السفياني حتمٌ مُرّ

السفياني حتمٌ مُرّ

تأليف: السيّد جلال الموسوي
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عليه السلام)
الطبعة الثانية: 1433هـ
رقم الإصدار: 127

فهرست الموضوعات

مقدّمة المؤلّف..................3
المدخل..................6
قراءة المهدوية..................9
علائم الظهور..................10
تقسيمات علائم الظهور..................13
الأوّل: لحاظ الموضوع..................13
الثاني: لحاظ التحقّق..................14
السُّفْياني حَتْمٌ مُرّ..................16
السفياني رمزٌ أم شخص؟..................23
المحور الأوّل: السفياني الهويّة المنحوسة..................30
اسم السفياني..................30
دين السفياني..................33
إشارة..................43
المحور الثاني: السفياني الحركة الجغرافية..................46
بداية الشؤم..................46
حَرَسْتا..................50
الشام والسفياني..................52
السّفياني وأتباع أهل البيت (عليهم السلام) ..................59
السفياني والإمام المهدي (عليه السلام) ..................62
قرقيسيا..................64
الكوفَة..................68
الاعتداء على مدينة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ..................75
الجهة الأولى: سبب الغزو..................77
الجهة الثانية: لماذا هذه الوحشية؟..................81
إشارة..................86
حرب الإمام (عليه السلام) والسفياني..................88
الإمام المهدي (عليه السلام) في الكوفة..................89
إشارة..................99
مصادر التحقيق..................101

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المؤلّف:
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم على سيِّد الخلق أجمعين حبيب إله العالمين سيِّدنا ومولانا أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم وغاصبي حقوقهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم أجمعين، إلى قيام يوم الدين.
وبعد، قلَّما نجد قضيّة أُحيطت بالرمزية المقصودة كقضيّة ظهور الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) في أواخر الدهر والزمان، رغم وفرة النصوص والأخبار بل تواترها الدالّ على تميُّز هذه القضيّة عن عشرات الأخريات من قضايانا الإسلاميّة أهمّيةً وخطورةً، ممَّا يغني عن الإسهاب في الحديث لإثبات تلك الأهمّية.
بيد أنَّ تلك الرمزية والحيطة وذلك الغموض لا يعني إهمال هذه القضيّة بدون إبداء علائم دالّة على بعض ملامحها، بل وحتَّى بعض خصوصياتها وتفاصيلها المهمّة، للوصول إلى الأهداف المنشودة منها.
ولمَّا كان بعض تلك العلائم قد ذُكر على نحو الملاحم

(٣)

المشفَّرة، ازدادت تلك السرّية والكتمان تعقيداً، خاصّةً تلك العلائم القريبة من الظهور الشريف والمقارنة له(1). وهذا ينبئك عن حرص أهل البيت (عليهم السلام) على الحفاظ على حياة المنقذ الأكبر من كيد مردة الشياطين، إنسهم وجِنّهم، الذين قعدوا يترصَّدون تلك العلائم بغية إفشال هذا المخطَّط الإلهي الإصلاحي الكبير، والنيل من قائد هذا التحرّك العالمي، وإحباط أمل المجتمع البشري.
ولذا فقد أعيى المفكّرون أنفسهم وجدّوا واجتهدوا سعياً لكشف الغموض وفكّ الرموز عن بعض تلك العلائم، وتطبيق الكبريات على الصغريات لرسم صورة واضحة المعالم، جليَّة الرتوش لما قُبيل عصر الظهور المبارك.
ولعلَّ من أخفى ملامح هذه الصورة هو خصوصيات بعض الشخصيات التي قُدّر لها أن تلعب دوراً فاعلاً صميماً في سير الأحداث، سلباً أو إيجاباً، كالمسيح الدجّال والشيصباني والسفياني، في كفَّة الظلمة والضلال، واليماني والحسني والخراساني والنفس الزكية، في كفَّة الإشراق والنور والهداية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) إنَّ حرص المعصومين على رمزية وغموض العلائم، خاصّة القريبة من زمن الظهور، لا يعني بالضرورة المنع عن حلّ تلك الرموز وكشفها أبد الآباد، إذ قد يكون الكشف ممنوعاً في ظرف ومسموحاً في ظرف آخر، وإلاَّ تخلَّف الغرض من بيان تلك العلائم من قبلهم (عليهم السلام)، وقد أشرنا في البحث إلى بعض الضرورات الملحَّة لمعرفة واقع علائم الظهور وأهمّيتها.

(٤)

ورغبةً منّا في المساهمة في إضافة بعض الرتوش على الصورة ولكشف بعض الإبهام المحيط بتلك الشخصيات كتبنا هذه الصفحات التي بين يديك عزيزي القارئ، علَّها تكون نقطة مضيئة في هذا المجال.
والله المستعان أوّلاً وأخيراً وعليه التكلان.

السيّد جلال الموسوي
شعبان 1428هـ

(٥)

المدخل

استهوت الإنسان قديماً وإلى يوم الناس هذا فكرة قراءة الطالع والمستقبل ظنّاً منه أنَّ ذلك ممَّا يساهم في تقويم حياته وتحسين أوضاعه والحذر من منغِّصات العيش، فإنَّ معرفة المجهول المستقبلي يساعد الإنسان على الحيطة والحذر من جهة، والتفأل والتشويق من جهة أخرى، ولذا فقد توسَّل - الإنسان - قديماً وحديثاً بكلّ وسيلة من أجل اكتشاف الآتي، ومعرفة ما هو حسن ومهول من طالعه الحلو والمُرّ، وإن كان ديدنه تفضيل الحلو على ندِّه.
ومن ثَمَّ، كانت ولا تزال قراءة المستقبل، رائجة في حياة الناس.
بيد أنَّه يوجد نمطان من قراءة المستقبل، قراءة سماوية إلهية مضبوطة بضوابط الواقعية النزيهة عن التهويل والغش والخرافة والدجل والشعوذة، وقراءة مزيَّفة في أغلب حالاتها، مشبوهة في أغراضها ومرادها.
وقد تمثَّلت القراءة الأولى في إخبارات الأنبياء والأولياء عمَّا يكون من آيات وأحداث تمتُّ إلى مستقبل البشرية بصلات وصلات، وهي بدورها على أقسام وأشكال تأتي في طيّات البحث إن شاء الله تعالى.

(٦)

وتمثَّلت القراءة الثانية في إخبارات وتخرّصات الكهنة والعرّافين والمتصوّفة والمرتاضين والسحرة والمشعوذين والمنجّمين، ومن لفَّ لفَّهم، من الذين يعتمدون الطرق الملتوية والمنحرفة للتجسّس على بعض الكائنات لمعرفة بعض صور المستقبل القاتمة والمشوَّهة والمشوَّشة.
وباختلاف القراءتين السماوية الواقعية، والأرضية الهامشية المشوَّهة، اختلف أتباع روّاد القراءتين أيضاً.
فأتباع روّاد القراءة المزيَّفة الأرضية - وهم الأكثرية - كلُّ همِّهم نيلُ المكاسب الدنيوية المادّية، ويشكّلون في أغلب الأحيان طبقات المغفَّلين والبسطاء من الناس، الذين يُخدعون بسهولة بأقوال وخزعبلات قارءات الفنجان والكفّ وأباطيل المنجّمين والفوّالين، وإنْ ضمَّت طائفتهم بعض أدعياء الثقافة والعلم، وذوي المكانة الاجتماعية والسياسية من الذين استهوتهم الفكرة، فطرقوا أبواب السحرة وأدعياء معرفة الأفلاك والأملاك، بل وحتَّى أرباب تسخير الأرواح والأشباح والمردة من الشياطين، كلُّ ذلك للحفاظ على مناصبهم ومقامهم وظنِّ تحسين أوضاع معاشهم وأحوالهم المادّية والدنيوية والسلطوية.
أمَّا أتباع روّاد القراءة الإلهية، فكانت همَّتهم عالية بعلوّ أنفسهم، فاختلفوا تماماً عن الطائفة الأولى اختلاف الثريا عن الثرى، وكان غرضهم أرفع وأسمى بكثير لا يقارن بغرض أولئك، فأتباع القراءة الواقعية ينظرون إلى العالم من أُفق أعلى، ومن

(٧)

زاوية أكبر وبنظرة شاملة دقيقة ثاقبة، ومن ثَمَّ اعتبروا قراءات الأنبياء والأولياء معالم طريق وأعلام هداية وإضاءات هدى حقيقية في نهج الحقّ والصدق، بعدما أيقنوا أنَّ هذه التنبّؤات والإخبارات المستقبلية من قبل الأنبياء والأولياء هي إيحاءات سماوية ترتبط بالعالم العلوي وتُستقى من فيض الحقائق الحقّة، وتتَّصل بالعلم الإلهي الأزلي السرمدي، المحيط بحقائق الكون بكلّ دقائقه وبواتقه، ذلك أنَّ كلَّ ذرّة من ذرّات هذا الكون هي تحت قدرته ورحمته وجبروته وسلطانه يفعل بها ما يشاء، ولا يفعل بها ما يشاء غيره، وهو الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة من خردلٍ ولا أكبر من ذلك ولا أصغر، ذلك العلم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا عن يمينه أو شماله إطلاقاً، العلم الذي لا يختلف عنده الماضي والحاضر والمستقبل في قوَّة انكشافه ووضوح صورته، ذلك لأنَّه عِلْمُ من يصنع الماضي والحاضر والمستقبل بإرادته، ويكوِّن الكون بكينونيَّته ولطفه وقدرته.
أجل، الأنبياء يستقون علمهم وقراءتهم من هذا المصدر، أضف إلى أنَّ هؤلاء المقدَّسين أبعد ما يكونون عن طلب الدنيا فلا حاجة لهم في تشويه الحقائق وتمويه الصور، والتملّق لهذا أو ذاك، مستغنين عمَّا في أيدي الناس بما رزقهم الله من فضله، فلا اقتضاء للاحتيال في حياتهم، ولا حاجة لخداع الناس في نفوسهم الزكية، بعكس روّاد القراءة الأرضية فإنَّهم يرتزقون زائف زينة

(٨)

الدنيا بكذبهم واحتيالهم وتدليسهم، لأنَّهم قنطوا من رحمة الله وفضله ذلك بأنَّهم قومٌ لا يفقهون.
ومَنْ أحسنّا الظنّ به من هؤلاء فهو على أيّ حالٍ من طلاب الشهرة والصيت والسمعة ممَّن يسعون إلى إرضاء نزواتهم وإشباع رغباتهم.
ولا نهدف في هذه الدراسة، العمومية في قراءة المستقبليات وإنَّما نودّ التطرّق إلى محور محدَّد جدّاً وهو القراءة المستقبلية للقضيّة المهدوية، والتي هي بدورها لم تسلم من تخرّصات روّاد القراءة الدنيوية المزيَّفة، فدسَّت في الإخبارات عن المهدوية بعض المدسوسات الأمويّة المغرضة وغيرها وخاصّة في قضيّة السفياني، وسنشير إلى بعضها لاحقاً.
ولذا نكتفي بهذا المقدار من التقديم للبحث في القراءات المستقبلية ونحاول حصر الأمر في القراءة السماوية للطور المهدوي عموماً ولقضيّة السفياني - مورد البحث في هذه الصفحات - خصوصاً.
قراءة المهدوية:
شَغَلَ الطور المهدوي في حركة تاريخ البشرية مساحة واسعة من فكر أرباب الأديان السماوية والمذاهب الإلهية خاصّة عند الأنبياء والأوصياء، فلم تغب أبداً فكرة المنقذ المصلح الأعظم عن قراءاتهم لمستقبل البشرية في خضم الصراع القائم أبداً بين الحقّ والباطل.
ويكفي التصفّح العابر لسيرتهم وتاريخهم ليتَّضح لنا جليّاً الاهتمام المتميَّز عندهم بهذه القضيّة واعتبارها المرحلة المنشودة من خلق الإنسان

(٩)

على هذه البسيطة والهدف السامي من عمران الأرض بيد الله سبحانه وتعالى، إذ في تلك المرحلة فقط تتحقَّق الخلافة الكاملة والشاملة للإنسان، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)، بكلّ ما في هذه الكلمة من غاية، ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (الصفّ: 9).
وقد ورد في بعض الأثر أنَّ الأنبياء كانوا يُسلَّون ويصبَّرون بالمهدي (عليه السلام) عمَّا يصيبهم من المحن والأذى والظلامات، فإنَّ المنتظَر الموعود هو المحقّق لأهدافهم والمنتقم من الظالمين للمظلومين ومن الجبابرة للمستضعفين.
وأمَّا التراث الروائي الإسلامي، فقد أشبع هذه القضيّة بنصوصه الواردة على لسان نبيّ الإسلام الأكرم خاتم الأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعلى لسان أئمّة الهدى (عليهم السلام)، وبشكل مفصَّل بذكر تفاصيل هذه القضيّة غيبةً وحضوراً، وإن كان ذكر بعض التفاصيل قد ورد على شكل شفرات ورموز كما ذكرنا.
فها هو النبيّ الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يغتنم كلَّ فرصة للأخبار عن ولده المهدي (عليه السلام) حتَّى إنَّه قد خصَّ هذا الموضوع باهتمامه الخاصّ والواضح في خطبته يوم الغدير سنة حجّة الوداع.
ولا أدلّ على أهمّية القضيّة من ذكر أهل البيت (عليهم السلام) ليس فقط لمواصفات الظهور وملامح شخصية الإمام المنتظر (عليه السلام) وإنَّما أبدَوْا اهتماماً واضحاً في ذكر علائم الظهور السابقة والمقارنة له، رغبة في تعبئة الأرواح والنفوس إلى الاستعداد لاستقبال هذا المنقذ المصلح الأكبر، وعدم التخلّف عن كسب

(١٠)

الفوز ذلك اليوم، يوم ﴿لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾ (الأنعام: 158).
ناهيك عن تميّز روايات علائم الظهور عن روايات سائر قضايا المهدوية بكثرتها وتواتر الكثير منها كروايات السفياني، ممَّا يدلُّ على خطورة هذه القضيّة وأهمّيتها.
علائم الظهور:
العلائم جمع علامة، وهي ما يُنصب في الطرق لاهتداء الناس بها، وعليه فعلائم الظهور في الروايات تُعَدُّ منارات يهتدي بها الناس إلى قرب الظهور الشريف.
ولعلَّ سائلاً يسأل قائلاً: ما هي أهمّية معرفة تلك العلامات بعد ثبوت حتمية الظهور الشريف، ضرورة عدم تأثير هذه المعرفة في تعجيل الظهور أو تأخيره على فرض عدم معرفتها؟
وبعبارة أخرى: إنَّه لا توجد سببية ومسبَّبية ولا علّية ومعلولية بين معرفة العلائم وبين نفس الظهور، وإنَّما تلك العلائم مجرَّد ظواهر حاكية عن قرب ذلك الظهور أو تحقّقه، فما هي فائدة هذه الكاشفية المجرَّدة عن التأثير في أجل الظهور؟
والجواب: بعد ثبوت صدور هذه القراءات والإخبارات المستقبلية عن المعصوم (عليه السلام) تتَّضح المصلحة في تلك الإخبارات، لاستحالة اللغوية في كلام المعصوم، وإن لم نقف على الغرض الواقعي والمصلحة الحقيقية.

(١١)

بيد أنَّه يمكن تصوير عدَّة أغراض لذكر تلك العلامات منها:
1 - كانت فكرة المهدوية والإصلاح، فكرة استبشر بها الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) وأتباعهم من المؤمنين وبتحقّق كلِّ علامة من العلائم المبشّرة بالظهور، تزداد البشرى في قلوب المؤمنين ويتعمَّق الأمل بالخلاص عندهم فتطمئنّ النفوس بقرب الفرج.
2 - إنَّ تحقّق العلائم، الواحدة تلو الأخرى يدفع المؤمنين إلى الجدّ والاجتهاد في تفعيل حركة الإصلاح الذاتي والاجتماعي تمهيداً لاستقبال الظهور المبارك.
3 - إنَّ للظهور الشريف جنبتين، جنبة تبشيرية وجنبة تحذيرية لمنكري هذه الفكرة، وتحقّق العلامات يساعدهم في التخلّص من التشكيك وإنقاذهم من الضلالة التي يُبتلى بها الناس في آخر الزمان كأثر طبيعي لطول الغيبة وكثرة إثارة الشبهات والشكوك - كما هو واضح -، فتحقّق العلامة تلو الأخرى خيرُ منبّهٍ لهؤلاء الغافلين، وجابرٍ للتصدع الفكري والعقائدي الذي يصيب الناس.
4 - إنَّ تحقّق العلامات لدليل قويّ على صدق الأنبياء والأولياء الذين أخبروا بها، وبالتالي فهو تأكيد على صدق وحقّانية مذاهبهم ومعتقداتهم ودعواتهم، وبعبارة أخرى يكون ذلك حجّة دامغة على ارتباطهم بعالم الغيب ومصدر فيض المعارف والعلوم والحقائق، وهذا له تأثير واضح في سعادة الإنسان أو شقائه فيما إذا التزم أو تمرَّد على تلك المذاهب والأيديولوجيات الإلهية.

(١٢)

5 - إنَّ مجرَّد ذكر العلائم لهو خير دليل على مدى أهمّية هذه القضيّة وخطورتها فلم يكتف بذكر ملامحها العامّة وإنَّما اهتمَّ أرباب الأديان والشرائع بذكر تفاصيلها بل وحتَّى علائم تحقّقها، وهذا يدفع المؤمنين إلى التعامل مع هذه القضيّة بجدّية واهتمام بالغين بحسب التناسب.
6 - أضف إلى ذلك وجود فائدة كبيرة ومهمّة، وهي تشخيص أدعياء المهدوية والنيابية والبابية والسفارة، وكشف المتقمّصين لشخصيات عصر ما قبل الظهور والمقارن له، فإنَّ ذكر مواصفات تلك الشخصيات الحقيقية والمزيَّفة على السواء يساهم في تحذير الناس من الانجراف وراء الدعوات الباطلة، وخاصّة دعوات المهدوية التي حُكم في الروايات ببطلانها قبل تحقّق العلامات الحتمية وكذب أدعيائها وافتراءهم.
7 - هذا ويمكن الاستفادة من كثير من العلائم التي تناولت بعض الظواهر الطبيعية والفيزيائية كالكوارث والفيضانات والسيول والزلازل، وبعض الظواهر الفلكية والنجومية وغيرها ممَّا ستأتي الإشارة إليها في تقسيم العلائم، فإنَّ ذكر هذه العلائم تفيد الناس في توخّي الحذر والاحتياط تفادياً للخسائر.
إذن فذكر علائم الظهور وما قبله، ليس ترفاً فكرياً أو عقائدياً بلا نفع ولا فائدة، وإنَّما هو أمر مهمّ إذا ما وظِّف توظيفاً صحيحاً، وتُرجم إلى ممهّدات للتغيير المنشود في القضيّة، تساهم في صياغة إنسان متَّزن في تعامله مع الأحداث ووقائع الحياة.

(١٣)

كلُّ ذلك بعد الفراغ من صحَّة صدورها وثبوتها، وانسجام مضامينها مع المدركات العقلية والنقلية وذوق الشريعة المباركة، وعدم مخالفتها للقرآن المجيد، وبغير ذلك فليس لها أيّة قيمة موضوعية.
تقسيمات علائم الظهور:
يمكن تقسيم علامات الظهور الواردة في قراءة الإلهيين للمستقبل إلى عدَّة أقسام باللحاظات التالية:
الأوّل: لحاظ الموضوع:
وهي بدورها تنقسم إلى:
أ - العلامات الدالّة على بعض الأحداث الشخصية وشبه الشخصية، كالإخبار عن مقتل ذي النفس الزكية قبل الظهور، وأمثال ذلك ممَّا يرتبط ببعض الشخصيات بعينها.
ب - العلامات الدالّة على بعض الآيات السماوية والأرضية التي ترتبط بالقضيّة من قريب أو بعيد كالصيحة في السماء والخسف في البيداء والذي لا يبدو له بحسب الظاهر من الأخبار أسباب وعلل طبيعية معروفة ولا يمكن تفسيره إلاَّ بالإعجاز السماوي، وكذلك مثل إكمال عقول البشر على يد الإمام المهدي (عليه السلام).
جـ - العلائم الدالّة على الأحداث الاجتماعية والتغييرات التي تحصل في المجتمع الإسلامي والدولي، بما يشمل الأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية والأخلاقية والعبادية عند الناس، مثل ما ورد في وصف رجال ونساء آخر الزمان، ومثل تبدّل المعروف إلى منكر

(١٤)

وبالعكس، وحكومة الصبيان والنسوان، ولبس الحرير والذهب من قِبَل الرجال، إلى الحروب الطاحنة التي تأكل أغلبية سكّان العالم.
د - العلامات التي تناولت التغيّرات الطبيعية الفيزيائية كالهزّات الأرضية والفيضانات والسيول والبراكين والأوبئة والأمراض وغيرها من الكوارث، والتي لا نشكُّ في كونها نتيجة وأثراً وضعياً لتلك التغييرات الأخلاقية والاجتماعية، وعلى أقلّ التقادير هي ظواهر غير متعارفة عند المجتمع الدولي.
الثاني: لحاظ التحقّق:
وهي أيضاً على قسمين:
1 - العلامات الموقوفة، وهي التي يرتبط تحقّقها بتحقّق بعض الشرائط والظروف الموضوعية، فما لم تتحقَّق تلك الشرائط لا تتحقَّق تلك العلامات.
ومن هذا القسم أكثر العلامات الواردة في القضيّة، ولعلَّ هذا التوقّف الخافي عن أغلب الناس صار سبباً في إثارة بعض الشبهات والتشكيك بأصل القضيّة من قِبَل بعض الجهّال ممَّن ليس له خبرة في هذا الموضوع.
2 - العلامات الحتمية: وهذا القسم من العلامات لا بدَّ من تحقّقه وعدم تخلُّفه أبداً لسابق علم الله بذلك.
ومن جملة هذه العلامات الحتمية قضيّة السفياني مورد بحثنا في هذه الصفحات - كما ستأتي الإشارة إلى ذلك مفصَّلاً - والصيحة وبعض العلامات الأخرى.

(١٥)

ولا شكَّ في أنَّ العلامات التي يُعوَّل عليها بالدرجة الأولى لكشف واقع الظهور أو قربه هي العلامات الحتمية ضرورة بقاء القسم الأوّل - الموقوفة - على أهمّيتها كمعالم هداية وللأغراض الأخرى التي ذكرنا بعضها في التقديم، أضف إلى ذلك أنَّ موقوفيتها لا يعني بالضرورة عدم تحقّقها كما هو واضح ولكن قد يحصل البداء في بعضها كما صُرِّح به في الروايات، بل وقد وقع البحث في حصول البداء حتَّى في العلامات الحتمية فقد ذهب فريق إلى إمكان ذلك نافين حتمية أيّة علامة من العلامات واستدلّوا بوجوه على مدَّعاهم.
بينما ذهب فريق آخر إلى عدم إمكان البداء في هذه العلامات مستدلّين بأدلَّة لا مجال هنا لسردها لارتباطه بمسألة البداء المهمّة والتي يحتاج البحث فيها إلى تصنيف مستقلّ، إلاَّ أنَّنا نرجّح قول القائلين بالحتمية وعدم البداء، إذ افتراض التوقيفية في كلّ العلامات له توالٍ يصعب قبولها.
السُّفْياني حَتْمٌ مُرّ:
قد أشرنا آنفاً إلى أنَّ روايات علائم الظهور تشكّل القسم الأكبر من روايات المهدوية أو قسماً كبيراً منها على أقلّ التقادير، ممَّا يدلّل على أهمّية هذا الموضوع، ونضيف هنا تميُّز بعض علائم الظهور عن غيرها بكثرة ما ورد من الروايات في شأنها وتواتر الكثير منها.

(١٦)

ومن جملة هذه العلائم فتنة السفياني التي باتت أشهر من (قفا نبكِ)(2)، وقد ذهب سماحة العلاَّمة الشيخ لطف الله الصافي (دام ظله) إلى تواتر الروايات الواردة في هذا المعنى(3)، وفي مختلف جوانب هذه القضيّة بدءً من وصف ملامح هذه الشخصية فسلجياً ومروراً بمعتقده الفكري وسلوكه الميداني وجغرافية حركته الغاشمة، وانتهاءً بحتفه وهلاكه.
وقد ورد في بعضها ذكر مدَّة حكمه وذكر بعض الخصوصيات الأخرى التي يندر ذكرها في سائر علائم الظهور وهذا ما سنحاول تناوله في هذه الدراسة الموجزة المقتضبة بإذن الله تعالى، وألطاف مولانا ناموس الدهر وصاحب العصر الحجّة بن الحسن العسكري أرواحنا له الفداء وعجَّل الله تعالى في فرجه الشريف وجعل فرجنا بفرجه.
وإن دلَّ هذا التفرّد بهذا الاهتمام على شيء فإنَّما يدلُّ على خطورة هذه القضيّة من بين تلك القضايا، ولا عجب في ذلك بعد معرفة ما ستؤدّي إليه هذه الحادثة من تغيير في خارطة المنطقة جغرافياً وسياسياً وفكرياً واجتماعياً وأمنياً، ناهيك عن استشهاد عشرات الآلاف من النفوس البريئة التي لا ذنب لها إلاَّ أن تقول: (لا إله إلاَّ الله، محمّد رسول الله،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) من قصيدة مشهورة لامرئ القيس مطلعها:

قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل * * * بسقط اللوى بين الدخول فحومل

راجع: سعد السعود: 271؛ شرح الرضي على الكافية 4: 386؛ وغيرها من المصادر.
(3) منتخب الأثر 3: 88 .

(١٧)

علي وليّ الله)، حتَّى ورد أنَّ هذا المجرم سيحاول قتل كلّ من اسمه (محمّد) أو (علي) أو (فاطمة) أو (زينب) فضلاً عن من اسمه (مهدي) حقداً منه على الأرومة الطاهرة التي تحمل هذه الأسماء الزكية، كما ورد أنَّه يروم مهاجمة الجغرافية الشيعية محاولاً تغييرها وإن لم يتمكَّن من إبادتها.
هذا وإنَّ طول مدَّة حكمه والتي ورد في الخبر - كما سيأتي - أنَّها ستطول إلى تسعة أشهر أو حمل ناقة، يجعل هذا الأمر جديراً بالاهتمام من قبل المعصومين (عليهم السلام)، حُنُواً منهم على شيعتهم وتحذيراً لهم من هذه البليّة، فصدر هذا الكمّ الكبير من الإخبارات لتنبيه الشيعة إلى ضرورة الاحتراز قدر الإمكان لتقليص الخسائر الناجمة عن حركة السفياني المشئومة.
ولا أدلَّ على خطورة هذه القضيّة ممَّا ورد في بعض الأخبار على حصول الآيات السماوية والأرضية المقترنة مع حركته كالنداء والخسف في البيداء ضرورة أنَّ هذا التدخّل الإلهي وإبراز هذه الآيات لا يُعَدُّ أمراً معهوداً إلاَّ في الموارد النادرة ذات الأهمّية البالغة.
ثمّ أخيراً هلاك هذه الشخصية المنبوذة وقتلها على يد نفس الإمام المهدي (عليه السلام) والطريقة المذكورة في الرواية(4) مع أنَّ المهدي من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو عين الرحمة والشفقة الإلهية، لهما دليلٌ آخر على فداحة ما يرتكبه هذا الخبيث من جرائم وسفك للدماء وتشويه لصورة الإسلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) راجع: تفسير العياشي 2: 56 - 61/ ح 49.

(١٨)

وممَّا يدعم هذا الرأي، ملاحظة صدور روايات في السفياني عن كلّ المعصومين تقريباً كما ورد عن النبيّ الأكرم وأمير المؤمنين والسجّاد والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والعسكري والمهدي عليهم أفضل الصلاة والسلام.
وهذا مَعْلَم آخر وشاهد صدق على خطورة هذه القضيّة وتميّزها عن غيرها من قضايا المهدوية، خاصّة وأنَّها وردت في قائمة العلامات الحتمية، ولا شكَّ في تفاضل المحتوم عن الموقوف من العلائم في الأهمّية، فقد ورد في غيبة النعماني عن الباقر (عليه السلام) قوله: «إنَّ من الأمور أموراً موقوفة وأموراً محتومة، وإنَّ السفياني من المحتوم الذي لا بدَّ منه»(5).
وقد ألمحنا في تقسيمنا للعلائم إلى الفرق بين المحتوم والموقوف، ورجَّحنا كفَّة القول المستبعِد للبداء في العلائم الحتمية ومنها قضيّة السفياني، ولعلَّ نفس تقسيم الإمام (عليه السلام) للعلامات إلى حتمية وموقوفة يدعم القول بعدم البداء فيها لئلاَّ يلزم لغوية التقسيم المذكور بعد صيرورة كلِّ العلائم موقوفة.
ويضاف إلى هذا ما ورد في بعض الروايات من التأكيد على هذه الحتمية ونفي التوقيفية فيها، فقد نقل المجلسي (رحمه الله) في بحاره الشريف عن باقر علوم الأوّلين والآخرين (عليه السلام) قوله في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ (الأنعام: 2):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) الغيبة للنعماني: 313/ باب 18/ ح 6.

(١٩)

«إنَّهما أجلان أجل محتوم وأجل موقوف»، قال له حمران: ما المحتوم؟ قال: «الذي لا يكون غيره»، قال: ما الموقوف؟ قال: «هو الذي لله فيه المشيئة»، قال حمران: إنّي لأرجو أن يكون السفياني من الموقوف، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «لا والله إنَّه من المحتوم»(6).
فهذا الأجل أجلٌ محفوظ في أُمِّ الكتاب وليس من الأجل الموجود في لوح المحو والإثبات الذي يمكن أن يتخلَّف بتخلّف شرائطه(7).
ونستفيد من الحديث أموراً لها صلة بالسفياني:
منها: وقوف أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) على خطورة هذه القضيّة وفداحة عواقبها وعظم ما يرتكبه هذا الشيطان الإنسي من جرائم ويرجون عدم تحقّق هذا الأمر وتمنّي كونه من الموقوفات، وهو شعورٌ كريم نبيل عند كلّ مؤمن تربّى في مدرسة أهل بيت الرحمة والرأفة والإنسانية.
ومنها: إنَّ حتمية خروج السفياني بلغت إلى درجة من القوَّة دعت الإمام (عليه السلام) إلى القسم بالله، مع أنَّ القسم عند الأئمّة عزيزٌ إلاَّ على أخطر الأمور.
وعن الصادق المصدَّق (عليه السلام) قوله: «من الأمر محتومٌ، ومنه ما ليس بمحتوم، ومن المحتوم خروج السفياني في رجب»(8).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(6) بحار الأنوار 52: 249/ ح 133.
(7) راجع: تفسير الميزان 7: 9.
(8) الغيبة للنعماني: 311/ باب 18/ ح 2.

(٢٠)

وفيه تأييد واضح كما أشرنا إليه سابقاً من أنَّ بعض الأخبار تعرَّضت إلى تفاصيل القضيّة فضلاً عن أصلها، حيث نلاحظ في هذا النصّ تحديد الإمام (عليه السلام) شهر خروج هذا الطاغية.
وروى أبو حمزة الثُّمالي (رحمه الله)، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إنَّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: «إنَّ خروجَ السفياني من المحتوم»، قال لي: «نعم...»(9).
نعم ورد في خبر ما يُظَنُّ منه إمكان تحقّق البداء حتَّى في قضيّة السفياني كما في الرواية التي نقلها الشيخ النعماني في غيبته عن محمّد بن هشام، قال: حدَّثنا محمّد بن أحمد بن عبد الله الخالنجي، قال: حدَّثنا أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد بن علي الرضا (عليه السلام) فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم؟ فقال: «إنَّ القائم من الميعاد والله لا يخلف الميعاد»(10).
حيث يظهر من الرواية أنَّ هناك قسيم ثالث للمحتوم والموقوف وهو الوعد الذي لا يمكن أن يتخلَّف بالضرورة، وتجويز البداء في الحتميات فضلاً عن الموقوف من العلائم، على أن تُحمَل الحتميةُ على التأكيد تمييزاً لها عن التوقيف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9) كمال الدين 2: 652/ باب 57/ ح 14.
(10) الغيبة للنعماني: 314 و315/ باب 18/ ح 10.

(٢١)

على هذا يكون التقسيم ثلاثياً لا ثنائياً، وعلى النحو التالي:
1 - العلامات الموقوفة التي يحتمل فيها الوجهان - التحقّق والتخلّف - بلا ترجيح لأحد المحتملين.
2 - العلامات المحتومة التي يحتمل فيها الوجهان لكن يقوى فيها جانب التحقّق مع احتمال البداء فيها.
3 - العلائم التي لا بدَّ من تحقّقها وهي من الميعاد، كأمر القائم نفسه صلوات الله وسلامه عليه.
وبناءً على هذا التقسيم تدخل قضيّة السفياني في القسم الثاني ويحتمل فيها البداء ولو بدرجة ضعيفة فيما إذا اعتمدنا على الرواية الآنفة.
ولكن يرد على هذا الاحتمال مضافاً إلى ضعف الرواية بالخالنجي(11) ما يلي:
أوّلاً: إنَّه معارض للمتواتر من الروايات الدالّة على الحتمية بالمعنى الأوّل وهو عدم تخلّف قضيّة السفياني، وضعف الرواية يسلب منها قوَّة الحكومة على غيرها.
ثانياً: لزوم حمل الحتمية على خلاف ظاهر معناها، والقول بإرادة التأكيد على أحد المحتملين - التحقّق -، وصرفها عن معناها الحقيقي يحتاج إلى قرينة صارفة وهي مفقودة في المقام.
ثالثاً: ذهب البعض إلى إمكان توجيه الخبر بالقول بأنَّ مراد الإمام (عليه السلام) من إمكان البداء هو الإمكان العقلي لا العملي، ونحن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11) راجع: مستدركات علم رجال الحديث 6: 442/ الرقم 12521.

(٢٢)

وإن كنّا لا ننكر ذلك لكن يرد على هذا التوجيه أنَّ البداء بنحو الإمكان العقلي موجود حتَّى في قضيّة القائم (عليه السلام).
وقد استدلَّ البعض على إمكان البداء في المحتوم برواية حمران المتقدّمة لكن بالنصّ الذي نقله النعماني في الغيبة، حيث روى عن الباقر (عليه السلام) قوله في تفسير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ﴾ (الأنعام: 2)، فقال: «إنَّهما أجلان: أجل محتوم وأجل موقوف»، فقال له حمران: ما المحتوم؟ قال: «الذي لله فيه المشيئة»، قال حمران: إنّي لأرجو أن يكون السفياني من الموقوف، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «لا والله إنَّه لمن المحتوم»(12)، استناداً إلى قوله (عليه السلام): «الذي لله فيه المشيئة» بمعنى إمكان تعلّق المشيئة الإلهية بتحقّقه أو عدم تحقّقه وهو نفيٌ للحتمية.
ولكن المرجّح هو الاعتماد على نسخة المجلسي (قدّس سرّه) الذي نقل الخبر عن نفس كتاب النعماني وهو أعرف بأصحّ النسخ، والوارد فيها: أنَّ الموقوف هو الذي لله فيه المشيئة، وأنَّ المحتوم هو الذي لا يكون غيره، وهذا ينسجم مع بقيّة النصوص التي أكَّدت هذا المعنى، والله العالم.
السفياني رمزٌ أم شخص؟
جرى البحث بين المفكّرين الإسلاميّين في حقيقة السفياني وهل أنَّه رمزٌ أم شخص؟ بعد البحث في نفس علائم الظهور من هذه الجهة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(12) الغيبة للنعماني: 312 و313/ باب 18/ ح 5.

(٢٣)

أيضاً، فمن قال بأنَّ علائم الظهور حقيقية مشخَّصة وليست رمزية مهملة، استدلَّ بالأخذ بظاهر الروايات والقراءات المستقبلية وأنَّها تدلُّ على معان معيَّنة بذاتها، لا أنَّها رموز تحكي عن معانٍ غامضة يحلّها الزمن وتطبيقاته، فالسيف في الرواية هو السيف ذاته والذي كان ولا زال آلة للقتال، والبراذين هي نفس البراذين المركوبة في عصر النصّ لا أنَّها رمز للآليات العسكرية كالمدرّعات والدبّابات وغيرها من آلات الحرب النقلية، وهكذا سائر علائم الظهور وما بعد الظهور، وإن استبعدنا ذلك في زمننا الحاضر لندرة استعمال مثل هذه الأدوات في الحروب كالسيف والخيل والرمح وما شاكل من آليات القتال المستعملة في عصر النصّ.
كلُّ ذلك عملاً بظاهر النصّ واستبعاد التأويل والمجازية لضعف القرينة الصارفة وعدم كفايتها للتخلّي عن أصالة الحقيقة.
ومن قائل بأنَّ هذه العلائم رموز وكنايات عن حقائق لا فائدة من كشفها في زمن النصّ، فالسيف يرمز لكلّ ما يقاتل به في العصور المختلفة، ولعدم إمكان بيان خصوصيات الأسلحة المستعملة بعد أربعة عشر قرناً من زمن النصّ أو أكثر لم يجد المعصوم بُدَّاً من الكناية واستعمال الألفاظ التي تدلُّ على أدوات القتال - مثلاً - المستعملة في حينها، إذ لو كان المعصوم يستعمل لفظ دبّابة أو مدرَّعة أو حاملات طائرات مثلاً لما فهم المخاطَب شيئاً ولكثر السؤال والاستفهام، ولعلَّ ذلك يؤدّي بالبعض حتَّى إلى الاستهزاء والسخرية.
إذن، فتلك العلامات تحكي عن معانٍ مجهولة تمام الجهالة لمستمع خطاب المعصوم في حينها، فإذا ما تغيَّرت المجتمعات

(٢٤)

وتطوَّرت الحضارة فلا ضرورة للقتال بنفس الأدوات القديمة فإنَّ ذلك يعدُّ سخفاً لا يتلاءم مع الفكر الصحيح السليم.
والحقّ أنَّه لا بدَّ من التفرقة بين العلائم وأخذ كلّ علامة على حدة ودراستها كقضيّة مستقلَّة والبتُّ في رمزيتها أو شخصيتها وحقيقيتها بمعزل عن سائر العلائم لمعرفة إمكان الأخذ بها على نحو الحقيقية والمجازية والرمزية.
فالسيف يمكن أن يكون رمزاً لقوَّة السلاح المستعمل في القتال فيما إذا استحال استعماله في لاحق زمن النصّ والعصور التالية، وأمَّا إذا بقي احتمالُ استعماله بنفسه قائماً كآلة للقتال في الحروب حتَّى بعد أزمنة طويلة من عصر النصّ، لم يكن صرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلى المجازي مُسْتَدَلاً.
وأمَّا إذا كانت العلامة مثل علامة الدجّال التي ورد في وصفه ببعض الحالات والأمور التي لم يكن تحقّقها ممكناً حتَّى في زمن النصّ، فواضح أنَّ المراد فيها إشارات ورموز ولا يراد فيها معانيها الحقيقية ضرورة استبعاد تحقّق هذه الأمور حتَّى بعد أزمنة طويلة من زمن النصّ وبعد القطع بعدم وجود مثالٍ له على مرّ التاريخ حتَّى في أيّام الطناطلة!
ومن هنا نضطرُّ إلى حمل هذه الأخبار على الرمزية.
إذن فالتفريق بين العلائم ضروري ولا يمكن الحكم بالرمزية على كلّ العلائم، كما لا يمكن الحكم بالشخصية والواقعية على كلّ العلائم.

(٢٥)

وأمَّا ما يرتبط بقضيّة السفياني من هذه العلامات فلا بدَّ من إخضاعها لنفس الميزان المذكور أيضاً، ودراستها بشكل مستقلّ للحكم على رمزيتها أو شخصيتها.
ولا تخفى أهمّية هذا البحث بالخصوص، فإنَّ الحكم عليها بأحد الاتّجاهين له آثارُه المهمّة، إذْ سيؤدّي إلى تأسيس نظريتين متفاوتتين فكرياً، كما سيُؤدّي إلى تفاوت عملي في سلوك أتباع النظريتين واختلافٍ جذري في مواجهة القضيّة والتعامل معها، وغير ذلك من الآثار المهمّة الأخرى.
وفرضية الرمزية في السفياني تعني بالضرورة أنَّه عبارة عن تيّار فكري يتميَّز بمنهج فكري عقائدي منحرف، وسياسي لئيم مذبذب، وسلوكٍ شاذّ لم يعرف له التاريخ الإسلامي مثيلاً، يتبنّاه ويمثّله مجموعة كبيرة تنطبق عليهم كلّ المواصفات الواردة في النصوص الواردة في شأن السفياني، وأنَّه لا يوجد شخص معيَّن من آل أبي سفيان وإنَّما هو فكر مماثل لفكر السفيانيين في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) أو بعد ذلك كالدولة الأموية، فيكون السفياني كالدجّال الذي قيل في حقّه: إنَّه يمثّل المدنية الظالمة في آخر الزمان والتي تنظر للعالم بعين واحدة وهي عين المادّية والسلطوية والجبروت.
وهذه الفرضية مرفوضة عندنا لأسباب، منها:
الأوّل: عدم وجود مبرّر لمثل هذا التأويل، وصرف المعنى إلى الرمزية والمجازية بعد ثبوت عدم مخالفة مؤدّى هذه الروايات

(٢٦)

للمرتكزات العقلائية فضلاً عن الأسس العقلية المنطقية، بل وحتَّى للقواعد الميدانية العملية، وقياس السفياني بالدجّال قياس مع الفارق، إذ لا يوجد في الروايات المتضمّنة لأوصاف السفياني ما يخالف ناموس الطبيعة البشرية أو الكونية ما عدا ما يُتراءى من قضيّة الخسف في البيداء وهو ليس من فعل السفياني وإنَّما هو عقاب إلهي، فقد ورد في الخبر:
«فيبلغ أمير جيش السفياني أنَّ المهدي (عليه السلام) قد خرج إلى مكّة، فيبعث جيشاً على أثره فلا يدركه حتَّى يدخل مكّة...، فينزل أمير جيش السفياني البيداء فينادي منادٍ من السماء: يا بيداء بيدي القوم، فيخسف بهم»(13).
فالعقاب عقاب إلهيٌّ خاضعٌ لسننٍ كونية وعلل ومعلوليات وأسباب ومسبَّبات قد نجهل حقيقتها وديناميكيتها في الوقت الحاضر بما نمتلك من خلفية علمية، ولعلَّها تنكشف لنا ذات يوم، ولهذا نظائر في الأمم السابقة المتمرّدة على تعاليم السماء.
وكذلك ما يتراءى من توصيفه بالبطش أو توصيف رايته بالمرعبة المخيفة التي يفرُّ منها كلّ من يراها! وقد بيَّنا في طيّات البحث ما يتعلَّق بهذه المقالات في حقّ السفياني وسيأتي إن شاء الله.
إذن، فالتأويل بلا دليل، فلا يكون حسناً.
الثاني: إنَّ الأخذ بالتأويل والقول بالرمزية ينافي ما ورد في كثير من الروايات، حيث ذكر فيها ملامح هذا الرجل وبعض مواصفاته الجسدية والأخلاقية، وكتلك التي تذكر اسمه واسم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13) الغيبة للنعماني: 289 و290/ باب 14/ ح 67.

(٢٧)

أبيه، فقد روى الصدوق (رحمه الله)، قال: حدَّثنا محمّد بن علي ماجيلويه (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا عمّي محمّد بن أبي القاسم، عن محمّد بن علي الكوفي، عن محمّد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أبي (عليه السلام)، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
«يخرج ابن آكلة الأكباد من الوادي اليابس وهو رجل ربعة، وحش الوجه، ضخم الهامة، بوجهه أثر جدري، إذا رأيته حسبته أعور، اسمه عثمان وأبوه عنبسة...»(14).
أو كتلك الروايات التي تذكر نسبه، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما نقله السليلي في الفتن:
قال الأحنف: من أيّ قوم السفياني؟ قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «هو من بني أميّة»(15).
وفي رواية عن الإمام السجاد (عليه السلام)، قال: «هو من ولد عتبة بن أبي سفيان»(16).
وعن الصادق (عليه السلام): «إنّا وآل أبي سفيان أهلُ بيتين تعادينا في الله، قُلنا: صَدَق الله، وقالوا: كَذَب الله، قاتل أبو سفيان رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقاتل معاوية عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وقاتل يزيدُ بنُ معاوية الحسين بن علي (عليهما السلام)، والسفياني يقاتل القائم (عليه السلام)»(17).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(14) كمال الدين: 651/ باب 57/ ح 9.
(15) الفتن لسليلي، التشريف بالمنن: 296/ باب 79/ ح 417.
(16) الغيبة للطوسي: 444/ ح 437.
(17) معاني الأخبار: 346/ ح 1.

(٢٨)

الثالث: أنَّ هذه الفرضية يلزم منها تأويل بعض خصوصيات السفياني المذهبية وهو تأويل غريب حيث ورد في رواية زرارة عن الصادق (عليه السلام) والتي نقلها الخاتون آبادي عن الفضل بن شاذان، قال: حدَّثنا محمّد بن أبي عمير، قال: حدَّثنا جميل بن درّاج، قال: حدَّثنا زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
«استعيذوا بالله من شرِّ السفياني والدجّال... ثمّ يبعث السفياني جيوشاً إلى الأطراف ويُسخِّر كثيراً من البلاد ويبالغ في القتل والفساد ويذهب إلى ملك الروم لدفع الملك الخراساني ويرجع منها متنصراً في عنقه صليب»(18).
فالرواية واضحة في ذهاب شخص السفياني كرجل سياسي ظاهره الإسلام، إلى بلاد النصارى الذين يجرون له عملية غسل دماغ فكرية ومذهبية ليعود إلى بلده عادلاً عن الإسلام معتنقاً للنصرانية الصليبية.
فمن المستبعد جدَّاً القول بالرمزية في كلّ هذه التفاصيل، كما أنَّ الأخبار دلَّت على حصول مراسلات ومكاتبات بين السفياني وبين أمراء جيشه، ومن البعيد قصد المراسلة بين رمز وبين جيوش، فالحمل على المعنى الحقيقي الشخصي أقرب إلى الحقّ.
وبذلك يندفع توهّم كون السفياني رمزاً لتيّار فكري منحرف، مع أنَّنا نعتقد أنَّه يحمل لواء مثل هذا التيّار لكن بشخصه المنحوس وبشذوذه الفكري والاعتقادي، فهو المحور الذي يلتفُّ حوله كلّ المنحرفين فكرياً والمتطرّفين عقائدياً وشذّاذ الأمّة وعُلوج البشرية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18) كشف الحقّ: 143.

(٢٩)

فالسفياني إذن شخص يؤول أمره إلى ابتداع مذهب فكري عقائدي منحرف لم يعرف له تاريخ الإسلام مثيلاً إلاَّ في أيّام معاوية بن هند الذي كان يقتل الناس على الهوية وبتهمة الولاء لآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيما كان يرعى مصالح الروم والنصارى على حساب مصلحة الأمّة الإسلاميّة، فقد كان النصارى يسرحون ويمرحون في أرض الإسلام في حين لا يجد أتباع آل محمّد مأوىً إلاَّ السجون والمعتقلات والقتل والتشريد وهدم الدور على رؤوسهم ونهب أموالهم، وهكذا يفعل السفياني ابن آكلة الأكباد، حيث إنَّه سيُجَدِّد سيرة سلفه اللئيم بتتبّع أتباع آل البيت (عليهم السلام) وإعمال القتل والنهب والسلب فيهم.
ولعلَّ أهمّ دواعي تركيز النصوص الشريفة على ظاهرة السفياني من بين العلامات الحتمية الأخرى هو هذه المبادئ الانحرافية المشئومة التي يتبنّاها هذا الرجل وأتباعه، ومن أهمّها مبدأ محاربته التشيّع لآل البيت وملاحقة أتباعهم ظنّاً منه أنَّه قادر على إطفاء هذا النور الذي شاء الله أن يبقى وهّاجاً مضيئاً الحقيقة المحمّدية.
وسنتناول هذه الشخصية في محورين:
الأوّل: هويَّته الشخصية.
الثاني: جغرافية حركته من ظهوره إلى سقوطه وهلاكه.

* * *

(٣٠)

المحور الأوّل: السفياني الهويّة المنحوسة

اسم السفياني:
اختلفت الروايات في اسم السفياني على قِلَّتها، ولعلَّ الاختلاف والتضارب يعود إلى عدم أهمّية الاسم بدرجة كبيرة بعد الاتّفاق على لقبه المشئوم، كما إنَّ احتمال انتحال هذا الرجل لأسماء حركية متعدّدة يقلّل من أهمّية ذكر اسمه خاصّة في بداية أمره وأوائل حركته المنحرفة.
فقد ورد في رواية أنَّ اسمه (حرب) كما في المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال:
«تختلف ثلاث رايات...»، فقام رجل فقال: فما اسمه يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام): «حرب بن عنبسة بن مرّة بن كلب بن سلمة بن يزيد بن عثمان بن خالد بن يزيد بن معاوية...»(19).
إذن فهو (حرب) كما في هذه الرواية، وفي رواية ثانية ورد أنَّ اسمه (عثمان)، فقد روى الصدوق في كمال الدين، قال: حدَّثنا محمّد بن علي ماجيلويه (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا عمّي محمّد بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19) عقد الدرر: 99.

(٣١)

أبي القاسم، عن محمّد بن علي الكوفي، عن محمّد بن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يخرج ابن آكلة الأكباد من الوادي اليابس... اسمه عثمان وأبوه عنبسة»(20).
وضعف سند هذه الروايات مضافاً إلى تضاربها على قلَّتها يدفعنا إلى عدم اعتماد اسم معيَّن لهذه الشخصية، بعد وضوح عدم أهمّية الاسم في القضيّة، وإنَّما المهمّ المنهج الشاذّ لهذه الشخصية، وبعد اتّضاح ملامح معتقداته وسيرته ومبدأ ظهوره وكيفية تولّيه الأمور وصيرورة الحكم إليه عند اختلاف رايات ثلاث تظهر بالشام.
وممَّا يؤيّد عدم أهمّية الاسم ما روي عن صادق آل محمّد (عليه السلام) في خبر عبد الله بن أبي منصور، قال:
سألته عن اسم السفياني، فقال (عليه السلام): «وما تصنع باسمه؟ إذا ملك كور الشام الخمس: دمشق، وحمص، وفلسطين، والأردن وقنسرين، فتوقّعوا عند ذلك الفرج»(21).
أجل، ورد تأكيد على انتمائه العائلي وشجرته الملعونة كما في الخبر المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) والمتقدّم ذكره حيث قال (عليه السلام): «يخرج ابن آكلة الأكباد من الوادي اليابس».
فهو من عائلة أبي سفيان بن حرب وهند آكلة كبد حمزة عمّ النبيّ الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(20) كمال الدين: 651/ باب 57/ ح 9.
(21) كمال الدين: 651 و652/ باب 57/ ح 11.

(٣٢)

وفي الفتن للسليلي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال:
«ويكون بالواد اليابس عدَّة عديدة فيقولون له [أي للسفياني](22): يا هذا ما يحلُّ لك أن تضيّع الإسلام، أمَا ترى ما الناس فيه من الهوان والفتن؟ فاتَّق الله واخرج، أمَا تنصر دينك؟ فيقول: لست بصاحبكم. فيقولون: ألست من قريش»(23).
وكذا ما روي عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) من أنَّه قال: «... وهو من ولد عتبة بن أبي سفيان».
وهذه الروايات وإن كانت مختلفة أحياناً إلاَّ أنَّها مشتركة ومتَّفقة على انتماء هذا الرجل إلى الشجرة الملعونة في القرآن، خاصّة وأنَّها روايات متعدّدة.
ولا يخفى تمايز النسب عن الاسم في الأهمّية، فليست معرفة الاسم ضرورية مثل معرفة النسب الذي يدلُّ في أغلب الأحيان على الانتماء الفكري والعقائدي والانسجام في الرؤى والتطابق في الأساليب والسلوك إلاَّ ما شذَّ وندر عند بعض الأفراد، ولعلَّ هذا هو أحد أسباب اهتمام وتأكيد الأئمّة (عليهم السلام) على ذكر نسب السفياني، ويبدو ذلك واضحاً فيما تقدَّم عن صادق آل البيت (عليهم السلام)، حينما قال: «إنّا وآل أبي سفيان أهل بيتين...» الخبر.
وكذا الكلام في أوصافه وملامحه الشخصية والجسدية، حيث لم ترد روايات معتبرة في ذلك ما عدا ما نقله في كمال الدين عن الإمام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(22) ما بين المعقوفتين من المؤلّف وليس في متن الرواية.
(23) راجع: عقد الدرر: 90.

(٣٣)

الصادق (عليه السلام)، قال الصدوق: حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن محمّد بن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن عمر بن يزيد، قال: قال لي أبو عبد الله الصادق (عليه السلام):
«إنَّك لو رأيت السفياني لرأيت أخبث الناس، أشقر أحمر أزرق...»(24).
قد تؤثّر الملامح الجسدية لبعض الناس على سلوكهم سلباً أو إيجاباً، ولكن الدور الأسود الذي يلعبه السفياني في تاريخ الأمّة الإسلاميّة بعيد كلَّ البعد عن التأثّر بأوصافه الجسدية، وإنَّما هو متأثّر بلا أدنى شكّ بمعتقداته وهواه الفكري والمنهجي، فنحن نستبعد كلّ الاستبعاد أن تتمكَّن العاهات الجسدية أو التشوّهات الخَلقية، من صياغة شخصية إجرامية حاقدة على الإسلام كشخصية السفياني، وإنَّما صياغة مثل هذه الشخصية هي فقط وفقط نتاج القلب المريض والنفس اللئيمة والروح الشرّيرة المترعرعة في أحضان شياطين الإنس والجنّ، وستأتي الإشارة فيما بعد إلى تأثّر هذا الرجل بوسوسة الشياطين ومردة الجنّ والأرواح الشرّيرة.
دين السفياني:
تارةً يراد من الدين ما ينهجه الشخص من منهج حياتي وروحي وسلوكي، وتارةً يراد منه الانتماء الاسمي والصوري فقط.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(24) كمال الدين: 651/ باب 57/ ح 10.

(٣٤)

ولا شكَّ في أنَّ بعض الشخصيات لا يربطها أيّ رابط بالدين الإسلامي من حيث السلوك والسيرة كما هو حال أغلب الزعماء ورؤساء الدول الإسلاميّة - وللأسف -، وإنَّما هي انتماءات في البطاقة الشخصية فقط، وإذا ما أردنا الحديث عن دين السفياني فإنَّنا نلحظ هذه الصيغة من الانتماء، أعني الانتماء الصوري الشكلي فقط لا الانتماء الحقيقي إلى الدين الإسلامي أو غيره، ذلك لأنَّ سلوك هذا الرجل البعيد عن كلّ القيم الإنسانية العامّة فضلاً عن القيم السماوية والمُثُل العليا، يجعلنا نجزم بأنَّه لا ينتمي إلى أيّ مذهب ديني، وإلى هذا المعنى أشارت بعض الروايات كما عن الباقر (عليه السلام) قال في شأن السفياني:
«... لم يعبد الله قطّ...»(25).
فالرواية وإن لم تصرّح بنفي انتمائه الصوري إلى دينٍ معيَّن لكنَّها تنفي بلا أدنى شبهة انتمائه الحقيقي إلى أيّ دين من الأديان السماوية الداعية إلى عبادة الله سبحانه وتعالى.
وقد لا يكون التعرّف على دين السفياني ضرورياً بعد التعرّف على منهجه العملي، والجبهة التي يتخندق فيها، وبعد معرفة خصومه السياسيين والفكريين وهم أتباع آل البيت (عليهم السلام)، وتجييشه الجيوش للكوفة في العراق وهي المعروفة بهويَّتها الفكرية والعقائدية، ناهيك عن كونها مقرّ حكومة العدل الإلهي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(25) الغيبة للنعماني: 318/ باب 18/ ح 18.

(٣٥)

العالمي الذي يطبّقه خاتم أوصياء خاتم الأنبياء محمّد المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
كما أنَّ إرساله جيشه إلى الحجاز وإعاثة الفساد في البلاد والعباد وهتك حرمة المقدَّسات، ثمّ التحرّك إلى طيبة محلّ مرقد أشرف خلق الله محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بغية منه في القضاء على الإمام المهدي (عليه السلام)، كلّ ذلك يعدُّ مَعْلَماً على كفر هذا الرجل وعدم اعتناقه لأيّة ديانة سماوية.
إذن فالخطّ العامّ واضح جدَّاً، وهو تكذيب الله ورسوله وولاة الأمر وتتبّع أتباع آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ظنّاً منه أنَّه قادر على إطفاء هذا النور، وقد ورد عن باقر علوم الأوّلين والآخرين (عليه السلام) قوله في السفياني:
«... فإنَّ حنقَهُ وشَرَهَهُ فإنَّما هي على شيعتنا»(26).
ولكن ومع كلّ ذلك نتناول بنحو الإيجاز والاختصار ما قيل وما ورد في معتقد ومذهب هذه الشخصية، تتميماً للبحث والفائدة، فنقول:
هناك اختلاف في ما يظهر من الروايات التي تناولت موضوع معتقد السفياني وانتمائه المذهبي، فقيل: إنَّه نصراني، واستدلَّ عليه بما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال:
«وخروج السفياني برايةٍ خضراء وصليب من ذهب»(27).
وإذا ما اعتمدنا هذه الرواية أمكن الجزم بنصرانية الرجل بعد استبعاد خروج المسلم عادةً على هذه الهيأة خاصّة إذا كان يتزعَّم حركة سياسية عقائدية خطيرة كالتي يخوضها هذا الرجل حيث إنَّ مجال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(26) الغيبة النعماني: 311/ باب 18/ ح 3.
(27) مختصر بصائر الدرجات: 199.

(٣٦)

حركته هو الساحة الإسلاميّة، ومن البعيد جدَّاً أن يغفل عن مدارات أتباعه ولو نفاقاً بإظهار شعارات إسلاميّة ومظاهر دينية مزيَّفة.
اللّهمّ إلاَّ إذا كان المراد من الصليب الذهبي الرمزية والإشارة إلى شيء يناظر الصليب في اعتباره عند النصارى يتَّخذه السفياني شعاراً لحركته وفتنته، وحينئذٍ يزول الجزم السابق بنصرانيته.
لكن هذا الاحتمال يحتاج إلى قرينة قويّة صارفة للفظ عن معناه الحقيقي إلى المجازي وهي مفقودة أو ضعيفة وهي ما أشرنا إليه سابقاً من الاستبعاد.
هذا إذا كنّا نحن والرواية المذكورة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في المختصر.
إلاَّ أنَّ هناك روايات تدلُّ على إسلامه - بالبطاقة الشخصية طبعاً -، منها ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول:
«ويكون بالواد اليابس عدَّة عديدة فيقولون له [أي للسفياني](28): يا هذا ما يحلُّ لك أن تضيّع الإسلام، أمَا ترى ما الناس فيه من الهوان والفتن؟ فاتَّق الله واخرج، أمَا تنصر دينك؟...»(29).
فهؤلاء العدَّة العديدة إنَّما يعتقدون بأنَّ نصرة الدين إنَّما تكون على يد هذا الرجل (بحسب منهجهم الفكري ونظرتهم للدين)، وأنَّ الإسلام سيضيَّع إذا لم يقم السفياني لنصرته بقيادته لهم، فلو لم يكن مسلماً لما استنهضه هؤلاء الذي يعتقدون أنَّ في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(28) ما بين المعقوفتين من المؤلّف وليس في متن الرواية.
(29) راجع: عقد الدرر: 90.

(٣٧)

جلوسه وسكوته إضاعة للدين وزيادة في هوان المسلمين واستمراراً للفتن التي حاقت بهم.
هذا ما استظهره بعض الكتّاب من الرواية.
وقد يقال: إنَّ الرواية ليست في مقام المدح لهذا الرجل بقدر ما هي ذمّ له وعتاب، وفي قولهم: يا هذا ما يحلُّ لك أن تضيّع الإسلام، تقريع واضح وتخوّف من انحراف الرجل عن الإسلام إلى درجة تضييعه، ولو كان كلامهم في مقام المدح للمنقذ المخلّص لما نادوه بكلمة: (يا هذا)، فإنَّ هذه الكلمة لا تدلُّ على الاحترام، ضرورة كونه شخصية معروفة عندهم واستنهاضه إنَّما يكون بالألفاظ المعظّمة له لا بما يدلُّ على الاستهانة والاستخفاف والعتاب.
كما أنَّ قولهم: (أمَا ترى ما الناس فيه من الهوان والفتن فاتَّق الله...) فيه إشارة إلى تخوّفهم منه بإثارة الفتنة وإضافتها إلى ما هم فيه من فتن، وخوفهم من الهوان الذي سيلحقه بهم مضافاً إلى هوانهم، فهم يريدون منه أن يعدل عن رأي أو فكرة أو فعل شنيع يريد القيام به.
ولكن الإنصاف أنَّ هذا القول بعيد عن ظاهر الرواية فما استظهره بعض الكتّاب هو المحكَّم.
على أنَّ هذه الرواية واردة - كما يبدو - في أوّل ساعات حركة السفياني ونحن لا نستبعد أن يكون السفياني منتمياً إلى الإسلام بالهوية في أوّل حياته ثمّ بعد ذلك يتنصَّر سياسياً أو عقائدياً وفكرياً أو تملّقاً ورغبةً في نيل المكاسب الدنيوية والحصول على مساعدات الدول الصليبية للقضاء على خصومه السياسيين والعقائديين.

(٣٨)

ولعلَّ ما يقوّي هذا المعنى ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول في شأن السفياني:
«ويذهب إلى الروم لدفع الملك الخراساني ويرجع منها متنصّراً»(30).
والرواية صريحة في عدول السفياني عن الإسلام وتحالفه مع أعدائه الصليبيين، بل واعتناقه النصرانية، ويبدو أنَّ خروجه براية خضراء وصليب من ذهب هو بعد رجوعه من الروم وتنصّره هناك، وتحالفه مع أعداء الإسلام للتخلّص من خطر الرايات السود التي يقودها الخراساني والتي تصل الشامات ممَّا يدفع السفياني إلى الالتجاء إلى أعداء الإسلام واستصراخهم ضدّ المسلمين كما فعل أبوه معاوية بن أبي سفيان الذي تحالف مع الروم ليأمن خطر جيش الخلافة الإسلاميّة في زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد تعاقد معاوية معهم على أن يدفع لهم الجزية! ويعطيهم من الضرائب السنوية في مقابل السكوت عنه وعدم مهاجمته، مع أنَّ الله سبحانه وتعالى حرَّم ذلك على المسلمين، بل وأمرهم بأخذ الجزية من المشركين وأهل الكتاب، وبذلك يكون معاوية قد خالف كلّ الأوامر والمقرَّرات الإلهية في خصوص العلاقة مع الكفّار والمشركين(31)، وهكذا يفعل حفيده عثمان بن عنبسة السفياني.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(30) كشف الحقّ: 144.
(31) راجع كتاب أشعَّة من عظمة الإمام الحسين (عليه السلام) للشيخ لطف الله الصافي: 100.

(٣٩)

والذي يبدو لنا أن تنصّر السفياني ينعكس على معتقدات أتباعه فيتنصَّرون أيضاً، وعلى أقلّ التقادير يتحالفون مع الروم والغرب ضدّ الإسلام الأصيل الذي يمثّله الإمام المهدي (عليه السلام).
وممَّا يقوّي هذا الاحتمال ما ورد عن الباقر (عليه السلام) كما نقله المجلسي في بحاره مرسلاً من أنَّ السفياني يُسلم على يد المهدي (عليه السلام) ويبايعه ثمّ يكسر بيعته ويعود عن إسلامه، فقد جاء في الرواية:
«فيقول - أي المهدي -: أُخرجوا إلى ابن عمّي، فيخرج عليه السفياني فيكلّمه القائم (عليه السلام) فيجيء السفياني فيبايعه ثمّ ينصرف إلى أصحابه فيقولون له: ما صنعت؟ فيقول: أسلمت وبايعت، فيقولون له: قبَّح الله رأيك... فيستقبله فيقاتله...»(32).
وهذا الأمر يتمُّ حينما يلتقي جيش الإمام المهدي (عليه السلام) مع جيش السفياني فيدعوهم المهدي (عليه السلام) ويناشدهم حقّه ويخبرهم أنَّه مظلوم مقهور ويقول لهم:
«من يحاجّني في الله فأنا أولى الناس بالله...»(33)(34).
فظاهر الخبر أنَّ أصحاب السفياني يلومونه على إسلامه وهذا يدلُّ على تنصّرهم أيضاً ولو بالمعنى السياسي لا المعنى المصطلح، بل ويدلُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(32) بحار الأنوار 52: 388/ ح 206.
(33) الغيبة للنعماني: 188/ باب 10/ فصل 4/ ح 30.
(34) ورد مثل هذا الخطاب والمناشدة عنه (عليه السلام) أوّل خروجه من مكّة حين يقف بين الركن والمقام، ولعلَّ هذه المناشدة والمطالبة بحقّه تصدر منه مرَّتين لا مرَّة واحدة، والله العالم. (المؤلّف).

(٤٠)

على تمسّكهم بنصرانيتهم إلى درجة أنَّهم يجبرون قائدهم على العدول عن إسلامه وبيعته، وهذا أمرٌ خطير يسترعي الانتباه.
ومن البعيد أن تكون الرواية موضوعة مع ما فيها من مدح أشبه بالذمّ لهذا الرجل، وذمّ أشبه بالمدح له أيضاً ممَّا يجعلنا نستبعد وضعها من أحد الفريقين.
وهناك ما يدلُّ على تنصّر كلِّ أتباع السفياني فقد روى المجلسي عن الباقر (عليه السلام)، قال: «إذا قام القائم (عليه السلام) وبعث إلى بني أميّة بالشام هربوا إلى الروم فيقول لهم الروم: لا ندخلكم حتَّى تتنصَّروا، فيعلّقون في أعناقهم الصُلبان ويدخلونهم»(35).
وأُريد أن أُشير إشارة سريعة هنا إلى ما يحصل اليوم في العراق من تنصّر سياسي لبعض المجاميع التي تحمل في أذهانها نويات منهج السفياني وفكره التكفيري الوهّابي، فهؤلاء مع أنَّهم يدَّعون الإسلام والدفاع عن المبادئ الإسلاميّة إلاَّ أنَّنا نراهم بكلّ وضوح قد استصرخوا أعداء الإسلام واستنهضوهم ضدّ أتباع آل البيت (عليهم السلام)، ولعلَّهم في المستقبل القريب يتنصَّرون عقائدياً بعد تنصّرهم سياسياً، وحينئذٍ لا يكون مستبعداً بعد طول الزمن أن يتنصَّر السفياني وأتباعه من أجل تحقيق مآربهم الدنيئة.
ولعلَّ ما يؤيّد تنصّر السفياني بما ورد في بعض الأخبار من أنَّه يقتل كلّ من اسمه محمّد وعلي، وقتل سميّ رسول الله وإن كان جائزاً في حقّ آل أبي سفيان لكنَّه أنسب بالكفّار واليهود الصهاينة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(35) بحار الأنوار 52: 377/ ح 180، عن الكافي 8 : 51 و52/ ح 15.

(٤١)

ويَضعُفُ هذا الرأي بعدما عرفنا أنَّ همَّ السفياني هو محاربة آل محمّد وشيعتهم وأتباعهم، وقد نقلنا الرواية التي رويت عن الباقر (عليه السلام) حين قال: «... فإنَّ حنقه وشرهه فإنَّما هي على شيعتنا»، وهدفه وهدف أسياده الذي لجأ إليهم وتحالف معهم هو القضاء على المهدي من آل البيت (عليهم السلام)، ولذا فإنَّنا نعتقد أنَّ قتله لكلّ من اسمه محمّد ناشئ من أنَّ المهدي (عليه السلام) هو سميّ جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاصّة وأنَّنا نعتقد بأنَّ الرجل يدَّعي الإسلام ولكنَّه يقود جماعة متشدّدة إرهابية تضمُّ الجهّال والأراذل نصبت العداء لأهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم، تتربَّص الدوائر بالإمام الحجّة بن الحسن (عليه السلام).
وخلاصة ما نذهب إليه هو أنَّ السفياني منافق يظهر الإسلام لركوب موجة تعصّبية تكفيرية لا تعبأ إلاَّ بتحقيق مآربها ولو كان ذلك على حساب الإسلام الأصيل وحتَّى لو استدعى ذلك الائتلاف مع الصهيونية اليهودية والصليبية المسيحية، بعد إحساسها بالخطر الذي يتهدَّدها من الفكر المهدوي ليكون همّها الشاغل القضاء على هذا الفكر مهما لؤمت الوسيلة والأسلوب.
وممَّا يدعم القول بنفاق السفياني ما ورد في الرواية عن كشّاف الحقائق جعفر بن محمّد الصادق عليه وعلى آبائه آلاف التحيّة والثناء والتي رواها الفضل بن شاذان، قال: حدَّثنا محمّد بن أبي عمير (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا جميل بن درّاج، قال: حدَّثنا زرارة بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال:

(٤٢)

«استعيذوا بالله من شرّ السفياني والدجّال وغيرهما من أصحاب الفتن».
قيل له: يا ابن رسول الله أمَّا الدجّال فعرفناه وقد تبيَّن من مضامين أحاديثكم شأنه، فمن السفياني وغيره من أصحاب الفتن وما يصنعون؟
قال (عليه السلام): «أوّل من يخرج منهم رجل يقال له: أصهب بن قيس، يخرج من بلاد الجزيرة له نكاية شديدة في الناس وجور عظيم. ثمّ يخرج الجرهمي من بلاد الشام، ويخرج القحطاني من بلاد اليمن، ولكلِّ واحد من هؤلاء شوكة عظيمة في ولايتهم، ويغلب على أهلها الظلم والفتنة منهم، فبينا هم كذلك إذ يخرج عليهم السمرقندي من خراسان مع الرايات السود، والسفياني من الوادي اليابس من أودية الشام، وهو من ولد عتبة بن أبي سفيان، وهذا الملعون يظهر الزهد قبل خروجه ويتقشَّف، ويتقنَّع بخبز الشعير والملح الجريش، ويبذل الأموال فيجلب بذلك قلوب الجهّال والرذّال، ثمّ يدَّعي الخلافة فيبايعونه، ويتبعهم العلماء الذين يكتمون الحقّ ويظهرون الباطل فيقولون: إنَّه خير أهل الأرض...»(36).
وروى النعماني في الغيبة عن الباقر (عليه السلام) قال: «السفياني... لم يعبد الله قطّ، ولم يرَ مكّة ولا المدينة قطّ...»(37).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(36) مجلَّة تراثنا 15: 214، من كتاب مختصر إثبات الرجعة للفضل بن شاذان/ ح 16.
(37) الغيبة للنعماني: 318/ باب 18/ ح 18.

(٤٣)

وقد رووا عن كعب الأحبار أنَّه قال: (لا يعبر السفياني الفرات إلاَّ وهو كافر)(38).
وعن الإمام أبي بكر بن الحسن النقّاش في تفسيره، قال: (يخرج من الوادي اليابس في أخواله، وأخواله من كلب يخطبون على منابر الشام، فإذا بلغوا عين التمر محا الله تعالى الإيمان من قلوبهم...)(39).
وأمثال ذلك من العبارات الدالّة على خلوّ السفياني من الإيمان البتة.
هذا على أنَّ الفارق المهمّ بين الناس هو الإيمان لا الإسلام، فكم من مسلم عرفناه كان له سطوة على إخوانه المسلمين، ولينٌ وذلَّةٌ مع أعداء الدين، وكانت سطوة بعضهم أقوى من سطوة وطغيان الكفّار والمشركين، ولعلَّ أغلب الدول الإسلاميّة اليوم قد وليها مثل هؤلاء الحكّام، المسلمين بالهوية والمتوحّشين بالماهية.
إشارة:
لعلَّ بعض المنجرفين مع العواطف والأحاسيس والمتسرّعين في الحكم على الأمور من خلال ظواهرها يروِّجون اليوم بأنَّ الظاهرة السفيانية قد بدأت بالفعل في التحقّق خارجاً مستندين إلى بعض مظاهر الإرهاب التي تحدث هنا وهناك في أرجاء العالم الإسلامي خصوصاً في العراق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(38) عقد الدرر: 79.
(39) عقد الدرر: 77.

(٤٤)

إلاَّ أنَّ الحقّ - مع الاعتقاد بأنَّ الظاهرة السفيانية قد بدأت منذ يوم السقيفة - هو أنَّ الوقت لا زال مبكّراً لتحقّق السفيانية الأخيرة المنظورة في روايات المهدوية، اللّهمّ إلاَّ إذا تسارعت الأحداث ومجريات التحوّلات السياسية بشكل غير طبيعي، وتحقَّق الظرف المنسجم مع رؤى تلك الروايات ووصفها للملامح الزمانية والجغرافية والسياسية وحتَّى العسكرية الميدانية، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإنَّ الروايات المهدوية تتحدَّث عن خصوصيات في حركة السفياني والخراساني واليماني وعن بعض الظروف الاجتماعية والسياسية في العراق وخراسان والشام واليمن، ونحن لا نجد أثراً لحدّ الآن في تلك المناطق إلاَّ ما يتراءى في بعض مناطق العراق كبغداد التي هي بعيدة عن خارطة حركة السفياني والخراساني واليماني إبّان ظهور أمرهم.
هذا مع حسن الظنّ بأصحاب هذه النظرية، لأنَّنا نعتقد بأنَّ بعض الأقلام تحاول الاصطياد في المياه العكرة، فإنَّهم يستغلّون كلّ ظاهرة شبيهة من قريب أو بعيد بالظواهر المهدوية أو بعلامات الظهور فيوحون إلى الناس بأنَّ هذه الظاهرة هي المصداق الأتمّ والأكمل لمضمون الرواية القائلة بكذا وكذا! مع أنَّ التطبيق وتعيين المصاديق لمضامين الروايات المشفَّرة والرمزية في غاية الصعوبة والتعقيد، وأنَّ الحكم بضرس قاطع على مصاديق الشخصيات القريبة أو المتزامنة مع عصر الظهور دونه خرط القتاد، لأسباب معروفة عند ذوي الاطّلاع وأهل الخبرة في مجال القضيّة المهدوية.

(٤٥)

وعلى أيّ حالٍ، فالمؤمنون بالمهدوية مكلَّفون بوظائف محدَّدة ومعروفة في زمن الغيبة ينبغي عليهم الالتزام بها والمواظبة عليها، ومن أهمّها انتظار الفرج انتظاراً إيجابياً مثبتاً، وليس منها الانجراف وراء دعوات الأدعياء أو المتاجرين بالقضايا المقدَّسة عند الناس، وليس منها التسرّع في تطبيق الكلّيات على الصغريات والمصاديق، فإنَّ المصاديق الواقعية الحقيقية ستكشف عن نفسها بنفسها وفي حينه، وعلى أقلّ التقادير لا بدَّ من الحيطة والحذر الشديدين في مثل هذه التطبيقات، فإنَّ خطر التطبيق أكبر بكثير من الحرمان من معرفة هويّة شخصيات عصر الظهور قبل أوان تلك المعرفة.

* * *

(٤٦)

المحور الثاني: السفياني الحركة الجغرافية

بداية الشؤم:
لم تحدّد الروايات الواردة في علائم الظهور وقتاً محدَّداً لبداية حركة السفياني انسجاماً مع توخّي الرمزية والسرّية في العلائم، خاصّةً المقارنة القريبة من عصر الظهور.
أجل، ورد في الروايات إرشادات إلى أحداث مقارنة لحركة السفياني كإشارات مبهمة بدورها لكنَّها صالحة للدليل على قرب تحقّق حركة السفياني المشئومة مثل ما ورد أنَّ حركته وحركة اليماني في وقت واحد.
فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «اليماني والسفياني كفرسي رهان»(40).
وما ورد عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد»(41).
وورد في بعض الروايات أنَّ خروجه يكون في شهر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(40) الغيبة للنعماني: 317/ باب 18/ ح 15.
(41) الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.

(٤٧)

رجب، فقد أورد النعماني في غيبته، قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة، قال: حدَّثني محمّد بن المفضَّل بن إبراهيم بن قيس بن رمّانة من كتابه في رجب سنة خمس وستّين ومائتين، قال: حدَّثنا الحسن بن علي بن فضال، قال: حدَّثنا ثعلبة بن ميمون أبو إسحاق، عن عيسى بن أعين، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّ قال: «السفياني من المحتوم، وخروجُه في رجب...»(42).
وعنه (عليه السلام) أيضاً: «السفياني لا بدَّ منه، ولا يخرج إلاَّ في رجب»(43).
وعدم تحديد زمن تحرّك السفياني إنَّما هو باعتبار مقارنته لزمن الظهور الذي روعي فيه السرّية والكتمان الشديدين.
وأمَّا ذكر اقتران حركة السفياني بحركة الخراساني واليماني فلعلَّه للتنبيه على وجود أكثر من سفياني واحد، وأنَّ السفياني السابق للظهور هو ذلك الذي تقترن حركته بحركة اليماني والخراساني لا غيره، وهو الذي يقتل على يد الإمام المهدي (عليه السلام) أو على يد أنصاره، بعد ظهوره صلوات الله وسلامه عليه.
وممَّا يدلُّ على وجود أكثر من سفياني واحد، ما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث قال:
«... أوّلها السفياني وآخرها السفياني»، فقيل له: وما السفياني والسفياني؟ فقال: «السفياني صاحب هجر، والسفياني صاحب الشام»(44).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(42) الغيبة للنعماني: 310/ باب 18/ ح 1.
(43) الغيبة للنعماني: 313/ باب 18/ ح 7.
(44) الملاحم والفتن لابن طاووس: 271/ ح 393.

(٤٨)

وقد يبدو من بعض الآثار أنَّ السفياني له حركتان تفشل الأولى منهما على يد السمرقندي فيعتزل المعترك السياسي والميداني ويركن إلى أخواله الذين يؤونه، فيبقى متخفّياً لفترة من الزمن خائفاً من حكومة ذلك الوقت.
وحركته الثانية تبدأ سرّية، وبداياتها تكون مريبة كما ذكر الدمشقي في عقد الدرر عن فتن ابن حماد قال: وعن أبي مريم، عن أشياخه، قال:
(يؤتى السفياني في منامه فيقال له: قم فاخرج، فيقوم لا يجد أحداً، ثمّ يؤتى الثانية فيقال له مثل ذلك، ثمّ يقال له في الثالثة: قم فاخرج فانظر على باب دارك، فينحدر في الثالثة إلى باب داره فإذا هو بسبعة نفر أو تسعة ومعهم لواء فيقولون: نحن أصحابك، فيخرج فيهم ويتبعهم ناس من قرَيات الوادي اليابس، فيخرج إليه صاحب دمشق ليلقاه ويقاتله، فإذا نظر إلى رايته انهزم»(45).
وحاول البعض تفسير الراية هنا بالسلاح الفتّاك الذي يتحاشاه ويهرب منه من نظر إليه وعاينه! ويستشهد هؤلاء البعض بما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: «... يخرج من ناحية مدينة دمشق في وادٍ يقال له: الوادي اليابس، يخرج في سبعة نفر مع رجل منهم لواء معقود يعرفون به في النصر يسير بين يديه على ثلاثين ميلاً لا يرى ذلك العلم أحدٌ يريده إلاَّ انهزم»(46).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(45) عقد الدرر: 107.
(46) كتاب الفتن للمروزي: 166.

(٤٩)

وحاول البعض الآخر تفسير العقدة في العلم أو اللواء تفسيراً ميتافيزيقياً مشيراً إلى احتمال استفادة السفياني من السحر وتسخير مردة الشياطين والجنّ، كما عرف ذلك عن الشيصباني أيضاً.
ونحن وإن تعقَّلنا الاحتمالات التي ذهب إليها من ذهب، فلا نستبعد وجود جهة أجنبية معادية للإسلام متقدّمة في التطوّر التكنولوجي والتقنية العسكرية تدعم أمثال هذه الحركات المعادية للإسلام الأصيل ونوجّه حينئذٍ أصابع الاتّهام بالدرجة الأولى إلى الكيان الصهيوني الغاصب للقدس الشريف.
كما أنَّنا لا نستبعد إقبال السفياني وجماعته على استغلال السحرة والكهنة اليهود وغير اليهود في تنفيذ مآربهم، خاصّةً وأنَّ مثل مناطق الوادي اليابس معروفة بوجود بعض ذوي الطاقات الروحية والسحرية.
لكن لا بدَّ من الإشارة إلى وجود احتمال معاكس لهذه المحتملات أو على الأقلّ نافٍ لمداليلها وهو أنَّ مثل هذه الأخبار قد صدرت من بعض الأقلام المأجورة لبني أميّة، فهذه الهالة الروحية الميتافيزيقية والإعجازية حول السفياني وعصابته وكأنَّ معجزة إلهية تسير معهم أينما ساروا، هي من نسج خيال بني أميّة ضرورة استبعاد التقنية العسكرية المتطوّرة التي ذهب إليها البعض.
وبتصورنا فإنَّ هذه المغالاة في تصوير قوَّة السفياني من قبل حكّام بني أميّة إنَّما جاءت منسجمة مع حسدهم لبني هاشم، ذلك أنَّ الروايات الواردة في المهدي المنتظر (عليه السلام) المنتسب لبني هاشم قد حرَّكت الحسّ الحسدي عند بني أميّة فاخترعوا تلك

(٥٠)

الأخبار المغالية في السفياني كما فعلوا في المغالاة في تصوير بعض الصحابة حتَّى وصلوا بهم إلى درجة مساوية للنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل في بعضها رقى هؤلاء الصحابة مرقاة أعلى من مرقاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نعوذ بالله بحسب الأخبار التي وضعها الوضّاعون، كلّ ذلك حسداً لبني هاشم، وكانوا كما وصفهم القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 54).
حَرَسْتا:
حرستا قرية كبيرة عامرة في أطراف دمشق الشام يختفي فيها السفياني بعد فشله في حركة سياسية عسكرية يخوضها ضدّ الحكم القائم في وقته، أو إقصاء عن منصب يشغله في السلطة. وممَّا يدلُّ على تخفّيه فيها ما ورد في الخبر من أنَّه يقتل جارية له مخافة أن تدلَّ على مكانه، فقد نقل في كمال الدين، قال: حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن حماد بن عثمان، عن عمر بن يزيد، قال: قال لي أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «إنَّك لو رأيت السفياني لرأيت أخبث الناس...، وقد بلغ من خبثه أنَّه يدفن أُمَّ ولدٍ له مخافة أن تدلَّ عليه»(47).
فالرواية تدلُّ على تكتّمه على موضع وجوده وخوفه من السلطة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(47) كمال الدين: 651/ باب 57/ ح 10.

(٥١)

وكما أشرنا آنفاً فإنَّ تكتّمه على محلّ وجوده قد يكون له مناشئ سياسية أو انحرافات فكرية أدَّت إلى ملاحقة السلطة له، فيبقى متخفّياً إلى وقت اجتماع أنصار له على معتقداته ومذهبه للبدء بحركته المشؤومة والتي تكون الثانية والمستمرّة إلى وقت الظهور.
إنَّ الوادي اليابس هو المنطلق الجغرافي للسفياني، ولعلَّ حرستا تكون هي المنطلق الفكري له حيث يعيش أخواله من بني (كلب) فيها والذين يكون في حينها لهم موقع في الحركة الميدانية الفكرية فهم في مقام الخطابة على منابر الشام ويبدو أنَّهم من المتطرّفين عقائدياً ولا تنسجم أطروحتهم الفكرية مع منهج السلطة الحاكمة في ذلك الوقت، ممَّا يدعوهم إلى الالتفاف حول ابن أُختهم لمعرفتهم بتوجّهاته المنحرفة المتناغمة مع توجّهاتهم العقائدية.
ولعلَّنا اليوم لا نواجه صعوبة في تشخيص وجود مثل هذه الحركات الفكرية الهدّامة والانحرافية التي تدَّعي الانتماء إلى الإسلام، والإسلام منها بَراء حيث تسعى جاهدة لتأصيل الرؤية الجاهلية وإثارة النعرات الطائفية والقومية وتكفير المسلمين والإفتاء بوجوب قتلهم وإزالة ومحو المعالم الإسلاميّة الإيمانية ومحاربة الشعائر الدينية، والجمود على فعل وسيرة أسلافهم الذي وقفوا بكلّ صلافة لمحاربة نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والاعتراض على كلّ ما لا يروق لأمزجتهم وهواهم حتَّى لو كان هواهم يجرُّهم إلى النار كما قد ورد عن باقر علوم الأوّلين والآخرين (عليه السلام) حيث

(٥٢)

قال: «السفياني أحمر أشقر أزرق، لم يعبد الله قطّ، ولم يرَ مكّة والمدينة قطّ، يقول: يا ربّ ثاري والنار، يا ربّ ثاري والنار»(48).
ومراده هو أنَّه يطلب الثأر ولو أدّى به إلى دخول النار، وهي قولة قالها أسلافه حيث ورد أنَّهم قالوا: (النار ولا العار)(49).
وأمَّا مراده من الثأر فهو الثأر من الهاشمي لما فعله من قتل بني أميّة حيث ورد أنَّ السيّد الهاشمي يلحق بجيش السفياني الذي يترك الكوفة بعد إعاثة الفساد وقتل العباد فيها، فتدور بينهما معركة شرسة تنتهي بإبادة جيش السفياني الذي يقدَّر عدده بمائة ألف وبعض الأخبار تشير إلى اشتراك اليماني في المعركة أيضاً وسيأتي بيان ذلك.
الشام والسفياني:
تبدأ حركة السفياني بنشاطاته المشئومة في الشام بعد أحداث طبيعية وسياسية وعسكرية ميدانية تؤدّي إلى حصول فراغ في السلطة المركزية أو ضعفها على أقلّ التقادير ممَّا يؤدّي إلى استغلال السفياني لهذا الفراغ لإحكام سيطرته على بعض ولايات الشام.
فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «رجفة تكون بالشام يهلك فيها أكثر من مائة ألف يجعلها الله رحمةً للمؤمنين وعذاباً على الكافرين، فإذا كان ذلك فانظروا إلى أصحاب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(48) الغيبة للنعماني: 318/ باب 18/ ح 18.
(49) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته القاصعة: «وَاعْلَمُوا أنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أعْرَاباً، وَبَعْدَ الْمُوَالاَةِ أحْزَاباً، مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الإِسْلاَم إِلاَّ بـِاسْمِهِ، وَلاَ تَعْرفُونَ مِنَ الإِيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ، تَقُولُونَ: النَّارَ وَلاَ الْعَارَ...». (نهج البلاغة 2: 155).

(٥٣)

البراذين الشهب المحذوفة والرايات الصفر تقبل من المغرب حتَّى تحلّ بالشام، وذلك عند الجزع الأكبر والموت الأحمر، فإذا كان ذلك فانظروا خسف قرية من دمشق يقال لها: حرستا، فإذا كان ذلك خرج ابن آكلة الأكباد من الوادي اليابس حتَّى يستوي على منبر دمشق، فإذا كان ذلك فانتظروا خروج المهدي (عليه السلام)»(50).
إذن، رجفةٌ تؤدّي إلى هلاك عشرات الآلاف، وخسفٌ وموت أحمر وجزع أكبر، كلّ ذلك في بلاد الشام، وهذا من شأنه خلق حالة من الانفلات الأمني بطبيعة الحال حتَّى في أقوى الدول سيطرةً وإحكاماً لمقاليد الأوضاع الأمنية، ممَّا يسهّل الأمر على المتصيّدين في المياه العكرة من الاستفادة من هذه الأوضاع لتحقيق مآربهم، وهذا ما يفعله السفياني حينذاك.
وقد روى جابر بن يزيد الجعفي، عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «يا جابر ألزم الأرض ولا تحرّك يداً ولا رجلاً حتَّى ترى علامات أذكرها لك...، فتلك السنة - يا جابر - فيها اختلاف كثير في كلّ أرض من ناحية المغرب، فأوّل أرض تخرب أرض الشام...»(51).
وليست الشام هي الوحيدة المبتلاة بالخراب وإنَّما ذكر في بعض الروايات تحقّق مثل هذه الكوارث والخراب في كثير من بلدان العالم حتَّى أنَّ بعض الأخبار ذكرت أنَّ ثلثي سكّان العالم يفنَونَ بسبب الزلازل والكوارث الطبيعية.ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(50) الغيبة للنعماني: 317/ باب 18/ ح 16.
(51) الغيبة للنعماني: 289/ باب 14/ ح 67.

(٥٤)

فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «لا يخرج المهدي حتَّى يقتل ثلث ويموت ثلث ويبقى ثلث»(52).
كما رُوي عنه (عليه السلام) أيضاً أنَّه قال: «بين يَدَي القائم موتٌ أحمر، وموتٌ أبيض، وجرادٌ في حينه، وجرادٌ في غير حينه، أحمر كالدم. فأمَّا الموت الأحمر فبالسيف، وأمَّا الموت الأبيض فالطاعون»(53).
وروي عن صادق آل محمّد (عليه السلام) أنَّه قال: «قدّام القائم موتتان: موت أحمر وموت أبيض، حتَّى يذهب من كلّ سبعة خمسة، الموت الأحمر السيف، والموت الأبيض الطاعون»(54).
وروي عنه (عليه السلام) أيضاً أنَّه قال: «لا يكون هذا الأمر حتَّى يذهب ثلثا الناس»، فقلنا: إذا ذهب ثلثا الناس فما يبقى؟ فقال: «أمَا ترضون أن تكونوا الثلث الباقي؟»(55).
ونكتفي بذكر هذا المقدار من الروايات الدالّة على قتل مريع في الناس بسبب الأمراض والأوبئة وبسبب الحروب، ولعلَّ كثرة القتلى في الحروب تشير إلى احتمال وقوع حرب عالمية شاملة تؤدّي بحياة ثلثي الناس، ولا أدري هل هي الحرب العالمية الثالثة أم الرابعة أم...؟
فهذا الظرف العصيب لا بدَّ أن يلقي بظلاله على سورية والشام، فيستفيد السفياني من هذه الظروف لتثبيت حركته كما أنَّه يستفيد من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(52) كتاب الفتن للمروزي: 206.
(53) الغيبة للنعماني: 286/ باب 14/ ح 61.
(54) كمال الدين: 655/ باب 57/ ح 27.
(55) الغيبة للطوسي: 339/ ح 286.

(٥٥)

اختلاف الاتّجاهات السياسية المتسلّطة على الشام ويحارب خصومه السياسيين وينتصر عليهم لأسباب موضوعية عديدة، منها نفرة الناس من تلك الاتّجاهات السياسية في الشام في ذلك العصر وانخداعها بنفاق السفياني الذي ورد في بعض الأخبار أنَّه يحاول في أوّل تحرّكه استمالة عواطف الناس وتضليلهم بسلوكه.
فقد ورد في خطبة البيان لأمير المؤمنين إشارة إلى نفاق السفياني وريائه، قال (عليه السلام): «... ثمّ يغلبهم السفياني فيقتل منهم خلقاً كثيراً ويملك بطونهم ويعدل فيهم حتَّى يقال فيه: والله ما كان يقال عليه إلاَّ كذباً، والله إنَّهم لكاذبون ولا يعلمون ما تلقى أمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منه ولو علموا لما قالوا ذلك، ولا يزال يعدل فيهم حتَّى يسير فأوّل سيره إلى حمص...» الخبر(56).
ومن الخبر يُعلم أنَّ لهذا الرجل سمعة سيّئة وصيت مكروه فيحاول بنفاقه في أوّل الأمر تحسين صورته القبيحة، فينخدع به السُذَّج من الناس وذوي الأهواء والهامشيين.
لكن هذا التقمّص لقميص العدالة والتديُّن لا يستمرُّ كثيراً فسرعان ما تنكشف الحقائق، خاصّةً عندما يرجع جيش السفياني منكسراً من الكوفة فقد ورد في نفس خطبة البيان عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «فإذا دخل بلده اعتكف على شرب الخمر والمعاصي ويأمر أصاحبه بذلك فيخرج السفياني وبيده حربة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(56) إلزام الناصب 2: 171 و172.

(٥٦)

ويأمر بالمرأة فيدفعها إلى بعض أصحابه فيقول له: افجُر بها في وسط الطريق، فيفعل بها، ثمّ يبقر بطنها، ويسقط الجنين من بطن أُمّه(57)، فلا يقدر أحد أن ينكر عليه ذلك، فعند ذلك تضطرب الملائكة في السماوات ويأذن الله بخروج القائم من ذرّيتي وهو صاحب الزمان، ثمّ يشيع خبره في كلّ مكان، فينزل حينئذٍ جبرائيل على صخرة بيت المقدس فيصيح في أهل الدنيا: ﴿جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81]»(58).
كما ورد في الخبر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه عن السفياني: «... ثمّ يدور الأمصار والأقطار، ويحلُّ عرى الإسلام عروة بعد عروة، ويقتل أهل العلم، ويحرق المصاحف، ويخرب المساجد، ويستبيح الحرام، ويأمر بضرب الملاهي والمزامير في الأسواق، والشرب على قوارع الطرق، ويحلّل لهم الفواحش...»(59).
والذي ورد في الروايات حول اختلاف الاتّجاهات السياسية هو أنَّ هناك ثلاث رايات واتّجاهات متقاتلة على السلطة في سورية الشام، وهي: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني، كما في رواية جابر الجعفي عن الإمام الباقر (عليه السلام) المتقدّمة وقد جاء فيها: «يا جابر ألزم الأرض...، فأوّل أرض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(57) لعلَّ المرأة كانت حاملة بجنين، إمعاناً منه في الغيّ.
(58) إلزام الناصب 2: 173.
(59) شرح إحقاق الحقّ 29: 569.

(٥٧)

تخرب أرض الشام(60) يختلفون عند ذلك على ثلاث رايات: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني، فيلتقي السفياني بالأبقع فيقتتلون فيقتله السفياني ومن تبعه، ثمّ يقتل الأصهب...».
كما روى الإمام الباقر (عليه السلام) عن جدِّه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) أنَّه قال: «إذا اختلف الرمحان بالشام لم تنجل إلاَّ عن آية من آيات الله»، قيل: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: «رجفة تكون بالشام يهلك فيها أكثر من مائة ألف...»(61).
والظاهر من اختلاف الرمحين هو الكناية عن الحرب والقتال، ولعلَّ المراد اقتتال اتّجاهين سياسيين فيما بينهما، فيستغلُّ السفياني انشغالهما ببعضهما ونفرة الناس منهما ليشكّل جناحاً ثالثاً قويّاً فيتغلَّب عليهماً معاً ويستمكن من السيطرة على الشام جميعاً، وينقاد له كلّ أهلها إلاَّ القليل ممَّن ثبت على الحقّ.
ففي الخبر المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: «... وإذا كان ذلك خرج السفياني، فيملك قدر حمل امرأة تسعة أشهر، يخرج بالشام فينقاد له أهل الشام إلاَّ طوائف من المقيمين على الحقّ يعصمهم الله من الخروج معه...»(62).
ولا يخفى أنَّ الرايات الثلاث كلّها منحرفة عن الحقّ وكلٌّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(60) ويكون سبب خرابها اجتماع ثلاث رايات فيها: راية الأصهب، وراية الأبقع، وراية السفياني.
(61) الغيبة للنعماني: 317/ باب 18/ ح 16.
(62) الغيبة للنعماني: 316/ باب 18/ ح 14.

(٥٨)

منها يريد الحكم لنفسه وتنتهي المعارك بفوز الأحمر الأزرق وهو السفياني على الأبقع والأصهب، فيسيطر السفياني على كلِّ الموقف في الشام ويتبعه أهلها إلاَّ القليل الذين يعصمهم الله تعالى عن اتّباعه وهم جماعة من المخلصين الممحَّصين الكاملين المعبَّر عنهم في بعض الأخبار بالأولياء وبالأبدال(63).
والروايات الدالّة على سيطرة السفياني على كلّ بلاد الشام كثيرة تصرّح أكثرها بسيطرته على دمشق وحمص وفلسطين والأردن وقنسرين، والتي يعبّر عنها في الروايات بالكور الخمس، والكور جمع كورة، وهي المدينة أو البقعة من الأرض الآهلة.
وقد مرَّ الخبر المروي عن الصادق (عليه السلام)، وهو ما أخرجه الصدوق عن عبد الله بن أبي منصور البجلي، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اسم السفياني، فقال: «وما تصنع باسمه؟ إذا ملك كور الشام الخمس: دمشق، وحمص، وفلسطين، والأردن، وقنسرين، فتوقَّعوا عند ذلك الفرج»(64).
وبهذا تكون الشام مركز تحرّكات السفياني وعاصمة حكومته المشؤومة فيصعد المنبر ويخطب الناس معلناً عن بداية حكومته.
فقد روي بسند معتبر عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «لا يكون ما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(63) تاريخ ما بعد الظهور للسيّد محمّد الصدر: 165.
(64) كمال الدين: 651 و652/ باب 57/ ح 11.

(٥٩)

ترجون [أي قيام القائم](65) حتَّى يخطب السفياني على أعوادها، فإذا كان ذلك انحدر عليكم قائم آل محمّد من قِبَل الحجاز»(66).
وسيطرة السفياني على الشام ليست هي الهدف الواقعي لحركته وإنَّما وبحسب فهمنا للروايات يكون هدفه الرئيسي متمثّلاً في أمرين متلازمين هما:
الأوّل: القضاء على شيعة آل محمّد وأتباعهم تمهيداً للأمر الثاني.
الثاني: القضاء على حركة الإمام المهدي (عليه السلام) وبالتالي تصفيته جسدياً.
وسنحاول أن نتناول بشكل موجز هذين الأمرين.
السّفياني وأتباع أهل البيت (عليهم السلام):
ورد في كثير من الروايات إنَّ همّ السفياني الأوّل هو القضاء على شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام)، كما في خبر جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «... ثمّ لا يكون له هِمَّة إلاَّ الإقبال نحو العراق...»(67).
وفي رواية حذيفة بن اليمان، عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذكر منها الفتن، قال: «... فبينا هم كذلك يخرج عليهم السفياني من الوادي اليابس، في فور ذلك، حتَّى ينزل دمشق فيبعث جيشين: جيشاً إلى المشرق(68)، وآخر إلى المدينة، حتَّى ينزلوا بأرض بابل من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(65) ما بين المعقوفتين توضيح من المؤلّف وليس من متن الخبر.
(66) معجم أحاديث الإمام المهدي 3: 271.
(67) الغيبة للنعماني: 289/ باب 14/ ح 67.
(68) باعتبار أنَّ الكوفة تقع إلى شرق الشام.

(٦٠)

المدينة الملعونة - يعني بغداد -(69)، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، ويفضحون(70) أكثر من مائة امرأة...، ثمّ ينحدرون إلى الكوفة فيخرّبون ما حولها...»(71).
وفي خطبة البيان لأمير المؤمنين (عليه السلام): «... ألا ويلٌ لكوفانكم هذه وما يحلُّ فيها من السفياني في ذلك الزمان...، فيا ويل لكوفانكم من نزوله بداركم يملك حريمكم ويذبح أطفالكم ويهتك نساءكم».
وفيها أيضاً: «ألا وإنَّ السفياني يدخل البصرة ثلاث دخلات يذلُّ العزيز ويسبي فيها الحريم...».
وقد ورد أيضاً في الخطبة: «ولا يزال السفياني يقتل كلَّ من اسمه محمّد وعلي وحسن وحسين وفاطمة وجعفر وموسى وزينب وخديجة ورقيّة بغضاً وحَنقاً لآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(72).
وفي رواية معتبرة عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «... فإنَّ حَنَقَه وشَرَهه فإنَّما هي(73) على شيعتنا»(74).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(69) لعلَّ ما بين الفاصلتين من كلام الراوي.
(70) كذا في تفسير مجمع البيان، وفي تفسير الطبري والثعلبي: (ويبقرون بها)، وفي تفسير القرطبي: (ويفتضّون).
(71) تفسير مجمع البيان 8 : 228؛ تفسير الطبري 22: 129؛ تفسير الثعلبي 8 : 95؛ تفسير القرطبي 14: 315.
(72) إلزام الناصب 2: 164 - 173/ خطبة البيان.
(73) هكذا في المصدر.
(74) الغيبة للنعماني: 311/ باب 18/ ح 3.

(٦١)

وفي رواية عن الباقر (عليه السلام): «... ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة وعدَّتهم سبعون ألفاً، فيصيبون من أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً...»(75).
وقد ورد في الخبر المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّ السفياني يدور في الأمصار والأقطار يقتل أهل العلم... إلى أن يقول (عليه السلام): «ثمّ يبعث فيجمع الأطفال ويغلي الزيت لهم فيقولون: إن كان آباؤنا عصوك فنحن ما ذنبنا؟ فيأخذ منهم اثنين اسمهما حسن وحسين فيصلبهما، ثمّ يسير إلى الكوفة فيفعل بها كما فعله بالأطفال، ويصلب على باب مسجدها طفلين اسمهما حسن وحسين فتغلي دماؤهما كما غلى دمُ يحيى بن زكريا، فإذا رأى - السفياني - ذلك أيقن بالهلاك والبلاء فيخرج هارباً منها متوجّهاً إلى الشام...»(76).
فمن هذه الروايات وغيرها يظهر لنا جليّاً حنق وكره هذا المعتوه المعقَّد لأهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، والمرجّح هو أنَّ هذا الحنق والكراهية لأتباع أهل البيت من قبل السفياني إنَّما هو لسببين:
الأوّل: الاختلاف العقائدي والفكري بين المدرسة التي ينتمي إليها السفياني والمدرسة التي ينتمي إليها شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا السبب سبب جذري متأصّل ممتدّ إلى قرون طويلة لكنَّها ستأخذ شكلاً متميّزاً في زمن السفياني يتَّسم بالإفراط الكبير والوحشية والهمجية والابتعاد عن كلّ القيم الإنسانية فضلاً عن الإسلاميّة، فإن كان أسلاف السفياني قد استحوا قليلاً بسبب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(75) الغيبة للنعماني: 289/ باب 14/ ح 67.
(76) عقد الدرر: 93 و94.

(٦٢)

قربهم من زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والصحابة، لكن هذا الرجل بعيدٌ كلَّ البعد عن الحياء فضلاً عن الرادع الديني، ذلك أنَّه يشعر بالخطر المحدق بمدرسته وقد أحاط به من كلّ جانب ولعلَّه لما يرى من إقبال الناس على مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وبقراءة فاحصة لمجريات الأمور الفكرية والعقائدية في زمننا هذا والتحوّلات العقائدية الفردية والجماعية التي تحدث في هذا البلد وذاك وانتشار مبادئ التشيّع في البلدان، يزول الاستغراب والاستبعاد عن مثل هذه التصرّفات السفيانية وكما جاء في الرواية المتقدّمة عن الصادق (عليه السلام): «إنّا وآل أبي سُفيان أهلُ بيتين تعادينا في الله، قلنا: صدق الله، وقالوا: كذب الله، قاتل أبو سفيان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقاتل معاوية علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي (عليهما السلام)، والسفياني يقاتل القائم (عليه السلام)»(77).
إذن فالصراع بين السفياني وبين أتباع أهل البيت (عليهم السلام) إنَّما هو صراع فكري عقائدي.
الثاني: السبب الثاني لعداوة السفياني لشيعة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو أنَّ الشيعة هم القاعدة الأساسية لحركة الإمام المهدي (عليه السلام) وهذا الأمر واضحٌ كلَّ الوضوح في نفس السفياني، لذا يحاول جاهداً تصفية هذه القاعدة والقضاء عليها تمهيداً للقضاء على حركة الإمام المهدي (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(77) معاني الأخبار: 346/ ح 1.

(٦٣)

السفياني والإمام المهدي (عليه السلام):
وأمَّا الأمر الثاني الذي يستهدفه السفياني من حركته فهو القضاء على الحركة المهدوية وقد اتَّضح لنا من خلال الإشارة إلى الأمر الأوّل حقيقة الصراع بين السفياني والمهدي (عليه السلام) فهذا الصراع هو آخر حلقة من سلسلة الصراع بين أهل البيت وبني أميّة والذي ينتهي بهلاك السفياني على يد الإمام (عليه السلام) كما تأتي الإشارة إليه.
ولا أستبعد هنا تدخّل قوىً خارجة عن الإسلام في رسم صورة هذا الصراع بين السفياني والإمام المهدي (عليه السلام)، ذلك أنَّ الأصابع اليهودية الصهيونية واضحة البصمات في هذا المعترك وبطبيعة الحال فإنَّ الصليبية العالمية التابعة للصهيونية العالمية ستقف بكلّ ما لها من سلطان وقوَّة مع حركة السفياني ضدّ الحركة المهدوية والشاهد على ذلك:
1 - ما ورد في الخبر أنَّ السفياني يذهب إلى الروم لدفع الملك الخراساني ويرجع منها متنصّراً وفي عنقه صليب، فإنَّ استمداد العون من الروم النصرانية الصليبية، لَخير دليل على تدخّل تلك القوى الصهيوصليبية في الحركة السفيانية والمخطّطات الفكرية والإعلامية والسلوكية لها.
2 - الشاهد الثاني على تدخّل الصهيونية العالمية في حرب السفياني ضدّ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وإمامهم المهدي (عليه السلام) هو أنَّ ما يقوم به السفياني من قتل وسلب ونهب وإراقة دماءٍ وهتكِ حرمات وهدم مساجد وإحراق المكتبات وغير ذلك من الجرائم، إنَّما يكون على مرأى ومسمع المحافل الدولية والمنظَّمات العالمية لحقوق الإنسان والشعوب

(٦٤)

والدول، ومع ذلك لا نجد رادعاً لإجرامه، بل على العكس من ذلك، نجد مباركةً ودعماً قويّاً له، ولا يسهل فهم هذا السكوت إلاَّ على أساس القول بتدخّل تلك الواجهات العالمية في هذه الحرب وعدم حياديتها في هذا المعترك، خاصّةً ونحن نعلم بأنَّ أكثر المنظَّمات العالمية اليوم تابعة في قراراتها وضوابطها إلى أصحاب الرساميل اليهودية الصهاينة.
وهذا التدخّل الأجنبي يعود إلى نمط الفكر الشيعي المخالف من القدم لأيّ نوع من السيطرة الأجنبية على مقرّرات الأمّة الإسلاميّة وخاصّةً السيطرة الصهيونية، وفتاوى علماء الشيعة وآرائهم في هذا الخصوص واضحة وصريحة، وهناك تجارب كثيرة وشواهد موثوقة بما لا يقبل الدحض والإنكار على هذه الرؤية الشيعية لقوى الاستعمار والهيمنة الأجنبية.
كلّ هذا يدفع الحركة الصهيونية العالمية إلى تبنّي مدرسة وحركة تقف بوجه الفكر الشيعي وتحاول إجهاض كلِّ محاولة لترجمة هذا الفكر الأصيل عملياً، فكيف بها وهي تواجه احتمال تشكيل دولة عالمية يقودها الإمام المهدي (عليه السلام)؟
من الطبيعي أن تقف بكلّ ثقلها في مواجهة هذا الأمر ودعم كلِّ من يقوم بهذا الدور، فتجتمع عند السفياني عدَّة دوافع لمحاربة المهدي (عليه السلام) ومحاربة أشياعه وهم أتباع مدرسة آل البيت (عليهم السلام).
ومن هنا نجد بأنَّ أوّل حركة يقوم بها السفياني بعد استقرار سيطرته على الشام، هي إرسال جيش إلى العراق وإلى الكوفة بالذات فإنَّها مركز التشيّع وعاصمته كما وأنَّها عاصمة دولة الإمام المهدي (عليه السلام).

(٦٥)

قرقيسيا:
بعد أن يُحكم السفياني قبضته على كور الشام الخمس أعني دمشق وحمص وفلسطين والأردن وقنسرين(78)، ويستتبُّ له الأمر، يبدأ بخطَّته لغزو العراق عسكرياً، فيوجّه جيشاً قُدَّر في بعض الأخبار بمائة وثلاثين ألفاً، ويكون نفس السفياني قائده، وبطبيعة الحال فإنَّ مثل هذا التحرّك يصل إلى مسامع حكّام العراق في ذلك الوقت فيرسلون إليه جيشاً من أجل دفعه فيلتقي الجيشان في منطقة تُدعى (قرقيسيا)، وهي منطقة على نهر الخابور عند مصبّه، وجانبها الآخر على نهر الفرات بالقرب من الحدود السورية العراقية، وهي اليوم مجرَّد أطلال بالقرب من مدينة دير الزور السورية وقريبة أيضاً من الحدود السورية التركية، وتقع معركة ضارية بينهما ويُقتل مقتلة قُدَّرت في بعض الروايات بمائة ألف وُصفوا في الرواية بالجبّارين، ممَّا يدلُّ على أنَّ المقتولين من كلا الفريقين هم من المنحرفين عن الحقّ والصواب ولعلَّهم من القادة العسكريين وإن كنت أميل إلى أنَّ الجيش الذي يقاتل السفياني عبارة عن مجموعات إرهابية تتحصَّن في تلك المنطقة ولهم جذور فكرية لا تنسجم مع فكر السفياني.
وعلى أيّ تقدير، تحسم النتيجة لصالح السفياني عسكرياً فيدخل العراق وإليك بعض الروايات في هذا المضمار:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(78) قنسرين كورة بالشام بالقرب من حلب، وهي أحد أجناد الشام، قال ابن الأثير: وكان الجند ينزلها في ابتداء الإسلام، ولم يكن لحلب معها ذكر. (تاج العروس 7: 420/ مادّة قَنسر).

(٦٦)

في روضة الكافي، الحديث (451): عن ميسّر، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «يا ميسّر كم بينكم وبين قرقيسيا؟»، قلت: هي قريب على شاطئ الفرات، فقال: «أمَا إنَّه سيكون بها وقعة لم يكن مثلها منذ خلق الله تبارك وتعالى السماوات والأرض ولا يكون مثلها ما دامت السماوات والأرض، مأدبة للطير تشبع منها سباع الأرض وطيور السماء ويهلك فيها قيس [أي قبيلة من قيس](79) ولا يدعى لها داعية».
قال: ورواه غير واحد وزاد فيه: «وينادي منادٍ: هلمُّوا إلى لحوم الجبّارين»(80).
وفي غيبة النعماني عن حذيفة بن المنصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال:
«إنَّ لله مائدة [مأدبة] بقرقيسياء يطلع مطلع من السماء فينادي: يا طير السماء ويا سباع الأرض هلمُّوا إلى الشبع من لحوم الجبّارين»(81).
وعلى أيّة حالٍ، فالحكمة الإلهية اقتضت التخلّص من هذا العدد الكبير من المخالفين للحقّ تخفيفاً عن المؤمنين من شرّ هؤلاء الجبّارين.
ولعلَّ سائلاً يسأل ويقول: قد وقعت معارك عديدة على مرّ التاريخ وخاصّةً التاريخ الحديث فيها أكثر من هذا العدد بكثير،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(79) ما بين المعقوفتين توضيح من المؤلّف وليس من متن الخبر.
(80) الكافي 8 : 295/ ح 451.
(81) الغيبة للنعماني: 287/ باب 14/ ح 63.

(٦٧)

قتلىً وجرحىً خاصّةً في الحروب العالمية، فكيف نصحّح فهم ما ورد في الرواية من أنَّه لم يكن وقعة مثل وقعة قرقيسيا منذ أن خلق الله تبارك وتعالى السماوات والأرض، بعد التسليم بعدم وقوع مثلها ما دامت السماوات والأرض؟
والجواب الاحتمالي لهذا التساؤل هو: لعلَّ المراد من هذا القول منه (عليه السلام) هو عدم تحقّق مثل هذه المقتلة النوعية منذ أن خلق الله السماوات والأرض، فإنَّ هؤلاء القتلى قد وصلوا إلى درجة من الطغيان والعتوّ فاقَتْ التصوّر، وإن لم يرد ذكر لتجبّرهم وعتوّهم في الرواية إلاَّ أنَّ الأخبار الأخرى قد وضَّحت جانباً من جوانب إجرام أفراد جيش السفياني وإجرامه هو بذاته وتجريّه على كلّ الشرائع السماوية والمبادئ الإنسانية وتنمّره على الأبرياء العُزَّل.
وأمَّا الجيش الثاني الذي يقاتل جيش السفياني في قرقيسيا فلعلَّه هو الآخر لا يقلُّ وحشيةً وإجراماً عن جيش السفياني، فكلاهما جبّار عنيد ومعتدٍ غاشم ومجرم سفّاح سفّاك للدماء، فجاء وصف الإمام (عليه السلام) لهم بالجبّارين توضيحياً للفقرات السابقة في الرواية.
ومن هنا قلت: إنَّني أميل إلى أنَّ الجيش الثاني عبارة عن مجموعات إرهابية مارست ألوان الظلم والجور وعاثت في الأرض الفساد واستمكنت من السيطرة على هذه البلدة وتحصَّنت فيها من أجل السيطرة على الطرق، فلمَّا أحسَّت بأنَّ البساط سيسحب من تحت أقدامها على يد السفياني، قرَّرت محاربته وإن وافقها في الوحشية والإجرام، إلاَّ أنَّ المُلكَ عقيم. علماً أنَّه لم يرد

(٦٨)

في الأخبار المعتبرة تصريح أو تلميح بهويّة الجيش الثاني، لكن الأحداث الجارية اليوم في العراق وانفصال بعض المجموعات الإرهابية عن السلطة المركزية وتحصّنها في بعض مناطقه، بل وما قام به البعض منها بتشكيل إمارات وحكومات ممَّا يمكن أن تكون له نظائر في المستقبل القريب والبعيد المقارب لعصر الظهور يعزّز هذا الرأي، والله العالم.
وذهب البعض إلى أنَّ الجيش الثاني هو جيش الترك والروم الذين يقفون على مشارف سوريا ويقاتلون جيش السفياني بسبب ظهور كنز في الفرات، يقع الخلاف عليه بينهما.
ولا نرى لهذا الرأي وجهاً وجيهاً في الروايات، نعم ورد عن أرطاة أنَّه قال: (فإذا أقبلت مادّة الأبقع من مصر ظهر السفياني بجيشه عليهم فيقتل الترك والروم بقرقيسيا حتَّى تشبع سباع الأرض من لحومهم...)(82).
وورد عن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «إنَّ لولد العبّاس والمرواني لوقعة بقرقيسياء يشيب فيها الغلام الحزور، يرفع الله عنهم النصر، ويوحي إلى طير السماء وسباع الأرض: اشبعي من لحوم الجبّارين»(83).
ولا بدَّ حينئذٍ من تفسير تغيّر (ولد العبّاس) الوارد في الخبر، إذ أنَّ حمله على الحقيقة مشكل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(82) كتاب الفتن للمروزي: 170.
(83) الغيبة للنعماني: 315 و316/ باب 18/ ح 12.

(٦٩)

الكوفَة:
وهي المحطّة الرئيسية المستهدفة في حركة السفياني والتي تشاطر المدينة المنوَّرة في الأهمّية من جهة الاستهداف، فقد قرأنا في الخبر أنَّ السفياني بعد أن يستقرَّ له الأمر في الشام يرسل جيشين أحدهما للمشرق والآخر للمدينة باعتبار أنَّ الكوفة هي المعنيّة بالمشرق لوقوعها إلى الشرق من الشام.
فبعد قرقيسيا والفوز العسكري الذي يحقّقه جيش السفياني على خصمه يتوجَّه إلى مركز شيعة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فإنَّ حنقه عليهم بالدرجة الأولى كما أشرنا إلى ذلك آنفاً، وكما جاء في الرواية الشريفة.
ويبدو أنَّ المراد من الكوفة ليس فقط مدينة الكوفة وإنَّما يكون همّه القضاء على أتباع آل محمّد أينما كانوا من أرض العراق، خاصّةً وأنَّ بعض الروايات ذكرت العراق بدل الكوفة.
فقد ورد عن باقر علوم أهل البيت (عليهم السلام) أنَّه قال: «... ثمّ لا يكون له همّة إلاَّ الإقبال نحو العراق...»(84).
نعم الكوفة كمدينة لها أهمّيتها الخاصّة بها في نفس السفياني الشرّيرة، لأنَّ الكوفة هي عاصمة دولة الإمام المهدي (عليه السلام) والسفياني يعرف ذلك تماماً، ولذلك فإنَّ الويلات التي تلاقيها الكوفة من جور السفياني ووحشيته هي ويلات عظيمة، فقد ورد في خطبة البيان لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «ويصرخ إبليس لعنه الله: ألا وإنَّ الملك في آل أبي سفيان، فعند ذلك يخرج السفياني فتتبعه مائة ألف رجل ثمّ ينزل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(84) الغيبة للنعماني: 289/ باب 14/ ح 67.

(٧٠)

بأرض العراق فيقطع ما بين جلولاء وخانقين فيقتل فيها الفجفاج، فيذبح كما يذبح الكبش».
ثمّ قال (عليه السلام): «ها هاي ألا ويل لكوفانكم هذه وما يحلُّ فيها من السفياني في ذلك الزمان»(85).
وفي الملاحم: (أنَّ السفياني يدخل الكوفة فيسبيها ثلاثة أيّام ويقتل من أهلها ستّين ألفاً ويقيم فيها ثماني عشر ليلة يقسّم أموالها...)(86).
وفي غيبة النعماني في حديث معتبر عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «... ويبعث السفياني جيشاً إلى الكوفة وعدَّتهم سبعون ألفاً، فيصيبون من أهل الكوفة قتلاً وصلباً وسبياً...»(87).
وفي المعتبر من الرواية أنَّ النساء يكُنَّ في مأمن منه ومن شرِّ جيشه، ولذلك فإنَّ الإمام (عليه السلام) يوصي الرجال فقط بالهروب والتخفّي لكي يأمنوا من شرِّه.
فقد روي عن الباقر (عليه السلام)، قال: «... يتغيَّب الرجال مِنْكُم عنه فإنَّ حَنَقه وشَرَهه فإنَّما هي على شيعتنا، وأمَّا النساء فليس عليهنَّ بأس إن شاء الله تعالى»، قيل: فإلى أين يخرج الرجال ويهربون منه؟ فقال: «من أراد منهم أن يخرج يخرج إلى المدينة أو إلى مكّة أو إلى بعض البلدان»، ثمّ قال: «ما تصنعون بالمدينة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(85) إلزام الناصب 2: 164 - 169.
(86) الملاحم والفتن لابن طاووس: 117/ ح 109.
(87) الغيبة للنعماني: 289/ باب 14/ ح 67.

(٧١)

وإنَّما يقصد جيش الفاسق إليها، ولكن عليكم بمكّة فإنَّها مجمعكم...»(88).
نعم ورد في بعض الكتب أنَّ جيش السفياني يتعرَّض للنساء ويهتك ستورهنَّ ويبدي شعورهنَّ ويسبي من يسبي منهنَّ، فكم من لاطمةٍ خدّها، كاشفةٍ شعرها و... الخ، ونحن لا نستبعد مثل هذه الدناءة والإجرام ممَّن لفظ فوه أكباد الأولياء وتلطَّخت يداه بدماء الشرفاء، فهو بعيد كلّ البعد عن أبسط القيم الإنسانية والإسلاميّة.
ولكنَّنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبعد عن أهلينا وأخواتنا وإخواننا في العراق كلّ مكروه وأذى وبلية تتوجَّه إليهم من قِبَل جيش السفياني، إنَّ الله على كلّ شيء قدير، خصوصاً وقد اخترنا عدم الحتمية في جزئيات وتفاصيل تصرّفات السفياني بعد التسليم بحتمية أصل قضيّته.
على أنَّ الرواية معارضة بالمعتبر الدالّ على عدم البأس على النساء والمقترن بدعاء الإمام (عليه السلام) بقوله: «إن شاء الله»، والذي يظهر في الدعاء لا في التعليق.
وهنا أودُّ الإشارة إلى وجود وجه شبه بين ما ورد في الأخبار حول وحشية جيش السفياني وبين ما يحصل اليوم في العراق من وحشية على يد جماعات مسلَّحة إرهابية، فما نراه اليوم من عمليات ذبح وقطع للرؤوس طالت أتباع أهل البيت (عليهم السلام)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(88) الغيبة للنعماني: 311 و312/ باب 18/ ح 3.

(٧٢)

وتخصيص الجوائز والعطايا لمن جاء برأس شيعي من شيعة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هو نفس ما ورد في الروايات، فقد روى المجلسي في بحاره عن صادق آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «كأنّي بالسفياني أو بصاحب السفياني(89) قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة فنادى مناديه: من جاء برأس شيعة علي فله ألف درهم، فيثب الجارُ على جاره ويقول: هذا منهم، فيُضرب عنقه ويأخذ ألف درهم»(90).
ولا نستغرب إذا ما قيل: إنَّ الأفكار التي يحملها الإرهابيون اليوم في العراق هي بدايات فكر شاذّ وحشي يتبنّاه السفياني وجيشه، وهذا الأمر لا يخفى على اللبيب، خاصّةً أهل العراق الذين يعرفون جيّداً جذور هذا الإرهاب والجهات التي تغذّيه اليوم، فهي نفس الجهات التي ينتمي إليها السفياني وأخواله.
كما أنَّنا لا نستغرب ما ورد في الخبر من أنَّ الجار يثب على جاره ويقول: هذا من شيعة علي (عليه السلام)، لأنَّ طاغية العراق صدام قد ملأ بطون بعض الناس من الحرام والمشتبه حتَّى نبتت لحومهم عليه، كما أنَّه غسل أدمغتهم العفنة وصبغها بصبغة العداء للإسلام والقيم الإيمانية السامية فأصبحوا عبيد الدرهم والدينار يتسابقون إلى الدنيا حتَّى على حساب آخرتهم.
فقد ورد في عقد الدرر أنَّ السفياني: «يدخل الكوفة فيصير أهلها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(89) لعلَّ الترديد من الراوي، والأخبار يفهم منها تارةً أنَّ السفياني نفسه يقود الحملة على العراق، وتارةً يفهم منها أنَّه يوكّل قائداً للجيش الذي يغزو العراق.
(90) بحار الأنوار 52: 215/ ح 72، عن الغيبة للطوسي: 450/ ح 453.

(٧٣)

ثلاث فِرَق، فرقة تلحق به وهم أشرّ خلق الله تعالى، وفرقة تقاتله وهم عند الله تعالى شهداء، وفرقة تلحق الأعراب وهم العصاة»(91).
والفرقة الناجية من هؤلاء هي التي تقاتل السفياني ويبدو أنَّهم ثُلَّة مؤمنة قليلة العدد، تنبري للدفاع عن الدين والقيم والمؤمنين، فتضحّي بنفسها في سبيل الهدف السامي دون أن تحقّق انتصاراً عسكرياً في ساحة المعركة.
فقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «... ثمّ يخرج رجل من موالي أهل الكوفة في ضعفاء فيقتله أمير جيش السفياني بين الحيرة والكوفة...»(92).
وهنا، وعوداً على بدء نلفت نظر القارئ العزيز إلى ما أثبتناه في أوّل الكتاب من أنَّنا وإن اعتقدنا بحتمية أمر السفياني وحركته المشؤمة إلاَّ أنَّنا لا نسلّم بحتمية كلّ جزئيات وتفصيلات هذه الحركة تماشياً مع قوله تعالى: ﴿يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَاب﴾ (الرعد: 39)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال: 53).
وللحديث المروي عن جواد الأئمّة (عليه السلام) بواسطة أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(91) عقد الدرر: 77.
(92) الغيبة النعماني: 289/ باب 14/ ح 67.

(٧٤)

بن علي الرضا (عليه السلام) فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟
قال (عليه السلام): «نعم».
قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم؟
فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يخلف الميعاد»(93).
فهي دالّة صراحةً على إمكان عدم تحقّق أمر السفياني فيما لو تغيَّرت الشرائط والأسباب المؤدّية إلى تحقّق أمره.
نعم ذهب في مستدركات علم رجال الحديث إلى تضعيف الرواية لوجود محمّد بن أحمد بن عبد الله الخالنجي في سندها، وقد مرَّ منّا مناقشتها.
هذا وفي الأخبار ما يدلُّ على بقاء السفياني في الكوفة إلى زمن الظهور وقدوم الإمام المهدي (عليه السلام) إلى العراق والكوفة وحربه معه وقتله، بناءً على أنَّ السفياني هو الذي يقود الجيش المتوجّه إلى الكوفة.
فقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «... فيؤتى بالسفياني أسيراً فيأمر به فيذبح على باب الرحبة...»(94)، إلاَّ إذا قلنا بأنَّه يؤسر خارج الكوفة ويؤتى به إليها فيذبح فيها.
وعن الباقر (عليه السلام): «... ثمّ يقول: هذا رجل خلع طاعتي فيأمر به عند ذلك فيذبح على بلاطة إيليا»(95).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(93) الغيبة للنعماني: 314 و315/ باب 18/ ح 10.
(94) كتاب الفتن للمروزي: 216، ولم يسنده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
(95) كتاب الفتن للمروزي: 215.

(٧٥)

فالرحبة في الكوفة، وقيل: إنَّ المراد من إيليا هي الكوفة، وعلى هذا يكون القتال بينهما في العراق بعد سيطرة الإمام المهدي (عليه السلام) على الكوفة.
والرأي الآخر هو أنَّ السفياني يترك الكوفة متوجّهاً إلى الشام بعد أن يعيث بها فساداً ويقتل العباد حيث ورد أنَّه يدور في الأمصار والأقطار ويقتل أهل العلم ويحرق المصاحف ويخرّب المساجد ويستبيح الحرام ويأمر بضرب الملاهي والمزامير في الأسواق والشرب على قوارع الطرق ويحلّل لهم الفواحش ويحرّم عليهم كلّ ما افترضه الله (عزَّ وجلَّ) من الفرائض ولا يرتدع عن الظلم والجور بل يزداد تمرّداً وعتوّاً وطغياناً...، ثمّ يبعث فيجمع الأطفال ويغلي الزيت لهم فيقولون: إن كان آباؤنا عصوك فنحن ما ذنبنا؟ فيأخذ منهم اثنين اسمهما حسن وحسين فيصلبهما ثمّ يسير إلى الكوفة فيفعل بهم كما فعله بالأطفال ويصلب على باب مسجدها طفلين اسمهما حسن وحسين فتغلي دماؤهما كما غلى دمُ يحيى بن زكريا، فإذا رأى - السفياني - ذلك أيقن بالهلاك والبلاء فيخرج هارباً منها متوجّهاً إلى الشام(96).
وفي بعض الأخبار أنَّ هذا الجيش المعتدي يهرب من الكوفة إلى الشام فتلحقه قوّات اليماني والخراساني ويقتتلون وينتصر اليماني عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(96) عقد الدرر: 93 و94.

(٧٦)

فقد روى في عقد الدرر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «...ثمّ يخرجون متَّجهين إلى الشام فتخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على مسيرة ليلتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم...»(97).
ولا بدَّ من توجيه ما في الرواية، على ما في سندها، بأنَّ السفياني لا يكون في ذلك الجيش، فالمفروض أنَّه يبقى حيّاً إلى زمن الظهور ويقاتل المهدي (عليه السلام) ويهرب ثمّ يؤسر ثمّ يقتل كما سيأتي إن شاء الله، إلاَّ إذا افترضنا أنَّه يترك الجيش قبل وصول جيش اليماني وقتاله.
الاعتداء على مدينة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
ليس في الأخبار وضوحٌ في استقلالية الجيش الذي يرسله السفياني إلى الكوفة عن جيش آخر يرسله إلى المدينة، ففي بعضها أنَّه يرسل جيشين أحدهما إلى المشرق والآخر إلى المدينة، فكأنَّهما ينطلقان معاً في وقت واحد وكلّ جيش مستقلّ عن الآخر.
وفي بعضها الآخر أنَّه يرسل جيشاً إلى المدينة بعد احتلاله للكوفة فيتحرَّك الجيش إلى المدينة من نفس الكوفة، وإليك ببعض هذه الأخبار:
عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «... يخرج عليهم السفياني من الوادي اليابس...، فيبعث جيشين: جيشاً إلى المشرق، وآخر إلى المدينة»(98).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(97) عقد الدرر: 110.
(98) تفسير مجمع البيان 8 : 228.

(٧٧)

ومنه يفهم أنَّه يبعث الجيشين في وقت واحد ويكون أحدهما مستقلاً عن الثاني.
بينما في طائفة أخرى من الأخبار نلاحظ أنَّ الجيش الذي يبعثه السفياني إلى المدينة يكون بعد أحداث الكوفة، فقد جاء في الملاحم والفتن، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال:
«يكتب السفياني إلى الذي دخل الكوفة بخيله بعدما يعركها عرك الأديم يأمره بالمسير إلى الحجاز، فيسير إلى المدينة، فيضع السيف في قريش، فيقتل منهم ومن الأنصار أربعمائة رجل، ويبقر البطون، ويقتل الولدان، ويقتل أخوين من قريش رجل وأخته يقال لهما: محمّد وفاطمة، ويصلبهما على باب المسجد بالمدينة»(99).
وفي عقد الدرر: «ثمّ يدخل الكوفة...، فيصير أصحاب السفياني ثلاث فِرَق: فرقة تسير نحو الري، وفرقة تبقى في الكوفة، وفرقة تأتي المدينة وعليهم رجل من بني زهرة»(100).
وعلى أيّ حالٍ، فمن المسلَّم والمتَّفق عليه عند الجميع دخول جيش السفياني وغزوه المدينة المنوَّرة التي وردت روايات كثيرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حرمتها وتجليل المؤمنين فيها والتحذير من هتكها.
والكلام هنا في جهتين:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(99) الملاحم والفتن لابن طاووس: 125/ ح 125، عن كتاب الفتن للمروزي: 199.
(100) عقد الدرر: 77.

(٧٨)

الأولى: سبب الغزو.
الثانية: لماذا هذه الوحشية؟
الجهة الأولى: سبب الغزو:
لم تصرّح الروايات بالسبب الحقيقي لغزو المدينة لكن في بعضها إشارات إلى أنَّ السفياني يقصد القضاء على الإمام المهدي (عليه السلام)، وفي بعضها إشارة إلى أطماعه التوسعية للسيطرة على كلّ البلدان الإسلاميّة.
وفيما يختصُّ بالمقصد الأوّل لا بدَّ من التوجيه والتخريج لواقعية هذا المقصد، فالمفروض أنَّ قضيّة الإمام المهدي قضيّة سرّية خافية عن الناس فكيف يعرف السفياني أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) موجود في المدينة إلى درجة أن يكون الهدف الرئيسي للجيش الزاحف نحوها هو القضاء على الإمام (عليه السلام)؟
ويؤيّد ذلك خروج الإمام (عليه السلام) من المدينة إلى مكّة، أفلا يتنافى ذلك مع الحكمة الإلهية في المحافظة على حياة الإمام (عليه السلام) إلى درجة حصول الإعجاز الإلهي بالخسف في البيداء، خاصّةً وأنَّ الظهور يكون بعد خروج السفياني؟
والتخريج المحتمل لهذه القضيّة - كما قد يذهب إليه بعض الكتّاب - هو أنَّ الإمام (عليه السلام) في تلك الفترة من العصر يمارس شيئاً قليلاً من دوره الريادي في الأمّة لكن ليس بعنوان المهدي الموعود بن الحسن العسكري (عليه السلام) وإنَّما تتمخَّض الأحداث السياسية والاجتماعية في وقتها عن ظرف قد يضطرّ الإمام (عليه السلام) إلى أن يبدي شيئاً من ألطافه على الناس فيبرز

(٧٩)

بشخصيته الثانوية في المجتمع الإسلامي كمصلح أو قائد تهمُّه مصلحة الأمّة الإسلاميّة، فيلتفّ الكثيرون حول هذه الشخصية دون أن يعرفوا نسبها الحقيقي لكنَّهم يعرفون انتمائه إلى بني هاشم، ويسمّونه الهاشمي.
ويبدو أنَّ هذا الهاشمي يكون له صولة وجولة في المدينة ضدّ المنحرفين من أتباع السفياني فيقتل منهم مقتلة تكسر شوكة السفياني وحزبه في الحجاز فيحاول السفياني استرجاع نفوذه وهيبته بإرساله ذلك الجيش الذي وصف في بعض الروايات بأنَّه جرّار، إلى المدينة المنوَّرة.
وقد روى في الملاحم، قال: «يبعث السفياني جيشاً إلى المدينة، فيأمر بقتل كلّ من كان فيها من بني هاشم حتَّى الحبالى، وذلك لما يصنع الهاشمي الذي يخرج على أصحابه من المشرق ويقول (أي السفياني): ما هذا البلاء كلّه وقتل أصحابي إلاَّ من قِبَلهم، فيأمر بقتلهم، فيقتلون حتَّى لا يعرف بالمدينة أحد، ويفترقوا منها هاربين إلى البوادي والجبال وإلى مكّة حتَّى نساؤهم، ويضع جيشه فيهم السيف أيّاماً، ثمّ يكفّ عنهم، ولا يظهر بينهم إلاَّ خائف حتَّى يظهر أمر المهدي بمكّة، فإذا ظهر بمكّة اجتمع كلّ من شذَّ منهم إليه بمكّة»(101).
وفي الملاحم أيضاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «يبعث السفياني بجيش إلى المدينة فيأخذون من قدروا عليه من آل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(101) الملاحم والفتن لابن طاووس: 126/ ح 130، عن كتاب الفتن للمروزي: 201.

(٨٠)

محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقتل من بني هاشم رجالاً ونساءً، فعند ذلك يهرب المهدي والمبيض من المدينة إلى مكّة، فيبعث في طلبهما وقد لحقا بحرم الله وأمنه»(102).
وفي هذا الخبر يبدو تعدّد الشخصية المطلوبة ولعلَّه يوضّح الخبر السابق فالمبيض هو الهاشمي المطلوب مضافاً إلى المهدي.
ولا يبعد من مثل السفياني الحاقد على آل محمّد وأتباعهم أن تكون له متابعات فكرية وتاريخية تؤهّله لمعرفة خصوصيات الحركات السياسية والعقائدية وتمييز المهدوية منها عن غيرها ولو بنحو الاحتمال، فهو مترصّد لكلّ ما من شأنه أن يكون مرتبطاً بالإمام المهدي (عليه السلام).
هذا إذا قلنا بأنَّ المهدي (عليه السلام) إنَّما يمارس هذا الدور باعتبار شخصيته أو عنوانه الثانوي الذي يعرفه به السفياني وإن عُبَّر عنه في الأخبار بالمهدي باعتبار حقيقته المنكشفة للإمام الذي صدر عنه النصّ وبهذا العنوان الثاني أيضاً يعرفه عامّة الناس.
ولا بدَّ من التنبيه هنا على أنَّ هذا الرأي لا يعدو كونه نظرية خاضعة للنقاش، كما أنَّ الإمام (عليه السلام) في هذه الممارسة الشخصية الثانوية يبتعد كلّ البعد عن كلّ ما يدلّل على أنَّه المهدي من آل محمّد حفظاً على حياته من كيد الأعداء وانسجاماً مع السرّية في القضيّة المهدوية.
ولا بدَّ من إلفات النظر هنا إلى أنَّنا نستبعد هذا الاحتمال جدّاً وذلك لعدم وجود دليل يعتدُّ به عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(102) الملاحم والفتن لابن طاووس: 125/ ح 126، عن كتاب الفتن للمروزي: 199.

(٨١)

كما أنَّه ينبغي على المؤمنين أن يحذروا كلّ الحذر من أدعياء المهدوية والبابية والسفارة الخاصّة، وأن لا يُغرّر بهم من قِبَل هؤلاء المشعوذين والمتاجرين باسم الإمام (عليه السلام)، وليعلموا جيّداً بأنَّ المهدي (عليه السلام) إذا ظهر - حتَّى بشخصيته الثانوية على فرض قبول هذه النظرية - فإنَّه سيدلّل على نفسه بالأدلّة القاطعة والبراهين الساطعة التي لا يشوبها الشكّ، بينما نجد أنَّ أدعياء المهدوية على مرّ التاريخ يتشبَّثون بالحجج الواهية والأدلَّة المنقوضة الباطلة، ولذا نجد بأنَّ أكثر أتباع هؤلاء هم من الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كلّ ناعق ولا نجد ولن نجد أنَّ فيهم من له أقلّ دراية وإحاطة بالقضيّة المهدوية.
ولكن الظاهر وهو المختار عندنا أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يكون له ظهور أوّلي تمهيداً للظهور الأكبر، وفي الظهور الأوّلي تكون أكثر اتّصالاته بالناس عن طريق بعض خُلَّص أصحابه المتَّصفين بمواصفات خاصّة تؤهّلهم لهذا الدور لا تخفى على اللبيب من المؤمنين، ولعلَّ منهم الرجل الهاشمي أو المبيض، وبعبارة أخرى يكون له ظهور أصغر وظهور أكبر كما كانت له غيبة صغرى وغيبة كبرى، وفائدة الظهور الأصغر تكون مشابهة لفائدة الغيبة الصغرى ولكن بالاتّجاه المعاكس، وعلى هذا الاحتمال يكون السفياني واقفاً على حقيقة من يرسل الجيش لقتاله ويعرف أنَّه المهدي الموعود (عليه السلام).

(٨٢)

وهذا الوجه قويٌّ لعدَّة أسباب منها:
نفس تشبيه الإمام (عليه السلام) في الروايات بالشمس التي يكون لها غروب أصغر وغروب أكبر كما أنَّ لها شروقاً أصغر وشروقاً أكبر باعتبار اختفاء وظهور قرصها.
ومنها: أنَّ هذه الأحداث تقوم بعد الصيحة الأولى في شهر رجب وهذا يعني تحقّق نوع من الظهور الجزئي.
ومنها: أنَّ ظهور الإمام (عليه السلام) بشخصية ثانوية (وهو الاحتمال الأوّل) بعيد كلّ البعد عمَّا هو المعروف من سيرة الأئمّة (عليهم السلام)، مضافاً إلى ما فيه من محاذير أهمّها إمكان التغرير بالشيعة من جهة فتح الباب أمام أدعياء المهدوية وهو ما لا نقبله أبداً.
الجهة الثانية: لماذا هذه الوحشية؟
وبذلك تتَّضح تقريباً الجهة الثانية من البحث حول غزو المدينة وهي سبب هذه الوحشية في التعامل مع أهل المدينة، حيث مرَّ علينا أنَّ السفياني يغضب لكلابه المسعورة التي قُتِلَت في المدينة على يد الهاشمي أو المبيض أو المهدي (عليه السلام)، مضافاً إلى حنقه على بني هاشم وشيعة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل حنقه على كلّ مؤمن بالحقّ لا يوافقه على مذهبه وإجرامه.
وإليك صوراً من إجرامه ووحشيته في المدينة المنوَّرة:
في الملاحم: «تكون بالمدينة وقعة تغرق فيها أحجار الزيت، ما الحَرَّةُ عندها إلاَّ كضربة سوط...»(103).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(103) الملاحم والفتن لابن طاووس: 127/ ح 132، عن كتاب الفتن للمروزي: 201.

(٨٣)

وفي تفسير القرطبي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذكر فتنة السفياني إلى أن قال: «ويحلُّ جيشه الثاني بالمدينة فينهبونها ثلاثة أيّام ولياليها»(104).
وورد أيضاً في هذا الشأن:
«ويبعث جيشاً له إلى المدينة فيقتلون ويأسرون ويحرقون، ثمّ ينبشون عن قبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقبر فاطمة (عليها السلام)، ثمّ يقتلون كلّ من اسمه محمّد وفاطمة ويصلبونهم على باب المسجد، فعند ذلك يشتدّ غضب الله عليهم فيخسف بهم الأرض، وذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ [سبأ: 50]، أي من تحت أقدامهم»(105).
وقد مرَّ عليك خبر النقّّاش المقري، الذي ورد فيه: «حتَّى يبلغ الدم الرأس المقطوع»(106).
ولكن جيش السفياني وعلى الرغم من كلِّ الوحشية التي يمارسها في مدينة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لا يوفَّق للوصول إلى هدفه ومبتغاه وهو القضاء على الإمام المهدي (عليه السلام)، ذلك أنَّ الإمام (عليه السلام) يخرج من المدينة إلى مكّة كما اقتضت الحكمة الإلهية، لأنَّه القائد المذخور إلى اليوم الموعود - بناءً على أنَّه يمارس دوره الثانوي لا بشخصيته الواقعية - ولا بدَّ من المحافظة على حياته إلى حين تحقّق كلّ الشرائط المكتوبة في علم الله ليوم الظهور.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(104) تفسير القرطبي 14: 315.
(105) معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام) 5: 359 و360/ ح 1796.
(106) معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام) 5: 363/ ح 1802.

(٨٤)

والروايات غير صريحة في وقت خروج المهدي (عليه السلام) من المدينة إلى مكّة، ولكن يظهر من بعضها أنَّه ينفر منها قبل مجيء جيش السفياني إليها، وإن كان المفهوم من البعض الآخر خروجه منها بعد دخول الجيش، وإليك بعض الروايات:
في الملاحم عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال:
«يبعث السفياني بجيش إلى المدينة فيأخذون مَنْ قدروا عليه من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ويقتل من بني هاشم رجالاً ونساءً، فعند ذلك يهرب المهدي والمبيض من المدينة إلى مكّة فيبعث في طلبهما وقد لحقا بحرم الله وأمنه»(107).
وفي الغيبة وفي رواية معتبرة عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: «ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة فينفر المهدي منها إلى مكّة، فيبلغ أمير جيش السفياني أنَّ المهدي قد خرج إلى مكّة...»(108).
فإذا عرف قائد جيش السفياني بخروج المهدي (عليه السلام) إلى مكّة خاطب السفياني في الأمر - كما هو مقتضى مراعاة سلسلة المراتب والأوامر العسكرية القتالية - فيؤمر بإرسال بعثٍ خلفه، ممَّا يوحي إلى أنَّ عدد الذين يخرجون في طلب المهدي (عليه السلام) هم مجموعة صغيرة، لكن ورد في بعض الأخبار أنَّه يرسل جيشاً، وهو يوحي بأنَّ الجماعة الخارجة خلف المهدي (عليه السلام) هم عدد كبير من الجند.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(107) الملاحم والفتن لابن طاووس: 125/ ح 126، عن كتاب الفتن للمروزي: 199.
(108) الغيبة للنعماني: 289/ باب 14/ ح 67.

(٨٥)

فقد ورد في إسعاف الراغبين(109): «وإنَّ السفياني يبعث إليه من الشام جيشاً فيخسف بهم البيداء فلا ينجو منهم إلاَّ المخبر».
ولكن هذا الجيش لا يصل إلى مكّة وإنَّما يعسكر في البيداء التي بين المدينة ومكّة وتحصل المعجزة الإلهية بإهلاك هذا الجيش وذلك بخسف البيداء بهم جميعاً.
روى النعماني في الغيبة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «ويأتي المدينة بجيش جرّار حتَّى إذا انتهى إلى بيداء المدينة خسف الله به، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه: ﴿وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ [سبأ: 51]»(110).
وفي كنز العمّال عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشاً فخسف بهم بالبيداء...»(111).
وفي إلزام الناصب عن المفضَّل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام): «ثمّ يقبل على القائم رجلٌ وجهُه إلى قفاه وقفاه إلى صدره ويقف بين يديه ويقول: يا سيّدي أنا بشير أمرني ملك من الملائكة أن ألحق بك وأُبشّرك بهلاك جيش السفياني بالبيداء، فيقول له القائم: بيّن قصَّتك وقصَّة أخيك، فيقول الرجل: كنت وأخي في جيش السفياني وخرَّبنا الدنيا من دمشق إلى الزوراء وتركناها جمّاً، وخرَّبنا الكوفة وخرَّبنا المدينة وكسرنا المنبر وراثت بغالنا في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وخرَّجنا منها وعددنا ثلاثمائة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(109) إسعاف الراغبين: 138.
(110) الغيبة للنعماني: 316/ باب 18/ ح 14.
(111) كنز العمّال 14: 589/ ح 39669، عن كتاب الفتن للمروزي: 216.

(٨٦)

ألف رجل نريد إخراب البيت وقتل أهله، فلمَّا صرنا في البيداء عرَّسنا فيها، فصاح بنا صائح: يا بيداء أبيدي القوم الظالمين، فانفجرت الأرض وبلعت كلَّ الجيش، فوَالله ما بقيَ على وجه الأرض عقال ناقة ممَّا سواه غيري وغير أخي، فإذا نحن بملك قد ضرب وجوهنا فصارت إلى ورائنا كما ترى، فقال لأخي: ويلك امض إلى الملعون السفياني بدمشق فأنذره بظهور المهدي من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعرّفه أنَّ الله قد أهلك جيشه بالبيداء، وقال لي: يا بشير الحقْ بالمهدي بمكّة وبشّره بهلاك الظالمين وتُبْ على يده فإنَّه يقبل توبتك، فيُمِرُّ القائم يده على وجهه فيردّه سويّاً كما كان ويبايعه ويكون معه»(112).
وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ويحلُّ جيشه الثاني بالمدينة فينهبونها ثلاثة أيّام ولياليها، ثمّ يخرجون متوجّهين إلى مكّة، حتَّى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبرئيل فيقول: يا جبرائيل اذهب فأبدهم، فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم فذلك قوله تعالى في سورة السبأ: ﴿وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ [سبأ 51]، ولا يفلت منهم إلاَّ رجلان: أحدهما بشير، والآخر نذير، وهما من جُهينة»، ولذلك جاء القول: (وعند جهينة الخبر اليقين)(113).
وفي عقد الدرر للشافعي السلمي، عن عبد الله بن عبّاس، قال: (يبعث صاحب المدينة إلى الهاشميين جيشاً فيهزمونهم فيسمع بذلك الخليفة بالشام فيبعث إليهم جيشاً فيه ستمائة عريف - أي القيّم والنقيب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(112) إلزام الناصب 2: 225 و226؛ الهداية الكبرى: 398؛ بحار الأنوار 53: 10.
(113) تفسير الطبري 22: 129؛ تفسير مجمع البيان 8 : 228.

(٨٧)

- فإذا أتوا البيداء فنزلوها في ليلة مقمرة، أقبل راع ينظر إليهم ويعجب ويقول: يا ويح أهل مكّة ممَّا جاءهم، فينصرف إلى غنمه، ثمّ يرجع فلا يرى أحداً، فإذا هم قد خسف بهم، فيقول: سبحان الله ارتحلوا في ساعة واحدة؟ فيأتي فيجد قطيفة قد خسف ببعضها وبعضها في ظهر الأرض، فيعالجها فلا يطيقها، فيعرف أنَّه قد خسف بهم، فينطلق إلى صاحب مكّة فيبشّره فيقول صاحب مكّة: الحمد لله هذه العلامة التي كنتم تخبرون فيسيرون إلى الشام»(114).
إشارة:
في كثير من الروايات عُدَّ الخسف بالبيداء بجيش السفياني من علامات الظهور، وهذا يعني أنَّ الخسف يقع قبل الظهور الشريف.
ففي الغيبة للنعماني عن محمّد بن الصامت، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: قلت له: ما من علامة بين يدي هذا الأمر؟ فقال: «بلى»، قلت: وما هي؟ قال: «هلاك العبّاسي، وخروج السفياني، وقتل النفس الزكية، والخسف بالبيداء، والصوت من السماء»، فقلت: جُعلت فداك، أخاف أن يطول هذا الأمر؟ فقال: «لا، إنَّما هو كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً»(115).
وهو واضحٌ في أنَّ الخسف يكون قبل الظهور.
بينما في البعض الآخر من الروايات قد يظهر التقارن بينهما، كما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(114) عقد الدرر: 71.
(115) الغيبة للنعماني: 269 و270/ باب 14/ ح 21.

(٨٨)

في الخبر المروي عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قال أبو جعفر محمّد بن علي الباقر (عليه السلام): «يا جابر ألزم الأرض...، فينزل أمير جيش السفياني البيداء فينادي منادٍ من السماء: يا بيداء بيدي القوم، فيخسف بهم، فلا يفلت منهم إلاَّ ثلاثة نفر يحوّل الله وجوههم إلى أقفيتهم، وهم من كلب، وفيهم نزلت هذه الآية: ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها...﴾ الآية [النساء: 47]»، قال: «والقائم يومئذٍ بمكّة قد أسند ظهره إلى البيت الحرام مستجيراً به، فينادي: يا أيّها الناس...» الخبر(116).
فقوله: «والقائم يومئذٍ» التالي لقضيّة الخسف في الخبر يدلُّ على التقارن.
بينما في طائفة أخرى من الروايات الآنفة الذكر، رأينا أنَّ الظاهر فيها هو ظهور الإمام (عليه السلام) قبل الخسف، حيث ورد أنَّه (عليه السلام) يفرُّ أو ينفر أو يخرج من المدينة إلى مكّة بعد مجيء جيش السفياني إليها أو قبل مجيئه كما مرَّ، كما في نفس الخبر الأخير.
ويمكن الجمع بين هذه الأخبار بما ذكرناه سابقاً في الاحتمال الأوّل كما عن بعض الكتّاب من أنَّ الإمام (عليه السلام) يكون له ظهور بشخصيته الثانوية واسم ثانٍ، وإنْ ذكر في الرواية باسمه الحقيقي باعتبار أنَّ الرواية ناظرة إلى الشخصية الحقيقية لا الثانوية، فيكون المقصود والمطلوب من قبل جيش السفياني في المدينة هو الشخصية ذات العنوان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(116) الغيبة للنعماني: 289 و290/ باب 14/ ح 67.

(٨٩)

الثانوي، والمقصود بالموجود بين الركن والمقام هو المهدي (عليه السلام) بشخصيته الحقيقية بعد نفره من المدينة.
كما يمكن التوجيه بين الأخبار من خلال رؤيتنا وهو ما نقوّيه بأنَّ الإمام (عليه السلام) له ظهورٌ وله قيام، وما يقوم به في المدينة من دور هو من مستلزمات الظهور، ولا يتحقَّق القيام إلاَّ بعد الخسف في البيداء بجيش السفياني أو يكون مقارناً له، فيكون الخسف علامة للقيام لا للظهور.
ويؤيّد هذا التوجيه ما ورد في الخبر الذي نقلناه عن عقد الدرر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والذي جاء في ذيله: «فينطلق إلى صاحب مكّة فيبشّره، فيقول صاحب مكّة: الحمد لله هذه العلامة التي كنتم تخبرون فسيروا إلى الشام».
فالمسير إلى الشام بأصحابه هو بداية القيام المبارك له (عليه السلام)، الذي يسبقه الظهور.
كما أنَّ هذا التوجيه يتناسب مع نظرية الظهور الأصغر والظهور الأكبر التي ذهب إليها بعض المفكّرين(117).
حرب الإمام (عليه السلام) والسفياني:
أوّل حرب يخوضها الإمام (عليه السلام) هي حربُه مع السفياني الذي يمثّل الشرَّ كلَّ الشرّ في ذلك اليوم.
فبعد اندحار جيش السفياني في البيداء يأتيه النذير إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(117) راجع كتاب (الأربعون في المهدي (عليه السلام)) للمؤلّف، فقد أثبت هناك تفصيل رأي هؤلاء الأعلام.

(٩٠)

الشام بهلاك جيشه وتحذيره من التمادي في غَيَّه وجبروته وظلمه وجوره، ويكون السفياني في ذلك الوقت قد تجرَّد عن كلّ القيم الإسلاميّة والإنسانية والأخلاقية ووصل إلى الحضيض والتسافل إلى درجة أن يبيح للناس شرب الخمر في الأسواق، ويحلّل لهم المحرَّمات، ويبيح الزنا واغتصاب وانتهاك الأعراض، كما مرَّ عن خطبة البيان لأمير المؤمنين (عليه السلام) والتي جاء فيها:
«... ويرجع منهزماً إلى الشام، فإذا دخل بلده اعتكف على شرب الخمر والمعاصي ويأمر أصاحبه بذلك فيخرج السفياني وبيده حربة ويأمر بالمرأة فيدفعها إلى بعض أصحابه فيقول له: افجُر بها في وسط الطريق، فيفعل بها، ثمّ يبقر بطنها، ويسقط الجنين من بطن أُمّه، فلا يقدر أحد أن ينكر عليه ذلك»(118).
وفي مثل ذلك لا يمكن لوليّ الله الأعظم والمصلح الأكبر أن يسكت عن مثل هذا الفساد والجور والظلم والانحراف، بل لا بدَّ أن يمارس دوره في الحفاظ على الدين والأمّة الإسلاميّة، وتبدأ حركته ومسيره من مكّة المشرَّفة، كما انطلقت حركة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منها فيسير مع أصحابه إلى الكوفة.
الإمام المهدي (عليه السلام) في الكوفة:
في حديث جابر الجعفي، عن الباقر (عليه السلام):
«... ثمَّ يأتي الكوفة فيُطيل فيها المكث ما شاء الله أنْ يمكث، حتَّى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(118) إلزام الناصب 2: 173.

(٩١)

يظهر عليها، ثمّ يَسير حتَّى يأتي العذراء هو ومَنْ مَعَه وقد لحق به ناسٌ كثير، والسفياني يومئذٍ بوادي الرملة حتَّى التقوا وهم، يومُ الأبدال، يخرج أُناسٌ كانوا مع السفياني من شيعة آل محمّد، ويخرج ناس كانوا مع آل محمّد إلى السفياني فهم من شيعته حتَّى يلحقوا بهم، ويخرج كلّ ناس إلى رايتهم، وهو يوم الأبدال، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): يقتل يومئذٍ السفياني ومن معه حتَّى لا يترك منهم مُخبر، والخائبُ يومئذٍ من خاب من غنيمة كلب»(119).
إذن، مجيء الإمام المهدي (عليه السلام) إلى الكوفة من المسلَّمات، كما أنَّ الأخبار تدلُّ على أنَّ الكوفة ستكون عاصمة دولته المباركة كما كانت الكوفة عاصمة دولة جدِّه أمير المؤمنين (عليه السلام).
وبناءً على أنَّ السفياني لم يكن على رأس الجيش الذي جاء لغزو الكوفة والمدينة، لا توجد أيّ مشكلة فنّية، وأمَّا بناءً على كون السفياني قد جاء على رأس الجيش إلى الكوفة، فلا بدَّ من توجيه عدم وجوده في الكوفة عندما يدخلها الإمام المهدي (عليه السلام).
ويمكن القول هنا بأحد التوجيهات التالية:
1 - إنَّ السفياني يخرج من الكوفة طوعاً راجعاً إلى الشام بعد تحقّق غرضه وهو الانتقام من شيعة آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قتلاً ونهباً وسبياً وحرقاً بالزيت كما مرَّ بنا.
أو أنَّه يرجع لعدم تمكّنه من تحقيق هدفه الذي هو القضاء على المهدي (عليه السلام)، الذي كان يتوقَّع وجوده في الكوفة مثلاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(119) تفسير العياشي 1: 66/ ح 117؛ بحار الأنوار 52: 224/ ح 87 .

(٩٢)

2 - فرار السفياني من الكوفة بعد ثمان عشرة ليلة لوجود مقاومة شعبية هنا وهناك، أو لما ذكرناه من ملاحقة جيش الخراساني واليماني لجيشه الموجود في الكوفة، وإبادة ما بقي من جيشه في الكوفة كما مرَّ.
ويؤيّده ما في خطبة البيان عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: «ويرجع - السفياني - منهزماً إلى الشام، فإذا دخل بلده اعتكف على شرب الخمر والمعاصي...»(120)، فقوله: «منهزماً» لا يدلُّ على الخروج الطوعي.
3 - التوجيه الثالث هو خوفه من العاقبة التي تنتظره لما يرى من تحقّق المعجزات مثل غليان دماء الطفلين حسن وحسين الذين صلبهما على باب الكوفة أو مسجدها، كما غلى دمُ يحيى بن زكريا، فإذا رأى ذلك أيقن بالهلاك فيخرج هارباً منها متوجّهاً إلى الشام، أو بعد أن يسمع بالخسف في البيداء فيفرُّ خوفاً من العاقبة التي تنتظره مع علمه بما لآل محمّد من المعجزات.
ويؤيّده ما ورد عن الباقر (عليه السلام)، قال:
«إذا سمع العائذ الذي بمكّة الخسف، خرج مع اثني عشر ألفاً فيهم الأبدال حتَّى ينزلوا إيلياء(121)، فيقول الذي بعث الجيش -السفياني - حين يبلغه الخبر بإيلياء: لعمر الله لقد جعل الله في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(120) إلزام الناصب 2: 173.
(121) بناءً على أنَّ المراد من إيلياء هو الكوفة، وذلك باعتبار ما ورد في الأخبار من أنَّه (عليه السلام) ينزلها وتكون عاصمة لدولته، كما يمكن أن تكون الكلمة مشتقّة من اسم (علي بن أبي طالب (عليه السلام)) حيث إنَّها كانت عاصمة حكومته.

(٩٣)

هذا الرجل - المهدي - عبرة، بعثت إليه ما بعثت فساخوا في الأرض، إنَّ هذا لعبرة ونصرة»(122).
فيحصل عند السفياني حجّة واضحة في أنَّ الحقّ مع المهدي فيخاف من المواجهة العسكرية معه فيخرج من العراق راجعاً إلى الشام، ويكون دخول الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة، دخولاً هادئاً بلا قتال فيسيطر عليها.
ولكن المسلَّم به أنَّ السفياني يكره مواجهة المهدي (عليه السلام)، وقد يكون ذلك لجبنه عن منازلة الإمام المهدي (عليه السلام) كأجداده بني أميّة وخاصّةً معاوية الذي عُرف منه الجبن والفرار من النزال، والسفياني يعلم جيّداً بأنَّ مثل هذه المواجهة ستنتهي بحياته.
ومن هنا نجد بأنَّ بعض الأخبار تسجّل تراجعاً للسفياني وانعطافاً في سيرته، وذلك بتوبته الظاهرية النفاقية واعترافه بخطئه، وإسلامه على يد الإمام (عليه السلام)، بل ومبايعته للإمام المهدي (عليه السلام).
فقد أخرج المجلسي في بحار أنوار أهل البيت (عليهم السلام) عن جابر بن يزيد الجعفي، عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال:
«إذا بلغ السفياني أنَّ القائم قد توجَّه إليه من ناحية الكوفة يتجرَّد بخيله حتَّى يلقى القائم، فيخرج ويقول: أُخرجوا إليَّ ابن عمّي، فيخرج عليه السفياني فيكلّمه القائم (عليه السلام) فيجيء السفياني فيبايعه، ثمّ ينصرف إلى أصحابه فيقولون له: ما صنعت؟ فيقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(122) كتاب الفتن للمروزي: 215.

(٩٤)

أسلمت وبايعت. فيقولون له: قبَّح الله رأيك، بينما أنت خليفة متبوع، فصرت تابعاً، فيستقيله فيقاتله. ثمّ يمسون تلك الليلة، ثمّ يصبحون للقائم (عليه السلام) بالحرب، فيقتتلون يومهم ذلك، ثمّ إنَّ الله تعالى يمنح القائم وأصحابه أكتافهم، فيقتلونهم حتَّى يفنوهم»(123).
والأخبار ليست واضحة جدّاً في مكان هذه الأحداث، أعني مبايعة السفياني ثمّ نكثه البيعة واستقالته، ثمّ الحرب بينهما.
فبعض الروايات يفهم منها أنَّ المباحثات تتمّ في الكوفة أو بالقرب منهم، ثمّ يرجع السفياني إلى بني خاله من كلب فيعيّرونه ويوبّخونه على بيعته وإسلامه، فيرجع ثانية إلى الكوفة ليستقيل المهدي، فيقيله، ثمّ يأمر به عند ذلك لأنَّه خلع بيعته، فيقتل السفياني ذبحاً على بلاطة باب إيلياء، اعتماداً على الرأي القائل بأنَّ إيلياء هي الكوفة. وإليك الخبر الذي أخرجه السيوطي عن نعيم بن حمّاد، عن الوليد بن مسلم، عن محمّد بن علي (عليه السلام)، قال:
«إذا سمع العائذ الذي بمكّة بالخسف خرج مع اثني عشر ألفاً فيهم الأبدال حتَّى ينزلوا إيلياء، فيقول الذي بعث الجيش حين يبلغه الخبر بإيلياء: لعمر الله لقد جعل الله في هذا الرجل عبرة، بعثت إليه ما بعثت فساخوا في الأرض، إنَّ في هذا لعبرة وبصيرة، فيؤدّي إليه السفياني الطاعة، ثمّ يخرج حتَّى يلقى كلباً، وهم أخواله، فيعيّرونه بما صنع ويقولون: كساك الله قميصاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(123) بحار الأنوار 52: 388/ ح 206.

(٩٥)

فخلعته! فيقول: ما ترون؟ أستقيله البيعة؟ فيقولون: نعم. فيأتيه إلى إيلياء فيقول: أقلني. فيقول: إنّي غير فاعل. فيقول: بلى. فيقول: أتُحبُّ أن أقيلك؟ فيقول: نعم. فيقيله، ثمّ يقول: هذا رجل قد خلع طاعتي، فيأمر به عند ذلك، فيذبح على بلاطة باب إيلياء. ثمّ يسير إلى كلب، فالخائب من خاب يوم نهب كلب»(124).
فظاهر الخبر أنَّ السفياني يُقتل في إيلياء (الكوفة)، ثمّ تكون الحرب مع أخواله وجيشه في الشام.
بينما نجد في رواية أخرى عن عبد الأعلى الحلبي، عن الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث طويل ذكر فيه القائم المهدي (عليه السلام) إلى أن ذكر دخوله الكوفة، ثمّ قال: «ثمّ يقول لأصحابه: سيروا إلى هذا الطاغية - أي السفياني - فيدعوه إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيعطيه السفياني من البيعة سلماً، فيقولون له كلب وهم أخواله: ما هذا؟ ما صنعت؟ والله لا نبايعك على هذا أبداً، فيقول: ما أصنع؟ فيقولون: استقِلْه فيستقيله، ثمّ يقول له القائم (عليه السلام): خذ حذرك فإنّي أدَّيت إليك، وأنا مقاتلك. فيصبح فيقاتلهم، فيمنحه الله أكتافهم، ويأخذ السفياني أسيراً، فينطلق به ويذبحه بيده»(125).
فظاهر الخبر أنَّ الإمام (عليه السلام) يخرج من الكوفة إلى حرب السفياني في الشام، إذ لم يرد فيها ما ورد في غيرها من الروايات من أنَّ السفياني يرجع إلى أخواله، وإنَّما ظاهرها وجودهم معه أو بالقرب منه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(124) أنظر: كتاب الفتن للمروزي: 215.
(125) تفسير العياشي 2: 60/ ح 49.

(٩٦)

وفي البحار، في حديث جابر الجعفي، عن الباقر (عليه السلام): «...ثمّ يأتي الكوفة فيطيل بها المكث ما شاء الله أن يمكث حتَّى يظهر عليها، ثمّ يسير حتَّى يأتي العذراء هو ومن معه وقد ألحق به ناس كثير والسفياني يومئذٍ بوادي الرملة حتَّى إذا التقوا وهم يوم الأبدال...»(126).
وحتَّى مكان قتل السفياني قد اختلفت الأقوال فيه، فعن الباقر (عليه السلام): «... ثمّ يقول - أي المهدي (عليه السلام) -: هذا رجل خلع طاعتي فيأمر به عند ذلك فيذبح على بلاطة إيليا»(127).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «فيؤتى بالسفياني أسيراً فيأمر به فيذبح على باب الرحبة...»(128).
بينما نجد في رواية أنَّه يذبح تحت أغصان شجرة مدلاة على بحيرة طبرية، فقد أخرج السيوطي عن حذيفة، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حديث يذكر فيه ظهور المهدي (عليه السلام):
«فيقدم الشام، فيذبح السفياني تحت الشجرة التي أغصانها إلى بحيرة طبرية، ويقتل كلباً، فالخائب من خاب يوم كلب ولو بعقال»، قال حذيفة: يا رسول الله كيف يحلُّ قتالهم وهم موحّدون؟ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يا حذيفة هم يومئذٍ على ردَّة، يزعمون أنَّ الخمر حلال ولا يصلّون»(129).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(126) بحار الأنوار 52: 224/ ح 87 ، عن تفسير العياشي 1: 66/ ح 117.
(127) كتاب الفتن للمروزي: 215.
(128) كتاب الفتن للمروزي: 216.
(129) أنظر: شرح إحقاق الحقّ 29: 550.

(٩٧)

وعلى هذا لا بدَّ من تفسير إيلياء في الأخبار السابقة على أنَّها بيت المقدس.
لكن تبقى الرواية التي تقول بأنَّه يقتل في الرحبة، ولا نظنّ أنَّ المراد من الرحبة غير رحبة الكوفة، خاصّةً وقد جاء في بعضها: (رحبتكم) وكان المخاطَب هم أهلُ الكوفة.
وقد جمع بعض المحقّقين بين الأخبار وذهب إلى أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يقاتل السفياني وهو بعيد عن عاصمة حكمه مع جماعته القليلة الذين جاؤوا معه إلى مقابلة الإمام المهدي (عليه السلام) في الكوفة، فيفنى عسكر السفياني ويفرُّ الملعون فيلحقه بعض أصحاب الإمام (عليه السلام) ويؤسرونه ثمّ يؤتى به إلى الإمام المهدي (عليه السلام)، فيُقتصُّ منه لما اقترف من جرائم حرب.
فقد ورد في إلزام الناصب: «وجرى بين السفياني وبين المهدي (عليه السلام) حرب عظيم حتَّى يهلك جميع عسكر السفياني، فينهزم ومعه شرذمة قليلة من أصحابه، فيلحقه رجل من أنصار القائم اسمه صياح ومعه جيش فيستأسره، فيأتي به إلى المهدي وهو يصلّي العشاء الآخرة، فيخفّف صلاته، فيقول السفياني: يا ابن العمّ استبقني أكون لك عوناً! فيقول لأصحابه: ما تقولون فيما يقول، فإنّي آليت على نفسي لا أفعل شيئاً حتَّى ترضون؟ فيقولون: والله ما نرضى حتَّى تقتله لأنَّه سفك الدماء التي حرَّم الله سفكها وأنت تريد أن تمنَّ عليه بالحياة. فيقول لهم المهدي: شأنكم وإيّاه، فيأخذه جماعة منهم فيضجعونه على شاطئ الهجير

(٩٨)

تحت شجرة مدلاة بأغصانها فيذبحونه كما يذبح الكبش وعجَّل الله بروحه إلى النار»(130).
وفي الخبر ثغرات وأمور لا نسلّم بها، منها: أنَّ الحكم في مثل هذه الحالات لا يقبل الرأي والاستشارة من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام)، فخلع البيعة والارتداد والمحاربة لأمور حكمها واضح بيِّن لا مجال لإعمال العواطف فيه، وهو ما يبدو وجوده في الخبر، والله العالم.
هذا وقد اختلفت الأخبار فيمن يتولّى ذبح السفياني، ففي بعضها أنَّ الإمام (عليه السلام) يتولّى ذبحه بنفسه وبيده، وفي بعضها أنَّ أصحابه هم الذي يتولّون ذلك، وقد تقدّم منّا ذكر كلا الخبرين.
هذا ويظهر ممَّا سبق أنَّ السفياني هو الذي يختار البيعة للإمام (عليه السلام)، وأنَّ أخواله يوبّخونه على ذلك، إلاَّ أنَّ بعض الأخبار تتناول القضيّة بشكل آخر، فتذكر أنَّ جماعة - يبدو أنَّها غير قليلة - من أنصاره هم الذي يقترحون عليه مبايعة الإمام والتوبة على يديه والكفّ عن قتاله، فيستجيب لهم مضطرّاً.
ففي كنز العمّال عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «إذا بعث السفياني إلى المهدي جيشاً فخسف بهم بالبيداء وبلغ ذلك أهل الشام قالوا لخليفتهم: قد خرج المهدي فبايعه وادخل في طاعته وإلاَّ قتلناك! فيرسل إليه بالبيعة ويسير المهدي حتَّى ينزل بيت المقدس»(131).
ولعلَّ ما يؤيّد وجود مثل هذا الاتّجاه المعارض للسفياني والمؤيّد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(130) إلزام الناصب 2: 178 و179.
(131) كنز العمّال 14: 589/ ح 39669، عن كتاب الفتن للمروزي: 216.

(٩٩)

للإمام المهدي (عليه السلام) في جيش السفياني، ما ذكرناه سابقاً من الأخبار التي تدلُّ على التحاق بعض أفراد جيش السفياني بجيش الإمام (عليه السلام)، وقد سُمّي في الروايات بيوم الأبدال، قال: «حتَّى إذا التقوا وهم يوم الأبدال يخرج أُناس كانوا مع السفياني من شيعة آل محمّد، ويخرج ناس كانوا مع آل محمّد إلى السفياني فهم من شيعته حتَّى يلحقوا بهم، ويخرج كلّ ناس إلى رايتهم وهو يوم الأبدال»(132).
وفي هذا الخبر أمرٌ خطير لا بدَّ من الإشارة إليه، وهو خروج بعض أفراد جيش الإمام (عليه السلام) والتحاقهم بجيش السفياني على الرغم من ظهور المعجزات لهم والتأييد الإلهي، والسيرة الحسنة التي يسير بها (عليه السلام) مع العالمين.
ولا يمكن تفسير ذلك إلاَّ بأنَّ هؤلاء الناس قد طبع على قلوبهم وغرَّهم الشيطان.
نعم، إنَّه الابتلاء الكبير، نعوذ بالله، فيجب أن لا يغترّ الإنسان بإيمانه وبعمله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبّتنا على القول الثابت وهو ولاية محمّد وآل محمّد، وأن يتوفّانا على ملَّتهم ويحشرنا في زمرتهم إنَّه أرحم الراحمين.
وبهلاك جيش السفياني وقتل هذا الطاغية، تُطوى صفحة سوداء من تاريخ الإنسانية، وينتهي فصل طويل من الإجرام والانحراف والظلم والجور والطغيان، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الإسلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(132) تفسير العياشي 1: 66/ ح 117؛ بحار الأنوار 52: 224/ ح 87 .

(١٠٠)

وفي الحقيقة إنَّ هذه المرحلة الجديدة كان المقرَّر لها أن تبدأ بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الرفيق الأعلى، لكنَّ الناس ولسوء طالعهم منعوا ذلك، وأراد الله تعالى أن يمنحهم فرصة بعد تولّي أمير المؤمنين الخلافة، لكنَّهم - أي الناس - زهدوا في الحقّ، ومن أجل ذلك عانوا الأمرّين من الويلات والمصائب والظلم والجور على مرّ العصور والدهور، بسبب سوء اختيارهم وفشلهم في الامتحانات الإلهية.
إشارة:
لعلَّ سائلاً يسأل ويقول: لماذا كلّ هذا الظلم والجور والتقتيل لشيعة آل البيت (عليهم السلام)؟ فمع أنَّهم الفرقة الناجية، التابعة لآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لكنَّنا نرى أنَّ الويلات تصبُّ عليهم والبلاء يغتّهم غتّاً؟
ويمكن الإجابة في نقاط:
الأولى: إنَّ ابتلاء المؤمن لا يكون بالضرورة عقاباً ونكالاً به، وإنَّما قد يكون لامتحانه ورفع درجاته عند الله تعالى، فإنَّ الله إذا أحبَّ عبداً ابتلاه(133).
الثانية: لا بدَّ من التَمحيص والغربلة لأدعياء التشيّع لآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإحدى وسائل الغربلة والاختبار هي الابتلاء وحلول المصائب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(133) عن زيد الزرّاد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنَّ عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحبَّ الله عبداً ابتلاه بعظيم البلاء...». (الكافي 2: 253/ باب شدَّة ابتلاء المؤمن/ ح 8).

(١٠١)

الثالثة: هناك بعض الأعمال التي يقوم بها الإنسان ذات أثر وضعي وتكويني على حياته وقد يكون الأثر قاسياً أحياناً، لكنَّه من فعل الإنسان بصورة غير مباشرة وإن جهل هو بذلك، على أنَّ نتائج بعض هذه الأفعال وآثارها السلبية لا تنعكس على نفس ذلك الشخص فحسب وإنَّما تشمل الآخرين أيضاً لأسباب موضوعية لا مجال لشرحها، ومن جملة الأسباب المؤدّية إلى هذه الابتلاءات هي إدبار الناس عن الدين وأحكام شريعة سيّد المرسلين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإقبالهم على اللهو واللعب والاستهانة بالمحرَّمات والتماهل عن الواجبات فضلاً عن المستحبّات، كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف حالات أهل آخر الزمان بما لا يسع المجال لذكره(134).
كلّ هذا وغيره له تبعاته وضرائبه التي تحرق الأخضر مع اليابس، فطوبى للصابرين على المصائب والبلاء فإنَّ لهم درجة عظيمة عند الله، وإنَّ لهم درجة الفوز بلقاء مولانا صاحب العصر والزمان روحي وأرواح العالمين له الفداء.
اللّهمّ أحينا محيا محمّد وآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأمتنا مماتهم، وتوفّنا على ملَّتهم، واحشرنا في زمرتهم، ولا تفرّق بيننا وبينهم طرفة عين أبداً في الدنيا والآخرة.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(134) راجع: الغيبة للنعماني: 257/ باب 14/ ح 3.

(١٠٢)

مصادر التحقيق

القرآن الكريم.
إلزام الناصب: الشيخ علي اليزدي الحائري/ ت السيّد علي عاشور.
بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ ط 2/ 1403هـ/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.
تاج العروس: الزبيدي/ 1414هـ/ دار الفكر/ بيروت.
تفسير الثعلبي: الثعلبي/ ط1/ 1422هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
تفسير الطبري: ابن جرير الطبري/ 1415هـ/ دار الفكر/ بيروت.
تفسير العياشي: العياشي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.
تفسير القرطبي: القرطبي/ ت البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
تفسير الميزان: السيّد الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية/ قم.
تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
سعد السعود: ابن طاووس/ 1363هـ/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
شرح إحقاق الحقّ: السيّد المرعشي/ مكتبة المرعشي/ قم.
شرح الرضي على الكافية: رضي الدين الاسترابادي/ 1395هـ/ مؤسسة الصادق/ طهران.
عقد الدرر: يوسف بن يحيى المقدسي/ انتشارات نصائح.

(١٠٣)

الغيبة: الشيخ الطوسي/ ت عبد الله الطهراني، علي أحمد ناصح/ ط1/ 1411هـ/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.
الغيبة: النعماني/ ط1/ 1422هـ/ مط مهر/ أنوار الهدى.
الفتن: نعيم بن حماد المروزي/ 1414هـ/ دار الفكر/ بيروت.
الكافي: الشيخ الكليني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط5/ 1363ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
كمال الدين: الشيخ الصدوق/ 1405هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
كنز العمّال: المتّقي الهندي/ 1409هـ/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.
مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط1/ 1370هـ/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.
مستدركات علم رجال الحديث: علي النمازي/ ط1/ 1412هـ/ مط شفق.
معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ 1379هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
معجم أحاديث الإمام المهدي: علي الكوراني/ ط1/ 1411هـ/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.
الملاحم والفتن: ابن طاووس/ ط1/ 1416/ مؤسسة صاحب الأمر/ أصفهان.
نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412هـ/ مط النهضة/ دار الذخائر/ قم.
الهداية الكبرى: الخصيبي/ ط4/ 1411هـ/ مؤسسة البلاغ/ بيروت.

* * *

(١٠٤)