الحقيقة المهدوية (دراسة وتحليل)
مجموعة محاضرات تتناول أبعاداً جديدة في القضية المهدوية
السيد منير الخباز
إعداد وتقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
رقم الإصدار: 119
الطبعة الخامسة 1442هـ
فهرست الموضوعات
مقدّمة المركز..................3
مقدّمة المؤلّف..................5
المحاضرة الأولى: السعادة في لقاء الإمام المهدي (عليه السلام)..................7
المحور الأوّل: كيفية التعامل مع قضيّة الإمام المنتظر (عليه السلام)..................10
المحور الثاني: هل الهدف لقاء الإمام (عليه السلام)؟..................13
المحور الثالث: في علاقة العشق بالإمام (عليه السلام)..................17
عناصر العلاقة العشقية بالإمام (عليه السلام)..................18
العنصر الأوّل: صفاء القلب..................18
العنصر الثاني: الطهارة من الذنوب..................18
العنصر الثالث: الإهداء للإمام (عليه السلام)..................19
العنصر الرابع: الذكر الخفي..................20
العنصر الخامس: تصوّر الإمام والتفكّر فيه (عليه السلام)..................20
العنصر السادس: التألّم لألمه (عليه السلام)..................21
المحاضرة الثانية: المهدي (عليه السلام) عشق هادف..................23
الوجه الأوّل: الروايات..................26
الوجه الثاني: القرينة السياقية في الآية..................26
المحور الأوّل: في تحليل علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام)..................28
الاتّجاه الأوّل: الاتّجاه الحرفي..................28
الاتّجاه الثاني: الاتّجاه الموضوعي..................29
المحور الثاني: حبّ آل البيت (عليهم السلام) له قيمة وموضوعية عظيمة..................33
المحور الثالث: علاقتنا العاطفية بالإمام المنتظر (عليه السلام)..................38
المحاضرة الثالثة: النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمهدي (عليه السلام)..................41
المحور الأوّل: الحقيقة المحمّدية والرحمة..................43
المحور الثاني: مظاهر الرحمة المحمّدية في المهدي (عليه السلام)..................47
المظهر الأوّل: خُلُق الرحمة..................47
المظهر الثاني: المجتمع الأخوي..................48
المظهر الثالث: الرحمة العامّة..................50
المحور الثالث: دولة المهدي دولة رحمة لا دولة عنف..................51
المحاضرة الرابعة: المهدي (عليه السلام) ضرورة لا إيحاء نفسي..................59
المحور الأوّل: القائم المنتظر إملاء غريزي أم واقع وضرورة؟..................62
المحور الثاني: المهدي واقع موضوعي وضرورة واقعية..................65
كيفية إثبات القضايا التاريخية..................70
القرينة الأولى: أنَّ لكلّ جيل إماماً..................71
القرينة الثانية: أحاديث الاثني عشر..................73
القرينة الثالثة: بشائر العهدين..................73
القرينة الرابعة: الفترة المعاصرة لولادة الإمام المهدي (عليه السلام)..................74
القرينة الخامسة: النصّ على ولادته (عليه السلام)..................75
القرينة السادسة: اعتراف علماء الأنساب..................76
القرينة السابعة: نصّ المؤرّخين من السُنّة على ولادته وغيبته (عليه السلام)..................78
المحور الثالث: العقل يفرض اليوم الموعود..................80
المحاضرة الخامسة: من ينتظر من؟..................83
المحوّر الأوّل: هل ليوم الخروج وقت؟..................86
الظروف الممهّدة للظهور..................91
الظرف الأوّل: فشل الإيديولوجيات..................91
الظرف الثاني: الظرف الروحي..................91
المحور الثاني: لماذا لم تكن الدولة المهدوية في أوّل الزمان؟..................92
الأمر الأوّل: المادة منشأ النقص..................93
حقيقة الروح قبل وبعد التلبّس بالجسد..................94
الأمر الثاني: التراكمية الثقافية..................94
الأمر الثالث: حاجة البشرية للتراكمية الثقافية..................95
المحور الثالث: دور الأمّة في التمهيد للظهور..................97
أنواع الانتظار..................97
الانتظار التعطيلي..................97
1 - المدلول العقائدي..................98
2 - المدلول الإداري..................99
3 - المدلول السلوكي..................99
المحاضرة السادسة: دور المرأة في الحركة المهدوية..................103
المحور الأوّل: القراءة الصحيحة لخطابات الشارع..................106
1 - الاتّجاه الحداثي..................106
الركيزة الأولى: الفرق بين الدين والتراث الفقهي..................107
الركيزة الثانية: تاريخية النصّ..................107
مناقشة الاتّجاه الحداثي..................109
المناقشة الأولى: نزول الوحي معنىً ولفظاً..................109
المناقشة الثانية: كيفية الوصول إلى فهم الدين..................110
المناقشة الثالثة: قرينة السياق..................111
الخطاب التدبيري..................112
الخطاب القانوني..................113
2 - الاتّجاه الفقهي..................115
الركيزة الأولى: عدم وجود قاعدة أفضلية الرجل..................115
الركيزة الثانية: التفضيل الشرعي لا يدلُّ على التفضيل الواقعي..................116
المحور الثاني: دور المرأة في الحركة المهدوية..................118
الطريق الأوّل: الروايات..................118
الطريق الثاني: المطلقات..................118
الطريق الثالث: التاريخ..................119
المحاضرة السابعة: اليوم الموعود والحضارة الكونية..................121
حياة الأرض بعدل القائم (عليه السلام)..................123
القرينة الأولى: القرينة السياقية..................123
القرينة الثانية: القرينة اللفظية..................124
المحور الأوّل: الحضارة الكونية هدف الوجود الإنساني..................125
الدليل العقلي المدعم بالنقل..................125
الدليل النقلي..................127
المقدّمة الأولى: الكون أسرة واحدة..................127
المقدّمة الثانية: ما هو المطلوب من الإنسان؟..................129
المحور الثاني: دولة الإمام المهدي (عليه السلام) والحضارة الكونية..................130
الأمر الأوّل: دولة المهدي (عليه السلام) أرقى حضارة تكنولوجية..................130
الوجه الأوّل: ما يستفاد من القرآن الكريم..................130
الوجه الثاني: الدليل النقلي من الروايات..................131
الأمر الثاني: بأيّ شيء تتحقَّق الحضارة الكونية؟..................133
العنصر الأوّل: اكتشاف الأسرار..................133
العنصر الثاني: خروج العلوم من النظريات إلى الحقائق..................135
المحور الثالث: يوم المهدي يوم التزاوج بين العلم والعبادة..................137
المحاضرة الثامنة: المهدي (عليه السلام) لطف الحياة..................139
المحور الأوّل: بيان حقيقة التأويل..................142
المرحلة الأولى: مرحلة الاستظهار..................142
المرحلة الثانية: مرحلة التفسير..................142
المرحلة الثالثة: مرحلة التأويل..................143
المحور الثاني: إرادة الله..................147
المعنى الأوّل: إفاضة الوجود..................147
المعنى الثاني: حبس الفيض..................147
المعنى الثالث: إعداد الأسباب..................148
المحور الثالث: فلسفة طول عمر الإمام المهدي (عليه السلام)..................148
الوجه الأوّل: الشهادة الحسّية..................149
الوجه الثاني: التكامل اليقيني في المقام الروحي..................151
الوجه الثالث: حفظ الشريعة..................157
المحاضرة التاسعة: التفاعل مع الغيبة بين اليأس والأمل..................161
المحور الأوّل: الشخصية النورانية ومسألة الإعجاز..................164
العنصر الأوّل: اكتشاف الأسرار والعلل الحقيقية..................164
العنصر الثاني: الإرادة القدسية..................167
المحور الثاني: غيبة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام)..................169
المحور الثالث: ألطاف الغيبة..................173
الأمر الأوّل: الجواب النقضي والحلّي..................174
الأمر الثاني: حكمة الغيبة..................175
الأمر الثالث: ماذا نستفيد من الغيبة؟..................176
منشأ التشاؤم..................178
السبب الأوّل: ثقافة المحيط..................178
علاج التشاؤم..................179
الطريق الأوّل: الأجواء الروحية..................179
الطريق الثاني: الصديق الناجح..................179
الطريق الثالث: الثقافة..................179
المحاضرة العاشرة: يا لثارات الحسين (عليه السلام)..................181
المعنى الأوّل: القول الصادق..................183
المعنى الثاني: الوجود..................183
الخصائص المشتركة بين الثورة الحسينية والثورة المهدوية..................187
العنصر الأوّل: الحقيقة..................187
الأمر الأوّل: الرجوع إلى العلل والأسباب..................187
الأمر الثاني: تحليل الثورة..................188
الأمر الثالث: ثورة الحسين (عليه السلام) ثورة فعلية..................189
العنصر الثاني: الهدف..................191
العامل الأوّل: العامل الاقتصادي..................191
العامل الثاني: العدل:..................191
العنصر الثالث: القاعدة..................193
المحاضرة الحادية عشرة: المهدي (عليه السلام) نبع الهداية..................197
المحور الأوّل: الهداية وأقسامها..................201
المرتبة الأولى: الانشراح..................202
المرتبة الثانية: الاستقامة..................202
المرتبة الثالثة: اليقين المؤدّي للرؤية الملكوتية..................204
المحور الثاني: نسبة الهدى والضلال إلى الله..................206
المحور الثالث: المهدي (عليه السلام) وعالم الهداية..................208
الأمر الأوّل: لِمَ سُمّي المهدي مهدياً؟..................208
الأمر الثاني: عصر ظهور المهدي عصر وضوح الحقيقة..................210
الأمر الثالث: عصر المهدي عصر اتّصال الإنسان بالملائكة..................211
المحاضرة الثانية عشرة: يوم الظهور انتصار فكري لا مادي..................213
المحور الأوّل: يوم الظهور انتصار فكري لا انتصار عسكري..................216
الأمر الأوّل: لا يمكن فرض الدين بالسلاح..................217
المحور الثاني: بقاء الفكر المعارض..................222
المحور الثالث: كيفية تعامل المهدي (عليه السلام) مع الفئة المعارضة..................225
الوجه الأوّل: الفكر المعارض غير متصوّر..................226
الوجه الثاني: النزعة العدوانية هي الممنوعة..................227
المحاضرة الثالثة عشرة: دور المرجعية في عصر الغيبة..................231
المحور الأوّل: تقسيم العقائد..................233
المحور الثاني: الميزان في الإسلام والتشيّع..................235
الطريق الأوّل: الطريق الظنّي..................236
الطريق الثاني: الطريق القطعي..................237
الطريق الأوّل: الإجماع..................237
الطريق الثاني: الارتكاز العلمائي..................240
الطريق الثالث: التواتر الإجمالي..................240
المحور الثالث: الميزان في الثابت والمتغيّر..................242
المحور الرابع: دور الفقيه في عصر الغيبة..................244
المرتبة الأولى: الحفظ التشريعي:..................244
المرتبة الثانية: الحفظ التعليمي..................245
المرتبة الثالثة: الحفظ التطبيقي..................246
مصادر التحقيق..................247
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز:
الحديث عن المنبر الحسيني وعطائه الفذّ وما قدَّمه للأمّة عبر التاريخ ربَّما يكون فضولاً من القول أو توضيحاً للواضحات ولكن لا بأس من التنبيه إلى أنَّ المنبر كان ولا يزال أحد أهمّ عوامل حفظ الطائفة عن الضياع والتلاشي على الصعيد الفكري والاجتماعي والتربوي والعقائدي رغم كلّ الويلات والمحن التي جرت على شيعة أهل البيت (عليهم السلام) منذ صدر الإسلام وإلى اليوم.
فهو اللسان المعبّر عن ضمير الأمّة والناطق عن كلّ ما يعتلج بصدرها، والمجيب عن جميع ما يعتري ذهنها من شبهات وأسئلة حول المذهب بشكل خاصّ والإسلام بشكل عامّ.
والجدير بالذكر أنَّ المنبر الحسيني حاله حال سائر دعائم وأركان هذا المذهب يتجدَّد ويتطوَّر بتجدّد العصر، سواء على صعيد صياغة المفردة المنبرية أو تناول القضايا الاجتماعية والفكرية - لكلّ عصر حسب متطلّباته واحتياجاته - أو إدخال عناصر جديدة في الرثاء وغير ذلك.
وبعبارة أخرى إنَّ المنبر الحسيني متحرّك ومنفتح ومتوسّع ولكن ليس على حساب الثوابت والمرتكزات، بل يتحرَّك في ضمن عالم المتغيّرات ويبدع في فضاءاتها.
وكنموذج واضح عمَّا ذكرنا هو ما استعرضه العالم الفذّ والخطيب
الحسيني المبدع، خرّيت هذا الفنّ، صاحب البيان الساحر، والذوق الرفيع في الطرح، سماحة السيّد منير الخبّاز، في طيّات حديثه حول العقيدة المهدوية من خلال ثلاث عشرة محاضرة في أيّام محرَّم الحرام، وهي مبادرة رائدة في هذا الخصوص، حيث يكرّس الخطيب الحسيني كلّ محاضراته حول هذه الأطروحة الإلهية وفي ليالي وأيّام محرَّم الحرام التي اعتاد الخطباء حفظهم الله تعالى أن يخصّصوها لمأساة كربلاء شرحاً وتحليلاً واستعراضاً ويتناولون القضايا الإسلاميّة كافّة في أثناء محاضراتهم، إذ أنَّ مدرسة الحسين (عليه السلام) عطاء دائم ونبع فيّاض لكلّ الكمالات الإنسانية.
أقول: إنَّ المؤلّف استعرض القضيّة المهدوية في أبعاد متنوّعة من تأصيل وتعميق للعقيدة إلى ردّ شبهات وإجابة على تساؤلات إلى عرض تأريخي وتحليل علمي وتفسير قرآني فجزاه الله خيراً.
والمركز إذ يقدّم للقرّاء الأعزّاء وخصوصاً السادة خطباء المنبر الحسيني الكرام هذه المحاضرات القيّمة فإنَّه يأمل مزيداً من الاهتمام من قبلهم بالقضيّة المهدوية وأن لا يدعوا ذكر الإمام المهدي (عليه السلام) في جميع خطبهم ومجالسهم سواء على صعيد تخصيص كامل المحاضرة في هذا الشأن أو الاستطراد والاستعراض في أثناء المحاضرة أو على مستوى الدعاء له (عليه السلام) بتعجيل الفرج.
وختاماً نسأله تعالى أن يوفّق الجميع لكلّ خير ببركات ورعاية صاحب العصر والزمان.
مدير المركز
السيّد محمّد القبانچي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المؤلّف:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المصطفى محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
وبعد..
فقد قام الإخوة الأعزّاء في مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام) وعلى رأسهم الأخ العزيز العلاّمة المجاهد السيّد محمّد القبانجي دامت توفيقاته بجمع محاضراتي المتعلّقة بالإمام الحجّة أرواحنا له الفداء التي ألقيتها في محرَّم الحرام سنة (1431هـ) وتهذيبها وتخريج مصادرها، وقد راجعتها بعد تحريرها وأضفت لها بعض المعلومات وحذفت بعضاً بحسب ما يقتضيه مقام النشر والتأليف، وإنّي إذ أقدّم شكري الجزيل لهذا المركز المعطاء أدعو إخواني من أهل الفضل والعلم والمنبر للتعاون مع هذا المركز الذي أخذ على عاتقه نشر التراث المهدوي والدفاع عن حريمه، وأسأل الله لهم دوام التوفيق والتسديد إنَّه سميع مجيب.
السيّد منير الخبّاز
24/ شعبان/ 1431هـ
المحاضرة الأولى: السعادة في لقاء الإمام المهدي (عليه السلام)
(1/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(18/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (هود: 86).
أفاد السيّد الطبطبائي (قدّس سرّه) في الميزان أنَّ المقصود من ﴿بَقِيَّتُ اللهِ﴾ في الآية المباركة الربح الذي يدخل على الإنسان إذا أجرى المعاملة كأن باع شيئاً بربح، واستدلَّ على ذلك بالسياق حيث إنَّ الآية وردت في سياق كلام شعيب (عليه السلام) مع قومه، حيث قال: ﴿وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (هود: 85 و86)، ولكن الصحيح أنَّ ﴿بَقِيَّتُ اللهِ﴾ هو المظهر الباقي لله تبارك وتعالى، وهو ما ينطبق على الإمام المنتظر (عليه السلام) لوجهين:
الوجه الأولى: أنَّ الرواية وردت بذلك، في الكافي عن عمر بن زاهر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سأله رجل عن القائم يسلَّم عليه بإمرة المؤمنين؟
قال: «لا، ذاك اسم سمّى الله به أمير المؤمنين (عليه السلام)، لم يسمّ به أحد قبله ولا يتسمّى به بعده إلّا كافر».
قلت: جُعلت فداك كيف يسلَّم عليه؟
قال: «يقولون: السلام عليك يا بقيّة الله»، ثمّ قرأ: «﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾»(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي 1: 411 و412/ ح 2.
فالمراد ببقيّة الله هو الإمام المنتظر لأنَّه المظهر الباقي لله، إذ كلّ إمام وكلّ نبيّ هو مظهر لله، لكن المظهر قد يكون انتقل إلى الملئ الأعلى بالوفاة، فهم مظهر قد انقضى، وهناك مظهر ما زال باقياً إلى أن تقوم الساعة وهو المعبَّر عنه ﴿بَقِيَّتُ اللهِ﴾، وهذا ينطبق على الإمام الحجّة (عليه السلام).
الوجه الثاني: أنَّ الشرط في الآية يؤكّد ذلك، فلو كان المراد من ﴿بَقِيَّتُ اللهِ﴾ هو الربح الذي يدخل في جيب الإنسان إذا باع بربح فلا معنى لاشتراطه بالإيمان، إذ الربح خير للمؤمن وللكافر ولا يختصُّ بالمؤمن، بينما الآية جعلت ﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ لخصوص المؤمنين ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، وهذا لا ينطبق إلّا على ملجأ المؤمنين وملاذ المؤمنين الإمام الحجّة (عليه السلام) فهو الخير الذي يكون مشروطاً بالإيمان والصلاح.
فالآية تتحدَّث عن الإمام الحجّة، وورودها في سياق الآيات التي تتحدَّث عن شعيب وقومه لا ينافي عمومها وسعتها لغير زمان شعيب، بل لجميع الأزمنة فإنَّ الغرض منها خطاب للمؤمنين في كلّ زمان وإن جاءت بلسان خطاب شعيب لقومه.
والحديث عن الإمام الحجّة (عليه السلام) ينفتح على ثلاثة محاور:
المحور الأوّل: كيفية التعامل مع قضيّة الإمام المنتظر (عليه السلام):
هناك اتّجاهان: اتّجاه مادي، واتّجاه روحي.
الاتّجاه المادي: هو الذي يتعامل مع الإمام المنتظر كإنسان غائب ينتظر قدومه ومسافر ينتظر مجيؤه، لذلك ترى كثيراً من الشيعة وكثيراً من الأقلام وكثيراً من المتحدّثين يركّزون على القضايا المادية, وعلامات الظهور، وشكل الإمام وشكل سيفه ودرعه ولباسه وخاتمه، هذا التركيز على القضايا المادية يعبّر
عن (اتّجاه مادي) وهو أنَّ الإمام جسد غاب عن الأنظار ومسافر غاب عن الأعين يرتجى قدومه يوماً من الأيّام، لذلك لا بدَّ أن نبحث عن علامات قدومه وعلامات مجيئه حتَّى نميّزه عن غيره.
وهناك اتّجاه آخر وهو الاتّجاه الروحي: وهذا الاتّجاه ينطلق من رؤية أنَّ الإمام حاضر وليس بغائب، نعم أنَّ الإمام كسائر الناس له جسد مكوَّن من دم ولحم، ولكن ليست الإمامة منوطة بجسده الغائب، بل الإمامة مجموعة من القيم والمبادئ والمُثل، وهذه المبادئ حاضرة وقائمة وفاعلة وليست غائبة، فالإمام بمبادئه, والإمام بمُثله، والإمام بقيمه، وليس الإمام بجسده المادي فقط.
وبما أنَّ الإمامة مجموعة من القيم والمُثُل، إذن فالإمام حاضر وليس بغائب، لأنَّ هذه المبادئ حاضرة وفاعلة، فعلينا أن نتعامل مع الإمام كحاضر لا أن نتعامل مع الإمام كغائب.
وهذه المبادئ هي التي تقرّرها الآية المباركة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: 110)، وقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: 104)، هذه هي مفهوم الإمام, فإنَّ الإمام أمر بمعروف ونهي عن منكر، والإمام دعوة إلى الخير، وهذه المبادئ الحيّة النشطة المتجدّدة هي الإمام الحجّة، ونحن نتفاعل مع هذه المبادئ تفاعلاً حضورياً لا تفاعلاً غيابياً، ولا يعني هذا أن نستخفّ بالعلامات المرتبطة بالظهور فقد ذكرت لنا علامات، مثلاً:
ورد في رواية عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة, والسفياني, والخسف, وقتل
النفس الزكية - بين الركن والمقام -(2)، واليماني»(3)، هذه خمس علامات.
وفي معتبرة عبد الله بن سنان (أنَّ جميعها محتوم)(4)، بمعنى لا بدَّ من حصوله.
وفي رواية أبي بصير: «وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى، لأنَّه يدعو إلى صاحبكم»(5).
إذن وجود علامات للإمام المنتظر (عليه السلام) أمر لا يمكن إنكاره، وهذه العلامات ستقع قبل خروجه، وذكرها أهل البيت (عليهم السلام) من أجل رفع اللبس عن خروجه ووقت خروجه، لكن لا ينبغي أن نركّز على العلامات ونهمل المبادئ, فإنَّ الإمام هو المبادئ وليس هو هذه العلامات, فهذه العلامات سواء تمَّت أو لم تتمّ فإنَّ علينا أن نتعامل مع الإمام كحاضر فاعل.
والخلاصة أنَّ التركيز في الحديث عن علامات الظهور وصفات شخص الإمام وصفات لباس الإمام يعبّر عن اتّجاه مادي يحصر الإمامة في الجسد الذي لا تراه الأعين مع أنَّ الإمامة بمبادئ حاضرة وفاعلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) راجع: كمال الدين: 331/ باب 32/ ح 16.
(3) الكافي 8 : 310/ ح 483.
(4) عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «النداء من المحتوم، واليماني من المحتوم، وقتل النفس الزكية من المحتوم، وكفّ يطلع من السماء من المحتوم»، قال: «وفزعة في شهر رمضان توقظ النائم، وتفزع اليقظان، وتخرج الفتاة من خدرها»، (الغيبة للنعماني: 262/ باب 14/ ح 11).
(5) الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.
المحور الثاني: هل الهدف لقاء الإمام (عليه السلام)؟
لا إشكال أنَّ الهدف الأسمى والسعادة الكبرى هي في التشرّف بلقاء الإمام الحجّة (عليه السلام) ولكن حتَّى نفهم هذه النقطة جيّداً فهناك ثلاثة أسئلة نطرحها ونجيب عنها:
السؤال الأوّل: هل من الممكن لقاء الإمام (عليه السلام) أم لا؟
ربَّما يقول شخص بأنَّ لقاء الإمام باب مسدود مغلق، لما رواه الشيخ الصدوق في كتابه (كمال الدين)، والشيخ الطوسي في كتابه (الغيبة)، عن الحسن بن أحمد المكتَّب (رضي الله عنه) - كان من أجلاّء علماء الإماميّة -، يقول في آخر سنة وفي آخر شهر من حياة السفير الرابع وهو (علي بن محمّد السمري) آخر سفراء الإمام المنتظر خرج إليه توقيع من الإمام المنتظر (عليه السلام): «بـِسْم اللهِ الرَّحْمن الرَّحِيم، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُريَّ أعْظَمَ اللهُ أجْرَ إِخْوَانـِكَ فِيكَ، فَإنَّكَ مَيَّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أيَّام فَأجْمِعْ أمْرَكَ وَلاَ تُوص إِلَى أحَدٍ يَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ التَّامَّةُ فَلاَ ظُهُورَ إِلّا بَعْدَ إِذْن اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الأمَدِ وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ وَامْتِلاَءِ الأرْض جَوْراً، وَسَيَأتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي الْمُشَاهَدَةَ ألاَ فَمَن ادَّعَى الْمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوج السُّفْيَانِيّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلّا بِاللهِ الْعَلِيّ الْعَظِيم»(6), حيث يستفاد منه أنَّ لقاء الإمام ممتنع لأنَّه يقول: «من ادَّعى المشاهدة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله».
الجواب: الأمر ليس كذلك لعدّة أمور:
الأمر الأوّل: إنَّ غيبة الإمام ليست غيبة انعزالية وإنَّما هي غيبة اتّصالية بمعنى أنَّ الإمام ليس غائباً عن المجتمع ويعيش في جبل أو في جزيرة أو في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) أنظر: كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44؛ الغيبة للطوسي: 395/ ح 365.
مكان وحده، لا، ليس الأمر كذلك، فغيبة الإمام غيبة اتّصالية، بمعنى أنَّ الغائب عنوانه لا شخصه، فهو يعيش مع الناس، يأكل معهم، يشرب معهم، وقد يتزوَّج، هو بين ظهرانينا لكنّا لا نعرف عنوانه، فغيبته غيبة اتّصالية وليست غيبة انعزالية، ولذلك نقرأ في دعاء الندبة: «بِنَفْسِي أنْتَ مِنْ مُغَيَّبٍ لَمْ يَخْلُ مِنَّا، بِنَفْسِي أنْتَ مِنْ نَازِح مَا نَزَحَ عَنَّا، بِنَفْسِي أنْتَ أُمْنِيَّةُ شَائِقٍ يَتَمَنَّى مِنْ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ ذَكَرَا فَحَنَّا»(7), إذن غيبته هي غيبة عنوان لا غيبة شخص فهو متَّصل بنا يعيش معنا، ولذلك فإنَّ لقائه أمر ممكن جدَّاً وأمر متيسّر إذا أراد الإمام ذلك فإنَّ بيده تحديد اللقاء وليس بأيدينا.
الأمر الثاني: تواتر لدى الشيعة الإماميّة لقاء الإمام مع كثير من العلماء بنحو يورث القطع واليقين بأنَّ لقائه ممكن وليس باباً مغلقاً ولا مسدوداً(8).
الأمر الثالث: هذا التوقيع الشريف الذي قال: «ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله»، يتحدَّث عن السفارة لا عن اللقاء، فالممتنع هو السفارة بمعنى أنَّه بعد السفير الرابع لا توجد سفارة إلى أن يخرج الإمام ويظهر ظهوراً تامّاً، فالمغلق هو السفارة لا اللقاء، والقرينة على ذلك سياق الرواية لأنَّها تتكلَّم عن كتاب إلى سفير الإمام تقول: أنت آخر سفير ولا توص لأحد من بعدك، قد وقعت الغيبة التامّة، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة بمعنى (من يدَّعي السفارة)، فمن ادّعى المشاهدة يعني السفارة فهو كاذب مفتر, والسفير يختلف عن الإنسان العادي، فإنَّ المواطن يعرف بعض أخبار الدولة لكن سفيرها يعرف أسرارها ويعرف سياستها الداخلية والخارجية ويناط به البحث في قضايا مصيرية وخطيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) المزار لابن المشهدي: 581/ الدعاء للندبة.
(8) أنظر كتاب (جنّة المأوى في من فاز بلقاء الحجّة (عليه السلام)) للمحدّث النوري (قدّس سرّه).
والإمام المنتظر يقول: (لا سفير لي بعد السفير الرابع) يعني لا أبعث للأمّة سفيراً يعرف أسراري ويبلغ الأمّة القضايا المصيرية والخطيرة فهذا باب مسدود، أمَّا أن يلتقي الإنسان بالإمام ويستنير بأنواره وبإرشاداته فهو أمر ممكن وليست سفارة حتَّى ينفيها هذا الحديث.
وإن كان الإمام (عليه السلام) لا يبذل لقائه لكلّ أحد، بل هو الذي يختار من يلتقي به لمصلحة عامّة أو خاصّة، وإلّا لو بذل الإمام لقائه لأيّ شخص لكان ذلك خلاف الحكمة أي نقضاً للغرض من هذا اللقاء، لأنَّه (عليه السلام) لا يلتقي بشخص إلّا لأجل مصلحة عامّة أو خاصّة تقتضي هذا اللقاء، فلا بدَّ أن يكون الملاقي أهلاً لهذا اللقاء ولتحقيق هذه المصلحة العامّة أو الخاصّة.
السؤال الثاني: ما هي طبيعة لقاء الإمام (عليه السلام)؟
لقاء الإمام هو لقاء الله لأنَّ الإمام مظهر لله، فلقاء الإمام يعني لقاء الله (عزَّ وجلَّ).
وهو لقاء الفناء لا لقاء الارتباط كما يعبَّر عنه في مصطلح علم الفلسفة, إذ هناك فرق بين العلاقة الارتباطية والعلاقة الفنائية، ولتقريب الفكرة نضرب مثلاً: إذا وضعت عسلاً في كأس حليب، فالحليب مع العسل يسمّى (علاقة ارتباطية) إذ ما زلت عندما تشرب الحليب تشعر أنَّ هناك حليباً وأنَّ هناك عسلاً، يعني هناك وجودان ارتبط أحدهما بالآخر، بينما إذا صهر الذهب مع معدن آخر وأصبح مادة واحدة فهذه تسمّى علاقة فنائية، لأنَّك لا تشعر بأنَّ هناك شيئين، بل مادة واحدة، بينما علاقة الامتزاج بين الحليب والعسل علاقة ارتباطية لا فنائية، هذا بلحاظ الوجود الخارجي وكذلك بلحاظ الوجود الذهني ويحصل بالتأمّل في علاقة الاسم بالمسمّى، مثلاً: إذا جيء لي بولد وأسميته ضرغام، فعندما يقول لي واحد من الناس: ضرغام، لا يتبادر ذهني إلى الولد لأنّي لم أتعوَّد على ذلك,
فأشعر بأنَّ هناك وجودين وجود للولد وهو ابني ووجود للحروف، ضاد وراء وغين وألف وميم، لكن إذا مرَّت الأيّام واعتدت على الاسم فبمجرَّد أن يقال لي: ضرغام، ينتقل ذهني إلى ولدي ولا أشعر بالحروف أبداً، وهذه تسمّى (علاقة فنائية) فناء الاسم في المسمّى، فالعلاقة بين الاسم وبين المسمّى في أوّل أيّام الولادة كانت ارتباطية ربط الاسم بالمسمّى، لكن بمرور الوقت تحوَّلت العلاقة من علاقة ارتباطية إلى علاقة فنائية، ولا تشعر بالاسم أبداً، وهكذا لقاؤنا مع الله يجب أن يكون لقاء فناء بحيث نشعر أن ليس هناك وجودان وجود لنا ووجود لله، ولا نشعر إلّا بوجود الله، هذا ما يسمّى بالعلاقة الفنائية، واللقاء الفنائي أن يصل الإنسان إلى حدّ الإحساس بحضور الله، فالقرآن الكريم يعبّر عن العلاقة الفنائية عندما يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (الفتح: 10)، حيث يشعر الإنسان أنَّ يد الله تلامس يده، ويقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ﴾ (التوبة: 104)، بحيث نصل إلى الشعور بأنَّ الله هو الذي يأخذ صدقاتنا منّا، وقال تعالى في آية ثالثة: ﴿لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ﴾ (الحجّ: 37).
فالمطلوب في لقائنا مع الله أن يكون لقاء الفناء أي أن لا نشعر بأنفسنا، بل لا نشعر إلّا بوجود الله، وهذا ما تحدَّث عنه الإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء يوم عرفة: «مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ، وَمَتَى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ، عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَرَاكَ عَلَيْهَا رَقِيباً، وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبَّكَ نَصِيباً»(9).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9) بحار الأنوار 95: 226.
السؤال الثالث: هل يريد الإمام (عليه السلام) لقاءنا؟
إنَّ علماء العرفان يقولون: هناك فرق بين لقاء الأنس ولقاء التشريف, والفرق بينهما هو أنَّ لقاء التشريف بمعنى أن يمنَّ عليَّ الإمام(عليه السلام) ويريني طلعته الرشيدة وغرَّته الحميدة كما جاء في الدعاء: «اللهُمَّ أرِني الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ، وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ، وَاكْحُلْ نَاظِري بِنَظْرَةٍ مِنّي إِلَيْهِ، وَعَجَّلْ فَرَجَهُ»(10)، لكن الإمام لا يريد ذلك, بل الإمام يريد لقاء الأنس، وكيف يلتقي بنا الإمام لقاء الأنس إذا لم نكن أهلاً لإيناس الإمام, ولم نكن أهلاً لتفريح قلب الإمام، إذن الإمام يريد شيئاً ونحن نريد شيئاً، نحن نريد أن نبقى على ذنوبنا ومعاصينا وعلى الإمام أن يشرّفنا بلقائه ويكرمنا بطلعته والإمام ينادينا: أنا لا أريد هذا اللقاء، أريد لقاء الأنس أريد أن التقي بكم وأنا فرح بكم، مبتهج بكم، والفرح والبهجة والأنس تتوقَّف على أن ننصهر بالإمام وأن تكون علاقتنا بالإمام علاقة فنائية لا ارتباطية حتَّى يكون لقاؤنا مع الإمام لقاء الأنس، وإلّا فالإمام يتفضَّل علينا باللقاء وهو كريم لكنَّه يريد أن يكرمنا بلقاء يعبّر عنه بلقاء الأنس، فما نطلبه نحن غير ما يطلبه الإمام منّا.
المحور الثالث: في علاقة العشق بالإمام (عليه السلام):
من المفيد الاعتراف بأنَّ علاقتنا بالإمام علاقة سطحية، علاقة جافّة جدَّاً، علاقة يابسة، ربَّما تكون علاقتنا بأساتذتنا أقوى من علاقتنا بالإمام, ربَّما تكون علاقتنا بأصدقائنا وأحبّائنا أقوى من علاقتنا بالإمام، ربَّما تكون علاقتنا بمراجعنا وزعمائنا أقوى من علاقتنا بالإمام، فلذا يجب مراجعة الذوات لتكون علاقتنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) المصباح للكفعمي: 551/ دعاء العهد.
بالإمام علاقة حبّ وعشق لا مجرَّد دعاء، فنحن ندعو للإمام ولكن ما يريده الإمام منّا ليس مجرَّد لقلقة لسان في الدعاء، بل يريد علاقة حبّ وعشق كي نكون أهلاً للقائه وأهلاً لتكريمه وأهلاً لتشريفه.
عناصر العلاقة العشقية بالإمام (عليه السلام):
العنصر الأوّل: صفاء القلب:
فالقلب الذي يحمل حقداً على الناس بعيد عن لقاء الإمام، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحشر: 10)، والقلب الخالي من الغل هو القلب الذي يلتقي بالإمام.
والإنسان المبتسم المتواضع الخلوق الذي يحبّ الناس، يألف الناس، يبادر لقضاء حوائج الناس، هو المحظوظ بلقاء الإمام، هو المحظوظ ببركة الإمام، هو المحظوظ بمدد الإمام، لأنَّ قلبه طاهر، وصفحة بيضاء لا يحمل حقداً ولا ضغينة، كما ورد عن النبيّ محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وتوطأ رحالهم»(11).
العنصر الثاني: الطهارة من الذنوب:
فالذنوب تزعج الإمام وتؤلمه، فقد روى الشيخ الطبرسي في (الاحتجاج)(12) عن الإمام المنتظر (عليه السلام) أنَّه قال: «ولو أنَّ أشياعنا وفَّقهم الله لطاعته - الإمام يريد أن يشير إلى شرط اللقاء معه (عليه السلام) - على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد الذي عليهم لمَّا تأخَّر عليهم اليمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) الكافي 2: 102/ باب حسن الخلق/ ح 16.
(12) الاحتجاج 2: 325.
بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتَّصل بنا ممَّا نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل».
العنصر الثالث: الإهداء للإمام (عليه السلام):
فقد ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «تهادوا تحابوا»(13)، فالهدية تورث المحبّة حتَّى مع الإمام وذلك أن تصلّي عنه, أن تطوف عنه, أن تحجّ عنه، أن تتصدَّق عنه، أن تصوم عنه، والصدقة عنه هدية غالية ثمينة يكرمها الإمام (عليه السلام) وهذه الهدية تجعلنا مشمولين لبركته مشمولين لدعائه، الدعاء الحقيقي المستجاب من الله، ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60)، فإذا تحقَّق الدعاء تحقَّقت الاستجابة، لكن كثير منّا يقول: أنا أدعو ولا يستجاب لي، ونقول له: لم يصدر منك دعاء حقيقي المستلزم للإجابة، وتستطيع أن تصل إلى الدعاء الحقيقي عن طريق الإمام الحجّة بأن يدعو لك فحينئذٍ تتحقَّق الاستجابة، ﴿ادْعُونِي﴾ إمَّا بالمباشرة أو بالواسطة, وأنا أستطيع أن أدعو الله (عزَّ وجلَّ) بواسطة لسان الإمام المنتظر (عليه السلام)، والاتّصال يكون من خلال الإهداء إليه والقيام بأعمال الخير نيابة عنه، فإنَّ هذه الهدية تجلب دعائه لي، فأكون قد دعوت الله تبارك وتعالى بلسان الإمام المنتظر (عليه السلام)، والسيّد علي بن طاووس من أجلاّء علماء الإماميّة يقول: (كنت بسُرَّ من رأى فسمعت سحراً دعاء القائم (عليه السلام) فحفظت منه لمن ذكره الأحياء والأموات: «وأبقهم - أو قال: وأحيهم - في عزّنا وملكنا وسلطاننا ودولتنا» وكان ذلك في ليلة الأربعاء ثالث عشر ذي القعدة سنة 638هـ)(14).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) الكافي 5: 144/ باب الهدية/ ح 14.
(14) بحار الأنوار 52: 61/ ح 50، عن مهج الدعوات.
فالإمام يدعو لمن قرب منه، والإمام (عليه السلام) يكتب للشيخ المفيد شيخ الطائفة الإمامية: «إِنَّا غَيْرُ مُهْمِلِينَ لِمُرَاعَاتِكُمْ، وَلاَ نَاسِينَ لـِذِكْركُمْ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَنَزَلَ بِكُمُ اللأوَاءُ وَاصْطَلَمَكُمُ الأعْدَاءُ»(15)، الإمام إذا اقتربنا منه اقترب منّا ودعا لنا.
العنصر الرابع: الذكر الخفي:
والذكر الخفي مصطلح عند علماء العرفان مأخوذ من دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): «وآنسنا بالذكر الخفي, واستعملنا بالعمل الزكي، والسعي المرضي»(16)، ويقصد به الانقطاع إلى الله بحيث لا يطلب إلّا من الله ولا يشكو إلّا لله ولا يبثّ همّه إلّا لله، فيقال عنه: ذكر الله ذكراً خفيّاً وانقطع إلى الله تبارك وتعالى، فمن عناصر لقاء الإمام الذكر الخفي بمعنى أن تنقطع إليه وتقول: يا ربّ أنا لا أريد حاجةً لا أريد حياةً ولا شفاءً ولا رزقاً إلّا برضى الإمام المنتظر (عليه السلام)، عن طريق رضاه عن طريق إرادته، لأنّي منصهر به، لأنّي متعلَّق به، لأنّي مغرم به، هذا ما يسمّى (بالذكر الخفي) وهو من عناصر لقائه (عليه السلام).
العنصر الخامس: تصوّر الإمام والتفكّر فيه (عليه السلام):
أنت إذا أحببت شخصاً تتصوَّره ويمرُّ على بالك دائماً، ولو كنت تحبّ الإمام المنتظر (عليه السلام) حقّاً لكان بالك وذكرك وذهنك مشغولاً بصورته مشغولاً بخياله مشغولاً بما تتصيَّد من أوصافه، فهل بالك مشغول به؟
ونظرة واحدة لزيارة آل ياسين تصوّر لنا التفكّر في الإمام، حيث نقرأ فيها: «السَّلامُ عَلَيْكَ فِي آنَاءِ لَيْلِكَ وَأطْرَافِ نَهَارِكَ...، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقُومُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقْعُدُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَقْرَأ وَتُبَيَّنُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُصَلّي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15) الاحتجاج 2: 323.
(16) الصحيفة السجّادية/ أبطحي: 419/ ح 194، في مناجاة الذاكرين.
وَتَقْنُتُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تَرْكَعُ وَتَسْجُدُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُهَلّلُ وَتُكَبَّرُ، السَّلامُ عَلَيْكَ حِينَ تُصْبِحُ وَتُمْسِي، السَّلامُ عَلَيْكَ فِي اللَّيْل إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى»(17)، هذه صور للإمام تمرُّ على أذهاننا وتربطنا به (عليه السلام).
العنصر السادس: التألّم لألمه (عليه السلام):
لا يوجد شخص على هذه الأرض يتألَّم مثل الإمام, لما يرى من مصائب ونوائب في الأمّة الإسلاميّة، كما أنَّ الإمام إذا رأى ذنباً من مؤمن يتألَّم، فكيف إذا رأى فضائع الذنوب وكبائر الجرائم والمعاصي، لذلك علاقتنا بالإمام تقتضى أن نتألَّم لألمه، ويعلّمنا دعاء الندبة المعروف بين الإماميّة كيف نتألَّم لألم الإمام: «عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أرَى الْخَلْقَ وَلا تُرَى وَلا أسْمَعُ لَكَ حَسِيساً وَلا نَجْوَى...، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أُجَابَ دُونَكَ وَأُنَاغَى، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الْوَرَى، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ يَجْريَ عَلَيْكَ دُونَهُمْ مَا جَرَى»(18)، هذه الكلمات تقوّي عندنا إحساساً بألم الإمام وبآهات الإمام، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «رحم الله شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا يحزنون لحزننا ويفرحون لفرحنا»(19)، فالتألّم لألمهم دليل الولاء لهم، ومن ألم الإمام المنتظر (عليه السلام) الذي لا ينساه ولا يهجع عند ذكره ألم كربلاء، ألم عاشوراء، فهو الألم المستمرّ المتجدّد للإمام المنتظر (عليه السلام).
الحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17) بحار الأنوار 53: 171/ ح 5.
(18) المزار لابن المشهدي: 581 و582/ الدعاء للندبة.
(19) شجرة طوبى/ الحائري 1: 3.
المحاضرة الثانية: المهدي (عليه السلام) عشق هادف
(2/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(19/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ﴾ (النمل: 62).
الآية المباركة دلَّت على أنَّ المضطرّ إذا دعا ربّه استحقَّ الإجابة، ولكن البحث يقع في ما هو المقصود بالمضطرّ في الآية المباركة؟
فهنا رأيان:
الرأي الأوّل: ما ذكره السيّد الطباطبائي (رحمه الله) في (تفسير الميزان)(20) أنَّ المضطرّ هو الإنسان المنقطع إلى الله بدلالة آيتين في القرآن تفسّر إحداهما الأخرى:
الآية الأولى: ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60)، وظاهر هذه الآية أنَّ الدعاء الحقيقي يستلزم الإجابة، مع السكوت عن ماهية وجوهر الدعاء الحقيقي المستلزم للإجابة.
بينما جاءت آية أخرى فسَّرت معنى الدعاء الحقيقي وهي قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ (النمل: 62)، يعني أنَّ الدعاء الحقيقي المستلزم للإجابة هو دعاء المضطرّ، لأنَّه هو الذي يوقن بفشل جميع الأسباب المادية، فالإنسان مثلاً إذا أصابه مرض خطير وأيقن أنَّ جميع الأسباب المادية فشلت في علاجه، أو أصابه خطر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20) راجع: تفسير الميزان 15: 381.
وأيقن أنَّ جميع الأسباب المادية فاشلة في تخليصه ونجاته من الخطر، فمثل هذا الإنسان ينقطع إلى الله لأنَّه يدرك أن لا سبيل أمامه إلّا الله فيلجأ إلى ربّه، إذن المراد بالمضطرّ هو الإنسان الذي ينقطع إلى ربّه في حالات شدّة البلاء وشدّة الخطر وهو الذي وُعد باستجابة دعائه.
الرأي الثاني: أنَّ المراد بالمضطرّ في الآية الكريمة هو الإمام المنتظر (عليه السلام)، لوجهين:
الوجه الأوّل: الروايات:
فعندنا معتبرة محمّد بن مسلم، عن الباقر (عليه السلام) في قوله الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾، قال: «هذه نزلت في القائم (عليه السلام)، إذا خرج تعمَّم وصلّى عند المقام وتضرَّع إلى ربّه فلا ترد له راية أبداً»(21).
وعندنا أيضاً رواية صالح بن عقبة، عن الصادق (عليه السلام)، قال: «نزلت في القائم من آل محمّد (عليهم السلام)، هو والله المضطرّ إذا صلّى في المقام ركعتين ودعا الله فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الأرض»(22).
الوجه الثاني: القرينة السياقية في الآية:
في الآية قرينة على أنَّ المراد بالمضطرّ هو الإمام، لأنَّ في ذيلها: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ﴾، فعبَّرت الآية بتعبير: (خليفة الأرض) ولم تعبّر (خليفة في الأرض)، وهناك فرق بين التعبيرين، فعندما نقول: (الإنسان خليفة في الأرض) فهو قابل للصدق على الجميع فإنَّ كلّ إنسان بمقدوره القيام بهذا الدور، دور الخلافة في الأرض، إذ كلّ إنسان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) تأويل الآيات 1: 403/ ح 6؛ بحار الأنوار 51: 59/ ح 56.
(22) تفسير القمي 2: 129؛ بحار الأنوار 51: 48/ ح 11.
يستثمر الأرض، يستثمر الطبيعة طبقاً لقوانين السماء يكون خليفة في الأرض؛ لأنَّه استثمر الأرض على ضوء قوانين السماء.
أمَّا (خليفة الأرض) فهو أعظم من هذا، فإنَّ خليفة الأرض الذي يسيطر على الأرض كلّها وهو الذي تخضع له الأرض كلّها بكنوزها ومعادنها وبركاتها، والقرآن استخدم التعبيرين. فعندما خاطب آدم قال: ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)، وعندما خاطب النبيّ داود (عليه السلام) قال: ﴿يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾ (ص: 26)، ولكن عندما جاء يخاطب أمّة النبيّ محمّد لم يقل: خليفة في الأرض أو خلفاء في الأرض، بل قال: ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ﴾ (النمل: 62)، إذن أمّة النبيّ وُعدت من قِبل الله (عزَّ وجلَّ) بخلافة الأرض كلّها وليس خلافة في الأرض، فإنَّ الخلافة في الأرض قام بها داود وآدم وغيره، أمَّا أمّة النبيّ وُعدت بشيء أكبر من هذا، وهو أن تكون لها الأرض كلّها ببركاتها ومعادنها وكنوزها.
وتحقّق هذا الوعد - وهو أن تكون أمّة النبيّ خليفة الأرض - إنَّما يتمّ في يوم الظهور، فإلى الآن لم يتحقَّق لأمّة النبيّ هذا الوعد، إذن ذيل الآية قرينة على أنَّ المراد بالمضطرّ ليس هو كلّ إنسان يضطرّ وكلّ إنسان ينقطع، ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَرْضِ﴾.
فالمضطرّ هو الإنسان الذي بيده وعلى عاتقه تحقّق الأمّة الإسلاميّة خلافة الأرض، وذلك الإنسان إنَّما ينطبق على الإمام المنتظر (عليه السلام)، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾ (القصص: 5).
لذلك عندما تدعو أنت بهذه الآية: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ﴾ لا بدَّ أن تلتفت إلى أنَّك تقصد الإمام المنتظر، أي كأنَّك تتوسَّل إلى الله ببركة
الإمام المنتظر أن يكشف عنك الضرّ والبلاء فهو المضطرّ، كما نقرأ في دعاء الندبة: «أيْنَ الْمُضْطَرُّ الَّذِي يُجَابُ إِذَا دَعَا»(23)، فمن هنا ننطلق في الحديث عن علاقتنا العاطفية بالإمام المنتظر وبأهل البيت (عليهم السلام).
وعندنا ثلاثة محاور مختصرة:
المحور الأوّل: في تحليل علاقتنا بأهل البيت (عليهم السلام):
هناك فريقان من المسلمين، الفريق الأوّل يقول: حبّ النبيّ وأهل بيته ليس له قيمة ولا موضوعية، وفريق آخر من المسلمين يقول: حبّ النبيّ وأهل بيته له قيمة وله موضوعية، فعندنا اتّجاهان، اتّجاه حرفي لا يعترف بقيمة الحبّ، واتّجاه موضوعي يعترف بقيمة الحبّ، ونحن نشرح الاتّجاهين:
الاتّجاه الأوّل: الاتّجاه الحرفي:
وهو ما يقول به بعض السلفيين - وليس كلّهم -، وهو يعتمد على عنصرين:
العنصر الأوّل: إنَّ المطلوب حبّ الله لا حبّ النبيّ وآله، وحبّ النبيّ لأجل أنَّه داعية إلى الله وإلّا فحبّه في حدّ ذاته ليس مطلوباً، وذلك لأنَّ النبيّ مكوَّن من جانبين: جانب شخصي وجانب دعوي.
الجانب الشخصي: علاقة النبيّ بزوجته، وعلاقة النبيّ بابنته فاطمة، وعلاقة النبيّ بصهره أمير المؤمنين، فهذه قضايا شخصية.
الجانب الدعوي: وهو كون النبيّ داعياً إلى الله، قال تعالى في الآية المباركة: ﴿إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَداعِياً إِلَى اللهِ﴾ (الأحزاب: 45 و46)، ونحن نحبّ النبيّ ليس في الجانب الشخصي، بل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) المزار لابن المشهدي: 579/ الدعاء للندبة.
في الجانب الدعوي، وبعبارةٍ أخرى فإنَّ هذا الاتّجاه يقول: الحبّ المطلوب هو حبّ الله، فالنبيّ بما هو داع إلى الله نحبّه لا بما هو شخص له زوجة، له بنت، له صهر، وعنده علاقات.
العنصر الثاني: أنَّ الحبّ لا قيمة له والمدار على العمل لا على الحبّ، فهذا القرآن ينادي أنَّ القيمة للعمل وليست للحبّ، لاحظ القرآن الكريم يقول: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ (آل عمران: 31)، أي المهمّ هو الاتّباع وليس الحبّ، وقال القرآن الكريم: ﴿فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ (التوبة: 108)، ولم يقل: يحبّ من يحبّه وإنَّما قال: يحبّ العمل، أمَّا الحبّ فلا موضوعية له ولا قيمة له في حدّ ذاته، والاحتفال كلّ عام بأهل البيت مولداً ووفاةً ليس له قيمة والقيمة للعمل والحبّ لا موضوعية له.
الاتّجاه الثاني: الاتّجاه الموضوعي:
هو الذي تراه الشيعة الإماميّة وبعض المذاهب الإسلاميّة الأخرى، حيث يُقرِّر أنَّ الحبّ له قيمة وله موضوعية، ويمكن توضيح هذا الاتّجاه بدعائم ثلاث:
الدعامة الأولى: نحن في التراث الإمامي ليس عندنا تفكيك وتفصيل فلا نقول: إنَّ الرسول له جانب شخصي وجانب دعوي، بل إنَّ ذات النبيّ بتمام حركاته، بتمام سكناته، بتمام جهاته، مظهرٌ لله فليس فيها جانبان، وكلّ نبيّ، كلّ حجّة ليس فيه جانبان شخصي ودعوي، ونستدلُّ عليه بالقرآن الكريم. فعندما تحدَّث عن الأنبياء والأوصياء والحجج لم يفصّل، فلم يقل: أحبّوهم في الجانب الدعوي لا في الجانب الشخصي، فهو قد تناول شخصياتهم بعبارات تعبّر عن أنَّ ذواتهم مصفَّاة خالصة وكلّها مظهر لله، مثلاً قوله: ﴿وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصارِ * إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ﴾ أي جعلنا ذواتهم خالصة صافية لله،
﴿بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيارِ﴾ (ص: 45 - 47)، وعندما تكلَّم عن موسى (عليه السلام) قال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً﴾ أي إنَّه كان مصفَّى ﴿وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا﴾ (مريم: 51)، يعني أنَّه بالإضافة إلى الجانب الدعوي رسولاً ونبيّاً أيضاً هو في الجانب الشخصي مُخلَص.
وعندما يتحدَّث القرآن عن يوسف (عليه السلام): ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف: 24)، إذن هذا التعبير يؤكّد لنا أنَّ الأنبياء والأوصياء ليس لديهم جانب شخصي وجانب دعوي، بل هم ذات صافية لله.
ونأتي إلى تعبير آخر، تعبير الاصطناع، فعندما يتحدَّث القرآن عن موسى(عليه السلام): ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ أي أنا صنعتك صناعة كاملة، ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ (طه: 39 - و41).
إذن هناك اصطناع، هناك اصطفاء، هناك تخليص، هناك تعبيرٌ رائع عبّر به القرآن الكريم بخصوص أهل البيت (عليهم السلام): ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33)، أي نقاكم من جميع الشوائب والأدران وجعل ذواتكم ذواتاً صافية طاهرة خالصة لله تبارك وتعالى.
فذات النبيّ وأهل بيته ذوات خالصة، لذلك يذهب التراث الإمامي إلى أنَّ تقسيم ذواتهم إلى شخصي ودعوي ليس له معنى، فالنبيّ كلّه مظهر لله، والإمام كلّه مظهر لله، كلّه حجّة لله بتمام حركاته وسكناته ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحى﴾ (النجم: 3 و4).
الدعامة الثانية: إنَّ حبّ النبيّ وأهل بيته حبّ فطري، لا يمكن القول بأنَّه حبّ لا قيمة له، لأنَّ علماء العرفان يقسّمون الحبّ إلى ثلاثة أقسام:
1 - الحبّ الشهوي: وهو الذي يدور مدار اللذّة والشهوة، مثل قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14)، وحبّ المرأة، حبّ الأولاد، حبّ الدنيا، كلّه داخل في إطار الحبّ الشهوي.
2 - الحبّ الإنساني: وهو حبّ الإنسان لأبيه، وحبّ الإنسان لأُمّه، فإنَّ هذا الحبّ إنساني يدور مدار الألفة.
3 - الحبّ الفطري: وهو حبّ الكمال، فإنَّ كلّ إنسان وُلد وهو يحبّ الكمال، ويحبّ الجمال، لأنَّ حبّ الكمال وحبّ الجمال حبٌّ فطري، يقول القرآن الكريم: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ (العاديات: 8)، والخير هو الجمال والكمال.
فلماذا يحبّ الإنسان الله؟ لأنَّ الله كمال والإنسان بفطرته يحبّ الكمال، ولماذا يحبّ الإنسان محمّداً وآل محمّد؟ لأنَّ محمّداً كمال والإنسان يحبّ بفطرته الكمال، فالإنسان إنَّما يحبّ الله والنبيّ وأهل البيت لا لشيء، بل لأنَّ فطرته تدعوه لحبّهم، لأنَّه بفطرته يحبّ الكمال وهم مظهر للكمال فلذلك يحبّهم، لهذا لا معنى لكلام بعض السلفية بأنَّ حبّهم لا قيمة له، مع أنَّه حبّ دعت إليه الفطرة، والحبّ الفطري قيمته بفطرته وبصفائه وبنقائه، لذلك هذا الحبّ الفطري لا يختَّص بالشيعة، فكلّ إنسان يطَّلع على سيرة أهل البيت يحبّهم بفطرته، فهذا بولس سلامة شاعر مسيحي، عندما قرأ شخصية الإمام علي (عليه السلام) قال:
جلجل الحقّ في المسيحي حتَّى * * * عُدَّ من فرط حبّه علويا
أنا من يعشق الفضيلة والإلهام * * * والعدل والخِلاق الرضيا
فإذا لم يكن عليٌ نبيّاً * * * فلقد كان خُلُقه نبويا
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي * * * واخشعي إنَّني ذكرت عليا
الدعامة الثالثة: كما ذكرنا سابقاً فقد اتَّجه بعض السلفيين إلى القول بعدم قيمة الحبّ للنبيّ وآله، وبعبارة أخرى لو أنَّ إنساناً اتَّبع النبيّ أُدخل الجنّة وإن لم يكن في قلبه عاطفة نحو النبيّ.
ولكن الحقّ كما أنَّ العمل له قيمة فإنَّ الحبّ أيضاً له قيمة، وكما أنَّ العمل سببٌ لاستحقاق الجنّة، فإنَّ الحبّ أيضاً سببٌ لاستحقاق الجنّة، وهناك أدلّة من القرآن الكريم:
قال تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى﴾ (الشورى: 23)، ولو لم يكن للحبّ قيمة لقال القرآن: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلّا العمل والاتّباع للنبيّ)، فذكر المودَّة دليل على أنَّ لها موضوعية، ويقول تعالى على لسان النبيّ إبراهيم (عليه السلام): ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ﴾ (إبراهيم: 37)، ولو لم يكن الحبّ ذا قيمة فلماذا يدعو به إبراهيم؟ إنَّ دعوة إبراهيم دليل على أنَّ للحبّ قيمة وموضوعية عند الله، وإلّا لما دعا به نبيّ صالح يعرف مراد ربّه تبارك وتعالى.
وآية ثالثة يخاطب القرآن النبيّ موسى (عليه السلام) فيقول: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ (طه: 39)، ومعناها إنَّ حبّ النبيّ موسى له قيمة، ولذلك اعتبره الله نعمة من النعم، وغيرها آيات قرآنية ترشد إلى أهمّية الحبّ.
والسُنّة أيضاً تؤكّد على أنَّ للحبّ قيمة وموضوعية، فالثعلبي في تفسيره يروي عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حبّ آل
محمّد مات تائباً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشَّره ملك الموت بالجنّة، ثمّ منكراً ونكيراً، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله تعالى زوّار قبره ملائكة الرحمن، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان من الجنّة، ألا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافراً، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة»(24).
ويقول القرآن الكريم: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف: 157)، ما معنى ﴿عَزَّرُوهُ﴾؟ تعزير الشخص معناه إظهار المحبّة له، فلولا أنَّ إظهار المحبّة مطلوب لما ذكره القرآن من جملة الأمور المطلوبة تجاه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فالاحتفال بالنبيّ وآل بيته مولداً ووفاةً كلّه من قبيل التعزير، إذن الحبّ له موضوعية وله قيمة، وهذا ما أدركه الإمام الشافعي عندما قال:
يا راكباً قف بالمحصب من منى * * * واهتف بساكن خيفها والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى * * * فيضاً كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حبّ آل محمّد * * * فليشهد الثقلان أنّي رافضي
المحور الثاني: حبّ آل البيت (عليهم السلام) له قيمة وموضوعية عظيمة:
لكن هنا شبهة ركَّزت عليها بعض الأقلام، وهي أنَّ التراث الشيعي الإمامي يربّي الشيعة على عاطفة سوداء وهي عاطفة الإحساس بالمظلومية والاضطهاد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(24) تفسير الثعلبي 8 : 314.
فمناسبات الحزن عند الشيعة أكثر من مناسبات الفرح، وإذا قرأت أدبياتهم، أدعيتهم، زياراتهم وجدت أنَّها تركّز على المظلومية والحزن والأسى، وهكذا علماء الشيعة، خطباء الشيعة، كتب الشيعة، دائماً يربِّون الشيعة على أنَّهم فئة مظلومة، مضطهدة، مسلوبة الحقوق، مسلوبة الحياة.
مثلاً، خذ هذا الدعاء الذي يقرأه الشيعة للإمام المنتظر (عليه السلام): «اللهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيَّنَا صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَغَيْبَةَ وَلِيَّنَا، وَكَثْرَةَ عَدُوَّنَا» يعني أنَّنا مضطهدون، «وَقِلَّةَ عَدَدِنَا، وَشِدَّةَ الْفِتَن بِنَا، وَتَظَاهُرَ الزَّمَانِ عَلَيْنَا، فَصَلّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأعِنَّا عَلَى ذَلِكَ بِفَتْح مِنْكَ تُعَجَّلُهُ، وَبضُرًّ تَكْشِفُهُ، وَنَصْرٍ تُعِزُّهُ، وَسُلْطَانِ حَقًّ تُظْهِرُهُ، وَرَحْمَةٍ مِنْكَ تُجَلّلُنَاهَا، وَعَافِيَةٍ مِنْكَ تُلْبِسُنَاهَا، بِرَحْمَتِكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»(25)، فإنَّ هذه الفقرات تُربّي الشيعة على أنَّهم فئة مظلومة مضطهدة مسلوبة الحقوق، وأنَّها هي أقلّ من غيرها، وهذه التربية تربية خطيرة جدَّاً، لأنَّ علم النفس الاجتماعي يقول: الإنسان إذا رُبّي على أنَّه مظلوم، على أنَّه مضطهد يعيش عقدة النقص، وإذا عاش عقدة النقص ترتَّب على ذلك أثران سلبيان:
الأوّل: العزلة عن المجتمع.
الثاني: روح النقمة والحقد على المجتمع.
وحيث إنَّ عموم الشيعة يُربَّون على أنَّهم مجتمع ناقص فهذا يسبّب انعزالهم عن المجتمع الإسلامي، وتخلّفهم عن بناء الحياة وبناء الحضارة وأنَّهم يحملون روحاً نَقِمة على المجتمع الإسلامي، بحيث لو أُعطوا فرصة لانتقموا من أبناء المذاهب الإسلاميّة الأخرى لأنَّهم رُبُّوا على أنَّهم فئة مظلومة مضطهدة، لأجل ذلك هم يعيشون روح الحقد والضغينة على أبناء المجتمع الإسلامي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25) مصباح المتهجّد: 366/ الرقم (492/103).
ونحن في الجواب عن هذه الشبهة نقول:
أوّلاً: التراث الشيعي يشتمل على الشكوى، وهذا أمر صحيح، ولكن الشكوى إلى الله تبارك وتعالى لا تُربّي الإنسان على الانتقام، وإنَّما تُربّي عنده الإرادة والصبر على مصاعب الحياة.
فإنَّ الإنسان عندما يمرُّ بظروفٍ قاسية لمن يشكو؟ يشكو إلى ربّه، لأنَّها تعلّمه على أن ينطلق بحيوية جديدة ويصارع الحياة بإرادة حازمة، والشكوى إلى الله شحنة روحية تغذّي الإرادة والحزم لدى الإنسان لا أنَّها تربّي الإنسان على روح الانتقام، وخير دليل ما صنعه النبيّ يعقوب (عليه السلام) حيث قال تعالى حكاية عنه: ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ * قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 84 - 86)، فشكوى يعقوب لا لأجل الانتقام من أولاده، وإنَّما من أجل أن يتجدَّد عزمه وتقوى إرادته أمام مصاعب الحياة.
وهكذا بالنسبة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما ذكره ابن الأثير في (البداية والنهاية) وكذا في (السيرة الحلبية) عندما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام أغروا سفهاءهم وعبيدهم، حتَّى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط ورفع يديه إلى السماء، قال: «اللّهمّ إنّي أشكو إليك ضعف قوَّتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي إلى من تكلني، إلى بعيد يتجمهني أم إلى عدوًّ ملَّكته أمري، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي...»، فجاءه جبرئيل (عليه السلام) فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال، لتأمره بما شئت فيهم، فقال له ملك الجبال: يا محمّد قد بعثني الله، إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربّك لتأمرني ما
شئت إن شئت تطبق عليهم الأخشبين - يعني جبل قينقاع وجبل بني قبيس -، قال: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً»(26)، فالشكوى إلى الله صارت سبباً للأمل وليست سبباً للانتقام، صارت سبباً للتفاؤل وليست سبباً للتشاؤم.
ونحن الشيعة الإماميّة عندما نشكو إلى الله قلّة عددنا وضعف قوَّتنا فهذا سبب للتفاؤل وليس سبباً للتشاؤم، وليس سبباً على تربية أبنائنا على روح النقمة، وإنَّما هو رصيدٌ روحي نستعين به أمام مصاعب الحياة.
ثانياً: لا يستطيع أحد أن يطلب من الشيعي أن يغمض عينيه عن التاريخ كلّه، وتاريخ المظلومية، وتاريخ الاضطهاد خصوصاً في ظلّ الحكومة الأموية والعبّاسية، فمن الطبيعي إذن أن يركّز التراث الإمامي على الحزن، بل في بعض أدبياتنا عن الإمام السجّاد (عليه السلام):
يفرح هذا الورى بعيدهم * * * ونحن أعيادنا مآتمنا(27)
وعندنا أحاديث ترسّخ الحزن في نفوسنا، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): «من تذكَّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(28).
لكن هل الهدف من هذا التراث، تراث الحزن، تراث الأسى، هو تربية الشيعة على روح الحقد والضغينة على أبناء المذاهب الإسلاميّة الأخرى؟ هل الهدف منه تربية الشيعة على الانتقام من أبناء المذاهب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(26) أنظر: البداية والنهاية 3: 166 - 168؛ السيرة الحلبية 2: 53 - 58.
(27) مناقب آل أبي طالب 3: 295.
(28) أمالي الصدوق: 131/ ح (119/4).
الإسلاميّة الأخرى؟ لا، أبداً، وإنَّما هذا التراث الحزين الذي يتَّصل بتاريخ الشيعة من زمان الإمام علي (عليه السلام) وإلى زمان ظهور الحجّة (عليه السلام)، الهدف منه تربية الشيعي على رفض الظلم والطغيان، ورفض الأوضاع الفاسدة، وأهل البيت (عليهم السلام) لم يذكروا هذه الروايات جزافاً، فهي تربّينا على الحزن والأسى والعواطف الملتهبة، وليس عندنا في تراث الشيعة نصّ واحد ولا رواية صحيحة تأمرنا بالحقد أو الضغينة والانتقام من المسلمين إطلاقاً، فالإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «أوصيكم بتقوى الله (عزَّ وجلَّ) والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائرهم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدّوا حقوقهم، فإنَّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدّى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فيسرّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر...»(29).
وعنه (عليه السلام) يقول: «إنَّ كان الرجل منهم ليكون في القبيلة فيكون إمامهم ومؤذّنهم، وصاحب أماناتهم وودائعهم، عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وصلّوا في مساجدهم، ولا يسبقوكم إلى خير، فأنتم والله أحقّ منهم به»(30)، إنَّ هذه الروايات تأمرنا بالمعاملة الأخوية التامّة مع أبناء المذاهب الإسلاميّة الأخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29) الكافي 2: 636/ باب ما يجب من المعاشرة/ ح 5.
(30) مشكاة الأنوار: 134؛ بحار الأنوار 85 : 119/ ح 83.
المحور الثالث: علاقتنا العاطفية بالإمام المنتظر (عليه السلام):
هناك مقالة تتحدَّث عن علاقتنا العاطفية بالإمام المنتظر (عليه السلام)، تقول: من قرأ دعاء الندبة - وهو دعاء معروف بين الشيعة - يتَّضح له أنَّ هذا الدعاء وأمثاله يربّي الشيعة على البكاء والاستغراق في العاطفة والانشغال عن المبادئ والقيم، والإغراق في الحزن على حساب المبادئ والقيم تربية سيّئة، تربية خاطئة، إذ يقول الدعاء خطاباً للإمام المنتظر (عليه السلام): «إِلَى مَتَى أحَارُ فِيكَ يَا مَوْلايَ، وَإِلَى مَتَى وَأيَّ خِطَابٍ أصِفُ فِيكَ وَأيَّ نَجْوَى، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أُجَابَ دُونَكَ وَأُنَاغَى، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ أبْكِيَكَ وَيَخْذُلَكَ الْوَرَى، عَزيزٌ عَلَيَّ أنْ يَجْريَ عَلَيْكَ دُونَهُمْ مَا جَرَى»، ثمّ يقول: «هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ الْعَويلَ وَالْبُكَاءَ، هَلْ مِنْ جَزُوع فَأُسَاعِدَ جَزَعَهُ إِذَا خَلا، هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَسَاعَدَتْهَا عَيْني عَلَى الْقَذَى»(31)، وهذه تربية على البكاء، تربية على العاطفة، تربية على الدموع على حساب المبادئ، والجواب عن هذا:
أوّلاً: إنَّ ما أُمرنا به هو المودّة وليس المحبّة، يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى﴾ (الشورى: 23)، والمودّة تختلف عن المحبّة، فالكثير من المسلمين، بل كلّهم يحبّون أهل البيت (عليهم السلام)، ولكن هذا ليس المطلوب، بل المطلوب هو المودّة، وهي إظهار الحبّ، ومن جملة مظاهر الحبّ دعاء الندبة، فهو يربّينا على الإحساس بوجود الإمام، وأنَّه يعيش معنا، أنَّه يرانا وأنَّه يراقبنا وأنَّنا نتَّصل به وإن لم نعرف عنوانه واسمه، إنَّ هذا الدعاء يربّينا على شيء طلبه القرآن منّا ألا وهو إظهار المحبّة المعبَّر عنه بالمودّة.
ثانياً: ليس من الصحيح اقتطاع جزء من الدعاء فتؤخذ بعض فقراته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31) المزار لابن المشهدي: 581 و582/ الدعاء للندبة.
ويترك البعض الآخر، فالدعاء كما يربّيك على حبّ آل البيت (عليهم السلام)، يربّيك على العمل أيضاً، ففيه فقرات تأمرك بالعمل، تأمرك بالإطاعة، تأمرك باجتناب المعصية، لاحظ قوله: «وَأعِنَّا عَلَى تَأدِيَةِ حُقُوقِهِ إِلَيْهِ، وَالاجْتِهَادِ فِي طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ»، ثمّ يقول: «وَأقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيم، وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ، وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظْرَةً رَحِيمَةً»(32)، وهذه ميزة التراث الشيعي على التراث الآخر أنَّه يؤكّد على أمرين: حبّ وعمل، لا أنَّه يتحدَّث عن العمل وحده وكأنَّنا أدوات أتوماتيكية مبرمجة تعمل طبقًا للأوامر بدون أيّ عاطفة وبدون أيّ محبّة، فهناك عواطف وعمل، لا مجرَّد عمل بدون عواطف ولا عواطف بدون عمل.
فلنكن واقعيين ومنصفين، إذا كانت لنا مودّة حقيقية مع محمّد وآل محمّد فكما نحتفل بمرور السنة الهجرية ونهنّئ بعضنا بعضاً بمرور السنة الهجرية، كذلك نحتفل بذكرى سبط رسول الله، وإذا كان الاحتفال بذكرى سبط رسول الله بدعة كذلك الاحتفال بمرور السنة الهجرية بدعة، فهذه لم تردنا عن السُنّة ولا عن الصحابة، فهل سمعت عن الصحابة أنَّه هنَّأ بعضهم بعضاً بمرور السنة الهجرية الجديدة.
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(32) المزار لابن المشهدي: 584/ الدعاء للندبة.
المحاضرة الثالثة: النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمهدي (عليه السلام)
(3/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(20/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿وَما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
وانطلاقاً من الآية المباركة نتحدَّث عن محاور ثلاثة:
المحور الأوّل: الحقيقة المحمّدية والرحمة:
كثير منّا سمع أو قرأ هذا المصطلح وهو مصطلح الحقيقة المحمّدية, فما معنى الحقيقة المحمّدية؟ وحتَّى نفهم هذا المصطلح نذكر أموراً ثلاثة:
الأمر الأوّل: يقول الفلاسفة: كلّ موجود يمرّ بمرحلتين من الوجود: الوجود الإجمالي، والوجود التفصيلي.
مثلاً الشجرة المثمرة وجودها تفصيلي فلها ساق وأغصان وثمار, لكنَّها كانت موجودة قبل هذا الوجود بوجود آخر وهو الوجود الإجمالي المختصر في البذرة, وهكذا الإنسان الذي غزى الفضاء وسيطر على الكون قبل أن يوجد بوجوده التفصيلي كان موجوداً بوجود إجمالي ضمن نطفة, ثمّ تحوَّل الآن إلى وجود تفصيلي جسد وعقل ومشاعر:
ما بال من أوّله نطفة * * * وجيفة آخره يفخرُ
حتَّى القرآن الكريم مرَّ بهاتين المرحلتين، فهذا القرآن الذي نقرأه الآن وجود تفصيلي وسور وآيات وأوامر ونواهي، لكن كان له وجود إجمالي في
الكتاب المكنون، والقرآن الكريم نفسه يفصح عن هذه الحقيقة، يقول: ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: 1)، ويقول أيضاً: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة: 77 - 79).
فكلّ شيء مرَّ بوجودين، وجود إجمالي ووجود تفصيلي، وقد صرَّح القرآن الكريم بهذا المعنى فقال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ (الحجر: 21)، وقال في آية أخرى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر: 49)، أي وضعنا له حدوداً وقدراً عندما أنزلناه إلى عالم الوجود المادي.
وأيضاً هذا الوجود كلّه من أصغر ذرّة إلى أعظم مجرَّة بسماواته بأرضيه بنجومه بشموسه، كان موجوداً وجوداً إجمالياً قبل أن يوجد وجوداً تفصيلياً فهو قد مرَّ بمرحلتين: مرحلة وجود إجمالي مختصر يسمّى بـ (الفيض الأقدس) بتعبير الفلاسفة، ثمّ تحوَّل إلى وجود تفصيلي أصبح سماءً وأرضاً وشمساً وقمراً وإنساناً وجماداً وحيواناً ونباتاً وسمّي بـ (الفيض المقدَّس), وهذا الوجود التفصيلي سيرجع مرَّةً ثانيةً يوم القيامة إلى الوجود الإجمالي المختصر، قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء: 104).
الأمر الثاني: ورد في تراثنا الإسلامي شيء يسمّى بـ (عالم الأنوار) بمعنى أنَّ الله خلق محمّداً وآل محمّد من نور قبل أن يخلق الكون، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «... أمَا علمت أنَّ محمّداً وعلياً صلوات الله عليهما كانا نوراً بين يدي الله (عزَّ وجلَّ) قبل خلق الخلق بألفي عام؟...»(33)، وأنت تقرأ في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) علل الشرائع 1: 174/ باب 139/ ح 1.
زيارة الجامعة: «خَلَقَكُمُ اللهُ أنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ»(34)، وفي زيارة الإمام الحسين (عليه السلام): «أشْهَدُ أنَّكَ كُنْتَ نُوراً فِي الأصْلابِ الشَّامِخَةِ وَالأرْحَام الْمُطَهَّرَةِ»(35).
وعالم الأنوار هو الذي سمَّيناه (الفيض الأقدس) وهو الذي سمَّيناه (الوجود الإجمالي)، وهذا الوجود الإجمالي للكون هو نور محمّد وآل محمّد، إذن أوّلاً خلق الله المادة النورية المسمّاة بنور محمّد وآل محمّد المسمّاة بالوجود الإجمالي المسمّاة بالفيض الأقدس، ثمّ أفاض منها الوجود كلّه فتحوَّل الوجود بتلك المادة النورية إلى وجود تفصيلي، هذا هو الحقيقة المحمّدية.
والمحقّق الأصفهاني أستاذ سيّدنا الإمام الخوئي (قدس سرهما) يقول في حقّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
وقد تجلّى من سماء العظمه * * * من عالم الأسماء أسمى كَلِمَهْ
إذن عرفنا أنَّ الحقيقة المحمّدية هي الوجود الإجمالي، وبما أنَّ الوجود الإجمالي هو الرحمة لأنَّ الرحمة هي الوجود، قال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ (طه: 50)، نعرف أنَّ الحقيقة المحمّدية هي: الرحمة العامّة, وبالتالي فقد وصلنا إلى معنى من معاني الآية: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
ما هي علاقة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالعالمين؟ عالم السماء, عالم الأرض, عالم الجنّ, عالم الملائكة, عالم النبات, عالم الجماد، عالم الحيوان، إنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشر خلق على الأرض وأرسل إلى المجتمع البشري, فما هي علاقته بالعالمين؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(34) المزار لابن المشهدي: 529.
(35) مصباح المتهجّد: 721/ الرقم (806/75).
والجواب يتَّضح على ضوء المعنى الذي ذكرناه وهو الحقيقة المحمّدية، لأنَّ النبيّ نور خلق قبل الكون باعتباره الوجود الإجمالي والفيض الأقدس الذي خلق قبل الكون، ومنه وجد الكون وأفيض الكون، لذلك كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ﴿رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ لجميع العالمين.
الأمر الثالث: يقول علماء العرفان: (لكلّ حقيقة رقيقة)، ويُقصد بها أنَّ لكلّ حقيقة مدداً ونبعاً يمدّها، وذلك النبع الذي يمدّها هو الرقيقة، ولتقريب الفكرة فإنَّ المصباح حقيقة لكن الرقيقة هو المدد الذي يمدّه بالضوء وهو الطاقة الكهربائية، فكلّ حقيقة لها رقيقة، قال تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ هذه كلّها حقيقة، والرقيقة، ﴿يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ﴾ الشجرة هي النبع وهي الرقيقة، ﴿مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ﴾ (النور: 35)، فرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الرقيقة لكلّ الحقائق وهو الشجرة المباركة وليس كما يصوّره بعض كتب إخواننا أهل السُنّة: (محمّد يحكّ المني من ثوبه)(36)، و(نام عن صلاة الصبح)(37)، إنَّما محمّد هو الرحمة العامّة للعالمين جميعاً، محمّد هو الوجود والفيض الأقدس الذي سبق هذا الكون وأفيض منه هذا الكون، هذه هي الحقيقة ولكن من يشعر برقيقة هذه الحقيقة؟ ومن يشعر بلذّة النور المحمّدي؟ إنَّ الذي يشعر به خواصّ من الناس وهم المحسنون، قالت الآية المباركة: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف: 56)، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ (الأعراف: 156).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(36) عن عائشة، قالت: كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ثمّ يصلّي فيه ويحتّه من ثوبه يابساً ثمّ يصلّي فيه. (مسند أحمد 6: 243).
(37) راجع: سنن النسائي 1: 293 - 299، فيمن نام عن الصلاة.
عندنا حديث مشهور يلفت الانتباه، فقد ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «أوّلنا محمّد، وأوسطنا محمّد، وآخرنا محمّد»(38)، وقد يتصوَّر البعض أنَّ النبيّ بصدد بيان الأسماء، ولكن الصحيح هو أنَّ الحديث بيان لمراحل الحقيقة المحمّدية، حيث إنَّ الحقيقة المحمّدية نور يمرُّ بمراحل، هذا النور له مبدأ، وله وسط، وله منتهى، ومبدأ هذا النور الذي سرى نزل من السماء إلى الأرض هو المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لأنَّه هو الذي بذر بذرة الدعوة، ووسط هذا النور الإمام الباقر الذي بقر العلم بقراً لأنَّ على يده تأسَّست دعائم المذهب، والمنتهى هو الذي يحقّق الدولة التامّة والعدالة التامّة على الأرض كلّها، وهو الذي بيده تظهر ثمرة جهود الأنبياء وجهود المرسلين وتضحيات الأولياء والأوصياء، قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾ (القصص: 5)، إذن الأخير هو الذي يحقّق الثمرة المطلوبة.
من هنا نعرف أنَّ الإمام المنتظر (عليه السلام) هو امتداد لجدّه المصطفى، فكما كان النبيّ رحمة للعالمين فالإمام المنتظر أيضاً رحمة للعالمين، وكما كان النبيّ قطعة من الرحمة فالمهدي أيضاً قطعة من الرحمة.
المحور الثاني: مظاهر الرحمة المحمّدية في المهدي (عليه السلام):
هناك ثلاثة مظاهر:
المظهر الأوّل: خُلُق الرحمة:
إنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان خلقه رحمة، يقول القرآن الكريم: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159)، حيث كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قطعة من التواضع، والألفة، والمحبّة، والقرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38) الغيبة للنعماني: 88/ باب 4/ ح 16.
يصف خلقه، قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4)، وهذه الصورة الجميلة الرائعة لشخصية النبيّ نفسها تتصوَّر وتتجسَّد في المهدي المنتظر (عليه السلام)، فإنَّ بعضهم يتصوَّر أنَّ المهدي إنسان عابس، إنسان عنيف، والصحيح أنَّ المهدي كجدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صورة مبتسمة، صورة جذّابة، صورة ملؤها التواضع، وملؤها الخلق الجذّاب، تماماً كجدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لذلك ورد في الرواية عن الصادق (عليه السلام): «يسير في الناس كسيرة جدّه»(39)، وفي الرواية عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ (المائدة: 54)، قال الإمام الصادق (عليه السلام): «نزلت في القائم (عليه السلام) وأصحابه»(40).
المظهر الثاني: المجتمع الأخوي:
إنَّ من الواضح لمن اطَّلع على كتابات المستشرقين يجدهم قد طعنوا في النبيّ في كلّ شيء إلّا في شيء واحد، وقفوا له موقف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(39) عن عبد الله بن عطاء المكّي، عن شيخ من الفقهاء - يعني أبا عبد الله (عليه السلام) -، قال: سألته عن سيرة المهدي كيف سيرته؟ فقال: «يصنع كما صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر الجاهلية، ويستأنف الإسلام جديداً». (الغيبة للنعماني: 236/ باب 13/ ح 13).
وعن محمّد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن القائم عجَّل الله فرجه إذا قام بأيّ سيرة يسير في الناس؟ فقال: «بسيرة ما سار به رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتَّى يظهر الإسلام»، قلت: وما كانت سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قال: «أبطل ما كان في الجاهلية واستقبل الناس بالعدل، وكذلك القائم (عليه السلام) إذا قام يبطل ما كان في الهدنة ممَّا كان في أيدي الناس ويستقبل بهم العدل». (تهذيب الأحكام 6: 154/ باب سيرة الإمام (عليه السلام)/ ح 270/1).
(40) تفسير القمي 1: 170.
الإجلال والعظمة واعتبره كثير منهم إعجازاً لم يسبق به النبيّ، وهو أنَّه استطاع في فترة وجيزة أن يحوّل المجتمع المدني إلى مجتمع أخوي وهو ليس أمراً سهلاً على الإطلاق، فإنَّ المجتمع المدني الذي كان قبائل متناحرة ومتقاتلة حوَّله النبيّ في فترة وجيزة إلى أخوّة يملؤهم الحبّ والوفاء وهذا أمر في غاية الصعوبة، والإمام المهدي (عليه السلام) أيضاً مجتمعه مجتمع أخوي كما صنع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والقرآن أثنى على ذلك المجتمع الأخوي الذي أقامه النبيّ، قال تعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 8 و9)، فهنا تعطي الآية صورة رائعة جدَّاً، حيث إنَّ الأنصار احتضنوا كلّ مهاجر جاء فقيراً، ووفَّروا له السكن وفرصة العمل واعتبروه أخاً وحبيباً، وهل هذا يحصل في زماننا؟ أن يحتضن مجتمع آخر ويوفّر له السكن المجّاني ويوفّر له فرصة العمل مجّاناً ويوفّر ذلك له لا بدافع الحياء والخجل، بل بدافع المحبّة والأخوّة.
وهذا المجتمع الأخوي هو الذي يؤسّسه المهدي (عليه السلام) عند خروجه، وهو يقوم على عنصرين: عنصر المحبّة، وعنصر التكافل الاجتماعي.
نحن جميعاً مشتاقون إلى المجتمع المهدوي وندعو دائماً: (اللّهمّ اجعلنا من أنصاره وأعوانه), (اللّهمّ عجّل فرجه), (اللّهمّ أرنا ذلك اليوم العظيم)، لكن المهدي يقول لنا: إذا أردتم أن تروا يومي فعليكم أن تعدّوا أنفسكم لأن تكونوا مجتمعاً أخوياً، إذ لا يمكن لنا أن نكون من
أنصاره وأعوانه حتَّى نكون مجتمعاً أخوياً نتبادل المحبّة رغم اختلافاتنا ونتبادل التكافل الاجتماعي، وإذا صرنا بهذه الدرجة صرنا مؤهّلين لأن نكون من أنصاره وأعوانه.
فعن أبي إسماعيل، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): جُعلت فداك إنَّ الشيعة عندنا كثير، فقال: «فهل يعطف الغني على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء؟ ويتواسون؟»، فقلت: لا، فقال: «ليس هؤلاء شيعة، الشيعة من يفعل هذا». وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام): «أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟»(41).
وإنَّ أنصار المهدي وأعوانه وشيعته هم هؤلاء المجتمع الأخوي القائم على عنصر المحبّة وعنصر التكافل الاجتماعي فلن نكون من أنصاره حتَّى نحوّل أنفسنا من غسيل الاختلافات والتراكمات إلى أنفس متحابّة متقاربة متآخية، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، وقال تعالى: ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: 92).
المظهر الثالث: الرحمة العامّة:
من المظاهر المحمّدية التي تجسَّدت في شخصية المهدي المنتظر (عليه السلام) هي الرحمة العامّة.
فقد كان النبيّ رحيماً بالمطيعين وبالعصاة، وهكذا المهدي كجدّه رسول الله حنانه ورحمته على العصاة لا تقلّ عن رحمته بالمؤمنين وبالمطيعين، فإنَّ المهدي فيض من الرحمة على العصاة وعلى المطيعين كما كان جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فعن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «ومحمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) صبر في ذات الله (عزَّ وجلَّ) فأعذر قومه إذ كذب، وشرّد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(41) الكافي 2: 173 و174/ باب حقّ المؤمن على أخيه/ ح 11 و13.
وحصب بالحصا، وعلاه أبو لهب بسلا ناقة وشاة، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جابيل ملك الجبال، أن شقّ الجبال وانته إلى أمر محمّد، فأتاه فقال: إنّي أمرت لك بالطاعة فإن أمرت أن أطبق عليهم الجبال فأهلكتهم بها، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنَّما بعثت رحمة، ربّ اهد قومي فإنَّهم لا يعلمون»(42)، كان رحيماً بالكافرين، كذلك المهدي أيضاً هو على خلق جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد ورد ذلك في كتب الفريقين، ففي (مسند أحمد) عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أبشّركم بالمهدي يبعث في أمّتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسّم المال صحاحاً»، فقال له رجل: ما صحاحاً؟ قال: «بالسوية بين الناس»، قال: «ويملأ قلوب أمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غنى ويسعهم عدله»(43)، وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في رواية أخرى: «فتنعم أمّتي في زمانه نعيماً لم ينعموا مثله قطّ، البرّ منهم والفاجر»(44)، فالمهدي بشارة والمهدي رحمة والمهدي خلق والمهدي حنان ورأفة على العصاة والمنحرفين فضلاً عن المطيعين والمؤمنين.
المحور الثالث: دولة المهدي دولة رحمة لا دولة عنف:
هناك شبهة طرحتها بعض الأقلام الإسلاميّة ومفادها أنَّ مهدي الشيعة يختلف عن مهدي أهل السُنّة والجماعة، فمن يراجع الروايات الشيعية يجد أنَّ المهدي إنسان دكتاتور، إنسان عدواني، مصدر للعنف والبطش والاستئصال لأمّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(42) الاحتجاج 1: 315.
(43) مسند أحمد 3: 37.
(44) كنز العمّال 14: 274/ ح 38706.
النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والصورة التي تصوّرها روايات الإماميّة عن المهدي تصوّر لنا دولة تقوم على السيف والبطش والاستئصال والعنف، وبالتالي فمعالم هذه الدولة التي ينتظرها الشيعة الإمامية هي:
أوّلاً: دولة تتنافى مع روح الإسلام لأنَّ روح الإسلام الرحمة، قال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، بينما دولة المهدي لدى الشيعة دولة تقوم على السيف والبطش والاستئصال فهي تتنافى مع روح الإسلام.
ثانياً: هل من المعقول أنَّ البشرية تنتظر آلاف السنين تلك الدولة الخاتمة بكلّ شوق ولهفة ثمّ تفاجئ بدولة تقوم على البطش والاستئصال والعدوان لا تبقي ولا تذر؟
فبالنتيجة لم يتحقَّق أمل البشرية وإنَّما تصاب بالخيبة وبالخذلان، هذا هو مهدي الشيعة إنسان عنيف عدواني، أمَّا مهدي أهل السُنّة والجماعة فهو مصدر الرحمة والعطف، وهذا الكاتب اعتمد على مجموعة من الروايات الموجودة فعلاً في كتب الشيعة، منها:
الرواية الأولى: من كتاب بحار الأنوار للشيخ المجلسي (رحمه الله) (ج 52/ ص 353/ ح 109) رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قلت له: أيسير بسيرة محمّد؟ - بمعنى أنَّ المهدي إذا خرج هل يسير على سيرة محمّد؟ -. قال: «هيهاتَ هيهاتَ يا زرارة، ما يسير بسيرته»، قلت: جُعلت فداك، لِمَ؟ قال: «إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سار في أمّته باللين(45) كان يتألَّف الناس، والقائم يسير بالقتل، بذلك أمر في الكتاب الذي معه أن يسير بالقتل ولا يستتيب أحداً، ويل لمن ناواه»(46).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(45) وفي بعض نسخ كتاب الغيبة للنعماني: (بالمنّ).
(46) عن الغيبة للنعماني: 236 و237/ باب 13/ ح 14.
الرواية الثانية: عن أبي خديجة أيضاً في بحار الأنوار (ج 52/ ص 353/ ح 110) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّ علياً (عليه السلام) قال: كان لي - بمعنى من صلاحياتي - أن أقتل المولّي وأجهز على الجريح، ولكن تركت ذلك للعاقبة من أصحابي إن جرحوا لم يقتلوا، والقائم له أن يقتل المولّي ويجهز على الجريح»(47).
الرواية الثالثة: عن العلا، عن محمّد، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج القائم لأحبَّ أكثرهم إلّا يروه، ممَّا يقتل من الناس، أمَا إنَّه لا يبدأ إلّا بقريش، فلا يأخذ منها إلّا السيف ولا يعطيها إلّا السيف، حتَّى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمّد، لو كان من آل محمّد لرحم»(48).
الرواية الرابعة: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «إذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب وقريش إلّا السيف، ما يأخذ منها إلّا السيف، وما يستعجلون بخروج القائم؟ والله ما لباسه إلّا الغليظ، وما طعامه إلّا الجشب، وما هو إلّا السيف، والموت تحت ظلّ السيف»(49).
الراوية الخامسة: ذكرها النعماني في كتاب (الغيبة)(50) عن أبي الجارود، عن القاسم ابن الوليد الهمداني، عن الحارث الأعور الهمداني، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «بأبي ابن خيرة الإماء - يقصد القائم - يسومهم خسفاً، ويسقيهم بكأس مصبرة، ولا يعطيهم إلّا السيف هرجاً...».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(47) عن الغيبة للنعماني: 237/ باب 13/ ح 15.
(48) الغيبة للنعماني: 238/ باب 13/ ح 18.
(49) الغيبة للنعماني: 239/ باب 13/ ح 21.
(50) الغيبة للنعماني: 234/ باب 13/ ح 11.
ما هو موقفنا من هذه الروايات؟
أوّلاً: إنَّ جملة من هذه الروايات ضعيفة السند حيث ورد في طريقها محمّد بن علي الكوفي المكنّى بأبي سمينة، والشيخ النجاشي شيخ الرجاليين يقول: (وكان يلقَّب محمّد بن علي أبا سمينة، ضعيف جدَّاً، فاسد الاعتقاد، لا يعتمد في شيء. وكان ورد قم - وقد اشتهر بالكذب بالكوفة - ونزل على أحمد بن محمّد بن عيسى مدّة، ثمّ تشهَّر بالغلو، فجفي، وأخرجه أحمد بن محمّد بن عيسى عن قم)(51)، وأيضاً من طرقها محمّد بن علي الهمداني وهو مجهول(52)، ومن طرقها الحسن بن علي ابن أبي حمزة البطائني، وقد نصَّ علماء الرجال على ضعفه(53)، ومن طرقها الحسن بن هارون (بيّاع الأنماط) وهو مجهول(54)، ومن طرقها أبو الجارود وقد كان رأس الفرقة الجارودية التي انشقَّت عن الفرقة الزيدية وهو مضعَّف في بعض كتب علم الرجال(55)، إذن هذه الروايات مبتلاة بضعف السند لا ينبغي أن يعوَّل عليها وأن يستنتج منها مفهوم عن دولة القائم المنتظر (عليه السلام).
ثانياً: هذه الروايات معارضة بروايات تظهر لنا روعة دولة القائم وأنَّها دولة الرحمة ودولة الحنان على الكلّ المطيع والعاصي، لاحظوا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(51) رجال النجاشي: 332/ الرقم894.
(52) راجع: الفهرست/ الطوسي: 337/ الرقم 618؛ رجال ابن داود: 274/ الرقم 468.
(53) راجع: رجال النجاشي: 36/ الرقم 73؛ اختيار معرفة الرجال 2: 827/ الرقم 1042.
(54) راجع: مستدركات علم رجال الحديث للشيخ علي النمازي 3: 67/ الرقم 4069؛ الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) لعبد الحسين الشبستري 1: 386/ الرقم 778.
(55) راجع: رجال النجاشي: 170/ الرقم 448؛ اختيار معرفة الرجال 2: 495 و496/ الرقم 413 - 416.
كتاب (عقد الدرر) عن الإمام علي (عليه السلام) أنَّ المهدي يأخذ البيعة من أصحابه على أن لا يسبّوا مسلماً، ولا يقتلوا محرماً، ولا يهتكوا حريماً، ولا يهدموا منزلاً، ولا يضربوا أحداً إلّا بحقّه(56)، هذا نهج المهدي حتَّى مع أعدى أعداءه وهو السفياني.
ففي الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «يسير بهم - أي المهدي - في اثني عشر ألفاً إن قلّوا أو خمسة عشر ألفاً إن كثروا، شعارهم: أمت أمت حتَّى يلقاه السفياني فيقول: أخرجوا إليَّ ابن عمّي حتَّى أكلّمه، فيخرج إليه فيكلّمه فيسلّم له الأمر ويبايعه - بمعنى أنَّ السفياني يتراجع عن منهجه - فإذا رجع السفياني إلى أصحابه ندمه كلب فيرجع ليستقيله فيقيله، فيقتتل هو وجيش السفياني...»(57), إذن الإمام يبدأ عدوّه بحوار ممَّا يدلّ على أنَّه شخصية حوارية منهجها الرحمة وليس منهجها العنف والقتال.
ويذكر في البحار عن الإمام الصادق (عليه السلام): أنَّ المهدي يستدعي بين يديه كبار اليهود وأحبارهم ورؤساء دين النصارى وعلمائهم ويحضر التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فلا يقاتلهم أوّلاً، بل يبيّن لهم الحقائق، ويجادلهم على كلّ كتاب بمفرده، ويطلب منهم تأويله ويعرّفهم بما بدّل منه(58).
ثالثاً: إنَّ بعض الروايات الصحيحة في هذا المجال دلَّت على حدوث قتال شديد بين المهدي (عليه السلام) ومناوئيه ولكنَّها مطلقة من هذه الجهة، فمقتضى القاعدة تقييدها بما دلَّ على نوع التقال ومن هو المستهدف به والغرض منه، وهنا نلاحظ أنَّ النصوص الشريفة عيَّنت لنا من هو المستهدف بالقتال، وعيَّنت أنَّ قتاله (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(56) أنظر: معجم الإمام المهدي (عليه السلام) 3: 95/ ح 639، عن عقد الدرر: 90 - 99.
(57) كتاب الفتن للمروزي: 217.
(58) راجع: بحار الأنوار 53: 9، عن مختصر بصائر الدرجات: 185.
قتال دفاعي وليس قتالاً هجومياً, فإنَّ الغرب بيهوده ومسيحييه سيؤمن وسيسلّم للمهدي ولن يقاتله، إنَّما الذي سيقاتل المهدي فئة من المسلمين وهي فئة النواصب، وإلّا فإنَّ أغلب أهل الأرض سيسلّمون له طوعاً لأنَّه سيظهر بمنطق العلم والمعرفة، وبمنطق الرأفة والحنان، وستقاتله فئة خاصّة من المسلمين ألا وهم النواصب, فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «ويسير - أي المهدي - إلى الكوفة، فيخرج منها ستة عشر ألفاً من البترية، شاكين في السلاح، قرّاء القرآن، فقهاء في الدين، قد قرحوا جباههم، وشمَّروا ثيابهم، وعمَّهم النفاق، وكلّهم يقولون: يا بن فاطمة، ارجع لا حاجة لنا فيك»(59)، وفي بعض الروايات: «يقبل المهدي على الطائفة المنحرفة فيعظهم ويؤخّرهم إلى ثلاثة أيّام فلا يزدادون إلّا طغياناً وكفراً، فيأمر المهدي (عليه السلام) بقتلهم»(60)، مضافاً إلى أنَّ إقامة العدالة التامّة على الأرض كلّها لا يتمُّ إلّا باقتلاع براثن الظلم المتجذّرة في كثير من المجتمعات، وذلك يقتضي طولاً في مدّة القتال وشدّة وغلظة، إذ لا يتمُّ اقتلاع الجذور إلّا بهذا النهج، وقد قال تعالى عن عملية التطهير الجذري الذي قام به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة: 14)، وقال تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ (التوبة: 5)، وقال تعالى: ﴿وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾ (الأنفال: 39)، وقال تعالى: ﴿وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ (التوبة: 123)، فالمعالم البارزة للقتال المحمّدي هي المظاهر البارزة للقتال المهدوي.
ومن خلال هذه الملاحظات عرفنا أنَّ دولة المهدي دولة الرحمة والرأفة والحنان، وأنَّها لا تفرض الدين بالقسر والإكراه، وإنَّما ستنشر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(59) دلائل الإمامة: 455 و456/ ح (435/39).
(60) مختصر البصائر: 190.
الدين بلغة العلم، وهذه سيرة آبائه وأجداده (عليهم السلام)، فقد كان رسول الله إنساناً حوارياً، بدأ بالحوار ولم يبدأ القتال، وعلي (عليه السلام) كان أيضاً إنساناً حوارياً بدأ بالحوار ولم يبدأ القتال، والحسين نفسه كان إنساناً حوارياً حاور المقاتلين ووعظهم إلى آخر لحظة من لحظات وجوده الشريف، حتَّى أنَّه بكى على أعدائه وقال: «أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي»(61), والحسين لم يخرج من المدينة إلى مكّة وإلى كربلاء بقصد أن يَقتل أو يُقتل، إنَّما خرج بقصد الإصلاح لكنَّهم أصرّوا على قتله، وقال: «والله لا يدعوني حتَّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي»(62)، «والله يا أخي لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض، لاستخرجوني منه حتَّى يقتلوني»(63)، ثمّ وقف على جبل الصفا وقال: «كأنّي بأوصالي يتقطَّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأنَّ منّي أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين... من كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله»(64).
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(61) بنور فاطمة اهتديت لعبد المنعم حسن: 201.
(62) الإرشاد 2: 76.
(63) بحار الأنوار 45: 99.
(64) مثير الأحزان: 29.
المحاضرة الرابعة: المهدي (عليه السلام) ضرورة لا إ يحاء نفسي
(4/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(21/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (البقرة: 1 - 3).
الآية المباركة تذكر أنَّ من صفات المتّقين الإيمان بالغيب، وكلّ ما لم يشاهده الإنسان وكلّ ما لم ينله بحواسّه الخمس فهو غيب، مثلاً: أنت أمامي أدرك شكلك وأدرك حركاتك، ولكن لا أستطيع أن أصل إلى روحك بحواسّي الخمس، وإنَّما أستدلُّ على وجودها بحياتك فأقول: ما دمت حيّاً تتحرَّك، إذن لك روح ترتبط بجسدك، فروحك بالنسبة لي غيب، لأنَّني لا أنالها بحواسّي الخمس، وإنَّما الذي أناله بها شكلك وصورتك وحركاتك، وفي مقام تفسير هذه الآية الكريمة وردت روايتان:
الرواية الأولى: رواية داود بن كثير الرقّي، عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله الله (عزَّ وجلَّ): ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 3)، قال: «من أقرَّ بقيام القائم أنَّه حقّ»(65).
الرواية الثانية: رواية يحيى بن أبي القاسم، قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 1 - 3]، فقال: «المتّقون شيعة علي (عليه السلام)، والغيب فهو الحجّة الغائب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(65) كمال الدين: 340/ باب 33/ ح 19.
وشاهد ذلك - بمعنى أنَّ الإمام يستدلّ على أنَّ المراد بالغيب في الآية هو القائم المنتظر - قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [يونس: 20]»(66)، كأنَّ الإمام (عليه السلام) يريد أن يقول: الغيب على قسمين: قسم ينتظر أن يتحوَّل إلى واقع مشاهد، وقسم لا ينتظر، فالغيب الذي لا ينتظر أن يتحوَّل إلى مشاهدة هو الله (عزَّ وجلَّ)، لأنَّه لا يمكن أن يرى أو أن يحسّ بالحواسّ الخمس.
وهناك غيب ينتظر وهو الذي يمكن أن يتحوَّل إلى مشاهدة يوماً من الأيّام وهو القائم المنتظر (عليه السلام)، لأجل ذلك لمَّا قالت الآية: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا﴾ فإنَّها ناظرة للقسم الثاني وهو الغيب المنتظر لا إلى الغيب غير المنتظر, والغيب المنتظر هو المهدي, وهذا من التفسير بالمصداق كما يقول علماؤنا، بمعنى أنَّ الغيب لا ينحصر بالإمام المنتظر، بل هو من باب الإشارة إلى مثال من أمثلة الغيب ومصداق من مصاديقه، لا أنَّ مفهوم الغيب منحصر في الإمام المنتظر، وهو ما يسمّى بـ (التفسير المصداقي).
وانطلاقاً من الآية المباركة والرواية التي فسَّرت الغيب فيها تفسيراً مصداقياً بأنَّه القائم المنتظر (عليه السلام) نتحدَّث عن محاور ثلاثة:
المحور الأوّل: القائم المنتظر إملاء غريزي أم واقع وضرورة؟
إنَّ التلقين النفسي له أثر على سلوك الإنسان, ففي علم البرمجة العصبية يوجد قانون يسمّى قانون الجذب, وهو أحد مفاهيم هندسة الذات، بمعنى أنَّ الإنسان عندما يريد أن يهندس ذاته يحتاج إلى قانون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(66) كمال الدين: 340 و341/ باب 33/ ح 20.
الجذب, وهو قانون مستقى ومنتزع من قوانين العقل الباطن حيث يؤثّر على سلوك الإنسان وعلى مسيرة الإنسان.
ويقول علماء البرمجة العصبية في علم النفس: إنَّ الدماغ المادي الموجود في جسم الإنسان كما هو عضو كيميائي هو أيضاً عضو كهربائي، بمعنى أنَّ الدماغ كالمغناطيس الذي يجتذب الأفكار المجانسة والأفكار المقاربة.
فأيّ فكرة تعبر على الدماغ تحدث اهتزازاً فكرياً لا يشعر به الإنسان ولا يحسّ به، ونتيجة هذا الاهتزاز يجتذب الدماغ الأفكار المشابهة لهذه الفكرة التي تجول فيه، فمثلاً: الإنسان يفكّر في الفشل كالإخفاق في الدراسة ونتيجة الإخفاق بدأ يفكّر أنَّه فاشل, وأنَّه محبط وأنَّه عاجز عن تحقيق طموحاته وآماله وهذا التفكير يجرُّ الأفكار المشابهة شاء أم أبى، فإنَّ هذا التفكير بمثابة المغناطيس الذي يجذب الأفكار المشابهة.
ومثال آخر: إذا شاهدت التلفزيون فأنا أسمع أفكاراً كثيرة في التلفزيون لكن عقلي لا يلتقط إلّا أفكار الشؤم لأنَّ دماغي مشغول بفكرة تشاؤمية وهي الشعور بالإحباط، الشعور بالفشل، الشعور بالعجز، هذا ما يسمّى قانون الجذب، وهذا يؤثّر على سلوكي لأنَّني أعيش في دوّامة الأفكار التشاؤمية، الشعور بالفشل، الشعور بالإحباط، الشعور بالنقص والعجز. وبالعكس أيضاً لو لقَّنت نفسي وأقنعتها بأنَّني رغم الإخفاق في الدراسة رغم العقبات رغم العراقيل فأنا إنسان قادر على بناء الحياة، وأنا واثق بقدراتي وطاقتي فحينئذٍ حيث لقَّنت نفسي بالفكرة التفاؤلية يبدأ دماغي بالتقاط الأفكار التفاؤلية، إذا استمعت إلى محاضرة ألتقط منها
الأفكار الجميلة، وإذا شاهدت شريط أخبار ألتقط منه الأفكار الجميلة، هذا هو قانون الجذب، فكلّ ما ينشغل به دماغي يجذب إليَّ الأفكار المشابهة، فقانون الجذب: هو عبارة عن أنَّ دماغك بمثابة المغناطيس يلتقط الأفكار المشابهة لما يشتغل به دماغك، لذلك عليك أن تلقّن نفسك دائماً النجاح والثقة بالنفس والشجاعة والإرادة والقدرة على بناء الحياة وبناء المستقبل.
وقانون الجذب رغم بعض الملاحظات عليه فإنَّ جذوره موجودة في تراثنا الإسلامي كما ورد عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «تفاءلوا بالخير تجدوه»(67)، وورد في الحديث القدسي: «أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي، إن خيراً فخيراً وإن شرّاً فشرّاً»(68).
وبعد اتّضاح قانون الجذب فإنَّ هناك بعض المقالات كتبت أنَّ فكرة المهدي المنتظر (عليه السلام) لا واقع لها وهي فكرة اخترعها العقل الشيعي الإمامي لعاملين:
1 - العامل النفسي: فإنَّ الفرد الشيعي يشعر على مدى التاريخ أنَّه إنسان عاجز وفاشل عن تحقيق طموحاته وإنجاز أهدافه ونتيجة شعوره بالفشل أملت عليه غريزة حبّ الحياة، غريزة التشبّث بالحياة أن يلقّن نفسه فكرة المهدي المنتظر، وأن يقول: هناك يوم سيظهر فيه المهدي وسيخلّصنا من هذا الظلم والجور وسنحقّق فيه أهدافنا وطموحاتنا، ففكرة المهدي هي إملاء غريزي وتلقين نفسي ليس إلّا.
2 - عامل إعلامي: إنَّ علماء الشيعة علموا أنَّ مشروع أهل البيت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(67) تفسير الميزان 19: 77.
(68) الكافي 2: 72/ باب حسن الظنّ بالله (عزَّ وجلَّ)/ ح 3.
مشروع فاشل لأنَّهم لم يستطيعوا أن يصلوا إلى السلطة على مدى التاريخ، والذي وصل منهم إلى السلطة لم يستطع البقاء فيها كالإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو مشروع مخفق سياسياً لأنَّه لم يصل إلى السلطة، وفاشل فكرياً لأنَّه لم يستطع إقناع جمهور المسلمين بمبادئه ومعتقداته، فنتيجة إحساس علماء الشيعة بفشل المشروع الإمامي اخترعوا فكرة المهدي المنتظر من أجل أن يزرعوا الأمل في نفوس الشيعة الإمامية، لأنَّ مشروعهم إن لم ينجح سابقاً سينجح يوماً من الأيّام وهو يوم خروج المهدي المنتظر (عليه السلام) ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
إذن فكرة المهدي المنتظر فكرة صاغها علماء الشيعة وصاغتها الغريزة النفسية لتجديد الأمل في الحياة وإنجاز المشروع الذي فشل في الماضي.
ولبيان خطأ هذه الشبهة ننتقل إلى المحور الثاني، فنقول:
المحور الثاني: المهدي واقع موضوعي وضرورة واقعية:
المسألة المهدوية وفكرة المهدي المنقذ المخلّص فكرة لها واقع موضوعي، وليست إملاءً غريزياً لوجوه:
الوجه الأوّل:
لو كانت فكرة المهدي المنتظر إملاءً غريزياً نتيجة الشعور بالظلم والنقص لكان اليهود أوّل من قال بهذه الفكرة واختصَّت بهم، فإنَّ اليهود فئة تعرَّضت للاضطهاد وتعرَّضت للإبادة على مدى التاريخ، مع أنَّ الفكرة المهدوية لم يبشّر بها المجتمع اليهودي وإنَّما بشَّرت بها الملل السابقة وأكَّدها المجتمع الإسلامي, والفكرة المهدوية لو كانت إملاءً غريزياً لانحصرت بالشيعة لأنَّهم
هم الفئة الوحيدة من المسلمين التي عاشت اضطهاداً ومظلوميةً في زمن الأمويين والعبّاسيين، ولكنَّنا نجد أنَّ جميع المسلمين يعتقدون بالمهدي ولكنَّهم يختلفون في أنَّه ولد أم لم يولد.
إنَّ فكرة المهدي المنتظر لم تأتِ عن إملاء غريزي لأنَّ سائر المذاهب الإسلاميّة الذين عاشوا عيشاً رغيداً وعاشوا أمناً وعاشوا اطمئناناً في زمن الخلافة الأموية والعبّاسية قالوا بفكرة المهدي المنتظر, لذلك ترى محمّد ابن المنتصر الكتاني مدير مجمع الفقه الإسلامي في رابطة العالم الإسلامي في مكّة المكرَّمة هو الذي كتب وقال: (والحاصل أنَّ الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة)(69).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(69) راجع: مجلّة الانتظار/ العدد 11/ ص 26؛ وإليك أخي القارئ نصّ الفتوى:
فتوى المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي:
من أهمّ الفتاوى الصادرة في موضوع الإمام المهدي (عليه السلام) تلك التي أصدرتها إدارة المجمع الفقهي الإسلامي, التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكّة المكرَّمة بتاريخ (31/ أيار 1976م) المصادف (1397هـ), فهي تمتاز بالشمولية وكونها صادرة عن هيأة علمية معتبرة, وقد حرَّر الفتوى الشيخ محمّد المنتصر الكتاني, وأقرَّته اللجنة المكوَّنة من الشيخ: محمّد بن صالح العثيمين, والشيخ أحمد محمّد جمال, والشيخ أحمد علي, والشيخ عبد الله خيّاط, وقد جاءت جواباً على سؤال شخص من كينيا باسم أبي محمّد, حول المهدي المنتظر (عليه السلام), ونصّها كما يلي:
(هو: محمّد بن عبد الله الحسني العلوي الفاطمي, المهدي الموعود خروجه في آخر الزمان, وهو من علامات الساعة الكبرى, يخرج من المغرب, ويبايع له في الحجاز في مكّة المكرَّمة بين الركن والمقام, بين باب الكعبة المشرَّفة والحجر الأسود, عند الملتزم.
ويظهر عند فساد الزمان, وانتشار الكفر وظلم الناس، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً، يحكم العالم كلّه, وتخضع له الرقاب, بالإقناع تارة وبالحرب أخرى، وسيملك الأرض سبع سنين, وينزل عيسى (عليه السلام) من بعده فيقتل الدجّال, أو ينزل معه فيساعده على قتله, بباب لدّ بأرض فلسطين.
وهو آخر الخلفاء الراشدين الاثني عشر, الذين أخبر عنهم النبيّ صلوات الله وسلامه عليه في الصحاح.
وأحاديث المهدي واردة عن الكثير من الصحابة, يرفعونها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم, ومنهم: عثمان بن عفّان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عبّاس، وعمّار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وثوبان، وقرّة بن إياس المزني، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وأبو هريرة، وحذيفة بن اليمان، وجابر بن عبد الله، وأبو أُمامة، وجابر بن ماجد الصدفي، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين، وأُمّ سَلَمة.
هؤلاء عشرون منهم ممَّن وقفت عليهم، وغيرهم كثير، وهناك آثار عن الصحابة مصرَّحة بالمهدي من أقوالهم, كثيرة جدّاً لها حكم الرفع, إذ لا مجال للاجتهاد فيها, أحاديث هؤلاء الصحابة التي رفعوها إلى النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والتي قالوها من أقوالهم اعتماداً على ما قاله رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ رواها الكثير من دواوين الإسلام, وأُمّهات الحديث النبوي من السنن والمعاجم والمسانيد; منها: سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن عمرو الداني، ومسانيد أحمد وأبي يعلى والبزّاز، وصحيح الحاكم، ومعاجم الطبراني الكبير والوسيط, والروياني والدارقطني في الأفراد، وأبو نعيم في (أخبار المهدي)، والخطيب في (تاريخ بغداد)، وابن عساكر في (تاريخ دمشق)، وغيرها.
وقد خصَّ المهدي بالتأليف: أبو نعيم في (أخبار المهدي), وابن حجر الهيثمي في (القول المختصر في علامات المهدي المنتظر), والشوكاني في (التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجّال والمسيح), وإدريس العراقي المغربي في تأليفه (المهدي), وأبو العبّاس بن عبد المؤمن المغربي في كتابه (الوهم المكنون في الردّ على ابن خلدون).
وآخر من قرأت له عن المهدي بحثاً مستفيضاً, مدير الجامعة الإسلاميّة في المدينة المنوَّرة, في مجلّة الجامعة في أكثر من عدد.
وقد نصَّ على أنَّ أحاديث المهدي أنَّها متواترة جمع من الأعلام قديماً وحديثاً، منهم: السخاوي في (فتح المغيث), ومحمّد بن أحمد السفاريني في (شرح العقيدة), وأبو الحسن الآبري في (مناقب الشافعي)، وابن تيمية في فتاواه, والسيوطي في (الحاوي), وإدريس العراقي المغربي في تأليف له عن المهدي، والشوكاني في (التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجّال والمسيح)، ومحمّد بن جعفر الكتاني في (نظم المتناثر في الحديث المتواتر)، وأبو العبّاس بن عبد المؤمن المغربي في (الوهم المكنون من كلام ابن خلدون) (رحمهم الله).
وحاول ابن خلدون في مقدّمته أن يطعن في أحاديث المهدي, محتجّاً بحديث موضوع لا أصل له عند ابن ماجة: لا مهدي إلّا عيسى، ولكن ردَّ عليه الأئمّة والعلماء، وخصَّه بالردّ شيخنا ابن عبد المؤمن بكتاب مطبوع متداول في الشرق والمغرب منذ أكثر من ثلاثين سنة, ونصَّ الحفّاظ والمحدّثون على أنَّ أحاديث المهدي فيها الصحيح والحسن، ومجموعها متواتر مقطوع بتواتره وصحَّته، وأنَّ الاعتقاد بخروج المهدي واجب، وأنَّه من عقائد أهل السُنّة والجماعة، ولا ينكره إلّا جاهل بالسُنّة ومبتدع في العقيدة، والله يهدي إلى الحقّ ويهدي السبيل.
مدير إدارة المجمع الفقهي الإسلامي/ محمّد منتصر الكتاني).
ونقل عن ابن حجر العسقلاني وابن حجر الهيثمي وابن القيّم والشوكاني والسيوطي وغيرهم من علماء المسلمين أنَّ هذه القضيّة مسلَّمة والأحاديث فيها متواترة ولم يخالف فيها إلّا شرذمة مثل ابن خلدون الذي لم يأتِ إلّا في القرن التاسع وأحمد أمين المصري في كتابه (المهدي والمهدوية) أو كتابه (ضحى الإسلام) وبعض السلفية الذين لا يملكون نصيباً من العلم والمعرفة، وإلّا فالقضيّة مسلَّمة والأحاديث فيها متواترة من قبل المؤرّخين والمحدّثين(70).
الوجه الثاني:
إذا كانت فكرة المهدي إملاءً غريزياً فرضه الإحساس بالعجز والإحساس بالفشل، فالغيب كلّه مسألة غريزية, إذ لا فرق بين المهدي وبين بقيّة الغيب، كما قال بعض الماركسية أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنسان ذكي أراد أن يبعث الناس نحو الأعمال الصالحة فاخترع لهم فكرة الغيب، وقال لهم بأنَّ هناك قبراً وآخرةً وحساباً يجازى فيه المطيع ويعاقب فيه العاصي، وإلّا فالمسألة كلّها توجيه إعلامي قام به النبيّ ليس له واقع، وإذا كانت فكرة المهدي إملاءً من قبل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(70) كما سيأتي في (ص 78).
الغريزة أو إعلاماً من قبل علماء الشيعة وليس لها واقع موضوعي فجميع الغيب بما فيه الله واليوم الآخر، بل جميع الغيب بجميع ألوانه وأشكاله فكرة اخترعها النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأجل أن يموّه على الناس ويحثّهم على الأعمال الصالحة، وإلّا ليس هناك غيب ولا آخرة ولا وجود لله ولا قبر ولا غير ذلك، فهذا الإشكال وهذه الشبهة لو أخذنا بها لأنكرنا جميع أنواع الغيب لا أنَّنا ننكر خصوص مسألة الإمام المهدي (عليه السلام).
الوجه الثالث:
يعتبر حساب الاحتمالات أقوى دليل لإثبات الأشياء في علم الرياضيات، بل لا يمكن للإنسان إثبات أيّ شيء إلّا من خلال حساب الاحتمالات الذي هو عبارة عن تراكم القرائن في محور واحد بحيث توجب اليقين بوجود ذلك المحور، ولتقريب الفكرة نضرب مثالين:
المثال الأوّل: إذا أردت أن أثبت أنَّ شخصاً جالس أمامي فلا يوجد عندي إلّا دليل حساب الاحتمالات حيث أقول: صورته التي انتقشت في دماغي قرينة توجب نسبة (30%) أنَّه موجود، وصوته الذي سمعته قرينة أخرى، فيتصاعد الاحتمال من (30%) إلى (60%)، وإذا صار تماس معه باليد يتصاعد الاحتمال من (60%) إلى (90%)، وهكذا تتراكم القرائن في محور معيَّن وهو وجود الإنسان أمامي إلى حدّ أن يصل إلى اليقين الرياضي والقطع بأنَّ هذا الإنسان موجود أمامي، فقد رأينا أنَّ أبسط قضيّة وهو وجود إنسان أمامك تستطيع إثباتها عن طريق دليل حساب الاحتمالات.
المثال الثاني: إذا جاءنا خبر أنَّ هناك انفجاراً في بغداد، فكيف نثبته؟ بالاحتمالات، نقول: شهرة الحديث عنه قرينة (30%)، وتناقل الإذاعات عنه قرينة أخرى، ورؤية الصور في التلفزيون قرينة ثالثة، وإذا
اجتمعت هذه القرائن سيصل احتمال حصول الانفجار إلى (100%)، فتراكم القرائن في محور معيَّن وهو حدوث الانفجار يؤدّي إلى اليقين بحصول ذلك المحور، وهذا يسمّى دليل حساب الاحتمالات.
كيفية إثبات القضايا التاريخية:
وكذلك نثبت القضايا التاريخية، إنَّ بعض السلفيين يظهر في بعض القنوات الفضائية ويقول عن كلّ قضيّة تاريخية يتعرَّض لها: لم ترد في حديث صحيح السند، بينما أقلُّ إنسان في أوّل سنة جامعة يرى أنَّ هذا المنطق منطق غير علمي، فأنت لا تحتاج إلى الطرق الملتوية، وهي كون الحديث صحيح السند أو ليس صحيح السند، بل هذا الطريق عقيم، لأنَّه لو صار البناء المشي على هذا الطريق فلا يثبت شيء من تاريخ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّ عندك دليل رياضي معترف به علمياً وهو دليل حساب الاحتمالات، وهو جمع القرائن التاريخية كلّها فإذا تراكمت القرائن تصاعد احتمال الحصول إلى أن تصل إلى درجة اليقين بحصول هذا الحدث التاريخي أو عدم حصوله، ولا حاجة لمثل هذه الطرق الملتوية, نحن الآن نسمع عن الإمام الشافعي ولا ندري أنَّ الإمام الشافعي كان موجوداً أو غير موجود، وإنَّما نثبت وجوده من خلال دليل حساب الاحتمالات، لا بأن نقول: الرواية صحيحة السند وغير صحيحة السند، بل نقول: علماء الأنساب نصّوا على وجوده، هذه قرينة، وكتبه المنتسبة إليه قرينة ثانية على وجوده، والذين رأوه وتتلمذوا عليه قرينة ثالثة على وجوده، وحيث اجتمعت هذه القرائن حصل لنا اليقين بأنَّ هناك شخصاً اسمه الإمام الشافعي وجد، هكذا تثبت القضايا التاريخية.
وبناءاً على دليل حساب الاحتمالات نأتي إلى مسألة المهدي المنتظر(عليه السلام)، فكيف نثبتها؟ بدليل حساب الاحتمالات، حيث نقول: هناك قرائن اجتمعت وتوافرت في هذا المحور وهو وجود إمام اسمه محمّد بن الحسن، وإذا قرأنا هذه القرائن وجمعناها حصل لنا اليقين بوجوده.
القرينة الأولى: أنَّ لكلّ جيل إماماً:
ما دلَّ على أنَّ لكلّ جيل إماماً وواسطة بين السماء والأرض، بمعنى لا يمرُّ زمان تنقطع السماء عن الأرض ولا يمرُّ زمان إلّا وهناك واسطة بين السماء والأرض، ومن الأدلّة على ذلك:
قوله تعالى: ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ﴾ أنت يا رسول الله ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ (الرعد: 7)، بمعنى أنَّه لا يوجد قوم في أيّ زمن إلّا وقد نصب الله لهم هادياً، فمن هو الهادي في زماننا؟
وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ (الإسراء: 71)، والإمام ينصرف إلى معناه الواقعي كما يقول علماء الأصول وهو الإمام الحقّ، أي لا يوجد أناس في أي زمن إلّا ولهم إمام واقعي من قبل الله تبارك وتعالى.
وأمَّا الروايات والنصوص فهي كثيرة، منها: حديث الثقلين الذي روي في المسانيد بألفاظ مختلفة، جاء في مسند أحمد أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض»(71)، فلا يوجد زمان فيه قرآن إلّا وفيه رجل من عترة النبيّ يحفظ القرآن والدين عن التحريف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(71) رواه الجمهور بألفاظ مختلفة، راجع: مسند أحمد 3: 14 و17 و26 و59، فضائل الصحابة للنسائي: 15؛ مستدرك الحاكم 3: 109 و148؛ مجمع الزوائد 9: 163 و164، و10: 363؛ سنن النسائي 5: 45 و130؛ المعجم الأوسط للطبراني 3: 374، و4: 33؛ وغيرها من المصادر.
والتزوير، فمن هو هذا الشخص في زماننا الذي يكون حافظاً للقرآن والدين عن التحريف والتزوير؟
ومنها: ما أورده أحمد بن حنبل في مسنده: «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية»(72)، حيث يدلُّ على أنَّ كلّ زمان له إمام.
ومنها: ما أورده الحاكم في مستدركه: «النجوم أمان لأهل السماء فإذا أذهبت أتاها ما يوعدون، وأنا أمان لأصحابي ما كنت فإذا ذهبت أتاهم ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأمّتي فإذا ذهب أهل بيتي أتاهم ما يوعدون»(73).
وهذا المعنى ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) كما في (كمال الدين)(74) قال: «لو أنَّ الإمام رفع من الأرض لماجت الأرض بأهلها كما يموج البحر بأهله»، إذن هذه الأحاديث تدلُّ على وجود إمام يكون واسطة بين السماء والأرض في كلّ زمان، وهذا لا ينطبق إلّا على الحجّة المنتظر(عليه السلام) وإلّا فهل يستطيع أحد من المسلمين اليوم أن يقول: إنَّ الآيات والروايات تقصدني، وإنّي إمام هذا الزمان، وأنا الحجّة الذي أحفظ القرآن والدين عن التحريف والتزوير، وأنا الهادي، إنَّه لا يمكن لأحد أن يدَّعي ذلك سوى الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام)، ولذلك تقرأ في دعاء الندبة: «أيْنَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ بَيْنَ الأرْض وَالسَّمَاءِ»(75).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(72) رواه الجمهور بألفاظ مختلفة، راجع: مسند أحمد 4: 96؛ مجمع الزوائد 5: 218 و224 و225؛ المعجم الأوسط للطبراني 3: 361، و6: 70؛ المعجم الكبير للطبراني 10: 289/ ح 10687، و19: 388؛ كنز العمّال 1: 103/ ح 464، و6: 65/ ح 14863؛ وغيرها من المصادر.
(73) رواه الجمهور بألفاظ مختلفة، راجع: مستدرك الحاكم 2: 448، و3: 457؛ الجامع الصغير للسيوطي 2: 680/ ح 9313؛ كنز العمّال 12: 102/ ح 34190؛ وغيرها من المصادر.
(74) كمال الدين: 203/ باب 21/ ح 9.
(75) المزار لابن المشهدي: 579/ الدعاء للندبة.
القرينة الثانية: أحاديث الاثني عشر:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما في صحيح مسلم(76): «لا يزال الدين قائماً حتَّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»، واثنى عشر خليفة معناه خليفة بالمعنى الواقعي وليس خليفة بالقوّة وبالسلاح، بل دلَّ الحديث على أنَّه يبقى هؤلاء الخلفاء إلى قيام الساعة, وهذا ينطبق على من؟
قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر هذه الرواية: (والظاهر أنَّ منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره فذكر أنَّه يواطئ اسمه اسم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم))(77)، إذن هذه قرينة ثانية، حيث كان احتمال وجود الإمام (10%) مثلاً فصار الآن بهذه القرينة (20%).
القرينة الثالثة: بشائر العهدين:
فالتبشير بالمهدي (عليه السلام) سبق الإسلام، فهو في التوراة والإنجيل، فقد جاء ذكره في كتب غير شيعية، منها: كتاب (البراهين الساباطية) للقاضي الساباطي، ومنها: كتاب (المسيح الدجّال) للدكتور سعيد أيّوب, ومنها: كتاب (أنيس الإسلام) لشيخ محمّد فخر الإسلام، وهؤلاء المؤلّفون أتعبوا أنفسهم في ترجمة الأناجيل، وما ورد في (بشائر العهدين) فذكروا أنَّ في كتاب (أشعياء) من العهد القديم، وفي كتاب (سفر الرؤيا) من مكاشفات يوحنا اللاهوتي، وأيضاً من (سفر الرؤيا) في إنجيل متى بارك ليت(78).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(76) صحيح مسلم 6: 4.
(77) أنظر: تفسير ابن كثير 2: 34.
(78) بارك ليت بحسب الترجمة العربية محمّد أو أحمد، وبارك ليت شخصان يأتيان للناس، بارك ليت الأوّل وهو الذي يدعو الناس إلى المحبّة ثمّ يموت، ثمّ تلد امرأة بارك ليت الثاني الذي هو أيضاً اسمه محمّد أو أحمد، ويغيب عن الناس (1260) عاماً ثمّ يخرج ويملأ الأرض بالحبّ والرحمة, فإذا كان هذا التوقيت صادقاً فقد بقي (60) سنة لظهوره.
فالتبشير بالمهدي (عليه السلام) سبق الإسلام، ولذلك فإنَّ القاضي الساباطي مع كونه حنفياً وليس شيعياً يقول: (لا ينطبق هذا الكلام إلّا على نظرية الإماميّة من وجود محمّد بن الحسن الثاني عشر) فهذه قرينة ثالثة نضيفها إلى القرائن.
القرينة الرابعة: الفترة المعاصرة لولادة الإمام المهدي (عليه السلام):
إذا عدنا إلى زمن ولادة الإمام سنة (255هـ) وغيبته سنة (260هـ) إلى أن انتهت الغيبة الصغرى سنة (329هـ) وجدنا أنَّه كان للإمام (عليه السلام) خلال الغيبة الصغرى أربعة سفراء: عثمان بن سعيد, ومحمّد بن عثمان, والحسين بن روح، وعلي بن محمّد السمري، وبمراجعة سريعة إلى كتب الأعلام من الفريقين في تلك الفترة لا نجد أحداً منهم أنكر ولادته أو أنكر غيبته، ولو كانت ولادة المهدي (عليه السلام) كذباً لكانت فرصة ثمينة للطعن على الشيعة الإماميّة، وأنَّهم يدَّعون خرافة وأسطورة ويقولون بولادته وبغيبته، وهذا شيء لم يحصل، فإنَّك لا تجد في كتب علماء السُنّة في تلك الفترة من أنكر ولادته أو طعن فيها، فلو كانت ولادته كاذبة لطعنوا بذلك.
وعلماء الشيعة في تلك الفترة مثل الكليني, وابن قولويه، والصدوق الأوّل، قد ذكروا في كتبهم أنَّه تواترت الرؤية له والمشاهدة، بمعنى أنَّه أمر متواتر مقطوع به، وأنَّ له توقيعات استمرَّت (69) سنة كلّها بخطّ واحد، ولم تكن السفارة ثابتة في شخص واحد، بل كانت تتغيَّر فالأوّل عثمان بن سعيد مات فأتى من بعده ابنه، ثمّ أتى من بعده شخص أجنبي عنهما وهو الحسين بن روح، ثمّ أتى من بعده شخص أجنبي آخر وهو السفير الرابع علي بن محمّد السمري، فإذا لم يكن الإمام موجوداً كيف استطاع هؤلاء الأربعة أن يخرجوا توقيعات بخطّ
واحد على مدى (69) عاماً من دون أن يختلف الخطّ على العلماء وعلى الناس، لولا أنَّ هناك شخصاً قد رأى هؤلاء الأربعة وهو مصدر هذه التواقيع التي صدرت في بعض القضايا المصيرية الحافظة للشيعة الإماميّة آنذاك, وقد أفاد السيّد الشهيد (قدّس سرّه) أنَّ تلقّي علماء تلك الفترة لهذه التوقيعات وعدم طعنهم فيها مع تضمّنها لقضايا مصيرية بالنسبة للإمامية كمسألة الخمس والولاية والتحذير من بعض الأشخاص والفئات كاشف إمَّا عن وضوح ضعف رواتها فلم تكن هناك حاجة للطعن فيها أو عن وضوح وثاقتهم وعدالتهم بحيث لا مجال للحديث عنهم أو عن توفّر القرائن الحسّية المختلفة التي توجب الوثوق بصدورها عن الإمام نفسه (عليه السلام)، وحيث إنَّ الاحتمالين الأوّلين باطلان لعدم ذكر الرجاليين شيئاً من تضعيف أو توثيق لرواة التواقيع كمحمّد بن إسحاق بن يعقوب فالثالث هو المتعيّن(79). إذن هذه قرينة رابعة من القرائن التي تضاف إلى إثبات وجوده (عليه السلام).
القرينة الخامسة: النصّ على ولادته (عليه السلام):
من الغريب أن تجد أنَّ بعضاً ممَّن ينتسب إلى التشيّع يقول: لا توجد روايات صحيحة على ولادة المهدي المنتظر (عليه السلام) مع أنَّه يوجد في كتاب الكافي ومن لا يحضره الفقيه الروايات الصحيحة، منها هذه الرواية:
روى عبد الله بن جندب، عن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) أنَّه قال: «تقول في سجدة الشكر: اللّهمّ إنّي أشهدك وأشهد ملائكتك وأنبيائك ورسلك وجميع خلقك إنَّك أنت الله ربّي، والإسلام ديني، ومحمّداً نبيّي، وعلياً والحسن والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمّد بن علي، وجعفر بن محمّد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمّد بن علي، وعلي بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(79) راجع: بحث حول الإمام المهدي (عليه السلام) تحت عنوان: كيف نؤمن بأنَّ المهدي قد وجد.
محمّد، والحسن بن علي، والحجّة بن الحسن بن علي أئمّتي بهم أتولّى ومن أعدائهم أتبرَّأ...»(80)، وقد ذكره الإمام الكاظم قبل ولادته وجعله إماماً وبشَّر به.
القرينة السادسة: اعتراف علماء الأنساب:
فإنَّ أيّ قضيّة تاريخية يرجع فيها إلى أهل الاختصاص، كما يرجع في الطبّ إلى الطبيب، وفي الفقه إلى الفقيه، وفي الهندسة إلى المهندس، فإنَّنا نرجع في ثبوت النسب إلى علماء النسب, وهناك سبعة عشر من علماء النسب من غير الشيعة الإماميّة نصّوا على أنَّ هناك شخصاً اسمه محمّد بن الحسن العسكري وأنَّه كان موجوداً، ومنهم:
أبو نصر سهل بن عبد الله البخاري من أعلام القرن الرابع الهجري في كتابه (سرّ السلسة العلوية)، والسيّد العمري من أعلام القرن الخامس الهجري في كتابه (المجدي في أنساب الطالبيين)، والفخر الرازي الشافعي من أعلام القرن السابع في كتابه (الشجرة المباركة في أنساب الطالبية)، والمروزي الأزورقاني من أعلام القرن السابع في كتابه (الفخري في أنساب الطالبيين)، والسيّد النسّابة جمال الدين أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبه من أعلام القرن التاسع في كتابه (عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب)، والنسّابة الزيدي السيّد أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني من أعيان القرن الحادي عشر في كتابه (روضة الألباب في معرفة الأنساب)، ومحمّد أمين السويدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(80) من لا يحضره الفقيه 1: 329 و330/ باب سجدة الشكر والقول فيها/ ح 967؛ الكافي 3: 325/ باب السجود والتسبيح والدعاء فيه.../ ح 17، باختلاف.
من أعلام القرن الثالث عشر في كتابه (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب)، والنسّابة المعاصر محمّد ويس الحيدري السوري في كتابه (الدرر البهيّة في أنساب الحيدرية والأويسية)(81).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(81) راجع: المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي/ مركز الرسالة: 120 - 123، وهذا نصّ عباراتهم:
1 - قال أبو نصر البخاري في كتابه سرّ السلسلة العلوية (ص 40): (وولد علي النقي ابن محمّد التقي (عليه السلام) جعفراً وهو الذي تسمّيه الإماميّة جعفر الكذّاب، وإنَّما تسمّيه الإماميّة بذلك لإدعائه ميراث أخيه الحسن (عليه السلام) دون ابنه القائم الحجّة (عليه السلام)، لا طعن في نسبه).
2 - قال السيّد العمري في كتابه المجدي في أنساب الطالبيين (ص 130): (ومات أبو محمّد (عليه السلام) وولده من نرجس (عليها السلام) معلوم عند خاصّة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك، وامتحن المؤمنون بل كافّة الناس بغيبته، وشره جعفر بن علي إلى مال أخيه وحاله فدفع أن يكون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة على قبض جواري أخيه...).
3 - قال الفخر الرازي الشافعي في كتابه الشجرة المباركة في أنساب الطالبية (ص 78 و79) تحت عنوان: أولاد الإمام العسكري (عليه السلام) ما هذا نصّه: (أمَّا الحسن العسكري الإمام (عليه السلام) فله ابنان وبنتان: أمَّا الابنان، فأحدهما: صاحب الزمان عجَّل الله فرجه الشريف، والثاني موسى درج في حياة أبيه...).
4 - وصف المروزي الأزورقاني في كتابه الفخري في أنساب الطالبيين (ص 7) جعفر ابن الإمام الهادي (عليه السلام) في محاولته إنكار ولد أخيه بالكذّاب، وفيه أعظم دليل على اعتقاده بولادة الإمام المهدي (عليه السلام).
5 - قال السيّد النسابة جمال الدين أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبه في كتابه عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب (ص 199): (أمَّا علي الهادي فيلقَّب العسكري لمقامه بسُرَّ من رأى...) إلى أن قال: (وأعقب من رجلين هما: الإمام أبو محمّد الحسن العسكري (عليه السلام)، وكان من الزهد والعلم على أمر عظيم، وهو والد الإمام محمّد المهدي صلوات الله عليه ثاني عشر الأئمّة عند الإماميّة وهو القائم المنتظر عندهم من أُمّ ولد اسمها نرجس...).
6 - ذكر النسّابة الزيدي السيّد أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني في كتابه روضة الألباب لمعرفة الأنساب (ص 105) تحت اسم الإمام علي التقي المعروف بالهادي (عليه السلام) خمسة من البنين وهم: الإمام العسكري، الحسين، موسى، محمّد، علي. وتحت اسم الإمام العسكري(عليه السلام) مباشرة كتب: (محمّد بن) وبإزائه: (منتظر الإماميّة).
7 - قال محمّد أمين السويدي في كتابه سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب (ص 346): (محمّد المهدي: وكان عمره عند وفاة أبيه خمس سنين، وكان مربوع القامة، حسن الوجه والشعر، أقنى الأنف، صبيح الجبهة).
8 - قال النسّابة المعاصر محمّد ويس الحيدري السوري في كتابه الدرر البهية في الأنساب الحيدرية والأويسية (ص 73) في بيان أولاد الإمام الهادي (عليه السلام): (أعقب خمسة أولاد: محمّد وجعفر والحسين والإمام الحسن العسكري وعائشة. فالحسن العسكري أعقب محمّد المهدي صاحب السرداب....) إلى أن قال: (الإمام محمّد المهدي: لم يذكر له ذرّية ولا أولاد له أبداً).
القرينة السابعة: نصّ المؤرّخين من السُنّة على ولادته وغيبته (عليه السلام):
فقد نصَّ جملة من المؤرّخين من أهل السُنّة على ولادته وغيبته (عليه السلام)، ومنهم:
ابن الأثير من أعلام القرن السابع في كتابه (الكامل في التاريخ، وابن خلّكان من أعلام القرن السابع في كتابه (وفيات الأعيان), والذهبي من أعلام القرن الثامن في ثلاثة من كتبه, وابن الوردي من أعلام القرن الثامن في كتابه (تاريخ ابن الوردي)، وأحمد بن حجر الهيتمي من أعلام القرن العاشر في كتابه (الصواعق المحرقة)(82).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(82) راجع: المهدي المنتظر في الفكر الإسلامى/ مركز الرسالة: 124 - 132، وهذا نصّ عباراتهم:
1 - قال ابن الأثير في كتابة الكامل في التأريخ (ج 7/ ص 274) في حوادث سنة (260هـ): (وفيها توفّي أبو محمّد العلوي العسكري، وهو أحد الأئمّة الاثني عشر على مذهب الإماميّة، وهو والد محمّد الذي يعتقدونه المنتظر).
2 - قال ابن خلّكان في كتابه وفيات الأعيان (ج 4/ ص 176): (أبو القاسم محمّد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمّد الجواد المذكور قبله، ثاني عشر الأئمّة الاثني عشر على اعتقاد الإماميّة المعروف بالحجّة... كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين).
3 - اعترف الذهبي بولادة المهدي (عليه السلام) في كتابه العبر في خبر من غبر (ص 125)، وقال: (وفيها - أي في سنة 256هـ - ولد محمّد بن الحسن بن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، أبو القاسم الذي تلقّبه الرافضة الخلف الحجّة، وتلقّبه بالمهدي، والمنتظر، وتلقّبه بصاحب الزمان، وهو خاتمة الاثني عشر)، وفي كتابه تاريخ دول الإسلام الجزء الخاصّ في حوادث ووفيات 251 - 260هـ (ص 113)، وفي كتابه سير أعلام النبلاء (ج 13/ ص 119/ الرقم 60).
4 - قال ابن الوردي في كتابه المعروف بتاريخ ابن الوردي: (ولد محمّد بن الحسن الخالص سنة خمس وخمسين ومائتين) نقله عنه الشبلنجي في كتابه نور الأبصار (ص 186).
5 - قال أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي في كتابه الصواعق المحرقة (ص 207/ ط 1) في آخر الفصل الثالث من الباب الحادي عشر: (أبو محمّد الحسن الخالص، وجعل ابن خلّكان هذا هو العسكري...) إلى أن قال: (ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمّد الحجّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين لكن أتاه الله فيها الحكمة، ويسمّى القائم المنتظر).
وغيرهم كالشبراوي الشافعي في كتابه الاتحاف بحبّ الأشراف (ص 68)، والشبلنجي في كتابه نور الأبصار (ص 186)، والزركلي في كتابه الأعلام (ج 6/ ص 80)، ومحيي الدين بن العربي في كتابه الفتوحات المكّية على ما نقل عنه الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر (ج 2/ ص 128)، وابن طلحة الشافعي في كتابه مطالب السؤول (ج 2/ ص 79)، وسبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواصّ (ص 363)، والكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان (ص 521)، وابن الصبّاغ المالكي في كتابه الفصول المهمّة (ص 287)، والفضل بن روزبهان في كتابه إبطال الباطل وقد نقله بشكل كامل المظفّر في كتابه دلائل الصدق (ج 2/ ص 574 و575)، وابن طولون الحنفي في كتابه الأئمّة الاثنا عشر (ص 118)، والقرماني الحنفي في كتابه أخبار الدول وآثار الأُول (ص 353 و354).
وبعد ملاحظة هذه القرائن كلّها فإذا كان هناك شخص منصف يجري طبق دليل حساب الاحتمالات، وجمع هذه القرائن المختلفة ورأى أنَّ كلّ قرينة توجب مقداراً من الاحتمال إلى أن تتراكم هذه القرائن في محور معيَّن وهو وجود المهدي المنتظر، فإنَّه يصل به اليقين الرياضي والقطع الذاتي إلى اليقين بوجوده (عليه السلام).
المحور الثالث: العقل يفرض اليوم الموعود:
لو صرفنا النظر عن النصوص وعن الأدلّة فإنَّ العقل وحده يحكم بضرورة اليوم الموعود ويوم الخلاص ويوم الإنقاذ لبعدين:
البعد الفلسفي:
يتساءل العقل: لماذا خلقت الحياة؟ فيجيب القرآن الكريم: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الملك: 2)، أي خلقت الحياة لأجل أن يصل المجتمع الإنساني إلى الكمال، والكمال بانتصار العدالة على الظلم، وانتصار الفضيلة على الرذيلة، وبما أنَّ الهدف من الحياة وصول المجتمع الإنساني إلى انتصار العدالة ووصول المجتمع الإنساني إلى انتصار الفضيلة، فلو لم يكن هناك يوم يتحقَّق فيه هذا الهدف لكان خلق الحياة لغواً وعبثاً، واللغو والعبث لا يصدر من الحكيم تعالى.
فما دام أنَّ الله قد خلق الحياة لأجل أن تنتصر العدالة على الظلم ولأجل أن تنتصر الفضيلة على الرذيلة، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، إذن لو لم يوجد ذلك اليوم الذي يتحقَّق فيه انتصار العدالة على الظلم وانتصار الفضيلة على الرذيلة في كلّ أرجاء الأرض لكان خلق الحياة لغواً وعبثاً، وهذا دليل عقلي على ضرورة اليوم المنتظر.
البعد الاجتماعي:
هناك سنن تاريخية، إذ يقول علماء الاجتماع: التاريخ لا يمشي صدفة، بل التاريخ يمشي على طبق سنن تتكرَّر من جيل إلى آخر ومن هذه السنن البقاء للأقوى، ومنها أنَّ الثروة إذا لم
توزَّع توزيعاً عادلاً يقع الدمار الأمني والاقتصادي، ومنها ثورة الجوع والخوف, فحينما نراجع تاريخ الأنبياء نجد أنَّ نبيّ الله نوحاً (عليه السلام) قام بثورة الجوع والخوف، حيث قاد مجموعة من الفقراء والمستضعفين وقام بثورته، وهكذا نبيّ الله شعيب (عليه السلام)، بل أغلب الأنبياء والمصلحين كانت حركاتهم منخلقة من الأمر السماوي ومستندة لعوامل من أهمّها عامل الجوع والخوف، فهذه سُنّة من السنن التاريخية تحدَّث عنها (اينشتاين) العالم الفيزيائي، و(راسل) الفيلسوف الفرنسي، و(برنارد شو) الفيلسوف الإنجليزي(83)، لذلك سيأتي يوم من الأيّام تحصل فيه ثورة أمميّة شعوبية لعامل الجوع والخوف، بمعنى أنَّ الشعوب الإنسانية كلّها تدرك فشل الأنظمة الاقتصادية وفشل السياسات المدنية حيث إنَّها لم تؤمّن لها لقمة الخبز ولم تؤمّن لها الأمن، وإذا أدركت الإنسانية أنَّ السياسات الاقتصادية فاشلة ستحصل ثورة أمميّة شعوبية تمهّد ليوم القائد المنتظر (عليه السلام).
فالمسألة مسألة عقلية ناشئة عن إدراك العقل لطبيعة المجتمعات حيث تستند إلى ثورة الجوع والخوف ويؤيّدها هؤلاء الفلاسفة، وهذه الثورة هي التي أيَّدها المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والإمام أمير المؤمنين، والحسين بن علي (عليهما السلام) الذي لم يقم بثورته من أجل كرسي أو سلطة، بل لأجل ثورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسدّ باب الجوع والخوف، فبنو أميّة تلاعبوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(83) راجع: مجلّة الانتظار/ العدد 14/ ص 63.
بثروات المسلمين وأكلوا خزانة بيت المال وصرفوها في بناء القصور وزخارف الدنيا، وجعلوا الشعب المسلم في زمانهم مهبّاً لعواصف الجوع والخوف والاضطهاد، من هنا انطلقت ثورة الحسين (عليه السلام): «فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً»(84).
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(84) مثير الأحزان: 32.
المحاضرة الخامسة: من ينتظر من؟
(5/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(22/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ (يونس: 20).
إنَّ الآية المباركة تتحدَّث عن موقف بين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين الكافرين، فالكافرون يطالبون النبيّ بآية أخرى غير القرآن الكريم ويقولون: لا نكتفي في تصديقك والإذعان بنبوَّتك بالقرآن الكريم، إنَّنا نحتاج إلى آية أخرى تضمّ للقرآن الكريم كي تكون داعماً لنبوّتك ورسالتك، ﴿وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ أي آية أخرى غير القرآن الكريم، والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخبرهم أنَّ هناك آية أخرى، أي إنَّ الله تبارك وتعالى لم يدعم نبوّته بآية واحدة وهي القرآن الكريم وإنَّما دعم نبوّته بآيتين، ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ﴾ بمعنى أنَّ هناك آية أخرى ما زالت في مطاوي الغيب، ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾، فما هي الآية الأخرى التي تكافئ القرآن الكريم، فإنَّ القرآن الكريم معجزة لا تقبل الشكّ والريب وتدعم نبوّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فما هي الآية الأخرى التي تكون معجزة أيضاً ولا تقبل الشكّ والريب وتدعم نبوّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ وقد شرَّق المفسّرون وغرَّبوا في تحديد الآية الأخرى.
بينما الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) حدَّدت لنا الآية الأخرى التي لا تقلُّ عن القرآن الكريم في الإعجاز وستكون داعماً واضحاً لنبوّة
النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال (عليه السلام): «الآية هي الغيب والغيب هو الحجّة»(85)، وهذا أمر واضح لأنَّ ظهور الدين على الأرض كلّها بحيث يصبح الدين الإسلامي ديناً لكلّ البشر هو في حدّ ذاته أيضاً معجزة أخرى، فكما أنَّ القرآن معجزة تدعم النبوّة فإنَّ ظهور القائم الذي يظهر الدين على الدين كلّه ويملأ الأرض كلّها قسطاً وعدلاً معجزة أخرى لا تقلُّ عن إعجاز القرآن الكريم.
من هنا ننطلق في الحديث عن القائم المنتظر (عليه السلام) من خلال محاور ثلاثة:
المحوّر الأوّل: هل ليوم الخروج وقت؟
يوجد هنا سؤال وهو أنَّه هل ليوم الخروج وقت معيَّن لا دور للظروف في تحقيقه، أو أنَّ الظروف دخيلة في تحقيق ذلك اليوم؟ فهنا اتّجاهان:
الاتّجاه الأوّل:
وهو أنَّ يوم خروج القائم كيوم الساعة له وقت معيَّن لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، وليس للظروف دخل في تحقيقه، وأصحاب هذا الاتّجاه يستدلّون بعدّة روايات، منها ما ورد في تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(85) عن يحيى بن أبي القاسم، قال: سألت الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 1 - 3]، فقال: «المتّقون شيعة علي (عليه السلام)، والغيب فهو الحجّة الغائب. وشاهد ذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [يونس: 20]، فأخبر (عزَّ وجلَّ) أنَّ الآية هي الغيب، والغيب هو الحجّة، وتصديق ذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: 50]، يعني حجّة». (كمال الدين: 18).
قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ (إبراهيم: 5)، قال (عليه السلام): «أيّام الله ثلاثة: يوم القائم, ويوم الموت، ويوم القيامة»(86)، هذه أيّام ثلاثة تأتي في وقت معيَّن.
ومنها: ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «المهدي منّا أهل البيت، يصلح الله له أمره في ليلة»، وفي رواية أخرى: «يصلحه الله في ليلة»(87)، وقد ذكرها أيضاً أحمد بن حنبل في مسنده. ومن الغريب أن نجد البعض يحاول تفسير هذه الرواية بأنَّ المهدي كان رجلاً غير صالح وصار صالحاً في ليلة واحدة، وكأنَّه يريد بذلك أنَّ الإمامة لا ترتبط بالعصمة، والمهدي يمكن أن يكون فاسداً والعياذ بالله ولكنَّ الله سوف يقبل توبته ويصلحه في ليلة واحدة، ولكن الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) تفسّر ذلك, قال (عليه السلام): «كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإنَّ موسى بن عمران خرج ليقتبس لأهله ناراً، فرجع إليهم وهو رسول نبيّ، فأصلح الله تبارك وتعالى أمر عبده ونبيّه موسى (عليه السلام) في ليلة» أي جعله رسولاً في ليلة، «وهكذا يفعل الله تبارك وتعالى بالقائم الثاني عشر من الأئمّة (عليهم السلام)، يصلح له أمره في ليلة كما أصلح أمر نبيّه موسى (عليه السلام) ويخرجه من الحيرة والغيبة إلى نور الفرج والظهور»(88)، وهو أنَّ الله يجمع له أنصاره وأصحابه في مكّة في ليلة واحدة وهي ليلة الجمعة لا يتخلَّف منهم أحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(86) تفسير القمي 1: 367.
(87) كمال الدين: 152/ باب 6/ ح 15؛ مسند أحمد 1: 84.
(88) كمال الدين: 151 و152.
ومنها: ما ورد عن أبي بصير، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لا يخرج القائم إلّا في وتر من السنين»(89)، بمعنى واحد أو ثلاثة أو خمسة.
ومنها: ما ورد أيضاً عن ابن أبي عمير، عن غير واحد، عن الصادق (عليه السلام)، قال: «السبت لنا، والأحد لشيعتنا، والاثنين لأعدائنا، والثلاثاء لبني أميّة، والأربعاء يوم شرب الدواء، والخميس تقضى فيه الحوائج، والجمعة للتنظّف والتطيّب، وهو عيد المسلمين وهو أفضل من الفطر والأضحى، ويوم الغدير أفضل الأعياد، وهو ثامن عشر من ذي الحجة وكان يوم جمعة، ويخرج قائمنا أهل البيت يوم الجمعة...»(90).
وهذا هو الخروج الأوّل لأنَّ الإمام له ظهور وله إعلان الظهور, فالظهور يوم الجمعة في المسجد الحرام بين الركن والمقام ولكنَّه لا يعلن عن ظهوره إلّا يوم السبت المصادف ليوم عاشوراء، كما جاء في الروايات الأخرى(91).
إذن قد يستفاد من هذه الروايات أنَّ للقائم (عليه السلام) وقتاً كيوم القيامة لا يتقدَّم ولا يتأخَّر وليس للظروف دخل فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(89) الغيبة للطوسي: 453/ ح 460.
(90) الخصال: 394/ ح 101.
(91) عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «ينادى باسم القائم (عليه السلام) في ليلة ثلاث وعشرين، ويقوم في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي (عليهما السلام)، لكأنّي به في يوم السبت العاشر من المحرَّم قائماً بين الركن والمقام، جبرئيل (عليه السلام) على يده اليمنى، ينادي: البيعة لله، فتصير إليه شيعته من أطراف الأرض تطوى لهم طيّاً حتَّى يبايعوه، فيملأ الله به الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً». (الإرشاد 2: 379).
الاتّجاه الثاني:
وهو أنَّ الظروف دخيلة في خروج القائم (عليه السلام)، فإنَّ الروايات وإن دلَّت على أنَّ يوم الخروج يوم معيَّن، إلّا أنَّ هذا اليوم أنيط بظروف معيَّنة، بمعنى أنَّ هناك ظروفاً تساهم في الإعداد لخروجه في ذلك اليوم المعيَّن، فخروجه لا ينفصل عن الظروف، بل هو يوم خاضع للبداء يمكن أن يتقدَّم كما يمكن أن يتأخَّر تبعاً لتحقّق الظروف المعيَّنة مثل الأجل، فالناس تظنّ أنَّ الأجل لا يتغيَّر، ولكن الصحيح أنَّ الموت فيه البداء، يمكن أن يتقدّم بالانتحار، ويمكن أن يتأخّر بالأعمال الصالحة، فهو خاضع للبداء، ولذلك ورد عن الإمام الكاظم(عليه السلام): «إنَّ العبد ليكون واصلاً لرحمه وقد بقي من أجله ثلاث سنين فيجعلها الله ثلاثين سنة، ويكون الرجل قاطعاً لرحمه وقد بقي من أجله ثلاثون سنة فيجعلها الله ثلاث سنين»(92).
إذن الموت يوم منوط بظروف وأسباب معيَّنة، كذلك خروجه (عليه السلام) يوم تابع لظروف معيَّنة، ولذلك يقبل التقديم والتأخير، ويمكن الاستدلال عليه بوجهين:
الوجه الأوّل:
رواية أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «يا ثابت إنَّ الله تبارك وتعالى قد كان وقَّت هذا الأمر في السبعين، فلمَّا أن قتل الحسين صلوات الله عليه اشتدَّ غضب الله تعالى على أهل الأرض، فأخَّره إلى أربعين ومائة، فحدّثناكم فأذعتم الحديث فكشفتم قناع الستر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(92) الدعوات للراوندي: 125/ ح 307.
ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا و﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾ [الرعد: 39]»(93)، إذن وقت خروجه خاضع لظروف معيَّنة إذا تحقَّقت وتنجَّزت خرج.
الوجه الثاني:
الأدعية المتظافرة المتضمّنة لطلب تعجيل الفرج، ومنها الدعاء الصحيح المعتبر الوارد: «اللّهمّ عجَّل فرجه، وأيّده بالنصر، وانصر ناصريه، واخذل خاذليه...»(94)، فإذا كان لخروجه وقت معيَّن لا يتقدَّم ولا يتأخَّر فلا معنى لأن نقول: «اللّهمّ عجَّل فرجه».
فهذا الدعاء بنفسه دليل على أنَّ وقت خروجه قابل للتقديم والتعجيل، فإذا تحقَّقت الظروف وتنجَّزت الأسباب خرج، لذلك لا يصحُّ أن يقال: ما هي فائدة الدعاء؟ إذ هو من أسباب تعجيل خروجه، حيث إنَّ دعاء المؤمنين له أثر عظيم في تعجيل الظهور.
إذن خروج الإمام منوط بظروف معيَّنة.
فإن قلت: إنَّ خروج المهدي (عليه السلام) من الأمور الحتمية فلا وجه لربطه بالظروف والأسباب الاختيارية فإنَّ ذلك يتنافى مع حتمية خروجه.
قلت: إنَّ كون الأمر حتمياً لا يتنافي تعليق حصوله من قبل الله (عزَّ وجلَّ) بأمور اختيارية حيث علم الباري (عزَّ وجلَّ) بتحقّق هذه الأمور الاختيارية في ظرفها، فمثلاً بعثة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت أمراً حتمياً ومع ذلك أنيطت من قبل الله (عزَّ وجلَّ) بأمور اختيارية بشرية كولادته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أبوين جليلين باختيارهما وإرادتهما، وكذلك أجل الإنسان كما ذكرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(93) الكافي 1: 368/ باب كراهية التوقيت/ ح 1.
(94) مصباح المتهجّد: 414/ الرقم (536/146).
الظروف الممهّدة للظهور:
وأهمّها ظرفان:
الظرف الأوّل: فشل الإيديولوجيات:
إنَّ البشرية إذا جرَّبت جميع الأنظمة السياسية والأنظمة الاقتصادية، أدركت فشلها وعقمها وأنَّها ما زالت ترزح تحت الجوع والفقر والخوف من دون خلاص وحينئذٍ سيكون الظرف مهيَّأ ومعدّاً لخروج المنتظر (عليه السلام), وتدلُّ عليه روايات، منها رواية أبي صادق كيسان بن كليب، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «دولتنا آخر الدول، ولن يبقَ أهل بيت لهم دولة إلّا ملكوا قبلنا، لئلاَّ يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128]»(95).
الظرف الثاني: الظرف الروحي:
إنَّ خروج الإمام يحتاج إلى أرضية تنصره وتستعدّ للدفاع عنه، وهذه الأرضية لم تتحقَّق، فإذا تحقَّقت ووجد أنصاراً كزبر الحديد مستميتين في الدفاع عن دولته، تحقَّق ظرف آخر مؤهّل لخروجه (عليه السلام).
وفي رواية عن أبي خالد الكابلي، عن زين العابدين (عليه السلام)، قال: «... يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أولئك المخلصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله (عزَّ وجلَّ) سرّاً وجهراً»(96).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(95) الغيبة للطوسي: 472 و473/ ح 493.
(96) كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.
وهناك جماعة ونخبة يعدّهم الله تبارك وتعالى لخروجه وهم أقطاب دولته وأركان حكومته (عليه السلام), إذن الخروج خاضع للظروف وتهيّؤ الأسباب.
المحور الثاني: لماذا لم تكن الدولة المهدوية في أوّل الزمان؟
إنَّ الدولة المهدوية هي في خاتمة الزمان فهي آخر دولة، وهنا يأتي السؤال: لماذا لم يجعل الله تعالى هذه الدولة في أوّل الزمان؟ ولماذا لم يهيّئ الله الأسباب للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مثلاً، لكي تكون له هذه الدولة الكبرى؟ وبعبارة علمية، يقول علماؤنا: قاعدة (اللطف) هي الدليل على ضرورة النبوّة والإمامة، كما هو مصطلح في علم الكلام.
فمقتضى قاعدة اللطف أن يبعث الله الأنبياء وأن ينصّب الأئمّة وأن ينزّل الكتب من السماء، لأنَّ المجتمع الإنساني يحتاج إلى نظام عادل، وهو غير قادر في نفسه على إيجاد نظام عادل ينسجم مع جميع الحضارات، ومع جميع الأجيال لمحدودية عقله, فلا بدَّ أن ينزل هذا النظام العادل من السماء لأنَّ عدم إنزاله إمَّا لجهله تعالى بحاجة البشرية وهو عالم بكلّ شيء، أو لعجزه عن ذلك وهو القادر على كلّ شيء، أو لبخله وهو الجواد المطلق.
إذن مقتضى لطف الله تعالى بالمجتمع الإنساني أن ينزّل عليهم النظام العادل الذي يحتاجونه.
ولقد استدلَّ علماؤنا بهذه القاعدة على ضرورة وجود الأنبياء والأئمّة وضرورة وجود كتب سماوية تحقّق النظام العادل، وهذه القاعدة أيضاً يمكن أن يستدلَّ بها على ضرورة وجود الدولة المهدوية من زمن
النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). فكما أنَّ مقتضى لطف الله بالأمّة أن يبعث الأنبياء وينزل عليهم الكتب، فهو يقتضي أيضاً أن يؤسّس لهم دولة مهدوية عامّة منذ زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلماذا تأخَّرت الدولة المهدوية إلى آخر الزمان؟ وما هي الحكمة في تأجيل ذلك إلى آخر الزمان؟
الجواب:
هنا أمور ثلاثة:
الأمر الأوّل: المادة منشأ النقص:
يقول الفلاسفة: المادة منشأ النقص، والتجرّد منشأ الكمال, فالجسم المادي ناقص، لأنَّ المادة منشأ للنقص، وذلك لأنَّ الجسم المادي محفوف بحاجبين كبيرين: حاجب الزمان وحاجب المكان.
فالإنسان لا يستطيع أن يتحرَّر لا من الزمان ولا من المكان، مثلاً: الإنسان لا يستطيع أن يعلم بما خلف الجدار، لأنَّه مادة والمادة تشغل حيّزاً من الفراغ فلا يمكن لها أن تشغل الأمكنة كلّها، بل لا بدَّ أن تشغل مكاناً معيَّناً، فصار المكان حاجباً لعلمه بما وراءه، وكذلك الزمان فلا يمكن للإنسان أن يعلم بما سيحصل في المستقبل، لأنَّ الزمان يمنعه.
فإنَّ المادة تشغل مكاناً وزماناً فيحجبها ذلك عن الامتداد لما ورائه، فالزمان والمكان حجابان يمنعان الإنسان عن رؤية ما وراءهما، وكلّ ذلك لأنَّ الإنسان مادي، بينما المتجرّد عن كونه جسماً مادياً لا يحجبه المكان ولا الزمان، فالملائكة وإن كانت هي المدبّر لعالم المادة لكنَّها ليست جسماً مادياً، فلذلك تعلم بما وراء المكان والزمان لأنَّ المكان والزمان لا يحجبانها، فالمادي ناقص لأنَّه مبتلى بحجابين والمجرَّد كامل لأنَّه غير مبتلى بذلك. إذن المادة منشأ النقص والتجرّد منشأ الكمال.
حقيقة الروح قبل وبعد التلبّس بالجسد:
ما هو الفرق بين الروح قبل أن تصبح في عالم المادة والروح بعد أن تصبح في عالم المادة؟
نحن كنّا أرواحاً في عالم الذرّ قبل أن ننزل إلى هذا العالم، فكنّا مجرَّدين نعيش كمالاً وهو رؤية ملكوت الله تبارك وتعالى، وكنّا نسبّح الله لرؤيتها، قال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ (الأنعام: 75)، وكلّ روح قبل أن تنزل إلى عالم الدنيا كانت ترى الملكوت وتشاهده وتسبّح الله، فهي تعيش كمالاً فعلياً، ولمَّا نزلت إلى عالم المادة ارتبطت بالجسد فأصبح الجسد سجناً يحجبه الزمان والمكان.
الأمر الثاني: التراكمية الثقافية:
ولتقريب الفكرة نضرب مثالاً: إنَّ الطفل في أوائل عمره لا يمكنه أن يتعلَّم معلومات الجامعة، ولو فرضنا أنَّ له ذاكرة قويّة يستطيع من خلالها حفظ المعلومات لكنَّه لا يتفاعل معها، وكذا طالب الطبّ لا يمكنه أن يتعلَّم معلومات سبع سنين في يوم واحد، لأنَّ الحواسّ محدودة القدرة، والمحدود لا يمكنه أن يتفاعل مع أيّ معلومة إذا لم يمرّ بالتراكمية الثقافية. فالطفل الصغير لا يمكنه التفاعل مع معلومات الجامعي لأنَّه لم يمرّ بالتراكمية الثقافية, والشاب في أوّل الجامعة لا يتفاعل مع رسالة الدكتوراه لأنَّه لم يمرّ بالتراكمية الثقافية التي تؤهّله لاستيعاب المعلومات. والناس وإن كانوا يتفاوتون في الفهم فشخص يستوعب المعلومات في خمس سنين والآخر لا يستوعبها إلّا في عشر سنين، ولكن هذا تفاوت في السرعة والبطء لا غير، إلّا أنَّ التراكمية
الثقافية عنصر ضروري في التفاعل مع المعلومة، وكلّ ذلك ناشئ عن كون الإنسان مادياً والمادي محدود القدرة.
الأمر الثالث: حاجة البشرية للتراكمية الثقافية:
وصلنا إلى النتيجة والجواب على إشكالية لماذا لم تعط الرسالة المحمّدية للبشرية منذ يوم آدم؟ وما هو السرّ في تأخير رسالة الإسلام لما بعد آلاف السنين من تاريخ البشرية؟
والجواب هو حاجة البشرية للتراكمية الثقافية لكي تكون مؤهّلة لاستيعاب رسالة الإسلام، فلو أعطيت البشرية رسالة الإسلام منذ يوم آدم لما تفاعلت معها، ولأصبحت الرسالة فاشلة، فالرسالة الإسلاميّة تحتاج إلى مستوى من الثقافة تمرُّ به البشرية حتَّى تكون مؤهّلة لاستيعاب هذه الرسالة.
إذن كما أنَّ الله تعالى أجَّل رسالة النبيّ إلى ما بعد آلاف السنين من تاريخ البشرية، كذلك أجَّل الدولة المهدوية إلى آخر الزمان، لأنَّها تحتاج إلى مستوى ثقافي وحضاري لا تملكه البشرية إلى الآن، لكي يؤهّلها للتفاعل مع دولة الإمام المهدي. لذا فالمجتمع البشري لكي يستطيع أن يتفاعل مع معلومات هذه الدولة وقوانينها وأنظمتها يحتاج إلى مساحة زمنية واسعة وحيث إنَّ البشرية لم تصل إلى هذا المستوى، لذلك لم يحن موعد الدولة بعد، ولو أعطيت الناس الدولة الخاتمية منذ زمن النبيّ أو زماننا هذا لفشلت ولم يستفد الناس منها، ولنضرب بعض الأمثلة.
مثلاً: الإمام علي (عليه السلام) كان يشكو ويقول: «يَا كُمَيْلُ... إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً - وَأشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ - لَوْ أصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً»(97)، أي لا يوجد من يفهمني، فأنا سابق زماني. وكذلك تراه يقف على نهر الفرات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(97) نهج البلاغة 4: 36/ ح 147.
ويقول: «لو شئت لجعلت لكم من الماء نوراً وناراً»(98)، في ذلك الوقت الذي لا تفهم الناس الرابط بين الماء والكهرباء, فهو يتكلَّم عن معلومة سبقت زمانه لا يستطيع الناس أن يتفاعلوا معها.
والناس كانت تقرأ قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل: 88)، ولم تكن تفهم هذه الآية في زمان نزولها.
والناس كانت تقرأ هذه الآية: ﴿وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (الذاريات: 47)، التي تشير إلى نظرية التمدّد في الفضاء، هذه النظرية حديثة ولم تكن الناس تعرفها زمن نزول الآية.
ونأتي الآن على مستوى علم النفس، فإنَّ من أهمّ نظريات علم النفس الاستبطاني العقل الباطن، واكتشافه أسهم في حلّ مشاكل وأمراض نفسية كثيرة، بينما اكتشاف منطقة العقل الباطن قد ورد في الروايات وفي الآيات، قال تعالى: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى﴾ (طه: 7)، وقال الإمام علي (عليه السلام): «مَا أضْمَرَ أحَدٌ شَيْئاً إلّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ»(99)، لكن البشرية لم تكتشف العقل الباطن إلّا في زماننا، وإنَّما ذكرت هذه الحقائق في القرآن وحديث الأئمّة قبل زمانها لتكون دليلاً على إعجاز القرآن وإعجاز أهل البيت (عليهم السلام).
إذن يمكن القول بأنَّ السرّ في تأجيل الدولة المهدوية إلى آخر الزمان هو أنَّ التفاعل معها يحتاج إلى مستوى عالي من الثقافة، وإلى الآن لم تمرّ البشرية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(98) موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب والسُنّة والتاريخ للريشهري: 302، نقلاً عن تصنيف نهج البلاغة: 782.
(99) نهج البلاغة 4: 7/ ح 26.
بالتراكمية الثقافية التي تؤهّلها للتفاعل مع دولة المهدي المنتظر (عليه السلام)، فلو أعطوا هذه الحضارة في زمن سابق لكان في غير محلّه، لكونها دولة فاشلة وعقيمة لا يمكن أن يتفاعل معها المجتمع البشري.
المحور الثالث: دور الأمّة في التمهيد للظهور:
ذكرنا أنَّ خروج الإمام المنتظر منوط ومرهون بظروف معيَّنة, فهل نستطيع نحن أن نساهم في هذه الظروف؟ هل نستطيع نحن أن نعجّل خروج الإمام؟ هل نستطيع أن نقوم بأعمال تساهم في خروجه وتُعجّل قدومه وتوطّئ الأرض لظهوره؟ ما هو دورنا في إعداد الظروف المنسجمة مع خروجه (عليه السلام).
إنَّ دور البشرية في الإعداد لخروجه وتهيئة الظروف له هو الانتظار الذي ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله (عزَّ وجلَّ)»(100), لكن ما هو الانتظار؟
أنواع الانتظار:
هنا نظريتان عندنا في الانتظار:
الانتظار التعطيلي:
ذهب بعض الشيعة إلى الانتظار التعطيلي، وقال: علينا ترك كلّ إصلاح لتمتلئ الأرض ظلماً وجوراً وتكون معدّة لخروج الإمام, لأنَّه لا يخرج حتَّى تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، فعلينا أن نترك المنكرات تطغى على الأرض، والظلم يتفشّى ويستحكم على البشر حتَّى لا نعطّل خروجه، ونكون بهذا الانتظار التعطيلي قد أسهمنا في تعجيل خروجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(100) كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.
وهذا الاتّجاه لم يأتِ جزافاً، فهناك روايات يحاول أن يستفيد منها ما يؤيّد كلامه، منها: ما ورد عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «كلّ راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله (عزَّ وجلَّ)»(101).
ومنها: ما ورد عن أبي المرهف، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «هلكت المحاضير»، قال: قلت: وما المحاضير؟ قال: «المستعجلون، ونجا المقرَّبون، وثبت الحصن على أوتادها، كونوا أحلاس بيوتكم، فإنَّ الغبرة على من أثارها، وأنَّهم لا يريدونكم بجائحة إلّا أتاهم الله بشاغل إلّا من تعرض لهم»(102).
ومنها: ما تذمّ الخروج والاستعجال، فعن عيص بن القاسم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «... والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثمّ كانت الأخرى باقية فعمل على ما قد استبان لها ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون...»(103).
الانتظار الإعدادي:
قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله (عزَّ وجلَّ)»، والانتظار له مدلولات ثلاثة:
1 - المدلول العقائدي:
الانتظار يعني أن تعتقد أنَّ الله قادر على أن يحفظ إنساناً هذا العمر الطويل لأجل أن يدَّخره لهدف عظيم، وهذا الاعتقاد في نفسه عمل عظيم وانتظار تثاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(101) الكافي 8 : 295/ ح 452.
(102) الغيبة للنعماني: 203/ باب 11/ ح 5.
(103) الكافي 8 : 264/ باب الأمر بإلزام البيت قبل خروج السفياني/ ح 381.
عليه، وآخر الزمان سوف يعدل الناس عن ذلك، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «أمَا والله ليغيبنَّ عنكم صاحب هذا الأمر وليخملنَّ هذا حتَّى يقال: مات، هلك، في أيّ وادٍ سلك؟ ولتكفأنَّ كما تكفأ السفينة في أمواج البحر، لا ينجو إلّا من أخذ الله ميثاقه، وكتب الإيمان في قلبه، وأيَّده بروح منه...»(104).
فالبقاء على الاعتقاد بالغيبة يعتبر عملاً عظيماً لتراجع الناس في آخر الزمان عن الاعتقاد بالغيبة.
2 - المدلول الإداري:
نحن نريد أن نعدّ الأرض لخروجه (عليه السلام) لكن علينا أن لا نوقّت للأمر، فقد عرضنا الروايات التي تقول: «كذب الوقّاتون، إنّا أهل بيت لا نوقّت، أبى الله إلّا أن يخلف وقت الموقّتين»(105)، وإنَّما ورد النهي عن التوقيت؟ لأنَّه لو حدَّدنا له وقتاً معيَّناً لاستغلَّ من قِبَل الظالمين في إعاقة خروجه، فلو قلنا بأنَّ المهدي سوف يخرج بعد خمس سنوات، كانت هذه فرصة ثمينة للطغاة والظالمين في نشر العوائق والعقبات أمام حركته وأمام خروجه، فالتوقيت يعطي فرصة لاستغلال الظالمين، ولعجلة المستعجلين، ففي الرواية المعتبرة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «كذب الوقّاتون وهلك المستعجلون ونجا المسلّمون»(106)، إذن الانتظار له مدلول إداري وهو عدم التوقيت من أجل إلّا يكون التوقيت فرصة لاستغلال الظالمين ولا فرصة لعجلة المستعجلين.
3 - المدلول السلوكي:
وهو إعداد الأرض من خلال حركة الأمر بالمعروف والنهي عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(104) الكافي 1: 338 و339/ باب في الغيبة/ ح 11.
(105) الغيبة للنعماني: 304 و305/ باب 16/ ح 12.
(106) الكافي 1: 368/ باب كراهية التوقيت/ ح 2.
المنكر, وذلك لأمور:
أوّلاً: عندنا أدلّة عامّة، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: 104)، ولم تخصّص هذه الأدلّة بزمن دون زمن بنصّ معتبر، لذلك يجب علينا تطبيق هذه الأدلّة، وقد ورد أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذمّ آخر الزمان لأنَّهم يتركون الأمر بالمعروف، قال: «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر»، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ قال: «نعم وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف»(107), ولو كان الانتظار يعني تعطيل حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما ذمَّ الرسول قوماً في آخر الزمان بأنَّهم تركوا مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثانياً: إنَّ المقصود من هذه الروايات التي استدلَّ بها أصحاب الاتّجاه الأوّل وهو الانتظار التعطيلي راية الشخص الذي لا يراعي الموازين الشرعية المتعلّقة بالنفوس أو الأموال ولا يبالي بحدودها بقرينة التعبير عنه بـ (المستعجل أو راية الشخص الذي يدعو إلى نفسه)، أمَّا الشخص الذي يدعو إلى آل محمّد فهو ليس طاغوتاً يعبد من دون الله، والشخص الذي يدعو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس طاغوتاً يعبد من دون الله، والقرينة على ذلك أنَّ لسان هذه الروايات هو شاهد على أنَّ الرايات المذمومة هي الرايات التي تدعو لنفسها بقرينة مناسبة الحكم للموضوع حيث عبَّر عنه بـ (طاغوت يعبد من دون الله)، وعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(107) الكافي 5: 59/ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر/ ح 14.
الإمام الصادق (عليه السلام): «إن أتاكم آتٍ منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون، ولا تقولوا: خرج زيد، فإنَّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه إنَّما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد (عليهم السلام)...»(108)، فهذا دليل على أنَّ المذموم هو الراية التي تدعو إلى نفسها لا كلّ راية ترفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعاراً لها.
ثالثاً: تؤكّد الروايات أنَّ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر في زمان غيبة القائم هم الذين فضّلوا على أهل كلّ زمان(109)، لذلك مسؤوليتنا إعداد الأرض من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلاً بحسب موقعه، ولا يقول القائل: إنَّ هذه وظيفة الخطباء والعلماء وليس وظيفتنا، بل كلّ شخص مسؤول عن حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلاً بحسب موقعه، قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 105), وقال تعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم: 6).
إذن الطريق هو حركة الدعوة المقترنة مع الإخلاص فكلّ من أخلص في عمله وجعل عمله لله فهو ممَّن ينتظر الإمام، وهو ممَّن يعدّ الأرض ويوطّئها لخروج الإمام، فقد ورد في الرواية عن الإمام السجّاد(عليه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(110)، والإعداد بالأمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(108) الكافي 8 : 264/ باب الأمر بإلزام البيت قبل خروج السفياني/ ح 381.
(109) ومنها رواية الكابلي السابقة حيث ورد فيها: «والدعاة إلى دين الله سرّاً وجهراً».
(110) كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.
بالمعروف والنهي عن المنكر كلاً بحسب موقعه ومكانه، فالأمر بالمعروف والنهي هو شعار الأنبياء، شعار الأولياء، شعار الأوصياء، شعار كربلاء، شعار أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) الذي كتب لأخيه محمّد بن الحنفية: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمّة جدّي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(111).
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(111) الفتوح 5: 21؛ بحار الأنوار 44: 329.
المحاضرة السادسة: دور المرأة في الحركة المهدوية
(6/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(23/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ﴾ (هود: 8).
إنَّ الآية المباركة تدلُّ على أنَّ هناك عذاباً يتوعَّد الكافرين من أمّة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم), ولكن هذا العذاب لم ينزل في زمن النبيّ لقوله تبارك وتعالى: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ (الأنفال: 33)، وإنَّما أخَّر العذاب ليوم معيَّن ولأجلٍ معيَّن، فما هو ذلك اليوم الذي هو يوم نزول العذاب على الكافرين من أمّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما نزل العذاب الدنيوي على الأمم السابقة التي كذَّبت أنبيائها؟
ولقد احتار المفسّرون في تحديد ذلك الأجل, لأنَّ الآية تتحدَّث عن عذاب دنيوي وليس عن عذاب أخروي, فما هو موعد العذاب الدنيوي الذي سيحلُّ على الكافرين من أمّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
إنَّ الروايات الشريفة دلَّت على موعد العذاب, فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «العذاب خروج القائم (عليه السلام)، والأمّة المعدودة عدّة أهل بدر وأصحابه»(112)، وفي رواية أخرى عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «والأمّة المعدودة أصحاب القائم الثلاثمائة وبضعة عشر»(113). والعذاب هو عذاب نفسي من خلال ظهور الدين على الأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(112) الغيبة للنعماني: 248/ باب 13/ ح 36.
(113) تفسير القمي 1: 323.
كلّها, وعذاب مادي من خلال صيحة السماء والخسف الذي يحصل قبل ظهوره (عليه السلام).
وهناك سؤال يثار, وهو أنَّه إذا قرأنا التراث الإسلامي, خصوصاً التراث الذي يتحدَّث عن المهدي وظهوره وأصحابه ودوره ودولته, لا نجد للمرأة ذكراً في هذا التاريخ، فهل ليس للمرأة أيّ فاعلية في اليوم المهدوي الموعود أم لا؟
وهذا السؤال قد يتَّسع ليشمل التراث الإسلامي بصفة عامّة, بأن يتساءل, أين دور المرأة في التراث الإسلامي؟ فالخطاب الإسلامي غالباً موجَّه للذكور, والأحكام الإسلاميّة تميّز الرجل عن المرأة في عدّة موارد, فشهادة رجل يعدل شهادة امرأتين, وسهم المرأة من الميراث نصف سهم الرجل، وأمثال كثيرة من الأحكام الإسلاميّة التي تميّز الرجل على المرأة, فهل أنَّ التراث الإسلامي تراث ذكوري أم أنَّ هناك شيئاً آخر؟
ولتوضيح الإجابة لا بدَّ من التعرّض لمحورين:
المحور الأوّل: القراءة الصحيحة لخطابات الشارع:
إذا قرأنا التشريعات الإسلاميّة وجدنا أنَّ هناك تميّزاً للرجل على المرأة, مثلاً قوله تعالى: ﴿وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: 228)، وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الأُخْرى﴾ (البقرة: 282)، وقوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ (النساء: 11)، فما هي القراءة الصحيحة لهذه الخطابات التي تميّز الرجل على المرأة؟
هناك اتّجاهان:
1 - الاتّجاه الحداثي:
وقد تبنّى البعض من الإسلاميّين هذا الاتّجاه في قراءة النصوص القرآنية والنبويّة, وهو يعتمد على ركيزتين:
الركيزة الأولى: الفرق بين الدين والتراث الفقهي:
إنَّ هناك فرقاً بين الدين وبين التراث الفقهي, فإنَّ الدين هو الوحي الذي نزل على النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم), أمَّا التراث الفقهي الموجود في كتب الفقه, فليس هو الدين الواقعي، بل هو ما فهمه الفقهاء من النصوص وهذا فكر بشري غير مقدَّس, فالقداسة للدين الذي نزل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا لما فهمه فقهاء المسلمين وكتبوه منذ ألف سنة إلى زماننا هذا, لذلك إذا أنكر شخص شيئاً من التراث الفقهي لا يجوز لنا أن نعتبره منكراً للدين وخارجاً عن ربقته, لأنَّ هناك فرقاً بين الدين وبين ما فهمه الفقهاء وسطروه في كتبهم الفقهية, وتعدّد القراءات الفقهية خير شاهد على أنَّ الدين ليس هو التراث الفقهي.
مثلاً الإمام الخميني (قدّس سرّه) أفتى بحلّية الشطرنج إذا خرج عن كونه أداة للقمار، وهو بذلك خالف التراث الفقهي المعروف بين الإماميّة.
والسيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه) أفتى بجواز إقراض المال بزيادة تساوي النقص الداخل نتيجة تضخّم العملة, وقد خالف بذالك التراث الفقهي.
وأفتى بعض الفقهاء بأنَّه يثبت الهلال بالرؤيا بالعين المسلَّحة, وقد خالف التراث الفقهي في ذلك.
فمخالفة الفقهاء أنفسهم للتراث الفقهي خير دليل على أنَّ التراث الفقهي شيء والدين شيء آخر. لذلك لا يجوز اعتبار من خالف التراث الفقهي خارجاً عن الدين, وإنَّما خالف ما هو المعروف من فتاوى الفقهاء, وفتاوى الفقهاء فكر بشري، وليس هو الدين الإلهي النازل من السماء.
الركيزة الثانية: تاريخية النصّ:
ليس هذا النصّ القرآني الموجود هو الوحي، بل الوحي الذي نزل من السماء هو معاني وتجلّيات نزلت على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم), ثمّ صدر خطاب
من النبيّ بلسان عربي يترجم ذلك الوحي, فالوحي قبل أن يترجمه النبيّ كان مقدَّساً، مطلقاً، غير محدود, ولكن عندما ترجمه النبيّ باللسان العربي أصبح ظاهرة بشرية وليس شيئاً سماوياً, فخرج من كونه سماوياً إلى كونه أرضياً بشرياً, وبما أنَّه خطاب بشري إذن هو ظاهرة بشرية, وكلّ ظاهرة بشرية لا يمكن قراءتها منفصلة عن ظروفها التاريخية, هذا معنى تاريخية النصّ.
مثلاً: صلح الحديبية ظاهرة بشرية بين النبيّ والمشركين, ولا يمكننا أن نقرأ صلح الحديبية ما لم نقرأ الظروف التي أدَّت إليه, لأنَّ الظاهرة البشرية لا تنفصل عن ظروفها ومحيطها. وهزيمة المسلمين يوم أُحُد, ظاهرة بشرية وليست سماوية, ولا يمكن لنا قراءتها ما لم نقرأ ظروفها المحيطة بها.
إذن كلّ خطاب بشري فهو ظاهرة بشرية, والظاهرة البشرية تُقرأ من خلال ظروفها, فالخطابات القرآنية تُقرأ من خلال ظروفها، فعندما نرجع للخطابات القرآنية نحو قوله تعالى: ﴿فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ (البقرة: 282)، فإنَّ هذا الخطاب صدر في زمن كانت المرأة فيه قليلة الوعي والثقافة, وكانت مهمّتها الأولى والأخيرة أنَّها ربّة بيت, أمَّا بعد أن أصبحت المرأة أستاذاً في الجامعة, عضواً في مجلس الشورى, وزيراً أو حاكماً فالمعادلة تتغيَّر، ولا يمكن أن تكون شهادة رجل بشهادة امرأتين, فهذا الخطاب القرآني ناظر لظروف خاصّة ولحقبة تاريخية معيَّنة, وليس خطاباً مطلقاً لكلّ زمان.
ومثلاً: قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾ (البقرة: 275), مختصّ بتلك الأزمنة التي لم يكن هناك مشكلة تضخّم العملة, أمَّا بعد أن أصبحت العملة
بمرور الوقت تتعرَّض لفرض التضخّم, فلا يكون الربا أمراً محرَّماً, فإنَّ نظرية تاريخية النصّ التي يطرحها الاتّجاه الحداثي, هي ربط النصوص بظروفها, وعدم تعميمها كقاعدة عامّة لكلّ جيل ولكلّ زمان.
مناقشة الاتّجاه الحداثي:
المناقشة الأولى: نزول الوحي معنىً ولفظاً:
إذا كان الوحي قد نزل على النبيّ على شكل معاني, والنبيّ قام بصياغته, فحينئذٍ يجوز لنا أن نقول: إنَّ الخطاب القرآني ظاهرة بشرية, لأنَّها صياغة النبيّ والنبيّ بشر, فتجري عليه قواعد النقد البشري.
ولكن الصحيح أنَّ الوحي نزل من السماء معنىً ولفظاً, أي إنَّ اللفظ والصياغة ليست من قبل النبيّ، إذ نزل الوحي بلفظه من السماء, والقرآن الكريم يؤكّد ذلك، قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 193 - 195), وقال تعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ﴾ (القيامة: 16 - 19)، وقال تعالى: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ (طه: 114). وهذه الآيات إن نزلت من السماء فهي واضحة الدلالة على أنَّ القرآن نزل بلفظه, وإن لم تنزل من السماء فالنبيّ صاغها فهو صادق أمين عند الحداثيين, ومقتضى صدقه وأمانته أنَّ القرآن نزل بمعناه وبلفظه من السماء.
إذن القرآن صياغة إلهية وسماوية وليست صياغة بشرية حتَّى يقال: هذه صياغة بشرية تجري عليها قواعد النقد الأدبي لكلّ ظاهرة بشرية.
المناقشة الثانية: كيفية الوصول إلى فهم الدين:
هذه المناقشة الثانية تعتمد على مقدّمتين:
المقدّمة الأولى:
لو سلَّمنا بأنَّ الخطابات القرآنية ظاهرة بشرية, والدين معاني نزلت من السماء على النبيّ, والنبيّ صاغها بهذا الخطاب البشري بلغة بشرية وهي اللغة العربية, فالسؤال هو كيف يمكن الوصول إلى الدين الذي نزل من السماء؟ وكيف يمكن فهمه؟ هل المرجع في فهم الدين إلى النخبة؟ ومن هم النخبة؟ هل المثقفين هم المرجع في فهم الدين؟ أو الأدباء هم المرجع في فهم الدين؟ أو الفقهاء هم المرجع في فهم الدين؟ وكيف نقتنص الحقائق الدينية من خلال الخطاب الذي صدر من النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
عندما نرجع للمجتمع العقلائي ونجعله حكماً في فهم أيّ نصّ وارد لنا فإنَّه يقول: المرجع في فهم أيّ نصّ إلى العرف من لغة ذلك النصّ, فإذا كان عندك نصّ من الأدب الإنجليزي, فالمرجع في فهم هذا النصّ أهل اللغة الإنجليزية, وإذا كان عندك نصّ من الأدب الفارسي, فالمرجع في فهمه أهل اللغة الفارسية، إذن هذه الخطابات القرآنية خطابات عربية, فالمرجع في فهمها العرف العربي العامّ لأنَّه أهل هذه اللغة.
فبما أنَّ العرف العربي هو أهل اللغة العربية, إذن هو المرجع في فهم الخطابات العربية خصوصاً وأنَّ القرآن الكريم لم ينزل للنخبة, ولا للفقهاء فقط، بل نزل للعرف العربي بجميع مستوياته وطبقاته.
المقدّمة الثانية:
بعد اتّضاح أنَّ المرجع في فهم النصّ العربي هو العرف العربي فهنا يطرح السؤال كيف نصل للعرف العربي؟
إنَّ العرف العربي ليس فهمه فهماً تلقائياً واسترسالياً, فهو مبني على قواعد معيَّنة وعناصر, وتلك العناصر بعضها عامّ وبعضها خاصّ.
العناصر العامّة مثل أحكام المطلق والمقيَّد, أحكام العامّ والخاصّ, هيئات الأفعال, هيئات الحروف.
والعناصر الخاصّة هي المادة اللغوية في كلّ كلمة بحسبها.
وبما أنَّ الفهم العربي مستند لعناصر عامّة وخاصّة، فنرجع للخبير بتلك العناصر، فهل كلّ شخص يستطيع أن يفهم القرآن لوحده؟
والجواب أنَّ المرجع في فهم القرآن إلى العرف العربي والعمدة هو فهم الشخص الخبير بتلك العناصر التي يعتمد عليها العرف العربي في فهم النصوص, ومن هنا يُرجع للفقيه, لا لأنَّ فهم الفقيه مقدَّس, بل لأنَّ الفقيه خبير بعناصر اللغة العربية التي يستند إليها فهم العرف العربي. وإذا ثبت الفهم العربي لمعنى معيَّن في زماننا أمكن إثباته في زمان صدور النصّ بأصالة الثبات، كما نرجع في مجال الطبّ إلى الطبيب, وفي مجال الهندسة إلى المهندس، وفي مجال فهم القرآن والسُنّة إلى الفقيه, لا لموضوعية فيه, بل لأنَّه خبير بعناصر اللغة العربية التي يعتمد عليها فهم العرف العربي لأيّ نصّ وارد.
المناقشة الثالثة: قرينة السياق:
قد مرَّ أنَّ المرجع في فهم النصوص إلى العرف العربي, والعرف العربي يملك قرائن مختلفة ومن جملة تلك القرائن قرينة تسمّى قرينة السياق ومن خلالها نستطيع أن نميّز الخطاب التدبيري عن الخطاب القانوني، لأنَّ خطابات القرآن والسُنّة على قسمين تدبيري وقانوني، فمن خلال قرينة السياق نميّز بين الخطابين.
الخطاب التدبيري:
وهو الخطاب الذي صدر لمعالجة مشكلة معيَّنة, ولمعالجة ظروف معيَّنة. مثلاً قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً﴾ (المجادلة: 12)، فهذا ليس قانوناً, بل هو تدبير لرفع مشكلة معيَّنة, فقد كان المسلمون يتجاسرون على النبيّ, فأراد الله تبارك وتعالى حلّ هذه المشكلة بهذا الخطاب, فإذا أراد شخص أن يتحدَّث مع النبيّ يدفع صدقة. فهذا الخطاب يسمّى خطاباً تدبيرياً, لأجل ذلك فإنَّ هذا الخطاب لا ينفصل عن ظروفه، فهو خطاب خاصّ بظروفه وليس قانوناً عامّاً.
مثال آخر: قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ﴾ (الأنفال: 65)، وهذا خطاب تدبيري وليس قانوناً عامّاً لكلّ زمن, فهو يرتبط بظروف معيَّنة.
حتَّى في السُنّة فإنَّ هناك خطابات تدبيرية، مثلاً في رواية معتبرة عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): سألته عن إخراج لحوم الأضاحي من منى، فقال: «كنّا نقول: لا يخرج منها شيء لحاجة الناس إليه، فأمَّا اليوم فقد كثر الناس, فلا بأس بإخراجه»(114)، ومعناها أنَّ نهي الإمام عن إخراج لحوم الأضاحي من منى كان نهياً تدبيرياً, لمعالجة حاجة معيَّنة.
مثلاً: مسألة الخضاب, فإنَّ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن يخضب شيبته. فسُئل: لِمَ لا تخضب شيبك وقد أمر رسول الله بالخضاب؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(114) الكافي 4: 500/ باب الأكل من الهدي الواجب.../ ح 7.
فأجاب: «إِنَّمَا قَالَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذَلِكَ وَالدَّينُ قَلٌّ فَأمَّا الآنَ وَقَدِ اتَّسَعَ نِطَاقُهُ وَضَرَبَ بِجِرَانِهِ فَامْرُؤٌ وَمَا اخْتَارَ»(115)، بمعنى أنَّ أمر النبيّ بالخضاب كان أمراً تدبيرياً ولم يكن قانونياً, فانتهى هذا الأمر بانتهاء ظرفه.
إذن الخطاب التدبيري, هو الخطاب المرتبط بظروف معيَّنة ولا يسري إلى سائر الظروف.
الخطاب القانوني:
وهو القانون العامّ لكلّ زمان فلا يمكن حصره في ظروف معيَّنة، ولا يقال: إنَّ هذا الخطاب صدر في زمان كانت المرأة ربّة بيت والآن أصبحت وزيرة, فانتهى الخطاب. ولا يقال: إنَّ هذا الخطاب صدر في زمان لم يكن في النقد تضخّم, والآن أصبح فيه تضخّم, فانتهت حرمة الربا.
فإنَّ مقتضى إطلاق الخطابات القانونية أنَّها قانون عامّ لكلّ الأزمنة, ولكلّ المسلمين، فتخصيصها بزمان دون زمان يحتاج إلى قرينة التخصيص، فلا يقال بأنَّها خاصّة بذلك الزمان وإطلاقها يحتاج إلى قرينة، لأنَّنا نتمسّك بإطلاقها.
مثلاً: لو رأينا الآن وقفاً عمره ألف سنة، كما لو وقف شخص البستان الفلاني الذي له حدود فلانية على الفقراء، فلا يمكن لأحد أن يقول بأنَّه خاصّ بتلك الظروف ولفقراء تلك الفترة، لأنَّه قد أوقف هذا البستان على الفقراء، فما زال البستان موجوداً وما زالت الأرض موجودة، إذن الوقف باقٍ إلى يوم القيامة.
فالوقف يأخذ به العقلاء ولا يتوقَّفون, فترى أنَّ المحاكم لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(115) نهج البلاغة 4: 5/ ح 17.
تتوقَّف عند هذه النقطة وتقول: هذا خطاب بشري, والخطاب البشري صدر في ظروف معيَّنة, إذن لا بدَّ أن يختصّ بتلك الظروف، بل يُؤخذ بظاهر الخطاب أنَّه وقف لكلّ زمان، فما دام لم تقم قرينة يؤخذ بإطلاقه.
ومثلاً: الوصيّة بالبيت الفلاني إلى عائلة فلان، وقد مرَّ على هذه الوصيّة قرون متعدّدة, فما دام البيت موجوداً نعمل بمقتضى الوصيّة ونسلّمه للموصى إليه, وإن كان مضى على الوصيّة مئات السنين.
إذن الفهم العربي لا يتوقَّف, فمتى ورد عندنا خطاب مطلق لم يقيَّد بزمن يؤخذ بإطلاقه.
كذلك الخطابات القرآنية الواردة في المرأة أو غير المرأة خطابات مطلقة لم تقيَّد بفترة زمنية ولا بجيل معيَّن يؤخذ بإطلاقها ولا يتوقَّف عندها.
لذلك ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: «... ولو أنَّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجرى أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض...»(116).
وفي رواية أخرى: «حلال محمّد حلال أبداً إلى يوم القيامة, وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»(117).
ومن الطريف أنَّ بعض الحداثيين إذا وجد أنَّ مفاد الآية موافق لذوقه قال بأنَّها عامّة لكلّ زمن, أمَّا إذا كان مدلولها غير منسجم مع ذوقه قال بأنَّها خاصّة بتلك الظروف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(116) تفسير العياشي 1: 10/ في ما نزل القرآن/ ح 7.
(117) الكافي 1: 58/ باب البدع والرأي والمقائيس/ ح 19.
مثلاً: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى﴾ (النحل: 90), وقوله تعالى: ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: 92), وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10), وقوله تعالى: ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلّا خَطَأً﴾ (النساء: 92)، يقال: إنَّ هذه الآيات عامّة لكلّ زمن.
أمَّا قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ (النساء: 11)، وقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾ (البقرة: 275)، فيقال: هذه الآيات خاصّة بذلك الزمن.
إذن في جميع الخطابات يتمسَّك بإطلاقها لكلّ زمن ما لم تقم قرينة السياق على كونه خطاباً تدبيرياً خاصّاً بظروف معيَّنة, ولذلك جاء القرآن بآيات تدلُّ على شمول مضامينه لجميع الأزمنة, مثلاً قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89)، وأمَّا بعض الفتاوى المستشهد بها كحلية الشطرنج وحجّية الرؤية بالعين المسلَّحة ونحوها فهي راجعة لاختلاف في فهم النصوص لا لنظرية تاريخية النصّ.
2 - الاتّجاه الفقهي:
الاتّجاه الفقهي الحوزوي, يستند على ركيزتين:
الركيزة الأولى: عدم وجود قاعدة أفضلية الرجل:
لا توجد قاعدة تقول بأنَّ المرأة أقلّ من الرجل, بل القاعدة تقول بأنَّ الأحكام مشتركة بين الرجل والمرأة، لإطلاقات الأدلّة كما يدلُّ على الاشتراك في الحقوق عدّة نصوص، قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (البقرة: 228)، إلّا أن يأتي حكم خاصّ. والأحكام التي ميَّزت الرجل على المرأة كما في الشهادة, والميراث, والدية, تعتبر استثناء وليست قاعدة. فإنَّ القاعدة هي الاشتراك لإطلاق الأدلّة ولقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
وقد ذكر في علم الأصول أنَّ ملاكات التشريع ليست دائماً مصالح واقعية، بل قد تكون اجتماعية اعتبارية، مثلاً: حرمة شرب الخمر ترجع لمصلحة واقعية, وهي إبعاد المسلم عن السكر. ووجوب الصلاة يرجع لمصلحة حقيقية, وهي النهي عن الفحشاء والمنكر. ولكن هناك أحكاماً لا ترجع لمصالح حقيقية, بل ترجع لمصالحة اجتماعية اعتبارية.
مثلاً: حدّ القذف للمرأة المؤمنة قد لا يرجع لمصلحة حقيقية، بل يرجع لمصلحة اعتبارية وهي إعطاء كرامة للمرأة، وإن كانت تعيش في مجتمع إباحي لا يرى الزنا عيباً.
ومثلاً: المرأة المطلَّقة عدّتها ثلاثة قروء, فمتى طرقها الحيض الثالث خرجت من العدّة, بينما إذا توفّي زوجها فعدّتها أربعة أشهر وعشراً, لماذا؟ لعلَّ ذلك لمصلحة اجتماعية, وهي مراعاة ميثاق الزواج, فإنَّ ميثاق الزواج ميثاق غليظ ومهمّ, فإذا مات الزوج فاحتراماً لهذا الميثاق تعتدّ المرأة أربعة أشهر وعشراً, وهذه مصلحة اجتماعية.
إذن ليست كلّ الأحكام لمصلحة حقيقية, بل بعض الأحكام لمصلحة اجتماعية.
الركيزة الثانية: التفضيل الشرعي لا يدلُّ على التفضيل الواقعي:
إنَّ التفضيل في الحكم الشرعي لا يعني التفضيل الواقعي بين الأشخاص, مثلاً: الشهيد الذي يقتل بين الصفّين لا يغسَّل ولا يكفَّن، فهل هذا يعني أنَّه أفضل من ذلك المؤمن الذي مات على فراشه؟ لا, قد يكون ذلك المؤمن أفضل من هذا الشهيد عند الله تبارك وتعالى, مع أنَّ حكم الشهيد أفضل من حكم المؤمن.
مثلاً: حمزة سيّد الشهداء قُتل بين الصفّين, وحكمه أن لا يغسَّل
ولا يكفَّن، لكن النبيّ مات على فراشه, وحكمه أن يغسَّل ويكفَّن. فهل هذا يعني أنَّ حمزة أفضل من النبيّ؟ بل هذا تفضيل في الحكم الشرعي وليس تفضيلاً واقعياً.
مثلاً: المرأة الحائض إذا انقضى حيضها تقضي صومها ولا تقضي صلاتها, فهل هذا يعني أنَّ الصوم أفضل من الصلاة؟ لا, إنَّ هذا مجرَّد تميّز في الحكم الشرعي لمصلحة اعتبارية, لا أنَّه تفضيل واقعي وأنَّ الصوم أفضل من الصلاة.
مثلاً: في باب الميراث إذا توفّي الولد, فلأُمّه الثلث إن لم يكن لهذا الولد المتوفّى ولد, ولم يكن هناك حاجب, بينما فريضة الأب إذا لم يكن لهذا المتوفّى ولد السدس, فهل هذا يعني أنَّ الأُمّ أفضل من الأب؟ بينما الأب قد فضّل في أمور أخرى. إنَّ هذا مجرَّد تفضيل في الحكم, ولا يعني التفضيل الواقعي.
وكلّ هذا يعني أنَّ التفضيل في الأحكام الشرعية قد يرجع لمصالح اعتبارية, لا لمصالح واقعية, فلا يعني التفضيل بين الأشخاص, وقد يكون أشخاص أفضل من بعض ولكن بحسب التفضيل الشرعي يتفاوت ويختلف الأمر.
والمتحصّل أنَّ تفضيل الرجل على المرأة بأنَّ شهادته تعدل شهادة امرأتين, أو أنَّ ميراثه يعدل سهمين من ميراث المرأة, لا يعني أنَّ الرجل أفضل من المرأة، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ﴾ (الحجرات: 13)، وقال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: 97)، وإنَّما هو تفضيل في الحكم الشرعي أو لمصالح اعتبارية.
المحور الثاني: دور المرأة في الحركة المهدوية:
هل للمرأة دور في الحركة المهدوية في يوم الظهور أو ما قبل الظهور أم لا؟ نحن نؤكّد أنَّ للمرأة دوراً بطولياً في الحركة المهدوية, وذلك من خلال عدّة طرق:
الطريق الأوّل: الروايات:
الرواية الأولى: عن المفضَّل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام)، قال: «يكون مع القائم (عليه السلام) ثلاث عشرة امرأة...»(118).
الرواية الثانية: عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «... ويجيء والله ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فيهم خمسون امرأة يجتمعون بمكّة على غير ميعاد قزعاً كقزع الخريف يتبع بعضهم بعضاً...»(119), فهناك خمسون امرأة هنَّ من خلَّص أصحاب المهدي, لأنَّ الثلاثمائة والثلاثة عشر وزراءه, وأقطاب حكومته, وخلَّص أصحابه, وخواصّ أنصاره. هؤلاء الخواصّ فيهم خمسون امرأة.
الطريق الثاني: المطلقات:
إنَّ الأدلّة مطلقة ولم تختصّ بالرجل، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: 104)، وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ (التوبة: 71), ومفادها أنَّ الزوجة وليّ على الزوج والزوج وليّ على الزوجة.
فإنَّ الزوجة إذا رأت زوجها يفرّط في الصلاة, أو يسمع الأغاني, أو يشاهد الأفلام الخليعة, فلها الولاية على أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وزجره, كما له الولاية عليها، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ﴾.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(118) دلائل الإمامة: 484/ ح (480/84).
(119) تفسير العياشي 1: 65/ ح 117.
فما ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله (عزَّ وجلَّ)»(120), لا يختصّ بالذكور, بل المرأة الطبيبة المخلصة في الطبّ منتظرة للفرج, والمرأة المدرّسة المخلصة في تدريسها منتظرة للفرج, والمرأة الخطيبة المخلصة في خطابتها منتظرة للفرج.
الطريق الثالث: التاريخ:
إنَّ التاريخ الإسلامي لم تقتصر صناعته على الذكور, فكما شارك الذكور في صناعة التاريخ الإسلامي, شارك النساء في صناعة التاريخ الإسلامي، وكما كان لمقداد, وأبي ذر، وسلمان, وعمّار دور في صناعة التاريخ, كان للنساء أيضاً دور في صناعة التاريخ. مثل خديجة بنت خويلد، حيث كانت الداعم المالي والداعم الروحي لشخصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مسيرته الإسلاميّة والدعوية.
وفاطمة بنت محمّد في موقفها النضالي, حيث ضحَّت ببدنها, ووقتها, وجهودها في سبيل الدفاع عن حقّ الأمّة الإسلاميّة في الخلافة الراشدة.
وزينب بنت علي (عليها السلام) ودورها الإعلامي, إذ لولا دور زينب لانطوت ثورة الحسين.
وحكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) كانت فقيهة وواسطة بين الأئمّة وبين الشيعة آنذاك.
وهذه الأدوار التي قمن بها هذه النسوة ليست أدواراً اضطرارية أو استثنائية, بل هي أدوار تأسيسية, لتأسيس خطّ للمرأة المسلمة أنَّها يمكن لها أن تصنع التاريخ, وأن تنهض ببطولة وإرادة حازمة بمثل هذه الأدوار.
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(120) كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.
المحاضرة السابعة: اليوم الموعود والحضارة الكونية
(7/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(24/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الحديد: 17).
حياة الأرض بعدل القائم (عليه السلام):
ما هو المراد بحياة الأرض بعد موتها؟
هنا وردت روايتان:
الرواية الأولى: عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: «يحييها الله (عزَّ وجلَّ) بالقائم (عليه السلام) بعد موتها - بموتها كفر أهلها - والكافر ميّت»(121).
الرواية الثانية: عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «أي يحييها الله بعدل القائم عند ظهوره بعد موتها بجور أئمّة الضلال»(122)، وكيف يمكن لنا أن نفهم أنَّ المقصود بحياة الأرض هو يوم ظهور المهدي (عليه السلام)؟
هناك قرينتان على هذا التفسير:
القرينة الأولى: القرينة السياقية:
وهي الآية التي قبلها، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ﴾ (الحديد: 16)، فإنَّ هذا التعبير ﴿فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ﴾، قرينة على أنَّ أهل الكتاب مرّوا بفترة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(121) كمال الدين: 668/ ح 13.
(122) الغيبة للنعماني: 32.
انتظار حين غاب عنهم موسى (عليه السلام) فانتظروا مجيئه وانتظروا قدوم عيسى بعد موسى (عليهما السلام) ﴿فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾، فالآية تدلُّ على أنَّ أمّة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ستمرُّ بما مرَّ به أمم أهل الكتاب، أي إنَّها ستمرّ بفترة انتظار سيطول أمدها ولذلك فعليها الحذر أن تكون كالأمم السابقة لمَّا ﴿طالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾.
فقوله تعالى: ﴿فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ﴾ قرينة على أنَّ المقصود بالآية التالية وهي حياة الأرض بمعنى حياة الأرض بعد فترة الانتظار التي طال أمدها، وهذا لا ينطبق إلّا على نظرية ظهور المهدي (عليه السلام).
القرينة الثانية: القرينة اللفظية:
وهي قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها﴾، ما معنى يحيي الأرض؟ ولم يقل: يحيي أرضاً، يعني كلّ الأرض, فما هو ذلك اليوم الذي سيحيي الله فيه الأرض كلّها بعد موتها؟ مقتضاه أنَّ الأرض قبل ظهور المهدي (عليه السلام) تتعرَّض للموت الروحي والمادي، حيث تتعرَّض للزلازل، للبراكين، للفيضانات، لظاهرة الاحتباس الحراري التي تملؤها موتاً وجوعاً ودماراً، وحياة الأرض بعد موتها بازدهار حضارة كونية وذلك في يوم قال عنه النبيّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(123).
وهذا المعنى تؤكّده روايات أخرى، كما في رواية المفضَّل بن عمر، عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها﴾ (الزمر: 69)، قال: «ربّ الأرض يعني إمام الأرض»، فقلت: فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: «إذن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(123) الغيبة للطوسي: 180/ ح 139.
يستغني الناس عن ضوء الشمس ونور القمر ويجتزون بنور الإمام»(124), المقصود به أنَّ القائم (عليه السلام) مظهر للربّ لأنَّه يقود الأرض فهو مظهر لربوبية الله في الأرض، هذا معنى ﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها﴾ أي بنور قائم الأرض، قائم آل بيت محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وورود الآية في سياق أشراط الساعة لا ينافي ذلك، فإنَّ من أشراطها إشراقها بنور دولة المهدي (عليه السلام).
فالنتيجة: إنَّ الآية تدلُّ على أنَّ هناك حياة حضارية ستقوم على الأرض في يوم ظهوره (عليه السلام)، والحديث عنه يتمّ عبر محاور ثلاثة:
المحور الأوّل: الحضارة الكونية هدف الوجود الإنساني:
إنَّ الهدف من الوجود الإنساني على الأرض هو الحضارة الكونية, فليس الهدف أن نقيم حضارة أرضية إذ لا قيمة لها بالنسبة إلى الكون كلّه، والحضارة الكونية يعني سيطرة الإنسان ونفوذه على الفضاء اللامتناهي بذرّاته، بمجرّاته، بكنوزه، بطاقاته، بمعادنه، فالهدف هو الحضارة الكونية, والدليل عليه عقلي ونقلي.
الدليل العقلي المدعم بالنقل:
لا إشكال أنَّ هذا الكون يعجُّ بالطاقات، فالأرض كما يصرّح علماء الطبيعة ما زالت بكراً بمعنى أنَّ الأرض هذا الكوكب الصغير إلى الآن لم تكتشف كلّ طاقاته، فكيف بما يعادلها من ملايين الكواكب، والكون ما زال بكراً، ما زال فيه طاقات وكنوز تسبح في هذا الفضاء اللامتناهي لم يكتشفها الإنسان بعد، فالإنسان ما زال في أوّل الطريق، وحينئذٍ يأتي السؤال: ما هو الهدف من خلق هذه النجوم والمجرّات والطاقات؟ هل خلقها الله تعالى بدون هدف أم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(124) تفسير القمي 2: 253.
خلقها بهدف؟ إن قلنا بأنَّ الله خلق هذا الكون بطاقاته وخيراته بلا هدف فهذا يعني أنَّ الخلق كان عبثاً، والعبث قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم تبارك وتعالى، وقد أكَّد القرآن على هذا بقوله تعالى: ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ﴾ (الأنبياء: 16 و17)، وقال في آية أخرى: ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ * ما خَلَقْناهُما إلّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الدخان: 38 و39)، إذن الخلق بهدف، فما هو الهدف؟
إنَّ الهدف هو استثمار الإنسان، لأنَّ الإنسان هو المخلوق الوحيد القادر على استثمار الكون، واكتشاف كنوز الكون وطاقاته، لأنَّه هو الذي يملك عقل الاكتشاف، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء: 70)، فالهدف من خلق الوجود كلّه أن يصل الإنسان إلى استثمار الكون كلّه، وهذه ما نسمّيه بـ (الحضارة الكونية)، وإلّا لكان خلق الكون عبثاً، وهذا ما تؤكّده الآيات الشريفة، قال تعالى: ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا﴾، والنفوذ بمعنى السيطرة على السماء والأرض، ﴿لا تَنْفُذُونَ إلّا بِسُلْطانٍ﴾ (الرحمن: 33)، ومعناه متى ملكتم السلطان سيطرتم على الكون. وقال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإِنْسانُ﴾ (الأحزاب: 72)، والأمانة في بعض التفاسير يراد بها ولاية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)(125)، ويمكن أن يراد بها استثمار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(125) عن إسحاق بن عمّار، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرْضِ...﴾ الآية، قال: «هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)». (الكافي 1: 413/ ح 2).
الكون على ضوء ولاية الإمام علي (عليه السلام) لأنَّه الذي لا يقدر عليه أحد إلّا الإنسان. وإنَّما ذكر اسم الأرض في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)، باعتبارها موقع الخليفة لا موقع الخلافة وفرق بينهما, فإنَّ مكان الخليفة يعني مقرّه وهو الأرض، لكن مكان الخلافة هو الكون كلّه، ولا يكون الإنسان خليفة عن ربّه في هذا الكون إلّا إذا سيطر على الكون كلّه، هذا هو الدليل العقلي المدعم بالنقل لإثبات أنَّ هدف الوجود الإنساني هو إقامة الحضارة الكونية.
الدليل النقلي:
وهذا الدليل يتألف من مقدّمتين:
المقدّمة الأولى: الكون أسرة واحدة:
ظاهر الآيات القرآنية أنَّ الكون أسرة واحدة، بمعنى أنَّ كلّ جزء في هذا الكون مؤثّر ومتأثّر، فلا يوجد جزء ينفصل عن جزء، مثلاً: عندما نقتلع الأرض ونخرجها من الكون يختلُّ توازن الكون، وكذلك لو نخرج الشمس أو القمر, فكلّ جزء مرتبط بالآخر وهو مؤثّر ومتأثّر، قال تعالى: ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (يس: 40)، وهكذا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً﴾ (لقمان: 20)، ما معنى أنَّ الله سخَّر لنا ما في السماوات وما في الأرض؟
يعني أنَّ هذه النجوم البعيدة التي يحتاج الوصول إليها إلى أربعمائة سنة ضوئية سخّرت لنا أيضاً، فهي تؤثّر على حياتنا شئنا أم أبينا، فنحن نتأثَّر بكلّ جرم، بكلّ كوكب، بكلّ مقطوعة في السماء.
وقال تعالى في آية ثانية: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ
لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ﴾ (إبراهيم: 33)، وقال تعالى في آية ثالثة: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ﴾ (الأعراف: 54)، وقال تعالى في آية رابعة: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ﴾ (الجاثية: 13).
إذن الكون أسرة واحدة، فكما أنَّ ضوء الشمس يؤثّر على الكائنات الحيّة في الأرض، وضوء القمر أيضاً يؤثّر على النباتات، فهو يؤثّر على مجرى ماء البحر ذهاباً وإياباً، فإنَّ كلّ شيء يؤثّر على الإنسان حتَّى منازل القمر التي تسمّى الأبراج، فإنَّها تؤثّر تأثيراً اقتضائياً يعني ليس على نحو العلّية التامّة.
وقد مرَّ ذكر قانون الجذب في علم البرمجة العصبية(126)، وهذا لا يعني أنَّنا نقبل هذا القانون كاملاً، بل نقبله في إطار أنَّه يبعث التفاؤل للإنسان ويزرع الأمل له، ولكن لا نقبل كلّ معلومات هذا قانون، فمن معلوماته أنَّه لا يوجد شيء اسمه قدر، بل الإنسان هو الذي يصنع القدر، لكن هذا غير صحيح، لأنَّ القدر على نوعين: حتمي وغير حتمي.
فقد يُولد إنسان وهو مصاب بالسل، وإنسان يُولد من أب فلاني وأُمّ فلانية، ويحصل زلزال في الأرض فيموت إنسان، هذا قدر حتمي لا يستطيع أن يغيّره، وهناك قسم من القدر ليس حتمياً وإنَّما هو اقتضائي، مثل دراسة الطبّ أو دراسة الهندسة أو الزواج من فلان أو فلانة.
إذن تأثير الأبراج على مسيرة الإنسان من القدر غير الحتمي، فهو تأثير اقتضائي وليس علّة تامّة، فبإمكان الإنسان أن يتحرَّر من هذا التأثير إذا امتلك إرادة التحرّر, والمهمّ من حديثنا أنَّ الكون كلّه أسرة واحدة مرتبط بعضه ببعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(126) راجع المحور الأوّل من المحاضرة الرابعة.
المقدّمة الثانية: ما هو المطلوب من الإنسان؟
اتَّضح أنَّ الكون أسرة واحدة فكلّ يؤثّر في الآخر، ولكن المطلوب منّا أن نفقه العلاقات الكونية، فكما أنَّ المطلوب من الإنسان أن يصلّي ويصوم فإنَّ المطلوب منه أن يتعرَّف على الكون والعلاقات الكونية.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ (النور: 41)، وقال في آية أخرى: ﴿يُسَبِّحُ للهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (الجمعة: 1)، وقال في آية ثالثة: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ (الإسراء: 44)، وهذه الآية لها مدلولان، مدلول مطابقي وهو أنَّ قدرة الله وقيمومته نافذة في الأشياء وكلّ شيء يسبّح له, ومدلول التزامي وهو أنَّ على الإنسان أن يفقه التسبيح ﴿وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ﴾ يعني عليكم أن تفقهوا.
ولا يمكن لنا أن نفقه تسبيح الكائنات إلّا إذا عرفنا العلاقات بين الكائنات، ولا يمكن ذلك إلّا إذا أقمنا الحضارة الكونية، فالإنسان إذا أقام الحضارة الكونية اكتشف أسرار الكون، وإذا اكتشفها عرف العلاقات بين الكائنات، وإذا عرف العلاقة فقه التسبيح، إذن هذه الآيات تدلّنا على ضرورة إقامة الحضارة الكونية، لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ﴾ (آل عمران: 191).
وبما مضى أثبتنا أنَّ الهدف من وجود المجتمع الإنساني على الأرض إقامة الحضارة الكونية، يعني اكتشاف أسرار الكون.
المحور الثاني: دولة الإمام المهدي (عليه السلام) والحضارة الكونية:
إنَّ دولة المهدي (عليه السلام) هي رمز الحضارة الكونية، هي الحضارة التي ينشدها الإنسان منذ آلاف السنين، وإثبات هذا المعنى يحتاج إلى التعرّض إلى أمرين:
الأمر الأوّل: دولة المهدي (عليه السلام) أرقى حضارة تكنولوجية:
ليست دولته (عليه السلام) دولة السيف والرمح والفلاحة والغوص، فالمهدي لا يُرجع الناس إلى الوراء، بل دولته هي أرقى حضارة تكنولوجية عرفها الإنسان على الأرض, وذلك لأنَّ الحضارة الكونية أعلى كمالاً روحياً يصل إليه الإنسان، لأنَّ اكتشاف أسرار الكون سيساهم في ترقّي معرفة المرء بربّه، وحيث إنَّ ذلك كمال يمكن أن يصل إليه الإنسان، فمقتضى لطف الله (عزَّ وجلَّ) بعبده إيصاله لكلّ كمال يمكنه الوصول إليه، فإنَّ المانع منه إمَّا الجهل وهو عالم بكلّ شيء أو العجز وهو قادر على كلّ شيء أو البخل وهو الجواد المطلق، ويستدلُّ عليه بوجهين أيضاً:
الوجه الأوّل: ما يستفاد من القرآن الكريم:
في عقيدتنا يوم المهدي (عليه السلام) هو اليوم الذي وعد الله به أهل الأرض، قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾ (القصص: 5)، يعني الوارثين للأرض، بحيث تكون كنوزها وطاقاتها بيد الإنسان، وهناك وعدٌ وَعَدَ الله فيه المؤمنين أنَّهم الوارثون والعاقبة لهم ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128)، وهذا الوعد يعتبره الله نعمة يمتنُّ بها على عباده، لأنَّ يوم المهدي (عليه السلام) يوم الكمال الحضاري والكمال الروحي، فإنَّ امتنان الله على عباده بذلك اليوم واعتباره نعمة والوعد به دليل على
أنَّ يوم المهدي (عليه السلام) كمال حضاري وروحي لا يرقى إليه كمال، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ (النور: 55).
وقال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، فقد يقال بأنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رحمة للإنسان، لكن الله تعالى يقول: ﴿رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾، يعني الجماد والنبات والحيوان والإنسان، فكيف يكون النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) رحمة للعالمين؟ وما هو معناه؟
وإلى الآن لم تتحقَّق هذه الرحمة، لأنَّ الرحمة كما يقول علماء العرفان في فعلية كمال كلّ شيء، فإذا بلغ كلّ شيء كماله نال الرحمة، وإذا لم يبلغ كماله لم ينل الرحمة, يعني أنَّ البذرة بعد زرعها تصبح شجرة فقد نالت الرحمة لأنَّها بلغت كمالها، أمَّا إذا زُرعت وفسدت وماتت لم تنل الرحمة، لأنَّها لم تبلغ كمالها، ومقتضى ذلك أنَّ قوله تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ يعني هناك يوم ستنال الرحمة فيه كلّ العالمين بجمادها ونباتها وحيوانها وإنسانها، وهو يوم يبلغ العالمون كلّهم كمالهم، فإذا بلغوا كمالهم نالوا الرحمة، وذلك يوم إقامة الحضارة الكونية في هذا الوجود على يد المهدي المنتظر الذي هو امتداد لنبوّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورسالته.
الوجه الثاني: الدليل النقلي من الروايات:
الرواية الأولى: عن أبان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «العلم سبعة وعشرون جزءاً فجميع ما جاءت به الرسل جزءان، فلم يعرف الناس حتَّى اليوم غير الجزءين، فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين جزءاً فبثّها في الناس، وضمَّ إليها الجزءين، حتَّى يبثّها سبعة وعشرين جزءاً»(127).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(127) الخرائج والجرائح 2: 841/ باب 16/ ح 59.
الرواية الثانية: روي أنَّ له (عليه السلام) علوماً مذخورة تحت بلاطة في أهرام مصر لا يصل إليها أحد قبله(128)، بمعنى أنَّ الإمام بواسطة اكتشافات جيولوجية معيَّنة سيكتشف كثيراً من الكنوز تحت أهرام مصر لم يصل إليها أحد قبله.
الرواية الثالثة: عن أبي الربيع الشامي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ قائمنا إذا قام مدَّ الله (عزَّ وجلَّ) لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتَّى لا يكون بينهم وبين القائم بريد يكلّمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه»(129)، بمعنى أنَّ وسائل الاتّصالات تتطوَّر بشكل أنَّ الناس في كلّ وقت ترى القائم (عليه السلام) وتسمع صوته.
الرواية الرابعة: عن سورة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «إنَّ ذا القرنين قد خيّر السحابين فاختار الذلول وذخر لصاحبكم الصعب»، قال: قلت: وما الصعب؟ قال: «ما كان من سحاب فيه رعد وصاعقة أو برق فصاحبكم يركبه، أمَا إنَّه سيركب السحاب ويرقى في الأسباب أسباب السماوات السبع والأرضين السبع خمس عوامر واثنان خرابان»(130).
إذن سيكون هناك سيطرة على الفضاء، كما ذكرت الآية: ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلّا بِسُلْطانٍ﴾ (الرحمن: 33)، وسوف يتحقَّق هذا النفوذ على الفضاء كلّه تحت يده المباركة وتحت سلطانه ودولته.
هذا الموضوع لا يختصّ بكتبنا فقد ذكره أهل السُنّة أيضاً، ففي مستدرك الحاكم عن ابن عبّاس، قال: ... وأمَّا المهدي الذي يملأ الأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(128) عصر الظهور: 328.
(129) الكافي 8 : 241/ ح 329.
(130) بصائر الدرجات: 429/ باب 15/ ح 3.
قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً وتأمن البهائم والسباع وتلقي الأرض أفلاذ كبدها، قال: قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال الأسطوان من الذهب والفضّة»(131).
وفي رواية أخرى عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «يكون في آخر الزمان خليفة يعطي المال ولا يعدّه عدّاً»(132).
وفي رواية ثالثة قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أبشّركم بالمهدي يبعث في أمّتي على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، ويرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض ويملأ الله قلوب أمّة محمّد غنى فلا يحتاج أحد إلى أحد»(133).
إذن هذه كلّها روايات تتحدَّث عن حضارة كونية والسيطرة على الوجود كلّه واكتشاف أسرار الكون وبركاته ومعادنه، لا أنَّها تتحدَّث عن حياة بدائية، قائمة على فلاحة ورمح وسيف، بالنتيجة: يوم المهدي (عليه السلام) يوم الحضارة الكونية، ودولة المهدي (عليه السلام) رمز الحضارة الكونية لا الحضارة الأرضية.
الأمر الثاني: بأيّ شيء تتحقَّق الحضارة الكونية؟
إنَّ الحضارة الكونية لكي تتحقَّق تحتاج إلى عنصرين أساسيين:
العنصر الأوّل: اكتشاف الأسرار:
لا حضارة بدون علم ولا علم من دون اكتشاف الأسرار ولذلك يقول الفلاسفة: الولاية التكوينية فرع العلم بالسرّ، فمن اكتشف السرّ تحقَّقت عنده الولاية التكوينية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(131) مستدرك الحاكم 4: 514.
(132) مسند أحمد 3: 5؛ مستدرك الحاكم 4: 454.
(133) مسند أحمد 3: 52.
وعلم الطبّ الحديث وصل إلى نظرية لم تصل إلى حدّ التطبيق ولكنَّها موجودة، وهي أنَّ الطبيب مثلاً يستطيع أن يتصرَّف في الجنين وهو في أوّل أيّامه فيغيّر شعر رأسه ولون جسمه ودم بدنه وبعض صفاته، وهذه السيطرة تتمّ للطبيب إذا اكتشف علم الجينوم البشري.
وأيضاً السيطرة على الكون تتوقَّف على اكتشاف أسراره ومفاتيحه، وهذا ما أخبر عنه القرآن بعدّة آيات:
هناك آية عبَّرت عنه بعلم الأسماء، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها﴾ (البقرة: 31)، لماذا جعل الله آدم خليفة ولم يجعل الملائكة خليفة؟ لأنَّ آدم أعطي علم الأسماء لذلك أعطي الخلافة، وأعطي الأسرار لذلك أعطي الخلافة، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ﴾ بناءاً على أنَّ المراد بالأسماء أسرار الخليقة.
وهناك آية أخرى عبَّرت عنه بالسلطان، قال تعالى: ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلّا بِسُلْطانٍ﴾ (الرحمن: 33)، والسلطان يعني اكتشاف أسرار الكون.
وآية ثالثة عبَّرت عنه بعلم الكتاب, قال تعالى: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (ص: 35)، ما هو ملك سليمان؟ إنَّ ملك سليمان حضارة حصل عليها نتيجة اكتشاف الأسرار، قال تعالى: ﴿فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ * وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ﴾ (ص: 36 و37)، لأنَّ عنده علم أسرار مسار الرياح لذلك تحكَّم في مسيرة الريح.
وقال سليمان لخواصّه: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ (النمل: 38)، المعروف أنَّ عرش بلقيس كان في اليمن، فقال عفريت من الجنّ: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ (النمل: 39 و40)،
حيث أستطاع آصف بن برخيا أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى بيت المقدس في لحظة واحدة، وإلى الآن لا توجد هناك وسيلة نقل تنقل عرشاً مبنياً من الذهب والفضّة في لحظة واحدة من اليمن إلى بيت المقدس، لكن سوف تتحقَّق عند اليوم الموعود. ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ﴾ أي عنده علم من الكتاب التكويني وليس الكتاب التدويني، يعني علم من أسرار الكون، فكيف بمن عنده علم الكتاب كلّه؟
يقول القرآن الكريم: ﴿قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ﴾ (الرعد: 43)، أي علم كتاب الكون، قال تعالى: ﴿ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 38)، أي علم الكتاب كلّه، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ذاك أخي علي بن أبي طالب»(134)، و لهذا حتَّى القائم المنتظر رغم علمه وأنَّه يقيم الدولة كلّها إنَّما يأخذ العلم من علي ابن أبي طالب، كلّ الأئمّة لا تصل إليهم معلومة صغيرة أو كبيرة إلّا عن طريق علي بن أبي طالب وذلك قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها»(135).
إنَّما المصطفى مدينة علم * * * وهو الباب من أتاه أتاها
فالعنصر الأوّل هو اكتشاف الأسرار.
العنصر الثاني: خروج العلوم من النظريات إلى الحقائق:
لا يتكامل علم إلّا إذا خرج من النظريات إلى الحقائق، فإنَّ علم الطبّ مثلاً ما زال في إطار نظريات، وإذا وصل إلى الحقائق أصبح علماً كاملاً، وعلم الذرة أيضاً ما زال في إطار نظريات وإذا خرج ووصل إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(134) أمالي الصدوق: 659/ ح (892/3).
(135) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 210 و211/ ح 1؛ كنز العمّال 13: 148/ ح 36463.
مستوى الحقائق أصبح علماً كاملاً، وسيأتي يوم تخرج العلوم الإنسانية كلّها من إطار النظريات إلى إطار الحقائق إذا وجد السلطان ومنبع العلم الحقيقي وهو اليوم الموعود على يد صاحب العصر والزمان (عليه السلام).
وقد يسأل سائل ويقول: هل أنَّ صاحب الزمان (عليه السلام) إذا خرج يلغي الحضارة ويؤسّس حضارة من جديد أو أنَّه يكمل الحضارة؟ وهل أنَّ حضارته تكميل لمسيرة الإنسانية أو تعطيل للمسيرة وإنشاء حضارة جديدة؟ والصحيح أنَّ يومه تكميل وليس إلغاء للحضارة الإنسانية، وذلك لوجود الفرق بين التعلّم والتكامل, والتكامل بالعلم فرع الحركة الذاتية ولا يأتي دفعة واحدة.
مثال ذلك: الطالب الذي يدرس علم الطبّ في سبع سنوات يقال عنه بعد الانتهاء منها: تعلَّم الطبّ، لكن لم يتكامل بعد، فهناك فرق بين مرحلة التعلّم ومرحلة التكامل، إذ بعد السبع السنوات يدخل سنوات التطبيق وهنا تبدأ الحركة لأجل أنَّه يعطي حركة ذاتية فيكتسب التكامل بالعلم وينتقل من مرحلة التعلّم إلى مرحلة التكامل، فإنَّ مرحلة التعلّم لا تتوقَّف على الحركة الذاتية وهي حركة العطاء والتطبيق بخلاف مرحلة التكامل، فالتكامل بالعلم فرع الحركة الذاتية.
لذلك حتَّى اللذّة فإنَّ علماء العرفان يقسّمونها إلى قسمين:
1 - لذّة حسّية جسدية: مثل لذّة الإنسان بشرب العصير اللذيذ.
2 - لذّة عقلية: فإنَّ الإنسان إذا اكتشف المعلومة بنفسه من دون أن يُعلَّم يحصل على لذّة عقلية، فاللذّة العقلية في أن تكون عندك حركة ذاتية وتكتشف المعلومة بنفسك.
من هنا لو أنَّ المهدي (عليه السلام) ألغى الحضارة البشرية وأسَّس حضارة من جديد لكانت دولة عقيمة، لأنَّ الدولة سيكون دورها دور التعليم لا
دور التكامل، فالبشرية مرَّت بحركة علمية وعقلية على مدى آلاف السنين وحصلت على تراكمية ثقافية فإذا أقبل المهدي (عليه السلام) واستغلَّ هذه الحركة الحضارية في التكميل واستثمرها في العطاء حينئذٍ ستتحقَّق مرحلة التكامل التي هي أهمّ من مرحلة التعلّم.
وهذا المعنى موجود في رواياتنا، فعن أبي خالد الكابلي، عن زين العابدين (عليه السلام)، قال: «... يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة»(136)، وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: «إذا قام قائمنا (عليه السلام) وضع يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت أحلامهم»(137).
المحور الثالث: يوم المهدي يوم التزاوج بين العلم والعبادة:
إنَّ الحضارة الغربية فصلت العلم عن الدين، وفصلت التكنولوجيا عن العبادة، أمَّا الحضارة الكونية المهدوية فهي حضارة التزاوج بين العلم وبين العبادة، قد يقول قائل: إنَّ الهدف من وجود الإنسان هو العبادة، لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، وليس كما ذُكر في بداية البحث من أنَّ الهدف هو إقامة الحضارة.
والجواب: لا فرق في ذلك فالحضارة هي العبادة، لأنَّ المقصود بالعبادة في الآية القرب من الله وليس المقصود الصلاة والصوم فقط، إذ هي طقوس عبادية وليست هي العبادة، فهي طقوس توصل الإنسان إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(136) كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.
(137) كمال الدين: 675/ ح 30.
القرب الروحي من الله، العبادة هي القرب الروحي، والقرب الروحي من مراتبه اكتشاف أسرار الكون المساوق لمعرفة الله (عزَّ وجلَّ)، وأعلى مقام من مقاماته يحتاج إلى عنصرين: علم وعبادة.
فإنَّ العلم وحده غير كافٍ فيه من دون العبادة، وكذا العبادة وحدها غير كافية فيه من دون العلم، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا﴾ (العنكبوت: 69)، وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر: 99)، ووصول الإنسان إلى مرحلة اليقين، إلى مرحلة القرب الروحي، يحتاج إلى علم وعبادة، لأجل ذلك في دولة المهدي (عليه السلام) يتزاوج العنصران، فمن جهة يكتشف الإنسان أسرار الكون كلّه ومن جهة أخرى هو في دولة إسلاميّة تربّيه على اللقاء مع الله في كلّ حين، وتربّيه على حضور الله في كلّ آنٍ، فسيلتقي العلم والعبادة في دولته المباركة، وستكون إقامة الحضارة الكونية بنفسها عبادة، والعبادة بنفسها اكتشاف لأسرار الكون وطاقاته.
ولهذا من جمع العلم والعبادة فهو القريب إلى ربّه، وهذا يسمّى بالمصطلح العرفاني: صاحب البصيرة، قال تعالى: ﴿قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: 108)، فالبصيرة هي العلم والعبادة، فإنَّ من كان عالماً وعابداً فهو صاحب بصيرة، فكيف إذا كان نافذ البصيرة، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «كان عمّنا العبّاس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان» يعني كان إنساناً عالماً عابداً، «جاهد مع أبي عبد الله (عليه السلام) وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً»(138).
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(138) مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: 176.
المحاضرة الثامنة: المهدي (عليه السلام) لطف الحياة
(8/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(25/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ﴾ (الأعراف: 52 و53)، إنَّ جميع المسلمين ينتظرون يوماً يتحقَّق فيه تأويل القرآن، فإلى الآن لم يتحقَّق تأويل القرآن كلّه، فكلّ المسلمين ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا تَأْوِيلَهُ﴾ أي يتوقَّعون يوماً يظهر فيه تأويل القرآن كلّه وتنكشف فيه حقائق القرآن.
وسيأتي يومٌ يتبيَّن فيه تأويل القرآن، وسيذعن الجميع برسالة السماء، ﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ﴾ فما هو يوم التأويل الذي ينتظره المسلمون؟
لم يحدّد كثير من المفسّرين يوم التأويل، ولكن الرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) تفسّر ذلك، قال (عليه السلام): «ذلك في القائم (عليه السلام) ويوم القيامة»(139)، بمعنى أنَّ تأويل القرآن يمرُّ بمرحلتين:
المرحلة الأولى: تأويل المضامين الدنيوية للقرآن، وهذا يتحقَّق عند قيام المهدي (عليه السلام).
المرحة الثانية: تأويل المضامين الأخروية للقرآن، وهذا يتحقَّق عند يوم القيامة.
وحديثنا انطلاقاً من الآية المباركة في محاور ثلاثة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(139) تفسير القمي 1: 235 و236.
المحور الأوّل: بيان حقيقة التأويل:
إنَّ فهم القرآن يمرُّ بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الاستظهار:
وهي أنَّ القرآن خطاب عربي، فإذا عرض على العرف العربي، فإنَّه يفهم من ظاهر الخطاب معنىً معيَّناً، لأنَّه من أهل اللغة، لغة القرآن، فهذا يسمّى مرحلة الاستظهار، ويمكن اقتناص ما هو الظاهر القرآني والخوض في هذه المرحلة لكلّ من له قدرة على معرفة أدوات الاستظهار.
ولذلك أُمر كلّ مسلم بالتدبّر في القرآن، قال تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾ (محمّد: 24)، وقال تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82).
فإنَّ التدبّر في القرآن فرع الاستظهار من الخطاب القرآني ويتوقَّف عليه، والاستظهار يعني الرجوع في فهم الخطاب القرآني إلى أهل اللغة والعرف العربي والأدوات التي من خلالها يقتنص ما يفهمه العرف العربي.
مثلاً: قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾ (البقرة: 275)، فالعرف العربي يفهم منه أنَّ الربا محرَّم مطلقاً في كلّ زمان وفي كلّ مجتمع، لأنَّ الآية مطلقة، والعرف العربي يأخذ بإطلاق الخطاب ويبني عليه.
المرحلة الثانية: مرحلة التفسير:
وهي أرقى من مرحلة الاستظهار، وتعني تحديد المراد الإلهي من الآية، وهي مرحلة صعبة، إذ من الجائز أن أقول: ما أفهمه من القرآن هو هذا المعنى ويسمّى استظهاراً، ولكن لا يجوز أن أقول: ما يريده الله تعالى من الآية هو ما فهمته لأنَّها مرحلة تفسير.
وقد ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من فسَّر القرآن برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار»(140)، فليست لنا مرحلة التفسير لأنَّها تعني تحديد المراد الإلهي الواقعي من الآية، ويقول أهل الفنّ: التفسير كشف القناع عن الآية المباركة، وهذا يتوقَّف على مراجعة النصوص الواردة في تفسير الآية المباركة.
مثلاً: قوله تعالى: ﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (هود: 86)، إذا اعتمدنا في تحديدها على عقولنا لا نستطيع تحديد المراد الإلهي في الآية، لكن عند الرجوع للرواية الواضحة الواردة عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية المباركة نستطيع فهم المراد منها، قال (عليه السلام): «... فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة، واجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وأوّل ما ينطق به هذه الآية: ﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، ثمّ يقول: أنا بقية الله في أرضه وخليفته وحجته عليكم، فلا يسلّم عليه مسلّم إلّا قال: السلام عليك يا بقيّة الله»(141).
المرحلة الثالثة: مرحلة التأويل:
وهي أرقى من مرحلة التفسير، وتعني إرجاع الشيء إلى مبادئه، فكلّ ظاهرة اجتماعية عندما نحلّلها يسمّى هذا التحليل تأويلاً، مثلاً: ظاهرة القنوات الشيعية التي بلغت من الكثرة حدَّاً كبيراً، عندما تحلّل ويرجع إلى مبادئ هذه الظاهرة، يسمّى هذا التحليل بعملية التأويل.
وهل القرآن له مبادئ حتَّى نرجعه إلى مبادئه ونعتبره عملية تأويل؟ نعم، القرآن أيضاً له مبادئ لأنَّه مرَّ بمرحلتين: الوجود الإجمالي والوجود التفصيلي، والآية نفسها تقول: ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ (هود: 1)، ممَّا يعني أنَّ القرآن مرَّ بمرحلتين: مرحلة إحكام، بمعنى أنَّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(140) عوالي اللئالي 4: 104/ ح 154؛ تفسير الرازي 7: 191.
(141) كمال الدين: 331/ باب 32/ ح 16.
كان وجوداً محكماً ثمّ صار وجوداً مفصّلاً، ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾، فالإجمالي هو مرحلة أُمّ الكتاب، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 4)، وآية أخرى عبَّرت عنها باللوح المحفوظ، قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ (البروج: 21 و22)، وآية ثالثة عبَّرت عنها بالكتاب المكنون، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ﴾ (الواقعة: 77 و78)، فهذه كلّها عبارة عن الوجود الإجمالي للقرآن قبل نزوله إلى الوجود التفصيلي على قلب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وعندما كان القرآن في أُمّ الكتاب قبل أن ينزَّل مفصَّلاً كان مجموعة مبادئ، ولم يكن آيات مفصَّلة تتحدَّث عن الميراث أو السماء أو الآخرة أو الفلك، بل كان مجموعة من المبادئ والقواعد، ثمّ تحوَّل القرآن إلى سور وآيات ومعاني ومضامين مفصَّلة، ونزل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كذلك، قال تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً﴾ (الإسراء: 106).
إذن، اتَّضحت لنا عملية التأويل، وهي إرجاع الآيات القرآنية إلى مبادئها الموجودة في اللوح المحفوظ، وفي الكتاب المكنون، وفي أُمّ الكتاب، وهذا يعني أنَّ أيّ آية مشكلة، مبهمة، متشابهة، فمن أجل تأويلها لا بدَّ لنا من إرجاعها إلى مبادئ الكتاب في اللوح المحفوظ.
لذلك عملية التأويل غير متيسّرة وتختصّ بفئة معيَّنة وهي الفئة المطَّلعة على الوجود الإجمالي للقرآن في اللوح المحفوظ وفي الكتاب المكنون وفي أُمّ الكتاب، ولذلك القرآن ذكر لنا عدّة عبارات، مثلاً: قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا﴾ (فاطر: 32)، أي لم نعطِ تأويله لكلّ أحد، وقال في آية أخرى: ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (آل عمران: 7)، وقال في آية ثالثة: ﴿بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ (العنكبوت: 49).
فمن هي هذه الفئة التي وصفتها الآيات بـ ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾، و﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾، و﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا﴾؟ هناك آية توضّح لنا ذلك وتقول: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة: 77 - 79)، ومعنى ﴿لا يَمَسُّهُ﴾ لا ينال ذلك الكتاب المكنون، وبما أنَّ الضمير يعود إلى أقرب الموارد، فالمراد أنَّه لا يمسّ الكتاب المكنون، والمسّ ليس بمعنى اللمس، يقول القرآن الكريم: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ﴾ (ص: 41)، و﴿مَسَّنِيَ﴾ بمعنى نالني، فلا ينال الكتاب المكنون إلّا المطهَّرون، ومن هم المطهَّرون؟
إنَّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، قال تعالى: ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ (الأحزاب: 33)، إذن الفئة القادرة على تأويل القرآن وتفسيره هم أهل البيت (عليهم السلام) الذين طهَّرهم الله طهارة عملية وعلمية.
والطهارة العملية بمعنى أنَّهم لا يرتكبون ذنباً ولا خطأ، والطهارة العلمية بمعنى ليس في علومهم علم أرضي، بل كلّ علومهم لدنّية من السماء لم تدنس بالعلوم الأرضية، ولأجل هذه الطهارة العلمية والعملية ملكوا الأهلية لتأويل القرآن الكريم.
ولذلك إذا لم نرجع لأهل البيت (عليهم السلام) العارفين بالتأويل نجد أنَّ بعض الآيات القرآنية لا يستطيع أحد تفسيرها، مثلاً: قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ (الحشر: 21)، فهل معناها بأن الجبل يتصدَّع إذا نزل عليه القرآن، إنَّ هذه تحتاج إلى تأويل يرجع فيه إلى أهل البيت (عليهم السلام).
ومثلاً: قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها﴾ (الرعد: 41)، كيف تنقص الأرض!؟ وهل يقول علماء الفلك بأنَّ الأرض في حركتها تنقص!؟ نعم إنَّ عوامل التعرية التي تحفُّ بالأرض تنقص من قشرتها، ولكن الأرض لا تنقص، فما هو معنى الآية؟ إنَّنا لا نستطيع تأويل الآية لولا الرجوع لأهل التأويل وهم أهل بيت النبوّة (عليهم السلام).
وما معنى قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً﴾ (النحل: 89)؟ مع أنَّ كثيراً من الأشياء غير موجودة بالقرآن، فما هو معنى ﴿تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾؟
إذن هذا النوع من الآيات لا يستطيع أحد أن يصل إلى معناها وتأويلها إلّا بالرجوع إلى الثقل الذي أودعه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع القرآن، فقال: «إنّي قد تركت فيكم أمرين لن تضلّوا بعدي ما إن تمسَّكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنَّ اللطيف الخبير قد عهد إليَّ أنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض...»(142)، وآخرهم المهدي المنتظر قائم أهل بيت محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ولذلك ورد في الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام): «وإنَّما سُمّي المهدي مهدياً لأنَّه يهدي إلى أمر خفيّ»(143)، بمعنى أنَّه على يده يظهر تأويل القرآن، وفي رواية أخرى في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ (هود: 110)، قال (عليه السلام): «اختلفوا كما اختلفت هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(142) الكافي 2: 415/ باب أدنى ما يكون به العبد مؤمناً.../ ح 1.
(143) الغيبة للنعماني: 243/ باب 13/ ح 26.
الأمّة في الكتاب وسيختلفون في الكتاب الذي مع القائم الذي يأتيهم به حتَّى ينكره ناس كثير فيقدمهم فيضرب أعناقهم»(144).
المحور الثاني: إرادة الله:
لا يوجد شيء في الكون إلّا وهو خاضع لإرادة الله، قال تعالى: ﴿لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ﴾ (البقرة: 255).
وإرادة الله في القرآن تطلق على معانٍ ثلاثة:
المعنى الأوّل: إفاضة الوجود:
قال تعالى: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82)، الإرادة هنا بمعنى إفاضة الوجود. وفي بعض الأحاديث: (أنَّ إرادته فعله)(145).
المعنى الثاني: حبس الفيض:
قال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ﴾ (الأنعام: 125)، و﴿مَنْ يُرِدِ﴾ في الجملة الأولى غير ﴿مَنْ يُرِدْ﴾ في الجملة الثانية، فإنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(144) الكافي 8 : 287/ باب إذا قام القائم (عليه السلام) ذهبت دولة الباطل/ ح 432.
(145) عن صفوان بن يحيى، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق، قال: فقال: «الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل وأمَّا من الله فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنَّه لا يروي ولا يهم ولا يتفكَّر، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل، لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا تفكير ولا كيف لذلك، كما أنَّه لا كيف له». (الكافي 1: 109 و110/ باب الإرادة أنَّها من صفات الفعل.../ ح 3).
الإرادة في الجملة الأولى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ﴾ بمعنى إفاضة الوجود، والإرادة في الجملة الثانية: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ﴾ بمعنى حبس فيض الهداية عنه، فذاك أعطاه فيض الهداية وهذا حبس عنه فيض الهداية، فالإرادة هنا بمعنى حبس الفيض.
المعنى الثالث: إعداد الأسباب:
قال تعالى: ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً﴾ (الإسراء: 16)، والإرادة هنا بمعنى إعداد الأسباب، فإذا اجتمعت أسباب الهلاك والدمار أذن الله في حصول المسبَّب ألا وهو العذاب الشامل.
المحور الثالث: فلسفة طول عمر الإمام المهدي (عليه السلام):
وهنا نسأل سؤالاً هو لبُّ الموضوع، وهو أنَّ طول عمر الإمام المهدي (عليه السلام) بأي معنى من معاني الإرادة؟ فإنّا لا نتكلَّم عن الغيبة بشكل خاصّ، بل نتحدَّث عن فلسفة طول العمر سواء أكان غائباً أم حاضراً، فهل أنَّ طول عمر الإمام المهدي (عليه السلام) جاء لعامل أرضي بشري بمعنى أنَّه وقع اتّفاقاً من دون أهداف منشودة أو جاء لتخطيط سماوي هادف؟ وبعبارة أخرى هل أنَّ الإمام ولد في ذلك التاريخ وبقى هذا العمر الطويل يقي نفسه من الأمراض استناداً لأسباب طبيعية محضة لا دخل للتخطيط السماوي فيها، أو أنَّ القضية تخضع للإرادة الإلهية والتخطيط السماوي؟
والأقرب هو الثاني، أي إنَّ الله أراد بتخطيط سماوي ولأجل أهداف معيَّنة أن يعيش الإمام هذا العمر الطويل، فإرادة الله هنا بالمعنى
الثالث أي إعداد الأسباب لبقاء عمره الطويل التي منها وقاية الإمام (عليه السلام) نفسه من الأمراض لعلمه بأسبابها الطبيعية.
ما هي فلسفة بقاء الإمام (عليه السلام) هذا العمر الطويل؟ وهل لبقائه هدف أم أنَّه من باب الصدفة؟ ما هو الهدف من بقائه؟
إنَّ بقاء الإمام هذا العمر الطويل يعود لثلاثة وجوه:
الوجه الأوّل: الشهادة الحسّية:
ولتوضيح هذا الوجه نذكر أمرين:
الأمر الأوّل:
هناك فرق في علم القانون بين الشهادة العلمية والشهادة الحسّية، فإذا تحرَّك رجل حركة مريبة فتارة تراه بعينك يرتكب جريمة فهذه شهادة حسّية لأنَّك رأيته بعينك، وتارة لم ترَه بعينك ولكن بقرائن حافّة به استنتجت نتيجة قطعية بأنَّه يرتكب جريمة، وهذا الاستنتاج شهادة علمية، وليست شهادة حسّية، لأنَّك لم ترَه بعينك.
وفي علم القانون لا اعتراف بالشهادة العلمية حتَّى ولو كنت قاطعاً مائة بالمائة، فالمعترف به هو الشهادة الحسّية فقط،
لأنَّها هي الشهادة القاطعة للعذر والاحتجاج.
لذلك نرى الإنسان حتَّى في يوم القيامة يحاول الهروب، إذ يؤتى المذنب صحيفته فيرى كتابه، ويقال له: هذا عملك لكنَّه لا يقبل، قال تعالى: ﴿وَكانَ الإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ (الكهف: 54)، ويقول القرآن الكريم: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها﴾ (النحل: 111)، ومع أنَّ الملائكة تشهد، وكتاب عمله يشهد، مع ذلك يجادل الإنسان، فأيّ شيء يفحم الإنسان في يوم القيامة ويسكته؟ الجواب هو الشهادة الحسّية، قال
تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (يس: 65)، وقال تعالى: ﴿وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (فصّلت: 21)، فإذا قامت الشهادة الحسّية من الجوارح حينئذٍ يصمت الإنسان ويفحم ويسلّم بالأمر. إذن فالشهادة الحسّية هي ذات القيمة القانونية.
الأمر الثاني:
وضع الله في كلّ زمان شاهداً على المجتمع يشهد على أعماله ومظالمه شهادة حسّية، مثلاً: عيسى بن مريم (عليه السلام)، يقول القرآن الكريم عنه: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ﴾، شهيداً على أعمالهم ومظالمهم، ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ (المائدة: 117). ويقول القرآن في حقّ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: 143)، فكان الرسول في حياته يشهد على الأمّة شهادة حسّية وبعد وفاته يشهد عليهم شهادة علمية.
وكلّ زمن له إمام يشهد عليه، يقول القرآن الكريم: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ (الإسراء: 71)، يؤتى بإمامهم لكي يشهد عليهم. هذا هو إمامكم الذي كان شاهداً حسّياً على أعمالكم ومظالمكم.
إذن لكلّ جيل ولكلّ زمن حجّة وإمام يشهد على أعمالهم شهادة حسّية، من أجل ذلك ولد الإمام المنتظر (عليه السلام) في موعده وبقي إلى أن يأذن له الله تعالى له بالظهور ليسجّل الشهادة الحسّية على جميع الجرائم والمظالم الذي ارتكبت في حقّ الأمّة الإسلاميّة منذ يوم وفاة أبيه الإمام العسكري (عليه السلام) إلى يوم ظهوره، وهو أحد الشهود الحسّيين الذين يشهدون بهذه المظالم.
ولذلك ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان: 4)، قال (عليه السلام): «تلك ليلة القدر يكتب فيها وفد الحاجّ وما يكون فيها من طاعة أو معصية أو موت أو حياة ويحدث الله في الليل والنهار وما يشاء ثمّ يلقيه إلى صاحب الأرض»، قال الحرث بن المغيرة البصري، قلت: ومن صاحب الأرض؟ قال: «صاحبكم»(146)، كلّ ذلك تلقى إلى النبيّ ثمّ إلى الأئمّة حتَّى تنتهي إلى صاحب الزمان.
وهذا المعنى هو الذي نقرأه في دعاء ليلة النصف من شعبان: «اللّهُمَّ بِحَقَّ لَيْلَتِنا وَمَوْلُودِها... سَيْفُ الله الَّذِي لا يَنْبُو وَنُورُهُ الَّذِي لا يَخْبُو وَذُو الحِلْمِ الَّذِي لا يَصْبُو مَدارُ الدَّهْر وَنَوامِيسُ العَصْر وَوُلاةُ الأمْر وَالمُنَزَّلُ عَلَيْهِمْ مَا يَتَنَزَّلُ فِي لَيْلَةَ القَدْرِ»(147).
الوجه الثاني: التكامل اليقيني في المقام الروحي:
تحدَّث الشهيد السعيد المفكّر الكبير الإمام السيّد محمّد باقر الصدر (قدّس سرّه) في كتابه (بحث حول المهدي (عليه السلام)) عن بقاء الإمام هذا العمر الطويل وذكر عبارة أصبحت مثاراً للجدل ومضمونها أنَّ السرَّ في بقاء الإمام العمر الطويل أنَّ ضخامة الدور يقتضي الضخامة في الكفاءة، فأبقى الله الإمام هذا العمر الطويل لكي تكون معاصرته للحضارات المختلفة والدول المتباينة رصيداً نفسياً له يعدّه ويؤهّله للقيام بدوره وهو إقامة الدولة العادلة على الأرض كلّها، وهذا المطلب أصبح مثاراً للتأمّل، لأنَّ الإمام منذ ولادته إمام يمتلك الطاقات والمواهب التي تؤهّله للقيام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(146) بصائر الدرجات: 241/ باب ما يلقى إلى الأئمّة في ليلة القدر.../ ح 4.
(147) مصباح المتهجّد: 842 و843/ الرقم (908/23).
بدوره، فجاهزيّته للقيام بدوره لا تحتاج إلى أن يعاصر الحضارات المختلفة والدول المتباينة حتَّى يكتسب منها رصيداً يؤهّله إلى القيام بدوره، إذن ما معنى كلامه (قدّس سرّه)؟
الجواب: من المحتمل جدَّاً أن يكون مقصوده توجيه بقاء الإمام (عليه السلام) العمر الطويل بالنسبة لمن لا يؤمن بالإمامة والأهلية الغيبية لشخصية الإمام (عليه السلام) كما هو ظاهر بعض عباراته، لذلك علَّل طول البقاء بكونه عاملاً مهمّاً في اكتساب الرصيد النفسي الذي يؤهّل الإمام (عليه السلام) للقيام بدوره القيادي.
كما يمكن لنا أن نوجّه كلامه (قدّس سرّه) بالتكامل اليقيني في المقام الروحي، ومحصَّل الفكرة ما ذكره بعض الشعراء في الإمام علي (عليه السلام):
قد حباه بكلّ فضل عظيم * * * وبمقدار ما حباه ابتلاه
فإنَّ مضمونه أنَّ هناك تعادلاً بين النعم والمواهب وبين المحن والابتلاء، فما يعطيه (عزَّ وجلَّ) من النعم والمقامات قد يكون جزاءاً لما امتحن به عبده من البلاء، وما يبتلي به الله المعصومين (عليهم السلام) قد يكون عوضاً وبدلاً عمَّا أفاض عليهم من النعم، فبمقدار ما أُعطي أمير المؤمنين (عليه السلام) من المقامات امتحن بمثلها من الابتلائات ليكون هذا بهذا، وكذلك الأمر بالنسبة للإمام الحجّة (عليه السلام) فإنَّه إنَّما أُعطي هذا العمر الطويل ليكون ابتلاءاً له بمقدار ما سيفاض عليه من المقامات عند خروجه، وبيان ذلك:
ما معنى التكامل اليقيني في المقام الروحي؟
هنا أمران:
الأمر الأوّل:
عند الرجوع لتاريخ الأنبياء نجد أنَّ جميعهم قد مرّوا بفترات امتحان وابتلاء، مثلاً إبراهيم (عليه السلام)، قال تعالى عنه: ﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً﴾ (البقرة: 124)، وقال تعالى في حقّ الأئمّة من بني إسرائيل: ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا﴾ (السجدة: 24)، أي لم نعطهم الإمامة حتَّى تجاوزوا الامتحان بالصبر، وقال تعالى في حقّ يوسف (عليه السلام): ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ (يوسف: 22)، وكذلك قال تعالى في حقّ موسى بن عمران (عليه السلام) ما يشير لمسألة الامتحان، وكان ذلك الامتحان عنصراً ضرورياً لبلوغهم أعلى مقام يقيني من المقامات الروحية، حيث يتدرَّج النبيّ من درجة علم اليقين إلى درجة عين اليقين، إلى درجة حقّ اليقين بحيث يتكامل في المقامات الروحية تكاملاً يقينياً إلى أن يصبح مؤهّلاً لدرجة الإمامة، قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً﴾ (البقرة: 124).
هل النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام) يخضعون للتكامل أيضاً؟ بمعنى أنَّهم هل يسيرون مسار التكامل في المقامات الروحية؟
الجواب: إنَّ الأئمّة (عليهم السلام) أئمّة منذ ولادتهم ولديهم الجاهزية التامّة للقيام بأيّ دور يراد منهم ولا حاجة لهم للبقاء طويلاً لأجل اكتساب خبرة أو رصيد نفسي أو جاهزية للإمامة، لكنَّهم مع ذلك يتكاملون، على مستوى العلم وعلى مستوى المقام الروحي.
أمَّا على مستوى العلم، فنرجع إلى الجزء السادس والعشرين من كتاب (بحار الأنوار)(148)، ذكر هناك باباً تحت عنوان: (أنَّهم (عليهم السلام) يزادون ولولا ذلك لنفد ما عندهم)، يوجد في هذا الباب رواية قطعية السند قد تعدَّدت طرقها ورواتها، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّا لنزاد في الليل والنهار ولو لم نزد لنفد ما عندنا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(148) راجع: بحار الأنوار 26: 86 - 97.
ورواية محمّد بن سليمان الديلمي مولى أبي عبد الله (عليه السلام)، عن سليمان، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، فقلت: جُعلت فداك سمعتك وأنت تقول غير مرَّة: «لولا أنّا نزاد لأنفدنا»، قال: «أمَّا الحلال والحرام فقد والله أنزله الله على نبيّه بكماله ولا يزاد الإمام في حلال وحرام»، قال: فقلت: فما هذه الزيادة؟ فقال: «في سائر الأشياء سوى الحلال والحرام»، أي إنَّ التشريع مكتمل من زمن النبيّ لا زيادة فيه، إنَّما يزاد في المعلومات الأخرى غير التشريعية.
قال: قلت: فتزادون شيئاً يخفى على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قال: «لا، إنَّما يخرج الأمر من عند الله فتأتيه(149) به الملك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيقول: يا محمّد ربّك يأمرك بكذا وكذا، فيقول: انطلق به إلى علي، فيأتي علياً (عليه السلام)، فيقول: انطلق به إلى الحسن، فيقول: انطلق به إلى الحسين، فلم يزل هكذا ينطلق واحداً بعد واحد حتَّى يخرج إلينا»، قلت: فتزادون شيئاً لا يعلمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال: «ويحك كيف يجوز أن يعلم الإمام شيئاً لم يعلمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والإمام من قبله؟»(150).
إذن الإمام مع أنَّه منذ ولادته أعلم الناس وفي كلّ لحظة تمرُّ عليه هو أفضل الخلق علماً وعملاً وإلّا لم يكن إماماً، إلّا أنَّه في نفس الوقت يخضع لتكامل علمي لا في علم التشريع ولا غيره من العلوم الاجتماعية والطبيعية لانكشاف الواقع أمامه، وإنَّما التكامل في علمهم ومعرفتهم بالله (عزَّ وجلَّ)، فالإمام في إطار تكامل علمي بالله سبحانه في كلّ لحظة وفي كلّ آنٍ، مع أنَّه في كلّ لحظة هو أكمل الناس، ولا تمرُّ لحظة على الإمام وهناك من هو أعلم منه، بل هو في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(149) هكذا في المصدر، وفي الاختصاص وبحار الأنوار: (فيأتي به الملك).
(150) بصائر الدرجات: 413/ باب ما تزاد الأئمّة.../ ح 5.
كلّ لحظة أعلم الناس وأكمل الناس، ولو لم يكن أكمل لما جاز أن يكون إماماً لقبح تقديم المفضول على الفاضل.
والنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة (عليهم السلام) يخضعون للتكامل على مستوى المقامات الروحية أيضاً، قال تعالى: ﴿وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ﴾ (هود: 120)، وقال في آية أخرى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ﴾ (الفرقان: 32)، فما معنى تثبيت الفؤاد؟
ليس معناه أنَّ النبيّ ينتقل من الشكّ إلى اليقين أو من القلق إلى الاطمئنان، أو كانت المعلومة مشوّشة ثمّ تصبح واضحة.
بل معنى تثبيت الفؤاد هو التكامل في المقام الروحي بحيث ينتقل من مقام روحي إلى مقام روحي آخر في كلّ لحظة وفي كلّ آنٍ، وكذلك بالنسبة لأهل البيت (عليهم السلام).
مثلاً: بقاء الإمام علي (عليه السلام) مظلوماً في داره خمساً وعشرين سنة امتحان وابتلاء بهدف تكامل في مقامه الروحي الذي هو سبب مقاماته الأخروية العالية.
كما أنَّ تعرّض الإمام الحسن (عليه السلام) لهذه الهجمة الشرسة ابتلاء للتكامل في مقامه الروحي.
كما أنَّ تعرّض الإمام الحسين (عليه السلام) لهذه المجزرة البشعة ابتلاء وتكامل في المقام الروحي.
الأمر الثاني:
إنَّ التكامل في المقام الروحي للأئمّة الطاهرين (عليهم السلام) ليس دخيلاً في إمامتهم، فهم أئمّة منذ ولادتهم كما ورد في روايات عالم الأنوار(151)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(151) راجع: بصائر الدرجات: 99 - 101.
وكما ورد في الزيارة الجامعة: «خَلَقَكُمُ اللهُ أنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ»(152). ومن كان نوراً قبل خلق الوجود كيف تكون إمامته محتاجة إلى التكامل في المقام الروحي؟
وكما أنَّه ليس دخيلاً في إمامتهم، فإنَّه ليس دخيلاً في جاهزيتهم وصلاحيتهم للقيام بأدوارهم كدور المهدي (عليه السلام).
فلماذا التكامل في المقام الروحي؟
إنَّ الهدف من جعل الحجج (عليهم السلام) في إطار التكامل الروحي تفضيلهم على سائر الخلق، وإعداد المقامات الأخروية لهم، كما أنَّ الهدف من ابتلائهم بمختلف المحن والنوائب المعدّة للتكامل الروحي أن تكون عوضاً عمَّا وهب لهم من المقامات الملكوتية الدنيوية، مثلاً نرى في كتاب بحار الأنوار روايات متعدّدة تقول: «إنَّ الله تعالى عوَّض الحسين (عليه السلام) من قتله أن جعل الإمامة في ذرّيته، والشفاء في تربته، وإجابة الدعاء عند قبره»(153).
يقول كثير من علمائنا: إنَّ الحسن أفضل من الحسين، لأنَّ الحسين كان مأموماً للحسن، ومع ذلك فإنَّ الله جعل الإمامة في ذرّية الحسين، لأنَّه مرَّ بامتحان عسير لم يمرّ به إمام آخر، وهو تعرّضه لهذه المجزرة العظيمة، وهذا الامتحان الذي تعرَّض له كما كان تكاملاً في مقامه الروحي، فإنَّه عوَّض عنه بأن جُعلت الإمامة في ذرّيته و الشفاء في تربته والإجابة عند قبره.
إذن فمن المحتمل أن يكون مقصود السيّد الشهيد الصدر (قدّس سرّه) أنَّ الإمام المنتظر أُعطي هذا العمر الطويل امتحاناً وابتلاءً له، وبذلك يكون طريقاً من طرق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(152) المزار لابن المشهدي: 529.
(153) بحار الأنوار 44: 221/ باب 29/ ح 1، عن أمالي الطوسي: 317/ ح (644/91).
التكامل الروحي وعوضاً وبدلاً مكافئاً لما أُعطي ووُهب من المقامات الشرفية آخر الزمان التي لم تُعط لحجّة من الحجج قبله. وبعبارة أخرى إنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) نتيجة طول عمره يتحمَّل آلاماً ثلاثة:
1 - ألم الغيبة: وهي تعني عدم القدرة على نشر وتطبيق العلوم والمعارف كما يريده (عليه السلام)، فإنَّ ألم العالم أن لا يقدر على نشر علمه ومعارفه، لذلك كان جلوس أمير المؤمنين خمسة وعشرين سنة في داره أكبر ألم له، لأنَّه منع عن نشر معالمه ومعارفه وتطبيقها.
2 - ألم الجرائم: التي ترتكب في حقّ الأمّة الإسلاميّة التي يشاهدها الإمام بعينه يومياً، ويتحمَّل غصصها يوماً بعد يوم.
3 - ألم المعاصي: التي يرتكبها بعض شيعته فيراهم بعينه فيتألَّم لأجلهم.
وهذه الآلام امتحان للإمام، ولا يكون الامتحان جزافاً ومن دون سبب، لذلك يمكن أن يكون بقاء الإمام هذا العمر الطويل متحمّلاً لهذه الآلام الشديدة له المساوقة للتكامل في المقام الروحي عوضاً عمَّا أنعم الله عليه بأن جعل الدولة الخاتمة على يده، وأن تكون بهجة الدين والمؤمنين تحت لوائه (عليه السلام).
إذن البقاء هذا العمر الطويل ليس دخيلاً في الإمامة، وليس دخيلاً في اللياقة والجاهزية للدور، ولكنَّه امتحان عوّض عليه وجوزي عليه بهذا الدور العظيم وبهذه الدولة الخاتمة.
الوجه الثالث: حفظ الشريعة:
إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، ومفادها الغرض
والهدف من نزول الشريعة هو انتشار العدالة والقسط، وانتشار العدالة والقسط يتوقَّف على حفظ الشريعة.
فكما أنَّ حكمة الله شاءت أن ينصب لنا أنبياء وأئمّة، فقد شاءت حكمته أن يحفظ الشريعة بهؤلاء الأنبياء والأئمّة، فوظيفة كلّ إمام حفظ الشريعة في زمانه، والحفظ له ثلاث درجات:
1 - حفظ تشريعي، عبَّر عنه الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)، بمعنى حفظ القرآن عن التحريف بيد الإمام المنتظر (عليه السلام).
2 - حفظ تعليمي، وهو ما يقوم به الفقهاء في الحوزات العلمية من حفظ تعليمي للشريعة، وترويج علوم الشريعة تحت نظر الإمام أيضاً.
3 - حفظ عملي، حيث إنَّ كلّ مجتمع فيه فئة متديّنة تحفظ الشريعة حفظاً عملياً، يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111)، من هؤلاء المؤمنين الذين اشتراهم الله؟ ﴿التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ﴾ (التوبة: 112)، وهؤلاء هؤلاء هم المسؤولون عن حفظ الشريعة حفظاً عملياً.
فهناك حفظ تشريعي يقوم به الإمام بحفظ القرآن في زمن الغيبة عن أيّ تحريف، وهناك حفظ تعليمي يقوم به الفقهاء في الحوزات العلمية استناداً لمدد الإمام وبركته (عليه السلام)، وهناك حفظ عملي يقوم به
المؤمنون في كلّ مجتمع وبلدة بتسديد وتأييد الإمام المهدي (عليه السلام)، ﴿أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ (المجادلة: 22)، والروح التي يؤيّد الله بها المؤمنين هي روح المهدي المنتظر (عليه السلام).
فهو (عليه السلام) يقوم في عصر الغيبة بحفظ التشريع وحفظ التعليم وحفظ التطبيق والعمل.
والحفظ للدين هو هدف آبائه وأجداده، وهو مسؤولية آبائه وأجداده، فما قام أمير المؤمنين إلّا لأجل حفظ الدين، وما قام الحسين بن علي إلّا لأجل حفظ الدين، وقال: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمّة جدّي محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(154)، وأعطاه الله فتية قام عليهم حفظ الدين منهم القاسم بن الحسن الذي كان عمره أحد عشر سنة لكنَّه كان يفيض شجاعة وبسالة حفظاً لمبادئه ودينه.
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(154) الفتوح 5: 21؛ بحار الأنوار 44: 329.
المحاضرة التاسعة: التفاعل مع الغيبة بين اليأس والأمل
(9/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(26/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ (الصفّ: 8).
ما هو النور الذي أصرَّ الظالمون والكافرون على إطفائه ولكنَّ الله أتمَّه؟
والجواب: ورد في الرواية عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الماضي(عليه السلام)، قال: سألته عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئوُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ﴾، قال: «يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم»، قلت: ﴿وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾، قال: والله متمّ الإمامة، لقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا﴾، فالنور هو الإمام»، قلت: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ﴾، قال: «هو الذي أمر رسوله بالولاية لوصيّه، والولاية هي دين الحقّ»، قلت: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾، قال: «يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم»، قال: «يقول الله: ﴿وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ ولاية القائم ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ بولاية علي»(155).
فإنَّ هناك إيماناً بالله وإيماناً بالنبيّ وإيماناً بالنور، والنور الذي هو غير الإيمان بالله وغير الإيمان بالنبيّ هو نور الإمامة الذي أتمّه الله بالمهدي (عليه السلام)، ولذلك نحن نقرأ في دعاء العهد، هذا الدعاء العظيم الذي ورد في حقّه عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من دعا إلى الله أربعين صباحاً بهذا العهد كان من أنصار قائمنا (عليه السلام)، فإن مات قبله أخرجه الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(155) الكافي 1: 432/ ح 91.
تعالى من قبره، وأعطاه بكلّ كلمة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيّئة، وهو: اللهُمَّ رَبَّ النُّورِ الْعَظِيم، وَرَبَّ الْكُرْسِيَّ الرَّفِيع...»(156)، والمراد بالنور العظيم في مبدأ الدعاء هو المهدي (عليه السلام) الذي قال أيضاً عنه في بعض فقراته: «اللهُمَّ إِنّي أسْألُكَ بـِوَجْهِكَ الْكَريم، وَبـِنُورِ وَجْهِكَ الْمُنِير»، ألا وهو نور وجه قائم آل محمّد (عليه السلام).
انطلاقاً من الآية المباركة نتحدَّث في محاور ثلاثة:
المحور الأوّل: الشخصية النورانية ومسألة الإعجاز:
إنَّ الشخصية النورانية للإمام أو النبيّ دخيلة في مسألة الإعجاز، فإنَّ النبيّ أو الإمام شخصيةٌ يملؤها النور كما في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ (الزمر: 22)، وكما قال تبارك وتعالى: ﴿أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾ (الأنعام: 122)، فما هي علاقة الشخصية النورانية بالإعجاز؟
إنَّ الإعجاز يعتمد على عنصرين:
العنصر الأوّل: اكتشاف الأسرار والعلل الحقيقية:
إنَّ المعصوم نبيّاً أو إماماً ليس وعاءً لظهور المعجزة، فقد يقال: إنَّ جسم المعصوم مجرَّد وعاء لظهور المعجزة، فمثلاً جسم النبيّ عيسى كان وعاءً لإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فلا دور للنبيّ عيسى إلّا أنَّ الله اتّخذ جسمه وعاءً وطريقاً للمعجزة من دون أن يكون له دور في ذلك، وهذا خطأ.
فإنَّ ظاهر القرآن الكريم أنَّ المعجزة فعلٌ للمعصوم نفسه لا أنَّ جسمه مجرَّد وعاء للمعجزة، فأنا مثلاً عندما أمشي فالمشي فعلي، فأقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(156) المزار لابن المشهدي: 663.
أنا الذي أمشي، وإن كان هذا المشي متوقّفاً على إقدار من الله تبارك وتعالى، إذ لولا أنَّ الله تبارك وتعالى أقدرني على المشي لما مشيت، ولكن يكون المشي فعلاً لي ومنتسباً إليَّ، كذلك المعجزة، فالمعجزة فعل للمعصوم ومنتسب له وإن كان متوقّفاً على إقدار من الله إلّا أنَّه فعله، يقول القرآن الكريم: ﴿وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ﴾ يعني عيسى بن مريم، ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ...﴾ أي أنا الذي أخلق لا أنَّ جسمي وعاء، وهذا ما يعبّر عنه علماؤنا بالولاية التكوينية، أي إنَّ الولاية التكوينية فعل من أفعال المعصوم، ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ﴾ (آل عمران: 49).
فالمعصوم ليس آلة معطَّلة لا دور لها، بل المعجزة فعل من أفعال المعصوم كمشيه، ككلامه، كنومه، هذا فعله وإن كان هذا الفعل متوقّفاً على إقدار من الله تبارك وتعالى.
فإنَّ صدور المعجزة من المعصوم يتوقَّف على عنصرين كما ذكرنا: الأوّل: عنصر اكتشاف الأسرار والعلل الحقيقية، وبما أنَّ المعجزة مُسبَّب ولكلّ مُسبَّب سبب فالمعجزة لها سبب، وبما أنَّ المعجزة أمر مادي فسببها أيضاً مادي، استناداً لقاعدة السنخية القائلة: إنَّ لكلّ مُسبَّب سبباً مِن سِنْخه، فإذا كان لديك تفاحة فسببها بذرة تفاح وليست بذرة برتقال، وإذا كان لديك شاة فإنَّ سببها شاة أخرى وليس حِماراً أو حصاناً، وهذه قاعدة عقلية لا تتخلَّف.
ويشير لذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ (الحجر: 21)، بمعنى أنَّ أيّ شيء ينزل إلى عالم المادة لا ينزل إلّا
بقدر، وهو تحديد علَّته وسببه وأثره وثمراته، وكذا قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى﴾ (الأعلى: 2 و3)، بمعنى أنَّ لكلّ شيء قدراً ومن جملة قدره سببه، فإذا كان مادياً فسببه مادي، وبما أنَّ إبراء الأكمه والأبرص، إحياء الموتى، طيُّ الأرض، كلّها أمور مادية، فلها سببٌ مادي.
غاية الأمر أنَّه قد يكون للمسبَّب سبباً ظاهرياً وسبباً واقعياً، والبشر العادي لا يلتفت إلّا للسبب الظاهري ولا يلتفت إلى السبب الواقعي، بينما المعصوم لأنَّه كُشفت له أسرار الطبيعة وأسرار الكون يصل إلى السبب الواقعي فهو لا يحتاج إلى السبب الظاهري.
مثلاً وجود الجنين في رحم أُمّه، مسبَّب مادي وله سبب مادي أيضاً، والسبب المادي الظاهري هو التلاقح بين الحويمن المنوي وبويضة المرأة، ونحن لأنَّنا لم نصل إلى الأسرار الواقعية نسير على السبب الظاهر، فلو سُئلنا: كيف يُخلق الجنين في بطن أُمّه؟ لأجبنا: إنَّ سببه التلاقح بين الحويمن والبويضة، فنطرح السبب الظاهري الذي جرت عليه نواميس الطبيعة.
بينما المعصوم يكتشف سبباً واقعياً لهذا المُسبَّب وراء السبب الظاهري وهو أنَّ جسم المرأة فيه الخليّة التي تملك الاستعداد لأن تقوم بدور التلقيح بين الحويمن والبويضة، فإذا كان فيها هذا الاستعداد تقوم بهذا الدور من دون حاجة إلى حويمن.
فالفرق هو أنَّ غير المعصوم التفت إلى السبب الظاهري فاعتمد عليه، أمَّا المعصوم لأنَّه انكشفت له الأسرار وصل إلى السبب الواقعي، لذلك يستطيع المعصوم أن يُوجد الجنين في بطن أُمّه من دون حاجة للسبب الظاهري، بل اعتماداً على السبب الواقعي الذي لا يكتشفه إلّا من أُعطي علماً من الكتاب وعلماً بأسرار الكون وأسرار الطبيعة.
العنصر الثاني: الإرادة القدسية:
وهنا يتبيَّن لنا العلاقة بين الشخصية النورانية للمعصوم وبين المعجزة التي نسمّيها بالولاية الكونية.
سؤال:
ربَّما يقول قائل: إذا كان المؤثّر في المعجزة هو العلم فكلَّما تقدَّم العلم سوف يصل إلى الأسرار وبالنتيجة بعدما يتقدَّم العلم - بعد ألف سنة مثلاً - فلن يصبح هناك معجزة، لأنَّ الأسباب المادية الواقعية سيتوصَّل إليها العلم، فإذا توصَّل إليها العلم سيتوصَّل علماء الطبيعة إلى نفس المعاجز التي توصَّل إليها الأنبياء السابقون وحينئذٍ ستكون المعجزة أمراً نسبياً، فمثلاً إحياء الموتى كانت معجزة في زمن عيسى لكن بعد ألفي سنة إذا اكتشف العلم السبب المادي الواقعي لإعادة الميِّت حيّاً ستصبح معجزة عيسى أمراً طبيعياً، لأنَّ العلم اكتشف العلّة الواقعية لهذه المعجزة، إذن المعجزة أمر نسبي يختلف باختلاف الأزمنة.
الجواب:
إنَّ المعجزة تحتاج عنصراً آخر غير العلم ألا وهو الإرادة القدسية، لأنَّ المعصوم شخصية نورانية فانية في الله، متّصلة بالله، فهو يمتلك عنصراً آخر مضافاً إلى العلم ألا وهو الإرادة القدسية التي هي مظهر لإرادة الله (عزَّ وجلَّ) كما في قول الإمام الباقر (عليه السلام): «فنحن نفعل بإذنه ما نشاء ونحن لا نشاء إلّا ما شاء الله وإذا أردنا أراد الله»(157)، أو قول النبيّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(157) الهداية الكبرى: 230.
(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حقّ ابنته فاطمة (عليها السلام): «إنَّ الله تعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها»(158)، بمعنى أنَّها تمتلك إرادة قدسية، وإرادتها القدسية مظهرٌ لإرادة الله تبارك وتعالى.
فتحصَّل أنَّ دور الإعجاز هو طيّ الأسباب فمثلاً الطبيب لو أنَّه أحاط بعلم الجينوم البشري ووصل إلى الأسباب والأسرار، يستطيع أن يغيّر لون الجنين وهو في الأسبوع الأوّل من وجوده في رحم أُمّه، فإنَّه لا يمكن تسميته بالولاية التكوينية، بل لو صحَّ فإنَّما هو ولاية مجازية، لأنَّ المعجزة تحتاج إلى إرادة قدسية، والإرادة القدسية دورها طيّ الأسباب، فإنَّ الطبيب لكي يتوصَّل إلى النتيجة لا بدَّ أن يرتّب مقدّمات مختبرية ويقوم بعدّة قضايا تجريبية، فهو لا يستطيع أن يصل إلى النتيجة مباشرة، إذ ليست لديه إرادة حتَّى يطوي المقدّمات، أمَّا المعصوم فهو يطوي هذه المقدّمات كلّها بإرادته القدسية طيّاً سريعاً، فإنَّ هذه المقدّمات التي يأخذ فيها الطبيب وقتاً مثلاً حتَّى يتمكَّن من التصرّف في الجنين، بينما المعصوم يطوي هذه المقدّمات بسرعة هائلة في ثانية واحدة فيصل إلى نفس النتيجة التي وصل إليها الطبيب لكن بإرادة قدسية، قال تعالى: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82)، لأنَّ إرادة المعصوم هي مظهرٌ لإرادة الله ودور الإرادة هو طيّ الأسباب بسرعة هائلة بحيث يصدر منه الفعل المعجز صدوراً لحظياً آنياً.
ومن هنا تفترق الولاية التكوينية عن العلم الذي قد يصل إليه علماء الطبيعة، فإنَّ الآيات القرآنية تُعبِّر عن مدخلية الإرادة القدسية، يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ﴾ (الطلاق: 2 و3)، وقال في آية أخرى: ﴿كَتَبَ اللهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(158) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 51/ باب 31/ ح 176.
لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ (المجادلة: 21)، وقال في آية ثالثة: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ﴾ (غافر: 51) بواسطة الإرادة القدسية، فتحصَّل أنَّ الولاية التكوينية والإعجاز يستند إلى عنصرين كما ذكرنا، عنصر العلم وعنصر الإرادة القدسية.
المحور الثاني: غيبة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام):
سنطرح في هذا المحور ثلاثة أسئلة ونجيب عنها:
السؤال الأوّل: هل غيبة الإمام المهدي أمرٌ إعجازي أم أنَّه أمرٌ طبيعي؟ يعني لا ريب في عدم استغناء وجوده (عليه السلام) عن حفظ الله ومدده، قال (عزَّ وجلَّ): ﴿أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾ (المجادلة: 22)، ولكن هل تكفَّلت يد الغيب بحفظه من كلّ سوء من دون دخل للأسباب الطبيعية أصلاً بحيث يكون حفظه إعجازاً محضاً أم أنَّ للعوامل الطبيعية دخلاً في أمنه وسلامته بحيث يمكن أن يصل إليه الظالمون باعتداء أو أذى لولا الحذر واجتماع الأسباب؟
الجواب: إنَّ الغيبة ليست إعجازية بل طبيعية، وقد ذكرنا في البحوث السابقة أنَّ المهدي يعيش مع الناس، يأكل، يشرب، يسافر، يمرض، يشفى، يتعب، يرتاح، يحزن، يسرّ، لأنَّ الغائب هو عنوانه فقط، والناس لا يعرفون أنَّ هذا هو المهدي بن الحسن، والروايات تدلّنا على ذلك، كما ورد عن بعض سفرائه: «والله إنَّ لصاحب هذا الأمر ليأتي الموسم - يعني الحجّ - كلّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه»(159)، أي لا يرونه بصفته الشخصية.
وفي رواية معتبرة عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: «في القائم سُنّة من موسى، وسُنّة من يوسف، وسُنّة من عيسى، وسُنّة من محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(159) كمال الدين: 440/ باب 43/ ح 8.
فأمَّا سُنّة موسى فخائفٌ يترقَّب»، فلو لم يكن في معرض نيل الظالمين لما كان خائفاً يترقَّب، وهذا يعني أنَّ غيبته غيبة طبيعية، والظالمون يمكن أن يصلوا إليه، ولذلك فهو في حال حذر ورقابة شديدة، «وأمَّا سُنّة يوسُف فإنَّ إخوته كانوا يبايعونه ويخاطبونه ولا يعرفونه» لا يعلمون أنَّه يوسف، وكذلك قائم آل بيت محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخالطه الناس ولا يعرفونه، «وأمَّا سُنّة عيسى فالسياحة» يتنقل من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان، «وأمَّا سُنّة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فالسيف»(160)، كما ذكرنا في بحوث سابقة تحت عنوان: (دولة الرحمة لا دولة العنف)(161) أنَّ المهدي يخوض فترة قتالية مدّتها ثمانية أشهر لتطهير الأرض من براثن الكفر والنُصب كما ذكرت الروايات، حتَّى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
والنتيجة أنَّ غيبة المهدي غيبة طبيعية ويؤكّد ذلك الدعاء الذي نقرأه كلّ ليلة والذي ورد عن الإمام المهدي (عليه السلام): «اللهُمَّ كُنْ لِوَلِيَّكَ الحُجَّةِ بْن الحَسَن صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَعَلى آبائِه فِي هذِهِ السّاعَةِ وَفِي كُلّ ساعةٍ وَلِيّاً وَحافِظاً...»(162)، فلو كانت غيبته إعجازية ولا يمكن أن يصل إليه الظالمون لما كان هناك حاجة لأن يُدعى له بالحفظ، إذن غيبته غيبة طبيعية وليس في مأمن من الظالمين والمعتدين لولا تحفّظه وبركات دعائه ودعاء الخُلَّص المؤمنين له بالحفظ.
السؤال الثاني: إذا كانت الغيبة طبيعية فهل الغيبة لعامل بشري اختياري أو لتخطيط وأمرٍ سماوي؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(160) كمال الدين: 28.
(161) راجع المحور الثالث من المحاضرة الثالثة.
(162) مصباح المتهجّد: 630/ الرقم (709/85)، وفيه: (لوليّك فلان بن فلان).
الجواب: الغيبة غيبتان: غيبة صغرى، وغيبة كبرى.
الغيبة الصغرى هي التي امتدَّت تسعاً وستّين سنة، من سنة (260هـ) إلى سنة (329هـ)، والغيبة الصغرى كانت غيبة لعامل بشري بمعنى أنَّ المهدي (عليه السلام) لمَّا هُجم على داره من قبل الظالمين للبحث عنه اختفى، وهذا الاختفاء كان لعامل بشري وهو سلطنة الظالمين عليه، لكنَّه ظلَّ يتَّصل بالأمّة عبر سفراء أربعة وهم:
1 - عُثمان بن سعيد العمري.
2 - محمّد بن عُثمان.
3 - حسين بن روح.
4 - علي بن محمّد السُمري.
ثمّ قطع الاتّصال وتحوَّلت الغيبة إلى غيبة كُبرى، وهي تخطيطٌ هادفٌ منه بإرادة سماوية، حيث اتَّخذ الغيبة التامّة وكان بإمكانه أن يبقى على الغيبة الصغرى التي تعتمد على الاتّصال بينه وبين الناس عن طريق السفراء سفيراً بعد سفير، لكنَّه قطع مسألة السفارة واتَّخذ مبدأ الغيبة الكبرى، واتّخاذه لهذا المبدأ تخطيط منه تابع لإرادة السماء وليس عملاً اختيارياً.
فقد كتب (عليه السلام) إلى آخر سفير له وهو علي بن محمّد السمري: «يا علي بن محمّد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستّة أيّام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ) وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب...»(163)، إذن الغيبة تخطيطٌ هادفٌ سماويٌ من قِبله (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(163) كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44.
السؤال الثالث: هل الإمام يمارس دوراً في غيبته أم أنَّه ليس له أيّ دور؟ فهل الإمام كالسجين ينتظر أن يُفرج عنه، وكالمشرَّد الذي ينتظر تحصيل المأوى، أم أنَّ الإمام في عصر الغيبة يقوم بدور خطير قد لا نلتفت لأبعاده؟
الجواب: إنَّ الإمام يقوم بدور خطير جدّاً وهو دور الإعداد لخروجه، كما أنَّ الأمّة وظيفتها الإعداد لخروجه، وقد شرحنا فيما سبق أنَّ وظيفة الأمّة الانتظار، كما ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله (عزَّ وجلَّ)»(164). وذكرنا أنَّ الانتظار هو إعداد الأرض لخروجه(165)، كذلك وظيفته هو أن يُعدّ الأرض لخروجه، فهو يعمل على الإعداد والأمّة تعمل على الإعداد.
والمهدي له دولة موجودة إلى الآن ودولته ظلّية ضمن الدول، قائمة بالفعل، حيث إنَّ له شبكة ممتدّة مترامية الأطراف شرقاً وغرباً وآلاف المؤمنين ينتمون لهذه الشبكة ويعملون لحساب هذه الدولة الظلّية التي على رأس هرمها المهدي المنتظر (عليه السلام)، ولا يقع حادث في الشرق أو في الغرب، في أمريكا، في الصين، في أيّ مكان إلّا ويصل إليه الخبر في نفس المكان نتيجة الشبكة المترامية الأطراف التي تتعامل معه.
وقد يكون الإنسان العادي من ضمن هذه الشبكة وهو لا يشعر، لأنَّ هناك من يُوجّهه لفعل معيَّن وهو لا يدري، وهذا الذي يوجّهه قد يكون تحت أمر شخص آخر يوجّهه وهو لا يعلم، والكلّ مرتبط بتلك الشبكة المتمادية الأطراف، وهذه الشبكة عبَّرت عنها النصوص الشريفة:
مثلاً في دعاء أُمّ داود وهو دعاء عظيم يُقرأ في يوم النصف من شهر رجب المرجب: «اللهُمَّ صَلّ عَلَى الأبْدالِ وَالأوْتادِ وَالسُّيّاح وَالعُبّادِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(164) كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.
(165) راجع المحور الثالث من المحاضرة الخامسة.
وَالمُخْلِصِينَ وَالزُّهّادِ وَأهْل الجِدَّ وَالاجْتِهادِ»(166)، من هم هؤلاء الأبدال والأوتاد؟ هؤلاء رجالٌ موجودون بالفعل يقومون برعاية هذه الدولة الظلّية المترامية الأطراف.
ونقرأ في دعاء آخر: «... أعْضَادٌ وَأشْهَادٌ وَمناةٌ وَأذوادٌ وَحَفَظَةٌ وَرُوّادٌ»(167)، أي إنَّ كلّ واحدٍ في هذه الشبكة له رتبة، هذا رتبته من الأبدال، هذا رتبته من الأوتاد، هذا رتبته من الحَفَظة، لكلّ رتبته بحسب علمه وبحسب مقامه السلوكي والعملي، إذن بالنتيجة فالإمام يقوم بدور كبير جدّاً وهو في حال غيبته ألا وهو دور الإعداد لخروجه.
المحور الثالث: ألطاف الغيبة:
هُناك سؤال يأتي على ذهن كلّ إنسان، يقول علماء الكلام: اللطف واجبٌ من الله، واللطف هو كلّ فعل يُقرّب العباد إلى الطاعة ويُبعدهم عن المعصية، وبما أنَّ نصب الأئمّة لطف فهو واجب من الله، بعث الأنبياء لطف فهو واجب من الله، إنزال الكتب لطف فهو واجب من الله، وكلّ عمل يُقرّب الناس إلى الطاعة ويُبعدهم عن المعصية فهو واجبٌ من الله، لذلك يأتي السؤال:
لماذا لا يُظهر الله الإمام ويجعله يعيش بين الناس ظاهراً إلى أن يأتي اليوم الموعود بحيث يعرف الناس ويعرفونه كما جعل نوحاً في قومه ألف سنة حيث كان معروفاً بين الناس، فيتحقَّق بذلك اللطف من وجوده؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(166) مصباح المتهجّد: 809/ الرقم (872/15).
(167) مصباح المتهجّد: 803 و804/ الرقم (866/9).
وبعبارة أخرى: إذا كان الله قادراً على حفظه وهو غائب فهو قادر على حفظه وهو حاضر، فلماذا لا يُظهره ويعيش بين الناس معروفاً ويقوم بدوره المحدود إلى أن يأذن الله تعالى له بالفرج وإقامة الدولة؟
وبعبارة ثالثة: ما هي ألطاف الغيبة؟ وما هي حِكَم الغيبة؟
وهنا أمور ثلاثة:
الأمر الأوّل: الجواب النقضي والحلّي:
ويُجاب عن هذا السؤال بالنقض والحلّ:
أمَّا النقض: فلو أراد الله حفظ المهدي بأن يعيش بين الناس أكثر من ألف سنة محميّاً من جور الجائرين وظلم الظالمين لحفِظ الله النبيّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فهو أشرف المخلوقات، مع أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اُعتدي عليه وظُلم وكُسرت رُباعيته يوم أُحُد إلى غير ذلك من المظالم.
وأمَّا الحلّ: فقد شاءت حكمة الله أن يكون ظهور الدين بالأساليب الطبيعية لا بالأساليب الإعجازية، لأنَّ الدين والإيمان تكامل روحي، والتكامل الروحي لا يتفاعل معه الإنسان إلّا إذا وصل إليه عن قناعة واختيار ورضا، أمَّا الأمر الذي يُفرض عليه بالأساليب الإعجازية فلا يتفاعل معه.
ولذلك شاءت حكمة الله أن لا يكون ظهور الدين بالأساليب الإعجازية وإلّا لما تفاعل معه الناس، بل بأسلوب الصراع بين الشرّ والخير، الظالمين والمؤمنين، فإذا كان ظهور الدين عبر حركة صراع حينئذٍ يتحقَّق للدين تفاعل ويتحقَّق للناس قبول لهذا الدين لأنَّه جاء إليهم عن إرادة منهم، أمَّا لو فُرض عليهم بالأساليب الإعجازية ومن دون صراع بين الظالمين والمؤمنين لم يتفاعل الناس مع حركة الإيمان والدين، لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ
جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99)، وقال تبارك وتعالى: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)، أي إنَّ الدين لا يأتي بالإعجاز، بل بالسعي والجدّ.
لذلك شاءت حكمته أن يخفي الإمام لأنَّ ظهوره سيعرضه لظلم الظالمين، ولو حفظه من ظلم الظالمين ونصره على المعارضين بنحو غيبي لكان ذلك إعجازاً، وإذا كان إعجازاً من دون صراع ولا مصادمة كان تفاعل الأمّة مع الإمام(عليه السلام) ضئيلاً، فإنَّ المناط في التفاعل مع أيّ فكر وشخص هو الصراع والمواجهة بين المؤمنين والمنكرين كما حصل لسائر الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)، وهذا ما يؤكّده علماء الاجتماع من أنَّ الأفكار الراسخة لدى المجتمعات هي الأفكار التي صاحبها صراع ومواجهة بين فريقين مؤمن ومنكر لا الأفكار العامّة التي لا إثارة فيها ولا جدال حولها، وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ﴾ (البقرة: 214)، وقال تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ (الأنفال: 42).
الأمر الثاني: حكمة الغيبة:
هناك حكمة ترجع للإمام نفسه من جهة الغيبة، وهي التي أشار إليها (عليه السلام) في قوله لسفيره الثاني محمّد بن عثمان العمري، حيث جاء في الرواية عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان (عليه السلام):
«... وأمَّا علّة ما وقع من الغيبة فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]، إنَّه لم يكن لأحد من آبائي (عليهم السلام)
إلّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنَّي أخرج حين أخرج، ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي»(168)، بمعنى أنَّ دوره مختلف عن دور آبائه، فدور آبائه كان دور التعليم والإرشاد والإعداد للدولة الخاتمة، لذلك لم يكن من المنقصة أن يُجبر ويُكره أحد من آبائه على بيعة طاغية زمانه، أمَّا الإمام المهدي (عليه السلام) فدوره دور إزالة الظلم بجميع أنواعه، والقضاء على جميع الظالمين من دون موانع أو عوائق مادية أو اجتماعية، وهذا لا ينسجم معه أن يكون في عنقه بيعة لظالم.
وبعبارة أخرى: كان آباؤه المعصومون (عليهم السلام) دورهم محدوداً وهو الإعداد للدولة، لذلك من الممكن أن يبايعوا الظالم إكراهاً وإجباراً، بل لم يكن أحد من آبائه إلّا وفي عنقه بيعة بالقسر والإجبار، حتَّى الإمام الحسين (عليه السلام) الذي رفض بيعة يزيد أُخذت منه بيعة معاوية، فلا يوجد إمام مرَّ عليه عصر إلّا وأُخذت منه بيعة لظالم قسراً عليه.
وأمَّا الإمام المنتظر (عليه السلام) فحيث إنَّ دوره القضاء على الظلم من دون مانع اجتماعي أصلاً، توقَّف ذلك على أن لا يكون في عنقه بيعة لظالم ولو كانت بيعة إكراهية، لئلاَّ تشكّل مانعاً من محاربته لأيّ ظالم بأن يقال: نقض البيعة أو اختلف حاله، لذلك شاء الله غيبته واختفائه كي لا يكون في عنقه بيعة لظالم أو لأحد من الطواغيت.
الأمر الثالث: ماذا نستفيد من الغيبة؟
ربَّما يُقال: إنَّ الغيبة ضرر وليست نفعاً لأنَّ الغيبة خلقت تيّارات متصارعة وفِرَقاً من المسلمين متحاربة وأوجبت ارتداداً عند قسم من الناس عن الدين أو عن التشيّع، فهي ضرر وليست نفعاً بالنسبة للأمّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(168) أنظر: كمال الدين: 485/ باب 45/ ح 4.
ونقول في الجواب: هذا السؤال يرد أيضاً على الفترة التي تقع بين النبيّ عيسى والنبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ففي هذه الفترة أيضاً ارتدَّ أناس وتحاربوا وتحوَّلوا إلى فِرَق مختلفة، وهذا مرَّ على جميع الفترات بين الأنبياء.
فالغيبة بالنسبة لنا امتحان، واختبار عسير، وغربلة يُعرف منها الثابت من غيره، وامتحانٌ لإرادتنا، وامتحانٌ لمقدار ثباتنا وإصرارنا على مبادئنا.
سأل جابر الجعفي الإمام الباقر (عليه السلام): متى يكون فرجكم؟ قال: «هيهاتَ هيهاتَ لا يكون فرجنا حتَّى تُغربلوا ثمّ تُغربلوا ثمّ تُغربلوا - يقولها ثلاثاً - حتَّى يذهب الله تعالى الكدر ويُبقي الصفو»(169).
وفي رواية أخرى عن الإمام العسكري (عليه السلام): «إنَّ ابني هو القائم من بعدي تجري فيه سنن الأنبياء من التعمير والغيبة حتَّى تقسو قلوب الناس لطول الأمد، فلا يثبت على القول بها إلّا من كتب الله في قلبه الإيمان، وأيده بروح منه»(170).
إذن الغيبة غربلة لنا، واختبار لإرادتنا ومدى ثباتنا، ونحن بهذا الكلام لا ندعو لليأس ولا للتشاؤم، بل ندعو للتفاؤل، لأنَّ الانتظار إعدادٌ للدولة الخاتمة وليست تعطيلاً للعمل.
وفي العدد الواحد والتسعين من المجلّة التربوية هناك دراسة قام بها مجموعة من الباحثين على عينة من شباب المجتمع العربي، من الكويت والبحرين وعُمّان، عن التشاؤم والتفاؤل، ووجدوا أنَّ أغلب شباب المجتمع متشائم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(169) الغيبة للطوسي: 339/ ح 287.
(170) الصراط المستقيم 2: 238.
والتشاؤم كما يُعرِّفه علماء النفس سمة وليست حالة وهو عبارة عن توقّع أسوأ النتائج عن أيّ عمل يقدم عليه الإنسان.
منشأ التشاؤم:
أسباب التشاؤم كثيرة أهمّها سببان:
السبب الأوّل: ثقافة المحيط:
هناك كثير من الناس يعيش في محيط متشائم، كأن تكون أسرته أسرة يائسة تُربّيه على اليأس، أو يعيش في وسط متشائم يغذيه بثقافة اليأس والإحباط، فيلتقط من هذا المجتمع سمة التشاؤم وهذه سمة خطيرة جدّاً.
السبب الثاني: الخطأ في تقدير المواقف:
هناك كثير من الشباب عندما يُسئل عن منهجه وخططه ومشاريعه يقول بأنَّ منهجه المحاولة ثمّ الخطأ، يعني يقدم على المشروع ثمّ بعد ذلك يكتشف إن كان مخطئاً أو غير مخطئ، وهذا المنهج خطير، وهو الذي يجعله يقدّر المواقف تقديراً خاطئاً نتيجة عدّة مواقف يُخطئ فيها فيُصاب بروح التشاؤم.
بل على الإنسان أن يكون في منهجه ومشاريعه وخططه معتمداً على المشورة، معتمداً على دراسات للمتخصّصين، ولا يقتحم بدون دراسة، فعن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ رجلاً أتى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال له: يا رسول الله أوصني، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «... فإنّي أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبَّر عاقبته، فإن يكُ خيراً فامضه وإن يكُ غيّاً فانته عنه»(171).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(171) أنظر: الكافي 8 : 149 و150/ ح 130.
علاج التشاؤم:
وأمَّا طرق علاج التشاؤم فثلاثة:
الطريق الأوّل: الأجواء الروحية:
إنَّ الأجواء الروحية تزرع التفاؤل، أجواء المسجد، أجواء الدعاء، أجواء العبادة، خصوصاً صلاة الليل التي نحن بعيدون عنها، قال تعالى: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28).
الطريق الثاني: الصديق الناجح:
فإذا رأى الإنسان أنَّ صديقه فاشل فليتركه، لأنَّ الصديق يؤثّر على حياته، بل على الإنسان أن يختار الصديق الناجح، الصديق الموفَّق في حياته المُتفائل في أموره، فإنَّ الصديق الناجح يساعد الإنسان على روح التفاؤل وروح الأمل وروح الانبعاث نحو بناء الحياة.
الطريق الثالث: الثقافة:
نحن بحاجة لأن تكون ثقافة منابرنا ومساجدنا وقنواتنا الفضائية ثقافة الحياة وثقافة الأمل التي تبعث في شبابنا روح العطاء وروح الإنتاج وروح الإقدام حتَّى لو خيَّمت عليهم ظروف مكفهرّة خانقة، وهذا ما نستفيده من قيم كربلاء، فإنَّ كربلاء مجموعة قيم تعلّمنا على الحياة.
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
المحاضرة العاشرة: يا لثارات الحسين (عليه السلام)
(10/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(27/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنعام: 115).
(الكلمة) تطلق في القرآن الكريم على معنيين:
المعنى الأوّل: القول الصادق:
كما في قوله تعالى: ﴿حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ (يونس: 96)، يشير إلى قوله في آية أخرى مخاطباً إبليس: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (ص: 85).
المعنى الثاني: الوجود:
إنَّ المراد بالكلمة الوجود الذي يعدُّ مظهراً لله تعالى، مثلاً: وجود النبيّ يعدُّ مظهراً لله، فوجود النبيّ كلمة، ووجود الإمام يعدُّ مظهراً لله، فوجود الإمام كلمة، ولذلك قال القرآن الكريم: ﴿إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ (آل عمران: 45)، فاعتبر القرآن النبيّ عيسى كلمة لأنَّ وجوده مظهر لله (عزَّ وجلَّ)، ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 59)، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي﴾ (الكهف: 109)،
المقصود بهذه الكلمات هنا الوجودات التي تعدُّ مظهراً لله، وكذلك في قوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ﴾ (البقرة: 37)، فإنَّ الرواية ذكرت أنَّ الكلمات التي تلقّاها آدم فتاب عليه ربّه هي الأنوار التي رآها محيطة بالعرش فسأل عنها، فقيل: هي أنوار محمّد وآل محمّد(172)، «خَلَقَكُمْ اللهُ أنْواراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ»(173).
وأمَّا في الآية التي مرَّت: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ (الأنعام: 115)، فإنَّ الكلمة هنا يراد بها المعنى الثاني، والقرينة على ذلك في نفس الآية وهي قوله: ﴿صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ فإنَّ العدل وجود خارجي وليس العدل كلاماً أو خطاباً، فلأجل قوله: ﴿وَعَدْلاً﴾ كان هذا التعبير قرينة على أنَّ المراد بالكلمة في الآية الوجود الخارجي لا القول.
ومن هنا نتساءل: ما هو هذا الوجود الذي يعدُّ مظهراً لوجود الله (عزَّ وجلَّ) في الآية المباركة؟
جاءت الرواية عن الصادق (عليه السلام) وأخبرت بأنَّ المراد بالكلمة في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(172) عن صفوان الجمّال، قال: دخلت علي أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عليه السلام) وهو يقرأ هذه الآية: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، ثمّ التفت إليَّ، فقال: «يا صفوان إنَّ الله تعالى ألهم آدم (عليه السلام) أن يرمي بطرفه نحو العرش، فإذا هو بخمسة أشباح من نور يسبّحون الله ويقدّسونه، فقال آدم: يا ربّ من هؤلاء؟ قال: يا آدم صفوتي من خلقي لولاهم ما خلقت الجنّة ولا النار، خلقت الجنّة لهم ولمن والاهم، والنار لمن عاداهم. لو أنَّ عبداً من عبادي أتى بذنوب كالجبال الرواسي ثمّ توسَّل إليَّ بحقّ هؤلاء لعفوت له. فلمَّا أن وقع آدم في الخطيئة قال: يا ربّ بحقّ هؤلاء الأشباح اغفر لي، فأوحى الله (عزَّ وجلَّ) إليه: إنَّك توسَّلت إليَّ بصفوتي وقد عفوت لك...». (شرح الأخبار 3: 6/ 923).
(173) المزار لابن المشهدي: 539.
الآية المباركة: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ هو بزوغ نجم قائم آل بيت محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث كتبت الآية على جبينه عند ولادته(174)، أي إنَّ هناك وجوداً نورانياً بدأ بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وينتهي ويتمّ بالإمام الحجّة، فالإمام الحجّة تمام لكلمة الوجود وتمام لكلمة ﴿رَبِّكَ﴾، وإنَّما كان المهدي تماماً لكلمة (الله) لأنَّه بوجوده يتحقَّق التمام في مرحلة التطبيق, فالتمامية قد تكون على مستوى التشريع وقد تكون على مستوى التطبيق، أمَّا تمامية كلمة (الله) على مستوى التشريع فقد تحقَّقت منذ عصر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ (المائدة: 3)، وأمَّا التمامية على مستوى التطبيق فلم تتمّ لحدّ الآن كلمة الله على الأرض ﴿صِدْقاً وَعَدْلاً﴾, فما هو ذلك اليوم الذي تتمّ فيه كلمة الله على الأرض من الناحية التطبيقية ﴿صِدْقاً وَعَدْلاً﴾؟ إنَّ ذلك لا ينطبق إلّا على يوم ظهور المهدي (عليه السلام) الذي قال فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(175)، ولذلك ورد في دعاء ليلة النصف من شعبان: «اللّهمّ بحقّ ليلتنا ومولودها وحجّتك وموعودها التي قرنت إلى فضلها فضلك فتمَّت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(174) عن الحسن بن راشد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ الله تبارك وتعالى إذا أحبَّ أن يخلق الإمام أمر ملكاً فأخذ شربة من ماء تحت العرش، فيسقيها أباه فمن ذلك يخلق الإمام، فيمكث أربعين يوماً وليلة في بطن أُمّه لا يسمع الصوت ثمّ يسمع بعد ذلك الكلام، فإذا ولد بعث ذلك الملك فيكتب بين عينيه: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾، فإذا مضى الإمام الذي كان قبله رفع لهذا منار من نور ينظر به إلى أعمال الخلائق، فبهذا يحتجُّ الله على خلقه». (الكافي 1: 387/ باب مواليد الأئمّة (عليهم السلام)/ ح 2).
(175) الغيبة للطوسي: 180/ ح 139.
كلمتك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماتك»(176)، وجاء في الدعاء الوارد بعد زيارة آل ياسين: «اللهُمَّ صَلّ عَلَى حُجَّتِكَ فِي أرْضِكَ، وَخَلِيفَتـِكَ فِي بـِلادِكَ، وَالدَّاعِي إِلَى سَبـِيلِكَ، وَالْقَائِم بـِقِسْطِكَ، وَالثَّائِر بـِأمْركَ، وَلِيَّ الْمُؤْمِنـِينَ وَبَوَارِ الْكَافِرينَ، وَمُجَلّي الظُّلْمَةِ وَمُنِير الْحَقَّ، وَالنَّاطِق بـِالْحِكْمَةِ وَالصّدْقِ، وَكَلِمَتِكَ التَّامَّةِ فِي أرْضِكَ»(177).
إذن فالمراد بقوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ ظهور المهدي الذي يحقّق تمامية الإسلام من الناحية التطبيقية صدقاً وعدلاً على الأرض، قال تعالى: ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنعام: 115)، فهناك وجود بدأه النبيّ وأتمّه المهدي، وهذا الوجود الذي يعبّر عنه الإمام علي (عليه السلام) كما في رواية الطبراني وابن حماد: عن عمر بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب أنَّه قال للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أمنّا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله؟», قال: «بل منّا، بنا يختم الله كما بنا فتح»(178)، وقال علي (عليه السلام) لكميل بن زياد: «يا كميل ما من علم إلّا وأنا أفتحه وما من سرّ إلّا والقائم (عليه السلام) يختمه»(179).
فبما أنَّ هناك وجوداً نورانياً واحداً لأهل البيت (عليهم السلام) وتمامه على يد المهدي فسنتحدَّث هنا عن الخصائص والسمات المشتركة بين مصاديق هذا الوجود وبالذات بين الثورتين الثورة الحسينية والثورة المهدوية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(176) مصباح المتهجّد: 842/ الرقم (908/23).
(177) الاحتجاج 2: 318.
(178) المعجم الأوسط 1: 56؛ كتاب الفتن: 239، باختلاف.
(179) تحف العقول: 171.
الخصائص المشتركة بين الثورة الحسينية والثورة المهدوية:
هذه الخصائص تتلخَّص في عناصر ثلاثة:
العنصر الأوّل: الحقيقة:
لبيان معرفة حقيقة الثورة الحسينية والثورة المهدوية نذكر أموراً ثلاثة:
الأمر الأوّل: الرجوع إلى العلل والأسباب:
إنَّ تحليل أيّ ظاهرة سواء أكانت ظاهرة طبيعية أم ظاهرة اجتماعية لا يتمُّ إلّا بإرجاعها إلى عللها وأسبابها، غاية الأمر إذا كانت الظاهرة طبيعية فتحليلها بإرجاعها إلى عللها الفاعلية، وإذا كانت الظاهرة اجتماعية فتحليلها بإرجاعها إلى عللها الغائية.
مثلاً: ظاهرة الأعاصير والفيضانات التي تجتاح المدن الساحلية وتودي بحياة مواطنيها، إذا أردنا أن نحلّلها لا بدَّ أن نرجعها إلى أسبابها أي عللها الفاعلية، فنقول: من مصادر هذه الأعاصير والفيضانات وازدياد نسبة مياه البحار والمحيطات ظاهرة الاحتباس الحراري، وهذه ظاهرة خطيرة ستؤدّي إلى فساد البيئة على الأرض إلى مدى سنين طويلة.
وأحياناً تكون الظاهرة اجتماعية وليست ظاهرة طبيعية مثلاً: ظاهرة الزحف المليوني نحو كربلاء، نحو قبر الحسين (عليه السلام) في أيّام الأربعين، يرجع تحليلها إلى فهم أهدافها ومقاصدها، وهو ما يُعبّر عنه بالعلل الغائية، ولا يمكن فهم أيّ ظاهرة اجتماعية إلّا بتحليل أهدافها ومقاصدها، فما هي أهداف هذه الظاهرة؟
إنَّ أهداف هذه الظاهرة واضحة لكلّ متأمّل منصف ألا وهو إحياء أمر آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فعن بكر بن محمّد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لفضيل: «تجلسون وتحدّثون؟»، قال: نعم، جُعلت فداك. قال:
«إنَّ تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا. يا فضيل من ذكرنا - أو ذكرنا عنده - فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر»(180).
وعن علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه، قال: قال الرضا (عليه السلام): «من تذكَّر مصابنا وبكى لما ارتكب منّا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكَّر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب»(181).
الأمر الثاني: تحليل الثورة:
إنَّ الثورة من الظواهر الاجتماعية التي تحتاج إلى التحليل، لأنَّها ظاهرة اجتماعية، والثورة تنقسم إلى قسمين: الثورة الانفعالية والثورة الفعلية.
الثورة الانفعالية هي الثورة التي تحدث نتيجة الضغوط المتراكمة حيث يتولَّد انفجار في الوضع الاجتماعي قد يؤدّي إلى ثورة انفعالية، مثلاً: المنطق الديالكتي الماركسي يركّز على الثورة الانفعالية، ويقول: إذا احتدم الصراع بين الطبقات الاجتماعية، الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة الكادحة، فنتيجة هذا الصراع انفجار الوضع الاجتماعي وحصول ثورة انفعالية قد تؤدّي إلى تأميم الثروات والملكية المشتركة، بينما المنطق الإسلامي يركّز على الثورة الفعلية، الثورة التي لا تنشئ عن العاطفة ولا تنشئ عن العقل الجمعي، وإنَّما الثورة التي تنشئ عن الوعي والتخطيط الهادف المدروس، تلك هي الثورة الفعلية، وهي التي تستحقّ أن تُحلَّل فينظر إلى أهدافها ومقاصدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(180) قرب الإسناد: 36/ ح 117.
(181) أمالي الصدوق: 131/ ح (119/4).
الأمر الثالث: ثورة الحسين (عليه السلام) ثورة فعلية:
إنَّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) ثورة فعلية وليست ثورة انفعالية، إذ لم تكن ثورته (عليه السلام) حركة عاطفية، ولم تكن انسجاماً لعقل جمعي صاخب وعارم، وإنَّما كانت مخطّطاً هادفاً فاعلاً واعياً مدروساً، ولذلك مظهران:
المظهر الأوّل: إنَّ الحسين (عليه السلام) لم يفرض على أصحابه الثورة وإنَّما جعلها خيارية بأيديهم، فالفرق واضح بين طارق بن زياد الأموي وبين الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنَّ طارق عندما قاد جيشه إلى الأندلس أتلف السفن وأتلف الطعام وقال لجيشه: (أيّها الناس، أين المفرّ؟ البحر من ورائكم، والعدوّ أمامكم، فليس ثَمَّ والله إلّا الصدق والصبر)(182)، لذلك أصبحت ثورتهم ثورة انفعالية ناشئة عن الاضطرار وعدم وجود المأمن والطعام.
أمَّا الحسين (عليه السلام) فلم يقل لأصحابه هكذا وإنَّما قال: «اللّهمّ إنّي لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حلّ من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمّة، وهذا الليل قد غشيكم فاتَّخذوه جملاً، وتفرَّقوا في سواده، فإنَّ القوم إنَّما يطلبونني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري»(183)، لأنَّ الحسين أراد من أصحابه أن تكون ثورتهم ثورة اختيارية، ثورة نابعة عن قناعتهم ووعيهم بالأهداف ومعرفتهم بالاستراتجية العلوية التي سنَّها أهل البيت (عليهم السلام).
المظهر الثاني: إنَّ المنطلق لثورة الحسين (عليه السلام) لم يكن رفض البيعة ليزيد بن معاوية فقط، فإنَّ الحسين (عليه السلام) وإن رفض البيعة وقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(182) الإمامة والسياسة 2: 61.
(183) أمالي الصدوق: 220.
«أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرَّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»(184)، ولكن هذا ليس منطلق الثورة فقط، وليس منطلق الثورة رسائل أهل الكوفة فقط التي أكَّدت على أنَّه (اخضر الجناب وأينعت الثمار وطمت الجمام فإذا شئت فأقدم على جند لك مجنَّد)(185)، إذ لو كان المنطلق في ثورة الحسين رفض البيعة ليزيد أو استجابة لرسائل أهل الكوفة فقط لكانت ثورته انفعالية واستجابة لعامل خارجي، لكن الأمر ليس كذلك، إنَّ المنطلق لثورة الحسين (عليه السلام) حركة الإصلاح، فسواء أعرضت عليه البيعة ليزيد أم لم تعرض عليه فإنَّه سينطلق في حركته على كلّ حال، وسواء أكتب إليه أهل الكوفة أم لم يكتبوا فإنَّه سينطلق في حركته على كلّ حال، لأنَّ ثورته ثورة فعلية واعية، كما كتب لأخيه محمّد بن الحنفية: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمّة جدّي محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر»(186)، وإنَّما رفض البيعة وتلبية دعوة أهل الكوفة عوامل مساعدة لا أنَّها المنطلق.
ولو كانت ثورة الحسين عسكرية لكان الحسين منهزماً، لكن ثورته كانت ثورة روحية أراد بها إيقاظ إرادة الأمّة وتحريك عزيمتها وبعثها من سباتها، فكان للحسين ذلك، وتحقَّقت له أهدافه، فكان هو المنتصر، فلقد أجَّج الحسين الشرارة وانطلقت الثورات من بعده تنادي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(184) اللهوف في قتلى الطفوف: 17.
(185) مقتل الحسين (عليه السلام) لأبي مخنف: 16.
(186) الفتوح 5: 21؛ بحار الأنوار 44: 329.
باسمه، كثورة التوّابين وثورة المختار وثورة زيد بن علي وثورة العلويين وثورة الحسين بن علي صاحب معركة فخ، فهي ثورة روحية أتت ثمارها وأكُلُها في وقت قريب.
وكذلك ثورة المهدي المنتظر (عليه السلام) هي حقيقة ثورة جدّه، ثورة روحية، حيث ورد عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(187)، ولم يقل: يملأ الأرض قتلى، أو يملأ الأرض بالسلاح، أو يملأ الأرض بالجنود، وإنَّما قال: «عدلاً»، أي إنَّ ثورته ثورة روحية وليست ثورة عسكرية، فالحسين والمهدي في الحقيقة ثورة واحدة وهي الثورة الروحية، هذا هو العنصر الأوّل.
العنصر الثاني: الهدف:
إنَّ هدف الثورتين واحد، وهو هدف جميع الرسالات والنبوّات السماوية، فالقرآن الكريم يقول: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، هذا هو الهدف، وهو القيام بالقسط.
ويقول علماء النحو: (الباء هنا باء السببية وليست باء التعدية).
ومعنى ذلك: أنَّ المطلوب قيام المجتمع، يعني قيام الحضارة، لكن ليس المطلوب قيام حضارة بدون أسس، بل المطلوب بالرسالات والنبوّات قيام الحضارة على أساسين وعاملين:
العامل الأوّل: العامل الاقتصادي:
وهذا العامل عبَّرت عنه آية أخرى بقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً﴾ (النساء: 5)، والمعنى أنَّ الثروة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(187) الغيبة للطوسي: 180/ ح 139.
قيام لكم، فهي زاد لحضارتكم، وزاد لقيام دولتكم، والثروة المادية عامل أساس في قيام الحضارة.
العامل الثاني: العدل:
وهو عامل قانوني: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾، يعني لكي تكون الحضارة قائمة على عامل قانوني وهو عامل القسط، أي القانون العادل القائم على توزيع الثروة توزيعاً عادلاً.
إذن هدف الرسالات هو قيام حضارة على عامل اقتصادي وهو الثروة وعامل قانوني وهو القانون العادل، وهذا الهدف هو الذي أكَّد عليه الحسين (عليه السلام) بقوله: «فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً»(188)، وقوله: «ولعمري ما الإمام إلّا العامل بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه في ذات الله»(189)، وهذا الهدف هو هدف المهدي المنتظر (عليه السلام).
ولقد ورد في الرواية عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: «... يا بن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فإنَّه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم في الأرض شبيهون ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فلم يؤذن لهم فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم (عليه السلام) فيكونون من أنصارهم وشعارهم: يا لثارات الحسين (عليه السلام)»(190)، وليس المقصود بثارات الحسين ثارات شخصية أو ثارات انتقامية أو ثارات دموية، إذ ليس الحسين ثائراً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(188) مثير الأحزان: 32.
(189) مثير الأحزان: 16.
(190) أنظر: عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 268/ ح 58.
شخصياً، ولا ثائراً قبَلياً، ولا ثائراً طائفياً، كما يحاول بعض النواصب أن يقوقع حركة الحسين في الطائفة الإماميّة، ليس الأمر كذلك، بل ثأر الحسين كما نطقت النصوص الشريفة هو ثأر الله، ولذلك نقرأ في زيارة وارث: «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا ثَارَ اللهِ وَابْنَ ثَارِهِ»(191)، إذ ليس الحسين شخصاً ولا قبيلةً ولا طائفةً ولا عرقاً، الحسين حركة, حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الحركة قرآنية، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: 104)، وهذه الحركة القرآنية ثأرها بأن تحقّق أهدافها وأن تفعّل مبادئها، وليس ثأرها ثأراً شخصياً أو قبَلياً أو طائفياً، وهذا هو المقصود من: «يا لثارات الحسين»، أي: يا لمبادئ الحسين التي نادى الحسين وضحّى وبذل النفس والنفيس من أجلها.
العنصر الثالث: القاعدة:
إنَّ ثورة الحسين وثورة المهدي (عليهما السلام) متَّحدتان في القاعدة، فإنَّ كلّ ثورة وكلّ حركة تحتاج إلى نخبة، والنخبة هي قطب الحركة وعمادها، لذلك تحدَّث القرآن عن الأنبياء فأشار إلى أنَّه مع كلّ نبيّ نخبة، قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146)، وقال تبارك وتعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214)، وتحدَّث القرآن عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(191) مصباح المتهجّد: 720/ الرقم (806/75).
النخبة التي أحاطت بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كعلي والمقداد وعمّار وأبي ذر، فقال عنهم: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: 29)، إذن لكلّ حركة نخبة هي قطبها وهي زادها، لذلك إذا قرأنا ثورة الحسين وثورة المهدي وجدنا أنَّ لكلّ من الحركتين نخبة مجانسة لنخبة الحركة الأخرى.
أمَّا النخبة في حركة الحسين فهم الذين قال عنهم (عليه السلام): «إنّي لا أعرف أهل بيت أبرّ ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي»(192)، وأمَّا النخبة الذين مع المهدي المنتظر (عليه السلام)، ففي رواية عن الباقر (عليه السلام) - والرواية موجودة في (مسند أحمد) لكن بلفظ آخر -(193)، قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللّهمّ لقني إخواني مرَّتين، فقال من حوله من أصحابه: أمَا نحن إخوانك يا رسول الله؟ فقال: لا، إنَّكم أصحابي، وإخواني قوم من آخر الزمان آمنوا بي ولم يروني لقد عرَّفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام أُمّهاتهم، لأحدهم أشدّ بقيّة على دينه - يعني يحافظ على دينه، يحافظ على مبادئه - من خرط القتاد في الليلة الظلماء أو كالقابض على جمر الغضا، أولئك مصابيح الدجى ينجيهم الله من كلّ فتنة غبراء مظلمة»(194).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(192) أمالي الصدوق: 220.
(193) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «وددت أنّي لقيت إخواني»، قال: فقال أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أوَليس نحن إخوانك؟ قال: «أنتم أصحاب ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني» (مسند أحمد 3: 155).
(194) بصائر الدرجات: 104/ باب في رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه عرف ما رأى في الأظلّة.../ ح 4.
هؤلاء النخبة الذين تحدَّث عنهم الإمام السجّاد (عليه السلام) في رواية أخرى: «إنَّ أهل زمان غيبته القائمين بإمامته المنتظرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أولئك المخلصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله (عزَّ وجلَّ) سرّاً وجهراً»(195).
وهناك آية واضحة الدلالة تقول: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23)، فمن قضى نحبه فهم أصحاب بدر وأصحاب الحسين يوم كربلاء، وأمَّا من ينتظر فهم أصحاب قائم آل بيت محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
إنَّ هذا التعبير إذا توقَّفنا عنده: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ﴾ فإنَّ علماء اللغة يقولون: قضاء النحب يعني استيفاء الوطر والطاقة، إذ لكلّ إنسان طاقة، فكلّ إنسان سيستوفي طاقته، ولكن هناك من يستوفي طاقته في الدنيا وملذّاتها من الصباح إلى آخر الليل لا يفكّر في نافلة، ولا يفكّر في قراءة قرآن، ولا يفكّر في قراءة دعاء، هذا المسكين سيفي نحبه في الدنيا، وإذا وضع في قبره رأى صحيفته سوداء ليس فيها نبضة نور، وحينئذٍ يكون أشدّ الناس أسفاً وندماً لأنَّه لم يتزوَّد لقبره, فقد وقف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على أهل السوق في البصرة فبكى ثمّ قال: «يا عبيد الدنيا وعمّال أهلها إذا كنتم بالنهار تحلفون، وبالليل في فرشكم تنامون، وفي خلال ذلك عن الآخرة تغفلون، فمتى تحرزون الزاد، وتفكّرون في المعاد؟»(196).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(195) كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.
(196) أمالي المفيد: 119/ ح 3.
إنَّ هناك من تُسيطر عليهم الغفلة فيقضون نحبهم ووطرهم وهم في الغفلة المادية، وهناك من يقضي نحبه ووطره في العلم والمعرفة والصدق، يكون إنساناً صادقاً قولاً وعملاً، فيكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ أن تتمّ حياته وهو إنسان صادق قولاً، ﴿وَما بَدَّلُوا﴾ يعني لم يغيّروا منهجهم، ثابتين على مبادئهم وقيمهم، ﴿وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾.
وإذا أردنا أن نكون من المؤمنين الصادقين، أن نكون من المؤمنين الذين ﴿صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾، أن نكون من المؤمنين المنتظرين لظهور المهدي والممتثلين لأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله (عزَّ وجلَّ)»(197)، فإنَّ الانتظار يعني إعداد الأرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ ليس الانتظار بالكلام، وليس الانتظار بأن نجلس في المآتم فقط، وليس الانتظار أن نقول شيئاً ونحن مشغولون بدنيانا، بل الانتظار بأن ندعم هذه المشاريع الخيرية والثقافية والدينية في كلّ مكان، فإنَّ هذا مصداق واضح لإعداد الأرض والنفوس لخروج المهدي المنتظر (عليه السلام).
وإنَّ من جملة مصاديق الانتظار هو المساهمة في إحياء ليلة عاشوراء، وليلة عاشوراء ليست ليلة عزاء فقط، بل هي ليلة عبادة أيضاً، فعلينا إحياؤها بالعزاء وبالعبادة أيضاً، كما أحياها أصحاب الحسين (عليه السلام) بالدعاء والصلاة.
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(197) كمال الدين: 644/ باب 55/ ح 3.
المحاضرة الحادية عشرة: المهدي (عليه السلام) نبع الهداية
(11/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(28/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33).
الآية المباركة تتضمَّن وعداً إلهياً للمؤمنين بظهور الدين الإسلامي على الأرض كلّها، وهذا الوعد لم يتحقَّق إلى يومنا هذا، وبما أنَّ الله لا يخلف وعده، فمقتضى حكمته أن يكون هناك يوم يحقّق الله فيه وعده، فيظهر دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون، وهذا لا ينطبق إلّا على يوم المهدي المنتظر (عليه السلام)، ولذلك ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما قُرئت عليه هذه الآية، قال: «والله ما نزل تأويلها بعد، ولا ينزل تأويلها حتَّى يخرج القائم (عليه السلام)»(198).
وهناك سؤال يتبادر لذهن الإنسان عندما يقرأ الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ﴾، وهو ما هو الفرق بين الهدى ودين الحقّ؟ أليس دين الحقّ هو الهدى؟ أليس الهدى دين الحقّ؟ فما هو الفرق بين الهدى ودين الحقّ؟
إنَّ دين الحقّ هو عبارة عن المعتقدات التي يعتقد بها الإنسان، أمَّا الهدى فهو الوجود الرابط بين المعتقد وبين الإرادة، فالوجود على ثلاثة أقسام كما يقول الفلاسفة:
1 - وجود جوهري. 2 - وجود عرضي. 3 - وجود رابط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(198) كمال الدين: 670/ ح 16.
مثلاً: الجسم له وجود وهو (الوجود الجوهري)، أمَّا القيام والقعود فهذا وجود آخر يعبَّر عنه بـ (الوجود العرضي)، وهناك وجود ثالث يربط بين الجسم وبين القيام، فلولا هذا الوجود الثالث لما أمكن للجسم أن يتلبَّس بالقيام والقعود، فهناك وجود جوهر وهو الجسم، ووجود للصفة والعرض وهو القيام، ووجود رابط بين الوجودين.
ونظير ذلك في محلّ كلامنا، فإنَّ الإنسان يحمل معتقدات وهي المعبَّر عنها بدين الحقّ، لكن هل إرادة الإنسان على طبق معتقداته أم أنَّ إرادة الإنسان تعاكس وتخالف معتقداته؟ فكثير منّا في مرحلة العمل ينفصل عن معتقداته، فتكون إرادته مخالفة لمعتقداته.
مثلاً: حينما يسرق الإنسان وهو يعتقد أنَّ السرقة جريمة، أو حينما يزني وهو يعتقد أنَّ الزنا جريمة، تتعاكس إرادته مع معتقداته، فإنَّ عنده دين الحقّ، لكن عنده حلقة مفقودة بين المعتقد وبين الإرادة، وهذه الحلقة المفقودة هي التي تُسمّى بـ (الهدى)، فإنَّ الهدى هو الوجود الرابط الذي يؤلّف بين المعتقد وبين الإرادة بحيث تكون إرادة الإنسان على طبق معتقده.
ولذلك ورد عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»(199)، يعني أنَّ السارق والزاني عنده معتقد، وهو دين الحقّ، لكن ليس عنده الرابط بين المعتقد وبين الإرادة، وهذا الرابط هو الهدى.
من هنا ننطلق في الحديث حول هذه الحلقة المسمّاة بالهدى في ثلاثة محاور:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(199) الكافي 5: 123/ باب القمار والنهبة/ ح 4؛ صحيح البخاري 8 : 15.
المحور الأوّل: الهداية وأقسامها:
تنقسم الهداية إلى قسمين رئيسيين:
1 - هداية خلقية. 2 - هداية روحية.
إنَّ الهداية الخلقية لكلّ موجود، يقول القرآن الكريم: ﴿الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ (طه: 50)، فلا يوجد مخلوق إلّا وقد هُدِي إلى هدفه، وهُدِي إلى غايته، فالبذرة هُديت إلى أن تكون شجرة، والحيوان هُدي إلى أن يتعلَّم كيف يأكل وكيف يشرب، ﴿لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (يس: 40)، وكلّ هُدي إلى طريقه، هذه تسمّى هداية تكوينية، هداية خلقية، وهي عامّة.
وهناك هداية روحية خاصّة بالإنسان، وهي تنقسم إلى قسمين:
1 - هداية استحقاقية. 2 - هداية تفضّلية.
إنَّ الهداية الاستحقاقية هي التي استحقّها كلّ إنسان منذ ولادته، وهي ما تسمّى بالفطرة، قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ (الإنسان: 3)، وقال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها﴾ (الروم: 30)، فإنَّ كلّ إنسان استحقَّ حين خلقه أن يُلهم الدلالة على ربّه، وهذه هداية فطرية عامّة لكلّ إنسان ونسمّيها بالهداية الاستحقاقية، إذ لولاها لكان وجوده لغواً لتخلّفه عن صراط الوجود، فإنَّ صراط الوجود هو الوصول إلى الله كما في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6)، واللغو قبيح من الحكيم تعالى.
أمَّا الهداية التفضّلية فهي الهداية الخاصّة ببعض المؤمنين ولها ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: الانشراح:
بحسب تعبير القرآن الكريم: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ﴾ (الزمر: 22).
والانشراح بمعنى لين القلب مقابل قسوة القلب، ويصفه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ﴾ (الزمر: 23).
ولكي يعرف الإنسان نفسه أنَّه حصل على هذه المرتبة أم لم يحصل فليختبر نفسه إذا قرأ الدعاء، فإذا رأى نفسه أنَّه يلتذّ بالدعاء ويتَّعظ، إذن هو يعيش ليناً في قلبه وانشراحاً في صدره، أمَّا إذا رأى نفسه جافّة يابسة، تقرأ الدعاء لكن لا تتفاعل معه، ولا تلتفت إلى الاتّعاظ والاعتبار بفقرات الدعاء، إذن هذا الشخص مبتلى بمرض قسوة القلب ولم يحصل على المرتبة الأولى من مراتب الهداية التفضّلية، ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهارُ﴾ (البقرة: 74).
المرتبة الثانية: الاستقامة:
قال تبارك وتعالى: ﴿وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الأنعام: 87).
وهنا سؤال يتبادر لذهن الإنسان، وهو أنَّه عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا﴾ (العنكبوت: 69)، يتبيَّن لنا أنَّ هناك سبلاً وليس سبيلاً واحداً، بينما في آية أخرى يقول: ﴿قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: 108)، وقال في آية أخرى: ﴿وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى﴾ (النساء: 115)، إنَّ السبيل واحد بينما هذه الآية تقول: ﴿وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا﴾، فكيف نجمع بين الآيتين؟
وهذا مطلب في علم العرفان، فإنَّ الإنسان يظنّ في بداية الطريق أنَّ السبل متعدّدة، لكنَّه إذا استمرَّ في الطريق سينكشف له أنَّ السبيل واحد، مثال ذلك: إنسان حديث العهد بالدين يظنّ أنَّ الشرائع السماوية أديان مختلفة، أي إنَّ المسيحية دين، واليهودية دين، والإسلام دين، هذه أديان مختلفة.
وهذا ليس صحيحاً، إذ لا يوجد عندنا أديان مختلفة، فإنَّ الدين الذي جاء به إبراهيم هو الإسلام، ﴿إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ﴾، قال إبراهيم: ﴿أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ (البقرة: 131)، قال إبراهيم: ﴿رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ (البقرة: 128)، والمسيحية واليهودية كلّها تشترك في دين واحد وهو دين الإسلام، فالقرآن عندما يقول: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ (آل عمران: 85)، أو يقول: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ﴾ (آل عمران: 19)، يقصد ما يجمع الأديان كلّها، فإنَّ جميع الأديان تشترك في دين الإسلام، وإنَّما تفترق في الشريعة لا في الدين.
قال تبارك وتعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً﴾ يعني ما قلناه لنوح قلناه لكم، ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ (الشورى: 13)، فهو دين واحد، وقال في آية أخرى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً﴾ (المائدة: 48)، إذن الفرق بين الملل ليس في الدين وإنَّما هو في الشريعة، وهي الأحكام العملية والطقوس العبادية التي تختلف من دين إلى دين، وإلّا جميع الملل دين واحد يعبَّر عنه بدين الإسلام.
أيضاً الإنسان الحديث العهد بالتديّن يظنّ أنَّ الطرق إلى الله مختلفة، فإنَّ الصلاة طريق، والصوم طريق، والصدقة طريق، ولكنَّه إذا تأمَّل يجد أنَّ هذه العبادات كلّها طريق واحد.
وهو قوله تبارك وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾ (المؤمنون: 1 و2)، إذ الخشوع روح واحدة تجمع الصلاة والصوم والحجّ والصدقة وجميع العبادات والطرق تلتئم بعنصر واحد اسمه عنصر الخشوع.
إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته، فقال: «أمَا إنَّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه»(200)، لأنَّ الخشوع هو قوام الصوم والصلاة والحجّ وسائر العبادات.
المرتبة الثالثة: اليقين المؤدّي للرؤية الملكوتية:
إذا تسامى الإنسان في الهداية التفضّلية سيصل إلى مرتبة يرى حقيقة عمله وهو في الدنيا، وإذا وصل الإنسان إلى رؤية حقائق الأعمال، وصل إلى رؤية عالم الملكوت ووصل إلى المرتبة الثالثة من الهداية التفضّلية، ألا وهي مرتبة اليقين، رؤية حقائق الأعمال.
مثلاً: تقرأ في إحدى مناجاة الإمام زين العابدين (عليه السلام): «إِلَهِي ظَلّلْ عَلَى ذُنُوبي غَمَامَ رَحْمَتِكَ، وَأرْسِلْ عَلَى عُيُوبي سَحَابَ رَأفَتِكَ»(201)، ولأجل أن نتأمَّل في الفقرة الأولى من المناجاة: «ظَلّلْ عَلَى ذُنُوبي غَمَامَ»، ما معنى هذه الفقرة؟
إنَّ الإمام يقول: أنا وصلت إلى مرتبة أشعر بحرارة الذنوب مثل ما أشعر بحرارة النار، بينما نحن لم نصل إلى هذه المرتبة، أن نرى حقائق الأعمال.
أي نرى المعصية قطعة من النار والصلاة قطعة من الجنّة، «إِلَهِي ظَلّلْ عَلَى ذُنُوبي غَمَامَ رَحْمَتِكَ»، فإنَّ اللهيب يحتاج إلى غمام، فهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(200) تفسير مجمع البيان 7: 176؛ كنز العمّال 8 : 197/ ح 22530.
(201) الصحيفة السجّادية/ أبطحي: 402، في مناجاة التائبين.
وصلت إلى مرتبة أن أشعر أنَّ الذنب الذي أصنعه كاللهيب الذي يحيط بجسمي، كالحريق الذي يحيط بأعضائي؟
هذه المرتبة الثالثة من الهداية التفضّلية وهي رؤية حقائق الأعمال، رؤية عالم الملكوت.
وهي رؤية تلازم اليقين، يقول القرآن الكريم: ﴿وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ (الأنعام: 75)، ويقول في آية أخرى: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ (التكاثر: 5 و6)، أي لو وصلتم إلى اليقين لرأيتم النار أمامكم، لرأيتم النار متجسّدة في الكذب، في الغيبة، في السرقة، في الزنا، في أيّ معصية، ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾، ويقول في آية ثالثة: ﴿كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطفّفين: 14)، أي إنَّ الذنوب تحوَّلت إلى رين يحجبنا عن رؤية حقائق أعمالنا، ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ (المطفّفين: 15).
ويقول القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا﴾ (الأنبياء: 73)، فإنَّ كلّ إمام من الأئمّة يقدر أن يوصلك إلى المراتب الثلاث، ولكلّ إنسان بحسب رتبته، فهناك إنسان يعطيه مرتبة الانشراح وهي المرتبة الأولى، وهناك إنسان يعطيه مرتبة الاستقامة وهي المرتبة الثانية، وهناك إنسان ككميل بن زياد الذي أوصله الإمام علي (عليه السلام) إلى رؤية حقائق الأعمال، إلى مرتبة اليقين الملازمة لرؤية حقائق الأعمال.
وهذا لا يعني أنَّ الإمام إله، بل الإمام واسطة في الفيض، مثل الملائكة الذين هم وسائط في الفيض، فإنَّ الذي يفيض هو الله، لكن الواسطة في الفيض ملك من الملائكة.
مثلاً: الله يفيض الحياة على الجنين في بطن أُمّه بواسطة ملك من
الملائكة، والله يفيض الرزق علينا بواسطة ملك من الملائكة، والله يفيض الهداية علينا بواسطة المعصوم النبيّ أو الإمام، فهم واسطة في الفيض وليست الإفاضة منهم، بل هي من الله تبارك وتعالى.
المحور الثاني: نسبة الهدى والضلال إلى الله:
إنَّ القرآن الكريم ينسب الهدى إلى الله وينسب الضلال إليه، يقول: ﴿مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾ (الأعراف: 178)، ويقول: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ﴾ (الرعد: 33)، ويقول في آية أخرى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ﴾ (الأنعام: 125)، إذن الهدى والضلال منه، وهنا يثار سؤال لدى ذهن الإنسان وهو: إذا كان الله هو الذي يضلّنا فما هو ذنبنا، ولماذا يعاقبنا على ضلال هو مصدره وهو منشؤه؟ وكيف ينتسب الضلال إلى الله تبارك وتعالى؟
وهنا جوابان:
1 - أنَّ المراد بالهدى إفاضة الانشراح على قلب الإنسان، والمراد بالضلال حبس ذلك الفيض إذا أصرَّ الإنسان على الضلال، كما قال (عزَّ وجلَّ): ﴿فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ (الصفّ: 5)، وقال: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11)، فالضلال هو عدم الفيض وليس فيضاً وتسبيباً لإيقاع الإنسان في المعصية والعقوبة.
2 - يقول الفلاسفة: لكلّ عمل صورة يُصطلح عليها: (علّة صورية)، وهذه الصورة من يخلقها؟ إنَّ الصورة وجود، والوجود دائماً مصدره الله تبارك وتعالى، ﴿هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ﴾ (فاطر: 3).
فإن قلت: إذا أردت أن أعمل عملاً صالحاً كالصلاة تصوَّرت
صورتها والله هو الذي خلق هذه الصورة، وإذا أردت أن أعمل معصية أيضاً تصوَّرت صورة المعصية والله هو الذي خلق هذه الصورة، إذن هو مصدر صورة الهدى وهو مصدر صورة الضلال.
قلت: إنَّ خلق هذه الصورة في ذهن الإنسان بإرادة الإنسان وليست منفصلة عن إرادته، كما يقول الفلاسفة: كلّ وجود يحتاج لعنصرين حتَّى يوجد: (مفيض وشرط)، والمفيض هو الله، والشرط هو إرادة الإنسان، فعندما تريد أن تكتب قصيدة أو تكتب موضوعاً، فهنا مفيض وهنا شرط، فمن هو المفيض؟ إرادتك، وما هو الشرط؟ القلم، إذ لولا حركة القلم لما استطعت أن تكتب، إذن هناك مفيض للكتابة وهناك واسطة وشرط في الإفاضة ألا وهو حركة القلم.
كذلك خلق الهدى في عقلك أيضاً مشروط بشرط وهو إرادتك لذلك، وإذا أردت الضلال خلق الله صور الضلال، فهو الخالق لصور الهدى وهو الخالق لصور الضلال، ولكن هذا الخلق مشروط بإرادة الإنسان نفسه، لهذا القرآن الكريم يقول: ﴿فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾ (الصفّ: 5)، ويقول في آية أخرى: ﴿نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ (التوبة: 67)، ويقول في آية ثالثة واضحة جدّاً: ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ...﴾ يريد الدنيا، ودورنا أن نفيض ودور الإنسان أن يريد، ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرادَ الآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ (الإسراء: 18 - 20).
وهذا هو السرّ في انتساب الهدى والضلال إلى الله تبارك وتعالى، وبما أنَّ إفاضة الهدى والضلال منوط بإرادة الإنسان فلا مجال للاعتراض بأنَّ لازم ذلك ظلم الله للإنسان وعدم صحَّة عقابه على ذنوبه.
المحور الثالث: المهدي (عليه السلام) وعالم الهداية:
هناك أمور ثلاثة علينا أن نلتفت إليها:
الأمر الأوّل: لِمَ سُمّي المهدي مهدياً؟
وهنا يرد سؤال: لِمَ سُمّي المهدي مهدياً وكلّ أهل البيت مهديون؟ وهذا السؤال يرد أيضاً: لِمَ سُمّي جعفر الصادق صادقاً وكلّ أهل البيت صادقون؟ ولِمَ سُمّي الحسين شهيداً وكلّ أهل البيت شهداء؟ والمقصود الأسماء التي ورد عن أهل البيت تسمية الأئمّة بها، لا مثل لفظ العسكري الذي أطلق على الهادي وابنه الحسن (عليهما السلام)، فإنَّه تسمية تاريخية وليس تسمية تكريمية صادرة من الأئمّة أنفسهم.
الجواب:
يُسمّى الإمام باسم أبرز الأدوار التي علم الله من الأوّل أنَّ الإمام سيقوم بها لمساهمة الظروف في ذلك، فإنَّ كلّ إمام من الأئمّة أحاطت به ظروف ولأجل تلك الظروف كلّف بدور ينسجم مع تلك الظروف فيسمّى باسم الدور الذي كلّف به وبرز به أيضاً.
مثلاً: في زمن الإمام الحسين (عليه السلام) هبطت إرادة الأمّة الإسلاميّة وتقهقرت عزيمتها إلى حدًّ أصبحت الأمّة الإسلاميّة محتاجة إلى دم يراق على الأرض حتَّى يحرّك إرادتها ويبعث عزيمتها ويوقظها من سباتها، فجاء دور الحسين(عليه السلام) فكان هو دور الشهادة، فبما أنَّ دوره دور الشهادة سُمّي باسم الشهيد وهو حيّ، يعني أنَّ الحسين منذ صغره كان يلقَّب بالشهيد، لأنَّ دوره الذي أنيط به هو الشهادة التي ستغيّر الواقع الموضوعي الذي أحاط به.
وفي عصر الإمام الصادق تعدَّدت المدارس الفكرية، على مستوى الفقه هناك مدرسة أبي حنيفة، وهناك مدرسة مالك بن أنس، وعلى
مستوى علم الكلام هناك الجهمية، هناك القدرية، هناك المرجئة، هذه المدارس مدارس اجتهادية، يعني قد تخطئ وقد تصيب، فلا نستطيع أن نسمّي مدرسة الشافعي مدرسة صادقة وهي قد تخطئ وقد تصيب، ولا نستطيع أن نسمّي مدرسة مالك مدرسة صادقة لأنَّها قد تخطئ.
إذن من بين هذه المدارس الفكرية وضع الله مدرسة صادقة لا تخضع للاجتهاد، ولا تخضع إلّا للكشف عن الواقع وللرواية عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن هنا جاء دور الإمام الصادق وهو أن يؤسّس مدرسة صادقة لا تعتمد على الاجتهاد، مدرسة تعتمد على «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحديث رسول الله قول الله (عزَّ وجلَّ)»(202)، أي ليس عندنا اجتهاد حتَّى نخطئ أو نصيب، بل مدرستنا صادقة لأنَّها انكشاف للواقع ورواية مباشرة عن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل عن الله تعالى.
قال الشاعر:
ووال أناساً ذكرهم وحديثهم * * * روى جدّنا عن جبرئيل عن الباري
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): «علمنا غابر ومزبور، ونكت في القلوب، ونقر في الأسماع، وإنَّ عندنا الجفر الأحمر والجفر الأبيض ومصحف فاطمة (عليها السلام)، وإنَّ عندنا الجامعة فيها جميع ما يحتاج الناس إليه»، فسُئل عن تفسير هذا الكلام، فقال: «... وأمَّا الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولن يظهر حتَّى يقوم قائمنا أهل البيت، وأمَّا الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى وإنجيل عيسى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(202) عن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيره، قالوا: سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «حديثي حديث أبي...» الحديث. (الكافي 1: 53/ باب رواية الكتب والحديث.../ ح 14).
وزبور داود وكتب الله الأولى، وأمَّا مصحف فاطمة (عليها السلام) ففيه ما يكون من حادث وأسماء كلّ من يملك إلى أن تقوم الساعة، وأمَّا الجامعة فهي كتاب طوله سبعون ذراعاً، إملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من فلق فيه(203) وخطّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) بيده، فيه والله جميع ما يحتاج الناس إليه إلى يوم القيامة، حتَّى أنَّ فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة»(204).
إذن هذه مواريث الأنبياء والمرسلين تناقلت ووصلت إلى جعفر الصادق (عليه السلام)، لذلك سُمّي الصادق، لأنَّ مدرسته تقابل هذه المدارس الأخرى، فهي ليست باجتهاد وإنَّما بوراثة العلم عن جدّه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ونأتي للمهدي، لماذا سُمّي المهدي مهدياً؟
لأنَّ دور آبائه (عليهم السلام) وإن كان هو الهداية لكن دورهم هو الهداية الخاصّة، أمَّا دوره (عليه السلام) فهو الهداية العامّة، حيث لا يبقى جزء من الأرض إلّا وتغمره الهداية، ولا يبقى إنسان إلّا وتشرف عليه الهداية، لذلك سُمّي بالمهدي.
وفي الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: «إنَّما سُمّي المهدي مهدياً لأنَّه يهدي لأمر خفي»(205)، وهو أمر لا تعرفه الناس وستهتدي له عند ظهور الإمام، وخصوصاً تأويل القرآن الكريم وبيان مغازي آياته ومضامين متشابهاته وبروز إمامة أهل البيت وأسرار مقاماتهم اللدنّية والملكوتية، فكلّها تظهر على يد المهدي (عليه السلام).
الأمر الثاني: عصر ظهور المهدي عصر وضوح الحقيقة:
فلا يوجد مستضعف في دولة المهدي، يقول القرآن الكريم: ﴿إِلّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(203) هو بالكسر والفتح أي من شقّ فمه، أي أمره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شفاهاً وكتبه أمير المؤمنين (عليه السلام).
(204) أنظر: الإرشاد 2: 186.
(205) دلائل الإمامة: 466/ ح (451/55).
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ (النساء: 98)، فإنَّ المستضعف هو الذي لا يصل إلى الحقّ، كما لو فرض أنَّ هناك أناساً يعيشون في جزر بعيدة لا يصلون إلى نور الحقّ، لكن في عصر المهدي (عليه السلام) يتَّضح الحقّ وتنكشف كلّ الأدلّة والبراهين، فلا يبقى عذر لأحد في أن ينكر ربّاً أو ديناً أو نبيّاً أو إماماً، فإنَّ يومه يوم وضوح الحقّ وظهوره.
إنَّ المفضَّل بن عمر سمع من الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «ولترفعنَّ اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يُدْرَى أيّ من أيّ»، فلمَّا سمع المفضَّل هذا الكلام بكى، فقال له الإمام الصادق (عليه السلام): «ما يبكيك يا أبا عبد الله؟»، قال: فقلت: وكيف لا أبكي وأنت تقول: «اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يُدرى أيّ من أيّ»؟ فكيف نصنع؟ قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفة، فقال: «يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس؟»، قلت: نعم، قال: «والله لأمرنا أبين من هذه الشمس»(206).
إذن هناك هالة من وضوح الحقّ والحقيقة في زمانه (عليه السلام) بحيث يكون أمرهم وأمر إمامتهم واضحاً لكلّ أحد يعيش على كوكب الأرض فلا مجال لإنكاره أو الشكّ أو التردّد فيه.
الأمر الثالث: عصر المهدي عصر اتّصال الإنسان بالملائكة:
تعرَّضنا فيما سبق إلى أنَّ عصر المهدي عصر الحضارة الكونية وسيطرة الإنسان على الكون كلّه(207)، وهذا يتوقَّف على معرفة الإنسان بعالم الملائكة؛ لأنَّ الملائكة دخيلون في إدارة الكون، دخيلون في تدبير أمر الوجود، فلا يمكن إقامة الحضارة الكونية إلّا بالإحاطة بعالم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(206) كمال الدين: 347/ باب 33/ ح 35.
(207) راجع المحور الثاني من المحاضرة السابعة.
الملائكة وأدوارهم، فعصر المهدي عصر يتَّصل فيه الإنسان بالملائكة، ليعرف مدى دور الملك في تدبير أمر الوجود.
وقد مرَّ سابقاً روايات متعدّدة في هذا المجال، ونحن نقرأ في دعاء ليلة النصف من شعبان: «نورك المتألّق وضياؤك المشرق والعَلَم النور في طخياء الديجور الغائب المستور جَلَّ مولده وكرم محتده والملائكة شهده» يعني أنَّ الملائكة محيطة به (عليه السلام) بحيث لا يخفى على أحد دور هؤلاء الملائكة، «والملائكة شهده والله ناصره ومؤيده»(208)، ونقرأ في الزيارة أيضاً: «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا نَاظِرَ شَجَرَةِ طُوبَى وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى»(209).
وفي الرواية: «إنَّ أربعة آلاف ملك هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن علي (عليه السلام)، لم يُؤذن لهم في القتال، فرجعوا في الاستيذان فهبطوا وقد قتل الحسين (عليه السلام)، فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملك يقال له: المنصور»(210)، وفي رواية أخرى: «فلا يزوره زائر إلّا استقبلوه، ولا يودّعه مودّع إلّا شيَّعوه، ولا مرض إلّا عادوه، ولا يموت إلّا صلّوا على جنازته واستغفروا له بعد موته»(211)، وفي رواية ثالثة: «فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم: يا لثارات الحسين»(212).
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(208) مصباح المتهجّد: 842/ الرقم (908/23).
(209) المزار لابن المشهدي: 587.
(210) كامل الزيارات: 171 و172/ باب 27/ ح (222/2).
(211) الكافي 4: 581 و582/ باب فضل زيارة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)/ ح 7.
(212) أمالي الصدوق: 192/ ح (202/5).
المحاضرة الثانية عشرة: يوم الظهور انتصار فكري لا مادي
(12/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(29/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ (النور: 55).
تتضمَّن هذه الآية المباركة وعداً بخلافة الأرض وتمكين الدين من الأرض كلّها، وهذا الوعد لم يتحقَّق إلى يومنا هذا، فلا بدَّ من يوم يتحقَّق فيه للمسلمين خلافة الأرض كلّها وتمكّن دينهم من الأرض كلّها، وهذا لا ينطبق إلّا على ما أفصحت عنه الروايات الشريفة، فعن الصادق (عليه السلام) في رواية متعدّدة الطرق أنَّه قال: «نزلت في القائم وأصحابه»(213).
وبمضمون هذه الآية توجد آيات أخرى مع تفسيرها في الروايات مثلاً: قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ (السجّدة: 28 - 30)، ففي الرواية عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «يوم الفتح يوم تفتح الدنيا على القائم»(214).
وفي آية أخرى، قال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(213) الغيبة للنعماني: 247/ باب 13/ ح 35.
(214) تأويل الآيات 2: 445/ ح 9؛ ينابيع المودّة 3: 246/ باب 71/ ح 37.
كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً﴾ (الأنعام: 158)، ففي الرواية عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «الآيات هم الأئمّة والآية المنتظرة هو القائم (عليه السلام)»(215).
وانطلاقاً من مضامين هذه الآيات الشريفة نتحدَّث في محاور ثلاثة:
المحور الأوّل: يوم الظهور انتصار فكري لا انتصار عسكري:
قد يتصوَّر كثير من الباحثين أنَّ عصر الظهور هو عصر الانتصار العسكري بمعنى أنَّ الدين يفرض على الأرض كلّها بلغة القوّة وبلغة السلاح، وبالتالي فإنَّ فرض الدين على الأرض كلّها بلغة القوّة وبلغة السلاح أمر لا يتناسب مع كونه اليوم الموعود.
وقد يقول بعض الباحثين: إنَّ المستفاد من بعض الآيات الشريفة أنَّ اليوم الموعود هو يوم عسكري، مثلاً: قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33)، معناه أنَّ هناك فئة كارهة معارضة لظهور الدين ومع ذلك فُرض عليها الدين، ومعناه أنَّ الفرض سوف يكون بقوّة السلاح وليس بالفكر والقناعة. ومثلاً: قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إلّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ (التوبة: 32)، يدلُّ على أنَّ هناك فئة كارهة لظهور الدين، فالدين سوف يفرض عليها بالقوّة. ومثلاً: قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ (المجادلة: 21)، وكلّ هذه الآيات توحي بأنَّ يوم الظهور هو يوم غلبه عسكرية يفرض فيها الدين على الأرض كلّها بمنطق القوّة لا بلغة الفكر والقناعة، وهذا لا ينسجم مع طبيعة الفكر الإسلامي، لأنَّ أيّ فكر لا يفرض بالقوّة إلّا إذا كان فيه خلل ويعوّض نقصه بفرضه بالقوّة، بينما الفكر الإسلامي من جهةٍ هو فكر كامل لقول القرآن الكريم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(215) الإمامة والتبصرة: 101/ باب إمامة القائم (عليه السلام)/ ح 91.
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ (المائدة: 3)، ومن جهة أخرى هو فكر متطابق مع الفطرة السليمة، يقول القرآن الكريم: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها﴾ (الروم: 30)، وبما أنَّ الدين والفكر الإسلامي فكر كامل ومتطابق مع الفطرة الإنسانية السليمة فلماذا يفرض بالقوّة؟
إذن ظاهر هذه الآيات أنَّ اليوم الموعود يوم عسكري ينتصر فيه الدين انتصاراً عسكرياً، وهذا لا ينسجم مع كون الفكر الإسلامي فكراً عرض لأجل أن يقتنع به الناس ويقبل عليه أبناء المجتمع الإنساني، وهذه الشبهة التي ذكرها بعض الباحثين نجيب عنها بذكر أمرين:
الأمر الأوّل: لا يمكن فرض الدين بالسلاح:
إنَّ الفكر الإسلامي أو الفكر الديني بصفة عامّة لا يمكن فرضه بالقوّة ولا بلغة منطق السلاح.
أوّلاً: لأنَّ الدين شيء لا يمكن الإكراه عليه، فهو من الأمور الوجدانية لا من الأمور الخارجية، فالصلاة مظهر للدين، والحجّ مظهر للدين، وليس هذا هو الدين, لأنَّ الدين أمر وجداني موطنه القلب، والقلب لا يمكن السيطرة عليه من أيّ قوّة في العالم، فهو المنقطة الحرّة الوحيدة في العالم كلّه، لأنَّه مجموعة من الوجدانيات والخواطر والمعتقدات ولا يمكن لأحد التحكّم فيها، لذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِن بِسَيْفِي هَذَا عَلَى أنْ يُبْغِضَنِي مَا أبْغَضَنِي، وَلَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أنْ يُحِبَّني مَا أحَبَّني»(216)، فإنَّ السيطرة على القلب غير ممكنة لأيّ إنسان، لأجل ذلك لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(216) نهج البلاغة 4: 13/ ح 45.
يمكن السيطرة على الدين، لأنَّ الدين موطنه القلب، فالدين لا يُعقل الإكراه عليه، ولأجل ذلك فمن المستحيل فرض الدين بالقوّة.
لمَّا قُتل الإمام علي (عليه السلام) بدأ معاوية يلتقط أصحاب الإمام علي واحداً بعد واحد، فهناك من يصفّيه، وهناك من يجلبه بالأموال، وهناك من يتركه يعيش حالة من الإرهاب والخوف والقلق، وكلّ واحد يعامله معاوية بحكم جهازه الاستخباري معاملة خاصّة، فأرسل معاوية إلى أبي الأسود الدؤلي - أحد أصحاب الإمام علي (عليه السلام) - شيئاً من الحلواء يريد بذلك استمالته وصرفه عن حبّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فدخلت ابنة صغيرة له فأخذت لقمة من تلك الحلواء وجعلتها في فمها، فقال لها أبو الأسود: يا ابنتي ألقيه فإنَّه سمّ، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين، ويردّنا عن محبّة أهل البيت (عليهم السلام)، فقالت الصبيّة: قبَّحه الله يخدعنا عن السيّد المطهّر بالشهد المزعفر، تباً لمرسله وآكله، فعالجت نفسها حتَّى قاءت ما أكلته، ثمّ قالت:
أبالشهد المزعفر يا ابن هند * * * نبيع عليك أحساباً ودينا
معاذ الله كيف يكون هذا * * * ومولانا أمير المؤمنينا(217)
ثانياً: إنَّ قوله تعالى: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ لأنَّه ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)، بمعنى أنَّ الدين لا يحتاج إلى إكراه، فإنَّ كلّ فكر قويّ لا يحتاج أن يُكره الناس عليه، لأنَّ الفكر لا يأخذ قوَّته من الدولة ولا من السلاح، بل يأخذ قوَّته من المنطق الذي يدعمه، لذلك لا يحتاج إلى أن يُفرض بالقوّة، بل هو ينتشر تلقائياً، وهذا هو معنى الآية: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ يعني أنَّ الفكر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(217) مواقف الشيعة 3: 274/ الرقم 891.
الديني يدعمه الدليل ويدعمه البرهان ويدعمه المنطق العقلي، فلا مبرّر للإكراه عليه، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿فَللهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ﴾ (الأنعام: 149).
ثالثاً: الإكراه على الدين يخلق أثراً معاكساً للدين.
يقول علماء الكلام: نقض الهدف يتنافى مع الحكمة، فكلّ إنسان حكيم يرسم لنفسه أهدافاً، ولا يقوم بعمل يتناقض مع أهدافه، لأنَّ نقض الهدف لا يجتمع مع الحكمة، فكيف بالله تبارك وتعالى وهو الحكيم المطلق؟ فبما أنَّ الله حكيم قد أنزل الدين، والهدف من إنزال هذا الدين أن يتفاعل الناس معه تفاعلاً قلبياً وسلوكياً، فإذا كان الهدف من إنزال الدين التفاعل معه في مرحلة السلوك فإنَّ فرضه بالقوّة مانع من التفاعل مع الدين، يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45)، ويقول: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183)، والتقوى والانتهاء عن الفحشاء والمنكر لا يحصل إلّا مع الصلاة الاختيارية، أمَّا الصلاة الإكراهية فلن يتفاعل معها الإنسان حتَّى يصل إلى مرحلة التقوى أو مرحلة الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
إذن الإكراه على الدين يمنع عن التفاعل معه، وإذا أصبح الدين بلا تفاعل كان ذلك نقض الهدف من تشريعه، ونقض الهدف لا ينسجم مع الحكمة، فكيف بالحكيم تبارك وتعالى؟ إذن الإكراه على الدين غير معقول وغير متصوَّر، هذا هو الأمر الأوّل.
بل قد يقال: إنَّ فرض النظام بالقوّة ليس أمراً قبيحاً عقلاً ولا مستهجناً لدى العقلاء إذا كان في مصلحة المجتمع نفسه، فلو فرضنا أنَّ مجتمعاً رفض مرافق التعليم والصحَّة وأصرَّ أن يعيش بدائياً، فهل يمكن تركه بحجّة أنَّ الإكراه على النظام غير حضاري؟ لا يمكن ذلك، بل لا
بدَّ من فرض نظام التعليم والصحَّة عليه، وليس ذلك قبيحاً عقلاً ولا مستهجناً عرفاً لأنَّه في صالحه وإن رفض، نظير المريض بمرض خطير فإنَّ فرض العلاج عليه بالقوّة ليس قبيحاً ما دام علاجه إحساناً إليه وإن كان رافضاً له، وهذه هي فلسفة الجهاد في الإسلام، وفلسفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّ عبادة الإنسان لمخلوق آخر أقلُّ منه كالأصنام والحيوانات والكواكب يتنافى مع كرامة الإنسان وأشرفيته، كما أنَّ الانسياق وراء المنكرات التي تحوّل المجتمع لمجتمع حيواني إباحي يتنافى مع عقلانية الإنسان وهدف خلقته وهو بناء الحضارة المادية والروحية معاً، لذلك كان الجهاد ونظام الرقابة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان بالقوّة غير قبيح عقلاً ولا مستهجناً لدى العقلاء ما دام في مصلحة المجتمع وهذا ما تقوم به كلّ دولة، حيث إنَّها تفرض نظامها بالقوّة لضبط مصلحة الشعب فلا ضير في قيام الإمام المهدي (عليه السلام) بهذا الدور.
الأمر الثاني: وجود فئة كارهة للدين لا يدلُّ على فرض الدين بالقوّة:
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، أو ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾، هذه الآيات لا تدلُّ على أنَّ الدين سيفرض عليهم بالقوّة، لأنَّ وجود فئة كارهة للدين لا يدلُّ على أنَّ الدين فرض عليها بالقوّة، لأنَّ كلّ إنسان لديه قوّتان - كما يقول علماء العرفان -:
1 - قوّة العقل. 2 - قوّة القلب.
ودور قوّة العقل هو استيعاب المعلومات واستنتاجها، أمَّا قوّة القلب فدورها أن تكذّب، أو تصدّق، أو تشكّك، أو تتيقَّن، أن تحبّ، أو
تبغض، أو تفرح، أو تحزن، فإذا تطابقت القوّتان قوّة العقل والقلب تحقَّق الإيمان، وإذا تعاكست القوّتان لم يتحقَّق الإيمان.
مثلاً: يقول علماء الأصول في مبحث حجّية القطع: لو فرض أنَّ ليلة من الليالي تركت معك جنازة في الغرفة من دون الكهرباء، هل تستطيع أن تستقرّ في الغرفة مع هذه الجنازة ليلة كاملة؟ سيكون الجواب: لا تستطيع، حتَّى لو كنت إنساناً شجاعاً لأنَّ قلبك لم يتطابق مع عقلك، فإنَّ قوّة العقل تقول: هذا ميّت جثّة هامدة لا يمكن أن يحدث منه ضرر، لكن قوّة القلب لا تطاوع قوّة العقل، وتبدأ الهواجس والمخاوف حتَّى يمتنع الإنسان عن هذا العمل، فهنا لم يتطابق قوّة القلب مع قوّة العقل.
كذلك من ناحية الدين، أحياناً يقتنع الإنسان بالفكر الديني مائة بالمائة، لأنَّ البراهين تدلُّ على أنَّ هذا الفكر صحيح بحسب قوّة العقل ولكن قوّة القلب لا تطيع قوّة العقل.
فبالنتيجة قد يرى الإنسان أنَّ الفكر الديني صحيح مائة بالمائة بحسب قوّة العقل لكن قوّة القلب لا تطيع قوّة العقل لعوامل أخرى، فلا يتحقَّق الإيمان المطلوب. ومن هنا قالت الآية القرآنية: ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ﴾ (النمل: 14)، والمقصود من الأنفس العقول فإنَّها أدركت أنَّه صحيح لكن القلوب لم تطع العقول، والنتيجة أنَّ الإنسان قد يرى أنَّ الفكر صحيح لكنَّه يكرهه من داخل قلبه لعوامل عاطفية أو لعوامل نفسية، وهو ما تشير إليه الآية المباركة: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33).
إذن هذا التعبير لا يدلُّ على أنَّ الدين سيفرض يوم الظهور بالقوّة، بل سينتشر الدين والفكر الإسلامي وإمامة علي وأهل البيت (عليهم السلام) كلّ
ذلك بالمنطق العقلي، لكن الفئة الكافرة لن تؤمن بذلك، لا لأنَّه مفروض عليهم، بل لأنَّ الكراهة نابعة من عوامل نفسية أو ثقافية تراكمية إلى غير ذلك, إذن هذه الآيات لا تدلُّ على أنَّ يوم الظهور يوم انتصار عسكري، بل هو يوم انتصار فكري، كما اتَّضح ذلك من خلال الروايات الشريفة.
المحور الثاني: بقاء الفكر المعارض:
هناك شبهة طرحها بعض الباحثين أيضاً وهي أنَّ ظاهر بعض النصوص بقاء الفكر المعارض إلى زمن دولة المهدي (عليه السلام)، وهذا لا ينسجم مع تطبيق الآيات على يوم الظهور، فإنَّ قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33)، ظاهره أنَّه ليس هناك دين آخر، بينما ظاهر الآيات الأخرى أنَّ هناك ديناً آخر سيبقى حتَّى في زمن ظهور المهدي (عليه السلام)، فما هي هذه الآيات؟
مثلاً: قوله تعالى في حقّ اليهود: ﴿وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ﴾ (المائدة: 64)، وظاهرها أنَّ اليهود سوف يبقون إلى يوم القيامة لأنَّ القرآن يقول: ﴿وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ﴾، فمعناه أنَّ اليهود ستبقى إلى يوم القيامة، وهذا يتنافى مع قوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾.
وكذلك في آية أخرى تتحدَّث عن النصارى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (المائدة: 14)، وظاهرها بقاء اليهودية والنصرانية إلى يوم القيامة إلى عصر المهدي (عليه السلام).
وأيضاً قوله تعالى: ﴿إِلّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ﴾ (ص: 24)، يعني أنَّ المؤمنين سوف يبقون قلَّة إلى الأخير، أو قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ (الواقعة: 10 - 14)، أي إنَّ الموجودين من المقرَّبين في عصر المهدي (عليه السلام) قلّة، فكيف يقال بأنَّ يوم المهدي (عليه السلام) هو يوم ظهور الدين على الدين كلّه مع أنَّ ظاهر هذه الآيات أنَّه توجد فئة غير متديّنة يهودية أو نصرانية، غير مؤمنة حتَّى يوم عصر ظهور المهدي (عليه السلام)؟
الجواب:
أوّلاً: اليهودية الحقّة والنصرانية الحقّة لا مانع أن تبقى إلى يوم القيامة، لأنَّها هي الإسلام, قال تعالى: ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (المائدة: 68)، وقال تعالى في آية أخرى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ (المائدة: 66)، وإقامة التوراة والإنجيل بمعنى إقامتهما بتمام آياتهما، ومن جملة آيات التوراة والإنجيل هذه الآية: ﴿وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ (الصفّ: 6).
إذن الإنجيل ينصُّ على أنَّ هناك رسولاً بعد عيسى (عليه السلام)، فالنصرانية الحقّة هي النصرانية التي تؤمن بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهذا هو الإسلام، ولذلك قال (عزَّ وجلَّ) في آية أخرى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 136)،
ويقول تعالى في آية ثالثة: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ (آل عمران: 85)، بمعنى أنَّ الإسلام هو الذي يؤمن بجميع الرسل، وهذا هو المقصود بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (المائدة: 69).
ثانياً: لنفترض أنَّ اليهودية المحرَّفة أو النصرانية المحرَّفة سوف تبقى إلى يوم الظهور، فلا مانع من أن يتعامل معها المهدي (عليه السلام) كما تعامل جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) مع اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون في ظلّ الدولة الإسلاميّة بشرائط الذمّة بينهم وبين المسلمين، وهذا لا ينافي مع قوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ لأنَّ المقصود بالظهور هنا الغلبة، بمعنى أنَّ السيطرة والقوّة والدولة للدين الإسلامي، وهذا لا ينافي وجود بعض الأقلّيات التي تؤمن بدين آخر، وهذا معنى قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً»(218)، أي إنَّ القوّة والسيطرة هي للقسط والعدل، وهذا لا يتنافى مع وجود أقلّيات تؤمن بدين آخر.
ثالثاً: إنَّ هذه الآية التي قرأناها: ﴿فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ﴾ (المائدة: 14)، لا تدلُّ على بقاء اليهود إلى يوم القيامة، فهذا التعبير في العرف العربي كناية عن عدم الاتّحاد.
مثلاً: إذا كان لديك صديق جار لا يعتدل، يصحُّ أن تقول عنه: جاري لا يعتدل، بل هو أعوج إلى يوم القيامة، فليس معناه أنَّه سوف يبقى إلى يوم القيامة، بل هو كناية عن عدم الاعتدال، كأنَّك تريد القول: إنَّ هذا لو عاش إلى يوم القيامة فسوف يبقى أعوجاً لا يتغيَّر، فقوله تعالى: ﴿فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(218) أمالي الصدوق: 78/ ح (45/3).
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ﴾ يشير إلى أنَّ اليهود لا يتَّحدون أبداً، حتَّى اليهود في زماننا هذا الموجودون في فلسطين المحتلّة ليسوا متَّحدين، فإنَّ بعضهم ضدّ الدولة الصهيونية، والآية تريد أن تقول: إنَّ اليهود لا يتَّحدون ولو بقوا إلى يوم القيامة، وليس إخباراً عن بقائهم إلى يوم القيامة، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ: 13)، وقوله تعالى: ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ (الواقعة: 13 و14)، فإنَّ المقصود به بملاحظة مجموع الأزمنة لا بملاحظة زمان المهدي(عليه السلام)، فلو أجريت إحصائية للموجودين في زمان المهدي (عليه السلام) وكانوا مثلاً في عصره مئة مليار إنسان، فإنَّ نسبتهم إلى عدد البشرية منذ يوم آدم إلى يوم المهدي (عليه السلام) واحد بالمائة مثلاً، فهذه النسبة تعتبر قليلاً وليست كثيراً، فلنفترض أنَّ جميع من في عصر المهدي مؤمنون مع ذلك يعتبر نسبة المؤمنين إلى الكافرين منذ يوم آدم إلى يوم المهدي قليلاً وليس كثيراً.
والنتيجة أنَّ الآيات صادقة على كلّ حال: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾، ﴿وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾، بمعنى أنَّ نسبة المؤمنين في مجموع الأزمنة إلى الفاسقين أو الكافرين تعتبر قليلة، وهذا المضمون صادق حتَّى لو كان كلّ من في عصر المهدي إنساناً مؤمناً.
المحور الثالث: كيفية تعامل المهدي (عليه السلام) مع الفئة المعارضة:
هناك أيضاً شبهة مطروحة عند بعض الباحثين مفادها أنَّه إذا فرضنا وجود فئة معارضة في زمان المهدي (عليه السلام)، فهي لا تريد دولته لعدم قناعتها وعدم إسلامها، فكيف سيتعامل المهدي مع هذه الفئة المعارضة؟
وبعبارة أخرى: هل في دولة المهدي (عليه السلام) حرّية فكرية بحيث يحقُّ
للإنسان أن يطرح فكراً معارضاً لفكر الدولة؟ وهل في عصر المهدي (عليه السلام) حرّية إعلامية بحيث يحقُّ لفئة من المجتمع أن تُصدر إعلاماً معارضاً لإعلام الدولة أم لا؟ فهذه هي النقطة الأساسية.
والجواب عن هذه النقطة بوجهين:
الوجه الأوّل: الفكر المعارض غير متصوّر:
فنحن لا نتكلَّم عن الإنسان الذي يعيش مرضاً نفسياً معيَّناً، بل نتكلَّم عن الإنسان العاقل، فلماذا لا يتصوَّر له فكر معارض؟
إنَّ المتنبّي يقول:
والظلم من شيم النفوس * * * فإن تجد ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
أي إنَّ الظلم شيء فطري في الإنسان, والإنسان بطبعه يظلم الآخرين، لكن المنطق الإسلامي خلاف ذلك، فهو يقول: الظلم ليس شيئاً فطرياً، بل الظلم شيء طارئ، والشيء الفطري هو العدل.
فعن معروف بن خربوذ، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: «إنَّما يعجل من يخاف الفوت، وإنَّما يحتاج إلى الظلم الضعيف»(219)، ومعناه أنَّ الإنسان الذي يخاف أن تفوته الفرصة يستعجل فيقع في الخطأ، والإنسان الضعيف هو الذي يظلم، أمَّا الإنسان القويّ بفكره والقويّ بسلوكه لا يحتاج إلى أن يظلم، لأنَّ فكره يفرض نفسه، وإنَّما يحتاج إلى الظلم الضعيف، كما أنَّ الظلم ينشأ عن عقدة النقص ويعوّض الإنسان نقصه بالظلم.
وإذا عاش الإنسان في دولة عادلة تضمن له حقوقه وتوفّر له العيش الرغيد، وتوفّر له الرخاء التامّ، وتضمن له مصالحه الشخصية، فلن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(219) من لا يحضره الفقيه 1: 491/ ح 1409.
يفكّر في الظلم أبداً، ولن يفكّر في التمرّد، ولن يفكّر في المعارضة، لأنَّه يعيش عيشاً رغيداً فلماذا يفكّر في الظلم والمعارضة؟ والمفروض أنَّ دولة المهدي هي دولة الرخاء، دولة العدل، دولة العيش الرغيد، فلماذا يفكّر الإنسان في دولة المهدي (عليه السلام) في المعارضة؟ وهذا ما يستفاد من قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً»، فإنَّ العدالة الاجتماعية فرع العدالة الفردية، والعدالة الفردية فرع العدالة الفكرية، فإذا كانت الثقافة ثقافة عادلة سوف يكون السلوك عادلاً، وإذا كان السلوك سلوكاً عادلاً ففيه تتحقَّق العدالة الاجتماعية.
إذن بما أنَّ المهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، فهذا معناه أنَّه سيملأ المجتمع ثقافة عادلة، لكي تتحوَّل الثقافة العادلة إلى سلوك عادل، ثمّ يتحوَّل السلوك العادل إلى عدالة اجتماعية، فلا يتصوَّر إنسان ظالم أو إنسان يحمل فكراً معارضاً أو إعلاماً معارضاً، لأنَّ الإنسان العاقل لا يكون له فكر معارض للعدالة.
الوجه الثاني: النزعة العدوانية هي الممنوعة:
لو تصوَّرنا جدلاً أنَّ هناك فئة معارضة للمهدي تحمل فكراً غير فكره وأنَّ المعارض معذور، فسيرة المهدي معها كسيرة جدّه كما ورد في الروايات أنَّه: «... وأمَّا سُنّة من محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيهتدي بهداه ويسير بسيرته»(220)، فكما أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يغلق باب الحرّية الفكرية وإنَّما منع من تحوّل الكلمة المعارضة إلى فتنة أو تحوّل الكلمة المعارضة إلى نزعة عدوانية، فإنَّ من الأهداف السامية لدى المشرّع الأقدس هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(220) كمال الدين: 351/ باب 33/ ح 46.
الحفاظ على وحدة المجتمع الإنساني وعدم تفتّته بالصراعات الداخلية كما هو المستفاد من قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: 46)، والحفاظ على السلوك الفطري القويم القائم على الأخوّة والتعاون كما هو المستفاد من قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى﴾ (المائدة: 2)، والحفاظ على المجتمع من الفسوق والفواحش كما في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً﴾ (الإسراء: 16)، فكلّ كلمة معارضة تؤدّي لبعث الصراعات أو انحراف المجتمع لا قبح عقلاً في مواجهتها بالقوّة لأنَّ مفسدة تركها أشنع بكثير من مفسدة اقتلاعها بالقوّة، كما هو المستفاد من قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾ (الأنفال: 39)، وأمَّا مجرَّد الاختلاف فليس ممنوعاً.
وقد تحدَّث الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده العظيم لمالك الأشتر عن معالم الدولة الإسلاميّة في كلّ زمان، ولا نتصوَّر أنَّ دولة المهدي على خلاف هذا العهد، ومن معالمها توفير حقوق المواطنة لأيّ مواطن سواء اختلف مع الدولة في الدين أو لم يختلف.
يقول (عليه السلام): «وَأشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أكْلَهُمْ، فَإنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أخٌ لَكَ فِي الدَّين، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ»(221)، هذه هي الدولة الإسلاميّة، وهذه هي الدولة العلوية، بخلاف الدولة الأموية الذي تعاملت على أساس الاختلاف في الدين، أو على أساس الاختلاف في اللغة، أو الاختلاف في العرق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(221) نهج البلاغة 3: 84/ ح 53، من عهد له (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي.
وهكذا كان أهل البيت (عليهم السلام) يتعاملون مع من يختلف معهم في الدين، بلغة التكريم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ (الإسراء: 70).
وفي قصَّة الإمام الحسين (عليه السلام) كان أحد أنصاره عثماني الهوى - وبعض الروايات تقول: إنَّه زهير بن القين(222)، ومع ذلك تعامل الإمام معه باللطف إلى أن حوَّله من ذلك الإنسان العثماني الهوى إلى حسيني المحبّة وحسيني النصرة والجهاد، وأصبح من أنصار الحسين، ومن الشهداء الذين ضحّوا بأرواحهم بين يدي الحسين (عليه السلام)، بل الحسين فتح باب الرحمة لكلّ من قاتله إلى آخر لحظات حياته، وكان يبكي على أولئك القوم ويقول: «أبكي لهؤلاء القوم الذين يدخلون النار بسببي»(223)، لكنَّهم أصرّوا على المجزرة الشنيعة والمذبحة المفجعة وأبادوا عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(222) أنظر: من أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام): 188؛ وجاء في الإرشاد (ج 2/ ص 72): (حدَّث جماعة من فزارة ومن بجيلة، قالوا: كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة، فكنّا نساير الحسين (عليه السلام)، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن ننازله في منزل...).
(223) بنور فاطمة اهتديت لعبد المنعم حسن: 201.
المحاضرة الثالثة عشرة: دور المرجعية في عصر الغيبة
(13/ محرَّم الحرام/ 1431هـ)
(30/ 12/ 2009م)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:
﴿فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122).
إنَّ الآية المباركة تحثُّ على التفقّه في الدين، والمراد من التفقّه في الدين تعلّم المعارف الإسلاميّة سواء أكانت على مستوى الأصول وعلم العقائد، أم على مستوى الفروع وعلم الفقه.
ففي صحيحة يعقوب بن شعيب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا حدث على الإمام حدث، كيف يصنع الناس؟ قال: «أين قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾؟»، قال: «هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر، حتَّى يرجع إليهم أصحابهم»(224)، فهذه الصحيحة تدلُّ على أنَّ التفقّه في الدين عنوان يشمل معرفة الإمام (عليه السلام).
وانطلاقاً من هذه الآية المباركة، نتحدَّث في عدّة محاور:
المحور الأوّل: تقسيم العقائد:
ذكر علماؤنا الأبرار (رحمهم الله) أنَّ المعتقدات على قسمين: قسم يجب معرفته ابتداءاً فهو واجب في نفسه عقلاً وشرعاً، وقسم لا يجب معرفته كذلك، ولكن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(224) الكافي 1: 378/ باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام/ ح 1.
مقتضى التديّن بالإسلام وبما ثبت عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الإيمان به، أي إذا قام الدليل عليه فعلى الإنسان أن يدين به، وعليه أن يعقد قلبه على طبقه.
والضابطة في هذا التقسيم تارة تلحظ بالنظر للوجوب الشرعي، وأخرى بالنظر للوجوب العقلي، فإن لوحظ الوجوب الشرعي فما قام عليه الدليل القطعي كالتواتر وضرورة الإسلام وضرورة المذهب فهو واجب المعرفة ابتداءاً، وما لم يكن كذلك فالمناط في التديّن به على قيام الدليل عليه ولو كان خبر ثقة، وإلّا فيمكنه التديّن بالواقع على ما هو عليه. وإن لوحظ الوجوب العقلي فقد ذكر له ضابطتان:
1 - ما كان مندرجاً تحت ميزان الحسن والقبح العقليين كوجوب شكر المنعم - بناءاً على لزومه عقلاً -، وما هو من مقدّماته أو من المتفرّعات عليه فهو واجب المعرفة والتديّن به عقلاً، وما ليس كذلك فلا.
2 - ما كان من المدركات العقلية الأوّلية أو من لوازمها فهو واجب ابتداءاً، وما ليس كذلك فلا.
مثلاً: أصول الدين الخمسة ولوازمها ممَّا يجب معرفته عقلاً، فالإنسان إذا أدرك وجوده أدرك أنَّ وجوده نعمة، وأدرك أنَّ هناك منعماً يجب عليه معرفته مقدّمة لشكره أو لمجانبة الكفران به، فإذا تعرَّف على المنعم عرف أنَّ ذلك المنعم ذات جامعة لصفات الكمال ومنها العدل والحكمة واللطف، إذ لا يعقل أن لا يكون مصدر الكمال والنعم الكاملة غير كامل، وإذا أدرك ذلك أدرك عقله أنَّ مقتضى العدل واللطف والحكمة بعث الأنبياء ونصب الأئمّة ووجود يوم للجزاء وهو يوم المعاد.
فهذه الأصول الخمسة ممَّا يجب معرفتها عقلاً، وكذلك لوازمها، مثلاً: من لوازم النبوّة والإمامة أن يكون النبيّ عالماً بالتشريع وأن يكون
معصوماً، إذ لا يمكن أن يكون نبيّاً أو إماماً وحجّة على الغير ما لم يكن عالماً بالتشريع ومعصوماً, فهذه يجب معرفتها عقلاً، لأنَّ العقل حاكمٌ بها.
والقسم الثاني ما ليس من المدركات العقلية الأوّلية ولا من لوازمها، بل بعضها أمور لا يصل إليها العقل، مثلاً: تفاصيل البرزخ، عذاب القبر، سؤال منكر ونكير، تفاصيل يوم القيامة، الصراط، الميزان، الحساب، فلا يجب معرفتها عقلاً، وإنَّما إذا قام الدليل النقلي الصحيح عن المعصوم بثبوت هذه الأمور فعلى المسلم أن يتديَّن بها تصديقاً لقول المعصوم.
المحور الثاني: الميزان في الإسلام والتشيّع:
يُعدّ الإنسان مسلماً إذا تشهَّد الشهادتين تصديقاً للنبيّ محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن هنا إذا أنكر الإنسان ضرورة من ضروريات الدين، مثلاً: وجوب الصلاة، وجوب الصوم، وجوب الحجّ، فإذا كان ملتفتاً إلى أنَّ إنكار الضروري يستلزم تكذيب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأنَّه أخبر بهذا الضروري فيُعدُّ خارجاً عن الإسلام لأنَّه يُعدُّ مكذّباً للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أمَّا إذا لم يكن ملتفتاً للملازمة وأنكر الضروري وهو غافل عن لوازم ذلك، أو أنَّ عقله قاصر، أو في ذهنه شبهة، فلا يعدُّ منكراً للإسلام وإن أنكر ضرورياً.
والميزان في التشيع كما يستفاد من الروايات هو الدينونة بدلالة الإمام المعصوم.
ففي صحيحة زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «... ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضى الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إنَّ الله يقول: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ [النساء: 80]، أمَا لو أنَّ رجلاً قام ليله، وصام نهاره، وتصدَّق بجميع ماله، وحجَّ جميع دهره، ولم
يعرف ولاية وليّ الله فيواليه، وتكون جميع أعماله بدلالته له عليه، ما كان له على الله حقّ في ثواب، ولا كان من أهل الإيمان»(225).
إذن ميزان التشيّع أن تعترف بأنَّ هناك إماماً معصوماً منصوباً من قبل الله (عزَّ وجلَّ) وأنَّ جميع أعمالك تكون بدلالة نظر هذا الإمام.
والطريق لنظر الإمام على قسمين:
الطريق الأوّل: الطريق الظنّي:
وهو الذي يرد علينا بخبر الآحاد، مثلاً: من المؤكَّد أنَّ النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت له ولاية على التشريع، أي كان من حقّه التشريع.
فعن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: «... ثمّ إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) فرض الصلاة ركعتين، ركعتين عشر ركعات فأضاف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهنَّ إلّا في سفر وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله (عزَّ وجلَّ) له ذلك فصارت الفريضة سبع عشر ركعة...»، إلى أن قال: «وحرَّم الله (عزَّ وجلَّ) الخمر بعينها وحرَّم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المسكر من كلّ شراب فأجاز الله له ذلك كلّه...»(226).
وعن زرارة، ومحمّد بن مسلم، وأبي بصير، وبريد بن معاوية العجلي، وفضيل بن يسار، عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، قالا: «فرض الله الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنَّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تسعة أشياء»(227).
إذن الرسول كانت له ولاية على التشريع بمقتضى نفسه القدسية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(225) المحاسن للبرقي 1: 287/ باب الشرائع/ ح 430.
(226) أنظر: الكافي 1: 266 و267/ باب التفويض إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).../ ح 4.
(227) الكافي 3: 509/ باب ما وضع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الزكاة عليه/ ح 1.
التي لا تخطأ الواقع، فهل هذه الولاية التي كانت للنبيّ ثابتة للأئمّة من بعده أم لا؟
ونقول: هذا محلّ خلاف بين العلماء، لأنَّ الطريق هنا طريق ظنّي، فهناك روايات تقول: «فما فوّض إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فوّض إلينا»(228)، وهذه الروايات محلّ بحث لدى علمائنا، وقد تأمَّل فيها شيخنا التبريزي (قدّس سرّه) من ناحية سندية وذكر أنَّ ظاهر روايات الجامعة - كتاب بإملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخطّ علي (عليه السلام) فيه جميع ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتَّى أرش الخدش إلى يوم القيامة - اكتمال التشريع منذ زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإن فوّض إلى الأئمّة الولاية على تبليغه فقط، لا لقصور ولايتهم عن التشريع، بل لكمال التشريع نفسه، إذن هذه مسألة نظرية جاءت عن طريق ظنّي تقع محلاً للبحث بين علمائنا، أي مسألة ولاية الأئمّة على التشريع.
الطريق الثاني: الطريق القطعي:
وأحياناً يصل إلينا نظر الإمام بطريق قطعي لا بطريق ظنّي، والطرق القطعية لنظر الإمام ثلاثة:
الطريق الأوّل: الإجماع:
وهو أن يجمع فقهاء الطائفة جميعاً أو أغلب الفقهاء المتّصلين بفقهاء تلك الحقبة، أي فقهاء الحقبة الصغرى المعاصرة لغيبة الإمام، لأنَّها متَّصلة بالطبقة الذين عايشوا الأئمّة وعاشروهم، وسمعوا منهم، فالمعوَّل على تلك الطبقة, فلو أجمع علماء تلك الحقبة على أنَّ النبيّ والإمام معصوم عصمة مطلقة، معصوم عن الخطأ والسهو والنسيان، فإنَّ هذا الإجماع يُعدُّ كاشفاً قطعياً عن نظر الإمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(228) بصائر الدرجات: 405/ باب في أنَّ ما فوّض إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد فوّض إلى الأئمّة/ ح 6.
وبيان ذلك بذكر أمور:
1 - إنَّ مدرك حجّية الإجماع ليس هو قاعدة اللطف كي يقال بعدم وجوب اللطف على المولى سبحانه، ولا من باب الملازمة العقلية كي يقال بعدم تسليمها في التواتر فضلاً عن الإجماع، ولا من باب الملازمة العادية وهي الملازمة بين اتّفاق المرؤوسين ورأي الرئيس كي يقال بعدم تصوّرها في زمان الغيبة، بل المدرك هو دليل حساب الاحتمالات الذي هو مدرك حجّية التواتر أيضاً، فإنَّ اجتماع القرائن في محور معيَّن موجب للوثوق به واليقين بصحَّته، مثلاً لو اتَّفق الفقهاء الأقدمون كالكليني وابن قولويه والمفيد والمرتضى ونحوهم على حكم كعدم جواز الائتمام بابن الزنا، فإنَّ القرائن المتعاضدة توجب الوثوق بهذا المحور وهي:
أ - كون الحكم مخالفاً للقاعدة الأوّلية المستفادة من النصوص كقوله (عليه السلام): «لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه»(229).
ب - كون المجمعين ممَّا لا يحتمل في حقّهم الفتوى من دون مدرك لشدّة ورعهم، كما لا يحتمل في حقّهم الغفلة عن مخالفة الحكم لمقتضى القاعدة الأوّلية، لكونها مستفادة من الأحاديث التي هم رواتها.
ج - إنَّه لا يعقل أن يكون مدرك اتّفاقهم رواية تامّة سنداً ودلالةً بنظرهم، إذ لو كان كذلك لأشاروا لتلك الرواية في كتبهم الحديثية المفصَّلة التي رووا فيها حتَّى الأحاديث الضعيفة، فتعيَّن أن يكون مدركهم ارتكازاً تلقّوه من الجيل السابق عليهم وهم الأصحاب المعاصرون للأئمّة (عليهم السلام)، إذ لا يتصوَّر اتّفاق أغلب فقهاء تلك الحقبة على أمر فجأة من دون أن تكون جذوره نابعة من جيل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(229) الكافي 3: 374/ باب الصلاة خلف من لا يقتدى به/ ح 5.
أصحاب الأئمّة (عليهم السلام)، فليس المدرك رواية كي يقال: لعلَّها غير تامّة عندنا لو اطَّلعنا عليها، بل ما هو أقوى من الرواية وهو الارتكاز الراسخ المتلقّى جيلاً عن جيل عن المعصوم (عليه السلام) قولاً أو فعلاً أو تقريراً.
2 - إنَّه لا فرق في نكتة حجّية الإجماع وهي تراكم الاحتمالات في محور معيَّن لاستتباع الوثوق به بين كونه في الأحكام الفقهية أو في القضايا العقائدية، فإنَّ علّة الكشف واحدة ونكتة الوثوق مشتركة، كما لا فرق في سريان هذه النكتة بين القضايا الحسّية والحدسية وإن كانت في الحسّية أقوى كشفاً.
3 - إنَّ المخالف للإجماع إذا عرف دليله وكان ضعيفاً لم تكن مخالفته ضائرة بكاشفية الإجماع عن رأي المعصوم، لأنَّه مع وضوح الدليل فسوف لن يكون له أثر في منع كاشفية اتّفاق الأغلب عن ارتكاز الجيل السابق، ولأجل ذلك فإنَّ مخالفة الشيخ الصدوق للقول بالعصمة المطلقة التي أجمع عليها علماء تلك الحقبة غير ضائر لأنَّه:
أوّلاً: لم يحرز أنَّ الشيخ الصدوق خالف، لأنَّ الشيخ الصدوق قال بالإسهاء ولم يقل بالسهو.
ثانياً: نفترض أنَّ الشيخ الصدوق يقول بالسهو، لكنَّه لا يضرُّ بالإجماع، لأنَّه متى ما عرف الشخص المخالف وعرف دليله وأنَّه ضعيف، فلا يقدح في إجماع الطائفة، لأنَّها أجمعت على أنَّ النبيّ أو الإمام معصوم عصمة مطلقة.
فإنَّ الشيخ الصدوق يتعرَّض لنفس الروايات الموجودة عند أهل السُنّة، فعن أبي هريرة، قال: صلّى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الظهر ركعتين، فقيل: صلَّيت ركعتين، فصلّى ركعتين ثمّ سلَّم ثمّ سجد سجدتين(230).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(230) صحيح البخاري 1: 175.
مع أنَّه يقول القرآن الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾ (المؤمنون: 1 و2)، ويقول: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ﴾ (الماعون: 4 و5)، فهل يعقل أنَّ نبيّ الرحمة يكون من مصاديق ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ﴾، ويخرج عن مصاديق ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ﴾؟ هذا غير معقول قطعاً, فمخالفة شخص من العلماء لا تقدح في الإجماع، ولا يضرُّ في أن يكون الطريق طريقاً قطعياً.
الطريق الثاني: الارتكاز العلمائي:
والمدرك لحجّيته هو مدرك حجّية الإجماع كما سبق بيانه.
ومحصّله إذا راجعنا عبارات العلماء في تلك الفترات نجدهم أحياناً يرسلون الأمر إرسال المسلَّمات ولا يذكرون مخالفاً، وإن لم يصرّحوا بالإجماع، مثلاً: أرسل علماؤنا إرسال المسلمات أنَّ للإمام علماً لدنّياً، نعم قسم من علومه كسبي وهو علم التشريع، اكتسبه مثلاً عن علي بن الحسين، عن الحسين، عن الحسن، عن علي، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهذا علم مكتسب جاء عن طريق الرواية، وهناك قسم من علوم الإمام علم لدنّي عن طريق الإلهام وليس عن طريق النقل، بل علماً لدنّياً.
فإنَّ الخضر (عليه السلام) ليس أفضل من الأئمّة، والقرآن الكريم يقول في حقّ الخضر: ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65)، أي أعطيناه علماً لدنّياً.
والمتحصّل أنَّه عندنا ارتكاز علمائي على أنَّ للأئمّة علماً لدنّياً، وهذا طريقٌ قطعي أيضاً.
الطريق الثالث: التواتر الإجمالي:
ومثاله أن ترد روايات كثيرة نقطع بأنَّ واحدة منها صادر من الإمام
المعصوم على الأقلّ، وهذا ما يسمّى بالتواتر الإجمالي. مثلاً روايات علم الإمام (عليه السلام) ببعض الغيب أو روايات رجعة الحسين (عليه السلام) كثيرة يقطع بصدور بعضها، وقد يكون العامل في القطع بالصدور أحياناً العامل الكيفي وهو توافق مضمون الأخبار مع واقع التاريخ والروايات الأخرى في أبواب مختلفة، وهو وإن لم يكن من التواتر الاصطلاحي لكنَّه يتَّفق معه في نكتة الوثوق بالصدور.
مثلاً: عندما نراجع الروايات نرى في كتاب (كفاية الأثر)(231): عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): «ما منّا إلّا مقتول أو مسموم».
وفي (الصراط المستقيم)(232): عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام): «ما منّا إلّا مسموم أو مقتول».
وفي (أمالي الصدوق)(233): عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: «والله ما منّا إلّا مقتول شهيد».
فهذه كتب متعدّدة، وروايات متعدّدة معتضدة بالوقائع التاريخية والروايات الأخرى التي تتحدَّث عن مظلومية كلّ إمام بعينه، وما ورد في حشد الأدعية والزيارات التي تتحدَّث عن مظلومية كلّ إمام وشهادته، ممَّا يوجب الوثوق بمضمون هذه الأخبار.
وربَّما يقول قائل: هذه مسألة تاريخية، فإنَّ الإمام الهادي مات مسموماً أم لا؟ مسألة تاريخية، لا ربط لها بالعقائد.
نقول: إنَّ هذه الفكرة خاطئة، لأنَّ مقام الشهادة من مقامات الإمام،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(231) كفاية الأثر: 162.
(232) الصراط المستقيم 2: 128.
(233) أمالي الصدوق: 120/ ح (109/8).
فإذا مات مسموماً يعني مات شهيداً، والشهادة مقام من المقامات، فهذه المسألة رجعت للاعتقاد أنَّ الإمام من مقاماته أن يموت شهيداً.
إذن بالنتيجة: هناك طرق قطعية لكشف نظر الإمام (عليه السلام)، فإذا أنكر الإنسان شيئاً من القطعيات وقال: لا أُسلّم به، فإن لم يلتفت إلى اللوازم لشبهة في ذهنه أو لقصور في عقله أو لعدم خبرة علمية ومعرفة بتنقيح الروايات وموازين النقد والقبول فيها، فهذا لا يقال عنه: خرج عن التشيّع. أمَّا إذا كان ملتفتاً إلى أنَّ هذا الأمر قطعي، وأنَّ تكذيبه تكذيب لنظر الإمام الذي توصَّلنا إليه بأحد الطرق القطعية، فيقال عنه: خرج عن التشيّع، لأنَّه أنكر قطعياً وهو ملتفت إلى أنَّ لازم إنكاره ردّ نظر الإمام (عليه السلام)، إذن هذا هو الميزان في التشيّع وحدوده.
المحور الثالث: الميزان في الثابت والمتغيّر:
إنَّ الفكر الإمامي فيه ثابت وفيه متغيّر, والثابت: هو الضروري الذي وصل إلينا بطريق قطعي كما مثَّلنا, والمتغيّر: هو النظري، مثلاً: أصل الرجعة من ضروريات المذهب، بل من ضروريات الدين، لأنَّ القرآن الكريم نصَّ على الرجعة، قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (النمل: 83)، ومفاد الآية حشر جزئي، فلو كان يريد يوم القيامة لقال: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ (الأنعام: 22).
كما أنَّ رجعة الحسين (عليه السلام) إلى الدنيا أيضاً وردت في روايات متواترة، أمَّا رجعة جميع الأئمّة (عليهم السلام) فهذا محلّ خلاف.
وهنا يطرح سؤال: أنَّ الثابت لا يمكن أن يتحوَّل إلى متغيّر، فهل يمكن أن يتحوَّل المتغيّر إلى ثابت بحيث يصبح النظري ضرورياً، فما كان نظرياً في زمان الشيخ الصدوق مثلاً، في زماننا يصبح ضرورياً، هل هذا ممكن أم لا؟
والجواب: إنَّه ممكن، وقد ذكرنا في البحوث السابقة مسألة التراكمية الثقافية(234)، فهي مؤثّرة، مثلاً علم الطبّ توسَّع وأصبح نتيجة التراكمية الثقافية اختصاصات متعدّدة، وعلم الهندسة أصبح حقولاً مختلفة نتيجة التراكمية الثقافية، وأيضاً الفكر الإمامي تتَّسع معلوماته، وتتطوَّر أدواته نتيجة التراكمية الثقافية، فمن الممكن أن يكون ما هو نظري قبل ألف سنة ضرورياً الآن، وهذا كما يتصوَّر في الضرورات الفكرية إذ قد يتحوَّل الظنّي في الفكر إلى ضروري بمرور الزمن، يتصوَّر في الضرورات الدينية العقائدية، ونبيّن أوّلاً الفكرة على مستوى الضرورات الثقافية والفكرية، مثلاً: القرآن الكريم قبل ألف سنة هل يقال: كتاب علمي أم لا؟
لا شكَّ أنَّ القرآن كتاب هداية، قال تعالى: ﴿الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 1 و2)، أمَّا أنَّه كتاب علمي فلا يوجد عندنا دليل على ذلك، وبعد ألف سنة وبسبب التراكمية الثقافية اكتشف أنَّ في القرآن أسراراً علمية، وأنَّ القرآن كتاب علمي يصبُّ معارفه في إطار الهداية، وهذا أصبح شيئاً ضرورياً، لأنَّ التراكمية الثقافية فرضت نفسها واكتشفت أسراراً علمية في القرآن لم يكتشفها من كان قبلنا.
قال تعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ (الواقعة: 75 و76).
وفي عصرنا الحاضر نعرف أنَّ هناك فرقاً بين مواقع النجوم وبين النجوم، حيث لم يقل: (فلا أُقسم بالنجوم), بل قال: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ﴾، ومعناه أنَّ النجم له موقع ثمّ يغادره إلى مجموعة شمسية أخرى،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(234) راجع الأمر الثاني من المحور الثاني من المحاضرة الخامسة.
قال تعالى: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (يس: 40)، وأنت لا تزال ترى النجم في نفس الموقع الذي كان النجم فيه قبل خمسمائة سنة ضوئية لكنَّه وصل لك الضوء الآن، أمَّا الآن فهو يسبح في مدار آخر، وهذه الأسرار العلمية في القرآن لم يكتشفها علماؤنا السابقون، ولكن اكتشفها علماؤنا اللاحقون بمقتضى التراكمية الثقافية، إذن ما كان نظرياً عندهم أصبح ضرورياً عندنا، وما كان ظنّياً عندهم أصبح قطعياً عندنا نتيجة التراكمية الثقافية، هذا على مستوى الفكر والثقافة.
وعلى مستوى العقائد، مثلاً قبل ألف سنة لم يكن يقول بعض العلماء بأنَّ الأئمّة (عليهم السلام) أفضل من الأنبياء، ولكن نحن وبعد ألف سنة تطوَّرت عندنا الأدوات العلمية، وأصبحنا أكثر سيطرة على الروايات ممَّن سبقنا، وأكثر قدرة على استنطاق الروايات واستخراج المفاهيم ممَّن قبلنا، لأنَّ أدوات البحث وأدوات التحقيق تطوَّرت، ولأجل ذلك نحن نستطيع أن نقول: من ضروريات المذهب ومن الأمور القطعية أنَّ الأئمّة أفضل من الأنبياء، للروايات المتواترة المتحدّثة عن عالم الأنوار وعالم الميثاق وعالم الحشر والمعاد والمقامات العلمية المختلفة(235).
المحور الرابع: دور الفقيه في عصر الغيبة:
بعد أن عرفنا المعارف وكيف نصل إليها والطرق الظنّية والقطعية، نأتي الآن إلى دور الفقيه في عصر الغيبة.
الفقيه له ثلاثة مناصب:
1 - منصب حجّية الفتوى، أي إنَّ فتواه حجّة على مقلّديه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(235) راجع: بصائر الدرجات: 99 - 101.
2 - منصب القضاء، أي إنَّ قضائه نافذ على الناس.
3 - منصب الولاية، وبعض الفقهاء يرى أنَّ الولاية خاصّة بالأمور النظامية، وبعضهم يرى أنَّ الولاية عامّة مطلقة.
إنَّ دور الفقيه هو حفظ الشريعة، وهو دور خطير جدّاً، وقد تحدَّثنا في البحوث السابقة(236) أنَّ حفظ الشريعة له ثلاثة مراتب: 1 - حفظ تشريعي. 2 - حفظ تعليمي. 3 - حفظ تطبيقي.
المرتبة الأولى: الحفظ التشريعي:
فالفقيه مسؤول عن رقابة الفكر طوال الوقت حتَّى يقوم بمسؤوليته في حفظ الشريعة من الناحية التشريعية، بأن يحافظ على أصولها وثوابتها وقطعياتها، وأن يترك المجال في النظريات لمائدة البحث، لذلك ورد في رواية معتبرة عن جعفر بن محمّد، عن آبائه (عليهم السلام)، أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «في كلّ خلف من أمّتي عدل من أهل بيتي، ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجهّال»(237).
المرتبة الثانية: الحفظ التعليمي:
إنَّ الهدف من تأسيس الحوزات العلمية هو حفظ الشريعة، لأنَّ الحوزات العلمية بترويج العلوم الشرعية عن طريق الدراسة والتدقيق، ولو لم تكن هناك حوزات لدرست هذه العلوم كلّها، ولتحوَّل الفكر الإمامي إلى فكر جامد على ما كان قبل ألف سنة لم يتغيَّر، لأنَّ الحوزات العلمية تديره بين فترة وأخرى، فهذا حفظ للفكر الإمامي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(236) راجع الوجه الثالث من المحور الثالث من المحاضرة الثامنة.
(237) قرب الإسناد: 77/ ح 250.
حفظاً تعليمياً، قال تعالى: ﴿فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122).
المرتبة الثالثة: الحفظ التطبيقي:
وهو الحفظ العملي، أي إنَّ الفقيه يُفتي الناس بما يحفظ لهم دينهم ويحميهم عن الوقوع في الحرام، ومخالفة الواجب، إذن الفقيه دوره الحفظ بمراتبه الثلاث، مؤيَّداً ومسدَّداً من الإمام المنتظر (عليه السلام).
وبكلمة واحدة: إذا قرأنا قوله تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 8)، فإنَّنا نستفيد من هذه الآية أنَّ عزّة الدين مطلوبة، فهي من جملة الأهداف القرآنية، وعزّة الدين والمذهب لا تحصل إلّا بالمرجعية العامّة، ولذلك نرى أنَّ السياسات العالمية كلّها تخطّط لتحطيم هذا المنصب بعبارات وبصور وبإطروحات مختلفة، لأنَّهم أدركوا أنَّ المرجعية العامّة عزّ للدين والمذهب، وهي تصون المذهب عن الدمار، وتعطي هيبة وقدسية لهذا الموقع، ولو لم يدركوا ذلك لما خطَّطوا لإزالة هذا الأمر الذي هو امتداد لعزّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة الطاهرين (عليهم السلام).
فهذا الحسين (عليه السلام) ثار لأجل العزة، وقال: «ألا وإنَّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون»(238).
والحمد لله ربّ العالمين
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(238) اللهوف في قتلى الطفوف: 59.
القرآن الكريم.
الاحتجاج: الطبرسي/ ت محمّد باقر الخرسان/ دار النعمان/ 1386هـ .
اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ 1404هـ/ مؤسسة آل البيت/ قم.
الإرشاد: الشيخ المفيد/ ت مؤسسة آل البيت/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
الأمالي: الشيخ الصدوق/ ت قسم الدراسات/ ط1/ 1417هـ/ مؤسسة البعثة.
الأمالي: الشيخ الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414هـ/ دار الثقافة/ قم.
الأمالي: الشيخ المفيد/ ط2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط1/ 1404هـ/ مدرسة الإمام الهادي/ قم.
الإمامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري/ ت الزيني/ مؤسسة الحلبي.
بحار الأنوار: العلاّمة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403هـ/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.
البداية والنهاية: ابن كثير/ ط 1/ 1408هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
بصائر الدرجات: الصفّار/ 1404هـ/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.
بنور فاطمة اهتديت: عبد المنعم حسن/ ط1/ 1419هـ/ دار المعروف/ بيروت.
تأويل الآيات: شرف الدين الحسيني/ ط 1/ 1407هـ/ مدرسة الإمام المهدي/ قم.
تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ط 2/ 1404هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
تفسير ابن كثير: ابن كثير/ ت يوسف المرعشلي/ 1412هـ/ دار المعرفة/ بيروت.
تفسير الثعلبي: الثعلبي/ ط1/ 1422هـ/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
تفسير العياشي: العياشي/ ت المحلاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميّة/ طهران.
تفسير القمي: علي بن إبراهيم القمي/ ط 3/ 1404هـ/ مؤسسة دار الكتاب/ قم.
التفسير الكبير: الفخر الرازي/ ط 3.
تفسير الميزان: الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرّسين في الحوزة العلمية/ قم.
تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ ط 3/ 1364ش/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
الجامع الصغير: السيوطي/ ط1/ 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.
الخرائج والجرائح: الراوندي/ ط1/ 1409هـ/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.
الخصال: الشيخ الصدوق/ 1403هـ/ جماعة المدرسين/ قم.
الدعوات: الراوندي/ ط1/ 1407هـ/ مط أمير/ مؤسسة الإمام المهدي/ قم.
دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط1/ 1413هـ/ مؤسسة البعثة/ قم.
رجال ابن داود: ابن داود الحلّي/ 1392هـ/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف.
رجال النجاشي: النجاشي/ ط5/ 1416هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
سنن النسائي: النسائي/ ط 1/ 1348هـ/ دار الفكر/ بيروت.
السيرة الحلبية: الحلبي/ 1400هـ/ دار المعرفة/ بيروت.
شجرة طوبى: الحائري/ ط5/ 1385هـ/ المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف.
شرح الأخبار: القاضي النعمان المغربي/ ط2/ 1414هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي.
صحيح البخاري: البخاري/ 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.
صحيح مسلم: مسلم النيسابوري/ دار الفكر/ بيروت.
الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ط1/ 1411هـ/ مط نمونة/ قم.
الصراط المستقيم: علي بن يونس العاملي/ ط1/ 1384هـ/ مط الحيدري.
عصر الظهور: علي الكوراني/ ط1/ 1408هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي/ قم.
علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدرية/ النجف.
عوالي اللئالي: الأحسائي/ ت العراقي/ ط1/ 1403هـ/ مط سيّد الشهداء/ قم.
عيون أخبار الرضا: الشيخ الصدوق/ 1404هـ/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
الغيبة: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1411هـ/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.
الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط1/ 1422هـ/ مط مهر/ أنوار الهدى.
الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق (عليه السلام): عبد الحسين الشبستري/ ط1/ 1418هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي.
الفتن: نعيم بن حماد المروزي/ ت سهيل زكار/ 1414هـ/ دار الفكر/ بيروت.
الفتوح: أحمد بن أعثم الكوفي/ ت علي شيري/ ط1/ 1411هـ/ دار الأضواء.
فضائل الصحابة: النسائي/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
الفهرست: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1417هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي.
قرب الإسناد: الحميري القمي/ ط1/ 1413هـ/ مط مهر/ مؤسسة آل البيت/ قم.
الكافي: الشيخ الكليني/ ط5/ 1363ش/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
كامل الزيارات: ابن قولويه/ ط1/ 1417هـ/ مؤسسة نشر الثقافة.
كفاية الأثر: الخزّاز القمي/ 1401هـ/ مط الخيام/ انتشارات بيدار.
كمال الدين: الشيخ الصدوق/ 1405هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
كنز العمّال: المتّقي الهندي/ ت بكري حياني/ 1409هـ/ مؤسسة الرسالة/ بيروت.
اللهوف في قتلى الطفوف: ابن طاووس/ ط1/ 1417هـ/ أنوار الهدى/ قم.
مثير الأحزان: ابن نما الحلّي/ 1369هـ/ المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.
مجمع الزوائد: الهيثمي/ 1408هـ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
المحاسن: البرقي/ 1370هـ/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
مختصر البصائر: الحسن بن سليمان الحلّي/ ت مشتاق المظفّر.
مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط1/ 1370هـ/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.
المزار: ابن المشهدي/ ط1/ 1419هـ/ نشر القيّوم/ قم.
المستدرك: الحاكم النيسابوري/ إشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
مستدركات علم رجال الحديث: علي النمازي/ ط1/ 1412هـ/ مط شفق/ طهران.
مسند أحمد: أحمد بن حنبل/ دار الصادر/ بيروت.
مشكاة الأنوار: علي الطبرسي/ ت مهدي هوشمند/ ط1/ 1418هـ/ دار الحديث.
مصباح المتهجّد: الشيخ الطوسي/ ط1/ 1411هـ/ مؤسسة فقه الشيعة/ بيروت.
المصباح: الكفعمي/ ط3/ 1403هـ/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام): علي الكوراني/ ط1/ 1411هـ/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.
المعجم الأوسط: الطبراني/ 1415هـ/ دار الحرمين.
المعجم الكبير: الطبراني/ ط2 مزيَّدة ومنقَّحة/ دار إحياء التراث العربي.
مقتل الحسين: أبو مخنف الأزدي/ ت حسين الغفاري/ مطبعة العلمية/ قم.
من أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام): عبد العظيم المهتدي/ ط1/ 1421هـ/ انتشارات شريف الرضي/ قم.
من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ط2/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ 1376هـ/ المكتبة الحيدرية/ النجف.
المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي: مركز الرسالة/ ط1/ 1417هـ/ مط مهر/ مركز الرسالة/ قم.
مواقف الشيعة: الأحمدي الميانجي/ ط1/ 1416هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي.
موسوعة الإمام علي (عليه السلام): محمّد الريشهري/ ط2/ 1425هـ/ دار الحديث.
نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412هـ/ دار الذخائر/ قم.
الهداية الكبرى: الخصيبي/ ط4/ 1411هـ/ مؤسسة البلاغ/ بيروت.
ينابيع المودّة: القندوزي/ ت علي جمال الحسيني/ ط1/ 1416هـ/ دار الأسوة.
* * *