سبعُ الدجيل
السيد محمد بن الإمام علي الهادي (عليه السلام) عمُّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
قراءة في شخصية الأولياء وكراماتهم
السيد حسين العوامي
تقديم ومراجعة: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
رقم الإصدار: 98
الطبعة الثانية 1442هـ
الفهرس
مقدّمة المركز..................3
مقدّمة المؤلِّف..................5
مدخل..................9
ميزان العظمة وأهمّيَّة الذات..................13
الكتابة عن العظماء..................14
المقام الاجتماعي والشأن الربَّاني..................16
قرب الباري ونعوت الأولياء..................18
الفصل الأوَّل: الهويَّة الشخصيَّة..................23
المحور الأوَّل: قرون الصراع بين قريش والإسلام..................25
مقامات تاريخيَّة وأُخرى أُسطوريَّة..................25
نظرة على الحياة العامَّة آنذاك..................28
المحور الثاني: الأصل والمنبت..................33
أهل البيت (عليهم السلام)..................33
آباؤه..................33
أُمُّه..................34
أعمامه وعمَّاته..................34
إخوته..................35
عقبه..................36
المحور الثالث: سبع الدجيل في التاريخ والوجدان..................43
اسمه وكنيته..................43
تحليل الكنى..................44
1 - سبع الدجيل..................45
2 - البعَّاج..................46
3 - أبو جاسم..................46
4 - أبو البرهان..................46
5 - أبو الشارة..................46
6 - أخو العبَّاس..................47
حياته ومماته في سطور..................47
مماته..................48
قرائن تستبعد الموت الطبيعي..................50
المحور الرابع: السيِّد في وجدان الأُمَّة وعند قادتها..................53
بانوراما سبع الدجيل..................53
من شهادات الأعلام والكُتَّاب في حقِّ سبع الدجيل..................54
واقع مقام السيِّد وشأنه..................56
المحور الخامس: كرامات سبع الدجيل..................59
الأُولى: تبرئة امرأة من التهمة..................60
أنَّة الشرف..................61
الثانية: شفاء امرأة مفلوجة خرساء..................63
شرف الخدمة..................63
مكنون الحدث..................66
الثالثة: داء الاستسقاء..................67
هلع الماء..................68
الرابعة: كرامة والبنت من كربلاء..................69
فعل الحكيم ونخوة الكريم..................69
الخامسة: قضاء حاجة مهمَّة..................70
تجديد معنى الحياة..................71
السادسة: شفاء امرأة من سنقر..................72
يُحفَظ المرء في ولده..................73
الفصل الثاني: كلمات في الكرامة وخوارق العادات..................75
نظرة مجرَّدة..................77
الكرامة معنًى ووجداناً..................79
الكرامة في القرآن..................83
الكرامة الإلهيَّة..................88
ميسم الكرامة..................95
كرامة الأحياء والأموات..................99
الكرامة ولوثة الشيطان..................100
الفرق بين مكتسبات الإنسان والكرامة..................102
الكرامة بين صبغتي الصدق والكذب..................103
فذلكة القول..................106
كرامة العقيدة والمعتقد..................107
أثر الكرامة في حياة المؤمن..................109
الكرامة ظلال الرحمة..................111
الكرامة وسحر بني إسرائيل القديم منه والجديد..................113
الملازمة بين الكرامة والقرب من الباري..................117
حكم الاعتقاد بالكرامة..................118
الفصل الثالث: معالجة مفهوم الإمامة وإشكاليَّة البداء في السيِّد محمّد..................123
تمهيد في البداء، معناه ودلائله..................125
البداء..................125
لمحة موجزة عن الإمامة..................128
الإمامة والبداء..................131
تنبيه..................132
لفت نظر..................133
ناتج الأمرين علوُّ مقام سبع الدجيل..................139
الفصل الرابع: شعراء سبع الدجيل..................143
مدخل..................145
قراءة في شعر الأعلام..................148
صفاته الفاضلة..................153
مختلف الأملاك..................154
الخوارق والكرامات..................154
اليد البيضاء..................154
الكلمات المحكمة..................155
الخاتمة: ملاحق..................183
الملحق الأوَّل: زيارة السيِّد..................185
كيفيَّة الزيارة..................185
زيارة أُخرى لأولاد الأئمَّة (عليهم السلام)..................186
الملحق الثاني: كتبٌ تحدَّثت عن السيِّد..................187
الملحق الثالث..................189
المصادر والمراجع..................193
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز:
لعلَّ من توضيح الواضحات القول بضرورة الحديث عن الرموز والتعرُّف عليها وسبر غورها واستخراج كنوز المعرفة واستجلاء جوانب العظمة فيها، لأنَّ ذلك مدعاة للتأسِّي بها والسير على خطاها واتِّباع نهجها، وكفى في ذلك فائدة جمَّة للفرد والمجتمع، لأنَّ الشخصيَّة حينما تكون رمزاً بأكثر من بعد وأبعد من اتِّجاه تكون عطاء دائماً تؤتي أُكُلها كلَّ حين.
وليس اعتباطاً تذكير القرآن بمواقف السلف والأُمَم السابقة، فهو ليس قصَّاصاً يريد إثارة مكامن الشوق لدى المجتمع وخلق حالة من الارتباط بنافذة الخيال الرحبة لدى المتلقِّي كما هو دَيدن القصَّاصين، بل هناك هدف عميق من تنوُّع القَصص في القرآن، وذلك لأجل الترابط الوثيق والعلقة المتينة بين الماضي والحاضر والتخطيط برؤية فاحصة وشاملة للمستقبل، فرُبَّ رمز غيَّر أُمَّة بكاملها وأحدث معجزة اجتماعيَّة وبقيت بصماته منطبعة وآثاره متجذِّرة في كلِّ حركاتها وسكناتها كما نجده واضحاً جليًّا في الحسين (عليه السلام).
إذن الحديث عن الشخصيَّات والرموز ليس حديثاً تاريخيًّا بحتاً، وليس كلاماً ترفيًّا فقط، وإنَّما هو من صميم حركة الأُمَم نحو إصلاح ذاتها وتهذيب مجتمعاتها وترتيب أوَّليَّاتها في خضمِّ المتغيِّرات والتقلُّبات الفكريَّة.
هكذا استطاع المؤلِّف أخونا العزيز سماحة حجَّة الإسلام والمسلمين السيِّد حسين العوَّامي تسليط بعض الضوء على حياة عَلَم من أعلام أهل
البيت (عليهم السلام) ورمز من رموزهم وكلُّهم أعلام شاخصة ورموز عظيمة، ألَا وهو السيِّد محمّد بن الإمام عليٍّ الهادي (عليه السلام)، وعمُّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
فجزاه الله خيراً، وجعله في ميزان حسناته.
سائلين له ولنا المزيد من التوفيق وقبول الأعمال برعاية المولى صاحب العصر والزمان.
مدير المركز
السيِّد محمّد القبانچي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المؤلِّف:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيِّبين الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
* * *
خوارق العادات شيء يُعجِب كثيراً من الناس، ويسعون إلى امتلاك القدرة عليه بشتَّى الوسائل ومهما كانت مشقَّتها وكلفتها، ويعدُّونه شكلاً من أشكال الكمال، وسمة من سمات العظمة، ومنحى من مناحي السلطة المطلقة على الكون؛ إذ إنَّه يرفع العجز الناشئ من غلبة الطبيعة وأسبابها.
والعاقل البصير يرى خوارق العادات دالّاً من دوالِّ الغيب، ولا يبهره بديع قدرتها، فهو ينظر في لونها ليرى من أيِّ الألوان هو؟ ويتأمَّل في مضمونها ليعرف هل الخرق الحادث آية من آيات الحقِّ أو خدعة من خُدَع الشيطان ومكره أم هو طاقة النفس أو من مكامنها؟
ولهذه المعاني ومن أجل التمييز بينها جاء هذا الكتاب، فغرضه بيان الكرامة وبيان منشأها وما يُميِّزها عن مشابهها، سواء كان ذلك المشابه من جانب الخير كاستجابة الدعاء والتوسُّل بالأولياء، أم كان من جانب الشرِّ كالسحر والكهانة، أو كان عصيُّ الميل لأحد الجانبين، فلا هو ناتج من ظلال الرحمة الإلهيَّة، ولا هو سراب توهَّج من هجير الضلال، بل كان ناتج رياضات روحيَّة تقف بين الطرفين وتتبع ضمير صاحبها.
ومن الضروري ذكر مثالٍ حيٍّ من أهلها يتجسَّد فيه لبُّ الفكرة وصورها كي تظهر معالمها جليَّة وواضحة للعيان، وشاءت الأقدار أنْ يكون مثالها اللَّامع السيِّد محمّد بن الإمام عليٍّ الهادي (عليه السلام) المعروف بــ (سبع الدجيل)، لذا سأسرد شيئاً من سيرته الذاتيَّة بحسب ما تمليه العادة في مثل هذه البحوث، فقد تتطلَّب بيان الجوِّ العامِّ المعاش، ثمّ ذكر خصائص بيته الشريف لتتَّضح معالم شخصه بما هو مألوف ومعروف في مدوَّنات التاريخ والتراجم.
لكن محاور هذه الدراسة لن تعتمد تلك العادة أساساً في التعرُّف على معالم شخصيَّة هذا السيِّد، لشُحَّة ذكره في المدوَّنات التاريخيَّة المعروفة، ولأنَّ ما تعنى به كُتُب التاريخ ليس له مساس كبير بالغرض المنظور، بل مثل السيِّد تجده ماثلاً في وجدان الناس، وتسمع ذكراه نابضة بها قلوبهم، فلك أنْ تحسب قلوبهم ووجدانهم وثقافتهم تدويناً لتاريخ أهمله أربابه بقصد أو بغير قصد.
وعلى هذا سيكون الكلام عن الظرف العامِّ الذي عاش فيه، وسيكون التطرُّق لسيرته ثانويًّا ومقتضباً بقدر دخالته في موضوع البحث، وهو على إجماله ستظهر فيه النتائج مع الإحالة على الحوادث التي استقيت منها النتائج من دون مسردات إلَّا بما تمليه طبيعة الغرض أو موجب آخر.
وسير البحث يعتمد محاور عدَّة، الأوَّل منها: همس عن عظمة الذات ووجاهة الخلق وموجباتها بعنوانها المناسب لها، والثاني تعريف بالسيِّد واستنطاق خصائصه، والمحور الثالث ينصبُّ على الكرامة وما يمتُّ إليها بصلة، والرابع كراماته وشعراؤه، وفي الختام تأتي ملاحق.
هذا هو النسج العامُّ للكلمات الآتية، وبالله التوفيق.
وقبل طيِّ هذه الصفحة أُلفت نظر القارئ إلى شيء سيلحظه من دون شكٍّ، وهو أنَّ الكلام في جميع العناوين يلتصق بالسيِّد وهو أمر مقصود، لأنَّه
المحور في الموضوع، ولأنَّ الكتاب بركة من بركاته وشيء من عطاءه، فهو وفاء لنذرٍ نذرته في ظرفٍ عصيب ووضع مقيت، وببركة السيِّد محمّد بن الإمام عليٍّ الهادي (عليه السلام) تبدَّدت العقبات وانحلَّت العُقَد وتيسَّرت الأُمور بشكل لمست فيها ألطاف الكرامة الربَّانيَّة.
السيِّد حسين العوَّامي
· ميزان العظمة وأهمّيَّة الذات.
· الكتابة عن العظماء.
· المقام الاجتماعي والشأن الربَّاني.
· قرب الباري ونعوت الأولياء.
يحفل تاريخ الأديان برجالٍ جسَّدوا التديُّن بأروع معانيه حتَّى غدوا نبراساً يُستَضاء به، فمن سيرتهم تنبع معاني العبادة جليَّة من دون رين ومن دون شُبُهات السالكين أو تزييف الشياطين، وبرغم أنَّ التاريخ حافل بمثل هؤلاء الرجال إلَّا أنَّ الطريق إلى الله قد قعد فيه الشيطان، وقد عاند وضادَّ الله في سلطانه إذ ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (الأعراف: 16 و17)، وقد أعانه على ذلك أهل الأحقاد والحُسَّاد وعبيد الدنيا، فغدت غايات الدِّين وطرائقه مشوَّشة المعالم مشدوهة البال، يخفي جمالها قومٌ (رفعوا الله سيفاً وغنوا النبيَّ والإسلام)، فلم يبقَ للإسلام شعيرة لم تخبطها قريش وأذنابها، متَّخذة الدِّين والتديُّن غطاءً وشعاراً، حتَّى قال أنس بن مالك في ذلك العهد: (لا أعرف شيئاً ممَّا أدركت إلَّا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعت)(1)، وفي كلمة أُخرى قال: (ما أعرف فيكم اليوم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله غير قولكم: لا إله إلَّا الله)، ولم يعرف أبو الدرداء منهم من أمر محمّد إلَّا أنَّهم يُصَلُّون جميعاً على حدِّ تعبيره(2)، وأمَّا ميمون بن مهران عن أبيه فقد بلغ الحال في زمانه لدرجة يحكيها قوله: (لو أنَّ رجلاً نُشِرَ فيكم من السلف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محكي عن البخاري في صحيحه والمقدسي في الأحاديث المختارة وغيرهما بأسانيدهم عن الزهري أنَّه قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يُبكيك؟ فقال ما ذُكِرَ في النصِّ. راجع: البخاري (ج 1/ ص 133/ كتاب مواقيت الصلاة وفضلها/ باب تضييع الصلاة عن وقتها).
(2) محكي عن مسند أحمد (ج 5/ ص 195، وج 6/ ص 443).
ما عرف فيكم غير هذه القبلة)(3)، هذا هو الوضع المزري إبَّان فجر الرسالة فكيف ما بعده؟!
وقد بيَّن الإمام الباقر (عليه السلام) الحالة في حديث طويل له جاء فيه: «... ثمّ لم نزل أهل البيت مذ قُبِضَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نُذَلُّ ونُقصى ونُحرَم...، ووجد الكذَّابون لكذبهم موضعاً يتقرَّبون إلى أوليائهم وقُضاتهم وعُمَّالهم، في كلِّ بلدة يُحدِّثون عدوَّنا وولاتهم الماضين بالأحاديث الكاذبة الباطلة، ويُحدِّثون ويروون عنَّا ما لم نقل، تهجيناً منهم لنا، وكذباً علينا، وتقرُّباً إلى ولاتهم وقُضاتهم بالزور والكذب...، ثمّ لم يزل البلاء الشديد يزداد... حتَّى إنَّ الرجل ليقال له: زنديق أو مجوسي أحبُّ إليه من أنْ يُشار إليه بأنَّه شيعة عليٍّ (عليه السلام)، وربَّما رأيت الرجل يُذكَر بخير ولعلَّه يكون ورعاً صدوقاً يُحدِّث بأحاديث عظيمة عجيبة...، وكان أشدُّ الناس في ذلك القُرَّاء المراءون المتصنِّعون الذين يُظهِرون الخشوع والورع...، وصارت في يد المتنسِّكين والمتديِّنين منهم الذين لا يستحلُّون الافتعال لمثلها...»(4).
والقارئ المتأمِّل في تاريخ المسلمين يرى أنَّ المتنسِّكين والمتزهِّدين كانت لهم يد طولى في ثني الناس عن جادَّة الصواب، وما كان التزهُّد والتنسُّك سوى بوَّابة لدعوى القرب من الباري تبارك وتعالى قرباً يُصوِّر مدَّعيه في ظلال الرحمة الإلهيَّة، وهو ما يُمكِّن صاحبه من نسج هالات القدس على مذهبه وجماعته ليسرق أو يبهت أبرز علامات القرب من الباري تبارك وتعالى ظهوراً عند البشر، ألَا وهي الكرامات الربّانيَّة التي تظهر على يد الأولياء، الأمر الذي شوَّش على وجدان الناس فاختلطت موازينهم، وألفت معارفهم ذاكرة الجهل ووهن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) محكي عن الاعتصام للشاطبي (ج 1/ ص 34).
(4) كتاب سُلَيم بن قيس الهلالي (ج 2/ ص 630 - 635).
النظر وأوهام الشيطان، فمن جهة يلمسون آثاراً طبيعيَّة تحدث للسالك لله وإنْ لم يكن سلوكه على صراطٍ مستقيم، وهي آثار يُمليها جوُّ الاستطراق أو طبيعة الطريق المستطرَق أو هي آثار تتولَّد من صلب العقيدة بغضِّ النظر عن المعتقد، ومن جهة أُخرى يُدرِك العقل أنَّ للشيطان لمسات تُزيِّن لأوليائه ضلالهم، وفي الآية المباركة المتقدِّمة ما يشير إلى ذلك، ومن جهة ثالثة يتحدَّث التاريخ عن سعي قريش(5) - في جميع أطوار دولتها وعلى اختلاف مشارب حُكَّامها - في الاستفادة من الظواهر الدِّينيَّة من أجل ترسيخ نظرتها الخاصَّة في الدِّين وتحوير ما جاء به الوحي بنحو يخدم مصالحها ويُحقِّق رؤاها الدِّينيَّة، فشوَّهت مظاهر الدِّين فضلاً عن حقائقه، وأكثرت من التظاهر بالتديُّن، وهذا المعنى ليس من الحقائق المتخفّيَّة - خجلاً - وراء سطور المؤرِّخين لتاريخ الخلفاء العرب، وبمجرَّد إطلالة سريعة على صولاتهم وجولاتهم تُدرِك أنَّهم جبابرة ضحَّوا من أجل المُلك بكلِّ شيء حتَّى بالإسلام.
ميزان العظمة وأهمّيَّة الذات:
يأنس الذهن كثيراً بالأحداث الكبرى التي تُكوِّن منعطفاً في حياته، ويجعلها معياراً يتمُّ على أساسه تحديد عظمة صانع تلك الأحداث بغضِّ النظر عن إيجابيَّة وسلبيَّة تلك الأحداث، وهذا المقياس تجده متداولاً في مناحي الدنيا، مقبولاً عند العقلاء، ومتضمِّناً لموازينهم، وداخلاً ضمن مدركهم وشأنهم الذي تبتني عليه رؤيتهم تلك.
وقد ترى في استعمالات الشارع المقدَّس نفس الميزان، ولكن تجد في بياناته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) ليس المراد من لفظ (قريش) ذلك المرتكز التاريخي المشير إلى المجموعات التي وقفت بوجه النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إبَّان الدعوة، بل هي مفردة تسع للأعقاب منهم الذين كايدوا الدِّين الإسلامي بنفس النهج الأوَّل وإنْ تناحروا فيما بينهم في سبيل المُلك، ولوحدة النهج عبَّرت بدولة قريش.
وصف بعض الأفراد بأنَّه عظيم كما في الخبر الوارد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «... ومن تعلَّم وعمل وعلَّم لله دُعِيَ في ملكوت السماوات عظيماً...»(6)، ومثله نعت: «من يُحِبُّ في الله ويُبغِض في الله»، وهذه النعوت تتَّفق مع المناحي التي بُنِيَ عليها الدِّين، فالعظمة تكمن في أُمور كبيرة وذات خطر عظيم في واقعها وإنْ لم يلتفت الناس إلى تلك الحقيقة.
ولست في صدد تعداد مكامن العظمة أو كواشفها في الذات الإنسانيَّة أو غيرها، ولكن لا أجد بدًّا من ذكر أهمّ كاشفَين عن عناية الباري بالإنسان ولا شكَّ أنَّهما إذا التقيا كشفا عن عظمة تحفُّ بذلك الفرد أو تحلُّ بالذي صار محلّاً لتجلِّيهما بنحوٍ ما، وهما: البداء والإمامة، وسيأتي الحديث عنهما حين الكلام حول مقام السيِّد وشأنه.
الكتابة عن العظماء:
كما تكون الأحداث الكبرى معياراً لعظمة أصحابها كذلك تكون مقياساً يجسُّ صعوبة الحديث عن العظماء ودراسة حياتهم وتمييزهم عن المدَّعين والمزيَّفين هذه جهة، وجهة أُخرى هي كثرة دواعي التدوين لسير العظماء، ولعلَّ أهمّ ما يدعو إلى الكتابة عنهم أنَّهم منار يُهتدى بهم في غمار الحياة، ولكلٍّ نظرة وتعلُّقٌ بالعظماء، فنظرة ترقى إلى مستوى التقديس، ونظرة تهبط ما دون سطح الاعتراف والاقتداء بغضاً أو حنقاً أو غير ذلك مع الاعتراف بعظمة تلك الشخصيَّة المرغوب عنها.
وتتعطَّل لغة الكلام حينما يكون التدوين عن عظيم وهب مبدأه الحياة، ونسخ عنوان ذاته ليحلَّ محلَّه عنوان مبدئه، وإذا كان المبدأ سماويًّا، وكان العامل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) بحار الأنوار (ج 2/ ص 27).
به والواهب روحه له محبًّا فإنَّ العقل يبخع؛ إذ الوقت وقتٌ تتجلَّى فيه روح الوجود، كي تقود العالم نحو تكاملٍ وتناسقٍ ضيَّعه الإنسان أو كاد، هنا نُدرِك نحن البشر أنَّ السكينة التي يهبها لنا أرباب العظمة لم تكن من كأس أوهامنا، ولم تكن من موائد دنيانا، إنَّها نتاج الدِّين والتديُّن والضمير الحيِّ الواعي، إنَّها دواء النفس المتهالكة والعقل الواهي، فقد يترك هذا العظيم التجوال في الأرض ويتعالى على المشتهيات كي يشرف على آمال الضمائر الحرَّة، ويُنَمِّي غرسة العبوديَّة للحقِّ تبارك وتعالى، تلك الغرسة الكافلة لتحقيق الذات للذات، والماسحة ألوان الغبش عن فجر الحقيقة ومشرق النفس.
يشرف على الآمال، ويُحقِّق الأُمنيات، ويزداد عطاءً كلَّما زدنا استعداداً وقابليَّةً، وكأنَّ التُّحَف والمواهب الرحمانيَّة فيض جاء به، وهبةٌ زفَّها لنا نحن البشر من شفقةٍ ورحمةٍ تتدفَّق من بين جوانبه، فذاته على عطائها وكرامته على نوالها صدقة جارية له فطرها فاطر الخلق، فنبعت فوق الحسِّ أو قارنته، ومن دون دركٍ أو معه.
هكذا شأن العظماء الربَّانيِّين يفيضون علينا، ويبلغون بنا ما لم نكن نحلم به، بل ما لم يخطر بالبال، رعايةً منهم لعيشنا نحن البشر، وصيانةً لوجه الحياة، وحفاظةً على الأخلاق ولباب العقول.
وبين العظام من يسعى نحو مبدءٍ ظانًّا أنَّ فيه جماع الأمر المُنْشد في وجدانه، وهو على عظمته شارد البال، لاهٍ عن معاقد الأُمور، وإنَّما تلمَّس أشياء تجمَّل ببعضها العقلاء، وجالوا ببعضها في سياحتهم حول الذات الإنسانيَّة، هؤلاء وإنْ تعرَّفوا على سرِّ العظمة، أو نالوا شيئاً من خصائصها، ولكنَّها لم تكن إلَّا خصائص مرسَلة ذات ملامح مجازيَّة، لا أُسَّ لها ولا أساس، وهي وإنْ صدرت عن نبع حيٍّ إلَّا أنَّها فارقت بلسمه الذي يُبرء الجراح الدامية من صرعة
الأنا حيث لم ترتبط بالسماء، وإنْ ادَّعت الارتباط بها لم يُصدِّق الربُّ تبارك وتعالى دعواها.
وأمَّا عظماء الحقِّ فلم تلههم خصِّيصة عن سرِّ العظمة؛ إذ كانت قلوبهم مكمنها، ولم يفقدوا بلسمها؛ إذ بهم يتمُّ الارتباط بين السماء والأرض، وأحد أُولئك العظماء - الذين أقرَّت لهم الأرض، بضعف تحمُّلها عظيم دلائلهم، وسابغ إيمانهم، وتأبَّت أنْ تركن إلى خادع أمانيها - إمامٌ وابنٌ لأئمَّة الهدى، ومنار التقى، وهو الإمام عليٌّ الهادي (عليه السلام) الذي أنجب سادات، تحنُّ الأرواح إلى محياهم، فصنعهم أعلاماً للدِّين وتسديداً لأولياء الله، منهم من نال عهد الإمامة، ومنهم من شابه ريحانتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومنهم من يقف المؤالف والمخالف على بابه، خاضعاً يرجو نوالاً ينعش دنياه، أو يثمر أمل أُخراه، والسيِّد المرجوُّ المعنيُّ بهذه الأحرف الجذلى، وهو سيِّدنا:
أبو جعفر سيِّد محمّد بن الإمام عليٍّ الهادي (عليه السلام).
المقام الاجتماعي والشأن الربَّاني:
يتكوَّن المقام الاجتماعي للفرد من عوامل عدَّة، منها المكانة الاجتماعيَّة لبيته الذي أنجبه، ومنها الميزات والخصائص المعنويَّة والمادّيَّة التي يحويها، وعادةً ما تقترن المكانة الاجتماعيَّة بوجاهة ونفوذ اجتماعيَّين يظهر اعتبارهما وقيمتهما أثر ظروف وشروط خاصَّة(7).
فالوجاهة هي محصَّل الاحترام الذي يتلقَّاه الفرد من المجتمع بسبب ما يحيط بمكانته من الملابسات التي توجب الاحترام، فإنْ لم توجبه تذهب وجاهته، فكم من إنسانٍ له مكانة اجتماعيَّة مرموقة، ولكن ليست لديه تلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) من جهة فنّيَّة يقع البحث في الظروف والشروط على عاتق الباحث الاجتماعي.
الوجاهة المناسبة لها، وكم من إنسان له من الوجاهة الشيء الكثير رغم أنَّ مكانته الاجتماعيَّة بسيطة أو مقامه ضحل.
ومع تحقُّق الوجاهة يتحقَّق النفوذ؛ إذ هو تعبير عن قدرة الإنسان في المجتمع.
وللوجاهة هيمنة على عقول الناس ونفوسهم، هيمنة تكاد أنْ تكون مقدَّسة، ولعلَّ سرُّ ذلك هو غياب منشأها عن أعين الناس ورؤيتهم لآثارها، الأمر الذي يُشعِرهم بالراحة من النقص الذي يعتريهم، لذا تجدهم يحنُّون إليها كحنين الرضيع لثدي أُمِّه، ويُسخِّرون بها الناس أيّما تسخير(8)، وكأنَّ الوجاهة ميسم كرامة حباه الله لذوي المكانة الاجتماعيَّة فلا يتوقَّع عامَّة الناس محلّاً للفضائل غير هؤلاء، وكأنَّ مضمون كلمة الصادق (عليه السلام) متجلٍّ هنا: «إذا أقبلت الدنيا على إنسان أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه»(9)، وفي قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ لَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف: 31) ما يعضد هذه الحقيقة، وناظر إلى مثل هذه الخصِّيصة الشائعة بين الناس، في حين أنَّ المُؤْثِر بأفضل مراتب الدِّين وجلاله هو الأفضل في طاعة الباري والأجدى في خدمته، وأيضاً لا يُؤخِّر في مراتب الدِّين وجلاله إلَّا الأشدّ تباطئاً عن طاعته، وهذا من الأُمور الخفيَّة التي لا يظهر عليها إلَّا الباري تبارك وتعالى، أو من أظهره عليها الباري (عزَّ وجلَّ)، فقد يكون هنالك عبد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) ومن لطائف الشواهد على هيمنة الوجاهة ما جعل المتنبِّي يضنُّ بالمال لقضيَّة حدثت له مع بعض الباعة، فبينما كان يساومه على خمس بطِّيخات بدينار جاء رجل وأخذها منه بثلاثة دراهم من دون مساومة، بل وحملها البائع لبيته، فلمَّا عاتبه المتنبِّي قال له: أنت لا تعرف هذا الرجل، إنَّه شيخ التُّجَّار.
(9) بحار الأنوار (ج 69/ ص 64/ ح 11).
لله (عزَّ وجلَّ) لا ينفذ أمره في الناس رغم وجاهته، أو لا يعتني الناس به وهو لو أقسم على الله لأبرَّ الله قسمه، ولكنَّ الله أخفاه في عباده(10).
إذن لا غرابة أنْ ترى الدنيا منصبَّة على قوم لا خلاق لهم في الآخرة، يحكمون فيها بأهوائهم، ويأخذونها باسم الدِّين وربِّه، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله مقدار جناح بعوضة لما شرب منها كافر شربة ماء، بينما ترى أهل بيت النبوَّة تضيق عليهم الدنيا بما رحبت، والغرض الإشارة إلى عدم الملازمة بين المكانة الاجتماعيَّة والشأن الربَّاني.
ومكانة السيِّد وإنْ تربَّعت في ذروة المراتب الاجتماعيَّة وما تفرزه من وهاجة، إلَّا أنَّ شأنه الربَّاني له ذروته التي لا تُضاهى.
قرب الباري ونعوت الأولياء:
إنَّ درك لون إيمان السيِّد وتصوُّر مدى قربه من الباري (عزَّ وجلَّ) هو الغرض من هذه الأسطر التي تشير - بنظرة إجماليَّة - إلى درجات الإيمان وموجباته ودرجات القرب من الباري تبارك وتعالى ومراتبه، ولا حاجة إلى بيان المفردات لوضوحها، ولأنَّ الموضوع ليس من صميم البحث المنظور، وإنَّما هو توطئة من أجل تكوين صورة إجماليَّة عن الأجواء التي يعيشها الوليُّ، والتعرُّف ولو بشكل مقتضب على لون إيمان السيِّد ومدى قربه من الباري.
ولعلَّ المستقرَّ في نفس الإنسان أنَّ حقيقة الإيمان ومكوِّناته وأكوانه سهلة المنال، بسيطة التناول، لا تحتاج لبذل جهد أو إتعاب نفس كما هو شأن تعريفه، ولكن أجد الحديث عن درجات الإيمان ومراتب القرب من الباري تبارك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) روى الصدوق عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنَّ الله أخفى وليَّه في عباده فلا تستصغروا شيئاً من عباده». بحار الأنوار (ج 72/ ص 55).
وتعالى حديثاً شائكاً، رغم أنَّه ممتع في نفس الوقت، فللإسلام مراتب أدناها التلفُّظ بالشهادتين، وتتدرَّج المراتب لتصل إلى منحى يتطلَّبه الأنبياء، فهم على علوِّ درجاتهم وسموِّ مقامهم يتوسَّلون إلى الله كي يُبلِغهم إلى تلكم المراتب، فهذا أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل يدعوان الله: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة: 128). وكذا الإيمان له مراتب يبدأ أوَّلها بالإقرار بالوحدانيَّة، ويتبعه الإقرار للرسول بالرسالة، وأنَّ طاعتهما ومعرفتهما مقرونتان(11)، وتتدرَّج مراتب الإيمان إلى ما شاء الله، وفي بعضها يُمتَحن المؤمن ليصبح قرين مَلَك مقرَّب أو نبيٍّ مرسَل، ولكلِّ مرتبة اسم يحكيها وقسمة تحويها، فاليقين - مثلاً - أقلّ المراتب انتشاراً(12).
إذن من المهمِّ معرفة ما جاء من الحديث عن الإيمان بالنحو الذي يُبرِز سماته وعلاماته وآثاره وخصائصه وخصاله فضلاً عن بيان حدوده؛ إذ له حقيقة بل حقائق، وأركان، ودعائم، وعرى، ومن أوثق عراه الحبُّ في الله والسعي في قضاء الحوائج، وفي جملة من النصوص عُدَّ الحبُّ في الله هو الدِّين، وبعض ملابسات الحبِّ يُعَدُّ تقوية للحبِّ والإيمان كتعظيم شعائر المحبوب، وبعضها بالإضافة إلى تقويتها للإيمان تنمُّ عن صلابته بل وتُنمِّيه كالثقة بالله، ورجائه، وخوفه، وحسن الظنِّ به، ومراقبته، واتِّباعه، بل والتوكُّل عليه، فلا شيء يفوق ما يختاره المحبوب، وهو ما يستدعي الرضا باختياره والتسليم لأمره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) وسائل الشيعة (ج 5/ ص 419/ ح 6975).
(12) بين الإسلام والإيمان تداخل في المراتب، فالإيمان يدخل كشرطٍ أو كجزءٍ في بعض مراتب الإسلام وكذا العكس، ومثلهما لفظ التقوى واليقين وما شابه، فهذه الألفاظ بالإضافة إلى كونها مشكّكة هي متداخلة.
وهذه المعاني جملة ما توجب للإنسان نيل الدرجات العلى، فمن أحبَّ في الله وكذلك من أبغض وأعطى ومنع في الله، فهو من أصفياء الله(13).
وهذا المعنى سارٍ بكلِّ ملابس مذكور أو غير مذكور، فمثل الثقة بالله ثمن لكلِّ غالٍ وسُلَّم لكلِّ عالٍ كما ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام)(14)، والتوكُّل على الله أحد أركان الإيمان التي لا يستقرُّ إيمان بدونها، فبعض الصفات تكون ركناً في مرتبة من مراتب الإيمان وعاملاً مقوّياً ومنمّياً في مرتبة أُخرى، وبعضها يُعَدُّ أساساً لأصل الإيمان سارياً في جميع مراتبه، ولك الرجوع إلى أحاديث الإيمان ودرجات الإسلام للاطِّلاع على ذلك.
وبالإضافة إلى التعرُّف على الإيمان ودرجاته ينبغي معرفة درجات المؤمنين؛ إذ لكلِّ درجة متطلّبات، فحسنات الأبرار سيِّئات المقرَّبين، وكلُّ ما ذُكِرَ من مراتب له درجات، ويتفاوت أهل الإيمان قوَّةً وضعفاً في حيازتهم لهذه الصفات(15)، وكثيراً ما تتأثَّر تلك الحيازة بالعلم والعمل، قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (المجادلة: 11)، فالعلم والعمل أساسان للإيمان والترقِّي، وإنْ كان لبيئة الإنسان مدخليَّة فهي بشكل جزئي ومحدود.
نعم في الجانب الإيجابي لبيئة الإنسان ومنبته يُصرِّح القرآن بتأثير الإيمان، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 82).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) هذا مضمون حديث يذكره الحُرُّ العاملي في وسائل الشيعة (ج 16/ ص 166/ ح 21251).
(14) بحار الأنوار (ج 75/ ص 364).
(15) تحسن الإشارة إلى أنَّ للكفر مراتب، وهي تتفاوت، وفي بعضها قد يكون الإنسان مسلماً لكن له كفر دون كفر، وهو غير مخرج من دائرة الإسلام ما لم يُؤدِّ إلى إنكار النبوَّة أعاذنا الله وإيَّاكم.
وبعد حصول هذه المعرفة الإجماليَّة تُدرِك أنَّ من آثار المودَّة والحبِّ الأولويَّة بالدنوِّ والقرب، ومعنى ذلك أنَّ الوليَّ هو المستحقُّ دون غيره؛ إذ هو الأقرب للباري دون سواه، وأنَّ الأولياء تتفاوت درجاتهم بحسب ما تحتويه قلوبهم وتُصرَف فيه أعمارهم وما يجتازون من امتحان.
إلى هنا يمكن القول بأنَّ هنالك تناسباً طرديًّا بين الإيمان والقرب من الله تبارك وتعالى، فمع ازدياد الإيمان يزداد الإنسان قرباً من الباري (عزَّ وجلَّ)، وأنَّ لكلِّ مرتبة إيمانيَّة بناءها الخاصّ، وأنَّ لأهلها شأناً وابتلاءً يعكس تلك المرتبة، وتتلخَّص أسباب علوِّ المرتبة في العلم والمعرفة وحبِّ الله سبحانه وتعالى، وهي أُمور ينبثق منها الكثير من الفضائل، منها: الثقة بالله والتوكُّل عليه وخوفه ورجاؤه وطاعته، ومشرعة هذه الميزات تقوى الله ومراقبته والتسليم لأمره، وهي معانٍ تستبطن خصائص تُنمِّي الذات الإنسانيَّة فتجد الأنا نفسها من دون أنْ يُشوِّهها جهل أو يمسَّها طائف من الشيطان.
هذا هو الإيمان، وهذا هو أثره بشكل مختزل بحسب طبيعة موضوع البحث، ويكاد من شدَّة إجماله أنْ يكون مختلّ البيان(16).
وبعد ما تقدَّم تُدرِك أنَّ شخص السيِّد سبع الدجيل - بالإضافة إلى وفور عقله وعلمه - قد حوى جملة خلال الإيمان(17)، بل وتسنَّم درجاته الرفيعة بالنظر إلى كونه محلّاً للبداء، وقد تقدَّم ما يشير إلى أنَّه لا يكون كذلك لو لم يحلّ في منزلة رفيعة، وقد أسعفه على ذلك أنَّه من آل إبراهيم المصطفين بحسب النصِّ القرآني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) ولا يخفى أنَّ لكلِّ صفة مراتب، ولكلِّ مرتبة مطالب، فقد تتطلَّب مرتبة من مراتب التوكُّل درجة إيمانيَّة معيَّنة، وفي عين الحال تتطلَّب تلك الدرجة الإيمانيَّة لوناً معيَّناً من ألوان التوكُّل، فالتوكُّل والإيمان وغيرهما ممَّا تقدَّم طالب ومطلوب في تدرُّجه، وقد تقدَّمت الإشارة إليه، وهو شيء مهمٌّ ينبغي العناية به.
(17) لأنَّ الإيمان فرع الالتفات والمعرفة، وهما يحتاجان لعقل رزين وعلم نقي.
المتقدِّم، فصفاته إذن نموذجيَّة كشفت عنها آثارها وأخبار البداء، وسيأتي في البحث التالي الكلام حول آثار القرب وكيفيَّة كشفه عن الوليِّ ومنزلته بشكل إجمالي؛ إذ إنَّ الله أخفى أولياءه بين الناس، فلا يستخفنَّ أحدٌ بأحد.
وبذا يتمُّ الكلام عن موجبات القرب وصفات المقرَّبين.
* * *
الفصل الأوَّل: الهويَّة الشخصيَّة
· قرون الصراع بين قريش والإسلام.
· الأصل والمنبت.
· سبع الدجيل في التاريخ والوجدان.
· السيِّد في وجدان الأُمَّة وعند قادتها.
· كرامات سبع الدجيل.
المحور الأوَّل: قرون الصراع بين قريش والإسلام
عنوان يختصر الكلام، وهو وإنْ كان بسطه وشرحه يطول لكن مضمونه من الواضحات لدى القارئ الواعي لتاريخ الإسلام والمسلمين، فالقرآن الكريم يحتوي على عشرات الآيات التي تكشف ستر النفاق والمنافقين. ولبُّ حركة المنافقين - على اختلاف اتِّجاهاتهم وتنوُّع مشاربهم - يرتكز على رفض ما جاء به الدِّين، والأخذ بنظرتهم أو مصلحتهم الخاصَّة تحت أيِّ مسمَّى كان. وأسفار التاريخ مشبعة بأقاصيص تُكذِّب بما ورد في القرآن الكريم أو تُموِّه الحقَّ الذي لا ريب فيه. وما يمسُّ البحث من هذا العنوان هو الإشارة إلى أساليب المؤرِّخين في دولة بني العبَّاس، ولفت الأنظار إلى الوضع الدِّيني العامِّ آنذاك، وإلى ما نال أهل البيت (عليهم السلام)؛ إذ كانوا المصدر الطبيعي للدِّين وملجأ الإسلام على مرور الأيَّام، وبذا تظهر بعض القِيَم المهمَّة والتي تُحدِّد موقعيَّة السيِّد سبع الدجيل.
مقامات تاريـخيَّة وأُخرى أُسطوريَّة:
جرت عادة الكُتَّاب أنْ يرسموا مقام العظام بالتركيز على مكمن رفعتهم، وقد تعزُّ المصادر على الباحث فيخبو ضوء الرفعة عنه، كما النجم كلَّما ازداد بُعداً كلَّما خبا نوره وندر العثور على شيء من خصائصه، بيد أنَّ جولات الفكر تستطيع أنْ تفصح عن مقام عظيم ما، بالكشف عن المحلِّ الذي تبوَّأه، وهذا المنحى له ميزاته الشيِّقة؛ إذ يبتعد عن سطر الأحداث أو استنطاقها موجَّهة بما
يعتقد كاتبها، فهي الكائن الذي يحمل بين طيَّاته رغبات المؤرِّخ ونزعاته، وبهذا الداعي وذاك التجأت المعاني إلى قلم عَلِمَ معالمَ الفكر وحرَّر محبرته من سواد الأنا، فالسيِّد أبو جعفر وإنْ لم أظفر بشيء يحكي عنه حدثاً أو يصنع له جدثاً في مدوَّنات التاريخ، إلَّا أنَّ له مَعْلَماً حيًّا في النفوس لم تصنعه كلمات المتاجرين ولا تمتمات المريدين، بل فرضه ربُّ العالمين على من ناوأه وسقاه بمن والاه، فسبع الدجيل - على صِغَر سنِّه - خاض لباب المعترك، فلقد صبَّت الدولة العبَّاسيَّة كلَّ نصب ووصب على بيت الإمامة، وحاكت حولهم رصداً يمنع الناس من الدنوِّ لرشدهم، فصار الناس بأشدِّ ظلمة، وبات أهل البيت وقد تفرَّد بهم البلاء، وتحمَّلوا الأذى من حين خُرِّب بيت النبوَّة ورُدِمَ بابه ونُقِضَ سقفه وأُلحقت سماؤه بأرضه وعاليه بسافله وظاهره بباطنه واستُأصِلَ أهله وأُبيدت أنصاره وقُتِلَت أطفاله وأُخلي منبره من وصيِّه ووارثه، وهم - ورغم ذلك كلِّه - يبثُّون لطائف الفكر ودلائل الإيمان كي يُخرجوا الناس من طيف الوهم والضلال.
وقد جرت العادة بين ذوي القلم على الالتجاء إلى قصاصات تاريخيَّة كي يصفوا شخصاً ما، فقصاصة تحكي طوله، وأُخرى تحكي لونه، وثالثة شكله و... حتَّى تملَّ العين من ملاحقة كلماتٍ يكثر خطوها في أسطر التاريخ، وهي تجترُّ وتجترُّ، وقد شاخت ولم تتقاعد بعد، يلتمس كاتبها معالم شخصيَّة ما، ويحكي سماتٍ مادّيَّةً أو أُخرى معنويَّة قد تشرق في مسطورات التاريخ أو ترسم أُسطوراته التي يعمدها ذاك المؤرِّخ أو هذا الباحث بمخيالٍ طبعه التزويق، فيزاوج بينها وبين الواقع، فيبدأ بوصف الخليفة، ويحكي سكنه، ويضفي عليه جملة أصباغ بغداد وكريمات الشام إذ لم تكن باريس آنذاك! ويُروِّج لها ألحان معبد ومخنث المدنيَّة فيضطرُّ الإنسان إلى ترك ما في التاريخ من أمجاد وبطولات، ويهجر القلم وما خطَّ؛
إذ لم يكن فيه روح الصدق وعاطفة الحقيقة، ويسعى نحو وشائج عصت على المؤرِّخ، فلا المؤرِّخ يُنكِرها، ولا العالم يذكرها، وإنَّما تخرج من بين أنامله برغم منه، كما شردت عن أعين الراصدين وشائج النبوَّة ودلائل الصدق.
ومن الأمثال التي تتجلَّى في طيَّاتها مثل هذه القضايا دولة بني العبَّاس، فقد صالوا وجالوا في كلِّ حقل جاهدين في إطفاء نور الله (عزَّ وجلَّ)، وتراهم متفنِّنين في غيِّهم، فمن تغييبٍ للعقول المنوَّرة إلى قتلٍ للقلوب الواعية كابن السكِّيت، وحبسٍ للأنفس الطاهرة كابن أبي عمير، ومنع للنفوس العطشى عن الورود للمنهل العذب بتزوير ملامح الهداة ونشر الأفكار المشوِّهة، الأمر الذي صدر عنه حيرة شديدة ألـمَّت بأغلب المسلمين المتطلِّعين إلى نور النبوَّة والمشتاقين إلى رؤية أبناء الرسول الأكرم والأخذ من هديهم، وتمَّ ذلك بتشعيب طُرُق المعرفة الدِّينيَّة ما يعسر معه الوصول إلى المنهل العذب الذي نصبه ودلَّ عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والتمويه بأشباه الرجال، فأبدعوا المذاهب وحصروا الفتيا في أُناس معدودين ممَّا ظاهرهم على إطفاء نور الله، ولكن يأبى الله أنْ يخبو نور الحقِّ، وأهله أهل بيت النبوَّة، فخلَّد ذكرهم الحكيم وأغنى الناس عن تكلُّف ما قيل وما يقال حولهم بما أنبأ عن منبتهم وأفصح من طهارتهم، وظهرت للناس آثار الاصطفاء، وشاعت علائم الاجتباء، فنقَّشت أحوالهم كرامات لهم تُنبِئ الموافق والمخالف بأنَّه «لا يُقاس بآل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من هذه الأُمَّة أحد»(18)؛ إذ ليست مصادفة أنْ تجري خوارق العادات بما يقيم أود طلَّابهم، فمن كان مع الله كان الله معه، وإذا أراد الله (عزَّ وجلَّ) إظهار فضيلة أُمَّة أو هتك لـمَّة لا يعييه شيء؛ إذ هو القادر لا تعييه المذاهب ولا يفوته طالب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18) نهج البلاغة (ج 1/ ص 30/ من خطبة له بعد انصرافه من صفِّين).
وخلاصة القول: أنَّ الدولة العبَّاسيَّة صرفت الناس عن باب بيت النبوَّة، واستطاعت أنْ تُشتِّت الانتماء الدِّيني بما أبدعت من مذاهب واتِّجاهات في مختلف فروع المعارف الدِّينيَّة، وعمَّقت ما أحدثه رجالات قريش إبَّان فجر الإسلام، بيد أنْ العناية الإلهيَّة حالت بينهم وبين شهوات أنفسهم.
نظرة على الحياة العامَّة آنذاك:
كان شعار الحركة العبَّاسيَّة (الرضا من آل محمّد)، فوافق هوى الناس؛ إذ القابع في أذهانهم والمرتكز في نفوسهم تمثُّل الحقِّ والعدل في محمّد وآله، سيّما وأنَّهم لم يصابوا بذلَّةٍ في جوارهم، ولم ينتقص حقٌّ في سلطانهم، وبدينهم ودين جدِّهم دان الناس، ومن سيرتهم تعرَّف الخلق على معاني الكرامة والحياة النبيلة، ولذا ترى الناس وقد سارعوا إلى تفتيت بني أُميَّة، خصوصاً وأنَّهم ذاقوا وبال صولتهم وشؤم دولتهم، وسرعان ما تكشَّف قناع بني العبَّاس وأُطرح شعار (الرضا من آل محمّد)، فمن بدء أمرهم مكَّنوا السيف من رفاق الأمس، وطاشت أحلامهم حتَّى خالط نشوة الظفر شهوة الاستبداد وسلطان الغدر، فطُلَّت دماء الخراسانيِّين وهي دماء طالما تدفَّقت في شرايينهم، فلم يتربَّع المنصور إلَّا على جماجم أنصاره الذين التهموا دولة بني أُميَّة، وعمد بنو العبَّاس إلى التخلُّص ممَّن يخشونه من أعوانهم، وبعد موجة عاتية من التصفيات شرعوا في تأسيس فكرٍ يُقوِّي سلطانهم ويربط الدِّين بمصالحهم، مستفيدين من طلَّاب الرئاسة والشهرة(19) ومنافقي الأُمَّة، فحصروا الفتيا في فئة معيَّنة، وأوكلوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) هناك مكاتبة مشهورة بين الإمام الصادق (عليه السلام) والمنصور الدوانيقي يطلب فيها الثاني من الإمام أنْ يغشاه كما يغشاه الناس، فأجابه (عليه السلام): «ليس عندنا ما نخافك عليه، وليس عندك ما نطمع فيه، ولست في نعمة فنُهنِّيك، ولا في مصيبة فنُعزِّيك»، فقال له: تغشانا لتنصحنا، فأجابه: «من يطلب الآخرة لا يصحبك، ومن يطلب الدنيا لا ينصحك»، وكان تعليق المنصور على هذه المقولة أنَّها ميَّزت منازل الناس لديه. بحار الأنوار (ج 47/ ص 184).
الحديث لأُخرى، ولم يتركوا العقيدة في حالها، بل كوَّنوا لهم أندية جمعوا فيها المتكلِّمين على اختلاف مشاربهم(20)، وبلغت هذه الأندية أوجها في زمن المأمون، فلقد جمع متكلِّمي الأديان من أقطار الأرض على اختلاف مشاربهم، وقذف بهم في سجالات مع أهل البيت طمعاً منه في أنْ تبهت أنوار آل محمّد، ولم تفلح هذه المحاولات على كثرتها، هذا على صعيد علّيَّة القوم، وأمَّا على مستوى عموم الناس فلقد وظَّف بنو العبَّاس الشعراء(21) والمفتين وطبقات من طلَّاب العلوم - سيّما طلَّاب علم الكلام(22) ممَّن حفظ طرفاً من هنا وهناك - من أجل بثِّ معانٍ جُدُد في مختلف أطياف المجتمع، وقد بدأوا في تكوين الغطاء الدِّيني في وقت مبكِّر من عمر الدولة العبَّاسيَّة، ومؤسِّس هذه الحركة في زمن بني العبَّاس هو المنصور الدوانيقي(23) بعد وقعة الحَرَّة، وأطلقها بكلمةٍ معروفة (لأعلونَّ كعب تيم وعدي وإنْ رغم أنفه)(24)، ومنها انطلقت آيات التقديس للشيخين، وبدأت الشياطين توحي إلى أوليائها زخرفاً من القول وزوراً.
ولا يعني ذلك أنَّ الناس تجاوبوا مع بني العبَّاس أو أنَّهم نجحوا بقول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20) من أبرز أنديتهم نادي البرامكة الذي يحضره بين الفينة والأُخرى هارون نفسه.
(21) يُعَدُّ الشعر آنذاك أقوى وسيلة إعلاميَّة.
(22) لمعرفة أهمّيَّة أهل الكلام وتأثيرهم في الوضع في تلك الفترة لاحظ قول هارون الرشيد في خطابه ليحيى البرمكي، بعدما سمع كلام هشام بن الحَكَم: (مثل هذا حيٌّ ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟ فوَالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس العامَّة من مائة ألف سيف). بحار الأنوار (ج 48/ ص 202).
(23) قد سبقه في ذلك الحُكَّام المتقدِّمون عليه، لكن محاولاتهم لم تكن مؤثِّرة كما كانت حركة بني العبَّاس، ولعلَّ السبب يرجع إلى فقد عنصر الانتماء للبيت الهاشمي.
(24) ذكرها في خطبة الجمعة، ولها صِيَغ متعدِّدة، ومنع على إثرها من ذكر فضائل أهل البيت (عليهم السلام) ومنع من رواية ما لا يصبُّ مع حربه على أهل البيت من تاريخ أبي بكر وعمر. راجع (ج 3/ ص 204) من الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للشيخ زين الدِّين عليِّ بن يونس العاملي النباطي.
مطلق في تحقيق بغيتهم؛ إذ وقفت ثُلَّة من الغيارى على الدِّين وأهله، وهم ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23)، فها هو السيِّد الحميري يصدح بحقائق التاريخ ويُوثِّقها سيّما ما صدر من الشيخين، وبنو العبَّاس لا يلقون بالاً لما يفعل؛ إذ كانوا في شغل عنه.
وما أنْ انتشر فكر العبَّاسيِّين ونشط رجال البلاط لذلك الفكر حتَّى بدأ الخناق يضيق على السيِّد وذلك بتحريك العامَّة، وقد استفادوا من الشراة كثيراً في هذا الباب.
وقد انتُقِيَ مكان عاصمة العبَّاسيِّين بعناية، وتمَّت هندستها وفق حاجات المُلك والسلطنة، وبشكل يضمن السيطرة عليها وعلى قاطنيها، برغم أنَّ ساكنيها قد اختيروا بدراية تضمُّن الولاء للدولة، وقد أعطى بناؤها المؤسِّسين الأوائل المدى الزمني الكافي لكنس رفاق الدرب ومحو آثار الحروب، فقد استغرق العمل فيها عقداً من الزمن أو أكثر حتَّى أُنشئت كدار للسلطنة وعاصمة للمُلك يدين أهلها للحاكم بالولاء، ولكن رغم كلِّ تلك التدابير إلَّا أنَّه سرعان ما ارتسم على وجهها ملامح تضادٍّ، فبغداد العاصمة كانت من وجهة دينيَّة همُّها الشاغل طُرف دينيَّة يحلم بها العامَّة، وتجلب الألقاب أو الأرزاق من جيب هذا الوزير وذاك الخليفة.
ومن وجهة ثانية حلَّ بها جيش يفعل ما يشاء، وكأنَّ الدِّين أُنزل لغيرهم والأخلاق ليست بثوبٍ لهم.
ومن وجهة ثالثة خليفة يرفع الله سيفاً ويُغنِّي النبيُّ وا لإسلاما، يُصلِّي في الجامع ويأمر بتقوى الله ويُدلِّل الجيش بما لا يُرضي الله.
وبلغ الأمر أنَّ جند الخليفة يعتدون على المرأة المسلمة في شوارع بغداد
وتسحق خيلهم الشيوخ والأطفال من غير اكتراث(25) ولا من منكر، ولـمَّا احتجَّ المتدرِّعون بالمواهب الدِّينيَّة طلبوا من الخليفة إبعاد جنده عنهم فانبثقت سامرَّاء.
بلدٌ يقطنها الخليفة وجنده، وتحوي أركان المملكة ويحجز فيها من يخشى منه، وقد كانت سامرَّاء لوناً جديداً في العالم لا يمسُّها معروف ولا يهجرها منكر، لم يقطنها عالم باختياره، ولم يبارحها جاهل إلَّا من قيَّض الله له أمره.
هذا إجمال الصورة العامَّة للبلاط وأهله، وقد غلب عليه الترك وهم قوم أُولو قوَّة فتمكَّنوا من كلِّ شيء حتَّى من سلاطين بني العبَّاس ومن أعراض السلاطين(26).
ولك أنْ تُقدِّر حال الناس إذا كان أميرهم يسوسهم بالظلم والجور ويقوده في ذلك الجهل والبغي، تُرى كيف يكون حالهم وخليفتهم جاهل بأهمّيَّة القراءة والكتابة، بل وفيهم من لا يقرأ ولا يكتب، وهي أبسط الكمالات التي يحتاجها مثله(27) آنذاك، وأصبح السائد المعروف البغي والظلم والجور حتَّى قال القائل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25) ذكرها جملة من المؤرِّخين كالطبراني وابن الأثير وابن خلدون وغيرهم.
(26) سُمِعَت أُمُّ المعتز العبَّاسي تدعو بمكَّة على صالح بن وصيف وتقول: هتك ستري، وقتل ولدي، وأخذ مالي، وغرَّبني عن بلدي، وركب الفاحشة منِّي! (تاريخ أبي الفتوح/ أحداث سنة 255هـ).
(27) كان هارون العبَّاسي قد ترك ابنه المعتصم من دون تربية أو تعليم لمجرَّد أنَّه تذَّمر من الكتاب، فنشأ لا يقرأ ولا يكتب حتَّى تولَّى المُلك وأمر الناس، ووافاه حتفه وهو على حاله، وهذا المعنى مشهور في التاريخ، وقد كان سبب بزوغ نجم ابن الزيَّات...، وللمعتصم كلمة ردَّد مضمونها في عدَّة مجالس حتَّى اشتهرت وخلَّدته: (خليفة أُمِّي وكاتب عامِّي لا يجتمعان)، قالها حينما سُئِلَ عن معنى الكلأ الوارد في كتاب الوالي، وقالها يوم حار قصر بني العبَّاس في جواب قيصر الروم، فراجع: أخبار الدُّوَل ووفيات الأعيان وغيرهما.
وتاريخ ملوك المسلمين وخلفائهم مشحون بنماذج هذه الظاهرة منذ البدء، فالحاكم الأوَّل حار في ميراث الجدِّ، والأوَّل والثاني لم يعرفا معنى كلمة الأبِّ. وغيرهما الكثير من الوقائع والأحداث، وليست غريبة هذه الحالة، فلقد ألهاهم الصفق بالأسواق عن طلب الفقه في الدِّين، وضعفت همَّتهم عن السؤال حتَّى كانوا يتمنَّون أنْ يأتي الأعرابي فيسأل النبيَّ، الأمر الذي أوجب تعدُّد مشاربهم فظهر المتهوِّكون الذين واجههم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتَّى بان على وجهه الغضب وهو نبيُّ الرحمة، الأمر الذي يفصح عن شدَّة الانحراف عمَّا جاء به النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
يا ليت ظلم بني مروان دام لنا * * * وليت عدل بني العبَّاس في النار
ولو عملتَ مسرداً للحوادث التي مُنِيَ بها الناس في دولة بني العبَّاس لرأيت الأمن من جملة الأحلام والأُمنيات التي تسكن خواطر الناس، ولرأيت أنَّ تفشِّي الفقر وتوهين الحقِّ من أقوى الأسباب الداعية لقيام العلويِّين في دفع الظلم عن الناس(28)، وبلغ الظلم حدًّا وكثرةً أنَّه لا تكاد تعثر على صنف من المسلمين لم يُجرِّد السيف في وجه بني العبَّاس.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) يذكر التاريخ قضيَّة لأحد الطالبيِّين أمر المعتصم بإلقائه في بركة السباع لحادثة يصفها التاريخ أنَّه غضب لله ورسوله؛ إذ كان والي منطقته يفعل المنكرات وينصر الباطل، فسرى ذلك في فساد الشريعة وهدم التوحيد، فعمد إليه بعد انعدام الناصر وقتله. بحار الأنوار (ج 50/ ص 219).
أهل البيت (عليهم السلام):
قد تنتفي الحاجة إلى الاطِّلاع على جذور الرجال وأُصول الأنساب في دنيا العلوم وعالم المعرفة، وقد يحتاج الباحث في مجال معيَّن إلى الإلمام بأحوال الرجال ويستغني عن فصلهم وأصلهم، فيُعَدُّ التعرُّض للأصل والفصل ضرباً من الترف العلمي، لكن الأخذ بهذه النظرة بشكل مطلق غير صحيح، لأهمّيَّة جذور الإنسان وأُصوله في معرفة سمته وسماته وتأثيرها في تكوينه الاجتماعي والنفسي والثقافي، فحينما يستعرض الإنسان خواطر النسب والأصل ينتشي فخراً أمام كلمات أرباب القلم، ويستشعر الرفعة والأصالة في ذاته حينما يُسجِّل طيب معدن الإنسان أو يرصد مجد آباء البشريَّة، وتخشع الأنفس وتندهش العقول عندما يكون وصفُ المنبتِ محلَّ عناية الباري تبارك وتعالى، فكلامه سبحانه بعيد عن المبالغات المتحارفة عن الواقع، بعيد عن المجاملات ولو لم تكن تلك المجاملات خاوية، وأصل السيِّد وشأن آبائه يفصح عنه صنع الله بهم، فهلمَّ نستنطق كتاب الله في شأنهم.
آباؤه:
يكفي تعريفاً لهم أنَّهم أُولئك المصطفون الأخيار، فقد قال تعالى فيهم: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً
بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (آل عمران: 33 و34)، وهم الذين دانت العباد بدينهم الذي اختصَّهم الله به، فقد نطق الذكر الحكيم عن لسان أبيهم إبراهيم الخليل: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 132)، وهم أُمَّة جنَّبهم الله عبادة الأصنام بدعوة أبيهم إبراهيم: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ (إبراهيم: 35)، وقد كانوا كما شاء الله من قبل أنْ يبرأهم، فكانوا السبيل إلى الله والدعاة إليه والأدلَّاء عليه اقترن ذكرهم بذكره، وشكرهم بشكره، فأكرم به من مقام، فقال تبارك وتعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلَامٌ عَلى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ (النمل: 59).
أُمُّه:
لم أظفر بشيء يمكن أنْ ينمَّ عن مقام أُمِّه، ويكفيها شرفاً وسموًّا أنْ كانت وعاءً لمثله، فالولد غرسة أبيه ونبتة أُمِّه، يحكي فضائلهما وفواضلهما ويعكس سيرتهما بشكل ما إلَّا ما شذَّ وندر، ولا يشذُّ شاذٌّ إلَّا لعلَّة عارضة.
ويظهر من كلمات بعض النسَّابة أنَّ أولاد الإمام عليٍّ الهادي (عليه السلام) لأُمَّهات شتَّى، ففي كتاب السيِّد ضامن بن شدقم في (تحفة الأزهار) ما نصُّه:
قال السيِّد: (فأبو الحسن عليٌّ النقي (عليه السلام) خلَّف أربعة بنين: أبا محمّد الحسن العسكري أُمُّه أُمُّ ولد، والحسين، وأبا عليٍّ محمّداً، وأبا كرين جعفراً الكذَّاب، وعايشة أُمَّهاتهما أُمَّهات أولاد)(29).
أعمامه وعمَّاته:
ذكر السيِّد ضامن بن شدقم أنَّ للإمام الجواد أربعة بنين هم: الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29) تحفة الأزهار وزلال الأنهار (ج 2/ ص 461).
الهادي، وموسى المبرقع، والحسين، وعمران، وأربع بنات هنَّ: فاطمة، وخديجة، وأُمُّ كلثوم، وحكيمة أُمُّهم أُمُّ ولد(30).
ونصَّ الشيخ المفيد على ابنين: الإمام عليٍّ الهادي، وموسى، وفاطمة، وأُمامة ابنتيه(31).
واستظهر الشيخ عبَّاس القمِّي من تاريخ قمٍّ أنَّ للإمام الجواد بناتاً غير ما ذكرت.
وحكيمة لها فضل مميَّز، وقد أدركت أربعة من الأئمَّة وأودع عندها الإمام الهادي السيِّدة نرجس أُمَّ صاحب الزمان، وكان لها منصب السفارة بعد استشهاد الإمام العسكري، بالإضافة إلى خصائص ومهامٍّ أُخَر، والملفت للنظر إهمال ذكرها فلم تثبت سيرتها(32).
والقول بأنَّها وُلِدَت بسامراء من سهو القلم؛ لأنَّ المعتصم شرع في عمارة سامرَّاء سنة (220هـ)، وهي السنة التي قُبِضَ فيها الإمام الجواد على ما هو مشهور، وقيل تُوفِّي سنة (219هـ) أو (226هـ).
إخوته:
أبو (م ح م د) الحسن العسكري، وهو الإمام بعد أبيه (عليهما السلام).
والحسين، ولقد كان ممتازاً في الديانة عن سائر أقرانه وأمثاله، تابعاً لأخيه الحسن (عليه السلام)، معتقداً بإمامته، ودُفِنَ في حرم العسكريَّين (عليهما السلام) تحت قدميهما.
وجعفر المعروف بالكذَّاب، ذكر عنه السيِّد ابن شدقم جملة من الفضائع، وأشار إلى رسالة قد صُنِّفت في توبته، وعلَّق عليها قائلاً: (هذا خلاف للنسَّابين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(30) تحفة الأزهار وزلال الأنهار (ج 3/ ص 429).
(31) الإرشاد (ص 295).
(32) منتهى الآمال (ج 2/ ص 569 و575).
وأهل التواريخ والسير، فإنَّ مناصفتهم قد اتَّفقت على أكثر أخبار جعفر وما كان مصرًّا على ارتكابه، وأفعاله مشهورة عند الخاصَّة والعامَّة، فنستعيذ بالله من ذلك)(33)، وللدكتور جودت القزويني موقف وتأمُّل حول هذا الموضوع في دراسته وتحقيقه لكتاب سبع الدجيل تأليف السيِّد موسى الموسوي، فراجعه.
وله أُخت واحدة اسمها عليَّة أو عائشة(34)، وقيل: فاطمة.
عقبه(35):
الاعتناء بالنسب في ثقافة المسلم له مساس بمقامات دينيَّة وأحكام تشريعيَّة، ففي صوره الأوَّليَّة يكون موضوعاً للتشريع، فبنو هاشم تحرم عليهم الزكاة، ويُرجَّح الهاشمي في إمامة المصلِّين على غيره، فمثل حديث: «الأئمَّة من قريش»(36) لفت نظر قريش وعلماءها، فجعلوا الانتساب إلى قريش أحد الشروط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) تحفة الأزهار وزلال الأنهار (ج 3/ ص 463).
(34) بحار الأنوار (ج 50/ ص 231)، أقول: من المستبعد جدًّا أنْ يكون اسمها هذا؛ لاقتران هذا الاسم بشخصيَّة نادت يوم منعت من دفن الحسن عند جدِّه بقولتها المشهورة: (لا تدفنوا في بيتي من لا أُحِبُّ)، رغم أنَّها عاشت بينهم ورتعت في مراحهم، شخصيةٌ تظاهرت على رسوله، فنزل بشأنها آي من الذكر، ولها وقائع وأيَّام جرَّت الويلات على المسلمين. ولو فُرِضَ صدور هذا الاسم عن مثل أهل بيت العصمة فهو يدلُّ على شدَّة الوقت الذي كانوا فيه، أو أنَّ سبيله سبيل اسم بعض أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد سُمِّي أحدهم باسم من وجدت عليه الزهراء (عليها السلام)، ولكن لم يُسمِّه بذلك الاسم أمير المؤمنين (عليه السلام) بل سمَّاه بذلك الحاكم الثاني نفسه، فلعلَّ هذا الاسم سُمِّيت به من غير أهل البيت (عليهم السلام) وعُرِفَت به من دون أنْ يكونوا هم الذين سمَّوها به.
(35) الكلام حول عقب السيِّد بالشكل الذي تراه يدخل ضمن السياق العامِّ لترجمة السيِّد، ويفيد في معرفة ما جرى على البيت العلوي، فإنَّه وإنْ جرت العادة بذكر أعقاب المترجَم له بعد ترجمته، إلَّا أنَّ المقام ليس مقام ترجمة بالمعنى الحرفي لها وإنَّما الغرض التعرُّف على ملابسات المترجَم له قبل الدخول في ترجمته.
(36) وهو حديث متواتر.
المطلوبة في الساعي لنيل الإمرة العظمى للمسلمين، رغم أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عيَّن المراد من هذه الكلمة ونصَّ على أسماء الأئمَّة، لكن القوم تلاقفوها وحرَّفوها عن مواضعها، والغرض من هذه الكلمات الإشارة إلى أنَّ الاعتناء بالنسب له دواعٍ دينيَّة، كما أنَّ له دواعيَ اجتماعيَّة، وقد عنيَ النسَّابون بذكر أعقاب السادة الأشراف، وظاهر كلماتهم لملمة شتات الذرّيَّة في مختلف البلدان والأزمان، وهم يراعون في ذلك تشابه الأسماء وتداخلها حتَّى حاكم بعضهم البعض فيما يقول وتكاد تدين بقولهم، وتترفَّع عن اتِّهامهم بالتقصير أو التوهُّم لشدَّة ما ترى من محاكمات وتتبُّع(37)، ولكن الالتفات إلى بعض الملابسات التاريخيَّة يُريك أنَّ إغفالهم بعض الروابط الاجتماعيَّة الماثلة في حياة البيوتات والأُسَر في ذلك الوقت قد أثَّر في نتاجهم واستنتاجهم.
فمثل الأيتام لا يذكرون من تكفَّل بهم واعتنى بشأنهم، وهل ثَمَّة تداخل في الانتساب نتيجةً لذلك التكفُّل أو لا؟
قد تكون الأُصول العقلائيَّة نافية لمثل هذه الاحتمالات، وبعض الشواهد التاريخيَّة تدفع تأثير الرعاية والتكفُّل في تداخل الأنساب، فمحمّد بن أبي بكر ربيب أمير المؤمنين (عليه السلام) ودرج بين يديه، ومع ذلك لم يُعرَف به، ولكن هناك أيضاً شواهد تاريخيَّة تُثبِت هذا التداخل والتأثير أيضاً كما في نسب بني أُميَّة (لعنهم الله).
إذن ينبغي الاعتناء بهذا اللون من الروابط الاجتماعيَّة من أجل بيان ما عليه حال الأعقاب، خصوصاً في الأُسَر التي لا يُتصوَّر فيها إهمال كبرائها لأيتامهم وصغارهم، فهم المحسنون لأعدائهم فضلاً عن أوليائهم فكيف بأولادهم(38).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(37) سيأتي قريباً طرف من التهافت فيما يُقرِّرون.
(38) كمثال على ذلك لاحظ قصَّة تكفُّل ابنة حمزة عمِّ النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكيف هبَّ لها عدَّة أفراد من قراباتها.
والعيِّنة التاريخيَّة لهذه النظرة أعقاب السيِّد محمّد، فإنَّ هذا السيِّد الجليل له إخوة منهم من أعقب ومنهم من لم يعقب، وتاريخيًّا كلُّهم لقوا حتفهم في عنفوان شبابهم سوى جعفر المعروف بـ (أبو كرين)، وهو شخص تُنسَب له ذرّيَّة تزيد على المائة.
فهل جعفر هذا كان ممَّن تحمَّل ثقل إخوته، سيّما وأنَّهم عاشوا ظرفاً قاسياً جدًّا، أو كان الرجل - كما هو مبثوث في كُتُب التاريخ - منشغلاً بالجوسق يلهو ويلعب وكان عوناً للزمن على أهل بيته؟!
المعروف عند أهل النسب والتاريخ الثاني، بل يكاد أنْ يلحق بالضروريَّات عندهم، ومجانبة كلماتهم تفرض لنا احتمالين:
الأوَّل: كونه الكبير الوحيد الذي بقي من أهل بيته، وطبقاً للأخلاقيَّات العقلائيَّة يصير هو المحتضن لأبناء إخوته، وبه يُعرَفون، وعليه يُحسَبون، لكن التاريخ يصف كلبه عليهم.
الثاني: أنَّ له ذرّيَّة أثقلت الأرض بـ (لا إله إلَّا الله)، ولسوء ما كُتِبَ في التاريخ تواروا بين أغصان المشجرات، فعُرِفُوا بعمومتهم دون أبيهم سيّما مع مخالفة سيرتهم لسيرته.
والداعي لطرح مثل هذا التساؤل أنَّ جماعة من السادة ينتسبون إلى سبع الدجيل، وجملة من كُتُب في الأنساب سكتوا عن عقب الإمام الهادي من ابنه أبي جعفر، وعدَّة منهم ذكروا أنَّه مئناث، وقال آخرون: إنَّ له عقباً.
فأبو النصر البخاري في (سرِّ الأنساب العلويَّة) وابن طباطبا في (أبناء الإمام في مصر والشام) لم يذكراه أصلاً.
والمحكي عن العمري في المجدي أنَّه يذكر: أنَّ الإمام الهادي أعقب ثلاثة: الإمام الحسن العسكري الثاني المدفون مع أبيه في سامرَّاء، ولقبه الرضي، وأُمُّه أُمُّ
ولد، والثاني أخوه محمّد أراد النهضة إلى الحجاز فسافر في حياة أخيه حتَّى بلغ بلد وهي قريبة... فمات بالسواد، وقبره هناك مشهور، وقد زرته، ولم يذكر له عقب.
وعلَّق الجلالي في جريدة النسب بقوله: (ومرقد السيِّد محمّد هذا مزار معروف تزوره الشيعة والسُّنَّة زرافات، ويُعرَف عند أهالي المنطقة بسبع الدجيل، يبعد عن (بلد) خمس كيلومترات، وزرته وذكرته في كتاب مزارات أهل البيت (عليهم السلام)).
وأقول: قال باسل الأتاسي: يجدر بالذكر أنَّ الجلالي يُصحِّح أنساب الجعافرة بمصر المنسوبين إلى المهدي بن الحسن العسكري عن طريق إرجاعهم إلى عليِّ بن محمّد سيِّد الدجيل بن عليٍّ الهادي، فلاحظ المفارقة بين النسبتين.
وفي المحكي عن الأصيلي لابن الطقطقي عن الإمام الهادي: (وله خمسة أولاد: الإمام الحسن العسكري، وجعفر الكذَّاب، ومحمّد، والحسين لا عقب له، وموسى لأُمِّ ولد لا عقب له)، ثمّ قال في موضع آخر: (وأمَّا محمّد بن عليٍّ فينتهي عقبه إلى جعفر بن عليٍّ النازوك بن محمّد الأصفر بن عبد الله بن جعفر بن محمّد)، واكتفى بذلك في ذكر أعقاب محمّد بن عليٍّ.
والمحكي عن ابن عنبة في (عمدة الطالب) أنَّه ذكر أنَّ الإمام الهادي أعقب من رجلين، ولم يذكر السيِّد محمّد بشيء.
ويُحكى عن السيِّد المخزومي الرفاعي في (صحاح الأخبار) متحدِّثاً عن الإمام الهادي: (وكان له خمسة أولاد: الإمام الحسن العسكري، والحسين، ومحمّد، وجعفر، وعائشة، فالحسن العسكري أعقب صاحب السرداب الحجَّة المنتظر وليَّ الله الإمام (م ح م د) المهدي، وأمَّا محمّد فلم يذكر له ذيل طويل، ويقال - وهو الصحيح - بعدم العقب في آل عليٍّ الهادي إلَّا من جعفر، والحسن العسكري ليس له إلَّا الإمام (م ح م د) المهدي (عليه السلام))، انتهى مجمل محكي باسل وهو في سنبله.
وأمَّا السيِّد ضامن بن شدقم فقال في (تحفة الأزهار): (فالإمام أبو الحسن عليٌّ الهادي (عليه السلام) خلَّف أربعة بنين: الإمام أبا (م ح م د) الحسن العسكري، أُمُّه أُمُّ ولد، والحسين، وأبا عليٍّ محمّداً، وأبا كرين جعفراً...، وعقبهم أربعة أُصول.
الأصل الأوَّل:
عقب أبي عليٍّ محمّد: فأبو عليٍّ محمّد خلَّف عليًّا، ثمّ عليٌّ خلَّف محمّداً، ثمّ محمّد خلَّف حسيناً، ثمّ حسين خلَّف محمّداً، ثمّ محمّد خلَّف عليًّا، ثمّ عليٌّ خلَّف شمس الدِّين محمّداً الشهير بمير سلطان البخاري، وُلِدَ ونشأ في بخارى، ويقال لأولاده: البخاريُّون، وكان شمس الدِّين سيِّداً ورعاً عابداً صالحاً زاهداً صاحب العلماء الكبار واقتبس من فضائلهم وذهب من بخارى إلى الروم وسكن في مدينة (بروساء)، وحُكيت عنه كرامات كثيرة، وتُوفِّي في تلك المدينة سنة (832هـ) أو (833هـ)، وقبره معروف هناك ومزار للناس ومحلُّ نذورهم)(39).
وحكي عن السيِّد حسن البرقي قوله: (إنَّ عقب السيِّد محمّد من شمس الدِّين، وله سلالة وذرّيَّة منتشرة في الأطراف والأكناف، ومن أولاده علاء الدِّين إبراهيم، وابنه عليٌّ، وابنه يوسف، وابنه حمزة، وابنه السيِّد محمّد البعَّاج)(40)، وبه تُعرَف (آل البعَّاج) في العراق، وهم يرجعون بنسبهم إلى المؤيَّد بالله يحيى بن محمّد البعَّاج، وكان من أكابر سادات العراق وأعيانهم في القرن الحادي عشر الهجري(41)، وقد يُذكَر هذا اللقب لنفس السيِّد محمّد سبع الدجيل.
وفي كتاب (تاريخ المشاهد المشرَّفة) للسيِّد حسين أبو سعيدة انتهاء آل البعَّاج إليه، وتابعه على ذلك الجلالي في (جريدة النسب).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(39) تحفة الأزهار وزلال الأنهار (ج 2/ ص 461).
(40) منتهى الآمال (ص 639).
(41) راجع: سبع الدجيل للسيِّد موسى الهندي/ دراسة وتحقيق: د. جودت القزويني (ص 56).
وقال أبو سعيدة: إنَّ أحمد بن المهنَّا العبيدلي المتوفَّى (632هـ) ذكر في (تذكرة الأنساب) المعروف بشجرة ابن المهنَّا أنَّ لمحمّد بن عليٍّ الهادي عقباً.
وهذا مخالف لما ذكره الدكتور الحوت في (الدُّرَر البهيَّة)، حيث قال: وقال أحمد بن عليٍّ بن المهنَّا: محمّد الثاني أبو جعفر بن الإمام الهادي لا عقب له.
وحُكي عن كتاب (النفحة العنبريَّة في أنساب خير البريَّة) للعلَّامة النسَّابة محمّد كاظم الموسوي: ذكر ولد عليِّ بن محمّد النقي، قال: (وله من الولد... وأبو جعفر محمّد...، وقال أحمد بن عليٍّ المهنَّا: قد زرته، فقال: لا عقب له.
وقد حُكيت تعليقة على هذه العبارة للسيِّد مهدي الرجائي قائلاً: لم أعثر على هذه العبارة في (عمدة الطالب).
ومحكي في (تذكرة الأنساب) طبعة المرعشي ذكر بنتين فقط للسيِّد محمّد بن عليٍّ الهادي، ولم يذكر له بنين.
وقيل: ذكر ابن فندق البيهقي في كتابه (لباب الأنساب) عقباً للرضويَّة فقال: (ومن هذا الرهط سادات مرو، ومنهم إسحاق بن أحمد بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن زيد بن الحسين بن محمّد بن عليٍّ النقي بن محمّد التقي بن عليِّ بن موسى الرضا).
وعلَّق السيِّد الرجائي محقِّق الكتاب على ذلك أنَّه سأل السيِّد النسَّابة عن عقب محمّد فكان ردُّه: (الحقُّ عندي أنَّه معقِّب)، ثمّ ذكر جمعاً من أعقابه.
والمنقول عن الرجائي: أنَّ الأنساب المنتهية للسيِّد محمّد بالتحقيق تنتهي إلى جعفر الزكي.
هذا إجمال المحكي في المقام، وليست غربلته محلّاً للبحث.
وإلى هنا يتَّضح:
1 - أنَّ الأنساب لها أهمّيَّة في الشريعة سيّما نسب البيت النبوي.
2 - أنَّ هنالك ظروفاً قاهرة وقاسية جعلت الأنساب متوارية عن نُظَّارها.
3 - أنَّ أهل الأنساب ليست لهم تلك الدقَّة وذاك التحرِّي في إثبات ما تصدَّوا له سيّما المتأخِّرون منهم.
4 - تلقيب محمّد بن عليٍّ الهادي بلقب سبع الدجيل لم يكن في حياته أو لا أقلّ لا أثر له في الكُتُب السابقة، فضامن ابن شدقم لم يُعرِّفه ولم يذكره بهذا اللقب، ولم يذكر في ضمن ألقابه (البعَّاج).
5 - قيل: إنَّ السيِّد مئناث ولم يكن له ولد.
* * *
المحور الثالث: سبع الدجيل في التاريخ والوجدان
اسمه وكنيته:
سيِّد محمّد بن الإمام عليٍّ الهادي بن الإمام محمّد الجواد بن الإمام عليٍّ الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمّد الباقر ابن الإمام عليٍّ زين العابدين بن الإمام الحسين السبط الشهيد بن أمير المؤمنين الإمام عليِّ بن أبي طالب (عليهم السلام) وصيِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلَّى الله عليهما وآلهما) الحوراء الإنسية التي أجلَّها الله في كتابه العزيز ونصَّ على طهارتها وباهلت النصارى مع أبيها وبعلها وبنيها دفاعاً عن التوحيد، فكانت مظهر الحقِّ وحجَّته دون نساء العالمين(42).
ويُكنَّى بأبي جعفر، ويُعرَف بالبعَّاج(43)، ومُشْتَهر بسبع الدُّجَيْل.
ويُذكَر له عدَّة ألقاب معروفة في نواحيه، منها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(42) تمَّ ذلك في يوم المباهلة، وأصلها في اللغة من البهلة وهو التضرُّع والخلوص في الدعاء، وتقريب معناها: أنْ يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيلعنوا ويدعوا على المبطل منهم، ولها صفة خاصَّة تُؤخَذ من مظانِّها. ومن مباهلة الرسول الأكرم بعترته دون سواهم يُعلَم أنْ لا يدانيهم في الفضل والشرف والمنزلة عند الله أحد من الخليقة، مهما تقمَّص من أوصاف؛ إذ برز بخاصَّته دفاعاً عن التوحيد، وصار المسلمون وغيرهم إلى موقف المتفرِّج ينظرون إلى مظاهر عزَّة الله ورسوله.
(43) مراقد المعارف في تعيين مراقد العلويِّين والصحابة والتابعين والرواة والعلماء والأُدباء والشعراء للشيخ محمّد حرز الدِّين (ج 2/ ص 262).
السيِّد، أبو جاسم، أبو البرهان، أبو الشارة، سبع الدجيل، أسد الدجيل، البعَّاج، سبع الجزيرة، أخو العبَّاس، البطَّاش، اليصيح بالرأس، الطفاي(44).
تحليل الكنى:
اشتهرت الكنى بين العرب حتَّى قيل: إنَّها ممَّا اختصَّ به العرب، وشاعت الألقاب بين العجم حتَّى قيل: إنَّها ممَّا اختصَّ بها العجم.
ولكلٍّ من الكنية واللقب مجاله وخصائصه وفلسفة توظيفه ودلائله التي تُجمِّل منهج التخاطب وتُلطِّف أُسلوب الحوار، وهذه الفلسفة بعمومها تحتوي على منظور مدرك مشوب بمعرفة وثقافة المستعمل لتلك الكنية أو هذا اللقب، فهما ينمَّان عن عدَّة أُمور، وما يرتبط منها بالمقام:
أوَّلاً: ما يحمل المتكلِّم تجاه الشخص الموصوف ولو بمستوى الأحلام والآمال عند الإنسان.
وثانياً: لفت الانتباه لجنبة في الموصوف تمنَّاها أو ارتضاها الواصف.
وإذا صدرت تلك الصفة من الباري تبارك وتعالى فلا بدَّ وأنْ تكون كاشفة ومبيِّنة لشيء في الموصوف؛ لأنَّ الحكيم العالم لا يُطلِق الكلام جزافاً.
وإذا صدرت من الإنسان فلا بدَّ من تحديد حيثيَّة صدورها لنعرف هل هي أُمنية وحلم أو هي وصف لواقع أو هي مجرَّد لفظ أُريد به تفريغ ما يجيش في صدر المتكلِّم تجاه المتكلَّم عنه.
وإذا شاع الوصف بين الناس وبلغ حدَّ الاشتهار والشيوع وتسليم الناس بمضمونه فالأمر يدور بين احتمالين: إمَّا أنَّ شيوعه بين الناس بسبب الإعلام ومسايرة بعضهم البعض من دون رويَّة أو تأمُّل، وهذا يُفقِد اللقب والكنية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(44) شعراء سبع الدجيل لحسين البلداوي (ص 40)، وسبع الدجيل لبرهان البلداوي (ص 34 - 38).
اعتبارهما، أو أنَّ شيوعه وتسليم الناس به ناشئان عن درك وتصديق بواقعيَّة ذلك الوصف، وهذا الفرض له اعتبار كبير ويُعَدُّ منجماً من الذكريات الثرَّة ومنبعاً متدفِّقاً لسيرة الموصوف وتاريخه، وعلى هذا السبيل تشرق الكلمات في هذا البحث حاكية عن معاني الكنى والألقاب والتي تكشف عمَّا يتحلَّى به صاحبها، فيتمكَّن القارئ من خلالها معرفة بعض جوانب شخصيَّة صاحب الكنية واللقب، وإليك إطلالة سريعة على سمات السيِّد من خلال الأسماء(45) التي عرَّفته بها الأجيال والتي بقيت مناشدة لوجدانهم وماثلة في حياتهم:
1 - سبع الدجيل:
أشهر ألقابه، ولا يُعرَف غيره به، فمرقده الشريف في برّيَّة قفرة تُعرَف بالدجيل، وقبل مئات السنين كان السائرون فيها يتزلزلون خوفاً ووجلاً من قُطَّاع الطُّرُق، إلَّا أنَّ زوَّاره كانوا يشاهدون سبعاً ضارياً يجوب الأرض التي حول القبر الشريف ولا يدع معتدياً يدنو لزائريه، فلا ترى في ذاكرة الأجيال أو عند نقل الأحداث أيَّ ذكر لحادثة اعتداء في تلك الأيَّام، ولهذا السبع ذكر ووجود حتَّى أربعينات القرن العشرين، قال الشاعر(46):
ينام قريراً عندك الوفد إنَّه * * * يهاب فلا يدنو إلى ضيفك اللص
لعمرك قد خافوك حيًّا وميِّتاً * * * وهل قبل هذا خيف في رمسه شخص
وقد يُعبَّر عنه بـ (سبع الجزيرة)، وأهالي المنطقة يُكسِرون الجيم، والجزيرة عندهم: أرض مقفرة.
أو بـ (أسد الدجيل)، قال عبد الغني الخضري:
يا أسد الدجيل كم حسرة * * * تعبث بالأحشاء والترائب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(45) تُطلَق (الأسماء) ويُراد بها الأعمّ من الكنى والألقاب وأسماء الأعلام.
(46) نسبها برهان البلداوي في كتابه سبع الدجيل للشيخ محمّد حسين المظفَّر المولود (1312هـ).
وقال السيد مير علي طبيخ النجفي:
أسد أطلَّ على الدجيل فأقعصت * * * منه ليوث تهائم ونجاد
وهذه الأسماء مترادفات.
2 - البعَّاج:
القتَّال لمن تجاوز الحدَّ على زائريه وعليه كرامة من الله (عزَّ وجلَّ) له، ويشابهه لقب البطَّاش، وقد نسب السيِّد ضامن بن شدقم هذا اللقب إلى أحد أحفاده عند ذكره أعقاب السيِّد.
3 - أبو جاسم:
المعروف عند أهل العراق وغيرهم أنَّ من اسمه محمّد فكنيته (أبو جاسم)، وهنا وجه آخر لتسميته بهذا وهو كثرة من قصم، حيث يوجد في اللفظ تحارف وظيفي ببركة لهجة العراقيين، فقصم = كصم = جسم، وهذه الكنية من المشهورات في محيط مدينة بلد، وربَّما اشتهر القسم والحلف به.
4 - أبو البرهان:
وقد يُطلَق لفظ الأب في لهجة العراق الدارجة على أصل الشيء كما هو حال لفظ الأُمِّ في اللغة، فهذه الكنية تدلُّ على أنَّه راعٍ للبرهان وأصله وقت التحاكم إليه، وسيأتي حكاية مشهد عامٍّ لأثره في حياة الناس اليوميَّة تحت عنوان (وصف عامٌّ لمكانة السيِّد سبع الدجيل عند الأجيال) اعتماد بعض المحاكم المحلّيَّة للقسم به في حلِّ بعض الخلافات.
5 - أبو الشارة:
فُسِّرت الشارة بالعلامة الواضحة الدالَّة على سرعة استجابة الدعاء عنده، فهي مرادف قريب من الكنية المتقدِّمة.
وهنا معنى آخر خلاصته: أنَّ اللفظ أصله من شوَّر به: فعل به فعلاً
يُستحيى منه فتشوَّر، يقال: شوَّرت الرجل وبالرجل فتشوَّر إذا خجَّلته فخجل، أي إنَّه أصل وسبب يسم المبطل بما يستحي منه. وهذا فيه جمع بين المعنيين لاسيّما وأنَّ الشارة بمعنى الحُسْن والهيأة، ويمكن إرجاعها إلى أصل الشَّوْر وهو عرض الشيء وإظهاره، فكأنَّها أُخذت منه(47).
6 - أخو العبَّاس:
آخى النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين أصحابه، واتَّخذ عليًّا أخاً له في الدنيا والآخرة، وأثبت له صفاته كلَّها ما عدا النبوَّة بقوله: «أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي»(48)، فارتسمت معاني الأُخوَّة في وجدان المتديِّن، فكلَّما تشاكل شخصان في الخصائص والمميِّزات تجلَّت بينهما الأُخوَّة.
ولأبي الفضل - وهو البطل الذي خطَّ الوفاء والنبل في جبين البشريَّة - مكانة سامية في القلوب ومنزلة عالية في السماء، حباه الله بكرامات تُظهِر فضله، فجعله باباً من أبواب رحمته، يقصده المؤمِّل والمضطرُّ فتُقضى الحوائج وتُحقَّق الأماني، ووجد الناس السيِّد سبع الدجيل عديل العبَّاس في هذه السمة فسمُّوه بأخي العبَّاس تثبيتاً لما حُبي من الباري تبارك وتعالى.
وأمَّا لقب اليصيح بالرأس، والطفَّاي، فلم أظفر بما يُؤكِّد شيوع استعمالهما في حقِّ السيِّد.
حياته ومماته في سطور:
لم تُحدِّد المصادر تاريخ ولادته ولا مكانها، والظاهر أنَّه وُلِدَ بالحجاز، وخلَّفه أبو الحسن (عليه السلام) بالحجاز طفلاً، فقَدِمَ عليه مشيداً، فلازم أخاه لا يفارقه على ما وصفه الكلاني في المحكي عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(47) راجع: لسان العرب والقاموس المحيط.
(48) الخصال (ص 311)، وبحار الأنوار (ج 5/ ص 69).
وبالنظر إلى سنة وفاته وعمره يمكن القول بأنَّه وُلِدَ حوالي سنة (236هـ) أو (238هـ).
وقد رآهما غير واحد وهما يدخلان على أبيهما معاً حتَّى إنَّ بعض أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) أشكل عليهم أمر الإمامة.
والذي يكشف عن العلاقة الوطيدة بين الإمام العسكري وبين أخيه أبي جعفر شقُّه ثوبه عليه حين وفاته.
حُكي عن الكلاني ما نصُّه: (صحبت أبا جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا وهو حدث السنِّ، فما رأيت أوقر ولا أزكى ولا أجلّ منه، وكان خلَّفه أبو الحسن العسكري بالحجاز طفلاً فقَدِمَ عليه مشيداً، وكان ملازماً لأخيه أبي محمّد (عليه السلام) لا يفارقه)(49).
وفي بعض المدوَّنات قول مفاده: أنَّ المهدي هو محمّد بن عليٍّ الهادي، وهو حيٌّ باقٍ لم يمت على ما بُثَّ في مدوَّنات الفِرَق والأديان، واندثار هذا القول - لو كان موجوداً - شاهدٌ على زيفه وضلاله.
مماته:
كانت وفاته في حدود سنة (252) للهجرة(50)، وقيل: إنَّها في آخر جمادى الآخرة، والظاهر أنَّها ليست خارجة عن طرائق موت آبائه (عليهم السلام)، فلم يكن مماته حتف الأنف إنْ صحَّ التعبير.
ومن المهمِّ هنا الالتفات إلى أنَّ بني العبَّاس على علم بتسلسل الإمامة، فكانوا يسعون في القضاء على الأئمَّة ورجالات أهل البيت وهم بعد في ريعان الشباب، فمن المثير للاهتمام قصر أعمار أبناء الرضا (عليه السلام):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(49) حكاه عنه الشيخ محمّد جواد الطبسي في حياة الإمام العسكري (عليه السلام) (ص 69).
(50) أعيان الشيعة (ج 10/ ص 5).
فالإمام الجواد تُوفِّي وعمره بحدود (24) سنة.
والإمام الهادي تُوفِّي وعمره بحدود (40) سنة.
والإمام الحسن العسكري تُوفِّي وعمره بحدود (28) سنة.
قال الشيخ الطوسي: (إنَّ النبي والأئمَّة ما ماتوا إلَّا بالسيف أو السمِّ وقد ذُكِرَ عن الرضا (عليه السلام) أنَّه سُمَّ، وكذلك ولده وولد ولده)(51).
وكذا حال السيِّد محمّد سبع الدجيل فقد تُوفِّي وعمره بحدود (24) سنة.
وقد ذُكِرَ خبر موته دون التعرُّض لكيفيَّة الوفاة، قال في (المجدي) عند ذكر أبي محمّد العسكري (عليه السلام): (وأخوه محمّد أبو جعفر أراد النهضة إلى الحجاز فسافر في حياة أخيه حتَّى بلغ بلداً وهي قرية فوق الموصل بسبعة فراسخ(52)، فمات بالسواد، فقبره هناك عليه مشهد يُزار)(53).
ويُروى أنَّ للإمام أبي الحسن الثالث (عليه السلام) صدقات ووقوفاً من ضياع وأراضٍ بمقربة من بلد، وكان الذي يتولَّى أمرها ابنه أبو جعفر، وفي إحدى وفداته للنظر في شؤونها فاجأه المرض واشتدَّ به الحال.
وعوداً على بدء أقول: الميل إلى القول بقتله لا أتفرَّد به، فلغيري كلمات في المقام، قال الشيخ القرشي: (... ومرض أبو جعفر مرضاً شديداً واشتدَّت به العلَّة، ولا نعلم سبب مرضه، هل أنَّه سُقِيَ سمًّا من قِبَل أعدائه وحُسَّاده من العبَّاسيِّين الذين عزَّ عليهم أنْ يروا تعظيم الجماهير وإكبارهم إيَّاه...)(54).
وقال السيِّد محمّد كاظم القزويني: (... لا نعلم سبب وفاة السيِّد محمّد في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(51) الغيبة (ص 388).
(52) في أعيان الشيعة (ج 10/ ص 5) أنَّها على بعد تسعة فراسخ من سامراء. وفيها أنَّه مرض.
(53) حاشية في منتهى الآمال (ج 2/ ص 637).
(54) عن حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) (ص 24 - 26).
تلك السنِّ، ونعتبر موته حتف أنفه مشكوكاً فيه؛ لأنَّ الأعداء كانوا ينتهزون كلَّ فرصة لقطع خطِّ الإمامة في أهل البيت (عليهم السلام)، فلعلَّهم لـمَّا عرفوا أنَّ السيِّد محمّد هو أكبر أولاد أبيه، وهو المرشَّح للإمامة بعد أبيه، قتلوه كما قتلوا أسلافه من قبل...)(55).
قرائن تستبعد الموت الطبيعي:
1 - صغر سنِّه وعنفوان شبابه؛ إذ عمره الشريف (24) سنة.
2 - صحَّة بدنه وقوَّة جسده، فقد زار أباه وقد اشتدَّ بدنه وخرج من عند أبيه معافى وبعد قطع مسافة قصيرة وعلى مقربة من دار أبيه مرض واشتدَّت به العلَّة، ولا خبر يذكر عن علم أهل بيته بحاله إلَّا بعد موته.
3 - انصراف وجوه الناس إلى أهل البيت وقول شطر الأُمَّة بإمامتهم وشيوع أنَّه الإمام بعد أبيه مع علم بني العبَّاس بذلك، الأمر الذي يهدُّ كيان دولتهم وصولتهم.
4 - اضطراب الوضع العامِّ في مختلف أرجاء الدولة العبَّاسيَّة سيّما منطقة الحجاز.
5 - كثرة حركات العلويِّين والشيعة بما أقضَّ مضجع سلاطين البلاط العبَّاسي وقادته.
6 - ظهور جيوب في كيان الدولة العبَّاسيَّة يوالي أهل البيت ويُعظِّمونهم، ويقفون سدًّا مانعاً في بعض الأحيان من إيذائهم.
وحيث إنَّ المقدَّم والمعروف من ولد الإمام الهادي هو أبو جعفر فاتَّجهت الأنظار إليه، كما سيأتي ذكره في بحث البداء أنَّ التقيَّة لم تكن تجدي نفعاً ولا تدفع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(55) عن الإمام العسكري (عليه السلام) من المهد إلى اللحد (ص 23).
ضيراً عن وليِّ الله في مسألة تعيين الإمام، لعلم بني العبَّاس بمسالكها، وأيضاً هم يعلمون أنْ لا تقيَّة في الإمامة بمعنى أنَّه ليس للإمام أنْ ينفي الإمامة عن نفسه ولا محيص من النصِّ على خليفته، وهذا لا يتقاطع مع استعمال التقيَّة في النصِّ على الإمام بنحو يعرف الحقَّ أهله.
7 - الإقامة الجبريَّة المفروضة على أهل البيت آنذاك والتي لم يكن ليجرؤ أحد معها على الالتقاء بهم حتَّى النصارى فإنَّهم كانوا يخشون من أعين السلطان، لاحظ قضيَّة الطبيب النصراني لترى شدَّة البلاء ووطأته وشمول الرصد لجميع وجملة رجالات أهل البيت الطاهر، وإلَّا لتمكَّن طلَّابهم من لقياهم، ولا أقلَّ من تمكُّن النصارى من الالتقاء بهم حيث لا تخشاهم الدولة، وهذا الأمر ابتُلي به أهل البيت من بدايات الدولة العبَّاسيَّة.
والرصد - بطبيعة الحال - يوجب اطِّلاع الدولة بشكل جيِّد على مقام سبع الدجيل بين الناس، فإذا رأت اتِّجاه الأنظار إليه وإلى أبيه في معسكرهم وهو بعد في عنفوان شبابه فلا بدَّ وأنْ تأخذ بالشدَّة كي لا تذهب ليالي السمر من أيَّامها.
ولاسيّما وأنَّهم يرون تمسُّك الشيعة بمسألة البداء - وهي تقتضي التغيير في النظم الكونيَّة وعدم ثباتها القهري -، ولعلَّهم في غفلة من عدم مساس البداء بقضيَّة الإمامة، الأمر الذي جعل بني العبَّاس قلقين من شأن الخلافة.
وببالي أنَّ دعوى موته بالسمِّ مبثوثة في مدوَّنات التاريخ.
هذا مجمل القرائن التي تقف في صفِّ احتمال الاغتيال.
ومقابل هذا الاحتمال هنالك احتمال آخر وهو احتمال الموت الطبيعي، وله مجموعة من التصوُّرات والشواهد التي تقف إلى جنبه، ويمكن تلخيصها في أمرين:
الأوَّل: علم بني العبَّاس بأنَّه ليس الإمام من بعد أبيه لعدم توافره على خصائص الإمام؛ إذ لم يكن سمته سمت الأئمَّة، ولم يكن منطقه منطقهم وإنْ كان عالماً قد التفَّ الناس حوله، فلقد كان بنو العبَّاس يرصدون أهل البيت في كلِّ مكان وزمان حتَّى إنَّهم عرَّضوهم للتفتيش الشخصي من أجل الاطِّلاع على ختم الإمامة.
الثاني: عدم تعرُّضه للسجن مع أبيه وإنْ تعرَّض للمضايقة من قِبَل السلطة لكنَّها مضايقة بعيدة من حيث الشكل والمضمون بالنظر لما تعرَّض له أئمَّة الهدى.
* * *
المحور الرابع: السيِّد في وجدان الأمَّة وعند قادتها(56)
بانوراما سبع الدجيل:
تسري لفظة (سبع الدجيل) في عروق الناس، ويحمل استعمالها تاريخ صاحبها ومآثره ومواعظه وإرشاده وحميَّته على الناس وأخلاقهم، فهي كلمة رأى الملأ بين جوانبها سلطة الحقِّ ومجده وظلال الانتماء ونسائمه.
وهذه كلمة رأيتها تشير إلى تاريخٍ حيٍّ وفاعلٍ بين ظهراني الناس، فآثرت قراءتها معك عزيزي القارئ(57):
لستُ أشكُّ بأنَّك سمعت أو ستسمع الحلف بـ (سبع الدجيل) في بعض مناطق العراق كأيِّ واحدٍ من الأيمان الغليظة التي يلجأ إليها صاحب الحقِّ لإثبات (حقِّه) عند خصمه، فاليمين على ضريح (سبع الدجيل) بين المتخاصمين - مهما بلغت درجة الخصومة - كفيلة بأنْ تمحو كلَّ الشُّبُهات، وتُمحِق كلَّ الإحن، وتغسل القلوب من أوضار الأحقاد والكراهية بين العشائر المتخاصمة والقبائل المتعادية، فالحلف عند مرقده الشريف هو القول الفصل والحكم العدل الذي ترتضيه الأطراف المتنازعة، حتَّى أقرَّته بعض المحاكم الرسميَّة في تلك المناطق كحلٍّ للخصومات التي يمكن حلُّها عن هذه الطريق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(56) وصف عامٌّ لمكانة سبع الدجيل عند الأجيال.
(57) أُخِذَت هذه الكلمة الواصفة لمقام وشخص السيِّد من كتاب سبع الدجيل للسيِّد موسى الموسوي الهندي، وهي تاريخ غير مدوَّن؛ إذ كان المؤرِّخ آنذاك لا يعقل هكذا صفحات وإنْ مثلت بين يديه، وهي شاهد صدق على ما أدَّعي في عنوان متقدِّم.
وحتَّى الشعراء في الأزمنة المتأخِّرة - الذين مدحوا هذا الشخص الجليل بقصائدهم وأثنوا عليه - وصفوه بسبع الدجيل، لشيوع ذلك بين العامَّة والخاصَّة.
و(محروسة سبع الدجيل) جملة تعارف عليها سائقو سيَّارات النقل حتَّى أصبحت مألوفة لا في منطقة دجيل أو بغداد، ولكن في معظم مناطق العراق، فكتبوها على سيَّاراتهم بحروف بارزة وملوَّنة تيمُّناً بها وتبرُّكاً، ولتكون لهم حرزاً من طوارق الطُّرُق وحوادث الزمان.
فمن هو هذا الأسد الضرغام الذي يهيمن عرينه على صحارى (دجيل) وبواديه لا في الآكام والآجام؟
إنَّه أبو جعفر..
ولهذا السيِّد الجليل من القدسيَّة والعظمة ما بلغ به منتهى مدارج الكمال، فليس هناك أحد من المسلمين الذين يؤمُّون مرقده ويزورون مشهده إلَّا وهو موقن بجلالة قدره ومؤمن بسموِّ مقامه.
وأستطيع الجزم بأنَّ قبره الشريف كان عرضة لغارات الأعراب ونهبهم وسلبهم لما فيه من نفائس وتُحَف لو لم يكن له في قلوبهم رغبة ورهبة برغم أنَّ معظم العشائر المتوطِّنة حوالي مرقده ليست من المؤمنة بمذهب آبائه وأجداده الطاهرين(58).
من شهادات الأعلام والكُتَّاب في حقِّ سبع الدجيل:
قال السيِّد محسن الأمين: (جليل القدر عظيم الشأن كانت الشيعة تظنُّ أنَّه الإمام بعد أبيه (عليه السلام) فلمَّا تُوفِّي نصَّ أبوه على أخيه أبي (م ح م د) الحسن الزكي (عليه السلام))(59).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(58) بمعنى أنَّهم لا يأخذون عن آل البيت أُمور دينهم، وغير ملتفتين إلى مقامهم عند الله (عزَّ وجلَّ)، ومع ذلك لهم رغبة قويَّة بحبِّ أهل البيت، يرونهم الملجأ الآمن والكهف الحصين، وهم كذلك، لذا ترى العالم والجاهل والمثقَّف يلوذون بهم وفي قلوبهم جلالة وتعظيم لأهل بيت النبوَّة (صلوات الله عليهم أجمعين).
(59) أعيان الشيعة (ج 10/ ص 5).
وقال الشيخ عبَّاس القمِّي: (وأمَّا السيِّد محمّد المكنَّى بأبي جعفر فهو المعروف بجلالة القدر وعظم الشأن، وكفى في فضله قابليَّته وصلاحه للإمامة وكونه أكبر ولد الإمام عليٍّ الهادي (عليه السلام) وزعم الشيعة أنَّه الإمام بعد أبيه لكنَّه تُوفِّي قبل أبيه)(60).
وحكى شيخنا القمِّي عن كتاب (النجم الثاقب): (ومزار السيِّد محمّد في ثمان فراسخ عن سُرَّ من رأى قرب قرية بلد، وهو من أجلَّاء السادة وصاحب كرامات متواترة حتَّى عند أهل السُّنَّة والأعراب، فهم يخشونه كثيراً، ولا يحلفون به يميناً كاذبة، ويجلبون النذور إلى قبره، بل يقسم الناس بحقِّه في سامرَّاء لفصل الدعاوي والشكايات، ولقد رأينا مراراً أنَّ المنكر لأموال شخص - مثلاً - إذا طلبوا منه القسم بأبي جعفر كان يردُّ المال ولا يقسم، وذلك لتجربتهم أنَّ الكاذب لو حلف به يصيبه الضرُّ، ورأينا منه في أيَّامنا هذه كرامات باهرة ولقد عزم بعض العلماء أنْ يجمع تلك الكرامات ويُدوِّنها حتَّى تصير كتاباً يحتوي على فضائله)(61).
وقال محمّد رضا سيبويه: (جلالته وعظم شأنه أكثر من أنْ يُذكَر، وقد ذكروا في باب النصوص على إمامة أبي (م ح م د) (عليهما السلام) ما يُنبئ عن علوِّ مقامه وترشيحه لمقام الإمامة، وقبره مزار معروف في بلد. والعامَّة والخاصَّة يُعظِّمون مشهده الشريف، ويقطعون خصوماتهم التي تقع بينهم بالحلف به والحضور في مشهده، ويُعبِّرون عنه بـ (سبع الدجيل)، ويقومون إليه بالنذورات الكثيرة عندما تُقضى حوائجهم)(62).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(60) منتهى الآمال (ج 2/ ص 637)، وله كلمات أُخرى في جلالة شأنه وكراماته.
(61) منتهى الآمال (ج 2/ ص 639).
(62) لمحات من حياة الإمام الهادي (عليه السلام) لمحمّد رضا سيبويه.
وقال محمّد رضا عبَّاس الدبَّاغ: (وكان فقيهاً عالماً عابداً زكيًّا، أراد النهضة إلى الحجاز فسافر في حياة أخيه حتَّى بلغ (بلد)، فمات بالسواد، فدُفِنَ هناك، وعليه مشهد، وهو الذي يُعرَف بـ (السيِّد) و(سبع الدجيل))(63).
واقع مقام السيِّد وشأنه:
بين بغداد وسامرَّاء تقع (بلد)، وبين الجوادين والنقيَّين يرقدُ سيِّدٌ دنا من مرتبة الإمامة وكاد أنْ يصل إلى مقامها؛ وهو ذلك المقام الذي لم يصل إليه الكثير ممَّن فضَّل الله (عزَّ وجلَّ) واجتبى، مقامٌ لم يُنحِّه عنه ظلم، ولم يقف دونه سوى القدر الذي لا مردَّ له، ولم يقيله عن الإمامة قصور في سيرته أو تقصير من همَّته، لكنَّه وعاء دون أمر الله، وأيضاً الإمامة وعاء لا يُوضَع فيه أحدٌ دون أمر الله، وما كان لمؤمنٍ الخيرة في ذلك.
إنَّه سيِّدٌ تميَّز بين أهل بيته - ممَّن بدا لله (عزَّ وجلَّ) فيهم - بشيءٍ لم يكن له فيه مطمع، حيث تطاولت إليه الأعناق بالإمامة من بعد أبيه (عليه السلام) ولم يكن صيت تقلُّده الإمامة يقف عند مستوى الاعتقاد والظنِّ، بل تجاوز ذلك إلى دعوى تهمس الشفاه بها وتدلُّ عليه، فمنَّ الله عليه بأنْ لم يجعله مثار اختلافٍ بين المؤمنين، بل كشف الحقَّ وأظهر رفيع مقامه وسموَّ رتبته، فالبداء أزاح الغطاء عن مقامين: مقام الإمامة حيث تبيَّن لمن تكون الإمامة، ومقام سبع الدجيل؛ إذ إنَّه بمحلٍّ رأى فيه المؤمنون أهليَّة الإمامة ورأى أعداء الله فيه ذلك، فكانوا ناظرين إليه، حائمين حوله، ذاهلين عمَّن سواه، فكان به حفظ الإمام وحفظ الدِّين(64)، كلُّ ذلك بما لابسه من أمر الإمامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(63) محكي عن عمدة الطالب هامش (ص 199)، عن المجدي.
(64) قد يُشعِر بذلك خبر دسِّ السمِّ إليه وهو في ريعان شبابه ومعاجلته بمجرد خروجه عن سامراء.
وكي يُظْفَر ببعض جوانب عظمة هذا الفتى لا بدَّ من كلمات مستندة إلى مسألة الإمامة ومسألة البداء علَّه يتَّضح في طيَّات البحث نبأ عن هذا السيِّد الجليل.
ولك القول: إنَّ الهبات الربَّانيَّة أعطت السيِّد أبا جعفر ما فتح له أبواب القرب من المراتب العلى التي لا يقترب من سوحها إلَّا النادر من المُخْلَصِين، فنال من شرفها مكانة غير متشابهة، وقد صُيِّر بمكانة أخيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في أعين المؤمنين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
* * *
المحور الخامس: كرامات سبع الدجيل
قال المحدِّث القمِّي: (مزار مشهور هناك، مطاف للفريقين، وتُجبى إليه النذور والهدايا، وله ما لا يُحصى كثرةً من الكرامات وخوارق العادات...)، وإحدى كراماته سبَّبت خطَّ هذه الأسطر عن حياته، ولقد سمعت الكثير كما سمع غيري عن كراماته، وشاهد أهل بلد منها ما صيَّر الأمر كالشمس في رابعة النهار، ومن تلك الأحداث دفع الضرِّ والبلاء عن المستجيرين به من دون تفريق بين معتنق الحقِّ القائل بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) وبين منكرها، فالكلُّ لديه ضيوف وجيران لهم حقُّ الضيافة والجوار، فكم من كرامة أعادت الضالَّ إلى رشده، وتركت الظالم يعضُّ على يديه، وكم من كرامة جعلت الموالي فرحاً جذلاً بما نال من مراد وممَّا رأى من تُحَف الكرامة لأولياء الله تبارك وتعالى.
وبين يديَّ الكثير من القَصص الحقِّ التي تُنبئ عن سموِّ ورفعة السيِّد، منها ما سمعته من ذي العلاقة بلا واسطة، ومنها ما نقله الثقة الثبت، وهي هبات لمحبٍّ تارةً، ولمجاور تارةً أُخرى، ولمستجير ثالثة، ومن بينها قضيَّة لرجل أرمني قضى شطراً من حياته في مدينة (بلد) اسمه (سيمون) أصابه الفلج، ولم يكن يملك شيئاً من متاع الدنيا، وقد عجز من حوله من أطبَّاء وأقرباء عن مدِّ يد العون له، وفي عصر يوم، وهو جالس أمام مسكنه كان يرقب قبَّة سبع الدجيل فتمتم بآهات اللوعة التي أثارت دموع عينه وصارت نظراته تحمل الرجاء
والأمل صوب الحرم الشريف، فما ارتدَّ إليه طرفه إلَّا بسلامةِ البدن، فقفز فرحاً وتعجَّب من حوله والمارَّة، فسعى إليه أهله قائلين: ما بك يا سيمون؟!
فأجابهم بكلماته المندهشة ودموع الفرح تعرب عن امتنانه وهو يُلوِّح نحو القبَّة الشريفة.
فببركة هذه البقعة المباركة تلاشى الضرُّ والبلاء، ولا أدري اهتدى أم بقي على سابق معتقده.
وسوى هذه القضيَّة الكثير... الكثير من الكرامات التي تتناقلها الأجيال، وقد اتَّفقت كلمة النقلة من بلدان ودُوَل مختلفة أنْ لا أحد يجرؤ على خلسة أو سرقة في محضره، ومن كثرة ما يُنذَر له من ذبائح يوجد في الصحن الشريف زاوية خاصَّة لذبح الذبائح التي يُوزَّع لحمها على زوَّاره والفقراء، ويصل ما يُذبَح إلى عشر ذبائح يوميًّا، وآثرت عدم ذكر كلِّ ما سمعت، وأنْ لا أذكر إلَّا ما هو مثبت في الكُتُب لأمر يعرفه من زاول روايات الفضائل، وكابد رواتها ومستمعيها المحبّ منهم، والمبغض ومن هذه الكرامات(65):
الأولى: تبرئة امرأة من التهمة:
عن العلامة الكبير السيِّد إسماعيل البهبهاني أنَّه قال:
كنت مع جماعة من أصدقائي عند مرقد السيِّد محمّد (عليه السلام) جالسين قبال بعض الحجرات المقابلة للروضة البهيَّة، فإذا بامرأة من الأعراب، صارخة، باكية، تركض بشدَّة، ومن ورائها إخوتها، ومعهم الخناجر، يريدون قتلها، فسألنا عن الخبر؟! قيل لنا: إنَّ هذه المرأة الصارخة، اتَّهمتها زوجة أخيها، بأنَّها تراود فتى من فتيان الحيِّ، وقالت: والشاهد لذلك أنِّي غسلت منديل أخيها، من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(65) النصوص مذكورة في كتاب مآثر الكبراء في تاريخ سامرَّاء (ج 2/ ص 321).
الإبريسم له قيمة، وعلَّقته على خشبة لا يمرُّ عليها أحد إلَّا هذه المرأة، فهي أخذته وأعطته لمن تراوده، ومن عادة العرب أنَّه إذا علم أحد بفساد أُخته أو ابنته يقتلها لا محالة.
فدخلت المرأة، وأخذت الشبَّاك بأنين وبكاء يصدع القلوب، وتقول: يا سيِّدي يا سبع الدجيل، أنت أعلم بحالي وبراءتي من هذه التهمة.
قال: فبينما نحن متألِّمون، من حال المرأة، فإذا بثور يعدو بشدَّة، ودخل الصحن الشريف، فجاء قبال البهو وراث، فسقط في خلال روثه المنديل، فلمَّا رأوا ذلك إخوة المرأة فرحوا بذلك، وعلموا أنَّ أُختهم مصونة من هذه التهمة، وكانت المكيدة من زوجة الأخ، والمنديل ابتلعه الثور فسقط منه ببركة مولانا السيِّد محمّد (عليه السلام).
أنَّة الشرف:
يرى الكرامة من يؤمن، ويعمى عنها الفاسق، ولا يذهب بك الوهم إلى كلمة النصارى آمن لتعقل، بل العكس هو الصحيح فأعقل لتؤمن.
نعم هنالك أشياء لا تكون إلَّا بعد الإيمان؛ إذ بناؤها أساسه الإيمان ولا يسع البحث الغور بها.
والآيات التي يصاحب دركها الإيمان وتنتج عنه ليست ملغية للعقل ولا مشكِّكة لمحتواه، وإنَّما هي نسمة ينتعش بها الحبُّ وينشط بها العقل، فهذه إطلالة سماويَّة لحظها اللَّاحظ - وهو في رواقٍ عند سبع الدجيل - قبال جوهرةٍ جنانيَّةٍ، فتعال معي نعاين المعاني والكلمات لحظة بلحظة، وبدء سرد الكرامة:
أنَّ امرأة عاشت مع فطرتها، تحكَّم في عيشها طباع البدو! وهي طبايع لها هيمنة مشبوبة برائحة الفطرة التي فطرت عليها... تلك المرأة - وهي الرحمة المساقة لأبيها والمجاورة لإخوتها - عَدَتْ تستصرخ ملجأها الذي تألف،
وتطرق شرفها الذي لا تجرأ على تكذيبه الظنون، ومن خلفها خناجر الغضب المستنفر، تسوقها غيرة مؤجَّجة بكيد النساء وهنَّ يرمن إذكاء أو دفع غائلة الرجل، وقد أخذها(66) الحمس والحميَّة كما تدَّعيه قريش إبَّان بعثة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكأنْ لم يتغيَّر شيء من ذهن الأعراب، وإنْ تعجب فعجب وقوف الدِّين على باب قلوبهم مئات السنين ينتظر لفتة يبعث بها النور إلى تلك القلوب المتصحِّرة، ولولا الإحسان والفيض النابع من المراقد المقدَّسة لما أدركت تلك العقول نوراً سماويًّا، ولما شمَّت تلك القلوب رائحة الودِّ.
فقد يسمع الإنسان أنَّةَ مظلوم تحرق قلبه أو تُصدِّع نفسه لكنَّها تبقى أنَّةً عابرة تأخذ مجالها وتنتقل إلى صفحات الذكرى.
وقد يسمع أنَّة تقف في وجدانه، تُفَتت صمت النسيان ولا يغيب دمعها عن العقل، ككلمات عليٍّ (عليه السلام) أو كمناجاته لربِّه التي تُذوِّب الدرن وتجلو القلوب كما تُجلِّي الحقائق.
تلك الماثلة في وجدانك هي أنَّة المرأة وهي تنافح عن عفَّتها ورَوح عشيرها.
تقول:
أين ستري وهاؤم يُدنِّسون عباءتي؟!
أين لُبِّي الذي يُدرِك لوعتي؟!
وكيف بي إنْ تقاصرت فزاعات الكرام عن نجدتي؟!...
هيمنت الأنَّة على مجامع الزوَّار، وكلَّما توحَّش البغي كلَّما قرب فرج المظلوم، وأنَّة الشرف تهزُّ وجدان الشريف ولو كان بين أطباق الثرى، وهو لا شأن له ولا قرى، فكيف بمن كان من سادات الورى، وبينما تزفُّها الأنَّة نحو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(66) الخناجر.
الرحمة الإلهيَّة إذ وقعت في ظلالها لائذةً عائذة بمن يعلم مخلص ورطتها ويملك سبيل عزَّتها...
سيِّدي، أُولئك الأعراب رأوا أنوار منزلتك، تراهم مقبلين، حمَّشهم الشيطان فنسوا أنَّك الملجأ والملاذ، وهذا أنين الفطرة يستبقيك من عقولٍ لا تفهم لغة الحياة ولا تُدرِك للتفكير معنى، فإذا بثور يعدو تقوده الأرض وتسوقه السماء حتَّى قرب قبال البهو وراث فسقط في خلال روثه علامة البراءة ودلائل الحقِّ وآية الصدق، ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾ (العنكبوت: 49).
الثانية: شفاء امرأة مفلوجة خرساء:
عن العلَّامة الميرزا هادي، قال: أخبرني عبد الصاحب - وكان من أوثق سدنة روضة السيِّد محمّد -، قال:
كانت في بلد امرأة شابَّة معقود عليها، فعرضها فلج فصارت مفلوجة خرساء، وشاع خبرها في تمام بلد، فجاءوا بها إلى الروضة البهيَّة وأدخلوها وأغلقوا الأبواب عليها، فلمَّا مضى من الليل نصفه فإذا بالمرأة تصرخ في وسط الصحن المطهَّر سالمة ناطقة، فهجم عليها الناس من كلِّ جانب وسألوها عن القصَّة، وقال بعض السدنة: أنا أغلقت الأبواب ومفاتيحها عندي فكيف خرجت من الحرم؟
قالت: رأيت شخصاً جليلاً ضرب برجله عليَّ وقال: قومي ليس عليكِ شيء، فخرجت من الروضة سالمة، وشاع الخبر في بلد وعرفها كلُّ برٍّ وفاجر.
شرف الخدمة:
هناك من يتشرَّف بخدمة الأولياء كما الأولياء يُشرَّفون بالقرب والعبادة
لله (عزَّ وجلَّ)(67)، فمن الخَدَمَة من يقوم بحقِّها، ومنهم من ينكص على عقبيه، لاحظ خدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تجد أنَّ منهم من كان إلباً على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومنهم من فداه بروحه، وقارن بين خدمة قنبر (رضوان الله عليه) لأمير المؤمنين (عليه السلام) حتَّى نال الشهادة وسامَ ختم وبدء، وبين خدمة أنس بن مالك لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فالأوَّل تفانى في الخدمة حتَّى بعد استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام)، والثاني توانى عن الخدمة في حياة النبيِّ وبمرأى منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(68).
ومن هذه الأمثلة ترى أنَّ مكانة الخدم تعطيهم القدرة على الاستفادة من موقعيَّة مخدومهم، فكم خادم نال الدرجات العلى بخدمته، وكم منهم من حلَّ به وبال عمله(69).
إذن مِن الخَدَمَة من يُحبى بآثار الصحبة، ومنهم من يُحرَم من نعمها التي تجب لذي الحقِّ، ومنهم من ينشر ما يرى إقامة لسُنَن الحقِّ ودلالةً على طُرُق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(67) فخر سادات الخلق يكمن في عبوديَّتهم للباري تبارك وتعالى، لاحظ قصَّة مريم، ونذر امرأة عمران، وتذكَّر قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «كفاني فخراً أنَّك ربِّي، وكفاني عزًّا أنِّي عبدك».
(68) ما فعله أنس ممضٌّ وشديد، ففي حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يردُّ من يُحِبُّ الله ورسوله، رجاء أُمنيات، وعلاوة على ذلك كان هواه مع زمر النفاق، وبعد زمن من رحلة النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتنكَّر لنبيِّه ويُخفي حديثه.
حتَّى علاه برص لا تواريه العمامة.
ويُسئَل أنس عن ذلك فيقول: لحقتني دعوة العبد الصالح عليِّ بن أبي طالب (عليهما السلام).
يبكي، فيقال له: أنت صحابي وممَّن رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فممَّ بكاؤك؟!
فيقول: لا تدرون ما أحدثنا بعده.
لمعرفة المزيد عن حال أنس راجع: الغدير للعلَّامة الأميني (رحمه الله).
(69) خدم الملوك والحُكَّام أوضح الأمثلة على ما أقول، لكن مصبُّ البحث عن أولياء الباري، فلذا أعرضت عن ذكر أمثلة من غير وادي الموضوع.
الهداية، ومنهم من لا يبلغ حظَّه نيل شرف شهود الكرامة(70) فضلاً عن تبليغها للناس، فذا قعد به حظُّه وتقاعست به عن الرفعة همَّته، وذاك حالفه التوفيق وقوَّمه التسديد فأصبح قنطرة للحقِّ والحقيقة وجسراً بين الطالب والمطلوب، جسراً مصوغاً من الخُلُق والمحبَّة، وهما وجها التديُّن والدِّين.
ولا يتوهَّم متوهِّم: أنَّه إذا كان أثر الخدم شديداً فلماذا قبل الرسول أنْ يخدمه منافق، ولماذا تزوَّج بمن لا يأمنها على دينه الذي جاء به؟ وهلَّا اقتدى بصنع ربِّه حيث لم يجعل وليًّا له دون دين وخلق وأمانة؟!
لأنَّ النبي بُعِثَ رحمةً للعالمين، وسالكاً في تبليغه للرسالة سبيل العقلاء، ومن الحكمة تمكين المكلَّف من القرب من منبع الرسالة كي يرى بنفسه دلائل النبوَّة، فيذهب عنه سوءة الفكر ووسوسة الشيطان، فيؤمن بمحض إرادته أو يكفر بمحض اختياره؛ إذ لا إكراه في الدِّين، وهو بذلك يتحمَّل نتيجة عمله؛ إذ إنَّه تمكَّن من معاينة الحقِّ واختار، إذن من الرحمة واللطف الإلهي التعامل مع مرضى القلوب والقرب منهم علَّهم يفيقون ممَّا هم فيه، هذه بعض الدواعي لاتِّخاذ خدم فيهم حسيكة النفاق، ومن ذلك تتَّضح بعض الأسباب في اتِّخاذ زوج غير مأمونة. على أنَّ في المرأة من الصفات الصالحة والطالحة ما تتطلَّب الحكمة ترشيده ليتَّضح الحسن أو يقلَّ السوء، وفي قراءة قصَّة المرأة المفلوجة ما يفيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(70) قد يرى الكافر ومن دونه كرامة أولياء الله، لكنَّها - لكفره أو لقلَّة يقينه - تكون حجَّة عليه، أو مؤثِّرة في يقينه بشكل ما، وهكذا راءٍ ليست له أيَّة صلة مؤنسة بها؛ إذ ليست الكرامة لمن يتَّبع حتَّى يشعر بفخر، بل قد يمتلئ غيظاً، أو تذهب نفسه حسرةً ممَّا يرى، وأمَّا المؤمن فإنْ شُرِّف برؤية الكرامة، فإنَّ فخر الانتماء وعزَّة الإيمان، يظهران بين جوانبه، فالكرامة وإنْ لم تكن له، لكن لها مساس به؛ إذ هي كرامة من إليه ينتمي، فهي ملابسة له، تُنعِش يقينه، وتقي نفسه وهج الحرمان، فشرف الشهود لمن أقرَّ، وذُلُّ الإلزام لمن جحد.
أمَّا صنع الباري تبارك وتعالى فليس في طريقة العقلاء ما يضادُّه، لأنَّ الوليَّ المُتَّخَذ يحكي اتِّخاذ الربِّ وحكمته، والوليّ بقربه يكون محلّ تجلِّي آثار الدِّين والتديُّن، فلا يُعقَل أنْ يكون مرآةً لآثار الدِّين وفضائل الأخلاق وهو خلو منها، بينما العقلاء في اتِّخاذهم للخدم والموالي لا يجعلونهم محطَّ آثار قربهم، وإنْ رأى العرف أنَّ لهم مكانة خاصَّة لشرف الخدمة، لكن هذه المكانة غير منظورة عند العقلاء، لذا ترى الحكماء من الناس يُشدِّدون على المنتمي بدرجة انتمائه «يا شقراني، إنَّ الحسن من كلِّ أحد حسن وإنَّه منك أحسن لمكانك منَّا، وإنَّ القبيح من كلِّ أحد قبيح وإنَّه منك أقبح لمكانك منَّا»(71)، وهذا القدر كافٍ في معرفة مكانة الخدم والنساء وعظيم خطرهنَّ بحسب خطر من يقترنون به.
مكنون الحدث:
منذ قليل اتَّضح أنَّ المصاحب اللصيق يَسْعَد ويُسْعَد به إذا وجدت نفسه وجهي التديُّن والدِّين: الخُلُق والمحبَّة؛ إذ هما قوامان إنْ وُجِدَا في امرأة وُجِدَت السعادة بقربها، وإنْ فُقِدَ إحداهما فلك أنْ ترى في المرأة تجلِّيات العذاب الأدنى، تلك هي المرأة تطلع في الدنيا رحمةً، وتترعرع نسمةً، وتحلم بليلة دخولها عالماً تكون فيه وعاء الإمكان الذي يمخض عن خَلقٍ له أُنزلت الملائكة وبه تربَّصت الشياطين، فإمَّا أنْ تكون مكمن العابد الزاهد، أو مخبأ الكائن المتمرِّد، وبينهما صور مختزلة ومراتب ليس المقام مقام ذكرها، ولعلَّ صون المرأة عن تطلُّعات الرجال من أجل خطر عطائها وسلامة ودائعها، ولعلَّه سرُّ توصيفها بالرحمة والعناية بشأنها ولعلَّك تُدرِك كم هي مالكة للقلوب، والقول بأنَّ وجودها رَوح عالم الدنيا قد يجاوز المبالغة وليس منها، فكلُّ عارضٍ يلمُّ بها يزلزل حلمها وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(71) بحار الأنوار (ج 47/ ص 349).
يكفئ وعاءها، فكأنَّ ما ألمَّ بها ألمَّ بالدنيا، هذا حال الشابَّة وهي على مشارف ليلة زفافها، فإذا خرست وفلجت - لولا الدِّين ووجهه - يصبح حلمها عذاباً، ويكفي غبار الفطرة كي يزيل يأسها أو ومضة من بارقة الحقِّ وأهله، فالشيطان وإنْ حاول غمسها في حباله وشباكه بما أصابها لكن لجأها بليلة تحكي ستر السماء وهي تئنُّ أنَّةً حيرى تُذكِّر بليلة حلمها، وتوسُّلها برَوح الأولياء والأبواب موصدة أماط عنها أُمنيات الشيطان وشماتة الأعداء.
حبست نفسها في بيت أذن الله أنْ يُرفَع ويُذكَر فيه اسمه تنتظر لحظة الفرج، تلك اللحظة التي يبدأ رَوح اللقاء بالانتشار في أرجاء الأرض كي يلاقي أهله - وأهله من تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربَّهم خوفاً وطمعاً -، وإذا نطقت المرأة بعد خرسها ونهضت بعد قعودها سالمة معافاة قد أُبدلت قواها التي وهنت بقوى شعَّت من جوهرة جنانيَّة مطهَّرة سالمة ناطقة بآيات ربِّها، فهجم عليها الناس من كلِّ جانب.
تُرى إذا ساجل النور ظلمة أيبقى البصرٌ ساكناً أو يبتعد؟! والسؤال عن حدقة البصيرة التي تنفد من خلاله نحو الحقِّ والحقيقة، سألوها عن القصَّة، وكيف خرجت والأبواب موصدة؟!
أوَ يبتعد الجواب عن البهو المقدَّس، أوَ يمتلك أقفال القدر سوى وسيلة جعلها الله من مهبط رحمته ومظهر قدرته وآياته ولو كره المشركون؟!
الثالثة: داء الاستسقاء(72):
قال: رأيت بعيني أنَّ الأُستاذ محمود المعمار الكاظمي كانت له زوجة صالحة ابتلت بمرض الاستسقاء، وعجز الأطبَّاء عن معالجتها في الكاظمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(72) الاستسقاء: ماء أصفر يكون بالبطن، راجع: مادَّة سقي في لسان العرب.
ويئسوا عن العلاج، وأشرفت المرأة على الهلاك، ولم تتمكَّن على القعود أصلاً، وصارت كالقربة المنفوخة، فوضعوها في المحمل وجيء بها إلى الروضة البهيَّة للسيِّد محمّد (سلام الله عليه)، فلم تنقضِ الأيَّام والليالي إلَّا وبرئت من ذلك المرض المزمن بغير دواء.
هلع الماء:
تصوَّر أنَّك تفقد دركك للأشياء؛ هي حولك تعلم بها وتشعر بوجودها(73) ولكن لا تُدرِكها بأكثر من تصوُّرك لها، أو لا يلائمها وجودك، أو لا تلتئم معك هويَّتها، تطلبها وتجدها قريبة بعيدة عنك، كشبح يتخفَّى بين ضفائر الضياء أو أطباق الظلام، أو كنور القمر يساجل سيلَ ظلام متهرِّئ، ذلك الداء الذي يعجز عنه أرباب الطبابة وسدنة البدن، وكم هو صعب أنْ تمدَّ يدك للحياة وتلمس أناملها ويُجلِّلك التصديق بها وأنت لاهث مجهد من داء لا تُدرِك معه لون الماء ولا تعلم أفي شربك الماء نجاتك أم الإمساك عنه حياتك. وأنت حائر لا تستطيع التفاعل مع الماء الذي به قوام الكائن، بل هو الروح السارية في التراب.
حقًّا أنَّها حيرة الحياة، وقد قيل: الماء أعزُّ مفقود وأهون موجود، وعن سادات العلم والمعرفة أنَّ طعم الماء هو طعم الحياة.
هذا وصف داءٍ ألمَّ بصالحة يعدل وجودها وجود عوالم كثيرة وتفوق قيمتها قيمة آلاف الرجال، استوحشت هذه المرأة من انكماش حياتها فسارعت نحو سبع الدجيل، ذلك المَنْجَى الذي يعلم أنَّ الحيرة أمام الماء أمر لا يحتمل، ولا حيلة تُرتجى عند إنسان الأرض، وبتوأدٍ استلَّ منها الداء علَّها تقنع بالشفاء، فلقد عاشت أيَّاماً أفقدتها استيعاب الفُجْأة، أو أنَّ للماء خصوصيَّة لا يُروَّى الظامئ اللهفان دفعة واحدة إبقاءً لنفسه، وكأنَّ صفرة الماء بقايا هلعه حينما شرد من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(73) والدرك شيء يقرب من العلم فقد تعلم بالشيء ولكن درك جوهره شيء آخر تماماً.
كربلاء، ماءٌ لم يحتمل أنَّة الحسين فجاء لهذه الصالحة ناعياً: إنِّي تركت حسيناً وقد تفتَّتت كبده من الظمأ، ولا أظنُّ كائناً شيعيًّا يعيش لحظة مع الماء ولا يذكر كربلاء، فللّه قلب الحسين (عليه السلام) وصبره كيف احتمل الظمأ وبين يديه المنهل العذب؟!
الرابعة: كرامة والبنت من كربلاء:
قال (دام وجوده): رأيت بعيني حين كنت عند روضة السيِّد محمّد (عليه السلام) وكنت مشتغلاً بعمارة الصحن الشريف أنَّ بنتاً من أهل كربلاء دخلت الصحن الشريف ومعها أقرباؤها وأُمُّها وأبوها، وكانت في صرع شديد تُشقِّق ثيابها، وأُمُّها من ورائها تصرخ صرخة الوالهة الثكلى، وكان أبوها لازماً خمارها لئلَّا تبدو معاصمها.
قال: فلمَّا رأيت ذلك تغيَّر حالي وجرت دمعتي، فخاطبت السيِّد محمّد وقلت: يا سيِّدي، بعيد عن كرمك وأفضالك الجمِّ وإنعامك العامِّ أنْ تردَّ هذه المرأة المسكينة خائبة، فأدخلوها الروضة البهيَّة، فلمَّا أصبحنا رأينا البنت سالمة ليس لها أثر أصلاً.
فعل الحكيم ونخوة الكريم:
تغلب الدهشة ويأخذ الاستغراب قارئ هذه القضيَّة كما تأخذه الوحشة من الحادثة السابقة؛ إذ كيف التجأ هؤلاء المحبُّون إلى بلد وهم في فناء كربلاء محطِّ الآمال وملجأ العُمَّال؟! وكيف ذهب أهل المرأة الصالحة إلى بلد وهم بجوار باب الحوائج الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) وباب المراد محمّد بن عليٍّ الجواد (عليهما السلام)؟! أترى يئسوا من الفرج وهم بين ثرى كربلاء وفي ظلال القبَّة التي يُستجاب تحتها الدعاء؟! أوَلم يسمع باب الحوائج حاجتها؟! أم هنالك سرٌّ دعاهم إلى طرق باب آخر من أبواب الرحمة؟
لا شكَّ أنَّ محطَّ الرحمة الإلهيَّة بكربلاء، ولا ريب في تجلِّي اللطف الإلهي بباب الحوائج، ولا ضير في التطواف بين نسمات الفيض الربَّاني، فقد يحيل الغنيُّ المحتاج إلى مورد إكراماً للمحال عليه، وتنبيهاً إلى مقامه، وقد تركن وتشتاق نفس في ما ألمَّ بها إلى نسمة تحكي الصدى إذا ما أبعدتها عن المنهل عثرتها، فكوكبة من الأهل والأقرباء تُشيِّع والهةً ثكلى، ودموعٌ مؤمنةٌ تستقبل مفجوعةً بريحانةٍ سماويَّةٍ يكاد سترها أنْ ينهتك، وهمسٌ يطرق أبواب الكرام طرق المستجير، كلُّ أُولئك تظاهروا أمام باب الفضل والجود أتراهم يخيبون؟!
أيحسن ردُّ جيران الشهيد وقد أهمَّهم أمرٌ همًّا ينمُّ عن تجذُّر أصيل لمظاهر العفَّة ومحاسن الغيرة؟!
أوَ يقدم الكريم على سحق بشائر الرحمة وهو يراها تهمل من عيون أهل المعرفة؟! أوَ يحجم ذو الفضل والدِّين عن إنقاذ أنفسٍ أخزت الشيطان باستجارتها وأطاعت ربَّها باتِّخاذها الوسيلة إلى الله (عزَّ وجلَّ) وشارك المؤمنون في مصائبهم وسارعوا في عونهم والدعاء لهم؟!
لا يكون من ذوي النِّعَم إلَّا الحسن الجميل، ولا يجمل بهم إلَّا الإحسان والكرم، فلمَّا دخلوا الروضة البهيَّة أصبحوا فرحين بما نالوا مستبشرين بما وهبوا من سلامة البنت وإكرام الوفد وكرامة الربِّ.
الخامسة: قضاء حاجة مهمَّة:
قال (دام وجوده): أخبرني السيِّد الجليل العابد المتهجِّد الحاجُّ ساعد السلطان الطهراني، قال:
كانت لي بنت زوَّجتها لبعض أقاربها، فبقيت منذ عشر سنين عاقراً لم تلد، فحزنت أُمُّها حزناً شديداً بعد أنْ يئست عن المعالجة، فجئنا بها إلى السيِّد محمّد (عليه السلام) ونذرت لله إنْ حملت وولدت أبعث أربعين روبية إلى السيِّد محمّد
لتُصرَف في العمارة، فقضى الله حاجتها سريعاً ببركة مولانا أبي جعفر السيِّد محمّد (عليه السلام) فحملت وولدت.
قال: فبعثت بالمبلغ، فجعلناه في مصارف العمارة.
تجديد معنى الحياة:
الولد إشراقة الرجل المتجدِّدة، ووجدان المرأة الذي تبحث عنه، فقلب الأُمومة إيقاعٌ ينبض من بدء التكوين رحمةً وشوقاً لجنين يُظهِر تجلّيات الجنَّة في عالمنا، وحينما يستحوذ اليأس وينقطع الرجاء من الظفر بنسمة رحمانيَّة أو نعمة سماويَّة يفقد الرجال قرارهم، وتذبل النساء حيث لا يُروِّي ظمأهنَّ الدنيا و ما فيها، ولو ترى حزن النساء جرَّاء الحرمان من الولد لتلاشى صبرك أمام انقطاع الأمل والرجاء، تُرى أيستطيع رجل التجمُّل أمام مرآته وهو يقف على مشارف النهاية لذرّيَّته؟ أيستطيع أنْ يمسك أنفاسه عن اللهث وراء وجوده الذي يكاد أنْ يذهب نسياً منسيًّا؟ هنا لا مجال لتصوُّر الصمت، ولا معنى لكلمة اليأس، فقد تنقطع كلُّ السُّبُل أمامنا ولكن يبقى لنا شعاع أملٍ ينبض بوجداننا، منه نُدرِك أنَّ هناك من لديه القدرة على هبة الحياة، وله القدرة على مطِّها ومدِّها، ونشعر بأنَّ بين أيدينا وسيلة تُمكِّننا من نيل الأُمنيات، بل وتهب لنا ظلّاً تستريح فيه آمالنا التي لم تُولَد بعد.
هذا لسان العبد الذي انقطعت به السفينة حيث لا منجى ولا ملجى غير الباري تبارك وتعالى، فكيف يكون لسان العابد الذي لم يقنط من رحمة ربِّه، ولم يجفَّ لسانه من ذكره وعبادته، ولم تخل لياليه وأيَّامه من مناجاته ودعائه، يتضرَّع إليه بأحبِّ الخلق إليه، ويتنوق في طلباته، ويسأل ربَّه مِلَحَ الدنيا وأطايب الآخرة، ويتذلَّل في خشوع، ويتدلَّل في الأُمنيات، يُقدِّم القرابين، ويعقد النُّذُر من أجل دفع غوائل الشيطان أو من أجل نيل لطائف السلطان، وبنذر يظهر به
مقام الشفاعة والوسيلة وتُرفَع به الشعائر، حلَّت الألطاف الإلهيَّة بساحة بيته فقرَّ واستقرَّ؛ إذ تجلَّت الرحمة الإلهيَّة ببركة السيِّد محمّد (عليه السلام).
السادسة: شفاء امرأة من سنقر:
قال: أخبرني العلَّامة الخبير الشيخ محمّد عليٍّ الحائري السنقري صاحب التصانيف الجيِّدة، في الثاني عشر من شهر جمادى الثانية من سنة (1361هـ) في منزلي بسامرَّاء، قال:
إنِّي لـمَّا كنت في بلدة سنقر مشتغلاً بالوظائف الشرعيَّة رأيت في مدَّة إقامتي بها أنَّ ولد إمام الجمعة اشتغل بالتجارة، وكان اسمه حاجي سيِّد آقا، ولأجل معاملته مع الأجانب والفُجَّار انحرف عن دين الإسلام والمجالسة مؤثِّرة، وصار لا يعتني بالشرع ولا بأهله، وكنت منقطعاً عنه لأجل هذا، فاتَّفق أنِّي سافرت إلى زيارة العتبات المقدَّسة فرأيته في الكاظمين (عليهما السلام)، فقلت له: ما أنت وذاك؟ جنابك لا تعتقد الزيارة ولا تعتني بأمثال ذلك!
فقال لي: كان الأمر على ما وصفت، وما جئت للزيارة، وإنَّما جئت لأمر دهمني، وهو أنَّ زوجتي حدث في رحمها ما عجز الأطبَّاء عن معالجتها، وما تركت طبيباً لا في همدان ولا في كرمانشاهان إلَّا وعالجتها عنده. واتَّفقت كلمتهم على مباشرتها عند أطبَّاء سوريا، وإنِّي عازم إلى سوريا وما أدري ما يصير إليه مآل أمري هذا.
قال: فاختلج في صدري كأنِّي أُلهمت بذلك فقلت له: اسمع منِّي ما أقول لك، إنَّ سفرك هذا فيه نصب وتعب شديد، وما تدري هل تنال مقصدك أم لا، فأرى أنَّك تسافر إلى مرقد السيِّد محمّد (عليه السلام) وتوسَّل به، فأرجو أنْ لا ترجع إلَّا مقضيَّ المرام.
فقال: السيِّد محمّد من هو؟ فعرَّفته مقامه وفضله، فوقع في قلبه ما قلت له، وكنت مضطرباً ممَّا ذكرت له، وقلت في نفسي: لعلَّ المصلحة الإلهيَّة تقتضي خلاف ما ذكرت له، فسافر إلى مرقد السيِّد محمّد، وأنا رجعت إلى سنقر، فلم تنقضِ الأيَّام والليالي إلَّا ورجع مع عياله فرحاً مسروراً، فسألته عن القصَّة فقال: بحمد الله رجعنا عن مرقد السيِّد محمّد بعدما توسَّلنا به وقد شفى الله زوجتي بعد أنْ كنت آيساً عن المعالجة.
قال: فحملت المرأة وولدت ذكراً سويًّا، وجاء بالطفل وأنا رأيته، وقال: هذا من كرامة سيِّدنا أبي جعفر السيِّد محمّد، فهداه الله فصار من المؤمنين المخلصين لولاء أهل بيت العصمة (سلام الله عليهم).
يُحفَظ المرء في ولده:
أرسل الله (عزَّ وجلَّ) نبيًّا من أنبيائه ورسولاً من أُولي العزم في حفظ كنز ليتيمين من أجل صلاح أبويهما، وهناك روايات مضمونها أنَّ من أراد أنْ يحفظه الله في ولده وولد ولده إلى سبعة أبطن فليتَّق الله، فكيف يكون حال من يحمي أهل الدِّين ويحمل لواء الدعوة إلى الله ويكابد مردة الجنِّ والإنس من أجل الذود عن يتامى آل محمّد، يسوقه إلى ذلك كلمات ربَّانيَّة وحقائق إلهيَّة، فعلماء الشيعة وأمثالهم مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء المؤمنين ويحفظون شيعة الحقِّ من أنْ يتسلَّط عليهم إبليس وشيعته والنواصب، ففقيه واحد يتفقَّد يتيماً من أيتام آل محمّد المنقطعين عن مشاهدتهم والتعلُّم من علومهم أشدُّ على إبليس من ألف عابد، بل خير من أُمَّة من العُبَّاد، فمثل هؤلاء الربَّانيِّين يُحبِّبون الباري تبارك وتعالى إلى خلقه، يُذكِّرونهم آلاءه ونعماءه، ويدلُّونهم على الوسيلة التي جعلها لعباده، والباب الذي يرد إليه الآبق من خلقه، والفناء الذي يحطُّ به السائر إذ أضلَّت عنه المسالك، فينقذون أنفساً
من لهب النيران، أو يخمدون فتنة أطلقها الشيطان وجمَّلها لمن يتطلَّب السعي بين أحراش الدنيا؛ وهمُّ الشيطان وهمَّته مصروفة إلى المؤمنين وأبنائهم، قد أقلقه النور الذي يتدفَّق في ضلوعهم، وأقضَّ مضجعه النبض الخافق بين جوانبهم والذي ترتع فيه معاني الخلود في دار البقاء؛ فتبقى نافذة الأمل مشرقة وأبواب الأوبة مشرعة، فذا رجل أحكم عليه فوج من مكائد الشيطان وحزبه قبضته حتَّى صدَّته عن شرع الله (عزَّ وجلَّ) فانقطع عن إخوانه المؤمنين، فتحارف سيره لسُبُل شتَّى حتَّى دهمه أمر أفزعه من مقرِّه، وقذفه بقرب الرحمة الموصولة، مشتغلاً بنفسه وأهله متأرجحاً بين همِّه وغمِّه وبين باب المراد وباب الحوائج، ناجاه مؤمن موغل في كفالة أيتام آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قد سدَّد خطاه رجال الغيب، رأى تأرجح ابن عالم مرشد، فأشفق عليه، ممَّا هو فيه، فدلَّه على طريق يكفيه مؤنة السفر وأرق الاحتمالات، وجَّهه إلى مرقد أُلهم أنَّه الزعيم بإنجاز مطلبه والكفيل بصلاح حاله، فصار إليه زائراً متوسِّلاً به إلى الباري تبارك وتعالى، فلم تمضِ الأيَّام حتَّى ظفر ببغيته وفاز بآخرته ببركة المرقد الطاهر والسيِّد الباهر سبع الدجيل (عليه السلام).
ويكفي هذا القدر من الكرامات، ومن أراد المزيد فعليه بكتاب الشيخ محمّد عليّ الأُوردبادي عن كرامات سبع الدجيل.
* * *
نظرة مجرَّدة:
نادراً ما تظفر بشخصٍ يُنكِر وجود أفعالٍ خارقة للعادة في هذا الكون، فمن لم يشاهدها سمع أخبارها بنحو لا يرقى إليه الشكُّ، نعم يختلف الأفراد في مدى تقبُّلهم وتحليلهم لمثل هذه الظواهر، فمنهم من تأخذ بمجامع قلبه وتلبس هالة قدسيَّة في ذهنه، ومنهم من يفلسفها ويرسم تصوُّراً ما لنشأتها وذلك حسب نسيجه الفكري وتراثه الثقافي.
ويُعَدُّ وقوعُ أُمورٍ خارقةٍ للعادة من الضروريَّات القرآنيَّة، وهي تدلُّ على تصرُّف (ما وراء الطبيعة) في عالم الطبيعة ونشأة المادَّة من دون إبطالٍ لبديهيَّات العقل، وسيأتي عند البحث عن الكرامة في القرآن ما تستبين به السبيل.
فجملة من الوقائع والتي لا يساعد على جريانها نظام العلّيَّة قد حيَّرت عقول الباحثين، ولعلَّ من أبرز ما يُحيِّرهم هو تلك الفروق بين ما جرت عليه العادة وبين ما يخرقها؛ ومن أبرزها أنَّ الأسباب المشهودة والتي تجري عليها العادة يظهر أثرها بالتدرُّج ضمن ظرفٍ وكيفيَّةٍ مخصوصة، بخلاف حالة خرق العادة فإنَّ الأسباب المؤثِّرة والتدرُّج في الظهور ليسا بجليَّين فيها، بل الظاهر فيها إرادة مريدٍ، ولعلَّ عدم معرفة الأسباب هي التي ألجأت باحثي الآثار الروحيَّة في عصرنا إلى تعليلها بطاقة مجهولة تنتج من رياضات شاقَّة، وهذا المعنى فيه شيء من الحقِّ، وسيأتي ما يُؤيِّده من الكتاب العزيز وإنْ لم تتشخَّص العلَّة الطبيعيَّة لجري العادة وخرقها، وبين العادة المطَّردة في الممكنات وخوارقها يقف العقل ضاحكاً متعجِّباً من واقع لا يدري كيف يُفسِّره، ويغالب وجدانه في
الأخذ به من دون لمسات عقلانيَّة تُمهِّد لتشييد الأُسُس التي ينبغي أنْ يكون عليها الحال، فقد يناجي العبد ربَّه ويقول: «يا سبب من لا سبب له، يا سبب كلَّ ذي سبب، يا مسبِّب الأسباب من غير سبب، سبِّب لي سبباً، صلِّ على محمّد وآل محمّد...»(74)، وفطرته تُدرِك أنَّ الكون أُوجد من عدم فلتكن الخوارق كذلك، وهكذا يجيب على مكنونات نفسه وعقله، يُفتِّش عن التقدير الإلهي ويبحث عن تفسيرٍ للفعل الخوارقي يتلاءم مع نسقية الكون.
وركون العقل دائر بين أوجه واحتمالات:
الأوَّل: أنَّ كون الحدث الخوارقي ووجوده من غير استناد إلى سبب مادِّي وعلَّة طبيعيَّة يرجع إلى مشيئة الله (عزَّ وجلَّ) وإرادته، فيكون حال الأمر الحادث كحال أوَّل الخلق في بدء النشأة.
الثاني: أنَّ هنالك سبباً طبيعيًّا مستوراً عن علمنا - جعله الله - هو الوسيلة إلى أمره.
الثالث: أنْ تكون هنالك خاصّيَّة التسبيب، وهي آليَّة تحكم جملة العلاقة بين الأسباب والمسبّبات من دون حاجة لإخفاء سبب وادِّخاره من أجل خرق العادة، فمحرِّك السيَّارة مشتغل والسيَّارة جاهزة للتحرُّك ولكن إنجاز التحرُّك يحتاج لتفعيل وإذن من قائدها، وهذا يعني أنَّ الإذن في التسبيب هو محور وروح الأسباب ونبض آليَّة الكون.
الرابع: أنْ يكون لليقين والاعتقاد خاصّيَّة التفوُّق على جملة الأسباب من دون أنْ يكون هنالك سبب مستور، بمعنى أنَّ قانون السببيَّة في الكائنات محيكاً باليقين والاعتقاد، وبذا يكون اليقين والاعتقاد جزءاً من العلل الكونيَّة، أو ظرفاً يلابس مجرى التسبيب من دون تدخُّل في السببيَّة، مثل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(74) مصباح الكفعمي (ص 226).
التنوُّر (المكان) فإنَّ له ملابسة لعمليَّة إنضاج الخبز من دون تدخُّل في عمليَّة الإنضاج.
الخامس: أنْ تكون للنفس الإنسانيَّة خاصّيَّة التفوُّق على جملة الأسباب لاحتوائها ما يقتضي التأثير في سلسلة العلل الكونيَّة، وحينئذٍ تكون النفس من جملة العلل ذات السيادة.
السادس: مجموع الأمر الرابع والخامس؛ بمعنى أنَّ للنفس تفوُّقها وللاعتقاد أثره، وهما معاً جزء من نسيج العلل الكونيَّة من دون أنْ يكون وراءهما سبب مستور.
وهذه الاحتمالات تنطوي على لُبِّ الوسائط والوسائل بين الخالق والمخلوق.
وحاصل الكلام: أنَّ العلم بخوارق العادة يُعَدُّ من ألف باء المعارف الإنسانيَّة، وأنَّ العاقل بفطرته يُسلِّم بالقدرة الإلهيَّة على إحداث الفعل الخوارقي سواء بواسطة الأسباب الكونيَّة الموجدة من الباري تبارك وتعالى أو بدونها، وأنَّ هنالك نسقاً كونيًّا مراعى، وهو أمر يستدعي التأمُّل في آليَّة إيجاد الفعل الخوارقي من قِبَل خالق الكون.
الكرامة معنًى ووجداناً:
عُرِّفت الكرامة: بأنَّها أمر خارق للعادة ولكنَّه لا يقترن بدعوى النبوَّة(75)، وهي التي تظهر على أيدي الأولياء أتباع الأنبياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(75) هذا هو الفارق الأساس بينها وبين المعجزة، ومرادهم أنَّها خرق للسُّنَن الكونيَّة، فلا تمشي الأُمور بحسب المدرك من الأسباب والمسبَّبات التي جعلها الباري تبارك وتعالى في هذا الكون وإن تمشَّت مع مبدأ العلّيَّة العامِّ كما يقول العلَّامة الطباطبائي (رحمه الله) في تفسيره (ج 1/ ص 73 - 86)، وقد لا تتمشَّى مع واقع الأسباب التكوينيَّة لارتباطها بالمبدأ الأعلى كما يحلو التعبير به عند البعض.
ويمكن القول بأنَّ هذا التعريف - على الرغم من اعتباره في علم الكلام - إطلالة مشوَّشة لا تعطينا معياراً عمليًّا يُعتَمد عليه في تشخيص الواقع خارجاً هل هو كرامة أو شيء آخر؟! لأنَّ خرق العادة غير المقترن بدعوى النبوَّة قد يحصل للوليِّ من حيث إنَّه متَّبع للنبيِّ أو لأنَّه بشخصه وليٌّ لله وبغضِّ النظر عن حيثيَّة الاتِّباع للنبيِّ(76)، وقد يُحدِث الوليُّ خرقاً للعادة لا لأنَّه من أتباع الأنبياء أو لكونه وليًّا لله، بل لحصوله على بعض مفاتيح الغيب التي تُؤثِّر في الكون أو لظفر ذاته بشيء من معرفة النفس وآثارها الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الأسباب والمسبّبات المادّيَّة، فهنا يحصل خرق للعادة من دون أنْ يكون ذلك الخرق كرامة، بل إنَّ مثل هذه الأُمور قد تحدث من الكافر، وقد يكون الفعل الخوارقي أثراً طبيعيًّا ذاتيًّا أو جعليًّا اعتباريًّا لعملٍ ما يقوم به الإنسان ويُعبَّر عنه في الأدبيَّات الدِّينيَّة بعنوان الإثابةٍ على فعل الخير الحسن، وأيضاً قد يكون خرق العادة من جراء الشيطنة، فإنْ كان مجرَّد مصطلح فلا بأس به، لأنَّ المراد منه تمييز ما صدر خارقاً للعادة ملتصقاً بالأولياء، ويُسمَّى كرامة.
إذاً على مستوى البحث النظري التعريف تامٌّ ولا غبار عليه وإنْ لم يكن منجداً للعامَّة في مقام تمييز الكرامة من غيرها، وبرغم كلِّ الصور المتقدِّمة فإنَّه لا مجال للتشكيك في أصل وقوع الكرامات، فقد نصَّ القرآن الكريم على ذلك واتَّفق المسلمون على إمكان الكرامات(77)، بل ووقوعها وأنَّ الله يخصُّ بها بعض أوليائه، وما أنكرها شاذٌّ في فهمه إلَّا وقد أرساها في ذهنه علم متواتر ووجدان حاضر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(76) هذا الفرد مجرَّد فرض في واقعنا نحن، نعم يُتصوَّر له مصداق في فرد لم تدنس فطرته وسار على نهجها.
(77) حتَّى ابن تيميَّة الذي لم يُبقِ لأولياء الله أثراً إلَّا وقد حاول طمسه والطعن فيه، ولعلَّ سارية الجبل هي التي أبت عليه إنكار هذه المسألة. راجع نصَّ كلمته في الملاحق.
فخرق العادات ليس مخالفاً للعقل.
وليست كلُّ الظواهر الغريبة في حياتنا ومجتمعنا هي ناتج كرامات، بل ثَمَّة أسباب وعوامل أُخَر تتظافر لتُشكِّل ظواهر غريبة.
ولا يغيب عن بال امرئ أنَّ الفعل الخوارقي موجود لدى العوالم الأُخرى ولا يختصُّ به المسلمون وأهل الكُتُب السماويَّة، هذا ما يختلج في وجدان العاقل، وتبقى معه مجموعة من الأسئلة تحتاج لجوابٍ يأتي إنْ شاء الله، من تلك الأسئلة:
ما الداعي لإظهار الكرامات؟
وهل ثَمَّة ضرورة تدعو إليها؟
كيف تُفسَّر الظواهر الغريبة للنفس الإنسانيَّة والسلطة العجيبة لها؟
وكيف يتلقَّى الكافر جواب هذه الإشكاليَّة؟
وكيف يأخذ بها المسلم كمنتمٍ لدين سماوي؟
ولمن تكون المعجزة والكرامة؟
ومن قبلهما ما محلُّ الإرهاصات من الإعراب؟
وسيأتي مزيد بيان في الجواب عن أسئلة أُخرى تعاضد ما تقدَّم، مثل:
هل خوارق العادات تختصُّ بالأحياء من الأولياء، أم أنَّها تصدر من الأموات منهم أيضاً؟
وقبل كلِّ ذلك لا بدَّ من الالتفات إلى كلمات تقدَّم الإشارة إليها وتُعنى بتفسير الظواهر الغريبة بكونها خارقة للعادة وأنَّها لا تلغي ما أثبته القرآن الكريم وقرَّره من نظم كوني سواء في ذلك السُّنَن الكونيَّة والاجتماعيَّة.
وفي البحث القرآني سترى ما الذي طرحه الدِّين في هذا المضمار، وكيف عالج خوارق التكوين.
والتوفيق بين النسق الكوني وخوارق العادات يُعَدُّ من الوقفات المضنية لإنسان اليوم.
وأمَّا السؤال عن الآثار السلبيَّة والإيجابيَّة للكرامة على صعيد التديُّن والتربية.
فهو سؤال ناتج فيض المعرفة الإنسانيَّة وتمرُّد شيطانها على بوازغ الإيمان في وجدان العاقل، ولعلَّ مجراه على مفترق طُرُق أحدها التديُّن عن وعي والآخر موجة الانفتاح على مشارب الآخرين، وهو أمر يستوجب لوثة نفاق لضعاف العقول، و﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفاً﴾ (الإسراء: 59).
وأمَّا تحديد سمات أهل الكرامة فيُعرَف من قراءة موجبات القرب المتقدِّم.
وسيأتي الكلام عن مثبتات الكرامات عند الشاهد والغائب.
ومع تكوين صورة شاملة من هذه الأسئلة يأتي دور سؤال لُبُّه: هل سار الناس بحسب مقتضيات الدلائل، أم أنَّ الكرامات جُيِّرَت لخدمة مصالح المتسلِّطين كما جُيِّرَت الكثير من المفردات الدِّينيَّة فضلاً عن مظاهره؟
هذه مجمل التساؤلات التي تحوم حول الكرامة الماثلة في وجدان إنسان اليوم، وهنا سؤال يلحُّ على ذهن المسلم والدِّين والشريعة الذي يعمل بها.
ومفاد السؤال: على ماذا ينبغي أنْ تجري الأُمَّة في سلوكها وتربيتها؟ أعَلى الإيمان بالكرامات وما ينسج حولها من إسقاطات المؤرِّخين وأوهام العامَّة، أم يؤمن بالكرامات بعقلانيَّة أدركت قدرة الباري ولمست هبات إكرامه لأوليائه كما في إحياء عيسى للموتى، وكما في صيرورة النار برداً وسلاماً على إبراهيم، ومثل دعوته للطير بعد تقطيعه؟
وستأتي المباحث لتُعرِّف بكلِّ ذلك، فإليك الكرامة في القرآن، وبعد راجع الكرامة الإلهيَّة لترصد حركة الفعل الخوارقي.
الكرامة في القرآن(78):
تقدَّم القول بأنَّ وقوعَ أُمورٍ خارقةٍ للعادة يُعَدُّ من الضروريَّات القرآنيَّة، وهي تدلُّ على تصرُّف ما وراء الطبيعة في عالم الطبيعة ونشأة المادَّة من دون إبطالٍ لبديهيَّات العقل، فالقارئ لمسردات القرآن في الموت والحياة والرزق والحوادث السماويَّة منها والأرضيَّة يرى إثباتاً لقانون العلّيَّة العامَّة كما هو موجود في الفطرة الإنسانيَّة ومعتمد في البحث العلمي وإنْ كان يسندها في النتيجة للباري سبحانه وتعالى لفرض التوحيد، وبين تلك المسردات تجد القرآن الكريم يُخبِر بجملة من الوقائع لا يساعد على جريانها نظام العلّيَّة كما في معاجز الأنبياء(79).
والفرق بين ما جرت عليه العادة وبين ما يخرقها أنَّ الأسباب المشهودة والتي تجري عليها العادة يظهر أثرها بالتدرُّج ضمن ظرفٍ وكيفيَّةٍ مخصوصة، بخلاف حالة خرق العادة فإنَّ التدرُّج والأسباب المؤثِّرة ليسا بظاهرين فيها، بل الظاهر فيها إرادة مريدٍ. ولعلَّ عدم معرفة الأسباب هي التي ألجأت باحثي الآثار الروحيَّة في عصرنا إلى تعليلها بطاقة مجهولة تنتج من رياضات شاقَّة. وهذا المعنى فيه شيء من الحقِّ، فالقرآن وإنْ لم يُشخِّص العلَّة الطبيعيَّة لجري العادة وخرقها(80)، إلَّا أنَّه يُثبِت أنَّ لكلِّ حادث مادِّي مجرًى مادّيًّا وطريقاً طبيعيًّا به يجري فيض الوجود من الباري تبارك وتعالى، وإليه يومي قوله (عزَّ من قائل): ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(78) هذا العنوان لُبُّ بحث للعلَّامة الطباطبائي (رحمه الله) في تفسيره (ج 1/ ص 73 - 82)، وبحوثه حول آية (100) من سورة البقرة، وآية (50) من سورة طه.
(79) هذه المعاجز وإنْ خالفت نظام العلّيَّة المعروف إلَّا أنَّها ليست مستحيلة في ذاتها بنحو يُكذِّبها العقل الضروري كما يُكذِّب قول القائل بأنَّ الواحد ليس نصف الاثنين.
(80) كلُّ هذا تقدَّمت الإشارة إليه وإنَّما أُعيد ذكره لأهمّيَّته ولربط الكلام.
(الطلاق: 2 و3)، فإنَّ مفاد الآية بحسب إطلاقها أنَّ كلَّ من اتَّقى الله وتوكَّل عليه سبحانه وتعالى فإنَّ الله حسبه في أُموره ولا تقهره الأسباب الظاهرة على سطح الممكن. ويدلُّ على هذا المعنى عدَّة آيات، منها: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186)، وقوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: 60)، وقوله: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ (الزمر: 36)، ولو رجعنا إلى الآية الأُولى لوجدنا تعليلاً لإطلاق صدرها: ﴿إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾، وهذا المعنى مؤيَّد في القرآن الكريم بآيات أُخرى، منها قوله تعالى: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21)، وبحسب إطلاق الآية فإنَّ لله سبيلاً إلى كلِّ شيء حادث تعلَّقت به مشيئته وإرادته وإنْ كانت السُّبُل المألوفة مقطوعة ومنتفية عن الشيء المنظور.
وركون العقل لهذا الأمر دائر بين وجهين أساسيَّين واحتمالات ترجع إليهما بشكل ما:
الأوَّل: أنَّ كون الحدث ووجوده من غير استناد إلى سبب مادِّي وعلَّة طبيعيَّة يرجع إلى مشيئته وإرادته تبارك وتعالى، فيكون حال الأمر الحادث كحال أوَّل الخلق في بدء النشأة.
الثاني: أنْ يكون هنالك سبب طبيعي مستور عن علمنا - جعله الله - هو الوسيلة إلى أمره، وفي قوله تعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ ما يُؤيِّد هذا الوجه. ولعلَّه يعضدها الحديث المروي: «خلق الله المشيئة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة»(81)، فإنَّ الحديث يُثبِت بإطلاقه واسطة ووسيلة بين الخالق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(81) الكافي (ج 1/ ص 110).
والمخلوق وهي المشيئة، غاية ما يقال: إنَّ هذه التسبيبيَّة ليست مملوكة للأشياء، بل هي منقادة إليه تبارك وتعالى.
وعلى العموم آيات القدر تدلُّ على ذلك(82)، وفي الوقت الذي يُؤكِّد القرآن قانون العلّيَّة فإنَّه يُثبِت عدم استقلاليَّة الأسباب الموجودة في التأثير وإنَّما المؤثِّر الحقيقي وبتمام معنى الكلمة هو الله (عزَّ سلطانه)، ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: 54)، وقال تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَا لِهؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ (النساء: 78)، وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه: 50)، فإذاً الأسباب تملَّكت السببيَّة بتملكيه، وهي غير مستقلَّة في التصرُّف في عين أنَّها مالكة. وهذا المعنى المعبَّر عنه بالشفاعة والإذن، فإنَّه لا معنى لأنْ يؤذن لمن لم يعط قدرة على التصرُّف، فإذنه تبارك وتعالى رافع للمانع عن تأثير السببيَّة المودعة في الأسباب.
ومع تأكيد القرآن لقانون العلّيَّة وتأثير العلل في معلولاتها يشير إلى أنَّ من جملة المسبّبات - بل هي أقوى من الأسباب الطبيعيَّة - نفوس الأنبياء، وهي أنفس يصدر عنها أفعال خارقة للعادة، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (غافر: 78)، ظاهر الآية المباركة أنَّ معاجز الأنبياء وصدورها عنهم إنَّما هو ناتج مبدأ مؤثِّر موجود في نفوسهم متوقِّف في تأثيره على الإذن منه تبارك وتعالى، وهذا المعنى سارٍ حتَّى في السحر والكرامة، فخرقها للعادة ناتج عن مبدأ موجود في نفوسهم، غاية ما في البين أنَّ المبدأ الموجود في الأنبياء غالب وفائق، والشيء غير الطبيعي في نبوَّة الأنبياء اتِّصالهم بالمبدأ الأعلى عن طريق الوحي أو التكليم، وهو اتِّصال لم تجرِ العادة به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(82) تفسير الميزان (ج 1/ ص 77).
ولك القول بأنَّ الوحي والنبوَّة تصرف من ما وراء الطبيعة في نفوس أفرادٍ لا يختلفون عن غيرهم من الناس، لذا ترى هذا الأمر الخارق للعادة مدعماً بآيات خارقة للعادة؛ إذاً الكرامات إذا اقترنت بدعوى الاتِّصال بالمبدأ الأعلى فهي دليل على صحَّتها، ولأنَّ النبوَّة والوحي خارقان للعادة وغير منسجمين مع المدرك من الأسباب، احتاج مدَّعيها إلى التأييد بقوَّة إلهيَّة تخرق العادة أيضاً، لتكون دليلاً على صحَّة دعوى النبوَّة والرسالة، فمن يأتِ قوماً بما يصلحهم ويعلمون أنَّ صلاحهم فيما أتى به، لا يكتفون في تصديق نسبة ما أتى به إلى سيِّدهم ما لم يأتِ بما يدلُّ على تلك النسبة.
وهذه الحقيقة برمَّتها تثير في الذهن طيفاً من الاستفهامات:
كيف يتسنَّى لنا معرفة الكرامة(83) من غيرها؟
وهل ثَمَّة طريق سماوي لمعرفة واقع الحال؟
وهل يجب الاعتقاد بالكرامات؟
وإذا وجب:
ما هي حدود ذلك الاعتقاد؟
وما حكم المنكر لها(84)؟
وبالرغم من أهمّيَّة معاني الكرامة في القرآن، لا تكاد تظفر بما يغنيها بحثاً عند فلاسفة التفسير، وإنْ ساقوا أحاديث الكرامات، وفلسفوا واقعها، وصوَّروا حقيقتها، مع أنَّ القرآن قد أشار إلى بعض خوارق العادات التي وقعت للأنبياء والأولياء، فهذا إبراهيم يدعو الطير الميِّت فيأتيه طوعاً، وذاك النبيُّ يشهد إعادة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(83) لا بدَّ من التجاوز عن كيفيَّة معرفة المعجزة، لأنَّها مقترنة بدعوى النبوَّة، وهي ليست من صميم البحث.
(84) راجع الملاحق.
الخلق خطوة خطوة، وتلك مريم تهزُّ بجذع النخل فتساقط عليها رطباً جنيًّا، وهنالك غيرهم ممَّن وقع محلّاً لعناية الباري تبارك وتعالى. وقد عدَّتها بعض الأقلام لوناً من ألوان الكرامة، كنوم أهل الكهف، وجلب عرش بلقيس من قِبَل وصيِّ سليمان. وهذا تسامح في تشخيص الكرامة من غيرها، وهو يوجب الخلط في المصاديق والمفاهيم، الأمر الذي يُبعِد العقول عن مصافِّ الحقائق والوقائع، فأصل إعطاء العلم لوصيِّ سليمان كرامةً وفضلاً، ولكن نفس جلب العرش بما علمه وإنْ كان كرامة بالمعنى العامِّ إلَّا أنَّه ليس بكرامة بالمعنى المنظور من الاصطلاح(85).
وعطفاً على ما تقدَّم من أنَّ عموم الفعل الخوارقي مشار إليه في الكتاب العزيز منه ما كان على شكل كرامة وآية، ومنه ما كان على غير شكل، لاحظ قصَّة السامري المحكيَّة في الكتاب العزيز فإنَّها تعرض هذا الأمر الخطير وتُبيِّن الطريق الناصع والدواء الناجع لدفع مثل هذه الضلال ودرء هكذا فتنة، فذلك المنافق ومن خلال أخذه لقبضة من أثر الرسول، أخرج لقومه عجلاً جسداً له خوار، فإنَّ موسى عاتب قومه على ضلالتهم تلك، فتعذَّروا بما حصل من خرق للعادة على يد السامري، ولم يعذروا لكون الاعتذار لا عقل ولا تعقُّل فيه، ولأنَّ الحجَّة - وهو هارون خليفة موسى بالنصِّ - بين ظهرانيهم يدعوهم إلى الحقِّ ويُحذِّرهم الفتنة، ﴿قَالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(85) لدعوى أنَّ قدرته على المجيء به حاصلة من علمه، فلو حصل ذلك العلم عند من لا يؤمن لتمكَّن من الإتيان بالعرش أيضاً وهو لا كرامة له، لاحظ عفريت الجنِّ فلقد كانت له القدرة بالإتيان بالعرش، وهذه القدرة لا تنمُّ عن كرامة وإنْ كانت خارقة للعادة.
يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعاً * وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي﴾ (طه: 87 - 90)، وموسى لم يكن ليدع السامري، من دون أنْ يدحض باطله، ويستبين ما جاء به، ومن أين أتتهم الفتنة، ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ (طه: 95 و96)، والتأمُّل في الآية المباركة يفيد أنَّ خارق العادة التي تحصل من أمثال السامري لا واقعيَّة لها، وإنَّما تشابه الواقع، ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ﴾، عجلاً جسداً له خوار أمَّا أنَّه ذو حياة لا دلالة واضحة في البين، وسيأتي مكر الراهب المستسقي بعظم نبيٍّ، هذه حالة لخرق العادة من منافق قد ظفر بشجنة ربَّانيَّة.
وهنا يأتي ما تقدَّم:
كيف يتسنَّى لنا معرفة الكرامة من غيرها؟
وهل ثَمَّة طريق سماوي لمعرفة واقع الحال؟
وسيوافيك شرح حالها في طيِّ النظرات الآتية.
الكرامة الإلهيَّة:
كلُّ ما تقدَّم يبحث حول فاعل الخوارق، ومن أين تأتي القدرة على إحداث خرق العادة، واحتمالات نشأة الفعل الخوارقي، وهذا العنوان يتكفَّل بالإطلالة على الفعل الخوارقي ذاته، علَّه تستبين خصائص الكرامة، وتمتاز عن مشابهاتها، ولم يدر بخلدي أنْ أكتب شيئاً عن خوارق العادات وأشكالها، وإنَّما العزم كلُّه على سرد بعض الكرامات التي تكشف عن نبل صاحبها، ونيله مقاماً سامياً عند الله (عزَّ وجلَّ) دون عرض شيءٍ من معانيها؛ إذ الكرامة أمر مألوف معروف
لا يحتاج إلى بيان أو تبيين، حبوة تُعطى لأهلها وكسوة تُزيِّن الدنيا وقاطنيها، هي خلعة التقوى تكشف عن زين المؤمنين وسيماء الصالحين، بل هي رونق آيات التكوين، ومسفر الحقيقة، وتحفة الحقِّ تبارك وتعالى، ولولا أنَّ هنالك لَبس يكتنف مصداقها - بل خلط بين الكرامة وبين الآثار الطبيعية للشيء، ولولا أنَّ هنالك ضبابيَّة تريد أنْ تفتعل بين الكرامة وتأثيراتها من جهة وبين المعاني الاعتباريَّة ما لها وما يرتَّب عليها من جهة أُخرى، وانتشار حُلكة ظلام بين آثار الاعتقاد(86) التي تصاحب بعض المعتقدات وبين وجه الكرامة الناصع وسماتها - لما سطرت هذه الأحرف الساعية لكشف بعض ما لها وما عليها، وبتوفيق الله أخطُّ الكلمات:
إذ لكلِّ شيء أثر في الوجود يتحدَّد ذلك الأثر بقدره، وبنحو وجوده، فالوجود الاعتباري له أثر اعتباري في هذه الحياة، وله أثر أقوى من الاعتبار المجرَّد في عالم آخر، هذا واقع، وواقع آخر هو تجاوب تصرُّفات الإنسان مع ما حوله، وتأثير فعله فيما حوله، بل وتأثير سجاياه ورؤاه بشكل أو بآخر في الكون، وبالبناء على هذه الفكرة يمكن لحظ المعاني على صور ثلاث:
الأُولى:
معانٍ وآثار ترتبط بالعنوان المتلبِّس به، وببركة التلبُّس بالعنوان تثبت للمعنون خصائص وآثار نيطت بذلك العنوان، ومثاله عنوان العالم، وعنوان المؤمن، والكرم، واللؤم، وعنوان الزوجيَّة، وما شاكل من المعاني الاعتباريَّة التي يُرتِّب عليها العقلاء بعض الآثار الخارجيَّة أو المعنويَّة، وبعض الاعتبارات مهلكة دنيا وآخرة، ولعلَّ مبلغ الشيطان هذه الأوهام وما ينسجم معها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(86) هناك أثر مضمونه: من اعتقد في شيء أثَّر فيه.
لاحظ آثار بعض العناوين، والتي لا ربط لها بالذوات، كالضيف له حقٌّ من الإكرام، بغضِّ النظر عمَّن هو هذا الضيف، والرسول له حرمة بغضِّ النظر عمَّن هو هذا المرسل، ولذا جرت العادة بعدم قتل الرُّسُل حتَّى لو كانوا مهدوري الدم، وهذا المعنى يعتني به العرب وغيرهم، ولا يمكن أنْ أجلب مثالاً ملموساً؛ إذ العناوين ليس لها وجود خارجي ملموس، وأقرب شيء لها هو آثار الماضين وتركاتهم، ومن بعدها الرموز والنُّصُب التي تملأ المُدُن والميادين، وكالأمانة أيضاً لها أثرها واعتبارها من دون اعتبارٍ بمن له الأمانة، لاحظ ما رواه الثمالي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، قال: سمعته يقول لشيعته: «عليكم بأداء الأمانة، فوَالذي بعث محمّداً بالحقِّ نبيًّا لو أنَّ قاتل أبي الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام) ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدَّيته إليه»(87)، وتكريماً للأمانة ورد أنَّ (الأمين محسن، وما على المحسن من سبيل)(88).
الثانية:
معانٍ وآثار ترتبط بالذات، دون العناوين التي تتلبَّس بها، أي ليس للعنوان أيّ دخالة في ما يحصل للمعنونات.
وإنْ شئت قلت: إنَّ الآثار ظاهرة من حاقِّ تلك الذات ومنبثقة عن صميمها، فلا تنفكُّ عنها، حتَّى لو تقلَّبت حالاً بعد حال، كما في اللوازم الذاتيَّة للأشياء. لاحظ رطوبة الماء مثلاً، فليس لعنوان الماء دخالة في تحقيق معنى الرطوبة، وهكذا خصائص بعض العناوين الاعتباريَّة خصائص قهريًّا لا يتحقَّق اعتبار دونه.
لاحظ التبعات في عنوان البيع مثلاً، فلا يتحقَّق بيع إذا لم يكن لمالكي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(87) بحار الأنوار (ج 72/ ص 114).
(88) قال تعالى في سورة (التوبة: 91): ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾.
الثمن والمثمن حقُّ التصرُّف فيما انتقل إليهما.
الثالثة:
آثار ترتبط بالمعنون ظاهراً، ولكنَّها ليست نابعة منه، وليس له أيّ دخالة في آثارها، فيكون المعنون كالعنوان المشير إلى الاستحقاق إفاضةً وتفضُّلاً، وهذه الآثار تشبه المعجزة من جهة أنَّ الآثار تكوينيَّة، وتشبه الآثار المصاحبة للعناوين من جهة أنَّ لها منشأ يبعد عن عالم المادّيَّات، من دون أنْ تكون سمة عنوانٍ، أو لازمُ ذاتٍ، بل هي ناتج صفة نالها إنسان ما، أضفت عليه خصِّيصةٍ ذات قرار ومعين، لاحظ ما حُبِيَ به إبراهيم (عليه السلام) حينما جُعِلَ إماماً، فقد حُبِيَ بأمرٍ أولى قَسَمَاتِهِ مكَّنه من إحياء الموتى.
إذاً هنا شيئان بينهما مشاكلة ينبغي التأمُّل فيهما، هما: الصفة، والخصائص(89).
فالصفة التي ينالها أهل الأديان، تارةً تكون ناتج عنوان ديني تقمَّصوه، وأُخرى حبوة وفضلاً من الله نالوه، وثالثة ناتج مقام حقيقي بلغوه، ورابعة ظواهر شيطنةٍ ابتدعوها، فإذاً لا محيص من التمييز بين المعجزة وبين الكرامة(90)، وبين آثار العنوان المتلبّس به، والمقام الذي يبلغه الوليُّ، والشيطنة المبتدعة، ولا أقلَّ من التأمُّل في هذه الأقسام بما يمليه عقل إنسان اليوم، لذا فإنَّ جلَّ البحث تنظُّر عقلي صرف، قد يُطعَّم بشيء من الأخبار التي تعين على معرفة الواقع؛ إذ النبوَّة عقل ظاهر ومدرك باهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(89) مصبُّ الكلام في كرامة الأولياء، ولذا ينحصر الكلام على خصائص وصفات ذي الدِّين بشكل عامٍّ، سواء كان من أولياء الحقِّ أو من أولياء الباطل.
(90) قد تقدَّم أنَّ الفارق بينهما أنَّ المعجزة تسبق بدعوى النبوَّة وتلحق بها ومقامها مقام تحدٍّ، أمَّا الكرامة فليس مقامها مقام تحدٍّ ولا تلحق بدعوى، كذا ذكروا لكن الملاحظ أنَّ بعض الكرامات صادرة في مقام تحدٍّ أو تصديق دعوى الوليِّ دون دعوى النبوَّة.
فالقول بعد الاستعانة بالله والتوكُّل عليه والتوسُّل بأحبَّائه وسادة خلقه محمّد وآله (صلَّى الله عليهم أجمعين) والتقرّب بلعن أعدائهم إلى يوم الدِّين:
إنَّ دعوى شيءٍ ما على الباري (عزَّ وجلَّ) تستوجب عقلاً أنْ يكون لها شاهد مصدِّق أو مكذِّب من قِبَل الباري (عزَّ وجلَّ)، فالصادق يُؤتى ما يدلُّ على صدقه، والكاذب يُؤتى ما يدلُّ على كذبه - سواء كان ذلك الدالُّ مجرَّداً أو محسوساً - وهذه تتكفَّل بها معاجز الأنبياء والمرسَلين ومنطقهم؛ إذ هؤلاء مجابو الدعوة عند الله، كي لا يُكذَّبوا، ودائماً ترى تعاضد العقل والكرامة(91) في نصرة رُسُل الله (عزَّ وجلَّ) وأوليائه، فمنطق الرُّسُل معجزة يشاهدها العاقل والحكيم فيذعن بالنبوَّة والرسالة من قبل أنْ يرى آية ملموسة.
والكرامة كما تكون دليلاً عقليًّا لدى شريحة كبيرة من الناس، تكون منطق القلب الذي يهوى، ويحب أنْ يرى عجائب الحبِّ والاجتباء، لذا تراه يطلبها ولو كان موقناً، ويسعى خلفها لهفاً ولا يقنع، أترى نسائم الودِّ تملُّ أو تستكثر؟!
وأيضاً الوليُّ للباري له حرمة ومنزلة، تكشف عن صحَّة ما حوى، وجمال ما احتوى، وهو الغرض من هذه الكلمات، فلنرجئه إلى آخر المطاف؛ إذ البحث يستدعي كلاماً في كلِّ حالة على حِدَة، وليكن على البال جملة من المعاني:
1 - أنَّ الكرامة حالة تصدر لذي التكليف خارقة للعادة، لا يُؤمَر بإظهارها، وبهذا القيد يظهر الفرق بينها وبين المعجز(92).
2 - أنَّ الكرامة تشترك مع المعجز في جملة الشرائط والخصائص، سوى ما يمليه مقام النبوَّة وطبيعة الرسالة، وعمدة الشرائط والخصائص:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(91) بمعناها الأعمِّ الشامل.
(92) نقلها الحاجُّ حسين الشاكري في كتابه من سيرة الإمام عليٍّ (عليه السلام) عن ابن طلحة الشافعي (ص 116)، وتقدَّم ما يفيد في تمييزها.
أ - أنْ يعجز عن مثلها أو ما يشاكلها الأُمَّة التي تحدث فيها؛ إذ لو كانت مقدورة للكلِّ لما كشفت عن فضل صاحبها، فهي ناشئة عن سبب غير مغلوب.
ب - أنْ تكون من قِبَل الله تعالى أو بأمره(93).
ت - لا يُشتَرط أنْ تكون في زمان التكليف، لأنَّ الكرامة مظهر عناية الباري بوليِّه، وعنايته بوليِّه لا تختصُّ بزمان أو مكان.
ج - أنْ تظهر بنحوٍ مكتنفٍ بالوليِّ كي تدلَّ على منزلته، وإنْ شئت قلت: أنْ يكون الوليُّ هو سببها الظاهر، وموضوعها المنظور، فلا تكون كرامة للشخص فيما لو صدرت ولم يكن نفسه سببها الظاهر.
ح - لا تخلُّ بموازين العقل والدِّين؛ إذ قوام الولاية لله ربِّ العالمين بهما، فلا يُعقَل أنْ تخلَّ بهما الكرامة.
خ - أنْ لا مدخليَّة لحياة الوليِّ وللاعتقاد بولايته، فقد تتحقَّق من الوليِّ حيًّا وميِّتاً، بل ولو كان المستفيد من الكرامة جاحداً أو معانداً(94).
وصفوة القول:
أنَّ الكرامة لا تقترن بدعوى، ولا تحتاج لمقام تحدٍ كي تظهر، ولا تختصُّ بالنبيِّ والإمام، بل تحصل حتَّى للصالحين، وهي ذات مراتب، وليست الكرامة حتميَّة الوقوع بخلاف المعجز فإنَّ وقوعها حتمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(93) هذا الشرط مستدرك؛ إذ كلُّ شيء بأمره، والكرامة هبة منه تبارك وتعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنبياء: 26 و27)، وإنَّما حسن ذكره دفعاً لخوارق العادات والتي تكون آثاراً طبيعيَّة للشيء.
(94) هنالك من الكرامات ما يكون فيها مقام الوليِّ جزء سبب والاعتقاد به الجزء المتمُّ الفائدة، لاحظ الشفاء بتربة الحسين (عليه السلام) في بعض حالات الأشخاص يرتفع عنهم الضرُّ ولا يعرفون إلَّا اسم الحسين (عليه السلام)، وبعض الحالات تتحقَّق الأماني ببركة تربته الشريفة؛ إذ كانوا ممَّن يرى مقام الحسين (عليه السلام) عند الباري تبارك وتعالى، فالكرامة قد يخلقها الباري إظهاراً لمقام وليِّه وإنْ لم يكن محلُّها أهلاً لها.
ولصاحبها أيضاً شروط وخصائص، تقدَّم الحديث عنها في قرب الباري ونعوت الأولياء، وخلاصتها:
العلم، التقوى، محبَّة أولياء الله (عزَّ وجلَّ)، البراءة من أعداء الله (عزَّ وجلَّ)، أنْ يكون همُّه وهواه في رضا الله تبارك وتعالى، الحكمة، التحلِّي بالكمالات والفضائل الخلقيَّة، العدل والإنصاف.
والأوَّل والثاني متلازمان؛ إذ لا تقوى بغير علم، ولا علم بغير تقوى، والثالث والرابع هما سائق القلب وقائده إلى الهدى، والخامس وسيلته التي يعرج بها إلى المراتب العليا، والأربع الأخيرة زاده الذي يتزوَّد(95).
إلى هذا الحدِّ تميَّزت الكرامة وخصائصها، وظهرت الحالات التي تمسُّ بالموضوع وصاحبه، وحلَّ الكلام حول الصور:
فالأُولى: آثار العنوان وما يرتبط به.
والثانية: معانٍ وآثار ترتبط بالذات، دون العناوين التي تتلبَّس بها.
ويمكن القول عنهما: إنَّ هاتين الحالتين يستوي فيها المؤمن وغيره، بمعنى أنَّ الآثار مرتبطة بعنوان ما، أو ذات ما، فكلُّ من حصل على العنوان، حصل على خصائصه، وما اعتُبِرَ له، وكلُّ ما صار ذا ذات ثبتت له ميزاتها ولوازمها، ولا توجد ميزة في هذه الحالة توجب التوقُّف عندها، وغاية ما يقال: إنَّ قليلاً من التدبُّر يُمكِّن العاقل من معرفة ما اعتُبِرَ، فيقف عند حدِّه دون أنْ يتجاوز، نعم اعتبار الباري (عزَّ وجلَّ) لعناوين معيَّنة يُكسِبها خصائص قدسيَّة لا يُقاس بها اعتبار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(95) لاحظ أنَّ بين مصاديق هذه الأمور تداخلاً، وليس الغرض بيان ما لها وما عليها، ولكلٍّ منها أثر، فإذا اجتمعت حلَّ الإنسان محلَّ الكرامة وله ظهرت آثار السلامة في الدارين وصار محطَّ الآمال ومنتهى الأُمنيات، به يُتوسَّل إلى الله (عزَّ وجلَّ)، وعزبت عنه الشدائد بعد دنوِّها واحلولت له الأُمور بعد مرارتها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدَّبت عليه الرحمة بعد نفورها.
الآخرين، من هنا ترى أنَّ الاعتبارات التي حُبِيَ بها الأنبياء والأولياء، وإنْ شاكلتها الاعتبارات الأُخرى، إلَّا أنَّ لها مناشئ، ومبرِّرات، وآثاراً تتناسب والمعتبِر، ويراعي ذلك الاعتبار حال المعتبَر.
ولكن معرفة الذات وما تكتنز، تختلف من مصداقٍ لآخر؛ إذ الناس معادن كمعادن الذهب والفضَّة، منها ما هو طيِّب المنبت والمنشأ، ومنها ما هو خبيث رديء، وحينئذٍ يتوقَّف العقل بالقول بأنَّ ذات الوليِّ وخلقه، كذات بقيَّة الناس، فالنبت المسقي بالماء الأُجاج المزروع في الأرض السبخة، لا يداني النبت المسقي بالماء العذب في الأرض الكريمة رشداً وقوَّةً وثمرةً، وكذا من اعتاد أكل الرديء لا يكون جسمه كمن اعتاد أكل الطيِّب، فهما وإنْ كانا نوعاً واحداً إلَّا أنَّ جوهرهما مختلف، وبهذا تتَّضح الحكمة في حرص الشارع واعتنائه، بما به بناء بدن المؤمن(96)، وكي يتَّضح الأمر أكثر، لاحظ المأثور في أكل الأنبياء والأولياء ترى أنهم يتميَّزون عن غيرهم؛ ويوجد أفراد هنا وهناك يسعون للكشف عن قدرات البشر الكامنة(97)، فنسجوا على منوال سيرة الأنبياء ما تمليه عليه أنفسهم، وما استفادوه ممَّا سبقهم حتَّى نمت طرائقهم وشاعت أخزافهم، وكثر استعمال الناس لها في مأكلهم ومشربهم؛ إذ صادف نسج أُولئك، هوى في الفؤاد، وسبيلاً سهلاً لنيل الدنيا.
ميسم الكرامة:
وصف لحال من يؤمن بالكرامة ومن لا يؤمن بها:
النظر إلى الكرامة يُولِد شعوراً بقدرة نابضة، ويُفعِّل في النفس الإنسانيَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(96) لا تختصُّ المسألة بالأكل والشرب المادّيَّين، بل تشمل حتَّى التغذية الثقافيَّة، فبداهة تأثير العلم، والمعرفة، في سلوك الإنسان، وتكوين شخصيَّته، لا يتنكَّر لها أحد حتَّى الجهل وأهله.
(97) سيأتي التمييز بينها وبين الكرامة الربَّانيَّة.
طموحاً متقادماً، وهو الطموح بالهيمنة على الكون، ويدغدغ مكامن قدرة الإنسان وإرادته فيرمح بهمَّته كفارس متمرِّد على المألوف والعادة، ولعلَّ هكذا أحاسيس تُحرِّك الذهن، فتكون بمنزلة الإيقاع الذي يموسق الأحرف فيتحرَّك مخيال الإنسان - في حدود ما يُدرِك من قواعد تكوينيَّة - وينسج ما يضفي عليه نشوة الإبداع من غير وهم، بل من واقع لا ينضب، هذه النشوة، وهذا الشعور دليل على أنَّ خرق العادة أمر بسيط، ومدرك فطري يعايشه الإنسان في أدوار حياته(98).
والخواطر والأسئلة المتقدِّمة تجول في ذهن الكثير ممَّن سار في عيشه قرب شواطئ التديُّن، سيّما أُولئك الذين لهم مساسٌ حذرٌ بالدِّين والتديُّن(99)، هؤلاء الناس أهل دين، ولهم طبع الخوف، والحيطة على دينهم، لذا تراهم لا يقبلون من كلِّ أحد، وعلى كلِّ أحد، ولا يكتفون برؤيتهم، أو بنقل الناقل ما لم يطمئنُّوا بسلامة تلقِّي الحدث(100)، من هنا يمكن القول وبضرس قاطع: إنَّ الكرامات وتشخيص صحيحها من سقيمها يفيد فيه علم الرجال كثيراً، لما له من جنبة تطبيقيَّة، وهذه الإشكاليَّة هي مزال الأقدام وثباتها، فالقارئ لعلم الرجال، لا يقرأ تأريخ دول، أو تاريخ مسألة، بل يقرأ تأريخ تديُّن وتعقُّل؛ إذ الرجالي أشبه ما يكون راصداً لسلوك رواة الأحاديث الدِّينيَّة، فالرجالي المعتمد إذا وثَّق إنسان مَّا يركن إليه في توثيقه، وإذا طعن في آخر يُؤخَذ بطعنه(101)، وليس المقام مقام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(98) وبعبارة حِرَفِيَّة لا يجد العقل مانعاً من خرق العادة التي يعجز عنها عموم الممكنات.
(99) المراد بهم أصحاب الفنون التي لها مساس بالتراث الدِّيني، سواء كانوا فقهاء أو متكلِّمين أو رجاليِّين ويشمل غيرهم من سياسيِّين وغيرهم.
(100) وليس البحث هنا بحثاً كلاميًّا كي ينظر في أصل المسألة وجوهرها، ولا فقهيًّا كي يُحدِّد الموقف الشرعي منها، وليس ببحث رجالي أو تمحيص لسند حديث أو ما شابه كي نتلمَّس مواطن الوثاقة والوثوق.
(101) هذا التوثيق يتمُّ عبر مساجلات كلاميَّة كثيرة هذه تُؤيِّد وتلك تعارض.
تقعيد قواعد علم الرجال، أو تبيين أُطُر تمحيص الخبر ورجاله، وإنَّما كلُّ ما أودُّ الإشارة إليه أنَّ مكنون الرجاليِّين(102) فيه الكثير من التحذُّر في جانب نسبة الشيء للدِّين وأهله، لاحظ توقُّفهم في من يخالف العرف والمروءة في تصرُّفاته، حتَّى إنَّ الضرورة وهي لا تكون محملاً عندهم ما لم يقفوا على موجبها، لذا وغيره قلت: إنَّ مكنون الرجاليِّين يستبطن الحذر الشديد في تلقِّي ما يرتبط بالدِّين وأهله؛ ولعلَّ هكذا أفذاذ هم أوَّل من يطرح مثل الأسئلة المتقدِّمة - في الجملة - ويحاولون أنْ يجدوا لها أجوبة معقولة يبنوا عليها رأيهم في شخص الراوي، لذا تراهم يوصمون هذا بالارتفاع وذاك بالغلوِّ وثالث بالنصب و...
وهم في قرارة أنفسهم - وهذا شأن كلِّ العقلاء - يُفرِّقون بين الظواهر التي تُعَدُّ كرامة وبين الظواهر التي تُعَدُّ ناتج أسباب معيَّنة لا ربط لها بالكرامة، آخذين ذلك من معدن العلم والحكمة.
ويُعَدُّون الكرامة سمات الولاء والقرب، ويحسبون المنزلة الرفيعة لأصحابها، فهي فيصل في تحديد المنازل.
لاحظ قصَّة الراهب: حينما وقع قحط في زمن الحسن بن عليٍّ (عليه السلام)، في سامرَّاء، فأمر الحاكم العبَّاسي الحاجب، وأهل المملكة الخروج للاستسقاء فخرجوا ثلاثة أيَّام، فلم تُرفَع لهم دعوة، وفي اليوم الرابع، خرج الجاثليق ومعه الرهبان للصحراء، بينهم راهب ما إنْ يرفع يده بالدعاء حتَّى تهطل السماء بالماء، يفعل ذلك ثلاثة أيَّام، فارتجَّ على الناس أمر دينهم وشكَّ الكثير في دينهم وصبوا لدين النصارى، فأنفذ الحاكم من يُخرِج الزكي العسكري (عليه السلام) من حبسه، وقال له: أنْ ألحق أُمَّة جدِّك فقد هلكت!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(102) أُريد الرجاليِّين الذين قرأت لهم، وهم رجالات الشيعة، ولعلَّ ذلك طبع الكثير من الرجاليِّين، غاية ما في البين أنَّ المسألة نسبيَّة بحسب موازين التديُّن والقدرة على التعقُّل والتغلُّب على الأهواء.
فقال (عليه السلام): «إنِّي خارج غداً، ومزيل الشكّ»، فخرج في اليوم التالي الجاثليق، وأُمِرَ الناس بالخروج، وخرج مولانا الإمام الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)، في نفر من أصحابه، فلمَّا بصر بالراهب، وقد مدَّ يده أمر بعض مماليكه أنْ يقبض على يده اليمنى، ويأخذ ما بين إصبعيه، ففعل وأخذ من بين سبَّابتيه عظماً، فأخذه مولانا ثمّ قال (عليه السلام): «استسق الآن»، فاستسقى وكانت السماء مغيمة فانقشعت وطلعت الشمس بيضاء.
فقال الحاكم: ما هذا العظم يا أبا (م ح م د)؟
فقال (عليه السلام): «هذا عظم نبيٍّ من أنبياء الله تعالى، وهذا رجل من نسل ذلك النبيِّ، فوقع في يده هذا العظم، وما كُشِفَ عن عظم نبيٍّ إلَّا هطلت السماء بالمطر»(103).
من هذه القضيَّة - وقضيَّة السامري المتقدِّمة وأشباههما - تُدرِك أنَّ في الأُمَم الأُخرى أيضاً من يتطلَّع إلى خرق العادة، بواسطة إلهيَّة، ولو بالتمويه والخداع، والظواهر الغريبة الخارقة للعادة، يؤمن بها جلُّ الناس، والشاذُّ منهم يدمغه علمه ووجدانه للخوارق، نعم يختلف البشر في تفسير هذه الظواهر، وهنالك علم متكفِّل بدراسة جملة من خوارق العادات(104)، هذا العلم يحاول أنْ يُقدِّم تفسيراً مادّيًّا.
والكافر في قرارة نفسه يشعر بالقهر والعجز الذي يهيمن عليه، وهو يرى هذه الكرامات، فهو وإنْ تغنَّى بما وصل إليه من خارق للعادة، إلاَّ أنَّه يعلم أنَّها ليست بحبوة مكتسبة، بل هي قناع مزيَّف أبدعته نفس متمرِّدة وشياطين مردة إضلالاً وتضليلاً لخلق الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(103) بحار الأنوار (ج 50/ ص 271).
(104) هو الباراسيكولوجيا، يُعرِّفه د. روجيه شكيب الخوري في موسوعته سلسلة العلوم الباراسيكولوجيَّة بأنَّه نوع من علم النفس يدرس الظاهرات التي تبدو لأوَّل وهلة مستغلقة على التفسير أو فوق مستوى الفهم.
لأنَّه يُدرِك تماماً أنَّ ما يُحدِثه من خرق للعادة، يتمُّ عبر قهر النفس، وتحمُّل المشاقِّ بما يخالف الفطرة، الأمر الذي يُوجِد في نفسه قلقاً واضطراباً، وهذا ناتج من عدم السكينة والاطمئنان، وهما من لوازم الإيمان.
ويُدرِك أنَّ مظاهر سلوكه غير عقلانيَّة، أو قل: في سلوكه مسحات جنون، فتراه مشتَّت الذهن، يسبح في أوهام لا شاطئ لها، وإذا سائلته عمَّا يحمل أحالك على ظلام لا ضياء فيه، وهل يكون الكذب معبراً للحقِّ والحقيقة؟
ومن التعريف تطلُّ علينا خصائص ذوي الكرامة، فهي حبوة لوليِّ الله؛ إذ الأولياء جمع وليٍّ، والوليُّ مشتقٌّ من الوَلاء وهو القرب، كما أنَّ العدوَّ مشتقٌّ من العَدْو وهو البُعد.
فالكرامة تنمُّ عن قرب ما من الله سبحانه وتعالى، والمعجز تنبأ عن صدق الدعوى، والإرهاصات وهي: مقدّمات تُظهِر تبشيراً وتنبيهاً لمقدم رسول، أو إطلالة وليٍّ، وقد تقدَّمت صفات الأولياء وموجبات القرب من الباري.
كرامة الأحياء والأموات:
ولا تختصُّ الكرامات بأحياء الأولياء، فكما تكون للحيِّ منهم تكون للميِّت أيضاً، وقد يُعلَّل ذلك - بحسب أدبيَّات المذهب - بعدم الفرق بين الحيِّ والميِّت في هذه المسألة، بل صريح القرآن يُثبِت الحياة للشهداء، ويُثبِت تفاعلهم مع عالمنا عالم الدنيا، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 169 - 171)(105). هذا من طرف قرآني، ومن طرف روائي،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(105) وهنالك آيات أُخرى لا يسعها هذا المختصر.
فالأخبار والآثار الدالَّة على حدوث الكرامات للأولياء أحياءً وأمواتاً، تبلغ حدَّ التواتر، حتَّى إنَّ ابن تيميَّة، وهو رأس حربة التشنيع على من يقصد قبور الأنبياء والمرسَلين متوسِّلاً، يقرُّ بحدوث الكرامات(106)، وتحقُّق الإرشاد من الشهداء والصالحين، وهم في مضاجعهم، ويعرف الكثير من كرامات القبور، وإنْ كان يتفلسف بنغمة النهي عن سؤالهم أو يتغنَّى بسمفونيَّة الافتتان بما لم تقم حجَّة عليه.
وقد لا يحسن الجري وراء ما انتشر بين الناس من طقوس وعادات في سبيل جمع الشواهد الوجدانيَّة لكرامات القبور، بل تكفينا المأثورات الدِّينيَّة التي لا يرقى إليها الشكُّ، فقد ورد الحثُّ على طلب الحاجة عند قبر الوالدين(107)، وعموماً مواطن إجابة الدعاء، زماناً، ومكاناً، وصفةً، ممَّا لا يختلف فيه اثنان، فإذا كان للزمان والمكان كرامة، فالمؤمن ميِّتاً كان أو حيًّا أولى بها.
الكرامة ولوثة الشيطان:
يوجد أشخاص تظهر عليهم آثار تشبه آثار الكرامة، فيُخبِرون بماضٍ كما في قصَّة الهندي الآتية، أو يدفعون ضرًّا، ويتصرَّفون بما لا يقدر عليه مجموعات، ممَّن عاصروهم، وكأنَّ عندهم من العلم ما لا يوجد عند غيرهم، أو نالت نفوسهم من الحبِّ ما نيط به قلب الوجود، فهم يتصرَّفون في الكائنات، وكأنَّ لهم سُخِّرت، وعلى رضاهم دارت رحاها، وهم في قرارة واقعهم منكَّسِيِّ الخلقة أصابهم من الشيطان مسٌّ، فكلُّ ظاهرهم ممتع، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ (البقرة: 204).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(106) يُعَدُّ الإيمان بكرامات الأولياء من أُصول أهل السُّنَّة والجماعة، ولعلَّ ذهابه لهذا الرأي ببركة سارية الجبل، برغم أنَّ سارية الجبل بحسب بعض الروايات التاريخيَّة يرجع الفضل فيها لأمير المؤمنين (عليه السلام)، والمشتهر أنَّها لعمر.
(107) بحار الأنوار (ج 10/ ص 97).
فكيف يُعرَف الصادق من الكاذب في مثل هذه المواطن؟
هذا السؤال طالما دار في خلد الناس، فيقف أحدهم متعجِّباً من ظهور أمر خارق على يد من لا خلاق له، وهو لا يدري أنَّ ما جرى مجرَّد وهم زيَّنه الشيطان، ولو تأمَّل قليلاً، لعلم أنَّ عقول البشريَّة تكاملت، حتَّى قلَّت الحاجة إلى الحُجَج الملموسة، ولك القول: كاد أنْ يُولِّي زمن الحُجَج المادّيَّة، فالدِّين احتجَّ بالعقل، والناس دانوا بالدين بتقبُّل عقلي، وعلموا صدق النبوَّة، بلطيف إخبار النبيِّ، وبإقرار الباري تبارك وتعالى مدَّعي النبوَّة وما ادَّعى.
وأمَّا الكرامة فهي آثار محبَّة، ولتلك المحبَّة مراتب، يجد آثارها السائر في طاعة الله تبارك وتعالى، فأوَّل شيء يُركَن إليه في مثل هذه المواطن هو العقل، فإنْ كان صاحب الكرامة ممَّن هو ملتزم بشرع الله أدرك العقل ما حُبِيَ من كرامة، وهي إشراقة الاتِّباع، وإطلالة المحبَّة والانقياد.
والشيء الذي يُميِّز الصادق عن الكاذب، يختلف باختلاف المصداق، فالموغل في النفاق، لا يسهل كشف زيفه، كسهولة كشف زيف من هو على أبواب النفاق وولجه للتوِّ، الأمر الذي يتطلَّب حصافة كبيرة؛ إذ (الحقُّ لا يُميَّز بالرجال)، «اعرف الحقَّ تعرف أهله»(108)، وعليه فمن ترك زينة الدنيا، من مالٍ، ونساءٍ، وصلَّى، وصام، يُنظَر في فعله هذا، هل هو لله، أو لأجل أمر هو عنده همّه وهمّته كالرئاسة(109) مثلاً، فإنْ صادف تعبُّده من أجل القدرة، والشأنيَّة، فلا يُقبَل منه صرفاً ولا عدلاً، وحينئذٍ يكون ما تأجَّج حوله، من لهب الخوارق، نار الشيطان الغويِّ، لا ربط لها بقبس الأنبياء والمرسَلين، وإلَّا فنعم ونعمت، هذه حالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(108) بحار الأنوار (ج 27/ ص 160).
(109) وردت روايات عدَّة تُحذِّر من طلَّاب الرئاسة، وأنَّ الرجل قد يترك كلَّ شيء من أجلها. لاحظ باب طلب الرئاسة في كتاب الكافي، ولاحظ أبواب الرياء.
وحالة أُخرى يشتدُّ عزم المرائي ويحكم نسجه، بنحو لا يكاد يبين منه زيغ، ولا يبدو عليه طمع في رئاسة، فهنا لا بدَّ من النظر في نفس الكرامة التي تظهر عليه هل هو متعمِّد لها؟ محبٌّ لبروزها! كي يُعَدَّ في الزاهدين، أو أنَّها تبدو غالبة له قاهرة قواه، فإنْ كان الأوَّل فقد عرته لوثة شيطان، وأخلدته إلى الأرض، أو كادت تهوي به في مكان سحيق.
نعم هنالك من المجتبين الأخيار - وجلُّهم سلالة الأنبياء - من يُظهِر حبوته إنقاذاً لنفسٍ يحسن الرفق بها، أو تملي الإنسانيَّة مكافاتها، أو تقضي الرحمة الإلهيَّة بانتشالها، فمثل هذا الفرد لا يتهمُّ بظهور خارق العادة على يديه، وإنْ تكرَّر ظهورها، أو صرفها في خدمة الناس، ومثل هكذا إنسان قد يحتاج إليه البشر لإصلاح ما أفسدوا، وتدارك ما ضيَّعوا، وقد يقتضيه اللطف بعد تقاصر قدرة الممكنات، وتخاذل قوى العقل أمام زيف الشيطان.
الفرق بين مكتسبات الإنسان والكرامة:
لعلَّ المدخل الرائق للتفريق بين الكرامة ومكتسبات الإنسان، ما حدث لذلك الرجل الذي كان يخالف هواه، فحصلت لديه شفَّافيَّة، مكَّنته من إخبار الناس بما عملوا وما أرادوا(110)، وبعد زمن - بعد عرض الإسلام عليه وتأبِّي نفسه للدِّين - من إسلامه جرياً على عادة المخالفة، نُزِّه عن التلهِّي بإخبار الناس عمَّا أحدثوا وما أرادوا، فجاء إلى الإمام (عليه السلام) متعجِّباً ممَّا حدث له! فأجابه - ما مضمونه - أنَّ تلك القدرة كانت ثواب(111)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(110) هذا اللون من الأخبار في السابق يُعَدُّ من الخوارق والكرامات، واليوم يُعَدُّ من القدرات التي يمكن أنْ ينالها الكثير من الناس.
(111) يُطلَق الثواب ويُراد به العوض، وهذا التعبير شائع ذائع في فعل من لا نصيب له في الآخرة فيما لو فعل شيئاً حسناً.
مخالفتك لهواك؛ إذ لم يكن لك نصيب في الآخرة، وبعد إسلامك ادُّخِرَ لك ثواب مخالفة الهوى.
إذاً الطبع الأوَّلي لخفايا عمل الإنسان السويِّ، ظهور تلك الخفايا في عالم آخر، أمَّا أنَّها تبدو في عالمه هذا فليس إلَّا نحواً من تعجيل الثواب.
أمَّا الكرامة فليست ثواباً معجَّلاً، ولا آثاراً ذاتيَّة للفعل يحصل لكلِّ من كانت لديه ملكة ذلك الفعل، بل يتسنَّى القول بأنَّها ليس بحبوة مقام إلهي، بل هي تحفة الباري لوليِّه يُعطيها إيَّاه بطلب منه أو بدون طلب، لا يتدخَّل فيها في أصل حدوثها درجة إيمانه، أو علوُّ مقام، وإنْ أثَّر فيها بشكل ما.
إذن الكرامة تحفة الباري تبارك وتعالى وفاكهة الحبِّ، يستحقُّها من راقب الله وخشاه، ولم يقترح عليه ذلك؛ محلُّها ذلك الذي يرتقب الناس فيض بركاته، وتنامي عطيَّاته التي يُعجَز عن مثلها، وهو معنى بفقده تفقد الأرض نسائم الودِّ ودلائل الحبِّ.
الكرامة بين صبغتي الصدق والكذب:
كيف يُعرَف الصادق من الكاذب في مثل هذه المواطن؟
تقدَّم في ثنايا النظرات بعض الكلام حول المعايير التي تُميِّز الصادق من الكاذب، وهذه أهمّ معايير التمييز، والتي لها مساس مباشر في معرفة الكرامة(112):
1 - السكينة والاطمئنان والوقار، فعدمهما من العلامات التي تُعرِّف الإنسان نفسه، وتُعرِّف الناس بمقامه، فمن لم يتلبَّس بهما يُدرِك ويُدرِك الناس معه، أنَّه على غير الجادَّة والصواب، ولعلَّها تكون من أهمّ السمات التي تُبيِّن حالة ذوي الخوارق، وتكشف عن حال ما حفَّ بهم، وهل هو من نور الكليم أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(112) لا حاجة لبيان أهمّيَّة العلم بالشرع والشريعة، والعلم بسيرة من يظهر خوارق الأفعال لمعرفة حقيقة ما يبديه من خوارق، لأنَّهما من الضروريَّات.
نار اللئيم، وهذا أمر يستدعي الوقوف على حال السكينة وخصائصها، وهي وقفة خارج موضوع البحث، لكن تمسُّ الحاجة إليه، فالسكينة نوع خاصٌّ من الطمأنينة النفسانيَّة - غير الذي نلمسه عند الشجاع في الحروب - إلى ما آمنت به فما تنساه، وهي لا تُعطى إلَّا لفئةٍ خاصَّة عندهم إيمان راسخ، ولا يرتكبون الكبائر، قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ (التوبة: 25 و26)، بل السكينة متفرِّعة عن الإيمان، فهي صفة تحتاج في وجودها إلى مرتبة من مراتب الإيمان، قال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾ (الفتح: 18)، وهي مع ذلك توجب ازدياد الإيمان، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (الفتح: 4)، وما كانت كذلك إلَّا لكونها مصاحبة لما جاء به الأنبياء، وإليه يشير قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة: 248)، ومن ذلك كلّه يظهر أنَّ السكينة من السمات البارزة التي يتميَّز بها صاحب الكرامة الإلهيَّة(113)، فإذاً ظهور آثار السكينة والوقار من السمات التي يتحلَّى بها أهل الكرامة والولاية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(113) هذا فيه خلاصة بيان السيِّد الطباطبائي (رحمه الله) في ميزانه حول السكينة، وهو جدير بالمطالعة.
2 - خلطه بين حبِّ أولياء الله وحبِّ أعدائهم أو عدم بغضه لأعداء الله، مع دعواه المحبَّة لأولياء الله؛ ويُعَدُّ هذا اللون من التخبُّط من أبرز العلامات، لأنَّ صاحبه يخالف ما هو صريح القرآن في باب المحبَّة والمودَّة، قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (المجادلة: 22)، والجمع بين محبَّتين محبَّة الحبيب ومحبَّة عدوِّه، يخالف ما عليه طقوس الفطرة في هياكل الحبِّ ومعابده.
3 - ترى المتميِّز في تدليسه منهم - وهو الذي يُغلِّف باطله بشيء من الهدى - عازفاً عن الدنيا وملذَّاتها، لكنَّه أسير التأمُّر والرئاسة، وهي أُنوثة الدنيا التي لا تقاوم.
فمن كان سلوكه طبق موازين الشريعة مخالفاً لهواه ساعياً لمرضاة ربِّه - وإنْ كان رئيساً مطاعاً - فغير مدلِّسٍ، ومن كان في سلوكه لاوياً للشريعة من أجل نفعه فهو مدلِّس، سواء كان عارياً من ثوب الرئاسة، أو متقمِّصاً لبعض حليِّها.
4 - ومن أهمّ ما يميَّز الكافر واقعاً، والمسلم ظاهراً، بروز صفات النفاق فيه، تراه مظهراً للإيمان، لكن عنوان صفحته وصبغة وجهه، هي عين علامات النفاق يطلب أجر فعله عاجلاً، وقد بيَّنت الأحاديث النبويَّة الكثير من علامات النفاق وموجباته، فمن علامات النفاق بغض الوصيِّ، ومن موجباته سماع الغناء فإنَّه يُنبِت النفاق في القلب كما يُنبِت الماءُ الزرعَ.
5 - روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهد الأشتر من (أنَّه يستدلُّ على الصالحين بما يجري الله تعالى لهم على ألسنة عباده)(114).
وهذه من العلامات التي لا تحتاج لمزيد بيان، ويكفي مراجعة ما تقدَّم من كلمات ليتَّضح حال الصالحين.
فذلكة القول:
إنَّ الكرامة الربَّانيَّة تظهر على يد أهل الحكمة والتقوى الذين همُّهم رضا الباري تبارك وتعالى، والذين لا يُنكِر العقل من سيرتهم شيئاً، ولا يميل بهم الهوى عن ربِّهم ميلاً، وأمَّا من تشبَّه من الناس بهم، فهؤلاء وإنْ أشكل على الجلِّ معرفتهم إلَّا أنَّ أهل العلم والتقوى يُدرِكون زيفهم وضلالهم، لذا تشخيص عبد الحقِّ من عبد الضلال، يحتاج إلى علم ومعرفة بما يريد الشرع، ويحتاج لمعرفة ضلال إبليس كيف يكون وأين يكمن، وهذا يختلف من فرد إلى فرد، سواء في ذلك المميِّز والمميَّز؛ إذ كلَّما أوغل المرء في نفاقه، كلَّما صعب كشف زيفه، فاحتاج إلى عالم عاقل يميط لثام جهله، بل يبلغ الأمر إلى حدٍّ لا يتمكَّن معرفة واقع الشخص سوى الذي خلقه، لذا قال علماؤنا (رضوان الله عليهم) بأنَّ تعيين الإمام لا يكون إلَّا بيد الله سبحانه وتعالى، وبذلك وردت الأخبار عن أئمَّة الهدى (عليهم السلام)، ولك في قصَّة موسى واختياره من قومه سبعين رجلاً(115) خير شاهد على ما يقوله علماؤنا الأبرار، فلا يُعقَل أنْ يكون وليًّا لله وهو عدوٌّ لآل الله، ولا يُعقَل أنْ يكون وليًّا جاهلاً، لا علم عنده ولا معرفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(114) نهج البلاغة (ج 3/ ص 83).
(115) قال تعالى: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾ (الأعراف: 155).
لديه، وأيضاً كيف يصبح وليًّا لله وهو يُظهِر نفسه بالكرامات من دون موجب لإظهارها؟
ومن طرائف طُرُق الكشف أنَّ ما يخفيه الرجال يظهر على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم، ولكن هناك من يُتقِن إخفاء قسمات الوجه، وفي قباله هناك من يُتقِن كشف ما أخفي، وكلاهما يحتاج إلى علم ومعرفة، ولعلَّ هذا من المواطن التي ينبغي في تشخيصها الرجوع إلى العالم.
وأهمُّ السمات التي يمكن الركون إليها حين القيام بالفحص عن الكرامة، النظر إلى صاحب الكرامة، فإنْ كانت تعلوه السكينة والوقار والاطمئنان - كما تقدَّم في الحديث عن فعل الكافر للخوارق -، يُحِبُّ أولياء الله ويبغض أعدائهم، فهو ممَّن يُرجى صلاحه، وإلَّا فلا.
كرامة العقيدة والمعتقد(116):
في بعض الحالات لا تكون المسألة، مسألة كرامة أو لوثة شيطان، وإنَّما أثر لعقيدة إنسانٍ مَّا في شيءٍ مَّا، وقد ورد في الأثر عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «المرء يُحشَر مع من أحبَّ حتَّى لو أحبَّ أحدكم حجراً حُشِرَ معه»(117). إنَّ من اعتقد في شيءٍ أثَّر فيه، وهذا المعنى تارةً يرتبط بالحبِّ، والحبُّ يُشجِّع الجبان ويُجبِّن الشجاع، وأُخرى لا يرتبط بجانبٍ قلبي، أو شعورٍ وجداني، ولك القول: لا يرتبط بمكامن الحبِّ، وإنَّما يرتبط بجانبٍ نفسي وذهني، وقد يروق للبعض التعبير عنه بأنَّه يرتبط بقطع الإنسان ويقينه، وكلا الصورتين لهما تحقُّق في الخارج، والمهمُّ معرفة الفارق بين كرامة الوليِّ وناتج العقيدة مع قبول التداخل بينهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(116) يُفرِّق بعض الباحثين بين أثر الإيمان وأثر العقيدة، وإنَّ جلَّ ما في أيدي الناس أثر للعقيدة لا للإيمان.
(117) تفسير ابن عربي (ج 1/ ص 42).
وفي محاولة تلمُّس الجواب ينبغي ألَّا نغفل عن حقيقة هي أنَّ أثر العقيدة - سواء كان منشأها القطع أو كان منشأها الحبُّ - آني مرتبط بحياة المعتقد فيما لو لم تزل عقيدته، بينما كرامة الوليِّ غير آنيَّة.
وأيضاً لا تُنْكَر آثار الاعتقاد في حياة الإنسان وتعقُّلاته، ولا يصحُّ إهمال ما يقوم به الاعتقاد من ربط الإنسان بالباري تبارك وتعالى، فإنَّ لذلك الربط بعض الآثار وإنْ لم يكن متعلَّقه سليماً، وأنَّ الحبَّ والقطع وإنْ أثَّرا نوعاً ما في خرق ما هو متعارف، وقد يصلان إلى درجة تسخير الأشياء(118)، لكنَّهما لا يصلان إلى درجة التصرُّف في الكائنات إلَّا إذا ارتبطا بالغيب؛ إذ هما من المعاني الإضافيَّة ذات التعلُّق والتي لمقدار تعلُّقها ولمتعلَّقها أهمّيَّة عظمى في تحديد قدر آثارها ومقداره، وهذه الكلمات تكفي في لفت النظر إليهما.
ويمكن التمييز بين الحالتين - حالة الاعتقاد وحالة الوليِّ الحقيقي - أنَّ الاعتقاد مرتبط بالمعتقِد وقوَّة المعتقَد، فإذا قوي الاعتقاد ووقع على مصداقه الواقعي ظهر ما يوافق الحكمة والمبتغى، وإذا قوي الاعتقاد ولم يقع على مصداقه الواقعي فهنا قد يكون له أثر لكن ذلك الأثر ليس للمصداق الخطأ، بل هو أثر للمقصود الواقعي وإنْ أخطأ المكلَّف في إظهار مقصوده لاشتباهه في التطبيق، ورحمة الباري تبارك وتعالى ولطفه تُدرِك الداعي بمجرَّد التفاته إلى بارئه حتَّى لو كان فرعون(119).
فلو توسَّل إنسانٍ مَّا برجلٍ، وهو صادق في توسُّله، ويقطع بأنَّه وليٌّ لله، وكان المتوسَّل به عدوًّا لله في الواقع، فإجابة الدعاء حينئذٍ ليست كرامة ولا إجلالاً لذاك المتوسَّل به ظاهراً، بل من أجل الداعي الواقعي الذي تحرَّك به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(118) لاحظ آيات التسخير فإنَّها تفيد في المقام.
(119) ورد هذا المعنى في الأدعية وأخبارها، لاحظ اللحظات الأخيرة من حياة فرعون وقارون.
المتوسِّل، وإنْ أخطأ في تطبيقه، ولا يخفى أنَّ هذا المرء، وإنْ ضلَّ السبيل، لكنَّه لا يُعدَم من الرحمة الإلهيَّة نسيم ينقذه، وهنا وقع لَبْسٌ عند كثير من الناس في الوليِّ وكراماته، حيث رأوا أولياء الله تُحبى بالكرامات، وبين الخلق من يبدو في جوانبه حباء، وهو خلو من كلِّ ما يمتُّ لله بصلة، والذي يرفع اللبس هو ما نادى به القرآن الكريم من التأمُّل والتدبُّر(120)، وما حذَّرت منه الروايات من أنَّه لا يعرف المؤمنُ الحقَّ إلَّا بعلامات دُلَّ عليها، وتقدَّم ذكر شطرها الأكبر، وأهمُّها كون سيرة المتوسَّل به إلى الله، مسلِّم أمره إلى بارئه، توافق أفعاله أحكام الشريعة، وتبتني وفق أُسُس العقل، والعقل عليه سمة الإيمان ووقاره لا نفاق الشيطان ودثاره.
أمَّا من يردُّ على الله أمره، أو من يسعى في تطيب ذكره ويقترح على الله بهواه، فلا كرامة له.
إذاً من البدء نحتاج إلى تعلُّم الدِّين، وتعلُّم كيف يمكن نيل التديُّن، وينبغي الالتفات إلى سيرة العبد الذي نعتقد بأنَّه وليٌّ هل تتوافق مع الشرع والشريعة أو لا تتوافق معها، وأحسن ما قيل من كلمات تشمل هذا الباب وغيره، كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحقُّ لا يُميَّز بالرجال، اعرف الحقَّ تعرف أهله»(121).
أثر الكرامة في حياة المؤمن:
تقدَّم أنَّ وجود هذه الظواهر الخارقة للسُّنَن الكونيَّة، لا يلغي ما أثبته القرآن من نظم كوني، سواء في ذلك السُّنَن التكوينيَّة أو الاجتماعيَّة، بل على العكس تماماً بإثبات خرق العادة تُقرَّر قدرة الباري تبارك وتعالى، وهيمنته على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(120) راجع قصَّة السامري وما أبدع، ولاحظ معالجة موسى وهارون لتلك الفتنة.
(121) بحار الأنوار (ج 40/ ص 126).
مجاري الأُمور، وأنَّها ليست خارجة عن طوعه؛ إذ إنَّ خرق العادة والسُّنَن الكونيَّة كلَّها ترجع إلى سبب واحد هي إرادته سبحانه وتعالى، وليس بينها ما هو متمرِّد عليه؛ على أنَّ خرق العادة لا يتضارب مع السُّنَن الكونيَّة، لأنَّه وإنْ كان ظاهره المنافاة لكن قد تكون آليَّته وفق تلك السُّنَن.
فما طرحه الدِّين في هذا المضمار من توافر خرق العادة لأوليائه، جزء من تقرير حقيقة قرآنيَّة مفادها، أنَّ الكون مخلوق من أجل الإنسان، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 29)، فهي تحت إرادته وطواعيَّته، نعم تعتري الدهشة الخلق من خوارق التكوين، وقد عالج الكتاب العزيز هذه الدهشة بالنصِّ على قدرة الباري تبارك وتعالى وعلى فيض رحمته وبركاته: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ (هود: 73).
إذاً للكرامة حقيقة واقعيَّة، تربط وتُنشئ المؤمن في محيط النِّعَم الإلهيَّة، فلا شيء يقف أمام الملتجأ، ولا شيء يحول بين العبد وبين الوصول إلى مرامه، طالما فوَّض أُموره إلى الباري (عزَّ وجلَّ) إلَّا أنْ تحوله بينه وبين ربِّه خطاياه.
فالكرامة في نفس الوقت، تُري الكافر فسحة الدِّين والتديُّن، وهيمنة معطياته على الخليقة، وترزي بتقوقع الكافر في بؤرة منقطعة عن فيض السماء، فللكرامة آثار حيويَّة تسقي روح الإيمان في الإنسان، وتجعل عهد العبد بربِّه متجدِّداً كلَّ آنٍ لا يُنغِّصها وسوسة شيطان، فـ ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَا ذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (البقرة: 26 و27)، هنا يتجلَّى بوضوح أنَّ الكرامة بمثابة معيار للقرب من الباري تبارك وتعالى، وأنَّ مثل هذه الظواهر ينمُّ عن وجود مقياس للسلوك الدِّيني، يختلف كمًّا، وكيفاً، ودرجةً، من فرد لآخر؛ لأنَّ أولى سمات أهل الكرامة سمات التديُّن بدين الله، والسير على نهج عباده المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
إذاً الكرامة ميسم القرب من الباري تبارك وتعالى، ونبتة الفضل والتديُّن.
ومن خصائصها المهمَّة وآثارها الخطيرة في حياة المؤمن أنَّها سيماء الحقِّ والحقيقة، ومع تحقُّق الكرامة للعبد وحدوثها له يُدرِكها العاقل بعقله، والعالم بعلمه، والمؤمن بإيمانه، وكلٌّ من العقل والعلم والإيمان يشهد بصدق صاحبها، وفي الخبر يشتكي ابن مسلمة لأبي عبد الله (عليه السلام) ويقول:
يُوبِّخونا ويُكذِّبونا أنَّا نقول: إنَّ صيحتين تكونان.
يقولون من أين تُعرَف المحقَّة من المبطلة إذا كانتا؟
قال (عليه السلام): «فماذا تردُّون عليهم؟».
قلت: ما نردُّ عليهم شيئاً!
قال (عليه السلام): «قولوا : يُصدِّق بها إذا كانت من كان يؤمن بها من قبل، إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [يونس: 35]»(122).
الكرامة ظلال الرحمة:
الأولياء منبع الكرامة ومصدرها المشرق في أُفُق الكون الوسيع، لكن رؤية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(122) بحار الأنوار (ج 52/ ص 299).
الكرامات والالتفات إليها يكثر عادةً بين أُولئك الذين في نفوسهم صفاء، لم يهجم عليهم شكُّ المشكِّكين، ولا لبس الملبِّسين، وهؤلاء ثُلَّة من الذين امتزجت عقولهم بودِّهم ومحبَّتهم.
ولا يقلُّ ظهور الكرامات عند من كَثُر تعاطيه لمقرَّرات العقل، أو عالجت نفسه، وكابدت وساوس المشكِّكين وإنْ قلَّت حاجته إلى تجلِّي الكرامة، وبقدر ما كابدوا وتعاطوا تقلُّ حاجتهم لتجلِّي الكرامات، ولا يعني ذلك أنَّهم مرضى العقيدة، بل بالعكس فإنَّ الكثير منهم ممَّن بنى عقيدته بناءً محكماً.
ولا شأن لهذه الكلمات بمن أضلَّه الشيطان وأخذ طرفاً من هنا وهناك وهو يحسب أنَّ لديه علماً، فهكذا شخص قد يؤمن بالكرامات، وما يرى منها إلَّا أنَّ واقع مرماه آثار العقيدة فقط.
والثُلَّة الأُولى منها من بُنيت عقائده، ومنها من لم تُبنَ لكن مظهر الودِّ لديها أجلى، فبالتالي هي أمسُّ حاجة لهذا اللطف وأقرب إلى نبعه، فمكمن الكثرة والقلَّة هو شدَّة الاعتقاد والحبِّ وضعفهما.
وهناك فرق بين ارتباط هذه المسألة بالعلم والجهل، وبين ارتباط أشباهها كلوثة الشيطان - من سحر وشعوذة وما شابه - بالعلم والجهل؛ إذ السحر يكثر بين الجُهَّال، وأمَّا الكرامات فإنَّها تسعف العالم وتسعف من قلَّ حظُّه من العلم لكنَّه لم يقصر قلبه عن الحبِّ، والحبُّ لازمه الانقياد واتِّباع أوامر الله.
والقرآن الكريم يُثبِت خصائص كإحياء الموتى والإنباء بالغيب لسادة العلماء ولباب الخلق، وليس إثباته هذا لمن قلَّت معرفته، بل إنَّما يُثبِتها لمن بلغ الغاية في العلم والمعرفة، لكن كما استفاد منها العالم الفاضل كذا استفاد منها الكثير من الجُهَّال.
إذن الرحمة الإلهيَّة تتجلَّى في الأولياء وتمتدُّ ظلالها، فينعم فيها أهل الودِّ والحبِّ وجماعة كثر ممَّن تسعهم الرحمة وهم في منأى منها.
الكرامة وسحر بني إسرائيل القديم منه والجديد:
لعلَّ الساحر ارتكز في بدايات عمله السحر على فكرة قلب الحقائق وجعل ما ليس بواقع واقعاً بأيِّ وسيلة وجد إليها سبيلاً، لذا ترى السحر يكثر بين من يقلُّ عنده العلم ويسيطر عليه الوهم، وهمُّه الأساسي تسيير رؤى الناس وكسر نفوسهم بنحو يجعلهم يعيشون في واقع افتراضي منقطعين بذلك عن الواقع الخارجي.
ومرَّت صنعة السحر بأدوارٍ تبعاً لمستوى درك الفاعل والمنفعل، ففي مثل حال بني إسرائيل طلب فرعون أُناساً يواجهون موسى تتوافر فيهم خصلتان: إحداهما العلم، والأُخرى السحر، فالشخص الذي يركن إليه فرعون في المواجهة سحَّار عليم(123)، أي يُفتَرض لديه معرفة كبيرة متميِّزة وقدرة قويَّة عجيبة على الخديعة والتأثير في عقول الناس، وحينما بدأت المواجهة في ذلك اليوم المشهود اجتاح الناس سيل من الروابط عبَّرت عنها الآثار بأنَّها حبال مجوَّفة قد مُلِئَت زئبقاً ووُضِعَت على صفيح ساخن، ومن شدَّة الحرارة تحرَّكت - وهذا جانب معرفي في عمل الساحر -، وقد صاحب تلك المواجهات تمتمات جوفاء توهم بأنَّ المشاهد الحقيقيَّة التي يراها الناس هي ناتج قدرة الساحر وكلماته التي يتفوَّه بها، وبهذين الأمرين سيطروا على عقول الناس واسترهبوهم.
هذه هي حقيقة الأداة التي أخضعت الكثير من الناس ولعقود طويلة لسلطان السحرة إبَّان حكم الفراعنة، وفي قبالهم موسى الذي ألقى الحقيقة الناصعة ومن دون أنْ يُخدِع أحداً، فلقفت تلك الحبال، وألفت انتباههم إلى زيف ما يرون، فهنا أرجع موسى الناس إلى واقعهم وأيقظ عقولهم وبعث فطرتهم، فأوَّل من آمن به من يعرف أنَّ السحر خداع ومكيدة فقط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(123) من لطائف القرآن - وكلُّه لطائف - أنَّ هذا التعبير ورد في سورة الشعراء، و«من الشعر حكمة ومن البيان سحراً» كما روي عن النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
والغرض أنَّ في زماننا هذا نرى أنَّ صنعة السحر تغيَّرت ملامحها كثيراً حتَّى بدت وكأنَّها شيء آخر غير ما حفظته آثار السابقين، لكن لُبَّ الفكرة يتمحور حول شيء واحد وهو علم ومعرفة وتمويه للحقيقة، تلك هي صنعة الإعلام بأقدم وسائله وبأحدثها - الإشاعة والاتِّصالات -، والملفت للنظر أنَّ السحر في القديم اشتهر به بنو إسرائيل، واليوم هم الذين يسيطرون على الإعلام.
وهنا قد يقف القارئ متسائلاً: ما الرابط بين هذا الموضوع وبين موضوع الكرامة؟ وأيُّ علاقة بينهما؟
لن يطول اللبث في المقام، ولن يجهد الفكر في معرفة العلاقة وإنْ احتاج إلى مقدّمات تُنبِّه على مكمن السرِّ وموطن الحقيقة، وتلك المقدّمات هي:
1 - أنَّ مصير الناس في هذه الدنيا بين إصبعين: الفراعنة والأرباب، ولك القول: إنَّه بين الساسة والرهبان (علماء الدِّين)، فمسرح الفراعنة الحاجات المادّيَّة، ومسرح الأرباب الحاجات الروحيَّة، وبين الفراعنة والأرباب تبادل في الوظائف وتنسيق ما.
2 - هناك مقالة قديمة مشهورة تختصر واقع الدُّوَل مفادها أنَّ الناس يُسيِّرهم الإعلام، والإعلام تُسيِّره الدولة، والدولة تُسيِّرها الاستخبارات، وهذه المقولة تختصر مفاد هذه المقدّمة، وهو أنَّ الإعلام عنصر أساس في تسيير الأُمور، وأهمّ أدواته الإشاعة، وأخطرها الإشاعات ذات الطابع القدسي والدِّيني.
3 - سلطان الفراعنة ينبع من قوَّتهم المادّيَّة بطشاً وفتكاً، وسلطان الأرباب ينبع من قوَّتهم الروحيَّة ومن دعوى الارتباط بالمبدأ والغيب.
4 - كلتا السلطتين بحاجة إلى برهان وسلطان يتناسب مع حجم الفكرة المعلنة وناموسها، ويتوافق مع الميدان الذي يجري استخدامه فيه.
5 - يتَّفق أهل الأديان بل كلُّ العقلاء على أنَّ مدَّعي النبوَّة لا بدَّ وأنْ تأتي السماء له بشاهدٍ يشهد بصدقه أو بكذبه، بينما مدَّعي الارتباط بالدِّين وبالسماء وإنْ رجع في فحواه إلى دعوى الارتباط بالباري تبارك وتعالى ولكن العقلاء لا يطالبونه بشهادة سماويَّة تشهد بصدق الدعوى أو كذبها، لعدم ابتناء مصيرهم على مدَّعي الارتباط بالسماء.
6 - الأرباب ومن خلال تمويههم يُقدِّمون شهادات زور توحي إلى أوليائهم أنَّها شواهد صدق على شرعيَّة مقاماتهم، وبالتالي تكون أقوالهم وأفعالهم بل ورغباتهم مورد قدسيَّة.
7 - في مقابل تمويهات أهل الباطل يحتاج الناس - وهم ذوو مستويات مختلفة في الدرك فبين قطَّاع وظنِّين وشكَّاك - إلى لمس آثار القرب من الباري سبحانه وتعالى ودلائل ذلك القرب.
هنا تتوقَّف الكلمات عن سرد المقدّمات ليبدأ القاري بالتأمُّل.
تُرى ما هو الشيء الذي يجلب القوَّة والمصداقيَّة للأرباب أو يوهم بهما؟
وهل يوجد ثالث غير عون الحقِّ تبارك وتعالى أو زيف الشيطان في الساحات الدِّينيَّة؟
وهل يمكن أنْ يسيطر الأرباب على عقول الناس ومصيرهم من دون تمويه؟
وهل يغني التمويه عن سوط الفراعنة؟
وهل هنالك حاجة إنسانيَّة للمس برد الغيب وندى الحقيقة؟
إذا عرفنا أنَّ السيطرة على عقول الناس باسم الدِّين تستلزم توافر وسائط غيبيَّة لدى المتولِّي لهذه المهمَّة؛ إذا عرفنا هذا علمنا أنَّ مدَّعي الدِّين لا بدَّ أنْ يحيط نفسه بهالات غيبيَّة تقتضي ظهور آثار السماء عليه، وهذا شيء لا يتمكَّن منه
المضلُّ، فيسعى للتمويه والمكر والخديعة، وليس بين يديه سوى السحر بأطواره المختلفة ومسمَّياته المتنوِّعة، ولكن لُبَّه شيء واحد هو المكر والخديعة والتمويه، هنا نُدرِك حسَّاسيَّة دعوى السحر وأثر فاعله، سواء كان ذلك الساحر يلبس عباءة مزركشة أم مدرعة صوف، وهنا نشعر برياح الكرامات التي تُدَّعى لأهل الدِّين، وهي نسيمٌ يحنُّ إليه الكثير من الناس وترتاح إلى هباته قلوب جمَّة، هنا نعرف أنَّ الإنسان يستطيب التديُّن كما يستطيب غدوه بندى الصباح الباكر.
وصفوة القول:
أنَّه كما يعين الشياطين أعوانهم بالمكر والخديعة المناسبة لشكل ومضمون التضليل، كذلك يُعان وليُّ الله (عزَّ وجلَّ) بما يناسب مقامه وقربه من الباري سبحانه وتعالى وبما يلائم دينه الذي ينتمي إليه وينادي به، لذا ترى تناسقاً بين حُجَج العقل وحُجَج الدِّين، وتلمس انسجاماً بين مفردات الدِّين والتديُّن والحقائق الكونيَّة.
كما ترى تنسيقاً بين الأرباب والفراعنة، ففرعون يحتاج لسدِّ جوعة روحه ولو بكذبة دينيَّة، ويحتاج إلى الأرباب كي يُسكن خواطر الناس ويلهيهم عمَّا يستبيحه بملكه الغشوم، هذا من جهة فرعون.
وأمَّا الرهبان فيُدرِكون أنَّ ما لديهم من مكر وبضاعة لا تفي بسوق الناس إليهم، فهم محتاجون لسوط فرعون من أجل سدِّ عوار الخديعة وتقوية الزيف الذي نسجوا.
والنتيجة: كما أنَّ للشيطان سبيلاً في نصب قطَّاع طُرُق الهداية وهو المكر والخديعة، كذلك للرحمن سُبُلاً في قطع دابر الشياطين أُسُّها حُجَج العقل ودلائله، وروحها كرامات أوليائه، فلا محيص عن تناغم بين هذين ليُعرَف المحقُّ من المبطل؛ إذ كان السحر مطيَّة الشيطان.
وإذا عرفت معنى الكرامة، وعلمت خصِّيصتها التي تنفرد بها عمَّا يشاكلها، وأدركت آثارها، وألممت ببعض مقاماتها، وتبيَّن لك شأن الكرامة ومصدرها، إذا عرفت كلَّ ذلك تأتي ساعة الحديث عن كرامات الأولياء بشكل مستمدٍّ ممَّا تقدَّم البحث فيه، والمقام يخصُّ نجل سادة بلغ شأوه الدِّيني قاب قوسين أو أدنى من مقام الإمامة العظمى وقصرت عن عظمته خطى الدنيا؛ إذ لم يحل الموت بينه وبين الجود والعطاء، فلا بدَّ وأنْ تكون الكلمات تستشفُّ بعض ملابسات الكرامة.
الملازمة بين الكرامة والقرب من الباري:
بادئ ذي بدء يمكن القول: إنَّ الكرامة مظهر من مظاهر القرب والدنوِّ من الباري، ولكن ليس ثَمَّة ملازمة بين مقام القرب وظهور الكرامة، فقد يكون ثَمَّة وليّ لله ولا تظهر له كرامات، والعقل لا يرى ملازمة بين الأمرين، بل هو مقتضى الإخفاء في الحديث المروي عن أبي جعفر، عن آباءه، عن عليٍّ (عليهم السلام): «إنَّ الله أخفى أربعة في أربعة: أخفى رضاه في طاعته، وأخفى سخطه في معصيته، وأخفى إجابته في دعوته، وأخفى وليَّه في عباده، فلا تستصغرن عبداً من عبيد الله فربَّما يكون وليَّه وأنت لا تعلم»(124)، نعم إخفاء الوليِّ لا يعني أنَّ الوليَّ دائماً وأبداً يخفي على الناس، فقد ورد على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام): «وإنَّما يُستَدلُّ على الصالحين بما يجريه الله لهم على ألسن عباده»(125)، فهذه الرواية وإنْ كانت تتحدَّث عمَّن هو أعمُّ من الوليِّ، والعامُّ لا يُثبِت الخاصَّ إلَّا أنَّ القدر المتيقَّن من الصالحين هم الأولياء - كلُّ وليٍّ صالح ولا عكس -، فهذا مضافاً إلى القضايا المبثوثة في القرآن الكريم وكُتُب الأحاديث يُعلِم أنَّ صدور الكرامة شيء ملازم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(124) وسائل الشيعة (ج 1/ ص 116/ ح 6).
(125) نهج البلاغة (ج 3/ ص 83).
وكاشف عن القرب من الباري تبارك وتعالى، وهذه الملازمة وإنْ لم تكن عقليَّة إلَّا أنَّها ملازمة عرفيَّة لا تكاد تخفى على أحد، إذن يمكن القول بوجود الملازمة عرفاً وإنْ لم تكن ثَمَّة ملازمة عقلاً.
كما أنَّ هنالك ملازمة يقضي بها العقل في موارد خاصَّة كما في موارد إثبات بعض المقامات الخاصَّة للنبيِّ أو الإمام أو إثبات عين إمامة الإمام، وهذه الملازمة مناطها قبح جريان فعل خارق للعادة على يد مدَّعٍ لمقام إلهي فيما لو كان ذلك الادِّعاء موجباً لتضليل عامٍّ، وإنْ لم يوجب إضلال الكلِّ.
حكم الاعتقاد بالكرامة(126):
لـمَّا اتَّضح أنَّ الكرامة هي فعل خارق للعادة تصدر من غير اقتران بادِّعاء النبوَّة، وأنَّ لها مراتب، فلربَّما يصدر بعضها من غير النبيِّ بل من غير المعصوم.
فلنا أنْ نسأل عن الموقف الشرعي للمكلَّف اتِّجاهها.
ولنا أنْ نسأل عن محلِّ الكرامة من علم الكلام هل يُصنِّفها ضمن ضروريَّات المعتقد على الصعيدين الدِّيني والمذهبي؟ وإذا لم ترقَ لمستوى الضرورة فهل هي يجب الاعتقاد بها، ويجب النظر فيها وفي مدَّعيها؟
وهل يوجب إنكار حدوث الكرامة خللاً في عقيدة الفرد المسلم؟
وهل يُعَدُّ منكر حدوث الكرامة عاصياً؟ وهل تكون حالة العصيان هذه من موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
وإذا لم يجب الاعتقاد بالكرامة فهل يعني أنَّ منكرها والمكذِّب بها لا بأس عليه بإنكارها ولا يُعَدُّ عاصياً، أم أنَّ هناك تفصيلاً بين التكذيب بها وبين التوقُّف في الاعتقاد من غير تكذيب؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(126) الأسئلة التي تدور في هذا الفلك متعدِّدة الجوانب وكثيرة، والغرض عرض صورة إجماليَّة لما يكتنف الفكرة من دون تحديد موقف منها.
وهل يفرق الحال بين من شاهدها وجداناً، وبين من قام الدليل عنده على حدوثها، وبين من لم تقم عنده البيِّنة عليها؟
وهل يُؤثِّر منشأ الكرامة ومصدرها في جواب تلكم الأسئلة فيكون حكمها إذا نُسِبَت لمعصوم مغايراً للحكم فيما لو نُسِبَت لغير معصوم؟
وأخيراً:
ما هو الموقف من القول بأنَّ الدِّين والتديُّن لا يستدعي هذا المعنى، وأنَّه لا حاجة لحدوث الكرامات أو السعي خلف آثارها؟
الجواب:
لـمَّا كان الاعتقاد والإيمان مرتبطاً بإذعان النفس وقبولها بالنتيجة، وهو أمر لا يحدث إلَّا من خلال النظر في الأدلَّة والبراهين، فلا يصحُّ، بل لا يمكن عقلاً أنْ يُطالَب الإنسان بالاعتقاد واليقين بالنتيجة من دون النظر في الأدلَّة إلَّا بمعنى التسليم بما نُسِبَ للشارع وعدم الاعتراض عليه أو الإنكار له، وهذا يرجع في الحقيقة إلى قبول قول الشارع المقدَّس وتصديقه فيما يقول، وعدم تكذيبه فيما جاء به، وهذا المعنى أمر يفرضه العقل والشرع معاً، وبالدقَّة والتأمُّل فيه تجد أنَّ محتواه هو الاعتقاد بكبرى تصديق ما ورد عن الشارع المقدَّس والتسليم له، لا أنَّه اعتقاد بالمفردة الواردة والكرامة الحاصلة في حدِّ نفسها، نعم يمكن القول بوجوب الاعتقاد واليقين طالما أنَّه يمكن تحصيله، بغضِّ النظر عن كيفيَّة تحصيل متعلَّق الوجوب، فقد يتمُّ بالنظر في الأدلَّة والبراهين وله شواهد قرآنيَّة وروائيَّة كثيرة بل لا يُعدَم الشاهد العقلي عليه(127). وعلى أيِّ حالٍ فمن المعروف أنَّ المذهب الإمامي الاثني عشري يوجب على أصحابه مراجعة العالم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(127) للإفادة في الموضوع: لاحظ أدلَّة وجوب النظر في معجز مدَّعي النبوَّة، وفي أدلَّة وجوب تعلُّم الأحكام.
لأخذ الأحكام الشرعيَّة الفرعيَّة، فشأن الحكم عنده شأن بقيَّة المعارف على الإنسان أنْ يأخذها من مظانِّها، وفق شروط خاصَّة مثبتة، وأمَّا المعتقد وشؤونه فلا تقليد فيه، بل ينبغي تحصيل اليقين والبرهان فيه، وهو يُعبَّر عنه بالاجتهاد في أُصول الدِّين وما يتعلَّق بها.
فإذن ما قامت عليه البيِّنة في باب المعتقدات يُدان به، وما لم تقم عليه البيِّنة فلا يُدان به - نعم يختلف نحو الدليل الموجب للاعتقاد في درجة إلزامه وكيفيَّة ذلك الإلزام، فلرُبَّ دليل تكون نتيجته وإلزامه بمستوى المشاهدة الحسّيَّة والوجدانيَّة، فمثله يُوجِد في النفس اليقين والعلم، ولرُبَّ دليل يجعل الإنسان في موقف التسليم وقبول الأمر الواقع وإنْ لم يكن لديه يقين بمستوى الحسِّ والوجدان لكون الدليل تامًّا في نفسه غير قابل للنقض، ولرُبَّ دليل يُلجِئه إلى عدم الإنكار، وإنْ عاندت نفسه وكابرت فلم تقبل النتيجة فصاحبه غير متيقِّن وغير مسلِّم بمعنى أنَّه غير منقاد للدليل لكنَّه لا يُنكِر ولا يتنكَّر لنتيجة الدليل، فيكون إيمانه بنتيجة الدليل إيماناً لولائيًّا، وممَّا يُؤثِّر في النتائج قوَّةً وضعفاً عقل المبرهن، وأيضاً للمسألة المبرهن عليها تأثير بشكل ما، وأرقى الأدلَّة في باب المعتقد تلك الأدلَّة السهلة المنسجمة مع فطرة الإنسان ونسق العقل -، سواء في ذلك أُمَّهات المسائل الاعتقاديَّة كأُصول الدِّين وجزئيَّاتها، وما لا ربط له بالمعتقدات الدِّينيَّة كعجائب المخلوقات وخوارق العادات، وما له ربط بالمعتقد كالكرامات التي تحدث بين الفينة والأُخرى لبعض الأولياء ومن دونهم، فإنَّ من اعتقد في شيء أثَّر فيه.
إذا تمَّ هذا المعنى فاتِّضاح حكم المسألة وحالها يرتبط بتحديد نوعها هل هي من جملة الأفعال الجوانحيَّة التي تقع موضوعاً للحكم الشرعي الفرعي كوجوب النيَّة، أو هي من جملة المعتقدات التي ينبغي الأخذ بها بحسب الدليل،
أو هي مسألة ذات جنبتين وذات حكمين لا تداخل بينهما، حكم للعقل يقضي بتناولها بحسب الدليل، وحكم للشرع يقتضي بالتفصيل بين مواردها، فمورد يتبع العقل ولا ينطق الشرع بشيء يغاير مفاد حكم العقل، الكرامات الحاصلة لمن هو دون المعصوم من العلماء والصالحين، ومورد يكون للشرع حكم فيه ولو بمستوى التسليم أو عدم الإنكار، مثل الكرامات التي أخبر بها القرآن الكريم والمعصوم (عليه السلام)، وذلك لكون إنكار هذه الموارد يستلزم تكذيب المعصوم أو يستلزم إنكار مقاماتهم وكمالاتهم، بعدما ثبت أنَّ كثيراً من الكرامات ناتج مقام وكمال، وتكذيب المعصوم بيِّن القبح والظلم، فالتكذيب حرام شرعاً لكونه من مصاديق الظلم، ولأنَّ التكذيب قول بغير علم، والقول من غير علم غير جائز.
حتَّى هنا يمكن القول: إنَّه تكوَّنت صورة إجماليَّة عن الجهة التي ينبغي أنْ تنظر في حال التعرُّض لأحكام الكرامة من حيث الاعتقاد بها وإنكارها والنظر في صحَّتها وما شابه ذلك، ولا يسع المقام أكثر من هذا، وبالله التوفيق.
* * *
تمهيد في البداء، معناه ودلائله(128):
البداء:
لفظ حمل معنى يغاير معناه اللغوي، وهو: إظهار بعد إخفاءٍ أو خفاءٍ عن الناس، فيقال: فلان برز فبدا له من الشجاعة ما كان مخفيًّا عن الناس.
وهو معنى يدعو له العقل، وتنادي به الكُتُب السماويَّة، ويرفضه الأعشى، ومفاده وغايته إثبات قدرة الباري تبارك وتعالى وسلطانه على التصرُّف في الكون كيف يشاء، وتبيين حكمة الخالق وعدل الربِّ تبارك وتعالى.
ومن فوائده: تمكين الإنسان بما أُعطي من قابليَّة لأنْ يوغل في الكمال بما يقصر عن احتوائه مدى الآفاق.
ولا بدَّ من عرض البداء وآثاره لارتباطه بالمقام، فإنَّ العظيم الذي ترنو إليه هذه الأسطر اختاره الباري تبارك وتعالى كي يكون محلّاً للبداء.
والبداء وإنْ كان إظهارَ أمرٍ خفي عن الناس ولم يخفَ عن الباري تبارك وتعالى إلَّا أنَّه أمر يُعطي الأسباب حقَّها في التسبيب الذي أودعه الله (عزَّ وجلَّ) فيها من دون أنْ تقهره في سلطانه أو تعجزه في إتقانه، وهو مع ذلك مفردة تبعث الأمل في النفوس العثرى، وتحيي الإرادة الميِّتة، وتُقوِّي العزيمة الواهية في طريق المعالي، فلا يأس من روح الله، ولا حدَّ لكرمه المطلق، ولا خضوع لأسباب الدنيا الواهية وإنْ أخذنا بها في كلِّ حركاتنا وسكناتنا، ولكنَّا نقرُّ أنَّ الكون هكذا صُنِعَ وهكذا أُجري، وأنَّ للإيمان سيادته على هكذا جري، فلنا الجمع بين جريان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(128) للإفادة في هذا المعنى يُراجَع ما كتبه سيِّد البيان السيِّد الخوئي والعلَّامة البلاغي (قدّس سرّهما).
الأُمور بأسبابها التي أبى الله (عزَّ وجلَّ) إلَّا أنْ تجري بها وبين هيمنة الباري تعالى جدُّه على كلِّ الأسباب، فهو (عزَّ وجلَّ) مسبِّب الأسباب وسبب من لا سبب له، له القدرة على ردِّ القضاء وقد أُبرم إبراماً.
إذن البداء معنى يكشف عن قدرة الباري (عزَّ وجلَّ) على التصرُّف بالتكوين، فيجعل الشقيَّ سعيداً والسعيد شقيًّا بحسب اختيار العبد وسعيه وفق ما قدَّر الباري ولطف وقضى وأجرى من نظم هذا العالم، فبالدعاء يُرَدُّ القضاء، وبالتوبة يمحو الذنب، وبالبداء يرتفع اليأس من روح الله وتذهب هيبة الأسباب المادّيَّة التي تقهر الإنسان في سيره، فتتعلَّق نفسه بمبدأ الكون ومفيضه من دون تذبذب بين الأرض والسماء.
وكما أنَّ البداء يكشف عن قصورٍ في ما يظهر تمامه للناس بحسب المقاييس المدركة، ويظهر ما هو تامٌّ في نفسه وواقعه - بغضِّ النظر عن العوارض المُخْرمة للشيء مثل البناء الذي يبقى بحسب الأجواء المعتادة مائة سنة لكن يعرضه إعصار يهدمه في سنته الأُولى - كذلك يفسح المجال أمام الإنسان أنْ يتكامل ويتدارك ما فرَّط، بل وينال ما قصُر عنه في سالف أيَّامه وإنْ لم يكن من نصيبه في يوم ما(129). ويأتي البداء بمعنى تحقُّق ما عُلِمَ وتجسُّده في الخارج وعلى صفحة الكون نظير استعمال كلمة (علم) في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(129) المرشد لهذه المعاني الروايات الدالَّة على زيادة العمر بالفعل الحسن، والدالَّة على تأثير الدعاء في انتقال الإنسان من حالة الشقاء حقيقةً وواقعاً إلى السعادة الحقيقيَّة والتي لها واقع، وليس ذلك من مقولة الإظهار بمعنى أنَّ شيئاً كان قابعاً في صقع الوجود ثمّ برز في ساحته وظهر إلى السطح، بل بمعنى أنَّ شيئاً لم يكن ليوجد فشاء الباري وجوده، أو أنَّ شيئاً تكاملت أسبابه وتظافرت دواعيه فشاء الله سلبها النتاج، أو أنَّ هناك شيء ما سرى إلى صفحة الوجود وسار في ثناياها فكفكفته يد القدرة، وكلُّ ذلك مع علمه تبارك وتعالى بمآل الأُمور، وكيف سيكون من سيكون، فتأمَّل.
أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾ (الكهف: 12)، ولعلَّ قوله تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (الزمر: 48)، قد استُعمِلَ في هذا المعنى(130).
هذه بعض أسرار البداء، وهي تفيدك في المزيد من التعرُّف على شخصيَّة أبي جعفر.
ولُبُّ القول:
أنَّ البداء نسخ تكويني، وهو بحسب موارده على أنحاء، منها:
1 - تبديل الواقع بواقع آخر: ويكون تغييراً واقعيًّا حقيقيًّا، ومثاله زيادة الرزق، والعمر واخترامه بحسب تصرُّف الإنسان، مع علم الله بمآل الأُمور واختيارات العبد.
2 - تغيير الظاهر بإظهار الواقع: ويكون تغييراً ظاهريًّا، بمعنى أنَّ ما ظهر للناس وأدركوه بعقولهم على أنَّه الواقع ليس هو الواقع حقيقة، فظهور الواقع الخفي للناس وإظهار الباري له يُسمَّى بداءً، كما في قضيَّة الإمامة.
3 - تبديل الظاهر بظاهر آخر: وهو تغيير للسائد بمثله، وبتعبير شائع بين الناس هو تغيير لفكرة أو لنظرة سائدة بين الناس يعتقدون صحَّتها أو نعمة أو ضرٍّ حلَّ بهم فيُحدِثون توبةً أو معصيةً فيُحدِث الله لهم ما لا يعلمون من الأمراض أو النِّعَم، وهنا يحدث تغيير بحسب ما يُحِبُّه الناس إذا خضعوا لربِّ العالمين.
4 - تغيير الواقع بما هو ظاهر: بأنْ يكون هناك أمر ظاهر هو خلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(130) يُراجَع: الصحيح من سيرة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (ج 2/ ص 63 - 68)، وتفسير الميزان (ج 17/ ص 272)، ففيهما ما يفيد في المقام، وفي الآية معانٍ ألطف وأرحب ممَّا أُشير إليه، والمذكورات لا تخرج عن إطار الإظهار المنصوص عليه في البداء عند الشيعة أيَّدهم الله.
الواقع فيُبدِّل الواقع بحسب الظاهر مع علم الله بمآيل الأُمور، كما في إجازة شهادة المؤمنين للميِّت، فإنَّ شهادتهم تُجاز وإنْ كان حاله على غير ما شهدوا به، ويصحُّ أنْ يكون منه آثار وعقوبات ترك بعض المستحبَّات، كما يصحُّ أنْ تكون من القسم الأوَّل، ويصحُّ أنْ يكون الانقياد والمصلحة السلوكيَّة من موارد هذا القسم(131).
ولتكن أشكال البداء حاضرة لديك، وهي:
الأوَّل: تغيير للواقع بالواقع.
والثاني: تغيير للظاهر بالواقع.
والثالث: تغيير للظاهر بظاهر آخر.
والرابع: تغيير للواقع بالظاهر.
والجامع بين هذه الأنحاء هو التغيير والتبديل، نعم هنالك ثوابت لا يمكن تغييرها تطرَّق إليها الأعلام في بحث البداء فراجع مظانَّها.
لمحة موجزة عن الإمامة:
درج الكلام عن الإمامة عند المتكلِّمين حول معنى ينفيه قومٌ كما ينفي الأعمى الشمس، وتدعمه في ذاك فلسفة تُسمَّى العمى(132)، ويُثبِته آخرون، وبينهما أقوام حاصوا في أمرٍ هو أبين من الشمس في رابعة النهار من أجل هوى سقاه الانتماء إلى مهوى الآباء أو الارتزاق من فتات الساسة فراعنة كانوا أم أرباباً.
وليس مصبُّ هذه الصفحات الكلام حول الإمامة تاريخاً وفكراً، وإنَّما دعت الحاجة إلى عرضها بما هي متماثلة عند الشيعة الإماميَّة؛ إذ يترتَّب ما يسطر - في استشفاف شأن أبي جعفر - على معرفة معنى الإمامة ومقامها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(131) الوارد في الآثار أنَّ من بلغه ثواب ما على عمل ما أُعطي ذاك الثواب وإنْ لم يكن ما بلغه صادراً.
(132) على حدِّ تعبير الفليسوف الفرنسي فيكتور هيجو.
فهي عند الإماميَّة وفي كتاب الله منصب (عهد) إلهي، كما النبوَّة منصب (عهد وشأن) إلهي، وقد ذكر الكتاب العزيز شرائط أهلها وخصائصهم في جملة من آياته المباركة وبألسنٍ متنوِّعة تُعرِّف العاقل جليل مكانها وعظيم شأنها، فقال (عزَّ وجلَّ): ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24)، وقال: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 73).
ولأنَّ هدايتهم بأمر الله لذا قرن ولايتهم بولايته فقال: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55)، وأوجب طاعتهم فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 59)، فلا يسع الناس تقدُّمهم ولا التخلُّف عنهم، وكيف يسعهم التخلُّف وقد نيطت بهم أُمور الدِّين والدنيا؟!
ومن عظم شأن الإمامة أنْ لم تُجعَل لإبراهيم إلَّا بعد الابتلاء، ومن كبرها في عينه طلبها لذرّيَّته ودعا لهم بما تدعو به الأنبياء لأنفسهم ووصَّى ذرّيَّته بما يوجب لهم نيلها وأخبرهم بما حباهم الله تبارك وتعالى، ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 132).
ويرتفع شأنها عن أنْ ينالها من له مساس بظلم أو هوى؛ إذ طلبها الخليل (عليه السلام) لبعض ذرّيَّته، وجاء النداء: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 124)؛ وفي هذا نفي لمطلق النيل الواقعي منه والظاهري، فلا تكون الإمامة الواقعيَّة لمن كان ظالماً في الواقع، ولا تحوم في ظاهرها حول من كان ظالماً، فكما أنَّ الظالم لا ينال الإمامة واقعاً كذلك لا يكون محلّاً للبداء ظاهراً، ولعلَّ في بدء الأمر يستنكر القارئ هذا المعنى؛ إذ مفاد الآية أنَّ الإمامة لا ينالها
الظالم فقط، أمَّا أنَّه لا يعتقد المؤمنون الناس فيه الإمامة فلا؛ إذ كيف يصحُّ ذلك؟ ومن أين يُعلَم ذلك؟ سيّما وأنَّ العالم الخبير بالمعارف الإلهية يُدرِك أنَّ الإمامة مختصَّة بأُناس لا يصلح لها سواهم ولا تصلح إلَّا لهم فتكون لغيرهم(133).
والذي يُوحي بهذا المعنى: أنَّ البداء هو إظهار أمر مغاير لما كان سائداً ممَّا يشبه الواقع بعد خفاء الواقع أو إخفائه بنحو تكون دواعي صحَّة الظاهر متوافرة، وإلَّا لا يكون بداء بالمعنى اللُّبِّي للمصطلح وإنْ كان بداء بالمعنى الحرفي للمصطلح، فلك أنْ تُسمِّيه بداءً بلحاظ حال الناس وتجلِّيه لهم، وإلَّا ففي واقعه هو تبيينٌ ورفعٌ لاشتباهٍ وخطإٍ عن الناس، لا أنَّ الله تبارك وتعالى غيَّر الموازين بحسب حكمته ومشيئته، لفرض أنَّه لم يمسّ واقعاً خارجيًّا وإنَّما مسَّ نظرة سائدة لا واقعيَّة لها.
إذن القول بأنَّ في هكذا مورد بدا للباري تبارك وتعالى يكشف عن أنَّ (المبدو فيه) عليه لون من الصبغة التي وقع فيها البداء؛ لأنَّه لا يقال: بدا لله في الأمر الفلاني وذاك الأمر خالٍ بالكلّيَّة من المقتضيات للبداء، فمن هو ليس بأهل لتحفة ما بوجه من الوجوه لا يقال: إنَّه بُدِي في أمره؛ نعم إطلاق البداء عليه بمجرَّد اعتقاد الناس لذاك بنحو من العناية لا بأس به.
إذن لك القول: إنَّ أوهام الناس وإنْ صارت محلًّا لإطلاق البداء بمعنى من المعاني المتقدِّمة إلَّا أنَّها لا تتوافر على مقوِّمات المعنى المصطلح وإنْ صدق عليها عنوان الاصطلاح، لكن صدق عنوان (بدا لله فيه) - بحسب استعمال العاقل الحكيم فكيف بالمعصوم - يكشف عن اكتنافه لشيء ما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(133) وليس معنى هذا أنَّ السيِّد معصوم بقدر ما يعني أنَّه محلُّ عناية الباري ولطفه، وفرق شاسع بين العصمة واللطف الإلهي، فإنَّ العصمة تنشأ بعلم مودع يختار معه المكلَّف فعل الشيء الحسن وترك القبيح، ومن اللطف تباعد الإنسان عن ساحة الابتلاء من دون أنْ يكون معصوماً، فمن قد كُفَّت عنه أكفُّ السوء ارتاح من الامتحان بما تضعف نفسه فيه رغم أنَّه غير معصوم، والمقصود أنَّ عناية الباري بالسيِّد من هذا الباب.
وأهمّيَّة هذا المعنى تستدعي ذكر الوجه مطبَّقاً على مصداق آخر لنقترب من معنى البداء الحاصل للسيِّد، فأقول:
إنَّ الدعوى: أنَّ البداء لا يكون في فرد غير متوافرة فيه عناصر الصحَّة والاقتضاء بحسب الواقع في موردٍ وبحسب الظاهر في موردٍ آخر، وإلَّا لم يكن معنى للقول بالبداء، فمن يكون عمره ثلاثاً ثمّ يبدو لله أنْ يزيد عمره إلى ثلاثين لا بدَّ أنْ يكون مسبَّب عمره الأوَّل تامَّ الاقتضاء ثمّ عرض عليه ما يرفع تماميَّة اقتضائه، وهذا المعنى لا يكون في باب الإمامة لأنَّها منصب لذواتٍ توافرت طبائعها على مقوِّمات ذلك المنصب لا أنَّها كسبت تلك المقوِّمات في دار الدنيا.
إذا تحقَّق ما سُطِرَ يظهر نسيج البداء في الإمامة، فعهد الإمامة يحتاج إلى اصطفاء واجتباء(134)، ويتطلَّب الدرجة العليا من الإيمان والتسليم(135)، وهذا بطبعه يقتضي تطهيراً وتطهُّراً(136)، ويحتاج لرعاية ربَّانيَّة فائقة تُعنى - إنْ صحَّ التعبير - بظاهر وباطن الإنسان كي ينال مقام التأهُّل للاستخلاف في الأرض، وبالرجوع إلى عنوان البداء يظهر بعض المراد، وبضمِّ عنوان الإمامة يكتمل لديك شيء من المعرفة عن مقام هذا السيِّد الجليل سيتَّضح بعد بيان العلاقة بين البداء والإمامة، فانتظر.
الإمامة والبداء:
إنَّ الأخبار الناصَّة على إمامة الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) هي - على فرض التنزُّل والقول بعدم تواترها - تكاد تكون كذلك، وهناك نقل مشهور مفاده (مهما بدا لله في شيء فلا يبدو له في نقل نبيٍّ عن نبوَّته، ولا إمام عن إمامته، ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(134) راجع آية الاصطفاء والاجتباء.
(135) لاحظ دعاء إبراهيم (عليه السلام) لولده.
(136) لاحظ آية التطهير.
مؤمن قد أخذ الله عهده بالإيمان عن إيمانه)(137)، فكيف يصحُّ القول بالبداء في أمر إسماعيل وأبي جعفر؟ وإنْ ورد في بعض الروايات أنَّه «ما بدا لله في شيء ما بدا له في إسماعيل»(138)، وورد عن أبي هاشم الجعفري قوله: كنت عند أبي الحسن (عليه السلام) وقت وفاة ابنه أبي جعفر، وقد كان أشار إليه ودلَّ عليه وإنِّي لأُفكِّر في نفسي... هذه قصَّة أبي إبراهيم وقصَّة إسماعيل، فأقبل عليَّ أبو الحسن وقال: «نعم يا أبا هاشم، بدا لله في أبي جعفر وصيَّر مكانه أبا محمّد، كما بدا له في إسماعيل بعد ما دلَّ عليه أبو عبد الله (عليه السلام) ونصبه، وهو كما حدَّثتك نفسك وإنْ كره المبطلون، أبو محمّد ابني الخلف من بعدي، عنده ما تحتاجون إليه، ومعه آلة الإمامة، والحمد لله»(139).
تنبيه:
قد يسهو عاقل ويتوهَّم غافل فيقول: إنَّ في ذيل هذا الخبر معنى للبداء لا تقبله الشيعة.
ويدفع هذا التوهُّم: أنَّ إطلاق البداء عليه مثل قولك: (فلان برز فبدا له من الشجاعة ما كان مخفيًّا عن الناس).
وهذا المعنى مذكور في بداية البحث عن البداء، وليس فيه أيّ خلل يستدعي رفضه، ومفاده ظهور أمر الله سبحانه في حين أنَّ ذلك الأمر لم يكن ظاهراً لغيره تعالى، وقد كان قبل إظهاره من قِبَل الله يعلم به سبحانه وتعالى، ومثبت في اللوح المحفوظ مثل ما ظهر بعد.
وإليه يشير ما ورد من الأخبار المتقدِّمة من أنَّ البداء في إسماعيل بن جعفر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(137) النجاة في القيامة للعلَّامة ميثم بن عليٍّ البحراني (ص 197).
(138) بحار الأنوار (ج 4/ ص 122).
(139) بحار الأنوار (ج 50/ ص 241).
ومحمّد بن عليٍّ كان لأجل ما كان يراه أكثر الناس من أنَّ الإمامة تنتهي إليهما باعتبار أنَّ كلًّا منهما كان أكبر ولد الإمام، والإمامة في الأكبر من ولد الإمام، وليس اعتقادهم بكون الإمامة فيهما لأجل الدلالة والإشارة والنصب من الصادق (عليه السلام) لإسماعيل، أو من الهادي (عليه السلام) على ابنه محمّد؛ إذ دعوى النصب والإشارة إليهما مخالفة للمعتبرات بل للمتواتر من الأخبار، فإذن لا محيص من طرح مثل هذه الآثار أو تأويلها مع الإمكان أو ردّها إلى أهلها فإنَّ الذي جاء بها أولى.
لفت نظر:
ذكر بعض أساتذتنا الأعلام أنَّ التأمُّل في ذيل الرواية: «وإنْ كره المبطلون» يُوضِّح أنَّ المقصود هو نفي توهُّم الناس أو يقينهم بلياقة السيِّد لمنصب الإمامة.
ولكن قد يكون إخبار الإمام (عليه السلام) بما في نفس أبي هاشم، وتأكيده لمسألة البداء يُشعِر بأنَّ المقصود من قوله: «وإنْ كره المبطلون» تقرير جريان البداء في مسألة الإمامة، وسيأتي تبيان الأعلام للبداء فيها.
وهنالك كلمات تصدَّت لهذه الإشكاليَّة في محاولة لرفع اللبس الحاصل، وقد أُجيب به عن هذا السؤال:
أوَّلاً:
بالمناقشة السنديَّة، حيث وقع في السند إسحاق بن محمّد البصري، وقد احتمل السيِّد التفريشي اتِّحاده مع إسحاق بن محمّد بن أحمد بن مرَّار بن عبد الله ابن الحارث أبو يعقوب النخعي الأحمر أخو الأشتر(140)، وأيَّد هذا الاحتمال جماعة منهم السيِّد الخوئي (قدّس سرّه)، فقال ما حاصله: ظاهر العلَّامة (قدّس سرّه) أنَّهما متغايران، إلَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(140) نقد الرجال (ج 40/ ص 30).
أنَّه من الواضح اتِّحادهما، ويظهر ذلك بأدنى تأمُّل(141)؛ ولم يذكرا الوجه في ذلك، ولعلَّه لعدم تعدُّد عنونة شيخ الطائفة والنجاشي (قدّس سرّهما)، واحتمال اكتفاء كلٍّ منهما بما يُميِّز العنوان ويُعرِّفه، وكيف كان لا مجال للركون إلى الرواية، فالبصري متَّهم غالٍ من أصحاب الجواد (عليه السلام)(142)، مولع بالحمامات المراعيش(143)، وحكى السيِّد بحر العلوم عن الكشِّي أنَّه من أركان الغلاة(144).
وأمَّا العنوان الثاني، فقال النجاشي عنه: إنَّه معدن التخليط(145).
وقد عالج السيِّد الأبطحي المرويَّات عنه وكلمات أعلام الفنِّ - الخاصَّة منهم والعامَّة - فيه، وخلص إلى أنَّ منشأ الطعن فيه هو روايته للفضائل والمثالب، وأنَّ ما نُقِلَ عنه لم يتفرَّد به، فلا اعتبار بالطعن فيه(146).
ويمكن تأييد ما خلص إليه السيِّد الأبطحي بما نُسِبَ إلى العنوان المترجَم من كتاب مجالس هشام وأخبار السيِّد، فإنَّهما قد قارعا الباطل وأوهنا ركنه، وآثار صولاتهما وبركاتها إلى يومنا هذا، فبهؤلاء وبأمثالهم ظهر الحقُّ وزهق الباطل، ولا يجرؤ في ذلك الزمان على توثيق حياتهما إلَّا الفدائي الذي يرى رأيهما ولا يكترث بما يلاقي في سبيل مرامه، فإنَّ من لا يعتقد بمنهجهما لا تُحرِّكه الشهرة ولا غيرها في سبيل توثيق حياتهما.
ولكن الذي يوجب عدم الركون إلى وثاقته فعلاً كون هذا المعنى حاضراً عند النجاشي ومع ذلك قال فيه ما قال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(141) معجم رجال الحديث (ج 3/ ص 68).
(142) اختيار معرفة الرجال للشيخ الطوسي، والتحرير الطاووسي (ص 38).
(143) جامع الرواة لمحمّد عليّ الأردبيلي (ج 1/ ص 88).
(144) الفوائد الرجاليَّة (ج 3/ ص 252).
(145) رجال النجاشي (ج 1/ ص 198).
(146) تهذيب المقال في تنقيح كتاب الرجال للسيِّد محمّد عليّ الأبطحي (ج 3/ ص 96 - 201).
ومحصَّل الكلام: أنَّه لا ريب في ضعف المعنون، لاتِّفاق الأعلام على ضعفه كما قال الشيخ في (تنقيح المقال)(147). وكون البصري هو الواقع في السند دون عديله غير مجدٍ؛ إذ لا توثيق له، لا ينفع الاستدلال بالرواية، لاعتلال السند.
وثانياً:
بأنَّه ورد في شأن إسماعيل: «إنَّ الله كتب القتل على ابني إسماعيل مرَّتين فسألته فيه فعفا عنه»(148)، وليس ثَمَّة نصّ معتبر عن أبيه الصادق (عليه السلام) يدلُّ عليه، فليس البداء الحاصل لإسماعيل بداء بالإمامة، كذا نُقِلَ التوجيه عن بعض أعلام الطائفة.
وهذا التوجيه يتمُّ في غير هذه الرواية، لصراحتها في مسألة البداء في الإمامة.
ويُجاب ثالثاً:
بأنَّ البداء معنى إضافي، أي هنالك مَبْدوٌّ فيه ومَبْدوٌّ له.
والمبدوٌّ فيه تارةً له شأن خفي أُظهر؛ وأُخرى له سيرٌ لو جرى عليه لم يحصل على ما كان مقدَّراً له فلمَّا تبدَّل سيره تحقَّق له المقدَّر؛ والمبدوُّ له تارةً يكون مَظْهَراً لأمرٍ كان خفيًّا هو له، وأُخرى يكون مَظْهَراً لأمرٍ خفيٍ ليس له، وإنَّما هو لغيره، وإنْ كان له مساس به بشكل ما، كما في المقام.
ومثال الأوَّل: المثال المتقدِّم (برز فلان فبدى له من الشجاعة ما كان مخفيًّا على الناس)، ومثال الثاني: زيادة عمر مَنْ يصل رحمه ويفعل الخيرات، وبتر عمر من يقطع رحمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(147) تنقيح المقال في علم الرجال للشيخ المامقاني (ج 9/ ص 186 - 190).
(148) الصراط المستقيم للبياضي (ج 2/ ص 273).
والبداء الذي لا يكون في الإمامة هو اللون الثاني من البداء، أمَّا اللون الأوَّل فيمكن القول بإمكانه في الإمامة لعدم المحذور العقلي؛ إذ لا يستلزم نقض غرضٍ أو خلفاً بالقول، فحقيقته ترجع إلى أنَّه: إمَّا تكذيب لما اعتقده الناس بمعنى بيان حقيقة الأمر وواقعه، وفوائده دفع الفتنة والشكِّ والريب عن إمامة الإمام، وبيان مقامه بإظهار حاله، واخترام من يتخيَّل أنَّه صنو له وهو ليس بصنو له. وإمَّا أنَّه إبراز لخصائص المبدوِّ فيه وبيان مكانته، تلك المكانة التي صيَّرت الناس في لبس رغم أنَّه لم يكن له المقام في يوم ما كما هو الحال في المقام.
فالبداء الحاصل هنا لعلَّه لبيان خصائص المبدوِّ فيه لحكمة خفيت علينا، وقد يكون من تلك الحكمة حفظ الإمام الواقعي، فإنَّ الإمام كما يُحفَظ بالتقيَّة يُحفَظ بالبداء والتباس الأمر على الناس مع وجود الدلائل الكافية الدالَّة على صاحب الحقِّ من دون مين، فهنا يكون السيِّد ممَّن وقى الإمام والشيعة بنفسه حيث لا تفي التقيَّة بالغرض.
أو أنَّ موضوع التقيَّة شخصي، بمعنى إخفاء الإنسان إيمانه ودينه ممَّن يخشى، بينما المقام ليس فيه إخفاء الشخص لإيمانه(149)، وإنَّما هو صرف الأنظار عن شخص الإمام لحكمة اقتضاها الباري:
قد يكون منها حفظ الإمام.
أو إعداد الناس للغيبة الكبرى.
أو لأجل أنْ تتكامل أحلامهم فيتمكَّنون من الاعتماد على الآيات العقليَّة والبرهانيَّة في التديُّن، دون الركون المطلق للبراهين الحسّيَّة في أُمور التديُّن، لذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(149) سيّما إذا قلنا: إنَّه لا تقيَّة في أمر الإمامة، بمعنى أنَّه ليس للإمام نفي الإمامة عن نفسه تقيَّة، ويمكن القول بأنْ لا تقيَّة لأهل البيت في أمر الإمامة في زمن الإمام الرضا وأبنائه، فلقد استقرَّت ورست وشاعت إمامة أهل البيت عند الكلِّ من دون لبس، وهذا المعنى يحتاج إلى مزيد بحث وتوثيق.
عُبِّر عنه بالبداء؛ إذ كان من أمر الله (عزَّ وجلَّ)، وبه يظهر شأن الإمام للمؤمنين، لاسيّما وأنَّ بوادر الغيبة وتهيئة الناس لها وتألُّفهم لجوِّها بدأ بنحو ظاهرٍ شاهرٍ من زمن الإمام الهادي (عليه السلام).
والذي يُؤيِّد أنَّ البداء في الإمامة بمعنى الإظهار هو ما ورد في الزيارة المختصرة للإمامين العسكريَّين (عليهما السلام): «السلام عليكما يا من بدا لله في شأنكما»، فإنَّ في هذا المقطع صراحة بشمول الإبداء للإمام الهادي (عليه السلام) رغم أنَّه لم يدَّعِ أحد الإمامة في زمانه، ولا ادُّعيت لأحد، فلا شكَّ في إمامته، الأمر الذي يشير إلى أنَّ المراد من البداء في الإمامة هو إظهار الشأن والمقام، ولا ريب أنَّ في إظهار الشأن نِعَماً لا تخفى على المُظهَر والمظهر له، والله العالم.
والذي يُعزِّز ضرورة البداء في مثل ظرف الإمام العسكري أنَّ بني العبَّاس على علمٍ تامٍّ - نتيجة رصدهم الدقيق لأهل البيت (عليهم السلام) - بمداخل التقيَّة ومخارجها، وعلى معرفة بطُرُق أهل البيت ووسائلهم في حفظ الشيعة، حتَّى ورد خبر مفاده أنَّ أعداء الشيعة أعلم بهذا الأمر من الشيعة أنفسهم، وقد احتنكت الأُمور على أهل الإسلام، واشتدَّت الفتن جراء سيل المستأكلين بالدِّين الذي فتح بابه البلاط العبَّاسي، فما كانت التقيَّة لتُجدي في حفظ شخص الإمام، وما كانت لتفي بحفظ الشيعة، ولا لتذبَّ عن معالم الدِّين بعد أنْ ذهبت الدنيا بجملة ممَّن أخذ العلم عن أهل البيت ومن دون تحديد مسمّيات، فالتاريخ بين يديك ينبئك عن الجلِّ وما أحدثوه من أجل شهواتهم، فالكلاب الممطورة، والخطَّابيَّة، وما أبدعته الساسة من المطوعة والسلفيَّة بشكلها الحديث منه والقديم، وهذه الفِرَق والمذاهب هي عصا الخلفاء المسلطة على مناوئيهم، وهي الغلاف الأجمل والأغلظ لمن يسوق الناس باسم الله ورسوله، والله ورسوله منهم براء.
فإذن مع انكشاف أمر التقيَّة ومداخلها، ومع علم الخصم بضرورة وجود الإمام، هذا من جانب، ومن جانب آخر ضعف المؤمنين وقلَّة حيلتهم، فضلاً عن عدم انطباق عنوان التقيَّة على إخفاء شخص الإمام(150)، لكلِّ ذلك ولغيره لا محيص عن اللجأ إلى مسلك آخر هو البداء، فتُرِكَ الناس وما يعتقدون في أمر أبي جعفر، وظهرت آثار مقامه ونسبه حتَّى التبس الأمر على أعداء الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ إذ رأوا أنَّ ذوي الحجى من أصحاب أهل البيت مالوا للقول بإمامة أبي جعفر أو قالوا بإمامته، فاتَّجهت الأنظار نحوه، وحينما أراد الله إظهار شأن وليِّه بيَّنه للناس، وعليه يكون معنى البداء هنا إظهار زيف ما اعتقده الناس في أمر الإمامة، لا أنَّ الإمامة انتقلت من شخصٍ لآخر.
ويُجاب رابعاً:
بما ذكره الشيخ لطف الله الصافي في رسالته في البداء، وخلاصة كلامه: أنَّ المراد من وقوع البداء فيهما ليس وقوعه في إمامتهما - للروايات الدالَّة على إمامة الأئمَّة الاثني عشر بل والمصرِّحة بذلك - وإنَّما في حياتهما على أنْ لا يصير ذلك سبباً لتوهُّم إمامتهما، أو موقوفاً على أنْ لا يظنَّ إمامتهما في حياة أبيهما.
ويصحُّ هذا الوجه بالنظر إلى الروايات الناصَّة على إمامة الأئمَّة الاثني عشر المرويَّة بالطُّرُق الصحيحة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وحكى عن الشيخ الصدوق تفسيراً للحديث بأنَّه (عليه السلام) يقول: «ما ظهر لله أمر كما ظهر في إسماعيل ابني؛ إذ اخترمه قبلي ليُعلَم بذلك أنَّه ليس بإمام بعدي».
وأمَّا ما ورد في حقِّ أبي جعفر من البداء فلا ظهور فيها على النصِّ على أبي جعفر بالإمامة فبدا لله فيه، ولا أنَّ الإمام العسكري لم يكن منصوصاً عليه قبل موت أخيه فلمَّا تُوفِّي أخوه جعله الله خليفة لأبيه ونصبه إماماً للناس بعده، وقد تقدَّم حال النصوص الدالَّة على إمامة الاثني عشر.
فالمراد من إحداث الأمر إظهار إمامة مولانا العسكري (عليه السلام) لمن يظنُّ أنَّ أخاه أبا جعفر خليفة لأبيه، وليس معنى ذلك أنَّ الله توفَّاه لإظهار هذا الأمر، بل المراد: أنَّ بطلان هذا الظنِّ كان أمراً يترتَّب على موته، فأُسند إحداثه إلى الله تعالى لإسناد سببه وهو موته إليه(151).
هذا كلُّه لو لم نقل: إنَّ هذه الأحاديث من المتشابهات التي يُرَدُّ علمها إلى أهلها، والله الهادي سواء السبيل.
ناتج الأمرين علوُّ مقام سبع الدجيل:
بعد معرفة مقام الإمامة وأنَّها عهد إلهي ينطوي على ميزات تخلو منها المقامات الأُخرى، وأنَّ لهذا العهد صاحباً لا يصلح له غيره فهي خلافة ربَّانيَّة، وهو منصب يحفُّ به الامتحان الإلهي الذي خُصَّ به الأنبياء والمرسَلون، فطبع مقام الإمامة يحتاج إلى اصطفاء واجتباء(152)، ويتطلَّب الدرجة العليا من الإيمان والتسليم(153)، وهذا المعنى يقتضي تطهيراً وتطهُّراً(154)، ويحتاج لرعاية ربَّانيَّة فائقة تُعنى - إنْ صحَّ التعبير - بظاهر وباطن الإنسان كي ينال مقام التأهُّل للاستخلاف في الأرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(150) هنالك من الأئمَّة (عليهم السلام) من اتَّقى كما هو حال الإمام الكاظم (عليه السلام)، إلَّا أنَّ أمره حفَّ بالبداء أيضاً، على أنَّ معالم مذهب الحقِّ غير متكشِّفة لدى خصومه، كما كانت متكشِّفة أيَّام الإمامين العسكريَّين، ومع ذلك لم تستمرّ تقيَّة الإمام طويلاً، بخلاف زمن الإمامين فإنَّ التقيَّة استمرَّت إلى آخر أيَّامهما المباركة وضاقت السُّبُل، لاحظ الإقامة الجبريَّة قرب السلطة العبَّاسيَّة بمختلف صورها، حتَّى لم يكن مناص من صرف الأنظار عن شخص الإمام عسى ولعلَّ.
(151) مجموعة الرسائل للشيخ لطف الله الصافي (ج 2/ ص 117 - 119).
(152) راجع آية الاصطفاء والاجتباء.
(153) لاحظ دعاء إبراهيم (عليه السلام) لولده.
(154) لاحظ آية التطهير.
بالرجوع إلى عنوان البداء يظهر بعض المراد، وبضمِّ عنوان الإمامة يكتمل لديك شيء من المعرفة عن مقام هذا السيِّد الجليل.
وبعدما علمنا أنَّ البداء يُعنى بالتغيير في التكوينيَّات بحسب استحقاق المكلَّف وما يتفضَّل به الباري (عزَّ وجلَّ) وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 106)، بكلِّ ذلك نُدرِك أنَّ السمات المتوافرة - في الشخص الذي يكون محلّاً للبداء في شأن الإمامة - هي من نوع السمات الموجبة لنيل العهد الإلهي من علم ويقين وتسليم وعبوديَّة محضة للباري تبارك وتعالى، وهذه السمات لعظمها وجلالة شأنها وجهالة الناس بأمر الإمامة - إذ هي أعزّ وأمنع من أنْ يُدرِكها الخلق بعقولهم - رأوا أنَّ من يحوز شيئاً من سماتها هو أهل للإمامة، ولأنَّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يمتلك من الصفات ما جعله طرفاً في البداء الإلهي، صار موضع أنظار الخلق مؤمنهم وجاحدهم وهم يرصدون وصيَّ الهادي (عليه السلام)؛ إذ كان من أهل الإمامة.
ويكفي سيِّد الدجيل أنَّه واصل في الرقيِّ والتكامل حتَّى بدا لله في أمر الإمامة فكان ما قدَّر الله وقضى والسيِّد طرفها المؤمَّل.
وخلاصة الفكرة أنَّه لا بدَّ من تشاكل أطراف البداء بنحو ما كي يتحقَّق موضوع البداء، وبذا يظهر معنى البداء الواقع في الإمامة، ويظهر نسيجه شأن أبي جعفر، ويُعلَم جواب السؤال: بأيِّ معنى يكون المقام المدَّعى لأبي جعفر؟ ولأيِّ مرتبة تشير صنعة البداء؟
وعلى ضوء ما تقدَّم يكون مقامه في ظاهر الحال تامَّ الاقتضاء، وفي واقعه قد بلغ منزلة عظمى في العلم والإيمان والتقوى، فيأتي البداء فيرفع هذه التماميَّة - الظاهريَّة - لا ليكشف عن عدم التماميَّة المطلوبة فقط، بل ليكشف أيضاً عن
صاحب المقام الأسمى، ويُصدِّق عظيم رفعة من بدا لله في أمره، وذلك لعدم معقوليَّة صدق البداء المتعبَّد به في مورد يفقد صبغة موضوعه، فيكون السيِّد سبع الدجيل من الرجال الذين بلغ بهم سدرة المنتهى في الكمال، وقد يتدرَّج الإنسان في مراتب الكمال ويصل الغاية والنهاية في سعيه وهو بعد لم يقترب منها اقتراباً، لا لظلم حفَّ به ولا حيف ناله، وإنَّما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
* * *
مدخل:
الشعر - عند الشعوب - عنوان المحبَّة، وبوَّابة الخلود في وجدان عامَّة الناس، والشعر - عند الشعوب - رَوح الفضيلة المتجدِّد في الأنفس، يوقظ الهمم، ويُرضِي الكرام، ويُسكِت اللئام؛ إذ كان ستراً للعيوب، فناسٌ يقال فيهم فيفخرون وناسٌ يقال فيهم فيفتخر الشعر والشعراء بمقالتهم تلك، والجميع يرضاه لما ينشر من حقٍّ أو يستر من خلل أو يُزيِّن من مراد للكبراء، فبه يضلُّون وبه يرشدون.
ولقد حوت المدوَّنات شيئاً من الشعر قيل في السيِّد محمّد، وهو شعر يكشف عن بعض مآثره ليتربط الناس بنفسه الشريفة، ولتشعَّ الفضائل من خلال ذكراه العطرة في أنفسٍ أجدبها شظف العيش أو أرهقها طول السير في هذه الفيافي المتصحِّرة، فذكره راية حقٍّ تلتجئ إليها معاني الخير وعُمَّاله، وتلوذ بها نفوس العظام؛ إذ كانت دليلاً على الفضيلة المتوقّدة بالحياة.
وهذه الكلمات تسرد بعض الشعر ممَّا قيل في السيِّد، وهو يحكي تصوُّر وجدانٍ أو قلق قلبٍ أوجعه تيه عصره، أو يخزن معاني حرَّة في لـمَّة من الكلمات، فها ذا السيِّد في بيتين وقفا أمام ضريح السيِّد يُمجِّدان تقواه، ويُرتِّلان رفعة مقامه، ويختصران مزاياه، نسجهما عالم يعرف مثله قيمة المعاني والمقامات التي تنبثق عن كون العبد يبدو لله في إمامته، فعالم قارب بنظمه الخطو ودنا من مقام الإمامة وهو المقام الذي لا يدنو إليه إلَّا المصطفون الأخيار، وآخر نبَّه على ثبوت الفضائل التي لا تكون إلَّا لذوي الإمامة ولم يكتفِ بذلك بل استعان بتعبير
قرآني ليشير إلى مقامه الربَّاني، فبعد أنْ قرَّر تفوُّقه على الأنام أثبت له وصفاً وُصِفَ به يوسف ويحيى وعيسى وإسماعيل أو يعقوب، وهذا تعبير لطيف زكي؛ إذ اقترن لفظ الغلام - في القرآن الكريم حين الإشارة به إلى الأنبياء (على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة والسلام) - بشيء من التميُّز بالعلم والحلم، وهنا راعى التميُّز فقرنه بالتفوُّق فيما به اقترن لفظ الغلام في القرآن من حلم وعلم، وأُسُّ الفضائل الحلم، ولا يخفى فضل العلم، وثالث جاوز ثبوت الفضائل ليقترب من الإمامة أكثر حيث ظهرت سيماها وأثرها، ويخلص الأخير إلى التسليم بأنَّه (سلام الله عليه) من المصطَفين الأخيار وله التقوى والعلم اللذان جعلاه محلّاً وأهلاً للإمامة.
والأبلغ بياناً من كلِّ ذلك الإيحاء الذي تتركه هذه الكلمات في ذهن القارئ، والأفصح نطقاً من كلِّ الكلم ذلك الحسُّ المصاحب لدرك المعاني وأنت تنشدها بلسان أهلها، فدونك هذه اللحظات من غير تدخُّل أحرفي:
1 - فآية الله السيِّد محمّد مهدي الصدر الكاظمي يقول(155):
إنَّ الإمامة إنْ عدتك فلم تكن * * * تعدوك كلا رفعة ومقاما
يكفي مقامك أنَّه في رتبة * * * لولا البدا لأخيك كنت إماما
وقد نسبها صاحب كتاب (شعراء الدجيل) إلى السيِّد إسماعيل بن السيِّد محمّد الصدر الموسوي الكاظمي(156).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(155) الأبيات وتشطيرها وتخميسها ونسبتها إلى السيِّد محمّد مهدي الصدر المتوفَّى (1358هـ) عن كتاب سبع الدجيل السيِّد محمّد ابن الإمام الهادي لبرهان البلداوي (ص 163).
(156) من تلامذة السيِّد المجدِّد والشيخ الأنصاري، له قصيدة مكتوب منها في أعلى باب الحمد من داخل الصحن الشريف بالقاشاني الأبيات المذكورة. عن شعراء سبع الدجيل لحسين البلداوي (ص 52).
وقد شطَّرها جمع منهم السيِّد محمّد صادق الصدر، فقال:
(إنَّ الإمامة إنْ عدتك فلم تكن) * * * عدو الفضائل شخصك المقداما
ولئن عدت نحو الزكي فلن ترى * * * (تعدوك كلا رفعة ومقاما)
(يكفي مقامك أنَّه في رتبة) * * * فقت الأنام وكنت ثمَّ غلاما
قد كنت صدراً للعلوم ومصدراً * * * (لولا البدا لأخيك كنت إماما)
كما شطَّرها الفاضل الشاعر الشيخ حسن أسد الله الكاظمي بقوله:
(إنَّ الإمامة إنْ عدتك فلم تكن) * * * سيماؤها إلَّا عليك لزاما
حزت الفضائل والمناقب فهي لا * * * (تعدوك كلا رفعة ومقاما)
(يكفي مقامك أنَّه في رتبة) * * * تبدي الملائك نحوها الإعظاما
ظنَّ الأنام بأنْ تكون إمامهم * * * (لولا البدا لأخيك كنت إماما)
وشطَّرها أيضاً الشيخ محمود الخليل بأنْ قال:
(إنَّ الإمامة إنْ عدتك فلم تكن) * * * تسمو لنقص فيك إذ تتسامى
حاشا علاك وهل سواك لها فلا * * * (تعدوك كلا رفعة ومقاما)
(يكفي مقامك أنَّه في رتبة) * * * فاقت ملائكة السماء عظاما
وبلغت عند الله أيّ مكانة * * * (لولا البدا لأخيك كنت إماما)
وقد خمَّسها أيضاً فقال:
أمحمّد يا بن الإمام المؤتمن * * * وأخا الإمام أبي محمّد الحسن
حقًّا أقول وفيك يفتخر الزمن * * * (إنَّ الإمامة إنْ عدتك فلم تكن)
(تعدوك كلا رفعة ومقاما)
إذ فزت من شرف النبيِّ بنسبة * * * وحُبيت من علم الإله بعيبة
وكسبت من تقواك مطرف هيبة * * * (يكفي مقامك أنَّه في رتبة)
(لولا البدا لأخيك كنت إماما)
2 - السيِّد محمّد بن السيِّد حسن بن السيِّد هادي الصدر الموسوي الكاظمي(157):
أبا جعفر إنْ ضاق بي الفضا * * * فلي منزل من فنائك الرحب(158)
قراءة في شعر الأعلام:
3 - آية الله السيِّد ميرزا مهدي الشيرازي:
يُمسِك الأديب بعنان الكلم، ويُروِّض القلوب بتراكيبه المملَّحة، فيزيح شماسها عن لذيذ المجالسة والمؤانسة حتَّى قيل: ما كثرت الثرثرة وتُوسِّع في الكلام إلَّا من وراء أبواق الأُدباء، ولولا أنَّ العاقل يلجم فضول كلامه والعالم يزن مواضع أقدامه لما ألفيت بين ظهراني الناس إلَّا الكثير من الكلمات الجوفاء والعرجاء، والتي تسيخ بالعقول والأفهام في مهاوي الوهم والخيال، وهو المكان الذي يعيبه العالم على العالم إذا أنشد الشعر، بيد أنَّ للعلماء نظماً كسر مخياله علمهم وأظهر جفوته تزمُّتهم والتزامهم بعلائق الدرك، لكنَّه لم يخلُ من نظرة مليحة وصنعة بديعة، يُقرِّبه لعامَّة القُرَّاء ما يحويه من واقعيَّة يجعله بعيد الخطى من ميدان الشعراء، فترى العالم في مدحه يلتزم سرداً يقتنص فيه المعاني بشيء من الرجولة العلميَّة، الأمر الذي يتلقَّى فيه القارئ حقائق مسطورة، ومن البديهي أنَّ النظم ينحى منحى المعرفة التي يغترفها الناظم، فإذا كان العالم ربَّانيًّا لا بدَّ أنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(157) يُعَدُّ من مؤسِّسي الدولة العراقيَّة، وأحد أركان الثورة العراقيَّة، شكَّل الوزارة، وشغل منصب رئيس الوزراء، ورئيس مجلس الأعيان، تُوفِّي سنة (1375هـ).
(158) مكتوبة بالقاشاني على الجهة اليسرى من باب الرواق الشريف.
تظهر كلمات أهل المعرفة على أبياته، وإذا كان محدِّثاً فسيُملي قصيدته بصِيَغ الحديث. وهذه الأبيات لعالم حاز حبَّ أهل البيت عن معرفة بهم وبشأنهم، فتراه في مدحه مراعياً لتلك المعرفة مراقباً لنبض قلبه مقيَّداً بجلالة وهيبة ونبل الممدوح، فمن البدء يُعلِن أنَّ القرب ساحة الكرام، وهي تختلف عن بقيَّة السوح، فهي حوت إشراقة نبويَّة زيَّنها ارتباطٌ ما، تكشف عنه المباهاة، لذا ترى الكرام لديه ترتع، بل وتجد ذاتها عنده، فقد يكون وجه الكريم هشاً بشًّا وزاده رفداً وورداً ينقذ الغرقى ممَّا ألمَّ بهم، ولكن أنْ تجد كريماً تعرَّض لقضاء الأماني وتقريب الآمال من قبل أنْ تستدعيها الحاجة والضرورة فهذا أندر من الكبريت الأحمر، ومن لطيف حسِّه استخدام جملة (حاسر عن ذراعه)، وهو تعبير يحمل الشوق الملحَّ والرغبة القويَّة في إنجاز ما ينتظر إنجازه، وهذا ما جعل مواكب الحوائج إليه تترى، وما يطلب الوفد إلَّا منازل الكرام، وهو ما زعزع الأعراب وأخافهم من الدنوِّ إلى ساحته؛ إذ إنَّهم قوم ألفوا النهبة وأكبروا البذل والسخاء وهابوا أهله وعظَّموهم؛ إذ رأوا نفوساً ينبع منها النبل والفضيلة، والعرب - والتي كانت جلُّ أيَّامها نكاية - تعلم حقَّ العلم أنَّ من أقعدته نكاية الأيَّام أقامته إغاثة الكرام، فما أحلى المآل حينما تُتَمْتِم مع العالم وهو يقول:
يا وليَّ الله المغيث أغثنا * * * من صروف الدهر التي نلقاها
وهذه كلمات العالم محمَّلة بما أُشير إليه آنفاً، تذوَّقها خالصة من غير شوب:
بقعة لا يحام حول حماها * * * بسوى طوفها ولثم ثراها
ربوة ذات روضة ومعين * * * بوركت في بقاعها ورباها
وعراص لشبل أحمد فيها * * * مستناخ يهاب فيه فتاها
هي مثوى لماجد هاشمي * * * ذي فعال فاق السماء علاها
مألف الجود من سراة عليٍّ * * * معدن الخير من ذؤابة طاها
هي مثوى محمّد بن عليٍّ * * * بعلا قدره علت غبراها
سيِّد من بني الكرام كريم * * * وله عنصر به الله باها
حاسر عن ذراعه للأماني * * * ما نخته الآمال إلَّا قضاها
يمَّمته الوفاد من كلِّ وجهٍ * * * فانثنت عنه بعد نيل مناها
لم تزل موكب الحوائج تترى * * * تتوالى إليه لا تتناهى
لم تنخ حاجها هنالك إلَّا * * * قُضِيَت قبل أنْ تحلَّ عراها
تأمن الوفد حوله كلَّ هول * * * فترى في عراصه ماواها
في عراص تهابها العرب طرا * * * خشية أنْ تحوم حول حماها
يا وليَّ الله المغيث أغثنا * * * من صروف الدهر التي نلقاها
أدهشتنا غوائل وهياج * * * ودهانا من الطغام دهاها
4 - آية الله الشيخ محمّد حسين الأصفهاني الكمباني(159):
تتمكَّن نفس الشاعر من صهر المعاني، ويسهل عليها إيقاظ الحسِّ المختبئ في ثنايا الأحرف، ويتسنَّى لمنشد الشعر بما حُبِيَ من حسٍّ شاعريٍّ أنْ يبثَّ الإحساس الدافئ الكامن في الإيقاع، وما لا يناله الشاعر بشاعريَّته ويفقده المنشد في إنشاده يجده من له شأو في الشعر بطبيعته وثقافته فيما يقرأ.
ومثال هذه المقالة الأنوار القدسيَّة، فصاحبها عالم شاعر، وشاعريَّته وإنْ ضعف ضوءها لأسباب لاحت في ما ذُكِرَ توطئة لشعر الشيرازي، لكنَّها لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(159) عالم نحرير ومرجع شهير، وُلِدَ سنة (1296هـ) وتُوفِّي سنة (1361هـ)، أخذ عن الآخوند والفشاركي، وله نحو من (33) مؤلَّفاً، وأعقب الشيخ عليّ والشيخ محمّد.
تضعف بحسب موازين أهل البلاغة وإنْ جمعت معانيها بين حقائق دينيَّة وبراهين عقليَّة وأُخرى روائيَّة ورابعة وجدانيَّة وخامسة تاريخيَّة، امتزج فيها الحدث بالتحقيق، واصطفَّت بألفاظها مختلف اللغات، فلقد زيَّن قصائده بكلمات الوحي، وحوت أوزانه تمتمات عرفانيَّة ومصطلحات فلسفيَّة وكلاميَّة، ولم يكن هذا لوناً من الحشو، بل لا تجد حشواً في كلامه، وكيف تجد حشواً في نظم لم تكن مادَّته من لغة مبتذلة الكلمات رخيصة المعاني، ولم تكن صوره من عالم الرؤى والخيال كي يُشكِّل الحشو عنصراً فاعلاً في التصوير والتقريب.
وأمَّا جهة السبك فلقد وازن بين توظيف البلاغة بما لها من أدوات وبين ما تمليه المعارف، وبذا أضحى نظمه عنوان العالم والعارف والمحبِّ، زينة المجالس وأُنس الجالس، يتذوَّقه كلٌّ بما لديه من سعةٍ في وصفه وعنوانه حتَّى عُدَّ المحفل الذي يخلو من ذكر أبياتٍ له منتقض الديباج؛ وقصيدته في أبي جعفر محمّد بن الإمام الهادي وأخي الإمام العسكري وعمِّ الإمام الحجَّة المهدي (صلوات الله عليهم وعلى آبائهم) تقف صادحةً ومعلّمةً، وهو يبرهن على كلماته بما يقبله أهله، وكاد أنْ يكون مؤرِّخاً يعرض عن صفحات العنعنة الجوفاء، ويستعين بالدلائل العقليَّة في رسم معالم العظماء، متخلِّصاً بذلك من ظلمة المؤرِّخ الراوي وإهماله.
بدأت كلماته بنداءِ فئةٍ يبدو في صفحات عيشها حسن الطالب والمطلوب؛ إذ من يسعى نحو المعروف ويقبل الإفضال يمتلك ذاتاً مكرَّمة لها مساس وعلقة بقِيَم الحياة، أمَّا من يتطفَّل على عطاء الغير ونواله فليس له مساس إلَّا بالعيش دون القِيَم، وهذا المعنى لا يصدق على طالب المعروف، فمن تقييد الطلب بالمعروف - وهو الإحسان بالنحو الذي يقرُّه العرف والشرع - وعطفه بالأيادي وهي جمع جمع ويُراد بها النِّعَم - يعلم أنَّ النداء لفئةٍ خاصَّةٍ وإنْ كان إطلاق النداء عامًّا وشاملاً.
ومن لطيف صنعه أنْ أرشد إلى السيِّد إرشاداً معلَّلاً بمجد السيِّد، وهو مجد جذوره في عالم آخر، الأمر الذي جعل سيادته وسلطانه منبسطاً في نسج التكوين، وردَّ تعجُّب النفوس قبل نطقها به؛ إذ كان غصناً لابن من دنا وتدلَّى من العليِّ الأعلى، قد تجلَّى فيه سرُّ أبيه.
وقد يذهب ذاهب إلى أنَّ سرَّ أبيه هو الإمامة، باعتبار أنَّ السيِّد ممَّن بدا لله فيه، ولكنَّه مثل عربي يُراد منه أنَّ الابن تشرب صفات أبيه وخلقه ونُسِجَ على طبعه، فما حازه آباؤه ظهرت آثاره فيه، وتفصيل تكوينه النفسي سيرة آبائه البررة، ومجمل فضائلهم سيرته العطرة، فمن البداء يُدرِك العقل كلَّ ذلك، ومن مشاهدة العيان لمكرماته يُعرَف أنَّ ما يظهر منه (عليه السلام) رشحة من جدِّه المصطفى وآله الطيِّبين الأخيار؛ إذ هي مظاهر لا تكون إلَّا لمن انبثق عنهم أو حُبِيَ منهم.
ومن لطيف استعارته تعبيره عن فضائله بأنَّها ديباجة الفضائل النفسيَّة - والديباج الثوب المتَّخذ من الإبريسم، النقش والتزيين -، فهو يشير إلى أنَّ فضائله متميِّزة بين قريناتها.
وحدَّد ثلاث فضائل نبويَّة: المجد والمنعة والفتوَّة، فعظم الشأن والشرف والكرم هي مفردات المجد وطرائقه، والمنعة هي العصمة للأولياء ونصرهم وهي الشعب الأوثق في باب الدِّين والإيمان، وأمَّا الفتوَّة - وهي بذل النائل وإطعام الطعام - فهي آية الإنسانيَّة؛ إذ من يبذل ماله وعمره في تنفيس الكُرَب وما شاكلها لا بدَّ أنْ تكون نفسه مترفِّعة عمَّا يُلحِق الأذى بما حوله، وهذا غاية الأمن والأمان المَنْشود، ومن البديهي أنْ تصبح المحلَّة التي ترقد فيها هذه الفضائل مهبط الملائكة وآفاق العقول، فقد قيل: إنَّ المَلَك في لسان الشرع يعادل العقل عند الحكماء، وعلى هذا لا بدَّ وأنْ تكون معتكف العُبَّاد والنُّسَّاك، فبالعقل عُبِدَ الله، وما عُبِدَ الله بشيء أفضل من العقل، حتَّى إنَّ الثواب على قدر العقل،
وللعقل جند تجدها حافَّة بتلك المراقد القدسيَّة، يلوح منها ما يرفع زلل الخاطئ ويدفع ضيم الشيطان وظلم الإنسان، فتعشب الأرض بعد جدبها، فالبداء في أُمِّ القضايا وأُسِّ الدِّين يكشف عن عظيم يلتجي إليه الملتجئ، ويُملّكه نفسه، ويستأسرها لكرمه، فلمثله يحلو الرقُّ، وتُستَعذب العبوديَّة، وتستطيب الأُذُن تمتمات العالم الربَّاني المحقِّق الكمباني وهو ينظم وينشد:
يا طالب المعروف والأيادي * * * لذ بمحمّد سليل الهادي
فإنَّه السيِّد وابن الساده * * * في ملكوت الغيب والشهاده
أكرم به من سيِّد مطاع * * * في عالم التكوين والإبداع
وكيف لا وهو ابن من تدلَّى * * * سرُّ أبيه فيه قد تجلَّى
يُمثّل المبعوث بالرساله * * * في العزِّ والرفعة والجلاله
أخلاقه الغرُّ محمَّديه * * * وكلُّ مكرماته عليَّه
خلاصة الأمجاد والأكارم * * * وصفة الإيجاد في المكارم
صفاته الفاضلة القدسيَّه * * * ديباجة الفضائل النفسيَّه
وكيف وهو وارث النبوَّه * * * في المجد والمنعة والفتوَّه
ومن مصادر العلوم الحقَّه * * * علومه مشتقَّة بالدقَّه
إذ هو غصن دوحة الإمامه * * * في العلم والحكمة والكرامه
بل هو في ولاية الإرشادِ * * * إلى الهدى سرُّ أبيه الهادي
مقامه الكريم من أبيه * * * يبدو من البداء في أخيه
وكفُّه كالدُّرَّة اليتيمه * * * ليس كمثلها يد كريمه
بل يده في الجود والعوالي * * * يد النبيِّ المصطفى والآلِ
أكرم بها فإنَّها يد الندى * * * مبسوطة على البرايا أبدا
تلك يد المعروف ما أنداها * * * وكلُّ خير هو من نداها
وبابه مختلف الأملاك * * * معتكف العُبَّاد والنُّسَّاك
وكعبة الوفود للوفاد * * * وقبلة الشهود للأوتاد
وبابه مطاف كلِّ طائف * * * ومستجار الكلِّ في المخاوف
وبابه الرفيع باب العظمه * * * ومشعر الشعائر المعظَّمه
وبابه باب النجاة والفرج * * * عن كلِّ شدَّة وضيق وحرج
وبابه منهل كلِّ صادِ * * * ومشرع الحياة للورَّادِ
وكم بدت فيه من الخوارق * * * حتَّى بها أقرَّ كلُّ مارق
لا غرو إنَّه ابن من شقَّ القمر * * * وذاك في أسرع من لمح البصر
وإنَّه ابن بجدة الكرامه * * * تراثه شهامة الإمامه
من عنصر النبوَّة الختميَّه * * * من جوهر الولاية العليَّه
له اليد البيضاء في التصرُّفِ * * * يفعل ما يشاء سرُّه الخفي
وحاز من مراتب الكمال * * * ما جاز حدَّ الوصف بالمقال
مقامه السامي من الولايه * * * فوق السماء لا إلى النهايه
فاز بأرقى رُتَب الكرامه * * * بكلِّ معناها سوى الإمامه
فنوره نور مصابيح الهدى * * * وجوده جود مفاتيح الندى
بل هو في وجوده الربَّاني * * * إنسان عين نشأة الأعيانِ
وهو أتمُّ الكلمات المحكمه * * * إذ نقطة الباء لسيماه سمه
بل نوره من نيِّر النبوَّه * * * وفيه كلُّ غاية مرجوَّه
به استدار الفلك الدوَّار * * * لا بل به استنارت الأنوار
لا بل بنور علمه الإلهي * * * حقيقة الحقِّ بدت كما هي
بل ذاته مرآة حسن الذات * * * وصورة الأسماء والصفات
أكرم به من عنصر ربوبي * * * مستودع الأسرار والغيوبِ
قد فاز من لاذ به في كربته * * * فالفوز كلّ الفوز عند تربته
روضته خير رياض الجنَّه * * * فإنَّها من البلاء جُنَّه
ضريحه أسمى من الضُّراح * * * وكيف وهو معقل الأرواح
قُبَّته من قُبَّة السماء * * * كقاب قوسين من الغبراء
حريمه حرز من المخاوف * * * والحرم الآمن كلَّ خائف
حصن منيع للورى جواره * * * يا حبَّذا جواره وجاره
لذ بفنائه بعزم صائب * * * تجده عوناً لك في النوائب
وفي فنائه دواء الداء * * * وغاية المأمول والرجاء
واليسر بعد العسر في فنائه * * * بل كلُّ خير هو من عطائه
5 - العلَّامة الشيخ هادي بن الشيخ عبَّاس بن الشيخ عليٍّ كاشف الغطاء(160):
تحتوي لغةُ الفقهِ على تراكيب شائعة وتصوير نابع من الواقع المعاش، فلا مسرح فيها للخيال، وتحكمها انطباعات تحمل لوناً من صرامة الجدِّ وعقلانيَّة التأمُّل، وتظهر ظلال هذا المعنى في جلِّ ما يكتبه الفقيه من نظم ونثر حتَّى لو كانت كتاباته إخوانيَّة أو وجدانيَّة، بل ترى معاني التشبيب والحماسة عنده ترتسم بتلك اللغة، وكأنَّ مخيال الفقيه مكبَّل بتلك الكلمات ومسيَّر في تلكم الطُّرُقات، فلاحظ: القصد، الإرث، نوالي، نبرأ، النقض، النكث... إلخ، فإنَّها كلمات استقت معانيها من قاموس الفقه، بل حتَّى النظم طُوِّعت أوزانه بما يتلائم مع ذهنيَّة الناظم وكلماته الفقهيَّة التي يألفها؛ لأنَّ ذهنيَّة الفقيه ولغة الفقه تضادُّ الشعر والتشاعر وإنْ أبدعت في بناء المعاني ولامست المشاعر، لذا ترى ألوان الشعر باهتة ودغدغة الأحاسيس إيقاعيَّة نظميَّة أكثر منها أُسلوبيَّة، بمعنى ضمور عنصر الخيال والتحسُّس في نظم الفقهاء ممَّا جعل أساليب الشعر والتشاعر انطوائيَّة بعيدة عن أثير النفس وتخرُّصاتها الذي يُعَدُّ الحاضن الطبيعي للخيال والتخيُّل.
وليس هذا ذمًّا لشعر الفقهاء، بل هو استبيان لأُطُر نهجٍ خاصٍّ يتعامل مع الكلمة تعاملاً مسؤولاً، ولا يُلقي الحبل على الغارب حتَّى لو أدَّى ذلك إلى حصره أو غرقه ببحر معيَّنٍ من النظم وألجأه إلى كلمات محتشمة جدّيَّة وإنْ داعبتها المعاني، هذا لو نظرنا إلى شعر الفقيه كشعرٍ مجرَّداً عن مقصده، وأمَّا مع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(160) أخذ عن الآخوند والسيِّد اليزدي، وصار من مراجع التقليد، له مكتبة من أنفس المكتبات، انتقلت إلى ولده الشيخ محمّد رضا، وله (11) مؤلَّفاً، وُلِدَ سنة (1287هـ)، وتُوفِّي (9) محرَّم سنة (1361هـ).
الاعتناء بمقصد الشاعر فالهوَّة تزداد، بداهة أنَّ الشعر المحيَّث عموماً - سواء كان محيَّثاً بمقصد ذاتي راجع إلى نفس الشاعر أو الشعر أو محيَّثاً بمقصد غير ذاتي كأنْ يكون الغرض منه التعليم أو تصيُّد ممدوح وقدح مهجوٍّ - ضيّق المنافس، تتحكَّم فيه صور ليست بذات صلة بعالم القلب وإملاءاته.
وقد تهمس في أُذُنك تمتمات القلب بحبٍّ صادق - ومن دون أنْ يتخلَّل الإيقاع حسٌّ أُنثوي - معه ينكشف غطاء الكلمات وأنت تقرأ شعر فقيه:
فكم عن قاصديه زال كربُ * * * وكم لمؤمِّليه لُمَّ شعثُ
وكنت وللإمامة كنت أهلاً * * * بذاتك والفخار الجمّ إرثُ
نواليكم ونبرأ من عداكم * * * وما لولائكم نقض ونكثُ
بمدح علاكم نروى ونشفى * * * إذا ما مسَّنا ظمأ وغرثُ
علوم الدِّين أجمعها لديكم * * * ومنها في البرايا ما يبثُ
6 - آية الله العلَّامة الشيخ عليٌّ الجشي القطيفي البحراني(161):
حينما يخالط الولاء اللحم والدم، وحينما تصبح روابطه العلم والمعرفة يُكوِّن لياليه وأيَّامه وصوره ومعانيه آيات الفكر المنبثقة من ساحة الجمال والجلال، ولك أنْ تقف أمام أنفس ألفت همس المعاني ولامست تنهُّدات القلب الشامخ في حبِّه فلا الفراق يُهيِّجه، ولا اللقاء يبهجه، أرأيت قلباً يحمل حبًّا وهو لا يكترث ولا ينفعل بما دون حبِّه الأوفى، ذلك الذي علم العارف بِرَّ المعرفة ومنسك الحبِّ وقداس الولاء، ليُدرِك العاقل أنَّ من المعارف ما لا يُوصَف ولا يُحكى، و من الفضائل ما لا ينبت إلَّا في ساحة الخلد أو على ضفاف ودِّها الصافي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(161) عالم مجتهد، أخذ عن الآخوند والشيخ النائيني وغيرهما من أعلام النجف الأشرف وأعلام القطيف، عنده ولاء ينمُّ عن مقام علمي فريد، عُيِّن قاضياً في القطيف، وُلِدَ سنة (1296هـ) وتُوفِّي سنة (1376هـ)، وأعقب الشاعر الأديب عبد الرسول الجشي المعروف بأبي قطيف.
كلون البلور حيث تنصهر الشوائب قبل أنْ تدنو منه، ومع المحبِّ والعارف نعقد نيَّة الإحرام، ونقرُّ كما يقرُّ العقل، وننشد ما أنشد الحكيم المتألِّه والعارف:
أبا جعفر يكفيك فضلاً بأنَّ من * * * لآباك والوا من ذوي الفضل والفطن
رأوك حريًّا بالإمامة بعدهم * * * فلو لم تمت لم يعرفوا أنَّه الحسن
وما ذاك إلَّا أنَّ ما استأثروا به * * * من الفضل دون الخلق فيك على سنن
7 - العلَّامة الشيخ راضي بن الشيخ عبد الحسين آل ياسين الكاظمي(162):
لك أنْ تتساءل: كيف تكون عقلانيَّة الشاعر الفقيه وهو يلامس آلام الحقِّ ويكابد كُتُب التاريخ والأدب؟
ولك أنْ تعجب من قلب العالم وهو يحنو على أيتام تشظَّف عيشهم واسودَّت حياتهم؛ إذ لم يدروا إلى أيِّ ملجأ يفرُّون من سياط عدوِّهم الحاقد؛ فتسأل بأيِّ عزيمة يحتمل هذه المصائب؟
وبأيِّ يدٍ يمدُّ العون؟
وبأيِّ قلم يستطيع أنْ يُملي تمائم العقل وهو يعيش بنفسٍ مجرحة؟
ما سرُّ عظمة النفس؟ وهذه كيف تستطيع الالتذاذ بكلِّ هذه الآلام؟
يقولون: إنَّ لكلِّ شخصيَّةٍ ما تتمحور عليه، فتتكوَّن في ظلاله، ويصبح سمة بارزة فيها، تنبض به روحها، وتقبح التخرُّصات في دعواه وإذا أعوزها الصبر لم يغلبها الجزع، وهي تقارب الخطو، وترنو إلى بارقة النجاح، وهي تُؤمِّل تمائم الحبِّ الأقدس وتنشد:
يا مرقد الطهر أبي جعفر * * * ثويت في هذا الضريح الضراح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(162) عالم جليل، له كتاب صلح الحسن وتاريخ الكاظمين، شارك في ثورة العشرين، وُلِدَ سنة (1314هـ) وتُوفِّي في لبنان سنة (1372هـ) ونُقِلَ إلى النجف، وأعقب الدكتور عزّ الدِّين والأُستاذ مفيد.
تهوي إلى من فيه أرواحنا * * * لأنَّه السنا للروح روح وراح
هذا الشذا من شذره فائح * * * وذا السنا من نوره فيك فاح
غصَّت بك الحاجات معروضة * * * تنتظر العطف وترجو النجاح
ضاقت بها الدنيا وقد يمّمت * * * واديك فازت بالأماني الفصاح
قد شفَّعت جاه أبي جعفر * * * جلَّلها الفوز وفاض السماح
كم منحة أولى وكم محنة * * * جَلَّى وكم ذي كربة قد أراح
هذي كرامات أبي جعفر * * * عندك تجلوها مساء صباح
شاعت وضاءت بسناها الدنا * * * نوراً وضاءت بشذاها البطاح
وقد رواها معشر صالح * * * فهي الأحاديث الحسان الصحاح
وشاهد الآلاف من جيلنا * * * آلافها في غدوة أو رواح
لا غرو فالمدفون فيك الذي * * * لولا البدا كان الإمام الصراح(163)
8 - الشيخ محمّد رضا آل ياسين(164):
ظرف الأدب حاضر بين الكلمات، ويقين الإيمان ثابت الأركان، ولكن حلاوة الاطمئنان التي طلبها إبراهيم (عليه السلام) سرت في أتباع الحنيفيَّة، وحقَّ لهم ذلك، فالمؤمن يلمس الفخر والعزَّة والشرف في دينه وما يعتقد، ولتذوُّق الماء لذَّة وللمحه لذَّة أُخرى:
يا أبا جعفر إليك لجأنا * * * ولمغناك دون غيرك جئنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(163) عن مآثر الكبراء في تاريخ سامرَّاء (ج 2/ ص 325).
(164) ابن الشيخ عبد الحسين بن الشيخ باقر آل ياسين، درس على يد والده وخاله السيِّد حسن الصدر وصهره السيِّد إسماعيل الصدر، رجعت إليه شيعة العراق، وُلِدَ سنة (1297هـ) وتُوفِّي بالكوفة سنة (1370هـ). شعراء سبع الدجيل لحسين البلداوي (ص 48).
فعسى يتجلَّى لنا آي قُدس * * * فنرى بالعيان ما قد سمعنا(165)
9 - آية الله السيِّد محمّد جمال الدِّين الهاشمي الكلبايكاني(166):
يتلوَّن الشعر بكلمات ومعانٍ تُقرِّب أو تُبعِّد عن ساحته، فيضعف تارةً ويقوى أُخرى بحسب نسج معانيه، فيفرح تارةً ويحزن أُخرى بحسب سمت الكلم المتَّخذ، وكأنَّ موج إيقاعه يحمل قسمات روح الشاعر وهي تحكي رائع تفاعلها ورائق حسِّها بما ترنو إليه دون الناس.
ولعلَّ الشاعر صنو الفيلسوف، يتحسَّس بواطن الألق الكوني قبل التفات الإنسان إليه؛ فيُصوِّره ببيانه السهل الممتنع، وينفخ في جسده مشاعر مصبوغة بتوجُّس السبق وألم المعرفة ونشوة الذكرى.
وأمام كلمة الشعر يتمايل الناس بين إيقاع الكلمة وجرس المعنى، وينسون الناس إحساسهم المرهف، فيشرد نحو وادي الشعر، وتلهث وراءه قلوب حمقى - حماقة ذات طابع خاصٍّ وهي إفراز طبيعي للحبِّ؛ إذ لا يرى المحبُّ سوى ما يُحِبُّ - تظنُّ أنَّ الحبَّ والتاريخ آخر ساحةٍ يطأها الإنسان، ويتلاشى هذا الظنُّ لو حدت لتلك الأحاسيس شاعريَّة من لون شاعريَّة السيِّد، فقد تمكَّن من زمام الكلمات والمعاني، وروَّض الشعر حتَّى قاده من سوح العبثيَّة وفوضى الأنا إلى أُفُق الجمال، فلم يُخطئ من سمَّاه جمال الدِّين، ففي ديوانه (مع النبيِّ وآله) تجده راعياً لتلك الأحاسيس، يقودها بأمانةٍ ووجدانٍ شعريٍّ، لا استبداد ولا تهوُّر عنده، يخلص في بيان المعاني إلى أوضح السُّبُل، ويُمكِّن الشعر من وطء دهاليز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(165) قال السيِّد جواد شُبَّر: لقد دعيت مرَّة إلى مأتم يختصُّ بالسيِّد الجليل السيِّد محمّد ابن الإمام عليٍّ الهادي (عليهما السلام)، وبعد الفراغ أنشدنا المرحوم الشيخ محمّد رضا من نظمه والأبيات مكتوبة بالقاشاني على المئذنة في الصحن الشريف.
(166) تفضَّل بها نجله العلَّامة الجليل السيِّد هاشم الهاشمي (حفظه الله)، وهي من ديوانه المخطوط، وقد نُظِمَت في ذي القعدة (1359هـ).
نفس القارئ بخطى واثقة بما تحمَّلت من معاني وأحاسيس خالية من الأوهام والخيال المشوِّه للحقِّ والحقيقة.
هكذا كايد صنعة الشعر وأثار فضولها، فاستشرفت لعلائق الوحي، والدِّين، والحبِّ، والخلود، والنفس، والأرض، والزمان، والعقل...، وطربت لتناغم البحر، والإيقاع، والصورة، والكلمة، والمعنى، والحسِّ...، كلُّ ذلك ولا تقتنع شاعريَّة مثل شاعريَّته، فتراها تطلُّ بمطلع يمغنط الأنفس على اختلاف مداركها، ويلهب المحفل بحفاوة منقطعة النظير. هكذا كائن الكلمة يقتل الملايين ويُبقيها دونما حراك، أو يُوقظها من سباتٍ وعدم وكأنَّه نبض الضمير الإنساني، نبضٌ يمسك بزرِّه عالم عمل بما لديه من معرفة وأدوات، فمازج تمتمات السماء حزناً وفرحاً، فراح ينهل وينهل وتنهل معه الكلمات وقُرَّاؤها وهي لا ترتوي من جماليَّة الدِّين وسلاسة الكلم في مسرداته.
وإنْ عاندته القوافي وصارعته الكلمات في أبياته هذه فلأنَّ نظمها جاء في أوائل عمره الشريف، مع استعجال ألحَّت به نازلة ألـمَّت به، فنحا منحى الشعراء في مدائحهم، وبدأ بما يبدأون به من تغنٍّ بالجمال ومثاله ليخلصوا إلى جمال ممدوحهم، فإذا مطلع قصيدته سياحة في عالم الجمال، وهو عالم لقُرَّائه إسقاطات طالما نالت ويلاتها الشعراء ورمقتهم بدعر الخواطر ومجون الذكريات، ولم تمنع هذه الرؤى الخابطة الشعراء من أنْ توري زناد شعرها وتلهب جمرة وجدها بهمس الجمال ودغدغات السمَّار، فهي أنفس رأت عوالم القلب وتفيَّت ظلال الهوى فأعقبها حسناً وأنشدها شعراً، لذا ترى بدايات الشاعر تُغنِّي:
أرهفت في جمالها إحساسي * * * فاستفاضت بخمرة الحبِّ كاسي
هدهدت في جوانحي نشوة العشق * * * ودبَّت صهباؤه في كاسي
أسفرت عن محاسن تخلف اللُّبِّ * * * ومالت بقدِّها المياسِ
ورنت عن لواحظ تنفث السحر * * * فتسبي قلوبنا باختلاسِ
صُنت منها قلبي فلم يُغْن صوني * * * وسبته منِّي برغم احتراسي
فتمشَّت في خاطري رعدة الحبِّ * * * وزادت من وطئها أنفاسي
هام فيها حتَّى البليد أيخفى * * * حسنها عن مثقفٍ حسَّاسِ
ألهمتني وحيَ الشعور فمنها * * * لا من الكائنات كان اقتباسي
وقرأت البديع في حسنها الفذِّ * * * وأدركت منه لطف الجناسِ
إلى أنْ يقول:
وبحبِّي النبيَّ والمرتضى والعصمة * * * الطهر قد عصمت التباسي
وبسبطيه والأئمَّة قد طهَّرتُ * * * نفسي عن وصمة الأدناسِ
آل بيت النبيِّ قد نزَّهتهم * * * آية الطهر من ذوي الأرجاسِ
وبحبِّي للسيِّد الطاهر الندب * * * زعيم الهدى وربِّ الباسِ
عذتُ من زلَّتي وسوء فعالي * * * وهو كهف اللَّاجي وللضيم آسي
غصن دوح من الإمامة قد طال * * * وطابت جناه في الأغراسِ
من سما قدره السماء ارتقاءا * * * وشأى شأنه الجبال الرواسي
كان - لولا البداء - فينا إماماً * * * فهو دون الإمام عند القياسِ
(مرقد في الدجيل) من زاره * * * كان لآل النبيِّ فيه مواسي
نزَّهته نفسٌ تسامت عن الرين * * * وحلمٌ مزيَّن بقداسِ
أسدٌ لو أراد أنْ يملك الأمر * * * لما ناله بنو العبَّاسِ
وهمامٌ بنى إلى الدِّين مجداً * * * شامخَ القدر راسخ الأساسِ
كم له من مناقب قد تجلَّت * * * بسناها للدهر كالمقباسِ
من عليلٍ أتاه يشكو سقاماً * * * فانثنى عنه ما به من باسِ
ومخوفٍ قد لاذ فيه فأمسى * * * فارغ البال مالك الإحساسِ
إنْ تخبْ في مناك زره لتحظى * * * عنده بالمنى عقيب الباسِ
لم أُشفِّعه في أُموري إلَّا * * * وقضاها الإله دون مكاسِ
سيِّدي قد نذرت لله إنْ فزتُ * * * بقصدي ولم أصب بانتكاسِ
زرتُ مثواك والولاء دليلي * * * مع كبشٍ مفلَّج الأضراسِ
فأُضحِّيه رمز تضحية النفس * * * وأهدي اللحوم للحُرَّاسِ
فاقضِ يا سيِّدي حوائج عبد * * * موثق بالذنوب والإفلاسِ
10 - العلَّامة السيِّد عليّ نقي الهندي(167):
يتفنَّن الشعراء في النظر بالمعاني والأحاسيس، ويتمكَّن العلماء من زمامها، فالكلمات والمعاني بين أيديهم قد تُشرعن ويكسوها هتاف الغيب وندبته:
تشقُّ الجيوب على من غدا * * * يشقُّ له جيبه العسكري
وباح لمن جاءه سائلاً * * * بما زاد فخراً على فاخرِ
ألم يكُ هارون شقَّ الكليم * * * له الجيب في سالف الأعصرِ
رضيعا لبان الهدى والرشاد * * * شريكان في الأصل والعنصرِ
ولهذه الأبيات نقل آخر(168):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(167) السيِّد عليّ نقي ابن السيِّد إبراهيم ابن السيِّد محمّد تقي الموسوي اللكهنوي الهندي، أخذ عن السيِّد محمّد بحر العلوم والشيخ محمّد عليّ الأُرودبادي، ورجع إلى الهند سنة (1354هـ)، وصار من مراجع التقليد، من آثاره: كشف النقاب وتفسير القرآن الكريم، وُلِدَ بالهند سنة (1325هـ) وتُوفِّي في أوَّل شوَّال سنة (1418هـ). عن شعراء سبع الدجيل لحسين البلداوي (ص 55).
(168) ذكره حسين البلداوي في شعراء سبع الدجيل (ص 55).
تشقُّ الجيوب على من غدا * * * يشقُّ له جيبه العسكري
تجلَّت مخائل من قدسه * * * تريك الإمامة في المنظرِ
فلمَّا قضى نحبه في حياة * * * أبيه بدا الحقُّ للمعشرِ
بأنَّ الإمامة بعد النقي * * * من الله في الحسن العسكري
11 - الشيخ عبد الحسين الحويزي:
سبحان الله قد أجاد الشيخ فالمعاني تتوسَّم في أصحابها كتوسُّمهم فيها وقد لا تحصل بينهما عشرة وصحبة وإنْ حصل بينهما تآلف:
هلال دجى وشمس ضحى وفرقد * * * سليل عليٍّ الهادي (محمّد)
أخو الحسن الزكي وعمُّ مولى * * * حمى الدِّين القويم به مؤيَّد
سموتَ فنلتَ غايات المعالي * * * جميعاً - يا سميَّ الجدِّ - بالجد
رأت منه الإمامة وجه سعد * * * وطالعها بوجه أخيه أسعد
أجل لو لم تُؤجَّل فيك حلَّت * * * ولو لم يكن البداء عليك تعقد
12 - السيِّد محمّد باقر الشخص بن السيِّد عليٍّ الأحسائي(169):
ثقافة المرء - وهي في مجملها منبت القِيَم - هي التي تُرجِّح كفَّة السُّبُل التي تُسلَك والطُّرُق التي تُنتَهج في هذه الحياة، والمعتقد الدِّيني والمعرفة الشخصيَّة هي أحلى وألذُّ هبةٍ من مثقَّف لآخر، وأمَّا الإحالة إلى شخص آخر قادر وكفؤ فهي الغاية في النصح، والإشادة بفضل وخصائص المحال عليه.
مبادرةٌ جميلة تساعد في تحقيق المراد هذه محاولة سيِّد عُرِفَ بمكارم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(169) عالم وجيه، درس على يد الميرزا النائيني والشيخ محمّد رضا آل ياسين، له: تمام الأُصول والأوامر والنواهي، وُلِدَ سنة (1316هـ) وتُوفِّي سنة (1381هـ).
الأخلاق وبالسعي في قضاء حوائج الإخوان، وكأنَّ شوقه لهذا المضمار حدا به إلى نداء طلَّاب الحوائج بلغة صريحة ينطق بها فم يعي ويثق بما يقول:
إنْ كنت طالب حاجة ومرادِ * * * فأنخ بقبر محمّد بن الهادي
ذاك الذي ما أمَّه ذو حاجة * * * إلَّا وفاز بنيل كلِّ مرادِ
ذاك الذي لم يستجر أحد به * * * إلَّا وعاد بمنية المرتادِ
لك يا ابن خير المرسَلين مناقب * * * جلَّت عن الإحصاء والتعدادِ
لك في عظيم الذكر أيُّ فضائل * * * تُتلى مدى الأيَّام والآبادِ
وضريح قُدسٍ دون أدنى مجده * * * هام السهى والكوكب الوقَّادِ
أضحى ملاذ اللَّاجئين ومأمناً * * * للخائفين وكعبة الوفادِ
يكفيك فضلاً أنْ أتى بك معلناً * * * خبر البداء مسلسل الإسنادِ...(170)
13 - الشيخ عبد المهدي بن الشيخ عبد الحسين بن الشيخ حسن آل مطر الخفاجي النجفي(171):
تبدأ هيمنة المعرفة في رسم الصور الواقعيَّة، لكن الشاعريَّة تضمحلُّ وتفقد رونقها بهكذا رسم، فتغالب علم الشاعر ومعرفته من أجل لونها الأفضل ووجودها الأروع، ويغالبها العلم والمعرفة لنفس الغاية والهدف، وهنا تظهر قدرة العالم الشاعر، ففي مزج الأحرف والكلمات مقياس لقدرة الشاعر وعلمه:
ولم ترَ عيني قبل قبرك مرقداً * * * يُعَدُّ ليوم الخطب كهفاً فيقصد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(170) مزارات أهل البيت لمحمّد حسين الجلالي (ص 146).
(171) أخذ عن الشيخ النائيني وكاشف الغطاء والسيِّد الخوئي، وعُيِّن أُستاذاً في كلّيَّة أُصول الفقه بالنجف الأشرف، له: تقريب الأُصول والأحراز المجرَّبة وديوان شعر، وُلِدَ سنة (1318هـ) وتُوفِّي سنة (1390هـ)، وأعقب الشيخ عبد الحسين.
كأنَّ ذئاباً حوله قد تجمَّعت * * * قريش ضلال حيث أنت محمّد
تريهم من الآيات أيّ معاجز * * * تقوم لها العشر العقول وتقعد
وإنْ عدَّد التاريخ آيات مجده * * * فآيك لا يأتي عليه معدَّد
14 - الشيخ محمّد حسن بن الشيخ عليٍّ الطريحي(172):
يرشد الناظم إلى معدن معانٍ هي حلم الرجال وأماني القدر بقوله:
إذا رمت عزًّا وانتصاراً وتسعدا * * * فزر مهجة الهادي الزكي محمّدا
كريم عظيم القدر شهم سميدع * * * سما الشهب علياءً وفخراً وسؤددا
15 - السيِّد محمّد هادي بن آية الله السيِّد محمّد الحسن صدر الدِّين العاملي الكاظمي:
وينظم السيِّد وسيلة المستعين وقد ضاقت به سُبُل تلك الأُمنيات فتراه منشداً نظمه:
أبا جعفر يا غوث كلِّ ملمَّة * * * ويا ملجأ اللَّاجين في الكرب والضرِّ
دعوتك للأمر العسير وطالما * * * بك انقلب الأمر العسير إلى اليسرِ
16 - الفاضل الشيخ عبد الغني الخضري(173):
يقولون: إنَّ ركوب الخيل عزٌّ؛ وهو يُورِّث الزهو أو يحلي هيكل الإنسان بمظهر الزهو وإنْ خلت نفسه منه، ومن لطف الشاعر أنَّه يطالب ذوي العزِّ والزهو بآية الودِّ والولاء، وآية الودِّ والولاء هو تقبيل التراب لذوي العلاقة، وكأنَّه لا يرضى أنْ يكون مشعل هذه السمة منبت العواطف من دون التفات وشعور عاقل، ولذا ترى مطلبه مشفوعاً بما يدين به المحبُّ العاقل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(172) خطيب، وُلِدَ سنة (1317هـ) كما حُكي عن خطباء المنبر الحسيني للشيخ حيدر (ج 4/ ص 62)، كما في شعراء سبع الدجيل لحسين البلداوي.
(173) وُلِدَ عام (1326هـ) بالنجف الأشرف.
فانزل عن الخيل وقبِّل تربه * * * حيث المنى فيه لكلِّ طالب
فهو لسبط أحمد (محمّد) * * * نجل عليٍّ خيرة الأطائب
سلالة الهادي وأكرم بفتى * * * منحدر من هاشم وغالب
لولا البدا كان إماماً حائزاً * * * من المعالي أشرف المناصب
يسألنا الله غداً عن حبِّكم * * * فحبُّكم من خيرة القرائب
17 - العلَّامة الشيخ محمّد عليّ بن أبي القاسم محمّد تقي الأُوردبادي(174):
تقف الروح العراقيَّة في أوَّل حرف من هذه الأبيات وهي روح الحماسة والانفعال، روحٌ يألفها التنمُّق في سوح الفضيلة وبساتينها، وتفقدها كرام البشريَّة، ومن زمن بعيد كاد يتيه الإنسان وهو يجس الأرض بحثاً عن نبع جديد لتلك الروح، ولعلَّ الشيخ جمع عوامل الفضيلة، فمن عامل وراثي عبَّر عنه بطيب الأُصول، وآخر تربوي، وثالث غيبي، ولك القول: عامل ديني يضفي من جلالته ما يُخشِّع القلوب وتُقدَّس لذاتها:
تأبى الفضيلة أنْ يُمثّل شخصه * * * بشراً وأنْ يُكوَّنَ نوعه من جنسه
طابت أواصره بطيب أُصوله * * * وزكت عناصره بزاكي غرسه
سيَّان ماضيه وحاضر مجده * * * وكيومه في الدهر معجز أمسه
وحِماه مرهوب الجوانب كلِّها * * * لمكان هيبته وشدَّة بأسه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(174) درس على يد أبيه وشيخ الشريعة والسيِّد حسن الصدر والشيخ محمّد جواد البلاغي، وقد أجازه برواية نحو ستِّين علماً، فهو الفقيه الخطيب المؤرِّخ الفيلسوف، وُلِدَ سنة (1312هـ) وتُوفِّي سنة (1380هـ).
18 - العلَّامة السيِّد صادق بن السيِّد باقر بن السيِّد محمّد الموسوي الهندي(175):
لا يترك الإنسان صفحة تتمكَّن من أنْ تحمل آثار دركه وعقله إلَّا ويُكلِّفها بشيء ممَّا عقل، وهنا هديَّة أدرك الأوائل وقعها في دنياهم واستحملها الشاعر لعالم آخر:
أبا جعفر جئنا بمزجى بضاعة * * * لنكتال ما نحتاج إذ مسَّنا الضرّ
فأنت عزيز الهاشميِّين رفعةً * * * وأرض بك ازدانت جوانبها مصر
فأوفِ لنا الكيلين كيلاً معجَّلاً * * * وكيلاً لدى الميزان موعده الحشر
19 - السيِّد مير عليّ أبو طبيخ النجفي(176):
لم أقرأ للسيِّد سوى هذه الأبيات التي أيقظت مخيالي بكلمات تُشممك حميَّة هاشميَّة، فسبكها كبحرها متدفِّق الموج سريع الإيقاع يفوح منه شذا الفتوَّة ممتزجاً برائحة الحبِّ، كما يفوح من هذه الأبيات اليقين بالملجأ، وقد تكفَّل بذلك لفظ الأمر فلاحظ قوله: انزل، احلل، اكحل، ومشهد اليقين هذا مشيَّد على أساس النبوَّة، ونتيجته ضروريَّة لا تحتاج لبيان، فهي الجلاء لكلِّ طرفٍ عمَّ:
عمُّ الإمام أخو الإمام وصنوه * * * وابن الإمام وللنبوَّة ينتمي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(175) أخذ عن أبيه وجدِّه والسيِّد محمّد تقي البغدادي، نزل بلد وكيلاً للسيِّد أبي الحسن الأصفهاني سنة (1346هـ)، عُرِفَ منه الصلاح والتقوى، وكان متضلِّعاً في الفقه والأُصول، من آثاره: الكرَّة والرجعة وصلاة الجمعة وديوان شعر، وله وقوف تامٌّ على المذاهب الأُخرى، وُلِدَ سنة (1314هـ) وتُوفِّي (18) رجب سنة (1384هـ)، أعقب السيِّدين موسى وباقر، وسيأتي فيمن كتب عن السيِّد ذكر ابنه السيِّد موسى.
(176) السيِّد مير عليّ أبو طبيخ بن السيِّد عبَّاس النجفي، أخذ عن أخواله بيت آل راضي، وله مؤلَّفات في الفقه والأُصول وديوان الأنواء، طُبِعَ عقيب وفاته، وُلِدَ سنة (1308هـ) وتُوفِّي سنة (1361هـ)، وخلَّف مير حسين ومير صادق. شعراء سبع الدجيل لحسين البلداوي (ص 52).
طابت نقيبته فلا عجبٌ إذا * * * قرعت مناقبه مصام المرزمِ
فانزل بعقوته وطف بفنائه * * * واحلل حباك بقبره وبه احتمي
واكحل جفونك من تراب ضريحه * * * فهو الجلاء لكلِّ ذي طرف عمي
20 - الشيخ محمّد رضا الغرَّاوي(177):
أثنى عليه صاحب (شعراء الغري) وأكبر خلقه، وقال عنه: إنَّه من طراز السلف الصالح، وشاعر من طراز القرون المظلمة الذين تحلَّوا بالصناعة اللفظيَّة والتمسُّك بالبديع، وقد نظم الكثير من الموشحات.
والقارئ لشعره يرى ما يحمله الشاعر بين جوانبه من أحاسيس عذريَّة تُقرِّبه لمعاني كلماته، فينحت من مخزونه اللغوي خطاباً متموِّجاً، فتأتي الصور والتراكيب متفاوتة القوَّة والضعف، ذات مفارقة كبيرة على مستوى الإيقاع والشاعريَّة، وبعض ذلك ناتج من معجميَّة الشاعر، وبعضه تمليه سمات المادَّة الشعريَّة أو الغرض منه، ولا يحسن تجاهل تأثير البحور والأوزان في القيمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(177) ابن القاسم بن محمّد بن ناصر بن قاسم بن محمّد المحزم الغرَّاوي العماري، يتيم اعتنت به أُمُّه، وتعهَّده السيِّد ميرزا حسن الشيرازي، أخذ عن الآخوند والسيِّد اليزدي والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء والشيخ محمّد رضا آل ياسين والسيِّد عبد الرزَّاق الحلو والسيِّد أبو الحسن الأصفهاني والشيخ محمّد حسين الأصفهاني والشيخ هادي الطهراني وغيرهم، ومن تلامذته الشيخ عليّ العسكري والشيخ محسن الغرَّاوي، وله نحو (66) مؤلفاً، منها: أصدق المقال في علم الدراية والرجال، ونصيحة الضالِّ في الإمامة، والعرى القاصمة في تفضيل فاطمة، ونفائس التذكرة في شرح التبصرة في (14) جزء، وإزالة الغواشي في مدرك الحواشي لليزدي على التبصرة، والزاد المدَّخر في شرح الباب الحادي عشر، والأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة، واقليد النجاح في شرح دعاء الصباح، وديوان شعر، وتفسير القرآن، وكُتُب في اللغة وآدابها، وغيرها من المؤلَّفات في مختلف الموضوعات والعلوم، اشتغل بالتبليغ، وكان ممثِّلاً للسيِّد أبي الحسن الأصفهاني في أبي الخصيب، وُلِدَ (10) شوَّال سنة (1303هـ) في قرية ميامين بطريق خراسان في طريق زيارة الإمام الرضا (عليه السلام)، وتُوفِّي سنة (1385هـ).
الشعريَّة للقصيدة، فتجد الغرَّاوي مثلاً مكوّناً بأنفاس الفقه: أحلَّت، أهلَّت، أحرمت، سعت، حرمت، هدياً، الارتداد، مضطهد...، إلخ. الأمر الذي يُوجِّه سياحة مخياله ويُكبِّل شاعريَّته، وإذا انضمَّ إلى ذلك موضوع مهمٌّ أو غرض ذو قيمة معرفيَّة أو دينيَّة فسيخبو وجد الشاعريَّة حتَّى تلحق قصيدته بالنظم، وهنا تقف على مذبح الشعر والشعراء؛ تجد المذبح في هيمنة الحكمة أو المعرفة أو الغرض أو إحدى متطلِّبات المضمار الشعري.
فكيف يكون الحال لو اجتمعت هذه العوامل؟ أترى نسيجاً تأتلف فيه الأحاسيس العذريَّة لمعانٍ ذات سمات نظاميَّة في دلالتها ومحتواها؟ إنْ وجدت شيئاً كهذا فستجد سحراً يأسر الكلمات، وإلَّا فأنت أمام كلمات نظاميَّة المحتوى تحمل صور الشعر وأغراضه وأحاسيسه بزيٍّ رسميٍّ معتمد في الدواوين.
وكأنَّ الغرَّاوي أراد التعبير بشكل رسمي عن المكنون بنفسه، فهو صبٌّ لكن نفسه تأبى إلَّا مظاهر الوقار حتَّى لو كان الحبُّ والوجد والشغف أسياد الموقف وسادته؛ وهذه أبياته قد ترسم أمراً يريده القلم بين قافية شموس وبحرٍ يشبه المهرة النافرة:
صبُّ الديار بحبِّكم بهجُ * * * ولسانه في ذكركم لهجُ
والبعد لو أضنى له جسداً * * * فشذاكم تحيى به المهجُ
وبعادكم قربٌ وحربكم * * * سلمٌ وضيق نواكم فرجُ
لم يحلُ لي إلَّا كُمُ أبداً * * * بل كلُّ شيء غيركم سمجُ
تخفيكم عنِّي الورى حسداً * * * وعليكم قد دلَّني الأرجُ
إنْ يدرجوا نبأ السلو لكم * * * فهُمُ بشوط المين قد درجوا
فالروح منِّي فيكم امتزجت * * * ولربَّما الروحان تمتزجُ
يا عرب نجد والوفا خلق * * * للعرب كان وهم له نهجُ
حاشاكم أنْ تُنكِروا شغفي * * * وأنا الذي في الحبِّ أبتهجُ
تبدي الأنام هواكم وَهُمُ * * * لم يدخلوا إلَّا كما خرجوا
يبدون ما لم يضمروا فترى * * * صدقاً وكذباً قولهم مزجوا
غروَّا الورى في حسن ظاهرهم * * * ولديهم قصد الهوى هَرَجُ
صافوك إنْ صافيتهم وإذا * * * ما ملت مالوا عنك وانزعجوا
لا تطري شخصاً منهم فبهم * * * حلو الثناء عليهم سمجُ
إلَّا الثنا بمحمّد حسنٌ * * * وينال فيه الفوز والفلجُ
ابن الإمام أخو الإمام ومن * * * للحقِّ قد قامت به الحُجَجُ(178)
لم تُحْصَ في عَدٍّ مناقبه * * * وكأنَّها في لمعها سرجُ
21 - الشيخ محمّد رضا الزين العاملي(179):
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(178) إلى هنا تمَّ ما ذكره عليٌّ الخاقاني في شعراء الغري (ج 8/ ص 410)، وذكر الأبيات الثلاثة الأخيرة حسين البلداوي في شعراء سبع الدجيل ناسباً لها إلى نفس المصدر، غير أنَّ البيت الأخير غير موجود فيه.
(179) الشيخ محمّد رضا بن الحاجِّ سليمان بن عليِّ بن زين الدِّين...، أُسرة معروفة بالجهاد والذود عن الحقيقة والدِّين، عالم جليل وأديب شهير وشاعر موهوب، بذل والده جهده في تربيته فأدخله المدرسة العلميَّة في النبطيَّة، قرأ شطراً من الشرائع على يد السيِّد حسن يوسف مؤسِّس المدرسة، وبعد أنْ أخذ قدراً من العلم هاجر إلى النجف الأشرف سنة (1316هـ)، فرعاه ابن عمِّه الشيخ عبد الكريم الزين ودرَّسه أيضاً، وأخذ عن الآخوند والسيِّد محمّد بحر العلوم وشيخ الشريعة، ترك النجف عام (1338هـ) بدعوة من ابن عمِّه الزعيم يوسف الزين، اعتنى بنشر العلم، وكان دمث الأخلاق، عُيِّن قاضياً للمذهب الجعفري في ناحية الشغيف، له من الآثار: ديوان شعر، والتاريخ الإسلامي، وآل الزين في التاريخ، ومرسَلات أدبيَّة، وُلِدَ في صيداء سنة (1296هـ) وتُوفِّي في بيروت سنة (1365هـ) أثر سقوطه من مرتفع، شعراء الغري لعليٍّ الخاقاني (ج 8/ ص 352).
قد يتمكَّن القارئ من استشفاف شخصيَّة كاتب ما من خلال معجمه اللغوي والأُسلوبيَّة المتَّبعة، وقد يُقصِّر في قراءته فلا يتمكَّن من رسم ملامح بيِّنة، فيكتفي بتلمُّس بيئة الكاتب أو تربة الشعر، هذا إذا كانت قراءته واعية.
وسيجد نفسه يحوم في جوِّ الكاتب أو يُحلِّق مع الشاعر فيما لو تفاعل مع إيقاع الكلمات والمعاني حتَّى لو لم تكن قراءته واعية أو واعدة، فبيئة الشاعر منبت معانيه التي يبدع(180).
والزين مثال جيِّد لهذه النظرة، فبيئته لبنان - وهو بلد معروف عند الكثير من قُرَّاء الأدب والشعر بأنَّه منبت الرقَّة والحنان -، وعائلته ذات مجد وكيان، وهو ذو أساس متين من العلم والمعرفة، وتتجلَّى في المثبت من أبياته شاعريَّة مبثوثة بين معانٍ وكلمات ألفت غُرَر القصائد العربيَّة، وكأنَّها تأبى عن التخلِّي عن مضمار ألفه الشاعر نقداً ودرساً، وهذه سمة شاعريَّة تتعالى بها الهمَّة فلا ترتع في وديان المعاجم أو حضيض المعاني وهي تعيش يقين المعرفة وصلابة الدرك وفخامة التعبير.
شاعريَّة أُطِّرت بأُسلوبٍ تلمس عنده روحاً متميِّزة لا تهيمن عليها الكلمات، والمعاني تسيل في عبارات مفخمة ومعانٍ فاخرة يستوقف القاري جلالها ووقارها وإنْ لم يجد بينها بكر المعاني، أو لم تطل عليه مفردة وليدة للتوِّ.
فهنا شعر له روح لا تهيمن عليها الكلمات، وهناك شعر كالنور لا يبدو إلَّا في ظلال المعاني.
هذه شاعريَّة الزين وهي تستغيث وتستنير بقبس من مظهر عالم الغيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(180) يُجسِّد هذا المعنى شاعر لبناني ظريف أنهكه الفقر وجاد له الدهر بضيافة أمير الشعراء في قصره بمصر، فلمَّا رأى الحدائق الغنَّاء وغيرها قال مداعباً:
ولو كنت مكان شوقي * * * لسال الشعر من تحتي وفوقي
بأبيات نُظِمَت من آهات الحرب العالميَّة الأُولى، فقد اضطرَّ هذا العالم إلى ترك النجف الأشرف والسكن في البادية والأرياف حتَّى لفى بقرية (سمكية) من قرى الدجيل، فكان مأواه وملجأه العبد الصالح سبع الدجيل:
بمن يستغيث المرء إنْ ثُلَّ جانبه * * * إذا ما دهاه دهره ونوائبه
وسلَّ عليه من دواهيه مرهفا * * * تسيء مباديه وتخشى عواقبه
وسدَّد سهماً من عجائب صرفه * * * فأضحى وصرف الدهر شتَّى عجائبه
غرائبه في كلِّ شرق ومغرب * * * وقد جمعت في القلب منِّي غرائبه
وحمل قلبي ما يسيخ بحمله * * * ثمام ومن رضوى تدكُّ جوانبه
بمن تُدفَع الجلى بمن تُدرَك المنى * * * بمن يستردُّ الدهر فيمن نحاربه
نعم تدفع اللَّأواء بابن محمّد * * * ثمال الورى في الجدب تهمي مواهبه
أبا جعفر يا ابن الإمام إصاخة * * * لرقٍّ لكم في الرقِّ تعلو مناحبه
أيملكني دهر يودُّ بأنَّه * * * هو العبد لكن ذلَّلتني نوائبه
أتيتك يا ابن المصطفى ووصيِّه * * * وخيرك موفور ومولاك طالبه
لتنجح آمالي فجودك هاطل * * * على الناس طرًّا تستهلُّ سحائبه
وتنظر في حال امرئ رقَّ حاله * * * وضاقت عليه سُبُله ومذاهبه
وشطت به عن مورد العزِّ عزلة * * * إلى مورد بالذلِّ سيطت مشاربه
لقد سامني المقدار عن خير موطن * * * إلى موطن بالشرِّ عمَّت معائبه
وفرَّق ما بيني وبين أحبَّتي * * * ومعشر إلَّا في زمان أُحاربه
فشتَّت شملي بالعراق إقامتي * * * وللشام من أهوى تخف ركائبه
وفي النجف الأعلى وليد أحبُّه * * * يجاذبني بردِّ الأسى وأُجاذبه
لك الله فأنقذني من الدهر إنَّه * * * أخو إحن صبَّت عليَّ مصائبه
حنانيك فاقبلني على العجز إنَّني * * * دخيل ومن يدخل تحلُّ مصاعبه
أرى العرب الأحلاف يحمون من أتى * * * فكيف وأنتم للإله نواخبه
وكيف وأنتم للأنام أئمَّة * * * بنوركم للخلق تجلَّى غياهبه
وكيف وأنتم للوجود حقيقة * * * تدور بكم أفلاكه وكواكبه
مدائحكم في الذكر تُتلى وهل أتى * * * بغير علاكم (هل أتى) ومناقبه
أبا جعفر عطفاً عليَّ فإنَّني * * * مقيم على مغناك لست أُجانبه
مقيم على مغناك أنشد مطلعاً * * * بمن يستغيث المرء إنْ ثُلَّ جانبه
22 - الشيخ جابر الكاظمي مخمِّس الأزريَّة المعروفة(181):
إنْ صحَّ إغضاء القلم عن بعض الشعراء أو قُبِلَ تجاوزه عن شيء من الشعر الرائق فلا جابر لغضِّه عن جابر، وأنَّى له بالكاظمي الغيظ لو غضَّ عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(181) أبو طاهر الشيخ جابر بن الشيخ عبد الحسين بن عبد الحميد المعروف بحميد بن الجواد - وهو أبو قبيلة تُعرَف بالجوادات في بلدة (بلد) -، وينتهي نسبه إلى ربيعة بن نزار، وأُمُّه علوية كانت جليلة معظَّمة مقدَّسة عابدة زاهدة متهجِّدة، يُحكى أنَّ صاحبي الفصول والجواهر كانا إذا جاءا لزيارة الكاظمين يزورانها في دارها لجلالتها. وُلِدَ سنة (1222هـ) وتُوفِّي في صفر سنة (1313هـ) أو ربيع الأوَّل (1312هـ)، نادرة عصره شعراً وحفظاً مع ورع وتقوى وتعفُّف، وببركة تخميسه للأزريَّة ذاع صيته وخُلِّد اسمه في قرن وفي بلد تباهياً بوفرة نوابغ الكلمة وأرباب الشعر، وكاد أنْ يُعَدَّ في الطليعة منهم، وشعره يحكي مقاماً رائعاً في عالم الشعر، ولع بالشعر الفارسي فنظمه، وشهد له بالإجادة حتَّى قيل بتفوُّقه على كباره، وطغى على نسج شعره العربي، له ديوان شعر عنوانه: سلوة الغريب وأُهبة الأديب.
أخذت الترجمة من أعيان الشيعة للسيِّد الأمين (ج 4/ ص 40)، ومعارف الرجال للشيخ محمّد حرز الدِّين (ج 1/ ص 147)، ومقدّمة الشيخ محمّد رضا المظفَّر لتخميس الأزريَّة.
الكاظمي، فشعره ذو أرضيَّة شفَّافة تنبت إيقاعاً مرح الكلمات، تخال شعره ماءً ينساب بين المعاني الوحشيَّة فيُرقِّقها ويُرقِّق طبع قاريها، يُروِّض الكلم العنود الجافي الذي ما تعوَّد التنزُّه في ثنايا القلب أو التقرُّب من نسمة الوجدان، فإذا به في قصائد الكاظمي يلهج بمعانيه، وهذه إحدى مفاصل الشعر، فقد تسمع شعراً متقشِّر الروح من شدَّة تكلُّف ناظمه، أو تقرأ كلماتٍ منظومة تتهجَّى الشعر، أرأيت رضيعاً يبدي فضوله وإعجابه بالكلمات، وقد تنظر إلى أحرفٍ تحكي خوالج شاعرها التائه الفاقد يهذِ ويهدر يريد أنْ يشعر بشيء فظنَّ نفسه يشعر، ولولا نسبيَّة الذوق الأدبي وخداجة النقد لأسهبت في الشواهد، ولكن انظر إلى تخميسه للأزريَّة لترى الكلمات المروَّضة، وانظر شعر المناسبة لترى التكلُّف، وحسبك الشعر الحرّ شاهداً على ما أدَّعي، وذاك تيه الشعر والشعراء.
فإنْ بَعُد التخميس عن ناظرك ولم ينل طيفه فكرك أو خاطرك فهذه أبياته بين يديك تجمل بيِّنات شعره وخصائصه التي رسمت، فلك التذوُّق والنقد وأنت تقرأ:
قف بجنب الدار من هذا الحمى * * * واترك اللهو بأوطان الدمى
وأرح نضوك أنْ تجهده * * * منجداً طوراً وطوراً مُتْهما
...
واحبس العيس على مغنى أبي * * * جعفر تلقَ الغنى والمغنما
واخلع النعل بواديه ففي * * * نشر معناه طوى لا بل سما
...
ومزار قد تعالى شأنه * * * بمزور جلَّ قدراً وسما
إنْ عدته عصمةٌ عدَّ لها * * * فلقد عدَّ لنا معتصما
23 - السيِّد حسين بحر العلوم(182):
نجل أُسرة حفل تاريخها بعلماء وفقهاء مجلِّين وشعراء مجدِّين، لم يتَّخذ كتابة الشعر لحياته سلوكاً، وإنَّما تشاغل به تشاغلاً يُروِّح به عن مخياله أو يعدُّه منفداً لبعض أمانيه ومعانيه، فها هو ينظم كلمات من وحي وقفة متأمِّلة لقبر السيِّد سنة (1390هـ):
أبا جعفر يا رفيع المقامِ * * * ونجل الإمام وصنو الإمامِ
ويا من حباه حديث (البداء) * * * مجداً به فاق كلَّ الأنامِ
ويا من به وبآبائه * * * تسير العوالم سير انتظامِ
ويا من بمغناه تُجلى الغموم * * * إلى ضحكة الصحو بعد الجهامِ(183)
وتنبلج الأُمنيات العذاب * * * عن أُفُق مشرق الابتسامِ(184)
أتيتك من بلدي وافداً * * * وأنت الكريم ونجل الكرامِ
أروم بك الفوز يوم الجزا * * * وغفران ما جئته من إثامِ
وعيش الكفاف وستر العفاف * * * وصحَّة جسمي بعد السقامِ
وتحقيق آمالي الخابطات * * * عبر السنين كخبط الظلامِ
تعبت من السير نحو المدى * * * وكدت إلى اليأس ألقي زمامي
ولكنَّني لم أزل راجياً * * * رجاء المحول هطول الغمامِ
أبا جعفر يا منار الهدى * * * ومأوى الورى في الأُمور الجسامِ
قصدتك أنهل منك المنى * * * فقاعي جديب ومغناي ظامي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(182) زورق الخيال (ص 173).
(183) الجَهام: السحاب الذي لا ماء فيه.
(184) علَّق في الديوان بأنَّ: يبلج وانبلج الصبح أو الشيء: تكشَّف ووضح.
وأنت ابن من فجَّر المستحيل * * * ضروع غمام بقلب الرخامِ
ومن يأمل الحين من أهله * * * فلا بدَّ من نجحه في الختامِ
24 - السيِّد هاشم الهاشمي(185):
قصيدة تُصوِّر وتُحلِّل حالةً ما كان برهان صحَّتها محتاجاً إلى صياغة علميَّة لولا حرص الظالمين على محو آثار الأنبياء من زمن قديم، لكنَّها خضعت للسؤال والتمحيص كما خضع غيرها.
وأوَّل سؤال: ما الذي يدفع الناس إلى زيارة القبور؟
هل هو الفضول وحبُّ الاطِّلاع؟
هل هو اقتناص للفرصة فيستفيدون مالاً؟
إذا صحَّ هكذا تعليل في تبرير تصرُّف شريحة صغيرة فلا يصحُّ تبرير ظاهرة عامَّة أكثر من فيها بعيد كلّ البعد عن الاستفادة المادّيَّة أو فضول المعرفة، سيّما مع خلوِّ القبور من الآثار المادّيَّة التي يمكن أنْ تهدي لشيء، ولو كان الناس ينظرون إلى هكذا زيارات نظرة عبرة واعتبار لما اختصُّوا بأماكن معيَّنة لا يتعدّونها إلَّا إلى أمثالها.
إذن معظم الناس لا يجرُّهم إلى زيارة القبور هذه الأُمور.
فما الذي يدعو الناس لزيارة قبر ما؟
قد ترى الجواب مع السيِّد الوافد للدجيل الذي ينطق جواباً محكماً سهل التصوُّر تحمل مضامين شفَّافة.
وهو جواب تقف بجانبه أسطر تختصر شخصيَّات الصراع وما قام به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(185) نجل آية الله السيِّد محمّد جمال الدِّين المتقدِّم ذكره، نظم قصيدته هذه في طريقه لزيارة سبع الدجيل في أوائل شبابه سنة (1395هـ)، وهو عالم فاضل أريحي، شديد التواضع، واسع الاطِّلاع، حلو المعشر، ومن أساتذة بحث الخارج في الحوزة العلميَّة بقم المقدَّسة.
جانباه من أحداث صيَّرت صاحب القبر يمتلك قلوب الخلق، فمن جانب تجبُّر وعنف بغواية لا يُفرِّق بين أثر وأثر، ومن جانب هداية وتحلُّ بأنواع الفضائل ويحكي ذاك التحلِّي أروعها وهو ما يجذب الوفود إليه، فأنت شاهد، وأنت تقرأ:
مولاي أنت لكلِّ قلبٍ مقصدُ * * * فانظر فقبرك بالمواكب يحشدُ
قبرٌ به نور الولاية نابضٌ * * * أبداً يظلُّ على المدى يتجدَّدُ
أين الأُولى ملكوا الزمان وحاولوا * * * أنْ يطفئوا نور الهداة ويخمدوا
هدَموا قبور الصالحين وشتَّتوا * * * زوَّارهم وتجبَّروا وتمرَّدوا
نعب الغراب على طلول قصورهم * * * وتمزَّقوا وكأنَّهم لم يولدوا
والسادة الأطهار ممَّن عمرهم * * * سجنٌ وتشريدٌ وعيشٌ أنكدُ
عاشوا برغم الموت نوراً خافقاً * * * يهدي الورى وكأنَّهم لم يُلحدوا
أمحمّدُ الطهر الزكيّ ومن له * * * وفَّاده من كلِّ حدبٍ تقصدُ
قدموا وقد رفعوا الأكفَّ تضرُّعاً * * * وجميل ذكرك في الشفاه يردَّدُ
فاشفع إلى الرحمن في حاجاتهم * * * واسمع هتاف قلوبهم (يا سيِّدُ)
وأنا المعذَّبُ جئتُ بابك سائلاً * * * فأمام وجهي كلُّ بابٍ موصدُ
يا سيِّدي فاعطف عليَّ فإنِّني * * * ظام وعطفك للمعذب موردُ
25 - الشاعر السيِّد مسلم بن السيِّد حمود الحلِّي(186):
يتقرَّب الشاعر بشعره ويستشفع بمعرفته، وهو بذلك يُقدِّم عقله مدحةً، لكن معقوله هنا الممدوح نفسه، فلِمَ لا يكون نظمه مبتكراً وخطابه ملفتاً:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(186) السيِّد مسلم بن العلَّامة السيِّد حمود بن السيِّد ناصر الحسيني الحلِّي، أخذ عن أبيه والسيِّد الحمَّامي والسيِّد محسن الحكيم والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، وُلِدَ سنة (1334هـ) وتُوفِّي سنة (1401هـ). عن شعراء سبع الدجيل لحسين البلداوي (ص 55).
يا بن الأئمَّة قد كانت مقدَّرة * * * لك الإمامة لولا محكم القدر
سارت لك السير الغرَّا ولا عجب * * * طيب السريرة يبدي طيب السير
فهل يخاصم قوم فيك قد شهدوا * * * منك المعاجز في عين وفي أثر
ونقلها في (شعراء سبع الدجيل) بنحو آخر لعلَّها من تكملة الأبيات(187):
سارت لك السير الغرَّا ولا عجب * * * طيب السريرة يبدي طيب السير
جاءتك ترجو قبولاً منكم مدح * * * تنزَّهت بك عن كذب وعن أشر
وأنت معناي في شعري ومقصده * * * فقد أتيت بشعري نظم مبتكر
26 - الخطيب الشاعر الشيخ محمّد عليّ اليعقوبي(188):
مهنة المرء ضميره الثاني الذي يحكم في كثير من سلوكيَّاته وكلماته، وهذا معنى واضح جليٌّ، وصاحب هذه الأبيات خطيب، والخطابة تُعنى - في المحيط السائد على أقلّ تقدير - بالعناوين الرنَّانة والصور التي تدغدغ الأحاسيس بما يركن إليه (يريح) جانب العقلانيَّة في العقل الجمعي، فجذبة الشوق وفرط الغرام - وعادة ما يستوطن اليقين بينهما وتنبت الآمال وتزهر الأماني - وإطلالة معانٍ سماويَّة كالضراح والجوزاء ومشاهد أرضيَّة مبجّلة كملوك الأرض وخضوعها كلُّها جاءت بحسب ما يمليه فنُّ الخطابة، ولا يخرج عن هذا السياق التعريض بمن يُسلِّم بالإيماء شأنه شأن بقيَّة التراكيب الموجودة في القصيدة، وقد أنشد هذه المرثيَّة حين زار المرقد الطاهر، وكلماته تبدأ بانتفاضة القلب وتنتهي بانتعاشته:
ما بين سامرَّاء والزوراءِ * * * مثوى بساحته أطلت ثوائي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(187) شعراء سبع الدجيل لحسين البلداوي (ص 55).
(188) الذخائر للشيخ محمّد عليّ اليعقوبي.
قد شاقني ذاك المقام فساقني * * * فرط الغرام لربعه المتنائي
متيقِّناً أنَّ النجاح ببابه * * * فأنخت آمالي به ورجائي
وضريح قُدِس هيبة لجلاله * * * يعلو الضراح وهامة الجوزاءِ
تأتي ملوك الأرض خاضعة له * * * وتؤمُّه أملاك كلِّ سماءِ
ألممت فيه مسلِّماً وقد اكتفى * * * غيري من التسليم بالإيماءِ
نجل الإمام أخو الإمام (محمّد) * * * عمُّ الإمام بقيَّة الأُمناءِ
قد جللَّته قبَّة من سمكها * * * تنحطُّ شأواً قُبَّة الخضراءِ
ضربت على ابن نبوَّة وإمامة * * * يسمو على الأشباه والنظراءِ
لولا البدا حاز الإمامة في الهدى * * * لكنَّها منصوصة بقضاءِ
كم من كرامات له ومناقب * * * جلَّت عن التعداد والإحصاءِ
شهدت بها الأعداء من بين الورى * * * ومن العجيب شهادة الأعداءِ
ما خصَّ نائله القريب وإنَّما * * * عمَّ البعيد به مع القرباءِ
إنْ يبكه الهادي أبوه فعاذر * * * جزعاً عليه إذا أطلت بكائي
ويشقُّ جيب العسكري ولم يكن * * * قلبي يشقُّ ولم تذب أحشائي
يا خير فرع ينتمي لأرومةٍ * * * ممدودة الأفنان والأفياءِ
حيى الحيا بلداً بقربك أنَّه * * * ما زال في أمن من الأسواءِ
أنَّى يحل الجدب مربع أهله * * * وبفضلك استغنت عن الأنواءِ
فالغيث أنت لها إذا ما أمحلت * * * والغوث عند نزول كلِّ بلاءِ
27 - الأديب الفاضل السيِّد محمّد بن العلَّامة السيِّد رضا الهندي النجفي:
مع هيمنة رائعة(189) السيِّد حيدر الحلِّي على وجداني - تلك القصيدة التي حوت مزايا لا تراها مجتمعة في قصائد غيره من الشعراء - لا أستطيع أنْ أقرأ هذه الأبيات من غير ظلال يجهد الكلمات حين تتذوَّق جمالها:
نفسي إليكم تشتكي أحزانها * * * إذ إنَّها فيكم ترى سلوانها
قد آمنت فيكم على ضوء الهدى * * * وتحسَّست بودادكم إيمانها
يا آل أحمد والنجاة بحبِّكم * * * والنفس لولاه ترى خسرانها
ما آن أنْ تثبوا إلى أوتاركم * * * أفهل نسيتم يا كرام زمانها
أفهل نسيتم ما جرى في كربلا * * * فيها أُميَّة مثَّلت أضغانها
ما أنصفتكم بعد أحمد أُمَّةٌ * * * قد ضيَّعت بضياعكم عنوانها
فقتيلكم وسميمكم وسجينكم * * * يشكو غداً للمصطفى طغيانها
وبقرب سامرَّاء قبر محمّد * * * مثل البطولة مَنْ سما شجعانها
فمن الإمامة قد سما بفضائل * * * هيهاتَ يُنكِر مبصر برهانها
ومن البطولة والبطولة شاهد * * * قد حاز معناها فكان عيانها
أمحمّد عين الهداية لم تزل * * * تبكي عليك الدهر يا إنسانها
والدِّين ودَّع فيك أعظم مرشد * * * وبفقدك التقوى بكت عنوانها
واظلمَّت الدنيا عليك وإنَّما * * * أوحشت يا قمر التقى أكوانها
وبكى الإمام عليك يعلن حزنه * * * وبه الإمامة أعلنت أحزانها
أفقيد دنيا المكرمات عجبت من * * * جدث يضمُّ خلاله طوقانها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(189) مطلعها:
تركت حشاك وسلوانها * * * فخلِّ حشاي وأحزانها
لك في نفوس الصالحين مكانة * * * منها بنت تلك النفوس كيانها
لك في القلوب ضرايح قد شُيِّدت * * * وعلى ودادك أُحكمت بنيانها
أمحمّد إنَّ البريَّة فيكم * * * عصت النبيَّ وشايعت شيطانها
قد أكرمت أعدائكم وبحبِّها * * * إنَّ الإله أذلَّها وأهانها
لم ترعَ حقَّ محمّد في حقِّكم * * * وبظلمكم قد أغضبت رحمانها
أمحمّد منِّي عليك تحيَّة * * * لغة العواطف ردَّدت ألحانها
سقت الغمائم مرقداً بجواره * * * حشد الهدى إيمانها وأمانها
28 - الشريف الفاضل السيِّد محمّد صادق الصدر(190):
الكلمات والتراكيب ترجع إلى الوراء قروناً، وهذا ليس بعيب في الشعر، بل ينمُّ عن أصالة ومتابعة لدى الشاعر وينمنم قاموس الخلف بما حوته ذاكرة السلف، ولا أدري ما سبب نظم هذه الأبيات، هل هو حديث جرى أو حادث طرى أو هي نفثة الذكريات:
كم من كرامات وآي فضائل * * * يتلو فضائل أيُّها العرب
قد رجع الدهر يحكي من لآلئها * * * ورداً تضيء سماءها شهب
وأصات حادي العيس يعلى شأنها * * * فاهتزَّ من طرب لها ركب
عجز اللسان فلا يُؤدِّي حقَّها * * * وكبا البيان وضاقت الكتب
أكتفي بهذا المقدار من الشعر، وأحسب أنَّ هؤلاء الشعراء - على اختلاف مشاربهم، وتنوُّع مصادرهم، وتعدُّد مهنهم - قد طرقوا أغراضاً كثيرة في شعرهم، وأحسب أنَّ الذاكرة قد كوَّنت صوراً جمَّة عن شعر تلمَّس أصحابه فضائل السيِّد وتوهَّجوا بأنفاس زوَّاره ووفَّاده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(190) رئيس مجلس التمييز الجعفري ببغداد.
من جملة المستحبَّات زيارته، قال العلَّامة المجلسي (قدّس سرّه): اعلم أنَّ المشاهد المنسوبة إلى أولاد الأئمَّة الهادية والعترة الطاهرة وأقاربهم يُستَحبُّ زيارتها والإلمام بها، فإنَّ في تعظيمهم تعظيم الأئمَّة وتكريمهم.
كيفيَّة الزيارة:
ذكر العلَّامة الشيخ عبَّاس القمِّي (طاب ثراه) زيارتين يُزار بهما أولاد الأئمَّة (عليهم السلام) حيث قال:
روى السيِّد الأجلُّ عليُّ بن طاوس (رضي الله عنه) في (مصباح الزائر) زيارتين يُزار بهما أولاد الأئمَّة (عليهم السلام) ينبغي لنا ذكرهما هنا، قال: إذا أردتَ زيارة أحد منهم - كالقاسم بن الكاظم (عليه السلام) أو العبَّاس بن أمير المؤمنين (عليه السلام) أو عليِّ بن الحسين (عليه السلام) المقتول بالطفِّ ومن جرى في الحكم مجراهم - فقف على قبر المزور منهم فقل:
«السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّها السَّيِّدُ الزَّكِيُّ الطَّاهِرُ الوَلِيُّ وَالدَّاعِي الحَفِيُّ، أَشْهَدُ أَنَّكَ قُلْتَ حَقًّا وَنَطَقْتَ حَقًّا وَصِدْقاً وَدَعَوْتَ إِلَى مَوْلَايَ وَمَوْلَاكَ عَلَانِيَةً وَسِرًّا، فازَ مُتَّبِعُكَ وَنَجا مُصَدِّقُكَ وَخَابَ وَخَسِرَ مُكَذِّبُكَ وَالمُتَخَلِّفُ عَنْكَ، اشْهَدْ لِي بِهذِهِ الشَّهَادَةَ لِأَكُونَ مِنَ الفَائِزِينَ بِمَعْرِفَتِكَ وَطَاعَتِكَ وَتَصْدِيقِكَ وَاتِّباعِكَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا سَيِّدِي وَابْنَ سَيِّدِي، أَنْتَ بابُ الله المُؤْتَى مِنْهُ وَالمَأْخُوذُ عَنْهُ، أَتَيْتُكَ زَائِراً
وَحَاجاتِي لَكَ مُسْتَوْدِعاً، وَهَا أَنَا ذَا أَسْتَوْدِعُكَ دِينِي وَأَمَانَتِي وَخَوَاتِيمَ عَمَلِي وَجوَامِعَ أَمَلِي إِلَى مُنْتَهى أَجَلِي، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكاتُهُ».
زيارة أُخرى لأولاد الأئمَّة (عليهم السلام):
تقول: «السَّلَامُ عَلَى جَدِّكَ المُصْطَفى، السَّلَامُ عَلَى أَبِيكَ المُرْتَضى، السَّلَامُ عَلَى السَّيِّدَيْنِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ، السَّلَامُ عَلَى خَدِيجَةَ أُمِّ سَيِّدَةِ نِسَاءِ العَالَمِينَ، السَّلامُ عَلَى فَاطِمَةَ أُمِّ الْأَئِمَّةِ الطَّاهِرِينَ، السَّلَامُ عَلَى النُّفُوسِ الفَاخِرَةِ، بُحُورِ العُلُومِ الزَّاخِرَةِ، شُفَعَائِي فِي الْآخِرةِ، وَأَوْلِيائِي عِنْدَ عَوْدِ الرُّوحِ إِلَى العِظَامِ النَّاخِرَةِ، أَئِمَّةِ الخَلْقِ، وَوُلَاةِ الحَقِّ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّها الشَّخْصُ الشَّرِيفُ الطَّاهِرُ الكَرِيمُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَمُصْطَفَاهُ، وَأَنَّ عَلِيًّا وَلِيُّهُ وَمُجْتَبَاهُ، وَأَنَّ الْإِمَامَةَ فِي وُلْدِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، نَعْلَمُ ذلِكَ عِلْمَ اليَقِينِ، وَنَحْنُ لِذلِكَ مُعْتَقِدُونَ، وَفِي نَصْرِهِمْ مُجْتَهِدُونَ»(191).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(191) مفاتيح الجنان (ص 597).
الملحق الثاني: كتبٌ تحدَّثت عن السيِّد
الغرض من هذا الملحق ذكر بعض المصادر التي تعين في التعرُّف على مقام السيِّد:
1 - المنهاج في ذكرى آل البعَّاج المنتمين إلى السيِّد أبي جعفر محمّد بن الإمام الهادي المشهور بـ (محمّد البعَّاج)(192)، ألَّفه السيِّد سعدون بن عيسى... بن إبراهيم بن يحيى المؤيَّد بالله النقوي المولود سنة (1332هـ)(193).
2 - ذكرى أبي جعفر محمّد بن الإمام أبي الحسن عليٍّ الهادي (عليهما السلام) للشيخ حسن بن الشيخ عليٍّ الخاقاني، رتَّبه على ثلاثين باباً في (77 صفحة)، فرغ منه سنة (1365هـ)(194).
3 - المعجزات للشيخ محمّد عليّ بن عبد الأئمَّة البلداوي، جمع فيه المعجزات والكرامات التي ظهرت عن المشهدين الكاظميَّين والعسكريَّين وعن حضرة السيِّد محمّد بن عليٍّ الهادي المدفون بقرب بلد. كتبها بعد رجوعه من زيارة مشهد خراسان (1229هـ)(195).
4 - كرامات محمّد بن عليٍّ الهادي للشاعر جابر بن مهدي آل عبد الغفَّار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(192) تقدَّم أنَّ هذا اللقب لبعض حفدة السيِّد، ولم يذكر أهل الأنساب أنَّه من جملة ألقابه (عليه السلام).
(193) الذريعة لآقا بزرك الطهراني (ج 23/ ص 171).
(194) الذريعة (ج 10/ ص 389).
(195) الذريعة (ج 21/ ص 215).
الكشميري القزويني الكاظمي البلدي(196).
5 - أبو جعفر بن الإمام الهادي (عليه السلام)، تأليف شاه أحمد عليّ الأُوردبادي.
6 - حياة سبع الدجيل في ترجمة السيِّد محمّد بن الإمام الهادي (عليه السلام) صاحب المشهد المشهور في الدجيل قرب بلد، للشيخ محمّد عليّ بن الميرزا أبي القاسم بن محمّد تقي بن محمّد قاسم الأُوردبادي...(197)، له ترجمة في نفس المصدر، وقد طُبِعَ الكتاب في النجف الأشرف.
7 - سبع الدجيل للسيِّد موسى الموسوي الهندي، دراسة وتحقيق: د. جودت القزويني، يحوي فوائد جليلة، طُبِعَ في دار الرافدين/ بيروت/ (1427هـ).
8 - شعراء الدجيل لحسين البلداوي.
9 - سيِّد محمّد بن الإمام الهادي لبرهان البلداوي.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(196) معجم المؤلِّفين لعمر كحالة (ج 3/ ص 106).
(197) مجلَّة تراثنا (العدد 4/ ص 202)، وللمؤلِّف ترجمة في نفس المصدر.
يُفتَرض أنْ يكون هذا الملحق حاوياً لمجموعة من كلمات أعلام الإسلام في كرامات الأولياء، ولكن لـمَّا لم يكن أحد من المسلمين يُنكِر حدوث الكرامات - بغضِّ النظر عن منشأ تسليمهم بالكرامة هل هو ما ورد في الكتاب العزيز من آياتٍ جرت، أو كان المنشأ السُّنَّة المطهَّرة، أو كان الاعتقاد بها ناتج مشاهدات وجدانيَّة -، بل تجد أنَّ المجتمع الدِّيني قد اتَّسعت دائرة مخياله، فصار يلهج بالكرامات، ما يصحُّ وما لا يصحُّ، وذلك بسبب أمثال معاوية وأذنابه الذين اتَّخذوا من نشر الفضائل وسيلة يُدلِّسون بها على عباد الله، رأيت أنَّ إيراد كلماتهم حشواً من القول ليس فيه كثير فائدة، ولكن رأيت أيضاً أنَّ الإغضاء عن كلِّ الكلمات في وقت تكالب مبغضي آل محمّد ومحاربي أولياء الله أمراً ليس بذي رشد، فآثرت نقل اعتراف ابن تيميَّة بالكرامات وهو شيخ المنكرين لضروريَّات الدِّين وبديهيَّات المعرفة، ولعلَّ (سارية الجبل)، وما ترسم من مقامات لسلاطين الفترة الأُولى، هي التي منعت ابن تيميَّة من الإنكار فسعى سعيه لحشد كلمات التسليم:
قال ابن تيميَّة:
ولا يدخل في هذا الباب ما يُروى من أنَّ قوماً سمعوا ردَّ السلام من قبر النبيِّ أو قبور غيره من الصالحين؛ وأنَّ سعيد بن المسيّب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرَّة ونحو ذلك، وكذلك أيضاً ما يُروى أنَّ رجلاً جاء إلى قبر النبيِّ فشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أنْ يأتي عمر فيأمره أنْ يخرج
فيستسقي الناس، فإنَّ هذا ليس من هذا الباب، ومثل هذا يقع كثيراً لمن هو دون النبيِّ، وأعرف من هذه الوقائع كثيراً.
وكذلك سؤال بعضهم للنبيِّ أو لغيره من أُمَّته حاجته فتُقضى له، فإنَّ هذا قد وقع كثيراً، وليس هو ممَّا نحن فيه.
وعليك أنْ تعلم أنَّ إجابة النبيِّ أو غيره لهؤلاء السائلين ليس ممَّا يدلُّ على استحباب السؤال، فإنَّه هو القائل: «إنَّ أحدكم ليسألني مسألة فأُعطيه إيَّاها فيخرج بها يتأبَّطها ناراً»، فقالوا: يا رسول الله، فلِمَ تعطيهم؟ قال: «يأبون إلَّا أنْ يسألوني، ويأبى الله لي البخل»، وأكثر هؤلاء السائلين الملحِّين لما هم فيه من الحال لو لم يُجابوا لاضطرب إيمانهم، كما أنَّ السائلين له في الحياة كانوا كذلك، وفيهم من أُجيب وأُمِرَ بالخروج من المدينة، فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر، أمَّا أنَّه يدلُّ على حسن حال السائل فلا فرق بين هذا وهذا، فإنَّ الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتِّخاذها مساجد استهانةً بأهلها، بل لما يُخاف عليهم من الفتنة، وإنَّما تكون الفتنة إذا انعقد سببها، فلولا أنَّه قد يحصل عند القبور ما يُخاف الافتتان به لما نُهِيَ الناس عن ذلك.
وكذلك ما يُذكَر من الكرامات وخوارق العادات التي تُوجَد عند قبور الأنبياء والصالحين مثل نزول الأنوار والملائكة عندها، وتوقِّي الشياطين والبهائم لها، واندفاع النار عنها وعمَّن جاورها، وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى، واستحباب الاندفان عند بعضهم، وحصول الأُنس والسكينة عندها، ونزول العذاب بمن استهان بها، فجنس هذا حقٌّ ليس ممَّا نحن فيه، وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهَّمه أكثر الخلق، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك(198).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(198) اقتضاء الصراط (ج 1/ ص 374).
هذا هو إقراره بحدوث الكرامات عند قبور الأولياء وأثر التوسُّل بأولياء الله (عزَّ وجلَّ)، والغرض الإشارة إلى كون المسألة مسلَّمة عند الكلِّ، بل واضحة عند أعتى المعاندين.
وأمَّا ما في كلمته هذه من حسن الإجابة، وعدم حسن السؤال عند القبور، فقد تقدَّم جوابه، وأنَّه ورد استحباب دعاء الولد وطلب حاجته من الباري (عزَّ وجلَّ) عند قبر والديه، وقد ثبت في مظانِّه أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لعليٍّ: «يا عليُّ أنا وأنت أبوا هذه الأُمَّة»، فراجع تعرف أنَّ التعلُّل بخوف الفتنة إنَّما هو ذريعة اتَّخذها ليصل إلى مرامه من منع التوسُّل بأولياء الله.
وأخيراً أُلفت نظر القارئ الكريم إلى أنِّي:
تركت الكلام عن تاريخ المرقد وبعض ما يتَّصل به لوجود كُتُب تُعنى به، ولئلَّا يطول المقام بالقارئ وإنْ مسَّت الحاجة إليه، وبهذا ما يتمُّ هذه المدوَّنة في حقِّ هذا السيِّد الجليل.
* * *
1 - القرآن الكريم.
2 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
3 - أعيان الشيعة: محسن الأمين/ تحقيق: حسن الأمين/ دار التعارف/ بيروت.
4 - بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي/ 1403هـ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
5 - تاريخ ابن خلدون: ابن خلدون/ ط 4/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
6 - الخصال: الشيخ الصدوق/ 1403هـ/ جماعة المدرِّسين/ قم.
7 - سبع الدجيل: السيِّد موسى الموسوي الهندي/ دراسة وتحقيق: د. جودت القزويني/ 1427هـ/ دار الرافدين/ بيروت.
8 - سيرة الإمام عليٍّ (عليه السلام): أحمد بن محمّد البكري/ مطبعة المنار/ تونس.
9 - صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري/ دار الفكر/ بيروت.
10 - الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم: أبي محمّد العاملي البياضي/ تحقيق: محمّد باقر البهبودي/ مطبعة الحيدري/ الناشر المكتبة المرتضويَّة.
11 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق عليّ أكبر الغفاري/ ط 3/ 1388هـ/ مطبعة حيدري.
12 - الكامل في التاريخ: ابن الأثير/ 1965م/ بيروت.
13 - كتاب سُلَيم بن قيس: سُلَيم بن قيس الهلالي/ ط النجف الأشرف.
14 - لسان العرب: ابن منظور/ 1405هـ/ نشر أدب الحوزة/ قم.
15 - لمحات من حياة الإمام الهادي (عليه السلام): محمّد رضا سيبويه/ نشر مجمع البحوث الإسلاميَّة/ مشهد.
16 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار صادر/ بيروت.
17 - المصباح: الكفعمي/ 1411هـ/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.
18 - المعجم الكبير: الطبراني/ تحقيق: السلفي/ دار إحياء التراث العربي/ القاهرة.
19 - الميزان في تفسير القرآن: السيِّد الطباطبائي/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ جماعة المدرِّسين/ قم.
20 - نهج البلاغة: خُطَب الإمام عليٍّ (عليه السلام)/ شرح: الشيخ محمّد عبده/ دار المعرفة/ بيروت.
21 - وسائل الشيعة: الحرُّ العاملي/ ط 2/ 1414هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ مطبعة مهر/ قم.
* * *