ثلاثية المعرفة المهدوية
في المنتظَر والمنتظِر والانتظار
تأليف: السيّد محمّد القبانچي
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام)
الطبعة الثالثة: 1433هـ
رقم الإصدار: 130
فهرست الموضوعات
مقدّمة المؤلّف..................3
المنتظَر والمنتظِر والانتظار..................3
الفصل الأوّل: معرفة المنتظَر..................5
شذرات معرفية..................8
الفصل الثاني: وظيفة المنتظِر..................13
معالم المنتظِر..................15
عالمية الانتظار..................18
كيف تكون منتظِراً حقيقياً؟..................20
1 - إبعاد العامل المصلحي والشخصنة الذاتية في ممارسة الانتظار..................21
2 - التربية الروحية..................22
3 - إعداد آلية القتال والدفاع عن النفس..................23
4 - الارتقاء الروحي والتكامل العبادي..................24
البرنامج اليومي..................24
البرنامج الأسبوعي..................25
فضل المنتظِرين..................26
الفصل الثالث: مفهوم الانتظار..................32
فوائد الانتظار..................36
شبهات وردود..................39
الشبهة الأولى: الانتظار اختراع العقل الانهزامي..................39
الشبهة الثانية: الانتظار عقيدة تزرع روح الاتّكال..................48
ختامه مسك..................50
مصادر التحقيق..................52
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المؤلّف
المنتظَر والمنتظِر والانتظار:
ثلاث مفردات ذات علاقة وطيدة بعضها مع البعض الآخر متلازمة فيما بينها، فما دام يوجد منتظِر فلا بدَّ أن يكون هنالك منتظَر، وإذا وجد هذان المعنيان فلا بدَّ أن ينبعث منهما مفهوم آخر ومعنى ثالث وهو الانتظار.
فما هي دلالات هذه المفردات الثلاث؟ وما هي معطياتها؟ وما هي تلك الأبعاد التي صاغت من هذه المفردات عقيدة متجذّرة بقدم الإنسانية، ذات بعد تاريخي يمتدُّ عبر الأديان لتشكّل حلقة الوصل فيما صدعت به الرسل ونادت به الشرائع السماوية بأجمعها؟ - كما سوف يتَّضح - فكان الانتظار، وكانت الفكرة، وكانت الأطروحة تشكّل بأبعادها الثلاثة محوراً وحدوياً آخراً ارتسم جليّاً وواضحاً في جبين الرسالات وتطلّعاتها.
بل من حقّنا أن نعجب حينما نتأمَّل في العامل المشترك لهذه الكلمات كيف كوَّنت بأجمعها هدف الإنسانية في الوجود؟ إذن نجد لزاماً علينا أن نتحرَّك مع هذه الدلالات، ونتوقَّف لنتأمّل
في حركيَّتها من خلال ما تختزنه من أبعاد ومفاهيم فكرية على الصعيد النظري وشمولية في وجدان الأمّة وحياتها على الصعيد العملي.
السيّد محمّد القبانچي
لست أجد نفسي بحاجة إلى أن أُعرِّف هذه اللفظة من ناحية لغوية.. بيد أنّي سوف أُشير إليه ليكون دالاً على ما يراد منه في المفهوم العقيدي أو ما يُعبَّر عنه بالمعنى المصطلح.
فالمنتظَر هو ذلك الشيء الذي يُتَرقَّب حُدوثه ووقوعه، وله ترابط وثيق كما قلنا مع المنتظِر والانتظار سواء على صعيد المعنى اللغوي أو الوجود الذهني، بل حتَّى على مستوى الواقع العملي إذ بتحقّق واحدٍ منها لا بدَّ أن يتحقَّق الباقي بالضرورة في وجدان الفرد والمجتمع.
إلى هنا صار واضحاً عمومية المعنى اللغوي وسعة دلالته إذ يُركِّز على عنوان الشيئية وهي من أوسع المفاهيم على الإطلاق. ولكن المفهوم العقائدي يحصر هذه الشيئية في مصداق واحدٍ فقط ينصرف إليه الذهن العقيدي بمجرَّد التلفّظ به إذ نرى اللفظ في الذهنية (المنتظِرة) الشيعية لا يحمل هذا العموم، بل ولا يتحمَّل هذه السعة في الدلالة، وإنَّما بعيداً عن الإطلاق وسعته وفراراً من الشيئية وشموليَّتها نراه يرفض كلّ هذا ليدخل في حلقة الشخصنة، فلا يتبادر من المعاني لهذا النوع من الذهنية إلاَّ معنى
واحد ومفهوم فارد وهو: (الحجّة ابن الحسن (عليه السلام))، وكأنَّ اللفظ خُلق له واختصَّ به، فأصبح عَلَمَاً لا يتحمَّل أكثر من معنى خاصّ وليس له أكثر من مصداق واحد.
نعم.. المنتظَر هو الثاني عشر من تلك الأنوار القدسية خلفاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
هو.. التاسع من ولد الحسين بن علي (عليه السلام)؛ هو.. ولد الحادي عشر من أئمّة الهدى الحسن بن علي العسكري (عليه السلام).
إلى هنا كان تعريفاً بالمصداق الأوحد لهذه المفردة، وبقي في البين عدَّة تساؤلات تراود ذهن المثقَّف المسلم:
ما هي العلاقة بين المفردة وبين هذه الشخصية حتَّى لا تنصرف إلاَّ إليها ولا يعرف لها معنى آخر دونها؟
ثمّ ماذا يراد ويُنتظَر منه؟
ثمّ بعد كلّ هذا وذاك ما هو الدليل على كلّ هذه الادّعاءات؟
ولنا أن نُجيب عن التساؤل الثاني بأنَّ المراد والمأمول منه والمنتظَر من هذا المصداق هو تحقيق وعد الله (عزَّ وجلَّ) للمؤمنين بوراثة الأرض، وتحقيق الحكمة الإلهية من الخلق، والوصول إلى الكمال العلمي لأقصى ما تستطيعه البشرية ومنتهى قدرة عالم الإمكان.
ننتظر منه.. بسط العدل والقسط في أرجاء المعمورة بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
ننتظر منه.. أن يُصلح ذواتنا ويأخذ بأيدينا إلى ما فيه صلاح دنيانا وأُخرانا.
ننتظر منه.. أن ينظر إلينا بنظرة رحيمة نستكمل بها الكرامة عنده ثمّ لا يصرفها عنّا.
ننتظر منه.. أن يأخذ بثأر جدّه الحسين وأُمّه فاطمة (عليهما السلام) وجميع المستضعفين في العالم.
ننتظر منه.. أن يقبلنا في ساحة كرمه وجوده.
ننتظر منه.. أن يرينا طلعته الرشيدة وغرَّته الحميدة، وتكتحل نواظرنا بنظرة مِنّا إليه.
ننتظر منه.. أن يجدّد ما عُطّل من أحكام كتاب الله، ويشيّد ما اندرس من أعلام دين الله وسُنن نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ننتظر منه.. إعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين والمنافقين وإحياء سُنن المرسلين ودارس حكم النبيّين.
ويمكننا أن نُجيب بإجابة واحدة على هذه التساؤلات لما بينها من ربط وثيق باعتبار تداخلها وتشابكها فيما بينها، فنقول:
هذه العلاقة بين المفردة والمصداق واللفظة ومعناها الاصطلاحي أوجدها وغرسها صاحب الشرع وخاتم الرسل محمّد المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن بعده أئمّة الهدى ومصابيح الدجى أهل بيته وَعَيبة علمه ابتداءً بأمير المؤمنين وختاماً بمهديّها سلام الله عليهم أجمعين.
فإذا صحَّ أن تكون هنالك حقائق شرعية كما عُبّر عنه في الأصول فمن حقّنا بل بوسعنا جدّاً إطلاق الحقيقة العقائدية على مثل هذا النقل والتخصيص والحصر لدورانه في فلك الفكر العقيدي بعيداً عن عالم الشرعيات والتعبّديات بالمعنى المصطلح،
وإن دخل في معنى الشرع والتعبّد من أوسع أبوابه وأفضل طرقه باعتبار من الاعتبارات.
شذرات معرفية:
وأهديك أخي المنتظِر - جعلنا الله وإيّاك من المنتظرين حقّاً - باقة من أزهار أحاديثهم وإضاءات من أنوار كلماتهم تحوي في طيّاتها هذه المفردة مع تعيين مصداقها وتشخيص صاحبها.
1 - الصراط المستقيم: وأسند - يعني الحاجب برجاله - إلى ابن عبّاس أنَّه قال يوم الشورى: كم تمنعون حقّنا، وربّ البيت إنَّ علياً هو الإمام والخليفة، وليملكنَّ من ولده أئمّة أحد عشر يقضون بالحقّ، أوّلهم الحسن بوصية أبيه إليه، ثمّ الحسين بوصية أخيه إليه، ثمّ ابنه علي بوصية أبيه إليه، ثمّ ابنه محمّد بوصية أبيه إليه، ثمّ ابنه جعفر بوصية أبيه إليه، ثمّ ابنه موسى بوصية أبيه إليه، ثمّ ابنه علي بوصية أبيه إليه، ثمّ ابنه محمّد بوصية أبيه إليه، ثمّ ابنه علي بوصيّة أبيه إليه، ثمّ ابنه الحسن بوصية أبيه إليه، فإذا مضى فالمنتظَر صاحب الغيبة.
قال عليم لابن عبّاس: من أين لك هذا؟
قال: إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علَّم علياً ألف باب فتح له من كلّ باب ألف باب، وإنّ هذا من ثَمَّ(1).
2 - كمال الدين: عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الصراط المستقيم 2: 151 و152.
سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول: أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) قصيدتي التي أوّلها:
مدارس آيات خَلَت من تِلاوَةٍ * * * وَمَنزلُ وَحي مُقفرُ العرصاتِ
فلمَّا انتهيت إلى قولي:
خرُوجُ إمام لا محالة خارج * * * يقومُ على اسم الله والبَركاتِ
يميّز فينا كلّ حقّ وباطل * * * ويجزي على النعماء والنَقماتِ
بكى الرضا (عليه السلام) بكاءً شديداً، ثمّ رفع رأسه إليَّ فقال لي: «يا خزاعي، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام؟ ومتى يقوم؟»، فقلت: لا يا مولاي، إلاَّ أنّي سمعت بخروج إمام منكم يطهّر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً [كما ملئت جوراً]، فقال: «يا دعبل، الإمام بعدي محمّد ابني، وبعد محمّد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم، المنتظَر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبقَ من الدنيا إلاَّ يوم واحد لطوَّل الله (عزَّ وجلَّ) ذلك اليوم حتَّى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وأمَّا (متى) فإخبارٌ عن الوقت، فقد حدَّثني أبي عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قيل له: يا رسول الله، متى يخرج القائم من ذرّيتك؟ فقال (عليه السلام): مَثَله مثل الساعة التي ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً﴾ [الأعراف 187]»(2).
3 - كمال الدين: الصدوق بسنده عن الصقر بن أبي دلف،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) كمال الدين: 372 و373/ باب 35/ ح 6.
قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن علي الرضا (عليهما السلام) يقول: «إنَّ الإمام بعدي ابني علي، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن، أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه، ثمّ سكت»، فقلت له: يا ابن رسول الله، فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى (عليه السلام) بكاءً شديداً، ثمّ قال: «إنَّ من بعد الحسن ابنه القائم بالحقّ المنتظَر»، فقلت له: يا ابن رسول الله، لِمَ سُمّي القائم؟ قال: «لأنَّه يقوم بعد موت ذكره، وارتداد أكثر القائلين بإمامته»، فقلت له: ولِمَ سُمّي المنتظَر؟ قال: «لأنَّ له غيبة يكثر أيّامها، ويطول أمدها، فينتظر خروجه المخلصون، وينكره المرتابون، ويستهزأ بذكره الجاحدون، ويكذب فيها الوقّاتون، ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلّمون»(3).
4 - دلائل الإمامة: عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إذا توالت ثلاثة أسماء من الأئمّة من ولدي: محمّد وعلي والحسن، فرابعها هو القائم المأمول المنتظَر»(4).
5 - المحكم والمتشابه: في قوله تعالى: ﴿اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ...﴾ الآية (النور: 35)، عن تفسير النعماني، بسنده عن الصادق (عليه السلام)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «المشكاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والمصباح الوصيّ والأوصياء (عليهم السلام)، والزجاجة فاطمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) كمال الدين: 378/ باب 36/ ح 3.
(4) دلائل الإمامة: 447/ ح (422/26).
(عليها السلام)، والشجرة المباركة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والكوكب الدرّي القائم المنتظَر الذي يملأ الأرض عدلاً»(5).
6 - الكافي: عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أن يقوم»، قال: قلت: ولِمَ؟ قال: «يخاف» وأومأ بيده إلى بطنه، ثمَّ قال: «يا زرارة! وهو المنتظَر، وهو الذي يُشَكُّ في ولادته، منهم من يقول: مات أبوه بلا خلف، ومنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: إنَّه ولد قبل موت أبيه بسنتين، وهو المنتظَر، غير أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يحبُّ أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون»(6).
7 - مصباح المتهجّد: أخبرنا جماعة من أصحابنا، عن أبي المفضَّل الشيباني، قال: حدَّثنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد العابد بالدالية لفظاً، قال: سألت مولاي أبا محمّد الحسن بن علي (عليهما السلام) في منزله بسُرَّ من رأى سنة خمس وخمسين ومائتين أن يملي عليَّ من الصلاة على النبيّ وأوصيائه عليه وعليهم السلام، وأحضرت معي قرطاساً كثيراً، فأملى عليَّ لفظاً من غير كتاب [وقال: «اُكتب](7) الصلاة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)...» ثمّ ذكر الصلاة عليه وعلى الأئمّة (عليهم السلام) واحداً بعد واحد إلى مولانا صاحب الزمان (عليه السلام)، وقال ما هذا لفظه: «الصلاة على وليّ الأمر المنتظَر (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) المحكم والمتشابه: 25؛ بحار الأنوار 90: 21.
(6) الكافي 1: 337/ باب في الغيبة/ ح 5.
(7) ما بين المعقوفتين من جمال الأسبوع.
[صاحب الزمان محمّد بن الحسن بن علي (عليهم السلام)]: اللّهمّ صلّ على وليّك وابن أوليائك الذين فرضت طاعتهم، وأوجبت حقَّهم، وأذهبت عنهم الرجس وطهَّرتهم تطهيراً...»(8) الخ.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) مصباح المتهجّد: 399 - 405؛ جمال الأسبوع: 296 - 300.
في رحاب المفردة الثانية لنا وقفة تأمّلية مع المعنى السليم للمنتظِر، وطبيعة الحال فالمنظور هنا هو المعنى المصطلح أي انتظار مهدي هذه الأمّة الثاني عشر من عترة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولكن ما نحتاجه هنا والذي ينبغي أن نضع النقاط عليه، وما يفيدنا في هذا المضمار هو الإجابة على عدَّة أسئلة تتمحور في النظرة المتطلّعة إلى هذا المفهوم العقيدي:
ماذا ينتظر الإنسان؟
وما هي المقدّمات التي ينبغي الالتفات إليها حتَّى يكون الإنسان منتظِراً؟
وإذا كان المنتظِر هو ذلك الإنسان المترقّب والمتوقّع لحدوث شيءٍ، فما هو الحدث الذي يترقَّبه المرء؟
هل هو وجود مهدي هذه الأمّة؟ وهل يُدخله هذا النوع من الترقّب في عداد المنتظِرين؟
أو أنَّه يترقَّب تحقّق أمنياته الذاتية وتوفّر مطالبه الشخصية يصاحب ذلك انغلاق خاصّ على الذات واحتياجاتها والنفس وأحلامها؟
وبعبارة ثانية: ما هي معالم المنتظِر؟
فهل كلّ من يؤمن بعقيدة المصلح العالمي يُعَدُّ من المنتظِرين؟
بل لنحدّد المصطلح بشكل أدقّ ونقول: هل كلّ من يؤمن بالعقيدة الاثني عشرية وبولادة الإمام الحجّة ابن الحسن (عليه السلام) يُعَدُّ من المنتظِرين؟
وبمقولة ثالثة: هل العقيدة المهدوية من الأمور العبادية القلبية؟ أو هي من الأمور العبادية الجوارحية؟ ولنا أن نتساءل باصطلاح المناطقة والحكماء - إن صحَّ الإطلاق - فنقول: هل هي من مقولة العقل النظري فقط أو أنَّها تابعة للعقل العملي، أو على أقلّ لها بُعد عملي؟
وفي هذا الصدد يمكننا القول وبصراحة أنَّه ليس كلّ من اعتقد بالمصلح العالمي يُعَدُّ منتظِراً، وكذلك ليس كلّ من كان معتقداً بالعقيدة الاثني عشرية يُعَدُّ منتظِراً. وهكذا يعمّم هذا النفي ليشمل من اعتنق المهدوية قلباً وآمن بها جناناً ووجداناً ولكن لم يجسّدها حركةً على صعيد الواقع، ولم يتعاط معها كقضيّة واقعية محسوسة لها بعدها وأثرها على مستوى الفرد والمجتمع.
ويبقى هذا الوصف - على حقيقته وصدقه على بعض الأفراد - قضيّة مشكّكة تتأرجح بين القوَّة والمتانة والضعف والاضطراب بحسب اختلاف انطباقها بين الأفراد المنتظِرين كسائر القضايا الإيمانية والعقائدية الأخرى.
معالم المنتظِر:
صحيح أنَّ هذا الوصف - كما سبق - من الأمور والقضايا المشكّكة والنسبية والتي تختلف من شخص لآخر في جوانب قوَّتها
وضعفها وضيقها وسعتها، ولكن هذا لا يمنع من رؤية بعض المواصفات وتسجيلها في ضمن قائمة معالم المنتظِر والتي تمثّل المقوّمات الأساسية له سواء على صعيد الجانب العقيدي والإيماني أو يتخطّى إلى جوانب تفعيل العقيدة فيحصّلها واقعاً حركياً ملموساً، وهكذا فقد تُمثّل بعض المقوّمات في الحقيقة مقدّمات كبروية لا يمكن أن يتحقَّق عنوان المنتظِر من دون تمركزها مسبقاً في الذهنية الإيمانية وفي إطار وحيّز الإنسان الذي يراد منه أن يكون منتظِراً حقيقياً.
وهكذا قد تشترك بعض المقدّمات هنا مع مقدّمات الانتظار لما قلنا سابقاً من وجود العنصر المشترك الذي تتحرَّك حوله هذه المفاهيم الثلاثة.
والمواصفات المقوّمة لعنوان المنتظِر هي:
1 - الاعتقاد بوجود الإله العالم الحكيم الرؤوف بعباده والذي لا يفعل أمراً إلاَّ وفيه مصلحة وحكمة.
2 - الاعتقاد بوجود الرسل والمبعوثين من قبل الله سبحانه وتعالى لهداية العباد وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
3 - الاعتقاد بخاتم الرسل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنَّ شريعته خاتمة الشرائع لا دين بعده، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ﴾ (آل عمران: 19)، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ (آل عمران: 85)، وعلى هذا الأساس فلا بدَّ أن يكون أكمل الأديان كافّة، ومنسجماً تمام الانسجام مع متطلّبات كلّ عصر وملبّياً لحاجات كلّ زمن. وله القدرة على التعاطي والتجاذب مع الأحداث المختلفة سعةً وضيقاً، وبكلمةٍ موجزةٍ وعبارةٍ واضحةٍ يجب
الاعتقاد بأنَّ الإسلام هو ذلك الدين الإلهي الذي باستطاعته إعطاء الحلول والإجابات بشكلٍ متين وأسلوب واضح لكلّ مشاكل الحياة من جهة وما يعتلج في الصدور ويستراب في القلوب عند البشرية منذ عصر الرسالة وإلى أن تقوم الساعة من جهة أخرى.
4 - الاعتقاد بوجود أوصياء وخلفاء من بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منتخبين ومعيَّنين من قبل الله تعالى لا دخل للعنصر البشري في اختيارهم وتعيينهم حتَّى إلى نفس النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهم أئمّة اثنا عشر أوّلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ تسعة من ذرّية الحسين آخرهم (م ح م د) بن الحسن العسكري، يتَّصفون بمواصفات وهبها الله إليهم خاصّة، من أبرزها العصمة ليس فقط عن الذنب وليس فقط في مجال التبليغ، بل تتَّسع لتشمل السهو والنسيان، بل كلّ نقيصة أو ما يخالف المروءة. إذ (العصمة هي التنزُّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنسيان...، بل يجب أن يكون منزَّهاً حتَّى عمَّا ينافي المروَّة، كالتبذّل بين الناس من أكلٍ في الطريق أو ضحكٍ عالٍ، وكلّ عملٍ يستهجن فعله عند العرف العامّ)(9).
5 - الاعتقاد بأنَّ الإمام المهدي مولود من سنة (255هـ) وتقلَّد الإمامة الإلهيّة عام (260هـ) في يوم شهادة والده، وهو حجّة الله في الأرض، وهو حيّ موجود بيننا يرانا ونراه ولكن لا نعرفه ولا نشخّصه بمصداقه وإن كنّا نعرفه بمشخَّصاته وهويَّته وأوصافه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9) عقائد الإمامية: 54.
6 - الاعتقاد بأنَّ الإمام الثاني عشر الحجّة ابن الحسن غيَّبه الله عن العباد لمصلحة وحكمة خفيت علينا وإن كنّا نعلم بعض أطرافها وأسبابها، وسوف يظهره الله تعالى فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
7 - الاعتقاد بأنَّ المنتظَر هو ذلك الإمام المطَّلع على حقائق أمورنا وخفايا أعمالنا.
ذلك الإمام الذي يسمع كلامنا ويردّ سلامنا.
ذلك الإمام الذي يجيبنا إذا دعوناه ويشفع لنا إذا رجوناه.
ذلك الإمام الذي يحسّ آلامنا ويفرح لفرحنا ويحزن لحزننا ويتألَّم لما يجري علينا.
هذا كلّه بلحاظ عالم الاعتقادات وفي مجال الفكر والنظر، أمَّا مقوّمات الجانب العملي في الانتظار ومعرفة المواصفات الخاصّة العملية التي ينبغي توفّرها عند المنتظِرين حتَّى يتَّصف الإنسان بهذه الصفة على نحو الحقيقة بحيث ينطبق عنوان (المنتظِر) عليه انطباقاً واقعياً حقيقياً لا مجاز فيه فسوف تطالعك تحت عنوان: (كيف تكون منتظِراً حقيقياً).
وهنالك مقوّمات ونقاط أخرى أعرضنا عنها روماً للاختصار وحذراً من التطويل.
عالمية الانتظار:
قد يقول البعض: إنَّ انتظار المصلح العالمي لا يتوقَّف على كثير من هذه المقوّمات المدَّعاة، بل أكثر من هذا لا يتوقَّف على
الاعتقاد بوجود الله تعالى، لأنَّنا نجد أنَّ الإنسان الديالكتيكي المادّي يعتقد بضرورة صلاح العالم في يوم ما على يد رجال أكفاء يعمُّ في عصرهم الرخاء والمساواة والحرّية!
يقول الشهيد الصدر في بيان عالمية الانتظار وعدم اختصاصه بفئة دون أخرى: (لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر على المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتدَّ إلى غيرهم أيضاً وانعكس حتَّى على أشدّ الإيديولوجيات والاتّجاهات العقائدية رفضاً للغيب والغيبيات، كالمادّية الجدلية التي فسَّرت التاريخ على أساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود تصفى فيه كلّ تلك التناقضات ويسود فيه الوئام والسلام)(10).
وهكذا فالاعتقاد بمجيء المصلح العالمي قضيّة فطرية غرسها الله في فطرة كلّ إنسان، ولا يمكن أن تتَّفق البشرية على خطأ، (وذلك لأنَّ أيّ مطلب يريده الناس كافّة دليل على فطريته..، [إذ] كلّ حبّ أصيل وفطري يحكي عن وجود محبوب خارجي وجذّاب، كيف يمكن أن يخلق الله التعطّش في داخل الإنسان دون أن يخلق في خارجه الينبوع الذي يصبو نحوه ليرتوي منه؟ لهذا نقول: إنَّ فطرة الإنسان وطبيعته التي تبحث عن العدالة تصرخ بأعلى صوتها أنَّ الإسلام والعدالة سوف يسودان العالم كلّه في نهاية المطاف، وأنَّ مظاهر الظلم والجور والأنانية سوف تزول، وأنَّ البشرية ستتوحَّد في دولة واحدة وتعيش تحت راية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) بحث حول المهدي: 53.
واحدة في جوٍّ من التفاهم والطهارة)، إذن فليست قضيّة الانتظار (تجسيداً لعقيدة إسلاميّة ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتَّجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها وصياغة لإلهام فطري أدرك الناس من خلاله أنَّ للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض)(11).
وهذا كلام صحيح ومنطقي في حدَّ ذاته وأمر مقبول جدّاً، ولكن الذي نقصده من المنتظِر والانتظار شيء وراء المصلح العالمي، وهذا سبق وأن أوضحناه حينما قلنا: إنَّه ليس كلّ من يعتقد بضرورة المصلح العالمي يُعَدُّ من المنتظِرين، بل أكثر من هذا فنحن قد نفينا أن يكون المؤمن المعتقد بالإمام المهدي (عليه السلام) من مصاديق المنتظِرين إذا كان خالياً عن تجسيد هذا المفهوم في الواقع المعاش، على نطاق ذاته وخصوصياته ومن ثَمَّ انطلاقاً وامتداداً إلى مجتمعه ومحيطه.
فالاعتقاد بأمثال هذه المفاهيم وإن كان حقّاً وصدقاً ومطابقاً للواقع المستقبلي، ولكن هذا شيء وكونه من المنتظِرين لمثل هذه الشخصية العالمية التي تطبّق عدالة السماء في الأرض شيء آخر، فبينهما بون شاسع كما هو الحال بين العلم بالشيء والاعتقاد والإيمان به، فإبليس على سبيل المثال كان يعلم بوجود الله وقدرته ويعلم بوجود الجنَّة والنار علم اليقين، ربَّما كان يفوق علم الكثير منّا لأنَّه رأى هذه الأمور رؤية عين ونحن سمعناها ولم نرَ شيئاً.
ولكن مع ذلك يُعَدُّ الله الذين اعتقدوا بما قاله النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) المصدر السابق.
مؤمنين ويُعَدُّ إبليس من الكافرين. إذن فالقضيّة لا تعتمد ولا تصدق على مجرَّد الاعتقاد والعلم بالشيء بقدر ما هي متوقّفة في انطباقها على آثارها وتداعياتها خارج حدود الذات كما جاء في الحديث: «الإيمان قول باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان»(12).
كيف تكون منتظِراً حقيقياً؟
ربَّما يجد المرء من نفسه اعتقاداً راسخاً ويقيناً عميقاً بالمقوّمات والنقاط المذكورة آنفاً ولكن لا يحسّ من نفسه بلوعة الانتظار، ولا تدمع له عين لألم الفراق، ولا يسهر له جفن شوقاً إلى اللقاء وطمعاً في لحظة الوصال، ولا تقضّ مضجعه ذكرى الغريب المضطرّ.
فهو مؤمن بالمنتظَر (عليه السلام) على مستوى النظرية من دون تجسيد ذلك على مستوى التطبيق والواقع العملي، فمن هنا كان لزاماً على المرء المنتظِر، ولكي يجمع بين المفهوم والمصداق والنظرية والتطبيق، ولكي يجعل من نفسه مفردة إيمانية محصّلة لكامل مفردات الإيمان في الحديث الشريف السابق لا بدَّ إذن من رسم خطوات عملية ممنهجة، ووضع آلية حركية خاصّة لكسب هذه المقوّمات وتحصيل صفة المنتظِر والانتظار إن كانت مفقودة، وتركيزها وتقويتها إن كانت ضعيفة.
وأفضل منهجية يتبعها الإنسان وأسلم برنامج عملي مضمون النتائج لكسب هذا المقام الشامخ هو ما رسمه أهل البيت (عليهم السلام) لنا وما نهجوه من منهاج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12) أمالي الطوسي: 448/ ح (1002/8).
فلذا من الضروري تتبّع آثارهم الشريفة وسلوك أقوالهم الكريمة والانتهال من نمير علمهم العذب.
وأوّل هذه الخطوات هي:
1 - إبعاد العامل المصلحي والشخصنة الذاتية في ممارسة الانتظار:
أن لا يكون الانتظار لأجل تحقيق مطامع شخصية وتحصيل وجاهات ذاتية، فإنَّ هذا الإنسان ليس منتظِراً للإمام (عليه السلام) في الحقيقة وإنَّما هو منتظِرٌ للحصول على الشهوات النفسانية واللذّات الجسمانية. كما قال أمير المؤمنين: «إِنّي أُرِيدُكُمْ للهِ وَأنْتُمْ تُريدُونَنـِي لأنْفُسِكُمْ»(13)، ولهذا نجد الإمام الصادق (عليه السلام) يحذّر أبا بصير (رحمه الله) من مثل هذا الانتظار القائم بالحقيقة على الأطماع الذاتية، كما جاء في أصول الكافي عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعلت فداك، متى الفرج؟ فقال: «يا أبا بصير، وأنت ممَّن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فرّج عنه لانتظاره»(14).
وهكذا جاء في تحف العقول عن المفضَّل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «افترق الناس فينا على ثلاث فِرَق: فرقة أحبّونا انتظار قائمنا ليصيبوا من دنيانا، فقالوا وحفظوا كلامنا وقصروا عن فعلنا، فسيحشرهم الله إلى النار، وفرقة أحبّونا وسمعوا كلامنا ولم يقصروا عن فعلنا، ليستأكلوا الناس بنا فيملأ الله بطونهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) نهج البلاغة 2: 19/ ح 136.
(14) الكافي 1: 371/ باب أنَّه من عرف إمامه لم يضرّه تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر/ ح 3.
ناراً يسلّط عليهم الجوع والعطش، وفرقة أحبّونا وحفظوا قولنا وأطاعوا أمرنا ولم يخالفوا فعلنا فأولئك منّا ونحن منهم»(15).
وهذا يذكّرنا بحال طلحة والزبير حينما بايعا علياً طمعاً في أن ينالا منه سلطاناً أو جاهاً، فلمَّا خابا وخسئا نكثا بيعتهما وأخلفا وعدهما وباءا بالخسران المبين في الدنيا والآخرة.
2 - التربية الروحية:
وتتمثَّل في السعي الحثيث والجاد لتهذيب النفس وتحليتها بالأخلاق الفاضلة وتقوى الله والورع عن محارمه، فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي عبد الله (عليه السلام): «من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظِر، وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظِر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدّوا وانتظروا هنيئاً لكم أيَّتها العصابة المرحومة»(16).
3 - إعداد آلية القتال والدفاع عن النفس:
الأمر الثالث المحقّق لكمال الانتظار وتمامية الشخصية المنتظرة هو التهيّؤ في البعد العسكري والاستعداد الكامل في بناء الذات من ناحية قتالية من خلال التربية البدنية والجسدية حتَّى تكون مؤهَّلة لذلك اليوم المنشود، وقادرة على الحركة بقوَّة وصلابة في ميادين القتال تحت راية الإمام (عليه السلام)، أو من خلال تهيئة السلاح الكامل المناسب لذلك العصر، وقد أمر أهل البيت (عليهم السلام) بذلك صريحاً في أحاديثهم المباركة، فعن أبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15) تحف العقول: 514.
(16) الغيبة للنعماني: 207/ باب 11/ ح 16.
بصير - كما جاء في غيبة النعماني -، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «ليعدنَّ أحدُكم لخروج القائم ولو سهماً، فإنَّ الله إذا علم ذلك من نيَّته رجوت لأن ينسئ في عمره حتَّى يدركه، ويكون من أعوانه وأنصاره»(17).
وهذا ما نجده واضحاً جليّاً في دعاء العهد الذي يستحبّ قراءته في كلِّ يوم: «اللّهُمَّ إِنْ حالَ بَيْنـِي وَبَيْنَهُ المَوْتُ الَّذِي جَعَلْتَهُ عَلى عِبادِكَ حَتْماً مَقْضِيّاً فَأخْرجْنـِي مِنْ قَبْري مُؤْتَزراً كَفَنـِي شاهِراً سَيْفِي مُجَرَّداً قَناتِي مُلَبّياً دَعْوَةَ الدَّاعِي فِي الحاضِر وَالبادِي...»(18).
لذا يمكننا أن نسجِّل هذا الأمر في ضمن مفردات الانتظار العملي لما يتمتَّع به هذا الاستعداد من بعث روح النشاط والحماس والجدّ والرغبة الملحَّة والفاعلة لظهوره (عليه السلام).
4 - الارتقاء الروحي والتكامل العبادي:
لا شكَّ ولا ريب أنَّ العبادة بجميع مفرداتها هي خير وسيلة لتركيز صفة الانتظار في النفس الإنسانية، وهذا ما نبَّه عليه أهل البيت كما قرأت في ضمن الأحاديث السابقة، ولكنَّ المهمَّ هنا هو دوام ذكره (عليه السلام) والدعاء له، فمضافاً إلى أنَّه من أهمّ العبادات نراه يُشكّل عاملاً آخر من عوامل بناء الشخصية المنتظِرة. وقد ذكر لنا أهل البيت (عليهم السلام) برنامجاً يومياً وأسبوعياً لهذا الأمر ركَّزوا من خلاله على هذا الجانب تركيزاً كبيراً، فلذا ينبغي على المؤمن الالتفات إليه وعدم الغفلة عنه، ونحن نذكر هذا البرنامج بشكل مختصر لعموم الفائدة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17) الغيبة للنعماني: 335/ باب 21/ ح 10.
(18) بحار الأنوار 83 : 61/ ح 69.
البرنامج اليومي:
1 - قراءة دعاء العهد صباحاً(19).
2 - قراءة دعاء: «اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيَّكَ الحُجَّةِ بْن الحَسَن...» يومياً(20).
3 - قراءة دعاء: «رَضِيتُ بـِالله رَبَّاً، وَبـِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ نَبـِيَّاً...» بعد كلّ فريضة(21).
4 - قراءة دعاء: «أي سامِعَ كُلّ صَوْتٍ...» بعد فريضة الظهر(22).
5 - التصدّق بمبلغ معيَّن لسلامة صاحب العصر (عليه السلام)(23).
البرنامج الأسبوعي:
1 - قراءة دعاء: «السَّلامُ عَلَيْكَ يا حُجَّةَ الله فِي أرْضِهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا عَيْنَ الله فِي خَلْقِهِ...» يوم الجمعة(24).
2 - قراءة دعاء الندبة يوم الجمعة(25).
3 - قول: «اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم» مائة مرَّة بعد صلاة العصر يوم الجمعة(26).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) المزار لابن المشهدي: 663؛ مفاتيح الجنان: 615.
(20) الكافي 4: 162/ باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان/ ح 4، وفيه: (فلان بن فلان) بدل (الحجّة بن الحسن)؛ مفاتيح الجنان: 289.
(21) الكافي 2: 548/ باب الدعاء في أدبار الصلوات/ ح 6؛ مفاتيح الجنان: 755.
(22) مصباح المتهجّد: 60/ ح (96/69).
(23) النجم الثاقب 2: 470.
(24) جمال الأسبوع: 41؛ مفاتيح الجنان: 92.
(25) المزار لابن المشهدي: 573؛ مفاتيح الجنان: 607.
(26) جمال الأسبوع: 277؛ مفاتيح الجنان: 81 .
4 - قول: «اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم وأهلك عدوّهم من الجنّ والإنس من الأوّلين والآخرين» يوم الخميس(27).
فضل المنتظِرين:
في هذا الفصل نذكر نبذة من أنوار كلماتهم ونماذج من محاسن أقوالهم - وكلّها نورانية وجميعها حسنة - في بيان ما للمنتظِر من الفضل والأجر عند الله تعالى:
1 - عن عمّار الساباطي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيّما أفضل: العبادة في السرّ مع الإمام منكم المستتر في دولة الباطل أو العبادة في ظهور الحقّ ودولته مع الإمام منكم الظاهر؟
فقال: «يا عمّار الصدقة في السرّ والله أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك والله عبادتكم في السرّ مع إمامكم المستتر في دولة الباطل وتخوّفكم من عدوّكم في دولة الباطل وحال الهدنة أفضل ممَّن يعبد الله (عزَّ وجلَّ) ذكره في ظهور الحقّ مع إمام الحقّ الظاهر في دولة الحقّ، وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحقّ، واعلموا أنَّ من صلّى منكم اليوم صلاة فريضة في جماعة مستتر بها من عدوّه في وقتها فأتمَّها، كتب الله له خمسين صلاة فريضة في جماعة، ومن صلّى منكم صلاة فريضة وحده مستتراً بها من عدوّه في وقتها فأتمَّها كتب الله (عزَّ وجلَّ) بها له خمساً وعشرين صلاة فريضة وحدانية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(27) جمال الأسبوع: 121؛ مفاتيح الجنان: 57.
ومن صلّى منكم صلاة نافلة لوقتها فأتمَّها، كتب الله له بها عشر صلوات نوافل، ومن عمل منكم حسنة كتب الله (عزَّ وجلَّ) له بها عشرين حسنة، ويضاعف الله (عزَّ وجلَّ) حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله ودان بالتقيّة على دينه وإمامه ونفسه وأمسك من لسانه أضعافاً مضاعفة، إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) كريم».
قلت: جُعلت فداك قد والله رغَّبتني في العمل وحثثتني عليه، ولكن أحبّ أن أعلم كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام الظاهر منكم في دولة الحقّ ونحن على دين واحد؟
فقال: «إنَّكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله (عزَّ وجلَّ) وإلى الصلاة والصوم والحجّ وإلى كلّ خير وفقه وإلى عبادة الله عزَّ ذكره سرّاً من عدوّكم مع إمامكم المستتر، مطيعين له، صابرين معه، منتظِرين لدولة الحقّ، خائفين على إمامكم وأنفسكم من الملوك الظلمة تنظرون إلى حقّ إمامكم وحقوقكم في أيدي الظلمة، قد منعوكم ذلك واضطرّوكم إلى حرث الدنيا وطلب المعاش مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوّكم، فبذلك ضاعف الله (عزَّ وجلَّ) لكم الأعمال، فهنيئاً لكم».
قلت: جُعلت فداك فما ترى إذاً أن نكون من أصحاب القائم ويظهر الحقّ ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالاً من أصحاب دولة الحقّ والعدل؟
فقال: «سبحان الله أمَا تحبّون أن يظهر الله تبارك وتعالى الحقّ والعدل في البلاد ويجمع الله الكلمة ويؤلّف الله بين قلوب مختلفة ولا
يعصون الله (عزَّ وجلَّ) في أرضه وتقام حدوده في خلقه ويرد الله الحقّ إلى أهله فيظهر، حتَّى لا يستخفي بشيء من الحقّ مخافة أحد من الخلق، أمَا والله يا عمّار! لا يموت منكم ميّت على الحال التي أنتم عليها إلاَّ كان أفضل عند الله من كثير من شهداء بدر وأُحُد فأبشروا»(28).
فذكر (عليه السلام) في هذه الرواية الشريفة من أسباب الأفضلية ثمانية أمور:
الأوّل: سبقكم إلى الإيمان بالله وبرسوله والدخول في دين الله تعالى والإقرار به.
الثاني: سبقكم إلى العمل بالأحكام مثل الصلاة والصوم والحجّ وغيرها من الخيرات.
الثالث: عبادتكم سرّاً مع الإمام المستتر وطاعته كذلك خوفاً من الأعداء.
الرابع: صبركم مع الإمام المستتر في الشدائد.
الخامس: انتظاركم لظهور دولة الحقّ وهو عبادة.
السادس: خوفكم على إمامكم وأنفسكم من الملوك الظلمة وتغلّبهم.
السابع: نظركم نظر تأسّفٍ وتحسّر إلى حقّ إمامكم وهو الإمامة والفيء وحقوقكم التي هي الأموال في أيدي الظلمة الغاصبين الذين منعوكم عن التصرّف فيها واضطرّوكم إلى حرث الدنيا وكسبها وطلب المعاش من وجوه شاقّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) الكافي 1: 333 - 335/ باب نادر في حال الغيبة/ ح 2.
الثامن: صبركم مع تلك البلايا والمصائب على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوّكم قتلاً وأسراً ونهباً وعِرضاً، وليس لأصحاب المهدي (عليه السلام) بعد ظهوره شيء من هذه الأمور فلذلك ضاعف الله تعالى لكم الأعمال.
2 - عن أميّة بن علي، عن رجل، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيّما أفضل نحن أو أصحاب القائم (عليه السلام)؟
قال: فقال لي: «أنتم أفضل من أصحاب القائم، وذلك أنَّكم تمسون وتصبحون خائفين على إمامكم وعلى أنفسكم من أئمّة الجور، إن صلَّيتم فصلاتكم في تقيّة، وإن صمتم فصيامكم في تقيّة، وإن حججتم فحجّكم في تقيّة، وإن شهدتم لم تقبل شهادتكم...»، وعدَّ أشياء من نحو هذا مثل هذه.
فقلت: فما نتمنّى القائم (عليه السلام) إذا كان على هذا؟
قال: فقال لي: «سبحان الله أمَا تحبّ أن يظهر العدل ويأمن السبل وينصف المظلوم؟»(29).
3 - عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «المنتظِر لأمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله»(30).
4 - عن أبي عبد الله (عليه السلام): «من مات منكم على هذا الأمر منتظراً له كان كمن كان في فسطاط القائم (عليه السلام)»(31).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29) الاختصاص: 20 و21.
(30) كمال الدين: 645/ باب 55/ ح 6.
(31) المحاسن للبرقي 1: 173/ ح 147.
5 - وعنه (عليه السلام) أيضاً: «من مات منتظراً لهذا الأمر كان كمن كان مع القائم في فسطاطه، لا بل كان كالضارب بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف»(32).
6 - عن السندي، عن جدّه، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في من مات على هذا الأمر منتظراً له؟
قال (عليه السلام): «هو بمنزلة من كان مع القائم (عليه السلام) في فسطاطه»، ثمّ سكت هنيئة، ثمَّ قال: «هو كمن كان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(33).
7 - في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «يا أبا بصير طوبى لشيعة قائمنا المنتظِرين لظهوره في غيبته، والمطيعين له في ظهوره، أولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»(34).
8 - عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته والقائلين بإمامته والمنتظِرين لظهوره أفضل من أهل كلّ زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عنهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أولئك المخلصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله (عزَّ وجلَّ) سرّاً وجهراً»(35).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(32) الإمامة والتبصرة: 122/ ح 118.
(33) المحاسن للبرقي 1: 173/ ح 146.
(34) كمال الدين: 357/ باب 33/ ح 54.
(35) كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.
مرَّ في طيّات ما سبق الإشارة بل التصريح في بعض الصفحات إلى مفهوم الانتظار وبعض خصائصه ومقوّماته، وهذا أمر طبيعي باعتبار العلاقة الوطيدة بين هذه المفاهيم الثلاثة، فالانتظار وإن كان من المعاني الاسمية التي لها تحقّق ووجود في عالم الذهن لكنَّها في عالم الواقع الخارجي وفي حدود التحقّق خارج إطار الذهن لا يمكن أن يرى الوجود بدون وجود المعاني السابقة ونعني بها (المنتظَر والمنتظِر)، فلذا حاولنا حصر الكلام في مفهوم الانتظار على بعض النقاط لا غير من دون توسّع قدر ما تسمح به هذه الأوراق.
إنَّ ممَّا يؤسف له أنَّ البعض منّا - ربَّما يكون لضعف في النفوس - ينجرّ وراء أصحاب الشبهات الذين يحاولون بشتّى الوسائل والطرق إيجاد النظرة السلبية حول مفهوم الانتظار وزرع روح التنفّر أمام هذه العقيدة الفطرية، فلهذا السبب نجد من هؤلاء تقسيماً لعقيدة الانتظار من غير مقسم، وتنويعاً للمنتظِرين من غير تنوّع، فيسوّدون الكثير من الصفحات من غير واقع وراءها ولا حقيقة تعرف من خلالها.
ويتحدَّثون الكثير عن الانتظار السلبي وآثاره ثمّ ينقضون عليه في
كثير من الأدلَّة والكلام الخالي عن الواقعية، فالقارئ يتصوَّر أنَّ الانتظار أو المنتظِرين على نوعين وشكلين الأوّل منهما وربَّما يكون الأكثر - لكثرة ما كتبوا فيه - هو المنتظِر السلبي، ذلك الإنسان الذي همّه البكاء والنوح ولا يحرّك ساكناً للتغيير، يقول البعض وهو يصوّر حالة هذا النوع من المنتظِرين: (ظهور حالة الانفعالية البكائية في مواجهة حالات الظلم بالاستغراق في داخل المشكلة).
وهنا أقف متسائلاً متعجّباً لأقول:
هل من يبكي لفراق حبيبه يكون معاباً؟ أو من يحترق ألماً لغياب سيّده ومولاه لا يفهم معنى الانتظار؟ فماذا نقول عن هذه الآهات في بطون الأدعية ومضامين الأحاديث الصادرة عنهم الحاكية عن ألم اللوعة ولوعة الألم، فنجد الداعي يتحرَّق شوقاً إلى رؤيته والنظر إلى تلك الطلعة الرشيدة والغرّة الحميدة.
«مَتى تَرانا وَنَراكَ وَقَدْ نَشَرْتَ لِواءَ النَّصْر...»، «هَلْ مِن مُعينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ العَويلَ وَالبُكاءَ، هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَأُساعِدَ جَزَعَهُ إِذا خَلا، هَلْ قَذِيَتْ عَينٌ فَساعَدَتْها عَيْنـِي عَلَى القَذى...»(36).
هذه الكلمات النابعة عن قلب محترق بألم الفراق وفقدان الحبيب..، هل كلّ ذلك يُعَدُّ تخلّفاً وفهماً سلبياً لمفهوم الانتظار أم أنَّ وراء الأكمة ما وراءها؟
والنوع الثاني هو المنتظِر الواعي المنفتح الذي ساعد في تغيير المعادلة لصالح الإمام الحجّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(36) المزار لابن المشهدي: 573 - 584/ الدعاء للندبة.
أقول: هذا الكلام لمَّا كان لا واقعية له ولا حقيقة تتمخَّض عنه كان الأجدر أن لا يكتب فيه لأنَّه يعطي تصوّراً وانطباعاً سلبياً عن مفهوم الانتظار والحال أنَّه لا يوجد هذا التقسيم على صعيد الواقع أساساً، فنحن لم نرَ منتظِراً يحمل همّ العقيدة متخاذلاً متهاوناً ونحن لم نرَ مثل (أولئك المتشائمون الذين يندبون الزمان وأهله ويقرؤون العزاء على واقع المسلمين ثمّ يعوقون ويثبطون الناس عن العمل)، أو كما يقول آخر: (إنَّ مشكلة هؤلاء - ويتحدَّث عن المنتظِرين بالجانب السلبي حسب فهمه - هي أنَّهم استغرقوا في انتظار الشخص ولم يستغرقوا في انتظار الرسالة فلم يلتقوا بالرسالة في حركة حياتهم فيما يمثّله انتظارها من جهد في سبيل الارتباط بها، بل التقوا بالشخص الذي سيأتي من خلال الغيب بعيداً عن إمكاناتهم وإرادتهم فلم يكلّفوا أنفسهم عناء السير نحوه للقاء به في منتصف الطريق).
وكم كان بودّي أن يذكر هؤلاء الباحثون كاتباً واحداً من المتمسّكين بهذه العقيدة ذكر أنَّ الانتظار يمثّل ذلك المفهوم السلبي لكي يكون البحث عملياً أكثر ممَّا هو بحث نظري لا يراد منه إلاَّ الترف العلمي من دون معالجة لمشكلة حقيقية إلاَّ ما يتبادر في أوهام المشكّكين.
بل زاد البعض بأن ذكر عدَّة سلبيات في حياة هذا النوع من الناس وكأنَّ القضيّة حقيقة واقعة ولها جمهورها من الشيعة والحال أنَّ أساس القضيّة لا واقع لها إلاَّ في مخيّلة الكاتب.
ولندع الذين يحاولون إلصاق التهم حول عقيدة الانتظار يتخبَّطون
في تخرّصاتهم ولننظر إلى تاريخ الشعوب المسلمة ولنتلمس التاريخ الشيعي منذ نشوءه وإلى يومنا هذا، فهل نجد فيه أمّة خانعة خاضعة أم أنَّنا نجد العكس تماماً، إذ أنَّ الشيعة هؤلاء الذين يتمسَّكون بعقيدة الانتظار أكثر المسلمين أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر نجدهم لا يرضون بالظلم ولا يستسلمون ولا يخنعون، فكيف تجتمع عقيدة الانتظار التي يصفها البعض بأنَّها عقيدة تدعو إلى الكسل والاتّكال على الغير؟ أقول: كيف تجتمع مع ما نرى من تاريخ الشيعة المشرّف في ثوراتهم على الظلم والظالمين؟ إذ نتبيَّن ومن خلال قراءة سريعة في التاريخ الإسلامي أنَّ الدافع الرئيس الذي كان يحدو بهؤلاء إلى الثورة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ما يحملونه من عقيدة راسخة في الانتظار حيث تشكّل هذه العقيدة عنصراً مهمّاً في حركة هؤلاء الإصلاحيين، بل هي عامل أساس عندهم يهدف بهم لفرض التغيير في الواقع المعاش.
فمن ثورة التوّابين إلى ثورة المختار وإلى زيد بن علي ومن بعد ولده يحيى، وهكذا يحكي لنا التاريخ عن المواقف البطولية للحسين بن علي صاحب وقعة فخ، وهكذا كانت الثورات الشيعية تترى الواحدة تلو الأخرى حتَّى توَّجت بالثورة الإسلاميّة والتي أطاحت بشاه إيران وأقامت حكومة إسلاميّة من أوّل أسسها وعقائدها عقيدة الانتظار للإمام الأعظم الحجّة ابن الحسن (عليه السلام).
ويظهر الفرق جليّاً إذا نظرنا إلى هؤلاء الذين لا يتمسَّكون بهذه
العقيدة ولا يتعايشون معها نجدهم خانعين خاضعين إلى حكّام الجور يؤثرون الدنيا على الآخرة قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم.
فوائد الانتظار:
الانتظار بشكل عامّ - بعيداً عن عالم المصطلحات - يمثّل حالة صراع مع النفس ورغباتها حيث يتجذَّر فيه الصبر والصلابة ضدّ عجلة الإنسان وإسراعه:
(الانتظار دعوة إلى الرفض، لا إلى الاستسلام، رفض الباطل والظلم والعبودية والذلَّة.
الانتظار راية المقاومة الراكزة في مواجهة كلّ باطل وظلم وكلّ ظالم).
والحديث خاصّ عن انتظار المهدي الموعود وفوائد هذا الانتظار فنقول:
1 - الانتظار في الحقيقة يمثّل قضيّة عبادية وأمراً إلهياً وشرعياً يجب الالتزام به من جهة، ويثاب عليه الإنسان المنتظِر من جهة أخرى، إذن واحدة من أهمّ الفوائد التي يحصّلها المنتظِر هو المثوبة والأجر العظيم في التزامه بهذه العبادة وطاعته لهذا التشريع. وسنذكر في خاتمة المطاف بعض الروايات الدالّة على ذلك.
2 - الانتظار منبع الأمل في المستقبل: لا يمكن للإنسان أن يتعايش مع الآخرين بل أن يعيش حياته مثل أيّ كائن آخر في هذا الوجود إلاَّ بالأمل.
فبالأمل تزهر الأوراد لتستقبل دفئ الشمس في نهار الغد.
وبالأمل تفتح صغار الطير مناقيرها عند بزوغ خيوط الفجر وتنشر أشعة الشمس ظفائرها.
وبالأمل تفتح الأرض ذراعيها لتحتضن حبّات المطر لتروي سنابل القمح صفراء ذهبية.
وبالأمل تنظر الأُمّ لوليدها وتلقمه ثديها وتربتْ على ظهره، وتسهر ليلها وتحرسه نهارها.
وبالأمل يكدح الرجل ويتعلَّم الإنسان ويرتقي مدارج الكمال.
إذن الأمل هو كلّ شيء في وجدان المخلوقات كافّة، فلولاه لم تكن هناك حياة ولم يكن هناك ازدهار ولم نرَ على شفاه الأطفال ابتسامة، ولم نسمع تغريد البلابل فوق أغصان الشجر.
ومن هنا يتبيَّن لنا ما للانتظار من الأهمّية والخطورة، فهو باعث للأمل في حياة الإنسان.
بالانتظار يأمل تغيير الواقع المليء بالظلم والاضطهاد إلى غدٍ مشرق بالعدل.
بالانتظار يأمل ازدهار الأرض بالكمال والعلم والتراحم ونبذ الحقد والضغائن.
بالانتظار يأمل كشف الزيف والنفاق وإزالة الأقنعة عن الانتهازيين وأصحاب الأهواء والأطماع.
فالانتظار أمل يتحقَّق فيه:
(التواضع أمام الحقّ والتكبّر على الباطل..
هو نفي القيم الواهية والتعالي على القدرات الوهمية..
هو إزهاق أنظمة الحكم والحكومات، وتزييف السلطات والحاكميات..
هو التمرّد على الظلم والعدوان، والتمهيد لحكومة العدل والقسط..
هو شعار المقاومة ورعشة العصيان واليقظة..
هو دمٌ في شريان الحياة وقلبٌ في صدر التاريخ..
هو فأس إبراهيم، عصا موسى، سيف داود، ونداء محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
هو صرخة علي، دم عاشوراء، ومسيرة الإمامة..)(37).
شبهات وردود:
قد يتصوَّر البعض أنَّ الشبهة لا يكون لها موقع ولا تجد لها منفذاً إلاَّ في الأمور الشائكة والقضايا التي يمكن النقاش والأخذ والعطاء في مرتكزاتها، وبعبارة ثانية إنَّ مدار الشبهات ينحصر في القضايا اللايقينية والتي يكون للشكّ فيها مجال واسع. لكن هذا التصوّر خاطئ وبعيد عن الواقعية تماماً، فما أكثر القضايا البديهية والأمور اليقينية التي علقت فيها الشبهات، وأنشبت فيها الأوهام مخالبها، بل يمكننا القول إنَّ القضيّة كلَّما كانت واضحة وجليّة تترادف عليها الشبهات وتزداد الشكوك في كلّ مجالاتها وكافّة مرتكزاتها كما هو الحال في وجود الله تعالى.
وقضيّتنا من هذا القبيل فإنَّها مع ثبوت يقينيَّتها وصدقها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(37) راجع: شمس المغرب لمحمّد رضا حكيمي: 255.
تواتراً نصيّاً ودليلاً عقلياً لكنَّها لم تخل من توافر الشبهات وترادف الشكوك عليها بشكل خاصّ فضلاً عن التشكيك بأصل قضيّة الإمام المهدي (عليه السلام)، وللاختصار نذكر نماذج من هذه الشبهات ونجيب عليها إن شاء الله تعالى:
الشبهة الأولى: الانتظار اختراع العقل الانهزامي:
إنَّ عقيدة الانتظار إنَّما هي نسيج من التخيّلات زرعتها الروح الانهزامية في عقل الإنسان ووطَّد لها عجز الإنسان المسلم عن تغيير الواقع المنحرف الذي ابتعد عن مباني الرسالة وقيم الدين الحنيف، كما ساعد على ذلك جهل المسلم بالكيفية والطريقة التي تمكّنه من الخلاص من هذا الواقع المرير، لذلك اخترعت مخيَّلته فكرة يوم الخلاص وانتظار المخلّص وما إلى ذلك من المفاهيم التي لا حقيقة لها على أرض الواقع، (وبهذا تكون عقيدة المهدي حيلة من حيل الدفاع النفسي تلجأ إليها النفوس المظلومة العاجزة لإزاحة التوتّر، وتخفيف الشعور بعدم الأمن الذي يفرضه الظالمون).
يقول أحمد أمين في مقدّمة كتابه (المهدي والمهدوية):
(إنَّ الدنيا في الشرق والغرب مملوءة ظلماً وذلك في كلّ العصور، وقد حاول الناس كثيراً أن يزيلوا الظلم عنهم ويعيشوا عيشة سعيدة في جوٍّ مليءٍ بالعدل فلم يفلحوا، فلمَّا لم يفلحوا أمَّلوا، فكان من أملهم إمام عادل، إن لم يأتِ اليوم فسيأتي غداً وسيملأ الأرض عدلاً، وستتحقَّق على يديه جميع الآمال)(38).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38) المهدي والمهدوية: 15.
ويقول عبد الله بن آل محمود رئيس المحاكم الشرعية في دولة قطر في كتابه (لا مهدي ينتظر):
(وأخذوا - يقصد الكاتب هنا ابن سبأ وأتباعه - في نشرها - أي فكرة الانتظار - في مجتمع الناس حتَّى لا يفقدوا الأمل الذي يرتجونه بزعمهم في إرجاع الحكم إلى أهل البيت ليزيلوا عنهم الظلم من قبل خصومهم بني أميّة...).
الجواب:
عادةً ما تنشأ الشُبَهُ وتحوم الشكوك في مختلف المجالات العلمية والعقائدية إذا ما حصل فصل بين حلقات الموضوع الواحد وأُخذتِ النظرةُ أُحاديةَ التوجّه وفي حلقة ضيّقة من دون امتداد إلى المفردات الأخرى ومن دون نظرة علمية فاحصة إلى باقي حلقات الموضوع، نعم فإنَّ لهذه النظرة الأُحادية تبعاتها على الرؤية الفاحصة والروح العلمية المتَّسمة بالموضوعية، إذ نجد أنَّ تواجدها يغيب في خضمّ مخلَّفات أمثال هذه النظرات الضيّقة، إذن لا بدَّ في كلّ موضوع - ولكي ترفع عنه جميع الشبهات وتغلق أمامه كافّة الشكوك - من النظر إليه بجميع مفرداته كوحدة مترابطة متكاملة وأجزاء متواصلة متراصّة فيما بينها، وبطبيعة الحال لا تشذُّ قضيّتنا ولا تستثنى من هذا العموم، فحينما ينظر لقضيّة الانتظار منفصلةً عن بقيّة أجزاء الموضوع وفي رؤية مستقلَّة لا ترتبط مع الحلقات الأخرى، فلا بدَّ أن تعتورها
الشكوك وتحوم حولها الشبهات والأوهام، أمَّا إذا كان للتاريخ مجاله الرحب وبابه الواسع لكي يدلي بدلوه في مثل هذا الموضوع، وإذا كان للعنصر الروائي والحديثي مشاركته الفاعلة أيضاً في صياغة التركيبة الأساسية لهذا الموضوع، وكان للجانب القرآني أثره الملموس في بيان ووقوع بل وضرورة هذه القضيّة..
أقول: لو كان لهذه الأمور مشاركتها، وبعبارة أخرى لو نظر إليها الإنسان قبل أن ينبت ببنت شفة إذن لسارع إلى الاقتناع بأصل الفكرة، وآمن بهذه العقيدة (الانتظار) من دون لفًّ ودوران، بل إنَّني لا أتصوَّر أن يعترضه الريب أو تتسرَّب إليه أمثال هذه الأوهام.
فلذا يمكننا هنا أن نذكر - وفي معرض الإجابة - عدَّة نقاط:
1 - النظر إلى الأدلة العقلية والنقلية - آية ورواية - يؤكّد ويدلّل على صحَّة عقيدة المهدي (عليه السلام)، ولا تتمكَّن هذه الوريقات من سرد واستيعاب حتَّى بعض الأدلَّة فهي مذكورة في مظانّها فليراجع من أحبّ، ولكن الذي أودُّ الإشارة إليه هو حصول الإجماع وثبوت التواتر من الطرفين - شيعة وسُنّة - على هذه الحقيقة وصحَّتها عند المسلمين وأخذها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتَّى صرَّح مدير إدارة المجمع الفقهي الإسلامي (محمّد المنتصر الكتاني) الأمانة العامّة لرابطة العالم الإسلامي، مكّة المكرَّمة بذلك فقال: (... وقد نصَّ على أنَّ أحاديث المهدي متواترة جمع من الأعلام قديماً وحديثاً منهم: السخاوي في فتح المغيث، ومحمّد بن أحمد السفاويني في شرح العقيدة، وأبو الحسين الآبري في مناقب الشافعي، وابن تيمية في فتاواه، والسيوطي في الحاوي، وإدريس العراقي
المغربي في تأليف له عن المهدي، والشوكاني في التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجّال والمسيح، ومحمّد بن جعفر الكتاني في نظم المتناثر في الحديث المتواتر، وأبو العبّاس ابن عبد المؤمن المغربي في الوهم المكنون من كلام ابن خلدون...) إلى آخر كلامه.
2 - لندع الدليل العقلي والنقلي بكلا شقّيه جانباً وننظر إلى الشبهة من جهتها التحليلية بعيداً عن عالم الأدلَّة المتداولة فإنَّ لها مظانّها الخاصّة كما ذكرنا، فالشبهة قائمة على حصر الإيمان بعقيدة (انتظار المهدي والمخلّص) بحالة الشعور بالضعف والاستكانة، وهذا يستلزم عدَّة نقاط لا يلتزم بها صاحب الشبهة:
أ - إذا كانت هذه الشبهة صادقة ولها حقيقة في عالم الواقع فلماذا نجد إيمان المذاهب الأخرى بعقيدة الانتظار مع أنَّ تلك المذاهب كانت مدعومة ومؤيّدة من قبل حكّام عصورهم، والحال أنَّهم لم يلاقوا العذاب ولم يترادفهم الهوان والإذلال، فمن أين نبع الإيمان بهذه العقيدة عندهم؟ علماً أنَّ هؤلاء يشكّلون أكثرية المسلمين من الناحية العددية، وربَّما يحلو للبعض أن يرمي المسلمين بالتهاون في عقائدهم، يقول عبد الكريم الخطيب في كتابه (المهدي المنتظر ومن ينتظرونه): (كان للآراء المتطرّفة من فِرَق الشيعة... ما أشاع بين المسلمين من أمر المهدي الذي يظهر...)(39)، ويدَّعي أنَّ هذه العقيدة إنَّما تسرَّبت إليهم من قِبَل الشيعة بحسب الاختلاط والمعاشرة. ويقول آخر: (نحن لا نشكّ في أنَّ عقيدة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(39) المهدي المنتظر ومن ينتظرونه: 112.
العامّة من أهل السُنّة، بل وكثير من الخاصّة، إنَّما هي أثر شيعي تسرَّب إليهم، فعملت فيه العقلية السُنّية بالصقل والتهذيب)(40).
ولكن هذا لا يمكن الركون إليه والتصديق بصحَّته لما نعرفه من تشدّد هؤلاء العلماء وحذرهم من الشيعة والابتعاد مهما أمكن عن أفكارهم.
ويكفي للتدليل على شدَّة حذرهم وتوجّسهم من الطائفة الشيعية هو نبذهم ما ندب إليه الشارع وجاء به الدين الحنيف مع اعترافهم بذلك ليس لشيء إلاَّ لتمسّك الشيعة به، فكيف تريدهم أن يتقمَّصوا ويتمسَّكوا بعقيدة باطلة - كما يدَّعون - اخترعها الشيعة، إن هذا إلاَّ عجباً من القول وزوراً.
ب - إنَّ هؤلاء - أصحاب الشبهة - حينما رأوا أمامهم أمرين أحدهما وجود فكرة الانتظار في أوساط المسلمين كحقيقة لا يمكن أن يتنصَّل منها أو يتغافل عنها، وثانيهما أنَّ هذه العقيدة تتمركز بشكل جليّ وواضح بجميع معالمها وجوانبها في الطائفة الإمامية الاثني عشرية - وإن كانت موجودة في جميع الطوائف والمذاهب الإسلاميّة الأخرى - وبما أنَّ هذه الطائفة عانت الويلات منذ غرسها ونشوئها على يد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته الكرام وإلى يومك هذا، لذلك كرَّس هؤلاء - أصحاب الشبهة - جهودهم لربط الأوّل بالثاني من دون ارتباط بينهما، وأقاموا معلولاً من دون علَّة، وأثبتوا نتائج من دون أسباب، فمن حقّنا ومن حقّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(40) المهدية في الإسلام لسعد محمّد حسن الأزهري: 175.
أيّ منصف يحترم عقله أن يتساءل: ما هو الدليل على أنَّ حالة الضعف والذلّ والعذاب المصاحب للطائفة الشيعية هو الذي ولَّد حالة الانتظار وغرس في نفوس الشيعة هذه العقيدة؟ وفي الحقيقة إنَّ هذا النقص الحاد في الاستدلال يواكب أغلب القضايا التحليلية حيث تتعثَّر أثناء القيام بوظيفتها في حال انفرادها بالتنظير واستخلاص النتائج، فالقضايا التحليلية لا يمكن أن تستقلّ في فرز النتائج، بل لا بدَّ لها من الاعتماد على أوّليات القضيّة المراد تحليلها وتسليط الأضواء عليها، ومن ثَمَّ دعم هذه الأدلَّة بمؤيّدات وشواهد تحليلية.
ج - الملاحظ لهذا التحليل والكيفية المتَّبعة في استخلاص النتائج يتَّضح له وجه الشبه جليّاً بين هذا التحليل وبين تفسير المادّيين للدين وكيفية تحليلهم له، يقول الشهيد الصدر في اقتصادنا: (وكان من الشائع في أوساط المادّية، أنَّ الدين نشأ نتيجة لعجز الإنسان القديم وإحساسه بالضعف بين يدي الطبيعة وقواها المرعبة، وجهله بأسرارها وقوانينها...
فالمضطهدون هم الذين ينسجون لأنفسهم الدين الذي يجدون فيه السلوة، ويستشعرون في ظلّه الأمل، فالدين إيديولوجية البائسين والمضطهدين، وليس من صنع الحاكمين)(41).
فلا أدري إن كان هؤلاء المشكّكون في قضيّة وعقيدة الانتظار من المسلمين، كيف يجيبون على الإشكالية المطروحة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(41) اقتصادنا: 116 - 118.
من قبل المادّيين على الدين؟ وكيف يتخلَّصون من هذه الرؤية التحليلية المشابهة إلى حدًّ كبير لرؤيتهم المادّية التحليلية وتفسيرهم، فما أعدّوه من الجواب في مسألة الدين وإبطال مزاعم المادّيين في استنتاجهم وتحليلهم هو بعينه يكون جواباً على شبهاتهم المطروحة في قضيّة الإمام المهدي وعقيدة الانتظار، ولنا أن نُسجّل على هذه الشبهة جهلها التاريخي في نشوء عقيدة الانتظار إذ من المسلَّم به أنَّها تولَّدت لدى المسلمين قبل بروز الشيعة كطائفة يشار إليهم وإن كان هناك أُناس قد وصلوا القمَّة في الإيمان يتشيَّعون لعلي (عليه السلام) في عصر الرسالة.
إذ في زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نراه مصرّحاً وصادحاً بصوته بضرورة الإيمان بالمهدي وأنَّ المنكر له يُعَدُّ كافراً، بل أكثر من هذا فإنَّ انتظار المهدي الموعود هو عقيدة الأنبياء والمرسلين كما سبق الإشارة إليه، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ (الأعراف: 71).
فقد جاء في الحديث الشريف عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته عن الفرج؟ قال: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿انْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [الأعراف: 71]»(42).
وعن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، قال: قال الرضا (عليه السلام): «ما أحسن الصبر وانتظار الفرج، أمَا سمعت قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ [هود: 93]، ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(42) كمال الدين: 645/ باب 25/ ح 4.
[الأعراف: 71]، فعليكم بالصبر فإنَّه إنَّما يجيء الفرج على اليأس، فقد كان الذين من قبلكم أصبر منكم»(43).
وبما تقدَّم من الإجابات يتَّضح الجواب حول الشبهة الثانية في هذا الموضوع والتي تدَّعي أنَّ عقيدة الانتظار إنَّما هي صنيع السلطات الحاكمة وغذاء الحكومات الجائرة التي مرَّت في تاريخ الإسلام إلى شعوبهم المضطهدة البائسة كي تنسى مطالبها ودورها السياسي وتستسلم لواقعها المرير، فعقيدة الانتظار إنَّما هي أحبولة تنسجها السلطات للصيد.
ويزعم هؤلاء (أنَّ الحكّام المستبدّين أيضاً عرفوا رغبة الناس الحقيقية للحقّ وإقامة العدل. فسعوا متعمدين لإلهاء الجماهير بعقيدة خرافية لا أساس لها... ليعيش المغبونون على أمل، وأن تشتغل قلوب المظلومين بالأمل بالمنشود ويتفرَّغ الظالمون لنهب خيرات الله ونعمه في الأرض فيعيثوا فيها فساداً وبالتالي تكون فكرة المهدي وهماً يتسلّى به المغبونون وتلهو قلوبهم عن عبث الحاكمين الظلمة).
أقول: ممَّا تقدَّم تظهر الإجابة وبوضوح حول هذه الشبهة أيضاً وأنَّه لا ربط للاستبداد في غرس هذه العقيدة في قلوب المسلمين بل هي عقيدة إلهية مستمدّة من الكتاب والسُنّة.
الشبهة الثانية: الانتظار عقيدة تزرع روح الاتّكال:
تزعم هذه الشبهة وأصحابها أنَّ المنتظرين هم في الحقيقة حالة اجتماعية منبعثة عن روح الاتّكالية والاعتماد على الغير،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(43) كمال الدين: 645/ باب 25/ ح 5.
فهي عقيدة لها خطرها وضررها على المجتمع البشري، وتمثّل عقبة كأداء أمام التطوّر العالمي والعلمي، بل ما تمثّله النفسية الاتّكالية من روح انهزامية غير صالحة للقيام بمسؤوليّاتها وواجباتها تجاه ذاتها واتّجاه الصالح العامّ. فالعجز عن تغيير الواقع هو الذي (خلق في النهاية إحساساً بالعجز والاستسلام واستغناء عن فكرة محاولة بشرية لإحداث التغيير والركون إلى الإله الذي سيحدث التغيير في الوقت المناسب بإرسال المهدي المنتظر الذي سيسوّي الأمور كافّة على أحسن وجه وخير ما يرام).
الجواب:
هذه الشبهة كمثيلاتها لا تعتمد إلاَّ على تحليل خاطئ للنظرية من دون دليل علمي، بل من غير رؤية حتَّى ولو خاطفة وسريعة للتاريخ، ومن دون دراسة للنفسية المنتظِرة، فلذا نقول: مع قراءة سريعة لتاريخ المنتظِرين ونظرة تأمّلية في واقع الذهنية المنتظِرة لا يبقى لهذه الشبهة عين ولا أثر، وقد ذكرنا سابقاً وفي ضمن فوائد الانتظار، ما للانتظار من أهمّية بالغة في بعث روح الأمل وتجديد النشاط عند المنتظِر سواء الفرد أو المجاميع المؤمنة بهذه العقيدة، فكيف ومتى وأنّى كان الانتظار سبباً للاتّكالية؟ وهذا تاريخ الشيعة حافل بالمبادرات وسبّاق إلى المكرمات في جميع ميادين العلم والعمل. فلا تجد علماً نافعاً إلاَّ والشيعة لهم السهم الأوفر والحصَّة الأكبر فيه، بل أكثر من ذلك فلهم قصب السبق في تأسيس كثير من العلوم والمعارف الإسلاميّة والإنسانية.
فهذه الكيمياء وهذا جابر بن حيّان، وهذا الطبّ وهذا ابن سينا، وهذا النحو وهذا أبو الأسود الدولي، وهذا العروض وهذا الخليل الفراهيدي، و...
وهكذا على صعيد التصدّي الاجتماعي وتحمّل المسؤوليّات تجاه الأمّة الإسلاميّة، حيث نجد الكمّ الوافر من الشخصيات الشيعية التي لعبت دوراً حسّاساً في هذا المجال، فهذه ثورة التنباكو وهذا المجدّد الشيرازي، وهذه ثورة العشرين وهذا السيّد الحبّوبي، وهذا العراق وهذا السيّد السيستاني دام ظلّه، وهذه إيران وهذا السيّد الخميني (قدّس سرّه).
فلنجعل للإنصاف مكاناً في نفوسنا.
ختامه مسك:
نتشرَّف بنقل بعض الروايات في فضل عبادة الانتظار وشرفها ليكون ذلك خاتمة المطاف ومسك الختام:
1 - عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله (عزَّ وجلَّ)»(44).
2 - عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله، فإنَّ أحبّ الأعمال إلى الله (عزَّ وجلَّ) انتظار الفرج»(45).
3 - عن سيّد العابدين (عليه السلام)، قال: «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(46).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(44) كمال الدين: 644/ باب 25/ ح 3.
(45) الخصال: 616/ حديث أربعمائة.
(46) كمال الدين: 320/ باب 31/ ح 2.
4 - عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: «ما أحسن الصبر وانتظار الفرج، أمَا سمعت قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ [هود: 93]...»(47).
5 - عن الحسن بن الجهم، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيء من الفرج، فقال: «أوَلست تعلم أنَّ انتظار الفرج من الفرج؟»، قلت: لا أدري إلاَّ أن تعلّمني، فقال: «نعم، انتظار الفرج من الفرج»(48).
6 - عن عبد العظيم الحسني، قال: دخلت على سيّدي محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، وأنا أُريد أن أسأله عن القائم، أهو المهدي أو غيره؟ فابتدأني فقال لي: «يا أبا القاسم، إنَّ القائم منّا هو المهدي الذي يجب أن ينتظر في غيبته ويطاع في ظهوره، وهو الثالث من ولدي»(49).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(47) كمال الدين: 645/ باب 51/ ح 5.
(48) الغيبة للطوسي: 459/ ح 471.
(49) كمال الدين: 377/ باب 36/ ح 1.
القرآن الكريم.
الاختصاص: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
اقتصادنا: محمّد باقر الصدر/ مكتب الإعلام الإسلامي/ فرع خراسان.
الأمالي: الطوسي/ ت مؤسسة البعثة/ ط 1/ 1414هـ/ دار الثقافة/ قم.
الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط1/ 1404هـ/ مدرسة الإمام الهادي/ قم.
بحار الأنوار: العلاَّمة المجلسي/ ط2/ 1403هـ/ مؤسسة الوفاء/ بيروت.
بحث حول المهدي: محمّد باقر الصدر/ ت الدكتور شرارة/ ط 1.
تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
جمال الأسبوع: ابن طاووس/ ت جواد القيّومي/ ط1/ 1371ش/ مط أختر شمال/ مؤسسة الآفاق.
الخصال: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1403هـ/ جماعة المدرسين/ قم.
دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط1/ 1413هـ/ مؤسسة البعثة/ قم.
شمس المغرب: محمّد رضا حكيمي/ ترجمة حيدر آل حيدر/ الدار الإسلاميّة/ لبنان.
الصراط المستقيم:علي بن يونس العاملي/ ت محمّد باقر البهبودي/ ط1/ 1384هـ/ مط الحيدري/ المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.
عقائد الإمامية: محمّد رضا المظفّر/ انتشارات أنصاريان/ قم.
الغيبة: الشيخ الطوسي/ ت عبد الله الطهراني، علي أحمد ناصح/ ط1/ 1411هـ/ مط بهمن/ مؤسسة المعارف الإسلاميّة/ قم.
الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط1/ 1422هـ/ أنوار الهدى.
الكافي: الشيخ الكليني/ ت علي أكبر الغفاري/ ط5/ 1363ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر الغفاري/ 1405هـ/ مؤسسة النشر الإسلامي/ قم.
المحاسن: البرقي/ ت جلال الدين الحسيني المحدّث/ 1370هـ/ دار الكتب الإسلاميّة/ طهران.
المزار: ابن المشهدي/ ت جواد القيّومي/ ط1/ 1419هـ/ مط مؤسسة النشر الإسلامي/ نشر القيّوم/ قم.
مصباح المتهجّد: الطوسي/ ط1/ 1411هـ/ مؤسسة فقه الشيعة/ بيروت.
مفاتيح الجنان: الشيخ القمّي/ 1424هـ/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
النجم الثاقب: الشيخ النوري/ ط1/ 1415هـ/ مط مهر/ أنوار الهدى/ قم.
نهج البلاغة: الشريف الرضي/ شرح محمّد عبده/ ط1/ 1412هـ/ مط النهضة/ دار الذخائر/ قم.
* * *