معالم مهدوية

معالم مهدوية

الشيخ نزار آل سنبل القطيفي
بقلم: أحمد طلال صفر
تقديم: مركز الدراسات التخصّصية في الإمام المهدي (عليه السلام)
الطبعة الأُولى 1438هـ - النجف الأشرف

فهرست الموضوعات

مقدَّمة المركز.................3
شكر وثناء.................7
المقدَّمة: عقيدة المصلح العالمي.................9
البشارة بالمهدي (عليه السلام) في الكتب القديمة.................10
البشارة بالمهدي (عليه السلام) في القرآن الكريم.................14
التبشير بالمهدي (عليه السلام) في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام).................17
تشخيص الإماميَّة للمصلح العالمي.................19
الفصل الأوَّل: وجود الإمام المهدي (عليه السلام).................23
البحث الثبوتي: إثبات ضرورة وجود الإمام (عليه السلام).................25
الوجه الأوَّل: العقل.................25
المقدَّمة الأُولى.................25
المقدَّمة الثانية.................26
المقدَّمة الثالثة.................26
النتيجة.................26
تقريب سماحة الأُستاذ الأعظم (دام ظلّه الوارف) للدليل العقلي.................27
المستفاد من هذا الدليل.................28
الوجه الثاني: النقل.................29
الحديث الأوَّل: حديث الثقلين.................29
الجهة الأُولى: إثبات صدوره.................29
الجهة الثانية: في دلالته.................32
الأمر الأوَّل: دلالته على أنَّ العترة تركة وميراث من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم).................32
الأمر الثاني: دلالته على مشاركة العترة للقرآن في العلم.................32
الأمر الثالث: دلالته على عصمة أهل البيت (عليهم السلام).................33
الأمر الرابع: دلالته على خلافة العترة للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم).................34
الأمر الخامس: وجوب التمسّك بالقرآن والعترة.................34
الأمر السادس: ضرورة وجود الإمام.................35
الخلاصة.................35
الحديث الثاني: «من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية».................35
إشكال ابن تيمية ودفعه.................37
الحديث الثالث: حديث الخلفاء الاثني عشر.................40
البحث الإثباتي: الأدلّة على ولادة الإمام المهدي (عليه السلام).................44
الطائفة الأُولى: الإمام المهدي (عليه السلام) هو التاسع من ولد الإمام الحسين.................44
تنبيه بشأن القندوزي ومن على شاكلته.................51
الطائفة الثانية: الروايات الدالّة على حصول الغيبة قبل وقوعها.................52
الطائفة الثالثة: الروايات التي تُبيِّن أنَّ الإمام هو ابن الحسن العسكري.................53
الطائفة الرابعة: إخبار الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بولادة ابنه.................55
الطائفة الخامسة: شهادة القابلة.................56
الطائفة السادسة: شهادة الوكلاء من الثقاة الأجلّاء المعروفين.................57
الطائفة السابعة: تصرّف السلطة.................58
الطائفة الثامنة: شهادة علماء الأنساب.................59
الطائفة التاسعة: اعتراف علماء السُّنَّة ومؤرِّخيهم.................61
إشكالان وردُّهما.................63
الإشكال الأوَّل: غرابة استتار الولادة.................63
الإشكال الثاني: إنَّ منهج السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) لا يُثبِت ولادة الإمام المهدي (عليه السلام).................64
الجواب عن الشبهة.................65
تفصيل المطلب الأوَّل: منهجية السيِّد الخوئي (قدّس سرّه).................66
تفصيل المطلب الثاني: تطبيق المنهج على ما نحن فيه.................67
المتحصِّل ممَّا تقدَّم.................72
الفصل الثاني: غيبة الإمام (عليه السلام) وسنن الأنبياء.................73
تمهيد.................75
شبه غيبته (عليه السلام) بغيبة الأنبياء.................77
الروايات الدالّة على شبهه (عليه السلام) بأنبياء الله (عليهم السلام).................77
شبهه بنبيِّ الله موسى (عليه السلام) في خفاء مولده وغيبته.................79
شبهه بالخضر (عليه السلام) في غيبته.................81
شبهه بيوسف (عليه السلام) في غيبته.................82
أقسام غيبة الإمام (عليه السلام).................83
القسم الأوَّل: الغيبة الصغرى ومباحثها.................83
المبحث الأوَّل: مبدأ الغيبة الصغرى.................83
القول الأوَّل.................83
القول الثاني.................85
المبحث الثاني: أدوار الإمام (عليه السلام) في عصر الغيبة الصغرى.................86
الدور الأوَّل: هداية المؤمنين وحفظهم.................86
الموقف الأوَّل.................86
الموقف الثاني.................87
الدور الثاني: مواجهة الانحراف والتيّارات الضالّة.................87
الدور الثالث: إثبات أحقّيته وإمامته.................88
الطريق الأوَّل.................89
الطريق الثاني.................91
الطريق الثالث: التوقيعات.................94
الدور الرابع: قضاؤه لحوائج المؤمنين.................96
ما نقله الشيخ المفيد (قدّس سرّه).................96
ما نقله الشيخ الطوسي (قدّس سرّه).................98
ما نقله الشيخ الصدوق (قدّس سرّه).................99
المبحث الثالث: السفارة والوكالة في عصر الغيبة الصغرى.................103
الأمر الأوَّل: الفرق بين السفارة والوكالة.................103
الجهة الأُولى: مباشرة التلقّي من الإمام المهدي (عليه السلام).................103
الجهة الثانية: المهامّ والوظائف المطلوبة.................103
الأمر الثاني: نشأة السفارة والوكالة.................104
الأمر الثالث: منشأ الحاجة إلى السفراء.................104
الأمر الرابع: سفراء الإمام (عليه السلام) وعددهم.................105
أوَّلهم: عثمان بن سعيد العمري (قدّس سرّه).................105
سبب تسميته بالعمري، والعسكري، والسمّان.................105
وثاقته وجلالته.................106
وفاته.................107
ثانيهم: محمّد بن عثمان بن سعيد العمري (قدّس سرّه).................108
وثاقته وجلالته.................109
وفاته.................110
ثالثهم: أبو القاسم الحسين بن روح (قدّس سرّه).................110
وثاقته وجلالته.................111
وفاته.................112
رابعهم: عليُّ بن محمّد السمري (قدّس سرّه).................112
وثاقته وجلالته.................113
وفاته.................113
الأمر الخامس: وكلاء الإمام (عليه السلام) وعددهم.................113
الأمر السادس: وثاقة السفراء والوكلاء في زمن الغيبة.................114
الكلمة الأُولى.................115
الكلمة الثانية.................116
الحكمة من اختصاص السفراء بالغيبة الصغرى دون الكبرى.................119
القسم الثاني: الغيبة الكبرى ومباحثها.................121
المبحث الأوَّل: التهيّؤ لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام).................121
الخطوة الأُولى: الرجوع إلى الإمام المهدي في حياة أبيه (عليه السلام).................123
الخطوة الثانية: الإرجاع إلى الوكلاء.................123
الخطوة الثالثة: الإعداد الروحي والفكري.................124
المبحث الثاني: سبب الغيبة الكبرى.................126
الأمر الأوَّل: الإقصاء.................126
الأمر الثاني: الخوف من القتل.................127
الأمر الثالث: لا يكون في عنقه بيعة لأحد.................129
الحديث الخامس.................131
مناقشة ما نُسِبَ إلى الشهيد الصدر (رحمه الله).................131
المبحث الثالث: التوفيق بين الغيبة والفائدة من وجوده المقدَّس.................133
القسم الأوَّل: الوظائف التي يمكن أن يقوم بها الغير.................135
القسم الثاني: الوظائف التي لا يقوم بها إلَّا الإمام (عليه السلام).................136
القسم الثالث: الوظائف التي يقوم بها بالمباشرة.................136
القسم الرابع: الوظائف التي يقوم بها بغير المباشرة.................137
منها ما جاء من طرق الخاصَّة.................139
ومنها ما جاء من طرق العامَّة.................141
المبحث الرابع: تعارض الهداية مع الغيبة.................143
الجواب النقضي.................143
الجواب الحَلّي.................145
المبحث الخامس: طول العمر.................148
طول العمر وفق الطبّ الحديث.................151
وقفتان.................152
الوقفة الأُولى: وقفة مع بقاء نبيِّ الله يونس إلى يوم يبعثون.................152
الوقفة الثانية: وقفة مع الدجّال.................152
خاتمة: في وظيفة الأُمَّة في الغيبة الكبرى.................154
الفصل الثالث: علامات الظهور.................155
المقصد الأوَّل: مفهوم علامات الظهور.................157
المقصد الثاني: مصاديق علامات الظهور.................159
النحو الأوَّل: علامات غير حتمية.................159
النحو الثاني: علامات حتمية.................159
المقصد الثالث: الضوابط العلمية الصحيحة في التعامل مع علامات الظهور.................161
الضابط الأوَّل: حمل الألفاظ على معانيها الحقيقية.................161
الضابط الثاني: المنع من التوقيت.................162
إشكال وردُّه.................163
الضابط الثالث: تمييز علامات الظهور.................163
البداء والعلامات الحتمية وغير الحتمية.................164
أقسام القضاء الإلهي.................164
إشكال وردُّه.................170
بقي ثلاثة أشياء.................171
تنبيهات:.................175
التنبيه الأوَّل: العلَّة من وجود غيبتين.................177
الوجه الأوَّل.................177
الوجه الثاني.................178
الشاهد الأوَّل.................178
الشاهد الثاني.................179
الشاهد الثالث.................179
الشاهد الرابع.................180
الشاهد الخامس.................180
التنبيه الثاني: حول التوقيعات التي صدرت من صاحب الزمان (عليه السلام).................182
الجهة الأُولى: ما هو المقصود من التوقيعات؟.................182
الجهة الثانية: أقسام التوقيعات من جهة المضمون.................183
القسم الأوَّل: التوقيعات الفقهية.................183
القسم الثاني: التوقيعات العقائدية.................184
القسم الثالث: التوقيعات الرجالية.................185
القسم الرابع: التوقيعات التي يُبيِّن فيها الإمام (عليه السلام) كيفية استنباط الأحكام الشرعية.................186
الجهة الثالثة: أقسام التوقيعات من جهة النوع.................188
النوع الأوَّل: التوقيعات الشفهية.................188
النوع الثاني: التوقيعات المستعجلة.................188
النوع الثالث: التوقيعات الغيبية.................189
التنبيه الثالث: تساؤلات حول جعفر بن الإمام الهادي (عليه السلام).................191
التساؤل الأوَّل.................191
التساؤل الثاني.................192
التنبيه الرابع: السرداب واتِّهام المؤرِّخين.................193
نصوص المخالفين.................193
ابن خلدون.................193
ابن قيِّم الجوزية.................194
ابن حجر.................195
عبد الله القصيمي.................195
الجواب عنها.................195
ردود أعلام الإماميَّة.................196
الميرزا النوري.................196
العلَّامة الأميني.................197
التنبيه الخامس: وقفة مع منشأ المنع من لطف الإمام (عليه السلام).................200
خاتمة: في توصيات المرجعية.................203
توصية.................203
ومن وصاياه (دام ظلّه).................203
المصادر.................205

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة المركز

حينما تُسرع الفتن في مجتمعاتنا وتهبُّ العواصف التشكيكية في خَلَجات قلوب الضعفاء من أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ينبري العلماء لمسك دفَّة سفينة الاستقامة ورفع شراع الأصالة تطبيقاً لقوله: «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهر علمه»(1).
ونحن اليوم في خضمِّ معركة تشكيكية شرسة تحاول النيل من سواحل عقيدة الإماميَّة الاثني عشرية في واحدة من أهمِّ مبانيهم الفكرية - وبالأحرى من أهمِّ المباني الإسلاميَّة عموماً - وعقائدهم الأصيلة، ألَا وهي عقيدة المهدي المنتظر الموعود (عليه السلام).
كما وفي نفس الوقت نحن نخوض حواراً داخلياً صعباً يريد استلاب العقيدة وحرفها عن الجادَّة القويمة وتأطيرها بإطار أدعياء المهدوية مستنداً إلى نسج حالة من الضبابية الفكرية والغنوصية الباطنية لكي يسيطر على الساذج من العقول والسطحي من الأفكار.
نعم نحن بين معركتين الأُولى تحاول جاهدة إنكار العقيدة من الأساس والتهجُّم على معتقديها بأنَّهم يعيشون حالة من النرجسية والمثالية الناتجة عن طول الاضطهاد والقهر والاستضعاف، لذلك نسجوا في خيالهم المنقذ العالمي والمخلِّص المقتدر حتَّى يحافظ على وحدة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 103/ باب 10/ ح 2.

(٣)

 كيانهم وعدم ذوبانهم في الكيانات الأُخرى، ومن ثَمَّ ضياعهم واضمحلالهم، متناسين أنَّ هذه العقيدة - المهدي المنتظر - هي أصيلة بأصالة الإسلام، بل بأصالة الديانات الإلهيَّة الكبرى، وهذا القرآن يصدح قائلاً: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105).
كما أنَّ من آمن بها ليسوا من صنف المستضعفين والمقهورين دائماً، بل آمن بها وحاول تقمُّص شخصيتها الحاكمون والطغاة أيضاً سواء في العصر الأُموي أو العبّاسي، وقبل هذا وذاك هي عقيدة بشَّر بها نبيُّ الرحمة (صلّى الله عليه وآله وسلم) في أكثر من (560) رواية من الطرفين، ومئات الروايات عن ذرّيته المعصومة (عليهم السلام).
أمَّا المعركة الثانية فهي محاولة التسلُّق على أكتاف آل محمّد، وذلك بالادِّعاءات الكاذبة، ومع كلِّ الأسف نجد البعض سواء عن طيب قلب أو خبث سريرة ينصاع لمثل هذه الشبهات وينخدع بمثل هذه الدعوات، وهذا ليس بالأمر الغريب أو الجديد، بل هو قديم بقِدَم رسوخ العقيدة المهدوية عبر قرون من الزمن، فها نحن أمام العبرتائي وهو أوَّل من نَصَبَ نفسه لمقام غير مقامه في بداية عصر الغيبة الصغرى وتبعه الآخرون أمثال أبي دلف والشلمغاني حتَّى صدر فيه وفي أمثاله لعائن الله على يد مولانا صاحب العصر والزمان (عليه السلام)، وها نحن اليوم أمام ادِّعاء جديد وبابية وبهائية أُخرى، وهي دعوى (أحمد إسماعيل گاطع) أو ما يحلو لأصحابه تسميته (أحمد الحسن) أو اليماني أو عشرات غيرها من الألقاب المستلبة التي يحاول تجريدها من مقام صاحب العصر والزمان (عليه السلام) وتكريسها لنفسه الضعيفة والأمّارة.

(٤)

ولذا فنحن بحاجة ماسَّة إلى أمرين مهمّين: الأوَّل تأصيل العقيدة المهدوية وترسيخها في قلوب شبابنا ومجتمعنا، والثاني تفنيد الشبهات وحلُّ الإشكاليات بصورة علمية متينة.
وكتاب (معالم مهدوية) - الذي بين يديك عزيزي القارئ - قد جمع بين الأمرين معاً، فهو يُؤصِّل للفكر المهدوي - وقد أفلح في ذلك ونجح أيّما نجاح - من خلال الأدلَّة العقلية والنقلية العامَّة والخاصَّة، كما أنَّه يجيب على الكثير من الشبهات القديمة والحديثة بأُسلوب رصينٍ خالٍ من التعقيد والإبهام، فهو بحقٍّ من مصاديق السهل الممتنع، ولعلَّ ممَّا ساعد على ذلك أنَّ الكتاب كان على شكل محاضرات ودروس على نخبة من أهل الفكر والمعرفة ألقاها عليهم سماحة الأُستاذ الشيخ نزار سنبل حفظه الله ورعاه، وقد جمعها وقرَّرها بأُسلوب لطيف جَمَعَ بين سهولة اللفظ وجزالة المعنى وعمق الفكرة الأخ الفاضل (أحمد طلال صفر) متوخّياً في ذلك رضا سيِّده ومولاه حجَّة الله على الخلق صاحب العصر والزمان (عليه السلام)، فجزى الله المحاضر والمقرِّر عن إمامهم خير جزاء المحسنين، وجعلهما وإيّانا من أصحابه وأنصاره وشيعته ومقوية سلطانه والمستشهدين تحت لوائه.

مدير المركز
السيّد محمّد القبانچي

(٥)

شكر وثناء

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سادة الخلق نبيِّنا محمّد وآله الأئمَّة الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وبعد..
فقد أطلعني الولد العزيز، الشاب المهذَّب، أحمد صفر وفَّقه الله تعالى لرضاه، ما حرَّره من مجموعات سمعية متفرِّقة، كان بعضها محاضرات ألقيتها حول (صاحب الزمان (عليه السلام))، وبعضها لقاءات تلفزيونية في الموضوع نفسه، فرتَّبها وأخرج مصادرها، فجاءت بهذه الحلَّة القشيبة، فـ(لله) درُّه وعليه أجره، وأسأل الله تعالى أن يجعلها في ميزان أعمالي وأعماله، وأن تكون محلّاً لعناية ورضا وليِّ نعمتنا، وإمامنا الحجَّة بن الحسن أرواحنا فداه.
ولا يخفى أنَّ هذه الأوراق وإن اشتملت على إثارات مختلفة إلَّا أنَّها بمقدار ما يسمح له الوجود اللفظي للفكرة، أعني وقت المحاضرة أو البرنامج ممَّا يُبرِّر عدم الإسهاب. ويعذرنا - القارئ - في عدم إشباع الموضوع.

الجش/ بالقطيف
(5/شهر رمضان/1437هـ)
نزار سنبل القطيفي

(٧)

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ عقيدة المصلح العالمي لا تختصُّ بشيعة آل محمّد (عليهم السلام) فقط؛ بل هي عقيدة جميع الأديان؛ لكن لا ينبغي تجاهل ما امتازت به الشيعة الإماميَّة على جميع الفِرَق والأديان في عقيدتها وطرحها لهذا الموضوع.
ومن الملاحظ بالنسبة إلى الإعداد الربّاني والإلهي لصاحب الزمان (عليه السلام) أنَّه يتمُّ عبر عدَّة أُمور:
ومبدأ الأُمور: التبشير به؛ فإنَّ الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) قد بشرَّت به الكتب السماوية، وحتَّى الأنبياء السابقون أخبروا أُممهم بوجود إمام في آخر الزمان، سوف يغيب ويظهر، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً.
البشارة بالمهدي (عليه السلام) في الكتب القديمة:
ولنا شواهد على ذلك، منها ما في العهد الجديد، الإصحاح الثاني عشر، في ضمن كلام يقول فيه:
(وظهرت آية عظيمة في السماء. امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً. وهي حبلى تصرخ متمخّضة ومتوجّعة لتلد. وظهرت آية أُخرى في السماء. هو ذا تنّين عظيم أحمر له سبعة رؤوس وعشرة قرون وعلى رؤوسه سبعة تيجان. وذنَبه يجرُّ ثلث نجوم السماء فطرحها إلى الأرض. والتنّين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد حتَّى يبتلع ولدها متى ولدت. فولدت ابناً ذكراً عتيداً أن يرعى جميع الأُمم بعصاً من حديد. واختُطِفَ ولدها إلى الله وإلى عرشه. والمرأة هربت إلى البرّية حيث لها موضع معدٌّ من الله لكي

(١٠)

 يعلوها هناك. وحدث حرب في السماء ميخائيل وملائكته حاربوا التنّين. وحارب التنّين وملائكته. ولم يقووا فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء. فطرح التنّين العظيم الحيَّة القديمة المدعو إبليس والشيطان الذي يضلُّ العالم كلّه. طُرِحَ إلى الأرض. وطُرِحَت مع ملائكته. وسمعت صوتاً عظيماً قائلاً في السماء: اليوم يوم الخلاص القوَّة والملك لله ربّنا وسلطان مسيحه. من أجل هذا افرحي أيَّتها السماوات والساكنون فيها. ويل لساكني الأرض والبحر، لأنَّ إبليس نزل إليكم وبه غضب عظيم عالماً أنَّ له زماناً قليلاً. ولمَّا رأى التنّين أنَّه طُرِحَ إلى الأرض اضطهد المرأة التي ولدت الابن الذكر. فأُعطيت المرأة جناحي النسر العظيم لكي تطير إلى البرّية. إلى موضعها حيث تُعال زماناً وزمانين ونصف زمان من وجه الحيَّة. فألقت الحيَّة من فمها وراء المرأة ماء كنهر لتجعلها تُحمَل بالنهر. فأعانت الأرض المرأة. وفتحت الأرض فمها وابتلعت النهر الذي ألقاه التنّين من فمه. فغضب التنّين على المرأة وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله)(2).
ودلالة التبشير:
العبارة الأُولى: (امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً).
إشارة واضحة إلى السيِّدة الزهراء (عليها السلام) والأئمَّة الاثني عشر، وهم الذين يحفظون وصايا الله سبحانه.
العبارة الثانية: (والتنّين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد حتَّى يبتلع ولدها متى ولدت).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) رؤيا يوحنّا 12/ 1 - 17.

(١١)

إشارة إلى أُمِّ الإمام المهدي (عليه السلام)، فإنَّ التنّين هو رمز الحاكم في ذلك الوقت الذي كان ينتظر ولادة المرأة العتيدة، وهي أُمُّ الإمام (عليه السلام) حتَّى يختطف المولود وهو الإمام الحجَّة (عليه السلام) ويقتله؛ ولكن المشيئة الإلهيَّة شاءت أن يبقى وأن يُحفَظ.
العبارة الثالثة: (فولدت ابناً ذكراً عتيداً أن يرعى جميع الأُمم بعصاً من حديد. واختُطِفَ ولدها إلى الله وإلى عرشه).
ودلالته واضحة على أنَّ هذا الولد هو الذي سيخرج في آخر الزمان بحيث يرعى جميع الأُمم، وهو نفسه الإمام المهدي (عليه السلام)، فإنَّه ورد بالتواتر عندنا أنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
وأمَّا عبارة: (واختُطِفَ ولدها إلى الله)، فهذا اللفظ ليس من نفس النصوص الموجودة؛ ولكن هم ترجموها بهذا الشكل، وأحياناً تكون ترجماتهم غير دقيقة ومحرَّفة حتَّى يُؤيِّدوا آراءهم؛ ولكنَّه رمز آخر عن حصول الغيبة لذلك الولد العتيد، وأنَّه اختفى عن نظر هذا التنّين، أو نظر السلطان، وهذا هو نفس المعنى الذي سنذكره في الأبحاث الآتية من كيفية حصول الغيبة.
فيستفاد من المجموع أنَّ المقصود به هم أهل البيت (عليهم السلام) وخصوصاً صاحب الأمر (عليه السلام).
ولا بأس بنقل بعض الكلمات عن الباحث المستبصر سعيد أيّوب في كتابه (المسيح الدجّال)، قال:
(ويقول كعب: مكتوب في أسفار الأنبياء: المهدي ما في عمله عيب)، ثمّ علَّق على هذا النصّ بالقول:

(١٢)

(وأشهد أنّي وجدته كذلك في كتب أهل الكتاب، لقد تتبَّع أهل الكتاب أخبار المهدي كما تتبَّعوا أخبار جدِّه (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فدلَّت أخبار سفر الرؤيا إلى امرأة، يخرج من صلبها اثنا عشر رجلاً، ثمّ أشار إلى امرأة أُخرى، أي التي تلد الرجل الأخير الذي هو من صلب جدَّته، وقال السفر: إنَّ هذه المرأة ستحيط بها المخاطر، ورَمَز للمخاطر باسم (التنّين) وقال: والتنّين وقف أمام المرأة العتيدة حتَّى تلد، يبتلع ولدها متى ولدت).
ويلاحظ على تفسيره: أنَّه فسَّر عبارة سفر الرؤيا بأنَّ المرأة يخرج من صلبها، وهذا غير صحيح؛ إذ أنَّه لم يذكر في سفر الرؤيا أنَّه يخرج من صلبها، بل قال: إنَّه على رأسها اثنا عشر تاجاً، فلم يُعبِّر أنَّهم كلّهم من نسلها، قال: (وظهرت آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً)، فالتعبير إكليل على رأسها، لا أنَّهم من صلبها، فتفسيره بأنَّهم من صلبها اشتباه واضح. والتعبير الأوَّل لا يتنافى مع اعتقادنا بعدد الأئمَّة (عليهم السلام)، فهم اثنا عشر إماماً، أوَّلهم أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو ليس من صلب الزهراء (عليها السلام)؛ بل زوجها، ثمّ أحد عشر إماماً من ولدها.
وأيضاً قوله: (وقال السفر: إنَّ هذه المرأة ستحيط بها المخاطر، ورَمَز للمخاطر باسم (التنّين) وقال: والتنّين وقف أمام المرأة العتيدة حتَّى تلد)، وهو ليس بصحيح؛ لأنَّ التنّين رمز لسلطان ذلك الوقت لا إلى المخاطر، لأنَّه ينتظر متى تلد حتَّى يقتله، ثمّ نقل نفس العبارة: (والتنّين وقف أمام المرأة العتيده حتَّى تلد ليبتلع ولدها).
ونفس الباحث يقول فيما بعد: إنَّ السلطة كانت تريد قتل هذا

(١٣)

الغلام، يقول باركلي في تفسيره: (عندما هجمت عليها المخاطر اختطف الله ولدها وحفظه)، والمنقول: اختطف الله ولدها من سفر الرؤية، وذكر السفر أنَّ غيبة الغلام ستكون ألفاً ومائتين وستّين يوماً، وهي مدَّة لها رموزها عند أهل الكتاب. ثمّ قال باركلي عن نسل المرأة الأُولى عموماً: (إنَّ التنّين سيعمل حرباً شرسة مع نسل المرأة كما قال في السفر: فغضب التنّين على المرأة، وذهب ليضع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله)(3).
البشارة بالمهدي (عليه السلام) في القرآن الكريم:
ونلاحظ في آيات عديدة من القرآن الكريم أنَّها بشَّرت بالإمام المهدي (عليه السلام) ومهَّدت له، وفي بعضها أنَّه ذُكِرَ في الكتب السابقة، وقد ذكرها سماحة الأُستاذ آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني (مُدَّ ظلّه العالي) في كتاب (مقدَّمة في أُصول الدين)، قال:
(قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الزخرف: 61].
قال ابن حجر (قال مقاتل بن سليمان ومن شايعه من المفسِّرين: إنَّ هذه الآية نزلت في المهدي).
وقال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(3) المسيح الدجّال لسعيد أيّوب: 379 و380.

(١٤)

الْفاسِقُونَ﴾ [النور: 55]، وفُسِّرت بالإمام المهدي (عليه السلام) وحكومته، كما في التبيان ومجمع البيان وتفسير القمّي والغيبة للشيخ الطوسي.
وقال الله تعالى: ﴿إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ﴾ [الشعراء: 4]، وقد فُسِّرت ﴿آيَةً﴾ بالنداء الذي يُسمَع من السماء قرب ظهوره (عليه السلام)، والنداء هو: «ألَا إنَّ حجَّة الله قد ظهر عند بيت الله فاتَّبعوه، فإنَّ الحقَّ معه وفيه».
وقال الله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾ [القصص: 5].
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لتعطفنَّ الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها»، وتلا عقيب ذلك: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾...).
إلى أن قال سماحته:
(قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105]، ورد تفسيرها بالإمام المهدي (عليه السلام) وأصحابه، ومضمون هذه الآية موجود في: كتاب المزامير - زبور داود - المزمور السابع والثلاثين: (لأنَّ الربَّ يُحِبُّ الحقَّ ولا يتخلّى عن أتقيائه. إلى الأبد يحفظون. أمَّا نسل الأشرار فينقطع. الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد. فم الصديق يلهج بالحكمة، ولسانه ينطق بالحقِّ، شريعة إلهه في قلبه، لا تتقلقل خطواته).
وفي المزمور الثاني والسبعين: (اللّهمّ اعط أحكامك للملك وبارك لابن الملك. يدين شعبك بالعدل ومساكينك بالحقِّ. تحمل الجبال سلاماً للشعب والآكام بالبرِّ. يقضي لمساكين الشعب. يخلص بني البائسين

(١٥)

ويسحقُّ الظالم. يخشونك ما دامت الشمس ودام القمر إلى دور فدور. ينزل مثل المطر على الجُزاز، ومثل الغيوث الذارفة على الأرض. يشرق في أيّامه الصدق، وكثرة السلام إلى أن يضمحلَّ القمر. ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض. أمامه تجثو أهل البرية. وأعداؤه يلحسون التراب))(4).
وأمَّا كونه من التبشير القرآني؛ فلأنَّ الله سبحانه عالم بالغيب، وأخبر بأخبار وقعت؛ ولكن هذا الخبر امتاز عن غيره بأنَّ فيه رفعاً للظلم والجور، وإظهاراً للدين كلّه، فلذلك يُعبِّر عنها بالبشارة.
وعندما نلاحظ الآية المباركة: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ﴾ (القصص: 5)، نجد أنَّ هذا المعنى غير متحقِّق في عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ولا ما بعد زمن خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فلذلك نستفيد منها مع إضافة الروايات أنَّ القرآن الكريم ناظر إلى صاحب الزمان (عليه السلام) الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً.
وأيضاً الآية الكريمة الأُخرى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً﴾ (الفتح: 28)، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (الصفّ: 9)، نلاحظ أنَّه إلى الآن لم يظهر دين الإسلام على الدين كلِّه، والوعد الإلهي قائل بظهوره، فإذن يظهر الدين كلّه في زمان الإمام المهدي (عليه السلام)، وهذا نحو من الصراحة لا يمكن أن يُقال فيه: إنَّه مجرَّد رمز غير واضح المعالم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) مقدَّمة في أُصول الدين: 475 - 477.

(١٦)

التبشير بالمهدي (عليه السلام) في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام):
ومن الواضح أنَّ الهدى الذي أرسل الله به نبيَّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) ليُظهِره على الدين كلِّه مستمرٌّ حتَّى تحقُّق الوعد، وقد أُنيطت مهمَّة إظهاره بالأئمَّة (عليهم السلام)، فإنَّ الله سبحانه وتعالى جعلهم أئمَّة يهدون بأمره، وهذا القيد المذكور ﴿أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا﴾ (الأنبياء: 73)، قيد توضيح بمعنى: أنَّه بما أنَّهم يُمثِّلون الله سبحانه وتعالى في أرضه وأنَّهم خلفاؤه في أرضه؛ إذن لابدَّ من أن ينطلقوا من أمر الله سبحانه، فلا يمكن أن يأتوا بشيء من عندهم، وإنَّما بكلِّ حركاتهم وسكناتهم وأفعالهم وأقوالهم من الله سبحانه، فلا بدَّ من تقييده بهذا القيد حتَّى يُمثِّلوا الله سبحانه وتعالى في أرضه ويكونوا حجج الله على البرايا، وقد دلَّت الأخبار الشريفة على ذلك، نذكر بعضاً منها:
الحديث الأوَّل: عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «لو أنّا حدَّثنا برأينا ضللنا كما ضلَّ من كان قبلنا؛ ولكنّا حدَّثنا ببيِّنة من ربِّنا بيَّنها لنبيِّه فبيَّنها لنا»(5).
الحديث الثاني: عن داود بن أبي يزيد الأحول، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين؛ ولكنَّها آثار من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أصل علم نتوارثها كابر عن كابر عن كابر نكنزها كما يكنز الناس ذهبهم وفضَّتهم»(6).
الحديث الثالث: عن جابر، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يا جابر، لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين؛ ولكنّا نفتيهم بآثار من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) بصائر الدرجات: 319 / ج 6/ باب 14/ ح 2.
(6) بصائر الدرجات: 319 و320/ ج 6/ باب 14/ ح 3.

(١٧)

رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأُصول علم عندنا نتوارثها كابر عن كابر نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم»(7).
الحديث الرابع: عن محمّد بن شريح، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «والله لولا أنَّ الله فرض ولايتنا ومودَّتنا وقرابتنا ما أدخلناكم بيوتنا ولا أوقفناكم على أبوابنا، والله ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا إلَّا ما قال ربُّنا»(8).
الحديث الخامس: عن جابر، قال أبو جعفر (عليه السلام): «يا جابر، والله لو كنّا نُحدِّث الناس أو حدَّثناهم برأينا لكنّا من الهالكين؛ ولكنّا نُحدِّثهم بآثار عندنا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يتوارثها كابر عن كابر نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم»(9).
الحديث السادس: عن محمّد بن شريح، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «لولا أنَّ الله فرض ولايتنا ومودَّتنا وقرابتنا ما أدخلناكم ولا أوقفناكم على بابنا، فوَالله ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا ولا نقول إلَّا ما قال ربُّنا»(10).
الحديث السابع: عن يونس، عن عنبسة، قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن مسألة، فأجابه فيها، فقال الرجل: إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها؟ فقال له: «مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، لسنا نقول برأينا من شيء»(11).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(7) بصائر الدرجات: 320/ ج 6/ باب 14/ ح 4.
(8) بصائر الدرجات: 320/ ج 6/ باب 14/ ح 5.
(9) بصائر الدرجات: 320/ ج 6/ باب 14/ ح 6.
(10) بصائر الدرجات: 320/ ج 6/ باب 14/ ح 7.
(11) بصائر الدرجات: 320 و321/ ج 6/ باب 14/ ح 8.

(١٨)

الحديث الثامن: عن فضيل بن يسار، عن جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «إنّا على بيِّنة من ربِّنا بيَّنها لنبيِّه فبيَّنها نبيُّه لنا، فلولا ذلك كنّا كهؤلاء الناس»(12).
تشخيص الإماميَّة للمصلح العالمي:
وكما قلنا فمن الواضح أنَّ الهدى الذي أرسل الله به نبيَّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) ليُظهِره على الدين كلِّه مستمرٌّ حتَّى تحقُّق الوعد، وقد أُنيطت مهمَّة إظهاره بالأئمَّة (عليهم السلام). وإنَّ الإماميَّة جرياً على العادة وهي اتِّباعهم لأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، فهم يُشخصِّون المصلح العالمي، وأنَّه هو الإمام محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام)، وهو أمر مجمع عليه عندهم، ويعرف ذلك عنهم حتَّى المخالفون. ولا بأس بذكر عدَّة روايات حول ذلك تيمّناً بذكره (عليه السلام):
الرواية الأُولى: عن الكميت بن أبي المستهل، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «يا أبا المستهل، إنَّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)، لأنَّ الأئمَّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) اثنا عشر، الثاني عشر هو القائم (عليه السلام)».
قلت: يا سيِّدي، فمن هؤلاء الاثنا عشر؟
قال: «أوَّلهم عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، بعده الحسن والحسين (عليهما السلام)، وبعد الحسين عليّ بن الحسين (عليه السلام) وأنا، ثمّ بعدي هذا - ووضع يده على كتف جعفر -».
قلت: فمن بعد هذا؟
قال: «ابنه موسى، وبعد موسى ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه محمّد،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(12) بصائر الدرجات: 321/ ج 6/ باب 14/ ح 9.

(١٩)

وبعد محمّد ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه الحسن، وهو أبو القائم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، ويشفي صدور شيعتنا».
قلت: فمتى يخرج يا ابن رسول الله؟
قال: «لقد سُئِلَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال: إنَّما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلَّا بغتةً»(13).
الرواية الثانية: عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «تكون تسعة أئمَّة بعد الحسين بن عليّ (عليه السلام) تاسعهم قائمهم»(14).
الرواية الثالثة: عن البطائني، قال: كنت مع أبي بصير ومعنا مولى لأبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فقال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «منّا اثنا عشر محدِّثاً، السابع من ولدي القائم»، فقام إليه أبو بصير، فقال: أشهد أنّي سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول - منذ أربعين سنة قبل - هذا الكلام(15).
الرواية الرابعة: عن عمرو الأهوازي، قال: أراني أبو محمّد ابنه وقال: «هذا صاحبكم من بعدي»(16).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(13) كفاية الأثر: 249 و250.
(14) الخصال: 419/ ح 12.
(15) الغيبة للنعماني: 97/ باب 4/ ح 28.
(16) الكافي 1: 328/ باب الإشارة والنصّ إلى صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 3.
قال آية الله العظمى الميرزا جواد التبريزي (قدّس سرّه): (وأمَّا الروايات الواردة في إمامة الإمام الحجَّة بن الحسن العسكري صاحب الزمان (عليه السلام)، وفي صفاته وعلامات ظهوره، وما يرتبط بخريطة تحرّكه بعد الظهور، وأنصاره، فهي كثيرة جدّاً، حتَّى لقد أُلِّفت كتب ومجلَّدات خاصَّة في هذا الأمر، وحيث إنَّ بناءنا هو على الاختصار في هذه الرسالة كما ذكرنا في البداية، فسوف نذكر عدَّة مع عناوينها:
في النصِّ عليه (عليه السلام): ما رواه الصدوق عن محمّد بن عليّ بن ماجيلويه، عن محمّد بن يحيى العطّار، عن جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري، عن معاوية بن حكيم ومحمّد بن أيّوب بن نوح ومحمّد بن عثمان العمري، قالوا: عرض علينا أبو محمّد الحسن بن عليّ ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً، فقال: «هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرَّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أمَا إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا». قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلَّا أيّام قلائل حتَّى مضى أبو محمّد (عليه السلام). [كمال الدين: 435/ باب 43/ ح 2].
راجع: رسالة مختصرة في النصوص الصحيحة على إمامة الأئمَّة الاثني عشر: 25.

(٢٠)

وخلاصة الكلام:
أنَّ الإماميَّة تشترك مع جميع الأديان والفِرَق والمذاهب بعقيدتها في المخلِّص من جهة، وتمتاز عنها من جهة أُخرى.
أمَّا جهة الاشتراك، فهي الاعتقاد بمجيء المخلِّص.
وأمَّا جهة الامتياز(17)، ففي تعيين وتشخيص مصداق المصلح العالمي.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17) ومضافاً إلى الجهة التي ذكرها سماحة الأُستاذ (دام مؤيَّداً)، فإنَّ أصحابنا (رحمهم الله) يتميَّزون في عقيدتهم هذه بوجود علامات ذكرها الأئمَّة (عليهم السلام) لظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وستأتي مفصَّلاً. وهذه الميزة ليست متوفِّرة عند بقيَّة الفِرَق والمذاهب والأديان، فعقيدتهم في المهدي تشوبها شوائب عدَّة، ويكتنفها غموض عجيب! ولا تخفى عليك ثمرة هذه الميزة، إذ لولاها لما أمكن تشخيص المصداق الخارجي للإمام المهدي (عليه السلام).

(٢١)

البحث الثبوتي: إثبات ضرورة وجود الإمام (عليه السلام)

ويمكن تقريب هذه الضرورة بوجهين:
الوجه الأوَّل: العقل:
وبيان هذا الوجه العقلي يتوقَّف على بيان مقدَّمات:
المقدَّمة الأُولى:
إنَّ القرآن الكريم كتاب إلهي أُنزل لأجل هداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، والدالُّ على ذلك من القرآن آيات كثيرة، منها:
الآية الأُولى: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدى وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 8).
الآية الثانية: ﴿كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (إبراهيم: 1).
الآية الثالثة: ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل 44).
الآية الرابعة: ﴿وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل: 64).
وغيرها من الآيات الدالّة على مكانة الكتاب الكريم ودوره في هداية الناس والأخذ بيدهم إلى الصراط المستقيم.

(٢٥)

ومحصَّل الاستدلال بهذه الآيات:
أنَّ المستفاد من هذه الآيات أنَّ الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الكريم لغرض وغاية، وهي تبيانه للناس حتَّى يخرجوا من الظلمات إلى النور المبين، فإنَّ الله ما أنزل الكتاب على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلَّا لأجل تفعيله وتبيينه للنّاس، ويُلاحَظ من خلالها أنَّ القرآن يحتوي على كلِّ المعارف، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهدى.
المقدَّمة الثانية:
إنَّ تحقيق الغاية من وجود القرآن العظيم متوقِّف على وجود من يُبيِّنه ويُوضِّحه للناس، إذ إنَّ القرآن الكريم فيه من المعارف الجليلة والأحكام الكثيرة، والأسرار العظيمة، ما لا يكون شرعة لكلِّ وارد، فلا بدَّ من وجود عالم محيط بما فيه، ويعرف الحقَّ بجميع مصاديقه، والضلال بكلِّ أفراده، حتَّى يُخرِجهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الحقِّ، ومن الكفر إلى الإيمان، وهو النبيُّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) في زمانه.
المقدَّمة الثالثة:
إنَّ من المقطوع به أنَّ هذا الكتاب بهذه القيمة المعرفية والمعنوية لا يختصُّ بزمن الدعوة النبوية التي امتدَّت إلى ثلاث وعشرين سنة، فإنَّ الكتاب المجيد تبيان لكلِّ شيء، وهدى ورحمة لجميع الأزمنة وليس لخصوص زمن الدعوة النبوية؛ لأنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) هو خاتم الأنبياء، وهو المبعوث للناس كافَّة.
النتيجة:
بما أنَّ القرآن الكريم أُنزل لهداية الناس كافَّة، ولم تختصّ هدايته بزمن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) دون باقي الأزمنة، وتحقيق الغاية يتوقَّف على وجود الهادي به، فالضرورة تقتضي وجود إمام بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في كلِّ زمان

(٢٦)

حتَّى يُبيِّن القرآن للناس ويهديهم ويرشدهم ويُخرِجهم من الظلمات إلى النور، وإلَّا لانتفت الغاية من وجود القرآن الكريم، فلا بدَّ إذن من وجود شخص عالم وعارف بالقرآن وما فيه حتَّى يُبيِّنه للناس.
وبعد أن ثبت بمقتضى الآيات الكريمة المتقدِّمة أنَّ القرآن الكريم كتاب هداية، فلا يخلو حال الطرف المقابل، إمَّا أن يُنكِر هداية القرآن الكريم للناس كافَّة، فيكون مخالفاً لكتاب الله سبحانه وتعالى، وإمَّا أن يُسلِّم بكونه كتاب هداية، فعندها نقول له: ما دام أنَّه كتاب هداية فيجب وجود الهادي والمُفعِّل لهذا الكتاب الكريم؛ إذ إنَّ القول بوجود القرآن لوحده دون الهادي والمرشد والإمام يوجب انتفاء الحكمة والغاية من إنزال القرآن وهي الهداية وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فالناس بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) مختلفون في فهم معارف وأحكام القرآن، فلا بدَّ من وجود شخص يفهم القرآن الكريم كلّه من أوَّله إلى آخره ويعرف أسراره وكيفية تطبيقه ومحكمه ومتشابهه حتَّى لا ينتفي الغرض منه.
تقريب سماحة الأُستاذ الأعظم (دام ظلّه الوارف) للدليل العقلي:
وقد قرَّب أُستاذنا الأعظم سماحة آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلّه الوارف) هذا الوجه، فقال:
(وكان مجمل بعض الأدلَّة العقلية المتقدِّمة أنَّ النبوَّة والرسالة قد خُتِمَت بنبيِّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّ مرحلة نزول الوحي وتبليغ الرسالة انتهت برحلة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)؛ ولكن القرآن الذي أنزله الله تعالى لتعليم الإنسان وتربيته باقٍ وخالد، وهو يحتاج إلى معلِّم ومُرَبٍّ، وقوانين القرآن التي شُرِّعت لضمان حقوق الإنسان - هذا الكائن الاجتماعي المدني بالطبع - تحتاج إلى مفسِّر ومنفِّذ.
وذلك أنَّ الغرض الإلهي من بعثة خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلم) غرض ممتدٌّ في الأجيال، ولا يتحقَّق إلَّا بوجود معلِّم عالم بما في القرآن، منزَّه عن

(٢٧)

الخطأ والهوى، متخلِّق بأعلى صفات الكمال المقصودة بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنَّما بُعِثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق»(18)، فبذلك وحده يتحقَّق الكمال العلمي والعملي للبشر الذي هو الغرض من خلق الإنسان ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10].
وبالجملة، فإنَّ القرآن كتاب أُنزل لإخراج جميع أفراد البشر من الظلمات الفكرية والأخلاقية والعملية إلى عالم النور، ﴿كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾ [إبراهيم: 1]، ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الحديد: 9]، ولا يمكن أن يتحقَّق هذا الغرض إلَّا بواسطة إنسان عصمه الله من الأخطاء والأهواء، وإلَّا فمن هو في الظلمات ليس بخارج منها كيف يكون مُخرِجاً عنها؟
ولولا وجود هذا الإنسان لما تيسَّر تعلّم الكتاب والحكمة، والقيام بالقسط في الأُمَّة؛ بل يتحوَّل القرآن الذي أنزله الله من أجل رفع اختلاف الناس إلى سبب لاختلافهم ومادَّة لنزاعهم؛ بسبب أهوائهم وأفكارهم الخاطئة!
كيف يتعقَّل الإنسان أنَّ الله الذي لم يترك دور الحاجب في جمال الوجه حتَّى أتقنه مراعياً قاعدته في خلق الإنسان في أحسن تقويم، ينزل كتاباً لغرض تصوير سيرة الإنسان في أحسن تقويم، ثمّ يُبطِل غرضه من تنزيله ومن إرسال الرسل بعدم نصبه حافظاً وشارحاً للكتاب؟!)(19).
المستفاد من هذا الدليل:
المستفاد من هذا الدليل أُمور ثلاثة مهمَّة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(18) بحار الأنوار 16: 210؛ سنن البيهقي 10: 192.
(19) مقدَّمة في أُصول الدين: 468 - 470.

(٢٨)

الأمر الأوَّل: وجود إمام في كلِّ زمان، ومن جملة الأزمنة زماننا. فهو يُثبِت وجود إمام في زماننا، وهذا بلا إشكال.
الأمر الثاني: أن يكون هذا الإمام عالماً بجميع الأدواء البشرية وأدويتها حتَّى يمكنه أن يُخرِج الناس من الظلمات إلى النور.
الأمر الثالث: أن يكون معصوماً من الأخطاء والأهواء، وإلَّا لم تتحقَّق الغاية المطلوبة لله تعالى، فإنَّ من يغوص في أوحال الهوى لا يمكنه رفع الناس عن الأهواء الباطلة.
الوجه الثاني: النقل:
والروايات الشريفة الثابتة عن خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلم)، صريحة بضرورة وجود إمام لكلِّ زمان، وضرورة معرفة هذا الإمام، ووجوب التمسّك به، ومن جملة تلك الروايات التي نقلها العامَّة والخاصَّة:
الحديث الأوَّل: حديث الثقلين:
وهو قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ولن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض».
والكلام فيه يقع في جهتين:
الجهة الأُولى: إثبات صدوره:
وهذا الحديث الشريف من الأحاديث المتواترة في كتب العامَّة والخاصَّة بلا إشكال(20).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(20) اُنظر: صحيح مسلم 4: 1873؛ مسند ابن أبي شيبة 1: 351؛ فضائل الصحابة 2: 572 و779؛ مسند أحمد بن حنبل 17: 170 و172 و211 و309، و32: 64 و65؛ سنن النسائي 7: 310 و320 و437؛ صحيح ابن خزيمة 4: 62؛ مستدرك الحاكم 3: 188 و160؛ وغيرها من مصادر العامَّة. ←

(٢٩)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

→ وإليك تصريح كوكبة من علمائهم بصحَّة الحديث وتواتره:
1 - قال شعيب الأرنؤوط في تعليقته على قول ابن الوزير: (وقَرَنَهُمْ في حديث الثقلين بكتاب الله، ووصّى فيهم، وأكَّدَ الوصاة)، بقوله: «الله الله»: (خرَّجه مسلم فيما رواه، وزاد الترمذي وسِواه: بشراه لذوي قُرباه، إنَّهما لن يفترقا حتَّى يلقياه. وهو قوله (صلّى الله عليه وسلم) في حديث طويل: «... وأنا تارك فيكم ثقلين: أوَّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به»، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثمّ قال: «وأهل بيتي، أُذَكِّركم الله في أهل بيتي» ثلاثاً. رواه مسلم: 2408؛ وأحمد 4: 366 و371؛ والدارمي 2: 432؛ والفسوي في تاريخه 1: 537؛ والطبراني في الكبير: 5028 و5040 عن زيد بن أرقم، وعنه قال: قال (صلّى الله عليه وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يتفرَّقا حتَّى يردا عليَّ الحوض»، رواه الحاكم 3: 148، وصحَّحه ووافقه الذهبي؛ والطبراني في الكببر: 4980؛ والفسوي في المعرفة والتاريخ 1: 536، وهو صحيح. ورواه الترمذي: 3788، وقال: حسن غريب، أي بشواهده، فإنَّ في سنده عطيَّة العوفي، وهو ضعيف. وفي الباب عن زيد بن ثابت عند أحمد 5: 181 و199؛ والطبراني في الكبير: 4921 و4922 و4923. وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد 3: 14 و17 و26 و59، وسنده حسن بالشواهد. وعن جابر عند الترمذي: 3786؛ والطبراني: 2678 - 2680) انتهى. راجع: كتاب العواصم والقواصم في الذبِّ عن سُنَّة أبي القاسم/ تعليق: شعيب الأرنؤوط 1: 178.
2 - وقال ابن حجر: (وفي رواية صحيحة: «إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن تبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي»، زاد الطبراني: «إنّي سألت ذلك لهما، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تُعلِّموهم فإنَّهم أعلم منكم»). راجع: الصواعق المحرقة 2: 439.

وقد صرَّح بتواتره أيضاً، فقال: (وفي رواية صحيحة: «كأنّي قد دعيت فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما آكد من الآخر، كتاب الله (عزَّ وجلَّ) وعترتي - أي بالمثنّاة -، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنَّهما لن يتفرَّقا حتَّى يردا عليَّ حوضي». وفي رواية: «وإنَّهما لن يتفرَّقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، سألت ربّي ذلك لهما، فلا تتقدَّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تُعلِّموهم فإنَّهم أعلم منكم»، ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابياً الحاجة لنا إلى بسطها. وفي رواية: آخر ما تكلَّم به النبيُّ (صلّى الله عليه وسلم): «اخلفوني في أهلي»، وسمّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما، إذ يقال لكلِّ خطير شريف: ثقلاً، أو لأنَّ العمل بما أوجب الله من حقوقهما ثقيل جدّاً). راجع: الصواعق المحرقة 2: 653. ←

(٣٠)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

→ 3 - قال الدهلوي: (وهي أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين، فإن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، وهذا الحديث ثابت عند الفريقين أهل السُّنَّة والشيعة، وقد عُلِمَ منه أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) أمرنا في المقدَّمات الدينية والأحكام الشرعية بالتمسّك بهذين العظيمي القدر والرجوع إليهما في كلِّ أمر، فمن كان مذهبه مخالفاً لهما في الأُمور الشرعية اعتقاداً وعملاً فهو ضالٌّ، ومذهبه باطل وفاسد لا يُعبَأ به. ومن جحد بهما فقد غوى، ووقع في مهاوي الردى). راجع: مختصر التحفة الاثني عشرية 3: 52.
وأمَّا ورود الحديث في كتب الخاصَّة، فنكتفي بذكر جملة من ألفاظ الحديث الشريف التي نقلها رئيس المحدِّثين الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في كتابه المبارك كمال الدين: 239 - 241:
1 - عن الحسن بن عبد الله بن محمّد بن عليّ التميمي، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني سيِّدي عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ، عن أبيه الحسين، عن أبيه عليّ صلوات الله عليهم، قال: قال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض».
2 - عن حنش بن المعتمر، قال: رأيت أبا ذرٍّ الغفاري (رحمه الله) آخذاً بحلقة باب الكعبة وهو يقول: ألَا من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذرٍّ جندب بن السكن، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إنّي خلفت فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، ألَا وإنَّ مَثَلهما فيكم كسفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلَّف عنها غرق».
3 - عن القاسم بن حسّان، عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم خليفتين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض».
4 - عن عطيَّة العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض».
5 - عن زيد بن أرقم، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، قال: «إنّي تارك فيكم كتاب الله وأهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض».
6 - عن محمّد بن أبي عمير، عن غياث بن إبراهيم، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ (عليهم السلام)، قال: «سُئِلَ أمير المؤمنين صلوات الله عليه عن معنى قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إنّي مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، من العترة؟ فقال: أنا والحسن والحسين والأئمَّة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم وقائمهم، لا يفارقون كتاب الله ولا يفارقهم حتَّى يردوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حوضه».

(٣١)

الجهة الثانية: في دلالته:
ولا بأس بعرض موجز لعدَّة أُمور مستفادة من هذا الحديث:
الأمر الأوَّل: دلالته على أنَّ العترة تركة وميراث من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم):
تدلُّ جملة: «إنّي تارك» على أنَّ الكتاب والعترة تركة وميراث من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى أُمَّته؛ لأنَّ نسبة النبيِّ إلى أُمَّته نسبة الأب إلى ولده، فالكتاب هو رابط الأُمَّة بربِّها، والعترة هي رابطة الأُمَّة بنبيِّها، فانقطاع الأُمَّة عن القرآن انقطاع عن الله تعالى، وانقطاعها عن العترة انقطاع عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والانقطاع عن النبيِّ انقطاع عن الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: دلالته على مشاركة العترة للقرآن في العلم:
إنَّ الحديث جَعَل العترة عِدلاً للكتاب الكريم، ولا يمكن أن تكون العترة عِدلاً للقرآن إلَّا إذا كانت العترة شريكاً للقرآن في العلم حيث وصف الله الكتاب بقوله: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدى وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89).
وبعبارة أُخرى: إنَّ حديث الثقلين يدلُّ على تميّزهم بالعلم بكلِّ ما يتَّصل بالشريعة وغيرها، ووجه دلالته على تميّزهم بالعلم لاقترانهم بالكتاب الموصوف بأنَّه تبيان لكلِّ شيء، والذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، كما يدلُّ عليه قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «ولا تُعلِّموهم فإنَّهم أعلم منكم»(21).
قال ابن حجر: (ثمّ إنَّ الذين وقع الحثُّ عليهم منهم إنَّما هم العارفون بكتاب الله وسُنَّة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويُؤيِّده الخبر السابق: «ولا تُعلِّموهم فإنَّهم أعلم منكم»، وتميَّزوا بذلك عن بقيَّة العلماء؛ لأنَّ الله أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(21) وسيأتي تخريجه.

(٣٢)

 تطهيراً، وشرَّفهم بالكرامات الباهرة، والمزايا المتكاثرة، وقد مرَّ بعضها...)(22).
الأمر الثالث: دلالته على عصمة أهل البيت (عليهم السلام):
وهو من جهات:
الجهة الأُولى: اقترانهم بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتصريحه بعدم افتراقهم عنه، ومن البديهي أنَّ صدور أيَّة مخالفة للشريعة سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة تُعتَبر افتراقاً عن القرآن في هذا الحال، وإن لم يتحقَّق انطباق عنوان المعصية عليها أحياناً كما في الغافل والساهي، فالافتراق يتحقَّق بعدم المصاحبة؛ فيتحقَّق بعدم التقيّد بأحكامه وإن كان معذوراً في ذلك لغفلته، والحديث صريح في عدم افتراقهما حتَّى يردا الحوض.
الجهة الثانية: إنَّ الحديث اعتبر التمسّك بأهل البيت (عليهم السلام) عاصماً عن الضلالة دائماً وأبداً، كما هو مدلول كلمة (لَنْ) التأبيدية في: «فإن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا»، والإنسان الفاقد للشيء لا يُعطيه.
الجهة الثالثة: إنَّ تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب وصدور الذنب منهم تجويز للكذب على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي أخبر عن الله (عزَّ وجلَّ) بعدم وقوع افتراقهما، وتجويز الكذب عليه متعمِّداً في مقام التبليغ والإخبار عن الله في الأحكام وما يرجع إليها منافٍ لافتراض العصمة في التبليغ، وهي ممَّا أجمعت عليها كلمة المسلمين على الإطلاق. ولا إشكال أنَّ الغلط لا يتأتّى في هذا الحديث، لإصرار النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) على تبليغه في أكثر من موضع وإلزام الناس بمؤدّاه، والغلط لا يُتكرَّر عادةً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(22) الصواعق المحرقة 2: 442.

(٣٣)

الأمر الرابع: دلالته على خلافة العترة للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم):
ورد في بعض صيغ الحديث: «تارك فيكم خليفتين»، وفي بعضها: «مخلف فيكم الثقلين»، ويُستفاد من تعبير: (خليفتين)، ومن تعبير: (مخلف) أنَّ العترة خليفة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فهذا الحديث مرسوم نبوي في تعيين خليفته في المسلمين إلى يوم القيامة.
الأمر الخامس: وجوب التمسّك بالقرآن والعترة:
والحديث واضح في لزوم التمسّك بهما معاً لا بواحد منهما؛ ليؤمن بذلك من الوقوع في الضلال، لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيه: «ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا»، وضمير (به) راجع إلى (ما ترك) وهو الاثنان. ويُؤيِّد ذلك ما ورد في بعض الروايات: «ما إن تمسَّكتم بهما»، و«فانظروا كيف تخلفونني فيهما». وأوضح من ذلك دلالةً ما ورد في رواية الطبراني في تتمَّتها: «فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تُعلِّموهم فإنَّهم أعلم منكم»(23).
ومن الواضح أنَّ معنى التمسّك بالقرآن، هو الأخذ بتعاليمه والسير على وفقها، وهو نفس معنى التمسّك بأهل البيت (عليهم السلام) عِدل القرآن.
فمن هذا الحديث يتَّضح أنَّ التمسّك بأحدهما لا يُغني عن الآخر «ما إن تمسَّكتم بهما»، «ولا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا»، ولم يقل: ما إن تمسَّكتم بأحدهما، أو تقدَّمتم أحدهما. والسرُّ في ذلك أنَّهما معاً يُشكِّلان وحدة واحدة يتمثَّل بها الإسلام على واقعه وبكامل أحكامه ووظائفه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(23) المعجم الكبير 5: 167.

(٣٤)

الأمر السادس: ضرورة وجود الإمام:
وهو محلُّ الشاهد في إثبات ضرورة وجود الإمام والهادي في كلِّ زمن، فإنَّ قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «لن يفترقا» كما يدلُّ على التلازم الدائم بين القرآن والعترة في العمل - وهو معنى العصمة -، فكذلك يدلُّ على تلازمهما في الوجود، أي بقاء العترة إلى جنب الكتاب إلى يوم القيامة، فلا يخلو زمان من الأزمنة عنهما ما داما لن يفترقا حتَّى يردا عليه الحوض، وهي كناية عن بقائهما إلى يوم القيامة.

قال ابن حجر: (وفي أحاديث الحثِّ على التمسّك بأهل البيت إشارة على عدم انقطاع متأهِّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أنَّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما يأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: «في كلِّ خلف من أُمَّتي عدول من أهل بيتي»)(24)،(25).
الخلاصة:
إنَّ موقف المخالف من وجود إمام في هذا الزمان، بعد ما تقدَّم من بيان دلالة حديث الثقلين لا يخلو إمَّا أن يقرَّ بوجود عِدل للقرآن فيكون بذلك موافقاً لكلام النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) - وهو ما عليه الشيعة -، أو لا يقرُّ بوجود عِدل للقرآن فيتحقَّق الافتراق، والحال أنَّ قول النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) نصٌّ بعدم الافتراق حتَّى الورود على الحوض.
الحديث الثاني: «من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية»:
وهو من تلك الأحاديث التي تُثبِت الإمامة، وأنَّها أصل من أُصول الدين لا يتمُّ الإيمان إلَّا بالاعتقاد بها، ولقد وردت هذه الرواية بعدَّة ألفاظ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(24) الصواعق المحرقة 2: 442.
(25) مقتبس من كتاب مختصر العقائد لسماحة الشيخ (أدام الله بقاه): 60 - 65. وقد نبَّه فيه إلى أنَّ بعض هذه الدلالات ممَّا أفاده العلَّامة السيِّد محمّد تقي الحكيم (قدّس سرّه) في كتابه الأُصول العامَّة للفقه المقارن: 166.

(٣٥)

اللفظ الأوَّل: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية»(26).
اللفظ الثاني: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية»(27).
اللفظ الثالث: «من مات وليس له إمام مات ميتةً جاهلية»(28).
اللفظ الرابع: «من مات بغير إمام مات ميتةً جاهلية»(29).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(26) كمال الدين: 409. وقد أرسله التفتازاني في شرح المقاصد 2: 275، إرسال المسلَّمات.
(27) صحيح مسلم 3: 1478.
(28) صحيح ابن حبّان/ تحقيق الأرنؤوط 10: 434. وقد علَّق عليه الأرنؤوط قائلاً: (حديث صحيح، محمّد بن يزيد بن رفاعة: هو محمّد بن يزيد بن محمّد بن كثير العجلي مختلف فيه، وقد توبع، وعاصم بن أبي النجود حسن الحديث، وباقي السند رجاله رجال الصحيح. أبو صالح: هو ذكوان السمّان المدني. وهو في (مسند أبي يعلى) ورقة 1: 345؛ وأخرجه أحمد 4: 96 عن أسود بن عامر؛ والطبراني 19: 769 من طريق يحيى بن الحمّاني، كلاهما عن أبي بكر بن عيّاش، بهذا الإسناد. والمراد بالميتة الجاهلية: حالة الموت كموت أهل الجاهلية على ضلال وليس له إمام مطاع، لأنَّهم كانوا لا يعرفون ذلك...) الخ.
ولا بأس بالإشارة إلى ما ذكره أبو حاتم ابن حبّان عن معنى الحديث، فقال: (قَوْلُهُ (صلّى الله عليه وسلم): «مَاتَ مَيْتَةً الْجَاهِلِيَّةِ»، مَعْنَاهُ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ لَهُ إِمَامًا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَاعَةِ الله حَتَّى يَكُونَ قِوَامُ الْإِسْلَامِ بِهِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ، وَالنَّوَازِلِ، مُقْتَنِعًا فِي الِانْقِيَادِ عَلَى مَنْ لَيْسَ نَعَتُهُ مَا وَصَفْنَا، مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً). صحيح ابن حبّان 10: 434؛ وحسَّن الحديث محقِّقهم الألباني في كتابه التعقليات الحسان على صحيح ابن حبّان 7: 20.
(29) مسند أبي داود الطيالسي 3: 425؛ ومسند أحمد بن حنبل 28: 89 بتحقيق الأرنؤوط. وقد علَّق عليه قائلاً: (حديث صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن من أجل عاصم - وهو ابن بهدلة -، وبقيَّة رجاله ثقات رجال الشيخين غير أنَّ أبا بكر - وهو ابن عيّاش - إنَّما روى له مسلم في المقدَّمة، وهو صدوق حسن الحديث. أبو صالح: هو ذكوان السمّان. وأخرجه ابن أبي عاصم في السُّنَّة: 1057؛ وأبو يعلى: 7357؛ وابن حبّان: 4573؛ والطبراني في الكبير 19: 769، من طرق عن أبي بكر بن عيّاش، بهذا الإسناد. وأخرجه الطبراني في الأوسط: 5816؛... وأورده الهيثمي في المجمع 5: 225، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه العبّاس بن الحسين القنطري، ولم أعرفه، وبقيَّة رجاله رجال الصحيح).

(٣٦)

اللفظ الخامس: «من مات وليس عليه إمام مات ميتةً جاهلية»(30).
إشكال ابن تيمية ودفعه:
أشكل ابن تيمية على الاستدلال بالحديث بما حاصله: أنَّ المقصود من الحديث السلاطين والأُمراء، فلا يأتي كلام الشيعة الإماميَّة بوجود إمام من الله سبحانه تُفتَرض طاعته، لأنَّ المراد من الإمام في الحديث هو الحاكم والسلطان والأمير، وهم الذين تجب طاعتهم والانقياد لهم.
قال في منهاجه: (فعُلِمَ أنَّ هذا الحديث دلَّ على ما دلَّ عليه سائر الأحاديث الآتية من أنَّه لا يخرج على ولاة أُمور المسلمين بالسيف، وأنَّ من لم يكن مطيعاً لولاة الأُمور مات ميتةً جاهليةً، وهذا ضدُّ قول الرافضة، فإنَّهم أعظم الناس مخالفةً لولاة الأُمور، وأبعد الناس عن طاعتهم إلَّا كرهاً)(31).
والجواب:
لا يخفى أنَّه ليس المراد من الإمام الذي تلزم بيعته ومعرفته هو السلطان والحاكم أيّاً كان؛ لأنَّ كلَّ حكّام بني أُميَّة وبني العبّاس فسّاق ظالمون، والكثير منهم - كما يُحدِّث التأريخ - يشربون الخمور ويلهون بالملاهي ويعبثون بالغواني ويقتلون النفس المحرَّمة، فهل يُعقَل أن يصدر من الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) - وهو الذي يدعو إلى الهدى ودين الحقِّ ويدعو، للعدل والإحسان، وجاء بأعلى القيم- أنَّ من لم يبايع هؤلاء ولا يراهم عليه أئمَّة يموت ميتةً جاهليةً؟! وهل يُعقَل أن يصدر منه (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنَّ من لم يبايع يزيد قاتل ريحانة الرسول وسبطه الإمام الحسين (عليه السلام) يموت ميتةً جاهليةً؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(30) مسند أبي يعلى 13: 366، وقال محقِّق الكتاب حسين سليم أسد: (إسناده حسن).
(31) منهاج السُّنَّة 1: 111.

(٣٧)

فلو تُعقِّل لحُكِمَ على الإمام الحسين (عليه السلام) بأنَّه مات ميتةً جاهليةً! لأنَّه قُتِلَ ولم تكن في عنقه بيعة لأحد، ولا يتفوَّه بهذا مسلم على وجه الأرض، كيف وقد قال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) فيه وفي أخيه الإمام الحسن (عليه السلام): «الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنَّة»، كما في الحديث المتسالم عليه عند العامَّة والخاصَّة(32).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(32) فضائل الصحابة 2: 774 ؛ مسند أحمد 17: 31؛ سنن الترمذي 6: 117؛ سنن النسائي 7: 368 و460؛ صحيح ابن حبّان 15: 413؛ المعجم الكبير للطبراني 3: 35؛ مستدرك الحاكم 182؛ وغيرها من المصادر.
وإليك كلام جملة من علمائهم في تصحيحه:
1 - قال الأرنؤوط في مسند أحمد 17: 31: (إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير يزيد بن مردانبة، فقد أخرج له النسائي، وهو ثقة. محمّد بن عبد الله الزبيري: هو أبو أحمد، وابن أبي نعم: هو عبد الرحمن البجلي. وأخرجه النسائي في الكبرى: 8525؛ والطبراني في الكبير: 2611؛ وأبو نعيم في أخبار أصبهان2: 343؛ والخطيب في تاريخه 11: 90 من طريق الفضل بن دكين، عن يزيد بن مردانبة، بهذا الإسناد. وأخرجه الطبراني في الكبير: 2614 من طريق عطاء بن يسار، والطبراني أيضاً: 2615؛ والخطيب في تاريخه 9: 231 من طريق عطيَّة العوفي، كلاهما عن أبي سعيد، به. وأخرجه النسائي في الكبرى: 8169 و8528؛ والفسوي في المعرفة والتاريخ 2: 644؛ والطحاوي في شرح مشكل الآثار: 1967؛ وابن حبّان: 6959؛ والطبراني في الكبير: 2610؛ والحاكم في المستدرك 3: 166 و167؛ وأبو نعيم في الحلية 5: 71؛ والخطيب في تاريخه 4: 207 من طريق الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعم، عن أبيه، به. وفيه زيادة: «إلَّا ابني الخالة: عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا». قال الحاكم: هذا حديث قد صحَّ من أوجه كثيرة، وأنا أتعجَّب أنَّهما لم يُخرِّجاه. وتعقَّبه الذهبي بقوله: الحَكَم فيه ليِّن. قلنا: الحَكَم بن عبد الرحمن بن أبي نُعم، وثَّقه الفسوي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبّان في (الثقات)، وضعَّفه ابن معين، فهو حسن الحديث. وسيرد بالأرقام (11594) و(11618) و(11777). وفي الباب عن حذيفة بن اليمان: سيرد 5: 391 و392، وإسناده صحيح. وعن عبد الله بن مسعود عند الحاكم 3: 167 وصحَّحه، ووافقه الذهبي. وعن قرَّة بن إياس، عند الطبراني في الكبير: 2617، وإسناده صحيح. وعن البراء بن عازب، أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 184، وقال: رواه الطبراني، وإسناده حسن).
2 - قال الترمذي في سننه 6: 117: (هذا حديث حسن صحيح).
3 - وصحَّحه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبّان 10: 89.
4 - وابن تيمية في مجموع الفتاوى 4: 511: (والحسين (رضي الله عنه) أكرمه الله تعالى بالشهادة في هذا اليوم وأهان بذلك من قتله أو أعان على قتله أو رضي بقتله وله أُسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء فإنَّه وأخوه سيِّدا شباب أهل الجنَّة).

(٣٨)

وحتَّى لا نلتزم بهذه اللوازم الباطلة نقول: إنَّ المراد من الإمام هو إمام الحقِّ الذي عُيِّن من قِبَل الحقِّ تعالى، وهم أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) بضميمة الأحاديث الأُخرى الثابتة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وبهذا يتَّضح أنَّ الإمامة أصل من أُصول الدين؛ لأنَّ من لم يعتقد بها تكون ميتته ميتةً جاهليةً بنصِّ الحديث الشريف، ولا يكون كذلك إلَّا إذا كان أصلاً يتوقَّف عليه الدين.
وبناءً على هذا لا يكفي للمسلم أن يقول: آمنت بالله وبالرسول وبالمعاد ويقف، بل لا بدَّ أن يضيف الإيمان بالإمامة، ليعرف إمام زمانه حتَّى لا يموت ميتةً جاهليةً(33).
ثمّ ماذا عن المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكافرين، فهل يشملهم الحديث؟! وحينئذٍ من هو إمامهم الذي تجب عليهم بيعته حتَّى لا يموتوا ميتة الجاهلية؟! وإن لم يشملهم فما هو دليل الاستثناء؟!
فإن قيل: اتَّضح لنا ثبوت الحديث الشريف؛ لكن لا يمكن الاستفادة منه في تشخيص الإمام وتعيينه.
نقول: بعد بيان صحَّة الحديث الشريف ووروده في كتب الفريقين، وبعدما تبيَّن أيضاً عدم قصد السلطان والأمير من خلال لفظ (إمام)، إذ يلزم منه لوازم لا يقبلها من آمن بالله سبحانه وتعالى وبرسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فنقول في الجواب:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(33) مقتبس من كتاب: مختصر العقائد للشيخ نزار آل سنبل (حفظه الله تعالى): 49 - 51.

(٣٩)

إنَّ المستفاد من لفظ الحديث أنَّ معرفة هذا الشخص المجعول إماماً هي ميزان للموت ميتة جاهلية من عدمها، وهذا المعنى يلزمنا أن نقول بلابدَّية أن يكون هذا الشخص من قِبَل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، أو من قِبَل الله سبحانه، وحتَّى يتحقَّق الغرض الإلهي من بعثة خاتم الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلم) وإنزال الكتاب الكريم وهو هداية الناس كافَّة، فلا بدَّ أن يُحدِّد ويُعيِّن لنا الله سبحانه وتعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) هذا الإمام - الذي عدم مبايعته ومعرفته تُشكِّل خطراً على حياة الإنسان ويكون مآله الموت على الجاهلية-، وهذا ما نريد استفادته من الحديث، ومن خلال سلسلة الأحاديث النبويَّة المتواترة من الفريقين نُعيِّن ونُشخِّص الإمام، كحديث الثقلين، والغدير، والاثني عشر خليفة أو إمام.
فإنَّ هذه الأحاديث سلسلة مرتبطة في حلقة واحدة كلّها تفيد ضرورة وجود أئمَّة اثني عشر، وأنَّهم أحد الثقلين، وعترة الهادي الأمين (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأنَّ من لم يعرفهم يموت ميتةً جاهليةً، وهذه الأحاديث الشريفة بمجموعها لا تُشخِّص إلَّا في أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام).
الحديث الثالث: حديث الخلفاء الاثني عشر:
نعتقد أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) المنصوص عليهم بالإمامة - الذين لهم صفة الإمامة الحقَّة وهم مرجعنا في الأوامر الإلهيَّة - اثنا عشر إماماً، نصَّ عليهم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) جميعاً بأسمائهم، ثمّ نصَّ المتقدِّم منهم على المتأخِّر، وهذه العقيدة هي الموافقة لبشارة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) في أحاديث كثيرة، رواها أهل السُّنَّة فضلاً عن الشيعة بعنوان (اثنا عشر خليفة) و(اثنا عشر أميراً)، وفيما يلي بعضها:
الأوَّل: في صحيح البخاري: عن جابر بن سمرة، قال: سمعت

(٤٠)

النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول: «يكون اثنا عشر أميراً»، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: قال: «كلّهم من قريش»(34).
الثاني: وفي صحيح مسلم: عن جابر بن سمرة، قال: دخلت مع أبي على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فسمعته يقول: «إنَّ هذا الأمر لا ينقضي حتَّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»، قال: ثمّ تكلَّم بكلام خفي عليَّ، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش»(35).
الثالث: وفي مسند أحمد: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة»(36).
الرابع: وفي لفظ آخر: «اثنا عشر كعدَّة نقباء بني إسرائيل»(37).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ويدلُّ هذا الحديث على عدَّة أُمور:
الأمر الأوَّل: حصر الخلفاء في اثني عشر.
الأمر الثاني: استمرار خلافة هؤلاء الاثني عشر إلى يوم القيامة.
الأمر الثالث: توقّف عزَّة الإسلام وأُمَّته ومنعته عليهم.
الأمر الرابع: إنَّ قوام الدين علماً وعملاً بهم؛ لأنَّ قوامه العلمي بمفسِّر للكتاب ومبيِّن لحقائقه ومعارفه، وقوامه العملي بمُنفِّذ لقوانينه وأحكامه العادلة، وهذان الغرضان المهمّان لا يتيسَّران إلَّا بتحقُّق شروط خاصَّة في هؤلاء الأئمَّة الاثني عشر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(34) صحيح البخاري 8: 127؛ مسند أحمد 5: 93.
(35) صحيح مسلم 12: 201.
(36) مسند أحمد 5: 90.
(37) مسند أحمد 1: 398.

(٤١)

الأمر الخامس: إنَّ اختياره (صلّى الله عليه وآله وسلم) للتنظير بنقباء بني إسرائيل تنبيه على أنَّ خلافتهم ليست بانتخاب من الناس؛ بل تعيين من الله سبحانه، فقد قال الله تعالى عن النقباء: ﴿وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً﴾ (المائدة: 12).
الأمر السادس: إنَّ هؤلاء الأئمَّة من قريش.
فهل يوجد خلفاء فيهم هذه المزايا إلَّا خلفاء المذهب الحقّ؟ وهل يمكن تفسير الأئمَّة الاثني عشر إلَّا بأئمَّتنا (عليهم السلام)؟ وهل تحقَّقت عزَّة الإسلام وأهدافه في خلافة يزيد بن معاوية وأمثاله ممَّن عاثوا في الأرض الفساد؟!
ولهذا ترى علماء السُّنَّة قد سلكوا في تفسير هذه الأحاديث مسالك ملتوية، ولم يقفوا لها على تفسير صحيح، ولو يمَّموا صوب أهل البيت (عليهم السلام) لعرفوا الطريق الواضح والصراط المستقيم، فإنَّ أئمَّتنا الاثني عشر هم المشهود لهم بالعلم والتقوى حتَّى من قِبَل علماء السُّنَّة(38).
وقد تلخَّص من جميع ما قدَّمنا - عقلاً ونقلاً - أُمور:
الأمر الأوَّل: وجود أئمَّة اثني عشر يبقون إلى يوم الدين.
الأمر الثاني: إنَّ هؤلاء هم خلفاء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) دون غيرهم.
الأمر الثالث: إنَّ هؤلاء من أهل البيت (عليهم السلام)، وإنَّ مرجعية الأُمَّة المسلمة لهم.
الأمر الرابع: إنَّ أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم مرجع المسلمين بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) هم الأئمَّة الاثنا عشر.
الأمر الخامس: ضرورة وجود إمام في كلِّ زمان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(38) مقبس من كتاب مختصر العقائد: 77 - 79.
ومن أراد أن يعرف الأئمَّة (عليهم السلام) فليرجع أيضاً لكتاب مقدَّمة في أُصول الدين لسماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلّه الوارف).

(٤٢)

الأمر السادس: إنَّ من مات ولم تكن له بيعه لإمام زمانه مات ميتةً جاهليةً.
الأمر السابع: إنَّ إمام هذا الزمان هو الإمام المهدي (عليه السلام) حسب ما دلَّت عليه الروايات الكثيرة عند الشيعة والسُّنَّة المصرِّحة بأنَّه إمام آخر الزمان، وهو الذي سيظهر ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.

* * *

(٤٣)

البحث الإثباتي: الأدلّة على ولادة الإمام المهدي (عليه السلام)
إنَّ إثبات النسب والولادة عند العقلاء وفي العادة يتمُّ بإخبار القابلة بأنَّ فلانة ولدت فلاناً فتُصدَّق، أو إخبار الأب لوحده بأنَّ له ولداً، أو شاهدين ينقلان عن الأب أنَّه قال: لي ولد.
وهذه الأُمور وغيرها قد اجتمعت للدلالة على ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) ونسبه الشريف، فهناك كثير من الرويات المتواترة دلَّت على ولادته ونسبه، وأنَّه هو محمّد بن الحسن العسكري (عليهما السلام)، ننقل بعضاً منها، وهي على عدَّة طوائف:
الطائفة الأولى: الإمام المهدي (عليه السلام) هو التاسع من ولد الإمام الحسين (عليه السلام) (39)
الرواية الأُولى: صحيحة أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «يكون تسعة أئمَّة بعد الحسين بن عليّ تاسعهم قائمهم»(40).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(39) سيأتي ذكر أبواب أُخرى تصبُّ في نفس الموضوع من قبيل: أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) هو السابع من ولد الإمام الباقر (عليه السلام)، والسادس من ولد الإمام الصادق (عليه السلام)، والخامس من ولد الإمام الكاظم (عليه السلام)، والرابع من ولد الإمام الرضا (عليه السلام). ومجموع ما دلَّ من الأخبار في هذه الأبواب ما يقارب (465) حديثاً؛ ولكن اقصرنا على خصوص هذا الباب: (التاسع من ولد الإمام الحسين (عليه السلام)) روماً للاختصار.
(40) الكافي 1: 533/ باب فيما جاء في الاثني عشر.../ ح 15.

(٤٤)

الرواية الثانية: صحيحة النزال بن سبرة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يذكر فيه أمر الدجّال، ويقول في آخره: «لا تسألوني عمَّا يكون بعد هذا، فإنَّه عهد إليَّ حبيبي (عليه السلام) أن لا أُخبِر به غير عترتي»، قال النزال بن سبرة: فقلت لصعصعة بن صوحان: ما عنى أمير المؤمنين بهذا القول؟ فقال صعصعة: يا ابن سبرة، إنَّ الذي يُصلّي عيسى بن مريم خلفه هو الثاني عشر من العترة، التاسع من ولد الحسين بن عليّ (عليهما السلام)، وهو الشمس الطالعة من مغربها، يظهر عند الركن والمقام، فيُطهِّر الأرض ويضع الميزان بالقسط فلا يظلم أحد أحداً، فأخبر أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّ حبيبه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عهد إليه أن لا يُخبِر بما يكون بعد ذلك غير عترته الأئمَّة(41).
الرواية الثالثة: صحيحة الكميت بن أبي المستهل أنَّه دخل على الإمام أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليهما السلام)، فقال له في حديث طويل: «يا أبا المستهل، إنَّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين؛ لأنَّ الأئمَّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) اثنا عشر، وهو القائم»، قلت: يا سيِّدي، فمن هؤلاء الاثنا عشر؟ قال: «أوَّلهم عليّ بن أبي طالب، وبعده الحسن والحسين، وبعد الحسين عليّ بن الحسين، وأنا، ثمّ بعدي هذا - ووضع يده على كتف جعفر -»، قلت: فمن بعد هذا؟ قال: «ابنه موسى، وبعد موسى ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه محمّد، وبعد محمّد ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه الحسن، وهو أبو القائم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً ويشفي صدور شيعتنا»، قلت: فمتى يخرج يا بن رسول الله؟ قال: «لقد سُئِلَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال: إنَّما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلَّا بغتة»(42).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(41) كمال الدين: 77 و78، و525 - 528/ باب 47/ ح 1.
(42) كفاية الأثر: 249 و250.

(٤٥)

الرواية الرابعة: عن أبي مريم عبد الغفّار بن القاسم، قال: دخلت على مولاي الباقر (عليه السلام) وعنده أُناس من أصحابه...، فقبَّلت يده ورجله وقلت: بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول الله، فما نجد العلم الصحيح إلَّا عندكم، وإنّي قد كبرت سنّي ودقَّ عظمي، ولا أرى فيكم ما أسرّه، أراكم مقتَّلين مشرَّدين خائفين، وإنّي أقمت على قائمكم منذ حين أقول: يخرج اليوم أو غداً. قال: «يا عبد الغفّار، إنَّ قائمنا (عليه السلام) هو السابع من ولدي، وليس هو أوان ظهوره، ولقد حدَّثني أبي، عن أبيه، عن آبائه، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إنَّ الأئمَّة بعدي اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، والتاسع قائمهم، يخرج في آخر الزمان فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً»(43).
الرواية الخامسة: عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قلت: يا رسول الله أرشدني إلى النجاة، فقال: «يا ابن سمرة، إذا اختلفت الأهواء، وتفرَّقت الآراء، فعليك بعليِّ بن أبي طالب، فإنَّه إمام أُمَّتي، وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يُميِّز بين الحقِّ والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحقَّ من عنده وجده، ومن التمس الهدى لديه صادفه، ومن لجأ إليه آمنه، ومن استمسك به نجّاه، ومن اقتدى به هداه. يا بن سمرة، سَلِمَ من سلَّم له ووالاه، وهلك من ردَّ عليه وعاداه. يا بن سمرة، إنَّ عليّاً منّي، روحه من روحي، وطينته من طينتي، وهو أخي وأنا أخوه، وهو زوج ابنتي فاطمة سيِّدة نساء العالمين من الأوَّلين والآخرين، إنَّ منه إمامي أُمَّتي، وسيِّدي شباب أهل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(43) كفاية الأثر: 250 - 253.

(٤٦)

الجنَّة الحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين، تاسعهم قائم أُمَّتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً»(44).
الرواية السادسة: عن سلمان الفارسي (رحمه الله)، قال: دخلت على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فإذا الحسين على فخذيه وهو يُقبِّل عينيه ويلثم فاه، وهو يقول: «أنت سيِّد ابن سيِّد، أنت إمام ابن إمام، أنت حجَّة ابن حجَّة أبو حجج تسعه من صلبك، تاسعهم قائمهم»(45).
الرواية السابعة: عن غياث بن إبراهيم، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ (عليه السلام)، قال: «سُئِلَ أمير المؤمنين (عليه السلام) عن معنى قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إنّي مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، من العترة؟ فقال: أنا والحسن والحسين والأئمَّة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم وقائمهم، لا يفارقون كتاب الله ولا يفارقهم حتَّى يردوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حوضه»(46).
الرواية الثامنة: عن الأصبغ بن نباته، قال: خرج علينا أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) ذات يوم، ويده في يد ابنه الحسن (عليه السلام)، وهو يقول: «خرج علينا رسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم ويدي في يده هكذا، وهو يقول: خير الخلق بعدي وسيِّدهم أخي هذا، وهو إمام كلِّ مسلم، ومولى كلِّ مؤمن بعد وفاتي. ألَا وإنّي أقول: خير الخلق بعدي وسيِّدهم ابني هذا، وهو إمام كلِّ مؤمن، ومولى كلِّ مؤمن بعد وفاتي، ألَا وإنَّه سيُظلَم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(44) أمالي الصدوق: 78/ ح (45/3).
(45) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 56/ ح 17.
(46) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 60/ ح 25.

(٤٧)

بعدي كما ظُلِمْتُ بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وخير الخلق وسيِّدهم بعد الحسن ابني أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه المقتول في أرض كربلاء، أمَا إنَّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة، ومن بعد الحسين تسعة من صلبه خلفاء الله في أرضه، وحججه على عباده، وأُمناؤه على وحيه، وأئمَّة المسلمين، وقادة المؤمنين، وسادة المتَّقين، تاسعهم القائم الذي يملأ الله (عزَّ وجلَّ) به الأرض نوراً بعد ظلمتها، وعدلاً بعد جورها، وعلماً بعد جهلها. والذي بعث أخي محمّداً بالنبوَّة، واختصَّني بالإمامة، لقد نزل بذلك الوحي من السماء على لسان الروح الأمين جبرئيل، ولقد سُئِلَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) - وأنا عنده - عن الأئمَّة بعده، فقال للسائل: ﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ﴾ [البروج: 1]، إنَّ عددهم بعدد البروج، وربُّ الليالي والأيام والشهور، إنَّ عددهم كعدد الشهور. فقال السائل: فمن هم يا رسول الله؟ فوضع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يده على رأسي فقال: أوَّلهم هذا، وآخرهم المهدي، من والاهم فقد والاني، ومن عاداهم فقد عاداني، ومن أحبَّهم فقد أحبَّني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن أنكرهم فقد أنكرني، ومن عرفهم فقد عرفني، بهم يحفظ الله (عزَّ وجلَّ) دينه، وبهم يعمر بلاده، وبهم يرزق عباده، وبهم نزل القطر من السماء، وبهم يُخرِج بركات الأرض، هؤلاء أصفيائي وخلفائي وأئمَّة المسلمين وموالي المؤمنين»(47).
الرواية التاسعة: عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «أنا سيِّد من خلق الله (عزَّ وجلَّ)، وأنا خير من جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وحملة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(47) كمال الدين: 259 و260/ باب 24/ ح 5.

(٤٨)

العرش وجميع ملائكة الله المقرَّبين وأنبياء الله المرسلين، وأنا صاحب الشفاعة والحوض الشريف، وأنا وعليّ أبوا هذه الأُمَّة، من عرفنا فقد عرف الله (عزَّ وجلَّ)، ومن أنكرنا فقد أنكر الله (عزَّ وجلَّ)، ومن عليّ سبطا أُمَّتي، وسيِّدا شباب أهل الجنَّة: الحسن والحسين، ومن ولد الحسين تسعة أئمَّة طاعتهم طاعتي، ومعصيتهم معصيتي، تاسعهم قائمهم ومهديهم»(48).
الرواية العاشرة: عن الحسين بن خالد، عن عليِّ بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «من أحبَّ أن يتمسَّك بديني، ويركب سفينة النجاة بعدي، فليقتدِ بعليِّ بن أبي طالب، وليعادِ عدوَّه وليوالِ وليَّه، فإنَّه وصيّي، وخليفتي على أُمَّتي في حياتي وبعد وفاتي، وهو إمام كلِّ مسلم، وأمير كلِّ مؤمن بعدي، قوله قولي، وأمره أمري، ونهيه نهيي، وتابعه تابعي، وناصره ناصري، وخاذله خاذلي»، ثمّ قال (عليه السلام): «من فارق عليّاً بعدي لم يرَني ولم أرَه يوم القيامة، ومن خالف عليّاً حرَّم الله عليه الجنَّة وجعل مأواه النار (وبئس المصير)، ومن خذل عليّاً خذله الله يوم يُعرَض عليه، ومن نصر عليّاً نصره الله يوم يلقاه، ولقَّنه حجَّته عند المسألة»، ثمّ قال (عليه السلام): «الحسن والحسين إماما أُمَّتي بعد أبيهما، وسيِّدا شباب أهل الجنَّة، وأُمُّهما سيِّدة نساء العالمين، وأبوهما سيِّد الوصيين. ومن ولد الحسين تسعة أئمَّة، تاسعهم القائم من ولدي، طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي، إلى الله أشكو المنكرين لفضلهم، والمضيِّعين لحرمتهم بعدي، وكفى بالله وليّاً وناصراً لعترتي وأئمَّة أُمَّتي، ومنتقماً من الجاحدين لحقِّهم، ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227]»(49).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(48) كمال الدين: 261/ باب 24/ ح 7.
(49) كمال الدين: 260 و261/ باب 24/ ح 6.

(٤٩)

الرواية الحادية عشر: عن عليِّ بن الحسن السائح، عن الإمام الحسن بن عليٍّ العسكري (عليهما السلام)، يقول: «حدَّثني أبي، عن أبيه، عن جدِّه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام): يا عليُّ، لا يُحِبُّك إلَّا من طابت ولادته، ولا يبغضك إلَّا من خبثت ولادته، ولا يواليك إلَّا مؤمن، ولا يعاديك إلَّا كافر.
فقام إليه عبد الله بن مسعود، فقال: يا رسول الله، قد عرفنا علامة خبيث الولادة والكافر في حياتك ببغض عليٍّ وعداوته، فما علامة خبيث الولادة والكافر بعدك إذا أظهر الإسلام بلسانه وأخفى مكنون سريرته؟
فقال (صلّى الله عليه وآله وسلم): يا ابن مسعود، عليُّ بن أبي طالب إمامكم بعدي وخليفتي عليكم، فإذا مضى فابني الحسن إمامكم بعده وخليفتي عليكم، فإذا مضى فابني الحسين إمامكم بعده وخليفتي عليكم، ثمّ تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد أئمَّتكم وخلفائي عليكم، تاسعهم قائم أُمَّتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً، لا يُحِبُّهم إلَّا من طابت ولادته ولا يبغضهم إلَّا من خبثت ولادته، ولا يواليهم إلَّا مؤمن، ولا يعاديهم إلَّا كافر، من أنكر واحداً منهم فقد أنكرني، ومن أنكرني فقد أنكر الله (عزَّ وجلَّ)، ومن جحد واحداً منهم فقد جحدني، ومن جحدني فقد جحد الله (عزَّ وجلَّ)؛ لأنَّ طاعتهم طاعتي، وطاعتي طاعة الله، ومعصيتهم معصيتي، ومعصيتي معصية الله (عزَّ وجلَّ). يا ابن مسعود، إيّاك أن تجد في نفسك حرجاً ممَّا أقضي فتكفر، فوَعزَّة ربّي ما أنا متكلِّف ولا ناطق عن الهوى في عليٍّ والأئمَّة من ولده.
ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله وسلم) - وهو رافع يديه إلى السماء -: اللّهمّ والِ من والى خلفائي وأئمَّة أُمَّتي بعدي، وعاد من عاداهم، وانصر من نصرهم،

(٥٠)

واخذل من خذلهم، ولا تخلُ الأرض من قائم منهم بحجَّتك ظاهراً أو خافياً مغموراً، لئلَّا يبطل دينك وحجَّتك (وبرهانك) وبيِّناتك.
ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله وسلم): يا ابن مسعود، قد جمعت لكم في مقامي هذا ما إن فارقتموه هلكتم، وإن تمسَّكتم به نجوتم، ﴿وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى﴾ [طه: 47]»(50).
ونقلها بعض أهل السُّنَّة مثل القندوزي(51)، عن مناقب الخوارزمي، قال: وفي المناقب: عن المفضَّل، قال: سألت جعفر الصادق (عليه السلام) عن قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ... الآية [البقرة: 124]، قال: «هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربِّه فتاب عليه، وهو أنَّه قال: يا ربِّ، أسألك بحقِّ محمّد وعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين إلَّا تبت عليَّ، فتاب الله عليه، إنَّه هو التوّاب الرحيم»، فقلت له: يا ابن رسول الله، فما يعني بقوله: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾؟ قال: «يعني أتمَّهنَّ إلى القائم المهدي اثني عشر إمام، تسعة من ولد الحسين (عليهم السلام)»(52).
تنبيه بشأن القندوزي ومن على شاكلته:
قد يتبادر إلى الذهن سؤال، وهو: أنَّه مثل هؤلاء من علماء السُّنَّة يعترفون وينقلون لنا الأحاديث في إمامة أهل البيت (عليهم السلام)، ومع ذلك لا يؤمنون بها، فكيف الحلُّ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(50) كمال الدين: 261 و262/ باب 24/ ح 8.
(51) وقد ترجم له الزركلي في الأعلام 3: 125، ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى تشيّعه، بل صريح كلامه أنَّ الرجل نقشبدني الطريقة، حنفي المذهب، قال: (سليمان بن خوجه إبراهيم قبلان الحسيني الحنفي النقشبندي القندوزي: فاضل، من أهل بلخ، مات في القسطنطينية. له (ينابيع المودَّة) في شمائل الرسول (صلّى الله عليه وسلم) وأهل البيت).
(52) ينابيع المودَّة 1: 290/ باب 24/ ح 6.

(٥١)

فنقول في المقام: يُحتَمل أحد احتمالين:
الاحتمال الأوَّل: أنَّ القندوزي الحنفي وأمثاله بعد هذه الأحاديث استبصروا وتبيَّن لهم الحقُّ واتَّبعوه.
الاحتمال الثاني: أنَّهم لم يؤمنوا بهؤلاء الأئمَّة كما نحن نؤمن، ولا ضير في ذلك، إذ إنَّ بعض الحقائق العقدية والفقهية واضحة موجودة في كتبهم بنحو لا تشوبها شائبة، ولكن مع ذلك لم يؤمنوا بها، وهم بين منكر لها أو محرِّف لمعناها، فيُحرِّفوا معنى هذه الأحاديث المبيِّنة لإمامة الأئمَّة الاثني عشر كما قلبوا معاني الأحاديث الأُخرى، كحديث الثقلين، والغدير، والموت على الجاهلية، وغيرها، بحيث لا تُهدِم ما جاؤوا به، ولكن مثلهم مثل الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت: 41).
كما ينبغي التنبيه على أنَّ هذه الأحاديث متواترة ومتعدِّدة الطرق، والحديث المتواتر يفيد العلم واليقين.
الطائفة الثانية: الروايات الدالّة على حصول الغيبة قبل وقوعها
فإنَّ المطَّلع على الأخبار لا يخفى عليه ما رواه الأصحاب (رضوان الله تعالى عليهم) من الإخبار بوقوع غيبتين للإمام المهدي (عليه السلام)، نذكر بعضاً منها:
الرواية الأُولى: عن المفضَّل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول حتَّى يقول بعضهم: مات، وبعضهم يقول: قُتِلَ، وبعضهم يقول: ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلَّا نفر يسير، لا يطَّلع على موضعه أحد من وليٍّ ولا غيره، إلَّا المولى الذي يلي أمره».

(٥٢)

ثمّ عقَّب الشيخ النعماني على هذا الحديث قائلاً: (ولو لم يكن يُروى في الغيبة إلَّا هذا الحديث لكان فيه كفاية لمن تأمَّله»(53).
الرواية الثانية: ما رواه أيضاً عن حازم بن حبيب، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقلت له: أصلحك الله، إنَّ أَبَوَيَّ هلكا ولم يحجّا، وإنَّ الله قد رزق وأحسن، فما تقول في الحجِّ عنهما؟ فقال: «افعل، فإنَّه يُبرِّد لهما»، ثمّ قال لي: «يا حازم، إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين يظهر في الثانية، فمن جاءك يقول: إنَّه نفض يده من تراب قبره فلا تُصدِّقه»(54).
الرواية الثالثة: عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: «لقائم آل محمّد غيبتان: أحدهما أطول من الأُخرى»، فقال: «نعم، ولا يكون ذلك حتَّى يختلف سيف بني فلان، وتضيق الحلقة، ويظهر السفياني، ويشتدُّ البلاء، ويشمل الناس موت وقتل يلجأون فيه إلى حرم الله وحرم رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)»(55).
الرواية الرابعة: عن عبد الأعلى مولى آل سام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «أمَا أنَّ لصاحب هذا الأمر فيه غيبتين، واحدة قصيرة وأُخرى طويلة»(56).
الطائفة الثالثة: الروايات التي تُبيِّن أنَّ الإمام هو ابن الحسن العسكري (عليه السلام)
الرواية الأُولى: عن داود بن القاسم، قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: «الخَلَف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟»، فقلت: ولِمَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(53) الغيبة للنعماني: 176/ باب 10/ فصل 4/ ح 5.
(54) الغيبة للنعماني: 176 و177/ باب 10/ فصل 4/ ح 6.
(55) الغيبة للنعماني: 177/ باب 10/ فصل 3/ ح 7.
(56) الغيبة للطوسي: 163/ ح 123.

(٥٣)

جعلني الله فداك؟ فقال: «إنَّكم لا ترون شخصه، ولا يحلُّ لكم ذكره باسمه»، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال: «قولوا: الحجَّة من آل محمّد (عليهم السلام)»(57).
الرواية الثانية: عن ابن عبّاس، قال: قدم يهودي على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقال له: (نعثل)، فقال: يا محمّد، إنّي أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين، فإن أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك.
قال: «سَلْ يا أبا عمارة...».
إلى أن قال: فأخبرني عن وصيِّك من هو؟ فما من نبيٍّ إلَّا وله وصيٌّ، وإنَّ نبيَّنا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون.
فقال: «نعم، إنَّ وصيّي والخليفة من بعدي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة من صلب الحسين، أئمَّة أبرار».
قال: يا محمّد، فسمِّهم لي؟
قال: «نعم، إذا مضى الحسين فابنه عليّ، فإذا مضى فابنه محمّد، فإذا مضى فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه عليّ، فإذا مضى عليّ فابنه محمّد، فإذا مضى محمّد فابنه عليّ، فإذا مضى عليّ فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فبعده ابنه الحجَّة بن الحسن بن عليّ (عليهم السلام). فهذه اثنا عشر إماماً على عدد نقباء بني إسرائيل».
قال: فأين مكانهم في الجنَّة؟
قال: «معي في درجتي...»(58).
الرواية الثالثة: عن موسى بن جعفر بن وهب البغدادي، قال: سمعت أبا محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) يقول: «كأنّي بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(57) الكافي 1: 328/ باب الإشارة والنصّ على أبي محمّد (عليه السلام)/ ح 13.
(58) كفاية الأثر: 11 - 14.

(٥٤)

أمَا إنَّ المقرَّ بالأئمَّة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) المنكر لولدي كمن أقرَّ بجميع أنبياء الله ورسله ثمّ أنكر نبوَّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والمنكر لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كمن أنكر جميع أنبياء الله؛ لأنَّ طاعة آخرنا كطاعة أوَّلنا، والمنكر لآخرنا كالمنكر لأوَّلنا. أمَا إنَّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلَّا من عصمه الله (عزَّ وجلَّ)»(59).
الرواية الرابعة: عن أبي عليّ بن همّام، قال: سمعت محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه) يقول: سمعت أبي يقول: سُئِلَ أبو محمّد الحسن بن عليّ (عليهما السلام) وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه (عليهم السلام): «أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله على خلقه إلى يوم القيامة»، وأنَّ «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليةً».
فقال (عليه السلام): «إنَّ هذا حقٌّ كما أنَّ النهار حقٌّ».
فقيل له: يا ابن رسول الله، فمن الحجَّة والإمام بعدك؟
فقال: «ابني محمّد هو الإمام والحجَّة بعدي، من مات ولم يعرفه مات ميتةً جاهليةً. أمَا إنَّ له غيبة يُحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقّاتون، ثمّ يخرج، فكأنّي أنظر إلى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»(60).
الطائفة الرابعة: إخبار الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بولادة ابنه
وهي إحدى طرق إثبات أمر الولادة، أي إقرار الأب بأنَّ له ولداً، ونذكر بعضاً من الأخبار الدالّة عليه من كتاب الكافي الشريف:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(59) كمال الدين: 409/ باب 38/ ح 8.
(60) كمال الدين: 409/ باب 38/ ح 9.

(٥٥)

الرواية الأُولى: صحيحة أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمّد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أن أسألك؟
فقال: «سَلْ».
قلت: يا سيِّدي، هل لك ولد؟
فقال: «نعم».
فقلت: فإن [حدث] بك حدث فأين أسأل عنه؟
فقال: «بالمدينة»(61).
الرواية الثانية: عن أحمد بن محمّد بن عبد الله، قال: خرج عن أبي محمّد (عليه السلام) حين قُتِلَ الزبيري لعنه الله: «هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه، يزعم أنَّه يقتلني وليس لي عقب، فكيف رأى قدرة الله فيه؟»، ووُلِدَ له ولد سمّاه (م ح م د) في سنه ستّ وخمسين ومائتين»(62).
الرواية الثالثة: عن جعفر بن محمّد المكفوف، عن عمرو الأهوازي، قال: أراني أبو محمّد ابنه، وقال: «هذا صاحبكم من بعدي»(63).
الطائفة الخامسة: شهادة القابلة
وهو طريق واضح، فإنَّ كلَّ امرأة إذا جاءها المخاض وحان حين ولادتها يُؤتى لها بقابلة تلي أمر الولد، وهي أوَّل من يأخذ به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(61) الكافي 1: 328/ باب الإشارة والنصّ إلى صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 2.
(62) الكافي 1: 329/ باب الإشارة والنصّ إلى صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 5.
(63) الكافي 1: 328/ باب الإشارة والنصّ إلى صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 3.

(٥٦)

وقابلته (عليه السلام) هي السيِّدة حكيمة عمَّة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وقد صرَّحت بمشاهدة الإمام الحجَّة (عليه السلام) بعد ولادته، ففي الكافي الشريف: عن محمّد بن يحيى، عن الحسين بن رزق الله أبو عبد الله، قال: حدَّثني موسى بن محمّد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر، قال: (حدَّثتني حكيمة ابنة محمّد بن عليّ - وهي عمَّة أبيه - أنَّها رأته ليلة مولده وبعد ذلك)(64).
الطائفة السادسة: شهادة الوكلاء من الثقاة الأجلاء المعروفين وشهادة الخدم والإماء
ومن جملة الروايات صحيحة عبد الله بن جعفر الحميري، قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله)(65) عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو، إنّي أُريد أن أسألك عن شيء وما أنا بشاكٍّ فيما أُريد أن أسألك عنه، فإنَّ اعتقادي وديني أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة إلَّا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رُفِعَت الحجَّة وأُغلق باب التوبة، فلم يكُ ﴿يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً﴾ [الأنعام: 158]، فأُولئك أشرار من خلق الله (عزَّ وجلَّ)، وهم الذين تقوم عليهم القيامة؛ ولكنّي أحببت أن أزداد يقيناً، وإنَّ إبراهيم (عليه السلام) سأل ربَّه (عزَّ وجلَّ) أن يريه كيف يُحيي الموتى، قال: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾؟ قال: ﴿بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، وقد أخبرني أبو عليّ أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن(عليه السلام)، قال: سألته وقلت: من أُعامل أو عمَّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(64) الكافي 1: 330 و331/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 3.
(65) وهو السفير الأوَّل: عثمان بن سعيد العمري (قدّس سرّه).

(٥٧)

له: «العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنَّه الثقة المأمون»، وأخبرني أبو عليّ أنَّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعمها، فإنَّهما الثقتان المأمونان»، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.
قال: فَخَرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى، ثمّ قال: سَلْ حاجتك.
فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمّد (عليه السلام)؟
فقال: إي والله، ورقبته مثل ذا - وأومأ بيده -.
فقلت له: فبقيت واحدة.
فقال لي: هاتِ.
قلت: فالاسم؟
قال: محرَّم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي، فليس لي أن أُحلِّل ولا أُحرِّم؛ ولكن عنه (عليه السلام)، فإنَّ الأمر عند السلطان أنَّ أبا محمّد مضى ولم يُخلِّف ولداً وقسَّم ميراثه وأخذه من لا حقَّ له فيه، وهو ذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أن يتعرَّف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك»(66).
الطائفة السابعة: تصرّف السلطة
ومن دلائل القول بولادته (عليه السلام) تصّرف السلطة غير المسبوق؛ فإنَّ المعتمد كان شديد التعصّب وضدُّ أهل البيت (عليهم السلام)، فدخل بيت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(66) الكافي 1: 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1.

(٥٨)

الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وصار يجول بعسكره لإيجاد هذا المولود، والسبب هو السبب في قضيَّة نبيِّ الله موسى (عليه السلام) وفرعون الطاغي.
وبعبارة أُخرى: إنَّ من المعلوم بالضرورة إقامة الدولة الإلهيَّة وعدالة السماء ومحق الظلم والباطل عن طريق المهدي من آل محمّد (عليه السلام)، وكان المؤمنون في تلك الأزمان يترقَّبون خروجه المبارك الميمون، وأمَّا غير المؤمنين فهم أيضاً ينتظرون هذه الساعة؛ لكن سنخ انتظار مغاير عن المؤمنين بالإمام المهدي (عليه السلام)، فانتظارهم لأجل التخلّص من وجوده المبارك ليحفظوا ملذّات دنياهم وعروش دولتهم الظالمة، فعلمت السلطة الغاشمة أنَّ سلسلة أهل البيت (عليهم السلام) لم تنتهِ، وأنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هو الإمام الحادي عشر، وأنَّ الثاني عشر الذي تعتقد به الإماميَّة - أنار الله برهانهم - قادم لا محالة، ولا بدَّ أن ينصروه ويعزروه ويقيموا الدولة الإلهيَّة في ظلِّ عنايته وإشرافه؛ فعلمت السلطة أنَّ الحكومات تسقط عند قيام هذا الموعود من قِبَل النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وطبيعة حالة الخوف مع عدم الإيمان ينتج لنا تصرّف كتصرّف فرعون من مراقبة وبثِّ العيون في الأرجاء واقتحام البيوت وغيرها من الأُمور الشنيعة، ولو لم يعلم بوجود ولد لما ارتكب ما ارتكب بحثاً عنه، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
الطائفة الثامنة: شهادة علماء الأنساب
وهم أهل الخبرة في مثل هذه الموارد.
فمن جملة علماء النسب:

(٥٩)

1 - أبو نصر البخاري، قال: (وولد عليّ النقي ابن محمّد التقي (عليه السلام) جعفراً، وهو الذي تُسمّيه الإماميَّة: جعفر الكذّاب، وإنَّما تُسمّيه الإماميَّة بذلك لادِّعائه ميراث أخيه الحسن (عليه السلام) دون ابنه القائم الحجَّة (عليه السلام)، لا طعن في نسبه)(67).
2 - السيِّد العمري، قال: (ومات أبو محمّد (عليه السلام) وولده من نرجس (عليها السلام) معلوم عند خاصَّة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك، وامتُحِنَ المؤمنون بل كافَّة الناس بغيبته، وشَرِهَ جعفر بن عليّ إلى مال أخيه وحاله، فدفع أن يكون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة على قبض جواري أخيه...)(68).
3 - الفخر الرازي الشافعي، قال تحت عنوان: (أولاد الإمام العسكري (عليه السلام)) ما هذا نصُّه: (أمَّا الحسن العسكري الإمام (عليه السلام) فله ابنان وبنتان: أمَّا الابنان فأحدهما: صاحب الزمان عجَّل الله تعالى فرجه الشريف، والثاني موسى درج في حياة أبيه...)(69).
4 - النسّابة الزيدي السيِّد أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني، قال تحت اسم الإمام عليّ التقي المعروف بالهادي (عليه السلام) خمسة من البنين وهم: (الإمام العسكري، الحسين، موسى، محمّد، عليّ).
وتحت اسم الإمام العسكري (عليه السلام) مباشرةً كتب: (محمّد بن) وبإزائه: (منتظر الإماميَّة)(70).
هذه شهادة بعض علماء النسب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(67) سرُّ السلسلة العلوية: 40.
(68) المجدي في أنساب الطالبيين: 130.
(69) الشجرة المباركة في أنساب الطالبية: 78 و79.
(70) روضة الألباب لمعرفة الأنساب: 105.

(٦٠)

الطائفة التاسعة: اعتراف علماء السُّنَّة ومؤرِّخيهم
ذكر الباحث المعاصر ثامر العميدي في كتابه (الدفاع عن الكافي) اعترافات علماء السُّنَّة في هذا الشأن، حيث أفاد بأنَّه بلغت اعترافات الفقهاء والمحدِّثين والمفسِّرين والمؤرِّخين والمحقِّقين والأُدباء والكُتّاب من أهل السُّنَّة أكثر من مائة اعتراف صريح بولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، وقد صرَّح ما يزيد على نصفهم بأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) هو الإمام الموعود بظهوره في آخر الزمان.
ثمّ ذكر مائة وثماني وعشرين من مصنِّفي أهل السُّنَّة ممَّن ذكر الإمام المهدي (عليه السلام) بعنوان أنَّه الإمام الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، منهم من عاصر الميلاد والغيبة الصغرى فلشهادتهم قيمة علمية، ومنهم غير ذلك.
أحدهم أبو بكر الروياني (307هـ) في كتابه المسند، وأحمد بن إبراهيم بن عليّ الكندي (310هـ) من تلاميذ ابن جرير الطبري، ومحمّد بن أحمد بن أبي الثلج أبو بكر البغدادي (322هـ)، وعنده كتاب مواليد الأئمَّة مطبوع ضمن كتاب الفصول العشرة في الغيبة للشيخ المفيد.
ومن جملتهم: الخوارزمي (568هـ)، وابن أثير الجزري (606هـ)، والكنجي الشافعي (658هـ) في البيان، وابن خلّكان (681هـ)، والجويني الشافعي (730هـ) في فرائد السمطين.
وكثير من هؤلاء الذين اعترفوا بولادته (عليه السلام)(71).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(71) راجع: دفاع عن الكافي 1: 573 - 596.

(٦١)

قال الذهبي في حوادث سنة (260هـ): (وفيها الحسن بن عليّ الجواد بن محمّد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، أحد الأئمَّة الاثني عشر الذين تعتقد الرافضة فيهم العصمة، وهو والد المنتظر محمّد صاحب السرداب)(72).
وقال المؤرِّخ أبي الفداء: (والحسن العسكري المذكور هو والد محمّد المنتظر صاحب السرداب، ومحمّد المنتظر المذكور هو ثاني عشر الأئمَّة الاثني عشر على رأى الإِماميَّة، ويقال له: القائم، والمهدي، والحجَّة.
ووُلِدَ المنتظر المذكور في سنة خمس وخمسين ومائتين، والشيعة يقولون: دخل السرداب في دار أبيه بسُرَّ من رأى وأُمُّه تنظر إِليه فلم يعد يخرج إِليها، وكان عمره حينئذٍ تسع سنين، وذلك في سنة خمس وستّين ومائتين، وفيه خلاف)(73).
وقال الصفدي: (محمّد بن الحسن العسكري بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن محمّد الباقر بن زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه)، الحجَّة المنتظر، ثاني عشر الأيمَّة الاثني عشر، هو الذي تزعم الشيعة أنَّه المنتظر القايم المهدي، وهو صاحب السرداب عندهم، وأقاويلهم فيه كثيرة، ينتظرون ظهوره آخر الزمان من السرداب بسُرَّ من رأى، ولهم إلى حين تعليق هذا التاريخ أربع ماية وسبعة وسبعين سنة ينتظرونه ولم يخرج، وُلِدَ نصف شعبان سنة خمس وخمسين ومأتين)(74).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(72) العبر في خبر من غبر 1: 373.
(73) المختصر في أخبار البشر (تاريخ أبي الفداء) 1: 361.
(74) الوافي بالوفيات 2: 336 و337.

(٦٢)

إشكالان وردُّهما:
الإشكال الأوَّل: غرابة استتار الولادة:
فإن قلتَ: إنَّ استتار الولادة أمر غريب.
قلنا: إنَّ استتار أمر الولادة ممكن الحصول عند العقلاء وله أسبابه الموضوعية وأغراضه العقلائية، منها:
العامل الاجتماعي: وإنَّنا نجد من الناس أشخاصاً يتزوَّجون زوجة ثانية ولا يريدون أن يطَّلع أحد وبالخصوص من يقرب من الزوجة الأُولى على أمر زواجه من الثانية، فلو ولد له ولد من زوجته الثانية، فمن الطبيعي في هذه الحالة أن يخفي ولادته ولا يُظهِره، ولا يُخرِجه للناس.
العامل المادّي: يمكن أن يكون لشخص ما ثروة مالية كبيرة، ويكون له أقارب مادّيون ظلمة، قد مدّوا أعينهم إلى ثروته، ولا يعلمون بوجود وارث له أقرب منهم نسباً، وهو ولده الصغير، فيخاف على ولده منهم؛ إذ يعتقد بأنَّهم لو علموا بوجوده لقتلوه لأخذ إرثه والاستيلاء على ثروته، فلا سبيل له إلَّا إخفاءه وستره عن أعينهم إلى أن يشتدَّ عوده ويستطيع أن يقوم بنفسه.
العوامل الدينية: ما مرَّ من العوامل هي من قبيل الأُمور الشخصية، بينما الإمام المهدي (عليه السلام) يُمثِّل وضع مستقبل الأُمَّة، فاستتاره يكون من نوع استتارٍ مغايرٍ، فلا بدَّ أن يكون متعلَّق استتاره وغيبته أمراً دينياً.
ولا يمكن إنكار العوامل الدينية؛ إذ إنَّها ثبتت عن نبيٍّ من أنبياء أُولي العزم وهو كليم الله موسى (عليه السلام)؛ فإنَّ أُمَّه أخفت ولادته خوفاً عليه؛ لأنَّ فرعون يعلم أنَّ إطاحة حكمه من خلال رجل من بني

(٦٣)

إسرائيل، فبقر البطون وحاول أن لا تحمل النساء، ووضع الجواسيس، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ (التوبة: 32). فإنَّ فرعون أراد أن يُطفئ نور الله ودينه بمنع ولادة نبيِّ الله موسى (عليه السلام)؛ ولكنَّ الله سبحانه جعل أمر ولادته مستوراً وخافياً بحيث إنَّه حفظه من كيدهم، ومنه يعلم أنَّ القضيَّة لها بُعد ديني إلهي في حفظ نبيٍّ من أنبياء أُولي العزم (عليهم السلام).
فلو أثبتنا أنَّ أمر ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) كان مستوراً وخافياً عن عامَّة الناس وخصوصاً السلطة فهذا الأمر ليس غريباً، وخصوصاً أنَّ السلطة الحاكمة آنذاك تحارب وتقاتل أهل البيت (عليهم السلام) وتقربهم القرب الجغرافي لمراقبتهم، إلى أن أتى زمن الإمام الحسن بن عليٍّ العسكري (عليهما السلام)، فعلمت السلطة ما تواتر عن أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ التاسع من ولد الإمام الحسين (عليه السلام) هو الإمام المهدي (عليه السلام)، وهو الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً.
والخلاصة: أنَّ استتار الولادة أمر متعارف لا شناعة فيه.
الإشكال الثاني: إنَّ منهج السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) لا يُثبِت ولادة الإمام المهدي (عليه السلام):
وحاصل الشبهة التي ذكرها بعضهم: أنَّ الاعتماد على المنهج السندي للسيِّد الخوئي (قدّس سرّه) يلزم منه عدم إمكان إثبات ولادة الإمام المنتظر (عليه السلام)، وساق على ذلك شواهد ثلاثة:
الشاهد الأوَّل: أنَّ الروايات الواردة في الكافي الشريف، في باب مولد الصاحب (عليه السلام)، كلّها ضعيفة باستثناء روايتين، كما نصَّ على ذلك البهبودي في (زبدة الكافي).

(٦٤)

الشاهد الثاني: أنَّ العلَّامة المجلسي (قدّس سرّه) أيضاً ضعَّف جُلَّ هذه الروايات في مرآة العقول في هذا الباب، ولم يسلم من أسانيدها إلَّا سبعة أو ثمانية.
الشاهد الثالث: أنَّ العلَّامة المجلسي قد نقل في المجلَّد الواحد والخمسين من البحار أربعين رواية ولم يصحّ منها شيء، كما قال صاحب (المشرعة).
والنتيجة التي خلص إليها المتحدِّث بعد هذه الشواهد: أنَّه لا يُمكن إثبات ولادة الإمام الحجَّة (عليه السلام) بناءً على المنهج السندي للسيِّد الخوئي (قدّس سرّه) لضعف الروايات كما تقدَّم، أو لا أقلّ إن قبلنا بصحَّة بعضها - كما قال البهبودي - فلا يُمكن الاكتفاء بروايتين في المقام؛ لأنَّ ما نحن فيه - أي ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) - داخل في ضمن المسائل العقائدية التي لا يصحُّ الاستناد فيها إلَّا إلى اليقين، وهو لا يتحصَّل من روايتين!
الجواب عن الشبهة:
ما أفاده المتحدِّث باطل لا يُمكِن التفوّه به، وهو مخدوش من جوانب متعدِّدة، ونحن نكتفي في المقام - رعايةً للاختصار - بذكر مطلبين أساسيين:
المطلب الأوَّل كبروي، وهو في الحديث عن المنهج الصحيح في التعامل مع الأخبار، وبالأخصّ وفق مباني السيِّد الخوئي (قدّس سرّه).
المطلب الثاني صغروي، وهو في تطبيق القواعد العلميَّة في المنهج المذكور على ما نحن فيه، ليُلاحِظ الباحث أنَّ المعطيات العلميَّة المبنيَّة على الأُسس المتقنة والصحيحة مخالفة لما أفاده المتحدِّث جملةً وتفصيلاً.
وإليك تفصيل ذلك:

(٦٥)

تفصيل المطلب الأوَّل: منهجية السيِّد الخوئي (قدّس سرّه):
قرَّر الأعلام - ومنهم السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) - أنَّ الخبر ينقسم إلى أقسام أربعة:
الأوَّل: الخبر المتواتر، والذي ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوَّل: الخبر المتواتر لفظاً، من قبيل قوله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه».
القسم الثاني: الخبر المتواتر معنىً، من قبيل الأخبار الواردة في شجاعة أمير المؤمنين (عليه السلام).
القسم الثالث: الخبر المتواتر إجمالاً، كورود أخبار كثيرة متعدِّدة في باب من الأبواب بحيث يُعلَم إجمالاً - لكثرتها - بصدور بعضها.
وهذه الأقسام الثلاثة حجَّةٌ عند السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) وغيره من الأعاظم.
الثاني: خبر الواحد المحفوف بالقرينة المفيدة للقطع أو الاطمئنان، وهذا حجَّة بلا شكٍّ. أمَّا عند استفادة القطع من احتفاف القرائن بالخبر فواضح؛ إذ القطع حجَّة بلا منازع. وأمَّا عند استفادة الاطمئنان من ذلك، فلأنَّ الاطمئنان حجَّة عقلائية، والسيِّد الخوئي (قدّس سرّه) يرى حجّية هذا القسم من الخبر.
الثالث: خبر الواحد الثقة غير المحفوف بالقرينة، وهنا وقع الخلاف بين الأعلام، فذهب بعضهم كالسيِّد الخوئي (قدّس سرّه) إلى حجّية خبر الثقة، وذهب غيره من الأعاظم إلى حجّية الخبر الموثوق.
الرابع: الإخبار الطَّبَقي، وهو إخبار طبقة عن طبقة، وهذا القسم أقواها؛ إذ إنَّ وصول الخبر بنقل طبقة - تحتوي المئات والآلاف - إلى

(٦٦)

طبقة أُخرى مثلها أمر يفوق حدَّ التواتر، من قبيل نقل القرآن الكريم ووصوله إلينا، فإنَّه منقول لنا نقلاً طبقياً، ولسنا بعد هذا بحاجة لما يفعله المخالفون من رواية القرآن عن مجموعة أشخاص ثمّ الانتهاء إلى خمسة رواة فقط، ولا يُحصِّلون بذلك تواتراً.
تفصيل المطلب الثاني: تطبيق المنهج على ما نحن فيه:
وقبل الحكم على المسألة وتطبيق القواعد العلمية المتقدِّمة، لا بدَّ من تشخيص الموضوع حتَّى تتحدَّد الأدوات التي على وفقها نتعاطى معه، فنقول: هل إنَّ مسألة ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) مسألة تأريخية أو عقائديَّة؟
ويترتَّب على ذلك أمرٌ مهمٌّ غاب عن ذهن هذا المُشكِل، سيتَّضح في طيّات البحث.
فقد أفاد المُشكِل في الجواب على هذا السؤال: بأنَّ مسألة ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) مسألة عقائديَّة. وهذا خلط بين ولادته والاعتقاد بضرورة وجوده وإمامته؛ فإنَّ ولادة الإمام (عليه السلام) بما هي ولادة حدث تاريخي وليست من العقائد في شيء، وأمَّا الاعتقاد بإمامته ووجوده فعلاً الملازم لولادته فهو من العقائد.
ومع غضِّ الطرف عن ذلك، فإنَّنا نبحث في جهتين:
الجهة الأُولى: فيما لو كانت المسألة تأريخية - كما هو الحقُّ -، فلا إشكال في بطلان ما نسبه لمنهج السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) من عدم حجّية الأخبار في هذا الباب؛ إذ إنَّه اعترف بصحَّة روايتين - لا أقلّ - استناداً إلى تصحيح البهبودي، والسيِّد الخوئي (قدّس سرّه) يرى حجّية خبر الواحد الثقة في المسائل التأريخيَّة.

(٦٧)

وبعبارة أُخرى: أراد المُشكِل بنقله لتضعيفات الآخرين للروايات وتصحيحهم للعدد الأقلّ منها أن يقول بأنَّ الأخبار الواردة في هذا الباب أخبار آحاد، وبالتالي لا يمكن إثبات مسألة الولادة على رأي السيِّد الخوئي (قدّس سرّه)، إلَّا أنَّ هذا منه، فمسألة الولادة تأريخيَّة، والسيِّد الخوئي (قدّس سرّه) يرى حجّية خبر الواحد الثقة في المسائل التأريخية.
على أنَّنا لا نُسلِّم بأنَّ هذه الأخبار الشريفة أخبار آحاد كما سيتَّضح، إنَّما نحن نتنزَّل للمُشكِل.
الجهة الثانية: فيما لو كانت المسألة عقائديَّة - كما زعم -، فإنَّ الخبر في هذا الباب ليس خبر واحد كما سيتَّضح، ولو تنزَّلنا وقلنا بأنَّه خبر واحد فلا إشكال ولا شبهة في كونه محفوفاً بالقرينة القطعية أو المفيدة للاطمئنان، والخبر المحفوف حجَّة عن السيِّد الخوئي (قدّس سرّه).
بيان ذلك:
أنَّ الأخبار الواردة في ولادة الإمام (عليه السلام) أخبار متواترة بلا ريب.
أوَّلاً:
لو اقتصرنا على باب من الكافي وهو باب ولادة الصاحب (عليه السلام)، فإنَّ التواتر الإجمالي ثابت لا محالة مع وجود واحد وثلاثين رواية شريفة في هذا الشأن كما يشهد له وجدان سليم الحواسِّ، فكيف لو ضممت أبواباً أُخرى في الكافي وغيره من الكتب التي صُنِّفت لهذا الشأن سواء على نحو المطابقة أو الالتزام، ككتب رئيس المحدِّثين الصدوق، وشيخ الطائفة الطوسي، وشيخ أصحابنا المفيد (أعلى الله في جنان الخلد مقامهم)؟!
وقد ذكر العديد منها المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي الگلبايگاني (رحمه الله) في (منتخب الأثر)، وإليك شيء من فهرس الكتاب في الجزء الثاني منه:

(٦٨)

الباب الثالث:
الفصل العاشر: في أنَّه من الأئمَّة التسعة من ولد الحسين (عليه السلام)، وفيه (165) حديثاً(75).
الفصل الحادي عشر: في أنَّه التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)، وفيه (160) حديثاً(76).
الفصل الثالث عشر: في أنَّه السابع من ولد الباقر محمّد بن عليٍّ (عليهما السلام)، وفيه (121) حديثاً(77).
الفصل الخامس عشر: في أنَّه السادس من ولد الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، وفيه (120) حديثاً(78).
الفصل السابع عشر: في أنَّه الخامس من ولد الإمام السابع موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وفيه (115) حديثاً(79).
الفصل الثامن عشر: في أنَّه الرابع من ولد الإمام أبي الحسن عليِّ بن موسى الرضا (عليهما السلام)، وفيه (109) حديثاً(80).
الفصل الحادي والعشرون: في أنَّه خلف الخلف أبي الحسن وابن أبي محمّد الحسن (عليهم السلام)، وفيه (107) حديثاً(81).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(75) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 162.
(76) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 164.
(77) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 173.
(78) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 179.
(79) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 182.
(80) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 187.
(81) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 195.

(٦٩)

الفصل الرابع والعشرون: في أنَّه إذا توالت ثلاثة أسماء: محمّد وعليّ والحسن كان الرابع هو القائم، وفيه حديثان(82).
الفصل الثالث والثلاثون: في أنَّه خفيُّ الولادة، وفيه (13) حديثاً(83).
الباب الرابع(84):
الفصل الأوَّل: في ثبوت ولادته، وكيفيتها، وتاريخها، وبعض حالات أُمِّه واسمها (عليها السلام)، وفيه (426) حديثاً.
الفصل الثاني: معجزاته في حياة أبيه (عليهما السلام)، وفيه (10) أحاديث.
الفصل الثالث: فيمن رآه في أيّام والده (عليهما السلام)، وفيه (20) حديثاً.
الباب الخامس(85):
الفصل الأوَّل: في من فاز برؤيته (عليه السلام) في الغيبة الصغرى، وفيه (27) حديثاً.
الفصل الثاني: في ذكر بعض معجزاته (عليه السلام) في الغيبة الصغرى، وفيه (29) حديثاً.
الفصل الثالث: في حالات سفرائه ونوّابه في الغيبة الصغرى، وفيه (27) حديثاً.
الباب السادس(86):
الفصل الأوَّل: في معجزاته في الغيبة الكبرى، وفيه (15) حديثاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(82) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 214.
(83) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 289.
(84) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 367 - 431.
(85) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 437 - 562.
(86) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 533 - 562.

(٧٠)

الفصل الثاني: في من رآه في الغيبة الكبرى، وفيه (13) حديثاً.
وأمَّا في الجزء الثالث من الكتاب فذكر باباً في دعائه (عليه السلام)، وبعض الأدعية المأثورة عنه، وفيه (13) حديثاً(87).
وكذلك المحدِّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في (إثبات الهداة)، حيث ذكر (170) حديثاً في معجزات صاحب الزمان (عليه السلام)(88).
وأيضاً دلالة توقيعاته الشريفة على وجوده المقدَّس، فإنَّ الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) نقل منها (52) حديثاً(89).
ثانياً:
إنَّ الأخبار الواردة في هذا الباب في كتب الأصحاب، والدالّة على المطلوب - بالمنطوق أو باللازم البيِّن بالمعنى الأخصّ - متواترة تواتراً معنوياً، وهي على طوائف سبق بيانها في بداية الفصل:
الأُولى: التي ذكرت نسب الإمام (عليه السلام)، وأنَّه التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)، أو الخامس من ولد السابع (عليه السلام)، أو السادس من ولد الصادق (عليه السلام)، أو الخلف بعد الخلف - أي الإمام الهادي (عليه السلام) -.
الثانية: روايات الغيبة.
الثالثة: إخبار الإمام العسكري (عليه السلام) بولادة ولده (عليه السلام) - وهو ما يُثبِت الولادة عند عامَّة العقلاء - كما ورد بسند صحيح في الكافي الشريف(90).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(87) منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 3: 250.
(88) إثبات الهداة 5: 284.
(89) كمال الدين: 438 -473.
(90) صحيحة أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمّد (عليه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: «سَلْ». قلت: يا سيِّدي، هل لك ولد؟ فقال: «نعم». فقلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ فقال: «بالمدينة». راجع: الكافي 1: 328 / باب الإشارة والنصّ إلى صاحب الدار (عليه السلام)/ ح 2.

(٧١)

الرابعة: إخبار القابلة وهي السيِّدة حكيمة (عليها السلام) التي صرَّح العلَّامة المجلسي (رحمه الله) بأنَّ هذه الرواية مشهورة عند أصحابنا(91).
الخامسة: من شهد برؤيته في زمن الإمام العسكري (عليه السلام)، ولو تتبَّعت عددهم في كتب الأصحاب تتبّعاً سريعاً لأحصيت (177) رجلاً - على عجالة - رأوه في عصر أبيه (عليه السلام).
السادسة: شهادة وكلائه، ومن وقف على معجزاته، أو شهادة الخدم والجواري، وغير ذلك من الأبواب الكثيرة.
ثالثاً:
إنَّ أمر ولادة الإمام (عليه السلام) وصل لنا طبقة عن طبقة، وإن شئت سمِّه بالتواتر الطبقي.
المتحصِّل ممَّا تقدَّم:
إنَّ هذه الروايات الشريفة - التي ذكرها المُشكِل - وغيرها حجَّةٌ على منهج السيِّد الخوئي (قدّس سرّه)، والذي تقدَّم عرضه.
وقد عرفت أنَّ المنهج بكامله عند السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) - فضلاً عن غيره من الأعاظم - يدلُّ على إثبات ولادة الإمام (عليه السلام)، ومن ادَّعى بأنَّه لا يدلُّ على ذلك بناءً على منهج السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) فإنَّه لم يتذوَّق من طعم مباحث علم الأُصول شيئاً.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(91) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول (ج 4/ شرح ص 8) معلِّقاً على الرواية الثالثة، وهي رواية رؤية السيِّدة الحكيمة (عليها السلام) له (عليه السلام): (والكليني (رحمه الله) أجمل القصَّة، وهي طويلة مشهورة مذكورة في كتب الغيبة).

(٧٢)

تمهيد
اتَّضح ممَّا تقدَّم عدَّة أُمور ترتبط بالإمام المهدي (عليه السلام)، وأنَّ وجوده وولادته ونسبه إلى الإمام الحسن العكسري (عليهما السلام) ممَّا ثبت بالضرورة، فلا بدَّ بعد ذلك من ثبوت أنَّه غائب عن الأنظار والأبصار، ومن أراد أن يطَّلع على عقيدتنا في الغيبة، فليراجع كلمات الأصحاب ((قدَّس الله روحه)م)، ولا بأس بذكر بعض منها حتَّى يعرف القارئ الكريم عقيدة شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في غيبة الإمام المهدي (عليه السلام).
قال الشيخ المفيد (قدّس سرّه): (وكان الإمام بعد أبي محمّد (عليه السلام) ابنه المسمّى باسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، المكنّى بكنيته، ولم يُخلِّف أبوه ولداً غيره ظاهراً ولا باطناً، وخلَّفه غائباً مستتراً على ما قدَّمنا ذكره.
وكان مولده (عليه السلام) ليلة النصف من شعبان، سنة خمس وخمسين ومائتين.
وأُمُّه أُمُّ ولد يقال لها: نرجس، وكان سنُّه عند وفاة أبي محمّد خمس سنين، آتاه الله فيها الحكمة وفصل الخطاب، وجعله آية للعالمين، وآتاه الحكمة كما آتاها يحيى صبياً، وجعله إماماً في حال الطفولية الظاهرة كما جعل عيسى بن مريم (عليه السلام) في المهد نبيّاً.
وقد سبق النصُّ عليه في ملَّة الإسلام من نبيِّ الهدى (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ من أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ونصَّ عليه الأئمَّة (عليهم السلام) واحداً

(٧٥)

بعد واحد إلى أبيه الحسن (عليه السلام)، ونصَّ أبوه عليه عند ثقاته وخاصَّة شيعته.
كان الخبر بغيبته ثابتاً قبل وجوده، وبدولته مستفيضاً قبل غيبته، وهو صاحب السيف من أئمَّة الهدى (عليهم السلام)، والقائم بالحقِّ، المنتظَر لدولة الإيمان، وله قبل قيامه غيبتان، إحداهما أطول من الأُخرى، كما جاءت بذلك الأخبار، فأمَّا القصرى منهما فمنذ وقت مولده إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة، وأمَّا الطولى فهي بعد الأُولى، وفي آخرها يقوم بالسيف)(92).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(92) الإرشاد 2: 339 و340.

(٧٦)

شبه غيبته (عليه السلام) بغيبة الأنبياء
إنَّ قضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام) تشابه قضايا الأنبياء السابقين (عليهم السلام) كما دلَّت عليه الأخبار، وأحد أوجه التشابه بينه وبينهم هو الغيبة والاستتار عن الأنظار والأبصار، ووجه التشابه يردع تشكيكات المشكِّكين بغيبته (عليه السلام)، سواء كان بداعي الغرابة أو عدم الهداية، فإنَّ ما يرد من نقض على غيبة الإمام يرد على غيبة الأنبياء والصالحين في السنن الماضية، فبعد إثبات أنَّ هذه السنن جرت في حقِّ الأنبياء والصالحين فلا غرابة إذا ثبتت عن الإمام المهدي (عليه السلام).
الروايات الدالّة على شبهه (عليه السلام) بأنبياء الله (عليهم السلام):
الرواية الأُولى: عن سعيد بن جبير، قال: سمعت سيِّد العابدين عليَّ بن الحسين (عليه السلام) يقول: «في القائم منّا سنن من الأنبياء: سُنَّة من أبينا آدم (عليه السلام)، وسُنَّة من نوح، وسُنَّة من إبراهيم، وسُنَّة من موسى، وسُنَّة من عيسى، وسُنَّة من أيّوب، وسُنَّة من محمّد صلوات الله عليهم.
فأمَّا من آدم ونوح فطول العمر، وأمَّا من إبراهيم فخفاء الولادة واعتزال الناس، وأمَّا من موسى فالخوف والغيبة، وأمَّا من عيسى فاختلاف الناس فيه، وأمَّا من أيّوب فالفرج بعد البلوى، وأمَّا من محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) فالخروج بالسيف»(93).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(93) كمال الدين: 321 و322/ باب 31/ ح 3.

(٧٧)

الرواية الثانية: عن محمّد بن مسلم الثقفي الطحّان، قال: دخلت على أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليه السلام) وأنا أُريد أن أسأله عن القائم من آل محمّد صلّى عليه وعليهم، فقال لي مبتدئاً: «يا محمّد بن مسلم، إنَّ في القائم من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) شبهاً من خمسة من الرسل: يونس بن متّى، ويوسف بن يعقوب، وموسى، وعيسى، ومحمّد صلوات الله عليهم.
فأمَّا شبهه من يونس بن متّى، فرجوعه من غيبته وهو شابٌّ بعد كبر السنِّ.
وأمَّا شبهه من يوسف بن يعقوب (عليه السلام)، فالغيبة من خاصَّته وعامَّته، واختفاؤه من إخوته وإشكال أمره على أبيه يعقوب (عليه السلام) مع قرب المسافة بينه وبين أبيه وأهله وشيعته.
وأمَّا شبهه من موسى (عليه السلام)، فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته، وتعب شيعته من بعده ممَّا لقوا من الأذى والهوان إلى أن أذن الله (عزَّ وجلَّ) في ظهوره ونصره وأيَّده على عدوِّه.
وأمَّا شبهه من عيسى (عليه السلام)، فاختلاف من اختلف فيه حتَّى قالت طائفة منهم: ما وُلِدَ، وقالت طائفة: مات، وقالت طائفة: قُتِلَ وصُلِبَ.
وأمَّا شبهه من جدِّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فخروجه بالسيف، وقتله أعداء الله وأعداء رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والجبّارين والطواغيت، وأنَّه يُنصَر بالسيف والرعب، وأنَّه لا ترد له راية.
وإنَّ من علامات خروجه: خروج السفياني من الشام، وخروج اليماني من اليمن، وصيحة من السماء في شهر رمضان، ومنادٍ ينادي من السماء باسمه واسم أبيه»(94).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(94) كمال الدين: 327 و328/ باب 32/ ح 7.

(٧٨)

شبهه بنبيّ الله موسى (عليه السلام) في خفاء مولده وغيبته:
عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «في القائم (عليه السلام) سُنَّة من موسى بن عمران (عليه السلام)».
فقلت: وما سُنَّته من موسى بن عمران؟
قال: «خفاء مولده، وغيبته عن قومه».
فقلت: وكم غاب موسى عن أهله وقومه؟
فقال: «ثماني وعشرين سنة»(95).
وهذه الروايات الشريفة مضمونها يوجب أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) له سُنَّة كسُّنَّة نبيِّ الله موسى وهي الغيبة، فلا بدَّ من القول بمقتضى هذه الأدلَّة وهذا التشابه أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) حيٌّ ولكنَّه غائب كغيبة موسى عن قومه.
وللتوضيح نقول:
إنَّ غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) مسبوقة بمثلها عند الأولياء السابقين، فالروايات الشريفة تدلُّ على عدَّة أُمور حصلت مع النبيِّ موسى (عليه السلام) كالخوف والغيبة وخفاء الولادة، فالرواية الأُولى: «وأمَّا من موسى فالخوف والغيبة»، والرواية الثانية: «وأمَّا شبهه من موسى (عليه السلام) فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته)، والرواية الثالثة: (خفاء مولده، وغيبته عن قومه)، وهو مع هذا كلّه كان حيّاً حاضراً؛ ولكنَّه غائب عمَّن في موطنه، وكذلك الإمام المهدي (عليه السلام) هو حيٌّ حاضر؛ ولكنَّه غائب عنّا لا نعرفه إذا رأيناه.
فكما أنَّ ظروف موسى (عليه السلام) اقتضت أن يكون غائباً عن الأنظار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(95) كمال الدين: 152/ باب 6/ ح 14.

(٧٩)

ولا يعرفه كثير من الناس أو كلُّ الناس إلَّا الخواصّ منهم، فكذلك الإمام صاحب العصر والزمان (عليه السلام)، وهذا هو مقتضى المشابهة الواردة في الأخبار المتقدِّمة.
وأمَّا الشبه بخفاء الولادة؛ فلأنَّ فرعون (لعنه الله) كان له علم مسبق من الكهنة والسحرة بأنَّ زوال ملكه ونهاية سلطانه سوف يكون على يد رجل من بني إسرائيل وهو النبيُّ موسى (عليه السلام)، فأراد إطفاء نور الله في أرضه بقتل الأولاد والناشئين من الذكور، وبقر بطون الحبالى، حتَّى لا يخرج المولود الذي سيُنهي ملكه، كما أشار القرآن الكريم حيث أكَّد على قضيَّة الاستتار وإخفاء الولادة خوفاً من السلطة الحاكمة.
ومنه يُعلَم وجه التشابه بين مولد نبيِّ الله موسى (عليه السلام) ومولد صاحب الزمان (عليه السلام)، فإنَّ الدولة العبّاسية شابهت سلطة فرعون في إرادة إهلاك من ذُكِرَ أنَّه سيُنهي ويزيل دولتهم حيث علموا من النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) أنَّ الإمام الثاني عشر هو القائم والخاتم الذي يقوم بالسيف، وأنَّ حكومات الجور ستزول على يده، ففرضوا الجواسيس والعيون، واقتحموا البيوت للبحث عن ذلك المولود حفاظاً على الملك الدنيوي الزائل والملذّات الحقيرة الفانية.
ولمزيد التوضيح:
إنَّ الله سبحانه وتعالى قدَّر لنبيِّ الله موسى (عليه السلام) أن يعيش في بيت عدوِّه من خلال أمر أُمِّه أن تلقيه في النهر، فأخذه عدوٌّ لله وعدوٌّ له، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ﴾ (القصص: 7 و8).

(٨٠)

ولمَّا شبَّ وجرى ما جرى من قتل النفس الذي حكاه القرآن فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ (القصص: 15)، اقتضى أن يغيب عن الأنظار، قال تعالى: ﴿وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص: 20 و21).
فهذه الظروف اقتضت خفاء مولد نبيِّ الله موسى (عليه السلام) وغيبته، وأيضاً الظروف التي أحاطت بالإمام المهدي (عليه السلام) اضطرَّت لاستتاره بالولادة، واضطرَّته (عليه السلام) للغيبة عن الأنظار.
شبهه بالخضر (عليه السلام) في غيبته:
روى الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) عن الحسن بن عليِّ بن فضّال، قال: سمعت أبا الحسن عليَّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) يقول: «إنَّ الخضر (عليه السلام) شرب من ماء الحياة، فهو حيٌّ لا يموت حتَّى يُنفَخ في الصو، وإنَّه ليأتينا فيُسلِّم فنسمع صوته ولا نرى شخصه، وإنَّه ليحضر حيث ما ذُكِرَ، فمن ذكره منكم فليُسلِّم عليه، وإنَّه ليحضر الموسم كلّ سنة فيقضي جميع المناسك، ويقف بعرفة فيُؤمِّن على دعاء المؤمنين، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ويصل به وحدته»(96).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(96) كمال الدين: 390 و391/ باب 38/ ح 4.

(٨١)

وعن الحسن بن عليِّ بن فضّال، عن الإمام أبي الحسن عليِّ بن موسى الرضا (عليهما السلام): «لمَّا قُبِضَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) جاء الخضر (عليه السلام) فوقف على باب البيت وفيه عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قد سُجّي بثوبه، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ [آل عمران: 185]، إنَّ في الله خلفاً من كلِّ هالك، وعزاء من كلِّ مصيبة، ودركاً من كلِّ فائت، فتوكَّلوا عليه، وثقوا به، وأستغفر الله لي ولكم. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): هذا أخي الخضر (عليه السلام) جاء يُعزّيكم بنبيِّكم (صلّى الله عليه وآله وسلم)»(97).
شبهه بيوسف (عليه السلام) في غيبته:
وأمَّا شبهه بيوسف (عليه السلام) فقد عُلِمَ أنَّ نبيَّ الله يوسف (عليه السلام) غاب عن بلده، وإخوته يظنّون أنَّه مات؛ إذ أنَّهم ألقوه في الجبِّ، بينما هو في مصر، وقد ذهبوا إليه هناك ولم يعرفوه بعد هذه الغيبة الطويلة، قال الله تعالى: ﴿وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ (يوسف: 58).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(97) كمال الدين: 391/ باب 38/ ح 5.

(٨٢)

أقسام غيبة الإمام (عليه السلام)
بعدما علمنا أنَّه لا ضرر بالاعتقاد بالغيبة، تصل بنا النوبة إلى بيان أقسام غيبة الإمام المهدي (عليه السلام)؛ فإنَّ غيبته تنقسم إلى قسمين: صغرى، وكبرى.
القسم الأوَّل: الغيبة الصغرى ومباحثها
المبحث الأوَّل: مبدأ الغيبة الصغرى
وقع الكلام بين الأعلام في بداية الغيبة الصغرى، على قولين:
القول الأوّل:
إنَّ بداية الغيبة الصغرى منذ ولادته (عليه السلام).
وقد استندوا في ذلك إلى ما ورد في بعض الروايات:
منها: ما عن السيِّدة الجليلة حكيمة (عليها السلام)، عن أبي محمّد (عليه السلام): «يا عمَّة اذهبي به إلى أُمِّه ليُسلِّم عليها وائتني به».
فذهبت به فسلَّم عليها ورددته فوضعته في المجلس، ثمّ قال: «يا عمَّة، إذا كان يوم السابع فأتينا».
قالت حكيمة: فلمَّا أصبحت جئت لأُسلِّم على أبي محمّد (عليه السلام)، وكشفت الستر لأتفقَّد سيِّدي (عليه السلام) فلم أرَه، فقلت: جُعلت فداك، ما فعل سيِّدي؟

(٨٣)

فقال: «يا عمَّة استودعناه الذي استودعته أُمُّ موسى موسى (عليه السلام)»(98).
ومنها: عن يعقوب بن منقوش، قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وهو جالس على دكّان في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل، فقلت له: يا سيِّدي، من صاحب هذا الأمر؟ فقال: «ارفع الستر»، فرفعته، فخرج إلينا غلام خماسي له عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، دُرّي المقلتين، شثن الكفَّين، معطوف الركبتين، في خدِّه الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمّد (عليه السلام)، ثمّ قال لي: «هذا صاحبكم»، ثمّ وثب فقال له: «يا بنيَّ، اُدخل إلى الوقت المعلوم»، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثمّ قال لي: «يا يعقوب، اُنظر من في البيت»، فدخلت فما رأيت أحداً(99).
والظاهر من هذين الخبرين أنَّ غيبته (عليه السلام) كانت منذ ولادته وفي حياة أبيه (عليه السلام)، والشاهد على هذا الاستظهار من الحديث الأوَّل: «استودعناه الذي استودعته أُمُّ موسى موسى»، ومن الثاني قوله (عليه السلام): «اُدخل إلى الوقت المعلوم»، وقول الراوي: (فدخلت فما رأيت أحداً)، وهذا لا ينافي إمكان رؤيته في ذلك الوقت لبعض أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) لأجل إثبات وجوده وولادته وإمامته (عليه السلام).
فبناءً على هذا الرأي تكون بداية الغيبة الصغرى من سنة (255هـ)، وتكون مدَّتها (74) سنة.
ولعلَّك تسأل: إذا كانت ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) في سنة (255هـ)، ووفاة الإمام العسكري (عليه السلام) في سنة (260هـ)، فهذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(98) كمال الدين: 415/ باب 42/ ح 1.
(99) كمال الدين: 407/ باب 38/ ح 2.

(٨٤)

يفترض أنَّ عمر الإمام عند وفاة أبيه كان خمس سنوات، فكيف نُفسِّر ما ورد في هذه الرواية من أنَّه ابن عشر أو ثمان سنوات؟
الجواب: لا منافاة في البين ولا اضطراب، كبرىً وصغرىً.
أمَّا الكبرى، فإنَّ المعلوم لدى كثير من الناس أنَّ بعض الأشخاص توجد في أجسامهم خصائص معيَّنة تؤدّي إلى نموّهم سريعاً، بحيث إذا نظر إليهم شخص أعطاهم سنّاً أكبر من سنّهم.
وأمَّا الصغرى، فلأنَّ بعض الروايات دلَّت على أنَّ الإمام (عليه السلام) كان يكبر - ينمو - أكثر ممَّا يكبر غيره، فلهذا كان ابن خمس سنوات آنذاك ولكن الناظر إليه يحسبه ابن ثمان، ولهذا قال الراوي نفسه: (فخرج إلينا غلام خماسي، له عشر أو ثمان).
القول الثاني:
إنَّ بداية الغيبة الصغرى منذ شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
وهو الصحيح الذي عليه جمهور الشيعة الإماميَّة؛ فإنَّ غيبة الإمام لم تبدأ حين ولادته؛ بل بدأت بعد شهادة الإمام العسكري (عليه السلام)، وبناءً عليه فإنَّ الغيبة بدأت من سنة (260هـ)، واستمرَّت إلى سنة (٣٢٩هـ)، فيكون مجموع سني الغيبة (٦٩) سنة.

* * *

(٨٥)

المبحث الثاني: أدوار الإمام (عليه السلام) في عصر الغيبة الصغرى
الدور الأوّل: هداية المؤمنين وحفظهم:
الحوادث التي نُقِلَت في بيان حرص الإمام (عليه السلام) على شيعته وحفظه لهم كثيرة جدّاً، نقتصر منها على موقفين:
الموقف الأوَّل:
أمره بعدم قبض الحقوق الشرعية، خوفاً على وكلائه، وحفظاً لهم من الوقوع في أيدي السلطة.
روى الشيخ الكليني (قدّس سرّه) عن الحسين بن الحسن العلوي، قال: كان رجل من ندماء روزحسني وآخر معه، فقال له: هو ذا يجبي الأموال، وله وكلاء، وسمّوا جميع الوكلاء في النواحي، وأنهي ذلك إلى عبيد الله بن سليمان الوزير، فهمَّ الوزير بالقبض عليهم، فقال السلطان: اُطلبوا أين هذا الرجل، فإنَّ هذا أمر غليظ. فقال عبيد الله بن سليمان: نقبض على الوكلاء؟ فقال السلطان: لا؛ ولكن دسّوا لهم قوماً لا يُعرَفون بالأموال، فمن قبض منهم شيئاً قُبِضَ عليه.
قال: فخرج بأن يتقدَّم إلى جميع الوكلاء أن لا يأخذوا من أحد شيئاً، وأن يمتنعوا من ذلك ويتجاهلوا الأمر.
فاندسَّ لمحمّد بن أحمد رجل لا يعرفه، وخلا به، فقال: معي مال أُريد أن أُوصله.

(٨٦)

فقال له محمّد: غلطت، أنا لا أعرف من هذا شيئاً.
فلم يزل يتلطَّفه، ومحمّد يتجاهل عليه.
وبثوا الجواسيس، وامتنع الوكلاء كلّهم لما كان تقدَّم إليهم(100).
الموقف الثاني:
خروج النهي عن زيارة مقابر قريش، أي قبري الإمام الكاظم والجواد (عليهما السلام)، وقبر الإمام الحسين (عليه السلام)، حفظاً للمؤمنين من إيذاء السلطة لهم.
روى الشيخ الكليني (قدّس سرّه) عن عليِّ بن محمّد، قال: خرج نهي عن زيارة مقابر قريش والحير، فلمَّا كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له: الق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لا يزوروا مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أن يُتفقَّد كلُّ من زار فيُقبَض عليه»(101).
الدور الثاني: مواجهة الانحراف والتيّارات الضالّة:
وأمَّا دور الإمام المهدي (عليه السلام) في مواجهة الانحرافات العقائدية والتيّارات الضالّة في زمانه فكثيرة، فواجه التيّار الذي ادَّعى الوكالة والنيابة والذي يتمثَّل بالشلمغاني(102)، وواجه التيّار الذي ادَّعى الإمامة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(100) الكافي 1: 525/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 30.
(101) الكافي 1: 525/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 31.
(102) سيأتي ذكر التوقيعات الصادرة في حقِّه ضمن التوقيعات الرجالية في (ص183) من الكتاب.
وإليك ما قاله الشيخ المفيد (رحمه الله): (أبو جعفر محمّد بن عليِّ بن أبي العزاقر الشلمغاني، المتوفّى سنة (323هـ)، كان متقدِّماً في أصحابنا ومستقيم الطريقة، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح على ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديَّة، فظهرت منه مقالات منكرة، وخرج في لعنه التوقيع من الناحية، له كتاب الغيبة). راجع: الفصول العشرة: 16 و17/ الرقم 36.

(٨٧)

بعد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) المتمثِّل بجعفر الكذّاب ابن الإمام الهادي (عليه السلام).
يقول قطب الدين الراوندي (قدّس سرّه): (وإنَّ موسى بن عمران على نبيِّنا وعليه السلام كان مبتلىً بابن عمِّه (قارون)، كما أنَّ القائم المهدي (عليه السلام) كان مبتلىً بعمِّه (جعفر الكذّاب). وإنَّ الله تعالى دفع معرَّته عن المهدي (عليه السلام)، وجعل كلمته العليا، وأخافه من المهدي (عليه السلام). فإنَّه لمَّا توفّي الحسن العسكري (عليه السلام) اجتمع أصحابه للصلاة عليه في داره، فجاء جعفر الكذّاب ليُصلّي عليه، والشيعة حضور، إذا هم بفتى جاء وأخذ بذيله وأبعده من عند أبيه، وصلّى عليه، وائتمَّ الناس به، وبقي جعفر الكذّاب مبهوتاً متحيِّراً لا يتكلَّم، فلمَّا فرغ من الصلاة على أبيه خرج من بين القوم وغاب، فلا يُدرى من أيِّ وجه خرج)(103).
وهذه المواجهة للانحرافات هي من صميم دور الأئمَّة (عليهم السلام) المتمثِّل في حفظ الدين، وهداية الناس، والوقوف في وجه أهل الضلال.
الدور الثالث: إثبات أحقّيته وإمامته:
تعرَّضنا في هذا الكتاب(104)، إلى أنَّ للإمام العسكري (عليه السلام) وظائف رئيسية ترتبط بولده صاحب العصر والزمان (عليه السلام):
الوظيفة الأُولى: إثبات وجوده، وإمامته، ووجوب طاعته.
الوظيفة الثانية: حفظه وستره.
الوظيفة الثالثة: حفظ الشيعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(103) الخرائج والجرائح 2: 939.
(104) تحت عنوان (التهيُّؤ لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)) يأتي في (ص 119).

(٨٨)

وقد أكَّد الإمام صاحب العصر والزمان (عليه السلام) هذه الوظائف الثلاث عملياً، فبالنسبة للوظيفة الأُولى أثبت نفسه المباركة بعدَّة طرق:
الطريق الأوَّل:
الصلاة على أبيه (عليه السلام) بمسمع ومرأى من المعزِّين والمشيِّعين.
فقد روى الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في كمال الدين عن أبي الأديان، قال: (... فتقدَّم جعفر بن عليٍّ ليُصلّي على أخيه، فلمَّا همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن عليٍّ وقال: «تأخَّر يا عمّ، فأنا أحقُّ بالصلاة على أبي»، فتأخَّر جعفر، وقد أربد وجهه واصفرَّ)(105).
ويمكن بيان وجه إثبات هذا الموقف لإمامته (عليه السلام) من خلال أمرين:
الأمر الأوَّل: أنَّ نفس إقدامه على الصلاة على أبيه دليل على إمامته؛ لأنَّ الإمام لا يلي أمره إلَّا إمام.
الأمر الثاني: مقارنة صلاته لبعض العلامات الغيبية، كالصعقة التي أُصيب بها عمُّه جعفر لمَّا رآه فأربد وجهه واصفرَّ دون أن ينطق بكلمة واحدة، وهيمنته على الحاضرين من المشيِّعين مع وجود الجلاوزة والسلطان.
وما جاء في نفس الرواية المتقدِّمة ممَّا يشير إلى أنَّ الإمام العسكري (عليه السلام) قد هيَّأ بعض خواصّه لمثل هذا الموقف، وأعطاهم علامات تدلُّ على إمامة من يُصلّي عليه وهو ولده الحجَّة (عليه السلام)، فقد جاء في رواية الصدوق (قدّس سرّه):
وحدَّث أبو الأديان، قال: كنت أخدم الحسن بن عليِّ بن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(105) كمال الدين: 475 و476/ باب 43/ ذيل الحديث 25.

(٨٩)

طالب (عليهم السلام)، وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت عليه في علَّته التي توفّي فيها صلوات الله عليه، فكتب معي كتباً، وقال: «امض بها إلى المدائن، فإنَّك ستغيب خمسة عشر يوماً، وتدخل إلى سُرَّ من رأى يوم الخامس عشر، وتسمع الواعية في داري، وتجدني على المغتسل».
قال أبو الأديان: فقلت: يا سيِّدي، فإذا كان ذلك فمن؟
قال: «من طالبك بجوابات كتبي، فهو القائم من بعدي».
فقلت: زدني.
فقال: «من يُصلّي عليَّ، فهو القائم بعدي».
فقلت: زدني.
فقال: «من أخبر بما في الهميان، فهو القائم بعدي».
ثمّ منعتني هيبته أن أسأله عمَّا في الهميان.
وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها، ودخلت سُرَّ من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي (عليه السلام)، فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن عليٍّ أخيه بباب الدار والشيعة من حوله يُعزّونه ويُهنّونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة؛ لأنّي كنت أعرفه يشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق، ويلعب بالطنبور...
إلى أن يقول: فتقدَّم الصبي، وصلّى عليه، ودُفِنَ إلى جانب قبر أبيه (عليهما السلام)، ثمّ قال: «يا بصري، هاتِ جوابات الكتب التي معك».
فدفعتها إليه، فقلت في نفسي: هذه بيِّنتان بقي الهميان، ثمّ خرجت إلى جعفر بن عليٍّ وهو يزفر، فقال له حاجز الوشّاء: يا سيِّدي، من الصبي؟ لنقيم الحجَّة عليه.

(٩٠)

فقال: والله ما رأيته قطّ، ولا أعرفه.
فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)، فعرفوا موته، فقالوا: فمن (نُعزّي)؟
فأشار الناس إلى جعفر بن عليٍّ، فسلَّموا عليه وعزّوه وهنّوه، وقالوا: إنَّ معنا كتباً ومالاً، فتقول ممن الكتب؟ وكم المال؟
فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منّا أن نعلم الغيب.
قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان (وفلان)، وهميان فيه ألف دينار، وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال، وقالوا: الذي وجَّه بك لأخذ ذلك هو الإمام(106).
وتجدر الإشارة هنا أنَّ الرواية لم تُبيِّن من الذي تولّى غسل الإمام العسكري (عليه السلام)؛ بل غاية ما فيها أنَّهم جاؤوا للصلاة عليه (عليه السلام) ووجدوه مغسَّلاً مكفَّناً؛ ولكنَّنا لا نحتاج إلى دليل خاصّ يشير إلى حيثية تولي الغُسل، فقد ثبت عندنا بأدلَّة أُخرى أنَّ الإمام لا يلي غُسله إلَّا إمام مثله(107).
الطريق الثاني:
لقاؤه بجماعة من الثقاة، والذين أوصلهم الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في كمال الدين إلى ثمانية وستّين شخصاً، وأضاف إليهم المحدِّث النوري آخرين، فأوصلهم في كتابه (النجم الثاقب) إلى ثلاثمائة وأربعة أشخاص.
ومن جملة لقاءاته لقاؤه بعيسى الجوهري في سنة (268هـ)، قال العلَّامة المجلسي (قدّس سرّه):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(106) المصدر السابق.
(107) عقد الشيخ الكليني (قدّس سرّه) باباً كاملاً في الجزء الأوَّل من الكافي الشريف سمّاه: (باب أنَّ الإمام لا يُغسِّله إلَّا إمام من الأئمَّة (عليهم السلام)).

(٩١)

(وروي في بعض تأليفات أصحابنا عن الحسين بن حمدان، عن أبي محمّد عيسى بن مهدي الجوهري، قال: خرجت في سنة ثمان وستّين ومائتين إلى الحجِّ، وكان قصدي المدينة، حيث صحَّ عندنا أنَّ صاحب الزمان قد ظهر، فاعتللت، وقد خرجنا من فيد، فتعلَّقت نفسي بشهوة السمك والتمر، فلمَّا وردت المدينة ولقيت بها إخواننا بشَّروني بظهوره (عليه السلام) بصابر.
فصرت إلى صابر، فلمَّا أشرفت على الوادي رأيت عنيزات عجافاً، فدخلت القصر، فوقفت أرقب الأمر إلى أن صلَّيت العشائين، وأنا أدعو وأتضرَّع وأسأل، فإذا أنا ببدر الخادم يصيح بي: يا عيسى بن مهدي الجوهري اُدخل، فكبَّرت وهلَّلت وأكثرت من حمد الله (عزَّ وجلَّ) والثناء عليه.

فلمَّا صرت في صحن القصر رأيت مائدة منصوبة، فمرَّ بي الخادم إليها فأجلسني عليها وقال لي: مولاك يأمرك أن تأكل ما اشتهيت في علَّتك وأنت خارج من فيد.
فقلت: حسبي بهذا برهاناً، فكيف آكل ولم أرَ سيِّدي ومولاي؟
فصاح: يا عيسى، كُلْ من طعامك فإنَّك تراني.
فجلست على المائدة، فنظرت فإذا عليها سمك حار يفور، وتمر إلى جانبه أشبه التمور بتمورنا، وبجانب التمر لبن، فقلت في نفسي: عليل وسمك وتمر ولبن، فصاح بي: يا عيسى، أتشكُّ في أمرنا؟ أفأنت أعلم بما ينفعك ويضرّك؟
فبكيت واستغفرت الله تعالى، وأكلت من الجميع، وكلَّما رفعت يدي منه لم يتبيَّن موضعها فيه، فوجدته أطيب ما ذقته في الدنيا، فأكلت

(٩٢)

منه كثيراً حتَّى استحييت، فصاح بي: لا تستحي يا عيسى؛ فإنَّه من طعام الجنَّة، لم تصنعه يد مخلوق، فأكلت، فرأيت نفسي لا ينتهي عنه من أكله.
فقلت: يا مولاي حسبي.
فصاح بي: أقبل إليَّ.
فقلت في نفسي: آتي مولاي ولم أغسل يدي.
فصاح بي: يا عيسى، وهل لما أكلت غمر؟
فشممت يدي وإذا هي أعطر من المسك والكافور، فدنوت منه (عليه السلام)، فبدا لي نور غشي بصري، ورهبت حتَّى ظننت أنَّ عقلي قد اختلط، فقال لي: يا عيسى، ما كان لك أن تراني لولا المكذِّبون القائلون بأين هو؟ ومتى كان؟ وأين وُلِدَ؟ ومن رآه؟ وما الذي خرج إليكم منه؟ وبأيِّ شيء نبَّأكم؟ وأيُّ معجز أتاكم؟ أمَا والله لقد دفعوا أمير المؤمنين مع ما رووه وقدَّموا عليه، وكادوه وقتلوه، وكذلك آبائي (عليهم السلام) ولم يُصدِّقوهم ونسبوهم إلى السحر وخدمة الجنِّ إلى ما تبيَّن.
يا عيسى، فخبِّر أولياءنا ما رأيت، وإيّاك أن تُخبِر عدوَّنا فتسلبه.
فقلت: يا مولاي، اُدع لي بالثبات.
فقال: لو لم يُثبِّتك الله ما رأيتني، وامض بنجحك راشداً.
فخرجت أُكثر حمداً لله وشكراً)(108).
ولعلَّك تسأل: هل اللقاء به (عليه السلام) ميسور لكلِّ أحد؟
والجواب: لا بدَّ من إيضاح أمرين:
الأمر الأوَّل: أنَّ الذي يريد الالتقاء بالإمام (عليه السلام) لا بدَّ وأن يكون على درجة عالية من الوثاقة والإيمان، وأمَّا الذي امتلأ ذنوباً فلا شكَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(108) بحار الأنوار 52: 68 - 70/ ح 54.

(٩٣)

أنَّ ذنوبه تكون حاجباً عن رؤية الإمام (عليه السلام). ومن هنا نعلم خطأ ما يتداوله البعض من أنَّك لو قمت بعمل من الأعمال فإنَّك ستتشرَّف بلقاء الإمام (عليه السلام)، فإنَّ لقاء الإمام (عليه السلام) ليس شرعة لكلِّ وارد.
ولأُستاذنا المرجع الديني الكبير الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلُّه الوارف) كلمة قيِّمة في هذا الشأن حيث يقول: (إنَّ الإنسان الذي يريد أن تسطع عليه أشعَّة الشمس لا بدَّ وأن يبرز لها ويكون خارج الدار، وأمَّا الذي يجلس داخل الدار محاطاً بجدرانها فإنَّ أشعَّة الشمس لا تصل إليه، هكذا الحال في ألطاف الإمام صاحب العصر والزمان (عليه السلام) فضلاً عن لقائه، فهو شمس هذه الأرض التي تشرق أنوارها على القلوب، فمن أراد أن تشرق عليه أشعَّة شمس الإمام (عليه السلام) فلا بدَّ وأن يغادر جدران الحجب والذنوب حتَّى تشرق عليه شمس الإمام (عليه السلام)).
الأمر الثاني: لا بدَّ من التفريق بين أمرين: أحدهما لقاء الإمام، والآخر القرب منه. أمَّا الأوَّل فهو محكوم بالمصالح الغيبية التي يعرفها الإمام (عليه السلام). وأمَّا الثاني فيُحدِّده المؤمن بعمله الصالح وبعده عن المعاصي.
وملخَّص الوظيفة التي ينبغي للمؤمن أن يقوم بها ليكون قريباً من إمامه هو امتثاله للأوامر والنواهي الإلهيَّة.
ولك أن تقول: طبِّق أيّها المؤمن ما في الرسالة العملية للفقيه الجامع الذي تُقلِّده، فإذا استطاع المؤمن في جميع شؤونه أن ينقاد لمرجع التقليد الذي قلَّده، فهذا يعني أنَّه انقاد إلى الشريعة الدينية، وهذا هو عين القرب من الإمام (عليه السلام).
الطريق الثالث: التوقيعات:
وتُعَدُّ التوقعيات الصادرة من إنجازات الإمام المهدي (عليه السلام)،

(٩٤)

وسيأتي الكلام في التوقعيات وأقسامها، فكانت شاملة لجوانب عديدة على حسب نوعية السؤال الذي وُجِّه له (عليه السلام)، فنجد أنَّ الإمام (عليه السلام) تعرَّض للمسائل العقائدية والفقهية وغيرهما من قبيل بيان حال بعض الأشخاص من ناحية وثاقتهم أو انحرافهم.
ومن مميِّزات التوقيعات الصادرة أنَّها تُثبِت وجود الإمام المهدي (عليه السلام) وإمامته؛ إذ إنَّ هذه التوقيعات التي تصدر من السفراء تكون بخطِّ الإمام المهدي (عليه السلام)، ووجه إثبات خطِّه لوجوده المبارك الميمون هو أنَّ خطَّ الإمام (عليه السلام) هو نفس الخطُّ الذي كان معروفاً في زمن أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فلمَّا تصل تلك التوقيعات إلى السفراء وغيرهم يجدون أنَّها مطابقة للخطِّ الذي كان يصدر في حياة أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وبذلك يزيد اطمئنان شيعته بوجوده المقدَّس، وبصدور هذه التوقيعات الشريفة منه.
وممَّا يدلُّ عليه كلمة شيخ الطائفة (قدّس سرّه) في كتابه الغيبة: (وكانت توقيعات صاحب الأمر (عليه السلام) تخرج على يدي عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان إلى شيعته وخواصّ أبيه أبي محمّد (عليه السلام)، بالأمر والنهي والأجوبة عمَّا يسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلى السؤال فيه، بالخطِّ الذي كان يخرج في حياة الحسن (عليه السلام))(109).
وهذه التوقيعات الشريفة مع كونها كاشفة عن وجود الإمام المهدي (عليه السلام)، فهي أيضاً تُبيِّن للشيعة ما احتاجوه من مسائل وقضايا، وتوجد شواهد كثيرة على إنجازات الإمام المهدي (عليه السلام) من خلال التوقيعات التي كشف بها المعضلات للشيعة، وبيَّن لهم ما احتاجوه وما سيحتاجونه في تالي الأزمان، وسيأتي ذكر ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(109) الغيبة للطوسي: 356.

(٩٥)

الدور الرابع: قضاؤه لحوائج المؤمنين:
وممَّا لا شكَّ فيه للمطَّلع على الأخبار أنَّ قضاء حوائج المؤمنين هو في نفسه مبدأ إيماني وإسلامي مرغوب فيه(110)، لذلك لا يستغرب أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يقوم بهذه الخدمات بنفسه، ويقضي حوائج الناس والمحتاجين، فهي من أعظم العبادات والقربات؛ ولكن بما أنَّه يعيش في غيبة عن الناس ولا يتَّصل بهم، فيكون ذلك عبر طرق، وقد تقتضي المصلحة أحياناً كون قضاء الحوائج بنفس اللقاء ونفس المواجهة.
ولك بعض النماذج التي ذكرها الأعلام المتقدِّمون من آيات ومعجزات وإنجازات الإمام المهدي (عليه السلام) في عصر الغيبة الصغرى:
ما نقله الشيخ المفيد (قدّس سرّه):
الحادثة الأُولى: القاسم بن العلاء، قال: وُلِدَ لي عدَّة بنين، فكنت أكتب وأسأل الدعاء لهم، فلا يُكتَب إليَّ بشيء من أمرهم، فماتوا كلُّهم، فلمَّا ولد لي الحسين - ابني - كتبت أسأل الدعاء له، فأُجبت، فبقي والحمد لله(111).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(110) ودفعاً لما يتوهَّمه بعضهم من تسخيف قضاء الإمام المهدي (عليه السلام) لحوائج المؤمنين، بقوله: إنَّ قضاء الحوائج لا فائدة منه، وليس أمراً عظيماً حتَّى يتفرَّغ له الإمام (عليه السلام) ويقضي حاجة فلان وفلان، نذكر شيئاً من أحاديثهم الشريفة العطرة الحاثَّة على عظم السعي في قضاء حوائج المؤمنين:
الحديث الأوَّل: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قضاء حاجة المؤمن خير من عتق ألف رقبة وخير من حملان ألف فرس في سبيل الله».
الحديث الثاني: عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لقضاء حاجة امرء مؤمن أحبُّ إلى [الله] من عشرين حجَّة كلُّ حجَّة ينفق فيها صاحبها مائة ألف».
ومن أراد الرجوع إلى الروايات في هذا الشأن فليراجع الكافي الشريف 2: 192 - 196/ باب قضاء حاجة المؤمن.
(111) الإرشاد 2: 356 و357.

(٩٦)

الحادثة الثانية: عليُّ بن محمّد، عن أبي عبد الله بن صالح، قال: خرجت سنة من السنين إلى بغداد، واستأذنت في الخروج فلم يُؤذَن لي، فأقمت اثنين وعشرين يوماً بعد خروج القافلة إلى النهروان، ثمّ أُذِنَ لي بالخروج يوم الأربعاء، وقيل لي «اُخرج فيه»، فخرجت وأنا آيس من القافلة أن ألحقها، فوافيت النهروان والقافلة مقيمة، فما كان إلَّا أن علفت جملي حتَّى رحلت القافلة فرحلت، وقد دعي لي بالسلامة فلم ألقَ سوءاً، والحمد لله(112).
الحادثة الثالثة: عليُّ بن محمّد، عن نصر بن صباح البلخي، عن محمّد بن يوسف الشاشي، قال: خرج بي ناسور(113)، فأريته الأطباء، وأنفقت عليه مالاً عظيماً فلم يصنع الدواء فيه شيئاً، فكتبت رقعة أسأل الدعاء، فوقَّع إليَّ: «ألبسك الله العافية، وجعلك معنا في الدنيا والآخرة»، فما أتت عليَّ جمعة حتَّى عوفيت، وصار الموضع مثل راحتي، فدعوت طبيباً من أصحابنا وأريته إيّاه، فقال: ما عرفنا لهذا دواء، وما جاءتك العافية إلَّا من قبل الله بغير احتساب(114).
الحادثة الرابعة: عليُّ بن محمّد، عن عليِّ بن الحسين اليماني، قال: كنت ببغداد فتهيَّأت قافلة لليمانيين، فأردت الخروج معهم، فكتبت ألتمس الإذن في ذلك، فخرج: «لا تخرج معهم، فليس لك في الخروج معهم خيرة، وأقم بالكوفة»، قال: فأقمت، وخرجت القافلة، فخرجت عليهم بنو حنظلة فاجتاحتهم. قال: وكتبت أستأذن في ركوب الماء فلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(112) الإرشاد 2: 357.
(113) الناسور: عرق لا ينقطع ضرره، حوالي المقعدة. (اُنظر: القاموس المحيط 2: 141/ مادَّة نسر).
(114) الإرشاد 2: 357 و358.

(٩٧)

يُؤذَن لي، فسألت عن المراكب التي خرجت تلك السنة في البحر، فعرفت أنَّه لم يسلم منها مركب، خرج عليها قوم يقال لهم: البوارج فقطعوا عليها(115).
وقال بعد الانتهاء من ذكر الدلائل والآيات التي صدرت من الإمام الحجَّة (عليه السلام): (والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي موجودة في الكتب المصنَّفة المذكورة فيها أخبار القائم (عليه السلام)، وإن ذهبت إلى إيراد جميعها طال بذلك هذا الكتاب، وفيما أثبتُّه منها مقنع، والمنَّة لله)(116).
ما نقله الشيخ الطوسي (قدّس سرّه):
الحادثة الأُولى: أخبرني جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن عليِّ بن الحسين بن موسى بن بابويه، قال: حدَّثني جماعة من أهل بلدنا المقيمين كانوا ببغداد في السنة التي خرجت القرامطة على الحاجِّ، وهي سنة تناثر الكواكب أنَّ والدي (رضي الله عنه) كتب إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) يستأذن في الخروج إلى الحجِّ. فخرج في الجواب: «لا تخرج في هذه السنة»، فأعاد فقال: هو نذر واجب، أفيجوز لي القعود عنه؟ فخرج الجواب: «إن كان لا بدَّ فكن في القافلة الأخيرة»، فكان في القافلة الأخيرة، فسلم بنفسه، وقُتِلَ من تقدَّمه في القوافل الأُخر(117).
الحادثة الثانية: أخبرني جماعة، عن أبي غالب أحمد بن محمّد الزراري، قال: جرى بيني وبين والدة أبي العبّاس - يعني ابنه - من الخصومة والشرِّ أمر عظيم ما لا يكاد أن يتَّفق، وتتابع ذلك وكثر إلى أن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(115) الإرشاد 2: 358.
(116) الإرشاد 2: 367.
(117) الغيبة للطوسي: 322/ ح 270.

(٩٨)

ضجرت به، وكتبت على يد أبي جعفر أسأل الدعاء، فأبطأ عنّي الجواب مدَّة، ثمّ لقيني أبو جعفر فقال: قد ورد جواب مسألتك، فجئته فأخرج إليَّ مدرجاً فلم يزل يدرجه إلى أن أراني فصلاً منه، فيه: «وأمَّا الزوج والزوجة فأصلح الله بينهما»، فلم تزل على حال الاستقامة ولم يجر بيننا بعد ذلك شيء ممَّا كان يجري، وقد كنت أتعمَّد ما يُسخِطها فلا يجري [فيه] منها شيء، هذا معنى لفظ أبي غالب (رضي الله عنه) أو قريب منه(118).
ما نقله الشيخ الصدوق (قدّس سرّه):
عن محمّد بن محمّد الأشعري، عن أبي سعيد غانم بن سعيد الهندي، قال: كنت عند ملك الهند في قشمير الداخلة، ونحن أربعون رجلاً نقعد حول كرسي الملك، وقد قرأنا التوراة والإنجيل والزبور، يفزع إلينا في العلم، فتذاكرنا يوماً محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) وقلنا: نجده في كتبنا، فاتَّفقنا على أن أخرج في طلبه وأبحث عنه، فخرجت ومعي مال، فقطع عليَّ الترك وشلحوني، فوقعت إلى كابل، وخرجت من كابل إلى بلخ والأمير بها ابن أبي شور، فأتيته وعرَّفته ما خرجت له، فجمع الفقهاء والعلماء لمناظرتي، فسألتهم عن محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فقال: هو نبيّنا محمّد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وقد مات.
فقلت: ومن كان خليفته؟
فقالوا: أبو بكر.
فقلت: انسبوه لي، فنسبوه إلى قريش.
فقلت: ليس هذا بنبيٍّ، إنَّ النبيَّ الذي نجده في كتبنا خليفته ابن عمِّه وزوج ابنته وأبو ولده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(118) الغيبة للطوسي: 323 و324/ ح 272.

(٩٩)

فقالوا للأمير: إنَّ هذا قد خرج من الشرك إلى الكفر، فمُرْ بضرب عنقه.
فقلت لهم: أنا متمسِّك بدين ولا أدعه إلَّا ببيان.
فدعا الأمير الحسين بن إسكيب، وقال له: يا حسين، ناظر الرجل.
فقال: العلماء والفقهاء حولك، فمُرْهم بمناظرته.
فقال له: ناظره كما أقول لك، واخلُ به، وألطف له.
فقال: فخلا بي الحسين، وسألته عن محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم).
فقال: هو كما قالوه لك، غير أنَّ خليفته ابن عمِّه عليُّ بن أبي طالب، وهو زوج ابنته فاطمة، وأبو ولده الحسن والحسين.
فقلت: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأنَّه رسول الله. وصرت إلى الأمير فأسلمت، فمضى بي إلى الحسين، ففقَّهني.
فقلت له: إنّا نجد في كتبنا أنَّه لا يمضي خليفة إلَّا عن خليفة، فمن كان خليفة عليٍّ (عليه السلام)؟
قال: الحسن، ثمّ الحسين. ثمّ سمّى الأئمَّة واحداً واحداً حتَّى بلغ الحسن بن عليٍّ، ثمّ قال لي: تحتاج أن تطلب خليفة الحسن وتسأل عنه.
فخرجت في الطلب.
قال محمّد بن محمّد: ووافى معنا بغداد، فذكر لنا أنَّه كان معه رفيق قد صحبه على هذا الأمر، فكره بعض أخلاقه، ففارقه.
قال: فبينما أنا يوماً وقد تمسَّحت في الصراة وأنا مفكِّر فيما خرجت له إذ أتاني آتٍ وقال لي: أجب مولاك، فلم يزل يخترق بي المحال حتَّى أدخلني داراً وبستاناً، وإذا بمولاي (عليه السلام) قاعد، فلمَّا نظر إلىَّ كلَّمني بالهندية، وسلَّم عليَّ، وأخبرني عن اسمي، وسألني عن الأربعين رجلاً بأسمائهم عن اسم رجل رجل، ثمّ قال لي: «تريد الحجَّ مع أهل قم في

(١٠٠)

هذه السنة؟ فلا تحجُّ في هذه السنة وانصرف إلى خراسان وحُجْ من قابل».
قال: ورمى إلىَّ بصرَّة وقال: «اجعل هذه في نفقتك، ولا تدخل في بغداد إلى دار أحد، ولا تُخبِر بشيء ممَّا رأيت».
قال محمّد: فانصرفنا من العقبة ولم يقض لنا الحجّ، وخرج غانم إلى خراسان وانصرف من قابل حاجّاً، فبعث إلينا بألطاف ولم يدخل قم، وحجَّ وانصرف إلى خراسان، فمات (رحمه الله) بها(119).
ومن عظيم عبارات السيِّد مهدي بحر العلوم (رحمه الله) في وصف الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) وذكر صدور دعاء الحجَّة (عليه السلام) له:
(أبو جعفر شيخ مشايخ الشيعة، وركن من أركان الشريعة، رئيس المحدِّثين، والصدوق فيما يرويه عن الأئمَّة الصادقين (عليهم السلام). وُلِدَ بدعاء صاحب الأمر والعصر (عليه السلام)، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر، ووصفه الإمام (عليه السلام) في التوقيع الخارج من الناحية المقدَّسة بأنَّه: فقيه خير مبارك ينفع الله به. فعمَّت بركته الأنام، وانتفع به الخاصُّ والعامُّ، وبقيت آثاره ومصنَّفاته مدى الأيّام، وعمَّ الانتفاع بفقهه وحديثه فقهاء الأصحاب، ومن لا يحضره الفقيه من العوامِّ.
ذكره علماء الفنِّ وقالوا: شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان. جليل القدر بصير بالفقه والرجال، ناقد للأخبار، حفظه، لم يُرَ في القمّيين مثله في حفظه ووسعة علمه وكثرة تصانيفه)(120).
ونحن في هذا الزمان أيضاً نتوسَّل بصاحب العصر والزمان (عليه السلام)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(119) كمال الدين: 437 - 439/ باب 43/ ح 6.
(120) الفوائد الرجالية 3: 292 - 296.

(١٠١)

ونطلب منه قضاء حوائجنا، وهو يُلبّي ذلك؛ ولكن الذي ينبغي أن نُلفِت الأذهان إليه هو أنَّ الجدير بالمؤمن أن لا يقتصر في طلب الحاجة من الإمام (عليه السلام) على الحاجات الدنيوية، فطلبها وإن كان شيئاً جيِّداً إلَّا أنَّ همَّ المؤمن ينبغي أن يكون أعلى من ذلك، فيجدر بالمؤمن أن يطلب من الإمام (عليه السلام) الحاجات الدينية التي تنفعه في دينه وآخرته.

* * *

(١٠٢)

المبحث الثالث: السفارة والوكالة في عصر الغيبة الصغرى
وحتَّى يتَّضح دور السفارة والوكالة في عصر الغيبة الصغرى لا بدَّ من بيان ذلك من خلال أُمور:
الأمر الأوّل: الفرق بين السفارة والوكالة:
قبل الشروع في دور السفارة والوكالة في عصر الغيبة الصغرى، نُبيِّن الفرق بين السفير والوكيل في خصوص هذه الغيبة، فإنَّ من الملاحظ أنَّ السفير يختلف عن الوكيل.
ويمكن بيان جهة الاختلاف بينهما في جهتين:
الجهة الأُولى: مباشرة التلقّي من الإمام المهدي (عليه السلام):
فالسفير يتلقّى الأوامر من الإمام المهدي (عليه السلام) من خلال الاتِّصال المباشر به بأيِّ نحو كان ذلك الاتِّصال، بينما الوكيل قد لا يلتقي؛ بل لا يتَّصل مباشرةً بالإمام المهدي (عليه السلام)، وإنَّما قد تكون مهمَّته الأخذ من السفير الذي هو بنفسه يتلقّى الأوامر والتوجيهات بنحو المباشرة.
الجهة الثانية: المهامّ والوظائف المطلوبة:
ومن الواضح أنَّ مهامّ ووظائف كلٍّ منهما تختلف عن الآخر، فالسفير مهمَّته أشمل وأعمّ من الوكيل، إذ يشترط أن تكون مهمَّة السفير مهمَّة المرجعية

(١٠٣)

العامَّة، في حين أنَّنا لا نرى هذا الشرط للوكيل؛ بل قد نجد للوكيل وظائف معيَّنة خاصَّة يقوم بها، أو يكون لبلد أو في بلد خاصٍّ. وأيضاً لوحظ ممَّا سبق أنَّ السفير ليست مرجعيته لعامَّة الناس فقط؛ بل حتَّى للوكيل نفسه، فإذا احتاج الوكيل أمراً ما قصد سفير الإمام (عليه السلام).
فنتيجة ذلك: أنَّ السفير هو النائب الخاصّ للإمام (عليه السلام)، الذي يتلقّى مباشرةً منه، ويكون مرجعاً للأُمَّة في ظلِّ غياب إمامهم، ولا يُشتَرط ذلك في الوكيل. وكلُّ سفير وكيل، وليس كلُّ وكيل سفيراً. وللوكلاء مجالاتهم الخاصَّة، فقد يتواجدون في ناحية معيَّنة، وليسوا لعموم الناس، بخلاف السفير الذي ليس له مجال خاصّ، ولا لفئة دون فئة؛ بل يكون مرجعاً عامّاً للناس.
الأمر الثاني: نشأة السفارة والوكالة:
كانت مسألة الوكالة والتوكيل قديمة النشأة، أي قبل عصر الغيبة، ومنذ زمن آبائه الطاهرين (عليهم السلام)، فإنَّهم كانوا يُعيِّنون وكلاء في بقاع الأرض، لقبض الحقوق الشرعية وغيرها من الوظائف الدينية. واستمرَّت الوكالة في زمن الإمام المهدي (عليه السلام)، فالإمام (عليه السلام) كان يوكل إليهم أدواراً متفاوتة سعةً وضيقاً. وأمَّا بالنسبة إلى السفارة فهي مستحدثة في عصر الغيبة الصغرى، بمعنى أنَّها لم تكن في زمن الأئمَّة السابقين (عليهم السلام) على الإمام الحجَّة (عليه السلام)؛ ولكنَّها استحدثت في زمن الغيبة لحاجة الشيعة إليها.
الأمر الثالث: منشأ الحاجة إلى السفراء:
إنَّ المرجع العامّ للشيعة؛ بل لعموم المسلمين لو تمسَّكوا بالثقلين هم الأئمَّة (عليهم السلام)؛ وكانت الشيعة الإماميَّة ترجع إليهم حال حضورهم، وكان بإمكان

(١٠٤)

الوكلاء وغيرهم الرجوع إليهم، والاتِّصال بهم متى ما أرادوا وبأيِّ صورة كانت إلَّا في ظروف عصيبة تمنع الإمام (عليه السلام) من اللقاء بعامَّة الشيعة وفتح الباب لهم، فيقتصر الإمام (عليه السلام) على اللقاء بالبعض بطريقة ما.
وعلى كلِّ حالٍ فالإمام كان حاضراً ظاهراً، فلا حاجة لوكيل خاصّ أو نائب عامّ ينوب عنه، وأمَّا في زمن الغيبة الصغرى فالناس لا يستطيعون اللقاء بالإمام (عليه السلام) لظروف الغيبة، فلذلك اقتضى غياب الإمام (عليه السلام) وعدم حضوره بين أظهرهم أن يُعيِّن لهم سفيراً ويوجِد لهم هذا المنصب ليرجع إليه الناس. وقد اعتادوا أن يكون الإمام واحداً في كلِّ عصر، فكذلك كان حال السفير، ويكون تحته عدَّة وكلاء منتشرين في مختلف البلدان.
الأمر الرابع: سفراء الإمام (عليه السلام) وعددهم:
أمَّا عدد السفراء فأربعة:
أوَّلهم: عثمان بن سعيد العمري (قدّس سرّه):
وهو أوَّل السفراء الأجلّاء، وهو المُنصَّب من قِبَل الإمام الهادي والإمام العسكري (عليهما السلام)، قال عنه شيخ الطائفة الطوسي (قدّس سرّه):
(فأوَّلهم: من نصبه أبو الحسن عليُّ بن محمّد العسكري وأبو محمّد الحسن بن عليِّ بن محمّد ابنه (عليهم السلام)، وهو الشيخ الموثوق به أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري (رحمه الله))(121).
سبب تسميته بالعمري، والعسكري، والسمّان:
يقول الشيخ الطوسي (قدّس سرّه): (وكان أسدياً وإنَّما سُمّي العمري لما رواه أبو نصر هبة الله بن محمّد بن أحمد الكاتب ابن بنت أبي جعفر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(121) الغيبة للطوسي: 353.

(١٠٥)

العمري (رحمه الله)، قال أبو نصر: كان أسدياً فنُسِبَ إلى جدِّه، فقيل: العمري، وقد قال قوم من الشيعة: إنَّ أبا محمّد الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) قال: «لا يُجمَع على امرئ بين عثمان وأبو عمرو»، وأمر بكسر كنيته، فقيل: العمري.
ويقال له: العسكري أيضاً؛ لأنَّه كان من عسكر سُرَّ من رأى.
ويقال له: السمّان؛ لأنَّه كان يتَّجر في السمن تغطيةً على الأمر.
وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمّد (عليه السلام) ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلى أبي عمرو، فيجعله في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلى أبي محمّد (عليه السلام) تقيَّةً وخوفاً)(122).
وثاقته وجلالته:
عن أحمد بن إسحاق بن سعد القمّي، قال: دخلت على أبي الحسن عليِّ بن محمّد صلوات الله عليه في يوم من الأيّام فقلت: يا سيِّدي، أنا أغيب وأشهد، ولا يتهيَّأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كلِّ وقت، فقول من نقبل؟ وأمر من نمتثل؟ فقال لي صلوات الله عليه: «هذا أبو عمرو الثقة الأمين، ما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّيه».
فلمَّا مضى أبو الحسن (عليه السلام) وصلت إلى أبي محمّد ابنه الحسن العسكري (عليه السلام) ذات يوم، فقلت له (عليه السلام) مثل قولي لأبيه، فقال لي: «هذا أبو عمرو الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات، فما قاله لكم فعنّي يقوله، وما أدّى إليكم فعنّي يؤدّيه».
قال أبو محمد هارون: قال أبو عليّ: قال أبو العبّاس الحميري: فكنا كثيراً ما نتذاكر هذا القول ونتواصف جلالة محلِّ أبي عمرو(123).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(122) الغيبة للطوسي: 353 و354.
(123) الغيبة للطوسي: 354 355/ ح 315.

(١٠٦)

وعن محمّد بن إسماعيل وعليِّ بن عبد الله الحسنيان، قالا: دخلنا على أبي محمّد الحسن (عليه السلام) بسُرَّ من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته، حتَّى دخل عليه بدر خادمه، فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: «هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن»، في حديث طويل يسوقانه إلى أن ينتهي إلى أن قال الحسن (عليه السلام) لبدر: «فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري»، فما لبثنا إلَّا يسيراً حتَّى دخل عثمان، فقال له سيِّدنا أبو محمّد (عليه السلام): «امض يا عثمان، فإنَّك الوكيل والثقة المأمون على مال الله، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال».
ثمّ ساق الحديث إلى أن قالا: ثمّ قلنا بأجمعنا: يا سيِّدنا، والله إنَّ عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك، وأنَّه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى.
قال: «نعم، واشهدوا على أنَّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي، وأنَّ ابنه محمّداً وكيل ابني مهديكم»(124).
وفاته:
جاء في كتاب الغيبة: (وكانت توقيعات صاحب الأمر (عليه السلام) تخرج على يدي عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان إلى شيعته وخواصّ أبيه أبي محمّد (عليه السلام) بالأمر والنهي والأجوبة عمَّا يسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلى السؤال فيه بالخطِّ الذي كان يخرج في حياة الحسن (عليه السلام)، فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالتهما إلى أن توفّي عثمان بن سعيد رحمه الله ورضي عنه، وغسَّله ابنه أبو جعفر، وتولّى القيام به، وحصل الأمر كلّه مردوداً إليه، والشيعة مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته، لما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(124) الغيبة للطوسي: 355 و356/ ح 317.

(١٠٧)

تقدَّم له من النصِّ عليه بالأمانة والعدالة والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن (عليه السلام) وبعد موته في حياة أبيه عثمان رحمة الله عليه)(125).
ثانيهم: محمّد بن عثمان بن سعيد العمري (قدّس سرّه):
وهو ثاني السفراء الأجلّاء، والذي خرج توقيع صاحب العصر (عليه السلام) في تأبين والده والنصِّ على سفارته:
قال عبد الله بن جعفر الحميري: وخرج التوقيع إلى الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري في التعزية بأبيه (رضي الله عنه) في فصل من الكتاب:
«إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، تَسْلِيماً لأمْرهِ وَرضَاءً بِقَضَائِهِ، عَاشَ أبُوكَ سَعِيداً وَمَاتَ حَمِيداً، فَرَحِمَهُ اللهُ وَألحَقَهُ بِأوْلِيَائِهِ وَمَوَالِيهِ (عليهم السلام)، فَلَمْ يَزَلْ مُجْتَهِداً فِي أمْرهِمْ، سَاعِياً فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) وَإِلَيْهِمْ، نَضَّرَ اللهُ وَجْهَهُ وَأقَالَهُ عَثْرَتَهُ».
وفي فصل آخر:
«أجْزَلَ اللهُ لَكَ الثَّوَابَ، وَأحْسَنَ لَكَ الْعَزَاءَ، رُزِئْتَ وَرُزِئْنَا، وَأوْحَشَكَ فِرَاقُهُ وَأوْحَشَنَا، فَسَرَّهُ اللهُ فِي مُنْقَلَبِهِ، وَكَانَ مِنْ كَمَالِ سَعَادَتِهِ أنْ رَزَقَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) وَلَداً مِثْلَكَ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ بِأمْرهِ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَأقُولُ: الحَمْدُ للهِ، فَإنَّ الأنْفُسَ طَيِّبَةٌ بِمَكَانِكَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيكَ وَعِنْدَكَ، أعَانَكَ اللهُ وَقَوَّاكَ وَعَضَدَكَ وَوَفَّقَكَ، وَكَانَ لَكَ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَرَاعِياً وَكَافِياً وَمُعِيناً»(126).
أيضاً جاء في النصِّ عليه ما نقله الشيخ الطوسي (قدّس سرّه): وأخبرني جماعة، عن هارون بن موسى، عن محمّد بن همّام، قال: قال لي عبد الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(125) الغيبة للطوسي: 356 و357.
(126) كمال الدين: 510/ باب 45/ ح 41.

(١٠٨)

بن جعفر الحميري: لمَّا مضى أبو عمرو رضي الله تعالى عنه أتتنا الكتب بالخطِّ الذي كنّا نكاتب به بإقامة أبي جعفر (رضي الله عنه) مقامه)(127).
وثاقته وجلالته:
قال شيخ الطائفة في غيبته: (عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو عند أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري القمّي، فغمزني أحمد [بن إسحاق] أن أسأله عن الخلف. فقلت له:... وقد أخبرنا أحمد بن إسحاق أبو عليّ، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته فقلت له: لمن أُعامل وعمَّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له: «العمري ثقتي، فما أدّى إليك فعنّي يؤدّي، وما قال لك فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنَّه الثقة المأمون».
قال: وأخبرني أبو عليّ أنَّه سأل أبا محمّد الحسن بن عليٍّ عن مثل ذلك، فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنَّهما الثقتان المأمونان»، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.
قال: فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى، ثمّ قال: سَلْ.
فقلت له: أنت رأيت الخلف من أبي محمّد (عليه السلام)؟
فقال: إي والله، ورقبته مثل ذا - وأومأ بيديه -.
فقلت له: فبقيت واحدة.
فقال لي: هاتِ.
قلت: فالاسم.
قال: محرَّم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(127) الغيبة للطوسي: 362 / ح 324.

(١٠٩)

وليس لي أن أُحلِّل وأُحرِّم، ولكن عنه (عليه السلام). فإنَّ الأمر عند السلطان أنَّ أبا محمّد (عليه السلام) مضى ولم يخلف ولداً، وقسَّم ميراثه وأخذه من لا حقَّ له، وصبر على ذلك، وهو ذا عياله يجولون وليس أحد يجسر أن يتعرَّف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك)(128).
وقد نقل الشيخ (قدّس سرّه) توقيعاً صدر عن صاحب العصر (عليه السلام) ترضّى فيه على محمّد بن عثمان (رحمه الله) ونصَّ على وثاقته؛ بل كونه في غاية الجلالة والوثاقة:
(وأخبرنا جماعة، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه وأبي غالب الزراري وأبي محمّد التلعكبري كلّهم، عن محمّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمّد بن عثمان العمري (رحمه الله) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ.
فوقع التوقيع بخطِّ مولانا صاحب الدار (عليه السلام) - وذكرنا الخبر فيما تقدَّم -: «وَأمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَمْريُّ فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أبِيهِ مِنْ قَبْلُ فَإنَّهُ ثِقَتِي وَكِتَابُهُ كِتَابِي»)(129).
وفاته:
توفي (عليه السلام) في آخر جمادى الأُولى سنة (305هـ)(130).
ثالثهم: أبو القاسم الحسين بن روح (قدّس سرّه):
وهو ثالث السفراء الأجلّاء (رضوان الله عليهم)، فقد نصَّ عليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(128) الغيبة للطوسي: 360 و361/ ح 322.
(129) الغيبة للطوسي: 362 / ح 326.
(130) راجع: الغيبة للطوسي: 366/ ح 334.

(١١٠)

السفير الثاني محمّد بن عثمان (قدّس سرّه) بأمر من الإمام المهدي (عليه السلام)، فعن جعفر بن أحمد بن متيل، قال: (لمَّا حضرت أبا جعفر محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) الوفاة كنت جالساً عند رأسه أسأله وأُحدِّثه، وأبو القاسم بن روح عند رجليه. فالتفت إليَّ ثمّ قال: أُمرت أن أُوصي إلى أبي القاسم الحسين بن روح. قال: فقمت من عند رأسه وأخذت بيد أبي القاسم وأجلسته في مكاني وتحوَّلت إلى عند رجليه)(131).
وعن أبي محمّد هارون بن موسى: (أخبرني أبو عليّ محمّد بن همّام رضي الله عنه وأرضاه أنَّ أبا جعفر محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه)، جمعنا قبل موته، وكنّا وجوه الشيعة وشيوخها. فقال لنا: إن حدث عليَّ حدث الموت، فالأمر إلى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي فقد أُمرت أن أجعله في موضعي بعدي فارجعوا إليه وعوِّلوا في أُموركم عليه)(132).
وثاقته وجلالته:
عن أبي نصر هبة الله بن محمّد، قال: حدَّثني خالي أبو إبراهيم جعفر بن أحمد النوبختي، قال: قال لي أبي أحمد بن إبراهيم وعمّي أبو جعفر عبد الله بن إبراهيم وجماعة من أهلنا يعني بني نوبخت: (إنَّ أبا جعفر العمري لمَّا اشتدَّت حاله اجتمع جماعة من وجوه الشيعة، منهم أبو عليّ بن همّام وأبو عبد الله بن محمّد الكاتب وأبو عبد الله الباقطاني وأبو سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي وأبو عبد الله بن الوجناء وغيرهم من الوجوه الأكابر، فدخلوا على أبي جعفر (رضي الله عنه)، فقالوا له: إن حدث أمر فمن يكون مكانك؟ فقال لهم: هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(131) الغيبة للطوسي: 370 / ح 339.
(132) الغيبة للطوسي: 371 / ح 341.

(١١١)

أبي بحر النوبختي القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر (عليه السلام) والوكيل [له] والثقة الأمين، فارجعوا إليه في أُموركم وعوِّلوا عليه في مهمّاتكم، فبذلك أُمرت وقد بلَّغت)(133).
وفاته:
توفّي (رحمه الله) سنة (326هـ)(134).
رابعهم: عليُّ بن محمّد السمري (قدّس سرّه):
وهو آخر السفراء الأجلّاء (رضوان الله تعالى عليهم)، وبعد رحليه إلى الرفيق الأعلى انقطعت السفارة، وجاء زمن الغيبة الكبرى، يقول الشيخ الطوسي (قدّس سرّه):
(فلمَّا مات عثمان بن سعيد أوصى إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان (رحمه الله)، وأوصى أبو جعفر إلى أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه)، وأوصى أبو القاسم إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد السمري (رضي الله عنه)، فلمَّا حضرت السمري الوفاة سُئِلَ أن يوصي، فقال: (لله أمر هو بالغه)، فالغيبة التامَّة هي التي وقعت بعد مضيِّ السمري (رضي الله عنه).
وأخبرني محمّد بن محمّد بن النعمان والحسين بن عبيد الله، عن أبي عبد الله محمّد بن أحمد الصفواني، قال: أوصى الشيخ أبو القاسم (رضي الله عنه) إلى أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري (رضي الله عنه)، فقام بما كان إلى أبي القاسم.
فلمَّا حضرته الوفاة حضرت الشيعة عنده وسألته عن الموكَّل بعده ولمن يقوم مقامه، فلم يُظهِر شيئاً من ذلك، وذكر أنَّه لم يُؤمَر بأن يوصي إلى أحد بعده في هذا الشأن)(135).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(133) الغيبة للطوسي: 371 و372/ ح 342.
(134) حياة الإمام المهدي (عليه السلام) للقرشي: 130.
(135) الغيبة للطوسي: 393 و394.

(١١٢)

وثاقته وجلالته:
عن أبي محمّد الحسن بن أحمد المكتّب، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفّي فيها الشيخ عليُّ بن محمّد السمري (قدَّس الله روحه)، فحضرته قبل وفاته بأيّام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته:
«بِسْم اللهِ الرَّحْمن الرَّحِيم، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُريَّ أعْظَمَ اللهُ أجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أيَّام فَأجْمِعْ أمْرَكَ وَلَا تُوصِ إِلَى أحَدٍ يَقُومُ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ الثَّانِيَة، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْن اللهِ (عزَّ وجلَّ)، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الأمَدِ، وَقَسْوَةِ الْقُلُوبِ، وَامْتِلَاءِ الأَرْض جَوْراً، وَسَيَأتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي المُشَاهَدَةَ، ألَا فَمَن ادَّعَى المُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوج السُّفْيَانِيِّ وَالصَّيْحَةِ فَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ».
قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمَّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: (لله أمر هو بالغه)، ومضى (رضي الله عنه)، فهذا آخر كلام سُمِعَ منه(136).
وفاته:
توفّي (رحمه الله) في النصف من شهر شعبان سنة (329هـ)(137).
الأمر الخامس: وكلاء الإمام (عليه السلام) وعددهم:
وأمَّا عدد الوكلاء فقد ذكر منهم الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) ثلاثة عشر وكيلاً، ممَّن رأى معجزات الإمام المهدي (عليه السلام)، وهم متعدِّدون في البلاد، في الكوفة والريّ وأذربيجان والأهواز وقم وغيرها، قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(136) كمال الدين: 516/ باب 45/ ح 44.
(137) الغيبة للطوسي: 394.

(١١٣)

(حدَّثنا محمّد بن محمّد الخزاعي (رضي الله عنه)، قال: حدَّثنا أبو عليّ الأسدي، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عبد الله الكوفي أنَّه ذكر عدد من انتهى إليه ممَّن وقف على معجزات صاحب الزمان (عليه السلام) ورآه من الوكلاء ببغداد: العمري وابنه، حاجز، والبلالي، والعطّار.
ومن الكوفة: العاصمي.
ومن أهل الأهواز: محمّد بن إبراهيم بن مهزيار.
ومن أهل قم: أحمد بن إسحاق.
ومن أهل همدان: محمّد بن صالح.
ومن أهل الريّ: البسّامي، والأسدي - يعني نفسه -.
ومن أهل أذربيجان: القاسم بن العلاء.
ومن أهل نيسابور: محمّد بن شاذان)(138).
وما ذكره وعدَّده الشيخ الصدوق (قدّس سرّه)، هو خصوص الوكلاء الذين شاهدوا معجزات الإمام المهدي (عليه السلام)، فهو ليس بصدد تعداد الوكلاء الذين لم يشاهدوا المعجزات، وإنَّما أراد من وقف على المعجزات، ولذلك نرى في تكملة ما سبق أنَّه يُعدِّد غير الوكلاء ممَّن وقف على المعجزات وعاينها، ولذلك مع التتبّع قد نجد أكثر من هذا العدد المذكور(139).
الأمر السادس: وثاقة السفراء والوكلاء في زمن الغيبة:
عندما نتصفَّح كتب الأصحاب نجد أنَّ السفراء والوكلاء وُثِّقوا وعُدِّلوا من قِبَل المعصومين (عليهم السلام)، واشتهرت عدالتهم عند المسلمين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(138) كمال الدين: 442/ باب 43/ ح 16.
(139) لم نورد عبارة الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) كاملةً خوفاً من الإطالة، وبوسعك الرجوع إلى المصدر المذكور للوقوف عليها بطولها.

(١١٤)

عامَّة، وممَّا يلي بعض كلمات أعلامنا المتقدِّمين تتضمَّن عدَّة أُمور، منها وثاقتهم وعدالتهم وأوصافهم ووظائفهم ومهامّهم الموكَّلة إليهم:
الكلمة الأُولى:
قال الشيخ المفيد (قدّس سرّه) في كتابه (المسائل العشر في الغيبة):
(إنَّ جماعة من أصحاب أبي محمّد الحسن بن عليِّ بن محمّد (عليهم السلام) قد شاهدوا خلفه في حياته، وكانوا أصحابه وخاصَّته بعد وفاته، والوسائط بينه وبين شيعته دهراً طويلاً في استتاره، ينقلون إليهم عن معالم الدين، ويُخرِجون إليهم أجوبة عن مسائلهم فيه، ويقبضون منهم حقوقه لديهم.
وهم جماعة كان الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) عدَّلهم في حياته، واختصَّهم أُمناء له في وقته، وجعل إليهم النظر في أملاكه والقيام بمآربه، معروفون بأسمائهم وأنسابهم وأمثالهم.
كأبي عمرو عثمان بن سعيد السمّان، وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان، وبني الرحبا من نصيبين، وبني سعيد، وبني مهزيار بالأهواز، وبني الركولي بالكوفة، وبني نوبخت ببغداد، وجماعة من أهل قزوين وقم وغيرها من الجبال، مشهورون بذلك عند الإماميَّة والزيدية، معروفون بالإشارة إليه به عند كثير من العامَّة.
وكانوا أهل عقل وأمانة وثقة ودراية وفهم وتحصيل ونباهة، وكان السلطان يُعظِّم أقدارهم بجلالة محلِّهم في الدنيا، ويُكرِمهم لظاهر أمانتهم واشتهار عدالتهم، حتَّى إنَّه كان يدفع عنهم ما يضيفه إليهم خصومهم من أمرهم، ضنّاً بهم واعتقاداً لبطلان قذفهم به، وذلك لما كان من شدَّة تحرّزهم، وستر حالهم، واعتقادهم، وجودة آرائهم، وصواب تدبيرهم)(140).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(140) المسائل العشر في الغيبة: 82.

(١١٥)

الكلمة الثانية:
قال رئيس المحدِّثين الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في نفس المعنى:
(ووجه آخر وهو أنَّ الحسن (عليه السلام) خلف جماعة من ثقاته ممَّن يروي عنه الحلال والحرام، ويؤدّي كتب شيعته وأموالهم، ويُخرِجون الجوابات، وكانوا بموضع من الستر والعدالة، بتعديله إيّاهم في حياته، فلمَّا مضى أجمعوا جميعاً على أنَّه قد خلف ولداً هو الإمام، وأمروا الناس أن لا يسألوا عن اسمه، وأن يستروا ذلك من أعدائه، وطلبه السلطان أشدّ طلب ووكَّل بالدور والحبالى من جواري الحسن (عليه السلام)، ثمّ كانت كتب ابنه الخلف بعده تخرج إلى الشيعة بالأمر والنهي على أيدي رجال أبيه الثقاة أكثر من عشرين سنة، ثمّ انقطعت المكاتبة ومضى أكثر رجال الحسن (عليه السلام) الذين كانوا شهدوا بأمر الإمام بعده، وبقي منهم رجل واحد قد أجمعوا على عدالته وثقته، فأمر الناس بالكتمان، وأن لا يذيعوا شيئاً من أمر الإمام، وانقطعت المكاتبة، فصحَّ لنا ثبات عين الإمام بما ذكرت من الدليل، وبما وصفت عن أصحاب الحسن (عليه السلام) ورجاله ونقلهم خبره، وصحَّة غيبته بالأخبار المشهورة في غيبة الإمام (عليه السلام)، وأنَّ له غيبتين إحديهما أشدّ من الأُخرى)(141).
ومحصَّل كلامهما (رحمهما الله):
أوَّلاً: أنَّ من وظائف وكلاء الأئمَّة (عليهم السلام) نقل معالم الدين والإجابة على أسئلة المستفتين وقبض الحقوق الشرعية، كما أنَّهم كانوا معدَّلين موثَّقين من قِبَل الإمام العسكري (عليه السلام)، وكانوا أهل علم وتحصيل وورع؛ لذا كان الشيعة يرجعون إليهم في شؤوونهم الدينية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(141) كمال الدين: 92 و93.

(١١٦)

ثانياً: أنَّ وكلاء الإمام العسكري (عليه السلام) وسفرائه كانوا يتوفَّرون على جملة من الخصائص والشرائط كالوثاقة والعدالة والعلم والدراية والحنكة؛ بحيث استطاعوا أن يفرضوا احترامهم على السلطات آنذاك، مع كونهم سفراء للإمام المهدي (عليه السلام)، الذي تراه السلطة الجائرة عدوّها الأوَّل؛ ولكن حكمة السفراء قد هيمنت على نفوس الجماهير آنذاك فلم تجد السلطة بدّاً من احترامهم، وهم مع هذا الاحترام الذي فرضوه لم يُحسَبوا على السلطة أبداً، وهذا لا يمنع أن يكون لبعض السفراء وئاماً ظاهرياً مع السلطان، لدفع شرِّه وكيده، كما كان أمر الحسين بن روح (قدّس سرّه) بعد خروجه من السجن.
ثالثاً: أنَّ قوَّة الإدارة التي تمتَّع بها وكلاء الإمام (عليه السلام) وسفراؤه راجعة إلى خصائص ذاتية توفَّرت بهم كالحكمة والحنكة والبصيرة، وتسديد الإمام (عليه السلام) لهم وتوجيهه المباشر.
ومن الشواهد على مكانتهم عند الإمام (عليه السلام) وتوفّر تلك الخصائص فيهم، ما ينقله الشيخ الكليني (قدّس سرّه):
(عن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو، إنّي أُريد أن أسألك عن شيء وما أنا بشاكٍّ فيما أُريد أن أسألك عنه، فإنَّ اعتقادي وديني أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة إلَّا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رُفِعَت الحجَّة وأُغلق باب التوبة، فلم يكُ ﴿يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً﴾ [الأنعام: 158]، فأُولئك أشرار من خلق الله (عزَّ وجلَّ)، وهم الذين تقوم عليهم القيامة؛ ولكنّي أحببت أن أزداد يقيناً، وإنَّ إبراهيم (عليه السلام) سأل ربَّه (عزَّ وجلَّ) أن يريه كيف يُحيي الموتى،

(١١٧)

قال: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾؟ قال: ﴿بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، وقد أخبرني أبو عليّ أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: سألته وقلت: من أُعامل أو عمَّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال له: «العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنَّه الثقة المأمون»، وأخبرني أبو عليّ أنَّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك، فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعمها، فإنَّهما الثقتان المأمونان»، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.
قال: فَخَرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى، ثمّ قال: سَلْ حاجتك.
فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمّد (عليه السلام)؟
فقال: إي والله، ورقبته مثل ذا - وأومأ بيده -.
فقلت له: فبقيت واحدة.
فقال لي: هاتِ.
قلت: فالاسم؟
قال: محرَّم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي، فليس لي أن أُحلِّل ولا أُحرِّم؛ ولكن عنه (عليه السلام)، فإنَّ الأمر عند السلطان أنَّ أبا محمّد مضى ولم يُخلِّف ولداً وقسَّم ميراثه وأخذه من لا حقَّ له فيه، وهو ذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أن يتعرَّف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك»).
قال الكليني (رحمه الله): (وحدَّثني شيخ من أصحابنا - ذهب عنّي اسمه - أنَّ أبا عمرو سأل عن أحمد بن إسحاق عن مثل هذا فأجاب بمثل هذا)(142).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(142) الكافي 1: 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1.

(١١٨)

وما ينلقه رئيس المحدِّثين الشيخ الصدوق (قدّس سرّه):
(قال محمّد بن إبراهيم بن إسحاق (رضي الله عنه): فعدت إلى الشيخ أبى القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحه) من الغد، وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر ما ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟ فابتدأني فقال لي: يا محمّد بن إبراهيم لأن أخرَّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوى بي الريح في مكان سحيق أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله تعالى ذكره برأيي ومن عند نفسي؛ بل ذلك عن الأصل، ومسموع عن الحجَّة صلوات الله وسلامه عليه)(143).
ويستفاد من الروايتين المتقدِّمتين:
أنَّ السفير يتلقّى من الإمام (عليه السلام) مباشرةً، ففي الرواية الأُولى: (ولا أقول هذا من عندي، فليس لي أن أُحلِّل ولا أُحرِّم، ولكن عنه (عليه السلام))، وفي الرواية الثانية: (بل ذلك عن الأصل ومسموع عن الحجَّة صلوات الله وسلامه عليه).
وعُلِمَ من الرواية الأُولى أنَّ من وظائف السفير أن يحفظ الإمام (عليه السلام) من كيد الكائدين، فقد جاء في الحديث الأوَّل: (وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك)، فمنعهم من ذكر اسمه الشريف حتَّى لا يُطلَب من قِبَل السلطات الجائرة.
ومن هذه الأُمور التي تقدَّم ذكرها يتَّضح لنا بشكل جليٍّ دور السفارة والوكالة في عصر الغيبة الصغرى.
الحكمة من اختصاص السفراء بالغيبة الصغرى دون الكبرى:
إنَّ الشيعة في تلك الأزمنة كانوا معتادين على الاتِّصال بالأئمَّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(143) علل الشرائع 1: 243/ باب 177/ ح 1.

(١١٩)

(عليهم السلام) اتِّصالاً مباشراً، حتَّى جاء زمن الإمامين العسكريين (عليهما السلام) فمهَّدا لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام) من خلال استتارهما عن أنظار الناس في كثير من الأوقات مع وجودهما المقدَّس، فجعلا الشيعة يعتادون على مسألة عدم الاتِّصال المباشر والتلقّي من السفراء والوكلاء، فمتى ما أرادوا أمراً قصدوا السفراء، والسفراء بدورهم يتَّصلون بالإمام المعصوم (عليه السلام)، وكذلك جُعلت مسألة السفارة والسفراء الأربعة طريقاً ممهِّداً لتهيئة الناس لغيبة الإمام (عليه السلام) الكبرى.
وأمَّا في فترة الغيبة الصغرى، فقد رحل أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام)، وبقي الجيل الذي يليهم معتاداً على قضيَّة السفراء والوكلاء؛ ولأجل ذلك أمكن للإمام المهدي (عليه السلام) أن يكتفي بالنوّاب العامّين، وهم المراجع الذين جعلهم بحسب التوقيع: «وَأمَّا الحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فَإنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأنَا حُجَّةُ اللهِ عَلَيْهِمْ»(144).
ومن بيان الحكمة من جعل السفراء في عصر الغيبة الصغرى، نعرف وجه الحكمة في عدم جعلهم في الغيبة الكبرى، فإنَّ الحكمة من جعل السفراء التمهيد للغيبة الكبرى، المقتضية للانقطاع وعدم التواصل مع الإمام (عليه السلام).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(144) كمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4.

(١٢٠)

القسم الثاني: الغيبة الكبرى ومباحثها
المبحث الأوّل: التهيّؤ لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام)
كان الشيعة في زمن الأئمَّة (عليهم السلام) يأخذون أحكام دينهم من الإمام، فمتى ما طرأت عليهم مسألة ذهبوا إليه أو أرسلوا من يصل إلى الإمام ويسأله عن مسائلهم؛ لكن في ظلِّ ظروف الغيبة لا يمكن لهم ذلك؛ إذ أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) غائب، فلذلك كان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قد أوجد عدَّة مهيِّئات تُهيِّئ الشيعة لقضيَّة الإمام المهدي (عليه السلام)، فنلاحظ في رواية نقلها الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في كتابه أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان يُمهِّد لهم أمر ابنه ويُخبِرهم أنَّ الغيبة ستحصل:
عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، قال: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) وأنا أُريد أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي مبتدئاً: «يا أحمد بن إسحاق، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يخل الأرض منذ خلق آدم (عليه السلام) ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجَّة لله على خلقه، به يدفع البلاء عن أهل الأرض، وبه يُنزِل الغيث، وبه يُخرِج بركات الأرض».
قال: فقلت له: يا ابن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟
فنهض (عليه السلام) مسرعاً فدخل البيت، ثمّ خرج وعلى عاتقه غلام كأنَّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين، فقال: «يا أحمد بن إسحاق، لولا

(١٢١)

كرامتك على الله (عزَّ وجلَّ) وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنَّه سميُّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكنيّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً.
يا أحمد بن إسحاق، مثله في هذه الأُمَّة مثل الخضر (عليه السلام)، ومثله مثل ذي القرنين، والله ليغيبنَّ غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلَّا من ثبَّته الله (عزَّ وجلَّ) على القول بإمامته ووفَّقه فيها للدعاء بتعجيل فرجه».
فقال أحمد بن إسحاق: فقلت له: يا مولاي فهل، من علامة يطمئنُّ إليها قلبي؟
فنطق الغلام (عليه السلام) بلسان عربي فصيح فقال: «أنا بقيَّة الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق».
فقال أحمد بن إسحاق: فخرجت مسروراً فرحاً، فلمَّا كان من الغد عدت إليه، فقلت له: يا ابن رسول الله، لقد عظم سروري بما مننت به عليَّ، فما السُّنَّة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين؟
فقال: «طول الغيبة يا أحمد».
قلت: يا ابن رسول الله، وإنَّ غيبته لتطول؟
قال: «إي وربّي حتَّى يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به ولا يبقى إلَّا من أخذ الله (عزَّ وجلَّ) عهده لولايتنا، وكتب في قلبه الإيمان، وأيَّده بروح منه. يا أحمد بن إسحاق، هذا أمر من أمر الله، وسرٌّ من سرِّ الله، وغيب من غيب الله، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في علّيين»(145).
فلذلك نجد أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) اتَّخذ عدَّة خطوات ليُمهِّدهم ويعدّهم للغيبة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(145) كمال الدين: 384 و385/ باب 38/ ح 1.

(١٢٢)

الخطوة الأولى: الرجوع إلى الإمام المهدي في حياة أبيه (عليه السلام):
ففي حديث طويل ومفصَّل جدّاً أنَّ واحداً من أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) كان عنده مجموعة من الأسئلة، فذهب مع أحمد بن إسحاق إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وكان أحمد بن إسحاق لديه أموال كثيرة جاء بها من بلاد إيران، فسأله عدَّة مسائل، فأرجعه الإمام العسكري (عليه السلام) إلى ولده القائم (عليه السلام)، والشاهد من هذا الحديث المبارك:
(فلمَّا انصرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إليَّ مولانا أبي محمّد (عليه السلام)، فقال: «ما جاء بك يا سعد؟».
فقلت: شوَّقني أحمد بن إسحاق على لقاء مولانا.
قال: «والمسائل التي أردت أن تسأله عنها؟».
قلت: على حالها يا مولاي.
قال: «فسَلْ قرَّة عيني» وأومأ إلى الغلام.
فقال لي الغلام: «سَلْ عمَّا بدا لك منها».
فقلت له: مولانا وابن مولانا إنّا روينا... الخ)(146).
الخطوة الثانية: الإرجاع إلى الوكلاء:
فجعل وكلاء يرتبط الشيعة بهم، وبيَّن أيضاً في بعض الموارد أنَّ بعض هؤلاء الوكلاء سيكونون وكلاء لابنه صاحب الزمان (عليه السلام)، فجَعْلُ الوكلاء دالٌّ على أنَّه ليس بالضرورة أن يرجعوا إلى الإمام وابنه في جميع شؤونهم؛ لأنَّه أجاز لهم الرجوع إلى هؤلاء الوكلاء المعتمدين الذين يُمثِّلونهم، فقد روى شيخ الطائفة الطوسي (قدّس سرّه) عن محمّد بن إسماعيل وعليِّ بن عبد الله الحسنيان قالا:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(146) ومن أحبَّ أن يرجع للحديث بتمامه فليراجع كمال الدين: 454 - 465/ باب 43/ ح 22.

(١٢٣)

(دخلنا على أبي محمّد الحسن (عليه السلام) بسُرَّ من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته، حتَّى دخل عليه بدر خادمه، فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: «هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن» في حديث طويل يسوقانه إلى أن ينتهي إلى أن قال الحسن (عليه السلام) لبدر: «فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري»، فما لبثنا إلَّا يسيراً حتَّى دخل عثمان، فقال له سيِّدنا أبو محمّد (عليه السلام): «امض يا عثمان، فإنَّك الوكيل والثقة المأمون على مال الله، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال».
ثمّ ساق الحديث إلى أن قالا: ثمّ قلنا بأجمعنا: يا سيِّدنا، والله إنَّ عثمان لمن خيار شيعتك، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك، وأنَّه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى. قال: «نعم، واشهدوا على أنَّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأنَّ ابنه محمّداً وكيل ابني مهديكم»)(147).
الخطوة الثالثة: الإعداد الروحي والفكري:
فما جرى على الأئمَّة (عليهم السلام) هيَّأ الشيعة لاستقبال الوضع الجديد، بمعنى أنَّ الإمام عليَّ الهادي (عليه السلام) يحتجب عنهم في زمنه، وكذلك احتجب عنهم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) لمدَّة زمنية معيَّنة، وقد دلَّت الأخبار على أنَّهم (عليهم السلام) بيَّنوا بشكل واضح بعض تفاصيل غيبته وما سيحصل للشيعة بعد غيابه، وما سيجري على الإمام المهدي (عليه السلام)، ومنه نعلم وجود إعداد فكري وذهني وإعداد نفسي وروحي للغيبة الكبرى.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(147) الغيبة للطوسي: 355 و356/ ح 317.

(١٢٤)

المبحث الثاني: سبب الغيبة الكبرى
وتحت هذا المبحث نطرح عدَّة أُمور تتعلَّق بمناشئ وعوامل تحقُّق غيبة الإمام المهدي (عليه السلام):
الأمر الأوّل: الإقصاء:
بمعنى أنَّ الأُمَّة اجتمعت على قطيعة رحم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، مجمعة على النيل منهم وتشريدهم وقتلهم، فها هي قبورهم موزَّعة بأرجاء البلاد، وهي أعظم شاهدٍ على ظلامتهم ومحاولة إقصائهم، وخصوصاً خفاء قبر بنت المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلم) وبضعته السيِّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وإنَّ أبشع قضيَّة حصلت في الإسلام هي قتل سبط النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وسيِّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وسبي نسائه وقتل أصحابه وأولاده.
وكذلك سائر أهل البيت (عليهم السلام)، مع أنَّهم لم يقوموا وينهضوا ضدَّ حكّام الجور؛ ولكن ذلك لم يشفع لهم، فما منهم إلَّا مقتول أو مسموم، وجاء في كفاية الأثر عن الإمام الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) أنَّه قال في مرضه الذي توفّي فيه: «والله إنَّه لعهد عهده إلينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، أنَّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد عليٍّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام)؛ ما منّا إلَّا مسموم أو مقتول»(148).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(148) كفاية الأثر: 227.

(١٢٥)

فعلمنا أنَّ من قام على الأُمَّة لا يريد أحداً من أهل البيت (عليهم السلام) أن يبرز ويفتتن الناس به، فكان ولا بدَّ من محاولة الإقصاء والقتل.
ولا يخفى - مع تعدُّد الأخبار وتواترها - أنَّ السلطات الغاشمة عندهم خبر مسبق بأنَّ الأئمَّة اثنا عشر، وأنَّ الذي يقوم بالأمر وتنهدم أبنية كلِّ الحكومات على يده هو الإمام الثاني عشر، فلعلمهم بتواتر الأخبار، وخوفهم على عروشهم، أرادوا إقصاءه وقتله من بادئ الأمر، فلمَّا استشهد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هجموا على الدار ليبحثوا عنه، وإذا كانوا يعتقدون بوجوده، فعمره حينئذٍ خمس سنوات، فيُفتَرض أنَّه لا يُهدِّدهم؛ ولكن لأنَّ عندهم علماً بدوره في الأُمَّة، ووظيفته في تحقيق عدالة الله سبحانه وتعالى، وإدحاض الظلم والعدوان، حاولوا جهد أيمانهم ليقتلوه ويزيلوا الهمَّ عن صدورهم، قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ (التوبة: 32).
الأمر الثاني: الخوف من القتل:
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الخوف من القتل ليس معناه الجبن، أو الخوف من الموت، فإنَّ الجبن والخوف من الموت يدلّان على ضعف الإيمان؛ ولكن الخوف من القتل هو أحد أنواع التحرّز، بمعنى أنَّه يختفي عن أنظار الناس حتَّى يتجنَّب القتل وما بعده، قال الله تعالى: ﴿فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص: 21)، فتُبيِّن الآية أنَّ نبيَّ الله موسى (عليه السلام) يخرج خائفاً يترقَّب، ولا يمكن أنَّه خاف من الموت نفسه - حاشاه -؛ إذ إنَّ ذلك من ضعف الإيمان، وذلك لا يكون لنبيٍّ من أُولي العزم.
وقد بحث الشيخ المفيد (قدّس سرّه) في السبب من ظهور الأئمَّة (عليهم السلام) وغياب

(١٢٦)

صاحب الزمان (عليه السلام)، فقال: (إنَّ ملوك الزمان - إذ ذاك - كانوا يعرفون من رأي الأئمَّة (عليهم السلام) التقيَّة، وتحريم الخروج بالسيف على الولاة، وعيب من فعل ذلك من بني عمِّهم ولومهم عليه، وأنَّه لا يجوز عندهم تجريد السيف حتَّى تركد الشمس عند زوال، ويُسمَع نداء من السماء باسم رجل بعينه، ويُخسَف بالبيداء، ويقوم آخر أئمَّة الحقِّ بالسيف ليزيل دولة الباطل.
وكانوا لا يكبرون بوجود من يوجد منهم، ولا بظهور شخصه، ولا بدعوة من يدعو إلى إمام؛ لأمانهم مع ذلك من فتق يكون عليهم به، ولاعتقادهم قلَّة عدد من يصغي إليهم في دعوى الإمامة لهم، أو يُصدِّقهم فيما يُخبِرون به من منتظر يكون لهم.
فلمَّا جاز وقت وجود المترقَّب لذلك، المخوَّف منه القيام بالسيف، ووجدوا الشيعة الإماميَّة مطبقة على تحقيق أمره، وتعيينه والإشارة إليه دون غيره، بعثهم ذلك على طلبه وسفك دمه، ولتزول الشبهة في التعلُّق به، ويحصل الأمان في الفتنة بالإشارة إليه والدعوة إلى نصرته.
ولو لم يكن ما ذكرناه شيئا ظاهراً، وعلَّةً صحيحةً، وجهةً ثابتةً، لكان غير منكر أن يكون في معلوم الله جلَّ اسمه أنَّ من سلف من آبائه (عليهم السلام) يأمن مع ظهوره، وأنَّه هو لو ظهر لم يأمن على دمه، وأنَّه متى قُتِلَ أحد من آبائه (عليهم السلام) عند ظهوره لم تمنع الحكمة من إقامة خليفة يقوم مقامه.
وأنَّ ابن الحسن (عليهما السلام) لو يظهر لسفك القوم دمه، ولم تقتضِ الحكمة التخلية بينهم وبينه، ولو كان في المعلوم للحقِّ صلاح بإقامة إمام من بعده لكفى في الحجَّة وأقنع في إيضاح المحجَّة، فكيف وقد بيَّنّا عن سبب ذلك بما لا يحيل على ناظر، والمنَّة لله)(149).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(149) الفصول العشرة: 74 و75.

(١٢٧)

ويقول السيِّد المرتضى (قدّس سرّه): (السبب في الغيبة هو إخافة الظالمين له، ومنعهم يده من التصرُّف فيه فيما جُعِلَ إليه التصرُّف فيه؛ لأنَّ الإمام إنَّما يُنتَفع به النفع الكلّي إذا كان متمكِّناً مطاعاً، مخلّىً بينه وبين أغراضه، ليقود الجنود، ويحارب البغاة، ويقيم الحدود، ويسدُّ الثغور، وينصف المظلوم، وكلُّ ذلك لا يتمُّ إلَّا مع التمكّن. فإذا حيل بينه وبين أغراضه من ذلك سقط عنه فرض القيام بالإمامة، وإذا خاف على نفسه، وجبت غيبته، والتحرّز من المضارِّ واجب عقلاً وسمعاً، وقد استتر النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) في الشعب، وأُخرى في الغار، ولا وجه لذلك إلَّا الخوف والتحرّز من المضارِّ)(150).
وأمَّا الروايات التي تدلُّ على هذا المعنى، فمنها:
الرواية الأُولى: عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ للقائم غيبة قبل أن يقوم، إنَّه يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه - يعني القتل»(151).
الرواية الثانية: عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «للقائم غيبة قبل قيامه»، قلت: ولِمَ؟ قال: «يخاف على نفسه الذبح»(152).
الأمر الثالث: لا يكون في عنقه بيعة لأحد:
دلَّت بعض الأخبار على أنَّ سبب غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هو عدم مبايعته لأيِّ أحد، ومن تلك الأحاديث:
الحديث الأوَّل: عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني (رضي الله عنه)، عن محمّد بن عليِّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(150) رسائل الشريف المرتضى 2: 295.
(151) الكافي 1: 340/ باب في الغيبة/ ح 18.
(152) كمال الدين: 481/ باب 44/ ح 10.

(١٢٨)

أبي طالب (عليهم السلام)، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «للقائم منّا غيبة أمدها طويل، كأنّي بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته، يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألَا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه، فهو معي في درجتي يوم القيامة»، ثمّ قال (عليه السلام): «إنَّ القائم منّا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة، فلذلك تخفى ولادته ويغيب شخصه»(153).
الحديث الثاني: عن أبي سعيد عقيصا، قال: لمَّا صالح الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام) معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال (عليه السلام): «ويحكم ما تدرون ما عملت، والله الذي عملت خير لشيعتي ممَّا طلعت عليه الشمس أو غربت، ألَا تعلمون أنَّني إمامكم مفترض الطاعة عليكم وأحد سيِّدي شباب أهل الجنَّة بنصٍّ من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) عليَّ؟».
قالوا: بلى.
قال: «أمَا علمتم أنَّ الخضر (عليه السلام) لمَّا خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله تعالى ذكره حكمةً وصواباً؟ أمَا علمتم أنَّه ما منّا أحد إلَّا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلَّا القائم الذي يُصلّي روح الله عيسى بن مريم (عليه السلام) خلفه؟ فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يخفي ولادته، ويُغيِّب شخصه لئلَّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين، ابن سيِّدة الإماء، يطيل الله عمره في غيبته، ثمّ يُظهِره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة، ذلك ليُعلَم أنَّ الله على كلِّ شيء قدير»(154).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(153) كمال الدين: 303/ باب 26/ ح 14.
(154) كمال الدين: 315 و316/ باب 29/ ح 2.

(١٢٩)

الحديث الثالث: عن سعيد بن جبير، عن عليِّ بن الحسين سيِّد العابدين (عليهما السلام): «القائم منّا تخفى ولادته على الناس حتَّى يقولوا: لم يُولَد بعد، ليخرج حين يخرج وليس لأحد في عنقه بيعة»(155).
الحديث الرابع: عن عليِّ بن الحسن بن عليِّ بن فضّال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليِّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) أنَّه قال: «كأنّي بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي كالنعم يطلبون المرعى فلا يجدونه».
قلت له: ولِمَ ذاك يا بن رسول الله؟
قال: «لأنَّ إمامهم يغيب عنهم».
فقلت: ولِمَ؟
قال: «لئلَّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف»(156).
الحديث الخامس:
الحديث الخامس: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «صاحب هذا الأمر تغيب ولادته عن هذا الخلق كيلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج، ويُصلِح الله (عزَّ وجلَّ) أمره في ليلة واحدة»(157).
مناقشة ما نُسِبَ إلى الشهيد الصدر (رحمه الله):
نُسِبَ إلى الشهيد الصدر (رحمه الله) أنَّ الإمام غاب هذه الغيبة الكبرى؛ لأنَّه بحاجة إلى الخبرة والتكامل، ولا يتمُّ ذلك إلَّا برؤية الحضارات المتتالية كيف تهوى واحدة وتقوم أُخرى.
ولكنَّنا نتنظَّر في هذه النسبة له (قدّس سرّه)، فهو وإن ذكرها؛ ولكنَّه لم يتبنّها؛ بل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(155) كمال الدين: 322 و323/ باب 31/ ح 6.
(156) كمال الدين: 480/ باب 44/ ح 4.
(157) كمال الدين: 480/ باب 44/ ح 5.

(١٣٠)

بيَّن المبرِّر الذي دفعه للإجابة بهذا الجواب، وهو ردُّ شبهات الخصم، والمتساهلين والمشكّكين وفق قواعد علم الاجتماع التي يُسلِّم بها الجميع، فقال (رحمه الله):
(إنَّ الناس لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً، أي إنَّهم يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف، على ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبرى نفسها)(158).
وإلَّا فالمسألة عنده واضحة أنَّها مرتبطة بالغيب.

ولو فُرِضَ أنَّ الشهيد الصدر (رحمه الله) قد ذهب إلى هذا القول، فإنَّه مردود مدفوع ومخالف لعقيدة الإماميَّة الأبرار في الإمام المعصوم (عليه السلام)، فهو قرين القرآن وعِدله، وعنده علم ما في الكتاب كلُّه، ويعلم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فلا يحتاج إلى تكامل عن طريق تكامل الحضارات؛ بل هو الإنسان الكامل الذي أمدَّه الله بجميع أدوات المعرفة والفضل من حين ولادته.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(158) بحث حول المهدي (عليه السلام): 38.

(١٣١)

المبحث الثالث: التوفيق بين الغيبة والفائدة من وجوده المقدّس
في بادئ الأمر نُقدِّم مقدَّمة مهمَّة تتعلَّق بمعرفة الحكمة الإلهية، ونُبيِّنها على مطالب عدَّة:
المطلب الأوَّل: إنَّ الشيعة الإماميَّة - أنار الله برهانهم - تؤمن إيماناً كاملاً بأنَّ الله سبحانه وتعالى حكيم لا يفعل شيئاً إلَّا عن حكمة، ولا يضع شيئاً إلَّا في موضعه، فإنَّ أفعال الله سبحانه وتعالى كلُّها ناشئة عن حكمة منه تبارك وتعالى.
المطلب الثاني: من الواضح أنَّ عدم العلم بالشيء، لا يلزم منه عدم تحقّقه، أو قل في المقام: عدم العلم بوجه الحكمة لا يقتضي نفي الحكمة، فإنَّ مقتضى وجود الدليل على ثبوت الشيء هو التسليم والانقياد له، سواء أعلمنا وجه الحكمة فيه أم لم نعلمه، ألفته عقولنا أم لم تألفه، إذ كيف للبشر أن يحيطوا بكلِّ حكمة من حِكَم الله سبحانه وتعالى؟ وأنّى لعقولهم أن تزعم إحاطتها بكلِّ الأسرار والحِكَم؟
المطلب الثالث: إنَّ هذه المبادئ قرآنية لا شكَّ فيها، إذ أنَّ الله سبحانه وتعالى في كتابه قصَّ علينا من قصص الأنبياء التي تفيد أنَّ الإنسان ليس له أن يرد الفعل، لعدم علمه بالحكمة الإلهية، منها قوله: ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً * قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً *

(١٣٢)

قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً * وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً﴾ (الكهف: 65 - 82).
فإنَّ الإنسان إذا لم يتَّضح عنده وجه الحكمة من الفعل، فلا يعني ذلك عدم وجود الحكمة؛ بل لعلَّها لم تتَّضح عنده وستتَّضح فيما بعد، فلهذا رأينا من خلال الآيات تعجّب النبيِّ موسى (عليه السلام) من خرق العبد الصالح للسفينة، ثمّ اتَّضحت له بعد ذلك.

(١٣٣)

المطلب الرابع: أشرنا فيما سبق أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) له شبه بسنن الأنبياء، وبيَّنّا أنَّ إحدى السنن هي غيبة الأنبياء (عليهم السلام) عن قومهم، فنقول: بعد علمنا أنَّ من الأنبياء السابقين والأولياء الصالحين (عليهم السلام) من غاب عن قومه كالنبيِّ يوسف (عليه السلام) وموسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام)، فالإشكال لو كان على غيبة الإمام (عليه السلام) لورد على غيبتهم أيضاً؛ إذ إنَّ وجه الحكمة من غيابهم كان خافياً، فحتَّى لا نلتزم بالمحاذير ونقع فيها كوقوعكم نقول: إنَّ هناك حكمة لغيابهم، وإذا لم نعلم بها فعدم علمنا لا يدلُّ على عدم وجودها، وإلَّا يلزم منه ما يلزم في نبيِّ الله موسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام).
إذا اتَّضحت هذه الأُمور نقول: هب أنّا لم نعلم بفائدته (عليه السلام) في زمن الغيبة إلَّا أنَّ ذلك لا يعني إنكارها، بعد أن قام الدليل على ثبوتها؛ ولكن مع ذلك يمكن بيان الفائدة من غيبته (عليه السلام) من خلال بيان أقسام وظائف الإمام، ونقتصر على بيان بعضها:
القسم الأوَّل: الوظائف التي يمكن أن يقوم بها الغير:
من قبيل الدعوة إلى الدين، فيمكن أن يقوم بها العلماء الذين تعلَّموا العلم من مصادره وأخذوه من أهله، قال الله تعالى: ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122).
ومنها القضاء وإقامة الحدود وحفظ الشريعة الظاهرية، فيمكن أن يُطبِّقها غيره، كما هو حال الولاة على المدن والمناطق، في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ فإنَّهم يُطبِّقون الحدود والشريعة.

(١٣٤)

القسم الثاني: الوظائف التي لا يقوم بها إلاّ الإمام (عليه السلام):
من قبيل حفظ الشرع والشريعة الواقعية، وكما بيَّنّا فيما سبق أنَّ القرآن كتاب هداية، ويتضمَّن جميع ما يحتاجه الناس، ليُخرِجهم من الظلمات إلى النور، فلا بدَّ أن يكون هذا القرآن بجميع معانيه عند أحد حتَّى لا تغيب معانيه عن وجه الأرض ويبقى هادياً ونوراً في طول الأزمنة، فهذا القرآن العظيم موجود عند الإمام من أهل البيت (عليهم السلام)، إذ إنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا الحوض. وأيضاً هذه الشريعة الغرّاء التي تطابق اللوح المحفوظ تكون عند الإمام.
فوجود إمام في كلِّ زمان ضروري؛ حتَّى يكون وجود هذه الشريعة محفوظاً عنده، ولا يمكن أن تكون عند غيره، وهذه الثمرة لوجوده المقدَّس كافية، فنفس حفظ حقائق القرآن والشريعة، ممَّا تقتضيه الضرورة، فلا بدَّ من وجود شخص يعرفها ويحفظها.
القسم الثالث: الوظائف التي يقوم بها بالمباشرة:
فإنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يحضر مواسم الحجّ، ويعرف الناس ولا يعرفونه، وقد دلَّت الأخبار على ذلك:
الحديث الأوَّل: عن عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «يفقد الناس إمامهم فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه»(159).
الحديث الثاني: عن محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه)، قال: سمعته يقول: (والله إنَّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلَّ سنة، فيرى الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه)(160).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(159) كمال الدين: 440/ باب 43/ ح 7.
(160) كمال الدين: 440 / باب 43/ ح 8.

(١٣٥)

ومع حضوره المواسم دلَّت الأخبار الأُخرى على أنَّه (عليه السلام) يصاحب الناس، ويلتقي بهم ويزور المرضى، ويغيث المضطرّين، ويقضي حوائج المحتاجين، وهم لا يعرفونه.
القسم الرابع: الوظائف التي يقوم بها بغير المباشرة:
ومن المعلوم أنَّ الأدلة دلَّت على أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) غائب عن عامَّة الناس؛ ولكنَّه يتَّصل ويرتبط بالخواصِّ، فنحن لا ننفي اتِّصال الإمام المهدي (عليه السلام) بأحد في غيبته؛ بل إنَّ الأدلَّة دلَّت على أنَّه يتَّصل مع بعض أولياء الله (عزَّ وجلَّ).
بعد أن علمنا ذلك نقول: لا يُشتَرط أن يُباشر الإمام المهدي (عليه السلام) الوظائف والمسؤوليات، فيمكن أن يُعطي الإمام (عليه السلام) الخواصَّ هذه الوظائف والمسؤوليات، وهم يرشدون ويهدون الناس، ولا يُشتَرط أن تكون الهداية عن طريق مباشر؛ إذ إنَّ الغرض يتحقَّق عن طريق واسطة، وهم بعض أولياء الله سبحانه وتعالى.
ومن لاحظ سيرة الأنبياء والأولياء يجد أنَّ منهم من خلَّف غيره ليقوم مقامه في أُموره، كنبيِّ الله موسى (عليه السلام)، قال الله تعالى: ﴿وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: 142).
ومنهم من لم يثبت عندنا أنَّه خلَّف أحداً كالخضر (عليه السلام)، وأمَّا الإمام المهدي (عليه السلام) فنصب في غيبته الصغرى السفراء الأربعة، ونصب في غيبته الكبرى المراجع والفقهاء، حيث قال (عليه السلام): «وَأمَّا الحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا، فَإنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأنَا حُجَّةُ اللهِ عَلَيْهِمْ»(161).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(161) كمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4.

(١٣٦)

وإذا رمت مزيد تدقيق، قلنا:
ذُكِرَ في التوقيع الصادر من الإمام المهدي (عليه السلام) فوائد متعدِّدة، فقال:
«وَأمَّا وَجْهُ الِانْتِفَاع بِي فِي غَيْبَتِي فَكَالِانْتِفَاع بِالشَّمْس إِذَا غَيَّبَهَا عَن الأبْصَار السَّحَابُ، وَإِنّي لأمَانٌ لأهْل الأرْض كَمَا أنَّ النُّجُومَ أمَانٌ لأهْل السَّمَاءِ، فَأغْلِقُوا أبْوَابَ السُّؤَال عَمَّا لاَ يَعْنِيكُمْ، وَلاَ تَتَكَلَّفُوا عَلْمَ مَا قَدْ كُفِيتُمْ، وَأكْثِرُوا الدُّعَاءَ بِتَعْجِيل الْفَرَج، فَإنَّ ذَلِكَ فَرَجُكُمْ»(162).
وبملاحظة هذا التوقيع الشريف وما تقدَّم من مطالب، نقول: إنَّ الفائدة من وجوده الشريف، على نحوين:
النحو الأوَّل: ما يرتبط بأصل وجوده.
النحو الثاني: ما يرتبط بظهوره.
والذي تسبَّب الناس في منعه وحجبه وعدم وصوله إلى الناس هو القسم الثاني، وأمَّا القسم الأوَّل فهو باقٍ على ما هو عليه، وهي فوائد جمَّة عامَّة تعود للبشرية جمعاء؛ بل للكون كلّه، ولهذا أثبت الإمام (عليه السلام) الانتفاع من وجوده، وأنَّه كالانتفاع بالشمس وإن غيَّبها عن الأنظار السحاب، فإنَّ جميع من على الأرض يستفيد من الشمس، حتَّى البذرة في الأرض.
ومن جملة الانتفاع به قوله (عليه السلام): «وإنّي لأمان لأهل الأرض»، وقد بيَّنت هذا المعنى روايات أُخرى؛ حيث أناطت بقاء الأرض بوجود الحجَّة من آل محمّد (عليهم السلام)، فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنّي واثني عشر من ولدي وأنت يا عليّ زرُّ الأرض يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(162) الاحتجاج 2: 248.

(١٣٧)

الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا»(163).
كما وردت روايات من الفريقين في ذات المعنى؛ حيث بيَّنت أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) أمان لأهل الأرض.
منها ما جاء من طرق الخاصَّة:
الحديث الأوَّل: عن سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول: «أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء».
قيل: يا رسول الله، فالأئمَّة بعدك من أهل بيتك؟
قال: «نعم الأئمَّة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسين أُمناء معصومون، ومنّا مهدي هذه الأئمَّة، ألَا إنَّهم أهل بيتي وعترتي من لحمي ودمي، ما بال أقوام يؤذونني فيهم، لا أنالهم الله شفاعتي»(164).
الحديث الثاني: عن يونس بن ظبيان، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالحيرة أيّام مقدمه على أبي جعفر في ليلة صحيانة مقمرة، قال: فنظر إلى السماء فقال: «يا يونس، أمَا تري هذه الكواكب ما أحسنها؟ أمَا إنَّها أمان لأهل السماء، ونحن أمان لأهل الأرض»(165).
الحديث الثالث: عن سليمان بن مهران الأعمش، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليٍّ، عن أبيه عليِّ بن الحسين (عليهم السلام)، قال: «نحن أئمَّة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغرِّ المحجَّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض كما أنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(163) الكافي 1: 534/ باب فيما جاء في الاثني عشر.../ ح 17.
(164) كفاية الأثر: 29.
(165) كامل الزيارات: 86 و87/ ح (86/10).

(١٣٨)

النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يُمسِك الله السماء أن تقع على الأرض إلَّا بإذنه، وبنا يُمسِك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وبنا ينشر الرحمة، ويُخرِج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها»(166).
الحديث الرابع: عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليهما السلام): لأيِّ شيء يُحتاج إلى النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) والإمام؟
فقال: «لبقاء العالم على صلاحه، وذلك أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبيٌّ أو إمام، قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: 33]، وقال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون، يعني بأهل بيته الأئمَّة الذين قرن الله (عزَّ وجلَّ) طاعتهم بطاعته، فقال: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، وهم المعصومون المطهَّرون، الذين لا يذنبون ولا يعصون، وهم المؤيَّدون الموفَّقون المسدَّدون، بهم يرزق الله عباده، وبهم تعمر بلاده، وبهم ينزل القطر من السماء، وبهم يُخرِج بركات الأرض، وبهم يمهل أهل المعاصي، ولا يعجل عليهم بالعقوبة والعذاب، لا يفارقهم روح القدس ولا يفارقونه، ولا يفارقون القرآن ولا يفارقهم، صلوات الله عليهم أجمعين»(167).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(166) أمالي الصدوق: 252 و253/ ح (277/15).
(167) علل الشرائع 1: 123 و124/ باب 103/ ح 1.

(١٣٩)

الحديث الخامس: عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأُمَّتي»(168).
الحديث السادس: عن أبي بصير، عن خيثمة الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «نحن جنب الله، ونحن صفوته، ونحن حوزته، ونحن مستودع مواريث الأنبياء، ونحن أُمناء الله (عزَّ وجلَّ)، ونحن حجج الله، ونحن أركان الإيمان، ونحن دعائم الإسلام، ونحن من رحمة الله على خلقه، ونحن من بنا يفتح وبنا يختم، ونحن أئمَّة الهدى، ونحن مصابيح الدجى، ونحن منار الهدى، ونحن السابقون، ونحن الآخرون، ونحن العلم المرفوع للخلق، من تمسَّك بنا لحق، ومن تأخَّر عنّا غرق، ونحن قادة الغرِّ المحجَّلين، ونحن خيرة الله، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى الله (عزَّ وجلَّ)، ونحن من نعمة الله (عزَّ وجلَّ) على خلقه، ونحن المنهاج، ونحن معدن النبوَّة، ونحن موضع الرسالة، ونحن الذين إلينا تختلف الملائكة، ونحن السراج لمن استضاء بنا، ونحن السبيل لمن اقتدى بنا، ونحن الهداة إلى الجنَّة، ونحن عرى الإسلام، ونحن الجسور والقناطر، من مضى عليها لم يُسبَق، ومن تخلَّف عنها مُحِقَ، ونحن السنام الأعظم، ونحن الذين بنا ينزل الله (عزَّ وجلَّ) الرحمة، وبنا يسقون الغيث، ونحن الذين بنا يُصرَف عنكم العذاب، فمن عرفنا وأبصرنا وعرف حقَّنا وأخذ بأمرنا فهو منّا وإلينا»(169).
ومنها ما جاء من طرق العامَّة:
الحديث الأوَّل: عن عليٍّ، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «النجوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(168) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 30/ ح 14.
(169) كمال الدين: 206.

(١٤٠)

أمان لأهل السماء، إذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»(170).
الحديث الثاني: عن إياس بن سَلَمة، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض»(171).
الحديث الثالث: عن إياس بن سَلَمة، عن أبيه، أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: «النجوم في السماء أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأُمَّتي»(172).
وغيرها من الأحاديث التي دلَّت على أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) هم أمان لأهل الأرض، ومن دونهم فالناس في ضياع وشقاق(173).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(170) فضائل الصحابة 2: 671.
(171) مسند الروياني 2: 258.
(172) المصدر السابق.
(173) مجمع الزوائد 9: 174؛ المعجم الكبير 7: 22؛ نظم درر السمطين: 234؛ الجامع الصغير 2: 681؛ تاريخ مدينة دمشق 40: 20؛ سبل الهدى والرشاد 11: 6 و7؛ ينابيع المودَّة 1: 72، و2: 104 و114 و442 و443 و474، و3: 142؛ الصواعق المحرقة: 187؛ ومصادر أُخرى للعامَّة. نقلاً عن مقدَّمة في أُصول الدين: 245.

(١٤١)

المبحث الرابع: تعارض الهداية مع الغيبة
ربَّما أشكل البعض بما حاصله: أنَّ تحقُّق الهداية الإلهية من قِبَل الهادي لا يكون إلَّا من خلال وجوده بين الناس والأتباع، فلا يمكن التوفيق بين هداية الأُمَّة مع غيابه عنها.
والجواب:
قبل بيان الجواب النقضي والحلّي لهذا الإشكال نُقدِّم مقدَّمة سبق بيانها، وهي: أنَّ الشيعة الإماميَّة معتقدة بحكمة الله سبحانه وتعالى والتسليم والانقياد له؛ بل هو الحكيم المطلق، فكلُّ فعل من أفعاله صادر عن حكمة بالغة.
وعلى ضوئه نقول: ما دام ثبت عندنا حصول الغيبة، وأنَّه أمر لا بدَّ منه، فلا تكون الغيبة إلَّا طبق موازين الحكمة، سواء أعلمناها أم لم نعلمها، فالمدار هو ثبوتها.
الجواب النقضي:
وحاصله: أنَّه لو كانت هناك منافاة بين كونه إماماً هادياً، وبين أن يكون غائباً عن الأنظار، لورد هذا الإشكال على الأنبياء السابقين؛ إذ أنَّهم غابوا بعضاً من الوقت، فإنَّ نبيَّ الله موسى (عليه السلام) غاب عن قومه فترة من الزمن، وحصل الفراق بينه وبينهم حتَّى إنَّهم عبدوا العجل في

(١٤٢)

حال غيبته؛ ولكن ذلك لم يضرّ شيئاً بنبوَّته ورسالته، قال الله تعالى: ﴿وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعشر فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (الأعراف: 142).
وكذلك نبيُّ الله يونس (عليه السلام)، فقد غاب عن قومه، ومكث في بطن الحوت، ونجّاه الله سبحانه وتعالى بعد ذلك، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 87)، فهذه نماذج حصلت للأنبياء الصالحين بأنَّهم غابوا عن أُمَّتهم، ولم يضرّ بإمامتهم وهديهم للناس.
وقد أشار إمامنا الصادق (عليه السلام) إلى ذلك، ويجب التصديق به، وإن خفيت الحكمة علينا، بعد علمنا بأنَّ الحكيم المطلق لا تكون أفعاله إلَّا عن حكمة.
ومن ذلك ما جاء عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدَّ منها، يرتاب فيها كلُّ مبطل».
فقلت: ولِمَ جُعلت فداك؟
قال: «لأمر لم يُؤذَن لنا في كشفه لكم».
قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟
قال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج الله تعالى ذكره، إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، لموسى (عليه السلام) إلى وقت افتراقهما.

(١٤٣)

يا ابن الفضل، إنَّ هذا الأمر أمر من أمر الله تعالى، وسرٌّ من سرِّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنَّه (عزَّ وجلَّ) حكيم صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلَّها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف»(174).
وإن قيل: إنَّ غيبتهم عن قومهم كانت فترة وجيزة، ولم تكن بالغيبة الطويلة، إذ إنَّ الأنبياء كانت مدَّة غيابهم عن أقوامهم أقصر من غيبة الإمام المهدي (عليه السلام).
فيُجاب عليه: ليس المناط هو طول فترة الغياب من قصره، فإنَّه لو كانت الغيبة أمراً باطلاً ما ضرَّ فيه قصر المدَّة وطولها، فلو كانت نفس الغيبة عن القوم تتنافى مع الهداية الإلهية فلا يضرُّ إن كانت قصيرة المدَّة أو طويلة، فلو امتنع ذلك في الكثير امتنع في القليل، بمعنى أنَّ الممتنع حصوله لا يسعفه قصر المدَّة، فيرفعه عن الامتناع إلى الإمكان، كما أنَّ قليل المحرَّم وكثيره على حدٍّ سواء في الحرمة.
الجواب الحَلّي:
ويُدفَع هذا الإشكال ببيان أقسام أولياء الله سبحانه وتعالى، فإنَّه من قرأ القرآن وتدبَّره يعلم أنَّ أولياء الله على قسمين:
القسم الأوَّل: الحاضر من أولياء الله سبحانه وتعالى.
القسم الثاني: الغائب من أولياء الله سبحانه وتعالى.
فعندما نلاحظ القرآن الكريم نجد أنَّ الله سبحانه جمع بين وليَّين من أوليائه: نبيَّ الله موسى والخضر (عليهما السلام)، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(174) كمال الدين: 482.

(١٤٤)

عِلْماً * قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً﴾ (الكهف: 66)، فإنَّ هذه الآيات الكريمة التي تتحدَّث عن نبيِّ الله موسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام) تُبيِّن أنَّ هناك وليّاً من أولياء الله سبحانه وتعالى، وهو الخضر، يحمل علماً من الله سبحانه وتعالى، وعنده علم لدنّي، بحيث إنَّه قام بأُمور عديدة غيبية، مثلُ هذا العبد الذي علَّمه الله سبحانه وتعالى من علمه غائب عن الأنظار؛ ولكن مع غيبته له وظائف ومسؤوليات، انكشف لنا بعضها من خلال الآية ولم ينكشف لنا غيرها، ولم يقل أحد: إنَّ غيابه تنافى مع كونه وليّاً وهادياً، وصاحب وظائف من قِبَل الله سبحانه وتعالى.
ومنشأ الإشكال أنَّ المُشكِل اعتقد الملازمة في ذهنه بين غيابه وعدم الهداية، ولا توجد أيَّة ملازمة عقلية أو عرفية أو عقلائية تدلُّ على أنَّه ما دام غائباً عن الأنظار فلا يؤدّي وظائفه، من هداية الناس وغيرها من الوظائف الإلهية، ولا تنافي بين الغياب والهداية أو الرسالة أو الإمامة، فهناك من الأنبياء والأولياء الصالحين من كان وليّاً هادياً أو صاحب رسالة حتَّى أثناء غيابه عن الأنظار.
وأيضاً دلالة الأحاديث الشريفة على أنَّ حجج الله سبحانه وتعالى على قسمين: ظاهر مشهور وغائب مستور، ومنها: ما رواه رئيس المحدِّثين الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليٍّ، عن أبيه عليِّ بن الحسين (عليهم السلام)، قال: «نحن أئمَّة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغرِّ المحجَّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يُمسِك الله السماء أن تقع على الأرض إلَّا بإذنه، وبنا

(١٤٥)

يُمسِك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا يُنزِل الغيث، وتُنشَر الرحمة، وتُخرَج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها».
ثمّ قال: «ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجَّة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجَّة الله فيها، ولولا ذلك لم يُعبَد الله».
قال سليمان: فقلت للصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجَّة الغائب المستور؟
قال: «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(175).
ومنها: ما رواه الصدوق (قدّس سرّه) أيضاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «اللّهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم بحجَّة، إمَّا ظاهر مشهور أو خاف مغمور، لئلَّا تبطل حجج الله وبيِّناته»(176).
فإنَّ الرواية الشريفة دلَّت على ضرورة وجود حجَّة الله على عباده، إمَّا ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً، ولا يتنافى غيابه مع كونه حجَّة الله على خلقه، وبيَّنت أيضاً أنَّه أثناء مدَّة غيابه يبقى له نفع وفائدة من وجوده، فلم تتنافى المنفعة والفائدة مع الغيبة الحاصلة.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(175) كمال الدين: 207/ باب 21/ ح 22.
(176) كمال الدين: 291/ باب 26/ ح 2.

(١٤٦)

المبحث الخامس: طول العمر
بعدما قدَّمناه من البحوث، نصل إلى شبهة لطالما يتساءل عنها البعض وشنَّع بها المخالفون واتَّخذوا بذلك آيات الله هزواً، وهي كيف أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) يبقى كلَّ هذه الفترة الطويلة من الزمن حيّاً دون أن يموت؟ وقد يُعَدُّ ذلك من المحال إمَّا عقلاً أو عادةً.
والجواب عليه من وجهين:
الوجه الأوَّل: عدم دلالة العقل على امتناع البقاء مدَّة طويلة في الحياة. فإنَّ الحقَّ أنَّه ليس بمحال عقلاً أن يعيش هذه المدَّة الطويلة، فليس ما نحن فيه من قبيل اجتماع النقيضين في آنٍ واحدٍ وفي وقتٍ واحدٍ، وكيف لأحد أن يدَّعي ذلك مع ثبوت مثل ذلك لبعض الأنبياء (عليهم السلام) كما سيأتي تفصيله؟ والوقوع أدلُّ دليل على الإمكان.
الوجه الثاني: عدم دلالة غير العقل على امتناعه. وممَّا يدلُّ على عدم استحالته عادةً، إثبات القرآن الكريم لطول عمر نبيِّ الله نوح (عليه السلام)، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ﴾ (العنكبوت:14)، فإنَّ الآية المباركة صرَّحت بأنَّ مدَّة الدعوة تسع مائة وخمسون عاماً، وهي مدَّة طويلة جدّاً، ولم تتعرَّض لعمر نبيِّ الله نوح (عليه السلام)، فلم تُبيِّن عمره قبل الإرسال إلى قومه ومدَّة بقائه بعد الطوفان.

(١٤٧)

حتَّى إنَّ أصحاب التفاسير ذكروا أقوالاً عديدة في طول عمره الشريف، منها:
قال السمعاني في تفسيره: (وقوله: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً﴾، روي عن ابن عبّاس أنَّه قال: بُعِثَ نوح وهو ابن أربعين سنة، ومكث بعد خروجه من السفينة ستّين سنة، وتوفّاه الله تعالى وهو ابن ألف وخمسين سنة. وفي رواية: أنَّ عمر نوح كان ألف وأربعمائة وخمسين سنة، بُعِثَ وهو ابن مائتي وخمسين سنة، وقد قيل غير هذا، والله أعلم)(177).
وقال الزمخشري: (كان عمر نوح (عليه السلام) ألفاً وخمسين سنة، بُعِثَ على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستّين. وعن وهب أنَّه عاش ألفاً وأربعمائة سنة)(178).
وذكر السيوطي حديثاً في عمر نبيِّ الله نوح (عليه السلام): (وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة (رضي الله عنه)، قال: كان عمر نوح (عليه السلام) قبل أن يُبعَث إلى قومه وبعدما بُعِثَ ألفاً وسبعمائة سنة)(179).
فنصَّ القرآن والمحدِّثين وأصحاب التفاسير أنَّ طول العمر ليس بمحال عادةً، إذ إنَّ القرآن الكريم أثبت لنا في آياته أنَّ نبيَّ الله نوح (عليه السلام)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(177) تفسير السمعاني 4: 171.
(178) تفسير الكشّاف للزمخشري 3: 445.
(179) الدرُّ المنثور 6: 456.
وذُكِرَ ذلك في غيره من المصادر التي ذكرت الأقوال في طول عمره الشريف كـ: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 3: 402؛ وتفسير القرطبي 13: 332؛ وفتح القدير للشوكاني 4: 230.

(١٤٨)

بُعِثَ لقومه لمدَّة طويلة من الزمن، ولا قائل من المفسِّرين باستحالة ذلك وعدم إمكانه، فلو أمكن تحقّقه لنبيِّ الله نوح (عليه السلام) لأمكن للإمام المهدي (عليه السلام).
يقول الشيخ المفيد (قدّس سرّه): (وهذا ما لا يدفعه إلَّا الملحدة من المنجِّمين وشركاؤهم في الزندقة من الدهريين، فأمَّا أهل الملل كلّها، فعلى اتِّفاق منهم على ما وصفناه. والأخبار متناصرة بامتداد أيّام المعمِّرين، من العرب والعجم والهند وأصناف البشر، وأحوالهم التي كانوا عليها مع ذلك، والمحفوظ من حِكَمهم، مع تطاول أعمارهم، والمأثور من تفصيل قضاتهم من أهل أعصارهم وخطبهم وأشعارهم، لا يختلف أهل النقل في صحَّة الأخبار عنهم بما ذكرناه وصدق الروايات في أعمارهم وأحوالهم كما وصفناه)(180).
وذكر الشيخ المفيد (قدّس سرّه) بعد بيان طول عمر نبيِّ الله آدم ونوح (عليهما السلام) طول عمر عدَّة معمِّرين منهم:
(لقمان بن عاد الكبير، وربيع بن ضبيع، والمستوغر بن ربيعة، وأكثم بن صيفي، وصيفي بن رياح، وضبيرة بن سعيد، ودريد بن الصمة، ومحصن بن عتبان، وعمرو بن حممة الدوسي، والحرث بن مضاض، والملك الذي استحدث المهرجان، وسلمان الفارسي)(181).
وحتَّى إنَّ أهل السُّنَّة ذكروا عدَّة أشخاص معمِّرين، منهم الخضر (عليه السلام)، قال القنوجي البخاري:
(قيل في إلياس والخضر: إنَّهما حيّان، وقيل: إلياس وُكِّل بالفيافي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(180) الفصول العشرة: 93 و94.
(181) من أراد التفصيل فليراجع: الفصول العشرة: 94 - 102.

(١٤٩)

كما وُكِّل الخضر بالبحار، قال السيوطي في الإتقان: قال وهب: إنَّ إلياس عمَّر كما عمَّر الخضر، وإنَّه يبقى إلى آخر الدنيا)(182).
وكذلك ذكروا لقمان بن عاد، فكان من أطول الناس عمراً من بعده، قال أبو محمّد عبد الملك بن هشام الحميري:
(حدَّثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمّد بن إسحاق المطلبي، قال: كان عمر لقمان بن عاد أربعة آلاف عام، عاشت ستَّة نسور كلُّ نسر خمسمائة عام، وذلك ثلاثة آلاف عام، وعاش لبد وكان آخرها ألف عام)(183).
طول العمر وفق الطبّ الحديث:
وأمَّا رأي الطبِّ الحديث، فقد بيَّنوا لنا أنَّه من الممكن للإنسان أن يعيش مدَّة طويلة من خلال النظرية والتطبيق، وكتبوا في ذلك بحوثاً ودراسات، ولعلَّ من أقدمها ما كُتِبَ في مجلَّة المقتطف، في بعض أعدادها سنة (1959م)، وحاصل ما ذُكِرَ:
أنَّه من الممكن للإنسان من حيث المبدأ والنظرية، أن يعيش مدَّة طويلة من الزمن، في ظرف وبيئة معيَّنة، فعندما نُهيِّئ له الظرف الخاصّ، والغذاء الخاصّ السليم، ونرفع عنه موانع طول العمر، كإبعاد المكروبات عنه، فإنَّه يمكن له أن يعيش مدَّة طويلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(182) فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي البخاري 11: 418. وأمَّا من خالف هذا القول فإنَّما خالفه لادِّعائه القصور في الأدلَّة، لا من حيث استحالة طول عمره، فإنَّ ذلك لا يمكن أن يتفوَّه به مسلم.
(183) التيجان في ملوك حمير 1: 84 لعبد الملك بن هشام بن أيّوب الحميري المتوفّي سنة (213هـ).

(١٥٠)

وأخرجت إحدى الباحثات الغربيات في عام (2011م)، الأمر من دائرة النظرية إلى التطبيق والتجربة، فأثبتت أنَّ الكائن الحيَّ يمكن أن تُهيَّئ له ظروف خاصَّة مناسبة يعيش فيها، فيعيش ضعف المدَّة التي له أن يعيشها خارج هذا الإطار، وطبَّقت هذه التجربة على أقرب كائن للإنسان بحسب كلامهم وهم الجرذان، لمحاولة إطالة عمره، وأثبتوا ذلك بالتجربة.
وقفتان:
الوقفة الأُولى: وقفة مع بقاء نبيِّ الله يونس إلى يوم يبعثون:
وقال الله سبحانه في يونس (عليه السلام): ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (الصافّات: 142 - 144)، و(لبث) بمعنى يعيش، وليس معناه أنَّه يموت ويبقى داخل الحوت، فالظاهر منه أنَّه يعيش في بطن الحوت.
وهذا ممَّا تُؤيِّده بعض التفاسير من الطرفين أنَّه لبث مع كونه حيّاً، فهذه قضيَّة قرآنية مسلَّمة(184).
الوقفة الثانية: وقفة مع الدجّال:
إنَّ المخالفين المنكرين للإمام الحجَّة (عليه السلام) والمثبتين للشبه المذكورة، والمحاججين فيها، والساعين لإبطالها، لا ينفعهم ذلك أبداً؛ إذ ثبت أنَّ طول العمر، والغيبة عن الأنظار، والاستتار، ليس بممنوع عقلاً، ولا شرعاً، ونضيف إلى ذلك أنَّهم في أحاديثهم أثبتوا ذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(184) من الخاصَّة: جوامع الجامع للشيخ الطبرسي 3: 175. وأمَّا من العامَّة: الكشّاف 4: 62؛ تفسير النسفي 3: 173.

(١٥١)

للدجّال(185)، فلنا أن نتساءل: لِمَ يكون المانع من غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) هو استبعاد واستحالة طول العمر، ويرتفع هذا المانع في الدجّال؟!
أليس وليُّ الله وحجَّته والمهدي من آل محمّد (عليهم السلام) أولى من الدجّال؟ فلا يُعقَل أنَّ المسلم يُجوِّز ذلك في عدوِّ الله ورسوله، ويمنعه مطلقاً عن وليِّه ووليِّ رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم)، والميزان العلمي لا يُفرِّق بينهما؛ إذ كما يجوز لغير المهدي (عليه السلام) يجوز له أيضاً.
وإن قلتم: هناك دليل أثبت وجود الدجّال، وأنَّه حيٌّ إلى آخر الزمان؛ ولكن لم يرد من الأدلَّة شيء يُثبِت أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) موجود وحيٌّ.
فنقول: ثبوت ولادة الإمام المهدي (عليه السلام) ووجوده وغيبته أوضح من وجود الدجّال، وعمدنا بذكر شيء من الأدلَّة فيما سبق من البحوث، وبيَّنّا أنَّ مقتضى الأدلَّة الصحيحة المتواترة، والفهم الصحيح الدقيق لها، يُثبِت وجود الإمام المهدي (عليه السلام)، منها حديث الثقلين، وحديث الاثني عشر خليفة، وحديث من مات وليس في عنقه بيعه مات ميتةً جاهليةً، وغيرها من الأدلَّة النقلية والعقلية على ضرورة وجوده(186).
فوجود المعمِّرين أمر لا يخفى على أحد من قرّاء التاريخ عند الشيعة والسُّنَّة، وبهذا الجواب ندفع الاستحالة العادية كما دفعنا الاستحالة العقلية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(185) في صحيح مسلم باب قصَّة الجساسة 4: 2262.
(186) مع تلك الدلائل العقلية والنقلية الدالّة على وجوده (عليه السلام) جدير بالإشارة إلى أنَّ العقل يقتضي وجود الإمام والهادي وعديل القرآن المبيِّن لآياته وأحكامه، وأمَّا العقل لا يقتضي وجود الدجّال بالضرورة، فكان عقلاً الأولى بالوجود هو الإمام المهدي (عليه السلام). وأيضاً الدلائل النقلية على وجود الإمام المهدي (عليه السلام) كثيرة ومتواترة وصحيحة، كما مرَّ في سابق المطالب، والدلائل على وجود الدجّال لا تضاهيها.

(١٥٢)

والحاصل: أنَّ المناط هو قدرة الله سبحانه وتعالى على أن يُعمِّر من شاء، ولا يقول أحد من المسلمين: إنَّ الله سبحانه وتعالى غير قادر على ذلك؛ لأنَّه من المقولات التي يكفر بها القائل، ولا غرابة من طول عمره، وحفظ الله سبحانه وتعالى له، وخصوصاً أنَّ الأمر متعلِّق بقيام الدولة الإلهية على الأرض، التي تملؤها قسطاً وعدلاً.
خاتمة: في وظيفة الأمّة في الغيبة الكبرى:
لعلَّك تسأل: إنَّ بقية الله الأعظم (عليه السلام) غائب عن الأنظار ولا يمكن أخذ الأحكام مشافهةً عنه والحال هذه، فما الذي يفعله الناس في غيبته بالنسبة إلى الأحكام؟
الجواب: أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) لم يتركوا شيئاً إلَّا وبيَّنوه، وعلى الأُمَّة أن تعمل بحلال النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وتتجنَّب عن حرامه، وقد بيَّن النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) للأُمَّة المرجعيَّة التي ينبغي الرجوع إليها لأخذ الدين عقيدةً وفقهاً؛ بل سائر معارفه، كما في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين، فكما أنَّ النبيَّ لم يُبيِّن الأحكام كلّها دفعة واحدة؛ بل بيَّن ما يحتاج إليه الناس، فوجب أن يكون هناك من يقوم بمهمَّة بيان الدين بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهم أهل بيته الذين أرجع لهم في حديث الثقلين.
وحالنا في زمن الغيبة الكبرى لا يشذُّ عن هذه القاعدة، فنحن بحمد الله تعالى نمتلك تراثاً ضخماً وصل إلينا عن أئمَّة الهدى (عليهم السلام) بيد أمينة، فإذا لم نتمكَّن من ملاقاة الإمام والأخذ عنه مباشرةً - كما في زماننا - فإنَّنا نرجع إلى من أرجع إليهم الإمام (عليه السلام) وسائر الأئمَّة (عليهم السلام)، وهم فقهاء الدين والمراجع العظام، الذين يتمكَّنون من الرجوع إلى الأحاديث الشريفة واستنباط الأحكام الشرعية منها.

* * *

(١٥٣)

المقصد الأوّل: مفهوم علامات الظهور
العلامة هي الأثر الذي يُعلَم به الشيء، أو ما يُنصَب هادياً إلى شيء، ومنه قوله تعالى: ﴿وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ (النحل: 16)، أي إنَّ الناس في الصحراء يهتدون بالنجوم والمصابيح ليلاً لمعرفة الطرقات وتحديد مساراتهم.
وقد جاء في القرآن الكريم مداليل أُخرى للفظة (علامة):
منها: الأشراط، كقوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها﴾ (محمّد: 18)، أي علاماتها.
ومنها: الآية، كما في قوله تعالى: ﴿وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ (البقرة: 248)، أي علامة ملكه.
والحاصل: أنَّ العلامة تُطلَق ويُراد بها تارةً: الأثر الذي يُعلَم به الشيء، وتارةً: الأشراط، وتارةً: الآية، ومعانٍ أُخرى.
إذا اتَّضح ذلك قلنا: إنَّ المراد من علامات الظهور لا يختلف كثيراً عن المعاني اللغوية التي ذُكِرَت في محلِّه، فإنَّ علامات الظهور هي الأُمور التي إذا تحقَّقت ووقعت كشفت عن قرب ظهور صاحب العصر والزمان (عليه السلام)، ولعلَّ وجه الحكمة في جعل علامات لظهوره المبارك هو أنَّ قضيَّته (عليه السلام) قضيَّة عالمية خطيرة فيحلو لبعض الشياطين تقمُّص

(١٥٧)

مقامه وادِّعاء ما ليس لهم حقٌّ فيه بُغية التسلّط على الناس وتحقيق المآرب الشيطانية، فجُعِلَت علامات الظهور ميزاناً لتقييم دعاوى المهدوية.

* * *

(١٥٨)

المقصد الثاني: مصاديق علامات الظهور
المشهور أنَّ علامات الظهور على نحوين:
النحو الأوّل: علامات غير حتمية:
وهي كثيرة جدّاً، جاءت في روايات متفرِّقة، وتقع في أزمان مختلفة، قد تكون قريبة من الظهور، وقد تكون بعيدة، وقد لا تقع أيضاً.
النحو الثاني: علامات حتمية:
وقد حدَّدتها الروايات الشريفة في خمس علامات، وربَّما يُضاف إليها غيرها:
1 - خروج السفياني.
2 - خروج اليماني.
3 - قتل النفس الزكيَّة في مكّة المكرَّمة.
4 - الخسف في البيداء.
5 - الصيحة من السماء.
والروايات في ذلك متعدِّدة:
منها: صحيحة عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء»(187).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(187) كمال الدين: 650/ باب 57/ ح 7.

(١٥٩)

ومنها: معتبرة أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: «خروج السفياني من المحتوم، والنداء من المحتوم، وطلوع الشمس من المغرب من المحتوم، وأشياء كان يقولها من المحتوم»(188).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(188) الغيبة للطوسي: 435/ ح 425.

(١٦٠)

المقصد الثالث: الضوابط العلمية الصحيحة في التعامل مع علامات الظهور
الضابط الأوّل: حمل الألفاظ على معانيها الحقيقية:
المقرَّر لدى أهل المحاورة حمل الألفاظ على الحقيقة إلَّا أن تُنصَب قرينة من شأنها رفع اليد عن المعنى الحقيقي، والمصير إلى المعنى المجازي المتناسب مع القرينة، وهذا أصل لفظي مسلَّم، لا نزاع فيه بين العقلاء وأهل العرف، وهو جارٍ فيما نحن فيه.
فاليمانيُّ رجل من أهل اليمن، كما هو ظاهر لقب اليماني، والسفياني شخص من بني سفيان، والصيحة نداء عالي الصوت يكون من السماء، والخسف في البيداء هو خسف تكويني أرضي حقيقي، وهكذا في سائر العلامات التي تُذكر.
نعم لا ينافي الحمل على الحقيقة، أن نقول: إنَّ السفياني لقب لذاك الرجل، الذي يكون من بني سفيان، واليماني أيضاً لقب لذاك الرجل الذي يكون من اليمن، فإنَّ احتمال ظهورهم بهذه الألقاب لا ينافي المعنى الحقيقي الذي بيَّنّاه.
ومن ذلك يتَّضح لك بطلان حمل هذه العلامات المذكورة في الروايات الشريفة على الرمزية؛ كأن يقال: السفياني ليس شخصاً؛ بل هو

(١٦١)

رمز لنهج فكري أُموي يستبيح الدماء ويفعل المحرَّمات، فإنَّ هذا الحمل مخالف للظاهر جدّاً، ولا يمكن المصير إليه إلَّا بقرينة.
الضابط الثاني: المنع من التوقيت:
وقد دلَّت روايات متعدِّدة عن أئمَّة الهدى (عليهم السلام) على منع التوقيت مطلقاً:
منها: خبر الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قلت له: لهذا الأمر وقت؟ فقال: «كذب الوقّاتون، كذب الوقّاتون، كذب الوقّاتون»(189).
ومنها: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن القائم (عليه السلام)، فقال: «كذب الوقّاتون، إنّا أهل بيت لا نُوقِّت»(190).
ومنها: في الصحيح عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «من وقَّت لك من الناس شيئاً فلا تهابنَّ أن تُكذِّبه، فلسنا نُوقِّت لأحد وقتاً»(191).
ويُمكن تصوير فائدتين لمنع التوقيت:
الفائدة الأُولى: منع الادِّعاءات لهذا المقام الشريف، فقد يدَّعي بعضٌ أنَّ الوقت بعد سنة أو سنتين، فيُصدِّقه الناس، ثمّ يجيء هذا البعض مدَّعياً مقام الإمامة فيُضلِّل وتقع الفتنة ولا يُدرى أين الحقّ، فيكون منع التوقيت حصانة للناس من الانجرار خلف الدعاوى الكثيرة، وتكون العبرة والميزان - كما تقدَّم - لعلامات الظهور الحتمية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(189) الكافي 1: 368 / باب كراهية التوقيت/ ح 5.
(190) الكافي 1: 368 / باب كراهية التوقيت/ ح 3.
(191) الغيبة للطوسي: 426/ ح 414.

(١٦٢)

الفائدة الثانية: قد يقال: إنَّ البداء يقع في الوقت، فلو وقَّت الناس لظهور الإمام (عليه السلام)، وكان توقيتهم مطابقاً للواقع، ثمّ وقع البداء في ذلك الوقت وتأخَّر الظهور، فإنَّ هذا موجب للتكذيب بالإمام وبوجوده الشريف، فجاء المنع عن التوقيت مطلقاً لدفع ما يُحتَمل من الوجه الأوَّل أو الثاني.
إشكال وردُّه:
وقد يُشكِل بعضهم فيقول: إنَّ المنع من التوقيت لا يتناسب مع ما جاء في بعض الروايات الشريفة من أنَّ السفياني يظهر في شهر رجب، وأنَّ اليماني والخراساني والسفياني يظهرون جميعاً في يوم واحد وشهر واحد وسنة واحدة، وأنَّ مدَّة حكم السفياني لا تتجاوز حمل امرأة، فهل هذا إلَّا توقيت؟
والجواب:
إنَّ المراد من التوقيت هو التوقيت بنحو التعيين كالتوقيت بالسنة الكذائية والشهر واليوم، كأن يقول: في السنة كذا في شهر كذا، وأمَّا أن يُحدَّد في شهر رجب، أو أنَّ الثلاثة يخرجون في يوم واحد، من دون تحديد السنة فلا يُعَدُّ توقيتاً.
الضابط الثالث: تمييز علامات الظهور:
بناءً على ما تقدَّم من أنَّ العلامات منها ما هو حتمي ومنها ما هو غير ذلك، نقول: إنَّ العلامات غير الحتمية لا يُمكن جعلها برهاناً وميزاناً للظهور الشريف؛ لما بيَّنّاه من إمكان وقوع البداء فيها من جهة، ولإمكان انطباقها على كثيرين من جهة أُخرى، فالعبرة بالتمسُّك بالعلامات الحتمية التي تحدَّثت عنها الروايات الشريفة بأدقّ تفاصيلها

(١٦٣)

من غير تشويش أو إبهام، ومثال ذلك: تمييز صيحة الحقِّ عن صيحة الباطل، ففي صحيح أبي حمزة الثمالي، قال: فقلت له - أي للإمام الباقر (عليه السلام) -: كيف يكون ذلك النداء؟
قال: «ينادي منادٍ من السماء أوَّل النهار: ألَا إنَّ الحقَّ في عليٍّ وشيعته، ثمّ ينادي إبليس لعنه الله في آخر النهار: ألَا إنَّ الحقَّ في السفياني وشيعته، فيرتاب عند ذلك المبطلون»(192).
وبعبارة أُخرى: إنَّ العلامات الحتمية على درجة من الوضوح يمكن كشفها ومعرفتها، وهي علامات متقاربة نظام كنظام الخرز.
البداء والعلامات الحتمية وغير الحتمية:
وهنا سؤالان:
السؤال الأوَّل: هل يقع البداء في العلامات الحتمية؟
السؤال الثاني: هل يقع البداء في العلامات غير الحتمية؟
وقبل الشروع في الجواب على السؤالين، لا بدَّ من بيان مقدَّمة ذكرها السيِّد الخوئي (قدّس سرّه)(193)، قال:
(ثمّ إنَّ البداء الذي تقول به الشيعة الإماميَّة إنَّما يقع في القضاء غير المحتوم، أمَّا المحتوم منه فلا يتخلَّف، ولا بدَّ من أن تتعلَّق المشيئة بما تعلَّق به القضاء. وتوضيح ذلك أنَّ القضاء على ثلاثة أقسام:
أقسام القضاء الإلهي:
الأوَّل: قضاء الله الذي لم يُطلِع عليه أحداً من خلقه، والعلم المخزون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(192) كمال الدين: 652/ باب 57/ ح 14.
(193) البيان في تفسير القرآن: 386 - 391.

(١٦٤)

الذي استأثر به لنفسه، ولا ريب في أنَّ البداء لا يقع في هذا القسم؛ بل ورد في روايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ البداء إنَّما ينشأ من هذا العلم.
روى الشيخ الصدوق في (العيون) بإسناده عن الحسن بن محمّد النوفلي أنَّ الرضا (عليه السلام) قال لسليمان المروزي: «رويت عن أبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: إنَّ لله (عزَّ وجلَّ) علمين علماً مخزوناً مكنوناً، لا يعلمه إلَّا هو من ذلك يكون البداء، وعلماً علَّمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبيِّك يعلمونه...»(194).
وروى الشيخ محمّد بن الحسن الصفّار في (بصائر الدرجات) بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّ لله علمين: علماً مكنوناً مخزوناً لا يعلمه إلَّا هو، من ذلك يكون البداء وعلم علَّمه ملائكته ورسله وأنبياءه، ونحن نعلمه»(195).
الثاني: قضاء الله الذي أخبر نبيَّه وملائكته بأنَّه سيقع حتماً، ولا ريب في أنَّ هذا القسم أيضاً لا يقع فيه البداء، وإن افترق عن القسم الأوَّل، بأنَّ البداء لا ينشأ منه.
قال الرضا (عليه السلام) لسليمان المروزي - في الرواية المتقدِّمة - عن الصدوق: «إنَّ عليّاً (عليه السلام) كان يقول: العلم علمان، فعلم علَّمه الله ملائكته ورسله، فما علمه ملائكته ورسله فإنَّه يكون، ولا يُكذِّب نفسه، ولا ملائكته، ولا رسله، وعلم عنده مخزون، لم يُطلِع عليه أحداً من خلقه، يُقدِّم منه ما يشاء، ويُؤخِّر ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويُثبِت ما يشاء»(196).
وروى العيّاشي عن الفضيل، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(194) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 160/ ح 1.
(195) بصائر الدرجات: 129/ ج 2/ باب 21/ ح 2.
(196) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 161 و162/ ح 1.

(١٦٥)

«من الأُمور أُمور محتومة، جائية لا محالة، ومن الأُمور أُمور موقوفة عند الله، يُقدِّم منها ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويُثبِت ما يشاء، لم يُطلِع على ذلك أحداً - يعني الموقوفة - فأمَّا ما جاءت به الرسل، فهي كائنة لا يُكذِّب نفسه، ولا نبيَّه، ولا ملائكته»(197).
الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيَّه وملائكته بوقوعه في الخارج، إلَّا أنَّه موقوف على أن لا تتعلَّق مشيئة الله بخلافه. وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء: ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾ (الرعد: 39)، ﴿للهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ (الروم: 4).
وقد دلَّت على ذلك روايات كثيرة، منها:
1 - ما في (تفسير عليِّ بن إبراهيم)، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يُقدِّم شيئاً أو يُؤخِّره، أو يُنقِص شيئاً، أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثمّ أثبت الذي أراده».
قلت: وكلُّ شيء هو عند الله مثبت في كتاب؟
قال: «نعم».
قلت: فأيُّ شيء يكون بعده؟
قال: «سبحان الله، ثمّ يُحدِث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى»(198).
2 - ما في تفسيره أيضاً عن عبد الله بن مسكان، عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن (عليهم السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(197) تفسير العيّاشي 2: 217/ ح 65.
(198) تفسير القمّي 1: 366 و367.

(١٦٦)

حَكِيمٍ﴾ (الدخان: 4): «أي يُقدِّر الله كلَّ أمر من الحقِّ ومن الباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشيئة. يُقدِّم ما يشاء ويُؤخِّر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض، ويزيد فيها ما يشاء ويُنقِص ما يشاء...»(199).
3 - ما في كتاب (الاحتجاج) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «لولا آية في كتاب الله، لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: ﴿يَمْحُوا اللهُ﴾ [الرعد: 39]»(200).
وروى الصدوق في (الأمالي) و(التوحيد) بإسناده عن الأصبغ عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، مثله(201).
4 - ما في (تفسير العيّاشي)، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «كان عليُّ بن الحسين (عليه السلام) يقول: لولا آية في كتاب الله لحدَّثتكم بما يكون إلى يوم القيامة».
فقلت: أيَّة آية؟
قال: «قول الله: ﴿يَمْحُوا اللهُ﴾»(202).
5 - ما في (قرب الإسناد)، عن البزنطي، عن الرضا (عليه السلام)، قال: «قال أبو عبد الله، وأبو جعفر، وعليُّ بن الحسين، والحسين بن عليٍّ، والحسن بن عليٍّ، وعليُّ بن أبي طالب (عليهم السلام): لولا آية في كتاب الله لحدَّثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة: ﴿يَمْحُوا اللهُ...﴾»(203).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(199) تفسير القمّي 2: 290.
(200) الاحتجاج 1: 384.
(201) أمالي الصدوق: 423/ ح (560/1)؛ التوحيد: 305/ ح 1.
(202) تفسير العيّاشي 2: 215/ ح 59.
(203) قرب الإسناد: 353 و354/ ح 1266.

(١٦٧)

إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على وقوع البداء في القضاء الموقوف.
وخلاصة القول: أنَّ القضاء الحتمي المعبَّر عنه باللوح المحفوظ، وبأُمِّ الكتاب، والعلم المخزون عند الله (عزَّ وجلَّ) يستحيل أن يقع فيه البداء. وكيف يُتصوَّر فيه البداء؟ وأنَّ الله سبحانه وتعالى عالم بجميع الأشياء منذ الأزل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّة في الأرض ولا في السماء.
روى الصدوق في (إكمال الدين) بإسناده عن أبي بصير وسماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «من زعم أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه»(204).
وروى العيّاشي عن ابن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ الله يُقدِّم ما يشاء، ويُؤخِّر ما يشاء، ويمحو ما يشاء، ويُثبِت ما يشاء وعنده أُمُّ الكتاب»، وقال: «فكلُّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلَّا وقد كان في علمه، إنَّ الله لا يبدو له من جهل»(205).
وروى أيضاً عن عمّار بن موسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام): سُئِلَ عن قول الله: ﴿يَمْحُوا اللهُ...﴾، قال: «إنَّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويُثبِت، فمن ذلك الذي يردُّ الدعاء القضاء، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يردُّ به القضاء، حتَّى إذا صار إلى أُمِّ الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئاً»(206).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(204) كمال الدين: 70.
(205) تفسير العيّاشي 2: 218/ ح 71.
(206) تفسير العيّاشي 2: 220/ ح 74.

(١٦٨)

وروى الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) بإسناده عن البزنطي، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، [قال]: «قال عليُّ بن الحسين، وعليُّ بن أبي طالب قبله، ومحمّد بن عليٍّ وجعفر بن محمّد: كيف لنا بالحديث مع هذه الآية: ﴿يَمْحُوا اللهُ...﴾، فأمَّا من قال بأنَّ الله تعالى لا يعلم الشيء إلَّا بعد كونه فقد كفر وخرج عن التوحيد»(207).
والروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ الله لم يزل عالماً قبل أن يخلق الخلق، فهي فوق حدِّ الإحصاء، وقد اتَّفقت على ذلك كلمة الشيعة الإماميَّة طبقاً لكتاب الله وسُنَّة رسوله جرياً على ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح).
إذا اتَّضح ذلك، نجيب على السؤالين:
أمَّا السؤال الأوَّل: هل يقع البداء في العلامات المحتومة؟
الجواب: على ضوء ما تقدَّم من كلام السيِّد الخوئي (قدّس سرّه)، فالقضاء الحتمي الذي يُخبِر به الأنبياء والأوصياء لا يقع فيه البداء؛ لئلَّا يلزم من وقوعه تكذيبهم.
وأمَّا السؤال الثاني: هل يقع البداء في العلامات غير الحتمية؟
الجواب: نعم قد يقع البداء في العلامات غير الحتمية، وهذا يتَّضح بالالتفات إلى أمر، وهو أنَّ العلَّة التامَّة تتركَّب من أُمور ثلاثة:
1 - المقتضي.
2 - تحقُّق الشرط.
3 - انتفاء المانع.
فإذا وُجِدَ المقتضي وتحقَّق الشرط وارتفع المانع وُجِدَ معلول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(207) الغيبة للطوسي: 430/ ح 420.

(١٦٩)

تلك العلَّة، وبانتفاء واحد من هذه الثلاثة فإنَّ المعلول لا يقع لعدم وجود علَّته التامَّة.
ولو أنَّ شخصاً أخبر عن المقتضي، فإنَّ إخباره عن المقتضي لا يعني الإخبار عن العلَّة التامَّة، مثلاً: لو أنَّ مهندساً أخبرك بأنَّ البناء المحكم الذي بناه في القرب من الشاطئ سيظلُّ بنياناً محكماً قويّاً إلى خمسين سنة، ثمّ جاء فيضان قوي وهدمه، فإنَّ هذا لا ينافي كلام المهندس؛ لأنَّه أخبر عن المقتضي، ولم يُخبِر عن العوارض الأُخرى التي قد تعرض على البنيان فتهدمه، فكأنَّه يقول: لو أنَّ هذا البنيان خُلّي ونفسه من غير تلك العوارض الهادمة لبقي بناءً صلباً متيناً قويّاً لا يهدمه شيء.
والكلام هو الكلام فيما نحن فيه، فإنَّ الله سبحانه وتعالى أخبر نبيَّه أو حجَّته بأن يوصل للناس بأنَّ العلامة الكذائية ستقع، أي إنَّها لو خُلّيت ونفسها لوقعت؛ ولكن إذا وُجِدَ مانع من وقوعها كالدعاء والصدقة فإنَّها لا تقع.
وبعبارة أُخرى: إنَّ هذا الإخبار منه تعالى هو إخبار بالنحو الموقوف لا المحتوم، أي: هذه العلامة ستقع لو لم يوجد المانع؛ ولكن إن وُجِدَ مانع من وقوعها فإنَّها لن تقع.
وبناءً على ذلك يتَّضح كيف يجري البداء في غير المحتوم.
إشكال وردُّه:
قد يُشكِل على عدم وقوع البداء في المحتوم برواية، وهي:
كنّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا (عليه السلام)، فجرى ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟

(١٧٠)

قال: «نعم».
قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم.
فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يُخلِف الميعاد»(208).
وقد أجاب العلَّامة المجلسي عن هذا التعارض، فأفاد بأنَّ المراد من تحقُّق البداء هو تحقُّقه في تفاصيل العلامات لا أصلها»(209).
بقي ثلاثة أشياء:
الأوَّل: هل يُعذَر المخالف إذا لم ينقَد لصيحة الحقِّ باعتبار أنَّها لم تُروَ عنده ولم يطَّلع عليها؟
الحقُّ أنَّه لا يُعذَر؛ لأنَّ عدم علم المخالف سببه هو وليس الله تبارك وتعالى.
وبعبارة أُخرى: عدم علمه ناشئ عن تقصير لا قصور، فلا يُعذَر من كان هذا حاله؛ لأنَّ الأصل الأوَّلي في كلِّ إنسان أن يبحث عن الحقِّ بنيَّة صادقة وإخلاص، وبغرض الوصول إليه.
نعم، من يكون جهله قصورياً يكون معذوراً على ما حرَّره الأعلام في الأُصول.
الثاني: عرفنا أنَّ التوقيت لا يجوز، فماذا عن التوقّع؟
الجواب: التوقّع مختلف في معناه عن التوقيت، فإنَّ التوقّع مجرَّد احتمال، وأمَّا التوقيت فليس كذلك، وعليه فلا مانع من التوقّع والتطلّع، والمانع في الأخبار الشريفة خاصٌّ بالتوقيت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(208) الغيبة للنعماني: 314 و315 / باب 18/ ح 10.
(209) قال (قدّس سرّه) في بحار الأنوار 52: 251/ ذيل الحديث 138: (ثمّ إنَّه يحتمل أن يكون المراد بالبداء في المحتوم البداء في خصوصياته لا في أصل وقوعه كخروج السفياني قبل ذهاب بني العبّاس ونحو ذلك).

(١٧١)

الثالث: هل يجوز الإتيان بالموبقات بغرض تعجيل الفرج؟
الجواب: إنَّ الإتيان بالموبقات من أعظم المحرَّمات في الشريعة، ولا يجوز بحالٍ، ونحن مأمورون في عصر الغيبة بمعرفة إمام زماننا (عليه السلام)، والتحلّي بمكارم الأخلاق، والورع والاجتهاد في العبادة، والحزم في الدين، والاتِّصاف بكلِّ فضيلة نفسانية مع توطين النفس على الصبر على البلاء.
فعن عمرو بن أبان، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «اعرف العلامة، فإذا عرفته لم يضرّك تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر، إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ [الإسراء: 71]، فمن عرف إمامه كان كمن كان في فسطاط المنتظر (عليه السلام)»(210).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال ذات يوم: «ألَا أُخبركم بما لا يقبل الله (عزَّ وجلَّ) من العباد عملاً إلَّا به؟».
فقلت: بلى.
فقال: «شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمّداً عبده، والإقرار بما أمر الله، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا - يعني الأئمَّة خاصَّة -، والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة، والانتظار للقائم (عليه السلام)».
ثمّ قال: «إنَّ لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء».
ثمّ قال: «من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدّوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيَّتها العصابة المرحومة»(211).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(210) الكافي 1: 372/ باب أنَّه من عرف إمام لم يضرّه تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر/ ح 7؛ الغيبة للنعماني: 352/ باب 25/ ح 6.
(211) الغيبة للنعماني: 207/ باب 11/ ح 16.

(١٧٢)

وفي هذا الحديث الشريف نلاحظ أمرين:
الأوَّل: أنَّ لفظة الانتظار قد كُرِّرت باشتقاقات مختلفة في هذا الحديث الشريف، ففي بادئ الأمر جاءت كلمة: «والانتظار للقائم»، ثمّ «فلينتظر وليعمل»، ثمّ «بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر»، ثمّ «فجدّوا وانتظروا»، فهنالك حثٌّ على الانتظار بحيث أنَّ المنتظر يُوطِّن نفسه من جميع الجهات والحيثيات للقاء الإمام (عليه السلام)، ويصبر على ما يريده أهل البيت (عليهم السلام) منه.
الثاني: أنَّ الحصول على الأجر حال الانتظار غير مشروط بخروج الإمام (عليه السلام)؛ لأنَّ الرواية تقول: «فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه».
ويدلُّ على ذلك أيضاً ما رواه الكليني (قدّس سرّه):
الرواية الأولى: عن حريز، عن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «اعرف إمامك فإنَّك إذا عرفت لم يضرّك تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر»(212).
الرواية الثانية: عن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ [الإسراء: 71]، فقال: «يا فضيل، اعرف إمامك، فإنَّك إذا عرفت إمامك لم يضرّك تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر، ومن عرف إمامه ثمّ مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه»، قال: وقال بعض أصحابه: بمنزلة من استشهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم)(213).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(212) الكافي 1: 371/ باب أنَّه من عرف إمامه لم يضرّه تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر/ ح 1.
(213) الكافي 1: 371/ باب أنَّه من عرف إمامه لم يضرّه تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر/ ح 2.

(١٧٣)

فالمطلوب من بادئ الأمر معرفة الإمام ولو بصورة ما كما هو حال معرفتنا به (عليه السلام)، ويكفي لتحقُّق المعرفة أن تعرف أنَّه الإمام الحجَّة بن الحسن العسكري (عليه السلام) المفترض الطاعة الذي غيَّبه الله سبحانه وتعالى، والذي سيُظهِره في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً.
وأمَّا أجر المنتظرين وثوابهم فمذكور في عدَّة روايات، منها رواية أبي خالد الكابلي، عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «ثمّ تمتدُّ الغيبة بوليِّ الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمَّة بعده. يا أبا خالد، إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كلِّ زمان؛ لأنَّ الله تعالى ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف، أُولئك المخلصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله سرّاً وجهراً». وقال (عليه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(214).
وخلاصة المقال في مثل المقام: إنَّ المنتظِر بحاجة إلى إعداد نفسه لاستقبال خروج الإمام (عليه السلام)، حتَّى يكون مؤهَّلاً للدخول في دائرة أنصاره وأتباعه الذين لا ينكثون ولا يتراجعون، وهذا يوجب التحلّي بجملة من الصفات والتخلّي عن الرذائل كما ورد في الروايات الشريفة، فإن حقَّق ذلك كان منتظِراً حقيقياً وإلَّا فلا.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(214) الاحتجاج 2: 50.

(١٧٤)
(١٧٥)

التنبيه الأوّل: العلّة من وجود غيبتين
ولعلَّك تسأل: ما هي العلَّة من وجود غيبتين لصاحب العصر والزمان (عليه السلام) صغرى وكبرى؟ فلماذا لا يكون الاقتصار على واحدة؟
والجواب عن ذلك: أنَّ العقل البشري قاصر عن إدراك حقائق الأُمور، وما وراء الغيب إلَّا أن يأتينا شيء ممَّن يُخبِرون عن الله سبحانه وتعالى بطريق صحيح، وهم الأنبياء والرسل والأئمَّة (عليهم السلام)، وبدون ذلك لا نعلم علَّة ما نحن فيه، ولا سبيل للقطع بشيء؛ ولكن الذي نعلمه أنَّ الله تبارك وتعالى حكيم عليم، لا يفعل شيئاً عبثاً ولغواً، فلا شكَّ عندنا حينئذٍ بأنَّ لغيبته علَّة وحكمة، وأنَّ خفاءها عنّا لا يعني انعدامها.
ومع ذلك فقد تُذكر بعض الوجوه - دون القطع بشيء منها - لبيان وجه الحكمة:
الوجه الأوَّل:
الخطر المحدق بالإمام (عليه السلام) وبشيعته في ذلك الوقت؛ فإنَّ الغيبة الصغرى كانت مقدَّمة توعوية للغيبة الكبرى، بمعنى: أنَّ الغرض من الغيبة الصغرى هو تأهيل الأُمَّة وتوعيتها إلى غيبة لم يُسبَق لها نظير في حجج الله تبارك وتعالى؛ لتصل إلى درجة من الوعي والكمال تستطيع من

(١٧٧)

خلاله تقبُّل غيبة حجَّة الله طوال هذه الفترة بعد اعتيادها على وجود الحجَّة ظاهراً معروفاً بين الناس، وتستطيع من خلال ذلك الاعتماد على نفسها وعلى علمائها لتدبير شؤونهم الدينية، وسيأتي ما يزيد توضيح هذه النقطة.
الوجه الثاني:
إنَّ المستقرئ للظروف والملابسات التي احتفَّت بزمان الإمام الهادي والعسكري (عليهما السلام) وشدَّة الجور الذي وقع عليهما يُدرِك تماماً أنَّ السلطة العبّاسية في ذلك الوقت كانت تسعى جادَّة للبحث عن الإمام المهدي (عليه السلام) لقتله والتخلُّص منه، وبما أنَّ التمهيد للغيبة الكبرى التامَّة يحتاج إلى خطوات تكميلية فلا بدَّ من مرحلة وسطى بين الظهور والغياب التامّ، والمرحلة الوسطى هي الغيبة الصغرى.
ويمكن ذكر عدَّة شواهد على الخطر المحدق بالإمام (عليه السلام) ومبدأ الإمامة بشكل عامّ:
الشاهد الأوَّل:
إجبار الإمام الهادي (عليه السلام) وإكراهه على الخروج من مدينة جدِّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى سامراء؛ لأجل إخضاعه تحت السيطرة والمراقبة الدائمة والشديدة، تحسّباً وترقّباً لولادة حفيده المهدي (عليه السلام)، والذي أجبر الإمام الهادي على ذلك آنذاك هو الخليفة العبّاسي المتوكِّل الذي شهد المؤرِّخون بشدَّة عداوته لأهل بيت النبوَّة (عليهم السلام)، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (وفي سنة ستّ وثلاثين: هدم المتوكِّل قبر الحسين (رضي الله عنه)، فقال البسامي أبياتاً منها:

(١٧٨)
أسفوا على أن لا يكونوا شار   كوا في قتله فتتبَّعوه رميماً

وكان المتوكِّل فيه نصب وانحراف، فهدم هذا المكان، وما حوله من الدور، وأمر أن يُزرَع، ومنع الناس من انتيابه)(215).
ومن شواهد نصبه، ما ذكره الذهبي أيضاً: (ويُروى أنَّ المتوكِّل نظر إلى ابنيه المعتزّ والمؤيَّد، فقال لابن السكّيت: من أحبُّ إليك هما، أو الحسن والحسين؟ فقال: بل قنبر. فأمر الأتراك، فداسوا بطنه، فمات بعد يوم)(216).
هذه هي الفترة التي عاصرها الإمام الهادي (عليه السلام).
الشاهد الثاني:
ما رواه الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في (كمال الدين): عن موسى بن جعفر بن وهب البغدادي أنَّه خرج من أبي محمّد (عليه السلام) توقيع: «زعموا أنَّهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل، وقد كذَّب الله (عزَّ وجلَّ) قولهم، والحمد لله»(217).
الشاهد الثالث:
ما رواه الشيخ الكليني (قدّس سرّه) من وجود جواسيس على دار الإمام العسكري (عليه السلام) في سامراء بعد مرضه من السُّمِّ حتَّى يراقبوا الأوضاع:
(لمَّا اعتلَّ بُعِثَ إلى أبي أنَّ ابن الرضا قد اعتلَّ، فركب من ساعته، فبادر إلى دار الخلافة، ثمّ رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلُّهم من ثقاته وخاصَّته، فيهم نحرير، فأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرُّف خبره وحاله، وبعث إلى نفر من المتطبِّبين، فأمرهم بالاختلاف إليه، وتعاهده صباحاً ومساءً، فلمَّا كان بعد ذلك بيومين أو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(215) سير أعلام النبلاء 9: 445 و446.
(216) سير أعلام النبلاء 9: 437.
(217) كمال الدين: 407/ باب 38/ ح 3.

(١٧٩)

ثلاثة أخبر أنَّه قد ضعف، فأمر المتطبِّبين بلزوم داره، وبعث إلى قاضي القضاة، فأحضره مجلسه، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممَّن يُوثَق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن، وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتَّى توفّي (عليه السلام)، فصارت سُرَّ من رأى ضجَّة واحدة، وبعث السلطان إلى داره من فتَّشها، وفتَّش حجرها، وختم على جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل....).
إلى أن يقول في آخر الرواية: (والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن عليٍّ)(218).
الشاهد الرابع:
وجود اضطراب في الدولة العبّاسية آنذاك بعد علمها بولادة الإمام المهدي (عليه السلام)، ووجود شيعة له يعتقدون بوجوده، وقد حدَّثنا عن ذلك الشيخ المفيد (قدّس سرّه) في (الإرشاد)، فقال:
(وكان قد أخفى مولده وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدَّة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولما شاع من مذهب الشيعة الإماميَّة فيه، وعُرِفَ من انتظارهم له، فلم يُظهِر ولده (عليه السلام) في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته)(219).
الشاهد الخامس:
المداهمات لدار الإمام العسكري (عليه السلام)؛ لأجل البحث عن الإمام المهدي (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(218) الكافي 1: 503 - 506/ باب مولد أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)/ ح 1.
(219) الإرشاد 2: 336.

(١٨٠)

روى الصدوق عن أبي الحسين الحسن بن وجناء يقول: حدَّثنا أبي، عن جدِّه، أنه كان في دار الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)، فكبستنا الخيل، وفيهم جعفر بن عليٍّ الكذّاب، واشتغلوا بالنهب والغارة، وكانت همَّتي في مولاي القائم (عليه السلام).
قال: فإذا (أنا) به (عليه السلام) قد أقبل، وخرج عليهم من الباب، وأنا أنظر إليه، وهو (عليه السلام) ابن ستّ سنين، فلم يرَه أحد حتَّى غاب(220).
هذه الشواهد كلُّها تدلُّ على أنَّ الأوضاع والظروف المحيطة بأهل البيت آنذاك كانت تقتضي وجود غيبة للإمام (عليه السلام).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(220) كمال الدين: 473/ باب 43/ ح 25.

(١٨١)

التنبيه الثاني: حول التوقيعات التي صدرت من صاحب الزمان (عليه السلام)
والبحث في التوقيعات يقع في جهات ثلاث:
الجهة الأولى: ما هو المقصود من التوقيعات؟
التوقيعات الشريفة: هي مجموعة رسائل صدرت من الإمام (عليه السلام) لشيعته، وفيها جملة من الأُمور المهمَّة التي يحتاجونها في أمر دينهم ودنياهم، سواء ابتدأوه بالسؤال فجاءهم الجواب فيها، أو هو (عليه السلام) يبتدئ بالإجابة على ما تضمره نفوس المؤمنين من أسئلة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد كانت هذه التوقيعات الشريفة، بمثابة الوسيلة للتواصل العلمي والديني بين الإمام (عليه السلام) وشيعته، إذ لو لاحظنا الأئمَّة المتقدِّمين، من أبيه إلى أمير المؤمنين (عليهم السلام)، لوجدنا أنَّهم كانوا يعيشون مع الناس، ويجيبون على استفتاءاتهم بالمباشرة، فوصلت الروايات عنهم، وكُتبت الأُصول والمصنَّفات من تلامذتهم، ولم يكن ذلك إلَّا نتيجة توفّر الفرص لمقابلتهم والتواصل معهم والأخذ عنهم مشافهةً، إلَّا في بعض الحالات الاستثنائية التي اقتضت فيها ظروف الأئمَّة (عليهم السلام) إلى اللجوء إلى المكاتبات والمراسلات، كظرف السجن الذي حصل للإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، حيث كان يتَّصل مع أصحابه عن طريق المكاتبات،

(١٨٢)

وهكذا في ظرف الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام)، نتيجة الإقامة الجبرية التي فرضتها عليهم السلطات الجائرة آنذاك.
والأمر كذلك في بقيَّة الله (عليه السلام)، حيث اقتضت ظروف الغيبة هذا النوع من الاتِّصال بشيعته، وقد سُمّيت هذه المكاتبات بالتوقيعات.
الجهة الثانية: أقسام التوقيعات من جهة المضمون:
تنقسم التوقيعات الشريفة من جهة مضمونها إلى أربعة أقسام:
القسم الأوَّل: التوقيعات الفقهية:
وهي التوقيعات التي كان مضمونها مشتملاً على بيان الأحكام الشرعية.
منها: ما ذكره في الوسائل: وبإسناده عن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي أنَّه ورد عليه فيما ورد من جواب مسائله عن محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه): «وَأمَّا مَا سَألْتَ عَنْ الصَّلاَةِ عِنْدَ طُلُوع الشَّمْس وَعِنْدَ غُرُوبهَا، فَلَئِنْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَيْن قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ، فَمَا اُرْغِمَ أنْفُ الشَّيْطَان بِشَيْءٍ مِثْل الصَّلاَةِ، فَصَلِّهَا، وَأرْغِمْ أنْفَ الشَّيْطَان»(221).
ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن بابويه، مثله(222).
ورواه الطبرسي في (الاحتجاج) عن أبي الحسن محمّد بن جعفر الأسدي(223).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(221) وسائل الشيعة 4: 236 و237/ ح (5023/8).
(222) الغيبة للطوسي: 296/ ح 250.
(223) الاحتجاج 2: 298.

(١٨٣)

ورواه الصدوق في (إكمال الدين وإتمام النعمة) عن محمّد بن أحمد الشيباني وعليِّ بن أحمد بن محمّد الدقّاق والحسين بن إبراهيم المؤدّب وعليِّ بن عبد الله الورّاق (رضي الله عنهم)، قالوا: حدَّثنا أبو الحسين محمّد بن جعفر الأسدي، قال: كان فيما ورد من الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري في جواب مسائلي إلى صاحب الدار (عليه السلام)، وذكر الحديث بعينه(224).
ومنها: ما في الاحتجاج: «وَأمَّا مَا سَألْتَ عَنْهُ مِنْ أمْر المَوْلُودِ الَّذِي نَبَتَتْ غُلْفَتُهُ بَعْدَمَا يُخْتَنُ مَرَّةً أُخْرَى، فَإنَّهُ يَجِبُ أنْ يُقْطَعَ غُلْفَتُهُ فَإنَّ الأَرْضَ تَضِجُّ إِلَى اللهِ تَعَالى مِنْ بَوْل الأَغْلَفِ أرْبَعِينَ صَبَاحاً»(225).
القسم الثاني: التوقيعات العقائدية:
وهي التوقيعات التي تحمل مضامين عقائدية.
منها: عن أبي الحسن عليِّ بن أحمد الدلّال القمّي، قال: اختلف جماعة من الشيعة في أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) فوَّض إلى الأئمَّة صلوات الله عليهم أن يخلقوا ويرزقوا، فقال قوم: هذا محال لا يجوز على الله تعالى؛ لأنَّ الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله (عزَّ وجلَّ). وقال آخرون: بل الله أقدر الأئمَّة على ذلك وفوَّض إليهم فخلقوا ورزقوا. وتنازعوا في ذلك نزاعاً شديداً، فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان فتسألوه عن ذلك ليُوضِّح لكم الحقَّ فيه؟ فإنَّه الطريق إلى صاحب الأمر، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلَّمت وأجابت إلى قوله، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيع، نسخته:
«إنَّ الله تعالى هو الذي خلق الأجسام، وقسَّم الأرزاق؛ لأنَّه ليس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(224) كمال الدين: 520/ باب 45/ ح 49.
(225) الاحتجاج 2: 299.

(١٨٤)

بجسم ولا حالّ في جسم، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. وأمَّا الأئمَّة (عليهم السلام)، فإنَّهم يسألون الله تعالى فيخلق، ويسألونه فيرزق، إيجاباً لمسألتهم، وإعظاماً لحقِّهم»(226).
القسم الثالث: التوقيعات الرجالية:
ونريد بها: التوقيعات التي صدرت من الإمام (عليه السلام) لتمييز الرجال وبيان ضلال بعضهم وفساده وكذبه، ووثاقة البعض وعلوِّ مقامه وصلاحه.
ونذكر توقيعين صدرا من الناحية المقدَّسة عن طريق الحسين بن روح (قدّس سرّه):
التوقيع الأوَّل: (... وكذا كان أبو طاهر محمّد بن عليِّ بن بلال، والحسين بن منصور الحلّاج، ومحمّد بن عليٍّ الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقري لعنهم الله، فخرج التوقيع بلعنهم والبراءة منهم جميعاً، على يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، ونسخته:
«عَرِّفْ أطَالَ اللهُ بَقَاءَكَ، وَعَرَّفَكَ اللهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَخَتَمَ بِهِ عَمَلَكَ، مَنْ تَثِقُ بِدِينهِ وَتَسْكُنُ إِلَى نِيَّتِهِ مِنْ إِخْوَانِنَا أدَامَ اللهُ سَعَادَتَهُمْ، بِأنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ المَعْرُوفَ بِالشَّلْمَغَانِيّ عَجَّلَ اللهُ لَهُ النَّقِمَةَ وَلاَ أمْهَلَهُ، قَدِ ارْتَدَّ عَن الإسْلاَم وَفَارَقَهُ وَألْحَدَ فِي دِين اللهِ، وَادَّعَى مَا كَفَرَ مَعَهُ بِالْخَالِقِ جَلَّ وَتَعَالَى، وَافْتَرَى كَذِباً وَزُوراً، وَقَالَ بُهْتَاناً وَإِثْماً عَظِيماً، كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِاللهِ وَضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً، وَخَسِرُوا خُسْراناً مُبِيناً.
وَإِنَّا بَرئْنَا إِلَى اللهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ [عَلَيْهِ] مِنْهُ وَلَعَنَّاهُ، عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللهِ تَتْرَى، فِي الظَّاهِر مِنَّا وَالْبَاطِن،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(226) الاحتجاج 2: 284 و285.

(١٨٥)

فِي السَّرِّ وَالْجَهْر، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى مَنْ شَايَعَهُ وَتَابَعَهُ وَبَلَغَهُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَّا فَأقَامَ عَلَى تَوَلِّيهِ بَعْدَهُ.
أعْلِمْهُمْ تَوَلَّاكُمُ اللهُ أنَّنَا فِي التَّوَقّي وَالمُحَاذَرَةِ مِنْهُ عَلَى مِثْل مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ نُظَرَائِهِ مِنَ السَّريعِيِّ وَالنُّمَيْريِّ وَالْهِلاَلِيِّ وَالْبِلاَلِيِّ وَغَيْرهِمْ.
وَعَادَةُ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَعَ ذَلِكَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا جَمِيلَةٌ، وَبِهِ نَثِقُ وَإِيَّاهُ نَسْتَعِينُ، وَهُوَ حَسْبُنَا فِي كُلِّ أُمُورنَا وَنعْمَ الْوَكِيلُ»(227).
التوقيع الثاني: أخبرنا جماعة، عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود القمّي، قال: وجدت بخطِّ أحمد بن إبراهيم النوبختي، وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه)، على ظهر كتاب فيه جوابات ومسائل أُنفذت من قم يسأل عنها، هل هي جوابات الفقيه (عليه السلام) أو جوابات محمّد بن عليٍّ الشلمغاني؛ لأنَّه حكي عنه أنَّه قال: هذه المسائل أنا أجبت عنها، فكتب إليهم على ظهر كتابهم:
«بِسْم اللهِ الرَّحْمن الرَّحِيم، قَدْ وَقَفْنَا عَلَى هَذِهِ الرُّقْعَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ، فَجَمِيعُهُ جَوَابُنَا عَنْ المَسَائِلِ، وَلاَ مَدْخَلَ لِلْمَخْذُول الضَّالِّ المُضِلِّ المَعْرُوفِ بِالْعَزَاقِريِّ لَعَنَهُ اللهُ فِي حَرْفٍ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَتْ أشْيَاءُ خَرَجَتْ إِلَيْكُمْ عَلَى يَدَيْ أحْمَدَ بْن هِلاَلٍ وَغَيْرهِ مِنْ نُظَرَائِهِ، وَكَانَ مِن ارْتِدَادِهِمْ عَن الإسْلاَم مِثْلُ مَا كَانَ مِنْ هَذَا، عَلَيْهِمْ لَعَنَةُ اللهِ وَغَضَبُهُ»(228).
القسم الرابع: التوقيعات التي يُبيِّن فيها الإمام (عليه السلام) كيفية استنباط الأحكام الشرعية:
فقد أورد الشيخ الطبرسي (قدّس سرّه) توقيعاً طويلاً بيَّن فيه الإمام بعض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(227) الاحتجاج 2: 290.
(228) الغيبة للطوسي: 373/ ح 345.

(١٨٦)

المسائل الفقهية بشكل تفصيلي؛ بل بيَّن الإمام المهدي (عليه السلام) في بعضها طريقة الاستنباط في حال تعارض الأخبار الواردة إلينا وكيفية حلِّ التعارض، فإنَّ إجابات الإمام (عليه السلام) تارةً تكون لعامَّة الناس، وأُخرى خاصَّة لمن استفتاه، وثالثة لخصوص الفقهاء، وهذا المورد الذي بيَّن فيه طريقة الاستنباط هو من قبيل القسم الثالث الخاصّ بالفقهاء، فالفقيه هو الذي يتعامل مع الأخبار وتعارضها وطريقة الجمع بينها.
والتعارض من مهمّات مسائل علم الأُصول، لذا نجد أنَّ الأُصولي يبحث بحثاً مفصَّلاً في التعارض وأقسامه المستقرّ وغير المستقرّ، وكيفية حلِّ التعارض بين الأخبار.
مثل: كتاب آخر لمحمّد بن عبد الله الحميري أيضاً إليه (عليه السلام) في مثل ذلك: فرأيك أدام الله عزَّك في تأمّل رقعتي والتفضّل بما أسأل من ذلك لأضيفه إلى ساير أياديك عندي ومنِّك عليَّ، واحتجت أدام الله عزّك أن يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوَّل إلى الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يُكبِّر؟ فإنَّ بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير، ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوَّته أقوم وأقعد؟
الجواب:
«إِنَّ فِيهِ حَدِيثَيْن: أمَّا أحَدُهُمَا فَإنَّهُ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى فَعَلَيْهِ التَكْبِير، وَأمَّا الآخَرُ: فَإنَّهُ رُوِيَ أنَّهُ إِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فَكَبَّرَ ثُمَّ جَلَسَ، ثُمَّ قَامَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ في الْقِيَام بَعْدَ الْقُعُودِ تَكْبِيرٌ، وَكَذَلِكَ في التَّشَهُّدِ الأوَّلُ، يَجْري هَذَا المَجْرَى، وَبأيَّهِمَا أخَذْتَ مِنْ جِهَةِ التَّسْلِيم كَانَ صَوَاباً»(229).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(229) الاحتجاج 2: 303 و304.

(١٨٧)

الجهة الثالثة: أقسام التوقيعات من جهة النوع:
النوع الأوَّل: التوقيعات الشفهية:
ونريد بها: الأجوبة والرسائل التي يوصلها الإمام (عليه السلام) لشيعته عن طريق أحد نوّابه (رضي الله عنهم)؛ ولكن من غير أن تكون بخطِّه الشريف؛ بل يجيبهم جواباً شفهياً ينقلونه للمؤمنين.
منها: ما ذكره الشيخ الطوسي (قدّس سرّه): (وسمعت أبا عبد الله بن سورة القمّي يقول: سمعت سروراً - وكان رجلاً عابداً مجتهداً لقيته بالأهواز غير أنّي نسيت نسبه - يقول: كنت أخرس لا أتكلَّم، فحملني أبي وعمّي في صباي وسني إذ ذاك ثلاثة عشر أو أربعة عشر، إلى الشيخ أبي القاسم بن روح (رضي الله عنه)، فسألاه أن يسأل الحضرة أن يفتح الله لساني.
فذكر الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح أنَّكم أُمرتم بالخروج إلى الحائر.
قال سرور: فخرجنا أنا وأبي وعمّي إلى الحائر، فاغتسلنا وزرنا، قال: فصاح بي أبي وعمّي: يا سرور، فقلت بلسان فصيح: لبِّيك، فقال لي: ويحك تكلَّمت، فقلت: نعم.
قال أبو عبد الله بن سورة: وكان سرور هذا رجلاً ليس بجهوري الصوت)(230).
النوع الثاني: التوقيعات المستعجلة:
وهي التوقيعات التي خرجت من صاحب العصر والزمان (عليه السلام) سريعة لمسألة طارئة وقعت استدعت هذا النوع من الاتِّصال، كما خرج منه في لعن أبي العزاقر، روى الشيخ الطوسي (قدّس سرّه):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(230) الغيبة للطوسي: 309 و310/ ح 262.

(١٨٨)

(أخبرنا جماعة، عن أبي محمّد هارون بن موسى، قال: حدَّثنا محمّد بن همّام، قال: خرج على يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) في ذي الحجَّة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة في [لعن] ابن أبي العزاقر والمداد رطب لم يجف)(231).
النوع الثالث: التوقيعات الغيبية:
ونريد بها التوقيعات التي يبتدئ بها الإمام (عليه السلام) السائل بالإجابة مع أنَّه لم يسأله بعد.
منها: عن أبي الحسين الأسدي، قال: ورد عليَّ توقيع من الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه) ابتداءً لم يتقدَّمه سؤال عنه، نسخته:
«بسم الله الرحمن الرحيم، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من استحلَّ من أموالنا درهماً».

قال أبو الحسين الأسدي (رحمه الله): فوقع في قلبي أنَّ ذلك فيمن استحلَّ من مال الناحية درهماً دون من أكل منه غير مستحلٍّ، وقلت في نفسي: إنَّ ذلك في جميع من استحلَّ محرَّماً، فأيُّ فضل في ذلك للحجَّة (عليه السلام) على غيره؟!
قال: فوَالذي بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) بالحقِّ بشيراً، لقد نظرت بعد ذلك في التوقيع فوجدته قد انقلب إلى ما كان في نفسي:
«بسم الله الرحمن الرحيم، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من أكل من مالنا درهماً حراماً»(232).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(231) الغيبة للطوسي: 409 و410/ ح 384.
(232) الاحتجاج 2: 300.

(١٨٩)

وبعد بيان هذه الجهات الثلاث، يبقى تساؤلان:
التساؤل الأوَّل: كيف كانت الطريقة التي يتلقّى فيها السفراء (رضي الله عنهم) التوقيعات من الإمام (عليه السلام)؟
الجواب: لا علم لنا بذلك، ولم نرَ عنهم (رضي الله عنهم) بياناً لتلك الطريقة.
التساؤل الثاني: هل نقطع بصدور التوقيعات كلُّها عن وليِّ الله الأعظم أرواحنا فداه؟
الجواب: أنَّ حال التوقيعات من جهة الأخذ والردِّ حال بقيَّة الروايات الشريفة الواردة عن أئمَّة الهدى (عليهم السلام)؛ فهي تخضع للميزان العلمي في توثيق وتضعيف رواتها أو الوثوق بصدورها، فإن اتَّصف التوقيع بشرائط الحجّية أُخِذَ به وعُمِلَ بمقتضاه، وإلَّا فلا.

* * *

(١٩٠)

التنبيه الثالث: تساؤلات حول جعفر بن الإمام الهادي (عليه السلام)
التساؤل الأوَّل:
كيف يدَّعي منصباً كهذا مع كونه ابن الإمام الهادي (عليه السلام)؟ وكيف غابت عنه كلمات أبيه وآبائه الطاهرين في أنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) هو الإمام الذي يلي والده العسكري (عليه السلام)؟
الجواب: إن صحَّ ما نُسِبَ إلى جعفر فالقصور فيه، وليس في الأئمَّة (عليهم السلام)، ولنا في ابن نوح وإخوة يوسف وزوجتي نوح ولوط عبرة، فهؤلاء أبناء أنبياء وأزواج أنبياء، سمعوا من الأنبياء سبل الرشاد والهداية، وطرق الضلال والغواية، ومع ذلك ضلّوا وباؤوا بغضب من الله (عزَّ وجلَّ) كما حكى لنا ذلك القرآن الكريم، قال الله تعالى: ﴿قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ﴾ (هود: 46).
وقال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ﴾ (يوسف: 7 - 9).
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما

(١٩١)

فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ (التحريم: 10).
نعم، بالنسبة إلى إخوة يوسف (عليه السلام) ربَّما يقال بتوبتهم وإنابتهم.
التساؤل الثاني: ماذا كان مصير جعفر الكذّاب؟ هل تاب أو مات وهو على هذا الحال؟
الجواب: ورد في توقيع له (عليه السلام): «أمَّا سبيل عمّي جعفر وولده، فسبيل إخوة يوسف (عليه السلام)»(233).
إلَّا أنَّ المراد بـ «سبيل إخوة يوسف» محلُّ بحث ونزاع، فهل المراد: لا تتعجَّبوا من حال عمّي جعفر فهو كإخوة يوسف، وهم أولاد نبيٍّ من الأنبياء، وقد أدّى بهم الحسد لفعل ما فعلوا. أم أنَّ المراد: إنَّ جعفراً قد تاب كما تاب إخوة يوسف؟
وكلاهما محتملان.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(233) كمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4.

(١٩٢)

التنبيه الرابع: السرداب واتّهام المؤرّخين
إنَّ المتتبِّع والقارئ لا يستغرب من اتِّهامات المخالفين للمؤمنين، ومن جملة الافتراءات التي افتعلها المخالفون لأجل التشنيع على الشيعة فريَّة السرداب المبارك التي يشهد الواقع والوجدان بكذبها وبطلانها، وإليك نصوص جماعة منهم لتقف على حجم الافتراء والتشنيع:
نصوص المخالفين:
ابن خلدون:
قال ابن خلدون في تاريخه: (يزعمون أنَّ الثاني عشر من أئمَّتهم - وهو محمّد بن الحسن العسكري، ويُلقِّبونه المهدي - دخل في سرداب بدارهم في الحلَّة! وتغيَّب، حين اعتُقِلَ مع أُمِّه، وغاب هنالك، وهو يخرج آخر الزمان، فيملأ الأرض عدلاً، يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي، وهم إلى الآن ينتظرونه، ويُسمّونه المنتظر لذلك، ويقفون في كلِّ ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب، وقد قدَّموا مركباً، فيهتفون باسمه، ويدعونه للخروج حتَّى تشتبك النجوم، ثمّ ينفضّون ويرجئون الأمر إلى الليلة الآتية، وهم على ذلك لهذا العهد)(234).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(234) تاريخ ابن خلدون 1: 249.

(١٩٣)

ابن قيِّم الجوزية:
ويقول ابن قيِّم الجوزية: (وأمَّا الرافضة الإماميَّة، فلهم قول رابع: وهو أنَّ المهدي، هو محمّد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن عليٍّ، لا من ولد الحسن، الحاضر في الأمصار، الغائب عن الأبصار، الذي يورث العصا، ويختم الفضا، دخل سرداب سامراء طفلاً صغيراً من أكثر من خمس مئة سنة، فلم ترَه بعد ذلك عين، ولم يحسّ فيه بخبر ولا أثر، وهم ينتظرونه كلَّ يوم، يقفون بالخيل على باب السرداب، ويصيحون به أن يخرج إليهم: اُخرج يا مولانا، اُخرج يا مولانا، ثمّ يرجعون بالخيبة والحرمان، فهذا دأبهم ودأبه. ولقد أحسن من قال:

ما آن للسرداب أن يلد الذي

فعلى عقولكم العفاء فإنَّكم

 

كلَّمتموه بجهلكم ما آنا

ثلَّثتم العنقاء والغيلانا

ولقد أصبح هؤلاء عاراً على بني آدم، وضحكة يسخر منها كلُّ عاقل)(235)،(236).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(235) المنار المنيف 1: 152.
(236) وقد تصدّى لهم ثُلَّة من علمائنا وأُدبائنا الأفذاذ بالردِّ على مثل هذه الاتِّهامات وتفنيدها, وأحدهم السيِّد حيدر الحلّي حيث أنشأ مشطِّراً:

ما آن للسرداب أن يلد الذي
هو نور ربِّ العالمين وإنَّما
فعلى عقولكم العفاء لأنَّكم

لو لم تثنوا العجل ما قلتم لنا

 

فيه تغيب عنكم كتمانا

صيَّرتموه بزعمكم إنسانا

أنكرتم بجحوده القرآنا

ثلَّثتم العنقاء والغيلانا

وأشار بقوله: (أنكرتم بجحوده القرآنا) إلى قوله تعالى: ﴿فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (الصافّات: 143 و144)، وهذه الآية دليل على بقاء الإمام المهدي (عليه السلام), وهو حيٌّ يُرزَق ينتظر الأمر بظهوره.

(١٩٤)

ابن حجر:
وقال ابن حجر في صواعقه: (قال بعض أهل البيت: وليت شعري من المخبر لهم بهذا؟! وما طريقه؟! ولقد صاروا بذلك، وبوقوفهم بالخيل على ذلك السرداب، وصياحهم بأن يخرج إليهم ضحكة لأُولي الألباب)(237).
عبد الله القصيمي:
(وإنَّ أغبى الأغبياء، وأجمد الجامدين، هم الذين غيَّبوا إمامهم في السرداب، وغيَّبوا معه قرآنهم ومصحفهم، ومن يذهبون كلَّ ليلة بخيولهم وحميرهم إلى ذلك السرداب الذي غيَّبوا فيه إمامهم، ينتظرونه وينادونه ليخرج إليهم، ولا يزال عندهم ذلك منذ أكثر من ألف عام)(238).
الجواب عنها:
قال تعالى: ﴿كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات: 52 - 55).
نقول لمن ساغ له الافتراء على الدين الحنيف، والمذهب الرصين، بذكر أُمور واضحة البطلان، بشهادة الوجدان: ألَا تعلمون أنَّ للشيعة علماء فقهاء يذودون عنه الافتراءات والأكاذيب، وأنَّ المكتبات عامرة بكتبهم الشريفة؟!
أفلا تخافون أن تنكشف عورتكم في زمن من الأزمنة؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(237) الصواعق المحرقة 2: 483.
(238) الصراع بين الإسلام والوثنية 1: 374.

(١٩٥)

ردود أعلام الإماميّة:
وها نحن نذكر بعض ردود الأعلام أعلى الله في الجنان مقامهم:
الميرزا النوري:
قال الميرزا النوري الطبرسي (قدّس سرّه): (والحقُّ أنَّ مكان التعجّب المخجل لتلك الجماعة مَنْ ينثر الشعير ليالي الجُمَع في حضائر الحيوانات التي بنوها على سطوح مساجدهم وبيوتهم لحمار الله؛ لأنَّه ينزل من العرش، وحتَّى لا يبقى الحيوان جائعاً(239).
فمن الطبيعي أن يعترضوا بهذا النوع من الاعتراضات على غيرهم.
والجواب: أنَّه لم يُرَ ولم يُسمَع لحدِّ الآن في أيِّ كتاب من كتب الشيعة، من المتقدِّمين والمتأخِّرين، والفقهاء والمحدِّثين والمؤمنين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(239) حتَّى لا يظنُّ القرّاء الأعزّاء أنَّ علماءنا العظام على دأب علمائهم في الكذب والافتراء، نشير إلى أنَّ ما ذكره الميرزا النوري الطبرسي أعلى الله مقامه الشريف ليس من عنده؛ بل ذكره علماء السُّنَّة أنفسهم، ومنهم:
ابن عساكر: (ومن أظلم ممَّن كتم شهادة عنده من الله، إنَّ جماعة من الحشوية، والأوباش الرعاع، المتوسِّمين بالحنبلية، أظهروا ببغداد من البدع الفظيعة، والمخازي الشنيعة، ما لم يتسمَّح به ملحد، فضلاً عن موحِّد، ولا تجوز به قادح في أصل الشريعة ولا معطِّل، ونسبوا كلَّ من يُنزَّه الباري تعالى وجلَّ عن النقائص والآفات، وينفى عنه الحدوث والتشبيهات، ويُقدِّسه عن الحلول والزوال، ويُعظِّمه عن التغيّر من حال إلى حال، وعن حلوله في الحوادث، وحدوث الحوادث فيه، إلى الكفر والطغيان، ومنافاة أهل الحقِّ والإيمان...؛ وتمادت الحشوية في ضلالتها، والإصرار على جهالتها، وأبو إلَّا التصريح بأنَّ المعبود ذو قدم وأضراس ولهوات وأنامل، وأنَّه ينزل بذاته، ويتردَّد على حمار، في صورة شاب أمرد بشعر قطط، وعليه تاج يلمع، وفي رجليه نعلان من ذهب، وحفظ ذلك عنهم، وعلَّلوه ودوَّنوه في كتبهم، وإلى العوامِّ ألقوه).
راجع: تبيين كذب المفتري فيما نُسِبَ للأشعري 1: 310 و311.

(١٩٦)

والمنتحلين الإماميَّة بأنَّ المهدي (عليه السلام) بقي في السرداب منذ غيبته، وسوف يُوضَّح الجواب في أواخر الباب السابع بشكل أكثر عن هذا الافتراء، ويُعلَم مَنْ هو الجاهل والذي يقول جزافاً، وعلى مَنْ لا بدَّ أن يُضحَك؟
فالحلَّة بنيت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة كما صرَّح بذلك ابن خلّكان في أحوال صدقة بن منصور الملقَّب بسيف الدولة، وغيره من المؤرِّخين، ولذلك فهي معروفة بالحلَّة السيفية.
وإنَّ أكثر مؤرِّخيهم نسبوا سرداب الغيبة إلى هناك، ولم يكن وقت الولادة حتَّى اسمها، كما يقول الشهرستاني في الملل والنحل مع ادِّعائه طول الباع وكثرة الاطِّلاع: إنَّ قبر الإمام عليٍّ النقيِّ (عليه السلام) في قم.
ولا أدري إذا كانت منقولاته في اللغة والنحو والصرف هكذا بلا أساس، فوا ويلاه بحال تلك العلوم)(240).
العلَّامة الأميني:
وقال العلَّامة الأميني (قدّس سرّه): (وفريَّة السرداب أشنع، وإن سبقه إليها غيره من مؤلِّفي أهل السُّنَّة؛ لكنَّه زاد في الطمور نغمات، بضمِّ الحمير إلى الخيول، وادِّعائه اطِّراد العادة في كلِّ ليلة، واتِّصالها منذ أكثر من ألف عام، والشيعة لا ترى أنَّ غيبة الإمام في السرداب، ولا هم غيَّبوه فيه، ولا أنَّه يظهر منه، وإنَّما اعتقادهم المدعوم بأحاديثهم أنَّه يظهر بمكّة المعظَّمة تجاه البيت، ولم يقل أحد في السرداب: إنَّه مغيب ذلك النور، وإنَّما هو سرداب دار الأئمَّة بسامراء، وإنَّ من المطَّرد إيجاد السراديب في الدور وقايةً من قايظ الحرِّ، وإنَّما اكتسب هذا السـرداب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(240) النجم الثاقب 1: 418 و419.

(١٩٧)

 بخصوصه الشرف الباذخ لانتسابه إلى أئمَّة الدين، وأنَّه كان مبوء لثلاثة منهم، كبقيَّة مساكن هذه الدار المباركة، وهذا هو الشأن في بيوت الأئمَّة (عليهم السلام) ومشـرِّفهم النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلم) في أيِّ حاضرة كانت، فقد أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه.
وليت هؤلاء المتقوِّلين في أمر السـرداب، اتَّفقوا على رأي واحد في الأُكذوبة، حتَّى لا تلوح عليها لوائح الافتعال فتفضحهم، فلا يقول ابن بطوطة في رحلته (صفحة 198): إنَّ هذا السـرداب المنوَّه به في الحلَّة، ولا يقول القرماني في (أخبار الدول): إنَّه في بغداد، ولا يقول الآخرون: إنَّه بسامراء. ويأتي القصيمي من بعدهم فلا يدري أين هو فيُطلِق لفظ السرداب ليستر سوءته)(241).
أقول: لا يخفى على أحد أنَّ ما ذكروه من أمر السـرداب كذب محض وافتراء واضح بشهادة الوجدان، فليس السـرداب بالحلَّة وإنَّما هو في سامراء، كما لم يذكر المؤرِّخون - من غير هؤلاء الكذّابين - وقوف الشيعة في كلِّ ليلة بعد صلاة المغرب أمام السـرداب والهتاف باسم الإمام (عليه السلام).
وأمَّا دعوى غياب الإمام المهدي (عليه السلام) وبقائه في السـرداب فبينها وبين الصحَّة بُعد المشـرقين، وظنّي - وظنُّ الألمعي عين اليقين - أنَّهم يعرفون الحقيقة، فيسترونها ويخفونها ويُموِّهون عليها؛ لأنَّ طبيعة الأماكن الحارَّة آنذاك تقتضـي وجود سراديب في البيوت ليحتمي أهلها من قائظ الحرِّ ويستريحوا في برودتها، كذلك كان السـرداب في بيت الإمام العسكري (عليه السلام) شأنه شأن تلك السـراديب؛ ولكن هذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(241) الغدير 3: 308 و309.

(١٩٨)

السـرداب تميَّز بخصوصية وهي أنَّه محلّ عبادة ثلاثة من الأئمَّة، وهم: الإمام الهادي والعسكري والمهدي (عليهم السلام)، فكان محلّ ومحطّ الرحمة الإلهيَّة.
فلست ترى أحداً من الشيعة الإماميَّة يؤمن بأنَّ الإمام المهدي (عليه السلام) باقٍ في السـرداب؛ بل نحن نزوره، ونُصلّي فيه لله سبحانه وتعالى، وندعوه (عزَّ وجلَّ) في هذا المكان؛ لكونه جزءاً من البيت الذي كان أهل البيت (عليهم السلام) يدعون ويُصلّون فيه، ويبتهلون إلى الله سبحانه وتعالى في رحابه، فهو محلُّ دعائهم وأعمالهم وقرائتهم للقرآن الكريم، ومنه يصعد الكلم الطيِّب، فهذه هي بيوتهم الشـريفة، محلّ عناية خاصَّة من قِبَل الله سبحانه وتعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾ (النور: 36).
نعم، توجد بعض الروايات التي نقلها غير واحد من علمائنا الأبرار مفادها: أنَّ الدولة العبّاسية سمعوا القرآن في السرداب، فهجموا عليه، وكان الإمام المهدي (عليه السلام) يتعبَّد فيه، وحين دخولهم خرج من بينهم، بحيث إنَّه مشى من جانب قائد القوم ولم يعلم به، فقالوا له: لماذا لم تمسكه، خرج أمامك؟! فقال لهم: ما رأيته(242).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(242) راجع: بحار الأنوار 52: 52 و53/ ح 37.

(١٩٩)

التنبيه الخامس: وقفة مع منشأ المنع من لطف الإمام (عليه السلام)
إنَّ الله سبحانه وتعالى منَّ على البشر ببعث الأنبياء والرسل والأوصياء حتَّى يُعلي كلمة الحقِّ والتوحيد، ويفيض الألطاف على البشر من خلالهم، فإذا منعوا من هذه الألطاف والخيرات، فليس ذلك لعدم وجود المقتضي؛ بل لوجود المانع من نزول الفيض واللطف الإلهيين.
وبعبارة أُخرى: من الأُمور العقلائية المتَّفق عليها أنَّ التاجر الثري قد يُعطي أولاده أموالاً ليختبرهم فيها، فإذا تاجروا بالشكل الصحيح أعطاهم وزادهم من ثروته، وإلَّا قطع عنهم المدد والمال، والسبب في ذلك ليس عدم وجود المال، أو لأنَّه لا يريد أن يعطيهم لبخل فيه؛ بل إنَّ الثروة متوفِّرة والإرادة موجودة؛ ولكنَّه حجبها عنهم لأنَّهم لم يحسنوا استعمالها، فأسرفوا فيها، وضيَّعوها ولم يضعوها في مواضعها.
فكذلك نقول: إنَّ سبب حجب اللطف الحاصل من وجود الإمام المهدي (عليه السلام) عن الناس، هم الناس أنفسهم، فإنَّ الله تعالى جعله إماماً وأنشأه بينهم لينتفعوا بمحضره الشريف، ويُقرِّبهم لما فيه قربهم من الله (عزَّ وجلَّ)، وليُبعِّدهم عن ما فيه بعد عن الله تعالى؛ ولكنَّهم حينما جحدوا بإمامة المفترض عليهم طاعته، وحاولوا قتله ومحاربته، حجب عنهم اللطف، ولا يُنسَب حرمانهم اللطف إلى الله سبحانه؛ بل المسؤول عن

(٢٠٠)

 الاحتجاب، وعن الحرمان من الاستضاءة بذلك النور الساطع هم من أرادوا قتله، فتبقى الثمرة محفوظة، واللطف مصون بوجوده الشريف؛ ولكن الناس هم المانع من إيصالها.
وهذا بيان لما قرَّره علماؤنا الأعلام بما حاصله: أنَّ وجود الإمام لطف، وفعله لطف آخر، وعدمه من البشر، ومعنى ذلك أنَّ أصل وجود الإمام لطف من الله سبحانه وتعالى للبشر، وفعل الإمام المهدي (عليه السلام) الخارجي لطف آخر للبشر، ويرجع سبب عدم حصولهم على اللطف الثاني إليهم.

* * *

(٢٠١)

خاتمة في توصيات المرجعية

توصية:
وما دام وصل بنا الكلام إلى هذا المقام، فنتبرَّك بنقل توصيات سماحة المرجع الديني الكبير الأُستاذ الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلُّه الوارف)، حيث يفيد سماحته:
(إنَّ إمام العصر (عليه السلام) مثله مثل الشمس، فلو أنَّ الإنسان جلس في بيته وكان مغلقاً لا تدخله الشمس، فإنَّ أشعَّتها لن تسقط عليه، إلَّا إذا برز لها، وهكذا حال الإنسان، فإنَّ جدران الذنوب والمعاصي والآفات الروحية تحجب عنه أشعَّة شمس الإمام (عليه السلام)، فإذا رفع هذه الحجب، وخرج منها، استضاء بنور وليِّ الله الأعظم أرواحنا فداه).
ومن وصاياه (دام ظلّه):
أوَّلاً: أن يُهدي الإنسان ختمة القرآن الكريم إلى الإمام (عليه السلام) في شهر رمضان، فإن فعل ذلك كان مع الإمام، كما هو مقتضى الرواية الصحيحة(243)، وهذا غاية المنى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(243) عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن يحيى بن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن عليِّ بن المغيرة، عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال: قلت له: إنَّ أبي سأل جدَّك، عن ختم القرآن في كلِّ ليلة، فقال له جدُّك: «كلُّ ليلة»، فقال له: في شهر رمضان، فقال له جدُّك: «في شهر رمضان»، فقال له أبي: نعم ما استطعت.
فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان، ثمّ ختمته بعد أبي فربَّما زدت وربَّما نقصت على قدر فراغي وشغلي ونشاطي وكسلي، فإذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ختمة ولعليٍّ (عليه السلام) أُخرى ولفاطمة (عليها السلام) أُخرى، ثمّ للأئمَّة (عليهم السلام) حتَّى انتهيت إليك، فصيَّرت لك واحدة منذ صرت في هذا الحال، فأيُّ شيء لي بذلك؟ قال: «لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة»، قلت: الله أكبر، [فـ]ـلي بذلك؟! قال: «نعم»، ثلاث مرّات.
راجع: الكافي 2: 618/ باب في كم يُقرأ القرآن ويُختَم/ ح 4.

(٢٠٣)

ثانياً: أن تقرأ كلَّ يوم من أيّام السنة جزءاً من القرآن الكريم وتهديه إلى الإمام (عليه السلام).
ثالثاً: قراءة سورة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ (11) مرَّة صباحاً ومثلها مساءً، نيابةً عن صاحب العصر والزمان (عليه السلام)، وتهديها في اليوم الأوَّل إلى النبيِّ، وفي اليوم الثاني إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي اليوم الثالث إلى السيِّدة الزهراء (عليها السلام)، وهكذا إلى بقيَّة الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن آثار هذا العمل المبارك: حفظ النفس والدار ومن يحيط بها.
رابعاً: الاهتمام بقراءة دعاء العهد: «اللّهمّ ربِّ النور العظيم...»(244) بعد صلاة الصبح؛ لأنَّه مبايعة متجدِّدة لإمام العصر والزمان (عليه السلام) في كلِّ يوم.
خامساً: قراءة سورة يس كلَّ يوم في أيِّ وقت، وإهداؤها إلى السيِّدة الزهراء (عليها السلام).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(244) المزار لابن المشهدي: 663 - 666.

(٢٠٤)

المصادر

1 - القرآن الكريم.
2 - إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات: محمّد بن الحسن بن عليِّ بن الحسين الحرّ العاملي (قدّس سرّه)، قدَّم له: آية الله العظمى السيِّد شهاب الدين المرعشي النجفي (قدّس سرّه)، مؤسَّسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت، الطبعة الأُولى/ 1425هـ.
3 - الاحتجاج: الشيخ الطبرسي (قدّس سرّه)، تحقيق: السيِّد محمّد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر - النجف الأشرف/ 1386هـ.
4 - الارشاد: الشيخ المفيد (قدّس سرّه)، تحقيق: مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الثانية/ 1414هـ.
5 - الأُصول العامَّة للفقه المقارن: السيِّد محمّد تقي الحكيم، مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) للطباعة والنشر، الطبعة الثانية/ 1979م.
6 - الأعلام: خير الدين بن محمود بن محمّد بن عليّ بن فارس، الزركلي الدمشقي، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر/ 2002م.
7 - الأمالي: الشيخ الصدوق (قدّس سرّه)، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميَّة، مؤسَّسة البعثة - طهران/ الطبعة الأُولى/ 1417هـ.
8 - بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي (قدّس سرّه)، مؤسَّسة الوفاء - بيروت، الطبعة الثانية/1403هـ.
9 - بحث حول المهدي (عليه السلام): السيِّد محمّد باقر الصدر (رحمه الله)، تحقيق: الدكتور عبد الجبّار شرارة، مركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة، الطبعة الأُولى/ 1417هـ.

(٢٠٥)

10 - بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن بن فروخ (الصفّار) (قدّس سرّه)، تحقيق: الحاجّ ميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلمي - طهران/ 1404هـ.
11 - البيان في تفسير القرآن: زعيم الحوزة العلمية السيِّد أبو القاسم الخوئي (قدّس سرّه)، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الرابعة/ 1395هـ.
12 - تبيين كذب المفتري فيما نُسِبَ إلى الإمام أبي الحسن الأشعري: أبو القاسم عليُّ بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة/ 1404هـ.
13 - التعليقات الحسان على صحيح ابن حبّان: أبو عبد الرحمن محمّد ناصر الدين بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، دار باوزير للنشر والتوزيع - جدَّة، الطبعة الأُولى/ 1424هـ.
14 - تفسير السمعاني: أبو المظفر، منصور بن محمّد بن عبد الجبّار بن أحمد المروزي السمعاني التميمي الحنفي ثمّ الشافعي، المحقِّق: ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عبّاس بن غنيم، دار الوطن - الرياض، الطبعة الأُولى/ 1418هـ.
15 - تفسير القرطبي: محمّد بن أحمد القرطبي، تصحيح: أحمد عبد العليم البردوني، دار إحياء التراث العربي - بيروت/ 1405هـ.
16 - تفسير النسفي: أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي، حقَّقه وخرَّج أحاديثه: يوسف عليّ بديوي، راجعه وقدَّم له: محيي الدين ديب مستو، دار الكلم الطيِّب - بيروت، الطبعة الأُولى/ 1419هـ.
17 - تفسير جوامع الجامع: الشيخ الطبرسي (قدّس سرّه)، تحقيق والنشر: مؤسَّسة النشر الإسلامي - قم المقدَّسة، الطبعة الأُولى/ 1418هـ.
18 - التيجَان في مُلوك حِمْيَرْ: عبد الملك بن هشام بن أيّوب الحميري المعافري،

(٢٠٦)

أبو محمّد، جمال الدين، تحقيق: مركز الدراسات والأبحاث اليمنية - صنعاء، الطبعة الأُولى/ 1347هـ.
19 - حياة الإمام المهدي (عليه السلام): الشيخ باقر شريف القرشي (رحمه الله)، الطبعة الأُولى/ 1417هـ.
20 - الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي (قدّس سرّه)، تحقيق: مؤسَّسة الإمام المهدي (عليه السلام) بإشراف السيِّد محمّد باقر الموحِّد الأبطحي - قم المقدَّسة، الطبعة الأُولى/ 1409هـ.
21 - الخصال: للشيخ الصدوق (قدّس سرّه)، صحَّحه وعلَّق عليه: علي أكبر غفاري، مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية - قم المقدَّسة/ 1403هـ.
22 - الدرُّ المنثور: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، دار الفكر - بيروت.
23 - دفاع عن الكافي: ثامر هاشم حبيب العميدي، مركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة، الطبعة الأُولى/ 1415هـ.
24 - ديوان المبتدأ والخبر (تاريخ ابن خلدون): عبد الرحمن بن محمّد بن محمّد، ابن خلدون أبو زيد، وليّ الدين الحضرمي الإشبيلي، المحقِّق: خليل شحادة، دار الفكر - بيروت، الطبعة الثانية/ 1408هـ.
25 - رسالة مختصرة في النصوص الصحيحة على إمامة الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام): المرجع الديني الكبير الميرزا جواد التبريزي (قدّس سرّه)، دار الصدّيقة الشهيدة، الطبعة الأُولى/ 1419هـ.
26 - رسائل الشريف المرتضى: الشريف المرتضى (قدّس سرّه)، تحقيق: السيِّد أحمد الحسيني/ إعداد: مهدي الرجائي، دار القرآن الكريم - قم المشرَّفة، 1405هـ.

(٢٠٧)

27 - روضة الألباب لمعرفة الأنساب: النسّابة الزيدي السيِّد أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني.
28 - رؤيا يوحنّا.
29 - زاد المسير في علم التفسير: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن محمّد الجوزي، المحقِّق: عبد الرزّاق المهدي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأُولى/ 1422هـ.
30 - سرُّ السلسلة العلوية: أبو نصر البخاري، تقديم وتعليق: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم، انتشارات شريف الرضي، الطبعة الأُولى/ 1413هـ.
31 - سنن الترمذي: محمّد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحّاك الترمذي، تحقيق وتعليق: أحمد محمّد شاكر ومحمّد فؤاد عبد الباقي وإبراهيم عطوة عوض المدرِّس في الأزهر الشريف، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر، الطبعة الثانية/ 1395هـ.
32 - السنن الكبرى: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن عليّ الخراساني النسائي، حقَّقه وخرَّج أحاديثه: حسن عبد المنعم شلبي، أشرف عليه: شعيب الأرناؤوط، مؤسَّسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأُولى/ 1421هـ.
33 - السنن الكبرى: أبو بكر ثين أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقي، دار الفكر - بيروت.
34 - سير أعلام النبلاء: محمّد الذهبي، تحقيق: مجموعة من المحقِّقين بإشراف شعيب الأرنؤوط، مؤسَّسة الرسالة، الطبعة الثالثة/ 1405هـ.
35 - الشجرة المباركة في أنساب الطالبية: فخر الدين الرازي، تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي العامَّة - قم المقدَّسة، الطبعة الأُولى/ 1409هـ.

(٢٠٨)

36 - شرح المقاصد في علم الكلام: التفتازاني، دار المعارف النعمانية - باكستان، الطبعة الأُولى/ 1401هـ.
37 - صحيح ابن خزيمة: أبو بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري، المحقِّق: د. محمّد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي - بيروت.
38 - صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري، دار الفكر للطباعة والنشر/ 1401هـ.
39 - صحيح مسلم: مسلم النيسابوري، تحقيق: محمّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت.
40 - الصراع بين الإسلام والوثنية: الشيخ الأميني (قدّس سرّه)، إعداد الشيخ فارس تبريزيان الحسّون.
41 - الصواعق المحرقة: أحمد بن محمّد بن عليّ بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، المحقِّق: عبد الرحمن بن عبد الله التركي وكامل محمّد الخرّاط، مؤسَّسة الرسالة - لبنان، الطبعة الأُولى/ 1417هـ.
42 - العبر في خبر من غبر: شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، المحقِّق: أبو هاجر محمّد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية - بيروت.
43 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق (قدّس سرّه)، تحقيق: السيِّد محمّد صادق بحر العلوم، منشورات المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف/ 1385هـ.
44 - العواصم والقواصم في الذبِّ عن سُنَّة أبي القاسم: ابن الوزير محمّد بن إبراهيم بن عليّ بن المرتضى بن المفضَّل الحسني القاسمي، حقَّقه وضبط نصّه وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه: شعيب الأرنؤوط، مؤسَّسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الثالثة/ 1415هـ.

(٢٠٩)

45 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق (قدّس سرّه)، تحقيق: الشيخ حسين الأعلمي/ مؤسَّسة الأعلمي - بيروت/ 1404هـ.
46 - الغدير: العلَّامة الأميني (قدّس سرّه)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الرابعة/ 1397هـ.
47 - الغيبة: الشيخ الطوسي (قدّس سرّه)، تحقيق: الشيخ عباد الله الطهراني، الشيخ عليّ أحمد ناصح، مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة - قم المقدَّسة، الطبعة الأُولى/ 1411هـ.
48 - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني (قدّس سرّه)، تحقيق: فارس حسّون كريم، الناشر: أنوار الهدى، الطبعة الأُولى/ 1422هـ.
49 - فتحُ البيان في مقاصد القرآن: أبو الطيِّب محمّد صديق خان بن حسن بن عليّ بن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي، عني بطبعه وقدَّم له وراجعه: خادم العلم عبد الله بن إبراهيم الأنصاري، المكتبة العصريَّة للطباعة والنشر - بيروت/ 1412هـ.
50 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: محمّد بن عليّ بن محمّد الشوكاني، الناشر: عالم الكتب؛ وأيضاً دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الأُولى.
51 - فضائل الصحابة: أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، المحقِّق: د. وصيُّ الله محمّد عبّاس، مؤسَّسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأُولى/ 1403هـ.
52 - الفوائد الرجالية: السيِّد مهدي بحر العلوم (قدّس سرّه)، تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم، حسين بحر العلوم، مكتبة الصادق - طهران، الطبعة الأُولى/ 1363ش.

(٢١٠)

54 - القاموس المحيط: الفيروز آبادي.
55 - المجدي في أنساب الطالبين: عليُّ بن محمّد العلوي العمري، تحقيق: الدكتور أحمد المهدوي الدامغاني/ إشراف: الدكتور السيِّد محمود المرعشي، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي العامَّة - قم المقدَّسة، الطبعة الأُولى/ 1409هـ.
56 - الكافي: الشيخ الكليني (قدّس سرّه)، تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميَّة - طهران، الطبعة الخامسة/ 1363ش.
57 - كامل الزيارات: الشيخ الجليل جعفر بن محمّد بن قولويه (قدّس سرّه)، تحقيق: الشيخ جواد القيّومي، مؤسَّسة نشر الفقاهة، الطبعة الأُولى/ 1417هـ.
58 - الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري، جار الله، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة/ 1407هـ.
59 - كفاية الأثر: الشيخ الخزّاز القمّي (قدّس سرّه)، تحقيق: السيِّد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري الخوئي، انتشارات بيدار - قم المقدَّسة/ 1401هـ.
60 - كمال الدين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق (قدّس سرّه)، تحقيق: عليّ أكبر الغفاري، مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين - قم المشرَّفة/ 1405هـ.
61 - الفصول العشرة: الشيخ الجليل محمّد بن النعمان المفيد (قدّس سرّه)، تحقيق: الشيخ فارس الحسّون، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الثانية/1414هـ.
62 - مجموع الفتاوى: ابن تيمية، جمع وترتيب: عبدالرحمن بن محمّد العاصمي النجدي الحنبلي، سنة 1386هـ، الناشر: إدارة المساحة العسكرية بالقاهرة، سنة 1404هـ.

(٢١١)

63 - مختصر التحفة الاثني عشرية: عبد العزيز غلام حكيم الدهلوي، نقله من الفارسية إلى العربية: الشيخ غلام محمّد بن محيي الدين بن عمر الأسلمي، اختصره وهذَّبه: محمود شكري الآلوسي، حقَّقه وعلَّق حواشيه: محبُّ الدين الخطيب، المطبعة السلفية - القاهرة.
64 - المختصر في أخبار البشر: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عليِّ بن محمود بن محمّد بن عمر بن شاهنشاه بن أيّوب، الملك المؤيَّد، صاحب حماة، المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأُولى.
65 - المختصر في العقائد: آية الله الشيخ نزار آل سنبل القطيفي (حفظه الله تعالى)، الطبعة السادسة/ 1435هـ.
66 - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: العلَّامة المجلسي، قدَّم له: العلم الحجَّة السيِّد مرتضى العسكري - إخراج ومقابلة وتصحيح: السيِّد هاشم الرسولي، دار الكتب الإسلاميَّة، الطبعة الثانية/ 1404هـ.
67 - المزار: الشيخ الجليل السعيد أبو عبد الله محمّد بن جعفر بن عليّ المشهدي الحائري، تحقيق: جواد القيّومي الأصفهاني، الناشر: مؤسَّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى/ 1419هـ.
68 - المسائل العشر في الغيبة: الشيخ الجليل محمّد بن النعمان المفيد (قدّس سرّه)، تحقيق: فارس تبريزيان الحسّون، مركز الأبحاث العقائدية، قم المقدَّسة.
69 - المستدرك على الصحيحين: محمّد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1/ 1411هـ.
70 - مسند ابن أبي شيبة: عبد الله بن محمّد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي، أبو بكر بن أبي شيبة، المحقِّق: عادل بن يوسف العزازي وأحمد بن فريد المزيدي، دار الوطن - الرياض، الطبعة الأُولى/ 1997م.

(٢١٢)

71 - مسند أبي داود الطيالسي: أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصري، المحقِّق: الدكتور محمّد بن عبد المحسن التركي، دار هجر - مصر، الطبعة الأُولى/ 1419هـ.
72 - مسند أبي يعلى: أبو يعلى أحمد بن عليّ بن المثُنّى بن يحيى بن عيسى بن هلال التميمي الموصلي، المحقِّق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث - دمشق، الطبعة الأُولى/ 1404هـ.
73 - مسند أحمد بن حنبل: أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرون، مؤسَّسة الرسالة، الطبعة الأُولى/ 1421هـ.
74 - مسند الروياني: أبو بكر محمّد بن هارون الروياني، المحقِّق: أيمن عليّ أبو يماني، مؤسَّسة قرطبة - القاهرة، الطبعة الأُولى/ 1416هـ.
75 - المسيح الدجّال: سعيد أيّوب.
76 - المعجم الكبير: سليمان بن أحمد بن أيّوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني، المحقِّق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية - القاهرة، الطبعة الثانية.
77 - مقدمة في أُصول الدين: المرجع الديني الكبير الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلُّه الوارف).
78 - المنار المنيف في الصحيح والضعيف: محمّد بن أبي بكر بن أيّوب بن سعد شمس الدين ابن قيِّم الجوزية، المحقِّق: عبد الفتّاح أبو غدة، مكتبة المطبوعات الإسلاميَّة - حلب، الطبعة الأُولى/ 1390هـ.
79 - منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عليه السلام): آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي الگلبايگاني، دار المرتضى - بيروت، الطبعة الثالثة/ 1429هـ.
80 - منهاج السُّنَّة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية: أبو العبّاس أحمد بن

(٢١٣)

عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمّد بن تيمية الحرّاني الحنبلي الدمشقي، المحقِّق: محمّد رشاد سالم، جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميَّة، الطبعة الأُولى/ 1406هـ.
81 - موسوعة العلَّامة الإمام مجدِّد العصر محمّد ناصر الدين الألباني: أبو عبد الرحمن محمّد ناصر الدين بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، صَنَعَهُ: شادي بن محمّد بن سالم آل نعمان، مركز النعمان للبحوث والدراسات الإسلاميَّة وتحقيق التراث والترجمة - صنعاء، الطبعة الأُولى/ 1431هـ.
82 - النجم الثاقب: الشيخ الميرزا حسين النوري الطبرسي (قدّس سرّه)، تقديم وترجمة وتحقيق وتعليق: السيِّد ياسين الموسوي، أنوار الهدى، الطبعة الأُولى/1415هـ.
83 - الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي، المحقِّق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التراث - بيروت/1420هـ.
84 - وسائل الشيعة: الحرُّ العاملي (قدّس سرّه)، مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث - قم المشرَّفة، الطبعة الثانية 1414 هـ.
85 - ينابيع المودَّة لذوي القربى: القندوزي الحنفي، تحقيق: سيِّد عليّ جمال أشرف الحسيني، دار الأُسوة للطباعة والنشر، الطبعة الأُولى/ 1416هـ.

* * *

(٢١٤)