَّمَانِ، وَاللهِ لَوْ بَقِيَ فِي غَيْبَتِهِ مَا بَقِيَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يَظْهَرَ فَيَمْلَأَ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(163).
3 - وروى بسنده عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»، قُلْتُ لَهُ: وَلِـمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ -» (لعلَّه يعني أنَّها تُبقَر اغتيالاً). ثُمَّ قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، وَهُوَ المُنْتَظَرُ، وَهُوَ الَّذِي يَشُكُّ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ حَمْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ غَائِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا وُلِدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وُلِدَ قَبْلَ وَفَاةِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ الشِّيعَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ المُبْطِلُونَ»(164).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(161) كمال الدِّين (ص 333/ باب 33/ ح 1).
(162) كمال الدِّين (ص 338/ باب 33/ ح 12).
(163) كمال الدِّين (ص 342/ باب 33/ ح 23).
(164) كمال الدِّين (ص 342 و343/ باب 33/ ح 24)؛ وروى قريباً منه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 5)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 170 و171/ باب 10/ فصل 3/ ح 6)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 333 و334/ ح 279).
4 - وروى الكليني والصدوق (رحمهما الله) بسندهما عَنْ سَدِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ فِي القَائِمِ شَبَهٌ مِنْ يُوسُفَ (عليه السلام)»، قُلْتُ: كَأَنَّكَ تَذْكُرُ خَبَرَهُ أَوْ غَيْبَتَهُ؟ فَقَالَ لِي: «مَا تُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةُ أَشْبَاهُ...، إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا أَسْبَاطاً أَوْلَادَ أَنْبِيَاءَ، تَاجَرُوا يُوسُفَ وَبَايَعُوهُ وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَهُوَ أَخُوهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ حُجَّتَهُ، لَقَدْ كَانَ يُوسُفُ (عليه السلام) إِلَيْهِ مُلْكُ مِصْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَالِدِهِ مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَلَوْ أَرَادَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يُعَرِّفَهُ مَكَانَهُ لَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَاللهِ لَقَدْ سَارَ يَعْقُوبُ وَوُلْدُهُ عِنْدَ البِشَارَةِ مَسِيرَةَ تِسْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ بَدْوِهِمْ إِلَى مِصْرَ، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) يَفْعَلُ بِحُجَّتِهِ مَا فَعَلَ بِيُوسُفَ أَنْ يَكُونَ يَسِيرُ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَيَطَأُ بُسُطَهُمْ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ، حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يُعَرِّفَهُمْ بِنَفْسِهِ كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي﴾ [يوسف: 89 و90]»(165).
5 - وروى بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ سُنَنَ الأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام) بِمَا وَقَعَ بِهِمْ مِنَ الغَيْبَاتِ حَادِثَةٌ فِي القَائِمِ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالقُذَّةِ بِالقُذَّةِ»، قَالَ أَبُو بَصِيرٍ: فَقُلْتُ: يا بن رَسُولِ اللهِ، وَمَنِ القَائِمُ مِنْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ؟ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَصِيرٍ، هُوَ الخَامِسُ مِنْ وُلْدِ ابْنِي مُوسَى، ذَلِكَ ابْنُ سَيِّدَةِ الإِمَاءِ، يَغِيبُ غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا المُبْطِلُونَ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَيَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدِهِ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(165) كمال الدِّين (ص 341/ باب 33/ ح 21)، الكافي (ج 1/ ص 336 و337/ باب في الغيبة/ ح 4)؛ ورواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 121 و122/ ح 117)، والصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 244/ باب 179/ ح 3).
فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، وَتُشْرِقُ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَلَا تَبْقَى فِي الأَرْضِ بُقْعَةٌ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) إِلَّا عُبِدَ اللهُ فِيهَا، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ»(166).
6 - وروى بسنده عن سدير الصيرفي، قال: إنَّه دخل هو والمفضَّل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب على الإمام الصادق (عليه السلام)، وذكر حديثاً طويلاً منه أنَّه قال (عليه السلام): «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَدَارَ لِلْقَائِمِ مِنَّا ثَلَاثَةً أَدَارَهَا فِي ثَلَاثَةٍ مِنَ الرُّسُلِ (عليهم السلام)، قَدَّرَ مَوْلِدَهُ تَقْدِيرَ مَوْلِدِ مُوسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ غَيْبَتَهُ تَقْدِيرَ غَيْبَةِ عِيسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ إِبْطَاءَهُ تَقْدِيرَ إِبْطَاءِ نُوحٍ (عليه السلام)، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عُمُرَ العَبْدِ الصَّالِحِ - أَعْنِي الخَضِرَ (عليه السلام) - دَلِيلاً عَلَى عُمُرِهِ»، فَقُلْنَا لَهُ: اكْشِفْ لَنَا يا بن رَسُولِ اللهِ عَنْ وُجُوهِ هَذِهِ المَعَانِي.
قَالَ (عليه السلام): «أَمَّا مَوْلِدُ مُوسَى (عليه السلام) فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَـمَّا وَقَفَ عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ عَلَى يَدِهِ أَمَرَ بِإِحْضَارِ الكَهَنَةِ، فَدَلُّوهُ عَلَى نَسَبِهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَقِّ بُطُونِ الحَوَامِلِ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى قَتَلَ فِي طَلَبِهِ نَيِّفاً وَعِشْرِينَ ألفَ مَوْلُودٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الوُصُولُ إِلَى قَتْلِ مُوسَى (عليه السلام) بِحِفْظِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو العَبَّاسِ لَـمَّا وَقَفُوا عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِمْ وَمُلْكِ الأُمَرَاءِ وَالجَبَابِرَةِ مِنْهُمْ عَلَى يَدِ القَائِمِ مِنَّا نَاصَبُونَا العَدَاوَةَ، وَوَضَعُوا سُيُوفَهُمْ فِي قَتْلِ آلِ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَإِبَادَةِ نَسْلِهِ طَمَعاً مِنْهُمْ فِي الوُصُولِ إِلَى قَتْلِ القَائِمِ، وَيَأْبَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يَكْشِفَ أَمْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَ الظَّلَمَةِ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ.
وَأَمَّا غَيْبَةُ عِيسَى (عليه السلام) فَإِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ قُتِلَ، فَكَذَّبَهُمُ اللهُ (جَلَّ ذِكْرُهُ) بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: 157]، كَذَلِكَ غَيْبَةُ القَائِمِ فَإِنَّ الأُمَّةَ سَتُنْكِرُهَا لِطُولِهَا، فَمِنْ قَائِلٍ يَهْذِي بِأَنَّهُ لَمْ يَلِدْ، وَقَائِلٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(166) كمال الدِّين (ص 345 و346/ باب 33/ ح 31).
يَقُولُ: إِنَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَصَاعِداً، وَقَائِلٍ يَعْصِي اللهَ (عزَّ وجلَّ) بِقَوْلِهِ: إِنَّ رُوحَ القَائِمِ يَنْطِقُ فِي هَيْكَلِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا إِبْطَاءُ نُوحٍ (عليه السلام) فَإِنَّهُ لَـمَّا اسْتُنْزِلَتِ العُقُوبَةُ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ السَّمَاءِ بَعَثَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) الرُّوحَ الأَمِينَ (عليه السلام) بِسَبْعِ نَوَيَاتٍ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لَكَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ خَلَائِقِي وَعِبَادِي وَلَسْتُ أُبِيدُهُمْ بِصَاعِقَةٍ مِنْ صَوَاعِقِي إِلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الدَّعْوَةِ وَالزَامِ الحُجَّةِ، فَعَاوِدِ اجْتِهَادَكَ فِي الدَّعْوَةِ لِقَوْمِكَ فَإِنِّي مُثِيبُكَ عَلَيْهِ، وَاغْرِسْ هَذِهِ النَّوَى فَإِنَّ لَكَ فِي نَبَاتِهَا وَبُلُوغِهَا وَإِدْرَاكِهَا إِذَا أَثْمَرَتِ الفَرَجَ وَالخَلَاصَ».
وذكر الإمام (عليه السلام) أنَّه أثمرت الأشجار التي جاءت من ذلك النوى، فأُمِرَ بأنْ يغرس نواها، ويعاود الصبر والاجتهاد، ويُؤكِّد الحجَّة على قومه.
قال الإمام (عليه السلام): «ثُمَّ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ يَأْمُرُهُ عِنْدَ كُلِّ مَرَّةٍ بِأَنْ يَغْرِسَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ غَرَسَهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ الطَّوَائِفُ مِنَ المُؤْمِنِينَ تَرْتَدُّ مِنْهُ طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ إِلَى أَنْ عَادَ إِلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ رَجُلاً، فَأَوْحَى اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: يَا نُوحُ الآنَ أَسْفَرَ الصُّبْحُ عَنِ اللَّيْلِ لِعَيْنِكَ حِينَ صَرَّحَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ وَصَفَا [الأَمْرُ وَالإِيمَانُ] مِنَ الكَدَرِ بِارْتِدَادِ كُلِّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ خَبِيثَةً، فَلَوْ أَنِّي أَهْلَكْتُ الكُفَّارَ وَأَبْقَيْتُ مَنْ قَدِ ارْتَدَّ مِنَ الطَّوَائِفِ الَّتِي كَانَتْ آمَنَتْ بِكَ لَمَا كُنْتُ صَدَّقْتُ وَعْدِيَ السَّابِقَ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَخْلَصُوا التَّوْحِيدَ مِنْ قَوْمِكَ، وَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِ نُبُوَّتِكَ بِأَنْ أَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الأَرْضِ وَأُمَكِّنَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَأُبَدِّلَ خَوْفَهُمْ بِالأَمْنِ لِكَيْ تَخْلُصَ العِبَادَةُ لِي بِذَهَابِ الشِّرْكِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَكَيْفَ يَكُونُ الاِسْتِخْلَافُ وَالتَّمْكِينُ وَبَدَلُ الخَوْفِ بِالأَمْنِ مِنِّي لَهُمْ مَعَ مَا كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا وَخُبْثِ طِينِهِمْ وَسُوءِ سَرَائِرِهِمُ».
ويذكر الحديث ما معناه أنَّ حال هؤلاء ستحملهم على إثارة الفتن، وطلب الإمرة، ونشر الكفر من جديد.
إلى أنْ يقول (عليه السلام): «وَكَذَلِكَ القَائِمُ فَإِنَّهُ تَمْتَدُّ أَيَّامُ غَيْبَتِهِ لِيُصَرِّحَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ وَيَصْفُوَ الإِيمَانُ مِنَ الكَدَرِ بِارْتِدَادِ كُلِّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ خَبِيثَةً...».
ثمّ قال (عليه السلام): «وَأَمَّا العَبْدُ الصَّالِحُ - أَعْنِي الخَضِرَ (عليه السلام) - فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا طَوَّلَ عُمُرَهُ لِنُبُوَّةٍ قَدَّرَهَا لَهُ، وَلَا لِكِتَابٍ يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِ، وَلَا لِشَرِيعَةٍ يَنْسَخُ بِهَا شَرِيعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَلَا لِإِمَامَةٍ يُلْزِمُ عِبَادَهُ الِاقْتِدَاءَ بِهَا، وَلَا لِطَاعَةٍ يَفْرِضُهَا لَهُ، بَلَى إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَـمَّا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنْ يُقَدِّرَ مِنْ عُمُرِ القَائِمِ (عليه السلام) فِي أَيَّامِ غَيْبَتِهِ مَا يُقَدِّرُ، وَعَلِمَ مَا يَكُونُ مِنْ إِنْكَارِ عِبَادِهِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ العُمُرِ فِي الطُّولِ، طَوَّلَ عُمُرَ العَبْدِ الصَّالِحِ فِي غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ إِلَّا لِعِلَّةِ الاِسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عُمُرِ القَائِمِ (عليه السلام)، وَلِيَقْطَعَ بِذَلِكَ حُجَّةَ المُعَانِدِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ»(167).
وقد أورد الصدوق (رحمه الله) في هذا الباب (الثالث والثلاثين) فقط ممَّا ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) (59) حديثاً مسنداً.
(9) بعض ما روي عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام):
1 - روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام)، قَالَ: «إِذَا فُقِدَ الخَامِسُ مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ فَاللهَ اللهَ فِي أَدْيَانِكُمْ لَا يُزِيلَنَّكُمْ أَحَدٌ عَنْهَا. يَا بُنَيَّ، إِنَّهُ لَابُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ مَنْ كَانَ يَقُولُ بِهِ، إِنَّمَا هِيَ مِحْنَةٌ مِنَ اللهِ (عزَّ وجلَّ) امْتَحَنَ بِهَا خَلْقَهُ، وَلَوْ عَلِمَ آبَاؤُكُمْ وَأَجْدَادُكُمْ دِيناً أَصَحَّ مِنْ هَذَا لَاتَّبَعُوهُ»، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، وَمَا الخَامِسُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(167) كمال الدِّين (ص 352 - 357/ باب 33/ ح 50)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 167 - 174/ ح 129) بسند آخر.
مِنْ وُلْدِ السَّابِعِ؟ فَقَالَ: «يَا بُنَيَّ، عُقُولُكُمْ تَضْعُفُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَحْلَامُكُمْ تَضِيقُ عَنْ حَمْلِهِ، وَلَكِنْ إِنْ تَعِيشُوا فَسَوْفَ تُدْرِكُونَهُ»(168).
2 - وروى بسنده عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) فَقُلْتُ لَهُ: يا بن رَسُولِ اللهِ، أَنْتَ القَائِمُ بِالحَقِّ؟ فَقَالَ: «أَنَا القَائِمُ بِالحَقِّ، وَلَكِنَّ القَائِمَ الَّذِي يُطَهِّرُ الأَرْضَ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً هُوَ الخَامِسُ مِنْ وُلْدِي، لَهُ غَيْبَةٌ يَطُولُ أَمَدُهَا خَوْفاً عَلَى نَفْسِهِ، يَرْتَدُّ فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَثْبُتُ فِيهَا آخَرُونَ»(169).
3 - وروى بسنده عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الأَزْدِيِّ، قَالَ: سَألتُ سَيِّدِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20](170)، فَقَالَ (عليه السلام): «النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ الإِمَامُ الظَّاهِرُ، وَالبَاطِنَةُ الإِمَامُ الغَائِبُ»، فَقُلْتُ لَهُ: وَيَكُونُ فِي الأَئِمَّةِ مَنْ يَغِيبُ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ شَخْصُهُ، وَلَا يَغِيبُ عَنْ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ الثَّانِي عَشَرَ مِنَّا، يُسَهِّلُ اللهُ لَهُ كُلَّ عَسِيرٍ، وَيُذَلِّلُ لَهُ كُلَّ صَعْبٍ، وَيُظْهِرُ لَهُ كُنُوزَ الأَرْضِ، وَيُقَرِّبُ لَهُ كُلَّ بَعِيدٍ، وَيُبِيرُ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَيُهْلِكُ عَلَى يَدِهِ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، ذَلِكَ ابْنُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(168) كمال الدِّين (ص 359 و360/ باب 34/ ح 1)؛ ورواه (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 244 و245/ باب 178/ ح 4)، وابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 113/ ح 100)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 336/ باب في الغيبة/ ح 2)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 155 و156/ باب 10/ فصل 1/ ح 11)، والخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 268 و269)، والطبري الشيعي (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 534/ ح 516/120)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 166 و167/ ح 128).
(169) كمال الدِّين (ص 361/ باب 34/ ح 5)؛ ورواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 269 و270).
(170) يُجاب مَنْ يشكل بأنَّ النِّعَم الباطنة والظاهر أعمّ بأنَّ هنا تطبيق لا نصٌّ.
سَيِّدَةِ الإِمَاءِ الَّذِي تَخْفَى عَلَى النَّاسِ وِلَادَتُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ تَسْمِيَتُهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فَيَمْلَأَ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(171).
(10) بعض ما روي عن الإمام عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام):
1 - روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنِ الحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عليهما السلام)، قَالَ: قَالَ لِي: «لَابُدَّ مِنْ فِتْنَةٍ صَمَّاءَ صَيْلَمٍ يَسْقُطُ فِيهَا كُلُّ بِطَانَةٍ وَوَلِيجَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ فِقْدَانِ الشِّيعَةِ الثَّالِثَ مِنْ وُلْدِي، يَبْكِي عَلَيْهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الأَرْضِ وَكُلُّ حَرَّى وَحَرَّانَ وَكُلُّ حَزِينٍ وَلَهْفَانَ»، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «بِأَبِي وأُمِّي سَمِيُّ جَدِّي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَشَبِيهِي وَشَبِيهُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام)، عَلَيْهِ جُيُوبُ النُّورِ، يَتَوَقَّدُ مِنْ شُعَاعِ ضِيَاءِ القُدْسِ، يَحْزَنُ لِمَوْتِهِ أَهْلُ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، كَمْ مِنْ حَرَّى مُؤْمِنَةٍ، وَكَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ مُتَأَسِّفٍ حَرَّانَ حَزِينٍ عِنْدَ فِقْدَانِ المَاءِ المَعِينِ(172)، كَأَنِّي بِهِمْ آيِسٌ مَا كَانُوا قَدْ نُودُوا نِدَاءً يَسْمَعُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُ مَنْ قَرُبَ، يَكُونُ رَحْمَةً عَلَى المُؤْمِنِينَ وَعَذَاباً عَلَى الكَافِرِينَ»(173).
2 - وروى بسنده عَنْ الهَرَوِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ دِعْبِلَ بْنَ عَلِيٍّ الخُزَاعِيَّ يَقُولُ: أَنْشَدْتُ مَوْلَايَ الرِّضَا عَلِيَّ بْنَ مُوسَى (عليهما السلام) قَصِيدَتِيَ الَّتِي أَوَّلُهَا:
مَدَارِسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِنْ تِلَاوَةٍ * * * وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ العَرَصَاتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(171) كمال الدِّين (ص 368 و369/ باب 34/ ح 6)؛ ورواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 270 و271).
(172) يقصد به العلم الحقِّ والهدى الخالص الموجود بوجود الإمام (عليه السلام).
(173) كمال الدِّين (ص 370 و371/ باب 35/ ح 3)؛ ورواه (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 9 و10/ ح 14)، وابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 114/ ح 102)، والنعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 186/ باب 10/ فصل 4/ ح 28)، والطبري الشيعي (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 460 و461/ ح 441/45)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 439 و440/ ح 431).
فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى قَوْلِي:
خُرُوجُ إِمَامٍ لَا مَحَالَةَ خَارِجٌ * * * يَقُومُ عَلَى اسْمِ اللهِ وَالبَرَكَاتِ
يُمَيِّزُ فِينَا كُلَّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ * * * وَيُجْزِي عَلَى النَّعْمَاءِ وَالنَّقِمَاتِ
بَكَى الرِّضَا (عليه السلام) بُكَاءً شَدِيداً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: «يَا خُزَاعِيُّ، نَطَقَ رُوحُ القُدُسِ عَلَى لِسَانِكَ بِهَذَيْنِ البَيْتَيْنِ، فَهَلْ تَدْرِي مَنْ هَذَا الإِمَامُ وَمَتَى يَقُومُ؟»، فَقُلْتُ: لَا يَا مَوْلَايَ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ بِخُرُوجِ إِمَامٍ مِنْكُمْ يُطَهِّرُ الأَرْضَ مِنَ الفَسَادِ وَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً، فَقَالَ: «يَا دِعْبِلُ، الإِمَامُ بَعْدِي مُحَمَّدٌ ابْنِي، وَبَعْدَ مُحَمَّدٍ ابْنُهُ عَلِيٌّ، وَبَعْدَ عَلِيٍّ ابْنُهُ الحَسَنُ، وَبَعْدَ الحَسَنِ ابْنُهُ الحُجَّةُ القَائِمُ المُنْتَظَرُ فِي غَيْبَتِهِ، المُطَاعُ فِي ظُهُورِهِ، لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) ذَلِكَ اليَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فَيَمْلَأَ الأَرْضَ عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً. وَأَمَّا مَتَى فَإِخْبَارٌ عَنِ الوَقْتِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّ النَّبِيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى يَخْرُجُ القَائِمُ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): مَثَلُهُ مَثَلُ السَّاعَةِ الَّتِي ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ [الأعراف: 187]»(174).
3 - وروى بسنده عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، قَالَ: قُلْتُ لِلرِّضَا (عليه السلام): إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ صَاحِبَ هَذَا الأَمْرِ، وَأَنْ يَرُدَّهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيْكَ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ، فَقَدْ بُويِعَ لَكَ وَضُرِبَتِ الدَّرَاهِمُ بِاسْمِكَ، فَقَالَ: «مَا مِنَّا أَحَدٌ اخْتَلَفَتْ إِلَيْهِ الكُتُبُ، وَسُئِلَ عَنِ المَسَائِلِ، وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ الأَصَابِعُ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الأَمْوَالُ إِلَّا اغْتِيلَ أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لِهَذَا الأَمْرِ رَجُلاً خَفِيَّ المَوْلِدِ وَالمَنْشَإِ غَيْرَ خَفِيٍّ فِي نَسَبِهِ»(175).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(174) كمال الدِّين (ص 372 و373/ باب 35/ ح 6)؛ ورواه (رحمه الله) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 296 و297/ ح 35)، والخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 276 و277).
(175) كمال الدِّين (ص 370/ باب 35/ ح 1)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 341 و342/ باب في الغيبة/ ح 25) بسند آخر، وأبو الصلاح الحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 431 و432).
(11) بعض ما روي عن الإمام محمّد الجواد (عليه السلام):
1 - روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنِ الصَّقْرِ بْنِ أَبِي دُلَف، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الرِّضَا (عليهما السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الإِمَامَ بَعْدِي ابْنِي عَلِيٌّ، أَمْرُهُ أَمْرِي، وَقَوْلُهُ قَوْلِي، وَطَاعَتُهُ طَاعَتِي، وَالإِمَامُ بَعْدَهُ ابْنُهُ الحَسَنُ، أَمْرُهُ أَمْرُ أَبِيهِ، وَقَوْلُهُ قَوْلُ أَبِيهِ، وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ أَبِيهِ»، ثُمَّ سَكَتَ، فَقُلْتُ: يا بن رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ الإِمَامُ بَعْدَ الحَسَنِ؟ فَبَكَى (عليه السلام) بُكَاءً شَدِيداً، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مِنْ بَعْدِ الحَسَنِ ابْنَهُ القَائِمَ بِالحَقِّ المُنْتَظَرَ»، فَقُلْتُ لَهُ: يا بن رَسُولِ اللهِ، لِـمَ سُمِّيَ القَائِمَ؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ يَقُومُ بَعْدَ مَوْتِ ذِكْرِهِ وَارْتِدَادِ أَكْثَرِ القَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ»، فَقُلْتُ لَهُ: وَلِـمَ سُمِّيَ المُنْتَظَرَ؟ قَالَ: «لِأَنَّ لَهُ غَيْبَةً يَكْثُرُ أَيَّامُهَا وَيَطُولُ أَمَدُهَا، فَيَنْتَظِرُ خُرُوجَهُ المُخْلِصُونَ، وَيُنْكِرُهُ المُرْتَابُونَ، وَيَسْتَهْزِئُ بِذِكْرِهِ الجَاحِدُونَ، ويَكْذِبُ فِيهَا الوَقَّاتُونَ، وَيَهْلِكُ فِيهَا المُسْتَعْجِلُونَ، وَيَنْجُو فِيهَا المُسَلِّمُونَ»(176).
2 - وروى بسنده عَنْ عَبْدِ العَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحَسَنِ بْنِ زَيْدِ ابْنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام) الحَسَنِيُّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام) وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ القَائِمِ أَهُوَ المَهْدِيُّ أَوْ غَيْرُهُ، فَابْتَدَأَنِي فَقَالَ لِي: «يَا أَبَا القَاسِمِ، إِنَّ القَائِمَ مِنَّا هُوَ المَهْدِيُّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُنْتَظَرَ فِي غَيْبَتِهِ، وَيُطَاعَ فِي ظُهُورِهِ، وَهُوَ الثَّالِثُ مِنْ وُلْدِي، وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالنُّبُوَّةِ وَخَصَّنَا بِالإِمَامَةِ إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللهُ ذَلِكَ اليَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فِيهِ فَيَمْلَأَ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، وَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيُصْلِحُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(176) كمال الدِّين (ص 378/ باب 36/ ح 3)؛ ورواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 283 و284).
لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ، كَمَا أَصْلَحَ أَمْرَ كَلِيمِهِ مُوسَى (عليه السلام) إِذْ ذَهَبَ لِيَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَاراً فَرَجَعَ وَهُوَ رَسُولٌ نَبِيٌّ»، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «أَفْضَلُ أَعْمَالِ شِيعَتِنَا انْتِظَارُ الفَرَجِ»(177).
3 - وروى بسنده عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني السابق، قال: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى (عليهم السلام): إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ القَائِمَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ الَّذِي يَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، فَقَالَ (عليه السلام): «يَا أَبَا القَاسِمِ، مَا مِنَّا إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ بِأَمْرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَهَادٍ إِلَى دِينِ اللهِ، وَلَكِنَّ القَائِمَ الَّذِي يُطَهِّرُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ الأَرْضَ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ وَالجُحُودِ، وَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً هُوَ الَّذِي تَخْفَى عَلَى النَّاسِ وِلَادَتُهُ، وَيَغِيبُ عَنْهُمْ شَخْصُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ تَسْمِيَتُهُ، وَهُوَ سَمِيُّ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَكَنِيُّهُ، وَهُوَ الَّذِي تُطْوَى لَهُ الأَرْضُ، وَيَذِلُّ لَهُ كُلُّ صَعْبٍ، وَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148]، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ العِدَّةُ مِنْ أَهْلِ الإِخْلَاصِ أَظْهَرَ اللهُ أَمْرَهُ، فَإِذَا كَمَلَ لَهُ العَقْدُ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ خَرَجَ بِإِذْنِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، فَلَا يَزَالُ يَقْتُلُ أَعْدَاءَ اللهِ حَتَّى يَرْضَى اللهُ (عزَّ وجلَّ)»، قَالَ عَبْدُ العَظِيمِ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، وَكَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) قَدْ رَضِيَ؟ قَالَ: «يُلْقِي فِي قَلْبِهِ الرَّحْمَةَ»(178).
(12) بعض ما روي عن الإمام عليٍّ الهادي (عليه السلام):
1 - روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ الصَّقْرِ بْنِ أَبِي دُلَف، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(177) كمال الدِّين (ص 377/ باب 36/ ح 1)؛ ورواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 280 و281).
(178) كمال الدِّين (ص 377 و378/ باب 36/ ح 2).
ابْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا (عليهم السلام) يَقُولُ: «إِنَّ الإِمَامَ بَعْدِي الحَسَنُ ابْنِي، وَبَعْدَ الحَسَنِ ابْنُهُ القَائِمُ الَّذِي يَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(179).
2 - وروى بسنده عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الجَعْفَرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الحَسَنِ العَسْكَرِيَّ (يعني الإمام عليٌّ الهادي) (عليه السلام) يَقُولُ: «الخَلَفُ مِنْ بَعْدِي الحَسَنُ ابْنِي، فَكَيْفَ لَكُمْ بِالخَلَفِ مِنْ بَعْدِ الخَلَفِ؟»، قُلْتُ: وَلِـمَ جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ؟ قَالَ: «لِأَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ شَخْصَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ»، قُلْتُ: فَكَيْفَ نَذْكُرُهُ؟ فَقَالَ: «قُولُوا: الحُجَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ»(180).
3 - وبسنده عَنْ عَبْدِ العَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الحَسَنِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي عَلِيِّ بْنَ مُحَمَّدٍ (الهادي) (عليهما السلام)، فَلَمَّا بَصُرَ بِي قَالَ لِي: «مَرْحَباً بِكَ يَا أَبَا القَاسِمِ، أَنْتَ وَلِيُّنَا حَقًّا»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يا بن رَسُولِ اللهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ دِينِي فَإِنْ كَانَ مَرْضِيًّا ثَبَتُّ عَلَيْهِ حَتَّى ألقَى اللهَ (عزَّ وجلَّ)، فَقَالَ: «هَاتِ يَا أَبَا القَاسِمِ»، فَقُلْتُ: إِنِّي أَقُولُ: إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاحِدٌ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، خَارِجٌ عَنِ الحَدَّيْنِ حَدِّ الإِبْطَالِ وَحَدِّ التَّشْبِيهِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا صُورَةٍ، وَلَا عَرَضٍ وَلَا جَوْهَرٍ، بَلْ هُوَ مُجَسِّمُ الأَجْسَامِ، وَمُصَوِّرُ الصُّوَرِ، وَخَالِقُ الأَعْرَاضِ وَالجَوَاهِرِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(179) كمال الدِّين (ص 383/ باب 37/ ح 10)؛ ورواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 292).
(180) كمال الدِّين (ص 381/ باب 37/ ح 5)؛ ورواه (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 245/ باب 178/ ح 5)، وابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 118/ ح 112)، والكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 328/ باب الإشارة والنصِّ على أبي محمّد (عليه السلام)/ ح 13) بسند آخر، والخصيبي (رحمه الله) في الهداية الكبرى (ص 360)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 245 و264)، والخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 288 و289)، والمفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 320 و349)، والحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 426 و427)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 202/ ح 169).
وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَالِكُهُ وَجَاعِلُهُ وَمُحْدِثُهُ، وَإِنَّ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَإِنَّ شَرِيعَتَهُ خَاتِمَةُ الشَّرَائِعِ، فَلَا شَرِيعَةَ بَعْدَهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. وَأَقُولُ: إِنَّ الإِمَامَ وَالخَلِيفَةَ وَوَلِيَّ الأَمْرِ بَعْدَهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ الحَسَنُ، ثُمَّ الحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّد، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ أَنْتَ يَا مَوْلَايَ، فَقَالَ (عليه السلام): «وَمِنْ بَعْدِي الحَسَنُ ابْنِي، فَكَيْفَ لِلنَّاسِ بِالخَلَفِ مِنْ بَعْدِهِ؟»، قَالَ: فَقُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا مَوْلَايَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُرَى شَخْصُهُ وَلَا يَحِلُّ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ حَتَّى يَخْرُجَ فَيَمْلَأَ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»، قَالَ: فَقُلْتُ: أَقْرَرْتُ، وَأَقُولُ: إِنَّ وَلِيَّهُمْ وَلِيُّ اللهِ، وَعَدُوَّهُمْ عَدُوُّ اللهِ، وَطَاعَتَهُمْ طَاعَةُ اللهِ، وَمَعْصِيَتَهُمْ مَعْصِيَةُ اللهِ، وَأَقُولُ: إِنَّ المِعْرَاجَ حَقٌّ، وَالمُسَاءَلَةَ فِي القَبْرِ حَقٌّ، وَإِنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، وَالصِّرَاطَ حَقٌّ، وَالمِيزَانَ حَقٌّ، ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبُورِ﴾ [الحجّ: 7]، وَأَقُولُ: إِنَّ الفَرَائِضَ الوَاجِبَةَ بَعْدَ الوَلَايَةِ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالحَجُّ وَالجِهَادُ وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (الهادي) (عليهما السلام): «يَا أَبَا القَاسِمِ، هَذَا وَاللهِ دِينُ اللهِ الَّذِي ارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ، فَاثْبُتْ عَلَيْهِ، ثَبَّتَكَ اللهُ بِالقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ»(181).
(13) بعض ما روي عن الإمام الحسن بن عليٍّ العسكري (عليه السلام):
1 - روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَان العَمْرِيِّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) وَأَنَا عِنْدَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(181) كمال الدِّين (ص 379 و380/ باب 37/ ح 1)؛ ورواه (رحمه الله) في أماليه (ص 419 و420/ ح 557/24)، وفي التوحيد (ص 81 و82/ ح 37)، وفي صفات الشيعة (ص 48 - 50)، والخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 286 - 288).
عَنِ الخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) «أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ لِلهِ عَلَى خَلْقِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، فَقَالَ (عليه السلام): «إِنَّ هَذَا حَقٌّ كَمَا أَنَّ النَّهَارَ حَقٌّ»، فَقِيلَ لَهُ: يا بن رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ الحُجَّةُ وَالإِمَامُ بَعْدَكَ؟ فَقَالَ: «ابْنِي مُحَمَّدٌ، هُوَ الإِمَامُ وَالحُجَّةُ بَعْدِي، مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً. أَمَا إِنَّ لَهُ غَيْبَةً يَحَارُ فِيهَا الجَاهِلُونَ، وَيَهْلِكُ فِيهَا المُبْطِلُونَ، وَيَكْذِبُ فِيهَا الوَقَّاتُونَ، ثُمَّ يَخْرُجُ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الأَعْلَامِ البِيضِ تَخْفِقُ فَوْقَ رَأْسِهِ بِنَجَفِ الكُوفَةِ»(182).
2 - وروى بسنده عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ البَغْدَادِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) يَقُولُ: «كَأَنِّي بِكُمْ وَقَدِ اخْتَلَفْتُمْ بَعْدِي فِي الخَلَفِ مِنِّي، أَمَا إِنَّ المُقِرَّ بِالأَئِمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المُنْكِرَ لِوَلَدِي كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ ثُمَّ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَالمُنْكِرُ لِرَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كَمَنْ أَنْكَرَ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ اللهِ، لِأَنَّ طَاعَةَ آخِرِنَا كَطَاعَةِ أَوَّلِنَا، وَالمُنْكِرَ لِآخِرِنَا كَالمُنْكِرِ لِأَوَّلِنَا، أَمَا إِنَّ لِوَلَدِي غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا النَّاسُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)»(183).
3 - وروى بسنده عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الخَلَفِ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ لِي مُبْتَدِئاً: «يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُخْلِ الأَرْضَ مُنْذُ خَلَقَ آدَمَ (عليه السلام) وَلَا يُخْلِيهَا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ مِنْ حُجَّةٍ لِلهِ عَلَى خَلْقِهِ، بِهِ يَدْفَعُ البَلَاءَ عَنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وَبِهِ يُنَزِّلُ الغَيْثَ، وَبِهِ يُخْرِجُ بَرَكَاتِ الأَرْضِ»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يا بن رَسُولِ اللهِ، فَمَنِ الإِمَامُ وَالخَلِيفَةُ بَعْدَكَ؟ فَنَهَضَ (عليه السلام) مُسْرِعاً فَدَخَلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(182) كمال الدِّين (ص 409/باب 38/ح 9)؛ ورواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 296).
(183) كمال الدِّين (ص 409/ باب 38/ ح 8)؛ ورواه الخزَّاز (رحمه الله) في كفاية الأثر (ص 295 و296).
البَيْتَ، ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَى عَاتِقِهِ غُلَامٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ القَمَرُ لَيْلَةَ البَدْرِ مِنْ أَبْنَاءِ الثَّلَاثِ سِنِينَ، فَقَالَ: «يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، لَوْ لَا كَرَامَتُكَ عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَعَلَى حُجَجِهِ مَا عَرَضْتُ عَلَيْكَ ابْنِي هَذَا، إِنَّهُ سَمِيُّ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَكَنِيُّهُ، الَّذِي يَمْلَأُ الأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً. يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، مَثَلُهُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مَثَلُ الخَضِرِ (عليه السلام)، وَمَثَلُهُ مَثَلُ ذِي القَرْنَيْنِ، وَاللهِ لَيَغِيبَنَّ غَيْبَةً لَا يَنْجُو فِيهَا مِنَ الهَلَكَةِ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَى القَوْلِ بِإِمَامَتِهِ وَوَفَّقَهُ فِيهَا لِلدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ فَرَجِهِ»(184).
4 - وروى محمّد بن يعقوب الكليني (رحمه الله) أنَّ الإمام الحسن (عليه السلام) قال حين وُلِدَ الحجَّة (عجَّل الله فرجه): «زَعَمَ اَلظَّلَمَةُ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَنِي لِيَقْطَعُوا هَذَا اَلنَّسْلَ، فَكَيْفَ رَأَوْا قُدْرَةَ اَلله؟»، وَسَمَّاهُ اَلمُؤَمَّلَ(185).
5 - وروى بسنده عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: خَرَجَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (الإمام الحسن) (عليه السلام) حِينَ قُتِلَ الزُّبَيْرِيُّ: «هَذَا جَزَاءُ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى الله فِي أَوْلِيَائِه، يَزْعُمُ أَنَّه يَقْتُلُنِي وَلَيْسَ لِي عَقِبٌ، فَكَيْفَ رَأَى قُدْرَةَ الله فِيه؟»، وَوُلِدَ لَه وَلَدٌ سَمَّاه (محمّد) فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ(186).
6 - وروى الطوسي (رحمه الله) عن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الفَزَارِيِّ البَزَّازِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ اَلشِّيعَةِ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ بِلَالٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ هِلَالٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَكِيمٍ، وَالحَسَنُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ، قَالُوا جَمِيعاً: اِجْتَمَعْنَا إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) نَسْأَلُهُ عَنِ الحُجَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَفِي مَجْلِسِهِ (عليه السلام) أَرْبَعُونَ رَجُلاً، فَقَامَ إِلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(184) كمال الدِّين (ص 384 و385/ باب 38/ ح 1).
(185) الغيبة للطوسي (ص 223/ ح 186)
(186) الكافي (ج 1/ ص 329/ باب الإشارة والنصِّ إلى صاحب الدار/ ح 5)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 430/ باب 42/ ح 3)، والمفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 349)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 231/ ح 198).
عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو العَمْرِيُّ، فَقَالَ لَهُ: يا بن رَسُولِ اَلله، أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ أَمْرٍ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ: «اِجْلِسْ يَا عُثْمَانُ»، فَقَامَ مُغْضَباً لِيَخْرُجَ، فَقَالَ: «لَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ»، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنَّا أَحَدٌ إِلَى أَنْ كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ، فَصَاحَ (عليه السلام) بِعُثْمَانَ، فَقَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: «أُخْبِرُكُمْ بِمَا جِئْتُمْ؟»، قَالُوا: نَعَمْ، يا بن رَسُولِ اَلله، قَالَ: «جِئْتُمْ تَسْأَلُونِّي عَنِ الحُجَّةِ مِنْ بَعْدِي»، قَالُوا: نَعَمْ، فَإِذَا غُلَامٌ كَأَنَّهُ قِطَعُ قَمَرٍ، أَشْبَهُ اَلنَّاسِ بِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: «هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، أَطِيعُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فَتَهْلِكُوا فِي أَدْيَانِكُمْ، أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهُ مِنْ بَعْدِ يَوْمِكُمْ هَذَا...» الرواية(187).
7 - وروى الكليني (رحمه الله) بسنده الكافي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ المَكْفُوفِ، عَنْ عَمْرٍو الأَهْوَازِيِّ، قَالَ: أَرَانِي أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنَه، وَقَالَ: «هَذَا صَاحِبُكُمْ مِنْ بَعْدِي»(188).
8 - وروى الطوسي (رحمه الله) عدَّة روايات بسنده عن أبي عبد الله المطهَّري، وعن موسى بن محمّد بن جعفر، وعن محمّد بن إبراهيم، وعن محمّد بن عليِّ بن بلال، وعن أحمد بن عليٍّ الرازي، عن جماعة من الشيوخ، عن حكيمة بنت الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) أنَّه لدى ولادة الإمام (عليه السلام) ليلة النصف من شعبان سنة (255هـ)، قبيل الفجر، حملته إليه بطلب منه، وذكرت حديثاً سنعود إليه لاحقاً، ولدى إعادته إليها لتحمله إلى أُمِّه قال الإمام الحسن (عليه السلام): «يَا بُنَيَّ، أَسْتَوْدِعُكَ اَلَّذِي اِسْتَوْدَعَتْهُ أُمُّ مُوسَى، كُنْ فِي دَعَةِ اَلله وَسِتْرِهِ وَكَنَفِهِ وَجِوَارِهِ»، وَقَالَ (عليه السلام):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(187) الغيبة للطوسي (ص 357/ ح 319).
(188) الكافي (ج 1/ ص 328/ باب الإشارة والنصِّ إلى صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 3)؛ ورواه المفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 348)، وأبو الصلاح الحلبي (رحمه الله) في تقريب المعارف (ص 427)، والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 234/ ح 203).
«رُدِّيهِ إِلَى أُمِّهِ، يَا عَمَّةِ، وَاُكْتُمِي خَبَرَ هَذَا اَلمَوْلُودِ عَلَيْنَا، وَلَا تُخْبِرِي بِهِ أَحَداً حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ»، قَالَتْ: فَأَتَيْتُ أُمَّهُ، وَوَدَّعْتُهُمْ(189).
وذكرت (رضي الله عنها) أنَّها انصرفت إلى منزلها، ثمّ عادت بعد ثلاثة أيَّام اشتياقاً لوليِّ الله (عجَّل الله فرجه)، فلم ترَ أثراً، ولا سمعت ذكراً، وكرهت أنْ تسأل. ولـمَّا دخلت على الإمام الحسن (عليه السلام) كرهت أنْ تبدأه بالسؤال أدباً وحياءً، فبدأها قائلاً: «هُوَ يَا عَمَّةِ فِي كَنَفِ اَلله وَحِرْزِهِ وَسِتْرِهِ وَغَيْبِهِ حَتَّى يَأْذَنَ اَللهُ لَهُ، فَإِذَا غَيَّبَ اَللهُ شَخْصِي وَتَوَفَّانِي وَرَأَيْتِ شِيعَتِي قَدِ اِخْتَلَفُوا فَأَخْبِرِي اَلثقات مِنْهُمْ، وَلْيَكُنْ عِنْدَكِ وَعِنْدَهُمْ مَكْتُوماً، فَإِنَّ وَلِيَّ اَلله يُغَيِّبُهُ اَللهُ عَنْ خَلْقِهِ وَيَحْجُبُهُ عَنْ عِبَادِهِ، فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ»(190).
الخلاصة:
والخلاصة التي أفدناها في هذا البحث من أحاديث المعصومين الثلاثة عشر بدءاً من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وانتهاءً إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بإضافة فاطمة الزهراء (عليها السلام) خامسة المطهَّرين من أهل الكساء، تتمثَّل بإيجاز بما يلي:
أوَّلاً: أنَّ المهدي المنتظَر هو الإمام محمّد بن الحسن العسكري (عجَّل الله فرجه)، الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما قدَّمنا الدليل عليه أيضاً في البحث الأوَّل من خلال حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المتَّفق على صحَّته الذي ينصُّ على أنَّ الأئمَّة من بعده اثنا عشر، بتحليله نظريًّا، واتِّساقه مع أحاديث أُخرى، وبتطابقه مع الواقع.
وبذلك يتَّضح لنا أنَّه لا يوجد بين الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبين آبائه الأحد عشر من أوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشهود رسالته انقطاع كما تفترضه النظريَّة الأُخرى؛ لأنَّ ذلك يعني أنْ يوجد بعدئذٍ مَنْ له خصائص الإمامة من العصمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(189) الغيبة للطوسي (ص 238/ ح 206).
(190) الغيبة للطوسي (ص 236 و237/ ح 204).
العلميَّة والعمليَّة، والتأييد بالملائكة، والرتبة التي تجعل المسيح (عليه السلام) يُصلِّي خلفه كما ورد في روايات البحث الأوَّل والثاني، وذلك ما هو غير معقول بحكم تحديد الأئمَّة باثني عشر إماماً كما مرَّ، وبحكم أنَّ الثقلين لن يفترقا حتَّى يردا عليه الحوض، ولا شكَّ أنَّ الانقطاع افتراق واقعي وخلوّ من الإمام المعصوم الممثِّل لثاني الثقلين.
ثانياً: تحدَّث المعصومون الثلاثة عشر (عليهم السلام) في الأحاديث المتواترة عنهم والتي أوردنا أمثلة منها في هذا البحث عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، اسماً وأباً وأُمًّا وصفةً، ونبَّهوا إلى ما ستفرضه ظروف التقيَّة بالنسبة للإمامين الحسن وابنه المهدي (عليهما السلام) من السلطة العبَّاسيَّة ومن جعفر الكذَّاب من إخفاء ولادة الإمام وغيبته إلَّا عن الخاصَّة. وأشاروا إلى أنَّ ذلك إنَّما هو خشيةً من اغتياله، ولذلك حرَّموا ذكر اسمه، وأنَّهم إذا ما أرادوا أنْ يذكروه فعليهم أنْ يقولوا: (الحجَّة من آل محمّد)، ولذلك - يبدو لي - أنَّ هذا التحريم لا يتناول ما وراء الغيبة الصغرى.
وأشاروا إلى بعض نُوَّابه ووثَّقوهم كما بالنسبة لعثمان بن سعيد وولده أبي جعفر محمّد كما سيأتي.
ثالثاً: نبَّهوا إلى أنَّ له غيبة طويلة كبرى يُمتحَن فيها المؤمنون، ويُزلزَلوا زلزالاً حتَّى يرتدَّ عن الاعتقاد به بعض منهم، وذلك بسبب خروج هذه الغيبة عن المعتاد طبيعيًّا في العمر الإنساني، ولعدم ربطها بالمشيئة الإلهيَّة التي لا تخضع لقانون هو مَنْ وضعها أصلاً، وعدم استيعاب الحكمة منها.
وحاولوا التنظير في الأُمور الثلاثة، أعني إخفاء ولادته وغيبته الصغرى والكبرى، بما حدث في تاريخ الأنبياء (عليهم السلام) كموسى وإبراهيم ويوسف ونوح وبالخضر (عليهم السلام)، وتحدَّثوا عن زمن الإمام لدى قرب الظهور، وعلاماته العامَّة والخاصَّة، ومكان ظهوره وعاصمته وسياسته، كما سيأتي.
رابعاً: أنَّ في هذه الأحاديث شاهداً مضافاً على صحَّة صدورها، هو أنَّها قد رُويت في كُتُب أصحاب الأئمَّة قبل ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بأكثر من مائتي سنة، وقد قرَّب الشيخ الصدوق (رحمه الله) دلالتها من هذه الناحية(191).
وقد سبقه في ذلك الشيخ النعماني (رحمه الله) الذي أدرك عهد النُّوَّاب، فقال: (وإذا جاءت الروايات متَّصلة متواترة بمثل هذه الأشياء قبل كونها، وبحدوث هذه الحوادث قبل حدوثها، ثمّ حقَّقها العيان والوجود، فوجب أنْ تزول الشكوك عمَّن فتح الله قلبه ونوَّره وهداه وأضاء له بصره)(192).
وبذلك لا يكون خلافنا مع بعض إخواننا المسلمين من أهل السُّنَّة في تشخيص الإمام المهدي بالإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) عن هوى وتعصُّب لا يقوم على دليل - كما يرى بعضهم -، بل هو مفروض بالأدلَّة الثابتة لدينا ولديهم، كما مرَّ في البحث.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(191) قد تقدَّم في (ص 103)، فراجع.
(192) الغيبة للنعماني (ص 340 و341).
البحث الثالث: أهل الكشف من الصوفيَّة يوافقون الإماميَّة في شأن المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)
مرَّ بك ما نقلناه في صدر البحث الأوَّل من قول ابن خلدون المتوفَّى (808هـ/1406م)، في مقدَّمة تاريخه: (وللمتصوِّفة المتأخِّرين في أمر هذا الفاطمي طريقة أُخرى، ونوع من الاستدلال، وربَّما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم)(193).
وأشرنا - في الهامش هناك - إلى أنَّ ابن خلدون لم يكن دقيقاً في نسبة ما للصوفيَّة من رأي واستدلال إلى المتأخِّرين منهم، وأجمل ذكر رأيهم ولم يُبيِّن لنا موضوعه في قضيَّة فيها أكثر من جهة.
والحقيقة أنَّ المتأخِّرين كالمتقدِّمين منهم تحقَّقوا قضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لا من حيث أصل موضوعه العامِّ كإمام منتظَر، بل من حيث شخصه وولادته وغيبته وحياته المستمرَّة، وكما هو رأي الإماميَّة، والدليل على ذلك:
أوَّلاً: أنَّ الحافظ الفقيه المحدِّث أبا بكر محمّد بن الحسين البيهقي الشافعي المتوفَّى سنة (458هـ/ 1066م) صاحب (السُّنَن)، والذي سبق ابن خلدون بثلاثة قرون وأربعين عاماً ذكر رأي الإماميَّة في أنَّ المهدي الموعود وُلِدَ يوم الجمعة منتصف شعبان سنة (255هـ)، وأنَّه الملقَّب بالحجَّة القائم المنتظَر، وأنَّه محمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(193) تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 311).
قال: (ووافقهم عليه جماعة من أهل الكشف)(194).
ومن الواضح أنَّ البيهقي إنَّما ينقل عمَّن تقدَّمه أو عاصره، ولا يُدخِل أُولئك هؤلاء في التاريخ المتأخِّر لهم.
ثانياً: ذكر بعض المعروفين في تاريخ التصوُّف ممَّن هم من أهل السُّنَّة من المسلمين أصلاً - من حيث مذاهبهم الفقهيَّة ونشأتهم - في مؤلَّفاتهم المنشورة المتداولة، آراءهم وآراء بعض المشايخ المعروفين في تاريخ التصوُّف بالصورة التي تُؤكِّد ما ذكرناه.
وسنذكر - في ما سيأتي - آراء بعض منهم للمثل، ونشير إلى آراء بعضهم الآخر.
وربَّما أشكل بعضهم عليَّ بأنَّ استشهادي بأهل الكشف يناقض ما أراه وما أُدلِّل عليه في فصل قادم من أنَّ الكشف اسم خادع مضلِّل ليس فقط، لأنَّه ادِّعاء إلَّا بالنسبة لصاحبه، وأنَّه ليس خاصًّا بالأولياء بصورته العامَّة ليكون دليلاً على القرب من الله، بل يحدث لدى الملحد والبرهمي واليهودي والمسيحي والملتزم والمتحلِّل، كما تثبت ذلك دراسات الباراسايكولوجيا وكُتُب العارفين من الصوفيَّة(195)، وأنَّه كثيراً ما يختلط لدى بعضهم مع حالات الهذيان والهلوسة(196)، أو بما يُعرَف بظواهر المسِّ والاستحواذ من قِبَل كائنات شيطانيَّة أو منحطَّة من الجنِّ أو الموتى من الإنس(197) التي تُوحي وتُصوِّر لمن ابتلى بها ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(194) أبهى المداد (ج 2/ ص 567)، عن شُعَب الإيمان.
(195) غيث المواهب العليَّة في شرح الحِكَم العطائيَّة (ص 171 - 174)، الباراسايكولوجيا سرٌّ من أسرار الدولة (ص 7 - 15)، ما بعد الحياة (ص 93 - 95).
(196) ميادين علم النفس (الاضطرابات الكبرى) (ص 405 و406).
(197) على أطلال العالم المادِّي (ج 2/ ص 106 و107)، الروحيَّة عند ابن عربي (ص 500 وما بعدها).
شاءت، وقد سجَّل علماء الروحيَّة الحديثة وعلماء الأمراض العقليَّة كثيراً من شواهدها المؤسفة.
وقد يكون الكشف أحياناً ليس إلَّا خلقاً للصورة في الخارج بواسطة الهمَّة أو الخيال لدى أقوياء الإرادة والتركيز من أصحاب الخلوات واليوغيِّين والسحرة(198)، أو ممَّا يحصل بالاستحضار والاستخدام وما يشبه(199)؛ ولذلك فالمكشوف بما يُسمَّى الكشف ليس الحقيقة دائماً، بل قد يكون ما هو خلافها، ولذلك فلا تقوم به حجَّة. وهو ما أيَّدته النصوص عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) كما سيأتي.
والجواب: أنَّ ذلك كلَّه صحيح، وهو ما سأذكر بعضاً من شواهده في الجزء الثاني الخاصِّ بأدعياء المهدويَّة والبابيَّة.
ولكن الصحيح أيضاً أنَّ ذلك لا يعني نفي الكشف، ونفي وجود الصحيح فيه، وإنَّما يعني عدم عصمته، ولذلك ينبغي أنْ نتحرز في ما لا نجد له شاهداً يُثبِته من العقل والنقل الثابت ومن الواقع، فنرفض ما خالفها بخاصَّة إذا كان ممَّا يتَّصل بجوانب من العقيدة أو التشريع. أمَّا حين يكون مطابقاً لأحد رأيين في الإسلام، فيأتي مضافاً لقوَّة دليل أحدها كشف يُؤيِّد هذا الرأي من شخص ليس هذا الرأي من مذهبه أصلاً، بل هو ممَّا يخالفه، وأنَّ هذا الشخص لم يترك هذا المذهب أيضاً جملةً، بل في مسألة أو أُخرى لها دليلها وراء كشفه كما في مسألتنا، فإنَّه خليق بالإصغاء إليه، بخاصَّة إذا كان معروفاً بمكانته في هذا العالم ومتَّبعاً فيه، فإنَّه يكون حجَّة عليه وعلى من اتَّبعه ووثَّقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(198) نصوص الحِكَم (ص 157) التعليقات.
(199) السرُّ المكتوم (ص 19 و20).
أمَّا نحن فإنَّ اعتمادنا في الأساس ليس عليه في هذه المسألة، وإنَّما نسوقه لما ذكرنا، وتأكيداً، فلا إشكال.
فمن هؤلاء:
1 - الشيخ محيي الدِّين أبو عبد الله محمّد بن عليِّ بن عربي الطائي الأندلسي المتوفَّى سنة (638هـ) في ما نقله الشيخ عبد الوهَّاب الشعراني المتوفَّى سنة (973هـ) والشيخ محمّد الصبَّان المتوفَّى سنة (1206هـ) عن (الفتوحات المكّيَّة/ الباب 366)، ولا يوجد بعض ما نقلاه - كنسب الإمام إلى الحسين (عليه السلام) - في الطبعات المتداولة كطبعة دار الكُتُب العربيَّة بمصر، وطبعة دار صادر في بيروت، فإذا صحَّ ما نقلاه فلابدَّ من أنْ تكون هاتان الطبعتان محرَّفتين في تاريخ متأخِّر.
قال الشيخ ابن عربي: (واعلموا أنَّه لابدَّ من خروج المهدي (عليه السلام)، لكن لا يخرج حتَّى تمتلئ الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلاً، ولو لم يكن من الدنيا إلَّا يوم واحد طوَّل الله تعالى ذلك اليوم حتَّى يلي ذلك الخليفة، وهو من عترة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) من ولد فاطمة (رضي الله عنها)، جدُّه الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، والده حسن العسكري بن الإمام عليٍّ النقي بن محمّد التقي بن الإمام عليٍّ الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمّد الباقر بن الإمام زين العابدين عليِّ بن الإمام الحسين بن الإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، يواطئ اسمه اسم رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)).
إلى أنْ يقول: (أسعد الناس به أهل الكوفة...، يبيد الظلم وأهله، ويقيم الدِّين، وينفخ الروح في الإسلام، يعزُّ الله به الإسلام بعد ذلِّه، ويُحييه بعد موته، يضع الجزية، ويدعو إلى الله بالسيف، فمن أبى قُتِلَ، ومن نازعه خُذِلَ، يُظهِر من
الدِّين ما هو عليه في نفسه حتَّى لو كان رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) حيًّا لحكم به، فلا يبقى في زمانه إلَّا الدِّين الخالص عن الرأي)(200).
2 - الشيخ سعد الدِّين محمّد بن المؤيّد أبو الحسين بن محمّد بن حمويه المعروف بالشيخ سعد الدِّين الحموي، من أكابر سادة علماء الصوفيَّة، كان معاصراً لابن عربي، وابن الفارض، أسلم السلطان غازان محمود خان على يد ولده صدر الدِّين إبراهيم سنة (654هـ).
قال المولى عزيز الدِّين عمر بن محمّد بن أحمد النسفي المعروف بصاحب (العقائد النسفيَّة) المشهورة في رسالته في تحقيق (النبوَّة والولاية) أنَّه حُكي عن الشيخ سعد الدِّين الحموي ما حاصله: أنَّ الوليَّ لم يكن قبل الإسلام، وإنْ كان في كلِّ دين صاحب شريعة ودعاة إلى دينه، لكن الدعاة يُسَمُّون أنبياء لا أولياء، فلمَّا بلغت النبوَّة إلى نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» يدعو إلى ديني، والذين يأتون بعدي يُسَمُّون بالأولياء، والله تعالى جعل اثني عشر نفساً في دين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نُوَّابه، و«العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ»، قاله (عليه السلام) في حقِّهم، وكذا قوله: «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كِأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ»، قاله في حقِّهم. وعند الشيخ (يعني الشيخ سعد الدِّين) الوليُّ في أُمَّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس أزيد من هؤلاء الاثني عشر، وآخر الأولياء - وهو الثاني عشر - هو المهدي صاحب الزمان (عليه السلام)(201).
3 - أبو المواهب الشيخ عبد الوهَّاب بن أحمد بن عليٍّ الشعراني المتوفَّى سنة (960هـ)، وهو من الشهرة والمكانة في تاريخ التصوُّف حالاً وتأليفاً بحيث لا يحتاج إلى تعريف.
قال في بيان أنَّ جميع أشراط الساعة التي أخبرنا بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حقٌّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(200) اليواقيت والجواهر (ج 2/ص 562 و563/المبحث 65)، إسعاف الراغبين (ص 55).
(201) عنه كشف الأستار (ص 86).
لابدَّ أنْ تقع كلُّها قبل قيام الساعة، وضرب مثلاً بخروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، إلى أنْ قال: (وهو من أولاد الإمام حسن العسكري، ومولده (عليه السلام) ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين. وهو باقٍ إلى أنْ يجتمع بعيسى بن مريم (عليه السلام)، فيكون عمره إلى وقتنا هذا وهو سنة ثمان وخمسين وتسعمائة، سبعمائة سنة وستّ سنين. هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كوم الريش المطلّ على بركة الرطل بمصر المحروسة عن الإمام المهدي (عليه السلام) حين اجتمع به، ووافقه على ذلك شيخنا سيِّدي عليٌّ الخوَّاص)(202).
4 - الحافظ محمّد بن محمّد بن محمود البخاري، المعروف بخواجه بارسا من أعيان علماء الحنفيَّة، وأكابر مشايخ النقشبنديَّة (ت 822هـ)، قال في (فصل الخطاب): (وأبو محمّد الحسن العسكري ولده محمّد (رضي الله عنهما)، معلوم عند خاصَّة خواصِّ أصحابه وثقات أهله)، ثمّ ذكر حديث حكيمة وحكاية المعتضد وبعض علائم ظهوره، إلى أنْ قال: (والأخبار في ذلك أكثر من أنْ تُحصى، ومناقب المهدي (رضي الله عنه) صاحب الزمان الغائب عن الأعيان الموجود في كلِّ زمان كثيرة، وتظاهرت الأخبار عن ظهوره، وإشراق نوره، يُجدِّد الشريعة المحمّديَّة، ويجاهد في الله حقَّ جهاده، ويُطهِّر من الأدناس أقطار البلاد، زمانه زمان المتَّقين، وأصحابه خلصوا من الريب وسلموا من العيب وأخذوا بهديه وطريقه واهتدوا من الحقِّ إلى تحقيقه، به خُتِمَت الخلافة والإمامة، وهو الإمام من لدن مات أبوه إلى يوم القيامة، وعيسى (عليه السلام) يُصلِّي خلفه، ويُصدِّقه على دعواه)(203).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(202) اليواقيت والجواهر (ج 2/ ص 561 و562)، عنه إسعاف الراغبين (ص 55)، والبرهان على وجود صاحب الزمان (ص 135 و136)، ومنتخب الأثر (ج 2/ هامش ص 381 و382).
(203) عنه كشف الأستار (ص 57 - 59).
5 - نور الدِّين عبد الرحمن بن أحمد بن قوام الدِّين الجامي الحنفي الشاعر الصوفي المعروف وصاحب (شرح الكفاية)، فقد ذكر في كتابه (شواهد النبوَّة) أنَّ الحجَّة محمّد بن الحسن الإمام الثاني عشر هو المهدي المنتظَر الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، وتحدَّث عن غرائب حالة ولادته، وبعض معاجزه، وروى خبر حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام)، وفيه أنَّه حين وُلِدَ (عجَّل الله فرجه) جثا على ركبتيه ورفع سبَّابته إلى السماء، وعطس فقال: «الحَمْدُ لِله رَبِّ العَالَمِينَ».
وذكر خبر من دخل على أبيه الإمام الحسن (عليه السلام) وسأله عن الخلف بعده، فدخل الدار ثمّ خرج وقد حمل طفلاً كأنَّه البدر في ليلة تمامه ابن ثلاث سنين فقال: «يا فلان لولا كرامتك على الله لما أريتك هذا الولد، اسمه اسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكنيته كنيته، هو الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً»، وخبر من دخل وفي البيت ستر مسدل، وحين سأل عن الخلف أُمِرَ برفع الستر، فرأى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)... إلخ(204).
6 - القاضي شهاب الدِّين بن شمس الدِّين الدولة آبادي، الملقَّب بمَلِك العلماء، ومؤلِّف تفسير (البحر الموَّاج) و(مناقب السادات) بالفارسيَّة، والمتوفَّى سنة (846هـ)، ذكر في كتابه (هداية السعداء) أسماء الأئمَّة الاثني عشر، ونقل حديث اللوح عن جابر عن فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهو يتضمَّن النصَّ على إمامتهم، وقال - وهو يذكر الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن (عجَّل الله فرجه) -: (هو غائب، وله عمر طويل كما عمَّر بين المؤمنين عيسى وإلياس والخضر، وفي الكافرين الدجَّال والسامري)(205).
7 - الشيخ العارف عبد الرحمن من مشايخ الصوفيَّة، صاحب كتاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(204) عنه كشف الأستار (ص 53 - 57).
(205) عنه كشف الأستار (ص 70 و71).
(مرآة الأسرار)، وهو الذي ينقل عنه الشاه وليُّ الله الدهلوي والد الشاه عبد العزيز مؤلِّف (التحفة الاثني عشريَّة)، وكتاب (الانتباه في سلاسل أولياء الله).
قال في كتاب (مرآة الأسرار) لدى الحديث عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ما ترجمته: (ذكر من هو شمس الدِّين والدولة، من هو هادي جميع الملَّة والدولة، من هو قائم في المقام المطهَّر الأحمدي، الإمام بالحقِّ أبو القاسم محمّد بن الحسن المهدي (رضي الله عنه)، وهو الإمام الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، أُمُّه كانت أُمُّ ولد اسمها نرجس، ولادته ليلة الخامس عشر من شهر شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين(206) في سُرَّ من رأى المعروفة بسامرَّة، وهذا الإمام الثاني عشر موافق في الكنية والاسم لحضرة ملجأ الرسالة (عليه السلام)، ألقابه الشريفة: المهدي، والحجَّة، والقائم، والمنتظَر، وصاحب الزمان، وخاتم الاثني عشر. وصاحب الزمان في وقت وفاة والده الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان عمره خمس سنين، وجلس على مسند الإمامة، وكما أعطى الحقُّ تعالى حضرة يحيى بن زكريَّا (عليهما السلام) في حال الطفوليَّة الحكمة والكرامة وأوصل عيسى بن مريم (عليهما السلام) في زمن الصبا إلى المرتبة العالية، كذلك هو في صغر السِّنِّ جعله الله إماماً، وخوارق العادات الظاهرة له ليست قليلة بحيث يسعها هذا المختصر)، وأشار إلى ما ذكره الشيخ محيي الدِّين بن عربي في (الفتوحات)، وملَّا عبد الرحمن الجامي في (شواهد النبوَّة).
وقال: (وحيث يظهر المهدي يجعل الولاية المطلقة ظاهرة بلا خفاء، ويرفع اختلاف المذاهب والظلم وسوء الأخلاق، حيث إنَّ أوصافه الحميدة في الأحاديث النبويَّة وردت بأنَّ المهدي في آخر الزمان يظهر ظهوراً تامًّا، ويُطهِّر تمام الربع المسكون من الجور والظلم).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(206) وذكر رواية أُخرى أنَّها في (23) رمضان.
قال: (إذا كان الدجَّال القبيح الأفعال قد وُجِدَ وظهر وبقى حيًّا مخفيا، وكذلك حضرة عيسى (عليه السلام) وُجِدَ واختفى عن الخلق، فإذا كان ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الإمام محمّد المهدي بن الحسن العسكري (عليهما السلام) اختفى عن نظر العوامِّ ويظهر جهارا في وقته المعيَّن له الموافق للتقدير الإلهي مثل عيسى (عليه السلام) والدجَّال، فليس ذلك بعجب من أقوال جماعة من الأكابر ومن أقوال وأوامر أئمَّة أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم))(207).
8 - الشيخ تقي الدِّين ابن أبي منصور، قال في عقيدته على ما نقله الشعراني عند الحديث عن علامات القيام: (فهناك يُترقَّب خروج المهدي (عليه السلام)، وهو من أولاد الإمام الحسن العسكري)(208).
9 - المولوي عليّ أكبر بن أسد الله المؤودي من علماء الصوفيَّة المعروفين في الهند، له كتاب (المكاشفات) الذي جعله كالحاشية على كتاب (نفحات الأُنس) للجامي.
وفي حاشيته المتضمِّنة ترجمة عليِّ بن سهل بن الأزهر، ناقش قول من رأى أنَّ العصمة خاصَّة بالأنبياء، مستشهداً بالحديث الذي نقله ابن عربي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ المهدي يقفو أثري لا يُخطئ.
ثمّ ذكر أنَّ الشعراني نقل في (اليواقيت/ المبحث 45)، عن أبي الحسن الشاذلي أنَّ للقطب خمس عشرة علامة، منها أنْ يُمَدَّ بمدد العصمة والرحمة والخلافة والنيابة ومدد حملة العرش، ويُكشَف له عن حقيقة الذات وإحاطة الصفات.
قال: (فبهذا صحَّ مذهب من ذهب إلى كون غير النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معصوماً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(207) عنه البرهان على وجود صاحب الزمان (عليه السلام) (ص 125 و126).
(208) اليواقيت والجواهر (ج 2/ ص 562/ المبحث 65).
ومن قيَّد العصمة في زمرة معدودة ونفاها عن غير تلك الزمرة فقد سلك مسلكاً آخر، وله أيضاً وجه يعلمه من علمه).
وأضاف: (فإنَّ الحكم بكون المهدي الموعود (رضي الله عنه) موجوداً، وهو كان قطباً بعد أبيه الحسن العسكري (عليهما السلام)، كما كان هو قطباً بعد أبيه إلى الإمام عليِّ بن أبي طالب (كرَّمنا الله بوجودهم)، يشير إلى صحَّة تلك الرتبة في وجوداتهم من حين كان القطبيَّة في وجود جدِّه عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) إلى أنْ تتمَّ فيه).
قال: (وقد ذكر ذلك عن الشيخ صاحب اليواقيت وعن غيره أيضاً (رضي الله عنه وعنهم)، فلابدَّ أنْ يكون لكلِّ إمام من الأئمَّة الاثني عشر عصمة).
وعقَّب بقوله: (خذ هذه الفائدة)(209).
وذكر ابن خلدون: ابن قسي، وعبد الحقِّ بن سبعين، وابن أبي واصل، وأنَّهم يرونه خاتم الأولياء(210).
ونقل الحافظ الشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي النقشبندي المتوفَّى سنة (1294هـ) في الأبواب (84) و(85) و(86) من كتابه (ينابيع المودَّة، عدداً من أسماء بعض المحدِّثين وبعض مشايخ الصوفيَّة وعلماء أسرار الحروف الذين يؤمنون بأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، ومن هؤلاء عدا من ذكرناهم: الشيخ العطَّار النيسابوري، وشمس الدِّين التبريزي، وجلال الدِّين الرومي، والسيِّد نعمة الله الوليّ، والسيِّد النسيمي، والشيخ كمال الدِّين محمّد بن طلحة الحلبي الشافعي، والشيخ صلاح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(209) عنه كشف الأستار (ص 79 - 81).
(210) تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 323 و324).
الدِّين الصفدي، والمحدِّث الفقيه محمّد بن يوسف الكنجي الشافعي، والشيخ المحدِّث الفقيه محمّد بن إبراهيم الجويني الشافعي(211).
وذكر غيره عدداً آخر، منهم: ابن الصبَّاغ المالكي في (الفصول المهمَّة)، وسبط ابن الجوزي في (تذكرة الخواصِّ)، والفضل بن روزبهان، وابن الخشَّاب عبد الله بن أحمد، وصدر الدِّين القونوي، وآخرون يمكن التعرُّف عليهم في المراجع أدناه(212).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(211) ينابيع المودَّة (ج 3/ ص 34 و348/ باب 86).
(212) البرهان على وجود صاحب الزمان (ص 95 - 138)، منتخب الأثر (ج 2/ هامش ص 371 - 393).
الفصل الثاني: ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته الصغرى
البحث الأوَّل: إخفاء ولادته (عجَّل الله فرجه) وغيبته الصغرى.
البحث الثاني: اضطلاعه (عجَّل الله فرجه) بالإمامة طفلاً.
البحث الثالث: نوَّابه (عجَّل الله فرجه)، وبعض توقيعاته.
البحث الأوَّل: إخفاء ولادته (عجَّل الله فرجه) وغيبته الصغرى
1 - إخفاء ولادته (عجَّل الله فرجه):
فسح إخفاء أمر ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إلَّا عن الخاصَّة المجال ليثير بعضهم التشكيك بولادته أصلاً، ومن هؤلاء عمُّه جعفر الكذَّاب.
ويكفي لدحض هذه الشبهة:
أوَّلاً: ما ورد من الروايات المتواترة المبشِّرة به، والتي أثبتنا في البحث الثاني من الفصل الأوَّل أمثلة منها.
ثانياً: التنبيه المتقدِّم من المعصومين (عليهم السلام) على أنَّ ولادته ستخفى تقيَّةً، خشيةً عليه من عمِّه جعفر الكذَّاب من جهة، ومن السلطة الحاكمة من جهة أُخرى.
ومنها ما ذكرناه في البحث الثاني من الفصل السابق من رواية عن الإمام الحسن السبط (عليه السلام)، قال فيها: «فَإِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) يُخْفِي وِلَادَتَهُ، وَيُغَيِّبُ شَخْصَهُ»(213).
وما ورد عن الإمام الحسين (عليه السلام) في الحديث عن المهدي (عجَّل الله فرجه)، فقد قال: «هُوَ صَاحِبُ الغَيْبَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُقْسَمُ مِيرَاثُهُ وَهُوَ حَيٌّ»(214).
وما ورد عن الإمام عليِّ بن الحسين (عليه السلام)، فقد قال (عليه السلام): «كَأَنِّي بِجَعْفَرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(213) قد تقدَّم في (ص 107)، فراجع.
(214) قد تقدَّم في (ص 107)، فراجع.
الكَذَّابِ وَقَدْ حَمَلَ طَاغِيَةَ زَمَانِهِ عَلَى تَفْتِيشِ أَمْرِ وَلِيِّ اللهِ وَالمُغَيَّبِ فِي حِفْظِ اللهِ وَالتَّوْكِيلِ بِحَرَمِ أَبِيهِ جَهْلاً مِنْهُ بِوِلَادَتِهِ»(215).
وكالرواية الثالثة عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام)، وقد ذكر أنَّ في المهدي (عجَّل الله فرجه) بعضاً من سُنَن الأنبياء السابقين، إلى أنْ قال: «وَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ مُوسَى (عليه السلام) فَدَوَامُ خَوْفِهِ، وَطُولُ غَيْبَتِهِ، وَخَفَاءُ وِلَادَتِهِ»(216).
والرواية الثالثة عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: «وَهُوَ الَّذِي يَشُكُّ النَّاسُ فِي وِلَادَتِهِ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ حَمْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ غَائِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا وُلِدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وُلِدَ قَبْلَ وَفَاةِ أَبِيهِ بِسَنَتَيْنِ»(217).
وقال (عليه السلام) في الرواية السادسة: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَدَارَ لِلْقَائِمِ مِنَّا ثَلَاثَةً أَدَارَهَا فِي ثَلَاثَةٍ مِنَ الرُّسُلِ (عليهم السلام)، قَدَّرَ مَوْلِدَهُ تَقْدِيرَ مَوْلِدِ مُوسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ غَيْبَتَهُ تَقْدِيرَ غَيْبَةِ عِيسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ إِبْطَاءَهُ تَقْدِيرَ إِبْطَاءِ نُوحٍ (عليه السلام)، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عُمُرَ العَبْدِ الصَّالِحِ - أَعْنِي الخَضِرَ (عليه السلام) - دَلِيلاً عَلَى عُمُرِهِ»، فَقُلْنَا لَهُ: اكْشِفْ لَنَا يا بن رَسُولِ اللهِ عَنْ وُجُوهِ هَذِهِ المَعَانِي.
قَالَ (عليه السلام): «أَمَّا مَوْلِدُ مُوسَى (عليه السلام) فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَـمَّا وَقَفَ عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِ عَلَى يَدِهِ أَمَرَ بِإِحْضَارِ الكَهَنَةِ، فَدَلُّوهُ عَلَى نَسَبِهِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِشَقِّ بُطُونِ الحَوَامِلِ مِنْ نِسَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى قَتَلَ فِي طَلَبِهِ نَيِّفاً وَعِشْرِينَ ألفَ مَوْلُودٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الوُصُولُ إِلَى قَتْلِ مُوسَى (عليه السلام) بِحِفْظِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو العَبَّاسِ لَـمَّا وَقَفُوا عَلَى أَنَّ زَوَالَ مُلْكِهِمْ وَمُلْكِ الأُمَرَاءِ وَالجَبَابِرَةِ مِنْهُمْ عَلَى يَدِ القَائِمِ مِنَّا نَاصَبُونَا العَدَاوَةَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(215) قد تقدَّم في (ص 108 و109)، فراجع.
(216) قد تقدَّم في (ص 111)، فراجع.
(217) قد تقدَّم في (ص 112)، فراجع.
وَوَضَعُوا سُيُوفَهُمْ فِي قَتْلِ آلِ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَإِبَادَةِ نَسْلِهِ طَمَعاً مِنْهُمْ فِي الوُصُولِ إِلَى قَتْلِ القَائِمِ، وَيَأْبَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يَكْشِفَ أَمْرَهُ لِوَاحِدٍ مِنَ الظَّلَمَةِ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ»(218).
وفي الرواية الثالثة عن الإمام الرضا (عليه السلام)، قال (عليه السلام) في إجابة لمن قال له: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ صَاحِبَ هَذَا الأَمْرِ...: «مَا مِنَّا أَحَدٌ اخْتَلَفَتْ إِلَيْهِ الكُتُبُ، وَسُئِلَ عَنِ المَسَائِلِ، وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ الأَصَابِعُ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الأَمْوَالُ إِلَّا اغْتِيلَ أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لِهَذَا الأَمْرِ رَجُلاً خَفِيَّ المَوْلِدِ وَالمَنْشَإِ غَيْرَ خَفِيٍّ فِي نَسَبِهِ»(219).
وورد عن الإمام محمّد الجواد (عليه السلام) وهو يُجيب عن سؤال حول القائم (عجَّل الله فرجه)، قائلاً: «هُوَ الَّذِي تَخْفَى عَلَى النَّاسِ وِلَادَتُهُ، وَيَغِيبُ عَنْهُمْ شَخْصُهُ»(220).
وهناك روايات أُخرى كثيرة بهذا المعنى.
ثالثاً: أنَّ إخفاء ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) كان نسبيًّا، فقد أراه أبوه الإمام الحسن (عليه السلام) لعدد كبير من شيعته، كما مرَّ في الروايات الواردة عنه من الثالثة حتَّى الثامنة، وكثير غيرها(221).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(218) قد تقدَّم في (ص 114)، فراجع.
(219) قد تقدَّم في (ص 119)، فراجع.
(220) قد تقدَّم في (ص 121)، فراجع.
(221) راجع: الكافي (ج 1/ ص 328 و329/ باب الإشارة والنصِّ إلى صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 3 و6، وص 332/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 12 و14)، وكمال الدِّين (ص 384 و385 و384/ باب 38/ ح 1 و2، وص 434 و435 و436 و437/ باب 43/ ح 1 و2 و4 و5)، والغيبة للطوسي (ص 233 - 240/ ح 202 - 207، وص 246 - 248/ ح 216، وص 250/ ح 219، وص 271 - 273/ ح 237، وص 357/ ح 319).
وعرَّفه ونصَّ على إمامته أمامهم، وأنَّه صاحب الزمان، كما في الرواية الثالثة عنه وروايات أُخرى، ومنها ما كان عند وفاته، كما عن إسماعيل بن عليٍّ النوبختي، وننقلها كما هي من دون تصرُّف، قال: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ ابْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) فِي اَلمَرْضَةِ اَلَّتِي مَاتَ فِيهَا وَأَنَا عِنْدَهُ، إِذْ قَالَ لِخَادِمِهِ عَقِيدٍ - وَكَانَ الخَادِمُ أَسْوَدَ نُوبِيًّا قَدْ خَدَمَ مِنْ قَبْلِهِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رَبَّى الحَسَنَ (عليه السلام) -، فَقَالَ لَهُ: «يَا عَقِيدُ، أَغْلِ لِي مَاءً بِمُصْطَكِي»، فَأَغْلَى لَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ صَقِيلُ الجَارِيَةُ أُمُّ الخَلَفِ (عليه السلام)(222)، فَلَمَّا صَارَ القَدَحُ فِي يَدَيْهِ وَهَمَّ بِشُرْبِهِ فَجَعَلَتْ يَدُهُ تَرْتَعِدُ حَتَّى ضَرَبَ القَدَحَ ثَنَايَا الحَسَنِ (عليه السلام)، فَتَرَكَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ لِعَقِيدٍ: «اُدْخُلِ البَيْتَ فَإِنَّكَ تَرَى صَبِيًّا سَاجِداً فَأْتِنِي بِهِ».
قَالَ أَبُو سَهْلٍ: قَالَ عَقِيدٌ: فَدَخَلْتُ أَتَحَرَّى، فَإِذَا أَنَا بِصَبِيٍّ سَاجِدٍ رَافِعٍ سَبَّابَتَهُ نَحْوَ اَلسَّمَاءِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَأَوْجَزَ فِي صَلَاتِهِ، فَقُلْتُ: إِنَّ سَيِّدِي يَأْمُرُكَ بِالخُرُوجِ إِلَيْهِ، إِذَا جَاءَتْ أُمُّهُ صَقِيلُ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ وَأَخْرَجَتْهُ إِلَى أَبِيهِ الحَسَنِ (عليه السلام)، قَالَ أَبُو سَهْلٍ: فَلَمَّا مَثُلَ اَلصَّبِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ سَلَّمَ، وَإِذَا هُوَ دُرِّيُّ اَللَّوْنِ، وَفِي شَعْرِ رَأْسِهِ قَطَطٌ، مُفَلَّجُ الأَسْنَانِ، فَلَمَّا رَآهُ الحَسَنُ (عليه السلام) بَكَى وَقَالَ: «يَا سَيِّدَ أَهْلِ بَيْتِهِ، اِسْقِنِي اَلمَاءَ فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي»، وَأَخَذَ اَلصَّبِيُّ القَدَحَ اَلمَغْلِيَّ بِالمُصْطُكِيِّ بِيَدِهِ ثُمَّ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ ثُمَّ سَقَاهُ، فَلَمَّا شَرِبَهُ قَالَ: «هَيِّئُونِي لِلصَّلَاةِ»، فَطُرِحَ فِي حَجْرِهِ مِنْدِيلٌ، فَوَضَّأَهُ اَلصَّبِيُّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَدَمَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ، فَأَنْتَ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ، وَأَنْتَ اَلمَهْدِيُّ، وَأَنْتَ حُجَّةُ اَللَّهِ عَلَى أَرْضِهِ، وَأَنْتَ وَلَدِي وَوَصِيِّي، وَأَنَا وَلَدْتُكَ، وَأَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، وَلَدَكَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَأَنْتَ خَاتَمُ الأَوْصِيَاءِ الأَئِمَّةِ اَلطَّاهِرِينَ، وَبَشَّرَ بِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(222) ذكروا لها اسمين آخرين: سوسن، ونرجس.
رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَسَمَّاكَ وَكَنَّاكَ وَبِذَلِكَ عَهِدَ إِلَيَّ أَبِي عَنْ آبَائِكَ اَلطَّاهِرِينَ صَلَّى اَللهُ عَلَى أَهْلِ البَيْتِ رَبُّنَا، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ»، وَمَاتَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ وَقْتِهِ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)(223).
رابعاً: أرى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) نفسه لعدد من شيعته في حياة أبيه، وأعلن لهم أنَّه حجَّة الله، وبقيَّته في أرضه.
ومن الروايات التي تفيد ذلك ما رواه الطوسي (رحمه الله) بسنده عن ظريف أبي نصر خادم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، قال: دَخَلْتُ عَلَيْهِ - يَعْنِي صَاحِبَ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) - فَقَالَ لِي: «عَلَيَّ بِالصَّنْدَلِ الأَحْمَرِ»، فَقَالَ: فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَقَالَ (عليه السلام): «أَتَعْرِفُنِي؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟»، فَقُلْتُ: أَنْتَ سَيِّدِي وَاِبْنُ سَيِّدِي، فَقَالَ: «لَيْسَ عَنْ هَذَا سَألتُكَ»، قَالَ ظَرِيفٌ: فَقُلْتُ: جَعَلَنِيَ اَللهُ فِدَاكَ، فَسِّرْ لِي، فَقَالَ: «أَنَا خَاتَمُ الأَوْصِيَاءِ، وَبِي يَدْفَعُ اَللهُ البَلَاءَ عَنْ أَهْلِي وَشِيعَتِي»(224).
وفي بقيَّة الرواية الثالثة ممَّا أوردناه عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ذكر أحمد بن إسحاق الأشعري أنَّه حين جاء الإمام الحسن (عليه السلام) وعلى عاتقه ابنه، وهو ابن ثلاث سنين، فقال: «يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ، لَوْ لَا كَرَامَتُكَ عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَعَلَى حُجَجِهِ مَا عَرَضْتُ عَلَيْكَ ابْنِي هَذَا، إِنَّهُ سَمِيُّ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَكَنِيُّهُ...»، ثمّ حدَّثه عن غيبته.
قال أحمد: فَقُلْتُ لَهُ: يَا مَوْلَايَ، فَهَلْ مِنْ عَلَامَةٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا قَلْبِي؟ فَنَطَقَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(223) الغيبة للطوسي (ص 271 - 273/ ح 237).
(224) الغيبة للطوسي (ص 246/ ح 215)؛ ورواه الخصيبي (رحمه الله) في الهداية الكبرى (ص 358)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 261)، والصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 441/ باب 43/ ح 12)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 458/ ح 3).
الغُلَامُ (عليه السلام) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ، فَقَالَ: «أَنَا بَقِيَّةُ اللهِ فِي أَرْضِهِ، وَالمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِهِ، فَلَا تَطْلُبْ أَثَراً بَعْدَ عَيْنٍ يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ»(225).
وعن نسيم خادم أبي محمّد (الحسن) (عليه السلام)، قالت: دَخَلْتُ عَلَى صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) بَعْدَ مَوْلِدِهِ بِعَشْرِ لَيَالٍ، فَعَطَسْتُ عِنْدَهُ، فَقَالَ: «يَرْحَمُكِ اَللهُ»، فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ... الرواية(226).
وروى الطوسي (رحمه الله) عَنِ اَلسَّيَّارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَسِيمٌ وَمَارِيَةُ، قَالَتَا: لَـمَّا خَرَجَ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ سَقَطَ جَاثِياً عَلَى رُكْبَتَيْهِ، رَافِعاً سَبَّابَتَهُ نَحْوَ اَلسَّمَاءِ، ثُمَّ عَطَسَ فَقَالَ: «الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ عَبْداً دَاخِراً لله غَيْرُ مُسْتَنْكِفٍ وَلَا مُسْتَكْبِرٍ»، ثُمَّ قَالَ: «زَعَمَتِ اَلظَّلَمَةُ أَنَّ حُجَّةَ اَلله دَاحِضَةٌ، وَلَوْ أَذِنَ لَنَا فِي الكَلَامِ لَزَالَ اَلشَّكُّ»(227).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(225) كمال الدِّين (ص 384 و385/ باب 38/ ح 1).
(226) الغيبة للطوسي (ص 232/ ح 200)؛ وروى قريباً منه الخصيبي (رحمه الله) في الهداية الكبرى (ص 358)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 261)، والصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 430/ باب 42/ ح 5، وص 441/ باب 43/ ح 11)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 1/ص 465 و466/ح 11، وج 2/ص 693 و694/ح 7).
(227) الغيبة للطوسي (ص 244 و245/ ح 211)؛ ورواه الخصيبي (رحمه الله) في الهداية الكبرى (ص 357 و358)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 260)، والصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 430/ باب 42/ ح 5).
وروت نطقه بعد ولادته (عجَّل الله فرجه) العلويَّة الوليَّة الجليلة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام)، قالت: قال له أبوه (عليه السلام) حين أخذته إليه: «يَا بُنَيَّ، اِنْطِقْ بِقُدْرَةِ اَلله»، فَاسْتَعَاذَ وَلِيُّ اَلله(عليه السلام) مِنَ اَلشَّيْطَانِ اَلرَّجِيمِ، وَاِسْتَفْتَحَ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القَصص: 5 و6]، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَعَلَى أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ وَالأَئِمَّةِ (عليهم السلام) وَاحِداً وَاحِداً حَتَّى اِنْتَهَى إِلَى أَبِيهِ». (الغيبة للطوسي: ص 234 - 237/ ح 204).
وروى بسنده عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: وَجَّهَ قَوْمٌ مِنَ اَلمُفَوِّضَةِ وَاَلمُقَصِّرَةِ كَامِلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ اَلمَدَنِيَّ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، قَالَ كَامِلٌ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: أَسْأَلُهُ: لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَعْرِفَتِي وَقَالَ بِمَقَالَتِي، قَالَ: فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)...، فذكر حديثاً إلى أنْ قال: فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ إِلَى بَابٍ عَلَيْهِ سِتْرٌ مُرْخًى، فَجَاءَتِ اَلرِّيحُ، فَكَشَفَتْ طَرَفَهُ، فَإِذَا أَنَا بِفَتًى كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَرْبَعِ سِنِينَ أَوْ مِثْلِهَا، فَقَالَ لِي: «يَا كَامِلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ»، فَاقْشَعْرَرْتُ مِنْ ذَلِكَ وَالهِمْتُ أَنْ قُلْتُ: لَبَّيْكَ، يَا سَيِّدِي، فَقَالَ: «جِئْتَ إِلَى وَلِيِّ اَلله وَحُجَّتِهِ وَبَابِهِ تَسْأَلُهُ: هَلْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَعْرِفَتَكَ وَقَالَ بِمَقَالَتِكَ؟»، فَقُلْتُ: إِي وَاَلله، قَالَ: «إِذَنْ وَاَلله يَقِلُّ دَاخِلُهَا، وَاَلله إِنَّهُ لَيَدْخُلُهَا قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ: الحَقِّيَّةُ»، قُلْتُ: يَا سَيِّدِي، وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: «قَوْمٌ مِنْ حُبِّهِمْ لِعَلِيٍّ يَحْلِفُونَ بِحَقِّهِ وَلَا يَدْرُونَ مَا حَقُّهُ وَفَضْلُهُ»، ثُمَّ سَكَتَ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِ) عَنِّي سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «وَجِئْتَ تَسْأَلُهُ عَنْ مَقَالَةِ اَلمُفَوِّضَةِ، كَذَبُوا، بَلْ قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ لِمَشِيَّةِ اَلله، فَإِذَا شَاءَ شِئْنَا، وَاَللهُ يَقُولُ: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ [الإنسان: 30]»، ثُمَّ رَجَعَ اَلسِّتْرُ إِلَى حَالَتِهِ، فَلَمْ أَسْتَطِعْ كَشْفَهُ، فَنَظَرَ إِلَيَّ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) مُتَبَسِّماً، فَقَالَ: «يَا كَامِلُ، مَا جُلُوسُكَ وَقَدْ أَنْبَأَكَ بِحَاجَتِكَ الحُجَّةُ مِنْ بَعْدِي؟»، فَقُمْتُ وَخَرَجْتُ، وَلَمْ أُعَايِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ(228).
وأظهر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) البرهان على إمامته بين يدي أبيه وبأمره بحضور سعد بن عبد الله القمِّي وأحمد بن إسحاق، من خلال الإخبارات الغيبيَّة المفصَّلة والإجابات العلميَّة المحكمة(229).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(228) الغيبة للطوسي (ص 246 - 248/ ح 216)؛ ورواه الخصيبي (رحمه الله) في الهداية الكبرى (ص 359)، والمسعودي في إثبات الوصيَّة (ص 261 و262)، والطبري الشيعي (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 505 و506/ ح 491/95).
(229) راجع: كمال الدِّين (ص 454 - 465/ باب 43/ ح 21)، ودلائل الإمامة (ص 506 - 517/ ح 492/96).
وإذا كان في ما ذكرناه من الأدلَّة وما سيأتي مضافاً إليها ما يكفي لدحض ما أُثير من تشكيك بعضهم بولادته ووجوده، فإنَّ أمراً آخر يبقى مثاراً للتشكيك لدى الكثيرين، وهو أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) استمرَّ طوال مدَّة إمامته غائباً بصورة عامَّة عن شيعته إلَّا عن الخاصَّة منهم، وهو ما سنتحدَّث عنه وعن أسبابه في هذه الفقرة.
2- الغيبة الصغرى:
والغيبة الصغرى تتَّصل بإخفاء ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) من حيث أسبابها المرتبطة بظروف التقيَّة، فهي امتداد لا أكثر، والفصل بينهما في العنوان ليس إلَّا لمناقشة التشكيك بولادته، ولأنَّها مرحلة ما قبل إمامته الفعليَّة زمنيًّا، أي في حياة أبيه (عليه السلام)، فالحديث له بعض الخصوصيَّة من حيث صلته بهما معاً.
ولذلك فقراءة ما ذُكِرَ من أسباب إخفاء ولادته هو نفسه التفسير لأسباب غيبته الصغرى، وورد في البحث الثاني من الفصل الأوَّل ما يشير إليها، وبخاصَّة في الروايات الواردة عن آبائه (عليهم السلام)، وقد نظَّروا لها (عليهم السلام) بما حدث لبعض الأنبياء (عليهم السلام).
جاء في الحديث الثالث عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) المرويِّ عن محمّد بن مسلم: «إِنَّ فِي القَائِمِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شَبَهاً مِنْ خَمْسَةٍ مِنَ الرُّسُلِ»، وذكر منهم يوسف بن يعقوب، فقال (عليه السلام): «وَأَمَّا شَبَهُهُ مِنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ (عليهما السلام) فَالغَيْبَةُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَعَامَّتِهِ، وَاخْتِفَاؤُهُ مِنْ إِخْوَتِهِ، وَإِشْكَالُ أَمْرِهِ عَلَى أَبِيهِ يَعْقُوبَ (عليه السلام) مَعَ قُرْبِ المَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَأَهْلِهِ وَشِيعَتِهِ»(230).
وجاء في الحديث الرابع عن سدير، عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: «إِنَّ فِي القَائِمِ شَبَهٌ مِنْ يُوسُفَ (عليه السلام)»، قُلْتُ: كَأَنَّكَ تَذْكُرُ خَبَرَهُ أَوْ غَيْبَتَهُ؟ فَقَالَ لِي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(230) قد تقدَّم في (ص 111)، فراجع.
«مَا تُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةُ أَشْبَاهُ...، إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا أَسْبَاطاً أَوْلَادَ أَنْبِيَاءَ، تَاجَرُوا يُوسُفَ وَبَايَعُوهُ وَهُمْ إِخْوَتُهُ وَهُوَ أَخُوهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ يُرِيدُ أَنْ يَسْتُرَ حُجَّتَهُ...» الحديث(231).
وهناك روايات أُخرى كثيرة في هذا الموضوع نذكر منها بعض ما نُصَّ فيها على أنَّ له غيبتين: قصيرة، وطويلة.
روى النعماني (رحمه الله) بسنده عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (الصادق) (عليه السلام): «لِلْقَائِمِ غَيْبَتَانِ، إِحْدَاهُمَا قَصِيرَةٌ، وَالأُخْرَى طَوِيلَةٌ، الغَيْبَةُ الأُولَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ شِيعَتِهِ، وَالأُخْرَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ مَوَالِيهِ فِي دِينِهِ»(232).
وبسنده عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ غَيْبَتَيْنِ، يَرْجِعُ فِي إِحْدَاهُمَا إِلَى أَهْلِهِ، وَالأُخْرَى يُقَالُ: هَلَكَ، فِي أَيِّ وَادٍ سَلَكَ؟»، قُلْتُ: كَيْفَ نَصْنَعُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ؟ قَالَ: «إِنِ ادَّعَى مُدَّعٍ فَاسْأَلُوهُ عَنْ تِلْكَ العَظَائِمِ الَّتِي يُجِيبُ فِيهَا مِثْلُهُ»(233).
وبسنده عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ الجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الصَّادِقِ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ غَيْبَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا تَطُولُ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: مَاتَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: قُتِلَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: ذَهَبَ، فَلَا يَبْقَى عَلَى أَمْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(231) قد تقدَّم في (ص 113)، فراجع.
(232) الغيبة للنعماني (ص 175/ باب 10/ فصل 4/ ح 2)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ص 340/باب في الغيبة/ح 19).
(233) الغيبة للنعماني (ص 178/ باب 10/ فصل 4/ ح 9)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 340/ باب في الغيبة/ ح 20).
نَفَرٌ يَسِيرٌ، لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَوْضِعِهِ أَحَدٌ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا المَوْلَى الَّذِي يَلِي أَمْرَهُ»(234).
وروى بسنده عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «يَفْتَقِدُ النَّاسُ إِمَاماً، يَشْهَدُ المَوَاسِمَ، يَرَاهُمْ وَلَا يَرَوْنَهُ»(235).
وبسنده عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِلْقَائِمِ غَيْبَتَيْنِ، يَرْجِعُ فِي إِحْدَاهُمَا، وَفِي الأُخْرَى لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ، يَشْهَدُ المَوَاسِمَ، يَرَى النَّاسَ وَلَا يَرَوْنَهُ»(236).
وبسنده عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ - يَعْنِي أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) -: «قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ البَاقِرُ (عليهما السلام): إِذَا قَامَ القَائِمُ (عليه السلام) قَالَ: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ﴾»(237).
وبهذه الروايات نرى أنَّ السرَّ وراء هذه الغيبة هو التقيَّة، وأنَّها غيبة نسبيَّة لا مطلقة، وقد أحصوا ممَّن رآه في هذه الغيبة (304 ثلاثمائة وأربعة) أشخاص من شيعته(238).
وسنُقدِّم في ما يأتي بعض الأمثلة ممَّن رآه ورأى دلائل إمامته في الغيبة الصغرى، وسنذكر هذه الأمثلة ممَّن رآه من غير النُّوَّاب الأربعة الذين سنتحدَّث عنهم في البحث التالي، وسنسوق ممَّا أوردوه هنا أربع روايات بأُسلوب أصحابها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(234) الغيبة للنعماني (ص 176/ باب 10/ فصل 4/ ح 5)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 61/ ح 60، وص 161 و162/ ح 120).
(235) الغيبة للنعماني (ص 180/ باب 10/ فصل 4/ ح 13).
(236) الغيبة للنعماني (ص 181/ باب 10/ فصل 4/ ح 15).
(237) الغيبة للنعماني (ص 180/ باب 10/ فصل 4/ ح 12)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 328 و329/ باب 32/ ح 10).
(238) منتخب الأثر (ج 2/ ص 477 - 483).
من دون تصرُّف لبيان ما ذكرناه من كون هذه الغيبة نسبيَّة، وأنَّ الاتِّصال به لم يقتصر على النُّوَّاب الأربعة (رضوان الله عليهم)، وإنَّما حصل لعدد كبير أشرنا إليه آنفاً، وأنَّ من هؤلاء من شهد البرهان على إمامته.
1 - روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عن أَبِي الأَدْيَانِ، قَالَ: كُنْتُ أَخْدُمُ الحَسَنَ ابْنَ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، وَأَحْمِلُ كُتُبَهُ إِلَى الأَمْصَارِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي عِلَّتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ)، فَكَتَبَ مَعِي كُتُباً، وَقَالَ: «امْضِ بِهَا إِلَى المَدَائِنِ، فَإِنَّكَ سَتَغِيبُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، وَتَدْخُلُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ الخَامِسَ عَشَرَ، وَتَسْمَعُ الوَاعِيَةَ فِي دَارِي، وَتَجِدُنِي عَلَى المُغْتَسَلِ»، قَالَ أَبُو الأَدْيَانِ: فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَمَنْ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَبَكَ بِجَوَابَاتِ كُتُبِي فَهُوَ القَائِمُ مِنْ بَعْدِي»، فَقُلْتُ: زِدْنِي، فَقَالَ: «مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ فَهُوَ القَائِمُ بَعْدِي»، فَقُلْتُ: زِدْنِي، فَقَالَ: «مَنْ أَخْبَرَ بِمَا فِي الهِمْيَانِ فَهُوَ القَائِمُ بَعْدِي»، ثُمَّ مَنَعَتْنِي هَيْبَتُهُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَمَّا فِي الهِمْيَانِ.
وَخَرَجْتُ بِالكُتُبِ إِلَى المَدَائِنِ، وَأَخَذْتُ جَوَابَاتِهَا، وَدَخَلْتُ سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ الخَامِسَ عَشَرَ كَمَا ذَكَرَ لِي (عليه السلام)، فَإِذَا أَنَا بِالوَاعِيَةِ فِي دَارِهِ، وَإِذَا بِهِ عَلَى المُغْتَسَلِ، وَإِذَا أَنَا بِجَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ أَخِيهِ بِبَابِ الدَّارِ وَالشِّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يُعَزُّونَهُ وَيُهَنُّونَهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُنْ هَذَا الإِمَامُ فَقَدْ بَطَلَتِ الإِمَامَةُ، لِأَنِّي كُنْتُ أَعْرِفُهُ يَشْرَبُ النَّبِيذَ، وَيُقَامِرُ فِي الجَوْسَقِ، وَيَلْعَبُ بِالطُّنْبُورِ(239)، فَتَقَدَّمْتُ فَعَزَّيْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(239) يستغرب بعضهم أنْ يكون ابن إمام ثمّ يرتكب مثل هذه المعاصي، ولهؤلاء نذكر أنَّ العصمة خاصَّة بأهل العصمة من الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام)، وطبيعة الاختيار لدى الإنسان لا تستثني من إمكان الوقوع في المعصية سواهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (الحديد: 26)، ومثلها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (آل عمران: 21)، وقوله تعالى: ﴿وَبارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ (الصافَّات: 113)، وسبق أنْ ذكرنا مثل ابن نوح وإخوة يوسف.
وَهَنَّيْتُ، فَلَمْ يَسْألنِي عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَقِيدٌ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، قَدْ كُفِّنَ أَخُوكَ، فَقُمْ وَصَلِّ عَلَيْهِ، فَدَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ وَالشِّيعَةُ مِنْ حَوْلِهِ يَقْدُمُهُمُ السَّمَّانُ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَتِيلُ المُعْتَصِمِ المَعْرُوفُ بِسَلَمَةَ، فَلَمَّا صِرْنَا فِي الدَّارِ إِذَا نَحْنُ بِالحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) عَلَى نَعْشِهِ مُكَفَّناً، فَتَقَدَّمَ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ لِيُصَلِّيَ عَلَى أَخِيهِ، فَلَمَّا هَمَّ بِالتَّكْبِيرِ خَرَجَ صَبِيٌّ بِوَجْهِهِ سُمْرَةٌ، بِشَعْرِهِ قَطَطٌ، بِأَسْنَانِهِ تَفْلِيجٌ، فَجَبَذَ بِرِدَاءِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: «تَأَخَّرْ يَا عَمِّ فَأَنَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَبِي»، فَتَأَخَّرَ جَعْفَرٌ، وَقَدِ ارْبَدَّ وَجْهُهُ وَاصْفَرَّ، فَتَقَدَّمَ الصَّبِيُّ وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ أَبِيهِ (الهادي) (عليهما السلام)، ثُمَّ قَالَ (يعني الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)): «يَا بَصْرِيُّ، هَاتِ جَوَابَاتِ الكُتُبِ الَّتِي مَعَكَ»، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ بَيِّنَتَانِ، بَقِيَ الهِمْيَانُ (يعني العلامة الثالثة)، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ يَزْفِرُ، فَقَالَ لَهُ حَاجِزٌ الوَشَّاءُ: يَا سَيِّدِي، مَنِ الصَّبِيُّ؟ لِنُقِيمَ الحُجَّةَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ، وَلَا أَعْرِفُهُ.
فَنَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ قَدِمَ نَفَرٌ مِنْ قُمَّ، فَسَأَلُوا عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَعَرَفُوا مَوْتَهُ، فَقَالُوا: فَمَنْ نُعَزِّي؟ فَأَشَارَ النَّاسُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَعَزَّوْهُ وَهَنَّوْهُ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعَنَا كُتُباً وَمَالاً، فَتَقُولُ مِمَّنِ الكُتُبُ، وَكَمِ المَالُ (وذلك اختباراً لإمامته)، فَقَامَ يَنْفُضُ أَثْوَابَهُ وَيَقُولُ: تُرِيدُونَ مِنَّا أَنْ نَعْلَمَ الغَيْبَ.
قَالَ: فَخَرَجَ الخَادِمُ (يعني خادم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه))، فَقَالَ: مَعَكُمْ كُتُبُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَهِمْيَانٌ فِيهِ ألفُ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْهَا مَطْلِيَّةٌ، فَدَفَعُوا إِلَيْهِ الكُتُبَ وَالمَالَ وَقَالُوا: الَّذِي وَجَّهَ بِكَ لِأَخْذِ ذَلِكَ هُوَ الإِمَامُ(240).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(240) كمال الدِّين (ص 475 و476/ باب 43/ ذيل الحديث 25).
2 - وروى الصدوق (رحمه الله) بسنده عن أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ سِنَانٍ المَوْصِلِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: لَـمَّا قُبِضَ سَيِّدُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ العَسْكَرِيُّ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا) وَفَدَ مِنْ قُمَّ وَالجِبَالِ وُفُودٌ بِالأَمْوَالِ الَّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَى الرَّسْمِ وَالعَادَةِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ خَبَرُ وَفَاةِ الحَسَنِ (عليه السلام)، فَلَمَّا أَنْ وَصَلُوا إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى سَأَلُوا عَنْ سَيِّدِنَا الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ فُقِدَ، فَقَالُوا: وَمَنْ وَارِثُهُ؟ قَالُوا: أَخُوهُ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ، فَسَأَلُوا عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: إِنَّهُ قَدْ خَرَجَ مُتَنَزِّهاً، وَرَكِبَ زَوْرَقاً فِي دِجْلَةَ يَشْرَبُ وَمَعَهُ المُغَنُّونَ، قَالَ: فَتَشَاوَرَ القَوْمُ، فَقَالُوا: هَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ صِفَةِ الإِمَامِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: امْضُوا بِنَا حَتَّى نَرُدَّ هَذِهِ الأَمْوَالَ عَلَى أَصْحَابِهَا. فَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ: مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيُّ القُمِّيُّ: قِفُوا بِنَا حَتَّى يَنْصَرِفَ هَذَا الرَّجُلُ وَنَخْتَبِرَ أَمْرَهُ بِالصِّحَّةِ.
قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ (يعني جعفر) دَخَلُوا عَلَيْهِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: يَا سَيِّدَنَا، نَحْنُ مِنْ أَهْلِ قُمَّ، وَمَعَنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهَا، وَكُنَّا نَحْمِلُ إِلَى سَيِّدِنَا أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الأَمْوَالَ، فَقَالَ: وَأَيْنَ هِيَ؟ قَالُوا: مَعَنَا، قَالَ: احْمِلُوهَا إِلَيَّ، قَالُوا: لَا، إِنَّ لِهَذِهِ الأَمْوَالِ خَبَراً طَرِيفاً، فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الأَمْوَالَ تُجْمَعُ وَيَكُونُ فِيهَا مِنْ عَامَّةِ الشِّيعَةِ الدِّينَارُ وَالدِّينَارَانِ، ثُمَّ يَجْعَلُونَهَا فِي كِيسٍ وَيَخْتِمُونَ عَلَيْهِ، وَكُنَّا إِذَا وَرَدْنَا بِالمَالِ عَلَى سَيِّدِنَا أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «جُمْلَةُ المَالِ كَذَا وَكَذَا دِينَاراً، مِنْ عِنْدِ فُلَانٍ كَذَا، وَمِنْ عِنْدِ فُلَانٍ كَذَا» حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى أَسْمَاءِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَيَقُولُ مَا عَلَى الخَوَاتِيمِ مِنْ نَقْشٍ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: كَذَبْتُمْ، تَقُولُونَ عَلَى أَخِي مَا لَا يَفْعَلُهُ، هَذَا عِلْمُ الغَيْبِ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ القَوْمُ كَلَامَ جَعْفَرٍ جَعَلَ بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ، فَقَالَ لَهُمْ: احْمِلُوا هَذَا المَالَ إِلَيَّ، قَالُوا: إِنَّا قَوْمٌ مُسْتَأْجِرُونَ وُكَلَاءُ لِأَرْبَابِ المَالِ، وَلَا نُسَلِّمُ المَالَ إِلَّا بِالعَلَامَاتِ الَّتِي كُنَّا نَعْرِفُهَا مِنْ سَيِّدِنَا الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَإِنْ كُنْتَ الإِمَامَ فَبَرْهِنْ لَنَا وَإِلَّا رَدَدْنَاهَا إِلَى أَصْحَابِهَا، يَرَوْنَ فِيهَا رَأْيَهُمْ.
وتذكر الرواية أنَّ جعفراً شكاهم إلى الخليفة، ولـمَّا أمرهم بتسليم المال إليه ذكروا له عذرهم السابق، فقبله منهم، وقال: القَوْمُ رُسُلٌ، ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ﴾ [النور: 54].
وَلَـمَّا أَنْ خَرَجُوا مِنَ البَلَدِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ غُلَامٌ أَحْسَنُ النَّاسِ وَجْهاً، كَأَنَّهُ خَادِمٌ، فَنَادَى: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، أَجِيبُوا مَوْلَاكُمْ، قَالَ: فَقَالُوا: أَنْتَ مَوْلَانَا؟ قَالَ: مَعَاذَ اللهِ، أَنَا عَبْدُ مَوْلَاكُمْ، فَسِيرُوا إِلَيْهِ، قَالُوا: فَسِرْنَا إِلَيْهِ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا دَارَ مَوْلَانَا الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، فَإِذَا وَلَدُهُ القَائِمُ سَيِّدُنَا (عليه السلام) قَاعِدٌ عَلَى سَرِيرٍ كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْنَا السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: «جُمْلَةُ المَالِ كَذَا وَكَذَا دِينَاراً، حَمَلَ فُلَانٌ كَذَا، وَحَمَلَ فُلَانٌ كَذَا»، وَلَمْ يَزَلْ يَصِفُ حَتَّى وَصَفَ الجَمِيعَ. ثُمَّ وَصَفَ ثِيَابَنَا وَرِحَالَنَا وَمَا كَانَ مَعَنَا مِنَ الدَّوَابِّ، فَخَرَرْنَا سُجَّداً لِلهِ (عزَّ وجلَّ) شُكْراً لِمَا عَرَّفَنَا، وَقَبَّلْنَا الأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَألنَاهُ عَمَّا أَرَدْنَا فَأَجَابَ، فَحَمَلْنَا إِلَيْهِ الأَمْوَالَ، وَأَمَرَنَا القَائِمُ (عليه السلام) أَنْ لَا نَحْمِلُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى بَعْدَهَا شَيْئاً مِنَ المَالِ، فَإِنَّهُ يَنْصِبُ لَنَا بِبَغْدَادَ رَجُلاً يَحْمِلُ إِلَيْهِ الأَمْوَالَ وَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ التَّوْقِيعَاتُ، قَالُوا: فَانْصَرَفْنَا مِنْ عِنْدِهِ، وَدَفَعَ إِلَى أَبِي العَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ القُمِّيِّ الحِمْيَرِيِّ شَيْئاً مِنَ الحَنُوطِ وَالكَفَنِ، فَقَالَ لَهُ: «أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَكَ فِي نَفْسِكَ»، قَالَ: فَمَا بَلَغَ أَبُو العَبَّاسِ عَقَبَةَ هَمْدَانَ حَتَّى تُوُفِّيَ (رحمه الله).
وذكرت الرواية: أنَّ الأموال كانت تُحمَل بعد ذلك إلى النُّوَّاب المنصوبين من قِبَله (عجَّل الله فرجه)(241).
3 - روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَنْبَرَ الكَبِيرِ مَوْلَى الرِّضَا (عليه السلام)، قَالَ: خَرَجَ صَاحِبُ الزَّمَانِ عَلَى جَعْفَرٍ الكَذَّابِ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(241) كمال الدِّين (ص 476 - 479/ باب 43/ ح 26)؛ ورواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 608 - 611/ ح 555/3).
مَوْضِعٍ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عِنْدَمَا نَازَعَ فِي المِيرَاثِ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقَالَ لَهُ: «يَا جَعْفَرُ، مَا لَكَ تَعَرَّضُ فِي حُقُوقِي؟»، فَتَحَيَّرَ جَعْفَرٌ وَبُهِتَ، ثُمَّ غَابَ عَنْهُ، فَطَلَبَهُ جَعْفَرٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ فَلَمْ يَرَهُ، فَلَمَّا مَاتَتِ الجَدَّةُ أُمُّ الحَسَنِ أَمَرَتْ أَنْ تُدْفَنَ فِي الدَّارِ، فَنَازَعَهُمْ وَقَالَ: هِيَ دَارِي لَا تُدْفَنُ فِيهَا، فَخَرَجَ (عليه السلام) فَقَالَ: «يَا جَعْفَرُ أَدَارُكَ هِيَ؟»، ثُمَّ غَابَ عَنْهُ فَلَمْ يَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ(242).
4 - روى الطوسي (رحمه الله) بسنده عَنْ حَبِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُونُسَ بْنِ شَاذَانَ اَلصَّنْعَانِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ الأَهْوَازِيِّ، فَسَألتُهُ عَنْ آلِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا أَخِي، لَقَدْ سَألتَ عَنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ، حَجَجْتُ عِشْرِينَ حِجَّةً كُلًّا أَطْلُبُ بِهِ عِيَانَ الإِمَامِ فَلَمْ أَجِدْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً، فَبَيْنَا أَنَا لَيْلَةً نَائِمٌ فِي مَرْقَدِي إِذْ رَأَيْتُ قَائِلاً يَقُولُ: يَا عَلِيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، قَدْ أَذِنَ اَلله لَكَ فِي الحَجِّ، فَلَمْ أَعْقِلْ(243) لَيْلَتِي حَتَّى أَصْبَحْتُ فَأَنَا مُفَكِّرٌ فِي أَمْرِي أَرْقُبُ اَلمَوْسِمَ لَيْلِي وَنَهَارِي.
فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ اَلمَوْسِمِ أَصْلَحْتُ أَمْرِي، وَخَرَجْتُ مُتَوَجِّهاً نَحْوَ اَلمَدِينَةِ، فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ حَتَّى دَخَلْتُ يَثْرِبَ، فَسَألتُ عَنْ آلِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَلَمْ أَجِدْ لَهُ أَثَراً وَلَا سَمِعْتُ لَهُ خَبَراً، فَأَقَمْتُ مُفَكِّراً فِي أَمْرِي حَتَّى خَرَجْتُ مِنَ اَلمَدِينَةِ أُرِيدُ مَكَّةَ، فَدَخَلْتُ الجُحْفَةَ وَأَقَمْتُ بِهَا يَوْماً، وَخَرَجْتُ مِنْهَا مُتَوَجِّهاً نَحْوَ الغَدِيرِ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الجُحْفَةِ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلْتُ اَلمَسْجِدَ صَلَّيْتُ وَعَفَّرْتُ وَاِجْتَهَدْتُ فِي اَلدُّعَاءِ وَاِبْتَهَلْتُ إِلَى اَلله لَهُمْ، وَخَرَجْتُ أُرِيدُ عُسْفَانَ، فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ حَتَّى دَخَلْتُ مَكَّةَ، فَأَقَمْتُ بِهَا أَيَّاماً أَطُوفُ البَيْتَ وَاِعْتَكَفْتُ.
فَبَيْنَا أَنَا لَيْلَةً فِي اَلطَّوَافِ إِذَا أَنَا بِفَتًى حَسَنِ الوَجْهِ، طَيِّبِ اَلرَّائِحَةِ، يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ، طَائِفٌ حَوْلَ البَيْتِ، فَحَسَّ قَلْبِي بِهِ، فَقُمْتُ نَحْوَهُ فَحَكَكْتُهُ، فَقَالَ لِي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(242) كمال الدِّين (ص 442/ باب 43/ ح 15).
(243) تعبير عن شدَّة فرحه كأنَّه يقول: جُننت فرحاً.
مِنْ أَيْنَ اَلرَّجُلُ؟ فَقُلْتُ: مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ، فَقَالَ: مِنْ أَيِّ العِرَاقِ؟ قُلْتُ: مِنَ الأَهْوَازِ، فَقَالَ لِي: تَعْرِفُ بِهَا الخَصِيبَ(244)؟ فَقُلْتُ: رَحِمَهُ اَللهُ، دُعِيَ فَأَجَابَ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اَللهُ، فَمَا كَانَ أَطْوَلَ لَيْلَتَهُ وَأَكْثَرَ تَبَتُّلَهُ وَأَغْزَرَ دَمْعَتَهُ، أَفَتَعْرِفُ عَلِيَّ بْنَ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ اَلمَازِيَارِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: حَيَّاكَ اَللهُ أَبَا الحَسَنِ، مَا فَعَلْتَ بِالعَلَامَةِ اَلَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)؟ فَقُلْتُ: مَعِي، قَالَ: أَخْرِجْهَا، فَأَدْخَلْتُ يَدِي فِي جَيْبِي فَاسْتَخْرَجْتُهَا، فَلَمَّا أَنْ رَآهَا لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ تَغَرْغَرَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ، وَبَكَى مُنْتَحِباً حَتَّى بَلَّ أَطْمَارَهُ، ثُمَّ قَالَ: أُذِنَ لَكَ الآنَ يا بن مَازِيَارَ، صِرْ إِلَى رَحْلِكَ وَكُنْ عَلَى أُهْبَةٍ مِنْ أَمْرِكَ حَتَّى إِذَا لَبِسَ اَللَّيْلُ جِلْبَابَهُ وَغَمَرَ اَلنَّاسَ ظَلَامُهُ سِرْ إِلَى شِعْبِ بَنِي عَامِرٍ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَانِي هُنَاكَ.
فَسِرْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَلَمَّا أَنْ أَحْسَسْتُ بِالوَقْتِ أَصْلَحْتُ رَحْلِي وَقَدَّمْتُ رَاحِلَتِي وَعَكَمْتُهُ شَدِيداً، وَحَمَلْتُ وَصِرْتُ فِي مَتْنِهِ، وَأَقْبَلْتُ مُجِدًّا فِي اَلسَّيْرِ حَتَّى وَرَدْتُ اَلشِّعْبَ، فَإِذَا أَنَا بِالفَتَى قَائِمٌ يُنَادِي: يَا أَبَا الحَسَنِ إِلَيَّ، فَمَا زِلْتُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا قَرُبْتُ بَدَأَنِي بِالسَّلَامِ وَقَالَ لِي: سِرْ بِنَا يَا أَخِي، فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنِي وَأُحَدِّثُهُ حَتَّى تَخَرَّقْنَا جِبَالَ عَرَفَاتٍ، وَسِرْنَا إِلَى جِبَالِ مِنًى، وَاِنْفَجَرَ الفَجْرُ الأَوَّلُ وَنَحْنُ قَدْ تَوَسَّطْنَا جِبَالَ اَلطَّائِفِ.
فَلَمَّا أَنْ كَانَ هُنَاكَ أَمَرَنِي بِالنُّزُولِ، وَقَالَ لِي: اِنْزِلْ فَصَلِّ صَلَاةَ اَللَّيْلِ، فَصَلَّيْتُ، وَأَمَرَنِي بِالوَتْرِ فَأَوْتَرْتُ، وَكَانَتْ فَائِدَةً مِنْهُ، ثُمَّ أَمَرَنِي بِالسُّجُودِ وَاَلتَّعْقِيبِ، ثُمَّ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَرَكِبَ وَأَمَرَنِي بِالرُّكُوبِ، وَسَارَ وَسِرْتُ مَعَهُ حَتَّى عَلَا ذِرْوَةَ اَلطَّائِفِ، فَقَالَ: هَلْ تَرَى شَيْئاً؟ قُلْتُ: نَعَمْ، أَرَى كَثِيبَ رَمْلٍ عَلَيْهِ بَيْتُ شَعْرٍ يَتَوَقَّدُ البَيْتُ نُوراً.
فَلَمَّا أَنْ رَأَيْتُهُ طَابَتْ نَفْسِي، فَقَالَ لِي: هُنَاكَ الأَمَلُ وَاَلرَّجَاءُ، ثُمَّ قَالَ: سِرْ بِنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(244) في بعض المصادر: (الخطيب).
يَا أَخِي، فَسَارَ وَسِرْتُ بِمَسِيرِهِ إِلَى أَنِ اِنْحَدَرَ مِنَ اَلذِّرْوَةِ وَسَارَ فِي أَسْفَلِهِ، فَقَالَ: اِنْزِلْ، فَهَاهُنَا يَذِلُّ كُلُّ صَعْبٍ، وَيَخْضَعُ كُلُّ جَبَّارٍ، ثُمَّ قَالَ: خَلِّ عَنْ زِمَامِ اَلنَّاقَةِ، قُلْتُ: فَعَلَى مَنْ أُخَلِّفُهَا؟ فَقَالَ: حَرَمُ القَائِمِ (عليه السلام) لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، فَخَلَّيْتُ مِنْ زِمَامِ رَاحِلَتِي، وَسَارَ وَسِرْتُ مَعَهُ إِلَى أَنْ دَنَا مِنْ بَابِ الخِبَاءِ، فَسَبَقَنِي بِالدُّخُولِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقِفَ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيَّ، ثُمَّ قَالَ لِي: اُدْخُلْ هَنَأَكَ اَلسَّلَامَةُ.
فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِهِ جَالِسٌ، قَدِ اِتَّشَحَ بِبُرْدِهِ وَاِتَّزَرَ بِأُخْرَى، وَقَدْ كَسَرَ بُرْدَتَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ كَأُقْحُوَانَةِ أُرْجُوَانٍ قَدْ تَكَاثَفَ عَلَيْهَا اَلنَّدَى وَأَصَابَهَا أَلَمُ الهَوَى، وَإِذَا هُوَ كَغُصْنِ بَانٍ أَوْ قَضِيبِ رَيْحَانٍ، سَمْحٌ سَخِيٌّ تَقِيٌّ نَقِيٌّ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ اَلشَّامِخِ، وَلَا بِالقَصِيرِ اَللَّازِقِ، بَلْ مَرْبُوعُ القَامَةِ، مُدَوَّرُ الهَامَةِ، صَلْتُ الجَبِينِ، أَزَجُّ الحَاجِبَيْنِ، أَقْنَى الأَنْفِ، سَهْلُ الخَدَّيْنِ، عَلَى خَدِّهِ الأَيْمَنِ خَالٌ كَأَنَّهُ فُتَاتُ مِسْكٍ عَلَى رَضْرَاضَةِ عَنْبَرٍ(245).
فَلَمَّا أَنْ رَأَيْتُهُ بَدْأَتُهُ بِالسَّلَامِ، فَرَدَّ عَلَيَّ أَحْسَنَ مَا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَشَافَهَنِي وَسَأَلَنِي عَنْ أَهْلِ العِرَاقِ، فَقُلْتُ: سَيِّدِي، قَدْ البِسُوا جِلْبَابَ اَلذِّلَّةِ، وَهُمْ بَيْنَ القَوْمِ أَذِلَّاءُ، فَقَالَ لِي: «يا بن اَلمَازِيَارِ، لَتَمْلِكُونَهُمْ كَمَا مَلَكُوكُمْ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَذِلَّاءُ»، فَقُلْتُ: سَيِّدِي، لَقَدْ بَعُدَ الوَطَنُ وَطَالَ اَلمَطْلَبُ، فَقَالَ: «يا بن اَلمَازِيَارِ، أَبِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أُجَاوِرَ قَوْماً غَضِبَ اَللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَلَهُمُ الخِزْيُ فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(245) رواها الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 465 - 470/ باب 43/ ح 23) بأطول ممَّا هي في رواية الطوسي (رحمه الله) هنا، وممَّا جاء في وصفه: «فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ مِثْلَ فِلْقَةِ قَمَرٍ، لَا بِالخَرِقِ وَلَا بِالبَزِقِ، وَلَا بِالطَّوِيلِ الشَّامِخِ وَلَا بِالقَصِيرِ اللَّاصِقِ، مَمْدُودَ القَامَةِ، صَلْتَ الجَبِينِ، أَزَجَّ الحَاجِبَيْنِ، أَدْعَجَ العَيْنَيْنِ، أَقْنَى الأَنْفِ، سَهْلَ الخَدَّيْنِ، عَلَى خَدِّهِ الأَيْمَنِ خَالٌ، فَلَمَّا أَنْ بَصُرْتُ بِهِ حَارَ عَقْلِي فِي نَعْتِهِ وَصِفَتِهِ...» إلخ.
البحث الثاني: اضطلاعه (عجَّل الله فرجه) بالإمامة طفلاً
والإجابة على ذلك:
أوَّلاً: أنَّ هذه المعلومات إنَّما نسوقها لذوي العقليَّة العلميَّة التي تطلب - حتَّى في مسألة تتَّصل بالمشيئة الإلهيَّة كالنبوَّة والإمامة - شواهد من الواقع على حصول ما يمكن أنْ يكون مثالاً يقاس عليه خارج تاريخ النبوَّة والإمامة، وإنْ لم يكن مطابقاً تماماً، فإنَّ وقوع ما يجاوز المستويات المعروفة في الذكاء والقدرة على الاستيعاب بالصورة التي يُرى الأمر فيها خارقاً بالمقاييس العلميَّة في عدد من الأطفال يصبح إشارة إلى تلك المواهب الإعجازيَّة الأسمى التي لا يشارك الرُّسُل والأئمَّة فيها أحد بحكم وظيفتهم كلسان معبِّر عن الله تعالى.
وقد ثبت بالفعل بالتسجيل والاختبار العلمي وجود أمثال هذه المواهب لدى بعض الأطفال في بلدان مختلفة من العالم بما فيها قطرنا العراقي في جوانب معيَّنة، وهو يعني إمكان وجودها بمستوى أشمل مع صلة بالله وتكليف منه سبحانه لدى الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام)، بل وقوعها بحكم الشواهد التاريخيَّة والآثار الفكريَّة والعلميَّة والتشريعيَّة المسجَّلة عنهم.
وقد ذكروا من تلك الأمثلة التي ساقوها للنبوغ المبكّر والخارق في الأطفال حالات، منها:
1 - كرستيان هينيكين:
من مدينة ليوبيك، ذكروا أنَّه وُلِدَ سنة (1921م)، وأنَّه تكلَّم بعد بضع
ساعات من ولادته، وأمكنه أنْ يُردِّد عبارات من الإنجيل بعد بلوغه اثني عشر شهراً، وحين بلغ الثانية من عمره كانت لديه معلومات عظيمة وبارعة في الجغرافيا، فتكلَّم اللَّاتينيَّة والفرنسيَّة في الثالثة من عمره، ودرس البحوث الفلسفيَّة العميقة في الرابعة.
2 - انريكوس ايتيكيم:
الذي وُلِدَ في إحدى قرى ألمانيا، وبدأ يتكلَّم بكلِّ فصاحة في الشهر العاشر من عمره، وبعد شهرين تعلَّم أسفار موسى الخمسة، وفي الشهر الرابع تعلَّم العهدين القديم والحديث، وفي العام الثاني من عمره أتقن تاريخ الأقدمين، وقيل: إنَّه يعادل شيشرون في فصاحته باللَّاتينيَّة، وأظهر غلطاً في مؤلَّفات أكبر أُدباء فرنسا.
3 - ابن الدكتور كلنش:
كان يُجيب - وعمره في الثانية عشرة - بدقة لا تخطئ على أسئلة متعمِّقة في القانون والتاريخ والجغرافيا والرياضيَّات وعلم الفلك. وعندما انتهى العلماء من اختباره كان التعب والإعياء قد أصابهم أكثر ممَّا أصاب الغلام الصغير.
4 - وليم جيمس سبدبز:
من الولايات المتَّحدة، أمكنه أنْ يقرأ ويكتب وهو في الثانية من عمره، وحين بلغ الثامنة تكلَّم الفرنسية والروسيَّة والإنجليزيَّة والألمانيَّة وبعض اللَّاتينيَّة واليونانيَّة.
5 - جون ستيوارت مل:
تعلَّم اليونانية وهو في الثالثة من عمره، وكتب موضوعاً في تاريخ روما وهو في السادسة والنصف، وقام بتدريس اللَّاتينيَّة وهو في الثامنة، ووضع مؤلَّفاً عن تاريخ الحكومة الرومانيَّة وهو في الحادية عشرة.
6 - جان فيليب باراتيير:
أتقن اليونانيَّة وهو في السادسة من عمره، فترجم التوراة الربَّانيَّة الكبيرة في أربعة مجلَّدات ضخمة، وأضاف إليها مجلَّداً آخر من الحواشي والمباحث، وعندما بلغ السابعة كان عضواً في سنودس أكليركي في برلين. وفي الرابعة عشرة من عمره حصل على الدكتوراه في الفلسفة. ولقد كان يجيد التحدُّث باللغات الألمانيَّة والفرنسيَّة واللَّاتينيَّة وهو في الرابعة من عمره.
7 - توماس يونج:
تعلَّم القراءة وهو في الثانية من عمره، وكان يعرف وهو في الثامنة ستّ لغات.
8 - الفتاة الهنديَّة شاكونتا لاديفي:
من بنجالور الهند التي لم تدخل المدرسة، ظهرت لديها موهبة في الرياضيَّات وهي في الخامسة من عمرها، ثمّ تطوَّرت في السابعة فأذهلت أساتذة الرياضيَّات في حلِّ المسائل الحسابيَّة المعقَّدة وبأسرع من الحاسوب، وقد زارت القاهرة سنة (1961م) في طريقها من دول أُوروبا وأمريكا، فأدهشت في كلّيَّة العلوم كلَّ أساتذة الرياضيَّات، وعُقِدَ لها في نادي التجارة مجلس اختبار اشترك فيه (100) محاسب وعشرات الآلات الحاسبة، فتغلَّبت عليهم جميعاً بحلِّ أعقد المسائل في ثوان(247).
9 - الدكتور جوزيف رودسن:
وذكرت الدكتورة شفيقة قرة كله، الاختصاصية في الأمراض العقليَّة، وقد أمضت ثماني سنوات في دراسة ظواهر الإدراك ما فوق الحسِّي في مستشفيات أمريكا وباختبارات علميَّة دقيقة: أنَّ الدكتور جوزيف رودس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(247) العودة إلى التجسُّد (ص 100 - 106).
بوخانن وهو طبيب أمريكي ومؤلِّف سجَّل أنواعاً مهمَّة من الإدراك فوق الحسِّي...، قالت: وكان بوخانن طفلاً معجزة، ففي السادسة من عمره كان ضليعاً جدًّا في علم الهندسة وعلم الفلك، وفي سنِّ الثانية عشرة دخل مدرسة القانون، ثمّ مدرسة الطبِّ(248).
10 - الفتاة فيكي من ولاية فرجينيا:
وذكرت أنَّ ممَّا سُجِّل في تاريخ فتاة اسمها: فيكي، من ولاية فرجينيا بأمريكا، وهي من أُصول إنكليزيَّة واسكتلنديَّة وفرنسيَّة، إنَّها أظهرت قابليَّة على الإدراك فوق الحسِّي منذ طفولتها...، فعندما كانت في السابعة من عمرها أسرعت إلى والدتها لتُخبرها أنَّ ولداً صغيراً صديقاً لها في اللعب قد دُهِسَ في القطار على بعد أكثر من مائة ميل، ووصفت الحادث...، ولـمَّا لم يكن ذلك معقولاً في نظر أهلها فقد عنَّفوها بشدَّة...، لكنَّهم تبيَّنوا بعد أيَّام أنَّ الولد وأهله كانوا في زيارة لمدينة على هذه المسافة بالفعل، وأنَّ الحادث قد وقع بصورة تتطابق وما ذكرته الطفلة تماماً.
وذات يوم - وكانت في السنة الحادية عشرة من عمرها - صحَّحت لأُستاذتها في التاريخ قضيَّة تاريخيَّة حول ماري الدمويَّة ملكة اسكتلندة، وانزعجت الأُستاذة، وأرادت أنْ تعرف مصدر معرفتها، فلم تستطع فيكي أنْ تشرح ذلك. لكن الأمر كان - كما تبيَّن بعد ذلك من خلال المصادر التاريخيَّة - صحيحاً وموافقاً للواقع، وأنَّ الأُستاذة كانت على خطأ. وصحَّحت تقريراً قدَّمه أحد زملائها في الثانوية عن البوذيَّة، وشرحت مبادئها الأساسيَّة، وعرَّفت النرفانا تعريفاً دقيقاً، وأشارت إلى أنَّ تعاليم البوذيَّة قد تغيَّرت باحتكاكها بالهندوسيَّة والمعتقدات الأُخرى...، والأمر الذي أدهش أُستاذ التاريخ أنَّه لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(248) خوارق الإبداع (ص 167).
أساس معروفاً لمصادر معرفتها التي أثبت البحث بعدئذٍ صحَّتها، وكانت تكتب دائماً في الثانوية والكلّيَّة بحوثاً في أيِّ موضوع بسهولة كبيرة لها ولزملائها، وكانت هذه البحوث تصل دائماً إلى درجة عالية من دون الاعتماد على مصدر معروف(249).
وممَّا سجَّله الباحثون - في هذه الظواهر - أنَّ هذه المواهب الخارقة لدى هؤلاء الأشخاص بدءاً من الطفولة وما بعدها قد تكون في بعض الحالات كما لو كانت خصوصيَّات ذاتيَّة، بينما تكون في حالات أُخرى باستيلاء وإملاء ذات أو روح أُخرى.
11 - الوسيطة التي تجيب الأرواح بوساطتها:
ومن الأمثلة للحالة الثانية ما نقله العلَّامة الفرنسي كاميل فلامريون في كتابه (الموت وغوامضه: ما قبل الموت) كما ترجمه العلَّامة محمّد فريد وجدي، قال: إنَّ المستر كابرون في كتابه المسمَّى: المذهب الروحي في العصر الحاضر في (ص 210) قال: إنَّ المستر لوروا سندرلاند ذكر أنَّ الوسيطة التي تجيب الأرواح بوساطتها على الأسئلة كانت ابنته مارجريت أو ابنتها الطفلة، وكانت لا تزيد سنُّها على سنتين.
وجاء فيه أيضاً: أنَّ البارون سيمون كركوب كتب إلى المستر جنكن مؤلِّف ذلك الكتاب، يقول: كانت ابنتي وسيطة ولم تتجاوز سنُّها سنتين وقد بلغت الآن إحدى وعشرين سنة، وقد كتبت طفلتها بيدها تحت تأثير الأرواح ولم تتجاوز سنُّها تسعة أيَّام (تاسوعاً)، وقد حافظت على الرسائل التي كتبتها، وها أنا أُرسل لكم بصورة فوتوغرافيَّة لتلك الكتابات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(249) خوارق الإبداع (ص 149 - 151).
وقال: كانت ابنتي ترفع هذه الطفلة على وسادة بإحدى يديها، وتمسك بيدها الأُخرى كتابا عليه ورقة بيضاء، وما كنَّا ندري بأيَّة كيفيَّة ينتقل القلم إلى الطفلة، فكانت تمسكه بيدها بقوَّة، فكتبت أوَّلاً الحروف الأربعة لأسماء الأرواح الأربعة التي تلازمها وهي (R.A.D.I)، ثمّ سقط القلم من يدها، فظنَّت أنَّ الأمر وقف عند هذا الحدِّ، ولكن ابنتي الأُخرى ايموجين صاحت قائلة: لقد عاودت القبض على القلم، فكتبت الطفلة الجملة الآتية: (لا نُغيِّر شيئاً، فهذا برهان جلي، وافعل ما أمرناك به، أستودعك الله).
وكتب المستر أدموندس الذي كان رئيساً لمجلس الشيوخ الأمريكي في كتابه (المذهب الروحي): ظهرت في ابنتي (لورا) خاصَّة الوساطة، ولكنَّها ما كانت تقع في إغماء أثناء حضور الأرواح، وكانت تلك الأرواح تستولي على لسانها فتتكلَّم بلغات مختلفة، ولم تكن تعرف في حالتها العاديَّة إلَّا لغتها الأصليَّة واللغة الفرنسيَّة، ولكنَّها متى استولت الأرواح على لسانها كانت تتكلَّم بتسع أو عشر لغات بسهولة تامَّة.
وعلَّق فلامريون بأنَّ مثل الرئيس أرموندس لا يصلح اتِّهامه بالبله والخبل، ولا اتِّهام ابنته بالتزوير والتدليس(250).
وهناك أمثلة أُخرى كثيرة، ونشرت جريدة الثورة العراقيَّة على ما أتذكَّر في سنة (1978م) خبراً عن طفل عمره سنتان من محلَّة الشيخ معروف، اختُبِرَ أيضاً في موهبته الرياضيَّة المتفوِّقة بما يشبه المستوى المشار إليه في الفتاة أعلاه، ولـمَّا سُئِلَ: كيف يتسنَّى له أنْ يُجيب قبل الحاسوب؟ أجاب: أنَّ هناك من يهمس بأُذُنه بالإجابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(250) على أطلال المذهب المادِّي (ج 2/ ص 116 و117).
12 - الطفل حيدر عبد الحسين:
وعرض التلفزيون العراقي في هذا العام سنة (1997م)(251) مقابلة مع طفل اسمه حيدر عبد الحسين في المرحلة الأُولى من المدرسة الابتدائيَّة، ونُقِلَ بقرار إلى المرحلة الرابعة لتفوُّقه في الرياضيَّات، وفي فهم واستظهار ما يقرأ في الموضوعات المختلفة بصورة مدهشة. ولقد سُئِلَ أسئلة كثيرة، وكان معه أُستاذان من مركز البحوث النفسيَّة، أسئلة من قبيل: اليوم (18) أو (27) من شهر كذا من سنة كذا، فماذا يوافقه من أيَّام الأُسبوع؟ فأجاب من دون تردُّد. وسألوه عن رقم معيَّن، وطلبوا إليه إخراج جذره، أو نتيجة ضربه بعدد آخر، أو ما يشبه ذلك، فأجاب على الفور، وكان يستظهر بصورة غير عاديَّة. وممَّا سُئِلَ به لاختبار استظهاره أُمور تتَّصل بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومنها نسبه، فساقه إلى آدم ببساطة كأنَّه يقرأ في كتاب، وكان يتكلَّم بالفصحى، ومن دون اكتراث، ويجلس وقوراً هادئاً معتدًّا كما لو كان شيخاً من شيوخ العلم الكبار.
وإذا ثبت وجود مثل هذه الظواهر من الإدراك فوق الحسِّي وفوق المادِّي في الأطفال والكبار، وهو ثابت كخصائص تبدو كما لو كانت موهبة ذاتيَّة للذات أو بإسناد موضوعي خارجي بذات روحيَّة أُخرى(252)، فأيَّة غرابة في أنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(251) لا أتذكَّر اليوم والشهر، ويمكن لمن أراد التوثيق أكثر أنْ يتَّصل بمركز البحوث النفسيَّة بجامعة بغداد لتُزوِّده بما لديها عنه وعن غيره من الحالات المماثلة.
(252) نقل كولن ولسن في كتابه: ما بعد الحياة (ص 82)، أنَّ شابًّا غير متعلِّم وضع وهو تحت تأثير التنويم كتاباً شاملاً سُمِّي (مبادئ الطبيعة)، وتحوَّل إلى رائعة أدبيَّة.
ونقل العلَّامة محمّد فريد وجدي في كتابه على أطلال المذهب المادِّي (ج 2/ ص 95 و96) أنَّ شارل ديكنز أتمَّ الجزء الثاني من روايته بعد وفاته على يد وسيط عادي، وأنَّ النُّقَّاد حكموا بأنَّه لا يختلف عن الجزء الأوَّل أُسلوباً وفكراً.
وذكر أيضاً في (ج 2/ ص 33) من هذا الكتاب أنَّ طفلة كتبت بالكتابة التلقائيَّة كتاباً في مبادئ الطبيعة وأشياء أُخرى.
يصطفي الله تعالى من خلقه لهدى الناس وإرشادهم أفراداً يُؤتيهم نظير هذه المواهب بصورة أسمى من كلِّ ناحية، مع خصوصيَّة في المكانة منه تعالى، والمعرفة به بحيث يكون نموذجاً عالياً في العلم والعمل؟!
وإذا كان من يتَّصل بأُولئك روح بشريَّة متوفَّاة أو روح سفلي فإنَّ من يتَّصل بهؤلاء من الرُّسُل وأوصيائهم (عليهم السلام) مَلَك قدسي يحمل معرفة حقَّة ويهدي إلى صراط مستقيم بإذن الله، ولسان يُعبِّر عنه سبحانه فيهم، وقد جاء عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام): أنَّ من علمهم ما هو نقر في الأسماع، ونكت في القلوب، وأنَّ الملائكة تُحدِّثهم من دون رؤية منهم إليهم مضافاً لعلمهم المزبور والغابر(253). وبذلك يصبح صغر السنِّ بالنسبة لهم (عليهم السلام) ليس محلَّ إشكال، ومثل ذلك أمر تلقِّيهم العلم بالصورة العاديَّة المعروفة في دنيا الناس(254).
ثانياً: أنَّ القرآن الكريم تحدَّث لنا في قصَّة مريم (عليها السلام)، وذكر أنَّ قومها حين اتَّهموها فقالوا: ﴿يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا﴾ (مريم: 27)، قال تعالى: ﴿فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا﴾، لكن عيسى (عليه السلام) نطق: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(253) روى الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص 338/ ج 7/ باب 4/ ح 2) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الفُضَيْلِ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي الحَسَنِ (عليه السلام): رَوَيْنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَّه قَالَ: «إِنَّ عِلْمَنَا غَابِرٌ، وَمَزْبُورٌ، وَنَكْتٌ فِي القُلُوبِ، وَنَقْرٌ فِي الأَسْمَاعِ»، قَالَ: «فَأَمَّا الغَابِرُ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلْمِنَا، وَأَمَّا المَزْبُورُ فَمَا يَأْتِينَا، وَأَمَّا النَّكْتُ فِي القُلُوبِ فَالهَامٌ، وَأَمَّا النَّقْرُ فِي الأَسْمَاعِ فَإِنَّهُ مِنَ المَلَكِ»؛ ورواه الكيني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 264/ باب جهات علوم الأئمَّة (عليهم السلام)/ ح 3).
(254) لقد تحدَّثنا موجزاً عن اصطفاء بيوت وأُسَر أصحاب الرسالات نسبةً للبيوت الأُخرى، ثمّ اصطفاء أشخاصهم من هذه البيوت، وذكرنا الآيات الواردة في ذلك، راجع (ص 97).
وتشير الأخبار إلى أنَّ هذا الاصطفاء ليس اعتباطاً، وإنَّما يتَّصل برتبة أرواحهم سماويًّا، فهم أرفع مبدأً ومعاداً من حيث الرتبة الروحيَّة.
مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ (مريم: 29 - 33). وقال تعالى وهو يذكر يحيى بن زكريَّا (عليه السلام): ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: 12).
فأثبت النطق للطفل في المهد بما ذكرته الآيات الأُولى، وشهادة عيسى (عليه السلام) في المهد لنفسه بالنبوَّة، وأنَّه أُوتي الكتاب من عند الله، وذكر ما أوصاه الله به. وأثبت في الآية الأخيرة أنَّ أخذ الكتاب وإتيان الحكمة قد كان ليحيى (عليه السلام) وهو ما يزال صبيًّا.
وهذا يعني أنَّ الإشكال بصغر السنِّ - حين يشاء الله أنْ يجعل هذا الطفل حجَّة له - مبطل قرآنيًّا بحكم كونه وقع في المثلين اللذين ذكرناهما، وإذا جاز في هذين (عيسى ويحيى (عليهما السلام)) فإنَّه يجوز أنْ يكون في غيرهما حين يقوم الدليل على ذلك بالنصِّ والعلم وظهور المعجز، وقد ذكرنا بعض ما جاء عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من ذلك، وسنذكر بعضاً آخر لاحقاً.
ثالثاً: أنَّ هذه السنَّ ليست بعيدة عن السنِّ التي قام بالإمامة فيها جدُّه الأعلى محمّد الجواد (عليه السلام)، ثمّ جدُّه الأدنى عليٌّ الهادي (عليه السلام)، فإنَّ الأوَّل اضطلع بالإمامة وهو في الثامنة(255)، ولم يغب عن المجتمع، ولا احتجب عن الناس. وحين أظهر المأمون - ندماً وتكفيراً أو ليردَّ إشارات الاتِّهام إليه بقتل الإمام الرضا (عليه السلام) - اهتماماً وتقديماً له بصورة غير عاديَّة، وزوَّجه ابنته أُمَّ الفضل، لامه أقرباؤه وخاصَّته على رفع مقامه عليهم مع صغر سنِّه.
فعرَّفهم أنَّه على ما يرون من صغر سنِّه حقيق بهذه المكانة علماً ومعرفةً وسموَّ ذات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(255) وُلِدَ الإمام الجواد (عليه السلام) في سنة (195هـ)، وتُوفِّي الرضا (عليه السلام) في سنة (203هـ).
ثمّ أعطاهم - ليتأكَّدوا - فرصة اختباره، وتهيَّأوا بما استطاعوا، وفي مجلس المأمون وبحضور الجميع، دلَّل الإمام الجواد (عليه السلام) بيسر - وهو في هذه السنِّ - على معنى الإمامة الإلهيَّة، والعلم اللدنِّي، ودمغ من تصدَّى لامتحانه قاضي القضاة يحيى بن أكثم ومن معه بما أذلَّهم وأخزاهم(256).
ومثل ذلك كان أمر الإمام عليٌّ الهادي (عليه السلام) الذي وُلِدَ سنة (212هـ) أو سنة (214هـ)، واضطلع بالإمامة سنة (220هـ) أو سنة (225هـ)، فكان شأنه شأن أبيه علماً وعملاً، ورغم أنَّ من عاصره كان المتوكِّل العبَّاسي وهو من أشدّ الناس عداوةً لآل البيت (عليهم السلام) حتَّى كان لا يبالي في إظهار ذلك في مجلس، فكان يُعلِن السخرية بعليٍّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بصورة لم يصبر عليها حتَّى ولده، فقد استطاع الإمام (عليه السلام) في أكثر من موقف أنْ يذلَّ كبرياءه، ويقرع تجبُّره(257).
ويكفي من يحاول التشكيك أنْ يرى أنَّ ادِّعاء الإمامة من قِبَلهما في هذه السنِّ لابدَّ أنْ يُثير الشكَّ بدءاً لدى أوليائهم، وفيهم أهل الفكر والعلماء، فلو لم يروا منهم من البرهان على إمامتهم ما يأخذ بالأعناق لما سلَّموا لهم.
ثمّ إنَّ ادِّعاء الإمامة في هذه السنِّ أيضاً يفسح المجال للخصوم - ومنهم رأس الدولة، فضلاً عن الفِرَق المخالفة - أنْ يعملوا على إحراج الإمام وشيعته من خلال أسئلة أو اختبارات يبرزون بها - لو استطاعوا - عجز الإمام علميًّا، ولكن ذلك ليس بمستطاع قطعاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(256) راجع: تفسير القمِّي (ج 1/ ص 182 - 185)، وإثبات الوصيَّة (ص 223 - 226)، ودلائل الإمامة (ص 391 - 394/ ح 345/5)، وتُحَف العقول (ص 451 - 453)، والإرشاد (ج 2/ ص 281 - 288)؛ ونقل طرفاً من ذلك ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة (ص 206).
(257) راجع: مروج الذهب (ج 4/ ص 10).
وإذا كانت المسألة بالنسبة لأبويه، وبالنسبة له كذلك، فإنَّها ينبغي أنْ تكون شاهداً وآيةً على إمامتهم، بدلاً من أنْ تكون محلًّا للإشكال.
رابعاً: ثمّ ما معنى الإشكال حول إمكان اضطلاعه بالإمامة طفلاً وقد اضطلع بها بالفعل؟ ولا أعظم شهادة لكون الشيء ممكناً من أنْ يقوم في عالم الواقع، وقد اضطلع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بالإمامة في هذه السنِّ، وتلقَّى عنه عدد من علماء الأُمَّة الذين لا يشكُّ أحد في جلالة قدرهم علماً وعملاً، وأظهر أمامهم من المعجزات ما يكفي للبرهنة على إمامته، تقدَّم بعض منها في حديثنا عن إخفاء ولادته، وسيأتي بعضها الآخر.
* * *
البحث الثالث: نوَّابه (عجَّل الله فرجه)، وبعض توقيعاته (258)
ممَّا يتَّصل بالغيبة القصيرة أو الصغرى، وشواهد كونها نسبيَّة - عدا ما قدَّمناه - نُوَّابه الأربعة (رضوان الله عليهم)، فهم الواسطة العامَّة من الأُمَّة إليه ومنه إليها، وعن طريقهم كان يتلقَّى الرسائل والأسئلة، وما يُرسَل إليه من الأموال، وبوساطتهم كان يُرسِل إجاباته، وما يُوجِّه ويأمر به في شؤون المؤتمِّين به من المسلمين، وإنْ لم تتح رؤيته - بصورة مفتوحة - للجميع، لذلك كان حضوره مفروضاً فعليًّا في كلِّ شأن يطلب هذه الصلة.
ولا مجال للشكِّ - لدى الأُمَّة - في المكانة الرفيعة لهؤلاء النُّوَّاب:
أوَّلاً: لأنَّهم معروفون عندها علماً، وتقًى، وورعاً، وأمانةً، وقرب من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، والنيابة الخاصَّة - ولاسيّما عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - إشارة واضحة إلى ذلك بحكم ما تقتضيه الظروف الخاصَّة التي حتَّمت غيبته من دقَّة في اختيار نائبه من كلِّ جهة بما فيها قدرته على حفظ سرِّ الإمام (عجَّل الله فرجه) في جميع الأحوال المفترضة، وإمكانيَّته على التعامل بالصورة التي يكون فيها - في هذا الغياب - وجهاً له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(258) لعلَّ الشيخ جاسم محمّد الياسمين محقِّق كتاب (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان) للمتَّقي الهندي يقرأ هذا البحث، ويرى أنَّ ما قاله في (ج 1/ ص 241) عن تأسيس عثمان بن سعيد لفكرة النيابة لا يرجع إلى أساس إلَّا سوء ظنِّه وتعصُّبه المذهبي، وأنَّه كلام غير مسؤول.
وكان العلماء يُدركون تميُّزهم في هذه الصفة أو تلك دونهم، فحين سأل بعضهم الشيخ الجليل أبا سهل النوبختي (رحمه الله): كَيْفَ صَارَ هَذَا الأَمْرُ إِلَى اَلشَّيْخِ أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ دُونَكَ؟ أجابه: هُمْ أَعْلَمُ وَمَا اِخْتَارُوهُ، وَلَكِنْ أَنَا رَجُلٌ ألقَى الخُصُومَ وَأُنَاظِرُهُمْ، وَلَوْ عَلِمْتُ بِمَكَانِهِ كَمَا عَلِمَ أَبُو القَاسِمِ وَضَغَطَتْنِي الحُجَّةُ عَلَى مَكَانِهِ لَعَلِّي كُنْتُ أَدُلُّ عَلَى مَكَانِهِ، وَأَبُو القَاسِمِ فَلَوْ كَانَتِ الحُجَّةُ تَحْتَ ذَيْلِهِ وَقُرِّضَ بِالمَقَارِيضِ مَا كَشَفَ اَلذَّيْلَ عَنْهُ(259).
ثانياً: ولأنَّهم كانوا موثَّقين من الأئمَّة (عليهم السلام)، ومنصوص عليهم كوكلاء عنهم (عليهم السلام)، فالأوَّل من هؤلاء النُّوَّاب كان قبل أنْ يكون نائباً للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بابا للإمام الجواد (عليه السلام) - كما ذكر بعضهم -، ثمّ الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام)، أمَّا الثاني وهو ابن الأوَّل ومشاركه في الوقت نفسه في هذه النيابة في حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فقد كان مزكًّى من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ومشار إليه من قِبَله على أنَّه وكيل للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بعد ذلك، ثمّ نصبه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عن طريق أبيه.
ووثَّق الثالث ونُصِبَ وكيلاً من قِبَل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عن طريق الثاني.
والرابع كذلك من قِبَله (عجَّل الله فرجه) عن طريق الثالث.
ثالثاً: كانت أجوبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تصدر على يد كلِّ واحدٍ من هؤلاء النُّوَّاب من الأوَّل حتَّى الرابع بالخطِّ نفسه المعروف للإمام (عجَّل الله فرجه) - لدى بعض الأُمَّة - من دون تغيير، وبالدرجة نفسها من حيث الأُسلوب والمضمون، وهي الآية التي ذكرها بعضهم وهو يشير إلى وحدة الجهة التي يصدر عنها النُّوَّاب كما سيأتي.
رابعاً: أظهر الإمام (عجَّل الله فرجه) على يد كلِّ واحدٍ منهم من الكرامات المعجزة ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(259) الغيبة للطوسي (ص 391/ ح 358).
أعطى دليلاً مضافاً على حقيقة صلتهم به، فهي لهم بهذه الصلة لا غيرها، لذلك كانت إشارة له لا لهم مع ما لهم من المحلِّ العظيم والمكانة المرموقة بهذه الكرامات وبغيرها.
وقد روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) عدداً منها(260)، وروى شيئاً من ذلك الشيخ الطوسي (رحمه الله)(261).
قال الشيخ النعماني (رحمه الله) - تلميذ الشيخ الكليني وكاتبه - وهو يتحدَّث عن الغيبة القصيرة في كتابه (الغيبة) الذي ألَّفه قبل سنة (336هـ) كما تشير إلى ذلك مقدَّمته: (كانت السفراء فيها بين الإمام (عليه السلام) وبين الخلق قياماً منصوبين ظاهرين موجودي الأشخاص والأعيان، يخرج على أيديهم غوامض العلم، وعويص الحكم، والأجوبة على كلِّ ما يُسئَل عنه من المعضلات والمشكلات)(262).
ولذلك أرى أنْ نتحدَّث عن كلِّ واحدٍ من هؤلاء النُّوَّاب الأربعة، ثمّ عن بعض ما صدر على أيديهم بما يُوثِّق باختصار ما أشرنا إليه وبالصورة التي نراها كافية في إعطاء معنى كون الإمام (عجَّل الله فرجه) كان حاضراً في الأُمَّة بهم.
النائب الأوَّل: أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري الأسدي (رضي الله عنه):
يُكنَّى بأبي عمرو، ويُلقَّب بالسمَّان والزيَّات، لأنَّه كان يتَّجر بالسمن، وبالعسكري لأنَّه كان يسكن العسكر (سامرَّاء).
ويذكر ابن شهرآشوب (رحمه الله) المتوفَّى سنة (588هـ) أنَّه كان باباً لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ التقي (عليه السلام)(263).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(260) كمال الدِّين (ص 482 - 522/ باب 45).
(261) الغيبة للطوسي (ص 304 - 317).
(262) الغيبة للنعماني (ص 178 و179).
(263) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 487).
ومثل ذلك العلَّامة الحلِّي (رحمه الله)، فقد عدَّه من أصحاب الإمام الجواد (عليه السلام)، قال: (خدمه وله إحدى عشرة سنة، وله إليه عهد معروف)(264).
ولا يوجد في ما بين يديَّ من المصادر تاريخ معروف لولادة الشيخ العمري، فلو تصوَّرنا أنَّ ولادته كانت سنة (200هـ) أو في ما قبلها أو ما بعدها بقليل، لأمكن تصوُّر التحاقه بخدمة الإمام الجواد (عليه السلام) الذي بدأت إمامته سنة (203هـ) حتَّى توفَّى سنة (220هـ) أو سنة (225هـ) في رواية أُخرى للمفيد (رحمه الله) في بعض سنيِّ إمامته بالسنِّ التي ذكروها، فمن الثابت أنَّ عهد نيابة الشيخ السمَّان (رحمه الله) للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لم تمتدّ طويلاً(265).
لكن الشيخ الطوسي (رحمه الله) في (رجاله) ذكر أنَّه كان من أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام)، وأنَّ إلتحاقه بهذه السنِّ (إحدى عشرة سنة) كان به ولخدمته، وأنَّ العهد المعروف كان منه (عليه السلام) لا من الإمام الجواد (عليه السلام)(266)، ثمّ ذكره في أصحاب ابنه العسكري (عليه السلام)(267).
ولـمَّا كان تاريخ ولادة الشيخ غير معروف، وكانت نسخة العهد الذي أشار إليه ابن شهرآشوب والعلَّامة الحلِّي ثمّ الشيخ الطوسي (رحمهم الله) غير موجودة بصورة يمكن معها الرجوع إليها بوصفها وثيقة نعرف بها نسبة العهد، وما إذا كان قد صدر عن الإمام الجواد (عليه السلام) أو عن الإمام الهادي (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(264) خلاصة الأقوال (ص 220/ الرقم 2).
(265) يُفهَم ذلك ممَّا رواه الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 366/ ح 334) عن أبي نصر هبة الله محمّد بن أحمد من أنَّا أبا جعفر محمّد بن عثمان العمري مات سنة (304هـ)، وأنَّه كان يتولَّى هذا الأمر (يعني النيابة) نحواً من خمسين سنة.
(266) رجال الطوسي (ص 389/ الرقم 5741/36).
(267) رجال الطوسي (ص 401/ الرقم 5877/22).
يُضاف إلى ذلك أنَّا لا نجد في تاريخ الإمام الجواد (عليه السلام) والروايات عنه والعلاقات المتَّصلة به شيئاً يتَّصل بالشيخ العمري السمَّان - عدا ما أشرنا إليه - خلافاً لما بعده فإنَّ ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) - بحكم ذلك - يكون متعيَّناً.
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ أمر وثاقته، ومكانته، وجلالة قدره لا يحتاج إلى تحقيق امتداد خدمته إلى الإمام الجواد (عليه السلام)، فبحسبنا في ذلك أنْ يكون قريباً، ومؤتمناً من أيِّ واحدٍ من الأئمَّة (عليهم السلام)، فكيف إذا كان كذلك - وهذا ما لا إشكال فيه - لدى ثلاثة منهم (عليهم السلام)؟
روى الشيخ الطوسي (رحمه الله) بسنده عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ القُمِّيُّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِ) فِي يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، أَنَا أَغِيبُ وَأَشْهَدُ، وَلَا يَتَهَيَّأُ لِيَ الوُصُولُ إِلَيْكَ إِذَا شَهِدْتُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَقَوْلَ مَنْ نَقْبَلُ، وَأَمْرَ مَنْ نَمْتَثِلُ؟ فَقَالَ لِي (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِ): «هَذَا أَبُو عَمْرٍو اَلثِّقَةُ الأَمِينُ، مَا قَالَهُ لَكُمْ فَعَنِّي يَقُولُهُ، وَمَا أَدَّاهُ إِلَيْكُمْ فَعَنِّي يُؤَدِّيهِ»، فَلَمَّا مَضَى أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام) وَصَلْتُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ اِبْنِهِ الحَسَنِ العَسْكَرِيِّ (عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ، فَقُلْتُ لَهُ (عليه السلام) مِثْلَ قَوْلِي لِأَبِيهِ، فَقَالَ لِي: «هَذَا أَبُو عَمْرٍو اَلثِّقَةُ الأَمِينُ، ثِقَةُ اَلمَاضِي وَثِقَتِي فِي اَلمَحْيَا وَاَلمَمَاتِ، فَمَا قَالَهُ لَكُمْ فَعَنِّي يَقُولُهُ، وَمَا أَدَّى إِلَيْكُمْ فَعَنِّي يُؤَدِّيهُ»(268).
وروى أيضاً عن جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري البزَّار عن جماعة من الشيعة (ذكرناهم في الرواية السادسة عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام))(269) أنَّ الإمام العسكري (عليه السلام) أنذرهم بعد أنْ أراهم ولده المهدي (عجَّل الله فرجه) بأنَّهم لا يرونه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(268) الغيبة للطوسي (ص 354 و355/ ح 315).
(269) قد تقدَّم في (ص 125 و126)، فراجع.
بعد يومهم ذاك، وقال: «فَاقْبَلُوا مِنْ عُثْمَانَ مَا يَقُولُهُ، وَاِنْتَهُوا إِلَى أَمْرِهِ، وَاقْبَلُوا قَوْلَهُ، فَهُوَ خَلِيفَةُ إِمَامِكُمْ، وَالأَمْرُ إِلَيْهِ»(270).
وفي كتاب الإمام أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام) إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري، قال الإمام (عليه السلام) في آخر الكتاب: «فَلَا تَخْرُجَنَّ مِنَ البَلْدَةِ حَتَّى تَلْقَى العَمْرِيَّ رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ بِرِضَايَ عَنْهُ، وَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَتَعْرِفَهُ وَيَعْرِفَكَ، فَإِنَّهُ اَلطَّاهِرُ الأَمِينُ العَفِيفُ القَرِيبُ مِنَّا وَإِلَيْنَا، فَكُلُّ مَا يُحْمَلُ إِلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ اَلنَّوَاحِي فَإِلَيْهِ يَصِيرُ آخِرَ أَمْرِهِ، لِيُوصِلَ ذَلِكَ إِلَيْنَا»(271).
وروى مسنداً عن محمّد بن إسماعيل وعليِّ بن عبد الله الحسنيَّين، قالا: إنَّهما دخلا على أبي محمّد الحسن (عليه السلام) بسُرَّ من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته، فدخل عليه بدر خادمه وأخبره أنَّ بالباب قوماً شعثاً غبراً، فقال الإمام (عليه السلام) لمن حضره: «هَؤُلَاءِ نَفَرٌ مِنْ شِيعَتِنَا بِاليَمَنِ»، ثمّ أمر الإمام (عليه السلام) بدراً أنْ يأتيه بعثمان بن سعيد العمري، وحين جاء قال له سيِّدنا أبو محمّد (عليه السلام): «اِمْضِ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّكَ الوَكِيلُ، وَاَلثِّقَةُ اَلمَأْمُونُ عَلَى مَالِ اَلله، وَاِقْبِضْ مِنْ هَؤُلَاءِ اَلنَّفَرِ اليَمَنِيِّينَ مَا حَمَلُوهُ مِنَ اَلمَالِ».
قال الحسنيَّان بعد أنْ ساقا الحديث: ثُمَّ قُلْنَا بِأَجْمَعِنَا: يَا سَيِّدَنَا، وَاَلله إِنَّ عُثْمَانَ لَمِنْ خِيَارِ شِيعَتِكَ، وَلَقَدْ زِدْتَنَا عِلْماً بِمَوْضِعِهِ مِنْ خِدْمَتِكَ، وَإِنَّهُ وَكِيلُكَ وَثِقَتُكَ عَلَى مَالِ اَلله تَعَالَى، قَالَ: «نَعَمْ، وَاِشْهَدُوا عَلَيَّ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ العَمْرِيَّ وَكِيلِي، وَأَنَّ اِبْنَهُ مُحَمَّداً وَكِيلُ اِبْنِي مَهْدِيِّكُمْ»(272).
وبالإسناد عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيِّ، قَالَ: اِجْتَمَعْتُ أَنَا وَاَلشَّيْخُ أَبُو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(270) الغيبة للطوسي (ص 357/ ح 319).
(271) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 844 - 848/ ح 1088).
(272) الغيبة للطوسي (ص 355 و356/ ح 317).
عَمْرٍو عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سَعْدٍ الأَشْعَرِيِّ القُمِّيِّ، فَغَمَزَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنِ الخَلَفِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أبَا عَمْرٍو، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ، وَمَا أَنَا بِشَاكٍّ فِيمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ، فَإِنَّ اِعْتِقَادِي وَدِينِي أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ إِلَّا إِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْماً، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ وَقَعَتِ الحُجَّةُ، وَغُلِّقَ بَابُ اَلتَّوْبَةِ، فَلَمْ يَكُنْ ﴿يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ [الأنعام: 158]...، إلى أنْ قال: وَلَكِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَزْدَادَ يَقِيناً، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُحْيِي اَلمَوْتَى، فَقَالَ: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ (أَبُو عَلِيٍّ) عَنْ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام)، وذكر الرواية الأُولى التي أوردناها عنه (عليه السلام) فيه.
ثمّ قال الحميري وهو يُكلِّم أبا عمرو: وَأَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا مُحَمَّدٍ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: «العَمْرِيُّ وَاِبْنُهُ ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، وَمَا قَالَا لَكَ فَعَنِّي يَقُولَانِ، فَاسْمَعْ لَهُمَا وَأَطِعْهُمَا فَإِنَّهُمَا اَلثِّقَتَانِ اَلمَأْمُونَانِ»، فَهَذَا قَوْلُ إِمَامَيْنِ قَدْ مَضَيَا فِيكَ.
قَالَ: فَخَرَّ أَبُو عَمْرٍو سَاجِداً وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: سَلْ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ رَأَيْتَ الخَلَفَ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)؟ فَقَالَ: إِي وَاَلله، وَرَقَبَتُهُ مِثْلُ ذَا - وَأَوْمَأَ بِيَدَيْهِ(273) -، فَقُلْتُ لَهُ: فَبَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ لِي: هَاتِ، قُلْتُ: فَالاِسْمُ، قَالَ: مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَا أَقُولُ هَذَا مِنْ عِنْدِي، وَلَيْسَ لِي أَنْ أُحَلِّلَ وَأُحَرِّمَ، وَلَكِنْ عَنْهُ (عليه السلام)، فَإِنَّ الأَمْرَ عِنْدَ اَلسُّلْطَانِ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) مَضَى وَلَمْ يُخَلِّفْ وَلَداً، وَقَسَّمَ مِيرَاثَهُ وَأَخَذَهُ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ (يعني جعفراً الكذَّاب)، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(273) قال الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 355/ ح 316): (يريد أنَّها أغلظ الرقاب حسناً وتماماً)، ويبدو لي أنَّه يريد نفي ما في أذهان الناس من عدم وجوده أو موته وأنَّه حيٌّ، وهو تعبير شعبي ما زال مستعملاً لتأكيد حياة من يُتوهَّم وته.
عِيَالُهُ يَجُولُونَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْسُرُ أَنْ يَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ أَوْ يُنِيلَهُمْ شَيْئاً، وَإِذَا وَقَعَ اَلاِسْمُ وَقَعَ اَلطَّلَبُ، فَاتَّقُوا اَللهَ وَأَمْسِكُوا عَنْ ذَلِكَ(274)،(275).
ومن المؤشِّرات لمكانته الرفيعة وقربه من آل البيت (عليهم السلام) تولِّيه بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تجهيز الإمام الحسن (عليه السلام) غسلاً وتحنيطاً وتكفيناً ودفناً للظاهر من الحال التي لا يمكن جحدها كما يقول الشيخ الطوسي (رحمه الله)(276)، وذلك شأن لا يُولَّاه إلَّا اللُّصَّق بهم (عليهم السلام).
وتبدو هذه المنزلة السامية واضحة كذلك في التوقيع الذي تلقَّاه ابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان (رضي الله عنه) من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تعزيةً بأبيه، فقد جاء فيه: «إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، تَسْلِيماً لِأَمْرِهِ وَرِضَاءً بِقَضَائِهِ، عَاشَ أَبُوكَ سَعِيداً وَمَاتَ حَمِيداً، فَرَحِمَهُ اللهُ وَألحَقَهُ بِأَوْلِيَائِهِ وَمَوَالِيهِ (عليهم السلام)، فَلَمْ يَزَلْ مُجْتَهِداً فِي أَمْرِهِمْ، سَاعِياً فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَإِلَيْهِمْ، نَضَّرَ اللهُ وَجْهَهُ وَأَقَالَهُ عَثْرَتَهُ».
وممَّا جاء فيه: «أَجْزَلَ اللهُ لَكَ الثَّوَابَ وَأَحْسَنَ لَكَ العَزَاءَ، رُزِئْتَ وَرُزِئْنَا وَأَوْحَشَكَ فِرَاقُهُ وَأَوْحَشَنَا، فَسَرَّهُ اللهُ فِي مُنْقَلَبِهِ، وَكَانَ مِنْ كَمَالِ سَعَادَتِهِ أَنْ رَزَقَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) وَلَداً مِثْلَكَ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ بِأَمْرِهِ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَأَقُولُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(274) الغيبة للطوسي (ص 359 - 361/ ح 322)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1).
(275) هذه الرواية تؤكِّد ما أشرنا إليه من أنَّ هذا التحريم لا يتناول ما وراء الغيبة الصغرى. وفي المعنى نفسه ورد إلى محمّد بن عثمان العمري (رحمه الله) توقيع من الإمام (عجَّل الله فرجه) ابتداءً، وفيه يقول: «لِيُخْبِرَ اَلَّذِينَ يَسْأَلُونَ عَنِ الاِسْمِ إِمَّا اَلسُّكُوتَ وَالجَنَّةَ، وَإِمَّا الكَلَامَ وَاَلنَّارَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ وَقَفُوا عَلَى الاِسْمِ أَذَاعُوهُ، وَإِنْ وَقَفُوا عَلَى اَلمَكَانِ دَلُّوا عَلَيْهِ» (الغيبة للطوسي: ص 364/ ح 331).
وهناك روايات أُخرى يستفاد منها أنَّ التحريم يرتبط بظروف التقيَّة وجوداً وغايةً، منها ما رواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 482 و483/ باب 45/ ح 1 و3).
(276) الغيبة للطوسي (ص 356/ ح 318).
الحَمْدُ لِلهِ، فَإِنَّ الأَنْفُسَ طَيِّبَةٌ بِمَكَانِكَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيكَ وَعِنْدَكَ، أَعَانَكَ اللهُ وَقَوَّاكَ وَعَضَدَكَ وَوَفَّقَكَ، وَكَانَ اللهُ لَكَ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَرَاعِياً وَكَافِياً وَمُعِيناً»(277).
من توقيعات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوساطته:
لم يُحصِ أحد ما صدر عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يد نُوَّابه الأربعة الخاصِّين من سنة (260هـ) حتَّى سنة (329هـ) لأسباب، منها:
أوَّلاً - وهو ما نراه الأهمّ -: نفس الظروف التي أوجبت الغيبة، وتحريم الدلالة على مكانه، وذكر اسمه (عجَّل الله فرجه) وبصورة مشدَّدة إلَّا على الخاصَّة كما قدَّمنا، ولذلك فلا مجال لرواية ذلك إلَّا في حدود ضيِّقة جدًّا. ومن الطبيعي بحكم ذلك أنْ يذهب أكثر ما صدر عنه (عجَّل الله فرجه)، بخاصَّة ما هو خاصٌّ من حيث الشخص أو الموضوع.
ثانياً: ربَّما اقتصروا في الرواية على بعض ما يتَّصل بالقضايا العامَّة في ذلك الظرف، أو في ما بعده، ممَّا جاء الأمر أو الإذن به من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أو من النُّوَّاب (رضي الله عنهم) - وإنْ كانوا لا يصدرون إلَّا عنه - بحكم الحاجة إليه أو انتفاء ما يوجب التقيَّة فيه.
وقد أثبتوا - ممَّا ورد عن كلِّ واحد من النُّوَّاب - أمثلةً كافية، كالتي ذكرها الشيخ الصدوق (رحمه الله) المتوفَّى سنة (381هـ)(278)، والشيخ الطوسي (رحمه الله) المتوفَّى سنة (460هـ)(279)، والشيخ الطبرسي (رحمه الله) المتوفَّى بداية القرن (6هـ)(280)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(277) كمال الدِّين (ص 510/ باب 45/ ح 41)، الغيبة للطوسي (ص 361/ ح 323).
(278) كمال الدِّين (ص 482 - 522/ باب 45).
(279) الغيبة (ص 285 - 327)، ولدى حديثه عن النُّوَّاب المحمودين في (ص 353 وما بعدها)، وذكر في (ص 373 وما بعدها) صورة لبعض توقيعات الإمام (عجَّل الله فرجه).
(280) الاحتجاج (ج 2/ ص 277 - 325).
والشيخ المجلسي المتوفَّى سنة (1111هـ) في كُتُبهم المشار إليها في الهامش(281).
وسنذكر - لدى الحديث عن كلِّ واحدٍ من النُّوَّاب الأربعة (رضوان الله عليهم) بدءاً من الشيخ العمري الكبير موضوع حديثنا - أمثلة ممَّا صدر عن الإمام (عجَّل الله فرجه) ممَّا نرى أنَّ لمضمونه مع غضِّ النظر عن مورده صلة بالموضوع العامِّ أو الخاصِّ لكتابنا من جهة أو أُخرى.
فمنها: ما رواه الشيخ العمري الكبير أبو عمرو عثمان بن سعيد (رضوان الله عليه)، قال: تَشَاجَرَ اِبْنُ أَبِي غَانِمٍ القَزْوِينِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ اَلشِّيعَةِ فِي الخَلَفِ، فَذَكَرَ اِبْنُ أَبِي غَانِمٍ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) مَضَى وَلَا خَلَفَ لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَتَبُوا فِي ذَلِكَ كِتَاباً وَأَنْفَذُوهُ إِلَى اَلنَّاحِيَةِ، وَأَعْلَمُوهُ بِمَا تَشَاجَرُوا فِيهِ، فَوَرَدَ جَوَابُ كِتَابِهِمْ بِخَطِّهِ (عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ اَلسَّلَامُ):
«بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، عَافَانَا اَللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ اَلضَّلَالَةِ وَالفِتَنِ، وَوَهَبَ لَنَا وَلَكُمْ رُوحَ اليَقِينِ، وَأَجَارَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنْ سُوءِ اَلمُنْقَلَبِ، إِنَّهُ أُنْهِيَ إِلَيَّ اِرْتِيَابُ جَمَاعَةٍ مِنْكُمْ فِي اَلدِّينِ، وَمَا دَخَلَهُمْ مِنَ اَلشَّكِّ وَالحَيْرَةِ فِي وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، فَغَمَّنَا ذَلِكَ لَكُمْ لَا لَنَا، وَسَاءَنَا فِيكُمْ لَا فِينَا، لِأَنَّ اَللهَ مَعَنَا، وَلَا فَاقَةَ بِنَا إِلَى غَيْرِهِ، وَالحَقُّ مَعَنَا، فَلَنْ يُوحِشَنَا مَنْ قَعَدَ عَنَّا، (وَنَحْنُ صَنَائِعُ رَبِّنَا، وَالخَلْقُ بَعْدُ صَنَائِعُنَا)(282).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(281) بحار الأنوار (ج 51/ ص 343) لدى حديثه عن سفراء الإمام (عجَّل الله فرجه)، وفي (ج 53/ ص 150 - 197/ باب ما خرج من توقيعاته (عليه السلام)).
(282) وردت هذه الكلمة التي قوَّسناها عن الإمام عليٍّ (عليه السلام) أيضاً في كتاب له إلى معاوية، فراجع: نهج البلاغة (ص 385 - 389/ ح 28).
قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (ج 15/ ص 194) في شرح العبارة المذكورة بعد قوله: (هذا كلام عظيم، عال على الكلام، ومعناه عال على المعاني): إنَّ (صنيعة المَلِك مَنْ يصطنعه المَلِك ويرفع قدره. يقول [(عليه السلام)]: ليس لأحدٍ من البشر علينا نعمة، بل الله ←
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
→ تعالى هو الذي أنعم علينا، فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت، وباطنه أنَّهم عبيد الله، وأنَّ الناس عبيدهم).
وجاء في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) أنَّهم إذا ما قالوا ذلك فإنَّهم يقصدون أنَّهم عبيد طاعة، لأنَّهم المبلِّغون عن الله ورسوله، لا عبيد ربوبيَّة، وبرأوا ممَّن يرى الربوبيَّة، أو الطاعة لهم استقلالاً، أو بما هم في أنفسهم لأنَّهم صنائع الله، ولذلك فكونهم الواسطة لا يقتصر - لدى أهل العرفان - على الهدى والتشريع، بل في التكوين أيضاً، فالرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته بالمعنى الأخصّ، أي أهل بيته المعنوي السماوي المطهَّر من الرجس لا بيته الأرضي أو الطيني، هم الخلق الأوَّل كأرواح، وهم متقدِّمون رتبةً على الخلق جميعاً مبدأً ومعاداً، ولذلك أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً، فهم معصومون تكويناً، لأنَّ الشيطان وأفكار الضلالة البشريَّة لا تصل أرواحهم بحكم رتبتها الأسمى وإنْ وصلت آذانهم وأدمغتهم، كالأشعَّة ما دون الحمراء بالنسبة لما فوق البنفسجيَّة مثلاً، ولذلك قال الله تعالى: ﴿فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ﴾ (الحجّ: 52).
قال أبو حامد الغزالي في معراج القدس (ص 181): (فهؤلاء فطر مبدؤهم على طبيعة معادهم، فهم الملأ الأعلى، وهم المبادئ الأُولى، يحقُّ لهم أنْ يقولوا: كنَّا أظلَّة على يمين العرش، فسبَّحنا فسبَّحت الملائكة بتسبيحنا).
وقال ابن عربي في الفتوحات المكّيَّة (ج 1/ ص 119/ باب 6): (فلم يكن أقرب إليه (يعني الخالق سبحانه) قبولاً في ذلك الهباء إلَّا حقيقة محمّد (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) المسمَّاة بالعقل، فكان سيِّد العالم بأسره...)، إلى أنْ يقول: (وأقرب الناس إليه عليُّ بن أبي طالب [إمام العالم بأسره])، وراجع في ذلك عليُّ بن أبي طالب إمام العارفين (ص 59). وفي ما رواه أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة (ج 2/ ص 662/ ح 1130) عن سلمان، وابن عساكر في ترجمة عليٍّ (عليه السلام) من تاريخ مدينة دمشق (ج 42/ ص 67)، وابن المغازلي في مناقب عليِّ ابن أبي طالب (عليه السلام) (ص 93 - 95/ ح 114 - 116) بثلاثة أسانيد، والجويني في فرائد السمطين (ج 1/ ص 41 - 44/ ح 5 - 8)، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (ج 9/ ص 171)، ما يفيد هذا المعنى كالحديث الذي يقول فيه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «كُنْتُ أَنَا وَعَلِيٌّ نُوراً بَيْنَ يَدَيِّ الله (عزَّ وجلَّ) قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ آدَمَ أَوْ الدُّنْيَا بَأَرْبَعَةَ عَشَرَ الف عَامٍ أَوْ أَرْبَعِينَ الف عَامٍ...» إلخ.
أمَّا الشيعة، فقد قال المحدِّث الكبير المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 1/ ص 103): (قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنَّهم (عليهم السلام) الوسائل بين الخلق وبين الحقِّ في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات).
ولا يرون في ذلك غلوًّا، فأعلى رتبة في الخلق كآخر رتبة قائمة بخالقها فقيرة إليه فهي بالنسبة إليه ليست إلَّا صفراً، وهي عدم إذا ما نظرت بما هي في نفسها، ولكنَّها موجودة به سبحانه. أمَّا بالنسبة إلى غيرها فهي سيِّدة المخلوقات، وهي الوسط والأسباب لكون ما لا يكون إلَّا بالأكوان من المخلوقات المركَّبة. إنَّ الخلق بطبيعته محتاج إلى هذه السلسلة الطوليَّة المتدرِّجة من الآثار كما هو ثابت في الفلسفة والعرفان بقول الإمام عليٍّ (عليه السلام): «وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْهَا بِشَيْءٍ مُحِيطٌ، وَالمُحِيطُ بِمَا أَحَاطَ مِنْهَا الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ»، راجع: الكافي (ج 1/ ص 135/ باب جوامع التوحيد/ ح 1).
يَا هَؤُلَاءِ، مَا لَكُمْ فِي اَلرَّيْبِ تَتَرَدَّدُونَ، وَفِي الحَيْرَةِ تَنْعَكِسُونَ؟ أَوَمَا سَمِعْتُمُ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]؟ أَوَمَا عَلِمْتُمْ مَا جَاءَتْ بِهِ الآثَارُ مِمَّا يَكُونُ وَيُحْدَثُ فِي أَئِمَّتِكُمْ عَنِ اَلمَاضِينَ وَالبَاقِينَ مِنْهُمْ (عليهم السلام)؟ أَوَمَا رَأَيْتُمْ كَيْفَ جَعَلَ اَللهُ لَكُمْ مَعَاقِلَ تَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَأَعْلَاماً تَهْتَدُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ (عليه السلام) إِلَى أَنْ ظَهَرَ اَلمَاضِي (عليه السلام)، كُلَّمَا غَابَ عَلَمٌ بَدَا عَلَمٌ، وَإِذَا أَفَلَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ؟ فَلَمَّا قَبَضَهُ اَللهُ إِلَيْهِ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللهَ تَعَالَى أَبْطَلَ دِينَهُ، وَقَطَعَ اَلسَّبَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، كَلَّا مَا كَانَ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ حَتَّى تَقُومَ اَلسَّاعَةُ، وَيَظْهَرَ أَمْرُ اَلله سُبْحَانَهُ وَهُمْ كَارِهُونَ.
وَإِنَّ اَلمَاضِيَ (عليه السلام) مَضَى سَعِيداً فَقِيداً عَلَى مِنْهَاجِ آبَائِهِ (عليهم السلام) حَذْوَ اَلنَّعْلِ بِالنَّعْلِ(283)، وَفِينَا وَصِيَّتُهُ وَعِلْمُهُ، وَمَنْ هُوَ خَلَفُهُ، وَمَنْ هُوَ يَسُدُّ مَسَدَّهُ، لَا يُنَازِعُنَا مَوْضِعَهُ إِلَّا ظَالِمٌ آثِمٌ، وَلَا يَدَّعِيهِ دُونَنَا إِلَّا جَاحِدٌ كَافِرٌ، وَلَوْ لَا أَنَّ أَمْرَ اَلله تَعَالَى لَا يُغْلَبُ، وَسِرَّهُ لَا يُظْهَرُ وَلَا يُعْلَنُ لَظَهَرَ لَكُمْ مِنْ حَقِّنَا مَا تَبَيَّنَ مِنْهُ عُقُولُكُمْ، وَيُزِيلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(283) مثل عربي مشهور يُقصَد به المشابهة والمتابعة التامَّة، والأمثلة - لدى العرب - تُضرَب ولا تُقاس، كما هو معروف.
شُكُوكَكُمْ، لَكِنَّهُ مَا شَاءَ اَللهُ كَانَ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ. فَاتَّقُوا اَللهَ وَسَلِّمُوا لَنَا، وَرُدُّوا الأَمْرَ إِلَيْنَا، فَعَلَيْنَا الإِصْدَارُ كَمَا كَانَ مِنَّا الإِيرَادُ، وَلَا تُحَاوِلُوا كَشْفَ مَا غُطِّيَ عَنْكُمْ، وَلَا تَمِيلُوا عَنِ اليَمِينِ وَتَعْدِلُوا إِلَى اَلشِّمَالِ، وَاِجْعَلُوا قَصْدَكُمْ إِلَيْنَا بِالمَوَدَّةِ عَلَى اَلسُّنَّةِ الوَاضِحَةِ، فَقَدْ نَصَحْتُ لَكُمْ، وَاَللهُ شَاهِدٌ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ، وَلَوْ لاَ مَا عِنْدَنَا مِنْ مَحَبَّةِ صَلَاحِكُمْ وَرَحْمَتِكُمْ وَالإِشْفَاقِ عَلَيْكُمْ لَكُنَّا عَنْ مُخَاطَبَتِكُمْ فِي شُغُلٍ فِيمَا قَدِ اُمْتُحِنَّا بِهِ مِنْ مُنَازَعَةِ اَلظَّالِمِ العُتُلِّ(284) اَلضَّالِّ اَلمُتَتَابِعِ فِي غَيِّهِ، اَلمُضَادِّ لِرَبِّهِ، اَلدَّاعِي مَا لَيْسَ لَهُ، الجَاحِدِ حَقَّ مَنِ اِفْتَرَضَ اَللهُ طَاعَتَهُ، اَلظَّالِمِ الغَاصِبِ.
وَفِي اِبْنَةِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لِي أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَسَيُرْدِي الجَاهِلَ رَدَاءَةُ عَمَلِهِ، وَسَيَعْلَمُ الكَافِرُ لِمَنْ عُقْبَى اَلدَّارِ، عَصَمَنَا اَللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ اَلمَهَالِكِ وَالأَسْوَاءِ وَالآفَاتِ وَالعَاهَاتِ كُلِّهَا بِرَحْمَتِهِ، فَإِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَكَانَ لَنَا وَلَكُمْ وَلِيًّا وَحَافِظاً، وَاَلسَّلَامُ عَلَى جَمِيعِ الأَوْصِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ وَاَلمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اَللهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً»(285).
ومنها، وهو يتَّصل بموضوع الإمامة بصورة عامَّة - كما هو السابق -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(284) يستغرب بعضهم ويستنكر أنْ يصدر عن نبيٍّ أو إمام سباب، وأنْ يُؤكِّد ذلك ويُكرِّره، ولقد أشار الصديق الدكتور إبراهيم السامرَّائي في كتابه مع نهج البلاغة دارسة ومعجم (هامش ص 50) إلى أنَّ قول الإمام: «عجباً لابن النابغة» شتم قبيح فهو من بذي الكلام، وعلَّله بأنَّ هذه البذاءة لم تكن على هذا النحو من الاستقباح في تلك الحقبة مع إقرارهم بأنَّها بذاءة.
ووجه الخطأ لديه في ذلك أنَّ ما يُستقبَح في الحالة العاديَّة لا يكون كذلك في الحالات الخاصَّة كالشهادة مثلاً أو بيان الحقِّ كإسقاط قيمة خصم مدَّعٍ محارب للحقِّ، بل القبيح كتمان ذلك، وقد جاء في القرآن: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾ (القلم: 13)، والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هنا أيضاً بصدد إسقاط دعوى جعفر الكذَّاب وكشف القناع لمن خُدِعَ وفُتِنَ به بوصفه ابن إمام وأخا إمام.
(285) الغيبة للطوسي (ص 285 - 287/ ح 245).
وموقعه (عجَّل الله فرجه) منها، وردِّ دعوى جعفر الكذَّاب الذي ضلَّل بعض الناس وألقح الفتنة في وقته وغذَّى الشكوك بولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) ووجوده.
وقد روى هذا الكتاب الشيخ أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري (رحمه الله)، قال: إنَّه جاء بعض الشيعة يُعلِمه أنَّ جعفر الكذَّاب ابن عليٍّ الهادي (عليه السلام) كتب إليه كتاباً يُعرِّفه فيه نفسه، ويُعلِمه أنَّه القيِّم بعد أخيه، وأنَّ عنده من علم الحلال والحرام ما يُحتاج إليه وغير ذلك من العلوم كلِّها، فلمَّا قرأته كتبت إلى صاحب الزمان (عليه السلام)، وصيَّرت كتاب جعفر في درجه، فخرج الجواب إليَّ في ذلك:
«بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، أَتَانِي كِتَابُكَ أَبْقَاكَ اَللهُ، وَالكِتَابُ اَلَّذِي أَنْفَذْتَهُ دَرْجَهُ، وَأَحَاطَتْ مَعْرِفَتِي بِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ عَلَى اِخْتِلَافِ الفَاظِهِ وَتَكَرُّرِ الخَطَإِ فِيهِ (يعني كتاب جعفر)، وَلَوْ تَدَبَّرْتَهُ لَوَقَفْتَ عَلَى بَعْضِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَالحَمْدُ لِله رَبِّ العَالَمِينَ حَمْداً لَا شَرِيكَ لَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْنَا وَفَضْلِهِ عَلَيْنَا، أَبَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) لِلْحَقِّ إِلَّا إِتْمَاماً، وَلِلْبَاطِلِ إِلَّا زُهُوقاً، وَهُوَ شَاهِدٌ عَلَيَّ بِمَا أَذْكُرُهُ، وَلِيٌّ عَلَيْكُمْ بِمَا أَقُولُهُ إِذَا اِجْتَمَعْنَا لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَيَسْأَلُنَا عَمَّا نَحْنُ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِصَاحِبِ الكِتَابِ عَلَى اَلمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَلَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ جَمِيعاً إِمَامَةً مُفْتَرَضَةً، وَلَا طَاعَةً وَلَا ذِمَّةً، وَسَأُبَيِّنُ لَكُمْ جُمْلَةً تَكْتَفُونَ بِهَا إِنْ شَاءَ اَللهُ تَعَالَى.
يَا هَذَا، يَرْحَمُكَ اَللهُ إِنَّ اَللهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقِ الخَلْقَ عَبَثاً، وَلَا أَهْمَلَهُمْ سُدًى، بَلْ خَلَقَهُمْ بِقُدْرَتِهِ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَسْمَاعاً وَأَبْصَاراً وَقُلُوباً وَالبَاباً، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمُ اَلنَّبِيِّينَ (عليهم السلام) مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، يَأْمُرُونَهُمْ بِطَاعَتِهِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ، وَيُعَرِّفُونَهُمْ مَا جَهِلُوهُ مِنْ أَمْرِ خَالِقِهِمْ وَدِينِهِمْ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَائِكَةً يَأْتِينَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ بَعَثَهُمْ إِلَيْهِمْ بِالفَضْلِ اَلَّذِي جَعَلَهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَمَا آتَاهُمْ مِنَ اَلدَّلَائِلِ اَلظَّاهِرَةِ، وَالبَرَاهِينِ البَاهِرَةِ، وَالآيَاتِ الغَالِبَةِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ اَلنَّارَ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلَاماً، وَاِتَّخَذَهُ خَلِيلاً، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ تَكْلِيماً، وَجَعَلَ عَصَاهُ ثُعْبَاناً مُبِيناً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَحْيَا اَلمَوْتَى بِإِذْنِ اَلله، وَأَبْرَأَ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِ اَلله، وَمِنْهُمْ مَنْ عَلَّمَهُ مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ، وَأُوتِيَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ثُمَّ بَعَثَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَتَمَّمَ بِهِ نِعْمَتَهُ، وَخَتَمَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى اَلنَّاسِ كَافَّةً، وَأَظْهَرَ مِنْ صِدْقِهِ مَا أَظْهَرَ، وَبَيَّنَ مِنْ آيَاتِهِ وَعَلَامَاتِهِ مَا بَيَّنَ، ثُمَّ قَبَضَهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حَمِيداً فَقِيداً سَعِيداً، وَجَعَلَ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى أَخِيهِ وَاِبْنِ عَمِّهِ وَوَصِيِّهِ وَوَارِثِهِ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، ثُمَّ إِلَى الأَوْصِيَاءِ مِنْ وُلْدِهِ وَاحِداً وَاحِداً، أَحْيَا بِهِمْ دِينَهُ، وَأَتَمَّ بِهِمْ نُورَهُ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمْ وَبَنِي عَمِّهِمْ وَالأَدْنَيْنِ فَالأَدْنَيْنِ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِمْ فُرْقَاناً بَيِّناً(286)، يُعْرَفُ بِهِ الحُجَّةُ مِنَ اَلمَحْجُوجِ، وَالإِمَامُ مِنَ اَلمَأْمُومِ، بِأَنْ عَصَمَهُمْ مِنَ اَلذُّنُوبِ، وَبَرَّأَهُمْ مِنَ العُيُوبِ، وَطَهَّرَهُمْ مِنَ اَلدَّنَسِ، وَنَزَّهَهُمْ مِنَ اَللَّبْسِ، وَجَعَلَهُمْ خُزَّانَ عِلْمِهِ، وَمُسْتَوْدَعَ حِكْمَتِهِ، وَمَوْضِعَ سِرِّهِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالدَّلَائِلِ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَكَانَ اَلنَّاسُ عَلَى سَوَاءٍ، وَلَادَّعَى أَمْرَ اَلله (عزَّ وجلَّ) كُلُّ أَحَدٍ، وَلَمَا عُرِفَ الحَقُّ مِنَ البَاطِلِ، وَلَا العَالِمُ مِنَ الجَاهِلِ.
وَقَدِ اِدَّعَى هَذَا اَلمُبْطِلُ اَلمُفْتَرِي عَلَى اَلله الكَذِبَ بِمَا اِدَّعَاهُ، فَلَا أَدْرِي بِأَيَّةِ حَالَةٍ هِيَ لَهُ رَجَاءَ أَنْ يُتِمَّ دَعْوَاهُ، أَبِفِقْهٍ فِي دِينِ اَلله؟ فَوَاَلله مَا يَعْرِفُ حَلَالاً مِنْ حَرَامٍ، وَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ خَطَإٍ وَصَوَابٍ. أَمْ بِعِلْمٍ؟ فَمَا يَعْلَمُ حَقًّا مِنْ بَاطِلٍ، وَلَا مُحْكَماً مِنْ مُتَشَابِهٍ، وَلَا يَعْرِفُ حَدَّ اَلصَّلَاةِ وَوَقْتَهَا. أَمْ بِوَرَعٍ؟ فَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى تَرْكِهِ اَلصَّلَاةَ الفَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْماً(287) يَزْعُمُ ذَلِكَ لِطَلَبِ اَلشَّعْوَذَةِ، وَلَعَلَّ خَبَرَهُ قَدْ تَأَدَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(286) راجع ما ذكرنا من هذا الفرقان في (ص 97) الأصل والهامش.
(287) صلَّى الله عليك وعلى آبائك، تُسقِط إمامته لتركه الصلاة (40) يوماً، وقد تركها بعض أدعياء العرفان والإمامة وأسقطوها عمَّن اقتدى بهم، وفي الوقت الذي يقول فيه حديث آبائك: (إنَّها معراج المؤمن) رأوها - بزعمهم - حجاباً. راجع: رسالة القشيري (ص 16).
إِلَيْكُمْ، وَهَاتِيكَ ظُرُوفُ مُسْكِرِهِ مَنْصُوبَةٌ، وَآثَارُ عِصْيَانِهِ لِله (عزَّ وجلَّ) مَشْهُورَةٌ قَائِمَةٌ. أَمْ بِآيَةٍ فَلْيَأْتِ بِهَا، أَمْ بِحُجَّةٍ فَلْيُقِمْهَا، أَمْ بِدَلاَلَةٍ فَلْيَذْكُرْهَا.
قَالَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي كِتَابِهِ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ [الأحقاف: 1 - 6]، فَالتَمِسْ تَوَلَّى اَللهُ تَوْفِيقَكَ مِنْ هَذَا اَلظَّالِمِ مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وَاِمْتَحِنْهُ وَسَلْهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اَلله يُفَسِّرْهَا، أَوْ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ يُبَيِّنْ حُدُودَهَا وَمَا يَجِبُ فِيهَا، لِتَعْلَمَ حَالَهُ وَمِقْدَارَهُ، وَيَظْهَرَ لَكَ عُوَارُهُ وَنُقْصَانُهُ، وَاَللهُ حَسِيبُهُ.
حَفِظَ اَللهُ الحَقَّ عَلَى أَهْلِهِ، وَأَقَرَّهُ فِي مُسْتَقَرِّهِ، وَقَدْ أَبَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ تَكُونَ الإِمَامَةُ فِي أَخَوَيْنِ بَعْدَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ (عليهما السلام)، وَإِذَا أَذِنَ اَللهُ لَنَا فِي القَوْلِ ظَهَرَ الحَقُّ، وَاِضْمَحَلَّ البَاطِلُ، وَاِنْحَسَرَ عَنْكُمْ، وَإِلَى اَلله أَرْغَبُ فِي الكِفَايَةِ، وَجَمِيلِ اَلصُّنْعِ وَالوَلَايَةِ، وَحَسْبُنَا اَللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ»(288).
النائب الثاني: أبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه):
عَنْ أَبِي نَصْرٍ هِبَةِ اَلله بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الكَاتِبِ، قَالَ: (كَانَتْ تَوْقِيعَاتُ صَاحِبِ الأَمْرِ (عليه السلام) تَخْرُجُ عَلَى يَدَيْ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ وَاِبْنِهِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ إِلَى شِيعَتِهِ وَخَوَاصِّ أَبِيهِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بِالأَمْرِ وَاَلنَّهْيِ وَالأَجْوِبَةِ عَمَّا يَسْأَلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(288) الغيبة للطوسي (ص 287 - 290/ ح 246).
اَلشِّيعَةُ عَنْهُ إِذَا اِحْتَاجَتْ إِلَى اَلسُّؤَالِ فِيهِ بِالخَطِّ اَلَّذِي كَانَ يَخْرُجُ فِي حَيَاةِ الحَسَنِ (عليه السلام)، فَلَمْ تَزَلِ اَلشِّيعَةُ مُقِيمَةً عَلَى عَدَالَتِهِمَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ (رَحِمَهُ اَللهُ وَرَضِيَ عَنْهُ)، وَغَسَلَهُ اِبْنُهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَتَوَلَّى القِيَامَ بِهِ، وَحَصَلَ الأَمْرُ كُلُّهُ مَرْدُوداً إِلَيْهِ، وَاَلشِّيعَةُ مُجْتَمِعَةٌ عَلَى عَدَالَتِهِ وَثِقَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ اَلنَّصِّ عَلَيْهِ بِالأَمَانَةِ وَالعَدَالَةِ وَالأَمْرِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي حَيَاةِ الحَسَنِ (عليه السلام) وَبَعْدَ مَوْتِهِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ عُثْمَانَ (رَحْمَةُ اَلله عَلَيْهِ))(289).
وقد سبق أنْ ذكرنا النصَّ الذي أشار إليه الكاتب (رحمه الله) على أبي جعفر محمّد ابن عثمان في عدَّة روايات، وفي أكثر من مرَّة، من قِبَل الإمام الحسن (عليه السلام) في حديثنا المتقدِّم عن أبيه (رضي الله عنه)، لأنَّ الإمام (عليه السلام) جمع بينهما فيه، وأفرد (عليه السلام) أبا جعفر في بعضها بالإشارة إلى أنَّه وكيل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
أمَّا النصُّ عليه من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فبالرغم من أنَّه لا حاجة إليه مجدَّداً - بحكم نيابته القائمة له زمن أبيه (رحمه الله) - فإنَّه مع ذلك أكَّد (عجَّل الله فرجه) استمرار هذه النيابة - كما هو واضح - في كتاب تعزيته له بأبيه (رضي الله عنه)، وكُتُب أُخرى تلقَّاها عدد من أعيان الشيعة آنذاك.
روي مسنداً عن محمّد بن إبراهيم بن مهزيار(290) أنَّه خرج إليه بعد وفاة أبي عمرو (عثمان بن سعيد) (رحمه الله) من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) توقيع جاء فيه: «وَاَلاِبْنُ وَقَاهُ اَللهُ لَمْ يَزَلْ ثِقَتَنَا فِي حَيَاةِ الأَبِ (رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَنَضَّرَ وَجْهَهُ)، يَجْرِي عِنْدَنَا مَجْرَاهُ، وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، وَعَنْ أَمْرِنَا يَأْمُرُ اَلاِبْنُ وَبِهِ يَعْمَلُ، تَوَلَّاهُ اَللهُ، فَانْتَهِ إِلَى قَوْلِهِ، وَعَرِّفْ مُعَامِلَتَنَا ذَلِكَ»(291).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(289) الغيبة للطوسي (ص 356 و357/ ح 318).
(290) ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في رجاله (ص 402/ الرقم 5897/15) من أصحاب أبي محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري (عليه السلام).
(291) الغيبة للطوسي (ص 362/ ح 325).
وروي أيضاً مسنداً عن محمّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب أنَّه تلقَّى التوقيع بخطِّ مولانا صاحب الدار (عجَّل الله فرجه)، وفيه: «وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ العَمْرِيُّ (رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ) فَإِنَّهُ ثِقَتِي، وَكِتَابُهُ كِتَابِي»(292).
وبالإسناد إلى عبد الله بن جعفر الحميري، قال: (لَـمَّا مَضَى أَبُو عَمْرٍو (رَضِيَ اَللهُ تَعَالَى عَنْهُ) أَتَتْنَا الكُتُبُ بِالخَطِّ اَلَّذِي كُنَّا نُكَاتِبُ بِهِ (يعني من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)) بِإِقَامَةِ أَبِي جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) مَقَامَهُ)(293).
وجاء في رواية هبة الله عن شيوخه وهم يتحدَّثون عن أبي جعفر العمري قولهم: (وقد نُقِلَت عنه دلائل كثيرة، ومعجزات الإمام ظهرت على يديه، وأُمور أخبرهم بها عنه(294) زادتهم في هذا الأمر بصيرةً، وهي مشهورة عند الشيعة)(295).
وروي مسنداً عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: سَألتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ (رضي الله عنه)، فَقُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ صَاحِبَ هَذَا الأَمْرِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَآخِرُ عَهْدِي بِهِ عِنْدَ بَيْتِ اَلله الحَرَامِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اَللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي»(296).
وقال (رضي الله عنه) في رواية أبي جعفر بن بابويه: (إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الأَمْرِ لَيَحْضُرُ اَلمَوْسِمَ كُلَّ سَنَةٍ، فَيَرَى اَلنَّاسَ وَيَعْرِفُهُمْ، وَيَرَوْنَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ)(297).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(292) كمال الدِّين (ص 485/ باب 45/ ح 4)، الغيبة للطوسي (ص 291/ ح 247).
(293) الغيبة للطوسي (ص 362/ ح 324).
(294) راجع: كمال الدِّين (ص 504/ باب 45/ ح 35)، ودلائل الإمامة (ص 519 و520/ ح 493/97)، والإرشاد (ج 2/ ص 365)، والغيبة للطوسي (ص 294 - 296/ ح 249)، والخرائج والجرائح (ج 1/ ص 472 - 474/ ح 17).
(295) الغيبة للطوسي (ص 362 و363/ ح 327).
(296) كمال الدِّين (ص 440/ باب 43/ ح 9)، من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 520/ ح 3115)، الغيبة للطوسي (ص 251 و364/ ح 222 و330).
(297) كمال الدِّين (ص 440/ باب 43/ ح 8)، من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 520/ ح 3115)، الغيبة للطوسي (ص 363 و364/ ح 329).
من توقيعات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوساطته:
امتدَّت نيابة أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) للإمام (عجَّل الله فرجه) زمناً طويلاً لم يحصل لأيِّ واحدٍ من النُّوَّاب الآخرين، فقد تولَّى ذلك في حياة الإمام الحسن (عليه السلام) مع أبيه (رحمه الله) للإمام الحسن ثمّ المهدي (عليهما السلام)، واستمرَّ مع أبيه حتَّى تُوفّي، ثم قام بذلك منفرداً حتَّى وفاته سنة (304هـ) أو سنة (305هـ)، وقد قدَّروا مدَّة تولِّيه للنيابة بنحو خمسين سنة(298).
ولذلك فمن المتوقَّع أنْ يكون ما جاء بوساطته من آثار الإمام (عجَّل الله فرجه) وتوقيعاته كثيراً جدًّا، ولم يصلنا منه إلَّا القليل، لما بيَّنَّاه من الأسباب. ومع ذلك فما أُثِرَ عنه (رحمه الله) أكثر ممَّا هو عن غيره.
ومن الآثار المعروفة التي جاءت عن طريقه بعض الأدعية، كالدعاء الذي ورد في كُتُب الدعاء أنَّه يُقرَأ في كلِّ يوم من رجب(299)، وهو - كما يرى العارفون - من أهمّ الأدعية في مضامينه المعرفيَّة المتَّصلة بولاية الخلق الأوَّل، أي المبادئ الأُولى القائمة بربِّها، والمقوِّمة لما بعدها بحكم ما يقتضيه الخلق من سلسلة طوليَّة وأكوان متعدِّدة تكون وسطاً وأسباباً لكون الكائن المركَّب(300).
وكدعاء الافتتاح المشهور الذي يُقرَأ في ليالي رمضان(301)، ولا حاجة لبيان أنَّه من أهمّ الأدعية في لغته وأُسلوبه ومضامينه العقائديَّة، فهذا الجانب ملحوظ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(298) الغيبة للطوسي (ص 366/ ح 334).
(299) المصباح للكفعمي (ص 529).
(300) راجع: بحار الأنوار (ج 1/ ص 103 و104)، والمضمون المعرفي والأخلاقي في أدعية أهل البيت (عليهم السلام) للمؤلِّف (مخطوط).
(301) إقبال الأعمال (ج 1/ ص 138)، مفاتيح الجنان (ص 290 - 295)، والأخير لم يذكر نسبته للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ولا دعاء أبي جعفر العمري به.
لدى كلِّ من قرأه، ولقد رأيت شخصاً غمرته روعة أُسلوبه ومعانيه وهو يقرأه، فرفع رأسه قائلاً: كيف يقولون: إنَّه غائب وهذا نوره يضيء قلوبنا، وهذه أنفاسه تهزُّنا من العمق؟!
وذُكِرَت أدعية وزيارات أُخرى نُسِبَت إلى الإمام (عجَّل الله فرجه)، وأنَّها صدرت في زمن الشيخ (رحمه الله) يمكن من شاء مراجعتها والتأكُّد من نسبتها من مصادرها الخاصَّة، ككُتُب الأدعية والزيارات المعروفة، والكُتُب المؤلَّفة في الإمام (عجَّل الله فرجه) ونُوَّابه وما صدر عنهم.
ومن توقيعاته (عجَّل الله فرجه) بواسطته ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: سَألتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ (رضي الله عنه) أَنْ يُوصِلَ لِي كِتَاباً قَدْ سَألتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ، فَوَرَدَتْ اَلتَّوْقِيعِ بِخَطِّ مَوْلَانَا صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام): «أَمَّا مَا سَألتَ عَنْهُ أَرْشَدَكَ اَللهُ وَثَبَّتَكَ مِنْ أَمْرِ اَلمُنْكِرِينَ لِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِنَا وَبَنِي عَمِّنَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ اِبْنِ نُوحٍ (عليه السلام).
وأَمَّا سَبِيلُ عَمِّي جَعْفَرٍ وَوُلْدِهِ فَسَبِيلُ إِخْوَةِ يُوسُفَ (عليه السلام).
وَأَمَّا الفُقَّاعُ فَشُرْبُهُ حَرَامٌ، وَلَا بَأْسَ بِالشَّلْمَابِ.
وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَلَا نَقْبَلُهَا إِلَّا لِتَطَهَّرُوا، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصِلْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَقْطَعْ، فَمَا آتَانِي اَللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ.
وَأَمَّا ظُهُورُ الفَرَجِ فَإِنَّهُ إِلَى اَللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَكَذَبَ الوَقَّاتُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الحُسَيْنَ (عليه السلام) لَمْ يُقْتَلْ فَكُفْرٌ وَتَكْذِيبٌ وَضَلَالٌ(302).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(302) من مزاعم الغلاة (لعنهم الله) بالنسبة للأئمَّة (عليهم السلام)، ومنهم عليٌّ والحسين (عليهما السلام)، خلط بين ما أثبته الله وأثبتوه (عليهم السلام) تبعاً من الحياة الأُخرويَّة بالنسبة للشهداء والصدِّيقين وبين الحياة البدنيَّة، فإنَّ البدن لابدَّ من موته بالقتل، أو بالصورة الطبيعيَّة بحكم بنائه المادِّي، وذلك مشهود حسًّا.
وَأَمَّا الحَوَادِثُ الوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اَللهِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ العَمْرِيُّ رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ فَإِنَّهُ ثِقَتِي وَكِتَابُهُ كِتَابِي.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ الأَهْوَازِيُّ فَسَيُصْلِحُ اَللهُ لَهُ قَلْبَهُ وَيُزِيلُ عَنْهُ شَكَّهُ.
وَأَمَّا مَا وَصَلْتَنَا بِهِ فَلَا قَبُولَ عِنْدَنَا إِلَّا لِمَا طَابَ وَطَهُرَ(303).
وَثَمَنُ اَلمُغَنِّيَةِ حَرَامٌ.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَتِنَا أَهْلَ البَيْتِ.
وَأَمَّا أَبُو الخَطَّابِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْنَبَ الأَجْدَعُ (من رؤوس الغلاة) فَمَلْعُونٌ، وَأَصْحَابُهُ مَلْعُونُونَ، فَلَا تُجَالِسْ أَهْلَ مَقَالَتِهِمْ، فَإِنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَآبَائِي (عليهم السلام) مِنْهُمْ بِرَاءٌ.
وَأَمَّا اَلمُتَلَبِّسُونَ بِأَمْوَالِنَا، فَمَنِ اِسْتَحَلَّ مِنْهَا شَيْئاً فَأَكَلَهُ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ اَلنِّيرَانَ.
وَأَمَّا الخُمُسُ فَقَدْ أُبِيحَ لِشِيعَتِنَا، وَجُعِلُوا مِنْهُ فِي حِلٍّ إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ أَمْرِنَا، لِتَطِيبَ وِلاَدَتُهُمْ وَلَا تَخْبُثَ.
وَأَمَّا نَدَامَةُ قَوْمٍ قَدْ شَكُّوا فِي دِينِ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) عَلَى مَا وَصَلُونَا بِهِ فَقَدْ أَقَلْنَا مَنِ اِسْتَقَالَ، وَلَا حَاجَةَ فِي صِلَةِ اَلشَّاكِّينَ.
وَأَمَّا عِلَّةُ مَا وَقَعَ مِنَ الغَيْبَةِ، فَإِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(303) ما أكثر التوقيعات التي صدرت بإرجاع أموال إلى أصحابها وإخبارهم بما لم يعلموا هم أنفسهم بوجه الشُّبُهة فيها، راجع: كمال الدِّين (ص 486/ باب 45/ ح 6).
آبَائِي إِلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ، وَإِنِّي أَخْرُجُ حِينَ أَخْرُجُ وَلَا بَيْعَةَ لِأَحَدٍ مِنَ اَلطَّوَاغِيتِ فِي عُنُقِي.
وَأَمَّا وَجْهُ اَلاِنْتِفَاعِ بِي فِي غَيْبَتِي فَكَالاِنْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ إِذَا غَيَّبَتْهَا عَنِ الأَبْصَارِ اَلسَّحَابُ(304)، وَإِنِّي لَأَمَانُ أَهْلِ الأَرْضِ كَمَا أَنَّ اَلنُّجُومَ أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ(305)، فَأَغْلِقُوا أَبْوَابَ اَلسُّؤَالِ عَمَّا لَا يَعْنِيكُمْ، وَلَا تَتَكَلَّفُوا عَلَى مَا قَدْ كُفِيتُمْ، وَأَكْثِرُوا اَلدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ الفَرَجِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَرَجكُمْ، وَاَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا إِسْحَاقَ ابْنَ يَعْقُوبَ وَعَلى مَنِ اِتَّبَعَ الهُدى»(306).
وفاة الشيخ أبي جعفر العمري (رضي الله عنه):
روي عن أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ اَلدَّلَّالِ القُمِّيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ (رضي الله عنه) يَوْماً لِأُسَلِّمَ عَلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سَاجَةٌ وَنَقَّاشٌ يَنْقُشُ عَلَيْهَا وَيَكْتُبُ آياً مِنَ القُرْآنِ، وَأَسْمَاءَ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام) عَلَى حَوَاشِيهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي، مَا هَذِهِ اَلسَّاجَةُ؟ فَقَالَ لِي: هَذِهِ لِقَبْرِي، تَكُونُ فِيهِ، أُوضَعُ عَلَيْهَا، أَوْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(304) هذا مثال رائع ومطابق، فالشمس رغم ما يبدو من تغطية السحاب لها تظلُّ أشعَّتها نافذة تضيء الأرض، وغياب الإمام (عليه السلام) واقتصار الصلة به على الخاصَّة وبواسطة النُّوَّاب، وبالتسديد الخفيِّ في ما يُطلِعه الله عليه من شؤون المسلمين أشبه بذلك، أي إنَّ الإفادة من علمه وبركاته وشفاعته تظلُّ قائمة. وفي ما ذكرناه - من الشواهد - وأشرنا إليه ما يكفي لإثبات ذلك.
(305) النجوم مراكز استقطاب للكواكب، كما هو بالنسبة إلى شمسنا بالنسبة إلى توابعها، وبانفجارها أو موتها ينفرط عقد الكواكب، وترتطم ببعضها وتفنى، وقد سجَّل العلم موت نجوم أصبحت ما يُسمَّى بالثقوب السوداء، فابتلعت ما حولها من كواكب بل مجرَّات. راجع: موجز تاريخ الزمن (ص 137 وما بعدها/ فصل 6 الثقوب السوداء).
(306) كمال الدِّين (ص 483 - 485/ باب 45/ ح 4)، الغيبة للطوسي (ص 290 - 292/ح 247).
قَالَ: أُسْنَدُ إِلَيْهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنْهُ، وَأَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْزِلُ فِيهِ فَأَقْرَأُ جُزْءاً مِنَ القُرْآنِ فِيهِ فَأَصْعَدُ، وَأَظُنُّهُ قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَرَانِيهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا وَكَذَا صِرْتُ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) وَدُفِنْتُ فِيهِ وَهَذِهِ اَلسَّاجَةُ مَعِي.
فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ أَثْبَتُّ مَا ذَكَرَهُ، وَلَمْ أَزَلْ مُتَرَقِّباً بِهِ ذَلِكَ، فَمَا تَأَخَّرَ الأَمْرُ حَتَّى اِعْتَلَّ أَبُو جَعْفَرٍ، فَمَاتَ فِي اليَوْمِ اَلَّذِي ذَكَرَهُ، مِنَ اَلشَّهْرِ اَلَّذِي قَالَهُ، مِنَ اَلسَّنَةِ اَلَّتِي ذَكَرَهَا، وَدُفِنَ فِيهِ(307).
وكانت وفاته في آخر جمادى الأُولى سنة (304هـ) أو سنة (305هـ)(308).
النائب الثالث: أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي (رضي الله عنه):
ذكر المؤرِّخون أنَّه كان لدى أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (رحمه الله) أثناء حياته نحو عشرة رجال يعتمدهم في قضاء حاجاته، منهم أبو القاسم الحسين بن روح (رحمه الله)، وكلُّهم كانوا كما يبدو أخصّ منه لديه حتَّى إنَّه كان يُنجز حاجاته على الأغلب على يد غيره، وقد فسَّروا ذلك بأنَّه كان أقلّ خصوصيَّة لديه منهم، ولكن الاختيار وقع آخر الأمر عليه(309).
وممَّا ذكروا أيضاً أنَّ مشائخ الشيعة كانوا يتوقَّعون - كما روى ابن قولويه - أنَّ الذي سيقوم مقام أبي جعفر (رحمه الله) إذا ما توفَّاه الله تعالى جعفر بن أحمد بن متيل، لما يرون من مكانته لديه، وما يبدو له من خصوصيَّة عنده، عدُّوا من شواهدها كثرة تواجده في منزله حتَّى بلغ أنَّه كان في آخر عمره لا يأكل طعاماً إلَّا ما أُصلح في منزل جعفر وأبيه، فلمَّا وقع الاختيار في الوصيَّة على أبي القاسم الحسين بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(307) الغيبة للطوسي (ص 364 و365/ ح 332).
(308) الغيبة للطوسي (ص 366/ ح 334).
(309) الغيبة للطوسي (ص 368 و369/ ح 336).
روح سلَّم آل متيل، ولم يُنكِروا، وكانوا معه وبين يديه كما كانوا مع أبي جعفر (محمّد بن عثمان) حتَّى مات(310).
لكن هذا التصوُّر لمكانته وخصوصيَّته من أبي جعفر (رحمه الله) - كما يبدو لنا - رأي لبعضهم منتزع من العلاقات المنظورة العامَّة والشخصيَّة بين الشيخ العمري (رحمه الله) وبين المحيطين به من وكلائه وثقاته وإخوانه من المؤمنين، ولا يدلُّ شيء ممَّا ذكروه من شواهد على تقدُّم منزلتهم على الحسين، بل قد يُفهَم من ذلك العكس.
وهناك روايات أُخرى تشير إلى أنَّ لأبي القاسم الحسين بن روح (رحمه الله) مكانة متقدِّمة ابتداءً لدى الشيخ العمري، ففي رواية عن أُمِّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري (رحمها الله) أنَّها قالت: كَانَ أَبُو القَاسِمِ الحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه) وَكِيلاً لِأَبِي جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) سِنِينَ كَثِيرَةً يَنْظُرُ لَهُ فِي أَمْلَاكِهِ، وَيُلْقِي بِأَسْرَارِهِ اَلرُّؤَسَاءَ مِنَ اَلشِّيعَةِ، وَكَانَ خِصِّيصاً بِهِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُهُ بِمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَوَارِيهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَأُنْسِهِ.
قَالَتْ: وَكَانَ يَدْفَعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثِينَ دِينَاراً رِزْقاً لَهُ...، إلى أنْ قالت: فَحَصَّلَ فِي أَنْفُسِ اَلشِّيعَةِ مُحَصَّلاً جَلِيلاً لِمَعْرِفَتِهِمْ بِاخْتِصَاصِه بأَبِي جعفر العمري وَتَوْثِيقِهِ عِنْدَهُمْ، فَمَهَّدْتُ لَهُ الحَالَ فِي طُولِ حَيَاتِهِ إِلَى أَنِ اِنْتَهَتِ الوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي أَمْرِهِ وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ أَحَدٌ(311).
وروى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَسْوَدُ (رضي الله عنه)، قَالَ: كُنْتُ أَحْمِلُ الأَمْوَالَ اَلَّتِي تُجْعَلُ فِي بَابِ الوَقْفِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ العَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، فَيَقْبِضُهَا مِنِّي، فَحَمَلْتُ إِلَيْهِ يَوْماً شَيْئاً مِنَ الأَمْوَالِ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(310) الغيبة للطوسي (ص 369 و370/ ح 337).
(311) الغيبة للطوسي (ص 372/ ح 343).
سِنِينَ، فَأَمَرَنِي بِتَسْلِيمِهِ إِلَى أَبِي القَاسِمِ اَلرَّوْحِيِّ (رضي الله عنه)، وَكُنْتُ أُطَالِبُهُ بِالقُبُوضِ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ العَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، فَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُطَالِبَهُ بِالقَبْضِ، وَقَالَ: كُلَّمَا وَصَلَ إِلَى أَبِي القَاسِمِ وَصَلَ إِلَيَّ، قَالَ: فَكُنْتُ أَحْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ الأَمْوَالَ إِلَيْهِ وَلَا أُطَالِبُهُ بِالقُبُوضِ(312).
وروي مثل ذلك عن أبي عبد الله جعفر بن عثمان المدائني المعروف بابن قزدا (رحمه الله)، فقد ذكر أنَّه كان يحمل المال للعمري (رحمه الله)، وأنَّه صار إليه آخر عهده به (قدّس سرّه)، فقال له: اِمْضِ بِهَا إِلَى الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ، فَتَوَقَّفَ فَقَالَ: تَقْبِضُهَا أَنْتَ مِنِّي عَلَى اَلرَّسْمِ، قَالَ: فَرَدَّ عَلَيَّ كَالمُنْكِرِ لِقَوْلِي، وَقَالَ: قُمْ عَافَاكَ اَللهُ فَادْفَعْهَا إِلَى الحُسَيْنِ ابْنِ رَوْحٍ.
وقال: إنَّه استجاب حين رأى الغضب في وجهه، ولكنَّه في بعض الطريق رجع كالشَّاكِّ وأصرَّ على مقابلته مرَّةً أُخرى، فقال له العمري (رحمه الله) حين خرج إليه: مَا اَلَّذِي جَرَّأَكَ عَلَى اَلرُّجُوعِ؟ وَلِمَ لَمْ تَمْتَثِلْ مَا قُلْتُهُ لَكَ؟
وحين ذكر له ما رآه عذراً من حالته وتردُّده قال له العمري (رحمه الله) وهو مغضب - في ما ذكر -: قُمْ عَافَاكَ اَللهُ، فَقَدْ أَقَمْتُ أَبَا القَاسِمِ حُسَيْنَ بْنَ رَوْحٍ مَقَامِي، وَنَصَبْتُهُ مَنْصَبِي، قَالَ: فَقُلْتُ: بِأَمْرِ الإِمَامِ؟ فَقَالَ (رحمه الله): قُمْ عَافَاكَ اَللهُ كَمَا أَقُولُ لَكَ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي غَيْرُ اَلمُبَادَرَةِ(313).
وعَنْ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ هَمَّامٍ (رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ) أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ) جَمَعَنَا قَبْلَ مَوْتِهِ، وَكُنَّا وُجُوهَ اَلشِّيعَةِ وَشُيُوخَهَا، فَقَالَ لَنَا: إِنْ حَدَثَ عَلَيَّ حَدَثُ اَلمَوْتِ فَالأَمْرُ إِلَى أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(312) كمال الدِّين (ص 501 و502/ باب 45/ ح 28)، الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 338).
(313) الغيبة للطوسي (ص 367 و368/ ح 335).
اَلنَّوْبَخْتِيِّ، فَقَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَجْعَلَهُ فِي مَوْضِعِي بَعْدِي، فَارْجِعُوا إِلَيْهِ، وَعَوِّلُوا فِي أُمُورِكُمْ عَلَيْهِ(314).
وروي عَنْ أَبِي نَصْرٍ هِبَةِ اَلله بْنِ مُحَمَّدٍ (ابن بنت أُمِّ كلثوم ابنة الشيخ العمري (رحمه الله))، قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِي أَبُو إِبْرَاهِيمَ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ اَلنَّوْبَخْتِيُّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَمِّي أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اَلله بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِنَا - يَعْنِي بَنِي نَوْبَخْتَ -: إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ العَمْرِيَّ لَـمَّا اِشْتَدَّتْ حَالُهُ اِجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ اَلشِّيعَةِ، مِنْهُمْ: أَبُو عَلِيِّ بْنُ هَمَّامٍ، وَأَبُو عَبْدِ اَلله بْنُ مُحَمَّدٍ الكَاتِبُ، وَأَبُو عَبْدِ اَلله البَاقَطَانِيُّ، وَأَبُو سَهْلٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ اَلنَّوْبَخْتِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اَلله بْنُ الوَجْنَاءُ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الوُجُوهِ وَالأَكَابِرِ، فَدَخَلُوا عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (رضي الله عنه)، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ حَدَثَ أَمْرٌ فَمَنْ يَكُونُ مَكَانَكَ؟ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا أَبُو القَاسِمِ الحُسَيْنُ بْنُ رَوْحِ بْنِ أَبِي بَحْرٍ اَلنَّوْبَخْتِيُّ القَائِمُ مَقَامِي وَاَلسَّفِيرُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ الأَمْرِ (عليه السلام) وَالوَكِيلُ لَهُ وَاَلثِّقَةُ الأَمِينُ، فَارْجِعُوا إِلَيْهِ فِي أُمُورِكُمْ، وَعَوِّلُوا عَلَيْهِ فِي مُهِمَّاتِكُمْ، فَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَقَدْ بَلَّغْتُ(315).
وروى عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَتِّيلٍ، عَنْ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَتِّيلٍ، قَالَ: لَـمَّا حَضَرَتْ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ العَمْرِيَّ (رضي الله عنه) الوَفَاةُ كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ رَأْسِهِ أَسْأَلُهُ وَأُحَدِّثُهُ، وَأَبُو القَاسِمِ بْنُ رَوْحٍ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَالتَفَتَ إِلَيَّ ثُمَّ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أُوصِيَ إِلَى أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ، قَالَ: فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ، وَأَخَذْتُ بِيَدِ أَبِي القَاسِمِ، وَأَجْلَسْتُهُ فِي مَكَانِي، وَتَحَوَّلْتُ إِلَى عِنْدِ رِجْلَيْهِ(316).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(314) الغيبة للطوسي (ص 371/ ح 341).
(315) الغيبة للطوسي (ص 371 و372/ ح 342).
(316) الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 339).
كرامات الشيخ ابن روح (رحمه الله):
للشيخ ابن روح مثل غيره ممَّن اختارهم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لنيابته زمن الغيبة الصغرى صفات مميَّزة قدَّمته على غيره من العلماء الذين عاصروه، وتصوَّر الكثيرون - ابتداءً - أنَّهم من سيتولَّى الأمر دونه.
منها: ما شهد له بها العالم المتكلِّم المعروف أبو سهل النوبختي، وذكرناها في صدر البحث حين سُئِلَ عن سرِّ اختيار الشيخ ابن روح دونه، فقد ذكر ما معناه أنَّه يتمتَّع بقدرة فدائيَّة لا نظير لها في كتمانه لسرِّ الإمام (عجَّل الله فرجه)، قال: (لَوْ كَانَتِ الحُجَّةُ تَحْتَ ذَيْلِهِ وَقُرِّضَ بِالمَقَارِيضِ مَا كَشَفَ اَلذَّيْلَ عَنْهُ)، واعترف أنَّه لا يحرز من نفسه مثل ذلك(317).
وبمثل ذلك شهدت له أُمُّ كلثوم ابنة الشيخ العمري (رحمه الله)، فقد ذكرت في جملة ما أثنت به عليه: (مَا كَانَ يَحْتَمِلُهُ مِنْ هَذَا الأَمْرِ)(318).
وقد ساقوا وقائع عديدة ممَّا أظهر الله على يديه من كرامات تشهد لصلته الحقَّة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
منها - وننقلها بأُسلوب صاحبها من دون تصرُّف -: ما روي عن محمد بن الحسن الصيرفي المقيم ببلخ، قال: أَرَدْتُ الخُرُوجَ إِلَى الحَجِّ، وَكَانَ مَعِي مَالٌ بَعْضُهُ ذَهَبٌ وَبَعْضُهُ فِضَّةٌ، فَجَعَلْتُ مَا كَانَ مَعِي مِنَ الذَّهَبِ سَبَائِكَ، وَمَا كَانَ مَعِي مِنَ الفِضَّةِ نُقَراً، وَكَانَ قَدْ دُفِعَ ذَلِكَ المَالُ إِلَيَّ لِأُسَلِّمَهُ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، قَالَ: فَلَمَّا نَزَلْتُ سَرَخْسَ ضَرَبْتُ خَيْمَتِي عَلَى مَوْضِعٍ فِيهِ رَمْلٌ، فَجَعَلْتُ أُمَيِّزُ تِلْكَ السَّبَائِكَ وَالنُّقَرَ، فَسَقَطَتْ سَبِيكَةٌ مِنْ تِلْكَ السَّبَائِكِ مِنِّي وَغَاضَتْ فِي الرَّمْلِ وَأَنَا لَا أَعْلَمُ، قَالَ: فَلَمَّا دَخَلْتُ هَمَدَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(317) قد تقدَّم في (ص 173)، فراجع.
(318) الغيبة للطوسي (ص 372/ ح 343).
مَيَّزْتُ تِلْكَ السَّبَائِكَ وَالنُّقَرَ مَرَّةً أُخْرَى اهْتِمَاماً مِنِّي بِحِفْظِهَا فَفَقَدْتُ مِنْهَا سَبِيكَةً وَزْنُهَا مِائَةُ مِثْقَالٍ وَثَلَاثَةُ مَثَاقِيلَ - أَوْ قَالَ: ثَلَاث وَتِسْعُونَ مِثْقَالاً -، قَالَ: فَسَبَكْتُ مَكَانَهَا مِنْ مَالِي بِوَزْنِهَا سَبِيكَةً وَجَعَلْتُهَا بَيْنَ السَّبَائِكِ، فَلَمَّا وَرَدْتُ مَدِينَةَ السَّلَامِ قَصَدْتُ الشَّيْخَ أَبَا القَاسِمِ الحُسَيْنَ بْنَ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) وَسَلَّمْتُ إِلَيْهِ مَا كَانَ مَعِي مِنَ السَّبَائِكِ وَالنُّقَرِ، فَمَدَّ يَدَهُ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ السَّبَائِكِ إِلَى السَّبِيكَةِ الَّتِي كُنْتُ سَبَكْتُهَا مِنْ مَالِي بَدَلاً مِمَّا ضَاعَ مِنِّي فَرَمَى بِهَا إِلَيَّ وَقَالَ لِي: لَيْسَتْ هَذِهِ السَّبِيكَةُ لَنَا، وَسَبِيكَتُنَا ضَيَّعْتَهَا بِسَرَخْسَ حَيْثُ ضَرَبْتَ خَيْمَتَكَ فِي الرَّمْلِ، فَارْجِعْ إِلَى مَكَانِكَ وَانْزِلْ حَيْثُ نَزَلْتَ وَاطْلُبِ السَّبِيكَةَ هُنَاكَ تَحْتَ الرَّمْلِ فَإِنَّكَ سَتَجِدُهَا، وَسَتَعُودُ إِلَى هَاهُنَا فَلَا تَرَانِي.
قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى سَرَخْسَ وَنَزَلْتُ حَيْثُ كُنْتُ نَزَلْتُ فَوَجَدْتُ السَّبِيكَةَ تَحْتَ الرَّمْلِ وَقَدْ نَبَتَ عَلَيْهَا الحَشِيشُ، فَأَخَذْتُ السَّبِيكَةَ وَانْصَرَفْتُ إِلَى بَلَدِي، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَجْتُ وَمَعِيَ السَّبِيكَةُ، فَدَخَلْتُ مَدِينَةَ السَّلَامِ وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو القَاسِمِ الحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه) مَضَى (تُوفّي)، وَلَقِيتُ أَبَا الحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيَّ (رضي الله عنه) فَسَلَّمْتُ السَّبِيكَةَ إِلَيْهِ(319).
ونقل الشيخ الصدوق(320)، والشيخ الطوسي(321)، والشيخ المجلسي(322)، وقائع أُخرى قد تفوق هذه غرابةً ودلالةً.
وسننقل واقعة أُخرى لا لما تتضمَّنه من دلالة في هذا الجانب فقط، لأنَّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(319) كمال الدِّين (ص 516 و517/ باب 45/ ح 45)، الثاقب في المناقب (ص 600 و601/ ح 548/12).
(320) كمال الدِّين (ص 505 و506/باب 45/ ح 36، وص 518 و519/باب 45/ح 47).
(321) الغيبة للطوسي (ص 315 - 319/ ح 264 و265، وص 322/ ح 270).
(322) بحار الأنوار (ج 51/ ص 343 وما بعدها/ باب أحوال السفراء).
أجاب فيها على ما يدور من تساؤل في ذهن الرجل ابتداءً قبل أنْ يفضي به إليه، بل لجانبين آخرين:
أوَّلهما: دلالتها على مكانته العلميَّة وسعة معرفته في ما يتَّصل بشؤون العقيدة والشريعة بصورة عامَّة، وذلك ما يبدو لنا في منطقيَّة إجابته وإحكامها على الشُّبهة التي أثارها السائل.
ثانيهما: اتِّصال هذه المعرفة بالإمام (عجَّل الله فرجه)، وأنَّها ليست رأياً له، وتأكيده أنَّه لا يقول إذا ما قال شيئاً إلَّا عن الإمام (عجَّل الله فرجه) دائماً، وتلك صلة لا نكاد نستوعب صورتها عظمةً.
والواقعة نقلها لنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي الله عنه)، نذكرها بأُسلوبه، قال: كُنْتُ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي القَاسِمِ الحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) مَعَ جَمَاعَةٍ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى القَصْرِيُّ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) أَهُوَ وَلِيُّ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَاتِلِهِ، أَهُوَ عَدُوُّ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) عَدُوَّهُ عَلَى وَلِيِّهِ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو القَاسِمِ الحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ): افْهَمْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ، اعْلَمْ أَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) لَا يُخَاطِبُ النَّاسَ بِمُشَاهَدَةِ العِيَانِ وَلَا يُشَافِهُهُمْ بِالكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ (جلَّ جلاله) يَبْعَثُ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنْ أَجْنَاسِهِمْ وَأَصْنَافِهِمْ بَشَراً مِثْلَهُمْ، وَلَوْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلاً مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِمْ وَصُوَرِهِمْ لَنَفَرُوا عَنْهُمْ وَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا جَاؤُوهُمْ وَكَانُوا مِنْ جِنْسِهِمْ يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْواقِ قَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَلَا نَقْبَلُ مِنْكُمْ حَتَّى تَأْتُونَّا بِشَيْءٍ نَعْجِزُ أَنْ نَأْتِيَ بِمِثْلِهِ فَنَعْلَمَ أَنَّكُمْ مَخْصُوصُونَ دُونَنَا بِمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُمُ المُعْجِزَاتِ الَّتِي يَعْجِزُ الخَلْقُ عَنْهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَاءَ بِالطُّوفَانِ بَعْدَ الإِنْذَارِ وَالإِعْذَارِ، فَغَرِقَ جَمِيعُ مَنْ طَغَى وَتَمَرَّدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ القِيَ فِي
النَّارِ فَكَانَتْ بَرْداً وَسَلَاماً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْرَجَ مِنَ الحَجَرِ الصَّلْدِ نَاقَةً وَأَجْرَى مِنْ ضَرْعِهَا لَبَناً، وَمِنْهُمْ مَنْ فُلِقَ لَهُ البَحْرُ، وَفُجِّرَ لَهُ مِنَ الحَجَرِ العُيُونُ، وَجُعِلَ لَهُ العَصَا اليَابِسَةُ ثُعْبَاناً تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْرَأَ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ، وَأَحْيَا المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ، وَأَنْبَأَهُمْ بِمَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنِ انْشَقَّ لَهُ القَمَرُ، وَكَلَّمَتْهُ البَهَائِمُ مِثْلُ البَعِيرِ وَالذِّئْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَلَمَّا أَتَوْا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَعَجَزَ الخَلْقُ عَنْ أَمْرِهِمْ وَعَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ كَانَ مِنْ تَقْدِيرِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ وحِكْمَتِهِ أَنْ جَعَلَ أَنْبِيَاءَهُ (عليهم السلام) مَعَ هَذِهِ القُدْرَةِ وَالمُعْجِزَاتِ فِي حَالَةٍ غَالِبِينَ وَفِي أُخْرَى مَغْلُوبِينَ، وَفِي حَالٍ قَاهِرِينَ وَفِي أُخْرَى مَقْهُورِينَ وَلَوْ جَعَلَهُمُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ غَالِبِينَ وَقَاهِرِينَ وَلَمْ يَبْتَلِهِمْ وَلَمْ يَمْتَحِنْهُمْ لَاتَّخَذَهُمُ النَّاسُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَلَمَا عُرِفَ فَضْلُ صَبْرِهِمْ عَلَى البَلَاءِ وَالمِحَنِ وَالاِخْتِبَارِ، وَلَكِنَّهُ (عزَّ وجلَّ) جَعَلَ أَحْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ كَأَحْوَالِ غَيْرِهِمْ لِيَكُونُوا فِي حَالِ المِحْنَةِ وَالبَلْوَى صَابِرِينَ، وَفِي حَالِ العَافِيَةِ وَالظُّهُورِ عَلَى الأَعْدَاءِ شَاكِرِينَ، وَيَكُونُوا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُتَوَاضِعِينَ غَيْرَ شَامِخِينَ وَلَا مُتَجَبِّرِينَ، وَلِيَعْلَمَ العِبَادُ أَنَّ لَهُمْ (عليهم السلام) إِلَهاً هُوَ خَالِقُهُمْ وَمُدَبِّرُهُمْ، فَيَعْبُدُوهُ وَيُطِيعُوا رُسُلَهُ، وَتَكُونُ حُجَّةُ اللهِ ثَابِتَةً عَلَى مَنْ تَجَاوَزَ الحَدَّ فِيهِمْ وَادَّعَى لَهُمُ الرُّبُوبِيَّةَ أَوْ عَانَدَ أَوْ خَالَفَ وَعَصَى وَجَحَدَ بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ (عليهم السلام)(323)، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ [الأنفال: 42].
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ (رضي الله عنه): فَعُدْتُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي القَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) مِنَ الغَدِ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: أَتَرَاهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ لَنَا يَوْمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(323) لاحظ ما ساقه من حجَّة على الغلاة من جهة، وعلى المستهينين بما جاء به الرُّسُل من جهة أُخرى، ولا تكاد الفِرَق الضالَّة داخل الديانات تجاوز هذين القسمين الرئيسين بصورة أو بأُخرى.
أَمْسِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ؟ فَابْتَدَأَنِي، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفَنِي الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِيَ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ فِي دِينِ اللهِ (عزَّ وجلَّ) بِرَأْيِي أَوْ مِنْ عِنْدِ نَفْسِي، بَلْ ذَلِكَ عَنِ الأَصْلِ وَمَسْمُوعٌ عَنِ الحُجَّةِ (صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ)(324).
من توقيعات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوساطته:
مِمَّا خَرَجَ عَنْ الإِمَامِ (عجَّل الله فرجه) رَدًّا عَلَى الغُلَاةِ جَوَاباً لِكِتَابٍ كُتِبَ إِلَيْهِ عَلَى يَدَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ هِلَالٍ الكَرْخِيِّ التوقيع التالي:
«يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ تَعَالَى اَللهُ وَجَلَّ عَمَّا يَصِفُونَ، سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ، لَيْسَ نَحْنُ شُرَكَاؤُهُ فِي عِلْمِهِ، وَلَا فِي قُدْرَتِهِ، بَلْ لَا يَعْلَمُ الغَيْبَ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ الغَيْبَ إِلَّا اللهُ﴾ [النمل: 65]، وَأَنَا وَجَمِيعُ آبَائِي مِنَ الأَوَّلِينَ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ، وَمِنَ الآخِرِينَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اَلله وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ مَضَى مِنَ الأَئِمَّةِ (صَلَوَاتُ اَلله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ) إِلَى مَبْلَغِ أَيَّامِي وَمُنْتَهَى عَصْرِي عَبِيدُ اَلله (عزَّ وجلَّ)، يَقُولُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: 124 - 126].
يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، قَدْ آذَانَا جُهَلَاءُ اَلشِّيعَةِ وَحُمَقَاؤُهُمْ وَمَنْ دِينُهُ جَنَاحُ البَعُوضَةِ أَرْجَحُ مِنْهُ، فَأُشْهِدُ اَللهَ اَلَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَكَفى بِهِ شَهِيداً، وَرَسُولَهُ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَمَلَائِكَتَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ (عليهم السلام)، وَأُشْهِدُكَ، وَأُشْهِدُ كُلَّ مَنْ سَمِعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(324) كمال الدِّين (ص 507 - 509/ باب 45/ ح 37)، علل الشرائع (ج 1/ ص 241 - 243/ باب 177/ ح 1)، الغيبة للطوسي (ص 324 - 326/ ح 273)، الدعوات للراوندي (ص 66 - 68/ ح 164)، الاحتجاج (ج 2/ ص 285 - 288).
كِتَابِي هَذَا، أَنِّي بَرِيءٌ إِلَى اَلله وَإِلَى رَسُولِهِ مِمَّنْ يَقُولُ: إِنَّا نَعْلَمُ الغَيْبَ(325)، وَنُشَارِكُهُ فِي مُلْكِهِ، أَوْ يُحِلُّنَا مَحَلًّا سِوَى اَلمَحَلِّ اَلَّذِي رَضِيَهُ اَللهُ لَنَا وَخَلَقَنَا لَهُ، أَوْ يَتَعَدَّى بِنَا عَمَّا قَدْ فَسَّرْتُهُ لَكَ، وَبَيَّنْتُهُ فِي صَدْرِ كِتَابِي. وَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ نَبْرَأُ مِنْهُ فَإِنَّ اَللهَ يَبْرَأُ مِنْهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَرُسُلُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ، وَجَعَلْتُ هَذَا اَلتَّوْقِيعَ اَلَّذِي فِي هَذَا الكِتَابِ أَمَانَةً فِي عُنُقِكَ وَعُنُقِ مَنْ سَمِعَهُ أَنْ لَا يَكْتُمَهُ لِأَحَدٍ مِنْ مَوَالِيَّ وَشِيعَتِي حَتَّى يَظْهَرَ عَلَى هَذَا اَلتَّوْقِيعِ الكُلُّ مِنَ اَلمَوَالِي لَعَلَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) يَتَلَافَاهُمْ فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ اَلله الحَقِّ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا لَا يَعْلَمُونَ مُنْتَهَى أَمْرِهِ، وَلَا يَبْلُغُ مُنْتَهَاهُ، فَكُلُّ مَنْ فَهِمَ كِتَابِي وَلاَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قَدْ أَمَرْتُهُ وَنَهَيْتُهُ، فَقَدْ حَلَّتْ عَلَيْهِ اَللَّعْنَةُ مِنَ اَلله، وَمِمَّنْ ذَكَرْتُ مِنْ عِبَادِهِ اَلصَّالِحِينَ»(326).
وهناك توقيعات أُخرى كثيرة، منها التوقيع الذي سنذكره في الجزء الثاني الخاصّ بأدعياء المهدويَّة والبابيَّة عن الشلمغاني وأشباهه، مضافاً لروايته عن الإمام أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام)(327).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(325) رأي العلماء أنَّ المنفي من علم الغيب عن المخلوق هو علم الغيب الذاتي والمطلق، أمَّا ما كان بإقدار من الله أو بتعليم وما كان نسيبيًّا فهو ممَّا يكون للمخلوق، وذلك ثابت قرآناً بحكم قوله تعالى: ﴿عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (الجنّ: 26 و27)، وقوله تعالى بلسان المسيح: ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ (آل عمران: 49)، وكإنباءات الخضر لموسى، وغير ذلك، وكإخبارات الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن المهدي (عجَّل الله فرجه) وأشراط الساعة، ولذلك قال الإمام عليٌّ (عليه السلام) للذي قال له حين أخبر عن بعض الأحداث: لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عِلْمَ الغَيْبِ: «لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ» (نهج البلاغة: ص 186/ ح 128). وقد أثبتت الدراسات الباراسايكولوجيَّة الموثَّقة - كما سيأتي - إخبارات غيبيَّة نسبيَّة صحيحة لذوي مواهب روحيَّة من عامَّة الناس. فيكون نفي الإمام (عجَّل الله فرجه) هنا ما أثبته الغلاة له من الاستقلال بالعلم، لا بتعليم من الله.
(326) الاحتجاج (ج 2/ ص 288 و289).
(327) تهذيب المقال (ج 2/ ص 410).
وفاة الشيخ ابن روح (رضي الله عنه):
استمرَّت نيابة الشيخ ابن روح للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من سنة (304هـ) أو (305هـ) لدى وفاة أبي جعفر العمري (رحمه الله) حتَّى وفاته في شعبان سنة (326هـ)، أي أكثر من عشرين سنة، هذا عدا السنين التي قضاها لصقاً للشيخ العمري (رحمه الله).
وقد أوصى بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إلى:
النائب الرابع: أبو الحسن عليُّ بن محمّد السمري (رضي الله عنه):
المتوفَّى في النصف من شعبان سنة (329هـ)، قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في (الغيبة): أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اَلنُّعْمَانِ وَالحُسَيْنُ بْنُ عُبَيْدِ اَلله، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ اَلصَّفْوَانِيِّ، قَالَ: أَوْصَى اَلشَّيْخُ أَبُو القَاسِمِ (رضي الله عنه) إِلَى أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ ابْنِ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيِّ (رضي الله عنه)، فَقَامَ بِمَا كَانَ إِلَى أَبِي القَاسِمِ(328).
وروي ذلك مسنداً عن ابي عبد الله محمّد بن خليلان، قال: حدَّثني أبي، عن جدِّه عتاب - من ولد عتاب بن أسيد -، وذكر حديثاً جاء فيه: وَأَوْصَى أَبُو القَاسِمِ إِلَى أَبِي الحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيِّ(329).
ورغم قلَّة الروايات الواردة في الوصيَّة إليه نسبةً لمن تقدَّم من النُّوَّاب الثلاثة السابقين، فإنَّ التسليم بها من قِبَل شيعة أهل البيت (عليهم السلام) قائم من زمنه حتَّى الآن، وما كان ذلك ليكون وفيهم علماء محدِّثون ومتكلِّمون كبار لو لم يكن ثابتاً بصورة لا تقبل الريب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(328) الغيبة للطوسي (ص 394/ ح 363).
(329) كمال الدِّين (ص 432 و433/ باب 42/ ح 12)، الغيبة للطوسي (ص 393 و394/ ح 362).
قال الشيخ الطبرسي (رحمه الله) - وأورد ذلك المجلسي (رحمه الله) عنه -: أَمَّا الأَبْوَابُ اَلمَرْضِيُّونَ وَاَلسُّفَرَاءُ اَلمَمْدُوحُونَ فِي زَمَنِ الغَيْبَةِ، فَأَوَّلُهُمُ اَلشَّيْخُ اَلمَوْثُوقُ بِهِ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ العَمْرِيُّ.
وبعد حديث عن تاريخ نيابته للأئمَّة (عليهم السلام) قال: فَلَمَّا مَضَى لِسَبِيلِهِ قَامَ اِبْنُهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ مَقَامَهُ، وَنَابَ مَنَابَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، فَلَمَّا مَضَى قَامَ بِذَلِكَ أَبُو القَاسِمِ الحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ مِنْ بَنِي نَوْبَخْتَ، فَلَمَّا مَضَى قَامَ مَقَامَهُ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ ابْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيُّ، وَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا بِنَصٍّ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام)، وَنَصْبِ صَاحِبِهِ اَلَّذِي تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَقْبَلِ اَلشِّيعَةُ قَوْلَهُمْ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ آيَةٍ مُعْجِزَةٍ تَظْهَرُ عَلَى يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الأَمْرِ (عليه السلام) تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِمْ وَصِحَّةِ نِيَابَتِهِمْ(330).
بعض كراماته:
وتحدَّث الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن إحدى كراماته، فقال: حَدَّثَنَا أَبُو الحُسَيْنِ صَالِحُ بْنُ شُعَيْبٍ الطَّالَقَانِيُّ (رضي الله عنه) فِي ذِي القَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَضَرْتُ بَغْدَادَ عِنْدَ المَشَايِخِ (رضي الله عنهم)، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيُّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ) ابْتِدَاءً مِنْهُ: (رَحِمَ اللهُ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ القُمِّيَّ)، قَالَ: فَكَتَبَ المَشَايِخُ تَارِيخَ ذَلِكَ اليَوْمِ، فَوَرَدَ الخَبَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ ذَلِكَ اليَوْمِ(331).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(330) بحار الأنوار (ج 51/ ص 362/ ح 9)، عن الاحتجاج (ج 2/ ص 296 و297).
(331) كمال الدِّين (ص 503/ باب 45/ ح 32)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 394/ ح 364)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 269)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 614/ ح 561/9)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1128/ ح 45).
وفي رواية الشيخ الطوسي (رحمه الله) بسنده عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ قُمَّ مِنْهُمْ: عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ اَلصَّفَّارُ، وَقَرِيبُهُ عَلَوِيَّةُ اَلصَّفَّارُ، وَالحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رحمهم الله)، قَالُوا: حَضَرْنَا بَغْدَادَ فِي اَلسَّنَةِ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا أَبِي عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ، وَكَانَ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيُّ (قدّس سرّه) يَسْأَلُنَا كُلَّ قَرِيبٍ عَنْ خَبَرِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ (رحمه الله)، فَنَقُولُ: قَدْ وَرَدَ الكِتَابُ بِاسْتِقْلَالِهِ، حَتَّى كَانَ اليَوْمُ اَلَّذِي قُبِضَ فِيهِ، فَسَأَلَنَا عَنْهُ، فَذَكَرْنَا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ لَنَا: آجَرَكُمُ اَللهُ فِي عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، فَقَدْ قُبِضَ فِي هَذِهِ اَلسَّاعَةِ. قَالُوا: فَأَثْبَتْنَا تَارِيخَ اَلسَّاعَةِ وَاليَوْمِ وَاَلشَّهْرِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْماً أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً وَرَدَ الخَبَرُ أَنَّهُ قُبِضَ فِي تِلْكَ اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي ذَكَرَهَا اَلشَّيْخُ أَبُو الحَسَنِ (قدّس سرّه)(332).
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يُخبِر نائبه السمري بوفاته ويأمره بعدم الوصيَّة لأحد:
روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) قال: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ المُكَتِّبُ، قَالَ: كُنْتُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيُّ (قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ)، فَحَضَرْتُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ، فَأَخْرَجَ إِلَى النَّاسِ تَوْقِيعاً نُسْخَتُهُ:
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُرِيَّ أَعْظَمَ اللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ يَقُومُ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ الغَيْبَةُ الثَّانِيَةُ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الأَمَدِ، وَقَسْوَةِ القُلُوبِ، وَامْتِلَاءِ الأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي المُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ ادَّعَى المُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ السُّفْيَانِيِّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ(333)، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(332) الغيبة للطوسي (ص 395 و396/ ح 366).
(333) في رواية الطوسي والطبرسي والمجلسي (رحمهم الله) عنه: (كذَّاب مفتر).
قَالَ: فَنَسَخْنَا هَذَا التَّوْقِيعَ وَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ السَّادِسُ عُدْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: لِلهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، وَمَضَى (رضي الله عنه)، فَهَذَا آخِرُ كَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ(334).
وكانت وفاته في النصف من شعبان سنة (329هـ)(335)،(336).
مدَّعو الرؤية في الغيبة الكبرى:
ويُثير هذا التوقيع وغيره من الروايات التي يظهر منها نفي رؤيته في الغيبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(334) كمال الدِّين (ص 516/ باب 45/ ح 44)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 395/ ح 365)، والطبرسي (رحمه الله) في إعلام الورى (ج 2/ ص 260)، وابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 603 و604/ ح 551/15)، والراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 3/ ص 1128 و1129/ ح 46)، وأحمد به عليٍّ الطبرسي (رحمه الله) في الاحتجاج (ج 2/ ص 297)، والمجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 360 و361/ ح 7، وج 52/ ص 151/ ح 1).
(335) الغيبة للطوسي (ص 394/ ح 364).
(336) وفي السنة نفسها (329هـ)، وفي الشهر نفسه، تُوفّي الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني صاحب (الكافي في الأُصول والفروع)، وقد عاصر النُّوَّاب الأربعة جميعاً، وفي رواية أُخرى أنَّه تُوفّي سنة (328هـ)، ولكن الأوَّل هو الذي رواه النجاشي (رحمه الله) المتوفَّى سنة (372هـ) في رجاله (ص 377 و378/ الرقم 1026)، والطوسي (رحمه الله) المتوفَّى سنة (460هـ) في رجاله (ص 439/ الرقم 6277/27)، والعلَّامة الحلِّي (رحمه الله) المتوفَّى سنة (676هـ) في الخلاصة (ص 245 و246/ الرقم 37)، ورأى الدكتور حسين محفوظ صحَّته دون الثاني. راجع: مقدَّمة الكافي (ص 40).
وإنَّما أشرنا إلى ذلك لما في معاصرة أمثال الشيخ من العلماء والمحدِّثين الكبار كالنعماني وأبي عليٍّ محمّد بن همَّام وأبي سهل النوبختي والشيخ ابن فرُّوخ الصفَّار وغيرهم من دلالة هامَّة على ما أعطى الله هؤلاء النُّوَّاب فيهم من هم أقلّ بروزاً ومكانةً علميَّة - من صلة حقَّة بالإمام (عجَّل الله فرجه) - جعلت هؤلاء العلماء يُسلِّمون لهم ويأخذون عنهم.
الكبرى إشكالاً حول ما رواه علماء ومحدِّثون كبار عن علماء وأهل معرفة وصلاح من رؤيته والتشرُّف بخدمته (عجَّل الله فرجه)، وهو ما سنتناوله في البحث الثالث التالي عن الغيبة الكبرى وما يتَّصل بها، ثمّ في الجزء الثاني الخاصِّ عن مدَّعي المهدويَّة والبابيَّة إنْ شاء الله تعالى.
* * *
الفصل الثالث: الغيبة الكبرى.. كيف؟ ولماذا؟ وإلى متى؟
تمهيد:
البحث الأوَّل: لماذا لا يكون الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) رجلاً آخر؟
البحث الثاني: ما الحكمة من ذلك؟
البحث الثالث: هل يعني ذلك إمكان المشاهدة؟
تمهيد:
عرفنا - في البحثين الأوَّل والثاني من الفصل الأوَّل - أنَّه قد ثبت بالتواتر - وهو يفيد العلم - لدى المسلمين من أهل السُّنَّة والشيعة أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد بشَّر بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، واسمه (محمّد)، وأنَّه سيخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلِئَت ظلماً وجوراً، وأنَّ المسيح (عليه السلام) سينزل فيُصلِّي خلفه، وأنَّه سيُنصَر بالملائكة، ويكون جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله(337).
ووقفنا في هذين البحثين على ما وراء ذلك - ممَّا اختلفوا فيه - من مسائل تتَّصل به كاسم أبيه، وجدِّه الأعلى، وتاريخ مولده، ومقامه من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وانتهت بنا الأدلَّة والمناقشات إلى أنَّ المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) هذا ليس إلَّا الإمام الثاني عشر من أهل البيت محمّد بن الحسن العسكري (عجَّل الله فرجه)، وهو آخر أوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخلفائه بالمعنى الأخصّ، وهؤلاء هم امتداده في العصمة العلميَّة والعمليَّة طبقاً لما يفيده اتِّساق الأدلَّة في ما بينها من جهة، وفي ما بينها وبين القاعدة العقائديَّة في التوحيد من جهة أُخرى، وخلود الرسالة وشمولها من جهة ثالثة، ثمّ تطابقها مع الواقع التاريخي لهؤلاء الأئمَّة (عليهم السلام) دعوًى وعلماً وعملاً وآثاراً من جهة رابعة(338).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(337) راجع ذلك في (ص 61 وما بعدها).
(338) راجع البحث الأوَّل من الفصل الأوَّل (ص 61 - 92)، والبحث الثاني والثالث من الفصل نفسه. وراجع: الإمام عليٌّ (عليه السلام) الشاهد التالي للرسالة للمؤلِّف (مخطوط).
وقد أثبت أهل الكشف من الصوفيَّة من جهتهم ذلك، كما شرحناه في البحث الثالث من هذا الفصل.
* * *
البحث الأوَّل: لماذا لا يكون الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) رجلاً آخر؟
ولكن لماذا لا يكون المهدي (عجَّل الله فرجه) رجلاً آخر سيُولَد في المستقبل؟
وكيف نتقبَّل غيبته طوال هذه القرون الكثيرة التي تجاوز العمر الطبيعي للإنسان بصورة غير مقبولة علميًّا وواقعيًّا؟
وما وجه الحكمة فيها؟
وهل له ما بين الغيبة إلى الظهور دور بالنسبة إلى أهل الأرض؟
وكيف يمكن أنْ نتصوَّر انتصاره على عالم اليوم بإمكاناته العلميَّة والصناعيَّة وخزينه من الأسلحة الحربيَّة المتطوِّرة؟
والجواب على التساؤل الأوَّل، أعني: لماذا لا يكون المهدي (عجَّل الله فرجه) رجلاً آخر سيُولَد في المستقبل؟ هو: أنَّ الأمر كما شاء الله لا كما يشاء خلقه، و﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: 124).
ولذلك فإنَّ تشخيص المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) بالإمام الثاني عشر بالذات إنَّما رجعنا فيه إلى ما أثبتته الأحاديث المتواترة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأوصياء المعصومين من أهل بيته (عليهم السلام).
على أنَّنا يمكن أنْ نرى أنَّ الأساس في ذلك هو موقع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ليس بوصفه إماماً وخليفةً بالمعنى الأخصّ للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقط، بل بوصفه آخر هؤلاء الخلفاء الأوصياء، ولذلك فهو - بحكم ذلك - صاحب الزمان من أوَّل
عهد إمامته حتَّى قيام الساعة، أي إنَّ هذا الزمان هو زمان إمامته ومسؤوليَّته بما أنَّه آخر أوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولذلك فإنَّ كونه المهدي المنتظَر يصبح مفروضاً.
يتَّضح ذلك أكثر حين نضع أمامنا المقدَّمات المسلَّمة الآتية معطوفاً بعضها على بعض، وهي: أنَّ الثابت في المنقول من الروايات عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) عدم جواز خلوِّ الأرض من حجَّة لله ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً(339).
وذلك يلتقي وما يحكم به العقل أيضاً بحكم (قاعدة اللطف)، ويعنون بها رحمة الله بخلقه لما يعلم من حاجتهم - بوصفهم مكلَّفين - للمعرفة والحجَّة.
ومن أمثلة ذلك بالنسبة لنا أنَّ الله سبحانه شاء أنْ تكون الرسالة الإسلاميَّة خالدة وشاملة، تحقيقاً لما يفرضه التوحيد من وحدة الطاعة أو العبادة، ولكن ذلك غير قائم - بصورته الواقعيَّة - بحكم الاختلاف الموجود بين المذاهب، واختلاف الاجتهادات داخل المذهب الواحد، ولا يمكن أنْ يحسم هذا الاختلاف إلَّا إمام معصوم أو خليفة بالمعنى الأخصّ، ومع واقع ختم النبوَّة بالرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلا نبيَّ بعده، وانتقاله إلى الدار الآخرة، وتحديد الأئمَّة الأوصياء بـ(اثني عشر)، وانتقال أحد عشر منهم إلى الدار الآخرة كذلك، فلم يبقَ إذاً إلَّا أنْ يكون هو الإمام الثاني عشر (محمّد بن الحسن) (عجَّل الله فرجه).
ومع غضِّ النظر عن ذلك، فإنَّنا لا يمكن أنْ نتصوَّر المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(339) راجع: الكافي (ج 1/ ص 178 - 180/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة، وباب أنَّه لو لم يبقَ في الأرض إلَّا رجلان لكان أحدهما الحجَّة)، وكمال الدِّين (ص 201 - 250/باب 21 و22).
بصفاته، ومقامه العظيم، ودوره الكبير كما صوَّرته الأحاديث الصحيحة المتواترة(340) من دون مستوى الخلافة بالمعنى الأخصّ.
ولا يمكن أنْ نتصوَّر أيضاً وجود هذا المستوى وراء العدد المحدَّد بـ(اثني عشر) طبقاً لما دلَّت عليه النصوص الصحيحة.
وإذاً فلم يبقَ إلَّا أنْ يكون المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) الذي بشَّرت به الأحاديث هو نفس الإمام الثاني عشر الذي غاب غيبته الصغرى النسبيَّة من سنة (260هـ) إلى سنة (329هـ)، ثمّ غاب بعدها الغيبة الكبرى التي لا تزال قائمة حتَّى الآن.
وربما كان - وراء ظروف الغيبة الصغرى التي تحدَّثنا عنها - غرض آخر هو التمهيد لتقبُّل الغيبة الكبرى، فإنَّ صورتهما واحدة باستثناء وجود النُّوَّاب الأربعة المعروفين، وما يُعطيه هذا الوجود من الحضور النفسي والعلمي للإمام لدى المؤمنين بحكم إمكان الرجوع إليه لدى الحاجة، وتلقِّي الإجابة بخطِّه كما ذُكِرَ في البحثين الأوَّل والثاني من هذا الفصل.
أمَّا الغيبة الكبرى فإنَّها تعني غلق هذه الصورة للصلة به من جهة الناس لا من جهته (عجَّل الله فرجه).
وفرق آخر هو أنَّ تلك الغيبة كانت ضمن العمر الطبيعي للإنسان، وكانت - وهي نسبيَّة مفهومة ومتعقَّلة من حيث حكمتها - دافعاً وغايةً بخلاف الغيبة الكبرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(340) راجع حول ذلك ما مرَّ في (ص 67 - 69)؛ ومن جملة ما ورد أنْ يُصلِّي المسيح (عليه السلام) خلفه، وهو روح الله ورسول من أُولي العزم، ومن جملتها أنْ يُنصَر بالملائكة، وأنْ يُنادى باسمه، وأنْ يكون جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن شماله.
الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام) يُنذرون بالغيبة الكبرى:
ولذلك تقدَّم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من أوصيائه (عليهم السلام) بالحديث عنها والإنذار بها، وضرب الأمثال لها قبل أنْ يُولَد المهدي (عجَّل الله فرجه) فضلاً عن الغيبة نفسها(341).
وقد قدَّمنا بعض الأمثلة ممَّا روي عن كلِّ واحدٍ منهم في ذلك، لتكون أساساً ومرجعاً لموضوعات بحوث الكتاب المتَّصلة بشؤون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(342).
فمنها ما روي مسنداً عن عمَّار بن ياسر، عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وممَّا جاء فيه قوله: «يَا عَمَّارُ، إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ صُلْبِ الحُسَيْنِ تِسْعَةً، وَاَلتَّاسِعُ مِنْ وُلْدِهِ يَغِيبُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: 30]، يَكُونُ لَهُ غَيْبَةٌ طَوِيلَةٌ يَرْجِعُ عَنْهَا قَوْمٌ وَيَثْبُتُ عَلَيْهَا آخَرُونَ، فَإِذَا كَانَ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ يَخْرُجُ فَيَمْلَأُ اَلدُّنْيَا قِسْطاً وَعَدْلاً، وَيُقَاتِلُ عَلَى اَلتَّأْوِيلِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى اَلتَّنْزِيلِ، وَهُوَ سَمِيِّي، وَأَشْبَهُ اَلنَّاسِ بِي...»(343).
وممَّا روي مسنداً عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عن الإمام الجواد، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) أنَّه قال: «لِلْقَائِمِ مِنَّا غَيْبَةٌ أَمَدُهَا طَوِيلٌ، كَأَنِّي بِالشِّيعَةِ يَجُولُونَ جَوَلَانَ النَّعَمِ فِي غَيْبَتِهِ، يَطْلُبُونَ المَرْعَى فَلَا يَجِدُونَهُ، أَلَا فَمَنْ ثَبَتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(341) راجع ما قاله الشيخ الصدوق (رحمه الله) حول هذه الأحاديث في (ص 103 و104).
(342) راجع (ص 104 - 127)، وما ورد تحت عنوان (الغيبة الصغرى) من البحث الأوَّل من الفصل الثاني. ومن أراد المزيد ممَّا ورد حول ذلك فليراجع: الكافي (ج 1/ ص 333 - 343)، والغيبة للنعماني (ص 143 - 199)، وكمال الدِّين (ص 479 - 482/ باب 44)، والغيبة للطوسي (ص 157 وما بعدها)، وبحار الأنوار (ج 51/ ص 167 - 225).
(343) قد تقدَّم في (ص 105)، فراجع.
مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ وَلَمْ يَقْسُ قَلْبُهُ لِطُولِ أَمَدِ غَيْبَةِ إِمَامِهِ فَهُوَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ»(344).
وممَّا قاله الإمام الحسن (عليه السلام) في ما رواه عنه أبو سعيد عقيصا: «أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَيَقَعُ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ إِلَّا القَائِمُ الَّذِي يُصَلِّي رُوحُ اللهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) خَلْفَهُ، فَإِنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) يُخْفِي وِلَادَتَهُ، وَيُغَيِّبُ شَخْصَهُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا خَرَجَ، ذَلِكَ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِ أَخِي الحُسَيْنِ»(345).
وفي الرواية الثانية عن عبد الرحمن بن سليط، عن الإمام الحسين (عليه السلام) قال - وهو يتحدَّث عن الأئمَّة الاثني عشر -: «وَآخِرُهُمُ التَّاسِعُ مِنْ وُلْدِي، وَهُوَ الإِمَامُ القَائِمُ بِالحَقِّ، يُحْيِي اللهُ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَيُظْهِرُ بِهِ دِيْنَ الحَقِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ، لَهُ غَيْبَةٌ يَرْتَدُّ فِيهَا أَقْوَامٌ وَيَثْبُتُ فِيهَا عَلَى الدِّينِ آخَرُونَ، فَيُؤْذَوْنَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: ﴿مَتَى هَذَا الوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: 48]، أَمَا إِنَّ الصَّابِرَ فِي غَيْبَتِهِ عَلَى الأَذَى وَالتَّكْذِيبِ بِمَنْزِلَةِ المُجَاهِدِ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(346).
تشير الروايتان الأُولى والثانية عن عليٍّ زين العابدين (عليه السلام)، والروايات الأربع عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) لذلك، وتذكر ما جرى فيه من سُنَن المرسَلين(347).
ومثل ذلك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الروايات الأُولى والثانية والثالثة والرابعة، وقال في الخامسة: «يَغِيبُ غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا المُبْطِلُونَ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(344) كمال الدِّين (ص 303/ باب 26/ ح 14).
(345) قد تقدَّم في (ص 107)، فراجع.
(346) قد تقدَّم في (ص 108)، فراجع.
(347) راجع ما تقدَّم في (ص 108 - 111).
اللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَيَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدِهِ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيَنْزِلُ رُوحُ اللهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، وَتُشْرِقُ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَلَا تَبْقَى فِي الأَرْضِ بُقْعَةٌ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللهِ (عزَّ وجلَّ) إِلَّا عُبِدَ اللهُ فِيهَا، وَيَكُونُ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ»(348).
ولا تختلف الروايات الواردة عن الإمام الكاظم والرضا والجواد والهادي والحسن العسكري (عليهم السلام) عن هذه الروايات في الإشارة إلى هذه الغيبة، وما يحدث فيها من حيرة وزلزلة في إيمان بعضهم، يقول الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في الرواية الأُولى: «أَمَا إِنَّ لَهُ غَيْبَةً يَحَارُ فِيهَا الجَاهِلُونَ، وَيَهْلِكُ فِيهَا المُبْطِلُونَ، وَيَكْذِبُ فِيهَا الوَقَّاتُونَ، ثُمَّ يَخْرُجُ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الأَعْلَامِ البِيضِ تَخْفِقُ فَوْقَ رَأْسِهِ بِنَجَفِ الكُوفَةِ»(349).
وورد في آخر توقيع تلقَّاه الشيخ عليُّ بن محمّد السمري (رحمه الله) من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): «فَقَدْ وَقَعَتِ الغَيْبَةُ الثَّانِيَةُ (وفي رواية الطوسي والطبرسي (رحمهما الله): اَلتَّامَّةُ)، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الأَمَدِ، وَقَسْوَةِ القُلُوبِ»(350).
أمَّا التساؤل حول:
طول العمر بصورة غير مألوفة:
فهو أمر لا يُثير إشكالاً إلَّا حين يُنظَر إليه بالقياسات الطبيعيَّة والعاديَّة لا في إطار المشيئة والقدرة الإلهيَّة التي لا تحكمها قوانين هي في الأصل لا تقوم إلَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(348) قد تقدَّم في (ص 113 و114)، فراجع.
(349) قد تقدَّم في (ص 123 و124)، فراجع.
(350) قد تقدَّم في (ص 206)، فراجع.
بها. وكما تُخرَق هذه القوانين في معاجز الأنبياء (عليهم السلام) بوصفها برهاناً على سفارتهم عن الله، وفي معاجز الأئمَّة بوصفها دليلاً على كونهم امتداداً عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّها يمكن أنْ تُخرَق هنا بعد أنْ قامت الأدلَّة الثابتة على كون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو الإمام الثاني عشر عينه، وتحدَّثت عن غيبته هذه وتلك، وما يحدث من هذه التساؤلات قبل أنْ تكون بما يجاوز القرنين والنصف في البعض، والقرنين في البعض الأخر، وأدنى من ذلك في البعض الثالث.
هذا إنْ كانت قضيَّة طول العمر بهذا المدى أو بغيره خارجة عن القوانين الطبيعيَّة أساساً(351).
إنَّ إيماننا - بوصفنا مسلمين - بإحياء الموتى لإبراهيم وعيسى (عليهما السلام)، وبإماتة عزير وحماره ثمّ إحياؤهما، وانفلاق البحر لموسى (عليه السلام)، وانقلاب عصاه ثعباناً حقيقيًّا، وأمثال ذلك لا يُستوحى عادةً من قانون طبيعي أو منطق علمي بما أنَّه لا مجال لها حتَّى الآن أنْ ترى غير استحالة ذلك، وإنَّما يُستوحى في كلِّ ذلك إيماننا بصدق الوحي الإلهي والإخبار النبوي من جهة، ووضع هذه الوقائع في نطاق المشيئة والقدرة الإلهيَّة المقوَّمين لوجود الخلق وقوانينه جميعاً من جهة أُخرى، ولذلك فلا محلَّ لهذا الإشكال.
وربَّما بهذا اللحاظ ضرب الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) أمثلة لذلك من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(351) ذكرت مجلَّة المقتطف (م 58/ ج 3/ ص 238 - 240) أنَّ جماعة من العلماء أمثال الدكتور الكسيس كارل، والدكتور جاك لوب، والدكتور ورن لويس وزوجته قاموا بإجراء عدَّة تجارب في معهد روكفلر بنيويورك على أجزاء لأنواع مختلفة من النبات والحيوان والإنسان، وكان من بين تلكم التجارب ما أُجري على قِطَع من أعضاء الإنسان وعضلاته وقلبه وجلده وكليتيه، فرأوا أنَّ هذه الأجزاء تبقى حيَّة نامية ما دام الغذاء اللازم موفَّراً لها، ولم يعرض لها عارض خارجي، وأنَّ خلاياها تنمو وتتكاثر ولا تشيخ أبداً، وإذاً فلا توجد حتمية الموت بالأعمار المعتادة. راجع: في انتظار الإمام (ص 50).
تاريخ الأنبياء والأولياء خاصَّة، إدراكاً منهم لعدم وجود ما يمكن القياس عليه في الحياة العاديَّة ممَّا يجعل استيعابه وتحمُّله صعباً حين يُنظَر إليه ضمن الأُطُر الطبيعيَّة والعاديَّة، ولذلك ففي الوقت الذي تقدَّموا فيه بالإخبار عن هذه الغيبة الطويلة بدءاً من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتَّى الحسن العسكري (عليه السلام) لإعطائها موقعها ضمن مخطَّط المشيئة الإلهيَّة للرسالة في آخر شهودها من الأوصياء (عليهم السلام)، ضربوا الأمثال بما هو معروف ومسلَّم في تاريخ بعض الأنبياء والأولياء لتوضع في الإطار نفسه، فإذا كان ما يشبه ذلك قد كان في واقع سابق - حين شاءه الله - فإنَّ هذا أيضاً كذلك.
روى الصدوق بسنده عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام)، عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قَالَ: «عَاشَ أَبُو البَشَرِ آدَمُ (عليه السلام) تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ نُوحٌ (عليه السلام) الفَيْ سَنَةٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً...» الرواية(352).
وبسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَيِّدَ العَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ (عليهما السلام) يَقُولُ: «فِي القَائِمِ سُنَّةٌ مِنْ نُوحٍ، وَهُوَ طُولُ العُمُرِ»(353).
وممَّا جاء عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في الرواية السادسة عنه - وهو يتحدَّث عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) -، قال: «قَدَّرَ مَوْلِدَهُ تَقْدِيرَ مَوْلِدِ مُوسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ غَيْبَتَهُ تَقْدِيرَ غَيْبَةِ عِيسَى (عليه السلام)، وَقَدَّرَ إِبْطَاءَهُ تَقْدِيرَ إِبْطَاءِ نُوحٍ (عليه السلام) (يعني من حيث النصر والفرج)، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عُمُرَ العَبْدِ الصَّالِحِ - أَعْنِي الخَضِرَ (عليه السلام) -».
وبعد أنْ تحدَّث عمَّا قصد إليه من التقدير في الأوَّلين قال: «وَأَمَّا العَبْدُ الصَّالِحُ - أَعْنِي الخَضِرَ (عليه السلام) - فَإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَا طَوَّلَ عُمُرَهُ لِنُبُوَّةٍ قَدَّرَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(352) كمال الدِّين (ص 523 و524/ باب 46/ ح 3).
(353) كمال الدِّين (ص 322/ باب 31/ ح 4).
لَهُ، وَلَا لِكِتَابٍ يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِ، وَلَا لِشَرِيعَةٍ يَنْسَخُ بِهَا شَرِيعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وَلَا لِإِمَامَةٍ يُلْزِمُ عِبَادَهُ الِاقْتِدَاءَ بِهَا، وَلَا لِطَاعَةٍ يَفْرِضُهَا لَهُ، بَلَى إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَـمَّا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنْ يُقَدِّرَ مِنْ عُمُرِ القَائِمِ (عليه السلام) فِي أَيَّامِ غَيْبَتِهِ مَا يُقَدِّرُ، وَعَلِمَ مَا يَكُونُ مِنْ إِنْكَارِ عِبَادِهِ بِمِقْدَارِ ذَلِكَ العُمُرِ فِي الطُّولِ، طَوَّلَ عُمُرَ العَبْدِ الصَّالِحِ فِي غَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ إِلَّا لِعِلَّةِ الاِسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى عُمُرِ القَائِمِ (عليه السلام)، وَلِيَقْطَعَ بِذَلِكَ حُجَّةَ المُعَانِدِينَ»(354).
ولم يجد من كتب في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وتناول غيبته الطويلة ما يُقدِّمه في ذلك عدا تقديم المزيد من الأمثلة للمعمَّرين، كما جاء في أخبار أهل البيت (عليهم السلام)، أو في كُتُب العهدين، أو لدى أرباب السِّيَر.
وقد عقد الصدوق (رحمه الله) المتوفَّى سنة (381هـ) باباً هو الباب الخمسون من (كمال الدِّين وتمام النعمة) ذكر فيه ما جاء في التعمير والمعمَّرين، ثمّ ذكر في الأبواب (51) و(52) و(53) و(54) و(55) و(56) و(57) قَصصاً كثيرة لمعمَّرين جاوزوا الحدود الطبيعيَّة والعاديَّة في أعمارهم.
وقال: (فمتى صحَّ التعمير لمن تقدَّم عصرنا، وصحَّ الخبر بأنَّ السُّنَّة جارية بذلك في القائم (عليه السلام) الثاني عشر من الأئمَّة (عليهم السلام)، لم يجز إلَّا أنْ يعتقد أنَّه لو بقي في غيبته ما بقي لم يكن القائم غيره)(355).
ومثل ذلك فعل الشيخ الطوسي (رحمه الله)، فقد ذكر الإشكال بطول العمر وكونه - بزعم المخالف - خارقاً للعادة، فكيف انتقضت فيه ولا يجوز انتقاضها إلَّا على يد الأنبياء (عليهم السلام)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(354) قد تقدَّم في (ص 114 - 116)، فراجع.
(355) كمال الدِّين (ص 577).
وأجاب بوجهين:
أحدهما: عدم التسليم بكون ذلك خارقاً لجميع العادات، بل العادات في ما تقدَّم جرت بمثلها، وذكر أمثلة كالخضر وأصحاب الكهف ونوح الذي لبث يدعو قومه ألف سنة إلَّا خمسين عاماً، عدا ما ذكرته الأخبار وأهل السِّيَر من أنَّه عاش قبل الدعوة وبعد الطوفان عمراً طويلاً مضافاً.
وقال: (فإنْ كان المخالف لنا مَنْ يحيل ذلك (يعني العمر الطويل) من المنجِّمين وأصحاب الطبائع (يقصد أنَّهم لا يؤمنون بمشيئة الخالق)، فالكلام معهم في أصل هذه المسألة، وأنَّ العالم مصنوع وله صانع أجرى العادة بقصر الأعمار وطولها، وأنَّه قادر على إطالتها وعلى إفنائها، فإذا بُيِّن ذلك سهل الكلام. وإنْ كان المخالف في ذلك مَنْ يُسلِّم ذلك غير أنَّه يقول: هذا خارج عن العادات، فقد بيَّنَّا أنَّه ليس بخارج عن جميع العادات. ومتى قالوا: خارج عن عاداتنا، قلنا: وما المانع منه؟ فإنْ قيل: ذلك لا يجوز إلَّا في زمن الأنبياء، قلنا: نحن ننازع في ذلك، وعندنا يجوز خرق العادات على يد الأنبياء والأئمَّة والصالحين، وأكثر أصحاب الحديث يُجوِّزون ذلك، وكثير من المعتزلة والحشويَّة، وإنْ سمُّوا ذلك كرامات، كان ذلك خلافاً في عبارة)(356).
وساق الشيخ المجلسي (رحمه الله) ما ملأ (68) صفحة في الحديث عن المعمَّرين، وقال في آخره - ومعه في ذلك الحقُّ -: (وإنَّما أطلت في ذلك مع قلَّة الجدوى تبعاً للأصحاب، ولئلَّا يُقال: هذا كتاب عار عن فوائدهم)(357).
وسلك هذا السبيل عدد من علماء أهل السُّنَّة الذين يؤمنون بأنَّ المهدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(356) الغيبة للطوسي (ص 125 و126).
(357) بحار الأنوار (ج 51/ ص 225 - 293/ باب 14).
هو محمّد بن الحسن العسكري (عجَّل الله فرجه)، ومنهم: سبط ابن الجوزي الحنفي، فقد ساق ما ذُكِرَ في التوراة، وما رواه محمّد بن إسحاق ممَّن عمَّروا أعماراً طويلة(358).
ومنهم: الحافظ محمّد بن يوسف الكنجي القرشي الشافعي، فقد قال - وهو يتناول هذه المسألة -: إنَّه (لا امتناع في بقائه، بدليل بقاء عيسى وإلياس والخضر من أولياء الله تعالى، وبقاء الدجَّال وإبليس الملعونين).
قال: (وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسُّنَّة، وقد اتَّفقوا عليه، ثمّ أنكروا جواز بقاء المهدي، وها أنا أُبيِّن بقاء كلِّ واحدٍ منهم).
ثمّ قال: (أمَّا عيسى (عليه السلام) فالدليل على بقائه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ [النساء: 159]).
وذكر ما مضمونه أنَّ ذلك لم يتحقَّق منذ نزول الآية إلى يومنا هذا، فلا يكون إلَّا في آخر الزمان.
واستدلَّ أهل السُّنَّة بما رواه مسلم في صحيحه بإسناده عن النواس بن سمعان في حديث طويل عن الدجَّال قال فيه: «إِذْ بَعَثَ اللهُ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ المَنَارَةِ البَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعاً يَدَهُ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ»(359).
واستدلَّ على بقاء عيسى (عليه السلام) بما روته الصحاح والمسانيد، ومنها قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ؟»(360).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(358) تذكرة الخواصِّ (ص 325 و326).
(359) صحيح مسلم (ج 8/ ص 197 و198).
(360) صحيح البخاري (ج 5/ ص 401/ باب نزول عيسى بن مريم (عليهما السلام)/ ح 3087)، صحيح مسلم (ج 1/ ص 94/ باب بيان نزول عيسى بن مريم (عليه السلام)).
وقال: (أمَّا الخضر وإلياس، فقد قال ابن جرير الطبري: الخضر وإلياس باقيان يسيران في الأرض).
وساق حديثاً رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يَوْماً حَدِيثاً طَوِيلاً عَنْ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا قَالَ: «يَأْتِي وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ المَدِينَةِ، فَيَنْتَهِي إِلَى بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي المَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ - أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ -، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، أَتَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا»، قَالَ: «فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ (أي الرجل المقتول والمحيا) حِينَ يُحْيِيهِ: وَالله مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الآنَ»، قَالَ: «فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلَا يُسُلَّطُ عَلَيْهِ»(361).
قال: (قال أبو إسحاق - وهو أبو إبراهيم محمّد بن سعد -: يقال: إنَّ هذا الرجل هو الخضر).
واستدلَّ على بقاء الدجَّال بحديث رواه مسلم في صحيحه وقال: (إنَّه بهذه الصفة لم يخرج لحدِّ الآن).
وذكر أنَّ الدليل على بقاء إبليس اللعين آي الكتاب نحو قوله: ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ﴾ (الأعراف: 14 و15).
(أمَّا بقاء المهدي (عليه السلام) فقد جاء في الكتاب والسُّنَّة:
أمَّا الكتاب، فقد قال سعيد بن جبير في تفسير قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33]: هو المهدي من عترة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(361) صحيح مسلم (ج 8/ ص 199)؛ ورواه البخاري في صحيحه (ج 3/ ص 280 و281/ ح 1695).
فاطمة (عليها السلام)، وأمَّا من قال: إنَّه عيسى (عليه السلام) فلا تنافي بين القولين، إذ هو مساعد للإمام على ما تقدَّم. وقد قال مقاتل بن سليمان ومن شايعه من المفسِّرين في تفسير قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ (الزخرف: 61): هو المهدي (عليه السلام) يكون في آخر الزمان، وبعد خروجه يكون قيام الساعة وإماراتها(362)).
قال: (فما المانع من بقاء المهدي (عليه السلام) مع كون بقائه باختيار الله تعالى، وداخل تحت مقدوره سبحانه، وهو آية الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟).
ثمّ ذكر حكمة بقاء عيسى (عليه السلام) والدجَّال، وقال: (فعلى هذا هو (يعني المهدي (عجَّل الله فرجه)) أولى بالبقاء من الاثنين الآخرين، لأنَّه الداعي إلى الملَّة المحمّديَّة التي هو إمام فيها، وأمَّا عيسى فمصدِّق له وسبب لإيمان أهل الكتاب، أمَّا الدجَّال فلاختبار العباد وامتحانهم).
قال: (فصار بقاء الإمام المهدي (عليه السلام) أصلاً وبقاء الاثنين فرعاً على بقائه، فكيف يصحُّ بقاء الفرعين وعدم بقاء الأصل؟).
وذكر إشكالاً تافهاً لا أصل له ردَّده المشكِّكون، وهو امتناع بقائه في السرداب من دون أنْ يقوم أحد بطعامه وشرابه، وأجاب (أنَّ الله الذي أحيا المسيح في السماء، وأبقى الدجَّال مقيَّداً حيًّا يمكن أنْ يتكفَّل له بذلك بما شاء، فقدرته وخزائنه لا تضيق عن ذلك)(363).
والصحيح في الإجابة: أنَّ البقاء في السرداب لا أصل له، ولا يوجد في شيء من الأخبار الواردة في المصادر التي تتحدَّث عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته، ولو افترضنا صحَّة أنْ يكون قد دخل بيته (عجَّل الله فرجه) الذي هو في موضع هذا السرداب ولم يُرَ بعدئذٍ، فلا يعني ذلك بقاؤه ومكثه فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(362) ستأتي آيات أُخرى في الفصل الرابع/ البحث الثاني.
(363) البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 521 - 532) بتصرُّف واختصار.
وما نُسِجَ حول ذلك من أساطير(364)، ونُظِمَ من شعر ساخر بناءً عليه، لا يجد أساساً حتَّى ولو كان واهياً تبرأ فيه ذمَّة صاحبه العلميَّة وأمام الله، بل هو محض افتراء، وقد أشارت روايات أهل البيت (عليهم السلام) من قبل إلى ما يتعرَّض له المؤمنون من أذى في ذلك(365).
وربَّما كان الأساس في هذا الافتراء زيارة المؤمنين لدار الإمام (عجَّل الله فرجه) ودعاؤهم بتعجيل الظهور ممَّا هو مستمرٌّ حتَّى الآن، وهو ما لا علاقة له بالفرية.
وقد تناول العلَّامة الحجَّة السيِّد محسن الأمين (رحمه الله) هذه الفرية وردَّ عليها في قصيدته التي مثَّلت هي وشرحها قوام كتابه (البرهان)، فقال:
لنا نسبوا شيئاً ولسنا نقوله * * * وعابوا بما لم يجرِ منَّا له ذكرُ
بأنْ غاب في السرداب صاحب عصرنا * * * وأمسى مقيماً فيه ما بقى الدهرُ
ويخرج منه حين يأذن ربُّه * * * بذلك لا يعروه خوف ولا ذعرُ
أبينوا لنا من قال منَّا بهذه * * * وهل ضمَّ هذا القول من كُتُبنا سفرُ
وإلَّا فأنتم ظالمون لنا بما * * * نسبتم وإنْ تأبوا فموعدنا الحشرُ(366)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(364) زعموا أنَّ شيعة أهل البيت (عليهم السلام) يقفون كلَّ صباح إلى الليل بخيولهم على باب ذلك السرداب منادين: اُخرج يا مولانا. قال ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة (ص 168): (لقد صاروا بذلك وبوقوفهم بالخيل على ذلك السرداب وصياحهم بأنْ يخرج إليهم ضحكة لأُولي الألباب. ولقد أحسن القائل:
ما آن للسرداب أنْ يلد * * * الذي كلَّمتموه وبجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاء فإنَّكم * * * ثلَّثتم العنقاء والغيلانا
(365) راجع ما ورد عن الإمام الحسين (عليه السلام) في (ص 107 و108)، وما ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) في (ص 120 و121).
(366) البرهان على وجود صاحب الزمان (ص 31).
وخاتمة القول في القضيَّة ما ذكرناه في صدر حديثنا عنها، من أنَّ ذكر الأمثال من أصحاب الأعمار الطويلة لا يُعطي أكثر من وقوع ذلك بالنسبة لأشخاص عدا الإمام (عجَّل الله فرجه)، لنفي استبعاد بعض الناس - لما لم يقع تاريخيًّا - حتَّى ولو قام عليه البرهان عقلاً ونقلاً، وإلَّا فلا علاقة ولا تلازم بين ذلك وبين وقوعه للإمام (عجَّل الله فرجه)، والصحيح هو الرجوع إلى ما هو الأساس في ذلك، وهو ثبوته بالنصوص المتواترة عن المعصومين (عليهم السلام) من جهة، وأنَّه واقع تحت القدرة والمشيئة الإلهيَّة من جهة ثانية.
على أنَّ مصدر العلم بما وقع من الأمثال هو المصدر الذي ترجع إليه قضيَّة الإمام (عجَّل الله فرجه) كما ذكرنا، وهذه النصوص وما ورد في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أكثر ممَّا ورد في بعض هذه من حيث دلالته والقطع بصدوره بحكم تواتره وبحكم الملازمة بين خلود الرسالة الإسلاميَّة وبقاء شاهدها آخر الأوصياء (عليهم السلام)، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث الثقلين: «وَأَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ»(367)، لا في المفاهيم والأحكام فقط، بل في الوجود أيضاً، وهو ما يُثبِته بقاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
قال المحدِّث أحمد بن حجر الهيتمي المكّي المتوفَّى سنة (974هـ): (في أحاديث الحثِّ على التمسُّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهِّل منهم للتمسُّك به إلى يوم القيامة، كما أنَّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، ويشهد لذلك الخبر السابق: «فِي كُلِّ خَلَفٍ مِنْ أُمَّتِي عُدُولٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي»)(368). بقية الحديث: «يَنْفُونَ عَنْ هَذَا اَلدِّينِ تَحْرِيفَ اَلضَّالِّينَ، وَاِنْتِحَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(367) قد تقدَّم في (ص 87 و88)، فراجع.
(368) الصواعق المحرقة (ص 151).
اَلمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الجَاهِلِينَ، أَلَا وَإِنَّ أَئِمَّتَكُمْ وَفْدُكُمْ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) فَانْظُرُوا مَنْ تُوْفِدُونَ»(369).
وخاتمة القول: إنَّ الأمثلة - في ما عدا ما هو ثابت في الكتاب أو السُّنَّة أو الواقع - لا مجال للقياس عليها، لعدم وجود ما يُثبِتها. على أنَّ القياس إنَّما يحتاجه في مسألة كهذه - ترتبط بالإرادة الإلهيَّة - مَنْ لا يستطيع أنْ يؤمن أو يطمئنَّ بقضيَّة إلَّا إذا كان قد وجد نظيرها في الواقع، وهو خلاف المفروض في أمر قام الدليل القطعي عليه وُجِدَ النظير والمماثل أو لم يُوجَد.
ولذلك فالأساس - في الإيمان بالغيبة الكبرى وحياة الإمام (عجَّل الله فرجه) وبقائه حجَّة لله في الأرض - ما شاءه الله، وهو ما ذكرناه في بداية الحديث.
أمَّا التساؤل عن الحكمة من ذلك، فهو موضوع البحث التالي.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(369) الصواعق المحرقة (ص 150).
البحث الثاني: ما الحكمة من ذلك؟
إذا كان المقصود بالسؤال عن الحكمة في أنْ يكون للعالم مهدي منتظَر أصلاً، وهو ما يقوله بعضهم، مع ما يحتفظ به من تراث الرسالات السماويَّة، بما فيها رسالة خاتم الأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما بيَّنه - ضمن آفاقها - أوصياؤه الاثنا عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، ومع ما وصل إليه بحث الإنسان ونظره وتجاربه من انجازات فكريَّة وعلميَّة وتقنيَّة.
فالجواب:
أوَّلاً: أنْ نسأل عمَّا إذا كان ذلك كلُّه قد أنهى مشكلة الإنسانيَّة، وما عانته وتعانيه على امتداد تاريخها من انحرافات فكريَّة، وفساد أخلاقي، ومن اختلافات، وحروب وظلم بكلِّ ما يقع تحت هذا العنوان من عناوين وممارسات، وحين يكون الجواب - كما يمليه الواقع - في كلِّ أقطار الأرض وتحت كلِّ قوانين أهلها: لا.
وحين لا نأمل أنْ نرى وضعاً مختلفاً في المستقبل مهما طال، فإنَّ الحكمة في ظهور المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) تصبح مفهومة.
ثانياً: أنَّنا مع الاعتراف بما حصلت عليه البشريَّة من تقدُّم في الاتِّجاه المشار إليه، فإنَّ قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 85)، سيظل حقيقة مطلقة بالنسبة للإنسان، أي إنَّه سيبقى جاهلاً مهما حصل من العلم(370).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(370) ممَّا ورد في مناجاة الإمام الحسين (عليه السلام) في عرفة قوله: «إِلَهِي أَنَا الفَقِيرُ فِي غِنَايَ، فَكَيْفَ لَا أَكُونُ فَقِيراً فِي فَقْرِي؟ إِلَهِي أَنَا الجَاهِلُ فِي عِلْمِي، فَكَيْفَ لَا أَكُونُ جَهُولاً فِي جَهْلِي؟» (إقبال الأعمال: ص 348).
وقد تحقَّق العلماء من ذلك بالفعل، واعترفوا به(371) بعد ادِّعاءات عريضة.
وإذا كان لا مجال لأنْ تغنى البشريَّة بحال عن هدى إلهي بحجَّة لله موصول به علماً، بحكم ما يُميِّزه به ابتداءً من رتبة وجوديَّة سامية من حيث المبدأ والمعاد، فإنَّ الحكمة في الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) تصبح مفهومة كذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(371) لمجرَّد المثال لهذا الاعتراف نذكر ما قاله بول ديغز أُستاذ الفيزياء التحليليَّة في جامعة نيوكاسل، وما قاله ديفيد بوم زميل أنشتاين الذي قال - وهو يثني عليه -: إنَّه لم يكن يفهم نظريَّة الكمِّ قبل قراءته لبوم.
يقول الأوَّل: (قد نستطيع أنْ نخدش سطح الواقع، ولكنَّنا نترك على الدوام أعماقاً غير مكتشفة من الأسرار، إنَّ مدى رؤيتنا أضيق من أنْ نتمكَّن من التعامل مع قضايا عميقة في المعنى والهدف). (القوى العظمى لبول ديغز: ص 233/ كتاب علوم المترجَّم 10).
ويقول فيزيائيُّو نظريَّة الكمِّ: إنَّ تطبيقها تُؤدِّي إلى أُمور مذهلة، منها: أنَّ كمّيَّة الطاقة في سنتمتر مكعَّب واحد من المكان الخالي أعظم بكثير من المجموع الكلِّي للطاقة في كلِّ المادَّة التي يحتويها الكون المعروف (والذي يضمُّ 100 مليار مجرَّة أصغر مجرَّة فيها كمجرَّتنا تضمُّ 100 مليار نجم عدا ما معها من كواكب). قالوا: وهذا يعني أنَّ المكان الخالي ليس بخالٍ البتَّة، بل هو بحر هائل من الطاقة، وفوق قمَّته تبدو المادَّة التي تعرف تهيُّجاً كمّيًّا صغيراً أشبه بالموجة وأقرب ما يكون إلى نبضة ضئيلة. ويعتقد ديفيد بوم أنَّ الفيزيائيُّين المعاصرين يُنكِرون هذه الخلفيَّة الهائلة من الطاقة لأنَّهم مهتمُّون بالمادَّة وحدها، وهم في هذا كمن يطيل النظر إلى شقٍّ في جدار حتَّى يكاد ينسى أنَّ هناك جداراً يحتوي هذا الشقَّ. (الكون المرآة لجون ب. بريجز: ص 95/ كتاب علوم المترجَم 4).
أمَّا ما كشفته دراسات الباراسايكولوجيا من بقاء الروح بعد الموت، وإمكانات الرؤية والاتِّصال بها، ثمّ قواها لدى الأحياء في الرؤية عن بُعد، وقراءة الأفكار والاستبصار، فقد أدارت رؤوس العلماء بالفعل، ولم يجدوا لها تفسيراً، واعترفوا بالجهل. لقد أصبحت هذه الظواهر تُدرَّس في جامعات أمريكا وأوروبا، وتُمنَح فيها درجة الماجستير والدكتوراه.
إنَّ عصر وصول الإنسان - من السعة في العلم - إلى الدرجة التي يكتشف فيها جهله إزاء أسرار الكون القائمة بخالقها سعةً وعمقاً وتعقيداً هو العصر المؤهَّل لظهور المهدي (عجَّل الله فرجه) استلهاماً لقوله سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الأَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ﴾ (فُصِّلت: 53).
وهو - كما يبدو لي - بعض أسباب هذه الغيبة الطويلة.
إنَّ لانقياد العلماء من الشأن - عند الناس - ما كان لانقياد سحرة فرعون من الأثر، أمَّا ما وراؤهم من الناس فليسوا إلَّا تبعاً، وذلك - لو حصل - من أهمّ أسرار النصر الشامل لدى الظهور مضافاً لما يحمله الإمام (عجَّل الله فرجه) من علم يخضع فيه له أمثال هؤلاء العلماء.
أمَّا إذا كان السؤال عن الحكمة قد قُصِدَ به الحكمة في أنْ يكون هذا المهدي المنتظَر - بدوره المستقبلي العظيم المعروف كما صوَّرته الروايات - هو الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) نفسه من دون غيره ممَّن يمكن أنْ يُولَد في المستقبل كما هو في النظريَّة الأُخرى، فقد تقدَّمت الإجابة عنه في السؤال الأوَّل الذي جاء بهذه الصيغة نفسها، ولا حاجة لإعادة ذلك.
وإذا تمَّت تلك الإجابة، وهي في الحقيقة ليست إلَّا تفسيراً لما وردت به الأحاديث المتواترة عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام) من كون المهدي المنتظَر هو الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) نفسه لا غيره، فإنَّ بقاءه حتَّى القيام بذلك الدور يكون مفروضاً، ولا معنى للسؤال عن الكيفيَّة في ما هو شأن ومشيئة إلهيَّة.
وإذا قُصِدَ بالسؤال عن الحكمة الحكمة في الغيبة أصلاً، أو بهذا الطول، فالجواب - كما قدَّمناه في الغيبة الصغرى - هو التقيَّة بمعنى معاداة الظرف للإمام (عجَّل الله فرجه) ليس بوصفه شخصاً كما هو في الغيبة الصغرى، بل بوصفه صاحب
رسالة. وإذا كانت الظروف اللَّاحقة - في علم الله، بل وبملاحظة ما أشرنا إليه بالتحليل الموضوعي - لا تختلف بشيء، فإنَّ الغيبة يجب أنْ تقع، وأنْ تستمرَّ هذه المدَّة.
فالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) نفسه قد قضى بين الناس في غيبته النسبيَّة الصغرى ما يعادل عمراً بشريًّا طبيعيًّا من دون أنْ يبلغ ضمن الظروف شيئاً قياساً بما قدَّره الله له ووعده به بعد الغيبة الكبرى.
إنَّ استمرار الغيبة وطولها من دون تقدير لمدى محدَّد أو وقت معلوم من قِبَل المعصومين (عليهم السلام) يفرضه انتظار أنْ يتمخَّض مسار العالم وتطوُّره عن الظرف المؤهَّل لاستقبال الإمام (عجَّل الله فرجه).
ومن المعروف أنَّ عوامل تقدير الظرف وحصوله تدخل فيه أسباب، منها الاختيارات الإنسانيَّة - في ما هو سلب وما هو إيجاب - وفي طول العالم وعرضه، ولذلك فإنَّ من الممكن أنْ يتقدَّم أو يتأخَّر طبقاً لما يحدث من بداءات(372).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(372) أنكر بعض المسلمين البداء وشنَّعوا على شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وهم إنَّما يتَّبعون في ذلك ما ورد عنهم (عليهم السلام)، وسبب هذا الإنكار عدم معرفة ما يُقصَد بالبداء، وتصوُّرهم أنَّ البداء - وهو العدول عمَّا أُريد من تقدير سابق إلى غيره - لا يكون إلَّا عن جهل بما اقتضى هذا العدول من أسباب أو عن ندم حدث بعد ذلك لأيِّ سبب، وذلك ممَّا يستحيل على الله سبحانه.
والحقيقة أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم تبعاً لهم كغيرهم من المسلمين في الاعتقاد باستحالة البداء بهذا المعنى على الله سبحانه وتكفير من يذهب إليه، والأحاديث في ذلك كثيرة عنهم، راجع: الكافي (ج 1/ ص 146 - 149/ باب البداء)، وبحار الأنوار (ج 4/ ص 92 - 134/ باب البداء والنسخ)، ولكنَّهم مع ذلك يقولون بالبداء، فكيف يمكن أنْ نفهم ذلك؟ ←
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
→ إنَّ الأساس الخطأ لدى مخالفي أهل البيت (عليهم السلام) في المسألة قياس فعل الخالق على المخلوق، فما يلزم منه الجهل أو الندامة من البداء إنَّما هو بداء الفاعل بمباشرة كالإنسان، لا الفاعل بما خلق من الأسباب أو بالقوانين الطبيعيَّة المخلوقة كما هو بالنسبة إلى الله سبحانه.
إنَّ الله سبحانه خلق العالم محكوماً بقوانين تُمثِّل في وجودها وآثارها إرادته فيه ابتداءً في ما هو سلب وما هو إيجاب، ولـمَّا كان من جملة هذه القوانين ما هو مقتضٍ ومنها ما هو مانع، ولـمَّا كانت تُشكِّل وحدة مترابطة ومتفاعلة، وكان منها ما هو واقع تحت الخيار الإنسان، فإنَّ من الطبيعي أنْ يحدث من خلال هذه العلاقة المحو والإثبات دائماً، فإذا وُجِدَ تقدير كانت مقتضياته من هذه الأسباب موجودة ثمّ تغيَّر لوجود الموانع من الأسباب الأُخرى، سمَّينا ذلك بداءً، وإنَّما نسبناه إلى الله سبحانه لأنَّ الأسباب وآثارها من خلقه وتُمثِّل إرادته، أي البداء هو نفس ما جاء في قوله تعالى: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ﴾ (الرعد: 39)، وأنَّ ذلك إنَّما يكون بما خلقه الله وقدَّره من الأسباب لدى خلقه العالم، ولذلك فلا يلزم منه بالنسبة إليه سبحانه جهل ولا ندامة كما هو بالنسبة إلى الفاعل المباشر للفعل. وسمَّى أهل البيت (عليهم السلام) الإخبار بما وُجِدَت مقتضياته من الأسباب مع إمكان وجود موانعه من الأسباب بالعلم الموقوف القابل للمحو، أمَّا ما كانت مقتضياته ثابتة فهو المحتوم. ومهاجمة رأي يتبنَّاه الأئمَّة من آل محمّد (عليهم السلام) بما توحيه الكلمة دون معرفة معناها تسرُّع غير مسؤول. ولو أردنا أنْ نأخذ الكلمات على ظاهر معانيها لكان الإشكال وارداً في استعمال كثير من الكلمات في القرآن الكريم.
إنَّ اللغة ظاهرة اجتماعيَّة نشأت للتعبير عن أحوال الإنسان وعلاقاته، فلا تتطابق مع ما هو شأن إلهي إلَّا بتجوُّز وتأويل. والبداء في ذلك كالرضا والغضب، فهما في معنيهما أصلاً، ولدى الإنسان حالتا انفعال وتحوُّل من حال إلى حال، ولا شكَّ أنَّهما بهذا المعنى مستحيلان على الأزلي سبحانه، ولكن لـمَّا كان من شأن الرضا أنْ تتبعه المثوبة ومن شأن الغضب أنْ تتبعه العقوبة سُمّي - بعلاقة السببيَّة - ما يُنزله الله من مثوبة بأسبابها رضاً، وما يُنزله من عقوبة بأسبابها من فكر الإنسان ونواياه وعمله غضباً، وهذا هو الوارد عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) فيها وفي أمثالها. فليس البداء من أفكار الغلاة كما ذكر الدكتور عبد الله سلوم في كتابه (الغلوُّ والفِرَق المغالية)، وغيره اتِّباعاً لسابقين، ولكنَّه مبدأ قرآني.
وممَّا يدلُّ على صحَّة المضمون العامِّ لبعض ما ورد في الإجابات السابقة ما هو معلوم من أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من أوصيائه الاثني عشر (عليهم السلام) من بعده كانوا يريدون - كما شاء الله - طرح الحقائق الكونيَّة ذات العلاقة بالإنسان من حيث صلته بالله، ومن حيث علاقته بالقوانين الكونيَّة بما فيها تلك التي تتَّصل بالآثار الوضعية لفكره ونواياه وأفعاله سلباً أو إيجاباً. ثمّ وضع الإطار الأخلاقي والتشريعي المنسجم - مع هذه الحقائق - لحياته الخاصَّة والعامَّة، ولكنَّهم لم يجدوا في هذه المرحلة من الناس من يرتفع في مستوى إدراكه واستيعابه وعلمه إلى القدر الذي يمكن به بلوغ الغاية، وذلك طبيعي في مرحلة التأسيس في مثل ذلك العصر، ولذلك تضمَّن القرآن الكريم وسُنَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة الاثني عشر الأوصياء من بعده (عليهم السلام) مستويين في الطرح في ما لا يمكن تعقُّله وفهمه - لدى الكثير من الناس بحكم المرحلة - طرح عامٌّ وآخر خاصٌّ(373).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(373) لا أقصد بالعامِّ والخاصِّ ما يقصده بعضهم من أدعياء العرفان من تفسير مضلِّل للظاهر والبطان بما يجعل الثاني نافياً للأوَّل، وأنَّ ما لأهل الأوَّل من التزامات وتكاليف عامَّة - أمراً ونهياً - لا يشمل أهل الثاني، فأنا أبرأ إلى الله من ذلك فهماً وقلباً وعملاً، وإنَّما أقصد أنَّ القرآن والرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام) وهم يستعملون اللغة الموضوعة مفرداتها أساساً للتعبير عن أحوال الإنسان وشؤونه في ما يتَّصل بالله سبحانه وصفاته وأفعاله، أشاروا إلى أنَّ ما يُقصَد منها بالنسبة إلى الله غير ما يُقصد منها بالنسبة إلى الإنسان، وأنَّ استعمالها على سبيل التجوُّز والتأويل بحكم قوله سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ (الشورى: 11)، وبحكم ما ورد في الحديث من نفي قياسه على الناس وتشبيهه بهم، وقد أشرت في الهامش السابق إلى أمثلة من ذلك، ومن الأمثلة الهامَّة قوله: ﴿أَنَّمَا إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ﴾ (الكهف: 110)، فإنَّ أغلب الناس لا تفهم غير الوحدة العدديَّة، أي إنَّه واحد من حيث العدد، والواحد العددي يقبل الثاني، ووحدته سبحانه هي الوحدة الأحديَّة البسيطة التي لا تقبل ذلك، لأنَّ الأُلوهيَّة بنفسها تقتضي وجوب وجوده سبحانه، وذلك ما لا يُتصوَّر إلَّا في ما هو عين الوجود وصرفه، لأنَّ وجود ما له ماهيَّة إنَّما هو بالعرض لا بالذات، فيكون مركَّباً وممكناً، وأنَّ كونه سبحانه عين الوجود وصرفه ينفي أنْ يكون معه آخر، لأنَّه لا يقبل التكرار والانقسام والتعدُّد، وأنَّ الماهيَّات في العالم بحكم قيام وجودها به لا تكون ثانياً له، لأنَّ ما يقوم بشيء لا يكون - بالبداهة - ثانياً له. وللتقريب - وإنْ لم يكن مطابقاً - نشير إلى أنَّ ضوء المصابيح، وحرارة المدفأة، ومغناطيسيَّة الأقطاب ليست ثانياً للكهرباء بحكم قيامها بها، ومثلها الصور التلفزيونيَّة بالنسبة إلى البثِّ داخل الشاشة وخارجها، أي ليست هي ثانية للبثِّ بحكم قيامها به. والمثلان الأوَّل بالنسبة للآثار التي هي العلل الأُولى القائمة بخالقها والمقوِّمة لما بعدها، والثاني بالنسبة للعالم المركَّب ذي الصور المصنوعة من مادّيَّة وغير مادّيَّة.
وإنَّ هذا المعنى من الوحدة الأحديَّة يحكم به العقل - كما تقدَّم - ثمّ النقل، فقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ﴾ (لقمان: 30)، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ﴾ (الحديد: 3)، وقوله: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ (أي لم ينفصل عنه وجود مستقل كالولد) وَلَمْ يُولَدْ * (لم ينفصل هو ويستقلّ عن وجود آخر)﴾ (الإخلاص: 1 - 3)، لا تُفهَم دون ذلك، وبدون ذلك لا نفهم أيضاً قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد: 4)، ولا قوله: ﴿أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ (فُصِّلت: 54)، وقوله: ﴿وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (سبأ: 47)، وقوله: ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ (الملك: 19).
إنَّ وحدة الوجود الصرف لا تعني إلَّا وحدة الله الحقِّ القائم بذاته، وكلُّ ما بعده ماهيَّات يعرض عليها الوجود به، فهي مركَّبة، ولذلك فهذه الوحدة تختلف عن وحدة الوجود الهندوسيَّة أو المطلقة التي تُوحِّد بين الممكن والواجب وبين الصرف والمركَّب، فهي ملحدة كما سيأتي.
وهناك ما يتَّصل بالولاية كما بيَّنَّاها في هامش (ص 181 - 183)، وفي ما يتَّصل بالعامِّ والخاصِّ، والمطلق والمقيَّد، والمجمل والمبيَّن، والآثار الوضعيَّة.
إنَّ طرح ما هو أعمق ممَّا هي اللغة العامَّة والفكر العامِّ - ابتداءً - في رسالة عامَّة إلَّا للخاصَّة ممَّا ينافي الحكمة قطعاً، ولذلك ورد عن الإمام
الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «مَا كَلَّمَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) العِبَادَ بِكُنْه عَقْلِه قَطُّ»، وَقَالَ: «قَالَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ»(374).
وقال الإمام عليٌّ (عليه السلام) في حديثه لكميل بن زياد: «إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمًّا - وَأَشَارَ بِيَدِه إِلَى صَدْرِه - لَوْ أَصَبْتُ لَه حَمَلَةً، بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْه، مُسْتَعْمِلاً آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَمُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ الله عَلَى عِبَادِه، وَبِحُجَجِه عَلَى أَوْلِيَائِه، أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَه فِي أَحْنَائِه، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِه لأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ»(375).
ومثل ذلك ورد عن آخرين من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام).
وممَّا يُؤيِّده ويشهد له ما نعرفه من نوع أسئلة الناس وإشكالاتهم ومنازعاتهم ومستواها، بدءاً من عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتَّى آخر أوصيائه (عليهم السلام).
لذلك كان لابدَّ - وقد استُكمِلَت ركائز الرسالة الإسلاميَّة نظريًّا خلال المراحل التاريخيَّة لوجود الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصيائه (عليهم السلام) والتي امتدَّت أكثر من ثلاثة قرون من دون أنْ تبلغ الأُمَّة بها الغاية، أو ما يقرب منها - كان لابدَّ أنْ تقطع الصلة الظاهريَّة بالإمام (عجَّل الله فرجه) بصورتها المفتوحة والنسبيَّة، لتتفاعل الأُمَّة ضمن السلب والإيجاب مع الرسالة فكراً ومعايشةً، وفي الداخل والخارج حتَّى يتبلور الفهم الصحيح أو الأقرب للصحَّة، وبذلك تنضج الظروف الموضوعيَّة - عبر مخاض طويل - لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) ليس على مستوى المسلمين فقط، بل على مستوى العالم. ولا شكَّ في أنَّ ذلك - بطبيعة الحال - يتطلَّب زمناً طويلاً - كما قلنا -، وهو ما أنذرت به الروايات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(374) الكافي (ج 1/ ص 23/ كتاب العقل والجهل/ ح 15)، أمالي الصدوق (ص 504/ ح 693/6).
(375) نهج البلاغة (ص 496/ ح 147).
وهناك أمر آخر صرَّحت به كثير من الروايات، وهو أنَّ ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) نذير بين يدي الساعة، فإنَّ رحمة الله بخلقه التي أوجبت إرسال الرُّسُل من قبل هي التي اقتضت بعد ختم النبوَّة بمحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وانتقال أحد عشر من أوصيائه (عليهم السلام) إلى الدار الآخرة أنْ يظلَّ الثاني عشر من أوصيائه (عليهم السلام) الحجَّة الباقية في الأرض، وأنْ يظهر قُبيل الساعة بعد طول الأمد وقسوة القلوب.
ولذلك سُمّي بـ(النُّذر الأكبر)، ومنحه الله من الآيات ما يُؤدِّي به هذه المهمَّة كصلاة المسيح (عليه السلام) خلفه، واحتفافه بالملائكة، وبداية البعث الجزئي المسمَّى بالرجعة في زمنه كآية بين يدي البعث الشامل. وقد ذكر الشيخ المفيد (رحمه الله) أنَّه بعد رحيل الإمام (عجَّل الله فرجه) بأربعين يوماً تقوم القيامة الكبرى(376)، وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ القيامة مربوطة بتقديرات كونيَّة كبرى تتَّصل بالمجموعة الشمسيَّة، فلا مجال للإخبار عنها، لا يجليها لوقتها إلَّا هو، لكنَّهم ذكروا علامات كلبوث الفلك، وطول السنين، وغير ذلك.
انقطاع صلتنا به - بحكم الغيبة - لا يعني انقطاع صلته بنا:
ذلك ما وردت به الأحاديث بلسانه ولسان آبائه (عليهم السلام)، وهم يُبشِّرون به قبل مولده (عجَّل الله فرجه)، وذلك أنَّه كما قالوا: كالشمس إذا غيَّبها السحاب(377) لا تُعدَم الدنيا ضوء أشعَّتها النافذة، فيبقى النهار قائماً بها رغم ذلك.
إنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) ليس رجلاً عاديًّا، فقد وهبه الله سبحانه - بحكم مقامه مبدأً ومعاداً(378)، وبحكم دوره حجَّةً له يُمثِّل رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - قدرات لا توجد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(376) الإرشاد (ج 2/ ص 387).
(377) راجع التوقيع الصادر إلى الشيخ العمري (رضي الله عنه) في (ص 193).
(378) راجع هامش (ص 191).
لدى غيره من الناس(379)، ومن الخطأ مقايسته من هذه الناحية بالآخرين، ولذلك فهو كما مرَّ من مثال الشمس(380) وغيره ممَّا ورد عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) وأهل المعرفة من العلماء يقوم بدور الإمامة في غيبته، لا السياسيَّة والشرعيَّة كما هي في عالم الظهور، بل في الجانب الآخر بحكم كونه الوسيلة فيما يصعد من الناس وما ينزل(381)، إنَّه يطَّلع على أحوالهم فيُسنِد ويُسدِّد ويشفع إليهم، رأى الناس ذلك أم لم يروه، وعرفوا ذلك أم لم يعرفوه.
قال الشيخ المجلسي (رحمه الله) في بيان الوجه الأوَّل من تشبيه الانتفاع بالإمام في غيبته بالانتفاع بالشمس وراء السحاب: (إنَّ نور الوجود والعلم والهداية يصل إلى الخلق بتوسُّطه (عليه السلام)، إذ ثبت بالأخبار المستفيضة أنَّهم العلل الغائيَّة لإيجاد الخلق، فلولاهم لم يصل نور الوجود إلى غيرهم، وببركتهم والاستشفاع بهم والتوسُّل إليهم تظهر العلوم والمعارف على الخلق، وتُكشَف البلايا عنهم، فلولاهم لاستحقَّ الخلق بقبائح أعمالهم أنواع العذاب كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: 33]).
قال: (ولقد جرَّبنا مراراً لا نُحصيها أنْ عند انغلاق الأُمور وإعضال المسائل والبعد عن جناب الحقِّ تعالى وانسداد أبواب الفيض، لـمَّا استشفعنا بهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(379) راجع ما ورد حول ذلك (بصائر الدرجات) لابن فروُّخ الصفَّار المتوفَّى سنة (290هـ)، فموضوع ما رواه فيه كاملاً يتَّصل بذلك. وراجع: الكافي (ج 1/ ص 168 - 439/ كتاب الحجَّة).
(380) ورد هذا التشبيه عن عدد من آبائه وعنه (عليهم السلام)، كما مرَّ في (ص 193) التوقيع الصادر منه (عجَّل الله فرجه) للشيخ العمري (رضي الله عنه)، وقد ذكر الشيخ المجلسي (رحمه الله) - عدا ما ذكرناه أعلاه - سبعة وجوه أُخرى في بيان ما يُفاد منه في بحار الأنوار (ج 52/ ص 93 و94).
(381) ورد ذلك في ما رواه الحسين بن روح (رضي الله عنه)، كما في الغيبة للطوسي (ص 387/ ح 351).
وتوسَّلنا بأنوارهم، فبقدر ما يحصل الارتباط المعنوي بهم في ذلك الوقت تنكشف تلك الأُمور الصعبة. وهذا معاين لمن أكحل الله عين قلبه بنور الإيمان، وقد مضى توضيح ذلك في كتاب الإمامة)(382).
وما أكثر ما روى العلماء من وقائع مشكلة حلَّت ببركاته، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، منذ بداية غيبته الكبرى وحتَّى أيامنا ممَّا سنشير إلى بعضه في ما يلي.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(382) بحار الأنوار (ج 52/ ص 93).
البحث الثالث: هل يعني ذلك إمكان المشاهدة؟
ذلك ما ادَّعاه من أهل السُّنَّة بعض أهل الكشف من الصوفيَّة، وقد ذكر الشيخ الشعراني جماعة رأوه، بل بايعوه، وسمَّى بعضهم كالشيخ حسن العراقي(383).
ونقل الشيخ سليمان القندوزي الحنفي المتوفَّى سنة (1294هـ)، وهو من شيوخ النقشبنديَّة أنَّه قال في كتابه (الأنوار القدسيَّة): (إنَّ بعض مشايخنا قال: نحن بايعنا المهدي (عليه السلام) بدمشق الشام، وكنَّا عنده سبعة أيَّام)(384).
وروى الشيخ سليمان أيضاً أنَّ الشيخ عبد اللطيف الحلبي حدَّثه سنة (1273هـ) أنَّ أباه الشيخ إبراهيم - وهو من كبار مشايخ حلب على الطريقة القادريَّة - قال: (سمعت بعض مشايخي من مشايخ مصر يقول: بايعنا الإمام المهدي (عليه السلام))(385).
وذكر العلماء والمحدِّثون، ومنهم الشيخ المجلسي(386)، والشيخ الحرُّ العاملي(387)، والشيخ النوري (رحمهم الله) الذي ألَّف كتاباً خاصًّا في ذلك أسماه (جنَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(383) اليواقيت والجواهر (ج 2/ ص 562/ المبحث 65).
(384) ينابيع المودَّة (ج 3/ ص 346).
(385) المصدر السابق.
(386) بحار الأنوار (ج 52/ ص 159 - 180/ باب 24).
(387) جنَّة المأوى (ص 108/ الحكاية 38).
المأوى في من فاز بلقاء الإمام الحجَّة (عليه السلام)، أو معجزته في الغيبة الكبرى)(388) أسماء عدد من العلماء والصلحاء الذين تشرَّفوا بلقائه (عجَّل الله فرجه)، ولا مجال للتوقُّف عند تكذيب من بلَّغ من هؤلاء عن الإمام (عجَّل الله فرجه) أحكاماً تنافي العقيدة أو الشريعة أو تُعطِّل العمل بالأحكام الإسلاميَّة كلًّا أو بعضاً، لما سنذكره في الفصل الخامس الآتي، ولورود أحاديث حذَّرت من هؤلاء خاصَّة. بل رأى بعضهم تكذيب المبلِّغ للأحكام عنه في الغيبة الكبرى مطلقاً(389).
ولكن الأمر المشكل لدى هؤلاء العلماء وغيرهم، في ما عدا هؤلاء ممَّن ادَّعى الرؤية دون ما شيء من الدعاوى أو التبليغ أو الابتداع.
ولا يأتي الإشكال من إمكان الرؤية في نفسها أو عدم إمكانها، فهي من دون إشكال ممكنة، ولكنَّه يأتي من أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) نفسه كذَّب من يدَّعي رؤياه قبل خروج السفياني والصيحة، فقد قال في التوقيع الذي تلقَّاه نائبه الخاصُّ عليُّ بن محمّد السمري في ما رواه الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن أبي محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب(390) الذي كان حاضراً لدى إخراج الشيخ السمري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(388) طُبِعَ في بحار الأنوار (ج 53/ ص 199 - 336)، وطُبِعَ مستقلًّا من قِبَل مركزنا سنة (1427هـ)، وأُعيد طبعه ثانيةً سنة (1442هـ).
(389) كالعلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 151) وآخرين، يُشعِر بذلك حمله التذكيب على مثل هؤلاء.
(390) من مشايخ الصدوق (رحمه الله)، روى عنه في كُتُبه كثيراً مترضّياً مترحِّماً عليه، قال عليُّ بن الحَكَم في (مشايخ الشيعة): (كان مقيماً بقم، وله كتاب في الفرائض أجاد فيه، وأخذ عنه أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن بابويه، وكان يُعظِّمه). (لسان الميزان: ج 2/ ص 271 و272/ الرقم 1121).
ويُفهَم من حضوره لدى السمري عند وفاته وعند إخراجه للتوقيع أنَّه كان ذا خصوصيَّة.
قال السيِّد الموحِّد الأبطحي في تهذيب المقال (ج 2/ ص 372 و373): الموجود في الكُتُب وروايات الصدوق (رحمه الله) (الحسين) مصغَّراً، إلَّا ما تقدَّم عن موضع من الإكمال (يعني ما ذكرناه أعلاه)، والغيبة للطوسي (في نقله ذلك عن الصدوق)، قال: وهو (يعني تسمية الحسن) الأنسب للتكنية بأبي محمّد، ولعدم الملازمة بين التكنية والاسم، فالأظهر ما عليه كُتُب الأصحاب ورواياته من الضبط بـ(الحسين). قال: ولُقِّب بالمكتِّب، وذكر أنَّ ذلك ورد في الخصال والعيون، وأيضاً بالمؤدِّب كما في (لسان الميزان) و(الإكمال) و(عيون أخبار الرضا (عليه السلام)) و(الغيبة للطوسي) و(مشيخة الفقيه) و(معاني الأخبار).
التوقيع: فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الأَمَدِ، وَقَسْوَةِ القُلُوبِ، وَامْتِلَاءِ الأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي المُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ ادَّعَى المُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ السُّفْيَانِيِّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ(391)، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ»(392).
ومن جهة أُخرى، فإنَّ من هؤلاء الذين ادَّعوا الرؤية أهل علم ومعرفة وأهل دين وصلاح، وهم من الكثرة بحيث يصعب عدم الإصغاء إليهم، ولذلك اختلفت مواقف العلماء حول ذلك.
فالشيخ النوري (رحمه الله) وهو ممَّن يميل إلى تصديق قَصص الرؤية كما يبدو من كتابه (جنَّة المأوى)، حاول في وجهين إسقاط قيمة الرواية أو اعتبار هذا المنع مقصوراً على زمنه كما ورد بلسان شمس الدِّين محمّد في قصَّة الجزيرة الخضراء(393).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(391) في رواية الطوسي والطبرسي والمجلسي (رحمهم الله) عنه: (كذَّاب مفتر).
(392) قد تقدَّم في (ص 206)، فراجع.
(393) كتب المعلِّق السيِّد البهبودي في الهامش عند إيراد قصَّة الجزيرة الخضراء (ج 52/ ص 159) من بحار الأنوار: (هذه قصَّة مصنوعة تخيليَّة، قد سردها كاتبها على رسم القصَّاصين، وهذا الرسم معهود في هذا الزمان أيضاً يُسَمُّونه (رمانتيك)، وله تأثير عظيم في نفوس القارئين لانجذاب النفوس إليه، فلا بأس به إذا عرف الناس أنَّها قصَّة تخيليَّة).
وعلَّق في (ص 170) من هذا الجزء من ورود ما يشير إلى التحريف بقوله: (يظهر من كلامه ذلك أنَّ منشئ هذه القصَّة كان من الحشويَّة الذين يقولون بتحريف القرآن لفظاً، فسرد القصَّة على معتقداته).
جزى الله هذا المعلِّق خيراً.
قال (رحمه الله) بعد التوقيع السابق بتكذيب مدَّعي المشاهدة: (وهذا الخبر بظاهره ينافي الحكايات السابقة وغيرها ممَّا هو مذكور في (البحار)، والجواب عنه من وجوه:
الأوَّل: أنَّه خبر واحد مرسَل(394)، غير موجب علماً، فلا يعارض تلك الوقائع والقَصص التي يحصل القطع عن مجموعها، بل ومن بعضها المتضمِّن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها من غيره (عليه السلام)، فكيف يجوز الإعراض عنها لوجود خبر ضعيف لم يعمل به ناقله وهو الشيخ (يعني الطوسي) في الكتاب المذكور كما يأتي كلامه فيه، فكيف بغيره والعلماء الأعلام تلقُّوها بالقبول (يعني القَصص)، وذكروها في زُبُرهم وتصانيفهم، معوِّلين عليها، مقتنعين بها؟
الثاني: ما يظهر من قصَّة الجزيرة الخضراء، قال الشيخ الفاضل عليُّ بن فاضل المازندراني: فقلت للسيِّد شمس الدِّين محمّد، وهو العقب السادس من أولاده (عليه السلام): يا سيِّدي، قد روينا عن مشائخنا أحاديث رُويت عن صاحب الأمر أنَّه قال لـمَّا أُمِرَ بالغيبة الكبرى: من رآني بعد غيبتي فقد كذب، فكيف فيكم من يراه؟ فقال: صدقت، إنَّه (عليه السلام) إنَّما قال ذلك في ذلك الزمان لكثرة أعدائه من أهل بيته وغيرهم من فراعنة بني العبَّاس، حتَّى إنَّ الشيعة يمنع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(394) يقصد بقوله: (إنَّه خبر واحد) رواية واحدة، بدليل الضمير في (إنَّه)، ووصفه بأنَّه مرسَل، وليس بالمصطلح الأُصولي، والتحقيق أنَّه ليس كذلك كما سترى.
بعضها بعضاً عن التحدُّث بذكره، وفي هذا الزمان تطاولت المدَّة، وأيس منه الأعداء، وبلادنا نائية عنهم، وعن ظلمهم وعذابهم)(395).
ويمكن أنْ يُناقَش ما أورده الشيخ النوري (رحمه الله) في هذين الوجهين مع تقديم بعضه - كما يفرضه سياق المناقشة - على بعضه الآخر بالآتي:
أوَّلاً: أنَّ كون الخبر مرسَلاً ليس صحيحاً، فقد رواه الشيخ الصدوق المتوفَّى سنة (381هـ)(396)، عن شيخه أبي محمّد الحسن أو الحسين على الأصحّ، وهو عن الشيخ السمري مباشرةً. وعنه بالإسناد نفسه رواه الشيخ الطوسي المتوفَّى (460هـ)(397).
والمفروض أنَّ ما يصدر عن النُّوَّاب الخاصِّين الأربعة - بحكم توثيقهم والنصِّ عليهم من قِبَل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بصورة مباشرة أو غير مباشرة - بمنزلة ما يصدر عن الإمام (عجَّل الله فرجه) نفسه حتَّى لو كانت هناك - كما افترض بعضهم - واسطة مجهولة، أو غير مسمَّاة بينهم وبين الإمام (عجَّل الله فرجه) دائماً أو في بعض الأوقات، لأنَّها ستكون عندئذٍ (أعني الواسطة) أكثر خصوصيَّة بالإمام (عجَّل الله فرجه) أو لا أقلّ مساوية للنائب الظاهر من حيث الوثاقة، وقد تكون إحدى الوسائل البارسيكولوجيَّة الواقعة تحت سلطان الإمام (عجَّل الله فرجه).
وإنْ لم نجد أساساً صريحاً لوجود هذه الواسطة، وحتَّى إذا لم نُعطِ النائب الخاصّ ما أشرنا اليه من منزلة - وهو خلاف المفروض -، فلا أقلّ من كونه أحد الرواة الموثوقين عن الإمام (عجَّل الله فرجه)، أو عمَّن هو عنه يقيناً، وإلَّا كان رفضاً لأصل النيابة الخاصَّة، وتشكيكاً بالنصِّ على النائب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(395) جنَّة المأوى (ص 163 و164).
(396) كمال الدِّين (ص 516/ باب 45/ ح 44)، وراجع ما تقدَّم في هامش (ص 241) لمعرفة موقع الحسن بن محمّد من الشيخ الصدوق (رحمه الله).
(397) الغيبة للطوسي (ص 395/ ح 365).
ولذلك فلا مجال لاعتبار الخبر مرسَلاً، لوجود الإسناد والمعاصرة واللقاء بين الرواة إلى أنْ ينتهي إلى الإمام (عجَّل الله فرجه).
ومثل ذلك وصف الخبر بالضعيف من قِبَل الشيخ (رحمه الله)، فإنَّه غير مسلَّم، لأنَّ الضعيف كما عرَّفه الشهيد الثاني (رحمه الله): (هو ما يشتمل طريقه على مجروح بالفسق ونحوه، أو مجهول الحال، أو ما دون ذلك، كالوضَّاع)(398).
وليس في سند هذا الخبر ما هو بهذه الصفة، فالشيخ الصدوق والشيخ السمري (رحمهما الله) منصوص على عدالتهما، ومن بينهما وهو الحسن بن محمّد المكتِّب إذا لم يكفِ في توثيقه وتعديله كونه أحد مشايخ الشيعة، وأنَّه كان شيخاً للصدوق روى عنه في جميع كُتُبه، وأنَّه كان يُعظِّمه ويُتبِع ذكره كلَّما جاء بالترضِّي عنه والترحُّم عليه، وإذا لم يكفِ أنَّه من حضار مجلس الشيخ السمري (رحمه الله)، وأنَّه حضره قبيل وفاته وتلقَّى التوقيع الشريف عنه، وذلك ما يكشف عن خصوصيَّته، قلنا: إذا لم يكفِ ذلك كلُّه في توثيقه ليكون الخبر من الصحيح، فإنَّه لا أقلّ من كونه من الحسن، لأنَّ كون المكتِّب إماميًّا ممدوحاً ممَّا لا شكَّ فيه(399).
نقول ذلك تنزُّلاً، وإلَّا فالخبر من الصحيح من دون إشكال(400).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(398) الرعاية في علم الدراية (ص 86).
(399) الرعاية في علم الدراية (ص 81).
(400) ممَّن حكم بصحَّته لقيام القرائن على ذلك، ودلَّل عليه، بل اعتبره مقطوعاً به، العلَّامة الحجَّة الميرزا محمّد تقي الموسوي الأصفهاني في كتابه مكيال المكارم (ج 2/ ص 334 و335)، قال: (اعلم أنَّ هذا حديث صحيح عالٍ اصطلاحاً، لأنَّه مرويٌّ عن مولانا صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) بتوسُّط ثلاثة أشخاص:
الأوَّل: الشيخ الأجلّ أبو الحسن عليُّ بن محمّد السمري، وهو لجلالته واشتهاره غنيٌّ عن البيان.
والثاني: الشيخ الصدوق محمّد بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمِّي، وهو أيضاً لاشتهاره واشتهار كتابه وجلالة قدره لا يحتاج إلى التوضيح.
والثالث: أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب، وهو - كما ذكره الفاضل الألمعي المولى عناية الله في مجمع الرجال - أبو محمّد الحسن بن الحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتِّب. ويروي عنه الصدوق مكرَّراً مترضّياً مترحِّماً، وهذا من أمارات الصحَّة والوثاقة، كما نبَّه على ذلك المولى المزبور في مجمعه، وذكر له شواهد عديدة ليس هنا موضع ذكرها...)، إلى أنْ قال: (وممَّا يدلُّ على صحَّة هذا الحديث وصدوره عن الإمام أيضاً، أنَّ الشيخ الطبرسي (رضي الله عنه) صاحب كتاب الاحتجاج ذكره مرسَلاً من دون ذكر السند، والتزم في أوَّل الكتاب وصرَّح بأنَّه لا يذكر فيه سند الأحاديث التي لم يذكر أسانيدها إمَّا بسبب موافقتها للإجماع، أو اشتهارها بين المخالف والمؤالف، أو موافقتها لحكم العقل. فظهر أنَّ الحديث المذكور أيضاً كان غنيًّا عن ذكر السند، إمَّا لموافقة الإجماع، أو لاشتهاره، أو لكليهما جميعاً. وممَّا يدلُّ أيضا على صحَّته، أنَّ علماءنا من زمن الصدوق (رضي الله عنه) إلى زماننا هذا استندوا إليه، واعتمدوا عليه، ولم يناقش ولم يتأمَّل أحد منهم في اعتباره كما لا يخفى على من له أُنس وتتبُّع في كلماتهم ومصنَّفاتهم، فتبيَّن من جميع ما ذكرناه أنَّ الحديث المذكور من الروايات القطعيَّة التي لا ريب فيها ولا شبهة تعتريها، وهو ممَّا قال فيه الإمام (عليه السلام)، فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه).
ثانياً: أنَّ كون التوقيع خبراً واحداً (ويقصد أنَّه رواية واحدة لا بالمصطلح الأُصولي الذي يقابل المتواتر) إذا كان من حيث ألفاظه، ومن حيث ظهوره في إطلاق التكذيب لمدَّعي المشاهدة الذي يلزم منه امتناعها مطلقاً، فهو صحيح. وإنْ كان من حيث الوارد مطلقاً في نفي الرؤية لدى الغيبة الكبرى - وإنْ كان من البعيد أنْ يقصد ذلك -، فليس كذلك أنَّ نفس قوله (عجَّل الله فرجه) في التوقيع الصادر عنه والوارد مضمونه في شأنه عن آبائه (عليهم السلام): أنَّ الانتفاع به في غيبته كالانتفاع بالشمس إذا غيَّبتها عن الأبصار السحاب، دليل على نفي الرؤية مطلقاً، وأنَّ هداه ومدَّ يده يصل إلى القلوب من دون رؤية(401).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(401) راجع ما مرَّ في (ص 193)، وبحار الأنوار (ج 52/ ص 93 و94).
وقد وردت عدَّة روايات أُخرى تنفي الرؤية في الغيبة الكبرى إلَّا لخاصَّة مواليه، وهم - كما سيأتي - أخصّ من خاصَّة شيعته، ممَّا ينتهي إلى نفيها عمَّن عداهم أو بصورتها العامَّة حتَّى للخاصة بمفهومهم المتعارف، وبذلك تلتقي - مضموناً - بهذا التحليل مع التوقيع في التكذيب المطلق لمدَّعي المشاهدة غيرهم، ويُقيِّد إطلاقها بالنسبة لهم بها لأنَّها حاكمة.
ثالثاً: رأى الشيخ (رحمه الله) أنَّ هذا الخبر - بما سبق أنْ وصفه به - خبر واحد لا يوجب علماً، فلا يعارض تلك الوقائع والقَصص التي قال (رحمه الله): إنَّه يحصل القطع من مجموعها، بل ومن بعضها، والمتضمِّنة لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها من غيره.
ويُناقَش بأنَّ القطع في أنَّهم رأوا شخصاً، وبأنَّ كرامة حصلت عند ذلك لا يعني القطع في أنَّهم رأوا الإمام (عجَّل الله فرجه) نفسه، فهم لم يروا شخصه من قبل ليعرفوا صورته، بل قد يكون رأوا من هو عنه من الإنس أو الجنِّ، أو من هو بشفاعته، أو من أجاب للولاية بحبِّه.
وظهور الكرامة لا يُشترَط أنْ يكون الإمام (عجَّل الله فرجه) مباشراً، فقد كانت الكرامات تجري على أيدي النُّوَّاب الأربعة له لا لهم، أي بحكم الصلة به، ومقتضيات الدلالة على سفارتهم عنه، وهنا قد يكون الأمر كذلك(402). وبخاصَّة أنَّ أكثر هذه القَصص ليس فيها ما يشير إلى أنَّ المشاهَد هو الإمام (عجَّل الله فرجه) إلَّا تصوُّر أصحابها بعدئذٍ بدلالة الكرامة، بل إنَّ بعضها يدلُّ بوضوح على نفي كون المشاهَد شخصاً بشريًّا حيًّا في عالم الدنيا والمادَّة، كتلك التي يبرز فيها الشخص فجأةً ثمّ يتلاشى ويغيب فجأةً، أو يتحوَّل إلى نور، أو تقتصر رؤيته على شخص من بين عدد من الحاضرين دون غيره، لأنَّ ذلك كلَّه ممَّا يأباه الجسم البشري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(402) راجع البحث الثالث من الفصل الثاني: (نُوَّابه وبعض توقيعاته).
المادِّي بطبيعته حتَّى بالنسبة للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الإمام (عليه السلام)، ولم يُحدِّثنا تاريخهم - بحكم ذلك - بنظيره، ولذلك ورد عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «لَا تَرَاهُ عَيْنٌ بِوَقْتِ ظُهُورِهِ إِلَّا رَأَتْهُ كُلُّ عَيْنٍ، فَمَنْ قَالَ لَكُمْ غَيْرَ هَذَا فَكَذِّبُوهُ»(403)، لأنَّ رؤية الجسم البشري المادِّي متساوية بالنسبة للمبصرين من الناس، (وإنْ كانت للرواية دلالة أُخرى تتَّصل بإمكانات عصر الظهور سيأتي الحديث عنها).
نعم، يمكن أنْ يكون ما أشرنا إليه من الظهور والاختفاء فجأةً، واقتصار رؤيته على فرد دون آخر، إنَّما هو للجسم البرزخي أو المثالي المطروح بالإرادة لدى الأحياء(404)، أو بالموت الطبيعي.
ومع أنَّ ذلك - أعني الحضور بالجسم المثالي - ممَّا يمكن أنْ يفعله الإمام (عجَّل الله فرجه) لو شاء، وبه يُعلَّل - كما يرى بعضهم - الحضور والاستجابة لطالبها أو لمن شاء الإمام (عجَّل الله فرجه) أينما كان في البرِّ والبحر، فإنَّه لا دليل عليه في بعض هذه القَصص من جهة، ولا يحصل إلَّا لذوي الشفَّافيَّة والروحيِّين من أهل الجلاء البصري أو السمعي من جهة ثانية، ويمكن أنْ تخالطه أُمور تُبعِده عن الحقيقة(405)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(403) الهداية الكبرى (ص 395)، عنه بحار الأنوار (ج 52/ ص 6).
(404) نقل بعض العلماء عن السهرودي والسيِّد الداماد قولهما: (إنَّا لا نُسمِّي الحكيم حكيماً حتَّى يموت بإرادته ويحيا بإراداته)، وقصدا بالموت الإرادي ما أثبتته الدراسات الباراسايكولوجيَّة في هذا العصر، وأسمته بـ(الخروج الواعي من الجسد)، وصوَّروا عدداً من وقائعه، لا لدى الحكماء فقط، بل لدى أصحاب مواهب روحيَّة من الراء والنساء. اقرأ: مفصل الإنسان روح لا جسد (ج 1/ ص 890 - 1011)، والإنسان ذلك المجهول (ص 294). وستأتي الإشارة إلى المزيد من المصادر، وكذلك الحديث عن ذلك بصورة أوفى في الجزء الثاني (أدعياء المهدويَّة والبابيَّة).
(405) تقدَّم في البحث الثالث من الفصل الأوَّل: (أهل الكشف من الصوفيَّة يوافقون الإماميَّة في شأن المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه)) بعض أسباب هذا الحذر تأشيراً، وسيُفصَّل ذلك في الجزء الثاني.
حتَّى لدى الصلحاء فضلاً عن غيرهم من جهة ثالثة، لذلك كان ينبغي الحذر منه بل رفضه حين يتضمَّن ما هو منافٍ للعقيدة أو التشريع. وبناءً على ذلك فإنَّ وقوع مثل هذه الرؤية لا ينافي ما ورد من تكذيب المشاهدة، لأنَّها غيرها. ومن المتيقَّن به أنَّ أكثر هذه القَصص حتَّى مع صحَّتها ووثاقة أهلها تدخل ضمن هذا النوع.
ثمّ إنَّ هذا المشاهَد أحياناً - بالصورة التي ذكرناها - قد يكون جنّيًّا أو مَلَكاً أو حتَّى صوراً برزخيَّة أو مثاليَّة من أهل العالم الآخر قد جاءت بأمر الإمام (عجَّل الله فرجه)(406) أو بغير أمره(407) وإنَّما بأسبابها الكونيَّة كالدعاء وإنْ لم يجاوزه العلم بها بحكم إمامته، أو جاءت بشفاعته والولاية له، وغير ذلك.
وبذلك تخرج أكثر هذه القَصص - خلافا لشيخنا (رحمه الله) - عن حدِّ التواتر الموجب للقطع، لإمكان أنْ تكون الرؤية من نوع ما أشرنا إليه، ولا يصلح ما بقى منها لمعارضة الرواية، لأنَّها أقلّ وثاقةً بحكم كونها آحاداً لم تُؤثَر عن معصوم، ولإمكان حملها على ما لا ينافي المنفي من المشاهدة، أو بإدخال أهلها في خاصَّة الموالي الذين استثنتهم الروايات الأُخرى التي أُفيد منها تقييد إطلاق التكذيب الذي يلزمه امتناع الرؤية في التوقيع.
وأظنُّ أنَّ ما قدَّمناه يُغنينا عن مناقشة ما حاوله الشيخ من تعضيد قيمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(406) ورد في حياة الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) إرسالهم بعض المؤمنين من الجنِّ إلى بعض أتباعهم لإبلاغه رسالة عنهم.
(407) يحدث لدى بعض أفراد الأُمَم غير الإسلاميَّة ممَّن يلجأون إلى الله بصدق في معابدهم ظواهر إجابة خارقة تبرز لدى المسيحي باسم المسيح واليهودي باسم موسى، فالله رحمن رحيم يجيب المضطرَّ، وللاعتقاد أثره الفاعل المشهود، وقد سجَّل الطبيب النفسي الأمريكي هنري لنك في كتابه (العودة إلى الإيمان) عدداً من الحالات التي شفي أصحابها بإيمانهم، وجعل تركيز الإيمان من وسال المعالجة لديه.
هذه الروايات بنقل العلماء لها في كُتُبهم والعناية بها من قِبَلهم، لأنَّهم في ذلك يجرون على ما هو المتعارف من التسامح في إيراد المناقب والكرامات من الأحاديث والوقائع دونما نظر إلى ما تتَّصف به من قوَّة وضعف إسناداً ومتناً، ولذلك فهي لا تدلُّ على عدم عملهم بالرواية كما سيأتي.
والتأشير للشيخ الطوسي (رحمه الله) غير وارد، لأنَّ قوله: (إنَّا لا نقطع على استتاره عن جميع أوليائه، بل يجوز أنْ يظهر لأكثرهم، ولا يعلم كلُّ إنسان إلَّا حال نفسه)(408) أمر لا غبار عليه بحكم أنَّ ما ورد من نفي الرؤية أخبار آحاد لا توجب علماً، وما يترتَّب على عدم القطع بذلك جواز الرؤية، وذلك صحيح نظريًّا بخاصَّة وهو في محلِّ منازعة لخصم. على أنَّ قوله: (لأوليائه) يمكن أنْ يكون قد قصد بهم أُولئك الذين استثنتهم الروايات كما سيأتي. وقد يكون نفى من الاستتار ما نفته الروايات التي ضربت له مثلاً بالشمس حين يحجبها السحاب، فيكون ما يقصده بالبروز ليس الشخص وإنَّما الأثر. وقد يكون من مؤشِّرات ذلك أنَّه (رحمه الله) لم يورد في ما ساقه من حديث عمَّن رآه ورأى معجزاته من (ص 253) إلى (ص 280) من كتابه (الغيبة) إلَّا ما كان ضمن الغيبة الصغرى فقط.
رابعاً: أورد الشيخ (رحمه الله) ما ورد في قصَّة الجزيرة الخضراء من إجابة السيِّد شمس الدِّين محمّد لدى سؤال الشيخ فاضل بن عليٍّ له عن كيفيَّة الجمع بين ما ورد من أحاديث في نفي المشاهدة في الغيبة الكبرى وبين ادِّعاء وقوعها لبعضهم، بأنَّه إنَّما قال ذلك في ذلك الزمان لكثرة أعدائه... إلى آخر ما ذكرناه في الوجه الثاني.
والذي نراه أنَّ ذلك غير مقبول، فإنَّ ما تفرضه التقيَّة من عدم ذكر الاسم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(408) الغيبة للطوسي (ص 99).
وعدم الدلالة أمر، وتكذيب مدَّعي الرؤية في هذا التوقيع أمر آخر، فمن الواضح أنَّه لا يتَّصل بها تاريخاً ومبرِّرات.
ومن الإشكالات عليه:
1 - أنَّ تكذيب مدَّعي المشاهدة - مع وقوعها بالفعل - ظلم يتنزَّه الإمام (عجَّل الله فرجه) عنه.
2 - أنَّه لم يصدر عنه ذلك كلَّ مدَّة الغيبة الصغرى، وهي الأشدّ خطراً عليه من الناحية الشخصيَّة.
3 - أنَّ التوقيع صدر في آخر أيَّام نائبه الرابع عليِّ بن محمّد السمري، بل ما قبل وفاته بستَّة أيَّام بحيث إنَّ الخطر عليه شخصيًّا لم يعد قائماً كما في السنين الأولى للغيبة.
4 - أنَّ التكذيب إذا ما ادَّعى مدَّعٍ لا يجدي لدى العدوِّ، لذلك فليس له في التقيَّة كبير أهمّيَّة. على أنَّ الوصول للإمام (عجَّل الله فرجه) لم يكن إلَّا لمن يختاره هو، فلا يُتصوَّر منه البوح بما يكون خطراً عليه.
5 - أنَّ التقيَّة التي فرضت عليه الغيبة الكبرى كانت من قِبَله بوصفه صاحب رسالة، أي إنَّها تعني أنْ لا مجال لفرض الرسالة في تلك الظروف. والتوقيع في نظرنا يتَّصل بذلك، بما أنَّه يسدُّ الطريق على من يدَّعي الصلة والبابيَّة له من قِبَل الذين لا يبالون أنْ يفتروا على لسانه ما شاء لهم الشيطان، وقد أثبت الواقع التاريخي ذلك - كما سنرى في الجزء الثاني -، لذلك لا ينافي التكذيب إطلاقاً أنْ يخرج خاصَّة مواليه تخصُّصاً أو تخصيصاً بالروايات التي ستأتي.
إنَّ كلَّ ما نريد أنْ نقوله هو: أنَّ ما أورده الشيخ النوري (رحمه الله) في الوجهين الأوَّل والثاني مناقَش أو غير وارد، من دون أنْ يعني ذلك أنَّنا نُكذِّب أصحاب تلك القَصص أو نرفض ما صحَّ منها إذا أخرجنا منها ما أشرنا إليه من
احتمالات تُبعِد بعضها عن معارضة الرواية موضوعاً(409)، أمَّا ما صحَّ منها - مع ما يبدو - مع معارضته إيَّاها فيمكن تفسيره، أو تفسير المشاهدة في الرواية بما يرفع المعارضة، أو بإدخال أصحابها في خاصَّة موالي الإمام (عجَّل الله فرجه) إنْ كان واقعهم يشهد بذلك، والخاصَّة هؤلاء خارجون في نظر البعض تخصُّصاً، وفي الروايات الأُخرى التي تنفي الرؤية في الغيبة الكبرى إلَّا عن خاصَّة مواليه خارجون تخصيصاً، ومنها أفادوا تقييد الإطلاق في تكذيب مدَّعي المشاهدة في الرواية الأُولى بما لا يشملهم بصفتها الحاكمة.
ولعلَّ الوجوه التالية التي ذكرها العلماء وأوردها الشيخ النوري (رحمه الله) في آخر كتابه (جنَّة المأوى) تُفصِّل جميع ما أجملناه من وجوه الجمع بين الرواية وبين ما صحَّ من حصول الرؤية:
الوجه الأوَّل: ما ذكره الشيخ المجلسي (رحمه الله)، فقد قال بعد نقله التوقيع المشار إليه: (لعلَّه محمول على من يدَّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه (عليه السلام) إلى الشيعة على مثال السفراء)(410)، وهو ما نراه، وما رآه ودلَّل عليه بعض العلماء(411).
الوجه الثاني: ما ذكره العلَّامة السيِّد بحر العلوم (قدَّس الله نفسه) لدى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(409) نقصد بذلك المشاهدين لمن هو عنه (عجَّل الله فرجه)، وذلك ما يحتمل أنْ يكون في بعض هذه القَصص التي لا يوجد فيها تصريح بأنَّ المشاهَد هو الإمام (عجَّل الله فرجه)، أو في بعض القَصص التي سمعناها ولم يوردها الشيخ، والتي يقوم الشاهد من داخلها على أنَّها حالات هلوسة من حيث الصورة أو من حيث الأمر والنهي، لمنافاتها ما يفرضه المنطق أو الدِّين، مع أنَّ أصحابها أبرياء ومخلصون، لأنَّ هذا شيء، وصدق الواقعة وتطابقها مع مقام الإمام (عجَّل الله فرجه) وصفاته شيء آخر، ولا غضاضة في أنْ يمرض مؤمن فيرى ما لا يُعقَل ويسمع ما لا يُقبَل.
(410) بحار الأنوار (ج 52/ ص 151).
(411) راجع: مكيال المكارم (ج 2/ ص 335 و336).
ترجمته للشيخ المفيد (رحمه الله) ونقله التوقيعات التي تلقَّاها عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فقد قال: (وقد يشكل أمر هذا التوقيع بوقوعه في الغيبة الكبرى مع جهالة المبلِّغ، ودعواه المشاهدة المنفيَّة بعد الغيبة الكبرى، ويمكن دفعه باحتمال حصول العلم بمقتضى القرائن واشتمال التوقيع على الملاحم والإخبار عن الغيب الذي لا يطَّلع عليه إلَّا الله وأولياؤه بإظهاره لهم).
قال: (وإنَّ المشاهدة المنفيَّة أنْ يشاهد الإمام ويعلم أنَّه الحجَّة (عليه السلام) حال مشاهدته له، ولم يعلم من المبلِّغ ادِّعاؤه لذلك)(412).
الوجه الثالث: أنْ تكون المشاهدة المنفيَّة هي البدنيَّة المادّيَّة لا النوريَّة، سواء كانت المشاهدة بالعين لدى تجلِّيه صورةً، أم بالبصر الروحي الذي يحصل لذوي الشفَّافيَّة بالخلقة، أم بالسعي ممَّا يُسمَّى نظيره في الباراسايكولوجي (الجلاء البصري)، كالتي حصلت للعالم التقي المولى عبد الرحيم الدماوندي في ما نقله الشيخ رضا الهمداني في المفتاح الأوَّل من الباب الثالث من كتاب (مفتاح النبوَّة)(413). ويمكن أنْ يكون كثير من المشاهدات من هذا النوع، وإنِ اختلفت بصورة أو بأُخرى، كتلك التي يختفي فيها فجأةً كما ظهر(414)، أو يتحوَّل إلى نور(415).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(412) الفوائد الرجاليَّة (ج 3/ ص 320 و321).
(413) جنَّة المأوى (ص 147/ الحكاية 56).
(414) يذكر الباراسايكولوجيُّون من علماء الروحيَّة الحديثة شواهد مسجَّلة ومصوَّرة لتجسُّدات روحيَّة تبدو لأوَّل وهلة غير مختلفة عن الكائن الدنيوي بشيء، وممَّا يمكن أنْ يتطابق وذلك من القَصص قصَّة اختفاء الصرَّاف والدكَّان في الحكاية (12) من جنَّة المأوى (ص 62 - 64)، واختفاء الشخص الذي ظنَّ أنَّه الإمام (عجَّل الله فرجه) وناقته بعد إلحاق الرجل بالقافلة في الحكاية (53) من جنَّة المأوى (ص 159 و140).
(415) راجع تحوُّل الإمام (عجَّل الله فرجه) أو من هو عنه إلى نور في مقام الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمسجد الكوفة، ممَّا يدلُّ على أنَّه تجلٍّ وليس جسماً مادّيًّا دنيويًّا، في الحكاية (15) من جنَّة المأوى (ص 66 - 70).
والفرق بين الرؤيتين أنَّ النوريَّة لا تنافي الغيبة العامَّة التامَّة، وأنَّها لا تُقبَل إلَّا ممَّن لا يدور حولهم شكٌّ عقلاً وعلماً وتقًى، لجواز أنْ تكون هلوسةً واختلاطاً فينتفي المحذور في الادِّعاء بخلاف تلك.
وقد يكون الجلاء سمعيًّا فقط، كالذي حصل للسيِّد ابن طاووس (رحمه الله)، أو تكون المشاهدة قلبيَّة من دون صورة من خلال شعور قويٍّ بالحضور يغمر الكيان كلَّه حتَّى يصبح أوضح ممَّا هو الرؤية، فيفيض الله بوساطته ما شاء من العلم والمعرفة، ولعلَّ هذا أو ذاك هو ما قصده السيِّد بحر العلوم (رحمه الله) بقوله: (وربَّما يحصل لبعض حفظة الأسرار من العلماء الأبرار العلم بقول الإمام (عليه السلام) بعينه على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في مدَّة الغيبة، فلا يسعه التصريح بنسبة القول إليه (عليه السلام) فيبرزه في صورة الإجماع، جمعاً بين الأمر بإظهار الحقِّ والنهي عن إذاعة مثله بقول مطلق)(416).
وذكر المحقِّق الكاظمي (رحمه الله) من أقسام الإجماع قسماً غير الإجماع بالمصطلح المعروف، قال: إنَّه استخرجه من مطاوي كلمات العلماء وفحوى عباراتهم، وهو أنْ يحصل لأحد سفراء الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه وصلَّى عليه) العلم بقوله إمَّا بنقل مثله إليه سرًّا، أو بتوقيع، أو مكاتبة، أو بالسماع منه شفاهاً، على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في زمن الغيبة.
قال: (ويحصل ذلك لبعض حملة أسرارهم، ولا يمكن التصريح بما اطَّلع عليه، والإعلان بنسبة القول إليه، والاتِّكال في إبراز المدَّعى على غير الإجماع من الأدلَّة الشرعيَّة لفقدها، وحينئذٍ يجوز له - إذا لم يكن مأموراً بالإخفاء أو كان مأموراً بالإظهار لا على وجه الإفشاء - أنْ يبرزه لغيره في مقام الاحتجاج بصورة الإجماع، خوفاً من الضياع، وجمعاً بين امتثال الأمر بإظهار الحقِّ بقدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(416) جنَّة المأوى (ص 165).
الإمكان، وامتثال النهي عن إذاعة مثله لغير أهله من أبناء الزمان، ولا ريب في كونه حجَّة، أمَّا لنفسه فلعلمه بقول الإمام (عليه السلام)، وأمَّا لغيره فلكشفه عن قول الإمام (عليه السلام) أيضاً، غاية ما هنا أنَّه يستكشف قول الإمام (عليه السلام) بطريق غير ثابت(417)، ولا ضير فيه بعد حصول الوصول إلى ما أُنيط به حجّيَّة الإجماع).
قال: (ولصحَّة هذا الوجه وإمكانه شواهد تدلُّ عليه)، ثمّ ذكر شيئاً من هذه الشواهد(418).
ويبدو لي من رسالة السيِّد ابن طاووس (رحمه الله) إلى ولده محمّد اعتماده على انفتاح هذا الباب من الصلة لخاصَّة أولياء الإمام (عجَّل الله فرجه) بصورها المختلفة.
قال (رحمه الله) بعد حديث جاء فيه أنَّ غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه) حجَّة على مخالفيه: (مع أنَّه (عليه السلام) حاضر مع الله (جلَّ جلاله) على اليقين، وإنَّما غاب من لم يلقه منهم لغيبتهم عمَّن حضره للمتابعة له ولربِّ العالمين...، فإنْ أدركت - يا ولدي - موافقة توفيقك لكشف الأسرار عليك عرَّفتك من حديث المهدي (صلوات الله عليه) ما لا يشتبه عليك، وتستغني بذلك عن الحُجَج المعقولات ومن الروايات، فإنَّه (صلَّى الله عليه) حيٌّ موجود على التحقيق، ومعذور عن كشف أمره إلى أنْ يأذن له تدبير الله الرحيم الشفيق كما جرت عليه عادة كثير من الأنبياء والأوصياء، فاعلم ذلك يقيناً، واجعله عقيدةً وديناً فإنَّ أباك معرفته أبلغ من معرفة ضياء شمس النهار)(419).
وقال (رحمه الله): (وقد احتجناكم مرَّة عند حوادث حدثت لك إليه، ورأيناه في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(417) يعني أنَّه ليس من الطُّرُق المجعولة المعروفة الثابتة من حيث حجّيَّتها لديه ولدى غيره من المجتهدين بما أنَّ الكشف خاصٌّ به.
(418) جنَّة المأوى (ص 166 و168).
(419) كشف المحجَّة (ص 53 و54).
عدَّة مقامات في منامات، وقد تولَّى قضاء حوائجك بإنعام عظيم في حقِّنا وفي حقِّك لا يبلغ وصفي إليه. فكن في موالاته والوفاء له وتعلُّق الخاطر به على قدر مراد الله (جلَّ جلاله) ومراد رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومراد آبائه (عليهم السلام) ومراده (عليه السلام) منك، وقدِّم حوائجه على حوائجك عند صلاة الحاجات...، والصدقة عنه قبل الصدقة عنك وعمَّن يعزُّ عليك، والدعاء له قبل الدعاء لك، وقدِّمه في كلِّ خير يكون وفاءً له ومقتضياً لإقباله عليك وإحسانه إليك، فأعرض حاجتك عليه كلَّ يوم اثنين ويوم خميس من كلِّ أُسبوع لما يجب له من أدب الخضوع...)، إلى أنْ يقول: (فإنَّه يأتيك جوابه (صلوات الله وسلامه عليه)).
ثمّ يقول - وهنا موضع الشاهد الذي يتَّصل بما أردناه - وهو يُفسِّر لنا رؤية السيِّد التي وردت في هذا النصِّ وغيره أو بعضها: (وممَّا أقول لك يا ولدي محمّد ملأ الله (جلَّ جلاله) عقلك وقلبك من التصديق لأهل الصدق والتوفيق في معرفة الحقِّ: إنَّ طريق تعريف الله (جلَّ جلاله) لك بجواب مولانا المهدي (صلوات الله وسلامه عليه) على قدر قدرته (جلَّ جلاله) ورحمته. فمن ذلك ما رواه محمّد بن يعقوب الكليني في كتاب (الرسائل) عمَّن سمَّاه قال: كَتَبْتُ إِلَى أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام): أَنَّ اَلرَّجُلَ يَجِبُ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى إِمَامِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُفْضِيَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ؟ قَالَ: فَكَتَبَ: «إِنْ كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ فَحَرِّكْ شَفَتَيْكَ، فَإِنَّ الجَوَابَ يَأْتِيكَ»، ومن ذلك ما رواه هبة الله بن سعيد الراوندي في كتاب (الخرائج) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الفَرَجِ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ (عليهما السلام): «إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْأَلَ مَسْأَلَةً فَاكْتُبْهَا وَضَعِ الكِتَابَ تَحْتَ مُصَلَّاكَ وَدَعْهُ سَاعَةً، ثُمَّ أَخْرِجْهُ وَاُنْظُرْ فِيهِ»، قَالَ: فَفَعَلْتُ، فَوَجَدْتُ جَوَابَ مَا سَألتُ عَنْهُ مُوَقَّعاً فِيهِ(420))(421).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(420) الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 419/ ح 22)؛ ورواه ابن حمزة (رحمه الله) في الثاقب في المناقب (ص 548/ ح 489/7).
(421) كشف المحجَّة (ص 151 - 154).
وقال (رحمه الله) في آخر كتابه: (ثمّ ما أردنا بالله (جلَّ جلاله) من هذه الرسالة ثمّ عرضناه على قبول واهبه صاحب الجلالة نائبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وورد الجواب في المنام بما يقتضي حصول القبول والإنعام والوصيَّة بأمرك والوعد ببرِّك وارتفاع أمرك)(422).
ولدى قراءة القَصص الواردة في مشاهدة الإمام (عجَّل الله فرجه) نجد أنَّ أكثرها يدخل ضمن هذا النوع بما فيه تلك التي رُويت فيها أدعية وزيارات وصيغ من الاستخارة، بل ما يتَّصل بالتوحيد ومعاني الأسماء والصفات والإنباء بالمغيَّبات.
ويتضاءل الإشكال حتَّى ينعدم حين يكون المكاشف عالماً عاقلاً تقيًّا ورعاً يملك الموازين العلميَّة أو المنطقيَّة والشرعيَّة التي تُمكِّنه من التفرقة بين الحقِّ والباطل والصحَّة والمرض والواقع والخيال، وحين تكون المكاشفة أيضاً ممَّا لا علاقة له بالعقيدة أو التشريع، لكنَّه يبرز ويعظم (أعني الإشكال) حين يكون ممَّا لا يتمتَّع بما ذكرناه من هذه الصفات كلًّا أو بعضاً(423)، أو تكون المكاشفة مخالفة للعقيدة والتشريع لما أشرنا إليه، وسيأتي من الصور التي يمكن أنْ تختلط بالكشف لدى المصابين بالهلوسة البصريَّة أو السمعيَّة أو المبتلين بالمسِّ والاستحواذ ما يوجب الحذر والحيطة من الإصغاء لما يدَّعونه من رؤى ومكاشفات في كلِّ الأحوال(424).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(422) كشف المحجَّة (ص 196).
(423) من المهمِّ من الناحية العلميَّة، ولكي يستطيع الباحث التفرقة، معرفته أو اطِّلاعه على العوالم الروحيَّة التي كانت معروفة سابقاً وأثبتتها الدراسات الباراسايكولوجيَّة - بتحقيقات علميَّة - في عصرنا؛ لكي لا يُخدَع ببعض ما يتصوَّره غير العارفين: آية تختصُّ بالأنبياء والأئمَّة، كالإخبارات الغيبيَّة، وكقراءة الأفكار، أو الرؤية عن بُعد، أو التجسُّم النوري ممَّا هو من جملة خصائص العالم الروحي بصورة عامَّة.
(424) إنَّ رؤى هؤلاء ومسموعاتهم غالباً ما تكشف - بلا منطقيَّتها، ولا شرعيَّتها - عن هويَّتها، وتشير إلى حالة أصحابها، وأنَّها لا تتعدَّى كونها حالة هلوسيَّة أو هذيان أو استحواذ شيطاني كما سيأتي.
الوجه الرابع: ما ذكره السيِّد بحر العلوم (رحمه الله) أيضاً، قال: (وقد يمنع أيضاً امتناعها (يعني المشاهدة) في شأن الخواصِّ، وإنِ اقتضاه ظاهر النصوص بشهادة الاعتبار، ودلالة بعض الآثار)(425).
وقد يكون ما قصده بشهادة الاعتبار ما تشير إليه صورة الكشف ولغته ومضمونه من جهة، ومكانة المكاشف وموقعه علميًّا أو دينيًّا في الأُمَّة من جهة أُخرى.
أمَّا ما يعني بشهادة الآثار فقد يكون ما وردت به الروايات من استثناء خاصَّة الموالي كالتي رواها النعماني (رحمه الله) بسنده عن المفضَّل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام) انه قال: «لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَوْضِعِهِ أَحَدٌ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا اَلمَوْلَى اَلَّذِي يَلِي أَمْرَهُ»(426).
وفي رواية الشيخ الطوسي (رحمه الله) لها: «لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَوْضِعِهِ أَحَدٌ مِنْ وُلْدِهِ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا اَلمَوْلَى اَلَّذِي يَلِي أَمْرَهُ»(427).
و«اَلمَوْلَى اَلَّذِي يَلِي أَمْرَهُ» في الرواية قد لا يكون هنا شخصاً واحداً معيَّناً وإنَّما هو الموصوف بهذه الصفة، فيمكن أنْ يتعدَّد بدليل صحَّة أنْ تُذكر بعده مصاديق متعدِّدة فيقال: إلَّا المولى الذي يلي أمره كزيد وعمرو وخالد... إلخ، أو أنَّه المقدَّم فيهم الدائم الصلة كما في رواية عبد الأعلى عن الباقر (عليه السلام)(428)، وذلك للجمع بين هذه الرواية والروايات الأُخرى، ومنها ما رواه الشيخ الكليني والنعماني (رحمهما الله) عنه مسنداً إلى إسحاق بن عمَّار، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: قال (عليه السلام):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(425) الفوائد الرجاليَّة (ج 3/ ص 321).
(426) الغيبة للنعماني (ص 176/ باب 10/ فصل 4/ ح 5).
(427) الغيبة للطوسي (ص 161 و162/ ح 120).
(428) تفسير العيَّاشي (ج 2/ ص 56 - 61/ ح 49).
«لِلْقَائِمِ غَيْبَتَانِ، إِحْدَاهُمَا قَصِيرَةٌ، وَالأُخْرَى طَوِيلَةٌ، الغَيْبَةُ الأُولَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ شِيعَتِهِ، وَالأُخْرَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ مَوَالِيهِ»(429).
ورواها النعماني (رحمه الله) بطريق آخر عن إسحاق بن عمَّار أيضاً، وقد جاء بعد صدر الرواية السابق: «الغَيْبَةُ الأُولَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ شِيعَتِهِ، وَالأُخْرَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ مَوَالِيهِ فِي دِينِهِ»(430).
ومن المهمِّ - في ما نحن بصدده - ملاحظة ما أشارت إليه الروايتان من الفرق بين خاصَّة الشيعة الذين يعلمون بمكانه في الغيبة الصغرى، وبين خاصَّة الموالي الذين لا يعلم بمكانه سواهم في الغيبة الكبرى، ممَّا يشير إلى أنَّ خاصَّة الموالي أخصّ ممَّا هم خاصَّة الشيعة، للظاهر من العبارة، ولما تفرضه المناسبة في الفرق بين الغيبتين.
ربَّما هم كالنُّوَّاب الأربعة في الغيبة الصغرى، مع فارق هو أنَّ النُّوَّاب الأربعة كانوا ظاهرين معروفين من جهة الأُمَّة يمكن الرجوع إليهم، بخلاف خاصَّة الموالي في الغيبة الكبرى. ومع فارق آخر هو أنَّه كان بالإمكان أنْ يلتقي بالإمام (عجَّل الله فرجه) في الغيبة الصغرى ما عدا هؤلاء النُّوَّاب من خاصَّة الشيعة وهو ما حصل بالفعل، أمَّا في الغيبة الكبرى فإنَّه لا مجال لأحد أنْ يعرف مكانه عدا خاصَّة الموالي هؤلاء. وقد يُقصَد بالمكان أعمّ ممَّا هو المكان في الأرض إلَّا أنَّ خاصَّة الموالي يعرفون مع ذلك طريق الصلة به.
ولذلك يبقى التوقيع على إطلاقه في تكذيب مدَّعي الشهادة من غير هؤلاء، أو بغير ما قدَّمه العلماء من الوجوه السابقة، ولكن هل هؤلاء الموالي الخاصَّة الذين يصطفيهم الإمام (عجَّل الله فرجه) - لما لهم من صفات الصلاح والأمانة -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(429) الكافي (ج 1/ص 340/باب في الغيبة/ح 19).
(430) الغيبة للنعماني (ص 175/ باب 10/ فصل 4/ ح 2).
واسطة بينه وبين الناس في ما يشاء من أمر أو آخر، غائبون معه، أو أنَّهم يعيشون بين الناس إلَّا أنَّهم غائبون مقاماً، وصلةً، ودوراً؟
كلا الأمرين جائز، وقد يكونون من الاثنين، لأنَّ غياب الإمام المهدي(عجَّل الله فرجه) - كما تفيد بعض الروايات دائماً أو في بعض الأوقات - لا يجاوز ما أشرنا إليه من الغياب، فهو يطأ فُرُشهم، ويمشي في أسواقهم، ويحضر المواسم، يراهم ولا يرونه، ويعرفهم ولا يعرفونه.
وورد كذلك أنَّه حين يظهر يقول الناس: إنَّهم قد رأوه من قبل(431)، أي إنَّ الغياب لم يكن إلَّا غياب مقام ومنزلة ودور، قبل أنْ يكون غياب شخص، ومثل ذلك قد يكون خاصَّة الموالي.
وقد يسال بعض القُرَّاء: كم هم هؤلاء الخاصَّة من الموالي؟
والجواب هو: لا يوجد ما يُحدِّد العدد إلَّا رواية أوردها الشيخ الكليني (رحمه الله) بسنده عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام)، قال: «لَابُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ مِنْ غَيْبَةٍ، وَلَابُدَّ لَه فِي غَيْبَتِه مِنْ عُزْلَةٍ، وَنِعْمَ المَنْزِلُ طَيْبَةُ، وَمَا بِثَلَاثِينَ مِنْ وَحْشَةٍ»(432)، فإذا صحَّت الرواية وكان المقصود بالغيبة هنا الكبرى، فهذا هو العدد.
قال الشيخ النوري (رحمه الله): (وهذه الثلاثون الذين يستأنس بهم الإمام (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(431) مرَّت في البحث الثاني من الفصل الأوَّل لدى الحديث عن الروايات المتَّصلة بالمهدي (عجَّل الله فرجه)، وفي البحث الثالث من الفصل الثاني: (نُوَّابه وبعض توقيعاته) بعض الروايات في ذلك.
(432) الكافي (ج 1/ ص 340/ باب في الغيبة/ ح 16)؛ ورواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 194/ باب 10/ فصل 4/ ح 41).
وروى الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 162/ ح 121) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «لَابُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ مِنْ عُزْلَةٍ، وَلَابُدَّ فِي عُزْلَتِهِ مِنْ قُوَّةٍ، وَمَا بِثَلَاثِينَ مِنْ وَحْشَةٍ، وَنِعْمَ اَلمَنْزِلُ طَيْبَةُ».
في غيبته لابدَّ من أنْ يتبدَّلوا في كلِّ قرن، إذا لم يُقدَّر لهم من العمر ما قُدِّر لسيِّدهم (عليه السلام)، ففي كلِّ عصر يوجد ثلاثون مؤمناً وليًّا يتشرَّفون بلقائه)(433).
ويبدو أنَّ مقام هؤلاء الموالي، من حيث صلتهم بالإمام (عجَّل الله فرجه) وموقعهم منه ومهامِّهم لديه وعددهم كما حدَّدتهم الرواية، هو منشأ الربط بينهم وبين الأبدال الذين عرَّفهم الشيخ الطريحي (رحمه الله) بأنَّهم (قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم إذا مات واحد أبدل الله مكانه آخر)(434).
قال الشيخ تقي الدِّين إبراهيم بن عليٍّ الكفعمي: (قيل: إنَّ الأرض لا تخلو من القطب، وأربعة أوتاد، وأربعين بدلاً، وسبعين نجيباً، وثلاثمائة وستِّين صالحاً(435)).
وقال بعدها: (فالقطب هو المهدي (عليه السلام)، ولا تكون الأوتاد أقلّ من أربعة لأنَّ الدنيا كالخيمة، والمهدي (عليه السلام) كالعمود، وتلك الأربعة أطنابها، وقد تكون الأوتاد أكثر من أربعة، والأبدال أكثر من أربعين والنجباء أكثر من سبعين، والصالحون نحو أكثر من ثلاثمائة وستِّين)(436).
ولا توجد من هذه التسميات في الأخبار عدا الأبدال والنجباء(437)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(433) جنَّة المأوى (ص 166).
(434) مجمع البحرين (ج 5/ ص 319).
(435) الأقطاب، والأوتاد، والأبدال، والنقباء، والنجباء مصطلحات أساسها إسماعيلي ثمّ صوفي يتَّصل بالرُّتَب والمقامات الخاصَّة كما حدَّدوها. راجع: الصلة بين التصوُّف والتشيُّع (ص 457 - 464).
(436) المصباح (هامش ص 621 و622).
(437) أورد الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 476 و477/ ح 502) حديثاً بسنده عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «يُبَايَعُ القَائِمَ بَيْنَ اَلرُّكْنِ وَاَلمَقَامِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ عِدَّةَ أَهْلِ بَدْرٍ، فِيهِمُ اَلنُّجَبَاءُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَالأَبْدَالُ مِنْ أَهْلِ اَلشَّامِ، وَالأَخْيَارُ مِنْ أَهْلِ العِرَاقِ، فَيُقِيمُ مَا شَاءَ اَللهُ أَنْ يُقِيمَ».
ووردت لفظة (الأبدال) في أحاديث رواها أحمد بن حنبل في مسنده (ج 2/ ص 231/ ح 896) عن عليٍّ (عليه السلام)، وفي (ج 37/ ص 413/ ح 22751) عن عبادة بن الصامت، وفي حديث عن ابن عمر رواه أبو نعيم في حلية الأولياء، وورد في حديث رواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق عن عليٍّ (عليه السلام)، وورد فيه أنَّهم ينصرون المهدي (عجَّل الله فرجه). والأبدال في رواية أبي نعيم من خيار أُمَّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو ما جاء في تعريف الطريحي. أمَّا لدى الصوفيَّة فهو أمر آخر، يقول ابن عربي في الفتوحات المكّيَّة (ج 2/ ص 7): (هم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون، يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكلِّ بدل إقليم فيه ولايته...، وهم عارفون بما أودع الله سبحانه في الكواكب السيَّارة من الأُمور والأسرار في حركاتها ونزولها في المنازل المقدَّرة، ولهم من الأسماء أسماء الصفات...)، قال: (وسمُّوا هؤلاء أبدالاً لكونهم إذا فارقوا موضعاً ويريدون أنْ يخلفوا بدلاً منهم في ذلك الموضع لأمر يرونه مصلحة وقربة يتركوا به شخصاً على صورته لا يشكُّ أحد ممَّن أدرك رؤية ذلك الشخص أنَّه عين ذلك الرجل وليس هو بل هو شخص روحاني...)، قال: (فكلُّ من له هذه القوَّة فهو البدل).
والحقيقة أنَّ ما أشار إليه ابن عربي من إمكانيَّة ترك البدن الصوري هو نفسه المعروف لدى الباراسايكولوجيِّين بطرح الجسد البرزخي أو الكوكبي أو الأثيري، وهو ممَّا يملكه عدد كبير من النساء والرجال من مختلف الأُمَم في أُوروبا وأمريكا والاتِّحاد السوفيتي والهند، وليس خاصًّا بالأبدال هؤلاء ليكون كلُّ من يملكه بدلاً. وسترى عدداً من مصادر ذلك في الجزء الثاني.
وأخبارها ضعيفة ومؤشَّر عليها.
ويبدو أنَّ الشيخ الكفعمي طبَّق هذه التسميات التي أوردها بلفظها.
وقيل: ولكن عدد الأبدال في ما ذكره مختلف عمَّا ورد في الرواية السابقة إذا كانوا المعنيِّين بها، ولا ضير، فهو يتطابق مع رواية أُخرى عن عبد الأعلى، عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال (عليه السلام): «يَكُونُ لِصَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ غَيْبَةٌ...، حَتَّى إِذَا كَانَ
قَبْلَ خُرُوجِهِ بِلَيْلَتَيْنِ اِنْتَهَى اَلمَوْلَى اَلَّذِي يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَلْقَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ، فَيَقُولَ: كَمْ أَنْتُمْ هَاهُنَا؟ فَيَقُولُونَ: نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلاً»(438).
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ ما يهمُّنا من حيث النتيجة هو أنَّ للمهدي (عجَّل الله فرجه) خاصَّة من مواليه يلتقون به ويشاهدونه ويقومون على خدمته.
والخلاصة ممَّا تقدَّم حول ما إذا كانت المشاهدة في الغيبة الكبرى - في نظر العلماء - تُكذَّب مطلقاً أم لا؟
1 - أنَّها تُكذَّب إذا ادَّعى صاحبها السفارة والتبليغ عن الإمام (عجَّل الله فرجه)، وهو ما تكاد تُجمَع على معناه آراء العلماء، بحيث يلجأ المتيقِّن منهم بحكم إلى إبرازه بصورة أُخرى.
2 - وإذا ادَّعى معرفة الحجَّة حال لقائه به، لأنَّه يمكن أنْ ينتهي إلى ما نفاه الوجه الأوَّل.
3 - وإذا كانت دعوى رؤياه له بالصورة البشريَّة المادّيَّة لا المكاشفة، لأنَّ الجمع بين نفي الرؤية وحصولها يحصل بذلك، ولأنَّ المحذور برؤية المكاشفة منفيٌّ بحكم عدم قبولها وتصديقها إلَّا ممَّن هو أهل.
4 - وإذا كان المدَّعي من غير خاصَّة الموالي هؤلاء.
ولكن من هم؟ المتيقَّن أنَّ المبتدعين والبعداء عن أهل البيت (عليهم السلام) فكراً ومنهجاً وسلوكاً وأنفاساً ليسوا منهم.
بل يُفتي بعض العلماء بالتكذيب مطلقاً، لذلك كان السيِّد محمّد مهدي بحر العلوم (قدَّس الله نفسه)، وهو ممَّن ادُّعيت له المشاهدة، بل ادَّعاها وقال بإمكانها للخواصِّ كما ذكرنا، يُفتي - رغم ذلك - بتكذيب مدَّعي المشاهدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(438) تفسير العيَّاشي (ج 2/ ص 56/ ح 49).
ففي ما رواه الشيخ النوري (رحمه الله) عن آغا عليّ رضا النائيني، عن زين العابدين بن العالم الجليل محمّد السلماسي الذي كان من تلامذة السيِّد (رحمه الله) أنَّه قال: كنت حاضراً في محفل إفادته، فسأله رجل عن إمكان رؤية الطلعة الغرَّاء في الغيبة الكبرى...، فسكت عن جوابه وطأطأ برأسه، وخاطب نفسه بكلام خفي أسمعه، فقال ما معناه: ما أقول في جوابه وقد ضمَّني (صلوات الله عليه) إلى صدره، وورد أيضاً في خبر تكذيب مدَّعي الرؤية في أيَّام الغيبة؟ وكرَّر هذا الكلام، ثمّ قال في جواب السائل: إنَّه قد ورد في أخبار أهل العصمة تكذيب من ادَّعى رؤية الحجَّة (عجَّل الله فرجه) في أيَّام الغيبة. واقتصر في جوابه عليه(439).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(439) جنَّة المأوى (ص 61/ الحكاية 10).
الفصل الرابع: ولكن متى؟ لا توقيت ولكن ثَمَّة علامات
تمهيد: حول عوامل التقدير التي تحيل التوقيت.
البحث الأوَّل: العلامات العامَّة.
البحث الثاني: العلامات الخاصَّة.
البحث الثالث: انتظار الفرج، والدعاء بتعجيله.
تمهيد: حول عوامل التقدير التي تحيل التوقيت:
أغلق الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) السؤال: متى؟ لأسباب نذكرها في ما يأتي:
أوَّلاً: لأنَّ القوانين التي تحكم التقدير ترفض بطبيعتها التوقيت.
وقد أشرنا - في بعض ما أجبنا به عن السؤال: ما الحكمة؟ - إلى أنَّ من أسرار الغيبة انتظار الظرف الملائم للظهور، الظرف الذي يتأهَّل فيه العالم لقبول الرسالة الإسلاميَّة - بكلِّ أبعادها -، والتسليم - بقناعة - لقيادة الإمام (عجَّل الله فرجه).
وتقدير الظرف ليس جبريًّا، فـ(لا جبر ولا تفويض)(440)، بمعنى أنَّه ليس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(440) ورد الحديث عن الأئمَّة (عليهم السلام)، ومنهم الإمام عليٌّ والصادق (عليهما السلام)، وقالوا في تكملته: «إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ»، وقد اعتبره أُستاذنا الحجَّة الشيخ محمّد رضا المظفَّر (رحمه الله) معجزاً يدخل في أدلَّة الإمامة بما عبَّر عنه من تحديد دقيق لقضيَّة ظلَّ تحديدها موضع اختلاف حادٍّ حتَّى الآن.
إنَّ الإنسان - كماهيَّة وكصورة وهبها الله به الحياة والعلم والقدرة - يملك بهذه الصفات عينها - ما دامت لديه - حرّيَّة الإرادة والاختيار، فلا جبر - بحدود ما هو موضع مسؤوليَّة-، ولا ينافي ذلك عدم استقلال هذه الصفات عمَّن هي له بالذات سبحانه وتعالى، لأنَّ منحه الإنسان إيَّاها - ما دام قائماً - يعني مشيئته في أنْ يكون مختاراً، بما أنَّ الاختيار لا ينفكُّ عنها. ولكن هذه الصفات ليس للإنسان بما و في ذاته بحكم كونه ممكناً، وإنَّما بما هو بخالقه، لذلك فإنَّ من الممكن أنْ تُسلَب، فلا تفويض إذاً.
ثمّ إنَّ الإنسان والعالم من حوله خاضع بحكم التحديد والترابط لقوانين كونيَّة، حتَّى إنَّ آثار ما هو تحت اختياره ابتداءً من الأفكار والنوايا والأفعال يصبح - بحكم هذه القوانين - خارجاً في آثاره الوضعيَّة عن اختياره بالنسبة لنفسه وللآخرين، لذلك فلا تفويض من هذه الجهة أيضاً.
مفروضاً خارج الأسباب والقوانين المتَّصلة بها في هذا العالم، وإنَّما يتمُّ بهذه الأسباب والقوانين نفسها، وهي - كما شاء الله لدى خلقها ابتداءً - متشابكة متفاعلة سلباً وإيجاباً.
وإذا كان فيها ما هو ثابت، فإنَّ فيها ما هو قابل للتغيير، أو ما هو واقع تحت الخيار الانساني. وحين يكون بعضها في موقع المقتضي أو الشرط، فإنَّ بعضها الآخر قد يكون بالنسبة إليها في منزلة المانع.
وطبقاً لهذه العلاقة بين المقتضيات والشروط والموانع قد يتأخَّر الظرف وقد يتقدَّم، وقد تُلغى بعض المقدَّمات والصور المتوقَّعة قبله أو معه، وقد تحدث أُخرى لم تكن من قبل، وهو معنى (البداء)(441) الذي يمنع من الإخبارات القاطعة بالأحداث الواقعة ضمن نطاق القوانين الطبيعيَّة القابلة للتغيير، وقد ورد عن الإمام عليٍّ (عليه السلام) أنَّه قال: «لَوْ لَا آيَةٌ فِي كِتَابِ الله لَأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهِيَ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ﴾ [الرعد: 39]»(442).
ومثل ذلك ورد عن الأئمَّة الحسن والحسين وعليِّ بن الحسين ومحمّد الباقر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(441) في هامش (ص 232 و233) لدى الإجابة على السؤال: ما الحكمة؟ أشرنا إلى أنَّ الفعل الإلهي بما فيه البداء لا بمباشرة، وإنَّما هو بالأسباب المقدَّرة لدى خلق العالم ابتداءً، وما تُؤدِّي إليه من نتائج، فلا ترد عليه إشكالات مَنْ تصوَّره مخطئاً فعلاً مباشراً ممَّا يلزم عنه الجهل أو الندم، فراجعه.
(442) أمالي الصدوق (ص 423/ ح 560/1)، التوحيد للصدوق (ص 305).
وجعفر الصادق (عليهم السلام)(443).
وبناءً على ذلك، فإنَّ تحديد زمن مجيء الظرف المقدَّر لظهور الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) غير وارد، ولهذا رفض الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) التوقيت، وكذَّبوا من نقله عنهم.
روى النعماني (رحمه الله) بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَتَى خُرُوجُ القَائِمِ (عليه السلام)؟ فَقَالَ (عليه السلام): «يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نُوَقِّتُ، وَقَد قَالَ مُحَمَّدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كَذَبَ الوَقَّاتُونَ»(444).
وروى بسنده عن محمّد بن مسلم، عن الصادق (عليه السلام)، قال: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): «يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أَخْبَرَكَ عَنَّا تَوْقِيتاً فَلَا تَهَابَنَّ أَنْ تُكَذِّبَهُ، فَإِنَّا لَا نُوَقِّتُ لِأَحَدٍ وَقْتاً»(445).
وبسنده عن عبد الله بن سنان، عنه (عليه السلام)، قال: إنَّه قال (عليه السلام): «أَبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُخْلِفَ وَقْتَ المُوَقِّتِينَ»(446).
وبسنده عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قَالَ: قُلْتُ: لِهَذَا الأَمْرِ وَقْتٌ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «كَذَبَ الوَقَّاتُونَ، كَذَبَ الوَقَّاتُونَ، إِنَّ مُوسَى (عليه السلام) لَـمَّا خَرَجَ وَافِداً إِلَى رَبِّه وَاعَدَهُمْ ثَلَاثِينَ يَوْماً، فَلَمَّا زَادَه اللهُ عَلَى الثَّلَاثِينَ عَشْراً قَالَ قَوْمُه: قَدْ أَخْلَفَنَا مُوسَى، فَصَنَعُوا مَا صَنَعُوا...» الحديث(447).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(443) قرب الإسناد (ص 353 و354/ ح 1266).
(444) الغيبة للنعماني (ص 301/ باب 16/ ح 6).
(445) الغيبة للنعماني (ص 300/ باب 16/ ح 3).
(446) الغيبة للنعماني (ص 300/ باب 16/ ح 4)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 368/ باب كراهيَّة التوقيت/ ح 4).
(447) الغيبة للنعماني (ص 305/ باب 16/ ح 13)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 368 و369/ باب كراهيَّة التوقيت/ ح 5).
وقد مرَّ في التوقيع الصادر عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إلى إسحاق بن يعقوب بوساطة أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (النائب الثاني): «وَأَمَّا ظُهُورُ الفَرَجِ فَإِنَّهُ إِلَى اَللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَكَذَبَ الوَقَّاتُونَ»(448).
ثانياً: أنَّ الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) نذير بين يدي الساعة بعد انقطاع النبوَّة وختمها بسيِّد الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وغياب الأوصياء الاثني عشر (عليهم السلام)، ولذلك سُمّي بالنُّذر الأكبر، الذي يُصلِّي المسيح (عليه السلام) خلفه، وفي زمنه يبدأ البعث الجزئي المسمَّى بالرجعة، ليتَّصل به بعدئذٍ البعث الشامل، وقد ذكر المفيد (رحمه الله) أنَّه بعد رحيل الإمام (عجَّل الله فرجه) بأربعين يوماً تقوم القيامة الكبرى(449)، والقيامة مربوطة بتقدير الله لعالمنا لا يجليها لوقتها إلَّا هو، ولذلك فلا توقيت، ولكنَّهم ذكروا علامات عامَّة وخاصَّة.
علامات عصر الظهور:
وبدلاً من التوقيت ذكروا لعصر الظهور علامات عامَّة وخاصَّة، وإذا كانت الأُولى وهي تصف حالة المجتمع من حيث شيوع بعض الظواهر المنافية للدِّين والعدل والأخلاق، يمكن أنْ نجد شواهد وجودها التاريخي مع اختلاف نسبي في كلِّ عصر بدءاً من العصر الأُموي، فإنَّ ذكرها - كعلامات - ينبغي ألَّا يعني امتدادها ووجودها فقط، وإنَّما استشراءها بصورة غير معهودة.
أمَّا الثانية، أي العلامات الخاصَّة، فهي ظواهر وأحداث كونيَّة أو حضاريَّة أو سُكَّانيَّة أو عسكريَّة، عالميَّة أو إقليميَّة، لا يوجد ما يشير إليها زمن الحديث عنها بالصورة التي يجعلها متوقَّعة، لذلك فهي من هذه الناحية هامَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(448) قد تقدَّم في (ص 191)، فراجع.
(449) الإرشاد (ج 2/ ص 387).
وملفتة، والتأمُّل في الإخبار بها علاماتٍ لعصر الإمام (عجَّل الله فرجه) سبقاً، وفي عددها، وزمن حدوثها، وترابطها كونيًّا وحضاريًّا يُعطي اليقين بأنَّها تُعلَم من ذي علم موصول بعالم الغيب، وأنَّه لم يتحدَّث - حين تحدَّث عنها - اعتباطاً، ولا هي كلمحات المستبصرين دونما ترابط ولا غاية، وإنَّما لتكوين حجَّة تهب الطمأنينة للمؤمنين.
قال الشيخ النعماني (رحمه الله): (وإذا جاءت الروايات متَّصلة متواترة بمثل هذه الأشياء قبل كونها، وبحدوث هذه الحوادث قبل حدوثها، ثمّ حقَّقها العيان والوجود، فوجب أنْ تزول الشكوك عمَّن فتح الله قلبه ونوَّره وهداه وأضاء له بصره)(450).
وقال (رحمه الله) - وهو يتحدَّث عن هذه العلامات الخاصَّة -: «وهذا من أعدل الشواهد على بطلان أمر كلِّ من ادَّعى أو ادُّعي له مرتبة القائم ومنزلته، وظهر قبل مجيء هذه العلامات)(451).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(450) الغيبة للنعماني (ص 340 و341).
(451) الغيبة للنعماني (ص 292).
البحث الأوَّل: العلامات العامَّة
منها: ما ورد عَنْ عَلِيِّ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وَهُوَ فِي الحَالَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، فَإِذَا فَاطِمَةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَبَكَتْ حَتَّى ارْتَفَعَ صَوْتُهَا، فَرَفَعَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) طَرْفَهُ إِلَيْهَا فَقَالَ: «حَبِيبَتِي فَاطِمَةُ، مَا الَّذِي يُبْكِيكِ؟»، فَقَالَتْ: «أَخْشَي الضَّيْعَةَ مِنْ بَعْدِكَ»، فَقَالَ: «يَا حَبِيبَتِي، أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ اطِّلَاعَةً فَاخْتَارَ مِنْهَا أَبَاكِ فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ اطَّلَعَ اطِّلَاعَةً فَاخْتَارَ مِنْهَا بَعْلَكِ، وَأَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أُنْكِحَكِ إِيَّاهُ. يَا فَاطِمَةُ، وَنَحْنُ أَهْلُ بَيْتٍ قَدْ أَعْطَانَا اللهُ (عزَّ وجلَّ) سَبْعَ خِصَالٍ لَمْ تُعْطَ أَحَداً قَبْلَنَا وَلَا تُعْطَى أَحَداً بَعْدَنَا، أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَأَكْرَمُ النَّبِيِّينَ عَلَى الله (عزَّ وجلَّ)، وَأَحَبُّ المَخْلُوقِينَ إِلَى الله (عزَّ وجلَّ)، وَأَنَا أَبُوكِ، وَوَصِيِّي خَيْرُ الأَوْصِيَاءِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَى الله (عزَّ وجلَّ)، وَهُوَ بَعْلُكِ...»، إلى أنْ قال: «وَمِنَّا سِبْطَا هَذِهِ الأُمَّةِ، وَهُمَا ابْنَاكِ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ، وَهُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَبُوهُمَا - وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ - خَيْرٌ مِنْهُمَا. يَا فَاطِمَةُ، وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ إِنَّ مِنْهُمَا مَهْدِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ، إِذَا صَارَتِ الدُّنْيَا هَرْجاً وَمَرْجاً، وَتَظَاهَرَتِ الفِتَنُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، وَأَغَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا كَبِيرٌ يَرْحَمُ صَغِيراً، وَلَا صَغِيرٌ يُوَقِّرُ كَبِيراً، فَيَبْعَثُ اللهُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْهُمَا مَنْ يَفْتَحُ حُصُونَ الضَّلَالَةِ، وَقُلُوباً غُلْفاً، يَقُومُ بِالدِّينِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا قُمْتُ بِهِ فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ...» الحديث.
قال السلمي: (أخرجه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في صفة المهدي)(452).
وورد في حديث قدسي طويل عن ابن عبَّاس، عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من العلامات العامَّة للظهور: «إِذَا رُفِعَ العِلْمُ، وَظَهَرَ الجَهْلُ، وَكَثُرَ القُرَّاءُ، وَقَلَّ العَمَلُ، وَكَثُرَ القَتْلُ، وَقَلَّ الفُقَهَاءُ الهَادُونَ، وَكَثُرَ فُقَهَاءُ الضَّلَالَةِ وَالخَوَنَةُ، وَكَثُرَ الشُّعَرَاءُ، وَاتَّخَذَ أُمَّتُكَ قُبُورَهُمْ مَسَاجِدَ، وَحُلِّيَتِ المَصَاحِفُ، وَزُخْرِفَتِ المَسَاجِدُ، وَكَثُرَ الجَوْرُ وَالفَسَادُ، وَظَهَرَ المُنْكَرُ، وَأَمَرَ أُمَّتُكَ بِهِ، وَنَهَوْا عَنِ المَعْرُوفِ...»، إلى أنْ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «وَصَارَتِ الأُمَرَاءُ كَفَرَةً، وَأَوْلِيَاؤُهُمْ فَجَرَةً، وَأَعْوَانُهُمْ ظَلَمَةً، وَذَوِي الرَّأْيِ مِنْهُمْ فَسَقَةً»(453).
وساقوا في العلامات ما رواه السكوني، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يذكر حالة الأُمَّة في ذلك الزمان، وفيه: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ القُرْآنِ إِلَّا رَسْمُه، وَمِنَ الإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُه، يُسَمَّوْنَ بِه وَهُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْه، مَسَاجِدُهُمْ عَامِرَةٌ وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ الهُدَى، فُقَهَاءُ ذَلِكَ الزَّمَانِ شَرُّ فُقَهَاءَ تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ، مِنْهُمْ خَرَجَتِ الفِتْنَةُ وَإِلَيْهِمْ تَعُودُ»(454).
ومنها: «إِذَا صَدَّقَتْ أُمَّتِي بِالنُّجُومِ، وَكَذَّبَتْ بِالقَدَرِ، ذَلِكَ حِينَ يَتَّخِذُونَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(452) عقد الدُّرَر (ص 151 - 153)؛ ورواه الطبراني في المعجم الكبير (ج 3/ ص 57 و58/ ح 2675)، وفي المعجم الأوسط (ج 6/ ص 327 و328)، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (ج 42/ ص 130 و131)، والكنجي الشافعي في البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 478 و479)، والمحبُّ الطبري في ذخائر العقبى (ص 135 و136)، والجويني في فرائد السمطين (ج 2/ ص 84 - 86/ ح 403)، والهيثمي في مجمع الزوائد (ج 9/ ص 165 و166)، وأورد السيوطي جزءاً منه في العرف الوردي (ص 118/ ح 86).
(453) كمال الدِّين (ص 250 - 252/ باب 23/ ح 1).
(454) الكافي (ج 8/ ص 307 و308/ ح 479)، ثواب الأعمال (ص 253).
الأَمَانَةَ مَغْنَماً، وَاَلصَّدَقَةَ مَغْرَماً، وَالفَاحِشَةَ إِبَاحَةً، وَالعِبَادَةَ تَكَبُّراً، وَاِسْتِطَالَةً عَلَى اَلنَّاسِ»(455).
وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ، وَيَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَه، وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتَه، وَيَسْتَحِلُّونَ حَرَامَه بِالشُّبُهَاتِ الكَاذِبَةِ وَالأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ»(456).
ومنها: ما ورد عن الإمام عليٍّ (عليه السلام)، قال (عليه السلام): «إِذَا أَمَاتَ النَّاسُ الصَّلَاةَ، وَأَضَاعُوا الأَمَانَةَ، وَاسْتَحَلُّوا الكَذِبَ، وَأَكَلُوا الرِّبَا، وَأَخَذُوا الرِّشَا، وَشَيَّدُوا البُنْيَانَ، وَبَاعُوا الدِّينَ بِالدُّنْيَا، وَاسْتَعْمَلُوا السُّفَهَاءَ، وَشَاوَرُوا النِّسَاءَ، وَقَطَعُوا الأَرْحَامَ، وَاتَّبَعُوا الأَهْوَاءَ، وَاسْتَخَفُّوا بِالدِّمَاءِ، وَكَانَ الحِلْمُ ضَعْفاً، وَالظُّلْمُ فَخْراً، وَكَانَتِ الأُمَرَاءُ فَجَرَةً، وَالوُزَرَاءُ ظَلَمَةً، وَالعُرَفَاءُ خَوَنَةً، وَالقُرَّاءُ فَسَقَةً، وَظَهَرَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَاسْتُعْلِنَ الفُجُورُ وَقَوْلُ البُهْتَانِ وَالإِثْمُ والطُّغْيَانُ».
ومنها: «وَحُلِّيَتِ المَصَاحِفُ، وَزُخْرِفَتِ المَسَاجِدُ، وَطُوِّلَتِ المَنَارَاتُ، وَأُكْرِمَتِ الأَشْرَارُ، وَازْدَحَمَتِ الصُّفُوفُ، وَاخْتَلَفَتِ القُلُوبُ، وَنُقِضَتِ العُهُودُ».
ومنها: «وَشَهِدَ الشَّاهِدُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، وَشَهِدَ الآخَرُ قَضَاءً لِذِمَامٍ بِغَيْرِ حَقٍّ عَرَفَهُ، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ، وَآثَرُوا عَمَلَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ، وَلَبِسُوا جُلُودَ الضَّأْنِ عَلَى قُلُوبِ الذِّئَابِ، وَقُلُوبُهُمْ أَنْتَنُ مِنَ الجِيَفِ وَأَمَرُّ مِنَ الصَّبِرِ»(457).
ومنها: ما ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، قال - وهو يجيب من سأله: متى؟ -: «فَإِذَا رَأَيْتَ الحَقَّ قَدْ مَاتَ وَذَهَبَ أَهْلُه، وَرَأَيْتَ الجَوْرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(455) إرشاد القلوب (ج 1/ ص 67).
(456) نهج البلاغة (ص 220/ ح 156).
(457) كمال الدِّين (ص 525 - 528/ باب 47/ ح 1).
قَدْ شَمِلَ البِلَادَ، وَرَأَيْتَ القُرْآنَ قَدْ خَلُقَ وَأُحْدِثَ فِيه مَا لَيْسَ فِيه وَوُجِّه عَلَى الأَهْوَاءِ، وَرَأَيْتَ الدِّينَ قَدِ انْكَفَأَ كَمَا يَنْكَفِئُ المَاءُ، وَرَأَيْتَ أَهْلَ البَاطِلِ قَدِ اسْتَعْلَوْا عَلَى أَهْلِ الحَقِّ، وَرَأَيْتَ الشَّرَّ ظَاهِراً لَا يُنْهَى عَنْه وَيُعْذَرُ أَصْحَابُه».
ومنها: «وَرَأَيْتَ المُؤْمِنَ صَامِتاً لَا يُقْبَلُ قَوْلُه، وَرَأَيْتَ الفَاسِقَ يَكْذِبُ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْه كَذِبُه وَفِرْيَتُه، وَرَأَيْتَ الصَّغِيرَ يَسْتَحْقِرُ بِالكَبِيرِ، وَرَأَيْتَ الأَرْحَامَ قَدْ تَقَطَّعَتْ، وَرَأَيْتَ مَنْ يَمْتَدِحُ بِالفِسْقِ يَضْحَكُ مِنْه وَلَا يُرَدُّ عَلَيْه قَوْلُه، وَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يُنْفِقُ المَالَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ الله فَلَا يُنْهَى وَلَا يُؤْخَذُ عَلَى يَدَيْه».
ومنها: «وَرَأَيْتَ الكَافِرَ فَرِحاً لِمَا يَرَى فِي المُؤْمِنِ مَرِحاً لِمَا يَرَى فِي الأَرْضِ مِنَ الفَسَادِ، وَرَأَيْتَ الخُمُورَ تُشْرَبُ عَلَانِيَةً وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهَا مَنْ لَا يَخَافُ الله (عزَّ وجلَّ)، وَرَأَيْتَ الآمِرَ بِالمَعْرُوفِ ذَلِيلاً، وَرَأَيْتَ الفَاسِقَ فِيمَا لَا يُحِبُّ اللهُ قَوِيًّا مَحْمُوداً، وَرَأَيْتَ أَصْحَابَ الآيَاتِ يُحْتَقَرُونَ وَيُحْتَقَرُ مَنْ يُحِبُّهُمْ، وَرَأَيْتَ سَبِيلَ الخَيْرِ مُنْقَطِعاً وَسَبِيلَ الشَّرِّ مَسْلُوكاً».
ومنها: «وَرَأَيْتَ الحَرَامَ يُحَلَّلُ، وَرَأَيْتَ الحَلَالَ يُحَرَّمُ، وَرَأَيْتَ الدِّينِ بِالرَّأْيِ، وَعُطِّلَ الكِتَابُ وَأَحْكَامُه، وَرَأَيْتَ الصَّلَاةَ قَدِ اسْتُخِفَّ بِهَا، وَرَأَيْتَ الرَّجُلَ عِنْدَه المَالُ الكَثِيرُ ثُمَّ لَمْ يُزَكِّه مُنْذُ مَلَكَه، وَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَخْرُجُ إِلَى مُصَلَّاه وَيَرْجِعُ وَلَيْسَ عَلَيْه شَيْءٌ مِنْ ثِيَابِه، وَرَأَيْتَ قُلُوبَ النَّاسِ قَدْ قَسَتْ وَجَمَدَتْ أَعْيُنُهُمْ وَثَقُلَ الذِّكْرُ عَلَيْهِمْ، وَرَأَيْتَ السُّحْتَ قَدْ ظَهَرَ يُتَنَافَسُ فِيه، وَرَأَيْتَ المُصَلِّيَ إِنَّمَا يُصَلِّي لِيَرَاه النَّاسُ، وَرَأَيْتَ الفَقِيه يَتَفَقَّه لِغَيْرِ الدِّينِ يَطْلُبُ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةَ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ مَعَ مَنْ غَلَبَ، ورَأَيْتَ الحَرَمَيْنِ يُعْمَلُ فِيهِمَا بِمَا لَا يُحِبُّ اللهُ لَا يَمْنَعُهُمْ مَانِعٌ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ العَمَلِ القَبِيحِ أَحَدٌ، وَرَأَيْتَ المَعَازِفَ ظَاهِرَةً فِي الحَرَمَيْنِ، وَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ مِنَ الحَقِّ وَيَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ فَيَقُومُ إِلَيْه مَنْ يَنْصَحُه فِي نَفْسِه فَيَقُولُ: هَذَا عَنْكَ مَوْضُوعٌ، وَرَأَيْتَ كُلَّ عَامٍ يَحْدُثُ فِيه مِنَ الشَّرِّ
وَالبِدْعَةِ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ، وَرَأَيْتَ الآيَاتِ فِي السَّمَاءِ لَا يَفْزَعُ لَهَا أَحَدٌ، وَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يُنْفِقُ الكَثِيرَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ الله وَيَمْنَعُ اليَسِيرَ فِي طَاعَةِ الله، وَرَأَيْتَ العُقُوقَ قَدْ ظَهَرَ وَاسْتُخِفَّ بِالوَالِدَيْنِ وَكَانَا مِنْ أَسْوَأِ النَّاسِ حَالاً عِنْدَ الوَلَدِ، وَرَأَيْتَ ابْنَ الرَّجُلِ يَفْتَرِي عَلَى أَبِيه وَيَدْعُو عَلَى وَالِدَيْه وَيَفْرَحُ بِمَوْتِهِمَا، وَرَأَيْتَ السُّلْطَانَ يَحْتَكِرُ الطَّعَامَ، وَرَأَيْتَ أَمْوَالَ ذَوِي القُرْبَى تُقْسَمُ فِي الزُّورِ وَيُتَقَامَرُ بِهَا وَتُشْرَبُ بِهَا الخُمُورُ، وَرَأَيْتَ الأَذَانَ بِالأَجْرِ وَالصَّلَاةَ بِالأَجْرِ، وَرَأَيْتَ المَسَاجِدَ مُحْتَشِيَةً مِمَّنْ لَا يَخَافُ اللهَ مُجْتَمِعُونَ فِيهَا لِلْغِيبَةِ وَأَكْلِ لُحُومِ أَهْلِ الحَقِّ».
ومنها: «وَرَأَيْتَ القُرْآنَ قَدْ ثَقُلَ عَلَى النَّاسِ اسْتِمَاعُه وَخَفَّ عَلَى النَّاسِ اسْتِمَاعُ البَاطِلِ، وَرَأَيْتَ الحُدُودَ قَدْ عُطِّلَتْ وَعُمِلَ فِيهَا بِالأَهْوَاءِ، وَرَأَيْتَ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنَ الوُلَاةِ مَنْ يَمْتَدِحُ بِشَتْمِنَا أَهْلَ البَيْتِ، وَرَأَيْتَ مَنْ يُحِبُّنَا يُزَوَّرُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُه، وَرَأَيْتَ مَنْ أَكَلَ أَمْوَالَ اليَتَامَى يُحْمَدُ بِصَلَاحِه، وَرَأَيْتَ القُضَاةَ يَقْضُونَ بِخِلَافِ مَا أَمَرَ اللهُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ هَمُّهُمْ بُطُونُهُمْ وَفُرُوجُهُمْ لَا يُبَالُونَ بِمَا أَكَلُوا وَمَا نَكَحُوا»(458).
وهذه - كما ترى - علامات عامَّة يمكن لمن اطَّلع على تاريخ المجتمع الإسلامي، بدءاً من العهد الأُموي، أنْ يجد الكثير منها، والتفاوت إنَّما هو في مدى انتشار هذه الظواهر وحجمها بالنسبة للمجتمع، وإذا كان وجود مثل هذه الظواهر - بأيِّ حجم - مرفوضاً من حيث المبدأ في مجتمع يدين أهله - كما هو المفروض - بالإسلام، فإنَّ الذي يبدو من ذكرها كعلامات للظهور أنَّها تستشري وتنتشر بصورة أكثر ممَّا سبق.
وواقع مجتمعاتنا الإسلاميَّة اليوم يشهد لذلك بالفعل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(458) راجع: الكافي (ج 8/ ص 36 - 42/ ح 7).
وقد روى العلماء المحدِّثون علامات عامَّة أُخرى وعلامات خاصَّة، فمن شاء المزيد منها فليرجع إلى كُتُب الحديث من باب الفتن وأشراط الساعة، أو للكُتُب الخاصَّة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لا فرق في ذلك بين ما ألَّفه علماء أهل السُّنَّة أو الشيعة، ومنها المؤشَّرة خلال ما مرَّ من البحث في الهامش(459).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(459) راجع: الغيبة للنعماني (ص 255 - 292/ باب 14)، وكمال الدِّين (ص 649 - 656/ باب 57)، والإرشاد (ج 2/ ص 368 - 378)، والغيبة للطوسي (ص 433 - 466)، وبحار الأنوار (ج 52/ ص 181 - 278/ باب 25).
ويُراجَع من كُتُب أهل السُّنَّة: عقد الدُّرَر (ص 43 - 120/ باب 4)، والبرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص 135 - 139/ باب 5).
البحث الثاني: العلامات الخاصَّة
سنختار بعضاً من هذه العلامات الخاصَّة لما بها من دلالة غيبيَّة هامَّة بحكم عدم إمكان تصوُّر موضوعها في ذلك الوقت لدى تحدُّث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الأئمَّة (عليهم السلام) عنها، مع قيام هذا الموضوع أو مؤشِّراته في عصرنا الحاضر، بل إنَّ بعضها ما يزال تصوُّر حدوثه صعباً، إلَّا أنَّ العلماء - وبحسابات علميَّة - بدأوا يتوقَّعونه. ولا نشكُّ أنَّ لمثل هذه الإخبارات في هذه الموضوعات الخاصَّة قبل حدوثها بقرون عديدة أهمّيَّته في ترسيخ الإيمان لا بالصلة الحقَّة للمتحدِّث فيه بالله ﴿عَالِمُ الغَيْبِ﴾ الذي ﴿لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾ (الجنّ: 26 و27) فقط، بل بالموضوع الذي تكون العلامة بين يديه أو عنده كذلك.
وسنجد في هذه العلامات أيضاً ما يدلُّ على المرحلة التاريخيَّة والحضاريَّة التي يظهر فيها الإمام (عجَّل الله فرجه) دون توقيت، لأنَّ المرحلة قد تمتدُّ لمدى غير معروف.
ومن هذه العلامات:
1 - تطاول رعاة الإبل بالبنيان:
روى أبو هريرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حين سُئِلَ: متى الساعة؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتْ الأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ البُهْمُ فِي البُنْيَانِ...» الحديث(460).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(460) صحيح البخاري (ج 1/ ص 48 و49/ ح 47).
والذي يعنينا هنا ما ذكره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، فإنَّ من الواضح أنَّ المقصودين بذلك سُكَّان الجزيرة العربيَّة، فهي التي تتميَّز أكثر من غيرها بتربية الإبل واستخدامها قديماً حتَّى إنَّ البعير يوضع كتأشير للبلاد العربيَّة خاصَّة(461).
ومن الواضح أنَّها لم تكن معروفة سابقاً بالتطاول في البنيان وإنشاء البيوت والعمارات والفنادق الفخمة ذات الطوابق المتعدِّدة، ولكن هذا هو الواقع منذ اكتشاف البترول بالفعل، وحين تشهد ذلك وتقارن بين الماضي والحاضر عليك أنْ تذكر صاحب النبوءة (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الصادق الأمين، وتعلم أنَّك تشهد بعض أشراط الساعة المتَّصلة بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لأنَّه منها.
2 - اتِّصال الكوفة بالنجف والحيرة ثمّ بكربلاء:
روى الشيخ المفيد (رحمه الله) المتوفَّى سنة (413هـ) عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِذَا قَامَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) بَنَى فِي ظَهْرِ الكُوفَةِ مَسْجِداً لَهُ ألفُ بَابٍ، وَاتَّصَلَتْ بُيُوتُ أَهْلِ الكُوفَةِ بِنَهْرَيْ كَرْبَلَاءَ»(462).
وروى الطوسي (رحمه الله) المتوفَّى في سنة (460هـ) بسنده عَنْ مُفَضَّل بْن عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ أَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُور رَبِّها...»، إلى أنْ يقول: «وَيَبْني فِي ظَهْر الكُوفَةِ مَسْجِداً لَهُ ألفُ بَابٍ، وَتَتَّصِلُ بُيُوتُ الكُوفَةِ بِنَهَر كَرْبَلَاءَ وَبِالحِيرَةِ»(463).
وروى الطوسي (رحمه الله) أيضاً بسنده عَنْ أَبِي خَالِدٍ الكَابُلِيِّ، عَنْ أَبِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(461) كما في حديقة الهايدبارك في لندن.
(462) الإرشاد (ج 2/ ص 380).
(463) الغيبة للطوسي (ص 467 و468/ ح 484).
جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا دَخَلَ القَائِمُ الكُوفَةَ لَمْ يَبْقَ مُؤْمِنٌ إِلَّا وَهُوَ بِهَا أَوْ يَجِيءُ إِلَيْهَا»(464).
وذكر في حديث آخر عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام) أَنَّه «يَخْرُجُ إِلَى الغَريِّ، فَيَخُطُّ مَسْجِداً لَهُ ألفُ بَابٍ»(465).
وروي مسنداً إلى حَبَّةَ العُرَنيِّ، قَالَ: خَرَجَ أَمِيرُ المُؤْمِنينَ (عليه السلام) إِلَى الحِيرَةِ، فَقَالَ: «لَيَتَّصِلَنَّ هَذِهِ بِهَذِهِ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الكُوفَةِ وَالحِيرَةِ - حَتَّى يُبَاعَ الذِّرَاعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِدَنَانِيرَ»(466).
والملفت في هذه الروايات أنَّ الكوفة والحيرة لم تكونا في عصر الإمام عليٍّ (عليه السلام) والإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) من حيث الحجم السُّكَّاني بما يمكن أنْ يُتوقَّع معه اتِّصالهما وارتفاع سعر الأرض بينهما إلى هذا المقدار، أمَّا النجف وكربلاء فعدا أنَّهما لم يكونا قد مُدِّنا آنذاك فإنَّ الاتِّصال بينهما وبين الكوفة والحيرة لم يكن ليبلغه حتَّى الخيال آنذاك، ومثل ذلك أمر الحاجة إلى مسجد يبلغ من السعة بحيث يحتاج إلى ألف باب.
ولكن هذا الذي كان منتفياً موضوعاً وفي أكثر من جهة في عصرهم (عليهم السلام) قد قامت مؤشِّراته بالفعل، ومن يرى ما حدث منذ ثلاثة عقود من اتِّصال الكوفة بالنجف، وامتدادها نحو الحيرة من جهة، ونحو كربلاء من جهة ثانية، وامتداد كربلاء نحوهما كذلك، ثمّ رصد الخطَّ البياني لحركة الهجرة نحو هذه المنطقة ومُدُنها، يرى أنَّ ما جاء في هذه الروايات ليس بعيداً، بل هو يتَّجه نحو التحقيق، وبصورة أسرع ممَّا هو الطبيعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(464) الغيبة للطوسي (ص 455/ ح 464)؛ وروى (رحمه الله) في (ص 451/ ح 455) بسنده عَنْ عَبْدِ اللهِ اِبْن أَبِي الهُذَيْل، قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَجْتَمِعَ كُلُّ مُؤْمِنٍ بِالكُوفَةِ).
(465) الغيبة للطوسي (ص 468 و469/ ح 485).
(466) تهذيب الأحكام (ج 3/ ص 253 و254/ ح 699/19).
ولا نشكُّ أنَّ شوق المؤمنين للإمام (عليه السلام) ورغبة مجاورته لدى ظهوره سيجعل ما قد بقي من المسافات حتَّى الآن أقلّ حتَّى ممَّا هي الكفاية.
3 - يرى مَنْ في المشرق مَنْ في المغرب وبالعكس:
روى المجلسي (رحمه الله) المتوفَّى (1111هـ) بسنده عَنِ ابْن مُسْكَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ المُؤْمِنَ فِي زَمَان القَائِم وَهُوَ بِالمَشْرقِ لَيَرَى أَخَاهُ الَّذِي فِي المَغْربِ، وَكَذَا الَّذِي فِي المَغْربِ يَرَى أَخَاهُ الَّذِي فِي المَشْرقِ»(467).
وبسنده عن المفضَّل بن عمر أنَّه سأل الصادق (عليه السلام) في رواية طويلة، فقال: يَا سَيِّدِي، فَفِي أَيِّ بُقْعَةٍ يَظْهَرُ المَهْدِيُّ؟ قَالَ (عليه السلام): «لَا تَرَاهُ عَيْنٌ فِي وَقْتِ ظُهُورهِ إِلَّا رَأَتْهُ كُلُّ عَيْنٍ، فَمَنْ قَالَ لَكُمْ غَيْرَ هَذَا فَكَذِّبُوهُ»(468).
وروى الكليني (رحمه الله) المتوفَّى (329هـ) بسنده إلى أَبِي الرَّبِيعِ الشَّامِيِّ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ مَدَّ اللهُ (عزَّ وجلَّ) لِشِيعَتِنَا فِي أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ حَتَّى لَا يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القَائِمِ بَرِيدٌ، يُكَلِّمُهُمُ فَيَسْمَعُونَ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْه وَهُوَ فِي مَكَانِه»(469).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(467) بحار الأنوار (ج 52/ ص 391/ ح 213)، عن سرور أهل الإيمان (ص 115).
(468) بحار الأنوار (ج 52/ ص 6)، عن الهداية الكبرى (ص 395).
(469) الكافي (ج 8/ ص 240 و241/ ح 329)؛ وردت روايات أُخرى مشابهة يؤول مضمونها إلى ما جاء في هذه الرواية، منها ما رواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 671 و672/ باب 58/ ح 22) بسنده عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى القَائِم (عليه السلام) عَلَى ظَهْر النَّجَفِ، فَإذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْر النَّجَفِ رَكِبَ فَرَساً أَدْهَمَ أَبْلَقَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ شِمْرَاخٌ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ بِهِ فَرَسُهُ، فَلَا يَبْقَى أَهْلُ بَلْدَةٍ إِلَّا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ...»، ومنها ما رواه الصدوق (رحمه الله) أيضاً في كمال الدِّين (ص 650 و651/ باب 57/ ح 8) بسنده عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ بِاسْم القَائِم (عليه السلام)»، قُلْتُ: خَاصٌّ أَوْ عَامٌّ؟ قَالَ: «عَامٌّ، يَسْمَعُ كُلُّ قَوْم بِلِسَانِهِمْ».
ولا أظنُّ أنَّا في حاجة لبيان أنَّ ما أشارت إليه الروايات لم يكن متصوَّراً حتَّى على مستوى الخيال في زمن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي تُوفّي سنة (148هـ)، بل ما كان ليمكن أنْ يُتصوَّر قبل عهد التلفزة، بل التلفزة عبر الأقمار الصناعيَّة، ويمكن أنْ يكون في الحديث الثالث إشارة إلى الهاتف التلفازي الذي بدأت تجاربه الناجحة في مستوى المسافات القريبة.
وليس أمامنا لفهم هذه الأحاديث - ومن رواة بعضها الشيخ الكليني المتوفَّى سنة (329هـ) - إلَّا ما ذكرناه من الإمكانيات التي أتاحتها العلوم والتقنيَّات في عصرنا؛ لأنَّ تفسيرها بخصوصيَّات خارقة يرفضها - لو قبلناها جدلاً - كونها عامَّة عدا أنَّها لا داعي لها مع كون الوسيلة التقنيَّة قائمة على مستوى ما أشارت إليه الروايات بالفعل. وهذا يعني أنَّ عصرنا - بخصوصيَّاته - هو عصر الإمام (عجَّل الله فرجه) دون توقيت، لعدم إمكان تحديد مداه من حيث المستقبل. ومهما اختلفنا في شيء فإنَّا لا يمكن أنْ نختلف في كونها نبوءات باهرة ودقيقة، بل هي آية بالفعل.
4 - أنصاره يركبون السحاب، ويصلون إليه في ساعة:
عن المفضَّل بن عمر، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال في حديث له تحدَّث فيه عن دعاء الإمام (عليه السلام) لدى إذن الله له، قال: «فَأُتِيحَتْ لَهُ صَحَابَتُهُ الثَّلَاثُمِائَةِ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، قَزَعٌ كَقَزَع الخَريفِ، فَهُمْ أَصْحَابُ الألويَةِ، مِنْهُمْ مَنْ يُفْقَدُ مِنْ فِرَاشِهِ لَيْلاً فَيُصْبِحُ بِمَكَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَى يَسِيرُ فِي السَّحَابِ نَهَاراً يُعْرَفُ بِاسْمِهِ وَاسْم أَبِيهِ وَحِلْيَتِهِ وَنَسَبِهِ»(470).
وَعَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(470) الغيبة للنعماني (ص 326 و327/ باب 20/ ح 3).
أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً﴾ [البقرة: 148]، قَالَ: «الخَيْرَاتُ الوَلَايَةُ، وَقَوْلُه تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً﴾ يَعْنِي أَصْحَابَ القَائِمِ الثَّلَاثَمِائَةِ وَالبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً»، قَالَ: «وَهُمْ وَالله الأُمَّةُ المَعْدُودَةُ»، قَالَ: «يَجْتَمِعُونَ وَالله فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ قَزَعٌ كَقَزَعِ الخَرِيفِ»(471).
ومن الواضح أنَّ ركوبهم السحاب ووصولهم إليه في ساعة واحدة، مع معرفتهم المفصَّلة من قِبَل الناس، ممَّا لا يمكن تصوُّره ضمن القوانين الطبيعيَّة إلَّا بما وصلت إليه تقنيَّة الطائرات في عصرنا، فإنَّ سفرهم ليس بالجسم البرزخي أو المثالي الذي يُطرَح إرادياً لدى بعض الروحيِّين؛ لأنَّ وصولهم - كما هو ظاهر - بأبدانهم المادّيَّة، ويبدو لنا أنَّ الأمر - كما هو في ما مرَّ - تشخيص لعصر الإمام (عجَّل الله فرجه) وما فيه من إمكانيَّات تقنيَّة ووسائل سفر جوّيَّة سريعة تتيح لهم الوصول إليه في ساعة واحدة، وركوب السحاب أو الطيران في الهواء إنَّما يعني - كما هو قائم الآن - الركوب بالطائرة التي لم تكن معروفة آنذاك.
وممَّا يُؤيِّد ذلك ترابطها مع ما مرَّ وما سيأتي ممَّا يُؤشِّر بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى خصوصيَّات علميَّة وتقنّيَّة لم تُعرَف إلَّا في عصرنا.
5 - الحرب التي يذهب فيها ثلثا الناس أو تسعة أعشارهم:
روى الطوسي (رحمه الله) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْن مُسْلِم وَأَبِي بَصِيرٍ، قَالَا: سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) يَقُولُ: «لَا يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا النَّاس»، فَقُلْنَا: إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا النَّاس فَمَنْ يَبْقَى؟ فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا فِي الثُّلُثِ البَاقِي؟»(472).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(471) الكافي (ج 8/ ص 313/ ح 487).
(472) الغيبة للطوسي (ص 339/ ح 286).
وعن الإمام عليٍّ (عليه السلام)، قال: «لَا يَخْرُجُ اَلمَهْدِيُّ حَتَّى يُقْتَلَ ثُلُثٌ، وَيَمُوتُ ثُلُثٌ، وَيَبْقَى ثُلُثٌ»(473).
وروى النعماني (رحمه الله) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «لَا يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَذْهَبَ تِسْعَةُ أَعْشَار النَّاس»(474).
ومن الواضح أنَّ ذهاب ثلثي البشريَّة أو تسعة أعشارها ممَّا لا يمكن تصوُّره في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) الذي تُوفّي سنة (148هـ)، فإنَّ طبيعة الحرب والسلاح لا تسمح بذلك، وربَّما أفدنا من كون المسلمين في الثُّلُث أو العُشُر الناجي أنَّ هذه الحرب ستكون في عصرنا - وهو ما أشارت إليه العلامات السابقة دون توقيت -، بما أنَّ هولها وما تُحدِثه من تدمير وإفناء بالصورة التي تذكرها الأحاديث هو ما يُتوقَّع من الحرب التي تكون بالصواريخ النوويَّة والهايدروجينيَّة الموجَّهة لدى كلٍّ من المعسكرين المتصارعين: الرأسمالي والشيوعي، ومن الطبيعي والمتوقَّع أنْ ينجو من لا علاقة له بهذه الحرب - كفاءةً ومصلحةً وموقعاً - كالمسلمين ومن يشبههم، إلَّا ما ينالهم بصورة عرضيَّة وتبعاً.
إنَّها - وبأكثر من قرينة - إخبار غيبي عن عصرنا وواقع الصراع فيه، وطبيعة الخريطة العسكريَّة، وصورة الحرب من حيث نوع السلاح وسعة مساحة التدمير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(473) الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 206)، عقد الدُّرَر (ص 63)، وقال: (أخرجه الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد المقرئ في سُنَنه، ورواه الحافظ أبو عبد الله نعيم بن حمَّاد في كتاب الفتن)، العرف الوردي (ص 122/ ح 94)، القول المختصر (ص 134)، كنز العُمَّال (ج 14/ ص 587/ ح 39663).
(474) الغيبة للنعماني (ص 282 و283/ باب 14/ ح 54).
والغريب أنَّ الطبيب الفرنسي والمستبصر المنجِّم نوستر آداموس المتوفَّى (1566م) ذكر أنَّ مثل هذا الدمار سيحلُّ فعلاً قبل سنة (1999م)، قال: (قبل الاتِّصال الفلكي الكبير سنة (1999م) ستحدث ثورات عديدة، والصواريخ أو النيران ستهبط من السماء بحيث لا ينجو إلَّا القليل من الناس)، ويقول: (إنَّه قبل أنْ يتحقَّق العدل الإلهي، حيث حركة النجوم ستجعل الأرض مستقرَّة وثابتة، ستحدث حروب تُعَدُّ أكثر عنفاً من أيِّ حرب شهدها العالم)(475).
6 - طلوع الشمس من مغربها:
طلوع الشمس من مغربها كإحدى علامات الساعة وردت بطُرُق مختلفة عن أبي هريرة(476)، وعبد الله بن عمر(477)، وصفوان بن عسال(478)، وحذيفة بن اليمان(479)، ووردت كذلك عن الإمام عليٍّ (عليه السلام)(480)، وأبي ذرٍّ(481)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام)(482).
وممَّا ورد عن الإمام عليٍّ (عليه السلام) أنَّه قال: «أَلَا وَتَكُونُ اَلنَّاسُ بَعْدَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا كَيَوْمِهِمْ هَذَا يَطْلُبُونَ اَلنَّسْلَ وَالوَلَدَ، يَلْقَى اَلرَّجُلُ اَلرَّجُلَ فَيَقُولُ: مَتَى وُلِدْتَ؟ فَيَقُولُ: مِنْ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ مِنْ اَلمَغْرِبِ»(483).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(475) الباراسايكولوجيَّا (ظواهر وتفسيرات) (ص 84).
(476) صحيح البخاري (ج 10/ ص 166/ ح 5795، وج 11/ ص 30/ ح 6365)، صحيح مسلم (ج 1/ ص 95 و96).
(477) الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 395 و429).
(478) سُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 1353/ ح 4070).
(479) صحيح مسلم (ج 8/ ص 179)، عن حذيفة بن أسيد.
(480) عقد الدُّرَر (ص 326).
(481) صحيح البخاري (ج 5/ ص 265 و266/ ح 2855، وج 11/ ص 144/ ح 6650)، صحيح مسلم (ج 1/ ص 96).
(482) الغيبة للطوسي (ص 435/ ح 425).
(483) عقد الدُّرَر (ص 326).
ولا يبدو من الروايات ما يدلُّ على أنَّها ممَّا يكون قبل المهدي (عجَّل الله فرجه) أو بعده إلَّا ما في بعضها من إغلاق باب التوبة بعدها.
على أنَّ في بعض الروايات أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) بعد إقامة الحجَّة على الناس يقيم الحدود دون استتابة، وبعلمه دون شهادة.
وفي رواية عن حذيفة أنَّ المقصود بالشمس التي تخرج من مغربها هو الإمام نفسه (عجَّل الله فرجه)، وهو مجاز، ولا مانع منه، إلَّا أنَّ بعض الروايات المؤشَّر إلى مصادرها في الهامش لا تقبله، لصراحتها بالمعنى الحقيقي للشمس، ولأنَّه ينافي ما ورد من مكان ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) في مكَّة، وقد أشاع هذا التفسير الإسماعيليُّون ليُطبِّقوه على المهدي الفاطمي الذي ظهر في المغرب.
على أنَّ ما ورد من روايات في لبوث الفلك زمن الإمام بحيث تطول الأيَّام والأشهر والسنين حتَّى تكون السنة سبع سنوات أو عشراً، لابدَّ أنْ تتَّصل بذلك سابقة لظهور الشمس من مغربها أو لاحقة لها.
وقد يُستغرَب ذكري لها كعلامة مع التزامي في أنْ لا أذكر من العلامات الخاصَّة إلَّا ما أصبح قائماً، أو ما وجدت بعض التأشيرات لوقوعه، وطلوع الشمس من مغربها ليس كذلك.
وأنا أعترف بذلك، إلَّا أنَّني وجدت أنَّ بعض المستبصرين وبعض العلماء ينذرون بحدوث هذه الظاهرة، وذلك وحده يكفي لجعل حديثي عنها غير بعيد عمَّا توخَّيته في الفقرات السابقة.
ففي نبوءات الطبيب الفرنسي نوستر آداموس المتوفَّى سنة (1566م): (أنَّ نجماً مذنباً في عام (1999م) سيقترب من الأرض، وستقع تغييرات عظيمة وكوارث طبيعيَّة وزلازل و...) إلخ.
ويرى: (أنَّ شدَّة وقوَّة تأثير هذا المذنب على الأرض يصل إلى الدرجة التي يُخرجها عن مدارها ويعرقل حركة دورانها)(484).
وفي كتاب لجارلس بيرلتز صدر سنة (1981م) وعُنون بـ(1999 نهاية العالم) جاء: (من أنَّ هناك احتمالاً متزايداً مفاده أنَّ الأرض ستشهد دوران قطبيها المغناطيسيَّين بعيداً جدًّا عن قطبيها الدوَّارين، والقطب المغناطيسي الجنوبي يندفع الآن بسرعة متزايدة نحو المحيط الهندي، الذي يمكن أنْ يُسبِّب تحوُّل القطبين وانعكاس المجال المغناطيسي للأرض، إضافةً إلى ظروف مأساويَّة أُخرى، ويعتقد أنَّ الكواكب حينما ستكون على خطٍّ مباشر مع الأرض ربَّما ستُسبِّب تجمُّع الترسُّبات للموادِّ المذابة في الأرض ممَّا سيجعلها تتداخل مع القشرة الأرضيَّة، الأمر الذي سيُؤدِّي إلى اختلال توازن العالم، ويترتَّب على ذلك تغيُّرات جيولوجيَّة كبيرة ومهمَّة، وهذه ستُؤدِّي حتماً إلى هزَّات أرضية كبيرة)(485).
ويلتقي معهما في ذلك المستبصر (ادغار اسبك) حيث يتحدَّث عن عام (2000)، ويذكر أحداثاً، فيقول: (يحدث ذلك عندما سيكون هناك تحوُّل في الأقطاب أو عند بدء دورة جديدة)(486).
ويقول المهندس والباحث العلمي (هاف براون): (إنَّ العالم مقدم على تحوُّل في محاوره، وذلك نتيجة تجمُّع الجليد بكمّيَّات كبيرة عند القطب الجنوبي)(487).
وهناك علامات أُخرى مماثلة لا مجال لتناولها، وفي ما ذكرناه ما يفي بالغرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(484) الباراسايكولوجيَّا (ظواهر وتفسيرات) (ص 88).
(485) الباراسايكولوجيَّا (ظواهر وتفسيرات) (ص 89 و90).
(486) الباراسايكولوجيَّا (ظواهر وتفسيرات) (ص 90).
(487) المصدر السابق.
7 - ستُّون كذَّاباً يدَّعون النبوَّة:
ومنها: ما ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «لَا تَقُومُ اَلسَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ اَلمَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، وَلاَ يَخْرُجُ اَلمَهْدِيُّ حَتَّى يَخْرُجَ سِتُّونَ كَذَّاباً كُلُّهُمْ يَقُولُ: أَنَا نَبِيٌّ»(488).
وفي بعضها: «لَا تَقُومُ اَلسَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ نَحْوَ مِنْ سِتِّينَ كَذَّاباً...» إلخ(489).
ولا فرق في أنْ يقول هؤلاء الكذَّابون ذلك لفظيًّا أو يقولوه عمليًّا فقط، لأنَّ النبيَّ هو من يأتي برسالة جديدة تُنسَب إليه فتنسخ وتُبقي من رسالة النبيِّ السابق، وهذا ما وقع تاريخيًّا سواءً من المتنبِّئين بصورة صريحة أو من بعض أدعياء العرفان وأدعياء المهدوية والبابيَّة الذين نسخوا أو عطَّلوا أحكام الشريعة الإسلاميَّة في التاريخ الماضي والحاضر، غير مبالين أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بصفته خليفةً وامتداداً لرسول الله لا يملك نسخ الرسالة الإسلاميَّة، وإلَّا أصبح نبيًّا بالمعنى الاصطلاحي، وهو لا يملك أنْ يكون كذلك، لا لمناقضته صفته تلك فقط، بل لغلق النبوَّة قرآناً وسُنَّةً وإجماعاً، وللنصوص التي تتحدَّث عنه كإمام يفرض الإسلام - كما هو واقعه في الكتاب والسُّنَّة -، أو يُعطِّل ما بعدت به الآراء والاجتهادات عنه، ويلتزم في سلوكه سيرة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمعصومين من آبائه (عليهم السلام).
وسنرى أمثلة من هؤلاء في الجزء الثاني الخاصّ بـ(أدعياء المهدويَّة والبابية) إنْ شاء الله، ويتَّضح لك بذلك مدى بُعدهم عنه سبيلاً وصفةً وغايةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(488) الإرشاد (ج 2/ ص 371).
(489) الغيبة للطوسي (ص 434/ ح 424).
8 - تفرُّق الأمَّة وتقسيمها من الدول المستعمرة:
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا»، قَالُوا: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكم غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ»(490).
وهو - للأسف - ينطبق على حال أُمَّتنا في واقعها الحاضر.
9 - السفور والألبسة القصيرة:
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي رِجَالٌ يَرْكَبُونَ عَلَى سُرُوجٍ، كَأَشْبَاهِ الرِّجَالِ، يَنْزِلُونَ عَلَى أَبْوَابِ المَسَاجِدِ، نِسَاؤُهُمْ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ العِجَافِ»(491).
ووصف (كاسيات عاريات) لا يجد له في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة مصداقاً قبل هذا العصر، انعكاساً للقِيَم المادّيَّة في الغرب، وما أدري إذا كانت تسريحة تكوير الشعر بما يشبه سنام البعير قد وُجِدَت من قبل أم لا، وأظنُّ أنَّها غير موجودة، لعدم ملائمتها الحجاب.
10 - حصار العراق:
قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يُوشِكُ أَهْلُ العِرَاقِ أَنْ لَا يُجْبَى إِلَيْهِمْ قَفِيزٌ، وَلَا دِرْهَمٌ»، قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ: «مِنْ قِبَلِ العَجْمِ، يُمْنَعُونَ ذَاكَ»(492)، يعني الأُمَم الأجنبيَّة.
وهناك علامات خاصَّة أُخرى لا مجال لذكرها، وعلامات لا نجدها قائمة في الواقع حتَّى الآن، ولا ما يُؤشِّر إلى وقوعها، إلَّا أنَّ المصادر الحديثيَّة لدى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(490) سُنَن أبي داود (ج 2/ ص 313/ ح 4297).
(491) صحيح ابن حبَّان (ج 13/ ص 64).
(492) صحيح مسلم (ج 8/ ص 185).
الشيعة وأهل السُّنَّة متَّفقة على نقلها. على أنَّ عدم وقوعها وعدم وجود ما يُؤشِّر إليها لم يكن إلَّا لأنَّها من العلامات القريبة والمحدَّدة بطبيعتها بوقت حدوثها.
ومنها: ما روي عن ثعلبة الأزدي، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «آيَتَانِ تَكُونَانِ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ (عليه السلام) لَمْ تَكُونَا مُنْذُ هَبَطَ آدَمُ إِلَى الأَرْضِ، تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالقَمَرُ فِي آخِرِه»، فَقَالَ رَجُلٌ: يا بن رَسُولِ الله، تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ وَالقَمَرُ فِي النِّصْفِ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِنِّي أَعْلَمُ مَا تَقُولُ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ لَمْ تَكُونَا مُنْذُ هَبَطَ آدَمُ (عليه السلام)»(493).
ونار من قِبَل المشرق تظلُّ أيَّاماً(494).
وقتل النفس الزكيَّة في الحرم قبل خروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بخمسة عشر يوماً(495).
والصيحة أو الفزعة في رمضان، وهي آية تُخرج الفتاة من خدرها، وتُوقِظ النائم، وتُفزع اليقظان(496).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(493) الكافي (ج 8/ ص 212/ ح 258)، الغيبة للنعماني (ص 279 و280/ باب 14/ ح 45)، الإرشاد (ج 2/ ص 374)، الغيبة للطوسي (ص 444 و445/ ح 439).
(494) روى النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 266 و267/ باب 14/ ح 37) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «... إِذَا رَأَيْتُمْ عَلَامَةً فِي السَّمَاءِ: نَاراً عَظِيمَةً مِنْ قِبَل المَشْرقِ تَطْلُعُ لَيَالِيَ، فَعِنْدَهَا فَرَجُ النَّاس، وَهِيَ قُدَّامَ القَائِم (عليه السلام) بِقَلِيلٍ».
(495) روى الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 649/ باب 57/ ح 2) بسنده عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى بَنِي العَذْرَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله اَلصَّادِقَ (عليه السلام) يَقُولُ: «لَيْسَ بَيْنَ قِيَامِ قَائِمِ آل مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ قَتْلِ اَلنَّفْسِ اَلزَّكِيَّةِ إِلَّا خَمْسَةَ عَشَرَ لَيْلَةً»؛ ورواه بتفاوت يسير الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 445/ ح 440).
(496) روى النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 261 و262/ باب 14/ ح 11) بسنده عَنْ عَبْدِ الله بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «النِّدَاءُ مِنَ المَحْتُومِ، وَالسُّفْيَانِيُّ مِنَ المَحْتُومِ، وَاليَمَانِيُّ مِنَ المَحْتُومِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ مِنَ المَحْتُومِ، وَكَفٌّ يَطْلُعُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ المَحْتُومِ»، قَالَ: «وَفَزْعَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تُوقِظُ النَّائِمَ، وَتُفْزِعُ اليَقْظَانَ، وَتُخْرِجُ الفَتَاةَ مِنْ خِدْرِهَا».
وروى (رحمه الله) في (ص 266 و267/ باب 14/ ح 17) بسنده عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَسَدِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ (عليه السلام) وَأَنَا خَامِسُ خَمْسَةٍ، وَأَصْغَرُ القَوْمِ سِنًّا، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «... أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِآخِرِ مُلْكِ بَنِي فُلَانٍ؟»، قُلْنَا: بَلَى، يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَالَ: «قَتْلُ نَفْسٍ حَرَامٍ، فِي يَوْمٍ حَرَامٍ، فِي بَلَدٍ حَرَامٍ، عَنْ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا لَهُمْ مُلْكٌ بَعْدَهُ غَيْرُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً»، قُلْنَا: هَلْ قَبْلَ هَذَا أَوْ بَعْدَهُ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: «صَيْحَةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، تُفْزِعُ اليَقْظَانَ، وَتُوقِظُ النَّائِمَ، وَتُخْرِجُ الفَتَاةَ مِنْ خِدْرِهَا».
وورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «يَزْجُرُ النَّاسَ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ (عليه السلام) عَنْ مَعَاصِيهِمْ بِنَارٍ تَظْهَرُ فِي السَّمَاءِ، وَحُمْرَةٌ تَجَلَّلُ السَّمَاءَ»(497).
وخسف في البيداء(498).
وخروج ثلاثة قُوَّاد في المنطقة يُمثِّل أحدهم أسوء ما يُعرَف من العداء لأهل البيت (عليهم السلام) وهو السفياني، بخلاف الآخرين وهما الحسني واليماني، وقد روي أنَّهم يبرزون في وقت واحد(499)، وأنَّ ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) لا يتأخَّر عنهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(497) الإرشاد (ج 2/ ص 378).
(498) روى الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 330 و331/ باب 32/ ح 16) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ اَلثَّقَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ البَاقِرَ (عليهما السلام) يَقُولُ: «القَائِمُ مِنَّا مَنْصُورٌ بِالرُّعْبِ، مُؤَيَّدٌ بِالنَّصْرِ...» إلى أنْ قال: قُلْتُ: يا بن رَسُولِ اَلله، مَتَى يَخْرُجُ قَائِمُكُمْ؟ قَالَ: «... وَخُرُوجُ اَلسُّفْيَانِيِّ مِنَ اَلشَّامِ، وَاليَمَانِيِّ مِنَ اليَمَنِ، وَخَسْفٌ بِالبَيْدَاءِ...»؛ وراجع: تفسير العيَّاشي (ج 1/ ص 64 - 66 و244 و245/ ح 117 و147، وج 2/ ص 261/ ح 34)، وتفسير القمِّي (ج 2/ ص 205 و206)، والغيبة للنعماني (ص 288 - 291/ باب 14/ ح 67)، والاختصاص (ص 255 - 257).
(499) روى الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 446 و447/ ح 443) بسنده عَنْ بَكْر بْن مُحَمَّدٍ الأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام)، قَالَ: «خُرُوجُ الثَّلَاثَةِ: الخُرَاسَانِيِّ وَالسُّفْيَانِيِّ وَاليَمَانِيِّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ، فِي يَوْم وَاحِدٍ»؛ ورواه المفيد (رحمه الله) في الإرشاد (ج 2/ ص 375).
بل يكون عند ذلك(500).
والله العالم بالصواب من ذلك.
شدَّة محنة الناس بين ظروف العلامات العامَّة والخاصَّة:
من المتوقَّع أنْ تشتدَّ بين العلامات العامَّة والخاصَّة محنة الناس، وتضطرب نفوسهم وأفكارهم، وقد يفقد البعض الميزان، وبالتالي الاستقامة والهدى، وهو ما أنذرت به كثير من الأخبار عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)، ومن تلك:
ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ اَلصَّيْقَلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ البَاقِرِ (عليه السلام) وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَحَدَّثُ وَهُوَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ مُقْبِلٌ (ويبدو أنَّ حديثهم كان عن القائم المنتظَر (عجَّل الله فرجه)) إِذِ التَفَتَ إِلَيْنَا وَقَالَ: «فِي أَيِّ شَيْءٍ أَنْتُمْ؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَا يَكُونُ اَلَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ حَتَّى تُمَحَّصُوا، هَيْهَاتَ وَلَا يَكُونُ اَلَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ حَتَّى تُمَيَّزُوا، وَلَا يَكُونُ اَلَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ حَتَّى تُغَرْبَلُوا، وَلَا يَكُونُ اَلَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(500) روى النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 278/ باب 14/ ح 42) بسنده عَنْ يَعْقُوبَ بْن السَّرَّاج، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): مَتَى فَرَجُ شِيعَتِكُمْ؟ قَالَ: «إِذَا اخْتَلَفَ وُلْدُ العَبَّاس وَوَهَى سُلْطَانُهُمْ وَطَمِعَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَطْمَعُ، وَخَلَعَتِ العَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وَرَفَعَ كُلُّ ذِي صِيصِيَةٍ صِيصِيَتَهُ، وَظَهَرَ السُّفْيَانِيُّ وَاليَمَانِيُّ، وَتَحَرَّكَ الحَسَنِيُّ، خَرَجَ صَاحِبُ هَذَا الأَمْر مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ بِتُرَاثِ رَسُول اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)...».
وروى (رحمه الله) في (ص 275/ باب 14/ ح 36) بسنده عَنْ مُحَمَّدِ بْن مُسْلِم، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْن عليٍّ (عليهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «السُّفْيَانِيُّ وَالقَائِمُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ».
إِلَّا بَعْدَ إِيَاسٍ، وَلَا يَكُونُ اَلَّذِي تَمُدُّونَ إِلَيْهِ أَعْنَاقَكُمْ حَتَّى يَشْقَى مَنْ شَقِيَ وَيَسْعَدَ مَنْ سَعِدَ»(501).
وروى الطوسي (رحمه الله) عَنْ جَابِرٍ الجُعْفِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): مَتَى يَكُونُ فَرَجُكُمْ؟ فَقَالَ: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، لَا يَكُونُ فَرَجُنَا حَتَّى تُغَرْبَلُوا، ثُمَّ تُغَرْبَلُوا، ثُمَّ تُغَرْبَلُوا - يَقُولُهَا ثَلَاثاً -، حَتَّى يُذْهِبَ اَللهُ تَعَالَى الكَدِرَ وَيُبْقِيَ اَلصَّفْوَ»(502).
وروي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «لَتُمَحَّصُنَّ يَا شِيعَةَ آلِ مُحَمَّدٍ تَمْحِيصَ الكُحْلِ فِي العَيْنِ، وَإِنَّ صَاحِبَ العَيْنِ يَدْرِي مَتَى يَقَعَ الكُحْلُ فِي عَيْنِهِ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَخْرُجُ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ يُصْبِحُ اَلرَّجُلُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، وَيُمْسِي وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا، وَيُمْسِي عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ أَمْرِنَا، وَيُصْبِحُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا»(503).
وعن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «لَا يَقُومُ القَائِمُ (عليه السلام) إِلَّا عَلَى خَوْفٍ شَدِيدٍ وَزَلَازِلَ وَفِتْنَةٍ وَبَلَاءٍ يُصِيبُ اَلنَّاسَ، وَطَاعُونٍ قَبْلَ ذَلِكَ، وَسَيْفٍ قَاطِعٍ بَيْنَ العَرَبِ، وَاِخْتِلَافٍ شَدِيدٍ بَيْنَ اَلنَّاسِ، وَتَشَتُّتٍ فِي دِينِهِمْ، وَتَغَيُّرٍ مِنْ حَالِهِمْ، حَتَّى يَتَمَنَّى اَلمُتَمَنِّي اَلمَوْتَ صَبَاحاً وَمَسَاءً مِنْ عِظَمِ مَا يَرَى مِنْ كَلَبِ اَلنَّاسِ، وَأَكْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً، فَخُرُوجُهُ (عليه السلام) إِذَا خَرَجَ عِنْدَ اليَأْسِ وَالقُنُوطِ...» الرواية(504).
وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ»(505).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(501) الغيبة للنعماني (ص 216 و217/ باب 12/ ح 16)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 335 و336/ ح 281) بسند آخر عن الصيقل نفسه، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام).
(502) الغيبة للطوسي (ص 339/ ح 287).
(503) الغيبة للنعماني (ص 214/ باب 12/ ح 12).
(504) الغيبة للنعماني (ص 263/ باب 14/ ح 13).
(505) صحيح مسلم (ج 8/ ص 182)؛ ورواه البخاري في صحيحه (ج 11/ ص 28/ ح 6359).
وروى أيضاً عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم): «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ اَلدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِي عَلَى اَلنَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي القَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلَا اَلمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ»، فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)]: «الهَرَجُ، القَاتِلُ وَاَلمَقْتُولُ فِي اَلنَّارِ»(506).
وَعَنِ اَلرَّبِيعِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام): «وَاَلله لَتُكْسَرُنَّ كَسْرَ اَلزُّجَاجِ، وَإِنَّ اَلزُّجَاجَ يُعَادُ فَيَعُودُ كَمَا كَانَ، وَاَلله لَتُكْسَرُنَّ كَسْرَ الفَخَّارِ، وَإِنَّ الفَخَّارَ لَا يَعُودُ كَمَا كَانَ، وَاَلله لَتُمَيَّزُنَّ، وَاَلله لَتُمَحَّصُنَّ، وَاَلله لَتُغَرْبَلُنَّ كَمَا يُغَرْبَلُ اَلزُّؤَانُ مِنَ القَمْحِ»(507).
وَعَنْ عَمِيرَةَ بِنْتِ نُفَيْلٍ، قَالَتْ: سَمِعْتُ بِنْتَ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام) يَقُولُ(508): «لَا يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ اَلَّذِي تَنْتَظِرُونَ حَتَّى يَبْرَأَ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَلْعَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وَيَتْفُلَ بَعْضُكُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ، وَحَتَّى يَشْهَدَ بَعْضُكُمْ بِالكُفْرِ عَلَى بَعْضٍ»، قُلْتُ: مَا فِي ذَلِكَ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الخَيْرُ كُلُّهُ فِي ذَلِكَ، عِنْدَ ذَلِكَ يَقُومُ قَائِمُنَا، فَيَرْفَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ»(509).
وصورة الحالة - كما أشارت إليها هذه الروايات إجمالاً - فظيعة تثير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(506) صحيح مسلم (ج 8/ ص 183).
(507) الغيبة للطوسي (ص 340/ ح 289).
(508) هكذا ورد في بحار الأنوار (ج 52/ ص 211/ ح 58) عن الغيبة للطوسي، ويبدو من الرواية أنَّ ابنة الحسن كانت تروي عنه (عليه السلام). هذا ولكن في الغيبة للطوسي هكذا: (عن عميرة بنت نفيل، قالت: سمعت الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) يقول...)؛ ورواه المجلسي (رحمه الله) أيضاً في (ج 52/ ص 114 و115/ ح 33) عن الغيبة للنعماني، وفيه: (عن عميرة بنت نفيل، قالت: سمعت الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) يقول...)، فالظاهر أنَّ ما وقع في بحار الأنوار من (بنت الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)) تصحيف، فانتبه.
(509) الغيبة للطوسي (ص 437 و438/ ح 429)؛ ورواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 213/ باب 12/ ح 9) عن الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام).
الخوف، ولكن الواقع التاريخي يشهد أنَّها قد وقعت بالفعل أو كثير منها على امتداد التاريخ الإسلامي بدءاً من العصر الأُموي وحتَّى الآن، فإذا ما تفاوتت ففي الشدَّة والضعف فقط، وهو أمر لابدَّ أنْ يكون بحكم واقع المجتمع الإسلامي سياسيًّا واقتصاديًّا ومذهبيًّا وثقافيًّا. ولذلك ورد أنَّ الفرج بمعناه الكامل لا يكون إلَّا في زمن المهدي (عجَّل الله فرجه)، فإنَّ غيابه نفسه تأشير لواقع متخلِّف غير مؤهَّل لقبول الحقِّ.
* * *
البحث الثالث: انتظار الفرج، والدعاء بتعجيله
وجَّه الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) أولياءهم إلى هذين الأمرين:
[انتظار الفرجٍ]:
أمَّا الأوَّل: أعني انتظار الفرج، فلأنَّه ما تمليه العقيدة ببقاء الإمام (عجَّل الله فرجه) وغيبته وظهوره، وهو بهذا اللحاظ وما يصحبه من تحمُّل للظروف النفسيَّة والموضوعيَّة عبادة وجهاد.
وقد وردت روايات كثيرة في أهمّيَّة الانتظار، ومكانته، وثوابه.
منها: ما ورد عَنِ الحَارِثِ بْنِ اَلمُغِيرَةِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: «العَارِفُ مِنْكُمْ هَذَا الأَمْرَ، اَلمُنْتَظِرُ لَهُ، اَلمُحْتَسِبُ فِيهِ الخَيْرَ كَمَنْ جَاهَدَ وَاَلله مَعَ قَائِمِ آلِ مُحَمَّدٍ بِسَيْفِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «بَلْ وَاَلله كَمَنْ جَاهَدَ مَعَ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِسَيْفِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «بَلْ وَاَلله كَمَنْ اُسْتُشْهِدَ مَعَ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فِي فُسْطَاطِهِ»(510).
وَعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا لَا يَقْبَلُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) مِنَ العِبَادِ عَمَلاً إِلَّا بِهِ»، فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَالإِقْرَارُ بِمَا أَمَرَ اَللهُ، وَالوَلَايَةُ لَنَا، وَالبَرَاءَةُ مِنْ أَعْدَائِنَا - يَعْنِي الأَئِمَّةَ خَاصَّةً وَاَلتَّسْلِيمَ لَهُمْ -، وَالوَرَعُ، وَاَلاِجْتِهَادُ، وَاَلطُّمَأْنِينَةُ، وَاَلاِنْتِظَارُ لِلْقَائِمِ (عليه السلام)»(511).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(510) تأويل الآيات الظاهرة (ج 2/ ص 665/ ح 20).
(511) الغيبة للنعماني (ص 207/ باب 11/ ح 16).
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «مَا ضَرَّ مَنْ مَاتَ مُنْتَظِراً لأَمْرِنَا أَلَّا يَمُوتَ فِي وَسَطِ فُسْطَاطِ المَهْدِيِّ وَعَسْكَرِه»(512).
وعن الإمام عليٍّ (عليه السلام)، قال: «اِنْتَظَرُوا الفَرَجَ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَلله، فَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) اِنْتِظَارُ الفَرَجِ»، وقال (عليه السلام): «الآخِذُ بِأَمْرِنَا مَعَنَا غَداً فِي حَظِيرَةِ القُدْسِ، وَاَلمُنْتَظِرُ لِأَمْرِنَا كَالمُتَشَحِّطِ بِدَمِهِ فِي سَبِيلِ اَلله»(513).
الدعاء بتعجيل الفرج:
وأمَّا الثاني: أي الدعاء بتعجيل الفرج، فإنَّ ما ورد من الحثِّ عليه، وما ورد من الأدعيَّة المنشاة من قِبَل الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) وأوليائهم فيه أكثر من أنْ نورده هنا، وقد كتب العلَّامة الحجَّة السيِّد محمّد تقي الموسوي الأصفهاني في ذلك سِفراً كبيراً أسماه (مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم (عليه السلام))، ويكفي في ذلك ما جاء عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، قال: «وَأَكْثِرُوا اَلدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ الفَرَجِ فَإِنَّ ذَلِكَ فَرَجُكُمْ»(514).
وإذا عرفنا أنَّ الدعاء يدخل ضمن الأسباب الكونيَّة المؤثِّرة في التقدير(515)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(512) الكافي (ج 1/ص 372/باب أنَّه من عرف إمامه لم يضرّه تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر/ح 6).
(513) الخصال (ص 610 - 637/ حديث أربعمائة).
(514) كمال الدِّين (ص 485/ باب 45/ ح 4)، الغيبة للطوسي (ص 292 و293/ ح 247).
(515) ليس للأشياء بما هي في نفسها وجود، ولآثارها تبعاً لذلك، وإنَّما وجودها وآثارها بالله سبحانه وكما شاء، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ﴾ (الحجّ: 62)، وقال الإمام عليٌّ (عليه السلام): «كُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ» (نهج البلاغة: ص 158/ الخطبة 109)، وإنَّ البينونة ليست بينونة انفصال، لأنَّها استقلال، وهو - عدا كونه شركاً - مستحيل في نفسه، وإنَّما هي بينونة صفة وقدر، كما هو الشأن في كلَّ أثر، وما هو قائم بسلسلة من الآثار كما هو في عالم التركيب المادِّي.
وبناءً على ذلك فإنَّ السببيَّة في الأشياء كما شاء الله سبحانه، وإذا كان كذلك فهي كما تكون في الأشياء المادّيَّة كيمياويَّة وفيزياويَّة وبايولوجيَّة تكون في غيرها، أي في الاعتقاد والنيَّة والتوجُّه والفعل قوليًّا أو عمليًّا، ومن ذلك الدعاء، قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60)، ولكن بشرطه، ومعناه الذي يصل فيه الداعي قلباً وروحاً إلى أسباب الإجاببة التي هي ذوات أسمائه الحسنى، قال تعالى: ﴿وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (الأعراف: 180). اقرأ: المضمون المعرفي في أدعية أهل البيت (عليهم السلام) للمؤلِّف.
وإذا تذكَّرنا حديثنا في البداء في ما تُعطيه العلاقة بين المقتضي والمانع من الأسباب يتَّضح لنا ما يمكن أنْ يسهم به الدعاء في تهيئة الظرف المؤهَّل لاستقبال الإمام (عجَّل الله فرجه)، ومعنى أنْ يهتمَّ الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) به بالصورة التي أشرنا إليها، عدا كونه ترديداً لهذه العقيدة وإيحاءً بها يُؤدِّي إلى تركيزها في نفس المؤمن، فاقرأ منها ما ورد في دعاء السجَّاد (عليه السلام) في عرفة(516).
وما ورد في آخر دعاء الافتتاح المرويِّ عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(517).
وما رواه الشيخ أبو عليّ بن همَّام (رحمه الله)، عن الشيخ العمري (رضي الله عنه)، قال: إنَّه أَمْلَاهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فِي غَيْبَةِ القَائِمِ (عليه السلام)، وأوَّله: «اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيَّكَ، اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَبِيَّكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَبِيَّكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ»(518).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(516) الصحيفة السجَّاديَّة (ص 316/ الدعاء 147).
(517) إقبال الأعمال (ج 1/ ص 138)، مفاتيح الجنان (ص 290 - 295).
(518) كمال الدِّين (ص 512/ باب 45/ ح 43)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 5) عن زرارة، عن الإمام الصادق (عليه السلام) الفقرات الأُولى منه، فقد قال له بعد أنْ حدَّثه عن الغمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عمَّا يعمله في ذلك الزمان لو أدركه، فقال له: «ادْعُ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ...».
الانتظار لا يعني ترك العمل:
الانتظار أو الترقُّب حالة نفسيَّة لدى من يؤمن بمجيء (موعود)، ويتبعها تلقائيًّا الاستعداد بما هو المفروض لدى حضوره عادةً، لذلك فهو حالة طبيعيَّة واقعيَّة لدى المؤمنين، وما ورد من الأخبار عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) ليس دعوة له بمقدار ما هو ثناء وبشارة للمنتظِرين وتطمين لمن خشي أنْ يُدركه الموت قبل الظهور بأنَّه قد أدرك ما أمَّله من المنزلة والفضل بنفس الانتظار، ولا علاقة للانتظار أصلاً، ولا لما ورد فيه - كما قد تصوَّر البعض - في أنْ يكون تخديراً، أو دعوةً للسلبيَّة، بل على العكس فإنَّ الانتظار للموعود يدعو بطبيعته إلى الاستعداد المناسب له، وذلك يعني العمل سواءً ما اتَّصل منه بالذات أو بالآخرين، وحين يكون الموعود هو ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) فلابدَّ أنْ يكون الاستعداد هو العمل على أنْ نكون في وضع مؤهَّل عقائديًّا وروحيًّا وأخلاقيًّا لاستقباله والكون في خدمته على مستوى النصرة.
ويبدو أنَّ من يتصوَّر أنَّ الانتظار يناقض العمل هو ممَّن يرى أنَّ العمل ينحصر في العمل السياسي الذي ينشط بسبيل الثورة وتسلُّم السلطة ومقاليد الحكم شأن أيَّة جماعة سياسيَّة أُخرى، وهي رؤية ضيِّقة جدًّا لمفهوم العمل وغاياته من زاوية إسلاميَّة عامَّة، والأخذ به يعني إخراج المعصومين الاثني عشر (عليهم السلام) في فترة من حياتهم بالنسبة للبعض - كما في عليٍّ والحسنين (عليهم السلام) - أو في حياتهم كلِّها بالنسبة للبعض الآخر من ساحة العاملين والمجاهدين، ولا أظنُّ أنَّ أحداً يجرأ على أنْ يرى ذلك.
وفي مقارنة سريعة بين مردود عملهم العلمي والتربوي وقيامهم بوصفهم قدوةً وأُنموذجاً في الروح والفكر والسلوك والمواقف الذي ظلَّ يُمثِّل حتَّى الآن قواعد ومنارات للأُمَّة كلِّها، وبين مردود تلك الثورات التي قام بها الزيديُّون
مثلاً ليس الآن بل حتَّى في وقتها، يبدو لنا الفرق واضحاً وكبيراً لا يقبل القياس، وهي ردُّنا الفاحم على من يحصر العمل في كلِّ ظرف بالعمل السياسي.
إنَّ السلطة ليست - في نظر أهل البيت (عليهم السلام) وأوليائهم من المؤمنين - إلَّا وسيلة لتسويد القِيَم والمبادئ والأحكام الإسلاميَّة، وحين يكون العمل لها أو بها خارج نطاق هذه القِيَم والمبادئ، أو ينتهي بصورة أو أُخرى إلى ذلك بحكم فقدان القاعدة المتمثِّلة للرسالة رؤيةً وخُلُقاً وعملاً وبحكم تشظِّي الأُمَّة، فسيكون الخسار في العمل لها أكثر قطعاً، وفرق كبير بين حركات سياسيَّة تقبل من الأنصار نماذج ممَّن يتحرَّك بدافع: كم تهب لنا؟ - كما قال جورج جرداق -، وبين حركات لا تقبل إلَّا من يعمل لله ولغرض الرسالة، كما وعاها وعاشها فكراً وخُلُقاً دونما النظر لما يأتي به الحكم من مكاسب شخصيَّة.
إنَّ استيعاب الإمكانات في الواقع هو الذي يملي الانتظار، وهو ليس تركاً بل رفض للاستعجال فيه، الاستعجال الذي لا يضع اشتراطات العمل الرساليَّة الحقِّ - كما هو في الإسلام الحقِّ - أُسلوباً وتعاملاً وغايةً في الحساب، ممَّا يجعله في هذه الحالة يستملي العاطفة والحماس وحبَّ الظهور وأهواء الأُمَّة أكثر ممَّا يستوحي المبادئ ومصلحة الرسالة.
وإذاً فالخلاف ليس في أصل المسألة، بل في ظروفها وشروطها، وذلك ما أشارت إليه غيبتا الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الصغرى والكبرى، وما أشارت إليه الروايات الواردة في ذلك عن أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً لدى إجابتهم من دعاهم من الحركات لتزعُّمها، فحين عرض أبو مسلم الخراساني على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(519) الملل والنحل (ج 1/ ص 154).
ذلك أجاب المتحمِّسون من أوليائه(520)، والروايات في ذلك كثيرة.
قال الإمام الباقر (عليه السلام) لجابر، وهو يلفته إلى ما أشرنا إليه من خلال تقويمه للظرف ولإمكانات الرسالي الملتزم أُسلوباً وتعاملاً وغايةً فيه إزاء ما تملكه القوى الأُخرى: «مَثَلُ مَنْ خَرَجَ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ مَثَلُ فَرْخٍ طَارَ فَوَقَعَ مِنْ وَكْرِهِ فَتَلاَعَبَتْ بِهِ اَلصِّبْيَانُ»(521).
وفي روايتي أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) اللتين قدَّمناهما آنفاً تحت عنوان (انتظار الفرج) يتبيَّن لنا الاتِّجاه الذي أراده الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) في فترة الانتظار بسبيل إيجاد القاعدة الموطِّئة لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، وقد ذكر المحدِّثون من المسلمين سُنَّةً وشيعةً أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشَّر بطائفة من الأُمَّة يُوطِّؤون للمهدي (عجَّل الله فرجه)، ويكونون من أنصاره، وقد عقد السلمي الشافعي المتوفَّى سنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(520) روى الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 2/ ص 242 و243/ باب في قلَّة عدد المؤمنين/ ح 4) بسنده عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، فَقُلْتُ لَه: وَالله مَا يَسَعُكَ القُعُودُ، فَقَالَ: «وَلِمَ، يَا سَدِيرُ؟»، قُلْتُ: لِكَثْرَةِ مَوَالِيكَ وَشِيعَتِكَ وَأَنْصَارِكَ، وَالله لَوْ كَانَ لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَا لَكَ مِنَ الشِّيعَةِ وَالأَنْصَارِ وَالمَوَالِي مَا طَمِعَ فِيه تَيْمٌ وَلَا عَدِيٌّ، فَقَالَ: «يَا سَدِيرُ، وَكَمْ عَسَى أَنْ يَكُونُوا؟»، قُلْتُ: مِائَةَ الفٍ، قَالَ: «مِائَةَ الفٍ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، وَمِائَتَيْ الفٍ، قَالَ: «مِائَتَيْ الفٍ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، وَنِصْفَ الدُّنْيَا، قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: «يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ مَعَنَا إِلَى يَنْبُعَ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِحِمَارٍ وَبَغْلٍ أَنْ يُسْرَجَا، فَبَادَرْتُ، فَرَكِبْتُ الحِمَارَ، فَقَالَ: «يَا سَدِيرُ، أتَرَى أَنْ تُؤْثِرَنِي بِالحِمَارِ؟»، قُلْتُ: البَغْلُ أَزْيَنُ وَأَنْبَلُ، قَالَ: «الحِمَارُ أَرْفَقُ بِي»، فَنَزَلْتُ، فَرَكِبَ الحِمَارَ وَرَكِبْتُ البَغْلَ، فَمَضَيْنَا، فَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ: «يَا سَدِيرُ، انْزِلْ بِنَا نُصَلِّ»، ثُمَّ قَالَ: «هَذِه أَرْضٌ سَبِخَةٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا»، فَسِرْنَا حَتَّى صِرْنَا إِلَى أَرْضٍ حَمْرَاءَ، وَنَظَرَ إِلَى غُلَامٍ يَرْعَى جِدَاءً، فَقَالَ: «وَالله يَا سَدِيرُ لَوْ كَانَ لِي شِيعَةٌ بِعَدَدِ هَذِه الجِدَاءِ مَا وَسِعَنِي القُعُودُ»، وَنَزَلْنَا وَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلَاةِ عَطَفْتُ عَلَى الجِدَاءِ فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ».
(521) الغيبة للنعماني (ص 206/ باب 11/ ح 14).
(685هـ) الباب الخامس من (قلائد الدُّرَر) لإيراد ما جاء حول ذلك(522).
ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن معاذ بن جبل (رحمه الله)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ المَسِيحَ الدَّجَّالَ»(523).
في رواية مسلم عن جابر بن عبد الله بعد صدر الحديث: «ظَاهِرينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»(524).
يقول الأُستاذ الحجَّة الشيخ محمّد رضا المظفَّر (قدَّس الله نفسه): (وممَّا يجدر أنْ نعرفه في هذا الصدد ونُذكِّر أنفسنا به أنَّه ليس معنى انتظار المصلح المنقذ (المهدي (عجَّل الله فرجه)) أنْ يقف المسلمون مكتوفي الأيدي في ما يعود إلى الحقِّ من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والأخذ بأحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بل المسلم أبداً مكلَّف بالعمل بما أُنزل من الأحكام الشرعيَّة، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطُّرُق الموصلة إليها حقيقةً، وواجب عليه أنْ يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر ما تمكَّن من ذلك وبلغت إليه قدرته، «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»(525)، فلا يجوز له التأخُّر عن واجباته بمجرَّد الانتظار للمصلح المهدي والمبشِّر الهادي، فإنَّ هذا لا يُسقِط تكليفاً، ولا يُؤجِّل عملاً)(526).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(522) عقد الدُّرَر (ص 121 - 134).
(523) عنهما عقد الدُّرَر (ص 121)؛ ورواه أبو داود في سُنَنه (ج 1/ص 556 و557/ح 2484).
(524) صحيح مسلم (ج 6/ ص 54).
(525) صحيح البخاري (ج 2/ص 165 و166/ح 808)، صحيح مسلم (ج 6/ص 8).
(526) عقائد الإماميَّة (ص 79 و80).
البحث الأوَّل: كيف سينتصر (عجَّل الله فرجه)؟
البحث الثاني: ماذا سيفعل (عجَّل الله فرجه)؟
البحث الثالث: الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وعقيدة الرجعة.
البحث الأوَّل: كيف سينتصر (عجَّل الله فرجه)؟
يسأل بعضهم قائلاً: إذا كان الإمام (عجَّل الله فرجه) وهو من قد غاب في كلتا غيبتيه القصيرة والطويلة اتِّقاءً للأعداء في عصر الخلافة العبَّاسيَّة بين (260هـ) و(329هـ)، فكيف يمكن أنْ نتصوَّر ظهوره وانتصاره في مثل هذا العصر؟
لقد استبعد الإسلام اليوم بوصفه قاعدة للرؤية والتشريع والحكم، وأصبح المسلمون دولاً بعد أنْ كانوا دولة واحدة، وتواشجت علاقات ومصالح دول العالم مسلمة وغير مسلمة حتَّى أصبحت محاولات التغيير الحقيقي الجادِّ - لا بالنسبة للمسلمين فقط وإنْ كانوا الأكثر خطراً في نظر العالم أيديولوجيًّا وموقعاً جغرافيًّا واقتصاديًّا، بل في كلِّ بقعة من الأرض - لا تعني أهلها، بل العالم كلَّه ودوله الكبرى بالذات، بصورة قد تصل سلباً إلى درجة المواجهة الفعليَّة. والسلاح في عصرنا ووسائل الملاحقة والمراقبة لا تقبل القياس بالعهد الذي غاب فيه الإمام (عجَّل الله فرجه)، ولا حاجة لتفصيل ذلك، فهو معروف.
فلو كان الإمام (عجَّل الله فرجه) يملك إمكانيَّات الانتصار لكان قد انتصر في ذلك العهد الذي تتكافأ فيه - من حيث الأصل - الأسلحة والوسائل بين مختلف الخصوم، أمَّا اليوم فالأمر - كما يبدو - خارج حدود ما يُقاس وما يُفهَم، فكيف يمكن إذاً أنْ نتصوَّر ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) وانتصاره؟
والخطأ الأوَّل - في هذا السؤال - يتمثَّل في النظر إلى الإمام (عجَّل الله فرجه) وحركته
وإمكانيَّاته - بالحسابات الشخصيَّة أو الاجتماعيَّة والسياسيَّة والعسكريَّة التي يُنظَر فيها بالنسبة لأيِّ إنسان آخر لا بحساب علاقته بالله ومشيئته -، وقياس موقفه ووظيفته وحركته في الظهور على ما كان قائماً في مرحلة إمامته في ذلك العهد الذي كان يسير فيه - بحكم مرحلة التأسيس - على خطِّ آبائه نفسه من الحسن العسكري (عليه السلام) حتَّى الإمام عليٍّ (عليه السلام)، بل - وبالمعيار العامِّ - حتَّى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حيث الطرح، ووسائل المقابلة للخصوم والأعداء، والمسألة ليست كذلك.
إنَّ الإجابة تقتضي أنْ نعود لنتذكَّر ما أشرنا إليه في الإجابة على السؤال عن حكمة الغيبة الكبرى، واتِّصالها بالرسالة، وأنَّ التقيَّة كانت بالنظر إليها، وإلى اشتراطات الظهور ظرفاً، ودعوةً، ووسائل مقابلة، لا إلى الإمام (عجَّل الله فرجه) شخصيًّا.
وقد كان من تلك الحِكَم: انتظار الظرف الملائم من كلِّ جهة.
وممَّا يتَّصل بذلك:
أوَّلاً: أنْ يتهيَّأ العالم بصورة عامَّة في غاية مساره العلمي والعقلي لتقبُّل الرسالة الإسلاميَّة بكلِّ أبعادها، والإصغاء لآخر أوصياء الرسول (عليه وعليهم السلام)، فهي في واقعها - خارج نطاق الآراء والاجتهادات المذهبيَّة - الصيغة الإلهيَّة النهائيَّة لحياة الإنسان عقيدةً وقِيماً وقواعد تشريع.
وتبدو في العالم العلمي - في عصرنا - أكثر من جهة بدأت تشير من خلال ما وصل إليه الفكر الإنساني والبحث العلمي في مختلف المجالات إلى لقاء حقيقي مع أهمّ الركائز التي يقوم عليها الدِّين، والدِّين الإسلامي بخاصَّة، ممَّا كان موضع تقاطع حادٍّ بينهما في السابق(527) بحيث تهيَّأت بالفعل لأوَّل مرَّة في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(527) أوَّلاً: كان بعض الفلاسفة وعلماء الطبيعة يؤمنون بأزليَّة المادَّة، ولم يقتنعوا بدليل التغيُّر ←
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
→ والتحوُّل والتركيب الذي يُقدِّمه الفلاسفة الآخرون على حدوثها حتَّى أثبت علم الفيزياء الفلكيَّة أنَّ العالم ككلٍّ لم يكن موجوداً أصلاً قبل خمسة عشر أو عشرين مليار سنة، ثمّ جاء دفعة واحدة طبقاً لنظريَّة الانفجار الكبير التي لا تزال قائمة في العالم العلمي. والانفجار كما قالوا لا يعني وجود كتلة مادّيَّة سابقة، بل بمجيء العالم برمّضته من العم في لحظة قُدِّرت بـ(3210) من الثانية، وكان في حالة ضغط لا متناهٍ وحراة لا متناهية، في نهاية الثانية الأُولى كانت درجة الحرارة (1010) كلفن، وهي حرارة - كما قالوا - أعلى من أنْ توجد فيها نوى مركَّبة. وهبطت درجة الحرارة بشكل سريع أوَّلاً ثمّ بشكل أبطأ حتَّى برد الكون بما فيه الكفاية. ولمدَّة تزيد على مائة ألف عام بقيت درجة الحرارة فوق بضعة آلاف درجة مئويَّة حائلة بذلك دون تكوين الذرَّات. ولمدَّة مائة ألف عام أُخرى بقيت المادَّة الكونيَّة في هيأة بلازما متوهِّجة من الهيدروجين والهليوم المتأينين. وعندما برد الكون إلى درجة قريبة من سطح الشمس تكوَّنت الذرات الأُولى. وعليه، فإنَّ الذرَّات آثار باقية من مائة ألف عام بعد الخليقة. (القوى العظمى: ص 195 - 198).
والمادَّة ليست إلَّا طابقة مضغوطة، وهي طبقاً لقانون أنشتاين المشهور: (E=MxC2)، وبالعربيَّة: (الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء).
وكان ببعض الفلاسفة والعلماء يظنُّون أنَّ المادة لا تفنى، ولكن العلماء سجَّلوا رأي العين فناء بعض المجرَّات كالمجرَّة (م82) وعشرات غيرها، بل استنتجت نظريَّات التوحيد الفيزيائي الكبرى أنَّ البروتون الذي هو أحد مكوِّنات نواة الذرَّة، والذي كان يُعتقَد أنَّه لا يفنى غير مستقرٍّ، وأنَّه يفنى كغيره، وأُعلن في سويسرا وقبل ذلك في تجربة هنديَّة - يابانيَّة ما أكَّد ذلك. يقول بول ديفز: وإذا كانت البروتونات مخلوقة لتنحلَّ، فهذا يعني أنَّ الكون يسير نحو الفناء التدريجي. (القوى العظمى: ص 158، هل لك في الكون نقيض: ص 158، العلم موجز تاريخ الزمن: ص 129، أسرار الذرَّة: ص 10/ أبحاث في ضوء العلم الحديث).
ثانياً: كان بعض العلماء الطبيعيِّين والفلاسفة يعتقدون بأنَّ الخلق وُجِدَ بالصدفة. وقد نفى العلم رياضيًّا ذلك طبقاً لحسابات الاحتمالات، فالصدفة لا تسمح بتكوُّن جزئ بروتيني واحد صدفةً إلَّا بنسبة واحدة إلى (16010)، وينبغي أنْ تكون كمّيَّة المادَّة التي ←
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
→ تلزم لحدوث التفاعل الذي يُوجده صدفةً أكثر ممَّا يتَّسع له هذا الكون بملايين المرَّات. ويتطلَّب تكوين هذا الجزء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لا تُحصى من السنوات قدَّرها العالم السويسري تشارلز يوجين جاي بـ(24310) من السنين. وإذا كان الأمر كذلك في تكوين مادَّة كيمياويَّة تتكوَّن من خمسة عناصر وتحتوي (40.000) ذرَّة، فما بالك بوحدات الكون الأُخرى حيَّة وغير حيَّة في كلِّ ما لها من خصائص وأشكال وآثار في كلِّ ما بينها من علاقات؟
ثالثاً: أثبت العلم لا نهاية القوَّة التي تضغط النجوم والمجرَّات لتكون ثقباً أسود، ولا نهاية القوة التي تُفجِّرها مرَّةً أُخرى.
رابعاً: وأثبت أنَّ مجرَّتنا التي كان العلماء يظنون حتَّى سنة (1924م) أنَّها الوحيدة في الكون، وهي تحتوي (100) مليار نجم وبمسافة (100) مليار سنة ضوئيَّة، معها (100) مليار مجرَّة مشهودة حتَّى الآن، وأنَّ بعضها أكبر منها كثيراً، أو أنَّ هذا العالم المادِّي كلَّه في نظر بعض العلماء كديفيد بوم أشبه بالموجة بالنسبة لبحر الطاقة، والطاقة مفهومها مجهول تعني القوَّة اللَّامادّيَّة أو السماء.
خامساً: النظريَّة النسبيَّة وما أثبتته من كون الفروق بين الألوان والأصوات والطعوم والكتلة والوزن والإحساسات والماضي والحاضر والمستقبل ليست إلَّا فروق نسبيَّة تُعطيها الحركة والسرعة والذبذبة والتموُّج والموقع في إحساس الراصد.
سادساً: ما حاولت إثباته وبلغت فيه شأواً نظريَّات التوحيد الفيزيائي الكبير من رجوع القوى الأربع إلى قوَّة واحدة، وكلُّ هذا وما تقدَّم دعم للتوحيد الذي جاء به الدِّين والإسلام خاصَّة.
سابعاً: ما أثبتته الدراسات والتجارب الباراسايكولوجيَّة في جامعات أُوروبا وأمريكا من صحَّة ظواهر التنبُّؤ، وقراءة الأفكار، وخلع الجسد إراديًّا، والرؤية عن بُعد، ووجود العالم الآخر، وأشباه ذلك.
ثامناً: ما انتهى إليه العلماء - بعد الغرور العلمي - من التواضع والاعتراف بالجهل في بعض هذا.
وكلُّ ما مرَّ مفاهيم تلتقي مع الدِّين في إثبات الأُلوهيَّة والتوحيد ومجيء العالم المادِّي عن السماوي ورجوعه إليه، والقول بالخلق، وقيامها بالمشيئة الإلهيَّة، والعالم الآخر، والحاجة إلى المعلِّم الإلهي، أو الحجَّة الموصول بالله علماً، وهو الإمام (عجَّل الله فرجه).
التاريخ قواعد مشتركة، وهو ما لم يكن قائماً في أيِّ وقتٍ مضى.
إنَّ من خصائص العلماء وصفاتهم - عدا أنَّهم أكثر إدراكاً واستيعاباً للحقيقة واهتماماً بها - أنَّهم أكثر موضوعيَّةً، وبالتالي أقلّ أنانيَّة وتعصُّباً للموروث ممَّا هو العائق الأوَّل دون الحقِّ. وحين يشيع العلم، وتتَّسع آفاق الرؤية لدى أكثر الناس تتهيَّأ القاعدة الأُولى لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) ودعوته، لذلك فهو لا يخاطب المسلمين وحدهم وإنْ كانوا المنطلق الأوَّل لدعوته، بل العالم بأجمعه، ولا على الأُمَّة الإسلاميَّة، بل تشمل البشريَّة بعامَّة. وورد أنَّ المسلمين - بحكم تخلُّفهم العلمي وتعصُّبهم للموروث - أبطأ استجابةً له ممَّا هم النصارى إلَّا قليلاً، ليس بما هم نصارى، بل بما هم في تلك المرحلة أهل علم وموضوعيَّة.
لقد ذكروا أنَّ ذلك بسبب نزول المسيح (عليه السلام) معه وصلاته خلفه، وهو مناقَش بأنَّ أحداً منهم لا يُشخِّص المسيح (عليه السلام) صورةً وشكلاً، فإذا ما رأوه، فمن خلال الآيات التي يقوم بها مع المهدي (عجَّل الله فرجه)، ولذلك فاستجابتهم ليست إلَّا من خلال العلم والوعي اللذين رفضوا بهما التثليث المسيحي والحلول والغلوَّ وآراء رجال الكهنوت ومن خلال وعيهم للحقِّ فقط(528).
إنَّ ظهور المسيح (عليه السلام) وصلاته خلف الإمام (عجَّل الله فرجه) إشارة لما شاء الله سبحانه أنْ يحيط به الإمام من آيات كبيرة هائلة، وبما هو مداه الذي يضمُّ العالم كلَّه.
وحين تستجيب قمَّة العالم العلمي المعاصر للإمام (عجَّل الله فرجه) استجابة السحرة لموسى (عليه السلام) في عهد فرعون - بما يُظهِره الله على يد حجَّته وصيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(528) راجع ما يقوله الدكتور أُوسكار لندبرج في (ص 40) من كتاب (الله يتجلَّى في عصر العلم)، واقرأ ما كتبه الطبيب الفرنسي الدكتور موريس بوكاي في كتابه (أصل الإنسان، إجابات العلم والكُتُب المقدَّسة في مقارنته بين الإسلام وكُتُب العهدين).
خاتم الرُّسُل (عليهم السلام)، من علم وآيات باهرات -، فإنَّ الانتصار الحقيقي على مستوى العالم كلِّه يكون قد حصل حتَّى لو أبى ذلك الآخرون.
إنَّ هذه القاعدة الأُولى - للانتصار - يمكن أنْ تُرى من خلال النظر إلى ما ورد من مؤشِّرات التقدُّم العلمي والعقلي والتقني القائم في الواقع، والمؤشَّر إليه في علامات الظهور الخاصَّة، وفي ما ذكرناه في الهامش السابق ممَّا وصل إليه البحث العلمي من لقاء مع ركائز الدِّين.
ثمّ في ما ورد من روايات تشير إلى أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) يُظهِر العلم كلَّه، وهو ما لم يتَّسع له إدراك أيِّ عصر آخر، وفيه نلمح الصورة العقليَّة والعلميَّة للناس في عهده.
وبالنظر إلى ذلك كلِّه نعرف مدى ما أعطى الله للإمام (عجَّل الله فرجه) من علم وهدى، بحيث يصبح قائداً وهادياً ومعلِّماً لعصر العلم. وإنَّ صلاة المسيح (عليه السلام) خلفه التي تواترت فيها الروايات ليست إلَّا إشارة إلى هذه المكانة.
ولنعرف مدى ما أعطى الإمام (عجَّل الله فرجه) من العلم والهدى علينا أنْ نقرأ الروايات التالية:
1 - روي مسنداً عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ يَدَه عَلَى رُؤُوسِ العِبَادِ، فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ، وَأَكْمَلَ بِه أَخْلَاقَهُمْ»(529)، وفي رواية أُخرى: «أَحْلَامهُمْ»(530).
2 - وعن جابر، عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام)، قال: «إِنَّمَا سُمِّيَ اَلمَهْدِيُّ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يُهْدَى إِلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ»(531).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(529) الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 840/ ح 57).
(530) كمال الدِّين (ص 675/ باب 58/ ح 30).
(531) الغيبة للنعماني (ص 242 و243/ باب 13/ ح 26)، عقد الدُّرَر (ص 40).
3 - وعن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال (عليه السلام): «يُوحَى إِلَيْهِ هَذَا الأَمْرُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ»، قَالَ: قُلْتُ: يُوحَى إِلَيْهِ، يَا أبَا جَعْفَرٍ؟ قَالَ: «يَا أَبَا جَارُودٍ، إِنَّهُ لَيْسَ وَحْيَ نُبُوَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ كَوَحْيِهِ إِلَى مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَإِلَى أُمِّ مُوسَى، وَإِلَى اَلنَّحْلِ. يَا أَبَا الجَارُودِ، إِنَّ قَائِمَ آلِ مُحَمَّدٍ لَأَكْرَمُ عِنْدَ اَللهِ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَأُمِّ مُوسَى وَاَلنَّحْلِ»(532)،(533).
4 - وروي مسنداً عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)، قال: «إِنَّهُ إِذَا تَنَاهَتِ الأُمُورُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الأَمْرِ رَفَعَ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ مُنْخَفِضٍ مِنَ الأَرْضِ، وَخَفَّضَ لَهُ كُلَّ مُرْتَفِعٍ مِنْهَا حَتَّى تَكُونَ اَلدُّنْيَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ رَاحَتِهِ، فَأَيُّكُمْ لَوْ كَانَتْ فِي رَاحَتِهِ شَعْرَةٌ لَمْ يُبْصِرْهَا؟»(534).
5 - وعن أبان، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «إِذَا قَامَ القَائِمُ (عليه السلام) لَمْ يَقُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اَلرَّحْمَنِ إِلَّا عَرَفَهُ صَالِحٌ هُوَ أَمْ طَالِحٌ»(535).
وَعَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ عَجْلَان، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام)، قَالَ من حديث: «يُلْهِمُهُ اَللهُ تَعَالَى فَيَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، وَيُخْبِرُ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا اِسْتَبْطَنُوهُ، وَيَعْرِفُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(532) بحار الأنوار (ج 52/ ص 389/ ح 209)، عن سرور أهل الإيمان (ص 108 و109).
(533) يستكثر بعض الناس - حتَّى من المؤمنين - أنَّ يُوحى إلى الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام)، وهم امتداد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصياؤه الذين أذهب الله عنهم الرجس، وجعلهم قرناء الكتاب، متصوِّرين أنَّ الوحي خاصٌّ بالأنبياء (عليهم السلام). وقد أجاب الإمام (عليه السلام) في الحديث، وضرب أمثلة بمتلقِّي الوحي من غير الأنبياء. وفرق بين وحي النبوَّة وغيره من حيث الوظيفة والمدى. ومن الأمثلة الأُخرى زوجة إبراهيم والخضر والإسكندر، وجميع أهل الكشف والباراسايكولوجيُّون يعرفون ذلك ويدَّعونه بحدودهم.
(534) كمال الدِّين (ص 674/ باب 58/ ح 29).
(535) كمال الدِّين (ص 671/ باب 58/ ح 20).
وَلِيَّهُ مِنْ عَدُوِّهِ بِالتَّوَسُّمِ، قَالَ اَللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ [الحجر: 75 و76]»(536)،(537).
6 - وعن أبان، عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)، قال: «العِلْمُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفاً، فَجَمِيعُ مَا جَاءَتْ بِهِ اَلرُّسُلُ حَرْفَانِ، فَلَمْ يَعْرِفِ اَلنَّاسُ حَتَّى اليَوْمِ غَيْرَ الحَرْفَيْنِ، فَإِذَا قَامَ قَائِمُنَا أَخْرَجَ الخَمْسَةَ وَالعِشْرِينَ حَرْفاً فَبَثَّهَا فِي اَلنَّاسِ، وَضَمَّ إِلَيْهَا الحَرْفَيْنِ حَتَّى يَبُثَّهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ حَرْفاً»(538)،(539).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(536) الإرشاد (ج 2/ ص 386).
(537) قد يُنكِر بعضهم أنْ يكون للإمام (عجَّل الله فرجه) الذي يُصلِّي المسيح (عليه السلام) خلفه هذه الإمكانات، ولهؤلاء نذكر الآية (49) من سورة آل عمران بلسان المسيح (عليه السلام): ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. إنَّ الآيات من صنع الله يُظهِرها على يد حُجَجه، والمهدي (عجَّل الله فرجه) منهم.
(538) بحار الأنوار (ج 52/ ص 336/ ح 73)، عن الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 841/ ح 59)، وفيه: (العلم سبعة وعشرون جزءاً).
(539) نعرف من الحديث الفرق بين المستوى العلمي والمعرفي للناس في زمن الأنبياء حتَّى نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - ممَّا اضطرَّه في مرحلة التأسيس إلى أنْ يُكلِّم الناس على قدر عقولهم، وأنْ يكون له مستويان من الحديث - وبين مستوى الناس في عصر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد قال الله في كتابه: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الأَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ﴾ (فُصِّلت: 53). ونظرة واحدة إلى واقع التطوُّر العلمي والمعرفي في عصرنا قياساً إلى ما كان في العهد السابق يبدو الأمر من هذه الجهة حقيقة لا ريب فيها. فالأمر لا يُقصَد به تفضيل الحجَّة على أبيه وسيِّده رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو وصيُّه الذي يستمدُّه في حياته وبعد مماته بحكم مقامه، بل تفضيل مستوى الناس والعلم في عصره على عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممَّا يسمح بمخاطبتهم بالحقائق.
ومع معرفة ما وصلت إليه البشريَّة من علم نرى أنَّها تستطيع أنْ تعرف أنَّ ما أعطاه الله للإمام (عجَّل الله فرجه) ممَّا لا يقع تحت قياس، وبذلك يُعطي الحجَّة على كونه خليفة لله وإماماً منه.
ثانياً: كثرة تجارب البشريَّة في العالم للقيادات والأنظمة، تحت مختلف الأسماء والعناوين والأُسَر والأحزاب والحركات الثوريَّة والإصلاحيَّة من هذه وتلك، من دون أنْ يُحقِّق أيٌّ منها ما يطمح إليه الناس من العدل والأمان والضمان والحرّيَّة والكرامة والتربية الأخلاقيَّة التي تُعطي للإنسانيَّة معناها، أو ينهي ما تعانيه من الفقر والقهر والظلم وتفشِّي الجرائم والحرب وسقوط الأخلاق، وغير ذلك ممَّا أشارت إليه العلامات العامَّة والخاصَّة.
ولذلك فهي - من دون شكٍّ - ستُصغي وتستجيب لدعوة التغيير الشامل التي يأتي بها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وربَّما إلى ذلك أشار ما ورد بالإسناد إلى أبي صادق(540) عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «دَوْلَتُنَا آخِرُ اَلدُّوَلِ، وَلَنْ يَبْقَ أَهْلُ بَيْتٍ لَهُمْ دَوْلَةٌ إِلَّا مُلِّكُوا قَبْلَنَا، لِئَلَّا يَقُولُوا إِذَا رَأَوْا سِيرَتَنَا: إِذَا مُلِّكْنَا سِرْنَا مِثْلَ سِيرَةِ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128)]»(541).
وعن هشام بن سالم، عن الصادق (عليه السلام)، قال: «مَا يَكُونُ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى لَا يَبْقَى صِنْفٌ مِنَ اَلنَّاسِ إِلَّا وَقَدْ وُلُّوا عَلَى اَلنَّاسِ حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّا لَوْ وُلِّينَا لَعَدَلْنَا، ثُمَّ يَقُومُ القَائِمُ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ»(542).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(540) هو كيسان بن كليب الذي ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في رجاله (ص 95/ الرقم 947/2) من أصحاب الحسن (عليه السلام)، وفي (ص 104/ الرقم 1032/2) من أصحاب الحسين (عليه السلام)، وفي (ص 119/ الرقم 1212/1) من أصحاب السجَّاد (عليه السلام)، وفي (ص 144/ الرقم 1563/5) من أصحاب الباقر (عليه السلام).
(541) الغيبة للطوسي (ص 472 و473/ ح 493).
(542) الغيبة للنعماني (ص 282/ باب 14/ ح 53).
والصنف هنا ناظر للأيديولوجيَّات والأفكار والدعوات والأطاريح لا إلى الأجناس والشعوب والقبائل.
ثالثاً: أنَّ الإسلام نفسه، عقيدةً وتشريعاً وقِيَماً وآفاق رؤية، - إذا عُرِفَ كما هو، معرَّى عن الآراء والاجتهادات الخاطئة، والتطبيقات التاريخيَّة المحرَّفة(543) - دين إلهي حقٌّ يملأ النفس والعقل، ويتطابق مع معطيات الفكر والعلم والتجربة في نهاياتها، وتتماسك عقائده ومفاهيمه الكونيَّة والخلقيَّة وتشريعاته الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة بصورة لا يجد الباحث عن الحقيقة عنه بديلاً. وكدليل على ذلك يمكن أنْ ترجع إلى القائمة الكبيرة للعلماء والمفكِّرين الأُوروبيِّين الذين اعتنقوه في هذا العصر، وهو قمَّة التقدُّم العلمي والتقني رغم ما لحقه من تأثير خلافات المذاهب الإسلاميَّة والتطبيق التاريخي. وكمثل قريب نذكر منهم رجلاً لا يختلف اثنان على مكانته في بلده، كمفكِّر وفيلسوف معاصر، هو روجيه غارودي الذي كان عضو اللجنة المركزيَّة للحزب الشيوعي الفرنسي والمؤلِّف الأصيل المعروف.
فماذا لو عرف العالم العلمي الإسلام كما هو في واقعه؟ لا شكَّ أنَّه عدَّة وقوَّة لا تقاوم، وذلك ممَّا هو بيد المهدي (عجَّل الله فرجه).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(543) انتزاع صورة الأديان والمبادئ من واقع مجتمعاتها - رغم عدم الملازمة بين واقع المجتمع وواقع مبادئه الدِّينيَّة دائماً - أمر قائم من دون شكٍّ. كتب أحد المفكِّرين السياسيِّين الغربيِّين، ولا يحضرني اسمه الآن، أنَّ الإسلام لو امتدَّ كما هو في عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والخلفاء الراشدين لدخلت أُوروبا كلُّها الإسلام، ولكن معاوية والأُمويِّين هم من كانوا - بما أعطوه من صورة مظلمة - وراء وقف هذا المدِّ. ورفض الفيلسوف اسبينوزا كما في كتابه (في اللَّاهوت والسياسة) النظر في الإسلام وموقفه من الفكر والحرّيَّة بما أعطته الخلافة التركية من انطباعات مشوَّهة لديه خلط بينها وبين الإسلام.
رابعاً: ظهور آيات كونيَّة ملفتة توقظ الإنسان من غفلته، وتقتل غروره ولا مبالاته، وتقوده مرغماً إلى الله تعالى، وبالتالي تُهيِّئه للانضواء إلى حجَّته (عجَّل الله فرجه).
1 - فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «يُزْجَرُ اَلنَّاسُ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ (عليه السلام) عَنْ مَعَاصِيهِمْ بِنَارٍ تَظْهَرُ فِي اَلسَّمَاءِ، وَحُمْرَةٍ تُجَلِّلُ اَلسَّمَاءَ...» الرواية(544).
ومن تلك الآيات الصيحة أو الفزعة في شهر رمضان.
2 - روى الحسن بن زياد الصيقل، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ القَائِمَ لَا يَقُومُ حَتَّى يُنَادِيَ مُنَادٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ تَسْمَعُ الفَتَاةُ فِي خِدْرِهَا، وَيَسْمَعُ أَهْلُ اَلمَشْرِقِ وَاَلمَغْرِبِ».
وفي رواية أُخرى، عن زرارة: «حَتَّى يَسْمَعَهُ كُلُّ قَوْمٍ»(545).
قال (عليه السلام): «وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: 4]»(546).
3 - وروى السلمي الشافعي عن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنَّه قال: «إِذَا نَادَى مُنَادٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ أَنَّ الحَقَّ فِي آلِ مُحَمَّدٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ اَلمَهْدِيُّ»، قال: (أخرجه الحافظ أبو القاسم الطبراني في (معجمه)، والحافظ أبو نعيم في (مناقب المهدي (عليه السلام))، والحافظ أبو عبد الله نعيم بن حمَّاد في كتاب (الفتن))(547).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(544) الإرشاد (ج 2/ ص 378).
(545) الغيبة للنعماني (ص 282 و283/ باب 14/ ح 54).
(546) الغيبة للطوسي (ص 177/ ح 134).
(547) عقد الدُّرَر (ص 136)؛ ورواه نعيم بن حمَّاد في الفتن (ص 209) بتفاوت، وابن المنادي في الملاحم (ص 196/ ح 143/8)، والكنجي الشافعي في البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 512)، والسيوطي في العرف الوردي (ص 122/ ح 99)، وابن حجر الهيتمي في القول المختصر (ص 134)، والمتَّقي الهندي في كنز العُمَّال (ج 14/ ص 588/ ح 39665).
وقد تقدَّم - في (العلامات الخاصَّة) - الحديث عن طلوع الشمس من مغربها وما يتَّصل بها من آيات كونيَّة، ومنها أنْ تطول السنون، ويلبث الفلك حتَّى يكون اليوم كعشرة أيَّام، والشهر كعشرة أشهر، والسنة كعشرة سنين من سنينكم(548).
ولذلك كلِّه - من دون شكٍّ، ومتَّصلاً بالأوضاع والأحوال الأُخرى التي تعيشها البشريَّة - أثره البالغ في عقول الناس ونفوسهم بصورة تتهيَّأ معها - بصورة تلقائيَّة - لاستقبال الإمام (عجَّل الله فرجه)، بل الهرب إليه.
خامساً: ما ذكرناه في (العلامات الخاصَّة) من الفناء الذي يلحق البشريَّة حتَّى يذهب ثُلُثا العالم، أو تسعة أعشاره، أو خمسة من كلِّ سبعة، كما ورد في الروايات(549)، وما يتَّصل بذلك من خوف وجوع وفوضى تجعل الناس في حالة مأساويَّة لا نظير لها.
وإذا كان المسلمون في الثُّلُث أو العُشُر الناجي - كما في الروايات - فإنَّ هذا لا يعني أنْ تكون هذه النجاة كاملة، فالآثار نفسيًّا وبدنيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا لابدَّ من أنْ تكون قائمة بصورة مأساويَّة.
1 - فعن محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «إِنَّ قُدَّامَ القَائِمِ بَلْوَى مِنَ اَلله»، قُلْتُ: مَا هُوَ، جُعِلْتُ فِدَاكَ؟ فَقَرَأَ: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]»، ثُمَّ قَالَ: «الخَوْفُ مِنْ مُلُوكِ بَنِي فُلَانٍ، وَالجُوعُ مِنْ غَلَاءِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(548) بحار الأنوار (ج 52/ ص 333 - 337) عدَّة أحاديث بعدَّة أسانيد، عن طلحة بن عبد الله، عن ابن عمر، وابن عمرو، وعن عاصم بن عمر البجلي، والإمام عليٍّ (عليه السلام)، وسعيد ابن المسيّب، والإمام الباقر (عليه السلام)، وإسحاق بن يحيى عن أُمِّه، وعن شهر بن حوشب، وعمَّار بن ياسر، وعن الزهري.
(549) راجع ما تقدَّم في (ص 283).
الأَسْعَارِ، وَنَقْصٌ مِنَ الأَمْوَالِ مِنْ كَسَادِ اَلتِّجَارَاتِ وَقِلَّةِ الفَضْلِ فِيهَا، وَنَقْصُ الأَنْفُسِ بِالمَوْتِ اَلذَّرِيعِ، وَنَقْصُ اَلثَّمَرَاتِ بِقِلَّةِ رَيْعِ اَلزَّرْعِ وَقِلَّةِ بَرَكَةِ اَلثِّمَارِ»(550).
2 - وعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «لَا يَقُومُ القَائِمُ (عليه السلام) إِلَّا عَلَى خَوْفٍ شَدِيدٍ، وَزَلَازِلَ، وَفِتْنَةٍ، وَبَلَاءٍ يُصِيبُ اَلنَّاسَ، وَطَاعُونٍ قَبْلَ ذَلِكَ، وَسَيْفٍ قَاطِعٍ بَيْنَ العَرَبِ، وَاِخْتِلَافٍ شَدِيدٍ بَيْنَ اَلنَّاسِ، وَتَشَتُّتٍ فِي دِينِهِمْ، وَتَغَيُّرٍ مِنْ حَالِهِمْ، حَتَّى يَتَمَنَّى اَلمُتَمَنِّي اَلمَوْتَ صَبَاحاً وَمَسَاءً مِنْ عِظَمِ مَا يَرَى مِنْ كَلَبِ اَلنَّاسِ وَأَكْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً. وَخُرُوجُهُ إِذَا خَرَجَ عِنْدَ الإِيَاسِ وَالقُنُوطِ، فَيَا طُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَهُ وَكَانَ مِنْ أَنْصَارِهِ، وَالوَيْلُ كُلُّ الوَيْلِ لِمَنْ خَالَفَهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ وَكَانَ مِنْ أَعْدَائِهِ»(551).
وبذلك تكون الاستجابة للإمام (عجَّل الله فرجه) أشبه باستجابة الضالِّ لدليله والغريق لمنقذه، أي إنَّها استجابة فهم واضطرار معاً بحكم الحالة، وما يُمثِّله الإمام (عجَّل الله فرجه) فيها مركزاً للأمان، وموطناً للهدى، وساحة للإبصار في عالم تعمُّه الظلمة والضلالة والخوف.
وجاء في حديث حذيفة بن اليمان عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَفْرَحُ بِهِ أَهْلُ اَلسَّمَاءِ، وَأَهْلُ الأَرْضِ، وَاَلطَّيْرُ وَالوُحُوشُ، وَالحِيتَانُ فِي البَحْرِ»(552).
وفي حديث قتادة: «مَحْبُوبٌ فِي الخَلَائِقِ، يُطْفِئُ اَللهُ تَعَالَى بِهِ الفِتْنَةَ العَمْيَاءَ، وَتَأْمَنُ الأَرْضُ»(553).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(550) الإرشاد (ج 2/ ص 377 و378).
(551) الغيبة للنعماني (ص 239 و240/ باب 13/ ح 22، وص 263/ باب 14/ ح 13).
(552) عقد الدُّرَر (ص 136).
(553) الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 221)، عقد الدُّرَر (ص 151)، العرف الوردي (ص 147/ ح 172)، القول المختصر (ص 147).
سادساً: ما أعطى اللهُ الإمامَ (عجَّل الله فرجه) - خاتم أوصياء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وشاهد رسالته - من قدرات، ووهبه من وسائل النصر المعجز بصورة يستطيع بها أنْ يُحقِّق ما أراده له سبحانه من دور، فإذا كان عهد التأسيس لا يسمح للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا لأوصيائه (عجَّل الله فرجه) بتجاوز الوسائل العاديَّة المقابلة إلَّا بحدود إقامة الحجَّة، أمَّا الحرب فبالوسائل المتكافئة، فإنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) سيشهر قوَّة الله التي وهبها له، ويستعمل المعجز لإخضاع الطواغيت والجبابرة وبغاة الظلم والفجور.
إنَّ الفرصة الطويلة التي أُعطيت للعالم منذ بعثة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمناقشة الرسالة الإلهيَّة الإسلاميَّة في أُسُسها العقائديَّة وقواعدها التشريعيَّة وما دعمها الله به من شواهد العلم والواقع، كافية لتبرير اللجوء إلى ذلك مقابل المعرضين كبراً وعناداً وإصراراً على الباطل، وهذا هو ما سيكون.
إنَّ المعرفة بالله كما تحصل من خلال مظاهر أسمائه: الرحمن، الرحيم، العفو، الغفَّار، فإنَّها تحصل من خلال مظاهر أسمائه: الجبَّار، المنتقم، شديد العقاب.
والمهدي (عجَّل الله فرجه) هو من سيُعطيها بهذه وتلك، لذلك ورد فيه أنَّه (عجَّل الله فرجه) من الساعة، وهي - عند أهل العرفان - ليست إلَّا ظهور المعرفة الكاملة التي تحصل في الموت والقيامة لدى تقطُّع الأسباب والرجوع إلى الله، وتحصل أيضاً لدى ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) ومواجهته العالم بأسماء الله في جانب العدل والرحمة، وجانب العذاب والنقمة، وبما يجاوز المعروف حتَّى يُعرَف.
وقد فسَّر بعضهم الوقت المعلوم الذي أنظر الله إليه إبليس حين استنظره بظهور المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي سيقتل - ومعه المسيح - الدجَّال والسفياني وجهي إبليس البشريَّين، ويقتل الشيطان نفسه.
وسنورد بعض الروايات التي تتحدَّث عمَّا أعطى اللهُ الإمامَ (عجَّل الله فرجه) من قوى وجند، وعمَّا يقوم به بدءاً في معاملة المارقين والمنافقين على أساس علمه لا على ما يظهر منهم.
1 - روي مسنداً عن محمّد بن مسلم، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ البَاقِرَ (عليهما السلام) يَقُولُ: «القَائِمُ مِنَّا مَنْصُورٌ بِالرُّعْبِ، مُؤَيَّدٌ بِالنَّصْرِ، تُطْوَى لَهُ الأَرْضُ، وَتَظْهَرُ لَهُ الكُنُوزُ، يَبْلُغُ سُلْطَانُهُ اَلمَشْرِقَ وَاَلمَغْرِبَ، وَيُظْهِرُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ دَيْنَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ اَلمُشْرِكُونَ»(554).
2 - وعن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد (الصادق) (عليه السلام)، قال ما معناه: إنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) ينشر راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذكر ما يُفهَم منه أنَّه ليس المراد بالراية ما يفهمه الناس منها أو معناها الحقيقي، بل هو رمز لسرِّ النصر المعطى للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: «مَا هِيَ وَاَلله قُطْنٌ، وَلَا كَتَّانٌ، وَلَا قَزٌّ، وَلَا حَرِيرٌ»، قُلْتُ: فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ هِيَ؟ قَالَ: «مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ...»، إلى أنْ قال (عليه السلام): «لَا يَنْشُرُهَا أَحَدٌ حَتَّى يَقُومَ القَائِمُ (عليه السلام)، فَإِذَا هُوَ قَامَ نَشَرَهَا»، قال (عليه السلام): «وَيَسِيرُ اَلرُّعْبُ قُدَّامَهَا شَهْراً، وَوَرَاءَهَا شَهْراً، وَعَنْ يَمِينِهَا شَهْراً، وَعَنْ يَسَارِهَا شَهْراً»(555).
3 - وروي مسنداً عن الثمالي، قال: قال أبو جعفر (الباقر) (عليه السلام): «يَا ثَابِتُ، كَأَنِّي بِقَائِمِ أَهْلِ بَيْتِي قَدْ أَشْرَفَ عَلَى نَجَفِكُمْ هَذَا - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةِ الكُوفَةِ -، فَإِذَا هُوَ أَشْرَفَ عَلَى نَجَفِكُمْ نَشَرَ رَايَةَ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَإِذَا هُوَ نَشَرَهَا اِنْحَطَّتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ بَدْرٍ».
وفي هذه الرواية أيضاً يُعطى للراية معنى غير معناها الحقيقي في اللغة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(554) كمال الدِّين (ص 330 و331/ باب 32/ ح 16).
(555) الغيبة للنعماني (ص 319 - 321/ باب 19/ ح 2).
وأنَّها من أسرار النصر الذي يُعطيه الله له، فحين سأله الثمالي: وَمَا رَايَةُ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قَالَ: «عَمُودُهَا مِنْ عُمُدِ عَرْشِ اَلله وَرَحْمَتِهِ، وَسَائِرُهَا مِنْ نَصْرِ اَلله، لَا يَهْوِي بِهَا إِلَى شَيْءٍ إِلَّا أَهْلَكَهُ اَللهُ»(556).
4 - وبالإسناد إلى الثمالي أيضاً، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليٍّ (الباقر) (عليه السلام) يقول: «لَوْ قَدْ خَرَجَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لَنَصَرَهُ اَللهُ بِالمَلَائِكَةِ اَلمُسَوِّمِينَ وَاَلمُرْدِفِينَ وَاَلمُنْزَلِينَ وَالكَرُوبِيِّينَ، يَكُونُ جَبْرَئِيلُ أَمَامَهُ، وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَمِينِهِ، وَإِسْرَافِيلُ عَنْ يَسَارِهِ، وَاَلرُّعْبُ يَسِيرُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ أَمَامَهُ وَخَلْفَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَاَلمَلَائِكَةُ اَلمُقَرَّبُونَ حِذَاهُ»(557).
5- وبالإسناد إلى عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في قول الله تعالى: ﴿أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ (النحل: 1)، قال: «هُوَ أَمْرُنَا أَمَرَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ لَا تَسْتَعْجِلَ بِهِ حَتَّى يُؤَيِّدَهُ اَللهُ بِثَلَاثَةِ أَجْنَادٍ: اَلمَلَائِكَةِ، وَاَلمُؤْمِنِينَ، وَاَلرُّعْبِ»(558).
6 - وبالإسناد إلى أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إِذَا ظَهَرَ القَائِمُ (عليه السلام) ظَهَرَ بِرَايَةِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَخَاتَمِ سُلَيْمَانَ، وَحَجَرِ مُوسَى وَعَصَاهُ»(559).
والذي نفهه - إجمالاً - أنَّه يُعطى من القدرات والآيات ما أعطاه الله للأنبياء وأوصيائهم، بحكم الدور الذي شاءه الله له بوصفه وصيُّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الحامل لرايته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(556) الغيبة للنعماني (ص 321/ باب 19/ ح 3).
(557) الغيبة للنعماني (ص 239 و240/ باب 13/ ص 22).
(558) الغيبة للنعماني (ص 204/ باب 11/ ح 9، وص 251/ باب 13/ ح 43).
(559) الغيبة للنعماني (ص 244/ باب 13/ ح 28).
والأخبار في ذلك كثيرة تقدَّم بعض منها في الأبحاث السابقة، ولا شكَّ في أنَّ بعض ما ذكرناه كافٍ ليُجيب عن السؤال: كيف سينتصر الإمام (عجَّل الله فرجه)؟
إنَّ الأمر حين يكون ممَّا شاءه الله سبحانه - وأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ممَّا شاءه كما ثبت بالأخبار المتواترة - فإنَّ السؤال: كيف؟ يصبح لا معنى له بالنسبة للمؤمن.
سابعاً: لا يعني ما ذكرناه من القدرات والجند المعطى للإمام (عجَّل الله فرجه) أنَّه سيستخدم ذلك ابتداءً، بل هو يدعو لله وللإسلام كما أُمِرَ، ويقابل بالوسائل المعتادة حين يكون ذلك مجدياً، ويُتعِب نفسه داعياً ومحاججاً ومجاهداً مع أنصاره حتَّى يسيل العلق والعرق كما ورد في روايات كثيرة(560)، إلَّا أنَّ ذلك كلَّه له لو شاء أنْ يتصدَّى له طاغوت أو ما لا قِبَل للمؤمنين به كثرةً وقوَّةً، وقد ورد أنَّ جنده يفتحون روما بالتكبير(561).
وورد في بعض الأخبار أنَّ الله سبحانه يُوطِّئ للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قبل ظهوره بطائفة في أوساط الأُمَّة بمختلف أقطارها، أهل إيمان ومعرفة، يلتزمون الحقَّ ويرفضون الباطل، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن رسول الله، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ الله وَهُمْ ظَاهِرُونَ»(562).
وفي رواية مسلم في باب الإمارة: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ المَسِيحَ الدَّجَّالَ»(563).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(560) ستأتي في (ص 323 و324)، فانتظر.
(561) صحيح مسلم (ج 8/ ص 187 و188).
(562) صحيح البخاري (ج 11/ ص 103/ ح 6543).
(563) سُنَن أبي داود (ج 1/ ص 556 و557/ ح 2484)، وفي صحيح مسلم (ج 6/ ص 54) بعد صدر الحديث: (ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة).
وقد عقد السلمي الشافعي الباب الخامس من كتابه عقد الدُّرَر من (ص 121) إلى (ص 134) حول من يبعثهم الله للتوطئة له قبل إمارته، وممَّا ورد فيه عن عبد الله بن الحارث، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ المَشْرِقِ، فَيُوَطِّئُونَ لِلْمَهْدِيِّ»(564).
ويصف الإمام عليٌّ (عليه السلام) في رواية عنه كنوزاً في طالقان ليست من ذهب ولا فضَّة، ولكن رجال عرفوا الله حقَّ معرفته، وهم أنصار المهدي (عجَّل الله فرجه) آخر الزمان(565).
وتذكر روايات أُخرى أبدال الشام، ونقباء مصر، ونجباء العراق.
وتذكر بعضها الرايات السود التي تأتي من خراسان.
ورأيي أنَّ كثيراً من هذا الروايات التي تذكر مُدُناً معيَّنة وصفات لرايات من وضع أنصار العبَّاسيِّين الذين ادَّعى فيهم محمّد بن عبد الله المنصور المهدويَّة، ولعلاقة ذلك بأبي مسلم الخراساني وما اختاروه من شعار السواد، أو من وضع أنصار الفاطميِّين في ما يتعلَّق بالروايات التي تذكر المغرب ومصر والشام، لعلاقة ذلك بدعوة عبد الله المهدي أوَّل الخلفاء الفاطميِّين ومحلِّ دعوته وملكه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(564) سُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 1368/ ح 4088)، البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 490)، التذكرة في أحوال الموتى والآخرة (ج 2/ ص 328)، فرائد السمطين (ج 2/ ص 333/ ح 584)، تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 321)، العرف الوردي (ص 95/ ح 23)، القول المختصر (ص 120)، الصواعق المحرقة (ص 164)، كنز العُمَّال (ج 14/ ص 263/ ح 38657).
(565) البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 491)، عقد الدُّرَر (ص 122)، العرف الوردي (ص 165/ ح 228)، القول المختصر (ص 156)، كنز العُمَّال (ج 14/ ص 591/ ح 39677).
وممَّن ذهب إلى هذا الرأي بخصوص وضع الأخبار حول الرايات السود من خراسان أبو الأعلى المودودي، قال: (ذكر الرايات السود من قِبَل خراسان ممَّا يدلُّ دلالة واضحة على أنَّ العبَّاسيِّين أدخلوا هذه الرواية من عند أنفسهم بما يوافق أهواءهم وسياستهم، لأنَّ اللون الأسود كان شعاراً للعبَّاسيِّين)(566).
وفي رواية أُخرى عن عليٍّ (عليه السلام): «فَيَجْمَعُ اَللهُ تَعَالَى لَهُ قَوْماً قَزَعاً كَقَزَعِ اَلسَّحَابِ يُؤلِّفُ اَللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ...» إلخ(567).
وهناك روايات أُخرى يمكن مراجعتها في ما أشرنا إليه من مصادر.
وقد ظنَّ بعض المؤمنين - في عصر الأئمَّة من آبائه (عليهم السلام) - أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) - وقد حباه الله من آياته ونصره بما أشرنا إليه - سيخضع الناس له من دون عناء، لكنَّهم (عليهم السلام) أعلموهم أنَّ الأمر ليس كما تصوَّروا، فهو سيُعادى بدءاً من المسلمين - فضلاً عن غيرهم -، وسيدخل بالوسائل المعتادة حرباً مجهدة.
روي بالإسناد إلى بشير النبَّال أنَّه قال لأبي جعفر (عليه السلام): إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ اَلمَهْدِيَّ لَوْ قَامَ لَاسْتَقَامَتْ لَهُ الأُمُورُ عَفْواً، وَلَا يُهَرِيقُ مِحْجَمَةَ دَمٍ، فَقَالَ: «كَلَّا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوِ اِسْتَقَامَتْ لِأَحَدٍ عَفْواً لَاسْتَقَامَتْ لِرَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حِينَ أُدْمِيَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، كَلَّا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى نَمْسَحَ نَحْنُ وَأَنْتُمُ العَرَقَ وَالعَلَقَ» ثُمَّ مَسَحَ جَبْهَتَهُ(568).
وبالإسناد إلى الثمالي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الأَمْرِ لَوْ قَدْ ظَهَرَ لَقِيَ مِنَ اَلنَّاسِ مِثْلَ مَا لَقِيَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَأَكْثَرَ»(569).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(566) البيانات للمودودي (ص 161).
(567) مستدرك الحاكم (ج 4/ ص 554)، عقد الدُّرَر (ص 59 و131)، تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 319).
(568) الغيبة للنعماني (ص 294 و295/ باب 15/ ح 2).
(569) الغيبة للنعماني (ص 308/ باب 17/ ح 2).
وبالإسناد إلى الفضيل، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ اِسْتَقْبَلَ مِنْ جَهْلِ اَلنَّاسِ أَشَدَّ مِمَّا اِسْتَقْبَلَهُ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مِنْ جُهَّالِ الجَاهِلِيَّةِ»، قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَتَى اَلنَّاسَ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الحِجَارَةَ وَاَلصُّخُورَ وَالعِيدَانَ وَالخُشُبَ اَلمَنْحُوتَةَ، وَإِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ أَتَى اَلنَّاسَ وَكُلُّهُمْ يَتَأَوَّلُ عَلَيْهِ كِتَابَ اَلله، يَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «أَمَا وَاَلله لَيَدْخُلَنَّ عَلَيْهِمْ عَدْلُهُ جَوْفَ بُيُوتِهِمْ كَمَا يَدْخُلُ الحَرُّ وَالقُرُّ»(570).
وبالإسناد إلى المفضَّل، قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام) وَقَدْ ذَكَرَ القَائِمَ (عليه السلام)، فَقُلْتُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ فِي سُهُولَةٍ، فَقَالَ: «لَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى تَمْسَحُوا العَلَقَ وَالعَرَقَ»(571).
قال الشيخ محيي الدِّين بن عربي في (الفتوحات المكّيَّة) على ما نقله الشعراني والشيخ ابن الصبَّان في الباب (366): (يبيد الظلم وأهله، ويقيم الدِّين وأهله، وينفخ الروح في الإسلام، يعزُّ الله به الإسلام بعد ذلِّه، ويحييه بعد موته، يضع الجزية، ويدعو إلى الله بالسيف، فمن أبى قُتِلَ ومن نازعه خُذِلَ، يُظهِر من الدِّين ما هو عليه في نفسه حتَّى لو كان رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) حيًّا لحكم به، فلا يبقى في زمانه إلَّا الدِّين الخالص من الرأي، يخالف في غالب أحكامه مذاهب العلماء فينقبضون منه لذلك لظنِّهم أنَّ الله تعالى لا يُحدِث بعد أئمَّتهم مجتهداً)(572).
وعلى كلِّ حالٍ، ومهما كانت صور المقابلة التي سيستخدمها الإمام (عجَّل الله فرجه) في مقابلة خصومه من داخل المسلمين أو من خارجهم، فإنَّ من المقطوع به طبقاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(570) الغيبة للنعماني (ص 307/ باب 17/ ح 1).
(571) الغيبة للنعماني (ص 295/ باب 15/ ح 3).
(572) اليواقيت والجواهر (ج 2/ ص 563)، إسعاف الراغبين (ص 55).
للروايات المتواترة لدى المسلمين - من أهل السُّنَّة والشيعة - أنَّه سينتصر على العالم كلِّه، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
روي مسنداً عن جابر الأنصاري، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يَقُولُ: «إِنَّ ذَا القَرْنَيْنِ كَانَ عَبْداً صَالِحاً جَعَلَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) حُجَّةً عَلَى عِبَادِهِ...»، إلى أنْ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «وَإِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) مَكَّنَ لِذِي القَرْنَيْنِ فِي الأَرْضِ، وَجَعَلَ لَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، وَبَلَغَ اَلمَغْرِبَ وَاَلمَشْرِقَ، وَإِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيَجْرِى سُنَّتَهُ فِي القَائِمِ مِنْ وُلْدِي، فَيُبَلِّغُهُ شَرْقَ الأَرْضِ وَغَرْبَهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْهَلاً وَلَا مَوْضِعاً مِنْ سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ وَطِئَهُ ذُو القَرْنَيْنِ إِلَّا وَطِئَهُ، وَيُظْهِرُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ كُنُوزَ الأَرْضِ وَمَعَادِنَهَا، وَيَنْصُرُهُ بِالرُّعْبِ، فَيَمْلَأُ الأَرْضَ بِهِ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(573).
وروي مسنداً إلى أبي بصير، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام) فِي قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33]، فَقَالَ: «وَاَلله مَا نَزَلَ تَأْوِيلُهَا بَعْدُ، وَلَا يَنْزِلُ تَأْوِيلُهَا حَتَّى يَخْرُجَ القَائِمُ (عليه السلام)، فَإِذَا خَرَجَ القَائِمُ (عليه السلام) لَمْ يَبْقَ كَافِرٌ بِالله العَظِيمِ وَلَا مُشْرِكٌ بِالإِمَامِ إِلَّا كَرِهَ خُرُوجَهُ حَتَّى أَنْ لَوْ كَانَ كَافِراً أَوْ مُشْرِكاً فِي بَطْنِ صَخْرَةٍ لَقَالَتْ: يَا مُؤْمِنُ، فِي بَطْنِي كَافِرٌ فَاكْسِرْنِي وَاُقْتُلْهُ»(574).
وَعَنِ اِبْنِ بُكَيْرٍ، قَالَ: سَألتُ أَبَا الحَسَنِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ [آل عمران: 83]، قَالَ: «أُنْزِلَتْ فِي القَائِمِ (عليه السلام) إِذَا خَرَجَ بِاليَهُودِ وَاَلنَّصَارَى وَاَلصَّابِئِينَ وَاَلزَّنَادِقَةِ وَأَهْلِ اَلرَّدَّةِ وَالكُفَّارِ فِي شَرْقِ الأَرْضِ وَغَرْبِهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الإِسْلَامَ، فَمَنْ أَسْلَمَ طَوْعاً أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ وَاَلزَّكَاةِ وَمَا يُؤْمَرُ بِهِ اَلمُسْلِمُ وَيَجِبُ لِله عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ ضَرَبَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(573) كمال الدِّين (ص 394/ باب 38/ ح 4).
(574) كمال الدِّين (ص 670/ باب 58/ ح 16).
عُنُقَهُ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي اَلمَشَارِقِ وَاَلمَغَارِبِ أَحَدٌ إِلَّا وَحَّدَ اَلله»، قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ الخَلْقَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّ اَللهَ إِذَا أَرَادَ أَمْراً قَلَّلَ الكَثِيرَ وَكَثَّرَ القَلِيلَ»(575).
وَعَنْ أَبِي المِقْدَامِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اَلله: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33]: «يَكُونُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا أَقَرَّ بِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(576).
وعن حذيفة بن اليمان، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حديث: «فَلَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ إِلَّا مَنْ يَقُولُ: لَا إِلَه إِلَّا اَللهُ»(577).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(575) تفسير العيَّاشي (ج 1/ ص 183 و184/ ح 83).
(576) تفسير العيَّاشي (ج 2/ ص 87/ ح 50).
(577) قد تقدَّم في (ص 81)، فراجع.
البحث الثاني: ماذا سيفعل (عجَّل الله فرجه)؟ يأتي بأمر جديد ولكنَّه الإسلام
حاول بعض أدعياء البابيَّة والمهدويَّة أنْ يُقدِّموا لما ورد من الروايات التي تقول: «إنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يأتي بأمر جديد» تفسيراً يُعطيها معنى النسخ للشريعة الإسلاميَّة، وهو قول بالنبوَّة بمعناها الاصطلاحي الذي يعني استقلال الرسالة اللَّاحقة لنبيٍّ عن الرسالة السابقة لنبيٍّ آخر.
والغرض من هذه المحاولة الخبيثة والمنكرة وما يشبهها تأييد مسلكهم الغنوصي(578) الباطني الضالِّ(579) في فهم النبوَّة، والتشريع أصلاً، وتبرير استهانتهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(578) الغنوصيَّة نسبة إلى (غنوصيص)، أي المعرفة، وهي حركة فلسفيَّة دينيَّة نشأت في العصر الهليني، وأساسها أنَّ الخلاص يتمُّ بالمعرفة أكثر ممَّا يتمُّ بالإيمان والأعمال الخيِّرة. أدمجوا في تعاليمهم شيئاً من السحر والشعوذة. راجع: الموسوعة العربيَّة الميسَّرة (ص 2336/ مادَّة غنوصيَّة). تأثَّرت بالغنوصيَّة بعض الفِرَق من اليهود والمسيحيِّين والمسلمين، والغنوصيَّة خطٌّ مقابل للأديان، وهي ترى أنَّ العارف في كلِّ عصر هو المرشد أو النبيُّ الذي يملك حقَّ الأمر والنهي، ولا معنى للنبوَّة بالمفهوم الذي تُعطيه الأديان، ولا للوقوف عند ما جاء من أحكام وتشريعات عن طريق الوحي، ولا تُختَم النبوَّة. ومن الديانات الغنوصيَّة القائمة: الهندوسيَّة والبوذيَّة وأمثالهما، وأصحاب العرفان الضالِّ في المسلمين، وأدعياء المهدويَّة والبابيَّة موصولون بذلك كما سيأتي. راجع: في العقائد والأديان (الديانات المعاصرة الكبرى) للدكتور عبد العال جابر الحيني، والفصل الخامس من هذا الكتاب.
(579) الباطنيَّة الضالَّة هي من ترى انتفاء الظاهر بمعرفة الباطن بما أعطوا للباطن من تفسير محرَّف لا أساس له، وقد ورد عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) رفض الباطن الذي يكفر بالظاهر.
بالكتاب والسُّنَّة، وما جاء فيهما من أحكام وتكاليف(580).
وسيأتي في الجزء الثاني من هذا الكتاب إنْ شاء الله من الشواهد التأريخيَّة على ما ذكرناه عنهم نظريًّا وعمليًّا ما فيه الكفاية، أمَّا هنا فإنَّ علينا التنبيه إلى أنَّ ما أعطوه من تفسير لهذه الروايات باطل مفضوح، لا لأنَّ القرآن والسُّنَّة الثابتة نصَّا على ختم النبوَّة (بمعناها الاصطلاحي) برسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونفياها عمَّن بعده، وذلك ما يجمع عليه المسلمون، وهو - كما سبق أنْ ذكرنا - ما يفرضه أيضاً مقام محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورتبته السماويَّة - في العالم المخلوق - مبدأً ومعاداً، ولا لما ورد من أحاديث تنفي نسخ الشريعة الإسلاميَّة إلى يوم القيامة(581)، ولا لأنَّ موقع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - كوصيٍّ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وامتداد عنه، وشاهد لرسالته كآبائه الأحد عشر (عليهم السلام) - لا يسمح له بالنسخ لما يلزم ذلك من مناقضة(582)، حتَّى إنَّ بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(580) البابيُّون والبهائيُّون (ص 36)، من مزخرفات البابيَّة ضمن رسائل الآيات البيِّنات (ص 31).
(581) الأحاديث في ذلك متواترة معنويًّا، منها ما ينصُّ على عدم نسخ شريعة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى يوم القيامة، وأنَّ حلالها حلال إلى يوم القيامة، وحرامها حرام إلى يوم القيامة. ومنها ما نصَّ على كفر المبتدع ما ليس في الدِّين أو شركه وأنَّه ردٌّ. ومنها ما ورد في أنَّ ما يخالف الكتاب أو ما لا يوافقه فهو زخرف، وأنَّهم لم يقولوه. ومنها إباحة دم المرتدِّ والمستحلِّ ما حرَّمه الله والمحلِّل ما حرَّم.
راجع: الكافي (ج 1/ ص 69 - 71/ باب الأخذ بالسُّنَّة وشواهد الكتاب)، وراجع تعريف المرتدِّ وحكمه في: الروضة البهيَّة (ج 8/ ص 30)، وفقه الإمام الصادق (عليه السلام) (ج 6/ ص 190).
(582) تتمثَّل المناقضة في أنَّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورسالته، وهما الغاية في تاريخ الأنبياء والرسالات، يصبحان مقدَّمة، وفي أنَّ الوصيَّ (عجَّل الله فرجه) وهو امتداد - يصبح قاطعاً وناسخاً - فينافي كونه وصيًّا. ومن المقبول أنْ يُنظَر لما يفعله الإمام (عجَّل الله فرجه) ضمن إطار الرسالة في هذه المسألة أو تلك على أنَّه ممَّا يحمله بوصفه وصيًّا معصوماً لمرحلة منها، فيكون منسوباً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومتَّصلاً بالرسالة لا خارجاً عنها، وذلك بعض حكمة الإمامة المعصومة.
العلماء وقف عند ما ورد من أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) لا يقبل الجزية من الكتابيِّين، وأنَّه يقضي بعلمه من دون بيِّنة وما يشبه ذلك من مسائل تصوَّر بعضهم كونها نسخاً، وأجاب بما يُبعِدها عن ذلك(583).
بل إنَّ هذه الروايات التي ذكرت أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) (يأتي بأمر جديد) نفسها - وبالقرينة من داخلها - ترفض هذا التفسير، وتتماسك هذه القرينة على المعنى المقصود فيها مع الروايات التي وردت في العلامات العامَّة للظهور من جهة، ومع ما ورد من دعوة الإمام (عجَّل الله فرجه) وعمله وسيرته من جهة ثانية، لتعينه بصورة قاطعة لا تترك مجالاً لأيِّ معنى آخر.
فلنأخذ أمثلة من هذه الروايات، كالتي جاءت مسندة عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ كَامِلٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ قَائِمَنَا إِذَا قَامَ دَعَا اَلنَّاسَ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ كَمَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَإِنَّ الإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»(584).
وكالتي وردت مسندة عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «الإِسْلَامُ بَدَأَ غَرِيباً، وَسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ(585)، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، فَقُلْتُ: اِشْرَحْ لِي هَذَا، أَصْلَحَكَ اَللهُ، فَقَالَ: «مِمَّا يَسْتَأْنِفُ اَلدَّاعِي مِنَّا دُعَاءً جَدِيداً كَمَا دَعَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(583) إعلام الورى (ج 2/ ص 310).
(584) الغيبة للنعماني (ص 336/ باب 22/ ح 1).
(585) ورد الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، راجع: صحيح مسلم (ج 1/ ص 90).
رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(586).
وفي رواية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين سُئِلَ عن الغرباء: من هم؟ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ...» إلخ(587).
وروي بالإسناد إلى عَبْدِ اَلله بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: سَألتُ أَبَا جَعْفَرٍ البَاقِرَ (عليه السلام)، فَقُلْتُ: إِذَا قَامَ القَائِمُ (عليه السلام) بِأَيِّ سِيرَةٍ يَسِيرُ فِي اَلنَّاسِ؟ فَقَالَ: «يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَيَسْتَأْنِفُ الإِسْلَامَ جَدِيداً»(588).
إنَّ الأمر الجديد أو الدعاء الجديد - كما يبدو من المقارنة في قوله: «كَمَا دَعَا رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»، ثمّ قوله: «الإِسْلَامُ بَدَأَ غَرِيباً...» - إنَّما هو بلحاظ غربة الإسلام حين يدعو الإمام (عجَّل الله فرجه) إليه انتهاءً كغربته حين دعا إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ابتداءً لا في أصل الدعوة، وهو ما نلمحه واضحاً في الرواية الرابعة التي تقول: «وَيَسْتَأْنِفُ الإِسْلَامَ جَدِيداً»، وقد تقدَّم - في ما يُصوِّر حالة الأُمَّة وتردِّي أوضاعها عقائد وعلاقات وأخلاقاً قبيل الظهور في العلامات العامَّة - ما يساعد على استيعاب هذه الصورة لواقع علاقة الأُمَّة بالإسلام آنذاك.
وإذا لاحظنا - مضافاً لذلك - واقع تعدُّد الاجتهادات بين المذاهب المختلفة في الكلام والحديث والتفسير والأُصول والفقه حتَّى داخل المذهب الواحد، ولاحظنا نسبة الأحكام الظاهريَّة إلى الواقعيَّة، لاتَّضح لنا معنى (الأمر الجديد)، حين يرفض الإمام (عجَّل الله فرجه) من ذلك ما يخالف الواقع، لا فرق بين ما كان نظريًّا أو عمليًّا منه، إنَّ الفجوة ستكون - إذا لاحظنا ذلك بمجموعه - واسعة جدًّا. وبذلك سيكون الأمر جديداً بالفعل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(586) الغيبة للنعماني (ص 336 و337/ باب 22/ ح 2).
(587) مسند أحمد (ج 27/ ص 237/ ح 16690)؛ وراجع: سُنَن الترمذي (ج 4/ ص 129 و130/ ح 2765).
(588) الغيبة للنعماني (ص 237 و238/ باب 13/ ح 17).
قال الشريف (رحمه الله) معلِّقا على الحديث مجلياً معناه: (هذا الكلام من محاسن الاستعارات وبدائع المجازات، لأنَّه (عليه السلام) جعل الإسلام غريباً في أوَّل أمره تشبيهاً بالرجل الغريب الذي قلَّ أنصاره وبعدت دياره، لأنَّ الإسلام كان على هذه الصفة في أوَّل ظهوره، ثمّ استقرَّت قواعده، واشتدَّت معاقده، وكثر أعوانه، وضرب جرانه. وقوله (عليه الصلاة والسلام): «وَسَيَعُودُ غَرِيباً» أي يعود إلى مثل الحال الأُولى في قلَّة العاملين بشرائعه والقائمين بوظائفه، لا أنَّه والعياذ بالله تُمحى سماته وتُدرَس آياته)(589).
ولذلك ورد في روايات قدَّمنا بعضها أنَّه يلقى من الأُمَّة أشدّ ممَّا لقي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسه، وعلَّلت ذلك بأنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) آتاهم وهم يعبدون الحجارة المنقورة والخشبة المنحوتة، وأنَّ القائم (عجَّل الله فرجه) يخرجون عليه فيتأوَّلون عليه كتاب الله ويقاتلون عليه(590).
وإلى ذلك أشار ابن عربي في ما أوردناه آنفاً عنه لدى حديثه عن معارضة أهل المذاهب له تمسُّكاً بمذاهبهم(591).
وهناك وجه آخر للأمر الجديد يتَّصل بوراثة الإمام وأصحابه للأرض كلِّها، وهذا ما لم يكن، وقد يصعب تصوُّره، وذلك ما ورد في قوله سبحانه: ﴿أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105).
إذا كان الله سبحانه برحمته لم يسمح في مرحلة التأسيس للرسالة الإسلاميَّة بدءاً بصاحبها محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصيائه حتَّى الحسن العسكري (عليهم السلام) تجاوز الوسائل العاديَّة في الدعوة والمقابلة، فإنَّ الأمر في المهدي (عجَّل الله فرجه) الثاني عشر من الأوصياء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(589) المجازات النبويَّة (ص 32 و33).
(590) قد تقدَّم في (ص 324)، فراجع.
(591) قد تقدَّم في (ص 324)، فراجع.
لدى الظهور ليس كذلك. إنَّ الفسحة الزمنيَّة الطويلة التي أُعطيت للناس - لتُفكِّر وتُجرِّب وتُكشِف من آيات الله في أنفسها وفي الآفاق، ثمّ لتتفاعل مع الرسالة في ضوء ذلك بمهل - كافية لتقطع العذر على من يأبى عناداً أنْ يُسلِم وجهه لله، فإنَّ من المفهوم أنْ لا يترك الإمام (عجَّل الله فرجه) - مع ما لديه من العلم الذي يقيم به الحجَّة والقوَّة التي يخضع بها العدوَّ - مجالاً لخيار وراء الإسلام، ولذلك ورد أنَّه لا يقبل الجزية من أهل الكتاب، وقد قدَّمنا في فقرة: كيف سينتصر؟ من هذا البحث شواهد من الروايات الواردة في ذلك بما فيها تلك التي تتَّصل بتفسير بعض الآيات ومنها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)، فإنَّ وراثة العباد الصالحين للأرض لا تتمثَّل بدخول الجنَّة بعد القيامة، وإنْ كان ذلك قد ورد في الحديث، لأنَّ الأرض تُبدَّل غير الأرض هناك، ولأنَّ الجنَّة عرضها السماوات والأرض كما ورد في القرآن، فلا مقارنة. ولكن وراثتها - كما في بعض الأحاديث - إنَّما هي بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد قدَّمنا في آخر الفقرة السابقة من هذا البحث ما ورد من أنَّ الله يُملِّكه مشارق الأرض ومغاربها.
ومن ذلك ما ورد مسنداً عن الثمالي، عن عليِّ بن الحسين، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الأَئِمَّةُ بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ، أَوَّلُهُمْ أَنْتَ يَا عَلِيُّ، وَآخِرُهُمُ القَائِمُ اَلَّذِي يَفْتَحُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) عَلَى يَدَيْهِ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا»(592).
وعن حذيفة بن اليمان، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حديث، قال: «فَلَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ إِلَّا مَنْ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ»(593).
وذكر ابن حجر الهيتمي في تزييف دعوى مدَّعي المهدويَّة في الهند في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(592) كمال الدِّين (ص 282/ باب 24/ ح 35).
(593) قد تقدَّم في (ص 81)، فراجع.
عصره: علامات المهدي وخصائص ظهوره، ومن جملتها أنَّ الله يُملِّكه مشارق الأرض ومغاربها(594).
وممَّا جاء في تفسير الآية بذلك روايات: منها ما روي مسنداً عن أبي الورد، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال (عليه السلام): قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105]، قَالَ: «هُمْ آلُ مُحَمَّدٍ»(595).
وممَّا ورد مسنداً عن أبي صادق(596)، قَالَ: سَألتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ ...﴾ الآيَةَ، قَالَ: «نَحْنُ هُمْ»، قَالَ: قُلْتُ: ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 105 و106]، قَالَ: «هُمْ شِيعَتُنَا»(597).
وبالإسناد إلى محمّد بن عبد الله بن الحسن، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قَالَ: قَوْلُهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾: «هُمْ أَصْحَابُ اَلمَهْدِيِّ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ»(598).
وورد في تفسير عليِّ بن إبراهيم عند ذكر الآية(599)، ورواه الطبرسي (رحمه الله) في (مجمع البيان) عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «هُمْ أَصْحَابُ اَلمَهْدِيِّ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ»(600).
ولا إشكال بما ورد من أنَّ هذه الوراثة دخول الجنَّة حين يكون التفسير تطبيقاً بأنْ تكون الوراثة في هذه وتلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(594) راجع: البرهان في علامات مهدي آخر الزمان (ص 178).
(595) تأويل الآيات الظاهرة (ج 1/ ص 332/ ح 19).
(596) راجع ما مرَّ في هامش (ص 313).
(597) تأويل الآيات الظاهرة (ج 1/ ص 332/ ح 20).
(598) تأويل الآيات الظاهرة (ج 1/ ص 332/ ح 22).
(599) تفسير القمِّي (ج 2/ ص 77).
(600) مجمع البيان (ج 7/ ص 120).
وممَّا يتَّصل بالتفسير الذي ذُكِرَ لهذه الآية ويشهد له، ما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).
فالاستخلاف - مع التمكين المطلق - يقتضي وراثة الأرض ككلٍّ، والظهور على الأُمَم كلِّها بحيث لا يبقى نظر اتِّقاء لأيَّة جهة إلَّا الله.
وفي دعاء الافتتاح وهو يدعو للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): «اِسْتَخْلِفْهُ فِي الأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفْتَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ، مَكِّنْ لَهُ دِينَهُ اَلَّذِي اِرْتَضَيْتَهُ لَهُ، أَبْدِلْهُ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِ أَمْناً...، اَللَّهُمَّ أَظْهِرْ بِهِ دِينَكَ وَمِلَّةَ نَبِيِّكَ حَتَّى لَا يَسْتَخْفِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الحَقِّ مَخَافَةَ أَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ»(601).
وهذا ما ورد في الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام)، ففي حديث لأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) - وهو يتحدَّث عن مرحلة التأسيس في عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما بعده وغلبة الأعداء لأوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) -، قال (عليه السلام): «كُلُّ ذَلِكَ لِتَتِمَّ اَلنَّظِرَةُ اَلَّتِي أَوْحَاهَا اَللهُ تَعَالَى لِعَدُوِّهِ إِبْلِيسَ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ، وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ، وَيَقْتَرِبَ الوَعْدُ الحَقُّ اَلَّذِي بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور: 55]»، قال (عليه السلام): «وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الإِسْلَامِ إِلَّا اِسْمُهُ، وَمِنَ القُرْآنِ إِلَّا رَسْمُهُ، وَغَابَ صَاحِبُ الأَمْرِ بِإِيضَاحِ الغَدْرِ لَهُ فِي ذَلِكَ، لاِشْتِمَالِ الفِتْنَةِ عَلَى القُلُوبِ حَتَّى يَكُونَ أَقْرَبُ اَلنَّاسِ إِلَيْهِ أَشَدَّهُمْ عَدَاوَةً لَهُ(602)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(601) تهذيب الأحكام (ج 3/ ص 111/ ح 266/38).
(602) من الأمثلة على ذلك عمِّه جعفر بن عليٍّ الذي عُرِفَ بالكذَّاب، والعالم المعروف ابن أبي العزاقر الملقَّب بالشلمغاني... إلخ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤَيِّدُهُ اَللهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا، وَيُظْهِرُ دِيْنَ نَبِيِّهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَلَى يَدَيْهِ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ اَلمُشْرِكُونَ»(603).
قال الطبرسي (رحمه الله): (والمرويُّ عن أهل البيت (عليهم السلام) أنَّها (يعني الآية) في المهدي من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
قال (رحمه الله): (وروى العيَّاشي بإسناده عن عليِّ بن الحسين (عليه السلام) أنَّه قرأ الآية وقال: «هُمْ وَاَلله شِيعَتُنَا أَهْلَ البَيْتِ، يَفْعَلُ اَللهُ ذَلِكَ بِهِمْ عَلَى يَدَيّ رَجْلٍ مِنَّا، وَهُوَ مَهْدِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ»، وهو الذي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اليَوْمَ حَتَّى يَلِي رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي، اِسْمُهُ اِسْمِي، يَمْلَأُ الأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»).
قال الطبرسي (رحمه الله): (وروي مثل ذلك عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام) وأبي عبد الله (عليه السلام)، فعلى هذا يكون المراد بـ﴿الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ النبيُّ وأهل بيته (صلوات الرحمن عليهم). وتضمَّنت الآية البشارة لهم بالاستخلاف، والتمكُّن في البلاد، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي (عليه السلام) منهم. ويكون المراد بقوله: ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ هو أنْ جعل الصالح للخلافة خليفة مثل آدم وداود وسليمان (عليهم السلام)، ويدلُّ على ذلك قوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، و﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ﴾ [ص: 26]، وقوله: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ [النساء: 54]).
قال (رحمه الله): (وعلى هذا إجماع العترة الطاهرة، وإجماعهم حجَّة، لقول النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اَلله، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، لَنْ يَفْتَرِقَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(603) الاحتجاج (ج 1/ ص 382).
حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ»، وأيضاً فإنَّ التمكين في الأرض على الإطلاق لم يتَّفق، فهو منتظَر، لأنَّ الله (عزَّ اسمه) لا يخلف وعده)(604).
عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) يَقُولُ: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ طَوْعاً وَكَرْهاً﴾ [آل عمران: 83]، قَالَ: «إِذَا قَامَ القَائِمُ (عليه السلام) لَا يَبْقَى أَرْضٌ إِلَّا نُودِيَ فِيهَا بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَلله»(605).
وعن ابن بكير، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال في رواية: «وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ ضَرَبَ عُنُقَهُ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي اَلمَشَارِقِ وَاَلمَغَارِبِ أَحَدٌ إِلَّا وَحَّدَ اَللهَ»(606).
ولا شكَّ في أنَّ ظهور أهل الإيمان على الأرض كلِّها وسيادة الرسالة الإسلاميَّة بصورة مطلقة فيها أمر جديد، وهو يعني عدم إقرار أهل الكتاب على دينهم بدفع الجزية، وهو ما ورد في الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام)، وقد تقدَّم بعض منها، لأنَّ ارتفاع الشبهة بالعلم وإقامة الحجَّة يجعل بقاءهم على دينهم معاندة للحقِّ وإصراراً على الباطل.
ومن مظاهر الأمر الجديد:
عمله بعلمه من دون بيِّنة:
لقد وردت روايات عديدة تفيد أنَّه (عجَّل الله فرجه) يعمل بعلمه، فلا يسأل أحداً بيِّنة(607).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(604) مجمع البيان (ج 7/ ص 267).
(605) تفسير العيَّاشي (ج 1/ ص 183/ ح 81).
(606) تفسير العيَّاشي (ج 1/ ص 183 و184/ ح 82).
(607) أورد المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 319 و320) عدَّة روايات في ذلك.
فبالإسناد عَنْ سَعْدَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَا اَلرَّجُلُ عَلَى رَأْسِ القَائِمِ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ إِذْ قَالَ: أَدِيرُوهُ، فَيُدِيرُونَهُ إِلَى قُدَّامِهِ، فَيَأْمُرُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَلَا يَبْقَى فِي الخَافِقَيْنِ شَيْءٌ إِلَّا خَافَهُ»(608).
وَرَوَى عَبْدُ اَلله بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ (عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ) حَكَمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ بِحُكْمِ دَاوُدَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ، يُلْهِمُهُ اَللهُ تَعَالَى فَيَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، وَيُخْبِرُ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا اِسْتَبْطَنُوهُ، وَيَعْرِفُ وَلِيَّهُ مِنْ عَدُوِّهِ بِالتَّوَسُّمِ، قَالَ اَللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ [الحجر: 75 و76]»(609).
وبالإسناد إلى أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (الصادق) (عليه السلام): «إِذَا قَامَ القَائِمُ (عليه السلام) لَمْ يَقُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اَلرَّحْمَنِ إِلَّا عَرَفَهُ صَالِحٌ هُوَ أَمْ طَالِحٌ»(610).
عن جابر، عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام)، قال: «إِنَّمَا سُمِّيَ اَلمَهْدِيُّ لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ، حَتَّى إِنَّهُ يَبْعَثُ إِلَى رَجُلٍ لَا يَعْلَمُ اَلنَّاسُ لَهُ ذَنْباً فَيَقْتُلُهُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي بَيْتِهِ فَيَخَافُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ الجِدَارُ»(611).
وذكروا من الأمر الجديد:
1 - هدمه لبعض المساجد والمشاهد.
2 - وقتله لمن بلغ عشرين سنة ولم يتفقَّه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(608) الغيبة للنعماني (ص 245 و246/ باب 13/ ح 32).
(609) الإرشاد (ج 2/ ص 386).
(610) قد تقدَّم في (ص 311)، فراجع.
(611) سرور أهل الإيمان (ص 112).
ويبدو أنَّ هذه الأُمور كانت موضع إشكال وتساؤل لدى بعضهم، بتصوُّر أنَّها نسخ للشريعة الإسلاميَّة.
قال الطبرسي (رحمه الله): (قالوا: إذا حصل الإجماع على أنْ لا نبيَّ بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنتم قد زعمتم أنَّ القائم إذا قام لم يقبل الجزية من أهل الكتاب، وأنَّه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقَّه في الدِّين، ويأمر بهدم المساجد والمشاهد(612)، وأنَّه يحكم بحكم داود (عليه السلام) لا يسأل عن بيِّنة، وأشباه ذلك ممَّا ورد في آثاركم، وهذا يكون نسخاً للشريعة، وإبطالاً لأحكامها، فقد أثبتم معنى النبوَّة وإنْ لم تتلفَّظوا باسمها، فما جوابكم عنها؟).
قال (رحمه الله): (الجواب: أنَّا لم نعرف ما تضمَّنه السؤال من أنَّه (عليه السلام) لا يقبل الجزية من أهل الكتاب، وأنَّه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقَّه في الدِّين، فإنْ كان ورد بذلك خبر فهو غير مقطوع به.
وأمَّا هدم المساجد والمشاهد فقد يجوز أنْ يختصَّ بهدم ما بُني من ذلك على غير تقوى الله تعالى، وعلى خلاف ما أمر الله سبحانه به، وهذا مشروع قد فعله النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وأمَّا ما روي من أنَّه (عليه السلام) يحكم بحكم آل داود لا يسأل عن بيِّنة، فهذا أيضاً غير مقطوع به، وإنْ صحَّ فتأويله: أنْ يحكم بعلمه في ما يعلمه، وإذا علم الإمام والحاكم أمراً من الأُمور فعليه أنْ يحكم بعلمه ولا يسأل البيِّنة، وليس في هذا نسخ للشريعة.
على أنَّ هذا الذي ذكروه من ترك قبول الجزية واستماع البيِّنة لو صحَّ لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(612) لم يرد هدم المساجد والمشاهد بصيغة الإطلاق، وإنَّما ورد هدم مساجد أربعة في الكوفة، وهدم كلِّ مسجد على الطريق، وورد أيضاً أنَّه لا يبقى مسجد له شُرَف إلَّا هدمها وجعلها جمَّاء. راجع: الإرشاد (ج 2/ ص 385).
يكن نسخاً للشريعة، لأنَّ النسخ هو ما تأخَّر دليله عن الحكم المنسوخ، ولم يكن مصطحباً، فأمَّا إذا اصطحب الدليلان فلا يكون أحدهما ناسخاً لصاحبه، وإنْ كان يخالفه في الحكم، ولهذا إذا اتَّفقنا على أنَّ الله سبحانه لو قال: ألزموا السبت إلى وقت كذا، ثمّ لا تلزموه، لا يكون نسخاً، لأنَّ الدليل الرافع مصاحب للدليل الموجب).
قال (رحمه الله): (وإذا صحَّت هذه الجملة، وكان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أعلمنا بأنَّ القائم من ولده يجب اتِّباعه وقبول أحكامه، فنحن إذا صرنا إلى ما يحكم به فينا - وإنْ خالف بعض الأحكام المتقدِّمة - غير عاملين بالنسخ، لأنَّ النسخ لا يدخل في ما يصطحب الدليل)(613).
وأضاف الشيخ المجلسي (رحمه الله) بخصوص التساؤل والإشكال حول رفع الجزية - إلى ما أجاب به الشيخ الطبرسي (رحمه الله) - ما أوردته كُتُب الحديث لدى غير الإماميَّة من وضع الجزية على يد المسيح، كالذي ورد عن أبي هريرة أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَماً عَدْلاً، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الجِزْيَةَ، فَيَفِيضُ المَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ»(614).
قال (رحمه الله): (فظهر أنَّ هذه الأُمور المنقولة من سير القائم (عليه السلام) لا تختصُّ بنا، بل أوردها المخالفون أيضاً ونسبوها إلى عيسى (عليه السلام)، لكن قد رووا: «أَنَّ إِمَامَكُمْ مِنْكُمْ»(615)، فما كان من جوابهم (يعني على إشكال عدم قبول الجزية) فهو جوابنا(616))(617).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(613) إعلام الورى (ج 2/ ص 310 و311).
(614) صحيح البخاري (ج 5/ص 400 و401/ح 3086)، صحيح مسلم (ج 1/ص 93).
(615) قد تقدَّم في (ص 58)، فراجع.
(616) يعني من روى هذه الأحاديث روى أنَّه إمام المسلمين آنذاك منهم، وهو المهدي (عجَّل الله فرجه)، وعندئذٍ يكون نزول عيسى (عليه السلام) ووضع الجزية في عصر المهدي (عجَّل الله فرجه).
(617) بحار الأنوار (ج 52/ ص 281 - 284).
ومن مظاهر الأمر الجديد:
العدل، والغنى، والأمان بصورة شاملة:
وهذا ما لم يحدث في أيِّ عصر، لا لأنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) أكثر عدلاً وكرماً من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو عليٍّ (عليه السلام) مثلاً، فهو ليس إلَّا امتداداً لهما، بل لأنَّ اختلاف العصر والمرحلة من حيث سعة السلطان، وظهور الإسلام، ومستوى الناس عقلاً وعلماً وديناً، ورقي الوسائل التي بيد الإمام للحكم والمراقبة، وتقدُّم وسائل الإنتاج، وأداء حقوق المال، والعدل في التوزيع، هذه وغيرها ممَّا يتَّصل بها هي التي تتيح ذلك زمن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) دون غيره، وقد تقدَّم في ما أوردناه من الأحاديث ما هو شاهد لذلك، فهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهو الذي يُظهِر الدِّين الإسلامي على الدِّين كلِّه، وهو الذي يضع يده على رؤوس الناس فيكمل بها عقولهم و...
وعن الإمام عليٍّ (عليه السلام)، قال: «فَيَبْعَثُ اَلمَهْدِيُّ (عليه السلام) إِلَى أُمَرَائِهِ فِي سَائِرِ الأَمْصَارِ بِالعَدْلِ بَيْنَ اَلنَّاسِ...»، إلى أنْ يقول (عليه السلام): «وَيَذْهَبُ اَلشَّرُّ، وَيَبْقَى الخَيْرُ، وَيَزْرَعُ الإِنْسَانُ مُدًّا يَخْرُجُ لَهُ سَبِعْمَائَة مُدٍّ...، وَيَذْهَبُ اَلرِّبَا وَاَلزِّنَا وَشُرْبُ الخَمْرِ»(618).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) بعد أنْ ذكر مقابلة الناس للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، قال (عليه السلام): «أَمَا وَاَلله لَيَدْخُلَنَّ عَلَيْهِمْ عَدْلُهُ جَوْفَ بُيُوتِهِمْ كَمَا يَدْخُلُ الحَرُّ وَالقُرُّ»(619).
وعن عليِّ بن عقبة، عن أبيه، قال: «إِذَا قَامَ القَائِمُ (عليه السلام) حَكَمَ بِالعَدْلِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(618) عقد الدُّرَر (ص 159).
(619) قد تقدَّم في (ص 324)، فراجع.
وَاِرْتَفَعَ فِي أَيَّامِهِ الجَوْرُ، وَآمَنَتْ بِهِ اَلسُّبُلُ، وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ بَرَكَاتِهَا، وَرُدَّ كُلُّ حَقٍّ إِلَى أَهْلِهِ»(620).
وعن جابر بن عبد الله، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي اَلمَالَ حَثْياً لَا يَعُدُّهُ عَدًّا»(621).
وعن سعيد وجابر بن عبد الله، قالا: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ يَقْسِمُ المَالَ وَلَا يَعُدُّهُ»(622).
وعن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «يَخْرُجُ المَهْدِيُّ فِي أُمَّتِي، يَبْعَثَهُ اللهُ غِيَاثاً لِلنَّاسِ، تُنَعَّمُ الأُمَّةُ، وَتَعِيشُ المَاشِيَةُ، وَتُخْرِجُ الأَرْضُ نَبَاتَهَا، وَيُعْطِي المَالَ صِحَاحاً»(623).
وعن الحسين بن عليٍّ (عليه السلام) أنَّه قال: «تَواصَلُوا وَتَبَارُّوا، فَوَالَّذي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَيَأْتِيَنَّ عَلَيْكُمْ وَقْتٌ لَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ لِدِينَارِهِ وَلَا لِدِرْهَمِهِ مَوْضِعاً»(624)، يعني لا يجد عند ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه) موضعاً يصرفه فيه لاستغناء الناس جميعاً بفضل الله تعالى وفضل وليِّه المهدي (عجَّل الله فرجه).
وفي رواية عن المفضَّل، عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «وَيَطْلُبُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ مَنْ يَصِلُهُ بِمَالِهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ زَكَاتَهُ، فَلَا يَجِدْ أَحَداً يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، اسْتَغْنَى النَّاسُ بِمَا رَزَقَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ»(625).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(620) الإرشاد (ج 2/ ص 384).
(621) صحيح مسلم (ج 8/ ص 185).
(622) المصدر السابق.
(623) عقد الدُّرَر (ص 155).
(624) عقد الدُّرَر (ص 171).
(625) الإرشاد (ج 2/ ص 381).
ومن مظاهر الأمر الجديد أنَّه:
ليس بين الناس وبينه بريد:
إذا كنَّا قد استفدنا من ذلك - حين قدَّمنا ما ورد من هذا الحديث سابقاً في العلامات الخاصَّة - إشارة إلى التقدُّم العلمي في مرحلة الإمام (عجَّل الله فرجه)، فإنَّ سماعه ورؤيته من بُعد وبصورة مباشرة(626) قد يعني مرحلة تقنيَّة متقدِّمة يصبح فيها الهاتف التلفازي قائماً على مستوى العالم.
ولكن ما نريد الإشارة إليه هنا انعدام الواسطة بين الناس والإمام (عجَّل الله فرجه) كلَّما شاءوا أمراً من الأُمور، وهو بهذا المستوى - وبخاصَّة في مثل سلطان الإمام (عجَّل الله فرجه) سعةً وامتداداً - ممَّا لم يقع نظيره، بل ممَّا يصعب تصوُّره لولا خصوصيَّة الإمام (عجَّل الله فرجه) وخصوصيَّة عصره، ولا شكَّ في أنَّ مثل هذه الصلة المفتوحة بين الناس والإمام (عجَّل الله فرجه) أمر جديد، وهي ضمانة عظيمة للاستقامة على الحقِّ والعدل، وخُلُق جديد بالنسبة لذوي السلطان يتَّصل بخُلُق رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخُلُق وصيِّه عليٍّ (عليه السلام) اللذين لم يتَّخذا حجاباً، ولم يقطعا عنهما الناس، ولم يتميَّزا عنهم.
ومن مظاهر الأمر الجديد أنْ:
تُؤتى الناس الحكمة في زمنه:
أشرنا إلى أنَّ العصر الذي يخرج فيه الإمام (عجَّل الله فرجه) عصر يبلغ فيه الإنسان من العلم والتقنية - كما تشير الروايات - الذروة. والعلم يصحبه رقي عقلي وخُلُقي، وبذلك يستطيع أهله أنْ يتفهَّموا معنى أنْ يكون الإمام حجَّة الله وخليفته ومحلَّ عطائه ونظره بما يظهر على يديه من علم يجاوز قدر العصر وأهله، وبما يُبرزه من إمكانات لا تقع ضمن المقدور - بوسيلة مادّيَّة ولا روحيَّة عامَّة -،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(626) قد تقدَّم في (ص 281)، فراجع.
أي ممَّا هي ضمن العطاء العامِّ من القدرات الروحيَّة كالذي بأيدي الروحيِّين من أصحاب الخلوات والرياضات وأهل التسخير والسحرة...
ثمّ إنَّ وسائل الإيصال السمعيَّة والبصريَّة القائمة في عصر الإمام، كالتلفزة عبر الأقمار الصناعيَّة، تتيح للإمام (عجَّل الله فرجه) ولأصحابه مخاطبة العالم والناس في بيوتهم، وتعريفهم بما حبا الله حجَّته ووصيَّ خاتم رُسُله (عجَّل الله فرجه)، وتعليمهم الرسالة الإسلاميَّة كما جاء بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وقد مرَّ عن الصادق (عليه السلام) أنَّ الدنيا تكون بمنزلة راحة يده (عجَّل الله فرجه)(627)، وأنَّ الناس في المشرق والمغرب يرونه ويسمعونه، وكلُّ قوم يسمعون الحديث بلغتهم، وأنَّه (عجَّل الله فرجه) كما مرَّ عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «إِذَا قَامَ وَضَعَ يَدَه عَلَى رُؤُوسِ العِبَادِ، فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ، وَأَكْمَلَ بِه أَحْلَامهُمْ»(628).
ومن الواضح أنَّ المقصود باليد القدرة التي آتاها الله له علماً، وهدًى، وقوَّة حجَّة، وثمّ إمكانيَّة المراقبة والردع.
وقد مرَّ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه (عجَّل الله فرجه) يلهمه الله، فيحكم بعلمه، ويخبر كلَّ قوم بما استبطنوه، ويعرف وليَّه من عدوِّه(629).
وبين هذا وذاك، وبما يقوم به من دعوة وتعريف وتعليم نظري وعملي يُغيِّر عقول الناس ونفوسهم وسلوكهم.
وقد روي عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «وَتُؤْتَوْنَ الحِكْمَةَ فِي زَمَانِهِ حَتَّى إِنَّ اَلمَرْأَةَ لَتَقْضِي فِي بَيْتِهَا بِكِتَابِ اَلله تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(630).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(627) قد تقدَّم في (ص 311)، فراجع.
(628) قد تقدَّم في (ص 310)، فراجع.
(629) قد تقدَّم في (ص 311 و312)، فراجع.
(630) الغيبة للنعماني (ص 245/ باب 13/ ح 30).
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (الصادق) (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَ القَائِمُ (عليه السلام) دَعَا النَّاسَ إِلَى الإِسْلَامِ جَدِيداً، وَهَدَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ قَدْ دُثِرَ فَضَلَّ عَنْهُ الجُمْهُورُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ القَائِمُ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ قَدْ ضَلُّوا عَنْهُ، وَسُمِّيَ بِالقَائِمِ لِقِيَامِهِ بِالحَقِّ»(631).
وعن الحسين بن خالد، عن الإمام عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «فَإِذَا خَرَجَ أَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِهِ، وَوَضَعَ مِيزَانَ العَدْلِ بَيْنَ اَلنَّاسِ، فَلاَ يَظْلِمُ أَحَدٌ أَحَداً»(632).
إنَّ وجه الفهم الصحيح للأمر الجديد أنَّه:
الإسلام كما هو في النظريَّة والتطبيق:
ذلك هو المعنى المفروض بما قدَّمناه من وجوه المناقشة للتفسير المحرَّف، ومن الوجوه التي يمكن أنْ تكون مقصودة، وهي جميعاً تتماسك مع موقع المهدي (عجَّل الله فرجه) بوصفه وصيًّا وامتداداً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومع دعوته وعمله التطبيقي بدءاً من خطبته الأُولى لدى الظهور حتَّى منتهى أمره. إنَّ الإسلام كما هو في واقعه - إذا قيس ببُعد الناس عنه في حياتهم نظريًّا وعمليًّا بين الانحراف والفسق والردَّة، وبين تعدُّد الاجتهادات - سيبدو - كما قدَّمنا - أمراً جديداً في نظر الناس، ولكن ذلك أمر وأنْ يكون ما يجيء به المهدي (عجَّل الله فرجه) جديداً بالنسبة لأُسُس الإسلام وبناه كما جاء بها القرآن والسُّنَّة أمر آخر.
وممَّا يُؤكِّد ذلك ما روي من:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(631) الإرشاد (ج 2/ ص 383).
(632) كمال الدِّين (ص 371 و372/ باب 35/ ح 5).
خطبة المهدي (عجَّل الله فرجه) عند أوَّل ظهوره:
فعن جابر، عن أبي جعفر (الباقر)، قال (عليه السلام): «ثُمَّ يَظْهَرُ اَلمَهْدِيُّ بِمَكَّةَ عِنْدَ العِشَاءِ، وَمَعَهُ رَايَةُ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَقَمِيصُهُ وَسَيْفُهُ وَعَلَامَاتٌ وَنُورٌ وَبَيَانٌ، فَإِذَا صَلَّى العِشَاءَ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَقُولُ: أُذَكِّرُكُمُ اَللهَ أَيُّهَا اَلنَّاسُ وَمَقَامُكُمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّكُمْ، فَقَدِ اِتَّخَذَ الحُجَّةَ، وَبَعَثَ الأَنْبِيَاءَ، وَأَنْزَلَ الكِتَابَ، وأَمَرَكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَأَنْ تُحَافِظُوا عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَأَنْ تُحْيُوا مَا أَحْيَى القُرْآنُ، وَتُمِيتُوا مَا أَمَاتَ، وَتَكُونُوا أَعْوَاناً عَلَى الهُدَى وَوِزْراً عَلَى اَلتَّقْوَى، فَإِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ دَنَا فَنَاؤُهَا وَزَوَالُهَا، وَآذَنَتْ بِالوَدَاعِ، فَإِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلله وَإِلَى رَسُولِهِ، وَالعَمَلِ بِكِتَابِهِ، وَإِمَاتَةِ البَاطِلِ، وَإِحْيَاءِ سُنَّتِهِ»(633).
وعن جابر، عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام) من حديث قال: «وَيَبْعَثُ اَلسُّفْيَانِيُّ بَعْثاً إِلَى اَلمَدِينَةِ، فَيَنْفَرُ اَلمَهْدِيُّ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ، فَيَبْلُغُ أَمِيرَ جَيْشِ اَلسُّفْيَانِيِّ أَنَّ اَلمَهْدِيَّ قَدْ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَيَبْعَثُ جَيْشاً عَلَى أَثَرِهِ، فَلَا يُدْرِكُهُ حَتَّى يَدْخُلَ مَكَّةَ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ عَلَى سُنَّةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام)»، قَالَ: «فَيَنْزِلُ أَمِيرُ جَيْشِ اَلسُّفْيَانِيِّ البَيْدَاءَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ اَلسَّمَاءِ: يَا بَيْدَاءُ، بِيدِي القَوْمَ، فَيَخْسِفُ بِهِمْ...»، إلى أنْ يقول (عليه السلام): «وَالقَائِمُ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، قَدْ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى البَيْتِ الحَرَامِ مُسْتَجِيراً بِهِ، فَيُنَادِي: يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّا نَسْتَنْصِرُ اَللهَ، فَمَنْ أَجَابَنَا مِنَ اَلنَّاسِ فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَنَحْنُ أَوْلَى اَلنَّاسِ بِالله وَبِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَمَنْ حَاجَّنِي فِي آدَمَ فَأَنَا أَوْلَى اَلنَّاسِ بِآدَمَ، وَمَنْ حَاجَّنِي فِي نُوحٍ فَأَنَا أَوْلَى اَلنَّاسِ بِنُوحٍ، وَمَنْ حَاجَّنِي فِي إِبْرَاهِيمَ فَأَنَا أَوْلَى اَلنَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ حَاجَّنِي فِي مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فَأَنَا أَوْلَى اَلنَّاسِ بِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَمَنْ حَاجَّنِي فِي اَلنَّبِيِّينَ فَأَنَا أَوْلَى اَلنَّاسِ بِالنَّبِيِّينَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(633) الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 213)، عقد الدُّرَر (ص 145)، العرف الوردي (ص 131/ ح 125)، القول المختصر (ص 139).
أَلَيْسَ اَللهُ يَقُولُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 33 و34]، فَأَنَا بَقِيَّةٌ مِنْ آدَمَ، وَذَخِيرَةٌ مِنْ نُوحٍ، وَمُصْطَفًى مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَصَفْوَةٌ مِنْ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ)، أَلَا فَمَنْ حَاجَّنِي فِي كِتَابِ اَلله فَأَنَا أَوْلَى اَلنَّاسِ بِكِتَابِ اَلله، أَلَا وَمَنْ حَاجَّنِي فِي سُنَّةِ رَسُولِ اَلله فَأَنَا أَوْلَى اَلنَّاسِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اَلله»(634).
يأمر بالمعروف ويزيل البِدَع:
وروي مسنداً عن ابن بزيع، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام)، قَالَ : «إِذَا قَامَ القَائِمُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا اَلنَّاسُ، نَحْنُ اَلَّذِينَ وَعَدَكُمُ اَللهُ فِي كِتَابِهِ: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحجّ: 41]»(635).
وروي بالإسناد إلى أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾، قال (عليه السلام): «هَذِهِ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَاَلمَهْدِيِّ وَأَصْحَابِهِ يُمْلِكُهُمُ اَللهُ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيُظْهِرُ اَلدِّينَ، وَيُمِيتُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ البِدَعَ وَالبَاطِلَ، كَمَا أَمَاتَ اَلسَّفَهَةُ الحَقَّ، حَتَّى لَا يُرَى أَثَرٌ مِنَ اَلظُّلْمِ، وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اَلمُنْكَرِ»(636).
وروى أبو بصير، عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام) أنَّه قال في حديث طويل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(634) الغيبة للنعماني (ص 288 - 291/ باب 14/ ح 67).
(635) تفسير فرات الكوفي (ص 274/ ح 371/13).
(636) تأويل الآيات الظاهرة (ج 1/ ص 343 و344/ ح 25).
«وَلَا يَتْرُكُ بِدْعَةً إِلَّا أَزَالَهَا، وَلَا سُنَّةً إِلَّا أَقَامَهَا»(637).
عن أبي هاشم الجعفري، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: «إِذَا قَامَ القَائِمُ يَهْدِمُ اَلمَنَارَ وَاَلمَقَاصِيرَ اَلَّتِي فِي اَلمَسَاجِدِ»، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لِأَيِّ مَعْنَى هَذَا؟ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: «مَعْنَى هَذَا أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ مُبْتَدَعَةٌ لَمْ يَبْنِهَا نَبِيٌّ وَلَا حُجَّةٌ»(638).
يدعو إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله:
روي بالإسناد إلى عبد الله الحلبي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، بعد حديث طويل عن المهدي (عجَّل الله فرجه)، قال (عليه السلام): «ثُمَّ يَنْطَلِقُ فَيَدْعُو اَلنَّاسَ إِلَى كِتَابِ اَلله، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ (عَلَيْهِ وَآلِهِ اَلسَّلَامُ)، وَالوَلَايَةِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، وَالبَرَاءَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَلَا يُسَمِّي أَحَداً»(639).
وبالإسناد إلى حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - وذكر حديثاً في ما ينال الأُمَّة في مستقبلها - إلى أنْ قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَا حُذَيْفَةُ، لَا يَزَالُ ذَلِكَ البَلَاءُ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ اَلزَّمَانِ حَتَّى إِذَا أَيِسُوا وَقَنَطُوا وَأَسَاءُوا اَلظَّنَّ أَنْ لاَ يُفَرَّجَ عَنْهُمْ إِذْ بَعَثَ اَللهُ رَجُلاً مِنْ أَطَائِبِ عِتْرَتِي وَأَبْرَارِ ذُرِّيَّتِي عَدْلاً مُبَارَكاً زَكِيًّا لَا يُغَادِرُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، يُعِزُّ اَللهُ بِهِ اَلدِّينَ وَالقُرْآنَ وَالإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَيُذِلُّ بِهِ اَلشِّرْكَ وَأَهْلَهُ، يَكُونُ مِنَ اَلله عَلَى حَذَرٍ، لَا يَغْتَرُّ بِقَرَابَتِهِ، لَا يَضَعْ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، وَلَا يَقْرَعُ أَحَداً فِي وَلَايَتِهِ بِسَوْطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ، يَمْحُو اَللهُ بِهِ البِدَعَ كُلَّهَا، وَيُمِيتُ بِهِ الفِتَنَ كُلَّهَا، يَفْتَحُ اَللهُ بِهِ كُلَّ بَابِ حَقٍّ، وَيُغْلِقُ بِهِ كُلَّ بَابِ بَاطِلٍ»(640).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(637) الإرشاد (ج 2/ ص 385)؛ ومرَّت روايات مشابهة في آخر الفقرة السابقة من البحث الأوَّل.
(638) الغيبة للطوسي (ص 206 و207/ ح 175).
(639) تفسير العيَّاشي (ج 2/ ص 56 و57/ ح 49).
(640) الملاحم والفتن لابن طاووس (ص 264 و265/ ح 384).
وروي مسنداً عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) وأَتَاه رَجُلٌ، فَقَالَ لَه: إِنَّكُمْ أَهْلُ بَيْتِ رَحْمَةٍ، اخْتَصَّكُمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا، فَقَالَ لَه: «كَذَلِكَ نَحْنُ وَالحَمْدُ لِله، لَا نُدْخِلُ أَحَداً فِي ضَلَالَةٍ، وَلَا نُخْرِجُه مِنْ هُدًى، إِنَّ الدُّنْيَا لَا تَذْهَبُ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) رَجُلاً مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ يَعْمَلُ بِكِتَابِ الله، لَا يَرَى فِيكُمْ مُنْكَراً إِلَّا أَنْكَرَه»(641).
وعن عائشة، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال - في الحديث عن المهدي (عجَّل الله فرجه) -: «هُوَ رَجُلٌ مِنْ عِتْرَتِي، يُقَاتِلُ عَلَى سُنَّتِي، كَمَا قَاتَلْتُ أَنَا عَلَى الوَحْيِ»(642).
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَيَعْمَلُ بِسُنَّتِي، وَيُنْزِلُ اَللهُ لَهُ البَرَكَةَ مِنَ اَلسَّمَاءِ، وَتُخْرِجُ لَهُ الأَرْضُ بَرَكَتَهَا، وَتَمْلَأُ بِهِ الأَرْضُ عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»(643).
وروى الطوسي (رحمه الله) بسنده عَنِ العَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ القَلَّاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَألتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنِ القَائِمِ (عجَّل الله فرجه) إِذَا قَامَ بِأَيِّ سِيرَةٍ يَسِيرُ فِي اَلنَّاسِ؟ فَقَالَ: «بِسِيرَةِ مَا سَارَ بِهِ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حَتَّى يُظْهِرَ الإِسْلَامَ»، قُلْتُ: وَمَا كَانَتْ سِيرَةُ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قَالَ: «أَبْطَلَ مَا كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَاِسْتَقْبَلَ اَلنَّاسَ بِالعَدْلِ، وَكَذَلِكَ القَائِمُ (عليه السلام) إِذَا قَامَ يُبْطِلُ مَا كَانَ فِي الهُدْنَةِ مِمَّا كَانَ فِي أَيْدِي اَلنَّاسِ، وَيَسْتَقْبِلُ بِهِمُ العَدْلَ»(644).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(641) الكافي (ج 8/ ص 396/ ح 597).
(642) الفتن لنعيم بن حمَّاد (ص 229)، عقد الدُّرَر (ص 17)، العرف الوردي (ص 138/ ح 146)، جواهر العقدين (ج 2/ ص 194)، القول المختصر (ص 143)، الصواعق المحرقة (ص 164).
(643) عقد الدُّرَر (ص 20 و156).
(644) تهذيب الأحكام (ج 6/ ص 154/ ح 270/1).
وَعَنْ أَبِي المِقْدَامِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اَلله تَعَالَى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33]، قَالَ: «أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا أَقَرَّ بِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(645).
وروي بالإسناد إلى ابن البطائني، عن أبيه، عن أبي بصير، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (الباقر) (عليه السلام)، وذكر حديثاً يذكر فيه مشابهة الحجَّة لبعض الأنبياء (عليهم السلام)، وفيه: قُلْتُ: وَمَا سُنَّةُ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قَالَ: «إِذَا قَامَ سَارَ بِسِيرَةِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِلَّا أَنَّهُ يُبَيِّنُ آثَارَ مُحَمَّدٍ...» الحديث(646).
يقيم الحدود المعطَّلة:
روي بالإسناد إلى أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «دَمَانِ فِي الإِسْلَامِ حَلَالٌ مِنَ اَلله (عزَّ وجلَّ) لَا يَقْضِي فِيهِمَا أَحَدٌ بِحُكْمِ اَلله حَتَّى يَبْعَثَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) القَائِمَ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ (عليهم السلام)، فَيَحْكُمُ فِيهِمَا بِحُكْمِ اَلله (عزَّ وجلَّ) لاَ يُرِيدُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً: اَلزَّانِي اَلمُحْصَنُ يَرْجُمُهُ، وَمَانِعُ اَلزَّكَاةِ يَضْرِبُ رَقَبَتَهُ»(647).
أصحابه يُعلِّمون القرآن:
روى جابر، عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام)، قال: «إِذَا قَامَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدٍ(عليه السلام) ضَرَبَ فَسَاطِيطَ لِمَنْ يُعَلِّمُ اَلنَّاسَ القُرْآنَ عَلَى مَا أَنْزَلَ اَللهُ (جلَّ جلاله)»(648).
وبالإسناد إلى حبَّة العرني، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى شِيعَتِنَا بِمَسْجِدِ الكُوفَةِ قَدْ ضَرَبُوا الفَسَاطِيطَ يُعَلِّمُونَ اَلنَّاسَ القُرْآنَ كَمَا أُنْزِلَ»(649).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(645) قد تقدَّم في (ص 326)، فراجع.
(646) الغيبة للنعماني (ص 167 و168/ باب 10/ فصل 3/ ح 5).
(647) كمال الدِّين (ص 671/ باب 58/ ح 21).
(648) الإرشاد (ج 2/ ص 386).
(649) الغيبة للنعماني (ص 333/ باب 21/ ح 3).
وعن جعفر بن يحيى، عن أبي عبد الله (الصادق) (عليه السلام)، قال: قال: «كَيْفَ أَنْتُمْ لَوْ ضَرَبَ أَصْحَابُ القَائِمِ (عليه السلام) الفَسَاطِيطَ فِي مَسْجِدِ كُوفَانَ، ثُمَّ يُخْرَجُ إِلَيْهِمُ المِثَالَ اَلمُسْتَأْنَفَ، أَمْرٌ جَدِيدٌ»(650).
ومن الواضح أنَّ التعليم في هذه الروايات ليس للقراءة وإنَّما للتفسير، وبيان معاني الآيات وتأويلها، بقرينة قوله: «كَمَا أُنْزِلَ»، لأنَّ الاختلاف ومظنَّة الخطأ والتحريف ليس في القرآن من حيث كلماته وآياته وسوره، فذلك ممَّا يجمع علماء شيعة أهل البيت على نفيه، وإنَّما هو في تفسيره وتأويله، ولا جدال في أنَّ المفسِّرين يطرحون وجهات نظر مختلفة في بعض الآيات مذهبيَّة وشخصيَّة قد يبعد بعضها عمَّا هو الحقُّ فيها، لذلك يقوم الإمام (عجَّل الله فرجه) ببيان معاني الآيات القرآنية كما أُنزلت، ويُبطِل ما لا علاقة له بها.
وقد روي عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام) أنَّه قال: «وَتُؤْتَوْنَ الحِكْمَةَ فِي زَمَانِهِ حَتَّى إِنَّ اَلمَرْأَةَ لَتَقْضِي فِي بَيْتِهَا بِكِتَابِ اَلله تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(651).
وفي دعاء السجَّاد في (عرفة) - كما في الصحيفة السجَّاديَّة -، قال (عليه السلام): «وَأَقِمْ بِهِ كِتَابَكَ وَحُدُودَكَ، وَشَرَائِعَكَ وَسُنَنَ رَسُولِكَ صَلَوَاتُكَ اللَّهُمَّ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَأَحْيِ بِهِ مَا أَمَاتَهُ الظَّالِمُونَ مِنْ مَعَالِمِ دِينِكَ، وَاجْلُ بِهِ صَدَأَ الجَوْرِ عَنْ طَرِيقَتِكَ، وَأَبِنْ بِهِ الضَّرَّآءَ مِنْ سَبِيلِكَ، وَأَزِلْ بِهِ النَّاكِبِينَ عَنْ صِرَاطِكَ، وَامْحَقْ بِهِ بُغَاةَ قَصْدِكَ عِوَجاً، وَأَلِنْ جَانِبَهُ لِأَوْلِيَائِكَ، وَابْسُطْ يَدَهُ عَلَى أَعْدَائِكَ، وَهَبْ لَنا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَتَعَطُّفَهُ وَتَحَنُّنَهُ»(652).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(650) الغيبة للنعماني (ص 334/ باب 21/ ح 6).
(651) قد تقدَّم في (ص 343)، فراجع.
(652) الصحيفة السجَّاديَّة (ص 323/ الدعاء 147).
وفي دعاء الافتتاح الذي رواه الشيخ أبو جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العمري، عن الحجَّة (عجَّل الله فرجه): «اَللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى وَلِيِّ أَمْرِكَ، القَائِمِ اَلمُؤَمَّلِ، وَالعَدْلِ اَلمُنْتَظَرِ، وُحُفَّهُ بِمَلَائِكَتِكَ اَلمُقَرَّبِينَ، وَأَيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، اَللَّهُمَّ اِجْعَلْهُ اَلدَّاعِيَ إِلَى كِتَابِكَ، وَالقَائِمَ بِدِينِكَ، اِسْتَخْلِفْهُ فِي الأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفْتَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ، مَكِّنْ لَهُ دِينَهُ اَلَّذِي اِرْتَضَيْتَهُ لَهُ...»، إلى أنْ يقول: «اَللَّهُمَّ إِنَّا نَرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ، تُعِزُّ بِهَا الإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا اَلنِّفَاقَ وَأَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنَا فِيهَا مِنَ اَلدُّعَاةِ إِلَى طَاعَتِكَ، وَالقَادَةِ إِلَى سَبِيلِكَ، وَتَرْزُقُنَا بِهَا كَرَامَةَ اَلدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»(653).
وقال الشيخ الصدوق (رحمه الله): حدَّثنا أبو محمّد الحسين بن أحمد المكتِّب، قال: حدَّثنا أبو عليّ بن همَّام بهذا الدعاء، وذكر أنَّ الشيخ العمري (قدَّس الله روحه) أملاه عليه وأمره أنْ يدعو به، وهو الدعاء في غيبة القائم (عجَّل الله فرجه)، وممَّا جاء فيه: «اَللَّهُمَّ وَأَحْيِ بِوَلِيِّكَ القُرْآنَ، وَأَرِنَا نُورَهُ سَرْمَداً لَا ظُلْمَةَ فِيهِ، وَأَحْيِ بِهِ القُلُوبَ اَلمَيْتَةَ، وَاِشْفِ بِهِ اَلصُّدُورَ الوَغِرَةَ، وَاِجْمَعْ بِهِ الأَهْوَاءَ اَلمُخْتَلِفَةَ عَلَى الحَقِّ، وَأَقِمْ بِهِ الحُدُودَ اَلمُعَطَّلَةَ وَالأَحْكَامَ اَلمُهْمَلَةَ حَتَّى لَا يَبْقَى حَقٌّ إِلَّا ظَهَرَ، وَلَا عَدْلٌ إِلَّا زَهَرَ، وَاِجْعَلْنَا يَا رَبِّ مِنْ أَعْوَانِهِ، وَمُقَوِّي سُلْطَانِهِ، وَاَلمُؤْتَمِرِينَ لِأَمْرِهِ، وَاَلرَّاضِينَ بِفِعْلِهِ، وَاَلمُسَلِّمِينَ لِأَحْكَامِهِ»(654).
ومن الواضح أنَّ استشهادنا بالأدعية الواردة عنهم هنا بالنظر إلى أنَّ الدعاء لا يكون إلَّا بما هو المرجوُّ والمأمول أنْ يكون لدى ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، أو بما هو مهمَّته وغاية عمله لو ظهر، وليس في ذلك أمر - كما رأيت - عدا إقامة الكتاب والسُّنَّة وتنفيذ الأحكام والحدود التي شرَّعها الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(653) إقبال الأعمال (ج 1/ ص 141 و142).
(654) كمال الدِّين (ص 515/ باب 45/ ح 43).
الإمام (عجَّل الله فرجه) يبني المساجد:
لقد ذكرنا - في العلامات الخاصَّة - روايات تقول: إنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) يبني في الغريِّ مسجداً له ألف باب، وكان ذكرنا لها هناك لجهة أُخرى من الدلالة تتَّصل بكونها علامةً وإخباراً غيبيًّا هامًّا، لانعدام المؤشِّرات الموضوعيَّة إليه، أمَّا إشارتنا إلى ذلك هنا فلبيان مدى اهتمام الإمام (عجَّل الله فرجه) - وهو سيِّد أهل المعرفة - بفريضة الصلاة التي يراها أدعياء العرفان حجاباً.
وممَّا جاء في رواية عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفر (الباقر) (عليه السلام)، قال: قال (عليه السلام): «فَإِذَا كَانَتِ الجُمُعَةُ اَلثَّانِيَةُ قَالَ اَلنَّاسُ (في الكوفة): يا بن رَسُولِ اَلله، اَلصَّلَاةُ خَلْفَكَ تُضَاهِي اَلصَّلَاةَ خَلْفَ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَاَلمَسْجِدُ لَا يَسَعُنَا، فَيَقُولُ: أَنَا مُرْتَادٌ لَكُمْ، فَيَخْرُجُ إِلَى الغَرِيِّ، فَيَخُطُّ مَسْجِداً لَهُ ألفُ بَابٍ يَسَعُ اَلنَّاسَ»(655).
وورد أيضاً أنَّه يبني أربعة مساجد أُخرى في الكوفة، ومسجداً ذا خمسمائة باب في الحيرة يُصلِّي فيها نُوَّابه(656).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(655) الغيبة للطوسي (ص 468 و469/ ح 485).
(656) روى الطوسي (رحمه الله) في تهذيب الأحكام (ج 3/ ص 253 و254/ ح 699/19) بسنده عَنْ حَبَّةَ العُرَنِيِّ، قَالَ: خَرَجَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) إِلَى الحِيرَةِ، فَقَالَ: «لَتَصِلَنَّ هَذِهِ بِهَذِهِ - وَأَوْمَى بِيَدِهِ إِلَى الكُوفَةِ وَالحِيرَةِ - حَتَّى يُبَاعَ اَلذِّرَاعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِدَنَانِيرَ، وَلَيُبْنَيَنَّ بِالحِيرَةِ مَسْجِدٌ لَهُ خَمْسُمِائَةِ بَابٍ يُصَلِّي فِيهِ خَلِيفَةُ القَائِمِ (عَجَّلَ اَللهُ تَعَالَى فَرَجَهُ)، لِأَنَّ مَسْجِدَ الكُوفَةِ لَيَضِيقُ عَنْهُمْ، وَلَيُصَلِّيَنَّ فِيهِ اِثْنَا عَشَرَ إِمَاماً عَدْلاً»، قُلْتُ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، وَيَسَعُ مَسْجِدُ الكُوفَةِ هَذَا اَلَّذِي تَصِفُ اَلنَّاسَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «تُبْنَى لَهُ أَرْبَعُ مَسَاجِدَ، مَسْجِدُ الكُوفَةِ أَصْغَرُهَا، وَهَذَا، وَمَسْجِدَانِ فِي طَرَفَيِ الكُوفَةِ مِنْ هَذَا الجَانِبِ وَهَذَا الجَانِبِ» وَأَوْمَى بِيَدِهِ نَحْوَ البَصْرِيَّينَ وَالغَرِيَّيْنِ.
الزاهد المجاهد:
عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (الصادق) (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِخُرُوجِ القَائِمِ؟ فَوَاَلله مَا لِبَاسُهُ إِلَّا الغَلِيظُ، وَلَا طَعَامُهُ إِلَّا الجَشِبُ، وَمَا هُوَ إِلَّا اَلسَّيْفُ، وَاَلمَوْتُ تَحْتَ ظِلِّ اَلسَّيْفِ»(657).
المهدي وأصحابه وأثر السجود في جباههم:
وروى بسنده عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنَّه قال - وهو يتحدَّث عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في بعض مراحل جهاده وحربه للكفر -: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى القَائِمِ (عليه السلام) وَأَصْحَابِهِ فِي نَجَفِ الكُوفَةِ، كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمُ اَلطَّيْرَ، قَدْ شَنَّتْ مَزَادُهُمْ، وَخَلَقَتْ ثِيَابُهُمْ، مُتَنَكِّبِينَ قِسِيَّهُمْ، قَدْ أَثَّرَ اَلسُّجُودُ بِجِبَاهِهِمْ، لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، كَأَنَّ قُلُوبَهُمْ زُبَرَ الحَدِيدِ، يُعْطَى اَلرَّجُلُ مِنْهُمْ قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً»(658).
يُقبِل الناس في زمنه على العبادة:
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «وَيَبْعَثُ اَلمَهْدِيُّ (عليه السلام) إِلَى أُمَرَائِهِ بِسَائِرِ الأَمْصَارِ بِالعَدْلِ بَيْنَ اَلنَّاسِ، وَتَرْعَى اَلشَّاةُ وَاَلذِّئْبُ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَتَلْعَبُ اَلصِّبْيَانُ بِالحَيَّاتِ وَالعَقَارِبِ، لَا تَضُرُّهُمْ بِشَيْءٍ، وَيَذْهَبُ اَلشَّرُ، وَيَبْقَى الخَيْرُ...، وَيَذْهَبُ اَلرِّبَا وَاَلزِّنَا وَشُرْبُ الخَمْرُ وَاَلرِّيَا، وَتَقْبَلُ اَلنَّاسُ عَلَى العِبَادَةِ وَاَلمَشْرُوعِ وَاَلدِّيَانَةِ، وَاَلصَّلَاةِ فِي الجَمَاعَاتِ، وَتَطُولُ الأَعْمَارُ، وَتُؤَدَّى الأَمَانَةُ، وَتَحْمِلُ الأَشْجَارُ، وَتَتَضَاعَفُ البَرَكَاتُ، وَتَهْلُكُ الأَشْرَارُ، وَتَبْقَى الأَخْيَارُ، وَلَا يَبْقَى مَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(657) الغيبة للنعماني (ص 239/ باب 13/ ح 20)، الغيبة للطوسي (ص 459 و460/ ح 473).
(658) منتخب الأنوار المضيئة (ص 344).
يَبْغُضُ أَهْلَ البَيْتِ (عليهم السلام)»(659).
والشواهد - من دعوته، وسيرته، وأعماله، وأدعيته - على أنَّه امتداد للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وللأوصياء من آبائه لا يكاد يختلف إلَّا بالخصائص المتَّصلة بعصر الظهور وسعة السلطان كثيرة جدًّا، وفي ما قدَّمناه منها ومن الأدلَّة الأُخرى كفاية للردِّ على من يُفسِّر الأمر الجديد بما هو خارج على الشريعة الإسلاميَّة بمصادرها من الكتاب والسُّنَّة - كما هما - من خلال وصيِّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشاهد الرسالة (عجَّل الله فرجه). وسيأتي في الفصل الرابع بيان أُسُس هؤلاء ومنطلقاتهم، على اختلاف عناوينهم عامدين أو ضالِّين بشبهة أو مخدوعين، ثمّ إيضاح وجه الباطل والضلالة فيها، تحذيراً للمسلمين والبسطاء والأبرياء منهم خاصَّة، لأنَّهم الضحيَّة في الغالب.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(659) عقد الدُّرَر (ص 200 و201).
البحث الثالث: الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وعقيدة الرجعة (660)
ترتبط عقيدة الرجعة - لدى الإماميَّة الاثني عشريَّة - بالإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) شخصاً، وزماناً، وأمراً، من دون اختلاف بينهم في ذلك.
على أنَّ الآراء المطروحة في معناها عندهم ثلاثة:
الرأي الأوَّل - والقائلون به قلَّة منهم -: قول قوم تأوَّلوا ما ورد في الرجعة، فرأوا بأنَّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى أهل البيت (عليهم السلام) بظهور الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه)، دون رجوع أعيان الأشخاص، وإحياء الموتى(661).
وذكر الشيخ الطبرسي والحرُّ العاملي (رحمهما الله): أنَّ سبب قولهم بهذا الرأي أنَّهم ظنُّوا أنَّ الرجعة تنافي التكليف(662)، بفهم أنَّ موتهم ورؤيتهم العالم الآخر لا تجعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(660) أخَّرنا البحث فيها لأنَّ علاقتها بقضيَّة الإمام (عجَّل الله فرجه) من حيث الأساس عرضيَّة على رأي المشهور من كون الإمام (عجَّل الله فرجه) حيًّا بحياة أرضية مادّيَّة، ثمّ لأنَّ الكتاب بحث مسألة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من جوانب معيَّنة مقدِّمة للبحث أدعياء المهدويَّة، فركَّز على شخصه وموقعه ودوره، وحين فُصِّل البحث في الجزء الأوَّل أُضيف إليه هذا البحث، ثمّ إنَّ عدم فصله كموضوع لا يتيح لنا عرض الآراء الثلاثة بهذه الصورة، إذ لابدَّ مثلاً من أنْ نتحدَّث عن الرأي الثاني في الغيبة الكبرى والثالث تحت عنوان: ماذا سيفعل؟ أو كيف سينتصر؟ ونحن نرى أنَّ بحثها مجتمعة في بحث واحد هو الأفضل، لأكثر من جهة.
(661) عقائد الإماميَّة (ص 81).
(662) مجمع البيان (ج 7/ ص 406)، الإيقاظ من الهجعة (ص 65).
أمامهم مدى أو فرصة في غير الطاعة، وأنَّ التكليف يقتضي الاختيار، وهو منتفٍ بالنسبة لهم كما ظنُّوا.
ورُدَّ عليهم بأنَّ الأمر ليس كذلك، لأنَّه - كما يقول الشيخ الطبرسي (رحمه الله) -: (ليس فيها ما يُلجئ إلى فعل الواجب، والامتناع عن القبيح، والتكليف يصحُّ معها، كما يصحُّ مع ظهور المعجزات الباهرة، والآيات القاهرة، كفلق البحر، وقلب العصا ثعباناً، وما أشبه ذلك)(663).
ويعني (رحمه الله) أنَّ هذه الآيات تُعطي اليقين بصدق الرُّسُل، وبالتالي صدق إنذارهم كما هي الرجعة، ومع ذلك فإنَّ الاختيار والقدرة على مخالفة التكليف لم يُسلَبا من مشاهديهما بشهادة الواقع.
والحقيقة أنَّ هناك فرقاً كبيراً بينهما لو أنَّ الراجع من الموت فقط تذكَّر ما رأى بعده بوضوح شأنْ المسافر والراجع من سفره في عالم الدنيا، لأنَّ الرؤية الحسّيَّة والتجربة تعطيان تحقُّقاً وطمأنينةً - لدى بعضهم - أكثر ممَّا هو البرهان العقلي مباشراً أو غير مباشر، ربَّما بسبب التذكُّر لما شاهده بيسر، وحضور الواقع فيها من دون كلفة وبوضح خلافاً للآخر.
وفي قوله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) حين طلب إحياء الموتى: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ (البقرة: 260) شاهد على ذلك، وإنْ أُعطيت الآية تفسيراً آخر، لكن استبطان الإنسان لحالته بين الحسِّ والبرهنة العقليَّة يُعطي ما أشرنا إليه من الفرق حتَّى مع التساوي في الإثبات.
ثمّ لأنَّ هناك من لا يُفرِّق بين المعجزة والسحر، وكان خوف موسى كما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ (طه: 67) بسبب ذلك، وربَّما كان سيتحقَّق خوفه لولا سجود السحرة أنفسهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(663) مجمع البيان (ج 7/ ص 406).
وفي قوله تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ (الحجر: 14 و15) شاهد آخر على ذلك.
وإنَّ الواقع التاريخي والحاضر يُقدِّمان شواهد كثيرة على عدم تفرقة العامَّة من الناس بين المعجزة والسحر.
لكن الراجع من الموت لا يذكر من تجربته في الحياة الأُخرى إلَّا كما يذكر الحالم في النوم من حلمه، أو لا يتذكَّر شيئاً على الإطلاق، فهو لا يشعر بالزمن ولا بتفاصيل ما مرَّ به من أحداث، ولا يصحب حالته السابقة فيها، وفي قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ (الروم: 55)، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ (الأنعام: 28) شاهد كافٍ لما ذكرناه.
وسواء كان الأمر كذلك أم لم يكن، فإنَّ ما رآه الطبرسي والحرُّ العاملي (رحمهما الله) من عدم علاقة الاختيار الذي يُصحِّح التكليف باليقين أمر حقٌّ، وإلَّا كان الرُّسُل وأوصياؤهم (عليهم السلام) مجبورين، ولا أحد يقول بذلك.
إنَّ اليقين والعلم يُعطيان العصمة التي تعني اختيار الطاعة من دون أنْ تعني الجبر أو انتفاء القدرة على المقابل حتَّى ولو لم يفعله بحكم هذا العلم، شأن الطبيب الذي يعلم الآثار الضارَّة لبعض الموادِّ والأفعال مثلاً، فيتجنَّبها بحكم هذا العلم مع قدرته على الفعل.
وقد نوقش أهل هذا الرأي، أعني التأويل لمعنى الرجعة، بعد إبطال حجَّتهم - كما مرَّ - بمناقشات، منها:
أوَّلاً: بأنَّ أكثر ما ورد فيها نصوص في معناها - كما سيأتي بعضها في ما يُساق من الكتاب أو السُّنَّة - وليس من الظواهر، ولذلك فلا سبيل إلى تأويلها بوجه.
ثانياً: إجماع الإماميَّة الاثني عشريَّة على معناها من دون تأويل، والعلم بامتداد هذا الإجماع إلى عصر المعصوم (عليه السلام) ودخوله فيه، ممَّا يوجب حجّيَّته، وسيأتي الحديث عن ذلك.
الرأي الثاني: أنَّ الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) هو من يرجع بعد أنْ توفَّاه الله ورفعه إليه، شأن المسيح (عليه السلام)، ليمكث في الأرض بعد نزوله مرَّةً أُخرى المدَّة التي يشاء الله، للقيام بالمهمَّة المنوطة به.
ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) - كما ورد في بعض الأخبار - يموت ثمّ يعيش، أو يُقتَل ثمّ يعيش(664).
وذكر من هذه الأخبار ما رواه الفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ قَاسِمٍ الحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُرَاسَانِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام): لِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَ القَائِمُ؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ يَقُومُ بَعْدَ مَا يَمُوتُ، إِنَّهُ يَقُومُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، يَقُومُ بِأَمْرِ اَلله سُبْحَانَهُ»(665).
ومنها: ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اَلله بْنِ جَعْفَرٍ الحِمْيَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحَكَمِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «مَثَلُ أَمْرِنَا فِي كِتَابِ اَلله مَثَلُ صَاحِبِ الحِمَارِ، أَمَاتَهُ اَللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ»(666).
ومنها: ما روي أيضاً عَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الكُوفِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ اَلرَّبِيعِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ خَطَّابٍ، عَنْ مُؤَذِّنِ مَسْجِدِ الأَحْمَرِ، قَالَ: سَألتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام): هَلْ فِي كِتَابِ اَلله مَثَلٌ لِلْقَائِمِ (عليه السلام)؟ فَقَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(664) الغيبة للطوسي (ص 422).
(665) الغيبة للطوسي (ص 422/ ح 403).
(666) الغيبة للطوسي (ص 422/ ح 404).
«نَعَمْ، آيَةُ صَاحِبِ الحِمَارِ، أَمَاتَهُ اَللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ»(667).
وهناك روايات أُخرى.
وقد أضاف بعضهم الأخبار التي تضرب للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مثلاً بعيسى (عليه السلام) الذي قالوا عنه: مات ولم يمت، كما ورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام)(668)، أو قُدِّر غيبته تقدير غيبة عيسى، كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام)(669)، مع أنَّ القرآن قد نصَّ على وفاته، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ (آل عمران: 55)، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ...﴾ الآية إلى قوله: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (المائدة: 116 و117).
بل إنَّ القرآن نفسه قال في آية ثالثة ما يشير إلى أنَّ عيسى لم يمت، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ (النساء: 159)، وهذا ما لم يتمّ قطعاً في وفاته الأُولى، فقد كان مطارداً مضطهداً حتَّى حاولوا صلبه لولا أنَّه شُبِّه لهم.
ولذلك لابدَّ - للجمع بين الآيتين السابقتين وبين هذه الآية - من أنْ يكون المقصود فيها موته الثاني لدى نزوله إلى الأرض مرَّةً أُخرى مع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وصلاته خلفه كما سبق الحديث عنه في البحثين الأوَّل والثاني من الفصل الأوَّل، وهو ما لا خلاف فيه لدى المسلمين، فقد روته جميع الصحاح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(667) الغيبة للطوسي (ص 423/ ح 405).
(668) كمال الدِّين (ص 152 و153/باب 6/ح 16، وص 326 و327/باب 32/ح 6).
(669) كمال الدِّين (ص 354/ باب 33/ ح 50)، الغيبة للطوسي (ص 169/ ح 129).
فيكون الحديثان السابقان: الحديث الذي قال: إنَّهم قالوا: مات ولم يمت، والآخر الذي عبَّر عن موته بالغيبة، وتكون الآية التي أغفلت وفاته الأُولى التي لم يؤمن له فيها أهل الكتاب متجاوزة الوفاة الأُولى إلى الثانية التي ستكون بعد النزول، وقد نظر فيها إلى أنَّ حقيقة الموت ليست إعداماً ولا انقطاعاً، وإنَّما هي انتقال إلى مستوى سماوي تنتفي فيه الحاجة إلى الجسد، فالحياة قائمة بعده، ولذلك قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوانُ﴾ (العنكبوت: 64).
وبهذا الاعتبار فكأنَّه مع كونه لم يكن، قال الإمام عليٌّ (عليه السلام) أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إِنَّه يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَلَيْسَ بِمَيِّتٍ، وَيَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَلَيْسَ بِبَالٍ»(670).
وبناءً عليه فإنَّ شأن الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) - بحكم التنظير والتمثيل بعيسى (عليه السلام) - لابدَّ من أنْ يكون كشأنه في ذلك.
ومثل ذلك الأحاديث التي تضرب مثلاً لطول عمره بالخضر (عليه السلام)، فإنَّ الأحاديث والقَصص الواردة في حياته مع عدم رؤيته وتمثُّله وغيابه تشهد جميعاً أنَّها حياة سماويَّة روحيَّة. وما أكثر ما يروي أهل الكشف والصوفيَّة لقاءه بهم، وتعليمه إيَّاهم.
أمَّا لماذا خصُّوا الإمام المهدي وعيسى والخضر (عليهم السلام) بالحديث عنهم كإحياء من دون غيرهم من الأنبياء والرُّسُل والأئمَّة الآخرين مع أنَّهم أحياء سماويًّا وروحيًّا كما هم؟
فالجواب: أنَّ ذلك بحكم أنَّ لهم أدوارا أرضيَّة، أو تعلُّقاً وارتباطاً بمهمَّات رساليَّة، استمراراً بالفعل كما هو بالنسبة للإمام المهدي والخضر (عليهما السلام)، أو في المستقبل كما هو بالنسبة لعيسى (عليه السلام) لدى نزوله، ولهذه الخصوصيَّة أكَّدوا على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(670) نهج البلاغة (ص 120/ الخطبة 87).
حياتهم من دون الآخرين، ليفهم الناس الذين يتصوَّرون الموت انقطاعاً بقاء صلتهم بالأرض، وإلَّا فإنَّ الرُّسُل والأوصياء وأولياء الله من أتباعهم شهداء أو كالشهداء أحياء عند ربِّهم يُرزَقون، وفي الزيارة: «أَشْهَدُ أَنَّكَ تَسْمَعُ الكَلَامَ، وَتَرُدُّ الجَوَابَ»(671).
ويبدو أنَّ هذه المشكلة لا تأتي من قضيَّة الموت والحياة بما هما في ذاتهما، وإنَّما من مفهومهما لدى العامَّة من الناس، طبقاً للواقع المادِّي النسبي، لذلك فالقول: إنَّه مات، وإنَّه في الوقت نفسه حيٌّ صحيح بالمفهوم الحقيقي لهما، كما تدلُّ النصوص الواردة في ذلك في الكتاب والسُّنَّة، وكما يدلُّ الواقع الذي يعرفه الروحيون قدماء ومحدَثين.
بقي أنَّ الله تعالى ذكر أنَّ بين الأموات أو المنتقلين إلى الدار الآخرة، وبين أهل الدنيا بحكم الرتبة اللَّامادّيَّة للحياة السماويَّة برزخ يمنع على المستوى العامِّ إمكان الصلة بينهم، قال سبحانه: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون: 100).
لكن الثابت أيضاً أنَّ ما هو ممنوع على المستوى العامِّ ليس ممنوعاً على المستوى الخاصِّ. والصلة حاصلة تاريخيًّا وفي الواقع - كما يذكر العرفانيُّون والبارسايكولوجيُّون - إمَّا بتمثُّل أهل الحياة السماويَّة ﴿بَشَراً سَوِيًّا﴾ (مريم: 17) منظوراً(672)، أو بعروج أهل الأرض إلى آفاقهم(673).
وفي القرآن الكريم وفي السُّنَّة الشريفة ما يدلُّ على وقوع هذه الصلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(671) مصباح الزائر (ص 287).
(672) لا فرق في مستوى الروح بين الإنسان والمَلَك من حيث كونهما في رتبة لا تُرى إلَّا بالتمثُّل.
(673) كما في السفر الروحي، أو تجارب الخروج من الجسد.
بصورتيها، ولذلك لا مجال - مع انفتاح هذه الصلة - للإشكال بما أثبته العقل والنقل من عدم خلوِّ الأرض من حجَّة، الأمر الذي يقتضي بقاء الصلة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لأنَّ بقاء الصلة لا يقتضي قطعاً بقاءه بالجسد المادِّي، فإنَّ الصلة والتسديد والرعاية والتعليم لا تفرض ذلك كما هو الأمر بالنسبة لجبرئيل مثلاً (عليه السلام) مع الرُّسُل.
ولذلك فهذا الرأي - لدى من يتبنَّاه - لا ينافي ما ورد من كون الإمام(عجَّل الله فرجه) حيًّا، ولا ينافي اضطلاعه بشؤون الإمامة بالحدود التي تكون في الغيبة، ولا ينافي ظهوره المنتظَر كما هو الأمر في المسيح (عليه السلام).
وقد ذكروا أيضاً أنَّ الدنيا - كما ورد في الحديث - سجن المؤمن وجنَّة الكافر(674)، وبقاء الإمام (عجَّل الله فرجه) فيها منتظِراً مهمَّة أرضيَّة قروناً لا يعلم أحد عددها قد لا يناسب منزلته مع إمكان عودته متى شاء، إذا كان الله أراد له ذلك.
قد يكون موتهم إراديًّا:
قالوا: وقد يكون انتقال الإمام والخضر وعيسى (عليهم السلام) إلى المستوى السماوي أو موتهم إراديًّا لا طبيعيًّا استثناءً من القانون العامِّ، وإنَّ الخالع لجسده أو الميّت بإرادته يملك أنْ يرجع متى شاء، والخروج من الجسد أو العروج إلى الرُّتَب السماويَّة خصوصيَّة يملكها الرُّسُل والأنبياء وأوصياؤهم (عليهم السلام) بالدرجة الأُولى مع اجتباء وعصمة، وفي حديث الرُّسُل (عليهم السلام)، وحديث سيِّدهم رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وما ورد عن الأئمَّة من أهل البيت (عليهم السلام) شواهد على ذلك.
ويملك الحكماء الكبار - مع اختلاف في الدرجة تتحدَّد بمبدأ الذات ومعادها أصلاً - هذه الخصوصيَّة كذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(674) معاني الأخبار (ص 288 و289/ باب معنى الموت/ ح 3).
وقد نقل العلَّامة الشيخ مرتضى (رحمه الله) أنَّ الفيلسوف الإشراقي السهرودي قال: (نحن لا نعتبر الحكيم حكيماً حتَّى يستطيع بإرادته أنْ يخلع بدنه، فيصبح ترك الجسم بالنسبة إليه أمراً عاديًّا وسهلاً، بل يصبح ملكة له)، قال: (ويُنقَل نظير هذا عن الحكيم ميرداماد المحقِّق)(675).
ويتحدَّث عدد كبير من الفلاسفة والعرفانيِّين والمتصوِّفة(676) والبراسايكولوجيِّين المعاصرين عن تجارب كثيرة توجب - لتواترها وخضوع بعضها للتحقيق - القطع بصحَّتها إجمالاً(677).
ونقل الطبرسي عن بعضهم أنَّ عيسى لم يمت، وأنَّه رُفِعَ إلى السماء من غير وفاة، وتعرَّضوا لتأويل الآيات الواردة في موته بالحمل على وفاة النوم(678).
قالوا: وإنَّ كون حياة الإمام (عجَّل الله فرجه) كحياة الخضر أو كحياة عيسى سماويَّة من غير أنْ يستوجب ذلك انقطاع دوره الحاضر بوصفه إمام الزمان أو المستقبل لما أُنيط به من دور عظيم في الظهور يمكن أنْ يُنهي أو يُقرِّب وجهات النظر في بعض ما يتَّصل بشأنه (عجَّل الله فرجه):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(675) العدل الإلهي (ص 238).
(676) اقرأ ما ورد عن المسيحيِّين: تجربة الفيلسوف يعقوب بوهمه المولود (1575م) في كتاب سقوط الحضارة لكولن ولسن (ص 197)، والعالم والفيلسوف عمانوئيل سويدنبوغ في (ص 256)؛ واقرأ من تجارب الهنود البوكيِّين ما رواه بهرمسنسا عن اليوكي باباجي ولاهيري ماهاسيا في (ص 330 - 374)، واقرأ من المسلمين محي الدِّين بن عربي في رسالة الإسراء، وغيرهم كثير.
(677) اقرأ ما أورده الدكتور رؤوف عبيد في مفصل الإنسان روح لا جسد (ج 1/ ص 890 - 986/ الفصل الثاني عشر تحت عنوان: الخروج الوعي من الجسد)، وراجع الفصل الخاصّ بعدم حجّيَّة الكشف والخوارق في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
(678) الإيقاظ من الهجعة (ص 100)، عن مجمع البيان (ج 2/ ص 306).
أوَّلاً: لأنَّ أغلب المسلمين يؤمنون بحياة الخضر (عليه السلام) ونزول عيسى (عليه السلام) كما ذكرنا، فيكون شأن الإمام (عجَّل الله فرجه) في ذلك كشأنهما، ويكون إنكار بقائه وظهوره بهذه الصورة تفرقة دونما أساس.
ثانياً: يُفسِّر لنا هذا الرأي اقتران نزول المسيح (عليه السلام) بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ربَّما للصورة المشتركة في المجيء عن العالم نفسه، وبالكيفيَّة نفسها، ولرسالة واحدة.
ثالثاً: يُفسِّر لنا أيضاً ما ورد من تسمية الإمام (عجَّل الله فرجه) في الأخبار بالنُّذر الأكبر، أو بالقيامة الصغرى أو الساعة. وإنَّ من الأُمور الكائنة في ظهوره لبوث الفلك أو بطء دوران الكواكب في مجموعتنا حول نفسها، ممَّا ينشأ عنه طول الأيَّام والشهور والسنين حتَّى إنَّ السنة لتساوي سبع سنين أو عشر سنين، ويشير بطء دوران الكواكب حول نفسها وحول محورها إلى ضعف مقاومتها لجاذبيَّة المركز، وبالتالي قرب ارتطامها ببعضها، وقد سجَّل علم الفلك فناء بعض المجرَّات ووقوع قيامتها، وسجَّل فناء بعض المجاميع الشمسيَّة في مجرَّتنا.
فهو النُّذر الأكبر من حيث ما يُؤدِّيه من رسالة بصورة رجوعه وبتعليمه معاً بعد طول الأمد وقسوة القلوب وقرب القيامة الكبرى وابتداء البعث جزئيًّا.
رابعاً: يدعم ما أشرنا إليه ما ذكره الشيخ المفيد (رحمه الله) من أنَّ أكثر الروايات تشير إلى أنَّه لن يمضي صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) إلَّا قبل القيامة بأربعين يوماً يكون فيها (يعني ولايته (عجَّل الله فرجه)) الفرج(679)، وعلامات خروج الأموات، وقيام الساعة للحساب والجزاء(680).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خامساً: ربَّما - وإنْ كان قد قدَّمنا لذلك تفسيراً آخر يتَّصل بأسباب التقدير(681) - أنَّ ذلك هو السبب وراء عدم التوقيت، وقول من سُئِلَ منهم (عليهم السلام) عن ذلك: إنَّه (عجَّل الله فرجه) كالساعة لا يجليها لوقتها إلَّا هو.
سادساً: أنَّ ذلك أيضاً يكشف لنا الفرق بين غيبته الصغرى التي كان يمكن للخُلَّص من شيعته خلالها الصلة به، والتشرُّف بخدمته، حتَّى وصل عدد من أحصوهم ممَّن رآه (عجَّل الله فرجه) في أثنائها وهي (74) عاماً (304) أشخاص - كما قدَّمنا -، وبين الغيبة الكبرى التي قرَّرنا باعتبار من جاء إلى شيعته فيها مدَّعياً المشاهدة كذَّابا مفترياً.
سابعاً: وبذلك أيضاً نستطيع أنْ نفهم سرَّ إمكان إجابته لمن استشفع به أو استنجد به من المؤمنين أينما كانوا في البرِّ والبحر ووراء الأسوار كما ورد في القَصص التي قال الشيخ النوري (رحمه الله) في (جنَّة المأوى) إنَّها متواترة توجب القطع، وكيف أنَّه - كما بيَّنَّا في بحث الغيبة الكبرى تحت عنوان (هل يعني ذلك إمكان المشاهدة؟) - أنَّه يظهر فجأةً، ويغيب فجأةً، بل يتحوَّل بعد التمثُّل إلى نور لا يُرى ثمّ يختفي(682)، وقد يرى من قبل بعضهم فقط بالجلاء البصري أو السمعي أو القلبي، وفي ما نقلناه عن ابن طاووس (رحمه الله) ما يشير إلى شيء من ذلك ممَّا لا يمكن تصوُّره لو كان في جسده المادِّي.
ثامناً: يُفسِّر لنا ذلك لماذا جعل الإمام (عجَّل الله فرجه) له قنوات خاصَّة محدودة للصلة تتمثَّل بخاصَّة أوليائه الذين هم أخصّ من خاصَّة شيعته، بحكم توفُّر الشروط الخاصَّة فيهم من دون غيرهم، كما سبق في البحث المشار إليه آنفاً.
تاسعاً: يُعطي هذا الرأي دليلاً مضافاً للرجعة يتَّصل بدليل ظهور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(681) راجع ما كتبناه تحت عنوان: (ولكن متى؟).
(682) راجع حكاية الشيخ محمّد سريرة في جنَّة المأوى (ص 66 - 70/ الحكاية 15).
الإمام (عجَّل الله فرجه) ونزول عيسى (عليه السلام)، ويجعلها مفهومة أكثر ممَّا لو كانت لمجرَّد عقوبة ومثوبة بعضهم، ممَّا يمكن تحقيقه بالبعث الشامل.
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ جميع ما ذكرناه هنا لا يعني القطع بهذا الرأي، بل ولا حتَّى ترجيحه على الرأي الذي يقول: إنَّه حيٌّ بالحياة الأرضيَّة، وبجسده المادِّي كما هم بقيَّة الناس، فوقوع هذا تحت القدرة الإلهيَّة كذاك من غير فرق، وأهل الإيمان بالله لا يرون أنَّ أحد الأمرين أقرب من الآخر لديهم من هذه الجهة.
والحكم الحقُّ في ذلك إلى الأدلَّة النقليَّة عن أهل البيت (عليهم السلام)، فإذا قضت بأحدهما فهو الحقُّ، وإنَّما أطلنا الوقوف عنده لورود الأخبار فيه عنهم (عليهم السلام)، ولأنَّه كان موضع مناقشة بيني وبين بعض الإخوان، فأردت أنْ أجلوه بما يرفع الشبهة فيه في قضيَّة حياة الإمام (عجَّل الله فرجه)، واستمرار إمامته وظهوره، وأنَّه لا ينافي شيئاً من ذلك، وإلَّا فهو أعني وفاته بالصورة الأُولى أي الطبيعة ممَّا رفضه العلماء وعامَّة الشيعة في الرأي المشهور عندهم، أمَّا الصورة الثانية أعني ما يُسمَّى: الموت الإرادي فهو لا يختلف عن الرأي المشهور بشيء، ولذلك بنينا الكتاب عرضاً واستدلالاً في الفصول السابقة على الرأي الآخر الذي هو المشهور المتسالم عليه لدى علماء الإماميَّة (رحمهم الله)، الذين ناقشوا ما ورد من الروايات في وفاة الإمام (عجَّل الله فرجه) وأوَّلوها.
قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) بعد أنْ ساق بعض الأخبار التي ذكرناها أساساً لهذا الرأي: (فالوجه في هذه الأخبار وما شاكلها أنْ نقول: يموت ذكره، ويعتقد أكثر الناس أنَّه بُلي عظامه، ثمّ يُظهِره الله كما أظهر صاحب الحمار بعد موته الحقيقي، وهذا وجه قريب في تأويل الأخبار، على أنَّه لا يُرجَع بأخبار آحاد لا توجب علماً عمَّا دلَّت العقول عليه، وساق الاعتبار الصحيح إليه، وعضده الأخبار المتواترة التي قدَّمناها، بل الواجب التوقُّف في هذه، والتمسُّك بما هو
معلوم)، قال: (وإنَّما تأوَّلناها بعد تسليم صحَّتها (أي الأخبار الواردة في ذلك) على ما يُفعَل في نظائرها)، قال: (ويعارض هذه الأخبار ما ينافيها)(683).
ورغم أنَّنا لا نشارك الشيخ (رحمه الله) رأيه في كون هذا التأويل قريباً، بل لا مجال لقبوله في بعضها، وأنَّ الدليل العقلي الذي عضدته الأخبار المتواترة والذي يعني به عدم خلوِّ الأرض من حجَّة لا يصلح للمعارضة، بعد إثبات إمكانيَّة الصلة المفتوحة بينه وبين أهل الأرض رغم حياته السماويَّة. ولا يصلح للمعارضة أيضاً التعبير بالغيبة الذي ذكره بعض الأعلام لصحَّة إطلاقها على المتوفَّى، وقد وردت عنهم (عليهم السلام) في شأن عيسى (عليه السلام) كما تقدَّم، ولكن الذي يصلح للمعارضة ما أشار إليه (رحمه الله) في آخر كلامه في ذلك، وهو وجود الأخبار المنافية، كتلك التي تبدو صريحة في كون حياته (عجَّل الله فرجه) حياة أرضيَّة وبجسمه المادِّي، ومنها التي تضرب له في طول عمره مثلاً بنوح (عليه السلام)، وتلك التي تقول: إنَّه يحضر مجالسهم ويمشي في أسواقهم، وإنَّه لا يبقى أحد حين يخرج إلَّا قال: قد رأيته، وغير ذلك ممَّا ذكرنا بعضه في البحث الثاني من الفصل الأوَّل، ولأنَّ الموت بصورته الأُولى أي الموت الطبيعي ينافي بقاء التكليف - كما قال بعض الأعلام -، والاضطلاع بالإمامة التي هي مهمَّة مستمرَّة للإمام (عجَّل الله فرجه) تكليف لا مجال لبقائه معه.
الرأي الثالث في الرجعة: ما ذكره أُستاذنا المظفَّر (رحمه الله)، وهو: (أنَّ الله تعالى يعيد قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعزُّ فريقاً، ويذلُّ فريقاً آخر، ويديل المحقِّين من المبطلين، والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمّد (عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام)، ولا يرجع إلَّا من علت درجته في الإيمان، أو من بلغ الغاية من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(683) الغيبة للطوسي (ص 423).
الفساد، ثمّ يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقُّونه من الثواب أو العقاب)(684).
قال (رحمه الله): (والقول بالرجعة يُعَدُّ عند أهل السُّنَّة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها، وكان المؤلِّفون منهم في رجال الحديث يعدُّون الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي، والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته وطرحها. ويبدو أنَّهم يعدُّونها بمنزلة الكفر والشرك بل أشنع، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تنبز به الشيعة الإماميَّة، ويُشنَّع به عليهم).
قال: (ولا شكَّ أنَّ هذا من نوع التهويلات التي تتَّخذها الطوائف الإسلاميَّة في ما غبر ذريعة لطعن بعضها في بعض، والدعاية ضدَّه)(685).
ومن المؤسف أنَّ ما أشار إليه الشيخ ما زال مستمرًّا، رغم أنَّا في عصر يسَّر سُبُل التحقيق والمعرفة، وأعطى - كما يُفترَض - من سعة الأُفُق لدى أهله ما يجعلهم أقرب إلى العدل والموضوعيَّة، ولا نريد أنْ نَعُدَّ أسماء، فضع يدك على من شئت ممَّن كتب من غير الإماميَّة عنهم في التاريخ والعقائد والفِرَق.
لقد خلط بعضهم بين الرجعة وبين التناسخ، ولا صلة بين الاثنين، فالتناسخ (هو انتقال النفس من بدن إلى آخر منفصل عن الأوَّل)، أمَّا الرجعة فتعني معاداً جسمانيًّا خاصًّا ومحدوداً يسبق المعاد الجسماني الشامل لكلِّ الأموات، ومن يعود فيها يعود بشخصه وبكلِّ خصوصيَّاته وأوصافه البدنيَّة والنفسيَّة(686).
وأرجع بعضهم قول الشيعة الإماميَّة فيها إلى التأثُّر باليهود، كأنَّ وحدة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(684) عقائد الإماميَّة (ص 80).
(685) عقائد الإماميَّة (ص 81).
(686) عقائد الإماميَّة (ص 82).
بعض الأفكار والمفاهيم بين الأديان السماويَّة - ومصدرها واحد إلَّا ما حُرِّف منها - أمر يعزُّ على الفهم، وكأنَّه لا يُفسَّر إلَّا بتأثُّر هذه بتلك، وهو جهل وسوء فهم لا يُغتفَر، فنحن نقول - مثلاً -: إنَّ موسى وعيسى رسولان من الله، ونؤمن بما جاءا به من عند الله، لأنَّ ذلك هو الحقُّ كما جاء به كتابنا ونبيُّنا من دون تأثُّر بأحد، وتلك كهذه من غير فرق.
والإشكال - لدى من لا يؤمن بالرجعة، كما يفرض حسن الظنِّ - لا يرد من جهة كونها مستحيلة، أو غير مقدورة لله تعالى، وإلَّا كان المشكل كافراً بالله تعالى، ومكذِّباً بكتابه، فقد تحدَّث الكتاب عن وقوعها جزئيًّا في الماضي، وتحدَّث عن وقوعها في المستقبل. ثمّ إنَّ القول بعدم إمكانها يعني الكفر بالمعاد، وهو أصل من أُصول الدِّين لدى المسلمين من دون خلاف.
وإذاً فالإشكال إنَّما يرد فقط من تصوُّر عدم وجود دليل قاطع على وقوعها قبل المعاد أو الحشر، ولذلك فسنذكر في ما يأتي من الأدلَّة على ذلك في الكتاب والسُّنَّة ما لا يوجد بعضه في كثير من المسائل التي يراها أكثر المسلمين جزءاً - لا يشكُّون فيه - من الدِّين، وبما نرى أنَّه كافٍ لردِّ القائل فيها دونما علم، وأنَّ أغلب هؤلاء بل كلُّهم - مهما كبروا ألقاباً وشهرةً - ناقلون لا محقِّقون كما سيثبت لك بالمقارنة بين ما قالوه في الرجعة وبين ما يسوقه الإماميَّة من الأدلَّة عليها في الكتاب والسُّنَّة الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام).
أدلَّة الرجعة لدى الإماميَّة:
وقد صنَّفوا الأدلَّة المقدَّمة عليها إلى قسمين:
القسم الأوَّل: ما يدلُّ على وقوع الرجعة بعد الموت جزئيًّا في الماضي، الأمر الذي ينافي ادِّعاء وقوعها قبل القيامة أو استبعاده.
القسم الثاني: ما يدلُّ على أنَّها ستقع في المستقبل وقبل القيامة الكبرى أو الحشر.
القسم الأوَّل:
وذكروا من الأدلة الواردة عليه في الكتاب عدَّة آيات، منها:
1 - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ (البقرة: 243).
فقد روى المفسِّرون، ومنهم ابن جرير الطبري في تفسيره، عدَّة روايات عن ابن عبَّاس ووهب بن منبه ومجاهد والسوي وأشعث بن أسلم البصري وعن عطاء، أنَّها في شأن قوم من بني إسرائيل هربوا من طاعون وقع في قريتهم، فأماتهم الله، ومرَّ بهم نبيٌّ اسمه حزقيل، فوقف متفكِّراً في أمرهم، وكانت قد بُليت أجسادهم، فاوحى الله إليه: أتريد أنْ أُريك فيهم كيف أُحييهم؟ فأحياهم له، وروى السيوطي مثل ذلك(687).
2 - ومنها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 55 و56).
فقد روى المفسِّرون ومنهم ابن جرير أنَّهم ماتوا جميعاً بعد قولهم ذلك، وأنَّ موسى لم يزل يناشد ربَّه (عزَّ وجلَّ) ويطلب إليه حتَّى ردَّ إليهم أرواحهم(688).
3 - ومنها قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(687) تفسير الطبري (ج 2/ ص 793 - 800)، الدُّرُّ المنثور (ج 1/ ص 310 و311).
(688) تفسير الطبري (ج 1/ ص 415 - 418).
وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 259).
وقد ذكر المفسِّرون ومنهم ابن جرير الطبري عدداً من الروايات تفيد أنَّه عزير أو أرميا مرَّ على بيت المقدس بعد أنْ خربها نبوخذ نصَّر، فأراه الله قدرته على ذلك بضربه المثل له في نفسه بالصورة التي قصَّتها الآية(689).
وهناك آيات أُخرى تُثبِت وقوع الرجعة بعد الموت إذا شاء الله ذلك في الإنسان والحيوان، منها ما أشارت إليه الآية (260) من البقرة(690)، والآية (73) منها(691)، ومنها أنَّ إحياء الموتى ممَّا ذكره القرآن الكريم ضمن ما أعطى الله عيسى من المعجزات، وكذلك الآية (55) من آل عمران(692)، والآية (117) من المائدة(693)، وللإجماع على رجوع عيسى (عليه السلام). ولسنا بحاجة للاستقصاء فآية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(689) تفسير الطبري (ج 3/ ص 40 - 67).
(690) وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
(691) وهي قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
(692) وهي قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.
(693) وهي قوله تعالى: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.
واحدة إذا كانت نصًّا من القرآن الكريم - بحكم كونه قطعي الصدور عن الوحي الإلهي - كافية لحمل المؤمن على الإيمان، وإذا ثبت ذلك لم يبقَ وجه للإنكار والاستبشاع بالصورة التي تصل حدَّ التشهير وإسقاط العدالة.
القسم الثاني:
ونعني الآيات التي تدلُّ على أنَّ الرجعة ستقع مستقبلاً، وذكروا عدَّة آيات أيضاً، منها:
1 - قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (النمل: 83).
وقد اكتفى ابن جرير الطبري(694) والسيوطي(695) في تفسيرهما ببيان معاني الكلمات اللغوية لمعنى (أُمَّة)، و(فوج)، و(يوزعون)، وأمثال ذلك.
والحقُّ أنَّ الآية - وهي (83) من النمل - بحاجة إلى وقفة تجلي موضوعها، فهذا اليوم الذي يحشر الله فيه من كلِّ أُمَّة فوجاً ليس يوم القيامة قطعاً، بدليل أنَّ الآية التي تأتي بعدها - وهي (87) من النمل أيضاً - تذكر أنَّ نفخ الصور يأتي بعد ذلك في يوم آخر، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ (النمل: 87)، فلو كان يوماً واحداً لما كرَّر الحديث بعد آية واحدة، مضافاً لما تدلُّ عليه الأُولى من حشر جزئي، والثانية من حشر عامٍّ.
وقد وقف الطبرسي (رحمه الله) عندها كما ينبغي، فقال: (واستدلَّ بهذه الآية على صحَّة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإماميَّة بأنْ قال: إنَّ دخول (مِنْ) في الكلام يوجب التبعيض، فدلَّ ذلك على أنَّ اليوم المشار إليه في الآية يُحشَر فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(694) تفسير الطبري (ج 20/ ص 21 و22).
(695) الدُّرُّ المنثور (ج 5/ ص 117).
قوم دون قوم، وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾ (الكهف: 47))(696).
وذكر تظاهر الأخبار في ذلك، وهو ما سنذكره في الاستدلال بما ورد من السُّنَّة الشريفة على الرجعة.
2 - ومنها قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة: 28).
ووجه الاستدلال أنَّه أثبت الإحياء مرَّتين، ثمّ قال بعدهما: ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾، والمراد بهذا الرجوع القيامة قطعاً، والعطف بـ(ثمّ) خصوصاً ظاهر في المغايرة، فالإحياء الثاني إمَّا الرجعة، أو نظير لها، وبالجملة ففيها دلالة على وقوع الإحياء قبل القيامة بعد الموت في الجملة(697).
3 - ومنها قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ﴾ (غافر: 11).
فهي حكاية عن قوم لم يصلحوا بموتهم وحياتهم مرَّتين، فتمنَّوا الرجوع ثالثاً(698).
وقد ورد في الأحاديث أنَّ المراد بإحدى الحياتين والموتتين الرجعة(699).
4 - ومنها قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(696) مجمع البيان (ج 7/ ص 405).
(697) الإيقاظ من الهجعة (ص 99).
(698) عقائد الإماميَّة (ص 80).
(699) الإيقاظ من الهجعة (ص 99).
قال الشيخ الحرُّ العاملي (رحمه الله): (قد وردت أحاديث كثيرة بتفسيرها في الرجعة، على أنَّها نصٌّ في ذلك لا تحتمل سواه إلَّا أنْ تُصرَف عن ظاهرها، وتخرج عن حقيقتها، ولا ريب في وجوب الحمل على الحقيقة عند عدم القرينة وليس هنا قرينة كما ترى، وقد تقدَّم نقل الطبرسي إجماع العترة الطاهرة على تفسير هذه الآية بالرجعة. ومعلوم أنَّ الأفعال المستقبلة الكثيرة وضمائر الجمع المتعدِّدة، ولفظ الاستخلاف، والتمكين وإبدال الخوف بالأمن، وغير ذلك من التصريحات والتلويحات لا تستقيم إلَّا في الرجعة، وأيُّ خوف وأمن واستخلاف وتمكين وعبادة يمكن نسبتها إلى ميِّت؟)، قال (رحمه الله) ما مضمونه: ولا معنى أيضاً أنْ يكون ذلك لذرّيَّة الموعودين(700).
الأدلَّة من السُّنَّة الشريفة:
قال الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في تفسيره: (وقد تظاهرت الأخبار عن أئمَّة الهدى من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أنَّ الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوماً ممَّن تقدَّم موتهم من أوليائه وشيعته، ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته، ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم، وينالوا بعض ما يستحقُّونه من العذاب في القتل على أيدي شيعته، والذلِّ والخزي بما يشاهدون من علوِّ كلمته).
قال: (ولا يشكُّ عاقل أنَّ هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه، وقد فعل الله ذلك في الأُمَم الخالية، ونطق القرآن بذلك في عدَّة مواضع، مثل قصَّة عزير وغيره على ما فسَّرناه في موضعه).
واستدلَّ بحديث آخر روته جميع الصحاح عند أهل السُّنَّة، فقال: (وصحَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(700) الإيقاظ من الهجعة (ص 92 و93).
عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوله: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كُلُّ مَا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ اَلنَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالقُذَّةِ بِالقُذَّةِ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»)(701).
قال الشيخ الحرُّ (رحمه الله): (ولا ريب في بلوغ الأحاديث المذكورة (يعني في الرجعة) حدَّ التواتر المعنوي)(702)، وأورد من الأحاديث الواردة في وقوع الرجعة في الأُمم السابقة (60) حديثاً، وفي وقوعها في الأنبياء السابقين (46) حديثاً، وفي وقوعها في هذه الأُمَّة (131) حديثاً، وأورد من الأخبار الواردة بالرجعة لجماعة من الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) (178) حديثاً.
الاستدلال بإجماع الشيعة الإماميَّة:
قال الحرُّ (رحمه الله): (الرابع: إجماع جميع الشيعة الإماميَّة، وإطباق الطائفة الاثني عشريَّة على اعتقاد صحَّة الرجعة، فلا يظهر منهم مخالف يُعتَدُّ به من العلماء السابقين ولا اللَّاحقين، وقد عُلِمَ دخول المعصوم في هذا الإجماع بورود الأحاديث المتواترة عن النبيِّ والأئمَّة (عليهم السلام) الدالَّة على اعتقادهم صحَّة الرجعة، حتَّى قد ورد ذلك عن صاحب الزمان محمّد بن الحسن المهدي (عليه السلام) في التوقيعات الواردة عنه وغيرها، مع قلَّة ما ورد عنه في مثل ذلك بالنسبة إلى ما ورد عن آبائه (عليهم السلام)، وممَّن صرَّح بثبوت الإجماع هنا ونقله الشيخ الجليل أمين الدِّين أبو عليٍّ الفضل بن الحسن الطبرسي)(703).
والخلاصة أنَّ الرجعة بعث جسماني لا يختلف عن المعاد الجسماني الذي سيكون في القيامة الكبرى إلَّا في:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(701) مجمع البيان (ج 7/ ص 405 و406).
(702) الإيقاظ من الهجعة (ص 63).
(703) الإيقاظ من الهجعة (ص 63 و64).
أوَّلاً: أنَّ الثاني يملك لإثباته - عدا الدليل النقلي - دليلاً عقليًّا، فإنَّ العقل يقضي بأنَّ التكليف يقتضي وجود الجزاء، وإنْ كان لا يلزم من ذلك أنْ يكون هذا الجزاء بالصورة المادّيَّة المألوفة في الأرض، لولا ما ورد في القرآن والسُّنَّة من وصف مادِّي لهذا الجزاء، أمَّا الرجعة فأدلَّتها نقليَّة فقط كما تقدَّم.
ثانياً: أنَّ الثاني ممَّا يجمع عليه المسلمون، وإنْ كانت حجّيَّة الإجماع عندنا إنَّما ترجع إلى كشفه عمَّا جاء به الشارع، فلا يزيد ثبوت الإجماع فيها شيئاً، وقد أشرنا إلى أنَّ عدم إيمان بعضهم بالرجعة يرجع إلى عدم الانتباه لأدلَّتها.
ثالثاً: أنَّ المعاد في القيامة الكبرى عامٌّ وشامل، أمَّا في الرجعة فليس كذلك كما تقدَّم، وفي بعض الروايات أنَّها بين يدي البعث الشامل، وأنَّها آية من الآيات الكبرى التي تكون في عصر الإمام (عجَّل الله فرجه)، مصداقاً لما ورد في الحديث عن الأئمَّة من آبائه (عليهم السلام) من أنَّه النُّذر الأكبر، وأنَّه القيامة الصغرى. ويمكن أنْ نضمَّها إلى الآيات التي سقنا بعضها في بحث: كيف سينتصر؟
* * *
والخلاصة التي انتهينا إليها من مقدَّمة الكتاب وفصول هذا الجزء الخمسة، وبحوثه الخمسة عشر، أنَّ دعوى البابيَّة والمهدويَّة - المناقضة في مفاهيمها ومسالكها للإسلام - إنَّما صدرت عن الأوساط الغنوصيَّة، وعلى القواعد والتنظيرات نفسها، وبالوسائل التي ذكرناها، لا فرق بين الأوَّل والآخر منهم. وبأدلَّة مجملة ومفصَّلة من داخلهم وخارجهم لا تقبل المناقشة ستقرأها في الجزء الثاني من هذا الكتاب، وعن كلِّ فئة منهم.
وأنَّه لابدَّ في التصدِّي للردِّ عليهم - بصورة علميَّة - من أمرين:
أوَّلهما: دراسة الأُسُس النظريَّة، الفلسفيَّة والدِّينيَّة، لهذه الفئات متَّصلة بوسائلها، وتطبيقاتها الواقعيَّة والتاريخيَّة، ومقارنة بالعقيدة والتشريع الإسلاميَّين، لمعرفة استقلالها عنهما، ومفارقتها لهما.
وهذا ما سيتكفَّل به أيضاً الجزء الثاني من هذا الكتاب بالقدر الذي نراه كافياً لإيضاح هذه الحقيقة خاصَّة لغموضها لدى بعضهم.
ثانيهما: بتشخيص الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وظهوره ورسالته التي هي رسالة الإسلام نفسه، تشخيصاً دقيقاً وحاسماً بصورة يصبح فيها أساساً لنفي هذه الدعاوى المخالفة، وهو ما تكفَّل به هذا الجزء الذي بين أيدينا بما خلصت إليه بحوثه من النتائج، وهي كما يلي:
الأُولى: أنَّ ظهور الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من أهل البيت (ومن ذرّيَّة عليٍّ وفاطمة (عليهما السلام)) عقيدة إسلاميَّة لا شيعيَّة فقط.
الثانية: أنَّه من ذرّيَّة الحسين السبط (عليه السلام)، لا من ذرّيَّة الحسن السبط (عليه السلام)، لضعف الروايات الثلاث التي استند إليها هذا الراي إسناداً، ومعارضتها بروايات متواترة تنسبه للحسين (عليه السلام). وإنَّ دعاة محمّد بن عبد الله الحسني المعروف بالنفس الزكيَّة هم من يُتَّهم بوضعها، شأن القول بأنَّه من ولد العبَّاس الذي وضعه دعاة محمّد بن عبد الله المهدي العبَّاسي.
الثالثة: أنَّه كذلك لا أساس للقول بأنَّ أباه عبد الله، وإنَّما جاء ذلك من إضافة عبارة (واسم أبيه اسم أبي) للحديث الوارد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في شأنه والذي يقول فيه: «اِسْمُهُ اِسْمِي»، وأنَّ هذه الإضافة جاءت في طريق واحد للحديث مقابل (34) طريقاً خالياً منها، مضافاً لمعارضتها بأحاديث متواترة عن أهل البيت (عليهم السلام).
الرابعة: أنَّ الأدلَّة التي ذُكِرَت في البحوث الثلاثة من الفصل الأوَّل، والبحوث الثلاثة من الفصل الثاني، تُثبِت بالنصِّ، أو بالملازمة البيِّنة بالمعنى الأخصّ، أنَّه الإمام الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، وبذلك تضاف إلى الأدلَّة التي نفينا بها ما ورد في (ثانياً) و(ثالثاً) من القول بأنَّه من ذرّيَّة الحسن السبط (عليه السلام)، وبأنَّ أباه عبد الله، وتُشخِّص الإمام المهدي المنتظَر بمحمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام) المولود في (15) شعبان سنة (255هـ).
الخامسة: أنَّ إخفاء ولادته أوجبته ظروف موضوعيَّة تتَّصل بحمايته من جعفر الكذَّاب من جهة، ومن السلطة الحاكمة من جهة أُخرى. وأنَّ الإخفاء كان نسبيًّا وليس كما شاء بعضهم أنْ يُصوِّره جهلاً أو تلبيساً، فقد شهده عند الولادة وبعدها عدد كبير من شيعة أهل البيت (عليهم السلام). ومثل ذلك كان أمر غيبته الصغرى، فقد كانت نسبيَّة أيضاً، وقد أحصى بعض الأعلام عدد من تشرَّف برؤيته، فكانوا ثلاث مائة وأربعة أشخاص، وقد شهده أكثر من (40) منهم -
وفيهم كبار العلماء وثقاتهم - في مجلس واحد في حياة أبيه الحسن (عليه السلام)، ونصَّ عليه في حضورهم جميعاً بالإمامة بعده، وأنذرهم بغيبته، وأنَّه المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه). وشهده بعضهم في مناسبات فرديَّة أُخرى في حياة أبيه الإمام الحسن (عليه السلام) وبعدها، وشهد البرهان على إمامته بما صدر على يديه من معجز.
السادسة: أنَّ الإشكال بطفولته (عجَّل الله فرجه) لدى وفاة والده (عليه السلام) يُرَدُّ عليه بما:
أوَّلاً: بما ذكره القرآن الكريم من شأن عيسى ويحيى (عليهما السلام).
وثانياً: بإمامة أبويه الجواد والهادي (عليهما السلام)، فقد كانا في سنٍّ يقارب سنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه)، ظاهرين للناس، معرَّضين للأسئلة، بل لقد حاولت السلطة إحراجهما بالاختبار، فكانا آية مدهشة.
وثالثاً: ثمّ بإمامته الواقعيَّة التي خضع لها كبار العلماء، وفيهم النُّوَّاب الأربعة مدى (68) عاماً.
ورابعاً: وبما سجَّله العلماء المعاصرون من وجود أمثلة كثيرة للنبوغ الفائق من جهة أو أُخرى لأطفال في مثل سنِّه (عجَّل الله فرجه).
السابعة: أنَّ تشخيصه اسماً وأباً وموقعاً في سلسلة الأئمَّة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام)، وخفاء ولادته، وغيبته صغرى وكبرى، تقدَّم التبشير والإنذار بها من قِبَل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة من أوصيائه (عليهم السلام) واحداً بعد الآخر في أحاديث متواترة سبقت مولده وغيبته، ودُوِّن بعضها في الصُّحُف والكُتُب - كما قال الشيخ الصدوق (رحمه الله) - قبلهما بأكثر من مائتي عام.
الثامنة: أنَّ الأحاديث التي بشَّرت به وذكرته - على النحو الذي ذكرناه أعلاه في سابعاً - تحدَّثت في الوقت نفسه عن ظهوره، وعن علامات وآيات تسبقه وترافقه وتتأخَّر عنه، وأنَّ هذه العلامات فيها ما هو خصوصيَّات
اجتماعيَّة، أو حضاريَّة سُكَّانيَّة، أو علميَّة، أو كونيَّة، أو شؤون إلهيَّة تتَّصل به ممَّا لا يمكن أنْ تكون مجتمعة لغيره مطلقاً.
التاسعة: أعطته هذه الأحاديث رتبة ومكانة لا يمكن تصوُّرها إلَّا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو لأحد أوصيائه (عليهم السلام) الذين هم امتداده وخلفاؤه بالمعنى الأخصّ، وحسبك منها صلاة المسيح (عليه السلام) خلفه.
العاشرة: أنَّ انتصار الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) الذي يتساءل بعضهم عن كيفيَّته في عصر تقنيَّات السلاح المتطوِّرة والدول الكبرى، سيكون بما يرجع من الأسباب إلى خصوصيَّة العصر الذي كانت الغيبة الكبرى أصلاً لانتظاره عقليَّة كانت أو علميَّة أو تجارب تاريخيَّة أو واقعاً، يطلب بطبيعته المصلح من جهة أو أُخرى، وبما يُعطي الله سبحانه وتعالى الإمام (عجَّل الله فرجه) في عصر الظهور من إمكانات خاصَّة وآيات معيَّنة تظلُّ أعناقهم لها خاضعة.
الحادية عشرة: أنَّ دور الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه) هي الدعوة إلى الإسلام - كما أُنزل - مجرَّداً عن الاجتهادات والخلافات المذهبيَّة وعن الأحكام الظاهريَّة الظنّيَّة، وتوحيد العالم على أساسه، وأنَّ ذلك هو معنى الأمر الجديد الذي يأتي به لا نسخ الرسالة الإسلاميَّة كما يشاء المبتدعون من أدعياء البابيَّة والمهدويَّة أنْ يقولوا. وذلك للأدلَّة التالية:
أوَّلاً: للثابت من أنَّ الإسلام هو الشريعة الخاتمة التي حلالها حلال إلى يوم القيامة، وحرامها حرام إلى يوم القيامة.
ثانياً: لأنَّ نسخها يناقض موقع الإمام (عجَّل الله فرجه) بوصفه وصيًّا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وامتداداً له.
ثالثاً: أنَّ ذلك ما تُثبِته الروايات المتواترة عمَّا سيفعله الإمام (عجَّل الله فرجه) ويقوم به لدى الظهور.
الثانية عشرة: أنَّ عصر الإمام (عجَّل الله فرجه) متَّصل بالساعة أو القيامة الكبرى بكلِّ ما ذكر لها من علامات، وأنَّها ستكون - كما ورد في الأحاديث - مبتدئة في عصره بالبعث الجزئي المسمَّى بالرجعة، ثمّ بعد رحيله (عجَّل الله فرجه) بأربعين يوماً تقوم القيامة الكبرى.
ولا مجال - مع كلِّ هذه النقاط - إلى أنْ يشتبه (عجَّل الله فرجه) بغيره من أيَّة جهة، وبذلك يكون كلُّ ما تقدَّم في هذا الكتاب بفصوله الخمسة وبحوثه الخمسة عشر التي شخَّصت الإمام ذاتاً وموقعاً وغيبةً صغرى وكبرى وعلامات وآيات تحفُّ ظهوره أساساً - كما شئنا له - في النفي والإثبات في محاكمة ما يجيء به أدعياء البابيَّة والمهدويَّة، وهو المقصود.
والحمد لله ربِّ العالمين كما هو أهله، والصلاة والسلام على خاتم رُسُله وآله الطيِّبين الطاهرين، وعلى صحابته المخلصين.
* * *
1 - القرآن الكريم.
2 - أبهى المداد في شرح مؤتمر علماء بغداد: مقاتل بن عطيَّة/ ط 1/ 1423هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
3 - إثبات الوصيَّة للإمام عليِّ بن أبي طالب: عليُّ بن الحسين بن عليٍّ الهذلي المسعودي/ ط 3/ 1426هـ/ أنصاريان/ قم.
4 - الاحتجاج: أحمد بن عليٍّ الطبرسي/ تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/ 1386هـ/ دار النعمان/ النجف الأشرف.
5 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري والسيِّد محمود الزرندي/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد للطباعة والنشر/ بيروت.
6 - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشِّي): الشيخ الطوسي/ تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي/ 1404هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.
7 - الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة: محمّد صدِّيق خان القنَّوجي/ بعناية: بسَّام عبد الوهَّاب الجابي/ ط 1/ 1421هـ/ دار ابن حزم/ بيروت.
8 - إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط 2/ 1415هـ/ مطبعة أمير/ انتشارات الشريف الرضي/ قم.
9 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
10 - أسباب نزول الآيات: الواحدي النيسابوري/ ط 1388هـ/ مؤسَّسة الحلبي/ القاهرة.
11 - الاستنصار في النصِّ على الأئمَّة الأطهار: أبو الفتح محمّد بن عليِّ بن عثمان الكراجكي/ ط 2/ 1405هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
12 - إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وفضائل أهل البيت الطاهرين: الشيخ محمّد الصبَّان/ طبعة حجريَّة.
13 - أسنى المطالب في مناقب الإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام): محمّد بن محمّد الدمشقي (ابن الجزري)/ نقش جهان/ طهران.
14 - الإشاعة لأشراط الساعة: محمّد بن رسول البرزجي الحسيني/ تعليق: محمّد زكريا الكاندهلوي/ قابله واعتنى به: حسين محمّد عليّ شكري/ ط 3/ 1426هـ/ دار المنهاج.
15 - الأُصول العامَّة للفقه المقارن: السيِّد محمّد تقي الحكيم/ ط 2/ 1979م/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ قم المقدَّسة.
16 - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد: أحمد بن الحسين البيهقي/ تحقيق وتعليق: أحمد بن إبراهيم أبو العينين/ ط 1/ 1420هـ/ دار الفضيلة/ الرياض.
17 - إعلام الورى بأعلام الهدى: الفضل بن الحسن الطبرسي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
18 - إقبال الأعمال: السيِّد عليُّ بن طاووس/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط 1/ 1414هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
19 - الأمالي الخميسيَّة: يحيى بن حسين الحسني الجرجاني/ تحقيق وتصحيح: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل/ ط 1/ 1422هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
20 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ط 1/ 1417هـ/ مركز الطباعة والنشر في مؤسَّسة البعثة/ قم.
21 - الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط 1/ 1404هـ/ مدرسة الإمام الهادي (عليه السلام)/ قم.
22 - الإنسان ذلك المجهول: الدكتور كارل الكسيس/ تعريب: شفيق أسعد/ ط 3/ 1984م/ مكتبة المعارف/ بيروت.
23 - الإيقاظ من الهجعة: الحرُّ العاملي/ تحقيق: مشتاق المظفَّر/ ط 1/ 1422هـ/ مطبعة نكارش/ دليل ما/ قم.
24 - البابيُّون والبهائيُّون في حاضرهم وماضيهم: السيِّد عبد الرزَّاق الحسني/ ط 5/ 1984م/ دار الحرّيَّة/ بغداد.
25 - الباراسايكولوجيَّا (ظواهر وتفسيرات): سامي أحمد الموصلي/ ط 1/ دار الحرّيَّة/ بغداد.
26 - الباراسايكولوجيا سرٌّ من أسرار الدولة: هنري كرايس ووليم ديك/ مترجم سلسلة الباراسايكولوجي رقم (4)/ وزارة الثقافة والإعلام العراقيَّة.
27 - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: العلَّامة المجلسي/ تحقيق: يحيى العابدي الزنجاني وعبد الرحيم الربَّاني الشيرازي/ ط 2/ 1403هـ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
28 - البرهان في علامات مهدي آخر الزمان: المتَّقي الهندي/ تحقيق: جاسم بن محمّد الياسمين/ ط 1/ 1408هـ/ شركة ذات السلاسل، وط الخيَّام/ تحقيق وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1399هـ/ قم.
29 - بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمّد (عليهم السلام): محمّد بن الحسن
ابن فرُّوخ (الصفَّار)/ تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوجه باغي/ 1404هـ/ منشورات الأعلمي/ طهران.
30 - البيان في أخبار صاحب الزمان المطبوع ضمن كفاية الطالب: محمّد ابن يوسف الكنجي الشافعي/ ط 2/ 1404هـ/ دار إحياء تراث أهل البيت (عليهم السلام)/ طهران.
31 - تاريخ ابن خلدون: ابن خلدون/ ط 4/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
32 - تاريخ أصبهان (ذكر أخبار أصبهان): أبو نعيم الأصبهاني/ تحقيق وتصحيح: سيِّد كسروي حسن/ ط 1/ 1410هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
33 - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: الذهبي/ تحقيق: عمر عبد السلام تدمري/ ط 1/ 1407هـ/ دار الكتاب العربي.
34 - تاريخ الخلفاء: جلال الدِّين السيوطي/ تحقيق: لجنة من الأُدباء/ دار التعاون/ مكَّة المكرَّمة.
35 - تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس: الشيخ حسين بن الحسن الرياربكري/ دار الصادر/ بيروت.
36 - التاريخ الكبير: البخاري/ المكتبة الإسلاميَّة/ دياربكر/ تركيا.
37 - تاريخ بغداد أو مدينة السلام: الخطيب البغدادي/ دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا/ ط 1/ 1417هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
38 - تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ تحقيق: عليّ شيري/ 1415هـ/ دار الفكر/ بيروت.
39 - تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة: السيِّد شرف
الدِّين عليّ الحسيني الأسترآبادي/ ط 1/ 1407هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
40 - تُحَف العقول عن آل الرسول: ابن شعبة الحرَّاني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
41 - التدوين في أخبار قزوين: عبد الكريم الرافعي/ تحقيق: عزيز الله عطاردي قوچاني/ ط 1/ 1408هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
42 - تذكرة الخواصِّ: سبط ابن الجوزي/ ط 1/ 1418هـ/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
43 - التذكرة في أحوال الموتى وأُمور الآخرة: محمّد بن أحمد القرطبي/ خرَّج أحاديثه وعلَّق عليه: الداني بن منير آل زهوي/ 1423هـ/ المكتبة العصريَّة/ بيروت.
44 - تفسير ابن أبي حاتم: ابن أبي حاتم الرازي/ تحقيق: أسعد محمّد الطبيب/ دار الفكر/ بيروت.
45 - تفسير ابن زمنين: ابن أبي الزمنين/ تحقيق: أبو عبد الله حسين بن عكاشة ومحمّد بن مصطفى الكنز/ ط 1/ 1423هـ.
46 - تفسير ابن عربي: ابن عربي/ ت عبد الوارث محمّد علي/ ط1/ 1422هـ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
47 - تفسير ابن كثير: ابن كثير/ تقديم: يوسف المرعشلي/ 1412هـ/ دار المعرفة/ بيروت.
48 - تفسير أبي حيَّان الأندلسي (البحر المحيط): أبو حيَّان الأندلسي/ تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ عليّ محمّد معوض/ ط 1/ 1422هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
49 - تفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل): عبد الله بن محمّد الشيرازي الشافعي البيضاوي/ دار الفكر.
50 - تفسير الثعلبي (الكشف والبيان عن تفسير القرآن): الثعلبي/ تحقيق: أبو محمّد بن عاشور/ مراجعة وتدقيق: نظير الساعدي/ ط 1/ 1422هـ/ دار إحياء التراث العربي.
51 - تفسير الخازن (لباب التأويل في معاني التنزيل): علاء الدِّين عليّ بن محمّد البغدادي/ تصحيح: عبد السلام محمّد عليّ شاهين/ ط 1/ 1415هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
52 - تفسير الرازي (مفاتيح الغيب): فخر الدِّين محمّد بن عمر التميمي البكري الرازي الشافعي/ ط 3.
53 - تفسير السمرقندي: أبو ليث السمرقندي/ تحقيق: محمود مطرجي/ دار الفكر.
54 - تفسير السمعاني: السمعاني/ تحقيق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن إبراهيم بن غنيم/ ط 1/ 1418هـ/ دار الوطن/ الرياض.
55 - تفسير الطبراني: الطبراني/ ط 1/ 2008م/ دار الكتاب الثقافي/ الأُردن.
56 - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن): محمّد بن جرير الطبري/ تقديم: الشيخ خليل الميس/ ضبط وتوثيق وتخريج: صدقي جميل العطَّار/ 1415هـ/ دار الفكر/ بيروت.
57 - تفسير العزِّ بن عبد السلام: العزّ بن عبد السلام/ تحقيق: عبد الله ابن إبراهيم الوهبي/ ط 1/ 1416هـ/ دار ابن حزم.
58 - تفسير العيَّاشي: محمّد بن مسعود العيَّاشي/ تحقيق: السيِّد هاشم الرسولي المحلَّاتي/ المكتبة العلميَّة الإسلاميَّة/ طهران.
59 - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن): أبو عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي/ تصحيح: أحمد عبد العليم البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
60 - تفسير القمِّي: عليُّ بن إبراهيم القمِّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيِّب الموسوي الجزائري/ ط 3/ 1404هـ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
61 - تفسير الماتريدي (تأويلات أهل السُّنَّة): أبو منصور محمّد بن محمّد ابن محمود الماتريدي/ تحقيق: مجدي باسلوم/ ط 1/ 1426هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
62 - تفسير فرات الكوفي: فرات بن إبراهيم الكوفي/ تحقيق: محمّد الكاظم/ ط 1/ 1410هـ/ مؤسَّسة طبع ونشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي/ طهران.
63 - تقريب التهذيب: ابن حجر العسقلاني/ دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا/ ط 2/ 1415هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
64 - تقريب المعارف: أبو الصلاح الحلبي/ تحقيق: فارس الحسُّون/ ط 1417هـ.
65 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق وتعليق: السيِّد حسن الموسوي الخرسان/ ط 3/ 1364هـ/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
66 - تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني/ ط 1/ 1404هـ/ دار الفكر/ بيروت.
67 - تهذيب الكمال في أسماء الرجال: جمال الدِّين أبو الحجَّاج يوسف المزِّي/ تحقيق وضبط وتعليق: بشار عواد معروف/ ط 4/ 1406هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
68 - تهذيب المقال في تنقيح كتاب رجال النجاشي: السيِّد محمّد عليّ الأبطحي/ ط 2/ 1417هـ/ مطبعة نگارش/ قم.
69 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تحقيق وتصحيح: هاشم حسيني طهراني/ ط 1/ جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميَّة/ قم.
70 - الثاقب في المناقب: ابن حمزة الطوسي/ تحقيق: نبيل رضا علوان/ ط 2/ 1412هـ/ مؤسَّسة أنصاريان/ قم.
71 - ثواب الأعمال: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد مهدي الخرسان/ ط 2/ 1368ش/ مطبعة أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
72 - جامع الأُصول في أحاديث الرسول: ابن الأثير الجزري/ تحقيق: عبد القادر الأرنؤوط/ ط 1/ 1389هـ/ مكتبة الحلواني ومكتبة دار البيان.
73 - الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير: جلال الدِّين السيوطي/ ط 1/ 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.
74 - جنَّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجَّة (عجَّل الله فرجه): ميرزا حسين النوري الطبرسي/ ط 2/ 1442هـ/ مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ النجف الأشرف.
75 - جواهر العقدين في فضل الشرفين: عليُّ بن عبد الله السمهودي/ ط 1/ 1405هـ/ مطبعة العاني/ بغداد.
76 - الحقائق في محاسن الأخلاق: الفيض الكاشاني/ تحقيق وتصحيح: محسن العقيلي/ ط 2/ 1423هـ/ دار الكتاب الإسلامي/ قم.
77 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم الأصفهاني/ ط 1/ دار أُمّ القرى/ القاهرة.
78 - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ بإشراف: السيِّد محمّد باقر الموحِّد الأبطحي/ ط 1/ 1409هـ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
79 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1362ش/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
80 - خصائص أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام): أحمد بن شعيب النسائي الشافعي/ تحقيق وتصحيح: محمّد هادي الأميني/ مكتبة نينوى الحديثة/ طهران.
81 - خلاصة الأقوال: العلَّامة الحلِّي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة نشر الفقاهة.
82 - خوارق الإبداع: الدكتورة شفيقة قرة كله/ مترجم وزارة الثقافة والإعلام العراقيَّة/ سلسلة الباراسايكولوجي/ ط 1.
83 - الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدِّين السيوطي/ دار المعرفة/ بيروت.
84 - الدعوات (سلوة الحزين): قطب الدِّين الراوندي/ ط 1/ 1407هـ/ مطبعة أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
85 - دلائل الإمامة: محمّد بن جرير الطبري الشيعي/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة البعثة/ قم.
86 - دليل المتحيِّرين في بيان الناجين: عليّ محسن/ دار الصفوة/ بيروت.
87 - ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: أحمد بن عبد الله الطبري (المحبُّ الطبري)/ 1356هـ/ مكتبة القدسي لصاحبها حسام الدِّين القدسي/ القاهرة.
88 - رجال الطوسي (الأبواب): الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.
89 - رجال النجاشي (فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة): أبو العبَّاس أحمد
ابن عليّ بن أحمد بن العبَّاس النجاشي الأسدي الكوفي/ ط 5/ 1416هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
90 - الرعاية في علم الدراية: الشهيد الثاني/ تحقيق: عبد المحسن محمّد عليّ بقَّال/ ط 2/ 1408هـ/ مكتبة آية الله المرعشي/ قم.
91 - الروحيَّة عند ابن عربي: الدكتور عليّ عبد الجليل راضي/ 1975م/ مكتبة النهضة المصريَّة/ القاهرة.
92 - الروضة البهيَّة في شرح اللمعة الدمشقيَّة: الشهيد الثاني/ تحقيق: السيِّد محمّد كلانتر/ ط 1 و2/ 1386 و1398هـ/ منشورات جامعة النجف الدِّينيَّة.
93 - سُبُل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد: محمّد بن يوسف الصالحي الشامي/ تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ عليّ محمّد معوض/ ط 1/ 1414هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
94 - سرور أهل الإيمان في علامات صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه): السيِّد بهاء الدِّين عليّ النيلي النجفي/ ط 1/ 1426هـ/ دليل ما/ قم.
95 - السُّنَّة: أبو بكر عمرو بن أبي عاصم الضحَّاك بن مخلد الشيباني/ بقلم: محمّد ناصر الدِّين الألباني/ ط 3/ 1413هـ/ المكتب الإسلامي/ بيروت.
96 - سُنَن ابن ماجة: أبو عبد الله محمّد بن يزيد القزويني (ابن ماجة)/ تحقيق وترقيم وتعليق: محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.
97 - سُنَن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني/ تحقيق وتعليق: سعيد محمّد اللحَّام/ ط 1/ 1410هـ/ دار الفكر/ بيروت.
98 - سُنَن البيهقي: البيهقي/ دار الفكر/ بيروت.
99 - سُنَن الترمذي: أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي/ تحقيق وتصحيح: عبد الوَّهاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1403هـ/ دار الفكر/ بيروت.
100 - سُنَن الدارمي: عبد الله بن بهرام الدارمي/ 1349هـ/ مطبعة الاعتدال/ دمشق.
101 - السيرة الحلبيَّة في سيرة الأمين المأمون: أبو الفرج نور الدِّين عليُّ ابن إبراهيم بن أحمد الحلبي الشافعي/ 1400هـ/ دار المعرفة.
102 - شرح إحقاق الحقِّ: السيِّد شهاب الدِّين المرعشي النجفي/ تصحيح: السيِّد إبراهيم الميانجي/ منشورات مكتبة آية الله المرعشي/ قم.
103 - شرح أُصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة: هبة الله بن الحسن بن المنصور الطبري الرازي اللالكائي/ تحقيق: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي/ ط 8/ 1423هـ/ دار طيبة/ السعوديَّة.
104 - شرح صحيح مسلم: النووي/ 1407هـ/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
105 - شرح مشكل الآثار: أبو جعفر أحمد بن محمّد الأزدي الحجري المصري المعروف بـ (الطحاوي)/ تحقيق: شعيب الأرنؤوط/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسَّسة الرسالة.
106 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378هـ/ دار إحياء الكُتُب العربيَّة/ بيروت.
107 - شواهد التنزيل لقواعد التفضيل: عبيد الله بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني/ تحقيق: الشيخ محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1411هـ/ مؤسَّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي.
108 - صحيح ابن حبَّان بترتيب ابن بلبان: ابن حبَّان/ تحقيق: شعيب الأرنؤوط/ ط 2/ 1414هـ/ مؤسَّسة الرسالة.
109 - صحيح ابن خزيمة: محمّد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري/ تحقيق وتعليق وتخريج وتقديم: محمّد مصطفى الأعظمي/ ط 2/ 1412هـ/ المكتب الإسلامي.
110 - صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي/ ط 2/ 1410هـ/ أوقاف مصر.
111 - صحيح مسلم: مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
112 - الصحيفة السجَّاديَّة: تحقيق: محمّد باقر الأبطحي/ ط 1/ 1411هـ/ مطبعة نمونه/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ومؤسَّسة الأنصاريان/ قم.
113 - صفات الشيعة: الشيخ الصدوق/ كانون انتشارات عابدي/ طهران.
114 - الصلة بين التصوُّف والتشيُّع: الدكتور كامل مصطفى الشيبي/ ط 3/ 1982م/ دار الأندلس.
115 - الصواعق المحرقة في الردِّ على أهل البدع والزندقة: أحمد بن حجر الهيتمي المكّي/ خرَّج أحاديثه وعلَّق حواشيه وقدَّم له: عبد الوهَّاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1385هـ/ مكتبة القاهرة لصاحبها عليّ يوسف سليمان/ القاهرة.
116 - الضعفاء الكبير: محمّد بن عمرو العقيلي المكّي/ تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي/ ط 2/ 1418هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
117 - طبقات الحنابلة: أبو الحسين محمّد بن أبي يعلى/ دار المعرفة/ بيروت.
118 - الطبقات الكبرى: محمّد بن سعد/ دار صادر/ بيروت.
119 - طبقات المحدِّثين بأصبهان والواردين عليها: أبو الشيخ الأصفهاني/ تحقيق: عبد الغفور عبد الحقِّ حسين البلوشي/ ط 2/ 1412هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
120 - الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف: السيِّد عليُّ بن طاووس/ ط 1/ 1399هـ/ مطبعة الخيَّام/ قم.
121 - العدل الإلهي: مرتضى المطهَّري/ ترجمة: محمّد عبد المنعم الخاقاني.
122 - العرف الوردي في أخبار المهدي: جلال الدِّين السيوطي/ ط 1/ 1427هـ/ المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميَّة/ طهران.
123 - العسل المصفَّى من تهذيب زين الفتى: أحمد بن محمّد بن عليٍّ العاصمي/ هذَّبه وعلَّق عليه: الشيخ محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1418هـ/ مجمع إحياء الثقافة الإسلاميَّة/ قم.
124 - عقائد الإماميَّة: محمّد رضا المظفَّر/ انتشارات أنصاريان/ قم.
125 - عقد الدُّرَر في أخبار المنتظَر: يوسف بن يحيى المقدسي الشافعي السلمي/ تحقيق: الشيه مهيب بن صالح بن عبد الرحمن البوريني/ ط 2/ 1410هـ/ مكتبة المنار/ الأُردن، وط مكتبة عالم الفكر/ تحقيق: الدكتور عبد الفتَّاح محمّد الحلو/ ط 1/ 1399هـ/ القاهرة.
126 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.
127 - علوم الحديث: أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري
المشهور بـ (ابن الصلاح)/ تحقيق وشرح: نور الدِّين عتر/ 1406هـ/ دار الفكر/ دمشق.
128 - على أطلال العالم المادِّي: محمّد فريد وجدي/ ط 1/ مطبعة دائرة معارف القرن العشرين.
129 - عليُّ بن أبي طالب إمام العارفين: أحمد بن محمّد بن الصدِّيق الغماري الحسني/ ط 1/ 1389هـ/ مطبعة السعادة/ القاهرة.
130 - العودة إلى التجسُّد: عبد العزيز جودو/ مطبعة الوادي/ الإسكندريَّة.
131 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي/ 1404هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
132 - الغدير في الكتاب والسُّنَّة والأدب: الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي/ ط 4/ 1397هـ/ دار الكتاب العربي/ بيروت.
133 - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: فارس حسُّون كريم/ ط 1/ 1422هـ/ أنوار الهدى.
134 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
135 - غيث المواهب العليَّة في شرح الحِكَم العطائيَّة: محمّد بن إبراهيم النفزي الرندي/ تحقيق وتصحيح: عبد الجليل عبد السلام/ ط 2/ 1428هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
136 - الفتن: أبو عبد الله نعيم بن حمَّاد المروزي/ تحقيق وتقديم: سهيل زكار/ 1414هـ/ دار الفكر/ بيروت.
137 - الفتوحات المكّيَّة: ابن عربي/ دار صادر/ بيروت.
138 - فرائد السمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين: إبراهيم بن محمّد الجويني الخراساني/ ط 1/ 1400هـ/ مؤسَّسة المحمودي/ بيروت.
139 - فرائد فوائد الفكر في الإمام المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه): مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي/ تحقيق: سامي غريري/ ط 3/ 1427هـ/ دار الكتاب الإسلامي/ قم المقدَّسة.
140 - فضائل الخمسة من الصحاح الستَّة: السيِّد مرتضى الحسيني الفيروزآبادي/ ط 3/ 1393هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
141 - فضائل الصحابة: أحمد بن حنبل/ تحقيق: وصيُّ الله محمّد عبَّاس/ ط 1/ 1403هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
142 - فقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): محمّد جواد مغنية/ ط 2/ 1421هـ/ مؤسَّسة أنصاريان/ قم.
143 - الفوائد الرجاليَّة: السيِّد مهدي بحر العلوم/ ط 1/ 1363ش/ مكتبة الصادق/ طهران.
144 - فيض القدير شرح الجامع الصغير: محمّد عبد الرؤوف المناوي/ تصحيح: أحمد عبد السلام/ ط 1/ 1415هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
145 - قرب الإسناد: أبو العبَّاس عبد الله بن جعفر الحميري القمِّي/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
146 - القول المختصر في علامات المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه): أحمد بن حجر الهيتمي المكّي/ ط 1/ 1428هـ/ دار التقوى/ دمشق.
147 - القوى العظمى: بول ديغز/ كتاب علوم المترجم رقم (6)/ وزارة الثقافة والإعلام/ 1989م/ دار الحرّيَّة للطباعة/ بغداد.
148 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 5/ 1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
149 - الكامل في ضعفاء الرجال: عبد الله بن عدي/ تحقيق: يحيى مختار غزاوي/ ط 3/ 1409هـ/ دار الفكر/ بيروت.
150 - الكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل: جار الله الزمخشري/ 1385هـ/ شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده/ مصر.
151 - كشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار: الحاجّ الميرزا حسين النوري الطبري/ قدَّم له: السيِّد عليٍّ الحسيني الميلاني/ ط 2/ 1400هـ/ مكتبة نينوى الحديثة/ طهران.
152 - كشف المحجَّة لثمرة المهجة: السيِّد عليُّ بن طاووس/ 1370هـ/ المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
153 - كشف اليقين في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام): العلَّامة الحلِّي/ تحقيق: حسين الدرگاهي/ ط 1/ 1411هـ/ طهران.
154 - كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشر: أبو القاسم عليُّ بن محمّد الخزَّاز القمِّي الرازي/ تحقيق: السيِّد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري الخوئي/ 1401هـ/ انتشارات بيدار.
155 - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1405هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
156 - كنز العُمَّال في سُنَن الأقوال والأفعال: علاء الدِّين عليّ المتَّقي بن حسام الدِّين الهندي البرهان فوري (المتَّقي الهندي)/ ضبط وتفسير: الشيخ بكري حيَّاني/ تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقَّا/ 1409هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
157 - الكون المرآة: جون ب. بريجز/ كتاب علوم المترجم رقم (4)/ ط 1/ 1986م/ وزارة الثقافة والإعلام/ طبع الدار العربيَّة.
158 - لسان الميزان: ابن حجر العسقلاني/ ط 2/ 1390هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
159 - لوامع الأنوار البهيَّة وسواطع الأسرار الأثريَّة: شمس الدِّين أبو العون محمّد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي/ ط 2/ 1402هـ/ مؤسَّسة الخافقين ومكتبتها/ دمشق.
160 - لوامع الأنوار البهيَّة: محمّد بن أحمد السفاريني/ ط 2/ 1402هـ/ مؤسَّسة الخافقين ومكتبتها/ دمشق.
161 - ما بعد الحياة: كولن ولسن/ ترجمة: د. فاضل السعدوني/ 1990م/ مطبعة الأديب البغداديَّة.
162 - ما بقي من كتاب فضائل عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وكتاب الولاية: محمّد بن جرير الطبري/ إعداد: رسول جعفريان/ ط 1/ 1419هـ/ انتشارات دليل/ قم المقدَّسة.
163 - المجازات النبويَّة: الشريف الرضي/ تحقيق وشرح: طه محمّد الزيتي/ منشورات مكتبة بصيرتي/ قم.
164 - المجروحين من المحدِّثين والضعفاء والمتروكين: محمّد بن حبَّان ابن أحمد أبي حاتم التميمي البستي/ تحقيق: محمود إبراهيم زايد.
165 - مجمع البحرين: الشيخ فخر الدِّين الطريحي/ ط 2/ 1362ش/ مرتضوي.
166 - مجمع البيان في تفسير القرآن: أمين الإسلام أبو عليٍّ الفضل بن الحسن الطبرسي/ قدَّم له: السيِّد محسن الأمين العاملي/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
167 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: عليُّ بن أبي بكر الهيثمي/ 1408هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
168 - مجموعة رسائل ابن عربي: محي الدِّين ابن عربي الحاتمي الطائي/ ط 1/ 1421هـ/ دار المحجَّة البيضاء/ بيروت.
169 - المحرَّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: ابن عطيَّة الأندلسي/ تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمّد/ ط 1/ 1413هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
170 - مختصر سُنَن أبي داود: عبد العظيم بن عبد القويِّ المنذري/ تحقيق: محمّد صبحي بن حسن حلَّاق/ ط 1/ 1431هـ/ مكتبة المعارف/ الرياض.
171 - مروج الذهب ومعادن الجوهر: عليُّ بن الحسين بن عليٍّ المسعودي/ ط 2/ 1404هـ/ منشورات دار الهجرة/ قم.
172 - المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري/ إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
173 - مسند ابن الجعد: عليُّ بن الجعد بن عبيد الجوهري/ رواية وجمع: أبو القاسم عبد الله بن محمّد البغوي/ مراجعة وتعليق وفهرسة: الشيخ عامر أحمد حيدر/ ط 2/ 1417هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
174 - مسند ابن راهويه: إسحاق بن راهويه/ تحقيق: عبد الغفور عبد الحقِّ حسين برد البلوسي/ ط 1/ 1412هـ/ مكتبة الإيمان/ المدينة المنوَّرة.
175 - مسند أبي يعلى: إسماعيل بن محمّد بن الفضل التميمي (أبو يعلى الموصلي)/ تحقيق: حسين سليم أسد/ دار المأمون للتراث.
176 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ شرحه وصنع فهارسه: أحمد محمّد شاكر/ 1377هـ/ دار المعارف/ مصر، وط مؤسَّسة الرسالة/ تحقيق عدَّة محقِّقين/ ط 1/ 1416هـ/ بيروت.
177 - مسند البزَّار (البحر الزخَّار): أبو بكر أحمد بن عمرو العتكي المعروف بالبزَّار/ تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله وآخرون/ ط 1/ 1988م - 2009م/ مكتبة العلوم والحِكَم/ المدينة المنوَّرة.
178 - المصباح (جنَّة الأمان الواقية وجنَّة الإيمان الباقية): الشيخ إبراهيم ابن عليٍّ العاملي الكفعمي/ 1412هـ/ مؤسَّسة النعمان/ بيروت.
179 - مصباح الزائر: السيِّد عليِّ بن موسى بن طاووس/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
180 - المصباح: الكفعمي/ ط 3/ 1403هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
181 - المصنَّف: ابن أبي شيبة/ تحقيق وتعليق: سعيد اللحَّام/ ط 1/ 1409هـ/ دار الفكر/ بيروت.
182 - المصنَّف: أبو بكر عبد الرزَّاق بن همَّام الصنعاني/ عُني بتحقيق نصوصه وتخريج أحاديثه والتعليق عليه: حبيب الرحمن الأعظمي.
183 - مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (عليهم السلام): كمال الدِّين محمّد بن طلحة الشافعي/ تحقيق: ماجد بن أحمد العطيَّة.
184 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1379هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
185 - المعجم الأوسط: سليمان بن أحمد الطبراني/ 1415هـ/ دار الحرمين.
186 - المعجم الصغير: سليمان بن أحمد الطبراني/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
187 - المعجم الكبير: سليمان بن أحمد الطبراني/ تحقيق وتخريج: حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2/ دار إحياء التراث العربي.
188 - معرفة الصحابة: أبو نعيم الأصفهاني/ تحقيق: مسعد عبد الحميد سعدني/ ط 1/ 1422هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
189 - المغني في الضعفاء: محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي/ تحقيق: أبو الزهراء حازم القاضي/ ط 1/ 1418هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
190 - مفاتيح الجنان: الشيخ عبَّاس القمِّي/ ط 3/ 2006م/ مكتبة العزيزي/ قم.
191 - مقاتل الطالبيِّين: أبو الفرج الأصفهاني/ تقديم وإشراف: كاظم المظفَّر/ط 2/1385هـ/منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/النجف الأشرف.
192 - مقتضب الأثر: ابن عيَّاش الجوهري/ مطبعة العلميَّة/ مكتبة الطباطبائي/ قم.
193 - مقتل الحسين (عليه السلام): الموفَّق بن أحمد الخوارزمي/ تحقيق: الشيخ محمّد السماوي/ ط 2/ 1423هـ/ أنوار الهدى/ قم.
194 - مقدَّمة فتح الباري: ابن حجر العسقلاني/ ط 1/ 1408هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
195 - مكيال المكارم: ميرزا محمّد تقي الأصفهاني/ تحقيق: عليّ عاشور/ ط 1/ 1421هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
196 - الملاحم والفتن: ابن طاووس/ ط 1/ 1416هـ/ مؤسَّسة صاحب الأمر/ أصفهان.
197 - الملاحم: أحمد بن جعفر بن محمّد المعروف بـ (ابن المنادي)/ تحقيق: عبد الكريم العقيلي/ ط 1/ 1418هـ/ مطبعة أمير/ دار السيرة/ قم.
198 - الملل والنحل: الشهرستاني/ دار المعرفة/ بيروت.
199 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
200 - مناحل الشفا ومناهل الصفا بتحقيق كتاب شرف المصطفى(صلّى الله عليه وآله وسلّم): أبو سعيد عبد المَلِك بن أبي عثمان محمّد بن إبراهيم الخركوشي النيسابوري/ ط 1/ 1424هـ/ دار البشائر الإسلاميَّة/ مكَّة المكرَّمة.
201 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف: ابن قيِّم الجوزيَّة/ تحقيق: يحيى بن عبد الله الثمالي/ ط 4/ 1440هـ/ دار عطاءات العلم/ الرياض.
202 - مناقب آل أبي طالب: محمّد بن عليِّ بن شهرآشوب المازندراني/ 1376هـ/ المكتبة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
203 - مناقب آل محمّد (النعيم المقيم لعترة النبأ العظيم): عمر بن شجاع الموصلي/ ط 1/ 1424هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
204 - مناقب عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وما نزل من القرآن في عليٍّ (عليه السلام): أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني/ جمعه ورتَّبه وقدَّم له: عبد الرزَّاق محمّد حسين حرز الدِّين/ ط 2/ 1424هـ/ دار الحديث/ قم.
205 - مناقب عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام): عليُّ بن محمّد بن محمّد الواسطي الجُلَّابي الشافعي الشهير بـ (ابن المغازلي)/ ط 1/ 1426هـ/ مطبعة سبحان/ انتشارات سبط النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
206 - المناقب: الموفَّق بن أحمد بن محمّد المكّي الخوارزمي/ تحقيق: الشيخ مالك المحمودي/ ط 2/ 1414هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
207 - منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه): الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني/ ط 1/ 1422هـ/ مكتب المؤلِّف/ قم.
208 - منتخب الأنوار المضيئة: السيِّد بهاء الدِّين عليُّ بن عبد الكريم النيلي النجفي/ ط 1/ 1420هـ/ مؤسَّسة الإمام الهادي (عليه السلام)/ قم.
209 - منهاج السُّنَّة النبويَّة في نقض كلام الشيعة القدريَّة: أحمد بن عبد الحليم ابن تيميَّة الحرَّاني الحنبلي الدمشقي/ تحقيق: محمّد رشاد سالم/ ط 1/ 1406هـ/ جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميَّة.
210 - الموسوعة العربيَّة الميسَّرة: مجموعة من العلماء والباحثين/ ط 1/ 1431هـ/ المكتبة العصريَّة/ بيروت.
211 - ميادين علم النفس النظريَّة والتطبيقيَّة: مجموعة من العلماء الغربيِّين/ إشراف: ج. ب. جيلفورد/ اشترك في ترجمته مجموعة من الأستاذة العرب من مصر بإشراف: الدكتور يوسف مراد/ 1966م/ دار المعارف/ القاهرة.
212 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال: أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي/ تحقيق: عليّ محمّد البجاوي/ ط 1/ 1382هـ/ دار المعرفة/ بيروت.
213 - نظم المتناثر من الحديث المتواتر: محمّد بن جعفر الكتَّاني/ ط 2/ دار الكُتُب السلفيَّة/ مصر.
214 - نهج البلاغة: خُطَب أمير المؤمنين (عليه السلام)/ ما اختاره وجمعه: الشريف الرضي/ تحقيق: الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387هـ، وبشرح محمّد عبدة/ ط 1/ 1412هـ/ دار الذخائر/ قم.
215 - النور المشتعل من كتاب ما نزل من القرآن في عليٍّ (عليه السلام): أبو نعيم
الأصفهاني/ إخراج وتصحيح: الشيخ محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1406هـ/ وزارة الإرشاد الإسلامي/ طهران.
216 - الهداية الكبرى: الحسين بن حمدان الخصيبي/ ط 4/ 1411هـ/ مؤسَّسة البلاغ/ بيروت.
217 - ينابيع المودَّة لذوي القربى: سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي/ تحقيق: السيِّد عليّ جمال أشرف الحسيني/ ط 1/ 1416هـ/ دار الأُسوة.
218 - اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر: عبد الوهَّاب بن أحمد ابن عليٍّ الشعراني المصري الحنفي/ ط 1/ 1418هـ/ دار إحياء التراث العربي، مؤسَّسة التاريخ العربي/ بيروت.
* * *