رايات الضلال
(أحمد إسماعيل گاطع أُنموذجاً)
بقلم: الشيخ أبو خالد الجابري السماوي
تقديم: مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام)
فهرست الموضوعات
مقدّمة المركز..................3
الإهداء..................7
المقدّمة..................9
تمهيد..................13
المبحث الأوَّل: مقدّمات البحث..................21
المقدّمة الأُولى: اتّباع المحكم هداية واتّباع المتشابه ضلال..................23
ما هو المحكم وما هو المتشابه؟..................23
في كلام المعصوم (عليه السلام) محكم ومتشابه..................24
من هم أتباع المتشابه؟ ولماذا يتَّبعونه؟..................25
المقدّمة الثانية: قاعدة وضعها المعصوم (عليه السلام) عند التعارض بين الأخبار:..................26
المرجِّح الأوَّل: الترجيح بالشهرة..................26
المرجِّح الثاني: مخالفة العامَّة..................27
المقدّمة الثالثة: لله الحجَّة البالغة..................28
الوصيَّة بولاة الأمر من أبلغ مظاهر حجَّة الله البالغة..................29
المقدّمة الرابعة: ادِّعاء العلم لا يُصيِّر الإنسان عالماً، وادِّعاء المعجزة لا يُثبِت حقَّ مدَّعيها..................31
المقدّمة الخامسة: الإنسان مفطور على الاستدلال..................33
المقدّمة السادسة: أقسام ومستويات حجّية الخطاب..................34
القسم الأوَّل: النصّ..................34
القسم الثاني: الظهور..................34
القسم الثالث: التأويل..................35
المبحث الثاني: الحركات الضالّة قادتها وأتباعها وأدواتهم..................38
مقدّمة..................41
المبحث..................41
من أسباب تطاول هؤلاء على مقام الإمام المهدي (عليه السلام)..................48
أصناف المعتقدين بالقضيَّة المهدوية..................51
حربهم وتسقيطهم لعلماء وشيعة آل البيت (عليهم السلام)..................55
العبرة..................62
النتيجة..................64
الجهة الثانية: المذمومون في الروايات هم علماء المخالفين لا علماء الشيعة..................66
الخلاصة..................67
ومن أدواتهم: ظهورهم المزعوم وخطَّة التوريط..................68
الحيلة الأُولى: صناعة المتشابه..................73
الحيلة الثانية: تقديم أدلَّتهم بطريقة مشابهة لطرق الاستدلال العلمي..................74
الحيلة الثالثة: استغلال عواطف الناس واستعجالهم..................75
الحيلة الرابعة: سرقة فضائل وإلصاقها باﻟﮕﺎطع..................78
الحيلة الخامسة: التلقين الدائم لأتباع الگاطع بأنَّه لا يُوفَّق إلى الإيمان بدعوتهم إلَّا المخلصون فقط..................78
الحيلة السادسة: سرقة نصوص ومعاني من كتب العرفاء والمتصوِّفين..................81
الحيلة السابعة: انتحال شخصية رجل من أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام)..................81
الحيلة الثامنة: تبديل معنى الفشل في الثبات إلى معنى الفشل بالتشخيص..................82
المبحث الثالث: ردُّ دعوى انتساب الگاطع الهمبوشي إلى الإمام المهدي..................87
الردُّ الأوَّل: الكلام في ثبوت النسب..................87
الردُّ الثاني: الكلام في سند أهمّ رواية اعتمدت عليها دعوة ﺍﻟﮕﺎطع..................88
الردُّ الثالث: الاحتجاج بالظهور اللفظي وقرينة السياق..................89
المبحث الرابع: ردُّ دعوى الوصاية..................95
بم تثبت الوصيَّة؟..................97
ردُّ دعوى انحصار الوصيَّة في رواية الغيبة..................98
الطائفة الأُولى: ما روي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قبل موعد وفاته..................98
التطبيق..................104
القسم الثاني: وهو ما يتحدَّث عن فترة قرب وفاة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)..................106
حقيقة دعوتهم..................109
روايات ثلاث..................117
1 - تنبّؤ الإمام الصادق (عليه السلام) بهذه الحركة..................117
2 - تحذير الإمام الكاظم (عليه السلام) في زمن الغيبة..................118
3 - حكم من يشرك مع الإمام من هو ليس بإمام..................119
تتمَّة..................120
النتيجة..................123
المبحث الخامس: مناقشة معنى (الأوَّل) في استدلالهم بأوَّل المؤمنين وأوَّلهم من البصرة..................125
مناقشة بعض الأسماء الواردة في الرواية التي أطلقوا عليها رواية الوصيَّة..................133
المبحث السادس: ردُّ دعوى التواتر المعنوي في تسليم الأمر لابن المهدي..................141
النقطة الأُولى..................149
النقطة الثانية..................151
النقطة الثالثة..................154
أصناف الباحثين في القضيَّة المهدوية..................156
المبحث السابع: أدلَّتهم من روايات أُخرى..................163
الرواية الأُولى..................165
الرواية الثانية..................172
المبحث الثامن: دعوى اليماني..................191
مدخل..................193
الجهة الأُولى: صدق عنوان اليماني..................193
تمهيد..................194
المناقشة..................195
ردُّ دعوى أنَّ اليماني هو القائم (عليه السلام)..................195
الجهة الثانية: دعوى تعميم صفة اليماني..................197
تساؤلات في متن رواية اليماني..................217
تقديم..................218
عصمة اليماني..................221
ميزان معرفة الحقِّ..................222
المرحلة الأُولى وهي خاصَّة..................228
المرحلة الثانية وهي عامَّة..................228
النتيجة..................230
تساؤلات..................230
المبحث التاسع: معرفة الإمام (عليه السلام)..................233
معيار معرفة الإمام..................235
القاعدة الأُولى: النصّ..................236
القاعدة الثانية: التنصيب..................240
القاعدة الثالثة: العلم..................244
الركن الأوَّل: المسؤول..................245
الركن الثاني: السائل..................245
الركن الثالث: السؤال..................247
النموذج الأوَّل من جهالاته..................254
النموذج الثاني من جهالاته..................256
النموذج الثالث من جهالاته..................262
النموذج الرابع من جهالاته..................265
إشكال وردّه..................266
المبحث العاشر: ردُّ دليل الاعتماد على الرؤيا..................269
أقسام الرؤيا عند المعصومين (عليهم السلام)..................271
الرأي الفقهي في الرؤيا..................273
بعض الأمثلة التي يدَّعي أصحابها أنَّهم رأوا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)..................277
قيمة القطع الحاصل من الرؤيا..................280
رؤيا يوسف (عليه السلام)..................281
مكانة الرؤيا عند أئمَّة الهدى (عليهم السلام)..................294
حديث (من رآني...)..................295
تذكير..................303
استنتاج..................303
المبحث الحادي عشر: شعاراتهم..................305
الحيلة من رفع هذه الشعارات..................308
شعار النجمة السداسية..................309
أهداف تمييز المسلمين عن غيرهم من أبناء الديانات الأُخرى..................314
تحويل القبلة نموذجاً للتمييز..................314
لا تطلب أثراً بعد عين..................321
الخاتمة..................325
مصادر الكتاب..................329
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز:
تتحكَّم في هذا العالم سنن كونية جعلها الله تعالى فيه، وفق الحكمة التي رآها (عزَّ وجلَّ) في علمه الأزلي، وتلك السنن منها ما هو معروف ومشاهد ويستطيع الإنسان أن يتعرَّف عليه، ومنها ما هو خفي يحتاج إلى متابعة وتأمّل لتعرفه وتعرف بعض أساسياته.
وقد منَّ الله تعالى على المسلمين بالقرآن الكريم، الذي لم يكن كتاب تشريع فقط، بل كان دستوراً متكاملاً يعالج جميع مجالات الحياة وعلى مختلف مشاربها.
ومن يتدبَّر فيه يستطع أن يستكشف الكثير من السنن الكامنة في الكون والإنسان، وبقليل من التدبّر والتأمّل يمكن أن يتعرَّف على بعض نماذجها وأساسياتها وغيرها ممَّا يتعلَّق بها.
ومن تلك السنن ما أشار له القرآن الكريم حول من يدَّعي العلم ولا علم له، ومن يدَّعي اليقين ولا يقين له، وهي سُنَّة (تشابه القلوب)، قال تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (البقرة: 118).
وهذا يعني أنَّنا وبحسب هذه السُّنَّة الكونية يمكننا أن نتلمس الخطوط الرئيسة والمرتكزات الأساس لأيِّ صاحب دعوى بلا دليل، ومدَّعي يقين بلا
مطابقة، من خلال مطالعة من ادَّعى دعوته ونهج طريقه، لتتَّضح لنا معالم التشابه جليَّة واضحة للعيان.
وتطبيقاً لهذه السُّنَّة فإنَّه وبكلِّ وضوح يمكن لنا أن نتعرَّف طريق وأساليب مدَّعي المهدوية والسفارة الخاصة والبابية وغيرها من المقامات التي ترتبط بقضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام).
* تخرّصات ظنّية بل شكّية.
* اعتماد على الرؤى والأحلام.
* قطع صلة الأُمَّة بالفقهاء.
* اتّباع من دون رويَّة.
* طقوس ما أنزل الله بها من سلطان.
* تهديد ووعيد.
* ترغيب وإغراء.
تلك هي وأمثالها ما يمكن أن نراها في طول خطِّ تلك الدعاوى.
وليس علينا إلَّا أن نطالع تلك الحركات في ذاكرة التاريخ لنرى صدق ما أشارت إليه تلك السُّنَّة الإلهية.
وقد أخذ مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام) على عاتقه، ومنذ اليوم الأوَّل لتأسيسه أن يرصد الحركات المنحرفة والدعاوى المضلَّة، ويتابع تحرّكاتها بكلِّ دقَّة، ويعمل على كشف أسرارها، وإبراز حقيقة مؤسّسيها، وفضح مخططاتها، ونشر الوعي بين الناس ليحذروا من الانخداع بها.
وقد شمَّر الكثير من الباحثين عن سواعدهم في نفس هذا الطريق، وقد أجادوا فيما كتبوا، وأحسنوا فيما بحثوا، ومن هؤلاء الإخوة الباحثين سماحة الشيخ (سفّاح صگبان عذيب الجابري) الذي تناول دعوة ابن گاطع من أكثر
أطرافها بالنقد والتحليل والنقض والردّ، فأجاد فيما أفاد، جعله الله في ميزان حسناته.
والمرکز إذ يُقدِّم هذا الكتاب إلى المكتبة المهدوية، فإنَّه يشكر الله تعالى من قبل ومن بعد على هذا التوفيق، ونأمل من القارئ الكريم أن يطالع هذا الكتاب بتروٍّ وتدبّر، ليتعرَّف أكثر على هذه الحركة المنحرفة، ويأخذ بنفسه إلى سفينة النجاة.
نسأل الله تعالى أن يمنَّ على المسلمين بتعجيل الفرج، وأن يجعلنا ممَّن يُمهِّد لذلك اليوم الموعود.
مدير المركز
السيِّد محمّد القبانچي
إلى قاطع حبائل الكذب والافتراء، إلى مبيد العتاة والمردة، إلى مستأصل أهل العناد والتضليل والإلحاد، إلى معزِّ الأولياء ومذلِّ الأعداء، إلى جامع الكلمة على التقوى، إلى باب الله الذي منه يُؤتى، إلى وجه الله الذي يتوجَّه إليه الأولياء، إلى السبب المتَّصل بين الأرض والسماء...
إلى سيِّدي ومولاي إمام العصر، الإمام محمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام) أُهدي هذا الجهد المتواضع، فأنت أملي ومنيتي، وأنت سؤلي ورغبتي، ورضاك هدفي وسعيي.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدّمة:
كتب الكثير من الإخوة والأساتذة في الردِّ على أصحاب رايات الضلال هذه، ولا أدَّعي أنَّ في هذه الكتابة الردّ الكامل، إنَّما سبب كتابتي هو لاطّلاعي على كثير من المحاولات السابقة، فوجدت أنَّها تأخذ أحد أجزاء المشكلة، وتحاول معالجتها والردّ عليها.
ومن خلال القرب والمعرفة المباشرة لأتباع هذه الفِرقة، أمكن لي معرفة طريقة تفكيرهم ومنهجهم وحيلهم النفسية والعقلية، ومثلهم: كمن به عدَّة أمراض مستعصية، ويوجد لكلِّ مرض آثار عدَّة، ومحاولة معالجة أحد تلك الأمراض أو الآثار من دون الالتفات إلى الأمراض الأُخرى، لا يشفي المريض بصورة كاملة، خصوصاً أنَّ مرض الشُّبُهات العقائدية له قابلية للزحف والتمدّد لملء الفراغات التي يتمُّ إصلاحها.
وأحد حيلهم هي محاصرة من يطرحون عليه دعوتهم بسيل من الشبهات والتأويلات بأُسلوب المغالطة والتدليس، فيُطوِّقون عقله الذي هو أصلاً لم يحصنه بقواعد علمية صحيحة، فلا يجد هذا المسكين بدًّا من الاستسلام أو الشكّ في ما لديه من ثوابت، فإن تطوَّر لديه هذا الشكّ، سوف يبحث عن بديل يملأ به المنظومة العقائدية، التي دمَّرها هؤلاء مسبقاً، بأساليب المكر والوعيد والترغيب الزائفة التي يحيطونه بها بإلحاح شديد، فلا يجد بعض أُولئك المساكين أنفسهم إلَّا وهم من أبناء تلك الدعوات.
وفي هذا الجهد البسيط الذي بين يديك حاولت أن أكشف أساليبهم، وأُبيِّن خداعهم، وأهدم أساس دعوتهم القائمة على دعوى انتساب أحمد إسماعيل للإمام المهدي (عليه السلام).
ثمّ قمت بالردِّ على دعوى الوصاية للنبيِّ وآله الأطهار، وإبطال استدلالهم برواية كتاب (الغيبة)، والروايات الأُخرى التي حاولوا أن يعضدوا دعوتهم بها، وكذلك دعوى أن أحمد إسماعيل گاطع هو اليماني.
ثمّ بعد ذلك ذكرت الميزان الصحيح وفق قواعد المعصومين (عليهم السلام) في معرفة الحجَّة، مع تطبيق تلك القواعد على دعوى هذا المدَّعي.
ثمّ انتقلت إلى أهمِّ أدلَّتهم وهو الاستدلال بالرؤيا، بلحاظ أن الطبقة التي يخاطبونها من الناس تنخدع بمثل هذا الدليل، ولذلك صار الاستدلال بالرؤيا هو أهمّ أدلَّتهم وأكثرها رواجاً، حتَّى أخذوا في الآونة الأخيرة يدورون في الأرياف بصحبة أشخاص يدَّعون أنَّهم شاهدوا رؤى تُؤيِّد دعوتهم، وأفردنا لشعاراتهم مبحثاً خاصًّا.
وقد قدَّمت هذا البحث بمبحث مهمّ ذكرت فيه بعض القواعد العلمية التي تصلح أن تكون قواعد عامَّة تحاسب على وفقها جميع الدعوات المنحرفة والرايات المُضلَّة، وأسميت هذا المبحث بـ (مقدّمات البحث)، لكي يرجع القارئ إلى هذه القواعد لتطبيقها على كلِّ دعوة لمعرفة أنَّها دعوة صادقة أو منحرفة.
وبيَّنت في المبحث الثاني أسباب نشوء الحركات الضالّة، وحاولت إعانة القارئ على فهم طرق وأساليب قادة تلك الحركات وأتباعها في حربهم العلنية لعلماء الطائفة ولأتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وذكرت فيه بعض الحيل التي يستعملونها في دعوتهم، ومدى ابتعادهم في منهجهم الفوضوي عن المقاييس العلمية والدينية.
ونسأل المولى تقدَّست أسماؤه أن ينفع به أُولئك الأحبَّة الذين طالما تاقت أنفسهم شوقاً لرؤية مولاهم إمام الحقِّ (عليه السلام)، فاستدرجهم أئمَّة الضلال بأقدس ما عندهم وهو حبّهم لإمامهم (عليه السلام)، من خلال أسوأ ما فيهم وهو جهلهم بقدره (عليه السلام) وعدم معرفتهم بحيل مردة الشياطين.
(اَللّهُمَّ أَذِلَّ كُلَّ مَنْ ناواهُ، وَأَهْلِكْ كُلَّ مَنْ عاداهُ، وَامْكُرْ بِمَنْ كادَهْ، وَاسْتَأصِلْ مَنْ جَحَدَهُ حَقَّهُ، وَاسْتَهانَ بِأَمْرِهِ وَسَعى في إِطْفاءِ نُورِهِ وَأَرادَ إِخْمادَ ذِكْرِهِ)(1).
أبو خالد الجابري السماوي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جمال الأُسبوع: 306.
تمهيد:
حاول أحمد إسماعيل گاطع، أن يتعكَّز على رواية رواها الشيخ الطوسي (رحمه الله) في (الغيبة)، وأكَّد على تسميتها برواية (الوصيَّة)، والسبب في هذا التركيز على هذه التسمية هو أنَّهم يريدون أن يوهموا أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّها هي الرواية الوحيدة المبيِّنة لوصيَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالأئمَّة من بعده.
وإبطالاً لهذه الحيلة التي يريدون أن يخدعوا بها عقول أتباع أهل البيت (عليهم السلام) فإنَّنا سنذكر للإخوة الموالين بعض الروايات المرويَّة عن نبيِّنا الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) التي يُبيِّن فيها عدد الأوصياء من بعده، والتي رواها عنه أهل بيته (عليهم السلام)، الذين ندين لله تعالى بولايتهم، فإنَّهم ذكروا عدد وأسماء أوصيائه بالحقِّ صريحة محكمة لا لبس فيها ولا تقبل أيّ تأويل.
إنَّ أساس دعوتهم تقوم على ادِّعائه أنَّه التقى بالمهدي (عليه السلام) وأخبره أنَّه جدّه الخامس، ويبدو أنَّ قصَّة الجزيرة الخضراء قد ألهمته ابتكار خدعة عدد الأجداد الخمسة، وبهذا الادِّعاء المجرَّد عن أيِّ بيِّنة شرعية انتقل نسبه من عشيرة (البو سويلم) إلى السادة العلويين، وادَّعى أنَّه هو المقصود بعبارة: (فليُسلِّمها إلى ابنه)، الوارد في الرواية المشار إليها، وهو أوَّل المؤمنين، وأنَّه وصيّ، ثمّ إنَّه إمام ثالث عشر.
واستدلّوا على انحصار الدعوة به وصدقه بتأويل رواية: (إنَّ هذا الأمر لا يدَّعيه...)، بعد ما حرَّفوا معناها، وعلى هذا الأساس أقاموا
جميع ما يتعلَّق بهذه الدعوة، من أنَّه مرسل من قِبَل الإمام (عليه السلام)، وأنَّ طاعته واجبة، وأنَّه اليماني، وأنَّه من يملؤها قسطاً وعدلاً، وأنَّه قائم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّه صاحب الأمر، وأنَّه صاحب الغيبة، وابن الأَمَة، إلى آخر افتراءاته التي ملأت بالونة أوهامه.
وإنَّ الرواية كما سيمرُّ علينا تتكلَّم عن مرحلة ما بعد الإمام المهدي (عليه السلام)، وإنَّ أيَّ تكليف للبشرية يتعلَّق بتلك الفترة يُحدِّده الإمام صاحب الأمر (عليه السلام)، وهو الأعرف بوصيَّة جدّه (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وتحديد مصداق خليفته، وتعيينه حسب الروايات التي هو أعرف بمضمونها ودلالاتها، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص: 68).
فإذا كان الإمام الحجَّة (عليه السلام) هو الذي يُسلِّم الأمر إلى أوَّل المهديين بعده، فلا بدَّ أن يكون ذلك التسليم وفق القواعد التي وضعوها هم (عليهم السلام)، فليس من اللائق أن نصف أئمَّتنا بأنَّهم يأمرون شيعتهم بشيء ثمّ يخالفونه إلى غيره، وأهمّ قاعدة كما سيأتي في مبحث معرفة الإمام (عليه السلام) هي قاعدة التنصيب العلني، ليكون المنصَّب والوصيّ حجَّة لله على خلقه، كما ورد عنهم (عليهم السلام) في الرواية التي تتكلَّم بوضوح عن تلك اللحظة والكيفية التي يُودِّع فيها قائم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) الدنيا:
فقد جاء في قوله تعالى: (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرضِ مَرَّتَيْنِ) (الإسراء: 4)، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (خروج الحسين (عليه السلام) في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهَّب لكلِّ بيضة وجهان، المؤدّون إلى الناس أنَّ هذا الحسين قد خرج حتَّى لا يشكّ المؤمنون فيه، وأنَّه ليس بدجّال ولا شيطان، والحجَّة القائم بين أظهرهم،
فإذا استقرَّت المعرفة في قلوب المؤمنين أنَّه الحسين (عليه السلام) جاء الحجَّة الموت، فيكون الذي يُغسِّله ويُكفِّنه ويُحنِّطه ويلحده في حفرته الحسين بن علي (عليهما السلام)، ولا يلي الوصيّ إلَّا الوصيّ)(2).
فما قيمة تأويلات فاسدة مبنيَّة على دعاوى شخصية أمام نصوص المعصومين (عليهم السلام)، لنُكرِّر بذلك خطأ السقيفة، ونُهيِّئ بهذا العمل الفضولي لضياع جهود غيبته وتضحياته المباركة وآمال البشرية بتحقيق العدل الكامل في أرجاء المعمورة بظهوره المقدَّس، كما ضيَّع أصحاب السقيفة آمال البشرية باعتدائهم على منصب القيادة الإلهية، وأوَّلوا بعض الأحاديث كما أوَّل أحمد إسماعيل وأمثاله، وتركوا مئات الأحاديث النبويَّة (المحكمة) التي نصَّت على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فجرى عليهم ما جرى، (والأُمَّة مجتمعة على قطيعة رحمه وإقصاء ولده)، فلماذا لا نترك الأمر لأهله بعد أن لم يكن لنا الخيرة؟ تعالى الله عمَّا يقول الظالمون.
وما هذا الإلحاح على خلافة المهدي من قِبَل المدَّعي إلَّا أنه يريد أن يُهيِّئ بتلك الرواية عقول ونفوس بعض الأفراد الذين لهم القابلية على الاتّباع الأعمى، بحجَّة أنَّه الإخلاص والاجتباء، حتَّى إذا اطمأنَّ بأنَّهم وقعوا في شراكه استدرجهم إلى فترة ما قبل الظهور بتأويلات فاسدة أُخرى.
فكيف قفز أحمد إسماعيل بمداليل تلك الرواية إلى مرحلة ما قبل الظهور المقدَّس، عابراً زمن دولة الإمام المهدي (عليه السلام) التي اختلفت الروايات في بيان فترة قيادته لها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) الكافي 8: 206/ ح 250.
في الحقيقة كان أمامه عدَّة عقبات:
الأُولى: أنَّ خليفة الإمام حسب هذه الرواية هو ابنه (... فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين...)، وأحمد إسماعيل وكما هو معروف (قبل ادِّعائه) لا يرتبط برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بنسب، وهو من قبيلة (البو سويلم الصيارمة...)، إلى أن ادَّعى أنَّه التقى بالإمام الثاني عشر، وأخبره بأنَّه من ذرّيته، وأنَّه جدّه الخامس، وبهذا الادِّعاء وبكلِّ بساطة تخلَّص من العقبة الأُولى بادِّعاء مجرَّد لا دليل عليه.
الثانية: هي أنَّه لا بدَّ لصاحب هذه الدعوة من وظيفة يُحقِّق بها رغباته وطموحاته، فاختار أبرز شخصية تسبق الظهور المقدَّس، والتي نصَّت الروايات على احترامها، فوجد أن شخصية اليماني تُلبّي هذا الغرض، وبمجرَّد ادِّعائه بأنَّه اليماني عبر أحمد إسماعيل الزمن، وقفز بذلك من مرحلة ما بعد الظهور إلى مرحلة ما قبله، ومن خلال حيلة الدمج بين شخصية اليماني والقائم (عليه السلام) اصطنع عنواناً متشابهاً، ووجد له بذلك الادِّعاء الجديد وظيفة أُخرى بالإضافة إلى خلافة الإمام (عليه السلام) تناسب تطلّعاته المتزايدة.
وكلُّ مضامين الروايات المرويَّة عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) تحصر مهمَّة اليماني بما قبل فترة الظهور المقدَّس، وهذا ممَّا لا يُلبّي طموح هؤلاء، فوسَّعوا دائرة بحثهم طلباً لصلاحيات جديدة لليماني، فوجدوا ضالَّتهم في روايات بعضها مروي عن أمثال كعب الأحبار وبعض المنافقين الذين لم يدخلوا الإسلام إلَّا بعد يأسهم عن إيقاف المدّ الإلهي من خارجه، فالتجؤوا إلى استراتيجية جديدة في حربه، وهي تفتيته من الداخل(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) وذلك أنهم اتبعوا عدَّة أساليب، منها مثلاً:
أ) تسفيه مضامين ومبادئ الإسلام العليا من خلال وضع أحاديث ترجع إلى أساطير وخرافات الأُمم السالفة.
ب) الوقوف إلى جنب الطغاة، ووضع أحاديث تدعم وتُشرِّع ظلمهم، ممَّا يُشوِّه صورة رسالة الإسلام العادلة في نظر الأُمم والأجيال القادمة.
جـ) وضع أحاديث بحقِّ سلاطين الجور تساوق في مضامينها أحاديث صحيحة تُؤيِّد وتبرز أسماء وصفات القادة الإلهيين.
د) وضع أحاديث تُشتِّت أذهان الأُمَّة عن قضيَّة قد ركَّز عليها صاحب الرسالة تركيزاً غير مسبوق، باعتبارها تُمثِّل خلاصة جهوده وجهود إخوانه من أنبياء ورسل ومصلحين، وعلى طول خطِّ التاريخ البشري، وهي قضيَّة المنقذ والمصلح المنتظر.
وبعد اليأس من إخفاء أصل قضيَّته عمدوا إلى مهامّه ووظائفه الأساسية، وإلى من يرافقه من شخصيات ومنهم اليماني، فخلطوا أوراق مهامّه بتلك الشخصيات لإرباك الذهنية المسلمة في تلك القضيَّة المحورية في تاريخ الخطّ الإلهي عموماً والإسلامي خصوصاً، ويتناغم هذا الهدف لأمثال كعب الأحبار وغيره مع العقيدة اليهودية في المنقذ وأمانيهم بكونه منهم. وأثمرت جهود أُولئك الدسّاسين لأحاديث الزور حيث استفاد من هذا التزوير كثير ممَّن تتوق أنفسهم إلى اعتلاء المناصب ولو على حساب إزاحة من نصَّبهم الله فيها، وممَّن تناغموا مع تلك الأحاديث المدسوسة أو المتشابهة في عصرنا الحالي أمثال (حيدر مشتِّت) والذي كان صديقاً مقرَّباً لأحمد إسماعيل قبل أن يختلفا. حيث انقلب حيدر مشتِّت إلى أبي عبد الله القحطاني، مستفيداً من روايات العامَّة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: (القحطاني بعد المهدي، والذي بعثني بالحقِّ ما هو دونه). (الفتن لنعيم بن حماد: 397).
الثالثة: بقي عليه كيف يربط بين المرحلتين، فاستطاع بمجرَّد ادِّعاء آخر، حلَّ هذه المعضلة بقوله: إنَّ الإمام قد بدأ ظهوره فعلياً، وأنا أوَّل المؤمنين به، بالإضافة إلى أنَّه اليماني.
الرابعة: العقبة الأساس وهي: نفس الإمام محمّد بن الحسن المهدي (عليه السلام)، إذ أنَّ تطلّعات الهمبوشي(4) لا تتوقَّف عند وظيفة اليماني، وليس فيها من القداسة ما يرضي عطشه، ومن جهة أُخرى لا يوجد في شخصية اليماني ما يوجد في شخصية الإمام المهدي (عليه السلام) من تأثير في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) نسبة إلى أحد أجداد أحمد إسماعيل ﮔﺎطع يُدعى (همبوش).
نفوس المؤمنين من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، فآل محمّد لا يقاس بهم أحد. وفي ادِّعاء بسيط حلَّ هذه المشكلة بقوله: إنَّ اليماني هو قائم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وهذه أوَّل خطوة في التجرّؤ على مقام الإمام المهدي (عليه السلام) مباشرةً، ثمّ توالت حماقاته وتعاظمت جرأته، وكلَّما التفَّ به أشباهه ازداد حماسةً وتجاسر أكثر.
وبقي عليه كيف يتخلَّص من اسم الإمام المهدي (عليه السلام) ويرفعه من عقول أتباعه، فابتكر حيلة يبدو أنَّه أعدَّها مسبقاً، وهي تسمية نفسه بـ (الإمام أحمد الحسن)، متجاوزاً بذلك اسم الإمام المهدي، وارتبط مباشرةً باسم أبيه وهو الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). وتسمية نفسه مسبقاً بهذا الاسم من أجل تهيئة نفوس أتباعه إلى أن يصل مستوى ارتباطهم به إلى درجة ترجيحه على صاحب الأمر (عليه السلام)، فإنَّه إذا ادَّعى بعد ذلك جميع مقاماته (عليه السلام) ومهامّه فإنَّ عقولهم قد وصلت إلى مرحلة قد أنست وألفت اسم ابن الحسن، فلا يبقى عندهم فرق من هذه الناحية، بعد أن عمل على جذبهم نفسياً وعاطفياً، فصار انجذابهم إليه أقوى من علاقتهم السابقة بإمامهم الحقّ (عليه السلام)، بفضل صناعة اسم مشابه لاسمه المبارك، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم.
وكذلك اغتنم هذا الإرباك في تاريخ المسلمين، واستغلَّ بعض الروايات الهامشية المدعو ضياء الگرعاوي صاحب حادثة (الزرگة)، والذي انضمَّ كثير من أتباعه إلى أحمد إسماعيل بعدما بتر الله عمر صاحبهم، ولا أعلم كيف تعاملوا مع المعجزات التي ادَّعاها الگرعاوي قبل هلاكه.
ألَا يَعتبِر أصحاب أحمد إسماعيل بتلك الادِّعاءات والبراهين التي
ادِّعاها الگرعاوي، والتي كان من أبرزها إثبات دعوته بالرؤيا، وكيف أنَّ الله فضحه وأخزاه، وأظهر أُكذوبته للعالم كافَّة، ثمّ جاء ثالث القوم وهو (أحمد إسماعيل)، لكنَّه سار إلى أبعد من صاحبيه، حتَّى ادَّعى أنَّه جاء ذكره في القرآن الكريم، كما سيمرُّ علينا إن شاء الله تعالى.
وإن بطل استدلاله برواية المهديّين، وبان افتراؤه بتأويل رواية (لا يدَّعي هذا الأمر)، فحينئذٍ تسقط جميع دعاويه، وتبطل كافَّة استدلالاته، ولا يبقى حجَّة لمن كان يعتقد باتّباع هذه الدعوات، لأنَّ دعوتهم بُنيت على أساس استدلالهم برواية المهديّين، وشُيِّدت بتأويل عدم ادِّعاء هذا الأمر إلَّا من أهله.
وسنتابع أهمّ افتراءاته، وسنأخذ من كلِّ صنف نموذجاً، ونُبيِّن بطلانها من خلال قواعد أسَّسها المعصومون (عليهم السلام)، وسنزن آراءهم وتخرّصاتهم بروايات أهل البيت (عليهم السلام) التي تُكذِّب هذه الافترءات بشكل صريح.
وسنوقف القارئ الكريم على أساليبهم وحيلهم التي اعتمدوها في نشر أفكارهم، وكيف أنَّها تبدو في نظر الجهلة والبسطاء وقليلي الإيمان بإمام الزمان (عليه السلام) كأنَّها تشبه الحقّ وليست منه في شيء.
وما توفيقنا إلَّا بالله الواحد الأحد، متوسّلين بصاحب الولاية العظمى أرواحنا لتراب مقدمه الفداء ونحورنا لدعوته الوقاء.
* * *
موضوع هذا المبحث هو بيان بعض المقدّمات التي هي في حقيقتها قواعد عامَّة نحتكم إليها، ونُصحِّح بها بعض الأخطاء التي وقع فيها أتباع هذه الدعوة أو الدعوات المشابهة لها من حيث المنهج والأُسلوب، ولا يخفى أنَّ هذه القواعد من المسلَّمات العقلية أو الدينية، وينبغي لكلِّ من يقرأ هذا البحث أن يرجع إلى كلِّ قاعدة حين يحتاج إلى تطبيقها في طيّات المباحث الأُخرى، كما يمكن أن يصلح هذا البحث معياراً لمعرفة الحركات المهدوية، التي تدَّعي انتسابها بشكل أو بآخر بالإمام المهدي (عليه السلام).
المقدّمة الأولى: اتّباع المحكم هداية واتّباع المتشابه ضلال:
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (آل عمران: 7).
ما هو المحكم وما هو المتشابه؟
(المحكمات: هي الآيات ذات المفاهيم الواضحة التي لا مجال للجدل والخلاف بشأنها، كآية: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1]، و(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، و(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد: 16]، و(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأَنْثَيَيْنِ) [النساء: 11]...، وهي الأصل والمرجع والمفسِّرة والموضِّحة للآيات الأُخرى.
و(المتشابه) هو ما تتشابه أجزاؤه المختلفة. ولذلك فالجمل والكلمات التي تكون معانيها معقَّدة، وتنطوي على احتمالات مختلفة، تُوصَف بأنَّها (متشابهة). وهذا هو المقصود من وصف بعض آيات القرآن بأنَّها (متشابهات)، أي الآيات التي تبدو معانيها لأوَّل وهلة معقَّدة وذات احتمالات متعدِّدة، ولكنَّها تتَّضح معانيها بعرضها على الآيات المحكمات)(5).
في كلام المعصوم (عليه السلام) محكم ومتشابه:
بعد أن ثبت في محلِّه أنَّ المعصومين (عليهم السلام) هم عِدل القرآن وهم حملته، بل هم القرآن الناطق، وأنَّهم لا يفترقون عن الكتاب حتَّى يردوا الحوض، فإنَّ النظام العامّ الثابت لكلام الله تعالى يثبت لكلامهم (عليهم السلام)، كاشتماله على الإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص، والمحكم والمتشابه، وكلامنا في الأخيرين منهما. ومن يترك المحكم، أو يعمل بالمتشابه من كلامهم (عليهم السلام) من دون إرجاعه للمحكم فهو ضالّ وفي قلبه زيغ كما بيَّن الكتاب العزيز، وبيَّنه المعصوم (عليه السلام):
فقد روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) عن أبي حيّون مولى الرضا (عليه السلام)، قال: (من ردَّ متشابه القرآن إلى محكمه هُدي إلى صراط مستقيم)، ثمّ قال: (إنَّ في أخبارنا متشابهاً كمتشابه القرآن، ومحكماً كمحكم القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتَّبعوا متشابهها فتضلّوا)(6).
والضلال واضح المعنى إلَّا إذا أراد هؤلاء تأويله، خصوصاً أنَّ من أتباع هذه الدعوات من تجاوز به التسليم والانقياد والافتتان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) أُنظر: تفسير الأمثل 2: 3396 و397.
(6) عيون أخبار الرضا 1: 261/ ح 39.
بادِّعاءات قادتهم حدَّ المرض، فقصَّة الشلمغاني معروفة، فإنَّه بعد أن انحرف وضلَّ، وصدر التوقيع بلعنه، لمَّا بلغه الكتاب بكى بكاءً عظيماً، ثمّ قال: (إنَّ لهذا القول باطناً عظيماً وهو أنَّ اللعنة الإبعاد، فمعنى قوله: (لعنه الله) أي باعده الله من العذاب والنار، والآن عرفت منزلتي)، ومرَّغ خدَّيه على التراب، وقال: (عليكم بالكتمان لهذا الأمر)(7).
من هم أتباع المتشابه؟ ولماذا يتَّبعونه؟
(إنَّ الذين في قلوبهم ميل عن الحقِّ إمَّا بشكٍّ أو جهل، فإنَّ كليهما زيغ (يَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ)، ومعناه يحتجّون به في باطلهم، (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ)، ومعناه طلباً للفتنة)(8)، وأمَّا (ابتغاء الفتنة طلب إضلال الناس، فإنَّ الفتنة تقارب الإضلال في المعنى، يقول تعالى: يريدون باتّباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه، وأمراً آخر هو أعظم من ذلك، وهو الحصول والوقوف على تأويل القرآن ومآخذ الحلال والحرام حتَّى يستغنوا عن اتّباع محكمات الدين، فينتسخ بذلك دين الله من أصله)(9).
وبعد تتبّع أدلَّة هذا المضلّ نجد أنَّه ينتقل من معنى متشابه إلى آخر (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ)، وكأنَّه عاهد الله أن لا يقترب من محكمات كتابه أو كلام أوليائه بالحقِّ، ليجمع من عدَّة روايات معاني جزئية ثمّ يُؤوِّلها (ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) إلى معاني هو يدَّعيها، تصبُّ كلُّها في صالح دعوته (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) الغيبة للطوسي: 404/ ح 378.
(8) تفسير التبيان 2: 399.
(9) تفسير الميزان 3: 23.
وأستغربُ لماذا بعض أتباعه الذين بقي لديهم شيء من العقل لم يسألوا أنفسهم عن سبب ترك (أحمد إسماعيل) عن علم وعمد مئات الأحاديث الصريحة المعنى والدلالة أي (المحكمة)، والتي تُحدِّد بوضوح لا يقبل أدنى شكٍّ من هو القائم، ومن هو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً، ومن هو الذي يُصلّي المسيح (عليه السلام) خلفه، إلى أمثال هذه الأُمور التي تدلُّ على الإمام محمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام) دون غيره؟!
ألَا يدلُّ ذلك على أنَّ الهدف الواضح من اتّباع الأحاديث المتشابهة هو إضلال الناس وصرفهم عن مهدوية الإمام محمّد بن الحسن (عليه السلام)، لتوكل جميع مهامه (عليه السلام) لأمثال أحمد إسماعيل كما يتَّضح ذلك جليَّاً حين نتتبَّع مراحل ادِّعاءاته الباطلة، إذ يطرح مفهوماً متشابهاً ثمّ يُؤوِّله وفق ما يتناسب ودعوته.
المقدّمة الثانية: قاعدة وضعها المعصوم (عليه السلام) عند التعارض بين الأخبار:
من الأُمور المهمَّة التي بيَّنها أئمَّة الهدى (عليهم السلام) قواعد للترجيح بين الأخبار المتعارضة المرويَّة عنهم (عليهم السلام)، وتُسمّى هذه القواعد عند علماء أُصول الفقه (المرجِّحات)، وسبب تأسيسهم (عليهم السلام) لهذه المرجِّحات هو توجيههم (عليهم السلام) شيعتهم للوصول إلى حكم الله الواقعي الموجود في ضمن الأخبار المتعارضة التي اختلط فيها الحقّ بالباطل الذي تطرق إلى تلك الأخبار إمَّا بسبب التقيَّة أو بسبب الرواة.
ومن تلك الموازين أو المرجِّحات:
المرجِّح الأوَّل: الترجيح بالشهرة:
ودليله مقبولة عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد لله (عليه السلام)...، إلى أن قال: (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به
المجمع عليه من أصحابك فيُؤخَذ به من حكمنا، ويُترَك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه)(10).
و(المراد من الشهرة: التواتر والاستفاضة في النقل، وفي مثل هذه الحالة تسقط الرواية الشاذّة عن الحجّية في نفسها، لمعارضتها مع دليل قطعي)(11).
المرجِّح الثاني: مخالفة العامَّة:
ودليله نفس المصدر السابق، قال الراوي: قلت: جُعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسُّنَّة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامَّة، والآخر مخالفاً لهم، بأيِّ الخبرين يُؤخَذ؟ قال: (ما خالف العامَّة ففيه الرشاد)(12).
ولا بدَّ أن يلاحظ هنا أنَّ بعض الروايات التي يحتجُّ بها هؤلاء المضلّون كالرواية التي أطلقوا عليها رواية الوصيَّة مخالفة لما هو متواتر عنهم (عليهم السلام)، ومعارضة للروايات الصحيحة الدالة على أنَّ الأئمَّة اثنا عشر إماماً فقط.
وكذلك الروايات الأُخرى التي استدلّوا بها على أنَّ قائم آل محمّد هو أحمد إسماعيل ﮔﺎطع، فإنَّها لم تصل إلى حدٍّ أن تُقدَّم على رواية واحدة صحيحة فضلاً عن أن تكون متقدِّمة على الروايات المتواترة التي دلَّت على أنَّ الإمام صاحب الأمر (عليه السلام) هو قائم آل محمّد، وأنَّه هو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) الكافي 1: 67 و68/ باب اختلاف الحديث/ ح 10.
(11) بحوث في علم الأُصول 7: 371.
(12) الكافي 1: 67 و68/ باب اختلاف الحديث/ ح 10.
مع أنَّ هناك نقاشاً في مدى دلالة الروايات التي يستدلّون بها على ادِّعاءاتهم الكاذبة، وسنتعرَّض خلال البحوث الآتية لبعض أدلَّتهم، وسنُبيِّن بطلانها إن شاء الله تعالى.
المقدّمة الثالثة: لله الحجَّة البالغة:
قال تعالى: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام: 148 و149).
و(معنى (الْبالِغَةُ) التي تبلغ قطع عذر المحجوج، وتزيل كلّ لبس وشبهة عمَّن نظر فيها واستدلَّ أيضاً بها، وإنَّما كانت حجَّة الله صحيحة بالغة، لأنَّه لا يحتجُّ إلَّا بالحقِّ وما يُؤدّي إلى العلم)(13).
ولو تتبَّعنا رايات الضلال سنجد أنَّها تشترك في أُمور ثلاثة أساسية:
الأمر الأوَّل: استبعاد عقل الإنسان والالتفاف عليه بمخاطبة عواطفه وقلبه، ثمّ ربطه من خلال تلك القوى بصاحب تلك الدعوة بعيداً عن العقل، لكي يتخلَّصوا من تساؤلاته أو تشكيكاته بانحرافاتهم وشذوذهم عن طريق الحقِّ.
الأمر الثاني: إثارة الكراهية ضدّ العلماء، بل والتصريح بضلالهم وانحرافهم وحتَّى كفرهم، وذلك ليجعلوا حاجزاً بين أتباعهم وبين ردود العلماء عليهم.
الأمر الثالث: هروبهم وتغاضيهم عن علم وعمد عن الآيات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) تفسير التبيان 4: 311.
والروايات المحكمة (ذات الدلالات والمعاني الواضحة)، وتشبّثهم بالمتشابهات التي دلالاتها متعدِّدة، وقد مرَّ في المقدّمة الأُولى الكلام عن المتشابهات، وأنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) حكم على صاحب هذا المنهج بأنَّه ضالّ، قال: (ولا تتَّبعوا متشابهها فتضلّوا).
وما يفعله هؤلاء المضلّون هو المبالغة في استغفال أتباعهم، والتعدّي على صريح كلام المعصوم (عليه السلام)، وظلم أئمَّة الهدى (عليهم السلام) بالافتراء عليهم، واختلاق حجَّة لله تعالى ابتدعوها من أنفسهم تناسب دعواتهم الضالّة والمبعِّدة للناس عن ساحة قدس الله ورحمته، والتي جُلّ همّها هي الدعوة لشخص مبتدعها. قال تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 109و110)، (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ * يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (إبراهيم: 26 و27).
الوصيَّة بولاة الأمر من أبلغ مظاهر حجَّة الله البالغة:
لماذا برأيكم بدأ الرسول الكريم بالتمهيد لوصاية أمير المؤمنين (عليه السلام) منذ بداية دعوته، حيث أنذر عشيرته الأقربين لمَّا أمره سبحانه أن يدعوهم إلى الإسلام، ويقيم الحجَّة عليهم في القصَّة المشهورة في حديث الدار؟
ثمّ إنَّ الوصيَّة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما هي إلَّا خطوة بالإضافة إلى
خطوات المصلحين من أنبياء وغيرهم في طريق إقامة العدل الإلهي وخلافة المؤمنين في الأرض كما وعد سبحانه، والتي سوف تتحقَّق على يد قائم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وتلك الخطوة في الوصيَّة وحتَّى تصدق أنَّها (حجَّة بالغة على خلقه) صدَّقتها مئات الأحاديث التي شهد عليها أغلب المسلمين حتَّى تمَّت بذلك نعمة الله بعد حجَّته عليهم، فكيف بالهدف التي جاءت تلك الخطوة في طريقه، كم يحتاج من التأكيد والوضوح والبيِّنة حتَّى يتناسب مع مستوى الهدف وإتمام الحجَّة؟
إذا كانت الوصيَّة لأمير المؤمنين (عليه السلام) أُيِّدت بمئات الأحاديث الصحيحة فلا بدَّ لقضيَّة المهدي المنتظر (عليه السلام) أن تكون أكثر وضوحاً وأبين دلالةً، باعتبارها تنتهي إليها كلُّ جهود المصلحين السابقين بما فيهم رسول الله وأمير المؤمنين (عليهما السلام)، ولهذا جاءت مئات الأحاديث والروايات لدى كلّ المسلمين تُبيِّن علامات وصفات ومهام هذا القائد العظيم، مؤيِّدة بعلامات لا يمكن الشكّ معها أو التردّد بصدق انطباقها عليه، كيف وقد وصفها الإمام الصادق (عليه السلام) لأحد أصحابه حين بكى من فتنة رايات الضلال التي تُرفَع قبل القائم، فقال السائل: كيف نصنع؟ فقال: (يا أبا عبد الله - ثمّ نظر إلى شمس داخلة في الصفة - أترى هذه الشمس؟)، قلت: نعم، فقال: (والله لأمرنا أبين من هذه الشمس)(14).
وكثير من الآيات الكونية التي تسبق الظهور المقدَّس تجعله أبين من الشمس كالصيحة والخسف وغيرهما، وهذه الدلالات الواضحات ومئات الأحاديث تتناسب جدَّاً مع عظم الحدث، وتكتمل بها حجَّة الله البالغة على خلقه، وهذا ليس كادِّعاء شخص مجهول بأنَّه بديل لتلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14) الغيبة للنعماني: 154/ باب 10/ ح 10.
الآيات والدلالات والحجج والبراهين التي قدَّمها قادة الخلق لضمان تحقيق الهدف الإلهي بتأويل ساذج قد سبقه إليه العشرات ممَّن نزوا على منبر خلافة الله في أرضه طمعاً في كسب قلوب الناس وولائهم واستغلال عاطفتهم تجاه إمامهم (عليه السلام).
فهل يرقى (ادِّعاء) شخص إلى أن يكون بمجرَّد (ادِّعائه) حجَّة الله البالغة على خلقه، وقد عرفنا حرص السماء وممثِّلها في الأرض على إثبات الوصيَّة لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالنحو الذي يجعل الحجَّة تامَّة على الخلق، كي تتمّ نعمة الله ويظهر لطفه في خلقه رحمة، بهم لئلَّا تشتبه عليهم الموارد والمشارب، والله يهدي لرحمته من يشاء، وهل تلك الحجَّة تشبه هذه الحجَّة في الوضوح حتَّى يصدق عليها أنَّها بالغة؟ أم أنَّ الله تعالى غيَّر ميزان رحمته فرحم أوَّل الأُمَّة وغضب على آخرها؟
فإذا كان لطف الله بأصحاب حبيبه بهذه الحجَّة الواضحة في الوصيَّة لخليفته، فكيف يكون وضوحها لباقي أُمَّته (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الوصيَّة لمقيم السنن ومميت البدع ومظهر الدين وغوث المؤمنين ونكال الظالمين؟ (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (الصافّات: 154).
المقدّمة الرابعة: ادّعاء العلم لا يُصيّر الإنسان عالماً، وادّعاء المعجزة لا يُثبت حقّ مدَّعيها:
تصوَّروا لو أنَّ كليم الله موسى (عليه السلام) حين دخل على فرعون وقال له ولملئه: إنَّ معي آية تُثبِت دعوتي ونبوَّتي وهي عصاي هذه التي سوف تلقف ما يأفك سحرتكم، ولمَّا حضر في يوم الزينة وألقى السحرة عصيَّهم فإذا هي أفاعٍ تُرهِب أعين الحاضرين، واستدارت أعين القوم إلى موسى (عليه السلام) تنتظر معجزته، وإذا به يعيد نفس كلامه السابق: إنَّ
عصاي هذه لديها القدرة أن تلتهم ما تصنعون من باطل، ثمّ ترك القوم ورحل من دون أن يُثبِت ادِّعائه، ونبيّ الله عيسى (عليه السلام) كذلك في إحياء الموتى، وباقي النبيّين في معاجزهم، وكذلك لو ادَّعى طالب في الصفِّ الأوَّل من المرحلة الابتدائية أنَّه عالم بمادَّة الامتحان، ولا يوجد داعٍ للدخول إلى قاعة الامتحان، فهل يُقبَل ذلك منه؟وكذا لو ادَّعى شخص أنَّه عالم بالطبِّ من دون دراسة، ولديه خبرة تغنيه عن شهادات الجامعات، وأراد أن يعمل عملية حسّاسة لأحد الأشخاص المقرَّبين منكم، فهل تقبلون ذلك منه؟
فإذا كانت دعوى العلم من قبل طالب الصف الأوَّل الابتدائي لا تُقبَل إلَّا أن يخضع لاختبار إثبات دعوى علمه، وكذلك الطبيب لا تُقبَل دعواه في معرفة الطبِّ إلَّا من خلال الطرق الصحيحة المتَّبعة في هذا المجال، فوفق هذه المعادلة هل تُقبَل دعوى شخص يدَّعي علم الأوَّلين والآخرين من دون أن يُثبِت علمه أو يخضع لعملية اختبار وقد قال الإمام (عليه السلام) للشيعة في مدَّعي الإمامة: (اسألوه)(15)؟
وكيف لا نقبل دعوى معرفة طبيب بمعالجة عضو من أعضاء الإنسان من غير أن يمرَّ بطرق إثبات مهنته، ونقبل ذلك في خلافة السماء ووصاية سيِّد المرسلين في علاج أمراض البشرية جمعاء؟ وهل مجرَّد دعواه تكفي في إثبات حقِّه؟ هذا ما سوف نعرفه في طيّات المباحث، وكيف أنَّ هذه الجماعة وإلى أيِّ حدٍّ وصل بهم الاستهزاء بعقول الناس والسخرية منهم بطرحهم مقاييس وأساليب لا تُقنِع عجائز القرون الوسطى، لم ينزل الله بها من سلطان، أو يذكرها لنا إمام بساطع البيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15) راجع: الكافي 1: 340/ باب في الغيبة/ ح 20.
المقدّمة الخامسة: الإنسان مفطور على الاستدلال:
وأوضح طرق الاستدلال هي القياس، وهو له كيفية خاصَّة ربَّما يستعملها الإنسان في حياته يومياً من دون أن يعرف مسمّياته ومصطلحاته، وحسب تعبير الشيخ المظفَّر قدس سره: (إنَّ تسعة وتسعين في المائة من الناس هم منطقيون بالفطرة من حيث لا يعلمون)(16).
ولمن لم يطَّلع كيفية تشكيل القياس نقول: إن أراد أحد أن يبرهن على صحَّة ادِّعائه، ويصل إلى نتائج سليمة، واستعمل هذه الطريقة من الاستدلال المكوَّن من مقدّمتين، وهما: المقدّمة الأُولى هي الصغرى، والثانية تُسمّى كبرى.
ولو فرضنا أنَّ شخصاً أراد أن يُثبِت عدالة زيد مثلاً، فيُقدِّم مقدّمة، فيقول: إنَّ زيداً مصلٍّ (مقدّمة أُولى صغرى)، وكلُّ مصلٍّ عادل (مقدّمة ثانية كبرى)، (النتيجة): إنَّ زيداً عادل.
ولا يحقُّ لهذا المدَّعي أن يدَّعي هذه النتيجة إلَّا إذا كانت المقدّمتان صحيحتين، أمَّا إذا كانت إحداهما باطلة، أو كانت مشكوكة ولم يستطع إثبات صحَّتها فإنَّ ادِّعاءه يبقى بلا قيمة علمية. ولو رجعنا إلى مثالنا ونظرنا إلى كبرى قياس هذا المدَّعي وهي أنَّ (كلَّ مصلٍّ عادل) نجدها كاذبة، فكثير من المصلّين هم في صلاتهم ساهون، ويمنعون الماعون، فالويل لهم حسب تعبير الكتاب المنزل، والخوارج والنواصب وغيرهم خير مثال على كذب الكبرى المدَّعاة. فإن كذبت الكبرى سقط الاستدلال، ولم يعد للمدَّعى أيّ قيمة، وإن كان للمدَّعى الذي ثبت بطلانه لازم أخلاقي أو عقائدي كما في مقامنا في هذا البحث تنقلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) المنطق: 233.
النتيجة ضدّ صاحبها، فإنَّ لمثل هذه الادِّعاءات نتائج عكسية، ويترتَّب على كذبها آثار أخلاقية وعقائدية تصل حسب تقييم الإمام المهدي (عليه السلام) إلى حدِّ الكفر بالله العظيم والعياذ بالله.
المقدّمة السادسة: أقسام ومستويات حجّية الخطاب:
تنقسم مستويات حجّية الخطاب إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوَّل: النصّ:
النصُّ هو الكلام الذي لا يحتمل إلَّا معنى واحداً(17).
وهو أعلى مراتب الحجّية ومثاله قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (... هذا علي أخي ووزيري ووارثي وخليفتي إمامكم، فأحبّوه لحبّي...)(18).
فقوَّة دلالة اللفظ على معناه هو أن تبلغ منتهى غايات الدلالة عند أهل تلك اللغة، ولا يبقى احتمال أن يكون المتكلِّم أراد معنى آخر من اللفظ الذي استعمله، فالنصُّ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) على أمير المؤمنين (عليه السلام) باستعماله هذه الألفاظ في منتهى الوضوح على معناه، ولا يبقَى له عند السامع أيُّ احتمال لمعاني أُخر، إلَّا من كان في قلبه مرض واتَّبع الشيطان وكان من الغاوين.
القسم الثاني: الظهور:
وهو أن يكون للكلام أكثر من معنى، لكن أحد هذه المعاني أجلى وأظهر من المعاني الأُخرى، مثل دلالة الإطلاق بالنسبة للتقييد، والعموم والخصوص، والحقيقة والمجاز، فإن دلَّت قرينة متَّصلة أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17) راجع: أُصول الاستنباط في أُصول الفقه وتاريخه بأُسلوب جديد: 173، المعجم الأُصولي: 723.
(18) أمالي الطوسي: 223/ ح (386/36).
منفصلة على خلاف الظاهر فتُصرَف دلالته بحسب القرينة، وإلَّا فإنَّ مقتضى الأصل هو تقديم الظاهر، وذلك لأنَّ تباني العقلاء في خطاباتهم الجارية بينهم على الأخذ بالظهور وعدم الاعتناء باحتمال إرادة خلاف الظاهر، والشارع سبحانه قد أمضى هذا البناء، وجرى في خطاباته على طريقتهم هذه، وإلَّا لزجرنا ونهانا عن هذا البناء في خصوص خطاباته، أو لبيَّن لنا طريقة خاصَّة يجب اتّباعها ولا يجوز التعدّي عنها إلى غيرها، فيُعلَم من ذلك على سبيل الجزم أنَّ الظاهر حجَّة عنده كما هو عند العقلاء بلا فرق(19). وهو حجَّة للسامع و المتكلَّم وعليهما.
وحجّيته متأخِّرة رتبةً عن حجّية النصِّ، لأنَّ النصَّ لا يحتمل إلَّا معنى واحداً، وأمَّا الظاهر فيحتمل عدَّة معانٍ وإن كانت دلالته على أحدها أقوى من الدلالة على غيره.
القسم الثالث: التأويل:
وهو ذكر معنى لا يدلُّ عليه الكلام لا بنصِّه ولا بظاهره.
والتأويل لا يكون حجَّة إلَّا إذا صدر عن شخص ثبتت حجّية كلامه قبل تأويله، كالأنبياء والأئمَّة المنصَّبين ممَّن سبقهم من حجج، الموصى بهم بنصٍّ إلهي صريح، فيكون تأويله حجَّة على السامع، وقد قال تعالى: (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: 7).
وأمَّا غير المعصومين فتأويله ليس بحجَّة، ولا قيمة له؛ لأنَّه لا دليل يدلُّ على صحَّته، والناس ليسوا مأمورين بالتعبّد بكلامه، فكيف يُؤخَذ بقوله؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) أُصول الفقه للشيخ المظفَّر: 49/ تحقيق عبّاس الزارعي.
ومثاله: أنَّ أحمد إسماعيل الهمبوشي ادَّعى كثيراً من هذه التأويلات الفاسدة معتبراً إيّاها دليلاً له على معرفته بمتشابه القرآن، جاهلاً بما يلزم من قوله من أباطيل.
فقد جاء في كتابه المتشابهات في (ص 20) عند سؤاله: لماذا رأى إبراهيم (عليه السلام) كوكباً وقمراً وشمساً فقط؟
فكان جوابه: (الشمس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والقمر أمير المؤمنين (عليه السلام)، والكوكب الإمام المهدي (عليه السلام)).
ردُّ جوابه:
أوَّلاً: أنَّ السائل يسأل عن سبب حصر الرؤية بهذه الأشياء الثلاثة، وليس عن حقيقتها، وهذا واضح من خلال قول السائل، فالجواب ليس مطابقاً للسؤال، وفهم السؤال نصف الجواب كما يقولون، إذ السؤال عن سبب الحصر يغاير السؤال عن حقيقة الشيء.
فيتبيَّن أنَّه لم يفهم السؤال أصلاً فضلاً عن خطئه في الإجابة بناءً على فهمه للسؤال كما سنعرف، فيلحقه عار الجهل من جهتين.
ثانياً: أنَّ الله تعالى يقول: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْأَفِلِينَ) (الأنعام: 76).
وبحسب تأويله أنَّ الكوكب هو الإمام المهدي (عليه السلام)، فإنَّه يلزم عليه إشكال قوي، وهو أنَّ إبراهيم (عليه السلام) لمَّا قال: (لا أُحِبُّ الْأَفِلِينَ) أي إنَّه لا يُحِبُّ الكوكب الذي هو الإمام المهدي (عليه السلام) بحسب رأيه، فتكون النتيجة: أنَّ إبراهيم (عليه السلام) لا يُحِبُّ الإمام المهدي (عليه السلام)(20).
وكذلك تأويله أنَّ القمر هو الإمام علي (عليه السلام)، قال تعالى: (فَلَمَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20) هذا جواب لأحد المؤمنين وفَّقهم الله من الذين ناقشوا أتباع أحمد إسماعيل في البصرة.
رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (الأنعام: 77).
ويلزم من تأويله أنَّ إبراهيم (عليه السلام) لم يهتد لمعرفة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنَّ الهداية تغاير منهج أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنَّ أمير المؤمنين قد أفل واضمحلَّ نوره، وأنَّ معرفة أمير المؤمنين (عليه السلام) ضلال.
وسيأتي مزيد من هذه الجهات في المبحث المناسب من هذا البحث.
إذن فتأويلات ﺍﻟﮕﺎطع مجرَّد آراء باطلة تتناسب مع ما أسَّسه من عقائد منحرفة، يحاول من خلالها إيهام عقول البسطاء والمندفعين إليه عاطفياً أنَّ كلامه حجَّة عليهم.
وأُصول الدين والعقائد إنَّما تثبت بالنصِّ الذي هو أعلى مراتب الحجّية، وما تقوم به رايات الضلال هو الاحتجاج بالتأويل الذي ليس له أيّ قيمة علمية أو دينية، والدين لم يُرتِّب عليه أيّ أثر لا دنيوي ولا أُخروي، وكلُّ حيل هؤلاء المضلّين هو صناعة جسر من الحيل والمكر والمغالطات للتشويش على عقول البسطاء وإيهامهم ألَّا فرق بين تأويلاتهم الباطلة والنصوص القطعية، فإنَّهما بزعمهم مشتركان في الحجّية، وهؤلاء هم الذين وصفهم القرآن الكريم بقوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران: 7).
* * *
مقدّمة:
الغرض من عقد هذا المبحث هو تسليط الضوء على أسباب نشوء الحركات الضالّة والمضلَّة، وبيان أسباب وملابسات ولادتها، وطريقة تفكير قادتها، ومدى انحرافهم، وكيف يتمُّ نشر دعواتهم، وما هي الطبقة التي يستهدفونها بأدلَّتهم، وكشف أهمّ الحيل التي يستعملونها في استدراج من يريدون دعوته.
المبحث:
من ألطاف الله سبحانه على عباده أن حبَّب إليهم الإيمان، حيث قال: (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: 7).
وبعد إحساس الإنسان بلذَّة هذا الشعور تبدأ مراحل الاختبار والفتنة، ويكون اختباره على حسب ما يُحِبُّ ويشتهي، لأنَّ الممتحن حكيم خبير، فمن كان يُحِبُّ المال والملذّات ابتلي بها أو بنقيضها، ومن كان يُحِبُّ الظهور والشهرة ابتلي أيضاً إمَّا بها أو بنقيضها، وكذلك من يُحِبُّ السلطة والتسلّط فيبتلى بها كذلك، وهكذا كلَّما أحبَّ أحد شيئاً ابتلي به.
ومن قصص الابتلاء المشابهة لقصَّة أحمد إسماعيل وأشباهه قصَّة أُميَّة بن أبي الصلت الثقفي الذي آثر هواه على هدى الله تعالى، فإنَّ أُميَّة هذا سبق زمان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وقرأ كتب الأوَّلين، ووجد أنَّه يُبعَث في آخر الزمان نبيّ عظيم الشأن، وأسرَّ في نفسه أن يكون هو ذلك النبيّ المذكور
في الكتب، فتوجَّه إلى الله تعالى بالعبادة والتقرّب إليه بما يتقرَّب به الصالحون بهدف الوصول إلى مقام النبوَّة، ولمَّا بُعِثَ سيِّد الكائنات (صلّى الله عليه وآله وسلم) تبخَّرت آماله وأحلامه، فظهر ما كان يُخفي لمَّا انقلب على عقبيه(21)، فكان أحد مصاديق قوله تعالى: (الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (الأعراف: 175).
ونموذج آخر من سلسلة المنسلخين هو محمّد بن نصير النميري الفهري، كان من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)، فانحرف وافتتن، وأصبح يستخدم صحبته للإمام العسكري (عليه السلام) هذا العنوان العظيم الذي يعرف الناس شأنه وجلالته - في الربح المادّي والمنفعة الشخصية، فكتب الإمام العسكري كتاباً شديد اللهجة ضدَّه وضدَّ شخص آخر يُدعى بابا القمّي ويُسمّى الحسن بن محمّد، يكشف فيه انحرافهما، ويُظهِر البراءة منهما، ويقول مخاطباً أحد أصحابه: (أبرأ إلى الله من الفهري والحسن بن محمّد بن بابا القمّي، فابرأ منهما، فإنّي محذِّرك وجميع مواليَّ، وأنّي ألعنهما عليهما لعنة الله، مستأكلين يأكلان بنا الناس، فتّانين مؤذيين، آذاهما الله وأركسهما في الفتنة ركساً...) إلى آخر بيانه (عليه السلام)(22).
وكان يدَّعي أنَّه رسول نبيّ، وأنَّ علي بن محمّد الهادي أرسله، وكان يقول بالتناسخ، ويغلو في أبي الحسن الهادي ويقول فيه بالربوبية، ويقول بإباحة المحارم، وتحليل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، ويزعم أنَّ ذلك من التواضع والإخبات والتذلّل في المفعول به، وأنَّه من الفاعل إحدى الشهوات والطيّبات، وأنَّ الله لا يُحرِّم شيئاً من ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) راجع: تفسير مجمع البيان 4: 394.
(22) اختيار معرفة الرجال 2: 805/ الرقم 999.
رآه بعض الناس وغلام له على ظهره، قال الراوي فلقيته فعاتبته على ذلك، فقال: إنَّ هذا من اللذّات، وهو من التواضع لله وترك التجبّر...)(23).
النتيجة:
أنَّ هناك أشخاصاً ينجذبون إلى طريق الإيمان مع كلِّ تراكماتهم التربوية والنفسية والأخلاقية، والتي اختلطت بالأهداف الدينية، فإن لم يزيحوا تراكمات الماضي بتربية الدين ولم يسيروا ويتفاعلوا مع تعاليمه بشكل متناسب ومتوازن بين قواهم المودعة لديهم، ستختلُّ منظومتهم التربوية، (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَلا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزَّاً ظَاهِرَاً إلَّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا)(24).
وهؤلاء لا يريدون من الدين سوى الأهداف التي تخدم أهدافهم الدنيوية التي غيَّبوها في داخل نفوسهم سواء شعروا بذلك أم لا، وخصوصاً حبّ السلطة والشهرة التي ربَّما لا يحصلون عليه من دون سلوك طريق الدين، فإنَّ العلاقة بين المؤمنين وقادتهم تُجلِّلها القداسة، وهذا ما يسيل له لعاب ضعاف النفوس من طالبي التسلّط.
فإنَّ أبرز الابتلاءُ مكنونَ نيّاتهم كشَّروا أنياب الدعوة إلى ذواتهم، وحاولوا تحقيق مآربهم الدنيوية بادِّعاء النبوَّة أو الخلافة أو الإمامة أو الوصاية لإمام أو الوكالة عنه، وقد عانى الخطّ الإلهي ورموزه من الكثير من ممارسات أُولئك النازين على مناصب غيرهم، ومن هنا يبدأ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) أُنظر: الغيبة للطوسي: 398 و399/ ح 371 و372.
(24) الصحيفة السجّادية: 100/ دعاؤه (عليه السلام) في مكارم الأخلاق.
الانسلاخ عن الإيمان والدين، وتُسلَب حلاوته من قلوبهم، ولا يبقى منهما إلَّا مفاهيم وأفكار فارغة تملأ أوهامهم ما لها من قرار، ولأنَّ الله تعالى مطَّلع على سرائرهم فإنَّه يبتليهم بمواقف تُظهِر ما يخفونه وتُبدي ما يُسرِّونه.
وقد بدأت قصَّة إظهار السرائر مع إبليس اللعين حين أُمر بالسجود لآدم (عليه السلام)، فادَّعى أنَّه خير منه، مروراً بكثير من الأمثلة المشينة في تاريخ البشرية، حتَّى حادثة السقيفة حيث انقلب القوم على أعقابهم بعد موت المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ومحصوا بالخلافة، فلم يشكر منهم إلَّا القليل ممَّن وفى بعهده إلى نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ومن عظيم الجرم وجليل الخطر في غصب الخلافة وفي جميع الدعوات الهدّامة التي ظهرت بعد ذلك إزاحة صاحب الحقِّ الإلهي عن مقامه والتربّع على عرش منصبه الذي وضعه الله فيه من غير خجل أو حرمة.
والغريب في أمر هذه الدعوات الباطلة أن أُناساً ادَّعوا أنَّهم سفراء الإمام المعصوم (عليه السلام) أو وكلاؤه، مع أن كان الإمام (عليه السلام) حيَّاً يُرزَق، وكان قادراً على بيان كذبهم وافترائهم، ومع ذلك فإنَّهم تجرَّؤوا بادِّعاء ذلك!!
ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر أحمد بن هلال العبرتائي الذي حجَّ بيت الله أربعاً وخمسين مرَّة، عشرين منها ماشياً على قدميه، وكان عند الناس ذا منزلة وشأن وعلم، وكان يأمل في نفسه أن يكون سفيراً للإمام المهدي (عليه السلام)، فلمَّا صار الحسين بن روح (رضي الله عنه) سفيراً للإمام (عليه السلام) حسده، وأظهر ما كان يخفي في سريرته، فادَّعى ما ليس له، فظهر من الإمام (عليه السلام) ثلاثة تواقيع بلعنه والبراءة منه وممَّن لا يبرأ منه،
وما هذا التكرار من الإمام (عليه السلام) في الكتابة فيه إلَّا لاشتباه الشيعة في أمره لما كان يُظهِره من الصلاح والزهد، وممَّا جاء في أحد تواقيعه (عليه السلام) أنَّه قال: (احذروا الصوفي المتصنِّع).
وكتب فيه أيضاً: (قد كان أمرنا نفذ إليك في المتصنِّع ابن هلال لا (رحمه الله) بما قد علمت، لم يزل لا غفر الله ذنبه ولا أقال عثرته يداخلنا في أمرنا بلا إذن منّا ولا رضى، يستبدُّ برأيه فيتحامى ديوننا، لا يمضي من أمرنا إلَّا بما يهواه ويريده، أرداه الله بذلك في نار جهنَّم، فصبرنا عليه حتَّى تبر الله بدعوتنا عمره، وكنّا قد عرَّفنا خبره قوماً من موالينا في أيّامه لا (رحمه الله)، وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاصِّ من موالينا، ونحن نبرأ إلى الله من ابن هلال لا (رحمه الله)، وممَّن لا يبرأ منه. واعلم الإسحاقي سلَّمه الله وأهل بيته ممَّا أعلمناك من حال هذا الفاجر، وجميع من كان سألك ويسألك عنه من أهل بلده والخارجين، ومن كان يستحقُّ أن يطَّلع على ذلك، فإنَّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يؤدّيه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنَّنا نفاوضهم سرّنا، ونحمله إيّاه إليهم، وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء الله تعالى).
وكتاب ثالث أيضاً قال فيه (عليه السلام): (لا شكر الله قدره، لم يدعُ المرء ربَّه بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه، وأن يجعل ما منَّ به عليه مستقرَّاً ولا يجعله مستودعاً. وقد علمتم ما كان من أمر الدهقان عليه لعنة الله وخدمته وطول صحبته، فأبدله الله بالإيمان كفراً حين فعل ما فعل، فعاجله الله بالنقمة ولا يمهله، والحمد لله لا شريك له، وصلّى الله على محمّد وآله وسلَّم)(25).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25) أُنظر: اختيار معرفة الرجال 2: 816 و817/ الرقم 1020.
واستغلَّ أمثال أحمد بن هلال وغيره فترة بداية غيبة الإمام (عليه السلام) وإمكان ادِّعاء السفارة أو الوكالة، فنزعت أنفسهم الأمّارة بالسوء إلى السعي لتحقيق رغباتها في السلطة والشهرة والأموال وغيرها.
ولمَّا تطاول أمد غيبته (عليه السلام)، ضعف يقين أقوام، وزاغت قلوب آخرين، كما فعل بنو إسرائيل الذين اتَّبعوا السامري ولم يرقبوا قول نبيِّهم الغائب عنهم، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ)، فأخلفوا موعده وأحبطوا بذلك أعمالهم، (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) (طه: 86)، ولو أنَّهم صبروا لعرفوا أنَّ إله موسى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (طه: 98)، وأنَّ ما دعوا من دونه لا (يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (طه: 89).
لقد أنكر القرآن مقاييسهم الضحلة، حيث اتَّخذوا لهم ربَّاً لا يملك أدنى مقوّمات التفاهم فضلاً عن النفع والضرر، فلا يرجع إليهم قولاً إذا سألوه أو خاطبوه.
وكذلك أتباع ﺍﻟﮕﺎطع الذين اتَّخذوا لهم إماماً يستتر وراء الحيل ليفرَّ عن المساءلة والاختبار، متذرِّعاً بالخوف هارباً منه مسيرة شهر مع ادِّعائه بدء الظهور، مع أنَّ الظهور إذا بدأ فإنَّ الخوف - بحسب الروايات - يسير أمام صاحب الظهور شهراً لا العكس من ذلك.
هناك آلاف الحقائق الفكرية المطروحة في الساحة العالمية على صعيد الفكر الديني والعقائدي والقرآني والسياسي والاقتصادي والأخلاقي والإداري وكثير من العلوم خصوصاً العلوم الإنسانية، وكلُّ واحد من هذه العلوم يشتمل على آلاف الفروع وآلاف التفاصيل،
التي لو جُمعت لكان مجموعها مليارات المسائل العلمية والعملية، وكلُّ هذه العلوم المتطوِّرة التي توصَّل إليها الإنسان في العصر الحديث ربَّما لا تُشكِّل عند ظهور القائم نسبة اثنين من أصل سبعة وعشرين جزءاً من العلم الذي سيُظهِره القائم (عليه السلام) للناس.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (العلم سبعة وعشرون جزءاً، فجميع ما جاءت به الرسل جزءان، فلم يعرف الناس حتَّى اليوم غير الجزءين، فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين جزءاً فبثَّها في الناس، وضمَّ إليها الجزءين، حتَّى يبثّها سبعة وعشرين جزءاً)(26).
وادِّعاء المرء أنَّه عالم لا يُصيِّره عالماً، بل يزيد في جهالته وانحطاطه إذا لم يُثبِت ما يدَّعيه، وما ادَّعاه هؤلاء من العلم ليس بعلم إلَّا بمقياس بني إسرائيل الذين ساووا بين العجل وربّ السماوات والأرض لمَّا رأوا بجهالتهم أنَّ هذا القياس حجَّة عليهم، مدفوعين باستعجالهم وطول غيبة نبيِّهم موسى (عليه السلام) الذي ذهب إلى لقاء ربِّه.
هل سألتم أنفسكم أحبَّتي لماذا لم يأتِ هؤلاء المدَّعون بنظريات علمية تفوق النظريات التي توصَّل إليها علماء الغرب، ولم يحاولوا حلّ ملايين المشاكل العلمية المطروحة في العلوم المختلفة التي تُشكِّل كما عرفنا جزأين فقط من أصل سبعة وعشرين جزءاً، ولم يأتوا بالعقاقير والأدوية التي تنقذ ملايين البشر من الأمراض التي أقرَّ الأطبّاء بعجزهم عن علاجها، كالأيدز، والسرطان، ومرض السكر، وارتفاع ضغط الدم، وغيرها؟
نحن لم نرَ من هؤلاء المدَّعين إلَّا جهالات يُسمّونها علماً، وهي في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(26) الخرائج والجرائح 2: 841/ ح 59.
حقيقتها تُرسِّخ أكاذيبهم وافتراءاتهم، مع أنَّ مئات الموبوئين نفسياً سبقوا هؤلاء إلى أمثال هذه التأويلات التي يدَّعون أنَّهم ابتدعوها، وعلم النفس الحديث أفرد لهذه الأُمور باباً تحت مسمّى (الاستحواذ).
لكن لكلِّ قوم سامري من نوع خاصّ، ويشتركون كلُّهم في استدراج قلوب المؤمنين وربطها بذواتهم المتدنّية وحجبهم الناس عن قادتهم الفعليين الذين يعملون بأمر الله وبالحقِّ الذي جاء منه وبه يعدلون، (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف: 181). وكلُّ واحد من أُولئك يقبض قبضة من أثر دينه ليصنع منها قناعاً إمَّا إلهاً على هيئة عجل له خوار، أو قائماً على شاكلة الهمبوشي، أو بيضة ادُّخرت في السماء لتكون گرعاوياً.
صلوات الله على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حين قال: (سيكون في أُمَّتي كلُّ ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذَّة بالقذَّة حتَّى لو أنَّ أحدهم دخل جحر ضبٍّ لدخلتموه)(27).
من أسباب تطاول هؤلاء على مقام الإمام المهدي (عليه السلام):
عاشت قضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام) في ضمير وعقل الأُمَّة على طول خطِّ التاريخ بدرجات متفاوتة بحسب وعي الأفراد ومستوى إيمانهم بها، وفي وسط هذه الجموع المتفاوتة في إيمانها يعيش أُولئك المتربِّصون والمتحيِّنون للفرص متى ما سنحت لهم، ممَّن لديهم الاستعداد للانسلاخ من دينهم وإيمانهم المشوَّش والممزوج بكثير من الدوافع السابقة التي ترسَّبت في نفوسهم حتَّى اختلطت بأهدافهم الدينية، وطبقاً للسُّنَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(27) تفسير مجمع البيان 7: 405 و406.
الإلهية في تمييز الأفراد وابتلاء العباد لا بدَّ من سبب لتفريق فئاتهم وتمييز المؤمنين من غيرهم، وذلك على قاعدة: (أنَّ التفريق الذي يُميِّز ويُصحِّح طريقة انتماء أيّ فئة دينية إلى مبادئها العليا هو صحيح).
وفي خصوص قضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام) فقد أكَّد أهل البيت (عليهم السلام) على مسألة التمييز والاختبار تأكيداً غير مسبوق، قال الصادق (عليه السلام): (هيهاتَ هيهاتَ، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتَّى تُغربَلوا، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتَّى تُمحَّصوا، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتَّى تُميَّزوا، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم إلَّا بعد إياس، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتَّى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد)(28).
وفلسفة هذا التمييز تنبع من نوع المهمَّة وأهمّيتها، وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ مهمَّة الإمام المهدي (عليه السلام) تنتهي إليها جهود كلِّ الأنبياء والمصلحين (عليهم السلام)، وبها يتحقَّق وعد الله تعالى بالاستخلاف، ويقام الهدف الإلهي الأعلى في أرضه، ونحن نرى وحسب علم الحروب المعاصرة أنَّه إذا توقَّف مصير أُمَّة ما على عمل عسكري خاصّ وتكتنفه جهود استثنائية من مهارات جسدية وعقلية ونفسية عالية فإنَّه يتمُّ اختيار هذه المواصفات بدقَّة عالية جدَّاً، ثمّ تقام لهم التدريبات المكثَّفة والدقيقة التي تُعدّهم لتلك المهمَّة.
لقد بدأ التمييز الذي أخبر به الأئمَّة (عليهم السلام) عند وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)، وأوَّل الفاشلين في هذا الاختبار هو أقرب الناس نسباً له، وهو أخوه جعفر الذي لُقِّبَ بـ (الكذّاب)، حين ادَّعى الإمامة بعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) الكافي 1: 370 و371/ باب التمحيص والامتحان/ ح 6.
أخيه الإمام العسكري (عليه السلام)، وتوالت الادِّعاءات الكاذبة مرَّة بعنوان السفارة، وأُخرى بعنوان المهدي، وسبب كثرة الادِّعاءات في تلك الفترة والفترات المشابهة هي توفّر الظروف المناسبة لبروز أُولئك المدَّعين، ومن أهمّها التقيَّة الشديدة التي عاشها الأئمَّة (عليهم السلام).
وقد عانى الأئمَّة (عليهم السلام) في ظروف مشابهة من ظهور رايات الضلال تلك، ولاسيّما في فترات أوج طغيان بني أُميَّة، مثل فترة حكم يزيد بن معاوية لعنهما الله إبّان إمامة الإمام زين العابدين (عليه السلام). وكذلك في أقسى حقب ظلم بني العبّاس وهي فترة المنصور الدوانيقي في عصر إمامة الإمام الكاظم (عليه السلام)، ولذلك نرى أكثر فِرَق الطائفة الشيعية تنتمي في ولادتها إلى هاتين الحقبتين، ومن أهمِّ ما يترتَّب على التقيَّة ممَّا يستغلّه المحتالون الكذّابون لإضلال الناس، هو: عدم التصريح بشكل واسع باسم الإمام الحقّ من قِبَل الإمام السابق لتصل أخبار التصريح به إلى أكثر عدد ممكن من الموالين، وذلك خوفاً عليه من السلطات الحاكمة في زمانه، وهذا يفتح الباب أمام أُولئك المحتالين المتربّصين لادِّعاء الإمامة.
وفي عصر الغيبة الصغرى توالت الادِّعاءات، وكانت تجابه إمَّا من قِبَل السفراء، وإمَّا من قِبَل الإمام المهدي (عليه السلام) نفسه، كما سمعنا في قصَّة أحمد بن هلال وغيره، ثمّ تضاءلت شيئاً فشيئاً حتَّى تبلورت فكرة الغيبة في عقول وقلوب المؤمنين بها، وأخذت طريقها إلى معتقدهم، وصار من الصعب اختراقها، إلى أن انقطعت تلك الادِّعاءات تقريباً، ولكن بعد تطاول الأمد على أتباع الإمام المهدي (عليه السلام) ومرورهم بكثير من الظروف المختلفة الثقافية منها والعقائدية والنفسية، اختلفوا وتفاوتوا في طريقة ومستوى انتمائهم لقائدهم المنتظر (عليه السلام) إلى عدَّة أصناف رئيسية.
أصناف المعتقدين بالقضيّة المهدوية:
الصنف الأوَّل: المتظاهرون بالاعتقاد بالإمام (عليه السلام) الجاحدون له في دخيلة أنفسهم، فهم لا يعتقدون به حقيقة وإن صرَّحوا بأنَّهم يعتقدون به، لكنَّهم يتظاهرون بالاعتقاد به باعتبارهم يعيشون في الوسط الشيعي.
وعادةً فإنَّ هذا الصنف هم ممَّن تأثَّروا بالثقافات الغربية وبطريقة تفكير منظّريها، وهؤلاء يُسرّون في أنفسهم ما قد يظهر من كلمات بعضهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أنَّ قضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام) هي إمَّا خرافة أو هي قريبة من ذلك.
الصنف الثاني: الذين يعتقدون بالإمام المهدي (عليه السلام)، لكن إيمانهم بالإمام (عليه السلام) إيمان ضعيف، ربَّما يزول من مواجهة أيّ شبهة، وهؤلاء إنَّما آمنوا بهذه القضيَّة باعتبارهم ينتمون إلى المذهب الشيعي الذي يُؤكِّد على هذه القضيَّة ويعتبرها من أُسس هذا المذهب.
وهذا الوصف ينطبق على من ليس لديه الحدّ الأدنى من المعرفة بأُمور المذهب، بسبب عدم اهتمامهم بالأُمور الدينية عامَّة وبالقضيَّة المهدوية خاصَّة، ولذلك صار إيمان هؤلاء بهذه القضيَّة ضعيفاً مهزوزاً.
الصنف الثالث: المعتقدون بالإمام المهدي (عليه السلام) عن علم وبصيرة:
وهؤلاء هم الذين يُشخِّصونه (عليه السلام) ويعرفونه ببصيرتهم ومعرفتهم التي زكّوها ونمّوها بالمثابرة الطويلة بالعلم والعمل بما يُقرِّبهم إلى إمامهم، فسلَّموا إليه أمرهم، وانتظروه بكلِّ إخلاص، وتطلَّعوا إليه بمنتهى الشوق والحبّ باعتباره أملهم الوحيد، وخلاصهم المنشود، فعاش في ثنيات قلوبهم، وفي تفاصيل أفكارهم، فذرفوا عليه دموع
الحنين إليه، وتنفَّسوا صعيد منى تحقيق أهدافه، وأجهدوا أنفسهم في التمهيد لظهوره، وأفنوا أعمارهم فيما يأملون رضاه، متوسِّلين إلى الله سبحانه صباح مساء بحفظ قائدهم، راجين منه تعالى تعجيل ظهوره والتشرّف بخدمته.
الصنف الرابع: المستعجلون:
وهؤلاء كالصنف الأوَّل الذين معرفتهم بالإمام (عليه السلام) معرفة ضعيفة، إلَّا أنَّهم يختلفون عن أُولئك بأنَّ ارتباطهم بالمهدي (عليه السلام) عاطفي فقط، وبما أنَّ هؤلاء قد حيَّدوا عقولهم وضعفت معرفتهم، فهم بسبب جهلهم واستعجالهم ينخدعون بالأسماء والعناوين البرّاقة، ومع تطوّر وسائل الاتّصال والإعلام تسرَّب إلى عقول هؤلاء كثير من آراء أُولئك المتربّصين بالمناصب الدينية الذين استغلّوا عوامل متعدِّدة أعانتهم على تضليل هؤلاء المساكين الذين يجهلون أبسط قواعد الارتباط الصحيحة بإمامهم (عليه السلام).
وخلاصة ما يشترك به هؤلاء المستعجلون القاصرون عن معرفة الانتماء لقادة الدين:
1 - الاندفاع والتعلّق العاطفي بالقيادات.
2 - الاطّلاع على أفكار غير دقيقة أو ذات معاني متشابهة حول الإمام المهدي (عليه السلام).
3 - تفسير الانتماء لقادة الدين وفق موازين مغلوطة.
وإذا كثَّفنا هذه العناوين الثلاثة تبدو كالتالي: (الاندفاع والتعلّق بالقائد المهدي (عليه السلام) ضمن موازين مغلوطة).
وإن ضغطناها أكثر نحصل على العنوان التالي: (البحث الخطأ عن المهدي الذي يوصلهم إلى المهدي الخطأ).
هذه هي النتيجة الحتمية التي تنتهي إليها وتنشأ من خلالها رايات الضلال هذه.
وهذه هي الطبقة الاجتماعية التي شكَّلت النواة والأرضية الخصبة لولادة أفكار منحرفة، ورفعت على أكتافهم رايات الضلال، وبرز من وسط هذه الفئة من لديهم الطموح والجرأة، طموح يُحقِّقون من خلاله أهدافهم المغيَّبة والتي أبرزتها الظروف المناسبة والتي من أبرزها وجود أُناس يبحثون عن قائد يمكن اصطناع مثيل له من خلال استدراج عقولهم الرخوة وجهلهم بقواعد معرفة تشخيص القيادة الإلهية، ولديهم من السذاجة بحيث لم يُفرِّقوا بين عِجْلٍ له خوار وبين مالك الوجود، والجرأة على انتهاك حرمات مقامات أولياء الله تعالى، ونسبة تلك المقامات لذواتهم المتعطِّشة للترؤّس والسيطرة على قلوب الناس وعقولهم.
ويحيط بهؤلاء ثُلَّة يدعون إلى هذه الدعوة لأنَّهم يستفيدون من الدعوة الجديدة أموالاً طائلة ما كانوا يحلمون بها، ويتبوؤون مقامات في الوضع الجديد يجعل لهم مكانة وشهرة عند أُولئك الأتباع.
وتبقى صفة الجهل بالإمام (عليه السلام) وطريقة الانتماء له هي الصفة الأكثر تأثيراً في الصفات الأُخرى وإنتاجاً لها، فالانتماء الصحيح المتولِّد عن المعرفة الصحيحة سوف ينتج إيماناً ذا أساس متين وقوي، وبخلافه فإنَّ المعرفة الخاطئة سوف تنتج ارتباطاً خاطئاً، وبالتالي إيماناً هشَّاً وضعيفاً حتَّى وإن تصوَّر صاحبه أنَّه من الموقنين، خصوصاً أنَّ من أدوات هؤلاء المتربِّصين للقيادة تشبيه الحقّ بالباطل، وأحد تطبيقات تشبيههم هو دفع الناس البسطاء إلى الأمام من خلال إيهامهم أنَّهم
صفوة عباد الله، وأنَّ إيمانهم هو اليقين بعينه، ولا يوفَّق إلى هذا المستوى إلَّا الخُلَّص من المؤمنين.
ولكي يبقى المؤمن متمسِّكاً بإمامة الإمام الثاني عشر (عليه السلام) فهو بحاجة إلى عاملين حاسمين، قد بيَّنهما الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام السجّاد (عليه السلام)، والعاملان هما: قوَّة اليقين، والمعرفة الصحيحة.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (... وإنَّ للغائب منّا غيبتين، إحداهما أطول من الأُخرى، فلا يثبت على إمامته إلَّا من قوي يقينه، وصحَّت معرفته)(29).
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (... وأمَّا الأُخرى فيطول أمدها حتَّى يرجع عن هذا الأمر أكثر من يقول به، فلا يثبت عليه إلَّا من قوى يقينه، وصحَّت معرفته، ولم يجد في نفسه حرجاً ممَّا قضينا، وسلَّم لنا أهل البيت)(30).
لم يكتفيا (عليهما السلام) بأن يكون الثابت على ولاية الإمام المهدي (عليه السلام) له يقين أو له معرفة، بل خصَّصا ذلك بقوَّة اليقين والمعرفة الصحيحة، فالقوَّة والصحَّة لليقين والمعرفة هما ما يُشكِّلان فارقاً في عملية النجاح في اختبار الثبات، وبهما يتمُّ اجتياز شبّاك المتصيِّدين على ضفاف الولاية، وتشخيص راية الحقِّ من رايات الضلال، ومن خلالهما يُميّز بين عطر الولاية وجيفة النفاق، وبين صوت العدل والرحمة، وصوت إبليس وأتباعه.
ولا تُوصَف معرفة عبد بالصحيحة إلَّا إذا أخذها من أهلها الذين هم الإدلَّاء على الله تعالى، وحججه على عباده، وأُمنائه في بلاده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29) ينابيع المودَّة 3: 248 و249/ ح 43.
(30) كمال الدين: 323 و324/ باب 31/ ح 8.
أمَّا لو بني إيمانه على أماني وعواطف مستعجلة، وتصوّرات قد أسَّسها المتطفِّلون على آل محمّد (عليهم السلام)، فتجد صاحب هكذا إيمان كلّ يوم في ملَّة، يُمسي تابعاً ليماني، ويُصبِح وهو وليّ لشبيه مهدي أو رسول من السماء أو راع للأنبياء أو بيضة في السماء، ولا يلبث حتَّى يدعو لنفسه أحد تلك المقامات ظلماً وبهتاناً، فيبدؤون بكذبة، وينتهون بكفر، أعاذ الله أتباع آل محمّد (عليهم السلام) من مكرهم وخديعتهم، وردَّ كيدهم وافتراءهم إلى نحورهم.
قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام: 93).
وقال سبحانه: (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص: 49 و50).
حربهم وتسقيطهم لعلماء وشيعة آل البيت (عليهم السلام):
إنَّ طعن اﻟﮕﺎطع وأتباعه في علماء الطائفة وقدحهم فيهم والتحذير منهم، ووصفهم بأنَّهم علماء آخر الزمان الذين ورد ذمّهم في الروايات كثير في كلامهم.
قال أحمد إسماعيل ﮔﺎطع في كتابه المتشابهات: (وليس كما يُظَن أنَّ بعض علماء السُّنَّة فقط هم الذين حاربوا الأئمَّة، بل وعلماء الشيعة
أيضاً، فقد حارب كبار علماء الشيعة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وحاولوا دفعه عن حقِّه، لا لشيءٍ فقط ليستأثروا بأموال الصدقات والرئاسة الدينية الباطلة)(31).
وقال: (إنَّ علماء الشيعة ينتظرونه - يعني الإمام القائم (عليه السلام) -، ولكنَّهم اليوم يحاربونه)(32).
ثمّ قال: (ومع الأسف كثير من الجهلة الحمقى يُطبِّلون ويُزمِّرون لهؤلاء العلماء غير العاملين (النصارى)، بل إنَّ الحقَّ أن يُسمّيهم الناس (العلماء الأمريكان)، ويقولون: إنَّ هم علماء أصمتتهم الحكمة، ويا ليتهم ظلّوا صامتين، بل صمتوا دهراً، ونطقوا كفراً).
إلى أن قال: (وهؤلاء حتماً مراؤون، وعملهم كلّه رياء، فبكاؤهم على الحسين (عليه السلام) رياء، وصلاتهم رياء، هدفهم منها الاستحواذ على قلوب الناس والمناصب العفنة كالرئاسة الدنيوية (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُونَ))(33).
وكلامه في الطعن في علماء الطائفة كثير جدَّاً.
وأمَّا طعنهم في شيعة أهل البيت (عليهم السلام) فكثير أيضاً، قال اﻟﮕﺎطع: (بعض الآيات في بني إسرائيل خاصَّة بالشيعة وعلماء الشيعة، قال تعالى: (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا))(34).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31) المتشابهات: 1-4/48.
(32) المتشابهات: 1-4/49.
(33) المتشابهات: 1-4/50.
(34) المتشابهات: 1-4/55.
وقال أيضاً: ((نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ): هؤلاء هم بعض علماء الشيعة وأتباعهم خاصَّة، والكتاب الذي نبذوه وراء ظهورهم هو: القرآن، والإمام المهدي (عليه السلام) والروايات عن أهل بيت العصمة، والممهِّدون للإمام المهدي (عليه السلام) وإرساله لهم، وكذَّبوا بالحقِّ لمَّا جاءهم، وقالوا: ساحر أو مجنون، أو به جُنَّة، كأنَّهم لا يعلمون أنَّ هذا هو الحقّ من الإمام المهدي (عليه السلام))(35).
وقال عبد الرزاق الديراوي: (والحقُّ أنَّ المقصود من بني العبّاس في آخر الزمان هم الشيعة...)(36)، وهؤلاء الشيعة هم (من يستخفنَّهم علماء الضلال ليجعلوا منهم أعداءً لقائم آل محمّد)، وقائم آل محمّد عندهم هو أحمد إسماعيل الهمبوشي، فالنتيجة التي يريدون أن يصلوا إليها أنَّ أيّ شيعي لم يؤمن بأحمد إسماعيل فهو من بني العبّاس الموصوفين بالرواية.
حسناً فلنرجع إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام) لنتعرَّف على وصف هؤلاء، ونرى هل وصفهم ينطبق على أتباع أهل البيت (عليهم السلام) أم على أعدائهم؟
عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (... ثمّ يملك بنو العبّاس، فلا يزالون في عنفوان من الملك وغضارة من العيش حتَّى يختلفوا فيما بينهم...)(37).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(35) المتشابهات: 1-4/56.
(36) جامع الأدلَّة: 80.
(37) الغيبة للنعماني: 270/ باب 14/ ح 22.
إنَّ أقلَّ المتتبِّعين إنصافاً فضلاً عمَّن كابد وعايش الظلم والجور وعلى طول التاريخ الإسلامي والإنساني، لا يتردَّد في أنَّ أكثر الطوائف الدينية عانت من الظلم والاضطهاد والتشريد والجوع والخوف والسجون هم شيعة آل البيت (عليهم السلام)، من يوم وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم الناس هذا، وأقرب مثال على ذلك هو ما يعانيه الشيعة اليوم وفي كلِّ دول العالم، بل إنَّ قادة العالم وأعوانهم اتَّفقت كلمتهم ضدّ هذه الطائفة، ففي العراق نراهم يُذبَحون صباحاً ومساءً، وفي البحرين قد حُرموا من أبسط حقوقهم، وفي لبنان تحالف عليهم القريب والبعيد، وفي الأحساء والقطيف وباكستان وأفغانستان كذلك، واتَّجهت القوى الغاشمة والمستكبرة تحاصر جمهورية إيران الإسلاميَّة وبشتّى الأساليب.
فهذا هو حال الشيعة اليوم والأمس حتَّى تشرق عليهم شمس العدالة من إمامهم وموعودهم الحقّ الذي كثرت عليه الافتراءات، فهل ينطبق على هؤلاء أنَّهم في يسر لا عسر فيه؟ وأنَّهم في غضارة من العيش؟ أم ينطبق على من اتَّفقت كلمتهم على استئصال الشيعة، والذي هو هدف بني العبّاس حقيقةً، ومن الحتمي أنَّه لا ينطبق عليهم ما تفترون به عليهم، وإنَّما المعنيُّ به أعداؤهم الذين هم أعداء آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) والذين توافقت أهدافكم وإيّاهم على دفعهم عن مقامهم، بكذبكم وافترائكم على أتباعهم، وبإعانتكم أعدائهم عليهم، وجزاؤكم ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (من أعان على مؤمن بشطر كلمة لقى الله (عزَّ وجلَّ) يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمتي)(38)، فكيف بتسقيط أُمَّة المصطفى وأتباع المرتضى؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38) الكافي 2: 368/ باب من أخاف مؤمناً/ ح 3.
نعم ورد ذمُّ بعض علماء آخر الزمان، ولكن هل الذمُّ شامل لجميع العلماء؟ لم يرد حديث واحد يُعمِّم حكم الذمِّ إلى كلِّ علماء آخر الزمان، فلماذا تحاولون أن تفتروا على علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) خاصَّة؟ والجواب واضح لأنَّ العلماء سيُبطِلون مكركم وخداعكم، وهم العقبة الأساسية أمام افتراءاتكم، لأنَّهم يحمون الناس من أضاليلكم، ببناء سياج من الوعي والمعرفة بتلك الأساليب القذرة، فمن الطبيعي أنَّهم سيكونون هدفكم الأوَّل في إسقاطهم عند من تريدون أن تصطادوه بحبالكم وعصيّكم.
وللإجابة على السؤال الأوَّل نقول: لكي نعرف العلماء المذمومين لا بدَّ أن نلحظ أمرين:
الصفات: أي صفات العلماء الممكن دخولهم تحت حكم الذمِّ الوارد في الروايات.
العدد: أي نسبة العلماء الذين تصدق عليهم الصفات المذمومة بالنسبة إلى جميع علماء المسلمين.
قال الإمام علي (عليه السلام): (يَا طَالِبَ الْعِلْمِ، إِنَّ الْعِلْمَ ذُو فَضَائِلَ كَثِيرَةٍ، فَرَأْسُه التَّوَاضُعُ، وَعَيْنُه الْبَرَاءَةُ مِنَ الْحَسَدِ، وَأُذُنُه الْفَهْمُ، وَلِسَانُه الصِّدْقُ، وَحِفْظُه الْفَحْصُ، وَقَلْبُه حُسْنُ النِّيَّةِ، وَعَقْلُه مَعْرِفَةُ الأَشْيَاءِ وَالأُمُورِ، وَيَدُه الرَّحْمَةُ، وَرِجْلُه زِيَارَةُ الْعُلَمَاءِ، وَهِمَّتُه السَّلَامَةُ، وَحِكْمَتُه الْوَرَعُ، وَمُسْتَقَرُّه النَّجَاةُ، وَقَائِدُه الْعَافِيَةُ، وَمَرْكَبُه الْوَفَاءُ، وسِلَاحُه لِينُ الْكَلِمَةِ، وَسَيْفُه الرِّضَا، وَقَوْسُه المدَارَاةُ، وَجَيْشُه مُحَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ، وَمَالُه الأَدَبُ، وَذَخِيرَتُه اجْتِنَابُ الذُّنُوبِ، وَزَادُه المعْرُوفُ، وَمَاؤُه الموَادَعَةُ،
وَدَلِيلُه الْهُدَى، وَرَفِيقُه مَحَبَّةُ الأَخْيَارِ)(39)، (أَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلَا سَغَبِ مَظْلُومٍ...)(40).
ومن الطبيعي أنَّ من طلب شيئاً وسعى له كطلب العلم سيتَّصف به، وقد بيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) الصفات العليا لأهل العلم. وحين نُصنِّف أهل العلم وفق مقياس أمير المؤمنين (عليه السلام)، سنحصل على قسمين أساسيين متضادّين: القسم الأوَّل ينطبق عليهم ما ذكره أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهم العلماء الربّانيون الذين صرفوا زهرة أعمارهم في ترويج الشريعة والدفاع عنها. والقسم الثاني: من تجلببوا بجلباب الدين لغرض محق الدين بتغيير معالمه ومحاربة قادته وإضلال أتباعه.
ويقع بين هذين القسمين مراتب متفاوتة لا يمكن حصرها، لاتّصاف بعضهم ببعض الصفات وخلوّه من أُخرى، وكذلك الذين هم من القسم الآخر، أيضاً ينقسمون باعتبار تفاوت تلك الصفات في الاتّصاف بها من عدمه في الشدَّة والضعف والوضوح والخفاء.
ولو رجعنا إلى سيرة علمائنا السابقين منهم والمعاصرين رحم الله الأوَّلين وأيَّد الباقين، لوجدنا أنَّ الصفات المذكورة هي من سماتهم الأساسية، ولكن بشكل متفاوت من شخص لآخر وصفة وأُخرى، وبما أنَّ الأعمال الخارجية هي التي تثبت تلك الصفات لهم، فإنَّ تضحياتهم بأرواحهم وحرّياتهم وأبنائهم وحرمان أنفسهم من ملذّات الحياة ومتعها، دليل على تمسّكهم بمبدئهم وحسن التزامهم بمسلكهم الذي رسمه لهم أئمَّتهم (عليهم السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(39) الكافي 1: 48/ باب النوادر/ ح 2.
(40) نهج البلاغة: 50/ الخطبة الشقشقية.
نعم، ربَّما توجد بعض الملاحظات على بعض الممارسات الجزئية فليس من أحد يدَّعي العصمة، ومع ذلك تبقى هذه الممارسات في إطار جزئي تتعلَّق بأفراد محدَّدين وفي سلوكيات وتصرّفات معيَّنة ربَّما تتعلَّق بعض الأحيان بالأموال أو بمنهج علمي في مدرسة معيَّنة، فليس من العدل والإنصاف تعميم حكم ذلك القصور أو التقصير على كلِّ علماء الحوزة، ثمّ نُوسِّع الحكم على كلِّ علماء الشيعة بأنَّهم على هذا النحو من السلوك، فإنَّ هذا هو ديدن أعداء آل البيت (عليهم السلام) وأعداء أتباعهم، وهو ممارسة التعميم الباطل والكذب المفترى.
وحيلة أصحاب هذه الدعوات الضالّة من تعميم هذه الافتراءات على علماء أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم هو اطّلاعهم على بعض تلك الممارسات الجزئية السلبية من بعض وكلاء بعض مراجع التقليد، وخصوصاً المالية منها، ورفعها كشعار ضدّ الحوزة وعلمائها كلّهم، والغرض منها هو استمالة بعض طلبة الحوزة أو التشويش على بعض المؤمنين وإثارة غضبهم من تلك الممارسات، وبعد تأثّرهم وميلهم وانسجامهم مع هذا الشعار يستدرجونه شيئاً فشيئاً وبشكل متناغم ومتوازٍ بين طرح دعوتهم المشؤومة.
وهذا الصنف من طلبة الحوزة الذي يستجيب لهذه الدعوات مع قلَّتهم وتدنّي مستواهم العلمي يعانون من الفقر وقلَّة ذات اليد، فيستغلُّ هؤلاء حالة هؤلاء الطلبة لاستقطابهم إليهم بعد إغرائهم بالمال الوفير الذي لم يكونوا يحلمون به.
ويعلم الله أنّي أعرف أحد الطلبة النشطاء في هذه الدعوة قد أعاد دراسة الأجرومية مرَّتين، وفشل فيهما، وبدأ بالثالثة وتركها عجزاً عن
استيعابها، وهو يدور الآن في ضواحي الحلَّة يطعن في العلماء مدَّعياً جهلهم بالشريعة التي عجز هو عن فهم أوَّل مقدّمة من مقدّمات دروسها الأوَّلية، وغيره كثير من هذه النماذج.
العبرة:
إنَّ هناك طلبة ومؤمنين استُغِلَ عوزهم وحاجتهم باستدراجهم من نقطة ضعفهم بدءاً بسلبية صغيرة، ثمّ تعميم هذه السلبية بالتدريج إلى أن يُضلِّلوهم، وصوَّروا لهم أنَّ كلَّ علماء الطائفة وكلَّ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) هم على ضلال، بل هم أعداء أهل البيت (عليهم السلام) في الحقيقة.
نعم توجد بعض السلبيات والعصمة لأهلها، وهذه هي كلمة الحقِّ، ولكن هل علاج هذه السلبيات بنسف جميع ثوابت المذهب، وإزالة قادته، وتسقيط علمائه وأتباع الأئمَّة (عليهم السلام)، والافتراء عليهم، وإنكار جميع جهودهم التي حقَّقت مكتسبات الطائفة الفقهية والعقائدية والفكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية وغيرها، والتي ما تحقَّقت إلَّا بتضحيات الآلاف من كبار وخيار العلماء، وتشريد الملايين من أولياء المعصومين (عليهم السلام) وظلمهم، حتَّى صار أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بفضل الله تعالى وتضحيات الأئمَّة (عليهم السلام) وحكمة العلماء في كلِّ بقاع العالم مثالاً للصمود والثبات والوسطية، والأقرب إلى تمثيل الإسلام الصحيح، حتَّى يكتمل ذلك الأقرب بظهور العدل المطلق أرواحنا فداه؟
أيُسلَّم ذلك كلّه إلى شخص مجهول يتوارى خلف أوهامه وافتراءاته خوفاً، ويوسوس كما يفعل إمامه إبليس بترّهات وسخافات يتحدّى بها أوهامه وجهالاته ويُسمّيها علماً؟
حسناً اظهر أمام الملأ علناً كما تدَّعي أنَّ الظهور قد بدأ، مباشرةً أو بأحد وسائل الإعلام التي أصبحت متاحة، من غير أن يُعرَف مكانك بالضبط، مع أنَّك تعلم أنَّك آمن في بعض الدول وخصوصاً تلك التي تتنقَّل فيها، ويعرفون عنك كلّ شيء.
والرواية لم تُحدِّد نوع المسألة التي يُسأَل بها سوى أنَّها من المسائل المعقَّدة التي يعجز مدَّعي الإمامة عن الإجابة عنها، ولا نعلم أنَّ أحد أئمَّتنا توقَّف أو تردَّد في الإجابة عن أيِّ مسألة وفي كافَّة العلوم، وإظهار الخمسة والعشرين حرفاً بضميمة الحرفين المعلومين على يد من تدَّعي مقامه من الواضحات لدينا، وسيرة أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) مليئة باختبار من ادَّعوا دعوتك.
اظهر ليسألك الناس عن مسائلهم، ويختبروك في عظائم الأُمور، وهذا من أعدل وأبسط حقوق الناس، وهو أوضح ميزان وضعه أئمَّتنا (عليهم السلام) تتبيَّن به الحقائق، ونحن نعلم بالقطع واليقين أنَّك لم ولن تفعل ذلك، لعلمك بعجزك وجهلك، وخوفاً من افتضاح أمرك أمام من انطلت عليهم حيلتك وألاعيبك.
لقد قال الإمام (عليه السلام): (اسألوه)، وأنت هارب عن السؤال والاختبار، ومع هروبك فأنت مخالف لسيرة الأئمَّة (عليهم السلام)، ويحقُّ لكلِّ شخص أن ينكر إمامتك، ويكون مصيباً في ذلك، ومع ذلك تدَّعي أحقّيتك وضلال من لم يتَّبعك، وكما تريد أن نُسلِّم لك عن غير بصيرة ولا هدى ولا كتاب مبين، نريد أن تسمع بشرانا لك على لسان إمامنا زين العابدين (عليه السلام) في أمرين: إحداهما عاجلة والأُخرى في دار الخلود، أمَّا العاجلة فبتر العمر وتشتّت الحال، وأمَّا الآخرة فطوق من نار(41).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(41) راجع: الكافي 1: 348/ باب ما يفصل بن دعوى المحقّ والمبطل.../ ح 5؛ كفاية الأثر: 241.
النتيجة:
وفقاً لما قلناه فإنَّ شخصية المعصوم (عليه السلام) وقيادته وتربيته لا يقاس بها أحد، لأنَّه (عليه السلام) أعظم قدوة وأفضل منهج يُحتذى به، ويبقى الفرق شاسعاً بينه وبين غيره من أتباعه ومواليه ممَّن يسيرون على خطاه، وهذا من ضروريات المذهب.
وتبقى تعاليم أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) ومنهجهم هي المبدأ الذي يسير عليه من يريد أن يقتفي أثرهم، خصوصاً في غيبة الحجَّة الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، وقد ورد في خطابه الثابت توجيه عوام الشيعة باتّباع وتقليد العلماء(42).
إذن عمل الشيعة في تقليدهم للعلماء مستند إلى أمر الحجَّة (عليه السلام)، وهم يعملون بما رووه من أخبار عن أئمَّتهم (عليهم السلام)، وبما يبذله العلماء من جهد في معرفة تلك الأحكام واستقصائها واستنباطها من مظانّها.
ومن الطبيعي هم خاضعون لعوامل التربية والتاريخ والمكتسبات الشخصية في تبلور الشخصية العلمية والأخلاقية لكلِّ واحدٍ منهم، ومهما بلغ من مرتبة فهو لا يبلغ - ولا أحد يدَّعي ذلك - مرتبة شخص اختاره الله على علم، وخُطَّ اسمه على عرشه كما عبَّر المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) في حديث ليلة الإسراء(43).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(42) راجع: كمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4.
(43) عن أبي أُمامة، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (لمَّا عُرِجَ بي إلى السماء رأيت مكتوباً على ساق العرش بالنور: لا إله إلَّا الله، محمّد رسول الله، أيَّدته بعلي ونصرته بعلي. ورأيت عليَّاً عليَّاً عليَّاً ومحمّداً محمّداً مرَّتين وجعفراً وموسى والحسن والحجَّة، اثنا عشر اسماً مكتوباً بالنور، فقلت: يا ربِّ، أسامي من هؤلاء الذين قد قرنتهم بي؟ فنوديت: يا محمّد، هم الأئمَّة بعدك والأخيار من ذرّيتك) (كفاية الأثر: 105 و246).
ومهمَّتهم الأساس هي حفظ تراث أهل البيت (عليهم السلام)، والدفاع عن مبادئه كالعقيدة والفقه والأخلاق والسيرة، وإرشاد وتوجيه هذا الكيان الاجتماعي المهمّ، ليتحقَّق وعد الله تعالى بهم من خلال حصول التغييرات العالمية المطلوبة، وليأخذوا مكانتهم المناسبة ودورهم الجوهري لنصرة وليّ الله الأعظم في تحقيق الهدف الإلهي مع قائدهم الفعلي أرواحنا فداه.
أمَّا أن يأتي معتوه ويترصَّد بعض ما يظنّ أنَّها سلبيات، ليرفعها شعاراً لنسف كلّ مكتسبات الأئمَّة وأوليائهم في تربية البشرية، ويطرح نفسه كبديل عن المعصوم، متجاهلاً ومستخفَّاً بقيادته (عليه السلام) وشخصه، لمجرَّد أنَّه يدَّعي أخلاقه، فما أهون الادِّعاء على الأدعياء، وما أرخص الادِّعاء إذا لم يثبته العمل والدليل، فهاهي اليوم ملايين من البشر سُحِقَت تحت دعاوى العدل التي ترفعها أمريكا وأتباعها وأذنابها، ومئات الآلاف من المسلمين يُقتَلون ويُشرَّدون ويجوعون باسم إقامة الدين والإسلام.
وبكلِّ سذاجة يأتي اﻟﮕﺎطع ويُغيِّر نسبه، ويدَّعي وصاية السماء، ويطلب قيادة العالم، وهو متخفٍّ وهارب، ثمّ يُرسِل بجهالاته وسفاسفه عبر مهرّجيه الذين مُسِخَت من عقولهم وقلوبهم كلّ عقيدة وهدف ورمز سوى اسم اﻟﮕﺎطع الهمبوشي، متناسين أنَّ صاحب هذا الأمر (عليه السلام) إذا أُذِنَ له في الخروج يتكفَّل الكون بإثبات دعوته والدفاع عنه، فتشهد له الملائكة والسماء والأرض والنجوم والطير في الهواء، ولا يقوم هذا الدين بجهالاته وخزعبلاته.
الجهة الثانية: المذمومون في الروايات هم علماء المخالفين لا علماء الشيعة:
إنَّ من أسباب بقاء وثبات الحوزات العلمية الشيعية هي استقلاليتها الكاملة عن الارتباط بأيِّ حكومة من جميع الجهات الإدارية والاقتصادية وغيرها، لانحصار مواردها في تسيير شؤونها من رواتب الطلبة والإنفاق على المدارس والمؤسّسات الخيرية المرتبطة بها في الحقوق الشرعية، ولولا صبر وثبات المؤمنين وحرصهم على بقاء هذا الخطّ الأصيل قائماً يلتفُّ حوله أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في زمن غيبة وليّهم، لكانوا عرضةً للمتربّصين وتشكيك المشكّكين وغدر المنافقين.
وفي المقابل نرى نسبة كبيرة ممَّن هم محسوبون على علماء الإسلام هم في الحقيقة مستشارون ومفتون للظلمة والجبابرة، يُبرِّرون لهم ظلمهم وطغيانهم، وأقرب مثال على ذلك علماء السعودية الذين اتَّخذوا لهم منهج ابن تيمية ومحمّد بن عبد الوهّاب، وهم في الحقيقة يُمثِّلون خطّ بني أُميَّة وبني العبّاس في سلوكهم وعقيدتهم وعدائهم للخطِّ الإلهي المتمثِّل بأهل بيت النبوَّة (عليهم السلام) وأتباعهم ومحبّيهم، وهؤلاء هم الأعلى صوتاً في العالم، لأنَّهم مدعومون ماليَّاً وإعلاميَّاً من حكوماتهم وحكومات غيرهم.
إذن علماء الشيعة هم الأقرب من علماء المخالفين إلى رأي المعصوم (عليه السلام) وخُلُقه، وهم أبعد العلماء عن الذمِّ والخطأ.
وكلُّ ذمٍّ ورد عن الأئمَّة (عليهم السلام) ينطبق أوَّلاً وبالذات على علماء المخالفين، ثمّ الأقرب إليهم فالأقرب.
وأمَّا أن نأخذ ذمّ الأئمَّة (عليهم السلام) الذي ينطبق تماماً على أعدائهم
وأعداء محبّيهم ونُخصِّصه ظلماً وعدواناً بأتباع المعصومين (عليهم السلام)، فهذا غاية الظلم والتجرّي على الخطِّ الإلهي الذي ارتضاه الله سبحانه والمعصومون (عليهم السلام) لأوليائهم.
وبعد وضوح الفرق الكبير الذي يراه كلُّ الشيعة بين علماء الشيعة وغيرهم، يستدرج اﻟﮕﺎطع وأتباعه بسطاء الشيعة بزعم أنَّ الذمَّ الوارد من المعصومين (عليهم السلام) يُراد به خصوص علماء الشيعة دون غيرهم، ويستدلّون على ضلال علماء الشيعة وانحرافهم ببعض السلبيات التي تصدر من بعض صغار وكلاء بعض المراجع، ويتعامون عن السلبيات الكبيرة والكثيرة التي تصدر عن علماء المخالفين، وهذا من حيلهم الدقيقة والخبيثة، ثمّ يدَّعون ظلماً وعدواناً أنَّهم هم من يُمثِّل خُلُق المعصوم، وفي الواقع هم جعلوا إمامهم بديلاً عن المعصوم (عليه السلام).
لقد بانت أوَّل بوادر خُلُقهم بتكفيرهم شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وتسقيط حماة المذهب، والكذب والافتراء على الأئمَّة الهداة (عليهم السلام)، والغدر بمن يخالفهم ويفضح افتراءاتهم.
الخلاصة:
1 - أنَّ بعض من يُحسَبون على علماء الإسلام يُمثِّلون الخطّ الحقيقي لبني أُميَّة وبني العبّاس، وخير دليل هو موقفهم من أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم.
2 - أنَّ الذمَّ المروي عن المعصومين (عليهم السلام) لعلماء آخر الزمان ينطبق أوَّلاً وبالذات على السائرين على خُطى بني أُميَّة وبني العبّاس، ولا ينطبق على علماء الشيعة الأبرار الذين جسَّدوا تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) في سلوكهم.
3 - أنَّ أحمد إسماعيل گاطع وأعوانه اتَّبعوا سياسة خلط الأوراق وصناعة المتشابه، ونعتوا أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وعلماءهم ببني العبّاس، وذلك في قولهم: (والحقُّ أنَّ المقصود ببني العبّاس في روايات الأئمَّة هم الشيعة).
4 - ادِّعاؤهم أنَّهم يُمثِّلون خُلُق المعصوم (عليه السلام)، مع أنَّهم يخالفونه باقتراف الكبائر التي من ضمنها نسبة كلام للمعصوم (عليه السلام) وهو براء منه، وتسقيطهم لأتباعه ظلماً وعدواناً.
ومن أدواتهم: ظهورهم المزعوم وخطَّة التوريط:
أفردنا لهذا الموضوع نقطة مستقلَّة لنُسلِّط تركيز المتابع على كيفية تعامل هؤلاء الموبوئين مع أتباعهم، وإلى أيِّ مدى يحتالون عليهم، وليطَّلع على تناقضهم بين مسألة وجوب الطاعة وإثبات أحقّية من يُطاع.
فمن تناقضهم أنَّهم في مسألة وجوب الطاعة وتقديم الولاء الذي لا يعرفون منه إلَّا أماني زعموا أنَّ إمامهم بدأ ظهوره وعلى الجميع أن يطيعوه، وأمَّا في مسألة امتحانه واختباره بما يجب في مثل دعوته فهو غائب متخفّي، فعلى الجميع أن لا يسألوا إلَّا خواصَّه، مستخفّين بعقول الناس وعدم تنبّه أتباعهم إلى أنَّ الطاعة والولاء إنَّما يثبتان بعد ثبوت أحقّيته، وثبوت أحقّيته تثبت بالاختبار بالأسئلة التي لا يجيب فيها غيره.
وبغضِّ النظر عن كلِّ كذبه وافتراءاته وتزويره لكلام المعصوم (عليه السلام)، التي تكشف عن أنَّه لا يصلح لإمامة رجل واحد في صلاة ركعتين، فكيف بقيادة البشرية جمعاء والائتمان على شريعة المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟!
وإذا غضضنا عن ذلك كلّه فهو لم يُحقِّق أبسط حقوق الناس عليه وهو الاختبار المباشر، وإن تعلَّل بحيلته الباهتة وهي الخوف من الظهور علناً بعد إعلان دعوته، فلا حجَّة له مطلقاً على من اتَّبعه فضلاً عمَّن لم يتَّبعه، لعدم تحقّق أبسط مقوِّمات إثبات إمامته بتواريه وهروبه من الاختبار والسؤال، فصاحب الحقِّ حين يظهر عجَّل الله ذلك اليوم يتحدّى العالم بعلمه، ويُبهِر العقول بحكمته، وتُسلِّم له أساطين الدنيا، لما يفرغه من أسرار العلوم التي لم يحلموا بالاقتراب منها.
هذا هو مهدينا بالحقِّ الذي ننتظره ولو كفر به كلُّ من في الأرض جميعاً، لا أن يسرق معاني المتصوّفة والعرفاء، ويُغيِّر بعض ألفاظها ليُسوِّقها على أنَّها من اختراعاته ليُبهِر بها بسطاء العقول.
إنَّ صاحب هذا الأمر هو دليل إرادة الله وعينه وسمعه ولسانه ويده، فحين يُؤذَن له بالظهور تنقاد له الخلائق أجمعون، بنصر الله وعزَّته وقدرته، والرعب يسير أمامه شهراً كما بيَّنت الروايات(44). لا أن يُعلِن عن ظهوره ويتهرَّب منه بوعود متجدِّدة يهزأ بها على عقول أتباعه، وكلَّما فشل في وعد رسم لهم آخر، حتَّى لا يفتضح أمره أمامهم، وهؤلاء يُصدِّقون بكلِّ وعد جديد، حيث كان أحد أهمّ موعد لهم هو خروجهم في البصرة بعد وعده لهم بالتأييد الإلهي والمعجزة إن صبروا ربع ساعة من القتال مع الأجهزة الأمنية فيها.
وهؤلاء الأتباع لم يعلموا أنَّها خطَّة (للتوريط)، فإن بدأوا بالقتال من الطبيعي سوف تهرع إليهم الأجهزة الأمنية التي مهمَّتها حفظ النظام، فإن اشتبكوا معها لن يكون بأيديهم إيقاف القتال، وسوف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(44) راجع: الغيبة للنعماني: 239/ باب 13/ فصل 2/ ح 22.
يستمرّون في الدفاع عن أنفسهم أملاً في حصول المعجزة، وعند عدم حصولها وهو ما كان متيقِّناً منه سوف تتحوَّل المعركة في نظرهم من موعد لحصول الكرامة والتأييد الإلهي إلى حرب دفاع، (وهذا هو بالضبط ما يريده وأسميناه بالتوريط)، إذ يحتمل أنَّهم يصمدون وينتصرون في تلك المعركة فتتحوَّل إلى انتصار، ويجعل له في البصرة موطئ قدم لكي يُؤسِّس فيها كيانه الغاشم.
وكلُّ خطَّته بُنيت على هذا الأساس، وهو يعلم جيّداً أنَّه ليست هناك معجزة ولا مدد إلهي، إنَّما خطَّته أن يزجَّ بأصحابه في المعركة حتَّى لو كان احتمال نسبة النجاح واحداً في المليون، فهذه النسبة أفضل من لا شيء، خصوصاً إذا لوحظ أنَّه كان يَعِدُ بالقيام المسلَّح قبل ذلك بسبع سنين، أي إنَّه استنفذ جميع وعوده السابقة، فاضطرَّ إلى المجازفة بأصحابه مع ضعف احتمال تحقيق مآربه، مدفوعاً بحماقة استعجال اعتلاء المنصب الموهوم، حتَّى إذا بانت بوادر هزيمتهم، وبدأوا بالفرار والموت، وفشلت خطَّته، وتهاوى ظهوره المزعوم، توارى هو ومعجزته وكأنَّه لم يعدهم بشيء، فهرب وخذل أتباعه، وتركهم يواجهون الموت وحدهم، واختبأ هو وأعوانه ليُدبِّروا ظهوراً جديداً يكون ضحيَّته متعطّشين جُدُد مستعجلين لظهور إمامهم.
وما بين نصف الظهور ونصف الغيبة، والتلوّن والمكر في طرحه، عسى أن يقع في شباكهم بعض من لا يعلم بتلك الأساليب القذرة، ليتَّخذوه وليجة من دون وليِّ الحقِّ، ليرضوا به غاياتهم القديمة التي غيَّبوها في غيابة نفوسهم المشوَّشة والموبوءة والخالية من اليقين بغيبة صاحب الأمر (عليه السلام)، بل تأزَّرت كلمتهم على سلبه جميع مهامه ومناصبه
التي نصبه الله تعالى فيها، وليأسهم من عدم مقدرتهم على مسايرة صاحب الحقِّ أرواحنا فداه، صنعوا ببغيهم عجلاً له خوار لسهولة ليس فقط لسهولة الانقياد له، بل لسهولة قيادته وتوجيهه أيضاً، وشتّان ما بين ربٍّ له خوار وربٍّ حين تجلّى للجبل جعله دكَّاً فخرَّ موسى صعقاً، وهو كليمه القوي الأمين، وبما أنَّ قائمنا (عليه السلام) دليل إرادة الله فإنَّه لو صاح بالجبال لتدكدكت كما سيمرُّ عليك بعد قليل، لا أن يحتال ويجبن ويخذل أصحابه في أشدِّ المواقف التي يكونون فيها بأمسِّ الحاجة له.
ولو نظرنا إلى مشهد رائع آخر، وتأمَّلنا مواقف سيِّد الشهداء (عليه السلام) حين أعلن قيامه، فإنَّه قال لأصحابه: (القوم إنَّما يطلبونني)، وجوَّز لهم الانسحاب وتركه وحده(45)، وهذه هي صفات القائمين بالأمر حقيقةً، لا أن يقول لهم: (القوم يطلبونكم)، ويتَّخذ الليل جملاً له، ويذهب بها عريضاً من دون أدنى حياء أو مروءة.
عن الريان بن الصلت، قال: قلت للرضا (عليه السلام): أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال: (أنا صاحب هذا الأمر، ولكنّي لست بالذي أملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وكيف أكون ذلك على ما ترى من ضعف بدني، وإنَّ القائم هو الذي إذا خرج كان في سنِّ الشيوخ ومنظر الشبّان، قويَّاً في بدنه حتَّى لو مدَّ يده إلى أعظم شجرة على وجه الأرض لقلعها، ولو صاح بين الجبال لتدكدكت صخورها، يكون معه عصا موسى وخاتم سليمان (عليهما السلام). ذاك الرابع من ولدي، يُغيِّبه الله في ستره ما شاء، ثمّ يُظهِره فيملأ [به] الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً)(46).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(45) أُنظر: مناقب آل أبي طالب 3: 248.
(46) كمال الدين: 376/ باب 35/ ح 7.
الإمام الرضا (عليه السلام) يقول: الرابع من ولدي هو القائم، وهو صاحب الأمر، وهو من يملؤها قسطاً وعدلاً. وهؤلاء يقولون: كلَّا، إنَّ المراد بذلك هو أحمد إسماعيل الهمبوشي. أليس هذا ردَّاً لكلام الأئمَّة (عليهم السلام)؟ والرادُّ عليهم رادٌّ على الله(47).
عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (من أحبَّ أن يتمسَّك بديني، ويركب سفينة النجاة بعدي، فليقتدِ بعلي بن أبي طالب، وليعادِ عدوَّه، وليوالِ وليَّه، فإنَّه وصيّي وخليفتي على أُمَّتي في حياتي وبعد وفاتي، وهو إمام كلِّ مسلم وأمير كلِّ مؤمن بعدي، قوله قولي، وأمره أمري، ونهيه نهيي، وتابعه تابعي، وناصره ناصري، وخاذله خاذلي).
ثمّ قال (عليه السلام): (من فارق عليَّاً بعدي لم يرَني ولم أرَه يوم القيامة، ومن خالف عليَّاً حرَّم الله عليه الجنَّة، وجعل مأواه النار، وبئس المصير. ومن خذل عليَّاً خذله الله يوم يُعرَض عليه، ومن نصر عليَّاً نصره الله يوم يلقاه، ولقَّنه حجَّته عند المسألة).
ثمّ قال (عليه السلام): (الحسن والحسين إماما أُمَّتي بعد أبيهما، وسيِّدا شباب أهل الجنَّة، وأُمّهما سيِّدة نساء العالمين، وأبوهما سيِّد الوصيّين. ومن ولد الحسين تسعة أئمَّة، تاسعهم القائم من ولدي، طاعتهم طاعتي، ومعصيتهم معصيتي، إلى الله أشكو المنكرين لفضلهم، والمضيِّعين لحرمتهم بعدي، وكفى بالله وليَّاً وناصراً لعترتي، وأئمَّة أُمَّتي، ومنتقماً من الجاحدين لحقِّهم، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: 227])(48).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(47) راجع: الكافي 1: 67/ باب اختلاف الحديث/ ح 10.
(48) كمال الدين: 260 و261/ باب 24/ ح 6.
إذا كان سيِّد الكائنات (صلّى الله عليه وآله وسلم) يشكو جبّار السماوات من المنكرين والمضيِّعين والجاحدين لفضلهم وحرمتهم وحقِّهم، ويُخبِر بأنَّ الله سينتقم له من أُولئك المعتدين على الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام)، الذين آخرهم القائم من ولد الحسين (عليه السلام)، الذين طاعتهم طاعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وطاعته طاعة الله تعالى، ومعصيتهم كذلك، فهل لأحد هؤلاء المتطفّلين المعتوهين ذكر في رواية النبيّ حتَّى تقوَّلوا على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وجعلوا من الگاطع قائم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، غير آبهين بشكوى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) على من يعتدي على حقِّهم، ويزحزحهم عن مراتبهم التي رتَّبهم الله فيها؟ فاتَّقوا الله ولا يستخفنَّكم الذين ظلموا.
ومن أدواتهم وحيلهم الأُخرى:
الحيلة الأُولى: صناعة المتشابه:
قال تعالى: (قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الأعراف: 116).
والگاطع وأتباعه دأبوا على اقتطاع أجزاء من الروايات وتأويل معانيها بحسب ما ادَّعوه مسبقاً، والسابق أيضاً مقتطَع من روايات أُخرى، ومؤوَّلة بحسب رغبة هؤلاء المدَّعين، ومخالف للمحكم من رواياتهم (عليهم السلام) إلى أن تنتهي تأويلاتهم إلى رواية واحدة مشتبهة المعاني، يرافقها ادِّعاء لا يستند إلى أيِّ دليل أو منهج علمي معتبر، وفي مقابل هذا الادِّعاء مئات الروايات الصريحة والواضحة.
فالموالي للإمام المهدي (عليه السلام) على مفترق طرق، إمَّا أن يُصدِّق ادِّعاء أحمد إسماعيل گاطع وحيدر مشتِّت وضياء الگرعاوي وأمثالهم ممن دأب على تحريف وتقطيع وبتر روايات حجج الله على خلقه
والكذب عليهم، أو يُصدِّق مئات الروايات الصحيحة الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) التي تُكذِّب ادِّعاءات هؤلاء جملةً وتفصيلاً.
الحيلة هي: التشويش على عقول المؤمنين الذين يجهلون قيمة التأويل الباطل، وخداعهم بتأويلات متراكمة بعضها فوق بعض ما لها من قرار.
الحيلة الثانية: تقديم أدلَّتهم بطريقة مشابهة لطرق الاستدلال العلمي:
إذ لا يُسمّون الأشياء بمسمّياتها خوفاً من فضح أدلَّتهم، حيث يستعملون طريقة القياس من دون تسميتها، لأنَّ في تسميتها سوف يفتحون على أنفسهم باب السؤال عن هذه الطريقة من قِبَل الذين يعرضون عليهم دعوتهم ممَّن ليس لديهم اطِّلاع مسبق على علم المنطق، ومن الطبيعي لو تدرَّج السائل في السؤال عن هذه الطريقة من الاستدلال فسوف يصل إلى شروط القياس التي من أهمّها (صحَّة المقدّمات والتسليم بها)، وهذا ما لا يتوافق مع استدلالاتهم التي بعض مقدّماتها أو كلّها غير صحيحة، ومن لم يطَّلع على تلك الشروط سوف يُؤلِّف بين تلك المقدّمات على طبيعته ليصل إلى النتائج التي يريدونها منه، إذ أنَّ الناس أغلبهم مناطقة من حيث لا يعلمون كما ذكر ذلك الشيخ المظفر (رحمه الله)(49).
وحيلتهم هي استغلال جهل الناس بطرق الاستدلال وشروطها، فيستدلّون بقياسات مكوَّنة من صغرى وكبرى ونتيجة، ولكن مقدّماتها غير صحيحة أساساً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(49) المنطق: 233.
الحيلة الثالثة: استغلال عواطف الناس واستعجالهم:
بما أنَّ أغلب أتباع هذه الحركات هم ممَّن تقودهم عاطفتهم وممَّن يُوصَفون بالمستعجلين حسب قول المعصوم (عليه السلام): (وهلك المستعجلون)(50)، فإنَّهم يستغلّون هذه الصفة، ويربطون هؤلاء الأتباع الجُدُد بقائدهم ربطاً نفسياً، ويعملون على ترسيخ هذه العلاقة.
ومن أهمِّ ما يستعينون به في السيطرة على ضحيَّتهم قطع علائقه السابقة تدريجياً مع كلِّ ما يعتقد به هذا المسكين، حتَّى تصل النوبة إلى أئمَّته الفعليين، فإذا توجَّه بكلِّ كيانه إلى الگاطع الهمبوشي، قَبِلَ عنه كلَّ ما يدَّعيه الگاطع، وصدَّقه في كلِّ ما يُمليه عليه من التأويلات الباطلة، إلى أن يصل به إلى مرحلة يُؤوِّل فيها أخطاءه وانحرافاته حتَّى لو كانت من أعظم الكبائر.
وهذه الحيلة هي من أخفى الحيل وأوسعها انتشاراً بين الدعوات العقائدية الفاسدة والمنحرفة، لأنَّ البشر كأفراد متشابهون في طبيعة القوى التي تُؤثِّر على مصدر قرارهم وتُحفِّز إرادتهم، وهي: العقل والفطرة، والعاطفة، فإن كانت تلك الدعوات صادقة مع أتباعها وتريد لهم الخير والصلاح فإنَّ دعواتهم تعمل بشكل متوازن بين تلك القوى في جذب الإنسان إليها، وتكون قوَّة العقل هي القيِّم الأكبر على القوَّتين الأُخريين، لأنَّ الإنسان في بداية تجربته الإيمانية تختلط عليه الأُمور، ولا يتمكَّن من التمييز بين ما هو نفسي عاطفي أو عقلي واقعي، وكلٌّ من العقل والعاطفة له عالمه وقوَّته التي تُؤثِّر على الإنسان، وتدفعه لاتّخاذ قرار معيَّن في السير خطوة أو خطوات في طرق هذه العقيدة أو تلك، إذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(50) أُنظر: الكافي 1: 368/ باب كراهية التوقيت/ ح 2.
أنَّ العاطفة تستمدُّ قوَّتها من توافق الأحاسيس مع فطرة الإنسان السليمة ومع قوَّة العقل الذي (جعله الله تعالى ميزاناً وحجَّةً في فروع دينه وأُصوله)، وبتوافق العاطفة والفطرة والعقل مع تعاليم السماء المبلّغة إلينا عن طريق ممثّليها الصادقين تكتمل دائرة ثلاثية محصَّنة تُوصِل الإنسان إلى الإيمان الصحيح.
لقد وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) العقل في وصيَّته المعروفة لابنه الإمام الحسن (عليه السلام) حيث قال: (يا بنيّ، لا فقر أشدُّ من الجهل، ولا عدم أعدم من العقل...، يا بنيّ العقل خليل المرء، والحلم وزيره...)(51).
وفي وصيَّة أُخرى له (عليه السلام) قال: (يَا بُنَيَّ، احْفَظْ عَنِّي أَرْبَعاً وأَرْبَعاً، لَا يَضُرُّكَ مَا عَمِلْتَ مَعَهُنَّ: إِنَّ أَغْنَى الْغِنَى الْعَقْلُ، وَأَكْبَرَ الْفَقْرِ الْحُمْقُ، وَأَوْحَشَ الْوَحْشَةِ الْعُجْبُ، وَأَكْرَمَ الْحَسَبِ حُسْنُ الْخُلُقِ...)(52).
وهدف الصراع بين الحقِّ والباطل هو السيطرة على العقل، لأنَّه هو المصحِّح والميزان كما عرفنا دوره قبل قليل، لاستصدار قرارات تُؤيِّد كلَّ طرف حسب دوافعه.
وحيلة هؤلاء المضلِّين هي أوَّلاً وقبل كلِّ شيء تبديل ذلك الميزان والمعيار من خلال ذلك الربط الذي أشرنا إليه في بداية هذه النقطة، وهي ربط الشخص المقصود إدخاله في هذه الدعوات ربطاً نفسياً قويَّاً، فإن وصل هذا المسكين إلى الدرجة المطلوبة من الانشداد والارتباط العاطفي النفسي مع صاحب الدعوة تنقلب لديه الموازين، وتختلف عنده المعايير في تقييم الأُمور، فيصبح صاحب الدعوة هو ميزان الحقِّ وليس العكس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(51) أمالي الطوسي: 146/ ح (240/53).
(52) نهج البلاغة: 475/ ح 38.
وهذا ما حذَّر منه أمير المؤمنين (عليه السلام) حين دخل عليه الحارث بن حوط الليثي، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أرى طلحة والزبير وعائشة احتجّوا إلَّا على حقِّ! فقال: (يا حارث، إنَّك إن نظرت تحتك ولم تنظر فوقك جزت عن الحقِّ، إنَّ الحقَّ والباطل لا يُعرفان بالناس، ولكن اعرف الحقَّ باتّباع من اتَّبعه، والباطل باجتناب من اجتنبه)(53)، وكلام آخر له (عليه السلام)، قال: (الحقُّ لا يُعرَف بالرجال، اعرف الحقَّ تعرف أهله)(54).
ويصل ضغط النفس وقواها المدعومة بالأدلَّة المشابهة للحقِّ إلى درجة تحتلُّ مرحلة استصدار القرار، فيلتبس عليهم الحقّ بالباطل، والصحيح بالسقيم، ويستبدل الإيمان الحقيقي النوراني المطمأنّ إلى حالة مشابهة للإيمان ملؤها القلق والتشويش، الذي يخفونه في أعماق ذواتهم، حتَّى إنَّهم يخافون من التفكير في مراجعة أساسه وقواعده، لأنَّهم ببساطة انقلبت لديهم موازين المعرفة والإدراك، وأصبح الميزان وهو ما يجب أن تكال به الأُمور دليلاً يُوزَن بغيره، وما يجب أن يُوزَن اختلط نفسياً بصاحب الدعوة وبهما يُعرَف الحقّ.
وبتلك الأدلَّة يوهمون أنفسهم ويُروِّضون قرارهم المضطرب، الذي يمنعهم من التفكير في التراجع عن مذهبهم الجديد، لاشتهارهم بين من عرفوهم أنَّهم من أبناء هذه الدعوة التي كلَّما ساروا فيها أكثر لا تزيدهم كثرة السير إلَّا بُعداً عن الحقِّ، وما الله بغافل عمَّا يفعل الظالمون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحيلة الرابعة: سرقة فضائل وإلصاقها باﻟﮕﺎطع:
دأب أتباع الگاطع الهمبوشي على سرقة واقتباس قصص وحوادث وفضائل لشخصيات محترمة وأحياناً مقدَّسة وإلصاقها بصاحبهم، ليُؤثِّروا نفسياً وبالتالي عقلياً على قرار السامع أو القارئ.
والحيلة هي: أنَّ ادِّعاء صفة من صفات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ﻟﻠﮕﺎطع مثلاً يجعل السامع لا شعورياً يساوي بين ﺍﻟﮕﺎطع وبين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وهذا ثابت. مثلاً إنَّ النبيَّ الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان يُوصَف بالصادق الأمين قبل دعوته، ولمَّا بدأ بالدعوة عادته قريش فوصفوه بخلاف ذلك وحاشاه (صلّى الله عليه وآله وسلم). فقام أتباع ﺍﻟﮕﺎطع بنقل هاتين الصفتين بل الحادثة بكاملها إلى أحمد إسماعيل گاطع لينتقل السامع بشكل لا شعوري، فيحكم بأنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) لمَّا كان على حقٍّ إذن أحمد إسماعيل كذلك.
وهذا هو التلاعب بمشاعر الناس وأفكارهم، إذ متى عُرِفَ الگاطع بالصادق الأمين كما عُرِفَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) عند قريش بذلك حتَّى تكون النتيجة مشابهة؟!
وقد ذكر الگاطع كثيراً من أمثال هذه التلاعبات والاقتباسات الساذجة والمخجلة في كتبه وادِّعاءاته، مع أنَّها لا تنطلي على أبسط الناس.
الحيلة الخامسة: التلقين الدائم لأتباع الگاطع بأنَّه لا يُوفَّق إلى الإيمان بدعوتهم إلَّا المخلصون فقط:
لا شكَّ أنَّ نصرة الإمام المهدي (عليه السلام) لا يُوفَّق لها إلَّا المخلصون، لكن المهدي المقصود هو خلاصة جهود الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام)، والمذخور رحمةً للعالمين، ذلك الذي لم تُنجِّسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبِسه من مدلهمّات ثيابها، ومن تربّى في حجور المطهَّرات، وغذَّته يد
الولاية من وصيٍّ إلى وصيٍّ إلى سيِّد الخلق محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ذلك الذي قال عنه صادق آل محمّد (عليه السلام): (لو أدركته لخدمته أيّام حياتي)(55)، وأين هذا المهدي من ضلالات الهمبوشي وافتراءات أعوانه الذين يُضلِّلون الناس، ويسيرون بهم على غير هدى؟!
وحيلتهم بهذه الإيحاءات هي استغلال حبّ الإنسان لكماله الذي يدفعه لأن يُصدِّق بالفعل أنَّه من المخلصين، فإذا استقرَّ هذا الاعتقاد في نفسه فإنَّه سيبني حوله سوراً من الصعب اقتحامه، يمنعه من تقبّل أيّ نصيحة أو إرشاد أو تعليم يجعل شعوره بأنَّه من المخلصين يتلاشى، وكلُّ مخالف لتلك الدعوة وإن كان عالماً مشهوراً إلَّا أنَّه لمَّا لم يُوفَّق لاتّباع هذه الدعوة فإنَّه لن يرقى باعتقاد هذا المتوهِّم لأن يكون من المخلصين لدين الله تعالى.
فإذا صُنِّفَ الخداعُ إلى مراتب فإنَّه لا يرقى إلى هذا الصنف أيُّ مرتبة أُخرى، وهي خداع الناس في عقيدتهم، والتلاعب في أثمن شيء يريده الله تعالى من خلقه وهو الإخلاص له ونصرة أوليائه. فدَفْعُ الناس إلى الشعور بأنَّهم صاروا من أولياء الله المخلصين، مع أنَّهم أبعد ما يكونون عن ذلك من أعظم درجات الظلم والتعدّي على الناس، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام: 144).
أحبَّتي إنَّ الورع عن محارم الله تعالى والالتزام بأحكامه سبحانه هو الذي ينمّي الإخلاص لله تعالى في المؤمن من دون أن يصل إلى حالة من الشعور بالنشوة بإخلاصه، فإنَّه متى ما وصل إلى هذه الحالة فليتأكَّد أنَّه حاد عن طريق الإخلاص إلى العُجْب الذي ربَّما يقوده إلى الهلاك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(55) الغيبة للنعماني: 252/ باب 13/ فصل 5/ ح 46.
إنَّ الورع الحقيقي هو السبيل الوحيد لمعرفة قائدنا الفعلي ومنقذنا أرواحنا فداه، وليس الهوس والعاطفة والتلاعب بنصوص المعصومين (عليهم السلام)، ومعرفة الحقِّ هو الميزان الحقيقي لمعرفة أهله وليس العكس كما صرَّح بذلك أهل البيت (عليهم السلام): (اعرف الحقَّ تعرف أهله).
وليس عيباً أن نعترف بتدنّي إخلاصنا قياساً بأصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) إن كنّا صادقين مع أنفسنا، وأن نقرَّ بحاجتنا إلى صقل نفوسنا وتزكيتها وفق تعاليمهم (عليهم السلام) بالعمل الجادّ والمثمر والاقتباس من أخلاقهم والتمسّك بهديهم.
ولكن العيب أن نذهب بهذا الإخلاص القليل المشوب بحبِّ الدنيا وندَّعي أنَّنا من المصطفين الأبرار، فإنَّ ذلك ممَّا يوجب محق ذلك القليل من الإخلاص، ولاسيّما إذا رافق ادِّعاءنا هذا إزاحةُ أهل البيت (عليهم السلام) عن مناصبهم التي رتَّبهم الله فيها والعياذ بالله، فهذا هو الخسران المبين في الدنيا والآخرة.
صحيح أنَّ الإنسان بطبيعته يسعى للكمال والرقي، والمروي أنَّ أصحاب الإمام الحجَّة (عليه السلام) هم خيار أهل الأرض، وكلُّ مؤمن يمنّي نفسه بالوصول إلى تلك المقامات الشامخة، لكن الفرق أنَّ أتباع الگاطع يستجيبون لتلك الإيحاءات الكاذبة على أساس الأماني وبدوافع عاطفية نفسية مشوبة بحبِّ النفس والأنا لاعتلاء تلك المقامات العالية، ومن وسط هذا الخليط من المشاعر والآمال يندفع أُولئك الأشخاص خلف أمل أنَّ هذا المدَّعي هو صاحبهم ليتبَّوؤا قيادة الأرض معه.
إذن الحيلة هي استغلال اندفاع هؤلاء واستعجالهم بإطلاق مقامات كاذبة لأتباعهم، تجعلهم يُصدِّقونها من دون تثبُّت أو تأكُّد من
صدق أصحابها، ومن دون عرضها على قانون معرفة الحجَّة الذي بيَّنه أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) في أحاديثهم وعلَّموه لشيعتهم.
الحيلة السادسة: سرقة نصوص ومعاني من كتب العرفاء والمتصوِّفين السابقين:
وهذه النصوص تشتمل على معاني لم يطَّلع عليها من لم يقرأ كتب أُولئك العرفاء والمتصوِّفين، خصوصاً فيما يتعلَّق بالتوحيد والمعاد وتفسير بعض الآيات القرآنية، ونسبتها إلى الگاطع، ممَّا سوف يبهر هذا المسكين القاصر عن تحديد (المسروق من العرفاء)، ولو أتعب هؤلاء الإخوة أنفسهم قليلاً وراجعوا كتب العرفاء الذين عُرفوا بهذا المسلك لوجدوا فيها ما كتب صاحبهم وزيادة بما لا يقبل القياس.
والحيلة هي إبهار عقول ونفوس أتباع الگاطع بطرح تلك الآراء المسروقة ونسبتها له ليكبر في نفوسهم.
الحيلة السابعة: انتحال شخصية رجل من أصحاب الإمام المهدي (عليه السلام):
وهذه الحيلة من أقذر الحيل وأكثرها تدنّياً، فإنَّ المعروف عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يحيط بمدى إخلاص أتباعه، وأنَّ تدرُّج أحد الموالين في إخلاصه إلى مستوى عالٍ يجعله مستحقَّاً لملاقاة الحجَّة (عليه السلام) أو الاتّصال به إذا رأى (عليه السلام) مصلحة في ذلك، والمأثور عن صلحاء الطائفة أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) إمَّا يأتي إلى هذا المخلِص بنفسه أو يُرسِل إليه من يقوم بهذه المهمَّة.
ويتمُّ التأكُّد من أنَّ هذا الرجل هو الإمام (عليه السلام) أو شخص من قِبَله أمران: سعي الشخص المؤمن للقاء الإمام (عليه السلام)، وإخباره بعلامات لا يعرفها إلَّا هو نفسه، خصوصاً إذا كان الإخبار من شخص غريب، لأنَّ الإمام وأصحابه المرسَلين من قِبَله يعلمون بتلك الأخبار.
وحيلة أتباع اﻟﮕﺎطع الهمبوشي هي أن يتعرَّف على الضحية أحد أتباع الدعوة، وعادةً ما يكون من منطقته أو من أقربائه، وبذلك القرب فهو مطَّلع على خصوصياته التي سوف يُخبِره بها لاحقاً، وكذلك مطَّلع على مدى اندفاعه وعلاقته بقضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام)، فيذهب هذا الشخص الذي يعرف الضحية إلى أحد أفراد أتباع الدعوة ممَّن لا يعرفهم الضحية، ويُطلعه على تلك التفاصيل التي تخصُّ، وبالتنسيق معه يأتي ذلك الشخص الغريب ليفاتح الضحية بالموضوع على أنَّه مرسَل من قِبَل الإمام (عليه السلام) أو ممَّن هو دونه رتبةً، ويقوم بإخباره بأُموره الشخصية حتَّى يبهره ويحيطه بكثير من المحفّزات التي من أهمّها أنَّه يُخبِره أنَّه لو لم يكن من المخلصين لما أرسل الإمام (عليه السلام) إليه، فلا يلبث قليلاً حتَّى يقع في شراك هذه اللعبة القذرة التي حيكت عليه، والتي استُعمل فيها ما يتَّصف به الضحية من حبِّه لأوليائه باستدراجه من خلال ما فيه من الاستعجال والغفلة.
فاستغلّوا بهذه اللعبة المشينة اعتقاد المؤمنين بأنَّ الإمام (عليهم السلام) مطَّلع على أحوالهم، وحبّهم وإخلاصهم له.
الحيلة الثامنة: تبديل معنى الفشل في الثبات إلى معنى الفشل بالتشخيص:
وردت كثير من الروايات المحذِّرة من خطورة فترة غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، وأنَّ كثيراً من الناس سوف يفشلون في هذا الاختبار.
وحقيقة الاختبار هو في مستوى الثبات على منهج أهل البيت (عليهم السلام)، والبقاء على الاعتقاد بإمامة الإمام المهدي (عليه السلام) الغائب الذي ستطول غيبته عن شيعته الذين ستعصف بهم الابتلاءات الصعبة
والكثيرة، والذي سيواجه خطر الفشل بالتمحيص هو من سيُبدِّل إمامه بإمام آخر أو ينكر وجوده والعياذ بالله.
وأصحاب هذه الفِرَق وأتباعهم هم أوَّل الفاشلين وأبرزهم، بعد استبدال إمامهم الحقّ بالهمبوشي وأقرانه، وأمَّا غيرهم وإن كانوا متفاوتين في الالتزام بمنهجه (عليه السلام) إلَّا أنَّهم منسجمون تماماً مع مبدأ القول بإمامته (عليه السلام) فضلاً عمَّن يرجوه صباحاً ومساءً.
وأمَّا مسألة تشخيصه فقد طمأن الإمام الصادق (عليه السلام) أولياءه بقوله: (والله لأمرنا أبين من هذه الشمس)(56)، وذلك حين يشهد على ظهوره السماوات والأرض والملائكة والصالحون.
وحيلة هؤلاء البائسين هي: أنَّهم زعموا أنَّ المراد بهذه الروايات الإشارة إلى الفاشلين في التمحيص، وهم المنكرون لإمامة اﻟﮕﺎطع الهمبوشي، مع أنَّ الأمر على العكس من ذلك، فإنَّ الفاشل في التمحيص حقيقةً هو من لم يثبت على القول بإمامة الإمام المهدي (عليه السلام)، وقال بإمامة الهمبوشي وأمثاله.
ونحن ولله الحمد على منِّه وفضله لا زلنا ولا نزول عن القول بإمامة وليّنا وقرَّة عيوننا وقائدنا وليّ الحقّ أرواحنا فداه محمّد بن الحسن (عليه السلام). وهذا ما يُسمّى حسب معايير أهل البيت (عليهم السلام) نجاحاً في اختبار الثبات، فهل لا زلتم أنتم تدينون لله بولاية الإمام محمّد بن الحسن (عليه السلام) أم غرَّكم السامري، وأخلفتم موعد غائبكم!؟
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(56) الكافي 1: 336/ باب في الغيبة/ ح 3.
قال أحمد إسماعيل ﮔﺎطع: إنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) هو جدّي الرابع، وعلى ذلك أنا ابن له، وتنطبق عليَّ الرواية: (فليُسلِّمها لابنه).
وفيه عدَّة ردود:
الردُّ الأوَّل: الكلام في ثبوت النسب:
(يثبت النسب بأُمور: الأوَّل: الفراش، الثاني: الإقرار، الثالث: البيِّنة، ولا تُقبَل شهادة النساء مطلقاً، الرابع: الشياع)(57).
فالحكم الشرعي واضح في مسألة إثبات النسب، وكلُّ الأسباب التي تثبت بها النسب لا تُثبِت انتساب أحمد إسماعيل ﮔﺎطع للإمام المهدي (عليه السلام)، وأحمد إسماعيل انتقل في نسبه من عشيرة آلبو سويلم الصيارمة وهم ليسوا بعلويّين إلى ادِّعاء انتسابه بالإمام المهدي (عليه السلام) وليس لديه دليل إلَّا ادِّعاءه، فلا يثبت انتسابه لأهل البيت (عليهم السلام) بهذا الادِّعاء وفق الشرع المبين إن كنتم تدينون لله به.
وعليه فإنَّ دعوته ساقطة بهذا الادِّعاء الكاذب، (وهو أنَّه ابن الإمام)، فكيف يخالف الشرع من يدَّعي أنَّه حارساً له!؟
أمَّا الإمام المهدي (عليه السلام) فلا يحتاج إلى تلك البيِّنة، لأنَّه كما هو معلوم وكما قال الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه (عليه السلام) معروف النسب، عن أيّوب بن نوح، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّي أرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يسوقه الله إليك بغير سيف، فقد بويع لك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(57) راجع: مهذَّب الأحكام للسبزواري 25: 245 و246.
وضُرِبَت الدراهم باسمك، فقال: (ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب، وأُشير إليه بالأصابع، وسُئِلَ عن المسائل، وحُمِلَت إليه الأموال، إلَّا اغتيل أو مات على فراشه، حتَّى يبعث الله لهذا الأمر غلاماً منّا، خفيُّ الولادة والمنشأ، غير خفيٍّ في نسبه)(58).
الردُّ الثاني: الكلام في سند أهمّ رواية اعتمدت عليها دعوة ﺍﻟﮕﺎطع:
روى الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب الغيبة عن جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البزوفري، عن علي بن سنان الموصلي العدل، عن علي بن الحسين، عن أحمد بن محمّد بن الخليل، عن جعفر بن أحمد المصري، عن عمِّه الحسن بن علي، عن أبيه، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد، عن أبيه الباقر، عن أبيه ذي الثفنات سيِّد العابدين، عن أبيه الحسين الزكي الشهيد، عن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) - في الليلة التي كانت فيها وفاته - لعلي (عليه السلام): (يا أبا الحسن، أحضر صحيفة ودواة)، فأملى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وصيَّته حتَّى انتهى إلى هذا الموضع فقال: (يا علي، إنَّه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً، ومن بعدهم اثنا عشر مهدياً...)، إلى أن قال: (فذلك اثنا عشر إماماً، ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً، (فإذا حضرته الوفاة) فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي، وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أوَّل المؤمنين)(59).
وهذه الرواية أهمُّ رواية اعتمدها ﺍﻟﮕﺎطع الهمبوشي في دعوته، وعليها قامت دعوته، إلَّا أنَّها ضعيفة السند.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(58) الكافي 1: 341 و342/ باب في الغيبة/ ح 25؛ كمال الدين: 370/ باب 35/ ح 1.
(59) الغيبة للطوسي: 150 و151/ ح 111.
أوَّلاً: أنَّ المصدر الأساسي في نقل هذه الرواية هو الشيخ الطوسي (رحمه الله)، وجميع من تأخَّر عنه نقلها عنه، وليس للرواية إلَّا طريق واحد وهو ما نقله الشيخ الطوسي (رحمه الله)، فكيف يمكن إثبات دعوة كاملة، والقول بإمامة اثني عشر مهدياً برواية واحدة؟!
ثانياً: أنَّ بعض رواة هذه الرواية لم يذكرهم علماء رجال الشيعة في تراجم رجالهم، وخصوصاً الشيخ الطوسي (رحمه الله) وهو الناقل لهذه الرواية، منهم: علي بن سنان الموصلي العَدْل، وجعفر بن أحمد المصري.
والحديث الذي لم يذكر رجال الحديث بعض رواته، يصفونه بالحديث المهمل، وهو من أقسام الحديث الضعيف، وعرَّفوا المهمل أنَّه: (الحديث الذي لم يُذكَر بعض رواته في كتب الرجال ذاتاً ووصفاً)(60).
الردُّ الثالث: الاحتجاج بالظهور اللفظي وقرينة السياق:
والكلام يكون في جهتين:
الجهة الأُولى: بعد التسليم بصحَّة هذه الرواية فإنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان في مقام البيان والتفصيل، وليس في مقام الإبهام والإجمال، ولعمري كيف يكون في مقام الإبهام وهو في آخر لحظات حياته وبصدد بيان وصيَّته لخليفته وللأُمَّة من بعده؟ تلك الوصيَّة التي حال بعضهم بين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين كتابتها وهو على فراش مرضه، فقال: ما له؟ أهجر؟ استفهموه(61).
فهل يتحمَّل الموقف أن يكون المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو في هذا الحال أن يذكر وصيَّته مبهمة غير واضحة، فيستعمل كلمة (ابنه) التي يتبادر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(60) أُنظر: دراسات في علم الدراية لعلي أكبر غفّاري: 179.
(61) صحيح البخاري 2/977، صحيح مسلم 3/1257.
منها أوَّلاً وبالذات الابن المباشر، في حفيد الحفيد من دون بيان أنَّ مراده هو هذا المعنى؟
إنَّ كلمة (ابن) يمكن أن تُستَعمل في معنى الابن المباشر، وهو الأقرب والأظهر كما هو معروف، وتُستَعمل أيضاً ويُراد بها الأبعد من الابن المباشر، وهو الاحتمال الأبعد.
وإذا رجعنا إلى الرواية التي يستدلّون بها، فهي قد ذكرت بعد ذكر تسليم الأمر والإمامة من الأب لابنه المباشر واحداً بعد واحد من الأئمَّة (عليهم السلام) بحيث كان السياق متَّحداً في كلِّ الرواية، وانتهت إلى قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (فإذا حضرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه)، ولم ينصب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) قرينة على إرادة المعنى الأبعد، والوصيَّة - على فرض صحَّتها - للأُمَّة عامَّة، وقد عرفنا أنَّ عامَّة الناس إذا سمعوا كلمة (ابن) يتبادر لهم الابن المباشر، خصوصاً أنَّ استعمال كلمة (ابن) المتكرِّرة في كلِّ الرواية يُراد به هذا المعنى.
وعليه فبما أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) كان في مقام البيان، فاستعماله لكلمة (ابنه) وبقرينة السياق يكون ظاهراً في المعنى الأقرب وهو الابن المباشر، والظهور حجَّة على السامع.
الجهة الثانية: أنَّ إطلاق البنوَّة غير مخصوص بالابن النسبي، بل ربَّما تُطلَق على الابن السببي كذلك، فقد روي عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنَّه قال: (أنا وعلي أبوا هذه الأُمَّة)(62).
وعلى ذلك يمكن أن يكون معنى(يُسلِّمها لابنه) أي ابنه السببي، أي من يتربّى على يد الإمام تربية يستحقُّ بها إطلاق الابن عليه، لأنَّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(62) علل الشرائع 1: 127/ باب 106/ ح 2.
سيكون أتقى الناس عند موت الإمام المهدي (عليه السلام) الذي ربَّما لا يكون له ابن من صلبه، وينسجم هذا الفهم مع الرواية القائلة: إنَّ المهديين بعد الإمام المهدي (عليه السلام) هم قوم من الشيعة يَدْعون الناس إلى ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، فعن أبي بصير، قال: قلت للصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام): يا ابن رسول الله، إنّي سمعت من أبيك (عليه السلام) أنَّه قال: (يكون بعد القائم اثنا عشر مهدياً)، فقال: (إنَّما قال: اثنا عشر مهدياً، ولم يقل: اثنا عشر إماماً، ولكنَّهم قوم من شيعتنا يَدْعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقِّنا)(63).
فإن قيل: إنَّ السياق في الرواية لا يُؤيِّد هذا الفهم، فإنَّ الرواية تتكلَّم عن الابن النسبي، والمعروف أنَّ من استلم الأمر بعد كلِّ إمام هو الابن النسبي، فهذا مخالف لقولكم: إنَّ اللفظ لا بدَّ أن ينصرف إلى المعنى الظاهر من اللفظ، والمعنى الظاهر من لفظ الابن هو الابن النسبي، وإرادة المعنى الأبعد وهو الابن السببي يحتاج كما قلتم إلى قرينة تصرف معنى اللفظ للأبعد.
قلنا في الجواب: يفترض من هذا القول أنَّ المستشكل يعترف بدليل حجّية الظهور وقرينة وحدة السياق، فنقول له: إنَّ السياق أيضاً يتكلَّم عن تسلُّم الأئمَّة (عليهم السلام) هذا الأمر ممَّن كان قبلهم من آبائهم المباشرين كما في الردِّ السابق، أي الابن يتسلَّم الإمامة من أبيه المباشر له بدون فاصل نسبي بينهما، ولا نعرف أحد الأئمَّة (عليهم السلام) ممَّن تولّوا الأمر بعد آبائهم كان بينه وبين أبيه فاصل نسبي إلَّا الإمام الحسين (عليه السلام) الذي تولّى الإمامة بعد أخيه الإمام الحسن (عليه السلام) بدليل خاصّ ذكرته عشرات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(63) كمال الدين: 358/ باب 33/ ح 56.
الروايات، أمَّا على ادِّعاء ﺍﻟﮕﺎطع الهمبوشي فيُوجَد فاصل نسبي بينه وبين من يدَّعي وصايته، خصوصاً إذا كان هذا الفاصل أربعة أجداد لا يُعرَف صلاحهم من فسادهم، ولا ضلالهم من انحرافهم(64)، ومهما يكن من شأنهم فهم أُناس عاديّون في مجتمعهم مجهولو الحال عندنا وعند الأجيال السابقة لهذا الجيل، وهذا الفاصل النسبي هو خلاف السياق الذي يعترف به المستشكل، وإذا كان السياق دليلاً هناك يكون دليلاً هنا.
وينتج من هذه المناقشة عدَّة احتمالات لا مفرَّ من أحدها:
الاحتمال الأوَّل: أنَّ كلا الاستدلالين بحجّية الظهور والسياق صحيح، فتخسرون ارتباط صاحبكم بالإمام المهدي (عليه السلام)، باعتباره ليس ابناً مباشراً للإمام (عليه السلام) فضلاً عن ادِّعاء البنوَّة غير المطابق للشريعة المقدَّسة، وبذلك تسقط دعوته برمَّتها.
والاحتمال الثاني: أن يكون الاحتجاج بالسياق حجَّة لكم وليس حجَّة لخصمكم، فهذا خلاف ضرورة العقل، فالعقل والمنطق يقول: إنَّه إذا تطابقت مقدّمات برهانين فلا بدَّ أن تكون النتيجة متطابقة.
والاحتمال الثالث: أن لا يقبل كلا الدليلين، أي السياق ليس دليلاً على أنَّ الابن هو الابن المباشر كما يستدلُّ خصمكم، وكذلك ليس دليلاً على ما تدَّعونه، وهذا تنازل من طرفكم عن دليلكم، وأمَّا من جهة خصمكم فهو متمسِّك بدليل وحدة السياق وظهور اللفظ، ولا يضرُّ كلامنا السابق في وحدة مقدّمات البرهان بوحدة النتيجة، لأنَّ ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(64) ليس المقصود هنا هو الطعن بالأبرياء من أهل هذا الضالّ والعياذ بالله، فإنَّ أجداده لا نعرفهم، ولا يحقُّ لأحد أن يطعن فيهم بدون علم، والداعي لذكرهم هو إبطال حيلة هذا المدَّعي، وبيان الفارق الكبير جدَّاً بينهم وبين أهل بيت النبوَّة (عليهم السلام).
الفرض تمَّ بناءً على أنَّ أحد الطرفين قد ادَّعى عدم جدوى هذا الدليل لخصمه وقبله لنفسه. وأمَّا في هذا المقام هو تنازل أحد الطرفين عن استعمال هذا الدليل، وفرق بين تنازل أحد الطرفين من دون تدخُّل الطرف الآخر، وبين تدخُّل أحدهما لمنع خصمه من استعمال دليله، فإن تمَّ التنازل يبقى دليل خصمكم قائماً بردِّكم.
* * *
بم تثبت الوصيّة؟
دلَّت روايات كثيرة مرويَّة عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) على أنَّ الوصيَّة في الإمامة لا بدَّ أن تكون ظاهرة أي مشهورة مستفيضة لدرجة أنَّ العامَّة والصبيان يعلمون بها.
عن عبد الأعلى، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المتوثِّب على هذا الأمر المدَّعي له، ما الحجَّة عليه؟ قال: (يُسئَل عن الحلال والحرام)، قال: ثمّ أقبل عليَّ فقال: (ثلاثة من الحجَّة لم تجتمع في أحدٍ إلَّا كان صاحب هذا الأمر، أن يكون أولى الناس بمن كان قبله، ويكون عنده السلاح، ويكون صاحب الوصيَّة الظاهرة التي إذا قدمت المدينة سألت عنها العامَّة والصبيان: إلى من أوصى فلان؟ فيقولون: إلى فلان بن فلان)(65).
وعن ابن أبي نصر، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إذا مات الإمام بِمَ يُعرَف الذي بعده؟ فقال: (للإمام علامات، منها أن يكون أكبر ولد أبيه، ويكون فيه الفضل والوصيَّة، ويقدم الركب فيقول: إلى من أوصى فلان؟ فيقال: إلى فلان. والسلاح فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل، تكون الإمامة مع السلاح حيثما كان)(66).
وعن هشام بن سالم وحفص بن البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له: بأيِّ شيءٍ يُعرَف الإمام؟ قال: (بالوصيَّة الظاهرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(65) الكافي 1: 284/ باب الأُمور التي توجب حجَّة الإمام (عليه السلام)/ ح 2.
(66) الكافي 1: 284/ باب الأُمور التي توجب حجَّة الإمام (عليه السلام)/ ح 1.
وبالفضل، إنَّ الإمام لا يستطيع أحد أن يُطعَن عليه في فم ولا بطن ولا فرج، فيقال: كذَّاب، ويأكل أموال الناس، وما أشبه هذا(67).
هذا هو حال الوصيَّة على الأئمَّة (عليهم السلام)، وأمَّا أحمد إسماعيل ﮔﺎطع فإنَّه يدَّعي أنَّه وصيّ الإمام المهدي (عليه السلام) من غير حجَّة ولا دليل، وكلّ ما عنده في إثبات ذلك هو دعواه أنَّه مذكور في رواية مروية في كتاب الغيبة للشيخ الطوسي فيها إشارة خفيَّة إليه، وهذه الإشارة الخفيَّة لا تتمُّ إلَّا بادِّعائه أنَّ الرواية المذكورة حجَّة رغم أنَّها ضعيفة السند كما بيَّنا، بل معارضة للروايات المتواترة التي تدلُّ على أنَّ الأئمَّة اثنا عشر فقط، ومع ذلك فإنَّ دليله لا يتمُّ، ولهذا لجأ لادِّعاء أنَّه ابن الإمام المهدي (عليه السلام)، وهي دعوى معلومة البطلان لأنَّه منتسب إلى عشيرة آلبو سويلم التي يُعلَم عدم انتسابها للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فأين هذا من الوصيَّة الظاهرة المشهورة المشترطة في ثبوت الإمامة؟!
ردُّ دعوى انحصار الوصيّة في رواية الغيبة:
يزعم اﻟﮕﺎطع الهمبوشي وأتباعه أنَّه لا توجد رواية تُبيِّن وصيَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلَّا الرواية التي رواها الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتاب الغيبة، ولهذا أطلقوا عليها رواية الوصيَّة، وهذا كذب واستغفال لعقول الناس، فإنَّ الروايات التي بيَّنت وصيَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كثيرة.
ويمكن تقسيمها إلى طائفتين:
الطائفة الأُولى: ما روي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قبل موعد وفاته:
ومنها: الوصيَّة النازلة من الله تعالى في الكتاب المختوم، التي تُحدِّد عدد الأوصياء باثني عشر وصيَّاً، وتُؤكِّد على أنَّ الثاني عشر هو آخر وخاتم الأوصياء:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(67) الكافي 1: 284/ باب الأُمور التي توجب حجَّة الإمام (عليه السلام)/ ح 3.
عن علي بن أحمد البندنيجي، عن أبي عبيد الله بن موسى العلوي، قال: حدَّثنا علي بن الحسن، عن إسماعيل بن مهران، عن المفضَّل بن صالح، عن معاذ بن كثير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عليهما السلام) أنَّه قال: (الوصيَّة نزلت من السماء على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كتاباً مختوماً، ولم ينزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كتاب مختوم إلَّا الوصيَّة، فقال جبرئيل (عليه السلام): يا محمّد، هذه وصيَّتك في أُمَّتك إلى أهل بيتك. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): أيُّ أهل بيتي، يا جبرئيل؟ فقال: نجيب الله منهم وذرّيته ليورثك في علم النبوَّة قبل إبراهيم. وكان عليها خواتيم، ففتح علي (عليه السلام) الخاتم الأوَّل ومضى لما أُمر فيه، ثمّ فتح الحسن (عليه السلام) الخاتم الثاني ومضى لما أُمر به، ثمّ فتح الحسين (عليه السلام) الخاتم الثالث فوجد فيه: أن قاتل واقتل وتقتل واخرج بقوم للشهادة، لا شهادة لهم إلَّا معك، ففعل، ثمّ دفعها إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) ومضى، ففتح علي بن الحسين الخاتم الرابع فوجد فيه: أن أطرق واصمت لما حجب العلم، ثمّ دفعها إلى محمّد بن علي (عليهما السلام)، ففتح الخاتم الخامس فوجد فيه: أن فسِّر كتاب الله تعالى، وصدِّق أباك، وورِّث ابنك العلم، واصطنع الأُمَّة، وقل الحقَّ في الخوف والأمن، ولا تخشَ إلَّا الله، ففعل، ثمّ دفعها إلى الذي يليه)، فقال معاذ بن كثير: فقلت له: وأنت هو؟ فقال: (ما بك في هذا إلَّا أن تذهب - يا معاذ - فترويه عنّي، نعم، أنا هو)، حتَّى عدَّد عليَّ اثنا عشر اسماً، ثمّ سكت، فقلت: ثمّ من؟ فقال: (حسبك)(68).
وهذه الرواية تدلُّ على أنَّ الأوصياء اثنا عشر فقط من غير زيادة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(68) الغيبة للنعماني: 60 و61/ باب 3/ ح 3.
ولا نقيصة، وقوله: (حسبك) يدلُّ على أنَّه ليس بعد الأئمَّة الاثني عشر أئمَّة آخرون.
وفي الحديث القدسي المروي عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (... فأوحى الله إليَّ: يا محمّد، اخترتك من خلقي، واخترت لك وصيَّاً من بعدك، وجعلته منك بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدك، وألقيت محبَّته في قلبك، وجعلته أباً لولدك، فحقّه بعدك على أُمَّتك كحقِّك عليهم في حياتك، فمن جحد حقَّه فقد جحد حقَّك، ومن أبى أن يواليه فقد أبى أن يواليك، ومن أبى أن يواليك فقد أبى أن يدخل الجنَّة. فخررت لله (عزَّ وجلَّ) ساجداً شكراً لما أنعم عليَّ، فإذا منادياً ينادي: ارفع يا محمّد رأسك، وسلني أعطك، فقلت: إلهي اجمع أُمَّتي من بعدي على ولاية علي بن أبي طالب، ليردوا جميعاً عليَّ حوضي يوم القيامة. فأوحى الله تعالى إليَّ: يا محمّد، إنّي قد قضيت في عبادي قبل أن أخلقهم، وقضائي ماضٍ فيهم، لأهلك به من أشاء وأهدي به من أشاء، وقد آتيته علمك من بعدك، وجعلته وزيرك وخليفتك من بعدك على أهلك وأُمَّتك، عزيمة منّي (لأُدخل الجنَّة من أحبَّه و)لا أُدخِل الجنَّة من أبغضه وعاداه وأنكر ولايته بعدك، فمن أبغضه أبغضك، ومن أبغضك أبغضني، ومن عاداه فقد عاداك، ومن عاداك فقد عاداني، ومن أحبَّه فقد أحبَّك، ومن أحبَّك فقد أحبَّني، وقد جعلت له هذه الفضيلة، وأعطيتك أن أخرج من صلبه أحد عشر مهدياً كلّهم من ذرّيتك من البكر البتول، وآخر رجل منهم يُصلّي خلفه
عيسى بن مريم، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت منهم ظلماً وجوراً، أُنجي به من الهلكة، وأُهدي به من الضلالة، وأُبرئ به من العمى، وأُشفي به المريض...)(69).
ويمكن أن نستخلص من هاتين الروايتين وغيرهما عدَّة أُمور حاسمة:
الأمر الأوَّل: أنَّ ما نزل به جبرئيل (عليه السلام) هو الكتاب الوحيد المختوم من الله تعالى: (ولم ينزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كتاب مختوم إلَّا الوصيَّة).
الأمر الثاني: أنَّ ما نزل مختوماً من الله تعالى هو وصيَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الأوصياء من بعده: (يا محمّد، هذه وصيَّتك في أُمَّتك عند أهل بيتك)، (فإذا مضى دفعها إلى وصيِّه بعده، وكذلك الأوَّل يدفعها إلى الآخر واحداً بعد واحد).
الأمر الثالث: أنَّ عدد هؤلاء الأوصياء المنزلة أسماؤهم في أختام من الله تعالى على رسوله هم اثنا عشر وصيَّاً وإماماً وحجَّةً لا غير: (إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) أنزل عليَّ اثنتي عشر صحيفة، اسم كلِّ إمام على خاتمه، وصفته في صحيفته)، (نزل جبرئيل (عليه السلام) بصحيفة من عند الله على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيها اثنا عشر خاتماً من ذهب)، (حتَّى عدَّد عليَّ اثنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(69) كمال الدين: 250 و251/ باب 23/ ح 1؛ وراجع روايات أُخرى في هذا الخصوص في: الكافي 1: 279 و280/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلَّا بعهد من الله.../ ح 1؛ كفاية الأثر: 11 - 16، و246 - 248؛ والغيبة للنعماني: 61/ باب 3/ ح 4؛ وكمال الدين: 257 - 269/ باب 24/ ح 2 و5 و11، و288 و289/ باب 26/ ح 1؛ والغيبة للطوسي: 134 و135/ ح 98؛ وبحار الأنوار 36: 283 - 285/ ح 106.
عشر اسماً، ثمّ سكت، فقلت: ثمّ من؟ فقال: حسبك)، (دفع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى علي (عليه السلام) صحيفة مختومة باثني عشر خاتماً).
الأمر الرابع: أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والمهدي (عليهما السلام) أخبرونا أنَّ الثاني عشر هو آخر الأوصياء كما ورد في رواية الأصبغ بن نباتة، لقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيها: (وآخرهم المهدي)(70)، وهو من يملؤها قسطاً وعدلاً، وأوَّل الاثني عشر أمير المؤمنين (عليه السلام)، لقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في بداية الرواية: (خير الخلق بعدي وسيِّدهم أخي هذا)، وكلمة (آخرهم) الواردة في الحديث القدسي المروي عن ابن عبّاس نصٌّ في أن لا أحد يشاركهم في مقامهم في الولاية والوصاية والإمامة والخلافة، لقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد ذكرهم: (هؤلاء أصفيائي وخلفائي وأئمَّة المسلمين وموالي المؤمنين).
المهدي (عليه السلام) يُخبِرنا بأنَّه خاتم الأوصياء: فقد روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عن إبراهيم بن محمّد العلوي، قال: حدَّثني طريف أبو نصر، قال: دخلت على صاحب الزمان (عليه السلام)، فقال: (عليَّ بالصندل الأحمر)، فأتيته به، ثمّ قال: (أتعرفني؟)، قلت: نعم، فقال: (من أنا؟)، فقلت: أنت سيِّدي وابن سيِّدي، فقال: (ليس عن هذا سألتك)، قال طريف: فقلت: جعلني الله فداك، فبيِّن لي، قال: (أنا خاتم الأوصياء، وبي يدفع الله (عزَّ وجلَّ) البلاء عن أهلي وشيعتي)(71).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(70) راجع: كمال الدين: 259 و260/ باب 24/ ح 5.
(71) كمال الدين: 441/ باب 43/ ح 12؛ ورواه الخصيبي (رحمه الله) في الهداية الكبرى (ص 358)؛ والطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 246/ ح 215)؛ والراوندي (رحمه الله)في الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 458/ ح 3)؛ والإربلي (رحمه الله) في كشف الغمَّة (ج 3/ ص 303)؛ والبحراني في مدينة المعاجز (ج 8/ ص 139 و140/ ح 2747/91)؛ والمجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 52/ ص 30/ ح 25).
سيِّد المرسلين يجمع المعنى كلَّه بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (أنا سيِّد النبيّين، وعلي بن أبي طالب سيِّد الوصيّين، وإنَّ أوصيائي بعدي اثنا عشر أوَّلهم علي بن أبي طالب، وآخرهم القائم (عليهم السلام))(72).
وقبل بيان النتيجة لا بدَّ من تقديم مقدّمتين:
الأُولى: أنَّ الأعداد من المعاني المحكمة والضرورية الفهم، فلا يحتمل أن يكون معنى عدد واحد هو اثنان، والأربعة سبعة وعشرون، وخلاف ذلك تنتفي المعرفة والعلوم ويُنسَخ الدين من أساسه، لأنَّ كلَّ العلوم ترتكز على التسليم بهذه الضرورة، ويترتَّب عليه أنَّ الله تعالى حين قال: إنَّه واحد، فمن الممكن أن يكون أكثر، وصلاة الصبح أكثر من ركعتين، وكذلك المواريث والحدود، وينهدم بهذا القول أساس العلوم والمعرفة.
الثانية: أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة (عليهم السلام) أخبرونا بأنَّ الثاني عشر هو خاتم وآخر الأوصياء، وكلمة (آخر وخاتم) نصٌّ في نهاية الوصاية، وسدٌّ لباب الإمامة عن غيرهم، كما كان ختم النبوَّة بالمصطفى سدَّاً لباب النبوَّة من بعده. والنصُّ هو أقوى درجات الكلام على معناه، فإن تعارض مع غيره فهو مقدَّم في الحجّية.
وبعد التسليم بصدق المعصوم (عليه السلام) المخبر عن حادثة نزول الوصيَّة، والتي فيها اثنا عشر خاتماً، لكلِّ وصيّ وإمام خاتم، فلا يحتمل أن تكون الأختام أحد عشر ختماً أو ثلاثة عشر أو سبعين أو أقلّ أو أكثر، وكذلك أخبارنا بختم الوصاية على الاثني عشر (عليهم السلام)، وأيُّ دعوى بوصاية للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أو إمامة أو خلافة غير الأوصياء والأئمَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(72) كمال الدين: 280/ باب 24/ ح 29.
المعروفين (عليهم السلام) فهو تكذيب صريح لنصِّ كلامهم (عليهم السلام) أو إنكار لضرورة وحدة معاني الأعداد.
التطبيق:
أحمد إسماعيل الهمبوشي يدَّعي أنَّه وصيّ الإمام (عليه السلام) والحجَّة من بعده.
مع أنَّ الأوصياء في وصيَّة الرسول المنزلة من الله تعالى اثنا عشر لا غير.
وخاتم الأوصياء هو الثاني عشر منهم، وهو الإمام المهدي (عليه السلام).
وأحمد إسماعيل بادِّعائه للإمامة لا يخلو من أحد أمرين:
إمَّا أن يدَّعي أنَّه أحد هؤلاء الاثني عشر فهذا كذب صريح واضح، لأنَّهم (عليهم السلام) منصوص عليهم بأسمائهم، وهم معروفون لا يلتبسون بغيرهم، وكلّهم ماتوا، ولم يبقَ إلَّا آخرهم وهو الإمام المهدي (عليهم السلام) الذي يزعم أحمد إسماعيل أنَّه جدّه الرابع، فكيف يكون أحمد إسماعيل واحداً منهم؟! اللّهمّ إلَّا إذا أراد أن يُخرِج أحدهم ممَّن ذُكِرَ اسمه في الوصيَّة ليتمَّ العدد اثني عشر، وهذا خروج عن المذهب الحقِّ، وتكذيب لأئمَّة الهدى (عليهم السلام)، ويكون القائل به مستحقَّاً للعن الوارد في زيارة عاشوراء وغيرها، وتكليفنا حسب العقيدة الحقَّة هو التبرّؤ من هذا القائل ومن يقول بمقالته.
وإمَّا أن يدَّعي أنَّه واحد من غيرهم فلا يكون حينئذٍ داخلاً في دائرة الوصاية والإمامة، فيكون ادِّعاؤه لوصاية النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أو أحد الأئمَّة (عليهم السلام) كذباً وافتراءً على الله ورسوله والأئمَّة المعصومين (عليهم السلام).
قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ
إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام: 93).
وقال المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم): (... من كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار)(73).
فإذا كانت الوصيَّة بالدينار والدرهم قد جعل الله سبحانه لها أحكاماً وضوابطَ وشروطاً لإقامة النظام وسدِّ باب الادِّعاءات الباطلة حتَّى تُحفَظ أموال الناس وأملاكهم من شرار النفوس، فكيف بالإمامة التي هي إرث الأنبياء والمرسلين، كيف يتركه سدى بغير نظام نهبةً لكلِّ ظلَّام غشوم، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أشهد على ذلك ثلاثة رهط: سلمان الفارسي وأبا ذر والمقداد حين سُمّى في وصيَّته الأئمَّة الاثني عشر(74)، وهي سُنَّة الأنبياء والأوصياء في إقامة الحجَّة على العباد رحمةً بهم وشفقةً عليهم، فكيف يدَّعي أحمد إسماعيل وصاية ميراث السماوات والأرض من غير بيِّنة شرعية سوى ادِّعائه، وهو غير مقبول في شيء تافه من حطام الدنيا، فكيف يجوز في الخلافة الله في الأرض!؟
لقد سمعت أنَّهم يحتالون على بعض البسطاء بأن يقولوا لهم: إنَّ أحمد إسماعيل ﮔﺎطع هو إمام وحجَّة، فلا يحتاج كلامه إلى بيِّنة!!
نقول لهم: إنَّ هذا هو الدور الباطل، لأنَّ حجّية كلامه متوقِّفة على ثبوت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(73) الإيضاح لفضل بن شاذان: 200؛ صحيح البخاري 1: 36.
(74) راجع: الغيبة للنعماني: 84/ باب 4/ ح 11.
إمامته، وثبوت إمامته متوقِّف على حجّية كلامه، وهذا باطل، لأنَّ ذلك يستلزم توقّف الشيء على نفسه، لأنَّ ثبوت الإمامة توقَّف على حجّية كلامه المتوقّف على ثبوت الإمامة، فينتج أنَّ ثبوت إمامته متوقِّف على ثبوت إمامته!!
القسم الثاني: وهو ما يتحدَّث عن فترة قرب وفاة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم):
فقد روى النعماني بسنده عن سليم بن قيس أنَّ عليَّاً (عليه السلام) قال لطلحة - في حديث طويل ذُكِرَ فيه تفاخر المهاجرين والأنصار بمناقبهم وفضائلهم -: (يا طلحة، أليس قد شهدت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حين دعانا بالكتف ليكتب فيها ما لا تضلُّ الأُمَّة بعده ولا تختلف، فقال صاحبك ما قال: إنَّ رسول الله يهجر، فغضب رسول الله وتركها؟)، قال: بلى قد شهدته. قال: (فإنَّكم لمَّا خرجتم أخبرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالذي أراد أن يكتب فيها ويُشهِد عليه العامَّة، وأنَّ جبرئيل أخبره بأنَّ الله تعالى قد علم أنَّ الأُمَّة ستختلف وتفترق، ثمّ دعا بصحيفة فأملى عليَّ ما أراد أن يكتب في الكتف، وأشهد على ذلك ثلاثة رهط: سلمان الفارسي، وأبا ذر، والمقداد، وسمّى من يكون من أئمَّة الهدى الذين أمر المؤمنين بطاعتهم إلى يوم القيامة، فسمّاني أوَّلهم، ثمّ ابني هذا حسن، ثمّ ابني هذا حسين، ثمّ تسعة من ولد ابني هذا حسين، كذلك يا أبا ذر، وأنت يا مقداد)، قالا: نشهد بذلك على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم). فقال طلحة: والله لقد سمعت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول لأبي ذر: (ما أقلَّت الغبراء ولا أظلَّت الخضراء ذا لهجة أصدق ولا أبرّ من أبي ذر)، وأنا أشهد أنَّهما لم يشهدا إلَّا بالحقِّ، وأنت أصدق وأبرُّ عندي منهما(75).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(75) الغيبة للنعماني: 84 و85/ باب 4/ ح 11.
وروى الكليني (رحمه الله) في الكافي بسنده عن عيسى بن المستفاد أبي موسى الضرير، قال: حدَّثني موسى بن جعفر (عليهما السلام)، قال: قلت لأبي عبد الله: أليس كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كاتب الوصيَّة، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) المملي عليه، وجبرئيل والملائكة المقرَّبون (عليهم السلام) شهود؟ قال: فأطرق طويلاً، ثمّ قال: (يا أبا الحسن، قد كان ما قلت، ولكن حين نزل برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الأمر، نزلت الوصيَّة من عند الله كتاباً مسجَّلاً، نزل به جبرئيل مع أُمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة، فقال جبرئيل: يا محمّد، مُرْ بإخراج من عندك إلَّا وصيّك؛ ليقبضها منّا، وتشهدنا بدفعك إيّاها إليه ضامناً لها - يعني عليَّاً (عليه السلام) - فأمر النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) بإخراج من كان في البيت ما خلا عليَّاً (عليه السلام)، وفاطمة فيما بين الستر والباب، فقال جبرئيل: يا محمّد، ربُّك يُقرِئك السلام، ويقول: هذا كتاب ما كنتُ عهدتُ إليك، وشرطت عليك، وشهدت به عليك، وأشهدت به عليك ملائكتي، وكفى بي يا محمّد شهيداً). قال: (فارتعدت مفاصل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا جبرئيل، ربّي هو السلام، ومنه السلام، وإليه يعود السلام، صدق (عزَّ وجلَّ) وبرَّ، هاتِ الكتاب. فدفعه إليه، وأمره بدفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال له: اقرأه. فقرأه حرفاً حرفاً، فقال: يا علي! هذا عهد ربّي تبارك وتعالى إليَّ، شرطه عليَّ وأمانته، وقد بلَّغت ونصحت وأدَّيت. فقال علي (عليه السلام): وأنا أشهد لك [بأبي وأُمّي أنت] بالبلاغ والنصيحة والتصديق على ما قلت، ويشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي. فقال: جبرئيل (عليه السلام): وأنا لكما على ذلك من الشاهدين. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): يا علي، أخذتَ وصيَّتي، وعرفتَها، وضمنتَ لله ولي الوفاء بما فيها. فقال علي (عليه السلام): نعم بأبي أنت وأُمّي، عليَّ ضمانها، وعلى الله عوني وتوفيقي
على أدائها. فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): يا علي، إنّي أُريد أن أُشهد عليك بموافاتي بها يوم القيامة. فقال علي (عليه السلام): نعم، أشهد. فقال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): إنَّ جبرئيل وميكائيل فيما بيني وبينك الآن، وهما حاضران، معهما الملائكة المقرَّبون لأُشهدهم عليك. فقال: نعم ليشهدوا وأنا - بأبي أنت وأُمي - أُشهدهم. فأشهدهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وكان فيما اشترط عليه النبيُّ بأمر جبرئيل (عليه السلام) فيما أمر الله (عزَّ وجلَّ) أن قال له: يا علي، تفي بما فيها من موالاة من والى الله ورسوله، والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله، والبراءة منهم، على الصبر منك، [و]على كظم الغيظ، وعلى ذهاب حقِّك، وغصب خُمْسك، وانتهاك حرمتك؟ فقال: نعم يا رسول الله. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل (عليه السلام) يقول للنبيِّ: يا محمّد، عرِّفْه أنَّه يُنتَهك الحرمة، وهي حرمة الله وحرمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وعلى أن تُخضَب لحيته من رأسه بدم عبيط. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل، حتَّى سقطت على وجهي. وقلت: نعم، قبلتُ ورضيتُ وإن انتُهِكت الحرمة، وعُطِّلت السنن، ومُزِّق الكتاب، وهُدِمت الكعبة، وخُضِبَت لحيتي من رأسي بدم عبيط، صابراً محتسباً أبداً حتَّى أقدم عليك. ثمّ دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فاطمة والحسن والحسين، وأعلمهم مثل ما أعلم أمير المؤمنين، فقالوا مثل قوله، فخُتِمَت الوصيَّة بخواتيم من ذهب لم تمسّه النار، ودُفِعَت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)). فقلت لأبي الحسن (عليه السلام): بأبي أنت وأُمّي، ألَا تذكر ما كان في الوصيَّة؟ فقال: (سنن الله وسنن رسوله). فقلت: أكان في الوصيَّة توثّبهم وخلافهم على أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ فقال: (نعم، والله شيئاً شيئاً، وحرفاً حرفاً، أمَا سمعت
قول الله (عزَّ وجلَّ): (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس: 12]؟ والله لقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين وفاطمة (عليهما السلام): أليس قد فهمتما ما تقدَّمت به إليكما وقبلتماه؟ فقالا: بلى، وصبرنا على ما ساءنا وغاظنا)(76).
وعن الشيخ أبي عبد الله جعفر بن محمّد بن أحمد الدوريستي (رحمه الله) في كتابه في الردِّ على الزيدية، قال: أخبرني أبي، قال: أخبرني الشيخ أبو جعفر بن بابويه، قال: حدَّثنا محمّد بن علي ماجيلويه، عن عمِّه، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن خلف بن حمّاد الأسدي، عن الأعمش، عن عباية بن ربعي، عن ابن عبّاس، قال: سألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حين حضرته وفاته، فقلت: يا رسول الله، إذا كان ما نعوذ بالله منه فإلى من؟ فأشار إلى علي (عليه السلام) فقال: (إلى هذا، فإنَّه مع الحقِّ والحقُّ معه، ثمّ يكون من بعده أحد عشر إماماً مفترضة طاعتهم كطاعته)(77).
والروايات في ذلك كثيرة، ولا فرق في الوصيَّة بين أن تكون مكتوبة أو شفوية كما هو حال هذه الرواية الأخيرة.
حقيقة دعوتهم:
وأصل دعوة راية الضلال هذه قائمة على أنَّ أحمد إسماعيل الهمبوشي من آلبو سويلم الصيامرة، يدَّعي أنَّه هو الابن الخامس للإمام المهدي (عليه السلام) وهو المقصود بالرواية: (فإذا حضرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه)(78)، ويدَّعون أنَّ الظهور قد بدأ، ويلزم من قولهم هذا:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(76) الكافي 1: 281 - 283/ باب أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلَّا بعهد من الله (عزَّ وجلَّ) وأمر منه لا يتجاوزونه/ ح 3.
(77) الصراط المستقيم 2: 163 و164.
(78) كما ورد ذلك في الرواية التي رواها الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة: 150 و151/ ح 111.
حسب عقيدتهم أنَّ ظهور الإمام الثاني عشر (عليه السلام) قد بدأ بلقائه بأحمد إسماعيل، فالغيبة الكبرى (الطويلة) قد انتهت، إذ لا تجتمع غيبة مع ظهور.
وقد صرَّحوا بذلك في أحد أهمّ كتبهم وهو كتاب جامع الأدلَّة (ص 181) تأليف عبد الرزّاق الديراوي، حيث قال مستنتجاً: (فالمعنيُّ إذن أحمد ابن الإمام المهدي (عليه السلام))، ويقصدون به أحمد إسماعيل الذي يتسلَّم الإمامة بعد أبيه بعد الغيبة الطويلة، وبما أنَّ الغيبة الطويلة قد انتهت ببداية ظهورهم المزعوم إذن إنَّ ابنه أحمد إسماعيل تسلَّم الإمامة من أبيه.
وإذا رجعنا للرواية فهي تقول: (فإذا حضرته الوفاة - أي الإمام المهدي (عليه السلام) - فليُسلِّمها إلى ابنه)، والمعنيُّ به أحمد إسماعيل حسب عقيدتهم، وهم وإن كانوا لا يُصرِّحون بأنَّه تسلَّمها فعلاً، إلَّا أنَّ عملهم قائم على أنَّ إمام العصر هو أحمد إسماعيل ﮔﺎطع، وأمَّا الإمام المهدي (عليه السلام) فإنَّه لا دور له الآن، كما أنَّه لن يكون له أيّ دور بعد ظهوره!!
هذه هي الحقيقة الحتمية التي تنتهي إليها دعوتهم، والتي لحدِّ الآن لم يُصرِّحوا بها بشكل مباشر خوفاً من نفور طبقة من أتباعهم ممَّن بقي شيء من الولاء لديهم للإمام الثاني عشر (عليه السلام)، وما هي إلَّا مسألة وقت فإن وصل بأحد هؤلاء التعلُّق بصاحب هذه الدعوة إلى درجة يحتلُّ بها مكانة الإمام المهدي (عليه السلام) فسيُصرِّحون له بذلك أو هو سيستنتج ذلك تلقائياً.
كما أنَّهم وإن لم يُصرِّحوا أيضاً بأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) قد مات فعلاً، إلَّا أنَّ كلَّ أعمالهم رتَّبوها على أنَّ الإمام القائم الذي يجب الإيمان
به ونصرته هو أحمد إسماعيل ﮔﺎطع، وكأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) قد مات بالفعل، وفي الحقيقة هم يرونه ميِّتاً، ولكن إعلان موته (عليه السلام) ما هو إلَّا مسألة وقت، وسيُعلِنون عنه في الوقت الذي يرونه مناسباً لهم.
وعلى نتيجة موت الإمام المهدي (عليه السلام) صار أحمد إسماعيل هو الإمام الآن والحجَّة على الخلق. وعلى هذا الاعتقاد - أي موت الإمام (عليه السلام) - يعتقدون أنَّ هذا الهمبوشي هو من يملؤها قسطاً وعدلاً، وهو قائم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وهو من يظهر بين الركن والمقام، وهو من يُصلّي خلفه المسيح (عليه السلام)، إلى آخر ما يعتقدونه ويُصرِّحون به في أغلب كتبهم، حتَّى وصلوا إلى أنَّ الهمبوشي قد ذُكِرَ في القرآن، وقد خصَّه الكتاب الكريم بمجموعة من آياته، وأنَّه شبيه عيسى المصلوب، وأنَّه كان في السماء ثمّ نزل لينقذ المسيح (عليه السلام)، ثمّ صعد بعد صلبه إلى السماء، والآن نزل ليُهيِّئ للإمام المهدي (عليه السلام) دولته، تلك الدولة التي هو زعيمها والخليفة فيها والمهيِّئ لها، وغير ذلك.
وليس هناك من شكٍّ في أنَّ الوصيَّة في كلِّ الروايات هي بعينها خصوصاً في رواية النعماني في احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) على طلحة، وذلك من خلال عبارة: (ثمّ دعا بصحيفة، فأملى عليَّ ما أراد أن يكتب في الكتف).
وحدَّدت الرواية بوضوح لا يقبل أدنى شكٍّ أنَّ (أئمَّة الهدى الذين أمر المؤمنين بطاعتهم إلى يوم القيامة) هم اثنا عشر، أوَّلهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وآخرهم التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)، والوصيَّة نفس الوصيَّة، والناقل لها هو الموصى له والمعنيُّ بها الأوَّل بشهادة ثلاثة من خُلَّص أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين، وهؤلاء الأئمَّة (عليهم السلام)
حسب الوصيَّة هم فقط من تجب طاعتهم على مستوى قيادة الأُمَّة إلى يوم القيامة، فأين أحمد إسماعيل الهمبوشي من وصيَّة سيِّد الخلق أجمعين (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي يدَّعي زوراً وبهتاناً انتسابه إلى الدوحة العلوية بغير حجَّة وبيِّنة شرعية!؟
وبوجود هذه الرواية وما تقدَّم من روايات ثابتة وصحيحة في الوصيَّة تبطل حيلتهم التي يريدون أن يُرسِّخوها عند من يطرحون دعوتهم عليه من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بتركيزهم الإعلامي على تلك الرواية، وإبرازها باسم رواية الوصيَّة إيحاءً منهم بأنَّها الرواية الوحيدة في الوصيَّة، وبالتالي من يحصل له لبس في بعض مضامينها فهو شاكٌّ - والعياذ بالله - في أصل الوصيَّة، بينما الحقيقة التي يخفونها عند استدلالهم أنَّ الوصيَّة مفهوم له عدَّة مصاديق من الروايات، جاء أكثرها متضافراً من جهة متنها وسندها، كروايات الكتاب المختوم وغيرها الكثير، ولعلم محتاليهم بأنَّ هذه الروايات لو ظهرت لقسم كبير من أتباعهم لرجعوا عن دعوتهم، لجأ هؤلاء المحتالون إلى حيلة التفريق والمغايرة، وهي من حيلهم المشهورة التي يُطبِّقونها عندما يصطدمون برواية فيها معنى محكم ينقض دعوتهم من الأساس، فاخترعوا حيلة التفريق والتعدُّد في معنى تلك الروايات، أي يصنعون من المحكم متشابهاً، ويُرجِعون المحكم إلى آرائهم، ليُؤوِّلوه حسب رغباتهم وأهوائهم، وهذا الفعل مخالف لتعاليم المعصومين (عليهم السلام) الذين أكَّدوا على لزوم إرجاع المتشابه إلى كلامهم المحكم لمعرفة تفسيره، وهي المقدّمة الأُولى التي ذكرناها في المبحث الأوَّل.
وهؤلاء المدلِّسون يُرجِعون كلام المعصوم (عليه السلام) المحكم ليس فقط
إلى كلام المعصوم (عليه السلام) المتشابه، وكفى بذلك معصيةً وافتراءً على المعصوم (عليه السلام)، بل يُرجِعون محكم كلامهم (عليهم السلام) إلى متشابه، يصنعونه هم بحيلتهم.
وفي هذا المورد عكسوا حيلتهم، وطبَّقوها بطريقة مختلفة لتتناسب مع دجلهم، وهي: زعمهم أنَّ الوصيَّة منحصرة في رواية واحدة، وهي رواية الطوسي (رحمه الله)، وأنكروا باقي الروايات، لمنع أيِّ نقاش في متن أو سند هذه الرواية.
والفائدة التي يريدون أن يتوصَّلوا إليها من هذه الحيلة هي: أنَّه إذا اقتنع السامع لهم أنَّ رواية الطوسي (رحمه الله) هي الرواية الوحيدة في الوصيَّة، فسوف يتحاشى أيَّ نقاش أو تساؤل حول الرواية، وسينتقل حسب ظنِّ غير العالم بهذه الحيلة إلى أصل مفهوم الوصيَّة، فيظنُّ أنَّ أيَّ إنكار للرواية هو إنكار لوصيَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وبالتالي هو إنكار للعقيدة التي اشتملت عليها هذه الرواية، بسبب كونها الرواية الوحيدة الدالة على الوصيَّة حسب حيلتهم.
ومع وجود روايات أُخرى في الوصيَّة أوثق سنداً ومتآزرة متناً لا يوجد فيها ما جاء في رواية الطوسي (رحمه الله) من معانٍ حاولوا الالتصاق بها والتلبيس على ضعفاء الخلق من خلال بعض العبارات الموجودة فيها والتي توجب اللبس، وبما أنَّ ديدنهم في جميع ما يُسمّونه أدلَّة هو التمسّك بعبارات ملتبسة على البعض ومتشابهة المعاني، وتجنّب كلّ الروايات الصريحة والواضحة، وهذا هو منهجهم في هذه الدعوة، وكذا كلّ رايات الضلال المشابهة لها، وهي وسيلة السُّرّاق في الابتعاد عن النور والوضوح.
وقد أكَّد أئمَّتنا (عليهم السلام) على من حصل لديه التباس في إحدى العبارات الواردة في روايات الوصيَّة لكونها متشابهة، بأنَّ القاعدة تقضي بالرجوع إلى المحكم من رواياتهم (عليهم السلام) التي بيَّنت الوصيَّة، لا أن نجتهد في البحث عن تلك العبارات التي تُسبِّب اللبس على الناس، ونُرجِعها إلى قواعد نُؤسِّسها بأوهامنا تخالف العقيدة الحقَّة، ونصنع بها عقيدة يترتَّب عليها إبعاد آل محمّد (عليهم السلام) عن مقامهم الذي رتَّبهم الله فيه.
فالإيمان بوجود الوصيَّة من الضروريات، وطريقة التعرُّف عليها هي من خلال عشرات المصاديق من الروايات، منها ما هو قويّ السند وقويّ المتن، ومنها ما هو أقلّ من ذلك.
ومضمون الوصيَّة بالنسبة لانطباقها على الأفراد في الخارج أيضاً تعتبر مفهوماً له مصاديق محدَّدة، وهم الأئمَّة الاثنا عشر (عليهم السلام) المذكورون فيها، وهؤلاء الأئمَّة الاثنا عشر معروفون بأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم، وقد اتَّفق الشيعة عبر العصور المتعاقبة على أنَّهم لا يزيدون ولا ينقصون، لأنَّ الروايات المتواترة حاصرة لهم، وإلَّا لزم تكذيب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في ذلك، وهذا لا يقوله مسلم.
نعم الوصيَّة التي تلقّاها أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عاصمة من الضلال، وأمَّا رواية الطوسي (رحمه الله) فهي ضعيفة السند وليست عاصمة من الضلال، لأنَّ هناك العشرات من روايات الوصيَّة صحيحة السند والمتن، متآزرة في معناها، تُشكِّل بمجموعها معنىً محكماً ثابتاً لا يأتيه الباطل والشكُّ والاشتباه، وكلُّها لم تذكر المهديين الاثني عشر، فلا يمكن أن نُرجِّح رواية الشيخ الطوسي الضعيفة السند على تلك الروايات الصحيحة السند.
وتكليفنا هو الإيمان بمضمون تلك الروايات الصحيحة، وطرح رواية الطوسي (رحمه الله) لضعف سندها ومعارضتها للروايات الصحيحة التي بيَّنت وصيَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لعدم حجّية الخبر الضعيف في إثبات الأحكام المستحبَّة، فكيف نعمل بها في إثبات الإمامة؟
بالإضافة إلى ترتُّب أمر خطير على ادِّعائهم، وهو: لو كانت الرواية التي تنصُّ على الأئمَّة والأوصياء بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) هي ما رواها الطوسي (رحمه الله) في غيبته فقط، ولا توجد روايات أُخرى في الوصيَّة، يلزم عدم وجود حجَّة على أكثر المسلمين، ونجاح خطَّة عمر بن الخطّاب في منع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) من إبلاغ وصيَّته، فإن نجح عمر في ذلك فيترتَّب عليه عدم وجود حجَّة على من اتَّبعوا عمر بن الخطّاب في أسماء وعدد الأئمَّة والأوصياء بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لأنَّ النبيَّ قد طرد الحاضرين عنده بعد اتِّهامه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بكونه يهجر، وأملى الوصيَّة على أمير المؤمنين (عليه السلام) ليكتبها ولم يحضرها من العامَّة أحد سوى عدَّة أشخاص أمرهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالبقاء في الدار.
فإن قلتم: إنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) احتجَّ بهذه الوصيَّة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأشهد عليها ثلاثة رهط، وهم: سلمان والمقداد وأبا ذر.
نقول: نعم احتجَّ بها الأمير (عليه السلام)، ونحن ندين لله باحتجاجه بهذه الرواية وغيرها، ولكن لم يذكر الأمير (عليه السلام) غير اثني عشر إماماً طاعتهم واجبة إلى يوم القيامة، حيث قال: (وسمّى من يكون من أئمَّة الهدى الذين أمر المؤمنين بطاعتهم إلى يوم القيامة، فسمّاني أوَّلهم، ثمّ ابني هذا حسن، ثمّ ابني هذا حسين، ثمّ تسعة من ولد ابني هذا حسين...)، فلم يذكر المهديين من أبناء الإمام المهدي الذي يدَّعي أحمد إسماعيل أنَّه أوَّلهم.
وإذا أضفنا إلى هذه الرواية رواية ابن عبّاس الذي سأل نبيَّه وهو في آخر لحظات حياته عن أئمَّة الهدى والحجج من بعده، فقال: يا رسول الله، إذا كان ما نعوذ بالله منه فإلى من؟ فأشار إلى علي (عليه السلام) فقال: (إلى هذا، فإنَّه مع الحقِّ والحقُّ معه، ثمّ يكون من بعده أحد عشر إماماً مفترضة طاعتهم كطاعته)(79).
فهل يصحُّ من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن يكتم عن أحد المؤمنين وصيَّته وهو في مقام البيان، مع أنَّه أراد أن يُشهِد عليها العامَّة، ومع ذلك لا يُبيِّن له اسم أحمد إسماعيل أو غيره ممَّن يزعم هؤلاءأنَّهم أوصياء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فهل نسي المصطفى أن يذكرهم له مع الأئمَّة الاثني عشر، أو غفل عن أن ينصَّ على أنَّ هؤلاء المهديين طاعتهم مفترضة!؟
فاحتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) بالوصيَّة التي شهد عليها خيار الصحابة بما أراد أن يكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وبهذا الاحتجاج وبما سبق من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) ثبتت الحجَّة على عمر وأتباع عمر، وأمَّا الاحتجاج بما لم يحتجّ به أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولم يشهد به الصحابة الأخيار، لم يكن على باقي المسلمين حجَّة.
وهذا الاحتجاج والشهادة من سلمان والمقداد وأبي ذر يعاضده كلُّ الروايات الواردة بوصيَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن أئمَّة الهدى (عليهم السلام) وعن غيرهم من باقي المسلمين، والتي تُثبِت اثني عشر إماماً أو حجَّةً أو وصيَّاً أو خليفةً.
وعلى هذا الأساس قامت الفرقة الحقَّة الموالية والتابعة لأوصياء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) الاثني عشر، بخلاف دعوة الهمبوشي وأتباعه فإنَّها ليست
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(79) إعلام الورى بأعلام الهدى 2: 163 و164.
حجَّة على باقي المسلمين، لعدم ذكر ما يحتجّون به من تسليم الإمام الثاني عشر الأمر لابنه عند وفاته من قِبَل الأئمَّة والإشهاد عليها.
ودعوة الهمبوشي قائمة على رواية واحدة هي رواية كتاب الغيبة للطوسي، وهي كما بيَّنا ضعيفة السند، ومعارضة للروايات الصحيحة الأُخرى، مع أنَّها لا تدلُّ على هذه الدعوة الباطلة بأيِّ دلالة.
وهل هناك عقيدة يبتلى بها الخلق أعظم من تحقيق الهدف الإلهي في الأرض، والذي يتحقَّق على يدي من يملؤها قسطاً وعدلاً، والذي يدَّعي هؤلاء أنَّه هو أحمد إسماعيل الهمبوشي انطلاقاً من هذه الرواية الضعيفة، والتي ليس فيها دلالة لا من قريب ولا من بعيد على ما يدَّعونه، ومع كلِّ ذلك هي رواية واحدة تدلُّ بظاهرها على أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يُسلِّم الأمر قرب وفاته لابنه. لكن هذا التسليم بأيِّ معنى، هل باعتبار كونه إماماً من بعده، أو غير ذلك؟ فإنَّ الرواية لو سلَّمنا بصحَّتها، وأغمضنا عن معارضة هذه الرواية لروايات الأئمَّة الاثني عشر وروايات الرجعة فإنَّها تدلُّ على أنَّ ابنه ليس بإمام، وإنَّما هو أحد المهديين، مع أنَّ رواية البحار ليس فيها عبارة: (فإذا حضرته الوفاة) ممَّا يدلُّ على أنَّ تسليم الأمر لا يُراد به النصّ بالإمامة، وإنَّما يُراد به أمر آخر، حتَّى يتوافق هذا الحديث مع الأحاديث الأُخرى الصحيحة.
روايات ثلاث:
1 - تنبّؤ الإمام الصادق (عليه السلام) بهذه الحركة:
عن المفضَّل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إيّاكم [و] التنويه، والله ليغيبنَّ مهديكم سنين من دهركم يطول عليكم، وتقولون: أيّ وليت ولعلَّ وكيف، وتمحصه الشكوك في أنفسكم حتَّى
يقال: مات، وهلك، ويأتي، وأين سلك؟ ولتدمعنَّ عليه أعين المؤمنين، ولتتكفؤون كما تتكفأ السفن في أمواج البحر، ولا ينجو إلَّا من أخذ الله ميثاقه بيوم الذرِّ، وكتب بقلبه الإيمان، وأيَّده بروح منه، وليرفعنَّ له اثنتا عشرة راية مشبهة لا يدرون أمرها ما تصنع)، قال المفضَّل: فبكيت، وقلت: كيف يصنع أولياؤكم؟ فنظر إلى الشمس دخلت في الصفة، قال: (يا مفضَّل، ترى هذه الشمس؟)، قلت: نعم، قال: (والله أمرنا أنور وأبين منها، وليقال: المهدي في غيبته مات، ويقولون بالولد منه، وأكثرهم يجحد ولادته وكونه وظهوره، أُولئك عليهم لعنة الله والملائكة والرسل والناس أجمعين)(80).
2 - تحذير الإمام الكاظم (عليه السلام) في زمن الغيبة:
عن الحسن بن عيسى، عن محمّد بن علي، عن جعفر، عن أبي الحسن بن موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: (إذا فُقِدَ الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم، لا يزيلكم أحد عنها فتهلكوا، لا بدَّ لصاحب الزمان من هذا الأمر من غيبة حتَّى يرجع عنه من كان يقول فيه فرضاً، وإنَّما هو محنة من الله يمتحن بها خلقه)، قلت: يا سيِّدي، من الخامس من ولد السابع؟ قال: (عقولكم تصغر عن هذا، ولكن إن تعيشوا فسوف تذكرون)، قلت: يا سيِّدي، فنموت بشكٍّ منه؟ قال: (أنا السابع، وابني علي الرضا الثامن، وابنه محمّد التاسع، وابنه علي العاشر، وابنه الحسن حادي عشر، وابنه محمّد سميّ جدّه رسول الله، وكنيته المهدي، الخامس بعد السابع)، قلت: فرَّج الله عنك يا سيِّدي كما فرَّجت عنّي(81).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(80) الهداية الكبرى: 360 و361. الكافي 1: 336/ باب في الغيبة/ ح 3 بتفاوت.
(81) الهداية الكبرى: 361.
3 - حكم من يشرك مع الإمام من هو ليس بإمام:
عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن سنان، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (من أشرك مع إمام إمامته من عند الله من ليست إمامته من الله كان مشركاً بالله)(82).
الرواية الأُولى تحدَّثت عن جماعة سيقولون في زمن الغيبة: إنَّ للإمام ولداً وإنَّه مات، (وليقال: المهدي في غيبته مات، ويقولون بالولد منه)، والگاطع وجماعته يقولون: (إنَّ أحمد إسماعيل من ولد الإمام)، ودعوتهم تنتهي كما مرَّ إلى القول بموت الإمام (عليه السلام) وتسليمه الإمامة لابنه، وحكم الإمام (عليه السلام) صريح فيمن يعتقد بهذا الاعتقاد بأنَّ (أُولئك عليهم لعنة الله والملائكة والرسل والناس أجمعين).
وتحدَّثت الرواية الثانية عن تحذير الإمام الكاظم (عليه السلام) للمؤمنين في زمن غيبة الخامس من ولد السابع الذي هو سميّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الإمام محمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام)، ويُحدِّد الإمام (عليه السلام) بوضوح تكليفنا تجاه هذه الحركات بقوله: (فالله الله في أديانكم، لا يزيلكم أحد عنها فتهلكوا)، ولا شكَّ أنَّ القول بإمامة الثاني عشر هي من صلب ديننا، فالتكليف هو الثبات وإلَّا فالهلكة، لئلَّا يصدق علينا أنّا ممَّن رجع عن القول بإمامته (عليه السلام)، (لا بدَّ لصاحب الزمان من هذا الأمر من غيبة حتَّى يرجع عنه من كان يقول فيه)، ونكون من الفاشلين في الامتحان الإلهي، (وإنَّما هو محنة من الله يمتحن بها خلقه).
أمَّا الرواية الثالثة فتتحدَّث عن بيان حكم من يشرك مع الإمام المعصوم شخصاً آخر، لكن حركة الگاطع الهمبوشي ذهبت إلى أبعد من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(82) الكافي 1: 373/ باب من ادَّعى الإمامة وليس لها بأهل.../ ح 6.
ذلك، لأنَّها استبعدت الإمام (عليه السلام) عن جميع مهامّه ومراتبه، واستبدلته بغيره، والإشراك في الأمر غير الاستبدال، فإذا كان إشراك شخص مع الإمام (عليه السلام) يحكم الإمام (عليه السلام) على صاحبه بالشرك بالله تعالى والعياذ بالله، فما هو حكم من يستبدل الإمام ولا يُعير له أيّ أهمّية وكأنَّه لم يوجد، سوى أنَّه تزوَّج بإحدى جدّات أحمد إسماعيل وأنجب منها جدّه الثالث، وكأنَّ الله تعالى ادَّخره عبر هذه القرون ليتزوَّج بتلك الجدَّة. أيُّ جحود هذا!؟ وأيُّ استهتار بالقيم والمقدَّسات!؟
تتمَّة:
إنَّ القيام بمهام الإمامة التي يترتَّب عليها وجوب الطاعة والولاء والانقياد لأيِّ إمام من الأئمَّة (عليهم السلام) باعتباره حجَّة زمانه إنَّما يبدأ بعد تسليم الأمر له كما جاء في الرواية التي يستدلُّ بها الگاطع وأتباعه، ولا يتمُّ تسليم الأمر للإمام اللاحق إلَّا عند حضور وفاة الإمام السابق، وأمَّا قبل ذلك فلا يجوز للإمام أن يقوم ببعض مهام الإمامة، ولا بدَّ أن يكون صامتاً، وقد أسَّس وبيَّن هذا المنهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيَّته للإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام).
قال الأصبغ بن نباتة: إنَّ عليَّاً (عليه السلام) لمَّا ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله دعا بالحسنين، فقال: (إنّي مقبوض في ليلتي هذه فاسمعا قولي، وأنت يا حسن وصيّي والقائم بالأمر من بعدي، وأنت يا حسين شريكه في الوصيَّة، فأنصت ما نطق، وكن لأمره تابعاً ما بقي، فإذا خرج من الدنيا فأنت الناطق بعده، والقائم بالأمر عنه)، وكتب له بوصيَّته عهداً مشهوراً(83).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(83) الصراط المستقيم 2: 160.
فإذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) وهو من هو مأمور بالصمت واتّباع أخيه (عليه السلام) في زمن إمامته، فكيف بمن دونه؟ فضلاً عمَّن يتلاعب بميراث الوصيّين، ويُؤوِّله بما شاءت له نفسه الأمّارة بالسوء؟ إلَّا إذا كانوا يقولون بموت الإمام الثاني عشر (عليه السلام) كما مرَّ، وأنَّه لا مفرَّ لهم من القول بذلك، وما عدم التصريح بهذا الأمر إلَّا لخوفهم من نفور طبقة من أتباعهم الذين بقي عندهم شيء من الولاء لإمامهم الثاني عشر، وكلُّ تصرّفات الگاطع الهمبوشي وأنصاره تُنبِئ عن أنَّهم يُخفون عن أتباعهم السُّذَّج بأساليبهم الماكرة حقيقة اعتقادهم بموت الإمام المهدي (عليه السلام).
إذن لا يجوز للابن المفترض وهو الگاطع بزعمهم أن يقوم بشيء من مهام الإمامة إلَّا بعد تسلُّمه قيادة الأُمَّة، وتولّي الإمامة إن حصل فلا يحصل إلَّا بعد وفاة الإمام المهدي (عليه السلام)، وإن كان الگاطع وأتباعه يقولون بحياة الإمام المهدي (عليه السلام) إلى الآن فالگاطع ليس هو الإمام الفعلي القائم بالإمامة، فكيف جاز له أن يدعو الناس إلى بيعته؟! وهذه الرواية - كغيرها(84) - صريحة في أنَّه يجب عليه أن يكون صامتاً!!
وحيلتهم من الاستدلال برواية الطوسي وتقديمها على غيرها رغم ضعف سندها، هو علم محتاليهم أنَّ الإنسان مفطور على القياس، فإن قدَّموا له على أنَّ المعصوم (عليه السلام) قالها ورواها عنه الشيخ الطوسي، وأنَّها الوصيَّة الوحيدة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والمكذِّب بها مكذِّب بوصيَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(84) روى الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 178/ ح 1) بسند صحيح عن الحسين بن أبي العلاء، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: (لا)، قلت: يكون إمامان؟ قال: (لا، إلَّا وأحدهما صامت).
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فإن كان السامع غافلاً عن طرق الاستدلال وغير مطَّلع على الروايات المخالفة لهذه الرواية فإنَّ عاطفته واستعجاله سيوردانه إلى الهلكة كما عبَّر عن هذا المعصوم (عليه السلام) حين قال: (وهلك المستعجلون)، وهذا الصنف من الناس لا ينتظر برهاناً صحيحاً، وهؤلاء هم عرضة للوقوع في شباك المحتالين، فبمجرَّد أن يحتالوا عليه بذكر رواية لا تدلُّ على النتيجة التي يريدونها لا من قريب ولا من بعيد، فسوف تأخذه حالة من التقديس للرواية لارتباطها بالمعصوم، وهذا سوف يطغى على قراره، ولن يُميِّز بين قداسة الرواية وبين مدلولها، وفي حالة الاختلاط بين القداسة والمدلول تأتي فرصة المتصيِّدين بالمتشابه، كما نجح عمرو بن العاص في اصطياد الخوارج في حرب صفّين حين اختلط عليهم التمييز بين قداسة القرآن والحيلة من رفعه للمصاحف، حتَّى تسبَّبوا في إفشال المخطَّط الإلهي في القضاء على الانحراف والظلم من جذوره في ظلِّ قيادة أمير المؤمنين (عليه السلام).
أي إنَّ الگاطع وأتباعه يُقدِّمون مقدّمة ذات منشأ مقدَّس، ثمّ يتبعونها بمقدّمة منحرفة من تأويلاتهم الفاسدة، وبما أنَّ هؤلاء الغافلين غير العالمين بتلك الحيل وضعوا قدسية الرواية محلّ دلالتها فإنَّهم لا يلتفتون إلى بطلان ما سيُذكر لهم من مقدّمات فاسدة، وفي ظلِّ هذه الغفلة ينتقل بهم الدجّالون إلى النتيجة التي كلّ أو بعض مقدّماتها باطلة، لأنَّها مبنيَّة على تأويل باطل، وبالتالي سوف تكون النتيجة حتماً باطلة.
والمنهج الصحيح هو الحفاظ على قدسية المقدَّس بكلِّ الأحوال، وفي نفس الوقت عدم السماح لاستخدام المقدَّس سلاحاً يحارب به نفس ذلك المقدَّس ويُؤدّي إلى ضياعه.
النتيجة:
إنَّ هناك روايات أُخرى لوصيَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ذُكِرَ فيها أئمَّة الهدى وهم اثنا عشر وصيَّاً وإماماً بحسب الكتاب المختوم من الله تعالى، وهم الذين تجب طاعتهم إلى يوم القيامة، أوَّلهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وآخرهم التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)، وهو الإمام محمّد المهدي الحجَّة المنتظر (عليه السلام).
وهذا النصّ تؤازره وتعضده كلُّ الروايات الواردة عن أهل بيت النبوَّة (عليهم السلام)، وإن حصل اشتباه والتباس أو كانت إحدى روايات الوصيَّة فيها خلل في سندها أو متنها، فالمرجع هو الروايات الأُخرى التي تُؤكِّد أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) الواجب طاعتهم إلى يوم القيامة هم اثنا عشر إماماً فقط.
وأمَّا بالنسبة لفترة ما بعد الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، وهي الفترة المختلف فيها في تحديد مصداق صاحب الأمر، فبمقتضى إيماننا بهم، وولائنا وطاعتنا لهم، وانقيادنا لأمرهم، ننتظر خروج إمامنا الغائب (عليه السلام)، باعتباره هو الحجَّة الفعلي علينا، وصاحب زماننا، ووليّ أُمورنا، وهو يُحدِّد لنا خليفته وصاحب الأمر بعده، وهو الأعرف بوصيَّة جدّه (صلّى الله عليه وآله وسلم).
فلو كان لدى الگاطع الهمبوشي وأنصاره ذرَّة احترام لشخصه المبارك ولمقامه المقدَّس، لصبروا حتَّى يظهر (عليه السلام)، ولم يتجرَّؤوا على العبث بمهمَّته، فمن أساسيات عمل الحجَّة كما فعل آباؤه (عليهم السلام) من قبل هي تنصيب الحجَّة بعده.
وأُقسم بالله الواحد الأحد أنَّ هؤلاء يحاولون جهدهم لإفشال مهمَّة الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام) ويفشلوا التخطيط الإلهي برمَّته، كما
حاول أعداء أهل البيت (عليهم السلام) من قبل، حيث حاولوا إفشال ذلك التخطيط برزيَّة يوم الخميس(85) وغيرها من الرزايا العظيمة والكثيرة التي ألمَّت بالإسلام والمسلمين من بعد عصر الرسالة إلى يومنا هذا.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(85) عن عبد الله بن العبّاس، قال: لمَّا حضرت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (هلمّوا أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً)، فقال عمر: لا تأتوه بشيء، فإنَّه قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قوموا يكتب لكم رسول الله، ومنهم من يقول ما قال عمر. فلمَّا كثر اللغط والاختلاف، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (قوموا عنّي). قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: وكان ابن عبّاس (رحمه الله) يقول: الرزيَّة كلُّ الرزيَّة ما حال بين رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لنا ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. (أمالي المفيد: 36 و37/ ح 3).
ذكرنا فيما سبق(86) أهمّ رواية احتجَّ بها الگاطع الهمبوشي على دعوته، وممَّا جاء في هذه الرواية قوله: (فذلك اثنا عشر إماماً، ثمّ يكون من بعده اثنا عشر مهدياً، (فإذا حضرته الوفاة) فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين، له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي، وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أوَّل المؤمنين).
حيث زعم الهمبوشي وأنصاره بأنَّ كلمة (الأوَّل) الواردة في الرواية، في قوله: (أوَّل المقرَّبين) و(أوَّل المؤمنين)، يُراد بها الأوَّلية الزمانية، وطبَّقها أحمد إسماعيل على نفسه، وحاول أن يقرن هذا المعنى برواية أُخرى تحدَّثت حول أنصار الإمام المهدي (عليه السلام)، جاء فيها أنَّ أوَّلهم من البصرة(87).
وردُّه:
إنَّ الأوَّلية هنا هي الأوَّلية الزمانية، والمراد بأوَّل المؤمنين هو أوَّلهم زماناً، لكنَّه أوَّلهم زماناً في أيِّ شيءٍ؟
هل هو أوَّلهم في الإيمان بأنَّ الإمام الحجَّة محمّد بن الحسن (عليه السلام) هو الثاني عشر، وهو الموعود لإقامة العدل والقسط؟ فهذه عقيدة جميع الشيعة الاثني عشرية من عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حين بلَّغ المسلمين بعشرات الروايات المشتملة على بيان عدد أئمَّة الهدى (عليهم السلام) وأسمائهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالتفصيل، وكلُّ من ينتمي إلى هذه الطائفة الحقَّة مؤمن بهذا المعنى، إلَّا من استولى عليه الشيطان وأضلَّه عن سواء السبيل، وعليه فلا يكون هذا الشخص المعنيُّ بهذه الرواية أوَّل المؤمنين زماناً.
وإمَّا أن يكون المراد بالإيمان هو الإيمان بإمامة الثاني عشر (عليه السلام) مع تطبيق هذا المعنى على شخصه المبارك، أي معرفة الإمام بشخصه مع الإيمان بإمامته. فتتكفَّل كثير من الروايات بأنَّ للحجَّة أصحابه الخاصّين الذين يؤنسون وحشته حسب تعبير بعض الروايات التي جاء فيها قوله: (وما بثلاثين من وحشة)(88)، أي إنَّ هناك أشخاصاً يؤمنون بإمامة المهدي (عليه السلام)، مطَّلعين على شخصه المبارك على طول خطِّ الغيبة، وذلك لأنَّ الرواية مطلقة من هذه الناحية، ولم تُقيِّد الثلاثين بزمان محدَّد، فضلاً عمَّن رآه (عليه السلام) قبل غيبته الصغرى وفي أثنائها من سفراء ووكلاء.
وعليه فإنَّ هناك أشخاصاً قد سبقوا المعنيُّ بالرواية زماناً بإيمانهم بالإمام الثاني عشر عقيدةً وشخصاً.
وإن كان المقصود بالأوَّلية الإيمانية أنَّه أوَّل الناس إيماناً به (عليه السلام) بعد الظهور المقدَّس، فتُكذِّبه رواية الصادق (عليه السلام) التي ورد فيها قوله: (لا تراه عين في وقت ظهوره إلَّا رأته كلّ عين، فمن قال لكم غير هذا فكذِّبوه...، فلا تراه عين أحد حتَّى يراه كلّ أحد وكلّ عين)(89)، والگاطع ربط بين ادِّعائه رؤيته له (عليه السلام) وبين كونه أوَّل المؤمنين به.
فإن قلت: إنَّ هذه الرواية تعارض رواية رؤية الثلاثين له (عليه السلام).
نقول لك: ليس هناك تعارض إن فهمنا أنَّ رؤية الثلاثين أو غيرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(88) أُنظر: الكافي 1: 340/ باب في الغيبة/ ح 16.
(89) مختصر بصائر الدرجات: 181 و182.
تنسجم مع تخطيط الغيبة من حيث الهدف والحفاظ على الإمام (عليه السلام) وتربيته لهم، ومن غير ادِّعاء للرؤية مصحوب بدعوى نيابة أو وصاية أو رسالة، بخلاف الرؤية المنفيَّة المخالفة لأهداف الغيبة، فتكون الرؤية المنفيَّة ناظرة إلى عموم الناس، وأمَّا الرؤية الثابتة فهي الرؤية الخاصَّة بهؤلاء الثلاثين.
ولو زعم الگاطع الهمبوشي أنَّ رؤيته للإمام (عليه السلام) خاصَّة أيضاً كرؤية أُولئك الثلاثين له، فإنَّه يلزمه على هذا ألَّا يكون أوَّل المؤمنين رؤيةً له (عليه السلام)؛ لأنَّ الثلاثين رؤوا الإمام قبله.
وبذلك يثبت أنَّ قوله: (أوَّل المؤمنين) لا ينطبق على الگاطع الهمبوشي بأيِّ وجهٍ.
أمَّا لو زعم الگاطع بأنَّ الأوَّلية هنا هي الأوَّلية الرُّتْبِيَّة، لأنَّ الأوَّلية والسبق ليس بالضرورة تكون زمانية، كما عبَّر الكتاب الكريم بقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (الواقعة: 10 و11)، والمؤمنون بالله وبنبيِّه يعلمون أنَّ في طليعة السابقين سبطي النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) الحسن والحسين (عليهما السلام)، مع أنَّهما متأخّران زماناً بالنسبة لبداية دعوة جدِّهما (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لإيمان كثير من الناس قبل ولادتهما (عليهما السلام)، وبما أنَّ السبق في الآية بحسب الرتبة عند الله تعالى فإنَّ الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) لم يدركهما أحد من الأوَّلين والآخرين، والگاطع يزعم أنَّه أوَّل المؤمنين في عصر الظهور رتبةً، لأنَّه المهدي الأوَّل.
والجواب على ذلك أنَّ مثل هذا التعبير لم أجده في الروايات المرويَّة عن أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّي لم أجد في رواية واحدة تُعبِّر عن الأفضل بأنَّه أوَّل، مضافاً إلى أنَّ أوَّل المؤمنين - أي خيرهم في ذلك العصر - هو صاحب الأمر (عليه السلام)، وليس الگاطع الهمبوشي.
هذا كلّه لو سلَّمنا أنَّ الذين يتولّون الإمامة بعد الإمام المهدي (عليه السلام) هم المهديون الاثنا عشر من أبناء الإمام المهدي (عليه السلام)، وإلَّا فعلى القول الصحيح - وهو أنَّ الأمر يتولَّاه من بعده الأئمَّة المعصومون واحداً بعد واحد - فإنَّ القول بأنَّ المهدي الأوَّل هو أوَّل المؤمنين سالبة بانتفاء الموضوع كما يقول علماء المنطق.
وقد حاول الهمبوشي أن يستدلَّ بروايات أُخرى على صحَّة ادِّعائه بأنَّه هو المقصود بأوَّل المؤمنين، حيث ذكرت تلك الروايات معنى (الأوَّل) كروايات: (أوَّلهم من البصرة).
وردُّه:
أنَّ الرواية التي ورد فيها قوله: (أوَّلهم من البصرة) لم يُذكر فيها أنَّ اسمه أحمد، أو أحمد إسماعيل، فقد روى ابن طاووس في الملاحم والفتن عن الأصبغ بن نباتة، قال: خطب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) خطبة، فذكر المهدي وخروج من يخرج معه وأسماءهم، فقال له أبو خالد الكلبي: صفه لنا يا أمير المؤمنين، فقال علي (عليه السلام): (ألَا إنَّه أشبه الناس خَلْقاً وخُلُقاً وحُسْناً برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ألَا أدلُّكم على رجاله وعددهم؟)، قلنا: بلى يا أمير المؤمنين، قال: (سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، قال: أوَّلهم من البصرة، وآخرهم من اليمامة)، وجعل علي (عليه السلام) يُعدِّد رجال المهدي والناس يكتبون، فقال: (رجلان من البصرة، ورجل من الأهواز، ورجل من عسكر مكرم...)(90)، فالرواية ذكرت معنىً إجمالياً، وهو: (أوَّلهم من البصرة، وآخرهم من اليمامة)، ولمَّا فصَّل (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(90) الملاحم لابن طاووس: 288 و289/ ح 417.
هؤلاء الأنصار بيَّن بوضوح عدد الذين من البصرة وغيرهم بقوله: (رجلان من البصرة...).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: جُعلت فداك، هل كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلم أصحاب القائم (عليه السلام) كما كان يعلم عدَّتهم؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): (حدَّثني أبي (عليه السلام)، قال: والله لقد كان يعرفهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم رجلاً فرجلاً، ومواضع منازلهم ومراتبهم...)، إلى أن قال: فقال لرجل في مجلسه: (أُكتب له: هذا ما أملاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) على أمير المؤمنين (عليه السلام) وأودعه إيّاه من تسمية أصحاب المهدي (عليه السلام)، وعدَّة من يوافيه من المفقودين عن فرشهم وقبائلهم، السائرين في ليلهم ونهارهم إلى مكّة، وذلك عند استماع الصوت في السنة التي يظهر فيها أمر الله (عزَّ وجلَّ)، وهم النجباء والقضاة والحُكّام على الناس: من طاربند الشرقي رجل...، ومن البصرة ثلاثة رجال...)(91).
وقد رويت رواية أُخرى ورد فيها: (أوَّلهم من البصرة)، لكنَّها أكثر وضوحاً، فإنَّها تُحدِّد أسماء من هم من البصرة، فقالت: (إنَّ أوَّلهم من أهل البصرة وآخرهم من الأبدال، فالذين من أهل البصرة رجلان، اسم أحدهما علي والآخر محارب...)(92).
فالرواية الأُولى قالت: إنَّهم اثنان، والثانية قالت: إنَّهم ثلاثة، والثالثة قالت: إنَّهم اثنان، وحدَّدت أسماءهم، وبيَّنت أنَّ الأوَّل اسمه علي والثاني محارب، أو أنَّ أسماءهم: عبد الرحمن بن الأعطف بن سعد، وأحمد بن مليح، وحمّاد بن جابر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(91) دلائل الإمامة: 554 - 562/ ح (526/130).
(92) إلزام الناصب 2: 174.
وهذا دليل على أنَّ مراده (عليه السلام) من الأوَّلية في قوله في تلك الروايات: (أوَّلهم من البصرة) هي الأوَّلية الجمعية، أي إنَّ هذين الاثنين أو هؤلاء الثلاثة هم أوَّل أنصاره (عليه السلام)، ولعلَّ المراد بذلك هو أنَّهم أوَّل من يلتحق بالإمام (عليه السلام)، فإنَّهم يلتحقون به (عليه السلام) قبل غيرهم، لا أنَّهم أفضل من غيرهم، وكذا قوله (عليه السلام): (آخرهم من اليمامة) يعني آخرهم لحوقاً بالإمام (عليه السلام)، لا أنَّ جميع أصحاب الإمام (عليه السلام) خير منهم.
فإذا كان كذلك نسأل الگاطع فنقول: هل أنت تعلم أنَّ معنى (أوَّلهم من البصرة) المقصود به المعنى الجمعي أم لا؟ فإن كنت تعلم بذلك فلماذا تدَّعي كذباً وزوراً أنَّ الأوَّلية مخصوصة بك أنت فقط؟
وإن كنت لا تعلم بذلك فكفى بذلك حجَّةً عليك وعلى من اتَّبعك أنَّك لا تعلم أنَّ كلمة (الأوَّل) يمكن أن يُراد بها الأوَّلية الجمعية فتصدق على أكثر من فرد.
وإذا زعم الگاطع أنَّ هذه الكلمة تحتمل أكثر من معنى، ولا يُراد بها الأوَّلية الجمعية، بل هي من الكلمات المتشابهة، فإنَّ اللازم عليه حينئذٍ أن يُرجِع المتشابه من كلامهم إلى المحكم منه، لا أن يحتجَّ بالمتشابه فيزعم أنَّه هو المراد بقول الإمام (عليه السلام): (أوَّلهم من البصرة)، مع الأعداد من المعاني المحكمة كما هو مسلَّم، وإذا كانت متشابهة فلماذا فسَّرها الگاطع وفق دعوته وبما يتناسب مع ضلالاته وأهوائه، ولم يتَّبع قواعد المعصومين (عليهم السلام)؟ فأين: (أوَّلهم من أهل البصرة... رجلان اسم أحدهما علي والآخر محارب) من ادِّعائه أنَّ (أوَّلهم من البصرة اسمه أحمد)؟ وكيف فهم أو يفهم من اتَّبعه أنَّ أوَّل أنصار الإمام الذين هم
اثنان أو ثلاثة من البصرة يتحوَّلون تدريجياً إلى أن يصيروا واحداً، أحدهم هو الإمام المهدي، وهو من يملؤها قسطاً وعدلاً؟
وبعد أن عرفنا أنَّ معنى الأوَّل من البصرة متعدِّدون، وفي بعض الروايات أنَّ أسماءهم: علي ومحارب، أو هم: عبد الرحمن بن الأعطف بن سعد، وأحمد بن مليح، وحمّاد بن جابر، تسقط حجَّة الگاطع الهمبوشي بادِّعائه أنَّه هو المراد بقول الإمام (عليه السلام): (أوَّلهم من البصرة)، وأنَّ الأوَّلية أوَّلية فردية، لأنَّ مراده من الاستدلال بهذه الرواية هو أنَّه يريد أن يُحصِر أوَّل أنصار الإمام بشخصه، من خلال حيلة الأوَّلية الفردية، وادِّعائه أنَّ هذا الناصر الوحيد حسب تحريفه اسمه أحمد، وبعد فضح هذه الحيلة لعدم وجود أيُّ ميزة لأحد الأنصار المتعدِّدين على الآخرين، وورود أسماء مغايرة لما يدَّعيه الگاطع في روايات أُخرى، تشتَّتت وتلاشت حيلة الحصر التي يريد تسويقها على البسطاء من الناس، حتَّى صرَّح بافترائه أنَّه أوَّل من رأى الإمام المهدي (عليه السلام).
إذن الگاطع أوَّل المؤمنين وأنَّه أوَّل من ينصر الإمام (عليه السلام) من البصرة، جاعلاً منها بجهله وافترائه قاعدة عامَّة بنى عليها ضلاله، مع أنَّ كتاب الله (عزَّ وجلَّ) وكلام المعصوم (عليه السلام) وسيرته وتاريخه، وضرورة اللغة، خلاف زعمه.
مناقشة بعض الأسماء الواردة في الرواية التي أطلقوا عليها رواية الوصيّة:
المناقشة الأُولى: في بداية الرواية ذُكِرَ عدَّة أسماء لأمير المؤمنين (عليه السلام) من ضمنها (المهدي)، ثمّ أعقبها (صلّى الله عليه وآله وسلم) بذكر عبارة: (لا تصحُّ هذه الأسماء لأحد غيرك)، وفي نهاية الرواية ذكر أنَّ (المهدي) هو أحد أسماء
الإمام محمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام)، أو كما يزعم الگاطع الهمبوشي أنَّها أسماء أوَّل المهديين، فكيف يستقيم عدم صحَّة ذكر اسم إلَّا لشخص أمير المؤمنين (عليه السلام) ثمّ يذكره لغيره في نفس الرواية؟!
وإن قيل: إنَّ مقامهم واحد، فيجوز استعمال تلك الأسماء لباقي الأئمَّة (عليهم السلام).
قيل لهم: إنَّ قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (لا تصحُّ هذه الأسماء لأحد غيرك)، ظاهر في اقتصار هذه الأسماء عليه (عليه السلام)، والظهور حجَّة.
ويدلُّ على عدم جواز استعمال تلك الأسماء إلَّا لعلي (عليه السلام) هي الأسماء الأُخرى التي رافقت اسم المهدي كأمير المؤمنين والفاروق الأعظم والصدّيق الأكبر، فلم نسمع أنَّ أحد الأئمَّة (عليهم السلام) قد سُمّي أو وُصِفَ بهذه الصفات غير الإمام علي (عليه السلام).
بالإضافة إلى الخصوصية الشخصية كالزواج والبنوَّة والأُبوَّة وغيرها. ومع ذلك فإنَّ من المسلَّمات الإسلاميَّة أنَّ اسم وصفة المهدي ثابتان للإمام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً. وهذا تهافت واضح في هذه الرواية، وحاشا سيِّد الخلق (صلّى الله عليه وآله وسلم) أن تُنسَب إليه هذا الخطأ الواضح والغفلة الفاضحة.
المناقشة الثانية: أنَّ الأسماء الثلاثة المشار إليها التي من بينها (المهدي) ثابتة للإمام الثاني عشر (عليه السلام)، كما دلَّ على ذلك ما رواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسنده عن حذيفة بن اليمان، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وذكر المهدي، فقال: (إنَّه يُبايَع بين الركن والمقام، اسمه أحمد وعبد الله والمهدي، فهذه أسماؤه ثلاثتها)(93).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(93) الغيبة للطوسي: 454/ ح 463.
وهذه الأسماء الثلاثة المنسوبة للإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن (عليه السلام) هي عين تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في الرواية التي أطلقوا عليها رواية الوصيَّة، ممَّا يدلُّ على أنَّ هذه الأسماء خاصَّة بالإمام محمّد بن الحسن العسكري (عليه السلام) لا المهدي الأوَّل كما يزعم الگاطع الهمبوشي.
فإن قيل: إنَّ هذه صفات وليست أسماء؟
فجوابه: أنَّ استعمال الأئمَّة (عليهم السلام) للأسماء والصفات جاء بمعنى واحد، وذلك طبقاً للكتاب الكريم، حيث جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى: (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر: 23 و24).
ومن المعلوم أنَّ بعض الأسماء المذكورة هي صفات حسب اصطلاح أهل الاختصاص، ومع ذلك عبَّر عنها المولى تعالى بالأسماء.
والحقُّ أنَّ التفريق في الاستعمال متأخِّر زماناً عن وقت النزول واستعمال الأئمَّة (عليهم السلام)، والرواية التي يحاول أن يتعلَّق بها هؤلاء المدَّعون قد استعملت لفظ الاسم على معنى المهدي، والمهدي هناك هو نفسه هنا، وأحمد وعبد الله كذلك يتبعانه في انطباق معنى الاسمية عليهما، فيكون المعنى في الروايتين أنَّ محمّد بن الحسن (عليه السلام) له ثلاثة أسامي: (المهدي وأحمد وعبد الله)، فتكون ثلاثية الأسماء في استعمال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة ثابتة للإمام الثاني عشر (عليه السلام).
مع أنَّ اسم المهدي ثابت في عشرات الروايات الصحيحة عند جميع الفِرَق الإسلاميَّة للإمام الثاني عشر من خلفاء النبيِّ وأوصيائه، وهذا من أوضح الواضحات.
المناقشة الثالثة: ورد في الرواية المشار إليها أنَّ أحد الأسماء الثلاثة (أحمد)، وهذا هو الاسم غير المعلن للإمام المهدي (عليه السلام) كما ورد ذلك في الرواية المرويَّة عن أبي جعفر محمَّد بن علي الباقر، عن أبيه، عن جدِّه (عليهم السلام)، قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو على المنبر: يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ وُلْدِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَبْيَضُ اللَّوْنِ، مُشْرَبٌ بِالحُمْرةِ، مُبَدَّحُ البَطْنِ، عَرِيضُ الفَخِذَيْنِ، عَظِيمُ مِشَاشِ المَنْكِبَيْنِ، بِظَهْرِهِ شَامَتَانِ: شَامَةٌ عَلَى لَوْنِ جِلْدِهِ، وَشَامَةٌ عَلَى شَبَهِ شَامَةِ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لَهُ اسْمَانِ: اسْمٌ يَخْفَى واسْمٌ يُعْلَنُ، فَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى فَأَحْمَدُ، وَأَمَّا الَّذِي يُعْلَنُ فَمُحَمَّد...)(94).
والاسم المعلن للإمام الثاني عشر (عليه السلام) هو (محمّد) كما نصَّت عشرات الروايات على ذلك، وأمَّا الاسم الذي يخفى فـ (أحمد)، وهو كجدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) حيث كان اسمه الظاهر محمّد والمخفي أحمد.
وأمَّا سبب خفائه فلأنَّ اسم محمّد بمعنى المحمود، وأحمد بالنسبة لمحمود هي صيغة أفضل التفضيل، كقولنا: بعيد وأبعد، وسعيد وأسعد، وكذلك محمود وأحمد، فإنَّ اسم محمّد الذي هو بمعنى المحمود هو اسمه الظاهر عند أهل الأرض، والذي يخفى على أهل الأرض هو مقدار محمودية محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) عند أهل السماء، هل هو بمقدار حمدهم له أم هو (أحمد)، فيأتي الجواب أنَّه عند أهل السماء (أحمد) منه عند أهل الأرض، إلَّا أنَّكم تجهلون حمده عندهم.
سأل بعض اليهود رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): لِمَ سُمّيتَ محمّداً وأحمد وبشيراً ونذيراً؟ قال: (أمَّا محمّد فإنّي في الأرض محمود، وأمَّا أحمد فإنّي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(94) كمال الدين: 653/ باب 57/ ح 17.
في السماء أحمد منه...)(95)، وكذلك حفيده المهدي (عليه السلام)، فكما أنَّه محمود عند أوليائه الصادقين، ويجهل حمده الغافلون، فهو في السماء أحمد منه في الأرض.
وقد ورد كثير من الروايات عن النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) تُؤكِّد على أنَّ اسم المهدي اسم النبيِّ وكنيته كنيته، أمَّا الهمبوشي فاسمه المعلَن أحمد منذ ولدته أُمّه وإلى يومنا هذا، فهو معروف باسم أحمد، وهذا خلاف خفاء اسم أحمد، وأمَّا اسم محمّد فلم يُعرَف الهمبوشي به يوماً، ولم يدَّع هو أنَّ اسمه محمّد، وهذا خلاف ما روي من أنَّ الاسم المعلَن محمّد.
أمَّا اسم عبد لله فلم يُعرَف أنَّ أحمد إسماعيل گاطع أيضاً اسمه عبد الله، فإن كان ذلك الاسم إشارة إلى صفة العبودية للمعني به، فالإمام الثاني عشر (عليه السلام) أولى من الهمبوشي بذلك، ولا يقول خلاف هذا إلَّا من أعمى الشيطان قلبه، وأركسه في ضلال مبين.
ولا يضرُّ ذلك بحجَّة الأئمَّة (عليهم السلام) كما يريد أن يُصوِّر هؤلاء المدَّعون، إذ أنَّ حجَّتهم وأحقّيتهم ثابتة في مئات الروايات الصحيحة والمتواترة التي سنورد بعضها في طيّات البحث، ممَّا لا يقبل أدنى شكّ أو ريبة، والرسالة الخفيَّة التي يريدون أن يوصلوها من خلال تلميحاتهم هي: من لم يؤمن بهذه الرواية تحديداً فهو خارج عن الولاية والعياذ بالله، وذلك من خلال تركيزهم الإعلامي عليها، وإهمالهم لجميع الروايات الأُخرى.
والحقُّ أنَّ عدم اعتماد علمائنا على هذه الرواية هو لضعف سندها، ولما يرد عليها من الإشكالات، مع مخالفتها للروايات المتواترة، لا كما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(95) تفسير القمّي 2: 366.
يُصوِّر الهمبوشي وجماعته ممَّا يهزؤون به على عقول أتباعهم حيث يدَّعون ادِّعاءات متناقضة بقولهم: (إنَّ خفاء هذه الرواية عن أعين العلماء إنَّما هي معجزة، لحمايتها عن المدَّعين خوفاً من استغلال مضامينها).
وهذا في الحقيقة طعنٌ قويٌّ في هذه الرواية التي يمكن لأيِّ دجّال أن يستغلَّها، فيُدجِّل بها على بسطاء الناس!!
ألم يسأل هذا الرجل نفسه: كيف تجتمع حجّية دليل مع خفائه؟ وكيف يستقيم خفاء الحجَّة مع أنَّ لله الحجَّة البالغة وهو سبحانه القائل: (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (التوبة: 115)؟
مع أنَّ الله تعالى لم يُخفِ هذه الرواية عن أعين العلماء، ولذلك تناولوها بالتحليل والشرح والتعليق عليها، والإخفاء إذا كانت فيه فائدة مزعومة فإنَّ فيه مضرَّة عظيمة، لأنَّه سيحرم ملايين الشيعة من الهداية والإيمان باثني عشر مهديَّاً مئات السنين.
ذكر البياضي العاملي (رحمه الله) هذه الرواية التي ورد فيها أنَّه سيكون بعد الأئمَّة الاثني عشر اثنا عشر مهديَّاً، وقال: (الرواية بالاثني عشر بعد الاثني عشر شاذّة، ومخالفة للروايات الصحيحة المتواترة الشهيرة...)(96).
ودعوى أنَّ الله تعالى أخفى هذه الرواية حفاظاً عليها حيلة ناشئة من مستوى وطبيعة تفكيرهم، ونظرتهم لروايات أهل البيت (عليهم السلام) التي يعتمدون فيها على اقتناص وتحيّن فرص المتشابهات والغموض الذي يمكن أن يرد في بعض الروايات، وعدم إدراكهم أنَّ المانع والرادع عن النزول إلى هذا المستوى من التعامل مع المقدَّسات هو ليس الجهل بتلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(96) الصراط المستقيم 2: 152.
الألفاظ، وإنَّما شيء يصعب على أمثالهم فهمه والتحلّي به، وهو: أنَّ من نتكلَّم عنهم يُمثِّلون إرادة الله في أرضه، والمانع عن التجرّؤ على مقامهم شيء يُسمّى (تقوى)، وشيء آخر اسمه احترام المقدَّسات، وشيء ثالث هو معرفة الإنسان لمقامه بالنسبة إلى من نتكلَّم عنهم، وشيء رابع أعظم من أن يفهم معناه من نصب نفسه في محلِّ وليِّ الحقِّ، ألَا وهو (عبودية الله وولاية أوليائه).
* * *
إنَّ التواتر ينقسم إلى أقسام: منه تواتر لفظي، وتواتر معنوي، وقبل الدخول في التفاصيل لا بدَّ أن نتعرَّف على معنى هذين القسمين من التواتر من خلال كلام أهل الاختصاص.
أمَّا التواتر اللفظي فقد عرَّفوه بأنَّه: (إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب، وصدورهم جميعاً عن خطأ أو اشتباه أو خداع حواسّ، على أن يجري هذا المستوى في الإخبار في جميع طبقات الرواة، حتَّى الطبقة التي تنقل عن المعصوم مباشرةً. فلو تأخَّر التعدُّد في طبقة ما، أو فقد أحد تلكم الشروط، خرج عن كونه متواتراً إلى أخبار الآحاد، لأنَّ النتائج كما يقول علماء الميزان تتبع دائماً أخسّ المقدّمات)(97).
وأمَّا التواتر المعنوي فهو: (ما إذا تعدَّدت ألفاظ المخبرين في خبرهم، ولكن اشتمل كلٌّ منها على معنى مشترك بينها بالتضمّن أو الالتزام، وحصل العلم بذلك القدر المشترك بسبب كثرة الأخبار)(98).
والفقرة الدالّة على تسليم الإمام المهدي (عليه السلام) الأمر إلى ابنه في الرواية التي أطلقوا عليها رواية الوصيَّة، لم يرد معناها مطلقاً ولا في رواية واحدة غير هذه الرواية، فكيف تكون متواترة لفظاً أو معنىً؟!
والأدلَّة التي استدلّوا بها على هذا المعنى تنقسم إلى قسمين: مقاطع من أدعية، وروايات تتكلَّم عن حكم ما بعد المهدي (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(97) الأُصول العامَّة للفقه المقارن: 194 و195.
(98) معجم مصطلحات الرجال والدراية: 146.
فقد استدلَّ أتباع أحمد إسماعيل بعدَّة أدلَّة حاولوا فيها إرباك ذهن المتتبِّع وتلبيس الحقِّ عليه من خلال الاستدلال بمقاطع أدعية يظهر منها وجود ذرّية للإمام (عليه السلام)، وكأنَّ الخلاف والنقاش هو حول إثبات ذرّية للإمام (عليه السلام)، وما هي العلاقة بين ثبوت ذرّية للإمام المهدي (عليه السلام) وبين من يتولّى القيادة بعده؟ متناسين أنَّ ديننا ومذهبنا قائم على الدليل والنصِّ الصريح والتنصيب الإلهي للحجَّة على الخلق، وهذا هو جوهر الفرق بيننا وبين المدارس الدينية الأُخرى، فإنَّنا إذا وجدنا دليلاً من المعصوم (عليه السلام) ينصُّ ويُصرِّح بوجوب اتّباع شخص ما باعتباره حجَّة علينا سواء كان ابن الإمام أم أخاه فيفترض وبمقضى ولاية المعصوم أن نكون أتباعاً مطيعين له، وأمَّا من لم يكن كذلك فلا يمكن القول بإمامته وإن كان ابناً للإمام أو أخاه، ألم يكن عبد الله الأفطح ابن الإمام الصادق (عليه السلام)، وجعفر ابن الإمام الهادي (عليه السلام)، وقد نازعا صاحب الأمر والحجَّة عليهما كما ورد في الأخبار(99)؟ ونحن لا نقول بإمامتهما لعدم قيام الدليل على ذلك، مضافاً إلى عدم أهليَّتهما للإمامة.
والروايات الواردة فيمن يتولّى بعد القائم (عليه السلام) عدَّة روايات في معاني مختلفة:
1 - منها ما رواه الشيخ الطوسي (رحمه الله) بسنده عن الحسن بن علي الخزّاز، قال: دخل علي بن أبي حمزة على أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فقال له: أنت إمام؟ قال: (نعم)، فقال له: إنّي سمعت جدَّك جعفر بن محمّد (عليه السلام)، يقول: (لا يكون الإمام إلَّا وله عقب)، فقال: (أنسيت يا شيخ أو تناسيت؟ ليس هكذا قال جعفر (عليه السلام)، إنَّما قال جعفر: لا يكون الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(99) راجع: بصائر الدرجات: 522/ ج 9/ باب 17/ ح 3؛ الخرائج والجرائح 2: 960.
إلَّا وله عقب، إلَّا الإمام الذي يخرج عليه الحسين بن علي (عليهما السلام)، فإنَّه لا عقب له). فقال له: صدقت جُعلت فداك، هكذا سمعت جدَّك يقول(100).
والذي يخرج عليه - أي عقيبه - الحسين (عليه السلام) هو الإمام المهدي (عليه السلام) كما نصَّت الروايات، وهذه الرواية تدلُّ على أنَّ المهدي (عليه السلام) لا عقب له.
2 - وعن جابر الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (والله ليملكنَّ منّا أهل البيت رجل بعد موته ثلاثمائة سنة يزداد تسعاً)، قلت: متى يكون ذلك؟ قال: (بعد القائم (عليه السلام))، قلت: وكم يقوم القائم في عالمه؟ قال: (تسع عشرة سنة، ثمّ يخرج المنتصر، فيطلب بدم الحسين (عليه السلام) ودماء أصحابه، فيقتل ويسبي حتَّى يخرج السفّاح)(101).
وهذه الرواية تدلُّ على أنَّ الذي يتولّى الإمامة بعد المهدي (عليه السلام) هو واحد من الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام)، وهو الإمام الحسين (عليه السلام) عندما يرجع إلى الدنيا قبيل وفاة المهدي (عليه السلام) كما سياتي في الأخبار التي سننقلها قريباً.
3 - رواية أُخرى بنفس المعنى مع زيادة بيان من هو المنتصر والسفّاح، وهي: عن جابر الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (والله ليملكنَّ أهل البيت رجل بعد موته ثلاثمائة سنة ويزداد تسعاً)، قلت: متى يكون ذلك؟ قال: (بعد القائم (عليه السلام))، قلت: وكم يقوم القائم في عالمه؟ قال: (تسع عشرة سنة، ثمّ يخرج المنتصر إلى الدنيا وهو الحسين (عليه السلام)، فيطلب بدمه ودم أصحابه، فيقتل ويسبي حتَّى يخرج السفّاح وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام))(102).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(100) الغيبة للطوسي: 224/ ح 188.
(101) الغيبة للطوسي: 478 و479/ ح 505.
(102) مختصر بصائر الدرجات: 49.
4 - وعن أبي بصير، قال: قلت للصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام): يا ابن رسول الله، إنّي سمعت من أبيك (عليه السلام) أنَّه قال: (يكون بعد القائم اثنا عشر مهدياً)، فقال: (إنَّما قال: اثنا عشر مهدياً، ولم يقل: اثنا عشر إماماً، ولكنَّهم قوم من شيعتنا يدعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقّنا)(103).
المراد بـ (بعد القائم): بعد خروجه، لا بعد وفاته، لأنَّ هؤلاء الاثني عشر مهدياً ليسوا بأئمَّة، ولا يتولّون الإمامة بعد الإمام المهدي (عليه السلام).
5 - وعن عبد الله بن القاسم البطل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى:... (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) (الإسراء: 6)، قال: (خروج الحسين (عليه السلام) في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهَّب، لكلِّ بيضة وجهان، المؤدّون إلى الناس أنَّ هذا الحسين قد خرج، حتَّى لا يشكُّ المؤمنون فيه، وأنَّه ليس بدجّال ولا شيطان، والحجَّة القائم بين أظهرهم، فإذا استقرَّت المعرفة في قلوب المؤمنين أنَّه الحسين (عليه السلام) جاء الحجَّة الموت، فيكون الذي يُغسِّله ويُكفِّنه ويُحنِّطه ويُلحِده في حفرته الحسين بن علي (عليهما السلام)، ولا يلي الوصيّ إلَّا الوصيّ)(104).
هذه الرواية تدلُّ على أنَّ الذي يتولّى الأمر بعد الإمام المهدي (عليه السلام) هو الإمام الحسين (عليه السلام)، ومع وجود الإمام الحسين (عليه السلام) كيف يمكن ﻟﻠﮕﺎطع أن يتولّى الإمامة دون الإمام الحسين (عليه السلام)، ويكون الحسين (عليه السلام) من رعيَّته؟!
6 - وعن أبي حمزة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل أنَّه قال: (إنَّ منّا بعد القائم أحد عشر مهدياً من ولد الحسين (عليه السلام))(105).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(103) كمال الدين: 358/ باب 33/ ح 56.
(104) الكافي 8: 206/ ح 250.
(105) الغيبة للطوسي: 478/ ح 504.
وهؤلاء الأحد عشر هم الأئمَّة الأحد عشر الباقون، ووصفهم بأنَّهم من ولد الحسين (عليه السلام) إنَّما هو بنحو التغليب، أي أغلبهم من ولد الحسين (عليه السلام).
ومن مجموع هذه الروايات نستفيد أنَّ الذي يخلف الإمام المهدي (عليه السلام) ويستلم القيادة بعده هو الحسين (عليه السلام)، (فإذا استقرَّت المعرفة في قلوب المؤمنين أنَّه الحسين (عليه السلام) جاء الحجَّةَ الموتُ، فيكون الذي يُغسِّله ويُكفِّنه ويُحنِّطه ويُلحِده في حفرته الحسين بن علي (عليهما السلام)، ولا يلي الوصيّ إلَّا الوصيّ).
وبعد الحسين يتولى الأمر أمير المؤمنين (عليه السلام)، (حتَّى يخرج السفّاح وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)).
وأمَّا الاثنا عشر مهدياً فهم قوم من شيعة الأئمَّة (عليهم السلام)، (إنَّما قال: اثنا عشر مهدياً، ولم يقل: اثنا عشر إماماً، ولكنَّهم قوم من شيعتنا...).
* * *
قوله: (فليُسلِّمها إلى ابنه) في الرواية التي يستدلّون بها.
وبما أنَّ الركيزة الأساسية في النقاش تتمحور حول طبيعة ونوع العلاقة بين من يتسلَّم زمام الأُمور بعد المهدي وبينه (عليه السلام)، وهل هو ابنه أم هم عامَّة الشيعة أو أحد آبائه (عليهم السلام)؟
أمَّا ما دلَّ على أنَّ من يتسلَّم الأمر بعده (عليه السلام) هو ابنه فهي رواية واحدة فقط، وهي هذه الرواية التي أطلقوا عليها رواية الوصيَّة، وأمَّا ما دلَّ على رواية رجعة الحسين وأمير المؤمنين (عليهما السلام) وأنَّهما يتولَّان الأمر بعد الإمام المهدي (عليه السلام)، فهي روايات متعدِّدة.
وهناك رواية واحدة عامَّة ليس فيها أيّ إشارة إلى نوع علاقة من يتسلَّم الأمر من بعد المهدي (عليه السلام) به كرواية: بعد المهدي أحد عشر مهدياً، ورواية واحدة وصفت هؤلاء بأنَّهم من ولد الإمام الحسين (عليه السلام).
وإذا رجعنا إلى تعريف التواتر المعنوي الذي ذكرناه فيما سبق نجد أنَّ ألفاظ المخبرين قد اجتمعت على لفظ المهديين من دون اشتراكها في بيان طبيعة علاقة المهديّين بالإمام (عليه السلام)، وكما أنَّ معنى المهديّين يصدق على أبناء الإمام فكذلك يصدق على المعنى المنافي له وهو الأئمَّة (عليهم السلام)، فيمكن لهم أن يتولّوا الأمر بعد رجعتهم، فإنَّهم (عليهم السلام) أئمَّة مهديّون كما جاء في الروايات:
عن إبراهيم بن يحيى المديني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (لمَّا بايع الناس عمر بعد موت أبي بكر أتاه رجل من شباب اليهود وهو في المسجد، فسلَّم عليه والناس حوله، فقال: يا أمير المؤمنين، دلِّني على أعلمكم بالله وبرسوله وبكتابه وبسُنَّته، فأومأ بيده إلى علي (عليه السلام)، فقال: هذا. فتحوَّل الرجل إلى علي فسأله: أنت كذلك؟ فقال: نعم، فقال: إنّي أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة...)، إلى أن قال: (فأخبرني كم لهذه الأُمَّة من إمام هدى، هادين مهديين، لا يضرُّهم خذلان من خذلهم، وأخبرني أين منزل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) من الجنَّة، ومن معه من أُمَّته في الجنَّة؟ قال: أمَّا قولك: كم لهذه الأُمَّة من إمام هدى، هادين مهديين، لا يضرُّهم خذلان من خذلهم، فإنَّ لهذه الأُمَّة اثنا عشر إماماً هادين مهديين، لا يضرُّهم خذلان من خذلهم...)(106).
فقد أكَّد أميرالمؤمنين (عليه السلام) على أنَّ الأئمَّة الاثني عشر يصحُّ وصفهم بأنَّهم مهديّون، وبهذا الوصف يمكن أن ينطبق عليهم وصف اثني عشر مهدياً الذين يخلفون الإمام المهدي (عليه السلام)، وذلك برجعتهم (عليهم السلام)، وينسجم هذا المعنى أكثر إذا عرفنا أنَّ إحدى الروايات التي بيَّنت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(106) كمال الدين: 297 - 299/ باب 26/ ح 5.
أنَّ عدد من يخلف المهدي (عليه السلام) هم أحد عشر مهدياً، وينسجم ذلك مع عدد آبائه (عليهم السلام) بالإضافة إليه فيكون عددهم اثني عشر مهدياً.
النتيجة:
إنَّ معنى المهديين لا يختصُّ بأبناء المهدي (عليه السلام)، بل لم يُطلَق عليهم إلَّا في هذه الرواية الضعيفة التي أطلقوا عليها رواية الوصيَّة، والروايات التي وصفت الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) بأنَّهم مهديّون كثيرة مستفيضة، فكيف يمكن أن يقال: إنَّ روايات المهديين الذين هم من أبناء الإمام المهدي (عليه السلام) متواترة تواتراً معنويَّاً؟!
ويبقى بذلك معنى تسلُّم ابن الإمام المهدي (عليه السلام) الأمر بدون عضيد من داخل الروايات، فإنَّ هذا المعنى لم تدلّ عليه إلَّا هذه الرواية الضعيفة فقط، وعليه فإنَّ رواية (استلام الابن) شاذّة لا يُعوَّل عليها، مضافاً إلى أنَّها وفق معايير علم الدراية هي من الروايات المهملة، لعدم ذكر بعض رواتها لدى رجال الحديث لا ذاتاً ولا وصفاً كما مرَّ.
واستدلّوا ببعض العبارات التي وردت في بعض الأدعية، ويمكن مناقشتها في عدَّة نقاط:
النقطة الأُولى:
روى السيِّد ابن طاووس في الدعاء لصاحب الأمر (عليه السلام) عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: (... وتعزُّ به نصر وليِّك، ولا تستبدل بنا غيرنا، فإنَّ استبدالك بنا غيرنا عليك يسير، وهو علينا عسير. اللّهمّ صلِّ على ولاة عهده والأئمَّة من بعده، وبلِّغهم آمالهم وزد في آجالهم...)(107).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(107) جمال الأُسبوع: 309.
قالوا: إنَّ عبارة: ولاة العهد والأئمَّة من بعده، أي من بعد الإمام المهدي (عليه السلام) دليل على خلافة أبناء الإمام المهدي (عليه السلام) له.
الجواب:
إن كان ولاة العهد رجال عهد إليهم الإمام المهدي (عليه السلام) ببعض أُمور الدولة في حياته فهؤلاء في الحقيقة نوّابه وولاته، فينتفي النقاش، ولا يبقى للمستدلِّ حجَّة في ذلك، لأنَّ القائد الحقيقي المباشر للحكم هو الإمام المهدي (عليه السلام)، ومهما يكن ولاة العهد هؤلاء فإنَّهم لا يرقون إلى أهمّية ومنافسة الإمام على قيادة البشرية.
وإن كان ولاة الأمر هؤلاء يتولّون الأمر بعده فهم إمَّا نفس الأئمَّة المذكورين في العبارة التي بعدها وهي: (الأئمَّة من بعده) أو غيرهم، فإن كانوا غيرهم فمن المؤكَّد أنَّهم أقلّ منهم درجةً، لوضوح أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) هم الأعلى مقاماً بالنسبة إلى من سواهم، وإن كانوا هم أنفسهم فمعنى البعدية للإمام المهدي مشتركة بين المعنى الذي يريد أن يستدلَّ به المستدلّ وبين الأئمَّة الذين صرَّحت برجعتهم كثير من الأخبار من آباء المهدي (عليه السلام)، كرجعة الحسين الذي يتولّى دفن المهدي (عليه السلام) بعد موته كما مرَّ، ورجعة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولا يُرجَّح أيُّ معنى لأحدهما إلَّا بقرينة، ولا قرينة متَّصلة للمستدلِّ على أنَّ المعنى يرجع لأبناء المهدي (عليه السلام)، بل بالعكس إنَّ الاعتقاد بذلك مخالف للعقيدة الحقَّة كما سيأتي في النقطة الثانية، بل يمكن القول إنَّ هناك قرينة خارجية تُؤيِّد أنَّ المعنيُّ بولاة عهده هم القادة الذين يُعيِّنهم الإمام المهدي (عليه السلام) لإدارة شؤون العالم. قال في الدعاء: (ولاة عهده والأئمَّة من بعده).
والقرينة هي: أنَّه من الممكن كونهم ولاة العهد بمعنى أنَّهم يتولّون شؤون الدولة تحت ظلِّ قيادة الإمام المهدي (عليه السلام)، ويمكن أن يُستَدلَّ على صحَّة هذا القول بعبارات وردت في بعض الروايات تصف أصحاب المهدي (عليه السلام) بأوليائه، وهي صحيحة من الناحية العقائدية.
وفي روايات أُخرى ورد أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يقول لأصحابه: عهدكم في كفِّكم(108)، أي العهد الذي يمليه هو (عليه السلام) عليهم لتوجيههم وليُبيِّن لهم ما يحتاجونه من كيفية إدارة شؤون ولاياتهم، وذلك حين يُرسِلهم لأداء مهام الحكم في بلاد العالم.
وإذا ضممنا العبارتين الواردتين في الروايتين وهما: (أوليائه، وعهدكم)، فيكون معناهما هم (أولياء عهد) الإمام (عليه السلام). وجاء الدعاء المبارك بعد الدعاء للإمام المهدي (عليه السلام) الدعاء لمن يؤازره وينصره ويعينه في بسط دولته العادلة وملء الأرض قسطاً وعدلاً، وهي ليست بالمهمَّة السهلة ممَّا تطلب الإشارة والدعاء لهم بالتوفيق والعون والحفظ.
وبعبارة موجزة نقول: إنَّ ولاة عهده هم أعوانه الذين يتولّون الولايات في عهده المبارك، والمراد بالأئمَّة من بعده هم الأئمَّة الأحد عشر الذين يرجعون ويتولّون الإمرة من بعده واحداً بعد واحد.
النقطة الثانية:
واستدلّوا بعبارة وردت في هذا الدعاء، وهو: (... اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ المُصْطَفى، وَعَلِيٍّ المُرْتَضى، وَفاطِمَةَ الزَّهْراءِ، وَالحَسَنِ الرِّضا، وَالحُسَيْنِ المُصَفَّى، وَجَمِيعِ الأَوْصِياء مَصابِيحِ الدُّجى، وَأَعْلامِ الهُدى، وَمَنارِ التُّقى، وَالعُرْوَةِ الوُثْقى، وَالحَبْلِ المَتِينِ، وَالصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وَصَلِّ
عَلى وَلِيِّكَ وَوُلاةِ عَهْدِكَ، وَالأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ، وَمُدَّ فِي أَعْمارِهِمْ، وَزِدْ فِي آجالِهِمْ، وَبَلِّغْهُمْ أَقْصى آمالِهِمْ دِيناً وَدُنْياً وَآخِرَةً، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ)(109).
والعبارة التي استُدِلَّ بها هي: (والأئمَّة من ولده).
وجوابه:
يمكن أن يقال: إنَّ الضمير في (ولده) يرجع إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وعود الضمير إلى الأقرب إنَّما يُعمَل به إذا لم تقم قرينة على خلافه، ولهذا أُجيز رجوع الضمير إلى غير الأقرب إن كان هو المتحدَّث عنه، ومثاله: قوله تعالى: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) (العنكبوت: 27)، حيث قال المفسِّرون: إنَّ الضمير في قوله: (ذُرِّيَّتِهِ) يعود على إبراهيم (عليه السلام) لأنَّه المحدَّث عنه من أوَّل القصَّة إلى آخرها، مع أنَّه ليس الأقرب لضمير (ذُرِّيَّتِهِ)(110).
وعليه يمكن رجوع الضمير من (وَالأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ) في الدعاء إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لأنَّه هو المتحدَّث عنه من أوَّل الدعاء.
ويتعزَّز ذلك إذا تأمَّلنا في سياق الدعاء المبارك سنجد أنَّه يُعاد صياغته عدَّة مرَّات محافظاً على الترتيب في سياقه، وفي كلِّ مرَّة يُؤتى بمعنى جديد، ويُبدأ بالصلاة على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) ويُنتهى بالإمام المهدي (عليه السلام)، فبدأ في: (بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ...)، وانتهى المعنى الأوَّل إلى هذه العبارة: (وَصَلِّ عَلى الخَلَفِ الهادي المهديِّ، إِمامِ المُؤْمِنِينَ، وَوارِثِ المُرْسَلِينَ، وَحُجَّةِ رَبِّ العالَمِينَ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(108) راجع: الغيبة للنعماني: 334 و335/ باب 21/ ح 8.
(109) مصباح المتهجِّد: 406 - 409/ ح (534/144).
(110) راجع: همع الهامع 1: 65.
وبدأ المعنى الثاني بقوله: (اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الأَئِمَّةِ الهادِينَ...).
ثمّ عاد السياق لذكر الإمام المهدي (عليه السلام) مرَّة أُخرى بقوله: (اللّهُمَّ وَصَلِّ عَلى وَلِيِّكَ المُحْيِي سُنَّتَكَ، القائِمِ بِأَمْرِكَ...).
ثمّ عاد السياق ثالثاً وبدأ بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ المُصْطَفى...).
وعاد أخيراً لذكر الإمام المهدي (عليه السلام) بقوله: (وَصَلِّ عَلى وَلِيِّكَ...).
ثمّ عرج مرَّة أُخرى ليلخِّص جميع السياقات المتكرِّرة في الدعاء ليشمل جميع من ذكر بقوله: (وَوُلاةِ عَهْدِكَ، وَالأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ، وَمُدَّ فِي أَعْمارِهِمْ، وَزِدْ فِي آجالِهِمْ، وَبَلِّغْهُمْ أَقْصى آمالِهِمْ دِيناً وَدُنْياً وَآخِرَةً، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ).
والتعزيز المقصود هو ليس برجوع الضمير من (ولده) إلى بداية الدعاء، إنَّما للمعنى الثابت في جميع السياقات الثلاثة المتكرِّرة في الدعاء، والذي كان آخرها قبل ثلاثة سطور قبل عبارة: (من ولده).
ومثال على ذلك ما جاء في زيارة آل يس، حيث نخاطب الإمام (عليه السلام) قائلين: (وَأَشْهَدُ أَنَّكَ حُجَّةُ الله، أَنْتُمْ الأوَّلُ وَالآخِرُ، وَأَنَّ رَجْعَتَكُمْ حَقٌّ...)(111)، والشاهد هو: أنَّ الزائر يخاطب الإمام (عليه السلام) بقوله: (أَشْهَدُ أَنَّكَ حُجَّةُ الله)، ثمّ يوصل كلامه من دون فاصل لفظي بالعبارة اللاحقة: (أَنْتُمْ الأوَّلُ وَالآخِرُ، وَأَنَّ رَجْعَتَكُمْ حَقٌّ)، والمقصود بـ (أنتم) الأئمَّة من آبائة (عليهم السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(111) الاحتجاج 2: 317.
وهذا الانتقال المباشر في الخطاب من الإمام المهدي (عليه السلام) إلى آبائه الطاهرين (عليهم السلام) من غير فاصل لفظي مع حفظ وحدة المعنى وهم جميع أهل البيت (عليهم السلام)، دليل على استعمال الأئمَّة (عليهم السلام) هذه التركيبة من الألفاظ في المعنى الذي طرحناه، وهو رجوع الضمير من (ولده) إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لأنَّه هو المحدَّث عنه من أوَّل الدعاء.
ثمّ إذا لاحظنا ضمير (ك) في (عهدك) فإنَّه عائد على المخاطب وهو الله تعالى المضمر في قوله: (صلِّ)، وبهذا العود في الضمير فقد حصل فاصل في العطف بين عبارة من (ولده) وعبارة (وليّ أمرك)، ووجد مرجع جديد للضمير بدأ من الأصل بنسبة الولاة لله تعالى (وهو الأصل)، ثمّ تسلسل السياق كما في المرَّات السابقة ليشمل جميع المذكورين في الدعاء، ومن المؤكَّد أنَّ أشرف ولاة عهد الله تعالى هو النبيّ الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة من ولده (عليهم السلام)، وبهذا المعنى حقَّ رجوع ولده إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) لوجود فاصل لفظي ومعنوي بين (من ولده) و(وليّ أمرك).
النقطة الثالثة:
ولضرورة أنَّ الأئمَّة بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) هم اثنا عشر إماماً كما نصَّت عليه روايات الخاصَّة والعامَّة في عشرات الأحاديث الصحيحة والصريحة، ومع قبول أنَّ هناك أئمَّة بعد الإمام المهدي غير الأئمَّة المعروفين المعصومين من آبائه يتعارض ذلك من حيث العدد مع الروايات الثابتة والمتواترة عنهم (عليهم السلام)، إذ يصبح العدد أكثر من اثني عشر، ومع التعارض يُقدَّم المتواتر على غيره، وهذا ما نبَّهنا عليه في النقطة السابقة.
ومن تلك الأحاديث ما ورد عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي
جعفر محمّد بن علي الباقر (عليهما السلام)، قال: قلت له: يابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، إنَّ قوماً يقولون: إنَّ الله تبارك وتعالى جعل الإمامة في عقب الحسن والحسين، قال: (كذبوا والله، أوَلم يسمعوا الله تعالى ذكره يقول: (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [الزخرف: 28]؟ فهل جعلها إلَّا في عقب الحسين؟). ثمّ قال: (يا جابر، إنَّ الأئمَّة هم الذين نصَّ [عليهم] رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالإمامة، وهم الأئمَّة الذين قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): لمَّا أُسري بي إلى السماء وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش بالنور اثنا عشر اسماً، منهم علي وسبطاه وعلي ومحمّد وجعفر وموسى وعلي ومحمّد وعلي والحسن والحجَّة القائم، فهذه الأئمَّة من أهل بيت الصفوة والطهارة، والله ما يدَّعيه أحد غيرنا إلَّا حشره الله تعالى مع إبليس وجنوده...)(112).
ولتشديد الأئمَّة (عليهم السلام) على التفريق بين المهديين والأئمَّة والتأكيد على معنى الاثني عشر إماماً كما مرَّ عن الصادق (عليه السلام) حين قال لأبي بصير: (... إنَّما قال: اثنا عشر مهدياً، ولم يقل: اثنا عشر إماماً)، وقوله (عليه السلام): (إنَّما) لحصر معنى الإمامة بالاثني عشر.
وتقابل هذه الفقرات الواردة في الأدعية التي استدلَّ بها المستدلُّ على حكم أولاد المهدي (عليه السلام) توجد فقرات تعضد عقيدة الرجعة، وقد ورد أهمّها في (أرقى الزيارات الجامعة متناً وسنداً، وأفصحها وأبلغها)(113)، وهي الزيارة الجامعة الكبيرة.
والعبارات هي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(112) كفاية الأثر: 246 - 248.
(113) راجع: مفاتيح الجنان: 791، عن العلَّامة المجلسي (رحمه الله).
1 - (وَجَعَلَنِي مِمَّنْ يَقْتَصُّ آثارَكُمْ، وَيَسْلُكُ سَبِيلَكُمْ، وَيَهْتَدِي بِهُداكُمْ، وَيُحْشَرُ فِي زُمْرَتِكُمْ، وَيَكِرُّ فِي رَجْعَتِكُمْ).
2 - (مُحْتَجِبٌ بِذِمَّتِكُمْ، مُعْتَرِفٌ بِكُمْ، مُؤْمِنٌ بإِيَابِكُمْ، مُصَدِّقٌ برَجْعَتَكُمْ، مُنْتَظِرٌ لأَمْرِكُمْ).
3 - (وَأَحْيانِي فِي رَجْعَتِكُمْ، وَمَلَّكَنِي فِي أَيّامِكُمْ، وَشَكَرَ سَعْيِي لَكُمْ، وَغَفَرَ ذُنُوبِي بِشَفاعَتِكُمْ)(114).
4 - وجاء في زيارة آل يس لصاحب الزمان (عليه السلام): (وَأشهدُ أنَّكَ حُجَّةُ الله، أنْتُمُ الأوَّلُ وَالآخرُ، وَأنَّ رجعتكُمْ حقٌّ لا ريبَ فيها يوم لا ينفعُ نفساً إيمانُها لم تكُنْ آمنتْ منْ قبلُ أو كسبتْ في إيمانها خَيْراً). ومطلع الزيارة هو: (بسم الله الرحمن الرحيم، لا لأمره تعقلون، ولا من أوليائه تقبلون، حكمة بالغة فما تغني النذر عن قوم لا يؤمنون، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إذا أردتم التوجُّه بنا إلى الله تعالى وإلينا، فقولوا كما قال الله تعالى: سلام على آل ياسين، السلام عليك يا داعي الله وربّاني آياته...) الزيارة(115).
أصناف الباحثين في القضيّة المهدوية:
وكما يُعلَم أنَّ البعض بحث القضيَّة المهدوية لغرض دفع الشبهات عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) التي يمكن أن تحصل من بعض الروايات - روايات الرجعة والمهديين - والوصول إلى عقيدة تنسجم مع العقيدة الأساسية التي ثبتت عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الخلفاء من بعده والوصاية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(114) من لا يحضره الفقيه 2: 609 - 617.
(115) الاحتجاج: 315 - 317.
للاثني عشر (عليهم السلام)، ولا يترتَّب على بحثهم العمل وفق هذه العقيدة لأنَّها مقيَّدة بفترة فاصلة وهي ظهور صاحب الأمر (عليه السلام) وإقامة دولته العادلة في الأرض، والروايات دلَّت على أنَّ الذي يخلفه هو الإمام الحسين (عليه السلام) كما مرَّ، ولو سلَّمنا جدلاً بأنَّ إماماً آخر يخلفه، فلا يصحُّ أن نسبق الأحداث، لأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) هو من يُقرِّر ويحدِّد من يخلفه من بعده، وعند ذاك يترتَّب وجوب العمل بعد أن كنّا مؤمنين بما جاء عنهم (عليهم السلام)، وأنَّه لا يجوز لنا أن نتعدّاهم وأن نأخذ النصَّ على الإمام الذي يخلف الإمام المهدي (عليه السلام) من غيرهم.
أمَّا أحمد إسماعيل وأتباعه حين يطرحون هذه المسألة فهو لغرض الطلب من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) العمل بعد الإيمان بها، أمَّا علماؤنا أعزَّهم الله حينما يذكرون رأياً معيَّناً فيما نعتقده بعد الإمام المهدي (عليه السلام) لا يُرتِّبون ولا يطلبون أيّ أثر عملي على ما ذكروه بهذا الاحتمال أو ذاك، إنَّما الإيمان وفق موازين محدَّدة ويتركون ترجيح أحدها على الآخر إلى من هو أولى بالترجيح، ومن نصبه الله لهذه المهمَّة، وقد ثبتت إمامته بأدلَّة قاطعة، فاتَّسمت نقاشاتهم كما هو طبيعة النقاش العلمي بالأخذ والردّ والنقض والإبرام، وطرحوا آراءهم على شكل أطاريح قابلة للنقض، وبنوا آراءهم وفق منهج تحليلي يتناسب مع طبيعة الدراسات التي ساروا عليها. فعمد هؤلاء المضلّون على أخذ الآراء التي تتوافق مع دعوتهم، فقبضوا قبضة من أثر هؤلاء العلماء الأجلَّاء وألقوها على صاحبهم، وغضّوا الطرف عن الآراء الأُخرى.
ومن المباحث التي اقتبسوها واعتمدوها في أدلَّتهم مناقشة السيِّد الشهيد محمّد الصدر قدس سره لفكرة وعقيدة ما بعد المهدي (عليه السلام) في كتابه
(موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام))(116)، وقد قسَّم مناقشته إلى أُطروحتين:
الأُولى: حكم الأولياء الصالحين.
الثانية: حكم الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام).
وقد اقتبسوا مناقشة السيِّد الشهيد قدس سره كاملة في صفحتين ونصف، وأوهموا القارئ بطريقتهم الماكرة أنَّ هذا الكلام هو من نتاجاتهم، ولم يشيروا إلى أنَّ الكلام المذكور كلّه للسيِّد الشهيد قدس سره، كالتعليق على مقاطع كلامه، إلَّا إشارة في بداية المناقشة. ولم ينقلوا رأي السيِّد الشهيد قدس سره الأخير في هذا الموضوع، في بحث الرجعة(117). والذي عدل فيه عن رأيه السابق الذي أورده في (تاريخ ما بعد الظهور)، وسنورد ما ذكره قدس سره في بحثه للرجعة ردَّاً للشبهة ودفعاً لضلال هؤلاء.
قال قدس سره في (ص 27) من بحث الرجعة بعد إيجاز الأُطروحتين السابقتين:
(حكم الأولياء الصالحين: أنَّه يتولّى بعده أولاده الذين يكونون بدورهم أولياء صالحين، قد ربّاهم المهدي (عليه السلام) بنفسه ونصَّ على خلافتهم أمام المجتمع)، وهذه إشارة منه إلى أحد أهمّ شروط تنصيب الخلفاء والأوصياء، وهو التنصيب أمام الناس للشهادة على هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(116) راجع: موسوعة الإمام المهدي 3: 642. ولا ينتقص ذلك من القيمة العلمية لآراء الشهيد الصدر قدس سره، وإنَّما العيب في المتصيِّدين للمتشابهات الذين في قلوبهم مرض، والذين وظَّفوا آيات القرآن الكريم وحديث المعصوم (عليه السلام) لمآربهم، فكيف بكلام أوليائهم.
(117) بحث الرجعة كتبه قدس سره في أيّام مرجعيَّته، أي بعد تأليف الموسوعة بزمن طويل، وقد عدل عن رأيه في ترجيح حكم الأولياء الصالحين الذي ذكره في كتابه موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام)، وهو ما اقتبسه هؤلاء المضلّون لتوظيفه لصالح دعوتهم.
الحدث، وهذه أوَّل مخالفة قام بها أحمد إسماعيل بدعوته أنَّه وصيّ وإمام ورسول، وحصول ذلك كلّه خلسةً وسرَّاً، ولم يشهد على ذلك أحد.
(وحكم المعصومين (عليهم السلام): وهو أن يتولّى الأمر بعده آباؤه الأئمَّة المعصومون (عليهم السلام)، ورجوعهم للحياة بعد الموت ليحكموا العالم بعد المهدي (عليه السلام)).
قال: (وليس لنا أن نجزم بصحَّة الأُطروحة الأُولى - أي حكم الأولياء الصالحين -، وإنَّما ينشأ ذلك من زاوية مادّية لاستبعاد أن يعود الإنسان للحياة بعد موته. والآن فإنَّ مقتضى القاعدة - في مذهبنا على الأقلّ - هو صحَّة الأُطروحة الثانية بالخصوص لعدَّة وجوه).
إذن رأي الشهيد الصدر قدس سره واضح وصريح في أنَّ عقيدة أتباع أهل البيت (عليهم السلام) الصحيحة في فترة ما بعد الإمام المهدي (عليه السلام) هو: الاعتقاد برجوع الأئمَّة الطاهرين (عليهم السلام).
وقد رجَّح هذه الأُطروحة على الأُخرى لعدَّة وجوه، وملخصها:
1 - موافقتها للقرآن الكريم.
2 - أنَّ روايات الرجعة مستفيضة.
3 - أنَّ الهداية والإيمان تتعمَّق وتتأكَّد لدى المجتمع تدريجياً.
وإذا كان كذلك - والكلام للشهيد الصدر قدس سره - احتاج المجتمع إلى قيادة يزداد عمقها وأهمّيتها لا إلى قيادة متنازلة، بل ولا إلى قيادة متساوية كما هو واضح...، ومن الواضح أنَّه مع التساوي فضلاً عن التسافل سيكون ضرر الحاكم أكثر من نفعه، كيف وهو الوليّ الشرعي العامّ للمجتمع...، إذن فلا بدَّ أن نرجع إلى القيادة المعصومة المؤيَّدة بتأييد الله المباشر. وذلك لا يكون إلَّا بالرجعة لعدم توفّر معصومين
سواهم، كما أنَّ وجود معصومين بالذات غيرهم لاستلام الحكم يومئذٍ خلاف الضرورة، ولم يقل به أحد.
وقد ذكر قدس سره في تاريخ ما بعد الظهور عدَّة نقاط ضعف على روايات الرجعة، وقد قوّى هذا الضعف المذكور في بحثه للرجعة في عدَّة نقاط:
الأُولى: إنَّ ثبوت الرجعة على الإجمال يكفينا في تصحيح ما عليه علماؤنا.
الثانية: إنَّ الرواية الدالّة على هذا المضمون (رجوع من محض الإيمان...) رواية معتبرة سنداً عندنا، فتكون كافية في إثبات مضمونها، وإذا ثبت مضمونها ثبت مضمون الرجعة إجمالاً.
إذن نقول: إنَّ الرجعة بهذا المعنى صحيحة وثابتة.
النتيجة:
يتحصَّل لدينا مجموعة كبيرة من الروايات تُؤكِّد على رجوع الأئمَّة (عليهم السلام) بعد الإمام المهدي (عليه السلام)(118)، ويعضدها عدد كبير من العبارات الواردة في زيارات وأدعية المعصومين (عليهم السلام)، ومنها الرواية التي ذكرناها فيما سبق التي دلَّت على خروج الإمام الحسين (عليه السلام) في سبعين من أصحابه قبيل وفاة الحجَّة (عليه السلام)، فيقوم بتجهيزه ودفنه، ويتولّى الأمر من بعده.
وبمستوى أقلّ توجد روايات تشير إلى وجود مهديين بعد الإمام (عليه السلام)، وقد عرفنا أنَّ صفة المهديين تنطبق على نفس الأئمَّة (عليهم السلام) الاثني عشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(118) راجع: كتاب الإيقاظ من الهجعة للحرّ العاملي.
وفي قبال ذلك كلّه توجد رواية واحدة ضعيفة - لجهالة بعض رواتها - تشير إلى وجود ابن للإمام (عليه السلام).
وفي مقام الإيمان بأحد هذه الوجوه يجب اتّباع كلام المعصومين (عليهم السلام)، والقاعدة المناسبة في مثل ذلك هي: الترجيح بالشهرة، ودليلها مقبولة عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا عبد لله (عليه السلام):...، إلى أن قال: فقال: (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك، فيُؤخَذ به من حكمنا ويُترَك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه)(119).
والمشهور والمجمع عليه بين أتباع أهل البيت (عليهم السلام) هو القول بالرجعة، والشاذّ هو الاعتقاد بوجود وصيّ ثالث عشر ابناً للإمام المهدي (عليه السلام)، وبحسب كلامهم (عليهم السلام) لمن يتولَّاهم ويتبرَّأ من أعدائهم هو القول بالرجعة وترك القول بغيرها.
أمَّا كيفية الرجعة وتحديد تسلسل أولوية من يرجعون فليس هو موضوع حديثنا حتَّى نخوض فيه.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(119) الكافي 1: 68/ باب اختلاف الحديث/ ح 10.
احتجَّ الگاطع الهمبوشي وأتباعه ببعض الروايات التي فصَّلوها على مقاساتهم وفسَّروها بحسب أهوائهم، ولأنَّ بعض البسطاء ربَّما ينخدعون بكلامهم، فمن الضروري ذكر بعض تلك الروايات، وبيان تدليسهم في استدلالاتهم، ليكون القارئ على بيِّنة من أمره.
ومن تلك الروايات:
الرواية الأولى:
عن المفضَّل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: (إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول حتَّى يقول بعضهم: مات، وبعضهم يقول: قُتِلَ، وبعضهم يقول: ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلَّا نفر يسير، لا يطَّلع على موضعه أحد من وليٍّ ولا غيره، إلَّا المولى الذي يلي أمره)(120).
احتجَّ الهمبوشي وأتباعه بهذه الرواية مدَّعين أنَّ (المولى) الذي يلي أمر الإمام المهدي (عليه السلام) في غيبته هو الهمبوشي نفسه.
والمناقشة تتمُّ من خلال العبارات التالية: (المولى)، (يلي)، (أمره).
الردّ:
أوَّلاً: أنَّ كلمة (المولى) في اللغة لها معانٍ كثيرة، منها: السيِّد والعبد وابن العمّ والحليف والجار والمعتِق بكسر التاء والمعتَق بفتحها والربّ وغير ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(120) الغيبة للنعماني: 176/ باب 10/ فصل 4/ ح 5.
والوليّ والمولى لهما نفس المعنى، ومن استعمال الوليّ أنَّهم يقولون: وليّ المرأة، ووليّ الطفل، ووليّ الدم، أي إنَّه هو الأولى بالتصرّف.
وتقول: (جاء المولى) وتقصد به جاء السيِّد أو من هو ذو رفعة في الدين.
وعليه فنحن نسأل الگاطع وأتباعه: ما معنى كلمة (المولى) الواردة في الرواية؟ هل هو بمعنى السيِّد أم العبد؟ أي هذا (المولى) الذي يُسمَح له برؤية الإمام، ويعلم بموضعه، سيِّد للإمام (عليه السلام) أو هو رقّ وخادم له؟
وبما أنَّ المعنى الأوَّل مستحيل على من يعرف حقَّ الإمام (عليه السلام)، بل ومن أشدِّ معاني الجحود والانحراف في العقيدة، وإنَّكم لا تستطيعون التصريح بهذا المعنى والحمد لله، فيتعيَّن الثاني، وهو أنَّ المولى الذي يلي أمر الإمام (عليه السلام) هو خادمه أو عبده بالمعنى الآخر.
ثانياً: هناك عدَّة مقدّمات:
الأُولى: أنَّ معجزة طول العمر من مزايا الإمام المهدي (عليه السلام)، وقد صرَّحت بذلك الروايات المتواترة، ولم يُذكر لنا دليل واحد أنَّ أحداً آخر ممَّن يعمل تحت قيادة الإمام (عليه السلام) حصلت له هذه المعجزة أو ستحصل له إلَّا الخضر (عليه السلام) الذي دلَّت بعض الأخبار على أنَّه من أنصار الإمام (عليه السلام)، وقد قلنا بطول عمره بدليل خاصّ.
الثانية: أنَّ الرواية التي تحدَّثت عن رؤية المولى الذي يلي أمر الإمام (عليه السلام) مطلقة من جهة الزمان، ولم تُقيِّد أنَّ رؤيته له واطّلاعه على موضعه في زمن دون آخر.
فيلزم من هاتين المقدّمتين أحد أُمور ثلاثة:
الأوَّل: أنَّ الإمام (عليه السلام) لم يرَه ولم يطَّلع على موضعه أحد طوال فترة غيبته حتَّى التقى به الهمبوشي في سنة (1430هـ/ 1999م) حسب ادِّعائه، فتكون النتيجة أنَّ الإمام لم يطَّلع على موضعه أحد طوال فترة (1030) سنة تقريباً.
الثاني: أنَّ أحمد إسماعيل الهمبوشي كان ملازماً للإمام طول فترة غيبته، وعلى ذلك فلا بدَّ من مساواته للإمام (عليه السلام) في عمره، وهذا واضح البطلان، لأنَّ الهمبوشي وُلِدَ في سنة (1968م)، وقبل معرفته بالإمام حسب زعمه لم يكن هو المولى المشار إليه في الرواية، فلا بدَّ أن يكون هناك مولى آخر للإمام يتولّى خدمته، وتبدُّل المولى بعد ذلك إلى الهمبوشي لا دليل عليه، إلَّا إذا أثبت الهمبوشي أنَّ المولى السابق مات، وهذا لم يُثبِته الهمبوشي ولا أتباعه.
الثالث: أنَّ هناك عدَّة أشخاص يقومون بهذه المهمَّة، فيكون في كلِّ جيل من هو مستحقّ لمرافقة الإمام (عليه السلام) ومطَّلع على محلِّه.
أمَّا الأمر الأوَّل وكما مرَّ في المقدّمة الثانية أنَّ لسان الرواية ظاهر في الإطلاق من جهة تحديد رؤية المولى للإمام واطّلاعه على موضعه في زمن معيَّن، ولا توجد قرينة متَّصلة ولا منفصلة تُقيِّد هذا الإطلاق، بل بالعكس هناك أدلَّة خارجية تُؤكِّد أنَّ في كلِّ جيل يُوجَد من هم متَّصلون بالإمام (عليه السلام)، والظهور حجَّة بالإضافة إلى تلك الأدلَّة.
أمَّا الأمر الثاني فلا يحتاج إلى إطالة، فهو رغم افتراءاته الكثيرة يعترف أنَّه رأى الإمام (عليه السلام) أوَّل مرَّة في سنة (1430هـ)، وأنَّه وُلِدَ في سنة (1968م)، وأعمامه وإخوته يشهدون على ولادته في هذا الزمن. إذن رغم أوهامه التي ملأت كتبه فهو يعترف أنَّه لم يستطع ادِّعاء أنَّه مرافق للإمام (عليه السلام) منذ بداية غيبته.
وأمَّا الأمر الثالث وبعد ثبوت أنَّ رؤية المولى للإمام (عليه السلام) مطلقة من جهة الزمان، ولا بدَّ من ملء الفترات التي سبقت الهمبوشي والتي بلغت (1160) سنة، وأنَّ الهمبوشي جديد العهد في هذه الدنيا ولم يمتدّ عمره ليُغطّي فترة الغيبة كلّها، فلا يبقى إلَّا احتمال وجود أشخاص متعدِّدين يكون في كلِّ جيل منهم (مولى) يطَّلع على موضع الإمام (عليه السلام) ويلي أمره، فهل في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ما يُؤكِّد هذا المعنى؟
نعم هناك عدَّة روايات يمكن أن يستفاد منها ذلك، منها ما رواه الكليني (رحمه الله) عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن ابن محبوب، عن إسحاق بن عمّار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (للقائم غيبتان: إحداهما قصيرة والأُخرى طويلة، الغيبة الأُولى لا يعلم بمكانه فيها إلَّا خاصَّة شيعته، والأُخرى لا يعلم مكانه فيها إلَّا خاصَّة مواليه)(121).
ورواه النعماني (رحمه الله) عن أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة، عن علي بن الحسن التيملي، عن عمر بن عثمان، عن الحسن بن محبوب، عن إسحاق بن عمّار أيضاً، وقد جاء بعد صدر الرواية السابقة: (فالأُولى يعلم بمكانه فيها خاصَّة من شيعته، والأُخرى لا يعلم بمكانه فيها إلَّا خاصَّة مواليه في دينه)(122).
الخلاصة:
1 - الموالي جمع مولى.
2 - الروايتان مطلقتان من جهة الزمان.
3 - الزمن المعنيّ طوله (1160) سنة تقريباً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(121) الكافي 1: 340/ باب في الغيبة/ ح 19.
(122) الغيبة للنعماني: 175/ باب 10/ فصل 4/ ح 1.
4 - لم يثبت بدليل صحيح أنَّ أحداً امتدَّ عمره ليكون مساوياً لعمر الإمام (عليه السلام) إلَّا الخضر (عليه السلام) كما ذكرنا.
5 - عمر أحمد إسماعيل لا يُغطّي سوى (45) سنة من مدَّة عمر الإمام (عليه السلام) المديد.
فيتعيَّن: أنَّ في كلِّ جيل يوجد مولى له (عليه السلام) مطَّلع على موضعه ويلي أمره.
وبعد ثبوت هذه النتيجة نسألكم: قلتم بعد تأويلكم لمعنى المولى الذي يلي أمر الإمام (عليه السلام): هو من يملؤها قسطاً وعدلاً. بعد تفسيركم المشوَّه وحصركم معنى أمر الإمام (عليه السلام) هو مهمَّته الإلهية، فمهمَّته الإلهية واحدة وهي ملء الأرض قسطاً وعدلاً. والسؤال: أيٌّ من هؤلاء الموالي المتعدِّدين يملؤها قسطاً وعدلاً؟
وهل كان أبو الحمراء(123) مولى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يلي أُمور الرسالة دون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟
وهل كان قنبر(124) مولى أمير المؤمنين (عليه السلام) يلي أمر ولايته وخلافته أم كان مولى بمعنى الخدمة وقضاء شؤونه الخاصَّة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(123) خادم فارسي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومن أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، روى عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) حديث المعراج، قيل: إنَّ اسمه هلال بن الحارث، وله روايات تدلُّ على أنَّه من حسان الصحابة، وله روايات مفصَّلة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) وخلافته. (أُنظر: مستدركات علم رجال الحديث 8: 367 و368/ الرقم 16830).
(124) من خواصِّ أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومولاه، مشكور ثقة عدل، عدَّله علي في قبول شهادته عند شريح كما في الرواية الصحيحة المرويَّة في التهذيب، وكان محبَّاً مخلصاً له (عليه السلام)، وعُدَّ من أركان التابعين، روى الكشّي (رحمه الله) روايات في مدحه وجلالته، قتله الحجّاج. (أُنظر: مستدركات علم رجال الحديث 6: 281 و282/ الرقم 11896).
وهل كان مسرور الطبّاخ(125) من قام بمهامِّ إمامة الإمام الهادي (عليه السلام) حين كان مولى له؟
والأمثلة في تبيين معنى المولى الذي يلي الأمر كثيرة جدَّاً، ولا تحتاج إلى أيِّ برهان إلَّا لمن أعمى الله قلبه وأصمَّ سمعه وأضلَّه على علم، (وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (فصِّلت: 46).
ولا يبقى محيص لمن أراد أن يحفظ مقام إمام زمانه إلَّا فهم معنى المولى الذي يلي أمر الإمام (عليه السلام) بمعنى أنَّه رقٌّ له أو خادم يرعى شؤونه الخاصَّة.
وأمَّا كلمة (يلي) فلها عدَّة معاني، وهي من هذه الناحية متشابهة، ومن معانيها التولية، فإذا قام إنسان بعمل ما سواء من عند نفسه أو بتكليف من غيره فهو يتولّى ذلك العمل. وهذا هو المتبادر من هذه العبارة في الرواية.
وهناك معنى آخر وهو: الاتّباع كما نقول: (زيد يلي عمراً)، أي يأتي بعده ويتبعه، سواء كان في الزمان أو المرتبة أو غير ذلك، ويُفهَم معنى موضوع التتابع من خلال سياق الكلام والمناسبة بينهما.
وشرط فهم معنى التتابع هو أن يضاف التابع للمتبوع لا أن يضاف إلى شأن من شؤونه، فعند ذلك يتغيَّر هذا المعنى ويُحمَل على ما أُضيف إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(125) مولى أبى الحسن الهادي (عليه السلام)، وهو ممَّن وقف على معجزة صاحب الزمان (عليه السلام) ورآه كما ذكره الصدوق (رحمه الله) في كتابه كمال الدين، وهو مورد عناية الإمام وإحسانه، حيث بعث إليه صُرَّة فيها اثنا عشر ديناراً لدفع ضيقة كانت به. (أُنظر: مستدركات علم رجال الحديث 7: 402/ الرقم 14860).
وحيلتهم هنا هو تأويلهم معنى (يلي) بمعنى التتابع، وإذا رجعنا إلى العبارة الواردة في الرواية نجد أنَّ المولى لم يُضَف إلى الإمام (عليه السلام) حتَّى يصدق معنى التتابع، بل أُضيف إلى شأن من شؤونه، بل إلى أوسع معنى يمكن أن يضاف إليه وهو معنى الأمر، ويمكن تحديد نوع الأمر المقصود من خلال السياق في الرواية. وهو: (واضح جدَّاً في وجود خادم له يرعى شؤونه الخاصَّة، ويعرفه على حقيقته. ويمكننا أن نفهم انطلاقاً من أُطروحة خفاء العنوان أنَّ المهدي (عليه السلام) يعيش بشخصيته الثانية في المجتمع وبشخصيته الحقيقية مع خادمه)(126).
وأمَّا (الأمر) الذي يليه المولى، فإنَّ معنى الأمر من أكثر المعاني المتشابهة شيوعاً، فهو يصدق على الأوامر، ويصدق على الأشياء بأن نُسمّيها أمراً، كما ثبت ذلك في مباحث الألفاظ. وبما يتعلَّق بالإمام تبدأ بالأُمور الشخصية كمساعدته في إعداد طعامه ووسائل راحته أو تبليغ أوامر الإمام (عليه السلام) الخاصَّة لمواليه، وكثير من الشؤون الخاصَّة بالأُمور الرسالية المتفاوتة المستويات. وهي مراتب ومستويات من يستحقّون تلقّي أوامر الإمام (عليه السلام)، والتي لا يعلم بتفاصيلها إلَّا الله تعالى ووليّه والخُلَّص من أصحابه.
فكيف وعلى أيِّ ميزانٍ علمي لغوي أو عقائدي حصرتم معنى أمر الإمام (عليه السلام) بأعلى وأكبر أهدافه، وهي ملء الأرض قسطاً وعدلاً؟ والثابت في عشرات الروايات أنَّ هذه المهمَّة لا يقوم بها غيره، وهو من ادُّخر لأجلها، ولو كان عندهم أدنى درجة من الاحترام لمقام صاحب الأمر (عليه السلام) لعرفوا أنَّ المراد من (أمره) الوارد في الرواية هو: شؤونه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(126) تاريخ الغيبة الكبرى: 135.
والمراد من (المولى) هو خادمه، وذلك بقرينة (مولاه) التي تكون بمعنى خادم له.
والقرينة الأُخرى التي يُقِرُّها السياق، أنَّ هذا المولى ذُكِرَ في سياق من يطَّلع على موضع الإمام، وهذا أكبر مقام أشارت له الرواية يتعلَّق بالمولى، فأين المولى الذي له شرف الاطّلاع على موضع الإمام (عليه السلام) من بقيَّة الله في الأرض التي لا تخلو من العترة الهادية؟
فإن كنتم لا تستحون من الله ورسوله وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) في الافتراء عليهم واتّباع المتشابه من كلامهم وفق أضاليل وتأويلات باطلة ادَّعاها شخص تجهلون حتَّى شخصه. وأُقسم بربِّ السماء إنَّ أكثركم سيأتي له اليوم الذي يلعن فيه الساعة التي عرف فيها اسم الهمبوشي وأشباهه، فإن لم تستحوا من ذلك احترموا على الأقلِّ تلك الأجساد الطاهرة التي قُطِّعت، وتلك الحرم التي سُبِيَت من أجل وصول البشرية إلى ذلك اليوم الذي يظهر فيه قائم آل محمّد (عليه السلام) الذي ادَّخره الله لهذه المهمَّة الكبرى.
الرواية الثانية:
عن الوليد بن صبيح، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إنَّ هذا الأمر لا يدَّعيه غير صاحبه، إلَّا تبَّر الله عمره)(127).
حاولوا من خلال هذه الرواية تطبيق معنى الوصيّ الذي يستلم بعد أبيه في رواية الغيبة على أحمد إسماعيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(127) الكافي 1: 373/ باب من ادَّعى الإمامة وليس لها بأهل/ ح 5؛ وفي الإمامة والتبصرة: 136/ ح 152 ورد: (بتر الله عمره).
عندما سمعت بهذه الدعوة في أوَّل مرَّة قبل عدَّة سنوات التقيت بأحد الدعاة لها، وسألته عن حجَّتهم، فبادرني برواية المهديين: (فليُسلِّمها إلى ابنه أوَّل المقرَّبين...) الرواية، فسألته: وما هو الربط بين هذه الرواية ودعوتكم؟ فأجاب: إنَّ أحمد الحسن(128) هو ابن الإمام المهدي. قلت له: وما هو دليلك في ذلك؟ قال: للرواية التي تقول: (إنَّ هذا الأمر لا يدَّعيه غير صاحبه). سألته: هل أنت متأكِّد من هذه الرواية؟ قال: بكلِّ تأكيد.
ولكون هذا الشخص ممَّن أثق بنقله، لم أُدقِّق في حينها في مداليل الرواية، وأخذت أذكر له بعض الأشخاص الذين ادَّعوا هذا الأمر. فأجاب مسرعاً: نعم هم كثير، لكن لم يحتجّ أحد بالوصيَّة، وصاحبنا هو الوحيد الذي يدَّعي ذلك.
ولمَّا رجعت بعد فترة إلى مصادر الرواية دُهِشت حقيقةً ممَّا وجدته، حيث وجدت أنَّ صاحبي الذي أثق به قد اقتبس من الرواية ما يُعجِبه وترك الباقي، لأنَّ القسم الذي تركه ينافي استدلاله بهذه الرواية، فبتروا كلام المعصوم ليحتالوا على أولياء المعصوم، ولا أعلم أيّ الجرمين أعظم عند الله.
وحين ينقلون هذه الرواية في كتبهم يذكرونها كاملة، ولكن عند الاستدلال فيها يعتمدون على الشقِّ الأوَّل، ولا يلتفتون إلى الشقِّ الأخير منه، وهو قوله: إلَّا تبَّر أو بتر الله عمره، وكأنَّه لم يوجد في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(128) أحمد الحسن هو نفسه أحمد إسماعيل غيَّر لقبه ليتشبَّه باسم الإمام المهدي (عليه السلام) باعتباره ابن الحسن العسكري (عليه السلام)، وهذا الفعل منه التفافاً على اسم الإمام (عليه السلام) بعد أن انتهى من ادِّعاء كلّ مهامّه ومناصبه (عليه السلام).
الرواية، مع أنَّ مدلول الرواية كلّه يتغيَّر إذا أُضيف له مدلول الشقِّ الأخير منها، لأنَّ أتباع الهمبوشي لا يستطيعون إثبات حياته، لاحتمال أنَّ الله تعالى بتر عمره، لكونه كاذباً مدَّعياً للإمامة.
قال المعصوم (عليه السلام): (إنَّ هذا الأمر لا يدَّعيه غير صاحبه، إلَّا بتر الله عمره)، فذكر لي صاحبهم كما ذكروه في كتابهم جامع الأدلَّة (ص 215)، حيث قالوا بعد ذكر هذه الرواية: (إذن الوصيَّة لا يدَّعيها غير صاحبها، والسيِّد أحمد (حسب تعبيرهم) احتجَّ بأنَّه صاحب الوصيَّة (النتيجة) إذن هو صاحبها والمعنيُّ بها)، فيذكرون في محاوراتهم ويستدلّون في كتاباتهم بالقسم الأوَّل ويخفون القسم الأخير من الرواية.
وما هي سوى حيلة من حيل الدجّالين، وما أوهنها إلَّا على من عصَّبوا أعين قلوبهم بجهالة الاستعجال، وأصمّوا آذان وعيهم بسدادة الغفلة. وإلَّا كيف يقاس منطق آل محمّد (عليهم السلام) وكلامهم بجهالات أُولئك، ارجعوا قليلاً وتأمَّلوا في كلام أهل بيت العصمة (عليهم السلام) ومواعظهم، وانصفوهم من أنفسكم، وقارنوه بكلام أحمد إسماعيل، وكفى بذلك دليلاً لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وحيلتهم في ذلك هي أنَّهم استغلّوا اعتقاد أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّ إخبار المعصوم (عليه السلام) هو إخبار عن الله تعالى، ولهذا افتروا على المعصوم، فزعموا أنَّه ينفي أن يدَّعي الوصيَّة غير صاحبها، وقالوا: إنَّ المراد بقوله: (هذا الأمر) هو الوصيَّة، مع أنَّ المراد به هو الإمامة لا الوصيَّة.
وعدم ذكر المقطع الأخير - وهو: (إلَّا بتر الله عمره) - أو عدم اعتباره في الدليل وكأنَّه لم يوجد في الحديث يُوهِم السامع أنَّ
المعصوم (عليه السلام) يُصرِّح بأنَّ كلّ من يدَّعي الوصيَّة فهو صاحبها، وبما أنَّ أحمد إسماعيل قد ادَّعي الوصيَّة فهو صاحبها وهو صادق في دعواه.
فإذا أضفنا للحديث المقطع الذي حذفه صاحبي السابق، وكذلك فعل صاحب كتاب جامع الأدلَّة، من حيث ذكر الأخير الحديث كلّه ولم يستدلّ إلَّا بالمقطع الأوَّل وكأنَّ المقطع الثاني لم يوجد، وهو (إلَّا بتر الله عمره)، وعند إدخال معنى هذا المقطع في الاستدلال سيتغيَّر المعنى كلّياً وسيتَّضح تلاعبهم واستهانتهم بكلام المعصوم (عليه السلام) من خلال الردود التالية:
الردُّ الأوَّل: على دعواهم أنَّ مجرَّد ادِّعاء هذا الأمر هو حجَّة:
أسألكم: ما هو المقصود من (هذا الأمر) في الرواية؟ هل هو الخلافة أم الإمامة أم الوصيَّة أم غيرها من المعاني الخاصَّة بالأئمَّة (عليهم السلام)؟ ونحن على علم أنَّها من حيل الگاطع وألاعيبه بعقول الناس المساكين، حيث يريد أن تُهيَّأ عقولهم لتقبل أنَّ الرواية خاصَّة بالوصيَّة، وهذا من أباطيلك وحيلك المفضوحة، ولو كان لديك ذرَّة إنصاف ورجعت إلى كلمات أهل البيت (عليهم السلام) وهم أدرى بما يقولون لكان جوابهم كالتالي: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وصيّ خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلم) حينما قيل له: بايع أبا بكر: (أنا أحقُّ بهذا الأمر منه، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من الرسول وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً، ألستم زعمتم للأنصار أنَّكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فأعطوكم المقادة وسلَّموا لكم الإمارة؟ وأنا احتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، أنا أولى برسول الله حيَّاً وميِّتاً، وأنا وصيّه ووزيره ومستودع سرّه وعلمه...)(129).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(129) الاحتجاج 1: 95.
والمأخوذ كما هو واضح هو الخلافة وليس الوصيَّة ولا الإمامة، ومع ذلك عبَّر عنها الإمام بـ (هذا الأمر).
وروى أبو مخنف، عن عبد الرحمن بن جندب، عن أبيه، قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) وكنت حاضراً بالمدينة، فإذا هو واجم كئيب، فقلت: ما أصاب قوم صرفوا هذا الأمر عنكم، فقال: (صبر جميل...)(130).
وفي هذه الرواية أيضاً عبَّر الإمام (عليه السلام) عن المصروف عنهم (عليهم السلام) بـ (هذا الأمر)، والمصروف عنهم هو الخلافة وليس غيرها.
وروى الصفّار (رحمه الله) عن علي بن إسماعيل، عن موسى بن طلحة، عن حمزة بن عبد المطَّلب بن عبد الله الجعفي، قال: دخلت على الرضا (عليه السلام) ومعي صحيفة أو قرطاس فيه عن جعفر (عليه السلام): (إنَّ الدنيا مثّلت لصاحب هذا الأمر في مثل فلقة الجوزة)، فقال: (يا حمزة، ذا والله حقّ، فانقلوه إلى أديم)(131).
وعن محمّد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن سماعة بن مهران، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إنَّ الدنيا تمثّل للإمام في فلقة الجوز، فما تعرض لشيء منها، وإنَّه ليتناولها من أطرافها كما يتناول أحدكم من فوق مائدته ما يشاء، فلا يعزب عنه منها شيء)(132).
عبَّر الإمام الرضا (عليه السلام) في الرواية الأُولى بـ (صاحب هذا الأمر)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(130) الشافي في الإمامة 4: 212.
(131) بصائر الدرجات: 428/ ج 7/ باب 14/ ح 2.
(132) بصائر الدرجات: 428/ ج 7/ باب 14/ ح 3.
وعبَّر الإمام الصادق (عليه السلام) بدل صاحب هذا الأمر بـ (الإمام)، والرواية واحدة صدرت عن إمامين.
إذن الأئمَّة (عليهم السلام) يستعملون لفظ (هذا الأمر) ويريدون به تارةً الخلافة، وأُخرى الإمامة، ولم يُصرِّحوا أنَّ هذا الأمر يختصُّ بالوصيَّة، وليس في الرواية المعنيَّة قرينة تصرف معنى (هذا الأمر) إلى خصوص الوصيَّة إلَّا الافتراءات الفاضحة للهمبوشي وجماعته، الذين خصَّصوه بالوصيَّة من غير أيِّ قرينة على ذلك لا متَّصلة ولا منفصلة تجعل كلمة (هذا الأمر) بمعنى الوصيَّة، ومن غير أن يرجعوا في ذلك إلى استعمال الأئمَّة (عليهم السلام) في تحديد معنى هذا الأمر، ورتَّبوا على ذلك أهمّ مقدّمات دعوتهم الباطلة، وهو قولهم: (إذن الوصيَّة لا يدَّعيها غير صاحبها)، وقد تبيَّن أنَّ الأئمَّة يستعملون (هذا الأمر) في الخلافة والإمامة، ولا يستعملونها في الوصيَّة، فيمكن القول: إنَّ الخلافة لا يدَّعيها غير صاحبها، وإنَّ الإمامة لا يدَّعيها غير صاحبها، وإذا زعموا أنَّ المراد بـ (هذا الأمر) هو الوصيَّة يلزمهم المحذور الآتي:
وهو أنَّنا نقول: إنَّ أبا بكر ادَّعى هذا الأمر، وكذلك عمر وعثمان ومعاوية ويزيد، والقائمة طويلة، ووفقاً لدليل الگاطع وأتباعه فإنَّ كلَّ هؤلاء أصحاب حقٍّ، لأنَّهم ادَّعوا (هذا الأمر) الذي كما عرفنا إنَّ أهل البيت (عليهم السلام) استعملوه في الإمامة والخلافة، وبما أنَّ هؤلاء مدَّعون غاصبون لحقِّ الأئمَّة (عليهم السلام)، إذن ليس كلُّ من يدَّعي هذا الأمر هو صاحبه، إلَّا أن تقولوا بصحَّة دعوة هؤلاء، فهذا كلام آخر.
ومعنى الرواية هو: كلُّ مدَّعٍ لهذا الأمر سيبتر الله عمره غير صاحبه، أو كلُّ مدَّعٍ لهذا الأمر زوراً سيبتر الله عمره، أو من يدَّعي هذا
الأمر من غير أهله فعقوبته بتر العمر، كقول السجّاد للباقر (عليهما السلام): (يا بنيّ، إنّي جعلتك خليفتي من بعدي، لا يدَّعيها في ما بيني وبينك أحد إلَّا قلَّده الله يوم القيامة طوقاً من النار)(133).
وقوله (عليه السلام) لعمّه محمّد بن الحنفية حين طالب بهذا الأمر بعد استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام): (... فلا تتعرَّض لهذا، فإنّي أخاف عليك نقص العمر وتشتّت الحال...)(134).
فإنَّ الجملة الأُولى: (لا يدَّعي هذا الأمر غير صاحبه) أي لا يتحقَّق ادِّعاء للإمامة من مُدَّعٍ غير صاحبها المستحقّ لها، استثنى الإمام الحقّ وهو صاحب الإمامة المنصوص عليه ليخرج عن الحكم الذي سوف يأتي بعد ذلك، ثمّ بيَّنت الرواية جزاء من يفعل ذلك: (إلَّا بتر الله عمره)، وبعد الاستثناء بـ (غير) أصحاب الأمر الذين نصبهم الله تعالى ينصبُّ حكم (البتر الأعمار) على المدَّعين للإمامة بغير حقٍّ وينحصر فيهم، والاستثناء بعد النفي يفيد الحصر كما يقول أهل العربية. والمنفي حقيقةً هو الادِّعاء بدون البتر أي (لا يدَّعي... إلَّا بتر)، وبعبارة أُخرى ليس هناك ادِّعاء من غير بتر.
وهذا ما حصل ولله الحمد لأصحاب أحمد إسماعيل فعلاً، إذ بتر الله عمر حيدر مشتَّت وضياء الگرعاوي وغيرهم ممَّن ادَّعوا هذا الأمر.
ويُؤيِّد ذلك طريقة دعاء الأئمَّة (عليهم السلام) على من يدَّعي مقاماً يرتبط بهم (عليهم السلام) زوراً، فقد ورد في دعاء الإمام المهدي (عليه السلام) على أحمد بن هلال حين ادَّعى السفارة عنه (عليه السلام)، قوله: (وأمَّا ما ذكرت من أمر الصوفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(133) كفاية الأثر: 241.
(134) بصائر الدرجات: 522/ ج 9/ باب 17/ ح 3.
المتصنِّع - يعني الهلالي - فبتر الله عمره)، ثمّ خرج من بعد موته: (فقد قصدنا، فصبرنا عليه فبتر الله تعالى عمره بدعوتنا)(135).
فليس هو إخبار من المعصوم (عليه السلام) بأحقّية كلّ من يدَّعي الوصيَّة كما تدَّعون، بل تحذير وزجر ببيان عقوبة من يدَّعي هذا الأمر كذباً وزوراً، وفرق كبير بل تباين بين المعنيين. كالتطويق بالنار في الآخرة لمن يدَّعي الإمامة أو الخلافة كذباً وافتراءً كما مرَّ.
وبتر العمر ونقصانه وشتات أمره عقوبة في الدنيا، فيكون معنى الرواية وفق القراءة الكاملة لنصِّ المعصوم (عليه السلام) كالتالي:
إنَّ كلَّ من يدَّعي (هذا الأمر) كالإمامة والخلافة والوصيَّة بغير حقٍّ، فإنَّ عقوبته الحتميَّة هي أن يبتر الله عمره.
ووفقاً لافترائهم: إنَّ كلَّ من يدَّعي الوصيَّة فهو صاحبها.
وشتّان ما بين التفسيرين.
وحجَّتهم في ذلك كمن يحتجُّ بأنَّ الله تعالى مجده يشهد بأنَّه غير موجود بقوله: (لا إِلهَ) من قوله تعالى: (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25).
(أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة: 85).
الردُّ الثاني: احتجاجهم ببقائه حيَّاً رغم ادِّعائه:
وقالوا: إنَّ دليلنا من الرواية هي أنَّ الله يبتر عمر من يدَّعي هذا الأمر إلَّا صاحبه، وأحمد إسماعيل هو صاحبه بدليل أنَّه لا زال حيَّاً ولم يبتر الله عمره، أي حجَّتنا هي بقاؤه حيَّاً ولم يُبتَر عمره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(135) كمال الدين: 489/ باب 45/ ح 12.
وجوابه:
نقول لصاحب هذا الدليل: إنَّ صاحبكم استدلَّ بمجرَّد ادِّعاء هذا الأمر فهو الأحقُّ به، بحجَّة أنَّ الإمام (عليه السلام) أخبر بأنَّ الوصيَّة لا يدَّعيها إلَّا صاحبها، وقد ثبت بطلان ادِّعائه، بل وكذبه وتحريف كلام المعصوم (عليه السلام) بإهماله جزءاً من الرواية وكأنَّه لم يوجد والاستدلال بالجزء الآخر. وهذا الذنب يكفيه أن يُخلَّد في العذاب المهين مع أعداء آل محمّد (عليهم السلام)، فإن أصررتَ على هذا الدليل الجديد، وبحسب الموازين العلميَّة والعقليَّة يجب أن تعترف ببطلان ادِّعائكم الأوَّل، لأنَّ القول بهذا الدليل ينافي القول بذلك الدليل.
فإن اعترفت بذلك نقول لك: إنَّ استدلالكم بهذا الحديث يفترض أن يكون لإثبات صحَّة دعوة أحمد إسماعيل، والتي يجب وكما تزعمون أن تُطاع فيها أوامره، ولا يكون ذلك إلَّا في حياته، والقيد المثبت والدليل على حقّيته كما نصَّت عليه الرواية هو عدم بتر عمره، فإذا لم يكن أيّ أثر للگاطع الهمبوشي يدلُّ على أنَّه لا يزال حيَّاً، فلعلَّ الله بتر عمره لكذبه في دعوى الإمامة، فكيف يمكن الاستدلال بهذا الحديث على صحَّة دعوة الهمبوشي مع أنَّ الأولى جعله دليلاً على بطلان هذه الدعوة؟
ويلزم من ذلك أمران باطلان بكلِّ المقاييس الشرعية والعقلائية، وهما:
الأمر الأوَّل: أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) يأمروننا بالضلال والعياذ بالله. وبيان ذلك اللزوم: أنَّكم تقولون: يجب طاعة أحمد إسماعيل الآن وهو حيّ، ودليل صدقه أنَّه لا زال حيَّاً ولم يبتر الله عمره، فإن بتر الله عمره فهو
كاذب، ينتج من ذلك أنَّه إن تحقَّقت العلامة بعد عدَّة سنوات يثبت كذب ادِّعائه. والسؤال هو: ما هو حكم الإنسان الذي اتَّبع هذا الرجل (تطبيقاً لأوامر أهل البيت (عليهم السلام) حسب افترائكم) من حين دعوته إلى حين بتر عمره؟ من المؤكَّد أنَّ هذا الجاهل والمغرَّر به كان ضالَّاً، وقد حارب أهل البيت (عليهم السلام) بدفعهم عن مقامهم، وأزالهم عن مراتبهم التي رتَّبهم الله فيها، وفي نفس الوقت هو اتَّبع هذا المنحرف تلبيةً لأمر المعصوم (عليه السلام). وهل وصل بكم العناد والجهل إلى حدّ أن تنسبوا هذه الأباطيل إلى من طهَّرهم الله تعالى؟ وهل هذا ما ينتظرونه منكم حين ضحّوا بأجسادهم الطاهرة وفلذات أكبادهم وسبي عيالهم ونسائهم؟ وارجعوا إلى أنفسكم وحاسبوها وانصفوهم من أنفسكم، أليسوا هم مهبط الوحي ومختلف الملائكة وخزّان العلم ومنتهى الحلم؟ وهل تصحُّ هذه التناقضات والجهالات ممَّن هذه صفته؟
الأمر الثاني: يلزم تقدُّم المعلول على علَّته، وبيان ذلك: من الثابت شرعاً وعقلاً أنَّ إقامة الحجَّة علَّة لوجوب الطاعة، وتترتَّب الطاعة على وجود الحجَّة وتقدّمها عليها، ومن البديهي أنَّ ما كان علَّة يتوقَّف الشيء على حصوله ووجوده، يكون متقدِّماً زماناً على معلوله وهو وجوب الطاعة. وأنتم تزعمون أنَّ أحمد إسماعيل واجبة طاعته الآن، أي في حياته، ودليل صدقه يتمُّ عند عدم (بتر عمره) الذي هو متأخِّر بطبيعة الحال عن (الآن)، فتقدَّمت الطاعة (المعلول) على الحجَّة (العلَّة)، وهذه القاعدة باطلة بكلِّ المقاييس. وأطلب ممَّن بقي لديه شيء من العقل أن يختبر هذا الأمر مع أطفال صغار حين يسألونه عن طريق شارع معيَّن أو حيّ سكني، ويجيبهم بالجواب التالي ويقول: اذهبوا إلى ذلك المكان
الذي تسألون عنه، فإذا وصلتم إليه تعالوا أُخبركم بمكانه، واعلموا أنَّ جواب ذلك الطفل هو التقييم الحقيقي لدعوتكم.
بالله عليكم أيصدر هذا الأمر من جاهل مغمور، بل أكثر المحتالين والمخادعين سذاجةً لا يتجرَّأ أن ينزل إلى هذا المستوى من الانحطاط الفكري، فكيف تنسبونه إلى أشرف الخلق ومنابع العلم ومعدن الحكمة؟
نعم ربَّما يقول أتباع أحمد إسماعيل گاطع: قد مضل حوالي (١٤) سنة على إعلان دعوة الگاطع ولم يبتر الله عمره، وهذا دليل على صدق دعوته.
والجواب: أنَّنا نقول لهم: لكي تصحّ حجَّتكم لا بدَّ أن تقيموا الدليل على أنَّ الله لم يبتر عمره، لأنَّنا لا نعلم بأنَّه حيّ، فلعلَّ الله بتر عمره، وكلُّ من يحتجُّ بالحديث عليه أن يُثبِت أنَّ الگاطع حيّ في هذا الوقت، ومع الشكِّ في حياته كيف تجعلون حياته دليلاً على صدق دعوته؟!
الردُّ الثالث: وقد سمعت أخيراً أنَّهم استخدموا حيلة جديدة في إضلال الناس بعد ما أعيتهم الحيل أنَّ بتر العمر محصور بأربع سنين فإن لم يمت في الأربع سنين فدعوته صادقة، ودليلهم في حصرهم بالأربع سنين هو علم الحروف، ويدَّعي أنَّه ممَّن اختصَّه أهل البيت (عليهم السلام) بهذا العلم، وادِّعائه اختصاصه به هي من حيله التي يُبهِر بها عقول أتباعه المساكين، فلو اطَّلعوا على المصنَّفات التي أُلِّفت في هذا المجال لأغناهم ذلك في تكذيبه. ويستخدمون هذه الحيلة على من هم أقلّ أصناف أتباعهم اطّلاعاً، ولم يذكروا هذا الاستدلال في كتبهم حسب علمي.
ورغم ذلك نقول لهم: أينما يكن ما ذكروه أو يوسوسون به للغافلين من شيعة آل محمّد (عليهم السلام)، فدعوتهم مردودة بوجوه:
الوجه الأوَّل: أنَّ علم الحروف من العلوم المشهورة ومن بدايات العصر الإسلامي، بل وقبل ذلك، وقد ورد على لسان كثير من المتصوِّفة والفلاسفة، وأُلِّفت فيه عشرات الكتب(136)، وعُرِفَ فيه عدَّة علماء متخصّصين، منهم على سبيل المثال لا الحصر:
أبو العبّاس البوني(137)، صاحب المصنَّفات في علم الحروف، له كتب منها: (شمس المعارف الكبرى) في علم الحروف والخواصّ.
وعلي بن محمّد الهروي(138)، ألَّف كتاب (الأزهية في علم الحروف).
وأبو معشر الفلكي(139)، له كتاب معروف بـ (كتاب أبي معشر الفلكي)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(136) آخر ما قرأت في هذا العلم كتاب (السرُّ الكبير في الحرف الصغير) تأليف الشيخ مسلم الجشعم الرميثي.
(137) هو أحمد بن علي بن يوسف، أبو العبّاس البوني، صاحب المصنَّفات في علم الحروف، متصوِّف مغربي الأصل، نسبته إلى بونة بإفريقية على الساحل، توفّي بالقاهرة سنة (622هـ)، له (شمس المعارف الكبرى) في علم الحروف والخواصّ أربعة أجزاء، وله (اللمعة النورانية) و(المسك الزاهر) في علم الحرف، و(شمس المعارف الوسطى)، و(شمس المعارف الصغرى)، و(مواقف الغايات في أسرار الرياضيات). (أُنظر: الأعلام للزركلي 1: 174).
(138) هو علي بن محمّد أبو الحسن الهروي، عالم باللغة والنحو، من أهل هراة، سكن مصر، وقرأ على الأزهري، له كتب، منها: (الذخائر في النحو) كان في حوالي أربعة جزاء، وجمع ما تفرَّق فيه وسمّاه (الأزهية في علم الحروف)، و(المرشد) في النحو، و(المذكَّر والمؤنَّث)، توفّي سنة (415هـ). (أُنظر: الأعلام للزركلي 4: 327).
(139) هو جعفر بن محمّد بن عمر البلخي أبو معشر، عالم فلكي مشهور، كان أوَّلاً من أصحاب الحديث، وتعلَّم النجوم بعد سبع وأربعين سنة من عمره، قال القفطي في وصفه: عالم أهل الإسلام بأحكام النجوم، وكان أعلم الناس بتاريخ الفرس وأخبار سائر الأُمم، وعمَّر طويلاً، جاوز المئة، أصله من بلخ في خراسان، أقام زمناً في بغداد ومات بواسط سنة (272هـ)، تصانيفه كثيرة، منها: (كتاب الطبائع)، و(المدخل الكبير)، و(القرانات)، و(الأُلوف في بيوت العبادات)، و(مواليد الرجال والنساء)، وغيرها. (أُنظر: الأعلام للزركلي 2: 127).
ذكر في مقدّمته عدَّة فصول خاصَّة بحساب الحروف، مثلاً لمعرفة الشريك والرفيق والإخوة، وفصل في حساب المريض ومعرفة أحوال المسافر والغائب وأوقات الولادة وقضاء الحوائج، وفصل في معرفة الغالب والمغلوب، قال: إذا أردت أن تعرف ذلك فاحسب اسم كلّ واحد منهما على حدته وأسقطه (9-9)، وبيَّن طريقة كلّ قسم، ومن أراد الاطّلاع على فنون هذا العلم فليراجع المطوَّلات من كتبه، ليقف على افتراءات الگاطع الهمبوشي، ولا ينطلي قوله: (إنَّه ممَّن اختصَّ بهذا العلم) إلَّا على من لم يطَّلع على المصنَّفات التي كُتِبَت في هذا العلم، التي اشتملت على التنبّؤ بكثير من حوادث التاريخ.
واستعمل الشيخ المجلسي (رحمه الله) هذا العلم بتطبيقه على الحروف التي في بداية السور لمحاولة معرفة توقيت ظهور الإمام (عليه السلام)(140).
حتَّى وصل الأمر إلى تطبيق بعض الأحزاب السياسية عمليات هذا العلم لإثبات أحقّيتها في الانتخابات، وحاول أتباع محمود الصرخي تطبيقه على صدق دعوته، وكذا حيدر مشتَّت (المدَّعي أنَّه القحطاني) الذي ملأت تطبيقاته إصداراته، وزعم أيضاً أنَّ هذا من العلوم الخاصَّة به.
هذا من حيث كذب انحصار هذا العلم به.
الوجه الثاني: وينقسم هذا الوجه إلى قسمين:
القسم الأوَّل: لا يمكن إثبات أُصول العقائد بتطبيقات علم الحروف:
أمَّا تطبيقه فله عدَّة طرق كما بيَّنه أهله، كالأبجد الصغير والأبجد الكبير وغيرهما، وله أُصول وأسرار ترتبط بأحرف الكتاب المقدَّس، وقد وردت تطبيقات على الأحرف التي في بدايات السور المباركة له، وكما أنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(140) راجع: بحار الأنوار 52: 107 - 109.
له تطبيقات حقَّة لكنَّها ليست هي المدار في معرفة الحقّ من أُصول الدين وفروعه، ولو كانت كذلك لبيَّن لنا المعصوم (عليه السلام) وخصوصاً الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومن قبل ربُّ العزَّة سبحانه، ولصرَّحوا لنا بذلك بوضع قواعد صريحة ومحكمة، وأمروا الناس بالتعبّد لله تعالى بتلك العلوم لكي تكون حجَّة عليهم حين عصيانه بها، لأنَّ لله الحجَّة البالغة على خلقه، قال تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء: 165).
وأمَّا تطبيق المعصوم لها، فلأنَّه معصوم ومفترض الطاعة قبل ذلك وولايته ثابتة بدليل مسبق يقيني لا يقبل أيّ تأويل إلَّا من في قلبه زيغ وأتبعه الشيطان وكان من الغاوين، ويُقبَل تطبيقهم (عليهم السلام) لأنَّهم كذلك، وليس لأنَّهم أظهروا تطبيقات لهذا العلم، ولا تثبت ولايتهم (عليهم السلام) لإظهارهم هذا العلم، أي إنَّ علم الحروف يكون هو دليل ولايتهم، إنَّما هذه من حيلكم، وحين تنسبون هذا العلم لأهل البيت (عليهم السلام) تريدون خداع العامَّة باشتراككم معهم (عليهم السلام) في إظهار هذا العلم، ثمّ لم تُبيِّنوا لهم الفرق بين هدفكم من إظهاره وهدف المعصوم (عليه السلام) من عدم الخوض فيه، ففرق كبير بل هناك تباين بين الهدفين، إذ أنَّكم تريدون إثبات أساس دعوتكم بتطبيق هذا العلم، والذي لم يوضع بالأساس لهذا الهدف، أي إثبات العقائد أو الأحكام الدينية، وهذا كلّه إذا كانت تطبيقات أهل بيت العصمة (عليهم السلام) تشبه تطبيقات غيرهم.
القسم الثاني: كما أنَّ لهذا العلم تطبيقاته الخاصَّة، ولكن خاصَّة بأهل بيت العصمة (عليهم السلام)، وإلَّا لبيَّنوها لأوليائهم لتكون حجَّة لهم وعليهم كما عرفنا، ولكن هناك تطبيقات خاطئة ومتعمِّدة الخطأ، إذ أنَّ
لهذا العلم في تطبيقه على موضوع معيَّن ينتج احتمالات كثيرة جدَّاً، وهذه هي فرصة المخادعين ومتَّبعي المتشابه في نصب فخاخ (تعدُّد الاحتمالات) واستدراج عقول الغافلين إلى ما يريدون من هدف، مثلاً إذا أردت أن تُثبِت أنَّ (أحمد إسماعيل ضالّ)، فجرِّب عدَّة جمل تناسب هذا المعنى المراد إثباته، كأحمد إسماعيل منحرف، أو إنَّه زائغ قلبه، أو إنَّه متَّبع للشيطان، أو إنَّه عدوّ الإمام المهدي (عليه السلام)، ثمّ احسب حروف هذه الجمل إلى أن تصل إلى جملة يتطابق عدد حروفها حسب علم الحروف مع جملة أحمد إسماعيل ضالّ، فإن وجدت جملة من هذه مناسبة أعلنت للناس أنَّ عندي دليلاً ضدّ هذا الرجل، ودليلي علم الحروف الذي هو سرّ، وكان يستعمله أهل البيت (عليهم السلام)، وهكذا يستعمل أُولئك تطبيق هذا العلم، ويُمرِّرون حيلهم على الناس لجهلهم بهذه الألاعيب الشيطانية.
وبعد أن عرفنا سابقاً أنَّ معنى (هذا الأمر) متساوي في استعمال أهل البيت في (الإمامة والخلافة)، وعليه تكون هذه المعاني بالنسبة لمتعلَّقها وهو (الادِّعاء الباطل) ما يترتَّب على ذلك المتعلَّق وهو (جزاء الادِّعاء الباطل) أيضاً واحد بالنسبة للمعاني الثلاثة وهو (بتر العمر)، فقد ادَّعى الخلافة كثيرون، وقد تجاوزت فترات بعضهم في اغتصابهم حقّ الأئمَّة أكثر من عشر سنوات كما هو واضح من تاريخ خلفاء بني أُميَّة وبني العبّاس وحتَّى من سبقهم.
إذن أُكذوبة تحديد الأربع سنوات حسب سخافاتك مكشوفة، ولم تعد تجدي نفعاً.
الردُّ الأخير: في معنى هذه الرواية: من قال: إنَّ مضمون هذه الرواية جاء لتوضيح علامة على شخص صاحب هذا الأمر؟ وبعد
التذكير بأنَّ هذه الرواية حسب ما برهنّا قبل قليل جاءت محذِّرة ومبيِّنة لعقوبة من يدَّعي هذا الأمر ظلماً وعدواناً.
نقول: أليست وظيفة العلامة هي تبيين ما خفي من الأُمور، والمبيِّن للأشياء لا بدَّ أن يكون بيِّناً وواضحاً بنفسه، وإنَّ الموت من الأُمور المخفيَّة على الناس، قال تعالى: (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (لقمان: 34).
ونحن نعلم أنَّ أسباب الموت كثيرة جدَّاً، وليس هناك قانون ثابت يُحدِّد الأعمار المشمولة لتلك الأسباب، والواقع شاهد على ذلك، فكيف تكون العلامة الدالّة على أمر مهمٍّ كالإمامة ممتنعة المعرفة في بعض الأحيان، وذلك كمن يقول لأعرابي في الصحراء: إذا توسَّعت فتحة الأُوزون لا تبع غنمك.
فتعليق أمر ضروري كمعرفة الإمام (عليه السلام) على أمر ربَّما يخفى كمعرفة الموت والحياة خلاف الرحمة واللطف والعدل، وكلّها ممتنعة على المعصوم (عليه السلام).
أي إنَّ الموت قد يخفى أحياناً، ولاسيّما في مثل حالة الگاطع الذي هو متوارٍ عن الأنظار، فكيف نعرف حينئذٍ بموته؟ بل قد يُخفي أتباع الگاطع موته لمآرب عندهم، فلا يكون عدم معرفتنا بموته علامة على أنَّه إمام وأنَّ الله لم يبتر عمره، لأنَّه ربَّما يكون قد مات فعلاً ونحن لا ندري بموته.
فينتج من كلِّ ذلك أنَّ هذه الرواية ليست بصدد بيان علامة أصلاً، ووضعها في سياق العلامية إنَّما هو مكر وخديعة واستغفال لعقول الأبرياء، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (البقرة: 24).
وعند إبطال استدلالك برواية: (لا يدَّعي هذا الأمر غير صاحبه...) تنكشف أكبر أكاذيبك وتأويلاتك الفاسدة، والتي تحاول من خلالها ربط نفسك الأمّارة بالسوء بقضيَّة بقيَّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء.
وأسأل أُولئك الإخوة الذين غرَّتهم هذه الحيل: أليست ثورة قائم آل محمّد (عليه السلام) عالمية، وكذلك أهدافها؟ والحكمة تقول: كلِّم الناس على قدر عقولها، هلَّا سألتم أنفسكم أيّها الإخوة لماذا لا يُثبِت ادِّعاءاته بعلم حقيقي يحلُّ به مشاكل البشرية ويتحدّى به العلم الموجود حالياً كما تحدّى موسى وعيسى ونبيّنا عليهم صلوات الله أهل زمانهم، خصوصاً إذا عرفنا أنَّ كلَّ ما جاء به الأنبياء حرفان والقائم يأتي بالخمسة والعشرين الأُخرى، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحجّ: 46).
وأحمد إسماعيل يدَّعي أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) علَّموه الخمسة والعشرين حرفاً التي هي إتمام للسبعة والعشرين، والتي لم يبلغ الأنبياء والمرسلون منها إلَّا حرفان، فهل هذا كلّ ما علَّموك إيّاه؟ وهل نتيجة وخلاصة جهود الأنبياء أن يُثبِتوا أنَّك إذا لم يبتر الله عمرك في الأربع سنوات فإنَّك على حقٍّ؟ فلماذا لا تُكلِّم الناس على قدر عقولها وتعمل بمستوى سعة رسالتك المدَّعاة والتي يفترض أن تكون عالمية وتطرح للعالم نظرية تُخلِّص بها ملايين من البشر من الجوع والحرمان والخوف والقتل والتشريد انطلاقاً من علم الحروف، وتعالج مسألة الاحتباس الحراري والانتشار المرعب للأسلحة الفتّاكة انطلاقاً من علم الحروف أيضاً،
ونظرية أُخرى تُغيِّر بها موازين القوى في العالم، ونظرية أُخرى تُفسِّر لأُمم العالم فلسفة حركة التاريخ انطلاقاً من علم الحروف، ونظرية في الفيزياء، وأُخرى في الكيمياء، وأُخرى في فقه اللغة، وأُخرى في الفلك، وأيضاً انطلاقاً من علم الحروف، فهذه هي جزء من مساحة عملك، وأتعهَّد لك لو طرحت أيَّ نظرية في هذه العلوم، وتتقدَّم بها على ما هو موجود وسائد في العالم، سوف تتسابق لك الأُمم وتُصدِّق دعوتك من دون عناء، ومن دون أن تُتعِب نفسك، وتُجهِد أتباعك في ترديد جملة أنَّك عالم، فادِّعاء العلم ربَّما كان ينفع قديماً، وأمَّا الآن فإنَّه صار أكثر واقعية خصوصاً في مجال التكنولوجيا والفلك والطبّ وغيرها، فمهما ردَّدت من جملة: (أنا عالم) لا يُعبَأ بك إلَّا إذا أثبتَّ ادِّعاءك، فاطرح للعالَم حلَّاً لأحد مشاكله المتعدِّدة والعويصة وأرحه من معاناته...، ومن دون أن نُشوِّه بالونة أحلامك.
العالم الواقعي من حولك يعرف أنَّها خدع وألاعيب تستهدف بها طبقة وفئة محدَّدة من المجتمع يتأثَّرون بنظرية (كذِّب كذِّب حتَّى يُصدِّقك الناس)، ولا ينفعك أن يُصدِّق بك هؤلاء المساكين الذين لا حول لهم ولا قوَّة، أيسرّك أن يلهجوا باسمك فترة من الزمن، ثمّ ما إن تلبث حتَّى يلعنوا اليوم الذي سمعوا به ذلك الاسم؟ وقبل ذلك يلعنك ملايين من المؤمنين عند كلّ صلاة أن اعتديت وبكلِّ جرأة على مقام إمامهم صاحب الولاية العظمى (عليه السلام)، ومن بعدها العذاب المهين خالداً فيه أبداً مع أعداء آل محمّد (عليهم السلام)، (وَجَعَلُوا لِلهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (إبراهيم: 30).
عن الزهري، قال: دخلت على علي بن الحسين (عليه السلام) في المرض
الذي توفّي فيه...، قلت: يا ابن رسول الله، إن كان من أمر الله ما لا بدَّ لنا منه - ووقع في نفسي أنَّه قد نعى نفسه - فإلى من يُختَلف بعدك؟ قال: (يا أبا عبد الله، إلى ابني هذا - وأشار إلى محمّد ابنه -، إنَّه وصيّي ووارثي وعيبة علمي، معدن العلم وباقر العلم). قلت: يا ابن رسول الله، ما معنى باقر العلم؟ قال: (سوف يختلف إليه خُلَّاص شيعتي، ويبقر العلم عليهم بقراً)، قال: ثمّ أرسل محمّداً ابنه في حاجة له إلى السوق، فلمَّا جاء محمّد قلت: يا ابن رسول الله، هلَّا أوصيت إلى أكبر أولادك؟ فقال: (يا أبا عبد الله، ليست الإمامة بالصغر والكبر، هكذا عهد إلينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وهكذا وجدناه مكتوباً في اللوح والصحيفة)، قلت: يا ابن رسول الله، فكم عهد إليكم نبيُّكم أن تكون الأوصياء من بعده؟ قال: (وجدنا في الصحيفة واللوح اثنا عشر أسامي مكتوبة بإمامتهم وأسامي آبائهم وأُمَّهاتهم)، ثمّ قال: (يخرج من صلب محمّد ابني سبعة من الأوصياء فيهم المهدي)(141).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(141) بحار الأنوار 46: 232 و233/ ح 9، عن كفاية الأثر: 242 و243.
مدخل:
من المؤكَّد أنَّ اليماني من الشخصيات التي تكرَّرت (في مختلف المصادر الإمامية، وهي مستفيضة تقريباً، وصالحة للإثبات التاريخي...، إذ ليس في مقابلها قرينة نافية، إلَّا أنَّ ما يثبت بها هو حركة اليماني في الجملة، وأمَّا سائر الصفات، بما فيها كونه على حقٍّ، فهو ممَّا لا يكاد يثبت بالتشدُّد السندي)(142).
ومع رفع اليد عن هذا التشدُّد فقد أكَّدت تلك الروايات على ضرورة نصرته لأنَّه يدعو إلى الحقِّ، وكذلك يدعو إلى صاحب الأمر (عليه السلام)، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: (... وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى، لأنَّه يدعو إلى صاحبكم...)(143).
ولكن تواجه من يريد أن يعرف تكليفه تجاه هذا القائد المؤمن جهتان من البحث:
الجهة الأولى: صدق عنوان اليماني:
تارة يُبحَث في صدق انطباق هذا العنوان الذي ذكرته الروايات من جهة تحديد شخصه، بمعرفة بلده وسماته الشخصية ووظيفته الدينية، لسدِّ الطريق على من يتربَّصون وعلى طول التاريخ لتلك المناصب ليُضلّوا من يعتقدون بولاء أهل البيت (عليهم السلام)، لغرض كسب قلوبهم والاحتيال عليهم بادِّعاء أنَّهم هم المقصودون بتلك الروايات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(142) تاريخ الغيبة الكبرى: 525.
(143) الغيبة للنعماني: 264/ باب 14/ ح 13.
وأكثر الروايات تفصيلاً وتبييناً لراية اليماني هي ما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في حديث طويل أنَّه قال: (خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً، فيكون البأس من كلِّ وجه، ويل لمن ناواهم، وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هدى، لأنَّه يدعو إلى صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلاح على الناس وكلِّ مسلم، وإذا خرج اليماني فانهض إليه فإنَّ رايته راية هدى، ولا يحلُّ لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنَّه يدعو إلى الحقِّ وإلى طريق مستقيم)(144).
تمهيد:
بعد ما انتقل أحمد إسماعيل في ادِّعائه من فترة ما بعد المهدي (عليه السلام)، والتي كان فيها حسب ادِّعائه ابناً ووصيَّاً للإمام (عليه السلام)، وإنَّ لسان رواية الغيبة لم تسعفه في وظيفة تغذّي طموحه في الربوبية والهيمنة على نفوس الناس، انتقل إلى فترة ما قبل المهدي (عليه السلام)، لتتناسب دعوته والحاضر الذي يعيشه. وهو يعلم جيِّداً أن ليس لليماني ذلك الدور الذي يتناسب مع تطلّعاته أو مع ادِّعاءاته الأُولى كالوصاية للإمام (عليه السلام)، إلَّا أنَّه أراد من شخصية اليماني نقطة عبور وربط بين هدفين:
الأوَّل: أنَّ كلَّ دعوى يتطلَّع صاحبها إلى اعتلاء المناصب لا بدَّ أن يكون تحقيقها في آنِ ادِّعائه، وإلَّا ليس لديه الصبر على الانتظار، بسبب الشوق العارم لتحقيق هدفه. وادِّعاؤه اليماني يُحقَّق هدفه ويعود بأحلامه وبأحلام ضعفاء عقول من أتباعه، من المستقبل إلى نقطة زمنية يعيشونها فعلاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(144) المصدر السابق.
الثاني: ومن يرتكز في ذهنه بعد وقوعه بهذا الفخّ، ويؤمن بهذه الدعوة، ينطلقون به من خلال وجوب طاعة اليماني إلى المستقبل مرَّة أُخرى، ليدخلوا إلى شخصية الإمام المهدي (عليه السلام) من خلال ادِّعاء جديد وهو توحيد شخصية اليماني مع شخصية القائم (عليه السلام). وهذا ما أسميناه بـ (صناعة المتشابه)، وهي عبارة عن جمع عدَّة معاني محكمة أو قريبة من الإحكام تحت عنوان واحد.
المناقشة:
العلامة لغةً: شيء يُنصَب في الفلوات تهتدي به الضالّة، وهي ما إذا عَلَّمْتُ لَهُ عَلَامَةً - بِالتَّشْدِيدِ - وَضَعْتُ لَهُ أَمَارَةً يَعْرِفُهَا، وهي الأُعلومة وما يُنصَب في الطريق فيُهتدى به، والفصل بين الأرضين، وما يُستَدلُّ به على الطريق من أثر(145).
ردُّ دعوى أنَّ اليماني هو القائم (عليه السلام):
إنَّه من الثابت في كثير من الروايات أنَّ اليماني هو علامة على القائم ومقدّمة على ظهوره (عليه السلام)، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (خمس قبل قيام القائم: خروج اليماني، والسفياني، والمنادي ينادي من السماء، وخسف بالبيداء، وقتل النفس الزكية)(146).
وعن محمّد بن مسلم الثقفي الطحّان، قال: دخلت على أبي جعفر محمّد بن علي الباقر (عليهما السلام) وأنا أُريد أن أسأله عن القائم من آل محمّد صلّى الله عليه وعليهم، فقال لي مبتدئاً: (يا محمّد بن مسلم، إنَّ في القائم من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) شبهاً من خمسة من الرسل...) إلى أن قال: (وإنَّ من علامات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(145) أُنظر: المصباح المنير 2: 427؛ تاج العروس 17: 498؛ لسان العرب 12: 419.
(146) الإمامة والتبصرة: 128/ ح 131.
خروجه: خروج السفياني من الشام، وخروج اليماني من اليمن، وصيحة من السماء في شهر رمضان، ومنادٍ ينادي من السماء باسمه واسم أبيه)(147).
ومن خلال هاتين الروايتين يتبيَّن ويثبت ما هو ثابت أصلاً(148) من خلال التلخيص التالي:
إنَّ اليماني من المحتوم، وهو علامة على القائم ومقدّمة لظهوره المبارك.
فينتج: تغاير الشخصيتين وتعدُّدهما، وأنَّ اليماني غير القائم، بل هو مقدّمة له وعلامة عليه، والرجل لا يكون علامة على نفسه.
هذا هو نصُّ كلام المعصوم (عليه السلام)، وضرورة العقل واللغة يحكمان بتغاير الشخصيتين، وإنَّ أيَّ محاولة بائسة يتحدَّى أصحابها كلام المعصوم (عليه السلام) وضرورة العقل بادِّعاء أنَّ اليماني هو القائم من خلال تأويلات فاسدة ومخالفة لنصِّ المعصوم (عليه السلام) لا قيمة شرعية ولا علمية لها. متَّخذين من عملية الدمج هذه مدخلاً شيطانياً لاقتحام شخصية المعصوم (عليه السلام) والتجنّي والافتراء عليه بدفعه عن مقامه من خلال اصطناعهم هذا المعنى المتشابه والمشوَّه.
فمن كان المعصوم (عليه السلام) وليّه، وعقله قائده، يعلم جيِّداً أنَّ هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(147) كمال الدين: 327 و328/ باب 32/ ح 7.
(148) نعتذر لبعض القرّاء من هذا المستوى من الاستدلال، فإنَّ هذه الحقائق أجلى وأوضح من أن تحتاج إلى دليل، وإنَّما هناك بعض الإخوة من التبست عليهم الواضحات من خلال عمل هذه الفِرَق الضالّة بتلبيس الحقّ بالباطل وتشبيه الضلال بالهدى. وما نستهدفه من هذه الكتابة أوَّلاً وبالذات هم أُولئك الإخوة، أمَّا من كان الحقُّ واضحاً لديه ولم يتأثَّر بهكذا مستوى من الأدلَّة، فليحمد الله على هذه النعمة، وهو غير معنيٍّ بهذه الكتابة.
حيلة جعلوها جسراً ليعبروا من خلالها إلى ساحة قداسة المعصوم (عليه السلام)، وأنّى لكم ذلك بعد أن كانت لعنة الله ورسوله والمؤمنين على من أراد دفع آل محمّد (عليهم السلام) عن مراتبهم.
هذا من جهة افترائهم باندماج ووحدة الشخصيتين.
الجهة الثانية: دعوى تعميم صفة اليماني:
المناقشة:
كيف يكون اليماني يمانياً، والكوفي كوفياً، والمكّي مكّياً؟ ولماذا؟
وفي هذه الجهة نريد أن نفهم كيف يمكن أن تُنسَب الألقاب المكانية لأصحابها، وما هو الهدف من النسبة؟
يتمُّ ذلك عادةً من خلال عدَّة معاني:
المعنى الأوَّل: هو أن يُولَد الشخص ويكبر في ذلك البلد ويُعرَف من خلال ولادته ونشأته بنسبته لهذا البلد. وهذا أوضح من المعاني الأُخرى.
المعنى الثاني: هو أن يُولَد الشخص في بلد معيَّن، ثمّ ينتقل عن بلده الأوَّل ويبقى محافظاً على انتسابه له تشرُّفاً أو تحنُّناً أو إثباتاً لشخصه وهويَّته. ويحصل هذا كثيراً لمن يهاجرون في بدايات حياتهم إلى أوطان جديدة.
المعنى الثالث: هو أن يُولَد الإنسان في بلد ووطن غير وطن أهله وقبيلته أو جذوره، سواء حدثت هذه الولادة في نفس الجيل أو بعد عدَّة أجيال، فينتسب الإنسان إلى وطنه الأصلي، وعادةً ما يكون الداعي في هذا المعنى هو للحفاظ على هويَّته وهويَّة ذرّيته الأصلية.
المعنى الرابع: هو أن يسكن الإنسان في بلد معيَّن فترة من الزمن تكون كافية عرفاً أن يصدق عليه أنَّه ينتسب لهذا البلد.
أمَّا لماذا الألقاب المكانية؟ وما الهدف منها؟
فإنَّ الغرض منها هو لتمييز الشخص عن غيره والتعريف به، وإنَّ أحد أنواع التعريف هو: بالجنس والفصل، فيكون اللقب جنساً، من جهة انطباق هذا العنوان على عدَّة أنواع من الناس في ذاك البلد، فيمكن أن يُصنَّفوا إلى المسيحي والمسلم، والعلماني والإسلامي، والأبيض والأسود، وغير ذلك، ويكون اسم الشخص فصلاً له عن غيره من الأشخاص.
ومن المعلوم أنَّ من أهمِّ شروط التعريف الصحيح أن لا يتمّ التعريف بالأعمِّ، أي يجب أن يكون التعريف مانعاً، ومن أمثلة التعريف الخطأ وغير العلمي هو: ما إذا رأيت شخصاً عربياً، وأردت أن تعرف من أيِّ بلاد العرب هو، فيجيبك شخص أنَّه من بلاد المغرب العربي، أو من بلاد الخليج، أو من بلاد الشام. وكذلك إن أردت أن تعرف شخصاً يتكلَّم لغة أجنبية، وأردت أن تعرف بلده، وأجابك أحدهم بأنَّه أُوربي أو من أمريكا الجنوبية مثلاً. فإنَّ كلّ تلك التعاريف غير صحيحة، وغير علمية، حيث إنَّك أردت بسؤالك أن تتعرَّف على بلاد هؤلاء الأشخاص، ومن خلال الإجابة الأُولى بأنَّه من المغرب العربي فإنَّ هذه البقعة الجغرافية تضمُّ عدَّة دول مغرب عربية، ولم يُبيِّن لك المعرِّف عن انتماء من تريد معرفته إلى أيِّ تلك الدول. وكذلك الخليجي، والأُوربي، والأمريكي الجنوبي، فإنَّ كلّ تلك التعاريف لم تكن مانعة من دخول بلدان مع بلد من تريد معرفته، وبقيت الإجابة مبهمة وعامَّة ولم تصل إلى الإجابة الحقيقية والنهائية من خلال إجابة شخص يجهل شروط التعريف الصحيح.
التطبيق:
ادَّعوا أنَّه ليس بالضرورة أن يكون اليماني من دولة اليمن، وجاؤوا بقرائن حاولوا من خلالها توسيع معنى اليمن ليشمل بلاداً وعباداً كثيرين، ومن خلال حيلة التعميم هذه يتشتَّت معنى اليماني حتَّى يصدق انطباقه عليهم، وكأنَّ النصوص الدينية والتاريخية غرض وأداة يستعملونها متى ما شاؤوا، وإذا اتَّفقت مصلحتهم تمديدها وتشتيت معناها فعلوا ذلك، ومتى ما شاؤوا تقليصها وتحجيم سعتها وفق افتراءاتهم أنكروها.
فمن جهة ادَّعوا وحدة شخصية اليماني والقائم حتَّى يكون الهمبوشي هو صاحب المقامين والوصفين، ومن جهة أُخرى شتَّتوا صفة ولقب اليماني لنفس الغرض.
وهذا هو منهجهم مع سائر المقدَّسات والنصوص التاريخية.
فإذا رجعنا إلى المعاني السابقة، نجد أنَّ الأوَّل والثاني منها لا ينطبق على أحمد إسماعيل من دون نقاش، فلم يُولَد باليمن ولا نشأ فيها، ولم يُولَد كذلك فيها وهاجر منها، وهذا من المسلَّمات، ولم يدَّع هو ذلك.
وأمَّا المعنى الثالث وهو أن تكون جذوره من اليمن بحجَّة أنَّ العرب أصلهم من اليمن فذلك مردود، لأنّا عرفنا أنَّ المعصوم (عليه السلام) قال: اليماني من علامات القائم، وعرفنا أيضاً أنَّ العلامة هي ما يُهتدى بها، وأنَّ التعريف الصحيح يجب أن يكون مانعاً، فمن يلتزم بهذا الكلام ثمّ يدَّعي أنَّ أحمد إسماعيل هو اليماني، يترتَّب على دعواه أحد الأُمور التالية:
الأوَّل: أنَّ المعصوم الذي عرَّفنا بعلامية اليماني لا يريد الهداية لنا،
وهذا القول يتَّصف به أهل الجحود والعناد والعياذ بالله، بعد أن آمن غيرهم بأنَّ آل محمّد (عليهم السلام) هم أعلام هداية الله.
الثاني: أنَّ المعصوم (عليه السلام) عرَّف لنا شخصاً بطريقة خاطئة وغير علمية والعياذ بالله، بعد أن عرفنا أنَّ من شروط التعريف أن لا يتمّ التعريف بالأعمِّ.
ودعوى أنَّ العرب أصلها من اليمن، والهمبوشي عربي أو ينتسب للعترة الطاهرة، هذا تعريف بالأعمِّ، لأنَّه يصدق على كلِّ عربي أنَّه يماني، وهذا القول مخالف لطبيعة العلامية وهدفها وهي هداية الناس. فإن ادَّعى جزائري أنَّه اليماني يصدق عليه، وكذلك المغربي والليبي والسعودي، وأيّ شخص يصدق عليه أنَّه عربي، أو كان عربياً كذلك وسافر إلى بلاد غربية، أو كان من جذور عربية حتَّى لو كان كندياً أو استرالياً أو أمريكياً، فما هو المانع من دخول كلُّ أُولئك بعد أن يصدق عليهم أنَّهم كانوا عرباً والعرب يمنيون، فلا يقتنع بهذا القول أقلُّ الناس احتراماً لأئمَّته ولعقله، فكيف من يدَّعي نصرة الإمام (عليه السلام).
وأمَّا المعنى الرابع، وهو أن يسكن الإنسان بعد ولادته بلداً معيَّناً فينسب له ويُلقَّب به، فمن المعروف وعلى الأقلِّ عند أتباعه أنَّه ادَّعى كونه اليماني، ولم يكن قد زار اليمن، وبالتالي لا يصدق عليه هذا المعنى.
وحاول بعض أتباعه الاعتذار عن هذا الوجه بأنَّه بعد ادِّعائه بعدَّة سنوات قد سافر عدَّة أيّام إلى اليمن حتَّى يتمَّ صدق انطباق العنوان عليه.
فنسأله: هل تنازل عن دعوته الأُولى بصدق وكفاية انطباق معنى اليماني بأنَّ جذوره من اليمن حتَّى ذهب ليتدارك خطأه الأوَّل؟ وإلَّا لو
كانت دعوته الأُولى صادقة حتَّى من وجهة نظره، فلماذا يذهب إلى هناك؟ أم حتَّى هو لم يقتنع بفكرته الأُولى وأراد إقناع نفسه حتَّى يكون يمنياً حقيقياً؟ أم يعلم بأنَّ حيلته الأُولى لم تنطلِ على قسم من أتباعه فأراد أن يخدعهم بحيلة جديدة؟ وهل هذه هي صفة قائم آل محمّد (عليه السلام) عندكم، وهذا مستوى احترامكم لمقامه؟ مجرَّد تساؤلات.
وممَّا زاد عناء هؤلاء هو أنَّ خلفاء الله في أرضه قد اعتنوا بهذا الجانب، وحصروا دائرة معرفته من خلال نصوص صريحة لا تقبل التأويل، فعن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث عن القائم (عليه السلام): (... خروج السفياني من الشام، وخروج اليماني من اليمن...)(149).
وعن عبيد بن زرارة، قال: ذُكِرَ عند أبي عبد الله (عليه السلام) السفياني، فقال: (أنّى يخرج ذلك ولمَّا يخرج كاسر عينيه بصنعاء؟)(150).
ويكفينا هذا التحديد الواضح من الإمام (عليه السلام) بوضعه هذه العلامة لنا لمعرفة اليماني، وحصر دائرة تحديد بلده وهي حجَّة صريحة تُغنينا عن أوهام المتوهّمين، وضلالات المضلّين، وجهالة المتسرِّعين، حين أرادوا أن يوهموا الناس أنَّ استعمال المعصوم (عليه السلام) للفظ (اليماني) هو استعمال مجازي وليس حقيقياً، ويقصدون بالمجازي أنَّ المعصوم (عليه السلام) لا يريد من استعماله للفظ اليماني بأنَّه من هذا البلد المعروف اليوم، والذي تكون عاصمته صنعاء، والواقع جنوب غرب دول الخليج، ولم يُطلِعوا من يطرحون عليه هذه الفكرة ماهية شروط الاستعمال المجازي من الحقيقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(149) كمال الدين: 327 و328/ باب 32/ ح 7.
(150) الغيبة للنعماني: 286/ باب 14/ ح 60.
وبالإضافة إلى ثبوت بطلان دعوته، وعدم صدق انطباق انتسابه لليمن وفق المعاني المتقدّمة، نحبُّ أن نضيف وجهين آخرين يُؤكِّدان عدم صدق انطباق وصف اليماني عليه:
الوجه الأوَّل: مجرَّد إمكان وصحَّة الاستعمال المجازي، وكذلك استعمال المعصوم (عليه السلام) لهذا النوع من الاستعمال، لا يكونان قاعدة يحكم بموجبها أنَّ كلَّ استعمال للمعصوم (عليه السلام) هو مجازي.
وهذه هي حيلتهم من تعميم كلّ معنى يرونه يتوافق مع أباطيلهم، أو يقف عثرةً وسدَّاً أمامهم، يحكمون عليه بالمجازية، فنراهم تارةً يُمدِّدون وتارةً أُخرى يُقلِّصون المعاني وفق ما تشتهي أنفسهم الأمّارة بالسوء، من دون أيّ ضابط علمي أو عقائدي، متجاهلين أنَّ أهمَّ ضابط في استعمال المجاز من قِبَل المعصوم (عليه السلام) هو: وصفهم لأُمور لم توجد معانيها في آن ووقت ذكرها، فيستعملون في وصفها ألفاظاً تشترك مع تلك المعاني في أمر عامٍّ دون التفاصيل، ومثاله: حين يصف المعصوم (عليه السلام) الأسلحة التي يستعملها الإمام المهدي (عليه السلام) في ظهوره المبارك، فإنَّه ممَّا لا شكَّ فيه سوف يستعمل أسماء الأسلحة المعاصرة لزمن المعصوم صاحب الرواية، ومن جهة أُخرى فليس من المعقول على ما حقَّقه الشهيد محمّد الصدر قدس سره في موسوعته أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) سوف يستعمل نفس تلك الأسلحة، بل إنَّه سيستعمل أحدث الأسلحة المتوفّرة في زمن ظهوره (عليه السلام).
وسبب استعمال المعصوم (عليه السلام) كما هو واضح لأسماء الأسلحة القديمة، هو: عدم وجودها في زمن الرواية، ولعدم معرفة من عاصر زمن الرواية بتلك الأسلحة، فهي مجهولة لديه تماماً، كما نحن نجهل ما
سوف يتمُّ إنتاجه من أسلحة بعد ثلاثين أو أربعين عاماً من الآن. وذكر المعصوم لأشياء يجهلها السامع بالكلّية، بل تُعتَبر لديه من الطلاسم اللغوية، والمعجزات المعنوية الخارقة، ممَّا سوف ينعكس هذا النوع من التلقّي لكلام المعصوم (عليه السلام) بالاستغراب، وربَّما الاستنكار من البعض، وتكون سبباً للطعن والحطّ من كلام المعصوم (عليه السلام)، وبالتالي عدم وصول مضامين كلامه إلى الأجيال اللاحقة والتي سوف تعاصر الظهور المبارك، وهم المعنيّون أوَّلاً وبالذات من هذه الروايات، والأجيال السابقة إنَّما هم واسطة في نقل الرواية، ولتوفّر التسلسل المنطقي التاريخي في تفسير الروايات، ليتمَّ الحفاظ عليها والتربّي على مضامينها جيلاً بعد جيل وصولاً إلى الجيل الأخير والمباشر لزمن النهضة المهدوية الكبرى.
وإذا رجعنا إلى معنى اليماني فهو نسبة شخص معيَّن إلى بلد ومكان معيَّن، والمكان موجود في زمن الرواية، وكذلك استعمال لقب اليماني موجود، وقد لُقِّبَ الكثير من الأشخاص بهذا اللقب قبل ومع صدور هذه الروايات من المعصومين (عليهم السلام)، فلا يرد المحذور على الاستعمال الحقيقي (لليماني).
الوجه الثاني: قد وصف الإمام (عليه السلام) راية اليماني بأنَّها راية حقٍّ، وأنَّ الحقَّ بجانبه، وجعل (عليه السلام) اليماني علامة على الحقِّ، وهو ما سوف يشتبه على الناس في زمانه، إذن اليماني ورايته علامة على ظهور القائم (عليه السلام)، ونسبة اليمانية وصف وإشارة إلى الشخص الذي تنطبق عليه هذه النسبة، فتتوقَّف أهمّية اليماني ونصرته على معرفته، والتي يتوقَّف عليها أنَّ محاربته تؤدّي إلى الدخول في النار كما بيَّنته الرواية، فهل
يحتاج اليماني إلى علامة على معرفته أم هو بحدِّ ذاته علامة على خروج القائم (عليه السلام)؟ وهل العلامة تحتاج إلى علامة؟ وإلَّا لماذا هي علامة؟
وبعد أن عرفنا أنَّ العلامة هي ما يُهتدى بها من الضلال حسب التعريف اللغوي، بالإضافة إلى كلام المعصوم (عليه السلام): (والله لأمرنا أبينُ من هذه الشمس)، وراية اليماني الحقّ هي مقدّمة لأمرهم (عليهم السلام)، والتي جعلوها (عليهم السلام) علامة على ظهور قائمهم (عليه السلام)، فلا بدَّ أن تكون راية اليماني ظاهرة بنفسها، ولا تحتاج إلى أيِّ علامة أو تأويل مشوَّه.
إذن يلزم أن يكون استعمال المعصوم (عليه السلام) للفظ اليماني استعمالاً حقيقياً، (... وهذا هو الأقرب إلى ظاهر التعبير، وخاصَّة مع اتّصافه بكونه يمنياً)(151)، فيحمل اللفظ على حقيقته من دون أن نوهم الناس أنَّه مجاز، لأنَّ المجاز ينافي حقيقة العلامية التي هي أمارة على معرفة الطريق تماماً كما نصَّت الروايات، وإلَّا يلزم الإخلال بحجّية حجَّة الأئمَّة (عليهم السلام) وذكرهم لعلامة غامضة ومشوَّشة تحتاج إلى تأويل كما يدَّعي المبطلون.
ومثاله: ما إذا كان لنا أحد الأحبَّة يريد السفر في صحراء مقفرة، وقد ملأتها الوحوش والآفات، وقد تشتبك فيها الطرق فتشتبه على غير العالم بمسالكها، وطلب منك تعريفه بها مع فرض اطّلاعك على تلك المسالك، وهذا العزيز المسافر يريد إغاثة أبنائك الذين هم في خطر من اعتداء المعتدين، فهل الموقف يتحمَّل أن تذكر له علامات مجازية غير واضحة؟ وهل يقبل عاقل بهذا التصرّف إن كنت أباً صالحاً وعاقلاً وواجبك حفظ هؤلاء الأبناء المهدَّدين بالخطر؟ فكيف إذا كان واضع العلامة هم قادة الخلق وأرأف وأرحم الناس بأوليائهم وأحكمهم وأعلمهم؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(151) تاريخ الغيبة الكبرى: 539.
إذن لا مجاز في علامة مهمَّة لظهور صاحب الأمر (عليه السلام).
وممَّا يُسهِّل انحصار أمر اليماني وتقليص دائرة تشخيصه هي كثرة العلامات المرافقة له، والتي ربط المعصوم (عليه السلام) بعضها ببعض، وعبَّر عنها (كفرسي رهان)، أو (نظام كنظام الخرز)، أو (في سنة واحدة وشهر واحد ويوم واحد)، وهذا الربط والتلازم الذي أحدثه المعصوم (عليه السلام) قطعاً لطريق المدَّعين الذين وسيلتهم تأويل الروايات، وقد أتعب هذا الربط بين العلامات أئمَّة الضلال كثيراً في محاولة صرفه عن معناه الصريح لتطبيقه على أنفسهم المتعطِّشة إلى المناصب.
ومن أدلَّتهم على تعميم معنى اليماني إلى غير اليمن هو قولهم:
إنَّ الركن اليماني هو أحد أركان الكعبة المشرَّفة، وتسميته باليماني دليل على شمول مكّة لهذا الاسم، وبما أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) كانوا من سكنة مكّة فيصدق عليهم أنَّهم يمانيون، وبما أن أحمد إسماعيل الهمبوشي هو ابن للإمام المهدي (عليه السلام) حسب زعمهم، فيصدق عليه أنَّه يماني.
وكذلك استدلّوا بقول وارد عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): (الإيمان يمانٍ(152)، والحكمة يمانية)(153).
جوابهم من عدَّة جهات:
الجهة الأُولى: بطلان انتسابه للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لعدم ثبوت البيِّنة الشرعية: قد ثبت في المبحث الثالث وهو ردّ دعوى انتسابه للإمام المهدي (عليه السلام) أنَّ البيِّنة الشرعية في ثبوت النسب غير متحقِّقة في ادِّعاء أحمد إسماعيل، وهي شاهدان عادلان، أو اعتراف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(152) يمان: أي يمني، نسبة إلى اليمن، فيقال: يمني ويمان، كما يقال: شامي وشام.
(153) صحيح البخاري 4: 154.
الأب بنسبة ابنه له، أو الشهرة التي هي غير متحقِّقة في حقِّ الهمبوشي وغيرها من الشرائط المبحوثة في إثبات النسب، وكلّها لم تتوفَّر فيه، لأنَّه لم يطَّلع أحد على إخبار الإمام المهدي (عليه السلام) واعترافه بأنَّ أحمد إسماعيل من ذرّيته، ولم يشهد على ذلك أحد لا من المؤمنين العدول ولا غيرهم(154)، وهذا هو حكم الشريعة المقدَّسة، وكيف نُنسِب لخليفة الله في أرضه مخالفة لحكم شرعي؟ وعليه حتَّى وإن صحَّ وصف النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) بأنَّه يماني فأحمد إسماعيل غير مشمول بهذا الوصف.
الجهة الثانية: غير الگاطع أولى بانطباق معنى اليماني وفق قاعدة التعميم: إنَّ أغلب النهضات الإصلاحية التي برزت على الساحة الإسلاميَّة وخصوصاً الشيعية منها التي كانت قيادات ترجع في نسبها إلى النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) والعترة الطاهرة (عليهم السلام)، ووفق هذه المعادلة فهم يمانيون بجدارة، وذلك لكون:
انتسابهم للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وفق موازين شرعية.
انطلقوا في حركتهم الإصلاحية من الثوابت الإسلاميَّة المتعارفة والثابتة في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
لم تتعارض دعواتهم مع العقيدة الحقَّة لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لا من قريب ولا من بعيد.
اتَّسمت حركاتهم وثوراتهم بالتأثير الإيجابي لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) والدين عموماً، وذلك بزيادة حسن ظنّ الناس بثوابت الدين سواء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(154) شهد عمّ الهمبوشي والسيِّد حسن الحمّامي وغيرهما على ذلك، لكن شهادتهما غير مقبولة، لأنَّها ليست شهادة صحيحة شرعاً، لأنَّ الشهادة لا بدَّ أن تكون عن حسٍّ، وهذه الشهادة ليست كذلك.
من داخل المذهب أو الدين أو من خارجهما، وانعكست تحرُّكاتهم عزَّةً ووحدةً وتماسكاً وقوَّةً للدين وللمذهب.
فوفقاً للمرجِّحات السابقة، فإن كانت صفة اليماني تنطبق على كلِّ أُولئك فهم أولى بالتسمية من المتطفّلين على نسب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ومعايير الحركات الإصلاحية، وهذا ما تفتقده تلك الحركات الضالّة بالمطلق.
الجهة الثالثة: وفيها مستويان من النقاش:
الأوَّل: أنَّ تسمية الركن باليماني لا يعني أن تكون الكعبة في اليمن، وإنَّما سبب تسمية الركن باليماني هو: أنَّ للكعبة أربعة أركان، وسُمّي كلُّ ركن منها بالبلاد التي في جهتها، والركن اليماني يعني أنَّه مقابل جهة اليمن، وكذلك الجهات الأُخرى كالمغربي والشامي والعراقي، وهو الذي فيه الحجر الأسود، وهو المكان الذي يتمُّ فيه إعلان بداية الظهور المبارك، وجاء في الروايات: (يظهر بين الركن والمقام)(155).
الثاني: أمَّا رواية (الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية)، فالقول فيها يتَّضح من خلال مقدّمتين:
المقدّمة الأُولى: (قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (الإسلام يمانٍ والحكمة يمانية)، فهذا كناية عن أنَّ أهل اليمن متَّصفون بحسن الإسلام، ويُفهَم هذا من (أل) الدالّة على الكمال، ومتَّصفون بالحكمة لأنَّ الأرض لا تتَّصف بالحكمة وإنَّما أهلها الذين يتَّصفون بذلك)(156).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(155) راجع: كمال الدين: 528/ باب 47/ ح 1.
(156) المجازات النبوية: هامش صفحة 340.
المقدّمة الثانية: عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (... خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لعرض الخيل...)، إلى أن قال: (بل رجال أهل اليمن أفضل، الإيمان يماني والحكمة يمانية، ولولا الهجرة لكنت امرءً من أهل اليمن...)(157).
ويمكن استنتاج عدَّة أُمور من خلال هاتين المقدمتين:
1 - أنَّ اليمن قبل التقسيم الجغرافي المتأخّر، بل والقريب من زمن الرسالة كان يعتبر إقليماً عربياً واسعاً يضمُّ عدَّة مناطق مهمَّة، وذلك قبل أن تُتَّخذ هذه المناطق أهمّيتها التاريخية والدينية كمكّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، ويقابل هذا الإقليم إقليم الشام، وأيضاً يقع تحت مسمّاه كثير من المناطق، والتي منها مدينة تبوك المعروفة، والتي هي الآن ضمن الدولة السعودية، وقد علَّق الشريف الرضي (رحمه الله) على هذه الرواية بقوله: (وقد قيل: إنَّه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام بتبوك وهي من أرض الشام).
2 - أنَّ كلَّ أهل إقليم ودولة معيَّنة لهم صفاتهم الخاصَّة، منها ما هو متأثِّر بثقافات مجاورة، ومنها ما هو أصيل لم يتأثَّر بصفات سلبية أُخرى، ومن المعروف أنَّ الأقاليم العربية آنذاك كانت ذات صلة بالإمبراطوريات والأُمم المجاورة بشكل أو بآخر. أمَّا أهل اليمن فيبدو من كلام النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنَّهم لم يتأثَّروا بذلك، وحافظوا على صفائهم وفطرتهم حتَّى صحَّ نسبة الإيمان والحكمة لهم، ويتَّضح هذا التصنيف من مناظرة جرت بين النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين عيينة بن حصن:
عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)...)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(157) الكافي 8: 69 - 72/ ح 27.
إلى أن قال: (إذا أنتم تناولتم المشركين فعمّوا ولا تخصّوا فيغضب ولده، ثمّ وقف فعرضت عليه الخيل، فمرَّ به فرس، فقال عيينة بن حصن: إنَّ من أمر هذا الفرس كيت وكيت، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): ذرنا فأنا أعلم بالخيل منك، فقال عيينة: وأنا أعلم بالرجال منك، فغضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حتَّى ظهر الدم في وجهه فقال له: فأيُّ الرجال أفضل؟ فقال عيينة بن حصن: رجال يكونون بنجد يضعون سيوفهم على عواتقهم ورماحهم على كواثب خيلهم، ثمّ يضربون بها قدماً قدماً، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): كذبت بل رجال أهل اليمن أفضل، الإيمان يماني والحكمة يمانية، ولولا الهجرة لكنت امرءً من أهل اليمن...)(158).
بما أنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) هاجر إلى المدينة فإنَّه ليس من أهل اليمن، وعدم صدق كونه (صلّى الله عليه وآله وسلم) من أهل اليمن دليل على عدم انتسابه حقيقةً لتلك البقعة المعيَّنة من الأرض.
وبما أنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) منبع الإيمان والحكمة ومصدرهما، فلا يُعقَل أنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) لا يتَّصف بما يتَّصف به أهل اليمن، وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (بل رجال أهل اليمن أفضل)، هو تركيز منه (صلّى الله عليه وآله وسلم) على أهل تلك البقعة بعينها إظهاراً ودعوةً منه (صلّى الله عليه وآله وسلم) لصفاتهم الحميدة التي استطاعوا أن يحافظوا عليها من صفاء السريرة وسلامة الفطرة حتَّى صحَّ أن يُوصَف ويُنسَب الإيمان والحكمة لهم.
3 - أنَّ معيار وميزان الرسل والأوصياء (عليهم السلام) هو ما كان مرتبطاً بالله تعالى، وإنَّ مكّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة بعد الدعوة الإسلاميَّة صارتا الوجهة والميزان في التفاضل والمعيار في شرف الانتساب، وإنَّ من أهمِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(158) المصدر السابق.
الوثائق التي يمكن أن يُستَدلَّ بها على معيارية الانتساب وحدوده للمصطفى وآله الأطهار (عليهم السلام) هي ما روي عن زين العابدين (عليه السلام) في مجلس يزيد بن معاوية لعنه الله حيث قال: (... من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أيّها الناس، أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا...)، إلى أن قال: (ليث الحجاز، وكبش العراق، مكّي مدني خيفي عقبي بدري أُحُدي شجري مهاجري، من العرب سيِّدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين: الحسن والحسين، ذاك جدّي علي بن أبي طالب)، ثمّ قال: (أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيِّدة النساء)، فلم يزل يقول: أنا أنا، حتَّى ضجَّ الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد لعنه الله أن يكون فتنة، فأمر المؤذِّن فقطع عليه الكلام(159).
فنرى الإمام السجّاد (عليه السلام) أوَّل ما بدأ في التعريف بنفسه ذكر انتسابه إلى مكّة المكرَّمة شرَّفها الله تعالى حيث قال (عليه السلام): (... من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أيّها الناس، أنا ابن مكّة ومنى...)، وهذه المشاعر المقدَّسة هي رمز لتوحيد الله في أرضه حسب وصف الشهيد محمّد الصدر قدس سره، فصحَّت أن تكون هي منطلق انتسابهم، فهم (عليهم السلام) محالّ معرفة الله وتوحيده.
ثمّ أخذ (عليه السلام) يُبيِّن الفروع والآثار التي بنيت على جذر وأصل التوحيد الذي ترمز إليه الكعبة المشرَّفة، حتَّى انتهى بذكر الآثار المترتِّبة على هذا الأصل إلى قاب قوسين أو أدنى. ولم نسمع منه أنَّه (عليه السلام) قد انتسب إلى اليمن أو غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(159) بحار الأنوار 45: 138 و139.
فمن أراد أن يعرف انتسابهم (عليهم السلام) فبدلاً من أن يتأوَّل عليهم ويُشبِّه على الناس صفاتاً وألقاباً من خلال معاني متشابهة ومخالفة للمبادئ العامَّة لأخلاقهم وهديهم (عليهم السلام)، بدل ذلك كلّه لماذا لا يرجع إليهم ويتبيَّن تلك الصفات ويتعرَّف على هذه الألقاب أو الكنى؟ خصوصاً من يدَّعي الانتساب إليهم، وهذا كلامهم بيِّن جليّ، قد ملأت آثارهم المصنَّفات الكثيرة، فلماذا هذا الغموض والإخفاء المتعمِّد على أتباعكم؟
وبعد ما أعيتهم الحيل في ردِّ الروايات التي نصَّت على تعيين بلد اليماني وكونه من اليمن، استعملوا حيلة أقلّ ما يُوصَف صاحبها بالكاذب الشجاع، وذلك لعلمه أنَّه لا يُصدِّقه أحد لوضوح افترائه ولكن يلقي بطعمه بها لعلَّ هناك من يلتقطه، وذلك خير من يسكت مذموماً مدحوراً.
والحيلة هي: أنَّه قد وردت روايتان مختلفتان في سند واحد عن الشيخ الصدوق (رحمه الله)، وكلا الروايتين تُصرِّحان بنسبة اليماني إلى اليمن، ووردت في إحدى الروايتين عبارة (من اليمن) بين قوسين، ولا يوجد في الرواية الأُخرى، فحاولوا أن ينفذوا من خلال هذه الثغرة ويُشبِّهوا على القارئ من خلال أحد طرقهم الماكرة وهي تشبيه المحكم، فقطعوا أنَّ العبارة التي بين قوسين مشكوك في وجودها في النصِّ الأصلي للرواية، من غير دليل صريح.
ثمّ جاؤوا بحيلة أُخرى وهي أكبر من أُختها، حيث حاولوا أن يُقنِعوا القارئ أنَّ الروايتين هما رواية واحدة من خلال قولهم: (ومضمونها - أي الرواية الثانية - يكاد يكون نفس مضمون الرواية الأُولى من جهة السؤال عن علامات خروج القائم (عليه السلام))، ثمّ انتهوا إلى النتيجة الحاسمة (حتَّى لتكاد تكون الروايتان رواية واحدة)(160).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(160) جامع الأدلَّة: 134.
والهدف من تقريبهم هذا بين الروايتين هو عدم وضع عبارة (من اليمن) بين قوسين في الرواية الأُخرى، فإن صدَّق القارئ أنَّ سبب وجود القوسين هو عدم وجود هذه العبارة في النصِّ الأصلي، ثمّ صدَّق الكذبة الأُخرى بوحدة الروايتين، سوف ينتقل حكم الكذبة الأُولى وهو عدم وجود عبارة (من اليمن) إلى الكذبة الأُخرى وهي وحدة الروايتين، فتأخذ الرواية الثانية حكم الأُولى، فيُصدِّق هذا المسكين من خلال سلسلة الأكاذيب هذه أنَّ عبارة (من اليمن) لا توجد أيضاً في الرواية الأُخرى.
ثمّ يُرتِّبون على قيمة (تكاد) في قولهم: (لتكاد أن تكون الروايتان رواية واحدة) أصلاً أنَّ الرواية واحدة، وبالتالي نفي العبارة من الروايتين، وبالتالي اليماني ليس من اليمن، ثمّ ربَّما يكون من أيِّ مكان آخر، ومن الطبيعي صاحب المنصب جاهز لمنصبه الذي أعدّوه له من خلال هذه الخريطة الملتوية من التأويلات المشوَّهة.
ولا أعلم هل نحن نتكلَّم عن عصابة نصب واحتيال أم عن تاريخ منقذ البشرية وخير الخلق وشريك القرآن؟ وسنذكر للقارئ الكريم نصَّ الروايتين، ونُجري مقابلة بسيطة بين متنيهما، ونرى كم بينهما من التطابق بحسب زعمهم:
الرواية الأُولى: عن محمّد بن محمّد بن عصام (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن يعقوب الكليني، قال: حدَّثنا القاسم بن العلاء، قال: حدَّثنا إسماعيل بن علي القزويني، قال: حدَّثني علي بن إسماعيل، عن عاصم بن حميد الحنّاط، عن محمّد بن مسلم الثقفي الطحّان، قال: دخلت على أبي
جعفر محمّد بن علي الباقر (عليهما السلام) وأنا أُريد أن أسأله عن القائم من آل محمّد صلّى الله عليه وعليهم، فقال لي مبتدئاً: (يا محمّد بن مسلم، إنَّ في القائم من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) شبهاً من خمسة من الرسل: يونس بن متّى، ويوسف بن يعقوب، وموسى، وعيسى، ومحمّد، صلوات الله عليهم، فأمَّا شبهه من يونس بن متّى فرجوعه من غيبته وهو شاب بعد كبر السنّ، وأمَّا شبهه من يوسف بن يعقوب (عليهما السلام) فالغيبة من خاصَّته وعامَّته، واختفاؤه من إخوته، وإشكال أمره على أبيه يعقوب (عليهما السلام) مع قرب المسافة بينه وبين أبيه وأهله وشيعته. وأمَّا شبهه من موسى (عليه السلام) فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته، وتعب شيعته من بعده ممَّا لقوا من الأذى والهوان إلى أن أذن الله (عزَّ وجلَّ) في ظهوره ونصره وأيَّده على عدوِّه. وأمَّا شبهه من عيسى (عليه السلام) فاختلاف من اختلف فيه، حتَّى قالت طائفة منهم: ما وُلِدَ، وقالت طائفة: مات، وقالت طائفة: قُتِلَ وصُلِبَ. وأمَّا شبهه من جدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) فخروجه بالسيف، وقتله أعداء الله وأعداء رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) والجبّارين والطواغيت، وأنَّه يُنصَر بالسيف والرعب، وأنَّه لا تُرَدُّ له راية. وإنَّ من علامات خروجه: خروج السفياني من الشام، وخروج اليماني (من اليمن)، وصيحة من السماء في شهر رمضان، ومنادٍ ينادي من السماء باسمه واسم أبيه)(161).
الرواية الثانية: عن محمّد بن محمّد بن عصام (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا محمّد بن يعقوب الكليني، قال: حدَّثنا القاسم بن العلاء، قال: حدَّثني إسماعيل بن علي القزويني، قال: حدَّثني علي بن إسماعيل، عن عاصم بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(161) كمال الدين: 327 و328/ باب 32/ ح 7.
حميد الحنّاط، عن محمّد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن علي الباقر (عليهما السلام) يقول: (القائم منّا منصور بالرعب، مؤيَّد بالنصر، تطوي له الأرض وتظهر له الكنوز، يبلغ سلطانه المشرق والمغرب، ويُظهِر الله (عزَّ وجلَّ) به دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون، فلا يبقى في الأرض خراب إلَّا قد عمر، وينزل روح الله عيسى بن مريم (عليه السلام) فيُصلّي خلفه)، قال: قلت: يا ابن رسول الله، متى يخرج قائمكم؟ قال: (إذا تشبَّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، وركب ذوات الفروج السروج، وقُبِلَت شهادات الزور ورُدَّت شهادات العدول، واستخفَّ الناس بالدماء، وارتكاب الزنا، وأكل الربا، واتُّقي الأشرار مخافة ألسنتهم، وخروج السفياني من الشام، واليماني من اليمن، وخسف بالبيداء، وقُتِلَ غلام من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) بين الركن والمقام، اسمه محمّد بن الحسن النفس الزكيَّة، وجاءت صيحة من السماء بأنَّ الحقَّ فيه وفي شيعته، فعند ذلك خروج قائمنا، فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة، واجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. وأوَّل ما ينطق به هذه الآية: (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [هود: 86]، ثمّ يقول: أنا بقية الله في أرضه، وخليفته وحجَّته عليكم، فلا يُسلِّم عليه مسلِّم إلَّا قال: السلام عليك يا بقيَّة الله في أرضه، فإذا اجتمع إليه العقد وهو عشرة آلاف رجل خرج، فلا يبقى في الأرض معبود دون الله (عزَّ وجلَّ) من صنم (ووثن) وغيره إلَّا وقعت فيه نار فاحترق. وذلك بعد غيبة طويلة، ليعلم الله من يطيعه بالغيب ويؤمن به)(162).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(162) كمال الدين: 330 و331/ باب 32/ ح 16.
ردُّ دعوى وحدة الروايتين:
أوَّلاً: أنَّ قولهم الوحدة من جهة السؤال، مردودة، وذلك لأنَّ إحدى الروايتين تقول: (سمعت)، والأُخرى قالت: (ابتدأني)، والنسبة بين الابتداء والسماع عموم مطلق، لأنَّ كلَّ ابتداء هو سماع، وليس كلُّ سماع من أحد يكون ابتداءً، إذ لعلَّه كان يتكلَّم مع غيرك فسمعته منه، أمَّا الابتداء بالكلام مع شخص فهو واضح أنَّ الكلام يكون مع السامع مباشرةً.
ثانياً: أنَّ كلَّ روايات القائم (عليه السلام)، بل كلّ روايات أهل البيت (عليهم السلام)، بل كلّ راوٍ ينقل عن غيره، فطبيعة نقله والألفاظ التي يستعملها هي إمَّا (سمعته)، وإمَّا (قال لي)، وإمَّا (ابتدأني)، فالتطابق في طريقة نقل الكلام عن أحد عامّ جدَّاً، تشمل جميع أصناف النقل، فلا وجه ولا معنى للحصر المدَّعى حتَّى رتَّبتم على هذا الحصر في الأُسلوب التطابق بين الروايتين.
ثالثاً: أمَّا وحدة السند، فجوابها نفس الجواب السابق، فليس كلَّما تطابق سند روايتين يكون أصلهما واحداً، فهناك عشرات الروايات تتطابق من حيث السند، فهل يُعقَل أنَّ المعصوم (عليه السلام) كان جالساً في مكان وزمان واحد يروي للناس هذا الحديث الذي يمتدُّ حسب دعوتهم إلى ساعات طويلة وربَّما إلى أيّام عدَّة؟!
أمَّا التطابق في المتن فردُّه:
أوَّلاً: أنَّ الرواية الأُولى تتكلَّم في مطلعها عن تشابه حالة القائم (عليه السلام) مع رسل الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّ ما جرى عليهم سوف يجري عليه من بداية ولادته المباركة في كيفية حصولها، وبيَّنت ما سيجري على
الإمام (عليه السلام) من ظلم وإنكار وتنكُّر من بعض فئات ممَّن هم محسوبون على أُمَّة جدِّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) من جهة الاعتقاد به (صلّى الله عليه وآله وسلم).
أمَّا الرواية الثانية فقد ابتدأت الكلام بفترة ما بعد الظهور المقدَّس، وبيَّنت الضمانات الكفيلة لتحقيق هدفه، كالتأييد بالنصر وإظهار الأرض كنوزها والنصر بالرعب وغيره، ثمّ عطفت على ذكر العلامات الاجتماعية والأخلاقية وبيان مدى انحراف المجتمع الإنساني من هذين الجهتين في فترة تسبق الظهور المبارك.
ثانياً: أنَّ الرواية الأُولى وبعد ذكر العلامات المحتومة وهي محلّ المقارنة والتي منها اليماني، توقَّفت عند هذا الحدّ بذكر علامة النداء، أي قبل الظهور بفترة.
أمَّا الرواية الثانية وبعد ذكرها لعلامة اليماني، ذكرت علامات أُخرى غير ما ذُكِرَ في الرواية الأُولى، واستمرَّت بعد ذلك بذكر تفاصيل الظهور المقدَّس، ككيفية الظهور وشعاره وعدد أنصاره وجيشه الأوَّل، إلى أن ذكرت تحقُّق بعض أهداف نهضته (عليه السلام).
وخلاصة المقارنة:
إنَّ الرواية الأُولى تتكلَّم عن أحوال القائم (عليه السلام) وما سوف يجري عليه وعقيدة الناس به، وذكرت أهمّ العلامات التي تسبق ظهوره (عليه السلام).
أمَّا الرواية الثانية فتتكلَّم عن أحوال المجتمع وسلوكه ومدى انحرافه، ثمّ ذكرت العلامات الرئيسية بشكل أكثر تفصيلاً، وبعدها بيَّنت تفاصيل الظهور وكيفيته.
فهل هناك تطابق بين الروايتين؟!
مع ملاحظة أنَّ كلَّ الروايات المتعلّقة بالإمام المهدي (عليه السلام) على
كثرتها هي: إمَّا تتكلَّم عن فترة ما قبل ظهوره (عليه السلام)، أو تذكر تفاصيل ما بعد الظهور، أو كيفية الظهور. فإذا كان هذا العدد الكبير جدَّاً من الروايات تنحصر مواضيعها تحت هذه العناوين والفترات الثلاثة، فممَّا لا شكَّ فيه أنَّ أغلب الروايات سوف تكون متقاربة فيما بينها في المتن، ومع هذه الملاحظة فإنّا وجدنا هذا الفارق الكبير في مدلول ومتن الروايتين كما في المقارنة السابقة.
وعليه فإنَّ حيلة وحدة الروايتين مردودة جملةً وتفصيلاً.
وبدلاً من أن نحتال على أتباع آل محمّد (عليهم السلام) في الالتفاف على رواياتهم، ووفقاً لاحترامنا لكلامهم (عليهم السلام)، لماذا لا نتَّبع الطريقة الصحيحة في التعامل مع رواياتهم (عليهم السلام)؟ وهي ما إذا وجدنا نصَّاً نشتبه في وجوده كما تدَّعون كنصِّ (من اليمن)، فنحن أمام خيارين: إمَّا أن نرجع بهذا النصَّ إلى الروايات الأُخرى التي ذكرت مثله، وتكون هي المعيار في الاحتكام في وجوده من عدمه، وإمَّا أن نرى أنَّ هذا الحلّ لا ينسجم مع أفكارنا ويهدم العقيدة التي نحاول أن نُقنِع بها البسطاء من الناس فنصنع ميزاناً ومعياراً مخالفاً للحقيقة والعلم، يجهله هؤلاء البسطاء ونحاكم هذه العبارة وفقه، حتَّى يقتنعوا أنَّ اليماني ليس من اليمن، حتَّى وإن خالفنا قواعد أسَّسها المعصوم (عليه السلام) في فهم وتفسير كلامهم (عليهم السلام)، بعد أن صار المعيار هو الوصول إلى إقناع الناس بعقيدة هذا الضالّ أو ذاك المهوَّس.
تساؤلات في متن رواية اليماني:
(رايته أهدى الرايات، الويل لمن ناوأهم): (الويل: الحزن والهلاك والمشقَّة من العذاب. وكلُّ من وقع في هلكة دعا بالويل. ومعنى النداء
فيه: يا حزني ويا هلاكي ويا عذابي احضر، فهذا وقتك وأوانك، فكأنَّه نادى الويل أن يحضره لما عرض له من الأمر الفظيع)(163).
قال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) (الجاثية: 7)، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات: 15)، (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (المطفّفين: 1)، (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (الهمزة: 1).
تقديم:
من الثابت أنَّ المعصوم (عليه السلام) لا يتكلَّم عبثاً مطلقاً وحاشاهم (عليهم السلام)، وإنَّ كلَّ كلمة يُطلِقها يريد بها معنىً محدَّداً، وخصوصاً إذا كان يتكلَّم عن قضيَّة ودعوة يدخل من يخالفها النار، وقول الإنسان لآخر: (الويل لك) هو دعوة عليه، أو لبيان أنَّ مصير من يفعل فعلاً معيَّناً ينتهي به إلى جهنَّم.
ثمّ إنَّ الضمير في (ناوأهم) يعود على أصحاب الرايات، باعتباره ضمير جمع وهنَّ ثلاث رايات، فما هو المقصود من قول الإمام (عليه السلام): (ويل لمن ناوأهم)؟ فهو إمَّا دعاء على من يناوئهم أو إخبار بمصير من يعاديهم.
فهل هو دعاء على من يجابههم؟ وهذا القول فيه تناقض مع المقاطع الأُخرى من الرواية التي تقول: إنَّ راية اليماني راية هدى، فكيف يصحُّ من المعصوم أن يدعو على من رايته راية هدى؟ وذلك أنَّ الإمام (عليه السلام) قال: (الويل لمن ناوأهم)، وضمير (هم) ضمير جمع وهنَّ ثلاث رايات، ولم يُخصِّص ذلك براية السفياني، فيكون اليماني مشمول لهذا الدعاء أو الإخبار، لأنَّه سوف يواجه السفياني ويناوئه، وكذلك الحال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(163) النهاية في غريب الحديث والأثر 5: 236.
لغير اليماني ممَّن يريد أن يناوئ السفياني أو الخراساني، فهو كذلك مشمول لكلامه (عليه السلام) لأنَّه عامّ ولم يُخصِّصه بأحدها أو رايته والخراساني، فالعبارة مرتبكة من هذه الناحية، لوقوع التناقض في عبارة المعصوم (عليه السلام)، وحاشاهم ذلك إذ كيف يدعو بالويل أو يُخبِر عنه على راية يصفها هو نفسه بأنَّها راية هدى؟ أو يدعو كذلك على من يناوئ راية ضلال كراية السفياني؟
وإن كان استعماله لبيان مصير من يجابههم بأنَّه في جهنَّم فيرد عليه نفس الإيراد السابق، وهو: كيف يكون صاحب راية الهدى وأنصاره في جهنَّم؟
وإنَّ من يعتقد أنَّ المعصوم لا يتكلَّم عبثاً وليس هناك تناقض في كلامه، فلا بدَّ له من مراجعة هذه الروايات وإعادة النظر فيها.
ولا بدَّ من حمل الرواية على أنَّ المراد بقوله: (ويل لمن ناوأهم) هو أنَّ من حاربهم من غير هذه الرايات الثلاث سينهزم وسيندحر وربَّما يُقتَل، لأنَّها رايات قويَّة جدَّاً أقوى من غيرها.
(لأنَّه يدعو إلى صاحبكم):
حاولوا الربط بين دعوة اليماني للإمام المهدي (عليه السلام)، وبين اطّلاعه على موضع الإمام (عليه السلام) ومعرفته بتفاصيل حركته من خلال هذه العبارة.
وجوابهم:
أوَّلاً: إنَّ صاحبنا والذي يجب أن يُنتَظر في غيبته ويُطاع في ظهوره هو الإمام محمّد ابن الإمام العسكري (عليه السلام) كما عبَّر الإمام الكاظم (عليه السلام)، هذا من جهة صاحبنا. وأمَّا من جهة دعوة اليماني له فهي: إمَّا تعريفنا باسمه أو الالتحاق بحركته بعد ظهوره.
أمَّا التعريف باسمه فهو واضح بمئات الروايات التي وردت عنهم (عليهم السلام)، فليس هناك حاجة لتعريف اليماني باسمه (عليه السلام)، وعلى هذا الفهم يكون كلام الإمام (عليه السلام) تحصيلاً للحاصل وحاشاهم (عليهم السلام) أن نعتقد بهم كذلك.
نعم، يمكن تعريف غير الشيعة به (عليه السلام)، فيُعرِّفهم باسمه ويدعوهم للإيمان به ولنصرته.
وأمَّا الدعوة للالتحاق بالإمام (عليه السلام) بعد ظهوره، فمن الثابت أنَّه (عليه السلام) يخرج بين الركن والمقام ولا تراه عين حتَّى تراه كلُّ عين، أي إنَّ الظهور يكون عامَّاً، وبحسب التسلسل الزمني لأحداث الظهور إنَّ اليماني يظهر مزامناً للسفياني والخراساني قبل برهة من الزمن، وعملية الظهور تتمُّ بشكل علني بعد ذلك في مكّة المشرَّفة بين الركن والمقام، أي ليس هناك ظهور علني للإمام (عليه السلام) في فترة بدء حركة اليماني ومن يزامنه، وإلَّا لو كان الإمام (عليه السلام) ظاهراً علناً فلماذا يحتاج إلى اليماني ليُعرِّف به؟ أليس ظهوره أجلى وأبين من اليماني حتَّى يستعين به للتعريف على حركته، وهو المنصور بالرعب، والمؤيَّد بجبرئيل، والمسدَّد بميكائيل؟
فلا يبقى إلَّا فهم معنى الدعوة للإمام (عليه السلام) بشكل غير مباشر، وهي: نتيجة عمل حركة اليماني الإصلاحية سوف تصبُّ وتنتهي في مصلحة الظهور المقدَّس، وتكون مقدّمة في فهم ومواكبة حركة الإمام (عليه السلام)، لانسجام توجّهاته ومستواه الإيماني والمعرفي مع أهداف نصرة الإمام المهدي (عليه السلام).
وهذا هو الجزء الغامض من قصَّة اليماني وما احتاج إلى لام
التعليل في (لأنَّه) من قول الإمام (عليه السلام): (لأنَّه يدعو إلى صاحبكم). وينسجم هذا التفسير مع التسلسل الزمني لأحداث الظهور المقدَّس في سبق حركة اليماني للظهور ومجابهته للسفياني والتيّارات المنحرفة التي تبرز قبيل فجر الظهور. لا أن نُؤوِّل معنى هذه اللام التعليلية ونصنع منها عقيدة غامضة يحاكُ خلفها خيوط مؤامرة يُراد منها الإطاحة بمهمَّة الإمام (عليه السلام) باستبداله بشخص اليماني الذي هو الهمبوشي والذي هو نفسه الإمام (عليه السلام).
عصمة اليماني:
بقي أنَّهم يحتجّون بعصمة اليماني لقول المعصوم (عليه السلام): إنَّ رايته راية هدى، وذلك دعوة لنصرته، ومن يدعو الإمام لنصرته لا بدَّ أن يكون معصوماً.
الجواب:
ورد عن الإمام الحجَّة (عليه السلام) بحقِّ علماء أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّهم (حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم)(164)، فهل يلتزم أحد أنَّ علماء المذهب رحم الله الماضين وأيَّد الباقين هم معصومون؟
لم يقل بذلك أحد لا من العلماء أنفسهم ولا من أتباعهم، رغم أنَّ الإمام (عليه السلام) في نصِّه الصريح جعلهم حجَّة على العباد، وعليه لا ملازمة بين هذا القول والقول بالعصمة.
وكثيرة هي الشواهد على مخالفة بعض الولاة والوكلاء للأئمَّة (عليهم السلام) وعصيانهم لأوامرهم رغم توليتهم من الأئمَّة (عليهم السلام) أنفسهم، بل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(164) كمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4.
أزيد من ذلك فقد ورد في حقِّ بعضهم اللعن لشدَّة مخالفته وإضلاله لأتباع الأئمَّة بالدعوة لنفسه أو الغلوّ فيهم (عليهم السلام).
إذن دعوى الملازمة بين تنصيب الأئمَّة (عليهم السلام) لوكلاء وحُجَج وما شابه ذلك والقول بالعصمة باطل.
هذا إن صدق انطباق تنصيب أحد بعينه، أمَّا في حالة اليماني فقد عرفنا أنَّ شخصه لم يُحدَّد بعينه، بل لا بدَّ في ذلك من الاستعانة بقواعد دينية وأخلاقية أُخرى كما سوف نعرف قريباً.
وقد تمَّ الكلام فيما سبق في معرفة شخص اليماني في حدود مدلول ما نطقت به الروايات الصادرة عن أهل البيت (عليهم السلام) وخصوصاً في تحديد بلده، بقي أنَّ هذا البلد الذي ذكرته الروايات من الممكن أن يخرج منه عدَّة أشخاص ويدَّعون أنَّهم هم المقصودون باليماني المذكور في لسان الروايات بعد أن صرَّحت تلك الروايات أنَّه من اليمن. فما هي الضابطة العامَّة والميزان في معرفة أصحاب الدعوات الحقَّة من الباطلة؟ فلا بدَّ من وجود معيار وميزان تنتهي إليه معرفة صاحب كلّ دعوة، ولو كان الأمر هرجاً لصحَّ من كلِّ مفسد وباغ أن يدَّعي أنَّ دعوته دعوة حقّ ويجب على الخلق اتّباعه وإلَّا دخلوا النار، فما هي تلك الضابطة العامَّة؟
ميزان معرفة الحقّ:
جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له: أترى أنَّ طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على باطل؟ فقال (عليه السلام): (إِنَّكَ مَلبُوسٌ عَلَيكَ، إِنَّ الحَقَّ وَالباطِلَ لَا يُعْرَفانِ بِأَقدارِ الرِّجالِ وَبِإِعمالِ الظَّنِ، اِعرِفِ الحَقَّ تَعرِف أَهلَهُ، وَاعرِفِ الباطِلَ تَعرِف أَهلَهُ)(165).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(165) أنساب الأشراف للبلاذري 2: 238 و239/ ح 269.
فمن باب العدل واحترام حجّية وطاعة كلام المعصوم لا بدَّ من الرجوع إلى القاعدة الثانية، وهي الأعمّ في معرفة أشخاص أصحاب الدعوات ومدى أحقّية دعواتهم، وهي قاعدة (معرفة الحقِّ بنفسه، ومعرفة الرجال بالحقِّ)، وفي ذلك نبقى ضمن أمرين مهمَّين بيَّنهما المعصوم (عليه السلام)، ويفترض أن يكون العقل وكلام المعصوم حجَّة علينا:
الأُولى: نصُّ المعصوم في علامة (اليماني)، التي يفترض أن يكون استعماله فيها حقيقة وليس مجازاً كما عرفنا.
والثانية: معرفة الحقِّ، ومعرفة الباطل.
لا أن تضعوا قواعد من عند أنفسكم وتخالفوا المعصوم بكلِّ جرأة ووقاحة لتُؤسِّسوا قواعد يُبنى عليها سلب حقّ محمّد وآله الأطهار (عليهم السلام)، والذين علَّمونا في زيارة عاشوراء كيف وإلى أيِّ حدٍّ نتبرَّأ (مِمَّنْ أَسَّسَ أَساسَ الظُّلْمِ وَالجَوْرِ عَلَيْكُمْ، وَأَبْرَأُ إِلى الله وَإِلى رَسُولِهِ مِمَّنْ أَسَّسَ أَساسَ ذلِكَ وَبَنى عَلَيهِ بُنْيانَهُ وَجَرى فِي ظُلْمِهِ وَجَوْرِهِ عَلَيْكُمْ وَعَلى أَشْيَاعِكُمْ، بَرِئْتُ إِلى الله وَإِلَيْكُمْ مِنْهُمْ وَأَتَقَرَّبُ إِلى الله ثُمَّ إِلَيْكُمْ بِمُوالاتِكُمْ وَمُوالاةِ وَلِيِّكُمْ وَالبَراءةِ مِنْ أَعْدائِكُمْ وَالنَّاصِبِينَ لَكُمْ الحَرْبَ وَبِالبَراءةِ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْباعِهِمْ...)(166).
فما هو الحقّ الذي بمعرفته يُعرَف أصحابه؟
عندما يواجه الإنسان المؤمن مشكلة تحتاج إلى تحديد موقف الشرع منها كتكليفه تجاه حادثة معيَّنة تحتاج إلى نصرة عسكرية كحالة اليماني، فمن الطبيعي أنَّ هذا المؤمن يعيش في عصره وينطلق من الواقع المحيط به ويتفاعل مع القضايا المعاصرة له، فكلّ لحظة من لحظات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(166) المصباح للكفعمي: 483.
التاريخ يعيش فيها خطّان متضادّان من الخير والشرّ والعدل والظلم والحقّ والباطل، وكلُّ واحد من هذه الأقسام إمَّا واضح صريح أو ما هو ملتبس ومشتبه بعضه ببعض، ونحن نرى كثيراً من الدول والمؤسّسات الدولية اليوم ترفع شعار مبادئ العدل، وفي الحقيقة هي من أشدِّ مخالفيه، ولكن عادةً ما تخالفه بصورة غير صريحة.
ومثال على ذلك: طالما كان هناك صراع بين المعسكر الشرقي المتمثِّل بالاتّحاد السوفيتي سابقاً والمعسكر الغربي المتمثِّل بأمريكا، وقبيل وبعد انهيار الاتّحاد السفياتي كان له امتداد وأطماع في بعض الدول، وعبَّر عن أطماعه باجتياحات عسكرية كما حدث في أفغانستان والشيشان مثلاً، إلَّا أنَّ حرب أمريكا لم تتعامل معه بالأُسلوب القديم بالمواجهة المباشرة، ولا بالأُسلوب اللاحق كالحرب الباردة، وإنَّما استخدمت أُسلوباً مبتكراً في طرق إدارة الحروب، نعم هو مجابهة عسكرية ولكن كلَّما احتاجت إلى جيش ارتقى رجال الدين في السعودية منابر المسلمين ودعوا إلى الجهاد لاستنقاذ أرض المسلمين المغصوبة والمسلوبة من الكفّار، وببعض دموع التماسيح وآيات الجهاد يسرع المسلمون ممَّن يسمعونهم إلى تلبية دعوتهم وبحساب مفتوح من ملوكهم من ثروات المسلمين تلبيةً لمعاهدات سرّية مع إدارات الحرب الأمريكية على الحرب بالنيابة، وبذلك حفظوا أبناء أمريكا من مواجهة العدوّ الروسي، وتمَّت بدماء المسلمين تحقيق أهداف أمريكا في السيطرة على إدارة العالم.
فأين نيَّة المسلم الذي لبّى نداء رجل الدين في السعودية من مخطّطي السياسات الاستراتيجية الأمريكية في الحفاظ على هيمنة أمريكا على العالم؟ لا شكَّ في جهل هذا المسلم المخدوع الذي لبّى دعوة يظنُّ
بجهله أنَّها حقَّة، كما لا شكَّ بخبث وظلم نيَّة الإدارة الأمريكية في تكريس سيطرتها على مليارات من البشر، فهذا الأمر بدأ وخُطِّطَ له بالباطل ونُفِّذَ بنوايا مغايرة لما خُطِّطَ له، وعادت نتائجه إلى ما رُسِمَ له في تلك الدوائر التي خُطِّطَ له فيها وثمنه دماء المسلمين، والذي لا أعلم لماذا لا يسأل المسلمون أنفسهم: لماذا لم يتطرَّق رجل الدين في السعودية وغيرها إلى قضيَّة هي أهمّ من المنظور الديني والرمزي بالنسبة للمسلمين وهي قضيَّة فلسطين واحتلال القدس وبيت المقدس من قِبَل الصهاينة!؟ مع أنَّها أقرب مكاناً وطول فترة احتلالها وكثرة المصائب والويلات التي لاقاها المسلمون في ظلِّ احتلال هذا البلد العزيز.
وكثيرة هي الأمثلة في العالم اليوم على التباس الحقّ بالباطل، ومع كثرة المشاكل وتعدُّد أنواعها وتداخلها منها، مثلاً الاقتصادية والتربوية والأخلاقية والعلمية والإنسانية والأمنية، وتبلورت عبر الزمن إلى أن ظهرت في معسكرين أساسيين، وعلى الأقلِّ على مستوى القيم والمبادئ، وأمَّا من غير هذين المعسكرين من الدول فهي إمَّا لم تكن لها قيمة عامَّة تُؤهِّلها إلى الدخول في هذا المعترك العالمي أو من نأى بنفسه عن تلك التحدّيات وانطوى على الاهتمام بالشأن الداخلي لبلده.
ويُمثِّل اليوم رأس الشرِّ بالعالم أمريكا، وهذا ينبغي أن يكون واضحاً خصوصاً مع ظهور المحافظين الجُدُد واستيلائهم على رسم السياسات الخارجية الأمريكية، والذين ينطلقون بدوافع دينية متوافقة مع اللوبي الصهيوني العالمي، وبهذا الامتداد الأمريكي الغربي الصهيوني الإسرائيلي تتشكَّل معالم الجبهة المناوئة للجبهة الأُخرى والذي يُمثِّل اليوم أبرز معالمها النظام الإسلامي في إيران، وعلى هذا التحديد نستطيع
أن نقيس أيّ موقف معادي لإيران فهو إمَّا يتحرَّك على أساس مصالح مع الجبهة الأُخرى يساير بموقفه هذا رعاية مصالحه معها كاليابان وبعض دول أُوروبا، أو له موقف مبدئي معادٍ للنظام الذي قامت وتنادي به الجمهورية الإسلاميَّة في إيران، ويستقوي بجبهة الظلم على أبناء دينه كما تفعل السعودية وبعض الدول العربية والإسلاميَّة.
ويسير بموازاة هذين الرمزين من الخير والشرّ المعلومين في الساحة العالمية في العصر الحاضر، خطّ عامّ يُمثِّل مستوى إرادة البشرية في تحقيق إنسانيتها، وكلّ فئة اجتماعية دينية كانت أو جغرافية أو قومية لها موازينها وقيمها الخاصَّة، والتي من خلالها تُعبِّر عن وجودها وعن قيمتها الإنسانية وإن كان ذلك السير بطيئاً جدَّاً(167)، وربَّما تستبطن بعض الفئات الاجتماعية المنعزلة في عصرنا الحاضر ولا تُمثِّل حالياً قطباً يتمحور حوله أحد الاتّجاهات البارزة في العالم قد تحمل مؤهِّلات وتستبطن قابليات ذات قيم إنسانية عليا ربَّما تتكشَّف عبر ظروف ثقافية أو سياسية معيَّنة في المستقبل القريب أو البعيد يؤهِّلها أن تأخذ بزمام أُمور القطبية العالمية، وتكون ذات اهتمام إعلامي ودولي بارز نظراً للقيمة الإنسانية التي تطرحها، فالدول كما الحضارات معرَّضة للتراجع عن السيطرة على إدارة زمام أُمور العالم أو الإقليم التي تتقدَّم فيه، وما يهمّنا نحن كمسلمين هو الحفاظ أوَّلاً على مبادئنا الأساسية.
هذا هو مجمل الواقع العالمي اليوم وعلاقته بما يجب أن نفعله كمسلمين، وهذه هي القضايا المطروحة على ساحته. أقطاب الظلم في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(167) ومن يستطيع أن يستمع إلى خطوات مسيره تلك فهو قد عرف معنى روح التاريخ، ومن استطاع أن يُترجِم معنى هذه الخطوات إلى أفكار فهو قد كتب فلسفته.
العالم استعملت واستخدمت مقدَّساتنا كالفتاوى وخدمة الحرمين وتراثنا ودماءنا وعقولنا وشبابنا لتحارب به ديننا دفاعاً عن نفسها وعن أفكارها وسياساتها من أجل السيطرة علينا، لتُلغي ثقافتنا ومعتقداتنا ومبادئنا ومستقبلنا، وأحد أهمّ ساحات معركتها هو تشويه سمعة المسلمين، وأحد أبرز جبهات هذه المعركة هو إسقاط سمعة وقيمة رمز مستقبلهم والمذخور لإقامة العدل وإزالة الجور إمام الزمان وأمل الشعوب، بطرح نماذج يبرزوها للمسلمين كنماذج بديلة عنه، كما فعل شركاؤهم من قبل من بيزنطيين وغيرهم الذين ساندوا بعض الخلفاء من خلال مستشاريهم في البلاط الأُموي، وما فعلته المخابرات الغربية في دفع محمّد بن عبد الوهّاب إلى واجهة قيادة المسلمين بالتحالف مع أُسرة آل سعود، والمخابرات الروسية في تبنّي (الباب) حتَّى أصبحت تلك الجماعات أُمماً كاملةً يُحرِّكونها متى ما احتاجت الحكومة الروسية أو الغرب إلى حركتهم، وكلُّ ذلك على حساب الإسلام وخطّ أهل البيت (عليهم السلام)، وبدأ ذلك في إرضاء غرور شخص منحرف نفسياً وعقائدياً مُلِئَ بالأحقاد على دينه ومذهبه فراح يُعبِّر عن أحقاده بتلك الدعوات بشقِّ صفوف المسلمين وإخضاع كثير من شبابهم إلى إرادات معادية للإسلام بوقوفهم بوجه المواقف المدافعة عن المسلمين لصالح تلك الدول الداعمة والراعية له، والسبب الثاني هو ذلك الجهل والغفلة من قِبَل أتباعه الذين يهتفون باسمه ليل نهار، وكأنَّ الهدف من خلق الكون هو تمجيد هذا المنحرف أو ذاك، وحرموا الأُمَّة بفضل غباء وتقاعس وطمع هؤلاء من حملها على العدل والخير والرحمة، التي تتحقَّق بقيادة خلفاء السماء لولا جهل الجاهلين وقصور المقصِّرين.
فمن الضروري تحديد نوع المشكلة ومدى تأثيرها على الإسلام وأهدافه النبيلة قبل اتّخاذ أيّ قرار بالنصرة أو المجابهة.
وعندما يريد أن يخرج قائد يدَّعي نصرة الدين، وليس لدينا معرفة كاملة بمبادئه ومستوى صدقه في تطبيق تلك المبادئ، فيتعيَّن علينا حسب الشرع والعقل أحد مرحلتين:
المرحلة الأُولى وهي خاصَّة:
وفيها خطوتان:
الخطوة الأُولى: يجب أخذ رأي أهل الخبرة في الدين من مجتهدين خصوصاً أُولئك الذي بذلوا حياتهم وأفنوا سنيّهم بنصرة الدين والمذهب وعلى جميع الأصعدة.
الخطوة الثانية: يجب من يُؤخَذ رأيه أن يكون له اطّلاع واسع وتقييم صائب في الأحداث السياسية والاجتماعية، ولديه متابعة مستمرَّة لتطوّرات الأحداث خصوصاً القريبة والمحيطة من بيئة الشخص المدَّعي.
المرحلة الثانية وهي عامَّة:
لا شكَّ أنَّ أيَّ مصلح حين يبرز بدعوته فإنَّه سوف ينطلق من الواقع الذي يعيشه ذلك المؤمن الذي يريد نصرة دينه وإعلاء كلمة (لا إله إلَّا الله) في أرضه، وعند طرح هذا القائد لأيِّ شعار أو ذكره لأيِّ هدف، يقيس ذلك المؤمن شعار وأهداف وأفكار ونظريات وعقيدة هذا القائد المفترض على المبادئ العليا للدين والتي بيَّنها ورسمها خلفاؤه بالحقِّ (عليهم السلام)، ثمّ ينظر إلى الواقع من حوله وينظر إلى أيِّ مدى تطابق تلك الشعارات والأهداف، وإلى أيِّ حدٍّ ينسجم مع نصرة القضايا الحقَّة في عصره، واختبار كلّ حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله.
ونُذكِّر أنفسنا على الدوام بأنَّ هذا الدين الذي بين أيدينا لم يصل إلينا إلَّا بتضحيات أنبياء ومرسلين وأوصياء وأولياء وشهداء، وأُبيدت أُمم بكاملها لأجله، ويُتِّمَت ملايين الأطفال، ورُمِّلَت مئات الآلاف من النساء، وقُطِّعَت أيدٍ وأرجل، وطُحِنَت رؤوس، وأُنزلت كتب ورسالات، وعمل ما لا يُحصى من الملائكة لإتمام الدعوة الإلهية، والتي تتحقَّق ثمرة جهود أُولئك بالطلعة الرشيدة لصاحب الأمر أرواحنا فداه الذي يكون اليماني علامة له، فلا مجال للمجاملة والتسامح والتسويف والتأويل والأماني الباطلة، فإنَّ الحقَّ ما نطق به الرسول الأمين وتبعه أهل بيته الميامين (عليهم السلام) صريحاً جليَّاً لا يقبل أيّ تفسير آخر، فإن طابق قوله فعله من دون أن يتذرَّع بالأعذار أو يلوذ بالحيل نصرناه سواء كان يمانياً أم غيره.
ويجب على من يطرح نفسه مصلحاً وقائداً أن يكون طرحه متناسباً مع المهمَّة التي يطرح نفسه لأجلها، والمشكلة التي يريد إصلاحها نابعة من الواقع الذي يعيشه، فالدين أمر واقعي، ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هي من صميم الواقع، وعادة ما تتحقَّق الحلول الأفضل بكشف أصالة رأي أهل البيت (عليهم السلام)، واستنتاج رأي ينهل من معين تلك الأصالة. لا الاجتهاد في دفعهم عن مراتبهم التي رتَّبهم الله فيها بأوهام أقرب ما تكون للهلوسة وأفعال نسجتها خيالات المهلوسين وأفكار لم يعرف منها إلَّا العناوين، فأين هذه الادِّعاءات الخاوية على عروش بقايا عقول أصحابها من قواعد أسَّستها السماء أصلها ثابت وفرعها في علّيين!؟
النتيجة:
أنَّ صاحب أيِّ دعوى إمَّا أن يكون مبشَّراً به في الروايات أو لا، فإن كان قد بشَّرت به الروايات فالواجب هو تحديد وتمحيص ما يمكن أن تصل إليه دلالة تلك الروايات، وفق قواعد علمية ثابتة، وإن توقَّفت الروايات عند معنى عامّ كتحديد بلد الشخص المعنيّ من دون ذكر أوصاف أُخرى تُحدِّد شخصه، فعند ذلك لا بدَّ من الاستعانة بقاعدة أُخرى يتمُّ من خلالها تشخيص وتحديد ذلك الشخص المبشَّر به، وتلك القاعدة الأُخرى هي ما بيَّنها أمير المؤمنين (عليه السلام): (اِعرِفِ الحَقَّ تَعرِف أَهلَهُ)، وينطبق ذلك على شخصية اليماني. وإن تكفَّلت الروايات بهذه المهمَّة وبيَّنت معالم شخصية هذا الرجل بعد صحَّة تلك الروايات فنحن والروايات، وإن لم تُبيِّن الروايات شخصاً بعينه، فقد دعت إلى نصرة الحقِّ، فهذا ما يحتاج إلى قاعدة واحدة وهو معرفة الحقِّ نفسه لنعرف أهله. وينطبق ذلك على كلِّ المصلحين الذين خرجوا ويخرجون لنصرة الحقِّ وأهله وهم بالمئات، ولم تتمّ الإشارة لهم بأشخاصهم.
تساؤلات:
فإذا كان هذا هو الواقع الذي يجب أن يُبيِّن الإنسان موقفه منه، وأنت يا أحمد إسماعيل تدَّعي أنَّك اليماني، وبغضِّ النظر عن افتراءاتك الأُخرى، ما هو موقفك من أمريكا والصهيونية العالمية؟ وما هو موقفك من أتباعهم وجنودهم الذين لم يعودوا خفيّين حين أصبحت اللعبة مكشوفة وأصبح مستوى التصريحات بدعم الجماعات المسلَّحة والتي قبل قليل كانت إرهابية صارت محقَّة في المنظور الأمريكي الصهيوني
ولسان العداء لخطِّ أهل البيت (عليهم السلام) صار فصيحاً وممدوحاً في معايير الإعلام العالمي، فهل هذا هو العدوّ؟ أم علماء مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم الذين لم يؤمنوا بدعوتك وجلّ همّك هو تسقيطهم وذمّهم وتشويه سمعة مسلكهم لا لشيء إلَّا كونهم لم يتَّبعوا سخافاتك المخالفة للعقيدة الحقَّة والتي تدعمها آلاف الروايات من كلِّ الفِرَق الإسلاميَّة عن أئمَّة الهدى (عليهم السلام) ورسول الإسلام الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن ربِّ العزَّة سبحانه!؟ ودعوتك تلك جلّ همِّها إثبات افتراءاتك بتأويلات مشوَّهة، والأجدر بك لو كنت على الأقلِّ تحترم نفسك وتحترم من تخاطبهم ومن باب إقامة الحجَّة، لبيَّنت لهم تقييمك ونظرتك عن الوضع العالمي، وتشخيصك للأخطاء الرئيسية فيه، أو نقاط الخلل التي تشوبه، وما هي خطَّتك لإصلاحه، ومن أين ستبدأ بذلك وكيف، ليطمئن إليك الناس، ويعلموا بكفاءتك وقدرتك في إدارة مواقف على المستوى العالمي كما تدَّعي، فأين نظريَّتك في إدارة الحروب ونظريَّتك في الاقتصاد وفي التربية والتعليم والإعلام وغيرها!؟ أظهرها للعالم كي يعرف ما تُخفيه.
هذا هو المنطق العقلائي والمتَّبع عند أبناء بني البشر كافّة سواء كانوا أحزاباً سياسية أم مصلحين أم أنبياء أم مرسلين، يُبيِّنوا للناس تفاصيل ما يريدون لغيرهم أن يتبعوهم به، لا أن تتكلَّم بعمومات فارغة وشعارات يستطيع أن يدَّعيها أيّ نزق، ويكفينا تجربة في ذلك بعض الأحزاب والدول ذات المسمّيات الإسلاميَّة وهي أبعد ما تكون ممَّا تطرحه من شعارات عن المبادئ العليا للإسلام، لكنّا نعلم أنَّك ساذج وجاهل في مستوى ما تدَّعيه، ولو كان هناك شيء لبان، خصوصاً أنَّك تستميت وتستعمل كلّ الطرق لاستمالة هؤلاء المساكين من أتباعك ممَّن
يتأثَّرون بالعمومات والادِّعاءات الفارغة من أيِّ مضمون حقيقي، ولو أنَّك تورَّطت وتكلَّمت ببعض التفاصيل والجزئيات لعرفوا زيف ادِّعاءاتك في جهلك بأدنى ما تدَّعيه، وستبقى هارباً وراء جهلك مستتراً بحيلك بأنَّك لم تظهر خوفاً على حياتك، فنحن لم نطلب حضورك، وجلّ ما نطلبه منك هو آراؤك العلمية بشكل تفصيلي في أيِّ قضيَّة علمية معاصرة إن كان لديك شيء منها، بشرط أن لا تسرقها من متصوِّفة وعرفاء سابقين، ولا تأويلات متشابهة ممَّا تسوِّقه لأتباعك وتُسمّيها علماً، ووسيلة طرحها سهلة جدَّاً، وكما تطرح ما تُسمّيها مؤلَّفات ويتبنّاها أتباعك بالطباعة والنشر كذلك آراؤك العلمية المدعاة، أو تُخوِّل أحد أتباعك الذين ساندوك منذ بدء دعوتك، والذين يفترض أنَّهم قد وصلوا إلى مقام متقدِّم في التربية والعلم، لكون المربّي معصوماً كما تُحِبُّ أن تصف نفسك بذلك، والذين يفترض أن يكونوا من (313) الذين يقودون العالم معك، وإن قصَّروا عن تمثيلك فهو إمَّا العيب فيك أو فيهم، فإن كان فيك فيثبت افتراؤك الذي هو ثابت قبل هذا، وإن يكن فيهم فكان اللازم عليك اختيار من فيهم الكفاءة والأهلية للمهام العظام التي تدَّعي أنَّك ستقوم بها.
* * *
معيار معرفة الإمام:
سُئِلَ الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): بِمَ يُعرَف الإمام؟ قال: (بخصال أوَّلها: نصٌّ من الله تبارك وتعالى عليه ونصبه علماً للناس حتَّى يكون عليهم حجَّة، لأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) نصَّب عليَّاً (عليه السلام) وعرَّفه الناس باسمه وعينه، وكذلك الأئمَّة (عليهم السلام) يُنصِّب الأوَّل الثاني، وأن يُسئَل فيجيب، وأن يُسكَت عنه فيبتدئ، ويُخبِر الناس بما يكون في غدٍ، ويُكلِّم الناس بكلِّ لسان ولغة)، قال الصدوق (رحمه الله): (إنَّ الإمام (عليه السلام) إنَّما يُخبِر بما يكون في غدٍ بعهد منه واصل إليه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وذلك ممَّا نزل به عليه جبرئيل (عليه السلام) من أخبار الحوادث الكائنة إلى يوم القيامة)(168).
وبدل من أن نبتكر قواعد ومعايير لمعرفة الحجَّة علينا من عند أنفسنا، أو نسمح للمغرضين أن يأتوا بمعايير تمليها عليهم شياطينهم لتلائم أدلَّتهم التي سوف يُشبِّهون بها على الناس، بدل ذلك كلّه لماذا لا نرجع لأئمَّتنا (عليهم السلام) ونسير وفق موازينهم ونهتدي بقواعدهم التي أرسوها لمعرفة الحجَّة علينا؟ فقد بيَّن الإمام الباقر (عليه السلام) تلك المعايير بشكل لا يقبل أدنى شكٍّ في الرواية السابقة وفي غيرها عدَّة قواعد لمعرفة صاحب الأمر (عليه السلام)، وفي هذا المبحث سنضع تلك القواعد التي أسَّسها وبيَّنها المعصوم (عليه السلام) في أحاديثهم الشريفة، سنضعها معياراً ومقياساً لمعرفة الحجَّة علينا، وسنعرف كيف يؤازر بعضها بعضاً، وإن اشتبه على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(168) معاني الأخبار: 101 و102/ باب معنى الإمام المبين/ ح 3.
أحد تلك القواعد من خلال تلاعب بعض المنسلخين فما عليه إلَّا أن يضيفها إلى القواعد الأُخرى، وهكذا إلى الثالثة والرابعة، فطبيعة تلك القواعد يُؤيِّد بعضها البعض الآخر ولا تتقاطع أو تتنافى فيما بينها، وهذه أحد أهمّ العقبات أمام المضلّين، ولذلك نراهم التجؤوا إلى حيلة التفريق بين تلك القواعد ليُفكِّكوا قوَّة هذا التعاضد الداخلي في اجتماعها.
القاعدة الأُولى: النصّ:
(نصٌّ من الله تبارك وتعالى عليه...) الرواية.
ومن أمثلة النصِّ على وصاية وإمامة الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) ما ورد عن أبي حمزة الثمالي، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (حدَّثني جبرئيل عن ربِّ العزَّة (جلَّ جلاله) أنَّه قال: من علم أن لا إله إلَّا أنا وحدي، وأنَّ محمّداً عبدي ورسولي، وأنَّ علي بن أبي طالب خليفتي، وأنَّ الأئمَّة من ولده حججي أُدخله الجنَّة برحمتي، ونجَّيته من النار بعفوي، وأبحث(169) له جواري، وأوجبت له كرامتي، وأتممت عليه نعمتي، وجعلته من خاصَّتي وخالصتي، إن ناداني لبَّيته، وإن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وإن سكت ابتدأته، وإن أساء رحمته، وإن فرَّ منّي دعوته، وإن رجع إليَّ قبلته، وإن قرع بابي فتحته. ومن لم يشهد أن لا إله إلَّا أنا وحدي، أو شهد بذلك ولم يشهد أنَّ محمّداً عبدي ورسولي، أو شهد بذلك ولم يشهد أنَّ علي بن أبي طالب خليفتي، أو شهد بذلك ولم يشهد أنَّ الأئمَّة من ولده حججي فقد جحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(169) كذا في المصدر، وفي كفاية الأثر والاحتجاج وغيرهما: (وأبَحْتُ له جواري).
نعمتي، وصغَّر عظمتي، وكفر بآياتي وكتبي، إن قصدني حجبته، وإن سألني حرمته، وإن ناداني لم أسمع نداءه، وإن دعاني لم أستجب دعاءه، وإن رجاني خيَّبته، وذلك جزاؤه منّي وما أنا بظلَّام للعبيد).
فقام جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال: يا رسول الله، ومن الأئمَّة من ولد علي بن أبي طالب؟
قال: (الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنَّة، ثمّ سيِّد العابدين في زمانه علي بن الحسين، ثمّ الباقر محمّد بن علي وستدركه يا جابر، فإذا أدركته فأقرئه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمّد، ثمّ الكاظم موسى بن جعفر، ثمّ الرضا علي بن موسى، ثمّ التقي محمّد بن علي، ثمّ النقي علي بن محمّد، ثمّ الزكي الحسن بن علي، ثمّ ابنه القائم بالحقِّ مهدي أُمَّتي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، هؤلاء يا جابر خلفائي وأوصيائي وأولادي وعترتي، من أطاعهم فقد أطاعني، ومن عصاهم فقد عصاني، ومن أنكرهم أو أنكر واحداً منهم فقد أنكرني، بهم يُمسِك الله (عزَّ وجلَّ) السماء أن تقع على الأرض إلَّا بإذنه، وبهم يحفظ الله الأرض أن تميد بأهلها)(170).
هذا نموذج من عشرات الروايات التي تنصُّ على أسماء وأعداد الأوصياء بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فخاتم الأنبياء ينصُّ على أنَّ آخر الأوصياء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(170) كمال الدين: 258 و259/ باب 24/ ح 3؛ وراجع: كمال الدين: 253 و254/ باب 23/ ح 3، و264 - 269 و280/ باب 24/ ح 11 و27، و441/ باب 43/ ح 12؛ عيون أخبار الرضا 1: 66/ ح 31؛ الاحتجاج 1: 87؛ كفاية الأثر: 144؛ الصراط المستقيم 2: 149.
هو الثاني عشر من الأئمَّة (عليهم السلام)، والثاني عشر (عليه السلام) ينصُّ على أنَّه خاتم الأوصياء، فمن لديه الجرأة على الله ورسوله وأهل بيته الطاهرين فليقل: نعم إنَّهم قالوا هم اثنا عشر وصيَّاً وحجَّةً، وأنا أقول: كلَّا هم أكثر من ذلك.
فهل سها جبرئيل (عليه السلام) عن أمانته حين جاء بالوصيَّة من الله تعالى!؟ وهل غفل سيِّد الكائنات (صلّى الله عليه وآله وسلم) حين نصَّ على أوصيائه من بعده أن ينصَّ على الهمبوشي وأمثاله!؟
ومن أراد المزيد من روايات النصِّ التي تُحدِّد عدد الأوصياء وأسماءهم، فليراجع مبحث الوصيَّة وغيرها يجد كثيراً من الروايات التي تنصُّ بشكل لا يقبل أدنى شكّ على أنَّ الأوصياء والحجج والأئمَّة هم اثنا عشر لا غير.
وقد عرفنا أنَّ النصَّ عند أهل اللغة هو: (نَصُّ كلِّ شيء: منتهاه)(171)، فتكون قوَّة دلالة اللفظ على معناه هو أن تبلغ منتهى غاية الدلالة، وهذا ما عرفناه في نصِّ النبيِّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) على الأوصياء من بعده في ذكره عددهم وأسماءهم وألقابهم وكناهم.
ولا يوجد نصٌّ على أحمد إسماعيل الهمبوشي السلمي كما هو مسلَّم وثابت.
وإن تعارض نصٌّ مع غيره من مراتب دلالات الكلام على معناه، فالمقدَّم هو النصُّ، لقوَّة حجّيته ولتقدّمها على غيرها. ولعدم وجود نصٍّ على هذا المدَّعي وأمثاله، فليس له حجَّة النصِّ التي ذكرت الأوصياء من آل محمّد (عليهم السلام) الاثني عشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(171) كتاب العين 7: 87.
وادَّعى أحمد إسماعيل السلمي أنَّه هو المقصود بابنه في رواية: (فليُسلِّمها إلى ابنه)، ولا بدَّ من النظر إلى هذا الابن من جهة النسب أوَّلاً، ومن جهة الوظيفة الإلهية بالنسبة إلى صاحب النسب ثانياً.
الجهة الأُولى: جهة النسب: فهل يساعد الظهور على ادِّعاء أحمد إسماعيل أم لا؟ ليكون كلامه ظاهراً من جهة النسب في صدق انطباق (فليُسلِّمها إلى ابنه) عليه. وهل يصمد هذا الظهور اللفظي من جهة النسب مع جهة الوظيفة الإلهية الثابتة في مئات الروايات أم لا؟
سنتعرَّف على الإجابة من خلال المناقشات التالية:
المناقشة الأُولى:
إنَّ كلمة (ابن) كما عرفنا يمكن أن تُستَعمل في معنى الابن المباشر وهو الأقرب والأظهر، كما يقرُّ بذلك كلُّ العقلاء، وتُستَعمل أيضاً ويُراد بها الأبعد من المباشر، وهو غير مراد في الرواية، لأنَّنا إذا رجعنا إلى الرواية التي يستدلّون بها فهي قد ذكرت بعد ذكر تسليم الأمر والإمامة من الأب لابنه المباشر واحداً بعد واحد من الأئمَّة (عليهم السلام) بحيث كان السياق متَّحداً في كلِّ الرواية، وانتهت إلى قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (فإذا حضرته الوفاة فليُسلِّمها إلى ابنه...)، ولم ينصب النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) قرينةً على إرادة الابن غير المباشر أو حفيد الحفيد، والوصيَّة للأُمَّة عامَّة، وعامَّة الناس قد عرفنا أنَّهم إذا ما سمعوا كلمة (ابن) يتبادر لهم معنى الابن المباشر خصوصاً إذا كان الأمر يتعلَّق بالهداية والضلال وحاشاه (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو الهادي للأُمَّة وأحكم الخلق وأرحمهم.
وعليه وبما أنَّ النبيَّ كان في مقام البيان فاستعماله للفظ (ابنه) وبقرينة السياق يكون استعماله ظاهراً في المعنى الأقرب، وهو الابن المباشر، والظهور حجَّة على السامع.
المناقشة الثانية:
إنَّك قبل ادِّعائك هذا كنت تنتسب لعشيرة آلبو سويلم الصيامرة، ولم يُعرَف عن أحد من أهلك وأعمامك أنَّهم ينتسبون لبني هاشم حتَّى زعمت ذلك لنفسك بتغيير نسبك بانتسابك لبني هاشم وللإمام المهدي (عليه السلام)، وهذا ما يحتاج إلى بيِّنة شرعية، ولم تستطع الإتيان بها، ولن تستطيع ذلك لاستحالتها. وادِّعاء البنوَّة المخالف للشرع لا يكون حجَّة فضلاً عمَّا إذا كان المدَّعي يزعم إمامة المسلمين ووصاية رسول ربِّ العالمين (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وخلافة حاكم السماوات والأرضين.
وكفى بمعصية الشريعة وقرينة السياق أن تُبعِّد احتمال ظهور لفظ (ابنه) الوارد في الرواية من أن تنطبق على ادِّعاء أحمد إسماعيل كونه ابناً للإمام المهدي (عليه السلام)، وهو الخامس في تسلسل نسبه كما يدَّعي.
النتيجة:
إنَّ الظهور اللفظي لا يساعد أحمد إسماعيل السلمي على دعوته، وعليه: كلامه ليس له حجَّة من جهة الظهور، بل بالعكس تماماً فإنَّ القرائن تُرجِّح ظهور اللفظ على خلاف دعوته تماماً، والظهور حجَّة، وإذا لم يكن قوله: (فليُسلِّمها إلى ابنه) ظاهراً فيما ادِّعاه الهمبوشي فكيف يكون نصَّاً على إمامته؟!
القاعدة الثانية: التنصيب:
النصب لغة: (مصدر نصبت الشيء، إذا أقمته)(172).
(ونصبه علماً للناس حتَّى يكون عليهم حجَّة، لأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) نصَّب عليَّاً (عليه السلام) وعرَّفه الناس باسمه وعينه، وكذلك الأئمَّة (عليهم السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(172) الصحاح للجوهري 1: 224/ مادَّة (نصب).
يُنصِّب الأوَّل الثاني...)، فيكون معناه: إقامة الوصيّ والإمام السابق إماماً لاحقاً على الأُمَّة بتعريف الناس بشخصه.
ويمكن استخلاص الأُمور التالية من هذا المقطع من الرواية الشريفة:
1 - التنصيب يتمُّ أمام الناس، وذلك من خلال قوله (عليه السلام): (لأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) نصَّب عليَّاً (عليه السلام) وعرَّفه الناس باسمه وعينه).
2 - بيان الهدف من إشهاد الناس على عملية التنصيب وهو إقامة الحجَّة عليهم، وهذا واضح من خلال قوله (عليه السلام): (حتَّى يكون عليهم حجَّة)، ومفهوم هذا القول أنَّ من لم يُنصَّب علانيةً أمام الناس لا يكون تنصيبه حجَّة على الناس، لعدم علمهم بإمامته.
3 - ما يحصل في عملية التنصيب هو تحديد شخصية الخليفة والوصيّ وتعيينه بشكل قطعي، وكلام الإمام في هذا المعنى واضح وجلي جدَّاً بقوله (عليه السلام): (وعرَّفه الناس باسمه وعينه)، وضرب (عليه السلام) مثالاً مسلَّماً به لدى جميع الشيعة في عملية التنصيب وهو: (لأنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) نصَّب عليَّاً (عليه السلام)).
ولعلَّ قائلاً يقول: إنَّ عملية النصِّ على الإمام اللاحق محكمة وتغني عن التنصيب وبالتالي ينتفي غرضه.
وجوابه: أنَّ معنى إحكام النصِّ يكون من جهة معرفة اسم الوصيّ فلا يشتبه باسم آخر، فإذا كان اسم الوصيّ في نصِّ الوصيَّة جعفراً مثلاً فلا يشتبه أنَّه موسى، فالاسم من هذه الناحية لا لبس فيه، ولعلَّ أحد فوائد وحكمة التنصيب هو أن يكون للمعصوم عدَّة أبناء على اسم واحد، وهذا يحصل كثيراً عند الأئمَّة (عليهم السلام)، والوصيَّة نصَّت
على اسم مشترك بين عدَّة أولاد للأئمَّة (عليهم السلام)، أو يدَّعي هذا المنصب الإلهي من كان اسمه مطابقاً أو قريباً من نصِّ الوصيَّة من خارج نسب المعصوم (عليه السلام)، وهذا ما حصل كثيراً وضُلِّلت أجيال من المسلمين ولا زالت في ضلال مطبق بسبب حيل اشتراك الاسم أو اختلاق أسماء وألقاب تتطابق مع روايات تتعلَّق بالإمام المهدي (عليه السلام)، وأوضح مثال على ذلك هو: قيام دولة بني العبّاس وأسماء وألقاب زعمائها كالمهدي والمنصور والسفّاح وغيرها، وهذه الدعوات التي نحن بصددها كدعوة الهمبوشي والقحطاني وغيرها. فما هو الميزان لتحديد شخص الوصيّ المنصوص عليه؟ يأتي هنا دور التنصيب وفائدته، بتحديد وتعيين شخص الوصيّ بتعريفه للناس كما رفع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يد أمير المؤمنين (عليه السلام) بغدير خُمٍّ وقال: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه)، وقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (هذا علي)، هو تشخيص الوصيّ بحيث لا يبقى أدنى شكّ أو احتمال لدى أيّ سامع أنَّ المعنيَّ غير المنصَّب.
4 - ومن شروط التنصيب هو: وجود الإمام السابق ظاهراً علناً بين الناس، وذلك من خلال قول الإمام (عليه السلام): (وكذلك الأئمَّة (عليهم السلام) يُنصِّب الأوَّل الثاني...)، وقوله (عليه السلام): (كذلك) إشارة إلى الصيغة التي ذكرها سابقة في كلامه (عليه السلام)، والتي استخلصت في الأُمور الأربعة. أي على هذه الكيفية تتمُّ عملية تنصيب الإمام اللاحق والوصيّ. وأمَّا ما لم يذكره الإمام (عليه السلام) من صيغة وكيفية فليس بحجَّة على أتباع آل محمّد (عليهم السلام)، ومن كان تابعاً لغيرهم فليُصرِّح بأسماء أئمَّته ولا يُحمِّل أهل بيت النبوَّة (عليهم السلام) آراء وقواعد تتناسب مع ضلالاته هم براء منها ليُضِلَّ بها أولياءهم وأتباعهم باسمهم (عليهم السلام)، ويتحمَّل بذلك وزرين: الكذب على أهل بيت النبيّ (عليهم السلام)، وإضلال أتباعهم.
خلاصة القاعدة الثانية: وجود الإمام السابق بشكل ظاهر، وهو من يشرف على عملية التنصيب، والتي لا بدَّ أن تتمَّ أمام الناس لتعريفهم بشخص الوصيّ ليكون حجَّة عليهم.
التطبيق:
يدَّعي أحمد إسماعيل الهمبوشي أنَّه رأى الإمام (عليه السلام) وقد أخبره بأنَّه ابنه وأنَّه وصيّه وأنَّه رسوله للناس كافّة، ثمّ رتَّب على ذلك أنَّه إمام وأنَّه من يملؤها قسطاً وعدلاً، وحصل ذلك سرَّاً بينه وبين الإمام (عليه السلام) الذي هو الآن في فترة غيبته الكبرى والتي لا يَعلَم نهايتها إلَّا الله تعالى.
وتلخيص دعوته:
أنَّه رأى الإمام (عليه السلام) وهو في غيبته، وأنَّ الإمام نصَّبه وصيَّاً، ثمّ ادَّعى بعد ذلك أنَّه إمام ثالث عشر، ولم يشهد على هذا التنصيب أيّ إنسان.
وجوابه:
أمَّا بالنسبة للرؤية في وقت الظهور الذي يدَّعي أحمد إسماعيل أنَّه بدأ وأنَّه قد تفرَّد بهذه الرؤيا، فيُكذِّبه الإمام الصادق (عليه السلام) بوضوح بقوله: (لا تراه عين في وقت ظهوره إلَّا رأته كلُّ عين، فمن قال لكم غير هذا فكذِّبوه)(173)، أي إنَّ الرؤية في وقت الظهور عامَّة وليست خاصَّة لأحد دون أحد، فإذا ادَّعى شخص أنَّه رآه دون غيره فهو كذّاب.
وأحمد إسماعيل يعترف أنَّ هذا هو وقت الظهور، ورؤيته رؤية خاصَّة، فهو كاذب مفتر حسب قول الإمام الصادق (عليه السلام).
والأمر الثاني والثالث مخالف لقاعدة وسُنَّة المعصومين (عليهم السلام) في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(173) مختصر بصائر الدرجات: 181؛ بحار الأنوار 53: 6.
تنصيب الأوصياء والتي تكون حجَّة على الناس، وحاشاهم (عليهم السلام) أن يطرحوا قاعدة يُعلِّمون فيها الناس معرفة إمامهم ثمّ هم يخالفونها، هذا عمل المضلّين وليس أئمَّة الهدى والقادة إلى الرضوان وحجج الرحمن، وحاشاهم (عليهم السلام) من هذا القول، فهم أكمل الخلق ورحمة الله في بلاده وحججه على عباده، فكيف يقولون: إنَّ الإمام يُنصِّب الإمام، وهذا الكلام يقتضي معرفة الناس بشخص الإمام السابق، ونحن نعلم علم اليقين أنَّ إمامنا والحجَّة علينا هو غائب، وكيف يقولون: إنَّ تنصيبه أمام الناس ثمّ يُنصِّبونه خلسةً!؟ وكيف يقولون: إنَّ تعريف الوصيّ للناس بشخصه من قِبَل الإمام السابق حجَّة على الناس، ثمّ بعد ذلك وبعد تنصيبه سرَّاً يكون هذا التنصيب حجَّة!؟ وحاشا معدن الرحمة والحكمة أن يصدر منهم هذه المخالفات التي يلزم من كلام أحمد إسماعيل أنَّها صدرت منهم (عليهم السلام). فمن يؤمن بأنَّ الأئمَّة لا تصدر منهم هذه المخالفات فكلام أحمد إسماعيل بالنسبة إليه ليس غير حجَّة علينا فقط وإنَّما هو جرأة على الله ورسوله وأهل بيته الطاهرين بنسبة النقص والتناقض إليهم (عليهم السلام)، ونعوذ بالله تعالى من هذا الإجرام والانحراف العظيم. ومن يتساهل في نسبة هذه الأُمور لآل بيت محمّد (عليهم السلام) إرضاءً لعقيدته بأحمد إسماعيل فهنيئاً له إمامة أحمد إسماعيل مع مخالفة وتكذيب آل رسول الله (عليهم السلام) بالرغم من تصريح الباقر (عليه السلام) أنَّ كلام هذا المدَّعي ليس بحجَّة، لعدم مطابقته للقاعدة التي وضعها (عليه السلام)، لمخالفتها شروط ومعايير التنصيب التي بيَّنها.
القاعدة الثالثة: العلم:
قال المعصوم (عليه السلام): (... وأن يُسئَل فيجيب، وأن يُسكَت عنه
فيبتدئ، ويُخبِر الناس بما يكون في غدٍ، ويُكلِّم الناس بكلِّ لسان ولغة)، وقال (عليه السلام): (إذا ادَّعاها مدَّع فاسألوه عن أشياء يجيب فيها مثله)(174).
ومقتضى الضمير (الهاء) في (اسألوه) يعود على الشخص المسؤول مباشرةً بلا واسطة.
وبياناً لهذه القاعدة: إنَّ مقتضى قولهم (عليهم السلام): (اسألوه)، ينحلُّ إلى ثلاثة أركان أساسية: المسؤول، والسائل، والسؤال. وأيُّ خلل في أحد هذه الأركان يُسقِط الاستدلال من أساسه، ولا يكون كلام المدَّعي حجَّة على السائل. وإنَّ لبعض هذه الأركان مقدّمات تتَّكئ عليها سنأتي عليها إن شاء الله تباعاً.
أمَّا الأركان، فهي:
الركن الأوَّل: المسؤول:
هو الشخص المختبَر (بفتح الباء)، والذي يجب عليه أن ينجح في الاختبار، ليثبت للسائل أنَّه صاحب الحقِّ والحجَّة عليه.
فالشخص المسؤول والذي يتمُّ اختباره، وهو من يدَّعي هذا الأمر، حين يطرح نفسه وليَّاً للأمر ووصيَّاً للأئمَّة الأطهار (عليهم السلام) ويريد من الناس أن تطيعه لا بدَّ أن يكون واضحاً وجليَّاً في مسألة الاختبار، لتتمَّ الحجَّة البالغة له وعليه، خصوصاً إذا كان يدَّعي أنَّ أمره علني، وأنَّ الله معذِّب من يخالفه، ولا محيص من الخضوع للموازين والمعايير التي وضعها أئمَّتنا (عليهم السلام)، وإن لم يفعل فهو كذّاب مفترٍ كائناً من يكون.
الركن الثاني: السائل:
وفيه عدَّة مقدمات:
1 - هذه المقدّمة على السائل، إذ يفترض بالسائل باعتباره باحثاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(174) الكافي 1: 340/ باب في الغيبة/ ح 20.
عن الحقيقة أن يتَّبع في بحثه قواعد تتناسب وأهمّية بحثه، وأن يستقي تلك القواعد من مصادر مأمونة ومعصومة، وأنَّه لا يجامل ولا يداهن في نتائج بحثه، والنتيجة العظمى التي تترتَّب على بحثه هذا أنَّه يتوقَّف عليه مصيره في الدنيا والآخرة، فليس هناك مجال للمجاملة لمن كان يرجو لقاء الله واليوم الآخر.
إذن فالقواعد التي يتَّبعها السائل يجب أن تكون معصومة لكي يصل إلى نتائج معصومة، وقواعد المعصوم معصومة فيجب اتّباعها.
2 - وهذه المقدمة للسائل، إذ للسائل الحقّ الكامل في أن يباشر السؤال بنفسه، ولا يحقُّ لأحدٍ أن ينتزع منه هذا الحقّ، ولو رجعنا إلى سيرة النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) لوجدنا أنَّهم لم يعتذروا لأحدٍ في طرح سؤاله مباشرةً، ولم يردّوا أحداً قطّ، سواء كانوا من داخل الإسلام أو من خارجه، من المؤمنين بولايتهم أم من غيرهم، ومن يدَّعي تمثيلهم فعليه أن يتَّبع سُنَّتهم، لأنَّنا نعتقد أنَّ سُنَّتهم حجَّة علينا، وأحد مصادر تشريعنا.
إذن يجب أن لا يُحرَم السائل من حقِّه من المباشرة في اختبار المسؤول، وذلك إتماماً للحجَّة عليه، وهذه سُنَّة المعصومين (عليهم السلام). فإذا لم يسمع الجواب مباشرةً ممَّن يختبره لعلَّه يبقى لديه شكّ في تحديد شخص الحجَّة، وهذا بخلاف الحكمة من إقامة الحجَّة.
3 - ويجب أن يكون السائل عالماً بأساليب الاختبار.
ولنذكر نموذجين من تعامل أوصياء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) مع من يريد سؤالهم، فعن أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمّد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي في أن أسألك؟ قال: (سل...)(175).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(175) الكافي 1: 328/ باب الإشارة والنصّ إلى صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 2.
وروي أنَّ أبا حنيفة دخل يوماً على الصادق (عليه السلام)، فرأى بالباب ولده موسى الكاظم (عليه السلام) وهو يومئذٍ صبي، فقال له أبو حنيفة: إنّي أُريد أن أسألك عن مسألة، أفتأذن لي في ذلك وتُحسِن الجواب عنها؟ فقال (عليه السلام): (سل ما شئت...)(176).
الركن الثالث: السؤال:
وفيه عدَّة مقدّمات أيضاً:
1 - اختيار نوع السؤال الذي يجب أن يكون حجَّة، إذ لعلَّه يختار سؤالاً متدنّياً وواضحاً، وهو يتصوَّر أنَّه من الأسئلة المعقَّدة، وهو عند المسؤول من البديهيات، ويمكن أن يجيب عليه أيّ مطَّلع على هذا النوع من العلوم، وبالتالي لا تحصل الفائدة من وصول هذا الإنسان إلى غايته بمعرفة الحجَّة عليه، لعدم انحصار الجواب على شخص من يعتقد أنَّه الحجَّة، وخصوصاً بعد التطوّر الحاصل في وسائل الاتّصال، فمن السهل جدَّاً أن يجلس الشخص المسؤول خلف حاسوبه ويُجيب عن أيِّ موضوع مطروح على الساحة العلمية، وبوسعه بضغطة زرّ واحدة أن يطَّلع على آخر الدراسات والبحوث في أيِّ مجالٍ شاء، خصوصاً إذا كان السائل بسيطاً ولم يعِ هذا المستوى من الحيل، فينسب المدَّعي لنفسه ابتكاراً ما أو يتحدَّث عن تفاصيل نظرية معيَّنة. وهذا هو الأُسلوب الذي اتَّبعه أحمد إسماعيل بالفترة الأخيرة من دون حياء أو شعور بالأسف على تلك القلوب التي تتلهَّف لمعرفة أخبار سيِّدها ومولاها.
2 - أن يكون السؤال بقدر سعة ومهمَّة الشخص المسؤول، فإذا كان المسؤول والمختبَر (بفتح الباء) متقدِّماً على وظيفة إدارة شركة زراعية مثلاً فمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(176) عوالي اللئالي 4: 109/ ح 166.
العقل والمنطق اختباره وفق مجال اختصاصه، وهكذا كلَّما اتَّسعت مهامّه أو تقلَّصت. وعلى هذه القاعدة فإن ادَّعى أحد منصب قيادة الأُمَّة على مستوى وصاية النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) يكون اختباره بهذا المستوى، قال المعصوم (عليه السلام): (إذا ادَّعاها مدَّع فاسألوه عن أشياء يجيب فيها مثله).
فالسؤال الطبيعي الذي يجب أن يُطرَح الآن: ما هو مدى سعة علم أوصياء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)؟ ولا بدَّ في معرفة ذلك من الرجوع إلى نفس الأئمَّة (عليهم السلام)، فعن جابر، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (إنَّ الله خلق الأنبياء والأئمَّة على خمسة أرواح: روح القوَّة، وروح الإيمان، وروح الحياة، وروح الشهوة، وروح القدس، فروح القدس من الله وساير هذه الأرواح يصيبها الحدثان، فروح القدس لا يلهو ولا يتغيَّر ولا يلعب، وبروح القدس علموا يا جابر ما دون العرش إلى ما تحت الثرى)(177).
وعن أبي الصلت الهروي، قال: كان الرضا (عليه السلام) يُكلِّم الناس بلغاتهم، وكان والله أفصح الناس وأعلمهم بكلِّ لسان ولغة، فقلت له يوماً: يا بن رسول الله، إنّي لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها، فقال: (يا أبا الصلت، أنا حجَّة الله على خلقه، وما كان الله ليتَّخذ حجَّة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم، أوَما بلغك قول أمير المؤمنين (عليه السلام): أُوتينا فصل الخطاب؟! فهل فصل الخطاب إلَّا معرفة اللغات)(178).
إذن وحسب قول المعصوم (عليه السلام) إن الحجَّة يعلم ما دون العرش وما تحت الثرى، وهو عالم بجميع لغات العالم، وما كان الله يتَّخذ حجَّة ولا يُطلِعه على جميع ما يحتاجونه من علوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(177) بصائر الدرجات: 473 و474/ جزء 8/ باب 15/ ح 12.
(178) عيون أخبار الرضا 2: 251/ باب 54/ ح 3.
3 - أن يترك للسائل حقّ اختيار السؤال الذي يراه مناسباً، ولا يحقُّ للمسؤول والمختبَر (بفتح الباء) أن يتدخَّل في تحديد نوع السؤال، وإلَّا لماذا يُسمّى اختباراً؟ والسمة الغالبة عن أئمَّة الهدى وحين يتعرَّضون لسؤالٍ من سائل ما يجيبون بالجواب التالي: (سل عمَّا بدا لك)، أو (سل ما شئت)، وهذه نماذج من مواقفهم:
جاء رجل إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) من وراء نهر بلخ، فقال: إنّي أسألك عن مسألة فإن أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك، فقال أبو الحسن (عليه السلام): (سل عمَّا شئت)، فقال: أخبرني عن ربِّك متى كان؟ وكيف كان؟ وعلى أيِّ شيءٍ كان اعتماده؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): (إنَّ الله تبارك وتعالى أيَّن الأين بلا أين، وكيَّف الكيف بلا كيف، وكان اعتماده على قدرته)، فقام إليه الرجل فقبَّل رأسه وقال: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمّداً رسول الله، وأنَّ عليَّاً وصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والقيِّم بعده بما قام به رسول الله، وأنَّكم الأئمَّة الصادقون، وأنَّك الخلف من بعدهم)(179).
وقول الرضا (عليه السلام) للجاثليق: (يا جاثليق، سل عمَّا بدا لك)، قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدَّتهم؟ وعن علماء الإنجيل كم كانوا؟ قال الرضا (عليه السلام): (على الخبير سقطت، أمَّا الحواريون فكانوا اثني عشر رجلاً، وكان أعلمهم وأفضلهم ألوقا...)(180).
إذن سُنَّة المعصومين (عليهم السلام) والعدل والمنطق تقتضي عدم التدخّل بتحديد نوع السؤال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(179) الكافي 1: 88/ باب الكون والمكان/ ح 2.
(180) عيون أخبار الرضا 1: 142/ باب 12/ ح 1.
ولنرجع الآن إلى أحمد إسماعيل، ولنُطبِّق عليه هذه الأركان الثلاثة، ولنرَ هل يتَّصف بأحدها فضلاً عن كلِّها أم لا!؟
ولنبدأ معه من الركن الأوَّل، فهل طرح أحمد إسماعيل (عليه السلام) نفسه للسؤال والاختبار كما طرح أوصياء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذين يدَّعي مقامهم حين يريدون أن يُثبِتوا حجَّيتهم للناس ويقيموا برهان صدقهم عليهم، أم إنَّه يُطلِق بأكاذيبه عبر أتباعه بتحدّيه للعلماء الذين لم يناقشهم في مسألة علمية واحدة معتذراً بالخوف على نفسه!؟ فهو في مسألة بداية الظهور قد بدأ ظهوره فعلاً، ويجب على الخلق أجمعين أن تطيعه وتتَّبعه، وفي مسألة إثبات كونه صاحب الظهور فهو لا يستطيع الظهور، ولا أعلم أين ذهبت عقول هؤلاء الأتباع!؟ وهل يمكن للإنسان أن ينزل إلى هذه الدرجة من السذاجة والغفلة والجهل!؟ إذ كيف يكون وجوب طاعة شخص مقدّمة على إثبات وجوب طاعة ذلك الشخص!؟ أليس هذا إنكاراً للضروريات التي تقول: لا يمكن تقدُّم المعلول على علَّته أو تقديم السبب على مسبَّبه!؟ أليس إثبات حجَّة شخص ما هي السبب والعلَّة لطاعته، فكيف تدَّعون أنَّ طاعته واجبة على الناس ولا يمكن إثبات حجّيته إلَّا بالظهور العلني!؟ وبما أنَّه لم يظهر أمام العلماء والعامَّة ولن يظهر، لعلمنا ويقيننا بعجزه، فلا حجَّة له بذلك.
وإن احتججتم بالخوف، وإبطالاً لحيلتكم هذه نقول لكم: إنَّ هناك شخصاً يوجد على الانترنت، وعلى أحد مواقعكم الرسمية، ومن خلال كتاباته يدَّعي أنَّه هو أحمد إسماعيل، فإن كان مطلوباً وكما تدَّعون، فمن السهل جدَّاً وعلى أيَّة منظومة استخبارية وخلال دقائق يمكن تحديد مكان تواجده وإلقاء القبض عليه.
إذن حجَّة خوفه ليست بصحيحة، فهو في مأمن من هذه الناحية، فبات من المعروف علاقته ببعض الدول الإقليمية وخصوصاً الخليجية منها، فهو يستطيع أن يتنقَّل وبسهولة كاملة فيها، وفيها من الفضائيات العدد الكثير كتلك التي تُسوِّق أفكارهم على أنَّكم ممثِّلون عن الشيعة، حتَّى إذا بان جهلكم وتناقضكم كتلك المقاطع المشهورة عن أحمد إسماعيل، والذي يقرأ فيها القرآن بصورة خاطئة، فتُعلِن تلك القنوات للعالم: (أُنظروا إلى مهدي الرافضة إنَّه لا يعرف أن يقرأ القرآن)، مثل قناة (صفا) وغيرها، وليس مهمَّاً عندكم أن يسقط اسم المهدي (عليه السلام) وسمعته أمام العالم، المهمّ أن تنطلي على البسطاء حيل أحمد إسماعيل.
فليخرج على أحد تلك القنوات وفي وقت معروف، وليفتح مجال الاتّصال لسؤال العامَّة والعلماء، وليُطلِع العالم على مدى علمه وسعة فهمه. وفي هذا السياق قد طلب منهم أحد الأشخاص أيسر من ذلك بكثير، حيث قال لهم: (ليخرج ويقرأ القرآن لمدَّة ساعة واحدة متواصلة من دون خطأ وأنا أُؤمن به)، وليس ذلك مقياساً لمعرفة الحجَّة، ولكن لعلم هذا الشخص بجهل صاحبهم وقصوره عن تلبية ذلك الطلب المتيسِّر لآلاف الحفّاظ والقرّاء، ويريد أن يُفهِم هؤلاء المتعنِّتين أنَّ من يجهل قراءة القرآن على بساطتها من الضروري يجهل فهم ما ينطوي عليه من معاني عميقة فضلاً عن تطبيق تلك المعاني على واقع المجتمع الذي يحتاج إلى فهم أحواله وطبائعه، وما يحتاج كلّ صنف منه إلى التربية الخاصَّة من تلك المعاني.
وبعدم استجابته وطرح نفسه بشكل علني للسؤال الذي هو مقتضى (اسألوه) لعدم وجود المسؤول ننتهي إلى النتيجة التالية:
إنَّ أحمد إسماعيل من الممتنع أن يصل إليه أحد ليسأله حتَّى تتمَّ بذلك الحجَّة على السائل بصدق المسؤول أو كذبه، وبذلك يفقد الركن الأوَّل من الأركان الثلاثة، وليس لمتَّبعيه فضلاً عن غيرهم حجَّة في اتّباعه.
وأمَّا الركن الثاني، فإذا رجعنا إلى سيرة المعصومين (عليهم السلام) ومن عاصرهم نجد أنَّ من يطلب الحقَّ ويبحث عنه له حقُّ السؤال، وأنَّهم (عليهم السلام) لم يمنعوا أحداً من ذلك، ولم يشترطوا عليه الاستنابة عنه من دون اختياره، فهو إمَّا أن يسأل بنفسه أو أن ينتخب جماعة من الناس من ينوب عنهم، مجموعةً أو فرداً ممَّن لهم الأهلية والكفاءة على السؤال والاختبار يُمثِّلون هؤلاء من انتخبهم بحيث تكون نتيجة اختبارهم ملزمة لهم، وهذا ما عليه الضرورة الإنسانية.
وأمَّا الركن الثالث، فإذا انتفى الركن الثاني باستحالة مباشرة السائل لسؤاله ينتفي تلقائياً حرّية اختيار نوع السؤال.
حيلته في هذا الباب:
ولننظر كيف يتلاعبون بعقول الناس وبقواعد وضعها المعصوم (عليه السلام) لمعرفة الحقِّ. والحيلة التي استعملوها هنا هي استدراج عقل المتابع والسامع لدعوتهم شيئاً فشيئاً إلى أن يصلوا به إلى أمر مشتبه، والغافل عن هذه الأساليب لا يشعر بهذا التدرُّج والانتقال في حجّية الدليل من مقدّمة إلى أُخرى، وإليكم ماذا فعلوا.
بدؤوا بمقدّمة صحيحة وهي معرفة الإمام بالعلم من خلال السؤال، بعد أن عزلوا هذه المقدّمة عن باقي القواعد ثمّ أفرغوها من مضمونها.
فيُكثِرون من صيحات التحدّي العلمي للعلماء، ثمّ يُفسِّرون هذا التحدّي على طريقتهم الخاصَّة بعيداً عن الطرق المتعارفة عند أهل العلم
والعقل والحكمة، حتَّى يُصدِّقهم الجهلة أنَّهم يفعلون ذلك. وفي الحقيقة أنَّه لم يواجه ولا مرَّة واحدة أحد العلماء في مناظرة، ولم يخضع لاختبار. وإن كان صادقاً فليفعل الآن وليظهر في أحد القنوات الفضائية، ونحن على يقين مطلق أنَّه لم يفعل ولن يفعل، لعلمه بجهله وأنَّه سوف يفتضح في أوَّل سؤال سوف يواجهه، وعدم خضوعه للاختبار إخلال في الركن الأوَّل، ويكفي ذلك لسقوط حجَّته.
ثمّ تبرَّعوا من عند أنفسهم بالاستنابة عن السائل، ولم يكن السائل هو من يباشر السؤال. وهذه المخالفة الثانية في الاختبار حيث لم يتركوا للسائل حقّ السؤال، لعلمهم بجهل وعجز صاحبهم عن مجابهة الأسئلة.
ثمّ تبرَّعوا مرَّة أُخرى بتحديد نوع السؤال، وهذه مخالفة ثالثة، ولم يتركوا للسائل والمختبِر اختيار نوع السؤال، وذلك حين خلطوا الحقَّ بالباطل في إدخالهم مقدّمة ليست من ضمن الموضوع، وهي أنَّ القرآن أعظم شيء، وهذا هو الحقُّ الذي خلطوه كما فعل عمرو بن العاص من قبل ومرَّر حيلته على الخوارج، والباطل الذي خلطوه حرمانهم السائل من حقِّه في اختيار نوع السؤال الذي يجب أن يصدر منه، وحاولوا أن يحجبوه عن حقِّه في السؤال والاختبار بوضعه وجهاً لوجه أمام عظمة القرآن فإن تردَّد هذا المسكين في قبول هذه المقدّمة كأنَّه يحطُّ من شأن القرآن، وأمام تردُّده هذا يطرحون عليه مقدّمة أُخرى وهي المعرفة بمتشابه القرآن، فيكونون بذلك مصداقاً واضحاً لقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران: 7).
ومن بعد تلك السلسلة من المقدّمات، واستدراج العقل إلى هذه النقطة، يأتون بتطبيقاتهم على المتشابه بادِّعائهم إرجاعها إلى المحكم، فتجدها كلّها اقتباسات إمَّا لروايات المعصومين (عليهم السلام) المرويَّة في كتب الحديث، ثمّ ينسبونها بكلِّ وقاحة لصاحبهم، أو تأويل بعض المتشابهات بمتشابهات أُخرى، أو سرقة من كتب علماء سابقين، خصوصاً الذين لم تُطبَع كتبهم ولم يتداولها الناس.
وسنذكر نموذجاً من تطبيقاته في فهم متشابه القرآن، وللقارئ الكريم أن يقيس باقي ما يُسمّونه علماً على هذه الشاكلة، وبها تُعرَف بعض النماذج الأُخرى:
النموذج الأوَّل من جهالاته:
جاء في كتابه المتشابهات (ص 20) في سؤاله: لماذا رأى إبراهيم (عليه السلام) كوكباً وقمراً وشمساً فقط؟ فكان جوابه: (الشمس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والقمر أمير المؤمنين (عليه السلام)، والكوكب الإمام المهدي (عليه السلام)).
ردُّ جوابه:
أوَّلاً: إنَّ السائل يسأل عن سبب حصر الرؤيا بهذه الأشياء الثلاثة وليس عن حقيقتها، وهذا واضح من خلال قول السائل، فالجواب ليس مطابقاً للسؤال، وفهم السؤال نصف الجواب كما يقولون، إذ السؤال عن سبب الحصر يغاير السؤال عن حقيقة الشيء.
فيتبيَّن أنَّك لم تفهم السؤال أصلاً فضلاً عن خطئك في الإجابة بناءً على فهمك للسؤال كما سنعرف، فيلحقك عار الجهل من جهتين.
وثانياً: حسب تأويلك إنَّ الكوكب هو الإمام المهدي (عليه السلام)،
والمولى تعالى يقول: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْأَفِلِينَ) (الأنعام: 76).
وبحسب القرآن الكريم على لسان الخليل إنَّه لا يُحِبُّ الآفلين الذي هو الكوكب والذي هو الإمام المهدي (عليه السلام) بحسب رأيك، فتكون النتيجة: إنَّ إبراهيم (عليه السلام) لا يُحِبُّ الإمام المهدي (عليه السلام)(181).
وكذلك تأويلك أنَّ القمر هو الإمام علي (عليه السلام)، قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (الأنعام: 77).
ويلزم من رأيك: أنَّ إبراهيم (عليه السلام) لم يهتدِ لمعرفة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنَّ الهداية تغاير منهج أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنَّ أمير المؤمنين قد أفل واضمحلَّ نوره، وأنَّ معرفة أمير المؤمنين (عليه السلام) ظلم.
وقولك: إنَّ الشمس هي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لقول الله تعالى: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام: 78 و79).
فيلزم أن يكون معنى الآية على رأيك: أُفول نور رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي هو نور الله تعالى، وأن يكون التوجّه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) شركاً لقول الخليل (عليه السلام): (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بعد أن توجَّه لله تاركاً خاتم رسله (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد أن كان مشركاً به.
ويلزم من ذلك أيضاً أنَّ إبراهيم (عليه السلام) كان لا يُفرِّق بين النبيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(181) هذا جواب لأحد المؤمنين وفَّقهم الله من الذين ناقشوا أتباع أحمد إسماعيل في البصرة.
الأكرم محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبين ربِّه سبحانه (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)، ثمّ وجَّه وجهه لله تعالى. وهذه مخالفة بل سمّاها القرآن كفراً في محكم كتابه الكريم بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً * أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (النساء: 150 و151).
ويلزم براءة إبراهيم (عليه السلام) من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) من خلال قوله: (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
ويُسمّي ذلك علماً بمتشابه كتاب الله تعالى، ولا أعلم أين ادِّعاءاته بإرجاع متشابه القرآن إلى محكمه!؟ وأين هو ذلك المحكم الذي يدَّعيه!؟ هل هو عدم حبِّ إبراهيم (عليه السلام) للإمام المهدي (عليه السلام)، وعدم هدايته للإمام علي (عليه السلام)، وافتراءاته بأُفول نور أمير المؤمنين (عليه السلام) ونور رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّ معرفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) شرك!؟ وهل يقبل بهذه السخافات والترّهات إلَّا أعداء الله ورسوله وأهل بيته الطاهرين من الصهاينة والنواصب والمغرضين!؟ وهل يقبل ذلك أيُّ غيور على دينه وحرمة نبيِّه وآله الطاهرين (عليهم السلام)؟! ويُسمّي كلّ هذا من محكم كتاب الله تعالى.
النموذج الثاني من جهالاته:
يدَّعي أنَّ الإيمان الذي يأتي بسبب معجزة إلهية هو غير مقبول عند الله تعالى، فقد ذكروا(182) أنَّ الإيمان الذي يأتي عن طريق المعجزة هو قهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(182) ذكر ذلك صاحب كتاب جامع الأدلَّة نقلاً عن كتاب إمامه (الجهاد: 47/ باب الجنَّة).
للإنسان - أي الإنسان مقهور على ذلك الإيمان -، وهذا ليس بإيمان ولا إسلام، وهو غير مرضي عند الله، ولا يريده ولا يقبله.
واستدلَّ أحمد إسماعيل على هذه الجهالات والسفاسف والمخالفة لواضحات كتاب الله تعالى بعدم فائدة إيمان فرعون لمَّا رأى معجزة البحر.
وجوابه من عدَّة وجوه:
الوجه الأوَّل: أنَّ ادِّعاء فرعون للإيمان ليس بسبب مشاهدة المعجزة كما تريد أن تُضِلَّ الناس، بل بسبب إدراكه بأنَّه ميِّت غرقاً بالبحر الذي حدثت له معجزة، ولأجل يأسه من الحياة بإدراكه الغرق ادَّعى الإيمان، ظنَّاً منه أنَّ ادِّعاءه الإيمان سيكون سبباً لنجاته.
قال تعالى: (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: 90).
فسبب عدم قبول إيمان فرعون المدَّعى هو اليأس من الحياة وتيقُّنه الموت، فيكون مشمولاً لقانون الله تعالى الذي بيَّنه في كتابه حين قال: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النساء: 18).
وحيلتك هي محاولة الربط بين إيمان فرعون المدَّعى وبين معجزة البحر، مدَّعياً أنَّ إيمان فرعون كان بسبب المعجزة، عابراً ومتجاوزاً بهذا الربط المشوَّه حقيقتين قرآنيتين:
الأُولى: إنَّ ادِّعاء الإيمان بسبب يقينه بإدراكه الغرق الذي حصل بسبب المعجزة، (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ) أي الغرق من
نتاجات المعجزة، فاستغللت هذا التشابه الحاصل بين النتيجة (مواجهة الغرق) والسبب (الذي هو المعجزة)، والذي أثَّر بفرعون وجعله يُعلِن إسلامه هو خوفه من الموت بالغرق الذي هو أحد نتاجات المعجزة، وليس متأثِّراً بمعجزة موسى (عليه السلام)، فلو كان متأثِّراً بها لما اقتحم البحر هو وجنوده والمعجزة في ذروتها، ولا يزال (كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء: 63)، مستغلَّاً علاقة أحدهما بالآخر، أي السبب بالنتيجة، متجاهلاً السبب الحقيقي لتُمرِّر حيلتك بهذا التقارب على ضعاف الخلق حتَّى تُغرِّر بأتباعك أنَّ المعجزة ليست دليلاً صالحاً للإيمان الصالح، وتُبرِّر لهم هروبك الذي يشبه كثيراً حيلة النعّامة.
وما ذلك إلَّا تسويفاً لعجزك عن الإتيان بمعجزة أو كرامة ممَّن يطلبها منك، وليس مهمَّاً أن تُحرِّف كلام الله تعالى وتبتر معانيه وتُقلِّل من قيمة آياته ومعجزاته من أجل أكاذيبك.
الثانية: التي حرَّفتها هي سبب عدم قبول إيمان فرعون لأنَّه ناتج عن طريق المعجزة، حيث قلت: (ففرعون يؤمن ويسلم ولكن الله لا يرضى ولا يقبل بهذا الإيمان...، لأنَّه إيمان جاء بسبب معجزة قاهرة)(183)، جاهلاً أو متجاهلاً لقانون الله تعالى الذي ذكره بكتابه، وهو أنَّ الظالمين والمجرمين الذين طبع الله على قلوبهم وجعل عليها أكنَّة لا تُقبَل توبتهم وإيمانهم إذا قرب موتهم واستيقنوا به.
هذا بالنسبة إلى دليله الخاصّ عن سبب إيمان فرعون وعدم قبول إيمانه، أمَّا بالنسبة إلى ادِّعائه عدم جدوى المعجزة وأنَّ الذين يطلبون المعجزة لا يؤمنون، فجوابه في الوجه الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(183) جامع الأدلَّة: 313.
الوجه الثاني: القرآن يتحدَّث عن معجزات تسبَّبت في وجود الإيمان وزيادته، منها: تابوت بني إسرائيل الذي هو آية للمؤمنين، قال تعالى: (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ...)، إلى قوله: (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 248 و249).
ومنها: عصا موسى (عليه السلام) حين انقلبت أفعى فآمن بسببها السحرة، قال تعالى: (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى * قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى * قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) (طه: 69 - 72).
وقال تعالى: (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ * قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ * رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (الشعراء: 45 - 48).
وقال أحمد إسماعيل بعد ذلك: (لو كان الله يريد إلجاء وقهر الناس على الإيمان لأرسل مع أنبيائه معجزات قاهرات).
والقهر لغةً: (قهره قهراً: غلبه...، يقال: أخذت فلاناً قهرةً بالضمِّ، أي اضطراراً)(184).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(184) الصحاح للجوهري 2: 801.
ردُّه:
يحاول بحيله البائسة أن يُضِلَّ القارئ واصفاً المعجزة بالـ (القاهرة)، حيث اصطنع هذا الوصف المتشابه ليتناسب ذلك مع ادِّعاءاته الواهية من عدم فائدة المعجزة، وتقليل شأن الإيمان الناتج عنها، فوقع بعدَّة تناقضات ومخالفات لثوابت الدين كما ستعرف.
فأسأله هنا: ماذا تقصد بالقاهرة؟ هل هو الجبر القطعي الذي ليس معه أيّ اختيار للإنسان أو حسب تعبير اللغويين بالغلبة والاضطرار؟
فإن كان كذلك فهو مردود لأنَّه:
1 - مخالف للعقيدة الحقَّة التي أثبتها أئمَّة الحقِّ وآمن بها أتباعهم: (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين)(185).
2 - خلاف الحكمة والقانون الإلهي والذي على وفقه شرَّع الشرائع، وهو قانون الاختبار والابتلاء اللذين يلزم منهما أن يكون الإنسان مختاراً، وفي خلافه يلزم نسبة الظلم لله سبحانه عمَّا يقول المبطلون.
وهذا من أساسيات العقيدة الحقَّة التي علَّمنا بها أئمَّتنا (عليهم السلام)، وذلك أحد أُصول ديننا العدل إن كنت تجهله.
ومع هذا كلّه فإنَّ الله تعالى قد ذكر هذا المعنى في كتابه الكريم حيث قال: (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام: 149)، فلو شاء أن يهدي الناس لهداهم بكلِّ بساطة، أي قهرهم حسب فرض فهمك، فهو مالك القلوب والأرواح والأجساد ولا يحتاج إلى معجزة يستعين بها عليهم، (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: 213).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(185) الهداية للصدوق: 18.
وإن كان معنى القهر عندك هو شدَّة وضوح المعجزة وإثبات تفوّقها، فالاعتقاد خلاف ذلك يلزم منه: أنَّ آيات الله ليست بيِّنات وواضحات، وأنَّ حجَّته على عباده ليست بالغة وتامَّة.
وهذا ردٌّ صريح لكلام الله، وإنكار لآياته، وجحود لبيِّناته، وهل هناك وقاحة وجرأة أكثر من هذه على الله ورسله؟!
قال تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (الأنعام: 149).
الوجه الثالث: قال كما مرَّ: (إنَّ الله لا يقبل الإيمان الناتج عن المعجزة)، وهو يعترف بأنَّ معجزة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) الخالدة هي القرآن الكريم، فما هو مصدر إيمانك إن كنت مؤمناً!؟ هل هو الكتاب العزيز الذي هو نور ورحمة أم غيره!؟ فوفق مقياسك أنَّ الله تعالى لا يقبل إيمانك لأنَّه مبنيٌّ على معجزة، فيلزم أحد أُمور أربعة:
1 - إمَّا عدم قبول إيمانك حسب ميزانك.
2 - وإمَّا أنَّ القرآن الكريم ليس معجزة.
3 - وإمَّا أنَّك لست بمؤمن أصلاً بمعجزة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم).
4 - وإمَّا أنَّك مخطئ في قولك، فيثبت جهلك في فهم الكتاب العزيز والسنن الإلهية، وهذا هو المطلوب.
وبرز أحد المدافعين عن رأي سيِّده حين افتضح جهله قائلاً: (ولعلَّ من تدبَّر في المعجزات...، فالأمر وما فيه أنَّها - أي المعجزات - جاءت كذلك للبس)(186)، فاختصر بعبقريته جميع معاجز الأنبياء (عليهم السلام) بالحكم عليها أنَّها جاءت لتُلبِس على الناس أفكارهم، ولو ترك الأمر على رأي سيِّده لكان أهون الشرّين، إذ كيف تكون معجزة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(186) جامع الأدلَّة: 268.
العظيمة، وهدية السماء للخلق أجمعين، التي هي أحد أهمّ معاجز الأنبياء (عليهم السلام)، ومتمِّمة للأديان السابقة، وصفها عندكم أنَّها جاءت للبس، والله تعالى يصفها: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدى وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89)!؟
وهل تفهمون أنَّ الهداية والرحمة هي لبس!؟
ومن الطريف أنَّ هذا (النحرير) استشهد بعد رأيه هذا بقوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (الأنعام: 9)، فالآية تتكلَّم عن (اللِّباس وهو: ما وارَيْتَ به جَسَدَك)، ومن خلال سياق كلامه أنَّه يقصد (اللَّبْس الذي هو: خَلط الأُمور بعضها ببعضٍ إذا التَبَسَتْ)(187).
فالأوَّل اسم رباعي والثاني ثلاثي، والأوَّل مكسور اللام والثاني مفتوح.
ولا يخلو هذا الرجل من إحدى اثنتين:
1 - إمَّا أنَّه جاهل إلى هذا الحدّ، وأنعم به من ناطق باسم إمامهم.
2 - وإمَّا أنَّه يعلم بذلك وإنَّما تخلُّصاً من خطأ مولاه أراد أن يُلبِس على الناس بهذه الحجَّة، (مستفيداً من الاشتراك اللفظي بينهما) مع خطئها، إلَّا أنَّها من وجهة نظرهم خير من السكوت، فأنعم به محتالاً ومخادعاً.
النموذج الثالث من جهالاته:
جاء في كتابهم جامع الأدلَّة (ص 191) نقلاً عن كتاب المتشابهات، حيث ذكر جواباً لأحمد إسماعيل، واستشهد في جوابه في سياق إثبات فضيلة من صُلِبَ بدل عيسى (عليه السلام) بآيات من الإنجيل: (وكان يُصلّي - عيسى (عليه السلام) - قائلاً: يا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(187) أُنظر: كتاب العين 7: 262.
أبتاه إن أمكن أن تجيز عنّي هذا الكأس...)، نقلاً عن (إنجيل متّى إصحاح 26)، ونقل آية أُخرى: (قائلاً: يا أبتاه، إن شئت أن تجز عنّي هذا الكأس...)، (مرقس إصحاح 14).
سؤال موجَّه لأحمد إسماعيل نفسه: هل تعتقد بصحَّة نسبة هذه الآيات للإنجيل المنزَّل على نبيِّ الله عيسى (عليه السلام) أم لا؟ فإن كنت تعتقد بصحَّة هذه النسبة، فيلزم عدَّة أُمور:
الأمر الأوَّل: أنَّ هناك تناقضاً بين رسالات وكتب الله المنزلة على رسله، فحسب رأيك إنَّ الإنجيل يقرُّ بأنَّ الله أب لعيسى، ويلزم منه أنَّ عيسى ابن لأبيه، والله الذي أنزل ذلك الإنجيل أنزل في كتاب له آخر: (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (النساء: 171)، فكيف يصحُّ قوله في الإنجيل أنَّ له ابناً، وفي القرآن أنَّه ليس له ابن!؟
الأمر الثاني: حسب تقييم القرآن المنزل وخاتم الأنبياء وأوصيائه بالحقِّ والبراهين أنَّ القائل بنسبة الولد لله سبحانه مشرك، ومع نسبة هذه الآيات حسب رأيك لله فأنت تتَّهم نبيَّاً من أنبياء أُولي العزم بالشرك والعياذ بالله.
الأمر الثالث: أنَّ الالتزام بهذا القول بالإضافة إلى ما مرَّ أنَّه يُحكَم على قائله بالشرك، فهو إفك عظيم وحرب لله تعالى وهو القائل: (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (التوبة: 30).
أليس هذا من ضروريات الدين والعقيدة بدليل آيات الكتاب المحكمة؟ فأين المتشابهات التي تدَّعي معرفتها!؟ وأين المحكمات التي
أرجعتها لها!؟ أم تحوَّلت أوهامك وخزعبلاتك إلى أُمِّ الكتاب الذي يجب أن يُفسَّر القرآن المنزل على ضوئها!؟
هذا إن كنت تعتقد بصحَّة نسبة هذه الآيات لله سبحانه، أمَّا إذا كنت لا تعتقد بصحَّة نسبتها له تعالى، فنسألك أيضاً: كيف تستدلُّ بما لا تعتقد بصحَّته!؟ وكيف تستدلُّ بما يُعَدُّ كذباً وافتراءً على الله تعالى!؟ وكيف تقيم برهاناً بمقدّمات فيها نسبة الشرك لرسل الله سبحانه!؟ وكيف تستشهد بأباطيل يمكن أن تُضلِّل الناس بها في عقيدة التوحيد!؟ أليس الثابت بضرورة الشرع أنَّه لا يُطاع الله من حيث يُعصى!؟ أم أنَّك تعمل على قاعدة: (الغاية تُبرِّر الوسيلة)!؟ وهل الغاية إلَّا أن يُصدِّق بعض المساكين أنَّ الهمبوشي رجل مميَّز!؟ أهذا ما يُفرِحك ويثلج صدرك حتَّى وإن كانت الوسيلة هي الكذب والإفك والافتراء على الله ورسله ونسبة الشرك والكفر لأنبياء الله!؟ ولعلَّ الشيطان لو دُعي لهذا لقال: (إنّي بريء ممَّا تقولون، إنّي أخاف الله ربّ العالمين)، ولأحمد إسماعيل وأتباعه وخصوصاً من بقي شيء من العقل في رؤوسهم أن يختاروا أحد هذين الفرضين: بعقيدته في صحَّة نسبة هذه الآيات لله، أم بعدم صحَّتها، ويُرتِّبوا آثار من يعتقد بأحدهما عليه.
ولا نريد أن نضجر القارئ بهذه السفاسف، وإلَّا فإنَّ في كتابه ما تشمئزُّ منه القلوب، من كثرة مغالطاته وكذبه، وجعل ذلك كلّه مقدّمة اقتبسها من قصَّة عيسى (عليه السلام) ونسبها لنفسه باختلاق شخصية وهمية حاول أن يشركها مع عيسى (عليه السلام) بالتسمية ثمّ بالوظيفة الإلهية، حتَّى انتهت به أحلامه إلى أنَّه من سكنة السماء، وجاء ليُصلَب بدل عيسى حين عجز عيسى (عليه السلام) عن تحمُّل هذا البلاء حسب رأيه، ثمّ صُلِبَ وقُتِلَ وصعد إلى السماء وادُّخر هناك إلى هذا الوقت الذي نحن فيه، حتَّى منَّ الله به على البشرية فنزل مرَّة أُخرى ليُمهِّد للإمام
المهدي (عليه السلام)، وبعد التمهيد يتولّى الهمبوشي نفسه قيادة البشرية ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وبعد أن يموت الإمام (عليه السلام) يستلم هو أيضاً الإمامة من الإمام بصفته ابنه، وهكذا إلى أولاده همبوشياً بعد آخر بصفتهم أوصياء للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)!!
وهنا أطلب المساعدة من كلِّ قارئ أن يعينني وفق عقيدة أحمد إسماعيل على إيجاد دور ووظيفة محترمة تليق بمقام الإمام محمّد بن الحسن العسكري أرواحنا فداه في دولة أحمد إسماعيل المفترضة.
النموذج الرابع من جهالاته:
قالوا: (إنَّ المقصود بخفاء الولادة هو أن يكون خفيّ النسب)، وبهذه الحيلة أرادوا أن يُؤيِّدوا انتقال أحمد إسماعيل في نسبه من (آلبو سويلم) إلى السادة العلويين.
وقد ورد معنى خفاء الولادة في عدَّة روايات عن الأئمَّة (عليهم السلام)، ومنها ما ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام) قال ضمن حديث: (... ما منّا إلَّا قائم بأمر الله وهادي إلى دين الله، ولكن القائم الذي يُطهِّر الله (عزَّ وجلَّ) به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملؤها عدلاً وقسطاً هو الذي يخفى على الناس ولادته ويغيب عنهم شخصه...)(188).
ولا شكَّ في أنَّه لا يُراد بخفاء الولادة خفاء النسب، لأنَّ نسب الإمام المهدي (عليه السلام) معلوم لا خفاء فيه.
وتفسير معنى الخفاء في الولادة قد بيَّنه المعصوم (عليه السلام)، فلماذا تتأوَّلون على الله ورسوله وأهل بيت نبيِّه لتُغيِّروا معنى كلامهم ليطمس اسم وذكر قائمهم الحقّ (عليه السلام)!؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(188) كفاية الأثر: 281 و282.
فعن محمّد بن مسلم الثقفي الطحّان، قال: دخلت على أبي جعفر محمّد بن علي الباقر (عليهما السلام) وأنا أُريد أن أسأله عن القائم من آل محمّد صلّى الله عليه وعليهم، فقال لي مبتدئاً: (يا محمّد بن مسلم، إنَّ في القائم من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) شبهاً من خمسة من الرسل: يونس بن متّى، ويوسف بن يعقوب، وموسى، وعيسى، ومحمّد، صلوات الله عليهم...)، إلى أن قال: (وأمَّا شبهه من موسى (عليه السلام) فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته، وتعب شيعته من بعده ممَّا لقوا من الأذى والهوان إلى أن أذن الله (عزَّ وجلَّ) في ظهوره ونصره وأيَّده على عدوِّه...)(189).
إذن تفسير معنى خفاء الولادة هو أن لا يعلم الناس بحصول عملية نزول الجنين، أو عدم علمهم بوجود جنين. وهذا ما تتَّفق به أحداث قصَّة موسى والقائم (عليهما السلام) تماماً.
وقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) ما يثبت فيه أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) غير خفيّ في نسبه: عن أيّوب بن نوح، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّي أرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يسوقه الله إليك بغير سيف، فقد بويع لك، وضُرِبَت الدراهم باسمك، فقال: (ما منّا أحد اختلفت إليه الكتب، وأُشير إليه بالأصابع، وسُئِلَ عن المسائل، وحُمِلَت إليه الأموال، إلَّا اغتيل أو مات على فراشه، حتَّى يبعث الله لهذا الأمر غلاماً منّا خفيّ الولادة والمنشأ، غير خفيّ في نسبه)(190).
إشكال وردّه:
لعلَّ قائلاً يقول: إنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يواجه نفس العقبات التي واجهها أحمد إسماعيل من مطالبته بالنصِّ عليه ودليل تنصيبه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(189) كمال الدين: 327 و328/ باب 32/ ح 7.
(190) الكافي 1: 341 و342/ باب في الغيبة/ ح 25.
ودليل علمه وغيرها، وإذا كان كذلك فلماذا تنكرون على أحمد إسماعيل أدلَّته؟ بل أكثر من ذلك ربَّما تطرحون نفس الإشكالات على الإمام المهدي (عليه السلام) إن شاء الله بظهوره (عليه السلام).
وردُّه:
أوَّلاً: أنَّ تلك الشروط التي ذكرها المستشكل هي من وضع المعصوم الذي هو ممثِّل عن السماء، كما مرَّ من رواية الإمام الباقر (عليه السلام)(191).
ثانياً: أنَّ منصب الإمامة ووصاية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) هو منصب إلهي، ونحن كما أنّا مكلَّفون باتّباع وطاعة الأئمَّة والأوصياء (عليهم السلام)، فبنفس القدر مكلَّفون بالحفاظ على هذا المنصب الإلهي العظيم، واختبار المدَّعين هو إعانة ونصرة لأئمَّتنا (عليهم السلام) بفضح المتطفّلين والنازين على مقامهم وما أكثرهم، والحفاظ على عقيدة المؤمنين بأئمَّتهم (عليهم السلام).
ثالثاً: أنَّ هكذا شبهة أو مثلها عادةً ما يثيرها أصحاب تلك الدعوات الباطلة ليُثيروا غضب وعاطفة الناس ضدّ من يتولّى دحض ضلالاتهم بتشبيههم أنفسهم بالإمام المهدي (عليهم السلام)، فمن جهة يستعطفون البسطاء من أتباعه (عليه السلام) باسمه، ومن جهة أُخرى يخفون عقيدتهم الحقيقية به (عليه السلام)، وليتهم أخبروهم بمهمَّة ووظيفة الإمام الثاني عشر أرواحنا فداه في ظلِّ دعوة أحمد إسماعيل، إذ بعد مراجعتي لدعوتهم عشرات المرَّات لم أجد للإمام المهدي (عليه السلام) أيّ دور يُذكَر ولا حتَّى إمامة جماعة في دولة الهمبوشي.
رابعاً: أنَّ هذا التشبيه مردود من أساسه، لأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) لا يحتجُّ عليه أحد من أتباعه وأوليائه بالنصِّ، لأنَّه وببساطة اسمه الشريف مطابق لنصِّ عشرات الروايات من آبائه (عليهم السلام)، والتي نصَّت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(191) راجع (ص 235).
على اسمه وكنيته ولقبه وسماته، فبمجرَّد أن يُعلِن عنها فلا يكون عندهم مشكلة من هذه الناحية حتَّى يحتجّوا عليه بها، إنَّما تبقى هناك مشكلة عند من لم يتعرَّف عليه إلى تلك اللحظة، هل هذا الشخص الذي يدَّعي هذا الاسم واللقب هو نفسه المذكور في نصِّ الروايات أم لا؟ فتتكفَّل بالإجابة على هذا التساؤل الكثير من العلامات والإرهاصات القريبة والبعيدة، بالإضافة إلى القدرة الذاتية العظيمة للإمام (عليه السلام) في إقناع العالم بشخصيته الإلهية، والتي يوجد عدَّة دواعي لإبرازها:
1 - إنَّ التخطيط الإلهي منذ بدء الخليقة وحتَّى تلك اللحظة الميمونة يتوقَّف على نجاح هذه الخطوة، فمن الحكمة والرحمة توظيف كلّ إمكانيات نجاحها.
2 - ما أفاضه الله تعالى على الإمام (عليه السلام) من قدرات إلهية كبرى في إبراز وتوظيف وسيطرة قدراته على المتلقّين ولاسيّما أنَّه كان بانتظار تلك اللحظة منذ مئات السنين، الآن وقد حان وقت تحقيق هدفه الذي هو هدف السماء منذ الأزل.
3 - يكون العالم في تلك اللحظة في أوج احتياجه لمثل هكذا خطاب خصوصاً من الطبقة التي تشعر ببعد الإنسانية عن المنهج الأخلاقي والإنساني الإلهي، وبالأخصِّ منهم أُولئك الذين ينتظرون قدومه.
وفي ظلِّ هذه العوامل بالإضافة إلى معرفة اسمه الذي نصَّت عليه الأحاديث بالتفصيل لا يبقى عند أوليائه شكٌّ في أنَّ الذي يتكلَّم هو إمامهم وأملهم المنشود.
* * *
عُقِدَ هذا المبحث لنقاش وردِّ من يدَّعي أنَّ الرؤيا دليل على ثبوت الأُمور الاعتقادية، وبيان حدود الرؤيا ووظيفتها حسب روايات أهل البيت (عليهم السلام) وفتاوى علمائنا.
أقسام الرؤيا عند المعصومين (عليهم السلام):
عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن سعد بن أبي خلف، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: (الرؤيا على ثلاثة وجوه: بشارة من الله للمؤمن، وتحذير من الشيطان، وأضغاث أحلام)(192).
وعن المفضَّل بن عمر، قال: قال الصادق (عليه السلام): (... فكِّر يا مفضَّل في الأحلام كيف دبَّر الأمر فيها، فمزج صادقها بكاذبها، فإنَّها لو كانت كلّها تصدق لكان الناس كلّهم أنبياء، ولو كانت كلّها تكذب لم يكن فيها منفعة، بل كانت فضلاً لا معنى له، فصارت تصدق أحياناً، فينتفع بها الناس في مصلحة يُهتدى لها، أو مضرَّة يتحذَّر منها، وتكذب كثيراً لئلَّا يُعتَمد عليها كلّ الاعتماد)(193).
أراد أحمد الهمبوشي خلط أقسام الرؤيا، وهي حسب تقسيم المعصوم (عليه السلام) على ثلاثة أقسام: ما كان من الله تعالى، وما كان من الشيطان، والحديث الذي يُحدِّث الإنسان به نفسه، محاولاً أن يُفهِم القارئ أنَّها كلّها من القسم الأوَّل، وقد أجاب الصادق (عليه السلام) كما مرَّ بأنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(192) الكافي 8: 90/ ح 61.
(193) التوحيد للمفضَّل بن عمر: 43 و44.
الرؤيا لو كانت كلّها صادقة لكان الناس كلّهم أنبياء. ويريد من هذا الخلط أن يُقنِع البسطاء أنَّها حجَّة وبنفس مستوى حجّيتها على الأنبياء.
ونشر حيلته تلك من خلال عدَّة أساليب ودعاوى:
الدعوى الأُولى: أنَّها حجَّة من الله تعالى على من يرى الرؤيا، ومن يخالفها فهو كافر بالله تعالى، بل وبأعظم أنواع الكفر.
الدعوى الثانية: لم يكتفوا بالادِّعاء الأوَّل، بل جعلوا رؤيا أتباعهم حجَّة على الخلق، وأخذ أتباعه يدورون في الأرياف بصحبة أشخاص يروون قصصاً لرؤيا يدَّعون أنَّهم شاهدوها.
الدعوى الثالثة: الاحتجاج بأنَّ الرؤيا كانت حجَّة على قوم يوسف (عليه السلام)، وذكروا بعض القصص التي وردت في التاريخ.
وذكر في كرّاسه (إضاءات من دعوات المرسلين)(194) في الجزء الثاني منه (ص 17) تحت عنوان الآيات الآفاقية، وبيَّن أقسام تلك الآيات والتي منها الرؤيا الصادقة في النوم، ولم يُبيِّن لنا حسب فهمه ما هو المعيار لمعرفة الرؤيا الصادقة من غيرها!؟ وهل هذا المعيار متيسِّر لكلِّ الناس أم لا!؟ وانتقل بعد ذلك إلى النتيجة بقوله: (فهذه الآيات حجَّة بالغة لله على الناس، فمن كذَّب بها فقد كذَّب الله سبحانه وتعالى)، وانتهى إلى الحكم التالي: (وهذا - أي التكذيب بالرؤيا - أعظم أنواع الكفر والتكذيب)، أي من يُكذِّب الرؤيا فهو كافر بأعظم أنواع الكفر بالله العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(194) هو عبارة كرّاس من ثلاثة أجزاء، وجميع صفحاتها (130) صفحة، أي كلّ جزء من هذا الذي يُسمّونه كتاباً واستوجب أن يُقسِّمه إلى أجزاء عبارة عن (43) صفحة وثلث، وجمعها في كتاب واحد.
وسنُبطِل هذه الدعوى، ويتَّضح أنَّها مجرَّد حيلة وكذبة أراد أن يُخوِّف بها طبقة من الناس ممَّن يتأثَّرون بهذا المستوى من الحيل والأدلَّة، من خلال متابعة ادِّعاءاته وهدمها واحدة بعد الأُخرى، وما توفيقنا إلَّا بالله العزيز الحكيم.
الرأي الفقهي في الرؤيا:
إذا رأى شخص في عالم الرؤيا أنَّ صاحب قبر معيَّن يقول: إنَّه من أحفاد الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وكان الشخص الذي رأى هذه الرؤيا شخصاً ثقةً ومورد احترام الناس، فهل يثبت بقوله هذا أنَّ صاحب القبر من أحفاد الإمام (عليه السلام)؟
الجواب:
يجب إثبات كون صاحب القبر من أولاد الأئمَّة بدليل معتبر، والكتب التي أشرتم إليها ليست بحجَّة، ولا ينبغي ترتيب أثر عليها...(195).
وإذا رأى مؤمن في منامه النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أو أحد الأئمَّة (عليهم السلام) وهم يأمرونه بشيء، فهل يكون قولهم في المنام حجَّة يجب امتثاله، فهم القائلون بأنَّ من رآهم فقد رآهم حقَّاً فإنَّ الشيطان لا يتمثَّل بهم؟
الجواب:
لم يثبت الحجّية بنفس الرؤيا والأمر فيها(196).
أمَّا في مقام الردِّ على دعواهم، فنقول:
الردُّ الأوَّل: إنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) لم يذكروا لنا ولا في رواية واحدة أنَّ أحد طرق معرفة الحجَّة علينا هو الرؤيا، وبما أنَّ وظيفتهم الأساسية هي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(195) أُنظر: الفتاوى الجديدة لناصر مكارم الشيرازي/ سؤال 1620.
(196) أُنظر: صراط النجاة 1: 468/ سؤال 1314.
هداية البشرية وإنقاذهم من الكفر العظيم باعتراف الهمبوشي، وأنَّهم بيَّنوا في عشرات الروايات، ووضعوا عدَّة قواعد لمعرفة الحجَّة علينا، فمن السهل عليهم جدَّاً، بل وطبقاً لتكليفهم الإلهي أن يقولوا: (من أراد أن يعرف حجَّته فنحن نُخبِره في النوم)، وبما أنَّهم لم يقولوا لنا ذلك إذن الرؤيا ليست حجَّة في معرفة الحجَّة علينا.
الردُّ الثاني: أنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) كذَّب الذين يحتجّون بالرؤى لإثبات حكم شرعي، فأنكر على الذين يقولون: إنَّ الأذان رآه بعض الصحابة في النوم فأخبر النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) بذلك، فأمره أن يُعلِّمه لبلال.
ومن الثابت أنَّ الدين يشتمل على ثلاثة محاور أساسية، وأصل هذه المحاور هي العقيدة، ولذلك تُسمّى العقائد بأُصول الدين، وفروعه العبادات المعروفة من صلاة وصوم وحجّ وغيرها، وللفروع مقدّمات، وبعض تلك المقدّمات مستحبَّة كالأذان، وأحد أهمّ الأُصول هي الإمامة والولاية، وإقامة الحجَّة في معرفة الوليّ المفترض الطاعة، وما يريد أن يُثبِته هؤلاء هو في صميم الدين بل أصله، حسب زعمهم أنَّ الإمام أحمد الهمبوشي هو من يملؤها قسطاً وعدلاً، ومن أدلَّتهم إثبات حجَّته بالرؤيا.
فلنسأل الإمام الصادق (عليه السلام)، ونترك الحكم والوصف له (عليه السلام)، حين ادَّعى مدَّع أنَّ بعض العامَّة يعتقدون أنَّ بعض المستحبَّات التابعة لفرع من فروع الدين والذي من أُصوله الإمامة قد عرفوها بالرؤيا، فما هو حكم الإمام (عليه السلام)؟ هذا ما يتبيَّن في الرواية التالية:
عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال: (ما تروي هذه الناصبة؟)، فقلت:
جُعلت فداك، في ماذا؟ فقال: (في أذانهم وركوعهم وسجودهم)، فقلت: إنَّهم يقولون: إنَّ أُبي بن كعب رآه في النوم، فقال: (كذبوا، فإنَّ دين الله (عزَّ وجلَّ) أعزّ من أن يُرى في النوم)(197).
جواب الإمام الصادق (عليه السلام) هو: أنَّ من يرى دين الله سبحانه بالنوم فهو (كاذب)، فمن يدَّعي أنَّ أحد مستحبَّات الدين منشأها رؤيا فهو كاذب حسب وصف الصادق (عليه السلام)، فما هو وصف من يدَّعي معرفة وتحديد أصل من أُصول دينه بالرؤيا حسب قاعدة الإمام (عليه السلام)!؟ أترك الجواب للقارئ الكريم.
الردُّ الثالث: أنَّ هناك أُناساً ادَّعوا وافتروا على الله سبحانه وتعالى بدعوات باطلة، وكان رمز هؤلاء فرعون حين ادَّعى أنَّه ربّ الأرباب جهاراً نهاراً، وعشرات الفِرَق على طول الخطِّ البشري انحرفت عن الخطِّ الإلهي وجاءت بما تُسمّيه أدلَّة تقابل بها أصحاب الخطِّ الإلهي، فما المانع أن يدَّعوا أنَّهم قد رأوا رؤيا تُؤيِّد مسلكهم وعقيدتهم(198).
وهناك من كذب على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في حياته، فقد ورد عن سليم بن قيس الهلالي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: (... إنَّ في أيدي الناس حقَّاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعامَّاً وخاصَّاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كُذِبَ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) على عهده حتَّى قام خطيباً فقال: أيّها الناس قد كثرت عليَّ الكذّابة، فمن كذب عليَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار، ثمّ كُذِبَ عليه من بعده...)(199).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(197) الكافي 3: 482/ باب النوادر/ ح 1.
(198) إنَّ مضمون هذا الردّ هو لأحد الأعلام الذين احتجّوا على مثل دعوة هؤلاء.
(199) الكافي 1: 62/ باب اختلاف الحديث/ ح 1.
فلا مانع من أن يكذبوا عليه (صلّى الله عليه وآله وسلم) في حياته وبعد وفاته خصوصاً إن كان ما يفترونه من كذب مأمون الافتضاح لأنَّه منسوب للغيب والرؤيا لا شاهد عليها إلَّا صاحبها.
وإذا لم تكن هناك ضابطة في الدين واضحة وصريحة يحتكم إليها في تمييز العقيدة الصحيحة من الفاسدة، فمن حقِّ كلِّ فرقة أن تحتكم للرؤيا وتعتبرها حجَّةً لها ودليلاً على صحَّة مسلكها، فإن احتجَّت فرقة على أُخرى: أنَّكم تكذبون في ادِّعائكم، فمن حقِّ الثانية أن تقول للأُولى نفس الكلام، وهكذا الثالثة والرابعة والخامسة إلى ما لا نهاية، حتَّى يُنسَخ الدين من أصله بسبب قاعدة حجّية الرؤيا في إثبات العقيدة.
فإمَّا أن تكون الرؤيا حجَّة أو لم تكن حجَّة، فإن كانت حجَّة فهي حجَّة لهم جميعاً، وليس من حقِّ إحدى الفِرَق أن تُكذِّب الأُخرى، لأنَّ القاعدة الحاكمة واحدة، وليس ادِّعاء كثرة الرائين بحجَّة، فإن جاءت إحدى الفِرَق بألف رائي، فيمكن أن تأتي الأُخرى بعشرة آلاف يشهدون ويقسمون أنَّهم قد رأوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقد أيَّد ومدح عقيدتهم، كما سيأتي في الأمثلة قريباً. فهل يُحكَم بصدق الأُولى أم الثانية أم الثالثة أم كلّهم مع تناقضهم في الدعوى!؟ أو يُحتَكم إلى اليمين والقسم في صدق ادِّعاء الرائي!؟ فيكون بذلك الحال أنَّ اليمين هو الحاكم والحجَّة وليس الرؤيا. وهل الحجَّة في إثبات العقيدة تحتاج إلى حجَّة أُخرى!؟ وإلَّا فلماذا صارت هي حجَّة!؟ أم صارت العقائد تثبت باليمين والقسم!؟
إذن فالرؤيا إمَّا حجَّة لا تحتاج إلى غيرها بشرط أن تكون سالمة من الشوائب وهادية من الضلال.
وأمَّا أنَّ الله سبحانه قد جعل في دينه لمعرفة الحقِّ والوصول للعقيدة الحقَّة قاعدة غير ثابتة وغير واضحة بحيث يمكن أن يضلَّ الناس بها وتنحرف أُمم لاتّباعها واعتمادها عليها ويُدخِلهم النار لانحرافهم بسبب اتّباعهم لقاعدة هو وضعها، فهذا هو الظلم بعينه، وحاشاه سبحانه وهو الرحيم الودود.
وإن كانت الرؤيا غير حجَّة فمرجعهم نفس الشريعة والأدلَّة التي جاءت بها ونطق بها الرسول الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلم) وشهد به المسلمون، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: 165)، وهذا هو الصواب وعليه العقيدة الحقَّة.
بعض الأمثلة التي يدَّعي أصحابها أنَّهم رأوا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم):
1 - عن محمّد بن بشّار، حدَّثنا الأنصاري، أخبرنا أشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة أنَّ النبيّ قال ذات يوم: (من رأى منكم رؤيا؟)، فقال رجل: أنا رأيت كأنَّ نيراناً نزلت من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثمّ رُفِعَ الميزان، فرأينا الكراهية في وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)(200).
2 - عن أبي محمّد الأكفاني، نا الكتاني، أنا علي بن محمّد بن طوق، أنا عبد الجبّار بن محمّد بن مهنى، نا أحمد بن سليمان، نا يزيد بن محمّد بن عبد الصمد، نا عبد الله بن يزيد المقرئ، نا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: سمعت عمير بن هانئ قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(200) سنن الترمذي 3: 368 و369/ ح 2389.
لي: كيف تقول في رجل رأى أنَّ سلسلة دُلّيت من السماء، فجاء رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) فتعلَّق بها فصعد، ثمّ جاء أبو بكر فتعلَّق بها فصعد، ثمّ جاء عثمان فتعلَّق بها فانقطعت، فلم يزل حتَّى وصلها، ثمّ تعلَّق بها فصعد، ثمّ جاء الذي رأى هذه الرؤيا فتعلَّق بها فصعد، فكان خامسهم؟ فقال عمير: فقلت في نفسي: هو هو ولكنَّه كنّى عن نفسه(201).
3 - عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن نصرويه السمرقندي، قال: أنبأنا أبو بكر محمّد بن أحمد بن مت الأشتيحني بها، قال: نبَّأنا الفربري محمّد بن يوسف، قال: سمعت محمّداً البخاري بخوارزم يقول: رأيت أبا عبد الله محمّد بن إسماعيل - يعني في المنام - خلف النبيِّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) والنبيُّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) يمشي، فكلَّما رفع النبيُّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم) قدمه وضع أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل قدمه في ذلك الموضع(202).
4 - عن الحسن بن علي، أخبرنا عبد الله بن عمر، أخبرنا عبد الأوَّل بن عيسى، أخبرنا عبد الله بن محمّد الأنصاري، أخبرنا أحمد بن محمّد بن إسماعيل المهدوي، سمعت خالد بن عبد الله المروزي، سمعت أبا سهل محمّد بن أحمد المروزي، سمعت أبا زيد المروزي الفقيه يقول: كنت نائماً بين الركن والمقام، فرأيت النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلم)، فقال لي: (يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي؟)، فقلت: يا رسول الله، وما كتابك؟ قال: (جامع محمّد بن إسماعيل)(203).
هذه بعض الأمثلة التي يدَّعي أصحابها أنَّهم رأوا النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(201) تاريخ مدينة دمشق 45: 248 و249.
(202) تاريخ بغداد 2: 10.
(203) سير أعلام النبلاء 12: 438.
كانت الرؤيا حسب عقيدتكم هي حجَّة ومعياراً لمعرفة الحجَّة ووليّ الأمر، فهذه الرؤى التي ذكرناها تثبت أنَّ مسلك أبي بكر وعمر وعثمان هو الحقّ، وليس هناك فضل لأهل البيت (عليهم السلام) عليهم، بل ليس لهم دور في الدين الإسلامي مطلقاً، إذ لم تكفِ السلسلة المتدلّية من السماء لأمير المؤمنين (عليه السلام) حتَّى يلحق بعثمان ومن سبقه، ويترتَّب على تلك العقيدة أنَّ كلَّ تضحيات الأئمَّة (عليهم السلام) وأوليائهم كانت عبثاً، ولم يكونوا محقّين في مجابهتهم للظلم والانحراف الذي حصل لأُمَّة جدِّهم (صلّى الله عليه وآله وسلم). وهذه هي النتيجة الطبيعية إذا طُعِنَ بالموازين الحقَّة التي أسَّسها الشرع المبين لمعرفة ثوابته، وهُدِّمَت الأركان الأساسية التي يتَّكئ عليها بنيانه، ولم يعد هناك قيمة عقائدية وعلمية لجميع الآيات والروايات التي نطق بها الشرع المقدَّس، إذ أنَّ المرجع في تصحيح العقيدة هو الرؤيا حسب افترائكم، وليس الدليل الصريح والحجَّة البالغة كما نطق بذلك زعيم الدين وأكَّده آله الميامين (عليهم السلام).
وليس مهمَّاً عندكم تغيير موازين الشريعة وتحطيم أركانها ومبادئها، ليمرَّ الدين عبر ثغرة أسَّسها بنو أُميَّة وأتباعهم وأشباههم في الحيلة لينفذ منها شياطين الجنِّ والإنس، ليخلطوا على البسطاء أصل عقيدتهم ويقطعوا عليهم طريق الوصول إلى ثوابته، حتَّى إذا اشتبهت عليهم مسالك الدروب، أخذوا بأيديهم إلى حيث انتهى بأتباع آل أُميَّة سوء العاقبة وبئس المهاد. وليس مهمَّاً لديهم حتَّى وإن كان الطريق يمرُّ على كبد الحسن وصدر الحسين (عليهما السلام) ولوعة السبايا، حيث بدأ من تقتدون بهم في هذا المنهج بأدلَّة مكذوبة على الله ورسوله، والتي من ضمنها رؤيا سلسلة عمر وعثمان التي صعدا بها خلف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى
السماء، ودليل رؤيا الميزان الذي وزَّن به الرسول الذي اعترف بالملك للثلاثة، إلى كتاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي ألَّفه البخاري، والذي مُلِئَ بالسخرية من الدين ورسول ربِّ العالمين. ليس مهمَّاً ذلك كلّه، المهمّ هو أن يقتنع الناس أنَّ أحمد إسماعيل أو مشتَّت أو الگرعاوي أو أيّ متطفِّل آخر على مقام الولاية العظمى، يقتنعوا أنَّهم زعماء للدين، حتَّى وإن كان ذلك بأشباه أدلَّة ليس لها أساس في شريعة سيِّد المرسلين (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وإن كانت توجب الوهن والذلَّة للدين حسب تعبير الإمام الصادق (عليه السلام) حين قال: (كذبوا، فإنَّ دين الله (عزَّ وجلَّ) أعزّ من أن يُرى في النوم)، فهل بعد العزَّة إلَّا الذلَّة والمهانة!؟
قيمة القطع الحاصل من الرؤيا:
لو لم تثبت حجّية المنامات بأدلَّة أُخرى فإنَّ القطع لا يصلح مستنداً للقاطع لإعفائه من العذاب والعقاب، ويتَّضح ذلك بملاحظة النظائر، فإنَّ الكافر الحربي لو قطع، فهل قطعه يعفيه من العقاب؟ كلَّا، لو كان مقصِّراً في المقدّمات، والإرهابي الوهّابي لو قطع كما أنَّ بعضهم قاطع بالفعل بوجوب قتل الشيعة، بل أيّ مسلم غيرهم، إذ يرون كلّ مسلم يتبرَّك بالأضرحة والمشاهد وشبهها مشركاً، وهم عامَّة المسلمين إلَّا السلف والوهّابيين، فهل يعفيه قطعه بكفر المسلمين عامَّة من العقاب لو قتل بعضهم فيما لو كان مقصِّراً في المقدّمات كما هم عادةً مقصِّرون؟ والوجه في كونهم مقصِّرين هو أنَّ باب العلم وطريق التحقيق مفتوح، لكنَّه أغلق عينه ودفن عقله ولم يبحث عن الحجج التي أقامها الآخرون وتعبَّد بقول آبائه أو أساتذته الذين هم إمَّا جهَّال أو متعصِّبون.
وإنَّ القطع على سنخين: سنخ مستقرّ، وسنخ آخر غير مستقرّ، وإنَّ الأحلام من السنخ غير المستقرّ الذي لم يبتن على أساس وثيق عقلي أو شرعي أو عقلائي، فكيف يصحُّ الاحتجاج بجماعة من الناس يزعمون أنَّهم رأوا الأحلام وأنَّهم قاطعون بصحَّتها؟ فليكونوا قاطعين، فإذا وجدنا الأُلوف من الجهلة بالطبِّ قطعوا بأمر طبّي فهل يصنع ذلك حجَّة؟ وإذا الأُلوف من الجهلة قطعوا من الأحلام أو نظائرها بأنَّ النظرية النسبية باطلة أو صحيحة فإنَّ قطعهم لا قيمة له، فإنَّه من منطق العقلاء ألَّا يُعتنى بهذا القطع غير المبتني على الأُسس العلمية(204).
إذن الرؤيا ليست طريقاً ولا ميزاناً ولا أصلاً يُحدَّد به أُصول الدين أو فروعه.
رؤيا يوسف (عليه السلام):
وقالوا: (إنَّ دليلنا في حجّية الرؤيا هو أنَّ الرؤيا كانت حجَّة على من عاصر يوسف (عليه السلام)).
ردُّ هذا الدليل:
لو دقَّقنا النظر في الرؤى التي رافقت نبوَّة يوسف (عليه السلام) وحلَّلناها لوجدنا أنَّ كلَّ رؤيا تنحلُّ إلى: رائي، ورؤيا، ومؤوِّل، وتأويل لها، وحدث يحصل بعد زمان الرؤيا مرتبط بها، وتطابق التأويل مع الحدث الخارجي، وشهادة العامَّة على الرؤيا وعلى التأويل وعلى الحدث الخارجي وعلى تطابق وصدق تأويل النبيِّ يوسف (عليه السلام) على ذلك الحدث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(204) من دروس السيِّد مرتضى الشيرازي في الاجتهاد في أُصول الدين.
فالرائي: صاحبا سجنه والملك، والرؤيا: عصر الخمر وأكل الطير خبزاً من على رأس الرائي، والبقرات والسنابل السبع، ومعبِّر الرؤى: يوسف (عليه السلام)، وتأويل الرؤى: صلب أحد أصحابه والإفراج عن الآخر، وسنيّ الخير والقحط السبعة، وأحداث خارجية تحقَّقت بعد زمان التأويل تطابقت تماماً مع تأويل النبيِّ (عليه السلام)، فما هو الدليل من هذه الأجزاء الستَّة على دعوى يوسف (عليه السلام) للنبوَّة؟
وهنا لا بدَّ من بيان أُمور:
1 - أنَّ الرؤى منها ما هو صادق ومنها ما هو كاذب، ورؤيا صاحب السجن ورؤيا الملك لولا أنَّ يوسف (عليه السلام) عبَّرها وبيَّن لنا أنَّها رؤى صادقة لما علمنا بصدقها أو كذبها.
وعليه، فإنَّ كلَّ الرؤى المزعومة التي يدَّعي أتباع الهمبوشي أنَّهم رأوها لا دليل على أنَّها رؤى صادقة.
2 - أنَّ أكثر الرؤى تحتاج إلى تأويل، والذين يعرفون تأويل الرؤى قليلون جدَّاً، ولهذا أخبر الله تعالى بأنَّ من فضائل يوسف (عليه السلام) أنَّه يُحسِن تعبير الرؤى، حيث قال: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (يوسف: 6).
والرؤى التي يدَّعيها أتباع الگاطع الهمبوشي لو سلَّمنا بصدقها فإنَّها تحتاج إلى من يُعبِّرها تعبيراً صحيحاً، ونحن لم نطَّلع على أنَّ واحداً منهم يُحسِن تعبير الرؤى.
3 - أنَّ الرؤى التي ذكرها القرآن الكريم لا تدلُّ على نبوَّة يوسف (عليه السلام)، وإنَّما تدلُّ على أنَّ واحداً من صاحبي السجن سيُقتَل والآخر سينجو، وأنَّه سيمرُّ على الناس سبع سنين رخاء يتبعها سبع سنين قحط.
بخلاف الرؤى التي يدَّعيها أتباع الگاطع الهمبوشي فإنَّها تتمحور حول إثبات إمامة هذا المدَّعي الكاذب.
4 - أنَّ يوسف (عليه السلام) لم يُثبِت نبوَّته بالرؤى التي عبَّرها، ولا بتعبيره للرؤى، وليس في القرآن أو الأحاديث ما يدلُّ على أنَّ النبوّات أو الإمامة تثبت بالرؤى، رغم أنَّ الحوادث دلَّت بعد ذلك على صدق تعبيره (عليه السلام).
ولنرجع الآن إلى أحمد إسماعيل گاطع، ولننظر هل دعوى الرؤيا التي يعتبرها حجَّة على دعوته تتطابق مع الرؤى التي رافقت يوسف (عليه السلام) حتَّى يحتجَّ بها أم لا!؟
لدينا شخص يدَّعي أنَّه رأى رؤيا وحسب، إذن لدينا رؤيا ورائي فقط، وليس هناك تأويل، وهو أهمّ عنصر يربط بينها وبين المعبِّر عنها كما حدث مع يوسف الصدّيق (عليه السلام)، وتفتقد أيضاً إلى الحدث الخارجي الذي يتمُّ انطباق الرؤيا عليه وفق تعبير صاحب الدعوة، لتكتمل بذلك دلالة الرؤيا على صاحب الادِّعاء، لتكون رؤيا صادقة.
ولو أراد أحمد إسماعيل أن يحتجَّ بتلك الرؤى فلا بدَّ أن تكون مشتملة على نفس العناصر التي اشتملت عليها الرؤى التي عبَّرها نبيُّ الله يوسف (عليه السلام)، والحال أنَّ هذه الرؤى تفتقر إلى ركنين أساسين وهما: وجود تعبير لتلك الرؤى، وتحقُّق ذلك التعبير في الخارج، وفي الرؤى التي يحتجُّ بها الگاطع لا يوجد شيء من ذلك، ومن نظر في كتابه (الجواب المنير عبر الأثير) يجد أنَّ الگاطع يُفسِّر الرؤى التي يُسئَل عنها بما هو في صالحه، ويزعم زوراً وكذباً أنَّها تدلُّ على وجوب الإيمان به، ومن يقول بأنَّ مثل هذه الرؤى بهذا النحو من التعبير حُجَّة فلا بدَّ أن يُتأكَّد من سلامة عقله.
وعليه لا تكون دعوى أحمد إسماعيل بأنَّ الرؤيا دليل على مدَّعاه بدليل أنَّها كانت حجَّة ودليلاً على دعوى يوسف (عليه السلام) للنبوَّة لعدم خروج رؤياه عن دائرة الادِّعاء، وإتمام رؤيا يوسف (عليه السلام) بحصول المدَّعى في الخارج وشهادة العامَّة عليه، وهذا هو الفرق الجوهري بينهما.
والادِّعاء ما لم يتمّ البرهنة عليه من أمر خارجي لا ينتج في أحسن الأحوال إلَّا الظنّ إن رافقته مؤيِّدات خارجية تبقيه في هذه الدائرة، وإن كان هناك دلائل تُؤيِّد وتشير إلى كذب المدَّعي بمخالفته ثوابت الشرع المبين، فليعد جوابه لربٍّ وعد بالجحيم لمن افترى عليه وعلى حججه.
إذن الرؤيا التي يحتجُّ بها أحمد إسماعيل لا تشتمل إلَّا على ادِّعاء وجود رؤيا، من غير شهادة أحد على ذلك، فيبقى هذا الادِّعاء هو يحتاج إلى إثبات، وبالتالي لا يبقى هناك أيُّ اشتراك بين الرؤى التي يدَّعونها وبين الرؤى التي رافقت النبيّ يوسف (عليه السلام) في الأركان الأساسية للرؤى، إذن احتجاجكم برؤيا يوسف (عليه السلام) باطل من جميع الجهات، إنَّما أردتم تشبيه أنفسكم وأدلَّتكم بدليل نبيِّ الله يوسف (عليه السلام) ليشتبه على الناس صحَّة دليلكم، معتمدين على اشتراكهما في الاسم - أي اسم الرؤيا - لتنتقل قيمة حجَّة النبيِّ يوسف (عليه السلام) إلى قيمة حجَّتكم والتي كما عرفنا لا تلتقي معها في الأركان الأساسية للرؤيا، وبالتالي سقوط كلّ قيمة تدَّعونها إلَّا قيمة الاشتراك اللفظي، وهو حبلكم ووسيلتكم في هذا الباب، فألقيتموها لتُبهِروا بها أعين الناس حتَّى يظنّوا أنَّها دليل يُعتَمد عليه.
بقي أنَّهم يحتجّون ببعض الرؤى التي حصلت لبعض الصالحين كالسيِّدة نرجس (عليه السلام)، ووهب النصراني (رضي الله عنه) الذي استشهد مع الإمام
الحسين (عليه السلام)، ووفقاً لتلك الرؤى قد تحوَّلوا من دينهم السابق إلى دين الحقِّ، إذن الرؤيا صالحة للاستدلال على صحَّة العقيدة، فما بالكم تنكرون علينا استدلالنا بها؟
ردُّ دليلهم من جهتين: عامَّة وخاصَّة:
أمَّا الجهة العامَّة، ففيها ثلاث نقاط:
النقطة الأُولى: أنَّ الجامع للسيِّدة نرجس (عليها السلام) ووهب النصراني هو أنَّهما كانا على دين النصرانية، وحين شاهدوا تلك الرؤى انطلقوا من أحضان تلك الديانة ومن الأساس العقائدي الذي تليه النصرانية للرؤيا، ومن المعلوم أنَّ الفارق التربوي والعقائدي بين الديانتين يستلزم تعدُّد المعايير في قيمة الدليل لدى أتباع كلا الديانتين، ولا ينقص ذلك من شأنيهما رضوان الله عليهما، فهما استجابا بمنتهى الإخلاص بما يمليه عليهما الدليل وفق عقيدتهما وهذا هو المهمّ، ونحن نتكلَّم عن معايير الدين الإسلامي وليس النصرانية، ولعمري هل بقيت السيِّدة نرجس (عليها السلام) تعتمد الرؤيا بعد أن انتقلت إلى كنف الإمام العسكري (عليه السلام)!؟
النقطة الثانية: أنَّ الرؤيا التي شاهدتها نرجس (عليها السلام) ووهب (رضي الله عنه) لم يترتَّب عليها إنشاء عقيدة جديدة يُراد منها التعميم لكلِّ البشر تعتمد على هذا الدليل، إنَّما هي رسالة خاصَّة لكلٍّ منهما وجَّهته إلى طريق الحقِّ.
وحيلة هؤلاء هي الاستدلال بصحَّة دليل الرؤيا (الفردية الخاصَّة) وجعلها دليلاً عامَّاً (أي نقل الرؤيا من كونها دليلاً خاصَّاً لفرد في مورد خاصٍّ وجعلها دليلاً عامَّاً تُصحِّح به عقائد الغير) يجب التصديق بها لكلِّ من سمع بها وإلَّا سوف تدخل البشرية النار بسبب تكذيبهم لرؤيا غيرهم، وإنشاء فرقة عقائدية يوضع بين يديها جهود كلّ
الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين من أوَّل الخلق اعتماداً على تعميم دليل مكراً وجهلاً.
ومن طرح حيلة دليل الرؤيا يعلم جيِّداً أنَّ تسعين في المائة ممَّن يتأثَّرون بهذا المستوى من الأدلَّة لا ينتظرون رؤيا تُؤكِّد صحَّة معتقدهم، بل مجرَّد ادِّعاء أنَّ أشخاصاً قد رأوا رؤيا تناسب ادِّعاءاتهم سوف يستسلمون لهذه الادِّعاءات، وسرعان ما تأخذ طريقها إلى معتقده، فتضاف هناك إلى مجموع الأدلَّة المشابهة، ثمّ يتحوَّل هذا المسكين تدريجياً حتَّى يصبح من أشدِّ المدافعين عن هذه الدعوة التي من أدلَّتها الرؤيا التي لم يشاهدها.
النقطة الثالثة: أنَّ هذه الرؤى قام دليل صحيح على صدقها، فإنَّ السيِّدة نرجس (عليها السلام) رأت بعد الرؤيا من الحوادث ما يتطابق مع رؤياها، وكذا وهب النصراني، بخلاف الرؤى التي تُدَّعى لأحمد إسماعيل گاطع فإنَّ الدليل القطعي قام على بطلانها، فبين هذه الرؤى وتلك فرق واضح.
وأمَّا الجهة الخاصَّة، ففيها نقطتان:
النقطة الأُولى: رؤيا السيِّدة نرجس (عليها السلام):
إنَّ السيِّدة نرجس (عليها السلام) لم تسمع بالإمام العسكري (عليه السلام) قبل رؤيتها لتلك الرؤى، ولم يخطر ببالها من قبل، أي لم يحصل له صورة في ذهنها من قبل الرؤيا. وهذا لم ولن يتحقَّق من قِبَل دعوتكم، وإنَّما الذي يقع في دعوتكم هو تلقينكم الدائم لاسم أحمد إسماعيل على من تعرضون عليه الدعوة وبشكل مستمرّ، بحيث لم يسبقكم أحد لا في الدعوات الباطلة فضلاً عن الحقَّة، بل كلّ دعوتكم هي عبارة عن ترديد
اسمه، فليُجرِّب ذلك أيّ إنسان أنَّه عندما يُردِّد في ذهنه صورة شيء سوف يراه في المنام، ومن تلك الأشياء أحمد إسماعيل.
النقطة الثانية: رؤيا وهب النصراني (رضي الله عنه):
إنَّ رؤيا وهب وطاعته وانقياده واتّباعه للإمام الحسين (عليه السلام) قد اقترنت بحدث خارجي الذي أكَّد وصدَّق الرؤيا لوهب، وهو نبوع عين الماء أمام خباء أُمِّ وهب (رضي الله عنه)، وهي كانت من كرامات الإمام الحسين (عليه السلام). وهذا ما تفتقر إليه أنت، بل أسقطت الكرامة والمعجزة من حسابات المعصومين (عليهم السلام) ولم تجعل لها قيمة، بالإضافة إلى الإيمان الذي يترتَّب عليها، وما ذلك إلَّا لعجزك عن الإتيان بمثل هذه الأُمور، وقيل في المثل الدارج: (من لا يقدر على الوصول إلى العنب يقول: إنَّه حامض).
الردُّ الرابع: وفيه عدَّة مقدّمات:
الأُولى: أنَّ من الثابت في تأريخ الأديان اختلاف معاجز وحجج إثبات أنبيائها، ومنشأ الاختلاف كما بيَّنه كثير من العلماء هو اختلاف مستويات المجتمعات المعاصرة لأُولئك الأنبياء على الصعيد الثقافي أو الإيماني أو الفكري، وما يزامن تلك المستويات من عادات وطقوس ومستوى الوعي الذي يتمتَّعون به وقوَّة إراداتهم لتحقيق ما يعونه من أهداف أو يؤمنون به من مبادئ، فمعجزة موسى (عليه السلام) مثلاً هي الأفعى، وهي تتناسب مع انتشار السحر في زمانه، وكذلك عيسى (عليه السلام) معجزته الطبّ لاشتهار مجتمعه به، فإذا لاحظنا زمن يوسف (عليه السلام) وحين رأى الملك رؤيا سارع إلى الملأ من قومه: (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (يوسف: 43)، أي هناك مجموعة من الأشخاص مقرَّبين من الملك عملهم هو تأويل الرؤى، كسحرة فرعون في زمن
موسى (عليه السلام)، وما تقريبه لهم إلَّا لاشتهار زمانهم بتعبير الرؤى، ولذلك ظهر علم نبوَّة يوسف (عليه السلام) في تعبير الرؤى الذي تتناسب مع زمانه.
الثانية: أنَّ المجتمع الإنساني في تدرُّج مستمرٍّ في كماله، وخصوصاً في نقطتين أساسيتين: وعيه وإدراكه وحرّية إرادته، وفي كلا الاتّجاهين العمق والسعة أي تعميق هذا المعنى في الإنسان كفرد وسعة شموله لعدد أكبر من الأفراد، إذ للإنسان القابلية على الوعي والإدراك يمكن أن تتكشَّف عبر التدرُّج التاريخي للإنسان، وقوَّة إرادة يمكن أن تكبر وتتضخَّم وفق ظروف معيَّنة لتتناسب وهدفه الذي يسعى له.
الثالثة: أنَّ الله تعالى يهدي الإنسان وفق عدَّة طرق، منها أن يُوجِّه إليه خطاباً ظاهراً محدَّداً عبر أنبيائه (عليهم السلام)، وإمَّا أن يُحفِّزه ويُحثِّه على التدبُّر والتفكُّر في آياته علَّه يهتدي إلى دلائل قدرته.
الرابعة: وهي أهمّ المقدّمات، ويمكن أن تُسمّى مرحلة انفتاح الغيب على الواقع وبالعكس، وبيانها: أنَّ معجزة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) هي القرآن الكريم، وهو عبارة عن نصٍّ إلهي، والنصُّ يعتمد في أحد أركانه على مستوى الوعي والفهم لقارئه، بالإضافة للركن الأساسي الثاني وهو تجسيد مفاهيم الخطاب الإلهي في الواقع العملي للإنسان.
ولو أعدنا النظر في طريقة فهم الإنسان لمراد الله تعالى نجد أنَّها تنقسم إلى مرحلتين أساسيتين:
1 - ما قبل نبوَّة نبيِّ الإسلام محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وتتمُّ عن طريق بعث الأنبياء والرسل كلَّما احتاج الإنسان إلى تجديد منظومته التربوية، وما هذا التدرُّج في طريقة الخطاب الإلهي عبر تلك المراحل إلَّا إثباتاً للسُّنَّة التاريخية والاجتماعية المارَّة الذكر، القاضية برقيِّ الإنسان وتكامله عبر الزمن.
2 - هي مرحلة النبيِّ الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلم) وما بعدها، وإذا لاحظنا المفردات المتعلّقة بمسألة الإدراك والوعي والفهم الإنساني، والتي تكشف عن طبيعة الخطاب الإلهي في مرحلة القرآن وما بعدها، وما تحاكيه من قوى الإنسان المناسبة لها بالنسبة للفرد المعاصر لنزول القرآن ومن يأتي بعده، لوجدنا أنَّ مفردة علم جاءت في القرآن الكريم (58) مرَّة، ومفردة العلم (28) مرَّة، وتعلمون (56) مرَّة، ويعلمون (80) مرَّة، ويعقلون (22) مرَّة، وتعقلون (24) مرَّة، ويتفكَّرون (10) مرَّات، ويتدبَّرون مرَّتين، ويوقنون (11) مرَّة، ويفقهون (13) مرَّة، فالمجموع (304) مرَّة، تكرَّرت ألفاظ تُؤكِّد على جنبة الفهم والإدراك البشري المعاصر واللاحق لزمن الخطاب القرآني، بالإضافة إلى ألفاظ كثيرة قريبة من هذا المعنى قد انطوى عليها النصُّ القرآني.
وإنَّ التركيز المكثَّف على هذه المفاهيم في كتاب الله تعالى إنَّما يكشف عن مرحلة جديدة من الوعي انتقلت إليها البشرية وأصبحت لها القدرة على التعامل مع النصِّ مباشرة، ولها القدرة أن تحاكي المعاني المكنونة فيها.
والفرق الجوهري بين هذه المرحلة والمرحلة السابقة هو أنَّه في السابقة إرسال نبيّ كلَّما احتاجت الإنسانية لذلك، وفي هذه المرحلة وكلَّما احتاج الإنسان إلى معنى جديد يساير به خطّ الكمال العامّ للإنسانية في خطِّها الطويل، لا بدَّ من اعتماد الفهم والإدراك عبر التدبُّر والتفكُّر للوصول للعلم واليقين بمضمون الخطاب الإلهي، سواء كان مباشرةً عبر كتابه أو عبر من يُمثِّلونه، والنصُّ بدوره ينطوي على كلِّ ما يحتاجه الإنسان من معاني ومفاهيم ترفد حاجاته المتطوِّرة.
وفي كلِّ آنٍ من مراحل الدعوات الدينية يلتقي في نقطة واحدة فهم وإدراك المعنى الموجود في الخطاب الديني وإرادة الإنسان في ذلك الآن، ليُشكِّلا في حالة اندماجهما حالة جديدة تغاير الإرادة العمياء التي ينجرف من خلالها المؤمنون في الحركات المنحرفة لقلَّة وعيهم وإدراكهم. وكذلك تغاير الفهم الجامد والسلبي للدين، المجرَّد عن الروح الرسالية المتحرِّكة والساعية لتجسيد مبادئ العدل، وتلك الحالة الجديدة هي (الإرادة الواعية)، وبدل أن تكون الواسطة بين الإنسان وربِّه الوحي والنبيّ كما في المراحل السابقة عملت السنن الإلهية في الخلق على رقيِّ إرادة الإنسان ووعيه على استلهام معاني الخطاب الإلهي من كتابه الكريم مباشرة: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) (محمّد: 24 و25)، ليقترب شيئاً فشيئاً من تحقيق إرادة الله تعالى في نفسه أوَّلاً وفي نظامه العامّ ثانياً، ولا يتمُّ له ذلك ما لم يُدرِّب إرادته عبر تطبيق أوامر الله تعالى في سلوكه، والتحرُّر من اتّباع إرادات مغايرة لإرادة الله تعالى، والتدبُّر في آيات خلق الله واكتشاف أنظمته المودَعة فيها من خلال اكتشاف قدراته المودَعة فيه أوَّلاً كقوَّة الإدراك والوعي، وصقلها شيئاً فشيئاً عبر تبادل منتظم بين دلالات آيات الله الآفاقية والنفسية والرجوع بها إلى حيث (إِلهِي تَرَدُّدي فِي الآثارِ يُوجِبُ بُعْدَ المَزارِ)(205)، ممَّا يُؤسِّس قاعدة إيمانية رصينة تتَّكئ عليها إرادته لتندفع باتّجاه هدفه أكثر فأكثر، وكلَّما اندفع أكثر أدرك وفهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(205) مفاتيح الجنان: 425/ دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة.
أكثر، وبهذا التنسيق المتبادل بين الإدراك والإرادة والعمل وفقههما يرتقي الإنسان إلى حيث هدفه الأسمى.
إذن المرجع هناك الوحي، وهنا التدبُّر في النصِّ والخطاب الإلهي وتجسيد الخطاب عمليَّاً يواكب المرحلتين، وهو مطلوب في كلِّ الأزمنة والأمكنة، ولا يختصُّ بمرحلة دون أُخرى.
وبعد تقدُّم التاريخ إلى هذه النقطة الزمنية المعاصرة، والتي تأتي بعدها يفترض وحسب قاعدة تطوّر البشرية وتكاملها قد زاد مستوى وعيها وإدراكها حتَّى عن زمن من عاصروا الرسالة، باستثناء قادة الخلق وعِدل القرآن من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) والمخلصين من أتباعهم، فضلاً عن زمن ما قبل رسالة النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فما بالك بعدَّة آلاف من السنين قبلها، فزمن يوسف (عليه السلام) وقومه ليس كزمن محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقومه، بالإضافة للزمن اللاحق له.
النتيجة:
لا بدَّ أن يكون دليل إثبات أيَّة دعوى يتناسب مع مستوى الوعي والإدراك المعرفي بالله والدين، وكذلك مستوى إرادة الإنسان لتحقيق ذلك تتناسب والزمن المعاصر لتلك الدعوة، وقيل في الحكمة: (لكلِّ مقام مقال)، وقول النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): (إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نُكلِّم الناس على قدر عقولهم)(206)، ويفترض حسب القواعد السابقة أنَّ البشرية قد ارتقت بوعيها وإرادتها في علاقة متبادلة بين الغيب والإنسان فهماً وانفتاحاً وانسجاماً مع ذلك الغيب من خلال تربية المصلحين السابقين على النبيِّ الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ جاء هو (صلّى الله عليه وآله وسلم) متمِّماً لمكارم أخلاقهم، وتجسيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(206) الكافي 1: 23/ باب العقل والجهل/ ح 15.
أهل بيته لتلك الأخلاق، والثمن هو أجسادهم المطهَّرة حين قُطِّعَت، وذراريهم التي سُبِيَت، فنتج: (الرقي في طريقة التعامل مع الغيب في أساليب قد رسمتها السماء مسبقاً من خلال إثارة قابليات مودَعة في الإنسان تتناسب والهدف الأسمى لخلق الإنسان، مع الحفاظ على تواصل الإنسان مع الغيب على طول خطّ رقيِّه).
إلَّا إذا كان المخاطبون لا زالوا يعيشون في زمن فرعون في وعيهم وإدراكهم، ولم يتدبَّروا القيم العظمى التي جاء بها نبيُّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلم). وهذا الحال أشبه بطفل تُربّيه في صغره وتُعلِّمه بتقريب معاني الأشياء له عبر صور حسّية وتبسطها له في حركات يديك وتقاسيم وجهك حتَّى يُقلِّدك، وهكذا فعل الأنبياء السابقين مع الإنسانية في عمرها المديد، إلى أن صار شابَّاً وبدأ يفهم الكلام من دون تكلُّف الصور والأمثلة الكثيرة والحركات الزائدة، ومع إرادة إيصال معنى أو عدَّة معاني نستعمل معه كلمات قليلة فيأخذ بتحليلها وربط دلالاتها، ثمّ يخرج بتلك المعاني المخزونة فيها.
فتصوَّر لو عدنا إلى هذا الإنسان بعد كلّ تلك المسيرة من فهم طريقة نقل المعاني، واستعملنا معه الطريقة القديمة حينما كان صبيّاً، فما هو حكمه علينا؟
لا يخلو جوابه من أحد حكمين: إمَّا أنَّكم تستخفّون بعقلي، أو إنَّكم تجهلون طريقة العقلاء في خطاباتهم.
فهل أنَّ رموز هذه الحركات ومنهم أحمد إسماعيل گاطع يجهلون تطوّر الخطاب الإلهي عبر التاريخ!؟ أو أنَّهم يجهلون مستوى الوعي والإدراك للإنسان المعاصر!؟ أو أنَّهم يعيشون في مستوى وعي زمن
الفراعنة المعاصرين ليوسف (عليه السلام)!؟ أو أنَّهم ممَّن (يستعمل آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، ويستظهر بِنِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِه) ليتَّخذه الضعفاء وليجةً من دون وليِّ الحقِّ!؟ وسهَّل عليه الأمر (مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَه فِي أَحْنَائِه)، و(هَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَؤُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ)(207)، بل دليلهم الادِّعاء وأحالوا ظنّهم إلى يقين بعد أن أخضعوا إرادتهم وعقولهم إلى من يظنّون أنَّه ركنهم الوثيق بعد استبدال وليِّ الحقِّ بالگاطع السلمي وأمثاله.
وأتصوَّر أنَّ هذا الانقياد نشأ لحبِّ هؤلاء الأشخاص للإمام المهدي (عليه السلام)، ولديهم مستوى من الإخلاص والاستعداد لنصرته ممَّا دفعهم لتلمُّس آثاره العينية كشخصه المبارك، والاستعجال في ذلك، وأهمّ عنصر خفيّ لا يشعر به أغلب المتَّبعين لهذه الحركات هو الاندفاع والاستعجال في معرفة شخص الإمام من غير بصيرة كما عبَّر أمير المؤمنين (عليه السلام)، ممَّا يُسهِّل وقوعهم في فخاخ المحتالين المتربّصين بهذا المنصب الإلهي العظيم وعلى مرِّ التاريخ الإسلامي.
ألم تسألوا أنفسكم كيف أنَّ أحمد إسماعيل مثلاً بدأ بتحقيق مآربه من كلمة متشابهة وغير تامَّة الدلالة على دعواه وتقابلها مئات الروايات، ثمّ تدرَّج بسلب مناصب وليِّ الحقِّ أرواحنا فداه حتَّى صار هو من يملؤها قسطاً وعدلاً، وهو من يُصلّي المسيح خلفه، وهو من يُبايَع بين الركن والمقام، وهو...، وكلَّما زاد من حوله من لا إرادة واعية له اتَّسعت مهامّه ومناصبه!؟
أليس هذا تجسيداً حقيقياً لمعنى الروايات التي تقول: إنَّ هناك فئة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(207) نهج البلاغة: 496/ ح 147.
تقول للإمام (عليه السلام) حين خروجه: ارجع يا بن فاطمة لا حاجة لنا بك، فإنَّ في أحمد إسماعيل وغيره كفاية، فهو من يملؤها قسطاً وعدلاً، وهو من يُبايَع بين الركن والمقام، وهو من يُصلّي المسيح خلفه... إلى آخر المهامّ الموكولة لإمام الزمان وشريك القرآن (عليه السلام)!؟
لا أعلم هل التمادي في الضلال حفاظاً على ماء الوجه، وفرحاً بتحقيق بعض الأهداف الرخيصة كطاعة بعض الأشخاص لكم أعظم أم تزوير تأريخ منقذ البشرية وتشويهه!؟ سؤال موجَّه إلى أحمد إسماعيل وكلِّ من سوَّلت له نفسه بالتجرُّؤ على مقام صاحب الأمر أرواحنا فداه، والويل لمن افترى، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (الأنعام: 93).
مكانة الرؤيا عند أئمّة الهدى (عليهم السلام):
إنَّ من يتَّبع نهج المعصوم (عليه السلام) يعلم جيِّداً أنَّ مكانة الرؤيا من مسير خطّ الإنسان التكاملي هي في أوَّل طريق الإيمان، وجميع الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام) والتي تشير إلى رؤيتهم في المنام تقع في هذا السياق، وهو ما ينسجم مع وظيفتهم الإلهية في هداية البشرية، ولا أحد ينكر أصل الرؤيا أو وظيفتها ومكانتها في الدين والتربية، أمَّا أن نُعمِّم حكم الرؤيا إلى أوسع من ذلك فهو يخالف منع الإمام الصادق (عليه السلام) لهذا التعميم، بالإضافة إلى فتح باب الادِّعاء الباطل لكلِّ من تُسوِّل له نفسه
التلاعب بثوابت الدين من أُصول وفروع. وهذا أحد قادة الخلق يُطمِّن أحد محبّيه حين اشتكى له انقطاع الرؤيا، فأجاب الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): (... لا تغتمّ فإنَّ المؤمن إذا رسخ في الإيمان رُفِعَ عنه الرؤيا)(208).
حديث (من رآني...):
أمَّا رواية: (من رآني فقد رآني...)، فيمكن نقاشها من عدَّة جهات، منها أنَّ (هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد)(209)، (ومن الواضح عند العلماء أنَّ الأُمور الاعتقادية لا تثبت بخبر الواحد وإن كان صحيحاً سنداً وواضحاً مضموناً، وإنَّما يثبت بالخبر المتواتر القطعي)(210).
فما بالك بالخبر الواحد الضعيف، بل ومن أضعف أخبار الآحاد، كيف يُبنى عليه عقيدة تضيع بسببه جهود جميع الأنبياء والمرسلين، ولا تتحقَّق شيء من أهداف العقيدة السمحاء!؟
ولو سلَّمنا بصحَّته فإنَّ الأدلَّة الأُخرى دلَّت على أنَّ دين الله أعزّ من أن يثبت بالرؤى أو في المنام.
إذن الذي يستفاد من الرواية محلّ الاستدلال أنَّ رؤيا المعصوم تثبت بها الرؤية لا أكثر، ولا يثبت بها أيّ حكم شرعي أو عقيدة إلهية.
وفائدة أمثال هذه الرؤى أنَّها مبشِّرات أو محذِّرات، فإنّا نعلم بالضرورة أنَّ كثيراً من الصلحاء قد رأوا بعض المعصومين (عليهم السلام)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(208) بصائر الدرجات: 275/ جزء 4/ باب 13/ ح 6.
(209) مرآة العقول 25: شرح صفحة 212.
(210) راجع: تاريخ ما بعد الظهور للسيِّد محمّد الصدر قدس سره.
فبشَّروهم أو حذَّروهم من أُمور وأحداث خارجية، والتبشير والتحذير يأتي في سياق الشريعة والنصوص الثابتة في صحيح ما ورد عنهم (عليهم السلام)، أي الأصل النصوص الصحيحة الموافقة للعقيدة الحقَّة ضمن الثوابت التي ارتضوها وأسَّسوها هم (عليهم السلام)، ثمّ يتفرَّع على ذلك بشراهم وتحذيرهم وفق شروط وضوابط أخلاقية وتربوية محدَّدة هم يعلمونها ويُحدِّدونها تتناسب مع مستوى وحاجة الرائي. لا أن نحمل الرواية على أُمور من عند أنفسنا لنخدع بها العامَّة، فإنَّ زعمهم أوامر المعصوم في الرؤيا كأوامره في اليقظة غير صحيح في الدين الإسلامي أصلاً.
ولو عُلِمَ من صدق أُكذوبتكم أنَّ استدلالكم بالرؤيا لا يقوم حقيقة على هذه الرواية وحدها، وإنَّما جعلتموها مقدّمة من مقدّمات دليلكم، والمقدّمة الأهمّ في صياغة هذا الدليل هي: أنَّ أمر النبيِّ في الرؤيا كأمره في اليقظة، وكما عرفنا في المقدّمة العامَّة للبحث أنَّه إذا كذبت إحدى المقدّمات فالنتيجة لا محالة كاذبة، فنطالبك أيّها المدَّعي بدليل وارد عن المعصوم (عليه السلام) يُثبِت صدق ادِّعائك أنَّ أمر المعصوم في الرؤيا كأمره في اليقظة.
وكيف ترضون لأنفسكم أن يكون المعصوم (عليه السلام) عندكم متهافتاً في كلامه!؟ فإنَّ ادِّعاءكم أنَّ المعصوم قد أمر باتّباع أحمد إسماعيل في الرؤيا تجعلونها مقدّمة، ثمّ تتلونها بالنتيجة التي تدَّعونها أنَّ أحمد إسماعيل هو من يملؤها قسطاً وعدلاً، وبالتالي يكون حسب زعمكم أنَّ المعصوم الذي تدَّعون رؤيته هو من شارك بهذه النتيجة وأسَّس لها، وفي عشرات الروايات نفس ذلك المعصوم وبشكل لا يقبل أدنى شكّ يقول: إنَّ من يملؤها قسطاً وعدلاً هو الإمام الثاني عشر محمّد بن
الحسن (عليه السلام). وبذلك يتمُّ التهافت في كلام المعصوم والعياذ بالله، أي تارةً يأتي بالرؤيا ليُخبِر عن شخص، ثمّ يذكر لنا بأحاديث صحيحة ويأمرنا بالاعتقاد فيها بشخص آخر.
حقيقة المقارنة إنَّما تتمُّ بين صريح كلام المعصوم (عليه السلام) وبين قاعدة أنتم ابتدعتموها لم يذكرها الخبر الذي يتكلَّم عن الرؤيا، ومن يساوي بين كلامكم وبين صريح كلام العترة الطاهرة فهو من يواجه معضلة التهافت، ومن يعتقد أنَّ آل محمّد (عليهم السلام) لا يجوز التقدّم والتأخّر على كلامهم ليس لديه مشكلة من هذا النوع، فكلامهم واحد وهديهم واحد، ونعتقد أنَّه لا يصحُّ لمؤمن أن يسبقهم بقول ولا بفعل.
فلنستمع إلى سيِّد الكائنات وخاتم الرسل (صلّى الله عليه وآله وسلم) بماذا يُخبِرنا: عن عبد الله بن عبّاس، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (إنَّ الله تبارك وتعالى أطلع إلى الأرض اطِّلاعة فاختارني منها فجعلني نبيَّاً، ثمّ أطلع الثانية فاختار منها عليَّاً فجعله إماماً، ثمّ أمرني أن أتَّخذه أخاً ووليَّاً ووصيَّاً وخليفةً ووزيراً، فعلي منّي وأنا من علي، وهو زوج ابنتي وأبو سبطي الحسن والحسين، ألَا وإنَّ الله تبارك وتعالى جعلني وإيّاهم حججاً على عباده، وجعل من صلب الحسين أئمَّة يقومون بأمري، ويحفظون وصيَّتي، التاسع منهم قائم أهل بيتي، ومهدي أُمَّتي، أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله، يظهر بعد غيبة طويلة وحيرة مضلَّة، فيُعلِن أمر الله، ويُظهِر دين الله (عزَّ وجلَّ)، يُؤيَّد بنصر الله، ويُنصَر بملائكة الله، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً)(211).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(211) كمال الدين: 257 و258/ باب 24/ ح 2.
وعن ثابت بن دينار، عن سيِّد العابدين علي بن الحسين، عن سيِّد الشهداء الحسين بن علي، عن سيِّد الأوصياء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): (الأئمَّة بعدي اثنا عشر أوَّلهم أنت يا علي وآخرهم القائم الذي يفتح الله (عزَّ وجلَّ) على يديه مشارق الأرض ومغاربها)(212).
ومن حيلهم الرخيصة في هذا الباب هي أنَّهم حين يعترض عليهم أحد في مدى سعة فائدة الرؤيا يحاولون أن يُؤجِّجوا عليه آراء البسطاء مدَّعين أنَّ هذا المعترض يعترض على أصل الرؤيا، فيذكرون قصص الرؤيا التي وردت في القرآن الكريم والسيرة العطرة للمعصومين (عليهم السلام)، وحيلتهم هي خداع العامَّة أنَّ المعترض ينكر بعض الثوابت التي أقرَّها الدين.
إنَّما الرؤيا إشارة من رحمة الله في بداية طريق الإنسان الطويل نحو بارئه تعالى، فإن ثبت ورسخ إيمانه كما بيَّن الإمام الكاظم (عليه السلام) رُفِعَ عنه الرؤيا، ليُكمِل طريقه بعد ذلك متَّكئاً على قواه الذاتية التي أودعها المولى تعالى فيه، مع رعاية اللطيف الخبير له حسب سنن الاستعداد والاستحقاق المعروفة في باب الأخلاق، وهو في هذا الحال كالطفل الصغير إن أراد أن يتعلَّم المسير تُعطيه يدك حيناً وتُفلِته أُخرى إلى أن يتَّكئ على نفسه ويعتمد عليها ويتعلَّم كيفية المسير.
فهل يعلم أحمد إسماعيل معنى الرسوخ في الإيمان إذا تمَّ لأحد تنقطع الرؤيا عنه!؟ أم يريد أن يقيم دولة العدل الإلهي ويُرسِّخ أركان الإيمان في المعمورة بأُناس لم يرسخ إيمانهم بعد لاعتمادهم على الرؤيا!؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(212) كمال الدين: 282/ باب 24/ ح 35.
وليس يصلح العدد الكثير من لم يُصلِح نفسه الواحدة كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام). أم يريد أن يستغلَّ جهلهم بمكانة الرؤيا بالنسبة لمقامات الإيمان ومرتبتها منه!؟ نعم ربَّما يكون الجهل عيباً في بعض الأحيان، ولكنَّه ينقلب خزياً وربَّما لا قدَّر الله كفراً إذا انقلب من جهل إلى تجاهل، أي يعلم الإنسان ولكن يتجاهل علمه، أي يحاول إخفاء هذه الأدلَّة حتَّى عن نفسه ولا يطرحها عليها مخافة تهديد ما توصَّل إليه من نتائج مرتبكة حتَّى وإن كان الثمن هو إبعاد وليِّ الحقِّ (عليه السلام) عن مهامّه التي أوكله الله بها ومناصبه التي رتَّبه لها. وذلك نتيجة تأويل خاطئ لرواية متشابهة لصالح من أوَّلها.
بخلاف ما لو كان الإنسان متَّبعاً لصريح كلام المعصومين (عليهم السلام)، وعرف عقيدته من خلال الثوابت التي أرسوها لأوليائهم، لطرح هذا الإنسان تلك التساؤلات ألف مرَّة، وما هذا الاختلاف في الصدق مع النفس والثقة بها إلَّا كون الشخص الثاني ذا عقيدة صادقة وقويَّة وذات أساس متين، ولا يهمّها كثرة التساؤلات كونها مستندة إلى أساسين متينين، منظومة عقائدية متماسكة ومتآزرة تستند إلى مئات الأحاديث الواردة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، ويؤازر هذا الأساسُ أساساً آخر وهو الفطرة السليمة تجاه هذه العقيدة الحقَّة، وهذا التلاحم يمنع تسرّب أيُّ شكٍّ إلى الإنسان وإن كان علمه بتلك العقيدة والأحاديث الواردة فيها إجمالياً. بخلاف ما لو كانت تلك العقيدة مستندة إلى أحاديث متشابهة وتعارضها مئات الأحاديث لفظاً ومضموناً، ووضعت إلى جنبها ما ادُّعي أنَّها أدلَّة أسقطها الدين من قيمة طرق الوصول إلى ثوابته، ومن الحتمي أنَّ هذه التركيبة الغريبة من الأُسس الهشَّة سوف
تنبذها الفطرة السليمة ولا تتعايش معها، ولذلك نرى من دخلوا في هذه الدعوات إن حصل وطرح عليهم عقلهم تساؤلاً عن تناقض معيَّن أو إفراط في ادِّعاء أو غير ذلك تسارع تلك الجهة المشوَّشة في أعماقه إلى تبرير ذلك التناقض وتأويل ذلك الخطأ بالنيابة عن صاحبه، أمَّا تلك الجهة المجهولة في أعماقه والتي تُصدِّر أوامرها خلافاً لفطرته فهي خليط من مشاعر الأنانية التي تراكمت على جهل تكليفه تجاه صاحب الأمر (عليه السلام). وجلُّ ما يريد معرفته عنه صلوات الله عليه هو معرفة وتحديد شخصه الشريف، ممنّياً نفسه بالمقامات الشامخة لأصحابه (عليه السلام)، خصوصاً بعد التلقين المستمرّ له ممَّن سبقوه بأنَّك من الصفوة ومن خيار أهل الأرض وخلاصة الكون وما إلى ذلك ممَّا سيُولِّد لديه طاقات آنية يوهم نفسه بأنَّها دليل على صحَّة معتقده، حتَّى يُصدِّق ذلك من غير رويَّة ولا بصيرة أو لحظة صدق مع نفسه.
وأحد أهمّ نتائج تلك الطاقات الآنية والتي يوهمون بها أنفسهم هو مدى تضحيتهم لهذه الدعوة، ولو تأمَّلوا قليلاً واعتبروا بالنواصب ومدى استعدادهم للتضحية وتفجير أنفسهم في قتل الآلاف من أتباع الإمام المهدي (عليه السلام)، لعرفوا أنَّ الاستعداد للتضحية وحده ليس معياراً ودليلاً على صحَّة الدعوات.
ومن أراد آية في نفسه ليعلم بها مدى تحقُّق قول الله سبحانه: (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
بِما كانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 7 - 12)، والآية هي: ليراقب كلُّ منتم لهذه الدعوة نفسه حينما يقرأ أحد الكتب المتخصّصة بنقل أخبار الإمام المهدي (عليه السلام)، ولينظر هل هو يتوقَّف ويتأمَّل في الروايات الصريحة والمحكمة المعاني التي تصف وتعطي الصفات والمهامّ المعروفة له (عليه السلام) كالقائم والذي يملؤها قسطاً وعدلاً إلى آخر مهامّه، أم لا يوقفه هذا النوع من الروايات، بل كأنَّه لم يقرأها، وإنَّما بحثه عن تلك الروايات التي تحمل أكثر من معنى وأكثر من دلالة ليصرف أحد وجوهها إلى من أضمر الاعتقاد به؟
واعلم أنَّ تحقُّق الغشاوة على القلب والبصر هي سبب عدم اهتمامك بالصنف الأوَّل من الروايات، وذلك لأنَّ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)، وسبب اهتمامك في المتشابهات من الصنف الثاني من الروايات، هو لأنَّه (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً)، والنتيجة الطبيعية لهؤلاء هي (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران: 7).
وذهب كبراؤهم إلى أبعد من ذلك، وهو بعد ما أسَّسوا دعوتهم على تلك الأدلَّة الواهية والمتشابهة عمدوا إلى المحكمات من الروايات والتي لا تقبل أيّ تأويل ونسبوا معانيها إلى أحمد إسماعيل، أي إنَّهم ليس على قلوبهم غشاوة وعاجزين عن قراءة أوضح الواضحات فقط، بل جعلوا الواضحات التي نصَّت على حقِّ الإمام المهدي (عليه السلام) بحقِّ غيره، وهذا من أقسى صور الظلم والجور، (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ
قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الزمر: 45).
وطبقاً لقانون التماثل بين الذنب والعقوبة، وبما أنَّهم اعتدوا على حقِّ أولياء الله عن سابق نيَّة وقصد، وشبَّهوا على الأبرياء الواضحات، جعل الله سبحانه بلاءهم في نفس قصدهم ونواياهم. وهذا من أعظم أنواع البلاء، ومن أدقِّ أنواع المكر الإلهي، حيث إنَّهم كلَّما عملوا عملاً منحرفاً يحسبون أنَّهم يُحسِنون بذلك صنعاً، وكلَّما جاؤوا بفساد ظنّوا أنَّه صلاح، وكما شبَّهوا الواضحات فكذلك شبَّه الله عليهم مقياس الأعمال وهي النيَّة والقصد، فأصبحوا (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (البقرة: 9 - 12).
ومثلهم في الخطِّ المنحرف في عالم الفساد والرذيلة، هو أنَّ المنحرفين كانوا لا يتردَّدون في فعل الفواحش، وفي المقابل تحصل أمراض مناسبة لهذا السلوك المنحرف، ولمَّا حصل تطوّر في عملية التعاطي مع الرذيلة، وهو ليس الاقتصار على تعاطيها وحسب، بل هدم الأُسس الأخلاقية التي يرتكز عليها حماية الإنسان عن الوقوع في الرذيلة، فما أن لبثوا حتَّى ارتقى نوع العقاب المناسب والمماثل لنوع الانحراف، وهو مرض المناعة المكتسبة. وكما هدموا أُسس الأخلاق، فهُدِمَ عندهم أحد أهمّ أسوار حماية جسم الإنسان، (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (الزخرف: 76).
وما عدم شعورهم بفسادهم، وتصوّرهم أنَّهم مصلحون إلَّا لأنَّ الله أضلَّه على علم (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية: 23).
تذكير:
احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) لحقِّه أمام المهاجرين والأنصار في حديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، قال (عليه السلام): (أُنشدكم الله أتعلمون أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قام خطيباً لم يخطب بعد ذلك، فقال: أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فتمسَّكوا بهما لئلَّا تضلّوا، فإنَّ اللطيف الخبير أخبرني وعهد إليَّ أنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض. فقام عمر بن الخطّاب وهو شبه المغضب فقال: يا رسول الله، أكُلُّ أهل بيتك؟ فقال: لا ولكن أوصيائي منهم، أوَّلهم أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أُمَّتي ووليّ كلّ مؤمن من بعدي، هو أوَّلهم، ثمّ ابني الحسن، ثمّ ابني الحسين، ثمّ تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد حتَّى يردوا عليَّ الحوض، شهداء الله في أرضه وحججه على خلقه وخزّان علمه ومعادن حكمته، من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله (عزَّ وجلَّ)؟)، فقالوا كلّهم: نشهد أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال ذلك...(213).
استنتاج:
1 - أنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) حين ذكر هذا الحديث كان في آخر خطبة له، أي قبل وفاته بقليل.
2 - أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في وضع إثبات حقِّه وبيان هوية من نصبهم الله تعالى حججاً على خلقه، وهم الأئمَّة الاثنا عشر واحداً بعد واحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(213) كمال الدين: 274 - 279/ باب 24/ ح 25.
3 - اتّصال سلسلة الأوصياء المذكورين في الرواية حتَّى يردوا الحوض على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، أي بعد نهاية الدنيا.
4 - لو كان هناك حجَّة غيرهم لبيَّنه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في آخر خطبة له، لتكون حجَّة لله وله على الخلق أجمعين.
5 - يُؤكِّد النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنَّ الأوصياء وعِدْل القرآن والعترة والشهداء والحجج هم اثنا عشر، وأيّ رجل غيرهم لا يدخل في دائرتهم بمقتضى (أَكُلُّ أهل بيتك؟ فقال: لا)، فمن كان له نبيٌّ غير محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ووليٌّ غير علي (عليه السلام)، فليُبدِّل هذه الـ (لا) بـ (نعم)، وليضع بعد هذه الأسماء من يشاء من إمام يتَّخذه.
هذا إذا كان هذا المدَّعي يدَّعي أنَّه من أتباع النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فلا بدَّ حينئذٍ ألَّا يكون متَّصفاً بكلِّ الأوصاف التي افتراها على المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لأنَّ صريح قول النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وشهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) يُكذِّبانه في كلِّ ادِّعاء يدَّعيه، وأمَّا إذا لم يكن من أتباع النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) فعدم اتّصافه بالمقامات التي ادَّعاها يكون من باب أولى، فأين هذا التطفُّل والتطاول على كلام حجج الله في أرضه حين زعم أحمد إسماعيل السويلمي وأتباعه أنَّه هو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً، وأنَّه هو قائم آل محمّد (عليه السلام)!؟
* * *
من شعاراتهم (النجمة السداسية)، و(البيعة لله)، و(الرجوع للقرآن الكريم)، أي حسبنا كتاب الله.
إنَّ أخطر سلاح استُعمل ضدّ الدين هو أقدس ما في الدين: القرآن الكريم والولاية، فهل طُعِنَ برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو في لحظاته الأخيرة، ودُفِعَ أمير المؤمنين (عليه السلام) عن حقِّه في قيادة البشرية، إلَّا باسم القرآن عندما نطق صوت الشيطان، حين قال: (حسبنا كتاب الله)!؟ وصدَّق به الجاهل، وأطاعه المغرض حتَّى حدث ما حدث تحت هذا الشعار، والذي لا يُراد منه إلَّا الباطل وسرق الحقِّ بأدواته.
وأوَّل تطبيق لهذه الشعارات بعد أن صدَّق بها السُّذَّج هو الهجوم على بيت أذن الله أن يُرفَع ويُذكَر فيه اسمه، ثمّ عاد هذا الشعار مرَّة أُخرى على لسان عمر آخر وصدَّق به جهلة آخرون حين رُفِعَت المصحف على الرماح، حيث قال الخوارج: (حسبنا كتاب الله)، وكان الثمن هذه المرَّة رأس أمير المؤمنين وكبد الحسن (عليهما السلام)، وكلُّ ما جرى من مصائب على أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم إنَّما هو بسبب التصديق بحيلة رافعي هذا الشعار الذي هو مقدَّس حتَّى أثبتها أمير المؤمنين (عليه السلام) عبر التاريخ رسالة للأجيال، أنَّ استعمال هذا الشعار بهذه الطريقة هو (كلمة حقٍّ يُراد بها باطل)، فالشعار شعار حقّ، إذ أنَّ المطلوب والصحيح هو الرجوع لكتاب الله (عزَّ وجلَّ)، ولكن الباطل هو ما يُراد رفع الشعار من أجله وهو...
الحيلة من رفع هذه الشعارات:
مواجهة البسطاء والجهلة بحيلة طرح شعار مقدَّس عامّ ليجذبوهم إلى قداسته، حتَّى إذا اقتنع بأنَّ ما يُراد الاستدلال به هو لا ريب فيه، ليُخرِجوهم بهذا الاستدراج من قناعاتهم السابقة وعقيدتهم التفصيلية بأحقّية شخص ما كرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) في رزية الخميس، وكأمير المؤمنين (عليه السلام) في صفّين، وفي فتنة الوهّابية المعاصرة والتي ليس مهمَّاً عندها أن تجري أنهار من دماء المسلمين بغير حقّ بسبب فتاواهم المغرضة، لكن المهمّ هو أن يُقصِّر المسلم ثوبه. وليس مهمَّاً أن يكون الحاكم جائراً وظالماً ومبتزَّاً لقوت شعبه ومقدرات بلده، لكن المهمّ أن يحافظ المسلمون على سُنَّة النبيِّ في السواك، ليُضلِّلوا البسطاء في تلك الممارسات، فيوهموهم بالتزامهم بسُنَّة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فإن جاؤوا بكبيرة وجدوا لهم عذراً بالتزامهم بالسواك وتقصير الثياب وغيرها.
وكذلك هذه الحركات الضالّة التي نحن بصددها، فإن نجحت خطَّتهم في استدراج من يُراد خداعه، يجعلونه يقارن بين عقيدته السابقة الإجمالية ومستوى يقينه بها، وبين الشعار الجديد الذي يتضمَّن (الرجوع إلى القرآن أو البيعة لله).
ومن الطبيعي أنَّ عقيدة أكثر المسلمين في القرآن وولاية الله تعالى إجمالاً تنافس وتطغى على العقائد الأُخرى بصورتها التفصيلية، والمقارنة الحقيقية بالضبط إنَّما تتمُّ بين مستوى عقيدته بالقرآن وولاية الله سبحانه، وبين عقيدته التفصيلية بما يعتقده، فإن تمَّت المقابلة بينهما فمن الطبيعي سوف يُرجِّح اعتقاده بالقرآن وولاية الله، باعتبارهما الأصل قياساً بتفاصيل العقيدة، فإذا أخذ هذا الرجحان دوره الطبيعي في التأثير على
هذا الشخص المعنيّ في الاستدراج في ترجيح قدسية وقطعية القرآن يُبقوه في هذه الدائرة العامَّة من قداسة القرآن، ثمّ يطرحون عليه مفاهيم متشابهة معدَّة سلفاً بمكر وحيلة، كما طُرِحَت فكرة الشورى والصحبة للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وجمل زوجة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) ودم عثمان، وعبادة القبور بالنسبة للوهّابية، وبيضة السماء بالنسبة للگرعاوي والهمبوشي باعتباره قائم آل محمّد (عليه السلام).
وبعد أن أُفرِغ هذا المسكين عن عقيدته السابقة يستدرجونه إلى حيث يشاؤون، لأنَّه سلَّم لهم وصدَّقهم في مقدّمتهم الأُولى من طرح شعارهم كشعار (حسبنا كتاب الله)، و(البيعة لله). والمراد الحقيقي هو تجهيز جيش من الجاهلين بهذه الأساليب، غايته سحق الحقِّ بأقدام المغفَّلين والمغرضين، فنراه بين الفينة والأُخرى يطلع علينا بنفس تلك القلوب التي كأنَّها رؤوس الشياطين، والهدف هذه المرَّة هو محق قضيَّة الله العظمى، وتشويه عقيدة المؤمنين بإمام الزمان وشريك القرآن الإمام المهدي (عليه السلام).
شعار النجمة السداسية:
عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن أبي الحسن الأسدي، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: (خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة بعد عتمة وهو يقول: همهمة همهمة، وليلة مظلمة، خرج عليكم الإمام عليه قميص آدم، وفي يده خاتم سليمان، وعصا موسى (عليهما السلام))(214).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(214) الكافي 1: 231 و232/ باب ما عند الأئمَّة من آيات الأنبياء/ ح 4.
استدلّوا في (ص 308) من كتابهم جامع الأدلَّة بهذا الحديث، وزادوا عليه هذه الزيادة: (ومسلَّم لدى المسلمين أنَّ نقش خاتم سليمان هو النجمة السداسية)، وجعلوا هذه الزيادة ضمن الأقواس التي ذكروا الحديث فيها، وبنفس حجم خطّ الحديث ومستوى وضوحه، ومغايراً لكلام الكاتب، وجعلوا ترقيم مصدر الحديث بعد هذه العبارة، بحيث يتوهَّم القارئ البسيط أنَّ هذا الكلام من ضمن الحديث.
وأوردوه بهذا الشكل: (خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات ليلة عتمة، وهو يقول: همهمة همهمة وليلة مظلمة، خرج عليكم الإمام، عليه قميص آدم، وفي يده خاتم سليمان وعصا موسى ع ومسلم لدى المسلمين أن نقش خاتم سليمان هو النجمة السداسية).
ومسلَّم في بديهيات الكتابة أنَّ من يقتبس كلاماً أو روايةً يلزمه أن يفصل بينه وبين غيره بفاصل، وقد استعمل نفس كاتب ذلك الكتاب ذلك ففصل روايات المعصومين (عليهم السلام) بذكرها بين قوسين لتمييزها عن باقي الكلام، وحين أدخل هذه الزيادة من الطبيعي سوف يتبادر للقارئ وخصوصاً غير المتابع للمصادر أنَّ هذه الزيادة هي لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي الحقيقة هي من وضعهم وتحريفهم، لإيهام الناس والاحتيال عليهم باستدراجهم من معنى خاتم سليمان الذي له عدَّة دلالات إلى تخصيصها بالنجمة السداسية الذي هو شعار الصهيونية العالمية والذي يتبنَّونه هم شعاراً لحركتهم.
إذن هم يدَّعون أنَّ نقش خاتم سليمان هو النجمة السداسية، وهذا لم يدلّ عليه أيُّ دليل، وليس مسلَّماً بين المسلمين كما زعموا، وإنَّما هو من أكاذيب الگاطع وأتباعه، ويدلُّ على أنَّه لا دليل من الروايات
تحريفهم للرواية كما أوضحناه أنفاً، ولو كانت هناك رواية تدلُّ على ذلك لاستدلّوا بها ولما احتاجوا إلى الكذب والتزوير، فإذا لم يكن هناك أيّ رواية تدلُّ على ذلك فكيف يكون ذلك الأمر مسلَّماً بين المسلمين؟!
ولنرجع إلى أئمَّتنا ولنسألهم عن ذلك النقش، ونرى ما هو مدى صحَّة كلامهم وادِّعائهم التسليم بأنَّ نقش خاتم سليمان هو النجمة السداسية.
روى ابن طاووس (رحمه الله) عن محمّد بن جعفر البزّاز، عن علي بن الحسن بن فضّال، عن محمّد بن أورمة القمّي، عن الحسين بن موسى بن جعفر، قال: رأيت في يد أبي جعفر محمّد بن علي الرضا (عليهما السلام) خاتم فضَّة ناحل. فقلت: مثلك يلبس مثل هذا؟! قال (عليه السلام): (هذا خاتم سليمان بن داود)(215).
وروى الطبرسي (رحمه الله) عن محمّد بن عيسى، قال: سمعت الموفَّق يقول: قَدِمَ أبو جعفر الثاني (عليه السلام)، وأراني خاتماً في إصبعه، فقال لي: (أتعرف هذا الخاتم؟)، فقلت له: نعم أعرف نقشه، فأمَّا صورته فلا، وكان خاتم فضَّة كلّه وحلقته، وفصّه فصّ مدوَّر، وكان عليه مكتوباً: (حسبي الله)، وفوقه هلال وأسفله وردة، فقلت له: خاتم من هذا؟ فقال: (خاتم أبي الحسن (عليه السلام))، فقلت له: وكيف صار في يدك؟ قال: (لمَّا حضرته الوفاة دفعه إليَّ، ثمّ قال لي: لا تخرج من يدك إلَّا إلى علي ابني)(216).
يمكن أن نستنتج من الروايتين السابقتين عدَّة أُمور:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - أنَّ الخاتم الموجود في يد الإمام الجواد (عليه السلام) هو خاتم سليمان (عليه السلام)، وذلك من خلال قوله (عليه السلام): (هذا خاتم سليمان بن داود).
2 - أنَّ هذا الخاتم هو ما كان يتناقله أئمَّة الهدى (عليهم السلام)، وذلك من خلال قوله (عليه السلام): (خاتم أبي الحسن (عليه السلام))، فقلت له: وكيف صار في يدك؟ قال: (لمَّا حضرته الوفاة دفعه إليَّ، ثمّ قال لي: لا تخرج من يدك إلَّا إلى علي ابني).
3 - أنَّ نقش الخاتم هو عبارة: (حسبي الله)، والصورة الموجودة فيه: (وفوقه هلال، وأسفله وردة).
الخلاصة: أنَّ خاتم سليمان بن داود (عليهما السلام) يتداوله الأئمَّة (عليهم السلام) واحداً بعد واحد، وشعاره (حسبي الله)، وصورته (هلال ووردة).
فأين النجمة السداسية التي يدَّعون أنَّ أمرها مسلَّم به عند المسلمين!؟ فهذه الرواية واردة عن أئمَّة المسلمين تُكذِّبهم وتردُّ مكرهم، ليس فيها لا من قريب ولا من بعيد إشارة إلى نجمتهم المزعومة.
تذكير:
وأُحِبُّ أن أُذكِّر الإخوة المؤمنين بكيفية تعامل الصهيونية العالمية مع فكرة التطبيع الاجتماعي من خلال أبسط الأساليب بحيث لا يُلتَفت إليها، وهي قيام بعض الشركات الإسرائيلية بدفع ملايين الدولارات لشركات عربية ومصرية خصوصاً بوضع بعض الشعارات على بعض قطع الحلوى التي تشير ولو من بعيد إلى أحد الرموز الثقافية أو الدينية لليهود.
والحيلة من ذلك: هي ليعتاد أطفال العرب والمسلمين على تلك الشعارات، وينشؤوا على تقبُّلها تدريجياً من غير أن يشعر في بادئ الأمر
بخطورتها، وإذا حصل الاعتياد حصل القبول الثقافي، وبعدها يحصل القبول الاجتماعي، ثمّ الديني، فإذا وصل مستوى التطبيع إلى هذه الدرجة للفرد أو الجماعة لا يرى أيَّة ضرورة للدفاع أو مجابهة اعتداءات هؤلاء على مقدَّسات المسلمين وأرواحهم، وقيام تلك الاعتداءات على عنصرين أساسيين في التفكير الصهيوني، وهما: الشعور بتميُّز عنصري الدين والقومية، وأحد أساليب تحقيقهما (قطعة حلوى)!
فما بالك في رفع الشعار العامّ والرئيسي للصهيونية العالمية، حيث اختارت الحركة الصهيونية عام (1879م) نجمة داود رمزاً لها، واقترح تيودور هرتسل في أوَّل مؤتمر صهيوني في مدينة بال أن تكون هذه النجمة رمزاً للحركة الصهيونية، بل أيضاً رمز الدولة اليهودية مستقبلاً(217).
وتمَّ استعمال هذا الرمز أيضاً من قِبَل لجنة الطلَّاب (إخوة صهيون) في عام (1881م)، وفي عام (1882م) اختار مؤيِّدو حركة (البيلو) نجمة داود في ختمهم الرسمي، ومن الجدير بالذكر أنَّ حركة محبَّة صهيون (البيلو) كانوا من طلائع اليهود الذين بدؤوا بالهجرة إلى فلسطين من (1882م) إلى (1903م)، والذي يُسمّى أيضاً بالهجرة الأُولى(218).
وبعد إعلان دولة إسرائيل بستَّة أشهر قرَّر مجلس الدولة المؤقَّت بتاريخ (28/ أُكتوبر 1948م) اعتماد نجمة داود كشعار على العَلَم الإسرائيلي)(219).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(217) راجع: الموقع الالكتروني: (www.arabi.ahram.org.eg).
(218) راجع: الموقع الالكتروني: (www.qudsway.com).
(219) راجع: الموقع الالكتروني: (www.president.gov.il).
ورغم مساعي الصهاينة تلك على تحقيق هدفهم وبشتّى السبل، يُراد رفع شعارهم في مكان ما كانت تحلم أن يطأه قدمها، وهو ثقل أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ورمزهم التاريخي والديني (النجف الأشرف)، وهو آخر رموز قلاع الصمود في وجه هجومهم الخفيّ والمعلن، بعد ما سقطت الأُمم والشعوب الواحد تلو الآخر في فخاخهم الاقتصادية والسياسية والمخابراتية وغيرها. إنَّه حقَّاً يُعَدُّ هذا انتصاراً وإنجازاً مهمَّاً للموساد وأتباعها وجنودها، ووصف هذا الإنجاز بالانتصار هو بالدقَّة ما نطق به أحد أتباع أحمد إسماعيل حين تداولوا وضع شعار لهم، قال: (ففاجئنا السيِّد أحمد - حسب تعبيره - بأن أخرج لنا الشعار، وإذا به النجمة السداسية، وقال: هذا شعارنا. فقلت في نفسي - والكلام لا يزال لأحد أتباع الگاطع -: إنَّ هذا يحتاج إلى جرأة كبيرة، وإنَّ هذا لانتصار كبير لدعوتنا أن يرفع شعارنا (النجمة السداسية) في وسط النجف والحوزة)(220).
وللقارئ الكريم أن يحكم بنفسه أنَّ هذا الانتصار المزعوم حقيقةً هو لمن!؟
أهداف تمييز المسلمين عن غيرهم من أبناء الديانات الأخرى:
تحويل القبلة نموذجاً للتمييز:
قال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ * سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(220) موقع أتباع أحمد إسماعيل گاطع. تحت عنوان (كيف عرفت السيِّد أحمد الحسن).
شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: 141 - 145).
ويمكن أن نستفيد من هذه الآيات الكريمة عدَّة معاني:
1 - أنَّ الأُمم السابقة لها تكاليفها الخاصَّة بها والتي جاء بها الأنبياء السابقون (عليهم السلام)، ولا نُحاسَب على تكاليفهم، قال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)، وعدم سؤالنا بما كانوا يعملون إلَّا بما أقرَّ ذلك العمل أو القول من هم حجَّة علينا، (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (الحشر: 7).
2 - أنَّ الله تعالى أمر نبيَّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) بتحويل قبلته من بيت المقدس إلى جهة الكعبة المشرَّفة رغم أهمّية ورمزية بيت المقدس لدى الديانات السماوية السابقة وأتباعها.
3 - أنَّ السبب الرئيسي لتحويل القبلة حسب القرآن الكريم (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ
يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ)، أي لتمييز المؤمنين من الكافرين والمنافقين، (لأنَّهم كانوا بمكّة، أُمروا أن يتوجَّهوا إلى بيت المقدس ليتميَّزوا من المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجَّهون إلى الكعبة، فلمَّا انتقل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة كان اليهود المجاورون للمدينة يتوجَّهون إلى بيت المقدس، فنُقِلوا إلى الكعبة ليتميَّزوا من هؤلاء، كما أُريد في الأوَّل أن يتميَّزوا من أُولئك)(221). فحسب تعبير الشيخ الطوسي (رحمه الله) أنَّ استقبال بيت المقدس لمَّا كان المسلمون في مكّة، واستقبال الكعبة لمَّا كانوا في المدينة، إنَّما هو للتمييز عن غير المسلمين.
4 - أنَّ اليهود كانوا يؤذون النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) ويُعيِّرونه بالتبعيَّة لقبلتهم، وكان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) يتأذّى من كلامهم وسخريتهم، قال الشيخ الصدوق (رحمه الله): (... وصلَّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى البيت المقدس بعد النبوَّة ثلاث عشرة سنة بمكّة وتسعة عشر شهراً بالمدينة، ثمّ عيَّرته اليهود فقالوا له: إنَّك تابع لقبلتنا، فاغتمَّ لذلك غمَّاً شديداً، فلمَّا كان في بعض الليل خرج (صلّى الله عليه وآله وسلم) يُقلِّب وجهه في آفاق السماء، فلمَّا أصبح صلّى الغداة، فلمَّا صلّى من الظهر ركعتين جاءه جبرئيل (عليه السلام) فقال له: (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ...) الآية [البقرة: 144]، ثمّ أخذ بيد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) فحوَّل وجهه إلى الكعبة، وحوَّل من خلفه وجوههم، حتَّى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال...)(222).
ومن الواضح ما للتمييز من حكمة في وضوح الرسالة وبناء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(221) تفسير التبيان 2: 4.
(222) من لا يحضره الفقيه 1: 274 و275/ ذيل الحديث 845.
أُسسها وفق ما جاء به صاحبها، أمَّا إذا بقيت بعض المشتركات وخصوصاً في أُمور يمكن أن تُستَغلّ من قِبَل المنافقين في خلط بعض المفاهيم على بسطاء الناس، والتلميح لهم بتبعيَّة هذه الرسالة لرسالات سابقة، ويترتَّب على ذلك تبعيَّة صاحبها وخضوعه وأخذه عن علماء تلك الديانات بعض أُمور دينه، ممَّا يوجب توهين الدين وتصاغره في نفوس أتباعه، والشعور بأصالة الديانات السابقة للإسلام وتفرُّعه عليها، ويفتح الباب إلى السيطرة عليه وإرجاع أهله شيئاً فشيئاً إلى تلك الديانات. ودرءاً لتلك المخاطر وضع الدين وصاحبه حدوداً واضحة لتميُّز خاتم الأديان عن غيره، وأتباعه عن أتباع غيره، وذلك لتمايز المعاني والمفاهيم العقائدية والتربوية العظمى التي جاء بها (صلّى الله عليه وآله وسلم).
إذا عرفنا تلك الحكمة من التمييز في سُنَّة القرآن والعقل، نسأل: كيف يُطرَح شعار يفتري أصحابه أنَّه كان في خاتم نبيّ من أنبياء الله، وقد عرفت كذب هذا الادِّعاء، وهذا الشعار يُعتَبر اليوم من أبرز شعارات أكثر دولة صهيونية عالمية عداءً للإسلام وأهله، وكلُّ الويلات التي حلَّت بالمسلمين في عصرنا الحاضر إمَّا حيكت ونُفِّذَت مباشرةً من تلك الدولة الصهيونية أو لها يد في التخطيط لها ونُفِّذَت من قِبَل أذنابهم من منافقين أو عملاء!؟
وإليك المقابلة بوضوح: اليهود في أضعف حالاتهم في المدينة المنوَّرة، ويؤازر ذلك أنَّ بيت المقدس مقدَّس، وهذا من أوضح الواضحات عند كلِّ الرسالات السماوية، ومع ذلك بدَّله الله سبحانه وتعالى كقبلة للمسلمين، والقبلة في القيمة الرمزية والدينية أهمُّ من شعار.
ويقابل هذا: إنَّ اليهود في العالم اليوم في أشدِّ حالات قوَّتهم، ومن جميع الجهات الاقتصادية والعسكرية والإعلامية والسياسية وغيرها،
وإنَّ الرمز الفعلي لكلِّ منظَّماتهم السرّية منها والعلنية هو النجمة السداسية التي هي ليست شعاراً ولا رمزاً للمسلمين، فلمصلحة من وفق هذه المعادلة وعلى يد شخص مجهول يتمُّ تحويل شعار الإسلام إلى النجمة السداسية شعار الصهيونية العالمية!؟
ليس هناك مصلحة وفائدة في هذا الطرح إلَّا لجهة واحدة، ويمكن إتمام هذه الفائدة بنظر أصحابها من خلال عمليتين:
العملية الأُولى: من المعلوم أنَّ الديانة اليهودية تعتقد وتُبشِّر أتباعها بأنَّ المنقذ للعالم رجل من اليهود، وإنَّ أكبر عقيدة ذات منظومة فكرية متكاملة تقف أمام تطلُّعاتهم هي عقيدة المهدي في الإسلام، وأكثر العقائد نضجاً وتصديقاً ومثابرةً وتثقيفاً عند أتباعها هي عقيدة أتباع أهل البيت (عليهم السلام) في الاعتقاد بالإمام الثاني عشر أرواحنا فداه، وعند اختلاق حركة من داخل أبناء هذه العقيدة مشابهة للعقيدة الأصلية، وتحمل نفس شعار الصهيونية العالمية التي تُبشِّر بظهور المنقذ اليهودي، فإنَّ هذا الشعار سيجعل نقطة مشتركة بين أهداف العقيدة اليهودية، والتي حرص ربُّ السماوات ورسوله الكريم على جعل التمايز والفوارق بينهما ببعض المحدَّدات من أوَّل تأسيس الدولة الإسلاميَّة بتحويل القبلة خوفاً من هذا الاستغلال والتشويش من قِبَل المنافقين، وعند الشعور والتعايش التدريجي من قِبَل بعض المغرَّر بهم والبسطاء من المسلمين مع هذا الشعار، يمكن الاستجابة لأفكار مشابهة تتَّسق مع هدف الصهاينة الاستراتيجي في حرف عقيدة المسلمين وخصوصاً أتباع أهل البيت (عليهم السلام) عن عقيدة المنقذ، لتخلو الساحة الفكرية أمام أفكارهم المحرَّفة والمنحرفة.
العملية الثانية: هناك طبقة من المحسوبين على الإسلام يتصيَّدون في الماء العكر كما يُعبِّرون، ويتحيَّنون الفرص للطعن في الإسلام وتسقيط بعقائد المسلمين وبنائهم الفكري وخصوصاً عقيدة أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، فحين يظهر جماعة يُحسَبون على المسلمين أو على شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) يرفعون شعار أقذر منظومة عرفها تاريخ البشرية(223)، سوف يسارع أُولئك المتصيِّدون والمتربِّصون بنسبة هذه الجماعة إلى الفرقة التي يتَّهمونها بالانتماء إليها، ثمّ يقارنون بين أفعالها وأفكارها وشعاراتها وبين شعار الصهيونية، ومن الحتمي سوف تكون النتيجة متطابقة ببعض المشتركات، خصوصاً أنَّ هؤلاء المتربِّصين كبعض القنوات الفضائية والمؤسّسات الإعلامية خبراء في التدليس والمغالطة والمكر، فيُصوِّرون للعالم أنَّ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) تتَّفق أهدافهم مع أهداف اللوبي الصهيوني، ويترتَّب على هذا الطرح إضعاف وتشويه عقيدة الإمام المهدي (عليه السلام)، وتنفير الناس عن منظومة مبادئ آمن بها وحملها أتباع أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، وهذا هو المطلوب بالنسبة لمن زرع فكرة رفع هذا الشعار، وساعد ونسَّق ودعم هذه الحركة التي يعتبر كثير من أتباعها الجهلة أنَّ هذا انتصار وفتح مبين أن يُرفَع هذا الشعار في عاصمة الإمام المهدي (عليه السلام).
ونموذج آخر من أدلَّتهم على صحَّة شعارهم:
ينقلون في كتابهم جامع الأدلَّة (ص 309) تحت عنوان: الدليل الثامن، أي إنَّهم يعتبرونه دليلاً، والكاتب ينقل عن أحد أتباع الدعوة، والمدعو جهاد الأسدي أنَّه التقى بأحد العرافين بعلم (الرمل والحروف)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(223) برتكول حكماء بني صهيون شاهد على هذا الوصف.
في إيران، واستغرب هذا العرَّاف من محاربة الناس لهذه النجمة السداسية، وإلى آخر ما ذكره له أحد مصادر الحجَّة لديهم (عالم الرمل).
ولردِّ أباطيلهم وأراجيفهم نقول:
هل أنَّ عقيدة تنتظرها البشرية جيلاً بعد جيل، وجاء لأجلها مائة وأربعة وعشرون ألف نبيّ يُستَدلُّ عليها من خلال العرَّافين والمنجِّمين!؟ ومتى صار العرَّافون حجَّة على الخلق حتَّى يُستَشهد بكلامهم وآرائهم!؟ أليس المدعو جهاد الأسدي من أتباع دعوتكم!؟ فكيف تستدلُّ على غيركم بكلام أحد أتباعكم!؟ فلو كنت صادقاً عند من تخاطبه فلماذا تحتاج إلى كلام الأسدي الذي يستشهد بـ (العرَّاف) الذي هو بدوره مجهول، والذي لا تنطلي حجَّته على العجائز من النساء!؟
فما تُسمّونه دليلاً يصدق وصفه بقوله تعالى: (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور: 40)، وظلمتك فوق ظلمة الأسدي، فوق ظلمة العرَّاف، فوق ظلمة حجّية كلامه.
ويظهر للقارئ الكريم من مستوى أدلَّتهم ونوعيَّتها أنَّ هذه الجماعة تعيش وتتنفَّس وسط هذا الجوّ من العرَّافين ومسخّري الجنِّ والشياطين وأمثالهم.
ومن خلال هذا المستوى المتدنّي من التفكير والانحراف بالعقيدة ندرك سبب بكاء الأئمَّة (عليهم السلام) حين يذكرون بعض حالات المهدي (عليه السلام)، حين قال الإمام الهادي (عليهم السلام): (فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟)(224).
ونكتفي بهذا القدر من الأدلَّة على زيف وخطر ادِّعاءاتهم وكذبهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(224) الكافي 1: 328/ باب الإشارة والنصّ على أبي محمّد (عليه السلام)/ ح 13.
على المعصومين (عليهم السلام) برفع شعار النجمة السداسية، ونترك التعليق والمقارنة والحكم للقارئ الكريم.
لا تطلب أثراً بعد عين:
روى الصدوق (رحمه الله) بسنده عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن علي (عليهما السلام) وأنا أُريد أن أسأله عن الخلف [من] بعده، فقال لي مبتدئاً: (يا أحمد بن إسحاق، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يُخلِ الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يُخليها إلى أن تقوم الساعة من حجَّة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه يُنزِّل الغيث، وبه يخرج بركات الأرض).
قال: فقلت له: يا ابن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟
فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت، ثمّ خرج وعلى عاتقه غلام، كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء الثلاث سنين، فقال: (يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنَّه سميُّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكنيّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. يا أحمد بن إسحاق، مثله في هذه الأُمَّة مثل الخضر (عليه السلام)، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيبنَّ غيبةً لا ينجو فيها من الهلكة إلَّا من ثبَّته الله (عزَّ وجلَّ) على القول بإمامته، ووفَّقه [فيها] للدعاء بتعجيل فرجه).
فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي، فهل من علامة يطمئنُّ إليها قلبي؟
فنطق الغلام (عليه السلام) بلسان عربي فصيح، فقال: (أنا بقيَّة الله في
أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق)(225).
وروى الطوسي (رحمه الله) في حديث طويل أنَّ بعض أجلَّاء أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) دخلوا عليه فرأوه يبكي وهو يقول: (غيبتك نفت رقادي، وضيَّقت عليَّ مهادي، وابتزَّت منّي راحة فؤادي، سيِّدي غيبتك وصلت مصائبي بفجائع الأبد…)، ولمَّا سُئِلَ عن سبب حزنه البالغ وبكائه المرير، قال: (إنّي نظرت صبيحة هذا اليوم في كتاب الجفر المشتمل على علم البلايا والمنايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة الذي خصَّ الله تقدَّس اسمه به محمّداً والأئمَّة من بعده (عليهم السلام)، وتأمَّلت في مولد قائمنا (عليه السلام) وغيبته وإبطائه وطول عمره وبلوى المؤمنين من بعده...، فأخذتني الرقَّة واستولت عليَّ الأحزان)(226).
وروى الشيخان الصدوق والطوسي رحمهما الله في كتابيهما كمال الدين والغيبة أنَّه لمَّا دنت وفاة الشيخ أبي الحسن علي بن محمّد السمري أخرج توقيعاً إلى الناس:
(بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنَّك ميِّت ما بينك وبين ستَّة أيّام، فأجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ)، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(225) كمال الدين: 384/ باب 38/ ح 1.
(226) الغيبة للطوسي: 167 - 169/ ح 129.
قال الراوي: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمَّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيُّك من بعدك؟ فقال: (لله أمر هو بالغه)، ومضى (رضي الله عنه)، فهذا آخر كلام سُمِعَ منه(227).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(227) كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44؛ الغيبة للطوسي: 395/ ح 365.
لو كان على شخص قضيَّة ما، وضدّه ثلاثة صنوف من الشهود: شهود عيان، وأدلَّة مادّية خارجية، كأدوات الجريمة مثلاً، وأدلَّة داخلية، كبصمات يديه، أو فحص الـ (دي ان اي)، ولكلِّ صنف من هذه الأصناف عدَّة مصاديق، لا شكَّ أنَّ متَّهماً مثل هذا سوف يكون محاصراً من جميع الجهات، وأنَّ التهمة ثابتة عليه بشكل قطعي، فإن حاول أن يُنكِر واحداً من أدلَّة إثبات جريمته ستحاصره الأدلَّة الأُخرى وتشهد بكذبه، وإن أنكر الجميع فستشهد عليه جميعها، فالتهمة مستحكمة بحقِّه ولا مفرَّ له من ذلك.
مثال آخر: طوَّر الإنسان في العقود الأخيرة نظاماً يستطيع من خلاله تحديد المواقع على سطح الأرض، وهو ما يُعرَف اليوم بنظام (جي بي اس)، ويعتمد في عمله على عدَّة أقمار اصطناعية وأقلّها ثلاثة أقمار، وكلَّما زاد عدد الأقمار كانت النتيجة أدقّ وأضمن، وبتقاطع معلومات تلك الأقمار مع أبعاد سطح الكرة الأرضية يُحدَّد المكان المطلوب.
أي يشهد بعض الأدلَّة على البعض الآخر فتكون متآزرة متضافرة على إثبات المطلوب.
فلو قسَّمنا الروايات التي تتعلَّق بالإمام (عليه السلام) ربَّما نجد أنَّها تنقسم إلى أربع فئات:
الفئة الأُولى: ما يتعلَّق بثبوت إمامته وإثباتها، باعتباره أحد الأئمَّة الاثني عشر الهداة وخاتمهم (عليهم السلام) في نصِّ النبيِّ المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) والأئمَّة من بعده. وقد مرَّ ذكر العشرات من الروايات في حقِّه (عليه السلام) في تحديد موقعه بالنسبة لآبائه (عليهم السلام) وإثبات اسمه المبارك ووظيفته الإلهية.
الفئة الثانية: هي التي تتعلَّق بتحديد شخصه (عليه السلام)، وهي بدورها تنقسم إلى عدَّة أقسام أيضاً، فمنها: ما يتعلَّق بنسبه الشريف، ومنها: ما يتعلَّق باسمه المبارك، وما يتعلَّق بسماته الشخصية، ومنها: ما يتعلَّق بصفاته ومميّزاته الكمالية.
الفئة الثالثة: ما تتحدَّث عن فترة غيبته (عليه السلام) وما يرتبط بظهوره المبارك، وتنقسم كذلك إلى عدَّة أقسام، فمنها ما يرتبط ببداية الغيبة الصغرى وما رافقها من تحدّيات، وكيفية قيادته لتلك المرحلة، ومنها ما يرتبط بالغيبة الكبرى، ومنها ما يتعلَّق بقبيل ظهوره (عليه السلام)، ويترتَّب على ذلك من علامات وشروط وأحداث، ويتفرَّع من كلِّ واحدة من هذه الأُمور عشرات إن لم يكن أكثر من المسائل، كالعلامات الكونية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والأحداث الدينية.
الفئة الرابعة: ما يرتبط بالظهور المقدَّس وما يرافقه من تحديد واضح ومحدَّد في الأزمنة، كاليوم العاشر من المحرَّم، والأمكنة مثل ظهوره بين الركن والمقام، وتصريحاته وخطبه، وخطّ سيره بعد الظهور وسيرته مع أعدائه وأنصاره، ومعاركه وغزواته، وهديه وإصلاحه.
ومن تجرَّأ أو يتجرَّأ على دعوى تتعلَّق بالإمام المهدي (عليه السلام)، فهو أمام معضلة كبيرة، وهي تطويقه بمئات أو آلاف الدلائل الشاهدة بكذبه والمثبتة لافترائه، ويبدو أنَّ الذين حاولوا الولوج والتجاسر على
مقام الإمام (عليه السلام) قد عانوا كثيراً من هذا الربط المحكم والمتآزر بين أدلَّة إثبات الإمام المهدي (عليه السلام). وقد استعملوا كلَّ الطرق لإفشال التخطيط الإلهي في قيادة من يريده الله جلَّ ذكره مهدياً للبشرية، من خارج المسلمين أو ممَّن يدَّعونه، فبدؤوا بخلط اسمه مع أسماء أسموها هم وآباؤهم، بعد أن عجزوا عن إخفاء أصل قضيَّته (عليه السلام). ثمّ ادَّعوا اسمه وصفاته بعد أن سلبوا الخلافة من آبائه (عليهم السلام)، ويبدو أنَّ هذه الفكرة راقت لبعض من يدَّعون التشيّع، فانتقل وباء الادِّعاء إليهم ، تجاهلاً وتجاسراً على هذا المنصب الخطير، والذي يتوقَّف عليه هدف خلق البشرية جمعاء، وانطلاقاً من هذه الأهمّية الكبرى، قد وضع من خطَّط لهذا الهدف أسواراً يستحيل على متسوّريها والنازين عليها اختراقها، وذلك بجعل مئات الدلائل التي يشهد بعضها على بعض، ويُصدِّق بعضها بعضاً، والتي قسَّمناها إلى الفئات الأربعة.
ومن تجرَّأ وادَّعى المهدوية في الحقيقة عليه أن يجتاز أحد طريقين:
الطريق الأوَّل: أن يدَّعي أحد مقامات الإمام المهدي (عليه السلام) أو شأناً من شؤونه، فتُكذِّبه كلُّ الأدلَّة والشواهد الأُخرى وتشهد عليه.
الطريق الثاني: أن يدَّعي جميع ما يتعلَّق بالإمام المهدي (عليه السلام)، حتَّى شخصه المبارك، وهنا تكون المصيبة عليه أعظم، فإن كان هناك يستطيع التمويه على البسطاء بصفة من صفاته، فهنا يجب عليه إثبات كلّ ما يتعلَّق به (عليه السلام)، وهذا مستحيل، لأنَّ آل محمّد (عليهم السلام) لا يُقاس بهم أحد، فلو أُخذ العلم فقط كمقياس لمعرفة المدَّعي لافتضح وبان زيفه من أوَّل اختبار.
فيلجأ المدَّعون عادةً إلى التمويه والتهرُّب والتخفّي والتحايل على
أتباعهم، للالتفاف على هذا المعيار، وهو ما يفعله أحمد إسماعيل تماماً. وبهذه المحاولة أقرب ما يكون صاحبها للمريض النفسي إن لم يكن كذلك، وسيفتضح أمره بشهادة كلُّ الدلائل التاريخية والزمانية والمكانية والصفاتية والمادّية.
فقضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام) ممتنعة على مدَّعيها، وشواهد تكذيبهم في طيّاتها، وهي محفوظة بأمر الله سبحانه وتعالى، من خلال تآزر وتعاضد أدلَّتها، وكذلك هي راية تخفق في قلوب المخلصين من أوليائه شوقاً للقائه ونصرته على كلِّ رايات الضلال.
* * *
1 - القرآن الكريم.
2 - الاحتجاج: الطبرسي/ ت الخرسان/ دار النعمان/ 1386هـ.
3 - اختيار معرفة الرجال: الشيخ الطوسي/ مط بعثت/ قم/ مؤسّسة آل البيت/ 1404هـ.
4 - الأُصول العامَّة للفقه المقارن: السيِّد محمّد تقي الحكيم/ ط 2/ 1979م/ مؤسّسة آل البيت.
5 - الأعلام: خير الدين الزركلي/ ط 5/ 1980م/ دار العلم للملايين/ بيروت.
6 - إلزام الناصب: الشيخ علي اليزدي الحائري/ ت السيِّد علي عاشور.
7 - الأمالي: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1414هـ/ دار الثقافة/ قم.
8 - الأمالي: الشيخ المفيد/ ت الأُستادولي، علي أكبر غفّاري/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
9 - الإمامة والتبصرة: ابن بابويه/ ط 1/ 1404هـ/ مدرسة الإمام الهادي/ قم.
10 - أنساب الأشراف: البلاذري/ ت محمّد باقر المحمودي/ ط 1/ 1394هـ/ مؤسّسة الأعلمي/ بيروت.
11 - الإيضاح: الفضل بن شاذان الأزدي/ ت جلال الدين الحسيني الأرموي/ 1363ش/ دانشگاه تهران.
12 - بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي/ ط 2 المصحَّحة/ 1403هـ/ مؤسّسة الوفاء/ بيروت.
13 - بحوث في علم الأُصول: تقرير بحث السيِّد محمّد باقر الصدر/ السيِّد محمود الشاهرودي/ مؤسّسة دائرة المعارف الفقه الإسلامي/ ط 3/ 1426هـ.
14 - البدء والتاريخ: أحمد بن سهل البلخي/ مط برطرند/ 1899م.
15 - بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن الصفّار/ ت كوچه باغي/ 1404هـ/ مط الأحمدي/ منشورات الأعلمي/ طهران.
16 - تاج العروس: الزبيدي/ 1414هـ/ دار الفكر/ بيروت.
17 - تاريخ ابن خلدون: ابن خلدون/ ط 4/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
18 - تاريخ الطبري: الطبري/ ط 4/ 1403هـ/ مؤسّسة الأعلمي/ بيروت.
19 - تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي/ ت مصطفى عبد القادر عطا/ ط1/ 1417هـ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
20 - تاريخ مدينة دمشق: ابن عساكر/ 1415هـ/ دار الفكر/ بيروت.
21 - التبيان: الشيخ الطوسي/ ت أحمد حبيب قصير العاملي/ ط 1/ 1409هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي.
22 - تحف العقول: ابن شعبة الحرّاني/ ت علي أكبر غفّاري/ ط 2/ 1404هـ/ مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.
23 - تفسير الطبري: ابن جرير الطبري/ ت خليل الميس/ 1415هـ/ دار الفكر/ بيروت.
24 - تفسير العيّاشي: العيّاشي/ ت هاشم الرسولي المحلَّاتي/ المكتبة العلمية الإسلاميَّة/ طهران.
25 - تفسير القرطبي: القرطبي/ ت البردوني/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت.
26 - تفسير القمّي: علي بن إبراهيم القمّي/ ت طيّب الجزائري/ ط 3/ 1404هـ/ مؤسّسة دار الكتاب/ قم.
27 - التفسير الكبير: الفخر الرازي/ ط 3.
28 - تفسير الميزان: السيِّد الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية/ قم.
29 - تفسير مجمع البيان: الطبرسي/ ت لجنة من العلماء/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسّسة الأعلمي/ بيروت.
30 - تهذيب الكمال: المزي/ ت بشّار عوّاد معروف/ ط 4/ 1406هـ/ مؤسّسة الرسالة/ بيروت.
31 - التوحيد: المفضَّل بن عمر/ ت كاظم المظفَّر/ ط 2/ 1404هـ/ مؤسّسة الوفاء/ بيروت.
32 - جمال الأُسبوع: ابن طاووس/ ت جواد القيّومي/ ط 1/ 1371ش/ مط أختر شمال/ مؤسّسة الآفاق.
33 - الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي/ ط 1 كاملة محقَّقة/ 1409هـ/ مؤسّسة الإمام المهدي/ قم.
34 - دراسات في علم الدراية: علي أكبر غفّاري/ ط 1/ 1369ش/ جامعة الإمام الصادق/ طهران.
35 - دلائل الإمامة: الطبري (الشيعي)/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسّسة البعثة/ قم.
36 - الرياض النضرة: المحبّ الطبري/ دار الكتب العلمية/ لبنان/ بيروت.
37 - سعد السعود: ابن طاووس/ 1363هـ/ مط أمير/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
38 - سنن الترمذي: الترمذي/ ت عبد الوهّاب عبد اللطيف/ ط 2/ 1403هـ/ دار الفكر/ بيروت.
39 - سير أعلام النبلاء: الذهبي/ ت حسين الأسد/ ط 9/ 1413هـ/ مؤسّسة الرسالة/ بيروت.
40 - الشافي في الإمامة: الشريف المرتضى/ ط 2/ 1410هـ/ مؤسّسة إسماعيليان/ قم.
41 - شرائع الإسلام: المحقِّق الحلّي/ مع تعليقات السيِّد صادق الشيرازي/ ط2/ 1409هـ/ انتشارات استقلال/ طهران.
42 - الصحاح: الجوهري/ ت أحمد عبد الغفور العطّار/ ط 4/ 1407هـ/ دار العلم للملايين/ بيروت.
43 - صحيح البخاري: البخاري/ 1401هـ/ دار الفكر/ بيروت.
44 - الصحيفة السجّادية: أبطحي/ ت محمّد باقر الأبطحي/ ط1/ 1411هـ/ مط نمونه/ مؤسّسة الإمام المهدي، مؤسّسة الأنصاريان/ قم.
45 - الصراط المستقيم:علي بن يونس العاملي/ ت محمّد باقر البهبودي/ ط 1/ 1384هـ/ مط الحيدري/ المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.
46 - صراط النجاة: تعليق الميرزا التبريزي على منهاج الصالحين للسيِّد الخوئي/ ط 1/ 1416هـ/ دفتر نشر برگزيده.
47 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ ت محمّد صادق بحر العلوم/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها/ النجف الأشرف.
48 - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ ت مجتبى العراقي/ ط1/ 1403هـ/ مط سيِّد الشهداء/ قم.
49 - العين: الخليل الفراهيدي/ ط2/ 1409هـ/ مؤسّسة دار الهجرة.
50 - عيون أخبار الرضا: الشيخ الصدوق/ ت حسين الأعلمي/ 1404هـ/ مؤسّسة الأعلمي/ بيروت.
51 - غاية المرام: هاشم البحراني/ ت السيِّد علي عاشور.
52 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ ت عبد الله الطهراني، علي أحمد ناصح/ ط1/ 1411هـ/ مط بهمن/ مؤسّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
53 - الغيبة: النعماني/ ت فارس حسّون كريم/ ط 1/ 1422هـ/ مط مهر/ أنوار الهدى.
54 - الفتوحات المكّية: ابن عربي/ ط بولاق/ مصر.
55 - فِرَق الشيعة: الحسن بن موسى النوبختي/ 1404هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
56 - في ضلال نهج البلاغة: محمّد جواد مغنية/ ط 1/ 1427هـ/ انتشارات كلمة الحقِّ.
57 - فيض القدير: المناوي/ ت أحمد عبد السلام/ ط 1/ 1415هـ/ دار الكتب العلمية/ بيروت.
58 - الكافي: الشيخ الكليني/ ت علي أكبر غفّاري/ ط 5/ 1363ش/ مط حيدري/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
59 - كشف الغمَّة: ابن أبي الفتح الإربلي/ ط 2/ 1405هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
60 - كفاية الأثر: الخزّاز القمّي/ ت عبد اللطيف الكوهكمري الخوئي/ 1401هـ/ مط الخيّام/ انتشارات بيدار.
61 - كمال الدين: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر غفّاري/ 1405هـ/ مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.
62 - لسان العرب: ابن منظور/ 1405هـ/ نشر أدب الحوزة/ قم.
63 - المجازات النبويَّة: الشريف الرضي/ ت طه محمّد الزيتي/ منشورات مكتبة بصيرتي/ قم.
64 - مختصر بصائر الدرجات: الحسن بن سليمان الحلّي/ ط 1/ 1370هـ/ منشورات المطبعة الحيدرية/ النجف الأشرف.
65 - مدينة المعاجز: هاشم البحراني/ ت عزَّة الله المولائي الهمداني/ ط1/ 1413هـ/ مط بهمن/ مؤسّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
66 - مرآة العقول: العلَّامة المجلسي/ ط 2/ 1404هـ/ دار الكتب الإسلاميَّة.
67 - مستدركات علم رجال الحديث: علي النمازي/ ط 1/ 1412هـ/ مط شفق/ طهران.
68 - مشكاة الأنوار: علي الطبرسي/ ت مهدي هوشمند/ ط 1/ 1418هـ/ دار الحديث.
69 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411هـ/ مؤسّسة فقه الشيعة/ بيروت.
70 - المصباح المنير: أحمد بن محمّد المقري الفيّومي/ دار الفكر/ بيروت.
71 - المصباح: الكفعمي/ ط 3/ 1403هـ/ مؤسّسة الأعلمي/ بيروت.
72 - المعالم الجديدة للعلم الأُصول: السيِّد محمّد باقر الصدر/ ط 2/ 1395هـ/ مط النعمان/ النجف الأشرف.
73 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر غفّاري/ 1379هـ/ مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.
74 - مفاتيح الجنان: الشيخ عبّاس القمّي/ ط 3/ 2006م/ مكتبة العزيزي/ قم.
75 - مقدّمة تفسير الميزان: تحقيق الشيخ أياد باقر سلمان/ دار إحياء التراث العربي/ ط الأُولى/ (1427هـ/ 2006م).
76 - مكارم الأخلاق: الشيخ الطبرسي/ ط 6/ 1392هـ/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
77 - الملاحم والفتن: ابن طاووس/ ط 1/ 1416هـ/ مؤسّسة صاحب الأمر/ أصفهان.
78 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ ت علي أكبر غفّاري/ ط2/ مؤسّسة النشر الإسلامي/ قم.
79 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهر آشوب/ ت لجنة من أساتذة النجف/ 1376هـ/ المكتبة الحيدرية/ النجف.
80 - المنطق: الشيخ محمّد رضا المظفَّر/ مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم.
81 - منهاج الصالحين: السيِّد الخوئي/ ط 28/ 1410هـ/ مط مهر/ قم.
82 - مهذَّب الأحكام: السيِّد عبد الأعلى السبزواري/ ط 4/ 1413هـ/ مط فروردين.
83 - موسوعة الإمام المهدي (عليه السلام): السيّد محمّد محمّد صادق الصدر.
84 - نهج البلاغة: الشريف الرضي/ ضبط نصَّه الدكتور صبحي صالح/ ط1/ 1387هـ/ بيروت.
85 - الهداية الكبرى: الخصيبي/ ط4/ 1411هـ/ مؤسّسة البلاغ/ بيروت.
86 - الهداية: الشيخ الصدوق/ ط1/ 1418هـ/ مؤسّسة الإمام الهادي.
87 - ينابيع المودَّة: القندوزي/ ت علي جمال أشرف الحسيني/ ط 1/ 1416هـ/ دار الأُسوة.
* * *