الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والظواهر القرآنية

الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والظواهر القرآنية
دراسة تستعرض الحركات الإصلاحية عبر التاريخ من خلال الرؤية القرآنية وتقارنها مع حركة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)

سماحة الشيخ محمد السند
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
الطبعة الثالثة (المحققة) 1444هـ
رقم الإصدار: 289

الفهرس

مقدَّمة المركز..................3
مقدَّمة المؤلِّف..................5
التمهيد: الاستدلال بالظواهر القرآنيَّة المستعرضة لسيرة الأنبياء (عليهم السلام)..................7
الظاهرة الأُولى: الإمام المهدي والنبيُّ موسى (عليهما السلام)..................15
أوجه الشبه بين الإمام المهدي والنبيِّ موسى (عليهما السلام)..................18
علَّة اختفاء النبيِّ موسى (عليه السلام) عن قومه..................20
الخفاء أدلُّ على الحجّيَّة..................23
العنف والاضطهاد ضدَّ الإمامين العسكريَّين (عليهما السلام)..................24
الوحي الإلهي لأُمِّ موسى (عليه السلام)..................25
سرُّ استعراض القرآن الكريم عبراً اعتقاديَّة ذات مغزى عظيم..................26
سرُّ استعراض تفاصيل خفاء ولادة موسى (عليه السلام)..................31
خفاء النبيِّ موسى (عليه السلام) بعد نبوَّته في بني إسرائيل..................38
إيجابيَّة صفة الخوف عند الأنبياء (عليهم السلام)..................41
الغيبة الثانية لموسى (عليه السلام)..................41
لقاء موسى بشعيب (عليهما السلام)..................43
تلاؤم حجّيَّة النبيِّ موسى (عليه السلام) نبيًّا مع غيبته..................44
إعلان الدعوة الموسويَّة..................46
ظاهرة اختفاء وغيبة الأنبياء (عليهم السلام) سُنَّة إلهيَّة..................47
الخوف والترقُّب عند موسى (عليه السلام)..................53
الظاهرة الثانية: الإمام المهدي والنبيُّ يوسف (عليهما السلام)..................57
ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) وارتباطها بالمصلح الإلهي..................59
ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) وشبهها بغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................65
حجّيَّة الإمام مع غيبة شخصه..................83
الجهل بالغيبة على مستوى النظريَّة والتطبيق..................89
اللقاء بين يوسف (عليه السلام) وأخيه..................91
معنى التشرُّف برؤية الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه)..................93
هل يفيد اللقاء بالإمام نوعاً من الحجّيَّة؟..................94
عرض الأعمال على وليِّ الله..................97
الغيبة والتدبير الإلهي..................98
طول الغيبة مدعاة لليأس عند ضعاف القلوب..................100
دروس تربويَّة من سورة يوسف..................106
الظهور بعد الغيبة للنبيِّ يوسف (عليه السلام)..................108
الأسباب الملكوتيَّة..................110
الظواهر القرآنيَّة وسُنَن الله (عزَّ وجلَّ) في الغيبة..................114
الظاهرة الثالثة: الإمام المهدي والخضر (عليهما السلام)..................119
ضمان بقاء الدِّين..................122
أوَّلاً: الفطرة..................122
ثانياً: وجود خليفة الله في الأرض..................122
ثالثاً: لقاء موسى والخضر (عليهما السلام)..................123
ظاهرة الخضر (عليه السلام) وصلتها بضمان ظهور الدِّين وبقائه..................125
رابعاً: ذو القرنين ظاهرة الحكم العلني..................128
خلاصة ما سبق..................128
ظاهرة رجال الغيب..................129
هويَّة رجال الغيب..................132
لقاء موسى بالخضر (عليهما السلام)..................135
ما هو العلم اللدنِّي؟..................138
العلم اللدنِّي وارتباطه بغيبة أولياء الله..................139
دور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ليس فرديًّا في الغيبة..................152
هل يمكن ادِّعاء شخص أنَّه من رجال الغيب؟..................160
الأدوار الثلاثة للخضر..................165
طبيعة الأدوار في ظاهرة الخضر ومجموعته الخفيَّة..................166
الحسين (عليه السلام) وأصحاب الكهف..................174
حقيقة العلم اللدنِّي والشريعة الباطنة..................177
العلم اللدنِّي وعلم التأويل عند الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................178
الراسخون وعلم التأويل..................180
العلم اللدنِّي وعلم التأويل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)..................182
التطبيق الإلهي للشريعة..................187
صلة الأُمَّة الإسلاميَّة بالعلم اللدنِّي..................190
الظاهرة الرابعة: الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وأصحاب الكهف..................193
المهمَّة الأُولى: الثبات والإيمان..................196
المهمَّة الثانية: الغيبة والخفاء..................196
وجود الخليفة في الأرض..................198
لماذا تكابد البشريَّة المصائب وبيد الخليفة إصلاحها؟..................200
الانقطاع عن الخليفة وأثره في الإيمان..................201
عاقبة أصحاب الحقِّ والإيمان..................203
الثبات على الإيمان والفيض الإلهي..................204
الاعتزال عن المجتمع الظالم..................207
العناية الإلهيَّة في الحفاظ على حُجَج الله..................207
التشابه بين غيبة أصحاب الكهف والإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه)..................208
إنكار الغيبة أسباب ونتائج..................209
الأسباب الكونيَّة في خفاء الحُجَج..................210
التقيَّة ودورها في الحفاظ على أولياء الله..................212
البناء على القبور..................214
ظاهرة أصحاب الكهف ودورها في حفظ الدِّين..................215
الإيمان بالحقيقة المهدويَّة من مصاديق الغيب..................216
ظاهرة أصحاب الكهف والإيمان بالحقيقة المهدويَّة..................217
حقيقة الرجعة بين القبول والرفض..................219
الوعد القرآني في ظهور الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه)..................220
المتَّقون والإيمان بالغيب..................221
الظاهرة الخامسة: الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وذو القرنين..................223
التوحيد والحاكميَّة السياسيَّة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)..................231
كيفيَّة الخفاء والاستتار مع المحافظة على الدِّين..................236
أنواع الحكومة الخفيَّة والمعلنة..................240
الظاهرة السادسة: الإمام المهدي والنبيُّ عيسى (عليهما السلام)..................247
دور عيسى المسيح (عليه السلام) في الإصلاح العالمي..................252
المحطَّة الأُولى: إنكار البراهين اليقينيَّة يستلزم انتكاس القلوب..................254
المحطَّة الثانية: مفارقات في الغيبة..................264
المحطَّة الثالثة: الحراسة الإلهيَّة لوليِّ الله..................266
المحطَّة الرابعة: التأكيد على بقاء عيسى (عليه السلام) حيًّا..................268
هل يدعو القرآن للسفسطة؟..................272
هل الحسُّ مصدر معرفي في القرآن؟..................275
الأدلَّة والمعطيات الحسّيَّة في ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................288
المحطَّة الخامسة: الهجرة عن الفساد..................294
الظاهرة السابعة: الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وهجرة الأنبياء (عليهم السلام) وغيبتهم..................297
الهجرة والغياب الحسِّي عن المجتمعات الفاسدة..................301
جهة الاشتراك بين الهجرة والغيبة..................310
الفوارق بين الهجرة والغيبة..................311
الفترة بين الأنبياء والحُجَج (عليهم السلام)..................314
تأخُّر إنجاز الوعد الإلهي..................317
الخاتمة..................323
المصادر والمراجع..................327

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدَّمة المركز للطبعة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين.
إنَّ المنهج العقلي في إرفاد الفكر الإنساني ثقافيًّا وعقائديًّا وسلوكيًّا وإنْ كان صحيحاً وضروريًّا إلَّا أنَّ قاعدة الاستقطاب عنده محدودة إلَّا للثُّلَّة القليلة من الناس، وهذه لا تُشكِّل أساساً اجتماعيًّا عريضاً، ومع ذلك فقد دعا إلى هذا المنهج القرآن الكريم حيث قال: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ (سبأ: 46)، وذلك لتأسيس أدلَّة عقليَّة وأُسُس برهانيَّة على كلِّ مطالبه الاعتقاديَّة.
ولكن القرآن لم يكتفِ بهذا، بل استخدم أساليب أُخرى أجدى نفعاً وأكثر شموليَّةً، فبدلاً من تحميل الفكرة على الذات الإنسانيَّة من خلال استعمال القياسات المنطقيَّة والأُرسطيَّة بادر القرآن إلى استنطاق الوجدان الإنساني ومحاولة خلق الفكرة في الذات الإنسانيَّة عبر فتح المنافذ لتحرُّك الوجدان وتعبيد الطريق من أجل بيان المسار الصحيح، فلا يبقى للإنسان إلَّا الالتفات إلى نداء الوجدان ليرى الحقيقة ساطعة أمامه سطوع الشمس في رابعة النهار.
ومن الواضح أنَّ الوصول والانفتاح إلى عالم الوجدان أسرع وأيسر من الوصول إلى عالم العقول والاستنتاجات الأُرسطيَّة التي قد تكبو وتنحرف في

(٣)

مقدَّماتها بتأثير العقل الجمعي ومحاكات الآخرين، ولهذا فقد أكثر القرآن الكريم من استعمال هذا الأُسلوب، لأنَّه الأقدر على الإمساك بزمام الأُمور، والأقدر على التأثير على النفس الإنسانيَّة، فالأُسلوب القرآني المتَّبع - ونستطيع أنْ نصطلح عليه بالأُسلوب الوجداني - هو من أنجح الأساليب في استحكام العقيدة في النفوس البشريَّة.
ومن هنا يمكن أنْ ننفتح على العقيدة المهدويَّة وكيفيَّة الاستدلال عليها في القرآن الكريم، حيث يجد القارئ الكريم في هذا المؤلَّف واحدة من أروع صور المنهج الوجداني في القرآن الكريم، فاستطاع المؤلِّف سماحة الفقيه المتضلِّع الشيخ محمّد السند أنْ يُحكِم رباط الآيات بعضها ببعض مع استجلاء واستكشاف من التاريخ والمأثور الدِّيني الروائي لتكوين صياغة استدلاليَّة وجدانيَّة رائعة تُبيِّن العقيدة المهدويَّة، وأنَّها أمر قد تصادقت وتعارفت عليه الأُمَم السابقة.
وبالاختصار فالكتاب طرح بكر، ورؤية قرآنيَّة جديدة محكمة، ودراسة موضوعيَّة في الفهم المجموعي للآيات، واستنطاق الظواهر القرآنية في سيرة المصلحين والحُجَج الإلهيِّين، للتدليل على واحدة من أهمّ مفاصل العقيدة الإسلاميَّة، بل الإنسانيَّة، ألَا وهي إمامة الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه) وغيبته وظهوره المشرق الذي يملأها قسطاً وعدلاً بعد أنْ مُلِئَت ظلماً وجوراً.
والمركز إذ يشكر المؤلِّف على هذا العطاء الفذِّ والجديد في نوعه، فإنَّه يعتزُّ بما يُقدِّمه للمكتبة العقائديَّة وللقارئ الكريم، سائلين المولى تعالى أنْ يجعلنا وإيَّاهم من أنصار الإمام وأعوانه والمستشهدين بين يديه.

مدير المركز
السيِّد محمّد القبانچي
(1431هـ)

(٤)

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدَّمة المؤلِّف:
الحمد لله الذي لا يخلف وعده، وهو ناصر رُسُله، ومضت إرادته أنْ يمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمَّة ويجعلهم الوارثين، ثمّ الصلاة والسلام على الرسول الشاهد على خلقه المبشِّر بأنَّ المهدي من ذرّيَّته، وعلى خلفائه من أهل بيته الموعودين باستخلافهم في الأرض وتمكين الدِّين، ليُظهروه رغم كره الكافرين الجاحدين لهم.
وبعد..
فإنَّه تعالى قال: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً﴾ (الإسراء: 89)، فلا يخلو الكتاب العزيز من الإجابة عن أيِّ سؤالٍ تحتاجه البشريَّة في مسير هدايتها إلَّا وقد ذكره وبيَّنه من خلال مثل، لكنَّه تعالى أشار أنَّ تلك الأمثال تحتاج إلى قراءة عقليَّة بأداة علميَّة لتظهر الإجابة، حيث قال (عزَّ اسمه): ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ (العنكبوت: 43)، وقال: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر: 21)، فالأمثال القرآنيَّة جواب يُقرَأ بالتفكُّر، ومن تلك الأمثال قَصَص الأنبياء (عليهم السلام)، فهي ﴿عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: 111)، ففي قَصَصهم عِبَر وأمثال يُفصَّل منها الإجابة على كلِّ شيء.

(٥)

ومن تلك الأسئلة المطروحة على ساحة العقيدة الإيمانيَّة غيبة المهدي (عجَّل الله فرجه) وما يلفُّ حولها من تداعيات، لاسيَّما وأنَّها العقيدة الركن في راهن الإيمان الحاضر بالإمامة الإلهيَّة، فكانت الإجابة عن التساؤلات الدائرة حولها لا محالة نجدها في الأمثال والقَصَص القرآنيَّة المستعرضة لحال الأنبياء والأولياء المصطفَين السابقين (عليهم السلام).
فكانت هذه السلسلة حول الظواهر القرآنيَّة وارتباطها بالغيبة للمهدي (عجَّل الله فرجه)، كيف لا وها هو القرآن ينادينا بأنَّ قَصَصهم لا يتوقَّف عندها كسطح ظاهر في أشخاص الأنبياء والأصفياء (عليهم السلام)، بل يعبر منها عبور مثل للوصول إلى حقائق أُخرى، فصحَّ أنَّه لم يستعرض القرآن قصَّة لنبيٍّ من السابقين إلَّا مثلاً وعبرةً لعقيدة وحكمة راهنة أرادها من المسلمين والبشر أنْ يعقلوها في ظرفهم الحاضر من دين الإسلام.
فكان هذا البحث خطوات في هذا الطريق، والمنهاج الذي دعانا إليه القرآن، لاستخراج أجوبة القرآن عن تساؤلات غيبة المهدي (عجَّل الله فرجه)، وموقف الكتاب تجاه هذه العقيدة والحقيقة الراهنة.
وأُقدِّم جزيل شكري لسماحة الفهَّامة البحَّاث ابن بجدة هذا الباب السيِّد محمّد القبانچي (دام توفيقه) في هذا الميدان مدير مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على ما بذله، وفريق مساعديه من جهود في تنقيح وتقويم متن هذا الكتاب، داعياً المولى سبحانه أنْ يُوفِّق للمزيد، ويجعل الجميع أهلاً لنصرة وليِّه المنتظَر عجَّل الله تعالى فرجه المبارك لإسعاد البشر.

محمّد السند/ النجف الأشرف
(28/ جمادى الأوَّل/ 1431هـ)

(٦)

التمهيد: الاستدلال بالظواهر القرآنيَّة المستعرضة لسيرة الأنبياء (عليهم السلام)

في الحقيقة إنَّ الاستدلال بسِيَر الأنبياء السابقين (عليهم السلام) التي استعرضها لنا القرآن الكريم في دعواتهم الإصلاحيَّة ونهوضهم بالبرنامج الإلهي، وكون سلسلة منهم من الموعود بهم وبشَّر بهم للقيام بعمليَّة الإصلاح، هو ممَّا يستعرضه لنا القرآن الكريم من سِيَرهم، وفيه أبعاد عديدة، وممَّا لا ريب فيه أنَّ أحد تلك الأبعاد هو الإيمان بهم وبما جرى عليهم وبما ذكره القرآن من سيرتهم، وهذا بلا ريب هو من الإيمان بكُتُب الله ورُسُله وملائكته.
والبُعد الآخر - وهو الذي يعنينا - أيضاً فيما يتَّصل بعقيدتنا بخلفاء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأوصياء الاثني عشر (عليهم السلام) لاسيَّما الثاني عشر منهم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحالة الغيبة، أو حالة الخفاء، هي عقيدة قرآنيَّة إسلاميَّة وإيمانيَّة أصيلة.
البُعد الثاني في سِيَر الأنبياء (عليهم السلام) هو كون ما جرى عليهم من مواقف ومحطَّات وتقادير وأقضية إلهيَّة بمثابة عِبَر وعظات عقائديَّة، وأمثال ضربها الله في القرآن الكريم، كي نبصر ونستبصر ونُبصِّر بها في مجال المحاور العقائديَّة التي كُلِّفنا بها، وافتُرِضَ علينا الإيمان والتصديق بها في دين الإسلام.
ها نحن نقرأ في القرآن الكريم في موارد عديدة حول الأنبياء (عليهم السلام)، مثلاً: ما في آخر سورة يوسف عندما يستعرض لنا القرآن الكريم السُّنَن والتقادير والأقضية الإلهيَّة التي جرت على يعقوب ويوسف (عليهما السلام)، ويُخبرنا القرآن الكريم:

(٧)

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ﴾ بصورة الجمع، أي إنَّها لجميع الأنبياء (عليهم السلام)، بل هذا في الحقيقة قالب ومعادلة قرآنيَّة عامَّة لكلِّ الأنبياء (عليهم السلام)، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ (يوسف: 111), إذن ليس هو الإيمان والتصديق بالأنبياء (عليهم السلام) فقط وفقط، بل هناك بُعد آخر مهمٌّ جدًّا، وهو أنْ نعتبر بما استعرضه لنا القرآن الكريم من قَصَصهم، وسِيَرهم وأحوالهم، وسُنَن الله (عزَّ وجلَّ) فيهم، أنْ نعتبر ونتَّعظ فيما يفترضه علينا القرآن الكريم، وتفترضه علينا الديانة الإسلاميَّة من عقائد، لأنَّ المفروض أنَّ الذي استعرضه لنا القرآن الكريم هو محطَّات عقائديَّة في الأنبياء (عليهم السلام)، حيث نريد أنْ نستخلص منها عبرة، هي ليست عبرة في فروع الدِّين، وإنَّما هي عبرة في أُصول الدِّين، وعبرة في عقائد الدِّين.
إذن معنى العِبرة أنْ يُعتبَر من هذه العقيدة كَمَثَل لعقيدة أُخرى راهنة إسلاميَّة معاصرة، وهي آخر الأُمَم مبعثاً. فالعبرة في الواقع عبور من شيء إلى آخر موازٍ ومكافئ ومعادل له، حيث إنَّ ما جرى في الأنبياء (عليهم السلام) عموماً وغالباً، وجُلَّ ما يستعرضه لنا القرآن الكريم من الجانب العقدي والاعتقادي(1)، هي مواقف ومحطَّات عقائديَّة واعتقاديَّة في الأنبياء (عليهم السلام)، وهي ليست محلَّ نسخ بين الشرائع، لأنَّ العقيدة واحدة، والدِّين واحد، وهو دين الإسلام المتقوِّم بحوزة ودائرة أُصول الدِّين، هذه الدائرة يستعرضها لنا القرآن الكريم مؤكِّداً في جملة من السور وجملة من الآيات أنَّ هذه المحطَّات يجب أنْ نعتقد بها، مثل كُتُب الله ورُسُله وأنبيائه وملائكته, إلى جانب كونها عِبَراً يعبر المكلَّف من هذه المحطَّة العقائديَّة إلى محطَّة عقائديَّة أُخرى راهنة، ثمّ ينتقل بها إلى المحور العقائدي الاعتقادي الراهن في الأُمَّة الإسلاميَّة. فهناك قاعدة قرآنيَّة محكمة أصيلة شريفة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وإنْ كان يستعرض أيضاً جانباً من الأعمال وسُنَن الفروع, ولكن في الدرجة الأُولى - سيَّما الذي هو ليس محلَّ النسخ - هي المحطَّات العقائديَّة في الأنبياء (عليهم السلام).

(٨)

مفادها ومؤدَّاها ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ﴾ في قَصَص الأنبياء والرُّسُل والحُجَج الإلهيَّة السابقة (عليهم السلام) ﴿عِبْرَةٌ﴾ (يوسف: 111)، أي مضافاً إلى وجوب الإيمان والتصديق بهم هناك عبرة، أي إلى جانب كونه ذا بصمة ولون ومسحة عقائديَّة هو أيضاً عبرة لأمرٍ عقائدي آخر.
فهنا نستلهم من القرآن الكريم ونستبصر منه أنَّ كلَّ ما جرى في الأنبياء السابقين (عليهم السلام) سيجري في محاور اعتقاديَّة عقديَّة في هذه الأُمَّة. اُنظر هذا البيان النيِّر من القرآن الكريم وهو بصائر لأُولي الألباب: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (يوسف: 111), إذن ليست هي مسودَّة قلميَّة كتابيَّة مكتوبة لرواية رومانسيَّة يسردها وينسجها الخيال والوهم والتحليق في عالم الأوهام وعالم دعابة المخيَّلة، كلَّا، إنَّما هي حقائق قد جرت في أنبياء الله السابقين (عليهم السلام)، وستجري في الحُجَج والأوصياء (عليهم السلام) في هذه الأُمَّة.
إذن قَصَصهم فيها تفصيل كلِّ شيء، وبالتالي ستُبتلى به الأُمَّة، ولا ريب في أنَّه من البنى الركنيَّة المحوريَّة الأساسيَّة فيما استعرضه لنا القرآن الكريم من قَصَص الأنبياء السابقين (عليهم السلام)، ومواقفهم ومحطَّاتهم ومقاماتهم العقائديَّة والسُّنَن.
فالقرآن الكريم يُؤسِّس لنا عقائد معرفيَّة معارفيَّة اعتقاديَّة، وهي: أنَّ ما جرى في الأنبياء والرُّسُل السابقين (عليهم السلام) مضافاً إلى وجوب الاعتقاد والتصديق به، هو أيضاً معبر يعبرون منه، وينتقلون منه، ليكن الانعكاس منه كمرآة لما يجري عليكم ولما يفترض عليكم في هذا الدِّين، وفي هذه الشريعة الخاتمة الخالدة الباقية.
هذا تعليم قرآني اعتقادي أصيل، بأنْ نستلهم الأجوبة لما نُبتلى به من أسئلة

(٩)

عقائديَّة في هذه الأُمَّة، وفي هذه الشريعة, نستلهمه ممَّا قد جرى في قَصَص الأنبياء السابقين (عليهم السلام)، فهي دعوة من القرآن الكريم لاتِّخاذ هذا المنهج لحلِّ معضلات الحياة فكريًّا وعقائديًّا.
ونحن نعيش في ظلِّ هذا العهد الراهن، وهو عهد الاعتقاد بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وطول حياته وغيبته، فكما أنَّه محور وركن عقدي واعتقادي هو أيضاً محلُّ حديث واسع فسيح بين الفِرَق الإسلاميَّة، مضافاً إلى أنَّ سُنَّة الله التي جرت في الحُجَج السابقين لن تتبدَّل، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: 43), والتاريخ يُعيد نفسه كما تفيدنا آيات أُخَر من القرآن الكريم، فبالتالي هذه إضاءة أُخرى من القرآن الكريم تدفعنا وتحثُّنا لمتابعة الجواب عن أكبر عقيدة احتدم حولها السؤال في الساحة الإسلاميَّة، بل وفي الساحة البشريَّة، ألَا وهي العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته وحياته وإعداده للظهور والإصلاح الشامل، وهل نجد إجابة عن الإثارات التي تدور حول هذا الموضوع في القَصَص والسُّنَن التي جرت في أنبياء الله وأوصياء الأنبياء وفي حُجَج الله (عليهم السلام)، فإنَّها سوف لن تتحوَّل، وهي سُنَّة جارية إلى يوم القيامة، زد على ذلك ما ثبت في الحديث النبوي الذي روي عن الفريقين من أنَّ ما جرى في الأُمَم السابقة سيجري في هذه الأُمَّة، قال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ اَلنَّعْلِ بِالنَّعْلِ، وَاَلْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، وَلَا تُخْطِئُون طَرِيقَتَهُمْ شِبْرٌ بِشِبْرٍ، وَذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ، وَبَاعٌ بِبَاعٍ حَتَّى أَنْ لَوْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»(2)، فالسُّنَن إذن جارية في اللَّاحق كما جرت في السابق.
هنا قد نتساءل: هل هذه القراءة للآيات القرآنيَّة وظواهر القرآن الكريم تُعَدُّ من التأويل، أو من الاستظهار والتمسُّك بمؤدّيات الألفاظ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) تفسير القمِّي (ج 2/ ص 413).

(١٠)

فنقول: في الحقيقة إنَّ هذا الاستظهار يدعو إليه نفس القرآن الكريم في توصيات عديدة، كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17), ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمّد: 24), فنجد الحثَّ على التدبُّر والتذكُّر وعلى الاتِّعاظ والعبرة.
هناك أوامر وتوصيات مشدَّدة من القرآن الكريم للبشريَّة بالقيام بالتأمُّل والتبصُّر في خضمِّ وغمرات هذا القرآن الكريم، وإلَّا فليس هدف نزوله أنْ نقرأه للبركة، ولقلقة تتردَّد نغماته على الحناجر، بل آياته في الحقيقة مرتَّبة ومعدَّة ومقدَّمة لأجل أنْ نغوص في بحار معانيها، فقد دعانا القرآن الكريم لأنْ تكون هناك عبرة، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ...﴾ (يوسف: 111), أي يجب الاعتبار ويجب الاتِّعاظ، ولا ريب أنَّ المعاني لا تظهر من ظواهر الألفاظ بمجرَّد الاسترسال العفوي، وبنظرة أُولى فاحصة تظهر غزارة معاني الآيات الكريمة من طافح الآيات، وإلَّا لو كانت دُرَر المعاني تظهر بمجرَّد الاسترسال في القراءة لما احتاج القرآن الكريم أنْ يوصينا ويأمرنا بالتدبُّر، فالتدبُّر يعني نوعاً من الاتِّعاظ والتأمُّل والتمعُّن والتحليل والنظر والأخذ والإحاطة بالمعنى وتقليبه في جهات عديدة، إلى أنْ يتنفَّس ويحصحص نور المعنى.
لذا احتاج المسلمون في كلِّ عصر إلى مفسِّرين متخصِّصين في أحد العلوم الإسلاميَّة الشامخة، وهو علم التفسير، وهناك جمهرة كبيرة من علماء المسلمين في كلِّ الفِرَق الإسلاميَّة انبروا للتخصُّص وإلى اعتلاء مدارج هذا العلم، بما يُدلِّل على أنَّ تفسير القرآن يحتاج إلى موازين، وإلى قواعد يجب أنْ يستلهمها ويحيط بها المسلم عندما يريد أنْ يتدبَّر القرآن الكريم.
إنَّ تفسير معاني القرآن الكريم في حين أنَّه لا بدَّ أنْ يستند إلى أُصول اللغة العربيَّة وأُصول القواعد الاستظهاريَّة، إلَّا أنَّ إعمال هذه القواعد والاستفادة

(١١)

منها لا يظهر في الوهلة الأُولى بشكل عفوي، وإنَّما يحتاج إلى نوع من الإمعان ونوع من الدراية العلميَّة، ونوع من التحليل العلمي، ونوع من التجارب العلميَّة، ونوع من الأخذ والعطاء العلمي، وبالتالي تكون النتيجة موزونة إذا استندت إلى شواهد وإلى دلالات تقرُّها قواعد علوم اللغة العربيَّة وقواعد الشريعة والقواعد العقليَّة الفطريَّة البديهيَّة، فتظهر وتتَّضح النتيجة. ولربَّما كانت النتيجة للسامعين في البادئ نظريَّة أو متوغِّلة في النظريَّة وليست بديهيَّة، ولكنَّنا بالتأمُّل والتدبُّر إلى حلقات القواعد وتراميها وتوليدها للنتيجة سوف تظهر لنا النتيجة ناصعة يانعة بيِّنة شعشعانيَّة ظاهرة، وأمَّا النتيجة المبنيَّة على الهوس والقريحة والذوق والتخرُّص فلا يُعوَّل عليها، ولا هي بنافعة أيَّ قارئ يتدبَّر القرآن الكريم إذا أراد أنْ يستبصر هداه ونوره.
فلا تكون النتيجة صحيحة ومثمرة إلَّا إذا استندت إلى سلسلة شواهد وحلقات، نظير أيِّ استنتاج رياضي، فلربَّما تتوقَّف المعادلة على مرحلة من إجراء المعادلات، أو مرحلتين، أو ثلاث، أو أربع، أو عشر، لكنَّها تصل بعدئذٍ إلى النتيجة السليمة، مستندة إلى هذه الحلقات، فالعمدة إذن وجود سلسلة قواعد وشواهد توصلك إلى النتيجة الصحيحة، والقرآن الكريم في الحقيقة ينبئ عن تدريجيَّة المعاني فيه وتراتبيَّتها، وإلَّا فلو كان المعنى يتلقَّفه القُرَّاء للقرآن الكريم من طفح السطح الظاهر لما احتاج القرآن الكريم إلى التأكيد على التدبُّر وعلى أخذ العِبَر والاتِّعاظ، وأنْ يعبر الإنسان من معنى إلى معنى.
القرآن الكريم يحثُّ على عدم الوقوف والجمود، ويحثُّ على الاتِّعاظ والعبور من معنى إلى آخر، ومن محطَّة إلى أُخرى بشكل موزون على سكَّة مقرَّرة مشروعة رسميَّة، هذا هو معنى العبور، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ...﴾ (يوسف: 111), أي لا تقِفُوا عندها، بل تجاوزوها إلى محطَّة أُخرى، وإلى محور

(١٢)

وركن عقدي واعتقادي آخر، وقد ورد في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ كلَّ ما استعرضه القرآن الكريم ممَّا جرى على الأنبياء السابقين (عليهم السلام) هو مثال لما يجري على محمّد وآل محمّد (عليهم السلام).
وقد نتسائل: هل هذه القراءة بمنأى عن سُنَّة النبيِّ وأهل بيته (عليهم السلام)؟ وهل هو من باب تفسير القرآن بالقرآن، أم تفسير القرآن بالسُّنَّة؟
فنقول: في الحقيقة لن يكون هذا من القراءة القرآنيَّة البعيدة عن الثقل الثاني, لأنَّنا أُمرنا بأنْ نتمسَّك بالثقلين، ومن غير الصحيح حينئذٍ أنْ نقول: (حسبنا كتاب الله)(3), بل القرآن الكريم يقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(3) القولة المشهورة التي أطلقها عمر بن الخطَّاب في أخطر مرحلة مرَّت بها الدعوة الإسلاميَّة, ألَا وهي انتقال النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الرفيق الأعلى, فقد روى معظم محدِّثي العامَّة والخاصَّة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَـمَّا حُضِرَ اَلنَّبِيُّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، قَالَ: وَفِي اَلْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ، قَالَ: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ»، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ اَلنَّبِيَّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) غَلَبَهُ اَلْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمْ اَلْقُرْآنُ، فَحَسْبُنَا كِتَابُ اَلله، وَاِخْتَلَفَ أَهْلُ اَلْبَيْتِ وَاِخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اَللَّغَطَ وَاَلْاِخْتِلَافَ عِنْدَ اَلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) قَالَ: «قُومُوا عَنِّي»، قَالَ عُبَيْدُ اَلله: فَكَانَ اِبْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ اَلرَّزِيَّةَ كُلَّ اَلرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ اَلْكِتَابَ مِنْ اِخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ.
صحيح البخاري (ج 11/ ص 120/ ح 6594).
وفي رواية أنَّه قال: (إنَّ النبيَّ يهجر!). أضواء على السُّنَّة المحمّديَّة (ص 55).
يقول السيِّد شرف الدِّين (رحمه الله) في المراجعات (ص 353): (وهذا الحديث ممَّا لا كلام في صحَّته ولا في صدوره، وقد أورده البخاري في عدَّة مواضع من صحيحه، وأخرجه مسلم في آخر الوصايا من صحيحه أيضاً، ورواه أحمد من حديث ابن عبَّاس في مسنده، وسائر أصحاب السُّنَن والأخبار، وقد تصرَّفوا فيه، إذ نقلوه بالمعنى، لأنَّ لفظه الثابت: (إنَّ النبيَّ يهجر)، لكنَّهم ذكروا أنَّه قال: إنَّ النبيَّ قد غلب عليه الوجع تهذيباً للعبارة، وتقليلاً لما يُستهجَن منها).

(١٣)

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (آل عمران: 7), فالآية تدعو إلى معيَّة الثقلين، كما هو الحال في سورة (الواقعة: 77 - 79): ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾, والمطهَّرون هم أهل آية التطهير(4), فهناك آيات عديدة في القرآن الكريم هي آيات الثِّقْلَين في الواقع، ومعيَّة الثقلين، أمَّا هذه الدعوة التي ربَّما تطالعنا في الآونة الأخيرة (تفسير القرآن بالقرآن)، فهي ليست تفسير القرآن بالقرآن، بل هي تفسير القرآن باجتهاد المجتهد في القرآن، بمنأى عن الروايات، وهي تفسير بجهد بشري بالاستعانة بالقرآن، وإلَّا فالقرآن إنَّما يُفسِّر نفسه على لسان القرآن الناطق، وهم النبيُّ وأهل بيته (عليهم السلام).
في الحقيقة (تفسير القرآن بالقرآن) قد يكون عبارة عن شعار مخادع، إذ لا تعني هذه المقولة تفسير القرآن بنفسه من دون الحاجة إلى السُّنَّة، إذ إنَّ السُّنَّة هي تفسير القرآن بالقرآن وسُنَّة المعصومين، وأمَّا تفسير المجتهد أو الفقيه أو العالم فهو في الواقع جهد بشري لتفسير القرآن بالاستعانة بالقرآن ولكن بقدرة بشريَّة محدودة لا يمكن أنْ تحيط بمنظومة القرآن التي لا تنفد بمنأى عن السُّنَّة، والاقتصار على هذا المنهج خطأ واضح.
وقد يُرفَع هذا الشعار في كثير من الموسوعات التفسيريَّة، ويُجعَل عنواناً للتفسير، وهو عنوان مخادع من الناحية العلميَّة، لأنَّه ليس تفسيراً للقرآن بالمنظومة الهائلة للقرآن، بل بنتاج جهد بشري في فهم القرآن، ولا ينطبق على حقيقة المنهج الصحيح.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33).

(١٤)

اهتمَّ القرآن الكريم باستعراض عدَّة من الحُجَج والمصلحين الإلهيِّين المنصوبين من قِبَله تعالى، وقد تضمَّنت حالاتهم وخصائصهم ما تتضمَّن خصائص وحالات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، نظير ما استعرضه لنا القرآن الكريم في النبيِّ موسى (عليه السلام)، والنبيِّ عيسى (عليه السلام)، والنبيِّ يوسف (عليه السلام)، وكذلك صفي الله الخضر، وغير ذلك من نماذج.
إنَّ هذا الاستعراض من القرآن الكريم لخصائص حُجَج الله المنصوبين والمبعوثين لنجاة البشريَّة، وللإصلاح البشري وإصلاح الفساد في الأرض له مغزى وحكمة إلهيَّة باهرة وبارعة، ليدلَّ المسلم والمؤمن المعتقد بالقرآن الكريم إلى أنَّ شؤون الحجَّة الإلهيَّة تمرُّ بمثل هذه الحالات، وتمرُّ بمثل هذه الأدوار، وهو من باب ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، كما في ذيل سورة النبيِّ يوسف (عليه السلام).
إنَّ قَصَص الأنبياء والأوصياء والحُجَج (عليهم السلام) الذين استعرضهم القرآن الكريم ليس لأجل الإثراء في الخيال، ودعابة الحسِّ للذاكرة، وما شابه ذلك، بل هو عبرة, فإنْ كان الأمر الذي استُعرِضَ أمراً عقديًّا اعتقاديًّا، فهو عبرة للمسلمين وللمؤمنين في أبعاد عقيدتهم ومسائلهم العقائديَّة، وإنْ كان في بُعد الآداب والأخلاق في السُّنَن فهو أيضاً عبرة, لاسيَّما وأنَّ العقائد في بعثات الأنبياء (عليهم السلام) لا تُنسَخ، والذي يُنسَخ هو فروع المسائل وفروع تفاصيل الشريعة، وأمَّا العقائد والمعارف فهي على نسق واحد، وما يرتبط بالحُجَج والأنبياء (عليهم السلام) فهو أمر واحد ومتَّفق عليه، لأنَّ ﴿الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران: 19)،

(١٧)

بُعِثَ عليه آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسيِّد الأنبياء (عليهم السلام)، نعم تُنسَخ شريعة النبيِّ بشريعة نبيٍّ آخر، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ (المائدة: 48)، وأمَّا الدِّين فهو في دائرة العقائد والمعارف وأركان الفروع، فتلك ثوابت مستمرَّة.
فبهذه المقدَّمة، وهي التي تختصُّ بالقرآن الكريم، فهي تُشكِّل حقائق يعتبر بها - حينئذٍ - المؤمن والمسلم القارئ للقرآن الكريم، وما نشاهده من شجون في هؤلاء الحُجَج يُكوِّن داعياً واضحاً من الله (عزَّ وجلَّ) لأبناء هذه الأُمَّة، ليتخطَّوا هذه الشاكلة والسُّنَّة الإلهيَّة في الحُجَج.
أوجه الشبه بين الإمام المهدي والنبيِّ موسى (عليهما السلام):
هناك عدَّة سور قرآنيَّة تناولت حياة النبيِّ موسى (عليه السلام) بدءاً من ولادته، وحتَّى قبل ولادته، وخفاء ولادته، ثمّ ترعرعه ونشأته في الخفاء، ثمّ غيبته عن بني إسرائيل، وفي الحقيقة فإنَّه غاب عن بني إسرائيل منذ ولادته، وكان قومه يتطلَّعون إليه كمنجٍ ومغيث لهم من الفراعنة حيث إنَّهم قاموا باستعباد بني إسرائيل، فقد كانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ (الأعراف: 141), فتطلُّع بني إسرائيل وانتظارهم للنبيِّ موسى (عليه السلام) كنبيٍّ وكإمام مُنجٍ ومصلحٍ لهذا الفساد والظلم والضيم الذي يعيشون فيه هو محلُّ عِظَة وعِبرة يُسطِّرها لنا القرآن الكريم, وهو أنَّ في أدوار تفشِّي الظلم والفساد تأتي سُنَّة الله (عزَّ وجلَّ)، وهي بعثُ المصلح، وربَّما تغيب وتخفى ولادة المنجي والمصلح الذي هو حجَّة من الله، بل حتَّى ما بعد الولادة يمكن أنْ تخفى حاله، كما جرى في النبيِّ موسى (عليه السلام) وغيبته، ثمّ مجيئه بعد الغيبة، وإنجائه لبني إسرائيل وما رافق ذلك، فهنالك في الواقع عدَّة محاور

(١٨)

يمكن استعراضها بشكل تفصيلي، وإنَّما ذكرت ذلك إجمالاً الآن في حياة النبيِّ موسى (عليه السلام), لأنَّها مشابهة جدًّا لما مرَّ به الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهو الثاني عشر من الخلفاء الذين وعد بهم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), أنَّهم «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ», أو «مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»، كما روى ذلك جمهور المحدِّثين(5), ولا يخفى على القارئ الكريم أنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) من ذلك ما روي عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ اَلسُّوَائِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يَقُولُ فِي حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ: «إِنَّ هَذَا اَلدِّينَ لَنْ يَزَالَ ظَاهِراً عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ، لَا يَضُرُّهُ مُخَالِفٌ، وَلَا مُفَارِقٌ، حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ أُمَّتِي اِثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً»، قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ».
وفي حديث آخر عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يَقُولُ فِي حَجَّةِ اَلْوَدَاعِ: «لَا يَزَالُ هَذَا اَلدِّينُ ظَاهِراً عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ، لَا يَضُرُّهُ مُخَالِفٌ، وَلَا مُفَارِقٌ، حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ أُمَّتِي اِثْنَا عَشَرَ أَمِيراً، كُلُّهُمْ...»، ثُمَّ خَفِيَ عَلَيَّ قَوْلُ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، قَالَ: وَكَانَ أَبِي أَقْرَبَ إِلَى رَاحِلَةِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) مِنِّي، فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ، مَا الَّذِي خَفِيَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)؟ قَالَ: يَقُولُ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ».
راجع: مسند أحمد (ج 34/ ص 409 و410/ ح 20814، وج 34/ ص 413/ ح 20817)؛ صحيح البخاري (ج 11/ ص 70/ ح 6457)، وصحيح مسلم (ج 6/ ص 3 و4)، وسُنَن أبي داود (ج 2/ ص 309/ ح 4279 و4280)، وسُنَن الترمذي (ج 3/ ص 340/ ح 2323)، رووه بألفاظ مختلفة ومعناها واحد.
ومن ذلك ما روي عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: كنت مع عمِّي عند رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وهو يخطب، فقال: «لا تزال أمر أُمَّتي صالحاً حتَّى يمضي اثنا عشر خليفة»، وخفض بها صوته، فقلت لعمِّي - وكان أمامي -: ما قال، يا عمُّ؟ قال: يا بنيَّ، «كلُّهم من قريش».
المعجم الكبير للطبراني (ج 22/ ص 120)، مستدرك الحاكم (ج 3/ ص 618).
وروي عن جابر بن سمرة، قال: كنت مع أبي عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فسمعته يقول: «بعدي اثنا عشر خليفة»، ثمّ أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي [قال في] أخفى صوته؟ قال: قال: «كلُّهم من بني هاشم». ينابيع المودَّة (ج 2/ ص 315/ ح 908).

(١٩)

هناك آيات عديدة تناولت موضوع إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن نحن في صدد بحث الخصائص الخاصَّة بحالات وشؤون العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
علَّة اختفاء النبيِّ موسى (عليه السلام) عن قومه:
عند قراءة سورة القَصَص، وهي إحدى السور التي تستعرض حياة النبيِّ موسى (عليه السلام) بدءاً وانتهاءً، يقول تعالى: ﴿طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (القَصَص: 1 - 3), نجد أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد قصَّ قصَّة حُجَّةٍ من حُجَجه، وليس هو نبيٌّ ومرسَل من آحاد أو أوساط المرسَلين، بل هو نبيٌّ من أُولي العزم، فما يتلوه القرآن ويُنبئنا به من حديث النبيِّ موسى (عليه السلام) وفرعون هو إنباء بالحقِّ وليس إنباءً بالكذب والباطل، فكلُّ ما يستعرضه لنا القرآن الكريم هو حقٌّ ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾, وهذه التلاوة والإنباء من الله (عزَّ وجلَّ) عن ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) وفرعون هي ظاهرة يتلوها وينبؤها القرآن الكريم لقوم يؤمنون بوجود مثل هذه السُّنَن الإلهيَّة في حُجَجه، ويؤمنون بهذه السُّنَن الإلهيَّة في الحُجَج المنصوبين لنجاة البشريَّة ولإصلاح الوضع البشري.
إنَّ فرعون هو الظاهرة الأوَّليَّة التي استدعت بعثة النبيِّ موسى (عليه السلام) كمنجٍ ومصلحٍ، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القَصَص: 4).
وفي الحديث: ذَكَرَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بَلَاءً يُصِيبُ هَذِهِ اَلْأُمَّةَ حَتَّى لَا يَجِدَ اَلرَّجُلُ مَلْجَأً يَلْجَأُ إِلَيْهِ مِنَ اَلظُّلْمِ، «فَيَبْعَثُ اَللهُ رَجُلاً مِنْ عِتْرَتِي، فَيَمْلَأُ بِهِ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً»(6).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(6) العمدة لابن بطريق (ص 436/ ح 918).

(٢٠)

اُنظر وقع السُّنَن الإلهيَّة, هي نفس السُّنَن, الظهور بالعدل والقسط بعد ما تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، هنا القرآن الكريم أيضاً يذكر لك قاطرة هذه السُّنَن يتلو بعضها بعضاً، هذه الحلقة الأُولى، فالظلم والفساد تفشَّى في الأرض في حقبة الفراعنة، وفي حقبة فرعون أو فرعون الفراعنة، حينئذٍ تأتي السُّنَن الإلهيَّة، وذلك عندما يتفشَّى الفساد وينتشر الظلم. ولنا وقفة مليَّة عند هذه السُّنَن الإلهيَّة إنْ شاء الله تعالى باستعراض أبعادٍ عديدة، ولكن إلى أنْ نصل إلى خفاء ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام).
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصَص: 5)، فهل هذه الإرادة الإلهيَّة هي إرادة جزئيَّة خاصَّة استثنائيَّة ببني إسرائيل أو ما واكب تلك الحقبة، أو أنَّها في الحقيقة سُنَّة إلهيَّة دائمة؟
هذه في الواقع محطَّة يجب على المؤمن والمسلم عند قراءته القرآن الكريم أنْ يتمعَّن فيها, إذ هي في الواقع إرادة مستمرَّة وسُنَّة دائمة, ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: 43)، سُنَن الله (عزَّ وجلَّ) هي سُنَن واحدة، على إرادة واحدة، على شاكلة واحدة، فلذلك جاءت الإرادة الإلهيَّة في جعل المستضعفين أئمَّة، وهذه سُنَّة دائمة، وسنخوض فيها مليًّا ونُشبعها لأجل تبيان هذه المشاكلة في الظاهرة القرآنيَّة مع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
في الدعاء: «حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتّعَهُ - أو في بعض ألفاظ الدعاء: وَتُمَكِّنَهُ - فِيهَا طَويلاً»(7).
﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ﴾ يعني النهج الفرعوني نهج

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(7) الكافي (ج 4/ ص 162/ باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان/ ح 4)، تهذيب الأحكام (ج 3/ ص 102 و103/ ح 265/37).

(٢١)

الظلم، نهج الاستعباد، نهج الاستعمار, ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ (القَصَص: 6).
وهنا تبدأ البيئة التي بُعِثَ فيها النبيُّ موسى (عليه السلام) لأجل الإنجاء والإصلاح، وهي بيئة تفشَّى الظلم والفساد فيها، وبالمقابل تأتي السُّنَّة الإلهيَّة، لكي تكون العاقبة للإصلاح.
نعم، ظاهرة خفاء ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) الذي كان يترقَّبه بنو إسرائيل كمنجٍ ومصلحٍ لهم، وإنْ كنَّا لم نستوفِ تمام الكلام عن سُنَّة الله في الإصلاح بعد تفشِّي الفساد والظلم كما تشير إليه الآية السابقة، ففي كلِّ زمانٍ ومكانٍ بعد تفشِّي الفساد والظلم فيه، هناك إرادة وسُنَّة إلهيَّة في جعل المستضعفين أو من المستضعفين أئمَّة وارثين متمكِّنين في إدارة وتدبير الأرض.
لكن في البدء المستهلِّ في خفاء ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) اُنظر كيف يستعرضها لنا القرآن الكريم، وما هي أسباب خفاء ولادة هذا المنجي، كأنَّ تلك السُّنَّة أو تلك السُّنَن تتكرَّر وتعاود الوقوع الفينة بعد الأُخرى، وهذا هو مغزى استعراض القرآن الكريم لذلك، فالنبيُّ موسى (عليه السلام) رغم أنَّه هو المنجي الموعود لبني إسرائيل في تلك الحقبة، وهو المصلح لهم، وهو المنقذ لهم من استعباد الفراعنة وإفسادهم في الأرض، جعل الله ولادة هذا المنجي وهذا المصلح في خفاء وغيبة وسرّيَّة، ليس فقط عن فرعون والفراعنة والجهاز الحاكم على البلاد الباطش في العبيد والبشر، بل في خفاء حتَّى عن مريدي النبيِّ موسى (عليه السلام) والمؤمنين به والمتوقِّعين لظهوره وإنجائه وإصلاحه، فجعل ولادته في خفاء، ورغم هذا الخفاء لم يخل ذلك باعتقاد المؤمنين من بني إسرائيل في كون النبيِّ موسى (عليه السلام) هو حجَّة من قِبَل الله تعالى، موعود منصوب لنجاتهم وإنقاذهم من براثن الفساد والظلم الفرعوني.

(٢٢)

إذن هذه أوَّل أدبيَّة قرآنيَّة، أو حقيقة قرآنيَّة يستعرضها لنا القرآن الكريم، وهي أنَّ خفاء ولادة الحُجَج لا يتصادم ولا يتقاطع مع الاعتقاد بحجّيَّتهم، وبحجّيَّة ذلك المنجي المتوقَّع ظهوره أبداً.
الخفاء أدلُّ على الحجّيَّة:
بل هذا الخفاء أدلُّ برهانٍ على حجّيَّة الموعود للإنجاء، لماذا؟
لأنَّ الحجَّة بطبيعته سيصطدم مع قوى الظلم ومع سطوة وسلطات المفسدين في الأرض، ومن الواضح أنَّهم سوف يقعون في معترك وتصادم معه, ومن الطبيعي أنَّهم سيضعون برنامجاً لتصفية ذلك المصلح. وعليه فمن الطبيعي أنْ يكون في برنامج العناية الإلهيَّة ومخطَّط القدرة الربَّانيَّة إخفاؤه بدءاً من الولادة، اُنظر ماذا يقول لنا القرآن الكريم في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام): ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القَصَص: 7)، حيث يكشف لنا من خلال هذه الآية عن جوٍّ مليئ بالإرهاب والخوف، وأنَّ المصلح ومنذ بدو تولُّده ولأنَّه موعود بإصلاح قومه ونجاتهم من براثن الفساد والظلم، ومن ثَمَّ فإنَّ قوى الظلم وقوى البطش تريد أنْ تحيق به عن طريق الإعدام والإبادة من بدء الولادة، ومن ثَمَّ تكون هناك عناية إلهيَّة في خفاء الولادة.
فإخفاء الولادة ليس أمراً أُسطوريًّا في الحُجَج، بل هو حقيقة يستعرضها لنا القرآن الكريم, وهي أنَّه قد يكون نبيٌّ مرسَل من أُولي العزم موعوداً بكونه هو المنجي وهو المصلح وهو المنقذ لبني إسرائيل من براثن الظلم والفساد في الأرض، ومع ذلك تخفى ولادته, لماذا؟
لأنَّ ذلك أمر طبيعي يتعقَّله العقل الإنساني في أنَّ بشائر ذلك المصلح

(٢٣)

الموعود المنجي الذي تنتظره قلوب المؤمنين في تلك الحقبة، سوف تُعبَّأ ضدَّه إرادة الظلمة والأنظمة.
العنف والاضطهاد ضدَّ الإمامين العسكريَّين (عليهما السلام):
اُنظر إلى حياة الإمام عليٍّ الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام)، حيث استُدعيا من المدينة المنوَّرة مدينة جدِّهما من قِبَل أكبر دولة عظمى آنذاك في الكرة الأرضيَّة وفي البشريَّة وهي الدولة العبَّاسيَّة, وجُعِلَا سجينين عسكريَّين، إذ كانت سامرَّاء والتي تُسمَّى بـ (سُرَّ من رأى) أكبر قاعدة عسكريَّة ربَّما في الكرة الأرضيَّة لدولة عظمى لما يقارب من ثلاثين أو أربعين دولة في الوضع الراهن من ناحية المساحة، إذن هي دولة بهذا الاتِّساع وبهذه القوَّة وبهذا البطش وهذه السطوة، والقاعدة العسكريَّة لهذه الدولة كانت سُرَّ من رأى، ولـمَّا يُسجَن الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام) في مدينة عسكريَّة ذات أهمّيَّة كهذه يتَّضح جليًّا أنَّ النظام العبَّاسي كان عنده تعبئة واستنفار وخوف خاصٌّ واصلٌ إلى درجة تعبويَّة قصوى يجعل من ذلك الطرف ليس سجيناً مدنيًّا وليس سجيناً سياسيًّا فحسب، بل يجعله سجيناً عسكريًّا, وهذا خوف مسلَّم به من ذلك الشخص، والمحاكمة التي يحاكم بها محاكمة عسكريَّة وليست محاكمة سياسيَّة ولا محاكمة مدنيَّة، لأنَّها لا تخضع لقوانين ولا لأُصول, ما السبب في ذلك؟
وهذا أوَّل دليل وأكبر شاهد تاريخي في سيرة المسلمين عرفه المسلمون عن تخوُّف السلطة العبَّاسيَّة من ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه). وهو أنَّ الإمام عليًّا الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام) سُجِنَا في أكبر معسكر على وجه الأرض في ذلك الوقت، وجُعِلَا سجينين عسكريَّين تحت رقابة الحكم العسكري، وإنَّ هذا الاستنفار التعبوي في درجته القصوى يشبه إلى حدِّ التطابق تلك التعبئة التي

(٢٤)

اتَّخذها فرعون تجاه المصلح وهو النبيُّ موسى (عليه السلام), هنا تشاكلت السُّنَن بين حُجَج الله.
إذن خفاء ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وما أنِسَه وعرفه المسلمون والمؤمنون من أمرها في ظلِّ تلك الظروف التي استُدعي فيها الإمام الهادي وهو الإمام العاشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام), وما كان ذلك إلَّا لِتَحسُّب الدولة العبَّاسيَّة آنذاك من ظهور هذا المصلح الموعود الذي روى الفريقان فيه ما يقرب من اثني عشر ألف حديث, كما رصدته إحدى المؤسَّسات التحقيقيَّة العلميَّة في الحوزة العلميَّة عندنا(8).
إذن الحديث متواتر في ذهنيَّة المسلمين، في أنَّ هناك مظهراً مصلحاً منجياً منقذاً للبشريَّة عموماً، وهذا محور آخر عسى أنْ نُوفَّق لنستعرض الوعود القرآنيَّة الدالَّة على ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه هو الذي يُظهر الدِّين على أرجاء الكرة الأرضيَّة كافَّة.
الوحي الإلهي لأُمِّ موسى (عليه السلام):
هنا الآية الكريمة تقول: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى...﴾ وهذا مقطع لطيف, فما معنى هذا الوحي؟ فأُمُّ موسى (عليه السلام) ليست بنبيٍّ وليست برسول، هذه ظاهرة قرآنيَّة واضحة، وهو أنَّ هناك من الأوصياء ومن الحُجَج الإلهيِّين غير الأنبياء وغير الرُّسُل (عليهم السلام) يُوحى إليهم، هذه الظاهرة القرآنيَّة لا تُفسِّرها غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام), فإنَّ أُمَّ موسى (عليه السلام) أُوحي إليها ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8) راجع: معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), الصادر عن الهيأة العلميَّة في مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة.

(٢٥)

الْمُرْسَلِينَ﴾ (القَصَص: 7)، هذا ليس وحياً - كما يقال - تكوينيًّا أو غريزة تكوينيَّة، كلَّا، وإنَّما أمر ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾، والأمر يعني وحياً إنشائيًّا، لكن ليس وحي نبوَّة، وليس وحي شريعة، وإنَّما هو وحي إنشائي في الحُجَج الإلهيَّة, وسنستعرض فيما يأتي بقيَّة تفاصيل خفاء ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وبقيَّة تفاصيل ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) المشاكلة والمشابهة لخفاء ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأنَّها عِظَة وعِبرة قرآنيَّة كبرى سطَّرها القرآن الكريم للمسلمين وللبشريَّة إلى يوم القيامة عند تلاوتهم لسورة القَصَص والسور القرآنيَّة الأُخرى.
سرُّ استعراض القرآن الكريم عبراً اعتقاديَّة ذات مغزى عظيم:
إنَّ ما يستعرضه القرآن الكريم لنا من قَصَص الأنبياء (عليهم السلام) هي عِبَر كما نصَّ عليه القرآن الكريم في ذيل سورة النبيِّ يوسف (عليه السلام): ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (يوسف: 111), فهي في الواقع سُنَن إلهيَّة تُستعرَض لكي يتَّعظ بها المسلمون والمؤمنون، لاسيَّما في الجانب العقدي والاعتقادي، وقد ورد أيضاً في القرآن الكريم أنَّ سُنَّة الله لا تتحوَّل ولا تتبدَّل، وهي سُنَن دائمة متكرِّرة في الأدوار والحُقَب البشريَّة إلى يوم القيامة، مع ما ورد عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أنَّ هذه الأُمَّة ستنتهج ما نُهِجَ في الأُمَم السابق تحذو حذوهم حذو القذَّة بالقذَّة والنعل بالنعل(9)، وما شابه ذلك، وربَّما فيه إشارة إلى بعض الآيات الكريمة حيث تؤكّد ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ﴾ (الانشقاق: 19).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9) وهو قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لتسلكنَّ طريق من كان قبلكم حذو القذَّة بالقذَّة، وحذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم». مستدرك الحاكم (ج 4/ ص 469).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ سُنَنَ اَلْأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام) بِمَا وَقَعَ بِهِمْ مِنَ اَلْغَيْبَاتِ حَادِثَةٌ فِي اَلْقَائِمِ مِنَّا أَهْلَ اَلْبَيْتِ حَذْوَ اَلنَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَاَلْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ». كمال الدِّين (ص 345/باب 33/ح 31).

(٢٦)

إذن هذه السُّنَن التي تُستعرَض في القرآن الكريم للمصلحين والمنجين المبعوثين لإصلاح ونجاة البشريَّة، والبشريَّة في تلك الحُقَب والأدوار تتوقَّع وتنتظر ظهورهم، وما يستعرضه القرآن الكريم من تفصيلات متشعِّبة عن أحوالهم، إنَّما هو بيان وتذكرة لسُنَن اعتقاديَّة عقديَّة للمسلمين وللمؤمنين فيما تكون فيه السُّنَن الإلهيَّة في هذه الأُمَّة أيضاً.
نعود إلى خفاء النبيِّ موسى (عليه السلام)، هذا النبيُّ الذي كانت تتوقَّعه بنو إسرائيل وتنتظره كمصلحٍ ومنجٍ، وقد انتشرت بشائره إلى أسماع السلطة الحاكمة الباطشة آنذاك، وهي سلطة الفراعنة، فحاولت تصفية نسل بني إسرائيل للحيلولة دون تولُّد هذا المصلح، وشاكل ذلك ما مارسته السلطة في الدولة العبَّاسيَّة في تلك الحقبة من استقدام الإمام الهادي عليِّ بن محمّد النقي العسكري (عليه السلام) إلى القاعدة العسكريَّة آنذاك، وتحت رقابة عسكريَّة في مدينة عسكريَّة مدجَّجة بالفِرَق العسكريَّة، فكأنَّما هم في حالة استنفار وتعبئة عسكريَّة، وليست حالة تعبويَّة سياسيَّة، وكأنَّما هناك نوعاً من التيَّار الجارف الذي يُمهِّد له الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام) لظهور ابنهم الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)، سيَّما وقد نصَّ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أنَّ الأئمَّة الخلفاء من بعده اثنا عشر، وكلُّهم من قريش، وفي بعض الروايات: من هذا البطن من بني هاشم - كما مرَّ سابقاً -، وقد سمعوا بتلك الأحاديث المتواترة، حينئذٍ هذه الذاكرة المليئة بالأحاديث النبويَّة والبشائر النبويَّة، بل والقرآنيَّة تجعل السلطة في حالة استنفار تعبوي عسكري، هذا الذي شوهد في التاريخ بنحو قطعي، واستعرضته كلُّ كُتُب المسلمين من سجن الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام) في تلك القاعدة العسكريَّة التي تُدعى بـ (سُرَّ من رأى)، والتي تُدعى الآن: (سامرَّاء)، وهي مثوى الإمامين الشريفين (عليهما السلام) هناك.

(٢٧)

نعم، هذه هي الحالة التي واكبت ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بالضبط، وهي التي يستعرضها لنا القرآن الكريم عندما واكبت مصلحاً سابقاً في الأدوار والأحقاب البشريَّة السابقة، بنفس الشاكلة، أنَّ ولادته كانت بالخفاء من السلطة وإرهاب السلطة وبرنامجها التصفوي، حيث يقول القرآن الكريم: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ...﴾، إذن كانت هنالك حالة خوف ورعب عند ولادة هذا المصلح، ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القَصَص: 7).
وهذه الآية الكريمة فيها محطَّة بيِّنة لطيفة تصبُّ في بيان ما تنتهجه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو نهج أصيل قرآني، من تقرير أنَّ هناك حُجَجاً إلهيِّين ليسوا بأنبياء وليسوا بمرسَلين، ولكن لديهم وحي وعلم لدنِّي وإنْ لم يكن وحياً نبويًّا، وإن لم يكن وحي الرسالة، وإنَّما هو علم لدنِّي, ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65), فالعلم من لدن الله (عزَّ وجلَّ), وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾, إذن أُمُّ موسى (عليه السلام) صدِّيقة ومصطفاة كمريم (عليها السلام)، وانتُخِبَت لولادة هذا النبيِّ المرسَل من أُولي العزم، ومن ثَمَّ كانت الرابطة والارتباط بينها وبين السماء، حيث قالت الآية: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ وهذا أمر وليس إيعازاً وإلهاماً تكوينيًّا، ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ وهذا أمر آخر، ﴿وَلَا تَخَافِي﴾ وهذا طلب ثالث، ﴿وَلَا تَحْزَنِي﴾ طلب رابع، ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ﴾ إخبار عمَّا سيقع، وإنباء بالمستقبل، إذن هناك حُجَج من الله ليسوا بأنبياء ولا رُسُلاً يأمرهم بأوامر خاصَّة تطبيقاً للشرائع السابقة، ويُنفِّذون برامج من قِبَل الباري تعالى، يزقُّون العلم اللدنِّي، وأنباء المستقبل، ﴿وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إنباء عن مقام عقدي مستقبلي، وهو رسالة للنبيِّ موسى (عليه السلام).

(٢٨)

إذن ستَّة أُمور في هذا الوحي استعرضها لنا القرآن الكريم في مضامين الوحي وطيَّاته التي ذُكِرَت في الآية الكريمة, في الوحي الذي كان على ارتباط واتِّصال بأُمِّ موسى (عليه السلام).
إنَّ الظاهرة القرآنيَّة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يُفهَم منها أنَّ مقام الحُجَج لا يقتصر على الرُّسُل والأنبياء (عليهم السلام)، بل هناك الأئمَّة (عليهم السلام), وهناك الحُجَج الذين هم أيضاً ليسوا بأئمَّة ولا أنبياء ولا مرسَلين كمريم (عليها السلام)، فمريم لم تكن إماماً، ولم تكن نبيًّا، ولم تكن رسولاً، ولكنَّها كانت مصطفاة مطهَّرة معصومة من الزلل والخلل، وكان بينها وبين السماء ارتباط, ثمّ إنَّ ظاهرة مريم وأُمِّ موسى (عليهما السلام) ليستا استثنائيَّتين، بل هما سُنَّتان إلهيَّتان دائمتان لا تجد لهما تفسيراً عقديًّا واعتقاديًّا في مناهج الاعتقاد في مدرسة من مدارس أهل السُّنَّة وغيرها، إلَّا في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام), حيث الاعتقاد بمقام النبوَّة ومقام الرسالة بالإضافة إلى الاعتقاد بمقام الإمامة ومقام الحجّيَّة, وأيضاً مقام الاصطفاء والطهارة والعصمة، كما هو الحال في فاطمة الزهراء (عليها السلام).
إذن هذه ظاهرة مهمَّة يُركِّز عليها القرآن الكريم, وهي ظاهرة خفاء ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) الذي كان مصلحاً ومنقذاً ومنجياً تنتظره البشريَّة الأكثريَّة في تلك الحقبة، وفيها أمر عجيب، وهو أنَّ قدرة الله ليست محدودة ولا متناهية، ويستطيع سبحانه وتعالى أنْ يحفظ وليَّه وحجَّته في أحضان عدوِّه، إذ قال تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (القَصَص: 8).
إذن ما الذي تستبعده البشريَّة في ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في حين كان أبوه وجدُّه (عليهما السلام) محاصَرَين في قاعدة عسكريَّة تُدعى بـ (سُرَّ من رأى)، سجنوهما كسجينين عسكريَّين، أي إنَّ الدولة متَّخذة ضدَّهما التعبئة والاستنفار

(٢٩)

العسكري، والنظام إذا كان يتوجَّس من انقلاب عسكري فإنَّه سيُعلِن حالة الطوارئ العسكريَّة والاستنفار العسكري، والدولة العبَّاسيَّة طيلة حياة الإمام عليٍّ الهادي الذي هو جدُّ الإمام المهدي (عليهما السلام)، وطيلة حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كانت تعيش حالة تعبئة واستنفار عسكري. هذا ما سجَّله لنا التاريخ وكُتُب الروايات، إذ إنَّ خلفاء بني العبَّاس كانوا آنذاك يستعرضون العسكر والجيوش أمام الإمام الهادي(عليه السلام)(10)، ليقولوا له: ليكن في حسبانك أنَّ أيَّ انقضاض على نظام الدولة العبَّاسيَّة فسيكون أمامك أرتال وفِرَق تملأ الأُفُق من العسكر، وهم يظنُّون أنَّ هذه هي القدرة وهذه هي القوَّة، لأنَّ المنطق عندهم هو منطق القوَّة المادّيَّة الظاهريَّة لا غير.
إذن التعبئة العسكريَّة كانت موجودة كما هو في حالة النبيِّ موسى (عليه السلام)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(10) من ذلك ما روي أنَّ المتوكِّل - وقيل: الواثق - أَمَرَ اَلْعَسْكَرَ وَهُمْ تِسْعُونَ أَلْفَ فَارِسٍ مِنَ اَلْأَتْرَاكِ اَلسَّاكِنِينَ بِسُرَّ مَنْ رَأَى أَنْ يَمْلَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِخْلَاةَ فَرَسِهِ (أي: ما يُجعَل فيه العلف ويُعلَّق في عنق الدابَّة) مِنَ اَلطِّينِ اَلْأَحْمَرِ، وَيَجْعَلُوا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فِي وَسَطِ بَرِّيَّةٍ وَاسِعَةٍ هُنَاكَ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا صَارَ مِثْلَ جَبَلٍ عَظِيمٍ صَعِدَ فَوْقَهُ، وَاِسْتَدْعَى أَبَا اَلْحَسَنِ (عليه السلام) وَاِسْتَصْعَدَهُ، وَقَالَ: اِسْتَحْضَرْتُكَ لِنَظَارَةِ خُيُولِي، وَقَدْ كَانَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَلْبَسُوا اَلتَّجَافِيفَ (وهو شيء يُترَك على الفرس يقيه الأذى, وقد يلبسه الإنسان) وَيَحْمِلُوا اَلْأَسْلِحَةَ، وَقَدْ عَرَضُوا بِأَحْسَنِ زِينَةٍ وَأَتَمِّ عُدَّةٍ وَأَعْظَمِ هَيْبَةٍ، وَكَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَكْسِرَ قَلْبَ كُلِّ مَنْ يَخْرُجُ عَلَيْهِ، وَكَانَ خَوْفُهُ مِنْ أَبِي اَلْحَسَنِ (عليه السلام) أَنْ يَأْمُرَ أَحَداً مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى اَلْخَلِيفَةِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو اَلْحَسَنِ (عليه السلام): «وَهَلْ تُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ عَسْكَرِي؟»، قَالَ: نَعَمْ، فَدَعَا اَللهَ سُبْحَانَهُ، فَإِذَا بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ مِنَ اَلمَشْرِقِ إِلَى اَلمَغْرِبِ مَلَائِكَةٌ مُدَجَّجُونَ، فَغُشِيَ عَلَى اَلْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ أَبُو اَلْحَسَنِ (عليه السلام): «نَحْنُ لَا نُنَافِسُكُمْ فِي اَلدُّنْيَا، نَحْنُ مُشْتَغِلُونَ بِأَمْرِ اَلْآخِرَةِ، فَلَا عَلَيْكَ شَيْءٌ مِمَّا تَظُنُّ».
الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 414 و415/ باب 11/ ح 19).

(٣٠)

وأنَّ آل فرعون رغم تعبئتهم ورغم استنفارهم لاستئصال وذبح كلِّ نسل بني إسرائيل إلَّا أنَّ آل فرعون التقطوه ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (القَصَص: 8), لأنَّ قدرة الله تحفظ وليَّه وحجَّته والمبعوث مصلحاً ومنجياً في أحضان عدوِّه بحماية الله. النبيُّ موسى (عليه السلام) كان يترعرع وينمو وينشأ في أحضان العدوِّ، وعلى بساط النظام الغاشم الظالم، لكن مع ذلك لم يكن يعرف هويَّة النبيِّ موسى (عليه السلام). هذه الغيبة من النبيِّ موسى وخفاء ولادته ونشوئه وترعرعه ليست غيبة مقابل حضور، بل هو حاضر لديهم، إنَّما هي غيبة هويَّة، غيبة معرفة، غيبة تشخُّص.
سرُّ استعراض تفاصيل خفاء ولادة موسى (عليه السلام):
إنَّ لهذه القصَّة وتفاصيلها حول خفاء ولادة موسى (عليه السلام) مغزى عظيم، وحكمة يتَّعظ بها المسلمون في قراءتهم للقرآن الكريم. نعم، هو محطَّة جيِّدة للتأمُّل والتدبُّر والتمعُّن، فإنَّ هذه التفاصيل التي تستعرضها سورة القَصَص بمفردها، فضلاً عن السور الأُخرى بتفاصيل وملابسات وشؤون وشجون خفاء الولادة والرعب الذي لابسها، والمراحل التي ترعرع فيها النبيُّ موسى (عليه السلام)، كلُّ ذلك لتبيان القرآن بشكل واضح على أنَّ خفاء ولادة المصلح الموعود المنجي وكيفيَّة ترعرعه ونشأته عن المؤمنين به وعن المستضعفين في الأرض كما هو الحال مع النبيِّ موسى (عليه السلام) وذلك بعد تفشِّي الظلم وفساد الفراعنة والنظام الفرعوني في أرجاء الأرض لا تتنافى مع حجّيَّته، لأنَّ هذه سُنَّة إلهيَّة في الحُجَج المبشَّرين والموعود بهم من قِبَل الله تعالى في البشائر السماويَّة, لأنَّهم مصلحون ومنتظَرون للإصلاح ونجاة البشريَّة، ومن الطبيعي أنْ تلابس

(٣١)

نشأتهم وولادتهم وترعرعهم حالة من الخفاء يتسنَّى لهم من خلالها ممارسة دورهم وبسط نفوذهم وقدرتهم.
وفي الحقيقة إنَّ الخفاء الذي يستعرضه القرآن الكريم في ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) والذي فيه نماذج تأتي من الظواهر القرآنيَّة ليست أُسطورة، وليست خرافة، ففي هذا العصر توصَّلت البشريَّة إلى أنَّ من أسرار ورموز القوَّة هو السرّيَّة، اُنظر إلى أيِّ نظام من أنظمة الدول العصريَّة الآن إذا لم يتسلَّح بسلاح السرّيَّة والخفاء، فماذا سيحدث؟ إذن أدبيَّة السرّيَّة والخفاء وفكرة الغيبة والاستتار ظاهرة متقدِّمة منظورة متمدِّنة في علم إنشاء القدرة، لاسيَّما في سبيل الإصلاح، أي إنَّ أيَّة قدرة تريد أنْ تترعرع أو تتكوَّن أو تريد أنْ تبسط أرضيَّتها وقاعدتها لا بدَّ لها من استعمال عامل الخفاء وعامل السرّيَّة.
فهذه ليست هي عقيدة أو فكرة محضة، بل هي ممارسة عمليَّة عبر التاريخ. والكثير كان يُهرِّج ويُوظِّف الأقلام الوضيعة والألسن الساقطة لادِّعاء أنَّ هذه خرافة وأُسطورة، وأنَّ من يعتقد بها يعيش في خيال وما شابه ذلك، فتبيَّن من خلال ما سبق أنَّ هذه حقيقة قرآنيَّة، وهذه الحقيقة تُقرِّرها البشريَّة في إدارة نظم الدول ونظم القدرات، فليس الإعلام ولا حتَّى السلاح النووي أو غيره له قدرة توازي قدرة الخفاء السرِّي، فربَّما دولة من الدول ليست لديها تلك الأسلحة والأجهزة والآليَّات اللوجستيكيَّة، ولكن لديها العمل الخفي السرِّي في العمل والنفوذ والاختراق لخصومها أنفذ من بقيَّة الدول التي تكون ظاهريًّا أكثر سيطرةَ وأكثر قوَّةً.
فعنصر الخفاء وعنصر الغيبة وعنصر السرّيَّة ليس عنصراً - كما يروق للبعض - أنْ يُعبِّر عنه بـ (عقيدة باطنيَّة) أو ما شابه ذلك ممَّا تلهج به الألسن الرخيصة، بل هو مفهوم حضاري قرآني يستعرضه لنا القرآن الكريم في

(٣٢)

المصلحين الإلهيِّين والحُجَج الموعود ببعثهم لإنقاذ البشريَّة من ملابسات تلك الظروف. وهذا أمر وتسلسل وتكوُّن طبيعي واضح، أنَّه لا بدَّ من طبيعة المناجزة والمصادمة بين القوى على الصعيد الكائن الموجود للاجتماع البشري.
ويمكن أنْ نحسبها سُنَّة إلهيَّة وسُنَّة طبيعيَّة، فطبيعة البشريَّة الاحتماء من الأخطار بالالتجاء إلى علوم الأمن وعلوم السرّيَّة وعلوم الخفاء وعلوم المخابرات وعلوم عديدة، بل هناك علوم عديدة تضاهي العلوم المعلَن عنها من العلوم التجريبيَّة والعلوم الإنسانيَّة وغيرها، فعلم الأمن يدخل في صلب الإدارة وفي صلب القيادة وفي صلب التدبير, وتقارن السرّيَّة والخفاء مع التدبير والقيادة والإدارة والنظم والنظام، وهذه في الواقع عناوين تحمل معنى الإمامة، أي القيادة، أي التدبير، أي الإدارة، أي النظم، أي رئاسة النظم، لا بدَّ أنْ تقترن ملفَّاتها وفي حُقَب فاعليَّتها وفعَّاليَّتها بجانب الخفاء.
فلنواكب بقيَّة التفاصيل التي تستعرضها لنا سورة القَصَص بتفاصيل متعدِّدة متكثِّرة مبسوطة عن خفاء وملابسات ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام)، وهو إمام من الأئمَّة الذين جعلهم الله تعالى أئمَّة للبشر في تلك الحُقَب، وهو من أُولي العزم.
تقول الآية الكريمة: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (القَصَص: 9), إذن معنى الغيبة هنا الذي تستعرضه لنا الآية الكريمة للنبيِّ موسى (عليه السلام) ليست غيبة وجود ولا مزايلة حضور، وإنَّما غيبة هويَّة. وللأسف هذه المفردة لم تتبلور بشكل واضح في غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فإنَّه ليس من أمر استعرضه القرآن إلَّا لأجل عبرة في هذه الأُمَّة، أنَّه سيجري في هذه الأُمَّة من السُّنَن السابقة في الأُمَم الماضية وفي الحُجَج الإلهيِّين ما سيجري في هذه الأُمَّة.

(٣٣)

فمفهوم الغيبة ليس المراد منه غياب حضور، وإنْ كان كثر في الكتابات والألسن أنَّ الغيبة في مقابل الحضور، وهذه في الواقع مفهومة مغلوطة، الغيبة مقابل الظهور وليست مقابل الحضور، فالإمام حاضر، والحجَّة الإلهيَّة حاضرة، النبيُّ موسى (عليه السلام) الذي استعرض لنا القرآن الكريم أمره كان حاضراً، غاية الأمر أنَّه كان مخفيًّا خفاء هويَّة، غائباً عن معرفة أُولئك به، لا غائباً وجوداً، وإلَّا فهو في كبد الحدث، وفي صلب الحدث، اُنظر التعبير في الآية الكريمة: ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾, إنَّما غيبته عدم معرفتهم به وهو موجود بين أيديهم حاضر عندهم، هذا معنى الغيبة، أي عدم الشعور بالموجود، عدم الشعور بالحاضر، كما قال تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ (القَصَص: 9 و10), ﴿لَتُبْدِي بِهِ﴾ أي تُظهِر هويَّته، ليس التعبير في الآية الكريمة: (كادت لتأتي به)، هو لم يغب وجوداً كي تأتي به، بل هو حاضر لكن ليس بظاهر، فالغيبة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هي غيبة مقابل الظهور وليست في مقابل الحضور، حضور لكنَّه بالخفاء، وفي الظهور حضور لكنَّه بِعلَن وعلانية، ففي كلٍّ من الغيبة والظهور حضور في ساحة الحدث، ومجريات الحدث البشري تدبيراً وإدارةً من الله العليِّ العظيم، ولكنَّه في حالة الغيبة في الخفاء والسرّيَّة وعدم الشعور به، وفي حالة الظهور حضور مع شعور به ومعرفة به، والتعبير القرآني دقيق، وكلُّ كلمات القرآن الكريم فيها حكمة ومغازي.
وأنَّ هناك ثُلَّة من الحُجَج ومن شابههم، يُعرَفون بموضع المصلح والمنجي والمنقذ، لكن هناك حصانة وحراسة إلهيَّة ضاربة لتأمين حياة وجود هذا المصلح وهذا الموعود, وهناك تأمين وضمانة إلهيَّة لحراسة هذا المنقذ في ترعرعه وفي نشأته وفي استمرار حياته وفي تكوين قاعدته ونفوذه وقدرته.

(٣٤)

﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ﴾، فبعض المؤمنين آنذاك كانوا يعرفون هذا المنقذ المنجي الموعود المصلح الذي أنبأت به البشائر السماويَّة، بعض المؤمنين الخُلَّص ككلثم أُخت النبيِّ موسى (عليه السلام) التي - كما ذُكِرَ في الروايات - تكون في الآخرة من النسوة الأربع زوجات لسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(11).
﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ...﴾ (القَصَص: 11 و12), إنَّ تفاصيل هاتين الآيتين تصبُّ في هذا المغزى، وهو أنَّ وليَّ الله وحجَّته الموعود بكونه منقذاً ومصلحاً للبشريَّة تحوطه العناية الربَّانيَّة والحراسة الإلهيَّة في كبد أحضان العدوِّ، وفي متناول مخالب العدوِّ، من دون أنْ يشعروا أو يعلموا به أو يعرفوه. كما يتَّضح أنَّ عامل الخفاء يكون من أقوى المؤثِّرات، وأقوى القدرات، وأنَّ العلم أكبر سلاح، والشعور بالشيء علم به، والغيبة والخفاء عدم الشعور به، إذ إنَّ أكبر سلاح لدى البشريَّة هو العلم، فإذا سُلِبَ هذا السلاح من يد العدوِّ - أي الشعور واستكشاف ذلك المصلح الذي تترقَّبه السماء - سوف يكون حينئذٍ أكبر نقطة ضعف لدى العدوِّ.
هناك وقفة أخَّاذة جدًّا بمجامع الفكر والعقل، تتَّضح لنا في خضمِّ هذا الاستعراض من القرآن الكريم، وما أكَّد وركَّز ونبَّه من خلال لسان الآيات الكريمة على أنَّ هذا المصلح بطبيعة ما يترقَّب ويتوجَّس منه بشريًّا من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(11) روى الصدوق (رحمه الله) في من لا يحضره الفقيه (ج 1/ ص 139 و140/ ح 383)، قال: دَخَلَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَلَى خَدِيجَةَ، وَهِيَ لِمَا بِهَا، فَقَالَ لَهَا: «بِالرَّغْمِ مِنَّا مَا نَرَى بِكِ يَا خَدِيجَةُ، فَإِذَا قَدِمْتِ عَلَى ضَرَائِرِكِ فَأَقْرِئِيهِنَّ اَلسَّلَامَ»، فَقَالَتْ: مَنْ هُنَّ، يَا رَسُولَ اَلله؟ قَالَ: «مَرْيَمُ اِبْنَةُ عِمْرَانَ، وَكُلْثُمُ أُخْتُ مُوسَى، وَآسِيَةُ اِمْرَأَةُ فِرْعَوْنَ»، قَالَتْ: بِالرِّفَاءِ، يَا رَسُولَ اَلله.

(٣٥)

الإصلاح العامِّ، سوف تكون قوى الشرِّ وقوى الظلام دوماً في تحسُّب من مواجهته، وهذه معادلة طبيعيَّة, معادلة قوى الخير وقوى الشرِّ، قوى الحقِّ وقوى الباطل، فمن ثَمَّ يكون هناك تعبئة عامَّة واستنفار عامٌّ في صفوف الأنظمة الظالمة وقوى الفساد في وجه هذا المصلح الآتية بشائره، إذن فهذه سُنَن إلهيَّة موجودة.
وفي خضمِّ تعرُّض القرآن الكريم لأوَّل محطَّة من ظاهرة النبيِّ موسى(عليه السلام) المصلح المنجي الموعود في تلك الحقبة الزمنيَّة لتبيانها, لاسيَّما في سورة القَصَص، وفيها ما لابس خفاء ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام)، هنا نشاهد أنَّ القرآن الكريم يُعطي وقفة نوريَّة خلَّابة جدًّا أخَّاذة بمجامع القلوب، وهي تجليل لوالدة موسى (عليه السلام)، وأنَّها موحى إليها، وإنْ لم يكن وحياً نبويًّا، ولم يكن وحي شريعة، ولا وحي رسالة، ولكن وحي لوليٍّ من أولياء الله، وصفيٍّ من أصفياء الله، كيف لا وهي قد استُودعت أمانة النبوَّة عن عدوِّه، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القَصَص: 7).
إذن هي أُنبئت وأُخبرت بأنَّ موسى (عليه السلام) سوف يكون نبيًّا مرسَلاً، مع أنَّه إلى ذلك الوقت لم يُبعَث النبيُّ موسى (عليه السلام) بشريعته كي تعتنقها، ولكن كانت على شريعة الأنبياء السابقين (عليهم السلام)، وأُنبئت ببعثة نبيٍّ من أُولي العزم ناسخ للشريعة السابقة ومكمِّل لسلسلة من النبوَّات، فأُودعت هذه الأمانة العظيمة وحفظتها، ولو لم تكن هي أمينة الله ومستودع الله لحفظ كليم الله ولحفظ نبيٍّ من أنبياء أُولي العزم، ولو لم تكن بهذه المنزلة لما أنبأها الله (عزَّ وجلَّ) بأنَّ هذا الموعود سوف يكون نبيًّا وأنَّه من المرسَلين، إذن هي بحدٍّ من الأمانة عند الله (عزَّ وجلَّ) وصدِّيقة وصفيَّة من أصفياء الله اصطفاها (عزَّ وجلَّ) بحيث يُجلِّلها ويودعها هذه الأمانة، وإلَّا لو

(٣٦)

لم تكن بتلك الدرجة من الأمانة لكشفت عن الأمر، ولربَّما انقطع الطريق وسُدَّ عن البرنامج الإلهي من بعثة نبيٍّ من أنبياء أُولي العزم.
إنَّه أمر عظيم، وهو استحفاظ أُمِّ موسى (عليه السلام) نبوَّة النبيِّ موسى (عليه السلام)، إنَّه أمر ليس بالهيِّن، ويظهر من القرآن الكريم أنَّ أُمَّهات الأنبياء جميعهنَّ مؤمنات مصطفيات مستودعات للسرِّ الإلهي صدِّيقات حاملات لأكبر أمانة إلهيَّة، فكيف بك بوالدة سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وهي آمنة بنت وهب؟ وعجباً من هذه الألسن التي تلوك زوراً باطلاً، كيف يتجرَّأون بالقول بكفر وشرك والدة سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو والده أو آبائه عموماً الذين كانوا كلُّهم أُمناء مستودعين لنور النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان نور النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في جبينهم يخفق ويسطع، وكان من القبائل ومن الأُمَم من اليهود والنصارى من حاول مباغتة جدود النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقتلهم واستئصالهم حسداً للقضاء على نور النبوَّة في جبينهم وفي صلبهم، هؤلاء الذين استُودعوا مثل هذا النور نور سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكيف حينئذٍ تتجرَّأ تلك الألسن وتلوك باطناً وتتجرَّأ على الساحة النبويَّة وعلى الساحة الإلهيَّة في الوقيعة بأُولئك الآباء الطاهرين والأجداد المطهَّرين للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟!
يُعلِّمنا القرآن هنا درساً بأنَّ أُمَّهات الأنبياء وآباء الأنبياء (عليهم السلام) هم بهذه المنزلة، اُنظر هذا التعبير القرآني: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾, فكيف يكون المقام مع أُمِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو سيِّد الأنبياء؟ نعم فإذا كان النبيُّ موسى (عليه السلام) قد ترعرع في هذا الحضن الطاهر والبطن الطاهر والرحم الطاهر والصدر الطاهر، فكيف بك بسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ نعم هناك ضغينة وشنشنة قديمة مع النبيِّ وأهل بيته (عليهم السلام)، يحملها أُناس ولا زالت تنفث، كما كانت قريش تعادي النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فأُمُّ موسى (عليه السلام) صدِّيقة وصفيَّة من الأصفياء، هكذا شأنها كما كان شأن

(٣٧)

والدة النبيِّ عيسى (عليه السلام) أيضاً، حيث استُودعت نبوَّة النبيِّ عيسى (عليه السلام)، وأُوعز إليها أنْ تقوم بدور إبلاغ بني إسرائيل بأنَّ هذا نبيٌّ من الأنبياء, قالوا: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ (مريم: 28 و29)، يعني جلبت انتباه الملأ من بني إسرائيل، وعلم بنو إسرائيل أنَّ الذي كلَّموه هو نبيٌّ من الأنبياء، هذه البشارات التي أُودعت وأُنبئت بها مريم (عليها السلام)، وهي والدة أحد الأنبياء من أُولي العزم، فكيف بوالدة سيِّد الأنبياء وبوالد سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ إنَّ القرآن الكريم يُعلِّمنا درساً بالغ الأهمّيَّة، درساً عقديًّا ومسألة عقديَّة ومحطَّة عقائديَّة مهمَّة، وهي أنَّ والدات الأنبياء وآباء الأنبياء (عليهم السلام) لهم مكانة إلهيَّة ومقام إلهي مثل هذا الشأن، كما هو الحال في أُمِّ موسى وفي أُمِّ عيسى (عليهما السلام).
خفاء النبيِّ موسى (عليه السلام) بعد نبوَّته في بني إسرائيل:
المحطَّة الثانية التي يستعرضها لنا القرآن الكريم في قصَّة النبيِّ موسى (عليه السلام) كمصلح للبشريَّة كما ستشير إليه سورة القَصَص، وباعتباره نبيًّا مترقَّباً من قِبَل المؤمنين من بني إسرائيل الذين كانوا يعانون أشدّ الضيم والويل من الفراعنة، تقول الآيات الكريمة في سورة القَصَص: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (القَصَص: 14).
وفي الآية إثارة جميلة، وهي: أنَّ مقام عطاء الحكم والعلم لا لنبوَّة النبيِّ موسى (عليه السلام)، وإنَّما لمقام الإحسان ومقام المحسن من الأصفياء والحُجَج، سواء أكان نبيًّا أو كان رسولاً أو كان وصيًّا وإماماً أو كان حجَّةً من الحُجَج، لأنَّ القرآن الكريم يستعرض لنا أربعة أقسام رئيسيَّة، وإلَّا

(٣٨)

فهناك أقسام أُخرى، وتلك الأقسام الأربعة الرئيسيَّة تشير إليها سور عديدة، وستمرُّ بنا في ظواهر القرآن الكريم، فهناك حجَّة وإنْ لم يكن نبيًّا ولا رسولاً ولا وصيًّا كمريم وأُمِّ موسى (عليهما السلام)، فقد أنبأنا القرآن الكريم بأنَّهم مصطفون ومطهَّرون.
نعم، بعدما ذكر القرآن الكريم ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) وما قد رافقها من المخاطر والاستتار الشديد جدًّا بحراسة إلهيَّة قصوى، وتقدير وضمانة إلهيَّة لوالدة النبيِّ موسى (عليه السلام) ولأُخته ولذويه بأنْ يحفظ الله (عزَّ وجلَّ) هذا المصلح الذي تترقَّبه القلوب وتنتظره أفئدة المؤمنين، وتتوجَّس منه خيفة قلوب الفراعنة لكونه يُقوِّض أنظمتهم، بعد ذلك يواصل لنا القرآن حالات النبيِّ موسى (عليه السلام) باعتباره مُصلحاً ومُنجياً للبشريَّة في تلك الحقبة، حيث نجد في السور القرآنية أنَّ هناك مقارنة متلازمة بين اسم النبيِّ موسى (عليه السلام) وفرعون، تقارن الإصلاح مع الظلم، أو تقارن الظالم مع المصلح، هذا التقارن مع عاقبة الإصلاح في الحقيقة يُدلِّل على أنَّ النظام الفرعوني هو نظام البطش والظلم والإفساد في الأرض، رغم تقدُّمه المدني في الجانب المادِّي، فهذه الأهرامات التي تُشاهَد الآن تدلُّ على الحضارة الفرعونيَّة، والحضارة المادّيَّة التي وصلت إلى تقنيَّة لم تستطع التقنيَّة الحديثة العصريَّة أنْ تُفسِّرها أو تُدرك حقيقة حالها، ومع ذلك فإنَّ هذا التحضُّر أو التمدُّن في البُعد المادِّي خيَّم عليه انتشار الفساد والظلم، وبالتالي اسم فرعون قُرِنَ باسم الظلم والفساد والبطش، ويشير القرآن الكريم إلى فرعون ذي الأوتاد كيف كان يبطش بالبشر، وقُرِنَ به اسم مصلح وهو النبيّث موسى (عليه السلام).
إذن تكرَّر في عدَّة سور قرآنيَّة اسم النبيِّ موسى (عليه السلام) في مواجهة فرعون، والسِّمة البارزة في النبيِّ موسى (عليه السلام) أنَّه دكدك عروش الفراعنة, وباعتباره مصلحاً ومنجياً بسط العدل في زمانه بحدود معيَّنة في بعض بقاع الأرض.

(٣٩)

تواصل لنا سورة القَصَص وبقيَّة السور القرآنيَّة ما جرى على هذا المصلح بعد خفاء ولادته وحراسة السماء بشدَّة له والحيطة عليه، قالت الآية الكريمة: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾, دائماً في حالة خفاء، ترعرعه، نشوؤه، ولادته، خفاؤه واستتاره قبل ساعات الظهور، وقبل ساعة إعلانه الإصلاح العامَّ كان في حالة سرّيَّة كمبعوث إلهي, ﴿فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ﴾ مع عدم علمه به، ﴿عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ (القَصَص: 15), يعني العراك الذي جرى بين ذاك الذي كان قد عرف النبيَّ موسى (عليه السلام) وبين ذلك الذي لم يكن يعرفه.
ويظهر من الآية أنَّ النبيَّ موسى كان يتحرَّك مع عدم علم واطِّلاع الفراعنة ولا بني إسرائيل بشخصيَّته وهويَّته، كانوا يرونه ولا يعرفون أنَّه هو ذلك المنتظَر الموعود المنجي لهم، كان في كبد ساحة الحدث، يتفاعل معه، أي إنَّ النبيَّ موسى (عليه السلام) كان يرعى ويشرف ويُهيمن على مجريات حال ومصير بني إسرائيل، لكن مع ذلك لم يكونوا يعرفونه.
إذن كان يُؤثِّر في مجمل أوضاعهم في حدود معيَّنة مقدَّرة من قِبَل الله تعالى من دون أنْ يشعروا به، ومن دون أنْ يعرفوه، هذه محطَّة أُخرى يذكرها لنا القرآن الكريم في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام)، وهي أنَّه كان يتفاعل مع مجمل الأحداث التي تجري على بني إسرائيل، لكن من وراء ستار غياب الهويَّة، من وراء ستار خفاء الشخصيَّة، مع كونه موجوداً بين أيديهم.
بعد ذلك تواصل الآيات: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً

(٤٠)

لِلْمُجْرِمِينَ﴾ (القَصَص: 16 و17), فهو ظهير للمستضعفين، وهو في حين لم تأتِ ساعة الصفر لظهوره، أو إعلان دعوة إصلاحه وإنجائه لبني إسرائيل وللمؤمنين من براثن الفراعنة، كان مع ذلك يزاول تدبير الحدث في خضمّ وفي وسط هذا الخفاء وفي وسط هذا الستار, فهو لم يكن معطَّلاً قبل ظهوره، بل كان متفاعلاً مع الحدث، ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ﴾ (القَصَص: 18), فهاهنا في خضمِّ تفاعل النبيِّ موسى (عليه السلام) مع الأحداث وتأثيره في الحدث العامِّ الذي يجري على بني إسرائيل كان في حال خوف وستر وسرّيَّة، لئلَّا ينكشف.
إيجابيَّة صفة الخوف عند الأنبياء (عليهم السلام):
إنَّ هذا الخوف ليس صفة شخصيَّة أو خوفاً على شخصه، فالنبيُّ موسى والأنبياء (عليهم السلام) إنَّما كانوا يخافون على عدم استتمام المهمَّة التي أُوكلت إليهم، ويخافون على التقصير، أو عدم الوصول إلى الغرض فيما أُوعز إليهم من رسالة وإصلاح وإنجاء، سيَّما في البرنامج الموسوي الذي أُودع إليه من قِبل الله تعالى. فهذا الخوف في الواقع خوف على الهدف، فلم يكن لموسى (عليه السلام) خوف شخصي على نفسه.
﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً﴾ (القَصَص: 19).
الغيبة الثانية لموسى (عليه السلام):
ثمّ قال تعالى: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ

(٤١)

الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ (القَصَص: 20), وهنا تبدأ الغيبة الثانية للنبيِّ موسى (عليه السلام), ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (القَصَص: 21), فهذا الخوف في المصلحين هو بسبب ستار الغيبة والخفاء والسرّيَّة لهم والحركة تحت سطح السرّيَّة، وليس خوفاً شخصيًّا على أنفسهم، وكيف وهم بُسلاء الشهادة ورُوَّاد البشريَّة اختارهم الله (عزَّ وجلَّ) وأصفاهم وهم أولياؤه؟ وإنَّما هو خوف على عدم إنجاز المهمَّة الإلهيَّة، وعدم إيصال هذه المهمَّة إلى نهايتها، فلا ريب حينئذٍ أنْ يستدعي الأمر منه نوعاً من الغيبة, وأنْ يكون تحت ستار الخفاء, وما ذلك إلَّا لأجل المثابرة في أداء المسؤوليَّة العظيمة الموكلة إليه من قِبَل الله تعالى، وكما يُحدِّثنا القرآن الكريم في المصلحين السابقين المبعوثين من قِبَل الله, كان الاقتضاء أنْ يكونوا في فترات في ستار الخفاء والغيبة، ليُؤمِّن لهم حرّيَّة الحركة، وحرّيَّة الانطلاق، وحرّيَّة التفاعل مع الحدث، والتأثير من دون أنْ تصل أيدي الظالمين إليهم، لأنَّ طبيعة الأنظمة الظالمة أنَّها إذا شعرت بعنصر الإصلاح ولاسيَّما عنصر الإصلاح الإلهي تباغته بالتصفية والإعدام والإزالة, لا ريب في ذلك، فلذا يكون الستار الأمني الحافظ لهم من استئصال وتصفية وإبادة قوى الظلم وقوى الظلام والشرِّ والأنظمة الفاسدة لهم.
فستار الخفاء يُعطي كمال الحيويَّة وكمال الحرّيَّة في الحركة والنشاط والقيام بأتمِّ ما يمكن من المسؤوليَّة، فكما يُحدِّثنا القرآن الكريم هنا عن ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) في تلك الحقبة، كان يُحدِّثنا أيضاً أنَّ الخوف كان برنامجه للإيفاء بدوره الفاعل، وكانت السرّيَّة هي غطاء لتأمين أداء دوره الفاعل، وتأثيره في ذلك الحدث.

(٤٢)

لقاء موسى بشعيب (عليهما السلام):
ومن هنا تواصل الآيات الكريمة وتقصُّ لنا الغيبة الثانية والخفاء الثاني للنبيِّ موسى (عليه السلام), ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (القَصَص: 22), إلى أنْ تصل إلى لقاء موسى بالنبيِّ شعيب (عليهما السلام).
وهنا محطَّة أُخرى, وهي أنَّ هذا المصلح المنجي الموعود يلتقي مع حُجَج آخرين لله، فهناك نوع من الشبكة المتَّصلة بين أولياء الله، هناك نوع من المجموعات المرتبطة مع بعضها البعض، وكلُّ محطَّة في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) والظواهر الأُخرى التي سنأتي على استعراضها إنْ شاء الله فيها وقفات تستدعي الانتباه بإمعان، منها هذه المحطَّة التي هي غيبة ثانية تستعرضها لنا سورة القَصَص في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام).
وهذا الخفاء وهذه الغيبة تأتي بجانب ما أُوتي النبيُّ موسى (عليه السلام) من بدء ولادته من الخفاء والسرّيَّة إلى ترعرعه وبلوغ أشدّه واستوائه, بعد ذلك تأتي مرحلة أُخرى امتدَّت أكثر من عشر سنين عندما استأجره النبيُّ شعيب (عليه السلام), ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ﴾ (القَصَص: 27 - 29), حيث إنَّه أتمَّ عشراً كما ورد في الروايات(12), فيتَّضح أنَّ هناك غيبة أُخرى ثانية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(12) في الرواية عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي اَلْحَسَنِ (عليه السلام): قَوْلُ شُعَيْبٍ (عليه السلام): ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ﴾، أَيَّ اَلْأَجَلَيْنِ قَضَى؟ قَالَ: «اَلْوَفَاءُ مِنْهُمَا أَبْعَدُهُمَا عَشْرُ سِنِينَ...». الكافي (ج 5/ ص 414/ باب التزويج بالإجارة/ ح 1).
وعن ابن عبَّاس، قال: سُئِلَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أيُّ الأجلين قضى موسى؟ قال: «أوفاهما وأبطأهما»، وبالإسناد عن أبي ذرٍّ، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إذا سُئِلْتَ أيُّ الأجلين قضى موسى؟ فقل: خيرهما وأبرُّهما». مجمع البيان (ج 7/ ص 432).

(٤٣)

طالت أكثر من عشر سنين، من ذهابه إلى مدين، ثمّ مكثه عشر سنين أو أكثر عند النبيِّ شعيب (عليه السلام).
تلاؤم حجّيَّة النبيِّ موسى (عليه السلام) نبيًّا مع غيبته:
ولسائلٍ أنْ يسأل: هل هناك تنافٍ وتقاطع بين نصب الله (عزَّ وجلَّ) حجَّة من حُجَجه مصلحاً ومنجياً وموعوداً منتظَراً في تلك الحقبة وبين غيبته؟ سيَّما أنَّ هذه الغيبة الثانية - كما مرَّ بنا الحديث - بيَّنت ومن خلال سورة القَصَص أنَّه لـمَّا توجَّه تلقاء مدين مكث ما يربو ويزيد على العشرة، وكان ذلك أجلاً ثانياً في غيبة النبيِّ موسى (عليه السلام)، والتقى فيها مع النبيِّ شعيب (عليه السلام)، وكانت محطَّة لقاء حُجَج الله ومجموعة من أصفياء الله مع بعضهم البعض في تدبير الأُمور الإلهيَّة. النبيُّ موسى (عليه السلام) هو من أُولي العزم ورسول مبعوث وصاحب شريعة, وهو أيضاً في البشارات الإلهيَّة موعود به المنجي والمنقذ لبني إسرائيل من براثن أنظمة الفراعنة، فكيف يتلاءم هذا مع الغيبة؟ أليس هناك تقاطع؟ أليس هناك تدافع؟
هذه الإثارات والتساؤلات ناجمة ومنبعثة من فهم خاطئ لمعنى الغيبة، وقد مرَّ بنا أنَّ معنى الغيبة ليست هي عدم وجود النبيِّ موسى (عليه السلام) في ساحة الحدث، وليس معنى الغيبة مزايلة النبيِّ موسى (عليه السلام) عن موقعيَّته في التأثير في الأحداث، ولا نأيه ولا ابتعاده عن التصدِّي لمجمل الأُمور، فهذا معنى خاطئ للغيبة, وهكذا معنى الغيبة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فالبعض - وربَّما من أتباع

(٤٤)

مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فضلاً عن المدارس الإسلاميَّة والمِلَل والنِّحَل الأُخرى - ربَّما ينساق إليهم معنى الغيبة بمعنى النأي والابتعاد عن مجمل المسؤوليَّة أو التدبير أو الاضطلاع بكامل البرنامج الإلهي.
فنقول: ليس ذلك هو معنى الغيبة، فتارةً تكون الغيبة في مقابل الحضور كقولنا: غاب وحضر، وتارةً الغيبة تكون مقابل الظهور، وهي التي تتَّخذ معنى الخفاء والسرّيَّة والستار, فإنَّ موسى (عليه السلام) ترعرع في أحضانهم وبين أيديهم لكنَّهم لا يشعرون به, فهي إذن غيبة خفاء، غيبة هويَّة، غيبة ستر وستار، لا غيبة انعدام ومزايلة عن الحضور، فلو فُسِّرت الغيبة بمعناها الصحيح كما في غيبة النبيِّ موسى (عليه السلام) فهو في مدين يستنبئ أنباءهم، وربَّما يقرب من ذلك كيفيَّة إيعازه لجملة من البرامج الإلهيَّة في المجتمع الفرعوني ومجتمع بني إسرائيل والأقباط هناك، فإذن ليست هي ابتعاد ومزايلة عن التأثير في ساحة الحدث، بالعكس هو نوع من الخفاء والسرّيَّة في العمل والنشاط، فلا يكون هناك أيُّ تقاطع أو أيُّ تصادم بين الحجّيَّة و المسؤوليَّة التي تُوكل إلى ذلك الوليِّ والحجَّة من حُجَج الله، بل يكون هناك تمام الملائمة وتمام النسق والتأثير المتبادل، وستكون حينئذٍ مسؤوليَّة الخفاء هي أفضل فرصة لقيام ذلك الحجَّة بما يُعهَد إليه من مسؤوليَّة ومن برامج إصلاح وما شابه ذلك، وسيكون الخفاء والغيبة أنشط لدوره، وأكثر فاعليَّةً وتأثيراً، بخلاف ما لو فسَّرناها بأيِّ معنى خاطئ. وللأسف أنَّه قد استشرى هذا المعنى الخاطئ في أذهان الكثيرين، وهو أنَّ معنى الغيبة النأي والمزايلة والابتعاد والجمود وعدم التصدِّي للأحداث وتدبير الأُمور، وكيف يلائم هذا المعنى الخاطئ للغيبة الحجَّة الفعليَّة للنبيِّ موسى (عليه السلام)، وهو من أُولي العزم، وحجَّة لله، وموعود بأنَّه هو المنتظَر المصلح المنقذ للبشريَّة من الأنظمة الفرعونيَّة، فكيف يكون حينئذٍ معطَّلاً؟!

(٤٥)

فالتعابير القرآنيَّة السابقة تُظهر مجمل حركة النبيِّ موسى (عليه السلام) قبل إعلان دعوته في العلن، أنَّها كانت دوماً في حالة خفاء، دخوله، خروجه، ترعرعه، نشوؤه، نموُّه، وهذا ليس من الأُسطوريَّات، حاشا لأفعال الله تعالى ولرُسُل الله تعالى عن ذلك، وإنَّما هي في صلب خضمِّ التدبير الإلهي الحكيم النافذ البالغ الحكمة، لأجل حيويَّةٍ أكثر ونشاطٍ أكثر لقيام ذلك المصلح بدوره في مرحلة الخفاء والسرّيَّة إلى أنْ تُستكمَل قدراته ونفوذه، وتتهيَّأ الأرضيَّة له، حينئذٍ تأتي ساعة الصفر وساعة الظهور والإعلان.
إعلان الدعوة الموسويَّة:
ثمّ تأتي الآيات تزفُّ لنا نهاية المطاف, عندما أعلن النبيُّ موسى (عليه السلام) دعوته وظهر باعتباره مصلحاً ومنجياً, وهذا هو المقطع الثالث من حياة النبيِّ موسى (عليه السلام).
كيف بدأ ظهور النبيِّ موسى (عليه السلام) مصلحاً ومنجياً أمام الفراعنة، وأمام الأقباط، وأمام المجتمع من بني إسرائيل؟ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (القَصَص: 29 و30)، وتواصل الآيات: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ (القَصَص: 32)، هنا بدأ المسؤوليَّة في الإعلان والظهور, في سورة (طه: 24) ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾, هذا النظام الجاثم على كبد البشريَّة في تلك

(٤٦)

الحقبة التي تصفها الآية الكريمة في سورة (القَصَص: 3 و4): ﴿نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾, ظلم وفساد ملأ أرجاء الأرض من النظام الفرعوني، تأتي هنا حينئذٍ نهاية المطاف، وهي إعلان الظهور وبدء المأموريَّة، بأمر إلهي بظهور النبيِّ موسى (عليه السلام) للإصلاح, يتلقَّى موسى (عليه السلام) الأمر، فيقول: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ (القَصَص: 33), يعني ربَّما لن أُوفَّق لأداء تمام المسؤوليَّة، فإنَّه لا خوف شخصي كما مرَّ سابقاً، بل إنَّ الخوف الذي ينتاب المصلحين الإلهيِّين والمنجين ليس خوفاً شخصيًّا من نزعة ذاتيَّة وحبِّ الذات وحبِّ البقاء، كيف وهم رُوَّاد الشهود على البشريَّة، كنماذج بشريَّة اصطفاها الله (عزَّ وجلَّ) للإصلاح؟ وإنَّما خوف من عدم إتمام وإكمال البرنامج الإلهي، وعدم التوفيق في الاضطلاع بأداء المهمَّة الإلهيَّة كالإصلاح والإنجاء للمستضعفين والمظلومين في الأرض، وقلع الفساد الذي يتفشَّى في أرجاء الأرض.
نعم، ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا...﴾ (القَصَص: 34 و35), اُنظروا قوله تعالى: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً﴾, أي إنَّ الحراسة الإلهيَّة والضمانة الإلهيَّة للمصلحين والمُنجين موجودة، في حين لا تواكل ولا جبر ولا تفويض، وإنَّما أمر بين أمرين، التوكُّل يعني أنْ يقوم المصلح بأدواره، ومن وراء ذلك الحراسة الإلهيَّة، والضمانة الإلهيَّة موجودة.
ظاهرة اختفاء وغيبة الأنبياء (عليهم السلام) سُنَّة إلهيَّة:
بعد أنْ استكملنا ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) باعتباره مصلحاً ومنجياً إلهيًّا وهادماً لعروش الفراعنة والظالمين وما رافق ذلك من خفاء ولادته (عليه السلام) وغيبته

(٤٧)

في فترة ترعرعه ونموِّه ونشوئه, ثمّ غيبته الثانية في بلاد مدين, ثمّ قيامه بالإعلان والظهور للإصلاح وإنقاذ بني إسرائيل والبشريَّة من مخالب الظالمين والمفسدين, نواجه هنا هذا السؤال, وهو: هل ما جرى في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) المصلح المنجي الإلهي هو سُنَّة إلهيَّة دائمة، أم حالة استثنائيَّة خاصَّة بالنبيِّ موسى (عليه السلام)؟
والجواب: بعد ما مرَّ بنا باقتضاب من ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) كمبعوث إلهي مصلح ليُقوِّض عروش الظالمين، ويُقوِّض براثن الفساد، وينجي وينقذ البشريَّة في تلك الحقبة، نقول: ليس ما استعرضه لنا القرآن الكريم في كلِّ هذا الخضمِّ هو لإشباع رغبة الخيال، بل إنَّها محطَّات عقديَّة اعتقاديَّة، وسُنَن إلهيَّة دائمة في المصلحين والمنجين للبشريَّة.
هناك طائفة من الآيات القرآنيَّة تُبيِّن وتُدلِّل على أنَّ هذه السُّنَن الإلهيَّة سُنَن دائمة وليست سُنَناً مؤقَّتة، قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 62)، وقال تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: 43).
فسُنَنه في الرُّسُل والمصلحين والمنجين والمنقذين المبعوثين من قِبَله تعالى تتكرَّر, سيَّما مع طبايع البشر ونظامهم الاجتماعي، ونظام قوى الظلم والشرِّ في قِبال قوى الإصلاح الإلهي.
إذن العبرة في مجريات الأحداث التي مرَّ بها الأنبياء والرُّسُل والتوقُّف عندها لأنَّها محطَّات اعتقاديَّة معرفيَّة وليست محطَّات عمليَّة لأجل عمل جوارح الإنسان.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ (يوسف: 111), ليس قصَّة إسحاق ويعقوب ويوسف (عليهم السلام) فقط, ففي ذيل سورة يوسف: ﴿قَصَصِهِمْ﴾,

(٤٨)

الضمير يعود إلى كلِّ الأنبياء والمرسَلين السابقين والمصلحين المبعوثين من قِبَل السماء لإنقاذ وإنجاء البشريَّة، سيَّما مثل هذا الإصلاح الذي قام به النبيُّ موسى (عليه السلام)، وما رافق ذلك من خفاء ولادته وغيبته الأُولى والثانية، وهذا نظير وشبيه ما هو في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في إمامها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من خفاء الولادة والغيبة الأُولى والغيبة الثانية، هذا عبرة لكم أنتم أيُّها المسلمون، أنتم أيُّها التالون لكتاب الله، لا تتلوا كتاب الله تلاوة لقلقة لسان من دون أنْ تتدبَّروا معانيه, ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17), ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمّد: 24).
إذن القرآن مفتوح بابه على مصراعيه للتدبُّر وللتذكُّر، فقَصَص الأنبياء والمرسَلين السابقين (عليهم السلام) والأُمَم السابقة عبرة عقديَّة واعتقاديَّة، لأنَّ العقيدة كما مرَّ بنا هي واحدة في كلِّ بعثات الأنبياء (عليهم السلام)، والذي يُنسَخ إنَّما هو الشرايع في الفروع، في الأحكام التفصيليَّة العمليَّة في فروع الدِّين، وأمَّا أصل أركان الفروع فضلاً عن الأُمور العقديَّة والاعتقاديَّة فهذه لا نسخ فيها، وهل يمكن أنْ يُتصوَّر في توحيد الله النسخ بين نبيٍّ وآخر - والعياذ بالله -؟! كلَّا وحاشا. أو في الاعتقاد بالمعاد نسخ؟! بل ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران: 19), من يوم خلق السماوات والأرض, دين الإسلام كعقائد بُعِثَت بها جميع الأنبياء (عليهم السلام) منذ آدم (عليه السلام) إلى سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكلُّ هذه الأُمور الاعتقاديَّة هي ﴿عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى﴾ (يوسف: 111), إذن ليست هي ثرثرة قَصَص أو دعابة سمر ليلي يدغدغ الإنسان مشاعر خياله بها، بل هي في الواقع عِبَر سطَّرها القرآن لنتَّعظ بها، وسُنَن ستقع في هذه الأُمَّة، وهذا بنفسه دليل وبرهان عظيم على أنَّ ما وقع في الأُمَم السابقة سيقع في هذه الأُمَّة، كما في روايات عن الفريقين، وكما مرَّ سابقاً.

(٤٩)

فقَصَصهم فيها تفاصيل عقديَّة واعتقاديَّة، ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: 111), الذين يؤمنون بالسُّنَن الإلهيَّة يؤمنون بهذه المواقع الإلهيَّة وسُنَن الله تعالى في أوليائه وحُجَجه المصلحين للبشريَّة، فعليكم أنتم أيُّها الأُمَّة الأتباع لسيِّد الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآخر الأُمَم أنْ لا تجهلوا ذلك، وعليكم التصديق والإيمان بما يجري على حُجَج الله تعالى والأئمَّة الاثني عشر المستخلَفين من قِبَل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّ الثاني عشر منهم له غيبتان، وله خفاء ولادة، ومن قبل ولادته استُدعي وسُجِنَ أبوه وجدُّه (عليهما السلام) في قاعدة عسكريَّة تُدعى (سُرَّ من رأى)، فمن الطبيعي إذن خفاء ولادته، وليس من المنطق التكذيب بها خصوصاً بعد أنْ بشَّر النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) به في متواتر الروايات، من أنَّ المهدي من ولده يُبعَث مصلحاً منجياً منقذاً(13).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13) فممَّا جاء عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ذلك:
ما رواه النعماني (رحمه الله) في الغيبة (ص 255/ باب 14/ ح 1) بسنده عن الصادق (عليه السلام)، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال لعليٍّ (عليه السلام): «أَلَا أُبَشِّرُكَ، أَلَا أُخْبِرُكَ، يَا عَلِيُّ؟ فَقَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اَلله، فَقَالَ: كَانَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) عِنْدِي آنِفاً، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ اَلْقَائِمَ اَلَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ فَيَمْلَأُ اَلْأَرْضَ عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ جَوْراً مِنْ ذُرِّيَّتِكَ مِنْ وُلْدِ اَلْحُسَيْنِ».
وما رواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 286/ باب 25/ ح 1) بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اَلله اَلْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اَلمَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، اِسْمُهُ اِسْمِي، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، أَشْبَهُ اَلنَّاسِ بِي خَلْقاً وَخُلْقاً، تَكُونُ بِهِ غَيْبَةٌ وَحَيْرَةٌ تَضِلُّ فِيهَا اَلْأُمَمُ، ثُمَّ يُقْبِلُ كَالشِّهَابِ اَلثَّاقِبِ، يَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً». ←

(٥٠)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
→ وفي (ص 287/ باب 25/ ح 4) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنِ اَلصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اَلمَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، اِسْمُهُ اِسْمِي، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، أَشْبَهُ اَلنَّاسِ بِي خَلْقاً وَخُلْقاً، تَكُونُ لَهُ غَيْبَةٌ وَحَيْرَةٌ حَتَّى تَضِلَّ اَلْخَلْقُ عَنْ أَدْيَانِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُقْبِلُ كَالشِّهَابِ اَلثَّاقِبِ، فَيَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً».
وفي (ص 287/ باب 25/ ح 5) بسنده عَنْ صَالِحِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ اَلْبَاقِرِ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ اَلْعَابِدِينَ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ اَلشُّهَدَاءِ اَلْحُسَيْنِ اِبْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ سَيِّدِ اَلْأَوْصِيَاءِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اَلمَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي، تَكُونُ لَهُ غَيْبَةٌ وَحَيْرَةٌ تَضِلُّ فِيهَا اَلْأُمَمُ، يَأْتِي بِذَخِيرَةِ اَلْأَنْبِيَاءِ (عليهم السلام)، فَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً».
وما رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 182/ ح 141) بسنده عَنْ عَبْدِ اَلله بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا تَذْهَبُ اَلدُّنْيَا حَتَّى يَلِيَ أُمَّتِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُقَالُ لَهُ: اَلمَهْدِيُّ».
وفي (ص 180/ ح 139) بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يُخْرِجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً».
أمَّا ما ورد من طريق العامَّة، فنورد هنا جملة ممَّا رواه القوم, فمن ذلك:
ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده (ج 2/ ص 163/ ح 773) بسنده عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ: قَالَ حَجَّاجٌ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم): «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَبَعَثَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) رَجُلاً مِنَّا، يَمْلَؤُهَا عَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً».
وما رواه ابن ماجة في سُنَنه (ج 2/ ص 928 و929/ ح 2779) بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم): «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ، لَطَوَّلَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَمْلِكُ جَبَلَ اَلدَّيْلَمِ وَاَلْقُسْطَنْطِينِيَّةَ».
وما رواه أبو داود في سُنَنه (ج 2/ ص 310/ ح 4284) بسنده عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يَقُولُ: «اَلمَهْدِيُّ مِنْ عِتْرَتِي مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ».
وفي (ج 2/ ص 310/ ح 4285) بسنده عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم): «اَلمَهْدِيُّ مِنِّي، أَجْلَى اَلْجَبْهَةِ، أَقْنَى اَلْأَنْفِ، يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، يَمْلِكُ سَبْعَ سِنِينَ».
والأخبار في ذلك من طريق العامَّة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن طريق الخاصَّة عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كثيرة يضيق عنها المقام، ومن أراد الاستقصاء فليطلبها من مظانِّها.

(٥١)

فمن خلال كلِّ ذلك اتَّضح أنَّ ظاهرة نبيِّ الله موسى (عليه السلام) ليست خاصَّة به، بل هي سُنَّة إلهيَّة حاصلة أيضاً في أُمَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، مضافاً إلى ذلك طائفة من الآيات القرآنيَّة التي تُنبئنا بذلك, منها:
قوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 62).
وقوله تعالى: ﴿سُنَّتَ اللهِ الَّتي‏ قَدْ خَلَتْ في‏ عِبَادِهِ﴾ (غافر: 85).
وقوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: 43).
وقوله تعالى: ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾ (الفتح: 23).
فهناك سُنَن الله في عباده تتكرَّر دواليك في الأُمَم أيضاً, وليس فيها تبديل، بل دوام واستمرار.
والتعبير القرآني الآخر: ﴿سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً﴾ (الأحزاب: 38).
فهذه محاسبات في التقدير والقدر والقضاء الإلهي، كما وقعت في الأُمَم التي خلت ستقع في هذه الأُمَّة، فليكن ذلك عِبرةً وعِظَةً لكم، ولا تكونوا من طائفة المكذِّبين، بل كونوا من طائفة المؤمنين, ولا تكونوا من طائفة الجاهلين، بل كونوا من طائفة العالمين.
قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النساء: 26).
وقال أيضاً: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (آل عمران: 137)، اعتبروا واتَّعظوا لتجدوا

(٥٢)

أجوبة شافية لأسئلتكم, ولا تكونوا مفترين ومكذِّبين, فهناك سُنَن إلهيَّة تتكرَّر دواليك, فكلَّما وُجِدَت حالة تفشِّي فساد وظلم يُؤدِّي إلى ما ذكرته الآية الكريمة في سورة (القَصَص: 4): ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾، تأتي حينئذٍ السُّنَن الإلهيَّة: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصَص: 5), ﴿وَنُرِيدُ﴾ هذه إرادة كسُنَّة إلهيَّة تتكرَّر دوماً وتستمرُّ, كما تذكر لنا ذلك الآيات القرآنيَّة: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾ (الإسراء: 76 و77).
هذه هي الطائفة الأُولى الدالَّة على أنَّ ما كان في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) المصلح والمنجي والمنقذ للبشريَّة هي سُنَّة إلهيَّة تتكرَّر دواليك، وليست سُنَّة عابرة استثنائيَّة خاصَّة بالنبيِّ موسى (عليه السلام) وانقضت، وهناك طوائف أُخرى من الآيات أيضاً تُحدِّثنا عن كون هذه السُّنَن الإلهيَّة سُنَناً متواصلة.
الخوف والترقُّب عند موسى (عليه السلام):
في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) هناك صفة يُكرِّرها القرآن الكريم في جملة من السور, ألَا وهي صفة الخوف والترقُّب في قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ (القَصَص: 18), وقوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ (القَصَص: 21)، وقد مرَّ أنَّ هذا الخوف ليس خوفاً شخصيًّا، وإنَّما خوف على أداء الرسالة وأداء البرنامج الإلهي في إنجاء بني إسرائيل من أنظمة الظالمين والمفسدين، والتعبير بـ ﴿خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ يُوحي بأنَّ النبيَّ موسى (عليه السلام) كان دوماً

(٥٣)

في حالة استنفار وتوجُّس وتحسُّب أمني منذ بدء نشأته، إلى أنْ أدَّى ذلك الدور في الظهور المعلن وتقويضه للأنظمة الفرعونيَّة وأنظمة الفساد والظلم، يعني حالة التعبئة والاستنفار الأمني في أثناء حركته في الخفاء وفي الغيبة، وحالة الترقُّب هذه هي في الواقع صفة مهمَّة موجودة في برامج المصلحين الإلهيِّين, فالذين يُعَدُّون لبرامج إصلاحيَّة إلهيَّة عظيمة مؤثِّرة في مسير ومصير تاريخ البشر يكون الملف الأمني نُصْبَ أعينهم بشكل دائم، وهذا ما نشاهده في الواقع في العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهو أنَّ غيبته هي نوع من حالة التحسُّب الصاعد إلى درجته القصوى في البرنامج الأمني، لكي تستتمَّ له المواصلة في مسير برنامج الوصول إلى درجة الصفر في الإصلاح وهي ساعة الظهور، فهذه صفة أُخرى أكَّدها القرآن الكريم في أوليائه الحُجَج المصلحين المنقذين، يجب أنْ نلتفت إليها، مضافاً إلى صفة الخوف التي هي هنا بمعنى الحيطة على البرنامج الإلهي المسند إليه والمكلَّف به، وأنَّه في مدَّة خفاء ولادة النبيِّ موسى (عليه السلام) وغيبته كانت هناك تعبئة لشيعته المؤمنين به وبالإصلاح على يديه، حيث قال لهم كما في الآية: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128), ممَّا يُدلِّل على أنَّ شيعة النبيِّ موسى (عليه السلام) لاقوا من الأذى والهوان إلى درجة بلغ بها السيل الزبا، وقد حدَّثنا القرآن الكريم في سور عديدة أنَّ شيعة النبيِّ موسى (عليه السلام) قبل ظهوره بالإصلاح وانتصاره على أنظمة الظلم وأنظمة الفراعنة، لاقوا من الظالمين والمفسدين ما لاقوا من الظلم والاضطهاد والذبح وإسالة الدماء وقطع وإبادة النسل كما في قوله (عزَّ وجلَّ) : ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القَصَص: 4).

(٥٤)

فالمحنة كانت شديدة، ولها في الواقع وجه شَبَه أيضاً مع المؤمنين بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ممَّن يكنُّ مودَّته ومشايعته، فيُوطِّن نفسه على مثل هذا الامتحان قبل ظهور الحجَّة، وهذه عِظَة يقف عندها المؤمن والمسلم القارئ للقرآن الكريم كي يتَّعظ من هذه المشاهد في حُجَج الله المصلحين، ويأخذها عِظَة وعِبرة ودرساً عقائديًّا عقديًّا فيما يعتقده بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وإجابة لهذه التساؤلات والإثارات الكثيرة حول العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).

* * *

(٥٥)

الظاهرة الثانية التي نستوحيها من القرآن الكريم، هي ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، قال تعالى: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ (يوسف: 1 - 3)، وفي ذيل السورة نفسها: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (يوسف: 111).
إذن يجب أنْ نعتبر، ولا يكون ذلك عبور غفلة من دون تفكُّر، يجب أنْ نتَّعظ بما فيه من محاور ووقفات اعتقاديَّة وعقديَّة.
ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) وارتباطها بالمصلح الإلهي:
تحمل ظاهرة النبيِّ يوسف الكثير من المعالم لظاهرة المصلح المنجي المنقذ، وهنا وقفات تستحقُّ وتسترعي التأمُّل والتدبُّر، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ (يوسف: 4), وهذا نوع من الفتح الربَّاني يُبشِّر به النبيَّ يوسف (عليه السلام), نوع من التمكين والسلطة والقدرة، هذه فاتحة قصَّة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، وهو أنَّ هناك وعداً بالفتح، وعداً بالظهور، وعداً بالتمكين في الأرض.
﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (يوسف: 5), يعني هذه النبوءة الإلهيَّة بأنَّ يوسف (عليه السلام) سوف يظهر، وسوف يُمكِّن له الله (عزَّ وجلَّ) في الأرض، هذه البشارة الإلهيَّة بنفسها تستدعي الحسد والمكيدة من الأقرباء للنبيِّ يوسف (عليه السلام) فضلاً

(٥٩)

عن البُعداء من الأصدقاء، وفضلاً عن الأعداء. فإذا كان هذا حال الإخوة وحال الأصدقاء، فكيف بحال البُعداء والأعداء؟! لأنَّهم أولى لأنْ يكيدوه، فإنْ طالعت ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) التي يُحدِّثنا عنها القرآن الكريم تجد البشارة بظهوره وبتمكينه في الأرض، وأنَّ هذه البشارة بنفسها تستدعي لأنْ تتحسَّب القوى لتدبير مكائد للحيلولة دون تحقُّق تلك البشارة الإلهيَّة، وللوقوف دون وصوله إلى مثل تلك المكانة، وذلك الاجتباء والتمكين في الأرض.
﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ (يوسف: 6), كما هو الحال فيما ورد في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أنَّه يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
البشارة هنا كانت ليوسف (عليه السلام), وهناك بشارة للنبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشَّره الله (عزَّ وجلَّ) بها، أنَّه مهما تقدَّم الزمن وطال فسيُظهر الله هذا الدِّين على يدي رجل من ذرّيَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو المهدي (عجَّل الله فرجه), ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (التوبة: 33), للأرجاء كافَّة، هذا الوعد وهو خاتمة الدِّين الإسلامي سوف يُطبَّق على أرجاء الكرة الأرضيَّة، ولم يتحقَّق إلى الآن, ولم يتسنَّ لأحدٍ أنْ يُحقِّقه على يديه. وفي الواقع إنَّ أهل البيت (عليهم السلام) بهم فتح الله وبهم يختم(14).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(14) روى ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 92/ ح 81) بسنده عَنِ اَلْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام) لِرَسُولِ اَلله: «يَا رَسُولَ اَلله، أَمِنَّا اَلْهُدَاةُ أَوْ مِنْ غَيْرِنَا؟»، قَالَ: «بَلْ مِنَّا اَلْهُدَاةُ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، بِنَا اِسْتَنْقَذَهُمُ اَللهُ مِنْ ضَلَالَةِ اَلشِّرْكِ، وَبِنَا اِسْتَنْقَذَهُمُ اَللهُ مِنْ ضَلَالَةِ اَلْفِتْنَةِ، وَبِنَا يُصْبِحُونَ إِخْوَاناً بَعْدَ ضَلَالَةِ اَلْفِتْنَةِ، كَمَا أَصْبَحُوا إِخْوَاناً بَعْدَ ضَلَالَةِ اَلشِّرْكِ، وَبِنَا يَخْتِمُ اَللهُ، كَمَا بِنَا فَتَحَ اَللهُ»؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 230 و231/ باب 22/ ح 31).

(٦٠)

نشاهد في ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) أنَّ هناك بشارة إلهيَّة لتمكينه وظهوره للإصلاح، وهي تُعبِّر عن نوع من الظهور والغلبة والتمكين، وإنْ كان لها تأويل خاصٌّ ذُكِرَ في روايات أهل البيت (عليهم السلام)(15), وقد ذُكِرَ في ذيل هذه السورة(16).
وفي القرآن الكريم أيضاً هناك بشارة خالدة ذكرها في ثلاث سور هي سورة (الفتح: 28)، وسورة (التوبة: 33)، وسورة (الصفِّ: 9): ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾، نعم هذه البشارة الإلهيَّة قد أنبأ القرآن الكريم بها, وأنَّها ستتحقَّق لنبيِّ الإسلام ولدين الإسلام على يد رجل من ذرّيَّة هذا النبيِّ يُدعى المهدي (عجَّل الله فرجه), وهذه ملحمة عظيمة في القرآن، وهو أنَّ هذا الدِّين بدءاً بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبنصرة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(15) كَمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي اَلْجَارُودِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: تَأْوِيلُ هَذِهِ اَلرُّؤْيَا أَنَّهُ سَيَمْلِكُ مِصْرَ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ، أَمَّا اَلشَّمْسَ فَأُمُّ يُوسُفَ رَاحِيلُ، وَاَلْقَمَرَ يَعْقُوبُ، وَأَمَّا أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً فَإِخْوَتُهُ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ سَجَدُوا شُكْراً لله وَحْدَهُ حِينَ نَظَرُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ اَلسُّجُودُ لله».
قَالَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: فَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَنَّهُ «كَانَ مِنْ خَبَرِ يُوسُفَ (عليه السلام) أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَحَدَ عَشَرَ أَخاً، فَكَانَ لَهُ مِنْ أُمِّهِ أَخٌ وَاحِدٌ، يُسَمَّى بِنْيَامِينَ، وَكَانَ يَعْقُوبُ إِسْرَائِيلَ اَلله...، فَرَأَى يُوسُفُ هَذِهِ اَلرُّؤْيَا وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ، فَقَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ...».
تفسير القمِّي (ج 1/ ص 339 و340).
(16) وهو قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف: 100 و101).

(٦١)

للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقد قام الدِّين بسيف عليٍّ (عليه السلام) ونصرته للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسيختم له في الانتشار في الأرض والتمكين في الأرض على يد أهل البيت (عليهم السلام)، فبهم بُدِئَ الدِّين وبهم سيُختَم في أرجاء الكرة الأرضيَّة، هذه بشارة قرآنيَّة عظيمة أكَّدها القرآن الكريم، وفي الواقع تتناغم مع كثير من السور القرآنيَّة, كقوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصَص: 5), فإنَّ هذه آيات تنادي بأعلى صوتها خفَّاقة وترنُّ في أُذُن البشريَّة وأُذُن القارئ للقرآن الكريم أنَّ هناك بشارة وعد بها سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ووعد بها المسلمون، أنَّ هناك ظهوراً لهذا الدِّين على يد رجل من ذرّيَّة سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهذه إشارة إلى ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) وتشابهها مع ظاهرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
إذن هناك اجتباء للظهور والتمكين في الأرض، وكما اجتُبِيَ النبيُّ يوسف (عليه السلام) لذلك، فكذلك اجتُبِيَ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بنصِّ حديث النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المتواتر.
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ (يوسف: 7), يعني هناك عِظات وعِبَر تمرُّ عليكم في ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) يجب أنْ لا تعبروها بغفلةٍ.
إنَّها ظاهرة تستدعي الإمعان والتدبُّر بعمق، وفي الحقيقة إنَّ هذه التوصية من القرآن الكريم بأنْ نقف مليًّا متدبِّرين ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، ليس ذلك إلَّا لظاهرة الغيبة فيها، فالنبيُّ يوسف (عليه السلام) الذي وُعِدَ بالظهور والتمكين في الأرض يطالعنا القرآن الكريم أنَّ له غيبة ابتدأت من الجبِّ كما ستأتي بقيَّة الآيات, وفيها إجابات للأسئلة التي لديهم, وعلامات يهتدون بها، وتشفي غليل صدورهم.

(٦٢)

أيضاً ما في قوله الله تعالى في هذه السورة: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ﴾ (يوسف: 9), هذه ظاهرة موجودة في حياة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، حيث إنَّه (عليه السلام) وُعِدَ بأنَّه سيُقلَّد مسؤوليَّة في الأرض، وظهوراً وإصلاحاً وتمكيناً، فبدأ الخصم يتربَّص به ومن حواليه، كما مرَّ بنا في النبيِّ موسى (عليه السلام).
من الطبيعي أنَّ قوى البشريَّة سواء أكانت معتدلة أم غاشمة ظالمة يؤرقها في الواقع بروز قوَّة جديدة ستسيطر وتقتدر وتتمكَّن في الأرض، وقد طالعنا التاريخ أنَّ آباء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تعرَّضوا لمحاولات غيلة واغتيال من اليهود الذين هاجروا من الشام إلى خيبر، إلى المدينة، إلى أطراف مكَّة مرَّات وكرَّات من الكهنة, أو حتَّى ربَّما من قريش، نعم حاولوا الغيلة والاغتيال والتصفية لآباء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلمهم - بتوسُّط الكهنة والبشائر الإلهيَّة في الديانات السابقة في الإنجيل والتوراة - أنَّ هناك سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وسيظهر، ويُمكِّن له الله في الأرض، ومن الطبيعي أنْ يكون هناك من يتطلَّع إلى ظهوره، إلى غلبته، إلى مقام التمكين له في القدرة والسيطرة لإصلاح شؤون البشر في الأرض, فتحدق به حينئذٍ القوى المنافسة أو القوى المعادية لتصفيته وإبادته، وهذا في الواقع أوَّل طالع يُنبِّهنا ويُذكِّرنا به القرآن الكريم في شخصيَّة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، وكما مرَّ بنا أيضاً في شخصيَّة النبيِّ موسى (عليه السلام).
بعد ذلك يواصل القرآن الكريم سرد ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، ونستعرض تلك المواقف التي لها صلة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾ (يوسف: 15), هنا نوع من المؤامرة، أرادوا أنْ يُدبِّروها ويُنفِّذوها لإبادة النبيِّ يوسف (عليه السلام).
قد يسأل السائل: لماذا يستعرض القرآن الكريم هنا بدء غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) عن ذويه وأهله، بل غيبته حتَّى عن أبيه النبيِّ يعقوب (عليه السلام), الذي

(٦٣)

هو نبيٌّ من الأنبياء وإمام من الأئمَّة كما ذكر ذلك القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء: 73), إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام)، فيعقوب (عليه السلام) مع كونه نبيًّا من أنبياء الله غُيِّب عنه ابنه النبيُّ يوسف (عليه السلام), إذن غيبة حجَّة من حُجَج الله قد تحصل حتَّى عن الخاصَّة فضلاً عن عامَّة الناس، فإذا تأكَّد الخطر المحدق بوليِّ الله الذي وُعِدَ أنْ يكون مصلحاً متمكِّناً في الأرض يُدبِّر ويدير الإصلاح في الأرض، هذا الوليُّ والحجَّة لله قد يُغيَّب استتاراً أمنيًّا من الله حراسةً له وضمانةً له، حتَّى عن خاصَّته وذويه، فضلاً عن العامَّة، ولا تكون غيبته مبطلة لحجَّته، ولا تبطل تلك البشارة التي وُعِدَ بها لتُنفَّذ على يديه من قِبَل الله (عزَّ وجلَّ).
هناك نوع من التشابه في تغييب يوسف (عليه السلام) في الجُبِّ مع غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في سرداب الغيبة.
كثير من الأقلام الرخيصة والألسن الخفيفة تستهزئ بغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في السرداب (سرداب الغيبة)، في الواقع هذا السؤال كأنَّما يسأله نفس السائل القارئ للقرآن فيقول: ما صلة غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) عن أبيه وذويه إلى أنْ ظهر للإصلاح في الأرض، بالجُبِّ والبئر؟ وهل النبيُّ يوسف (عليه السلام) عندما غاب عن ذويه بقي في الجُبِّ والبئر؟
كلَّا, بل هي في الواقع حدث تاريخي حدث للنبيِّ (عليه السلام) يوسف في الجُبِّ والبئر، وقد بدأت غيبته من محاولة تصفيته في الجُبِّ، ومن ثَمَّ ذكرها القرآن الكريم كأوَّل محطَّة لبدء الغيبة، وهكذا الحال جرى في شأن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), حيث إنَّ بيت أبيه وجدِّه كان هناك، وكانت تُبنى السراديب للبرودة في الصيف، ولا زال في كثير من البلدان كالعراق وإيران وبلدان كثيرة تُبنى السراديب تحت البيوت وقايةً من الحرِّ الشديد ولأجل البرودة، فجلاوزة النظام العبَّاسي وصلت

(٦٤)

إليهم الأنباء أنَّ ولد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وهو المهدي (عجَّل الله فرجه) في سرداب بيت أبيه, فكبسوا ذلك السرداب لتصفية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، كما صنع أُولئك الظالمون للنبيِّ يوسف (عليه السلام), إلَّا أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) كما أحبط مخطَّط إخوة يوسف (عليه السلام) في يوسف وجعل كيدهم هباءً منثوراً، كذلك جعل الله (عزَّ وجلَّ) كيد جلاوزة النظام العبَّاسي في مداهمة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في سرداب بيت أبيه، حيث أعمى الله وأغشى أبصارهم، كما في خروج النبيِّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما أرادت قريش أنْ تداهم النبيَّ وتقتله في بدء الهجرة من مكَّة إلى المدينة، فخرج النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من بين أيديهم بغشاوة من الله على أبصارهم فلم يبصروه، كذلك خروج الإمام (عجَّل الله فرجه) في ذلك الوقت عندما كبسوا السرداب في بيت أبيه وكان هو فيه، فأغشى الله أبصارهم، فخرج وبدأت غيبته، ففي الحقيقة هذه محطَّة أُخرى بارزة ظاهرة ناصعة في حياة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، أنَّ بدء غيبته بدأت من الجُبِّ.
ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) وشبهها بغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
للنبيِّ يوسف (عليه السلام) غيبة مع كونه حجَّة من الله مبعوثاً للإصلاح في الأرض، له غيبة يستعرضها لنا القرآن الكريم، وقد اشتدَّت وتوغَّلت في الخفاء إلى درجة أنْ يخفى النبيُّ يوسف (عليه السلام) حتَّى عن أبيه وعن ذويه وإخوته وأهله، فهذه شدَّة المحنة، فالغيبة من وليِّ الله وحجَّته تتناول وتشمل حتَّى الخاصَّة فضلاً عن العامَّة، لِمَ؟ ذلك لأنَّ هذا المصلح يُعَدُّ لدور مهمٍّ خطير، فمن ثَمَّ يكون البرنامج الأمني الإلهي في حراسة له وضمانة خاصَّة, لكي لا تصل إليه يد الطامعين ويد الأعداء, فيستهلُّ القرآن الكريم في بدء غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) عن أبيه وذويه وأهله وخاصَّته بذكر المؤامرة التي دُبِّرت وكيدت له من قِبَل إخوته الطامعين في إبادته وتصفيته، بما سوَّلت لهم أنفسهم في المخطَّط الذي

(٦٥)

دبَّروه، وهو جعله في البئر وغيابت الجُبِّ. فلا يأتي آتٍ ويقول: ما صلة الجُبِّ وغيابت الجُبِّ ووضع يوسف (عليه السلام) فيه والتآمر عليه وهو في الجُبِّ بعقيدة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)؟ ويروق لهم استرخاصاً لذهنيَّتهم التشنيع والهَرْج بالسرداب.
بدأ مسلسل غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) عن ذويه بالجُبِّ كمشهد تاريخي عندما حصلت المؤامرة والتواطؤ لتصفيته وإبادته، لذلك يذكرها القرآن كمشهد، هي مؤامرة كابدت النبيَّ يوسف (عليه السلام) وبدأت في تلك الحقبة بدتوفي ذلك المشهد، وقد ذكرها القرآن. هكذا الحال فيما يُشاهَد في سرداب الغيبة الموجود في حرم العسكريين (عليهما السلام)، والذي تطاولت الأيدي الآثمة المجرمة المبغضة للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) بتفجيره وتخريبه(17)، فإنَّ جلاوزة النظام العبَّاسي قد كبسوا الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في سرداب بيت أبيه في تلك الآونة، فوصل إليهم الخبر أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ابن الإمام الحسن العسكري في بيت أبيه في السرداب، فكبسوه بُغية تصفيته، كما أراد إخوة يوسف (عليه السلام) أنْ يبيدوا ويُصَفُّوا النبيَّ يوسف (عليه السلام) في البئر، وهو نوع من الحفرة في الأرض، وكما أرادت قريش تصفية سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل هجرته، فخرج النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من بين أيديهم بعد أنْ أغشى الله أبصارهم، فقد خرج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من سرداب بيت أبيه أمام جلاوزة النظام العبَّاسي وهم لا يرونه(18).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17) حدثت تلك الفاجعة بتاريخ (23/ محرَّم الحرام/ 1427هـ).
(18) روى الراوندي (رحمه الله) في الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 942 و943): (أنَّ صاحب الأمر (عليه السلام) بعد وفاة أبيه (عليه السلام) ودفنه, خرج جعفر الكذَّاب إلى بني العبَّاس وأنهى خبره إليهم، فبعثوا عسكراً إلى سُرَّ من رأى ليهجموا داره ويقتلوا من يجدونه فيها، ويأتوه برأسه، فلمَّا دخلوها وجدوه (عليه السلام) في آخر السرداب قائماً يُصلِّي على حصير على الماء، وقُدَّامهم أيضاً كأنَّه بحر لكثرة الماء في السرداب، فلمَّا رأوا ذلك يئسوا من الوصول إليه، وانصرفوا مدهوشين إلى الخليفة, فأمرهم بكتمان ذلك. ثمّ بعث بعد ذلك عسكراً أكثر من الأوَّل، فلمَّا دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القرآن، فاجتمعوا على بابه حتَّى لا يصعد، فخرج من حيث الآن عليه شبكة, وخرج وأميرهم قائم، فلمَّا غاب قال: انزلوا وخذوه، فقالوا: إنَّه مرَّ عليك وما أمرت بأخذه، فقال: ما رأيته، فانصرفوا خائبين. وخرج إليه العسكر مرَّة أُخرى، فوجدوه في آخر السرداب، فوضع يده (عليه السلام) على الجدار وشقَّه، وخرج منه، وأثر الشقِّ بعد ظاهر فيه).

(٦٦)

المشكلة في الكثير من هذه الأذهان التي لا تريد أنْ تبحث عن الحقيقة, وشغلها الشاغل التكذيب بآيات الله وحقائق الدِّين، وحقائق القرآن الكريم بدل أنْ تتفهَّم معنى الغيبة، هنا غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) ليس معناها انطماس وانطمار النبيِّ يوسف (عليه السلام) في الأرض، كلَّا إنَّما هي مؤامرة جرت له بوضعه في البئر، بعد ذلك أتت سيَّارة, ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾ (يوسف: 19)، تدبير الله (عزَّ وجلَّ)، يُدبِّر حينئذٍ وليَّه المصلح الموعود، كما يُحدِّثنا القرآن الكريم: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرضِ﴾ (يوسف: 21), إذن هذا نوع من التمكين التدريجي من الله تعالى، يكيد كيد الكائدين ومكر الماكرين.
ومؤامرة المتواطئين هي بنفسها حلقات متدرِّجة لتدبير الله (عزَّ وجلَّ)، كما يقول: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21), يعني هذه المكائد وهذه المؤامرات وهذه التواطؤات لتصفية وليِّ الله المصلح المنقذ تبوء بالفشل، بل تصبُّ في مسيرة وبرنامج دبَّره الله (عزَّ وجلَّ) لوصول وليِّه إلى منصَّة الظهور ومنصَّة الاستخلاف في الأرض، وضعه في الجُبِّ كان محطَّة انطلاق لغيبته، وكذلك كان السرداب في بيت الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في

(٦٧)

سامرَّاء، وهي أكبر قاعدة عسكريَّة في العالم آنذاك، حيث حصلت تعبئة عسكريَّة واستنفار من الدولة العبَّاسيَّة العظمى تخوُّفاً وتحسُّباً من ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) واستيلائه على مقدَّرات الأُمور، فكبست ذلك السرداب، هذا هو المراد من سرداب الغيبة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
هناك من التشابه بين ظاهرة النبيِّ يوسف والإمام المهدي (عليهما السلام) حتَّى في بدء الغيبة، فقد بدأت غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) عندما ﴿ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (يوسف: 15), هنا إلتفاتة جميلة ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ إلى النبيِّ يوسف (عليه السلام): ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، ماذا يعني؟ يعني هذه الغيبة التي ستبدأ للنبيِّ يوسف (عليه السلام) من البئر، ويغيب عن إخوته وعن أبيه، ليست انطماراً في الأرض، وإنَّما يخفى على شعورهم، الغيبة ليست غيبة وجود ولا غيبة حضور، إنَّما غيبة شعور، يعني الأطراف الأُخرى لا يشعرون به، غيبة هويَّة، غيبة خفاء واستتار وسرّيَّة، لذلك رُكِّز أيضاً في غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) التي فيها تشابه مع غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بقوله: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾, كما مرَّ في غيبة النبيِّ موسى (عليه السلام): ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً﴾ (القَصَص: 8)، ثمّ بعد ذلك تواصل الآية وتقول: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (القَصَص: 9), فإذن الغيبة في المصطلح القرآني والمفهوم القرآني وفي الحقيقة القرآنيَّة التي تتكرَّر في ظواهر القرآن المتَّصلة بالعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هي أنَّ الغيبة بمعنى عدم الشعور بالغائب، لا عدم وجود الغائب، عدم الشعور بوليِّ الله المصلح، عدم المعرفة بوليِّ الله المنقذ المنجي مع كونه حاضراً في ساحة الحدث، إذن الغيبة يتابعها القرآن بإمعان وعمق ودقَّة ليُفهِمها المسلمين ويُفهِمها القرَّاء للقرآن الكريم، أنَّ معنى الغيبة لأولياء الله والحُجَج بمعنى عدم

(٦٨)

شعوركم بهم، عدم معرفتكم بهويَّتهم، لا عدم وجودهم، لا مزايلتهم لساحة الحدث، لا مزايلتهم لتدبير الأُمور، هم حاضرون, لكن أنتم لا تشعرون بهم، لا تشعرون بهويَّتهم.
ثمّ تواصل الآيات الكريمة: ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ (يوسف: 16 - 18), يعني أنَّهم أشاعوا الخبر أنَّ يوسف (عليه السلام) قد صُفِّي، أو قد مات أو قُتِلَ، أي ليس له وجود، كما قد أُشيع الخبر في الدولة العبَّاسيَّة آنذاك، هذا الخبر هو حارس للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وهو أنْ لا خلف للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، أو أنَّ السلطة العبَّاسيَّة كبست على السرداب وصفَّته وقتلته، ولم يستطع أنْ يخرج من بين أيديهم، ولم يغشَ الله (عزَّ وجلَّ) أبصارهم بغشاوة.
فهنا إذن وقفة تأمُّل جيِّدة، وهي أنَّه أُشيع الخبر في غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) أنَّه قد أُبيدَ وقُتِلَ.
ثمّ يأتي التعبير القرآني: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ... وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ (يوسف: 19 و20), لا يدرون من هو، اُنظر تعامل البشر هنا, هو في حالة تفاعل وفي حالة تعاطي مع النبيِّ يوسف (عليه السلام)، وهذا هو المصلح لهم، لكن لا يدرون ولا يشعرون، كما مرَّ بنا في عامل الخفاء.
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرضِ﴾, تمكين من الله ليوسف (عليه السلام) في الأرض، يفتح له السُّبُل للتدرُّج في نفوذ القدرة، وفي أنْ يتبوَّأ مقاماً ومكانةً في البشر ليصير نافذ اليد مبسوط القدرة، فهذا برنامج في الواقع تدريجي، تمكين

(٦٩)

تدريجي من الله (عزَّ وجلَّ) لقدرة يوسف (عليه السلام) في الأرض بشكل خفي ومستتر، وهذه سُنَّة الله, إنَّه غالب على أمر يوسف (عليه السلام) ليسوسه وليُدبِّره وليحيطه. ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ أي تأويل الرؤيا(19)، أو الإخبار عن حوادث الزمان التي تُؤدِّي إلى العلم بما يحتاج إليه(20). ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ أي تدبير الله قضاءه وقدره يمضي بلا عائق رغم كيد الكائدين ورغم مكر الماكرين. نعم, ما يُقدِّره الله للمصلح وللمنقذ هو كائن، ولن يعوقه شيء، ولن يقف أمامه حائل بتاتاً، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21) بذلك التدبير الإلهي.
ويوسف (عليه السلام) حصلت له الغيبة وهو في صغره, قبل أنْ يبلغ أشدَّه، وهي كما مرَّت بنا في النبيِّ موسى (عليه السلام) أيضاً، فقد حصل له الخفاء والغيبة في صغره، وهذا ما حصل للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهذا تدبير الله لوليِّه المصلح المنقذ الذي يريد أنْ يُظهره الله على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون.
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: 22)، و(المحسن) مقام عالٍ يأتي من الإحسان، فوق مقام التقوى والورع، وقريب من الاصطفاء في حُجَج الله، يأتيهم الله (عزَّ وجلَّ) بالعلم والحكمة، وهو غير وحي النبوَّة ووحي الشريعة والرسالة، فإذن هناك قناة غير النبوَّة وغير قناة الرسالة، قناة أُخرى يُؤكِّدها القرآن الكريم في فقرات ومحطَّات عديدة، وتُسمَّى بـ (العلم اللدنِّي) العلم الإيتائي من الله (عزَّ وجلَّ)، الحكمة التي يؤتيها الله (عزَّ وجلَّ) كما آتاها لقمان، إذ لم يكن نبيًّا ولا رسولاً ولا إماماً، وإنَّما كان حجَّة من الحُجَج آتاه الله الحكمة، هذه المفردات وهي المقامات الاعتقاديَّة لا تجد لها تفسيراً في غير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19) راجع: مجمع البيان (ج 5/ ص 360 و460).
(20) راجع: تفسير التبيان (ج 6/ ص 199).

(٧٠)

مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من بين المدارس الإسلاميَّة، مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تقول: إنَّ لله حُجَجاً أنبياء كانوا أو رُسُلاً أو أئمَّة، أو قد يكون النبيُّ رسولاً وإماماً أيضاً، أو حجَّة من حُجَج الله وليس بإمام ولا رسول ولا نبيٍّ، وإنْ كانت الحجّيَّة ثابتة أيضاً للمقامات الثلاثة الأُوَل أيضاً كما كان الحال في مريم (عليها السلام)، وكما مرَّ بنا في ظاهرة أُمِّ النبيِّ موسى (عليه السلام)، حيث أُوحي إليها ولم يكن وحياً نبويًّا ولا وحي رسالة, وإنَّما هو الوحي اللدنِّي، والإيعاز لهذا البرنامج الخاصِّ, كما أُوحي لمريم (عليها السلام) ببرنامج خاصٍّ سيطالعنا به الحديث لاحقاً إنْ شاء الله تعالى.
بعد ذلك يُطالعنا القرآن الكريم بمجمل مسلسل أحداث للنبيِّ يوسف (عليه السلام) تجري عليه في غيبته، غيبة خفاء وسرّيَّة، غيبة عدم معرفة البشر بهويَّته، وعدم معرفة بشخصيَّته، عدم الشعور بنسبه وحسبه، ولكن يتعاطون معه.
فيُحدِّثنا القرآن الكريم بمسلسل من الأحداث الأُخرى التي تجري على النبيِّ يوسف (عليه السلام), إلى أنْ تصل إلى هذا الموضع في القرآن الكريم أنَّه قال: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف: 33), وهنا تعاطي وتفاعل مع الأحداث للنبيِّ يوسف (عليه السلام) في ظلِّ غيبته، لا أنَّه ناءٍ، وهذه النقطة لها صلة بالعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته، غيبة خفاء هيأةً وعدم الشعور بوليِّ الله المصلح المنقذ الموعود المنتظَر، لا أنَّه ناءٍ، لا أنَّه مقصي، وليست هي مزايلة عن ساحة الحدث وعن مسرح الحياة, بل هو موجود يتفاعل مع الأحداث من دون شعور البشر به, ومن دون شعور بكيفيَّة التدبير الإلهي الذي يوصله درجة فدرجة، محطَّة فمحطَّة إلى منصَّة الظهور، إلَّا أنْ يُكذِّب الناس بذلك, أو يُكذِّبوا النبيَّ يعقوب (عليه السلام) الذي بشَّر بظهور ابنه يوسف (عليه السلام) في الأرض وبالتمكين له،

(٧١)

أو يُكذِّبوا بغيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) ويقولون: لن يكون هناك يوسف موعود سيظهر ويمكَّن له في الأرض ويتغلَّب على الفساد, لكن ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21), يُكذِّبون بما لا يعلمون، فهنا يُؤكِّد القرآن الكريم على أنَّ الغيبة والخفاء لا تنافي مقتضى قضاء الله وقدره للوصول إلى ظهور موعوده المبشَّر به لإصلاح الأرض.
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: 36), إذن تفاعل وليِّ الله الموعود في تلك الحقبة أنْ يجري عليه ما يجري على البقيَّة حتَّى من دخول السجن، مع أنَّ وليَّ الله موعود بالظفر والتمكين في الأرض تصل به حياته إلى أنْ يقبع في أرض السجن، لكن هذا لا ينافي تدبير الله (عزَّ وجلَّ)، بل هذا يصبُّ في مسلسل تدبير الله النافذ الغالب على أمره، فهذه إذن محطَّات شاهدة تُدلِّل على أنَّ وليَّ الله في غيبته وخفائه لا ينافي وجوده في مسرح الحياة وتفاعله مع مجريات الحياة.
بعد ذلك اُنظر كيف تجري الأحداث: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾, اُنظر بثَّه للعلوم أيضاً: ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ (يوسف: 37)، الآن يُطالعنا القرآن الكريم أيضاً فيما سيجري للمَلِك: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾ (يوسف: 43), إذن أزمة اقتصاديَّة ستحلُّ بالبشريَّة يُراد لها تدبير نافذ، يُراد لها نظام اقتصادي صارم، يُراد لها نوع من البرمجة والتقشُّف الاقتصادي كي يواجهوا الأزمة الاقتصاديَّة الحادَّة التي ستعصف بهم، من الذي سيُنجي البشريَّة من هذه الأزمة؟ من الذي أعدَّه الله (عزَّ وجلَّ) للحيلولة دون وقوع هذه الأزمة التي ستجتاح البلاد؟

(٧٢)

الجواب: النبيُّ يوسف (عليه السلام) هو الذي ينقذ البشريَّة في منعطفات حادَّة يمرُّ بها النظام البشري، وهو خفي عنهم، وهم لا يشعرون به، وهم لا يشعرون بأنَّ هذا التدبير الصالح إنَّما انبثق من هذا النبيِّ, من هذا الموعود بظهوره وبتمكينه.
بعد ذلك تُطالعنا الآيات الكريمة: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ (يوسف: 44), اُنظر إلى تدبير البشر الذي لم يكن بالمستوى المطلوب أمام هذه الأزمة التي تواجههم لولا وجود وليِّ الله الذي يُدبِّر الأُمور وهو في حالة خفاء. وهذا هو الذي نعتقده بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في غيبته، ألَا وهي غيبة خفاء هويَّة, لا مزايلة عن ساحة الحدث كما مرَّ، فهو يُدبِّر وينجي البشريَّة في حقبة تمتلئ بالأزمات الحادَّة التي تعصف بها.
كما حصل الحال كذلك في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), فقد ذكر الذهبي في (تاريخ الإسلام) في ترجمة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ولادة الإمام المهدي محمّد بن الحسن (عجَّل الله فرجه)، ولكنَّه عقَّب بعد ذلك وقال: إنَّه عُدِمَ(21), أو كأنَّما صفَّته الدولة العبَّاسيَّة، ولكن الحقيقة ليست كذلك، بل هو محروس بضمانة وحراسة إلهيَّة كما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(21) قال الذهبي في تاريخ الإسلام (ج 19/ ص 113) في ترجمة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ما نصُّه: (الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليٍّ الرضا بن موسى بن جعفر الصادق. أبو محمّد الهاشمي الحسيني أحد أئمَّة الشيعة الذين تدَّعي الشيعة عصمتهم. ويقال له: الحسن العسكري، لكونه سكن سامرَّاء، فإنَّها يقال لها: العسكر. وهو والد منتظَر الرافضة. تُوفِّي إلى رضوان الله بسامرَّاء في ثامن ربيع الأوَّل سنة ستِّين، وله تسع وعشرون سنة. ودُفِنَ إلى جانب والده. وأُمُّه أَمَة. وأمَّا ابنه محمّد بن الحسن الذي يدعوه الرافضة: القائم الخلف الحجَّة، فوُلِدَ سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة ستٍّ وخمسين. عاش بعد أبيه سنتين ثمّ عُدِمَ، ولم يُعلَم كيف مات. وأُمُّه أُمُّ ولد. وهم يدَّعون بقاءه في السرداب من أربعمائة وخمسين سنة، وأنَّه صاحب الزمان، وأنَّه حيٌّ يعلم علم الأوَّلين والآخرين...).

(٧٣)

حرس الله النبيَّ يوسف وحرس النبيَّ موسى (عليهما السلام) في الظاهرة السابقة التي ذكرها لنا القرآن الكريم، وهو (عجَّل الله فرجه) الموعود المبشَّر به بإظهار الدِّين على أرجاء الكرة الأرضيَّة كافَّة، وهو من نسل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن ذرّيَّة فاطمة (عليها السلام) في نصِّ الفريقين المتواتر.
وتواصل الآيات سرد تعاطي النبيِّ يوسف (عليه السلام) التفاعل مع الحياة العامَّة، وأبرز ذلك ما تُبيِّنه لنا السورة نفسها أنَّه في تلك الأزمة العصيبة التي عصفت بمصر، وكانت هي مركزاً لتموين ما حواليها من البلدان في التموين الغذائي والأزمة الاقتصاديَّة الحادَّة التي مرَّت بها, كان من النبيِّ يوسف (عليه السلام) حينذاك ذلك التدبير المهمُّ المبنيُّ على أُسُس علميَّة بتوسُّط ما للنبيِّ يوسف (عليه السلام) من علم لدنِّي، حيث ذكر برنامجاً مهمًّا لتفاديهم تلك الأزمة، فقال: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾ (يوسف: 47), لاحظ البرنامج الوقائي والتدبير الاقتصادي, ثمّ كيفيَّة الحفاظ على بقاء التموين الغذائي, ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾, فلا بدَّ أنْ تكون هناك سياسة تقشُّف، برمجة وتدبير واضح لتفادي الأزمة المحدقة الحادَّة التي سيواجهها المجتمع البشري آنذاك.
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾ (يوسف: 48), إنَّ للأولياء الحُجَج المبعوثين لإصلاح البشريَّة علماً قديماً، وعلوم الأئمَّة المنصوبين من قِبَل الله تعالى ليست علوماً نسبيَّة، وليست وليدة التجربة لتتأثَّر حينئذٍ زيادةً ونقصاناً أو صواباً وخطئاً أو تردُّداً وحيرةً بالمعلومات المكتسبة التي قد تكون محيطة وقد لا تكون محيطة في زوايا عديدة، بل هو علم لدنِّي بما يُؤتيهم الله (عزَّ وجلَّ) من ذلك العلم، فيه تدبير لا يخطئ الواقع.

(٧٤)

الآن البشريَّة تتطلَّع إلى نظام اقتصادي عادل، بعد أنْ طُرِحَت عدَّة نُظُم, كالنظام الشيوعي، والنظام الرأسمالي، فوجدت أنَّها لا تتكفَّل ولا تُوجِد العدالة، في النظام الاقتصادي, أو النظام القضائي، أو النظام الاجتماعي, أو النظام السياسي, بل رأت أنَّ غاية ما وصلت إليه تلك النُّظُم إنَّما هو إلى حرّيَّة نسبيَّة أو عدالة نسبيَّة أو حقوق نسبيَّة، أمَّا الحقوق الكاملة والعدالة الكاملة والحرّيَّة الكاملة - بالمعنى الصحيح للحرّيَّة - فإلى الآن تتطلَّع البشريَّة إلى ذلك.
البشريَّة في أزمة تنظير فضلاً عن مرحلة التطبيق، وتلك إذن مرحلة دهياء مدلهمة فيها ما فيها من عدم الأمانة وعدم الكفاءة, بينما النُّظُم الإلهيَّة والتدبير الإلهي لمن يبعثهم الله أولياء تكفل حماية البشريَّة عمَّا ينتابها من عواصف، وهذا معنى ضرورة لزوم الإمامة بعد النبوَّة، نعم إنَّه لا بدَّ من تدبير إلهي للبشر يكفل لهم الحياة ويحوطهم عن الوقوع في الهاوية والأخطار وما يحيط بهم من مآزق وأزمات ومنعطفات حادَّة جدًّا.
وفي الحقيقة هذا معنى أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) عندما يظهر «يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً», وكما أنبأ بذلك القرآن الكريم في سورة (الحشر: 7): ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلّهِ﴾, تدبيرها بيد الله، ثمّ بعد ذلك ولاية ذوي القربى من أهل البيت (عليهم السلام), ﴿فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾, يستعرض القرآن الكريم مصرف هذه الثروات في الأرض بتدبير الله والرسول وذوي القربى أوَّلاً, ثمّ يقول تعالى: ﴿وَالْيَتَامى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾, وهي الطبقات المحرومة، فبسط الثروات بشكل عادل على الطبقات المحرومة إنَّما يتمُّ بتدبير الله، وإدارة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ ذوي القربى (عليهم السلام).
وفي قصَّة يوسف (عليه السلام) نشاهد هذا التدبير الاقتصادي الذي يُؤمِّن البشريَّة

(٧٥)

من الفساد ومن الظلم. في الحقيقة إنَّ هناك نارين: نار الفساد ونار الظلم، الفساد قد يكون عن سبب الجهل في التنظيم، والجهل بالموضوع أو التطبيق، أمَّا صاحب العلم اللدنِّي الوليُّ من أولياء الله الذي يُبعَث حجَّة من قِبَل الله (عزَّ وجلَّ) بما يُؤتى من علم لدنِّي يتفادى ذلك الخطر، ولا يستدعي أزمة في التنظيم ولا أزمة في التطبيق ولا في العلم والإحاطة بالبيئة الموضوعيَّة وتداعياتها، اُنظر ماذا يقول النبيُّ يوسف (عليه السلام) كما في الآية الكريمة: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ﴾ (يوسف: 47), أي السبع سنين الأُولى, ثمّ يُعطي برنامجاً للسبع سنين الثانية، وبرنامجاً للسنة الخامسة عشرة، بملاحظة تداعيات كلِّ تدبير، وهذه من خصائص التدبير الإلهي، وليس صلاحيَّة الحكم في جنب التشريع، التشريع فقط لله، بل صلاحيَّة الحكم في كلِّ مدياته السياسيَّة والنظميَّة والتدبيريَّة بيد الله (عزَّ وجلَّ)، وهذا هو المفهوم الذي تتبنَّاه المدرسة الوحيدة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، إذ لديها لون من التوحيد لا يُلمَس بهذه الكثافة وبهذه الشموليَّة وبهذا التركيز في غيرها كما هو فيها، التوحيد في الحكم أيضاً فلا يقصرون على التشريع بأنْ يقال: إنَّ التشريع لله وأمَّا التطبيق والتدبير فهو بيد البشر، أي إنَّ يد الله معزولة عن ذلك، حاشا لله والعياذ بالله أنْ تقصر الربَّانيَّة عن التدبير، بل التدبير ليس في جانبه الكوني والقضاء والقدر فقط، بل حتَّى في جانبه التشريعي، وفي الدرجة الأُولى أنَّ الحكم لله بما يُنزل على أوليائه من أوامر.
نعم هذا موقف ونقطة مهمَّة في ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) يستعرضها لنا القرآن الكريم في سورة يوسف، من أنَّ وليَّ الله والإمام على البشر الخليفة لله في الأرض ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30), ولم يُعبِّر القرآن الكريم بالقول: إنِّي جاعل في الأرض نبيًّا، أو إنِّي جاعل في الأرض رسولاً، أو إنِّي جاعل آدم خليفة، بل قال ما له عموميَّة وشموليَّة لكلِّ الأزمان من بدء خليقة

(٧٦)

البشر إلى منتهاها: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾, الخليفة استخلاف قدرة وتدبير وإمامة، وهو عنوان من عناوين الإمامة, فالإمامة سُنَّة دائمة من الله تعالى، سواء أكان الإمام نبيًّا أم رسولاً، كما في سُنَن الرُّسُل، فهو نبيٌّ ورسول وإمام، وإمام الأئمَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكما في إبراهيم (عليه السلام) فهو نبيٌّ ورسول وإمام, قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124), وكذلك في إسحاق ويعقوب (عليهما السلام): ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24), فالإمام موقع ومنصب قد يشغله ويحتلُّه النبيُّ والإمام، وقد يقوم به غير النبيِّ والرسول، لكن هذا الموقع لا يمكن أنْ يكون شاغراً، لا يمكن أنْ يكون غير مُفعَّل في زمن الأزمان، وهذه نكتة مهمَّة في حياة الرُّسُل (عليهم السلام)، ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا﴾ (المؤمنون: 44), يعني متعاضدة يعضد بعضها البعض، وبينها أزمنة وفترات، وبعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «لَا نَبِيَّ بَعْدِي»(22), أي لا رسول بعدي، ولم يقل سيِّد الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا إمام بعدي، ولم يقل: لا خليفة لله بعدي، بل قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ بعده «اِثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً - أَوْ أَمِيراً - كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ»، وفي بعض الروايات: «مِنْ هَذَا اَلْبَطْنِ بَنِي هَاشِمٍ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(22) قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليٍّ (عليه السلام): «أنت - أو إنَّك, أو أمَا ترضى أنْ تكون - منِّي بمنزلة هارون من موسى, إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي»؛ رواه جمهور المحدِّثين من الفريقين, راجع: كتاب سُلَيم (ص 314)، وتفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص 380/ ح 265)، والمحاسن (ج 1/ ص 159/ ح 97)، وتفسير العيَّاشي (ج 1/ ص 332/ ح 153)، وتفسير القمِّي (ج 1/ ص 293)، وصحيح مسلم (ج 7/ ص 120)، وسُنَن ابن ماجة (ج 1/ ص 45/ ح 121)، وسُنَن الترمذي (ج 5/ ص 304/ ح 3814)، وسُنَن النسائي (ج 5/ ص 44/ ح 8138).

(٧٧)

والمقصود هنا أنَّ ما تقدَّم من الآيات أنَّ النبيَّ يوسف (عليه السلام) الموعود بكونه المصلح والمبشَّر بالتمكين في الأرض، يزاول دوره في إنقاذ البشريَّة وإصلاح المجتمع البشري قبل ظهوره، وقبل وعي الناس ومعرفتهم وشعورهم بهويَّته، وقبل إعلان شخصيَّته، لكنَّه موجود في ساحة الحدث، موجود في مركز تدبير الأُمور، ينتشل البشريَّة من تلك الأزمات, ويرتفع بها إلى قُلَل الكمال من دون أنْ يشعروا بأنَّ هذا التدبير من خليفة الله تعالى، هذا التدبير من وليِّ الله وحجَّته، هذا التدبير من الموعود المُبشَّر به بأنَّه رأى ﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ (يوسف: 4), نعم مبشَّر بأنَّه يظهر ويُمكَّن في الأرض، لكن مع ذلك لم يشعر به ذووه، ولم يشعر به إخوته، ولم يشعر به النظام الذي كان سائداً، لكن مع ذلك هو يقوم بدوره.
إذن القيام بالدور الحسَّاس المصيري من قِبَل خليفة الله, من قِبَل الإمام الذي يُستخلَف في تدبير الأُمور، على أنَّه خليفة الله، وقيام الإمام قيام من هو غائب في هويَّته، وليس غائباً في وجوده، وحضوره، وتدبيره، وتصدِّيه للأُمور، إذ إنَّ قيامه بهذا الدور لا يستلزم شعور البشر بهويَّته، إذ إنَّهم كانوا يرونه ولا يعرفونه، يُدبِّر لهم، يتعاطى معهم، يُؤثِّر في مصير البشريَّة، يحفظها من المنزلقات من دون أنْ تشعر البشريَّة به، ومن دون أنْ تنسب البشريَّة هذا الإنجاز الإصلاحي لوليِّ الله ولخليفة الله، ربَّما نعرفه بأسماء أُخرى ولا نعرفه باسم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل مثلاً، المهمُّ أنَّه أخذ يد البشريَّة عن الوقوع في مجاعات، أو الوقوع في الموت، أو الوقوع في قطع النسل البشري والأزمات الكثيرة، وربَّما يتفشَّى نتيجةً لذلك الفساد والقتل وعواصف ومفاسد تفتُّ بالنظام الاجتماعي والسياسي والأُسري وكثير من تداعياته، لكن بعد أنْ قام بهذا الدور المصيري في تلك الحلقات المركزيَّة في النظام الاجتماعي السياسي،

(٧٨)

وكما في النبيِّ موسى (عليه السلام) الذي قام بأدوار كثيرة من ربط الأمل والجأش على قلوب بني إسرائيل دون أنْ يشعروا به أنَّه موسى قبل ظهوره، وكان على صلة بأخيه هارون، بل ولم يشعروا حتَّى بنبوَّة هارون.
فالسؤال القائل: أيُّ معنى للإمام عندما يكون غائباً؟ نابع عن فهم مغلوط للغيبة والغياب على أنَّه بمعنى مقابلٍ للحضور وليس عدم حضور، الغيبة عدم ظهور مع كون الحضور فعليًّا، يقوم بكلِّ حيويَّة بالمسؤوليَّة الإلهيَّة الخطيرة في منعطفات المسير البشريَّة، يُنقذها وينتشلها من السقوط إلى الهاوية، وهذا إذن مقطع ثمين جدًّا في ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، وهو أنَّه غاب وخفيت هويَّته ولم يخفَ وجوده، ولم تُعدَم البشريَّة حضوره وخيره وتدبيره وما شابه ذلك، وهذه نكتة مهمَّة جدًّا بالغة العبرة يُسطِّرها لنا القرآن الكريم.
فإذا كانت عندكم أسئلة عقائديَّة اقرؤوها من هذه الإجابات الموجودة في سورة يوسف، ولا تمرُّوا عليها مرور عبور غفلة, ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17), ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (النساء: 82), اُنظر كيف يحثُّ القرآن على التدبُّر، استنطق القرآن الكريم لتلتفت إلى تلك الإجابات على أسئلتك، فهو يُجيبنا بأنَّ خليفة الله ووليَّ الله غائب غيبة هويَّة وعدم شعور, لا غيبة وجود، نعم يزاول تمام دوره في عصب النظام البشري, ولولاه لفُصِمَ وقُصِمَ, يعني يقوم به لكن من دون أنْ يُعزى هذا الإصلاح والتدبير له.
ولا يخفى على القارئ الكريم أنَّ الإصلاح الذي قام به يوسف (عليه السلام) هو إصلاح نسبي في غيبة أولياء الله، بخلاف ما كان بعد ظهور يوسف (عليه السلام) وبعد معرفتهم وشعورهم به, ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾ (يوسف: 90), نعم إنَّه لـمَّا ظهر

(٧٩)

أفشى فيهم التوحيد، وأفشى فيهم ديانة الإسلام، ولكن قبل الظهور كانت تلك الإصلاحات نسبيَّة مصيريَّة في حفظ النظام البشري يقوم بها وليُّ الله، وإنْ كان في ستار وسرّيَّة وخفاء في حركته، لذلك يُلفِت القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30), وأوَّل مفاد قرآني له صلة بمعنى الخليفة، بطرح القرآن الكريم تساؤل الملائكة: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (البقرة: 30), وكأنَّما أراد الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يُبيِّن لنا أهمَّ دور يقوم به الخليفة, وأنَّه لولا وجوده لوقع المحذور الذي ذكرته الملائكة وهو الفساد في الأرض، أو سفك الدماء وقطع النسل البشري, فالذي يكون ضمانة إلهيَّة يحول دون وقوع سفك الدماء أي قطع النسل البشري هو الخليفة، عَلِمَ به البشر أو لم يعلموا به، خفيت هويَّته عليهم أو علموا بها، استجابوا له أو لم يستجيبوا له، فإنَّه قادر على أنْ ينفذ في نُظُمهم ويُؤثِّر فيها وإنْ لم يستجيبوا له باسمه وبمعرفة هويَّته، فهذه إذن محطَّة ووقفة قرآنيَّة عظيمة جدًّا يجب أنْ ننتهل منها نهلاً نميراً عميقاً عذباً سائغاً، ويجب أنْ نلتفت إليها بجدٍّ.
وبعد هذا يصبح من السفه القول: إنَّه كيف جعله الله إماماً على البشر والبشر لا يعرفه؟ فنقول: من قال: إنَّ المقامات الإلهيَّة والمناصب الإلهيَّة تستدعي أنْ يعرف البشر صاحب المقام والمنصب بنعت المقام والمنصب؟ هاهنا النبيُّ يوسف (عليه السلام) قد عاش وترعرع وجرى ما جرى وغاب عن ذويه وأهله قبل أنْ يبلغ, بدءاً من الجُبِّ حيث رموه فيه، ثمّ ترعرع ونما، ومن ثَمَّ كان نبيًّا مرسَلاً موعوداً ومنقذاً ومصلحاً ومنجياً, وُعِدَ في نعومة أظفاره وبداية حياته بالبشارة بالتمكين في الأرض، وقام بهذه الأدوار.
فهذه حقيقة قرآنيَّة لا يستطيع أحد من المدارس الإسلاميَّة الأُخرى غير

(٨٠)

مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أنْ تُفسِّر هذه الظاهرة وهذه الحقيقة القرآنيَّة، اُنظر كيف أنَّ ثوابت العقيدة الاعتقاديَّة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) كلُّها ذات شواهد، وتشاهد مع حقائق القرآن كلَّما ذكر حُجَج الله السابقين من الأنبياء والرُّسُل والأئمَّة (عليهم السلام)، هي في الواقع عِظات وعِبَر اعتقاديَّة للأُمَّة الإسلاميَّة في حقبة زمانها ولأئمَّة زمانها وللخلفاء المنصوبين من قِبَل الله ورسوله على المسلمين في زمنهم، فهذه محطَّة عظيمة جدًّا يُنبئنا بها القرآن الكريم، وهي: أنَّ الغيبة لا تتنافى مع القيام بدور النبوَّة ومسؤوليَّاتها، ويضطلع بمسؤوليَّاتها وبمهامِّها ووظائفها النبيُّ مع كون الناس يجهلون نعته، بل يجهلون اسمه، ويعرفونه ربَّما باسم آخر، ومع ذلك يقوم بدوره.
أوَلم يقل النبيُّ يوسف (عليه السلام) لصاحبيه في السجن: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾ (يوسف: 39 و40)؟ اُنظر إلى هذه الدروس التوحيديَّة الثبوتيَّة, فليس الحكم في التشريع فقط, بل حتَّى في التدبير، حتَّى في التنفيذ, حتَّى في القضاء، هذا اللون من التوحيد وما مرَّ بنا ليس له وجود إلَّا في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، لأنَّهم يقودوننا إلى مؤدَّيات وثوابت العقيدة الاعتقاديَّة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، إنَّ التدبير في الحكم القضائي صلاحيَّته أوَّلاً لله حيث يشرف عليه الله تعالى، لا أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) معزول عن الإشراف في القضاء التشريعي وفي نظام القضاء وفصل الخصومات وفي نظام التنفيذ والقوَّة والسلطة التنفيذيَّة والسلطة التشريعيَّة، حاشا لله أنْ يكون معزولاً عن الإشراف والهيمنة، فالحكم لله حتَّى في حكومة الرسول، والحاكم الثاني هو الرسول، هذه هي الأدبيات العقائديَّة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام). وهكذا في حكومة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) فإنَّ الحاكم الأوَّل في

(٨١)

سلطة التشريع وسلطة القضاء وسلطة التنفيذ هو الله (عزَّ وجلَّ)، والحاكم الثاني هو الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنِ انتقل إلى الدار الآخرة، فإنَّه يشرف ويُطاع ممَّن بعده وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) بما يتَّصل بالعلم اللدنِّي بالله ورسوله، وكذلك الحاكم الثالث في حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أمير المؤمنين (عليه السلام).
فالحاكم الأوَّل هو الله ليس فقط على صعيد التشريع, بل حتَّى على صعيد التنفيذ, ففي السلطة القضائيَّة، وسلطة العسكر, وسلطة الثقافة, وسلطة الاقتصاد, وكذلك الإشراف والهيمنة على جميع التفاصيل الجزئيَّة الخطيرة هي لله (عزَّ وجلَّ), ويبلغ الله إرادته ومشيئته حتَّى الجزئيَّة التنفيذيَّة التطبيقيَّة لوليِّه وخليفته في الأرض، وهذه الصلاحيَّة التي هي لله - للأسف - في غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تراها كأنَّها مزواة عن الساحة الإلهيَّة، مزواة عن الباري تعالى - والعياذ بالله -, وكأنَّهم شابهوا اليهود في قولهم كما حكاه عنهم الله (عزَّ وجلَّ) بقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا﴾ (المائدة: 64), هيهاتَ، بل تنبسط وتشمل جميع السلطات. وكما يُحدِّثنا القرآن الكريم في حكومة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أوَليست سيرة حكومة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في القرآن مسطورة في منعطفات السياسة والحرب والسلم والقضاء؟ أوَلم يكن ينزل أمر إلهي خاصٌّ, وإنْ كان تشريعاً عامًّا أيضاً ولكنَّه أيضاً تطبيق خاصٌّ، في موارد النزول إعمال الولاية من الله، وإرادة من الله لا من رسوله في تلك الموارد؟ هاهنا مثلاً ابدأوا حرباً مع المعتدين، وهاهنا اعقدوا صلحاً، وهكذا في موارد عديدة يتعرَّض لها القرآن الكريم حتَّى في إقامة الحدود والعقوبات الجنائيَّة. صحيح أنَّ مفاد تلك الآيات تشريع عامٌّ، لكن تطبيقه من الله عبارة عن تنفيذ خاصٍّ.
اُنظر إلى هذا التوحيد الذي هو بلون مركَّز وشديد وشمولي، والذي لا يوجد إلَّا في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والذي يُنبئ عنه النبيُّ يوسف (عليه السلام) في

(٨٢)

قوله تعالى على لسانه: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾ (يوسف: 40), ليس فقط في التشريع، بل في كلِّ مجالات الحكم.
وإذا نظرنا إلى مدارس بقيَّة المسلمين نجد حاكميَّة الله تُزوى، لماذا؟ ذلك لأنَّهم لا يعتقدون أنَّ الإمام منصوب من الله (عزَّ وجلَّ)، ولا أنَّ هناك ارتباطاً بين فرد بشري معصوم وبين الله تتنزَّل عليه الحكمة الإلهيَّة والتدبير الإلهي.
حجّيَّة الإمام مع غيبة شخصه:
مرَّ بنا أنَّ القرآن الكريم في سورة يوسف يُذكِّر المسلمين والمؤمنين بأنَّ جهل البشريَّة بوجود النبيِّ يوسف (عليه السلام) لم يزعزع ولم يزلزل عنوان نبوَّته، ولم يُبعده عن الاضطلاع بمسؤوليَّة الرسالة وبمسؤوليَّة الإمامة، وأنَّه معدٌّ مصلحاً ومنقذاً بشريًّا في تلك الحقبة.
وكلُّ هذه المقامات كان يزاولها النبيُّ يوسف (عليه السلام) في غيبته، ويقوم بتلك الأدوار الخطيرة في مسار البشريَّة التي تعصف بالنظام البشري، والتي ربَّما تُؤدِّي به إلى سحيق الهاوية, وهو ينتشلها ويقوم بهذا الدور الإلهي من دون أنْ يعرفوا نبوَّته ولا رسالته ولا حجّيَّته، ولا كونه الموعود المُبشَّر من قِبَل الله، ولا إمامته ولا كونه خليفة لله في أرضه، لكن ذلك لم يُبطل حجّيَّته ولا إمامته ولا نبوَّته ولا رسالته كما أسلفنا, ولم يكن هناك أيُّ شرطيَّة وأيُّ توقُّف بين معرفة الناس له بنعت الحجَّة ونعت النبيِّ ونعت الرسول بالنبوَّة والرسالة والحجّيَّة والإمامة والخلافة، وقيامه بتلك الأدوار من قِبَل الله تعالى.
وفي الحقيقة فإنَّ هناك مغالطة في قول البعض: إنَّه ليس هناك ارتباط، بل الارتباط قائم بين النبيِّ يوسف (عليه السلام) وأهل زمانه، حيث يتفاعل مع ساحة الحدث الأساسي الرئيس عندهم من دون أنْ يشعروا بذلك الارتباط، فعدم

(٨٣)

معرفتهم به لا يعني عدم ارتباطهم به، ولا يعني عدم قيامه بالدور، فالإنسان الآن في وجوده يتعاطى مع كثير من الأشياء المحيطة به من المادَّة لكن لا يشعر بها، فهل يعني ذلك عدم وجودها؟
فالأمر هنا بيِّن، ففي حالة النبيِّ يوسف (عليه السلام) نرى أنَّه لم يكن معروفاً إلَّا لذويه وإخوته وأبيه النبيِّ يعقوب (عليه السلام)، وإلَّا فإنَّ أهل مصر وعزيزها ومَلِكها، والبلدان المجاورة لم يعرفوا شخصاً بهذا الاسم. وبعبارة أُخرى: هناك الخفاء في النبيِّ يوسف (عليه السلام) أشدّ ممَّا هو عليه الحال في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يُعرَف بشخصه الذي هو الثاني عشر من ذرّيَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ولد عليٍّ وفاطمة (عليهم السلام)، وهو ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، واعترف كثير من علماء المسلمين بولادته، ومنهم الذهبي في (تاريخ الإسلام) كما تقدَّم, وغيره من علماء الجمهور ممَّن اعترفوا وسلَّموا بولادته (عجَّل الله فرجه)(23).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(23) منهم: العلَّامة الشيخ شمس الدِّين محمّد بن طولون الدمشقي الحنفي في الشذرات الذهبيَّة في تراجم الأئمَّة الاثني عشريَّة (ص 117)، قال: (ثاني عشرهم ابنه - أي العسكري (عليه السلام)- محمّد بن الحسن، وهو أبو القاسم محمّد بن الحسن بن عليٍّ الهادي...) إلى آخر الأئمَّة الاثني عشريَّة (كانت ولادته (رضي الله عنه) يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين, ولـمَّا تُوفِّي أبوه المتقدِّم ذكره (رضي الله عنهما) كان عمره خمس سنين).
ومنهم: العلَّامة كمال الدِّين محمّد بن طلحة الشامي الشافعي في مطالب السؤول (ص 479 - 481)، قال: (الباب الثاني عشر في أبي القاسم محمّد بن الحسن الخالص بن عليٍّ المتوكِّل بن محمّد القانع بن عليٍّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليٍّ زين العابدين بن الحسين الزكي بن عليٍّ المرتضى أمير المؤمنين ابن أبي طالب، المهدي الحجَّة الخلف الصالح المنتظَر عليهم السلام ورحمة الله وبركاته...)، إلى أنْ قال: (فأمَّا مولده فبسُرَّ من رأى في ثالث وعشرين شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين للهجرة. وأمَّا نسبه أباً وأُمًّا، فأبوه محمّد الحسن الخالص بن عليٍّ المتوكِّل بن محمّد القانع بن عليٍّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليٍّ زين العابدين بن الحسين الزكي بن عليٍّ المرتضى أمير المؤمنين...، وأُمُّه أُمُّ ولد تُسمَّى: صقيل, وقيل: حكيمة، وقيل غير ذلك. وأمَّا اسمه فمحمّد، وكنيته أبو القاسم, ولقبه الحجَّة والخلف الصالح, وقيل: المنتظَر).
ومنهم: العلَّامة ابن خلِّكان في وفيات الأعيان (ج 4/ ص 176)، قال في ذكر محمّد بن الحسن المهدي: (كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين...، وذكر ابن الأزرق في (تاريخ ميافارقين) أنَّ الحجَّة المذكور وُلِدَ تاسع عشر ربيع الأوَّل سنة ثمان وخمسين ومأتين, وقيل: في ثامن شعبان سنة ستٍّ وخمسين، وهو الأصحّ).
وغيرهم من أعلام العامَّة ممَّن يضيق المقام هنا بذكرهم جميعاً, ولمن أراد المزيد فليراجع: شرح إحقاق الحقِّ (ج 13/ ص 87 - 97).

(٨٤)

ويعرفونه باسمه وشخصه, وأنَّه المرشَّح لأنْ يكون مصلحاً إلهيًّا, وأنَّه الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهو الذي على يديه يظهر الدِّين على الأرجاء كافَّة، والموعود ببشارة سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يعرفون هذه المواصفات, ولكن لا يعرفونه بتشخُّص وجوده, ولا يُميِّزون من هو المنعوت بهذه المواصفات، لذا كانت حال الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أهون في الخفاء، أمَّا في النبيِّ يوسف (عليه السلام) كما يُحدِّثنا القرآن الكريم فإنَّ أهل مصر وكثيراً من البشر آنذاك كانوا يتعاطون مع النبيِّ يوسف (عليه السلام) ومرتبطين به لكن لا يشعرون به، لا يعرفون الاسم حتَّى على مستوى النظريَّة، فضلاً على مستوى التطبيق، يعني ليس على مستوى الفكرة فضلاً عن مستوى تشخيص الفكرة على وجود خارجي، فالخفاء في ظاهرة النبيِّ يوسف أشدّ، ومع ذلك لم تبطل نبوَّة النبيِّ يوسف (عليه السلام) وحجّيَّته وإمامته وخلافته ومُصلحيَّته، فهذا درس اعتقادي عظيم يُسطِّره لنا القرآن الكريم في سورة يوسف، وليس سمراً ولا ثرثرةً، بل عِظَة وعبرة عقديَّة واعتقاديَّة قبل أنْ

(٨٥)

تكون عبرة أخلاقية أو أدبيَّة، ﴿مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى﴾ (يوسف: 111), ليست هذه مفتريات، بل ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ (الطارق: 13 و14), هو قول الله (عزَّ وجلَّ)، فإنَّ هذا درس عقائدي عظيم يجابه به القرآن الكريم ويصدُّ أُكذوبة المكذِّبين بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ودعواهم في المنافات بعدم شعور البشر بالارتباط، وبالتالي تبطل حجّيَّته, فأيُّ معنى لمثل هذه المقولة الزائفة؟
وبقيَّة الآيات التي تسرد لنا ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) تقول: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 54 و55).
اُنظر بماذا علَّل النبيُّ يوسف (عليه السلام) إمامته في التدبير لذلك النظام, قال: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ﴾, يعني الأمانة العامَّة التي هي بدرجة العصمة، والتي تعني العصمة العمليَّة في درجاتها العالية، والعلم يعني العصمة العلميَّة، وهذا الذي تذهب إليه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في أنَّ الإمام يجب أنْ يتوفَّر فيه شرطا العصمة العلميَّة والعصمة العمليَّة.
البشريَّة تعيش الآن أزمة التنظير وتطبيق التنظير في العصمة العلميَّة، أزمة في تنظير النظام الاقتصادي العادل، وأيُّ نظام من النُّظُم سواء النظام الرأسمالي أو النظام الشيوعي أو النظام الاشتراكي لم يُؤمِّن العدالة الكاملة, ولا زال التفاوت والفارق الطبقي الفاحش المجحف للبشريَّة موجوداً ومتمثِّلاً بالفقر البشري، والنظام المصرفي الربوي لا زال يقصم ظهر البشريَّة, فالبشريَّة تحتاج إلى تزويدها علماً من السماء على مستوى التنظير، أي العصمة العلميَّة، والأمانة في التطبيق، وهي العصمة العمليَّة.
وهنا النبيُّ يوسف (عليه السلام) عندما يقول: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾، تُثار حول

(٨٦)

قوله عدَّة تساؤلات: فهل أنَّ علم النبيِّ يوسف (عليه السلام) هو تجريبي كسبي، أم علمه لدنِّي؟ هل حفظ النبيِّ يوسف (عليه السلام) للأمانة في التطبيق حفظ كسبه من رياضة, أم هو حفظ نابع من عصمته في العمل؟ قال تعالى: ﴿لَوْ لَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف: 24), إذن هو مخلَص من قِبَل الله تعالى توجد فيه العصمة العلميَّة والعمليَّة، وهذا التعليم للنبيِّ يوسف (عليه السلام) والتدبير في الأرض بماذا يُعبِّر عنه النبيُّ يوسف (عليه السلام)؟ يقول: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ﴾، يعني بما هو عليه من مستوى درجة الحفظ والعلم, وهي العصمة العمليَّة والعصمة العلميَّة، هذا الحفظ الخاصُّ وهذا العلم الخاصُّ في النبيِّ يوسف (عليه السلام) هو الذي يُؤهِّله لإمامة الأرض ولإمامة البشر. وكذلك يقال: إنَّ القرآن معجز، وفيه آيات للسائلين، هذه سورة يوسف كما ابتدأ صدرها بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ (يوسف: 7), أيُّ سؤال عقدي تطرحه على سورة يوسف ستجد - إنْ شاء الله - أنت أيُّها المسلم أيُّها القارئ إجابة شافية وافية فيها، شريطة التدبُّر، لا تقرأ القرآن بأهازيج فقط وتغفل التدبُّر، حفظ معنى القرآن أعظم من حفظ لفظ القرآن، وإنْ كان حفظ لفظ القرآن ممدوحاً ومطلوباً, لكن ما هو أشدّ طلباً وأشدّ رجحاناً حفظ معنى القرآن، وحفظ بصائر القرآن.
﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21), هذا بيان وافٍ من القرآن الكريم حيث مكَّنه الله من القدرة، اُنظر كيف يتدرَّج القرآن في تهيئة الأرضيَّة له مهما طال الزمن: مكرهم بيوسف (عليه السلام)، وإلقاؤه في غيابت الجُبِّ، ذلك المكر يجعله الله (عزَّ وجلَّ) تدبيراً في وصوله إلى البشارة الموعودة من كونه مصلحاً ومنجياً والذي بشَّر بها الله (عزَّ وجلَّ) النبيَّ يوسف في رؤياه: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ

(٨٧)

عَشَرَ كَوْكَباً...﴾ (يوسف: 4)، فرغم كيد الكائدين وحسد الحاسدين ومكر الماكرين يجعل الله مكرهم تدبيراً له ويوصله إلى الوعد الموعود، وهذه عبرة من القرآن، لأنْ لا يفقد المؤمن والمسلم أمله بما وعد به القرآن, ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33), فنحن نشاهد قوى عظمى متسلِّطة فنقول: أيُّ إمام وعد به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟! وأيُّ وعد وعدنا به القرآن الكريم بقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ ونحن مغلوبون على أمرنا؟! كلَّا, لا بدَّ من بقاء هذا الأمر، لأنَّ الله غالب على أمره، كما يُبشِّرنا بهذا الإمام الذي يقوم بإفشاء الصلح وإنشاء العدل والقسط «لِيَمْلَأَهَا قِسْطاً وَعَدْلاً», ويُظهر دين جدِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
نعم, يُمكِّن الله له كما مكَّن ليوسف (عليه السلام), وقد ضرب لنا القرآن مثلاً وعظةً ودرساً ليتَّعظ بها المسلمون.
﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ (يوسف: 57 و58), اُنظر هذه المحطَّة من سورة يوسف, يوسف (عليه السلام) عرف إخوته, لكنَّهم لا يعرفونه! أخوهم في الصغر لا يعرفونه في الكبر، إذا كان الحال في إخوة يوسف (عليه السلام) هكذا إذ تعاطوا مع يوسف (عليه السلام) ودبَّر شؤونهم وتأثَّروا به وأثَّر فيهم، وقام بدوره ومسؤوليَّته، فلم يشعروا به, فهل هذا يُعدِم وجوده؟ كلَّا, فالقرآن الكريم ضرب لنا مثلاً عظيماً يريد به أنْ يُبيِّن لنا أنَّ أقرب المقرَّبين لذلك الحجَّة الوليِّ الغائب وهم إخوته قد رأوه في صغره ولكنَّهم لم يعرفوه في كبره. مثل عظيم جدًّا يعرضه لنا القرآن الكريم, يقول: إنَّ إخوة يوسف كانوا عقلاء, كما جاء في لسان صادق آل محمّد لبيان هذه العبرة في السورة, قال (عليه السلام): «إِنَّ فِي صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ لَشَبَهاً مِنْ يُوسُفَ...، إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا عُقَلَاءَ أَلِبَّاءَ أَسْبَاطاً أَوْلَادَ أَنْبِيَاءَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَكَلَّمُوهُ وَخَاطَبُوهُ وَتَاجَرُوهُ وَرَاوَدُوهُ وَكَانُوا إِخْوَتَهُ وَهُوَ

(٨٨)

أَخُوهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى عَرَّفَهُمْ نَفْسَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾،‏ فَعَرَفُوهُ حِينَئِذٍ، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ المُتَحَيِّرَةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ (جلَّ وعزَّ) يُرِيدُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَنْ يَسْتُرَ حُجَّتَهُ عَنْهُمْ؟ لَقَدْ كَانَ يُوسُفُ إِلَيْهِ مُلْكُ مِصْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِمَكَانِهِ لَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَالله لَقَدْ سَارَ يَعْقُوبُ وَوُلْدُهُ عِنْدَ الْبِشَارَةِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ بَدْوِهِمْ إِلَى مِصْرَ، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اللهُ يَفْعَلُ بِحُجَّتِهِ مَا فَعَلَ بِيُوسُفَ، وَأَنْ يَكُونَ صَاحِبُكُمُ المَظْلُومُ المَجْحُودُ حَقَّهُ صَاحِبَ هَذَا الْأَمْرِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمْ، وَيَمْشِي فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَيَطَأُ فُرُشَهُمْ وَلَا يَعْرِفُونَهُ حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ لَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ نَفْسَهُ كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ حِينَ قَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ﴾ [يوسف: 90]؟»(24).
إذن المهدي (عليه السلام) يتردَّد فيما بين الناس ويتصدَّى للأحداث ولمصير البشريَّة ولا نعرفه حتَّى يأذن الله له أنْ يُعرِّف نفسه لنا كما أذن ليوسف (عليه السلام) أنْ يُعرِّف نفسه لإخوته.
تلك عِبَر, كلُّ لقطة في هذه الآيات القرآنيَّة تقول: إنَّ هناك عِظَة وعبرة بالدرجة الأُولى عقائديَّة واعتقاديَّة, فتدبَّروا فيها.
الجهل بالغيبة على مستوى النظريَّة والتطبيق:
هذه المحطَّة التي وصلنا إليها من ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) وصلتنا بالعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهي من أهمّ المحطَّات في تلك الظاهرة، حيث إنَّ النبيَّ يوسف (عليه السلام) رغم نبوَّته ورسالته وإمامته وخلافته لله في الأرض، وكونه الموعود المصلح المنقذ المنجي, إلَّا أنَّ من كان يحيط به لم يكن يعرفه لا بنعت النبوَّة ولا بنعت الرسالة، ولا بنعت الإمامة ولا بنعت الخلافة، ولا بنعت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(24) الغيبة للنعماني (ص 166 و167/ باب 10/ فصل 3/ ح 4).

(٨٩)

الموعود والمصلح والمنقذ والمنجي للبشريَّة في تلك الحقبة، حتَّى إنَّهم كانوا يجهلون تلك النعوت على مستوى النظريَّة، ويجهلونها على مستوى التطبيق، يعني لا يعرفون أنَّ هناك نبيًّا باسم يوسف، فضلاً عن أنْ يعرفوا أنَّ هذا الشخص الذي يتعاطى معهم ويُدبِّر عصب الحياة في النظام البشري آنذاك هو النبيُّ يوسف (عليه السلام), مع ذلك لم تبطل نبوَّة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، ولم تبطل حجّيَّته، ولم يبطل دوره المضطلع به من المسؤوليَّة الإلهيَّة، وكان يتعاطى مع الأحداث المصيريَّة في تاريخ النظام البشري آنذاك، ويتصدَّى لها.
هذه وقفة قرآنية تستحقُّ النظر جليًّا، وإمعان الفكر كثيراً, ولا نتابع هذه القَصَص وهذه الأحداث إلَّا بعِبَر، يجب على قارئ القرآن الكريم أنْ يستشفَّ من عدسة ومجهر القرآن الكريم بأنَّه حينما يُسلِّط الضوء على زاوية من زوايا حياة النبيِّ يوسف (عليه السلام) يجد أنَّه قد يكون غائباً, ومع ذلك يقوم بدوره في غيبته ولا تعرفه الناس لا على مستوى النظريَّة ولا على مستوى التطبيق، يعني لا يعرفونه على مستوى الفكرة ولا يعرفونه على مستوى التعاطي الخارجي، ومع ذلك لا تبطل مناصبه ولا يبطل دوره ولا تبطل حجّيَّته ولا ينحسر الناس عن ثمار دوره، بل ينفعهم من حيث لا يشعرون، لذلك نرى القرآن الكريم في بدء ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) عند بدء غيبته عبَّر بهذا التعبير، وذلك عندما جعلوه في غيابت الجُبِّ: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (يوسف: 15), يعني هو يشعر بهم ولا يشعرون به.
ومن ثَمَّ نصل إلى هذا المقطع من السورة بعد دهر طويل وأحداث جسيمة مرَّت في حياة يوسف (عليه السلام): ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ (يوسف: 58)، هو إذن يعرف الناس لكنَّهم لا يعرفونه، لكن

(٩٠)

هذا لا يوجب عدم التعاطي مع دور النبيِّ يوسف (عليه السلام), فقد كان في صلب الحدث والتصدِّي الفعلي، وكان يتعاطى مع الناس ويرتبط بهم من دون أنْ يشعروا بهويَّة الذي يرتبطون به، فلا انقطاع بين الناس وبين النبيِّ يوسف (عليه السلام) في غيبته، لأنَّها غيبة شعور به، غيبة معرفة به, لا غيبة وجود، ولا غيبة دور، ولا غيبة التعاطي والارتباط معه. هذا هو المعنى الصحيح لغيبة الحُجَج وأولياء الله تعالى, وهذا هو من أوَّليَّات البرنامج الأمني الإلهي, وقد أصبح ذلك متَّبعاً أيضاً حتَّى في البرامج الأمنيَّة لنُظُم الدول الحديثة.
﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ (يوسف: 59), اُنظر كيف هو يعرف أُمورهم وأحوالهم ومع ذلك هم لا يفطنون لذلك, هذا الحجاب من الله (عزَّ وجلَّ) حجاب العلم لا حجاب الوجود، الحجاب الذي يُضرَب على وليِّ الله الغائب، سواء النبيُّ يوسف (عليه السلام) في غيبته أو النبيُّ موسى (عليه السلام) في غيبته، ليس حجاب عدم رؤية جسمه ووجوده ودوره، بل هو حجاب عن معرفته، وحجاب عن هويَّته، فهو حجاب العلم، وحجاب المعرفة، وحجاب الشعور، لا الاحتجاب عن أصل وجوده.
وقد يقع الكثير في هذا الخطأ، وهو عدم التمييز والتفرقة بين الاحتجاب عن أصل وجوده أو الاحتجاب عن معرفة من هو الموجود ومن لديه ذلك الدور الخطير الذي يقوم ويضطلع بمسؤوليَّته.
اللقاء بين يوسف (عليه السلام) وأخيه:
﴿قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾, فانظر كم بلغ من الرتبة وموقعيَّة التأثير وهو في مقام

(٩١)

من الفضل والرفعة البشريَّة ومع ذلك لا يعرفوه بهويَّته، ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ * قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ (يوسف: 59 - 61).
بعد ذلك يُحدِّثنا القرآن الكريم، فيقول: ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا﴾ (يوسف: 62), اُنظر إلى ذلك التدبير, فإنَّه يوصل الخير للبشر من دون أنْ يشعروا به، من دون أنْ يعرفوا ممَّن وصلهم, كما قيل: (أبى الله أنْ يجري الأُمور إلَّا بأسبابها), و(إذا أراد الله شيئاً هيَّأ أسبابه), فوصول الخيرات للناس له أسباب، وسُنَّة الله اقتضت بأنْ تجري هذه الخيرات عبر الأسباب التي وضعها الله، ومن ضمن تلك الأسباب شبكة وليِّ الله في غيبته, حيث يوصل الخيرات للناس عبرها من دون أنْ يشعروا ممَّن وصلهم هذا الخير، مع أنَّ الرزق والخير كلَّه من الله، لكن الله جعل لتلك الخيرات ووصولها قنوات وأسباباً, كما جعل المطر والماء لإحياء الأرض, ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ (الأنبياء: 30), فأصل الخير كلُّه من الله (عزَّ وجلَّ), ولكن الله يجري الخير على أيدي أوليائه.
ثمّ يأتي قوله تعالى: ﴿اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (يوسف: 62 و63), إلى أنْ جاذبوا أباهم يعقوب (عليه السلام) لأخذ شقيق يوسف (عليه السلام) من أُمِّه.
بعد ذلك توصية النبيِّ يعقوب (عليه السلام) بأنْ لا يدخلوا من باب واحد: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (يوسف: 67)، ثمّ تواصل الآيات: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ

(٩٢)

آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (يوسف: 69), قد يكون هنا نوع من رفع لستار الغيبة النسبي، يعني قد يتشرَّف بعض المؤمنين بمن هو غائب، فالنبيُّ يوسف (عليه السلام) كان غائباً عن أبيه وعن إخوته وعن كلِّ أهل مصر وعن كلِّ من يحيط به، وممَّن يأتمر بتدبيره وقيادته، ولكنَّه رفع ستار الغيبة فقط عن أخيه، فتشرَّف أخوه بعد رفع الستار عنه، وهذا ممَّا قد وقع طبعاً لجملة من علمائنا الأعلام والأبرار والأخيار الصالحين(25).
معنى التشرُّف برؤية الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه):
تتعرَّض الآية القرآنيَّة في سورة يوسف إلى ستار الغيبة للنبيِّ يوسف (عليه السلام) باعتبار أنَّ موقعيَّة الموعود المصلح ومقامه فرض عليه أنْ يغيب حتَّى عن أبيه، ويختفي عنه اختفاء علم في تلك البرهة من الغيبة، وقد أذن الله للنبيِّ يوسف (عليه السلام) أنْ يُشرِّف أخاه بمعرفته فقط، ممَّا يدلُّ على أنَّ في السُّنَّة الإلهيَّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(25) للإمام (عجَّل الله فرجه) غيبتان: صغرى وكبرى، كما جاءت بذلك الأخبار عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام).
أمَّا الغيبة الصغرى فمن ابتداء إمامته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته بوفاة السفراء الأربعة (رضي الله عنهم) وعدم نصب غيرهم، ففي هذه الفترة كان السفراء يرونه - وربَّما رآه غيرهم -، ويصلون إلى خدمته، وتخرج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في أُمور شتَّى. وقد رُويت في معنى ذلك روايات تضمَّنتها مصادرنا, كما أفردوا لذلك أبواباً, كما في: الكافي (ج 1/ ص 329/ باب في تسمية من رآه)، وكمال الدِّين (ص 434/ باب 43 ذكر من شاهد القائم (عليه السلام) ورآه وكلَّمه).
وأمَّا الغيبة الكبرى فهي بعد الأُولى إلى أنْ يقوم بإذن الله تعالى. وقد تشرَّف برؤيته لفيف من علمائنا الأبرار، أو من الصلحاء الثقات الذين بلغوا من الزهد والتقوى والسداد محلًّا لا يحتمل فيهم عادةً تعمُّد الكذب والخطأ, وقد أُلِّفت في ذلك كُتُب أشهرها كتاب (جنَّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجَّة (عليه السلام)) للعلَّامة الميرزا حسين النوري الطبرسي (قدّس سرّه).

(٩٣)

يمكن أنْ يُؤذَن لوليِّ الله وللإمام ولحجَّة الله الغائب في تعريف شخصه إلى البعض، قال تعالى: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾, وهذا الإعلام بأنَّه يوسف الغائب الموعود وكونه المصلح المنجي المنقذ الذي كان من قِبَل النبيِّ يوسف (عليه السلام)، إنَّما هو ممَّا أذن الله له, ولم يكن بمعرفة سابقة, وإنَّما تشرُّف, ﴿قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (يوسف: 69)، وهذا التشرُّف حصل لأخيه من دون بقيَّة الناس، حتَّى من دون النبيِّ يعقوب (عليه السلام).
هل يفيد اللقاء بالإمام نوعاً من الحجّيَّة؟
من الواضح التشرُّف لبعض المؤمنين أو لبعض العلماء والصالحين لا يدوم، وإنَّما يكون مقدار لقاء وفترة وجيزة، فهل هذا بالنسبة إلى بقيَّة الناس له مؤدَّى اعتبار وحجّيَّة كأنْ يقوم بدعوى الوساطة مثلاً بين وليِّ الله الغائب وبين بقيَّة الناس؟
كلَّا, فهذا الأمر منفيٌّ، يعني لا حجّيَّة ولا موقعيَّة وساطة بين وليِّ الله الغائب وبين بقيَّة البشر، لأنَّ سُنَّة الله جرت - كما حدَّثتنا الآيات القرآنيَّة عن غيبة حُجَج الله، وأكَّدت عليها روايات أهل البيت (عليهم السلام) حول غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - من نفي أيِّ صلاحيَّة سفارة أو وساطة أو تمثيل أو نيابة خاصَّة، لأنَّ هذه الغيبة ستارها الأمني مستفحل، وهذه الوساطة من وإلى الحجَّة لا يدَّعيها إلَّا مفترٍ كذَّاب, لأنَّه لا يُخوَّل لتلك الموقعيَّة أحد، لاسيَّما بعد تصرُّم الغيبة الصغرى ودخولنا في الغيبة الكبرى إلى أنْ يأذن الله بالظهور، والآيات القرآنيَّة في تجويز هذا التشرُّف ليس نطاقها إلَّا إمكان حصول التشرُّف، أمَّا أنْ يكون للمتشرِّف برؤية الغائب دور الوساطة، فهذا ممَّا لا تُثبته الآيات القرآنيَّة، بل وينفيه متواتر روايات أهل البيت (عليهم السلام) في أنَّ من ادَّعى الرؤية في زمن الغيبة

(٩٤)

الكبرى فهو كذَّاب مفتر(26), والمقصود من الرؤية ليس أصل التشرُّف المقصود، لأنَّ الذي يدَّعي الرؤية يريد أنْ يدَّعي الوساطة، ويريد أنْ يدَّعي أنَّه جسر، أو أنَّه سفير، أو أنَّه نائب خاصٌّ, وما شابه ذلك، فهذه كلُّها دعاوى وأكاذيب ليس أمامها إلَّا الأدلَّة المبطلة لها.
بعد ذلك تتابع الآيات الكريمة في ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام): ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾, وهنا محطَّة لطيفة أُخرى أيضاً: ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَا ذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ (يوسف: 70 - 76).
اُنظر كيف يُكرِّر القرآن المرَّة بعد الأُخرى الإشارة إلى التدبير الأمني الذي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(26) لـمَّا دنا أجل السفير الرابع الشيخ عليِّ بن محمّد السمري (رضي الله عنه), قيل له: إلى من تُوصي؟ فأخرج لهم توقيعاً نسخته: «بِسْمِ اَلله اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيَّ، أَعْظَمَ اَللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ، وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ يَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ اَلْغَيْبَةُ اَلثَّانِيةُ (اَلتَّامَّةُ)، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اَلله (عزَّ وجلَّ)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ اَلْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ اَلْقُلُوبِ، وَاِمْتِلَاءِ اَلْأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي اَلمُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ». كمال الدِّين (ص 516/ باب 45/ ح 44)، الغيبة للطوسي (ص 395/ ح 365).

(٩٥)

يودعه الله لوليِّه الغائب، والذي هو أرقى من تدبير نُظُم البشر، فقد تكون تلك النُّظُم فائقة القدرة أمنيًّا وتدبيريًّا وإداريًّا وإحاطةً بالمعلومات وبالأحداث وبتداعياته، إلَّا أنَّها تبقى دون مستوى التدبير الإلهي، هذا ما يُؤكِّده القرآن, حيث يُسدِّد الله (عزَّ وجلَّ) وليَّه الغائب في اضطلاعه بالمسؤوليَّة وضمان حراسة تدبيره وأدائه لمسؤوليَّة الحجَّة، ليكون مصلحاً ومنقذاً للبشريَّة في غيبته وفي ظهوره، فالتدبير الإلهي نافذ ثابت لا تصل إليه علميَّة البشر ولا إحاطتهم، لذلك يُعبِّر القرآن الكريم: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 76).
إذن لا يمكن التساؤل أنَّه كيف يقوم إمام غائب بأدواره ونحن لا نلمسها؟ فها هي القوى العظمى مع امتلاكها أحدث التقنيات من أقمار صناعيَّة وأشعَّة فوق البنفسجيَّة تحت الحمراء، وأجهزة تجسُّس وتنصُّت وشبكات من الغُرَف والدوائر الأمنيَّة المافيويَّة العجيبة الداهية الدهياء لا تعرف أين موطنه ولا تقف على وجوده.
وقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 76), أي إنَّ الله تعالى يرفعه في درجة التدبير وفي درجة الإدارة وفي درجة الحيطة الأمنيَّة بحيث لا تصل إليه البشريَّة، فهي أنظمة فائقة على قدرات وتصوُّر وتطوُّر البشر.
الإنسان عندما يجهل شيئاً عليه أنْ يقف ويفحص ويتدبَّر، لا أنَّ يُنكِر ما لا يعلم، وخصيصة المكذِّب أنَّه يبني على أنَّ الحقائق هي بقدر علمه، وأنَّ كلَّ شيء تخطَّى دائرة علمه فهو باطل، والحال أنَّ أكثر الحقِّ في ما يجهله الناس وما يُنكِرونه، فإنَّ ما لا يعلم الناس بالقياس إلى ما يعلمونه أكثر، بل لا نسبة هناك حتَّى ننسب ما يجهلون بالإضافة إلى ما يعلمون.

(٩٦)

هنا القرآن الكريم يُؤكِّد على أنَّ درجات العلم لا تقف عند حدٍّ, وأنَّ ما لا يعلمه الناس لا يُسوغ لهم إنكاره، كيف والله (عزَّ وجلَّ) عنده ما لا يتناهى مع درجة العلم والتدبير والنظم، كيف يُنكِرون ويُكذِّبون ما يجهلون, شأنهم شأن من كان قبلهم من الأُمَم السابقة من إنكار أنبيائهم (عليهم السلام)، والحال أنَّ الإنسان يجب عليه أنْ يتثبَّت عندما لا يعلم بشيء، فهناك نُظُم وتدبيرات أمنيَّة واقتصاديَّة وإداريَّة وقياديَّة لإدارة البشر من دون أنْ تصل إليها قافلة العلم البشري، لكن مع ذلك يُزوِّد الله بها أولياءه.
عرض الأعمال على وليِّ الله:
قال تعالى: ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف: 77), إذن يتفاعل وليُّ الله الغائب في غيبته وحجَّته ودوره محوري مع الأُمور والأحداث، يصله ما يحزنه وما يفرحه، لا أنَّه قاصي متفرِّج لا يتفاعل مع الأحداث ولا يتأثَّر بها سلباً وإيجاباً، فقد ورد الخبر بأنَّ أعمالنا تُعرَض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيُحزنه إذا رآى اقتراف الطالح منها, ويسرُّه إذا رأى الصالح منها(27),

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(27) روى الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 219/ باب عرض الأعمال على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام)/ ح 3) بسنده عَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَا لَكُمْ تَسُوؤُونَ رَسُولَ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟»، فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ نَسُوؤُهُ؟ فَقَالَ: «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَى فِيهَا مَعْصِيَةً سَاءَهُ ذَلِكَ، فَلَا تَسُوؤُوا رَسُولَ اَلله وَسُرُّوهُ».
وروى الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص 464/ ج 9/ باب 12/ ح 4) بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اَلله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لِأَصْحَابِهِ: حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ، وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَإِنْ رَأَيْتُ حَسَناً جَمِيلاً حَمِدْتُ اَللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَيْتُ غَيْرَ ذَلِكَ اِسْتَغْفَرْتُ اَللهَ لَكُمْ».

(٩٧)

فكيف بوليِّ الله الحيِّ، أي في دار الدنيا؟ وإلَّا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيٌّ عند ربِّه، فالحال هنا كذلك.
وقوله تعالى: ﴿فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ﴾, إي إنَّ نبيَّ الله ووليَّ الله الإمام والخليفة في غيبته يتفاعل مع الأحداث، يتأثَّر ويُؤثِّر، لا أنَّه نائي غارب عازب عن الأُمور، حاشا لوليِّ الله أنْ يكون كذلك.
الغيبة والتدبير الإلهي:
بما أنَّ تدبير الله (عزَّ وجلَّ) يفوق تدبير البشر, حيث إنَّه تعالى يُزوِّد البشر بالعلم والإحساس والشعور والإدراك، فخالق الإدراك والإحساس والشعور يحيط بتلك الأُمور بما لا تحيطه يد البشر, ومن هذا المنطلق فإنَّ التدبير الإلهي ومن خلال رجال الغيب يقوم بإصلاح وإدارة البشر في ظلِّ ستار غيبة الشعور بهم وستار حجاب العلم بهم من دون أنْ يكون هناك ستار عن أصل وجود الحاضر، فالإمام يتعاطى الحدث وإدارة وتدبير البشر والنظام البشري، وهو معنا من دون علم أو معرفة به لكن بهويَّته وبكيفيَّة دوره، هذا الأمر يُؤكِّد عليه القرآن دائماً كما مرَّ بنا في سورة القَصَص وسور أُخرى حول ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام)، وكذلك في سورة النبيِّ يوسف: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21), فأكثر الناس لا يعلمون بكيفيَّة غلبة الله في تدبير الأُمور، ويقيسون قدرة الله بقدرتهم, أو قدرتهم بقدرة الله، ومن ثَمَّ يجهلون، ومن ثَمَّ يُنكِرون، ومن ثَمَّ يُكذِّبون بآيات الله وبحُجَجه, وهذا أمر يجب أنْ يتوقَّف عنده المسلمون، وأنْ لا يسارعوا إلى الإنكار بمجرَّد إثارة بعض الجاهلين لقدرات الله وآياته.

(٩٨)

بعد ذلك تواصل سورة يوسف قصَّ حدث غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) عندما استخلص أخاه، وأذن في أنْ يتعرَّف عليه دون بقيَّة الناس حتَّى أبيه النبيِّ يعقوب (عليه السلام): ﴿قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ﴾ أي إخوة يوسف (عليه السلام) من أخذ أخيهم الذي كان معهم، الذي هو شقيق يوسف (عليه السلام)، ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف: 79 - 83), اُنظر هذا المقطع في ظاهرة غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) الذي يُسجِّله لنا القرآن الكريم في موقف النبيِّ يعقوب (عليه السلام), وهو أنَّ النبيَّ يعقوب (عليه السلام) لم ييأس من روح الله، عن ظهور المصلح المنجي المنقذ الموعود وهو ابنه، رغم طول الغيبة، رغم يأس إخوته وذويه وأهله، ويأس الناس ممَّن يعرفونه فضلاً عمَّن لم يعرفه ويجهل أمره، أنَّه سيظهر ويكون له موقعيَّة الإصلاح في الأرض في تلك الحقبة الزمنيَّة، فهذا درس اعتقادي وعقدي يُسطِّره لنا القرآن الكريم بأنَّه مهما طالت غيبة وليِّ الله المصلح الموعود لإنقاذ البشريَّة لا يدعو ذلك المؤمن والمسلم لليأس من روح الله، ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: 87).
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ

(٩٩)

 (يوسف: 83 و84), بعد ذلك في آية أُخرى يقول: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: 87).
طول الغيبة مدعاة لليأس عند ضعاف القلوب:
في هذه السورة محطَّة أُخرى مهمَّة، وهي أنَّ تطاول غيبة وليِّ الله الموعود بالبشارة لكونه مصلحاً ومنقذاً للبشريَّة، هذا التطاول في الغيبة مدعاة لليأس عند ضعاف الإيمان أو ضعاف العقول التي لا تُدرك مدى قدرة الله، ولا تستيقن بحقيقة المعرفة والإدراك من أنَّ الله غالب على أمره مهما تطاولت الدهور والعصور، فيحصل لهم اليأس، لذا تُؤكِّد هذه الآية أنَّه من عظائم الإيمان الانتظار والأمل بمجيء الفرج، لأنَّ اليأس من روح الله جُعِلَ في لسان هذه الآية على لسان النبيِّ يعقوب (عليه السلام) في مصاف الكافرين، فإذن تطاول المدَّة لا يعني بأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) في تدبيره على يد وليِّه الغائب جعل الأُمور أو الحبل على الغارب، بل كلَّما كان هنالك تدبير كانت هناك خطوات متناسقة متَّسقة لا يُطلِع الله عباده على تدبيره ولا على تنسيقه, ونحن نشاهد في هذه الأزمنة الآن أنَّ البشريَّة ترفع وتنادي بشعارات وأدبيَّات لا تنسجم مع الإنجيل المحرَّف، ولا تنسجم مع التوراة المحرَّفة، ولا تنسجم مع البوذيَّة، ولا تنسجم مع الفلسفة المادّيَّة الرأسماليَّة، وإنَّما تنسجم مع أدبيَّات وعقائد الإسلام، لاسيَّما من رؤية مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فالنظام العالمي الواحد يعني أنَّ البشريَّة تتساوى في الحقوق، وأنَّ العدالة يجب أنْ تعمَّ البشر، وأنَّ الحرّيَّة يجب أنْ تكون عميمة في سائر أرجاء الأرض و...، وهذه في الواقع ثوابت العقيدة المهدويَّة أصلاً، والرؤية والعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أنَّه يُؤسِّس نظاماً عالميًّا واحداً تستوي فيه

(١٠٠)

حقوق الناس، لا يحكمه العرق ولا القومية ولا أيُّ شيء آخر يكون موجباً للتفريق بين البشر، «يَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَعَدْلاً».
اُنظر هذه الأدبيَّة, فهي من أربعة عشر قرناً يُردِّدها المسلمون في رواياتهم حول المهدي (عجَّل الله فرجه). وحتَّى الدول الغربية التي لو راجعنا فلسفاتهم في الإنجيل المحرَّف أو التوراة المحرَّفة، تلك الأدبيَّات التي لا تنسجم ولا تتناغم حتَّى مع أعرافهم التي هم يتعايشون ويبنون عليها أعرافاً قانونيَّة، لا تتناغم مع هذه الشعارات التي تُطلَق الآن، وهي جذَّابة أخَّاذة بقلوب البشر وبكلِّ الجوامع والمجتمعات البشريَّة. إنَّما هذه في الواقع رؤى وأدبيَّات العقيدة المهدويَّة، فهناك حلقات يديرها الله (عزَّ وجلَّ) تترى ويتلو بعضها البعض، وهذه محطَّة مهمَّة تدعونا إلى التوقُّف عندها، ومن ثَمَّ ورد عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ: «اِنْتْظِارُ اَلْفَرَجِ مِنَ اَلْفَرَجِ»(28), و«أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ مِنَ اَلله (عزَّ وجلَّ)»(29)، لماذا؟
لأنَّ انتظار الفرج يحمل في طيَّاته تمام الاعتقاد بقدرة الله (عزَّ وجلَّ)، وبغابر تدبيره، وثاقب أمره، ونافذ قضائه الذي لا يحيط به البشر، في الحقيقة يعني نوعاً من التعايش التوحيدي لقدرة الله تعالى، أمَّا الذي يُكذِّب ويُنكِر تدبير وجود وليِّ الله (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه في كبد الحدث والتصدِّي لهذه الأدوار، وأنَّ الله سيُظهره في حلقة نهائيَّة، فهو انقطاع عن الحالة التوحيديَّة بالدرجة المشبعة التي يتعايش بها قلب الإنسان.
إنَّ الإنسان إذا استطاع أنْ يتعايش مع جوٍّ توحيدي مفعم كما تُعبِّر عنه وتُربِّينا عليه هذه الآيات الكريمة في ظاهرة غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام), كقوله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(28) تفسير العيَّاشي (ج 2/ص 138 و159/ح 50 و62)، الغيبة للطوسي (ص 459/ح 471)، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام).
(29) كمال الدِّين (ص 644/ باب 55/ ح 3).

(١٠١)

تعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف: 83)، وقوله: ﴿إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: 86 و87), فالصبر تارةً يكون جميلاً وتارةً يكون غير جميل، الصبر الجميل الذي يكون مع وقار وطمأنينة واستبشار، ولربَّما هناك صبر مع معانٍ أُخَر, فرغم غيبته وطولها إلَّا أنَّه موعود بالبشارة.
فهذه محطَّة مهمَّة توجب على الأُمَّة أنْ لا تيأس ولا يصيبها الهوان إذا غاب عنها وليُّها، بل مهما طالت غيبة حُجَج الله المبشَّرين بأنَّهم سيكونون المصلحين والمنقذين للبشر، لأنَّ غيبتهم غيبة الشعور بهم، غيبة المعرفة بهم، سواء قصرت هذه الغيبة أم طالت، فلا بدَّ أنْ يأتي ذلك اليوم الذي يأخذ به الأولياء المغيَّبون دورهم الطبيعي العلني، وبشكل شامل يعمُّ البشريَّة.
هذه وقفة مهمَّة في غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) يعظنا بها القرآن الكريم، وهي غيبة عقائديَّة وممارسة أخلاقيَّة وأدبيَّة هامَّة جدًّا، وأيضاً الآيات الأُخرى, يقول تعالى: ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ (يوسف: 84 و85), يخاطبون يعقوب (عليه السلام): ألَا زلت إلى الآن تذكر يوسف الموعود؟ إلى الآن متعلِّق قلبك بهذا الغائب المبشَّر بأنْ يكون مصلحاً وموعوداً وممكَّناً في الأرض؟ إلى الآن مع طول هذه المدَّة؟ هذا أمر مهمٌّ يجب أنْ نلتفت إليه، حيث قصَّ لنا القرآن الكريم موقف النبيِّ يعقوب (عليه السلام): ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً﴾ (يوسف: 83), ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ

(١٠٢)

اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: 87), كما يُعلِّمنا النبيُّ يعقوب (عليه السلام) وظيفة المؤمن تجاه حجَّة الله الغائب ووليِّ الله الموعود بأنَّه المصلح المنقذ للبشريَّة، لا بدَّ أنْ تكون هناك شدَّة تعلُّق وشدَّة تذكُّر وشدَّة ندبة للحقِّ والإيمان، لأنَّ هذا الإيمان بوليِّ الله الغائب ومعرفتنا به لا يبقى ولا يستمرُّ إلَّا في ظلِّ التشديد والتركيز من التعلُّق والأمل، لذلك نرى هنا الآيات الكريمة تُركِّز على هذه النقطة من مواقف النبيِّ يعقوب (عليه السلام) في ظلِّ غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، وهنا يُعلِّمنا القرآن الكريم الموقف تجاه وليِّ الله الغائب ومعرفتنا به، الغائب شعورنا به وبهويَّته، أنَّه لا يدعونَّكم ذلك إلى الانقطاع والفتور عن ذكره والتعلُّق به والدعاء له بالفرج, فلا بدَّ من كلِّ ذلك، فقد ورد عن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) دعاء الندبة الذي يُستحَبُّ قراءته كلَّ جمعة، بل كلَّ عيد، بل كلَّ يوم، لماذا؟ لأنَّ الندبة دعاء وشكوى وتعلُّق. وإذا كان لكلِّ إمام من الأئمَّة (عليهم السلام) مجلس عزاء لما انتابه من مصائب وقتل وظلم وتشريد وأنواع المصائب، فإنَّ مجلس مصاب الحجَّة (عجَّل الله فرجه) هو شدَّة معاناة الغيبة، فدعاء الندبة يحمل عدَّة معانٍ في طيَّاته, فهو مجلس عزاء لهذه المصائب التي ابتُلِيَ بها إمامنا المهدي الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه)، فيجب أنْ نقيم مثل هذا العزاء في الواقع.
أوَلا نرى ماذا يُحدِّثنا القرآن الكريم، وكيف يُربِّينا على التعلُّق بمن نعتقد ونؤمن به؟ إذ لا تخلو الأرض من خليفة لله بنصِّ القرآن الكريم حيث يقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (آل عمران: 7), وأهل البيت (عليهم السلام) هم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل الكتاب، وهم قرناء القرآن دائماً وأبداً بنصِّ قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة: 77 - 79), وهم المطهَّرون لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً

(١٠٣)

(الأحزاب: 33), فإذن أهل البيت (عليهم السلام) مقرونون بالقرآن، ولا بدَّ من وجود فرد منهم مع البشريَّة إلى يوم القيامة، ويبقى ما بقي القرآن الكريم.
فالاعتقاد بهذه الحقائق والعقائد القرآنيَّة لا بدَّ أنْ يرتسم ويتجسَّد في سلوكنا، وذلك من خلال التعاطي مع هذه الحقائق الإيمانيَّة القرآنيَّة من وجود خليفة لله في الأرض على مرِّ الزمان من بدء الخليقة إلى منتهاها، يُزوَّد بالعلم اللدنِّي، وهو علم الأسماء، وكثير ممَّا تطالعنا به الآيات القرآنيَّة: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: 7), فلكلِّ قومٍ هادٍ من الله يهديهم, ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ (الفاتحة: 6 و7), أُولئك هم الهداة المبعوثون المنصوبون من قِبَل الله تعالى لهداية البشريَّة، هذه حقائق وعقائد قرآنيَّة لا نتخلَّى عنها، بل نستمسك بها، وهي في أهل بيت نبيِّه الذين طهَّرهم وجعلهم قرناء في سورة الواقعة مع الكتاب المكنون: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾, هذه العقائد كيف تُترجَم في سلوكنا العملي؟ يُعلِمنا القرآن الكريم هنا ما قام به النبيُّ يعقوب تجاه النبيِّ يوسف (عليهما السلام) الغائب: ﴿قَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ (يوسف: 84), يُظهر التحسُّر، كما نقرأ في دعاء الندبة من إظهار الشكوى وإظهار التأسُّف: «هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَسَاعَدَتْهَا عَيْني عَلَى اَلْقَذَى، هَلْ إِلَيْكَ يَا اِبْنَ أَحْمَدَ سَبِيلٌ فَتُلْقَى»(30).
اُنظر هذه التربية من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، هي سُنَّة من القرآن الكريم، من النبيِّ يعقوب تجاه النبيِّ يوسف (عليهما السلام)، هذه السُّنَن الإلهيَّة، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (يوسف: 111)، للمؤمنين وليس للمكذِّبين اليائسين القانطين من قدرة الله ومن روح الله, سُنَن إلهيَّة نتَّعظ بها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(30) المزار لابن المشهدي (ص 582).

(١٠٤)

ونتدبَّرها, ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمّد: 24), ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17). اُنظر إلى موقف النبيِّ يعقوب (عليه السلام) المؤمن بوعد الله وبإنجاز ذلك الوعد في المصلح، لا يُحبِط من إيمانه استهزاءُ المستهزئين، ولا يُضعِف من يقينه ولا من أمله تكذيبُ المكذِّبين واستهزاؤهم, ﴿وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ (يوسف: 84), لاحظ هنا التشوُّق إلى أنْ عميت عيناه.
الغريب أنَّ البعض يأخذ علينا إظهارنا لمودَّة أهل البيت (عليهم السلام) والعزاء على مصائبهم، ويتناسون أنَّ القرآن أمرنا بهذه الفريضة العظيمة: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23)، وفسَّر القرآن الكريم المودَّة في سورة التوبة بأنَّها في مقابل العداوة، لتعرف الأشياء بأضدادها, فعندما يُفسِّر العداوة يكون القرآن قد فسَّر لنا المودَّة: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ (التوبة: 50), فإذا كان يعادي النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) فهو يفرح عند مصابهم, ويستاء عندما تصيبهم حسنة.
فالمودَّة هي: «يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا»(31), وهذه فريضة عظيمة قد أمرنا بها القرآن الكريم، فانظر مودَّة النبيِّ يعقوب (عليه السلام) للغائب ابنه الذي هو الموعود المُنجي للبشر، حيث بلغ منه الحزن والتعلُّق والتشوُّق إلى وليِّ الله إلى أنْ تبيضَّ عيناه ويعمى، فهل نستكثر البكاء والرثاء على سيِّد الشهداء (عليه السلام) سبط المصطفى وريحانة النبيِّ وسيِّد شباب أهل الجنَّة, أو نستكثر عليه اللطم وإظهار الجزع؟! فهذا النبيُّ يعقوب (عليه السلام) هكذا فعل بنفسه تجاه ولده, وهم كذلك يستكثرون علينا أنْ نتعلَّق بشدَّة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وإظهار الندبة والحزن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(31) كامل الزيارات (ص 204/ ح 291/7).

(١٠٥)

لفقده, فمع علم يعقوب (عليه السلام) بأنَّ ابنه الغائب يقوم بتلك الأُمور والأدوار المفصليَّة في نظام البشر، إلَّا أنَّه قال: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾, ولكنَّ المستهزئين والمهرِّجين قالوا: ﴿تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾, يعني أنت إلى الآن متعلِّق به! إلى الآن مؤمن به! إلى الآن لك أمل به! ﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾, أعلم من الله بأنَّ هذا الوعد بعلم من الله، ورؤيا الأنبياء وحي، والوحي من الله لا يكذب ولا يُكذِّب أنبياءه, ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ (يوسف: 84 - 87).
فهذا موقف مهمٌّ لوظائف المؤمنين بحجَّة الله الغائب في زمن الغيبة, أنْ لا يضعف إيمانهم ولا يضعف تعلُّقهم ما داموا على برهان وبيِّنة من ربِّهم, وأنَّ هذا الأمر وهذا التعلُّق وهذا الانشداد إلى وليِّهم الغائب لا يُؤثِّر فيه استهزاء المستهزئين أو تهريج المكذِّبين الذين لا يعون آيات الله وبيِّناته وحقائقه القرآنيَّة.
دروس تربويَّة من سورة يوسف:
النبيُّ يعقوب (عليه السلام) كان أمله وطيداً وشديداً, وذلك ليقينه بروح الله وبقدرته، وأنَّه لا يخلف وعده.
هذه كلُّها دروس في إثبات انتظار الفرج, وأنَّ انتظار الفرج أفضل أعمال هذه الأُمَّة كما ورد في الحديث النبوي. وأيضاً نلاحظ هناك درساً تربويًّا آخر يذكره القرآن الكريم في مواقف النبيِّ يعقوب (عليه السلام), ألَا وهو شدَّة تعلُّقه وانشداده بابنه الغائب الموعود بكونه المصلح المنجي المنقذ للبشريَّة، فمن شدَّة تعلُّقه به أنْ وصل به الأمر إلى كثرة البكاء، وكثرة البكاء جرَّت إلى ابيضاض

(١٠٦)

العين وهو عمى العين، ممَّا يُدلِّل على أنَّه يُفتدى في حبِّ الأولياء والحُجَج, ويُسترخَص في سبيل الفضيلة كلُّ غالٍ ونفيسٍ.
بل ويعظم ويكرم من شأنه أنْ يبذل في سبيل الفضيلة، فكيف بمن حثَّ الله على مودَّتهم وهم قربى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجعَلَها عِدل أجر الرسالة كما مرَّت بنا الآية الكريمة؟ ممَّا يُدلِّل على أنَّ هذه الشدَّة من التعلُّق مؤكَّدة وموطَّد لها كما في سُنَن الأنبياء (عليهم السلام) هو هذا التعلُّق من النبيِّ يعقوب بالنبيِّ يوسف (عليهما السلام) ليس تعلُّقاً لمجرَّد قدرة الخيال ومراحل الواهمة أو أُسطوريَّة الخيال وما شابه ذلك، بل هذه عِبَر وسُنَن أرادها الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يستنَّ بها الآخرون، إذ هو أنْ نقتدي بها من النبيِّ يعقوب (عليه السلام) في كيفيَّة تعلُّقه وحبِّه بالوليِّ الغائب الموعود، وهو وليُّ الله وحجَّته في ذلك الزمن وفي تلك الحقبة لإنجاء البشريَّة، وهذا درس تربوي، وهو أنَّ هذا الانشداد ولو بلغ إلى ابيضاض العين فهو محمود، وهذه فضيلة، وهذه مكرمة وكرامة، فكيف بالمودَّة التي قد أعظم الله في بيانها حيث جعلها عِدل الرسالة التي فيها التوحيد وفيها النبوَّة وفيها المعاد وفيها أُصول الدِّين حيث جعلها في كفَّة وجعل مودَّة أهل البيت (عليهم السلام) في كفَّة.
وهذا بيان وتعظيم كبير للمودَّة، فهي فريضة لا تعدلها بقيَّة الفرائض بعد التوحيد والنبوَّة والمعاد، فريضة المودَّة لذي القربى وهم أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا نوع من التشديد في بيانها وفي اقترانها، وقد بيَّن القرآن أنَّ من شواكل المودَّة اشتدادها, كالذي جرى بين النبيِّ يعقوب والنبيِّ يوسف (عليهما السلام)، فإنَّ من يريد أنْ يفهم سُنَن الله في أنبيائه والعِبَر التي يُوحي بها القرآن الكريم ليعلم بأنَّ هذا الدرب محمود العاقبة رفيع الفضيلة، وهو الذي أوصى به القرآن الكريم، فليس عليه من ذمِّ الذامِّين أو شنئ الحاقدين والمبغضين بعد ذلك من غضاضة، وهذه الوظيفة في الواقع هي التعلُّق بالإمام المهدي

(١٠٧)

الغائب (عجَّل الله فرجه)، كيف لا وهو آخر العترة من ذوي القربى، المأمورون نحن بمودَّتهم وبالتعلُّق بهم والاعتقاد بهم.
الظهور بعد الغيبة للنبيِّ يوسف (عليه السلام):
بعد ذلك تتواصل ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: 88 - 90), هذه المحطَّة من ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) التي هي نهاية الغيبة وبداية الظهور المعلن واكبت مرفقاً مهمًّا جرى بين النبيِّ يوسف (عليه السلام) وإخوته والملأ العامِّ، حيث إنَّ النبيَّ يوسف (عليه السلام) استهلَّ ظهوره وابتدأه بتذكير إخوته بالذي جرى منهم من قبل، هذا التعبير يشاكل ما ورد في الروايات عن ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه), حيث يُذكِّر الأُمَّة بما قد جرى على سيِّد الشهداء وما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) من ظلامات وجرائم ونهب حقوق وجرأة على مقامهم ودفعهم عن المقامات التي رتَّبها الله لهم، واستعراض لمصائب وظلامات أهل البيت (عليهم السلام)(32).
هذا الواقع يُسطِّره لنا القرآن الكريم عن يوسف وعن الإمام المهدي (عليهما السلام), وما ورد في الروايات هو نوع من بيان أنَّ الاستحقاقات تستوفى في ظلِّ ظهور المصلح المنجي المنقذ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(32) راجع ما ورد من حديث الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضَّل بن عمر بطوله في: الهداية الكبرى (ص 392 فصاعداً)، ومختصر بصائر الدرجات (ص 179 فصاعداً).

(١٠٨)

﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾, فهم لم يكونوا ليعرفوا أنَّه يوسف, رغم تعاطيهم معه ومداولة الحديث معه وتأثُّرهم بتدبيره ودوره العصيب الخطير المهمِّ، ومع ذلك لم يكونوا ليعرفوه لولا أنْ عرَّفهم هو بنفسه وبشخصيَّته وهويَّته، فكانت غيبة ظهور لشخصيَّته، غيبة ظهور لهويَّته, بالنسبة إليهم هو حاضر بين أيديهم يمارس دوره, لكنَّهم لم يكونوا يعرفونه, فهويَّته لهم كانت غائبة.
نلاحظ أنَّهم ابتدأوا: ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ﴾, فإنَّ بداهة حضور النبيِّ يوسف (عليه السلام) الغائب عليهم أكثر بياناً ووضوحاً وبداهةً لهم ممَّا يحملونه من مرتكزات سابقة، ممَّا يُدلِّل على أنَّ مثل هذه الغيبة في الحضور هي بنحو واضح بيِّن فاعل مع كلِّ الأُمور، غاية الأمر تطبيقهم لمن هو حاضر لهم ومتفاعل معهم وهم متفاعلون مع ما يحملونه من اعتقاد نظري، هذا الانفراج بالمعرفة لا يحصل إلَّا عند الظهور، فهنا وصل المطاف إلى إعلان ظهور النبيِّ يوسف (عليه السلام)، وظهوره كما نشاهده تدريجي، حيث إنَّ أوَّل ما بدأ ظهور النبيِّ يوسف كان في دائرة إخوته الحاضرين من الملأ من البشر عنده في مصر، ثمّ بعد ذلك تنامى هذا الظهور وتسامع به الناس ومن ثَمَّ أبوه النبيُّ يعقوب (عليه السلام)، وهذا يدلُّ على أنَّ الغيبة كما كانت في النبيِّ يوسف (عليه السلام) تدريجيَّة كذلك يكون ظهوره تدريجيًّا.
وهنا جاء تعبير النبيِّ يوسف (عليه السلام) في الصبر على طول مدَّة الاضطهاد، فإنَّ أجره عند الله تعالى لن يضيع, ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف: 90 - 92), وهذا ما قد قاله سيِّد الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما فتح مكَّة، نعم كان منه الصفح

(١٠٩)

والعفو، وهذا ما سيكون عليه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، إذ يسير بسيرة جدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في العفو, ومن أصرَّ من الأعداء المعاندين في اللجاج والخصومة فتكون سيرته معهم بشكل آخر, وإلَّا فالأصل في سيرة المهدي (عجَّل الله فرجه) أنَّه يسير بسيرة جدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنْ كان قد ورد أنَّ المصطفى بُعِثَ رحمةً والمهدي بُعِثَ نقمةً(33)، فالمقصود من ذلك أنَّه يسير بسيرة جدِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعفو ويصفح، لكن من يركب رأسه اللجاج والعناد ينتقم منه ولا يكون له مهلة كما قد كان في عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
الأسباب الملكوتيَّة:
قال تعالى على لسان النبيِّ يوسف (عليه السلام): ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (يوسف: 93), يُبيِّن القرآن الكريم هنا أيضاً أنَّ النبيَّ يوسف (عليه السلام) وأولياء الله يقومون بتدبير أدوارهم في جملة من المواقع بالأسباب الطبيعيَّة، لكنَّه بتدبير نظمي ربَّاني يفوق وعي البشر وعلمهم، ولكنَّه بأسباب طبيعيَّة وبأسباب مجريات، كما قيل: (أبى الله أنْ يجري الأُمور إلَّا بأسبابها), ولكن لهم أيضاً في جملة تدبيرهم من الأسباب الخفيَّة أو ربَّما يُطلَق عليها بأسباب الملكوت, فهنا ليست بمقام الإعجاز أو في مقام الاحتجاج، بل هي كرامة، لكنَّها كرامة تدبيريَّة في أدوار النبيِّ يوسف (عليه السلام) خارجة عن ظاهر الأسباب الطبيعيَّة.
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لَا أَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(33) من ذلك ما رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 8/ ص 233/ ح 306) بسنده عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا تَمَنَّى أَحَدُكُمُ اَلْقَائِمَ فَلْيَتَمَنَّهُ فِي عَافِيَةٍ، فَإِنَّ اَللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رَحْمَةً، وَيَبْعَثُ اَلْقَائِمَ نَقِمَةً».

(١١٠)

تُفَنِّدُونِ﴾ (يوسف: 94), يستعظم أكثر من يخلد إلى الحسِّ وسجن الحسِّ وأصالة الحسِّ والمادَّة مثل هذه الظواهر، أو يتنكَّر لمثل هذه الموارد، وربَّما يصعب عليه الإذعان بها, ﴿قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ (يوسف: 95), لاحظ أنَّه لا زال الذين يستهزئون بالانتظار للفرج في خصومتهم ومشادَّتهم ومواجهتهم لعقيدة الانتظار للفرج التي كان رسَّخها وسنَّها النبيُّ يعقوب(عليه السلام)، عقيدة الانتظار والأمل بوليِّ الله المصلح الغائب ظهوراً وليس الغائب حضوراً, فهم يعتبرونه ضلالاً. وهذه دروس قرآنيَّة عظيمة تُعطى للمؤمنين، مفادها أنَّ رغم استهزاء وتهريج المكذِّبين والمنكرين لآيات الله ولحقائق القرآن في وجود المصلح المنقذ المنجي للبشرية الذي ﴿يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (التوبة: 33)، هذا الوعد الإلهي والإيمان به لا يزلزله ذلك التهريج، وذلك الاستنكار، وتلك الخصومة، وتلك المعاداة عن هذه العقيدة القرآنيَّة بظهور المصلح المنجي المنقذ الموعود الذي يملأها قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
بعد ذلك تسرد لنا الآيات: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 96), هذا تذكير من المنتظِرين للفرج بظهور الوليِّ المصلح الحجَّة لأُولئك الناكرين الجاحدين المستهزئين, ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ﴾. هنا يأتي دور إخفاق المكذِّبين, ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ﴾ التي هي البشارة بالتمكين والظهور بعد الغيبة والتمكين لإصلاح الأرض من الفساد الذي كان ربَّما يعصف بالبشريَّة لولا تدبير النبيِّ يوسف (عليه السلام), ﴿مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ

(١١١)

أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ (يوسف: 97 - 101), الآيات الكريمة تواصل أخذ العِبَر من ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، وتأتي إلى هذا المقطع: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 109), تطرح آخر الآيات من سورة النبيِّ يوسف (عليه السلام) مقطعاً مهمًّا جدًّا، وهو: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ (يوسف: 110), اُنظر السُّنَّة الإلهيَّة أنَّه قد يطول الأمد في تحقيق الأمل الإلهي الموعود، ولكن لا يوجب ذلك الأياس، ولا اليأس من روح الله، لماذا؟ لأنَّه في النهاية ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ﴾ إذا انقطعت القدرة البشريَّة يكون هناك رحمة من الله (عزَّ وجلَّ).
مجمل سيرة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، وظاهرة المصلح المنجي الذي غاب في بدء حياته وترعرع إلى أنْ ظهر للتمكُّن في الأرض، تريد أنْ تُعطي هذا الدرس, وهو أنَّ الأمل الموعود من قِبَل الله في بشائره, كما هو بشارة لهذه الأُمَّة الإسلاميَّة أنْ يُظهر هذا الدِّين على الكرة الأرضيَّة كافَّة، ولن يتحقَّق هذا الوعد على يد أحدٍ غير أهل البيت (عليهم السلام)، حيث إنَّ الدِّين بدأ بأهل البيت (عليهم السلام)، بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ونصرة عليٍّ (عليه السلام)، وتدبير النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وابن عمِّه عليٍّ (عليه السلام)، بهم بدأ الإسلام وبهم يُختَم، هذا الوعد الإلهي لأنْ يُظهر دينه على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون مهما طال الأمد, هذه سُنَّة يريد أنْ يُركِّز مفهومَها القرآن الكريم في مجمل سيرة النبيِّ يوسف (عليه السلام)، من ظاهرة غيبة المصلح وظهوره بعد ذلك، ثمّ بعد ذلك عند

(١١٢)

الظهور يأتي كلُّ البأس الإلهي على المجرمين المعاندين المكابرين المكذِّبين المفسدين الظالمين، يأتي البأس الإلهي ويُطهِّر الأرض من بأسهم ويعمُّ ربوعها الإصلاحُ والعدلُ والقسطُ، فهذه سُنَّة إلهيَّة إذن، وما دام الإنسان يؤمن بالله لا ييأس من روح الله، وأنَّ الإيمان بالفرج وبالأمل الموعود وبالبشارة الإلهيَّة هو من الإيمان بالله تعالى، وبالإيمان بصدق قول الله وصدق وعده، فهذه سُنَّة مهمَّة يُؤكِّدها القرآن الكريم في غياب المصلحين الموعود بظهورهم، والمبشَّر بإصلاحهم للأرض وإنقاذهم البشريَّة, أنْ يكون الإيمان بهم في امتداد الإيمان بقول الله ووعده ونصره، فهذا إذن من ثوابت وأركان الإيمان بما كان يُؤكِّده القرآن الكريم.
واعلم - عزيزي القارئ - أنَّ هذه الآية الأخيرة في هذه السورة ليست مخصوصة بهذه السورة، بل هي من الآيات المحكمات كقاعدة عامَّة وكأصل عامٍّ قرآني في كلِّ القرآن في قَصَص وسُنَن الله في أنبيائه (عليهم السلام): ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾, لا ثرثرة ولا دعابة سمر ولا أساطير، وإنَّما عبرة وعِبَر عقائديَّة في الأُصول وليست عِبَر في الفروع، لأنَّ الشرائع ينسخ بعضها البعض، ولكن ليس ذلك في العقائد، ومجمل ما ذُكِرَ من الإيمان بالمصلح وغيبته ثمّ ظهوره محطَّات عقائديَّة, ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾, هذه العقيدة عقيدة المصلح والبشارة الإلهيَّة بإظهار الدِّين على الدِّين كلِّه على أرجاء الكرة الأرضيَّة كافَّة, هذه العقيدة التي بشَّركم بها القرآن الكريم اتَّعظوا بها ممَّا قد جرى من البشارة الإلهيَّة للنبيِّ يوسف (عليه السلام)، لأنَّه غاب وظهر وحقَّق ذلك الأمل والبشارة الإلهيَّة، ففيها تفصيل: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ (يوسف: 7), وهذا التعبير أيضاً: ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: 111).

(١١٣)

الظواهر القرآنيَّة وسُنَن الله (عزَّ وجلَّ) في الغيبة:
هنا ظواهر قرآنيَّة أُخرى دالَّة على ظاهرة غياب حُجَج الله, وهي كما أكَّدنا سابقاً غياب ظهور لا غياب حضور، وهم يظهرون بعد مضيِّ أمد مقدَّر من الله (عزَّ وجلَّ)، وستأتينا ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام)، ولكن قبل الاستمرار في ذلك نُؤكِّد أنَّ ما استعرضه القرآن من ظواهر عديدة، ركَّز على جانب من جوانب الحُجَج الموعودين بالظهور وإنقاذ البشريَّة، وإحدى الزوايا المهمَّة التي تُركِّز عليها العدسة القرآنيَّة هي ظاهرة غيبتهم وقيامهم بالأدوار في ظلِّ الغيبة، الأدوار الخطيرة العصيبة المهمَّة في مصير البشريَّة، رغم عدم معرفة البشريَّة بهويَّتهم، وبعد ذلك يصل قدر الله المقدور حين أوان ظهورهم.

نعم هذه الظواهر التي يستعرضها القرآن دواليك لا يفتأ يُركِّز عليها، ممَّا يُدلِّل على أنَّ الظاهرة المهدويَّة والغيبة - غيبة المهدي (عجَّل الله فرجه) في هذه الأُمَّة - من السُّنَن الإلهيَّة المهمَّة التي تحدث في هذه الأُمَّة على نسق ووتيرة ما حدث من هذه السُّنَّة الإلهيَّة في الأُمَم السابقة، فحينئذٍ ليس من المصادفة وليس من عدم الحسبان في التقدير الإلهي أنْ يُكرِّر ويُركِّز في السور القرآنيَّة العديدة على هذه الظاهرة - ظاهرة غيبة الحُجَج - لاسيِّما المبشَّرين الموعودين بالظهور، وأنَّهم في ظلِّ هذه الغيبة يقومون بأدوار ثمّ يظهرون، هذا التركيز من القرآن الكريم ليس مصادفة، بل عبرة كما مرَّ بنا في قوله تعالى في آخر سورة يوسف عندما استعرض القرآن الكريم ظاهرة البشارة للنبيِّ يوسف (عليه السلام) بأنَّه يُظهره الله في الأرض ويُمكِّن له ليكون مصلحاً وقد غاب غيبة طويلة الأمد إلى أنْ ظهر.
فهو تقدير ضمن محاسبات إلهيَّة مقدَّرة محسوبة, ﴿يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ (النساء: 26), السُّنَن السابقة يُبيِّنها الباري تعالى لأنَّها ستقع في هذه الأُمَّة, ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ

(١١٤)

سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَانْظُروا﴾ تلك السُّنَن, ﴿كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (آل عمران: 137), فهذه وغيرها من الآيات العديدة الدالَّة على أنَّ سُنَن الله تتكرَّر أيضاً، هذه حقيقة من الحقائق القرآنيَّة نعهدها في السور القرآنيَّة، مضافاً إلى ذلك ما مرَّ بنا في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ (يوسف: 111).
وهي عبرة أيضاً، ووعد لنا على نفاذ هذا الأمر: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ﴾ قد ذكر ذلك القرآن الكريم - الوعد الإلهي - في ثلاثة سور: في سورة الفتح، وسورة التوبة, وسورة الصفِّ, وهذه بشارة محتَّمة من الله (عزَّ وجلَّ) لهذه الأُمَّة، بأنْ يُظهر الدِّين دين سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أرجاء الكرة الأرضيَّة كافَّة, وقد ورد في روايات متواترة عند الفريقين أنَّ ذلك على يد رجل يواطئ اسمه اسم النبيِّ، من ذرّيَّة فاطمة وعليٍّ (عليهما السلام)، وذرّيَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
نعم, هذا الوعد الإلهي محتَّم في القرآن الكريم، وهذا أيضاً لسان رابع في الآية القرآنيَّة, وهو الذي مرَّ بنا أيضاً في بداية سورة (القَصَص: 5 و6): ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ﴾.
إذن هناك سُنَّة إلهيَّة دائمة تتكرَّر في الأُمَم، هي: أنَّ المستضعفين الصالحين يستخلفهم الله ويجعلهم الوارثين، هذا لسان رابع نجده في القرآن الكريم يُدلِّل على الظاهرة المهدويَّة.
وأيضاً من الآيات الأُخرى التي نشاهدها لسان خامس, وهو: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ﴾, وهو بيان للسُّنَن الإلهيَّة الدائمة في الإصلاح في الأرض، وأنَّ هناك مصلحين منقذين للبشريَّة من الظلم والفساد، في سورة (الأنبياء: 105):

(١١٥)

﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾, وهذه كتابة ثانية دائمة حتميَّة، كالتعبير الذي مرَّ في اللسان الرابع، إرادة إلهيَّة وكتابة لا معدِلَ لها ولا محوَ لها، أوَليست هي كتابة الله, وقد فسَّر ذلك المفسِّرون أنَّ الزبور ليس المراد منه زبور داود (عليه السلام)، بل زُبُر الأنبياء (عليهم السلام) أجمع، وهذه الآية سنقف عندها مليًّا بتوفيق من الله تعالى للتدليل على أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) مبشَّر في لسان جميع الأنبياء (عليهم السلام)، كما أنَّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشَّر به لإفشاء العدل والقسط في الكرة الأرضيَّة, وقرن اسمه باسمه في البشارة به, ﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 106).
وبيان سادس في القرآن الكريم متكرِّر أيضاً بكثرة بأنَّ العاقبة للمتَّقين، وليس المراد منها فقط العاقبة الأُخرويَّة، بل المراد منها العاقبة في الدنيا أيضاً، فقد جاء في سورة (الأعراف: 128): ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾, ونفس وراثة الأرض والتمكين فيها لإقامة الإصلاح والعدل والقسط فيها سُنَّة إلهيَّة، كذلك في سورة (الأعراف: 86): ﴿وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾, أي إنَّ المفسدين والمجرمين والظالمين مقطوع دابرهم بظهور المصلح المنقذ المنجي، هذه سُنَن إلهيَّة.
كذلك في سورة (يونس: 39)، وسورة (القَصَص: 40): ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾.
قد كتب الله أنَّ الظلم والفساد لا يدوم, بأمد ظهور المصلح المنجي، ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ (يونس: 73)، والملفت أنَّ في هذه السُّنَن الإلهيَّة تبيانَ نكتة مهمَّة جدًّا فيها، وهي أنَّ النهاية هي الصلاح والإصلاح في الأرض، وحتميَّة الصلاح والقسط وتفشِّي العدل، وأنَّ من السُّنَن الإلهيَّة أنَّ المراحل المتوسِّطة من عهود وأزمنة الأُمَم دوماً يكون المتغلِّب فيها كفَّة الظالمين

(١١٦)

والمفسدين، ولكن العقبى تكون للمصلح المنجي، وهذه سُنَّة فيها بصائر قرآنيَّة جمَّة، على أنَّ العهود الوسطى المتخلِّلة تكون فترات الظلم والفساد وغلبة الظالمين والمفسدين، إلَّا أنَّ العاقبة تكون بظهور المصلح المنجي، إذن هذه سُنَّة دائمة إلهيَّة، بدء الأُمَم بأنبيائها وهدايتها بالرُّسُل، وتتلوها الفترات المتوسِّطة والطويلة الأمد بيد الظالمين المفسدين ومكابدة المستضعفين الصالحين، ولكن العقبى بظهور المصلح المنقذ المنجي، إذن هذه سُنَّة إلهيَّة دائمة موجودة، فتأكيد القرآن الكريم على عدم الاغترار بالمرحلة المتوسِّطة الآنية الحاضرة, بل لا بدَّ من الاعتقاد بالعاقبة والمآل لظهور الحقِّ، وعاقبة المتَّقين بظهور المصلح المنجي.
وهذه آيات عديدة من نفس هذه الحقيقة السادسة التي كرَّرها القرآن الكريم في سورة (آل عمران: 137)، وأيضاً في سورة (النحل: 36): ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾. ولا استمرار ولا دوام للمكذِّب بالحقائق الإلهيَّة، وبالغيب الإلهي، وبالوعد الإلهي بظهور الصلاح والإصلاح، وإنْ طالت مدَّته, فإنَّ الله يمهل ولا يهمل, ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ (طه: 132), ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128)، وكذلك: ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ (القَصَص: 37).

* * *

(١١٧)

ظاهرة ثالثة يستعرضها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف، وهي ظاهرة الخضر (عليه السلام) في مطلع سورة الكهف, ومطلع كلِّ سورة يُحدِّد المسار في تلك السورة، كما ذكر ذلك جملة من المحقِّقين المفسِّرين لاسيَّما من الإماميَّة من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
إنَّ بدايات سورة الكهف كما في هذه الآية: ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف: 6)، قد تضمَّن تأثُّر واغتمام واهتمام النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الشديد بمصير الرسالة والإيمان بهذا الدِّين الذي بُعِثَ به، فمطلع السورة هو المحور الأصلي الذي تدور حوله مقاطع السورة الكريمة سورة الكهف كافَّة، وربَّما يقال: إنَّ سورة الكهف فيها من الأسرار والمعارف ما هو حريٌّ بالإمعان والتدبُّر المليء الطويل المديد المستغرق فيها، فإنَّ مطلع السورة حول مصير الرسالة واهتمام واغتمام النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حول مصير رسالته، التي وعد الله بأنْ يُظهرها على الدِّين كلِّه، إلَّا أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أشفق على مصير هذا الدِّين، وعلى مصير هذه الرسالة نتيجة وجود المنافقين والمناوئين والأعداء، ووجود متزلزلي الإيمان وضعاف النفوس، وقد مرَّ بنا في الحديث عن السُّنَن الإلهيَّة أنَّ العاقبة تكون للمتَّقين، وإلَّا فإنَّ المراحل المتوسِّطة دوماً في السُّنَن الإلهيَّة مؤهَّلة للظلم وللفساد، حينئذٍ يكون مصير هذا الدِّين مع الموعود أيضاً بإظهاره وغلبته على الدِّين كلِّه، هذا هو المحور الأصلي في هذه السورة, اهتمام واغتمام النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمصير الدِّين.

(١٢١)

ضمان بقاء الدِّين:
أوَّلاً: الفطرة:
لكن الباري تعالى يذكر عدَّة نماذج لطمأنة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حول مصير الدِّين، فذكر نموذج أصحاب الكهف، ثمّ استعرض استخلاف آدم من باب النموذج الأوَّلي في خليفة الله في الأرض، ثمّ استعرض لقاء النبيِّ موسى مع الخضر (عليهما السلام)، وهذه الصلة الوطيدة الوثيقة بين استخلاف الله تعالى لخليفة في الأرض: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30), حيث ذكر هذا في هذه السورة بعد قصَّة أصحاب الكهف، وقصَّتهم تُمثِّل الهداية الفطريَّة من الله (عزَّ وجلَّ) للأُمَم وللبشريَّة, «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى اَلْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونُ أَبَوَاهُ هُمَا اَللَّذَانِ يُهَوِّدَانَهُ وَيُنَصِّرَانَهُ وَيُمَجِّسَانَهُ», كما ورد في الحديث الشريف(34)، فإذن الهداية الفطريَّة أحد ضمانات بقاء الرسالة، وهي ما استعرضه لنا القرآن الكريم في سورة الكهف حول أصحاب الكهف، وهذا نموذج أوَّل يذكره القرآن الكريم لطمأنة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حول مصير الرسالة.
ثانياً: وجود خليفة الله في الأرض:
الضمانة الثانية التي تستعرضها سورة الكهف هي وجود خليفة لله في الأرض وعدم انقطاعه, بل هو سُنَّة دائمة إلهيَّة من بدء خليقة البشر إلى يوم القيامة، أي ما دام البشر موجوداً على وجه البسيطة، كما قال تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)، فلم يكن التعبير القرآني: إنِّي جاعل في الأرض رسولاً، أو إنِّي جاعل في الأرض نبيًّا، أو إنِّي جاعل في الأرض آدم خليفة ليُخصَّص ذلك بخصوص النبيِّ آدم، كلَّا, إنَّما هي معادلة دائمة, سُنَّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(34) مجمع البيان (ج 8/ ص 59).

(١٢٢)

إلهيَّة دائمة دائبة مستمرَّة لا تقويض لها، ومن ثَمَّ يأتي بعد ذلك تساؤل الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (البقرة: 30), يعني مع وجود الطبيعة البشريَّة، تقرن الطبيعة البشريَّة على وجه الأرض بالخليفة, خليفته الذي يستخلفه الله للتدبير والقدرة.
فوجود الخليفة في الأرض وسُنَّة استخلاف الله ضمانة ثانية لبقاء الدِّين، ومن ثَمَّ لم يقل النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا خليفة بعدي, وإنَّما قال: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي», إنَّما هو انقطاع النبوَّة لا انقطاع للخلافة الإلهيَّة، لأنَّها سُنَّة دائمة دائبة مستمرَّة إلى يوم القيامة، بل أكَّد ذلك في الحديث النبوي أنَّ «اَلْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ», وفي بعض ألفاظ الحديث: «مِنْ هَذَا اَلْبَطْنِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ».
ثالثاً: لقاء موسى والخضر (عليهما السلام):
ويذكر ضمانة ثالثة لها صلة بوجود الخليفة في الأرض, وهي لقاء موسى والخضر (عليهما السلام)، وهنا نستعرض هذه الظاهرة.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً﴾ (الكهف: 60 و61), فقد ورد في روايات الفريقين في تفسير المفسِّرين تبيان وتفسير لهذه الظاهرة.
﴿فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً﴾, كان فتاه يوشع وصيَّ النبيِّ موسى (عليه السلام), ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً﴾ (الكهف: 62 - 65), هنا بداية اللقاء.

(١٢٣)

في مطلع هذه الآيات ما يدلُّ على ذلك، كما ذُكِرَ ذلك في روايات الفريقين وذكره المفسِّرون من الفريقين، أنَّ مجمع البحرين وانسياب الحوت وهو السمك الذي كان غداء للنبيِّ موسى ووصيِّه يوشع بن نون (عليهما السلام)، وهذه الحادثة كانت علامة لموضع لقاء النبيِّ موسى بالخضر (عليهما السلام)، علامة من الله(35).
اُنظر هذا التدبير الأمني الخفي, إنَّ لقاء النبيِّ موسى (عليه السلام) وهو نبيٌّ من أُولي العزم ورسول مع الخضر قد أُحيط بتمام السرّيَّة والخفاء والبرمجة الأمنيَّة، بحيث وُضِعَت شفرة خاصَّة بين الله والنبيِّ موسى والخضر (عليهما السلام), يلقى فيها الخضر من دون أنْ يعلم حتَّى وصيُّ النبيِّ موسى (عليه السلام) وهو فتاه يوشع بن نون الذي كان معه، أجواء أمنيَّة شديدة السرّيَّة, هذا جانب من جوانب الغيبة، وهو الستار الأمني. الغيبة التي يطرحها القرآن الكريم في الواقع في أوليائه هي عبارة عن حفاظ وحراسة أمنيَّة لأولياء الله الذين عهد إليهم الأدوار الخاصَّة، إذن هذه الظاهرة الآن نراها مطويَّة ومشحونة بشفرة أمنيَّة خاصَّة، لاسيَّما من لديه مزاولة في علوم الإدارة الأمنيَّة والتدبير الاستراتيجي الأمني، يلتفتون إلى أنَّ مثل هذه اللقطات كلَّها عبارة عن شفرات ومصطلحات رمزيَّة، إنَّه الوعد الإلهي في لقاء النبيِّ موسى والخضر (عليهما السلام) عند مجمع البحرين.
ثمّ لا بدَّ أنْ تحدث علامة أُخرى تنظمُّ إلى مجمع البحرين، وهو انسياب السمك في البحر، هذه علامة أُخرى كما يقال، أو رؤية النبيِّ موسى (عليه السلام) لرجل مستلقي على قفاه قد تغطَّى بردائه، تشفير أمني لا يستطيع أنْ يطَّلع عليها الأغيار، لا يستطيع الاطِّلاع عليها من لا يُراد اطِّلاعه.
إذن الخضر قد أُحيط بسياج شديد من الستار، إنَّ تغييب الله لأوليائه لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(35) راجع: مجمع البيان (ج 6/ ص 360)، تفسير الرازي (ج 21/ ص 143).

(١٢٤)

يعني أنَّ ذلك كما هو في نهج البشر قد تتخلَّله خروقات أمنيَّة، بل هو سياج وحفاظ وحراسة إلهيَّة لا يمكن أنْ تُخترَق إلَّا بإيعاز ربَّاني من الله (عزَّ وجلَّ).
نعم بعد ذلك تواصل الآية الكريمة: ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 64 و65), هنا بدء اللقاء بين الخضر والنبيِّ موسى (عليهما السلام)، وهنا يُعرِّف القرآن الكريم الخضر، ما هي الهويَّة الشخصيَّة والبطاقة الشخصيَّة التي يُعرِّف بها القرآن الكريم الخضر؟ لم يُعبِّر عن الخضر بالنبيِّ أو بالرسول، ولم يُعبِّر عنه بإمام، ولكن عبَّر عنه بما يقرب من الاصطفاء والحجّيَّة, ﴿فَوَجَدَا﴾ أي موسى ويوشع بن نون (عليهما السلام)، ﴿عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾ هي صفة العبوديَّة الكاملة لديه، وهي صفة الطاعة والطهارة والاصطفاء، أي نوع من العصمة، لأنَّه وُصِفَ بهذا الوصف، وهو من قمم الأوصاف للفرد البشري، أنْ يبلغ مرتبة العبوديَّة الكاملة لله، ومن ثَمَّ كان من أوصاف القمميَّة لسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ (الإسراء: 1)، وهذا مقام عبوديَّة للمصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يبلغه بشر، لأنَّه أُضيف إلى ضمير (هو) الذي يُمثِّل غيب الغيوب. وهنا لم تُعرِّف التحديدات القرآنيَّة البطاقة الشخصيَّة للخضر بأنَّه نبيٌّ أو رسول، وإنَّما عرَّفته بـ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾, فهل هذا العبد نظير بقيَّة البشر؟ كلَّا، وإنَّما ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾, فلديه علم لدنِّي, وهو اصطلاح قرآني, ليس نبوَّة وليس رسالة، وإنَّما هو حجّيَّة بتزويد ذلك العبد العلم اللدنِّي.
ظاهرة الخضر (عليه السلام) وصلتها بضمان ظهور الدِّين وبقائه:
قصَّة الخضر التي سطَّرها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف لها صلة وثيقة بديمومة هذا الدِّين في هذه الأُمَّة، وفي هذه الحُقَب البشريَّة وفي أرجاء

(١٢٥)

الأرض إلى يوم الظهور الموعود للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، حيث يُبسط الدِّين على أرجاء الكرة الأرضيَّة كافَّة.
إذن لا بدَّ أنْ يلتفت القارئ الكريم والمسلم والمؤمن إلى هذه القصَّة حينما يقرأها في سورة الكهف, إنَّها ذات صلة بالمحور الأصلي في سورة الكهف، وهو كيفيَّة تأمين انتشار هذا الدِّين وبقائه إلى اليوم الموعود لظهور دين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على يد أحد ذراريه من ذراري فاطمة وعليٍّ (عليهما السلام)، وهو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
إذن ما يكتشف من تركيز القرآن الكريم في ظاهرة الخضر أنَّها ذات صلة وثيقة جدًّا وخطيرة ومهمَّة، وبالغة الأهمّيَّة يجب أنْ يتفطَّن إليها قارئ القرآن الكريم، وهي أنَّ ما يستعرضه القرآن من ظاهرة ثالثة في سورة الكهف, بل عدَّة ظواهر من أصحاب الكهف ومن استخلاف الخليفة وما له صلة بوجود الخليفة في الأرض من كونه مصدر ديمومة وبقاء هذا الدِّين, حيث استعرض لنا القرآن في سورة الكهف هنا استخلاف آدم كنموذج أوَّل لقافلة خلفاء الله في الأرض, ممَّا يُدلِّل على استخلاف الله بعد نبيِّه سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خلفاء من الله ومن رسوله، وهم الذين أنبأ عنهم النبيُّ في حديثه المعروف بين الفريقين: «لَا يَزَالُ هَذَا اَلدِّيِنُ عَزِيزاً مَنِيعاً يُنْصَرُونَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى اِثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً»(36)، وإنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أفاض به وألقاه إلى المسلمين في مواطن عديدة، فمن الألفاظ التي ورد بها هذا الحديث النبوي الشريف قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنَّ هَذَا اَلدِّينَ لَنْ يَزَالَ ظَاهِراً عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ، لَا يَضُرُّهُ مُخَالِفٌ، وَلَا مُفَارِقٌ، حَتَّى يَمْضِيَ مِنْ أُمَّتِي اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً»(37), مفاد هذا الحديث النبوي الشريف في الخلفاء الاثني عشر في بعض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(36) الخصال (ص 470/ ح 17)، مسند أحمد (ج 34/ ص 471/ ح 20926).
(37) مسند أحمد (ج 34/ ص 409 و410/ ح 20814).

(١٢٦)

ألفاظه التي وردت من طُرُق متطابقة عيناً مع مفاد سورة الكهف، إذ يقول تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف: 6), هو حديث الدِّين، فوجوب بقاء الدِّين وحراسته تكون باستخلاف الله (عزَّ وجلَّ) خليفة له بعد نبيِّه في الأرض، وهم الخلفاء الاثنا عشر كما حدَّثتنا بذلك سورة الكهف قبل استعراضها لظاهرة الخضر.
وكذلك في ظاهرة أصحاب الكهف تجد الهداية الفطريَّة من الله (عزَّ وجلَّ)، هذا النبض الدائم الموجود في الفطرة البشريَّة، وحتَّى في الشعوب الغربيَّة والشعوب الآسيويَّة تجد أنَّ الفطرة تنبض, فرغم هذا السيل من التثقيف القالِب للحقائق تبقى الفطرة تنبض وترفض وتأبى سياسة أنظمتها الغاشمة، فهداية الفطرة هذه من ضمانات بقاء الدِّين والإسلام، وهو دين الفطرة، ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ (الروم: 30).
فأوَّل ضمانة استعرضتها سورة الكهف هي الهداية الفطريَّة كما حصلت لأصحاب الكهف.
أمَّا الهداية الثانية أو الضمانة الثانية التي استعرضتها سورة الكهف لبقاء الدِّين الحنيف هو وجود الخليفة، ولذلك استعرضت استخلاف آدم قبل استعراضها لظاهرة الخضر، والتسلسل الذي في سورة الكهف تسلسل إعجازي في الضمانات لبقاء الدِّين، فالضمانة الأُولى التي ذُكِرَت في سورة الكهف لوَجَل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بقاء الدِّين هي حراسته بالهداية الفطريَّة في نفوس عامَّة البشر، والتي ألهمها الله (عزَّ وجلَّ) في كلِّ البشر، ومنهم أصحاب الكهف، فإنَّهم لم يُبعَث فيهم رسول ولا نبيٌّ ولا إمام ولا صفي ولا حجَّة لله، ولكن هدايتهم كانت عبر نفس فطرهم, «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى اَلْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونُ أَبَوَاهُ هُمَا اَللَّذَانِ يُهَوِّدَانَهُ وَيُنَصِّرَانَهُ وَيُمَجِّسَانَهُ».

(١٢٧)

وهنا لا يزال التبيان للدِّين الإسلامي لاسيَّما من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والتي هي الرؤيا الواسعة العميقة لدين الإسلام ينافس أيَّ خطاب بشري آخر في التنظير.
رابعاً: ذو القرنين ظاهرة الحكم العلني:
الضمانة الرابعة التي تطرحها هي ظاهرة ذي القرنين، ظاهرة ذي القرنين هي الوصول إلى منصَّة الحكومة في العلن، واستتباب القدرة المهيمنة على أرجاء الأرض، وهو ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه)، فهذا رمز في الظاهرة الرابعة، رمز قرآني، وبيان قرآني بيِّن عن مرحلة الظهور، إذن سورة الكهف هي طمأنة لهذا الوجل النبوي، وهذا المحور الأصلي من بقاء الدِّين, وقد صرَّح ابن كثير صاحب التفسير عندما وصل إلى تفسير الآية (12) من سورة المائدة: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾، قال بعد أنْ أورد حديث: (الخلفاء الاثني عشر), وأقرَّ بأنَّه الثاني عشر: (والظاهر أنَّ منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره، فذُكِرَ أنَّه يواطئ اسمه اسم النبيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم))(38)، وليس ابن كثير فقط ذكر ذلك، بل عشرات من علماء أهل السُّنَّة أقرُّوا بأنَّ الثاني عشر من الخلفاء ينطبق على المهدي الموعود (عجَّل الله فرجه).
خلاصة ما سبق:
ونذكر أنَّ بقاء الدِّين له أربع دعامات:
الدعامة الأُولى: هي من أهمّ الدعامات, وهي الهداية الفطريَّة, كما ورد في حديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى اَلْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونُ أَبَوَاهُ هُمَا اَللَّذَانِ يُهَوِّدَانَهُ وَيُنَصِّرَانَهُ وَيُمَجِّسَانَهُ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(38) تفسير ابن كثير (ج 2/ ص 34).

(١٢٨)

الدعامة الثانية: وجود الخليفة، وهي الهداية من الخارج، خارج أفراد البشر كنصب الإمام، لذلك استعرضت سوره الكهف قصَّة استخلاف آدم كنموذج لخلفاء الله بعد استعراضها لنموذج أصحاب الكهف، وهذه الدعامة الثانية قد مرَّت كما في الحديث النبوي(39).
الدعامة الثالثة: ظاهرة الخضر, والتي سنخوض فيها بشكل مفصَّل إنْ شاء الله، والتي عنوانها: رجال الغيب، أي الرجال الذين هم أولياء لله ضمن مجموعة ومنظومة وشبكة تقوم بأدوار قطبها خليفة الله في الأرض وهو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), هذه المجموعة تلتفُّ في منظومة حول خليفة الله في الأرض كظاهرة ثالثة تقوم بأدوار وبرامج إلهيَّة تقع في المفاصل المهمَّة لمسير البشر من حيث لا يشعر البشر بأدوارهم، وهذه بيعة الخفاء الذي هم فيه، هذه الظاهرة الثالثة حاليًّا سنخوض فيها بشكل مفصَّل.
الدعامة الرابعة: هي مرحلة الظهور لذي القرنين, وكما ورد في الروايات أنَّه قد مَلَك الأرض(40)، اثنان صالحان واثنان ظالمان، ظالمان كنمرود وفرعون، وصالحان كسليمان وذي القرنين، وهم نماذج لملك التدبير الذي سيُولِّيه الله (عزَّ وجلَّ) في العلن للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الظهور، فظاهرة ذي القرنين كدعامة رابعة تُبيِّن نهاية المطاف، والذي ذُكِرَت في السورة رابعة الظواهر.
ظاهرة رجال الغيب:
الظاهرة الثالثة التي نتكلَّم فيها حاليًّا هي وجود مجموعة ومنظومة تقوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(39) أي حديث النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنَّ الخلفاء من بعده اثنا عشر, وقد تقدَّم.
(40) من ذلك ما رواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 5/ ص 70/ باب دخول الصوفيَّة على أبي عبد الله (عليه السلام).../ ح 1) في حديث طويل، قَالَ: «ثُمَّ ذُو اَلْقَرْنَيْنِ عَبْدٌ أَحَبَّ اَللهَ فَأَحَبَّهُ اَللهُ، وَطَوَى لَهُ اَلْأَسْبَابَ، وَمَلَّكَهُ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَكَانَ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ...».

(١٢٩)

بأعمال خفيَّة وفي ستار الغيب وتُسمَّى برجال الغيب, ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾, إذن ليس هو عبد واحد له هذه البطاقة القرآنيَّة الخاصَّة في تعريفه، بل هو من ضمن مجموعة هويَّتها القرآنيَّة حسب ما يُبيِّن القرآن الكريم: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾، إذن لديه رحمة لدنّيَّة من عند الله (عزَّ وجلَّ)، ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65), هذه المجموعة ليست أدواتها العلميَّة عبر الأدوات والأسباب الطبيعيَّة في تحصيلها للعلم، وفي استخدامها لسلاح العلم كأداة تدبيريَّة، كما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «اَلْعِلْمُ سُلْطَانٌ مَنْ وَجَدَهُ صَالَ بِهِ وَمَنْ فَقَدَهُ صِيلَ عَلَيْهِ»(41), فهذا العلم الذي لديهم ضمن هذه المجموعة كما يُحدِّثنا القرآن الكريم في هذه السورة في الدعامة الثالثة، هو وجود مجموعة لها هذه المواصفات تعيش في ستار الخفاء والسرّيَّة، ومن ثَمَّ ورد في التعابير الروائيَّة أنَّها قد يُعبِّر عنها كثير من كُتُب العلوم الإسلاميَّة بـ(رجال الغيب)، وهي ظاهرة مهمَّة جدًّا، ولها صلة وثيقة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته، إذ هذه المعادلة ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)، كما مرَّ بنا معادلة ذكرها القرآن الكريم في سبع سور(42)، ومنها سورة الكهف, استخلاف الله لخليفة, ليست بنبوَّة, ولا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(41) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 20/ ص 319/ ح 660).
(42) والموارد السبعة هي:
1 - قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 31).
2 - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ (الأعراف: 11).
3 - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر: 28 و29).
4 - وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً﴾ (الإسراء: 61).
5 - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ (الكهف: 50).
6 - قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى﴾ (طه: 116).
7 - قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (ص: 71 و72).

(١٣٠)

رسالة، بل تلك مقامات إلهيَّة ومناصب إلهيَّة ولكن ليست دائمة، بل قُطِعَت وخُتِمَت بسيِّد الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَا نَبِيَّ بَعْدِي», ولكن لم يرد في الحديث النبوي أنَّه لا خليفة بعدي، بل ورد: «اَلْخُلَفَاءُ بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ»، وهم الخلفاء الذين حدَّثنا القرآن الكريم في قوله الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾، فحينئذٍ هذه المجموعة لها صلة بالخليفة كدعامة ثالثة ذكرها القرآن الكريم في سورة الكهف بعد الدعامة الثانية.
﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾, لماذا لم يقتصر القرآن الكريم في قوله تعالى هنا في هذه الآية: (فوجدا عبداً آتيناه...)؟ ولماذا ركَّز القرآن الكريم في بيان أنَّ هذا العبد هو ضمن مجموعة أفراد بشريَّة وصلوا إلى درجة العبوديَّة والطاعة والتقوى بدرجة فائقة حيث أُهِّلوا لمثل هذه البرامج والمأموريَّات الإلهيَّة الخاصَّة الخفيَّة، إذن القرآن الكريم يريد أنْ يُركِّز في هذه الآية على أنَّ هذا فرد من مجموعة وليس هو فرداً واحداً.
والظريف أنَّ ما سيأتي في إجابات الخضر للنبيِّ موسى (عليه السلام) فيما قد خفي سرُّه وغايته وهدفه وعاقبته على النبيِّ موسى (عليه السلام) ممَّا ينبئه الخضر ردَّد التعبير

(١٣١)

وكرَّره بقوله فيما سيأتي: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا﴾ (الكهف: 81), لم يقل: (فأردت), لو كان يريد بهذه الإرادة إرادة عن نفسه فمن غير المناسب مع الخضر وهو بذلك المقام الذي عرَّفه الله أنَّه آتاه رحمة من عنده وعلَّمه من لدنه علماً أنْ يتبجَّح بتعظيم وتفخيم نفسه فيقول: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا﴾, بل هو يتكلَّم عن إرادة مجموعيَّة ضمن نفس مجموعة هذه المنظومة، هذه الشبكة الخفيَّة التي ينبئنا بها القرآن الكريم. هذه الظاهرة ظاهرة الخضر مع مجموعته ومنظومته التي تدور حول خليفة الله في الأرض وذكرها القرآن الكريم لطمأنة نبيِّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ دينه باقٍ بهذه المجموعة، باقٍ بهذه الشبكة، التي تدور في حلقات دائريَّة حول قطبها، وهو خليفة الله في الأرض, كما حدَّثتنا بذلك أيضاً سورة الكهف في الدعامة الثانية لبقاء دين النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فهنا تقصُّد واضح من ربِّ العزَّة في هذه العبارة الشريفة من الآية الكريمة: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾, إذن هي مجموعة، وأنَّ الخضر هو واحد ضمن مجموعة ومنظومة من رجال الغيب يقومون بأدوار.
هويَّة رجال الغيب:
والبطاقة والهويَّة الشخصيَّة لهذه المجموعة ولهذه المنظومة أنَّ لديها علماً لدنّيًّا تتَّصل مع بعضها البعض، وتقوم بالأدوار بالتنسيق فيما بين بعضها البعض بواسطة العلم اللدنِّي، وليس هو علم عبر الآلات وعبر الإنترنت أو عبر الأقمار الصناعيَّة أو عبر ذبذبات الأثير في الهواء التي يمكن التغلُّب عليها واختراقها, وإنَّما عبر العلم اللدنِّي, هذا الذي لا يصل إليه البشر، وهو الذي يُوحِّد أدوار هذه المجموعة وهذه المنظومة بحسب نصِّ القرآن الكريم، ومن ثَمَّ تكون هذه في تمام الخفاء والسرّيَّة، وممَّا لا يمكن اختراقه، أو ما لا يمكن التغلُّب عليه.

(١٣٢)

وهذه المجموعة هي حراسة ضمانيَّة لبقاء الدِّين بأيدٍ بشريَّة. هذا الذي نذكره كلُّه من إفادات وجواهر روايات أهل البيت (عليهم السلام), فهم الذين نبَّهونا وأرشدونا إلى مثل هذه الحقائق العلميَّة الموجودة في ظهور القرآن الكريم, وطريقة اللقاء بين النبيِّ موسى (عليه السلام) وهو المستأمَن من الله على خلقه وصاحب شريعة، مع فرد من تلك المجموعة كان عبر تشفير علامة أمنيَّة خاصَّة لم يفشها النبيُّ موسى (عليه السلام) حتَّى إلى يوشع بن نون فتاه ووصيُّه، اُنظر السرّيَّة، هكذا يُحدِّثنا القرآن الكريم, أنَّ تلك العلامتين وهما: مجمع البحرين ونسيان الحوت لم يكن يدري بها حتَّى فتى موسى (عليه السلام), وكان موسى (عليه السلام) هو وحده الذي أعلمه الله تعالى بهما، هذه كلُّها مؤدّيات ومفادات يُبرزها لنا القرآن الكريم، ويُبيِّنها لنا ويُلوِّح بها. فهذه تُعطي بصمات ودلالات على أنَّ هذه المجموعة هي في تمام الخفاء والحراسة الإلهيَّة من جهة التخفِّي ومن جهة استتار الخلفاء, والغيب المقصود هنا هو غيب المعرفة بهم، غيب الشعور بهم, وهو بهذا المعنى غائب عن علم البشر، غائب عن معرفة البشر.
يُبيِّن لنا القرآن الكريم أنَّ هذه المجموعة تزاول أدواراً مهمَّة عصيبة مفصليَّة في مسار البشر في ظلِّ ستار الخفاء. ومن هنا يتَّضح أنَّ قيام أيِّ مولى من أولياء الله وحجَّة من حُجَج الله بالمسؤوليَّة الإلهيَّة ودوره في حفظ النظام البشري ليس مشروطاً بأنْ يكون ظاهراً مشهوراً شخصه، بل ولو كان خفيًّا مستوراً فإنَّه يتحرَّك بسرّيَّة ويقوم بأدواره بالتنسيق مع هذه المجموعة، فإنَّ هذا هو نوع من الاضطلاع والأداء للمسؤوليَّة، هذا هو منطق القرآن، هذا هو بيان القرآن بعدم التلازم بين قيام الإمام بأدواره وكونه ظاهراً في العلن، وكونه مشهوراً أو معروفاً. وهناك ظواهر عديدة مرَّت بنا وستمرُّ أيضاً تدلُّ على ذلك كما في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) وغيبته. وهذه الدعامة الثالثة لحفظ الدِّين تابعة وتلحق

(١٣٣)

بالدعامة الثانية، وهي أنَّ لله خليفة في الأرض، إذن هذه المجموعة تدور في تنسيق شبكي مع خليفة الله في الأرض, كما هو مقتضى سياق السورة بعد أنْ ذكرت الهداية الفطريَّة، لأنَّ اللطف من الخارج للإنسان لا ينفع الإنسان ما لم يكن في داخله وفي ذاته فطرة تهديه, ثمّ تُكمَّل هذه الفطرة الهداية من الخارج, فما لم يكن عقل مطبوع، فلا ينفع العقل المستفاد والمكتسَب(43).
إذن علاقة هذه الظاهرة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لكونه خليفة لله (عزَّ وجلَّ) بضرورة جملة من الآيات الكريمة الدالَّة على بقاء أهل البيت (عليهم السلام) كحجَّة للبشر - ربَّما نستعرض أكثرها لاحقاً - وأنَّهم المبيِّنون للقرآن، الراسخون في العلم: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (آل عمران: 7), ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة: 77 - 79), وأهل آية التطهير هم أهل البيت (عليهم السلام)، يدلُّ على أنَّ هذين عِدْلان ثِقْلان مقترنان مع بعضهما البعض إلى يوم القيامة بنحو ثابت مستمرٍّ, ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30).
فهذه المجموعة لها صلة بخليفة الله، لأنَّ الآية في صدد بيان الضمانات الإلهيَّة لحراسة وبقاء الدِّين، وهذا لا يتحقَّق إلَّا بوجود الخليفة، وهو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مع هذه المجموعة المباركة.
وبيان آخر لهذه الصلة، وهو الذي مرَّ بنا أيضاً أنَّ هناك حُجَجاً لله وأولياء وأصفياء يقومون بأدوار، لكن في ظلِّ الستار والخفاء، في ظلِّ ستار غيبة الشعور بهم، فالقرآن الكريم من استعراضه لهذه الظاهرة يريد أنْ يُثبِّت منطقاً مهمًّا، هذا المنطق هو الذي توصَّلت إليه البشريَّة في القرون الأخيرة، من أنَّ القيام بأدوار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(43) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «اَلْعِلْمُ عِلْمَانِ: مَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعٌ، وَلَا يَنْفَعُ اَلمَسْمُوعُ إِذَا لَمْ يَكُنِ اَلمَطْبُوعُ». نهج البلاغة (ص 534/ ح 338).

(١٣٤)

يمكن أنْ يتمَّ في ظلِّ الخفاء، ويتمَّ في ظلِّ السرّيَّة، وليس هناك أيُّ ضرورة تلازم بين القيام بالأدوار المهمَّة المصيريَّة وبين الانكشاف والظهور في العلن، بل يمكن أنْ يقوم الحجَّة بهذه الأدوار في الخفاء، وهذا ينكشف من خلال الصلة بين ظاهرة الخضر ومجموعته، مع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته.
لقاء موسى بالخضر (عليهما السلام):
كم هي سطحيَّة وخاوية تلك الإشكالات وذلك التهريج الذي يواجه بها الخصوم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، والتي مفادها: كيف يكون الإمام مع كونه إماماً معيَّناً من الله غائباً أكثر من ألف سنة؟ وفهمهم للغيبة بمعناها الخاطئ طبعاً, وهو أنَّه المبتعد عن ساحة التدبير, المنكفئ عن التصدِّي لإدارة الأمن، في حين أنَّ الغيبة تعني الخفاء، وأنَّه يقوم بأدوار خفيَّة مهمَّة في مسير البشر من دون أنْ يعلم به الآخرون، ومن دون أنْ يعلم به حتَّى الكثير من النخبة البشريَّة، بل هاهنا النبيُّ موسى (عليه السلام) لم يتوصَّل إلى الالتقاء بفرد من هذه المجموعة إلَّا عبر شفرات أمنيَّة نصبها وأخطرها الله وأشار بها إلى موسى (عليه السلام) كي يصل إلى ذلك الفرد البشري، يعني أنْ يصل إلى لقائه ويتعرَّف عليه.
إذن قضيَّة الخفاء والغيبة إذا كانت خرافة هلاميَّة وفكرة باطنيَّة وما أشبه ذلك من الكلمات والمهاترات التي يُهرِّج بها الكثير ممَّن لا يريد أنْ يتَّبع الحقائق القرآنيَّة، فماذا يصنع مع ظاهرة الخضر ومجموعته البشريَّة، هل هذه أُسطورة هلاميَّة؟ ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ (البقرة: 85), بل يجب الإيمان بجميع الكتاب, هذا صرح مشيَّد قرآني يُعلِّمنا درساً بأنَّ الحجَّة لله والمنصوب والمضطلع بأدوار مهمَّة وخطيرة يقوم بتمام تلك الأدوار والحركة والفاعليَّة والنشاط في ظلِّ ستار الخفاء, ليكون أفسح مجالاً للقيام

(١٣٥)

بتلك الأدوار، وأبعد عن أيدي المشاغبين والظالمين والمفسدين وقوى الشرِّ. وهذا منطق قرآني أصيل، فعلى هؤلاء أنْ يراجعوا عقولهم ويراجعوا خلفيَّاتهم الدِّينيَّة ومحاسباتهم, ويرجعوا إلى أُصولهم الدِّينيَّة حيالَ منطق القرآن الكريم فضلاً عن المنطق البشري الراهن الذي يعي من السرّيَّة والخفاء أنَّه أُسلوب نظام قوَّة وزيادة قدرة على إدارة وتدبير للأُمور بسلامة عن معاوقة الأعداء والخصوم.
أخي القارئ الكريم بعد هذا نستعرض هذه الآية الكريمة: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ (الكهف: 66), ففي هذه الآية ملحمة عظيمة، ويمكن أنْ نلمس فيها أنَّ نبيًّا من أنبياء الله ورسولاً من رُسُل الله من أُولي العزم الخمسة يطلب اتِّباع حجَّة لله آخر، ووليٍّ لم يُعرِّفه القرآن الكريم - وهو الخضر (عليه السلام) - بالنبوَّة أو الرسالة، فضلاً عن أنْ يكون من أُولي العزم، إنَّما عرَّفه القرآن الكريم بأنَّه مصطفى, ﴿عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا﴾ (الكهف: 65)، مزوَّد بالعلم اللدنِّي، وبلطف من الرحمة الإلهيَّة الخفيَّة الخاصَّة، هذا الذي له هذا المقام يريد النبيُّ موسى (عليه السلام) أنْ يكون له تابعاً، طبعاً في هذا الجانب, وإلَّا فهو صاحب شريعة ويكون الخضر تابعاً للنبيِّ موسى (عليه السلام) في شريعته، ولكن في العلم اللدنِّي وعلم الولاية يريد النبيُّ موسى (عليه السلام) أنْ يتَّبع ويتعلَّم ممَّا قد عُلِّم الخضر علماً إلهيًّا لدنّيًّا.
هنا محطَّة مهمَّة يجب أنْ يلتفت إليها المسلمون، أنَّ هذه الظاهرة وهذه الملحمة القرآنيَّة ليس لها تفسير في غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وذلك لأنَّ في المدارس الإسلاميَّة الأُخرى لم تُفسَّر ولم تُبيَّن المقامات والمناصب الإلهيَّة إلَّا النبوَّة والرسالة، أمَّا مناصب ومقامات أُخرى فلم تُذكر في منهاجهم العقائدي، بينما

(١٣٦)

المنهج العقائدي لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) يُبيِّن أنَّ هناك قنوات ارتباط بين الباري تعالى، وبين بعض الأفراد المصطفين المطهَّرين, وهو غير وحي النبوَّة وغير ارتباط وحي الرسالة، بل هو ارتباط العلم اللدنِّي, كما في الإمام، وكما في الحجَّة المصطفى الذي ربَّما يكون غير إمام كفاطمة الزهراء (عليها السلام)، وكمريم بنت عمران حيث تتَّبع سيِّدتها فاطمة الزهراء (عليها السلام)، لأنَّها كما ورد في نصوص المسلمين المتواترة أنَّها «سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ»(44), ومريم من رعايا الجنَّة، فسيِّدة مريم هي فاطمة (عليها السلام)، بل وفي نصوص القرآن إشارات على رفعة مقام فاطمة (عليها السلام) على مقام مريم، فمريم التابعة لفاطمة (عليها السلام) مقامها ليس نبوَّة ولا رسالة ولا إمامة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(44) روى الصدوق (رحمه الله) في أماليه (ص 187/ ح 196/7) بسنده عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اَلْعَطَّارِ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام): قَوْلُ رَسُولِ اَلله: «فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ»، أَسَيِّدَةُ نِسَاءِ عَالَمِهَا؟ قَالَ: «ذَاكَ مَرْيَمُ، وَفَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَاَلْآخِرِينَ».
وروى البخاري في صحيحه (ج 6/ ص 62 و63/ ح 3240): بسنده عَنْ عَائِشَةَ...، قَالَتْ: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي، كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ اَلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم): «مَرْحَباً بِابْنَتِي»، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ - أَوْ عَنْ شِمَالِهِ -، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثاً، فَبَكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَبْكِينَ؟ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثاً، فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحاً أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ، فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ: «مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اَلله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)»، حَتَّى قُبِضَ اَلنَّبِيُّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)، فَسَأَلْتُهَا، فَقَالَتْ: «أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي اَلْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي اَلْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي، فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ - أَوْ نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ -؟ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ»؛ وروى نحوه مسلم في صحيحه (ج 7/ ص 142 و143).
وروى الحاكم في مستدركه (ج 3/ ص 151) بسنده إلى حذيفة (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم): «نزل مَلَك من السماء فاستأذن الله أنْ يُسلِّم عليَّ لم ينزل قبلها, فبشَّرني أنَّ فاطمة سيِّدة نساء أهل الجنَّة».

(١٣٧)

ولكن مقام حجّيَّة, ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 42), هذا المقام لا تجد له تفسيراً في غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، الذي هو نظام عقائد القرآن الكريم بعمق وأصالة.
إذن لا يفتأ القرآن الكريم يُبيِّن العلم اللدنِّي، ويُنبِّه ويُؤكِّد أنَّ هناك مجموعة وسلسلة من أفراد البشر ليسوا بأنبياء ولا رُسُل، ولكن حُجَج مصطفون أئمَّة أو غير أئمَّة لهم ارتباط مع الغيب، ولهم ارتباط مع الله بعلم لدنِّي، يعني من لدن الله تعالى غيبي.
فلماذا يُهرِّج أُولئك الذين يقفون أمام هذه البيِّنات الباهرة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، كأنَّما يحصرون الارتباط بالغيب بالنبوَّة والرسالة؟ كلَّا, فهناك ارتباطات بالغيب أصيلة في منطق القرآن وفي سور كثيرة يُبيِّنها القرآن الكريم, وهو ارتباط بالغيب ليس عبر قناة الوحي النبوي أو وحي الرسالة، وإنَّما هو علم لدنِّي, وإنْ كان صاحب هذا العلم اللدنِّي تابعاً لرسول الله أو تابعاً لصاحب الشريعة، ولكنَّ ارتباطه بالغيب من خلال العلم اللدنِّي وراثةً عن رسول الله.
ما هو العلم اللدنِّي؟
الآيات القرآنيَّة تقول: ﴿عَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65), وهذا العلم من الدرجة والمقام بحيث أنَّ نبيَّ الله موسى (عليه السلام) الرسول أراد أنْ يتَّبعه، وطبعاً في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فإنَّ أفضل الخلق على الإطلاق سيِّد الرُّسُل محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وهو إمام الأئمَّة (عليهم السلام)، وهو إمام للأئمَّة الاثني عشر وسيِّدهم وأفضلهم, وهم تابعون له، وقد ورد في روايات المسلمين من الفريقين أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) عند نزوله يتَّبع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وقد أقرَّ بذلك علماء

(١٣٨)

الفِرَق الإسلاميَّة أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) عندما ينزل يُصلِّي خلف المهدي (عجَّل الله فرجه), ويكون تابعاً له، وهو نبيٌّ من أُولي العزم، وربَّما لا يروق ذلك لمن لا يُكِنُّ المودَّة لأهل البيت (عليهم السلام)، ويغمطهم فضائلهم ومقاماتهم التي حباها الله إيَّاهم، ويغيضه أيضاً أنْ يقرأ من هذه الأحاديث التي رواها محدِّثو الفريقين أجمع القائلة بأنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) يُصلِّي خلف الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), ويكون تابعاً له.
ولرُبَّ أحد يقول: هذا مضمون لا أقبله, أو أنَّ هذا مضمون منكر.
فنقول: لكن القرآن الكريم هاهنا قد حدَّثنا بأنَّ النبيَّ موسى (عليه السلام) قد أراد اتِّباع الخضر لما للخضر من علم لدنِّي، فهذه سُنَّة بيَّنها القرآن وليست سُنَّة منكرة، وأنَّ هذا المضمون له صلة وثيقة ووطيدة بظاهرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته وظهوره، وهو أنَّه عند ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فإنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) مع أنَّه نبيٌّ مرسَل من أُولي العزم يأتمُّ به ويُصلِّي خلفه، وقد قال بذلك جمهرة من علماء الفريقين(45).
العلم اللدنِّي وارتباطه بغيبة أولياء الله:
هذا العلم اللدنِّي يُؤهِّل الخضر ومجموعته من الاطِّلاع على الإرادات التفصيليَّة الإلهيَّة، والتدبيرات التفصيليَّة الجزئيَّة في كلِّ مراحل التطبيق لإصلاح النظام البشري، ويُؤهِّلهم للاطِّلاع على برنامج تلك الإرادات، لأنَّ في الشريعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(45) رواه جمهور الخاصَّة والعامَّة بألفاظ عدَّة والمعنى واحد, راجع - لا على الحصر -: الكافي (ج 8/ ص 49 و50/ ح 10)، والغيبة للنعماني (ص 65 و66/ باب 4/ ح 1)، وكمال الدِّين (ص 280/ باب 24/ ح 27)، ومسند أحمد (ج 14/ ص 152/ ح 8431)، وصحيح البخاري (ج 5/ ص 401/ ح 3087)، وصحيح مسلم (ج 1/ ص 94)، وغيرهم.

(١٣٩)

قوانين عامَّة كلّيَّة في أُفُق التنظير، وعندما يُراد لهذه المنظومة من التشريعات التنفيذ والتطبيق والإجراء لا محال هنا يكون معترك تزاحم ومعترك أولويَّات ومعترك فحص موضوعي، فإذا كان بنحو التدبير الإلهي الذي لا يخطئ فحينئذٍ يحتاج إلى التزوُّد بالعلم اللدنِّي، ولننظر كيف يُنبئنا القرآن الكريم عن تأهيل الخضر ليطَّلع على الإرادة الإلهيَّة بتوسُّط هذا العلم, وماذا يُعبِّر عنه في الآيات الكريمة في ذيل هذه القصَّة, وهي الظاهرة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم مع النبيِّ موسى (عليه السلام):
﴿وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾, هنا يريد الخضر أنْ يُخبر النبيَّ موسى (عليه السلام) بإرادة تفصيليَّة وليست إرادة تشريعيَّة كلّيَّة عامَّة، إرادة تفصيليَّة تطبيقيَّة لتشريعات الشريعة, ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ (الكهف: 82), والمجموعة التي معه تمتلك أنشطة وبرامج مفصليَّة مصيريَّة للنظام البشري, ليست من قريحة اقتدار لأنفسهم، وإنَّما طبق أوامر جزئيَّة تفصيليَّة تطبيقيَّة إلهيَّة، فالخضر في أجوبته كما سنقرأها تفصيلاً، وما جرى بينه وبين النبيِّ موسى (عليه السلام) من أحداث شاهدها النبيُّ موسى (عليه السلام) أمام عينه قد فسَّرها الخضر طبقاً لما هو مشرَّع في شريعة النبيِّ موسى (عليه السلام)، ومن ثَمَّ قنع وارتبط مع النبيِّ موسى (عليه السلام)، فالخضر لم يكن في تطبيقه وتنفيذه متخطّياً لشريعة النبيِّ موسى (عليه السلام)، بل مطبِّقاً ومنفِّذاً لها، ولكن هذا التنفيذ أيضاً يحتاج إلى أوامر إلهيَّة، يحتاج إلى أحكام سياسيَّة إلهيَّة، إلى أحكام قضائيَّة إلهيَّة، إلى أحكام تدبيريَّة إلهيَّة.
هذا هو الفرق بين مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومدارس المسلمين الأُخرى، بل بين مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وكلِّ الأديان الأُخرى من النصارى واليهود أو

(١٤٠)

غيرهم، حيث إنَّ أغلب المِلَل والنِّحَل الآن من غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) تقول بانقطاع الاتِّصال بين الأرض والسماء، وأنَّ الارتباط بين البشر وبين السماء بختم النبوَّة والرسالة, بينما مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هي المدرسة الوحيدة التي تشهد بحقَّانيَّة هذا الصرح العقائدي، القرآن يشهد بأنَّ حاكميَّة الله تعالى ليست على صعيد التنظير فقط وإرسال الشريعة المباركة المقدَّسة، بل لله (عزَّ وجلَّ) أيضاً برامج ومنظومات وأحكام وأوامر لتطبيق تلك الشريعة، وليس لتشريع جديد، ففي شريعة النبيِّ موسى (عليه السلام) مثلاً كانت هناك مجموعة أوامر إلهيَّة تصل لأولياء الله الحُجَج الذين لم يكونوا أنبياء ولا رُسُلاً، وذلك من خلال العلم اللدنِّي لبسط حاكميَّة الله السياسيَّة وليست فقط حاكميَّة الله في التشريع, ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾ (يوسف: 40), التوحيد في حاكميَّة الله، التوحيد في الحاكم الأوَّل هو الله وحده لا شريك له، وليس في عرضه أحد، هذه الحاكميَّة والتوحيد في الحاكميَّة لله لا تقتصر مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فيها على نظام السلطة التشريعيَّة والتشريع فقط، بل على نطاق التطبيق أيضاً، ويعني أنَّ التوحيد في حاكميَّة الله ليس فقط في التشريع، بل على مستوى التطبيق أيضاً، وعلى مستوى الحاكميَّة السياسيَّة والقضائيَّة والعسكريَّة والإداريَّة, وعلى كلِّ نطاق تلك المجالات والحقول والبيئات أيضاً، فالحاكم الأوَّل فيها هو الله وحده لا شريك له، ليس في عرضه أحد، هذا اللون من التوحيد لا يوجد في غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
حيث تصرُّ هذه المدرسة على أنَّ الارتباط بين الأرض والسماء لن يُقطَع، وإنِ انقطعت النبوَّة والرسالة، إلَّا أنَّ بقيَّة ألوان الارتباط بين الأرض والسماء وهي نظير ظاهرة العلم اللدنِّي التي تُؤمِّن تفسير حاكميَّة الله السياسيَّة ونزول الأوامر السياسيَّة لله ونزول الأوامر القضائيَّة في منعطفات خطيرة في مسيرة

(١٤١)

النظام البشري ونزول الأوامر العسكريَّة ونزول الأوامر التنفيذيَّة ليست فقط أوامر تشريعيَّة عامَّة، كلَّا فهناك أوامر تفصيليَّة له تعالى في كلِّ حقبة بشريَّة وهناك من يقوم بها، كهذه المجموعة البشريَّة في حكومتهم الخفيَّة، لأنَّهم يديرون ويُدبِّرون الأمر في خفاء من اختراقهم للنُّظُم البشريَّة الأُخرى, ويُدبِّرون ويديرون كلَّ ما يُملى عليهم من الله تعالى، لذلك ترى الخضر عندما وصفه القرآن: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65) يعني بهذا الوصف تأهَّل الخضر أنْ يُخبر عن إرادة الربِّ التفصيليَّة التنفيذيَّة في الحاكمية، حيث قال: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا﴾ (الكهف: 82), يُخبر النبيَّ موسى (عليه السلام) بأنَّ ما قام به من أدوار ليست اقتداراً منه أو من مجموعته في الشبكة البشريَّة الخفيَّة ﴿عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾ (الكهف: 65) والمأمورة بأوامر الله تعالى, بل: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾, فالإرادة التفصيليَّة غير الإرادة العامَّة الكلّيَّة في التشريع كقانون كلِّي عامٍّ، فهناك إرادات تفصيليَّة تتنزَّل تطبيقاً لتلك الإرادات التشريعيَّة العامَّة بخصوص الموارد المهمَّة, ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 82)، فـ ﴿مَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ هو عن أمر الله (عزَّ وجلَّ).
إذن هذه السورة تُثبت وجود مجموعة أوامر لله تفصيليَّة تنفيذيَّة تطبيقيَّة لشرائع الأنبياء أُولي العزم في كلِّ عصر، وفي عصرنا الحاضر من الذي تتنزَّل عليه أوامر الله التنفيذيَّة التطبيقيَّة كما تُنبئنا بذلك سورة الكهف؟ وعند أيِّ مدرسة إسلاميَّة تُفسَّر هذه الظاهرة؟ هذه الحقيقة القرآنيَّة بأنَّ هناك تنزُّلاً على أفراد مبشَّرين حُجَجاً مزوَّدين بالعلم اللدنِّي وليسوا بأنبياء ولا رُسُل تتنزَّل عليهم الأوامر الإلهيَّة لتنفيذ تدبيرات مهمَّة، أوَليس هذا القرآن قرآننا؟ أوَليس هذا الدِّين ديننا؟ أوَلا يجب علينا أنْ نؤمن بما يقوله القرآن الكريم؟ أوَليس ظاهرة

(١٤٢)

الخضر ذكرها القرآن الكريم إجابةً لما قد حصل من وجل واهتمام من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مطلع السورة على بقاء الدِّين، فكانت هذه إجابة وضمانة وبيان من الله لكيفيَّة بقاء الدِّين؟
فما يُذكر في قصَّة الخضر يتعلَّق بهذا الدِّين الخاتم، يتعلَّق بهذه الحقبة البشريَّة من بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى يوم القيامة، فهناك إذن من تتنزَّل عليه الأوامر الإلهيَّة التفصيليَّة التنفيذيَّة التطبيقيَّة، ولا يستطيع أحد أنْ يُجيب عن حقيقة هذا الإنسان غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) القائلة ببقاء الاتِّصال بالغيب بقناة غير قناة النبوَّة وغير قناة الرسالة وغير الوحي النبوي ووحي الرسالة، لكنَّه علم لدنِّي كما يُثبته القرآن ليس في هذه السورة فحسب، بل في سور عديدة أُخرى.
فهذه الظاهرة تتَّضح صلتها بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته من خلال أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو ذو علم لدنِّي، لأنَّه من هذه الأُمَّة، وقد أنبأ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) به وأخبر بأنَّ خلفاءه اثنا عشر، تتنزَّل عليه الأوامر الإلهيَّة والبرامج الإلهيَّة لنظم وإدارة البشر والأخذ بأيديهم من المنزلقات في المنعطفات الحادَّة في أيِّ بيئة من البيئات سواء الاقتصاديَّة أو التجاريَّة أو الخُلُقيَّة أو الزراعيَّة أو العقائديَّة أو الفكريَّة أو الروحيَّة أو السياسيَّة أو العسكريَّة، نعم تتنزَّل عليه أوامر إلهيَّة ليقوم بأداء كلِّ تلك الأوامر الحسَّاسة، ويعضده وينصره ويؤازره مجموعة بشريَّة حكاها لنا القرآن الكريم، مجموعة عباد، والخضر واحد من أُولئك العباد موصوفون بأنَّ عندهم رحمة بلطف خاصٍّ من عند الله (عزَّ وجلَّ)، ولديهم علم لدنِّي يخضع ضمن سلسلة مراتب القيادة الإلهيَّة، فالخليفة هو المركز، ومَن دونَه يتبعه ويتلوه.
وهذا هو الذي قالت به مدرسة أهل البيت (عليهم السلام), أي إنَّ الإمامة يجب أنْ تكون أيضاً منصباً إلهيًّا على ارتباط بالغيب، على ارتباط مع السماء، وإنْ كانت

(١٤٣)

الإمامة تبعاً للرسالة، وإنْ كانت الإمامة تطبيقاً لشريعة النبيِّ المرسَل الخاتم، ولكن في التطبيق تحتاج إلى نظارة السماء وحاكميَّة الله (عزَّ وجلَّ).
هذا اللون من التوحيد من اتِّساع حاكميَّة الله ليس على صعيد التشريع فقط، بل على صعيد التطبيق في مظهر الاعتقاد والإيمان بأنَّ الإمام هو مهبط ومحطَّة لهبوط الأوامر الإلهيَّة التفصيليَّة التنفيذيَّة، وبتزويده بالعلم اللدنِّي يتأهَّل لهبوط ونزول الأوامر التفصيليَّة، ما هو إلَّا إشعاع من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
فما يُهرِّج به رخصاء الكلام من أنَّ الشيعة يقولون في أئمَّتهم (عليهم السلام) بالنبوَّات يريدون أنْ يتعاموا عمَّا يُبيِّنه القرآن الكريم عندما ذكر الخضر وشبكته البشريَّة المزوَّدة بالعلم اللدنِّي، فإنَّه لا يقول بأنَّ الخضر بُعِثَ بشريعة تنافس شريعة النبيِّ موسى (عليه السلام)، أو بشريعة تضادُّ شريعة النبيِّ موسى (عليه السلام)، بل على العكس, الخضر وضَّح بعد ذلك للنبيِّ موسى (عليه السلام) أنَّ كلَّ ما قام به هو تطبيق لنفس شريعة النبيِّ موسى (عليه السلام)، ومن ثَمَّ قنع بذلك، لذلك تقول الآية: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 78)، بأنَّه تطبيق لنفس الشريعة، ولكنَّه تطبيق خفي بتدبير من الله، ولا يمكن أنْ يكون من تدبير البشر، فإنَّ الشريعة الإلهيَّة يُراد لها تطبيق إلهي وليس على مستوى النظريَّة فقط، وهذا ما لا يوجد في غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فهذا إذن محور مهمٌّ تُعلِّمنا وتُربِّينا عليه سورة الكهف وظاهرة الخضر هذه الظاهرة المشيدة.
بعد ذلك تواصل الآيات سردها لظاهرة الخضر: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ (الكهف: 66)، وهنا يُبيِّن القرآن الكريم أنَّ نبيًّا مرسَلاً من أُولي العزم يتَّبع من يكون مزوَّداً بالعلم اللدنِّي, فإذن لا

(١٤٤)

يمكن أنْ يستنكر أحدهم تبعيَّة النبيِّ عيسى (عليه السلام) للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فها هو القرآن يُبيِّن لنا هذا النموذج.
ثمَّ إنَّ هذا الاستنكار مِن ماذا؟ ألأنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) من ذوي القربى من أهل البيت (عليهم السلام)؟ أفلا يكنُّ له محبَّة وقد عظَّم القرآن من شأنه؟ بل هو الخليفة على الخضر، فإنْ كان النبيُّ موسى (عليه السلام) قد تبع الخضر مع أنَّ القرآن الكريم لم يصفه بأنَّه خليفة، بل وصفه بأنَّه حجَّة مصطفاة، وفي ضمن مجموعة بشريَّة، ولكن هذه المجموعة البشريَّة هي تبع للخليفة الذي ذكرته سورة الكهف كضمانة له، وذكرت الخضر كضمانة ثالثة لبقاء الدِّين, فمجموعة الخضر وشبكته تدور في دوائر مرتبطة متَّصلة بالمركز، وهو الخليفة، فهذه حقيقة عقائديَّة عقديَّة قرآنيَّة بيِّنة بائنة برهانيَّة لا يستطيع الإنسان المسلم والمؤمن التنصُّل منها أو التجاوز عليها.
الكثيرون وربَّما في سطحيَّة من التفكير يتبادر إليهم أنَّ الحكومة التي يديرها ويُدبِّرها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يجب أنْ تكون معلنة مكشوفة الأوراق والأدوات والأجهزة، بينما القرآن الكريم مذ نزل على النبيِّ الخاتم الأمين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيَّن لنا أنَّ السُّنَّة الإلهيَّة التي هي ليست خاصَّة بهذه الأُمَّة، بل سُنَّة إلهيَّة من زمن النبيِّ موسى (عليه السلام) فضلاً عن هذه الأُمَّة هي أنَّ هناك مجموعة بشريَّة ﴿عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾ (الكهف: 65) تُمثِّل وتُجسِّد حكومة إلهيَّة خفيَّة في كلِّ الأزمان، وظاهر هذا البيان القرآني أنَّ هذه الحكومة موجودة لدى كلِّ الحُجَج والأنبياء والمرسَلين السابقين من لدن آدم إلى نوح إلى إبراهيم (عليهم السلام)(46), وكذلك في حقبة النبيِّ موسى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(46) روى الصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع (ج 1/ ص 36/ باب 32/ ح 8) عَنْ مُحَمَّدِ بْنَ عَبْدِ اَلله بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَيْفُورٍ، قَالَ فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام): ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى...﴾ اَلْآيَةَ: إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَزُورَ عَبْداً مِنْ عِبَادِهِ اَلصَّالِحِينَ، فَزَارَهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ لَهُ: إِنَّ لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي اَلدُّنْيَا عَبْداً يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاهِيمُ اِتَّخَذَهُ خَلِيلاً، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ اَلْعَبْدِ؟ قَالَ: يُحْيَى لَهُ اَلمَوْتَى، فَوَقَعَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ هُوَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُحْيِيَ لَهُ اَلمَوْتَى، ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، يَعْنِي عَلَى اَلْخَلَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ مُعْجِزَةٌ كَمَا كَانَتْ لِلرُّسُلِ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ رَبَّهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يُحْيِيَ لَهُ اَلمَيِّتَ، فَأَمَرَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) أَنْ يُمِيتَ لِأَجْلِهِ اَلْحَيَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَهُوَ لَـمَّا أَمَرَهُ بِذَبْحِ اِبْنِهِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام) بِذَبْحِ أَرْبَعَةٍ مِنَ اَلطَّيْرِ: طَاوُوساً وَنَسْراً وَدِيكاً وَبَطًّا، فَالطَّاوُوسُ يُرِيدُ بِهِ زِينَةَ اَلدُّنْيَا، وَاَلنَّسْرُ يُرِيدُ بِهِ اَلْأَمَلَ اَلطَّوِيلَ، وَاَلْبَطُّ يُرِيدُ بِهِ اَلْحِرْصَ، وَاَلدِّيكُ يُرِيدُ بِهِ اَلشَّهْوَةَ، يَقُولُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ): إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَحْيَى قَلْبُكَ وَيَطْمَئِنَّ مَعِي فَاخْرُجْ عَنْ هَذَا اَلْأَشْيَاءِ اَلْأَرْبَعَةِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ اَلْأَشْيَاءُ فِي قَلْبِ عَبْدِي فَإِنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ مَعِي، وَسَأَلْتُهُ: كَيْفَ؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ مَعَ عِلْمِهِ بِسِرِّهِ وَحَالِهِ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَـمَّا قَالَ: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ كَانَ ظَاهِرُ هَذِهِ اَللَّفْظَةِ يُوهِمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِيَقِينٍ، فَقَرَّرَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِسُؤَالِهِ عَنْهُ، إِسْقَاطاً لِلتُّهَمَةِ عَنْهُ، وَتَنْزِيهاً لَهُ مِنَ اَلشَّكِّ.

(١٤٥)

وعيسى (عليهما السلام)، وفي عهد خاتم النبيِّين (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهو إمام الأئمَّة (عليهم السلام) وإمام البشر وسيِّد الكائنات، إلى حقبة ما بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الأئمَّة الخلفاء الاثني عشر من أهل بيته (عليهم السلام), إلى هذه الحقبة التي نعيش نحن فيها، حقبة غيبة وخفاء وتكتُّم وسرّيَّة، فهناك حكومة خفيَّة, ألَا ترى أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) أخبر إبراهيم (عليه السلام) في سورة البقرة فقال: ﴿جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾, فقال إبراهيم (عليه السلام) بعد ذلك: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 124)؟ يعني أنَّ غير الظالمين من ذرّيَّته ينال ذلك، وقد وصف القرآن الكريم إسحاق ويعقوب وبقيَّة ذوي وذراري إبراهيم (عليهم السلام) بأنَّهم أئمَّة: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ (الأنبياء: 73), أو في آية أُخرى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24), وفي سورة

(١٤٦)

النساء: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ (النساء: 54), فالقرآن يُخبر بأنَّه قد جعل إبراهيم (عليه السلام) وآل إبراهيم أئمَّة: ﴿وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾, مع أنَّ التاريخ البشري لا يُحدِّثنا أنَّ النبيَّ إبراهيم (عليه السلام) أو ذرّيَّة من آله رغم كونهم أئمَّة من قِبَل الله للناس، أنَّهم قد أسَّسوا حكومات معلنة أو ملكاً معلناً، لكن القرآن الكريم هو أصدق القائلين: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾ (النساء: 122), يُنبئنا ويُخبرنا أنَّه آتى آل إبراهيم (عليه السلام) ملكاً عظيماً، فأيُّ ملك هذا؟
الملك هو الإمامة منهم، المصطفون منهم، المجتبون منهم، ولملكهم بُعد في الملكوت من إطاعة الملائكة لخليفة الله الإمام بنصِّ سورة البقرة وغيرها من السور بأنَّ الخليفة مطاع، فالملائكة كلُّهم جند مجنَّدة وأعوان لخليفة الله في الأرض.
ومن صلاحيَّات ذلك الخليفة الموجود والمستمرّ إلى يوم القيامة - كما يُعرِّف ذلك لنا القرآن الكريم - هو السجود له من قِبَل الملائكة: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا﴾ (البقرة: 34), وهو هنا كناية عن مطلق الطاعة والخضوع والانقياد والمتابعة, وفي آية أُخرى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ (الحجر: 28 - 30), اُنظر التعبير في القرآن الكريم، فـ (أل) صيغة جمع تعميم، صيغة استيعاب وشمول, وكذلك الواو والنون في ﴿أَجْمَعُونَ﴾ يدلُّ كذلك على أنَّ القرآن الكريم لم يستثنِ تجنيد أيِّ مَلَكٍ من الملائكة حتَّى الملائكة المقرَّبين عن طاعة وعون خليفة الله في الأرض، وهذا طبعاً مُلك عظيم، وُصِفَ بالمُلك العظيم إذا كان كلُّ درجات الملائكة وكلُّ مقامات الملائكة طُوِّعت وأُخضِعَت وأُمرت بالانقياد والمتابعة

(١٤٧)

لخليفة الله في الأرض، فلا ريب من أنَّ هذا مُلك عظيم يتجاوز مُلك وقدرات البشر, وحتَّى في سورة الكهف وفي سبع سور قرآنية أنَّ الخليفة من صلاحيَّاته وقدراته وسلطته وسطوته طوعانيَّة وإطاعة جميع الملائكة له كحكومة ملكوتيَّة.
قد يقول القائل: إذا كان الإمام والخليفة عنده هذه القدرة, فلماذا لا يُصلِح الأرض في ليلة وضحاها؟ هذا ما يقوله الكثيرون ممَّن يسترخصون الفكر ويسترخصون الكلام ويُحِبُّون المشاغبة بأيِّ إثارة ولو كانت رخيصة أو خاوية، وهذا السؤال لا يُوجَّه لقضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فقط, بل يُوجَّه للنبيِّ إبراهيم (عليه السلام) حيث كان إماماً من قِبَل الله، فلماذا لم يسحق نمرود بالملائكة، فيأتي جناح جبرئيل (عليه السلام) فيجعل سافلها عاليها؟ وهذا حينئذٍ يكون خلاف البرنامج الإلهي من امتحان البشر، وخلاف الحكمة الإلهيَّة لامتحان البشر, فلا تفويض للبشر لجعل زمام أُمورهم بيدهم، ولا جبر، وإنَّما أمر بين أمرين، فلو كان قسراً وإلجاءً إلى الله في كلِّ الأُمور لكان جبراً، وبذلك تبطل حكمة الامتحان والاختيار، ولو كان انعزالٌ للإرادة الإلهيَّة في التنفيذ أو انعزالٌ للحاكميَّة الإلهيَّة في التنفيذ، لكان نفوذاً للبشر وتفويضاً باطلاً، فنحن لا نقرأ بطلان التفويض على صعيد الفعل الفردي فقط، بل نقرأ بطلان نظريَّة التفويض على صعيد النظام الاجتماعي والنظام السياسي والنظام البشري، فليس البشر مفوَّضين إلى أمرهم أو موكَّلين إلى إرادتهم البشريَّة، ولا مجبرين بالقسر, وإنَّما أمر بين أمرين، إرادة بشريَّة وإرادة إلهيَّة تمتزجان، وبالتالي تكون جادَّة الامتحان وجادَّة الاختبار الإلهي والحكمة الإلهيَّة، ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ (الأنفال: 42).

(١٤٨)

فنظريَّة الاختيار تتجلَّى على صعيد الرؤية الاجتماعيَّة، وعلى صعيد النظام الاجتماعي والسياسي، أي إنَّه لا جبر ولا تفويض في النظريَّة الاجتماعيَّة والنظريَّة السياسيَّة، وهذا يتمثَّل بعقيدة الإمامة الإلهيَّة، بعقيدة أنَّ هناك خليفة من الله منصوب، حكومة خفيَّة، وكما مرَّ بنا فإنَّ إبراهيم (عليه السلام) وآل إبراهيم آتاهم الله ملكاً عظيماً, توصف هذه القدرة وهذا التدبير بالمُلك العظيم لأنَّه كما حدَّثنا القرآن الكريم أنَّه يُطوِّع الله (عزَّ وجلَّ) للخليفة كلَّ ملائكته بلا استثناء حتَّى الملائكة المقرَّبين في حكومته الملكوتيَّة. نعم الكثير يظنُّ في محاسباته الفكريَّة على أدبيَّات ربَّما سياسيَّة قديمة أكل الدهر عليها وشرب من أنَّ الحكومة لا يُقَرُّ بوجودها إلَّا إذا كانت معلنة مكشوفة في العلن إلى منصَّة الظاهر ومنصَّة العلم البشري والمعرفة البشريَّة, وهذا طبعاً منهج وفكر خاطئ في الأدبيَّات السياسيَّة والإداريَّة والأمنيَّة والنظميَّة، فقد بات واضحاً بديهيًّا في الأدبيَّات الأكاديميَّة حتَّى السياسيَّة والعلوم الاجتماعيَّة السياسيَّة أنَّ هناك أشكالاً وألواناً متعدِّدة من الحكومات، فالكثير من قوى النفوذ الحكوميَّة في الدول ليست هي في الحقيقة عبر ما يُشاهَد من وزارات رسميَّة معلنة معروفة أو آليَّات وأدوات عسكريَّة إداريَّة رسميَّة، بل إنَّ الحكومات الخفيَّة هي في الواقع مصدر القدرة النافذ للدول، وباتت الآن أمراً واضحاً بديهيًّا لديهم.
وهذه النظريَّة والرؤية في العلوم الاجتماعيَّة السياسيَّة وفي معرفة معنى الحكومة وتنوُّعها قد بيَّنها القرآن الكريم في الواقع في سور عديدة قبل أربعة عشر قرناً، وقبل أنْ يهتدي إليها البشر في القرون الأخيرة، حيث إنَّ القرآن الكريم - كما مرَّ بنا - يصف إمامة إبراهيم (عليه السلام) وآل إبراهيم أنَّها إمامة فعليَّة للناس، نُصِبُوا من قِبَل الله (عزَّ وجلَّ)، وهذا منصب إلهي - كما مرَّ بنا غير منصب النبوَّة والرسالة - لا تجد له تفسيراً عقديًّا اعتقاديًّا في غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام),

(١٤٩)

فهناك منصب الرسالة، ومنصب النبوَّة، وهناك منصب الإمامة وهو منصب الخلافة الإلهيَّة، والإمامة من المناصب التي صرَّح ونادى بها القرآن الكريم: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124), والخلافة اسم آخر لنفس المسمَّى، وهي الإمامة، ولم يقل النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): لا خليفة بعدي، بل قال: «اَلْخُلَفَاءُ بَعْدِي اِثْنَا عَشَرَ». نعم هذه الإمامة وهذه الخلافة وصفها القرآن الكريم بأنَّها مُلك عظيم، ولم يُحدِّثنا التاريخ البشري - كما قلنا - بأنَّ إبراهيم (عليه السلام) استولى على حكومة ظاهريَّة معلنة معروفة المعالم، أو رسميَّة رُسِمَت وعُرِفَت من قِبَل العرف البشري، ولكن مع ذلك قام بأدوار تعجز عنها أكبر الحكومات، ففي عهد وظلِّ إمامته نجح في هداية البشريَّة من عبادة غير الله من الأصنام أو النجوم أو الكواكب إلى الملَّة الحنيفة وعبادة الله الواحد الخالق، إذ إنَّ شعوب الشرق الأوسط اهتدت على يديه، وهي ما يعادل الآن ثلاثين دولة أو أكثر، شعوب ثلاثين دولة استطاع النبيُّ إبراهيم (عليه السلام) أنْ ينشر تعاليم رسالته بما لا تستطيع أنْ تقوم به دول عظمى في عصرنا الحاضر، لأنَّ التبديل العقائدي أصعب أنواع التبديل والتغيير، إذ ربَّما يحدث تغيير سياسي أو تغيير عسكري أو تغيير اقتصادي أو تغيير في الأخلاق الاجتماعيَّة, لكن التغيير العقدي الاعتقادي فهذا لا تستطيع أنْ تقوم به دول, ومع ذلك قام به إبراهيم (عليه السلام) كفرد أو في ضمن مجموعة أو شبكة بشريَّة خفيَّة، حيث تتشكَّل الحكومة الخفيَّة للنبيِّ إبراهيم (عليه السلام) في بُعدها الملكي وفي بُعدها البشري وفي بُعدها من ناحية الأسباب المادّيَّة مضافاً إلى الحكومة الملكوتيَّة من طاعة الملائكة عبر برمجة البرنامج الإلهي والأوامر الإلهيَّة. وهذه الحكومة التي يصفها القرآن بالمُلك العظيم في سورة النساء توجد في هذه الأُمَّة الإسلاميَّة مثلها، حيث إنَّ هناك ثلَّة قد آتاهم الله منصب الإمامة: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ

(١٥٠)

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ (النساء: 54), هذا المُلك العظيم الذي يصفه القرآن الكريم لآل إبراهيم (عليه السلام) يتجسَّد في هذه الأُمَّة أيضاً من خلال وجود الخلافة, وهو طاعة الملائكة وغيرهم وتجنيدها بما فيهم المقرَّبون. وهنا أيضاً تطالعنا ظاهرة الخضر، فهذه الحكومة مفعَّلة من قِبَل الله (عزَّ وجلَّ) من لدن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) إلى نبيِّنا الأكرم سيِّد الرُّسُل وسيِّد الكائنات (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ الخلفاء من بعده التابعين له المنقادين له (عليهم السلام).
فمن السذاجة أو من الغفلة أنْ يظنَّ الظانُّ أو القارئ للقرآن الكريم أو المسلم أو المؤمن أنَّ حكومة المهدي (عجَّل الله فرجه) تتشكَّل فقط في عصر الظهور, بل هي مشكَّلة الآن من هذه الشبكة البشريَّة: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً﴾ من مجموعة ﴿مِنْ عِبَادِنَا﴾ (الكهف: 65), هنا يعزي لهم القرآن الكريم أدواراً خطيرة في مصير البشريَّة، هذه نكتة ونقطة مهمَّة وحسَّاسة، وهي أنَّ القرآن الكريم يُنبئنا في إجابته عن الضمانات لوجل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بقاء الدِّين وانتشاره وظهوره على الدِّين كلِّه، ليس من عمل المصادفة تحقُّق الوعد الإلهي، وليس من الفجأة, وليس أيضاً من الإلجاء الإلهي, فإنَّ سُنَّة الله أنْ تجري الأُمور بأسبابها، «لَا جَبْرَ وَلَا تَفْوِيضَ»، هذا الدور الذي يقوم به الحجَّة ليس دوراً فرديًّا, وإنَّما هو دور منظومي ومجموعي، دور في ظلِّ حكومة خفيَّة وفي ظلِّ مجموعة بشريَّة وشبكة بشريَّة منتشرة في أرجاء الأرض كما يُنبئنا بذلك القرآن الكريم، حتَّى في أوَّل اللقاء بين موسى والخضر (عليهما السلام) في مجمع البحرين، فهذه الشبكة موجودة في بقاع الأرض وأرجاء الأرض كافَّة، ولكن لم يُفصِّل لنا القرآن الكريم إلَّا بهذا القدر، هذا درس وصرح عقائدي يُبرزه لنا القرآن الكريم في سورة الكهف لهذه الأُمَّة لهذه الحقبة الزمنيَّة إلى موعد الظهور والإنجاز الإلهي من إظهار الدِّين على أرجاء الأرض كافَّة.

(١٥١)

هناك إذن حكومة حقبة بشريَّة، غاية الأمر أنَّ البشر لا بدَّ أنْ يقوموا بالمسؤوليَّة التي على عاتقهم من النصرة لدين الله، والنصرة لإنجاز وعد الله.
دور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ليس فرديًّا في الغيبة:
هناك شاهد قرآني عظيم على حقيقة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لأنَّ طول عمر الخضر متسالم عليه باتِّفاق كلمة المفسِّرين واتِّفاق كلمة فِرَق المسلمين, إلَّا من شذَّ وندر، وطول العمر هذا مقارن لقيامه واضطلاعه بأعباء المسؤوليَّة التي تُوكَل إليه من ربِّ العالمين، من خلال العلم اللدنِّي الذي زوَّده به الله تعالى، والقرآن لم يُحدِّثنا كثيراً عن مجموعة الخضر إلَّا أنَّه عرَّفهم بأنَّ عندهم رحمة ولطف خاصٌّ من الله: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65), فعبوديَّة الخضر ومجموعته تتَّصف بمثل هذا المقام، وهو مقام العلم اللدنِّي، وفي الواقع فإنَّ هذه الأدوار التي سنخوض فيها شيئاً فشيئاً نرى أنَّها ليست أدوار فعل فردي, بل أدواراً ترتبط بالفعل النظامي والنظمي والفعل الاجتماعي والظاهرة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة. وبعبارة أُخرى: الفعل بالظاهرة النظميَّة فعل في النظم وفي التدبير وفي الإدارة والمسِّ والمسيس بمجمل النظام البشري، مثلاً في بداية هذه الأنشطة التي يُحدِّثنا بها القرآن الكريم عن الخضر ومجموعته, تواصل الآيات: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ (الكهف: 66), تُبيِّن الآية هنا الرشد مقابل الغيِّ، وهي هداية مقابل هواية، إذ لم يُعبِّر النبيُّ موسى (عليه السلام) بالقول: هل أتَّبعك على أنْ تُعلِّمني ممَّا عُلِّمت شريعةً, أو ممَّا عُلِّمت منهاجاً, أو ممَّا عُلِّمت من الدِّين الإلهي، وإنَّما: ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾, والرشد هو الصواب في تطبيق الشريعة وإقامة الشريعة في النظام الاجتماعي، وهذا أيضاً تدليل آخر دالٌّ على أنَّ دائرة وحومة

(١٥٢)

وحوزة البرنامج الذي يقوم به الخضر والشبكة البشريَّة هي في مجال إقامة الشريعة، وفي مجال إقامة النظام للشريعة وتطبيقها، ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ﴾, فقال له موسى (عليه السلام): ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾.
قال الشهيد الثاني (قدّس سرّه)(47): (إنَّ قول موسى (عليه السلام): ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾, دلَّت على اثنتي عشرة فائدة من فوائد الأدب)(48)، ولا ريب أنَّ هذه الآداب آداب إلهيَّة علَّمها الله (عزَّ وجلَّ) أنبياءه (عليهم السلام)، ممَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(47) هو الشيخ الشهيد السعيد زين الدِّين بن نور الدِّين عليُّ بن أحمد العاملي الشامي الجبعي المعروف بالشهيد الثاني، من مشاهير الفقهاء المتبحِّرين العظام، ومن الوجوه المشرقة في التاريخ الدموي للإسلام، وُلِدَ في (13) شوَّال سنة (911هـ) في جبع، ختم القرآن وعمره تسع سنوات، درس على والده، ثمّ سافر إلى ميس ودرس فيها، ثمّ ارتحل إلى الشام ودرس فيها على عدَّة من علمائها، ثمّ ذهب إلى مصر ودرس فيها عند أفاضل علمائها، له من الآثار (79) مصنَّفاً، أشهرها الروضة البهيَّة ومسالك الأفهام، واستُشهِدَ (رحمه الله) سنة (965هـ) في قصَّة مفصَّلة كما حكاها السيِّد الأمين في أعيان الشيعة (ج 7/ ص 143 - 158/ الرقم 493)، فراجع.
(48) قال الشهيد الثاني (رحمه الله) في كتابه منية المريد (ص 235 - 237): (وفي قوله: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً﴾ [الكهف: 69]، جملة جليلة من الآداب الواقعة من المتعلِّم لمعلِّمه، مع جلالة قدر موسى (عليه السلام) وعظم شأنه، وكونه من أُولي العزم من الرُّسُل، ثمّ لم يمنعه ذلك من استعمال الآداب اللَّائقة بالمعلِّم، وإن كان المتعلِّم أكمل منه من جهات أُخرى. ولو أردنا استقصاء ما اشتمل عليه تخاطبهما من الآداب والدقائق لخرجنا عن وضع الرسالة، لكنَّا نشير إلى ما يتعلَّق بالكلمة الأُولى، وهي قوله: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ [الكهف: 66]، فقد دلَّت على اثنتي عشرة فائدة من فوائد الأدب:
الأُولى: جعل نفسه تبعاً له، المقتضي لانحطاط المنزلة في جانب المتبوع.
الثانية: الاستيذان بـ ﴿هَلْ﴾، أي هل تأذن لي في اتِّباعك؟ وهو مبالغة عظيمة في التواضع.
الثالثة: تجهيل نفسه والاعتراف لمعلِّمه بالعلم بقوله: ﴿عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ﴾.
الرابعة: الاعتراف له بعظيم النعمة بالتعليم، لأنَّه طلب منه أنْ يعامله بمثل ما عامله الله تعالى به، أي يكون إنعامك عليَّ كإنعام الله عليك. ولهذا المعنى قيل: (أنا عبد من تعلَّمت منه)، و(من علَّم إنسانا مسألةً مَلَكَ رقَّه).
الخامسة: أنَّ المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لكونه فعله لا لوجه آخر، ودلَّ ذلك على أنَّ المتعلِّم يجب عليه من أوَّل الأمر التسليم، وترك المنازعة.
السادسة: الإتيان بالمتابعة من غير تقييد بشيء، بل اتِّباعاً مطلقاً، لا يُقيِّد عليه فيه بقيد، وهو غاية التواضع.
السابعة: الابتداء بالاتِّباع، ثمّ بالتعليم، ثمّ بالخدمة، ثمّ بطلب العلم.
الثامنة: أنَّه قال: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ﴾، أي لم أطلب على تلك المتابعة إلَّا التعليم، كأنَّه قال: لا أطلب منك على تلك المتابعة مالاً ولا جاهاً.
التاسعة: ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ إشارة إلى بعض ما علم، أي لا أطلب منك المساواة، بل بعض ما علمت، فأنت أبداً مرتفع علي زائد القدر.
العاشرة: قوله: ﴿مِمَّا عُلِّمْتَ﴾ اعتراف بأنَّ الله علَّمه، وفيه تعظيم للمعلِّم والعلم، وتفخيم لشأنهما.
الحادية عشرة: قوله: ﴿رُشْداً﴾ طلب الإرشاد، وهو ما لولا حصوله لغوي وضلَّ، وفيه اعتراف بشدَّة الحاجة إلى التعلُّم، وهضم عظيم لنفسه، واحتياج بيِّن لعلمه.
الثانية عشرة: ورد أنَّ الخضر (عليه السلام) علم أوَّلاً أنَّه نبيُّ بني إسرائيل موسى (عليه السلام) صاحب التوراة الذي كلَّمه الله (عزَّ وجلَّ) بغير واسطة، وخصَّه بالمعجزات، وقد أتى - مع هذا المنصب - بهذا التواضع العظيم بأعظم أبواب المبالغة، فدلَّ على أنَّ هذا هو الأليق، لأنَّ من كانت إحاطته بالعلوم أكثر، كان علمه بما فيها من البهجة السعادة أكثر، فيشتدّ طلبه لها، ويكون تعظيمه لأهل العلم أكمل).

(١٥٣)

يدلُّ على خطورة الأُمور وواقعيَّة هذه الشبكة والمجموعة البشريَّة التي تقوم بهذه الأدوار، بعد ذلك تواصل الآيات: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ (الكهف: 67 و68), هنا يُبيِّن الخضر قاعدة معرفيَّة أو ضابطة فيها معارف جمَّة يستنير منها الإنسان، وهي أنَّ طبيعة الإنسان

(١٥٤)

أنَّه لا يصبر على ما لم يحط به علماً دوماً, باعتبار أنَّ العلم يُوسِّع أُفُق الإنسان ويشرح صدره، وبالتالي يزيد في صبره ومقاومته وقوَّته، ومن ثَمَّ فإنَّ الذي ييأس من بصيص الأمل تكون حصيلة صبره لا ريب ضعيفة وقليلة، بخلاف الذي يفتح له الأمل والاحتمال الذي هو عبارة عن اتِّساع الأُفُق، والنظر إلى ما وراء، وعدم الاحتجاب بحجاب قاصر, بل رمي البصر والبصيرة إلى أبعاد وسيعة، ومن ثَمَّ يعلم ضرورة الاعتقاد والإيمان بالمنجي والمصلح, وأنَّه لماذا «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ مِنَ اَلله (عزَّ وجلَّ)»؟ كما ورد في الحديث النبوي، لأنَّ انتظار الفرج باعث على الحيويَّة، وباعث على الأمل، وباعث على عدم الركوع والخنوع والانكسار والسقوط، بل في الواقع يضخُّ في الإرادة الإنسانيَّة أو في إرادة المجتمع الإسلامي مزيد القوَّة ومزيد الإرادة، لأنَّ الأمل يُوسِّع ويتَّسع ويفتح ويفرج، ولذلك سُمِّي الفرج فرجاً، لأنَّه يفرج في الواقع من ضيق الأُفُق إلى آفاق أوسع وأوسع، ومن ثَمَّ تكون حينئذٍ إرادة المجتمع الإسلامي إرادة قوّيَّة حديديَّة لا تنكسر أمام الخصوم وأمام ضغوطات الأعداء، مهما كانت تلك الضغوطات وتلك المخطَّطات الهدَّامة التي تفتُّ في العضد، ولكن مع وجود بارقة الأمل تجعل الثبات والصبر وطيداً.
أنقل هنا عبارة لخبير أمني استراتيجي فرنسي يُدعى (فرانسوا توال) كتب كتابه (الجغرافيا السياسيَّة للشيعة) بعد سقوط الطاغية صدَّام ونُشِرَ في مراكز الدراسات الغربيَّة حيث يذكر فيه أنَّ الاعتقاد بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يضخُّ وينبض بالأمل وبالإرادة وبالثبات وبقوَّة الاستقامة وقوَّة الشخصيَّة لأتباع أهل البيت (عليهم السلام)، لأنَّ وجود الأمل يجعلهم لا ينكسرون ولا ييأسون ولا يستيئسون، بل حينئذٍ يدوم ثباتهم وغايتهم وقوَّتهم. وكذلك ذكر في كتابه أنَّ معنى الغيبة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يعني فيما يعنيه الخفاء في الحركة والنشاط، وحيويَّة الحركة في أُفُق واسع متَّسع في الغيبة.

(١٥٥)

فهو باعتباره خبيراً أمنيًّا فَهِمَ والتقط الشفرة العقائديَّة المهمَّة في معنى الغيبة، وأنَّها ليست بمعنى أُسطورة وخرافات, وإنَّما الغيبة تعني خفاء وسرّيَّة الحركة في ظلِّ نشاط وأدوار في النظام البشري, هذا الذي استوحاه من معنى عقيدة الغيبة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، بل الملفت للنظر في كلامه أنَّه لا يتعرَّض لغيبة المهدي (عجَّل الله فرجه) تحت عنوان أنَّ الشيعة تزعم ذلك، بل يتعاطى مع غيبته كحقيقة راهنة مفروغ عنها، وأنَّها سرُّ قوَّة التشيُّع والشيعة.
كما قال أيضاً حول العقيدة بالعدالة المهدويَّة: (هذه العقيدة مرشَّحة لأنْ تعتنقها المجتمعات البشريَّة أجمع بين ليلة وضحاها، وبأسرع ممَّا انتشرت فيه الشيوعيَّة)، هذا نصُّ عبارته، ومن ثَمَّ يكتب عن هذه الحقيقة فيقول: (أنا أهيب بالساسة الدوليِّين والمراقبين الدوليِّين أنْ يتعرَّفوا على نظريَّة وعقيدة العدالة المهدويَّة، لأنَّها هي الأُطروحة المستقبليَّة التي لا بدَّ أنْ يتصدَّى في قبالها نُظُم وأنظمة الغرب)، ومن ثَمَّ هو يهيب بالمراقبين الدوليِّين والساسة العالميِّين أنْ يولُّوا العناية والتفكير بدراسة مثل هذه الأُطروحة لأجل التصدِّي وما شابه ذلك حسبما هو يذكره.
وهناك جملة من الباحثين في علم الاجتماع يذهبون إلى أنَّ الغرب - وحتَّى شرق آسيا - قد ينعم بنسبة من الحرّيَّة ونسبة من العدالة، ولكن إلى الآن لم ينعم هؤلاء بالعدالة, وهم يتطَّلعون إلى العدالة الكاملة، ومن ثَمَّ الأُطروحة التي تُحقِّق مثل هذا الأمل، أو هذه الأُنشودة التي تخفق بها قلوب البشر, سرعان ما تنجذب البشريَّة إليها بشكل خفَّاق وسريع وأخَّاذ بمجامع القلوب والعقول.
والحاصل أنَّ أدنى منصف نخبوي يفهم لغة الأمن الاستراتيجي ولغة الأدوار النظميَّة يُفسِّر معنى الغيبة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أنَّها عبارة عن هذا المنهاج

(١٥٦)

وهذا التقدير الإلهي الذي هو في الواقع نوع من التوطيد الأكثر دقَّةً لقيام الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مع الشبكة التي تحيط به - وهي ظاهرة الخضر ومجموعته المزوَّدون بالعلم اللدنِّي - بقيامهم بدور الحكومة الخفيَّة.
وهنا يحضرني كلام لوزير الدفاع الأمريكي كتبه في مجلَّة اسمها ما ترجمته (الشؤون الخارجيَّة الأمريكيَّة) في عددها الصادر في (2002م) لعدد شهر مايو الشهر الخامس والسادس الميلادي, حيث تحدَّث عن التحوُّلات العسكريَّة في المنطقة وفي العالم، قال: (إنَّ التحدِّي الذي يواجهنا في القرن الجديد تحدٍّ مختلف، علينا الدفاع عن أُمَّتنا ضدَّ المجهول غير المعلوم غير المرئي وغير المتوقَّع).
لماذا وصف العدوَّ في زعمه أنَّه عدوٌّ (مجهول) علينا الدفاع عن أُمَّتنا ضدَّ المجهول؟ ويا ليته ينتشل أُمَّته من الفقر ومن الحرمان الذي يفرضه واقع الطبقة الإقطاعيَّة، لأنَّه كما تحدَّثت منظَّمة الأُمَم المتَّحدة قبل سنين في تقرير لها: أنَّ ما يقرب من تسعين بالمائة من ثروات أمريكا هي بحوزة ما يقرب من أربعة بالمائة من الشعب الأمريكي، وبقيَّة الشعوب الأمريكيَّة من الطبقات المتوسِّطة أو المحرومة المسحوقة، وهنا يدَّعي الدفاع عن أُمَّته، والحال أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يبعثه الله لإفشاء ونشر العدالة والقسط في الأرض.
فذكر أربع صفات: المجهول، غير المعلوم، غير المرئي، غير المتوقَّع. هذا يكتبه في مقالة تصدر في مجلَّة رسميَّة تصدرها وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة، بعد ذلك يواصل عبارته: (ممكن أنْ يبدو ذلك مهمَّة مستحيلة, لكن هذا هو الحلُّ للقيام بها, علينا أنْ نضع جانباً الطُّرُق المريحة للتفكير والتخطيط، وأنْ نأخذ المخاطر ونُجرِّب أشياء جديدة)، يقول هو حسب زعمه: (هكذا يمكننا مواجهة وهزيمة الخصوم الذين لم يبرزوا بعد ليتحدُّونا)، خصوم وصفهم بأنَّهم لم يبرزوا

(١٥٧)

بعد، ولا يشير هذا الوصف إلى القاعدة، فإنَّها إنْ صحَّ مواجهتها للدول الغربيَّة وما شابه ذلك، فهي الآن أصبحت معلومة، وبرزت في ميدان مع الغرب على حسب السيناريو الظاهر المطروح.
فالمقصود بتعبيره: (الذين لم يبرزوا بعد ليتحدُّونا)، وتعبيره: (ضدَّ المجهول, غير المعلوم, غير المرئي, غير المتوقَّع) أنَّهم يقرأون من هذه الأدبيَّات أنَّ غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هي غيبة خفاء وليست غيبة مزايلة عن ساحة الحدث وابتعاد عن مجريات الأُمَّة، بل هو في كبد شؤون الأُمَّة، وتحيطه مجموعة من خلالها يقوم بأدوار يعيى ويعجز البشر بالرغم ممَّا أعدُّوا من أسلحة عمليَّة وقنوات استخباراتيَّة وآليَّات ضخِّ المعلومات، لأنَّهم لا يستطيعون إلى الآن أنْ يكتشفوا مثل هذه المجموعة المؤثِّرة التي نقرأها في أدبيَّات المسلمين وأحاديث النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والقرآن وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) حول الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأيَّما خبير أمني استراتيجي تعطيه سورة الكهف أو ظاهرة الخضر ليقرأها فإنَّه يستنبط منها أنَّها عمليَّة مجموعة أو منظومة تقوم بأدوار حكومة في الأرض, أو تقوم بمثل هذه الأدوار في ظلِّ خفاء مطبق، لأنَّ أدواتها العلميَّة ليست عن طريق الأثير ولا عن طريق الأسباب المادّيَّة, بل عن طريق العلم اللدنِّي الذي زُوِّدت به، وهو رحمة ولطف إلهي خاصٌّ، فهو يفوق أُفُق البشر.
نعم تواصل الآيات في قول الخضر للنبيِّ موسى (عليه السلام): ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ (الكهف: 67 و68), فالأزمة في البشريَّة هي المعرفة, أي إنَّها تجحد ما وراء علمها، وهذا هو منهج: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ (يونس: 39), وهذه توصية من القرآن أنَّ الإنسان عندما لا يحيط بشيء علماً أو خبراً فلا يجحده، بل يسعى ويجري إلى

(١٥٨)

الفحص عن حقيقته، فإذا كان شعار الإنسان التصديق بما يحيط به علماً، والإنكار بما لا يحيط به علماً، فهذا شعار تفشِّي الجهل, والجهل عدوٌّ, لأنَّ قوافل العلم في العلوم المختلفة عند هؤلاء البشر هو اكتشاف المجهول, ولو لم يكن حرص البشر وأمل النخبة المتخصِّصة من البشريَّة في أيِّ علم من العلوم لأجل اكتشاف المجهول والرغبة في كشف الستار عن علم خفي عن حدود إحاطة البشر, فلو لم تكن لديهم تلك الرغبة، ولو لم يكن لهم ذلك الأمل، لوقفت قوافل العلوم البشريَّة، فالنهج العلمي هو عدم إنكار المجهول, وذلك بالسعي والبحث عنه، إذ له أعيان وعينيَّة تكوينيَّة في الخارج.
وإنكار ما لا يعلمه الإنسان ليس قاعدة ولا منهجاً علميًّا, وإنَّما هو منهج جهالة، لاسيّما مع عدم الإحاطة الحسّيَّة بالأشياء, وقد تكون أُمور كثيرة يعلمها الإنسان الآن كالكهرباء، إذ لا يشاهدها بالحسِّ ولكن يعلمها عن طريق استخدامها, وكثير من الأُمور المغيَّبة عن حسِّ الإنسان، فهل من الصحيح أنْ يبادر الإنسان بالتكذيب والجحود بها؟ هذا منهج الجهلاء وطريقة الأُميِّين، فشعار العلم هو الفحص والتحرِّي والتنقيب عمَّا لا يعلمه الإنسان، لا المبادرة والمسارعة بالإنكار والجحود للذي لا يعلمه، هذا ما يوصي به الخضر: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً﴾, هذه هي طبيعة الإنسان, ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾, ما لا يعلمه الإنسان من ضيق أُفُقها في طبيعتها - وإنْ كان الأنبياء (عليهم السلام) منزَّهين طبعاً عن ذلك - وإنَّما هي طبيعة الخلقة البشريَّة، الأنبياء (عليهم السلام) بما زُوِّدوا من كمالات لا ينحازون لمثل هذا النقص البشري، ولكن هذا النقص موجود عند الإنسان عندما لا يحيط بشيء يتأكَّده, ويثقل على كاهله التفتيش والتنقيب والتعلُّم عمَّا

(١٥٩)

لا يعلم, فيبادر بالإنكار والجحود, كما ورد عن الباقر (عليه السلام): «لَوْ أَنَّ اَلْعِبَادَ إِذَا جَهِلُوا وَقَفُوا لَمْ يَجْحَدُوا وَلَمْ يَكْفُرُوا»(49).
هل يمكن ادِّعاء شخص أنَّه من رجال الغيب؟
سؤال: هل يمكن أنْ يدَّعي أحد أنَّه من عناصر الشبكة التي عرفناها في القرآن الكريم من خلال سورة الكهف في قوله تعالى: ﴿عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾ (الكهف: 65)؟
الجواب: لا يمكن أنْ يدَّعي أحد هذا الادِّعاء، وإنِ ادَّعى هذه الدعوى فهذه علامة الكذب والدجل والافتراء، لأنَّ من خاصّيَّة هذه الشبكة هي السرّيَّة التامَّة والخفاء التامُّ، إذ كان لقاء النبيِّ موسى (عليه السلام) مع الخضر محاطاً بهالة من السرّيَّة والتعتيم والتكتُّم الإلهي بعلامتين: مجمع البحرين وضياع الحوت، ضياع السمك الذي لديهم وانسيابه في عمق البحر. علامتان خفيَّتان جدًّا لم يعلم بهما حتَّى صاحب موسى وفتاه ووصيُّه يوشع بن نون (عليهما السلام)، وإنَّما علم بهما النبيُّ موسى (عليه السلام)، ممَّا يدلُّ على أنَّ هذه المجموعة يحيطها الله بهالة من الخفاء والسرّيَّة وعدم الانكشاف من أيِّ عنصر من عناصر الدليل.
نعم دور الإمام والشبكة الخفيَّة التي تحيط به متفاعل مع البشر من دون أنْ يشعر به كما مرَّ بنا في قصَّة يوسف وفي قصَّة موسى (عليهما السلام) وغيبتهما, هذان النبيَّان حينما كانت لهما أدوار مهمَّة مصيريَّة متفاعلة مع النظام البشري يتعاطون معهم من دون أنْ يشعر أحد منهم، فما نقوله بانقطاع الواسطة لا يعني ذلك أنَّ هناك انقطاعاً في التفاعل، لكن من طرف واحدٍ لا من طرفين،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(49) المحاسن (ج 1/ ص 216/ ح 103)؛ ورواه بتفاوت يسير الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 2/ ص 388/ باب الكفر/ ح 19).

(١٦٠)

التفاعل من طرف الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ومجموعته مع البشر ونظامه الاجتماعي السياسي من دون شعور الطرف الآخر به، فهذه محطَّة بالغة الأهمّيَّة لكي لا ينفتح باب النصب والاحتيال والدجل والافتراء والكذب، فمن الأدبيَّات الجليَّات في علم الأمن البشري فضلاً عن علم الأمن الإلهي أنَّ عناصر الخفاء يجب أنْ تبقى في الخفاء، وما إنْ تظهر إلى منصَّة الظهور فهذا هو موتها وزوالها.
فالبروز والظهور والانكشاف والانفضاح والاشتهار منافٍ لأوَّليَّات صرح وجودها وتأسُّسها من قِبَل البرنامج الإلهي، ومن ثَمَّ فإنَّ هذه المجموعة - كما تُحدِّثنا الكثير من الروايات الواردة عن بعض حالات أصحاب عناصر هذه المجموعة - ما أنْ يكتشف أحد عناصرها أنَّه من الأبدال وما شابه ذلك تعاجله رصاصة الموت، ويعاجله الأجل من الله (عزَّ وجلَّ)، لأنَّ المقدَّر لهذه المجموعة أنْ لا تكشف ولا تبدي ولا تبرز عناصرها، ومن ثَمَّ ما أنْ يحين انكشاف عنصر من عناصرها وواحد من أفرادها حيث يُعرَف بالتقى وبالصلاح وبأنَّ له نحو من الأدوار الغيبيَّة يعاجل بمجيء الأجل الإلهي، ومجيء الأجل نوع من التصفية لوجوده العلني, كي لا يصبح وجوده مخلًّا ومربكاً لدور تلك المجموعة، وهذا شبيه ما يُعتمَد الآن في المجموعات الأمنيَّة أنَّه إذا عُرِفَ تورُّط عنصر في الدول العصريَّة مثلاً في جهاز معيَّن أو ما شابه ذلك يُصفَّى من قِبَل نفس ذلك الجهاز كي لا يكون نافذاً لتسرُّب واختراق العدوِّ في ذلك الجهاز، وإنْ كانت هذه تصفية تنتهجها أجهزة الظالمين وأجهزة دول الطغيان، ولكن هذا النهج موجود أيضاً في التقدير والقضاء الإلهي وليس من باب الغشومة والعدوان, ولكنَّ أصل برنامج ونظام الخفاء الأمني يستدعي مثل هذه الإحاطة وهي عدم بروز العناصر وانكشافها وإلَّا لوافاها الأجل، فإذن ما يُرى بين الفينة والأُخرى من

(١٦١)

ظهور مدَّعين أو متشدِّقين بمثل هذه المقامات في العلن والاشتهار، فهو في الحقيقة نوع من النصب والدجل والحيلة والافتراء لأجل جذب ضعاف العقول أو قليلي المعلومات أو الأُميِّين ومن هم على شاكلتهم, لحرف مسيرة المؤمنين عمَّا هي عليه من الاستقامة, ولقد بات ضروريًّا في مذهب الإماميَّة حتَّى عرفته عنهم المذاهب الإسلاميَّة كافَّة, أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في غيبة وخفاء عن شعورنا به وبوجوده وخفاء إحساسنا به، لأنَّنا في معرض التفاعل مع أدوارهم من حيث لا نشعر، وهو يقوم مع المجموعات الإلهيَّة بتلك الأدوار الحسَّاسة الخطيرة من حيث لا نشعر ولا نعرف تلك الأدوار وطبيعتها وآثارها القريبة, وإنْ كنَّا نشعر بالآثار العامَّة التي يقومون بها، ومن ثَمَّ فقد اتَّفقت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعها أنَّ من ادَّعى الرؤية فهو كاذب، والمقصود من الرؤية ليس أصل التشرُّف بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد بيَّنَّا أنَّه يمكن أنْ تصبح هناك حالات من التشرُّفات, كما في ظاهرة النبيِّ يوسف (عليه السلام) وغيبته، أو حتَّى ظاهرة الخضر، وإنَّما المقصود هو أنَّ من يدَّعي الرؤية لا يدَّعي بها إلَّا لأجل غرض احتلال موقعيَّة الوساطة بين الإمام الغائب وبين البشريَّة، وهذه الدعوى وإنْ لم تُدَّعَ صريحاً من قِبَل أصحاب النصب والاحتيال والدجل والفرية، إلَّا أنَّها ادُّعِيَت على مستوى الوصول والالتقاء بالإمام الغائب أو برجال الغيب الذين هم من هذه المجموعة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم.
فمثل هذه الدعاوى تُغلِّف الدعوة الأصليَّة التي يريد صاحب النصب والاحتيال ادِّعاءها, وهو أنَّه سفير أو نائب خاصٌّ أو كونه واسطة أو كونه من موالي الإمام الغائب الحجَّة (عجَّل الله فرجه) مع بقيَّة الدوائر البشريَّة، وللأسف فإنَّ هذه الافتراءات والأكاذيب تنطلي على ضعاف العقول وعلى قليلي المعرفة, وإلَّا فقد بات الأمر ضروريًّا كما تُؤكِّد سورة الكهف لهذه المجموعة أنْ تكون في الخفاء,

(١٦٢)

ومن ثَمَّ نشاهد في بدء لقاء النبيِّ موسى (عليه السلام) مع الخضر أنَّ الله وضع لموسى (عليه السلام) من دون علم وصيِّه يوشع بن نون - الذي عبَّر عنه في الآية بفتاه - علامتين هما: مجمع البحرين, وانسياب السمكة أو الحوت إلى الماء، فتلك العلامتان رمزيَّتان خفيَّتان وضعاً, إذا افترضنا أنَّه سوف يشاهد الخضر من تلك المجموعة، وحتَّى بعد اللقاء فإنَّ النبيَّ موسى (عليه السلام) يطلب وبالتماس من الخضر أنْ يواصل لقاءه وبقاءه معه: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ (الكهف: 66), يستجيز الخضر ليبقى معه, فأجابه الخضر: ﴿قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ (الكهف: 67 و68), إلَّا أنَّ الفترة كانت وجيزة، وكان اللقاء متواصلاً بين النبيِّ موسى والخضر (عليهما السلام) حتَّى وصل إلى ساعة الافتراق، ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ (الكهف: 78).
فنبيُّ الله موسى (عليه السلام) المرسَل وهو من أُولي العزم لم يدم وصاله واتِّصاله بهذه المجموعة، فكيف بغيره؟! على أنَّ نفس الآيات تُعطينا زوايا عديدة وملامح كثيرة على سرّيَّة وخفاء هذه المجموعة وأنَّها لا تتَّصل في المكشوف مع علم البشريَّة وإنْ كانت تقوم بأدوار في خضمِّ المجموعة البشريَّة وفي خضمِّ النُّظُم البشريَّة ولكن ليس هناك معرفة بهم وبهويَّتهم وبحقيقة ما يقومون به من أدوار، هذه التعبيرات ليست عبطاً وإنَّما هي تعبيرات لها مؤدَّيات أمنيَّة استراتيجيَّة في الخطَّة الإلهيَّة لإصلاح البشر، حيث إنَّ ظاهرة الخضر كما تعرَّضنا لها مراراً استُعرِضَت لأجل طمأنة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بدء سورة الكهف عن وجله حول بقاء الدِّين وتحقيق الوعد الإلهي بإظهار الدِّين على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون كما في الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33), حيث استعرضت المحور

(١٦٣)

الأصلي في هذه السورة: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف: 6), حينئذٍ تواصل السورة بيان ضمانات إلهيَّة لطمأنة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإبقاء الدِّين من الحالة الفطريَّة للبشر كما في مثال أصحاب الكهف والرقيم، ومنها استخلاف الخليفة، وهو الإمام الذي له مُلك عظيم يعني مُلك التدبير ومُلك القدرة وطاعة كلِّ ملائكة الله بكلِّ طبقاتهم له كما استعرض ذلك القرآن الكريم في سور عديدة، ومنها إحاطة هذا الخليفة بضمانة ثالثة وهي المجموعة البشريَّة: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ (الكهف: 65), مجموعة عباد مزوَّدين بالعلم اللدنِّي ومزوَّدين برحمة ولطف إلهي خاصٍّ يقومون بهذه الأدوار، فالسيرة التي شاهدها النبيُّ موسى (عليه السلام) من الخضر هي أدوار مفصليَّة مصيريَّة خطيرة عصيبة جدًّا وحسَّاسة في النظام البشري مشحونة بالجوِّ الرمزي وجوِّ الخفاء الأمني في التعامل بين النبيِّ موسى (عليه السلام) والخضر في اللحظة الأُولى: ﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ (الكهف: 70)، لأنَّ عمليَّة الأخذ والعطاء الحواري والكلامي تُسبِّب كشف القناع عن تلك الأوامر والمسؤوليَّات والأدوار التي أُوعزت إلى تلك المجموعة والتي تقتضي الخفاء في كيفيَّة التنفيذ وفي كيفيَّة القيام بها وفي كيفيَّة مواصلتها، ومن ثَمَّ فالآية الكريمة تُوحي بالأجواء الأمنيَّة بشكل واضح, وأنَّ من شرائط صحبة النبيِّ موسى (عليه السلام) للخضر فيما يقوم به من أدوار أنْ يكون هناك نوع من الصرامة في الإجراء وفي التنفيذ من دون أيِّ عائق وأيِّ تلجلج وأيِّ تلكُّؤ. وطبيعة الأدوار الخفيَّة سواء أكانت بيئتها اقتصاديَّة أم أمنيَّة أم سياسيَّة أم اجتماعيَّة خيريَّة محضة تتطلَّب أنْ تنجز في ظلِّ الأجواء السرّيَّة والحكومة الخفيَّة، وطبيعتها تتطلَّب نوعاً من الصرامة والسرعة في الإنجاز والإنفاذ، ومن دون أيِّ معوِّق واعتراض وما شابه

(١٦٤)

ذلك، يعني ليست طبيعة أداء تلك الأدوار أنْ تأخذ لوناً وطابعاً كما هي أدوار الحكومة في العلن وعلى المكشوف من مداولة الأُمور وبترسُّل وأخذ ونقاش ومصادقة مجلس نيابة أو ما شابه ذلك من أُمور معيَّنة، بل تلك الأُمور في حالة الخفاء تتَّخذ جانب السرعة والإنفاذ والبتِّ والصرامة وعدم المعوِّقات، فهذه آية أُخرى من الآيات في ظاهرة النبيِّ موسى مع الخضر (عليهما السلام) ومجموعته وشبكته البشريَّة تُدلِّل على أنَّ الأدوار في أيِّ حقل من الحقول التي هي أدوار في الخفاء تمتاز بهذا الطابع وبهذه المعالم.
الأدوار الثلاثة للخضر:
نعم بعد ذلك تواصل الآيات استعراض مثل هذه الأدوار التي يقوم بها الخضر: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ (الكهف: 71 - 78), فطبيعة هذه الأدوار الثلاثة التي هي نموذج لما شاهده النبيُّ موسى (عليه السلام) مع الخضر غير معلومة الوجه, يعني حتَّى الدور ونفس الفعل الذي يقوم به الخضر ومجموعته هو غير واضح بالنسبة للناظر من بعد أو من قرب، حيث لا يكون هو في ضمن تلك الشبكة الإلهيَّة والمجموعة الإلهيَّة المسندة لها تلك الأدوار

(١٦٥)

والبرامج، ويا له من خفاء، ويا له من غموض في السرّيَّة وتوغُّل في الاستتار الشديد، حتَّى إنَّ أفعالهم وحركاتهم غير معلومة الوجهة وغير معلومة الغاية والحكمة والهدف الظاهر، تلك الأفعال ربَّما لا يستطيع الناظر حتَّى من قرب أنْ يترجمها وإنْ كان نبيًّا من أنبياء الله كموسى (عليه السلام) الذي هو من أُولي العزم ومرسَل, فكيف بغيره؟
بعد ذلك يقول له الخضر: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾, الاعتراض أو التلكُّؤ أو التلجلج أو البطء في إنفاذ المأموريَّات ممَّا لا يتحمَّله مقام ووضعيَّة وبيئة هذه المجموعة التي اعتادت على الإنجاز والحتميَّة مع صرامة الأمر الإلهي، فلا يقبل أيَّ نوع من البطء والعوائق والتأخُّر، مع أنَّ الخضر من أولياء الله وأصفياء الله، وأدبه مع النبيِّ موسى (عليه السلام) أيضاً كان أدباً إلهيًّا عاليًّا، كما أنَّ النبيَّ موسى (عليه السلام) كان في تعامله مع الخضر يبدي ذلك الأدب الرائع الإلهي النبوي، ويتوضَّح أدب الخضر في حديثه مع النبيِّ موسى (عليه السلام)، قال: ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي﴾, ولم يقل له: اتِّبعني، هذا نوع من الأدب, حيث جعل الخيار بيد موسى (عليه السلام)، ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي﴾, لكن هنا أتى نوع من الحسم، لأنَّ طبيعة هذه المجموعة لا تقبل - كما مرَّ بنا - البطء ولا التراخي ولا التلكُّؤ ولا التلجلج، لأنَّه لا بدَّ من القيام بمسؤوليَّة عالية.
طبيعة الأدوار في ظاهرة الخضر ومجموعته الخفيَّة:
وتتجلَّى أهمّيَّة هذه الأدوار بما يُوضِّحه الخضر نفسه بقوله: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً﴾ (الكهف: 78 و79), فخَرْقُ السفينة في ظاهره تجاوز وعدوان على ملك

(١٦٦)

أصحاب السفينة، ولذلك اعترض النبيُّ موسى (عليه السلام): ﴿قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا﴾ (الكهف: 71), لأنَّ ذلك في ظاهره أمر مشين، أو فعل فيه إفساد, ولكن هذا الفعل بلحاظ عاقبته فيه تمام المصلحة، وهذا الفعل يُمثِّل في طبيعته أنَّ هذه المجموعة البشريَّة لها دور في الوضع الاقتصادي والوضع التجاري والوضع المالي والوضع المعيشي للبشريَّة، يعني تقوم بأدوار مهمَّة لإنجاء البشريَّة في وضعها المعاشي والغذائي والاقتصادي والمالي والتجاري عن فساد الإقطاعيِّين وإفساد الأغنياء الذين يبطرون في غناهم ويمتصُّون ثروات الطبقات المحرومة، فلهم هذا الدور من إيجاد العدالة النسبيَّة الماليَّة في المجتمعات البشريَّة، في قبال وإزاء طبقة الإقطاع وطبقة المستشرين في امتصاص ثروات وحقوق الطبقات المحرومة المسحوقة, فهذا الفعل له هذا الطابع، ويدلُّ على أنَّه من أدوار هذه المجموعة البشريَّة وهو إرساء العدالة ولو بدرجة نسبيَّة، لئلَّا يعمَّ الفساد الاقتصادي والمالي والتجاري والفساد في معاش البشر إلى ذروته, فهم يقفون حائلاً دون استشراء الفساد المالي, وإنْ كانت العدالة المطلقة الماليَّة هي عند ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهذا مثلٌ ضربه الله في سورة الكهف لطمأنة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بقاء الدِّين، والنظام الاجتماعي وصلاحه، وعدالته في بُعده المالي وبُعده المعاشي، وهذا دور مهمٌّ, وهذا النموذج الذي استعرضته لنا الآية الشريفة من ظاهرة فعل النبيِّ موسى (عليه السلام) مع الخضر أو ظاهرة الخضر مع الشبكة الخفيَّة البشريَّة.
الحقل الثاني الذي تنبئنا به ظاهرة الخضر أيضاً وسورة الكهف عن أدوار مجموعة الخضر وشبكته الخفيَّة قضيَّة الغلام: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا﴾ (الكهف: 80 و81), فتعبير (أردنا) بدلاً من (أردت) يدلُّ على أنَّه ضمن مجموعته، وتأكيد على أنَّ هذه

(١٦٧)

الأدوار تقوم بها هذه المجموعة والشبكة الخفيَّة من أبدال وأوتاد وسُيَّاح والمعروفين أيضاً في اصطلاح علماء المسلمين برجال الغيب.
﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ (الكهف: 81)، ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) وربَّما أيضاً في روايات مذاهب المسلمين الأُخرى - وأهل البيت (عليهم السلام) أدرى بما في البيت - أنَّ هذا الابن الذي قضى عليه الخضر ﴿قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾ (الكهف: 74), لو قُدِّر بقاؤه لكان يحول دون تولُّد سبعين نبيًّا(50).
اُنظر ضخَّ سبعين نبيًّا في المجتمعات البشريَّة كم هو مؤثِّر في صلاح البشريَّة، وماذا يُحدِث حذفَ هذا الرقم من المصلحين الإلهيِّين والحُجَج الإلهيِّين، وماذا ينجم عنه من انحطاط البشريَّة وانحدارها، فهذا الدور الثاني وله طابع آخر.
سؤال: ربَّما يعنُّ سؤال، وهو أنَّه إذا كانوا يحولون دون الفساد والظلم في الأرض، إذن كيف أنبأتنا الروايات المتواترة عند الفريقين عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) بعد طول غيبته وقيامه بالأدوار الخفيَّة يظهر بعد ما تملأ الأرض ظلماً وجوراً فيملأها قسطاً وعدلاً؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(50) روى الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 6/ ص 6 و7/ باب الدعاء في طلب الولد/ ح 11) بسنده عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ اَللَّخْمِيِّ، قَالَ: وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا جَارِيَةٌ، فَدَخَلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، فَرَآه مُتَسَخِّطاً، فَقَالَ لَه أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْحَى إِلَيْكَ أَنْ أَخْتَارُ لَكَ أَوْ تَخْتَارُ لِنَفْسِكَ، مَا كُنْتَ تَقُولُ؟»، قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ: يَا رَبِّ، تَخْتَارُ لِي، قَالَ: «فَإِنَّ اَللهَ قَدِ اِخْتَارَ لَكَ»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اَلْغُلَامَ اَلَّذِي قَتَلَهُ اَلْعَالِمُ اَلَّذِي كَانَ مَعَ مُوسَى (عليه السلام) وَهُوَ قَوْلُ اَلله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً﴾ [الكهف: 81]، أَبْدَلَهُمَا اَللهُ بِهِ جَارِيَةً وَلَدَتْ سَبْعِينَ نَبِيًّا»؛ ورواه العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 336 و337/ ح 60).

(١٦٨)

فكيف يكون الخليفة وهذه المجموعات من رجال الغيب التي تُنبئنا بحقيقتهم وظاهرتهم سورة الكهف يحولون دون استشراء الفساد والظلم والجور؟
الجواب: أنَّ المقصود من هذا الشرط للظهور المذكور في الأحاديث النبويَّة شرط بيئي، وإلَّا فمسؤوليَّة الإصلاح ملقاة على عاتق الجميع, كلُّهم مكلَّفون بالحيلولة دون الفساد والظلم والجور ومجابهته، والمقصود امتلاؤها ظلماً وجوراً بحيث لا يمكن حتَّى لهذه المجموعة البشريَّة والشبكة الإلهيَّة أنْ تقوم بأدوارها من الإصلاح في ظلِّ الخفاء مع قطب رحاهم وهو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فإذا كانت بيئة الخفاء لا تفسح المجال ولا تُمكِّن من الحيلولة دون الفساد في الأرض وسفك الدماء، يأتي حينئذٍ موعد الظهور ليبرز رجال الغيب وأمامهم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على منصَّة ومسرح الظهور لينفذ حينئذٍ وعد الله (عزَّ وجلَّ) بنشر القسط والعدل في الأرض, وإلَّا فدائماً وجود الإمام ووجود الخليفة مع هذه المجموعة التي تحيط به، هو للحيلولة دون استشراء وامتلاء الأرض بالفساد والظلم والطغيان والجور وسفك الدماء وقطع النسل البشري.
وهذه المجموعة التي تستعرضها لنا سورة الكهف هي الضمانة الثالثة لإبقاء وحماية الدِّين، وتحوط خليفة الله في الأرض وتأزره في القيام بأدواره, وكما مرَّ بنا أنَّ دور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الغيبة ليس دوراً ذا طابع فردي، وإنَّما هو دور ذو طابع نظمي وحكومي في ظلِّ حكومة خفيَّة وأعوان مسندون يخترقون النُّظُم البشريَّة ويعيقون سياسات الظلم والإجحاف والإفساد في الأرض, ويصلحون ما قُدِّر لهم وما خُطَّ وحُدِّد لهم من قِبَل السياسة الإلهيَّة في أوامر الله (عزَّ وجلَّ) التي تتنزَّل عليهم في العلم اللدنِّي, ويحولون دون استشراء الفساد والظلم والجور وسفك الدماء.

(١٦٩)

والملاحظة المهمَّة الأُخرى في طبيعة هذه المجموعة أنَّها لا تقتصر في سياساتها وأدوارها المحسوبة على أُفُق قصير المدى، أو على تداعيات مقطعيَّة، وكيف وهي سياسات قد أُرسيت من قِبَل الله تعالى, وهي أُمور وبرامج قد خُطِّط لها من قِبَل خالق البشر, فلا يُقدِّر لها أنْ تكون تداعياتها مقطعيَّة حاليَّة تقتصر على أُفُق قصير المدى كما هو الحال في النُّظُم البشريَّة ذات سياسات الخمسين سنة أو العشرين سنة أو العشر سنين استراتيجيَّات يبنونها ويُقدَّر لها أنْ تصيب عقوداً من السنين، أمَّا في السياسات الإلهيَّة وفي البرامج الإلهيَّة، فهناك تدبيرات وسياسات يُقدَّر لها أنْ تتجاوز الحدود والآفاق القصيرة، بل إلى حدود وأمواج تبرز تداعياتها في البحر البشري إلى يوم القيامة، لو تصوَّرنا هذا الدور كحجر يلقى في ذلك البحر، فكيف أنَّ أمواجه تصل إلى نهاية ذلك البحر ونهاية ساحل ذلك البحر, هكذا يحسب في التخطيط والبرنامج الإلهي الذي يعزى ويوكل لتلك المجموعة البشريَّة الخفيَّة فيما تقوم به من أدوار، لأنَّ محاسبة أنْ التنسيل البشري تضخُّ فيه سبعين نبيًّا أو لا يضخُّ فيه، هذه محاسبات ليست بالسهلة، وإلى الآن فإنَّ أُفُق العلم البشري حتَّى في علم الأحياء وعلم التنسيل البشري وعلم الدِّين وعلم الوراثة والهندسة الوراثيَّة يريدون أنْ يتوصَّلوا إلى كيفيَّة تخصيب وتحسين النسل البشري ضمن محاسبات حدسيَّة وليست محاسبات قطعيَّة, ضمن محاسبات إعداديَّة وليست محاسبات باتَّة, وإلى الآن لم يصلوا، بينما في السياسة الإلهيَّة والأدوار والبرامج الموكولة والمأمور بها تلك المجموعة قد حسب وحسم فيها مثل هذه المحاسبات.
فهذا الدور الثاني لهذه المجموعة ذو طابعين: طابع في الحقل الاجتماعي والتنسيل البشري، ومسار صلاح وإصلاح النظام البشري وتنسيله وهدايته، وهو طابع اجتماعي وعقائدي محض. والطابع الثاني في

(١٧٠)

هذا الدور الثاني الذي يبرز أنَّ محاسبات هذه الأدوار ليست في نطاق سياسات قزمة وقتيَّة مقطعيَّة, بل هي في سياسات واسعة النطاق, في سياسات بعيدة المدى, آثارها ونتاجها يصل إلى آفاق لا يمكن حسبانها في الذهن والعلم البشري الحالي، وهذا أمر مهمٌّ، ممَّا يُدلِّل على أنَّ خطورة دور هذه المجموعة البشريَّة حسَّاس وخطير وفي موقع عصيب يقع في مفاصل خطيرة في العمود الفقري للأجيال البشريَّة، وليس للجيل الحاضر فقط، وهذا ما تعجز عنه نُظُم البشر الحاليَّة، إلَّا من المحاسبات الحدسيَّة اليسيرة لم تحسم نتائجها ودرجة الإدراك العلمي فيها.
هذا الطابع الثاني في الدور الثاني الذي قام به الخضر أمام مشهد النبيِّ موسى كعيِّنة يسيرة.
الدور الثالث الذي قام به الخضر ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ (الكهف: 77), هذه الآيات، هذه المقاطع، هذه الحالات التي تستعرضها لنا سورة الكهف تُركِّز في الفكر أنَّ الحكومة الخفيَّة لرجال الغيب لا يقومون بالتفرُّج فقط على الوضع الراهن وما سيأتي من مستقبل، بل تجري في محاسبات أدوارهم وبرامجهم وخُطَطهم آثار الماضي وترابطها مع الوضع الراهن، وارتباطهم مع حلقات المستقبل، ولربَّما هذا لا نجده في سياسات الدول، الربط بين تاريخ الماضي وحالات الوضع الراهن وبيئته الفعليَّة وحلقات المستقبل.
وفي الحقيقة إنَّ هذا الدور الثالث معطوف على الدور الأوَّل والدور الثاني من أنَّ السياسات الإلهيَّة التي هي مبرمجة لأدوار هذه الشبكة الخفيَّة البشريَّة تلاحظ وتراعي حلقات الماضي وحلقات الوضع الراهن، وحلقات المستقبل في

(١٧١)

ضمن نظم نسيجي إعجازي باهر، وهذا ما لا تستطيع أنْ تُؤمِّنه النُّظُم البشريَّة في ذلك.
ومن نافلة القول أنَّ العناية التامَّة الكاملة ستكون عند الظهور، عندما يملأها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مع هذه المجموعات من أعوانه ووزرائه قسطاً وعدلاً, ولكن قبل ذلك تكون بقدر نسبي كما قال الباري تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (البقرة: 30), يعني إنَّ أبرز شيء في الخليفة أنَّه دارئ للفساد المطبق في الأرض، هو دارئ وحائل دون سفك الدماء وقطع التنسيل البشري, لكن الإصلاح التامُّ «يَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَعَدْلاً»، هذا يكون عند ساعة الظهور، ودولة الظهور، ومهما يكن فإنَّ الباري تعالى يُنبئنا ويُحدِّثنا أنَّه لا يضيع أجر عامل, ليس فقط في الجزاء الأُخروي، وليس فقط في ضمن دائرة وسُنَّة القضاء والقدر التكويني الإلهي, بل ضمن النظام الإلهي السياسي والنظام البشري، ولكن هو جهاز بتأسيس ربَّاني وإلهي أعضاؤه وعناصره مزوَّدون بالعلم اللدنِّي واللطف الخاصِّ، والباري تعالى يجازي عبر الحكومة التي أُسِّست من قِبَله تعالى, هذه الحكومة التي من الظاهر أنَّها ليست مختصَّة بحقبة النبيِّ موسى (عليه السلام) ولا مختصَّة أيضاً بحقبتنا نحن الأُمَّة الإسلاميَّة, باعتبار أنَّها ذكرت نموذجاً كإجابة للوجل حول بقاء الدِّين الذي استُعرِضَ في مطلع سورة الكهف, إنَّما ذكر هذا أُنموذجاً إيجابيًّا وضمانة ثالثة لبقاء الدِّين في هذه الأُمَّة الإسلاميَّة، وفي هذا العصر أيضاً هذه السُّنَّة الإلهيَّة ليست سُنَّة خاصَّة بحقبة النبيِّ موسى (عليه السلام) إلى أُمَّتنا هذه، بل كانت من عهد آدم (عليه السلام) إلى يومنا هذا، لأنَّه كما مرَّ بنا أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) جعل إبراهيم (عليه السلام) إماماً وجعل من ذرّيَّته أئمَّة كيعقوب وإسحاق ونسل إسماعيل (عليهم السلام)، ﴿آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ (النساء: 54), كما تُحدِّثنا

(١٧٢)

بذلك سورة النساء، ولكن لم يكن له في الظاهر مُلك مكشوف، أو ولاية مكشوفة، ولم يُحدِّثنا أيُّ مصدر تاريخي عن ذلك، لكن مع ذلك فالنبيُّ إبراهيم (عليه السلام) قد أنجز العجائب، حوَّل أكثر مجتمعات الشرق الأوسط من عبدة أوثان أو كواكب أو نيران وغيرها إلى الملَّة الحنيفيَّة، فتغيير مجتمعات لاسيَّما في عقيدتهم أمر ليس يسيراً كما مرَّ، فلم يكن عمله عملاً فرديًّا، وإنَّما هو عمل ضمن نظام وجهاز إلهي كما تُحدِّثنا بذلك روايات الفريقين من التقاء النبيِّ إبراهيم (عليه السلام) بالأبدال وشبكة الأوتاد وما شابه ذلك كأعوان ووزراء له، وكذلك بنوه الذين وُصِفُوا بأنَّهم أئمَّة وأُوتوا المُلك العظيم، فهو جهاز بشري حكومي مؤسَّس من قِبَل ربِّ العالمين يقوم بنُظُم معيَّنة وطبق خُطَط تتجاوز التخطيط البشري إلى آفاق بوسع حدود علم الله، ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك: 14), علم الله الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض ولا أكبر من ذلك ولا أصغر, ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 38), ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ (يس: 12), وتداعيات كلِّ دور وكلِّ حدث وارتباطها بالبيئات المختلفة، هذا ممَّا يعجز ويثقل بكاهله حتَّى أكثر التمدُّنات البشريَّة، ولو فرضناها بعد قرون بمثل هذه الشبكة من المعلومات والعلوم، وهذا الجهاز الإلهي الذي يُحدِّثنا القرآن الكريم عنه موجود على قدم وساق باعتباره أُنموذجاً ضُرِبَ من عهد النبيِّ موسى (عليه السلام)، بل ذكرنا بعض الشواهد التي تدلُّ على أنَّه من عهد آدم (عليه السلام)، إنَّه أيضاً كان يحول دون الفساد في الأرض، ولا بدَّ أنَّه لم يكن بعمل فردي, وإنَّما بالأسباب الطبيعيَّة بنظام إلهي وأدوات وآليَّات إلهيَّة، وكذلك في عهد نوح (عليه السلام)، وكذلك في عهد إبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، وكذلك في عهد سيِّد الأنبياء وإمام الأئمَّة خاتم النبيِّين (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكذلك في عهد الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام)، وكذلك في عهد الإمام

(١٧٣)

المهدي (عجَّل الله فرجه) وفي ظلِّ غيبته غيبة الخفاء والسرّيَّة والتستُّر، فهذا مثل عظيم ضربه لنا القرآن الكريم أنَّ أدوار هذه الحكومة متنوِّعة متعدِّدة لإرساء العدالة في الحقول المختلفة، نعم القرآن الكريم يُنبئنا بهذا الجهاز البشري المزوَّد بالعلم اللدنِّي والذي يحوط الخليفة المستخلف من قِبَل الله كجهاز وأذرع بعد أنْ ذكر استخلاف الخليفة كسُنَّة دائمة أيضاً في سورة الكهف والتي هي مرصودة إلى الإجابة عن كيفيَّة بقاء الدِّين.
الحسين (عليه السلام) وأصحاب الكهف:
في الحقيقة أودُّ هنا أنْ أذكر هذه النكتة التي ترتبط بسيِّد الشهداء (عليه السلام) مع سورة الكهف، فالمعروف في كُتُب التاريخ والمقاتل والرواية أنَّ رأس سيِّد الشهداء (عليه السلام) - عندما حُوِّلت الرؤوس إلى الطاغية عبيد الله بن زياد وإلى الطاغية يزيد بن معاوية - كان يُردِّد هذه الآية: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً﴾ (الكهف: 9), بعد تلك الآية: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف: 6), وربَّما يتساءل المؤمن والمسلم عن الصلة والمناسبة بين استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وترديده لهذه الآية، ترديد الرأس الشريف كمظهر إعجازي لهذه الآية، في الحقيقة إنَّ صلة استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وقراءته لهذه الآية هي مناسبة تظهر بأدنى تأمُّل وتدبُّر, وهو أنَّ القضاء على حياة سيِّد الشهداء (عليه السلام) بالقتل هو إماتة لعمود الدِّين الذي كان يشيد أركانه سيِّد الشهداء (عليه السلام), قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ»(51), بقاء دين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(51) كامل الزيارات (ص 116/ ح 126/11)، الإرشاد (ج 2/ ص 127)، إعلام الورى (ج 1/ ص 425)، مسند أحمد (ج 29/ ص 103/ ح 17561)، سُنَن ابن ماجة (ج 1/ ص 51/ ح 144)، سُنَن الترمذي (ج 5/ ص 324/ ح 3864).

(١٧٤)

النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من إنجازات سيِّد الشهداء (عليه السلام)، فما عملته الطغمة الطاغية الأُمويَّة من استئصال شجرة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أهل بيته (عليهم السلام) لأنَّهم يحسبون أنَّهم يقضون على الدِّين، والحال أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) ضرب مثلاً في أصحاب الكهف والرقيم أنَّهم كانوا مستضعفين وكانوا يعيشون في حالة من التقيَّة والوجل والخوف ولا يظهرون دين التوحيد أمام ذلك الملك (دقيانوس) الذي كانوا يعيشون في وزارته، وكانوا وزراء له في القصر الملكي، وكانوا موحِّدين ولكن لم يكونوا يجرؤون ليظهروا التوحيد، فكانوا مستضعفين إلى حدٍّ ألجأهم الأمر إلى أنْ يفرُّوا من ديوان الملك إلى الصحراء وآووا إلى الكهف بعد أنْ فُضِحَ أمرهم وكُشِفَ, وبعد أنْ ذهب شرَّ (دقيانوس) واندثرت مملكته واندثر زمانه عاود الله إحياءهم ليثبت الباري تعالى للبشريَّة: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ (الكهف: 21).
فإحياء الله لأصحاب الكهف والرقيم بعد اندثار (دقيانوس) وتفشِّي التوحيد ليُدلِّل الله (عزَّ وجلَّ) على أنَّ العاقبة للمتَّقين, وأنَّ المستضعفين يعودون وارثين للأرض، ويرجعهم الله للدنيا وهم الذين يكونون آيات حقٍّ وآيات هدى، وكذلك الحال في سيِّد الشهداء (عليه السلام)، فإنَّه رغم استشهاده (عليه السلام) وتصفية الطغمة الأُمويَّة له إلَّا أنَّهم لم يبيدوا الدِّين، بل كما نشاهد الآن أنَّ اسم سيِّد الشهداء واسم جدِّه المصطفى واسم دين المصطفى لا زال يرفرف خفَّاقاً في أرجاء العالم وسينشر في أرجاء العالم على يد ابنه وولده المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأين ذكر يزيد؟ إنَّه في مزبلة التأريخ وأصبح مورد لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وبقي سيِّد الشهداء (عليه السلام) اسماً خالداً ونبراساً ينير البشريَّة ضياءً وهدايةً.
فهناك صلة وثيقة بين ما جرى لأصحاب الكهف وما جرى لسيِّد الشهداء (عليه السلام)، لاسيَّما وإنَّنا نؤمن برجعة أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) بعد دولة ابنهم

(١٧٥)

الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأنَّهم سيحكمون في الأرض، وعقيدة الرجعة عقيدة أصيلة قرآنيَّة لها حديثها الخاصُّ، فهذه صلة واضحة بين سورة الكهف وما جرى لسيِّد الشهداء (عليه السلام)، سيَّما وأنَّ ذكر قصَّة وظاهرة أصحاب الكهف ذكرت في سورة الكهف للدلالة على ضمانة: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف: 6), يعني أنَّ المحور الأصلي لسورة الكهف هو بقاء الدِّين وعدم زوال الدِّين، ولاستشهاد سيِّد الشهداء (عليه السلام) صلة وثيقة جدًّا وطيدة بإبقاء الدِّين وضمان بقاء الدِّين.
الضمانات الأُخرى التي ذكرها القرآن الكريم في سورة الكهف: استخلاف الخليفة كضمانة ثانية محوريَّة، والضمانة الثالثة هي هذا الجهاز الخفيُّ والشبكة الخفيَّة الإلهيَّة التي هي حكومة بشريَّة مؤسَّسة من قِبَل الله تعالى, ونظمه مزوَّد بعلوم خاصَّة ونظام حاسم وخُطَط ومخطَّطات مرسومة ومهندسة على الضوء العلمي الإلهي الذي لا يُحدِّده أُفُق، ولا يقف في الإحاطة بالأُمور بدوائر قصيرة أو مقطعيَّة أو حلقات قصيرة، بل يحسب فيه حساب التداعيات والحلقات كلَّها، حلقات الماضي والحاضر والمستقبل، حلقات البيئة الماليَّة والاجتماعيَّة والإصلاحيَّة من الضمان والكفالة الاجتماعيَّة، نُظُم تفوق قدرة البشر، كما ستوافينا بحوث أُخرى في الظواهر القرآنيَّة أنَّ هذا النظم الإلهي يعتمد على معلومات وإحصائيَّات لا تُخطئ، وكمٍّ هائل بالمعلومات تقصر عنها بحوث الدراسات الاستراتيجيَّة العصريَّة في الدول الكبرى ولا تجدها في أيِّ مركز من مراكز البحوث والاستراتيجيَّات لصناعة الخُطَط والسياسات للدول المعاصرة، فلا يقاس علم الله بعلم المخلوقات، فإذا كان جهازاً مبنيًّا نظمه وخُطَطه وسياساته ورموزه على علم الله فكيف ظنُّك به، لا بدَّ حينئذٍ أنْ يحسب فيه كلَّ هذه الحلقات وكلَّ هذه

(١٧٦)

التداعيات وكلَّ هذا النسيج والتنسيق المترابط فيما بين بعضها البعض، ومن ثَمَّ أبرز القرآن الكريم عيِّنة يسيرة من الفترة اليسيرة التي اصطحب فيها النبيُّ موسى (عليه السلام) للخضر وأعطانا ثلاثة أدوار متنوِّعة في حقول وبيئات مختلفة وفي منعطفات بشريَّة حسَّاسة.
حقيقة العلم اللدنِّي والشريعة الباطنة:
في ختام هذه الظاهرة هناك محطَّة أخيرة مهمَّة جدًّا يجب أنْ نتريَّث بها ونتدبَّرها بعمق، فالنبيُّ موسى (عليه السلام) صاحب شريعة والخضر صاحب علم لدنِّي، وهنا تأويل قد ورد ربَّما في جملة من كلمات المفسِّرين, أنَّ النبيَّ موسى (عليه السلام) صاحب الشريعة الظاهرة, وأنَّ الخضر صاحب الشريعة الباطنة.
في الحقيقة وحسب ما يُستفاد من روايات وتعاليم أهل البيت (عليهم السلام) وعلومهم، وبحسب ما استفدته واستظهرته من تعاليمهم (عليهم السلام) أنَّ الشريعة هي واحدة، ليست لدينا شريعة ظاهرة وشريعة باطنة، لكن الشريعة الكلّيَّة العامَّة إذا أُريد لها التطبيق الحرفي الدقِّي الذي لا يُخطئ في الحكم والمصالح التي شُرِّعت الشريعة من أجلها ترافقها آليَّات تُطبَّق بعلم لدنِّي يُراد لها سياسات في التطبيق تُرسَم بالعلم اللدنِّي المحيط بالبيئات الموضوعيَّة, وموضوع البيئات بشكل مستقصى لا يعزب عنه ظاهرة موضوعيَّة ولا بيئيَّة ولا تداعياتها, وطبعاً على علم خاصٍّ, فليس يكفي فيه العلم بالوحي وهي الشريعة ووحي النبوَّة، بل احتاج إلى علم التأويل، خاتم الأنبياء وسيِّد الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو إمام الخلق وإمام الأئمَّة (عليهم السلام) فإنَّه في عقيدة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هو إمام الأئمَّة الاثنا عشر (عليهم السلام)، فإنَّهم (عليهم السلام) أيضاً لهم إمام وهو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وهو أعظم درجةً ومقاماً, وهم الوارثون لعلومه، وهو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لديه علم الشريعة وعلم التأويل،

(١٧٧)

وقد ورث أهل بيته (عليهم السلام) منه علم التأويل, الذي يُعبِّر عنه القرآن الكريم أيضاً بالعلم اللدنِّي، اُنظر هنا في مطلع السورة يُحدِّثنا القرآن الكريم عن ظاهرة الخضر: ﴿فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65), لطف خاصٌّ وقدرة خاصَّة, فما آثار هذا العلم اللدنِّي الذي أراد النبيُّ موسى (عليه السلام) صاحب الوحي النبوي أنْ يتعلَّم منه كما يُحدِّثنا بذلك القرآن الكريم: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ (الكهف: 66), هذا جُمِعَ بأكمله وبأقاصي درجاته لسيِّد الأنبياء وخاتم الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقد كان لديه علم التأويل وعلم التنزيل والعلم اللدنِّي، إلَّا أنَّه في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) لا يُحدِّثنا القرآن الكريم أنَّه لم يكن للنبيِّ موسى (عليه السلام) شيء من علم التأويل، ولكن كأنَّما الدرجة التي كانت لدى الخضر من علم التأويل والعلم اللدنِّي لم تكن لدى النبيِّ موسى (عليه السلام), على رغم أنَّه ما كان لديه وحي الشريعة ووحي النبوَّة, والنبيُّ موسى (عليه السلام) كان من أُولي العزم وشريعته ناسخة للشرائع التي قبله.
العلم اللدنِّي وعلم التأويل عند الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
إنَّ النبيَّ موسى (عليه السلام) رغم كونه صاحب شريعة ناسخة للشرائع السابقة إلَّا أنَّ هذا الوحي وهذا العلم بالشريعة الوحياني النبوي مغاير للعلم اللدنِّي وعلم التأويل, وقد حار المفسِّرون في كيفيَّة تفسير هذه الظاهرة, حيث إنَّ في مطلعها قول النبيِّ موسى (عليه السلام) للخضر: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ (الكهف: 66), فالعلم اللدنِّي يغاير العلم بالشريعة.
وتُستخلَص حقيقة عظيمة من هذه السورة, ويجب أنْ يفهمها كلُّ مسلم,

(١٧٨)

وهي أنَّ كلَّ شريعة لها تأويل في مقام التطبيق والإقامة, ولا يستطيع أنْ يُطبِّقها بحقيقة تأويلها إلَّا حاكم زُوِّد بالعلم اللدنِّي الإلهي. وهذه السورة تُبرز لنا ضرورة عقائديَّة، وهي أنَّه كلُّ شريعة لا بدَّ لها من حاكم إلهي, حاكم منصوب من قِبَل الله, إمام منصوب من قِبَل الله تعالى مزوَّد بالعلم اللدنِّي, فهو الذي يستطيع أنْ يُطبِّق هذه الشريعة بتطبيق لدنِّي إلهي لا يُخطئ الحقائق والصواب قيد شعرة.
اُنظر هنا صاحب الشريعة النبيَّ موسى (عليه السلام) كيف قد تفاجأ واستغرب واستنكر تطبيقات يقوم بها الخضر, وربَّما حسبها أنَّها تتنافى مع ضوابط الشريعة, لكن بعد أنْ أوَّل له الخضر: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 78), زال استنكار النبيِّ موسى (عليه السلام), أي إنَّه قد رأى أنَّ كلَّ هذه الأدوار قد رُوعي فيها ضوابط الشريعة الظاهرة, لكن رعاية هذه الضوابط الشرعيَّة في الشريعة الموسويَّة بأدوات علم التأويل والعلم اللدنِّي وتطبيقه لم يكن في علم البشر ولا قدرتهم الوصول إلى ذلك التطبيق الهائل العظيم لإقامة الشريعة, إلى أنْ يقول: ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ (الكهف: 82), أخبر عن الإرادة الإلهيَّة.
إذن كما أنَّ هناك إرادة في الشريعة عامَّة, فهناك إرادات خاصَّة متنزَّلة لتطبيق تلك الإرادة العامَّة, متنزَّلة لتطبيق الشريعة بتوسُّط العلم اللدنِّي, ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 82).
وما يدلُّك على أنَّ علم التأويل له كامل الصلة, وأنَّه ركن الأركان في إقامة الحكم الإلهي وفي إقامة الشريعة, وبفصيح القول وبعالي الصوت تخاطبنا سورة الكهف: أيُّها المسلمون أيُّها القُرَّاء للقرآن الكريم انتبهوا وعوا واستيقظوا

(١٧٩)

فإنَّ الشريعة واحدة في الظاهر والباطن, وأنَّ لها حاكماً إماماً يعلم بالتأويل بتوسُّط علم لدنِّي, لأنَّه هو الذي يستطيع أنْ يقيم الشريعة بلا اخترام مورد من الموارد, وبلا إخفاق بيئة من البيئات، هو الذي يستطيع أنْ يُشيِّد ويقيم أركان الدِّين بوصاية ربَّانيَّة وبهداية ربَّانيَّة وإرشاد ربَّاني يصيب الأشياء والحقائق ولا يُخطئها، إذ كلُّ شريعة لا بدَّ لها من علم تأويل, وهذا ليس خاصًّا بحقيقة شريعة النبيِّ موسى (عليه السلام), كيف وشريعة سيِّد الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هي من أبلغ الشرائع؟
وحينما ننظر في عصرنا الحاضر نتساءل من هو المزوَّد بالعلم اللدنِّي؟ وأيُّ مدرسة إسلاميَّة اشترطت في الحاكم والإمام أنْ يكون مزوَّداً بعلم لدنِّي يغاير مقام النبوَّة ويغاير مقام الرسالة, وهو مقام اصطفائي إلهي كما يُحدِّثنا القرآن الكريم عن الخضر, إذ لم يُعرِّفه بالنبوَّة أو بالرسالة كبطاقة شخصيَّة لتعريف هويَّته, وإنَّما عرَّفه أنَّ لديه أدواراً حكوميَّة ضمن جهاز يقوم بأنشطة مفصليَّة لمسار النظام البشري، وذلك بتزويدهم بالعلم اللدنِّي وعلم التأويل, فمن هو حينئذٍ الخليفة المزوَّد بعلم التأويل؟ أو أيُّ مدرسة من المدارس الإسلاميَّة اشترطت أنْ يكون الإمام الحاكم المنصوب من قِبَل الله تعالى مزوَّداً بعلم لدنِّي مرتبطاً بالغيب يُؤهِّله لأنْ يطَّلع على إرادات الله وبرامجه التفصيليَّة لإقامة الشريعة؟ أيُّ مدرسة تلك التي اشترطت ذلك؟ فإنَّنا لا نجد غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
الراسخون وعلم التأويل:
ولا نجد القرآن الكريم أيضاً يُصرِّح بأنَّ من هذه الأُمَّة من زُوِّد بعلم لدنِّي وهو علم التأويل غير أهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّ سورة الكهف تفصح لنا أنَّ العلم

(١٨٠)

اللدنِّي هو علم التأويل, كما نقرأ في سورة (آل عمران: 7): ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾, البعض من مفسِّري المدارس الإسلاميَّة الأُخرى قالوا: إنَّ (الواو) هنا استئنافيَّة وليست عاطفة, يعني أنَّ الذي يعلم تأويل القرآن هو الله فقط, أمَّا الراسخون في العلم فلا يعلمون, وإنَّما الراسخون في العلم ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾, يعني نؤمن بالمحكم والمتشابه, وطبعاً ﴿يَقُولُونَ﴾ هي صفة أو خبر آخر للراسخين في العلم(52).
لكن الواو هنا هي عاطفة وليست استئنافيَّة, وذلك لعدَّة أدلَّة وبراهين وشواهد:
منها: أنَّ سورة الكهف تُبيِّن أنَّ كلَّ شريعة لها علم تأويل يُزوِّد الله به ثُلَّة من أفراد البشريَّة يستطيعون بذلك أنْ يقيموا الشريعة كما يريدها الربُّ، ويرضاها بتلك الإقامة وتلك الشاكلة من بناء الصرح, ونصُّ القرآن الكريم هكذا يقول في حال الخضر: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65), وقول النبيِّ موسى (عليه السلام): ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾ (الكهف: 66 - 70), ثمّ قول الخضر أيضاً: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 78), ويقول أيضاً في نهاية تلك القصَّة والحادثة التي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(52) للاستزادة راجع: تفسير الرازي (ج 2/ ص 4).

(١٨١)

يرويها لنا القرآن الكريم على لسان الخضر: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 82).
إذن الخضر صاحب علم لدنِّي وتأويل, فإذا كان الله (عزَّ وجلَّ) جعل إقامة كلِّ شريعة بحقيقة الإقامة وإنجازها بحقيقة الإنجاز في الوعد الإلهي والحكمة الإلهيَّة والغاية الإلهيَّة هي بتوسُّط علم التأويل, أليس للشريعة الإسلاميَّة التي هي أكبر الشرائع أنْ يكون من هذه الأُمَّة من يُزوِّدهم الله بالعلم اللدنِّي، أي علم التأويل؟! فلا بدَّ أنْ تكون تلك الواو عاطفة في سورة آل عمران.
العلم اللدنِّي وعلم التأويل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
العلم اللدنِّي وعلم التأويل في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لهما ترجمان ولهما تفسير ولهما موضع في منظومة عقائد أهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّه علم التدبير نفسه، وقد بيَّنته سورة الكهف بشكل واضح جدًّا في ظاهرة الخضر، وهو أنَّه مرتبط بقيامه بأدوار في النظام الاجتماعي، أدوار نظميَّة مرتبطة بالإدارة والتدبير، أي بالقيادة, أي بالإمامة، فسورة الكهف هنا تُبيِّن وتفصح بشكل طافح لائح غير غامض أنَّ العلم اللدنِّي وعلم التأويل مرتبط بتدبير نظام البشر, أي مرتبط بالإمامة وبالخلافة وبالحاكميَّة، فهي موقعيَّة إلهيَّة ومنصب إلهي تُدعى وتُسمَّى بالخلافة الإلهيَّة, ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30), هذا المقام لا يبتر ولا ينقطع عن هذه السُّنَّة الإلهيَّة المستمرَّة من بدو الخليقة البشريَّة إلى نهايتها.
فسُنَّة الله (عزَّ وجلَّ) - كما يُعلِّمنا القرآن من حقائق العقائد التي يجب أنْ نلتزم بها - أنَّ الخلافة الإلهيَّة لم ولن تكون منقطعة, بل مستمرَّة, نعم النبوَّة والخلافة والرسالة خُتِمَت بسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وكان بين كلِّ نبوَّة ونبوَّة وكلِّ رسالة ورسالة فترات, ولكن الخلافة ليس فيها فتور، لأنَّ حلقاتها متَّصلة دائماً من بدء

(١٨٢)

الخليقة ابتداءً بآدم إلى المهدي الثاني عشر خاتم الأوصياء (عليهم السلام), فللنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خلفاء اثنا عشر كما ورد في الحديث النبوي المتواتر بين الفريقين, وهو مطابق لأُصول القرآن والسُّنَّة القطعيَّة.
سؤال:
وهنا يُطرَح هذا السؤال، وهو: هل هناك وجه اشتراك ووجه اختلاف بين الشبكة الإنسانيَّة الخفيَّة في الحكومة الإلهيَّة المزوَّدة بالعلم اللدنِّي وبين الإمامة والخليفة لله تعالى في أرضه المزوَّدة أيضاً بالعلم اللدنِّي؟
الجواب:
في الحقيقة إنَّ بيانات القرآن وبراهينه ونوره وهداه وبصائره الاعتقاديَّة والعقديَّة جليَّة واضحة, بأنَّ الاصطفاء الإلهي لا ينحصر بالنبوَّة والرسالة, بل الاصطفاء الإلهي جعل الفرد البشري المصطفى والمجتبى من قِبَل الله تعالى خليفة لله في الأرض وإماماً, كما في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30), وقوله في شأن إبراهيم (عليه السلام): ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124), ومن الواضح أنَّ هذا الجعل يفترق عن التعبير فيما لو ورد: إنِّي جاعلك للناس نبيًّا، أو إنِّي جاعلك للناس رسولاً, فقول الله تعالى كما ورد في شأن إبراهيم (عليه السلام): ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ هذا التعبير وهذه النغمة اللفظيَّة النوريَّة القرآنيَّة هي على نفس وتيرة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾, فالاصطفاء الإلهي لا ينحصر بالنبوَّة والرسالة, بل يعمُّ، كما أنَّ هناك أنبياءً وليسوا برُسُل فهناك خلفاء لله وأئمَّة وليسوا بأنبياء ولا رُسُل, وقد يكون الأئمَّة المنصوبون من قِبَل الله تعالى أيضاً أنبياء ورُسُلاً, فتُجمَع في بعض الأفراد كما في إبراهيم (عليه السلام), فإنَّه نبيٌّ ورسول وإمام وخليفة لله تعالى في أرضه, لكن هذه مقامات متعدِّدة في الاصطفاء الإلهي, قد تتفرَّق في أفراد وقد تجتمع في فرد ينال

(١٨٣)

أوسمة ومقامات إلهيَّة متعدِّدة, ولكن المهمُّ على المسلم في تبرئة ذمَّته وما يدين الله (عزَّ وجلَّ) به لينجو يوم القيامة هو أنْ يلتفت ويعتقد بما يُقرِّره له القرآن الكريم في حقائقه وبصائره, من أنَّ هناك مقاماً يُسمَّى مقام الإمامة الإلهيَّة ومقام الخلافة الإلهيَّة، له دور تدبير البشر ويُزوَّد بالعلم اللدنِّي, وهو يغاير مقام النبوَّة والرسالة من حيث المقام ومن حيث الإنسان, وإنْ كان قد يجتمع في شخص كما اجتمع في إبراهيم (عليه السلام) واجتمع كذلك في سيِّد الرُّسُل وخاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشكل أجلى وأتمّ, وكذلك هناك مقام رابع يقصُّه ويُبيِّنه لنا القرآن الكريم كما في شأن مريم وفي شأن فاطمة الزهراء (عليها السلام), حيث ورد نصُّ القرآن الكريم بتطهير كلٍّ من فاطمة (عليها السلام) ومريم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33), وقال تعالى في خصوص مريم: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 42)، وكانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ضمن أهل البيت الخمسة, كما ورد نظير ذلك أيضاً في مريم وإنْ كان دون درجة الطهارة في فاطمة (عليها السلام)، لأنَّ درجة الطهارة التي في فاطمة (عليها السلام) كانت من نمط ونوعيَّة الطهارة لسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وإنْ كانت هي تابعة لسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الفضل, لكن أشرك الله (عزَّ وجلَّ) نمط طهارة خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع طهارة فاطمة (عليها السلام), بينما الطهارة التي ذكرها القرآن الكريم في مريم لا تساوي أو تشاكل بينها وبين طهارة سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), ممَّا يُعلَم بأنَّ طهارة فاطمة (عليها السلام) هي بدرجة أرقى وأعلى وأعظم شأناً من طهارة مريم, حيث ورد أيضاً في شأنها أنَّها مصطفاة وأنَّها مطهَّرة, وتُسمَّى: صفيَّة لله، وهي ليست بنبيَّة ولا برسولة ولا بإمام ولا خليفة, ولكنَّها حجَّة من حُجَج الله, ويجب على المسلم أنْ يتدبَّر هذه الحقائق العقائديَّة في القرآن ويستلهم عقيدته من القرآن الكريم.
وعلى طبق ذلك العلم الإلهي الذي زُوِّدت به مريم بقناة غيبية خاصَّة أُمرت

(١٨٤)

مريم ببرنامج إلهي خاصٍّ: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ (مريم: 26), إلى أنْ قامت بأداء ما عليها من وظيفة إلهيَّة, وقد أُوحي إليها بذلك, وليس هذا وحي شريعة ولا نبوَّة ولا وحي رسالة, ولكن وحي حجّيَّة, وكذلك في أُمِّ موسى (عليه السلام). أمَّا فاطمة الزهراء (عليها السلام) فهي في درجة الطهارة والاصطفاء أعلى من مريم, ومن ثَمَّ فإنَّ ما ورد في روايات الفريقين عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبشكل متواتر, حتَّى في كتاب البخاري وغيره من الكُتُب الصحيحة عند المدارس الإسلاميَّة الأُخرى أنَّ فاطمة «سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ»(53), ومن أهل الجنَّة مريم, وأُمُّ موسى, وامرأة فرعون الصالحة أيضاً التي كانت ذات مقام معيَّنٍ خاصٍّ, وفاطمة (عليها السلام) سيِّدة نساء أهل الجنَّة أجمع لها السؤدد لمكانها ودرجة طهارتها وارتفاعها العلوي الذي تشارك في طهارتها طهارة أبيها خاتم الرُّسُل.
ومن الواضح أنَّ هناك درجات في العلم اللدنِّي, كما في النبوَّة والرسالة والأنبياء والرُّسُل، وكيف أنَّ الله تعالى فضَّل بعضهم على بعض: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ...﴾ (البقرة: 253), ممَّا يُدلِّل على أنَّ في كلِّ مقام من هذه المقامات الأربعة: النبوَّة, والرسالة, والإمامة, والحجّيَّة درجات ومفاضلة, فمريم حجَّة ومصطفاة, وأُمُّ موسى (عليه السلام) حجَّة ومصطفاة, وفاطمة (عليها السلام) مطهَّرة وحجَّة ومصطفاة اصطفاها الله للطهارة, ولكن نمط طهارة فاطمة (عليها السلام) تعلو درجة عن نمط طهارة مريم, مع كون كلٍّ من النموذجين أو النماذج هذه هي في مقام الحجّيَّة والاصطفاء, ولكن فيها درجات.
إذن هناك درجات ومفاضلة, فالعلم اللدنِّي الذي تُزوَّد به الشبكة الخفيَّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(53) قد مرَّ في (ص 137)، فراجع.

(١٨٥)

والحُجَج يكون دون العلم اللدنِّي الذي عند الخليفة, وكذلك ورد في الروايات في ذيل ظاهرة الخضر أنَّه بعد ما انتهى وأزف الوقت في الفراق بين النبيِّ موسى (عليه السلام) والخضر, أتى طائر - وهو مَلَك بصورة طائر - وألقى قطرات من البحر جانباً يميناً وشمالاً, وشرقاً وغرباً, فأوحى الله إلى النبيِّ موسى (عليه السلام) والخضر أنَّ علمهما كقطرة من علم خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام)(54). وهذا طبعاً تشهد له آيات قرآنيَّة أُخرى سنتعرَّض لها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(54) روى المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 40/ ص 177/ ح 60) أَنَّهُ لَـمَّا وَقَعَتِ اَلمُشَاجَرَةُ بَيْنَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَاَلْخَضِرِ (عليهما السلام) فِي قَوْلِهِ (عزَّ وجلَّ) فِي سُورَةِ اَلْكَهْفِ فِي قِصَّةِ اَلسَّفِينَةِ وَاَلْغُلَامِ وَاَلْجِدَارِ، وَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَسَأَلَهُ أَخُوهُ هَارُونُ عَمَّا اِسْتَعْلَمَهُ مِنَ اَلْخَضِرِ، فَقَالَ: عِلْمٌ لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ، وَلَكِنْ كَانَ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَمَا أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى شَاطِئِ اَلْبَحْرِ وُقُوفٌ إِذَا قَدْ أَقْبَلَ طَائِرٌ عَلَى هَيْأَةِ اَلْخُطَّافِ، فَنَزَلَ عَلَى اَلْبَحْرِ، فَأَخَذَ بِمِنْقَارِهِ، فَرَمَى بِهِ إِلَى اَلشَّرْقِ، ثُمَّ أَخَذَ ثَانِيَةً فَرَمَى بِهِ إِلَى اَلْغَرْبِ، ثُمَّ أَخَذَ ثَالِثَةً فَرَمَى بِهِ إِلَى اَلْجَنُوبِ، ثُمَّ أَخَذَ رَابِعَةً فَرَمَى بِهِ إِلَى اَلشِّمَالِ، ثُمَّ أَخَذَ فَرَمَى بِهِ إِلَى اَلسَّمَاءِ، ثُمَّ أَخَذَ فَرَمَى بِهِ إِلَى اَلْأَرْضِ، ثُمَّ أَخَذَ مَرَّةً أُخْرَى فَرَمَى بِهِ إِلَى اَلْبَحْرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُرَفْرِفُ وَطَارَ، فَبَقِينَا مُتَحَيِّرِينَ لَا نَعْلَمُ مَا أَرَادَ اَلطَّائِرُ بِفِعْلِهِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اَللهُ عَلَيْنَا مَلَكاً فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ مُتَحَيِّرِينَ؟ قُلْنَا: فِيمَا أَرَادَ اَلطَّائِرُ بِفِعْلِهِ، قَالَ: مَا تَعْلَمَانِ مَا أَرَادَ؟ قُلْنَا: اَللهُ أَعْلَمُ، قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: وَحَقِّ مَنْ شَرَّقَ اَلشَّرْقَ وَغَرَّبَ اَلْغَرْبَ وَرَفَعَ اَلسَّمَاءَ وَدَحَا اَلْأَرْضَ لَيَبْعَثَنَّ اَللهُ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ نَبِيًّا اِسْمُهُ مُحَمَّدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لَهُ وَصِيٌّ اِسْمُهُ عَلِيٌّ (عليه السلام)، عِلْمُكُمَا جَمِيعاً فِي عِلْمِهِمَا مِثْلُ هَذِهِ اَلْقَطْرَةِ فِي هَذَا اَلْبَحْرِ.
وروى الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص 250/ ج 5/ باب 6/ ح 2) بسنده عَنْ سَدِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «لَـمَّا لَقِيَ مُوسَى اَلْعَالِمَ كَلَّمَهُ وَسَاءَلَهُ نَظَرَ إِلَى خُطَّافٍ يَصْفِرُ وَيَرْتَفِعُ فِي اَلسَّمَاءِ وَيَتَسَفَّلُ فِي اَلْبَحْرِ، فَقَالَ اَلْعَالِمُ لِمُوسَى: أَتَدْرِي مَا يَقُولُ هَذَا اَلْخُطَّافُ؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَقُولُ: وَرَبِّ اَلسَّمَاءِ وَرَبِّ اَلْأَرْضِ، مَا عِلْمُكُمَا فِي عِلْمِ رَبِّكُمَا إِلَّا مِثْلَ مَا أَخَذْتُ بِمِنْقَارِي مِنْ هَذَا اَلْبَحْرِ»، قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «أَمَا لَوْ كُنْتُ عِنْدَهُمَا لَسَأَلْتُهُمَا عَنْ مَسْأَلَةٍ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمَا فِيهَا عِلْمٌ».

(١٨٦)

التطبيق الإلهي للشريعة:
في سورة الكهف تبيَّن لنا أنَّ كلَّ شريعة لا بدَّ أنْ تقترن بتطبيق إلهي أيضاً, كما أنَّ جهاز التطبيق وجهاز التنفيذ والجهاز الحاكم والحكومة لا بدَّ أنْ يكون أيضاً تعيينه وبرامجه وأوامره من الله (عزَّ وجلَّ), وإليك - عزيزي القارئ - هذا المثال: ربَّما نشاهد دولة مركزيَّة, وحكومة مركزيَّة, وهناك حكومات محلّيَّة لمحافظات ومقاطعات, لكن يبقى الدور الرئيسي للحكومة المركزيَّة, فإذا أردنا أنْ نقايس بينها وبين الحكومة الإلهيَّة في وجه الأرض الذي أحد أشكالها وأنماطها دائماً هو الحكومة الخفيَّة كما تستعرضه لنا سورة الكهف, هذه الحكومة هي الحكومة المركزيَّة على وجه الأرض, وبقيَّة نُظُم البشر أشبه ما يمكن أنْ يقول القائل فيها: إنَّها حكومة محافظات أو مقاطعات ليس بيدها الحلُّ والعقد في الأُمور المركزيَّة والفصل المركزي, نعم لها مساحات وصلاحيَّات محدَّدة لا تتجاوزها.
وإليك مثالاً آخراً أيضاً: ربَّما نشاهد في عصرنا دولاً عظمى ذات نفوذ وهيمنة على دول أُخرى ضعيفة, فالدولة العظمى ذات النفوذ قد تسمح للدول التي تحت هيمنتها وسيطرتها بأنْ تُشكِّل مجالس نيابيَّة أو حكومات أو أُموراً أُخرى ليست خطيرة, لكن ما أنْ يصل الأمر إلى قضيَّة خطيرة سواء في الجانب الاقتصادي أو العسكري أو السياسي عندها يكون التدخُّل والإملاء من تلك الدولة العظمى على تلك الدول الصغيرة, أي إنَّ المسار الأصلي الذي حُدِّد في المنعطفات المهمَّة ينطلق من الدول العظمى على الدول الصغيرة، أمَّا التفاصيل ذات الشأن غير الاستراتيجي بالنسبة للدول العظمى، توكله إلى الدول المتوسِّطة أو الدول الصغيرة أو الدول الضعيفة حتَّى يُخيَّل أنَّ فيها ديمقراطيَّة وفيها حرّيَّة نسبيَّة أو سطحيَّة, وأمَّا اللبُّ والجوهر فهو بيد الدول الغنيَّة التي يُصطلَح عليها بالدول العظمى ذات النفوذ, والمسار الأصلي يبقى بيدها بالضغط وبالترغيب

(١٨٧)

وبالترهيب. ونحن دائماً نشاهد في ظلِّ الأنظمة البشريَّة هناك مساحات في النفوذ ومساحات في الحكم, دوائر في القدرة لا تتقاطع, بل هي كما يقال دوائر مركزيَّة, وفيها دوائر فرعيَّة جانبيَّة.
والحكومة الإلهيَّة لخليفة الله في الأرض مع أنظمة البشر نستطيع أنْ نُمثِّل لها بهذا المثال القريب, وإنْ كان المثال يُقرِّب من جهة ويُبعِّد ربَّما من عشرات الجهات, لكن كتقريب إلى هذه العلاقة بين حكومة الله السياسيَّة التي أحد أشكالها حكومة خفيَّة تسطرها لنا سورة الكهف في ظاهرة الخضر كضمانة رابعة لبقاء الدِّين, وهو الموضوع الأصلي المركزي لسورة الكهف حيث تفيدنا هذه السورة أنَّ هذه الحكومة الإلهيَّة بالجهاز الإلهي المزوَّد بالعلم اللدنِّي وبالبرامج والأدوار العصيبة المهمَّة في البيئات المختلفة أنَّ الحكم والحسم والفصل لها, أمَّا فيما تدنَّى من أدوار أُخرى متوسِّطة في البرنامج الإلهي فيمكن فسح المجال لتلك الأنظمة والحكومات الوقتيَّة البشريَّة, وهي تظنُّ أنَّ كلَّ المقدَّرات بيدها, والحال أنَّه ليس كلُّ المقدَّرات بيدها، كما يظنُّ كثير من الشعوب في العالم الثالث أنَّه إذا أُسِّس لها مجالس نيابيَّة ودوائر انتخابيَّة وما شابه ذلك فإنَّ زمام الأُمور كلَّه بيدها, والحال أنَّ كثيراً من المساحات الحسَّاسة مفروضة عليها بهيمنة الدول الكبرى, ففي الحقيقة هذا التغافل أو هذا التخيُّل موجود لدى دول العالم الثالث أو الدول الصغيرة أو الدول المتوسِّطة بالقياس إلى هيمنة وقدرة نفوذ الدول الكبرى.
إذن الأُمور الحسَّاسة التي تقف حائلاً وسدًّا دون الفساد المنتشر ودون كثير من المخاطر المحيطة بالبشر وبالنظام البشري يقوم بها هذا الجهاز الخفي الذي تُنبئنا به سورة الكهف, كما ورد لدينا في النصِّ عنهم (عليهم السلام) أنَّه: «لَوْلَا اَلْحُجَّةُ

(١٨٨)

لَسَاخَتِ اَلْأَرْضُ بِأَهْلِهَا»(55), وأحد تفاسير ومعاني هذا الحديث الشريف هو عين مفاد الآية الكريمة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (البقرة: 30), هي نوع من سوخ الأرض وقطع النسل البشري, وقد أورد الباري تعالى هذا الحديث على الملائكة لأجل أنْ يُبيِّن أنَّ الدور المركزي المحوري لخليفة الله هو المحافظة على عمارة الأرض وحياة البشر في الأرض, وأنَّه لولاه لانفرط عقد ونظم الحياة.
فهاهنا محور مركزي مصيري تُبيِّنه لنا تعاليم القرآن الكريم وبياناته وبصائره, وهو أنَّ السُّنَّة الإلهيَّة في جعل الخليفة والإمام ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ الذي هو على نسق ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124) في شأن النبيِّ إبراهيم (عليه السلام), هذا الجعل للخليفة والإمام في الحقيقة ليس منصباً تشريفيًّا ووساماً إلهيًّا, بل هو حقيقة الدور العميق الذي يشرحه لنا القرآن الكريم في سورة (البقرة: 30): ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾, أي إنَّ الخليفة والإمام في الأرض بتدبيره يحول دون الإفساد في الأرض ودون سفك الدماء ودون قطع النسل البشري, فطبيعة البشر تقتضي وتستلزم استئصال النسل البشري وسفك الدماء: ﴿اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ (البقرة: 36), طبيعة البشر تقتضي الإفساد في الأرض, ولولا تلك الحكومة الخفيَّة لما سلم الكثير من البشر، والنُّظُم البشريَّة تستعمل تجارب في شتَّى المجالات والبيئات, وتلك التجارب كثيراً ما تكون فاتكة بالصلاح البشري وببقاء النسل البشري سواء على الصعيد الصحِّي أو الأمني أو البيئي أو الغذائي أو غيرها من المجالات حيث يُفاجَئون بعد فترة وبرهة أنَّ هذا النظام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(55) راجع: الكافي (ج 1/ص 178 و179/باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة/ح 1 - 13).

(١٨٩)

المالي أو النظام الصناعي يعصف ويحدق بالخطر على البشريَّة في تلك الفترة، فمن الذي حال دون وقوع المخاطر قبل أنْ يفيق البشر وتفيق القافلة العلميَّة للبشر من غفلتهم فيما يستعملونه من برامج ونُظُم تكون قاتلة لهم وللصلاح البشري في تلك الفترة والغفلة؟ من الذي حفظهم ودبَّر أمرهم؟ هناك قوى ما وراء معرفتهم, قوَّة ما وراء شعورهم, قوَّة موجودة بين أيديهم وظهرانيهم يُحدِّثنا عنها القرآن الكريم, وهي من أمثال شبكة الخضر تقوم بتلك الأدوار بالتنسيق مع المركز، وهو خليفة الله في الأرض.
صلة الأمَّة الإسلاميَّة بالعلم اللدنِّي:
هنا نقطة أخيرة في ظاهرة الخضر, تظهر عندما نسأل أنفسنا: هل أنَّ العلم اللدنِّي وعلم التأويل في خليفة الله له صلة بهذه الأُمَّة الإسلاميَّة, وأنَّ سورة الكهف تعالج شأن الأُمَّة الإسلاميَّة؟ هل القرآن الكريم يُنبئنا عن ثُلَّة في هذه الأُمَّة لديها هذا العلم اللدنِّي وعلم التأويل؟
وقد مرَّ بنا الحديث في ذلك بشكل مقتضب, أنَّ القرآن الكريم في سورة آل عمران وفي سور عديدة يُحدِّثنا بحديث الثقلين, وكما مرَّ بنا فحديث الثقلين قبل أنْ يكون حديثاً نبويًّا هو حديث قرآني, وفي عدَّة سور تمَّ استعراضه نظير قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7).
إذن للقرآن تأويل لا يعلمه فقهاء الأُمَّة وعلماؤها, وإنَّما ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾، فمن في هذه الأُمَّة ادَّعى علم التأويل بالقرآن

(١٩٠)

كلِّه؟ ليس من أحد استطاع أنْ يدَّعي ذلك غير أهل البيت (عليهم السلام), فهم الراسخون في العلم, وهم الثقل الثاني في هذه الأُمَّة بعد الثقل الأوَّل وهو كتاب الله. وهذه الآية في سورة آل عمران تُبيِّن أنَّ هناك ثِقْلَين مقرونين, وكما ورد الخبر المتواتر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يا أيُّها الناس, إنِّي فرطكم، وإنَّكم واردون عليَّ الحوض، حوض أعرض ممَّا بين بصرى وصنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضَّة، وإنِّي سائلكم حين تردون عليَّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب الله (عزَّ وجلَّ) سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم، فاستمسكوا به لا تضلُّوا ولا تُبدِّلوا، وعترتي أهل بيتي، فإنَّه نبَّأني اللطيف الخبير أنَّهما لن ينقضيا حتَّى يردا عليَّ الحوض»(56), والواو في «وَعِتْرَتِي» عاطفة كما مرَّ بنا, فهل كان تأويل القرآن غير معلوم لأحدٍ من البشر ويكون مجهولاً ومعطَّلاً! حاشا لكتاب الله أنْ يكون معطَّلاً, هذا قول المعطِّلة - والعياذ بالله - الذين يُعطِّلون أحكام القرآن والمعرفة بالشريعة والمعرفة بالمعارف الإلهيَّة, وأمَّا المثبِّتين لهذه الحقائق المعتقدين لها يعلمون بأنَّ الواو عاطفة, فللقرآن الكريم تنزيل وتأويل كما ورد في الحديث النبوي الذي رواه الفريقان أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنَّه سيقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو على تنزيله(57), ومن الواضح أنَّ سيِّد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(56) المعجم الكبير للطبراني (ج 3/ ص 180 و181/ ح 3052)، البداية والنهاية (ج 7/ ص 386)، الصواعق المحرقة (ص 43 و44)؛ وقد روى الحديث جمهور الخاصَّة والعامَّة بألفاظ عدَّة لا تُخرجه عن المعنى, فراجع.
(57) عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)، قال: كنَّا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فانقطعت نعله, فتخلَّف عليٌّ يخصفها, فمشى قليلاً، ثمّ قال: «إنَّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله», فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر, قال أبو بكر: أنا هو؟ قال: «لا», قال عمر: أنا هو؟ قال: «لا, ولكن خاصف النعل», يعني عليًّا, فأتيناه فبشَّرناه, فلم يرفع به رأسه, كأنَّه قد كان سمعه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). مستدرك الحاكم (ج 3/ ص 122 و123).

(١٩١)

الأنبياء وخاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان معلِّم سيِّد الأوصياء (عليه السلام) من أهل بيته, وقد ورَّث عليًّا (عليه السلام) علم التنزيل والتأويل الحقِّ للقرآن الكريم, وبذلك يكون خلفاء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أهل بيته (عليهم السلام) هم أصحاب علم التأويل, أي العلم اللدنِّي.
وقد اقترن علم التأويل بالعلم اللدنِّي وبأدوار الحكومة الإلهيَّة, أي دور الإمام ومقام الإمامة والحكومة الإلهيَّة الخفيَّة في الأرض, وأحد أشكالها يكون في الخفاء, وبعض من أشكالها يكون في العلن.
السورة الأُخرى التي تُحدِّثنا بحديث الثقلين في القرآن الكريم هي سورة الواقعة: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾, هنا الثقل الأوَّل والأكبر هو كتاب مكنون, يعني في لوح محفوظ, يعجز البشر أنْ يصل إلى أعماقه ودرجاته وبواطنه, ﴿لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة: 77 - 79), الثقل الثاني المطهَّرون, وهم من عرَّفهم القرآن في سورة (الأحزاب: 33): ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾, إذن أهل البيت (عليهم السلام) هم المطهَّرون في هذه الأُمَّة الذين اصطفاهم الله (عزَّ وجلَّ) لعلم تأويل الكتاب, فهم أصحاب مقام الإمامة.

* * *

(١٩٢)

قال الله تعالى: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾ (الكهف: 10 - 12).
كان عند أصحاب الكهف تمام التوجُّه إلى الباري تعالى، واستمدُّوا منه الرشاد في مقابل طغيان النظام العاتي الدقيانوسي الذي كانوا يعيشون في ظلِّه، حيث يذكر القرآن الكريم ملخَّص القصَّة في ثلاث آيات بعد أنْ فرُّوا من ذلك المجتمع الفاسد الظالم, وبعدما انقرض وباد مُلك دقيانوس وبادت معالم المجتمع الكافر وتبدَّل إلى مجتمع موحِّد, فكان البقاء والعاقبة للموحِّدين وللمتَّقين, وهم الذين يورثهم الله العاقبة, وهذه سُنَّة الله أنَّ العاقبة للمتَّقين, العاقبة لأهل التقوى واليقين, وليست العاقبة للجاحدين والمكذِّبين والمنكرين والمفسدين والظالمين. ثمّ تستعرض الآيات الأُخرى بشكل مفصَّل تلك الواقعة. هذه الظاهرة نفسُها فيها أبعاد كثيرة, فأوَّل بُعد فيها يتراءى للنُّظَّار وللقارئ لهذه الآيات أنَّ القرآن الكريم يتعرَّض إلى نمط الإرهاصات الغيبيَّة غير المألوفة لدى البشر من وجود ثُلَّة فتية مؤمنة رشيدة تستمدُّ من الله الهداية والرشاد، وأنَّهم مجموعة أو طائفة من بين المجتمع كانت على هدى من ربِّها على رغم أنَّ غالبيَّة المجتمع كانت على نهج الضلال. ورغم هذا التفاوت والمفارقة في النسبة والقوَّة والعدَّة والعدد لم يُثنهم عن الثبات على نهج الحقِّ, هذه خصلة مهمَّة يُطلِعنا عليها القرآن الكريم، وهذا درس للمؤمنين في وعد الله بإظهار هذا الدِّين على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون، على يد المهدي (عجَّل الله فرجه) من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذرّيَّة

(١٩٥)

فاطمة وعليٍّ (عليهما السلام), والمؤمنون بهذه العقيدة والحقيقة القرآنيَّة يجب أنْ لا تضرَّهم ولا تبئسهم القلَّة في مقابل كثرة ممَّن لا يعتقد بالإسلام أو لا يعتقد ولا يؤمن بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً، أو يُكذِّب بهذه العقيدة.
المهمَّة الأولى: الثبات والإيمان:
والمسؤوليَّة والمهمَّة الأُولى التي تقع على حزب المؤمنين, هي الثبات والإيمان، وهم حزب عليِّ بن أبي طالب، وحزب إمامة ولده المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه سيُظهره الله لإصلاح الأرض ليملأها قسطاً وعدلاً, هذه الثُّلَّة المؤمنة يجب أنْ لا يثنيها قلَّتها في مقابل كثرة المكذِّبين أو المنكرين أو الجاحدين أو الظالمين أو المفسدين، لأنَّ نهج الحقِّ يبقى، والعاقبة لأهل التقوى ولأهل اليقين, وهذا مثل الفتية في كيفيَّة قيامهم بمسؤوليَّة الثبات على الدِّين رغم أنَّهم ليسوا بحُجَج, وإنَّما هم ثُلَّة مؤمنة من أهل الإيمان, فهذه خصلة مهمَّة أُولى.
المهمَّة الثانية: الغيبة والخفاء:
هناك المحور الثاني والعِظة والعبرة الثانية التي يسطرها لنا القرآن الكريم في أصحاب الكهف, حيث يُبيِّن لنا نوعاً من الإرهاصات الخاصَّة الغيبيَّة التي لم يألف ويأنس بها البشر, وربَّما يستنكرونها ويجحدونها, وهي أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد يُغيِّب ثُلَّة بشريَّة سنين ومئات السنين ثمّ يُظهرها لهم, وهذه ليست أُسطوريَّات, وحاشا للقرآن هذا العبث، فهو ذكر وليس بشعر, ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ (يس: 69)، ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17), هو ذكرى وذكر لمن يريد أنْ يبصر ويطَّلع على الحقيقة, فسورة الكهف هي في الواقع - كما يُعبِّر بعض المحقِّقين -

(١٩٦)

كهف الأسرار وكهف المعارف, اسم على مسمَّى, وهي شديدة الصلة بغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وكما مرَّ بنا أنَّ المصادر التاريخيَّة تنقل قراءة سيِّد الشهداء (عليه السلام) لمطلع آية في هذه السورة: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً﴾ (الكهف: 9)(58), إذ إنَّ صلة وطيدة ببقاء الدِّين والحفاظ على الدِّين, كما قام به سيِّد الشهداء (عليه السلام), وبإمامة أهل البيت (عليهم السلام) وكيفيَّة مآل الأُمور إلى ظفرهم بوراثة الأرض وتدبير زمام أُمورها في العلن بيدهم, وإلَّا فإنَّ الجهاز الإلهي والحكومة الإلهيَّة في الخفاء بيدهم, كما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضَّل بن عمر: «مقصِّرة شيعتنا تقول: إنَّ معنى الرجعة أنْ يردَّ الله إلينا مُلك الدنيا فيجعله للمهدي، ويحهم متى سُلِبنا المُلك حتَّى يُرَدَّ إلينا؟»، قال المفضَّل: لا والله يا مولاي ما سُلبتموه ولا تُسلَبونه لأنَّه مُلك النبوَّة والرسالة والوصيَّة والإمامة، قال الصادق (عليه السلام): «يا مفضَّل، لو تدبَّر القرآن شيعتنا لما شكُّوا في فضلنا...»(59).
وكأنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) يشير إلى ما أشار إليه القرآن الكريم في آل إبراهيم (عليه السلام) الذين أُوتوا الإمامة: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ (النساء: 54)، المُلك العظيم هو الخلافة الإلهيَّة التي يُطوِّع الله (عزَّ وجلَّ) عليها كلَّ الملائكة, وأيضاً ملك في الجانب المادِّي، وهو الذي استعرضته لنا سورة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(58) رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَالَ: مُرَّ بِهِ - أي رأس الحسين (عليه السلام) - عَلَيَّ وَهُوَ عَلَى رُمْحٍ وَأَنَا فِي غُرْفَةٍ، فَلَمَّا حَاذَانِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً﴾، فَقَفَّ وَاَلله شَعْرِي، وَنَادَيْتُ: رَأْسُكَ وَاَلله يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ. الإرشاد (ج 2/ ص 117).
(59) الهداية الكبرى (ص 419)، بحار الأنوار (ج 53/ ص 25 و26).

(١٩٧)

الكهف مثل وجود جهاز خفي وشبكة خفيَّة تقوم بأدوار مفصليَّة هي أقوى الحكومات بالقياس إلى الحكومات البشريَّة الأُخرى، لأنَّها تخترق تلك الحكومات.
وجود الخليفة في الأرض:
إنَّ المُلك والحكومة للخليفة في الأرض تترافق مع طاعة جميع الملائكة, وخلفاء الله في الأرض هم خلفاء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الاثني عشر, وثاني عشرهم الإمام المهدي, هذه الطاعة هي قدرة ونفوذ يُصوِّرها لنا القرآن الكريم كحقائق قرآنيَّة في سورٍ قرآنيَّة سبع عن شأن الخلافة الإلهيَّة والاستخلاف الإلهي(60), وجعل ثُلَّة من البشر المستضعفين أئمَّة, كما في قوله تعالى لإبراهيم (عليه السلام): ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124), وقوله تعالى في شأن يعقوب وإسحاق من ذرّيَّة إبراهيم (عليهم السلام): ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24), مع أنَّ التاريخ لم يُحدِّثنا بأنَّ آل إبراهيم (عليه السلام) ملكوا ملكاً أو حكموا حكماً ظاهريًّا, ورغم ذلك تصف سورة النساء أنَّ آل إبراهيم (عليه السلام) أُوتوا إلى جانب الكتاب والحكمة وهي النبوَّة أُوتوا المُلك العظيم: ﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ (النساء: 54), فأيُّ مُلك عظيم هذا؟ في بُعده الملكوتي وفي بُعده المادِّي والمُلكي, في بُعده الملكوتي: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ أي أطيعوا واخضعوا, ﴿فَسَجَدُوا﴾ (البقرة: 34)، كلُّ الملائكة بكلِّ طبقاتهم من مقرَّبين ومن ملائكة السماء ومن ملائكة الأرض وما شابه ذلك, لما فضَّل الله وزوَّد به خليفته في الأرض من علم يتقاصر عنه علم جميع الملائكة, ومن ثَمَّ هو الذي علَّمهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(60) قد مرَّ ذكر الآيات في (ص 130 و131)، فراجع.

(١٩٨)

الأسماء كلَّها, فالخليفة يُعلِّم الملائكة تلك الأسماء وهم يتَّبعونه في ذلك: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ (البقرة: 31 - 33), هذا بُعد وجناح وذراع من أذرع الحكومة التي يتولَّاها ويتصدَّى لها خلفاء الله في الأرض المنصوبون أئمَّة على الخلائق، وهو مقام ومنصب إلهي. وما تذكره لنا سورة الكهف من وجود شبكة بشريَّة كما في مثال الخضر وظاهرة الخضر مزوَّدون بالعلم اللدنِّي, ويقومون بأدوار مفصليَّة حسَّاسة في مسار النظام البشري, وتهيمن هذه الحكومة الخفيَّة على أدوار الأنظمة البشريَّة الأُخرى, وتكون تلك الأنظمة والحكومات البشريَّة الأُخرى وحتَّى الكبرى أو العظمى منها حكومات صغيرة بالقياس وبالمقارنة إلى نفوذ ونفاذ وقدرة تلك الحكومة والجهاز الإلهي الخفي.
فهذا هو المُلك الذي لا يُسلَب من خلفاء الله في الأرض, وإنْ سُلِبَ في السطح المكشوف الظاهر غير العميق في إبصار ورؤية حقيقة مسلسل الأحداث في النظام البشري, ففي ظاهر الحال الدول العظمى الموجودة ودول العالم الثاني ودول العالم الثالث كلُّها تُدبِّر وتدير شؤون أرجاء الكرة الأرضيَّة, هذا في ظاهر الحال في النظرة غير الثاقبة, أمَّا النظرة القرآنيَّة فتقول: كلَّا, إنَّما هناك جهاز إلهي حكومي بيد خليفة الله يتغلغل في الأنظمة الأُخرى, وله أدوار حاسمة في درء الفساد ولو في درجة السقف الأدنى أي الحدِّ الخطير من الفساد, ويبثُّون العدالة والقسط بدرجة السقف الأدنى, ويحولون دون قطع النسل البشري بسبب نزوات تلك الأنظمة التي تحكم الأرض,

(١٩٩)

ويحولون دون ذلك إلى أدنى درجة من الصلاحيَّة إلى أنْ يحين الوقت المعلوم للظهور, أي للبروز على المكشوف لإرساء تلك الحكومة الإلهيَّة في العلن, بدلاً من أنْ تكون في مرحلة الخفاء.
نعم هذا هو المُلك الذي يقول عنه صادق آل محمّد (عليه السلام): «متى سُلبنا المُلك حتَّى يُرَدَّ إلينا؟».
لماذا تكابد البشريَّة المصائب وبيد الخليفة إصلاحها؟
ربَّما يقول قائل: إذا كان هذا المُلك بهذه العظمة, وأنَّ الخليفة لله في الأرض والإمام هو منصوب من قِبَل الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124), كما هو في شأن إبراهيم (عليه السلام) وشأن أهل البيت (عليهم السلام), فلماذا لا يُصلِحون الأرض في ليلة وضحاها وفي ساعة وفي لمح البصر؟ ولماذا تكابد البشريَّة هذه المحن والامتحانات؟
هذا السؤال في الحقيقة يغفل عن أوَّليَّات حكمة القضاء والقدر والسُّنَن الإلهيَّة, من أنَّ الله أبى أنْ يجري الأُمور بالجبر والإرجاء, كما أبى أنْ يجري الأُمور بالتفويض والإيكال إلى مشيئة البشر يعيثون في الأرض كما يشاءون فساداً وإفساداً وظلماً, بل سُنَّة الله جرت على أنْ يكون الحال أمراً بين أمرين, لا جبر ولا تفويض, لا بنحو قهر وإلجاء وجبر, ولا بنحو إيكال وانعزال لليد الإلهيَّة ولقدرة التصرُّف الإلهيَّة, بل أمر بين أمرين.
إذن سُنَّة الله في الظاهرة الاجتماعيَّة والظاهرة البشريَّة والظاهرة الخلقيَّة أنْ تجري الأُمور بالاختيار والامتحان, لأنَّ ذلك هو سرُّ الخلقة, ليفوز الفائزون بالتقوى في مرابح أُخرويَّة وتجارة لن تبور في الدار الآخرة, ومن ثَمَّ يكون هذا الجهاز وهذا المُلك الذي بيد خليفة الله، لا يجبر البشريَّة على الإصلاح, كما أنَّه لا يترك الأُمور ويُلقي الحبل على الغارب, وإنَّما أمر بين أمرين.

(٢٠٠)

وهذه فلسفة اجتماعيَّة وسُنَّة إلهيَّة وحقائق قرآنيَّة أنَّ الأُمور تجري بأسبابها, أمر بين أمرين, لا هو تفويض ولا هو جبر, وإنَّما هو اختيار وامتحان, وهنا يكون تشاطر في المسؤوليَّة, بين لطف إلهي بإقامة خليفة وإمام للبشر وجهاز خفي يُدبِّر ويكون يداً حاسمة أمام الإفساد والظلم وقطع النسل البشري - كسقف أدنى طبعاً - وفي غيبة الخفاء في الأدوار, وبين شطر آخر تقع المسؤوليَّة والعاتق عليه من البشر.
الظاهرة الأُولى في أصحاب الكهف تُبيِّن لنا دروساً ومواعظ عقائديَّة مهمَّة حسَّاسة, هذا البُعد الأوَّل هو ثبات أصحاب الكهف والرقيم الفتية المؤمنة رغم قلَّتهم في مجتمع الضلال, إلَّا أنَّهم مع ذلك ثبتوا على نهج الحقِّ, وهذه عظة للأُمَّة الإسلاميَّة, أنَّه رغم وجود أهل الضلالة والمكذِّبين وهم الأكثريَّة المكذِّبون بعقيدة وجود خليفة الله في الأرض والإمام، وأنَّ الدِّين سيظهر ويُظهره الله على يده ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً, لم يثنهم تكذيب المكذِّبين وجحود الجاحدين وإنكار المنكرين والمفسدين والظالمين عن الثبات على عقيدتهم.
الانقطاع عن الخليفة وأثره في الإيمان:
البُعد الثاني في أصحاب الكهف والرقيم أنَّ القرآن الكريم يستعرض لنا ظاهرة غيابهم وغيبتهم عن البشريَّة التي هي ليست غيبة زوال عن وجه الأرض, ولكن هي نوع من الغيبة كانت مدَّتها مئات السنين ثلاثمائة، لأنَّه لم يُحدِّد لنا القرآن الكريم هنا العدد المرصود لغيبة أصحاب الكهف, هذه الظاهرة من غيبة أصحاب الكهف ثمّ بعث الله (عزَّ وجلَّ) لهم وإظهارهم للبشر, رغم وجود تلك الثُّلَّة البشريَّة بين أيدي وظهراني المجتمع, ولم يزايلوا موقعهم من مواقع قريبة من مجتمعهم في الكهف الذي أووا إليه, لكن رغم ذلك كانوا غائبين عن

(٢٠١)

معرفة البشر لهم وعن الشعور بهم, بعد ذلك أظهرهم الله (عزَّ وجلَّ), هذه الظاهرة يذكرها لنا القرآن الكريم لتكون عبرة وعظة, يقول القرآن الكريم: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ (الكهف: 13), وليس أُسطورة أو خرافة - والعياذ بالله - أو ثرثرة قَصَص أو سحر وخيال، القرآن ذكر حقٌّ وبصيرة وبصائر, هذا الحقُّ والحقيقة الموجودة في غيبة أصحاب الكهف ثمّ عودهم إلى البشريَّة وظهورهم وتعرُّف البشر عليهم, يريد القرآن الكريم أنْ يرمز أو يومئ أو يلوح كما يقول هو عن مغزى ذلك وحكمة ذلك: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ (الكهف: 21), كانوا موجودين, لكن لم تتفطَّن الأجيال البشريَّة المعاصرة لولادة أصحاب الكهف ولا الأجيال التي أتت بعد ذلك ولا الأجيال بعده, كم ظهر من النسل والجيل البشري حتَّى أصبحت قصَّة أصحاب الكهف ومناوءة المَلِك دقيانوس الظالم لهم واستضعافه لهم قصَّة فيما غبر في التاريخ بالنسبة للأجيال البشريَّة.
هذا الدرس القرآني في السُّنَّة الإلهيَّة يريد من الأُمَّة الإسلاميَّة أنْ تتَّعظ وأنْ لا تكذب ولا تجحد ولا تُنكِر وجود الإمام الخليفة الثاني عشر للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ذرّيَّة فاطمة وذرّيَّة عليٍّ (عليهما السلام), وأنَّ عقيدة الحقِّ والحقيقة يجب أنْ يثبت عليها أهل الحقِّ, وأنَّ غياب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بالرغم من تطاول الأمد والسنين لا يدعوننا إلى التكذيب بآيات الله, لأنَّ وعد الله حقٌّ، وسيظهر الدِّين على يد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فيملأها قسطاً وعدلاً.
إذن المغزى الثاني الذي يُنوِّه ويُركِّز عليه القرآن الكريم في قصَّة أصحاب الكهف هو: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾ (الكهف: 12), من هو الذي تكون العاقبة له؟ العاقبة هي لأهل التقوى.

(٢٠٢)

عاقبة أصحاب الحقِّ والإيمان:
إنَّ جملة من المنكرين والجاحدين لعقيدة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يوصمون أهل الحقِّ المعتقدين والمتيقِّنين بحياة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، والمؤمنين بأنَّ غيبته غيبة خفاء بأنَّهم (كهوفيُّون), نعم نحن من الذين نعتقد بسورة الكهف وبما فيها من حقائق وعقائد قرآنيَّة, فسورة الكهف تتعرَّض إلى إرهاص غريب بالنسبة للبشر, لكنَّه ليس غريباً في السُّنَّة الإلهيَّة من إخفاء جماعة الحقِّ الذين رغم زوال أجيال وأجيال لم يُبادوا وأعثر الله عليهم وبعثهم ليُنجزوا الوعد الإلهي الذي هو وعد الحقِّ, و﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128), و﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105), هذا وعد الله الحقُّ, وإنَّ الذي يُظهر الدِّين يجعله الله إماماً كما ذكرت لنا سورة (القَصَص: 5): ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
إذن سُنَّة الله أنْ يجعل المستضعفين أهل الحقِّ الذين هم دائماً في حالة استضعاف من قِبَل الظالمين والمفسدين، المنكرين والجاحدين, وهم فئة قليلة في قبال الفئة الكثيرة من أهل الضلال والعتو والفساد, لكن الله يأبى إلَّا أنْ تكون سُنَّته بأنْ يُظهر هذا الدِّين ويجعل العاقبة لأهل التقوى، ولأهل اليقين، وأهل الحقِّ, ويجعل منهم الإمام للأرض.
وقد ورد في الروايات الإسلاميَّة أنَّ أصحاب الكهف سيكونون من أصحاب المهدي (عجَّل الله فرجه) يبعثهم الله لينصروه(61).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(61) من ذلك ما رواه العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 32/ ح 90) عَنِ اَلمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «إِذَا قَامَ قَائِمُ آلِ مُحَمَّدِ اِسْتَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِ اَلْكَعْبَةِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ رَجُلاً: خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى اَلَّذِينَ يَقْضُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وَسَبْعَةً مِنْ أَصْحَابِ اَلْكَهْفِ، وَيُوشَعَ وَصِيَّ مُوسَى، وَمُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ، وَسَلْمَانَ اَلْفَارِسِيَّ، وَأَبَا دُجَانَةَ اَلْأَنْصَارِيَّ، وَ مَالِكَ اَلْأَشْتَرَ».
ومن ذلك ما رواه ابن بطريق (رحمه الله) في العمدة (ص 431/ ح 902) في قصَّة أصحاب الكهف, وفيه: (...وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ، فَصَارُوا إِلَى رَقْدَتِهِمْ إِلَى آخِرِ اَلزَّمَانِ عِنْدَ خُرُوجِ اَلمَهْدِيِّ (عليه السلام)، فَقَالَ: إِنَّ اَلمَهْدِيَّ (عليه السلام) يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، فَيُحْيِيهِمُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى رَقْدَتِهِمْ وَلَا يَقُومُونَ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ).

(٢٠٣)

فهذه العبرة والدرس الكبير الذي يريد أنْ يُبيِّنه لنا القرآن الكريم هو أنَّه سيجري في هذه الأُمَّة ما جرى لمن سبقهم من الأُمَم, وذلك بأنْ يُغيِّب جماعة من أهل الحقِّ عن معرفتنا وشعورنا وفيما يقومون به من أدوار, ولكن لا يدعوَنَّكم ذلك إلى إنكارهم وجحودهم، أو إنكار القدرة الإلهيَّة في ذلك, وأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) سيبعثهم أو يُظهرهم لكم ولو بعد أجيال وأجيال من الأُمَّة الإسلاميَّة.
بحقٍّ لو تُسمَّى سورة الكهف بأنَّها سورة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لكانت جديرة بهذه التسمية, بعد ذلك في الحقيقة تستعرض الآيات الكريمة تفصيل هذين البُعدين, بالإضافة إلى أبعاد أُخرى, فالحريُّ بنا أنْ نتابع بقيَّة الآيات لنتعرَّف على ظاهرة أصحاب الكهف والرقيم(62).
الثبات على الإيمان والفيض الإلهي:
الثبات على الإيمان أوجد من قِبَل الباري زيادةَ فيض الهدى منه تعالى على الفتية المؤمنة والثُّلَّة المؤمنة, رغم عيشها في غربة, بلحاظ الأكثريَّة المخالفة لهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(62) الرقيم، قيل: هو القرية، وقيل: هو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف، وقيل: هو لوح من حجارة كتبوا فيه قَصَص أصحاب الكهف ثمّ وضعوه على باب الكهف، وقيل: هو الجبل الذي فيه الكهف. راجع: تفسير الطبري (ج 15/ ص 247 - 249).

(٢٠٤)

من أهل الضلال, ولكن ثباتهم ورباطة جأشهم, وإنْ لم يلتقوا بنبيٍّ زمانهم أو برسول زمانهم أو بخليفة الله في الأرض, ولم يتعرَّفوا عليه, ولم يرتبطوا به, إلَّا أنَّه كان على علم بهم, فإنَّ لله (عزَّ وجلَّ) خليفة في الأرض في كلِّ زمانٍ, وهذا درس لأهل الإيمان, أنَّهم رغم احتجاب معرفتهم وشعورهم بشخص ومصداق من يعتقدونه بحقائق القرآن وحقائق السُّنَّة القطعيَّة بأنَّه إمام للبشريَّة ومنصوب من قِبَل الله وهو الإمام المهدي الثاني عشر من خلفاء خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), هذا لا يزلزلهم عن ثباتهم، ولا يزلزلهم عن الاستقامة في طريق الحقِّ، اتِّعاظاً بما يذكره لنا القرآن الكريم من أصحاب الكهف: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (الكهف: 13 و14).
وعندما يستقيم الإنسان يفرغ الله عليه صبراً ورباطاً, ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا﴾ (الكهف: 14)، قاموا من براثن الضلال, استيقظوا من غفلة الانحراف إلى طريق الاستقامة والهداية، لأنَّ التعبير بالقيام في القرآن الكريم: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ (سبأ: 46), ليس المراد منه القيام البدني بقدر ما يُراد منه الصحوة واليقظة وعدم الغفلة وسبات الضلالة, ﴿إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ (الكهف: 14 و15).
فالوسيط بين الله (عزَّ وجلَّ) وبين البشر لا بدَّ أنْ يكون منصوباً من قِبَل الله, والنصب عليه بيِّنات شرعيَّة وبيِّنات إلهيَّة وآيات ربَّانيَّة, وهو معنى السلطان, فكلُّ من نتَّخذه وسيلةً ووسيطاً بين البشر وبين الله (عزَّ وجلَّ) لا بدَّ أنْ يكون عليه سلطان بيِّن, اُنظر هذه المعرفة الفطريَّة الصائبة المستقيمة عند أصحاب الكهف: ﴿لَوْ لَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾, لا بدَّ من سلطان بيِّن, ومن يتَّخذه البشر

(٢٠٥)

واسطة بينهم وبين ربِّهم خليفةً وباباً يتوجَّهون به إلى الباري تعالى لا بدَّ أنْ تقوم عليه البيِّنات والبراهين الإلهيَّة على جعله ونصبه وسيلة بين الله وخلقه، ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً﴾ (الكهف: 15), فلا يمكن جعل شخصيَّة وجعل أشخاص بشريِّين وسطاء ووسائل تُوجِّه إلى الله (عزَّ وجلَّ) إلَّا بنصب من الله, كما يقول الباري تعالى لإبراهيم (عليه السلام): ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124). وكما في قوله تعالى لخاتم المرسَلين (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107). وكما في قوله تعالى أيضاً في شأن خاتم النبيِّين وأهل بيته (عليهم السلام): ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ﴾ يعني توجَّهوا بك ولاذوا بحضرتك أوَّلاً, ثمّ ﴿فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾, لا بدَّ أنْ يضمَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شفاعتهم إلى عبادة العباد واستغفار العباد وتوبتهم, ﴿لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: 64). وكما في قوله تعالى في شأن خاتم المرسَلين (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا﴾ يعني إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم), ﴿يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ﴾ (المنافقون: 5), اجعلوه وسيلة, اجعلوه واسطة, فهذا منصوب من قِبَل الله, وهو المبعوث رحمة, وأنتم تنفرون عن من نصبه الله رحمة للعالمين! تبتعدون عنه! تتنكَّرون عن التوسُّل به! تتنكَّرون عن التوجُّه به! يا للجاحد من الحظِّ الأوكس(63), ومن السقوط ومن سلب التوفيق, لماذا؟ لأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) جعله باب رحمة للعالمين, وهو خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فأنت تأنف عن التوسُّل به والتوجُّه به إلى الله, هذا على أيَّة حالٍ من - كما يقال - سَلْب التوفيق, وانتكاس الفطرة, يتنكَّرون للتوجُّه والتوسُّل بسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) الذين جعلهم وسيلة أيضاً في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(63) في الصحاح للجوهري (ج 3/ ص 989/ مادَّة وكس): (الوكس: النقص).

(٢٠٦)

الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23), وفي قوله الآخر: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (سبأ: 47), فيستنتج المسلم من هذه الآيات المتعدِّدة أنَّ مودَّة أهل البيت (عليهم السلام) هي السبيل إلى الله (عزَّ وجلَّ) بنصِّ القرآن الكريم.
الاعتزال عن المجتمع الظالم:
﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ (الكهف: 16), الاعتزال هنا اعتزال المسار واعتزال المنهاج, وقد كان نهج التقيَّة واضحاً فيهم, والتقيَّة تعني البرنامج الأمني لأهل الحقِّ لأنْ يحافظوا على أنفسهم في قِبال أهل الضلال, فسُنَّة التقيَّة هي سُنَّة إخفاء, والمسايرة في الظاهر مع أهل الضلال, هذه سُنَّة قرآنيَّة يستعرضها لنا القرآن الكريم في أصحاب الكهف, وهو عبارة عن البرنامج الأمني للحفاظ على إيمانهم وثباتهم على الحقِّ, فالتقيَّة في الواقع على طرف النقيض مع النفاق, النفاق هو إضمار الباطل وإظهار الحقِّ, وأمَّا التقيَّة فهي إضمار الحقِّ خوفاً من الظالمين والمفسدين والعتاة, وإظهار مسايرتهم ومداهنتهم مع ما عليه الظالمون من الباطل.
العناية الإلهيَّة في الحفاظ على حُجَج الله:
بعد ذلك يستعرض لنا القرآن الكريم بقيَّة ظاهرتهم: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً﴾ (الكهف: 17).
وفيها تفاصيل مكث أصحاب الكهف في خفائهم, وكيف أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُبيِّن

(٢٠٧)

ويُهيِّئ ويُمكِّن لهم من أسباب العيش مدَّة طويلة في خفاء من شعور الناس وعدم معرفتهم بموضعهم, لماذا؟ ما هو المغزى، وما هي الحكمة من هذه التفاصيل؟ ليُبيِّن الله (عزَّ وجلَّ) أنَّ تغيُّب ثُلَّة بشريَّة عن معرفة البشر وعن الشعور بهم, هذا من سُنَن الله الجارية، فإذا كان أهل الصلاح يُغيِّبهم الله عن الشعور البشري بهم, فكيف بك بالحُجَج المنصوبين من قِبَله ليكونوا في فسحة وأمان وسعة نشاط وحيويَّة في الحركة من دون أنْ يحول بين قيامهم بالأدوار والمسؤوليَّة, فالذي يحول بينهم وبين تلك الأدوار والمسؤوليَّة هم قوى الظلم وقوى الظلام والشرِّ, فهذا إذن أمر معهود في القرآن، وهو سُنَّة إلهيَّة وليس بدعاً.
التشابه بين غيبة أصحاب الكهف والإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه):
وقوع الغيبة في هذه الأُمَّة الإسلاميَّة وهي غيبة خفاء لتتسنَّى للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الحركة بشكل أوسع ممَّا لو كان معروفاً مكانه ومعروفاً شخصه ومعروفة هويَّته, فمن ثَمَّ حينئذٍ تصل إليه أيدي البطش وأيدي الظالمين لتصفيته وإبادته, فهذه سُنَّة إلهيّة من وجود برنامج أمني إلهي تُؤكِّد وتُشدِّد عليه سورة الكهف, أو يُمكِّن للبشر أنْ يتَّخذ مثل هذه النُّظُم كأسباب قوَّة, والباري تعالى الذي زوَّدهم بهذا العلم لا يخفى عليه استخدام هذه الآليَّة بنحو يفوق البشر. والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) منصوب من قِبَل الله تعالى إماماً ليدير البشريَّة ويأخذ بيدها إلى سبيل الإصلاح والعدل والقسط - ولو بنحو السقف الأدنى - في ظلِّ غيبته (عجَّل الله فرجه) يمنع به سقوط البشريَّة في سحيق الهاوية, سحيق الإبادة, سحيق الظلم والفساد الأخلاقي والانحلال, أو الفساد البيئوي.

(٢٠٨)

إنكار الغيبة أسباب ونتائج:
بعد اتِّضاح أنَّ غيبة الإمام المنصوب من قِبَل الله تعالى تُمثِّل العقيدة الحقَّة قرآنيًّا قبل أنْ تكون عقيدة مأخوذة من السُّنَّة القطعيَّة، فيكون الهجوم والعداء والجحود لهذه العقيدة بهذه الألفاظ الخاوية الرخيصة تنكُّراً من هذه الجماعات المكذِّبة والجاحدة والمنكرة لحقائق قرآنيَّة عديدة, فالقرآن يُؤكِّد كما مرَّ بنا في ظاهرة النبيِّ موسى (عليه السلام) في غيبته وفي خفاء ولادته ثمّ ظهوره للإصلاح والمجابهة للأنظمة الفرعونيَّة, وكذلك في غيبة النبيِّ يوسف (عليه السلام) ومن ثَمَّ ظهوره وإصلاحه للنظام البشري والقيام بما يحفظ أمن البشريَّة من الجانب الاقتصادي, حيث عصفت بهم حالات المجاعة والقحط الشديد, فلولا النبيُّ يوسف (عليه السلام) الذي كان حجَّة من قِبَل الله وفي ظلِّ غيبته, لعصف بالبشريَّة حينئذٍ ذلك القحط الشديد ويكون الإقليم المهمُّ من أرجاء الأرض يعيش حالة قطع النسل البشري والإبادة, فتشبُّ حينئذٍ الجرائم, ويشبُّ الفساد الخُلُقي, وإنَّ الفقر أينما حلَّ يقول للكفر: (خذني معك), وبالتالي يُسبِّب نوعاً من الوباء الفسادي في شتَّى المجالات, وبالتالي إلى سفك الدماء, وهذا هو المحذور الذي خافت منه الملائكة, وطمأن الله مخافة الملائكة من خلق الطبيعة البشريَّة بجعل خليفة له في الأرض: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30), فالخليفة يحول دون سوخ الأرض بالفساد, ودون سوخ الأرض وتفشِّي ظاهرة قطع النسل البشري عبر مجالات الفساد المختلفة.
إذن إخفاء الخليفة فيما يقوم به من أدوار ومسؤوليَّات وغيبته هي ظاهرة متكرِّرة في الظواهر القرآنيَّة بتأكيد قرآني وإصرار قرآني في سور عديدة جدًّا, وفي أمثلة ونماذج عديدة جدًّا, عظةً وعبرةً لهذه الأُمَّة بما سيجري عليها في تاريخها الأخير وفي عمرها الأكبر الآن من غياب أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) وخفاء الإمام

(٢٠٩)

المهدي (عجَّل الله فرجه) عن ظهراني المسلمين, وإنْ كان حاضراً بين أيديهم ولكن لا يشعرون به ولا يعرفونه، أي غيبة شعور وغيبة خفاء أكثر من أحد عشر قرناً, ودخلنا في القرن الثاني عشر.
وحقٌّ لمن يسائل: أين الآيات حول ظاهرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته؟
نقول له: هذا سؤال حقٌّ، وحريٌّ أنْ يُجاب عنه, فعندما كانت هذه العقيدة حقَّة, فلا بدَّ أنْ يتكفَّل القرآن لمعالجة شؤونها وشجونها في سور عديدة وببيانات عديدة وبنماذج وبزوايا مختلفة ومتنوِّعة, وهذا الذي نجده في القرآن الكريم, من غيبة لأولياء الله وحُجَجه يستعرضها ويسطرها القرآن الكريم ويُبيِّن زوايا عديدة وجهات أُخرى مختلفة ومتنوِّعة ومتعدِّدة, لتصحيح عقائد المسلمين, وجذبهم نحو مسار ومنهاج الحقِّ, وهو منهاج القرآن ومنهاج النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام), فلذلك نراه هنا يستعرض قدرة الله في تغييب أهل الكهف عن البشريَّة, تغييبهم وليس استئصالهم من وجه الأرض, بل هم كانوا على صعيد البسيطة والنشأة الأرضيَّة, ولكن البشريَّة لم تشعر بهم ولم تعرف موضعهم.
الأسباب الكونيَّة في خفاء الحُجَج:
يستعرض القرآن الكريم تفاصيل فترة الخفاء لهم, وكيف أنَّ الأسباب التكوينيَّة التي هيَّأها الله والتي هي خفيَّة وخافية على البشر مهَّدها الله وهيَّأها ليعيشوا ويبقوا قروناً من دون أنْ تشعر بهم البشريَّة, ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ (الكهف: 14), كما يقول القرآن الكريم في دعاء أهل الكهف: ﴿وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً﴾ (الكهف: 10), فهيَّأ لهم (عزَّ وجلَّ) رحمةً ومرفقاً للعيش, ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً﴾ (الكهف: 16), بيئات للعيش ترفق بهم وتحول دون بطش الظالمين بهم.

(٢١٠)

﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ﴾ اعتزلوا أهل الضلال, وهم أكثريَّة البشريَّة آنذاك, حينئذٍ ﴿فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ﴾ كهف الخفاء، ﴿يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً﴾ (الكهف: 16), لذلك يستعرض القرآن الكريم تفاصيل هذه الظاهرة وهذه الحالة, ويُؤكِّد ويُبيِّن بصريح البيان للمسلمين وللمؤمنين أنَّ هذه سُنَّة إلهيَّة في التغييب، أي الإخفاء, والتغييب بمعنى الخفاء, لا الإبادة والاستئصال والإبعاد عن وجه الأرض وعن الكرة الأرضيَّة مدَّة قرون لأهل الكهف, أهل الكهف عاشوا فيها بقدرة من الله, والقرآن يستعرض تفاصيل هذه الأحاديث: ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ﴾, لأسباب العيش وحاجة الإنسان إلى العيش في ظلِّ الأجواء الطبيعيَّة, ﴿وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ﴾ (الكهف: 17), ذلك من سُنَن الله وآياته التي يجب أنْ يعتقد بها المسلمون والمؤمنون في إبصار هدى القرآن لعقائدهم التي سيعيشون فيها, فليس من الاعتباط وليس من المصادفة والاتِّفاق تكرار القرآن في سورة بعد سورة غيبة أولياء الله التي هي بمعنى الخفاء, ذلك لكي لا يحيدوا عن مسار الحقِّ, ولكي لا يحيدوا ولا يُعطِّلوا عن المسؤوليَّة، لأنَّ الباري تعالى يعلم أنَّ الأُمَّة الإسلاميَّة ستعيش قروناً من عدم الشعور بإمامها وبالخليفة المنصوب من قبله تعالى, رغم قيامه بالأدوار والمسؤوليَّة بنحو فاعل حيوي, لكن البشريَّة لا تشعر به لظروف ولمكايدة ومصارعة الظالمين, إلى أنْ تتأهَّل البشريَّة إلى النضج الكامل فيما يقوم به خليفة الله من تربية البشريَّة على ذلك بنحو خفي مستتر ليُهيِّئها إلى ساعة الصفر من ساعات الظهور.
فليس من العبط أو الصدفة أو الاتِّفاق غير المحسوب أنْ يستعرض القرآن الكريم عدَّة ظواهر في الغيبة, فالغيبة هي ظاهرة قرآنيَّة متكرِّرة متعدِّدة،

(٢١١)

لأجل أنْ يُبيِّن الباري تعالى أنَّ هذا من سُنَّة الله, ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾ (فاطر: 43), إنَّ إخفاءهم وتمكين الله (عزَّ وجلَّ) وتهيئته لهم مرفقاً من العيش ليعيشوا في ظلِّه من دون أنْ يحتاجوا إلى الظهور على المكشوف والعلن ذلك من آيات الله ومن هدى الله، لأنَّ هذه هداية, فإذا آمنت بهذه الآية آمنت بهذه السُّنَّة الإلهيَّة من الحفاظ وبناء السياج الحفاظي وضمانة الحراسة الإلهيَّة لأوليائه من قِبَل الله, وليس ذلك بعزيز على الله لذلك. وسوف تهتدي إلى العقيدة الحقَّة أنت أيُّها المسلم, أنت أيُّها القاري للقرآن, ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17), ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمّد: 24).
التقيَّة ودورها في الحفاظ على أولياء الله:
وهم موجودون بين أيدي البشر في الأجيال اللَّاحقة, وانقرضت تلك الأجيال التي عاصرتهم سابقاً, ورغم ذلك هم يتعاطون مع تلك الأجيال اللَّاحقة بعد قرون بنحو خفي, أصحاب الكهف يشعرون بالآخرين, والآخرون لا يشعرون بهويَّة أصحاب الكهف, ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً﴾ (الكهف: 19), هذا هو معنى التقيَّة أو معنى الخفاء أو معنى البرنامج الإلهي. ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾, هنا تُبيِّن الآية على لسان أصحاب الكهف فلسفة التقيَّة وفلسفة الخفاء والغيبة, يستعرضها لنا القرآن الكريم على لسان أهل الكهف, ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ﴾ أو يلجئوكم على الضلالة, ﴿أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً﴾ (الكهف: 20), هذه هي فلسفة تشريع التقيَّة التي يُهرِّج بها الجاحدون

(٢١٢)

والمنكرون لها, وكأنَّهم لا يتفطَّنون إلى مثل هذه التعاليم القرآنيَّة: ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ﴾, ﴿يَظْهَرُوا﴾ أي يطَّلعوا, يعلموا, يشعروا بكم, هذا هو الغيب.
إذن غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تعني غيبة شعورنا به, لا غيبة وجوده, غيبة علمنا به, لا غيبة بدنه الشريف, غيبة معرفتنا به, لا غيبة دوره ووجوده بين أيدينا وأداء ما عليه من مسؤوليَّات آليَّة, ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً﴾ (الكهف: 20), هذه فلسفة الخفاء والغيبة التي يعرضها القرآن على لسان أهل الكهف, ليُبيِّن لنا أنَّه ستكون غيبة لإمامكم التي هي غيبة شعوركم أنتم أيَّتها الأُمَّة الإسلاميَّة, شعوركم بإمامكم, معرفتكم بإمامكم بشخصه وهويَّته, وإنْ كان موجوداً بين ظهرانيكم وبين أيديكم ويمارس دوره الملقى عليه من قِبَل الله تعالى, وذلك لكي لا تعاوقه قوى الشرِّ والضلال والبطش عن أداء مسؤوليَّته وأدواره الإلهيَّة, لكنَّه هنا حانت ساعة ظهور أصحاب الكهف, واُنظر لهذا الظهور كيف يُعبِّر عنه القرآن الكريم, يقول: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ (الكهف: 21)، هو وعد من الله (عزَّ وجلَّ) لنصرة أوليائه، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصَص: 5), ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128).
فالوعد الإلهي في الظهور والغلبة للمصلحين يأتي بعد دور خفاء, هذه سُنَّة إلهيَّة, ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا﴾ يعني بعد ما يئس الناس من وجودهم وقالوا: إنَّ أصحاب الكهف بادوا أو ماتوا أو انقرضوا لا يُدرى في أيِّ وادٍ هم, ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ يعني أطلع الله البشر عليهم في ساعة

(٢١٣)

ظهورهم, ﴿لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾, وهذه سُنَّة الله, أنْ يُظهر المصلحين في نهاية المطاف, ﴿لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾, لماذا ذكره القرآن الكريم لنا في سورة نتلوها دائماً في ختمات القرآن؟ لأنَّ هذا ما سوف تبتلي وتمتحن به الأُمَّة الإسلاميَّة, وكي لا تُنكِر وعد الله, ولا تعجل وعد الله, ولا تُكذِّب بعقيدة الإيمان بخليفة الله في الأرض, ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30), هذا الدِّين بدأ بأهل البيت وسيُختَم بأهل البيت (عليهم السلام). مضافاً إلى أنَّ هذا مثل ضربه الله أيضاً حتَّى للمعاد, وأنَّ انطباق الساعة يأتي أيضاً بمعنى ساعة الوعد الإلهي, فهناك عدَّة تفسيرات كلُّها تتلاءم مع سياق الآية, بأنَّ المراد من الساعة سواء ساعة القيامة الكبرى أو الساعة الموعودة فيها بإنجاز الوعد الإلهي والضمانة الإلهيَّة.
البناء على القبور:
﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً﴾ (الكهف: 21), هنا محطَّة لطيفة يذكرها القرآن الكريم, أنَّ المساجد تُتَّخذ على قبور أولياء الله, وهذه سُنَّة يستعرضها القرآن ويقرُّها، ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً﴾, اتِّخاذ المساجد لعبادة الله وذكر الله عند قبور أوليائه أمر قد ورد في القرآن الكريم وشُرِّع في نصِّ القرآن الكريم لأصحاب هدى, فهذا الذي يُمارَس من قِبَل فِرَق المسلمين كافَّة عدا الذين يجحدون مثل هذه الشعيرة الإسلاميَّة الأصيلة، أو هذا الشعار القرآني الأصيل, ففِرَق المسلمين كافَّة هي على هذا النهج، لأنَّها مواضع لعبادة الله, وأقرب لاستجابة الدعاء, كما ورد في نصِّ الحديث النبوي المتواتر: «مَا بَيْنَ قَبْرِي

(٢١٤)

وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ اَلْجَنَّةِ»(64), أي عند قبره الشريف يُتَّخذ مصلَّى وعبادة لله ويُستجاب الدعاء تحت قبَّته, كيف والقرآن الكريم قد أخبرنا بذلك أيضاً: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ﴾ لاذوا بحضرة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وبعد ذلك يتأهَّلون ويستعدُّون لاستغفار الله, ﴿فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: 64), وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ (البقرة: 125), آيات عديدة تُدلِّل على هذا الأصل القرآني, يبثُّ القرآن الكريم هذه التعاليم لمن هم أصحاب هدى, هم أصحاب الكهف الذين مدحهم القرآن الكريم أيَّ مديح, والحرُّ وذو اللبِّ تكفيه الإشارة.
﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾ (الكهف: 22), لا يعرفون هذه المجموعة, إنَّما هم مجموعة رجال الغيب, مجموعة شبكة الغيب, شبكة ظاهرة الخضر, الأبدال والأوتاد والسُّيَّاح والأركان, مجموعة الخضر التي تحوط خليفة الله الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), والله تعالى أعلم بعدَّتهم.
ظاهرة أصحاب الكهف ودورها في حفظ الدِّين:
دأبت السُّنَّة الإلهيَّة على إخفاء أولياء الله ومجموعاتهم المجهولة عدَّتُهم, هؤلاء الذين يُخفي الله (عزَّ وجلَّ) عن شعور البشر أشخاصهم أو معرفة شخصيَّاتهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(64) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 568/ ح 3158)، مسند أحمد (ج 18/ ص 153 و154/ ح 11610).

(٢١٥)

ومعرفتهم بالهويَّة, تلك المجاميع والمجموعات البشريَّة التي تُعَدُّ للقيام بمسؤوليَّات إلهيَّة خفيَّة في العدد والعدَّة، فهذه سُنَّة من الله (عزَّ وجلَّ), ولا يوجب ذلك اللحود والإنكار والاستهزاء بسُنَن الله تعالى في أوليائه, لاسيَّما المصلحين. وفي هذه الآية الكريمة تعبير رائع جدًّا، وذو مغزى عميق, حيث تقول الآية: ﴿رَجْماً بِالْغَيْبِ﴾, أطلق عليهم القرآن الغيب, ممَّا يُدلِّل على أنَّ المراد من كلمة (الغيب) في استعمال القرآن الكريم هو كلُّ ما كان خافياً شعوره ومعرفته وعلمه عن البشر, ويساعده المعنى اللغوي أيضاً حيث يُعبَّر عنه بالغيب, ومن ثَمَّ ورد في جملة من الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) تعبير بالغيب عنه (عجَّل الله فرجه).
الإيمان بالحقيقة المهدويَّة من مصاديق الغيب:
إنَّ أحد مصاديق الغيب هو الإيمان بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وظهوره، فربَّما يتقاصر ذهن الكثير عن الالتفات إلى معنى الغيب, ويظنُّ أنَّ المراد من كلمة (الغيب) هو ما وراء الموت من النشأة الآخرة مثلاً كالبرزخ, والقيامة, أو ما شابه ذلك من العوالم العلويَّة السماويَّة وغيرها, والحال أنَّ القرآن الكريم لا يقصر ولا يحبس استعمال الغيب على ذلك فقط, بل كلُّ ما غاب عن شعور البشر وعن معرفتهم ودرايتهم وإنْ كان في دار الدنيا فإنَّه يكون غيباً بالنسبة إليهم، لأنَّه تحت تنفيذ قدرة الله وقضائه, هذه القدرة الفائقة على قدرة البشر ومُكنتهم, فمن ثَمَّ يُسمَّى غيباً, قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾, وتتابع الآيات: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 2و3). الغيب فُسِّر أيضاً بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وهذا التفسير معهود ويؤنسنا به نفس القرآن الكريم, أنَّ الغيب كلُّ ما كان بتدبير وقضاء وقدرة من الله (عزَّ وجلَّ) وتتصاعد وتتعالى

(٢١٦)

على قدرة البشر ومكنتهم ومعرفتهم وشعورهم, يكون حينئذٍ في دائرة الغيب عن البشر, وبالتالي فالغيب غيبة وليِّ الله وغيبة أولياء الله وغيبة المصلحين عن شعور البشر ومعرفتهم بهم بتقدير من الله يكون غيباً ومن الأُمور الغيبيَّة التي افترض الله الإيمان بها على المؤمنين, فهنا تطبيق واضح من القرآن الكريم على غيبة أصحاب الكهف, غيبة شعور البشر بأصحاب الكهف, غيبة معرفة البشر بأصحاب الكهف, مع وجودهم في دار الدنيا، وعبَّر عنه القرآن بالغيب.
ظاهرة أصحاب الكهف والإيمان بالحقيقة المهدويَّة:
هناك نوع من التشابه الوطيد الصلة جدًّا بين ظاهرة أصحاب الكهف من جانب, والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته من جانب آخر, فقد ابتُلِيَ أصحاب الكهف بالمَلِك دقيانوس رأس الضلالة وقومه وأصحابه, وكانوا هم ثُلَّة مستضعفة, فحماها الله وحرسها بالخفاء والغيبة, هكذا نجد في عهد الإمام الهادي والإمام العسكري (عليهما السلام), كانوا مسجونين في قاعدة عسكريَّة تُدعى بـ (سُرَّ من رأى) وهي سامرَّاء حاليًّا, وكانت أكبر قاعدة عسكريَّة في العالم الإسلامي حينذاك, بل حتَّى ربَّما على وجه الأرض, وسُجِنَ فيها الإمام الهادي والإمام العسكري (عليهما السلام) كسجينين عسكريَّين تخوُّفاً من دور الإمامين (عليهما السلام) ومن تولُّد ابنهم الموعود على لسان النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولسان جميع الأنبياء (عليهم السلام) بأنْ يكون المصلح المنقذ المنجي للبشريَّة والذي يملأها قسطاً وعدلاً, فالبشارة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لم تقتصر على القرآن الكريم فقط: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33), ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصَص: 5), إلى غيرها من الآيات العديدة التي مرَّت بنا, وأنَّ القرآن وعد بأنَّ الإصلاح سيكون على يد من نصَّبهم الله أئمَّة يرثون

(٢١٧)

الأرض, وإنْ كانوا في فترة طويلة جدًّا متطاولة مستضعفين من قِبَل الظالمين المفسدين, بل هذا قد ورد في الزبور والتوراة والإنجيل وكُتُب السماء السابقة: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105), وقد فُسِّر الزبور هنا بزُبُر الكُتُب السماويَّة. فجملة الكُتُب السماويَّة قد تعرَّضت إلى البشارة بسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبالأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام), وكذلك بالبشارة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وظهوره وإصلاح الأرض على يديه, وكأنَّه هو خاتمة وثمرة سلسلة مسار الأنبياء والمرسَلين (عليهم السلام) أجمع والأئمَّة (عليهم السلام) في كلِّ حقبة, فمن ثَمَّ وردت البشارة به وبغيبته في الصُّحُف الأُولى.
هنا نلاحظ أنَّ ظاهرة أصحاب الكهف قد وردت فيها جملة من العناوين العقائديَّة استعملها القرآن الكريم مشاكلة ومشابهة للعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته الواردة في آيات أُخَر وسور أُخَر, فضلاً عن الأحاديث النبويَّة الواردة, مثلاً التعبير: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ (الكهف: 21), أنَّ هناك وعداً من الله (عزَّ وجلَّ)، وهذا الوعد قد فُسِّر من قِبَل المفسِّرين بالمعاد والبعث, ولا ضير في هذا التفسير, لكنَّه لا ينحصر في ذلك, ففي الحقيقة أنَّ الإعادة والوعد كما استعملها القرآن الكريم في القيامة الكبرى والمعاد الأكبر, استعملها أيضاً على ما وعد به الله (عزَّ وجلَّ) البشريَّة من وعود أُخرى قطعها الباري تعالى في القرآن على نفسه, مثلاً إظهار هذا الدِّين كلِّه على جميع أجزاء الأرض, هذا وعد أيضاً ومعاد, وليس المعاد المصطلح المراد منه الآخرة, فذلك هو المعاد الأكبر, وذلك هو القيامة الكبرى, ولكن قد عبَّر القرآن الكريم أيضاً عن كلِّ وعد بيوم معيَّن فيه من ظهور الآيات الربَّانيَّة وآيات القضاء والقدر الإلهي والحكمة الإلهيَّة البارزة العظيمة, هو ذاك اليوم, يوم العدل, يوم وعد يتحقَّق فيه إنجاز الوعد الإلهي, وبالتالي فكلُّ وعود الله حقٌّ.

(٢١٨)

حقيقة الرجعة بين القبول والرفض:
إنَّ ظاهرة أصحاب الكهف ظاهرة خفاء وغيبة ورجعة, والرجوع ليس كما يقوله التناسخيَّة وبعض الفِرَق الباطلة من حلول روح في بدن آخر، وما شابه ذلك من هذه الأُمور الباطلة الواهية, وإنَّما هي رجوع هذه الأرواح إلى نفس هذه الأبدان الدنيويَّة, كما هو في النوم, فالنوم كما ورد في الحديث الشريف وكما ورد في الآية الكريم: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ (الزمر: 42), فعبَّر عن النوم أيضاً بأنَّه نوع توفِّي للأنفس, فهو صنف شبيه يشاكل الموت, فرجوع أصحاب الكهف في الحقيقة ظاهرة بيِّنة على عقيدة الرجعة التي تؤمن بها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام), من رجوع الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) إلى دار الدنيا, طبعاً في أبدانهم لا في أبدان أُخرى, كي يكون هنا فرز وتمييز بين قول الرجعة وأقوال باطلة أُخرى من أقوال التناسخيَّة والمخمِّسة وغيرهما من الفِرَق الباطلة, بل هو رجوع الأرواح إلى نفس أبدانها, كما في النفس البشريَّة عندما تنام, هي نوع توفٍّ للأنفس شبيه للموت, فالاستيقاظ نوع من الرجوع, لكن هذه في فترة قصيرة ستّ ساعات أو ثماني ساعات, أمَّا في نوع أصحاب الكهف فكان قروناً, ثمّ بعثهم الله كما عبَّر القرآن الكريم في قصَّة أصحاب الكهف: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ﴾ (الكهف: 19), لكنَّه ليس هو البعث الأكبر, فذلك في يوم القيامة, وإنَّما هذا بعث آخر, كما ورد أيضاً أنَّ الإيقاظ من النوم وإيلاج الروح بعد مفارقتها للبدن في المقام ليس مفارقة كلّيَّة طبعاً هو نوع من البعث الإلهي, ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ﴾ (الأنعام: 60), فإذن عنوان (البعث) ورد في القرآن الكريم لليقظة من المنام, وكذلك ورد في أصحاب الكهف, وهذا غير

(٢١٩)

التناسخ الباطل، أو ما تقوله الفِرَق الباطلة, وإنَّما هو في نفس بدنه وليس في بدن آخر, علقة بين الروح ونفس البدن, كما هي في الآخرة حيث تُبعَث الأرواح في أبدانهم وليس بأبدان أُخرى, ولا صلة له بالمقولة التناسخيَّة الباطلة.
إذن هناك بعث أكبر ومعاد أكبر وقيامة كبرى, ويُبيِّن لنا القرآن الكريم أنَّ هناك عدَّة حُقَب من البعث أيضاً, ورجعة الأرواح إلى الأبدان نفسها لا أبدان غيرها في دار الدنيا مهما تطاولت القرون, هذه ظاهرة موجودة في أصحاب الكهف, وتقع في هذه الأُمَّة, وهي عقيدة الرجعة التي تُشيِّدها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
والجانب المهمُّ في مقام حديثنا الذي نحن فيه هو ظاهرة غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وأنَّها قد استُعمِلَ فيها عناوين في القرآن الكريم وفي الحديث النبوي, ووردت بنفسها أيضاً في ظاهرة أصحاب الكهف, إنَّما هي ظاهرة خفاء مجموعة طالت عدَّة قرون, وأنَّ الله وعدهم بأنْ يظفرهم ولو بإلهام الفطرة وبيقين الفطرة, أو أنَّ الله وعد في منشور كُتُبه بأنَّ العاقبة تكون للمتَّقين, وهؤلاء متَّقون, فأنجز الله هذا الوعد. كما أنَّ هناك وعداً إلهيًّا أيضاً في الآخرة بالمعاد والقيامة الكبرى, فهاهنا استعمل الظهور كمصداق من مصاديق تحقُّق الوعد الإلهي.
الوعد القرآني في ظهور الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه):
كذلك الحال في ظاهرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته, هناك وعد قرآني لإظهاره, وعود في آيات قرآنيَّة وبألسن مختلفة وببيانات قرآنيَّة متنوِّعة، وببيانات في الحديث النبوي المتواتر متعدِّدة، أنْ يُظهر الله المهدي (عجَّل الله فرجه) من ذرّيَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذرّيَّة فاطمة وعليٍّ (عليهما السلام) ليملأها قسطاً وعدلاً.
والتعبير الآخر الثاني المشاكل لما ورد في العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته بالساعة, مع أنَّ الساعة هنا أُريد بها الساعة الكبرى, وهي يوم القيامة

(٢٢٠)

الكبرى, ولكن في سياق آخر طُبِّق على ساعة ظهور أصحاب الكهف, حيث إنَّ هناك نوعاً من المشاكلة بين إظهار الله (عزَّ وجلَّ) لأصحاب الكهف حيث هو مقدَّر في القضاء الإلهي مع تلك الساعة الكبرى, وهذا هو الذي ورد أيضاً أنَّ أحد معاني الساعة ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه), وإنْ كان هذا لا ينافي الساعة الكبرى وهي القيامة الكبرى, وربَّما أُطلِقَ على ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه) القيامة الصغرى, والرجعة القيامة الوسطى, وهي رجعة أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) إلى الدنيا.
المتَّقون والإيمان بالغيب:
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 2), من هم المتَّقون؟ أوَّل صفة بارزة في المتَّقين أنَّهم ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 3), يُدركونه بحقيقة عقولهم وبإيمان قلوبهم, وعندما نقول: من أبرز صفاتهم الإيمان بالغيب إنَّما نريد ما قامت عليها البراهين والأدلَّة، كما أنَّ مجرَّد غيبيَّة الحقيقة عن الشعور وعن المعرفة البشريَّة ليس مدعاةً وسبباً للجحود وللإنكار وللاستهزاء وللتهريج, فهذا أمر عامٌّ يشمل الإيمان بالله تعالى والإيمان بالنشأة الآخرة وبالمعاد وبأُمور غائبة عن شعور وإدراك الإنسان الحسِّي، وهي كثيرة جدًّا، فمن ضمن تلك الأُمور التي قام عليها البرهان القرآني وبرهان السُّنَّة القطعيَّة النبويَّة والبراهين العقليَّة قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30), إنَّ الاعتقاد بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) وبانتهاء هذه الإمامة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قامت عليه الأدلَّة العامَّة القرآنيَّة والأدلَّة في الأحاديث النبويَّة بعنوانٍ عامٍّ عموم العترة أو بعنوان عامٍّ عموم جعل الخليفة في الأرض, وبعنوان خاصٍّ خصوص الإمام المهدي الثاني عشر (عجَّل الله فرجه), وما شابه ذلك, فالأدلَّة متنوِّعة ومتعدِّدة, وعندما يعجز الشعور والإدراك الحسِّي البشري عن الوصول إلى مثل هذا الإمام مع وجوده ما

(٢٢١)

بين أيدينا، وما بين ظهرانينا، ومع ما يقوم به من أدوار عصيبة حسَّاسة في نظام البشر, ومع قيام البراهين القرآنيَّة والبراهين النبويَّة على وجوده وعلى قيامه بالمسؤوليَّة.
مع كلِّ ذلك لا تكون غيبته عن الشعور الحسِّي البشري مدعاة للإنكار والجحود, فأبرز صفة في المتَّقين عقيدتهم بالأدلَّة التي تقوم على الحقائق العقائديَّة وإنْ كانت غائبة عن قوَّة وقدرة شعورهم الحسِّي, وليس المراد خصوص الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته, ولكن من ضمن ثوابت الغيب التي يؤمن بها المتَّقون هو الاعتقاد بإمامة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته، هذا التعبير مشاكلته كما مرَّ بنا في القرآن الكريم في ظاهرة أصحاب الكهف والرقيم, فقد كانت لهم غيبة قرون متطاولة, ثمّ بعثهم الله وأظهرهم إلى البشريَّة بعد مرور أجيال وأجيال وقرون.
فنرى استعمال القرآن الكريم عن أمر موجود في نشأة دار الدنيا وعلى وجه الأرض, إلَّا أنَّه لكونه غائباً عن شعور البشر وقدرة إحساسهم فقد سمَّاه القرآن الغيب, لكن قامت عليه الحقيقة البرهانيَّة القرآنيَّة والأديانيَّة, ومن ثَمَّ عبَّر عنه بالغيب كما في هذه الآية الكريمة: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ﴾ (الكهف: 22), التعبير إذن ورد: ﴿رَجْماً بِالْغَيْبِ﴾, قد عبَّر عن هذه الظاهرة بأنَّها غيب. كذلك في الآيات اللَّاحقة عندما يقول الباري تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ﴾ (الكهف: 25 و26).

* * *

(٢٢٢)

الظاهرة الخامسة وهي الثالثة في سورة الكهف, ولكنَّها خامسة فيما استعرضناه من ظواهر قرآنيَّة متَّصلة بعقيدة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته، ألَا وهي ظاهرة ذي القرنين(65).
وليس هذا التكرير والإكثار والتعديد من البيانات القرآنيَّة إلَّا لأجل أنَّه سيقع في هذه الأُمَّة أمر عصيب تفتتن فيه الأُمَّة وتُمتحَن وتُبتلى بمثل هذه العقيدة الحقَّة, كي يصبر, ويهتدي, ويثبت على الهدى, و﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ (الأنفال: 42).
فليس من العبط، ولا من المصادفة، ولا من عدم الحسبان أنْ تُكرِّر لنا السور القرآنيَّة الأُخرى بعد الأُخرى والثانية بعد الأُولى ظاهرة غيبة حُجَج وأولياء الله في الأرض, ثمّ ظهورهم وقيامهم بأدوار في الغيبة, ثمّ قيامهم بعد ظهورهم بالأدوار المعلنة على المكشوف, إلَّا لبيان أنَّ في هذه الأُمَّة ستقع مثل هذه السُّنَّة الإلهيَّة, فظاهرة ذي القرنين هي أيضاً كظاهرة خامسة متَّصلة بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), حيث إنَّ ذا القرنين كالنبيِّ سليمان (عليه السلام) هما مَلِكان قد أُوعز إليهما وفُوِّض إليهما ومُكِّنا من قِبَل الله تعالى ونُصِّبا للحكم العامِّ الشامل في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(65) روى العيَّاشي (رحمه الله) في تفسيره (ج 2/ ص 339 و340/ ح 72) عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ ذَا اَلْقَرْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَكِنْ كَانَ عَبْداً صَالِحاً أَحَبَّ اَللهَ فَأَحَبَّهُ، وَنَاصَحَ اَللهَ فَنَاصَحَهُ، أَمَرَ قَوْمَهُ بِتَقْوَى اَلله، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ، فَغَابَ عَنْهُمْ زَمَاناً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ اَلْآخَرِ، وَفِيكُمْ مَنْ هُوَ عَلَى سُنَّتِهِ»؛ ورواه ابن بابويه (رحمه الله) في الإمامة والتبصرة (ص 121/ ح 116)، والصدوق (رحمه الله) في كمال الدين (ص 393/ ما روي من حديث ذي القرنين/ ح 1).

(٢٢٥)

أرجاء الكرة الأرضيَّة, كما ورد في الروايات أنَّ أربعة من الملوك حكموا غالب أرجاء الكرة الأرضيَّة, اثنان صالحان وهما: المَلِك سليمان وقبله ذو القرنين, واثنان طالحان وهما: نمرود وبختنصَّر(66).
وهذا أيضاً من السُّنَن الإلهيَّة التي يوليها الله (عزَّ وجلَّ) لأوليائه وحُجَجه.
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً﴾ (الكهف: 83), هنا تبتدئ الآيات ببيان البطاقة الشخصيَّة التي يسردها لنا القرآن الكريم عن شخصيَّة ذي القرنين, شخص صالح اصطُفِيَ للتمكين في مُلك الأرض, وهو على أيَّة حالٍ يضاهي ما ستشهده البشريَّة من إرهاص عظيم مزلزل مجلجل في أرجاء الأرض، ويدوي في أجواء السماء، وهو ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), بل لن تشهد البشريَّة جلجلة وزلزلة وزلزالاً وإرهاصاً أعظم ممَّا ستشهده في ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وهو أعظم ممَّا أُوتي ذو القرنين, أو أُوتي النبيُّ سليمان (عليه السلام).
اُنظر هاهنا التعبير: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ (الكهف: 84), هكذا عرَّف القرآن الكريم ذا القرنين, ولم يُعرِّفه بأنَّه نبيٌّ أو مرسَل, هذا هو التعريف الذي اقتصر عليه القرآن الكريم في تعريف ذي القرنين, نظير ما مرَّ من تعريف للخضر في نفس سورة الكهف, وهي ظاهرة أيضاً متَّصلة بغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
تصل سورة الكهف بتعريف نهاية المطاف, نهاية حفظ الدِّين, وبقاء الدِّين، ألَا وهي ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف, لأنَّه نهاية حفظ هذا الدِّين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(66) روى الصدوق (رحمه الله) في الخصال (ص 255/ ح 130) بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «مَلَكَ اَلْأَرْضَ كُلَّهَا أَرْبَعَةٌ: مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ، فَأَمَّا اَلمُؤْمِنَانِ فَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ (عليهما السلام) وَذُو اَلْقَرْنَيْنِ، وَاَلْكَافِرَانِ نُمْرُودُ وَبُخْتَنَصَّرُ».

(٢٢٦)

في هذه الأُمَّة هو ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه) ليُظهر الله (عزَّ وجلَّ) الدِّين على أرجاء الأرض كافَّة على يده فيملأها قسطاً وعدلاً، ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33), وهذا التناسق البديع في سورة الكهف قد رصد في ترتيبه بشكل ظريف بديع ينطبق تماماً على ملحمة العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته.
عرَّف القرآن ذا القرنين بأنَّه عبد مصطفى ولم يكن نبيًّا: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرضِ﴾ (الكهف: 84), فهو تمكين إلهي، وقدرة تفوق قدرات الأسباب الطبيعيَّة في البشر, بل هي بأسباب طبيعيَّة, ولكن هذه الأسباب الطبيعيَّة لا يمكن للقدرة البشريَّة تناولها, وإنَّما هي بتمكين فقط من الله (عزَّ وجلَّ).
الطبيعة البشريَّة فيها أسباب، ولكن هذه الأسباب لا يمكن نيلها بتمامها أو بجملة وافرة منها أو بجملة مهمَّة إلَّا بتمكين من الله, نظير ما ورد في الخضر: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65), أي هنا تمكين إيتائي ولدنِّي من الله, ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرضِ﴾, وهذا التمكين تمكين خاصٌّ، ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ (الكهف: 84), إيتاء لدنِّي, كما أنَّ في القرآن الكريم بياناً واضحاً أنَّ هناك غير مقام النبوَّة ومقام الرسالة, هناك مقام صاحب العلم اللدنِّي, وهو صاحب تأويل كما مرَّ في الخضر, وهنا صاحب تمكين في الأرض وقدرة وولاية تكوينيَّة, ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾.
وهناك قدرة علميَّة خاصَّة لدنّيَّة, كما أنَّ هناك قدرة تكوينيَّة خاصَّة لدنّيَّة من الله, وهذا مقام آخر يستعرضه لنا القرآن الكريم, هذا المقام ليس مقام نبوَّة ولا رسالة, وإنَّما مقام المُلك والإمامة في الأرض بأنْ يُمكَّن الإمام والخليفة في الأرض من القدرة التي تتقاصر وتعجز عنها وعن التطاول إليها القدرة البشريَّة مهما تقدَّمت ومضت قدماً في الحضارة والتمدُّن.
بعد ذلك يُعرِّفنا القرآن الكريم: ﴿فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ

(٢٢٧)

الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا﴾ خطاب من الله (عزَّ وجلَّ) إلى ذي القرنين، ﴿يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ (الكهف: 85 و86), هنا حوار ووحي خاصٌّ بين الباري تعالى وذي القرنين, مع أنَّ القرآن الكريم لم يُعرِّف لنا ذا القرنين بأنَّه نبيٌّ ولا رسول, ولكنَّه وليٌّ مصطفى ومجتبى قد مُكِّن واختير واصطُفِيَ لمقام الإمامة والخلافة في الأرض، المُلك مُلك التدبير والتصرُّف, وهو إمام ومستخلَف في الأرض وأحد مصاديق سُنَّة الله. ﴿قُلْنَا﴾ خطاب من الله لذي القرنين، ﴿يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ﴾ خطاب خاصٌّ, وحي خاصٌّ, كما في الوحي لأُمِّ موسى (عليه السلام), وكما استعرض لنا القرآن الكريم في الوحي لمريم (عليها السلام), فلم تكن نبيَّة ولا رسولة ولا إماماً, ولكن كانت مصطفاة وحجَّة مطهَّرة.
تصل سورة الكهف إلى ظاهرة ذي القرنين حيث تُمثِّل نهاية المطاف لحفظ بقاء الدِّين من ظهور المُلك الإلهي والخلافة الإلهيَّة بشكل مكشوف وعلني على أرجاء الأرض كافَّة, وهو ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), فصحَّ إذن أنَّ هذه الضمانات الأربعة, سيَّما الرابعة كمثل ضربه الله للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وهو غلبة واستيلاء وتمكين ذي القرنين في الأرض, ومن ثَمَّ ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ ذا القرنين أُوتي السحاب, وأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يُؤتى ذلك أيضاً, إلَّا أنَّ الأسباب الأكثر والأشدّ قوَّةً ونفوذاً أُخِّرت للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), والنمط النازل المتوسِّط من الأسباب، طبعاً هي فوق قدرة البشر, لكن من الأسباب اللدنّيَّة أُعطيت لذي القرنين(67).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(67) روى الصفَّار (رحمه الله) في بصائر الدرجات (ص 429/ ج 8/ باب 15/ ح 4) بسنده عَنْ أَبِي يَحْيَى، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَلله (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ خَيَّرَ ذَا اَلْقَرْنَيْنِ اَلسَّحَابَيْنِ: اَلذَّلُولَ وَاَلصَّعْبَ، فَاخْتَارَ اَلذَّلُولَ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ بَرْقٌ وَلَا رَعْدٌ، وَلَوِ اِخْتَارَ اَلصَّعْبَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اَللهَ اَدَّخَرَهُ لِلْقَائِمِ (عليه السلام)»؛ ورواه المفيد (رحمه الله) في الاختصاص (ص 326).

(٢٢٨)

فأوَّل مجتمع واجهه ذو القرنين وانخرط فيه: ﴿وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ (الكهف: 86), هذا الحوار والخطاب الإلهي مع ذي القرنين ليس مفاده وحي شريعة ولا وحي رسالة, ولكنَّه وحي من علم لدنِّي للتدبير في الأرض كما مرَّ في الخضر, إذن فهذا العلم اللدنِّي الذي أعطاه الله للخضر، كذلك إعطاء الإيتاء اللدنِّي لذي القرنين يُؤهِّل أنْ يكون هناك ارتباط بين الخضر وذي القرنين بوحي علم لدنِّي, وليست هذه القناة نبويَّة ولا قناة رسالة, وإنَّما ارتباط إمامة ووحي لدنِّي.
هذه الظاهرة صريحة في القرآن الكريم أنَّ هناك أولياء لله أصفياء مصطفون نصَّبهم الله حُجَجاً وأئمَّة للخلق مزوَّدون بالعلم اللدنِّي, أو بإيتاء الأسباب, يُوحي إليهم ليس وحي شريعة ولا وحي رسالة ولا وحي نبوَّة, وإنَّما يُوحي إليهم العلم اللدنِّي, يطَّلعون عبره على إرادات الله وأوامره الخاصَّة التفصيليَّة في تدبير الأرض وفي تطبيق شرائع الأنبياء (عليهم السلام) التي هي شرائع إلهيَّة, ومحطَّة عقائديَّة متكرِّرة في السور القرآنيَّة, لا نجد لها تفسيراً عند المدارس الإسلاميَّة غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام), ففي منهاج العقائد لمدرستهم (عليهم السلام) أنَّ هذه الظاهرة القرآنيَّة وأمثالها هي موقعيَّة ومنصب ومقام الإمام, بخلاف المدارس الأُخرى التي حُصِرَ فيها الارتباط بالغيب بقناة النبوَّة والرسالة فقط, وليس هناك مقام ومنصب إلهي آخر عندهم, فلا يستطيعون أنْ يُفسِّروا ظاهرة ذي القرنين ولا ظاهرة الخضر، ولا ظاهرة مريم، ولا ظاهرة طالوت، ولا ظواهر عديدة في القرآن الكريم كصاحب سليمان (عليه السلام) الذي عنده علم من الكتاب مثلاً.
وإنَّما استعرض القرآن هذه الحقيقة لحِكَم ومغازي عديدة, منها تبيان أنَّ بقاء هذا الدِّين وحفظه سيُكلَّل في النهاية إلى ظهور المصلح الإلهي المزوَّد

(٢٢٩)

بالتمكين من السماء والمزوَّد بأسباب القدرة التكوينيَّة بإيتاء من الباري تعالى, وهذا طبعاً مغزى وغاية مهمَّة لاستعراض ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف في حفظ وبقاء الدِّين، وإظهار الدِّين على أرجاء الأرض كافَّة, فالتشابه كبير بين الوعد الإلهي كوعد قطعه الله (عزَّ وجلَّ) على نفسه بإظهار هذا الدِّين وتمكين هذا الدِّين, وبين ما تستعرضه سورة الكهف في أوَّل مطلع الآيات. فهناك الوجل حول حفظ وبقاء هذا الدِّين: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف: 6), وتذكر أيضاً أنَّ خاتمة الضمانات لبقاء حفظ الدِّين هي ظاهرة ذي القرنين, يعني أنَّ الدِّين يُحفَظ بمجيء شخص نظير ذي القرنين يُمكِّنه الله ويُعطيه أسباب القدرة والنفوذ, ومن ثَمَّ سيعمر أرجاء الأرض كافَّة بإظهار ونشر هذا الدِّين الحنيف، هذا مغزى مهمٌّ وعظيم.
ومغزى آخر من استعراض ظاهرة ذي القرنين، وهو أنَّ الذي يُمكِّنه الله تمكيناً لدنّيًّا، ويُؤتيه من أسباب القدرة إيتاءً لدنّيًّا يكون متَّصلاً بالغيب, يكون لديه سبب متَّصل, قناة اتِّصال مع الله (عزَّ وجلَّ), ليس هذه القناة نبوَّة ولا رسالة, ومن ثَمَّ ينقل لنا القرآن حواراً ليس حوار وحي نبوَّة ولا وحي رسالة, وإنَّما ينقل لنا وحي برامج إلهيَّة لتدبير الأرض وقيادة الأرض, أي برامج الإمامة الإلهيَّة في منصب ذي القرنين, حيث يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ﴾ (الكهف: 86 و87), فهنا إذن حوار إلهي وَحْياني بين الباري تعالى وبين ذي القرنين، لأنَّه استُخلِفَ في الأرض وجُعِلَ خليفة يُدبِّر ويقود الأرض, وأُوتي القدرة اللدنّيَّة من الله الإيتائيَّة وليست الاكتسابيَّة, هذا المقام يُؤهِّله لأنْ يطَّلع على الإرادة الإلهيَّة التفصيليَّة الخاصَّة في التدبير وفي الحكم السياسي والقضائي والتنفيذي.

(٢٣٠)

التوحيد والحاكميَّة السياسيَّة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام):
إنَّها حقًّا ملحمة عظيمة أنْ يشاهد المسلم والمؤمن من يتشدَّد في عقيدة التوحيد توحيد الله (عزَّ وجلَّ), ورغم ذلك لا يستطيع أنْ يرسم لوناً من التوحيد في الحاكميَّة السياسيَّة لله تعالى, بينما نجد هذا اللون المركَّز في التوحيد في حاكميَّة الله في الحقيقة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام), حيث نجد ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ﴾ (الأنعام: 57), أنَّ الحاكمية السياسيَّة أو الحاكم السياسي الأوَّل هو الله (عزَّ وجلَّ), عبر ما يُنزِّله الله (عزَّ وجلَّ) من إرادات وأوامر خاصَّة تنفيذيَّة وتطبيقيَّة للإمام المعصوم, حيث يُزوَّد بالعلم اللدنِّي, ففي الحقيقة هذا اللون المركَّز من التوحيد لا نجده في المدارس الإسلاميَّة الأُخرى, يعني على صعيد الحكومة السياسيَّة والحكومة التنفيذيَّة أين هي يد الله (عزَّ وجلَّ)؟ وأين هو تصرُّف الله تعالى؟ وأين هي حاكميَّة الله؟ للأسف في غير مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التي تُشدِّد وتُؤكِّد على أنَّ الإمام يجب أنْ يكون منصوباً من قِبَل الله لكي يكون سفيراً لله في خلقه، لا سفارة نبوَّة ولا سفارة رسالة، وإنَّما سفارة إمامة وسفارة إبلاغ البشر والإقامة في البشر, لإرادات الله السياسيَّة وإرادات الله القضائيَّة, فهناك إرادات تشريعيَّة عامَّة هي علم النبوَّة والشريعة, لكن الإرادات الإلهيَّة التفصيليَّة التطبيقيَّة التنفيذيَّة والإرادات السياسيَّة كيف تتنزَّل؟ من الذي يطَّلع عليها؟ ومن يُنفِّذها؟ ومن يتلقَّاها ويُقيمها؟ فالنبوَّة والرسالة عبارة عن توحيد لله في النبوَّة والرسالة, وتوحيد لله في التشريع, فنفس العقيدة بالنبوَّة والرسالة عبارة عن عقيدة التوحيد، لأنَّها توحيد لله في التشريع, فهناك من يتلقَّى تشريعات الله, وهي النبوَّة والرسالة والرسول, أوَليس لا بدَّ أنْ نعتقد بتوحيد الله في الحكومة السياسيَّة وبتوحيد الله في الحكومة التنفيذيَّة وفي الإجراء العسكري وفي الإجراء القضائي, فمن يتلقَّى إرادات الله السياسيَّة؟ من يتلقّى الإرادات الإلهيَّة في المنعطفات في

(٢٣١)

مسار النظام البشري؟ من يتلقَّى إرادات الله العسكريَّة القضائيَّة الثقافيَّة؟ وهلمَّ جرّصا في الحكومة التنفيذيَّة, وليس في مدارس المسلمين ومذاهب المسلمين من يُصوِّر هذا اللون وهذا الركن من التوحيد إلَّا مدرسة أهل البيت (عليهم السلام), فما ينقضي العجب ممَّن يتشدَّق بعقيدة التوحيد كيف لا يُبصر هذا التوحيد المركَّز في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام), ويتَّبع سبيل الهدى في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من كون الإمام المنصوب من قِبَل الله (عزَّ وجلَّ) هو الذي يتلقَّى. هذا توحيد لله في الولاية, وهذا ما تُسلِّط الضوء عليه بشكل مركَّز ظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف, إذ يتلقَّى إرادات الله السياسيَّة: ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ (الكهف: 86).
إذن لا يفتأ القرآن الكريم يُصرِّح أنَّ لله تعالى إرادات سياسيَّة غير الإرادات العامَّة التشريعيَّة، وهي مغايرة علم الخضر وعلم النبيِّ موسى (عليه السلام)، مغايرة الإمامة الإلهيَّة عن النبوَّة والرسالة واللتان اجتُمعَتا في خاتم النبيِّين (صلّى الله عليه وآله وسلّم). هذه الإرادات التفصيليَّة تتنزَّل على من ينصبه الله (عزَّ وجلَّ) إماماً في الأرض وخليفة له يستخلفه لتدبير المجتمعات ولنظم المجتمعات, أين هذا الركن العقائدي؟ أين هذا المفصل العقائدي؟ أين هذه الحقيقة العقائديَّة القرآنيَّة في مذاهب المسلمين؟ لا نجدها إلَّا في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
فظاهرة ذي القرنين في سورة الكهف تُبيِّن لنا أنَّ الإمام الذي يُمكِّنه الله لإظهار الدِّين على أرجاء الأرض كافَّة ويملأها قسطاً وعدلاً, هذا يُؤهِّل لأنْ يكون بينه وبين الله قناة ارتباط ليست قناة نبويَّة ولا قناة رسالة, ولكن قناة تُؤهِّله لأنْ يعلم وأنْ يتزوَّد وأنْ يتلقَّى إرادات الله السياسيَّة في تدبير الباري تعالى لنظام البشر الاجتماعي, وهي إرادات سياسيَّة, وهذا لون من التوحيد في الحاكميَّة السياسيَّة.

(٢٣٢)

نعم, بعد ذلك تواصل لنا ظاهرة ذي القرنين في الآيات, فتُبيِّن لنا ملامح واضحة بأنَّ الإمام كالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي يصطفيه الله لنشر الدِّين على أرجاء الأرض كافَّة ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً يتحقَّق على يديه إنجاز الوعد الإلهي ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (التوبة: 33), وكما بدأ من بيت النبوَّة وأهل البيت (عليهم السلام), وبعدما وقف انتشاره فإنَّه ينتشر مرَّة أُخرى على يد أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً.
ولو كانت الأُمور بيد أهل البيت (عليهم السلام) لتمَّ إنجاز هذا الوعد الإلهي سريعاً, ولكن سوء تصرُّف الأُمَّة أخَّر إنجاز هذا الوعد على يد ابنهم المهدي (عجَّل الله فرجه), فهذا الإمام الذي يُنجز الله على يده هذا الوعد الإلهي ويُمكِّنه في أرجاء الأرض يكون كذي القرنين بينه وبين الباري تعالى ارتباط يُؤهِّله أنْ يخاطبه الربُّ لا بوحي نبوَّة ولا بوحي رسالة ولا بوحي شريعة جديدة - والعياذ بالله -, كلَّا وإنَّما هي نفس الشريعة المحمّديَّة الخالدة, ولكن لتطبيقها ولتطبيق هذا الدستور وهذه الشريعة الخالدة العظيمة على صعيد الحكومة التنفيذيَّة فإنَّه يحتاج إلى إرادات تفصيليَّة من الله (عزَّ وجلَّ) في المنعطفات الخطيرة المهمَّة, بأنْ يخاطب (قلنا: يا مهدي)، هكذا كما في ظاهرة ذي القرنين, ﴿إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً﴾ يعني كما يخاطب ذو القرنين في قول الله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ﴾ (الكهف: 86), فأيضاً يخاطب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في إمامته وفي حكومته بذلك.
ثمّ يقول تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً﴾ (الكهف: 93), فما معنى السدَّين؟ هل هما سدَّان في أجواء السماء بين المجال المغناطيسي والمجال غير المغناطيسي، أو شيء آخر, أو السدَّان على وجه الأرض؟ فالعبارة قابلة لاحتمال هذه المحتملات, المهمُّ أنَّه

(٢٣٣)

أُوتي مثل هذه القدرات المتعدِّدة, هذا مجتمع ثالث يخوض فيه ذو القرنين لإصلاحه وإقامة العدل فيه.
﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾ (الكهف: 94 و95), يعني أنَّ الإمام الذي يُنصَّب من قِبَل الله تعالى في الأرض على البشر لا يتقاضى أجره وجزاءه من البشر, بل من الله (عزَّ وجلَّ), فلا يتقايض ذو القرنين مع هذا المجتمع الثالث الذي يخوض فيه على الإصلاح وإقامة العدل فيه ومناهضة الفساد كما هو واضح هنا. وهذا حقيقة الأمانة والنزاهة في قيادة الإمامة الإلهيَّة أنَّها لا تنظر إلى القيادة كسلطة وجسر للمآرب الذاتيَّة، بل كطريق لخدمة البشر خدمة مجَّانيَّة ووظيفة إلهيَّة، إلى أنْ تتمَّ الآية فتقول: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ (الكهف: 95 و96), هذه محطَّة مهمَّة أُخرى في الغاية تُبيِّنها لنا ظاهرة ذي القرنين.
وبعد ذلك تطالعنا هذه الآيات حول ظاهرة ذي القرنين, إنَّها محطَّة أُخرى مهمَّة في الإمامة, وهي - في الواقع - حول إمامة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته وظهوره, وحول إمامة أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام), أيضاً يقول الباري تعالى في شأن ذي القرنين: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرضِ﴾ (الكهف: 94)، فها هو يردع الفساد, الخليفة في الأرض والإمام كما مرَّ في سورة البقرة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾, هو سُنَّة إلهيَّة دائمة, ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30)، يعني الخليفة يصدُّ ما اعترضت به الملائكة من

(٢٣٤)

أنَّه يحول بينه وبين الإفساد في الأرض, فيكون سدًّا حائلاً عن قطع النسل البشري, فذو القرنين الذي هو خليفة في الأرض يخوض في المجتمعات لقطع مادَّة الفساد في الأرض, ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ﴾, مع كون ذي القرنين أُوتي الأسباب اللدنّيَّة من الله والتمكين في الأرض, مع ذلك يقول: ﴿فَأَعِينُونِي﴾, فأعينوني بماذا؟ ﴿بِقُوَّةٍ﴾، ويقول: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ﴾, ويقول: ﴿انْفُخُوا﴾, ويقول: ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً﴾ (الكهف: 96), ماذا يدلُّ استمداد العون من البشر؟ هذا المطلب يدلُّ بوضوح على أنَّ من يجعله الله إماماً للناس من قِبَله وخليفة في الأرض لا يعني ذلك أنَّه جبر (كن فيكون) في إصلاح الأرض وإقامة الإصلاح ودرء الفساد, ولا هو تفويض للناس, وإنَّما هي نفس نظريَّة القرآن (أمر بين أمرين) في الإصلاح الاجتماعي وفي حكومة المجتمع, فليست الحكومة الإلهيَّة على البشر، والحكومة السياسيَّة الإلهيَّة الدِّينيَّة على البشر جبراً وإلجاءً, ولا تفويضاً للبشر, ولا استبداداً إلهيًّا, ولا هو تفويض مطلق بشيء, إنَّما هو طريق وسط في رائعة التصوير الامتحاني, وهي صورة ذات جمال خلَّاب تحافظ على إرادة البشريَّة في الحركة الحيويَّة, وتحافظ على عناية السماء وهداية السماء ولطفها بالبشر في نظريَّة الاختيار والامتحان في الإصلاح وإقامة الحكم السياسي, وهذه هي نظريَّة وعقيدة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام), عقيدة أصلية من متن القرآن الكريم.
فالإمامة الإلهيَّة والخليفة من قِبَل الله عندما يريد أنْ يقيم الإصلاح ودرء الفساد في الأرض لا بدَّ له من إعانة البشر بقوَّة, وحينئذٍ يتمكَّن مع ما زُوِّد بأسباب لدنّيَّة, وهذا أمر ملحمي مهمٌّ في عقيدتنا بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته وظهوره, إذ إنَّ وعد الله (عزَّ وجلَّ) بإنجاز وإظهار هذا الدِّين ومَلء الأرض قسطاً وعدلاً على يدي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لا يعني إلجاء البشر, بل لا بدَّ أنْ تقوم

(٢٣٥)

البشريَّة بدور ما من الإعانة لوليِّ الله وللإمام, سواء في غيبته يعني في غيبة الخفاء فيما يقوم به من أدوار فيجب على المؤمنين أنْ يقوموا بمسؤوليَّتهم تجاه منهاج الحقِّ وتجاه منهاج الرسالة, لا بدَّ أنْ يقوموا بمسؤوليَّتهم في الإعانة بقوَّة, إذن دائماً يستمدُّ العون من المجتمع, من الرعيَّة ومن التابعين له, وليس يعني أنَّه منصوب من قِبَل الله (عزَّ وجلَّ) فتكون الأشياء (كن فيكون), وليس وظيفة المسلمين أنْ يتفرَّجوا, بل يجب عليهم حينئذٍ القيام بالمسؤوليَّة من نشر هذه العقيدة الحقَّة.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)، إنَّ القرآن يُدلِّل على أنَّ كلَّ زُبُر الأنبياء السابقين (عليهم السلام) وكلَّ كُتُبهم بشَّرت كما بشَّر خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنَّ الله يُكلِّل مسيرة الأنبياء (عليهم السلام) بالنجاح والظفر بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وهو الذي ينجز مواعيد السماء على لسان سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), ومن هنا يجب على المسلمين أنْ يقوموا بدور هذه المسؤوليَّة وهي نشر هذه العقيدة الحقَّة, وأنَّ الدِّين الإسلامي يُبشِّر برجل وفرد من عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من ولد فاطمة وولد عليٍّ (عليهما السلام) يملأ الله الأرض قسطاً وعدلاً, كي تنجذب البشريَّة لمثل هذا المشروع من الدِّين ولمثل هذه البشارة في هذا الدِّين, هذا واجب على كلِّ المسلمين أجمع, من غير فرق بين أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أو بقيَّة المسلمين، لأنَّ العقيدة بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عقيدة إسلاميَّة يعتنقها الكلُّ, والواجب فيه كما علَّمنا القرآن: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾ (الكهف: 95).
كيفيَّة الخفاء والاستتار مع المحافظة على الدِّين:
الإمامة باقية إلى يوم القيامة, وهي في عدد الاثني عشر كما أوضحه القرآن الكريم في جملة من الآيات التي استعرضها, كقوله تعالى في سورة (المائدة: 12):

(٢٣٦)

﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾, هي بعثة إلهيَّة إذن, هذه الإمامة هي نقابة إلهيَّة وقيادة إلهيَّة للمجتمعات وسُنَّة قرآنيَّة أصيلة, العقيدة بهذه الإمامة الإلهيَّة وهذا المقام الإلهي تشرحه لنا سورة الكهف, بأنَّ قيام الإمام والخليفة بأدواره لا ينحصر بالحكومة الرسميَّة المعلنة, وهذا الأمر الذي ينبغي أنْ تُركَّز الإضاءة عليه هنا، لأنَّ سورة الكهف تُنبئنا عن وجود الخليفة كضمانة ثانية ذكرتها في الترتيب للوجل حول بقاء الدِّين: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾ (الكهف: 6).
فهي تُعطينا قاعدة عقائديَّة مهمَّة جدًّا في الإمام, وهي أنَّ الإمامة لها أذرع وأشكال وصور عديدة من الحكومة, يتصرَّف فيها فيما استخلفه الله في إدارة البشر والحيلولة عن الفساد وقطع النسل البشري, وبطبيعة الحال على درجات, سقف نازل, وسقف أعلى, وسقف متوسِّط, نعم السقف الأعلى عند الامتلاء عندما يُظهره الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهذه معلومة علميَّة منظورة متمدِّنة يُنبئنا بها القرآن الكريم في أشكال الحكومة, وهذا ما يجب أنْ ينتبه إليه المسلمون والمؤمنون في قراءتهم لسورة الكهف, فهو أمر مهمٌّ - وللأسف - مغيَّب في ثقافة المسلمين أو في ثقافة المؤمنين بالنحو العقدي والاعتقادي, ولربَّما إنْ لم يكن مغيَّباً لديهم فثقافتهم عنه سطحيَّة في أُمورهم العاديَّة والمعتادة من أنَّ الحكومة التي يقودها خليفة الله والإمام في الأرض من قِبَل الله ليست حكومة ذات شكل وصورة واحدة وذات هيأة واحدة, بل هي ذات كيانات متعدِّدة، فللإمام والخليفة في الأرض عدَّة أساليب في الحكم, منها الحكومة الخفيَّة والمستترة بأعضائها وكياناتها.
وهذا أمر بالغ الأهمّيَّة يجب على عموم المسلمين والمؤمنين الالتفات إليه, من هذا البيان الناصع العقائدي الذي تُطلعنا عليه سورة الكهف, أنَّ الخليفة في

(٢٣٧)

الأرض والإمام الذي يُستخلَف من قِبَل الله تعالى له أنماط من الأدوار وله أساليب متنوِّعة ومتعدِّدة وعلى درجات مختلفة, وله أيضاً أجهزة وليس جهازاً واحداً لحكومات وليست حكومة واحدة, فالحكومة المعلنة على المكشوف البادية بأعضائها ومرافقها وكياناتها, تلك تُمثِّل فقط أحد أساليب الحكومة والحكم, نظير ما لذي القرنين, وهو نظير ما يكون للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند الظهور, ونظير ما كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد أنْ بويع وانشدَّت إليه قاعدة عموم المسلمين, وكانت بيعته بيعة فريدة في العالم وفي تاريخ الإسلام, فعدا البيعة التي حصلت للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم تحصل بيعة بهذا الوفور وبهذه السعة في القاعدة الشعبيَّة الإسلاميَّة كما حصلت لأمير المؤمنين (عليه السلام), وكما حصلت لبيعة الإمام الحسن (عليه السلام), وكما حصلت أيضاً إلى حدٍّ ما في مبايعة أهل العراق وبعض أهل الشام وأهالي الحرمين للإمام الحسين (عليه السلام) طواعية بلا جبر ولا فلتة ولا انتهاز فرصة ولا ما شابه ذلك.
هذه البيعة التي حصلت لأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) والحكومة الظاهريَّة, هي في الحقيقة إحدى أساليب الحكم, وإحدى أجهزة الحكم, وإلَّا فإنَّ هناك أيضاً جهاز حكم آخر وحكومة أُخرى وأُسلوب آخر من الحكومة استعرضته أيضاً سورة الكهف, وهي ظاهرة الخضر.
فلكلِّ عنصر من هذه المجموعة العباديَّة دوائر بشريَّة تقوم بأدوار اختراق النظم, وإرساء العدالة, تلك المجموعات البشريَّة التي هي جهاز إلهي خفي مستتر وسرِّي.
فللَّه في الأرض حكومة من نمط آخر, بل حكومات وأجهزة حكوميَّة من نمط آخر تكون خفيَّة, كما كان للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو في مكَّة المكرَّمة, حيث كان له أيضاً هذا الجهاز حتَّى في معيَّة الحكومة المعلنة للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فلا تقاطع بين وجود

(٢٣٨)

جهاز الحكم الخفي والجهاز الحكومي المعلن، لأنَّ جهاز الحكم الخفي - كما تدلُّ عليه سورة الكهف - هو جهاز ليس فيه انقطاع أو انبتار, وليس فيه فترة وفتور وجزر ومدٌّ, بل هو مدٌّ دائم, مدٌّ إلهي آبد، لأنَّه كما بيَّنت سورة الكهف في قصَّة أصحاب الخضر أنَّ هناك أوامر تفصيليَّة إلهيَّة تتنزَّل وتنزل: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾، ﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ﴾ (الكهف: 82), والإرادة الإلهيَّة والسياسيَّة دوماً موجودة, فتُدلِّل إذن ظاهرة الخضر وسورة الكهف على أنَّ الجهاز الخفي للحكومة الإلهيَّة هو نمط من حكومة لا يفتر ولا ينقطع ولا يبتر ولا يكون فيه جزر, وإنَّما هو مدٌّ دائم موجود قائم, وليس تابعاً لطبيعة البشر واختيارهم, وليس تابعاً لإقبال أو إدبار البشر، بل تابع لوجود ثُلَّة من أصفياء الله، وهم هذه العناصر.
وقد ورد بشكل مستفيض في روايات الفريقين تسمية هذه العناصر البشريَّة التي هي جهاز إلهي خفي بالأبدال, والأركان, والسُّيَّاح, هذه التعبيرات متواترة في كُتُب المسلمين, سواء في كُتُب التاريخ, أو في كُتُب التراجم, أو في كُتُب الرجال، حتَّى أصبحت من نواميس الشريعة المحمّديَّة عند كلِّ مذاهب المسلمين في كُتُبهم, فالذهنيَّة الإسلاميَّة مأنوسة بهذا التعبير كبديهة في الشريعة الإسلاميَّة, من أنَّ هناك أبدالاً, وأوتاداً, وسُيَّاحاً, وأركاناً, وهلمَّ جرًّا، وقد بات واضحاً أنَّ أشكال الحكومة وأنماط الحكومة وكيانات الحكومة هو بأساليب مختلفة في الحقيقة أيضاً, كما تطالعنا السور القرآنيَّة الأُخرى, وحتَّى سورة الكهف, أنَّ جهاز الحكم وكيفيَّة إقامة الأهداف الإلهيَّة لا ينحصر حتَّى بنمطين: نمط خفي ونمط معلن ظاهر, بل فيه أنماط أُخرى, مثل التيَّار الاجتماعي, كما تُبيِّن لنا سورة الكهف في ظاهرة أصحاب الكهف والرقيم, فظاهرتهم في الواقع هذه وليدة للتيَّار الاجتماعي الذي يقوم به خليفة الله, حيث سمعوا بشرائع

(٢٣٩)

الأنبياء وبأديان الأنبياء (عليهم السلام), فمن ثَمَّ استجابوا لهذه الدعوة, ففي الواقع إنَّ أصحاب الكهف تأثّروا بامتداد أمواج شرائع الأنبياء وأديان الأنبياء (عليهم السلام) وبما يقوم به خليفة الله في الأرض من أدوار اجتماعيَّة, وهذا أُسلوب آخر تستعرضه لنا سورة الكهف وسور أُخرى.
أنواع الحكومة الخفيَّة والمعلنة:
هناك جملة من الآيات فيها بيانات مختلفة دالَّة على أنَّ دولة الحقِّ تكون في آخر الزمان, مثلاً التعبير القرآني الذي مرَّ بنا مراراً: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ (القَصَص: 5 و6), فيدلُّ هذا التعبير القرآني على أنَّ المستضعفين هم من أهل الحقِّ ورُوَّاد الحقِّ, هؤلاء يكونون وارثين, أي في مآل الأمر وعاقبته تكون دولتهم التي يُظهرهم الله ويُمكِّنهم فيها.
والتعبير القرآني الوارد بكثرة: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105), فالتعبير بالوارثين يدلُّ على أنَّه ستكون الأرض للصالحين في نهاية المطاف والمآل والخاتمة.
وكذلك ما ورد في سورة (الأعراف: 128): ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128), وهذا العنوان: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾, والتوريث الإلهي للمتَّقين في العاقبة ورد متواتراً متكرِّراً في آيات القرآن الكريم, في العاقبة للتقوى, فالعاقبة يعني المآل والخاتمة.
وكذلك في آيات أُخرى يُحدِّثنا القرآن الكريم, ويُدلِّل مثلاً أنَّ عاقبة المفسدين والظالمين والمجرمين والمكذِّبين مقطوعة, أي ليست نهاية الأمر لهم: ﴿وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: 86), ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ

(٢٤٠)

كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (يونس: 39), أي إنَّ دابرهم مقطوع، وإنَّه ليس لهم مآل ولا خاتمة في الفترات المتوسِّطة.
فدائماً العاقبة تكون بيد أهل الحقِّ, أمَّا الفترات المتوسِّطة بيد المكذِّبين والمنكرين, كما يُبيِّن لنا: ﴿فَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (آل عمران: 137), العاقبة تكون للصادقين, ويقطع دابر المكذِّبين للفترات المتوسِّطة بعد الأنبياء (عليهم السلام), فالأنبياء (عليهم السلام) هم ظاهرة الحقِّ ومسار الحقِّ, وتتوسَّط ما بعدهم من الفترات تغلُّب المفسدين حسب ما يُبيِّن لنا القرآن الكريم, لكن العاقبة تكون في نهاية المطاف لأهل الحقِّ والمتَّقين. فإذن كون دولة الحقِّ في أُمَم الأنبياء (عليهم السلام) هي في آخر عمر الأُمَم التابعة للأنبياء (عليهم السلام) بات أمراً واضحاً ناصعاً عياناً طافحاً بشكل لا تلابسه ريبة في الهداية القرآنيَّة, وهذا ممَّا يُدلِّل على أنَّ أحد الحُجَج من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) الذين استُضعِفُوا وأُزووا من مراكز القدرة المعلنة ومقاماتهم ورُتَبهم التي رتَّبهم الله (عزَّ وجلَّ) وجعلها لهم, ستكون العاقبة لهم ولدولتهم في آخر الزمان: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33).
وكما أنَّ لحكومة أولياء الله أنماطاً مختلفة حيث ذكرنا النمط المعلن والخفي، فهناك نمط ثالث، وهو أُسلوب بناء التيَّار الاجتماعي, وهو أُسلوب متوسِّط, لا هو أُسلوب معلن مكشوف على الظاهر كالحكومات الرسميَّة, ولا هو خفي سرِّي, بل هو متوسِّط, وهناك أنماط أُخرى في كيفيَّة النفوذ والحكومة والقدرة يستعرضها لنا القرآن الكريم لخليفة الله في الأرض, وهذه ثلاثة نماذج ذكرتها سورة الكهف, بل إنَّ سورة الكهف ذكرت نموذجاً رابعاً لحكومة وليِّ الله وخليفة الله في الأرض, وهو طاعة جميع الملائكة لخليفة الله, كما ذكرت ذلك سورة البقرة وسور قرآنيَّة أُخرى, أمَّا النبيُّ والرسول في مقام النبوَّة والرسالة

(٢٤١)

فهذا مقام لا يكفل طاعة جميع الملائكة كما يُنبئنا القرآن الكريم, وإنَّما هذه الخصِّيصة وهذه القدرة في ملكوت السماوات والأرض من شؤون وصلاحيَّات مقام الإمام سواء أكان نبيًّا ورسولاً أيضاً أم لا, كما يُنبئنا عن ذلك القرآن الكريم في سور عديدة, فمن شؤون وصلاحيَّات جعل الخليفة في الأرض أنْ يُطلِع الله (عزَّ وجلَّ) جميع الملائكة المقرَّبين في السماوات والأرضين، ومن يكون في جوِّ الهواء والسماء, يُطلِعهم جميعهم على طاعة خليفة الله في الأرض, وهو إنَّما ذُكِرَ في آدم (عليه السلام) لأنَّه نموذج لأوَّل السلسلة كما مرَّ بنا وليس منحصراً بآدم (عليه السلام), وإنَّما إطاعة الملائكة لآدم (عليه السلام) بما هو متقلِّد مقام الخلافة الإلهيَّة.
إذن هذا من شؤون مقام الخلافة الإلهيَّة, وهذا نمط من القدرة والحكم والحكومة الملكوتيَّة, وهو نمط رابع تذكره سورة الكهف, وهذا النمط ليس فيه فتور, وليس فيه إقبال وإدبار, وليس فيه انقطاع, وليس فيه جزر ومدٌّ, بل دائم آبد, فتُدلِّل لنا سورة الكهف على أنَّ الإمامة والخلافة الإلهيَّة لها أجهزة وأنماط عديدة ومختلفة عن أنماط القدرة والحكومة والحكم, وليس فقط الحكومة المعلنة المكشوفة هي الأُسلوب الوحيد لمقام الخليفة والإمام من قِبَل الله للقيام بأدواره في النظام البشري, وهذا الحصر للأسف غفلت عنه جملة غفيرة من الكُتُب الكلاميَّة في مذاهب المسلمين, وهو أنَّها حصرت أُسلوب قيام واضطلاع الإمام الخليفة بأدواره بالحكومة الرسميَّة المعلنة على المكشوف, والحال أنَّ هذه أدبيَّة ضيِّقة الأُفُق قاصرة, ومن ثَمَّ ما جرى من نقض وإبرام في مقام الإمام في بحث الخلافة الإسلاميَّة وجعله مقصوراً على الحكومة الظاهريَّة هو من ضمن ضيق الأُفُق وضيق البصيرة في الوعي السياسي أو في أُسلوب نظم الحكم, وبعبارة أُخرى هو أيضاً مجانب ومجافي وبعيد عن بصائر أنوار القرآن الكريم فيما يطرحه من أساليب وأجهزة حكم يقوم بها خليفة الله والإمام المنصوب في الأرض, وفي

(٢٤٢)

الحقيقة هذه الأنماط والأشكال والأساليب من القدرة والنفوذ والحكم والقيام بالأدوار النظميَّة في المجتمعات البشريَّة ذكرها القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً, وللتوِّ في القرون الأخيرة توصَّلت البحوث الأدبيَّة الأكاديميَّة السياسيَّة والعلوم الاجتماعيَّة إلى أنَّ هناك صياغات عديدة وأشكالاً عديدة وأساليب عديدة للحكومة والنفوذ, والحكومة السرّيَّة هي إحداها. فإذن من الخطأ بمكان في نهج التفكير الإسلامي أنْ يُناقَش: إذا كان الإمام إماماً فلماذا هو عازب ضارب صفحاً عن مجريات الأُمور الإسلاميَّة، وتارك الحبل على الغارب طيلة هذه السنين؟! وهو ظنٌّ في أنَّ أُسلوب القيام بالأدوار في النظام الاجتماعي منحصر فقط بالحكومة المعلنة الرسميَّة, كفرضيَّة مسبقة خاطئة جدًّا موجودة, ولربَّما لو أردت أنْ أذكر لك كلمات كثيرة لطال المقام من الكُتَّاب وعلماء المذاهب الإسلاميَّة الأُخرى في انتقادهم أو التشكيك في العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته، وأنَّه كيف يكون إماماً منصوباً من قِبَل الله تعالى وهو غائب كلَّ هذه الفترة؟!
على أيِّ حالٍ، فإنَّ هناك أنماطاً لا تنحصر حتَّى في هذه الأشكال والأنماط الأربعة, فهناك أدوار متعدِّدة, وعلى أيِّ تقدير فمن المهمِّ جدًّا في بطاقة البحث على الطاولة الإسلاميَّة وفي الفكر الإسلامي وفي العقل الإسلامي عندما يُراد بحث الإمامة وبحث خليفة الله في الأرض يجب أنْ تتوسَّع ذهنيَّة العقول والأفكار في آفاق وسيعة رحبة وتستوعب ما يطرحه القرآن الكريم من نماذج وبصائر ومن أشكال وأمثال ومن هيئات وأساليب متعدِّدة. ونحن فقط قد تدبَّرنا شيئاً ممَّا في سورة الكهف فقط, فما بالك في السور الأُخرى التي تستعرض أنماطاً ونماذج عديدة وكثيرة جدًّا, فالحري إذن بالبحث في موضوع الإمامة والخلافة أنْ يكون مبتنياً على هذه العقليَّة التي ترى بأنَّ القدرة لها أشكال, وأنَّ

(٢٤٣)

النفوذ له أشكال, وأنَّ أجهزة القيام بأدوار في النظام الاجتماعي السياسي يتَّخذ قنوات وأبواباً عديدة, وأنَّه بات أمراً بديهيًّا الآن في الأدبيَّات الأكاديميَّة السياسيَّة, فعجيب من اجترار أفكار بالية وضيِّقة الأُفُق وقاصرة النظر من أنْ تستوعب ما يذكره القرآن الكريم.
حينئذٍ نصل إلى هذه النقطة، وهي أنَّ الحكومة الإلهيَّة عندما تكون أمراً بين أمرين لا جبر ولا تفويض, وأنَّه ليس إلجاءً, وأنَّه لا بدَّ من تعاون وتفاعل ومناصرة وتعاطي القاعدة الشعبيَّة والأُمَّة الإسلاميَّة والمجتمع البشري مع الحكومة الإلهيَّة, هذا في الحقيقة في أُسلوب الحكومة الرسميَّة المعلنة على المكشوف, وأمَّا أساليب الحكومة الأُخرى فهي في الواقع لا تتوقَّف ولا تتأثَّر ولا تُعلِّق فعَّاليَّتها ونشاطها وحيويَّتها ودوامها على تفاعل البشر ولا على تعاطي البشر ولا على مبايعة الناس ولا على تجاوب الناس مع تلك الحكومة, وأساليب الحكومة الأُخرى وأدوارها يقوم بها الأئمَّة والخلفاء من قِبَل الله تعالى أقبل البشر عليهم أم أدبروا، بايعوهم أم قاطعوهم, ناصروهم أم خذلوهم, فازعوهم أم قتلوهم, ومن ثَمَّ نرى القرآن الكريم يفصح لنا عن ذلك ببديع بيانه: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً﴾ (النساء: 54)، فالآية تخاطب حقبة العهد الإسلاميَّة, والناس المحسودون كما في بيان بعض الروايات هم آل محمّد (عليهم السلام)(68). وفي بيان نصوص قرآنيَّة عديدة: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23), وهم آل محمّد (عليهم السلام) أيضاً. وآية الخُمُس, حيث قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ

(٢٤٤)

وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (الأنفال: 41), ﴿للهِ﴾ يعني تدبيره, فالله (عزَّ وجلَّ) ليس محتاجاً للأموال, وإنَّما هو خالق كلِّ شيء, اللَّام لام لمُلك الولاية في التدبير, ومن ثَمَّ تكرَّرت اللَّام في لله والرسول وذي القربى, ولم تتكرَّر في الطبقات المحرومة واليتامى والمساكين وابن السبيل, للدلالة على أنَّ الطبقات المحرومة ليس لها صلاحيَّة الحكم.
فهم أهل البيت وآل محمّد (عليهم السلام), فلم يُحدِّثنا التاريخ عن أنَّ آل إبراهيم أو إبراهيم (عليه السلام) عندما قال له الباري تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ﴾ يعني بالفعل ﴿لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124), وقال عن إسحاق ويعقوب (عليهما السلام): ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة: 24), أو آية أُخرى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء: 73), هنا أخبر القرآن الكريم بأنْ آتاهم مُلكاً عظيماً, وجعلهم أئمَّة بالفعل, ومع ذلك لم يُحدِّثنا أيُّ كتاب تاريخي أنَّهم باشروا الحكومة الرسميَّة المعلنة الظاهرة. فأيُّ مُلك عظيم أُوتيه آل إبراهيم وإبراهيم (عليه السلام)؟ أوَلا يُحدِّث المسلم نفسه عن هذه النبوءة القرآنيَّة وعن هذا الوحي والحقيقة القرآنيَّة؟!
إذن التصرُّف والقدرة في الحكم السياسي والحاكميَّة السياسيَّة والإرادة السياسيَّة الأُولى هي لله (عزَّ وجلَّ), وهي غير الإرادة التشريعيَّة, وهي المُلك العظيم الذي أخبرنا القرآن الكريم أنَّه قد أُوتيه آل إبراهيم (عليه السلام).

* * *

(٢٤٥)

الظاهرة السادسة, وهي ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وصلتها الوطيدة جدًّا بظاهرة الاعتقاد والعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته, يذكرها القرآن الكريم في جملة من السور, منها ما في سورة النساء, حيث يقول الباري تعالى عن اليهود: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (النساء: 155), هنا تُمهِّد الآيات في سورة النساء إلى مطلع هذه الآية: ﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً﴾ (النساء: 156), حيث لم يؤمنوا بأنَّ عيسى بن مريم (عليه السلام) قد وُلِدَ بإعجاز من الله تعالى, بل قذفوا مريم بالبهتان والفاحشة العظيمة عندما ولدت عيسى (عليه السلام) من غير أب ومن غير زواج.
فطبع الله على قلوبهم بسبب كفرهم، وبسبب قولهم بهتاناً على مريم, لماذا يطبع الله على القلوب ولا يجعلها مؤمنة ولا يجعلها راشدة ولا يجعلها مهتدية؟ هنا يُبيِّن القرآن الكريم أنَّه بسبب قولهم: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ﴾ (النساء: 157)، فلم يُعبِّر القرآن أنَّه بسبب قتلهم المسيح, أو محاولتهم قتل المسيح, فالتعبير القرآني ظريف ودقيق، وهو نفس دعواهم بأنَّا قد أبدنا المسيح, أو أنَّا قد أبعدناه عن الوجود, فهذا أحد أسباب الطبع على قلوبهم.
فهنا يُبيِّن القرآن لنا أنَّ المقولة والزعم بأنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) قُتِلَ وليس بحيٍّ, هذه المقولة تُسبِّب فقد الإيمان, وهذه المقالة تُسبِّب طبع الله على قلوبهم

(٢٤٩)

فلا يؤمنون, فالقول بعدم حياة حجَّة الله التي ضمنت السماء والرسالة السماويَّة حفظه وإبقاءه يتصادم مع قدرة الله تعالى، ﴿إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾ (الطلاق: 3), إذ قام الدليل من الوحي الإلهي على وجود حجَّة من حُجَج الله في أرضه, ثمّ حصلت شبهة من قِبَل الظالمين حول استئصال ذلك الحجَّة, فترك تلك البراهين والحُجَج الإلهيَّة القائمة على أنَّ الحجَّة حيٌّ, وأنَّ الخليفة حيٌّ باقٍ, مقابل بعض الأحداث المشبهة والموهمة أنَّ الظالمين استطاعوا أنْ يستأصلوا خليفة الله في الأرض، أو استطاعوا أنْ يبيدوا حجَّة الله في الأرض, هذا هو السبب لأنْ يطبع الله على قلب الفرد الإنساني فلا يؤمن, فإذا أنبئنا القرآن الكريم أنَّ لله (عزَّ وجلَّ) في كلِّ زمن خليفة له في الأرض كمعادلة دائمة من أوَّل بدء الخليقة البشريَّة إلى آخر حياة البشر, ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30), هذا الخليفة لا بدَّ أنْ يكون موجوداً دائماً, كما يُنبئنا القرآن الكريم أيضاً في ذرّيَّة آل إبراهيم (عليه السلام) بأنَّ الإمامة لن تُعدَم فيهم إلى يوم القيامة في قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾, فليس التعبير في الآية الكريمة أو اللفظ في الآية الكريمة: إنِّي جاعلك للناس نبيًّا أو رسولاً, ذاك مقام آخر, وهذا مقام ثالث، ﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 124), أي إنَّ الإمامة تبقى في غير الظالمين من ذرّيَّته. وإبراهيم (عليه السلام) مستجاب الدعوة, وهو نبيٌّ من أنبياء أُولي العزم, وقد استجاب الله دعوته, ومن ذرّيَّته إسماعيل وآل إسماعيل (عليه السلام), وهم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام), كما في آخر الآية من سورة (الحجّ: 78): ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا﴾, يعني في الاجتهاد والاصطفاء من الله لكم بالإمامة, وهي دعوة إبراهيم (عليه السلام) في ذلك, ﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا

(٢٥٠)

شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾, إذن أنبأنا القرآن الكريم على أنَّ الإمامة بهذا المقام باقية في آل إبراهيم وذرّيَّة إسماعيل (عليهما السلام). وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾, دعوة إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) عندما كانا يبنيان قواعد البيت، ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ ذرّية إسماعيل (عليه السلام) التي فيها الإمامة وليس ذرّيَّة إسحاق (عليه السلام), ﴿أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ يعني نفس درجة الإسلام والتسليم لله (عزَّ وجلَّ) التي طلبها إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) بعد أنْ كانا نبيَّين، فهي درجة تسليم من درجات العصمة العالية, وهي درجة تضاهي الإمامة, ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة: 128 و129), وهو خاتم النبيِّين (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وكذلك تدلُّ آخر آية من سورة (الحجّ: 78): ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ حيث يخاطب ثُلَّة من هذه الأُمَّة، ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾, فهم من نسل إبراهيم (عليه السلام)، مجتبَون، لهم صلة بسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو الذي دعا أنْ تكون الإمامة في ذرّيَّته وفي آل إسماعيل (عليه السلام)، ﴿مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾, على أهل البيت (عليهم السلام), وتكونوا شهداء على الناس, وهو مقام الإمامة.
وهناك الكثير من الآيات التي تدلُّ على إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، وأنَّ الإمامة لن تُقطَع ولن تُبتَر في أهل البيت (عليهم السلام) الذين وصفهم الله بالتطهير في هذه الأُمَّة، وأُعزي إليهم مقدَّرات الأرض, حيث قال تعالى في سورة (الحشر: 7): ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾, الفيء في تعبير القرآن الكريم وحتَّى في فقه مذاهب المسلمين يُمثِّل كلَّ ثروات الأرض وعائدات الأرض, فإدارتها وتدبيرها وولاية تدبيرها لصرفها في الطبقات

(٢٥١)

المحرومة من البشريَّة ولصرفها وتوزيعها العادل لترسو العدالة، ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾, أي كي لا يكون هناك فارق طبقي فاحش أو إقطاع كما عليه البشريَّة اليوم، فالشيوعيَّة فشلت في معالجة الإقطاع، والرأسماليَّة كذلك, وتجارب بشريَّة كثيرة فشلت, ولا زالت الأُطروحة الإسلاميَّة خالدة, وهي التي تستطيع أنْ تُؤهِّل من يملأها قسطاً وعدلاً, وهو ولد من ذرّيَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن ذرّيَّة فاطمة وعليٍّ (عليهما السلام), وهو المهدي (عجَّل الله فرجه) يُظهره الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
والآيات كثيرة في القرآن الكريم تُدلِّل على بقاء إمامة أهل البيت (عليهم السلام) وحياة صاحب العترة الإمام في أهل البيت دائماً, فمن يقول بعدم وجود إمام حيٍّ من العترة, وهو صاحب الأمر وإمام المسلمين، تضاهي مقولته مقولة اليهود التي استعرضها لنا القرآن الكريم بأنَّ الله تعالى طبع على قلوبهم بسبب قولهم: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ﴾ (النساء: 157).
وللأسف هناك الكثير من الكتابات الإسلاميَّة تقول بأنَّ محمّد بن الحسن المهدي (عجَّل الله فرجه) قد قُتِلَ.
دور عيسى المسيح (عليه السلام) في الإصلاح العالمي:
ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) ظاهرة وطيدة الصلة جدًّا وقريبة جدًّا في بدئها وختمها بقضيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لأنَّه قد بات واضحاً لدى المسلمين ولدى حتَّى أتباع الديانات السماويَّة أنَّه (عليه السلام) ينزل لتكون له مساهمة ما ومشاركة ودور ما في تلك الدولة الإلهيَّة التي ستقام على الأرض لإصلاحها. وقد بات واضحاً لدى المسلمين في أحاديثهم المتواترة أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) إنَّما ينزل في ذلك الحين لإقامة الإصلاح في الأرض في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), تلك الدولة التي يُصلِّي

(٢٥٢)

فيها خلف الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فنزوله فصل من العقيدة بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، أي شقَّان لعقيدةٍ واحدةٍ, وحقيقة بيِّنة ثابتة يعتقد بها المسلمون ويعتقد بشطر منها النصارى واليهود, وبالتالي فإنَّ استعراض هذه الظاهرة في القرآن الكريم ذو صلة وثيقة وأكيدة بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وبحياة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الغيبة، لأنَّه قُرِنَ اسم عيسى (عليه السلام) باسم المهدي (عجَّل الله فرجه) في بيانات القرآن الكريم، وبيانات بصائر الحديث النبوي المتواتر مستفيضاً عند فِرَق المسلمين. ومن ثَمَّ يُسلِّط القرآن الكريم الضوء على ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام)، ويُبيِّن أنَّ بني إسرائيل ورغم وجود براهين الوحي الإلهي لديهم بالبشارة بدور النبيِّ عيسى (عليه السلام), وأنَّه لن يُقتَل حتَّى يشارك في ثُلَّة تُعيَّن من قِبَل السماء في الأرض بشكل معلن للإصلاح واستتباب وانتشار العدالة ودين الحقِّ في أرجاء الأرض كافَّة, رغم وجود هذه البراهين لديهم كيف يزعمون ويقولون بهذه المقالة بأنَّهم قد قتلوه, وأنَّه ليس بحيٍّ الآن؟! ولأجل ذلك طبع الله على قلوبهم.
﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ (النساء: 159), هذه الآية تُبيِّن أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) سوف يكون له نزول بعد ما رُفِعَ إلى السماء, وأنَّه سيشارك في بسط ونشر الإيمان الحقِّ في الأرض, فهناك اقتران وثيق ووطيد الصلة في نفس بيانات القرآن الكريم بين ما سبق في شأن نزول النبيِّ عيسى (عليه السلام) وبين وعد الله تعالى في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33), أي إظهار دين الإسلام على أرجاء الأرض كافَّة وملؤها قسطاً وعدلاً, وأنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) من ذرّيَّة فاطمة وذرّيَّة الرسول وذرّيَّة عليٍّ (عليهم السلام), هاتان الحقيقتان القرآنيَّتان هي حقيقة واحدة متطابقة.
إذن هنا ظاهرتان تبثُّهما عدسة القرآن الكريم كبصائر للبشريَّة.

(٢٥٣)

المحطَّة الأولى: إنكار البراهين اليقينيَّة يستلزم انتكاس القلوب:
وفي أوَّل محطَّة من ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) يُؤكِّد القرآن الكريم على أنَّ من قامت لديهم البراهين على حياة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وأنَّه حيٌّ وأنَّه سيُبعَث في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ليكون له دور في تلك الدولة وبإمامة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وهو رجل من عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فالقول إذن بعدم حياته وبأنَّه قد قُتِلَ وبأنَّ قوى الشرِّ في ذلك الزمن قبل أكثر من عشرين قرناً قد استأصلته, هذه المقالة والتكذيب في الواقع تتسبَّب بأنْ يطبع الله على تلك القلوب ويسلبها الإيمان. هذا الدرس القرآني يُعطينا هذه النتيجة: بأنَّ البشارة بالنبيِّ عيسى (عليه السلام) قبل أنْ يُولَد، وأنَّه سوف يأتي ليكون له دور، واليهود في الحقيقة وبنو إسرائيل لا زالوا حتَّى في العهد القديم يؤمنون بمجيء النبيِّ عيسى (عليه السلام), وإنْ كانوا يجحدون النبيَّ عيسى (عليه السلام) الذي وُلِدَ من غير أب, ويتَّهمونه بالسحر, وأنَّ كلَّ ما قام به من أُمور هي من السحر, ويبهتون ويفترون على مريم بهتاناً عظيماً, ولكن رغم ذلك وإلى جانب جحودهم وتكذيبهم بالنبيِّ عيسى (عليه السلام) يقولون بمقالة عودته إلى الأرض، لما ورد عندهم من البشارات بأنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) سوف يكون له دور مشاركة ومساهمة مهمَّة, وفي أسفار العهد القديم, وهي التوراة رغم أنَّها حُرِّفت, إلَّا أنَّ فيها تلك المقطوعات التي تُدلِّل على دور النبيِّ عيسى (عليه السلام) في الدولة الإلهيَّة التي ستقام في الأرض, حينئذٍ يقول لهم القرآن الكريم: رغم إيمانكم بهذه البشارة وهذه البراهين التي أتتكم فلِمَ تجحدون حياة النبيِّ عيسى (عليه السلام) إلى الآن؟! هذه الوقفة القرآنيَّة العظيمة في الواقع هي تنبيه للمسلمين على أنَّ الكتاب العزيز قد بشَّرهم بأنَّ الدِّين سوف يظهر على الأرض, وأنَّ رجلاً من العترة هو الذي يملأها قسطاً وعدلاً.
قد يقول القائل بأنَّ هل هذا جاء في الحديث النبوي؟ فنقول: نعم, وهو

(٢٥٤)

متواتر, بأنَّ المهدي من ولد وذرّيَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذرّيَّة فاطمة (عليها السلام), يُظهره الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً, ويُحقِّق على يديه الإنجاز الإلهي العظيم من نشر الدِّين والعدل والقسط في أرجاء الأرض كافَّة, وهي الدولة التي يقيمها, ولكن القرآن الكريم أيضاً يُبشِّرنا بهذه البشارة عن رجل من العترة أيضاً, حيث يقول في سورة (الحشر: 7): ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾, إذ إنَّ الفيء وثروات الأرض تكون صلاحيَّة إدارتها وولاية تدبيرها في التشريع الإلهي بيد القربى وعترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وهم الذين يُؤهَّلون للتوزيع العادل للفيء - وهو ثروات الأرض - في اليتامى والمساكين وابن السبيل, أي الطبقات المحرومة.
إذن البراهين القرآنيَّة قائمة أيضاً على أنَّ المصلح هو من العترة, والذي يقيم العدالة في الأرض هو من العترة, وغيرها من الآيات القرآنيَّة الدالَّة على بقاء رجل من العترة في طيلة الأزمان, يقوم بأدوار الإمامة والخلافة والإصلاح في الأرض, فالتكذيب بحياته وببقائه هو تكذيب بالوعد الإلهي, وتكذيب بهذا الميثاق الإلهي والوعد الإلهي الذي أكَّده وضمنه الباري تعالى من الإصلاح.
إذن هناك حلقات عديدة تربط وتُوثِّق الصلة بين العقيدة بحياة النبيِّ عيسى (عليه السلام), وبنزوله للمشاركة والمساهمة في دولة الحقِّ لإقامة وإرساء العدالة الإلهيَّة وإظهار دين الحقِّ على أرجاء الأرض كافَّة، صلة وطيدة تُبيِّنها آيات القرآن الكريم فضلاً عن الأحاديث النبويَّة القطعيَّة المتواترة بين فِرَق المسلمين على هذا الارتباط وهذا الاقتران.
فالقرآن الكريم - كما مرَّ بنا في سورة الحشر - يُؤكِّد على أنَّ العدالة لم ولن تستتبَّ في الأرض إلَّا بيد ذوي القربى من أهل البيت (عليهم السلام), فلينظر المسلم إلى قول النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) ذَلِكَ اَلْيَوْمَ

(٢٥٥)

حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي، فَيَمْلَأَهَا عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(69), المهدي الذي أخبر النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنه في أحاديثه المتواترة عند المسلمين بأنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويُظهر الدِّين في أرجاء الأرض كافَّة, ويُحقِّق إنجاز الوعد الإلهي للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ثلاث سور من القرآن الكريم.
هذا النصُّ النبوي المقطعي العقيدي عند المسلمين متطابق مع البشارة الإلهيَّة في القرآن الكريم بأنَّ العدل لا يُنشَر إلَّا بيد ذوي قربى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لماذا؟ وما الحكمة في ذلك؟ لكي يديرها ويُوزِّعها على اليتامى والمساكين وابن السبيل, أي الطبقات المحرومة. ويُعلِّل القرآن ذلك بقوله تعالى: ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾ (الحشر: 7), أي أنتم أيُّها البشر, أيُّها المسلمون, إذا أردتم أنْ لا تُحتكَر الأموال في طبقات غنيَّة, وأنْ لا يكون الفارق الطبقي بينها وبين الطبقات المحرومة فارقاً فاحشاً استئثاريًّا احتكاريًّا, فلن تنجو البشريَّة من الإقطاعات ومن استئثار الأموال إلَّا على يد إدارة وإمامة وحاكميَّة ودولة ذوي القربى, فإذا أُوعزت وأُسندت إدارة وتدبير أُمور النظام البشري ونظام المعيشة الأرضيَّة في العلن وعلى المكشوف إلى العترة وذوي القربى من أهل بيت النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), حينئذٍ سوف لن تكون الأموال دولة بين الأغنياء, وحينئذٍ سوف تنقطع وتنبتر الرأسماليَّة, ويُستأصَل الإقطاع والاستئثار والاحتكار البشري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(69) رواه الخاصَّة والعامَّة على اختلاف في اللفظ واتِّحاد في المعنى؛ راجع: كمال الدِّين (ص 317 و318/ باب 30/ ح 4)، وكفاية الأثر (ص 165)، ودلائل الإمامة (ص 469/ ح 456/61)، والإرشاد (ج 2/ ص 340)، ومسند أحمد (ج 2/ ص 163/ ح 773)، وسُنَن ابن ماجة (ج 2/ ص 928 و929/ ح 2779)، وسنن أبي داود (ج 2/ ص 309 و310/ ح 4282)، وسُنَن الترمذي (ج 3/ ص 343/ ح 2332)، إلى غير ذلك.

(٢٥٦)

وهذه نبوءة قرآنيَّة تُدلِّل على أنَّ الذي يدير دولة الإصلاح الإلهي في الأرض لاستتباب العدالة وبسط العدالة والقسط والعدل هو رجل من عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وليس النبيُّ عيسى (عليه السلام), وإنَّما النبيُّ عيسى (عليه السلام) سوف يكون له دور مساهمة ومعين ومؤازر للمهدي (عجَّل الله فرجه)، فالبراهين القرآنيَّة متطابقة على أنَّه سيكون لعيسى (عليه السلام) دور في نزوله, وإسهام ومؤازرة ومناصرة للدور الرئيسي والمركزي الذي يقوم به رجل من ذوي قربى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليُفشي العدل والقسط في الأرض، وهو المهدي (عجَّل الله فرجه), لأنَّ الآيات القرآنيَّة أيضاً دلَّت على أنَّ هناك بقاءً دائماً لخليفة الله في الأرض, وهو رجل من العترة, وهو الذي يبسط العدل والقسط في الأرض, وتكون الإمامة دائماً في ذرّيَّة آل إبراهيم وآل إسماعيل (عليهما السلام), وبراهين وآيات قرآنيَّة غفيرة دالَّة على إمامة العترة، وأنَّها باقية لا تنقطع، فالتكذيب بهذه البراهين القرآنيَّة يُنذرنا عنه القرآن الكريم ويُحذِّرنا منه لكي لا نكون كاليهود وبني إسرائيل الذين طبع الله على قلوبهم وسلب الإيمان من قلوبهم بسبب مقالتهم وجحودهم للبشارة الإلهيَّة، وذلك بأنْ أنكروا حياة عيسى (عليه السلام), فإنكار حياة النبيِّ عيسى (عليه السلام) يُمثِّل إنكار البشارة الإلهيَّة, فهذا إنذار بمن اقترن اسمه باسم عيسى (عليه السلام)، وهو المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي دلَّت البراهين القرآنيَّة والإلهيَّة على حياته وبقائه.
وما أجمل ما تُفصِّله وتُبيِّنه هذه الآية, وهو أنَّ هناك ثلاثة أنماط في المجتمع: من لا يقوى بنفسه على تحصيل المعيشة والمكسب كاليتامى الصغار, والمساكين الذين هم من الطبقات المسحوقة, وأيضاً من أُوتي القدرة على تحصيل المعيشة والمكسب ولكن طرأت عليه الطوارئ كسفر وإفلاس وغيره, فهذه نماذج مهمَّة لطيفة تذكرها الآية على أنَّها مصرف لتوزيع الثروة العادلة,

(٢٥٧)

والظريف في الآية الكريمة أنَّه مع كون القرآن الكريم يُبشِّر بنزول عيسى (عليه السلام), إلَّا أنَّه لا يُسنِد التوزيع العادل للثروات للنبيِّ عيسى (عليه السلام), وإنَّما إلى رجل من عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فالآية الكريمة في سورة الحشر - كما مرَّ بنا - تُعطي البشارة للمسلمين بأنَّ العدالة لن تستتبَّ على وجه الأرض بتوزيع الثروات بنحو عادل إلَّا على يد رجل من عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾, ولذلك يقول الإمام الباقر (عليه السلام): «اَلْأَنْفَالُ هُوَ اَلنَّفْلُ، وَفِي سُورَةِ اَلْأَنْفَالِ جَدْعُ اَلْأَنْفِ»(70), يعني أنَّها تُطوِّع الجاحدين والمنكرين لمقام أهل البيت (عليهم السلام)، لكي يُسلِّموا بمفاد هذه الآية الكريمة، إذ إسناد هذا التصرُّف لله يعني حاكميَّة الله (عزَّ وجلَّ), ومن ثَمَّ حاكميَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وتصرُّفه يكون امتداداً لحاكميَّة الله, وثمّ لذي قربى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حاكميَّة, وهي امتداد لحاكميَّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ممَّا يُدلِّل على أنَّ الحقَّ في تدبير الأُمور في الأُمَّة الإسلاميَّة هو لأهل البيت (عليهم السلام), وليس ذلك عصبيَّة قبليَّة يُروِّجها القرآن الكريم, وليس هي نظريَّة أو دعوة عرقيَّة وقوميَّة يدعو إليها القرآن الكريم, حاشا وكلَّا, تعالى ربُّ العزَّة عن ذلك, بل يُعلِّلها أنَّه كي تُصرَف هذه الثروات في اليتامى والمساكين وابن السبيل, أي الطبقات المحرومة في الأرض, ولا تكون دولة بين الأغنياء, يعني أنَّ كلَّ من يتنصَّب ويتولَّى سدَّة الحكم من غير عترة النبيِّ المطهَّرة (عليهم السلام) سوف يكون معرضاً للأثرة والاستئثار والاحتكار والطبقيَّة والتفرقة في العطاء, إلى أنْ ينقض المسلمون على خليفتهم ويقتلوه كما حدث في التاريخ مرَّات وكرَّات.
فالقرآن الكريم كما يُبشِّر بنزول النبيِّ عيسى (عليه السلام) ودوره في بثِّ الإيمان وفي قمع الجحود والإنكار لرسالة سيِّد الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي ابتُلِيَ به النصارى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(70) الكافي (ج 1/ ص 543 و544/ باب الفيء والأنفال.../ ح 6).

(٢٥٨)

واليهود وبنو إسرائيل, يُبشِّر كذلك بأنَّه سيُظهر هذا الدِّين على أرجاء الأرض كافَّة, لكن القرآن أسند الإمامة والخلافة للمهدي (عجَّل الله فرجه) دون النبيِّ عيسى (عليه السلام)، لأنَّه لا نبيَّ يأتي بشريعة جديدة بعد سيِّد الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فيكون النبيُّ عيسى (عليه السلام) تابعاً لسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وتابعاً لأئمَّة الدِّين في هذه الشريعة, وقد ذكرت الكثير من الروايات في كُتُب الحديث عند فِرَق المسلمين أنَّ عيسى (عليه السلام) يُصلِّي خلف المهدي (عجَّل الله فرجه)، ومنه ما رواه ابن حجر في (الصواعق المحرقة), وابن الآبري المتوفَّى في القرن الرابع, وأيضاً ابن قيِّم الجوزيَّة, وأيضاً الشيخ ملَّا عليّ القاري الهروي, والسيوطي, في كون عيسى يُصلِّي خلف المهدي (عجَّل الله فرجه), فهذه أُمور كثيرة ذُكِرَت في هذا المضمار(71).
ومن ثَمَّ أكَّدت الروايات النبويَّة، كما أكَّد القرآن الكريم أنَّ الخلافة والإمامة والقيادة تكون بيد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وهو الذي يملأها قسطاً وعدلاً, ويكون النبيُّ عيسى مؤازراً ومناصراً ومعاضداً للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ضمن بقيَّة أصحاب الإمام المهدي في نصرته, ويبثُّ وينشر ويبسط راية العدل في أرجاء الأرض كافَّة.
إذن أوَّل محطَّة يستعرضها لنا القرآن الكريم في ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد طبع على قلوب اليهود بكفرهم وببهتانهم لمريم، وقولهم بأنَّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله, وأنَّ الله طبع على قلوبهم بسبب هذه المقالة, وإصرارهم على جحود بقائه وعلى التمرُّد, ولكن سياق الآية يدلُّ على أنَّ ذمَّ القرآن لمقالتهم هذه ليس فقط من جهة التمرُّد على الله (عزَّ وجلَّ), بل لأجل أنَّ نفس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(71) للاستزادة راجع: شرح إحقاق الحقِّ (ج 13/ ص 195, وج 29/ ص 302), وفيه سرد لعلماء ومحدِّثي القوم ممَّن روى ذلك وأقرَّ به, مع ذكر أسماء تصانيفهم وطبعاتها وأرقام الصفحات.

(٢٥٩)

الاعتقاد بهذه المقالة وهو كون النبيِّ عيسى ليس على قيد الحياة يكون سبباً لسلب الإيمان من قلوب بني إسرائيل, ولطبع الله على قلوبهم بالكفر, ومن ثَمَّ فالقرآن الكريم يتابع هذه المقالة المنكرة في قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ﴾ بنفي وإنكار هذه المقالة, فيقول: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: 157), ويصرُّ القرآن الكريم على إبطال هذه المقالة, ليس فقط من جهة تمرُّدهم على الله, بل من جهة أنَّ هذه المقالة زيف وباطل, اُنظر كيف يُكرِّر القرآن الكريم جملة: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾, وجملة: ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾, وجملة ثالثة: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾, وجملة رابعة: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾, وجملة خامسة: ﴿إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾, وجملة سادسة: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾, ستُّ جمل يُركِّز ويُؤكِّد عليها القرآن الكريم, ويُوثِّق على زيف هذه المقالة, لا من جهة تمرُّدهم فقط, كلَّا, بل النقطة المركزيَّة التي يُشدِّد ويُؤكِّد عليها القرآن الكريم بشكل أكثر هي زيف هذه المقالة بأنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) ليس بحيٍّ, هذا التركيز من القرآن الكريم يهدف إلى أنْ يبصرنا وأنْ يُنبِّهنا وأنْ يوقظ اليهود ويوقظ النصارى ويوقظ البشريَّة كافَّة إلى أنَّ إنكار حياة حُجَج الله الذين ادَّخرهم الله (عزَّ وجلَّ) لوعده الإلهي بنشر العدل والقسط والعدالة والإيمان وإظهار الدِّين, وحياة وبقاء هؤلاء الحُجَج في ظلِّ خفائهم واستتارهم, هذا الإنكار يُؤدِّي إلى سلب الإيمان، ويطبع الله بسببه على القلوب.
وقد اتَّفقت اليهود والنصارى على دعوى وزعم قتل وصلب النبيِّ عيسى (عليه السلام), غاية الأمر أنَّ النصارى كانوا يعتقدون بنبوَّته ويعتقدون بأنَّ اليهود قد قتلوه لكن الله محييه مرَّة أُخرى وسيعيد إنزاله إلى الأرض ليساهم في بسط دولة العدل, وأمَّا اليهود فهم على اعتقاد ببشارة مجيء النبيِّ عيسى (عليه السلام), ولكنَّهم يدَّعون أنَّ الذي قتلوه كان يزعم أنَّه النبيُّ عيسى (عليه السلام), واتَّهموا نبيَّ الله

(٢٦٠)

بتُهَم, منها أنَّه ساحر وابن ساحرة, ورموا مريم بالبهتان والفاحشة - والعياذ بالله -, فأيًّا ما كان فكلٌّ من اليهود على اختلاف معتقدهم في النبيِّ عيسى (عليه السلام)، ومن النصارى متَّفقون على أنَّه قد قُتِلَ, وأنَّه قد صُلِبَ ومات, إلَّا أنَّ القرآن الكريم يُؤكِّد أنَّ هذه المزعمة باطلة, حيث في قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا﴾ يعني بني إسرائيل واليهود، ﴿وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ (آل عمران: 54 و55), وقال تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (النساء: 155), يعني طبع الله على قلوب بني إسرائيل. الجملة السابعة: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾, والجملة الثامنة: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: 158), وهذه الجملة الثامنة في الواقع للتأكيد على عزَّة وقدرة الله، فهناك ثمانية جُمَل في سورة النساء تُؤكِّد وتدحض مزعمة اليهود والنصارى, وبالذات مزعمة بني إسرائيل في عدم بقاء النبيِّ عيسى (عليه السلام) على قيد الحياة, وكذلك في سورة آل عمران.
وهنا يُطرَح هذا السؤال الذي يطرحه الكثير من الناكرين والجاحدين لحياة وبقاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المطهَّر المدَّخر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً, الكثيرون يجحدون حياته وبقاءه, يقولون: ما فائدة إبقاء حياة إمام مدَّخر طول هذه المدَّة لينشر ويبسط العدل في الأرض؟
وهذا السؤال يقال حتَّى عن هذه العقيدة, وهو السؤال المنكِر الجاحد لعقيدة حياة وبقاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي نبَّأنا القرآن الكريم في سورة الحشر وفي سور أُخرى بأنَّه هو المصلح من عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّه رجل يبثُّ الله على يديه العدل، ويملأ الأرض على يديه قسطاً وعدلاً، ويُظهر الدِّين على أرجاء

(٢٦١)

الأرض كافَّة. هذا السؤال في الواقع يُثار أيضاً على هذه العقيدة القرآنيَّة الأصيلة التي تُدلِّل على أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) سينزل: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ (النساء: 159), ويبثُّ الإيمان ويزيل ويبيد انحراف النصارى في إنكارهم وجحودهم لرسالة سيِّد الرُّسُل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولدين الإسلام, وجحود اليهود وإنكارهم بقاء هذا المصلح الإلهي المدَّخر من قِبَل الله.
هذه المحطَّة وهذا الموقف العقائدي المهمُّ هو في الواقع أوَّل المواقف وأُولى المحطَّات المهمَّة التي يُركِّز ويُؤكِّد عليه القرآن الكريم في ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) التي هي مقترنة بظاهرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لأنَّ أتباع الديانات السماويَّة سواء اليهود أو النصارى أو المسلمين, يتطَّلعون إلى نزوله للمساهمة والمشاركة في دولة الإصلاح التي يقودها - كما في عقيدة المسلمين - الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), ويكون خليفة البشريَّة في الأرض, رغم وجود نبيٍّ من أُولي العزم, لأنَّه لا نبيَّ صاحب شريعة بعد سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فيكون تابعاً لشريعة سيِّد المرسَلين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وللإمام المنصوب في هذه الشريعة وهو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الثاني عشر من خلفاء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), كما اعترف بذلك (ابن كثير) في تفسيره في سورة المائدة في ذيل قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾ (المائدة: 12)(72).
ومن الجدير بالذكر أنَّ القرآن الكريم حينما يذكر الخلافة الإلهيَّة يكون العدد اثنا عشر فيها رمزاً مقدَّساً في السُّنَن الإلهيَّة, ويذكر (ابن كثير) في ذيل ذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(72) قال ابن كثير في تفسيره (ج 2/ ص 34) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾ (المائدة: 12)، وبعد أنْ أورد حديث: (الخلفاء الاثني عشر), وأقرَّ بأنَّه الثاني عشر: (والظاهر أنَّ منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره، فذُكِرَ أنَّه يواطئ اسمه اسم النبيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)).

(٢٦٢)

في تفسيره الأحاديث المعتبرة التي رواها المسلمون رغم اختلاف فِرَقهم أنَّ خلفاء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اثنا عشر, فالقرآن الكريم إذن يُؤكِّد على هذه الحقيقة المهمَّة التي يجب أنْ يتَّعظ بها المسلمون والمؤمنون من أنَّ المدَّخرين للإصلاح الإلهي والمُعدِّين من قِبَل الله تعالى لإرساء العدالة في الأرض كالنبيِّ عيسى (عليه السلام), وكالمهدي (عجَّل الله فرجه) الذي هو رجل من عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن ثَمَّ أكَّد القرآن الكريم على مرتبة القلب لا مرتبة اللسان, فهم وإنْ كانوا أهل الكتاب, وإنْ كان المسلم في ظاهر الإسلام من أتباع الديانة الإسلاميَّة ولا ينفي عنه هذا الانتماء ولا يسلب القرآن الكريم عنه هذا الانتماء, ولكن يسلب عنه الإيمان, والكفر في مقابل الإيمان، لأنَّ الكفر يُطلَق في القرآن الكريم على معاني عديدة, فهناك كفر مقابل ظاهر الإسلام، وفي مقابل ظاهر أتباع الكتاب, وهناك كفر مقابل الإيمان: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 14), ففرَّق القرآن الكريم بين الإيمان والإسلام, فظاهر الإسلام بالإقرار بالشهادتين, ولكن الإيمان يحتاج إلى الاعتقاد بأُصول متعدِّدة, فظاهر الإسلام هو بالإقرار بالشهادتين ليدخل الفرد في حظيرة وبيئة الإسلام, ولكن إذا أراد أنْ يدخل في حظيرة وبيئة الإيمان التي هي أرفع درجةً فلا بدَّ أنْ يُقِرَّ بأُصول الإيمان, وهناك يُؤكِّد القرآن الكريم أنَّ الاعتقاد ببقاء حياة المصلح الإلهي المدَّخر من قِبَل الله تعالى لبثِّ الإصلاح في الأرض هو من أُصول الإيمان, وإنْ لم يكن من أُصول ظاهر الإسلام، أو من أُصول ظاهر اتِّباع الكتاب في أهل الكتاب.
وهذه المحطَّة الأُولى التي نشاهدها في ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وغيبته مهمَّة جدًّا، والذي نستوحيه من إفادات القرآن العظيم وبياناته البيِّنة أنَّه يجب الاعتقاد بعد قيام الدليل والبراهين القرآنيَّة على ادِّخار مصلحين إلهيِّين وحُجَج

(٢٦٣)

إلهيِّين ادَّخرهم الله ليقيم بهم دولة العدل ودولة الإصلاح, ويجب الاعتقاد ببقاء حياتهم في ظلِّ غيبتهم وظلِّ خفائهم, فهذه عبرة مهمَّة نستفيدها من ظاهرة الاعتقاد بالنبيِّ عيسى (عليه السلام) التي يأمرنا القرآن الكريم بالإيمان بها, وأنْ لا نحذوا حذو اليهود والنصارى في إنكار وجحد بقاء حياة النبيِّ عيسى (عليه السلام) رغم خفائه ورغم غيبته ورغم عدم وصول عقولنا لفوائد وثمار هذا الخفاء وهذه الغيبة, وهذا الإعداد الإلهي العظيم لساعة الظهور ولساعة الإصلاح رغم عدم وصول عقولنا لذلك رغم كلِّ ذلك إلَّا أنَّه يجب أنْ نعتقد - لكي نكون مؤمنين - ببقاء حياة هذا المصلح عند الله (عزَّ وجلَّ) في السماء للإعداد للإصلاح, فهذه نقطة مهمَّة.
المحطَّة الثانية: مفارقات في الغيبة:
ومع أنَّ كلا الغيبتين غيبة خفاء وليست غيبة زوال وجود, إلَّا أنَّ هناك مفارقة واضحة بين غيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), حيث إنَّ غيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام) كما يُصرِّح القرآن الكريم هي الرفع، كما قال تعالى: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (آل عمران: 55), والمقصود بذلك أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) لا زال على قيد الحياة ولكنَّه في السماء عند الله (عزَّ وجلَّ), إلَّا أنَّ غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ليست في السماء, وليست خفاءً واستتاراً في السماء, وإنَّما هي استتار في الأرض, وليس استتاراً في بقعة خاصَّة عن بقيَّة البقاع, وإنَّما المراد منها خفاء هويَّته, خفاء الشعور به, فهي ليست غيبة نأي ولا ابتعاد ولا مزايلة عن ساحة الحدث, بخلاف غيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام), فهي استتار في السماء.
وهناك فارق آخر بين غيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وهو أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في ظلِّ غيبته هو الإمام الذي يضطلع ويقوم بأدوار

(٢٦٤)

ومسؤوليَّة الإمامة والخلافة في الأرض عبر ما حدَّثنا القرآن الكريم من نماذج كما في غيبة النبيِّ يوسف والنبيِّ موسى والخضر (عليهم السلام)، فهناك أجهزة متعدِّدة يقوم بها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في أدواره في النظام البشري وفي الأدوار السياسيَّة للنظام البشري بنحو خفي, والدوائر التي تحيط به من أولياء الله ورجال الغيب, أي رجال الخفاء والسرّيَّة من أولياء الله وأصفيائه, كالخضر ومجموعته ومجاميع أُخرى من الدوائر والأبدال والسُّيَّاح والأركان والأوتاد وما شابه ذلك, هؤلاء في الواقع يقومون بأدوار متعدِّدة. ورغم هذا التخفيف في غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والشدَّة في الطرف الآخر في غيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام), مع ذلك يطالبنا القرآن بأنْ نعتقد ونؤمن بحياة وبحجّيَّة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وبنبوَّته وبدوره المساهم في دولة الإصلاح، دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), هذه الحجّيَّة لم يأتِ آتٍ من المسلمين ويُنكِرها ويقول: كيف أعتقد بحجّيَّة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وهو في السماء ولا يمارس دوراً؟ وهو إذن مبتعد عنَّا! رغم كلِّ ذلك نشاهد الاعتقاد ببقاء حياة وحجّيَّة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وبالإيمان بأنَّه سيُنزله الله ليبسط العدل ويُعين الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في نشر الدِّين ومؤازرته على بسط القسط والعدل.
وهناك مفارقة ثالثة بين غيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وغيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ففي ظلِّ غيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام) في السماء ربَّما يعسر تصوُّر ممارسته لدور في النظام البشري طيلة حقبة غيبته، وهي أطول من غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), فقد تمادت وتطاولت غيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وإعداد الله وادِّخار الله له لينزل ويظهر في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), فهناك نوع من المفارقة الموجودة في المدَّة الزمانيَّة, وهذه مفارقة ثالثة وهي طول مدَّة غيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وقصر مدَّة غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بالقياس لها.
وقد أثبت القرآن الكريم أنَّ للحجّيَّة معنى يتلاءم ولا يتنافى مع الغيبة.

(٢٦٥)

هذه محطَّة ثانية مهمَّة استفدناها من ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) المقرون اسمه باسم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) غيبةً وظهوراً ونزولاً وإصلاحاً.
المحطَّة الثالثة: الحراسة الإلهيَّة لوليِّ الله:
المحطَّة الثالثة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم أيضاً في ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام)، وهي محطَّة خلَّابة وأخَّاذة في نور البصائر القرآنيَّة الاعتقاديَّة, وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: 157), يريد القرآن الكريم إثبات أنَّ في قدرة الله وعزَّة الباري تعالى أنْ يحفظ أولياءه، وأنْ يحفظ حجَّته رغم محاولة إقدام سلطات الوقت على تصفيته جسديًّا, فقد كان المَلِك الطاغية في بني إسرائيل يلاحق عيسى (عليه السلام) للإعدام والاستئصال بتحريك من بني إسرائيل ومن اليهود في عداوتهم له, كما يُحدِّثنا القرآن الكريم إخباراً من الله للنبيِّ عيسى (عليه السلام): ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ﴾ (المائدة: 110), فأبدوا له العداوة ومحاولة التصفية والإبادة كما يقول القرآن أيضاً: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾, طبعاً هذا التوفِّي ليس بمعنى الإماتة, وسنأتي إلى شرح معناه، ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (آل عمران: 54 و55), فيُبيِّن لنا القرآن الكريم أنَّ ما حاول بنو إسرائيل واليهود ارتكابه من قتل وصلب النبيِّ عيسى (عليه السلام), هو جحود لوجود الحراسة والضمانة الإلهيَّة, وهذا درس مهمٌّ.
وهذا بنفسه جرى في ظاهرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهي ظاهرة عامَّة أنَّ سلطات الشرِّ وأنظمة الشرِّ وحكومة الظلم عندما تتوجَّس خيفة من مصلح, وسيّمَا أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) عندهم مبشَّر، وأنَّه يساهم في إقامة دولة الإصلاح, ولذلك فإنَّ ملوك الشرِّ وملوك الظلم وملوك الاستبداد يتوجَّسون خيفةً من

(٢٦٦)

ظهور هذا المصلح، ولذلك تنبري قوَّة الشرِّ لتصفية النبيِّ عيسى (عليه السلام) وقتله, كما هو الحال في العبَّاسيِّين, حيث سجنوا الإمام الهادي جدَّ الإمام المهدي (عليهما السلام)، وسجنوا والد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهاجموا بيت الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) مرَّات وكرَّات ليقتلوه.
فالقرآن الكريم يُحدِّثنا عن محطَّات عديدة فيها كبس الظالمون على أولياء الله وحُجَجه الذين بُشِّروا بأنْ يكونوا مصلحين. فكم من درس قرآني يُتَّعظ به تجاه أولياء الله, فهذا درس ثالث ومحطَّة ثالثة.
ويُحدِّثنا التاريخ أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان يقطن بيته المحاصر في سُرَّ من رأى التي كانت قاعدة عسكريَّة خمسة فقهاء من فقهاء البلاط العبَّاسي من وعَّاظ السلاطين ليراقبوا الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). هكذا كانت الرقابة شديدة جدًّا, وكانت نسوة وجواري وبعض إماء الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يُراقَب حملهنَّ, كما فعل فرعون مع نسوة بني إسرائيل كي يقتل كلَّ ولد ذَكَر يُولَد في عصره, ومع ذلك حقَّق الله (عزَّ وجلَّ) الإنجاز بوعده لتولُّد النبيِّ موسى (عليه السلام) وظهوره وإصلاحه وغيبته ثمّ ظهوره ثمّ دكدكته وإطاحته بعروش الفراعنة، وهي أكبر عروش ظالمة آنذاك في الحقبة البشريَّة.
ولا يخفى أنَّ هناك من يروقه المسلك العلماني لإنكار الأحاديث النبويَّة، والتمرُّد على دلالات القرآن الكريم في حقائق الوعد الإلهي, وهذا أمر آخر, ولكن الظالمين والأنظمة والعروش تتحسَّب كامل التحسُّب، لأنَّ هذا أمر يمسُّ عروشها, فكان لدى العبَّاسيِّين توجُّس وخيفة شاملة, ولذلك كان عندهم تعبئة مهمَّة للحيلولة دون تولُّد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), أو إذا تولَّد يكبسونه بالتصفية والإبادة, كما فعل بنو إسرائيل بالنبيِّ عيسى (عليه السلام) المبشَّر بالإصلاح، والإنجيل في اللغة العبريَّة يعني البشارة الملكوتيَّة.

(٢٦٧)

المحطَّة الرابعة: التأكيد على بقاء عيسى (عليه السلام) حيًّا:
المحطَّة الرابعة التي تطالعنا فيها الآيات من ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) هي: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾، إذن لا زال باقياً على قيد الحياة، ﴿وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: 157), هذه ملحمة قرآنيَّة مهمَّة احتدمت فيها آراء المفسِّرين وأقوالهم في قوله تعالى: ﴿شُبِّهَ لَهُمْ﴾، وكيف يحصل التشبيه؟
إجمال ما يستعرضه لنا القرآن الكريم وما استعرضته الروايات لاسيَّما روايات أهل البيت (عليهم السلام) والتي أخذ وانتهل منها بقيَّة المفسِّرين من الفِرَق الإسلاميَّة كما يُحدِّثنا الإمام الباقر (عليه السلام): أنَّ الجلاوزة حاصروا عيسى (عليه السلام)، وكان مع حواريِّيه الاثني عشر في بستان وفي دار, وكان بإيعاز من بني إسرائيل واليهود, وتقلقل المَلِك الذي كان مستبدًّا وغاشماً من بشارة كون النبيِّ عيسى (عليه السلام) مصلحاً، وأنَّه سوف يكون هو مبشَّراً بالإصلاح وإقامة دولة الإصلاح والمساهمة فيها, وما بثَّه عنه اليهود, فحوصر النبيُّ عيسى (عليه السلام), وكان قد أخبره الله (عزَّ وجلَّ) بهذا الأمر وبكيد الكائدين, كما تُحدِّثنا بذلك سورة (آل عمران: 54 و55): ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾, والتوفِّي ليس الإماتة كما سنذكر وذكرته روايات أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير بيان ظاهر هذه الآية, حينها أخبر النبيُّ عيسى (عليه السلام) حواريِّيه بما سيجري، وأنَّ الله رافعه, فمن منهم يُضحِّي ويفدي نفسه بأنْ يلقى عليه شبه عيسى (عليه السلام) ويُقتَل ويُصلَب ولكي يكون في درجة النبيِّ عيسى (عليه السلام) في الآخرة؟ فبادر أحدهم إلى ذلك, وقال له النبيُّ عيسى (عليه السلام): كن أنت ذلك, أي الذي يُضحِّي ويفدي نفسه ويلقى عليه شبه النبيِّ عيسى (عليه السلام) ليحسبه اليهود هو, فحينئذٍ أتى جلاوزة ذلك النظام ودهموا

(٢٦٨)

تلك الدار لقتل النبيِّ عيسى (عليه السلام), إلَّا أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) رفعه جبرئيل (عليه السلام) من روزنة الدار إلى السماء(73).
وفي روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ وفاة النبيِّ عيسى (عليه السلام) ليس بمعنى الإماتة, وإنَّما قُبِضَت روحه في أثناء عمليَّة الرفع, ثمّ أُعيدت له في السماء, كما يتوفَّى الله الأنفس في المنام, فهي شبه الحالة المناميَّة, كما تُحدِّثنا الآية الكريمة: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ (الزمر: 42).
فاستعمل القرآن الكريم التوفِّي في المنام, كما استعمله في حالة نزع الروح, فكلٌّ منهما يُعبِّر عنه القرآن الكريم بـ (التوفِّي)، لأنَّه يتمُّ نوع ودرجة من نزع الروح, وهنا التعبير بالتوفِّي: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ ليس معنى وفاة الموت, وإنَّما هو وفاة شبه الحالة المناميَّة أو غيرها, ولـمَّا رُفِعَ إلى السماء أُعيدت إليه الروح كما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(73) روى القمِّي (رحمه الله) في تفسيره (ج 1/ ص 103) بسنده عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ: «إِنَّ عِيسَى (عليه السلام) وَعَدَ أَصْحَابَهُ لَيْلَةً رَفَعَهُ اَللهُ إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ عِنْدَ اَلمَسَاءِ، وَهُمْ اِثْنَا عَشَرَ رَجُلاً، فَأَدْخَلَهُمْ بَيْتاً، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَيْنٍ فِي زَاوِيَةِ اَلْبَيْتِ، وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ اَلمَاءِ، فَقَالَ: إِنَّ اَللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنَّهُ رَافِعِي إِلَيْهِ اَلسَّاعَةَ، وَمُطَهِّرِي مِنَ اَلْيَهُودِ، فَأَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَحِي، فَيُقْتَلُ وَيُصْلَبُ وَيَكُونُ مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ فَقَالَ شَابٌّ مِنْهُمْ: أَنَا، يَا رُوحَ اَلله، قَالَ: فَأَنْتَ هُوَ ذَا، فَقَالَ لَهُمْ عِيسَى (عليه السلام): أَمَا إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ يَكْفُرُ بِي قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ كَفْرَةً، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَنَا هُوَ، يَا نَبِيَّ اَلله؟ فَقَالَ عِيسَى: إِنْ تُحِسَّ بِذَلِكَ فِي نَفْسِكَ فَلْتَكُنْ هُوَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ عِيسَى (عليه السلام): أَمَا إِنَّكُمْ سَتَفْتَرِقُونَ بَعْدِي عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ، فِرْقَتَيْنِ مُفْتَرِيَتَيْنِ عَلَى اَلله فِي اَلنَّارِ، وَفِرْقَةٍ تَتْبَعُ شَمْعُونَ صَادِقَةً عَلَى اَلله فِي اَلْجَنَّةِ، ثُمَّ رَفَعَ اَللهُ عِيسَى إِلَيْهِ مِنْ زَاوِيَةِ اَلْبَيْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ»، ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِنَّ اَلْيَهُودَ جَاءَتْ فِي طَلَبِ عِيسَى (عليه السلام) مِنْ لَيْلَتِهِمْ، فَأَخَذُوا اَلرَّجُلَ اَلَّذِي قَالَ لَهُ عِيسَى (عليه السلام): إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ يَكْفُرُ بِي، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُصْبِحَ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ كَفْرَةً، وَأَخَذُوا اَلشَّابَّ اَلَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَحُ عِيسَى فَقُتِلَ وَصُلِبَ، وَكَفَرَ اَلَّذِي قَالَ لَهُ عِيسَى (عليه السلام): تَكْفُرُ قَبْلَ أَنْ تُصْبِحَ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ كَفْرَةً».

(٢٦٩)

يستيقظ النائم مثلاً, وهو حيٌّ باقٍ في سماء ربِّ العالمين, إلى أنْ يُنزله الله لإصلاح الأرض, كما تُحدِّثنا بذلك سورة النساء.
كما دهمت جلاوزة بني العبَّاس عدَّة مرَّات بيت الإمام العسكري (عليه السلام) لكبس وقتل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وأحد المرَّات التي دهموا فيها بيت الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) الذي كان مشتملاً على طابق سفلي تحت سطح الأرض كما هو متَّخذ في جملة من البلدان في العراق وإيران لأجل التبريد من حرارة الشمس ومتَّصل ببقيَّة طبقات المبنى، والذي يُدعى الآن بـ (سرداب الغيبة), والمراد منه أنَّه كان (عجَّل الله فرجه) موجوداً في ذلك البيت, وقام جلاوزة بني العبَّاس بكبس ومداهمة البيت, إلَّا أنَّ الله أعماهم كما أعمى قريشاً عندما دهمت بيت النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليلة مبيت عليٍّ (عليه السلام) في فراش النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فهم قد دهموا بيت النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), إلَّا أنَّه خرج من بين أيديهم فعمى الله أبصارهم, هكذا حصل, وعندنا في روايات أهل البيت (عليهم السلام) مداهمة جلاوزة بني العبَّاس لبيت الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) المشتمل على الطابق الذي يُدعى بالسرداب, إلَّا أنَّ الله غيَّب شعورهم بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), فسُمِّي هذا السرداب بـ (سرداب الغيبة), وليس معنى سرداب الغيبة اختفاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فيه, وإنَّما إخفاء وخفاء الشعور به, كما أخفى الله شعور قريش الحاقدة المعاندة للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما خرج من بين أيديهم في ليلة المبيت, ثمّ هاجر وغاب في غار الثور ثلاثة أيَّام، ثمّ هاجر إلى المدينة المنوَّرة, هكذا صنع الله, وهكذا يُخبرنا القرآن الكريم بأنَّ ذلك ليس عزيزاً على قدرة الله, حيث إنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) عندما دهمه وكبسه جلاوزة المَلِك الظالم في ذلك الحين لتصفيته وإبادته حال الله دون أنْ يصلوا إلى ذلك, ورفعه إليه وحرسه عن أنْ يصل إليه مكر الماكرين وكيد الكائدين, وصنع الباري تعالى في ذلك أنْ ألقى شبه عيسى (عليه السلام) على أحد حواريِّيه الذي كان مفدّياً نفسه, كما فدَّى عليٌّ (عليه السلام)

(٢٧٠)

الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنفسه ليلة المبيت, فألقى الله شبه عيسى (عليه السلام) على ذلك الحواري, فأخذه جلاوزة النظام ظنًّا منهم بأنَّه عيسى (عليه السلام), فقتلوه وصلبوه, وهنا تتبيَّن القدرة الإلهيَّة, فهذه محطَّة مهمَّة جدًّا مرتبطة بغيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام).
وهي قدرة الله تعالى في تغييب وإخفاء الحُجَج والأولياء بأنْ يُعطِّل الباري تعالى قدرات البشر في الإحساس والشعور والإدراك عن درك الحقيقة, هذا هو الذي تُحدِّثنا به هذه الآية: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: 157), فهل هذه خرافة - والعياذ بالله -؟! هل هذا خيال داعب خيال البشر؟! حاشا للقرآن عن ذلك, إذن ما هو الواقع؟
الواقع أنَّ هناك سُنَّة إلهيَّة وقدرة إلهيَّة تفوق قدرة البشر رغم ما أُوتوا من قدرة، قدرة الله (عزَّ وجلَّ) على سلب البشر إدراكهم, وهو الإدراك بالحسِّ, حيث يستطيع الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يُعطِّله وأنْ يُغيِّبه عن الفاعليَّة والنشاط.
فماذا يُنكِر هؤلاء المنكرون والجاحدون لوجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبقاء حياته, ووجود مثل الخضر ومجموعته التي يُحدِّثنا القرآن الكريم عنها؟! ماذا يُنكِرون في قدرة الله؟ وماذا يُنكِرون في سُنَّة الله؟ فهذه سُنَّة إلهيَّة يُخبرنا ويُنبئنا بها القرآن الكريم, أنَّ في قدرة الله حفظ وحراسة أوليائه، وتعطيل وإعجاز إدراك البشر وقدرتهم على الإحساس, وهذا ليس هو الموضوع الوحيد الذي يُحدِّثنا به القرآن الكريم, وهذه محطَّة رابعة وملحمة ذات إثارات عقائديَّة عديدة, فلينظر القُرَّاء الأعزَّاء التفاسير في ذيل سورة النساء الآية مائة وسبعة وخمسون(74), وفي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(74) وهي قوله تعالى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾.

(٢٧١)

سورة آل عمران الآية خمسة وخمسون(75), هذا التشبيه من الله (عزَّ وجلَّ) على بني إسرائيل وعلى الظالمين هو حيلولة منه تعالى عن أنْ ينالوا وليَّ الله وحجَّته, يُري الله المسلمين أنَّ الكافرين قِلَّة, فقد كانوا يناهزون الألف, ولكن قدَّر الله أنْ يُري المسلمين الكافرين قليلاً, وأنْ يُقلِّل الكافرين في عيون المسلمين: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾, أيضاً قلَّل الباري تعالى المسلمين في عين الكافرين, لماذا؟ وما الحكمة في ذلك؟ الجواب: ﴿لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ (الأنفال: 44).
هل يدعو القرآن للسفسطة؟
هل يدعو القرآن الكريم للتشكيك في الحسِّ والسوق إلى السفسطة؟
وهل يُشكِّك القرآن الكريم في الأخبار الحسّيَّة والخبر الحسِّي؟
وهل يُسقِط القرآن الكريم حجّيَّة الخبر المتواتر, وهذا ينجم عنه الطعن في مصادر نقل الشريعة للبشريَّة؟
في هذا البحث من الظواهر القرآنيَّة والعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته، ونحن لا زلنا في الظاهرة السادسة وهي ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام), هنا يُؤكِّد القرآن الكريم أنَّ يد اليهود ويد الظالمين انحسرت عن أنْ تصل بسوء أو بإيذاء إلى النبيِّ عيسى (عليه السلام)، وهو النبيُّ المدَّخر في الوعد الإلهي والبشارة الإلهيَّة عند اليهود وعند النصارى، وكذلك عند المسلمين, ويُؤكِّد لنا القرآن الكريم أنَّ أحد نماذج القدرة الإلهيَّة والعزَّة الإلهيَّة المنيعة هو أنْ تُزوي الإدراك الحسِّي البشري

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(75) وهي قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.

(٢٧٢)

عن أنْ يكون فاعلاً، أو أنْ يكون نشيطاً مع المحيط الخارجي الذي يعيش فيه, هذا الإدراك الحسِّي المتمثِّل بالحواسِّ الخمسة قد يُعطَّل في قدرة الله, أو يُزوى عن أنْ ينفذ الظالمون وقوى الشرِّ مكرهم للحيلولة دون بلوغ التدبير الإلهي للغايات, ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ﴾ (آل عمران: 54), لأنَّ هذه القدرات من الله (عزَّ وجلَّ) ينعم بها على عباده, ويُزوِّد بها عباده, فإذا حجب هذه النِّعَم فإنَّها تتعطَّل.
ففي عزَّة الله وقدرته أنْ يحفظ أولياءه, ويُعجِز قدرة البشر عن أنْ تصل إلى أوليائه بسوء, حينئذٍ تُطرَح هذه الأسئلة: أنَّه إذا كان زعم النصارى واليهود أنَّ عندهم خبراً حسّيًّا متواتراً بقتل اليهود للنبيِّ عيسى (عليه السلام) وصلبه، فكيف إذن يُخطَّأ ويُفنَّد هذا الخبر المتواتر؟ وإذا فُنِّدت الأخبار المتواترة والحسُّ, فهل هذه سفسطة؟ وبالتالي يكون طعناً فيما يُنقَل من تراث الشرائع السماويَّة إلى الأجيال اللَّاحقة, فهل القرآن يدعو إلى كلِّ ذلك؟ حاشا للقرآن عن ذلك, فإذن ما مغزى طعن القرآن الكريم فيما يدَّعيه اليهود والنصارى من إدراكهم الحسِّي لقتل وصلب النبيِّ عيسى (عليه السلام): ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: 157)؟
والجواب: أنَّ هناك حقائق في فعل الله بأنْ يُزوي الحسَّ عن أنْ يبصر كلَّ شيء, وعن أنْ يُدرك، لأنَّ قدرة الإحساس هي في سبيل إفاضة إنعام من الله على البشر, فإذا قطع الله سببه فإنَّ السبيل ينضب, لا أنَّه يشكل لهم شيئاً آخر, كتخييل السحر والتلاعب في الخيال لحجب الواقع عن حقيقة البصر, كلَّا فليس الحال كذلك في قدرة الله, وإنَّما في قدرة الله ينضبها ويعجزها ويفترها ويحجب عن إعمالها, فهل هذا حينئذٍ دعوى من القرآن إلى التشكيك بالحسِّ أو السفسطة؟ كلَّا, وإلى ماذا يريد أنْ يشير لنا القرآن الكريم؟

(٢٧٣)

في الحقيقة هذه الأسئلة المحتدمة ذكرها المفسِّرون في هذه الآية: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ (الأنفال: 44), وحتَّى أصحاب السِّيَر حول حجب الله أبصار قريش والقبائل العربيَّة عن أنْ تنال النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسوء يوم خرج للهجرة, حيث كانوا متواطئين ومتآمرين ليقتلوا النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو يحبسوه ويسيطروا عليه, فالسُّنَّة الإلهيَّة هنا تريد أنْ تُعطي للمؤمن وللمسلم مغزًى ودرساً تُبرزه لنا, ويريد القرآن الكريم أنْ يقول: إنَّ عقائد الشريعة وأُصول الإيمان بالشريعة ليست كلُّها بمقتضى الحسِّ, أو أنْ تُحبَس في هذا المنبع الضيِّق فقط, نعم الحسُّ يُعوَّل عليه وهو منبع ومصدر, ولكنَّه ليس كلُّ شيء.
وبعبارة أُخرى: يريد القرآن الكريم أنْ يُفنِّد أصالة الحسِّ, لأنَّ القائلين بأصالة الحسِّ يذهبون إلى أنَّ ما أوصلنا إليه الحسُّ نؤمن به، وما غاب عن الحسِّ لا نؤمن به, وهذا يُؤدِّي إلى الكفر, مع أنَّ الغيب ليس من الضروري أنْ يكون في عوالم أُخرى غير عالم الدنيا وعالم الأرض, فكلَّما يغيب عن حسِّ الإنسان يكون غيباً, وكلَّما يغيب عن حسِّ البشر وإنْ كان موجوداً في كينونة الأرض يكون غيباً بالنسبة إليه, فإذا عوَّل البشر في مصادر المعارف الدِّينيَّة على حكر وحصر المصادر في الحسِّ فهنا تكون الطامة الكبرى، وهنا تكون الرزيَّة كلُّ الرزيَّة، وهنا الداهية الدهياء.
والقرآن الكريم في هذه الحقيقة الثانية يريد أنْ يُسلِّط الضوء ويدقَّ الجرس للتنبيه والإنذار للمؤمنين والمسلمين واليهود والنصارى ولكلِّ أتباع الديانات السماويَّة, أنَّ الحسَّ ليس هو الأمر والمصدر الأوَّل والأخير والوحيد للمعرفة, فإنَّ ذلك يُسبِّب أزمة في المعرفة الدِّينيَّة وغيرها. نعم هنا حيث يُؤكِّد القرآن الكريم تخطئة اليهود والنصارى فيما ادَّعوه من الخبر المتواتر الحسِّي من قتل النبيِّ

(٢٧٤)

عيسى (عليه السلام) وصلبه. وطبعاً اختلف بعد ذلك اليهود والنصارى في أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) أُحيي بعد ذلك وهو على قيد الحياة كما يذهب إلى ذلك النصارى, أو كما يذهب إلى غير ذلك اليهود, حيث يقولون: إنَّ الذي زعم أنَّ هذا هو النبيُّ عيسى (عليه السلام) فإنَّه قد مات, وأمَّا النبيُّ عيسى (عليه السلام) الموعود بالبشارة الإلهيَّة الذي يساهم في دولة الإصلاح في آخر الزمان فإنَّه سينزل ويُبعَث بعد ذلك, فهم يتَّفقون في بعض النقاط ويختلفون في جملة منها, يتَّفقون في أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) سيظهر في آخر الزمان ويُنزله الله (عزَّ وجلَّ) للمساهمة في دولة الإصلاح الإلهي الشامل, ويتَّفقون أيضاً في أنَّ الذي أنبأ الناس بنبوَّته هو عيسى بن مريم (عليه السلام)، وقد قُتِلَ وصُلِبَ. نعم يختلفون بأنَّ الذي قُتِلَ وصُلِبَ هل هو النبيُّ عيسى (عليه السلام) حقيقةً كما تؤمن بذلك النصارى وتكفر بذلك اليهود, وأنَّ هذا الذي قُتِلَ وصُلِبَ هو باقٍ على قيد الحياة, فهذه موارد ونقاط اختلاف بينهم، كما أنَّ هناك موارد ونقاط وفاق أيضاً.
على أيِّ تقدير، فالقرآن يُخطِّئهم فيما زعموه من الخبر المتواتر والخبر الحسِّي بأنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) قُتِلَ أو صُلِبَ: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾, أُلقي شبهه على أحد حواريِّيه فظنُّوا أنَّه عيسى (عليه السلام), ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: 157 و158).
هل الحسُّ مصدر معرفي في القرآن؟
هنا يأتي هذا السؤال: هل أنَّ القرآن يطعن في الحسِّ بكونه مصدراً من مصادر المعرفة، ومصدراً من مصادر نقل الشريعة إلى الأجيال الأُخرى؟
كلَّا, فالقرآن الكريم ليس في صدد الطعن في الحسِّ، بل في صدد الطعن في مذهب أصالة الحسِّ, يعني المذهب الذي يقول بأنَّ ما يُؤدِّي إليه حسُّنا فهو

(٢٧٥)

حقٌّ, وما لا يُؤدِّي إليه حسُّنا فهو باطل, هذا المذهب الحسِّي يقف القرآن الكريم في صدد إبطاله وتخطئته, أي إنَّ الحسَّ ليس هو المصدر الأوَّل والآخر في المعرفة الإيمانيَّة الدِّينيَّة.
والحقيقة الثانية أيضاً التي يُؤكِّدها ويُشيِّدها القرآن الكريم من خلال هذه الملحمة أنَّ هناك حُجَجاً وبراهين تعلو حجّيَّة الحسِّ, فليس للحسِّ المرتبة الأُولى، وأنَّ ما يكون من حُجَج أُخرى هي في المراتب الدنيا, بل هناك جملة من الحُجَج والبراهين تفوق وتعلو الحسَّ, فإذا أدَّت تلك الحُجَج إلى غير ما يُؤدِّي إليها الحسُّ، فيجب أنْ يؤمن الفرد البشري - مؤمناً كان أو مسلماً - بما تُؤدِّي إليه تلك الحُجَج, لا أنَّه يُنكِر ويجحد ما تقوم به البراهين ذات الحُجَج الأعلى والمراتب الأعلى, كأنْ يُنكِرها لأجل نوع من المشاغبة الحسّيَّة لتلك الحُجَج مثلاً، ولو نظر الإنسان وبصر إلى طرفي شارعٍ ممتدٍّ طولاً إلى الأُفُق يرى الواقف في الحقيقة أنَّ طرفي الشارع وجنبتيه في نهاية امتداده في الأُفُق قد التقتا، وكأنَّما أصبح كالمثلَّث, ولكن هل العقل يُصدِّق هذه الصورة البصريَّة التي يلتقطها الحسُّ؟ بالتأكيد لا يمكن أنْ يُصدِّقها العقل، وذلك لأنَّ البرهان قد قام لدى العقل على خلاف ما يتراءى في الحسِّ, فهذا لا يعني أنَّ الحسَّ لا يُعوَّل عليه, لكن إذا قام البرهان الذي يفوق حجّيَّة الحسِّ فإنَّه يُعوَّل على ذلك البرهان، فالتعويل على الحسِّ محدود لا مطلق ولا منحصر فيه.
مثال آخر نضربه في الحسِّ: أنَّه لو مسك شخص شعلة من النار وأدار تلك الشعلة بقوَّة, فماذا سيبصر الإنسان الناظر لذلك المحرِّك والحامل للشعلة؟ سيرى أنَّ الشعلة من بعيد كحلقة ناريَّة, لكن هل العقل يُصدِّق أنَّ هناك حلقة ناريَّة؟ كلَّا, لا يُصدِّقها العقل، لأنَّه يعلم بأنَّ هذه الشعلة هي واحدة كنقطة, لكن بسرعة دورانها تكون في خلايا شبكيَّة العين والبصر بنحو تعاقبي صوراً

(٢٧٦)

متعدِّدة للنار، فتلتئم، فيتراءى في خداع البصر لدى الإنسان أنَّ هناك حلقة ناريَّة.
هذه ليست تشكيكات في الحسِّ تُؤدِّي إلى السفسطة, كلَّا، فهذه الأُمور ليست ظواهر ولا شواهد للطعن في الحسِّ مطلقاً, ولا إسقاط الحسِّ عن المعرفة ومصدر المعرفة من رأس بالمرَّة, كلَّا، وليس الحال كذلك كما يقول السفسطائيُّون, وإنَّما هذه الظواهر وهذه البيانات من القرآن الكريم ومن تجربة عقل البشر تُبيِّن وتُبرز أنَّ الحسَّ ليس المصدر الوحيد للمعرفة, بل المعرفة البشريَّة في الحقيقة لها مصادر ومنابع متعدِّدة أُخرى, هذه حقيقة.
وحقيقة ثانية هي أنَّ تلك المصادر للمعرفة قد تعلو الحسَّ رتبةً, ولا توافق حجّيَّة الحسِّ عندما تتصادم مؤدَّيات ونتائج تلك الحُجَج مع الحسِّ، فيُعوَّل عليها دون الحسِّ.
وهذا درس عقائدي معرفي عظيم يكشفه القرآن الكريم في ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وغيبته، وهو أنَّه قد وصلكم من سيِّد الأنبياء وسيِّد الأنام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ خلفاءه اثنا عشر, وأنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة, وأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) أخبركم أنَّه جاعل في الأرض خليفة.
هناك بيِّنات وبراهين عديدة لدى اليهود والنصارى من التوراة ومن قول وإنباءات النبيِّ موسى (عليه السلام) على أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) هو الذي سيساهم في دولة الإصلاح الشامل ومؤازرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وإنَّما يزعم اليهود أنَّ عيسى بن مريم (عليه السلام) كان يدَّعي ذلك المقام، وأنَّه ليس هو النبيُّ عيسى (عليه السلام), فمن ثَمَّ برَّروا لأنفسهم الإقدام على قتله وصلبه، واتَّهموه بأنَّه ساحر كذَّاب - والعياذ بالله -، هكذا قذفوا النبيَّ عيسى (عليه السلام), وإلَّا فهم متَّفقون مع النصارى بأنَّ الله سيُظهره, فقد كان كلٌّ من اليهود والنصارى على إيمان بهذا الوعد الإلهي الذي

(٢٧٧)

قد تلقَّوه على لسان النبيِّ موسى (عليه السلام), وأيضاً على لسان النبيِّ عيسى (عليه السلام) بالنسبة للنصارى حيث يعتقدون بنبوَّته, وكانوا هم على بيِّنة ويقين من هذا الوحي الإلهي, فكيف يتركونه ويركنون إلى الحسِّ، وإنْ كان أمام أعينهم كأنَّما النبيُّ عيسى (عليه السلام) قُتِلَ وصُلِبَ, لكن كيف يستندون ويركنون إلى الحسِّ ويتركون الوحي الذي هو فوقه؟
فهنا يعالج القرآن الكريم هذه الجدليَّة، ويعالج هذه المجاذبة، ويرسم هذه الموازنة الخطيرة جدًّا في معركة المعرفة البشريَّة وفي المعركة الدِّينيَّة، ويُقدِّمها عبرة للمسلمين وللمؤمنين القارئين للقرآن الكريم, أنَّه إذا كانت لديكم هناك براهين من الوحي الإلهي على أمر ما عقدي واعتقادي، فيجب أنْ تتمسَّكوا بمثل هذا البرهان الوحياني, ومن غير الصحيح الركون إلى الحسِّ ومشاغبات الحسِّ التي تؤول نتيجة لزلزلة الإيمان, وإنَّما يجب الاعتقاد بتلك البراهين الوحيانيَّة التي هي أقوى درجةً.
من هنا احتدم الاختلاف في أقوال المفسِّرين من كلِّ المذاهب الإسلاميَّة حول تفسير هذه الآية: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ (النساء: 157), وما هو مراد القرآن الكريم؟ وما هي حكمة الله (عزَّ وجلَّ) في إلقاء هذا التشبيه؟ فقد حاصوا وباصوا وتشتَّتت وتكثَّرت أقوالهم في تفسير هذه الآية، وما هو تفسير هذه الظاهرة, بأنْ يُلقي الله سبحانه وتعالى شَبَه النبيِّ عيسى (عليه السلام) على فرد آخر, وبالتالي يُفنِّد مزعمة اليهود والنصارى بقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ (النساء: 157)؟ فالقرآن الكريم يُعبِّر عن الركون إلى الحسِّ أنَّه ركون إلى الظنِّ في مقابل يقين الحسِّ, فكيف يمكن أنْ يكون ظنًّا ولا يكون يقيناً(76)؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(76) من ذلك ما أورده الطبرسي في مجمع البيان (ج 3/ ص 232 - 235) بعد تفسيره لقوله ←

(٢٧٨)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

→ تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾, وبعد أنْ ذكر ما روي في حادثة إلقاء الشَّبَه والاختلاف في كيفيَّة التشبيه, قال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾: (قيل: يعني بذلك عامَّتهم، لأنَّ علماءهم علموا أنَّه غير مقتول، عن الجُبَّائي. وقيل: أراد بذلك جماعة اختلفوا، فقال بعضهم: قتلناه، وقال بعضهم: لم نقتله. ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ أي: لم يكن لهم بمن قتلوه علم، لكنَّهم اتَّبعوا ظنَّهم، فقتلوه ظنًّا منهم أنَّه عيسى ولم يكن به، وإنَّما شكُّوا في ذلك، لأنَّهم عرفوا عدَّة من في البيت، فلمَّا دخلوا عليهم وفقدوا واحداً منهم التبس عليهم أمر عيسى، وقتلوا من قتلوه على شكٍّ منهم في أمر عيسى، هذا على قول من قال: لم يتفرَّق أصحابه حتَّى دخل عليهم اليهود. وأمَّا من قال: تفرَّق أصحابه عنه، فإنَّه يقول: كان اختلافهم في أنَّ عيسى هل كان فيمن بقي، أو كان فيمن خرج، اشتبه الأمر عليهم. وقال الحسن: معناه فاختلفوا في عيسى، فقالوا مرَّةً: هو عبد الله، ومرَّةً: هو ابن الله، ومرَّةً: هو الله. وقال الزجَّاج: معنى اختلاف النصارى فيه أنَّ منهم من ادَّعى أنَّه إله لم يُقتَل، ومنهم من قال: قُتِلَ. ﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ اختُلِفَ في الهاء في ﴿قَتَلُوهُ﴾، فقيل: إنَّه يعود إلى الظنِّ، أي: ما قتلوا ظنَّهم يقيناً، كما يقال: ما قتله علماً، عن ابن عبَّاس، وجويبر. ومعناه: ما قتلوا ظنَّهم الذي اتَّبعوه في المقتول الذي قتلوه، وهم يحسبونه عيسى، يقيناً أنَّه عيسى، ولا أنَّه غيره، لكنَّهم كانوا منه على شبهة. وقيل: إنَّ الهاء عائد إلى عيسى، يعني: ما قتلوه يقيناً، أي: حقًّا، فهو من باب تأكيد الخبر، عن الحسن. أراد أنَّ الله تعالى نفى عن عيسى القتل، على وجه التحقيق واليقين. ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾ يعني: بل رفع الله عيسى إليه، ولم يصلبوه، ولم يقتلوه، وقد مرَّ تفسيره في سورة آل عمران عند قوله: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران: 55]. ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ معناه: لم يزل الله سبحانه منتقماً من أعدائه، حكيماً في أفعاله وتقديراته، فاحذروا أيُّها السائلون محمّداً أنْ يُنزل عليكم كتاباً من السماء حلول عقوبة بكم، كما حلَّ بأوائلكم في تكذيبهم رُسُله، عن ابن عبَّاس. وما مرَّ في تفسير هذه الآية من أنَّ الله ألقى شبه عيسى على غيره، فإنَّ ذلك من مقدور الله بلا خلاف بين المسلمين فيه، ويجوز أنْ يفعله الله سبحانه على وجه التغليظ للمحنة، والتشديد في التكليف، وإنْ كان ذلك خارقاً للعادة، فإنَّه يكون معجزاً للمسيح، كما روي أنَّ جبرائيل كان يأتي نبيَّنا في صورة دحية الكلبي. وممَّا يُسئَل عن هذه الآية أنْ يقال: قد تواترت اليهود والنصارى، مع كثرتهم، وأجمعت على أنَّ المسيح قد قُتِلَ، وصُلِبَ، فكيف يجوز عليهم أنْ يُخبروا عن الشيء بخلاف ما هو به؟ ولو جاز ذلك، فكيف يوثق بشيء من الأخبار؟ والجواب: إنَّ هؤلاء دخلت عليهم الشبهة، كما أخبر الله سبحانه عنهم بذلك، فلم يكن اليهود يعرفون عيسى بعينه، وإنَّما أخبروا أنَّهم قتلوا رجلاً قيل لهم: إنَّه عيسى، فهم في خبرهم صادقون، وإنْ لم يكن المقتول عيسى، وإنَّما اشتبه الأمر على النصارى، لأنَّ شبه عيسى أُلقي على غيره، فرأوا من هو على صورته مقتولاً مصلوباً، فلم يُخبر أحد من الفريقين إلَّا عمَّا رآه، وظنَّ أنَّ الأمر على ما أخبر به، فلا يُؤدِّي ذلك إلى بطلان الأخبار بحال).

(٢٧٩)

هذه إضاءة هامَّة شديدة في القرآن الكريم لبيان أنَّ الاستناد إلى الحجَّة الدنيا وترك الحجَّة العليا والركون إلى مستند أضعف ومتاركة المستند الأقوى هو نوع من اتِّباع الظنِّ وترك اليقين, رغم أنَّه في حدِّ نفسه ذو درجة محدودة من اليقين, ولكن هناك ما هو أشدّ درجةً وأوسع في اليقين، وهي المستندات الفطريَّة والعقليَّة والوحيانيَّة الشرعيَّة, فمتاركة تلك المستندات والحُجَج الأقوى والانتقال إلى ما هو دونها يُعتبَر اتِّباعاً للظنِّ، لأنَّه دائماً حيطة المستند والحجّيَّة الأدنى هي دون حيطة ودائرة وهيمنة وقدرة المستند الأعلى, وإلَّا فترتيب المستندات والحُجَج والبراهين كما مرَّ بنا منتظمة، والمغزى فيها أنَّ الحُجَج والبراهين حيطتها محدودة, ودائرتها ليست واسعة, وقدرة الإبصار والاستكشاف بها والاستطلاع بها محدودة, فلا تجعلوه غير محدود, ولا تغالوا في الحسِّ, وليست هذه دعوة من القرآن بالتفريط بالحسِّ, ولكن لا تعطوا الحسَّ فوق قدره ولا فوق شأوه، فالحسُّ له درجات محدودة ومنظار يمكن النظر به إلى بقعة محدودة, وإذا أردتم أنْ تنظروا بمنظار إلى بقاع أوسع وحدود أشمل فعليكم الاستناد إلى حُجَج أُخرى أعلى شأناً, كالأُمور الفطريَّة في الإنسان,

(٢٨٠)

وكالرجوع إلى معرفة نفسه, وكالرجوع إلى البراهين والحُجَج الوحيانيَّة، فالإنسان المؤمن الموحِّد يؤمن بالله مع أنَّ الإيمان بالله وكثيراً من المعارف ليس في متناول آليَّة الحسِّ ولا قدرة الحسِّ ولا محدودة الحسِّ, ومع ذلك يشير القرآن الكريم كما مرَّ في سورة (البقرة: 2): ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾, أوَّل صفة بارزة فيهم هو الإيمان بالغيب, والقرآن كتاب هداية لمن يُؤسِّس المعرفة لديه, لا على أساس الحصر في الحسِّ, فإذا أُريد أنْ يُؤسِّس العقل الإسلامي، وهيكل العقل الإسلامي ونظامه على الحسِّ حينئذٍ سوف تنحسر آفاق في المعرفة كثيرة, فالإنسان العارف والإنسان الواعد هو الذي يستند إلى العلم، فمن مدائح القرآن العظيم هي المدائح العلميَّة, والإنسان قد يُمدَح بصفات علميَّة, ويُمدَح بفضائل علميَّة. ومن مدائح القرآن العظيم الكبيرة للمتَّقين الذين يستطيعون أنْ ينهلوا من هدى الكتاب, في أوَّل مطلع سورة البقرة، أوَّل صفة بارزة علميَّة أنَّهم: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 3)، يعني أنَّهم لا يجعلون تمام مستند معرفتهم، ولا يحصرون حصراً حكريًّا منبع معرفتهم في الحسِّ, فالإنسان الذي يقبع في سجن الحسِّ هو دون البهيمة، لأنَّنا نرى في الحيوانات بعض الصفات التي تدلُّ على أنَّها تشعر بكثير من ما وراء الحسِّ, كما في بعض الحالات التي رُصِدَت في علم الأحياء.
فالمقصود أنَّ أبرز صفة في تكامل الإنسان هو الإيمان بالغيب, أي إنَّ منبع المعرفة أصلاً، والأجهزة التي زُوِّد بها الإنسان تكويناً في ذاته هي في الواقع تتخطَّى الحسَّ, فكيف يسجن الإنسان نفسه في الحسِّ ويقبع فيه مع أنَّه مصدر كأحد المصادر للمعرفة، وليس هذا محلُّ طعن من الآيات الكريمة في ذلك, وإنَّما المراد أنَّه ليس من الصحيح إعطاء الحسِّ فوق دوره وفوق درجته, فإذا أراد الإنسان أنْ يُوسِّع دائرة إدراكه ودائرة اطِّلاعه يجب أنْ يتزوَّد بآليَّات أقوى من الحسِّ، كالروح,

(٢٨١)

والقلب, والضمير, والوجدان, فيُدرك العقل ما لا يُدرك الحسُّ. والآن في العلوم التجربيَّة الحديثة يُدركون أشياء لا يُدركها الحسُّ، فالذرَّة مثلاً إلى الآن ورغم وجود الانشطار النووي والمفاعل النووي والدمج النووي إلَّا أنَّ علماء الذرَّة والبحوث النوويَّة يعترفون أنَّهم لم يتوصَّلوا إلى إدراك الذرَّة ونواة الذرَّة بأجهزة حسّيَّة كالميكروسكوب أو المجاهر المتطوِّرة, وإنَّما يتعاطون مع الذرَّة من خلال آثارها وتداعياتها ونتائجها, ولم يستطع الإنسان أنْ يُبصِر الذرَّة بالحسِّ, فكيف وصل إلى استثمار هذه النتائج الكبيرة من البحوث النوويَّة العلميَّة؟ أليس ذلك كان بإدراك عقله حيث يرى آثاراً وتداعيات يستنتج العقل بها أنَّ هناك شيئاً. كذلك نجد كثيراً من بحوث الطاقة، وكثيراً من بحوث البيئة وبحوث الطبيعة حتَّى المادّيَّة لا تكون متناولاً ليد وقدرة الحسِّ وآليَّة الحسِّ، وإنَّما هي متناول لآلة العقل.
فمن الظلم أنْ يجعل الإنسانُ الحسَّ هو الأمير والكبير والرئيس في مصدر المعرفة, وإنَّما الحسُّ خادم من خدم مَلِك المعرفة, والعقل له درجات من الوجدان والقلب والروح, فهنا نجد القرآن الكريم يُؤكِّد على هذه الظاهرة, وهي أنَّ الاستناد إلى الحسِّ كمصدر أصلي ومركزي وعمومي للمعرفة يُؤدِّي إلى الغواية والضلال, ومن ثَمَّ يعيب على النصارى واليهود أنَّهم رغم وجود المعاجز والبراهين الوحيانيَّة لديهم على لسان النبيِّ موسى ولسان النبيِّ عيسى (عليهما السلام) بأنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) سوف يبقى ويشارك في دولة الإصلاح، ويُبقيه الله حيًّا ويدَّخره لذلك, رغم كلِّ هذه البراهين والمعاجز الوحيانيَّة استندوا إلى الحسِّ, وقالوا بأنَّ الذي قُتِلَ في صورة النبيِّ عيسى (عليه السلام) هو الذي قُتِلَ, ولم يحتملوا أنَّ الحسَّ يمكن أنْ يشتبه فيه, وأنَّه إذا جُعِلَت المحوريَّة للحسِّ فسوف يدبُّ التشكيك فيه، وسوف يُعطى حجماً أكبر من حجمه, بخلاف ما لو جُعِلَ العقل مهيمناً عليه، واستند العقل إلى براهين بيِّنة.

(٢٨٢)

وقد رصد العلماء ما يقارب من أربعمائة أو خمسمائة مورداً للحسِّ يخطئ فيه ويُصحِّح له العقل, وليس هذا تهاوناً أو استهانةً بالحسِّ, وليس هذا تشكيكاً بالحسِّ, ففرق بين المنهج السفسطي والمنهج الإيماني والمنهج العقلاني، فالمنهج السفسطي يريد أنْ ينسب الحسَّ إليه, أمَّا المنهج العقلاني والمنهج القرآني فيريد أنْ يُعطي الحسَّ مساحة محدودة. والصحيح أنْ لا يغالي فيه ولا أنْ يفرط فيه، فالجادَّة الوسطى هي الاعتدال، الحسُّ له قيمته لكن بقدره الذي لا يجعل من الحسِّ مَلِك المعرفة, وإلَّا سوف يُؤدِّي به إلى إنكار نتائج هي فوق طاقته وقدرته, وهذا ما لا يستطيع حتَّى علماء العلوم الحديثة التجريبيَّة الركون إليه, لأنَّ كثيراً من النتائج التي يتوصَّلون إليها ويبنون عليها بعض النظريَّات ليست في متناول يد الحسِّ, وإنَّما هي في متناول يد العقل والاستنتاج العقلي.
فهناك وسطيَّة, وهي أنَّ الحسَّ لا يُفرَّط فيه كالسفسطة حيث تنسفه نسفاً, ولا يُغالى فيه, بل يُعطى درجته، ويُعطى للعقل هيمنة فوقه, وللروح وللوجدان وللعيان الغيبي والإعجازي الذي يُدركه الإنسان بتوسُّط أجهزة يُزوَّد بها الإنسان بذاته تكويناً وخلقةً.
وهذا يحلُّ المشكلة حينئذٍ, فأحد الإشكالات التي يترنَّم بها الكثيرون الجاحدون للعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحياته وغيبته، أنَّه لِمَ لا يُرى؟ وكيف لا يُرى وهو إمام؟ وكيف وكيف؟ كلُّها استناد إلى الحسِّ, وأمَّا إذا قامت لديك البراهين من القرآن الكريم على أنَّ إمامة أهل البيت (عليهم السلام) باقية، وأنَّ للقرآن عِدلاً وشريكاً أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالتمسُّك بهما بقوله: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَداً، كِتَابَ اَلله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَلَنْ

(٢٨٣)

يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ اَلْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا»(77), يعلمون كلَّ تأويل الكتاب, وإلَّا لكان بعض الكتاب معطَّلاً, وحاشا للقرآن أنْ ينزل ويكون معطَّلاً.
وهناك آيات وبيِّنات عديدة تُبيِّن استمرار بقاء العترة النبويَّة, وكذلك آيات الإمامة في ذرّيَّة إسماعيل (عليه السلام) - وقد مرَّ استعراضها(78) - دالَّة على بقاء الإمامة في عترة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبقاء إمامتهم, فكيف يتَّجه الإنسان إلى مشاغبات الحسِّ ويُنكِر ويجحد عقيدة قرآنيَّة أصيلة، وهي بقاء العترة قرينةً وعِدلاً للقرآن الكريم ومفسِّرة لتأويل الكتاب؟
القرآن لا يفتأ يُؤكِّد على أنَّ الذي لا ينتظم إليه المخروط الهرمي لنظام المعرفة، سوف تأخذه دلالات بعض المصادر في المعرفة يميناً وشمالاً, وتأخذه في سوح التيه وبحار الظُّلمة, وأنَّه لا بدَّ أنْ يكون نظام المعرفة لدى الإنسان أو لدى المؤمن رتيباً منتظماً منظوميًّا, لذلك يُخطِّئ القرآن الكريم هنا ويُضلِّل اليهود والنصارى في استنادهم للحسِّ ومتاركتهم للبيِّنات السابقة, وقد مرَّ بنا أنَّ اليهود لا زالت تعتقد أنَّه سوف يظهر النبيُّ عيسى (عليه السلام), وأنَّ الذي ادَّعى أنَّه النبيُّ عيسى (عليه السلام) في السابق هو ساحر كذَّاب دجَّال - والعياذ بالله -, هكذا يقذفون النبيَّ عيسى (عليه السلام), مع أنَّ لديهم البشائر الوحيانيَّة الإلهيَّة ببقاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(77) رواه الخاصَّة والعامَّة بألفاظ متقاربة؛ راجع: بصائر الدرجات (ص 432/ ج 8/ باب 17)، والكافي (ج 2/ ص 414 و415/ باب أدنى ما يكون العبد مؤمناً/ ح 1)، وأمالي الصدوق (ص 500/ ح 686/15)، ومسند أحمد (ج 17/ ص 169 و170/ ح 11104)، وسُنَن الترمذي (ج 5/ ص 328 و329/ ح 3876)، وسُنَن النسائي (ج 5/ ص 45 و46/ ح 8148)، وغيرها من المصادر.
(78) قد مرَّ في (ص 250 و251)، فراجع.

(٢٨٤)

النبيِّ عيسى (عليه السلام) باعتباره مشاركاً مهمًّا وكبيراً في دولة الإصلاح للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), كما نُقِلَ عن بعض نصوص الإنجيل التي فيها البشائر بخلق الله اثني عشر عظيماً من سلالة إسماعيل (عليه السلام), ويكون عليهم سيِّدٌ وهو سيِّد الأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وشريعته لأرجاء الأرض كافَّة, فالخلاصة أنَّهم لديهم بشارات متعدِّدة وبيِّنات وحي، وكيف تُترَك ويُعرَض عن بيِّنات الوحي إذا كانت بيِّنة وبرهانيَّة وإعجازيَّة مع مسرح حسِّي قد تدخل في الالتباس أو قد يدخل في الستار أو قد يسدل عليه بشيء من الإبهام والهلاميَّة, كما نرى المشاهد الحسّيَّة البعيدة جدًّا كأنَّها صغيرة، كالمجرَّات العظيمة تُرى صغيرة الحجم, فهل هي في الواقع بهذا الحجم الصغير؟ كلَّا هذه في الواقع معطيات الحسِّ, فإذا أراد الإنسان أنْ يستنتج ويقصر استنتاجه عليها، وليس على بصيرة العقل ومحاسبة المعادلات الرياضيَّة والهندسيَّة، فسوف يخطئ حينئذٍ في النتيجة.
إذن لا يمكن الركون والاتِّكال على معطيات الحسِّ بما هي, لأنَّ هذه المعطيات لها أُفُق معيَّن هو بالنسبة إلى أُفُق معرفة الإنسان يُعتبَر أُفُقاً قزميًّا، لأنَّ أُفُق معرفة الإنسان ذو شموخ علياوي، وله منابع أكثر ثروةً في مصدر المعرفة, فالذي يريد أنْ يُؤكِّده القرآن الكريم هو أنَّ الالتباسات الحسّيَّة لا توجب زعزعة إيمانكم بحجَّة الله وببقائه وبادِّخاره وبحياته.
إذن في هذا المقطع وهذا المحور من ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) يُشدِّد القرآن من نكيره وتخطئته وتضليله لمقالة اليهود والنصارى في تصفيته وإبادته، لاستنادهم إلى الحسِّ, مع أنَّه قد تبيَّنت لهم معطيات حياتيَّة وعقلانيَّة من معاجز النبيِّ عيسى (عليه السلام)، ومعاجز النبيِّ موسى (عليه السلام) أنَّه سوف يدَّخره الله حيًّا باقياً

(٢٨٥)

لدولة الإصلاح, فكيف يستندون إلى حسٍّ قابل للتأويل العقلي؟ وهذا ليس من تلاعب العقل بالحسِّ, بل هذا من ترشيد العقل للحسِّ, وكما ذكرنا أنَّ المجرَّات تُرى من بعيد كأنَّها صغيرة, فلا بدَّ أنْ تُعطى تفسيراً عقليًّا رياضيًّا يُدلِّل بأنَّها ليست من الصغر كما يشاهدها الإنسان حسًّا, وإنَّما هذا الحسُّ يحكم لدى الإنسان, ولكن بسبب تفسير العقل وترشيد العقل لمعطيات الحسِّ هنا تصبح المعلومات أدقّ تفسيراً.
يريد القرآن الكريم أنْ يُؤكِّد لنا على ابتلائنا بمحنة وعقيدة تستمرُّ قروناً, ألَا وهي بقاء رجل من العترة صاحب القرآن وقرين القرآن وعِدل القرآن, كلُّ هذه البيِّنات الكثيرة التي لسنا بصدد التفصيل فيها عندما يلتقي بها المسلم, نشاهد كثيراً من كبار أصحاب الأسماء اللَّامعة من المذاهب الإسلاميَّة الأُخرى ذوي الكتابات العريضة الطويلة يُشكِّك في مثل هذه المصادر الوحيانيَّة والبيِّنات العقليَّة بسبب التباس حسِّي لديه كابن خلدون, وتنظر صاحب كتاب (تاريخ الإسلام) وغيره يقولون: إنَّ ابن الحسن العسكري قد قُتِلَ أو عُدِمَ(79). وأنَّه قد داهمت جلاوزة بني العبَّاس بيت الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وصفُّوا من فيه, وكان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) تحت المراقبة الشديدة من السلطة العبَّاسيَّة, فكيف يمكن أنْ يفرَّ منهم ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)؟ وكيف يمكن أنْ يبقى سالماً؟ وكيف يمكن أنْ يكون هو المهدي؟ فلا بدَّ أنْ ننساق مع ما أُشيع آنذاك من الدولة العبَّاسيَّة أنَّهم قد صفُّوا ابن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وكبسوه في البيت وأعدموه واغتالوه, وهل يمكن أنْ يفلت إنسان من هذه المراقبة الشديدة التي تقيمها دولة عظمى تُمثِّل أكبر دولة عظمى آنذاك والتي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(79) راجع: تاريخ الإسلام (ج 19/ ص 113/ الرقم 159).

(٢٨٦)

تساوي مساحتها مساحة أربعين أو خمسين دولة الآن، والحال أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان مسجوناً عسكريًّا تحت قبضة بني العبَّاس, وكذلك أبوه الإمام الهادي (عليه السلام), تحسُّباً من تولُّد ابنهم الموعود بأنْ يكون مهدي هذه الأُمَّة وعلى يده ينتشر القسط والعدل, فترى ابن خلدون يقول عبارته التي قرأناها فيصف أتباع مدرسة أهل البيت - وإنْ كان الوصف في الحقيقة لائق به لا بهم - بقوله: (وهؤلاء من الجهل بحيث ينتظرون من يُقطَع بموته)(80), هكذا يبرز لديه القطع المستند إلى مثل هذه العناصر الحسّيَّة, هذا هو الذي يُخطِّئه, فبيِّنات إمامة أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن الكريم كثيرة, وزعزعة التمسُّك بهذه البيِّنات والتنكُّر لهذه البيِّنات الوحيانيَّة في الأحاديث النبويَّة المتواترة مقابل دعوة حسّيَّة رصدها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(80) يقول ابن خلدون في تاريخه (ج 4/ ص 29 و30): (ويزعمون (أي الشيعة) أنَّ الإمام بعده (أي الإمام عليٍّ الهادي) ابنه الحسن، ويُلقَّب: العسكري، لأنَّه وُلِدَ بسُرَّ من رأى, وكانت تُسمَّى العسكر, وحُبِسَ بها بعد أبيه, إلى أنْ هلك سنة ستِّين ومائتين، ودُفِنَ إلى جنب أبيه في المشهد, وترك حملاً وُلِدَ منه ابنه محمّد, فاعتُقِلَ، ويقال: دخل مع أُمِّه في السرداب بدار أبيه وفُقِدَ, فزعمت شيعتهم أنَّه الإمام بعد أبيه، ولقَّبوه: المهدي والحجَّة, وزعموا أنَّه حيٌّ لم يمت, وهم الآن ينتظرونه، ووقفوا عند هذا الانتظار, وهو الثاني عشر من ولد عليٍّ, ولذلك سُمّيت شيعته الاثني عشريَّة, وهذا المذهب في المدينة والكرخ والشام والعراق, وهم حتَّى الآن على ما بلغنا يُصَلُّون المغرب, فإذا قضوا الصلاة قدَّموا مركباً إلى دار السرداب بجهازه وحليته، ونادوا بأصوات متوسِّطة: أيُّها الإمام اُخرج إلينا، فإنَّ الناس منتظرون، والخلق حائرون، والظلم عامٌّ، والحقّ مفقود، فاخرج إلينا, فتُقرِّب الرحمة من الله في آثارك, ويُكرِّرون ذلك إلى أنْ تبدوا النجوم, ثمّ ينصرفون إلى الليلة القابلة, هكذا دأبهم, وهؤلاء من الجهل بحيث ينتظرون من يُقطَع بموته مع طول الأمد, لكن التعصُّب حملهم على ذلك, وربَّما يحتجُّون لذلك بقصَّة الخضر, والأُخرى أيضاً باطلة, والصحيح أنَّ الخضر قد مات).

(٢٨٧)

المؤرِّخون أو رصدتها الدولة العبَّاسيَّة بأنَّها كبست بيت الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وصفَّت من فيه وقتلت إحدى جواري الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) التي كانت حاملاً وأسقطت الحمل أو أُعدِمَ أو غير ذلك, هذه ملحمة في الحقيقة, فإذا استندنا إلى الحسِّ وركنَّا إليه ونبذنا آيات الكتاب في القرآن الكريم ونبذنا الأحاديث النبويَّة سنكون قد وقعنا فيما قد وقع فيه نفس اليهود والنصارى الذين ضلَّلهم القرآن الكريم في هذا الفعل الخاطئ, حيث استندوا في المعرفة إلى الحسِّ الملتبس وتركوا بيِّنات الوحي، وتركوا بيِّنات العقل، وتركوا بيِّنات الفطرة، وتركوا منابع المعرفة والعقيدة والإيمان, وهذه طامَّة كبرى، وكان أحدهم يقول: إنَّ اعتقادي بالإمام المهدي لا بدَّ أنْ يكون مستنداً إلى الحسِّ, فإنْ لم يكن هناك أيُّ معطية حسّيَّة - مع أنَّها موجودة بحمد الله فيما روته الإماميَّة من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من بيِّنات كثيرة على ولادته (عجَّل الله فرجه) حسًّا واختفائه وما شابه ذلك - ولكنَّنا نجاري هذا القائل حيث يقول: إنْ لم تتكوَّن لدي معطيات حسّيَّة فلا أُؤمن به! اُنظر لهذه المقالة التي يُفنِّدها القرآن أشدّ تفنيداً, إنَّ المستند للإيمان والمعرفة بحُجَج الله وبقاء هؤلاء المدَّخرون للإصلاح في الوعد الإلهي يجب أنْ لا يكون حبيس الحسِّ.
الأدلَّة والمعطيات الحسّيَّة في ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
الكثير من التساؤلات بأقلام الكُتَّاب السابقين واللَّاحقين من الكُتَّاب الإسلاميِّين يرفعون هذا الاعتراض, وهو: لماذا لا يكون في الإيمان والاعتقاد بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) معطية حسّيَّة؟
إنَّ المعطية الحسّيَّة موجودة فيما تناقلته وروته الإماميَّة من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في ظلِّ الظروف القاهرة الأمنيَّة الكابسة الخانقة من دولة بني

(٢٨٨)

العبَّاس, وهذا بيِّن لدى كلِّ المسلمين, أنَّ الدولة العبَّاسيَّة استقدمت الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري (عليهما السلام) من المدينة المنوَّرة, وأقامت عليهما رقابة عسكريَّة حتَّى في بيتهما، وفي بعض الأخبار الروائيَّة والتاريخيَّة التي يروونها أنَّ عشرة من جلاوزة وعلماء بلاط بني العبَّاس كانوا يمكثون في بيت الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) للرقابة, إلى هذا الحدِّ كان هناك استنفار أمني بدرجة قصوى لدى الدولة العبَّاسيَّة تجاه الإمام الحسن العسكري وتجاه الإمام الهادي (عليهما السلام), خمداً لأنفاس الإمامة حسب ما يتوهَّمون لإطفاء نور إمامة أهل البيت (عليهم السلام), وتحسُّباً من مجيء ولدهم الثاني عشر الموعود بأنْ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ضمن هذه الظروف القاهرة الخانقة الكابسة الظالمة لدولة عظيمة آنذاك, يقول: لِمَ لا تُبدي لي مسحة حسّيَّة ورديَّة؟! وكأنَّما هو يتنكَّر إلى المعطيات الموجودة التي أجمعت عليها البشريَّة والمسلمون آنذاك في ذلك الظرف التاريخي الخانق, ورغم ذلك هناك معطيات حسّيَّة كثيرة, لكن كيف يسوغ لمسلم يقرأ القرآن الكريم ويهتدي ويسترشد من القرآن الكريم أنْ يجعل من الحسِّ المحور الأوَّل والأخير ويترك الدلائل الوحيانيَّة البرهانيَّة الأُخرى؟ وهذا القرآن يُفنِّد اليهود والنصارى ويُضلِّلهم ويسلب عنهم الإيمان بسبب أنَّهم جعلوا الحسَّ مصدراً لمعرفتهم واعتقادهم وإنكارهم لبقاء حياة النبيِّ عيسى (عليه السلام)، وأنَّه صُفِّي وقُتِلَ وأُعدِمَ وأُبيد, وكان ذلك نتيجةً للركون إلى الحسِّ, والقرآن الكريم يقول: أتتكم البيِّنات في التوراة والإنجيل, وها هي في القرآن الكريم البيِّنات الوحيانيَّة التي هي أرفع شأناً ودرجةً وحجّيَّةً وبياناً ونوراً وهدًى من ضآلة مستوى الحسِّ, فالقرآن الكريم - كما مرَّ بنا - دائماً يُشدِّد النكير على حصر الاستناد إلى هذا المنهج المعرفي الخاطئ, بأنْ يستند الإنسان إلى مصدر معرفي نازل ويجعل منه المحور الأوَّل ويترك مصادر المعرفة العالية, رغم كلِّ ذلك فيأتي في مثل هذا

(٢٨٩)

القرن وفي قرون عديدة أُخرى من الكُتَّاب الإسلاميِّين من يقول: أين المعطيات الحسّيَّة؟! وهذا القرآن ينادي بأنَّ الحسَّ ليس هو كلُّ المصدر للمعرفة، وهلَّا قال: أين البيِّنات من القرآن؟ أو أين البيِّنات من الأحاديث النبويَّة؟ فربَّما يكفُّ عن الترنُّم واللهج بهذا الإشكال, لأنَّه يرى في الآيات القرآنيَّة وفي الأحاديث النبويَّة بيِّنات ساطعة ناصعة نيِّرة هادية إلى هذه العقيدة الشريفة, لكنَّه أخذته العزَّة بالإثم فيقول: ومن أحالك على غائب لم ينصفك, فكيف بمن أحالك على مستحيل(81)؟!
وهذا القرآن الكريم يُنبئنا عن أنَّ عمر النبيِّ نوح (عليه السلام) زاد على الألف، لأنَّ دعوته كانت ألف سنة إلَّا قليلاً, أمَّا حياته فأكثر من ذلك. وها هو القرآن الكريم يُنبئنا عن حياة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وبقائه عند الله (عزَّ وجلَّ) ونزوله للمشاركة والإسهام في دولة الإصلاح الشاملة في الكرة الأرضيَّة. ومع ذلك ترى التشرنق بشرنقات حسّيَّة ملبوسة يُجعَل منها الركن الأصيل لمنبع العقيدة, لو أتونا وناقشونا في الأحاديث النبويَّة الدالَّة, ولو أتونا وناقشونا في الأحاديث المتواترة,

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(81) قال الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء (ج 13/ ص 119 و120/ الرقم 60): (المنتظَر: الشريف، أبو القاسم، محمّد بن الحسن العسكري بن عليٍّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليٍّ الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن زين العابدين بن عليِّ بن الحسين الشهيد بن الإمام عليِّ بن أبي طالب، العلوي الحسيني. خاتمة الاثني عشر سيِّد الذين تدَّعي الإماميَّة عصمتهم - ولا عصمة إلَّا لنبيٍّ -، ومحمّد هذا هو الذي يزعمون أنَّه الخلف الحجَّة، وأنَّه صاحب الزمان، وأنَّه صاحب السرداب بسامرَّاء، وأنَّه حيٌّ لا يموت، حتَّى يخرج فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلِئَت ظلماً وجوراً. فوددنا ذلك - والله - وهم في انتظاره من أربع مائة وسبعين سنة، ومن أحالك على غائب لم ينصفك، فكيف بمن أحال على مستحيل؟! والإنصاف عزيز، فنعوذ بالله من الجهل والهوى)، هذا نصُّ كلامه.

(٢٩٠)

أو في البيِّنات القرآنيَّة على ذلك, لكنَّا نعمل به, أمَّا أنْ يتشدَّقوا ويتشرنقوا من خلال لفيف حسِّي محبوس, فهذا هو الذي يُخطِّئه القرآن الكريم, إذ يقول: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ (النساء: 157), هذا اختلاف جارٍ في الأُمَّة الآن, كالذي حصل من اختلاف في حياة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وظهوره وامتداد عمره, إذ هو مثل ضربه الله في القرآن للمهدي من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليكون لنا عظةً وعبرةً ومنهجيَّةً معرفيَّةً سطَّرها لنا لكي نحتذي ونتربَّى عليها, فلماذا ننبذ القرآن وراء ظهورنا؟ فتعالوا بنا نستمسك بالرؤية المنهجيَّة المعرفيَّة التي يرسمها القرآن الكريم لهيكلة العقل الإسلامي, فلا يمكن أنْ نُقزِّم العقل الإسلامي والعقل البشري في الإدراك الحسِّي وملابساته وهيولاه الهلاميَّة المحدودة, أبداً، بل لا بدَّ أنْ ننطلق إلى مصادر معرفيَّة كثيرة. ترى كثيراً من نقاشاتهم - وقد جُمِعَت - في كثير من المصادر تستند إلى وسوسات الحسِّ ومصادر حسّيَّة من القتل والإعدام والتصفية, وأنَّ الدولة العبَّاسيَّة كانوا في حصار آبائه وأجداده, فكيف إذن يتمكَّن من التخلُّص والتملُّص منهم؟! وما شابه ذلك من هذه الإشكالات التي ينبغي للمسلم أنْ ينأى عن البناء والتبنِّي والاستمساك بها.
فأحدهم يرى أنَّ الاعتقاد بالنبيِّ عيسى (عليه السلام) وحياته، وأنَّه سوف ينزل ويُظهره الله بعد هذا الأمد الطويل من تغييبه وبقاء حياته لإنجاء البشريَّة ما هو إلَّا تخدير! وهذه المقالة ليست حديثة, بل يتردَّد ويتشدَّق بها الكثير في الكُتُب القديمة في قبال العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), مع أنَّ هذا الارتباط والعقيدة بحياة وبقاء النبيِّ عيسى (عليه السلام) ونزوله وظهوره لمساندة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو برهان قرآني قويم, وهناك تقارن لهاتين العقيدتين اللتين هما عقيدتان قرآنيَّتان, بل هما عقيدة واحدة, ومع كلِّ ذلك يذهب إلى أنَّ الاعتقاد بحياة النبيِّ عيسى (عليه السلام)

(٢٩١)

وظهوره مخدِّر، ويقول بموته ويستدلُّ عليه بقوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ (آل عمران: 54 و55), فقد توفَّاه الله ومات, ولا تقع نجاة البشريَّة على يده ويد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في دولة الإصلاح الشامل, بل يجب أنْ لا نُخدِّر عزائمنا وهممنا وطاقاتنا وتفكيرنا بمثل هذه العقائد.
هذا القائل يريد أنْ يجحد ويُنكِر هذه العقيدة تحت ذريعة أنَّها عقيدة مخدِّرة عن الحيويَّة والحركة والنشاط والفعَّاليَّة, وأنَّ الاعتقاد بأنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) حيٌّ ليس له أصل, مع أنَّ كلمة ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ ليست بمعنى وفاة الموت، لأنَّ القرآن الكريم كما مرَّ بنا يستعمل الوفاة سواء في الحالة المناميَّة أو في حالة الموت المعهودة: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ (الزمر: 42), فيُطلِق عليه التوفِّي, فهذا التوفِّي هو نوع من حالة مناميَّة, باعتبار عروج النبيِّ عيسى (عليه السلام) في الفضاء يلازم نوعاً من الإرباك البدني أو الفسيلوجي, فحيطة من الله للنبيِّ عيسى (عليه السلام) جعلت له مثل حالة مناميَّة أو حالة المثاليَّة التي هي قريبة من حالة الموت, إلى أنْ رفعه إليه, وهو عند الله باقٍ, هذا القرآن الكريم يعدنا: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾ (النساء: 159), يعني أنَّ القرآن الكريم يعد بظهور ونزول النبيِّ عيسى (عليه السلام), وكذلك في سورة (الزخرف: 57 - 61): ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ...﴾, إلى أنْ تقول الآيات: ﴿وَإِنَّهُ﴾ يعني ابن مريم النبيُّ عيسى (عليه السلام), ﴿لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾, فجعل نزول النبيِّ عيسى (عليه السلام) علماً للساعة, وهذه أحاديث الفريقين المتواترة في ذلك, وهذه الآيات المتعدِّدة الدالَّة على ذلك, وهذه عقيدة أصيلة في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبويَّة, بل وفي التوراة والإنجيل أيضاً.

(٢٩٢)

فهذا التنكُّر والجحود لهذه العقيدة من هذا القائل, وهذه المقالة كما مرَّ مذكورة في كُتُب قديمة عديدة, نظراً لما وجدوه من الصلة الوطيدة الوثيقة بين الاعتقاد بحياة النبيِّ عيسى (عليه السلام) وظهوره باعتباره مصلحاً معدًّا ومدَّخراً من قِبَل الله تعالى مع العقيدة بحياة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبقائه وخفائه وإعداده الإلهي ليكون مصلحاً في نهاية المطاف للبشريَّة, وإنْ كان هو يمارس دوره إلى الآن في ظلِّ الخفاء والسرّيَّة.
وأمَّا إشكاليَّة الخمود أو إشكاليَّة التخدير والخدر والتسويف الذي ربَّما ينتاب الأُمَّة نتيجة الاعتقاد بهذه العقيدة, فهذا توهُّم بارد, وهذا مقال كاسد، لأنَّ هذه العقيدة ليست هي مصدراً ومبعثاً للخمود, بالعكس فهي منطلق ومنشأ للحركة والحيويَّة ولبقاء الأمل، وعدم اليأس، وعدم الإحباط, وأنْ يكون الإنسان دوماً في ضخِّ أمل رحب واسع الأُفُق ينطلق فيه، لأنَّ المنهج في سُنَّة الله في الإصلاح لا على الجبر ولا على التفويض, والسرُّ والحكمة الإلهيَّة في جعل سُنَن التغيير الاجتماعي والإصلاح الاجتماعي في الأمر بين الأمرين لأنَّه لو كانت جبريَّة أوجبت التخدير والخمود, وأنَّ الله هو الذي يفعل كلَّ شيء, وبالتالي ليست هناك مسؤوليَّة ملقاة على عاتق الأُمَّة لتقوم بدورها في الإصلاح والإعداد للإصلاح العالمي الشامل الإلهي. وإنْ كان تفويضاً فسوف يُسبِّب الجمود والخدر والإحباط, لأنَّه إذا كانت المعطيات هي بمقدار ما هو موجود في أيدي البشر والمجتمعات البشريَّة, فإذا تغلَّب الظالمون وتغلَّبت تلك الأنظمة الجائرة والرأسماليَّة والإقطاعيَّة وتغلَّبت قوى الشرِّ، ولم يكن هناك من منفِّس فالمفروض أنَّه ليس بيد الله أيُّ إسهام - والعياذ بالله -، فلو افترضنا هذه المقالة, فالتفويض أيضاً سوف يُسبِّب انقطاع الأمل والإحباط. وهذا على خلاف القول بأنَّه لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين أمرين, هذه ديناميكيَّة محرِّكة حيويَّة دائماً

(٢٩٣)

للقيام بالمسؤوليَّة, ولعدم التخاذل وعدم التهرُّب من ساحة المسؤوليَّة وساحة الحدث.
فالاعتقاد بعقيدة الإمام المهدي وعقيدة النبيِّ عيسى (عليهما السلام)، وأنَّهما حيَّان في قدرة الله، وأنَّهما معدَّان ومدَّخران للإصلاح الإلهي العامِّ الشامل الكبير, هذا الطابع وهذا المجال في الحقيقة لا يدعو إلى التخدير, وإنَّما يكون مبعثاً للأمر ومنطلقاً لفسح رحب الأُفُق, وبالتالي يكون هناك نوع من الدور المتزاوج البشري والإلهي في إعطاء مسار التغيير يد إسهام فيه, فلا تفويض ولا جبر، وهذه هي نظريَّة وعقيدة مدرسة أهل البيت (عليهم السلام), ليست فقط في الفعل الفردي, بل حتَّى في الفعل الاجتماعي كما مرَّ أنَّ الإصلاح لا يرسمه القرآن الكريم، أو ترسمه الأحاديث النبويَّة، أو ترسمه الكُتُب السماويَّة بأنَّه نحو إلجاء وإكراه من الله وبـ (كن فيكون), فليس من سُنَن الله ذلك, بل سُنَن الله أنَّه أمر بين أمرين, إسهام من السماء, وإسهام بشري أيضاً في الإصلاح البشري, وليس تفويضاً يُوكِل إلى البشر لكي يحبط أو ييأس عند عجزهم، لأنَّه لا معين ولا ناصر لهم, ولا هو إلجاء.
إذن هذه الحالة الحيويَّة الناشطة وهذه الحالة المتحرِّكة باعثة دائماً النشاط وعدم اليأس وعدم الاغترار بعجز النفس أو عجز البشر, بل هي أمر بين أمرين, فالحيويَّة إذن كامنة في الاعتقاد بعقيدة الإمام المهدي وظاهرة النبيِّ عيسى (عليهما السلام).
المحطَّة الخامسة: الهجرة عن الفساد:
بعد ذلك يواصل لنا القرآن الكريم محطَّة مهمَّة في ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام), وهي الظاهرة السادسة, وهذه المحطَّة ربَّما نقتصر بجعلها الأخيرة في ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام), وإنْ كانت هناك محطَّات عديدة يمكن للباحث

(٢٩٤)

والمحقِّق والمتدبِّر أنْ يجدها في ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام)، وهي محطَّات أُخرى لها اتِّصال وثيق بالعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحياته وظهوره ودولة الإصلاح الشامل, ولكن نقتضب الحديث ونقتصر على ما تقدَّم, وما نذكره من هذه المحطَّة الأخيرة التي تتناولها الآية الكريمة: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: 158)، هذه المحطَّة تفتح علينا ظاهرة سابعة مشتركة في جميع الأنبياء (عليهم السلام), وسوف نقوم بالخوض فيها، وهي ظاهرة الهجرة عن المجتمعات الفاسدة, والغياب الحسِّي عنها، قال تعالى: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾.
هذه السُّنَّة التي تتعرَّض إلى بيانها الآية الكريمة من رفع النبيِّ عيسى (عليه السلام) في آية أُخرى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (آل عمران: 55)، هنا تُبيِّن الآية حكمة رفع النبيِّ عيسى (عليه السلام) وإبقائه على قيد الحياة إلى أنْ يحلَّ أوان الظهور والنزول والإصلاح الشامل, وهو تطهير الله لأنبيائه ورُسُله وخلفائه الأئمَّة (عليهم السلام) عن التلوُّث بالبيئة الفاسدة الظالمة المنحرفة، فالسرُّ والسبب الكبير المبيَّن في القرآن الكريم لغيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام) هو أنْ لا يتلوَّث بدرن النظام الاجتماعي الظالم الكافر, وهنا يُبيِّن القرآن الكريم بأنَّ الشخص في السُّنَّة الإلهيَّة الذي هو حجَّة من حُجَج الله والموعود بأنْ يقوم بالإصلاح الشامل لا ينصاع ويتكبَّل ويتقيَّد بأغلال وأدران النظام الظالم، لأنَّ هذا التكبُّل بهذه القيود وهذا الانحباس في ظلِّ هذه المنظومة الفاسدة من النظام غير العادل والنظام الذي لا يسير مسار العدالة السماويَّة يعتبره القرآن الكريم بيئة فاسدة وبيئة فيها رجس, والمفروض في سُنَّة الله كما تُبيِّنه الآيات الكريمة كمثل وكآية للنبيِّ عيسى (عليه السلام), حيث وعد البشر وبشَّرهم في التوراة والإنجيل والزبور وفي القرآن الكريم بمساهمة النبيِّ عيسى (عليه السلام): ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ (الزخرف: 61), كما قرأناه

(٢٩٥)

في الآية السابقة, وأيضاً في هذه الآية: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ (النساء: 159), وعد إلهي بنزول النبيِّ عيسى (عليه السلام) ومشاركته في الإصلاح, وآيات كثيرة تتعرَّض إلى ذلك في بيانات القرآن الكريم, وبالضبط هذه السُّنَّة الإلهيَّة في ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) قد بيَّنها أهل البيت (عليهم السلام) في أحد العِلَل والحِكَم المهمَّة الكبرى في غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وهو أنَّه إذا ظهر لا تكون في عنقه بيعة لحاكم ظالم(82), فيبدأ بدولة الإصلاح.
إذن هذه سُنَّة قرآنيَّة, وهي الغيبة للموعود بدورهم في الإصلاح, سُنَّة إلهيَّة أصيلة وعقديَّة مصدرها القرآن, وهذا يفتح لنا الباب على ظاهرة سابعة في جميع الأنبياء (عليهم السلام), فندخل في هذه الظاهرة السابعة من الظواهر القرآنيَّة المتَّصلة والمرتبطة بظاهرة العقيدة المتَّصلة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(82) روى الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 480/ باب 44/ ح 4) بسنده عَنْ عَلِيِّ بْنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى اَلرِّضَا (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «كَأَنِّي بِالشِّيعَةِ عِنْدَ فَقْدِهِمُ اَلثَّالِثَ مِنْ وُلْدِي كَالنَّعَمِ يَطْلُبُونَ اَلمَرْعَى فَلَا يَجِدُونَهُ»، قُلْتُ لَهُ: وَلِمَ ذَاكَ، يَا اِبْنَ رَسُولِ اَلله؟ قَالَ: «لِأَنَّ إِمَامَهُمْ يَغِيبُ عَنْهُمْ»، فَقُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: «لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ إِذَا قَامَ بِالسَّيْفِ».

(٢٩٦)

يُبيِّن القرآن الكريم ويُبرز لنا أنَّ النبيَّ إبراهيم (عليه السلام) حينما أراد أنْ يقوم بمشروع الإصلاح الإلهي, استعصى عليه المجتمع النمرودي والنظام النمرودي, فأخذ موقع الانسحاب في السطح الظاهر، وليس انسحاباً في الواقع، لأنَّه (عليه السلام) لم يترك مجتمعات الشرق الأوسط سدًى وعبثاً, بل استطاع أنْ يُحوِّلها من الوثنيَّة إلى الملَّة الحنيفيَّة, وهذا مشروع جبَّار جدًّا, فانسحب كما نُسمِّيه انسحاباً تكتيكيًّا أو تدبيريًّا مؤقَّتاً بتوقيت من الله (عزَّ وجلَّ), سواء طال أمده كما في النبيِّ نوح (عليه السلام) أو لم يطل كما في غيره من الأنبياء (عليهم السلام)، المهمُّ أنَّه في سُنَن الله تعالى أنَّه في السطح الحسِّي المعلن الظاهر قد ينسحب المصلح ويغيب ويهاجر بحسب الإدراك الحسِّي, أو بحسب الحياة المعتادة المبصرة بأدوات الحسِّ, وإنْ كان هو ليس بغائب في الحقيقة, فهنا أيضاً يستعرض لنا القرآن الكريم هجرة وغيبة النبيِّ إبراهيم (عليه السلام), وإنْ كانت هي غيبة نسبيَّة وليس غيبة مطلقة كما في النبيِّ عيسى (عليه السلام) أو في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), فما يقصُّه لنا القرآن الكريم حول النبيِّ إبراهيم (عليه السلام): ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ (مريم: 48), فعندما يُستعصى المجتمع للإصلاح في السُّنَّة الإلهيَّة يتَّخذ المصلح دور الانسحاب في الظاهر, كي لا يُصفَّى أو يُباد أو يُسلَّم بأيدي جلاوزة نُظُم الشرِّ، فالنبيُّ إبراهيم (عليه السلام) اتَّخذ أُسلوب الغيبة النسبيَّة، وهو أُسلوب الهجرة. ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ﴾ هو نفس التعبير الذي مرَّ في سورة (الصافَّات: 99): ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ﴾, وهذا ليس انكفاءً وانحساراً حقيقيًّا من أنبياء الله والمصلحين كما يروق للبعض أنْ يقول: أين الإمام وخليفة النبيِّ الثاني عشر المعدُّ للإصلاح؟ وكيف ينكفئ أو ينحسر

(٢٩٩)

عن أداء المسؤوليَّة؟ وإنَّما هو تدبير وتكتيك من النشاط في السطح المعلن إلى النشاط الخفي, كي يُفسَح له المجال بشكل أرحب وأوسع ليمارس أداء دوره, فهذه سُنَّة إلهيَّة في كلِّ الأنبياء (عليهم السلام), كما في النبيِّ إبراهيم (عليه السلام), ومرَّ بنا في النبيِّ عيسى (عليه السلام). فلمَّا اعتزلهم وما يعبدون أيَّده بالنصر الإلهي، لأنَّ أسباب القوى ومعادلات القوَّة تجتمع وتتركَّز لديه في حركته وانطلاقه ونشاطه وأدائه, بخلاف ما يكون علناً ومكبَّلاً ومقيَّداً, وهذه نظريَّة أمنيَّة في السُّنَّة الإلهيَّة للأنبياء والرُّسُل والمصلحين الإلهيِّين يُبيِّنها القرآن الكريم, وهي الآن في البشريَّة أصبحت من أبجديَّات العلم السياسي والعلم الأمني والعلم الإستراتيجي.
وكذلك في سورة العنكبوت ترد الهجرة والغيبة النسبيَّة للنبيِّ إبراهيم (عليه السلام): ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ (العنكبوت: 26), انكفاء وانحسار سطحي في الحسِّ المعلن, لا في الحقيقة, وإلَّا فالنبيُّ إبراهيم (عليه السلام) عاد بعد ذلك مظفراً مؤيَّداً منصوراً بأنْ قَلَبَ المجتمعات في الشرق الأوسط وبما فيها العراق أيضاً من الملَّة الوثنيَّة إلى الملَّة الحنيفيَّة المسلمة, وهذا عمل عظيم جبَّار قام به شيخ الأنبياء وهو النبيُّ إبراهيم (عليه السلام), ولا تستطيع مئات وعشرات الدول أنْ تقلب عادات وأعراف المجتمعات فضلاً عن عقيدتها. ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124), إذن هو قد أَمَّ الناس, لكن بالتدبير تحت السطح وبالتدبير الخفي, لا بالتدبير المعلن حتَّى لا يُكبَّل حينذاك بأغلال وبمقاومة وبتصفية أنظمة الشرِّ, فكانت النتيجة النصر والظفر المؤيَّد من قِبَل الله تعالى في إنجاز هذا المشروع الإلهي الكبير.
فهذه سُنَن يستعرضها لنا القرآن الكريم دواليك متتالية في الأنبياء والرُّسُل، للتدليل على أنَّ هذه سُنَّة إلهيَّة متكرِّرة دائبة دائمة, يُكرِّرها القرآن الكريم لنا في النبيِّ إبراهيم وفي النبيِّ موسى وفي النبيِّ عيسى وختاماً بالمهدي

(٣٠٠)

المنتظَر (عليهم السلام). وكذلك في النبيِّ يونس (عليه السلام) عندما استعصى عليه مجتمعه في الإصلاح, فابتعد (عليه السلام) عنهم, ولكنَّها لم تكن هجرة, بل كانت متاركة, وإنَّما يتلو الهجرة عودة للإصلاح, ﴿فَلَوْ لَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ (يونس: 98), وفي سورة الصافَّات حول النبيِّ يونس (عليه السلام): ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ...﴾, إلى أنْ تقول الآيات الكريمة: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ﴾ تجديد الدور والقيام بالمسؤوليَّة أكثر: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ (الصافَّات: 139 - 148), وهذه ظاهرة أُخرى في نبيٍّ رابع يستعرضها لنا القرآن الكريم, وهي هجرة وغيبة النبيِّ يونس (عليه السلام), كما هاجر وغاب النبيُّ عيسى والنبيُّ موسى والنبيُّ إبراهيم (عليهم السلام), وهناك سلسلة من الأنبياء أيضاً على هذا المنوال.
الهجرة والغياب الحسِّي عن المجتمعات الفاسدة:
هذه الظاهرة السابعة التي نحن فيها هي من الظواهر القرآنيَّة العظيمة التي بيَّنها الله (عزَّ وجلَّ) في قرآنه الكريم, وهي دلائل نيِّرة وبيِّنة على ما امتُحِنَ به المسلمون والمؤمنون, محن اعتقاديَّة وعقيديَّة في ظلّ وظرف قرون متطاولة من غيبة آخر العترة النبويَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), والتي هي عقيدة يُؤاخَذ عليها ويُحاسَب عليها كلُّ مسلم وكلُّ مؤمن بما سطر الله (عزَّ وجلَّ) وشيَّد ودلَّل وعزَّز بيِّنات ودلائل وآيات هذه العقيدة في قرآنه الحكيم, وهي من الدلائل على إمامة أهل البيت (عليهم السلام) ولاسيَّما الإمام الثاني عشر الذي وعد الباري تعالى بأنْ يُظهر على يديه الدِّين كلَّه في أرجاء الأرض كافَّة ولو كره الكافرون والمشركون, هذا الوعد

(٣٠١)

الإلهي العظيم سيكون إنجازه على يد المهدي من ذرّيَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وولد فاطمة وعليٍّ (عليهما السلام), فالعقيدة بحياته وببقائه في ظلِّ هذه القرون وفي العصر الراهن كما بيَّن لنا القرآن الكريم في الظاهرة السادسة التي مرَّ استعراضها في النبيِّ عيسى (عليه السلام), وأنَّ القرآن آخَذَ اليهود والنصارى وسلب عنهم الإيمان على مقالتهم بتصفية وإبادة النبيِّ عيسى (عليه السلام), أي محاسبتهم على عدم القول ببقاء حياة هذا الموعود به ليكون له دور في دولة الإصلاح الشامل دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فالعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحياته إذن عقيدة في صلب الإيمان بصدق الوعد الإلهي بأنْ يُظهر هذا الدِّين على الدِّين كلِّه على أرجاء الأرض كافَّة, فبأهل البيت (عليهم السلام) يختم الله عواقب الأُمور ويُصلحها ويُفشي القسط والعدل في أرجاء الأرض كافَّة.
وقد أقام القرآن الكريم على هذه العقيدة شواهد عديدة في سُنَن الأنبياء (عليهم السلام), ومرَّ بنا استعراض ستِّ ظواهر, ودخلنا في الظاهرة السابعة التي هي متَّصلة ومرتبطة بالظاهرة السادسة, وهي من ظواهر القرآن الكريم للدلالة على العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته, وهي ظاهرة هجرة الأنبياء (عليهم السلام) كسُنَّة مشتركة, فكما مرَّ في الظاهرة السادسة في آخر محطَّة من رفع الله تعالى للنبيِّ عيسى (عليه السلام) وإبعاده عن مكر وكيد اليهود: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: 158), وأيضاً في قوله تعالى: ﴿وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (آل عمران: 55), وقد تكرَّر نفس هذا المطلب في النبيِّ إبراهيم (عليه السلام) عندما هاجر وغاب نسبيًّا عن المجتمع النمرودي، عندما كان موقف قومه في قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ (العنكبوت: 24), هنا عندما يستعصي النظام الاجتماعي السياسي على

(٣٠٢)

المصلح الإلهي، يبدأ المجتمع بخطَّة الإبادة والتصفية لوليِّ الله وحجَّته, فمن ثَمَّ يكون التدبير الإلهي في الانكفاء الظاهري, أي في الانكفاء بحسب الصورة الظاهرة وليس بحسب الواقع, نظير ما يذكره القرآن الكريم من تحريم الفرار من القتال أو الإدبار بدل الكرِّ على الجبهة المقابلة إلَّا متحرِّفاً, فيقول: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ (الأنفال: 16), يعني قد يستدبر المقاتل والمقاوم, ولكن ليس لأجل التقاعس, وليس لأجل الفرار, وإنَّما لأجل التحرُّف, أي التدبير ورسم الخطَّة من جديد لأجل القيام بهذه المهمَّة والمسؤوليَّة, فهذا في الواقع ليس انكفاءً ولا انحساراً حقيقةً ولا غياباً حقيقة, وإنَّما هو تدبير جدِّي جهدي أكثر جدّيَّة وقوَّة وصرامة وجدوائيَّة في القيام بالمسؤوليَّة. وبعد أنْ رأى قومه أنْ يقتلوه أو يُحرِّقوه قال: ﴿إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (العنكبوت: 26), هنا استشهد النبيُّ إبراهيم (عليه السلام) في هجرته وغيبته عن المجتمع النمرودي لحفظ نفسه ولإنجاز التدبير بشكل أكثر فاعليَّة وفي خفاء, استشهد بعزَّة الله وحكمته وقدرته, يعني أنَّ من عِزِّ قدرة الله في تدبير الأُمور للمصلحين الإلهيِّين وحكمته أنْ ينكفئوا بحسب الظاهر, وإنْ كانوا بحسب الواقع مقبلين مقدمين لأجل الإنجاز بشكل أكثر جدوائي وأكثر قوَّة للمهمَّة الموكَّلة إليهم, هذا ما مرَّ في النبيِّ إبراهيم (عليه السلام).
فكما أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) في رفعه للنبيِّ عيسى (عليه السلام) استشهد بأنَّ ذلك من عزَّة ومنعة قدرة الله: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: 158).
إذن هذه الهجرة والسُّنَّة للغياب سُنَّة مشتركة في الأنبياء (عليهم السلام), ليس لأجل

(٣٠٣)

الفرار كما قد يتخيَّل المتخيِّلون, وإنَّما لأجل معاودة الإقدام بتدبير أكثر قوَّة وأكثر فاعليَّة.
وكذلك في ما استعرضه لنا القرآن الكريم في النبيِّ موسى (عليه السلام): ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ (القَصَص: 21), هذا الخروج ليس خروج هروب وتقاعس وإلى الأبد, وإنَّما لأجل استعادة القوَّة ونظم القوَّة والتدبير, لكي يكون الإقدام اللَّاحق إقداماً مؤثِّراً. كذلك ما قصَّته سورة (الشعراء: 21): ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الشعراء: 21).
وفي يونس (عليه السلام) أيضاً مرَّت الآيات الكريمة أنَّه عندما خرج من قومه عندما استعصوا عليه عاود في التدبير الإلهي: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ (الصافَّات: 147 و148). وأيضاً كانت هجرة النبيِّ يونس (عليه السلام) وغيابه عنهم نوعاً من التدبير أيضاً, بحيث آل بهم الأمر إلى الإيمان: ﴿فَلَوْ لَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ (يونس: 98).
فهذه هي سيرة متكرِّرة في الأنبياء (عليهم السلام), وكذلك في سيرة سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وإنْ كانت هذه يمكن اعتبارها ظاهرة ثامنة, ولكن بشكل مشترك نريد أنْ نُسلِّط الضوء على الجهة التي يتساوى عندها الأنبياء (عليهم السلام).
نلاحظ أيضاً في سيرة سيِّد الأنبياء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هجرته عندما أرادت قريش أنْ تبيده وتُصفِّيه, فهنا كانت سُنَّة الله وهي الهجرة, وقبل هجرته غاب في الغار (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثلاثة أيَّام, إلى أنْ أذن الله له بالظهور والخروج, فهذا ليس انكفاءً وانحساراً وفراراً حقيقةً, وإنَّما هو استعادة تدبير واستعادة قوى ونظم برمجي

(٣٠٤)

لنفس القيام بمسؤوليَّة ومسار أداء الواجب الإلهي وإنجاز الأهداف الإلهيَّة. وكذلك في أمر النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المسلمين بالهجرة إلى الحبشة, وكانت مؤقَّتة. وكذلك إخفاء النبيِّ للدعوة الإسلاميَّة إلى أنْ أمره الله (عزَّ وجلَّ) بأنْ يصدع بالأمر.
فنرى أنَّ هناك سُنَّة إلهيَّة مشتركة في جميع الأنبياء هي الهجرة أو الغياب, وهي في الحقيقة إعادة إقدام بشكل قوي مدبَّر, ولكي ينجز الظفر والنصر, طالت هذه الهجرة أم قصرت, كما في النبيِّ عيسى (عليه السلام) فهي قد طالت إلى الآن, لكن بتدبير من الله وحكمة, وكما في النبيِّ نوح (عليه السلام), حيث تستعرض لنا رواية أُخرى عنهم (عليهم السلام) إبطاء نوح (عليه السلام)، وأنَّه لـمَّا استنزل العقوبة على قومه من السماء بعد أنْ طال الأمد, أسفر الصبح عن الليل, وصرح الحقُّ عن محضه, وصفي الإيمان من الكدر, ليصدق وعده بأنْ يستخلف في الأرض الذين أخلصوا التوحيد والإيمان واعتصموا بحبل الولاء، ويُمكِّن لهم دينهم(83), يعني هناك سُنَّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(83) روى الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 352 - 357/ باب 33/ ح 50) بسنده عَنْ سَدِيرٍ اَلصَّيْرَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله اَلصَّادِقِ (عليه السلام)، قَالَ: «... وَأَمَّا إِبْطَاءُ نُوحٍ (عليه السلام)، فَإِنَّهُ لَـمَّا اِسْتُنْزِلَتِ اَلْعُقُوبَةُ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ اَلسَّمَاءِ بَعَثَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) اَلرُّوحَ اَلْأَمِينَ (عليه السلام) بِسَبْعِ نَوَيَاتٍ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اَلله، إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لَكَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ خَلَائِقِي وَعِبَادِي وَلَسْتُ أُبِيدُهُمْ بِصَاعِقَةٍ مِنْ صَوَاعِقِي إِلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ اَلدَّعْوَةِ وَإِلْزَامِ اَلْحُجَّةِ، فَعَاوِدِ اِجْتِهَادَكَ فِي اَلدَّعْوَةِ لِقَوْمِكَ، فَإِنِّي مُثِيبُكَ عَلَيْهِ، وَاِغْرِسْ هَذِهِ اَلنَّوَى، فَإِنَّ لَكَ فِي نَبَاتِهَا وَبُلُوغِهَا وَإِدْرَاكِهَا إِذَا أَثْمَرَتِ اَلْفَرَجَ وَاَلْخَلَاصَ، فَبَشِّرْ بِذَلِكَ مَنْ تَبِعَكَ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا نَبَتَتِ اَلْأَشْجَارُ وَتَأَزَّرَتْ وَتَسَوَّقَتْ وَتَغَصَّنَتْ وَأَثْمَرَتْ وَزَهَا اَلتَّمْرُ عَلَيْهَا بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ اِسْتَنْجَزَ مِنَ اَلله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اَلْعِدَةَ، فَأَمَرَهُ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَغْرِسَ مِنْ نَوَى تِلْكَ اَلْأَشْجَارِ وَيُعَاوِدَ اَلصَّبْرَ وَاَلْاِجْتِهَادَ وَيُؤَكِّدَ اَلْحُجَّةَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ اَلطَّوَائِفَ اَلَّتِي آمَنَتْ بِهِ، فَارْتَدَّ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ نُوحٌ حَقًّا لَـمَا وَقَعَ فِي وَعْدِ رَبِّهِ خُلْفٌ. ثُمَّ إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ يَأْمُرُهُ عِنْدَ كُلِّ مَرَّةٍ بِأَنْ يَغْرِسَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِلَى أَنْ غَرَسَهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ اَلطَّوَائِفُ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ تَرْتَدُّ مِنْهُ طَائِفَةٌ بَعْدَ طَائِفَةٍ إِلَى أَنْ عَادَ إِلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ رَجُلاً، فَأَوْحَى اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَقَالَ: يَا نُوحُ، اَلْآنَ أَسْفَرَ اَلصُّبْحُ عَنِ اَللَّيْلِ لِعَيْنِكَ حِينَ صَرَّحَ اَلْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ وَصَفَا اَلْأَمْرُ وَاَلْإِيمَانُ مِنَ اَلْكَدَرِ بِارْتِدَادِ كُلِّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ خَبِيثَةً، فَلَوْ أَنِّي أَهْلَكْتُ اَلْكُفَّارَ وَأَبْقَيْتُ مَنْ قَدِ اِرْتَدَّ مِنَ اَلطَّوَائِفِ اَلَّتِي كَانَتْ آمَنَتْ بِكَ لَمَا كُنْتُ صَدَّقْتُ وَعْدِيَ اَلسَّابِقَ لِلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ أَخْلَصُوا اَلتَّوْحِيدَ مِنْ قَوْمِكَ وَاِعْتَصَمُوا بِحَبْلِ نُبُوَّتِكَ بِأَنْ أَسْتَخْلِفَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَأُمَكِّنَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَأُبَدِّلَ خَوْفَهُمْ بِالْأَمْنِ لِكَيْ تَخْلُصَ اَلْعِبَادَةُ لِي بِذَهَابِ اَلشَّكِّ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَكَيْفَ يَكُونُ اَلْاِسْتِخْلَافُ وَاَلتَّمْكِينُ وَبَدَلُ اَلْخَوْفِ بِالْأَمْنِ مِنِّي لَهُمْ مَعَ مَا كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِ اَلَّذِينَ اِرْتَدُّوا وَخُبْثِ طِينَتِهِمْ وَسُوءِ سَرَائِرِهِمُ اَلَّتِي كَانَتْ نَتَائِجَ اَلنِّفَاقِ وَسُنُوحَ اَلضَّلَالَةِ، فَلَوْ أَنَّهُمْ تَسَنَّمُوا مِنِّي اَلْمُلْكَ اَلَّذِي أُوتِي اَلمُؤْمِنِينَ وَقْتَ اَلْاِسْتِخْلَافِ إِذَا أَهْلَكْتُ أَعْدَاءَهُمْ لَنَشَقُوا رَوَائِحَ صِفَاتِهِ وَلَاسْتَحْكَمَتْ سَرَائِرُ نِفَاقِهِمْ [وَ]تَأَبَّدَتْ حِبَالُ ضَلَالَةِ قُلُوبِهِمْ وَلَكَاشَفُوا إِخْوَانَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ وَحَارَبُوهُمْ عَلَى طَلَبِ اَلرِّئَاسَةِ وَاَلتَّفَرُّدِ بِالْأَمْرِ وَاَلنَّهْيِ، وَكَيْفَ يَكُونُ اَلتَّمْكِينُ فِي اَلدِّينِ وَاِنْتِشَارُ اَلْأَمْرِ فِي اَلمُؤْمِنِينَ مَعَ إِثَارَةِ اَلْفِتَنِ وَإِيقَاعِ اَلْحُرُوبِ، كَلَّا، وَاِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا»، قَالَ اَلصَّادِقُ (عليه السلام): «وَكَذَلِكَ اَلْقَائِمُ، فَإِنَّهُ تَمْتَدُّ أَيَّامُ غَيْبَتِهِ لِيُصَرِّحَ اَلْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَيَصْفُوَ اَلْإِيمَانُ مِنَ اَلْكَدَرِ بِارْتِدَادِ كُلِّ مَنْ كَانَتْ طِينَتُهُ خَبِيثَةً مِنَ اَلشِّيعَةِ اَلَّذِينَ يُخْشَى عَلَيْهِمُ اَلنِّفَاقُ إِذَا أَحَسُّوا بِالْاِسْتِخْلَافِ وَاَلتَّمْكِينِ وَاَلْأَمْنِ اَلمُنْتَشِرِ فِي عَهْدِ اَلْقَائِمِ (عليه السلام)».

(٣٠٥)

إلهيَّة في الامتحان البشري, بأنَّ برنامج الإصلاح للسطح الظاهر يتمُّ بنحو التدريج وبنحو خفي, إلى أنْ ينتهي به المآل أنْ يظهر إلى العلن, وهذه أيضاً سُنَّة وحكمة يستعرضها لنا القرآن الكريم في النبيِّ نوح (عليه السلام).
وهذه الظواهر السبعة القرآنيَّة, ونحن في الظاهرة السابعة من هجرة الأنبياء (عليهم السلام) وغيبتهم عن مجتمعاتهم لئلَّا يُكبَّلوا بالقيود والأعراف الظالمة السياسيَّة لتلك المجتمعات التي تقع على عاتقهم وكاهلهم مسؤوليَّة إصلاحها

(٣٠٦)

وإقامة الصلاح والإصلاح فيهم, أقام الله (عزَّ وجلَّ) الظواهر القرآنيَّة العديدة كآيات مغزاها الشهادة لهذه العقيدة. مضافاً إلى الاعتقاد بنبوَّات الأنبياء السابقين وأدوارهم, لذلك عندما يستعرض القرآن الكريم في سورة الزخرف أنَّ النبيَّ عيسى (عليه السلام) سيكون من رموز الإصلاح في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾ أي النبيُّ عيسى (عليه السلام)، ﴿فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا﴾ (الزخرف: 61), بما تفيض الآيات وتبدي الآيات, وهذا الخطاب الإلهي قبل ذلك: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾ (الزخرف: 57).
فمن البيِّن الظاهر أنَّ استعراض الله (عزَّ وجلَّ) للأنبياء (عليهم السلام) مضافاً إلى حكمة لزوم وجوب الاعتقاد بنبوَّاتهم وبرسالاتهم وبمبادئ التوحيد والعقيدة التي بُعِثُوا بها, يفيدنا القرآن وينادي بأنَّ استعراضه لهم ولظواهرهم هو لحكمة إلهيَّة, والدواعي لهذه الحكمة الإلهيَّة هي كونهم أمثالاً لما يُبتلى به جمهور هذه الأُمَّة وأجيال هذه الأُمَّة الإسلاميَّة من وظائف اعتقاديَّة, وأمثالاً لما تُمتحَن به هذه الأُمَّة من محاور عقائديَّة, وأيُّ محنةٍ الآن أعظم من هذه المحنة والامتحان الذي امتُحِنَ به المسلمون، وامتُحِنَ به المؤمنون في أنْ يعتقدوا بوجود العترة المقرونة كثقل مع القرآن وعِدل له، وهم أصحاب الفيء، وأصحاب الخُمُس، وأصحاب دعوة إبراهيم (عليه السلام) في ذرّيَّته من الإمامة من نسل إسماعيل (عليه السلام)، وأصحاب كثير من الأوسمة القرآنيَّة التي تستعرضها طوائف آيات القرآن الكريم, وأنَّهم المطهَّرون الذين يمسُّون الكتاب, وأنَّ الله سيجري على أيديهم وعده بإفشاء العدل والقسط في الأرض وإظهار الدِّين, هذه عقيدة قرآنيَّة أصيلة, وهي من الامتحانات والمحن العقائديَّة الكبرى، ذكر القرآن الكريم هذه الفرائض الاعتقاديَّة، وأقام الله (عزَّ وجلَّ) المثال والظواهر والشواهد لها, مضافاً إلى لزوم الاعتقاد بهذه الأُمور وبنبوَّات الأنبياء (عليهم السلام).

(٣٠٧)

يستعرض القرآن الكريم حكمة أُخرى وذلك في قوله: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً﴾ (الزخرف: 57), أنَّ ذكر النبيِّ عيسى (عليه السلام), بل جميع الأنبياء السابقين (عليهم السلام) فيما جرى عليهم من أحوال وأحداث وسُنَن, إلى جانب الفريضة الأُولى الأصليَّة في الاعتقاد بهم وبنبوَّاتهم, هناك حكمة أُخرى ثانية، وهي أنَّهم مثل ضُرِبَ لما يُبتلى به المسلمون أيضاً في عقائدهم بالحُجَج المنصوبين عليهم من قِبَل الله تعالى, فهذا صريح القرآن يقول: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً﴾, في نفس الآيات التي تستعرض أنَّ عيسى (عليه السلام) سوف ينزل ويظهر لدولة الإصلاح في سورة (الزخرف: 61): ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (الزخرف: 61), فليستيقظ هؤلاء الذين يصدُّون عن التدبُّر في ظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام)، كمثل لما يلزم عليهم الاعتقاد به في شريعة خاتم المرسَلين (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وما الشيء الذي يشابه في شريعة خاتم المرسَلين (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لظاهرة النبيِّ عيسى (عليه السلام) من غيبته وحماية وحراسة الله له؟ ألَا وهي ظاهرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من طول غيبته, كطول غيبة النبيِّ عيسى (عليه السلام)، وحراسة الله له وإعداده وادِّخاره للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ليقوما بدولة الإصلاح, وكذلك في جميع الأنبياء (عليهم السلام) في الظاهرة السابعة التي نحن فيها من هجرتهم وغيبتهم وانكفائهم في الظاهر عن مسرح الأحداث ليقدموا مرَّة أُخرى في التدبير وإنجاز الوعد الإلهي.
ومرَّ بنا في هجرة النبيِّ إبراهيم (عليه السلام)، أنَّ قيام النبيِّ إبراهيم (عليه السلام) بهذا الإنجاز الحضاري المخلَّد، وهو الملَّة الحنيفيَّة التي لا زالت تركة إلهيَّة عظيمة ورثتها البشريَّة إلى يومنا هذا, فالأديان السماويَّة الباقية هي كلُّها متشعِّبة من الملَّة الحنيفيَّة, ومن الواضح أنَّه ليس عملاً فرديًّا, وقد خاطبه الله بجعل منصب له: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124), بل هذا الإنجاز يقوم به في الواقع

(٣٠٨)

مجموعة من عناصر الشبكة الإلهيَّة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف وفي سور أُخرى, كالخضر أنَّه: ﴿عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا﴾, كلٌّ منهم موصوف بأنَّه: ﴿آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65), هذه في الواقع ليست شبكة وُجِدَت بنحو المصادفة والاتِّفاق في زمن النبيِّ موسى (عليه السلام), بل هي في الواقع كما يُحدِّثنا القرآن الكريم أنَّها من سُنَن الله في إقامة الإصلاح وإقامة برامج السماء في مجتمعات الأرض، وفي الطبيعة البشريَّة على يد الأنبياء والرُّسُل والأئمَّة الخلفاء, أنْ يقوموا بالإمامة في الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 30), إنَّ وجود الخليفة في الأرض هو لدرء الفساد في الدماء وسفكها، أي لإقامة الإصلاح, وهذه مجموعة من السُّنَن والظواهر القرآنيَّة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم حول الأنبياء (عليهم السلام) طالت أم قصرت, وهذه الغيبة والهجرة عندهم في سُنَنهم كما مرَّ بنا في استعراض حديث عن الأئمَّة (عليهم السلام) حول طول برنامج الإصلاح الذي قام به نوح (عليه السلام), وإنْ كانت هي ظاهرة نستطيع أنْ نُسمِّيها ثامنة, ولكن أيًّا ما كان نستطيع أنْ نُدرجها في الظاهرة السابعة من إبطاء الوعد بالإصلاح والنصر والظفر الذي وعد به النبيَّ نوح (عليه السلام), فإبطاء النبيِّ نوح (عليه السلام) عندما استنزل من الله (عزَّ وجلَّ) الظفر والنصر من السماء على قومه، وطال هذا الإنجاز الإلهي ما يقارب من العشرة قرون, لكن أسفر الصبح عن الليل, وصرح الحقُّ عن محضه, وصفي الإيمان من الكدر, هو أحد حِكَم الله (عزَّ وجلَّ) في تدريجيَّة الإصلاح وإطالة الوعد, كي يصدق الباري تعالى وعده بأنْ يستخلف في الأرض الذين أخلصوا في التوحيد والإيمان والذين اعتصموا بحبل الولاء, وليُمكِّن لهم دينهم ويُبدِّل خوفهم أمناً, وهذه سُنَّة إلهيَّة

(٣٠٩)

في الإبطاء, وهي كظاهرة ثامنة ذكرناها، وهي في الواقع إلى جانب الظاهرة السابعة, ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ﴾، كي تخلص العبادة له تعالى، ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ (النور: 55), فكيف يكون التمكين في الدِّين وانتشار الأمن في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب بين المخلصين من المؤمنين, ومع وجود من دان بالإيمان ولكن لم يَصْفُ قلبه, ومن أسرَّ منهم النفاق ونشأت سرائره على النفاق والضلال فيكاشفونهم بالعدواة والحرب؟
هذه الظواهر الثمانية في الواقع هي ظواهر قرآنيَّة مفعمة ضُرِبَت مثلاً كفرائض اعتقاديَّة وكأمثال لما تُمتحَن به هذه الأُمَّة من عقائد ومحاور تجاه خلفاء النبيِّ الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام), وثاني عشرهم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), بما وعد به العالم الإسلامي والعالم البشري من دولة الإصلاح.
جهة الاشتراك بين الهجرة والغيبة:
اتَّضح أنَّ سُنَّة الهجرة هي سُنَّة إلهيَّة في الأنبياء (عليهم السلام), واستعرضها لنا القرآن الكريم في مجمل أو جلِّ الأنبياء السابقين (عليهم السلام), كما مرَّ بنا في النبيِّ إبراهيم, والنبيِّ موسى, والنبيِّ عيسى, وأيضاً في النبيِّ يونس, والنبيِّ يوسف (عليهم السلام) إنْ صحَّ إطلاق الهجرة على ابتعاده عن أبيه وإخوته. المهمُّ أنَّ هناك سلسلة من الهجرات التي استعرضها لنا القرآن الكريم في الأنبياء (عليهم السلام), للتدليل على أنَّ هذه سُنَّة جارية من الله (عزَّ وجلَّ), وكذلك في سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), والرعيل الأوَّل من الذين استجابوا لدعوة الإسلام في الهجرة الأُولى للحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب, وأيضاً في الهجرة الثانية إلى المدينة المنوَّرة عندما بات أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) في فراش النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), واختفى سيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الغار, ثمّ هاجر إلى المدينة المنوَّرة, ولحق به عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام), ثمّ إنَّ

(٣١٠)

النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يدخل المدينة حتَّى لحق به ابن عمِّه عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) مع الفواطم، وفيهنَّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفاطمة بنت أسد. المهمُّ أنَّ هذه الهجرات في الحقيقة نراها تتكرَّر دواليك عند الأنبياء (عليهم السلام), وإذا أردنا أنْ نمعن بشيء من التحليل وبشيء من الاتِّعاظ والعبرة في هجرة الأنبياء (عليهم السلام) عن المجتمعات الفاسدة، باعتبار أنَّ النظام الظالم الجائر الذي لا يعتمد شريعة العدالة السماويَّة بالتالي يكون نظاماً ينتج ويثمر الرجس والنجاسات الخُلُقيَّة والمادّيَّة وما شابه ذلك, سواء وعاها البشر, أو غفل عنها، فانسحاب الأنبياء (عليهم السلام) إنْ صحَّ أنْ يُطلَق عليه التكتيكي أو المناوري هو لأجل القيام بإقدام أشدّ ثباتاً للإصلاح, فإنَّ عمليَّة الانكفاء في الظاهر ثمّ الانقضاض على بؤرة الفساد سُنَّة إلهيَّة في الأنبياء (عليهم السلام) سُمّيت هجرة وسُمّيت غيبة خفاء، لأنَّ الغيبة في الواقع نوع من الهجرة, والهجرة هي نوع اختفاء أيضاً ونوع ابتعاد عن السطح المعلن, وكذلك في الغيبة, فهناك جهة اشتراك واضحة إذن بين الغيبة والهجرة, وهي نوع من الانكفاء والانحسار في المواجهة الظاهريَّة, وإنْ كان هناك في الواقع إمساك بأزمَّة الأُمور في الباطن.
هذه جهة اشتراك بين هجرات الأنبياء، وهي ظاهرة سابعة قرآنيَّة في غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبة حُجَج الله, وأنَّ ذلك ليس ببدع في سُنَن الله تعالى في أنبيائه (عليهم السلام), بل هي نوع من المناورة، ونوع من المحاسبة لإبقاء مسيرة الإصلاح، ولإبقاء دفَّة النهضة الإلهيَّة قدماً لتثبيت وإقامة وإنجاء بُنى وأعمدة الإصلاح, فهذه جنبة اشتراك.
الفوارق بين الهجرة والغيبة:
أمَّا جنبة الافتراق بين الهجرة أو هجرات الأنبياء (عليهم السلام)، وبين الغيبة التي

(٣١١)

يقوم بها بعض منهم - كما مرَّ بنا - أو هي واقعة في مسيرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، والتي هي طبعاً بمعنى غيبة خفاء وليست غيبة وجود, أنَّ هناك فرقاً فيزيائيًّا - إنْ صحَّ التعبير - أو فرقاً حسّيًّا مادّيًّا بين الهجرة والغيبة, وهو أنَّه في الهجرة ربَّما يكون ابتعاد في الوجود, أو ابتعاد بدني يكون بين النبيِّ المهاجر أو الوصيِّ والحجَّة المهاجر والمجتمع الفاسد, يكون نوع من الابتعاد البدني أو الابتعاد الجغرافي, وإنْ لم يكن هو ابتعاد في التدبير, وإنْ لم يكن هو ابتعاد في التفاعل مع الواقع الفاسد لأجل إصلاحه, ولكنَّه ابتعاد جغرافي، أمَّا في الغيبة فليس هناك في البين ابتعاد جغرافي ولا ابتعاد بدني, وإنَّما هو عبارة عن اختفاء في المعرفة واختفاء في الشعور واختفاء في علم البشر, يعني بعبارة أُخرى الاختفاء عن إدراك البشر, أو الاختفاء عن انتباه البشر للحجَّة, في حين أنَّه حاضر, ومن ثَمَّ مرَّ بنا مراراً في منطق القرآن الكريم في الأنبياء السابقين (عليهم السلام), وكذلك في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وبضرورة أحاديث المسلمين أيضاً, أنَّ الغيبة مقابل الظهور, والظهور يقابله الخفاء, وليست الغيبة مقابل حضور أو ابتعاد أو مزايلة كما في الهجرة.
وفي الغيبة امتياز إيجابي تتميَّز به على الهجرة, وهو عدم الابتعاد البدني, وليس الابتعاد الحضوري, ولا الابتعاد عن كبد مركز الحدث, بينما في الصورة الظاهرة في الهجرة يبدو هناك ابتعاد عن الساحة الساخنة الملتهبة الملتحمة في الحدث إلى أنْ تكون هناك مناورة للانقضاض مرَّةً أُخرى, وهذا جانب مهمٌّ في الفرق بين الغيبة والهجرة.
وهناك فارق آخر أيضاً بين الغيبة والهجرة في الأنبياء (عليهم السلام), هو أنَّ في ظلِّ الغيبة يتمُّ مباشرة وعلاج مواضع ومفاصل الداء والمرض والانحراف في نظام المجتمع بشكل مباشر وبشكل عمقي وبشكل من الداخل, بخلاف الهجرة،

(٣١٢)

فالهجرة تتمُّ فيها معالجة المرض في بدن وجسم النظام الاجتماعي من الخارج, ومن الواضح أنَّ المعالجة من الداخل لا ريب أنَّها تكون أكثر تثبيتاً وأكثر تأثيراً عن المعالجة من الخارج, فالمعالجة من أعماق الداخل في الواقع معالجة تكون أساسيَّة وبنيويَّة وجذريَّة وفيها دوام وثبات, بخلاف المعالجة عندما تكون من الخارج والتي قد تكون معالجة مسكِّنة لبعض الوقت, ولكن ما أنْ يذهب ذلك المسكِّن, فقد يحدث انقلاب أو ارتداد, كما حذَّر منه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144), وإنْ كانت معالجة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للبشريَّة لا زالت مستمرَّة, ومعاجلة خلفه والثاني عشر من ولده الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هي يد من أيادي نبيِّ الرحمة وسيِّد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم), ولكن القصد هنا بيان الفرق بين معالجة الهجرة في الواقع وبين معالجة الغيبة, أنَّه في الغيبة تكون معالجة داخليَّة من الأعماق يتمُّ بها انتشال البشريَّة من الانحراف.
والمغزى العظيم الذي تُؤكِّده هذه الظاهرة المنتشرة بشكل وافر وسيع جدًّا في كثير أو في أكثر الأنبياء (عليهم السلام) الذين استعرض لنا القرآن الكريم حياتهم، وكذلك بقيَّة الحُجَج والأوصياء هي ظاهرة الهجرة عن المجتمعات الفاسدة والأنظمة الجائرة والعروش الفرعونيَّة أو النمروديَّة أو غيرها, أو اللوبي الحبري اليهودي وما شابه ذلك كما في النبيِّ عيسى (عليه السلام), فهذه الهجرة المنتشرة كظاهرة وسيعة ومتَّسعة الأُمثولة في كثير من الأنبياء (عليهم السلام) مغزاها أنَّه ليس في التدبير الإلهي أو في سُنَّة الله في الأمر الجاري أنْ تكون الأُمور (كن فيكون), وإنَّما الأُمور تأخذ منحة تدريجيَّة, في حين أنَّ هذه المنحة التدريجيَّة التي تأخذ سياسة السماء والسياسة الإلهيَّة في الإصلاح فيها نوع من المشاورة, فليست إذن هي حالة على

(٣١٣)

شاكلة وسيرة واحدة, ولا هي دفعيَّة, بل تدريجيَّة تتَّخذ أساليب وأدواراً وألواناً, وإقداماً وإحجاماً, وكرًّا وفرًّا, وهذا الفرُّ ليس فراراً, وإنْ كان في صورته وظاهره كذلك, بل هو تحرُّف للقتال, لقتال الفساد, ولمواجهته, فهو أُسلوب المناورة وأُسلوب التدبير وأُسلوب المنهجة والتكيُّف.
فليس حينئذٍ إلَّا عبطاً، ومن برود من التفكير أنْ يظنَّ الظانُّ أنَّ أُسلوب المصلحين في السُّنَن الإلهيَّة، المصلحين من قِبَل السماء أنْ يتَّخذوا شاكلة واحدة ونمطاً واحداً من البرنامج، ومن نظام الدعوة والإصلاح, بل في الواقع هناك نُظُم وبدائل وفصول كثيرة يمرُّ بها مسير الإصلاح لكي يصل إلى النتيجة والغاية, وهذه نكتة مهمَّة أُخرى يجب أنْ نستفيدها من الهجرة, من هجرة الأنبياء (عليهم السلام), أنَّ هناك نوعاً من الغروب, ثمّ الطلوع, نوعاً من غشيان ليل الظلمة, ثمّ يسفر الصباح عن نوره وعن ضيائه وعن نفعه, فبالتالي لا يظنُّ الظانُّ أنَّ السُّنَّة الإلهيَّة في الإصلاح هي دائماً نهار ودائماً صباح, بل قد يكون هناك نوع من الفترة والأوقات التي تمرُّ بها تكوير الليل والنهار, فإذن هناك نوع من الطلوع والغروب والأُفول والظهور وما شابه ذلك.
الفترة بين الأنبياء والحُجَج (عليهم السلام):
في الحقيقة نستطيع أنْ نضمَّ إلى هذه الظاهرة السابعة فقرة أُخرى مهمَّة جدًّا, ألَا وهي فقرة ما عُرِفَ بالفترة, وفي اصطلاح الشريعة ولسانها تكون الفترة تقريباً ظاهرة تابعة ومنضمَّة إلى ظواهر الأنبياء (عليهم السلام), كظاهرة الهجرة, هناك ظاهرة الفترة بين الرُّسُل, وقد ورد هذا التعبير أيضاً في القرآن الكريم: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ﴾ (المائدة: 19)، الفترة في الواقع فتور, وهو نوع من الغروب في الظاهر لدعوة السماء، أو البرنامج الإلهي حسب العلن الظاهر,

(٣١٤)

ولكن ليس هو انقطاع, وليس هو انسداد إلى الأبد, وإنَّما هو أيضاً نوع من التدبير الإلهي في سُنَّة التدريج في الإصلاح, فيتبيَّن لنا إذن أنَّ سُنَّة الإصلاح فيها ليل ونهار, وفيها طلوع وأُفول, وفيها بزوغ وفيها غروب, فليست إذن هي على شاكلة واحدة، حتَّى يصل إلى نهاية المحطَّة من الإصلاح الشامل التامِّ العامِّ في أرجاء الكرة الأرضيَّة كافَّة, كما وعد به الباري تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33), إظهار الدِّين: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، ففيه انتظار، وفيه ترقُّب، وفيه توقُّع.
فالانتظار يحمل معنى البصيرة من النظر, وهذا نستفيده من هذه العناوين بكثرة حول شأن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وهذه العناوين الثلاثة في الحقيقة هي كلُّها مستقاة أيضاً من السُّنَن التي جرت في الأنبياء السابقين (عليهم السلام), هجراتهم, أو الفترات.
الانتظار يعني أنَّ ثاقب النظر يرى المستقبل وأمل المستقبل وتغيُّر المستقبل, وأنَّ المسيرة ليست على شاكلة واحدة, وليست سرمديَّة الليل, بل سيبزغ الصبح, ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ (هود: 81).
الانتظار يحمل معنى البصيرة للمستقبل من خلال ما يتَّعظ به المسلم والمؤمن والقارئ للقرآن الكريم في ظواهر قَصَص الأنبياء السابقين (عليهم السلام) وسُنَن الله في برنامج الإصلاح والدفع بعجلة مشروع الهداية والفلاح.
والانتظار أيضاً يعني التوقُّع, ويعني ما سيقع, وكيفيَّة مساهمة المؤمن نفسه في التوقُّع, «مُنْتَظِرٌ لِأَمْركُمْ، مُرْتَقِبٌ لِدَوْلَتِكُمْ» كما ورد في الزيارة الجامعة(84), وفي زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) والدعاء عنده ورد أيضاً: «مُعْتَصِمٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(84) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 614/ ح 3213).

(٣١٥)

بِحَبْلِكُمْ, مُتَوَقِّعٌ لِدَوْلَتِكُمْ»(85)، فالتوقُّع من الوقع, وبالتالي الوقوع، إذ كان صفة من صفات المؤمن أنَّه متوقِّع أي مشارك فيها سيكون من وقوع حدث مهمٍّ عظيم في الوعد الإلهي المضمون إنجازه, فلا يكون المنتظِر منتظِراً بدون أنْ يكون متوقِّعاً, أي مشاركاً ومساهماً في وقوع هذا الحدث والوعد الإلهي العظيم, كما يُبيِّن لنا القرآن الكريم في هذه الظاهرة السابعة من هجرات الأنبياء (عليهم السلام) أنَّ المهاجرين من المخلصين ممَّن احتفَّ بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), المؤمن منهم والذي كانت هجرته لله ولرسوله لا للأثرة والأموال وطمع الدنيا, يخصُّ القرآن الكريم المديح بالصافي النيَّة منهم بقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ (النور: 55), فالمؤمن منهم ممَّن كان صحيح النيَّة في برنامج الهجرة هو أيضاً كان مساهماً في وقوع الإصلاح. فالمتوقِّع إذن صفة للمؤمن تجاه العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) نستخلصها من هجرات الأنبياء (عليهم السلام) ومن كان معهم من المخلصين, المتوقِّعين, المنتظِرين, والانتظار بلا توقُّع يعني انتظاراً بلا مشاركة وإسهام, وهذا انتظار سلبي, والمترقِّب في الحقيقة هو الذي يكون له نوع من الرقابة, وهو عبارة عن تحمُّل المسؤوليَّة أيضاً, وهو ضمانة وحراسة لمسيرة الإصلاح, وهذا أيضاً بُعد آخر في سيرة الأنبياء (عليهم السلام) ومن معهم من المخلصين, أنَّ المؤمن يجب أنْ يتَّعظ في هذا الجانب, أنْ يكون منتظِراً, ومتوقِّعاً مساهماً في الواقع, ومترقِّباً, أي يحافظ على حراسة وسلامة واستدامة واستمرار مسيرة الإصلاح, وهذه أيضاً نوع من المساهمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(85) المزار لابن المشهدي (ص 250).

(٣١٦)

إذن ما نستخلصه من هذه الظاهرة السابعة ظاهرة الهجرة المنتشرة في الأنبياء (عليهم السلام)، وظاهرة الفترات هو جملة من النقاط والفوائد الاعتقاديَّة والعقديَّة مرتبطة ومتَّصلة بالعقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته, من أنَّها سُنَّة جارية لله (عزَّ وجلَّ) في أنبيائه وحُجَجه (عليهم السلام), من حالة المناورة, وحالة التدبير, وحال الأُفول ثمّ الطلوع, مع فارق إيجابي كثير في الغيبة عن الهجرة, كما مرَّ, كأُسلوب وبرنامج وأداة وآليَّة للإصلاح, مضافاً إلى ما نستثمره من مسؤوليَّة اتِّباع أُولئك المصلحين الإلهيِّين ووظيفتهم.
هذا ما نستطيع على أيَّة حالٍ في هذه العجالة أنْ نستخلصه من هذه الظاهرة السابعة, وهي ظاهرة هجرة الأنبياء (عليهم السلام) والفترات التي تخلَّلت بينهم, ونبدأ الحديث بعون الله تعالى عن الظاهرة الثامنة، وهي ظاهرة إبطاء الإصلاح في سيرة النبيِّ نوح (عليه السلام).
تأخُّر إنجاز الوعد الإلهي:
هناك أوجه تشابه متماثلة كثيرة من زوايا متعدِّدة ومتنوِّعة بين الظاهرة القرآنيَّة، وهي ما سرده وقصَّه واستعرضه القرآن الكريم من سيرة النبيِّ نوح (عليه السلام) وسُنَّة الله فيه وبين العقيدة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته, ونحن بقدر جهدنا نستعرض بعض الأُمور منها, فمن تلك الأوجه المماثلة هو طول الطريق للوصول إلى فترة إنجاز الوعد الإلهي في الإصلاح, أو قد يُعبَّر عنه كما ورد في جملة من الروايات في بيان هذه الظاهرة القرآنيَّة إبطاء الوعد الإلهي لإنجاز الإصلاح, هذا الإبطاء كما يُخبرنا القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ (العنكبوت: 14 و15), فالملفت أوَّلاً في

(٣١٧)

ظاهرة النبيِّ نوح (عليه السلام) طول مدَّة إنجاز الوعد الإلهي ما يقارب من عشرة قرون إلَّا نصف قرن, هذه المدَّة الممتدَّة الطويلة البعيدة الأمد, إذن وجه المماثلة واضح بين ظاهرة النبيِّ نوح (عليه السلام) القرآنيَّة والعقيدة بحياة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وسوف يُختَم نجاح هذا الدِّين القويم على أرجاء الأرض كافَّة بأهل البيت (عليهم السلام) الذين بهم يختم الله هذه الخاتمة المشرفة النيِّرة الشامخة العظيمة, فكما بدأ وانتشر دين الإسلام بأهل البيت وهم النبيُّ وأهل بيته (عليهم السلام) فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) سيختم بهم العاقبة الحسنة والمضيئة المشرقة لهذا الدِّين, هذا لا يختلف فيه اثنان من المسلمين, وإنِ اختلفوا في الاعتقاد بحياة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الآن وطول مدَّة غيبته وحياته, فإذن هذه عظة من القرآن الكريم لهذه الأُمَّة بأنْ سيقع في هذه الأُمَّة أيضاً إبطاء في إنجاز الوعد الإلهي العظيم, هذا الإنجاز وهذا الحدث الهائل الكبير الذي تستعدُّ البشريَّة لوقوعه, برغم هذا الإبطاء إلَّا أنَّه لا يُؤدِّي إلى اليأس من روح الله, ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: 87), كيف وقد استعرض وبيَّن لنا القرآن الكريم أنَّ سُنَّة الله تجري في أدوار من الإصلاح أنَّه قد يمتدُّ ويطول به الزمن, كي تتهيَّأ البشريَّة وتمرَّ في حالة إعداد لوقوع هذا الإصلاح العظيم، وقد كان طوفان النبيِّ نوح (عليه السلام) حدثاً مجلجلاً للبشريَّة, لذلك يُعبِّر القرآن الكريم عنه بالقول: ﴿وَجَعَلْنَاهَا﴾ يعني هذا الطوفان العظيم: ﴿وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ (العنكبوت: 15), فهذا الطوفان مضرب مثل واضح, لأنَّ فيه هزَّة للبشريَّة والكرة الأرضيَّة بشكل عارم شامل عامٍّ, وهذا ما يُدلِّل على أنَّ الباري تعالى في سُنَّته في الإصلاح المجلجل الذي يأخذ أبعاداً في أرجاء الأرض كافَّة أنَّه يبطئ وقوعه ويتمادى طولاً وامتداداً وأجلاً في الكتاب المحتوم لوقوعه, وهذا أوَّل وجه شبه بين ظاهرة النبيِّ نوح وظاهرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), فقد وردت في الأحاديث إشارة إلى مثل هذه الزاوية من الشَّبَه بين

(٣١٨)

ظاهرة الإصلاح الموعود به النبيَّ نوح (عليه السلام) وظاهرة الإصلاح الموعود به في الدِّين الإسلامي لإنجازه على يد المهدي من ذرّيَّة الرسول الثاني عشر من خلفاء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن هذا الوجه كان على المؤمنين أنْ لا ييأسوا من روح الله، ولا يخفق إيمانهم، ولا ينقطع ولا يزول ولا ينعدم - والعياذ بالله - إيمانهم عن هذه العقيدة العظيمة بالوعد الإلهي بالإصلاح في أرجاء الأرض كافَّة بسبب تطاول وتأخُّر هذا الإصلاح وإنجاز هذا الوعد الكبير العظيم, بل يجب عليهم أنْ يزيدهم ذلك من الوثوق ومن الإيمان بوقوع هذا الإصلاح, فهو نوع من الاختبار العظيم, كي يصدق الله وعده بأنْ يستخلف الله في الأرض الذين أخلصوا التوحيد والإيمان واعتصموا بحبل ولاية الله ورُسُله وأوصيائه وحُجَجه (عليهم السلام)، ويُمكِّن لهم ويُبدِّلهم من بعد خوفهم أمناً, ولكي تخلص العبادة له, إذ كيف يكون التمكين في الدِّين وانتشار الأمن في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب بين المخلصين من المؤمنين، وبين من أسرَّ منهم النفاق فيكاشفونهم بالعداوة والحرب؟ فلن يكون هناك صفاء في البشريَّة إلَّا عندما يزداد تسليط نار المحنة ونار الامتحان والفتن, كالمعدن يُفتَن بالنار إلى أنْ يصفو, ومن الواضح أنَّ الصفاء الذي لا شوب فيه يحتاج إلى طول مدَّة. إذن هذا وجه شَبَه أوَّل عظيم بين ظاهرة النبيِّ نوح (عليه السلام) وظاهرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهو إبطاء إنجاز الوعد الإلهي واتِّعاظ المؤمنين, ومغزى ذلك هو نوع من الإصلاح الجذري العمقي الداخلي في الجسم والطبيعة إلى أنْ يبقى الخالص ليتمَّ به الإصلاح التامُّ, هذا أوَّل وجه شَبَه بين الظاهرتين.
وجه الشَّبَه الثاني الذي يمكن أنْ نستخلصه أيضاً هو طول عمر النبيِّ نوح (عليه السلام), فإنَّه ليس ذلك على الله بعزيز, فقد ورد في الروايات عنهم (عليهم السلام)، وهذه الروايات التي وردت في الواقع معتضدة بمحكم الكتاب الذي ورد في

(٣١٩)

طول فترة عهد دعوة النبيِّ نوح (عليه السلام), فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّ مدَّة طول عمر نوح كانت ألفي وثلاثمائة سنة, كان قد عاش ثمانمائة وخمسين سنة قبل بعثته رسولاً إلى قومه ليدعوهم إلى توحيد الله وشريعته, ثمّ مكث في قومه يدعوهم ألف سنة إلَّا خمسين عاماً, يعني تسعمائة وخمسين سنة, هذه هي فترة الدعوة إلى أنْ أنجز الوعد الإلهي, وبعد ذلك عاش قرابة الخمسمائة سنة بعد الدعوة, أي بعد أنْ أُنجز له الوعد الإلهي ليقيم مجتمع الإصلاح والصلاح, بأنْ مصَّر الأمصار وأسكن ولده البلدان(86), يعني أنَّ العمران الذي حدث في المجتمع البشري بعد الطوفان الذي اجتاح وجه الكرة الأرضيَّة كافَّة واجتاح المجتمعات البشريَّة وقضى عليها, فأنشأ بعد ذلك المجتمعات والبلدان هو من اليد الشريفة للنبيِّ نوح (عليه السلام) في إقامة هذا العمران عمران الصلاح والإصلاح, فإذن هذه الحقبة الطويلة من عمر النبيِّ نوح (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عظة أُخرى عظيمة في المثل بين طول عمره (عليه السلام) وطول عمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
بعبارة أُخرى: هذا برهان بيِّن من القرآن الكريم في أنَّ من حُجَجه من يطول عمره وتبطئ خاتمة الإصلاح على يديه في الإنجاز للوعد الإلهي, وبالتالي هذه سُنَّة من الله (عزَّ وجلَّ) في إطالة عمر ذلك المصلح المعدِّ للإصلاح الكبير والمدوي في الكرة الأرضيَّة، في الإصلاح الجذري الشامل سُنَّة من الله، وهي إطالة عمر ذلك المصلح, وبالتالي إبطاء إنجاز الوعد، لأنَّه احتاج إلى نوع من الإعداد العظيم الطويل الأمد, هذا وجه شَبَه ثانٍ أيضاً بين النبيِّ نوح والإمام المهدي (عليهما السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(86) روى الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 8/ ص 284 و285/ ح 429) بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله (عليه السلام)، قَالَ: «عَاشَ نُوحٌ (عليه السلام) أَلْفَيْ سَنَةٍ وَثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، مِنْهَا ثَمَانُمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَأَلْفُ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً وَهُوَ فِي قَوْمِه يَدْعُوهُمْ، وَخَمْسُمِائَةِ عَامٍ بَعْدَ مَا نَزَلَ مِنَ اَلسَّفِينَةِ وَنَضَبَ اَلمَاءُ، فَمَصَّرَ اَلْأَمْصَارَ وَأَسْكَنَ وُلْدَهُ اَلْبُلْدَانَ...».

(٣٢٠)

وهناك أيضاً وجه آخر من المماثلة في الواقع تحقَّق ومرَّ حدوثه في النبيِّ نوح (عليه السلام), وأيضاً في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه), وهو أنَّ النبيَّ نوحاً (عليه السلام) بعد أنْ وقع هذا الزلزال المدوي في الأرض وهو الطوفان، وكان في الواقع إنجازاً للوعد الإلهي للإصلاح أوعد القوم به, بعد ذلك قام النبيُّ نوح (عليه السلام) بتمصير الأمصار وأسكن ولده البلدان, ففي الحقيقة هي بداية حياة بشريَّة ذات طابع متكامل إصلاحي لما خلَّفته البشريَّة قبل الطوفان, ومن ثَمَّ عُرِفَ أنَّ الطوفان كان محطَّة مهمَّة بشريَّة تُعتبَر خاتمة لحقبة وفاتحة لحقبة جديدة, فاتحة لحقبة عمرانيَّة متمدِّنة متطوِّرة في مسار النهج الإلهي والنهج المعيشي في سكن الأرض, وهي محطَّة تاريخيَّة مهمَّة في عمر البشريَّة وحياة البشر على وجه الأرض, ما يُدلِّل على أنَّ هناك نقلة مدنيَّة ونقلة تكامليَّة واضحة بعد إنجاز الوعد الإلهي على يد نوح (عليه السلام), وهذا في الواقع ما تشير إليه الآيات الكريمة وبشكل خطوط عامَّة عريضة من أنَّ إظهار الدِّين على أرجاء الأرض كافَّة: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ (التوبة: 33), وسوف يكون هو حقبة المتَّقين: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128), وهي عاقبة الإصلاح في الأرض ليستخلف الله (عزَّ وجلَّ) الذين استضعفوا: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ (النور: 55), وأنَّه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ﴾ (الأعراف: 96), والتعبير بالقرويَّة هو في مقابل التمدُّن في اصطلاح القرآن الكريم في الاستعمال الظاهري لا التأويلي, بل في مقابل الإيمان وفي مقابل انتهاج نهج الإيمان ونظام الإيمان ومسار الإيمان والالتزام ببرنامج الإيمان يُطلِق عليه

(٣٢١)

القرآن الكريم القرويَّة, فإذا آمنوا وانتهجوا رؤية الإيمان فسيُرسِل الله (عزَّ وجلَّ) حينئذٍ عليهم خيرات وكنوزاً, وهذا هو المفاد الحقيقي من الآية الكريمة, أو من الروايات التي رواها الفريقان.

* * *

(٣٢٢)

الخاتمة

من الواضح أنَّ قَصَص الأنبياء (عليهم السلام) عقيدة وإيمان ومعرفة ربَّانيَّة ودينيَّة أصيلة, كذلك هي أيضاً عِظة وعِبرة, كما يُحدِّثنا القرآن الكريم مثلاً في سورة (يوسف: 111): ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾, إذن ليست قَصَصهم هي مجرَّد سرد قَصَصي, وإنَّما هي معرفة عقديَّة واعتقاديَّة بهم وإيمان بهم, وهو أيضاً عبور وعبرة لنعبر منها إلى عقيدة أُخرى مماثلة، لأنَّ العبور من شيء إلى شيء إنَّما يكون من المماثل إلى المماثل, وإلَّا إذا لم يكن هناك وجه صلة ولا نسبة مماثلة فكيف يكون العبور من الشيء إلى شيء أجنبي عنه لا صلة له به؟ فالعبرة أُخِذَت من العبور. إذن ما استعرضه لنا القرآن الكريم من قَصَص الأنبياء وأمثالهم في الوقت الذي هو معرفة وإيمان بكُتُب الله ورُسُله وملائكته, أيضاً هو عبرة وعبور للانتقال إلى محاور وأركان اعتقاديَّة أُخرى.
فما هي الأركان الاعتقاديَّة الأُخرى؟
هي ما افترض علينا القرآن الكريم الاعتقاد بهم: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33), وهؤلاء في هذه الأُمَّة هم الذين باهل بهم النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والذين خصَّهم القرآن الكريم بخصائص ومقامات: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة: 77 - 79), فالمطهَّرون هم أهل آية التطهير, وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ

(٣٢٣)

أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ...﴾, إلى أنْ تقول الآية: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (آل عمران: 7), وهم أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في إنجاز وعد الله وإصلاح البشريَّة.
ومن ثَمَّ يستعرض لنا القرآن الكريم ظواهر الأنبياء السابقين (عليهم السلام) يقول: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً﴾ (الزخرف: 57), فما يستعرضه لنا القرآن في النبيِّ عيسى (عليه السلام) في الوقت الذي هو عقيدة هو مَثَل كذلك, والمَثَل لمماثل, والعبرة لعبور إلى مماثل.
وكذلك في نفس ما استعرضه لنا القرآن الكريم أيضاً في ظاهرة النبيِّ نوح (عليه السلام) يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ (العنكبوت: 14 و15), والآية يُستدَلُّ بها على ذي الآية، والآية يعبر منها إلى ذي الآية، والآية بمعنى العلامة، فالعلامة يعبر منها إلى ذي العلامة، والآيات القرآنيَّة كلُّها طافحة على أنَّ ما قصَّه لنا القرآن الكريم واستعرضه من ظواهر في النبيِّ نوح (عليه السلام) هي في الواقع حكمة وعظة وعبرة وعبور ومَثَل وتمثُّل لما يجري في هذه الأُمَّة من فرائض اعتقاديَّة في حُجَج الله في هذه الأُمَّة, أوَلم يُخبرنا القرآن الكريم في سورة الحجِّ في آخر آية منها: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحجّ: 78), فمن اجتبى؟ هل كلُّ الأُمَّة الإسلاميَّة أم ثُلَّة منها؟ لننظر الآية الكريمة ماذا تقصُّ علينا وماذا تستعرض لنا وماذا تُسمِعنا: ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾, إذن هناك ثُلَّة خاصَّة من هذه الأُمَّة التي هي من نسل إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام), ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ إبراهيم (عليه السلام) سمَّى الذرّيَّة هو وإسماعيل (عليه السلام) في دعائه: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا

(٣٢٤)

مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ (البقرة: 128), ثمّ تقول الآية التي بعدها: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة: 129), إذن هم ذوو صلة بسيِّد الأنبياء وخاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّ أهل البيت (عليهم السلام) مجتبون بلفظة سورة الحجِّ, وهذا مقام اجتباء من الله (عزَّ وجلَّ) لثُلَّة من هذه الأُمَّة اصطفاهم على البشريَّة, فالعبور من هذه الظاهرة وما تقدَّم في الواقع من ظواهر عديدة, العبور من تلك الظواهر القرآنيَّة بتوصية وبتعليم من القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ﴾ (يوسف: 111), اعبروا أيُّها المؤمنون الكرام إلى ما هو راهن من محاور اعتقاديَّة عقديَّة قد ذكرها وتلاها عليكم القرآن الكريم في نبيِّه وأهل بيته المطهَّرين, لتعتقدوا بذلك, ولنكون نحن وإيَّاكم قد نجونا وانتفعنا ببصائر القرآن الكريم, كآيات ومثل للاعتقاد بما هو معاش وراهن من العقيدة في أهل البيت (عليهم السلام), وما يعده الله (عزَّ وجلَّ) لهم من دور إلهي عظيم.

* * *

(٣٢٥)

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.
2 - الاختصاص: الشيخ المفيد/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري والسيِّد محمود الزرندي/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد للطباعة والنشر/ بيروت.
3 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ تحقيق: مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام)/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
4 - إعلام الورى بأعلام الهدى: الفضل بن الحسن الطبرسي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
5 - أعيان الشيعة: السيِّد محسن الأمين/ تحقيق وتخريج: حسن الأمين/ دار التعارف للمطبوعات/ بيروت.
6 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ط 1/ 1417هـ/ مركز الطباعة والنشر في مؤسَّسة البعثة/ قم.
7 - الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط 1/ 1404هـ/ مدرسة الإمام الهادي (عليه السلام)/ قم.
8 - بحار الأنوار الجامعة لدُرَر أخبار الأئمَّة الأطهار: العلَّامة المجلسي/ تحقيق: يحيى العابدي الزنجاني وعبد الرحيم الربَّاني الشيرازي/ ط 2/ 1403هـ/ مؤسَّسة الوفاء/ بيروت.
9 - البداية والنهاية: ابن كثير/ تحقيق وتدقيق وتعليق: عليّ شيري/ ط 1/ 1408هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.

(٣٢٧)

10 - بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمّد (عليهم السلام): محمّد بن الحسن ابن فرُّوخ (الصفَّار)/ تصحيح وتعليق وتقديم: الحاج ميرزا حسن كوجه باغي/ 1404هـ/ منشورات الأعلمي/ طهران.
11 - تاريخ ابن خلدون: ابن خلدون/ ط 4/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
12 - تاريخ الإسلام السياسي والدِّيني والثقافي والاجتماعي: حسن إبراهيم حسن/ ط 14/ 1416هـ/ دار الجيل، بيروت/ مكتبة النهضة المصريَّة، القاهرة.
13 - التبيان في تفسير القرآن: الشيخ الطوسي/ تحقيق: أحمد حبيب قصير العاملي/ ط 1/ 1409هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
14 - تفسير ابن كثير: ابن كثير/ تقديم: يوسف المرعشلي/ 1412هـ/ دار المعرفة/ بيروت.
15 - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام)/ ط 1 محقَّقة/ 1409هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
16 - تفسير الرازي (مفاتيح الغيب): فخر الدِّين محمّد بن عمر التميمي البكري الرازي الشافعي/ ط 3.
17 - تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن): محمّد بن جرير الطبري/ تقديم: الشيخ خليل الميس/ ضبط وتوثيق وتخريج: صدقي جميل العطَّار/ 1415هـ/ دار الفكر/ بيروت.
18 - تفسير العيَّاشي: محمّد بن مسعود العيَّاشي/ تحقيق: السيِّد هاشم الرسولي المحلَّاتي/ المكتبة العلميَّة الإسلاميَّة/ طهران.
19 - تفسير القمِّي: عليُّ بن إبراهيم القمِّي/ تصحيح وتعليق وتقديم: السيِّد طيِّب الموسوي الجزائري/ ط 3/ 1404هـ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.

(٣٢٨)

20 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق وتعليق: السيِّد حسن الموسوي الخرسان/ ط 3/ 1364هـ/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
21 - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ بإشراف: السيِّد محمّد باقر الموحِّد الأبطحي/ ط 1/ 1409هـ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
22 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1362ش/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
23 - دلائل الإمامة: محمّد بن جرير الطبري الشيعي/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة البعثة/ قم.
24 - سُنَن ابن ماجة: أبو عبد الله محمّد بن يزيد القزويني (ابن ماجة)/ تحقيق وترقيم وتعليق: محمّد فؤاد عبد الباقي/ دار الفكر/ بيروت.
25 - سُنَن أبي داود: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني/ تحقيق وتعليق: سعيد محمّد اللحَّام/ ط 1/ 1410هـ/ دار الفكر/ بيروت.
26 - سُنَن الترمذي: أبو عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي/ تحقيق وتصحيح: عبد الوَّهاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1403هـ/ دار الفكر/ بيروت.
27 - سُنَن النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن عليّ بن بحر النسائي/ تحقيق: عبد الغفَّار سليمان البنداري وسيِّد كسروي حسن/ ط 1/ 1411هـ/ دار الكُتُب العلميَّة/ بيروت.
28 - سِيَر أعلام النبلاء: شمس الدِّين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي/ إشراف وتخريج: شعيب الأرنؤوط/ تحقيق: حسين الأسد/ ط 9/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
29 - شرح إحقاق الحقِّ: السيِّد شهاب الدِّين المرعشي النجفي/ تصحيح: السيِّد إبراهيم الميانجي/ منشورات مكتبة آية الله المرعشي/ قم.

(٣٢٩)

30 - شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي/ تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم/ ط 1/ 1378هـ/ دار إحياء الكُتُب العربيَّة/ بيروت.
31 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربيَّة): إسماعيل بن حمَّاد الجوهري/ تحقيق: أحمد العطَّار/ ط 4/ 1407هـ/ دار العلم للملايين/ بيروت.
32 - صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي/ ط 2/ 1410هـ/ أوقاف مصر.
33 - صحيح مسلم: مسلم بن الحجَّاج بن مسلم القشيري النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
34 - الصواعق المحرقة في الردِّ على أهل البدع والزندقة: أحمد بن حجر الهيتمي المكّي/ تقديم وتعليق: عبد الوهَّاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1385هـ/ مكتبة القاهرة لصاحبها عليّ يوسف سليمان/ القاهرة.
35 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تقديم: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.
36 - عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار: يحيى بن الحسن الأسدي الحلِّي المعروف بـ (ابن البطريق)/ 1407هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
37 - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: فارس حسُّون كريم/ ط 1/ 1422هـ/ أنوار الهدى.
38 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
39 - الكافي: الشيخ الكليني/ تحقيق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 5/ 1363ش/ مطبعة حيدري/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.

(٣٣٠)

40 - كامل الزيارات: جعفر بن محمّد بن قولويه/ تحقيق: الشيخ جواد القيُّومي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة نشر الفقاهة.
41 - كتاب سُلَيم: سُلَيم بن قيس الهلالي الكوفي/ تحقيق: محمّد باقر الأنصاري الزنجاني/ ط 1/ 1422هـ/ دليل ما.
42 - كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشر: أبو القاسم عليُّ بن محمّد الخزَّاز القمِّي الرازي/ تحقيق: السيِّد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري الخوئي/ 1401هـ/ انتشارات بيدار.
43 - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1405هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم المشرَّفة.
44 - مجمع البيان في تفسير القرآن: أمين الإسلام أبو عليٍّ الفضل بن الحسن الطبرسي/ قدَّم له: السيِّد محسن الأمين العاملي/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
45 - المحاسن: أحمد بن محمّد بن خالد البرقي/ تصحيح وتعليق: السيِّد جلال الدِّين الحسيني المحدِّث/ 1370هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
46 - مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلِّي/ ط 1/ 1370هـ/ منشورات المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
47 - المراجعات: السيِّد عبد الحسين شرف الدِّين/ تحقيق وتعليق: حسين الراضي/ ط 2/ 1402هـ.
48 - المزار الكبير: محمّد بن جعفر المشهدي/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط 1/ 1919هـ/ نشر القيُّوم/ قم.
49 - المستدرك على الصحيحين: أبو عبد الله الحاكم النيسابوري/ إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي.

(٣٣١)

50 - مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ تحقيق عدَّة محقِّقين/ ط 1/ 1416هـ/ مؤسَّسة الرسالة/ بيروت.
51 - مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (عليهم السلام): كمال الدِّين محمّد بن طلحة الشافعي/ تحقيق: ماجد بن أحمد العطيَّة.
52 - معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): الشيخ عليٌّ الكوراني/ ط 1/ 1411هـ/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
53 - المعجم الكبير: سليمان بن أحمد الطبراني/ تحقيق وتخريج: حمدي عبد المجيد السلفي/ ط 2/ دار إحياء التراث العربي.
54 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
55 - منية المريد: الشهيد الثاني/ تحقيق: رضا المختاري/ ط 1/ 1409هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
56 - نهج البلاغة: خُطَب أمير المؤمنين (عليه السلام)/ ما اختاره وجمعه: الشريف الرضي/ تحقيق: الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387هـ، وبشرح محمّد عبدة/ ط 1/ 1412هـ/ دار الذخائر/ قم.
57 - الهداية الكبرى: الحسين بن حمدان الخصيبي/ ط 4/ 1411هـ/ مؤسَّسة البلاغ/ بيروت.
58 - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: ابن خلِّكان/ تحقيق: إحسان عبَّاس/ دار الثقافة.
59 - ينابيع المودَّة لذوي القربى: سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي/ تحقيق: السيِّد عليّ جمال أشرف الحسيني/ ط 1/ 1416هـ/ دار الأُسوة.

* * *

(٣٣٢)