آفاق مهدوية

آفاق مهدوية
محاضرات حول الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)

السيد منير الخباز
إعداد وتقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
الطبعة الخامسة (المحققة) 1444هـ

رقم الإصدار: 281

الفهرس

مقدَّمة المركز..................3
المحاضرة الأُولى: الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والدور الرسالي تجاه المجتمع البشري..................7
سؤال: ما هو دور الإمام (عجَّل الله فرجه) في الغيبة؟..................10
نظريَّتان حول دور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في غيبته..................10
النظريَّة الأُولى: الفرق بين عالم الخلق وعالم الأمر..................10
الأمر الأوَّل: أنَّ هناك فرقاً بين عالم الخَلْق وعالم الأمر..................11
الفرق بين تأثير الخالق والمخلوق في التدبير..................13
الأمر الثاني: أنَّ الهداية الأمريَّة من خصائص الإمامة..................15
الهداية الأمريَّة ودور الإمام فيها..................17
مناقشة رأي السيِّد الطباطبائي (قدّس سرّه) في ميزانه..................18
المستشرقون والغزو الفكري للمجتمع الإسلامي..................20
دور الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) في إيقاظ الأُمَّة..................21
المحاضرة الثانية: التكامل اليقيني لدى الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) وضرورة الغيبة..................23
من براهين ضرورة الغيبة..................25
البرهان الأوَّل العامُّ..................26
السؤال الأوَّل: ما معنى التكامل اليقيني؟..................26
السؤال الثاني: هل أنَّ الإمام (عليه السلام) خاضع للتكامل اليقيني؟..................29
التكامل اليقيني لدى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)..................30
السؤال الثالث: ما هو الربط بين تكامل درجة اليقين وبين الغيبة؟..................32
دور الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) في إقامة العدالة التامَّة..................33
البرهان الثاني الخاصُّ..................36
جواب السؤال الأوَّل: الهدف من الدِّين الإسلامي..................37
جواب السؤال الثاني: النظام الإسلامي هو الحلُّ..................38
الأمر الأوَّل: وجود الأرضيَّة..................38
العامل الأوَّل: الانجذاب نحو الإسلام..................38
العامل الثاني: العولمة..................39
الأمر الثاني: حفظ الدِّين..................39
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو الحافظ لدين الله تعالى..................41
المحاضرة الثالثة: الغيبة وانسجامها مع الغرض الإلهي، والآثار المترتِّبة عليها..................43
النقطة الأُولى: انسجام الغيبة مع الغرض الإلهي..................45
شبهة نقض الغرض..................46
جواب الشبهة..................48
الوجه الأوَّل: الإمام (عليه السلام) شاهد على أعمال الخلائق..................48
الغرض من نصب الإمام أمران..................49
الأمر الأوَّل: مسألة الشهادة على أعمال الخلائق..................49
الأمر الثاني: أنَّ المترتِّب على نصب الإمام هو حفظ الدِّين..................50
كيف يُحفظ الدِّين؟..................50
وقد يُسئَل: كيف يقوم بحفظ الدِّين وهو غائب؟..................53
الوجه الثاني: الغيبة عمل بشري لا سماوي..................54
النقطة الثانية: الآثار الروحيَّة المترتِّبة على الغيبة..................59
الأثر الأوَّل: اندفاع الأُمَّة للتهيُّؤ والإعداد..................60
الأثر الثاني: الاستعداد للقاء الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه)..................61
المقدَّمة الأُولى: الغيبة العنوانيَّة والغيبة الشخصيَّة..................61
المقدَّمة الثانية: إمكانيَّة الارتباط بالإمام (عجَّل الله فرجه)..................62
الأثر الثالث: تقوية العلاقة القلبيَّة بيننا وبين الإمام (عجَّل الله فرجه)..................65
المحاضرة الرابعة: غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في ضوء حديث الثقلين..................67
النقطة الأُولى: إثبات حضوره وغيبته (عجَّل الله فرجه)..................70
التاريخ والأحاديث النبويَّة يُؤيِّدان ولادته (عجَّل الله فرجه)..................71
النقطة الثانية: التجربة البشريَّة وضرورتها لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)..................75
الفرق بين العلم والخبرة..................79
رأي صاحب الميزان (قدّس سرّه) في الدرايتين النظريَّة والتفصيليَّة..................80
النقطة الثالثة: كيف نتفاعل مع الإمام (عجَّل الله فرجه) وهو غائب؟..................82
الأمر الأوَّل: الإحساس برقابته (عجَّل الله فرجه)..................82
الأمر الثاني: تسديد الإمام (عجَّل الله فرجه) للشيعة..................83
الأمر الثالث: رؤية الإمام (عجَّل الله فرجه)..................84
كيفيَّة رؤية الإمام (عجَّل الله فرجه)..................85
المحاضرة الخامسة: مميِّزات دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والاستعداد لها..................89
مميِّزات دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................91
المفردة الأُولى: معنى البعث..................92
تزاوج العلوم في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................93
المفردة الثانية: كيف يملأ الإمام (عجَّل الله فرجه) الأرض قسطاً وعدلاً؟..................96
الفرق بين القسط والعدل، وبين الظلم الجور..................97
علاقات الإنسان الثلاث..................99
الإنسان واستثمار الطبيعة..................100
المفردة الثالثة: كيفيَّة نشر القسط والعدل في أرجاء الأرض وبقاعها؟..................102
القوانين الرادعة والقوانين الوقائيَّة..................104
العناصر الثلاثة المحقِّقة لنجاح العدالة..................106
العنصر الأوَّل: العنصر الإعلامي..................106
العنصر الثاني: العنصر التربوي..................106
العنصر الثالث: العنصر الثقافي..................106
المحاضرة السادسة: العدالة ودولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................109
المحور الأوَّل: العدالة..................111
العنصر الأوَّل: التساوي في الخلق..................112
العنصر الثاني: الموازنة بين حقوق الفرد والمجتمع..................113
العقل الخاصُّ والعقل اللغوي..................115
المحور الثاني: تطبيق العدالة على الأرض..................117
المحور الثالث: الإرهاصات العامَّة والخاصَّة للغيبة..................118
الإرهاصات العامَّة..................118
تمهيد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) للحجَّة (عجَّل الله فرجه)..................119
الإرهاصات الخاصَّة..................124
المحور الرابع: فائدة بقائه (عجَّل الله فرجه)، وارتباطه بالنبيِّ عيسى (عليه السلام)..................126
جواب السؤال الأوَّل: فائدة بقاء الإمام (عجَّل الله فرجه)..................126
جواب السؤال الثاني: سبب ارتباطه (عجَّل الله فرجه) بالنبيِّ عيسى (عليه السلام)..................128
المحاضرة السابعة: شُبُهات حول الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................131
شبهة حول ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................133
الملاحظة الأُولى: خبر الثقة حجَّة..................134
الدليل الأوَّل: الآية القرآنيَّة..................134
الدليل الثاني: بناء العقلاء..................135
النوَّاب الأربعة ومكانتهم لدى الشيعة..................136
الملاحظة الثانية: ما هو الميزان في كون الخبر صحيحاً سنداً؟..................137
الملاحظة الثالثة: الردُّ على إشكاليَّة بعض روايات (الكافي)..................138
الملاحظة الرابعة: إثبات وجود الإمام (عجَّل الله فرجه) عقلائيًّا..................140
الطريق الأوَّل: إثبات وجود الإمام (عجَّل الله فرجه) بالنصِّ:..................142
الطريق الثاني: ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) من كُتُب أهل السُّنَّة..................144
الطريق الثالث: اعتراف إخواننا أهل السُّنَّة..................146
مصادر التحقيق..................149

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدَّمة المركز:
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم ومنكريِّ فضائلهم إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد..
إنَّ من المهمَّات التي يتطلَّع إليها الإنسان المؤمن أنْ يجد عقيدته وثقافته تنتشر بين الناس ويؤمنون بها، ومن أجل هذا الغرض قام العقلاء وسادة القوم بالتأليف والكتابة بهدف الترويج للعقائد الحقَّة، وفي زماننا أُقيمت المؤسَّسات وأُنشأت المراكز لأجل تبليغ أحكام الدِّين ونشر تعاليمه وعقائده بين الناس ودفع الشُّبُهات عنه.
ومن بين تلك المراكز التي أُسِّست لأجل نشر عقيدتنا في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مركزنا (مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه))، وقام ومنذ الأيَّام الأُولى لتأسيسه بمتابعة كلِّ ما يصدر وله ارتباط بالقضيَّة المهدويَّة من العلماء والباحثين والشعراء والكُتَّاب وغير ذلك.

(٣)

ومن بين الفقرات التي قام بمتابعتها وبشكل دوري ومنتظم المحاضرات المهدويَّة، إذ لا يخفى أهمّيَّة المنبر الحسيني في نشر عقيدة الشيعة الإماميَّة، وقد عنى عدد كبير من الخطباء قديماً وحديثاً بالعقيدة المهدويَّة، فضمَّنوا العديد من محاضراتهم بيان هذه العقيدة والاستدلال عليها ودفع الشُّبُهات عنها وتقوية ارتباط الناس بها، فيما أفرد آخرون عدَّة محاضرات تتناول البحوث المختلفة والمرتبطة بالعقيدة المهدويَّة، وقد جُمِعَتْ العديد من الكُتُب في هذا الغرض، ومن بين تلك المحاضرات ما ألقاه سماحة آية الله الأُستاذ القدير والخطيب البارع السيِّد منير الخبَّاز القطيفي (حفظه الله تعالى)، وقد طُبِعَ عدَّة طبعات لشدَّة الحاجة إليه وكثرة الطلب عليه.
المحاضرات التي تناولها سماحته سبعة، وقد اشتملت على بيان الدور الرسالي للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تجاه المجتمع في غيبته، مع بيان كيفيَّة تأثيره في المجتمع أثناء غيبته، وكيف يقوم بإيقاظ الأُمَّة.
وتناول في المحاضرة الثانية التكامل اليقيني للإمام (عجَّل الله فرجه) ودوره في إقامة العدالة من خلال عدَّة عوامل وبراهين ذكرها في المحاضرة.
فيما تناول في المحاضرة الثالثة انسجام الغيبة مع الغرض الإلهي ودفع شبهة نقض الغرض بعدَّة وجوه مع بيان الآثار المترتِّبة على الغيبة.

(٤)

وتناول في المحاضرة الرابعة غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه) في ضوء حديث الثقلين وكيف نُثبِت غيبته ونستشعر رقابته وتسديده، ولم يغفل مناقشة رؤية الإمام (عجَّل الله فرجه) في زمن الغيبة وما أُثير حولها.
وتناول في المحاضرة الخامسة المميِّزات التي تتمتَّع بها دولة الإمام (عجَّل الله فرجه)، وكيف سيتسنَّى ملأ الأرض بالعدل واستثمار الطبيعة بأكمل وجه وعلى مختلف الميادين والأصعدة.
وتطرَّق في المحاضرة السادسة إلى معنى العدالة وكيفيَّة تطبيقها، وارتباط الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بعيسى بن مريم (عليه السلام).
فيما تناول في المحاضرة الأخيرة جملة من الشُّبُهات المُثارة حول العقيدة المهدويَّة فيما يرتبط بالولادة أو النيابة أو غير ذلك، وأجاب عنها بأجوبة محكمة ورصينة.
وإذ نقوم بهذا الجهد المتواضع في تقديم هذا الكتاب الذي تضمَّن تبويب هذه المحاضرات وترتيبها واستخراج مصادرها وتقويم نصوصها، نسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يُوفِّق سيِّدنا المنير لمزيد من الجهد والعمل الدؤوب في خدمة الحوزة الدِّينيَّة ومذهب أهل البيت (عليهم السلام).
ونستثمر هذه الفرصة لدعوة الأعزَّاء من الخطباء الحسينيِّين أنْ يُخصِّصوا بعض محاضراتهم للقضيَّة المهدويَّة بأنْ يجعلوا في ضمن

(٥)

المحاضرات السنويَّة برنامجاً مرتبطاً ببيان هذه العقيدة الحقَّة ودفع الشُّبُهات عنها.
ومركزنا على أتمّ الاستعداد بتسخير إمكاناته المتاحة في هذا المجال لمزيد من تظافر الجهود في خدمة الدِّين والمذهب الحقِّ.
والله وليُّ التوفيق.

مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)

(٦)

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصص: 5)

من المعلوم أنَّ الهدف من ظهور الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) هو إقامة الحضارة الكونيَّة, وتحقيق العدالة التامَّة على الأرض. أمَّا الهدف من بقائه العمر الطويل إلى حين ظهوره, فهو حفظ الدِّين عن التحريف لحين قيام دولته الخاتميَّة المباركة, والتي تكمن خصائصها في الحديث الوارد عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلاً مِنْ وَلَدِيَ - أَوْ مِنْ أَهَلِ بَيْتِي، أَوْ مِنِّي - يُوَاطِئُ اِسْمُهُ اِسْمِي، يَمْلَؤُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) رواه جمهور العامَّة والخاصَّة بألفاظ مختلفة, راجع: كمال الدِّين (ص 317 و318/ باب 30/ ح 4)، والإرشاد (ج 2/ ص و241)، والغيبة للطوسي (ص 180/ ح 139)، ومسند أحمد (ج 2/ ص 163/ ح 773)، وسُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 928 و929/ ح 2779)، وسُنَن أبي داود (ج 2/ ص 309 و310/ ح 4282)، وسُنَن الترمذي (ج 3/ ص 343/ ح 2332).

(٩)

سؤال: ما هو دور الإمام (عجَّل الله فرجه) في الغيبة؟
لكن هناك من يطرح هذا السؤال: ما هو الدور الذي يقوم به الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) أثناء غيبته؟ منطلقاً من أنَّ الإمامة هي منصب إلهي لا بدَّ معها من القيام بدور رسالي معيَّن, فإذا لم يكن الشخص قائماً به, فلا معنى لكونه إماماً؛ لأنَّ الإمامة مساويةٌ للقيام به, فإذا كان الشخص غير قادر على أنْ يقوم بأيِّ دور رسالي, فما الفائدة من جعله إماماً؟ وما المبرِّر لبقائه مئات السنين دون أنْ يقوم بأيِّ دور تجاه المجتمع البشري؟
وبعبارة أُخرى ربَّما يقول قائل: إنَّ جعل الإمام الغائب إماماً لغو, واللغو لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى؛ لأنَّ اللغو قبيح, فلماذا يجعله الله تعالى إماماً هذه المئات من السنين, مع أنَّه لا يقوم بأيِّ دور رسالي ينسجم ويتلاءم مع منصب الإمامة وموقعها؟ وإذا كان الإمام في غيبته يضطلع بأعباء دور معيَّن, فأين نحن من هذا الدور؟ وما هو ربطنا ومساهمتنا ومشاركتنا في تجسيد هذا الدور وتحقيقه؟
هناك نظريَّتان تُجيبان على السؤال الأوَّل.
نظريَّتان حول دور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في غيبته:
النظريَّة الأُولى: أنَّ الدور الذي يقوم به الإمام المنتظَر القائم (عجَّل الله فرجه) هو عبارة عن الهداية الأمريَّة.

(١٠)

النظريَّة الثانية: أنَّ الدور الذي يضطلع الإمام (عجَّل الله فرجه) به أثناء غيبته هو حفظ الدِّين من التحريف والتزوير.
النظريَّة الأُولى: الفرق بين عالم الخلق وعالم الأمر:
التي ربَّما تُنتَزع وتُستَخرج من كلمات صاحب (الميزان) السيِّد الطباطبائي (قدّس سرّه), ومن أجل أنْ نشرح هذه النظريَّة لا بدَّ أنْ نذكر أمرين:
الأمر الأوَّل: أنَّ هناك فرقاً بين عالم الخَلْق وعالم الأمر:
فالقرآن الكريم تحدَّث عن عالمين عندما قال: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ (الأعراف: 54)، فهناك عالم خَلْق, وعالم أمر. فما هو الفرق بين الخَلْق والأمر؟ إنَّ إفاضة الوجود من قِبَله تبارك وتعالى إذا كانت إفاضة تعتمد على مادَّة ومدَّة, فهذه الإفاضة تُسمَّى خَلْقاً, وأمَّا إذا كانت إفاضة لا تعتمد على مادَّة ولا على مدَّة, بل إنَّ المُفاض يتحقَّق بنفس الإفاضة, فهذا ما نُسمِّيه بالأمر, ومثال الخلق الجنين في بطن أُمِّه, قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً﴾ (المؤمنون: 13 و14)، فهذا الوجود الذي قد أفاضه الله في مادَّة ومدَّة يُسمَّى خَلْقاً. ﴿الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ (يس: 77)، أي أفضنا هذا الوجود عليه إفاضة تدريجيَّة تعتمد على المادَّة والمدَّة.

(١١)

أمَّا إذا كانت إفاضة الوجود إفاضةً دفعيَّةً لا تعتمد على مادَّة ولا على مدَّة, فيتحقَّق الوجود وينسبغ نوره بمجرَّد الإفاضة من دون واسطة مادَّة ولا مدَّة, فهذا ما يُسمَّى بالأمر, مثل قوله تعالى عندما يتحدَّث عن الروح البشريَّة الإنسانيَّة: ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ (الإسراء: 85)، ليُبيِّن لنا أنَّ وجود الروح يختلف عن وجود الجسد, فوجود الجسد وجود ضمن مادَّة ومدَّة, أمَّا وجود الروح فهو وجود دفعي لا يستند لمادَّة ومدَّة, فوجود الروح يُسمَّى بـ(عالم الأمر), وهو يختلف عن وجود الجسد الذي يُسمَّى بـ(عالم الخَلْق), ولذلك فالآيات القرآنيَّة عندما تتحدَّث عن عالم الأمر, فذلك يعني عالم الإفاضة الذي لا يستند لمادَّة ولا مدَّة تتحدَّث عنه بشكل دفعي, كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ (القمر: 50), وهو إشارة إلى دفعيَّة الوجود الأمري, وتدريجيَّة الوجود الخَلْقي, فهذا هو الفرق بين عالم الخَلْق وعالم الأمر الذي تحدَّثت عنه الآية القرآنيَّة, كما يرى صاحب الميزان (قدّس سرّه)(2).
وربَّما يُناقَش كلامه (قدّس سرّه) بأنَّ الأمر في القرآن ليس كذلك, فكلمة الأمر في القرآن تُطلَق على عِدَّة معانٍ, ومن المعاني التي تُطلَق عليها هو الإرادة والمشيئة الإلهيَّة, كما في قوله تعالى: ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ﴾ (الروم: 46)، يعني بمشيئته, وكما في قوله تعالى: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) راجع: تفسير الميزان (ج 8/ ص 150 - 172).

(١٢)

وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ﴾ (الأعراف: 54)، يعني بإرادته ومشيئته تبارك وتعالى, فالأمر بمعنى الإرادة والمشيئة. وربَّما يُطلَق الأمر في القرآن الكريم بمعنى التدبير, كقوله تبارك وتعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ (السجدة: 5)، يُدبِّر الأمر, أي يُدبِّر أمر الوجود وشأنه, فالأمر أحياناً قد يُطلَق في القرآن الكريم ويُراد به النظام, من مسيرة, وحركة, فإذا كان الأمر يُطلَق على تلك المعاني, فمن أين فَهِمْنا أنَّ الأمر في قوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ (الأعراف: 54)، هو الوجود الأمري, أي الوجود الفعلي الذي لا يستند إلى مادَّة ولا إلى مدَّة؟ فلعلَّ المقصود في الآية المباركة هو تكفُّل الخَلْق وتدبيره, وإدارة حركة الوجود ومسيرته, أي كما أنَّ من شأنه تبارك وتعالى خلق هذه الموجودات وإفاضة هذه الوجودات, فمن شأنه أيضاً إدارة هذا الوجود وتدبيره, كما في قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ (السجدة: 5).
الفرق بين تأثير الخالق والمخلوق في التدبير:
إنَّ تأثير المخلوق يختلف عن تأثير الخالق؛ لأنَّ تأثيره مُزاحَم بالموانع والعوائق, مثلاً إذا أراد المخلوق أنْ يُوجِد فعلاً من الأفعال, ربَّما يكون فعله معاقاً, فلا يُمكنه تحقيق فعله, بينما تأثير الخالق غير

(١٣)

مُزاحَم بالموانع والعوائق, فمتى ما جرت مشيئته وإرادته تحقَّق مراده, فإرادته ومشيئته الفعليَّة ليست مُزاحَمة بالعوائق والموانع, فالله تبارك وتعالى أراد أنْ يُفرِّق بين تأثير المخلوق الذي هو مُزاحَم بالعوائق وبين تأثير الخالق الذي لا يمكن أنْ يقهره مانع من الموانع, فقال: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ (القمر: 50), أي إنَّ تأثيرنا لا يقهره قاهر, ولا يمنعه مانع, فهو تأثير كلمح البصر, من دون أنْ يُقهَر أو يُغلَب تحت مانع أو تحت عائق معيَّن, وليس في هذا إشارة إلى الوجود الدفعي الذي لا يستند إلى مادَّة ولا إلى مدَّة إنَّما هو إشارة للفرق بين تأثير المخلوق وتأثير الخالق, كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82)، يعني أنَّ تأثيره لا يتخلَّف ولا يُقهَر, كما في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (الأعراف: 34)، فهذا تأثير إلهي.
إذن, ليس هناك قرينة على أنَّ المراد بالأمر في الآيات المباركات هو عالم الأمر, أي عالم الوجود الدفعي الذي لا يستند إلى مادَّة وإلى مدَّة, ولذلك نرى القرآن الكريم كما عبَّر عن الروح بالأمر, عبَّر أيضاً عن الروح بالخلق, مثلاً في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا

(١٤)

الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (المؤمنون: 12 - 14)، والخلق الآخر هو الروح العاقلة، إذن كما عبَّر عن الروح بالأمر في بعض الآيات, فقد عبَّر عنه بالخلق في آيات أُخرى, فمن أين قلنا: إنَّ هناك عالم خلق وعالم أمر، وهذا وجود تدريجي, وذلك وجود فعلي, مع أنَّ القرآن عبَّر عن هذا الأمر أيضاً بالخلق كما عبَّر عنه بالأمر؟
ولكن يمكن أنْ يقال بأنَّ المقصود من الأمر في قوله تعالى: ﴿وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 85)، هو الشأن, كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ (هود: 97)، أي إنَّ شأنه ليس شأناً رشيداً, أيضاً هنا الروح شأن الخالق وليس شأن المخلوق, فليس المراد بالأمر في الآية المباركة هو عالم الأمر الذي يعني الوجود الدفعي الذي لا يستند لمادَّة ولا مدَّة.
الأمر الثاني: أنَّ الهداية الأمريَّة من خصائص الإمامة:
إنَّ السيِّد الطباطبائي (قدّس سرّه) ذكر في (الميزان)(3) أنَّ الإمامة مساوقة للهداية الأمريَّة, حيث يتميَّز الإمام عن غيره بأنَّ من خصائصه ومميِّزاته التي تفصله عن غيره الهداية الأمريَّة, استناداً إلى قوله تعالى:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(3) راجع: تفسير الميزان (ج 14/ ص 304).

(١٥)

﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (السجدة: 24)، وقوله في آية أُخرى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ (الأنبياء: 73)، فالإمام من يهدي بالأمر, يعني أنَّ الإمامة مساوقة للهداية الأمريَّة, ومعناها: التأثير المباشر في النفس.
فلقد ذكرنا في الأمر الأوَّل أنَّه يُفرَّق بين عالم الخلق وعالم الأمر, أنَّ عالم الخلق يعني عالم الأجساد, وعالم الأمر يعني عالم الأرواح, فالهداية الأمريَّة تعني هداية الروح, وتأثير الإمام في الطرف المقابل تأثيراً روحيًّا مباشراً.
مثلاً نفترض أنَّ الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) يمرُّ عليك وأنت لا تتعرَّف عليه, فيفيض على قلبك رشحةً من شعاعه ورشحةً من فيض نوره, فإذا أفاض عليك شعاعاً من شعاعه, ورشحةً من فيض أمره كان ذلك هداية أمريَّة, أي إنَّ الإمام يتحدَّث مع روحك بشكل مباشر, ويتحدَّث مع نفسك بشكل مباشر, وهذا الحديث هو إفاضة نور وإفاضة هداية أمريَّة.
فالإفاضة الأمريَّة من مميِّزات الإمامة وخصائصها, فالإمام من يتَّسم بالهداية الأمريَّة, ومن تكون له الولاية والقدرة على بثِّ نور الهداية وشعاعها في النفوس والأرواح. إذن بما أنَّ الإمامة مساوقة للهداية الأمريَّة, فلا ينبغي أنْ نسأل ما هو دور الإمام الحجَّة وهو غائب, ولا وجه للقول بأنَّ الإمامة تعني القيام بالدور الرسالي, فإذا لم يكن للإمام الغائب دور رسالي فبعثه لغو.

(١٦)

الهداية الأمريَّة ودور الإمام فيها:
إنَّ الإمامة تعني الهداية الأمريَّة ولا تعني القيام بالدور الرسالي فقط, فقد لا يتمكَّن الإمام من أيِّ دور رسالي, مثلاً الإمام الكاظم (عليه السلام) سُجِنَ سنين عديدة, ولم يكن متمكِّناً من القيام بدور رسالي؛ لأنَّه سجين, فهل هذا يعني أنَّ إمامته ارتفعت بمجرَّد أنْ دخل السجن؟ أو أنَّ الإمام عليًّا (عليه السلام) جلس خمساً وعشرين سنة في داره يُعلِّم بعض العارفين وبعض الظامئين للعلم والمعرفة ولم يكن له دور رسالي واضح, فهل معنى ذلك أنَّه ارتفعت إمامته لأنَّه ليس له دور رسالي بارز؟
كلَّا, فالإمامة لا تساوق القيام بالدور الاجتماعي؛ لأنَّه مرهون بظروفه, فقد يتمكَّن الإمام وقد لا يتمكَّن, كما ورد عن الإمام عليٍّ (عليه السلام): «لَا تَخْلُو اَلْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اَلله وَبَيِّنَاتُهُ»(4), فهو حجَّة وإنْ كان خائفاً مغموراً, فالإمامة لا تعني القيام بالدور الاجتماعي, وإنَّما تعني الهداية.
إنَّ دور الإمام وهو غائب هو بثُّ نور الهداية في النفس المصطفاة المجتباة, فمتى ما رأى نفساً مُعَدَّة وكفوءة أفاض عليها (عليه السلام) الهداية الأمريَّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) نهج البلاغة (ص 497/ ح 147).

(١٧)

مناقشة رأي السيِّد الطباطبائي (قدّس سرّه) في ميزانه:
نعم لقد استفدنا من الروايات أنَّ من مميِّزات الإمام الاطِّلاع على عالم الملكوت, ومن مميِّزاته أيضاً الهداية الأمريَّة, ولكن البحث في أنَّه هل استفدنا ذلك من القرآن الكريم من قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء: 73)، أم أنَّه مستفاد من النصوص الأُخرى؟ وهنا موضع المناقشة مع كلام السيِّد (قدّس سرّه).
فقد يقال في مقابل هذا الرأي المطروح أنْ لا علاقة لهذه الآية بمسألة الهداية الأمريَّة, لماذا؟ لأنَّ كلمة الأمر في القرآن كما ذكرنا قد استُعمِلَت بمعاني متعدِّدة, ومن جملة معاني الأمر: الدِّين، فإنَّ الدِّين السماوي عُبِّر عنه بالأمر, ومن قراءة بعض الآيات يتَّضح من خلالها أنَّ القرآن يُعبِّر بكلمة الأمر ويريد به الدِّين والرسالة, كقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ﴾ (القَصص: 44)، وما الأمر الذي قُضِيَ إلى موسى (عليه السلام)؟ هل هو الهداية الأمريَّة؟ لا, إنَّما قُضِيَ لموسى الدِّين, أي أُنزل عليه الدِّين السماوي ابتداءً من ذلك اليوم, فالأمر هو عبارة عن الدِّين السماوي, كقوله تعالى يتحدَّث عن بني إسرائيل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ (الجاثية: 16)، ثمّ يقول: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ﴾ (الجاثية: 17)، وما معنى ﴿بَيِّنَاتٍ

(١٨)

مِنَ الْأَمْرِ﴾؟ معناه: من الدِّين, فكما أرسلنا لهم كتاباً يتحدَّث عن الدِّين, وكما بعثنا أنبياءً وملوكاً وحُكَّاماً, فقد آتيناهم بيِّنات, أي آيات ومعاجز وحُجَجاً واضحة على أحقّيَّة الدِّين وأهمّيَّته, ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (الجاثية: 17), ثمّ يخاطب النبيَّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية: 18), ما الشريعة من الأمر؟ يعني الشريعة من الدِّين, فالدِّين كما له جنبة فكريَّة فإنَّ له جنبة تشريعيَّة, وهي الأعمال والعبادات, والشريعة هي الأعمال التطبيقيَّة والوظائف التي يمارسها المتديِّنون.
إذن إذا كان الأمر في القرآن الكريم يُطلَق على الدِّين السماوي وعلى الرسالة السماويَّة, فحينئذٍ يمكن أنْ تكون هذه الآية ناظرة للرسالة, ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء: 73)، يعني يهدون بواسطة ديننا ورسالتنا, لا أنَّ المراد بالأمر في هذه الآية الهداية الأمريَّة, كما استفدناها من الروايات الشريفة.
إذن بناءً على ذلك ننطلق إلى النظريَّة الثانية القائلة بأنَّ الدور الذي يقوم به الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وهو غائب هو حفظ الدِّين عن التحريف والتزوير.

(١٩)

المستشرقون والغزو الفكري للمجتمع الإسلامي:
ذكرت مجلَّة (عالم الفكر) أنَّ أكثر من (200) ألف مستشرق غزوا الشرق الأوسط في مدَّة (200) سنة, فدخلوا المكاتب والمساجد والقاعات, وسمعوا العلماء والمحاضرين, ودرسوا المجتمع الإسلامي والعوامل المؤثِّرة في قوَّته وضعفه, ودرسوا الفكر الإسلامي دراسة دقيقة؛ ليتعرَّفوا على المناطق التي من خلالها يمكن العبور والنفوذ, ثمّ كتبوا تقاريرَ لحكوماتهم ولسلطاتهم عن هذا المجتمع الإسلامي وعن الشرق الأوسط, وبالتالي بدأت الخطَّة للغزو الفكري منذ أكثر من مئة سنة إلى هذا المجتمع, حيث بدأ الغزو الفكري بتشكيك المسلمين في أُصول وجذور فكرهم الإسلامي, فحاول المستشرقون والكثير من المبشِّرين أنْ يُخضِعوا هذا الدِّين إلى موجة من التحريف والتزوير كما فعلوا في التوراة والإنجيل, وما زالت خُطَطهم ومكائدهم واستراتيجيَّاتهم للغزو الفكري تُركِّز على تشكيك المسلمين في دينهم من خلال محاولة تحريف بعض الآيات, وتزوير بعض الأحاديث وبعض المفاهيم الدِّينيَّة, ومن خلال بثِّ بعض الشائعات والمغالطات وبعض المفاهيم الخاطئة, حيث يحاولون بين فينة وأُخرى وبين حين وآخر أنْ يهزُّوا هذا الدِّين من جذوره؛ لكي يُخضِعوه إلى التزوير والتحريف والتغيير كما صنعوا مع التوراة والإنجيل, إذن من يقف

(٢٠)

أمام هذه المكائد الخفيَّة, والمسلمون في سبات عميق لاهون بمعاشهم وبلقمة الخبز وتحصيل لقمة العيش؟ إنَّ الكثير من المسلمين اليوم يُفكِّر في ترفه وفي جوانبه المادّيَّة, وكيف يحصل على الراتب الوفير, وكيف يركب السيَّارة الفارهة, وكيف يعيش في (الفيلا) الفخمة, وكيف ينام على الوسادة الناعمة!
المسلمون يعيشون في أوحال الترف, وغيرهم يُخطِّط كيف يغزو دينهم, وكيف يهزُّه من جذوره وأُصوله, لذلك فهذه المخطَّطات الخفيَّة تحتاج إلى يقظة من قِبَل المسلمين, ووعي وتركيز والتفات لتلك الخطورة.
دور الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) في إيقاظ الأمَّة:
وهناك شخص دوره إنارة المسلمين وإيقاظهم بين فترة وأُخرى, وتحريك علمائهم, وتحريك مصادر القرار والرأي عند المسلمين, من أجل أنْ يلتفت المسلمون وأنْ يستيقظوا لأيِّ عمليَّة تزوير وتحريف وتغيير, وهذا الشخص الذي يقوم بهذا الدور الرسالي الكبير - ألَا وهو إيقاظ العلماء وتنبيههم على محاولات التشويه والتزوير والتحريف للحقائق والعقائد والمفاهيم الإسلاميَّة - هو المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه), ولذلك ورد عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند الفريقين قوله: «إِنَّ فِي كُلِّ خَلَفٍ مِنْ أُمَّتِي عَدْلاً مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَنْفِي عَنْ هَذَا اَلدِّينِ تَحْرِيفَ اَلْغَالِينَ

(٢١)

وَاِنْتِحَالَ اَلمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ اَلْجَاهِلِينَ، وَإِنَّ أَئِمَّتَكُمْ قَادَتُكُمْ إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ)، فَانْظُرُوا بِمَنْ تَقْتَدُونَ فِي دِينِكُمْ وَصَلَاتِكُمْ»(5), وما مرَّ زمن على الأُمَّة الإسلاميَّة إلَّا ويُهيِّئ الله مجموعة من العلماء يأخذون على عاتقهم مواجهة الضالِّين وأهل البِدَع, وتنبيه الأُمَّة الإسلاميَّة على التحريفات والتزويرات والمغالطات للمفاهيم الإسلاميَّة التي قد تنفذ للأُمَّة من حيث لا تشعر, ومن حيث لا تلتفت, وأُولئك العلماء كما ورد عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ينتمون إلى الرسول, إمَّا بالأب, أو بالأُمِّ, وذلك عن طريق تأييد وتسديد وإيقاظ من الإمام المنتظَر القائم (عجَّل الله فرجه), وهذه هي مسيرة أجداده الطاهرين, مسيرة حفظ الدِّين, ومسيرة إبقائه صورة ناصعة بيضاء لا تنالها يد التحريف والتزوير, كما فعل آباؤه الطاهرون (سلام الله عليهم أجمعين).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) كمال الدِّين (ص 221/ باب 22/ ح 7)، مناحل الشفا (ج 5/ ص 317).

(٢٢)

بسم الله الرحمن الرحيم

حديثنا عن ضرورة غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه), ولماذا اختلفت حياة الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) عن حياة بقيَّة أهل البيت (عليهم السلام)؟ ولماذا يُظهِره الله تعالى في آخر الزمان فيخرج ويقيم الحضارة الكونيَّة أو العدالة الأرضيَّة العامَّة؟ ولماذا الغيبة؟ وُلِدَ قبل ألف ومائتي سنة تقريباً ويعيش هذه الفترة الطويلة المسمَّاة بالغيبة, ثمّ يظهر آخر الزمان ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً, كما ورد في الروايات(6), لماذا لم يوجده الله آخر الزمان؟ ما هي ضرورة الغيبة؟
من براهين ضرورة الغيبة:
هناك برهانان لضرورة الغيبة:
البرهان الأوَّل: البرهان العامُّ الذي لا يرتبط بالشيعة المؤمنين بخصائص الأئمَّة (عليهم السلام).
البرهان الثاني: وهو البرهان الخاصُّ الذي يرتبط بالشيعة المؤمنين بخصائص أهل البيت (عليهم السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(6) راجع ما مرَّ في (ص 9).

(٢٥)

البرهان الأوَّل العامُّ:
ما هو البرهان على ضرورة أنْ يعيش الإمام (عجَّل الله فرجه) هذا العمر الطويل كي يتمكَّن من تحقيق العدالة التامَّة؟ وهنا نطرح ثلاثة أسئلة:
السؤال الأوَّل: ما معنى التكامل اليقيني؟
السؤال الثاني: هل الإمام خاضع للتكامل اليقيني أم لا؟
السؤال الثالث: ما هو الربط بين التكامل اليقيني وبين الغيبة؟
السؤال الأوَّل: ما معنى التكامل اليقيني؟
التكامل اليقيني يُقسِّمه الفلاسفة إلى ثلاثة أقسام: علم اليقين, وعين اليقين, وحقُّ اليقين.
مثلاً إذا رأيت الدخان فستستيقن بوجود النار, إذ لولا وجود النار لما وُجِدَ الدخان, فتستدلُّ على المؤثِّر بأثره, فاليقين بوجود النار نتيجة رؤية الدخان هو أوَّل درجة من درجات اليقين, وهذا يُسمَّى بـ(علم اليقين). وإذا مشيت وراء الدخان إلى أنْ رأيت النار بعينيك, ألَا يتأثَّر يقينك بوجود النار نتيجة رؤية الدخان؟ نعم, فدرجة اليقين اكتملت وازدادت وتحوَّلت من علم اليقين إلى عين اليقين, فصارت عندك درجة أُخرى من اليقين. ولو أنَّ شخصاً قد أسقطك في النار وشعرت بالحرارة الناريَّة بحيث صارت الحرارة عن طريق الانصهار, فدرجة اليقين تكاملت إلى أنْ وصلت إلى أعلى درجة, وهي ما نُسمِّيها

(٢٦)

بـ(حقِّ اليقين), وهذا ما يذكره القرآن الكريم: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾, هذه درجة من درجات رؤية النار, ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ (التكاثر: 5 - 7), أي درجة أُخرى, فعندما يأتي يوم القيامة ويحسُّ الإنسان بحرارة النار سيستيقن بوجودها, فإذا رآها أمامه ازداد يقينه, فإذا أُلقي فيها ازداد يقينه إلى درجة حقِّ اليقين، ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ﴾, وفي سورة أُخرى قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ (الواقعة: 95)، فالتكامل اليقيني يعني أنَّ الإنسان ينطلق من درجة إلى درجة أُخرى من درجات اليقين.
وحتَّى أُصوِّر لك الموضوع بشكل أوضح, نأتي مثلاً إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم), هل أنَّ الرسول يتكامل يقينه؟
نحن نلاحظ بعض الآيات القرآنيَّة مثل قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ (الفرقان: 32), هل كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعيش حالة شكٍّ أو ارتياب؟ كلَّا, إذن فما معنى ﴿لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ﴾؟
إنَّ مقصود ذلك أنْ تصل إلى أعلى درجات اليقين, وهي درجة (حقِّ اليقين), مثلاً إذا فتحت كتاباً - أيَّ كتاب كان - يتحدَّث عن الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), وقرأت المعلومات المتعلِّقة به (عجَّل الله فرجه) فقد أخذت

(٢٧)

المعلومات عن طريق القراءة, ثمّ بعد ذلك جئت إلى المسجد وسمعت المحاضرة, وكانت المحاضرة عن نفس المعلومات التي قرأتها, فستزداد درجة يقينك بهذه المعلومات, ولو طُلِبَ منك أيُّها الإنسان المثقَّف الذي سمع المعلومات وقرأها واستوعبها أنْ تشرحها للآخرين, فقمت بشرحها, فإنَّ شرح المعلومات يزيد من يقينك بها.
إذن فالمعلومة الواحدة عندما تقرؤها سيصير عندك يقين, ثمّ تسمعها فيزداد يقينك بها, ثمّ تشرحها فيزداد يقينك بها أكثر, إذ التعامل مع المعلومة تعامل تكاملي يدخل في إطار التكامل اليقيني, وهل يُتصوَّر هذا التكامل بالنسبة للمعصوم مثلاً أم لا؟ فالرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ ولادته كان مطَّلعاً وعالماً بجميع معارف القرآن, ولديه علومه, ثمّ نزل عليه جبرائيل (عليه السلام) وأسمعه هذه المعارف والعلوم, فصار التعامل مع المعلومة بشكل ثانٍ وهو السماع, أي إنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يعرفها عن طريق الإلهام, ثمّ صار يعرفها عن طريق السماع, ثمّ أُمِرَ بتبليغها وشرحها للآخرين, وقيامه بتبليغها وشرحها للآخرين أوجب وصوله إلى أعلى وأسمى درجات اليقين بهذه المعلومة, إذن التكامل اليقيني هو عبارة عن الانتقال من درجة إلى درجة أُخرى من درجات اليقين.
ولتوضيح الأمر أكثر نأتي إلى السؤال الثاني:

(٢٨)

السؤال الثاني: هل أنَّ الإمام (عليه السلام) خاضع للتكامل اليقيني؟
يعني هل الإمام (عليه السلام) فعلاً ينتقل من درجة من اليقين إلى درجة أُخرى أم لا؟
الجواب: أنَّ المعصوم (عليه السلام) مع أنَّه في كلِّ آنٍ يمرُّ عليه هو أكمل الناس وأعلمهم إلَّا أنَّه مع ذلك يزداد في مقامه الملكوتي القربي من الله (عزَّ وجلَّ) بما يُفاض عليه من العلم اللَّدنِّي، فإنَّ منازل المقام الشهودي بدرجات اللطف الخفي ودرجات الانكشاف الملكوتي، ففي معتبرة أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إِنَّا لَنُزَادُ فِي اَللَّيْلِ وَاَلنَّهَارِ، وَلَوْ لَمْ نُزَدْ لَنَفِدَ مَا عِنْدَنَا»، قَالَ أَبُو بَصِيرٍ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَنْ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟ قَالَ: «إِنَّ مِنَّا مَنْ يُعَايِنُ، وَإِنَّ مِنَّا لَمَنْ يُنْقَرُ فِي قَلْبِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَإِنَّ مِنَّا لَمَنْ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ وَقْعاً كَوَقْعِ اَلسِّلْسِلَةِ فِي اَلطَّسْتِ»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: مَنِ اَلَّذِي يَأْتِيكُمْ بِذَلِكَ؟ قَالَ: «خَلْقٌ أَعْظَمُ مِنْ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ»(7).
الإمام (عليه السلام) يذكر في هذه الرواية أنَّ هناك حالة صعود وحالة تكامل يمرُّ بها الإمام (عليه السلام), فيجب أنْ يكون أعلم من غيره, أي أعلم الخلق, وإلَّا لكان تقديمه على الناس من باب تقديم المفضول على الفاضل, وتقديم المفضول على الفاضل قبيح لا يصدر من الله (عزَّ وجلَّ), إنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(7) بصائر الدرجات (ص 252/ ج 5/ باب 7/ ح 5)، عنه بحار الأنوار (ج 18/ ص 270/ ح 33).

(٢٩)

الله تعالى عندما جعل الحسن (عليه السلام) إماماً أو الحسين (عليه السلام) إماماً فلأنَّه هو أعلم الناس, وإلَّا لِمَ يجعله إماماً؟ فجعل الشخص إماماً من دون أنْ يكون أعلم الناس هو تقديم للمفضول على الفاضل, وتقديم المفضول على الفاضل قبيح.
إذن فالإمام (عليه السلام) أعلم الناس من أوَّل الأمر, والتكامل ليس معناه أنَّ المعلومة كانت مشوَّشة ثمّ صارت واضحة، فتمام المعلومات منكشفة له تمام الانكشاف، وإنَّما معناه تكامل المقام القربي من الله (عزَّ وجلَّ) بواسطة هذه المعلومات.
التكامل اليقيني لدى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
دعني أُوضِّح لك الأمر بالمثال أكثر, أنت تقرأ قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ (الشورى: 52)، إنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يتعبَّد في غار حراء, وكان على ملَّة إبراهيم الخليل (عليه السلام)؟ فكيف يقول القرآن الكريم: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾, كيف يكون ذلك؟ ما هو الجواب عن هذه الآية؟ هل المراد بها أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان جاهلاً وصار عالماً؟ أم أنَّه لم يكن مؤمناً وصار مؤمناً؟ أم ماذا؟
نقول: لو كان المراد بها ذلك لكان مناقضاً للآيات القرآنيَّة

(٣٠)

الأُخرى, فعندنا آيات تُثبِتُ أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان عالماً بالقرآن قبل نزوله, ومطَّلعاً على جميع معلومات القرآن تفصيلاً قبل نزول القرآن عليه, مثلاً قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ (طه: 114)، أي لا تُخبِر أحداً بالقرآن، هذا معناه أنَّه كان عارفاً بالقرآن, ولو لم يكن عارفاً بالقرآن لما أُمِرَ أنْ لا يُبلِّغ القرآن حتَّى ينزل عليه الوحي من السماء.
أيضاً قوله تعالى في آية أُخرى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ (القيامة: 16 - 18), معناها أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان مطَّلعاً على معلومات القرآن, ولكن تقسيم القرآن إلى سور وإلى آيات أمر نزل به جبرائيل (عليه السلام) عليه, وإلَّا فجميع معلومات القرآن كانت عند النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), لكن تحوُّل هذه المعلومات إلى آيات وإلى سور هو الذي نزل به جبرائيل (عليه السلام), وهذا هو معنى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: 17 - 19).
إذن إذا كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عالماً بالقرآن من قبل أنْ ينزل, فما معنى هذه الآية: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ (الشورى: 52)؟ معنى هذه الآية هو نفي درايته بالكتاب والإيمان على سبيل الاستقلال، فإنَّ الدراية بالاستقلال من خواصِّ البارئ (عزَّ وجلَّ) وإنَّما درايته بالاكتساب لا بالاستقلال.

(٣١)

وهناك معنى آخر، وهو أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان على درجة من المقام القربي من الله تعالى فازدادت تلك الدرجة بعد نزول الوحي، وهذا هو ما قلناه: إنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان على درجة من اليقين, ثمّ بالقرآن وبنزوله تكاملت درجة اليقين, وهذا ما يُؤكِّده الحديث الوارد عن النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وهو ممَّا يرويه أهل السُّنَّة والجماعة أيضاً: «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ اَلمَاءِ وَاَلطِّينِ»(8)، وفي رواية: «بَيْنَ اَلرُّوحِ وَاَلْجَسَدِ»(9).
السؤال الثالث: ما هو الربط بين تكامل درجة اليقين وبين الغيبة؟
إذا كنَّا نتكلَّم عن أهل البيت (عليهم السلام), وكان المخاطب شيعيًّا يؤمن من أوَّل الأمر بأنَّ الإمام (عليه السلام) من يوم ولادته عالم بجميع العلوم, وفي أعلى درجات اليقين, فلا نحتاج إلى برهنة ذلك له, أمَّا إذا كنَّا نخاطب شخصاً لا يعترف بذلك, أي إنَّه ليس من الشيعة, أو إنَّه ليس مسلماً, ونريد أنْ نقيم له البرهان على أنَّ الغيبة أمر ضروري للإمام (عجَّل الله فرجه), فكيف نُثبت له ذلك وهو لا يعترف بخصائص أهل البيت (عليهم السلام)؟
ما هو الربط بين التكامل اليقيني وبين الغيبة في هذه المدَّة الطويلة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8) مناقب آل أبي طالب (ج 1/ ص 183)، بحار الأنوار (ج 18/ ص 278).
(9) طبقات ابن سعد (ج 1/ ص 148).

(٣٢)

إنَّ حجم الدور يقتضي أعلى حجم من اليقين, فما هو الدور الذي أُنيط بالإمام القائم (عجَّل الله فرجه)؟
دور الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه) في إقامة العدالة التامَّة:
الدور الذي أُنيط بالإمام القائم (عجَّل الله فرجه) هو إقامة العدالة التامَّة.
فما هي العدالة التامَّة؟
العدالة التامَّة هي التي لا تخصُّ رقعة أرضيَّة معيَّنة, بل هي عدالة على جميع الأرض, فالدور الذي أُنيط بالإمام (عجَّل الله فرجه) هو إقامة العدالة على جميع أرجاء الأرض, ولا يختصُّ برقعة معيَّنة.
فالقرآن الكريم يُصرِّح بذلك: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33), أي سيأتي حتماً يوم من الأيَّام يُطبَّق فيه الدِّين الإسلامي على الأرض كلِّها, ولا بدَّ أنْ يأتي هذا اليوم, وإلَّا كان خلاف ما ذكرته الآية الشريفة, وهذا ما تُؤكِّده الأحاديث الشريفة عند السُّنَّة والشيعة بلا فرق, منها قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلاً مِنْ وَلَدِيَ - أَوْ مِنْ أَهَلِ بَيْتِي، أَوْ مِنِّي - يُوَاطِئُ اِسْمُهُ اِسْمِي، يَمْلَؤُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»(10), وتعبير الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَمْلَؤُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً», أي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(10) مرَّ في (ص 9)، فراجع.

(٣٣)

يقيم العدالة على جميع الأرض من دون استثناء رقعة دون رقعة, تجده تعبيراً دقيقاً لمفهوم العدالة.
إذن هذا الدور دور خطير جدًّا لم يقم به أحد من الأنبياء أو من المرسَلين (عليهم السلام), فالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما استطاع أنْ يقوم بهذا الدور, إمَّا لِقِصَرِ عمره, وإمَّا لعدم ملائمة الظروف لذلك, فهناك دور أُنيط بالإمام (عجَّل الله فرجه) لم ينط بأيِّ نبيٍّ وبأيِّ رسول, وهو إقامة العدالة والدِّين على كلِّ الأرض, وهذا الدور يقتضي حروباً طاحنة ساخنة, وعمليَّة تطهير تستغرق آلاف الطاقات وآلاف الإمكانيَّات وآلاف الاستعدادات, إنَّ هذا الدور دور عظيم جدًّا لم يقم به بشر إلى الآن, ولم يستطع أنْ يُطبَّق الدِّين على وجه الأرض كلِّها؛ إذن حجم الدور يقتضي حجماً من اليقين يتناسب معه, أي كلَّما كبر الدور توقَّف على يقين أكبر ودرجة من الإرادة والصمود والشموخ تتناسب مع مستوى الدور وحجمه, لذلك نقول بأنَّ الدور الذي أُنيط بالإمام (عجَّل الله فرجه) يحتاج إلى تكامل يقيني, أي يحتاج إلى أنْ يكون الإمام في أعلى درجات اليقين والشموخ والإرادة؛ كي ينسجم مع هذا الدور العظيم.
لكن كيف يتمُّ ذلك؟ أي كيف يتمُّ التكامل اليقيني؟
إذا كنَّا نتكلَّم مع الآخرين, فنقول لهم: إنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) لأجل أنْ يصل إلى أعلى درجات اليقين بحيث يكون مُعَدًّا للقيام بهذا الدور

(٣٤)

الخطير لا بدَّ أنْ يمرَّ بهذا العمر الطويل؛ لأنَّه ضروري من أجل الوصول إلى أعلى درجات اليقين, فالإنسان إذا كان يعيش في عصور مختلفة وفي عدَّة مجتمعات, ويعيش حضارات مختلفة, فتسقط حضارة وتقوم حضارة بعدها, ويعيش في دول مختلفة, فتسقط دولة وتقوم دولة أُخرى, ويعيش بين جماعات مختلفة, فإنَّه جرَّب كلَّ الأنظمة, وجرَّب كلَّ المجتمعات, لذلك تكاملت معلوماته في شتَّى الحقول وازدادت درجة يقينه بدوره المنوط به كي تصل إلى أعلى وأسمى درجات اليقين.
إذن الغيبة ضروريَّة لكي يعيش الإمام (عجَّل الله فرجه) هذا العمر الطويل, وذلك من أجل تحقيق التكامل اليقيني, الذي يتوقَّف على معاصرة الحضارات المختلفة والعلوم المختلفة والجماعات المختلفة؛ كي يحصّل لمن عاصرها أعلى درجات اليقين. وإعطاؤه هذه الدرجة من اليقين والسعة من المعلومات لا يعني أنَّه أفضل من جدِّه النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّ ملاك الفضل باتِّصاله بعالم الملكوت، وتكليم الله له عن طريق الوحي، الذي لم يتحقَّق لغير الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولذلك كان موسى (عليه السلام) أفضل من الخضر (عليه السلام) وهو إمامه مع أنَّه كان أعرف منه ببعض المعلومات، قال تعالى: ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ (الكهف: 65 و66).

(٣٥)

مضافاً إلى أنَّ كلَّ ما يرد على قائم آل محمّد (عجَّل الله فرجه) فإنَّه يمرُّ أوَّلاً على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ الأئمَّة (عليهم السلام) واحداً واحداً حتَّى ينتهي إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهذا صريح ما رواه الشيخ الطوسي (رحمه الله):
أَخْبَرَنِي بِهِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ عُبَيْدِ اَلله، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ اِبْنِ سُفْيَانَ اَلْبَزَوْفَرِيِّ (رحمه الله)، قَالَ: حَدَّثَنِي اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: اِخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي اَلتَّفْوِيضِ وَغَيْرِهِ، فَمَضَيْتُ إِلَى أَبِي طَاهِرِ بْنِ بِلَالٍ فِي أَيَّامِ اِسْتِقَامَتِهِ، فَعَرَّفْتُهُ اَلْخِلَافَ، فَقَالَ: أَخِّرْنِي، فَأَخَّرْتُهُ أَيَّاماً، فَعُدْتُ إِلَيْهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ حَدِيثاً بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا أَرَادَ اَللهُ أَمْراً عَرَضَهُ عَلَى رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثُمَّ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَسَائِرِ اَلْأَئِمَّةِ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اَلدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اَلمَلَائِكَةُ أَنْ يَرْفَعُوا إِلَى اَلله (عزَّ وجلَّ) عَمَلاً عُرِضَ عَلَى صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) ثُمَّ يَخْرُجُ عَلَى وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثُمَّ يُعْرَضُ عَلَى اَلله (عزَّ وجلَّ)، فَمَا نَزَلَ مِنَ اَلله فَعَلَى أَيْدِيهِمْ، وَمَا عُرِجَ إِلَى اَلله فَعَلَى أَيْدِيهِمْ، وَمَا اِسْتَغْنَوْا عَنِ اَلله (عزَّ وجلَّ) طَرْفَةَ عَيْنٍ»(11).
البرهان الثاني الخاصُّ:
نتعرَّض له باختصار, وهو برهان خاصٌّ, برهان يصلح أنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11) الغيبة للطوسي (ص 387/ ح 351).

(٣٦)

يستدلَّ به الشيعي نفسه على ضرورة بقاء الإمام (عجَّل الله فرجه) هذا العمر الطويل, وهذا البرهان يتوقَّف على سؤالين نطرحهما ونجيب عليهما.
السؤال الأوَّل: ما الهدف من الدِّين الإسلامي؟
السؤال الثاني: ما الأُمور التي يتوقَّف عليها تحقيق الهدف من الدِّين الإسلامي؟
جواب السؤال الأوَّل: الهدف من الدِّين الإسلامي:
إنَّ الهدف من الدِّين هو تطبيقه على الأرض كلِّها؛ لأنَّ الدِّين الإسلامي هو قانون العدالة, وهو الدِّين الحافظ للعدالة وتطبيقها على الأرض كلِّها, ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33), وإلَّا لكان تشريع الدِّين لغواً, واللغو لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى, وهذا ما أكَّدته الآيات القرآنيَّة الأُخرى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصص: 5), وقال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ (النور: 55).

(٣٧)

جواب السؤال الثاني: النظام الإسلامي هو الحلُّ:
كيف نُطبِّق الدِّين على الأرض كلِّها؟ وما هي الأُمور التي يتوقَّف عليها تطبيق الدِّين على الأرض كلِّها؟
هناك أمران:
الأمر الأوَّل: وجود الأرضيَّة:
أي لا بدَّ من وجود أرضيَّة بشريَّة لتطبيق الدِّين على الأرض كلِّها.
ولتلك الأرضيَّة عاملان:
العامل الأوَّل: الانجذاب نحو الإسلام:
كيف ذلك؟ إنَّ أهمّ شيء لدى البشريَّة هو الاقتصاد, ولا تقوم حضارة إلَّا على أساس اقتصادي, وقد جرَّبت البشريَّة مختلف الأنظمة الاقتصاديَّة, جرَّبت النظام الشيوعي، والنظام الاشتراكي, والنظام الرأسمالي, وستُجرِّب البشريَّة مختلف الأنظمة الاقتصاديَّة, وكلَّما طُبِّقت تلك الأنظمة ازداد الفقر في العالم انتشاراً واتِّساعاً, وسيقف العالم يوماً من الأيَّام على ألوان من الفقر لا حلَّ لها, وعلى ألوان من المجاعة لا حلَّ لها, وعلى ألوان من الفشل في تطبيق النظام الاقتصادي لا حلَّ لها, وإذا وقف العالم بعد التجربة الطويلة والمريرة على ذلك سيتحرَّك نحو الإسلام ويقول: طريقنا الإسلام, فقد جرَّبنا النظام الشيوعي والرأسمالي والاشتراكي فما رأينا له أثراً.

(٣٨)

العامل الثاني: العولمة:
فهل هي ضدُّ المسلمين أم لصالحهم؟
الجواب: إذا استغلَّ المسلمون تحوُّل العالم إلى منطقة واحدة, لها إعلام واحد, ولها صوت واحد, وهم مُصِرُّون على دينهم وعلومهم ومعارفهم, وقاموا بنقل تاريخنا للبشريَّة كلِّها, وصار الإعلام ينقل قِيَم الإسلام, ويشرح النظام الاقتصادي للإسلام، ستكون العولمة إعلاماً لصالحنا إلى أنْ يحصل للبشريَّة تهيئة واستعداد لاستقبال النظام الإسلامي.
الأمر الثاني: حفظ الدِّين:
قلنا: إنَّ الهدف من تشريع الدِّين هو تطبيقه على الأرض, وتطبيق الدِّين على الأرض يتوقَّف على حفظ الدِّين من التحريف؛ لأنَّ الدِّين إذا كان نظاماً مُحرَّفاً فلا يمكن تطبيقه, إذن تطبيق الدِّين على الأرض يتوقَّف على أنْ يكون النظام الدِّيني نظاماً نزيهاً غير مُحرَّف.
كيف يمكن صيانة الدِّين من التحريف ليكون نظاماً قابلاً للتطبيق؟
إنَّ القرآن الكريم يُؤكِّد على حفظ الدِّين, كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9), فالبعض يتصوَّر أنَّ الذِّكر هو مجرد القرآن الكريم, بل الذِّكر هو الدِّين, وإذا حفظ الله الدِّين فقد حفظ القرآن؛ لأنَّ القرآن دستور الدِّين, فالمراد بالذِّكر هو

(٣٩)

الدِّين, كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43).
كيف يتمُّ حفظ الدِّين؟
لا يتمُّ حفظ الدِّين إلَّا بالشخص الخبير بالدِّين, والعارف والعالم به علماً واقعيًّا, لا علماً ظاهريًّا, كيف؟
إنَّ فقهاء المسلمين يعلمون بالدِّين علماً ظاهريًّا وليس علماً واقعيًّا, فهل كتاب (منهاج الصالحين) هو الدِّين؟ لا, فهذه فتاوى استنبطها هذا الفقيه, وتوصَّل إليها عبر خبراته وثقافته ومؤهَّلاته, فالدِّين الواقعي دين له وجود معيَّن, وهذه الفتاوى مجرَّد فتاوى ظنّيَّة توصَّل إليها الفقيه عبر قيامه بعمليَّة الاستنباط, إذن علم الفقيه مهما كان, حتَّى لو كان أعلم أهل زمانه، علم ظاهري, والشخص الذي يعلم بالدِّين علماً ظاهريًّا لا يمكنه حفظ الدِّين عن التحريف, فحفظ الدِّين عن التحريف والتزوير يتوقَّف على شخص عالم بالدِّين علماً واقعيًّا, فهو مطَّلع على حقائق الدِّين وواقعه؛ لذلك ففي كلِّ زمن ومنذ زمن نبيِّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى يومنا هذا لا يمرُّ زمن إلَّا ويوجد شخص عالم بالدِّين علماً واقعيًّا؛ لأنَّه هو المسؤول عن حفظ الدِّين, ولذلك ورد في الأحاديث الشريفة: «لَوْ بَقِيَتِ الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ لَسَاخَتْ»(12)، أي لولا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(12) الكافي (ج 1/ ص 179/ باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة/ ح 10).

(٤٠)

وجود الشخص العالم بالدِّين علماً واقعيًّا لانتهى الدِّين وتعرَّض للتحريف والتزوير.
وورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَا تَخْلُو اَلْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اَلله وَبَيِّنَاتُهُ»(13).
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو الحافظ لدين الله تعالى:
والمهمُّ أنَّ هناك حُجَّة وظيفته حفظ الدِّين عن التحريف, وهذا هو معنى (حديث الثقلين)(14) الذي لم يختصّ به الشيعة الإماميَّة فقط, وإنَّما رواه جمهور المسلمين, لذلك نرى أنَّ محاولات تحريف القرآن ليست جديدة, فاليهود من قبل خمسمائة أو ستّمائة سنة حاولوا تحريف القرآن, والآن على الإنترنت ترى محاولات من قِبَل بعض المسيحيِّين وبعض اليهود لإدخال آيات جديدة وتغيير بعض الآيات, لكنَّها لا تفوت على المسلمين أبداً, وأيُّ محاولة تنكشف سريعاً ويتنبَّه المسلمون لها ويقفون أمامها بحزم.
إذن الهدف من وجود الدِّين هو تطبيقه على الأرض, وذلك يتوقَّف على حفظه من التحريف, وهذا يتوقَّف على وجود شخصٍ عالم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13) قد مرَّ في (ص 17)، فراجع.
(14) سيأتي في (ص 69).

(٤١)

بالدِّين علماً واقعيًّا, وهو المسؤول عن حفظه من التحريف, كما نصَّ عليه حديث الثقلين, والشخص الذي يحفظ الدِّين عن التحريف هذه المدَّة الطويلة وهذا العمر الطويل هو المهدي المنتظَر (عجَّل الله فرجه), إذن الغيبة أمر ضروري لأجل حفظ الدِّين من التحريف, وهذا يتوقَّف على وجود الإمام (عجَّل الله فرجه) هذا العمر الطويل, وهذه أُمور لا يُدركها إلَّا الشخص القريب منه (عجَّل الله فرجه).

* * *

(٤٢)

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)

حديثنا عن الغيبة في نقطتين:
النقطة الأُولى: هل أنَّ الغيبة منسجمة مع الغرض الإلهي, أم مخالفة للأهداف الإلهيَّة؟
والنقطة الثانية: في الآثار المترتِّبة على الغيبة.
النقطة الأولى: انسجام الغيبة مع الغرض الإلهي:
استدلَّ علماء الإماميَّة على وجوب نصب الإمام بقاعدة تُسمَّى (قاعدة اللطف), والتي تنصُّ على وجوب نصب الإمام بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وهذا الكلام يتكوَّن من مقدَّمتين:
المقدَّمة الأُولى: أنَّ الإمام (عليه السلام) لطف, حيث إنَّ وجوده أمر يُغذِّي حاجة المجتمع البشري الذي يحتاج إلى من يأمر بالمعروف وينهى عن

(٤٥)

المنكر, ويقضي بين الناس بالعدل, ويقيم الحدود والتعزيرات, وينشر العدالة بين أبناء المجتمع.
إذن المجتمع البشري محتاج إلى وجود الإمام (عليه السلام), فوجود الإمام لطف؛ لأنَّه يُغذِّي هذه الحاجة.
والمقدَّمة الثانية: أنَّ اللطف واجب الصدور من الله (عزَّ وجلَّ)؛ لأنَّ وجود إمام (عليه السلام) ينشر العدل, ويأمر بالمعروف, وينهى عن المنكر, ويقضي بين الناس, ويهدي المجتمع إلى الخير هو لطف. لكن هل هذا اللطف واجب؟ نعم, اللطف واجب. لِمَ؟ لأنَّ المجتمع البشري محتاج إلى وجود إمام عادل, آمر بالمعروف, ناهٍ عن المنكر, فعدم نصب الإمام من قِبَله تعالى يعود إمَّا لجهله, وإمَّا لعجزه, وإمَّا لبخله, وليس عندنا شقٌّ رابع.
فعدم نصبه تعالى للإمام (عليه السلام) إمَّا بخل أو جهل أو عجز, والله تعالى منزَّه عنها جميعاً, فيكون مقتضى نزاهة الله عن الجهل وعن العجز وعن البخل أنَّه يجب نصب الإمام بين الناس, فنصب الإمام بين الناس بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واجب الصدور من الله؛ لأنَّه لطف.
ونتيجة هاتين المقدَّمتين أنَّ نصب الإمام واجب.
هكذا استدلَّ الإماميَّة على ضرورة نصب الإمام بعد النبيِّ.
شبهة نقض الغرض:
وهنا يَرِدُ سؤال يقول: بناءً على الدليل الذي ذكرتموه للاستدلال

(٤٦)

فإنَّ غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه) نقض للغرض, ونقض الغرض قبيح, والقبيح محال على الله تبارك وتعالى، على أنَّ الغرض من نصب الإمام والهدف من نصبه هو أنَّ الإمام يأمر بالمعروف, وينهى عن المنكر, ويقضي بين الناس, ويُبلِّغ الأحكام الشرعيَّة, أليس هذا هو الغرض؟ هذا الغرض لا يمكن تحصيله مع غيبة الإمام, ولو كان الإمام حاضراً بين الناس لقام بالغرض, إذ لو كان الإمام موجوداً بين أظهر الناس يرونه ويعرفونه ويراهم ويعرفهم لكان وجوده محقِّقاً للغرض, أمَّا إذا كان غائباً فغيبته ناقضة للغرض, فغيبته تماماً عكس الهدف وعكس الغرض؛ لأنَّه ما لم يكن حاضراً بين الناس فإنَّه غير قادر على إقامة العدالة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذن, غيبة الإمام نقض للهدف, ونقض الهدف قبيح.
لماذا؟
مثلاً إذا أراد إنسان تأسيس مسجد لغرض العبادة, ثمّ استخدمه كورشة للحدادة أو للنجارة, فهل يصحُّ ذلك؟ إنَّه نقض للغرض، كذلك الله سبحانه وتعالى نصب الإمام لغرض إقامة العدالة, والغيبة تنقض هذا الغرض, ونقض الغرض قبيح, والقبيح محال على الله تبارك وتعالى.
إذن فكرة الغيبة فكرة قبيحة يرفضها العقل؛ لأنَّها نقض للغرض, ونقض الغرض محال على الله, فهذه الفكرة في حدِّ ذاتها أمر

(٤٧)

محال لا يمكن صدوره من الله (عزَّ وجلَّ) , بأنْ ينصب إماماً غائباً مستوراً عن الأعين, هذه الفكرة أمر محال في حدِّ ذاته.
جواب الشبهة:
والجواب عن هذا السؤال بوجهين:
الوجه الأوَّل: الإمام (عليه السلام) شاهد على أعمال الخلائق:
إنَّ الغرض من نصب الإمام - أيِّ إمام كان - ليس هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط؛ لأنَّ مسؤوليَّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجب على كلِّ الناس وجوباً كفائيًّا، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: 104)، والغرض من نصب الإمام ليس هو تبليغ الأحكام الشرعيَّة والقضاء بين الناس وإقامة الحدود والتعزيرات فقط, فهذه وظيفة الفقهاء في عصر الغيبة, كما ورد عن الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه): «وَأَمَّا اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اَلله عَلَيْهِمْ»(15).
إذن الغرض من نصب الإمام ليس هذا ولا ذاك فقط حتَّى يقال: إنَّ هذا الغرض لا يتحقَّق مع غيبة الإمام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(15) كمال الدِّين (ص 484/ باب 45/ ح 4).

(٤٨)

الغرض من نصب الإمام أمران:
الأمر الأوَّل: مسألة الشهادة على أعمال الخلائق:
أي أنْ يكون شهيداً على أعمال الخلائق, فالآية التي وردت في عيسى بن مريم (عليه السلام) الذي كان إماماً؛ لأنَّ الرُّسُل أُولي العزم كانوا أئمَّة, ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (المائدة: 117), مفادها أنَّ الهدف من وجوده بينهم هو الشهادة على أعمالهم, والشهادة على أفعالهم, والغرض من نصب الإمام هو أنْ يقوم بالشهادة, والآية المباركة التي تخاطب النبيَّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: 143) تُؤكِّد الغرض من وجود النبيِّ والإمام, وهو الشهادة على أعمال الخلائق شهادة حضوريَّة, هذا هو الغرض الأسمى, وليس الأمر بالمعروف وتبليغ الناس الأحكام الشرعيَّة.
ومن الواضح أنَّ الإمام سواءً كان مرئيًّا أو كان غائباً هو قادر على أنْ يقوم بغرض الشهادة, سواءً كان الإمام معروفاً بين الناس أم مجهولاً, حاضراً مع الناس أم غائباً عنهم, هو قادر على أنْ يقوم بالشهادة وأنْ يُحقِّق غرضها.
إذن الغرض من نصب الإمام متحقِّق, وليست غيبة الإمام أمراً ناقضاً للغرض كي تكون الغيبة أمراً محالاً أو أمراً قبيحاً.

(٤٩)

الأمر الثاني: أنَّ المترتِّب على نصب الإمام هو حفظ الدِّين:
لكي لا تمتدُّ أيدي التزوير والتلاعب والتحريف إلى الدِّين الإسلامي, وقد ذكرنا فيما سبق قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9) أنَّ المقصود بالذِّكر ليس هو القرآن الكريم فقط, وإنَّما الدِّين السماوي المحفوظ من خلال القرآن الكريم نفسه.
إنَّ الله تبارك وتعالى تعهَّد بحفظ هذا الدِّين, وحفظ الدِّين بأسبابه, ومن أسباب حفظ الدِّين وجود الشخص الخبير بالدِّين كي يكون قادراً على حفظه من أنْ تندسَّ أيدي التلاعب والتزوير والتحريف إليه.
كيف يُحفظ الدِّين؟
ليس المقصود من الدِّين هو الوظيفة الظاهريَّة والتي يجب على الناس في عصر غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه) أنْ يعملوا بها وهي فتاوى الفقهاء, وهي وظائف ظاهريَّة وليست وظائف واقعيَّة؛ لأنَّ فتوى الفقيه قد تُصيب الواقع وقد تُخطئ, لكن مع ذلك لو أصابت فتوى الفقيه الواقع فبها ونعمت, ولو أخطأت فتوى الفقيه الواقع فهو معذور كما أنَّ المقلِّد له معذور: «إِنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا فِي اَلتَّشْكِيكِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ عَنَّا ثِقَاتُنَا، قَدْ عَرَفُوا بِأَنَّنَا نُفَاوِضُهُمْ سِرَّنَا، وَنَحْمِلُهُ إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ»(16), أي لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(16) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 816/ ح 1020).

(٥٠)

ينبغي التشكيك في ما يرويه الفقهاء وما يمليه الفقهاء, ووظيفة الناس العمل بفتاوى هؤلاء وهم معذورون, «وَأَمَّا اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اَلله عَلَيْهِمْ»(17), فليست وظيفة الدِّين هو هذه الوظيفة الظاهريَّة؛ لأنَّ الدِّين مجموعة من القوانين السماويَّة, وهي موجودة في القرآن وفي الأحاديث الصحيحة, وهذه القوانين هي الدِّين الواقعي, وهذه المجموعة من القوانين يجب حفظها من الدسِّ والتزوير والتحريف, لكن المتكفِّل بحفظها هو من كان عارفاً بها, ومن لا يعرف هذه القوانين الواقعيَّة الموجودة في الكتاب والأحاديث الصحيحة لا يمكنه حفظها, وأهل البيت (عليهم السلام) أدرى بما في الكتاب.
دَخَلَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، فَقَالَ: «يَا قَتَادَةُ، أَنْتَ فَقِيه أَهْلِ اَلْبَصْرَةِ؟»، فَقَالَ: هَكَذَا يَزْعُمُونَ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «بَلَغَنِي أَنَّكَ تُفَسِّرُ اَلْقُرْآنَ»، فَقَالَ لَه قَتَادَةُ: نَعَمْ، فَقَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «بِعِلْمٍ تُفَسِّرُه أَمْ بِجَهْلٍ؟»، قَالَ: لَا، بِعِلْمٍ، فَقَالَ لَه أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «فَإِنْ كُنْتَ تُفَسِّرُهُ بِعِلْمٍ فَأَنْتَ أَنْتَ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ»، قَالَ قَتَادَةُ: سَلْ، قَالَ: «أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ) فِي سَبَأٍ: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ [سبأ:18]»، فَقَالَ قَتَادَةُ: ذَلِكَ مَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17) قد مرَّ في (ص 48)، فراجع.

(٥١)

خَرَجَ مِنْ بَيْتِه بِزَادٍ حَلَالٍ وَرَاحِلَةٍ وَكِرَاءٍ حَلَالٍ يُرِيدُ هَذَا اَلْبَيْتَ كَانَ آمِناً حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «نَشَدْتُكَ اَللهَ يَا قَتَادَةُ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّه قَدْ يَخْرُجُ اَلرَّجُلُ مِنْ بَيْتِه بِزَادٍ حَلَالٍ وَرَاحِلَةٍ وَكِرَاءٍ حَلَالٍ يُرِيدُ هَذَا اَلْبَيْتَ فَيُقْطَعُ عَلَيْه اَلطَّرِيقُ فَتُذْهَبُ نَفَقَتُه وَيُضْرَبُ مَعَ ذَلِكَ ضَرْبَةً فِيهَا اِجْتِيَاحُه؟»، قَالَ قَتَادَةُ: اَللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ، إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا فَسَّرْتَ اَلْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ فَقَدْ هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ...، وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ إِنَّمَا يَعْرِفُ اَلْقُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِهِ»(18).
إنَّ معرفة القرآن معرفة واقعيَّة, ومعرفة الأحاديث الصحيحة معرفة واقعيَّة أمرٌ لا يتأتَّى لا لفقيه ولا لغير فقيه, وإنَّما لمن خوطب بهذا القرآن, وبمن خوطب بهذه الأحاديث الصحيحة, ألَا وهو الإمام القائم (عجَّل الله فرجه).
إذن بالنتيجة يكون الغرض من نصب الإمام هو حفظ الدِّين الواقعي, والدِّين الواقعي لا يمكن حفظه إلَّا لمن كان عارفاً به, والعارف بالدِّين الواقعي هو الإمام (عليه السلام) الذي تلقَّى مواريث النبوَّة وكُتُب الأنبياء وكُتُب الأئمَّة (عليهم السلام), ووصلت إليه العلوم الواقعيَّة يداً بيد, فهو الوحيد القادر على حفظ الدِّين, وحفظ الدِّين يتوقَّف على المعرفة, والمعرفة غير موجودة إلَّا عند إمام الزمان (عجَّل الله فرجه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18) الكافي (ج 8/ ص 311 و312/ ح 485).

(٥٢)

إذن القادر على حفظ الدِّين هو إمام الزمان, «مَنْ مَاتَ لَا يَعْرِفُ إِمَامَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(19).
ورد عن الأئمَّة (عليهم السلام): «لَوْ بَقِيَتِ اَلْأَرْضُ يَوْماً بِلَا إِمَامٍ مِنَّا لَسَاخَتْ بِأَهْلِهَا»(20).
وورد عن الإمام عليٍّ (عليه السلام) قوله: «لَا تَخْلُو اَلْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اَلله وَبَيِّنَاتُهُ»(21), فهو الذي يقوم بحفظ الدِّين.
وقد يُسئَل: كيف يقوم بحفظ الدِّين وهو غائب؟
نقول: يحفظ الدِّين من خلال الاتِّصال بمواقع القرار للأُمَّة الإسلاميَّة, من قيادات وعلماء ومراجع ووجهاء, وكلِّ شخص له نفوذ وتأثير في الأُمَّة الإسلاميَّة, والإمام قادر على حفظ الدِّين من خلال اتِّصاله بمواقع القرار, بالطريقة المباشرة أو بغير المباشرة, فالمهمُّ أنَّ واجبه حفظ الدِّين, فلا بدَّ أنْ يقوم به من خلال الاتِّصال بمواقع القرار مباشرةً أو بالواسطة من أجل حفظ الدِّين وإقامة هذا الغرض.
واليوم الصحوة الإسلاميَّة تنمو, والوجود الإسلامي يكبر,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19) الكافي (ج1/ ص 377/ باب من مات وليس له إمام من أئمَّة الهدى.../ ح 3).
(20) كمال الدِّين (ص204/ باب 21/ ح 14).
(21) قد مرَّ في (ص 17)، فراجع.

(٥٣)

وظاهرة التشيُّع تقوى وتكبر وتمتدُّ إلى أرجاء الأرض يوماً بعد يوم, ومع وجود حرب شرسة ضدَّ الدِّين, لكن الدِّين يقوى ويزداد نموًّا وقوَّةً, وهذا كاشف عن وجود تصرُّفات غيبيَّة خفيَّة يقوم بها المسؤول عن هذه التصرُّفات من أجل حفظ الدِّين, ومن أجل حفظ هيبته ومكانته, ومن أجل حفظ قوَّته, ألَا وهي تصرُّفات المولى صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه), ولولا أنَّنا تحت رعايته وأنَّه لا يعزب عنه شيء من أخبارنا لنزل بنا اللَّأواء واصطلمنا الأعداء(22).
بالنتيجة أنَّ هذا المفهوم وهو أنَّ الغيبة نقض للغرض غير تامٍّ، فالغرض حفظ الدِّين, والشهادة على أعمال الخلق, وهو (عجَّل الله فرجه) قادر على ذلك حاضراً كان أم غائباً.
الوجه الثاني: الغيبة عمل بشري لا سماوي:
إنَّ الغيبة ليست مخطَّطاً سماويًّا ابتداءً, وإنَّما هي عمل بشري, والعمل البشري لا يكون نقضاً للغرض السماوي, فمثلاً أنَّ الهدف من نصب الإمام عليٍّ (عليه السلام) للإمامة هو إقامة الدولة الإسلاميَّة العادلة, هذا هو المخطَّط السماوي, لكن الذي حصل على الأرض أنَّه بمجرَّد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(22) ورد في التوقيع الشريف: «إِنَّا نُحِيطُ عِلْماً بِأَنْبَائِكُمْ، وَلَا يَعْزُبُ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، وَمَعْرِفَتُنَا بِالذُّلِّ اَلَّذِي أَصَابَكُمْ مُذْ جَنَحَ كَثِيرٌ مِنْكُمْ إِلَى مَا كَانَ اَلسَّلَفُ اَلصَّالِحُ عَنْهُ شَاسِعاً، وَنَبَذُوا اَلْعَهْدَ اَلمَأْخُوذَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا نَاسِينَ لِذِكْرِكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اَللَّأْوَاءُ، أَوِ اِصْطَلَمَكُمُ اَلْأَعْدَاءُ...» (الاحتجاج: ج 2/ ص 323).

(٥٤)

أنْ تولَّى الخلافة قام عليه الناكثون والقاسطون والمارقون من كلِّ حدبٍ وصوب, وشنَّوا عليه حروباً دامية لخمس سنوات, لم تُعطِ للإمام الفرصة الكافية لتحقيق الدولة الإسلاميَّة العادلة, إلى أنْ قتله بعض الخوارج في محرابه.
فقتل عليٍّ (عليه السلام) ليس هو بمخطَّط سماوي, ولكن ما صنعه البشر كان رفضاً لمخطَّط السماء, وهو حرب عليٍّ (عليه السلام) وقتله, إذن بالنتيجة الجناية البشريَّة لا تُعَدُّ نقضاً للغرض السماوي؛ لأنَّه قد يكون على شيء وتكون الجناية البشريَّة على شيء آخر, وهذا لا يعني نقض الغرض للسماء, فالله تبارك وتعالى بعث نبيَّه بالرحمة ليظهر دينه على الدِّين كلِّه, ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (التوبة: 33), فلمَّا جاء بنو أُميَّة نسخوا الدِّين من أصله, وجاء بنو العبَّاس وواصلوا المسيرة بتشويه الدِّين السماوي, فما نصَّت عليه السماء شيء, وما جناه البشر شيء آخر.
إنَّ الله تبارك وتعالى عندما نصب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إماماً بعد أبيه الحسن العسكري (عليه السلام), لم يكن الغرض من نصبه أنْ يغيب هذه الغيبة, أي إنَّها ليست مخطَّطاً سماويًّا, بل كان مخطَّطاً أنْ يبقى حاضراً بين الناس, ويقوم بتحقيق أهداف الإمامة وهو حاضر بين الناس, ولكن الجناية البشريَّة صارت على عكس مخطَّط السماء, حيث هجم الظالمون عليه فاستتر خوفاً من الظالمين, ولم تقم الأُمَّة الإسلاميَّة بنصرته والدفاع عنه,

(٥٥)

ولو أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة وقفت إلى جنبه يوم هجوم الظالمين عليه ما تغيَّب الإمام, فالإمام لم يتغيَّب لأنَّ الله أمره ابتداءً بالغيبة, فالله أمره كإمام أنْ يكون كسائر الأئمَّة في أنْ يبقوا حاضرين بين الناس ويقيموا العدالة بين الناس ويوصلوا الناس إلى الهداية, ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24).
إنَّ الغرض هو الهداية, لكن البشر رفضوا هذا المخطَّط السماوي, وهجم الظالمون على الإمام, وطلب الإمام النصرة من الأُمَّة الإسلاميَّة فلم تكن مستعدَّة ولا حاضرة لبذل النصرة والوقوف معه حتَّى يبقى حاضراً ويقيم غرض الولاية كما ذُكِرَ في القرآن الكريم, فهل هذا عمل إلهي أم تقصير بشري؟ بالتأكيد هو تقصير بشري.
إذن نتيجة الكلام أنَّ الغيبة ليست مخطَّطاً سماويًّا كي نقول بأنَّ هذا المخطَّط السماوي نقض للغرض, فغيبة الإمام تقصير بشري وجناية بشريَّة, فعندما ننظر إلى مسألة موسى بن عمران (عليه السلام) وبني إسرائيل: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ... فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾, نجدهم قد رفضوا أنْ يدخلوا الأرض المقدَّسة, ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (المائدة: 22 - 26).

(٥٦)

وهكذا هي غيبات الأنبياء (عليهم السلام) إنَّما كان سببها جناية البشر وتجاوزهم على المخطَّطات الإلهيَّة، فنبيُّ الله موسى (عليه السلام) مثلاً حينما أراد فرعون الفتك به هرب من مصر وغاب عن قومه سنين عديدة، إلى أنْ فرَّج الله تعالى له بالظهور مع بني إسرائيل، كما جاء في (كمال الدِّين):
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ (رضي الله عنه)، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ الْآدَمِيُّ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِيهِ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا المُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَيِّدِ الْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ الْوَصِيِّينَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (صلوات الله عليهم)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَـمَّا حَضَرَتْ يُوسُفَ (عليه السلام) الْوَفَاةُ جَمَعَ شِيعَتَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ حَدَّثَهُمْ بِشِدَّةٍ تَنَالُهُمْ، يُقْتَلُ فِيهَا الرِّجَالُ، وَتُشَقُّ بُطُونُ الْحَبَالَى، وَتُذْبَحُ الْأَطْفَالُ، حَتَّى يُظْهِرَ اللهُ الْحَقَّ فِي الْقَائِمِ مِنْ وُلْدِ لَاوَى بْنِ يَعْقُوبَ، وَهُوَ رَجُلٌ أَسْمَرُ طُوَالُ، وَنَعَتَهُ لَهُمْ بِنَعْتِهِ، فَتَمَسَّكُوا بِذَلِكَ، وَوَقَعَتِ الْغَيْبَةُ وَالشِّدَّةُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ‏ وَهُمْ مُنْتَظِرُونَ قِيَامَ الْقَائِمِ أَرْبَعَ مِائَةِ سَنَةٍ، حَتَّى إِذَا بُشِّرُوا بِوِلَادَتِهِ، وَرَأَوْا عَلَامَاتِ ظُهُورِهِ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْبَلْوَى، وَحُمِلَ عَلَيْهِمْ بِالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ، وَطُلِبَ الْفَقِيهُ الَّذِي كَانُوا يَسْتَرِيحُونَ إِلَى أَحَادِيثِهِ فَاسْتَتَرَ، وَرَاسَلُوهُ فَقَالُوا: كُنَّا مَعَ الشِّدَّةِ

(٥٧)

نَسْتَرِيحُ إِلَى حَدِيثِكَ، فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى بَعْضِ الصَّحَارِي، وَجَلَسَ يُحَدِّثُهُمْ حَدِيثَ الْقَائِمِ وَنَعْتَهُ وَقُرْبَ الْأَمْرِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً قَمْرَاءَ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ مُوسَى (عليه السلام)، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَدِيثَ السِّنِّ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ دَارِ فِرْعَوْنَ يُظْهِرُ النُّزْهَةَ، فَعَدَلَ عَنْ مَوْكِبِهِ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ وَتَحْتَهُ بَغْلَةٌ وَعَلَيْهِ طَيْلَسَانُ خَزٍّ، فَلَمَّا رَآهُ الْفَقِيهُ عَرَفَهُ بِالنَّعْتِ، فَقَامَ إِلَيْهِ وَانْكَبَّ عَلَى قَدَمَيْهِ فَقَبَّلَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِيَكَ. فَلَمَّا رَأَى الشِّيعَةُ ذَلِكَ عَلِمُوا أَنَّهُ صَاحِبُهُمْ، فَأَكَبُّوا عَلَى الْأَرْضِ شُكْراً للهِ (عزَّ وجلَّ)، فَلَمْ يَزِدْهُمْ عَلَى أَنْ قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ فَرَجَكُمْ(23)، ثُمَّ غَابَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَخَرَجَ إِلَى مَدِينَةِ مَدْيَنَ، فَأَقَامَ عِنْدَ شُعَيْبٍ مَا أَقَامَ، فَكَانَتِ الْغَيْبَةُ الثَّانِيَةُ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأُولَى، وَكَانَتْ نَيِّفاً وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَاشْتَدَّتِ الْبَلْوَى عَلَيْهِمْ، وَاسْتَتَرَ الْفَقِيهُ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا صَبْرَ لَنَا عَلَى اسْتِتَارِكَ عَنَّا، فَخَرَجَ إِلَى بَعْضِ الصَّحَارِي وَاسْتَدْعَاهُمْ، وَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ اللهَ (عزَّ وجلَّ) أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ مُفَرِّجٌ عَنْهُمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ: الْحَمْدُ للهِ، فَأَوْحَى اللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيْهِ(24): قُلْ لَهُمْ: قَدْ جَعَلْتُهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً لِقَوْلِهِمْ: الْحَمْدُ للهِ، فَقَالُوا: كُلُّ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(23) أي قال موسى (عليه السلام): أرجو أنْ يُعجِّل الله تعالى فرجكم، ولم يزد على هذا الدعاء، ولم يتكلَّم بشيء آخر سوى ذلك، ثمّ غاب عنهم.
(24) أي إلى الفقيه، ولعلَّه كان نبيًّا، أو المراد الإلهام كما كان لأُمِّ موسى (عليه السلام).

(٥٨)

فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: قَدْ جَعَلْتُهَا عِشْرِينَ سَنَةً، فَقَالُوا: لَا يَأْتِي بِالْخَيْرِ إِلَّا اللهُ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: قَدْ جَعَلْتُهَا عَشْراً، فَقَالُوا لَا يَصْرِفُ السُّوءَ إِلَّا اللهُ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ: لَا تَبْرَحُوا، فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي فَرَجِكُمْ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ مُوسَى (عليه السلام) رَاكِباً حِمَاراً. فَأَرَادَ الْفَقِيهُ أَنْ يُعَرِّفَ الشِّيعَةَ مَا يَسْتَبْصِرُونَ بِهِ فِيهِ، وَجَاءَ مُوسَى حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ الْفَقِيهُ: مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ: مُوسَى، قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابْنُ عِمْرَانَ، قَالَ: ابْنُ مَنْ‏؟ قَالَ: ابْنُ قَاهِثِ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: بِمَا ذَا جِئْتَ؟ قَالَ: جِئْتُ بِالرِّسَالَةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ (عزَّ وجلَّ)، فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَ يَدَهُ، ثُمَّ جَلَسَ بَيْنَهُمْ، فَطَيَّبَ نُفُوسَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ أَمْرَهُ، ثُمَّ فَرَّقَهُمْ، فَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَيْنَ فَرَجِهِمْ بِغَرْقِ فِرْعَوْنَ أَرْبَعُونَ سَنَةً»(25).
ونفس الكلام بالنسبة للإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), فغيبة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) نتيجة جناية بشريَّة وتقصير من الأُمَّة الإسلاميَّة, وليست الغيبة مخطَّطاً سماويًّا ليقال: إنَّ هذه الغيبة نقض للغرض من نصب الإمامة.
إذن فهذا السؤال وهذه الشبهة مندفعة.
النقطة الثانية: الآثار الروحيَّة المترتِّبة على الغيبة:
الغيبة حصلت للإمام (عجَّل الله فرجه), فما هي الآثار الروحيَّة المترتِّبة على الغيبة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(25) كمال الدِّين (ص 145 - 147/ باب 6/ ح 12).

(٥٩)

هناك ثلاثة آثار مهمَّة:
الأثر الأوَّل: اندفاع الأُمَّة للتهيُّؤ والإعداد:
شعور الأُمَّة بالتقصير يدفع لإعداد الأرضيَّة لخروج الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), إنَّ الإمام يحتاج إلى قاعدة شعبيَّة عريضة مخلصة مُضحّية باذلة تعرف معنى الإمامة ومعنى طاعة الإمام, فلو وُجِدَت قاعدة شعبيَّة تملك خصائص التضحية والبذل والإخلاص والفناء والذوبان والانصهار في الإمام لظهر الإمام (عجَّل الله فرجه), فلا مانع من ظهوره إلَّا عدم استعداد القاعدة.
إنَّ شعور الناس بغيبة الإمام نتيجةً لتقصيرهم في إعداد الأرضيَّة الصالحة يكون سبباً في اندفاعهم لتهيئة هذه الأرضيَّة, وفي إيجاد النخبة المخلصة المضحّية الباذلة, حتَّى إذا وُجِدَت وتهيَّأت هذه الأرضيَّة ظهر الإمام (عجَّل الله فرجه).
ورد عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ مِنَ اَلله (عزَّ وجلَّ)»(26), ما معنى انتظار الفرج؟ هل الحوقلة وهي أنْ تقول: لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، اللَّهمَّ عجِّل الفرج؟ إنَّ الانتظار بمفهومه الإيجابي لا بمفهومه السلبي, بمعنى إعداد الأرضيَّة، فانتظار الضيف يعني إعداد البيت لاستقباله, كذلك انتظار الإمام بمعنى تهيئة الأرضيَّة الصالحة لظهوره, هذا الأثر الأوَّل من آثار الغيبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(26) كمال الدِّين (ص 644/ باب 55/ ح 3).

(٦٠)

الأثر الثاني: الاستعداد للقاء الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه):
وهنا عندنا مقدَّمتان:
المقدَّمة الأُولى: الغيبة العنوانيَّة والغيبة الشخصيَّة:
يذهب العلماء إلى أنَّ غيبة الإمام هي غيبة العنوان لا غيبة الشخص, فإنَّ غيبة الشخص تعني أنَّ نفس شخص الإمام غير موجود, مثل عيسى بن مريم (عليه السلام), فعيسى بن مريم شخصه غائب؛ لأنَّ شخصه قد رُفِعَ إلى حظيرة القدس, فهي غيبة إعجازيَّة وغير طبيعيَّة, أمَّا غيبة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) فهي ليست كذلك, إنَّ غيبة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) غيبة العنوان وليست غيبة الشخص, أي إنَّ الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) موجود مع الناس, إلَّا أنَّ شخصه غير معروف, فالإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) يحضر قضايا الناس العامَّة والخاصَّة, ولم يغب شخصه, وإنَّما الذي غاب هو عنوانه.
إذن غيبة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) غيبة طبيعيَّة وليست إعجازيَّة.
والإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) يحافظ على خفائه حفظاً شخصيًّا عاديًّا وطبيعيًّا, من خلال تغيير الاسم والعنوان والمكان وطُرُق الاتِّصال ونوع الارتباط بالبشر, فكلَّما مرَّت فترة عليه غيَّر مكانه وعنوانه وطريقة اتِّصاله, فغيبته غيبة عنوانيَّة طبيعيَّة, فهو يقوم بحفظ نفسه عن أعين الظالمين, ولو كانت غيبة الإمام غيبة إعجازيَّة فلا معنى أنْ ننتظر الإمام ونقول: «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ اَلْحُجَّةِ بْنِ اَلْحَسَنِ فِي هَذِهِ اَلسَّاعَةِ وَفِي

(٦١)

كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَقَائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَكِّنَهُ فِيهَا طَوِيلاً»(27), أي ندعو له بالحفظ, فعيسى (عليه السلام) لا يحتاج إلى أنْ ندعو له وأنْ نقول: اللَّهمَّ احفظ عيسى بن مريم، وهو في حظيرة القدس وبين الملائكة. إنَّما ندعو بالحفظ لمن كانت غيبته غيبة طبيعيَّة عاديَّة, فهو يقوم بحفظ نفسه من الأخطار, وهو الذي يقي جسمه من الأمراض, وهو الذي يقي نفسه من التلف والضياع, لذلك نحن ندعو الله فنقول: «اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ عَبْدَكَ وَخَلِيفَتَكَ بِمَا أَصْلَحْتَ بِهِ أَنْبِيَاءَكَ وَرُسُلَكَ، وَحُفَّهُ بِمَلَائِكَتِكَ، وَأَيِّدْهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ مِنْ عِنْدِكَ، وَاُسْلُكْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً يَحْفَظُونَهُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَأَبْدِلْهُ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِ أَمْناً يَعْبُدُكَ لَا يُشْرِكُ بِكَ شَيْئاً، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ عَلَى وَلِيِّكَ سُلْطَاناً، وَاِئْذَنْ لَهُ فِي جِهَادِ عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِ، وَاِجْعَلْنِي مِنْ أَنْصَارِهِ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(28), فالدعاء له بالحفظ شاهد على غيبة العنوان لا غيبة الشخص.
المقدَّمة الثانية: إمكانيَّة الارتباط بالإمام (عجَّل الله فرجه):
إذا كان الإمام حاضراً بيننا وغيبته غيبة عنوان فالاتِّصال به أمر ممكن وميسور, فقد يتَّصل أحدنا بالإمام من حيث لا يشعر, وقد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(27) تهذيب الأحكام (ج 3/ ص 102 و103/ ح 265/ 37)، وفيه: (اللَّهُمَّ كن لوليِّك فلان بن فلان).
(28) مصباح المتهجِّد (ص 367).

(٦٢)

يختلط بالإمام ويتحدَّث للإمام والإمام يوصل له بعض الأفكار الصالحة من حيث لا يشعر, وقد يوصل له بعض الأُمور التي يهديه بها من حيث لا يشعر, فاتِّصالنا بالإمام (عجَّل الله فرجه) اتِّصال ميسور وممكن, إنَّما نحن نريد أنْ نعرف العنوان, هل هذا هو الإمام أم غيره, كيف ذلك؟
الإمام يُعلِّمنا الطريق: «وَلَوْ أَنَّ أَشْيَاعَنَا وَفَّقَهُمْ اَللهُ لِطَاعَتِهِ عَلَى اِجْتِمَاعٍ مِنَ اَلْقُلُوبِ فِي اَلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَـمَا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ اَلْيُمْنُ بِلِقَائِنَا، وَلَتَعَجَّلَتْ لَهُمُ اَلسَّعَادَةُ بِمُشَاهَدَتِنَا عَلَى حَقِّ اَلمَعْرِفَةِ وَصِدْقِهَا مِنْهُمْ بِنَا، فَمَا يَحْبِسُنَا عَنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَّصِلُ بِنَا مِمَّا نَكْرَهُهُ وَلَا نُؤْثِرُهُ مِنْهُمْ، وَاَللهُ اَلمُسْتَعَانُ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ...»(29).
ومحمّد بن عثمان العمري السفير الثاني للإمام (عجَّل الله فرجه) يقول: (وَاَلله إِنَّ صَاحِبَ هَذَا اَلْأَمْرِ لَيَحْضُرُ اَلمَوْسِمَ - يعني الحجّ - كُلَّ سَنَةٍ، فَيَرَى اَلنَّاسَ وَيَعْرِفُهُمْ، وَيَرَوْنَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ)(30), هو موجود بينهم, ولكنَّهم لا يعرفون أنَّ هذا الشخص هو الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), إذن إذا أردت أنْ تلقى الإمام يعني أنْ تعرفه باسمه وعنوانه فالطريق واضح، «فَمَا يَحْبِسُنَا عَنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَّصِلُ بِنَا مِمَّا نَكْرَهُهُ وَلَا نُؤْثِرُهُ مِنْهُمْ», وهو التخلُّص من الذنوب والمعاصي, فإنَّ ذلك الطريق الواضح أمام رؤية الإمام بعنوانه وبشخصه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(29) الاحتجاج (ج 2/ ص 325).
(30) كمال الدِّين (ص 440/ باب 43/ ح 7).

(٦٣)

وقد يقول الإنسان: ما الغرض من اللقاء؟ وما الذي يترتَّب لو التقيت بالإمام؟
الجواب: أنَّ هناك شيء اسمه الهداية الأمريَّة, ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء: 73)، أتريد أنْ تصل إلى الهداية الأمريَّة, أتريد أنْ تكون مثل سلمان الفارسي وأبي ذرٍّ والمقداد وعمَّار وكُميل؟ هؤلاء النخبة حينما التقوا بالأئمَّة حصَلوا على أعلى مرتبة من الهداية وهي الهداية الأمريَّة, فأيُّ إنسان لا يرغب بهذا الهدف؟ فإذا أردت أنْ تصل إلى الهداية الأمريَّة فالطريق إليها هو لقاء الإمام, والطريق إلى لقاء الإمام هو رفض الذنوب والتخلِّي عنها.
وقد يستغرب أحد الرواية الواردة في تفسير الآية المباركة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ (العنكبوت: 69), بأنَّ معنى هداية السبيل هو سبيل أهل البيت (عليهم السلام)(31), إنَّ الآية الشريفة اشتملت على تعبير دقيق: ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾, ولم تقل: (لنهدينَّهم إلينا), فأنت إذا قمت بمجاهدة نفسك الأمَّارة بالسوء فستصل إلى السبيل إلى الله, ولكن من هو السبيل إلى الله؟ عندما تقرأ في دعاء الندبة: «فَكَانُوا هُمُ اَلسَّبِيلَ إِلَيْكَ، وَاَلمَسْلَكَ إِلَى رِضْوَانِكَ...»(32), فإنَّ السبيل إلى الله هم أهل البيت (عليهم السلام), والهداية إلى السبيل فرع المجاهدة النفسيَّة, وفرع نبذ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(31) راجع: تفسير القمِّي (ج 2/ ص 151)، وتفسير فرات (ص 320/ ح 434/5).
(32) المزار لابن المشهدي (ص 576).

(٦٤)

الذنوب والمعاصي, وهكذا تصل إلى السبيل, إذن الأثر الثاني المترتِّب على الغيبة هو استعداد الإنسان للقاء الإمام (عجَّل الله فرجه), لا أنْ يُنكِر وجود الإمام ويقول: لم يُولَد الإمام بعد, فهل ألتقي بمن هو لم يُولَد؟ من يُنكِر الإمام لا يحصل على هذا الأثر, ومن يُنكِر وجود الإمام محروم من هذا الأثر, أمَّا من يعترف بوجود الإمام وأنَّه يمكن لقاؤه فطريق لقائه نبذ الذنوب, ومن خلاله يمكن الوصول إلى الهداية الأمريَّة, فالأثر المترتِّب على الغيبة هو الاستعداد للقاء الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
الأثر الثالث: تقوية العلاقة القلبيَّة بيننا وبين الإمام (عجَّل الله فرجه):
ما معنى تقوية العلاقة القلبيَّة؟
قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23), إنَّ مودَّة أهل البيت (عليهم السلام) واجب شرعي, فكلُّ طريق يُقوِّي المحبَّة فهو طريق مطلوب, وكلُّ طريق يُقوِّي في قلوبنا محبَّة أهل البيت (عليهم السلام) فهو طريق مرغوب, فالشعور بغيبة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) يُقوِّي جانب المحبَّة والعلاقة القلبيَّة مع الإمام.
مثلاً إذا كان عندك شخص عزيز غائب ألَا يأخذك الشوق إلى لقائه؟ ألَا يشتدُّ شوقك إلى رؤيته؟ ألَا تنمو العلاقة القلبيَّة معه أكثر ممَّا لو كان مفقوداً؟ ولو قيل لك: إنَّ فلاناً الذي تنتظره مات, فإنَّ العلاقة القلبيَّة تبرد وتنتهي, فشعورك بأنَّ الإمام معدوم وليس بموجود يُطفئ العلاقة القلبيَّة, أمَّا شعورك بأنَّ الإمام غائب وأنت منتظِر له, فهذا

(٦٥)

عامل من عوامل تقوية العلاقة القلبيَّة وتقوية العلاقة النفسيَّة بينك وبين الإمام. وإذا قويت علاقتك بالإمام فستنعكس هذه العلاقة القلبيَّة على سلوكك, فتبعثك إلى الصدقة وإلى الحجِّ وإلى الطواف وإلى الصلاة وإلى أيِّ عملٍ قربي تقوم به وتُهدي ثوابه إلى الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
إذن هذه الآثار كلُّها آثار سلوكيَّة وروحيَّة تترتَّب على الاعتقاد بغيبة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), ومن لا يعتقد بالغيبة فليس عنده من هذه الآثار شيء.

* * *

(٦٦)

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
«إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَمْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَداً, وَقَدْ أَنْبَأَنِي اَلْخَبِيرُ اَللَّطِيفُ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا»(33).
الحديث عن الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) من خلال حديث الثقلين يصبُّ في ثلاث نقاط:
النقطة الأُولى: إثبات حضوره وغيبته (عجَّل الله فرجه).
والنقطة الثانية: في إثبات دوافع الغيبة.
والنقطة الثالثة: في بيان التفاعل بين المسلمين وبين الإمام (عجَّل الله فرجه) حال غيبته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(33) حديث متواتر رواه الخاصَّة والعامَّة بألفاظ مختلفة، راجع على سبيل المثال: كمال الدِّين (ص 234 - 241/ باب 22/ ح 44 - 64)، وفضائل الخمسة من الصحاح الستَّة (ج 2/ ص 43 - 53).

(٦٩)

النقطة الأولى: إثبات حضوره وغيبته (عجَّل الله فرجه):
إنَّ مسألة ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) أمر مسلَّم به عند جميع المسلمين, فلا أحد يُنكِر أنَّ هناك إماماً يظهر في آخر الزمان يملأ الأرض قسطاً وعدلاً, فجميع المسلمين شيعةً وسُنَّةً يُسلِّمون بأنَّ في آخر الزمان يظهر إمام يملأ الأرض قسطاً وعدلاً, وذلك بدلالة القرآن الكريم والحديث النبوي, أمَّا القرآن الكريم فيقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33), أي لا بدَّ أنْ يظهر الدِّين الإسلامي على جميع الأديان في يوم من الأيَّام, فتظهر راية الإسلام ولواؤه على جميع الأديان وجميع المذاهب في شتَّى بقاع العالم, وهذا إلى الآن لم يحصل, ولكن لا بدَّ أنْ يحصل, وفي يوم من الأيَّام ستمتدُّ الدعوة الإسلاميَّة ويمتدُّ النداء الإسلامي إلى جميع أرجاء الأرض, وتظهر راية الإسلام خفَّاقة على جميع الرايات، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصص: 5), فمعنى يرثون الأرض أي هم آخر من يحكم الأرض.
إذن لا بدَّ من دولة إسلاميَّة تعمُّ أرجاء الأرض في آخر الزمان, وهذا صريح القرآن الكريم, وهذا أمر مسلَّم به.
أمَّا الحديث النبوي الشريف, فقد ورد عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال - كما في (المستدرك على الصحيحين) -: «لا تقوم الساعة حتَّى

(٧٠)

تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً, ثمّ يخرج مِن أهل بيتي مَن يملؤها قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وعدواناً»(34)، وفي (كنز العُمَّال): «لو لم يبقَ من الدهر إلَّا يوم, لبعث الله تعالى رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما مُلِئت جوراً»(35).
التاريخ والأحاديث النبويَّة يُؤيِّدان ولادته (عجَّل الله فرجه):
إنَّ مسألة ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) لا نقاش فيها, والشيعة الإماميَّة تعتقد أنَّ الإمام وُلِدَ, وأنَّه غائب إلى أنْ يأذن الله له بالخروج. أمَّا غيرهم من المسلمين فيقول: إنَّ الإمام بعدُ لم يُولَد, والإمام يُولَد في آخر الزمان ويخرج, فالاختلاف في هذه النقطة: هل أنَّه وُلِدَ ثمّ غاب؟ أم أنَّه بعد لم يُولَد؟
نحن الشيعة الإماميَّة نقول: نعم, وُلِدَ, وهو غائب حاليًّا.
أوَّلاً: الدليل التاريخي يساعدنا, فعندما تقرأ كتاب (وفيات الأعيان)(36)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(34) مستدرك الحاكم (ج 4/ ص 557).
(35) كنز العُمَّال (ج 14/ ص 267/ ح 38675).
(36) قال ابن خلِّكان في وفيات الأعيان (ج 4/ ص 176/ الرقم 562): (أبو القاسم المنتظَر: أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري...، كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين...، وذكر ابن الأزرق في (تاريخ ميافارقين) أنَّ الحجَّة المذكور وُلِدَ تاسع شهر ربيع الأوَّل سنة ثمان وخمسين ومائتين, وقيل: في ثامن شعبان سنة ستٍّ وخمسين, وهو الأصحُّ).

(٧١)

 لابن خلِّكان, أو (مطالب السؤول)(37) لمحمّد بن طلحة الشافعي, أو (تذكرة خواصِّ الأُمَّة)(38) لابن الجوزي, تجدهم كلُّهم ينصُّون على أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنجب ولداً اسمه محمّد, وُلِدَ ثمّ غاب عن الأنظار.
وغير ذلك من كُتُب أهل السُّنَّة التاريخيَّة الدالَّة على أنَّ شخصاً اسمه محمّد بن الإمام الحسن العسكري وُلِدَ.
ثانياً: الأحاديث النبويَّة, فالأحاديث تُؤيِّد وجود الإمام (عجَّل الله فرجه), فقد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(37) قال ابن طلحة في مطالب السؤول (ص 480): (الباب الثاني عشر في أبي القاسم محمّد ابن الحسن الخالص بن عليٍّ المتوكِّل بن محمّد القانع بن عليٍّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليٍّ زين العابدين بن الحسين الزكيِّ بن عليٍّ المرتضى بن أبي طالب، المهدي الحجَّة الخلف الصالح المنتظَر عليهم السلام ورحمة الله وبركاته...)، إلى أنْ قال: (فأمَّا مولده فبسُرَّ من رأى في ثالث وعشرين شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين للهجرة. وأمَّا نسبه أباً وأُمًّا، فأبوه الحسن الخالص بن عليٍّ المتوكِّل بن محمّد القانع ابن عليٍّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليٍّ زين العابدين ابن الحسين الزكيِّ بن عليٍّ المرتضى أمير المؤمنين. وأُمُّه أُمُّ ولد تُسمَّى: صقيل, وقيل: حكيمة, وقيل غير ذلك. وأمَّا اسمه: محمّد, وكنيته: أبو القاسم, ولقبه: الحجَّة, والخلف الصالح, وقيل: المنتظَر).
(38) قال ابن الجوزي في تذكرة الخواصِّ (ص 325): (محمّد بن الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى الرضا بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام), وكنيته أبو عبد الله, وأبو القاسم, وهو الخلف الحجَّة صاحب الزمان القائم والمنتظَر والتالي, وهو آخر الأئمَّة)، وقال: (ويقال له: ذو الاسمين: محمّد وأبو القاسم, قالوا: أُمُّه أُمُّ ولد يقال لها: صقيل).

(٧٢)

ورد عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا يَزَالُ هَذَا اَلدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُمْ اِثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»(39).
وهذا الحديث يُؤكِّد على أنَّ الأئمَّة متَّصلون إلى يوم القيامة, أي لن تمرَّ فترة على الأُمَّة الإسلاميَّة بدون إمام, وأنَّ الاثني عشر يتسلسلون إلى يوم القيامة, فلا تأتي فترة أو زمان على الأُمَّة الإسلاميَّة خالية من وجود إمام منهم, وهذا ما أكَّده الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث آخر, على ما ورد في مصادر المذاهب الأُخرى: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَامٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(40).
إذن لكلِّ زمانٍ إمام, وكلُّ زمانٍ يمرُّ على الأُمَّة الإسلاميَّة يوجد فيها إمام, ولو سألنا أيَّ مسلم: مَنْ إمامك, أي إمام هذا الزمان؟ فلا يجرأ ويتجاسر ويدَّعي أنَّه إمام هذا الزمان, بل لا يوجد من البشر شرقاً وغرباً من يقول لك: أنا إمام هذا الزمان, ولا يمكن أنْ تُسنَد هذه الدعوى إلَّا إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
وأيضاً حديث الثقلين الذي ذكرناه: «إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(39) روي بألفاظ مختلفة، راجع: مسند أحمد (ج 34/ ص 421/ ح 20830)، وصحيح مسلم (ج 6/ ص 4)، وسُنَن أبي داود (ج 2/ ص 309/ ح 4279)، وسُنَن الترمذي (ج 3/ ص 340/ ح 2323).
(40) روي بألفاظ مختلفة، راجع: مسند أبي داود (ص 259)، ومسند أحمد (ج 28/ ص 88 و89/ ح 16876)، ومسند أبي يعلى (ج 13/ ص 366/ ح 7375).

(٧٣)

كِتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَمْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَداً, وَقَدْ أَنْبَأَنِي اَلْخَبِيرُ اَللَّطِيفُ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا».
إذن مدلول هذا الحديث أنَّه لا بدَّ من إمام باقٍ إلى يوم خروجه وظهوره, والدليل التاريخي - كما ذكرناه - يساعدنا على أنَّ هذا الإمام الغائب الموجود هو محمّد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرجه).
أمَّا مسألة استبعاد غيبة الإمام هذه المئات من السنين، فهي مسألة واضحة الدفع, فجميع المسلمين يقرُّون أنَّ عيسى بن مريم (عليه السلام) ما زال حيًّا: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: 157)، وفي آية أُخرى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ (النساء: 158)، الروايات الشيعيَّة تُؤكِّد أنَّ عيسى بن مريم (عليه السلام) يأتي للإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) ويُصلِّي خلفه في بيت المقدس(41), فإذا كان عيسى بن مريم (عليه السلام) متمتِّعاً بصحَّة وعافية كلَّ هذه المئات من السنين, فما المانع أنْ يبقى الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) هذه المئات من السنين وبصحَّة وعافية استعداداً لذلك اليوم العظيم يوم خروجه؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(41) بل روايات العامَّة والخاصَّة, راجع: كمال الدِّين (ص 251/ باب 23/ ح 1)، ودلائل الإمامة (ص 443/ ح 416/20)، والغيبة للطوسي (ص 191/ ح 154)، ومستدرك الحاكم (ج 4/ ص 478)، وكنز العُمَّال (ج 14/ ص 266/ ح 38673).

(٧٤)

النقطة الثانية: التجربة البشريَّة وضرورتها لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه):
وهي مهمَّة لأنَّ البشريَّة بلا شكٍّ تحتاج إلى إمام معصوم يُبلِّغ الأحكام الواقعيَّة, يقيم العدل, يقيم القسط, ينشد الأُمَّة الإسلاميَّة إلى خيرها, فهي بحاجة ماسَّة إلى وجوده, فما هو الدافع, وما هو سبب غيبته وعدم ظهوره؟ هذا سؤال يطرحه الكثير من الإخوان السُّنَّة وغيرهم.
ونذكر هنا وجهين:
الوجه الأوَّل: ما طرحه علماؤنا, من أنَّ البشريَّة لا بدَّ لها من تجربة مريرة تتهيَّأ فيها لدولة الإمام (عجَّل الله فرجه).
كيف؟
مثلاً حكومة الإمام عليٍّ (عليه السلام) أكبر من الظروف التي عاشتها العقليَّة والتجربة البشريَّة آنذاك, التي لم تكن في مستوى وعي شخصيَّة الإمام عليٍّ (عليه السلام), ومستوى إدراك حكم الإمام عليٍّ (عليه السلام), وبالتالي حكم (عليه السلام) فقط خمس سنوات, وكلُّها حروب واختلافات واضطرابات بين المسلمين, نتيجة أنَّ التجربة البشريَّة ما كانت في مستوى حكم الإمام (عليه السلام).
مع أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نصبه خليفةً على المسلمين, لكن لـمَّا أُبعدت الخلافة عنه خمساً وعشرين سنة صارت الظروف غير مهيَّأة, أي ليست في مستوى حكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

(٧٥)

والإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) لو أراد الدولة العادلة أو الدولة العامَّة الشاملة على أرجاء الأرض, فهل الأرضيَّة مهيَّأة لإقامة الدولة الإسلاميَّة العامَّة على جميع بقاع الأرض، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33)؟
إنَّ إقامة الدولة الإسلاميَّة العامَّة تحتاج إلى كون المجتمع البشري متهيَّئاً نفسيًّا وذهنيًّا لقبول الإسلام واعتناقه وتلقِّيه, كما لا بدَّ من وجود أرضيَّة بشريَّة مهيَّأة نفسيًّا وثقافيًّا لدولة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), والبشريَّة تعيش في تجربة مُرَّة حيث تُجرِّب سائر الأنظمة وسائر الحضارات وسائر القوى إلى أنْ تيأس من كثرة المشاكل الاقتصاديَّة والحروب والفتن والويلات التي تمرُّ بها, إلى أنْ تتهيَّأ نفسيًّا بكلِّ انتظار, وبكلِّ إلحاح إلى أنَّ الخلاص الوحيد والعلاج الوحيد لمشاكلها هو الإسلام.
والبشريَّة جرَّبت أنظمة وحضارات وأجهزة مختلفة ومتباينة, رأسماليَّة, وشيوعيَّة, واشتراكيَّة, وأنظمة أُخرى, ورأت فشل الجميع, وأدركت فشلها وعدم كفاءتها, وطبعاً تزداد المشاكل البشريَّة يوماً بعد يوم, وتزداد نِسَب المجاعة والفقر والحروب والفتن والقلاقل والاضطرابات, إلى أنْ تُدرك البشريَّة أنَّه لا مخلِّص إلَّا الإسلام, ولا علاج ولا حلَّ ولا كافل لسائر المشاكل إلَّا الإسلام, وإذا تطلَّعت

(٧٦)

البشريَّة إلى الإسلام وإلى نظامه كحلٍّ وكعلاج كان ظرفاً مهيَّأً ومناسباً لخروج الإمام (عجَّل الله فرجه), فيخرج والبشريَّة تحت رايته؛ لأنَّها راية الإسلام الذي هو الحلُّ الوحيد لسائر المشاكل البشريَّة الاقتصاديَّة والأمنيَّة.
الوجه الثاني: رأي المفكِّر الإسلامي الكبير الشهيد السعيد السيِّد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه) في الغيبة:
إنَّ السيِّد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه) يذكر أنَّ غيبة الإمام نافعة حتَّى للإمام نفسه فضلاً عن البشريَّة, فيقول: إنَّ كلَّ دور يحتاج إلى كفاءة مناسبة للدور, فمثلاً موسى بن عمران (عليه السلام) بُعِثَ رسولاً لـمَّا بلغ أربعين سنة, والقرآن الكريم يقول: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ (القَصص: 14)، أي لـمَّا صار عقله ناضجاً وخبرته ناضجة ورجولته كاملة آتيناه حكماً وعلماً, فذلك الدور كان يحتاج هذا النوع من الكفاءة, أي ما كان يمكن لموسى بن عمران (عليه السلام) أنْ يقوم بدوره كرسول إلَّا بعد هذا السنِّ، وبعد هذه التجربة.
وكذلك النبيُّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فقد بُعِثَ وعمره أربعون سنة, مع أنَّه نبيٌّ منذ ولادته, وقد ورد عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما في (تفسير الرازي): «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ اَلمَاءِ وَاَلطِّينِ»(42), أي إنَّ الله تبارك وتعالى خلق النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نوراً قبل أنْ يخلق آدم (عليه السلام), وأعطاه النبوَّة قبل أنْ يخلق آدم (عليه السلام),

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(42) تفسير الرازي (ج 6/ ص 213).

(٧٧)

واجتباه بالنبوَّة والعفَّة والطهارة, وقد ورد عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «كُنْتُ أَنَا وَعَلِيٌّ نُوراً بَيْنَ يَدَيِ اَلله (جلَّ جلاله) قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ عَامٍ، فَلَمَّا خَلَقَ اَللهُ آدَمَ سَلَكَ ذَلِكَ اَلنُّورَ فِي صُلْبِهِ، فَلَمْ يَزَلِ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) يَنْقُلُهُ مِنْ صُلْبٍ إِلَى صُلْبٍ حَتَّى أَقَرَّهُ فِي صُلْبِ عَبْدِ اَلمُطَّلِبِ...»(43), لكن ما أُمِرَ بالدعوة إلَّا بعد أربعين سنة, والتجربة الإسلاميَّة تُؤكِّد هذا, فتهيئته كقائد مميَّز تذعن له القلوب وتلتفُّ خلف رايته وتُعلِن وتؤمن بنضجه وتؤمن بفكره يحتاج إلى أنْ يمرَّ بهذا النحو من التجربة.
وإنَّ الدور الذي يقوم به الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) ليس دوراً عاديًّا, فلم يقم به أحد من نبيٍّ ولا رسول منذ آدم (عليه السلام) إلى يومنا هذا, إنَّ إقامة دولة على جميع بقاع الأرض دور عملاق ما قام به أحد قبله, لا من الأنبياء, ولا من الرُّسُل, ولا من الأوصياء, إذن يحتاج في هذا الدور إلى كفاءة تتناسب مع الدور نفسه.
فإنَّ ضخامة الدور تقتضي ضخامة الكفاءة, وضخامة الدور تقتضي ضخامة الاستعداد, فكلَّما كان الدور عظيماً فهو يحتاج إلى عظمة وكفاءة أكبر, والإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) يقوم بدور ما قام به أحد, وهو إقامة دولة إسلاميَّة عامَّة على جميع بقاع الأرض, وهذا أمر يحتاج إلى إعداد يتناسب مع الدور تماماً, أي إنَّ الدور يحتاج إلى شخص عاصر جميع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(43) الخصال (ص 640/ ح 16).

(٧٨)

الحضارات وجميع المجتمعات وجميع الأنظمة والدول, وتعرَّف على جميع الأهواء والميول وعلى جميع أنواع الأُمور.
فإذا عاصر جميع الأنظمة فإنَّه يتعرَّف على نقاط الضعف ونقاط القوَّة في كلِّ نظام, وإذا عاصر جميع الحضارات تعرَّف على عوامل البقاء وعوامل الفناء لكلِّ حضارة معاصرة وجميع الأزمنة التي تمرُّ على البشريَّة, فيكتسب هذا الشخص نضجاً كاملاً في الخبرة وما تحتاج إليه الدولة الإسلاميَّة العامَّة على جميع بقاع الأرض, أي إنَّه عاصر الجميع, فوصل إلى الإعداد الكافي للقيام بدوره كقائدٍ عامٍّ لدولة إسلاميَّة عامَّة.
الفرق بين العلم والخبرة:
فهناك فرق بين العلم وبين الخبرة, فالعلم أمر نظري, والخبرة أمر تطبيقي, والأمر التطبيقي يحتاج له الإمام كأيِّ شخص آخر, فالطبيب درس في الجامعة وتخرَّج متخصِّصاً في القلب مثلاً, وهذا الطبيب عنده معلومات نظريَّة بحتة, ثمّ يبدأ بفتح عيادة يعالج مرضى القلب مثلاً, وتلك المعلومات النظريَّة تظهر للوجود فيُثبِّتها أثناء عيادته وأثناء علاجه, فيحصل على الخبرة, أي كان عنده علم نظري فتحوَّل إلى خبرة, لذلك هناك فرق بين الخبرة وبين العلم النظري.
مثلاً ما نزل في النبيِّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً

(٧٩)

مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ (الشورى: 52), يدلُّ على وجود فرق بين الدراية النظريَّة والدراية التطبيقيَّة والتفصيليَّة, فالنبيُّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل البعثة كان يدري بتمام الأُمور لكن دراية نظريَّة علميَّة, وبعد البعثة ما درى به صار مجالاً تطبيقيًّا, فقاد حروباً وغزوات, وقاد الدولة الإسلاميَّة, وعاصر فيها منافقين ويهوداً ومسيحيِّين, وجادلهم وناقشهم, وهذه التجربة التي مرَّ بها النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) امتدَّت لثلاث وعشرين سنة(44).
رأي صاحب الميزان (قدّس سرّه) في الدرايتين النظريَّة والتفصيليَّة:
والسيِّد الطباطبائي صاحب (تفسير الميزان)(45) يقول: هذه الثلاث والعشرون سنة هي دراية تفصيليَّة, وما قبلها دراية نظريَّة, فالذي ينفيه القرآن هو الدراية التفصيليَّة.
ونحن نؤمن أنَّ الإمام المعصوم منذ ولادته يعرف ويدري سائر الأُمور, ما تحتاج إليه الدولة الإسلاميَّة العامَّة, وما تحتاج إليه المجتمعات, وما تحتاج إليه الحضارات والأجهزة المختلفة, وكان يعلم بذلك, ولكن علماً نظريًّا, وقد ترك الإمام بالفعل ليعيش ألفاً ومئتي سنة أو ألفاً وأربعمائة سنة أو أكثر ليعاصر الحضارات بنفسه ويكتشف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(44) راجع: بحث حول المهدي (عجَّل الله فرجه) (ص 84 وما بعدها).
(45) راجع: تفسير الميزان (ج 18/ ص 77).

(٨٠)

الأنظمة بنفسه, فالتجربة التي يمرُّ بها أثناء غيبته يتحوَّل فيها العلم النظري إلى خبرة تطبيقيَّة, وهذه الخبرة التطبيقيَّة تساعده على إقامة النظام الإسلامي العامِّ على وجه الأرض.
وقد يستند إلى روايات تُؤيِّد هذا, فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّا لَنُزَادُ فِي اَللَّيْلِ وَاَلنَّهَارِ، وَلَوْ لَمْ نُزَدْ لَنَفِدَ مَا عِنْدَنَا»، قَالَ أَبُو بَصِيرٍ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَنْ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟ قَالَ: «إِنَّ مِنَّا مَنْ يُعَايِنُ، وَإِنَّ مِنَّا لَمَنْ يُنْقَرُ فِي قَلْبِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَإِنَّ مِنَّا لَمَنْ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ وَقْعاً كَوَقْعِ اَلسِّلْسِلَةِ فِي اَلطَّسْتِ»، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: مَنِ اَلَّذِي يَأْتِيكُمْ بِذَلِكَ؟ قَالَ: «خَلْقٌ أَعْظَمُ مِنْ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ»(46).
إذن الإمام (عجَّل الله فرجه) يمرُّ بمراحل تكامليَّة, فتزداد علومه ومعارفه, والسيِّد (رحمه الله) يُقرِّر أنَّ الغيبة ضروريَّة حتَّى للإمام, حتَّى يتمّ الإعداد الكافي المناسب للدور الذي يقوم به, وهو دور إقامة العدل الإسلامي العامِّ على جميع وجه الأرض.
وما أُفيد إنْ كان مبنيًّا على تصوُّر المذاهب الإسلاميَّة لشخصيَّة الإمام (عجَّل الله فرجه) فهو تامٌّ في الجملة، وإنْ كان مبنيًّا على مسلك الإماميَّة فإنَّ كثيراً من العلماء يختلف معه بأنَّ الإمام المعصوم لا يحتاج إلى هذه الفكرة, ولا يحتاج إلى هذه التجربة؛ لأنَّه قادر على تطبيق النظام في أيِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(46) قد مرَّ في (ص 29)، فراجع.

(٨١)

أمر وفي أيِّ وقت بلا حاجة إلى أنْ يمرَّ بهذه التجربة, وهناك آراء في نفس النسق.
النقطة الثالثة: كيف نتفاعل مع الإمام (عجَّل الله فرجه) وهو غائب؟
إنَّ التفاعل مع الإمام (عجَّل الله فرجه) له عدَّة أُمور:
الأمر الأوَّل: الإحساس برقابته (عجَّل الله فرجه):
نحن عندنا روايات تدلُّ على أنَّ الأعمال تُعرَض على الإمام, فَعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105]، قَالَ: «هُمُ الأَئِمَّةُ»(47), أي إنَّ أعمالكم تُعرَض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام) من بعده.
وفي رواية أُخرى عَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: «مَا لَكُمْ تَسُوؤُونَ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟»، فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَسُوؤُه؟ فَقَالَ: «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ؟ فَإِذَا رَأَى فِيهَا مَعْصِيَةً سَاءَهُ ذَلِكَ، فَلَا تَسُوؤُوا رَسُولَ اَلله وَسُرُّوهُ»(48).
المؤمن طبعاً يشعر برقابة الله تبارك وتعالى, فإحساسي برقابة الله وبرقابة الإمام تزيد بُعدي ونفوري عن الرذيلة, فإذا شعرت برقابة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(47) الكافي (ج 1/ ص 219/ باب عرض الأعمال على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة (عليهم السلام)/ ح 2).
(48) الكافي (ج 1/ ص 219/ باب عرض الأعمال على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة (عليهم السلام)/ ح 3).

(٨٢)

الإمام المعصوم وعرفت أنَّ أعمالنا تُعرَض عليه يشهدها ويراها, ويعرف سيِّئها من حسنها, ويعرف الشيعي المستقيم من غيره, والمخلص وغير المخلص, إذا شعرنا بأنَّ الإمام يرانا ويراقبنا وتُعرَض عليه أعمالنا, وتُعرَض عليه سيِّئاتنا ورذائلنا, زاد إحساسنا بالرقابة, وقوي بُعدنا واجتنابنا عن الرذيلة.
فإذن التفاعل مع الإمام وهو غائب يُقوِّي الإحساس برقابته (عجَّل الله فرجه).
الأمر الثاني: تسديد الإمام (عجَّل الله فرجه) للشيعة:
كلُّنا نعتقد بأنَّ الإمام يُسدِّد الشيعة, ولولا تسديده لانقرض التشيُّع منذ أمد طويل, منذ زمن السلطة الأُمويَّة وزمن السلطة العبَّاسيَّة, فالتشيُّع تيَّار محارَب ومعارَض بجميع أنواع المعارضة والمحاربة, وهذا نتيجة تسديد الإمام وتأييده (عجَّل الله فرجه).
والإمام (عجَّل الله فرجه) يكتب إلى الشيخ المفيد (رحمه الله): «إِنَّا نُحِيطُ عِلْماً بِأَنْبَائِكُمْ، وَلَا يَعْزُبُ عَنَّا شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، وَمَعْرِفَتُنَا بِالذُّلِّ اَلَّذِي أَصَابَكُمْ، مُذْ جَنَحَ كَثِيرٌ مِنْكُمْ إِلَى مَا كَانَ اَلسَّلَفُ اَلصَّالِحُ عَنْهُ شَاسِعاً، وَنَبَذُوا اَلْعَهْدَ اَلمَأْخُوذَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلَا نَاسِينَ لِذِكْرِكُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اَللَّأْوَاءُ، أَوِ اِصْطَلَمَكُمُ اَلْأَعْدَاءُ...»(49).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(49) الاحتجاج (ج 2/ ص 323).

(٨٣)

إذن دعاء الإمام وبركات الإمام وتسديد الإمام (عجَّل الله فرجه) هو الذي يحرس التشيُّع, ولولا دعاؤه وتسديده وبركاته وخير وجوده لانقرض هذا المذهب منذ زمن وانتهى, ولكن ببركات الإمام (عجَّل الله فرجه) نرى الامتداد الشيعي مستمرًّا على وجه الأرض.
الأمر الثالث: رؤية الإمام (عجَّل الله فرجه):
من التفاعل مع الإمام رؤية الإمام, ولكن عندنا رواية في كيفيَّة رؤية الإمام (عجَّل الله فرجه), فالإمام كتب إلى عليِّ بن محمّد السمري آخر السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى: «بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيَّ، أَعْظَمَ اَللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ، وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ فَيَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ اَلْغَيْبَةُ اَلتَّامَّةُ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اَلله تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ اَلْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ اَلْقُلُوبِ، وَاِمْتِلَاءِ اَلْأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي اَلمُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ»(50).
ولذلك هناك شريحة من الناس يشوبها اليأس؛ لأنَّهم يعتقدون أنَّه (عجَّل الله فرجه) يغيب غيبة طويلة, وما يثبت على الإيمان به إلَّا من امتحن الله قلبه بالإيمان, وفي بعض الروايات: «أَمَا وَاَلله لَيَغِيبَنَّ عَنْكُمْ صَاحِبُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(50) الغيبة للطوسي (ص 395/ ح 365).

(٨٤)

هَذَا اَلْأَمْرِ، وَلَيَخْمُلَنَّ حَتَّى يُقَالَ: مَاتَ، هَلَكَ، فِي أَيِّ وَادٍ سَلَكَ؟»(51), فكيف نُوفِّق بين هذه الرواية, وبين ما عُلِمَ من رؤية كثير من العلماء وكثير من الصلحاء وكثير من الأبرار الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه)؟
كيفيَّة رؤية الإمام (عجَّل الله فرجه):
إنَّ العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) أحد أقطاب الشيعة الإماميَّة كان يدرس عند عالم من علماء الدِّين, وكان الأخير يكتب كتاباً للردِّ على الشيعة والتشيُّع, فالعلَّامة الحلِّي (رحمه الله) طلب هذا الكتاب من أُستاذه السُّنِّي, قال له: أعطني الكتاب أقرؤه, فلم يوافق؛ لأنَّه يعرف أنَّ العلَّامة (رحمه الله) كان ذكيًّا وقادراً على الردِّ, فما أعطاه الكتاب, فحاول معه العلَّامة (رحمه الله) وقال: أعطني الكتاب حتَّى أراه وأتبصَّر فيه, فقال له: إذا كان كذلك أُعطيك إيَّاه ليلة واحدة فقط وتُرجعه في اليوم الثاني؛ لأنَّه يعرف أنَّ ليلة واحدة لن تكفيه لقراءة الكتاب والتأمُّل والغور فيه, فوافق وأخذ العلَّامة (رحمه الله) الكتاب من أُستاذه, وقرَّر أنْ يسهر تلك الليلة على الكتاب ويستنسخه بالكامل, طبعاً بدأ العلَّامة (رحمه الله) باستنساخ الكتاب, ونام وهو ينسخ الكتاب من شدَّة التعب, فلمَّا أغمضت عيناه رأى رجلاً ماثلاً أمامه, فأخذ منه الكتاب وقال له: سأُساعدك على ذلك, فما استيقظ من نومه قريب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(51) الكافي (ج 1/ ص 338 و339/ باب في الغيبة/ ح 11).

(٨٥)

الفجر إلَّا والكتاب منسوخ(52).
ولأجل أنَّه هو مرجع الشيعة في زمانه, وكانت تفتقر له الشيعة افتقاراً كبيراً, فكان يحتاج إلى تأييد الإمام وتسديده, وهذا من بركات الإمام (عجَّل الله فرجه), الذي يقوم بتأييد العلماء خصوصاً إذا كانوا في مكان المرجعيَّة العامَّة للشيعة, فهم يحتاجون إلى تسديد الإمام وبركاته (عجَّل الله فرجه).
وهناك كثير من القَصص والرؤى التي تُذكر للإمام (عجَّل الله فرجه)(53), فالمقصود من حديث: «فَمَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ», هو من ادَّعى السفارة والنيابة, فبعد عليِّ بن محمّد السمري لا توجد سفارة, فهو آخر سفير وآخر نائب, أمَّا رؤية الإمام (عجَّل الله فرجه) والتشرُّف بوجهه الشريف والاستفادة من تأييده وتثبيته فهو أمر شائع مشهور لدى كثير من العلماء والصلحاء والأبرار.
فقد ورد عنه (عجَّل الله فرجه) أنَّه قال: «وَلَوْ أَنَّ أَشْيَاعَنَا وَفَّقَهُمْ اَللهُ لِطَاعَتِهِ عَلَى اِجْتِمَاعٍ مِنَ اَلْقُلُوبِ فِي اَلْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ عَلَيْهِمْ لَـمَا تَأَخَّرَ عَنْهُمُ اَلْيُمْنُ بِلِقَائِنَا، وَلَتَعَجَّلَتْ لَهُمُ اَلسَّعَادَةُ بِمُشَاهَدَتِنَا عَلَى حَقِّ اَلمَعْرِفَةِ وَصِدْقِهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(52) راجع: النجم الثاقب (ج 2/ ص 117/ الحكاية 15)، وجنَّة المأوى (ص 80 و81/ الحكاية 22).
(53) لمزيد الاطِّلاع راجع كتاب (جنَّة المأوى في من فاز بلقاء الحجَّة (عجَّل الله فرجه)) للميرزا النوري (قدّس سرّه).

(٨٦)

مِنْهُمْ بِنَا، فَمَا يَحْبِسُنَا عَنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَّصِلُ بِنَا مِمَّا نَكْرَهُهُ وَلَا نُؤْثِرُهُ مِنْهُمْ، وَاَللهُ اَلمُسْتَعَانُ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ...»(54), لا يحجبنا عنه (عجَّل الله فرجه) إلَّا ذنوبنا ومعاصينا وتجاوزاتنا.
وفي بعض الروايات: «مَنْ دَعَا إِلَى اَلله تَعَالَى أَرْبَعِينَ صَبَاحاً بِهَذَا اَلْعَهْدِ كَانَ مِنْ أَنْصَارِ قَائِمِنَا، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ أَخْرَجَهُ اَللهُ تَعَالَى مِنْ قَبْرِهِ، وَأَعْطَاهُ اَللهُ بِكُلِّ كَلِمَةٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ سَيِّئَةٍ», ودعاء العهد فيه تشويق لرؤية الإمام: «اَللَّهُمَّ إِنْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ اَلمَوْتُ اَلَّذِي جَعَلْتَهُ عَلَى عِبَادِكَ حَتْماً، فَأَخْرِجْنِي مِنْ قَبْرِي، مُؤْتَزِراً كَفَنِي، شَاهِراً سَيْفِي، مُجَرِّداً قَنَاتِي، مُلَبِّياً دَعْوَةَ اَلدَّاعِي فِي اَلْحَاضِرِ وَاَلْبَادِ، اَللَّهُمَّ أَرِنِي اَلطَّلْعَةَ اَلرَّشِيدَةَ، وَاَلْغُرَّةَ اَلْحَمِيدَةَ، وَاُكْحُلْ نَاظِرِي بِنَظِرَةٍ مِنِّي إِلَيْهِ، وَعَجِّلْ فَرَجَهُ...»(55).
فإنَّ دعاء الندبة, ودعاء العهد, ودعاء الفرج أدعية وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) لخلق ارتباط المؤمن مع الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), فلنظلّ على علاقة نفسيَّة بالإمام, لنظلّ على شوق وعلى انتظار وعلى توجُّه نفسي للإمام (عجَّل الله فرجه), وهذه الأدعية إذا مارسناها ستزداد اللهفة والشوق والانتظار له (عجَّل الله فرجه), وهذا الشوق النفسي له آثار طيِّبة على السلوك وعلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(54) الاحتجاج (ج 2/ ص 325).
(55) مصباح الزائر (ص 455 و456).

(٨٧)

الرزق والعمر والتوفيق, فبالمواظبة على الأدعية المذكورة سيزداد تعلُّقنا النفسي بالإمام (عجَّل الله فرجه), وهذا التعلُّق النفسي يعكس آثاره وخيراته على سلوكنا، وعلى أنفسنا، وعلى أعمالنا، وعلى حركاتنا.

* * *

(٨٨)

بسم الله الرحمن الرحيم

حديثنا في هذا الإطار في نقطتين:
النقطة الأُولى: في بيان مميِّزات دولته (عجَّل الله فرجه) الخاتمة المباركة.
والنقطة الثانية: حول الاستعداد بأنْ نكون من أنصاره وأعوانه (عجَّل الله فرجه)، وأنصار خطِّه ودربه المبارك.
مميِّزات دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
ما هي المميِّزات التي تُميِّز دولة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) الخاتمة الموعودة على باقي حضارات الدول التي سبقتها؟ إذا أردنا أنْ نعرف هذه المميِّزات فلنقف على هذا الحديث النبوي الشريف, الذي ذكره الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ رَجُلاً مِنْ وَلَدِيَ - أَوْ مِنْ أَهَلِ بَيْتِي، أَوْ مِنِّي - يُوَاطِئُ اِسْمُهُ اِسْمِي، يَمْلَؤُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»(56), ولنُسجِّل مميِّزات الدولة الخاتمة, دولة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), من خلال ثلاث مفردات:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(56) قد مرَّ في (ص 9)، فراجع.

(٩١)

المفردة الأُولى: التعبير بالبعث, «يَبْعَثَ رَجُلاً مِنْ أَهَلِ بَيْتِي».
المفردة الثانية: التعبير بالامتلاء, «يَمْلَؤُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً ».
المفردة الثالثة: التعبير بالقسط والعدل, كيف ينشر القسط والعدل؟
المفردة الأُولى: معنى البعث:
«لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ...», ما معنى البعث؟ البعث عندما يُستخدَم في القرآن الكريم فهو يعني الشيء الجديد الذي لم يسبق له مثيل, فكلُّ شيء جديد لم يسبق له مثيل يُعبِّر عنه القرآن الكريم بالبعث والمبعوث, مثلاً القرآن الكريم يتحدَّث عن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (الجمعة: 2)؛ لأنَّ هذه الظاهرة ظاهرة جديدة, إذ إنَّ وجود رسول في أُمِّ القرى ظاهرة جديدة لم يسبق لها مثيل, لذلك القرآن يُعبِّر عنها بالبعث: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً﴾.
وأيضاً في قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾ (البقرة: 259), وهذه حالة جديدة لم يسبق لها مثيل, ولذلك عبَّر عنها القرآن الكريم بالبعث: ﴿فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ﴾.

(٩٢)

والقرآن الكريم يتحدَّث عن النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فيقول: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً﴾ (الإسراء: 79)، فإنَّ المقام الذي يُعطى للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يُعْطَ لأحد من الخلق, وهو مقام الشفاعة العامَّة, فهذا مقام جديد لم يسبق له مثيل.
إذن البعث هو الشيء الجديد الذي لم يسبق له مثيل, لذلك عبَّر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن دولة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) بالبعث, أي أنَّ دولته دولة جديدة, وأنَّ خطَّه خطٌّ جديد لم يسبق له مثيل, فما هو الجديد في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)؟
تزاوج العلوم في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
سبقت دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) دول وحضارات, فما هو الجديد في حضارته؟ وما هو الجديد في دولته؟ الجديد في حضارته أنَّ يومه وعهده (عجَّل الله فرجه) هو عهد تزاوج العلوم.
ما معنى تزاوج العلوم؟
إنَّ كلَّ علم من العلوم يمرُّ بمرحلتين: مرحلة التفصيل, ومرحلة التزاوج, مثلاً علم الطبِّ قبل خمسمائة سنة كان علماً واحداً, وبعد ذلك دخل في مرحلة تفصيل, فصار طبُّ القلب غير طبِّ الأسنان وغير طبِّ العيون, فعلم الطبِّ دخل مجال المرحلة التفصيليَّة فتحوَّل إلى علوم متعدِّدة. والمرحلة الأُخرى هي مرحلة لقاء العلوم وتزاوجها,

(٩٣)

كيف؟ إنَّ أيَّة ظاهرة تحدث في المجتمع يتوقَّف علاجها على تزاوج العلوم ولقائها, مثلاً لو وجدنا صبيًّا عمره عشر سنوات أو إحدى عشر سنة يتعاطى مخدِّرات, فهذه ظاهرة مرضيَّة خطيرة, فكيف نعالجها؟ صبيٌّ تفتكُ بجسمه المخدِّرات, هنا تلتقي عدَّة علوم لأجل معالجة هذه الظاهرة, فهناك عدَّة علوم تتزاوج وتلتقي فيما بينها كي تعالج هذه الظاهرة, حيث يأتي علم الطبِّ ويقول: إنَّ جسمه صار جسماً ملوَّثاً يحتاج إلى عمليَّة تنقية ويحتاج إلى عمليَّة تطهير, فعلم الطبِّ يتكفَّل بذلك, ثمّ يأتي علم النفس ويدرس الدوافع النفسيَّة التي دفعت بهذا الغلام حدث السنِّ إلى أنْ يرتكب هذه الجريمة وهي جريمة تعاطي المخدِّرات, فيتكفَّل بذلك, ويأتي علم الاجتماع ويدرس الظروف الموضوعيَّة التي عاشها هذا الغلام حتَّى نتج عنها أنَّه ارتكب هذه الجريمة, وما هي بيئته؟ وما هو مجتمعه؟ وما هي العوامل الاجتماعيَّة التي حرَّكت فيه هذه الرغبة وهذا الحسَّ إلى أنِ ارتكب هذه الجريمة؟ أمَّا ما هي العقوبة المناسبة لهذا الطفل؟ فعلم القانون يتدخَّل في ذلك ويُحدِّد لنا العقوبة المناسبة.
إذن ظاهرة واحدة استدعت منَّا عدَّة علوم لكي نعالجها, فكيف بحضارة كاملة؟!
نحن إذا أردنا أنْ نعالج ظاهرة ما فنحتاج إلى تزاوج ولقاء بين

(٩٤)

العلوم, فكيف إذا أردنا أنْ نُؤسِّس حضارة متكاملة؟ إنَّ إقامة هذه الحضارة يحتاج إلى أنْ تشترك جميع العلوم وجميع المعارف وتتلاقح وتتزاوج فيما بينها كي تساعد على إقامة الحضارة, حتَّى اختيار الألوان تلتقي فيه علوم مختلفة حيث يتدخَّل علم الطبِّ فيها, فهل اللون يُؤثِّر على بصرك؟ وهل اللون يُؤثِّر على رؤيتك للأشياء أم لا؟ وعلم النفس أيضاً يتدخَّل فيه, فبعض الألوان تشيع حالة الانقباض, وبعض الألوان تشيع حالة الانفتاح والانشراح, حتَّى لون ثوبك ولون سريرك ولون غرفتك يحتاج إلى عدَّة علوم, فكيف بإقامة حضارة متكاملة؟!
إنَّ الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) دوره دور إقامة الحضارة الكونيَّة العامَّة, والتي تسيطر على هذا الفضاء اللَّامتناهي بجميع ذرَّاته وجميع مجرَّاته وجميع طاقاته وجميع كنوزه وجميع ذخائره الهائلة.
إنَّ القرآن الكريم يقول: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ (الرحمن: 33), النفوذ من أقطار السماوات والأرض يعني إقامة الحضارة الكونيَّة, حيث تصبح السماء والطاقات بل الكون بأسره بيدنا, ولا يمكن السيطرة على الكون كلِّه وإقامة الحضارة الكونيَّة إلَّا بسلطان, فمن هو السلطان؟ إنَّ السلطان هو الشخص الذي يملك مفاتيح الكون, ويملك حقائق العلوم, علم الفيزياء, وعلم الفلك, وعلم الذرَّة, وعلم الطبِّ... إلخ, فحقائق العلوم كلِّها

(٩٥)

يملكها الشخص المُعَدُّ لذلك وهو الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), فهو السلطان, والإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) هدفه إقامة الحضارة الكونيَّة, وإقامة الحضارة الكونيَّة يتوقَّف على تزاوج العلوم وتلاقحها.
إذن الجديد في دولة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) وفي حضارته وعهده هو أنَّه سيقيم حضارة كونيَّة, وستتزاوج جميع العلوم والمعارف في عصره (عجَّل الله فرجه), ولذلك عبَّر عنه الرسول الأعظم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالبعث: «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَبْعَثَ رَجُلاً مِنْ وَلَدِيَ - أَوْ مِنْ أَهَلِ بَيْتِي، أَوْ مِنِّي - يُوَاطِئُ اِسْمُهُ اِسْمِي، يَمْلَؤُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً».
المفردة الثانية: كيف يملأ الإمام (عجَّل الله فرجه) الأرض قسطاً وعدلاً؟
مفردة الامتلاء: «يَمْلَؤُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً», كثير من الناس يتصوَّر أنَّ الامتلاء مجازي وليس حقيقيًّا, فلا يتصوَّر أنَّ الأرض تُملَأ ظلماً, فليست الأرض كلُّها مسكونة, فنسبة قليلة من الأرض هي التي تعيش حالة سكن الإنسان ومجتمع الإنسان, فكيف تُملَأ الأرض ظلماً وجوراً؟ إنَّ بعض الناس يتصوَّر أنَّ التعبير مجازي, فيقول: بما أنَّ الأرض لا يسكنها الإنسان بتمام بقاعها, بل يسكن بعض مناطق الأرض دون بعض, إذن ليست جميع بقاع الأرض فيها ظلم, وإنَّما الظلم بخصوص بعض البقاع, وهي البقاع والمناطق التي يسكنها الإنسان, فليست الأرض كلُّها ظلماً, إذن تعبير

(٩٦)

الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً» تعبير مجازي, يعني بلحاظ أنَّ الكثير من مناطق الأرض مملوءة بالظلم, لذلك قال رسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً», فالامتلاء ليس حقيقيًّا.
لكنَّنا نقول: لا, الامتلاء تعبير حقيقي, سيأتي يوم تُملَأ فيه الأرض ظلماً وجوراً, ثمّ يملؤها الإمام (عجَّل الله فرجه) قسطاً وعدلاً, كيف؟
الفرق بين القسط والعدل، وبين الظلم الجور:
لكي أشرح هذا المعنى لا بدَّ من بيان أمرين:
الأمر الأوَّل: أنَّ هناك فرقاً بين القسط والعدل, وبين الظلم وبين الجور, قد يُتَصَّور أنَّ هذه تعبيرات مترادفة, قسط يعني عدل, وظلم يعني جور ولا فرق بين هذه التعبيرات, لكن الصحيح أنَّ هناك فرقاً, فالقرآن الكريم يقول: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات: 9), يعني هناك عدل, وهناك قسط, فالعدل غير القسط, والظلم غير الجور.
إنَّ القسط يقابله الظلم, والعدل يقابله الجور, وبيان ذلك: أنَّ الحقَّ - أيَّ حقٍّ من الحقوق: حقُّ المجتمع, حقُّ الفرد - له مرحلتان: مرحلة نظريَّة, ومرحلة عمليَّة:
المرحلة النظريَّة: هي عبارة عن تحديد الحقِّ, هذه هي المرحلة النظريَّة للحقِّ, وهذه نُسمِّيها بالقسط, إذا حدَّدنا الحقَّ فنحن

(٩٧)

مقسطون, وإذا لم نُحدِّد الحقَّ فنحن ظالمون, المرحلة النظريَّة للحقِّ هي عبارة عن تحديده, فإذا حُدِّد كان تحديده قسطاً, وإذا أُهمل كان عدم تحديده ظلماً.
كيف؟
مثلاً الجنين في بطن أُمِّه لا بدَّ أنْ نُحدِّد حقَّه أوَّلاً بما ينسجم مع دوره في الحياة وبما ينسجم مع دوره في الوجود, فإذا حدَّدنا حقَّه فهذا يُسمَّى قسطاً, وإذا لم نُحدِّد حقَّه فهذا يُسمَّى ظلماً, فالمرحلة النظريَّة للحقِّ هي عبارة عن الدوران بين القسط وبين الظلم, ولذلك ترى القرآن الكريم يربط الميزان دائماً بالقسط, مثلاً يقول تبارك وتعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ (الأنبياء: 47), والقسط هو الوزن, أي تحديد الحقِّ, قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 9), إذن تحديد الحقِّ نُسمِّيه قسطاً, وعدم التحديد نُسمِّيه ظلماً.
المرحلة العمليَّة: بعد أنْ عرفنا الحقَّ وعرفنا أنَّ الجنين من حقِّه الحياة, إذن إجهاض الجنين اعتداء على الجنين وسلب ذي الحقِّ حقَّه, فمن حقِّ الجنين الحياة, وعدم إعطاء الجنين حقَّ الحياة يُعَدُّ اعتداءً على الجنين, فإذا أعطيناه حقَّه فهذا يُسمَّى عدلاً, فالعدل عبارة عن إعطاء ذي الحقِّ حقَّه, وإذا لم نُعطِه حقَّه يُسمَّى جوراً, فالجور هو عبارة عن عدم إعطاء ذي الحقِّ حقَّه, فالمرحلة العمليَّة للحقِّ تدور بين العدل

(٩٨)

والجور, فإعطاء الحقِّ عدل, وأخذ الحقِّ جور, هذا الذي أردنا أنْ نشرحه, وهو الفرق بين القسط والعدل, وبين الظلم والجور.
الأمر الثاني: وهو أنَّ الظلم والجور لا يختصُّ بحالة معيَّنة, كيف؟ إنَّ الظلم ليس هو الذنب فقط, فمن ارتكب ذنباً فقد ظلم, أو من اعتدى على غيره فقد ظلم, فهل الظلم منحصر في ارتكاب الذنب أو منحصر في الاعتداء على الآخرين؟ لا, الظلم أوسع من ذلك وأعمق, كيف؟
علاقات الإنسان الثلاث:
كلُّ إنسان له ثلاث علاقات: علاقة مع الله, وعلاقة مع أخيه الإنسان, وعلاقة مع الطبيعة التي يعيش فيها, وكلُّ علاقة لها حقوق ووظائف, فعلاقتك مع الله لها حقٌّ, وحقُّها الشكر, فمن شكر الله فقد أدَّى الحقَّ الإلهي, ومن لم يشكر فقد جار على الحقِّ الإلهي, ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم: 7), هذه هي العلاقة مع الله (عزَّ وجلَّ).
أمَّا العلاقة مع الإنسان فهي قائمة على الإنسانيَّة والمُثُل والقِيَم, فالقرآن الكريم يمدح النبيَّ المصطفى محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعلاقاته الإنسانيَّة التي يتعامل بها مع الآخرين بدافع الإنسانيَّة: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159), ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4).

(٩٩)

والإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «مِنَ اَلتَّوَاضُعِ أَنْ تَرْضَى بِالمَجْلِسِ دُونَ اَلمَجْلِسِ، وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ تَلْقَى، وَأَنْ تَتْرُكَ اَلْمِرَاءَ وَإِنْ كُنْتَ مُحِقًّا، وَأَنْ لَا تُحِبَّ أَنْ تُحْمَدَ عَلَى اَلتَّقْوَى»(57).
إذن بالنتيجة علاقتك مع أخيك الإنسان يجب أنْ تبتني على الإنسانيَّة, وإلَّا فهي جور.
ونأتي إلى علاقتك مع الطبيعة, ربَّما يقول الإنسان: ما ربطي مع الطبيعة؟ إنَّ الطبيعة لها حقوق عليك, الأرض التي تعيش عليها والفضاء الذي تعيش فيه والهواء الذي تتنفَّسه والجسم الذي يحملك كلُّ هذه طبيعة, والطبيعة لها حقوق عليك, فإذا أدَّيت هذه الحقوق كنت عادلاً, وإذا لم تُؤدِّ هذه الحقوق كنت جائراً, فإذن الجور يشمل حتَّى علاقتك مع الطبيعة.
ما هو دور الطبيعة؟
الإنسان واستثمار الطبيعة:
إنَّ حقَّ الطبيعة هو الاستثمار المتوازن, أي أنْ تستثمرها استثماراً متوازناً, قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً﴾ (الملك: 15), الذلول أي الناقة أو الفرس, فإذا صار طيِّعاً لراكبه يُسمَّى ذلولاً, وهذه الأرض ذلول تطيعك, فتستطيع أنْ تزرعها كحديقة, وأنْ تستخرج

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(57) الكافي (ج 2/ ص 122 و123/ باب التواضع/ ح 6).

(١٠٠)

منها النفط والمعادن والطاقات, وتستطيع أنْ تبني عليها حضارة شامخة, فالأرض تربة طيِّعة بين يديك, ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِهَا﴾, أي لا تقعد في بيتك, اشتغل, تحرَّك, اعمل, استثمر الأرض.
إذن مطلوب منك أنْ تستثمر الطبيعة استثماراً متوازناً, كيف؟
عندما تسمع في الأخبار أنَّ فيضانات في السنغال - مثلاً - تكتسح البيوت وتقضي على مئات البشر, وتسمع في الأخبار نفسها أنَّ هناك جفافاً في أفغانستان لمدَّة ثلاثين سنة, أي أنَّ هناك فيضانات في بعض البقاع وجفاف في بعض البقاع, فهل تتصوَّر أنَّ الإنسان عاجز عن استثمار نعمة الماء استثماراً متوازناً؟ الإنسان ليس بعاجز, إنَّ الإنسان الذي استطاع أنْ يبني الدرع الصاروخي, واستطاع أنْ يتعملق على الفضاء, وأنْ يكون رقيباً على الأرض يراقب دولها ومجتمعاتها وحضاراتها, وحتَّى النفس أصبح الإنسان قادراً على رقابته وعلى تحديده, إنَّ هذا الإنسان القادر على هذه التقنية الهائلة أليس قادراً على استثمار الماء بشكل متوازن؟ أليس قادراً على حفظ الماء بحيث لا تصبح فيضانات في بعض البقاع وجفاف في بعض البقاع الأُخرى؟
إنَّ الإنسان قادر على ذلك, فهو يملك الوسائل العلميَّة التي من خلالها يمكنه أنْ يستثمر الماء استثماراً متوازناً, وهذا معنى حقُّ الطبيعة, وهناك بعض الدول الغربيَّة تصرُّ على استحداث آلاف المصانع التي

(١٠١)

تُؤدِّي إلى تصاعد ثاني أُوكسيد الكاربون إلى الطبقات العليا, وتصاعده يُؤدِّي إلى ظاهرة الاحتباس الحراري, وهذه الظاهرة تقضي على كثير من الكائنات الحيَّة وعلى نبع الحياة وبذرة الحياة على وجه الأرض.
ألَا يمكن للإنسان أنْ يستثمر الطبيعة استثماراً متوازناً بحيث لا يكون استثمارها سبباً لتلوُّث البيئة أو سبباً لظاهرة الاحتباس الحراري, أليس قادراً؟ هو قادر على ذلك, إذن الإنسان الذي لا يستثمر الطبيعة استثماراً متوازناً فقد جار على الطبيعة وظَلَمها, ومن هنا يأتي الحديث الشريف: «كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً», إذ ليس المقصود ظلم الإنسان للإنسان, بل ليس ظلم الإنسان لنفسه, وليس ظلم الإنسان لربِّه فقط, بل ظلم الإنسان للطبيعة وللأرض وللعوامل وللظروف التي يعيشها, إنَّ ظلم الإنسان للطبيعة جور يعمُّ كلَّ بقاع الأرض, وإذا جار الإنسان على الطبيعة وظلمها ولم يستثمرها استثماراً متوازناً فقد جار على الأرض كلِّها, ونشر الظلم في أرجاء الأرض كلِّها, وهذا الظلم يحتاج إلى تنقية, وهذا ما يُؤكِّد لنا بأنَّ الهدف الذي يعيشه الإمام (عجَّل الله فرجه) هو إقامة الحضارة العامَّة التي تحتاج إلى استثمار الطبيعة استثماراً متوازناً يكفل الحقوق للفرد وللمجتمع وللطبيعة وللأرض.
المفردة الثالثة: كيفيَّة نشر القسط والعدل في أرجاء الأرض وبقاعها؟
إنَّ نشر القسط والعدل يعني إقامة العدالة بنوعيها: العدالة القانونيَّة, والعدالة الشخصيَّة.

(١٠٢)

ما الفرق بين العدالة القانونيَّة والعدالة الشخصيَّة؟
العدالة القانونيَّة تعني أنْ لا يظلم أحدٌ أحداً, أي يوجد قانون يمنع اعتداء شخص على آخر, وكلُّ دولة من الدول قادرة على تحقيق العدالة القانونيَّة من خلال أجهزتها التنفيذيَّة, جهاز القضاء, جهاز الأمن, جهاز الشرطة, وسائر الأجهزة تعمل في سبيل إقامة العدالة القانونيَّة, لكن العدالة الشخصيَّة لا يمكن السيطرة عليها من قِبَل الدول, لماذا؟
هل عدالة الإنسان مع جسمه يمكن السيطرة عليها من قِبَل الدولة؟
وهل عدالة الإنسان مع زوجته, وعدالة الإنسان مع صديقه, وعدالة الإنسان مع جاره يمكن السيطرة عليها؟
لا يمكن للدولة أنْ تقيم العدالة الشخصيَّة؛ لأنَّ العدالة الشخصية - أي عدالة الإنسان مع نفسه, ومع زوجته, ومع صديقه, ومع جاره - لا يمكن السيطرة عليها حتَّى في دولة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فالقرآن يتحدَّث في دولة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقول: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ (التوبة: 101), يعني كان في دولة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أُناس منحرفون, منافقون يبيتون المكيدة والخُطَط للإطاحة بالدولة المحمّديَّة.

(١٠٣)

إذن فبالنتيجة العدالة القانونيَّة حقَّقها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم), ولكن العدالة الشخصيَّة لا يمكن تحقيقها؛ لأنَّها ترتبط بكيان الفرد وبوضع الفرد.
بينما في دولة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) تتحقَّق العدالة بنوعيها القانونيَّة والشخصيَّة, وهذا ما يُؤدِّي إلى نشر القسط والعدل, كيف؟
القوانين الرادعة والقوانين الوقائيَّة:
إنَّ القوانين الإسلاميَّة على قسمين: قوانين رادعة, وقوانين وقائيَّة.
فالقوانين الرادعة تتمثَّل بالحدود, والتعزيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, هذه قوانين رادعة.
وهناك قوانين وقائيَّة.
ما معنى القوانين الوقائيَّة؟
القوانين الوقائيَّة هي التي تبني الفرد من الداخل, من وجدانه وداخله, والقوانين التي تبني الفرد من داخله ومن وجدانه تُسمَّى قوانين وقائيَّة؛ لأنَّها تقي هذا الفرد من الانجراف في هاوية الرذيلة, وهي تعتمد على علم الأخلاق وعلم التزكية والتربية.
فمثلاً إذا رأينا شخصاً يفعل منكراً, كمن يقيم علاقة غير مشروعة مع فتاة, فما العمل؟ إنَّه شخص مريض, والإنسان المريض

(١٠٤)

يحتاج إلى العلاج لا إلى القوَّة, فلا بدَّ أنْ تُدرَس حالته وتُعرَف ما هي الدوافع النفسيَّة التي دفعته للعلاقة غير المشروعة، وما هي الدوافع الأُسريَّة والاجتماعيَّة التي دفعته للعلاقة غير المشروعة، أي لا بدَّ لنا أنْ نتعامل مع المنكرات ومع المعاصي معاملة موضوعيَّة مبنيَّة على الدراسة والبحث والقراءة والأرقام والتأمُّل, فقراءة فعل المنكر والمعصية قراءة ناضجة مبنيَّة على التأمُّل والدراسة تساعد في القضاء على المنكرات والمعاصي, أي تساعد في توفير وتفعيل القوانين الوقائيَّة التي تبني الفرد من الداخل.
كثير منَّا - مع الأسف - يقول لك: أنا لا أأمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر, فهو ليس واجباً عليَّ.
نقول: لماذا ليس واجباً عليك؟
فيقول: لأنَّ الفقهاء قالوا: إنَّه يُشترَط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتمال التأثير, وأنا لا أحتمل التأثير, إذن لا يجب عليَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
نقول له: أنت مخطئ؛ لأنَّك أعطيت حكماً من الخارج من دون تأمُّل, هذا شخص باطل عاطل, لا يجدي معه الكلام... إلخ, فلو درست حالته لصار عندك احتمال التأثير, ولو درست دوافعه لأمكنك علاج هذا المرض.

(١٠٥)

إذن هناك قوانين رادعة, وهناك قوانين وقائيَّة تبني كيان الفرد المؤمن على الخُلُق, وعلى النظافة والطهارة من الداخل, والإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) ستُركِّز دولته على القوانين الرادعة والقوانين الوقائيَّة من أجل تحقيق العدالة العامَّة, العدالة القانونيَّة, والعدالة الشخصيَّة.
كيف؟
العناصر الثلاثة المحقِّقة لنجاح العدالة:
إنَّ القرآن الكريم يتحدَّث عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقول: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (الجمعة: 2), هناك ثلاثة عناصر:
العنصر الأوَّل: العنصر الإعلامي:
﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾, فالذي ليس عنده إعلام لا يمكن أنْ ينجح مشروعه.
العنصر الثاني: العنصر التربوي:
﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾, فإذا لم تكن هناك أرضيَّة مستعدَّة لقبول هذا المشروع, فإنَّ المشروع بدون التزكية سيصبح فاشلاً.
العنصر الثالث: العنصر الثقافي:
﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾, فالمشروع الذي لا يقوم على ثقافة، هو مشروع فاشل.

(١٠٦)

إذن هناك ثلاثة عناصر: عنصر إعلامي, وعنصر تربوي, وعنصر ثقافي. وهذا ما ينهض به الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), فهو يُركِّز على العناصر الثلاثة بشكل يقي الأشخاص من الانحراف في هاوية الرذيلة.
مثلاً تصوَّر بأنَّك في دولة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), وهناك آلاف من القنوات الفضائيَّة, وآلاف من وسائل الإعلام, هذه الآلاف كلُّها تسيطر عليها مؤسَّسة واحدة هي المؤسَّسة الإسلاميَّة للإعلام, تنقي هذا الإعلام كلَّه من الغزو الثقافي والشهوي والفكري, ومن أدران الشهوات والشوائب المادّيَّة, فهو وسيلة وقائيَّة تبني الفرد بناءً خُلُقيًّا متكاملاً.
إنَّ العنصر التربوي في كلِّ مجتمع يحتاج إلى المربِّي الروحي, لكن مع الأسف كثير من مجتمعاتنا ليس فيها مربِّي روحاني يُزكّي النفوس ويُطهِّرها ويزيل عنها درن المعاصي والانحراف, نعم, بعض المجتمعات فيها والحمد لله بعض المربِّين, وبعض المجتمعات خالية من أيِّ مربٍّ, لذلك الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) يُركِّز على هذه الناحية تركيزاً كبيراً, فيبعث المربِّين الروحانيِّين في كلِّ أُسرة, وفي كلِّ مجتمع؛ من أجل أنْ يضمن هذا المربِّي تزكية النفوس وتطهيرها من الشوائب الشهويَّة والمادّيَّة.
أمَّا العنصر الثقافي, فيبثُّ الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) العلوم والمعارف لكلِّ فرد, فيصبح كلُّ شخص إنساناً متعلِّماً وعالماً في عهده؛ لأنَّ الثقافة والعلم من الأساليب الوقائيَّة التي تُقصي عن الانحراف والرذيلة.

(١٠٧)

إذن متى ما حُقِّقت ومتى ما أُقيمت القوانين الرادعة والقوانين الوقائيَّة تحقَّقت العدالة التامَّة, وتحقَّق قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَمْلَؤُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً», فوظيفة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) هي إقامة دولة حضارة مبنيَّة على الإصلاح والعدالة التامَّة, مبنيَّة على العنصر الإعلامي والتربوي والثقافي, وهي امتداد للدور النبوي المحمّدي: ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: 2), وامتداد للدور العلوي, دور عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي كان يقول: «وَاَلله لَوْ أُعْطِيتُ اَلْأَقَالِيمَ اَلسَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اَللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُه، وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا، مَا لِعَلِيٍّ ولِنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لَا تَبْقَى، نَعُوذُ بِالله مِنْ سُبَاتِ اَلْعَقْلِ وَقُبْحِ اَلزَّلَلِ»(58), ودولته امتداد للدور الحسني, وللدور الحسيني: «إِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلَا بَطِراً، وَلَا مُفْسِداً وَلَا ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ اَلْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي»(59), فصوت الحسين (عليه السلام) هو صوت الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), ونداء الحسين (عليه السلام) هو نداء الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(58) نهج البلاغة (ص 347/ ح 224).
(59) مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي (ج 1/ ص 273).

(١٠٨)

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصص: 5)

انطلاقاً من الآية المباركة هناك عدَّة محاور:
المحور الأوَّل: العدالة:
يميل الإنسان بفطرته وبطبعه إلى حبِّ العدالة؛ لأنَّها مظهر من مظاهر الجمال, والإنسان بفطرته يعشق الجمال، والجمال قد يكون جسديًّا أو روحيًّا أو فكريًّا, وقد يكون جمالاً فرديًّا أو اجتماعيًّا؛ لأنَّ العدالة مظهر للجمال الاجتماعي.
ما هو تعريف العدالة؟
قد تُعرَّف العدالة بأنَّها المساواة بين الناس, أي أنْ تُوزَّع الثروة توزيعاً متساوياً بين الناس, بحيث لا يكون لأحد نصيب أكبر من الثروة على غيره. لكن هذا التعريف تعريف خاطئ؛ لأنَّ العدالة هي الموازنة بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع, ولتوضيح هذا

(١١١)

المعنى لا بدَّ من التعرُّض لعنصرين مهمَّين يتعلَّقان بتحديد مفهوم العدالة.
العنصر الأوَّل: التساوي في الخلق:
هل خلق الله تبارك وتعالى البشر متساوين؟ لم يخلق البشر متساوين, بل متفاوتين, فبعضهم أكثر قدرةً من البعض الآخر في القضايا الفنّيَّة, وبعضهم أكثر قدرةً من الآخر في التحليلات العقليَّة أو القوَّة البدنيَّة, فالقرآن الكريم يقول: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾ (الروم: 22).
إنَّ اختلاف الألسن والألوان كناية عن اختلاف الطاقات؛ لأنَّ اللسان واللون مظهران للطاقة التي يمتلكها الإنسان, وإلَّا فلا خصوصيَّة للِّسان ولا للَّون, فاللسان يُعبِّر عن حجم الطاقة, فـ«اَلمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ»(60), وذلك أيضاً يكشف عن اختلاف الطاقات الكامنة لدى كلِّ إنسان, فالبشر خُلِقُوا متفاوتين في الطاقات والقدرات, فلا يمكن أنْ تتحقَّق حركة تكامليَّة بين أبناء المجتمع إلَّا إذا كانوا متفاوتين؛ كي يتكامل كلٌّ بالآخر, ومن أجل تحقيق الحركة التكامليَّة بين أبناء المجتمع خُلِقُوا متفاوتين. لذلك لو فرضنا مثلاً أنَّ الله تعالى خلق المرأة كالرجل, فهل سيتحقَّق تكامل بين الرجل والمرأة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(60) نهج البلاغة (ص 497/ ح 148).

(١١٢)

بالطبع إذا كانت المرأة مساوية للرجل في جميع الخصائص لم يكن ليحصل بينهما تزاوج, ولم يكن بينهما تكامل, ولم ينتجا مجتمعاً ولا حركةً تكامليَّةً, لذلك أعطى الله المرأة ما لم يُعطِ الرجل, أعطاها قوَّة من العاطفة لا يملك الرجل عُشراً منها, وأعطى الرجل قدرة على الحزم والحسم أكثر ممَّا أعطى المرأة, ليُكمِل كلٌّ منهم الآخر, لذلك إذا افترضنا أنَّ هذا الإنسان يمتلك طاقة يستطيع بها أنْ يُنجز لنا عشرة مشاريع اقتصاديَّة في سنة واحدة, وذاك يمتلك طاقة أنْ يُنجز لنا مشروعين اقتصاديَّين في سنة واحدة, فهل يمكن أنْ يُعطَوا من الثروة بشكل متساوي؟ إنَّ المساواة هنا تكون جوراً وليست عدلاً؛ لأنَّ تفاوتهما في الطاقة يعني تفاوتهما في الانجاز, وتفاوتهما في الانجاز يمنع المساواة بينهما في العطاء وفي توزيع الثروة, فإنَّ المساواة بينهما مع تفاوتهما في الطاقة ومع تفاوتهما بالقدرة نظير مدرِّس عنده تلميذان في الصفِّ, تلميذ مُجِدٌّ ونشط ومتفاعل مع الدرس وفي الامتحان يأتي بدرجات عالية, وتلميذ متكاسل متقاعس, فلو ساوى بينهما في الدرجة لكان ذلك جوراً وبخساً.
إذن ليست تلك هي العدالة, بل العدالة هي إعطاء كلِّ ذي حقٍّ بمقدار ما يستحقُّه وبمقدار طاقته.
العنصر الثاني: الموازنة بين حقوق الفرد والمجتمع:
هناك بحث فلسفي عند علماء الاجتماع, وهو أنَّ الأصالة تكون للفرد, أم للمجتمع؟ هناك نظريَّة تقول: إنَّ الأصيل هو الفرد,

(١١٣)

والمجتمع عنوان اعتباري, وهناك نظريَّة تقول العكس, لكن النظريَّة الصحيحة أنَّ كليهما أصيل, فالفرد أصيل بالوجود الأوَّلي العيني الخارجي، فهو يتكلَّم, يُفكِّر, يُعطي, يُبدع, والمجتمع أصيل بالوجود الثانوي, أي هناك وجود ثانوي للمجتمع, فالفلاسفة(61) عندهم مصطلح يقول: إنَّ هناك فرقاً بين التركيب الانضمامي والتركيب الاتِّحادي؟
فمثال الأوَّل: غرفة نضع لها باباً من خشب ونافذة من الألمنيوم وسقفاً من الإسمنت, وعندما تُركَّب هذه الغرفة لا يحصل تفاعل بين أجزائها, فيبقى الباب من الخشب والنافذة من الألمنيوم والجدار من الإسمنت, فلا يحصل تفاعل بين هذه الأجزاء. والمركَّب الذي لا تتفاعل أجزاؤه ولا تتغيَّر يُسمَّى مركَّباً انضماميًّا. وهناك التركيب الاتِّحادي, حيث الأشياء تتفاعل وتُولِّد شيئاً ثالثاً, ومثاله الماء المركَّب من أُوكسجين وهيدروجين, فالأُوكسجين لا يبقى على حاله, والهيدروجين لا يبقى على حاله, ونتيجة تفاعلهما يحدث لنا وجود جديد نُسمِّيه الماء, إذن الماء مركَّب تفاعلت أجزاؤه فحدث وجود ثالث.
ونفس الشيء بالنسبة للمجتمع المكوَّن من أفراد متفرِّقين, لكنَّهم لـمَّا اجتمعوا في مكانٍ واحدٍ وفي حركة واحدة حصل بينهم تفاعل,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(61) ومنهم صدر المتألِّهين (رحمه الله), راجع: الأسفار (ج 2/ ص 334).

(١١٤)

ونتيجة هذا التفاعل حصل لنا وجود ثقافي ووجود فكري سُمِّي بالمجتمع, فهو أيضاً أصيل, لكن وجوده وجود ثانوي ناشئ عن التفاعل بين أبناء المجتمع والتلاقح والتكامل بينهم.
العقل الخاصُّ والعقل اللغوي:
تذكر مجلَّة (عالم المعرفة) الكويتيَّة في عددها الصادر في شهر رمضان عام (1983م) أنَّه في عام (1799م) - يعني مطلع القرن الثامن عشر - وُجِدَ في فرنسا صبيٌّ عمره (12) سنة في غابة (أفيرون), حيث رآه الناس عارياً لا يتأثَّر بالبرد أو بالحرِّ, متوحِّش, يتعامل مع الناس بعدوانيَّة, وكلَّما اقترب منه شخص انقضَّ عليه وعضَّه, فقام دكتور فرنسي متخصِّص بعلم النفس بإجراء دراسات أنثروبلوجيَّة عليه, ودرس الجوانب النفسيَّة فيه, وجميع الأسباب التي حدَت به إلى أنْ يكون هكذا, فتوصَّل بعد الدراسة إلى أنَّ هذا الطفل أُخِذَ وتُرِكَ في الغابة وتربَّى فيها, ونتيجة تربيته أصبح مثل الحيوانات تماماً, فتوصَّل إلى نظريَّة, هي أنَّ الإنسان له عقلان: عقل خاصٌّ, وعقل لغوي.
العقل الخاصُّ هو العقل الذي يُفكِّر به الإنسان في كيفيَّة الحصول على طعامه وشرابه وأمنه وراحته, وهو موجود عند كلِّ إنسان, حتَّى لو تربَّى في الغابة.
وأمَّا العقل اللغوي فهو العقل الذي من خلاله يكتسب الإنسان

(١١٥)

اللغة والثقافة, ويتعوَّد على أنْ يُحِبَّ, ويُعطي ويأخذ, ولا يمكن أنْ يكتسبه الإنسان إلَّا من خلال المجتمع.
إذن لا بدَّ أنْ يوجد الإنسان في المجتمع حتَّى يكتسب العقل اللغوي وعقليَّة البناء والعطاء والتعاون واكتساب الثقافة, فالمجتمع له وجود وهو الوجود الناشئ عن التفاعل بين الأفراد الذي يُقدِّم الثقافة ويُؤكِّد روحيَّة العطاء والبذل والتعاون, فالمجتمع شيء موجود بالوجود الثانوي, لذلك نسب القرآن الكريم الوجود للمجتمع, فقال: ﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ (الحجر: 5), فكما أنَّ الفرد له أجل، فالمجتمع أيضاً له أجل, وكما أنَّ الفرد له حياة وموت، فالمجتمع أيضاً له حياة وموت, ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (النحل: 112).
إذن للمجتمع وجود مثل ما للفرد وجود, وكما أنَّ للفرد حقوقاً فإنَّ للمجتمع حقوقاً, ولأجل أنَّه موجود صار له حقوق, حقُّ الحياة, حقُّ الكرامة, حقُّ الحرّيَّة, فالمجتمع بما أنَّه موجود أيضاً فله حقوق, فالعدالة هي الموازنة بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع, فحقُّ الحرّيَّة في أنْ تأكل ما تشاء وتتصرَّف بأموالك كما تشاء, لكن بممارسة حقِّك الفردي قد تسلب حقًّا اجتماعيًّا, كمن يريد أنْ يطبخ في بيته على الخشب فيُحدِث تلوُّثاً في البيئة, فصار حقُّ الفرد على حساب حقِّ

(١١٦)

المجتمع, فالعدالة هي الموازنة بين حقِّ الفرد وحقِّ المجتمع, وهذا هو تحديد العدالة.
المحور الثاني: تطبيق العدالة على الأرض:
قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ (النور: 55).
وقال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصص: 5).
وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً﴾ (الفتح: 28).
وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33).
هذه آيات كلُّها تشير إلى وعد إلهي سيأتي فيه يوم تكون هذه الأرض كلُّها بيد الصالحين, تُطبَّق فيه العدالة على جميع أجزاء الأرض, والحديث النبوي يُفسِّر كيف تُملَأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً, فامتلاء الأرض بالعدل فرع امتلاء الناس بالعدل؛ لأنَّ العدالة على الأرض هي نتاج الإنسان, فلا بدَّ أنْ يكون الإنسان عادلاً حتَّى يصير نتاجه عادلاً.

(١١٧)

لذلك فالأساليب التربويَّة في عصر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) للأُسرة والمدرسة والمجتمع وفي وسائل الإعلام تنتج إنساناً عادلاً, فإذا أنتجت إنساناً عادلاً أنتج الإنسان العادل العدالة على الأرض كلِّها, فلا تبقى منطقة إلَّا وفيها عدل؛ لأنَّه لا يوجد إنسان إلَّا وهو إنسان عادل؛ لأنَّ الأساليب التربويَّة أساليب تخلق العدالة في الفرد, فينتج العدالة للمجتمع, فهذا الوعد لا بدَّ أنْ يتحقَّق؛ لأنَّ خُلْف الوعد من الله الحكيم قبيح, فلا بدَّ من وجود يوم تتحقَّق فيه العدالة الشموليَّة للأرض كلِّها، وذلك بخروج القائد المنتظَر (عجَّل الله فرجه).
المحور الثالث: الإرهاصات العامَّة والخاصَّة للغيبة:
الإرهاصات على قسمين:
الإرهاصات العامَّة:
وهي التي تكفَّل بها الله (عزَّ وجلَّ), وأعدَّها لوجود الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) ولغيبته, ومنها الأحاديث التي وردت عن النبيِّ المصطفى محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم), والتي لا تفسير لها إلَّا وجود إمام غائب كما في صحاح العامَّة: «لَا يَزَالُ هَذَا اَلدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُمْ اِثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»، أو «كُلُّهُمْ مِنْ بِنَي هَاشِمٍ»(62), فعبارة: «لَا يَزَالُ هَذَا اَلدِّينُ قَائِمًا حَتَّى يَكُونَ عَلَيْكُمْ اِثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً» تُوضِّح أنَّ هؤلاء الاثني عشر خليفة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(62) قد مرَّ في (ص 73)، فراجع.

(١١٨)

يبقون مواكبين للدِّين إلى يوم القيامة, وهذا لا تفسير له إلَّا بوجود إمام وهو الإمام الثاني عشر؛ لأنَّه لو لم يكن موجوداً لكان هذا الحديث كذباً, فلا بدَّ من وجود اثني عشر إماماً يبقون مع بقاء الدِّين إلى يوم القيامة, وبما أنَّ الأحد عشر قد توفَّوا, فلا بدَّ من وجود شخص يكون مواكباً لبقاء الدِّين إلى يوم القيامة.
وهذا أيضاً ما يُؤكِّده حديث الثقلين: «إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَمْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَداً, وَقَدْ أَنْبَأَنِي اَلْخَبِيرُ اَللَّطِيفُ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا»(63), أي يبقيان متواكبين إلى يوم القيامة, كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَا تَخْلُو اَلْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اَلله وَبَيِّنَاتُهُ»(64), وهذه الأحاديث تُؤكِّد مسألة الغيبة.
تمهيد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) للحجَّة (عجَّل الله فرجه):
إنَّ وجود الإمام العسكري (عليه السلام) هو وجود تمهيدي إعدادي لوجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), فالمؤرِّخون عندما يتحدَّثون عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يذكرون أنَّه كان له تأثير سحري غريب على من يلتقي به وعلى من ينظر إليه, حتَّى على أعدائه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(63) قد مرَّ في (ص 69)، فراجع.
(64) قد مرَّ في (ص 17)، فراجع.

(١١٩)

مثلاً يقول الحسين بن محمّد الأشعري ومحمّد بن يحيى وغيرهما: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اَلله بْنِ خَاقَانَ عَلَى اَلضِّيَاعَ وَاَلْخَرَاجِ بِقُمَّ، فَجَرَى فِي مَجْلِسِه يَوْماً ذِكْرُ اَلْعَلَوِيَّةِ - أبناء أمير المؤمنين (عليه السلام) - وَمَذَاهِبِهِمْ، وَكَانَ شَدِيدَ اَلنَّصْبِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ وَلَا عَرَفْتُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى رَجُلاً مِنَ اَلْعَلَوِيَّةِ مِثْلَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الرِّضَا فِي هَدْيِهِ وَسُكُونِهِ وَعَفَافِهِ وَنُبْلِهِ وَكَرَمِهِ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَبَنِي هَاشِمٍ وَتَقْدِيمِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى ذَوِي اَلسِّنِّ مِنْهُمْ وَاَلْخَطَرِ وَكَذَلِكَ اَلْقُوَّادِ وَاَلْوُزَرَاءِ وَعَامَّةِ اَلنَّاسِ، فَإِنِّي كُنْتُ يَوْماً قَائِماً عَلَى رَأْسِ أَبِي وَهُوَ يَوْمُ مَجْلِسِهِ لِلنَّاسِ إِذْ دَخَلَ عَلَيْه حُجَّابُهُ فَقَالُوا: أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ اَلرِّضَا بِالْبَابِ، فَقَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ: اِئْذَنُوا لَهُ، فَتَعَجَّبْتُ مِمَّا سَمِعْتُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ جَسَرُوا يُكَنُّونَ رَجُلاً عَلَى أَبِي بِحَضْرَتِهِ، وَلَمْ يُكَنَّ عِنْدَه إِلَّا خَلِيفَةٌ أَوْ وَلِيُّ عَهْدٍ أَوْ مَنْ أَمَرَ اَلسُّلْطَانُ أَنْ يُكَنَّى، فَدَخَلَ رَجُلٌ أَسْمَرُ حَسَنُ اَلْقَامَةِ جَمِيلُ اَلْوَجْه جَيِّدُ اَلْبَدَنِ حَدَثُ اَلسِّنِّ لَهُ جَلَالَةٌ وَهَيْبَةٌ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْه أَبِي قَامَ يَمْشِي إِلَيْه خُطًى وَلَا أَعْلَمُهُ فَعَلَ هَذَا بِأَحَدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَاَلْقُوَّادِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ عَانَقَهُ وَقَبَّلَ وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ وَأَخَذَ بِيَدِهِ وَأَجْلَسَهُ عَلَى مُصَلَّاهُ اَلَّذِي كَانَ عَلَيْه وَجَلَسَ إِلَى جَنْبِه مُقْبِلاً عَلَيْه بِوَجْهِهِ وَجَعَلَ يُكَلِّمُه وَيَفْدِيهِ بِنَفْسِهِ وَأَنَا مُتَعَجِّبٌ مِمَّا أَرَى مِنْه إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ اَلْحَاجِبُ فَقَالَ: اَلمُوَفَّقُ قَدْ جَاءَ، وَكَانَ اَلمُوَفَّقُ إِذَا دَخَلَ عَلَى أَبِي تَقَدَّمَ حُجَّابُهُ وخَاصَّةُ قُوَّادِهِ فَقَامُوا بَيْنَ مَجْلِسِ أَبِي وَبَيْنَ بَابِ اَلدَّارِ

(١٢٠)

سِمَاطَيْنِ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ وَيَخْرُجَ، فَلَمْ يَزَلْ أَبِي مُقْبِلاً عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ يُحَدِّثُهُ حَتَّى نَظَرَ إِلَى غِلْمَانِ اَلْخَاصَّةِ فَقَالَ حِينَئِذٍ: إِذَا شِئْتَ جَعَلَنِيَ اَللهُ فِدَاكَ، ثُمَّ قَالَ لِحُجَّابِهِ: خُذُوا بِهِ خَلْفَ اَلسِّمَاطَيْنِ حَتَّى لَا يَرَاه هَذَا - يَعْنِي اَلمُوَفَّقَ -، فَقَامَ وَقَامَ أَبِي وَعَانَقَهُ وَمَضَى، فَقُلْتُ لِحُجَّابِ أَبِي وَغِلْمَانِهِ: وَيْلَكُمْ مَنْ هَذَا اَلَّذِي كَنَّيْتُمُوه عَلَى أَبِي وفَعَلَ بِه أَبِي هَذَا اَلْفِعْلَ؟ فَقَالُوا: هَذَا عَلَوِيٌّ يُقَالُ لَه: اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، يُعْرَفُ بِابْنِ اَلرِّضَا، فَازْدَدْتُ تَعَجُّباً، وَلَمْ أَزَلْ يَوْمِي ذَلِكَ قَلِقاً مُتَفَكِّراً فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَبِي وَمَا رَأَيْتُ فِيه حَتَّى كَانَ اَللَّيْلُ وَكَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَ اَلْعَتَمَةَ ثُمَّ يَجْلِسُ فَيَنْظُرُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ اَلمُؤَامَرَاتِ وَمَا يَرْفَعُه إِلَى اَلسُّلْطَانِ، فَلَمَّا صَلَّى وَجَلَسَ جِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْه وَلَيْسَ عِنْدَه أَحَدٌ، فَقَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ، لَكَ حَاجَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَبَه، فَإِنْ أَذِنْتَ لِي سَأَلْتُكَ عَنْهَا، فَقَالَ: قَدْ أَذِنْتُ لَكَ يَا بُنَيَّ، فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ، قُلْتُ: يَا أَبَه، مَنِ اَلرَّجُلُ اَلَّذِي رَأَيْتُكَ بِالْغَدَاةِ فَعَلْتَ بِهِ مَا فَعَلْتَ مِنَ اَلْإِجْلَالِ وَاَلْكَرَامَةِ وَاَلتَّبْجِيلِ وَفَدَيْتَه بِنَفْسِكَ وَأَبَوَيْكَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، ذَاكَ إِمَامُ اَلرَّافِضَةِ، ذَاكَ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ اَلمَعْرُوفُ بِابْنِ اَلرِّضَا، فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ، لَوْ زَالَتِ اَلْإِمَامَةُ عَنْ خُلَفَاءِ بَنِي اَلْعَبَّاسِ مَا اِسْتَحَقَّهَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ غَيْرُ هَذَا، وَإِنَّ هَذَا لَيَسْتَحِقُّهَا فِي فَضْلِهِ وَعَفَافِهِ وَهَدْيِهِ وَصِيَانَتِهِ وَزُهْدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَجَمِيلِ أَخْلَاقِهِ وَصَلَاحِهِ، وَلَوْ رَأَيْتَ أَبَاه رَأَيْتَ رَجُلاً جَزْلاً نَبِيلاً فَاضِلاً، فَازْدَدْتُ قَلَقاً

(١٢١)

وَتَفَكُّراً وَغَيْظاً عَلَى أَبِي وَمَا سَمِعْتُ مِنْه وَاسْتَزَدْتُهُ فِي فِعْلِهِ وَقَوْلِه فِيهِ مَا قَالَ، فَلَمْ يَكُنْ لِي هِمَّةٌ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا اَلسُّؤَالُ عَنْ خَبَرِهِ وَاَلْبَحْثُ عَنْ أَمْرِهِ، فَمَا سَأَلْتُ أَحَداً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَاَلْقُوَّادِ وَاَلْكُتَّابِ وَاَلْقُضَاةِ وَاَلْفُقَهَاءِ وَسَائِرِ اَلنَّاسِ إِلَّا وَجَدْتُه عِنْدَهُ فِي غَايَةِ اَلْإِجْلَالِ وَاَلْإِعْظَامِ وَاَلمَحَلِّ اَلرَّفِيعِ وَاَلْقَوْلِ اَلْجَمِيلِ وَاَلتَّقْدِيمِ لَهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَشَايِخِهِ، فَعَظُمَ قَدْرُهُ عِنْدِي، إِذْ لَمْ أَرَ لَهُ وَلِيًّا وَلَا عَدُوًّا إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ اَلْقَوْلَ فِيهِ وَاَلثَّنَاءَ عَلَيْهِ(65).
وَدَخَلَ اَلْعَبَّاسِيُّونَ عَلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ عِنْدَمَا حُبِسَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، فَقَالُوا لَهُ: ضَيِّقْ عَلَيْهِ وَلَا تُوَسِّعْ، فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: مَا أَصْنَعُ بِهِ؟! قَدْ وَكَّلْتُ بِهِ رَجُلَيْنِ شَرَّ مَنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَارَا مِنَ اَلْعِبَادَةِ وَاَلصَّلَاةِ وَاَلصِّيَامِ إِلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْضَارِ اَلمُوَكَّلَيْنِ، فَقَالَ لَهُمَا: وَيْحَكُمَا مَا شَأْنُكُمَا فِي أَمْرِ هَذَا اَلرَّجُلِ؟ فَقَالَا لَهُ: مَا نَقُولُ فِي رَجُلٍ يَصُومُ اَلنَّهَارَ وَيَقُومُ اَللَّيْلَ كُلَّهُ، لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَتَشَاغَلُ بِغَيْرِ اَلْعِبَادَةِ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْنَا اِرْتَعَدَتْ فَرَائِصُنَا وَدَاخَلَنَا مَا لَا نَمْلِكُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا؟ فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ اَلْعَبَّاسِيُّونَ اِنْصَرَفُوا خَاسِئِينَ(66).
وكان يركب في كلِّ اثنين وخميس, وكان يحضر الكثير من الناس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(65) الكافي (ج 1/ ص 503 و504/ باب مولد أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليه السلام)/ ح 1).
(66) الإرشاد (ج 2/ ص 334).

(١٢٢)

ويغصُّ الشارع بالدوابِّ والبغال والحمير والضجَّة, فإذا جاء الإمام (عليه السلام) سكنت الضجَّة وهدأ صهيل الخيل ونهاق الحمير, وتفرَّقت البهائم حتَّى يصير الطريق واسعاً(67).
فلماذا أُعطي الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هذا التأثير السحري؟
إنَّما جُعِلَ له هذا التأثير حتَّى يكون مُصدَّقاً إذا أخبر بغيبة ولده الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), ولهذا ترى أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يُوصَف بالصادق الأمين, فلمَّا جاء يوم البعثة وقف على الناس فقال: «لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، صَدَّقْتُمُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»(68).
إذن هناك إعداد للشخصيَّة بحيث يكون حسن السمعة, مقبول الكلمة, ذا تأثير سحري على الآخرين؛ لأنَّه مُعَدٌّ لدور آخر. والإمام العسكري (عليه السلام) أُعطي شخصيَّة ذات تأثير بلسانها وبصوتها وبشكلها وبأخلاقها, حتَّى إذا تصدَّى لإبلاغ الناس بغيبة ولده الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه) يكون مُصدَّقاً بين الناس, وكان كلامه مقبولاً بينهم, فدور الإمام العسكري (عليه السلام) كان إعداداً إلى دور ولده الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(67) الغيبة للطوسي (ص 215 و216/ ح 179).
(68) مسند أحمد (ج 5/ ص 17/ ح 2801).

(١٢٣)

الإرهاصات الخاصَّة:
الإمام العسكري (عليه السلام) مارس دورين إعداديَّين لغيبة ولده الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه):
الدور الأوَّل: تربية المجتمع الشيعي على الاعتماد على السفراء، فصار الإمام العسكري (عليه السلام) يحتجب شهوراً عن الناس, ويأمرهم بالاعتماد على وكلائه وعلى علماء الشيعة آنذاك, حتَّى يتعوَّدوا على غيبة الإمام واستقبال الغيبة؛ لأنَّ الناس لو حصلت لهم الغيبة فجأةً لأصابهم الارتداد وأصابتهم صدمة نفسيَّة, كالطالب في الصفِّ الذي يُطلَب منه الامتحان بدون تحضير فهو سيصاب بالإحباط والصدمة النفسيَّة.
أيضاً الغيبة ما جاءت دفعيَّة, بل جاءت قبلها إعدادات وإرهاصات, فالإمام العسكري (عليه السلام) عوَّد الشيعة على الاعتماد على سفرائه ووكلائه, حتَّى كان الشيعة يعطون أموالهم وحقوقهم لعثمان بن سعيد العمري السمَّان - حيث كان يبيع السمن - وكان يضع الأموال في جراب السمن ويأتي بها إلى الإمام العسكري (عليه السلام).
الدور الثاني: الإعلام الخاصِّ والأخص والعام بولادة مهدي الأُمم (عجَّل الله فرجه), فقد أعلن (عليه السلام) عن ولده الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بشكل تدريجي, إعلاناً عامًّا, ثمّ إعلاناً خاصًّا, ثمّ إعلاناً أخصّ.

(١٢٤)

أوَّلاً أعلن (عليه السلام) إعلاناً عامًّا بقوله: «إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ يَهْدِمُ اَلمَنَارَ وَاَلمَقَاصِيرَ اَلَّتِي فِي اَلمَسَاجِدِ»(69), فهذا إعلان عامٌّ.
وهناك إعلان خاصٌّ لوجهاء الشيعة, فقد كتب (عليه السلام) إلى ابن بابويه: «عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ وَاِنْتِظَارِ اَلْفَرَجِ، قَالَ اَلنَّبِيُّ: أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ، وَلَا يَزَالُ شِيعَتُنَا فِي حُزْنٍ حَتَّى يَظْهَرَ وَلَدِي اَلَّذِي بَشَّرَ بِهِ اَلنَّبِيُّ، يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، فَاصْبِرْ يَا شَيْخِي يَا أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ، وَأْمُرْ جَمِيعَ شِيعَتِي بِالصَّبْرِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُها مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَاَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَاَلسَّلَامُ عَلَيْكَ وَعَلَى جَمِيعِ شِيعَتِنَا، وَرَحْمَةُ اَلله وَبَرَكَاتُهُ»(70).
وهناك إعلان أخصّ, فَعَنْ أَبِي غَانِمٍ اَلْخَادِمِ، قَالَ: وُلِدَ لِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) وَلَدٌ، فَسَمَّاهُ مُحَمَّداً، فَعَرَضَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ يَوْمَ اَلثَّالِثِ، وَقَالَ: «هَذَا صَاحِبُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، وَهُوَ اَلْقَائِمُ اَلَّذِي تَمْتَدُّ إِلَيْهِ اَلْأَعْنَاقُ بِالاِنْتِظَارِ، فَإِذَا اِمْتَلَأَتِ اَلْأَرْضُ جَوْراً وَظُلْماً خَرَجَ فَمَلَأَهَا قِسْطاً وَعَدْلاً»(71).
إذن هناك إعدادات قام بها الإمام العسكري (عليه السلام) لغيبة ولده (عجَّل الله فرجه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(69) الغيبة للطوسي (ص 206/ ح 175).
(70) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 527).
(71) كمال الدِّين (ص 431/ باب 42/ ح 8).

(١٢٥)

المحور الرابع: فائدة بقائه (عجَّل الله فرجه)، وارتباطه بالنبيِّ عيسى (عليه السلام):
ونتعرَّض فيه للإجابة عن سؤالين:
السؤال الأوَّل: ما هي فائدة بقاء الإمام (عجَّل الله فرجه) هذا العمر الطويل؟ نحن نؤمن ببقائه عمراً طويلاً؛ لأنَّ هذا أمر ممكن علميًّا, فإذا عرف الإنسان طُرُق الوقاية من الأمراض فمن الممكن أنْ يبقى آلاف السنين سليم الخلايا ومتجدِّداً.
السؤال الثاني: لماذا قارن به عيسى بن مريم (عليه السلام) من دون باقي الأنبياء (عليهم السلام)؟
جواب السؤال الأوَّل: فائدة بقاء الإمام (عجَّل الله فرجه):
أمَّا بالنسبة للسؤال الأوَّل, فبقاء الإمام (عجَّل الله فرجه) هذه المدَّة الطويلة ليكون شاهداً حسّيًّا على المظالم التي ألـمَّت بأُمَّة النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فالإنسان بطبعه يؤمن بالدليل الحسِّي أكثر ممَّا يؤمن بالدليل العقلي؛ لأنَّه بطبعه مخلوق محاط بالحواسِّ الخمس يستلهم المعلومات عن طريقها, لذلك فهو يؤمن بالدليل الحسِّي أكثر من إيمانه بالدليل العقلي, ولذلك ترى أنَّ الله قد قرن الأنبياء دائماً بمعاجز حسّيَّة؛ لأنَّها تورث الاطمئنان, فمثلاً عيسى بن مريم (عليه السلام) أحيا الموتى, وموسى بن عمران (عليه السلام) أُعطي العصا التي تلقف ما يأفكون, والنبيُّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ترجَّلت له الشجرة وتكلَّمت له, وشُقَّ له القمر نصفين, فالله تعالى قرن

(١٢٦)

الأنبياء بمعاجز حسّيَّة مع امتلاكهم أدلَّة عقليَّة؛ لأنَّ طبيعة البشر لا تؤمن إلَّا بالدليل الحسِّي, ولذلك تلاحظ القرآن ينقل عن الأنبياء (عليهم السلام) التركيز على القضيَّة الحسّيَّة: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ (البقرة: 260)؛ لأنَّ الدليل الحسِّي أكثر إفحاماً وإحجاجاً واطمئناناً، ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾ (الأعراف: 143), إذن الدليل الحسِّي أكثر مساهمةً في حصول الاطمئنان من الدليل العقلي, ولذلك حتَّى في يوم القيامة ترى الإنسان يجادل ويحاجج, ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ (الكهف: 54), فلا يمكن إسكاته إلَّا بالأدلَّة الحسيَّة، وذلك قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (يس: 65), ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (فُصِّلت: 21).
إنَّ الإمام (عليه السلام) مكلَّف بإقامة الدولة العادلة, وبمحو الظلم من جذوره, وهذا يستدعي أنْ يتتبَّع جذور الظلم منذ أنْ مات آخر إمام وهو الإمام العسكري (عليه السلام) إلى يوم خروجه, سواء كانت جذوراً تاريخيَّة أو اجتماعيَّة أو مكانيَّة أو زمانيَّة, حتَّى يقتلعها من أُسُسها ويقيم الدولة العادلة, واقتلاع الجذور تارةً يكون بأدلَّة عقليَّة, وتارةً بأدلَّة نقليَّة, فالأدلَّة الحسّيَّة أكثر إفحاماً للناس, وأكثر احتجاجاً عليهم من

(١٢٧)

أيِّ دليل عقلي آخر, فبقاؤه هذه الفترة الطويلة حتَّى تكون عنده شهادة حسّيَّة على جميع المظالم, من أجل إفحام الأُمَّة في ذلك الوقت باقتلاع جذور الظلم وبناء أُصول العدل.
جواب السؤال الثاني: سبب ارتباطه (عجَّل الله فرجه) بالنبيِّ عيسى (عليه السلام):
أمَّا السؤال الثاني، وهو المتعلِّق باقترانه (عجَّل الله فرجه) بعيسى بن مريم (عليه السلام) دون باقي الأنبياء (عليهم السلام), فتشير بعض الروايات إلى أنَّ زمان خروج الإمام (عجَّل الله فرجه) يكون الدِّين المسيطر على الأرض فيه هو الدِّين المسيحي, وذلك يعني أنَّ الدِّين المسيحي تبقى بيده مقاليد الأُمور مثل ما هو في زماننا هذا, أي أنَّ دين الإسلام وغيره من الأديان هي أديان شعوب, أمَّا دين السلطة الذي بيده مقاليد الحركة العالميَّة فهو الدِّين المسيحي, فإذا خرج الإمام (عجَّل الله فرجه) ومن أجل إقناع هذه الأُمَم المسيحيَّة سيخرج نبيُّهم بنفسه وهو عيسى بن مريم (عليه السلام)، ويقيم لهم الدلائل على أنَّه هو نبيُّهم وأنَّه المسيح, فيؤمنون به قائلين: هذا نبيُّنا الذي نؤمن به طيلة هذه القرون, فيقول (عليه السلام): أنا مأموم لهذا الإنسان, أُصلِّي خلفه, وأُدين بدينه, وأقول بإمامته، فيظهر الدِّين الحقُّ على الدِّين كلِّه؛ لأنَّ نبيَّ المسيحيَّة بنفسه يعترف بإمامة الإمام (عجَّل الله فرجه) ويُصلِّي خلفه, فتؤول إليه مقاليد الأُمور, فالله تبارك وتعالى هيَّأ للإمام (عجَّل الله فرجه) عاملَين مهمَّين, هما:
أوَّلاً: العمر الطويل, ليكون شاهداً حسّيًّا على المظالم.

(١٢٨)

وثانياً: عيسى بن مريم (عليه السلام), ليكون شاهداً على إمامته وصدقه ودينه, فينقاد العالم إليه, فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً, وإذا خرج يخرج أوَّلاً بين الركن والمقام, ثمّ ينتشر خبره, فيبحث عنه الظالمون, فيختفي, ثمّ يخرج مرَّةً أُخرى من الكوفة ومعه رجال كزبر الحديد يقاتلون بين يديه, وأوَّل ما يذهب إلى قبر جدِّه الحسين (عليه السلام)؛ لأنَّه منطلق الثورة المهدويَّة, ويقوم بكربلاء ويرفع رايته المباركة (يَا لَثَارَاتِ اَلْحُسَيْنِ)(72).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(72) يشير إلى ذلك ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديثه إلى أحد أصحابه, وهو الريَّان ابن شبيب عندما دخل عليه في أوَّل يوم من المحرَّم, قال (عليه السلام): «... يَا اِبْنَ شَبِيبٍ، إِنْ كُنْتَ بَاكِياً لِشَيْءٍ فَابْكِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَإِنَّهُ ذُبِحَ كَمَا يُذْبَحُ اَلْكَبْشُ، وَقُتِلَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلاً مَا لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ شَبِيهُونَ، وَلَقَدْ بَكَتِ اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ وَاَلْأَرَضُونَ لِقَتْلِهِ، وَلَقَدْ نَزَلَ إِلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلمَلَائِكَةِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ لِنَصْرِهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ قُتِلَ، فَهُمْ عِنْدَ قَبْرِهِ شُعْثٌ غُبْرٌ إِلَى أَنْ يَقُومَ اَلْقَائِمُ، فَيَكُونُونَ مِنْ أَنْصَارِهِ، وَشِعَارُهُمْ: يَا لَثَارَاتِ اَلْحُسَيْنِ» (أمالي الصدوق: ص 192/ ح 202/5).

(١٢٩)

بسم الله الرحمن الرحيم

تعرَّض بعض الكُتَّاب لبعض الشُّبُهات في مسألة الإمام المنتظَر (عجَّل الله فرجه), ونحن نتعرَّض لأهمّ هذه الشُّبُهات وهي شبهة ولادته (عجَّل الله فرجه) والإجابة عليها:
شبهة حول ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
وهي تتضمَّن ثلاث فقرات:
الفقرة الأُولى: أنَّ الإماميَّة ومنهم الشهيد الإمام الصدر (قدّس سرّه) اعتمدوا في إثبات ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على روايات النوَّاب الأربعة: عثمان بن سعيد العمري, وابنه محمّد, والحسين بن روح, وعليُّ بن محمّد السمري, وروايات هؤلاء لا يمكن الاعتماد عليها؛ لأنَّهم يجرُّون النار إلى قرصهم, فهم يدَّعون ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) والنيابة عنه كي يحصلوا على منصب الزعامة عند الشيعة, ويأخذوا أموال الشيعة بعنوان حقِّ الإمام (عجَّل الله فرجه), فدعواهم أنَّ هناك إماماً وأنَّهم نوَّاب عنه لا يُعتمَد عليها؛ لأنَّها دعوى مريبة وموطن للتهمة.
الفقرة الثانية: أنَّ هناك بعض الروايات التي اعتمد عليها العلَّامة

(١٣٣)

المجلسي (رحمه الله) (صاحب البحار) في إثبات ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) رواتها من المعتقدين بالولادة, وهم جماعة اعتقدوا بولادة الإمام (عجَّل الله فرجه), وساقوا هذه الروايات إثباتاً لمعتقدهم, فإذا كانوا قد ساقوا هذه الروايات إثباتاً لمعتقدهم, فكيف نعتمد على رواياتهم؟ فالمفروض أنْ نأخذ الرواية من طرف محايد, لا من طرف يدَّعي هذه العقيدة ثمّ يسوق الرواية دليلاً على صحَّة معتقده.
الفقرة الثالثة: أنَّنا نعتمد في روايات إثبات ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) وغيبته على (كتاب الكافي) المتضمِّن لروايات موضوعة ومقطوع بعدم صحَّتها, كروايات تحريف القرآن الكريم, فإذا كانت بعض رواياته موضوعة, فكيف نعتمد على رواياته الأُخَر, أو الوثوق بها؟
ونحن نتعرَّض للإجابة عنها تفصيلاً:
الملاحظة الأولى: خبر الثقة حجَّة:
أنَّ ما يذكره علماء الأُصول هو أنَّ خبر الثقة حجَّة، ومتى ما كان المخبر ثقةً فإنَّه يُؤخَذ به, وأمَّا احتمال أنَّه متَّهم أو أنَّ له قصداًَ وراء خبره فلا يُعتمَد على هذه الاحتمالات ولا يُعتَدُّ بها ما دام المخبر ثقةً, والدليل على ذلك الآية القرآنيَّة, والبناء العقلائي.
الدليل الأوَّل: الآية القرآنيَّة:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا

(١٣٤)

أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6), وهي تتضمَّن منطوقاً ومفهوماً, منطوقها جملة شرطيَّة ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾, أي إنَّ خبر الفاسق لا يُؤخَذ به, ولكن يُتبيَّن صحَّته وعدم صحَّته. ومفهومها أنَّه لو جاء بالخبر عادل فلا يُتبيَّن, فإنَّ الذي يُتبيَّن منه هو خبر الفاسق, وأمَّا لو جاءنا بالخبر إنسان عادل فخبره يُؤخَذ به من دون تَبيُّن.
ولا يُعتنى بالاحتمالات والشكوك, كاحتمال أنَّه يقصد شيئاً آخر, أو أنَّ عنده أهدافاً ودواعي أُخرى، فمقتضى إطلاق الآية المباركة من حيث مفهومها أنَّ الجائي بالخبر إنْ كان عادلاً فلا يُتبيَّن خبره, بل يُؤخَذ به ويعول عليه, فخبر الثقة يُؤخَذ به ولا يُبالى بالشكوك والأوهام.
الدليل الثاني: بناء العقلاء:
فالمرتكز العقلائي لسيرة العقلاء يُبيِّن لنا كيفيَّة التعامل مع الأخبار, فلو جاء إنسان مريض بمرض القلب إلى طبيب متخصِّص في أمراض القلب، وقال الطبيب للمريض: أنا قادر على علاجك وتخليصك من هذا المرض, فهذا الطبيب صادق بإخباره المريض أنَّه قادر على علاج هذا المرض وقادر على تحديد الدواء, فلو توقَّف المريض وقال: لا, لعلَّ للطبيب غرضاً من هذا الكلام, كأنْ يكون هدفه هو أخذ أموالٍ من عندي، فأنا لا أعمل بخبره ولا أعتمد عليه,

(١٣٥)

ألَا يلومه العقلاء ويكون موقع الملامة بين الناس, ويقولون له: هذا طبيب ماهر صاحب اختصاص وإنسان ثقة قال: مرضك كذا وعلاجك كذا, فلماذا لا تعتمد عليه؟ فإنَّ هذا الاحتمال لا يُعتنى به, إذ المهمُّ أنَّه طبيب ثقة, وما دام ثقة فيعول على خبره ويُؤخَذ بكلامه.
النوَّاب الأربعة ومكانتهم لدى الشيعة:
المفروض أنَّ النوَّاب الأربعة قبل أنْ يقولوا بأنَّهم نوَّاب كانوا معروفين بين الشيعة بجلالتهم ووثاقتهم وزهدهم وورعهم, وكانوا معروفين بين المسلمين آنذاك بالجلالة والوثاقة, ولذلك لـمَّا ادَّعوا أنَّ هناك إماماً وأنَّهم نوَّاب عنه لم يُكذِّبهم العلماء أو الناس, فقد كان هناك علماء أعلم من هؤلاء النوَّاب الأربعة, فالأشعريُّون في قم, ووالد الصدوق في قم, وغيرهم من علماء الشيعة في ذلك الوقت كانوا فقهاء معروفين, مع ذلك لـمَّا أخبر النوَّاب الأربعة أنَّهم نوَّاب عن الإمام اعتمدوا عليهم وأمروا الشيعة بالرجوع إليهم, ولم يتوقَّفوا, ولم يقولوا: إنَّ هؤلاء يجرُّون النار إلى قرصهم, أو لعلَّ عندهم دواعي وأغراضاً وراء ذلك, فعلماء الشيعة آنذاك لم يعترضوا عليهم بأيِّ اعتراض, بل سلَّموا بكلامهم, وأصبحت الشيعة ترجع إلى هؤلاء النوَّاب الأربعة في مسائلها وأحكامها وقضاياها الدنيويَّة والمادّيَّة من دون معارضة, بل بتأييد علماء الشيعة آنذاك.
إذن وثاقة المخبر هي مناط حجّيَّة خبره.

(١٣٦)

الملاحظة الثانية: ما هو الميزان في كون الخبر صحيحاً سنداً؟
أي كيف نعرف أنَّ هذا الخبر صحيح السند أو ليس بصحيح؟ إنَّ الميزان أنْ نرجع إلى أقوال علماء الرجال, فإذا نصَّ علماء الرجال على وثاقة الرواة ثبت لنا أنَّ هذا الحديث حديث صحيح سنداً؛ لأنَّ رواته ممَّن وثَّقهم علماء الرجال, أمَّا أنَّ الراوي يعتقد بعقيدة معيَّنة أو لا يعتقد، فهذا لا ربط له بقبول الخبر, فإذا اعتقد مثلاً بعض الرواة بعقيدة معيَّنة, ثمّ أخبرنا بخبر يُؤيِّد عقيدته ويدلُّ على صحَّة عقيدته وراجعنا كُتُب الرجال ووجدنا أنَّ هذا المخبر - أي هذا الراوي - ثقة ومعتمد عليه عند علماء الرجال, فيُؤخَذ بخبره, ولا يُشترَط أنْ تكون عقيدته موافقة للخبر أو مخالفة له, فهذا شرط لم يشترطه علماء الرجال أصلاً, ولذلك سنذكر بعض أخبار المعروفين بين الطائفة بأنَّهم علّيَّة وثقة الرواة, كأبي هاشم الجعفري, وعليٍّ القمِّي, وغيرهما.
نعم, لو أنَّ شخصاً اعتقد بعقيدة ثمّ جاءنا بخبر يُؤيِّد صحَّة عقيدته ربَّما نتوقَّف, أمَّا لو قال لنا شخص: أنا إنَّما اعتقدت بالعقيدة الفلانيَّة لأجل هذه الرواية, أي إنَّ هذه الرواية هي دليلي على عقيدتي, وهذه الرواية هي مستندي في عقيدتي, وهذه الرواية هي البرهان الذي أعتمد عليه لإثبات معتقدي, فيُعوَّل على خبره ويُعتمَد عليه, ولا يُلتفَت إلى مثل هذه الاحتمالات ما دام ثقةً.

(١٣٧)

الملاحظة الثالثة: الردُّ على إشكاليَّة بعض روايات (الكافي):
إنَّ من الغريب من هذا الكاتب أنْ يقول: كيف نعتمد على روايات (الكافي), والحال أنَّ في (الكافي) روايات غير صحيحة, وهي محلُّ شكٍّ, كروايات تحريف القرآن؟
أوَّلاً: هذا الكاتب نفسه اعتمد على كتاب (فِرَق الشيعة) للنوبختي, واعتمد على كتاب الأشعري القمِّي (المقالات والفِرَق) في إثبات أنَّ الشيعة وقعوا في حيرة بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام), والحال أنَّ هذين الكتابين كما يشتملان على روايات صحيحة فإنَّهما يشتملان أيضاً على روايات موضوعة, فما معنى تخصيص كتاب (الكافي) بالإشكال فقط؟ فأنت تعتمد على كتاب (فِرَق الشيعة) للنوبختي, وتعتمد على كتاب (المقالات والفِرَق) للأشعري القمِّي, وهما كـ(الكافي), فيهما روايات صحيحة, وفيهما روايات غير صحيحة, وفيهما روايات مخالفة للواقع, وفيهما روايات مطابقة للواقع, ومع ذلك أنت تعتمد عليهما في إثبات وقوع حيرة عند الشيعة بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام), فكيف صحَّ لك أنْ تعتمد على كتاب فيه قسمان من الروايات: روايات صحيحة, وروايات غير صحيحة؟!
ثانياً: لا يُشترَط في الاعتماد على الكتاب أنْ تكون جميع رواياته صحيحة؛ لأنَّنا لا نعتمد على الكتاب, بل نعتمد على الرواية نفسها, فكلُّ رواية نأخذها بمفردها, ولا يهمُّنا الكتاب, فنأخذ الرواية ونتابع

(١٣٨)

سندها في كُتُب الرجال, فإذا كان سندها موثَّقاً أخذنا بها, وإلَّا فلا, أمَّا وجود روايات غير صحيحة في نفس الكتاب فليس مانعاً, ما دامت هذه الروايات معتبرة وموثَّقة في كُتُب علم الرجال سنعتمد عليها, وإلَّا فعلى كلام الكاتب لا يبقى كتاب من كُتُب المسلمين يُؤخَذ منه حديث واحد؛ لأنَّ جميع كُتُب المسلمين كما أنَّها تشتمل على روايات صحيحة فهي تشتمل على روايات موضوعة أو مقطوع بعدم صحَّتها, فمن أين يأخذ الكاتب أحكامه الشرعيَّة؟ أحكام الصلاة والصيام والحجِّ والزكاة من أين يأخذها؟ إنَّه يأخذها من كُتُب الحديث, وكُتُب الحديث تشتمل على روايات موضوعة وغير صحيحة, فكيف يعتمد عليها في أخذ الأحكام الشرعيَّة مع اشتمالها على قسم من الروايات غير الصحيحة؟
إنَّ الكتاب الذي اعتمد عليه وهو كتاب (فِرَق الشيعة) للنوبختي الذي ذكر أنَّه وقعت حيرة بين الشيعة بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام), وأخذ منه هذه الكلمة وسجَّلها نقطة اتِّهام كدليل على عدم التصديق بولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته, بينما النوبختي نفسه يقول في (ص 111) من نفس الكتاب: (قد رُويت أخبار كثيرة أنَّ القائم تخفى على الناس ولادته، ويخمل ذكره، ولا يُعرَف, إلّا أنَّه لا يقوم حتَّى يظهر ويُعرَف أنَّه إمام ابن إمام ووصيٌّ ابن وصيٍّ يُؤتَمُّ به قبل أنْ يقوم, ومع ذلك فإنَّه لا بدَّ من أنْ يعلم أمره ثقاته

(١٣٩)

وثقات أبيه وإنْ قلُّوا، ولا ينقطع من عقب الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) ما اتَّصلت أُمور الله (عزَّ وجلَّ), ولا ترجع إلى الإخوة), أي لا ترجع إلى إخوة الحسن, بل ترجع إلى عقبه.
فهذا نفسه النوبختي يُصرِّح أنَّ هناك أخباراً كثيرة تدلُّ على ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه), وأنَّه خُفِيَ أمره, وأنَّه لا يظهر إلَّا إذا عُرِفَ أنَّه إمام ابن إمام, وهذه جنبة لم يأخذ بها, بل تركها على جانب وأخذ من النوبختي قوله: (إنَّ هناك حيرة وقعت بين الشيعة) كدليل على عدم ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه).
والكليني (رحمه الله) يذكر بسند معتبر عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اَلله - يعني الإمام الصادق - (عليه السلام) يَقُولُ: «إِنَّ لِلْغُلَامِ غَيْبَةً قَبْلَ أَنْ يَقُومَ»، قَالَ: قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: «يَخَافُ» وَأَوْمَأَ بِيَدِه إِلَى بَطْنِه، ثُمَّ قَالَ: «يَا زُرَارَةُ، وَهُوَ اَلمُنْتَظَرُ، وَهُوَ اَلَّذِي يُشَكُّ فِي وِلَادَتِه، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَاتَ أَبُوه بِلَا خَلَفٍ، ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حَمْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّه وُلِدَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيه بِسَنَتَيْنِ(73)، وَهُوَ اَلمُنْتَظَرُ، غَيْرَ أَنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) يُحِبُّ أَنْ يَمْتَحِنَ اَلشِّيعَةَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَابُ اَلمُبْطِلُونَ»(74).
الملاحظة الرابعة: إثبات وجود الإمام (عجَّل الله فرجه) عقلائيًّا:
إنَّ العقلاء إذا بحثوا عن وجود شخص فكيف يُثبِتون وجوده؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(73) في بعض المصادر: (بسنين).
(74) الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 5).

(١٤٠)

فمثلاً هل وُلِدَ للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولد اسمه إبراهيم أم لا؟ فكيف نُثبِت ذلك؟ ما هي الطُّرُق لإثبات أنَّ هناك ولد اسمه إبراهيم؟
الطريق الأوَّل: أنْ يُخبرنا من رآه, ويقول: نعم رأيت ولداً للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اسمه إبراهيم, ويكون إخبار من رآه إذا كان ثقةً دليلاً على وجوده.
الطريق الثاني: علماء الأنساب إذا ذكروا أنَّ من أولاده إبراهيم, عرفنا أنَّ هناك ولداً له اسمه إبراهيم؛ لأنَّ علماء التراجم والأنساب نصُّوا على ذلك.
الطريق الثالث: اعتراف من يُنكِر بالموضوع, افترض مثلاً أنَّ إنساناً يُنكِر ويقول: ليس للنبيِّ ولد, والنبيُّ لم ينجب إلَّا بنتاً, فنقول له: بل كان له ولد اسمه إبراهيم, مات في زمان أبيه, فإذا رأينا في ثنايا كلام هذا الشخص المنكِر اعترافاً بوجود إبراهيم من حيث لا يشعر, أخذنا به كإقرار عليه, وإذا رأينا في كلامه تعريفاً أو إقراراً بوجود إبراهيم ساقه من حيث لا يشعر أخذنا به كحجَّة ضدَّه.
هذه الطُّرُق كلُّها مشتملة ومجتمعة تُثبِت ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه), ولكن الكاتب قال: ليس هناك رواية صحيحة على أسماء الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام), أي لا يوجد رواية على أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نصَّ عليهم, أو أنَّ الإمام عليًّا (عليه السلام) نصَّ عليهم بأسمائهم!

(١٤١)

الطريق الأوَّل: إثبات وجود الإمام (عجَّل الله فرجه) بالنصِّ:
مع أنَّ هناك روايات كثيرة يمكن أنْ يُرجَع إليها في كتاب (الكافي)(75) للكليني, و(كمال الدِّين)(76) للصدوق, ومنها:
روى الصدوق (رحمه الله) بإسناد صحيح عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ جُنْدَبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليهما السلام) أَنَّهُ قَالَ: «تَقُولُ فِي سَجْدَةِ اَلشُّكْرِ: اَللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ مَلَائِكَتَكَ وَأَنْبِيَاءَكَ وَرُسُلَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ أَنْتَ اَللهُ رَبِّي، وَاَلْإِسْلَامَ دِينِي، وَمُحَمَّداً نَبِيِّي، وَعَلِيًّا وَاَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ وَعَلِيَّ بْنَ اَلْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَجَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ وَعَلِيَّ بْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَعَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ وَاَلْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَاَلْحُجَّةَ بْنَ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أَئِمَّتِي، بِهِمْ أَتَوَلَّى، وَمِنْ أَعْدَائِهِمْ أَتَبَرَّأُ»(77).
وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ اَلْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام): جَلَالَتُكَ تَمْنَعُنِي مِنْ مَسْأَلَتِكَ، فَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَسْأَلَكَ؟ فَقَالَ: «سَلْ»، قُلْتُ: يَا سَيِّدِي، هَلْ لَكَ وَلَدٌ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقُلْتُ: فَإِنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ فَأَيْنَ أَسْأَلُ عَنْه؟ قَالَ: «بِالمَدِينَةِ»(78).
وأيضاً الخبر الآخر المعتبر عن محمّد بن عليٍّ بن بلال - من وكلاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(75) راجع: الكافي (ج 1/ ص 525/ باب ما جاء في الاثني عشر والنصِّ عليهم (عليهم السلام)).
(76) راجع: كمال الدِّين (ص 256 - 285/ باب 24).
(77) من لا يحضره الفقيه (ج 1/ ص 329 و330/ ح 967).
(78) الكافي (ج 1/ ص 328/ باب الإشارة والنصِّ إلى صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 2).

(١٤٢)

الإمام (عجَّل الله فرجه) -, قَالَ: خَرَجَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ قَبْلَ مُضِيِّه بِسَنَتَيْنِ يُخْبِرُنِي بِالْخَلَفِ مِنْ بَعْدِه، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْ قَبْلِ مُضِيِّه بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يُخْبِرُنِي بِالْخَلَفِ مِنْ بَعْدِه(79).
هذه روايات تُؤكِّد على ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه), وأنَّ للإمام العسكري (عليه السلام) ولداً، وأنَّ له خلفاً، وهي روايات معتبرة.
والسيِّدة حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) عمَّة الإمام العسكري (عليه السلام), أخبرتنا برؤية الإمام (عجَّل الله فرجه), وأنَّها هي التي تولَّت أمر ولادته (عجَّل الله فرجه), وأنَّها رأته بعد ولادته مراراً(80).
وَعَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ جَعْفَرٍ اَلْحِمْيَرِيِّ، قَالَ: اِجْتَمَعْتُ أَنَا وَاَلشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو - يعني محمّد بن عثمان - (رحمه الله) عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَغَمَزَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنْ أَسْأَلَه عَنِ اَلْخَلَفِ، فَقُلْتُ لَه: يَا أَبَا عَمْرٍو، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ شَيْءٍ، وَمَا أَنَا بِشَاكٍّ فِيمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْه...، إلى أنْ قال: ثُمَّ قَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ رَأَيْتَ اَلْخَلَفَ مِنْ بَعْدِ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)؟ فَقَالَ: إِي وَاَلله، وَرَقَبَتُهُ مِثْلُ ذَا - وأَوْمَأَ بِيَدِه - ...(81).
وأيضاً روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ جَعْفَرٍ اَلْحِمْيَرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ (رضي الله عنه): إِنِّي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(79) الكافي (ج 1/ ص 328/ باب الإشارة والنصِّ إلى صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 1).
(80) راجع: كمال الدِّين (ص 424/ باب 42/ ح 1 و2).
(81) الكافي (ج 1/ ص 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1).

(١٤٣)

أَسْأَلُكَ سُؤَالَ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ (جلَّ جلاله) حِينَ قَالَ لَهُ: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، فَأَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ هَلْ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَهُ رَقَبَةٌ مِثْلُ ذِي - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عُنُقِهِ -(82).
إذن الدليل والطريق الأوَّل هو إخبار من رآه.
الطريق الثاني: ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) من كُتُب أهل السُّنَّة:
أمَّا الطريق الثاني فهم علماء النَّسَب, وهم أهل الخبرة في مجالهم, فمثلاً لو اختلفنا في مكان أصحاب الكهف هل هو في دمشق أم لا؟ نُثبِت ذلك بالرجوع إلى علماء الآثار, أليس كذلك؟ فعلماء الآثار أهل اختصاص, فإذا شهدوا وقالوا: نعم, الذي يوجد في دمشق هو الكهف المنتسَب لأصحاب الكهف, ألَا يُعتمَد على كلامهم؟ طبعاً يُعتمَد على كلامهم؛ لأنَّهم أهل اختصاص بهذا الأمر, وكما نرجع إلى الأطبَّاء بمجال اختصاصهم, ونرجع إلى المهندسين في مجال اختصاصهم, كذلك نرجع لعلماء الآثار في مجال اختصاصهم, ونرجع إلى علماء الأنساب في مجال اختصاصهم.
قال أبو نصر سهل بن عبد الله البخاري - وهو من أعلام القرن الرابع الهجري, ومن أشهر علماء النَّسَب المعاصرين للغيبة الصغرى,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(82) كمال الدِّين (ص 435/ باب 43/ ح 3).

(١٤٤)

وهو ليس شيعيًّا - في كتابه (سرِّ السلسلة العلويَّة): (وولد عليٌّ النقي ابن محمّد التقي (عليه السلام) جعفراً, وهو الذي تُسمِّيه الإماميَّة جعفر الكذَّاب, وإنَّما تُسمِّيه الإماميَّة بذلك لادِّعائه ميراث أخيه الحسن (عليه السلام) دون ابنه القائم الحجَّة (عليه السلام)، لا طعن في نسبه)(83).
ويذكر السيِّد العمري - وهو من علماء الأنساب ومن أعلام القرن الخامس الهجري - في كتابه (المجدي في أنساب الطالبيِّين): (مات أبو محمّد - يعني الإمام العسكري - (عليه السلام) وولده محمّد من نرجس معلوم عند خاصَّة أصحابه وثقات أهله, وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها في ذلك)(84).
ويذكر الفخر الرازي الشافعي المتوفَّى سنة (606هـ) في كتابه (الشجرة المباركة في أنساب الطالبيَّة) تحت عنوان أولاد العسكري ما نصُّه: (أمَّا الحسن العسكري الإمام (عليه السلام) فله ابنان وبنتان, أمَّا الابنان أحدهما صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه), والثاني موسى درج في حياة أبيه - أي مات في حياة أبيه -)(85)، وذكر البنتين بعد ذلك.
وأيضاً النسَّابة الزيدي السيِّد أبو الحسن محمّد اليماني الصنعاني من أعيان القرن الرابع عشر, وهو ليس من الشيعة، ذكر في المشجَّرة التي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(83) سرُّ السلسلة العلويَّة (ص 40).
(84) المجدي في أنساب الطالبيِّين (ص 130).
(85) الشجرة المباركة في أنساب الطالبيَّة (ص 78 و79).

(١٤٥)

رسمها في كتابه (روضة الألباب في معرفة الأنساب) وتحت اسم الإمام العسكري (عليه السلام) مباشرةً كتب: (محمّد بن) وبإزائه: (منتظَر عند الإماميَّة)(86).
الطريق الثالث: اعتراف إخواننا أهل السُّنَّة:
الذين عاصروا تلك الفترة, أي فترة الغيبة الصغرى, فلم يذكر أحد منهم عدم وجوده, ولم نجد عالماً أو مؤرِّخاً منهم نفى وجود الإمام (عجَّل الله فرجه), أو قال: إنَّ ما تدَّعيه الرافضة كذب وإنَّه ليس موجوداً, وإلَّا لو أرادوا أنْ ينفوا وجوده لنفوه وقالوا: ما يدَّعيه الشيعة مجرَّد كذب واختلاق, ولكانت حجَّة جيِّدة لضرب الشيعة والطعن فيهم, بل بالعكس رأينا المؤرِّخين والمحدِّثين منهم يُثبِتون وجوده, كابن الأثير المتوفَّى سنة (630هـ) الذي يقول في كتابه (الكامل في التاريخ) في حوادث سنة (260هـ): (وفيها تُوفّي أبو محمّد العلويُّ العسكريُّ، وهو أحد الأئمَّة الاثني عشر على مذهب الإماميَّة، وهو والد محمّد)(87).
كما يوجد كتاب جيِّد بعنوان (دفاع عن الكافي) للسيِّد ثامر العميدي, حيث يذكر في أنَّ من أهل السُّنَّة من اعترف بولادة الإمام وبوجوده, وأوَّلهم أبو بكر محمّد بن هارون الروياني المتوفَّى سنة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(86) روضة الألباب في معرفة الأنساب (ص 5).
(87) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 274).

(١٤٦)

(307هـ), حيث كان معاصراً للإمام (عجَّل الله فرجه) في غيبته الصغرى في كتابه (المسند), وآخرهم الأُستاذ المعاصر يونس أحمد السامرَّائي في كتابه (سامرَّاء في أدب القرن الثالث الهجري) المطبوع سنة (1968م)(88).
وأيضاً ابن خلِّكان المتوفَّى سنة (681هـ) حيث قال في (وفيات الأعيان): (أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري..., ثاني عشر الأئمَّة الاثني عشر على اعتقاد الإماميَّة..., كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين)(89).
وأيضاً الذهبي المتوفَّى سنة (748هـ), اعترف بولادة الإمام وبوجوده في ثلاثة من كُتُبه, يذكر فيقول: (وفي سنة (256هـ) محمّد بن الحسن بن عليٍّ الهادي... أبو القاسم الذي تُلقِّبه الرافضة الخلف الحجَّة, وتُلقِّبه بالمهدي, وبالمنتظَر, وتُلقِّبه بصاحب الزمان, وهو خاتمة الاثني عشر)(90), ممَّا يدلُّ على أنَّه اعترف بوجوده وبولادته.
وابن الوردي المتوفَّى سنة (949هـ) في كتابه (تاريخ ابن الوردي), نقل عنه الشبلنجي الشافعي في كتابه (نور الأبصار) أيضاً: (وُلِدَ محمّد بن الحسن الخالص سنة خمس وخمسين ومائتين)(91).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(88) دفاع عن الكافي (ج 1/ ص 568 - 588).
(89) وفيات الأعيان (ج 4/ ص 176/ الرقم 562).
(90) العبر في تاريخ من غبر (ج 2/ ص 37)، وراجع: تاريخ الإسلام (ج 19/ ص 113)، وسير أعلام النبلاء (ج 13/ ص 119/ الرقم 60).
(91) نور الأبصار (ص 342).

(١٤٧)

وأحمد بن حجر الهيثمي الشافعي المتوفَّى سنة (974هـ) في كتابه (الصواعق المحرقة), قال: (أبو محمّد الحسن الخالص..., وُلِدَ سنة اثنتين وثلاثين ومائتين...، مات بسُرَّ من رأى ودُفِنَ عند أبيه...، ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمّد الحجَّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين، لكن آتاه الله فيها الحكمة، ويُسمَّى القائم المنتظَر)(92).
إذن فبالنتيجة هناك أدلَّة كافية ووافية على ولادته ووجوده (عجَّل الله فرجه), وُلِدَ ولم تثبت وفاته, ولا كتب أحد لا من قريب ولا من بعيد أنَّه تُوفّي أو حضر وفاته أحد أو رأى موته أحد أو شيَّعه أحد أو صلَّى عليه أحد, فقد ثبتت ولادته ولم تثبت وفاته, فمقتضى القاعدة بقاؤه. ولا مانع من أنَّ الله تعالى يُبقيه من أجل يومه الموعود الذي وعده في كتابه: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصص: 5), وقد ذكر العلماء ومنهم ابن الصبَّاغ المالكي(93), والكنجي الشافعي(94) أنَّه من الدلائل على كون المهدي حيًّا باقياً منذ غيبته إلى آخر الزمان بقاء عيسى بن مريم والخضر (عليهما السلام).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(92) الصواعق المحرقة (ص 207 و208).
(93) الفصول المهمَّة (ج 2/ ص 1119).
(94) البيان في أخبار صاحب الزمان (عليه السلام) (ص 521/ باب 25).

(١٤٨)

مصادر التحقيق

1 - القرآن الكريم.
2 - الاحتجاج: أحمد بن عليٍّ الطبرسي/ تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/ 1386هـ/ دار النعمان/ النجف الأشرف.
3 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
4 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ط 1/ 1417هـ/ مركز الطباعة والنشر في مؤسَّسة البعثة/ قم.
5 - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: العلَّامة المجلسي/ تحقيق: يحيى العابدي الزنجاني وعبد الرحيم الربَّاني الشيرازي/ ط 2/ 1403هـ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
6 - بحث حول المهدي (عجَّل الله فرجه): السيِّد محمّد باقر الصدر/ تحقيق: عبد الجبَّار شرارة/ ط 1/ 1417هـ/ مركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة.
7 - بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمّد (عليهم السلام): محمّد بن

(١٤٩)

الحسن بن فرُّوخ (الصفَّار)/ تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوجه باغي/ 1404هـ/ منشورات الأعلمي/ طهران.
8 - البيان في أخبار صاحب الزمان (عليه السلام): محمّد بن يوسف الكنجي الشافعي/ ط 2/ 1404هـ/ دار إحياء تراث أهل البيت (عليهم السلام)/ طهران.
9 - تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام: الذهبي/ تحقيق: عمر عبد السلام تدمري/ ط 1/ 1407هـ/ دار الكتاب العربي.
10 - تذكرة الخواصِّ: سبط ابن الجوزي/ ط 1/ 1418هـ/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
11 - تفسير القمِّي: عليُّ بن إبراهيم القمِّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيِّب الموسوي الجزائري/ ط 3/ 1404هـ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
12 - التفسير الكبير: الفخر الرازي/ ط 3.
13 - تفسير الميزان (الميزان في تفسير القرآن): العلَّامة الطباطبائي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
14 - تفسير فرات الكوفي: فرات بن إبراهيم الكوفي/ تحقيق: محمّد الكاظم/ ط 1/ 1410هـ/ مؤسَّسة طبع ونشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي/ طهران.

(١٥٠)

15 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق وتعليق: السيِّد حسن الموسوي الخرسان/ ط 3/ 1364هـ/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
16 - جنَّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجَّة (عجَّل الله فرجه): ميرزا حسين النوري الطبرسي/ ط 1/ 1427هـ/ مؤسَّسة السيِّد المعصومة (عليها السلام)/ قم.
17 - الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة: صدر الدِّين الشيرازي/ ط 3/ 1981م/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
18 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1362ش/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
19 - دفاع عن الكافي: السيِّد ثامر هاشم حبيب العميدي/ ط 1/ 1415هـ/ مركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة.
20 - دلائل الإمامة: محمّد بن جرير الطبري الشيعي/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة البعثة/ قم.
21 - رجال الكشِّي (اختيار معرفة الرجال): الشيخ الطوسي/ تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي/ 1404هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.

(١٥١)

22 - روضة الألباب لمعرفة الأنساب: السيِّد أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني.
23 - سرُّ السلسلة العلويَّة: أبو نصر البخاري/ ط 1/ 1413هـ/ انتشارات شريف الرضي.
24 - سُنَن ابن ماجة: أبو عبد الله محمّد بن يزيد القزويني (ابن ماجة)/ تحقيق وترقيم وتعليق: محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.
25 - سُنَن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني/ تحقيق وتعليق: سعيد محمّد اللحَّام/ ط 1/ 1410هـ/ دار الفكر/ بيروت.
26 - سُنَن الترمذي: أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي/ تحقيق وتصحيح: عبد الوَّهاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1403هـ/ دار الفكر/ بيروت.
27 - سِيَر أعلام النبلاء: شمس الدِّين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي/ إشراف وتخريج: شعيب الأرنؤوط/ تحقيق: حسين الأسد/ ط 9/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
28 - الشجرة المباركة في أنساب الطالبيَّة: فخر الدِّين الرازي.
29 - صحيح مسلم: مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.

(١٥٢)

30 - الصواعق المحرقة في الردِّ على أهل البدع والزندقة: أحمد ابن حجر الهيتمي المكّي/ خرَّج أحاديثه وعلَّق حواشيه وقدَّم له: عبد الوهَّاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1385هـ/ مكتبة القاهرة لصاحبها عليّ يوسف سليمان/ القاهرة.
31 - الطبقات الكبرى: محمّد بن سعد/ دار صادر/ بيروت.
32 - العِبَر في خبر من غبر: الذهبي/ تحقيق: فؤاد سيِّد/ 1961م/ الكويت.
33 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
34 - الفصول المهمَّة في معرفة الأئمَّة: عليُّ بن محمّد أحمد المالكي المكّي (ابن الصبَّاغ)/ تحقيق: سامي الغريري/ ط 1/ 1422هـ/ دار الحديث/ قم.
35 - فضائل الخمسة من الصحاح الستَّة: السيِّد مرتضى الحسيني الفيروزآبادي/ ط 3/ 1393هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
36 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 5/ 1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

(١٥٣)

37 - الكامل في التاريخ: عزُّ الدِّين أبو الحسن عليُّ بن أبي الكرم محمّد بن محمّد الشيباني (ابن الأثير)/ 1385هـ/ دار الصادر/ بيروت.
38 - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1405هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
39 - كنز العُمَّال في سُنَن الأقوال والأفعال: علاء الدِّين عليّ المتَّقي ابن حسام الدِّين الهندي البرهان فوري (المتَّقي الهندي)/ ضبط وتفسير: الشيخ بكري حيَّاني/ تصحيح وفهرسة: الشيخ صفوة السقَّا/ 1409هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
40 - المجدي في أنساب الطالبيِّين: عليُّ بن محمّد العلوي العمري/ تحقيق: أحمد المهدوي الدامغاني/ ط 1/ 1409هـ/ مكتبة المرعشي/ قم المقدَّسة.
41 - المزار الكبير: محمّد بن جعفر المشهدي/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط 1/ 1919هـ/ نشر القيُّوم/ قم.
42 - المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري/ إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
43 - مسند أبي داود الطيالسي: سليمان بن داود بن الجارود الفارسي البصري الشهير بأبي داود الطيالسي/ دار المعرفة/ بيروت.

(١٥٤)

44 - مسند أبي يعلى: إسماعيل بن محمّد بن الفضل التميمي (أبو يعلى الموصلي)/ تحقيق: حسين سليم أسد/ دار المأمون للتراث.
45 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ تحقيق عدَّة محقِّقين/ ط 1/ 1416هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
46 - مصباح الزائر: السيِّد عليُّ بن موسى بن طاوس/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
47 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411هـ/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.
48 - مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (عليهم السلام): كمال الدِّين محمّد بن طلحة الشافعي/ تحقيق: ماجد بن أحمد العطيَّة.
49 - مقتل الحسين (عليه السلام): الموفَّق بن أحمد الخوارزمي/ تحقيق: الشيخ محمّد السماوي/ ط 2/ 1423هـ/ أنوار الهدى/ قم.
50 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
51 - مناقب آل أبي طالب: محمّد بن عليِّ بن شهرآشوب المازندراني/ 1376هـ/ المكتبة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
52 - النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجَّة الغائب (عجَّل الله فرجه): ميرزا

(١٥٥)

حسين الطبرسي النوري/ تقديم وترجمة وتحقيق وتعليق: السيِّد ياسين الموسوي/ ط 1/ 1415هـ/ أنوار الهدى.
53 - نهج البلاغة: خُطَب أمير المؤمنين (عليه السلام)/ ما اختاره وجمعه: الشريف الرضي/ تحقيق: الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387هـ، وبشرح محمّد عبدة/ ط 1/ 1412هـ/ دار الذخائر/ قم.
54 - نور الأبصار في مناقب آل بيت النبيِّ المختار (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مؤمن ابن حسن مؤمن الشبلنجي/ الرضي/ قم.
55 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: ابن خلِّكان/ تحقيق: إحسان عبَّاس/ دار الثقافة.

* * *

(١٥٦)