سفراء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بين الحقائق والأوهام
ردود على آراء أحمد أمين والمدرسة الاجتماعيَّة حول سفراء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
تأليف: ضياء الدِّين الخزرجي
تقديم وتحقيق: مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
الطبعة الأولى 1443هـ
رقم الإصدار: 271
الفهرس
مقدمة المركز..................3
تقريظ الأستاذ العلامة جعفر السبحاني..................11
ما عشت أراك الدهر عجباً:..................13
المقدَّمة:..................17
الفصل الأوّل: نظرة متكاملة حول سفارة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................29
المبحث الأوَّل: الأهداف المرتقِّبة من السفارة المهدويَّة:..................31
الأمر الأوَّل: إثبات وجوده وحياته عن طريق سفرائه:..................31
الأمر الثاني: رعاية شؤون الأمَّة الإسلاميَّة:..................32
الأمر الثالث: تهيئة الأمَّة لاستيعاب مفهوم الغيبة الكبرى:..................32
المبحث الثاني: مقوِّمات السفراء الأربعة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................34
المبحث الثالث: الصيغ العمليَّة والأيدولوجيَّة الجديدة في عمل السفراء..................36
أوَّلاً: إثبات صدق سفارتهم بإقامتهم الدلائل الباهرة:..................36
ثانياً: بذل الجهود في إخفاء أمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................38
ثالثاً: إخراج التوقيعات عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في قضايا الأمَّة:..................40
الملاحظة الأُولى: تشابه خطِّ الأئمَّة (عليهم السلام):..................40
الملاحظة الثانية: كيفيَّة استلام التوقيعات:..................41
الملاحظة الثالثة: مدَّة خروج التوقيعات:..................42
أ - التوقيع الشفوي:..................42
ب - التوقيع بنحو الرسالة المستعجلة:..................42
ج - التوقيع الغيبي:..................42
د - التوقيع بعد ساعات:..................43
هـ - التوقيع بعد ثلاثة أيَّام:..................43
و - التوقيع على مجموعة أسئلة:..................43
رابعاً: قبض الأموال وتوزيعها على الأمَّة:..................44
المبحث الرابع: تساؤلات على طاولة البحث حول السفارة..................45
السؤال الأوَّل: لماذا لم يختر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سُفراءه من العلويِّين؟..................45
السؤال الثاني: لماذا اختار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بغداد لسفارته؟..................46
أوَّلاً: البُعد عن الرقابة:..................49
ثانياً: إرسال بياناته إلى الأُمَّة الإسلاميَّة:..................49
ثالثاً: تطبيقه مسلك الاحتجاب وتتميمه بأعلى مستواه...................50
رابعاً: موقع بغداد السياسي والجغرافي:..................50
السؤال الثالث: ما هو الهدف من اختيار الوكلاء في أمر السفارة؟..................50
أوَّلاً: تسهيل أمر السفراء وتوسعة عملهم:..................51
ثانياً: نظام الوكلاء ساهم في إخفاء عمل السفراء:..................52
الأوَّل: حاجز الوشَّاء:..................52
الثاني: أبو طاهر محمّد بن عليِّ بن بلال:..................53
الثالث: العطَّار:..................53
الرابع: العاصمي:..................54
الخامس: الأهوازي:..................54
السادس: القمِّي الأشعري:..................55
السابع: الهمداني:..................55
الثامن: البسَّامي:..................56
التاسع: الرازي الأسدي:..................56
العاشر: القاسم بن العلاء:..................57
الحادي عشر: النعيمي النيشابوري:..................58
الفصل الثاني: دراسة موضوعيَّة للسفارة، ودور السفراء في ترسيخ مفهوم الغيبة..................61
المدخل: آراء العلماء حول السفراء:..................63
الباب الأوّل: السفير الأوَّل للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه)..................67
المبحث الأوَّل: عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه) في الميزان:..................69
أمَّا منزلته عند الإمام الهادي (عليه السلام):..................74
أمَّا موقف الإمام العسكري (عليه السلام) منه (رضي الله عنه):..................78
أوَّلاً: مسلك الاحتجاب والاختفاء:..................81
ثانياً: تجديد نظام المكاتبات:..................82
ثالثاً: نظام الوكلاء:..................82
أمَّا موقف الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من عثمان بن سعيد العمري:..................84
الأوَّل: إعلام أصحابه بولادته:..................86
الثاني: اعتماد الإمام على بعض أصحابه في تبليغ الولادة:..................86
الثالث: كتمان خبر الولادة:..................89
المبحث الثاني: وقوع الاشتباه في عثمان بن سعيد من بعض الأعلام..................92
الاشتباه الأوَّل: اشتباه العلاَّمة وابن شهرآشوب (رحمهما الله):..................92
الاشتباه الثاني: اشتباه الطوسي (رحمه الله):..................93
المبحث الثالث: التراث الذي خلَّفه عثمان بن سعيد العمري للأمَّة الإسلاميَّة..................96
أوَّلاً: ما تركه من روايات وأحاديث عن الأئمَّة (عليهم السلام):..................96
ثانياً: تراثه في الأدعية:..................98
ثالثاً: تراثه في ما خرج عنه من توقيعات:..................99
التوقيع الأوَّل: في من أنكر الحجَّة:..................99
التوقيع الثاني: في من ارتاب في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................100
التوقيع الثالث: تكذيبه لجعفر في ادِّعائه الإمامة:..................101
المبحث الرابع: المعجزات التي ظهرت من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يدي عثمان بن سعيد العمري..................102
أوَّلاً: الإخبار عن أُمور الغيبة:..................103
ثانياً: علمه بموت المصري في مكَّة:..................104
ثالثاً: إثبات صحَّة سفارته عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................104
رابعاً: قضيَّة مدهشة للعقول:..................104
المبحث الخامس: وفاة عثمان بن سعيد العمري وبرقيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بالمواساة..................106
الباب الثاني: السفير الثاني للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه)..................109
المبحث الأوَّل: محمّد بن عثمان العمري في الميزان:..................111
أمَّا منزلته في الأمَّة الإسلاميَّة:..................113
أمَّا منزلته عند الإمام الهادي (عليه السلام):..................117
أمَّا منزلته عند الإمام العسكري (عليه السلام):..................119
أمَّا منزلته عند الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................122
الأوَّل: إعلانه أمر سفارته عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) للأُمَّة:..................123
الثاني: إقامة الدلائل والبراهين على صدقه:..................124
الثالث: إثبات جدارته في أمر السفارة:..................124
الرابع: تفوُّقه على أقرانه في العلوم:..................125
الخامس: حلُّ مشاكل الأُمَّة وقضاء حوائج أصحابه...................125
السادس: المساهمة في إخفاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................125
السابع: قبض الأموال والأنفال والزكوات من أربابها وصرفها في المشاريع بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................125
الثامن: تنصيب الوكلاء من قِبَله بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................125
أمَّا أُسرته:..................126
المبحث الثاني: محمّد بن عثمان العمري والأوضاع السياسيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة فترة سفارته..................128
أوَّلاً: مطاردة قواعد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وملاحقة أصحابه:..................128
ثانياً: صعوبة تلك الفترة، والسرّيَّة التامَّة:..................130
ثالثاً: ظهور المدَّعين للسفارة كذباً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................131
رابعاً: قساوة الحُكَّام فترة سفارة العمري:..................131
خامساً: انتقال الخلافة العبَّاسيَّة من سامرَّاء إلى بغداد:..................133
سادساً: الأفول التدريجي للخلافة، والفوضى في البلاد:..................133
سابعاً: نهاية ثورة صاحب الزنج:..................134
ثامناً: نهاية الدولة الطولونيَّة:..................135
تاسعاً: ظهور مهدي جديد في أفريقيا:..................135
عاشراً: ظهور القرامطة:..................136
المبحث الثالث: محمّد بن عثمان العمري ومدَّعو السفارة الكاذبة..................137
أوَّلاً: أبو محمّد الشريعي:..................138
ثانياً: محمّد بن نصير النميري:..................138
ثالثاً: أحمد بن هلال:..................140
رابعاً: أبو طاهر البلالي:..................142
خامساً: البغدادي:..................144
سادساً: الباقطاني:..................146
سابعاً: إسحاق الأحمر:..................147
ثامناً: أبو دلف الكاتب:..................147
المبحث الرابع: التراث الذي خلَّفه محمّد بن عثمان ابن سعيد العمري للأمَّة الإسلاميَّة..................149
ما تركه من روايات وأحاديث عن الأئمَّة وكُتُب ومؤلَّفات:..................149
وأمَّا رواياته وأحاديثه عن الأئمَّة (عليهم السلام):..................150
وأمَّا أدعيته عن الأئمَّة (عليهم السلام):..................151
أمَّا تراثه فيما خرج من توقيعات:..................157
التوقيع الأوَّل: النهي عن ذكر اسم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحكمة النهي عن ذلك:..................158
التوقيع الثاني: مسألة كلاميَّة، وهي تفويض الخلق والرزق:..................158
التوقيع الثالث: متى يظهر المهدي (عجَّل الله فرجه)؟..................159
التوقيع الرابع: الموسوعة الفقهيَّة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................159
التوقيع الخامس: معجزات المهدي (عجَّل الله فرجه):..................159
التوقيع السادس: فضيحة المنحرفين، وأجوبة عامَّة في الفقه والسياسة:..................160
التوقيع السابع: فائدة الغيبة وعلَّتها:..................161
التوقيع الثامن: في طلب العافية:..................162
المبحث الخامس: المعجزات التي ظهرت من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يدي محمّد بن عثمان بن سعيد العمري..................163
أوَّلاً: الإخبار عن أُمور غيبيَّة مدهشة:..................164
ثانياً: معاجز متتابعة:..................165
ثالثاً: الأموال الناقصة:..................166
رابعاً: قصَّة الدينوري وما فيها من الأعاجيب:..................166
خامساً: قصَّة صاحب الشهباء:..................167
المبحث السادس: وفاة محمّد بن عثمان العمري..................169
الباب الثالث: السفير الثالث للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الحسين بن روح النوبختي..................175
المبحث الأوَّل: الحسين بن روح النوبختي في الميزان:..................177
أمَّا منزلته في الأُمَّة:..................185
أمَّا عند محمّد بن عثمان العمري:..................188
أوَّلاً: أبو سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي:..................189
ثانياً: جعفر بن أحمد بن متيل وأبيه:..................191
ثالثاً: الحسين بن روح النوبختي:..................192
أوَّلاً: تقريبه منه واختصاصه به:..................193
ثانياً: توثيقه وأمر الأمَّة بمراجعته:..................194
ثالثاً: التصريح بسفارته وكونها بأمر المهدي (عجَّل الله فرجه):..................195
أمَّا منزلته من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................195
أوَّلاً: تكامل الشخصيَّة والإخلاص:..................196
ثانياً: غلق الشُّبُهات أمام المشكِّكين والمرجفين:..................196
المبحث الثاني: التحرُّك الثقافي والسياسي لابن روح النوبختي وأسباب اعتقاله..................199
أوَّلاً: دمج الأُمَّة بمذاهبها ومعتقداتها:..................200
ثانياً: إفحام من ادَّعى السفارة الكاذبة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................200
أمَّا تحرُّكه السياسي:..................201
أوَّلاً: خلافة المقتدر العبَّاسي:..................201
أ - الضعف الإداري:..................202
ب - النقمة العسكريَّة وتدهور الجيش:..................202
ج - استنزاف بيت المال وفقدان الرقابة:..................202
د - الاستهتار بالقِيَم والمبادئ:..................203
ثانياً: الخليفة القاهر بالله:..................203
أ - قبح السريرة والتظاهر بالمحرَّمات:..................203
ب - إشاعة الإرهاب والاستهانة بالنفوس:..................203
ج - تناصر الطوائف الإسلاميَّة:..................204
د - استنزاف الطاقة وحروب القرامطة:..................205
هـ - الهرج والمرج وتدهور الأوضاع السياسيَّة:..................206
أوَّلاً: علومه وسعة اطِّلاعه:..................207
ثانياً: أُسلوبه ومنهجيَّته المتكاملة في العمل...................207
ثالثاً: القرابة التي كانت بينه وبين آل نوبخت:..................207
أوَّلاً: اتِّهامه في دسائس القرامطة:..................210
ثانياً: اتِّهامه بكثرة الديون ومطالبات الدولة:..................211
ثالثاً: كثرة أنصاره وأتباعه:..................212
رابعاً: اعتقاله بسبب ما يصله من أموال:..................213
ثالثاً: خلافة الراضي بالله:..................214
المبحث الثالث: الحسين بن روح النوبختي ومدَّعو السفارة الكاذبة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)..................215
أوَّلاً: الحلاَّج:..................216
ثانياً: الشلمغاني:..................222
المبحث الرابع: التراث الذي خلَّفه الحسين ابن روح النوبختي للأمَّة الإسلاميَّة..................235
ما تركه من روايات وأحاديث وكُتُب:..................235
وأمَّا تراثه في الأدعية:..................236
أوَّلاً: الأدعية الرجبيَّة:..................237
ثانياً: الزيارة الرجبيَّة:..................237
ثالثاً: دعاء وصلاة يوم المبعث:..................237
رابعاً: التوسُّل بالإمام الحسين (عليه السلام):..................237
خامساً: زيارة آل ياسين:..................238
سادساً: زيارة للصادق (عليه السلام):..................238
أمَّا تراثه من التوقيعات التي خرجت على يديه من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):..................238
التوقيع الأوَّل: في أهل قم:..................238
التوقيع الثاني: أسئلة الحميري:..................239
التوقيع الثالث: أسئلة في الحجِّ:..................239
التوقيع الرابع: الأسئلة الفقهيَّة المتنوِّعة:..................240
التوقيع الخامس: إنزال العقوبة في بعض المشعوذين:..................240
المبحث الخامس: معجزات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يدي الحسين بن روح النوبختي..................242
أوَّلاً: القرامطة والأسرار الغيبيَّة:..................242
ثانياً: ولادة الصدوق (رحمه الله) بدعاء المهدي (عجَّل الله فرجه):..................242
ثالثاً: رسالة تُكتَب بلا مداد:..................244
المبحث السادس: وفاة الحسين بن روح النوبختي..................245
الباب الرابع: السفير الرابع للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عليُّ بن محمّد السمري..................249
المبحث الأوَّل: عليُّ بن محمّد السمري في الميزان:..................251
المبحث الثاني: التحرُّكات السياسيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة للسمري..................258
أوَّلاً: في خدمة الراضي بالله والمتَّقي:..................258
أ - بغداد، والفوضى:..................258
ب - المنازعات الدِّينيَّة والطائفيَّة ونشاط القرامطة:..................258
ج - الضعف الإداري، وتوقُّف الفتوحات:..................259
د - الغارات والتقسيمات الطائفيَّة:..................259
هـ - شهوات الخليفة، واستهتاره بالمبادئ:..................260
و - الطبقة البرجوازيَّة، والأوضاع الاقتصاديَّة المتردّية:..................260
ز - الانقلابات العسكريَّة المتوالية، وحالات الوزارة:..................260
ح - إمرة الأُمراء، والملوك الميروفنجيِّين:..................261
ط - الجيش والبنية الدفاعيَّة:..................261
المبحث الثالث: معجزات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يدي السمري (رضي الله عنه)..................263
إخباره بوفاة الصدوق (رحمه الله) قبل وقوعها:..................264
المبحث الرابع: وفاة عليِّ بن محمّد السمري (رضي الله عنه)..................266
المبحث الخامس: دراسة ونقد لتوقيع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) للسمري بانتهاء الغيبة الصغرى..................271
أمَّا الكلام في المقام الأوَّل:..................272
أمَّا الكلام في المقام الثاني:..................275
بسم الله الرحمن الرحیم
مقدَّمة المركز:
كانت الفترة الزمنيَّة الواقعة بين (260 - 329هـ) - وهي الفترة المعروفة بالغيبة الصغرى - أصعب وأخطر مرحلة من مراحل حياة المجتمع الشيعي، وبالتحديد بعد رحيل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ليختبر الشيعة آنذاك واقعاً جديداً لم يعهدوه من ذي قبل، تمثَّل بفقدانهم الحضور الظاهر للإمام المعصوم وعدم إمكانيَّة التواصل المباشر معه، ليُشكِّل هذا الواقع الجديد التحدِّي الأكبر والأبرز في تاريخهم على الإطلاق، فعلى كثرة المِحَن والابتلاءات التي رافقتهم في الفترات السابقة ومع ذلك كان لوجود شخص المعصوم بين ظهرانيهم قيمة معنويَّة كبيرة تمدُّهم بالصبر والتحمُّل والمرابطة على عقيدة الولاء والإيمان بالعترة الطاهرة.
بطبيعة الحال كان لهذا الواقع الجديد مع ما يحمله من انعطافة حرجة وحسَّاسة إشكالاته العلميَّة والعمليَّة خصوصاً في أوساط بعض المجتمعات الشيعيَّة نتيجة التفاوت في الوعي والمعرفة أو القصور في إدراك المنطق السُّنَني الحاكم في مجرى الأحداث الكونيَّة، فبرزت حينها ما تمَّ التعبير عنه بظاهرة الحيرة، والتي تحكي حالة الاضطراب والقلق وعدم الوضوح في مآلات الأُمور ونتائجها.
ولا يخفى على المطالع لتلك الحقبة بإمعان أنْ يستوعب القيمة العظمى
للتراث الروائي للأئمَّة السابقين (عليهم السلام) والذي استشرف وتنبَّأ بهذا الواقع الجديد قبل حصوله بعشرات السنين، والذي من دونه حتماً كان الضياع والتيه هو العنوان الواضح لمجمل الواقع الإيماني والرسالي الذي كان يزيده حلكة وقتامة التوتُّر الناشئ من الضغط السياسي والإبادة القاسية التي بلغت ذروتها قبل أكثر من عقد من الزمان، كما في عهد المتوكِّل ثمّ استمرارها بدرجات متفاوتة إلى أواخر مرحلة الغيبة الصغرى.
من هنا احتاجت هذه المرحلة الاستثنائيَّة إلى معالجات استثنائيَّة تتواكب معها وتضع لها الحلول لتذليل البلوى وتخفيف صدمة الغيبة ومنع الطفرة في حصولها، فكانت الآليَّة التي اعتمدها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أنْ مهَّد لغيبته الطويلة بما عُرِفَ بالغيبة الصغرى والتي يتخلَّلها التواصل مع شيعته وأنصاره بواسطة سفرائه الأربعة (رحمهم الله)، ليكونوا السبيل بينه وبينهم، والباب الذي يُؤتى منه إليه ويتحقَّق به التواصل معه، وهو كما لا يخفى لم يكن خياراً اعتباطيًّا أو عبثيًّا أو قابلاً للأخذ أو الترك، بل هو ما كان يقتضيه الموقف الحكيم الذي كان لا بدَّ أنْ يحصل وفقاً لمنطق الأُمور وطبيعة متطلّباته، سيّما إذا ما أخذنا مجمل الأسباب والظروف التي كانت قائمة آنذاك، وهو على كلِّ حالٍ ما ينسجم مع طبيعة الشعور العميق بالارتباط الذي يحمله الإمام (عجَّل الله فرجه) تجاه الموالين من شيعته ومحبِّيه، عناية منه لهدايتهم وحيطة لهم من الوقوع في شراك الفتن والضلال، متحمِّلاً في سبيل ذلك كلَّ المخاطر والصعوبات التي يمكن أنْ تنشأ عن أيِّ اختراق تنشده السلطات الحاكمة آنذاك، والتي ما فتأت على طول خطِّها التاريخي في ترصُّد الإمام (عجَّل الله فرجه) ومحاولة القضاء عليه، وهو ذات المعنى الذي حكاه لنا أحد التوقيعات الشريفة الصادرة من الناحية المقدَّسة، والذي جاء فيه: «وَلَوْ لَا مَا عِنْدَنَا مِنْ مَحَبَّةِ صَلَاحِكُمْ وَرَحْمَتِكُمْ، وَاَلْإِشْفَاقِ عَلَيْكُمْ، لَكُنَّا عَنْ مُخَاطَبَتِكُمْ فِي
شُغُلٍ فِيمَا قَدِ اُمْتُحِنَّا بِهِ مِنْ مُنَازَعَةِ اَلظَّالِمِ اَلْعُتُلِّ اَلضَّالِّ اَلمُتَتَابِعِ فِي غَيِّهِ، اَلمُضَادِّ لِرَبِّهِ، اَلدَّاعِي مَا لَيْسَ لَهُ، اَلْجَاحِدِ حَقَّ مَنِ اِفْتَرَضَ اَللهُ طَاعَتَهُ»(1).
ومن هنا كانت سفارة هؤلاء السفراء (رحمهم الله) كنيابة عن الإمام المفترض الطاعة وأداء رسالته وتعاليمه، الوسيلة التي لا مناص عنها، وهي بعد كلِّ ذلك ظاهرة إيجابيَّة في أبعادها التخطيطيَّة والتنفيذيَّة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ تلك الشخصيَّات التي تسنَّمت هذا المنصب وذلك الموقع توفَّرت على كلِّ المؤهّلات القياديَّة والتدبيريَّة علماً وورعاً وأمانةً وحُسن تأتٍّ في الأُمور، متقيِّدين إلى أبعد الدرجات بأوامر الإمام (عجَّل الله فرجه) وتعاليمه دون إضافة أو نقصان، وهذا ما نلمسه بجلاء في جواب السفير الثالث لمحمّد بن إبراهيم بعد أنِ احتمل أنْ يكون بعض جوابه اجتهاداً منه أو تحليلاً خاصًّا به، فقال له: يَا مُحَمَّدَ اِبْن إِبْرَاهِيمَ، لَئِنْ أَخِرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفَنِي اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِيَ اَلرِّيحُ مِنْ مَكَانٍ سَحِيقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ فِي دِينِ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) بِرَأْيِي وَمِنْ عِنْدِ نَفْسِي، بَلْ ذَلِكَ عَنِ اَلْأَصْلِ، وَمَسْمُوعٌ مِنَ اَلْحُجَّةِ (عليه السلام)(2).
ومن هنا يمكن أنْ نرصد بوضوح المقوِّم الأهمّ في شخصيَّة السفير، والمعيار الأبرز في اختيارهم كشرطٍ عامٍّ وصفةٍ مشتركةٍ لا بدَّ من توفُّرها في شخوص هؤلاء السفراء، ضرورة أنَّهم لم يكونوا يُمثِّلون البديل عن مقام الإمامة كما ادَّعاه بعض الكُتَّاب المخالفين(3)، وإنَّما هي وظيفة بيانيَّة وإداريَّة لا تتجاوز الواسطة المحضة في ممارسة الإمام (عجَّل الله فرجه) لدوره بعد أنْ منعته الظروف الاستثنائيَّة التي فرضت غيابه واحتجابه عن شيعته ومواليه، وعليه فقد كانت المهامُّ الملقاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الغيبة للطوسي (ص 286/ ح 245).
(2) الغيبة للطوسي (ص 321 و322/ ح 269).
(3) أُصول مذهب الشيعة الإماميَّة الاثني عشريَّة (ج 2/ ص 834).
على عاتقهم مرسومة بعناية فائقة ومحدَّدة سلفاً لهم، وهو ذات المعنى الذي فهمه الشيعة آنذاك، وجرت لأجله علَّة رجوعهم وانقيادهم لهؤلاء السفراء.
فقد روى الصدوق (رحمه الله) عن ابن سنان الموصلي قوله: وَأَمَرَنَا اَلْقَائِمُ (عليه السلام) أَنْ لَا نَحْمِلُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى بَعْدَهَا شَيْئاً مِنَ اَلمَالِ، فَإِنَّهُ يَنْصِبُ لَنَا بِبَغْدَادَ رَجُلاً يَحْمِلُ إِلَيْهِ اَلْأَمْوَالَ، وَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ اَلتَّوْقِيعَاتُ(4).
وبذلك يكون واضحاً لدينا أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لم يكن بمنأى عن سفرائه الأربعة، ولا بمعزل عمَّا يجري في الواقع من أحداث، بل كان قريباً منهم وعلى اتِّصال كامل معهم، يُوجِّههم في أفعالهم، وينهج لهم الخطَّ الذي يتحرَّكون في امتداده، ليكون كلُّ واحدٍ منهم مصداقاً حقيقيًّا لواقع سابق بيَّنه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في حقِّ السفيرين الأوَّل والثاني (رحمهما الله) فيما مضى، حيث قال: «اَلْعَمْرِيُّ وَاِبْنُهُ ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، وَمَا قَالَا فَعَنِّي يَقُولَانِ، فَاسْمَعْ لَهُمَا وَأَطِعْهُمَا، فَإِنَّهُمَا اَلثِّقَتَانِ اَلمَأْمُونَانِ»(5).
ولا يخفى ما يُعطيه هذا الخبر من قيمة عليا لهؤلاء السفراء تتجاوز التوثيق المتعارف عند الناس، والذي قد يحمل في طيَّاته إمكانيَّة الخطأ أو الاشتباه، ونحن هنا لا نريد أنْ ندَّعي العصمة الواجبة لهم، فهذه مرتبة وموهبة تختصُّ بأهلها، ولكن يبقى لهذا التأكيد المطلق من قِبَل الإمام العسكري (عليه السلام) مؤشِّراً يحكي عن فرادة خاصَّة تميَّز بها هؤلاء الأربعة عن أقرانهم ونظائرهم من أولياء أهل البيت (عليهم السلام)، وهو الأمر الذي أدَّى لوقوع الاختيار عليهم دون سواهم من أصحاب الكفاءات العلميَّة المتميِّزة ورجالات الشيعة وهم كُثُر في تلك المرحلة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) كمال الدِّين (ص 478/ باب 43/ ح 26).
(5) الكافي (ج 1/ ص 330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1)، الغيبة للطوسي (ص 243 و360/ ح 209 و322).
لما يملكه هؤلاء النوَّاب من قدرات كبيرة سواء على المستوى الروحي والنفسي أو السلوكي والعملي، ولذلك كانوا محلًّا وأهلاً لمقام مجرى الكرامات والإخبارات الغيبيَّة التي تُثبت وثاقتهم وصدقيَّتهم بما لا يدع مجالاً للشكِّ فيهم أو التوهين منهم، وهو الأمر الذي جعل الشيعة والمجتمع الموالي لا يتردَّد في الرجوع إليهم والامتثال لهم، يقول الشيخ الطبرسي (رحمه الله) في كتابه (الاحتجاج): ولم تقبل الشيعة قولهم [أي السفراء الأربعة] إلَّا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كلِّ واحدٍ منهم من قِبَل صاحب الأمر (عليه السلام)، تدلُّ على صدق مقالتهم وصحَّة بابيَّتهم(6).
وهذا النصُّ الصادر من العلَّامة الطبرسي (رحمه الله) على وجازته يُؤكِّد لنا نقطتين جوهريَّتين ينبغي الالتفات إليهما بعناية:
الأوَّل منهما: يحكي لنا عن خطورة هذا المنصب، وأهمّيَّته في الواقع الإسلامي، ومدى تأثيره لارتباطه بالتأدية عن المعصوم والتبليغ عنه، والذي لأجله اقتضت حكمة السماء وتدبيرها المتقن عدم القبول بصيرورة هذا الموقع محلًّا للمدَّعين وأصحاب الأهواء من المغرضين، ولترسم لنا بذلك منهجاً عمليًّا وتربويًّا في التعاطي مع أصحاب هذه الدعوات ينبغي عدم التنازل عنه بأيِّ حالٍ من الأحوال في كلِّ من يزعم الارتباط الخاصَّ بقناة الغيب أو التشريع إلَّا بعد الإتيان بالمعجزة والأمر الخارق الذي يُؤكِّد حقيقة هذا الارتباط وهذه الصلة.
وأمَّا الأمر الثاني: فهو يحكي لنا عن حالة الوعي واليقظة التي يتميَّز بها أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وعدم الانقياد لكلِّ من هبَّ ودبَّ، وهذه خصوصيَّة لا نبالغ إذا قلنا: إنَّ المجتمع الشيعي قد تميَّز بها دون غيره من المجتمعات الدِّينيَّة، فكان لها أكبر الأثر في حفظ هذا المذهب وأهله عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) الاحتجاج (ج 2/ ص 296 و297).
الاختراق والتسلُّل من قِبَل الآخرين، فحافظ بذلك على استقامته وتماسكه على امتداده الزمني، ولذلك نجد أنَّ الدعوات الباطلة والتيَّارات المنحرفة سرعان ما تتساقط وينكشف زيفها في باكورة حركتها ونشاطها، مع أنَّ التاريخ سجَّل لنا في ماضيه، بل وحتَّى في هذا الحاضر وجود عشرات الدجَّالين، بل والمئات منهم وهم يحاولون التعكُّز على هذه العقيدة استغلالاً وانتهازاً بغية الوصول إلى مآربهم الخبيثة وأهدافهم الفاسدة، وهو الأمر الذي دفع الشيخ الطوسي (رحمه الله) وهو من علماء القرن الثالث الهجري أنْ يعقد فصلاً كاملاً في كتابه (الغيبة) عنونه بـ (ذكر المذمومين الذين ادَّعوا البابيَّة والسفارة)، وتكلَّم عن بعض تلك الشخصيَّات وتلك الفِرَق.
على أنَّ هذه الظاهرة من التدجيل والتزييف على كثرتها لا يمكن أنْ تُشكِّل مطعناً في العقيدة المهدويَّة أو نقطة ضعف في ثبوتها أو إثباتها كما يحاول البعض التشويش عليها بذلك، بل هي أدلّ على رسوخها وتجذُّرها في الوجدان الإسلامي بشكلٍ عامٍّ والشيعي بشكلٍ خاصٍّ، لما يُوفِّره هذا الثابت الدِّيني من مقوِّمات الإثارة والتفاعل عند غالبيَّة المسلمين، فيحاول بعض ضعاف النفوس استغلال وتكريس هذه العقيدة الحقَّة باتِّجاه أغراضهم الرديئة والسيِّئة.
ومن هنا كان الحديث عن هذه الفترة الزمانيَّة والبحث في مفهوم السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحياة السفراء وتفصيلاتها التاريخيَّة في المذهب الشيعي ليس أمراً ترفيًّا أو ثانويًّا، بل له أهمّيَّته ومكانته الذي ينبغي أنْ تُعطى له القيمة العلميَّة والبحثيَّة تبعاً للشأن الذي ترتبط به، وعلى الرغم من صدور الكثير من المدوَّنات الحديثيَّة والكتابات والدراسات التي تناولت هذا الموضوع سواء بشكل مستقل أو بالتبع، إلَّا أنَّ هذه القضيَّة ما زالت تختزن الكثير من الدلالات والمعطيات التي هي بحاجة إلى مزيد من المتابعة والتقصِّي.
ولأجل ذلك وجد مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مشروعه الفكري والعلمي، معنيًّا بنشر هذا الكتاب القيِّم وتقديمه للقارئ الكريم، والذي أجاد مؤلِّفه كلَّ الإجادة في تناول هذا الموضوع ومعالجته لمجمل القضايا والموضوعات المرتبطة بموضوع السفارة والسفراء الأربعة (رحمهم الله)، والذي قدَّم فيه إفادات ضافية وفوائد قيِّمة ترشد طالب الحقِّ وتعين الباحث المختصَّ، فله منَّا كلَّ الشكر والثناء، داعين الباري تعالى أنْ يكون جهده المتميّز بعين رعايته وتوفيقه، ومحلًّا لرضا وسرور صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه).
مركز الدراسات التخصَّصيَّة
في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
تقريظ الأستاذ العلاَّمة جعفر السبحاني
اتَّفق المسلمون قاطبةً - إلَّا من شذَّ منهم - على أنَّه يقوم في برهة من الزمن قائد يعمل على إصلاح المجتمع الإنساني قاطبةً، وينشر راية العدل في رُبوع الأرض بعد ما مُلِئَت بالجور والطغيان.
وهذا القائد المثالي العظيم من سلالة النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد جاء نبأه وثورته العارمة على الفساد في الكُتُب السماويَّة، قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105).
ومن حسن الحظِّ أنَّ زبور داود (عليه السلام) الموجود في العهد العتيق يحتوي على مضمون هذه الآية بصراحة(7).
هذا ما اتَّفق عليه المسلمون وأهل الكتاب جميعاً، غير أنَّ هنا نكتة لا محيص من إلفات نظر القارئ إليها، وهي:
أنَّ الإمام وإنْ كان يخرج بالقوَّة، ويجابه الفساد بمنطق الشدَّة والعُنف، ولكنَّها ليست العماد الوحيد لثورته وسلطته، بل هناك عماد آخر وهو بلوغ الإنسان عبر القرون إلى ذروة الكمال من حيث الصناعات والعلوم، وتقدُّمه في معترك الفنون والثقافة إلى حدٍّ يؤمن إيماناً كاملاً بأنَّ الظروف الحاضرة لا تستطيع أنْ تُلبِّي حاجاته وتُعطي له حياة طيِّبة، وأنَّ المنظَّمات البشريَّة مع دويها وعناوينها الفخمة لا تُسعِده أو تُنقِذه من محنته ومشكلته، ولأجل ذلك ظلَّ يتربَّص بصيصاً من الأمل حتَّى تُمِدَّه عناية غيبيَّة في إصلاح المجتمع وإسعاده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) الكتاب المقدَّس (العهد القديم) (ص 858): (لأنَّ المباركين منه يرثون الأرض، والملعونين منه يقطعون).
ولأجل هذا الأمل والتفتُّح العقلي لقبول الدعوة الغيبيَّة، فإنَّه إذا ظهر القائد - الذي وعد الله به الأُمَم - لبَّاه كثير من الناس بالإيمان والبيعة والتضحية والفداء بلا شكٍّ وتردُّد، ويستقبلونه بصدور رحيبة.
إنَّ هذا التهيُّؤ النابع من صميم الإنسان، هو الذي يُسهِّل لقائد الإصلاح أنْ يصل إلى الغاية التي أُمِرَ بتحقيقها بسرعة. وإلى ذلك العامل المؤثِّر يشير الإمام أبو جعفر الباقر (عليه السلام): «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ اَللهُ يَدَهُ عَلَى رُءُوسِ اَلْعِبَادِ، فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ وَكَمَلَتْ بِهِ أَحْلَامُهُمْ»(8).
إنَّ الشيعة قاطبةً وكثيراً من أهل السُّنَّة يرون أنَّ ذلك القائد هو الإمام الثاني عشر، ومن ذرّيَّة الحسين (عليه السلام)، ونجل الإمام الحسن بن عليٍّ العسكري (عليه السلام)، وقد وُلِدَ عام (255هـ)، وظلَّ في أحضان والده خمس سنين حتَّى تُوفِّي الإمام العسكري (عليه السلام)، فتعلَّقت مشيئة الله تعالى بغيبته عن أعين الناس لا عن بيئاتهم، بل يحيى حياة إنسانيَّة كاملة من غير أنْ يعرفوه إلى أنْ يأذن له الله تبارك وتعالى بالظهور.
والناظر في حياة الأُمَم يقف على أنَّ ذلك ليس بأمر بديع، وبلا مثال متقدِّم، فقد كانت بين الأُمَم غيبة للأنبياء والأولياء حتَّى إنَّه سبحانه يأتي بأُنموذج واضح من ذلك في سورة الكهف، ويُعرِّف إنساناً كان وليًّا راشداً من أوليائه عائشاً بين الناس، حالٍّ لعُقَدِهم إلى حدٍّ، لم يكن الناس يعرفونه حتَّى النبيُّ موسى (عليه السلام)، قال سبحانه: ﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65).
غاب الإمام الثاني عشر على إثر ضغط الحكومة العبَّاسيَّة المصمِّمة على قتله بسبب اطِّلاعهم على ما شاع بين الناس على أنَّ المهدي المصلح نجل الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) الكافي (ج 1/ ص 25/ كتاب العقل والجهل/ ح 21).
العسكري، وهو الذي يُقوِّض عروش الجبابرة والطواغيت، فلأجل ذلك لـمَّا انتشر نبأ وفاة أبيه توالت حملات التفتيش على بيت الإمام العسكري (عليه السلام) لكي يعثروا على الوارث الوحيد لإمامته، ولكنَّهم رجعوا خائبين، فقد حالت مشيئة الله تعالى بينهم وبين ما وعد الله به الأُمَم في كُتُب السابقين واللَّاحقين، فحفظه وصانه عن كيدهم.
ما عشت أراك الدهر عجباً:
إنَّ هناك من ينقض ويبرم في أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبالأخصّ فيما يرجع إلى ميلاده وحياته وسفرائه، وهو ليس في حلٍّ ولا مُرْتحل ممَّا يرجع إلى علم الحديث وأُصوله وأحكامه وأقسامه، فيا ليت شعري ماذا جرى على عالَم الحديث حتَّى أخذ الصبيان في الكتاتيب يحلُّون ويعقدون في أمره دون أنْ يدرسوا عند عالم أو يتفقَّهوا عند محقِّق.
إذا ما فصلت عَلْيا قريش * * * فلا في العير أنت ولا النفير(9)
إلى الله المشتكى من أقلام مأجورة، لا تهدف إلَّا إلى تكدير الصفو، وتغطية الوقائع المسلَّمة وإنكار الأحداث الواضحة، ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ (النمل: 14)، فسيعلمون ﴿مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى﴾ (طه: 135).
نعم إنَّ هذا النوع من الخصوم اللدِّ يُقدِّم لنا أكبر هديَّة، وهي استقطاب نظر المحقِّقين إلى الفحص عن الروايات الواردة حول المهدي بشتَّى عناوينه، فيخرجوا عن الدراسة أكثر صلابةً، وأكبر رصيداً، مرفوعي الرأس عند أصحاب التحقيق، وحماة الحقائق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9) البيت للبحتري، راجع: الأغاني (ج 10/ ص 384)، وشرح مقامات الحريري (ج 3/ ص 435)، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 3/ ص 122).
غاب الإمام الثاني عشر عن أعين الناس ولكن لم تنقطع صلته بهم، وكان بينه وبين شيعته صلة قويمة عن طريق سفرائه طيلة سبعين سنة (260 - 329هـ)، وكان سفراؤه هم الذين يتَّصلون بالإمام (عجَّل الله فرجه)، ويُبلِّغونه رسائل شيعته وحوائجهم، فيجيبهم الإمام (عجَّل الله فرجه) عن طريقهم، ويُرشِدهم على القدر المستطاع، وهؤلاء سفراؤه هم أكارم جيله، وأصفياء عصره، قد حَمَل كلُّ واحدٍ منهم على عاتقه رسالة إرشاد الناس ورفع حوائجهم، ومجابهة الدعايات الضالَّة حسبَ ما هو مذكور في التاريخ، وستقرأ شيئاً من خدماتهم الجليلة في صيانة التشيُّع من الزيغ، هم:
1 - عثمان بن سعيد العمري، وكانت سفارته ما بين (260 - 265هـ).
2 - محمّد بن عثمان العمري، وكانت سفارته ما بين (265 - 305هـ).
3 - الحسين بن روح النوبختي، وكانت سفارته بين (305 - 326هـ).
4 - عليُّ بن محمّد السمري، وكانت سفارته بين (326 - 329هـ).
لقد هيَّأت الغيبة الصغرى أرضيَّة صالحة لإيمان الناس بالغيبة الكبرى التي انقطعت فيها الصلة بين الإمام (عجَّل الله فرجه) والناس، ولولا الغيبة الأُولى لكان تحمُّل الغيبة الثانية أمراً شديداً على المجتمع، إلَّا أنَّ الله تعالى بلطفه جعل الغيبة الصغرى طريقاً للغيبة الكبرى، وسبباً لمزيد الإيمان بها.
وهذا الكتاب الذي يُزَفُّ إلى الطبع أثر جميل يبحث عن حياة السفراء الأربعة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ويُميِّز ما هو الواقع عمَّا أُلصِق بها من الأساطير، وقد أفاض الكلام في مقدَّمة الكتاب حول فكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ونقد ما افتراه بعض الكُتَّاب في ذلك الطريق، واكتسح الأشواك المطروحة في هذا المقام.
وقد قضيتُ فترة من الوقت في مطالعة هذا الكتاب، فوجدته ثمرة ناضجة، وتاريخاً تحليليًّا مقروناً بالدليل والبرهان، فأخذ المؤلِّف من ضميري ومن جوانحي مأخذاً مهمًّا، ألَا وهو الشيخ الجليل والكاتب القدير ضياء الدِّين
الخزرجي (حفظه الله تعالى ورعاه)، فقد خدم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وسفراءه والمجتمع الإسلامي بهذا الكتاب في العصر الذي صارت الفكرة غرضاً لنبال مرشوقة من جانب الأعداء، فجزاه الله تعالى خير الجزاء.
الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو شمس الحياة الطالعة التي لا يمكن أنْ تُستَر بالأوهام والافتراءات، ولا بالدعايات الفارغة ولا بالتحليلات الخاطئة، ولا تجد موضوعاً كهذا الموضوع - موضوع المهدي (عجَّل الله فرجه) - تواترت فيه الروايات، وأُلِّفت فيه كُتُب وموسوعات منذ بدء حياته إلى يومنا هذا.
نعم تغمرني من الأحاسيس ما تراه متجلّية في الأبيات التالية، وهي باقة زهور عطرة أُقدِّمها إلى القُرَّاء جادت بها قريحة بعض المخلصين المجاهرين بولاء أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام).
لئن غبت عنَّا هيكلاً متجسِّداً * * * فما غاب منك الروح يشرِقُ والفكرُ
إلى أنْ قال:
أألتاع بالأشواق جهراً وخفيةً * * * وأنت الذي عنِّي تصدُّ وتزورُّ
أمَا آن أنْ ألقاكَ يا حبُّ ساعةً * * * فقد ملَّني حتَّى التجلُّد والصبرُ
أسير غرام لجَّ في قلبي الهوى * * * طويلاً وهل إلَّا الهوى للهوى أجرُ
لكلِّ أسيرٍ مدَّة ثمّ تنقضي * * * ولكن من يهوى يدوم له الأسرُ(10)
قم/ مؤسَّسة الإمام الصادق (عليه السلام)
غرَّة ذي الحجَّة الحرام من شهور عام (1416هـ)
جعفر السبحاني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) للعلَّامة المحقِّق والشاعر المفلق محمود البغدادي.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدَّمة:
تُعتَبر فكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من القضايا الضروريَّة في الفكر الإسلامي، وقد ألَّف الفريقان كُتُباً عديدة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وحكموا بتواتر الأحاديث الواردة بشأنه.
قال القِنَّوجي: إنَّه لا معنى للريب في أمر ذلك الفاطمي الموعود المنتظَر المدلول عليه بالأدلَّة، بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابل النصوص المستفيضة المشهورة البالغة حدَّ التواتر(11).
وقال ابن خلدون: اعلم أنَّ المشهور بين الكافَّة من أهل الإسلام على ممرِّ الأعصار أنَّه لا بدَّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت (عليهم السلام) يُؤيِّد هذا الدِّين(12).
لكن هناك نوع من الانحراف عن هذا المنهج الصحيح الثابت في البحث التاريخي والعقائدي حول فكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وما يتعلَّق به من بعض الكُتَّاب المعاصرين أمثال: أحمد أمين المصري، والدكتور عليّ سامي النشَّار، ومحمود صبحي، والنشاشيبي، وجماعة أُخرى من المستشرقين أمثال: فان فلوتن، ورونلدسن، وغيرهما، حيث أصدر هؤلاء أحكاماً متسرِّعة في مثل هذه القضيَّة الفكريَّة العالميَّة، ممَّا يجدر بالباحث التوقُّف والاستغراب في آرائهم غير المدروسة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) الإذاعة لما يكون (ص 183).
(12) تاريخ ابن خلدون (ج 1/ ص 311).
ونستعرض هنا بعض الشُّبُهات المطروحة من قِبَل بعض المدارس الاجتماعيَّة حول هذه الفكرة، ملتزمين بقواعد البحث المنطقي والعلمي فيها، لنضمن عدم انحرافها عن المسار الصحيح، وذلك من خلال الموضوعيَّة، وتحديد المسلَّمات الفكريَّة التي تؤمن بها الأطراف المتخاصمة، مع مراعاة التناسب المنطقي بين المقدَّسات والأدلَّة والنتائج.
ونشير قبل كلِّ شيء إلى ظاهرة مشتركة في تطابق الآراء بين المدارس الاجتماعيَّة والغربيَّة معاً، فمثلاً يرى الكاتب المصري أحمد أمين أنَّ حديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو حديث خرافة(13)، وأُسطورة أفسدت عقولاً ساذجة، واعتبارها هدَّامة في التاريخ الإسلامي(14).
واعتقد فان فلوتن أنَّ فكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مجهولة، لا يُعرَف من وضعها ومتى وضعها(15).
ويتَّفق أحمد محمود صبحي وفان فلوتن في القول بأنَّ نشوء هذه الفكرة يعود إلى الظروف السياسيَّة(16).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) ضحى الإسلام: (ج 3/ ص 243).
قال الشيخ العبَّاد في محاضرته: إنَّ بعض الكُتَّاب في هذا العصر أقدم على الطعن في الأحاديث المرويَّة في المهدي (عجَّل الله فرجه) بغير علم، بل بجهل أو بتقليد لأحد لم يكن من أهل العناية بالحديث، وقد اطَّلعت على تعليق لعبد الرحمن محمّد بن عثمان على كتاب (تحفة الأحوذي) قال: يرى الكثيرون من العلماء أنَّ كلَّ ما ورد من أحاديث عن المهدي (عجَّل الله فرجه) إنَّما هي موضع شكٍّ، وأنَّها لا تصحُّ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
بل تجرَّأ بعضهم كمحيي الدِّين عبد الحميد في تعليقه على (الحاوي للفتاوي) في آخر جزء من (العرف الوردي) فقال: إنَّ أحاديث المهدي من الإسرائيليَّات...
راجع: العرف الوردي (ص 28)، والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند أهل السُّنَّة (ج 2/ ص 399).
(14) ضحى الإسلام (ج 3/ ص 246).
(15) التشيُّع والشيعة (ص 35).
(16) نظريَّة الإمامة (ص 405).
وفي نظر أحمد أمين أنَّها نبعت من الشيعة، وأنَّهم هم البادئون باختراعها(17).
ثمّ قال ساخراً: لقد استغلَّ القادة المهرة أفكار الجمهور الساذجة المتحمِّسة للدِّين والدعوة الإسلاميَّة، فأتوهم من هذه الناحية الطيِّبة الطاهرة، ووضعوا الأحاديث يروونها عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك، وأحكموا أسانيدها وأذاعوها من طُرُق مختلفة، فصدَّقها الجمهور الطيِّب ببساطة...، وكان لذلك أثر سيِّئ في تضليل عقول الناس(18).
ثمّ أكمل حديثه قائلاً: ووُضِعَت في المهدي الأحاديث المختلفة، ولم يروِ البخاري ومسلم شيئاً عن أحاديث المهدي، وهذا ممَّا يدلُّ على عدم صحَّتها عندهما، وإنَّما ذكرها الترمذي وأبو داود وابن ماجة وغيرهم(19).
ثمّ ناقش هذه العقيدة قائلاً: والمفكِّر يعجب لأمرين:
أحدهما: تولية الإمامة لطفل في الرابعة أو الخامسة من عمره مع أنَّ الإمامة منصب عظيم يشرف على أُمور المسلمين، فلا بدَّ له من رجل ناضج على تحمُّل المسؤوليَّة، عارف بأُمور الدِّين والمشاكل الدنيويَّة، والطفل الصغير لا يستطيع ذلك مهما أُوتي من النبوغ...، وهي نظريَّة تحتاج إلى مناقشة...
والأمر الثاني: دعوى الشيعة في هذا الطفل أنَّه خفيٌّ لا يظهر، وإنَّما يظهر عند حاجة الزمان إليه، وقد جرَّهم ذلك إلى القول بطول عمر الإمام الغائب، مع أنَّ سُنَّة الله في خلقه تحديد أعمار الإنسان وقد جرى ذلك على الأنبياء أنفسهم...، فلم يُعمَّر أحد أبداً(20).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17) ضحى الإسلام (ج 3/ ص 241).
(18) ضحى الإسلام (ج 3/ ص 243).
(19) ضحى الإسلام (ج 3/ ص 237).
(20) ظهر الإسلام (ج 4/ ص 117 و118).
وهذا هو نفس ما توصَّل إليه الدكتور محمود صبحي قائلاً: لا شكَّ في أنَّ حياة المهدي أكثر من ألف عام موضع الارتياب، وكفيل أنْ يهدم العقيدة من أساسها(21)، وهي لا تتَّفق وسُنَّة الله في خلقه، ولا تتَّفق مع العقل الصحيح(22).
ثمّ ختم أحمد أمين بحثه قائلاً: إنَّ دعوى الطفل هذه من صنع الوكلاء طمعاً في المال الذي يُجبى من سائر الأقطار الإسلاميَّة لأئمَّة الشيعة(23).
إنَّنا ومن خلال مراعاتنا للموضوعيَّة في البحث نناقش هذه الافتراءات والدعايات الفارغة لتلك المدرسة، ونتناول بالنقد والتحليل تلك الشُّبُهات حول فكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ونُؤكِّد قبل كلِّ شيء إلى حقيقة هامَّة، وهي: أنَّ قادة تلك المدرسة الاجتماعيَّة والغربيَّة لا يتعدَّى كونهم باحثين اجتماعيِّين، لا تكاد تصل نتائج بحوثهم إلى المستوى العلمي المطلوب، لعدم إحاطتهم بالأدلَّة والأُسلوب المنطقي الصحيح، الذي سار عليه المسلمون قديماً انطلاقاً من مبادئهم العقائدية، فهُم يفقدون إذن شرط توفُّر مقوِّمات النقاش في المسائل الجوهريَّة، لأنَّهم غفلوا أو تغافلوا في مجال إقامة الدليل عن الأحاديث المتواترة، وعن الاستناد وعنصر الإلزام العقائدي فيها، فلم يقيموا لها وزناً، واعترضوا بأدلَّة ناقصة تُؤيِّد مقالتهم وتركوا ما تعارف منها، ولا أدري كيف منح الأهواني سمة البُعد عن الدجماطيقيَّة لأحمد أمين المصري(24)، مع جزمه بالرأي قبل البحث والتنقيب، وإلَّا فكيف سمح لنفسه بأنْ يعتقد خرافة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مع هذا التواتر الروائي بشأنه بحيث لم ترد كلُّ تلك النصوص في حقِّ نبيٍّ من الأنبياء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) نظريَّة الإمامة (ص 420).
(22) ضحى الإسلام (ج 3/ ص 245).
(23) ظهر الإسلام (ج 4/ ص 118).
(24) راجع: مقدَّمة الجزء الرابع من ظهر الإسلام للأهواني (ص 11).
عدا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كالتي وردت في حقِّه (عجَّل الله فرجه)، والتي يُعَدُّ إنكارها جرأة عظيمة؟! أفلا يسع هذا الكاتب وأمثاله ما وسع الناس على ممرِّ الأعصار والأزمنة؟! والذي يُعَدُّ منهم شذوذ بعد معرفة أنَّ الكافَّة على خلافهم؟! وهل اتَّفق هؤلاء كلُّهم على الخطأ؟! وكيف لم تُميَّز تلك الأحاديث التي وضعها الشيعة - كما ادَّعى أحمد أمين - دون غيرهم؟! وأيُّ مؤامرة تلك التي ادَّعاها هذا الكاتب؟ وقد تلاقفت هذه الفكرة معظم أقلام الباحثين وأهل السِّيَر بالنقد والتمحيص، حتَّى أصبحت لديهم من المسلَّمات الفكريَّة، وقبلتها من دون شكٍّ وترديد، وقد صرَّح بنفسه أنَّها مرويَّة في صحيح الترمذي وأبي داود وابن ماجة وغيرهم(25).
وكيف لم يرَ تلك الأحاديث في صحيحي البخاري ومسلم، قال ابن طاووس (رحمه الله) نقلاً عن (الكشف المخفي في مناقب الإمام المهدي): ذُكِرَ الإمام المهدي في الصحاح الستَّة، وهي: صحيح البخاري ومسلم...، فمنها من صحيح البخاري ثلاثة أحاديث، ومنها من صحيح مسلم أحد عشر حديثاً(26).
وقال ابن حجر في (صواعقه المحرقة): وممَّا وردت في الأحاديث في حقِّ المهدي (عجَّل الله فرجه) ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي(27).
ثمّ ألَا يكون ما ذكره هذا الكاتب الاجتماعي من ذكره الصحاح كأبي داود وابن ماجة والترمذي وغيرهم وهم أقرب عصراً من غيبته كافياً للوصول إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25) ضحى الإسلام (ج 3/ ص 237).
(26) الطرائف (ص 179)؛ وراجع: صحيح البخاري (ج 5/ ص 401/ ح 3087)، وصحيح مسلم (ج 1/ ص 94).
(27) الصواعق المحرقة (ص 163).
الإسلام؟! ولماذا كلُّ هذه السخرية بأفكار الجمهور(28)؟! ثمّ هل كان هذا الأمر - الاعتقاد بالمهدي (عجَّل الله فرجه) - اجتهاديًّا، فتُعالَج هذه القضيَّة بمقاييس أهل غير الاختصاص؟! أفلا يرى هذا الكاتب وأمثاله بأنَّ الاعتقاد به (عجَّل الله فرجه) هو أمر غيبي لا يسوغ لأحد إثباته إلَّا بالدليل من الكتاب أو السُّنَّة، وأنَّ الدليل معهم وهم أهل الاختصاص(29)؟ ولماذا يسمح المسلمون أنْ يتركوا قضاياهم تحت رحمة هذا الفكر المطعَّم بشُبُهات الغرب والمستمدّ مبادئه من أُسُس تتغاير جوهريًّا مع الأُسُس الإسلاميَّة؟!
لقد ادَّعت تلك المدارس الاجتماعيَّة أنَّ فكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هي فكرة هدَّامة للتاريخ الإسلامي، ومفسدة للعقول، وأنَّها نبعت من الشيعة... إلخ، مع ما يكون لعنصر الانتظار من أهمّيَّة خاصَّة في الإسلام، لكونه من الدوافع التي يُمكن أنْ يتحلَّى بها المسلم لتهيئة الأرضيَّة، فيستغلُّها في صالح هدفه المنتظَر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) روى أحاديث المهدي (عجَّل الله فرجه) معظم الصحابة، وقد تجاوز عددهم حدَّ التواتر، منهم: ابن عبَّاس، وابن مسعود، وأبو هريرة، وابن عمر، وعثمان، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، والخدري، وابن اليمان، وأنس بن مالك، وغيرهم.
وألَّف أهل السُّنَّة أكثر من أربعين كتاباً فيه (عجَّل الله فرجه)، منهم: أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والنسائي، وأحمد، وابن حبَّان، والحاكم، وابن أبي شيبة، وأبو نعيم، والطبراني، والدارقطني، والبارودي، والبزَّاز، والخطيب، وابن عساكر، وابن منده، والحربي، وتمام الرازي، وابن جرير، وغيرهم.
وألَّف كُتُباً مفصَّلة جماعة كثيرون، منهم: أبو بكر بن خيثمة، والحافظ أبو نعيم، والسيوطي، وابن كثير، وابن حجر المكّي، وعليٌّ المتَّقي الهندي، ومرعي بن يوسف الحنبلي، والشوكاني، والصنعاني.
وحكم بتواتر أحاديثه الكثيرون، منهم: الحافظ السجزِّي، وابن القيِّم، ومحمّد البرزنجي، ومحمّد رضا السفاريني، والقاضي الشوكاني، والقِنَّوجي، والكنجي الشافعي، وغيرهم.
(29) راجع: مجلَّة الجامعة الإسلاميَّة، وقد ذكرت محاضرة الشيخ محسن العبَّاد إمام ومحاضر في جامع المدينة المنوَّرة، وحضرها ابن باز وعلَّق عليها وبُثَّت من الإذاعة.
إنَّ الإيمان بمخلِّص منتظَر هو مظهر من مظاهر الثيوقراطيَّة(30) ما دام لهذا المخلِّص صفته الدِّينيَّة والسياسيَّة معاً كما اعترف بذلك أحمد أمين(31).
ونحن نرفض رفضاً باتًّا أنْ تختصَّ هذه الفكرة بالشيعة وحدهم، وقد ذكرنا رواية الصحابة وكُتُب السِّيَر والتراجم.
وقد حاول جولد تسيهر أنْ يربط بينها وبين عقيدة الشيعة قائلاً: إنَّ الفكرة المهدويَّة إنَّما جاءت انسجاماً مع معتقداتهم، فإنَّ الإسلام في ثورته الشيعيَّة هو وحده البيئة الملائمة التي يجب أنْ تنمو بها بذور الأماني المهدويَّة(32).
ولقد بالغ الكاتب المصري أحمد أمين وغيره في بيان العنصر الاجتماعي، معتمداً على عامل الزمن من ناحية، حيث مرَّ أربعة عشر قرناً، وعلى التفكير الوضعي الحديث الذي يُنكِر الحكم الثيوقراطي من ناحية أُخرى(33).
قرؤوا أنَّ هذه النظريَّة لا تتَّفق وسُنَّة الله في خلقه والعقل الصحيح، وما تلك إلَّا دعاوى باطلة أظهرت الحقائق زيفها، ولأنَّهم ناقشوها بحسب مقاييسهم الاجتماعيَّة! فهل أنَّ بقاء الإنسان طول هذه المدَّة من المستحيلات العقليَّة؟! ولو أردنا اتِّباع هذا المنهج، فهل تبقى لنا قضيَّة من قضايا القرآن الثابتة بالنصِّ القرآني؟!
إنَّ المتتبِّع للحوادث العلميَّة والفلسفيَّة يرى إمكان بقاء الإنسان طويلاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(30) قيام القائم (ص 225).
(31) ضحى الإسلام (ج 3/ ص 241).
(32) العقيدة والشريعة في الإسلام (ص 219).
(33) نظريَّة الإمامة (ص 404 و405).
سواء على الصعيد العلمي أو العملي أو الفلسفي(34)، مضافاً إلى الشواهد التاريخيَّة(35).
ودعوى تطاول الأعمار في سالف الدهر ثمّ تناقصها باطلة، لأنَّ العاقل يعلم أنَّ الأزمان لا تأثير لها في الأعمار، وأنَّ زيادتها ونقصها من فعل قادر مختار يُغيِّر ما في الأوقات بحسب ما يراه من الصلاح...
ثمّ نسأل هذا الكاتب: هل أنَّ تكلُّم الطفل في المهد، وتحوُّل عصا موسى (عليه السلام) إلى ثعبان، ونتق الجبل فوق بني إسرائيل كأنَّه ظلَّة، وإحياء الموتى، وشقَّ البحر حتَّى ظهرت الأرض، وبقاء طعام عُزَير النبيِّ (عليه السلام) لم يتسنَّه مائة عام هي أُمور تتَّفق وما جرت عليه سُنَّة الله تعالى في الأُمور العاديَّة؟! أو أنَّها توافق العقل التجريبي الصحيح؟!
فالعقل يحكم في قطعيَّاته وضروريَّاته، ونحن نُؤوِّل النصوص، وأمَّا ظنّيَّاته فلا قيمة لها أمام النصوص إلَّا أنْ تكون اجتهاداً في مقابل النصِّ.
فالمنهج الصحيح هو ملاحظة حال النسبة إلى الشريعة، فإنْ تمَّت لاحظنا الموانع المناسبة مع تلك المسألة، لا أنْ نخرج جزافاً بمقاييس لا ترتبط بها.
وأمَّا دعوى أحمد أمين الأُخرى في إبطال إمامة الصغير كالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(34) راجع: بحث حول المهدي (عجَّل الله فرجه) (ص 63 - 74)، وفي انتظار الإمام (ص 47 - 58)، والمهدي (ص 137)، وغيرها.
(35) ذكر الكنجي في البيان في أخبار صاحب الزمان المطبوع ضمن كفاية الطالب (ص 521) بأنَّ الدلالة على جواز بقاء المهدي في غيبته ولا امتناع في بقائه، بدليل بقاء عيسى (عليه السلام) وإلياس والخضر من أولياء الله، وبقاء الدجَّال وإبليس الملعونين من أعداء الله، وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسُّنَّة، وقد اتَّفقوا عليه، فلا يسع بعد هذا لعاقل إنكار جواز بقاء المهدي (عجَّل الله فرجه).
وقال الكراجكي (رحمه الله) في كنز الفوائد (ج 2/ ص 117): إنَّ أهل الملل كلّهم متَّفقون على جواز امتداد الأعمار وطولها، وقد تضمَّنت التوراة من الإخبار بذلك.
فهي باطلة أيضاً، لأنَّ النبوة والإمامة كلاهما تفضُّل منه سبحانه وتعالى وبيده، يمنحها لمن يشاء من غير اختيار لأحد فيهما، ويجوز هذا عقلاً ولا مانع منه، مع دلالة الدليل عليه، لأنَّه سبحانه وتعالى قادر على أنْ يجمع في الصبيِّ جميع شرائط النبوَّة والإمامة(36)، فلم يكن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هو الحدث الفريد من نوعه في التاريخ، مع ما ورد من تلك النصوص القرآنيَّة في يحيى (عليه السلام) أنَّه أُوتي الحكم صبيًّا، وعيسى (عليه السلام) بأنَّه تكلَّم في المهد واستلم منصب النبوَّة وهو صغير(37).
ثمّ روى علماء أهل السُّنَّة وغيرهم بأنَّ الإمام الجواد (عليه السلام) كان قد بلغ في وقته من الفضل والأدب والحكم مع صغر سنِّه منزلةً لم يساوه فيها من ذوي الأسنان من السادة وغيرهم(38)، وأنَّ الإمام الهادي (عليه السلام) حاز على الإمامة وهو ابن ثمان سنوات، وكذا الإمام العسكري (عليه السلام) وهو ابن أحد عشر عاماً(39).
ثمّ إنَّ واقع الأئمَّة (عليهم السلام) في علمهم بالشريعة وتطبيقهم لأحكامها في سلوكهم وواقعهم تجاه السلطة المنحرفة وخصومهم في الفكر، كان قد حفل به التاريخ، وظهرت نتائج اختباراتهم وتعريفهم لصنوف الإغراءات والمواقف الحرجة، فتكون إناطة المسؤوليَّة بهم وإنْ صغر سنُّهم لا يقف مانعاً أمام تصدِّي منصب الإمامة، وكنموذج عليه ما كان للإمام الجواد (عليه السلام) مع المأمون العبَّاسي(40).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(36) المهدي (ص 114).
(37) راجع: في انتظار الإمام (ص 23)؛ قال تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: 12)، وقال تعالى: ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ (مريم: 29 و30).
(38) راجع: دائرة المعارف الإسلاميَّة الشيعيَّة (ج 1/ ص 598).
(39) راجع: الفصول المهمَّة لابن الصبَّاغ (ج 2/ ص 1061 - 1094)، إثبات الوصيَّة (ص 228 - 256)، دلائل الإمامة (ص 409 - 432)، وغيرها.
(40) راجع: دائرة المعارف الإسلاميَّة الشيعيَّة (ج 1/ ص 598).
ولو افترضنا سكوت التاريخ عن هذه الظاهرة، فإنَّه من غير الطبيعي أنْ لا يُحدِّث عنها رغم تكرُّرها، خاصَّةً وأنَّ المعارضة الشيعيَّة كانت على أشدّها في العصور العبَّاسيَّة، وكانت طريقة إعلان فضيحة الشيعة الإماميَّة بإحراج أئمَّتهم فيما يدَّعونه من علم واستقامة سلوك، وكذا إبراز سخفهم لاحتضانهم أئمَّة بهذا السنِّ والعمر، هو أيسر بكثير من تعريض الأُمَّة إلى حروب طاحنة قد يكون الخليفة من ضحاياها، أو تعريض هؤلاء الأئمَّة إلى السجون والمراقبة أو المجاملة أحياناً.
وأمَّا دعواه حول السفراء:
وذلك باتِّهامهم بالكذب، والدجل، والخيانة، وتزوير الأحاديث، والسرقة لأموال المسلمين بحجَّة أنَّهم سفراء عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فهو ممَّا لا يليق بهذا الكاتب الاجتماعي (أحمد أمين) التفوُّه به، ولا يمكن مسامحته عليه، فكيف يستهين بتلك الشخصيَّات العظيمة التي وصلت إلى درجة رفيعة حسدهم عليها الملوك، والقضاة واعترفت الأُمَّة بجلالتهم وعظمتهم وكمال عقلهم(41)؟! أليس ما ذكره هذا الكاتب إلَّا إفساد للحقائق وتمويه للعقول؟! فكيف تُسلَّم - كلُّ تلك الأموال الضخمة التي كانت تصلهم من البلاد الإسلاميَّة التي اعترف بها الكاتب المصري نفسه(42) - إليهم دون معرفة بهم، والاطِّلاع على أحوالهم، والوقوف على أُمور غيبيَّة عنهم؟!
إنَّ وصول كلِّ تلك الأموال إليهم ليُصحِّح أُطروحتهم، ويُبيِّن صدق مقالتهم وعظم شأنهم ومنزلتهم الرفيعة في الأُمَّة، ولقد كان حال السفراء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(41) راجع: تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 191)، وسير أعلام النبلاء (ج 15/ ص 222)، والوافي بالوفيات (ج 12/ ص 227).
(42) ظهر الإسلام (ج 4/ ص 118).
واضحاً عند مختلف طبقات الأُمَّة، حيث اختُبِروا مرَّات عديدة، فبان صدق مقالتهم وحسن سيرتهم، مع ما كانوا عليه من مسلك السرّيَّة والكتمان بسبب مراقبة السلطات لتحرُّكاتهم، وبثِّها الجواسيس حولهم لاقتناص أخبارهم وأخبار من انتسبوا له، مع تلك المؤامرات وحالات الشغب التي كانت تحاك ضدَّهم، والعقائد الفاسدة لبعض العناصر في المجتمع، وقد اندفع السفراء الأربعة لمجابهة التيَّار المنحرف المتمثِّل في السلطة والمجتمع، فلم يُقلِّل نشاطهم من شأنهم، أو يحدُّ من سلوكهم، وكانت فترة سفارتهم من أشدّ الفترات وأصعبها.
إنَّنا ومن خلال النقاش العلمي السليم والوصول إلى مستوى الموضوعيَّة في البحث بحاجة إلى الإلمام التامِّ بجميع الأحداث التي أحاطت بهم، والظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة والفكرية التي مرُّوا بها، ودراسة تلك المعاناة وتجربتهم في الأُمَّة، ومدى ارتباطهم بالأئمَّة وتصديق الأُمَّة لهم ليتبيَّن كذب مقالة تلك المدرسة الاجتماعيَّة وافتراءات أحمد أمين حولهم.
وتدور هذه الدراسة حول محورين أساسيَّين:
المحور الأوَّل:
معرفة حال هؤلاء السفراء، والأهداف المرتقبة في إيجاد السفارة المهدويَّة، واستعراض صفاتهم ومقوِّماتهم في السفارة، وبعض الشُّبُهات حول السفارة.
المحور الثاني:
دراسة موضوعيَّة للأوضاع الاجتماعيَّة والسياسيَّة والفكريَّة، وذكر بعض تراثهم الثقافي والعلمي، وبيان أُطروحتهم وكيفيَّة ارتباطهم بالأُمَّة، وكيفيَّة استلام التوقيعات وخروج المعجزات من قِبَل الأئمَّة (عليهم السلام) على أيديهم لبيان صدق مقولتهم، وزيف الافتراءات حولهم.
ثمّ مناقشة التوقيع الصادر من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في إغلاق باب السفارة، وإعلانه عن بداية الغيبة الكبرى.
* * *
المبحث الأوَّل: الأهداف المرتقِّبة من السفارة المهدويَّة:
كان الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يهدف في إيعازه لبناء السفارة في الغيبة الصغرى إلى ثلاثة أُمور:
الأمر الأوَّل: إثبات وجوده وحياته عن طريق سفرائه:
اعتمد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في عمله نظاماً هرميًّا خاصًّا، أمكنه أنْ يرتبط من خلاله بقواعده الشعبيَّة وفئاته الموالية، فكان (عجَّل الله فرجه) يتصدَّى قمَّة هذا النظام ويمارس أعماله بسرّيَّة وحذر وكتمان شديد، ويصدر تعليماته وأوامره إلى سفرائه مباشرةً، وقد عدُّوا ركناً مهمًّا في هذا النظام، وكانوا بمثابة أعضاء الارتباط بينه وبين وكلائه المنتشرين في سائر البلاد الإسلاميَّة، ولا نعرف مدى قوَّة هذا الارتباط لكونه محاطاً بالغموض، ومجهولاً تماماً لدى الجميع سوى السفير نفسه الذي كان يعرف قوَّة هذا الارتباط وضعفه.
لقد كان تاريخ السفراء حافلاً بالآلام والمتاعب حيث المطاردة الجادَّة من قِبَل السلطة وجواسيسها الذين بثَّتهم في كلِّ مكان لملاحقة فلول الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وأتباعه، ومحاولتها القضاء على القيادة المشروعة وكلِّ من يرتبط بها بصلة، ويتجلَّى هذا تماماً في النصوص الواردة عنهم (عليهم السلام) من حُرمة التصريح باسمه، أو الإعلان عن مكانه كما سيأتي، فكانت مهمَّة السفراء اتِّخاذ أيدلوجيَّة مناسبة من الحذر والكتمان من جهة، وبذل أقصى الجهود لإقناع
الرأي العامِّ - من خلال قيادتهم الأُمَّة - بوجود الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)، وكونه مختفياً عن الأنظار، وإخراج التوقيعات والبيانات الصادرة منه (عجَّل الله فرجه) لتذليل العقوبات وحلِّ المشاكل الاجتماعيَّة والفكريَّة والسياسيَّة وغيرها من جهة أُخرى.
وقد أتاح منهج السرّيَّة والكتمان الفُرَص الكثيرة أمام السفراء من العمل الدقيق والمنظَّم تحت قيادته (عجَّل الله فرجه)، وهم يلحظون في هذه الأيدولوجيَّة عدَّة أُمور، هي:
الأوَّل: خوف السلطة من العلويِّين، وبذلها جهوداً مكثَّفة لاضطهاد كبار قادتهم، والحدِّ من نشاطهم، وقد ذكرهم أبو الفرج الأصفهاني في (مقاتله).
الثاني: زرع جوٍّ من القلق والرعب وبثِّ الإشاعات المغرضة والمسمومة من قِبَل السلطة، وما يترتَّب عليه من ردود سلبيَّة على الأُمَّة.
الثالث: المطاردة الجادَّة لفلول وقواعد الإمام (عجَّل الله فرجه)، وشنُّ حملات التفتيش المنتظمة وغير المنظَّمة لدار الإمام (عجَّل الله فرجه) من خلال التسعة عشر عاماً من خلافة المعتمد العبَّاسي والمعتضد.
الأمر الثاني: رعاية شؤون الأمَّة الإسلاميَّة:
إنَّ من أهمّ الوظائف الملقاة على عاتق السفراء وأخطرها هو رعاية شؤون الأُمَّة الإسلاميَّة من خلال تلك الظروف والتعقيدات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والفكريَّة، مع اختفاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عن المسرح العامِّ وضرورة إقناعها بوجوده، وسيتَّضح ذلك جيِّداً في هذه الدراسة.
الأمر الثالث: تهيئة الأمَّة لاستيعاب مفهوم الغيبة الكبرى:
لقد كانت الأُمَّة الإسلاميَّة فترة الغيبة الصغرى بحاجة إلى شحذ للأذهان
لتوعيتها مفهوم الغيبة الكبرى، وقد انصبَّت استراتيجيَّة الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) على ذلك، باتِّباعهما مسلك الاختفاء والاحتجاب عن الأُمَّة بلا مباغتة وسابق مقدَّمات، إذ لعلَّ الأُسلوب المفاجئ يُؤدِّي إلى مضاعفات غير محمودة تُؤدِّي بالمجتمع إلى إنكار وجود الإمام المهدي (عليه السلام) مطلقاً، وكان على الإمام المهدي أيضاً أنْ يضاعف في هذا المسلك ويتدرَّج في عمقه.
إنَّ المتتبِّع للنصوص والشواهد التاريخيَّة يرى بوضوح مدى التفاوت بين منهجيَّة الإمام العسكري (عليه السلام) وابنه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فقد كان أصحاب الإمام العسكري أكثر بكثير من أصحاب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وكانوا يرونه أثناء زيارته للبلاط العبَّاسي، ويعرفون هيأة وقسمات وجهه، وكانت الأُمَّة الإسلاميَّة قد شاهدت موته، بعد أنْ ضمن المخطَّط الإلهي لغيبة ابنه (عجَّل الله فرجه)، بينما لم يكن يرى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سوى القليل من أصحابه، ثمّ تتابعت الأجيال الإسلاميَّة في غيبته، وهي لا تحمل أيَّ فكرةٍ عن شكله وهيأته سوى النصوص الواردة بشأنه، ولم يكن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مع ذلك مختفياً بشخصه، معزولاً عن الأُمَّة، بل كان يراهم ويرونه، ويعرفهم ولا يعرفونه، وإنَّ ما كان واقعاً خارجاً هو: الجهل بعنوانه كإمام مهدي! لا اختفاء جسمه كما تقول به بعض الأفكار غير المبرهنة.
* * *
المبحث الثاني: مقوِّمات السفراء الأربعة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
قالوا: إنَّ الرسول دليل عقل المُرسِل، يُمثِّله في شخصه وكماله، وذلك من خلال نشر أفكاره الناضجة، ونواياه الحسنة، لأنَّ النفوس لا تتأسَّى إلَّا بالأخلاق المرضيَّة، ولا تتكهرب إلَّا بالعلوم الناضجة، ولا تهشُّ إلَّا بتوطيد السياسة وإقامة العدل والدعوة إلى الدِّين.
ثمّ يكون نبوغ هذا الرسول مجلية لرغبات الأُمَّة، ووقوفاً على غاية المُرسِل من إرساله، ولنعم ما قيل:
تخيَّر رسولك إنَّ الرسول * * * يدلُّ على عقل من أرسله
لقد كان إيعاز الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بإيجاد السفارة يدلُّ على الاهتمام الشديد بهذا الأمر وخطورته، ومن وقع عليه الاختيار لا يتحلَّى إلَّا بالصفات الكريمة المتكاملة.
لقد عُرِفَ السفراء من خلال تاريخهم وتجربتهم في الأُمَّة الإسلاميَّة - وعلى عكس ما ادَّعاه المفتري أحمد أمين حولهم - بعمق الإخلاص وقوَّة التحمُّل والصبر على البلاء، قال إسماعيل بن عليٍّ النوبختي - وهو من كبار علماء الكلام - واصفاً أحد السفراء: وَأَبُو اَلْقَاسِمِ - ابن روح النوبختي - فَلَوْ كَانَ اَلْحُجَّةُ تَحْتَ ذَيْلِهِ وَقُرِّضَ بِالمَقَارِيضِ مَا كَشَفَ اَلذَّيْلَ عَنْهُ(43).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(43) الغيبة للطوسي (ص 391/ ح 358).
واجتمع فيهم أيضاً العلم والحلم، العقل والحنكة، التجربة والخبرة بأطوار الأُمَّة، المعرفة بطُرُق المحاورات وفنون الجدل، قوَّة الإيمان والبصيرة في الدِّين، وصحَّة العقيدة، الإحاطة التامَّة بمؤسَّسات الدِّين وقوانين الملَّة، الكفاءة والدراية السياسيَّة والعلميَّة فيما نُدِبُوا إليه، الفطنة والدراية بمصالح الناس، المعرفة بسياسة كلِّ طبقة على نحو لا تخالف الشريعة، وبهذه الاستراتيجيَّة الواضحة رسم السفراء معالم الإسلام الحضاريَّة، وأقاموا دعائمه وقدَّموا الأُطروحة المناسبة حول (فكرة الغيبة) ووجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
* * *
المبحث الثالث: الصيغ العمليَّة والأيدولوجيَّة الجديدة في عمل السفراء:
إنَّ الهدف من وجود الإمامة المتمثِّلة بأهل البيت (عليهم السلام) هو هداية البشريَّة إلى السعادة الأبديَّة، فلا بدَّ من وجود إمام لكي لا تسيخ الأرض بأهلها.
ولكي يحفظ الأئمَّة (عليهم السلام) هذا القانون الطبيعي، فإنَّ عليهم أنْ يُطبِّقوه في سلوكهم العملي والاجتماعي في جميع الفترات وعلى مختلف المستويات، حيث وضع الإمامان - على سبيل المثال - الهادي والعسكري (عليهما السلام) نظاماً تكامليًّا يحفظ البشر من الضياع والانحطاط، ويُؤمِّن سعادتها، وذلك هو (نظام الوكلاء) على أُسُس حديثة، وكان غرضهما منه التمهيد للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لحفظه من الظلمة وتأمين مستلزماته.
ثمّ اختاروا لهم أصحاباً كان لهم موقعاً ورصيداً اجتماعيًّا عالياً في الأُمَّة، للقيام بمسؤوليَّة تغيير الانحراف القائم في السلطة والمجتمع، فكان لهم دور هامٌّ في مواجهة تيَّار الانحراف، ورسموا أُطُراً تكامليَّة للمجتمع، وإليك أهمّ نشاطاتهم في السفارة المهدويَّة:
أوَّلاً: إثبات صدق سفارتهم بإقامتهم الدلائل الباهرة:
وردت النصوص والشواهد التاريخيَّة الكثيرة عن الأئمَّة (عليهم السلام) من أهل البيت (عليهم السلام) بتوثيقهم السفراء الأربعة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وتسالم عليها المجتمع
الإسلامي، حتَّى بات ذلك مشهوراً عنهم من خلال التجربة التي عاشتها الأُمَّة معهم ومن خلال ارتباطها بهم، فساعدتهم تلك المعرفة على قبول كلامهم ومقولتهم، وصحَّة ما انتسبوا إليه بادِّعائهم السفارة، وذلك بإقامتهم الدلائل والبراهين الواضحة لإزالة حالة الشكِّ والريب في المجتمع.
لقد كان ظهور المعجزات والبيِّنات من قِبَل الأئمَّة (عليهم السلام) والأعلام من الممكن الذي ليس بواجب عقلاً، ولا ممتنع قياساً، وقد جاءت به الأخبار بكونه منهم على التظاهر والانتشار، فقطع على ذلك من جهة السمع وصحيح الآثار، وعليه جمهور أهل الإمامة.
وأمَّا من تأخَّر من النوبختيِّين فهم يوافقون في ظهور المعجزات على أيدي الأئمَّة (عليهم السلام) ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت (رحمه الله) في (ياقوته) ما لفظه: وظهور المعجزات على أيدي الأولياء والأئمَّة (عليهم السلام) جائز، ودليله ظهور المعجز على آصف وعلى مريم إلى غير ذلك(44).
وقال العلَّامة (رحمه الله) في شرحه: إنَّه غير مستحيل ولا قبيح فجاز إظهاره...، أمَّا عدم قبحه فلأنَّ جهة القبح هو الكذب وهو منفيٌّ هنا، إذ صاحب الكرامات لا يدَّعي النبوَّة، فانتفى وجه القبح(45).
ومن ذهب إلى جواز صدور الكرامات من الأئمَّة (عليهم السلام) من مشائخ المعتزلة: أبو الحسن البصري، وابن الإخشيد ومن اتَّبعه، وأصحاب الحديث كلُّهم يُجوِّزه لكلِّ صالح من أهل التقوى والإيمان.
وأمَّا ظهور الكرامات من المنصوبين للسفارة المهدويَّة فإنَّه جائز ذلك منهم، ولا يمنع منه عقل ولا سُنَّة، وهو مذهب جماعة من مشايخ الإماميَّة، وإليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(44) الياقوت في علم الكلام (ص 68).
(45) أنوار الملكوت (ص 186 و187).
يذهب ابن الإخشيد من المعتزلة، وأصحاب الحديث في الصالحين والأبرار، وأبو الحسن البصري ومحقِّقو الأشعريَّة كالجويني والغزالي والرازي، والفلاسفة المسلمين كابن سينا في (الشفاء)(46).
لقد بذل السفراء الأربعة للإمام المهدي (عليهم السلام) فترة الغيبة الصغرى جهوداً مضاعفة ومكثَّفة لإثبات أحقيَّتهم في السفارة، فأقاموا الدلائل والبراهين البيِّنة، والمعجزات التي ظهرت على أيديهم بتوجيه منه (عجَّل الله فرجه) تدلُّ على صحَّة ما انتسبوا إليه، قال النوبختي - السفير الثالث للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - لأحمد بن إسحاق الأشعري - وهو من كبار علماء الكلام عند الشيعة -: لَئِنْ أَخِرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفَنِي اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِيَ اَلرِّيحُ مِنْ مَكَانٍ سَحِيقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ فِي دِينِ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) بِرَأْيِي وَمِنْ عِنْدِ نَفْسِي، بَلْ ذَلِكَ عَنِ اَلْأَصْلِ، وَمَسْمُوعٌ مِنَ اَلْحُجَّةِ (عليه السلام)(47).
ثانياً: بذل الجهود في إخفاء أمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
لقد كانت بداية فترة الغيبة الصغرى مشحونة بالتساؤلات حول وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وما يرتبط به، ومغلَّفة بالكتمان الشديد، لعدم وجود المصلحة في الدلالة عليه أو على مكانه، فلو كانت مصلحة في لقائه، فليس هناك بدٌّ من لقائه أو الدلالة عليه، ومع ذلك فلم يكن اسم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) غامضاً لدى مختلف الفِرَق الإسلاميَّة، وإذ تطارد السلطات شخصه (عجَّل الله فرجه) فهي تلحظ جانبين:
الأوَّل: التعرُّف على وقت ولادته (عجَّل الله فرجه)، إذ مع الغفلة عن معرفة وقتها لا يمكنها بطبيعة الحال أنْ تُجرِّد حملاتها ضدَّه.
الثاني: التعرُّف على شخصه باسمه، إذ بدونه لا يمكنها أنْ تواجه الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(46) أوائل المقالات (ص 176 و177).
(47) الغيبة للطوسي (ص 321 و322/ ح 269).
المهدي (عجَّل الله فرجه) وتقاتله، لاحتمال أنْ يكون المهدي قد وُلِدَ أو لم يُولَد، فوضوح الاسم يكسب شخصيَّة قانونيَّة واجتماعيَّة معاً، ومع الجهل به وبشكله يكسبه غموضاً يجعل السلطة تحار في البحث عنه، ويُكيِّف هذا الغموض برهبة وشعور بالعجز تجاهه.
ويحتمل - وكما تُؤكِّده الأحداث - أنَّ المُراد بكتم الاسم هو كتم الشخص نفسه وإخفاء ولادته عن أعدائه، وعليه فإنَّ هناك تكليفاً واحداً بالكتمان يتعلَّق بالولادة والاسم معاً باعتبارهما يُعبِّران عن معنى أصيل، سأل الحميري والأشعري محمّد بن عثمان العمري - السفير الثاني للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - في أنْ يُخبرهما عن اسم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فقال لهما: نُهِيتُمْ عَنْ هَذَا(48).
وقال أيضاً: مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَا أَقُولُ هَذَا مِنْ عِنْدِي، فَلَيْسَ لِي أَنْ أُحَلِّلَ وَأُحَرِّمَ، وَلَكِنَّهُ عَنْهُ (صَلَوَاتُ اَللهِ عَلَيْهِ)، فَإِنَّ اَلْأَمْرَ عِنْدَ اَلسُّلْطَانِ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ - العسكري - (عليه السلام) مَضَى وَلَمْ يُخَلِّفْ وَلَداً، وَقَسَّمَ مِيرَاثَهُ وَأَخَذَهُ مَنْ لَا حَقَّ لَهُ، فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ذَا عُمَّالُهُ يَجُولُونَ، فَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْسُرُ أَنْ يَتَعَرَّفَ عَلَيْهِمْ أَوْ يَنِيلَهُمْ شَيْئاً، وَإِذَا وَقَعَ اَلْاِسْمُ وَقَعَ اَلطَّلَبُ، فَاللهَ اَللهَ اِتَّقُوا اَللهَ وَأَمْسِكُوا(49).
وخرج توقيع من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لسفيره محمّد بن عثمان العمري ابتداءً ومن غير مسألة: «لِيُخْبِرَ اَلَّذِينَ يَسْأَلُونَ عَنِ اَلْاِسْمِ إِمَّا اَلسُّكُوتَ وَاَلْجَنَّةَ، وَإِمَّا اَلْكَلَامَ وَاَلنَّارَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ وَقَفُوا عَلَى اَلْاِسْمِ أَذَاعُوهُ، وَإِنْ وَقَفُوا عَلَى اَلمَكَانِ دَلُّوا عَلَيْهِ»(50).
وقال الإمام الهادي (عليه السلام): «إِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ شَخْصَهُ، وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ ذِكْرُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(48) الغيبة للطوسي (ص 355/ ح 316).
(49) الغيبة للطوسي (ص 243 و244/ ح 209، وص 359 - 361/ ح 322).
(50) الغيبة للطوسي (ص 364/ ح 331).
بِاسْمِهِ»، فقال له الراوي للحديث: فَكَيْفَ نَذْكُرُهُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «قُولُوا: اَلْحُجَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(51).
ثالثاً: إخراج التوقيعات عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في قضايا الأمَّة:
تناولت التوقيعات الخارجة من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبنوع من الجدّيَّة قضايا الأُمَّة، سواء ما يرتبط فيها بمستوى العلاقات الاجتماعيَّة أو القضايا السياسيَّة أو الفكريَّة.
فأمَّا على مستوى العلاقات الاجتماعيَّة، فقد تناولت النصوص المشاكل العائليَّة ومحيط الأُسرة، كتيسير الشفاء لأمراض مزمنة، وطلب الولد، وسؤال الدعاء لأُمور هامَّة، واستئذان بالسفر، أو الخروج إلى الحجِّ، أو التزويد بالأكفان والأحناط، وغيرها من الأُمور.
وأمَّا على الصعيد السياسي، فقد تناولت النصوص تحذير السفراء والوكلاء وأصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) من الوقوع في قبضة السلطات وشراكها، وكيفيَّة استلام الأموال أو إرسالها إلى الإمام (عجَّل الله فرجه)، أو صرفها في مجالات سياسيَّة ومشاريع عامَّة يعود نفعها على الأُمَّة.
وأمَّا على الصعيد الثقافي، فقد وردت النصوص عنه (عجَّل الله فرجه) في حلِّ المشاكل المزمنة المتعلِّقة بالمذهب، ومواجهة الهجمة الثقافيَّة وتيَّار الانحراف في السلطة والمجتمع.
وهناك عدَّة ملاحظات حول التوقيعات:
الملاحظة الأُولى: تشابه خطِّ الأئمَّة (عليهم السلام):
لقد كان معظم أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) يعرفون خطَّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(51) الغيبة للطوسي (ص 202/ ح 169).
وكذا خطَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، حيث كان هناك تشابهاً في القلم بالغلظة والرقَّة، فقد كتب أحمد بن إسحاق الأشعري القمِّي رسالة إلى الإمام العسكري (عليه السلام) أعرب فيها عن رغبته في معرفة خطِّه (عليه السلام) ليأمن التدليس والتزوير من قِبَل بعض المشعوذين، فأجابه الإمام (عليه السلام): «يَا أَحْمَدُ، إِنَّ اَلْخَطَّ سَيَخْتَلِفُ عَلَيْكَ مِنْ بَيْنِ اَلْقَلَمِ اَلْغَلِيظِ إِلَى اَلْقَلَمِ اَلدَّقِيقِ، فَلَا تَشُكَّنَّ»(52).
وقال الطوسي (رحمه الله): وهكذا كانت التوقيعات الخارجة من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إلى سفرائه وخواصِّ أبيه بالأمر والنهي والأجوبة عمَّا يسأل الشيعة عنه إذا احتاجوا إلى السؤال بالخطِّ الذي كان يخرج في حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)(53).
الملاحظة الثانية: كيفيَّة استلام التوقيعات:
لم تكن طريقة استلام التوقيعات واضحة، بل وحتَّى اللقاءات التي دارت بين السفراء والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فقد تطول المدَّة ثمّ يحصل اللقاء، روى الطوسي بإسناده عن عَبْدِ اَللهِ بْنِ جَعْفَرٍ اَلْحِمْيَرِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ - العمري - (رضي الله عنه)، فَقُلْتُ لَهُ: رَأَيْتَ صَاحِبَ هَذَا اَلْأَمْرِ؟! قَالَ: نَعَمْ، وَآخِرُ عَهْدِي بِهِ عِنْدَ بَيْتِ اَللهِ اَلْحَرَامِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اَللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي»(54).
وقال العمري أيضاً: وَرَأَيْتُهُ (صَلَوَاتُ اَللهِ عَلَيْهِ) مُتَعَلِّقاً بِأَسْتَارِ اَلْكَعْبَةِ فِي اْمُسْتَجَارِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اَللَّهُمَّ اِنْتَقِمْ لِي مِنْ أَعْدَائِكَ»(55).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(52) الكافي (ج 1/ ص 513/ باب مولد أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)/ ح 27).
(53) راجع: الغيبة للطوسي (ص 356/ ذيل الحديث 318).
(54) الغيبة للطوسي (ص 251 و364/ ح 222 و330).
(55) المصدر السابق.
الملاحظة الثالثة: مدَّة خروج التوقيعات:
اختلفت النصوص حول مدَّة خروج التوقيعات الصادرة من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إلى سفرائه، وكانت تخرج على أشكال عديدة:
أ - التوقيع الشفوي:
فقد كان يخرج التوقيع أحياناً شفويًّا إلى السائل وإفهامه أنَّه من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
روى الطوسي (رحمه الله) أنَّ رجلين دخلا على ابن روح النوبختي - السفير الثالث للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - ومعهما أخرس، فطلبوا منه الدعاء بالشفاء للأخرس، فأجابهم ابن روح قائلاً: إِنَّكُمْ أُمِرْتُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى اَلْحَائِرِ، فذهبوا إليه وشُفِيَ الأخرس بمعجزة الإمام (عجَّل الله فرجه)(56).
ب - التوقيع بنحو الرسالة المستعجلة:
فقد خرج توقيع منه (عجَّل الله فرجه) لابن روح النوبختي عام (312هـ) من شهر ذي الحجَّة وهو في السجن في لعن ابن أبي العزاقر الشلمغاني المدَّعي للسفارة كذباً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بسرعة فائقة لا تُتصوَّر، وَاَلْمِدَادُ رَطْبٌ لَمْ يَجُفَّ(57).
ج - التوقيع الغيبي:
ومرَّة يخرج التوقيع منه (عجَّل الله فرجه) وقد خطر السؤال في ذهن السائل فيُخبِره الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بما في ضميره ووجدانه، ولم يكن يعرف ذلك أحد غيره.
روى الطوسي (رحمه الله) توقيعاً صادراً من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لسفيره محمّد بن عثمان العمري، جاء فيه: قال أبو الحسين الأسدي: فَوَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ بَشِيراً لَقَدْ نَظَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي اَلتَّوْقِيعِ فَوَجَدْتُهُ قَدِ اِنْقَلَبَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي نَفْسِي(58).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(56) الغيبة للطوسي (ص 309/ ح 262).
(57) الغيبة للطوسي (ص 409 و410/ ح 384).
(58) كمال الدِّين (ص 522/ باب 45/ ح 51).
د - التوقيع بعد ساعات:
ومرَّة كان يخرج التوقيع منه (عجَّل الله فرجه) بعد ساعات قليلة من تقديم الأسئلة له (عجَّل الله فرجه).
فقد روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن الصفواني، قال: وَحَضَرَتْ صَلَاةُ اَلظُّهْرِ، فَصَلَّيْنَا هُنَاكَ، وَرَجَعَ اَلرَّسُولُ - وهو خادم أسود لمحمّد بن الفضل -، فَقَالَ: قَالَ لِي - ابن روح النوبختي: اِمْضِ، فَإِنَّ اَلْجَوَابَ يَجِيءُ، وَقُدِّمَتِ اَلمَائِدَةُ، فَنَحْنُ فِي اَلْأَكْلِ إِذْ وَرَدَ اَلْجَوَابُ فِي تِلْكَ اَلْوَرَقَةِ مَكْتُوبٌ بِمِدَادٍ عَنْ فَصْلٍ فَصْلٍ(59).
هـ - التوقيع بعد ثلاثة أيَّام:
ومرَّة أيضاً كان يخرج التوقيع منه (عجَّل الله فرجه) بعد ثلاثة أيَّام من تقديم الأسئلة له.
فقد روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن عليِّ بن الحسين بن بابويه القمِّي أنَّه قال: سألت ابن روح النوبختي بالتوسُّط عند الإمام (عجَّل الله فرجه) ليدعو الله تعالى له في أنْ يرزقني ولداً، فأنهى ذلك إليه، فأخبره بعد ثلاثة أيَّام أنَّه قد دعا لعليِّ بن الحسين (رحمه الله)، فَإِنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ مُبَارَكٌ يَنْفَعُ اَللهُ بِهِ، وَبَعْدَهُ أَوْلَادٌ(60).
و - التوقيع على مجموعة أسئلة:
ومرَّة يخرج التوقيع منه (عجَّل الله فرجه) على مجموعة أسئلة عُرِضَت عليه في ورقة واحدة.
فقد روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أبي غالب الزراري، قال: فَحِينَ جَلَسْنَا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ، أَخْرَجَ اَلدَّرْجَ وَفِيهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ قَدْ أُجِيبَ فِي تَضَاعِيفِهَا(61).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(59) الغيبة للطوسي (ص 316/ ح 264).
(60) الغيبة للطوسي (ص 320/ ح 266)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 502/ باب 45/ ح 31).
(61) الغيبة للطوسي (ص 304/ ح 256).
رابعاً: قبض الأموال وتوزيعها على الأمَّة:
لقد كانت الأموال الكثيرة تصل السفراء بعد استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام)، ثمّ توصل بعدها إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وذلك في بداية الغيبة، كالأموال التي أرسلها الوفد القمِّي ولأوَّل مرَّة إلى عثمان بن سعيد العمري في بغداد(62).
ثمّ توالت الوفود بعد ذلك، وهي تحمل معها الأموال والأسئلة التي كانت تتناول موضوعات مختلفة، بعد أنْ عرفوا تنصيب العمري نائباً في أمر السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في بغداد، فأُمروا بحمل ما لديهم إليه وأخذ الأجوبة والتعليمات منه، وكانت الوصولات تُسلَّم لأرباب الأموال مرفقة بالدعاء في بداية الغيبة، ولكنَّه انقطع التسليم بعد التسالم على السفارة وصحَّتها عنهم، وصعوبة الوقت، والسيف يقطر دماً في خلافة المعتضد.
أمَّا طريقة التسليم لهذه الأموال إلى السفراء، فقد كان يتمُّ بشكل عادي دون غموض أو شكٍّ يتوجَّههم، حيث كانوا يأمرون أرباب الأموال بالذهاب إلى المكان الفلاني ليُسلِّموا ما عندهم بلا قبوضات تُعطى لهم، أو توضع في جراب السمن وزقاقه ويحمله السفراء تغطيةً لأمرهم وخوفاً(63).
وكان الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في كلِّ ذلك جادًّا في مطالبة السفراء بتلك الأموال وغيرها من الأُمور، وتوصيتهم بصرفها في وجوهها الصحيحة، وقد بيَّن طريقة الصرف لهم لهذه الأموال في النصوص، فكان السفير مثلاً يتاجر بها ليُفوِّت الفرصة على السلطة وجواسيسها.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(62) الغيبة للطوسي (ص 294/ ح 249).
(63) الغيبة للطوسي (ص 353 و354/ ح 314).
المبحث الرابع: تساؤلات على طاولة البحث حول السفارة:
السؤال الأوَّل: لماذا لم يختر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سُفراءه من العلويِّين؟
يلحظ من خلال دراسة التاريخ وخاصَّة تاريخ العلويِّين أنَّهم كانوا الصوت المرهب للدولة الأُمويَّة والعبَّاسيَّة معاً، وكان شعارهم: الثورة على الظلم، والدعوة للرضا من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ممَّا كان سبباً في مواجهتها لهم، فعاملتهم الدولتان بأقسى ما يُعامَل به أعداء الدِّين، وأوقعت فيهم المجازر البشعة، ولا يكاد يجفُّ دم حتَّى يسيل آخر، وتفننتا في إبادتهم، فقتل وصلب وإحراق وتذرية وإماتة بطيئة وزجٌّ في زنزانات التعذيب والتشريد الجماعي، وقد ذكر الأصفهاني في (مقاتله) عن هذا الشيء الكثير.
لقد كان هدف الإمام (عجَّل الله فرجه) في إيجاد السفارة هو استيفاء أكبر هدف اجتماعي يعود بالنفع على الأُمَّة الإسلاميَّة، ولا يكون تصدِّي العلويِّين لهذا المنصب المهمِّ سوى تعطيلاً للحدود الإلهيَّة والمصالح العامَّة المرتقبة في الغيبة، باعتبار تلك النظرة السلبيَّة من قِبَل السلطات تجاههم، وهذه النظرة منتفية في غيرهم، فهي لا يمكنها أنْ تُشدِّد الرقابة، وتُفرِّق الجواسيس حول كلِّ فرد من أفراد المجتمع لمعرفة من يعارضها، والسفراء مهما كانوا مقرَّبين من الأئمَّة وسائرين في خطِّهم، فبإمكانهم التغطية على أمرهم، والحذر والكتمان بالقول والفعل حسب ما يرونه مناسباً وموافقاً للظروف والأوضاع السائدة آنذاك.
فحريٌّ بنا أنْ نتساءل: ما هو الدافع الذي يجعل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يختار السفراء من العلويِّين دون غيرهم؟! خاصَّةً وأنَّ الإمام كان قد امتلك أصحاباً بلغوا الذروة القصوى في الإيمان وقوَّة الإرادة والعزيمة والتخصُّص العالي في مختلف المجالات والعلوم، وهم معروفون بأسمائهم وأنسابهم، وقد تربَّوا في مدرسة الإمامين العسكريَّين والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وتخرَّجوا من تلك المدرسة.
إنَّ مطالعة تاريخ السفراء الأربعة ودراسة أحوالهم نراهم المَثَل الأوفى والأمثل في هذا المجال والأكثر تسلُّطاً من غيرهم كما مرَّ ذكر ذلك، وقد حازوا على جلالة في الأُمَّة لا نظير لها، وكانوا من معتمدي الأئمَّة (عليهم السلام) ومقرَّبيهم، حيث استطاعوا بلياقتهم إقناع الرأي العامِّ بوجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبيانهم أهداف الغيبة، وهذا ما كان يتوخَّاه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في أمر السفارة.
السؤال الثاني: لماذا اختار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بغداد لسفارته؟
قبل الخوض في بيان أسباب اختيار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بغداد محلًّا لسفارته نشير إلى بعض المشاهد التاريخيَّة حول سامرَّاء محلّ ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وسبب تركه لها.
أشارت النصوص التاريخيَّة إلى أنَّ سامرَّاء كانت أكثر من نصف قرن عاصمة الخلافة العبَّاسيَّة، وأصبحت زهرة البلدان ودُرَّة التيجان، لا أجمل ولا أعظم ولا آنس ملكاً منها، لكنَّها تحوَّلت إلى خراب بمجرَّد انتقال الخلافة العبَّاسيَّة عنها إلى بغداد، فغار نبعها دفعة واحدة، ولم يبقَ منها سوى موضع غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وقبر أبيه وجدِّه ومحلَّة أُخرى بعيدة تُسمَّى: كرخ سامرَّاء، وسائر ذلك خراب يستوحش الناظر إليه(64).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(64) مآثر الكبراء في تاريخ سامرَّاء (ج 1/ ص 176)، عن معجم البلدان (ج 3/ ص 176).
وتعاقب في تلك الفترة ثمانية من خلفاء بني العبَّاس على سامرَّاء، ابتداءً بالمعتصم حيث انتقل إليها عام (227هـ)، وبويع بعده للواثق حتَّى عام (232هـ)، ومن ثَمَّ المتوكِّل حتَّى عام (247هـ) حيث قتله الأتراك بعد ليلة حمراء زاخرة باللهو والشراب(65)، وبويع للمنتصر وبقي ستَّة أشهر ويومين في الخلافة(66)، ثمّ جاء بعده المستعين عام (248هـ) حتَّى خلع نفسه عام (253هـ) وجلس مكانه المعتزُّ بالله(67)، ثمّ خلعه الأتراك عام (256هـ) وبايعوا المعتمد حتَّى عام (279هـ)، وبعده نصبوا المعتضد في بغداد، وبه كانت نهاية العاصمة سامرَّاء.
اشتهر هؤلاء الخلفاء باللهو والخمر والمنادمة ما عدا المهتدي حيث كان أحسنهم مذهباً وأجملهم طريقةً، وقد كان في بني العبَّاس كعمر بن عبد العزيز في بني أُميَّة(68).
ويعود سبب بناء المعتصم مدينة سامرَّاء إلى أنَّه رأى ازدحام الموالي في جيشه وقُوَّاده، وكذا ازدحام الأتراك والمغاربة والفراغنة في العاصمة بغداد، وتعرُّضهم إلى الأهالي بالأذى، وعدم عنايتهم بالسلوك الحميدة تجاه الناس، قرَّر بناء سامرَّاء ثمّ نقل الخلافة والجيش إليها، وانتقل إليها بالفعل عام (220هـ)(69).
وأمَّا الخصوصيَّات التي اشتهر بها الخلفاء، فقد ذُكِرَ أنَّ بعضهم اشتهر بالقوَّة والبعض الآخر بالضعف، فاستقلَّ القُوَّاد في العاصمة سامرَّاء، وسيطروا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(65) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 95).
(66) مروج الذهب (ج 4/ ص 46)، الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 115).
(67) مروج الذهب (ج 4/ ص 60).
(68) مروج الذهب (ج 4/ ص 103)، تاريخ ابن الوردي (ج 1/ ص 225).
(69) تاريخ الطبري (ج 7/ ص 231)، معجم البلدان (ج 3/ ص 174)، الكامل في التاريخ (ج 6/ ص451)، تاريخ سامرَّاء (ج 1/ ص 39).
على دفَّة الحوادث ومجريات الأُمور، واستولوا على مركز الخلافة، وصاروا يُزعجون الخليفة، فمرَّة يشغبون عليه، وأُخرى يقتلونه، وثالثة ينصبون غيره، وذاق هؤلاء الخلفاء الثمانية الأمرَّين، حتَّى خرج المعتمد من سامرَّاء عام (279هـ) إلى حيث مات(70)، واستهلَّ خلفه المعتضد ببغداد في العام نفسه(71).
وأمَّا الحوادث العامَّة التي شهدتها سامرَّاء منذ بنائها وإلى أُفول الخلافة عنها أيَّام المعتضد سواء على الصعيد السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي:
منها: استيلاء الأتراك والموالي على دفَّة الحكم والسياسة العليا في العاصمة سامرَّاء، والعُمَّال والأُمراء على الأطراف، وعزل الخليفة جزئيًّا أو كلّيًّا عن النظر في شؤون الدولة، ومن هؤلاء: بغا الكبير، وابنه موسى، وأخوه محمّد، وكيغلغ، وبابكيال، وأسارتكين، وسيماء الطويل، وياركوج، وطبايغو، واذكوتكين، وبغا الصغير، ووصيف التركي، وغيرهم، وهذان الأخيران كانا قد تفرَّدا بالأُمور حتَّى قيل فيهما:
خليفة في قفص * * * بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له * * * كما تقول الببغا(72)
ومنها: الحروب والمناوشات الداخليَّة في العاصمة سامرَّاء بسبب ضعف الخلافة، وفي أطرافها بين الولاة والأُمراء، فكانت المُدُن الإسلاميَّة تستقبل بين فترة وأُخرى وجهاً جديداً يحكمها ويُدبِّر أُمورها ويُجبي خراجها.
ومنها: ظهور الخوارج وصاحب الزنج فترة خلافة المهتدي والمعتمد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(70) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 455)، العبر في خبر من غبر (ج 2/ ص 67).
(71) مروج الذهب (ج 4/ ص 143)، الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 455)، تاريخ ابن الوردي (ج 1/ ص 233).
(72) مروج الذهب (ج 4/ ص 61)، تاريخ الإسلام (ج 19/ ص 94).
حيث قُتِلَ الآلاف من النفوس البريئة، وهُتِكَت الأعراض، وأُحرقت عشرات المُدُن.
وصاحب الزنج هو عليُّ بن محمّد الثائر في البصرة عام (255هـ)(73)، وقد زعم أنَّه علوي يتَّصل نسبه بالإمام السجَّاد (عليه السلام) من ابنه زيد (عليه السلام). واستمرَّ هذا الرجل يعبث بمقدَّرات الأُمَّة، ويعيث في الأرض فساداً مدَّة خمسة عشر عاماً إلى أنْ قُتِلَ (270هـ).
ومنها: ظهور ثورات علويَّة كثيرة في سامرَّاء وأطرافها، وهي تدعو كلُّها للرضا من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حتَّى بلغ عددهم تلك الفترة ما يزيد على ثمانية عشر ثائراً.
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ استعراض تلك الحوادث واستقصاءها يدلُّ بوضوح على معرفة سبب اختيار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بغداد عاصمة له فترة الغيبة، ونذكر أهمَّها:
أوَّلاً: البُعد عن الرقابة:
استطاع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) باختياره بغداد كسر طوق الحصار الذي فرضته السلطات الحاكمة على تحرُّكاته، وضمن - وبشكل أفضل - ممارسة عمله ولو بحرّيَّة نسبيَّة عمَّا كان في سامرَّاء، فهو (عجَّل الله فرجه) بعيد عن عيون السلطة وجواسيسها وملاحقاتها له ولأصحابه.
ثانياً: إرسال بياناته إلى الأُمَّة الإسلاميَّة:
لم يكن التفاف الأُمَّة يُشكِّل خطراً على الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بقدر ما كان في سامرَّاء، وكان في اختياره بغداد حفاظاً على أصحابه من الوقوع في قبضة السلطات، والدفاع عنهم إنْ تطلَّب ذلك، مضافاً إلى قدرته البالغة في إرسال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(73) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 205).
أكبر عدد من النداءات والبيانات إلى سُفرائه لإيصالها إلى الأُمَّة الإسلاميَّة وحلّ مشكلاتها.
ثالثاً: تطبيقه مسلك الاحتجاب وتتميمه بأعلى مستواه.
رابعاً: موقع بغداد السياسي والجغرافي:
لقد تمتَّعت بغداد بموقع سياسي وجغرافي لا نظير له آنذاك، حيث صيَّرها مرمى لأنظار المفكِّرين والفلاسفة والأُدباء وغيرهم في مختلف العلوم، وكانت تُعقَد فيها الندوات الفكريَّة والثقافيَّة للحوار في أُمور العقيدة والحياة، وصارت ملتقى للأفكار الناضجة والمتفتِّحة في العالم الإسلامي.
ولم تتحدَّث النصوص الإسلاميَّة عن بقاء السفراء في بغداد مدَّة سفارتهم، بل كانوا يخرجون بين الحين والآخر منها إلى الأطراف للقيام بعمل تجاري أو إنجاز مشروع عامٍّ أو أداء فريضة الحجِّ ثمّ استلام النداءات من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد حصلت لقاءات منهم للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في بيت الله الحرام لمرَّات عديدة(74).
وقد كانت بغداد بعيدة عن ساحة الصراع السياسي القائم بين الخلفاء والأُمراء، والمناوشات الداخليَّة بين الطوائف والمذاهب الأُخرى، وحتَّى عن الهجوم الأجنبي الذي كان يُهدِّد العاصمة سامرَّاء بين الحين والآخر.
السؤال الثالث: ما هو الهدف من اختيار الوكلاء في أمر السفارة؟
ذكر المامقاني في (تنقيحه) أنَّ للحجَّة (عجَّل الله فرجه) وكلاء غير السفراء الأربعة، وكان تخصيص هؤلاء الأربعة إمَّا لأنَّ غيرهم من الوكلاء يرجعون إليهم فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(74) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 520/ ح 3115).
يأمرون ولا يُؤمَرون إلَّا بوساطتهم، أو لأنَّهم كانوا وكلاء عموماً وغيرهم في الجزئيَّات(75).
وكان هؤلاء الوكلاء أقواماً ثقات ترد عليهم التوقيعات من قِبَل المنصوبين للسفارة من الأصل(76).
وانحرف جماعة من هؤلاء الوكلاء بعد أنْ كانوا صالحين أوَّل أمرهم، وسنذكرهم من خلال هذا البحث، وخرجت توقيعات منه (عجَّل الله فرجه) في لعن هؤلاء الوكلاء والبراءة منهم بعد خدمتهم وطول صحبتهم، فأبدلهم الله سبحانه بالإيمان كفراً حين فعلوا ما فعلوا، فعاجلهم الله بالنقمة ولم يمهلهم.
وكان سبب هذا الانحراف والموقف المعادي للإمام (عجَّل الله فرجه) مع مشاهدتهم المعجزات والكرامات الواضحة والبراهين القويَّة منه (عجَّل الله فرجه) هو الحسد والبغض لأهل البيت (عليهم السلام)، وطمعهم في الحصول على الأرباح والرئاسة على الناس.
أمَّا الهدف من اختيار الوكلاء في أمر السفارة، فملخَّصه:
أوَّلاً: تسهيل أمر السفراء وتوسعة عملهم:
لقد عاش السفراء في سفارتهم ظروفاً قاسية وصعبة لصعوبة الزمان والسيف يقطر دماً آنذاك، وقد صعب عليهم التحرُّك والاتِّصال بالقواعد الشعبيَّة في البلاد الإسلاميَّة، ويعود سبب ذلك إلى الحالة التي أوجدتها السلطة من مطاردة قواعد الإمام وملاحقة قادتها، ونشر حالة من الخوف والرعب في صفوف المعارضة، وظهور الفِرَق المنحرفة التي لعبت دوراً خطيراً في عمليَّة الانحراف، وظهور حركات الزندقة والغلاة بين فصائل الأُمَّة، وضعف الوعي السياسي والفكري في أوساط الأُمَّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانياً: نظام الوكلاء ساهم في إخفاء عمل السفراء:
إنَّ فكرة اعتماد هذا النظام كان قد ساهم في إضفاء طابع الكتمان والسرّيَّة على اسم السفير وشخصه، لأنَّ الفرد المنتمي إلى القواعد الشعبيَّة الموالية للإمام (عجَّل الله فرجه) غاية ما يمكنه هو الاتِّصال بأحد الوكلاء دون إرادة معرفة اسم السفير أو نوع عمله ومكانه، وكان هؤلاء يدرجون المسائل الفقهيَّة والعقائديَّة أو الاجتماعيَّة أو السياسيَّة فيُرسِلوها إلى السفراء.
وقد ذكر الصدوق (رحمه الله) اثني عشر وكيلاً كانوا قد وقفوا على معجزات الإمام (عجَّل الله فرجه)(77)، وأسماؤهم هي:
الأوَّل: حاجز الوشَّاء:
وهو حاجز بن يزيد الوشَّاء(78)، كان وكيلاً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، يستلم الأموال من أربابها والأسئلة فيُوصلها إلى السفراء. سكن بغداد، وأوصل توقيعات الإمام (عجَّل الله فرجه) لمواليه.
روى المفيد (رحمه الله) بإسناده عن اَلْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اَلْحَمِيدِ، قَالَ: شَكَكْتُ فِي أَمْرِ حَاجِزٍ، فَجَمَعْتُ شَيْئاً ثُمَّ صِرْتُ إِلَى اَلْعَسْكَرِ - أي سامرَّاء -، فَخَرَجَ إِلَيَّ: «لَيْسَ فِينَا شَكٌّ، وَلَا فِيمَنْ يَقُومُ مَقَامَنَا بِأَمْرِنَا، فَرُدَّ مَا مَعَكَ إِلَى حَاجِزِ اِبْنِ يَزِيدَ»(79).
وروى الكليني (رحمه الله) بإسناده عن مُحَمَّدِ بْنِ اَلْحَسَنِ اَلْكَاتِبِ اَلمَرْوَزِيِّ، قَالَ: وَجَّهْتُ إِلَى حَاجِزٍ اَلْوَشَّاءِ مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَكَتَبْتُ إِلَى اَلْغَرِيمِ - أي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - بِذَلِكَ، فَخَرَجَ اَلْوُصُولُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ قِبَلِي أَلْفَ دِينَارٍ وَأَنِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(77) كمال الدِّين (ص 442/ باب 43/ ح 16).
(78) منتهى المقال (ج 2/ ص 307 و308/ الرقم 636).
(79) الإرشاد (ج 2/ ص 361 و362).
وَجَّهْتُ إِلَيْهِ مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَقَالَ: «إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تُعَامِلَ أَحَداً فَعَلَيْكَ بِأَبِي اَلْحُسَيْنِ اَلْأَسَدِيِّ بِالرَّيِّ»، فَوَرَدَ اَلْخَبَرُ بِوَفَاةِ حَاجِزٍ (رضي الله عنه) بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَأَعْلَمْتُهُ بِمَوْتِهِ، فَاغْتَمَّ، فَقُلْتُ: لَا تَغْتَمَّ، فَإِنَّ لَكَ فِي اَلتَّوْقِيعِ إِلَيْكَ دَلَالَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا إِعْلَامُهُ إِيَّاكَ أَنَّ اَلمَالَ أَلْفُ دِينَارٍ، وَاَلثَّانِيَةُ أَمْرُهُ إِيَّاكَ بِمُعَامَلَةِ أَبِي اَلْحُسَيْنِ اَلْأَسَدِيِّ، لِعِلْمِهِ بِمَوْتِ حَاجِزٍ(80).
وليس لدينا الكثير من النصوص حول هذا الوكيل، وكيفيَّة ارتباطه بالسفراء، واستلامه التوقيعات منهم.
الثاني: أبو طاهر محمّد بن عليِّ بن بلال:
وكان وكيلاً صالحاً أمره، ثمّ انحرف وفسد حاله بعد ذلك، فقد عدَّه ابن طاووس (رحمه الله) من الوكلاء المعروفين في الغيبة الصغرى، الذين لا يختلف الإماميَّة القائلون بإمامة الحسن العسكري فيهم، وعبَّر عنه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في بعض توقيعاته بأنَّه الثقة المأمون العارف بما يجب عليه(81)، وذكره الصدوق (رحمه الله) في قائمة الوكلاء(82)، لكن الشيخ الطوسي (رحمه الله) ذكره في عداد المذمومين، وروى فيه أحاديث تدلُّ على انحرافه آخر عمره(83).
الثالث: العطَّار:
وهذا اللقب مشترك بين جماعة لم يذكر التاريخ عن أحدهم أنَّه كان موسوماً بالوكالة، وهؤلاء هم: محمّد بن يحيى العطَّار، وابنه أحمد، وإبراهيم بن خالد العطَّار، وعليُّ بن عبد الله أبو الحسن العطَّار، وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(80) الغيبة للطوسي (ص 415 و416/ ح 392).
(81) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 847/ ح 1088).
(82) كمال الدِّين (ص 442/ باب 43/ ح 16).
(83) الغيبة للطوسي (ص 400).
وما ذكره الصدوق (رحمه الله) بلقب العطَّار لعلَّه واحد من هؤلاء المذكورين أو غيرهم، وقد انفردت بذكره رواية الصدوق وحدها لا غير بلا معارض(84).
الرابع: العاصمي:
وهذا اللقب مشترك أيضاً بين عيسى بن جعفر بن عاصم الذي دعا له الإمام الهادي (عليه السلام)(85)، وأحمد بن محمّد بن أحمد بن طلحة أبو عبد الله، يُقال له: العاصمي، كان ثقةً في الحديث، سالماً خيِّراً، أصله كوفي، وسكن بغداد، روى عن الشيوخ الكوفيِّين، وله كُتُب منها: كتاب النجوم، ومواليد الأئمَّة، وغيرهما(86).
وكلاهما لم يُوسَم بالوكالة، ولم يُعلَم معاصرته للغيبة، فتبقى رواية الصدوق وحدها بلا معارض(87).
الخامس: الأهوازي:
وهو محمّد بن إبراهيم بن محمّد، عدَّه ابن طاووس (رحمه الله) من الوكلاء والأبواب المعروفين الذين لا يختلف الإماميَّة القائلون بإمامة الحسن بن عليٍّ العسكري (عليه السلام) فيهم، خرج من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) توقيعاً جاء فيه: «قَدْ أَقَمْنَاكَ مَقَامَ أَبِيكَ، فَاحْمَدِ اَللهَ»(88).
وقد روى المفيد (رحمه الله) فيه قوله: فَإِنْ وَضَحَ لِي شَيْءٌ كَوُضُوحِهِ فِي أَيَّامِ أَبِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(84) كمال الدِّين (ص 442/ باب 43/ ح 16).
(85) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 863/ ح 1122).
(86) رجال النجاشي (ص 93/ الرقم 232).
(87) كمال الدِّين (ص 442/ باب 43/ ح 16).
(88) الإرشاد (ج 2/ ص 356)، الغيبة للطوسي (ص 281 و282/ ح 239).
مُحَمَّدٍ أَنْفَذْتُهُ، وَإِلَّا أَنْفَقْتُهُ فِي مَلَاذِّي وَشَهَوَاتِي(89)، وأضاف الطبرسي (رحمه الله) قوله: وَإِلَّا قَصَفْتُ بِهِ(90)،(91).
وهاتان الروايتان تنافيان جلالة قدره، وتنصيبه وكيلاً بعد أبيه.
السادس: القمِّي الأشعري:
وهو أبو عليٍّ أحمد بن إسحاق بن سعد، وافد القمّيِّين، روى عن الإمامين الجواد والهادي (عليهما السلام)، وكان من خاصَّة أبي محمّد العسكري (عليه السلام)(92)، له كُتُب منها: كتاب (علل الصلاة) كبير، ومسائل الرجال لأبي الحسن الثالث (عليه السلام)(93)، عاش بعد وفاة أبي محمّد العسكري (عليه السلام).
روى الطوسي (رحمه الله) قول الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فيه بأنَّه ثقة(94)، وعرض الإمام العسكري (عليه السلام) ولده الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عليه بعد أنْ بشَّره بالولادة أيضاً، قال (عليه السلام) له: «وُلِدَ لَنَا مَوْلُودٌ، فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ مَسْتُوراً، وَعَنْ جَمِيعِ اَلنَّاسِ مَكْتُوماً، فَإِنَّا لَمْ نُظْهِرْ عَلَيْهِ إِلَّا اَلْأَقْرَبَ لِقَرَابَتِهِ، وَاَلْوَلِيَّ لِوَلَايَتِهِ، أَحْبَبْنَا إِعْلَامَكَ لِيَسُرَّكَ اَللهُ بِهِ مِثْلَ مَا سَرَّنَا بِهِ، وَاَلسَّلَامُ»(95).
السابع: الهمداني:
وهو محمّد بن صالح بن محمّد الهمداني الدهقان، كان من أصحاب الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(89) الإرشاد (ج 2/ ص 355).
(90) إعلام الورى (ج 2/ ص 261).
(91) أقول: ورواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 281/ ح 239)، وفيه: (وإلَّا تصدَّقت به)، وهو أوفق مع جلالة ابن مهزيار.
(92) رجال النجاشي (ص 91/ الرقم 225).
(93) الفهرست (ص 70/ الرقم 78/16).
(94) الغيبة للطوسي (ص 417/ ح 395).
(95) كمال الدِّين (ص 433 و434/ باب 42/ ح 16).
العسكري (عليه السلام)، ووكيلاً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(96)، خرج توقيع منه (عجَّل الله فرجه) لإسحاق بن إسماعيل، قائلاً: «فَإِذَا وَرَدْتَ بَغْدَادَ فَاقْرَأْهُ عَلَى اَلدِّهْقَانِ وَكِيلِنَا وَثِقَتِنَا وَاَلَّذِي يَقْبِضُ مِنْ مَوَالِينَا»(97).
ولكنَّه غلا في آخر عمره وصار منحرفاً(98)، وخرج توقيع منه (عجَّل الله فرجه) جاء فيه: «وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ اَلدِّهْقَانِ (عَلَيْهِ لَعْنَةُ اَللهِ)، وَخِدْمَتِهِ وَطُولِ صُحْبَتِهِ، فَأَبْدَلَهُ اَللهُ بِالْإِيمَانِ كُفْراً حِينَ فَعَلَ مَا فَعَلَ، فَعَاجَلَهُ اَللهُ بِالنَّقِمَةِ وَلَمْ يُمْهِلْهُ»(99).
ويحتمل أنْ يكون المراد بالدهقان عروة بن يحيى، والله العالم.
الثامن: البسَّامي:
وهو غير معروف النسب، كان من أهل الريِّ، ومن وكلاء المهدي (عجَّل الله فرجه) برواية الصدوق(100)، ولم يرد شيئاً من أمره في النصوص.
التاسع: الرازي الأسدي:
وهو محمّد بن جعفر الأسدي الرازي، كنيته: أبو الحسين، له كتاب (الردُّ على أهل الاستطاعة)(101)، أصله كوفي وسكن بالريِّ، كان ثقةً صحيح الحديث(102).
ذكره الطوسي (رحمه الله) مع الثقات الذين وردت عليهم التوقيعات من قِبَل المنصوبين للسفارة من الأصل(103)، روى بإسناده عن صَالِحِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(96) جامع الرواة (ج 2/ ص 131).
(97) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 847/ ح 1088).
(98) جامع الرواة (ج 2/ ص 131).
(99) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 816 و817/ ح 1020).
(100) كمال الدِّين (ص 442/ باب 43/ ح 16).
(101) الفهرست (ص 229 و230/ الرقم 660/75).
(102) رجال النجاشي (ص 373/ الرقم 1020).
(103) الغيبة للطوسي (ص 415).
(104) الغيبة للطوسي (ص 415/ ح 391).
سَأَلَنِي بَعْضُ اَلنَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ قَبْضَ شَيْءٍ، فَامْتَنَعْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبْتُ أَسْتَطْلِعُ اَلرَّأْيَ، فَأَتَانِي اَلْجَوَابُ: «بِالرَّيِّ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ اَلْعَرَبِيُّ، فَلْيُدْفَعْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ مِنْ ثِقَاتِنَا»(104).
وقد ذكر تنصيبه (عجَّل الله فرجه) له بعد وفاة حاجز بن يزيد الوشَّاء(105).
وقوله في جواب أبي جعفر محمّد بن عليِّ بن نوبخت: «اَلْأَسَدِيُّ نِعْمَ اَلْعَدِيلُ، فَإِنْ قَدِمَ فَلَا تَخْتَرْ عَلَيْهِ»، فَقَدِمَ اَلْأَسَدِيُّ، وَعَادَلْتُهُ(106).
مات الأسدي على ظاهر العدالة، لم يتغيَّر، ولم يُطعَن فيه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة(107).
وهذا أنسب بحاله ممَّا ذكره النجاشي (رحمه الله) عنه من كونه يروي عن الضعفاء، وأنَّه كان يقول بالجبر والتشبيه، وما ذكره أنَّه مات ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الأُولى سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة(108).
العاشر: القاسم بن العلاء:
وهو من آذربيجان، عدَّه ابن طاووس (رحمه الله) من الوكلاء للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ويُكنَّى بأبي محمّد(109).
روي عنه أنَّه قال: وُلِدَ لِي عِدَّةُ بَنِينَ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ - إلى الناحية المقدَّسة (عجَّل الله فرجه) - وَأَسْأَلُ اَلدُّعَاءَ لَهُمْ، فَلَا يُكْتَبُ إِلَيَّ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَمَاتُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(105) الغيبة للطوسي (ص 415 و416/ ح 392).
(106) الغيبة للطوسي (ص 416/ ح 393).
(107) الغيبة للطوسي (ص 417).
(108) رجال النجاشي (ص 373/ الرقم 1020).
(109) جامع الرواة (ج 2/ ص 19).
كُلُّهُمْ، فَلَمَّا وُلِدَ لِيَ اَلْحُسَيْنُ اِبْنِي كَتَبْتُ أَسْأَلُ اَلدُّعَاءَ، وَأُجِبْتُ، وَبَقِيَ وَاَلْحَمْدُ لِلهِ(110).
عمَّر القاسم بن العلاء مائة وسبع عشرة سنة، منها ثمانون سنة صحيح العينين، لقي الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام)، وأُصيب بالعمى بعد الثمانين وكان مقيماً بمدينة الران من أرض آذربيجان، وكان لا تنقطع توقيعات مولانا صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) على يد أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري، وبعده على يد أبي القاسم الحسين بن روح (قدَّس الله روحيهما)(111).
وقد أورد الطوسي والراوندي (رحمهما الله) حديثاً طويلاً يشتمل على كرامات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهي تدلُّ على جلالة هذا الرجل، وخرجت توقيعات منه إلى القاسم بن العلاء في لعن بعض المنحرفين كأحمد بن هلال وغيره(112).
الحادي عشر: النعيمي النيشابوري:
وهو محمّد بن شاذان، عدَّه ابن طاووس (رحمه الله) من وكلاء الناحية، وممَّن وقف على معجزات صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) ورآه(113).
وقد أخرج الصدوق (رحمه الله) حديثاً طويلاً عن كيفيَّة اجتماعه بالإمام (عجَّل الله فرجه)، ولكن يظهر من تشويش العبارة أنَّه ليس محمّد بن شاذان، بل غانم أبو سعيد الهندي الذي كان جديد العهد بالإسلام، وباحثاً عن الحقيقة، والله العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(110) الإرشاد (ج 2/ ص 356 و357)؛ ورواه الكليني (رحمه الله) في الكافي (ج 1/ ص 519/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 9).
(111) الغيبة للطوسي (ص 310/ ح 263)، الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 467/ ح 14).
(112) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 816/ ح 1020).
(113) جامع الرواة (ج 2/ ص 130).
خرج في ابن شاذان توقيع من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يقول فيه: «وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ، فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَتِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ (عليهم السلام)»(114).
هذه مجموعة من أسماء الوكلاء، وهناك آخرون غيرهم أمثال: إبراهيم بن مهزيار الأهوازي، والبزوفري، والهمداني إبراهيم بن محمّد، وابن روح النوبختي، وعثمان بن سعيد، وابنه، والسمري، وأحمد بن اليسع بن عبد الله القمِّي، وأيُّوب بن نوح بن درَّاج النخعي، والشلمغاني، وغيرهم(115).
لقد كانت الوكالة نافذة المفعول بداية الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كما يظهر من بعض الأخبار، وقد صدَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هجوماً عنيفاً على وكلائه للتعرُّف عليهم ومن ثَمَّ معرفة الإمام (عجَّل الله فرجه)، حيث احتال الوزير عبيد الله بن سليمان وزير المعتضد عام (279هـ) للقبض على الوكلاء بحيلة اخترعها(116).
وسيأتي في البحث دور بعض الوكلاء الذين ادَّعوا السفارة أو الوكالة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، أو انحرفوا عن الإمام (عجَّل الله فرجه)، ومدى تأثيرهم في المجتمع على بعض النفوس الضعيفة، وكيفيَّة تزييفهم الحقائق.
لقد كان بعض هؤلاء السفراء الأربعة وكلاء عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بداية أمرهم، ولم ترد نصوص عن بيان كيفيَّة عملهم كوكلاء قبل استلامهم السفارة.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(114) كمال الدِّين (ص 485/ باب 45/ ح 4)، الغيبة للطوسي (ص 291/ ح 247).
(115) راجع: تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 611).
(116) الكافي (ج 1/ ص 525/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 30).
المدخل: آراء العلماء حول السفراء:
وإنَّ في الصغرى له نوَّابا * * * موثقين عنده أبوابا
عدَّتهم أربعة منصوصة * * * منهم وهم نوَّابه المخصوصة
ابن سعيد اسمه عثمان * * * عدل زكي ثقة أمان
ثمّ ابنه من بعده محمّد * * * العالم الكامل والمسدَّد
وبعده ابن روح الحسين * * * شيخ جليل ثقة وعين
وبعده السمري وهو بو الحسن * * * ابن محمّد عليّ المؤتمن
كانوا له وسائط في الشيعه * * * ليوصلوا إليهموا توقيعه(117)
ونكتفي هنا بذكر بعض أقوال العلماء المتقدِّمين حول السفراء الأربعة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
فقد ذكر المفيد والطوسي (رحمهما الله) بأنَّ جماعة من أصحاب أبي محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري (عليه السلام) شاهدوا خلفه في حياته، وكانوا أصحابه وخاصَّته بعد وفاته، والوسائط بينه وبين شيعته دهراً طويلاً في استتاره، ينقلون إليه معالم دينهم، ويُخرجون إليهم أجوبة مسائلهم، ويقبضون منهم حقوقه لدينهم، وهم جماعة كان الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) عدَّلهم في حياته، واختصَّهم أُمناء لهم في وقته، وجعل إليهم النظر في أملاكه والقيام بمآربه، معروفون بأسمائهم وأنسابهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(117) الدُّرَر المكنونة في الإمام والإمامة (ص 182).
وأمثالهم، كأبي عمرو عثمان بن سعيد، وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان، وبني نوبخت ببغداد، ومنهم الحسين بن روح النوبختي، والسمري، وبني مهزيار في الأهواز، وجماعة من أهل قزوين وقم وغيرهما من الجبال، وبني الركولي بالكوفة، مشهورون بذلك عند الإماميَّة والزيديَّة، معروفون بالإشارة إليه عند كثير من العامَّة، وكانوا أهل عقل وأمانة وثقة ودراية وفهم وتحصيل ونباهة، وكان السلطان يُعظِّم أقدارهم بجلالة محلِّهم في الدنيا، ويُكرمهم لظاهر أمانتهم واشتهار عدالتهم، حتَّى إنَّه كان يدفع ما يضيفوه إليهم خصومهم من أمر آمرهم ظنًّا بهم، واعتقاد البطلان من قذفهم، وذلك لما كان من شدَّة تحرُّزهم وستر حالهم، واعتقادهم، وجودة آرائهم، وصواب معتقدهم(118).
أمَّا الصدوق (رحمه الله) فقد وصفهم قائلاً: إنَّ الإمام العسكري (عليه السلام) كان قد خلَّف جماعة من ثقاته ممَّن يُؤدِّي عنه الحلال والحرام، ويُؤدِّي إليه كُتُب الشيعة وأموالهم، ويُخرجون الجوابات، وكانوا بموضع من الستر والعدالة بتعديله إيَّاه في حياته، وكانت كُتُب ابنه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بعده تخرج إلى الشيعة بالأمر والنهي على أيدي رجال أبيه الثقات أكثر من عشرين عاماً، ثمّ انقطعت الكتابة ومضى أكثر رجال الحسن العسكري (عليه السلام) الذين كانوا شهدوا بأمر الإمام (عجَّل الله فرجه) بعده، وبقي منهم رجل واحد قد أجمعوا على عدالته وثقته، فأمر الناس بالكتمان وأنْ لا يذيعوا شيئاً من أمر الإمام (عجَّل الله فرجه)، وانقطعت المكاتبة(119).
وقال الطبرسي (رحمه الله) مادحاً لهم بقوله: ولم يقم من السفراء أحد منهم إلَّا بنصٍّ عليه من قِبَل صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه)، ونصب صاحبه الذي تقدَّم عليه، ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(118) الفصول العشرة (ص 78 - 82)، الغيبة للطوسي (ص 108 و109).
(119) كمال الدِّين (ص 92 و93).
تقبل الشيعة قولهم إلَّا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كلِّ واحدٍ منهم من قِبَل صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) تدلُّ على صدق مقالتهم وصحَّة بابيَّتهم(120).
وذكرهم النعماني (رحمه الله) أيضاً قائلاً: إنَّ الغيبة الأُولى هي الغيبة التي كان السفراء فيها بين الإمام (عليه السلام) وبين الخلق، قياماً منصوبين، ظاهرين موجودي الأشخاص والأعيان، يخرج إليهم غوامض العلم، وعويص الحكم والأجوبة عن كلِّ ما كان يُسئَل عنه من المعضلات والمشكلات(121)، والسفير هو العلم(122).
وأثنى عليهم أبو الصلاح الحلبي (رحمه الله) قائلاً: إنَّه معلوم لكلِّ سامع للأخبار تعديل أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) جماعة من أصحابه، وجعلهم سفراء بينه وبين أوليائهم، والأُمناء على قبض الأخماس والأنفال، وشهادته بإيمانهم وصدقهم فيما يؤدُّونه عنه إلى شيعته، وأنَّ هذه الجماعة شهدت بمولد الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه)، وأخبرت بالنصِّ عليه من أبيه (عليه السلام)، وقطعت بإمامته وكونه الحجَّة المأمول للانتصار من الظالمين، فكان ذلك منهم نائباً مناب نصِّ أبيه (عليه السلام) - لو كان مفقوداً -...، والجماعة المذكورة: أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، ومحمّد بن عليِّ بن بلال، وأبو عمرو عثمان بن سعيد السمَّان، وابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان (رضي الله عنهم)(123).
لقد فاق هؤلاء السفراء الأربعة جميع أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) - كما يظهر من كلمات العلماء - مرتبةً وفضلاً، وفازوا بالنيابة عن الإمام (عجَّل الله فرجه) وسفارته، وكانوا الواسطة بينه وبين الرعيَّة خلال سبعين عاماً، وجرى على أيديهم كرامات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(120) الاحتجاج (ج 2/ ص 296 و297).
(121) الغيبة للنعماني (ص 178 و179).
(122) الغيبة للنعماني (ص 164).
(123) تقريب المعارف (ص 427 و428).
كثيرة وخوارق لا تُحصى، وغير خفي أنَّهم في مماتهم أيضاً وسائط(124)، فمن اللازم أنْ يبلغوا الإمام (عجَّل الله فرجه) ما يُكتَب في الحاجات والشدائد من الرقاع عن طريقهم وبوسيلتهم، فإنَّ عظيم فضلهم ومنزلتهم ممَّا لا يحدُّه البيان.
وهنا أربعة أبواب...
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(124) روى الطوسي وابن طاووس (رحمهما الله) زيارة للسفراء مرويَّة عن الشيخ النوبختي. راجع: تهذيب الأحكام (ج 6/ ص 118)، مصباح الزائر (ص 514).
وذكر الكفعمي (رحمه الله) كيفيَّة كتابة الرقاع لهم عند اشتداد الأهوال والأحوال. راجع: البلد الأمين (ص 157 و158).
وكذا كيفيَّة الاستغاثة بهم. راجع: أنيس العابدين (ص 40)، نقلاً عن كتاب السعادات.
إنَّ من وظيفة الوافدين لزيارة العتبات المقدَّسة في العراق أثناء إقامتهم في مدينة الكاظمين هو التوجُّه إلى بغداد لزيارة هؤلاء النوَّاب الأربعة وزيارة قبورهم، لا يُطلَب من الزائر بذل كثير من الجهد، فهي مجتمعة في بغداد غير بعيدة عن الوافدين، وهي لو كانت منتشرة في أقاصي البلاد لكان يحقُّ أنْ تُشَدَّ إليها الرحال ويُطوى في سبيلها المسافات الشاسعة ويُتحمَّل متاعب السفر وشدائده لنيل ما في زيارة كلٍّ منهم من الأجر.
المبحث الأوَّل: عثمان بن سعيد العمري (رضي الله عنه) في الميزان:
عثمان العمري هو الوكيل * * * ابن سعيد ثقة جليل(125)
وهو عثمان بن سعيد العمري أو المعموري، كنيته: أبو عمرو، وألقابه عديدة، منها: السمَّان، الزيَّات، العسكري، الأسدي، العمروي، أو العمري، وغيرها، وكان العمري أشهرها نسبةً إلى جدِّه عمرو، ويُلقَّب أيضاً بالأسدي(126).
وإنَّما سُمِّي العمري لأنَّ الإمام العسكري (عليه السلام) قال: «لَا يُجْمَعُ عَلَى اِمْرِئٍ بَيْنَ عُثْمَانَ وَأَبِي عَمْرو»، وأمر (عليه السلام) بكسر كنيته، فقيل: العمري(127). وقيل: إنَّه لُقِّب به نسبةً إلى أُمِّه التي يعود نسبها إلى عمر الأطرف ابن أمير المؤمنين (عليه السلام)(128).
وأمَّا السمعاني فقد ضبطه وقال: العمري - بفتح العين وسكون الميم وكسر الراء - نسبةً إلى بني عمرو بن عامر بن ربيعة، وعمرو بن حريث(129)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(125) بجهة الآمال (ج 5/ ص 332).
(126) الغيبة للطوسي (ص 353 و354).
(127) الغيبة للطوسي (ص 354/ ح 314).
(128) سفينة البحار (ج 6/ ص 145).
(129) المقصود بابن حريث هو الصيرفي الكوفي الأسدي، قال التبريزي (رحمه الله) في وقائع الأيَّام (ص339) ما لفظه: ليس المقصود بابن حريث الذي كان من أصحاب أمير المؤمنين ثمّ صار من أصحاب ابن زياد، وهو الذي قطع لسان ميثم التمَّار. راجع: مجالس المؤمنين (ج 2/ ص 25 و26).
وغيرهما(130). وقيل: إنَّه من ولد عمَّار بن ياسر(131).
أمَّا تسميته بالعسكري، فلكونه من عسكر سامرَّاء كما ذكره الطوسي (رحمه الله)(132).
وأمَّا تلقيبه بالسمَّان والزيَّات، فلأنَّه كان يتَّجر في السمن تغطيةً على الأمر، وَكَانَ اَلشِّيعَةُ إِذَا حَمَلُوا إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ - العسكري - (عليه السلام) مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حَمْلُهُ مِنَ اَلْأَمْوَالِ، أَنْفَذُوا إِلَى أَبِي عَمْرٍو، فَيَجْعَلُهُ فِي جِرَابِ اَلسَّمْنِ وَزِقَاقِهِ وَيَحْمِلُهُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ - العسكري - (عليه السلام) تَقِيَّةً وَخَوْفاً(133).
ولم تشر النصوص التاريخيَّة إلى أُسرته ووضعه العائلي والاجتماعي سوى أنَّ له ابناً اسمه (محمّد) كان قد تصدَّى لمنصب السفارة بعد أبيه، وأنَّ له ابناً آخر اسمه أحمد، ولا نعرف عنه شيئاً سوى أنَّ لهذا ابناً أيضاً كان اسمه (محمّد) وقد انحرف عن مذهب الأئمَّة (عليهم السلام) فترة سفارة عمِّه أبي جعفر العمري، وخرج توقيع من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في لعنه والبراءة منه(134).
لقد حظي عثمان بن سعيد العمري بمرتبة عالية ودرجة رفيعة عند الإمام الهادي (عليه السلام) في سامرَّاء، قال الطوسي (رحمه الله): فأمَّا السفراء الممدوحون في زمان الغيبة فأوَّلهم من نصبه أبو الحسن عليُّ بن محمّد الهادي وأبو محمّد الحسن بن عليٍّ ابنه(135)، وكان قد خدم الهادي (عليه السلام) وله أحد عشر عاماً، وكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(130) الأنساب للسمعاني (ج 4/ ص 238).
(131) تأسيس الشيعة (ص 410).
(132) الغيبة للطوسي (ص 354).
(133) المصدر السابق.
(134) راجع: الغيبة للطوسي (ص 412 - 414)؛ هذا ولكن لم نجد توقيعاً من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في لعنه والبراءة منه.
(135) الغيبة للطوسي (ص 353).
له إليه عهد معروف(136)، وقد سلَّط الإمام (عليه السلام) الأضواء عليه، وأوصى الشيعة به في كثير من مجالسه، حتَّى قال (عليه السلام) في يوم للشيعة: «مَا قَالَهُ لَكُمْ فَعَنِّي يَقُولُهُ، وَمَا أَدَّاهُ إِلَيْكُمْ فَعَنِّي يُؤَدِّيهِ»(137)، حتَّى كان عموم الناس يقصدونه في حوائجهم من كلِّ بلد(138)، فيُخرج لهم ما احتاجوا أنْ يسألوه من صاحب الأمر بالأمر والنهي(139).
أثنى عليه علماء الفريقين مع بقيَّة السفراء، فقد ذكر ابن طاووس (رحمه الله) أنَّ نصر بن عليٍّ الجهضمي - وهو من أبناء العامَّة - ذكر حال هؤلاء الوكلاء والسفراء وأسماءهم، وأنَّهم كانوا وكلاء المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقال: إنَّ أمرهم أشهر من أنْ يحتاج إلى الإطالة(140).
وذكر الكيدري أيضاً في (بصائره)، وابن الأثير في (الكامل)(141)، وأبو الفداء في (المختصر)(142)، واليافعي في (المرآة)(143)، وابن مسكويه في (تجارب الأُمَم)(144)، ورضا كحالة في (معجمه)(145)، والذهبي في (سير أعلام النبلاء)(146)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(136) رجال الطوسي (ص 389/ الرقم 5741/36).
(137) الغيبة للطوسي (ص 354 و355/ ح 315).
(138) سفينة البحار (ج 6/ ص 146).
(139) الغيبة للطوسي (ص 356/ ح 318).
(140) الطرائف (ص 184).
(141) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 109).
(142) تاريخ أبي الفداء (ج 2/ ص 69).
(143) مرآة الجنان (ج 2/ ص 214).
(144) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 195).
(145) معجم المؤلِّفين (ج 4/ ص 8).
(146) سير أعلام النبلاء (ج 15/ ص 222 - 224).
والصفدي في (الوافي)(147)، وغيرهم(148)، حال هذا السفير وحسن سيرته(149)، وأثنوا عليه، وهو يُكذِّب ادِّعاء أحمد أمين المصري حول هؤلاء السفراء، والتي تدور هذه الدراسة حول هذا الموضوع.
أمَّا علماء الشيعة فقد أجمعوا عليه قديماً وحديثاً، وقد ذكرنا بعض النصوص الواردة عن قدامى العلماء حولهم، أمَّا المتأخِّرون منهم فقد أثنوا عليه قاطبةً أيضاً، قال السيِّد الصدر (رحمه الله) بعد ترجمته: هو الشيخ الربَّاني الوحيد الذي ليس له ثانٍ في المعارف والأخلاق والفقه والأحكام، شيخ الشريعة على الإطلاق، وصاحب الكرامات والدلالات(150).
وقال القمِّي (رحمه الله): هو أوَّل النوَّاب الأربعة، ورد في شأنه من الجلالة والعدالة والأمانة أكثر من أنْ يُذكر، وهو أجلّ وأشهر من أنْ يصفه مثلي(151).
وقال البهائي (رحمه الله): إنَّ عثمان بن سعيد ثقة، وجليل القدر(152).
لقد انفردت الشيعة الإماميَّة بفكرة السفارة من بين فِرَق الشيعة كما قال النوبختي في (فِرَقه): فهذا سبيل الإمامة والمنهاج الواضح اللَّاحب الذي لم تزل الشيعة الإماميَّة الصحيحة التشيُّع عليه(153).
وكانت بداية الغيبة من أصعب الفترات على الأُمَّة بعد أنِ اعتادت على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(147) الوافي بالوفيات (ج 12/ ص 226 و227).
(148) صلة تاريخ الطبري (ص 98)، لسان الميزان (ج 2/ ص 283 و284/ الرقم 1177).
(149) المصادر المذكورة إنَّما ذكرت حال الحسين بن روح النوبختي (رضي الله عنه)، فتنبَّه.
(150) تأسيس الشيعة (ص 410 و411).
(151) سفينة البحار (ج 6/ ص 143).
(152) منهج المقال (ج 7/ ص 235 و235/ الرقم 3733)؛ وراجع: رجال الطوسي (ص 389/ الرقم 5741/36)، والاحتجاج (ج 2/ ص 277)، وغيرها.
(153) فِرَق الشيعة (ص 112).
مشاهدة الأئمَّة (عليهم السلام) واللقاء بهم، وظهرت الانقسامات والتناحر في صفوفها، حتَّى إنَّ الشيعة انقسمت إلى أربعة عشرة فرقة بعد وفاة الإمام العسكري (عليه السلام)(154).
وهكذا بقيَّة المذاهب الإسلاميَّة.
وفي تلك الظروف الصعبة ابتدأ عثمان بن سعيد العمري مهمَّته في الإعلام عن وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وإخراج التوقيعات والمعجزات عن طريقه من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لبيان صدق دعواه في أمر السفارة، مذكِّراً بأنَّ لهم بالأحاديث المرويَّة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي تكون له غيبتان إحداهما صغرى والأُخرى كبرى، وإقناع الأُمَّة بما امتلكه عثمان من معرفة تامَّة بطُرُق المحاورات وفنون الجدل وقوَّة المحاجَّة في إثبات المحجَّة بوجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حيًّا يراهم ولا يرونه ويعرفهم ولا يعرفونه، ومراقبة تحرُّكات السلطات عن كثب للابتعاد عن الضجيج السياسي والإعلامي، وما يمكن أنْ تخلقه له من مشاكل، وتحذيره أصحابه الثقات من الإعلان عن اسم الإمام (عجَّل الله فرجه) أو الإدلاء على مكانه.
وذاع صيته في البلاد الإسلاميَّة، وعرفه القاصي والداني من ثقات الأُمَّة وأصحابهم، فقد روى العلَّامة (رحمه الله) في (خلاصته) عن أبي العبَّاس الحميري شيخ القمّيِّين، قال: كنَّا كثيراً ما نذكر قول الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) في عثمان ابن سعيد العمري (رحمه الله)، وَنَتَوَاصَفُ جَلَالَةَ مَحَلِّ أَبِي عَمْرٍو(155).
قول أهل اليمن فيه: إنَّ عثمان بن سعيد العمري لمن خيار الشيعة، وإنَّهم ازدادوا علماً بوضعه من خدمة الإمام (عجَّل الله فرجه) وكونه وكيله وثقته على مال الله تعالى(156).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(154) فِرَق الشيعة (ص 96)، المقالات والفِرَق (ص 102)، الملل والنحل (ج 1/ ص 170).
(155) رواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 355)؛ ولم نجده في خلاصة الأقوال.
(156) الغيبة للطوسي (ص 355 و356/ ح 317).
وكذا معرفة أهالي بغداد له، فقد ذكر عبد الله بن جعفر الحميري لـمَّا رجع من الحجِّ أنَّه دخل على أحمد بن إسحاق في بغداد، فوجد عنده عثمان بن سعيد العمري، فأشار إلى أحمد بن إسحاق قائلاً: إِنَّ هَذَا اَلشَّيْخَ - يقصد أحمد بن إسحاق - وَهُوَ عِنْدَنَا اَلثِّقَةُ اَلمَرْضِيُّ، حَدَّثَنَا فِيكَ بِكَيْتَ وَكَيْتَ، وَاِقْتَصَصْتُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ مِنْ فَضْلِ أَبِي عَمْرٍو وَمَحَلِّهِ، وَقُلْتُ: أَنْتَ اَلْآنَ مِمَّنْ لَا يُشَكُّ فِي قَوْلِهِ وَصِدْقِهِ، ثمّ سأله قائلاً: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ اَللهِ وَبِحَقِّ اَلْإِمَامَيْنِ اَللَّذَيْنِ وَثَّقَاكَ، هَلْ رَأَيْتَ اِبْنَ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) اَلَّذِي هُوَ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ (عليه السلام)؟ فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: عَلَى أَنْ لَا تُخْبِرَ بِذَلِكَ أَحَداً وَأَنَا حَيٌّ، فقال له: نَعَمْ، قَالَ - العمري -: قَدْ رَأَيْتُهُ (عليه السلام) وَعُنُقُهُ هَكَذَا - يُرِيدُ أَنَّهَا أَغْلَظُ اَلرِّقَابِ حُسْناً وَتَمَاماً -. ثمّ سأله عن الاسم، فقال العمري: نُهِيتُمْ عَنْ هَذَا(157).
وبقيت الأُمَّة بأجمعها مقيمة على عدالة عثمان بن سعيد وثقته وأمانته إلى أنْ تُوفّي (رحمه الله)(158)، بعد أنْ كان عموم الناس يقصدونه في حوائجهم من كلِّ بلد(159)، فيُخرج لهم الأجوبة والتوقيعات من صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) بالأمر والنهي عمَّا يسألونه إذا احتاجوا إلى السؤال فيه(160).
هذه هي منزلته عند الأُمَّة.
أمَّا منزلته عند الإمام الهادي (عليه السلام):
فقد ذكرت النصوص التاريخيَّة أنَّ عثمان بن سعيد العمري كان قد خدم الإمام الهادي (عليه السلام) وله أحد عشر عاماً، وكان له عهد معروف(161).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(157) الغيبة للطوسي (ص 355/ ح 316).
(158) الغيبة للطوسي (ص 356).
(159) سفينة البحار (ج 6/ ص 146).
(160) الغيبة للطوسي (ص 356).
(161) قد تقدَّم في (ص 70 و71)، فراجع.
وكان الإمام الهادي (عليه السلام) قد قَدِمَ إلى سامرَّاء استجابةً للرسالة التي بعثها المتوكِّل العبَّاسي إليه وهو في المدينة، وقد أعرب فيها عن حبِّه للإمام (عليه السلام) وإحلاله وإعظامه لمحلِّه ومنزلته ظاهراً، واعترف فيها ببراءته وصدق نيَّته، وأنَّه أوعز بعزل واليه عبد الله بن محمّد في المدينة لإيذائه الإمام (عليه السلام)، ودعاه بالشخوص إلى سامرَّاء مع من اختار من أهل بيته ومواليه سريعاً(162).
ودخل الإمام (عليه السلام) سامرَّاء عام (234هـ)(163)، وكانت إقامته فيها عشرين عاماً إلى أنْ تُوفّي فيها(164) عام (254هـ)(165).
فكان العمري من مقرِّبي الإمام (عليه السلام)، وخواصِّه في حفظ أسراره، وباباً له مع حداثة سنِّه وصغره، ثمّ عيَّنه الإمام الهادي (عليه السلام) أميناً على بيت المال واستلام الأموال من الأُمَّة ثمّ توزيعها على مستحقِّيها(166)، وقد كانت الأموال تصله من البلاد الإسلاميَّة كما ذكر ذلك أحمد أمين المصري واعترف بهذه الحقيقة بعد أنْ أرعبته كثيراً حتَّى سعى إلى توجيه التُّهَم والافتراءات الشنيعة ضدَّه.
لقد جاء في النصوص التاريخيَّة أنَّه كانت تُنفَق الأموال الضخمة في مشاريع يعود نفعها على الأُمَّة، فقد روى ابن شهرآشوب (رحمه الله) أنَّ جماعة من وجهاء الشيعة ومنهم أحمد بن إسحاق الأشعري وافد القمّيِّين وشيخهم وعليُّ ابن جعفر الهمداني دخلوا على أبي الحسن الهادي (عليه السلام)، فشكا إليه أحمد بن إسحاق دَيناً عليه، فقال (عليه السلام) مخاطباً عثمان بن سعيد العمري: «يَا أَبَا عَمْرٍو -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(162) الإرشاد (ج 2/ ص 309).
(163) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 108).
(164) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 505).
(165) الإرشاد (ج 2/ ص 311)، تاريخ الطبري (ج 7/ ص 519)، وفيات الأعيان (ج 3/ ص 273)، تاريخ ابن الوردي (ج 1/ ص 223).
(166) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 512).
وَكَانَ وَكِيلَهُ -، اِدْفَعْ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَإِلَى عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخُذْ أَنْتَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ».
ثمّ قال ابن شهرآشوب (رحمه الله) معلِّقاً على هذه الرواية: فهذه معجزة لا يقدر عليها إلَّا الملوك، وما سمعنا بمثل هذا العطاء(167).
ولعلَّ الذي منع الإمام (عليه السلام) من صرفها على الأُمَّة بنفسه - ولو ظاهراً - هو الإقامة الجبريَّة التي فرضتها السلطات على الإمام، والمضايقات المتوالية على تحرُّكاته.
لقد عاصر عثمان بن سعيد العمري فترة وكالته عن الإمام الهادي (عليه السلام) جماعة من الخلفاء كان المتوكِّل العبَّاسي أشدّهم على الإمام وأصحابه، وقد حكم أربعة عشر عاماً بالحديد والنار، وكان عاقبة أمر المتوكِّل قتله على يدي الأتراك عام (274هـ) شرَّ قتلة، وهو مشغول باللهو والشراب.
ثمّ جاء بعده المنتصر والمستعين وقسماً من خلافة المعتزِّ بالله، وقد حاول الإمام الهادي (عليه السلام) في محنته أنْ يواجه تيَّار الانحراف القائم في السلطة والأُمَّة، والحفاظ على أصحابه من إرهاب الحُكَّام وحمايتهم من البطش والإيذاء، وسعى إلى قضاء حوائجهم وتركيز ثقته المطلقة بهم، وتأمين مستلزمات الأُمَّة، وقد حاز الإمام على الموقع القيادي الممتاز في البلاط العبَّاسي، فكان لهذا دور كبير في إبعاد الخطر عنه مرَّات عديدة عندما احتجزته السلطات في البلاط، وأخذت تراقب جميع تحرُّكاته، واستدعائها له متى اقتضى الأمر، بعد أنْ كان (عليه السلام) مسؤولاً عن الذهاب إلى بلاط الخليفة كلَّ اثنين وخميس(168)، وربَّما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(167) المصدر السابق.
(168) الغيبة للطوسي (ص 215)، مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 533)؛ هذا وفيهما: (أبو محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري (عليه السلام)).
شارك موكب السلطان في الخروج إلى الصيد(169)، وكان موقفه منها مشوباً بالحذر والكتمان، وهو مع كلِّ ذلك يستلم الأموال والأسئلة التي تصله من شتَّى البلاد الإسلاميَّة، وصرفها في مواردها، والإجابة عن تلك التساؤلات برمزيَّة وخفاء.
إنَّنا - ومهما بلغ بنا الخيال - لا نتصوَّر وصول تلك المبالغ التي كانت تصله إلى هذا المستوى كما ورد في رواية ابن شهرآشوب (رحمه الله) المتقدِّمة، وهي إنْ صُرِفَت فهي مصروفة في مشاريع يعود نفعها على الأُمَّة، لأنَّ الدَّين لا يمكن وصوله إلى هذا المستوى - كما جاء في الرواية - إلَّا أنْ يكون دَيناً في عمل اجتماعي واسع هو أكبر من المصالح الشخصيَّة والمسؤوليَّة العائليَّة.
أمَّا على المستوى الثقافي والعلمي، فقد افتتح الإمام (عليه السلام) - وهو في مسلك الخفاء والحذر - دورات تثقيفيَّة وعقائديَّة لتدريس مختلف العلوم، ومحاججة أصحابه الفِرَق الإسلاميَّة الأُخرى، وفتح روح الحوار السليم، ومن بينهم محاججة عثمان بن سعيد العمري لهم بعد أنْ عرف بنبوغه وقوَّة استدلاله وسرعة بديهته، ويُعزى إلى بعض العلماء القول بعصمته(170).
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أَحْمَدِ بْنِ إِسْحَاقَ اَلْقُمِّيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ - الهادي - (عليه السلام) فِي يَوْمٍ مِنَ اَلْأَيَّامِ، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، أَنَا أَغِيبُ وَأَشْهَدُ، وَلَا يَتَهَيَّأُ لِيَ اَلْوُصُولُ إِلَيْكَ إِذَا شَهِدْتُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَقَوْلَ مَنْ نَقْبَلُ، وَأَمْرَ مَنْ نَمْتَثِلُ؟! فَقَالَ (عليه السلام): «هَذَا أَبُو عَمْرٍو، اَلثِّقَةُ اَلْأَمِينُ، مَا قَالَهُ لَكُمْ فَعَنِّي يَقُولُهُ، وَمَا أَدَّاهُ إِلَيْكُمْ فَعَنِّي يُؤَدِّيهِ»(171).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(169) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 516).
(170) راجع: مفاتيح الجنان (ص 710).
(171) الغيبة للطوسي (ص 354/ ح 315).
وقوله (عليه السلام) أيضاً: «اَلْعَمْرِيُّ ثِقَتِي، فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي، وَمَا قَالَ لَكَ عَنِّي فَعَنِّي يَقُولُ، فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ، فَإِنَّهُ اَلثِّقَةُ اَلمَأْمُونُ»(172).
لقد قام الإمام الهادي (عليه السلام) بالتمهيد للغيبة، حيث اتَّخذ استراتيجيَّة واضحة وأُسلوباً حديثاً وجديداً من خلال تطبيقه مسلك الاحتجاب على نفسه عن كثير من مواليه إلَّا عن عدد قليل من خواصِّه(173)، وتذكيره الأُمَّة بأحاديث الغيبة المرويَّة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة المعصومين (عليهم السلام)، لإشعارهم بقرب الولادة ودنوِّ الأجل، وتحضير الذهنيَّة العامَّة لتقبُّل هذه الفكرة بعد أنِ اتَّخذ نظام الوكلاء، وكان عثمان بن سعيد العمري في قمَّة هذا النظام نظراً لما امتلكه من مؤهِّلات، وأنَّ له شأناً مع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ستعرفه الأُمَّة بعد التفافها حوله.
أمَّا موقف الإمام العسكري (عليه السلام) منه (رضي الله عنه):
فقد ذكرت النصوص التاريخيَّة أنَّ الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) كان قد قَدِمَ برفقة أبيه وله من العمر سنتان، وقد عاش فيهما تلك الظروف والملابسات التي مرَّ بها أبوه من قبله، فتلقَّاها بصمت وضبط وإتقان، استعداداً لتولِّي منصب الإمامة من بعد أبيه الهادي (عليه السلام)، فكان عمره - لـمَّا تُوفِّي أبوه (254هـ)(174) أيَّام خلافة المعتزِّ بالله وقبل خلعه بعام واحد أي عام (255هـ)(175) - قد بلغ اثنين وعشرين عاماً، ثمّ واكب بقيَّة أيَّام إمامته خلافة المعتزِّ، ثمّ المهتدي الذي ثار عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(172) الكافي (ج 1/ ص 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1)، الغيبة للطوسي (ص 360/ ح 322).
(173) إثبات الوصيَّة (ص 272)، منتهى الآمال (ج 2/ ص 651).
(174) قد تقدَّم في (ص 75)، فراجع.
(175) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 195).
الأتراك وقتلوه عام (256هـ)(176)، وحلَّ مكانه الخليفة المعتمد، فعاصر أربعة أعوام من خلافته حتَّى تُوفّي عام (260هـ)(177).
إنَّ دراسة مواقف الإمام العسكري (عليه السلام) وسياسته تجاه السلطة والانحراف المتمثِّل فيها وفي الأُمَّة تشير إلى التشابه الكبير مع سياسة أبيه الإمام عليٍّ الهادي (عليه السلام) باعتبارهما يستقيان من معين واحد، وهي امتداد لسياسة آبائه من قبل، بعد أنْ كانت السياسة الحاكمة مرتكزة على ثلاث ركائز أساسيَّة، هي: تقريب الإمام العسكري وأبيه من البلاط العبَّاسي ودمجه بالحاشية، ومراقبته والفحص عن أُموره جملةً وتفصيلاً، وإكرامه واحترامه ظاهراً لذرِّ الرماد في العيون وإسكات المعارضين، فكان الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) محجوزاً في بلاط سامرَّاء، ومسؤولاً عن الذهاب إلى بلاط الخليفة كلَّ اثنين وخميس(178)، وربَّما يُدعى للحضور في موائد أبناء الخلفاء(179)، وهكذا خلت مواقف الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) من الضجيج الإعلامي والسياسي الذي كان من الممكن أنْ يُثار تجاه أبيه الهادي (عليه السلام)، فالحذر الشديد والخفاء كان واضحاً على تحرُّكات الإمام (عليه السلام) من خلال كتاباته وعلاقاته مع أصحابه وغيرهم، فالكتابات مثلاً تعرب عن ألم الإمام (عليه السلام) وضيق صدره بأفعال السلطة وتصرُّفاتها الطائشة مع ذلك التيَّار الفكري المنحرف، فمثلاً يُرسِل الإمام رسالة إلى أحد أصحابه قبل موت المعتزِّ بعشرين يوماً قائلاً: «اِلْزَمْ بَيْتَكَ حَتَّى يَحْدُثَ اَلْحَادِثُ»، فَلَمَّا قُتِلَ بُرَيْحَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(176) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 228).
(177) أعلام الورى (ج 2/ ص 131)، تاريخ ابن الوردي (ج 1/ ص 227)، الفصول المهمَّة لابن الصبَّاغ (ج 2/ ص 1089).
(178) قد تقدَّم في (ص 76)، فراجع.
(179) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 517)، وفيه: (أبو الحسن الهادي (عليه السلام)).
كَتَبَ إِلَى اَلْإِمَامِ (عليه السلام): قَدْ حَدَثَ اَلْحَادِثُ، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ فأجابه (عليه السلام): «لَيْسَ هَذَا اَلْحَادِثُ، اَلْحَادِثَ اَلْآخِرَ»، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ اَلمُعْتَزِّ مَا كَانَ(180)، حيث قُتِلَ بيد الأتراك عام (255هـ) بسبب امتناعه عن دفع الرواتب والأرزاق إلى الجند، وكانت أُمُّه قد امتنعت عن مساعدته بالمال، وزعمت أنْ ليس عندها شيء، فقُتِلَ ابنها شرَّ قتلة(181)، وبعد قتله وجدوا عندها أموالاً لا تُقدَّر بثمن! ولـمَّا حُمِلَ إلى صالح بن وصيف سبَّها وقال: عرَّضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار، وعندها هذه الأموال كلّها(182).
وقد كان للسلطات محاولات عديدة لإيذاء الإمام (عليه السلام) أو القضاء عليه إنْ تمكَّنت، بسبب ما أوجده الإمام لها من المتاعب، ومن تلك المحاولات محاولة المعتزِّ الذي أصدر أوامره لسعيد الحاجب - وهو أحد أزلام النظام - ليقتل الإمام (عليه السلام) بعيداً عن عيون الناس، فقال له المعتزُّ: أَخْرِجْ أَبَا مُحَمَّدِ إِلَى اَلْكُوفَةِ، ثُمَّ اِضْرِبْ عُنُقَهُ فِي اَلطَّرِيقِ.
قال الراوي: فَجَاءَ تَوْقِيعُهُ (عليه السلام) إِلَيْنَا: «اَلَّذِي سَمِعْتُمُوهُ تُكْفَوْنَهُ»، فَخُلِعَ اَلمُعْتَزُّ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَقُتِلَ(183).
وكانت للمهتدي محاولة أُخرى حيث أمر بسجن الإمام (عليه السلام) وأخذ يتهدَّده ويتوعَّده بالقتل، فوقَّع (عليه السلام) بخطِّه: «ذَاكَ أَقْصَرُ لِعُمُرِهِ، عُدَّ مِنْ يَوْمِكَ هَذَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَيُقْتَلُ فِي اَلْيَوْمِ اَلسَّادِسِ بَعْدَ هَوَانٍ وَاِسْتِخْفَافٍ يَمُرُّ بِهِ»(184).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(180) الكافي (ج 1/ ص 506/ باب مولد أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)/ ح 2).
(181) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 195 و196).
(182) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 200).
(183) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 531).
(184) الكافي (ج 1/ ص 510/ باب مولد أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)/ ح 16).
وأخبر (عليه السلام) بموته في السجن، فقال لأحد أصحابه: «فِي هَذِهِ اَللَّيْلَةِ يَبْتُرُ اَللهُ عُمُرَهُ»، قال الراوي: فَلَمَّا أَصْبَحْنَا شَغَبَ اَلْأَتْرَاكُ، وَقَتَلَ اَلمُهْتَدِيَ(185)، وكان كما قال الإمام(186).
وكانت أيَّام الخليفة المهتدي ثقيلة على العامَّة والخاصَّة، فاستطالوا خلافته، وسئموا أيَّامه، وعملوا الحيلة عليه حتَّى قُتِلَ(187).
وهناك محاولات للمعتمد أيضاً للقضاء على الإمام (عليه السلام)، منها: إصداره أوامره بسجن الإمام (عليه السلام) مع مجموعة من أصحابه الطالبيِّين، فبقوا في السجن أيَّاماً ثمّ خرجوا منه(188).
ورافقت وكالة عثمان بن سعيد العمري عن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) حوادث عديدة، أهمّها: تأسيس دولة أحمد بن طولون في مصر، وسيطرة الحسن ابن يزيد العلوي على طبرستان، واستمرار حركة صاحب الزنج التي دامت خمسة عشر عاماً، وكانت من أخطر الحركات تهديداً للإسلام، وسيطرة الموالي والأتراك وجماعة آخرين كالموفَّق طلحة بن المتوكِّل، ممَّا أدَّى إلى ضعف الخلافة في هذه الفترة بالذات تماماً، وتصاعد الضغط وحملات التفتيش والعنف ضدَّ الإمام (عليه السلام) وأصحابه، وقد استطاع الإمام (عليه السلام) بمعرفته احتواء ذلك الوضع لصالحه واتِّخاذه استراتيجيَّة واضحة ومتكاملة في أُسلوب التعامل مع السلطات والأُمَّة من جهة وأصحابه من جهة أُخرى. وإليك أهمّها:
أوَّلاً: مسلك الاحتجاب والاختفاء:
لقد استساغ الإمام العسكري (عليه السلام) هذا المنهج الخاصَّ لتهيئة الذهنيَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(185) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 530)؛ ورواه الطوسي (رحمه الله) في الغيبة (ص 205/ ح 173).
(186) الإرشاد (ج 2/ ص 333).
(187) مروج الذهب (ج 4/ ص 96).
(188) الغيبة للطوسي (ص 227/ ح 194).
العامَّة لفهم هذا الأُسلوب، قال المسعودي: وحين أفضى الأمر إلى الحسن العسكري (عليه السلام) كان يتكلَّم من وراء الستار مع الخواصِّ وغيرهم، إلَّا في الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان(189).
ثانياً: تجديد نظام المكاتبات:
لقد نجح الإمام (عليه السلام) في صياغة هذا المنهج، وصبغه بلون متناسب معه ليُؤتي ثماره، وصار الاتِّصال بالإمام (عليه السلام) لا يتمُّ إلَّا عن طريق هذا الأُسلوب، فهذا تختلج مسألتان في صدره فيكتبهما إليه(190)، وأبو هاشم الجعفري يضيق به الحبس وكلب الحديد فيكتب له (عليه السلام)(191)، ويكتب لأصحابه أيضاً مبشِّراً لهم بموت المعتزِّ والمهتدي والزبيري(192).
ثالثاً: نظام الوكلاء:
لقد اعتادت الأُمَّة هذا النظام ردحاً من الزمن، وكان الارتباط بالبلاد البعيدة إنَّما يتمُّ من خلال هذا النظام، حيث يتمُّ المكاتبات وقبض الأموال من خلال الوكلاء الذين عيَّنهم الإمام (عليه السلام)، ويتصدَّرهم عثمان بن سعيد العمري، فقد تصدَّى الإمام العسكري للإمامة بعد أبيه (254هـ) وعمر وكيله عثمان إحدى وثلاثين عاماً.
إنَّ تلك الظروف القاسية هي التي جعلت الإمام يضاعف من مسلك الكتمان والحذر، واعتماده على أصحابه وخاصَّة ممَّن يكون لهم شأن في حياة ابنه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فأمر أصحابه بالرجوع إلى عثمان في حوائجهم واستلام الأجوبة منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(189) إثبات الوصيَّة (ص 272)، منتهى الآمال (ج 2/ ص 651).
(190) الإرشاد (ج 2/ ص 331).
(191) الإرشاد (ج 2/ ص 330).
(192) كشف الغمَّة (ج 3/ ص 213).
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أحمد بن إسحاق القمِّي الأشعري، قال: لَـمَّا مَضَى أَبُو اَلْحَسَنِ - الهادي - (عليه السلام) وَصَلْتُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ اِبْنِهِ اَلْحَسَنِ اَلْعَسْكَرِيِّ (عليه السلام) ذَاتَ يَوْمٍ، فَقُلْتُ لَهُ (عليه السلام) مِثْلَ قَوْلِي لِأَبِيهِ، وسألته عن عثمان بن سعيد العمري، فَقَالَ لِي: «هَذَا أَبُو عَمْرٍو اَلثِّقَةُ اَلْأَمِينُ، ثِقَةُ اَلمَاضِي، وَثِقَتِي فِي اَلمَحْيَا وَاَلمَمَاتِ، فَمَا قَالَهُ لَكُمْ فَعَنِّي يَقُولُهُ، وَمَا أَدَّى إِلَيْكُمْ فَعَنِّي يُؤَدِّيهُ»(193).
وكرَّر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) هذا الثناء على أصحابه والوافدين إليه من الأقطار البعيدة لمرَّات عديدة وفي محافل أُخرى، فمثلاً لـمَّا قَدِمَ الوفد اليمني لزيارة الإمام (عليه السلام) وهو يحمل معه الأموال والأسئلة، وقد حضر مع هذا الوفد كبار الشخصيَّات، فأطلعهم الإمام (عليه السلام) على أُمور غيبيَّة، وأثنى على عثمان ابن سعيد العمري فيه.
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن اَلْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ اَلْخَصِيبِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اَللهِ اَلْحَسَنِيَّانِ، قَالَا: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ - اِبن عليٍّ العسكري - (عليه السلام) بِسُرَّ مَنْ رَأَى وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَشِيعَتِهِ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ بَدْرٌ خَادِمُهُ، فَقَالَ: يَا مَوْلَايَ، بِالْبَابِ قَوْمٌ شُعْثٌ غُبْرٌ، فَقَالَ لَهُمْ: «هَؤُلَاءِ نَفَرٌ مِنْ شِيعَتِنَا بِالْيَمَنِ» - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَسُوقَانِهِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى أَنْ قَالَ اَلْحَسَنُ (عليه السلام) لِبَدْرٍ: «فَامْضِ فَائْتِنَا بِعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيِّ»، فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيراً حَتَّى دَخَلَ عُثْمَانُ، فَقَالَ لَهُ سَيِّدُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «اِمْضِ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّكَ اَلْوَكِيلُ وَاَلثِّقَةُ اَلمَأْمُونُ عَلَى مَالِ اَللهِ، وَاِقْبِضْ مِنْ هَؤُلَاءِ اَلنَّفَرِ اَلْيَمَنِيِّينَ مَا حَمَلُوهُ مِنَ اَلمَالِ»، ثُمَّ سَاقَا اَلْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَا: ثُمَّ قُلْنَا بِأَجْمَعِنَا: يَا سَيِّدَنَا، وَاَللهِ إِنَّ عُثْمَانَ لَمِنْ خِيَارِ شِيعَتِكَ، وَلَقَدْ زِدْتَنَا عِلْماً بِمَوْضِعِهِ مِنْ خِدْمَتِكَ، وَإِنَّهُ وَكِيلُكَ وَثِقَتُكَ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(193) الغيبة للطوسي (ص 354 و355/ ح 315).
مَالِ اَللهِ تَعَالَى، قَالَ (عليه السلام): «نَعَمْ، وَاِشْهَدُوا عَلَيَّ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيَّ وَكِيلِي، وَأَنَّ اِبْنَهُ مُحَمَّداً وَكِيلُ اِبْنِي مَهْدِيِّكُمْ»(194).
ويتَّضح عدَّة أُمور من هذه الرواية، هي:
أوَّلاً: تصريحه (عليه السلام) بوجود ولد له، وأنَّه هو المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي بشَّرت به الروايات عن النبيِّ والأئمَّة المعصومين (عليهم السلام)، وتبشيرهم بقرب ولادته.
ثانياً: تصريحه بأنَّ له غيبتين إحداهما صغرى والأُخرى كبرى.
ثالثاً: تصريحه بوجود السفارة والسفراء عنه في غيبته.
رابعاً: تصريحه باسم السفير الثاني للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهو محمّد بن عثمان العمري. وكان (عليه السلام) قد صرَّح بأسماء بعض السفراء في عدَّة مشاهد أمام الكثيرين من أصحابه وقد بلغوا أربعين رجلاً، فقال لهم: «فَاقْبَلُوا مِنْ عُثْمَانَ مَا يَقُولُهُ، وَاِنْتَهُوا إِلَى أَمْرِهِ، وَاِقْبَلُوا قَوْلَهُ، فَهُوَ خَلِيفَةُ إِمَامِكُمْ، وَاَلْأَمْرُ إِلَيْهِ»(195)، وقوله (عليه السلام) أمام الوفد القمِّي: «هَذَا أَبُو عَمْرٍو اَلثِّقَةُ اَلْأَمِينُ، ثِقَةُ اَلمَاضِي، وَثِقَتِي فِي اَلمَحْيَا وَاَلمَمَاتِ»(196).
خامساً: تسالم الأُمَّة عليه، وقبول سفارته من خلال تجربتها معه ومعرفتها صدقه، وصحَّة ما انتسب إليه بإظهاره الأجوبة العجيبة والكرامات والمعجزات من إمامه الغائب (عجَّل الله فرجه).
أمَّا موقف الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من عثمان بن سعيد العمري:
فقد ذكرت النصوص التاريخيَّة أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كان قد وُلِدَ عام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(194) الغيبة للطوسي (ص 355 و356/ ح 317).
(195) الغيبة للطوسي (ص 357/ ح 319).
(196) الغيبة للطوسي (ص 354/ ح 315).
(256هـ)(197)، وكان عمر أبيه أربعة وعشرين عاماً، وكان قد واكب مسيرة أبيه الجهاديَّة، ورأى المجتمع الصاخب، والرقابة الشديدة المفروضة على الإمام العسكري (عليه السلام) باعتباره الرجل المثالي في عبادته وأخلاقه وعلمه ونسبه في نظر الجميع(198)، فهو قائد المعارضة ضدَّ السلطة الحاكمة، والأهمّ من هذا كونه سيُولَد له ولد اسمه المهدي (عجَّل الله فرجه) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ولكن الإمام العسكري (عليه السلام) ترك الإعلان عن ولادة ابنه المهدي (عجَّل الله فرجه) تماماً، وكأنَّ شيئاً لم يحدث، وترك الأحداث تجري في مسيرها الطبيعي دون أيِّ إشارة للسلطات، وساعده على تطبيق هذه الاستراتيجيَّة تطبيقه مسلك الاحتجاب والكتمان عن أصحابه ومواليه، وهو يهدف إلى أمرين: تعويد الناس على قبول فكرة الاحتجاب والقيادة غير المباشرة، واحتواء الوضع لصالحه مستقطباً المهامَّ والحوادث التي يعيشها بعيداً عن الضوضاء وتسليط الأضواء.
وقد رافق تطبيقه هذا المنهج حوادث عديدة، منها: انشغال الدولة والمجتمع في حرب صاحب الزنج، حيث بدأ أعماله التخريبيَّة في جنوب العراق والأهواز، فأوجد الفزع والقلق الشديد في الأُمَّة وفي النظام الحاكم، فكان خير صارف ذهني للفهم العامِّ عن الالتفات لخبر الولادة، واستطاع حماية ولده من متاعب السلطات، فلم يبقَ أمامه سوى إثبات ولادة ابنه المهدي (عجَّل الله فرجه) للأُمَّة الإسلاميَّة والتأريخ.
لقد ذكرت النصوص التاريخيَّة ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عام (256هـ)، وثبتت ولادته بأوكد ما يثبت به أنساب الجمهور من الناس، إذ كان النسب يثبت بقول القابلة ومثلها من النساء اللَّاتي جرت عادتهنَّ بحضور ولادة النساء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(197) الغيبة للطوسي (ص 271 و272/ ح 237).
(198) الإرشاد (ج 2/ ص 321 - 323).
معونتهنَّ عليه، وباعتراف صاحب الفراش وحده بذلك دون من سواه، وبشهادة رجلين من المسلمين على قرار الأب بنسب الابن منه.
وقد ثبتت أخبار عن جماعة من أهل الديانة والفضل والورع والزهد والعبادة والفقه عن الحسن العسكري (عليه السلام) أنَّه اعترف بولادة المهدي (عجَّل الله فرجه) وآذنهم بوجوده، ونصَّ لهم على إمامته من بعده، وبمشاهدة بعضهم له طفلاً وبعضهم له يافعاً وشابًّا كاملاً(199).
عاش الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أربع سنوات برفقة أبيه سجيناً تحت الرقابة الشديدة التي فرضتها السلطات الحاكمة على أبيه، دون أنْ تعثر له على أثر أو تسمع له بخبر!
وقام الإمام العسكري (عليه السلام) في عمله السياسي بعدَّة أُمور:
الأوَّل: إعلام أصحابه بولادته:
لقد استطاع الإمام العسكري (عليه السلام) في تلك الظروف الصعبة والمعقَّدة أنْ يخصَّ تبليغ ولادة ابنه المهدي لأصحابه، وأنْ يزفَّ لهم هذه البشرى لمن علم فيه قوَّة الإيمان وصلابة العقيدة ورجاحة العقل، فحجب ابنه حجباً تامًّا عن الجمهور غير الموالي، بل حتَّى عن الجمهور الموالي ممَّن لم يحرز فيه قوَّة الإرادة والإخلاص، وسيأتي ذكر من رآه من خواصِّه.
الثاني: اعتماد الإمام على بعض أصحابه في تبليغ الولادة:
لقد اعتمد الإمام هنا أمرين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(199) قال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار (ج 51/ ص 108): وقد ذكر الجهضمي وكلاء المهدي (عليه السلام) وسفراءه وأسماءهم، ثمّ قال: (وقد لقي المهدي (عليه السلام) بعد ذلك خلق كثير من الشيعة وغيرهم، وظهر لهم على يده من الدلائل ما ثبت عندهم أنَّه هو (عليه السلام)...، وينتفعون بمكانه وفعاله ويكتمونه...) إلخ.
الأوَّل: طلب من بعض أصحابه ممَّن لهم شأن مع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ومنهم عثمان وغيرهم بأنْ يوصلوا خبر الولادة لأصحابه، بعد أنْ عرَّف الإمام (عليه السلام) موقعهم السياسي والاجتماعي في الأُمَّة.
فقد روى الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن أبي جعفر - محمّد بن عثمان العمري -، قال: لَـمَّا وُلِدَ اَلسَّيِّدُ - أي الإمام المهدي - (عليه السلام) قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام): «اِبْعَثُوا إِلَى أَبِي عَمْرٍو - عثمان بن سعيد العمري -»، فَبُعِثَ إِلَيْهِ، فَصَارَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: «اِشْتَرِ عَشَرَةَ آلَافِ رِطْلِ خُبْزٍ، وَعَشَرَةَ آلَافِ رِطْلِ لَحْمٍ، وَفَرِّقْهُ - أَحْسَبُهُ قَالَ: عَلَى بَنِي هَاشِمٍ -، وَعُقَّ عَنْهُ بِكَذَا وَكَذَا شَاة»(200).
الثاني: إرسال برقيَّاته ورسائله إلى أصحابه في البلاد البعيدة لإعلامهم بخبر الولادة.
فقد روى الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن أحمد بن إسحاق القمِّي الأشعري وجه القمّيِّين وشيخهم، قال: كتب أبو محمّد (عليه السلام) رسالة لي يقول فيها: «وُلِدَ لَنَا مَوْلُودٌ...»، إلى أنْ قال: «أَحْبَبْنَا إِعْلَامَكَ لِيَسُرَّكَ اَللهُ بِهِ مِثْلَ مَا سَرَّنَا بِهِ، وَاَلسَّلَامُ»(201).
وأجاز الإمام العسكري (عليه السلام) لعمَّته حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) أنْ تُخبر من تثق به وتطمئنُّ إليه ممَّن قرب أو بعد بخبر الولادة.
وقد روى خبره الكثير من الثقات عنها، منهم: عثمان بن سعيد، وابنه، وأبو عبد الله المطهَّري، وموسى بن محمّد بن جعفر، ومحمّد بن إبراهيم، ومحمّد بن عليِّ ابن بلال. وجماعة من الشيوخ أمثال: علَّان الكليني، وموسى بن محمّد، وأحمد ابن جعفر(202).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(200) كمال الدِّين (ص 430 و431/ باب 42/ ح 6).
(201) كمال الدِّين (ص 433 و434/ باب 42/ ح 16).
(202) راجع: الغيبة للطوسي (ص 244 و245/ ح 211 و212).
وأخبرت حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) وجماعة أيضاً بخبر الولادة، منهم: أبو أحمد المراغي(203)، وأحمد بن إبراهيم.
وكتب الإمام العسكري (عليه السلام) نفسه خبر الولادة إلى أُمِّه(204).
ثمّ سمح الإمام لكثير من جواريه وعبيده الذين أعتقد فيهم قوَّة العقيدة والإخلاص بمشاهدتهم الإمام (عجَّل الله فرجه)، كنسيم ومارية وأبي نصر الخادم وعقيد الخادم وجارية لأبي عليٍّ الخيزراني القابلة وغيرهم(205).
وقد كان جماعة من أصحابه الذين شاهدوا الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ممَّن عدَّلهم في حياته، وجعلهم سفراء بينه وبين أوليائهم، والأُمناء على قبض الأخماس والأنفال والوقوفات والأمانات وغيرها، وشهد لهم بإيمانهم وصدقهم فيما يؤدُّونه عنه مواليه.
وإنَّ هذه الجماعة التي شاهدت الحجَّة (عجَّل الله فرجه) أخبرت بالنصِّ عليه من أبيه (عليه السلام)، وقطعت بإمامته، وكونه الحجَّة المأمول للانتصار من الظالمين، فكان ذلك نائباً مناب نصِّ أبيه (عليه السلام) لو كان مفقوداً(206).
روى الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ اَلْفَزَارِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ حُكَيْمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيُّ وأبيه (رضي الله عنهم)، قَالُوا: عَرَضَ عَلَيْنَا أَبُو مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام) ابنه، وَنَحْنُ فِي مَنْزِلِهِ، وَكُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلاً، فَقَالَ: «هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، أَطِيعُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فِي أَدْيَانِكُمْ فَتَهْلِكُوا»(207).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(203) الغيبة للطوسي (ص 230 و231/ ح 196).
(204) كمال الدِّين (ص 501/ باب 45/ ح 27)، الغيبة للطوسي (ص 230/ ح 196).
(205) كمال الدِّين (ص 431/ باب 42/ ح 7)، الغيبة للطوسي (ص 244 و245/ ح 211، وص 246/ ح 215، وص 271 و272/ ح 237).
(206) تقريب المعارف (ص 428).
(207) كمال الدِّين (ص 435/ باب 43/ ح 2).
وليس لأحدٍ أنْ يقول: جميع ما ذكرتموه من أخبار الولادة والمعجزات هي أخبار آحاد، وهي مع ذلك مختصَّة بنقلكم، وما هذه حاله، لا يلزم الحجَّة به، لأنَّ هذه دعوى مجرَّدة خالية من الاستدلال والبرهان.
ومن تأمَّل في حال ناقلي هذه الأخبار، علمهم متواترين بها على الوجه الذي تواتروا به من نقل النصِّ الجليِّ، فإذا ثبت تواترها لم يقدح فيه اختصاص نقلها بالفرقة الإماميَّة دون غيرها، لأنَّ المراعى في صحَّة النقل وقوعه على وجه لا يجوز على ناقليه الكذب سواء كانوا أبراراً أو فُجَّاراً، متديِّنين بما نقلوه أو مخالفين له(208).
الثالث: كتمان خبر الولادة:
لقد أكَّد الإمام العسكري (عليه السلام) على كلِّ من رأى ابنه المهدي (عجَّل الله فرجه) أمرين لا بدَّ من التزامهما، وهو مكلَّف تكليفاً إلزاميًّا بهما، وهما: وجوب الكتمان لخبر الولادة، وحرمة الاطِّلاع على اسمه الشريف.
كتب الإمام العسكري (عليه السلام) في الرسالة التي بعثها إلى أحمد بن إسحاق القمِّي: «فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ مَسْتُوراً، وَعَنْ جَمِيعِ اَلنَّاسِ مَكْتُوماً، فَإِنَّا لَمْ نُظْهِرْ عَلَيْهِ إِلَّا اَلْأَقْرَبَ لِقَرَابَتِهِ، وَاَلْوَلِيَّ لِوَلَايَتِهِ»(209).
وسأل أحمد بن إبراهيم حكيمة بنت الإمام الجواد (عليه السلام) عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فقالت: مَسْتُورٌ(210).
وتباشر اثنان من أصحابه (عليه السلام) بخبر الولادة، فقال أحدهما للآخر: وُلِدَ اَلْبَارِحَةَ فِي اَلدَّارِ مَوْلُودٌ لِأَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام)، وَأَمَرَ بِكِتْمَانِهِ(211).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(208) تقريب المعارف (ص 438 و439).
(209) كمال الدِّين (ص 433 و434/ باب 42/ ح 16).
(210) الغيبة للطوسي (ص 230/ ح 196).
(211) كمال الدِّين (ص 432/ باب 42/ ح 11).
وروى الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن غِيَاثِ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: شَهِدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ) يَقُولُ: لَـمَّا وُلِدَ اَلْخَلَفُ اَلمَهْدِيُّ (عليه السلام) سَطَعَ نُورٌ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ إِلَى أَعْنَانِ اَلسَّمَاءِ(212)، فقال عبد الله بن جعفر الحميري له - للعمري -: هَلْ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَهُ رَقَبَةٌ مِثْلُ ذِي - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عُنُقِهِ -(213).
لقد جاء في النصوص الإسلاميَّة حصول اللقاءات العديدة بين الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وسفيره الأوَّل عثمان بن سعيد العمري قبل سفارته - أي في حال حياة أبيه الحسن العسكري (عليه السلام) -، وهي تعرب عن قلق الإمام الشديد حول مستقبل الأُمَّة، وحالة الانحراف في المجتمع، ومضايقات السلطات لأنصار الإمام (عليه السلام).
فقد التقى عثمان بن سعيد بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عندما عرضه الإمام العسكري على أربعين رجلاً، وكان هو من بينهم، حيث قال لهم: «هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي، وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ، أَطِيعُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فِي أَدْيَانِكُمْ فَتَهْلِكُوا، أَمَا إِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهُ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا»، فقال الراوي: قَالُوا: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَمَا مَضَتْ إِلَّا أَيَّامٌ قَلاَئِلُ حَتَّى مَضَى أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام)(214).
وكان الحسن العسكري (عليه السلام) قد أمر عثمان بن سعيد أنْ يُغسِّله بعد مماته، ويُكفِّنه، ويقوم بباقي شؤونه، مأموراً بذلك كلِّه للظاهر من الحال التي لا يمكن جحدها، ولا دفعها إلَّا بدفع حقائق الأشياء وظواهرها(215).
والوصيَّة إليه بحمل أمتعة وجواريه إلى بغداد، واحتفاظه بودائع الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(212) كمال الدِّين (ص 433/ باب 42/ ح 13).
(213) كمال الدِّين (ص 435/ باب 43/ ح 3).
(214) كمال الدِّين (ص 435/ باب 43/ ح 2).
(215) الغيبة للطوسي (ص 356/ ح 318).
العسكري (عليه السلام)(216)، وهي عبارة عن درج فيه قنوتات الأئمَّة (عليهم السلام)، وحُقَّة خشب مدهونة، وعكازة كانت في يده (عليه السلام) يوم توكُّله عثمان بن سعيد العمري ووصيَّته إليه(217).
ثمّ استلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الإمامة بعد أبيه ولم يتجاوز عمره الأربع أو الخمس سنين، وكان عمر سفيره الأوَّل لم يتجاوز السبع والثلاثين عاماً، حيث أعلن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عن بداية الغيبة الصغرى، وأمر أصحابه وخواصَّه بإخبار الناس والوفود التي تقدم لزيارته بالتوجُّه إلى عثمان بن سعيد العمري في حوائجهم وأخذ الأجوبة والتوقيعات منه، وعيَّن بغداد عاصمة للسفارة.
فقد روى الصدوق (رحمه الله) بإسناده أنَّ الوفد القمِّي جاء لزيارة الإمام العسكري (عليه السلام)، ولم يعرفوا وفاته، فالتقوا بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأمرهم أنْ لا يحملوا إلى سامرَّاء بعدها شيئاً من المال، وأنْ ينصب لهم رجلاً يُحمَل إليه الأموال(218).
فأخذت الأُمَّة الإسلاميَّة تقصده بأجمعها من كلِّ بلد بقَصص وحوائج، وكانت الأجوبة تخرج على يديه، وصار ابن سعيد عالماً في بغداد لا تشكُّ الأُمَّة في أقواله وأفعاله(219)، فقصدوه في غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كما قصدوه في حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)(220)، واستمرَّت بعد ذلك اللقاءات بينه وبين الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كما يأتي في هذه الدراسة.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(216) الأنوار البهيَّة (ص 328 و329)، عن المقنع في الإمامة (ص 146).
(217) مهج الدعوات (ص 46).
(218) كمال الدِّين (ص 478/ باب 43/ ح 26).
(219) راجع: الغيبة للطوسي (ص 356/ ح 318).
(220) الطرائف (ص 184).
المبحث الثاني: وقوع الاشتباه في عثمان بن سعيد من بعض الأعلام
ذكرنا أنَّ عثمان بن سعيد كان قد خدم الإمام الهادي (عليه السلام) وله أحد عشر عاماً، وكان إليه عهد معروف، ولكن وقع من بعض الأعلام اشتباه في هذه الشخصيَّة العظيمة، وملخَّصه:
الاشتباه الأوَّل: اشتباه العلاَّمة وابن شهرآشوب (رحمهما الله):
قال العلَّامة (رحمه الله) بعد ترجمة عثمان بن سعيد: ويُقال له: الزيَّات الأسدي، من أصحاب أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الثاني - الجواد (عليه السلام) -، خدمه وله إحدى عشرة سنة، وله إليه عهد معروف، وهو ثقة جليل القدر، وكيل أبي محمّد العسكري (عليه السلام)(221).
وقال ابن شهرآشوب (رحمه الله): إنَّ عثمان بن سعيد العمري (رحمه الله) كان باباً لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ النقيِّ (عليه السلام)(222).
والظاهر أنَّ فيه سهواً وقع من العلَّامة وابن شهرآشوب (رحمهما الله)(223)، فقد ذُكِرَ في (ربيع الشيعة) أنَّ أبا عمرو عثمان بن سعيد العمري (قدس سره) كان باباً لأبي الحسن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(221) خلاصة الأقوال (ص 220/ الرقم 2).
(222) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 487).
(223) جامع الرواة (ج 1/ ص 533).
العسكري وجدِّه الهادي (عليه السلام) من قبل، وثقة لهما، ثمّ تولَّى البابيَّة من قِبَله وظهرت المعجزات على يده، وما ذكره هذان الفاضلان لا يجتمع مع ما ذكره الطوسي (رحمه الله) من أنَّ عثمان بن سعيد خدم الإمام الهادي (عليه السلام) وله إحدى عشر سنة(224)، والله العالم.
الاشتباه الثاني: اشتباه الطوسي (رحمه الله):
ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) بعد ترجمة عثمان بن سعيد بأنَّه حفص بن عمرو المعروف بالعمري، وأنَّه كان وكيلاً وسفيراً للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
واشتبه أيضاً في ترجمة ابنه محمّد بن عثمان العمري، فأبدله بـ (محمّد بن حفص العمري)، فقال بعد رواية محمّد بن إبراهيم بن مهزيار: وحفص بن عمرو، كان وكيلاً لأبي محمّد العسكري (عليه السلام)، وأمَّا أبو جعفر محمّد بن حفص ابن عمرو فهو ابن العمري، وكان وكيل الناحية المقدَّسة(225).
والظاهر أنَّ فيه خطئاً واضحاً، قال التستري: هذا، وقلنا في حفص بن عمرو بأنَّ ما في نسخة الكشِّي بعنوان حفص بن عمرو المعروف بالعمري تحريف ظاهر، وأنَّ الأصل عثمان بن سعيد بن عمرو، وكنيته أبو عمرو، لعدم وجود (حفص بن عمرو) ولا (محمّد بن حفص بن عمرو)، بل محمّد بن عثمان بن سعيد بن عمرو، وأبيه عثمان بن سعيد(226).
وأمَّا القهبائي (رحمه الله) فقد رأى أنَّ العمري اثنان، وكذا ابناهما، فقال: ويظهر من هذا أنَّ العمروي اثنان، هما: عثمان بن سعيد بن عمرو وحفص بن عمرو، وكذلك ابن العمروي اثنان أيضاً، وهما: محمّد بن عثمان ومحمّد بن حفص،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(224) رجال الطوسي (ص 389/ الرقم 5741/36)، معجم رجال الحديث (ج 12/ ص 124).
(225) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 813/ ذيل الحديث 1015).
(226) قاموس الرجال (ج 7/ ص 124 و125).
ولكن حفص بن عمرو العمروي وابنه كانا وكيلان للصاحب ببغداد، وأمَّا عثمان بن سعيد وابنه فإنَّهما بابان للصاحب ومن قبله لأبيه وجدِّه (عليهم السلام)، ولا يخفى بعد النظر والتأمُّل(227).
أمَّا الخوئي (رحمه الله) فقد قال: من البعيد جدًّا وجود رجلين يُعرَف كلٌّ منهما بالعمري، وكان كلٌّ منهما وكيل العسكري (عليه السلام)، ويكون لكلٍّ منهما ابن يُسمَّى بمحمّد ويُكنَّى أبا جعفر وكيل الناحية ويدور عليه الأمر. على أنَّ المستفاد من التوقيع أنَّ العمري كان شخصاً واحداً يصل إليه كلُّ ما يُحمَل إلى الإمام (عليه السلام) فيوصله إليه، والله العالم بحقيقة الأمر(228).
واستغرب الخوئي (رحمه الله) ممَّا ذكره الكشِّي قائلاً: وأغرب من ذلك ما صدر من الشيخ الطوسي (قدس سره) فإنَّه ذكر في (الغيبة) كما عرفت محمّد بن عثمان بن سعيد العمري وأباه، وذكر وكالتهما، ولم يتعرَّض لحفص ولا لابنه محمّد، ومع ذلك كان قد ذكر في رجاله حفص بن عمرو العمري المعروف.
ثمّ قال: والمتحصِّل ممَّا ذكرنا أنَّه لم يُعلَم وجود لحفص بن عمرو ولا لابنه فضلاً عن أنْ يكونا وكيلين، وأمَّا ما في الكشِّي فلا بدَّ من حمله على غلط النسخة بعد مخالفتها لما تسالم عليه الأصحاب من أنَّ الوكيل كان عثمان بن سعيد وابنه محمّد، وقد ذكر العلَّامة نفسه في ترجمة محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشِّي أنَّ له كتاب الرجال، كثير العلم، إلَّا أنَّ فيه أغلاطاً كثيرة، كما ذكر ذلك النجاشي أيضاً(229).
أقول: والغريب في ذلك أيضاً ما ذكره السيِّد محمّد الصدر بأنَّه حفص بن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(227) رجال القهبائي (ج 7/ هامش ص 191).
(228) معجم رجال الحديث (ج 7/ ص 155).
(229) معجم رجال الحديث (ج 7/ ص 156).
عمرو، كان له نشاط متزايد بهذا الأمر، وكان الأمر يدور عليه(230)، ولم يذكر نصًّا في نشاطه!
وما قاله التستري والخوئي (رحمهما الله) هو الصحيح، والله العالم.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(230) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 624).
المبحث الثالث: التراث الذي خلَّفه عثمان بن سعيد العمري للأمَّة الإسلاميَّة:
لقد خلَّف عثمان بن سعيد العمري تراثاً خالداً للأجيال والأُمَّة الإسلاميَّة مع تصدِّيه لمهمَّة السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه). ونُلخِّصه بما يلي:
أوَّلاً: ما تركه من روايات وأحاديث عن الأئمَّة (عليهم السلام):
اتَّضح من خلال دراسة الأوضاع السياسيَّة للدولتين الأُمويَّة والعبَّاسيَّة نجاحهما نوعاً ما في كبت حركة الفكر والتحرُّر لدى المفكِّرين، وعرَّضتهم لصنوف العذاب والسخرية، وألجمتهم عن قول الحقيقة، وأثارت الفتن والشحناء بين فصائلها، فكان له الأثر السلبي على سير المسلمين وتقدُّمهم، وظهرت في خضمِّ تلك الأحداث حركات فكريَّة ونهضة علميَّة واسعة قوت شوكتها وامتدَّت معالمها لأبعد البلاد الإسلاميَّة، وكان يقودها رجال الأُمَّة من أهل الخبرة والتخصُّص في معرفة العلوم، ومنها علم الحديث، حيث إنَّهم بذلوا جهوداً مكثَّفة في معرفة علم الحديث وجمعه وتفصيل أحكامه وتبيين حلاله من حرامه، فرتَّبوه على طبقات رجاليَّة لمعرفة أحوال الرواة، وحصلت الأُمَّة على أضخم ثروة وتراث في مجال الحديث، وتمَّ تمييزها عن الأحاديث السقيمة، وقد نفذت إشاعات تلك النهضة العلميَّة والفكريَّة لعواصم عديدة من البلاد الإسلاميَّة كالشام ومكَّة وقم والكوفة وسامرَّاء واليمن والمغرب العربي وغيرها.
أمَّا بغداد عام (260هـ) فقد أصبحت مصدراً للإشعاع الفكري والثقافي لكثير من البلدان، وملتقى لمختلف المذاهب والفِرَق الإسلاميَّة، حيث عُقِدَت فيها الندوات، وتبارى في منتدياتها الأدبيَّة الشعراء والأُدباء ورُوَّاد الفكر في مختلف العلوم والفنون.
وظهر في تلك النهضة رجال في الأُمَّة تخصَّصوا في الحديث والرواية، وفي مقدَّمتهم عثمان بن سعيد العمري (رحمه الله) حيث روى الحديث فأحسن روايته، والناس يومذاك في أشدّ الحاجة لسماع الحديث عن الأئمَّة ولاسيما الإمام الهادي والعسكري والمهدي (عليهم السلام)، بسبب مسلكهم الاختفاء والكتمان والحذر من السلطات وجواسيسها، ورغم صعوبة الوقت والسيف يقطر دماً، والمحن التي مرَّت بها الأُمَّة، والأزمات والحروب الطاحنة والتناحر بين المذاهب، وقد أدَّى إلى حرق الكثير من الكُتُب والطروس، وضياع بعض التراث الذي خلَّفه المسلمون، وبقي البعض الآخر في متناول الأيدي، فقد وصلنا من عثمان بن سعيد العمري العديد من الروايات عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام)، ونُلخِّص بعضها بما يلي:
رواياته في الوصيَّة(231)، واللواط(232)، والزيِّ والتجميل(233)، والمعيشة(234)، وفضل الكوفة(235)، وتسمية من رآه (عجَّل الله فرجه)(236)، وأخباره في وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(231) تهذيب الأحكام (ج 9/ ص 187/ ح 751/4).
(232) الكافي (ج 5/ ص 548/ باب اللواط/ ح 9).
(233) الكافي (ج 6/ ص 450/ باب لبس الصوف والشعر والوبر/ ح 3).
(234) تهذيب الأحكام (ج 6/ ص 359/ ح 1029/150).
(235) تهذيب الأحكام (ج 6/ص 35/ ح 73/17).
(236) الكافي (ج 1/ ص 329 و330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1).
ووصيَّته للأُمَّة الإسلاميَّة(237)، وحبِّ الدنيا(238)، وقصَّة موسى والعمالقة(239)، وفي ودائع النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(240).
ثانياً: تراثه في الأدعية:
أمَّا تراثه من الأدعية التي رواها عن الأئمَّة (عليهم السلام) فهي كثيرة أيضاً، فمن بينها الدعاء المشهور عنه (رحمه الله) في الغيبة، فقد سأل زرارة الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ اَلزَّمَانَ، أَيَّ شَيْءٍ أَفْعَلُ؟ قَالَ (عليه السلام): «يَا زُرَارَةُ، مَتَى أَدْرَكْتَ ذَلِكَ اَلزَّمَان فَلتَدْعُ بِهَذَا اَلدُّعَاءِ: اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْكَ، اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ نَبِيِّكَ...» إلخ، وقال ابن طاووس (رحمه الله): إذا كان لك عذر عن جميع ما ذكرناه من تعقيب العصر يوم الجمعة فإيَّاك أنْ تهمل الدعاء به، فإنَّنا عرفنا ذلك من فضل الله (جلّ جلاله) الذي اختصَّنا به، فاعتمد عليه. وهذا نصُّه:
عن أبي همَّام أنَّ الشيخ عثمان بن سعيد العمري (رحمه الله) أملاه عليه، وأمره أنْ يدعو به، وهو الدعاء في غيبة القائم (عجَّل الله فرجه): «اَللَّهُمَّ عرِّفْنِي نَفْسَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي نَفْسَكَ لَمْ أَعْرِفْ رَسُولَكَ، اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي رَسُولَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي رَسُولَكَ لَمْ أَعْرِفْ حُجَّتَكَ، اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي...» إلخ(241).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(237) الغيبة للطوسي (ص 285 - 287/ ح 245).
(238) الكافي (ج 2/ ص 318/ باب حبِّ الدنيا والحرص عليها/ ح 11).
(239) بحار الأنوار (ج 13/ ص 371/ ح 19).
(240) بحار الأنوار (ج 36/ ص 345 و346/ ح 212).
(241) كمال الدِّين (ص 512/ باب 45/ ح 43)، مصباح المتهجِّد (ص 411 و412)، جمال الأُسبوع (ص 315)، مفاتيح الجنان (ص 843).
ثالثاً: تراثه في ما خرج عنه من توقيعات:
وخرج من عثمان بن سعيد العمري توقيعات كثيرة من إمامه المهدي (عجَّل الله فرجه) للأُمَّة الإسلاميَّة في أُمور وقضايا عديدة، نُلخِّص بعضها:
التوقيع الأوَّل: في من أنكر الحجَّة:
قال الصدوق (رحمه الله): توقيع من صاحب الزمان (عليه السلام)، كَانَ خَرَجَ إِلَى اَلْعَمْرِيِّ وَاِبْنِهِ (رضي الله عنهما)، رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اَللهِ، قَالَ اَلشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اَللهِ جَعْفَرٌ (رضي الله عنه): وَجَدْتُهُ مُثْبَتاً عَنْهُ (رحمه الله)، وَهُوَ: «وَفَّقَكُمَا اَللهُ لِطَاعَتِهِ، وَثَبَّتَكُمَا عَلَى دِينِهِ، وَأَسْعَدَكُمَا بِمَرْضَاتِهِ، اِنْتَهَى إِلَيْنَا مَا ذَكَرْتُمَا أَنَّ اَلْمِيثَمِيَّ أَخْبَرَكُمَا عَنِ اَلمُخْتَارِ وَمُنَاظَرَاتِهِ مَنْ لَقِيَ، وَاِحْتِجَاجِهِ بِأَنَّهُ لَا خَلَفَ غَيْرُ جَعْفَرِ بْنِ عَلِيٍّ وَتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُ، وَفَهِمْتُ جَمِيعَ مَا كَتَبْتُمَا بِهِ مِمَّا قَالَ أَصْحَابُكُمَا عَنْهُ، وَأَنَا أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ اَلْعَمَى بَعْدَ اَلْجَلَاءِ، وَمِنَ اَلضَّلَالَةِ بَعْدَ اَلْهُدَى، وَمِنْ مُوبِقَاتِ اَلْأَعْمَالِ وَمُرْدِيَاتِ اَلْفِتَنِ، فَإِنَّهُ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ [العنكبوت: 2]، كَيْفَ يَتَسَاقَطُونَ فِي اَلْفِتْنَةِ، وَيَتَرَدَّدُونَ فِي اَلْحَيْرَةِ، وَيَأْخُذُونَ يَمِيناً وَ شِمَالاً، فَارَقُوا دِينَهُمْ، أَمِ اِرْتَابُوا، أَمْ عَانَدُوا اَلْحَقَّ، أَمْ جَهِلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ اَلرِّوَايَاتُ اَلصَّادِقَةُ وَاَلْأَخْبَارُ اَلصَّحِيحَةُ، أَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَتَنَاسَوْا مَا يَعْلَمُونَ؟ إِنَّ اَلْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً وَإِمَّا مَغْمُوراً، أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا اِنْتِظَامَ أَئِمَّتِهِمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَى أَنْ أَفْضَى اَلْأَمْرُ بِأَمْرِ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) إِلَى اَلمَاضِي - أي الحسن العسكري (عليه السلام) -، فَقَامَ مَقَامَ آبَائِهِ (عليهم السلام) يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ، كَانَ نُوراً سَاطِعاً، وَشِهَاباً لَامِعاً، وَقَمَراً زَاهِراً، ثُمَّ اِخْتَارَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) لَهُ مَا عِنْدَهُ، فَمَضَى عَلَى مِنْهَاجِ آبَائِهِ (عليهم السلام) حَذْوَ اَلنَّعْلِ بِالنَّعْلِ، عَلَى عَهْدٍ عَهِدَهُ، وَوَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا إِلَى وَصِيٍّ - يقصد بها نفسه - سَتَرَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِأَمْرِهِ إِلَى غَايَةٍ، وَأَخْفَى مَكَانَهُ بِمَشِيئَتِهِ لِلْقَضَاءِ اَلسَّابِقِ وَاَلْقَدَرِ اَلنَّافِذِ، وَفِينَا مَوْضِعُهُ، وَلَنَا فَضْلُهُ، وَلَوْ قَدْ أَذِنَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيمَا
قَدْ مَنَعَهُ عَنْهُ وَأَزَالَ عَنْهُ مَا قَدْ جَرَى بِهِ مِنْ حُكْمِهِ، لَأَرَاهُمُ اَلْحَقَّ ظَاهِراً بِأَحْسَنِ حِلْيَةٍ وَأَبْيَنِ دَلَالَةٍ وَأَوْضَحِ عَلَامَةٍ، وَلَأَبَانَ عَنْ نَفْسِهِ، وَقَامَ بِحُجَّتِهِ، وَلَكِنَّ أَقْدَارَ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) لَا تُغَالَبُ، وَإِرَادَتَهُ لَا تُرَدُّ، وَتَوْفِيقَهُ لَا يُسْبَقُ، فَلْيَدَعُوا عَنْهُمُ اِتِّبَاعَ اَلْهَوَى، وَلْيُقِيمُوا عَلَى أَصْلِهِمُ اَلَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَا يَبْحَثُوا عَمَّا سُتِرَ عَنْهُمْ فَيَأْثَمُوا، وَلَا يَكْشِفُوا سَتْرَ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) فَيَنْدَمُوا، وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ مَعَنَا وَفِينَا، لَا يَقُولُ ذَلِكَ سِوَانَا إِلَّا كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا يَدَّعِيهِ غَيْرُنَا إِلَّا ضَالٌّ غَوِيٌّ، فَلْيَقْتَصِرُوا مِنَّا عَلَى هَذِهِ اَلْجُمْلَةِ دُونَ اَلتَّفْسِيرِ، وَيَقْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ بِالتَّعْرِيضِ دُونَ اَلتَّصْرِيحِ إِنْ شَاءَ اَللهُ»(242).
التوقيع الثاني: في من ارتاب في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
روى الطوسي والطبرسي (رحمهما الله) وغيرهما: عن الشيخ الموثوق أبي عمرو العمري (رحمه الله)، قال: تَشَاجَرَ اِبْنُ أَبِي غَانِمٍ اَلْقَزْوِينِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ اَلشِّيعَةِ فِي اَلْخَلَفِ (عليه السلام)، فَذَكَرَ اِبْنُ أَبِي غَانِمٍ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ - العسكري - (عليه السلام) مَضَى وَلَا خَلَفَ لَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَتَبُوا فِي ذَلِكَ كِتَاباً وَأَنْفَذُوهُ إِلَى اَلنَّاحِيَةِ (عليه السلام)، وَأَعْلَمُوهُ بِمَا تَشَاجَرُوا فِيهِ، فَوَرَدَ جَوَابُ كِتَابِهِمْ بِخَطِّهِ (عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ اَلسَّلاَمُ): «بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، عَافَانَا اَللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ اَلضَّلَالَةِ وَاَلْفِتَنِ، وَوَهَبَ لَنَا وَلَكُمْ رُوحَ اَلْيَقِينِ، وَأَجَارَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنْ سُوءِ اَلمُنْقَلَبِ، إِنَّهُ أُنْهِيَ إِلَيَّ اِرْتِيَابُ جَمَاعَةٍ مِنْكُمْ فِي اَلدِّينِ، وَمَا دَخَلَهُمْ مِنَ اَلشَّكِّ وَاَلْحَيْرَةِ فِي وُلَاةِ أُمُورِهِمْ، فَغَمَّنَا ذَلِكَ لَكُمْ لَا لَنَا، وَسَاءَنَا فِيكُمْ لَا فِينَا، لِأَنَّ اَللهَ مَعَنَا، وَلَا فَاقَةَ بِنَا إِلَى غَيْرِهِ، وَاَلْحَقُّ مَعَنَا فَلَنْ يُوحِشَنَا مَنْ قَعَدَ عَنَّا...» إلخ(243)، وهو خبر طويل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(242) كمال الدِّين (ص 510 و511/ باب 45/ ح 42)، عنه بحار الأنوار (ج 53/ ص 190 و191/ ح 19).
(243) الغيبة للطوسي (ص 285 - 287/ ح 245)، الاحتجاج (ج 2/ ص 277 - 279)، عنه بحار الأنوار (ج 53/ ص 178 - 180/ ح 9).
التوقيع الثالث: تكذيبه لجعفر في ادِّعائه الإمامة:
روى الطوسي والطبرسي (رحمهما الله) بإسنادهما عن أحمد بن إسحاق الأشعري (رحمه الله) أنَّه جاءه بعض أصحابنا يُعلِمه أنَّ جعفر بن عليٍّ - عمّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - كتب إليه كتاباً يُعرِّفه فيه نفسه، ويُعلِمه أنَّه القيِّم بعد أخيه، وأنَّ عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه وغير ذلك من العلوم كلِّها.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَرَأْتُ اَلْكِتَابَ كَتَبْتُ إِلَى صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) وَصَيَّرْتُ كِتَابَ جَعْفَرٍ فِي دَرْجِهِ، فَخَرَجَ اَلْجَوَابُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ - عن طريق سفيره عثمان بن سعيد العمري (رحمه الله) -: «بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، أَتَانِي كِتَابُكَ أَبْقَاكَ اَللهُ، وَاَلْكِتَابُ اَلَّذِي أَنْفَذْتَهُ دَرْجَهُ، وَأَحَاطَتْ مَعْرِفَتِي بِجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ عَلَى اِخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ وَتَكَرُّرِ اَلْخَطَإِ فِيهِ، وَلَوْ تَدَبَّرْتَهُ لَوَقَفْتَ عَلَى بَعْضِ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْهُ...» إلخ(244)، وهو خبر طويل.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(244) الغيبة للطوسي (ص 287 - 290/ ح 246)، الاحتجاج (ج 2/ ص 279 - 281).
المبحث الرابع: المعجزات التي ظهرت من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يدي عثمان بن سعيد العمري:
المعجزة هي المعيار الذي يُعرَف به الصدق، والبرهان الذي يُحتَجُّ به للحقِّ، والمحكُّ الذي يمتاز به الخالص من المشوب، والأصل الثابت الذي يحقُّ أنْ يستند إليه لعرفان الحقِّ وإثبات الحقيقة، والوثيقة الوحيدة لمعرفة حقيقة دعوى المدَّعي، والمعيار المعتمد الدقيق لتمييز النبيِّ من المتنبِّي.
وهو عمل يجري على خلاف مجاري العادة عقيب التحدِّي، ولا يختصُّ هذا بالأنبياء، فلا يمتنع أنْ يُظهرها الله تعالى على يدي من يدَّعي الإمامة ليدلَّ بها على عصمته ووجوب طاعته.
وقد ظنَّ الخصوم أنَّها مختصَّة بالأنبياء، لأنَّها تدلُّ على النبوَّة من جهة الإبانة، فقد استحال ظهورها على من ليس بنبيٍّ.
أقول: وليس فيما ذكروه ما يوجب كون المعجزة دالَّة على الإبانة، وأمَّا وجوب حصولها وظهورها على يد النبيِّ ومخالفتها في ذلك لسائر الأدلَّة، فليس بمقتضٍ لما ذكروه، وإذا جاز إظهارها على يد المعصوم فإنَّه يجوز إظهارها على يد السفراء والأصحاب، لعدم منع العقل والكتاب والسُّنَّة من ذلك، وموافقة أكثر الفِرَق لهذا الاعتقاد(245).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(245) أوائل المقالات (ص 176)، تلخيص الشافي (ج 1/ ص 144).
فقد ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) طرفاً من الأخبار الدالَّة على إمامة ابن الحسن العسكري (عليه السلام)، وثبوت غيبته، ووجود عينه عن طريق السفراء، وقال بأنَّها أخبار تضمَّنت الإخبار بالغائبات وبالشيء قبل كونه على وجه خارق للعادة، لا يعلم ذلك إلَّا من أعلمه الله على لسان نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ووصل إليه من جهة من دلَّ الدليل على صدقه، ولولا صدقهم لما كان كذلك(246).
ثمّ أضاف: إنَّ ظهور المعجزات على أيديهم دليل واضح على إمامة من انتموا إليه(247).
ونُلخِّص بعض ما ظهر من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من المعجزات على يدي سفيره عثمان بن سعيد العمري:
أوَّلاً: الإخبار عن أُمور الغيبة:
عن مُحَمَّدِ بْنُ عَلِيٍّ اَلْأَسْوَدِ (رضي الله عنه)، قَالَ: دَفَعَتْ إِلَيَّ اِمْرَأَةٌ سَنَةً مِنَ اَلسِّنِينَ ثَوْباً وَقَالَتْ: اِحْمِلْهُ إِلَى اَلْعَمْرِيِّ - عثمان بن سعيد - (رضي الله عنه)، فَحَمَلْتُهُ مَعَ ثِيَابٍ كَثِيرَةٍ، فَلَمَّا وَافَيْتُ بَغْدَادَ أَمَرَنِي بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ اَلْقُمِّيِّ، فَسَلَّمْتُهُ ذَلِكَ كُلَّهُ مَا خَلَا ثَوْبَ اَلمَرْأَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيَّ اَلْعَمْرِيُّ (رضي الله عنه) وَقَالَ: ثَوْبُ اَلمَرْأَةِ سَلِّمْهُ إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ اَلمَرْأَةَ سَلَّمَتْ إِلَيَّ ثَوْباً، وَطَلَبْتُهُ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَقَالَ لِي: لَا تَغْتَمَّ، فَإِنَّكَ سَتَجِدُهُ، فَوَجَدْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ اَلْعَمْرِيِّ (رضي الله عنه) نُسْخَةُ مَا كَانَ مَعِي(248).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(246) الغيبة للطوسي (ص 326 و327).
(247) الغيبة للطوسي (ص 415).
(248) كمال الدِّين (ص 502/ باب 45/ ح 30)، عنه إثبات الهداة (ج 5/ ص 305/ ح 75)، وبحار الأنوار (ج 51/ ص 335/ ح 60).
ثانياً: علمه بموت المصري في مكَّة:
عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ عِيسَى، قَالَ: لَـمَّا مَضَى أَبُو مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) وَرَدَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ بِمَالٍ إِلَى مَكَّةَ لِصَاحِبِ اَلْأَمْرِ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُ اَلنَّاسِ: إِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ مَضَى مِنْ غَيْرِ خَلَفٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: اَلْخَلَفُ مِنْ بَعْدِهِ جَعْفَرٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: اَلْخَلَفُ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ، فَبَعَثَ رَجُلاً يُكَنَّى أَبَا طَالِبٍ إِلَى اَلْعَسْكَرِ يَبْحَثُ عَنِ اَلْأَمْرِ وَصِحَّتِهِ وَمَعَهُ كِتَابٌ، فَصَارَ اَلرَّجُلُ إِلَى جَعْفَرٍ وَسَأَلَهُ عَنْ بُرْهَانٍ، فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: لَا يَتَهَيَّأُ لِي فِي هَذَا اَلْوَقْتِ، فَصَارَ اَلرَّجُلُ إِلَى اَلْبَابِ، وَأَنْفَذَ اَلْكِتَابَ إِلَى أَصْحَابِنَا اَلمَوْسُومِينَ بِالسِّفَارَةِ - عثمان بن سعيد العمري -، فَخَرَجَ إِلَيْهِ: «آجَرَكَ اَللهُ فِي صَاحِبِكَ فَقَدْ مَاتَ، وَأَوْصَى بِالمَالِ اَلَّذِي كَانَ مَعَهُ إِلَى ثِقَةٍ يَعْمَلُ فِيهِ بِمَا يَجِبُ»، وَأُجِيبَ عَنْ كِتَابِهِ، وَكَانَ اَلْأَمْرُ كَمَا قِيلَ لَهُ(249).
ثالثاً: إثبات صحَّة سفارته عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
حَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَهْزِيَارَ، قَالَ: إِنَّ أَبِي لَـمَّا حَضَرَتْهُ اَلْوَفَاةُ دَفَعَ إِلَيَّ مَالاً وَأَعْطَانِي عَلَامَةً، وَلَمْ يَعْلَمْ بِتِلْكَ اَلْعَلَامَةِ أَحَدٌ إِلَّا اَللهُ (عزَّ وجلَّ)، وَقَالَ: مَنْ أَتَاكَ بِهَذِهِ اَلْعَلَامَةِ فَادْفَعْ إِلَيْهِ اَلمَالَ، فَخَرَجْتُ إِلَى بَغْدَادَ وَنَزَلْتُ فِي خَانٍ، فَلَمَّا كَانَ اَلْيَوْمُ اَلثَّانِي إِذْ جَاءَ شَيْخٌ وَدَقَّ اَلْبَابَ...، إلى أنْ قال: فَدَخَلَ وَجَلَسَ، فَقَالَ: أَنَا اَلْعَمْرِيُّ - عثمان بن سعيد -، هَاتِ اَلمَالَ اَلَّذِي عِنْدَكَ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا، وَمَعَهُ اَلْعَلَامَةُ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ اَلمَالَ(250).
رابعاً: قضيَّة مدهشة للعقول:
وعن إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: سَمِعْتُ اَلشَّيْخَ اَلْعَمْرِيَّ - عثمان بن سعيد -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(249) الإرشاد (ج 2/ ص 364 و365)، عنه بحار الأنوار (ج 51/ ص 299/ ح 16).
(250) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 813/ ح 1015).
يَقُولُ: صَحِبْتُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ اَلسَّوَادِ وَمَعَهُ مَالٌ لِلْغَرِيمِ (عليه السلام)، فَأَنْفَذَهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُ: «أَخْرِجْ حَقَّ وُلْدِ عَمِّكَ مِنْهُ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ»، فَبَقِيَ اَلرَّجُلُ مُتَحَيِّراً بَاهِتاً مُتَعَجِّباً، وَنَظَرَ فِي حِسَابِ اَلمَالِ، وَكَانَتْ فِي يَدِهِ ضَيْعَةٌ لِوُلْدِ عَمِّهِ قَدْ كَانَ رَدَّ عَلَيْهِمْ بَعْضَهَا، وَزَوَى عَنْهُمْ بَعْضَهَا، فَإِذَا اَلَّذِي نَضَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ اَلمَالِ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ كَمَا قَالَ (عليه السلام)، فَأَخْرَجَهُ وَأَنْفَذَ اَلْبَاقِيَ، فَقَبِلَ(251).
وكذا قصَّته مع الزهري الذي طلب هذا الأمر طلباً شديداً وشاقًّا حتَّى ذهب له فيه مال صالح، فوقف إلى عثمان بن سعيد العمري، وخدمه ولزمه، وسأله بعد ذلك عن صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)... الخبر(252).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(251) كمال الدِّين (ص 486/ باب 45/ ح 6)، عنه إثبات الهداة (ج 5/ ص 300/ ح 44)، وبحار الأنوار (ج 51/ ص 326/ ح 45).
(252) الغيبة للطوسي (ص 271/ ح 236).
المبحث الخامس: وفاة عثمان بن سعيد العمري وبرقيَّة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بالمواساة:
حظي عثمان بن سعيد العمري بالسفارة العظمى خمس سنوات عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد نهل فيها علومه من معين الإمامة وحجور الولاية، وتثقَّف بوارف النبوَّة، واستضاء من نور تلك المشكوات الزاهرات والبحار الزاخرات المتلاطمة أمواجها بالحكميَّات الربَّانيَّة والعلوم المقدَّسة الإلهيَّة.
فكان العمري رشحة من رشحات الأئمَّة (عليهم السلام)، وممثلاً لخلافة المهدي(عجَّل الله فرجه) الظاهريَّة والباطنيَّة حتَّى ختم صفحة تاريخه المشرق عام (265هـ)(253) وبعد خمسة أعوام قضاها في السفارة، ولم يتعدَّ خلافة المعتمد العبَّاسي، وقد بلغ عمره الشريف اثنين وأربعين عاماً، وعمر إمامه المهدي (عجَّل الله فرجه) آنذاك تسع سنوات.
وقام ابنه محمّد بن عثمان العمري بتغسيل أبيه وتكفينه والصلاة عليه(254)، وشُيِّع جثمانه بقلوب ملؤها الأسى، ثمّ حُمِلَ إلى مثواه الأخير حيث دُفِنَ في الجانب الغربي من مدينة السلام، في شارع الميدان، في أوَّل الموضع المعروف بدرب جبلة في مسجد الدرب يمنة الداخل إليه، والقبر في نفس قبلة المسجد(255)، قال الشيخ الطوسي (رحمه الله): رأيت قبره في نفس الموضع الذي ذكره هبة الله، وكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(253) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 404).
(254) الغيبة للطوسي (ص 356/ ح 318).
(255) الغيبة للطوسي (ص 358/ ح 320).
بُني في وجهه حائط، وبه محراب المسجد، وإلى جنبه باب يدخل إلى موضع القبر في بيت ضيِّق مظلم، فكنَّا ندخل إليه ونزوره مشاهرةً.
قال: وكذلك من وقت دخولي إلى بغداد، وهي سنة ثمان وأربعمائة إلى سنة نيِّف وثلاثين وأربعمائة، ثمّ نقض ذلك الحائط الرئيس أبو جعفر منصور محمّد ابن الفرج، وأبرز القبر إلى برٍّ - أي إلى الخارج -، وعمل عليه صندوقاً، وهو تحت السقف يدخل إليه من أراده ويزوره.
قال الطوسي (رحمه الله): ويتبرَّك جيران المحلَّة بزيارته ويقولون: هو رجل صالح، وربَّما قالوا: هو ابن داية الحسين (عليه السلام)، ولا يعرفون حقيقة الحال فيه، وهو إلى يومنا هذا - وذلك سنة سبع وأربعين وأربعمائة - على ما هو عليه(256).
وقبره الآن مشيَّد معروف ببغداد يُزار ويُتبرَك به(257).
وقد روى العلَّامة المجلسي (رحمه الله) زيارة له فقال: وَجَدْتُ فِي بَعْضِ اَلنُّسَخِ اَلْقَدِيمَةِ مِنْ مُؤَلَّفَاتِ أَصْحَابِنَا زِيَارَةَ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيِّ اَلْأَسَدِيِّ، وهي: «اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا اَلْعَبْدُ اَلصَّالِحُ، اَلنَّاصِحُ لِلهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ...» إلخ(258).
وخرجت برقيَّة تعزية من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إلى ابنه محمّد بن عثمان يواسيه فيها بأبيه، ويُعبِّر فيها عن حزنه العميق لفقدانه، وكانت إعلاناً له بالسفارة عنه (عجَّل الله فرجه) بعد أبيه عثمان بن سعيد، وكانت برقيَّته تشتمل على فصلين:
فقد جاء في الفصل الأوَّل من هذه البرقيَّة: «بسم الله الرحمن الرحيم، إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، تَسْلِيماً لِأَمْرِهِ، وَرِضَاءً لِقَضَائِهِ، عَاشَ أَبُوكَ سَعِيداً وَمَاتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(256) الغيبة للطوسي (ص 358).
(257) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 401).
(258) بحار الأنوار (ج 99/ ص 292 و293).
حَمِيداً، فَرَحِمَهُ اَللهُ وَأَلْحَقَهُ بِأَوْلِيَائِهِ وَمَوَالِيهِ (عليهم السلام)، فَلَمْ يَزَلْ مُجْتَهِداً فِي أَمْرِهِمْ، سَاعِياً فِيمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اَللهِ وَإِلَيْهِمْ، نَضَّرَ اَللهُ وَجْهَهُ وَأَقَالَ عَثْرَتَهُ».
وجاء في الفصل الثاني من البرقيَّة: «أَجْزَلَ اَللهُ لَكَ اَلثَّوَابَ، وَأَحْسَنَ لَكَ اَلْعَزَاءَ، رُزِئْتَ وَرُزِئْنَا، وَأَوْحَشَكَ فِرَاقُهُ وَأَوْحَشَنَا، فَسَرَّهُ اَللهُ فِي مُنْقَلَبِهِ، وَكَانَ مِنْ كَمَالِ سَعَادَتِهِ أَنْ رَزَقَهُ اَللهُ تَعَالَى وَلَداً مِثْلَكَ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ بِأَمْرِهِ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَأَقُولُ: اَلْحَمْدُ لِلهِ، فَإِنَّ اَلْأَنْفُسَ طَيِّبَةٌ بِمَكَانِكَ، وَمَا جَعَلَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيكَ وَعِنْدَكَ، أَعَانَكَ اَللهُ وَقَوَّاكَ وَعَضَدَكَ وَوَفَّقَكَ، وَكَانَ اَللهُ لَكَ وَلِيًّا وَحَافِظاً، وَرَاعِياً وَكَافِياً»(259).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(259) كمال الدِّين (ص 510/ باب 45/ ح 41)، الغيبة للطوسي (ص 361/ ح 323).
المبحث الأوَّل: محمّد بن عثمان العمري في الميزان:
ثمّ ابن عثمان وكيل عمري * * * وفاته قدر صحيح الخبر
وثاني السفراء قد أوصى إلى * * * حسين بن روح حيث ما ابتلا(260)
وهو محمّد بن عثمان بن سعيد العمري، كنيته: أبو جعفر، ويُلقَّب بالعمري والعسكري والأسدي والسمَّان، أثنى عليه المخالف والموافق، فقد ذكر الجهضمي برواية رجال الأربعة المذاهب حال السفراء وكذا اسمه وأنَّه كان وكيلاً للإمام المهدي (عليهم السلام)، وأمره أشهر من أنْ يحتاج إلى الإطالة(261).
وأخرج الكيدري (رحمه الله) توقيعاً خرج من صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) للعمري - أبي جعفر - وفيه وصايا أوجبت عليه الثبوت على إمامته(262).
وقال ابن الأثير بعد ترجمته: إنَّه رئيس الإماميَّة، والباب إلى المنتظَر، وأوصى إلى أبي القاسم ابن روح(263).
وقال أبو الفداء مثله في (المختصر)(264)، والمسعودي في (إثبات الوصيَّة)، وابن الصبَّاغ المالكي في (الفصول المهمَّة)(265).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(260) بهجة الآمال (ج 6/ ص 484).
(261) الطرائف (ص 184).
(262) الصراط المستقيم (ج 2/ ص 235).
(263) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 109).
(264) تاريخ أبي الفداء (ج 2/ ص 69).
(265) الفصول المهمَّة لابن الصبَّاغ (ج 2/ ص 1106).
أمَّا علماء الشيعة فقد أجمعوا عليه، وتقدَّم ذكر عبارات القدماء في حقِّ السفراء وهو من بينهم.
قال المفيد (رحمه الله): إنَّه من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)، وممَّن شاهد الخلف في حياته، وكان من أصحابه وخاصَّته بعد وفاته، وكان أهل عقل وأمانة، وثقة ظاهرة ودراية، وفهم وتحصيل ونباهة، وكانت أخبار المهدي (عجَّل الله فرجه) واصلة من جهته مدَّة من الزمن إلى الشيعة، وهو ممَّن يُوثَق بقوله ويُرجَع إليه لدينه وأمانته، وممَّن اختصَّ به من الدِّين والنزاهة(266).
وقال الطوسي (رحمه الله) بأنَّه وكيل من جهة الصاحب، وله منزلة جليلة عند الطائفة(267).
وأمَّا الطبرسي (رحمه الله) فإنَّه عدَّه من الأبواب المرضيِّين والسفراء الممدوحين في زمان الغيبة، فقام مقام أبيه، وناب منابه في جميع ذلك، ولم يقم في أمر السفارة إلَّا بنصٍّ من قِبَل صاحب الزمان (عليه السلام) عليه، ونصب صاحبه الذي تقدَّم عليه، ولم تقبل الشيعة قوله إلَّا بعد أنْ ظهرت آية معجزة على يديه من قِبَل صاحب الأمر (عليه السلام) تدلُّ على صدق مقالته وصحَّة بابيَّته(268).
وقال الأردبيلي (رحمه الله) بأنَّه ممَّا لا تختلف الإماميَّة القائلون بإمامة الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) فيه.
وقال العلَّامة الحلِّي (رحمه الله): الأسدي أبو جعفر، وكيل في خدمة صاحب الزمان (عليه السلام)، وله منزلة جليلة عند هذه الطائفة(269).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(266) الفصول العشرة (ص 78 - 82).
(267) رجال الطوسي (ص 447/ الرقم 6351/101).
(268) الاحتجاج (ج 2/ ص 296 و297).
(269) خلاصة الأقوال (ص 250 و251/ الرقم 58).
أمَّا علماؤنا المتأخِّرون فقد أثنوا عليه وبالغوا في مدحه، قال السيِّد حسن الصدر (رحمه الله): إنَّه من ولد عمَّار بن ياسر، وإنَّه من أولياء الله الصالحين، وعباده المخلصين، عالم بالله وبأحكامه، تشرق عليه أنوار الملكوت، جالس على كرسي الاستقامة، لا نظير له في عصره في العلوم والمعارف، وإنَّه حجَّة المولى على الشيعة، وعلى يده ظهرت الكرامات(270).
وقال عنه القمِّي (رحمه الله): إنَّه باب الهادي (عليه السلام) ووكيل الناحية المقدَّسة (عليه السلام) في خمسين عاماً، الذي ظهر على يده من طرف المأمول المنتظَر (عليه السلام) معاجز كثيرة، وفضائله أشهر من أنْ تُذكر(271).
أمَّا المامقاني (رحمه الله) فقد قال: إنَّ جلالة شأن هذا الرجل وعلوَّ قدره ومنزلته في الإماميَّة أشهر من أنْ يحتاج إلى بيان وإقامة برهان، وقد مرَّ في أبيه ما ينصُّ على وكالته حتَّى في حياة أبيه عن مولانا العسكري (عليه السلام) وسفارته عن الحجَّة (عجَّل الله فرجه) ووثاقته وأمانته وعدالته وإجماع الشيعة على ذلك(272).
وقال السيِّد الخوئي (رحمه الله) أيضاً بأنَّ الروايات في جلالة وعظمة مقامه متضافرة(273).
أمَّا منزلته في الأمَّة الإسلاميَّة:
فقد نجح محمّد بن عثمان العمري في تحصيل اعتماد الأُمَّة الإسلاميَّة، وحصل على مرتبة جليلة بين علمائها وفصائلها، قال هبة الله نقلاً عن شيوخه وعلماء الأئمَّة بأنَّهم مجتمعون على عدالته ووثاقته وأمانته، لما تقدَّم من النصِّ عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(270) تأسيس الشيعة (ص 411).
(271) سفينة البحار (ج 2/ ص 404).
(272) تنقيح المقال (ج 3/ ص 149).
(273) معجم رجال الحديث (ج 17/ ص 294/ الرقم 11247).
بالأمانة والعدالة، ولا يعرفون في هذا الأمر غيره، ولا يرجعون إلى أحد سواه، بل لا يُختلَف في عدالته، ولا يُرتاب بأمانته(274).
وكان هذا السفير يُخرج لهم التوقيعات من الإمام (عجَّل الله فرجه) بنفس الخطِّ الذي كان يخرج في حياة الحسن (عليه السلام) بالمهمَّات في أمر الدِّين والدنيا، وفيما يسألونه من المسائل بالأجوبة العجيبة(275).
وكان كأبيه يستلم الأموال الضخمة التي تأتيه من الأقطار الإسلاميَّة(276).
وهو دليل على تسالم الأُمَّة الإسلاميَّة عليه، وعظمته وجلالته فيها، لا كما تزعم بعض الأفكار المشبوهة.
لقد دعاه هذا الأمر وهو وصول تلك الأموال التي لا تحصل إلَّا للملوك والأُمراء إلى أنْ يُعيِّن له عشرة أنفس من ثقاته في بغداد ليسهموا معه في أمر السفارة(277)، وكان من بينهم الحسين بن روح النوبختي الذي عيَّنه العمري قائماً على أملاكه وضبطها(278)، والبلالي وحاجز والعطَّار وغيرهم على قبض الأنفال والأخماس(279)، والشلمغاني على إخراج التوقيعات من قِبَله(280)، والحسين بن عليٍّ الأسود على الوقوفات(281)، كلُّ ذلك ليتمَّ عبر خطَّة مبرمجة وأُسلوب منتظم، وليتمَّ ذلك الأمر في غاية السرّيَّة والكتمان والحذر الشديد من مغبَّة الوقوع في مخالب السلطات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(274) الغيبة للطوسي (ص 362 و363/ ح 327).
(275) الغيبة للطوسي (ص 366/ ح 334).
(276) كمال الدِّين (ص 501 و502/ باب 45/ ح 28)، الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 338).
(277) الغيبة للطوسي (ص 368 و369/ ح 336).
(278) الغيبة للطوسي (ص 372/ ح 343).
(279) راجع: الغيبة للطوسي (ص 400/ ح 375، وص 415/ ح 392).
(280) الغيبة للطوسي (ص 302 - 304/ ح 256).
(281) الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 338).
وقد كانت الأموال تُسلَّم إليه بطريق غامض ومغلَّف بالسرّيَّة، وذلك بدلالة السفير نفسه، فقد روى الطبري (رحمه الله): وصول مبلغ ستَّة عشر ألف دينار من أهالي دينور، سلَّمها الدينوري لوكيل الإمام (عجَّل الله فرجه) بدلالة الوصف(282).
فكان منهم من يطالب بالوصولات من السفير، ومنهم ممَّن لا يطالبه، ومنهم ممَّن لا يُسلِّمه شيئاً إلَّا بعد معرفة كرامة أو معجزة من الإمام (عجَّل الله فرجه) تظهر على يديه.
وكان يتمُّ تسليم الوصولات لأرباب الأموال لفترة قصيرة نسبيًّا وهي فترة خلافة المعتضد العبَّاسي عام (279هـ)، أي بعد تسعة عشر عاماً من بدايتها، ثمّ انقطع التسليم، فقد روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن المدائني، قال: كَانَ مِنْ رَسْمِي إِذَا حَمَلْتُ اَلمَالَ اَلَّذِي فِي يَدِي إِلَى اَلشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ (قدس سره) أَنْ أَقُولَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَسْتَقْبِلُهُ بِمِثْلِهِ: هَذَا اَلمَالُ وَمَبْلَغُهُ كَذَا وَكَذَا لِلْإِمَامِ (عليه السلام)، فَيَقُولُ لِي: نَعَمْ دَعْهُ، فَأُرَاجِعُهُ فَأَقُولُ لَهُ - مرَّةً أُخرى -: تَقُولُ لِي: إِنَّهُ لِلْإِمَامِ؟! فَيَقُولُ: نَعَمْ لِلْإِمَامِ (عليه السلام)، فَيَقْبِضُهُ(283)، ثمّ يُسلِّم الوصول به.
وبعد مضيِّ فترة من سفارته طولب وكيله ابن روح النوبختي بدفع الوصولات، فشكا ذلك إلى أبي جعفر العمري، فأمر أصحابه أنْ لا يطالبوه بالقبوضات، وقال: كلُّ ما وصل إلى أبي القاسم فقد وصل إليَّ، فصارت تُحمَل إليه الأموال، ولا يُطالَب بالقبوض(284)، بسبب صعوبة الوقت أيَّام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(282) دلائل الإمامة (ص 519 - 524/ ح 493/97).
(283) الغيبة للطوسي (ص 367/ ح 335).
(284) الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 338).
المعتضد حيث كان السيف يقطر دماً(285)، وكانت تلك الفترة مليئة بالظلم وسفك الدماء(286) كما سيأتي بيانه.
فكان أبو جعفر العمري يسافر بين الحين والحين وهو في زيِّ التُّجَّار للتغطية على أمره، وكان يستلم الأموال بصفته تاجراً لا بصفته سفيراً، ويقول للرجل: امضِ إلى موضع كذا فسلِّم ما معك، من دون أنْ يشعر بشيء، ولا يدفع إليه كتاباً لئلَّا تطَّلع عليه السلطات(287).
وكان الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حريصاً على مطالبته بالأموال والأخماس والزكوات والأنفال التي تصل إلى سفيره ووكلائه في الأقطار الإسلاميَّة، ولا يجوز لهم التخلُّف أو التقصير، فقد خرج توقيع منه (عجَّل الله فرجه) ابتداءً من غير مسألة لسفيره محمّد بن عثمان العمري، قائلاً: «بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، لَعْنَةُ اَللهِ وَاَلمَلَائِكَةِ وَاَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ عَلَى مَنِ اِسْتَحَلَّ مِنْ أَمْوَالِنَا دِرْهَماً»(288)، وجاء في توقيع آخر: «وَأَمَّا اَلمُتَلَبِّسُونَ بِأَمْوَالِنَا فَمَنِ اِسْتَحَلَّ مِنْهَا شَيْئاً فَأَكَلَهُ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ اَلنِّيرَانَ»(289)، وفي توقيعٍ ثالث: «وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ مَنْ يَسْتَحِلُّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِنَا وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِنَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ مَلْعُونٌ، وَنَحْنُ خُصَمَاؤُهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَقَدْ قَالَ اَلنَّبِيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اَلمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي مَا حَرَّمَ اَللهُ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِي وَلِسَانِ كُلِّ نَبِيٍّ مُجَاب، فَمَنْ ظَلَمَنَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ اَلظَّالِمِينَ، وَكَانَتْ لَعْنَةُ اَللهِ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18]»(290).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(285) الغيبة للطوسي (ص 296/ ح 249).
(286) عقيدة الشيعة (ص 257).
(287) الغيبة للطوسي (ص 295 و296/ ح 249).
(288) الاحتجاج (ج 2/ ص 300).
(289) الاحتجاج (ج 2/ ص 283).
(290) الاحتجاج (ج 2/ ص 299).
أمَّا منزلته عند الإمام الهادي (عليه السلام):
لقد ذكرنا أنَّ الإمام الهادي (عليه السلام) كان قد طبَّق على نفسه سياسة الاحتجاب إلَّا عن عدد يسير من خواصِّه، حتَّى تألف الأُمَّة الأُسلوب لا يتنكَّر الغيبة، وتجري العادة بالاحتجاب والاستتار(291).
وكلُّ هذه الأساليب التي استخدمها الإمام (عليه السلام) إنَّما كان بسبب المضايقات وحملات التفتيش والملاحقة لأنصار الإمام (عليه السلام) من قِبَل السلطات الحاكمة التي كانت تستخدم شتَّى الأساليب كما فعل الخلفاء من قبل ضدَّ الأئمَّة وأنصارهم ومؤيِّديهم.
فقد ذكر الطوسي (رحمه الله) بأنَّه لم تلقَ فرقة وبُلي أهل مذهب بما بُليت به الشيعة من التتبُّع والقصد وظهور كلمة أهل الخلاف، حتَّى إنَّا لا نكاد نعرف زماناً تقدَّم سلمت فيه الشيعة من الخوف ولزوم التقيَّة، ولا حالاً عريت فيه من قصد السلطان وعصبيَّته وميله وانحرافه(292).
وأكَّد أحمد أمين المصري هذا المعنى بقوله: إنَّ التقيَّة عند الشيعة جزء مكمِّل لتعاليمهم، تواصوا به، وعدَّوه مبدءاً أساسيًّا من حياتهم(293).
وكان هذا هو السبب في أنْ يُشكِّل تاريخ أهل السُّنَّة وتراجمهم وأحاديثهم القسم الأعظم من تاريخنا الإسلامي دون التاريخ الشيعي الإمامي الذي كان يعاني من ظلم الحُكَّام وجورهم، فحدث لهم ممَّا لم يحدث إلَّا في حروب التتار والمغول والصليبيِّين، ولم ينجُ من بطش الخلفاء حتَّى ممَّن لم يكونوا على مذهب الشيعة بسبب روايتهم حديثاً عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الأئمَّة (عليهم السلام)!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(291) إثبات الوصيَّة (ص 272).
(292) تلخيص الشافي (ج 2/ ص 59).
(293) ضحى الإسلام (ج 3/ ص 247).
فمثلاً يُضرَب نصر بن عليٍّ الجهضمي ألف سوط لأنَّه حدَّث بحديث عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحسن والحسين قوله: «مَنْ أَحَبَّنِي وَأَحَبَّ هَذَيْنِ وَأَبَاهُمَا وَأُمَّهُمَا كَانَ مَعِي فِي دَرَجَتِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ»، فكلَّم جعفر بن عبد الواحد الخليفة المتوكِّل العبَّاسي بأنَّ نصراً لم يكن شيعيًّا وإنَّما هو من أهل السُّنَّة، فضُرِبَ خمسمائة سوط وعُفِيَ عن الباقي(294).
وهكذا أيضاً يُضرَب مالك - مؤسِّس المذهب المالكي في عصر الصادق (عليه السلام) - بسياط المنصور بعد معرفة نوايا الخليفة من معارضة مذهب الإماميَّة، فقال: لا تفعل، أمَّا هذا الصقع فقد كفيتكه، وأمَّا الشام ففيه الرجل الذي علمته - أي الأوزاعي -، وأمَّا أهل العراق فهم أهل العراق(295).
ولم يُستثنَ أصحاب الأئمَّة عن أساليب الحُكَّام وتعسُّفهم، حتَّى أخذت تطاردهم، وبثَّت الجواسيس حولهم لاقتناص أخبارهم، وتعذيبهم بألوان العذاب، وزجِّهم في السجون.
وبقي الإمام الهادي (عجَّل الله فرجه) وأصحابه يقفون أمام تيَّارات الانحراف القائمة في السلطة والأُمَّة، ومواجهة الإلحاد.
فقد حدَّثنا التاريخ أنَّ أصحاب الإمام الهادي (عليه السلام) وهو في سياسة الاحتجاب التي فرضها على نفسه كانوا قد بلغوا المائة والثمانين رجلاً(296).
وهذا عدد ضخم بالنسبة للأوضاع التي كان يعيشها الإمام الهادي (عليه السلام) آنذاك، وقد اعتمد الإمام (عليه السلام) على محمّد بن عثمان العمري في أُموره ونهضته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(294) تاريخ بغداد (ج 13/ ص 289).
(295) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة (ج 1/ ص 237).
(296) رجال الطوسي (ص 381 - 394/ باب أصحاب الهادي (عليه السلام)/ الرقم 5630/1 - 5814/1)، رجال البرقي (ص 57 - 60)، مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 506).
الإصلاحيَّة، فقرَّبه إليه وجعله باباً له في علومه وغوامض أسراره(297)، وشارك أباه في مواجهة الانحراف(298)، وصار وكيلاً خاصًّا للإمام الهادي (عليه السلام) لما امتلكه من أمانة ودراية وفهم(299).
أمَّا منزلته عند الإمام العسكري (عليه السلام):
لقد أفضى الأمر بالإمام العسكري (عليه السلام) بأنْ يتكلَّم من وراء الستار مع الخواصِّ وغيرهم إلَّا في الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان(300).
وقد قام الإمام (عليه السلام) بتقليص عدد أصحابه لخضوعه للرقابة الشديدة من قِبَل السلطات(301).
وأنْ يُكثِّف في اختفائه عن الساحة السياسيَّة والاجتماعيَّة، فقد كان المجتمع خليطاً غير متجانس من الإنسان المتسافل روحيًّا، والمشدود إلى مصالحه وخدمة ذاته والسير وراء رغباته وميوله، والمنحرف عن التعاليم الإسلاميَّة بلا فرق بين طبقة وأُخرى ولون وآخر، مستثنين في ذلك قادة الفكر والحركة الإصلاحيَّة والنموذج الرسالي الواعي.
وبدأ محمّد بن عثمان العمري تلك النهضة مع إمامه (عليه السلام)، فأوكل له (عليه السلام) مهمَّة البابيَّة عنه(302)، وجعله مطَّلعاً على أخباره وأسراره، والقيام بنقل نداءاته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(297) راجع: سفينة البحار (ج 2/ ص 404).
(298) تنقيح المقال (ج 3/ ص 149).
(299) راجع: رجال الطوسي (ص 447/ الرقم 6351/101)، خلاصة الأقوال (ص 250 و251/ الرقم 58)، هذا ولا يوجد فيهما أنَّه (رحمه الله) كان وكيلاً للإمام الهادي (عليه السلام).
(300) قد تقدَّم في (ص 82)، فراجع.
(301) راجع: رجال البرقي (60 و61)، رجال الطوسي (395 - 403).
(302) كمال الدِّين (ص 432/ باب 42/ ح 12)، الاحتجاج (ج 2/ ص 296)، مجمع الرجال (ج 7/ص 189)، الكامل في التاريخ (ج 8/ص 109)، تاريخ أبي الفداء (ج 2/ص 69).
وبياناته الصادرة منه إلى الأُمَّة الإسلاميَّة، ثمّ نصبه وكيلاً عنه في قبض الأموال والوجوه الشرعيَّة، والمشاريع الضخمة(303)، وقرَّبه إليه ومنحه ثقته المطلقة به تلويحاً منه للأُمَّة بعظم خطره وأنَّ له شأناً آخر مع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في تخطيطه لأمر الغيبة التي أشرفت على الوقوع والتحقُّق.
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أحمد بن إسحاق القمِّي، قال: سألت الحسن العسكري عن مثل ذلك - أي في أبي جعفر العمري كما سأل عن أبيه في حياة الإمام الهادي (عليه السلام) -، فقال لي: «اَلْعَمْرِيُّ وَاِبْنُهُ ثِقَتَانِ، فَمَا أَدَّيَا إِلَيْكَ فَعَنِّي يُؤَدِّيَانِ، وَمَا قَالَا فَعَنِّي يَقُولَانِ، فَاسْمَعْ لَهُمَا وَأَطِعْهُمَا، فَإِنَّهُمَا اَلثِّقَتَانِ اَلمَأْمُونَانِ»(304)، وغير ذلك من عظيم الإجلال والإكرام(305).
فإنَّ كلمة (ثقتي) التي كرَّرها الإمام (عليه السلام) في محافل عديدة في حقِّ محمّد ابن عثمان العمري وأبيه من قبل، لا تكون إلَّا لمن أخلص وصفى، وتمخَّض إيمانه وولاؤه، وهي ليست باللفظة الرخيصة، بل عليها اعتماد الحُفَّاظ وحملة الحديث، فإنَّهم إذا وجدوا حافظاً أو فقيهاً قالوا عنه: محدِّث ثقة، واتَّخذوها الحجَّة القاطعة لأعذار المشكِّكين، فما ظنُّك بمن يقول الإمام فيه: «ثقتي»؟ فذاك حجَّة الحجَّة، وآية من آيات العصمة، وهذه الكلمة لا تليق إلَّا بمحمّد ابن عثمان العمري وأمثاله، صاحب المقامات العالية، والمناقب السنيَّة، وآية من آيات العصمة، فالعرق صحيح وهو من ولد عمَّار بن ياسر(306)، والمنشأ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(303) قاموس الرجال (ج 9/ ص 408 - 410/ الرقم 6993)، معجم رجال الحديث (ج 17/ ص 294/ الرقم 11247).
(304) الكافي (ج 1/ ص 330/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 1)، الغيبة للطوسي (ص 243 و360/ ح 209 و322).
(305) الغيبة للطوسي (ص 361/ ح 323).
(306) تأسيس الشيعة (ص 411).
كريم فأبوه عثمان بن سعيد الذي أكرمه الأئمَّة (عليهم السلام) وعظَّموه وعرَّفوا فضله وجلالته.
لقد أكَّد محمّد بن عثمان العمري في سياسته على حقيقتين هامَّتين:
إحداهما: التأكيد على قرب ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) التي ستكون بداية التحوُّل في التاريخ الإسلامي.
وثانيتهما: إخبار أصحابه بأنَّ للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) غيبتين إحداهما صغرى والأُخرى كبرى، باعتبار أنَّ الغيبة حدث نادر في التاريخ البشري، تحتوي على عنصر غيبي خارج عن الحسِّ، لأنَّ عنصر اختفاء الإمام (عجَّل الله فرجه) وإنْ لم يمكن تفسيره طبيعيًّا إلَّا أنَّ طول عمره كان متمحِّضاً عن الإرادة الربَّانيَّة والعامل الروحي النازل من السماء لتحقيق اليوم الموعود.
ولكي تفهم الأُمَّة هذا المفهوم فلا بدَّ أنْ يتكرَّر ويُفهَّم هذا المفهوم للأُمَّة لكي تستسيغه وتعتاد عليه، ولا يحدث فيها هزَّة عنيفة أو ردَّة فعل في قبولها هذه الفكرة، خصوصاً وأنَّ هناك إرهاصات مسبقة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة الطاهرين (عليهم السلام) حول فكرة وجود المهدي (عجَّل الله فرجه) وغيبته.
إنَّ هذه المسبقات الذهنيَّة والقاعدة الفكريَّة المشحونة بالاعتقاد بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحصول العلم بقرب وقوعها، كان قد هيَّأ الأرضيَّة الملائمة لقبولها، فلم يبقَ أمام محمّد بن عثمان العمري سوى إعلانه عن هذه الفكرة وتطبيقه لها وإشعار الأُمَّة بقرب الولادة التي أوشكت على التحقُّق والتنفيذ، وبذل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) جهوداً مضاعفة في تقوية الارتباط بين العمري والأُمَّة، وتوثيقه في محافل عديدة تمهيداً لأمر الغيبة، كقوله (عليه السلام) للوفد اليمني: «اِشْهَدُوا عَلَىَّ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيَّ وَكِيلِي، وَأَنَّ اِبْنَهُ مُحَمَّداً وَكِيلُ اِبْنِي مَهْدِيِّكُمْ»(307).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(307) الغيبة للطوسي (ص 355 و356/ ح 317).
وقوله من قبل في أبيه عثمان بن سعيد: «هَذَا أَبُو عَمْرٍو اَلثِّقَةُ اَلْأَمِينُ، ثِقَةُ اَلمَاضِي، وَثِقَتِي فِي اَلمَحْيَا وَاَلمَمَاتِ»(308).
وقوله في عرضه لأصحابه وقد بلغوا أربعين رجلاً: «فَاقْبَلُوا مِنْ عُثْمَانَ مَا يَقُولُهُ، وَاِنْتَهُوا إِلَى أَمْرِهِ، وَاِقْبَلُوا قَوْلَهُ، فَهُوَ خَلِيفَةُ إِمَامِكُمْ وَاَلْأَمْرُ إِلَيْهِ»(309).
أمَّا منزلته عند الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
فالمتتبِّع للنصوص التاريخيَّة يرى بوضوح وجود اللقاءات العديدة بين الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وسفيره محمّد بن عثمان العمري، وقد تمَّ بعضها في حياة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بحضور ابنه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
وكان يدور الحوار في تلك اللقاءات حول الأوضاع الاجتماعيَّة السائدة ودراستها وكيفيَّة معالجتها ووضع الحلول لها، وقد كان يحضر في تلك اللقاءات كبار الشخصيَّات الإسلاميَّة أمثال: عثمان بن سعيد، وابن روح النوبختي، والسمري، وابن متيل، وأبيه، والحسن بن أيُّوب بن نوح، ومعاوية بن حكيم، وأحمد بن هلال، وعليِّ بن بلال، وغيرهم من بني نوبخت(310).
وتعمَّقت تلك اللقاءات والزيارات بين الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ومحمّد بن عثمان فترة سفارة أبيه عثمان عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وتنصيبه في بغداد، لتعتمد الأُمَّة في أُمورها عليه، لتحمل إليه أموالها وهمومها وآلامها وآمالها، ومن ثَمَّ يُخرج لهم التوقيعات عن صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) بشأنها(311).
وكان المسلمون مع صعوبة الوقت يقصدون أباه في حوائجهم، وهو يُخرج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(308) الغيبة للطوسي (ص 354/ ح 315).
(309) الغيبة للطوسي (ص 357/ ح 319).
(310) المصدر السابق.
(311) راجع: سفينة البحار (ج 2/ ص 404).
لهم الأجوبة والتوقيعات منه في حلِّ مشاكلهم(312)، وكانوا لا يشكُّون في قوله وفعله وصدقه(313)، إلى أنْ تُوفّي (رحمه الله) في عام (265هـ)، وكان أوَّل توقيع خرج من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لمحمّد بن عثمان العمري بعد وفاة أبيه جاء فيه تنصيبه سفيراً جديداً له (عجَّل الله فرجه) قائلاً: «اَلْحَمْدُ لِلهِ، فَإِنَّ اَلْأَنْفُسَ طَيِّبَةٌ بِمَكَانِكَ، وَمَا جَعَلَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) فِيكَ وَعِنْدَكَ...» إلخ، ثمّ أرفق صدور الحكم منه (عجَّل الله فرجه) دعاءً له بالسداد والتوفيق في هذه المهمَّة الصعبة، فقال (عجَّل الله فرجه): «أَعَانَكَ اَللهُ وَقَوَّاكَ وَعَضَدَكَ وَوَفَّقَكَ، وَكَانَ لَكَ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَرَاعِياً وَكَافِياً»(314).
فقام محمّد بن عثمان العمري بمهامِّ السفارة بعد تغسيله لأبيه وتكفينه وتجهيزه ودفنه بالجانب الغربي من مدينة السلام(315).
وقال الطوسي (رحمه الله): فلمَّا مضى أبو عمرو عثمان بن سعيد قام ابنه أبو جعفر محمّد بن عثمان مقامه بنصِّ أبي محمّد (عليه السلام) عليه، ونصِّ أبيه عثمان عليه بأمر القائم (عليه السلام)(316).
وقام محمّد بن عثمان العمري بعدَّة أُمور في سفارته عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، نُلخِّصها بما يلي:
الأوَّل: إعلانه أمر سفارته عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) للأُمَّة:
لقد أعلن السفير محمّد بن عثمان العمري عن بداية سفارته عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لأصحابه ومن يثق به في الأُمَّة الإسلاميَّة، وقد كان التوقيع يُعَدُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(312) سفينة البحار للقمي: 1/159.
(313) الغيبة للطوسي: 215.
(314) الغيبة للطوسي (ص 361/ ح 323).
(315) الغيبة للطوسي (ص 356 و358/ ح 318 و320).
(316) الغيبة للطوسي (ص 359).
عملاً من أعمال السفير في إثبات وجود الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والتصديق بدعوى السفير في أمر سفارته.
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن عبد الله بن جعفر الحميري أنَّه قال لمحمّد بن همَّام: لَـمَّا مَضَى أَبُو عَمْرٍو (رضي الله عنه) أَتَتْنَا اَلْكُتُبُ بِالْخَطِّ اَلَّذِي كُنَّا نُكَاتِبُ بِهِ بِإِقَامَةِ أَبِي جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) مَقَامَهُ(317).
فكانت التوقيعات تخرج على يده من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في المهمَّات طول حياته(318).
الثاني: إقامة الدلائل والبراهين على صدقه:
قال الطوسي (رحمه الله): وقد نُقِلَت عنه دلائل كثيرة، ومعجزات الإمام ظهرت على يده، وأُمور أخبرهم (عليه السلام) بها عنه، زادتهم في هذا الأمر بصيرةً(319).
الثالث: إثبات جدارته في أمر السفارة:
لقد ذكرنا النصوص الواردة في توثيقه من الإمام الهادي والعسكري (عليهما السلام) ثمّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حيث قال فيه: «لَمْ يَزَلْ ثِقَتَنَا فِي حَيَاةِ اَلْأَبِ رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَنَضَّرَ وَجْهَهُ، يَجْرِي عِنْدَنَا مَجْرَاهُ، وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ، وَعَنْ أَمْرِنَا يَأْمُرُ اَلاِبْنُ وَبِهِ يَعْمَلُ»(320).
وقد تسالمت عليه الأُمَّة أيضاً بعد معرفتها له وتعايشها معه، فكانت لا تشكُّ أبداً في أقواله وأفعاله، مجتمعة على عدالته ووثاقته(321).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(317) الغيبة للطوسي (ص 362/ ح 324).
(318) الغيبة للطوسي (ص 363/ ح 327).
(319) المصدر السابق.
(320) الغيبة للطوسي (ص 362/ ح 325).
(321) الغيبة للطوسي (ص 363/ ح 327).
الرابع: تفوُّقه على أقرانه في العلوم:
إنَّ استمرار محمّد بن عثمان العمري أربعين أو خمسين عاماً(322) في أمر السفارة ومناظرته سائر الفِرَق والأديان المختلفة، وإفساد بعض العقائد والمذاهب الباطلة، وسدَّ الشُّبُهات التي أثارتها السلطات، ومجابهة بعض الانحرافات في الأُمَّة، كان دليلاً واضحاً ومتقناً على عظمة هذا السفير وجلالته، وعظم المبدأ الذي انتسب له.
الخامس: حلُّ مشاكل الأُمَّة وقضاء حوائج أصحابه.
السادس: المساهمة في إخفاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
لقد وردت تصريحات عديدة من الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام) لأصحابهم بشأن إخفاء أمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عن أنظار السلطات، وخرجت من نفس الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) التصريحات والتوقيعات العديدة بشأن كتم أمره، وعدم التصريح باسمه، فمثلاً يخرج منه توقيع لسفيره محمّد بن عثمان العمري ابتداءً من غير مسألة: «لِيُخْبِرَ اَلَّذِينَ يَسْأَلُونَ عَنِ اَلْاِسْمِ إِمَّا اَلسُّكُوتَ وَاَلْجَنَّةَ، وَإِمَّا اَلْكَلَامَ وَاَلنَّارَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ وَقَفُوا عَلَى اَلْاِسْمِ أَذَاعُوهُ، وَإِنْ وَقَفُوا عَلَى اَلمَكَانِ دَلُّوا عَلَيْهِ»(323).
السابع: قبض الأموال والأنفال والزكوات من أربابها وصرفها في المشاريع بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) (324).
الثامن: تنصيب الوكلاء من قِبَله بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
لقد ذكر الصدوق (رحمه الله) قائمة بأسماء الوكلاء الذين تمَّ تنصيبهم وكلاء عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ليساهموا في أمر السفارة، وتسهيل عمل السفير، وإيصال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(322) الغيبة للطوسي (ص 366/ ح 334).
(323) قد تقدَّم في (ص 39)، فراجع.
(324) الغيبة للطوسي، وكمال الدين للصدوق.
بياناته ونداءاته إلى الأقطار الإسلاميَّة، أمَّا في بغداد فقد كان له من يتصرَّف في قبضها، وكانوا عشرة أنفس، منهم أبو القاسم ابن روح النوبختي (رضي الله عنه)(325).
وكان كلام محمّد بن عثمان العمري نافذاً في الأُمَّة الإسلاميَّة، لأنَّه يُعبِّر عن كلام الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حيث قال فيه (عجَّل الله فرجه): «وَعَنْ أَمْرِنَا يَأْمُرُ اَلاِبْنُ، وَبِهِ يَعْمَلُ، تَوَلَّاهُ اَللهُ»(326)، وقوله (عجَّل الله فرجه): «وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيُّ رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ فَإِنَّهُ ثِقَتِي، وَكِتَابُهُ كِتَابِي»(327).
ونشير إلى وضعه العائلي والاجتماعي.
أمَّا أُسرته:
فلم تشر النصوص الإسلاميَّة إلى أُسرته سوى أنَّ له ابنة تُدعى أُمَّ كلثوم، وكانت راوية للحديث(328)، عالمة فاضلة، تفوَّقت على أقرانها في شتَّى العلوم، وشهدت المحافل والأندية العلميَّة بحقِّها، روت كُتُب أبيها وكثيراً من كراماته وفضائله(329)، وروى الصدوق والطوسي وغيرهما أحاديثها وأخبارها، وكذا أخبار أبي نصر هبة الله بن محمّد الكاتب الذي كان ابن بنت أُمِّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري(330).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(325) الغيبة للطوسي (ص 369/ ح 336).
(326) الغيبة للطوسي (ص 362/ ح 325).
(327) الغيبة للطوسي (ص 362/ ح 326).
(328) الغيبة للطوسي (ص 294 و363 و365 و372 و403/ ح 249 و328 و332 و343 و378).
(329) الغيبة للطوسي (ص 363/ ح 328).
(330) الغيبة للطوسي (ص 293 و294 و353 و355 و356 و358 و362 و363 و364 و366 و371 و372 و384 و385 و386 و396 و398 و401 و403 و408 و414/ ح 248 و249 و314 و317 و318 و320 و327 و328 و332 و334 و342 و343 و347 و348 و349 و350 و367 و328 و369 و376 و378 و382 و390).
فقد تزوَّجت من أحمد بن إبراهيم النوبختي، وهو أحد الشخصيَّات الإسلاميَّة المرموقة، وكان متكلِّماً وفقيهاً، ومن خواصِّ محمّد بن عثمان العمري، فلمَّا تُوفّي العمري اختصَّ بالحسين بن روح النوبختي، فكان يكتب له الأجوبة عن المسائل التي يخرج جواباتها على يديه، وكثيراً ما يقول أصحابنا في المكاتبات التي خرجت جواباتها على يد الشيخ أبي القاسم ابن روح النوبختي (رحمه الله): إنَّها بخطِّ أحمد بن إبراهيم بن نوبخت وإملاء الشيخ أبي القاسم الروحي(331).
وكان أحمد بن إبراهيم قد تقدَّم بطلب إلى محمّد بن عثمان العمري (رحمه الله) لرؤية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(332).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(331) الغيبة للطوسي (ص 373/ ح 345).
(332) المزار لابن المشهدي (ص 585).
المبحث الثاني: محمّد بن عثمان العمري والأوضاع السياسيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة فترة سفارته:
بدأت سفارة محمّد بن عثمان العمري عام (265هـ) بعد وفاة أبيه، وانتهت عام (305هـ)(333) على اختلاف في الروايات أنَّ فترة سفارته أربعون أو خمسون عاماً كما سيأتي في البحث.
وكان قد عاصر فيها أربعة من الحُكَّام هم: بقيَّة خلافة المعتمد المتوفَّى عام (279هـ)، والمعتضد المتوفَّى عام (289هـ)، والمكتفي بالله المتوفَّى عام (295هـ)، وعشر سنوات من خلافة المقتدر التي استمرَّت إلى عام (320هـ)(334).
أمَّا الحوادث المهمَّة التي رافقت فترة سفارته، فنُلخِّصها بما يلي:
أوَّلاً: مطاردة قواعد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وملاحقة أصحابه:
دلَّت النصوص التاريخيَّة على بقاء الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فترة من الزمن بداية الغيبة الصغرى في سامرَّاء، حيث كان العمريَّان فيها يستلمان التوقيعات الصادرة عنه (عجَّل الله فرجه) وهما في بغداد، ولم يرد في تلك النصوص كيفيَّة توصيلها لهما أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(333) الغيبة للطوسي (ص 366/ ح 334)، الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 109)، تاريخ أبي الفداء (ج 2/ ص 69)، تاريخ ابن الوردي (ج 1/ ص 246).
(334) إثبات الوصيَّة (ص 273).
استلامها، وبقي ذلك محاطاً بالغموض والكتمان، وكان السفيران من جهتهما أيضاً يوصلان الأموال والرسائل التي تصلهما إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وهو في سامرَّاء(335)، حيث يتمُّ إخراج التعاليم والإرشادات بشأنها منه (عجَّل الله فرجه) بواسطة بعض الوكلاء الخاصِّين هناك(336)، وقد دلَّت بعض المقابلات التي كانت تتمُّ بينه (عجَّل الله فرجه) وبين بعض الشخصيَّات الإسلاميَّة على ذلك، كما جاء في خبر حاجز الوشَّاء(337)، وأبي محمّد الرازي، وغيرهما(338).
وفي تلك الفترة، كانت السلطات تطارد الإمام (عجَّل الله فرجه) مطاردة شديدة، وتلاحق أنصاره ومؤيِّديه، حتَّى إنَّها كبست دار الإمام (عجَّل الله فرجه) عدَّة مرَّات بعد وفاة أبيه الإمام العسكري (عليه السلام) من قِبَل الخليفتين المعتمد والمعتضد(339).
فقد روى الراوندي (رحمه الله) أنَّ المعتضد بعث ثلاثة من قُوَّاده لكبس دار الإمام (عجَّل الله فرجه)، وقال لهم: اِلْحَقُوا بِسَامَرَّاءَ وَاِكْبِسُوا دَارَ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ، وَمَنْ رَأَيْتُمْ فِيهَا فَأْتُونِي بِرَأْسِهِ(340).
فمن يكون في تلك الدار غير ابنه المهدي (عجَّل الله فرجه)؟! ممَّا يدلُّ على أنَّه (عجَّل الله فرجه) كان في سامرَّاء التسعة عشر عاماً المتبقّية من خلافة المعتمد إلى بداية خلافة المعتضد عام (279هـ).
وتشير بعض النصوص إلى أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كان قد قلَّص كثيراً من وكلائه في سامرَّاء، بل طلب من أصحابه أنْ يتركوا سامرَّاء فوراً لكي لا تثار حوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(335) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 480).
(336) بحار الأنوار المجلسي: 52/380.
(337) الغيبة للطوسي: 258.
(338) الخرائج والجرائح للراوندي: 164.
(339) الغيبة للطوسي (ص 248 - 250/ ح 218).
(340) الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 460).
الشكوك، ولفسح المجال لهم ليشاركوا في أمر السفارة كوكلاء له في البلاد الإسلاميَّة، وكانت بغداد أكثر هدوءاً واستقراراً من سامراء، وتمتلك مقوِّمات العمل الإسلامي نظراً لموقعها الجغرافي وارتباطها بسائر العواصم الإسلاميَّة، وقد ساهم هذا الأمر في إضفاء طابع الكتمان والسرّيَّة في عمل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وسفارته.
ولكن ومع ذلك كلِّه فلم تنته حملات التفتيش لبيت الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من قِبَل السلطات، التي كانت تحسُّ بالخطر الشديد الذي كان يُهدِّدها بين الآونة والأُخرى بلا رادعٍ ولا وازعٍ، فمثلاً يقتحم نسيم - وهو أحد جلاوزة السلطة وجواسيسها - دار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ويكسر بابه، ولكنَّه سرعان ما فوجئ بوجود الإمام (عجَّل الله فرجه) واقفاً أمامه متحدّياً، وبيده طبرزين قائلاً: «مَا تَصْنَعُ فِي دَارِي؟»، فلم يكن أمام نسيم سوى أنْ تراجع وشعر بالخيبة والانكسار قائلاً: إِنَّ جَعْفَراً زَعَمَ أَنَّ أَبَاكَ مَضَى وَلَا وَلَدَ لَهُ(341)! فأوصل خبره بعدها إلى السلطات وحذَّرها منه، وكان من حسن الحظِّ أنَّ الدولة مشغولة بحرب صاحب الزنج، وبعض الاضطرابات الداخليَّة التي كانت منعتها من ذلك، وقد باءت جميع محاولات السلطات في القبض على الإمام (عجَّل الله فرجه) بالفشل الذريع، وبقي كابوس الإمام (عجَّل الله فرجه) يلاحقها ويرعبها، مضافاً إلى حوادث شغب صاحب الزنج كاد يقطع الشريان الحياتي للنظام الحاكم.
ثانياً: صعوبة تلك الفترة، والسرّيَّة التامَّة:
إنَّ المتتبِّع للنصوص التاريخيَّة يشاهد في هذه الفترة من سفارة محمّد بن عثمان العمري أمرين، هما: قلَّة النصوص الخارجة إلى هذا السفير مع طول فترة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(341) الكافي (ج 1/ ص 331 و332/ باب في تسمية من رآه (عليه السلام)/ ح 11)، الغيبة للطوسي (ص 267/ ح 229).
سفارته(342)، فلم ينقل توقيعاً ذا بال بداية سفارته إلَّا في حدود نسبيَّة والظروف الصعبة والمعقَّدة التي يعيشها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فالسيف يقطر دماً في خلافة المعتضد العبَّاسي كما يقال(343)، وأنَّ سنوات تلك الفترة كانت مليئة بالظلم وسفك الدماء(344) كما ذكرنا.
ثالثاً: ظهور المدَّعين للسفارة كذباً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
لقد ابتُليت فترة سفارة محمّد بن عثمان العمري بظهور السفارات الكاذبة لمدَّعيها عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، طمعاً في الزعامة على الأُمَّة وابتزاز الأموال، مضافاً إلى الأشخاص الذين دسَّتهم السلطات في صفوف الأُمَّة لاقتناص خبر الإمام (عجَّل الله فرجه) ومعرفة خبر السفارة، فادَّعوا أنَّهم وكلاء عنه (عجَّل الله فرجه) ليعرفوا كلَّ من يصل إلى الإمام (عجَّل الله فرجه) ويتعرَّفوا على مكانه(345)، وسنُفرد لهم باباً في الحديث عنهم.
رابعاً: قساوة الحُكَّام فترة سفارة العمري:
لقد ضاق الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بظلم الحُكَّام فترة سفارة محمّد بن عثمان العمري، فالمعتمد مثلاً يُصدِر أوامره بإلقاء القبض على الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بعد أنْ أمر قبل ذلك بالقبض على الإمام العسكري (عليه السلام) وزجِّه في السجن(346)، فأرسل الخيل والرجال إلى دار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فكبسوه وفحصوا في كلِّ غرفة ودهليز، ثمّ اشتغلوا بعدها بالنهب والسلب والغارة على ما رأوا من متاع الإمام (عجَّل الله فرجه) في الدار(347).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(342) الغيبة للطوسي: 223.
(343) الغيبة للطوسي (ص 296/ ح 249).
(344) عقيدة الشيعة (ص 257).
(345) إعلام الورى: الطبرسي: 421.
(346) إعلام الورى: الطبرسي: 421.
(347) الغيبة للطوسي: 136 و137، تاريخ سامراء: المحلاتي: 2/256.
وكانت فترة سفارة العمري أيَّام المعتضد عام (179هـ) من أصعب الفترات عليه وأقساها، قال المسعودي: كان المعتضد قليل الرحمة، كثير الإقدام، سفَّاكاً للدماء، شديد الرغبة في أنْ يُمثِّل بمن قتله، وكان إذا غضب على القائد النبيل والذي يختصُّه من غلمانه، أمر أنْ تُحفَر له حفيرة بحضرته ثمّ يُدلى على رأسه فيها، ويُطرح التراب عليه ونصفه الأسفل ظاهر على التراب، ويُداس التراب، فلا يزال كذلك حتَّى تخرج روحه من دُبُره.
وروى المسعودي بعض الصور البشعة من تعذيبه قائلاً: كان المعتضد يأخذ الرجل فيُكتَّف ويُقيَّد فيُؤخَذ القطن فيُحشى في أُذُنه وخيشومه وفمه، وتُوضَع المنافخ في دُبُره حتَّى ينتفخ ويعظم جسمه، ثمّ يُسَدُّ الدُّبُر بشيء من القطن ثمّ يفصد - وقد صار كالجمل العظيم - من العرقين اللذين فوق الحاجبين، فتخرج النفس من ذلك الموضع(348).
وفعل المعتضد هذا في لصٍّ سرق عشر بدر من بيت صاحب عطاء الجيش كان قد أعطاها الخليفة من بيت المال لبعض الرسوم إليه ليدفعها إلى الجند، فسُرِقَت من بيته كلُّها ليلاً، ولم يشتفِ بذلك الفعل، بل أمر بعض الأطبَّاء قبل أنْ ينشقَّ بدن هذا اللصِّ بأنْ يضربه في العرقين فوق الحاجبين اللذين في الجبين، فأقبلت الريح تخرج منهما مع الدم ولها صوت وصفير إلى أنْ خمد وتلف، فكان ذلك أعظم منظر رُئِيَ في ذلك اليوم من العذاب(349).
وربَّما يُقام الرجل في أعلى القصر مجرَّداً موثقاً فيُرمى بالنشاب حتَّى يموت، واتَّخذ المطامير وجعل فيها صنوف العذاب(350).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(348) مروج الذهب (ج 4/ ص 144).
(349) مروج الذهب (ج 4/ ص 162 و163).
(350) مروج الذهب (ج 4/ ص 144 و145).
فمن كان هكذا سريرته في لصٍّ سرق بعض البدر، وقد ذكرت النصوص أنَّه أرسل جماعة من قادته، وأمرهم بالتوجُّه إلى سامرَّاء، وقال لهم: اِلْحَقُوا بِسَامَرَّاءَ وَاِكْبِسُوا دَارَ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ، وَمَنْ رَأَيْتُمْ فِيهَا فَأْتُونِي بِرَأْسِهِ(351)، فلمَّا فشلت هذه الهجمة على بيت الإمام (عجَّل الله فرجه) قام بهجمة أُخرى، فبعث عسكراً أكثر، وكان الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الدار، فخرج منها ولم يروه، بعد أنِ اجتمعوا على الباب وحفظوه حتَّى لا يصعد (عجَّل الله فرجه) ولا يخرج(352).
أمَّا سياسة المعتضد مع أصحاب الإمام (عجَّل الله فرجه)، فقد روى التاريخ عنها الكثير، فمثلاً حُمِلَ عليُّ بن عاصم إليه وهو شيخ الشيعة في وقته مع جماعة من أصحابه، فضُرِبَ ثلاثمائة سوط(353)! ثمّ حُبِسَ حتَّى مات في المطامير، وبعدها رُمِيَ في دجلة(354).
خامساً: انتقال الخلافة العبَّاسيَّة من سامرَّاء إلى بغداد:
ذكرت النصوص التاريخيَّة أنَّ المعتضد العبَّاسي بويع له بالخلافة عام (279هـ)، ثمّ أعرض عن سامرَّاء إعراضاً تامًّا، وانتقلت خلافته إلى بغداد، فبقيت سامرَّاء لقمة سائغة للاضمحلال والفناء، وقد حاول المكتفي الرجوع والعودة إلى سامرَّاء عام (290هـ) لكن وزيره صرفه عن ذلك لجسامة الأموال التي يجب صرفها قبل الانتقال.
سادساً: الأفول التدريجي للخلافة، والفوضى في البلاد:
تفاقم أكثر الخلافة العبَّاسيَّة فترة سفارة محمّد بن عثمان العمري، فسيطرت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(351) الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 460).
(352) بحار الأنوار (ج 52/ ص 52 و53/ ح 37).
(353) الغيبة للطوسي (ص 351/ ح 310).
(354) رسالة في آل أعين (ص 9).
الموالي والأتراك على دفَّة الحكم، وأصبح تأثيرهم في التاريخ طبيعيًّا وأمراً حتميًّا، فهم القُوَّاد والمحاربون، وهم المالكون والمتصرِّفون في شؤون الدولة، فقلَّما يموت الخليفة حتف أنفه، فالمعتمد يُكثِر في الأكل على الشطِّ ببغداد فيموت مبطوناً(355). والمعتضد يموت مسموماً من قِبَل إحدى جواريه أو غيرها(356). والمقتدر يموت بشرِّ قتلة من قِبَل قوم من المغاربة والبربر، وكان منفرداً منقطعاً عن أصحابه، فشهروا سيوفهم في وجهه، فقال لهم: ويحكم أنا الخليفة، فقالوا: قد عرفناك يا سفلة، أنت خليفة إبليس، وقتلوه وأخذوا جميع ما عليه حتَّى سراويله، وتركوه مكشوف العورة إلى أنْ مرَّ به رجل من الأكرة فستره بحشيش، ثمّ حُفِرَ له موضعه ودُفِنَ وعُفي قبره(357). والقاهر بالله ثار عليه جماعة من القُوَّاد الساجيَّة والحجريَّة واقتحموا عليه قصره، فلمَّا سمع القاهر الأصوات والجلبة استيقظ مخموراً، وطلب باباً يهرب منه، ولا زال يماطلهم منفرداً حتَّى أدركوه وقتلوه(358).
سابعاً: نهاية ثورة صاحب الزنج:
وشهدت فترة سفارة محمّد بن عثمان العمري أيضاً نهاية صاحب الزنج بعد أنْ عاث في الأرض فساداً، وقتل وأحرق واستعبد الكثير من الناس إلى أنْ قُتِلَ عام (270هـ)(359)، وقد أدخل خبر قتله السرور والفرح على الأُمَّة، وقيلت في ذلك الأشعار(360).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(355) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 455).
(356) مروج الذهب (ج 4/ ص 184).
(357) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 242 و243).
(358) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 280 و281).
(359) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 399).
(360) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 405).
ثامناً: نهاية الدولة الطولونيَّة:
وشهدت فترة سفارته أيضاً نهاية الدولة الطولونيَّة في مصر حيث بدأت عام (254هـ) فترة خلافة المعتزِّ العبَّاسي، ومؤسِّس هذه الدولة هو أحمد بن طولون التركي الذي ولَّاه بايكال التركي من قِبَل السلطة العبَّاسيَّة على مصر، وبقي حاكماً على مصر وسوريا، ومتحدّياً العاصمة أحياناً(361)، حتَّى مات مبطوناً عام (270هـ)(362)، فخلف ابنه خمارويه(363)، الذي أصهر إليه المعتضد العبَّاسي(364)، وبقي مستمرًّا على ملك أبيه إلى أنْ قتله بعض خدمه وهو مخمور، فشرحوا لحمه من أفخاذه وعجيزته، وأكله السودان من مماليكه(365)، وبقيت الدولة الطولونيَّة حتى عام (292هـ)، حيث استولى الخليفة المكتفي على دولتهم وأموالهم، وولَّى عيسى النوشيري على مصر(366)، وانقرضت بعد ذلك دولتهم، وقد كان لها دور هامٌّ في تغيير عجلة التاريخ ولمدَّة أربعين عاماً.
تاسعاً: ظهور مهدي جديد في أفريقيا:
ومن الطريف في فترة سفارة محمّد بن عثمان العمري هو ظهور رجل في أفريقيا يدَّعي أنَّه المهدي! وأنَّه من ذرّيَّة إسماعيل ابن الإمام الصادق (عليه السلام)، وهو جدُّ الفاطميِّين في مصر عام (296هـ)(367)، وكان قد ملك قسماً كبيراً من الشمال الأفريقي بما يقابل ليبيا وتونس والجزائر، فاستتبَّت له الأُمور وخافته القبائل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(361) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 187 و188).
(362) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 409).
(363) المصدر السابق.
(364) مروج الذهب (ج 4/ ص 145).
(365) مروج الذهب (ج 4/ ص 158).
(366) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 535 و536).
(367) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 24).
وأخرج رجلاً من (سجلماسة) يُدعى عبد الله بن الحسن وأعلنه مهديًّا! وتبرَّع له بكلِّ ملكه، فاستقامت له البلاد، ودانت له العباد، وقام بفتوحات كثيرة بعيداً عن العاصمة بغداد، وأراد احتلال مصر مرَّتين فلم يفلح بسبب ما بذلته السلطة العبَّاسيَّة من دفعه، كانت أولاهما عام (301هــ)(368)، وثانيهما عام (307هـ)(369).
عاشراً: ظهور القرامطة:
ورافقت فترة سفارة محمّد بن عثمان العمري ظهور القرامطة الذين ابتدأ أمرهم عام (278هـ)(370)، أي قبل حركة المهدي الأفريقي بثمانية عشر عاماً، وكان هؤلاء يتَّصفون بالصرامة والشدَّة والاستهانة بالدماء، ولا يعتقدون بإمامة المهدي (عجَّل الله فرجه)، وكانوا يختلفون في تفاصيل مذهبهم مع المذاهب الأُخرى فقهاً وعقيدةً، واتَّخذوا أسوأ الأساليب في التنكيل بالمسلمين خصوصاً قوافل الحُجَّاج، والاعتداء على الكعبة الشريفة، وقلعوا الحجر الأسود ونقلوه إلى هجر(371).
هذه نماذج من التاريخ استعرضناها فترة سفارة محمّد بن عثمان العمري حيث يتَّضح من خلالها صعوبة الوقت، وحراجة الموقف، وخطر المسؤوليَّة.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(368) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 84 و85).
(369) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 121).
(370) الكامل في التاريخ (ج 7/ ص 444).
(371) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 207).
المبحث الثالث: محمّد بن عثمان العمري ومدَّعو السفارة الكاذبة:
لم يكن ادِّعاء منصب السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كذباً وزوراً أمراً غريباً عن الأذهان، لكثرة من ادَّعى هذا المنصب قبل ذلك في النبوَّة، أمثال مسيلمة الكذَّاب وسجاح وغيرهما، والإمامة أمثال محمّد بن الحنفيَّة وابنه عبد الله وأخيه عليٍّ، وعبد الله بن معاوية الخارج بالكوفة، وصاحب أصفهان الذي مات بأرض الشراة بالشام، ومحمّد بن عبد الله بن الحسن (عليه السلام) الخارج بالمدينة، وجعفر الكذَّاب ابن الإمام الهادي (عليه السلام) وغيرهم(372).
فقد ادَّعى أكثر هؤلاء تلك المناصب في أوَّل أمرهم، ثمّ خلطوا فادَّعوا الأُلوهيَّة بعد ذلك، وأنَّهم قد عُرِجَ بهم إلى السماء، وكلَّموا المسيح (عليه السلام)، إلى غير ذلك من الخرافات والأكاذيب التي اختلقوها لأنفسهم وسمّوها فضائل لهم ليبتزُّوا أموال الناس السُّذَّج ويتزعَّموا عليهم، ولكن سرعان ما ظهر أمرهم وبان كذبهم، وباؤوا بغضب على غضب، وفي الآخرة لهم عذاب عظيم، وصاروا أُضحوكة للتاريخ وملعنة للبشريَّة. وقسم من هؤلاء تاب ورجع عن أمره وندم على ما صدر منه واعتذر من أفعاله للأُمَّة.
أمَّا مدَّعو السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كذباً وزوراً، فنُلخِّص منهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(372) اُنظر: المِلَل والنِّحَل للشهرستاني، وفِرَق الشيعة للنوبختي، والفَرق بين الفِرَق للبغدادي، والكامل في التاريخ لابن الأثير، وتاريخ الطبري، وتاريخ بغداد، وغيرها.
أوَّلاً: أبو محمّد الشريعي:
كان من أصحاب الإمام الهادي والعسكري (عليهما السلام)، واسمه الحسن، ثمّ انحرف، وكان أوَّل من ادَّعى مقاماً لم يجعله الله فيه، ولم يكن له أهلاً، وكذب على الله وحُجَجه (عليهم السلام)، ونسب إليهم ما لا يليق بهم وهم منه براء، فلعنته الشيعة وتبرَّأت منه، وخرج توقيع من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بلعنه والبراءة منه.
قال هارون: ثُمَّ ظَهَرَ مِنْهُ اَلْقَوْلُ بِالْكُفْرِ وَاَلْإِلْحَادِ، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ اَلمُدَّعِينَ إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبُهُمْ أَوَّلاً عَلَى اَلْإِمَامِ، وَأَنَّهُمْ وُكَلَاؤُهُ، فَيَدْعُونَ اَلضَّعَفَةَ بِهَذَا اَلْقَوْلِ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ، ثُمَّ يَتَرَقَّى اَلْأَمْرُ بِهِمْ إِلَى قَوْلِ اَلْحَلَّاجِيَّةِ كَمَا اِشْتَهَرَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ اَلشَّلْمَغَانِيِّ وَنُظَرَائِهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً لَعَائِنُ اَللهِ تَتْرَى(373).
ثانياً: محمّد بن نصير النميري:
كان يُلقَّب بالفهري، وهو من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)، فانحرف وافتتن وأصبح يستخدم اسم صحبته للإمام العسكري (عليه السلام) ليستدرَّ الأرباح ويتصدَّر على الناس السُّذَّج، فكتب الإمام (عجَّل الله فرجه) كتاباً شديد اللهجة ضدَّه وضدَّ الحسن بن محمّد المسمَّى بابن بابا القمِّي، حيث كشف فيه انحرافهما والبراءة منهما، فقال (عجَّل الله فرجه) مخاطباً أحد أصحابه: «أَبْرَأُ إِلَى اَللهِ مِنَ اَلْفِهْرِيِّ، وَاَلْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَابَا اَلْقُمِّيِّ، فَابْرَأْ مِنْهُمَا، فَإِنِّي مُحَذِّرُكَ وَجَمِيعَ مَوَالِيَّ، وَإِنِّي أَلْعَنُهُمَا عَلَيْهِمَا لَعْنَةُ اَللهِ، مُسْتَأْكِلَيْنِ يَأْكُلَانِ بِنَا اَلنَّاسَ، فَتَّانَيْنِ مُؤْذِيَيْنِ، آذَاهُمَا اَللهُ، وَأَرْكَسَهُمَا فِي اَلْفِتْنَةِ...» إلخ(374).
وقال سعد بن عبد الله: كان محمّد بن نصير النميري يدَّعي أنَّه رسول نبيٌّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(373) الغيبة للطوسي (ص 397 و398/ ح 368).
(374) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 805/ ح 999).
وأنَّ عليَّ بن محمّد (عليه السلام) أرسله، وكان يقول بالتناسخ ويغلو في أبي الحسن الهادي (عليه السلام) ويقول فيه بالربوبيَّة، ويقول بالإباحة للمحارم، وتحليل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، ويزعم أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لا يُحرِّم شيئاً من ذلك، وأنَّ ذلك من التواضع والإخبات والتذلُّل في المفعول به! وأنَّه من الفاعل إحدى الشهوات والطيِّبات.
وكان محمّد بن موسى بن الحسن بن الفرات - وهو والد عليِّ بن محمّد وزير المقتدر عام (299هـ) - يُقوِّي أسبابه ويعضده.
ثمّ قال سعد: أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ خَاقَانَ أَنَّهُ رَآهُ عِيَاناً وَغُلَامٌ لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، قَالَ: فَلَقِيتُهُ، فَعَاتَبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مِنَ اَللَّذَّاتِ، وَهُوَ مِنَ اَلتَّوَاضُعِ لِلهِ وَتَرْكِ اَلتَّجَبُّرِ(375).
وقال هبة الله أبو نصر: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ (عليه السلام) اِدَّعَى مَقَامَ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ صَاحِبُ إِمَامِ اَلزَّمَانِ، وَاِدَّعَى لَهُ اَلْبَابِيَّةَ، فَفَضَحَهُ اَللهُ تَعَالَى بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ اَلْإِلْحَادِ وَاَلْجَهْلِ، وَلَعْنِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ لَهُ وَتَبَرِّيهِ مِنْهُ، وَاِحْتِجَابِهِ عَنْهُ.
وادَّعى ذلك الأمر بعد الشريعي، وتبعه جماعة تسمَّوا بالنصيريَّة كان منهم: محمّد بن موسى بن الحسن بن الفرات(376).
وقَالَ أَبُو طَالِبٍ اَلْأَنْبَارِيُّ: لَـمَّا ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نُصَيْرٍ بِمَا ظَهَرَ، لَعَنَهُ أَبُو جَعْفَرٍ العمري (رضي الله عنه) وَتَبَرَّأَ مِنْهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَصَدَ أَبَا جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) لِيَعْطِفَ بِقَلْبِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَحَجَبَهُ وَرَدَّهُ خَائِباً(377).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(375) الغيبة للطوسي (ص 398 و399/ ح 371 و372)، اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 805/ ح 1000)، فِرَق الشيعة (ص 93 و94).
(376) الغيبة للطوسي (ص 398/ ح 369)، فِرَق الشيعة (ص 94).
(377) الغيبة للطوسي (ص 398/ ح 370).
وَلَـمَّا اِعْتَلَّ اَلْعِلَّةَ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا، قِيلَ لَهُ وَهُوَ مُثْقَلُ اَللِّسَانِ: لِمَنْ هَذَا اَلْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ بِلِسَانٍ ضَعِيفٍ مُلَجْلَجٍ: أَحْمَدَ، فَلَمْ يَدْرُوا مَنْ هُوَ، فَافْتَرَقُوا بَعْدَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ، قَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّهُ أَحْمَدُ اِبْنُهُ، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: هُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ اَلْفُرَاتِ، وهو أخو عليِّ بن محمّد وزير المقتدر، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: إِنَّهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي اَلْحُسَيْنِ بْنِ بِشْرِ بْنِ يَزِيدَ، فَتَفَرَّقُوا، فَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى شَيْءٍ(378).
ثالثاً: أحمد بن هلال:
ويُلقَّب بالكرخي(379)، والعبرتائي(380)، وُلِدَ عام (180هـ) وتُوفّي عام (267هـ)(381)، عاصر فيها الإمام الرضا (عليه السلام) والإمام العسكري (عليه السلام)، وسبع سنين من الغيبة الصغرى، منها خمس سنين فترة سفارة عثمان بن سعيد، وسنتين فترة سفارة أبي جعفر العمري.
اتَّخذ مسلك التصوُّف، وحجَّ أربعاً وخمسين حجَّة، عشرون منها على قدميه، لقيه أصحابنا بالعراق وكتبوا عنه(382).
ذمَّه الإمام العسكري (عليه السلام) على ما روي عنه(383)، وتبنَّى بعده الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) التحذير منه، فكتب إلى وكلائه بالعراق: «اِحْذَرُوا اَلصُّوفِيَّ اَلمُتَصَنِّعَ»(384).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(378) الغيبة للطوسي (ص 399/ ح 373)، فِرَق الشيعة (ص 94).
(379) الغيبة للطوسي (ص 399).
(380) رجال النجاشي (ص 83/ الرقم 199).
(381) المصدر السابق.
(382) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 816/ ح 1020).
(383) رجال النجاشي (ص 83/ الرقم 199).
(384) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 816/ ح 1020).
وورد على القاسم بن العلاء نسخة ما كان خرج من لعن ابن هلال، فأنكروا رواة أصحابنا بالعراق ذلك، لما كانوا قد كتبوا من رواياته، فحملوا القاسم بن العلاء في أنْ يراجع في أمره، فخرَّج إليه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) توقيعاً على يد سفيره محمّد بن عثمان العمري جاء فيه: «قَدْ كَانَ أَمْرُنَا نَفَذَ إِلَيْكَ فِي اَلمُتَصَنِّعِ اِبْنِ هِلَالٍ لَا رَحِمَهُ اَللهُ، بِمَا قَدْ عَلِمْتَ، وَلَمْ يَزَلْ لَا غَفَرَ اَللهُ لَهُ ذَنْبَهُ، وَلَا أَقَالَهُ عَثْرَتَهُ، يُدَاخِلُنَا فِي أَمْرِنَا بِلَا إِذْنٍ مِنَّا وَلَا رِضًى، يَسْتَبِدُّ بِرَأْيِهِ، فَيَتَحَامَى مِنْ دُيُونِنَا، وَلَا يُمْضِى مِنْ أَمْرِنَا إِلَّا بِمَا يَهْوَاهُ وَيُرِيدُ، أَرْدَاهُ اَللهُ بِذَلِكَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَصَبَرْنَا عَلَيْهِ حَتَّى بَتَرَ اَللهُ بِدَعْوَتِنَا عُمُرَهُ، وَكُنَّا قَدْ عَرَّفْنَا خَبَرَهُ قَوْماً مِنْ مَوَالِينَا فِي أَيَّامِهِ لَا رَحِمَهُ اَللهُ، وَأَمَرْنَاهُمْ بِإِلْقَاءِ ذَلِكَ إِلَى اَلْخَاصِّ مِنْ مَوَالِينَا، وَنَحْنُ نَبْرَأُ إِلَى اَللهِ مِنِ اِبْنِ هِلَالٍ لَا رَحِمَهُ اَللهُ، وَمِمَّنْ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ. وَأَعْلِمِ اَلْإِسْحَاقِيَّ(385) سَلَّمَهُ اَللهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ مِمَّا أَعْلَمْنَاكَ مِنْ حَالِ هَذَا اَلْفَاجِرِ، وَجَمِيعِ مَنْ كَانَ سَأَلَكَ وَيَسْأَلُكَ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ وَاَلْخَارِجِينَ، وَمَنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْ مَوَالِينَا فِي اَلتَّشْكِيكِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ عَنَّا ثِقَاتُنَا، قَدْ عَرَفُوا بِأَنَّنَا نُفَاوِضُهُمْ سِرَّنَا، وَنَحْمِلُهُ إِيَّاهُ إِلَيْهِمْ، وَعَرَفْنَا مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اَللهُ تَعَالَى»(386).
ويظهر من هذا البيان أنَّه صدر منه (عجَّل الله فرجه) بعد موت ابن هلال، ولعلَّه مات بعد التوقيع الأوَّل وقبل هذا البيان.
وقد اتَّضح أيضاً من التوقيع أنَّ ابن هلال كان يتلقَّى الأوامر من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ولو بالواسطة، إلَّا أنَّه كان يستبدُّ برأيه فيها ولا يُطبِّق منها إلَّا ما يريد وكيف ما يريد! فدعا عليه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فبتر الله عمره.
وثبت قوم على إنكار ما خرج فيه، ولم ينفعهم هذا القول البليغ، فعاودوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(385) المظنون أنَّه أحمد بن إسحاق القمِّي الأشعري.
(386) المصدر السابق.
القاسم بن العلاء على أنْ يراجع فيه، فخرج من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يد سفيره محمّد بن عثمان العمري توقيع جاء فيه: «لَا شَكَرَ اَللهُ قَدْرَهُ، لَمْ يَدْعُ اَلمَرْءُ رَبَّهُ بِأَنْ لَا يُزِيغَ قَلْبَهُ بَعْدَ أَنْ هَدَاهُ، وَأَنْ يَجْعَلَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مُسْتَقَرًّا وَلَا يَجْعَلَهُ مُسْتَوْدَعاً، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ اَلدِّهْقَانِ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اَللهِ وَخِدْمَتِهِ وَطُولِ صُحْبَتِهِ، فَأَبْدَلَهُ اَللهُ بِالْإِيمَانِ كُفْراً حِينَ فَعَلَ مَا فَعَلَ، فَعَاجَلَهُ اَللهُ بِالنَّقِمَةِ وَلَمْ يُمْهِلْهُ، وَاَلْحَمْدُ لِلهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ»(387).
ويظهر من النصوص التاريخيَّة أنَّ ابن هلال هذا بقي مؤمناً صالحاً فترة سفارة عثمان بن سعيد، ولكنَّه بدأ بالتشكيك في فترة سفارة أبي جعفر العمري، بحجَّة إنكار النصِّ عليه من قِبَل الإمام العسكري (عليه السلام) ويقول: لَمْ أَسْمَعْهُ يَنُصُّ عَلَيْهِ بِالْوَكَالَةِ، وَلَيْسَ أُنْكِرُ أَبَاهُ، فَأَمَّا أَنْ أَقْطَعَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ - محمّد بن عثمان العمري - وَكِيلُ صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عجَّل الله فرجه) فَلَا أَجْسُرُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ سَمِعَهُ غَيْرُكَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَمَا سَمِعْتُمْ، وَوَقَفَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ - العمري -، فَلَعَنُوهُ وَتَبَرَّءُوا مِنْهُ(388).
وقد ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في قائمة المذمومين والمدَّعين للسفارة كذباً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وروى توقيعاً للحسين بن روح النوبختي بأنَّه بقي على ضلالته، فلعنه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في جملة من لعن(389).
رابعاً: أبو طاهر البلالي:
وهو محمّد بن عليِّ بن بلال، من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)(390)، عدَّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(387) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 816 و187/ ح 1020).
(388) الغيبة للطوسي (ص 399/ ح 374).
(389) المصدر السابق.
(390) خلاصة الأقوال (ص 242/ الرقم 27)، جامع الرواة (ج 2/ ص 153).
ابن طاووس (رحمه الله) من الوكلاء الموجودين في الغيبة الصغرى، والأبواب المعروفين الذين لا يختلف الإماميَّة القائلون بإمامة الحسن بن عليٍّ (عليه السلام) فيهم(391).
وظاهره كونه بمنزلة القاسم بن العلاء والأشعري والأسدي وغيرهم في الوثاقة والجلالة، إلَّا أنَّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) ذكره في المذمومين الذين ادَّعوا البابيَّة، فتابعناه على ما ذكره، وتوقَّف العلَّامة الحلِّي (رحمه الله) في ما يرويه من أجل ذلك أيضاً(392).
قال الشيخ الطوسي (رحمه الله): وقصَّته معروفة فيما جرى بينه وبين أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (نضَّر الله وجهه)، وتمسُّكه بالأموال التي كانت عنده للإمام المهدي (عليه السلام)، وامتناعه من تسليمها، وادِّعائه أنَّه الوكيل، حتَّى تبرَّأت الجماعة منه، ولعنوه، وخرج فيه من صاحب الزمان (عليه السلام) ما هو معروف(393).
ثمّ إنَّ البلالي هذا كان له جماعة من الأصحاب والمؤيِّدين، منهم: أبو الطيِّب أخوه، وابن حرز، ورجل من أصحابنا، وقد انفصل الأخير عنه، وكان للبلالي دور هامٌّ في عمليَّة الانحراف والتزوير، ممَّا دعا أبا جعفر العمري بأنْ يتصدَّى له ويردعه، ثمّ أخذ الأموال التي كانت تصله بكونه وكيلاً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فلم يفلح في ذلك، وبقي ابن بلال على ضلالته وتمسُّكه بالأموال وغيرها من الضلالات.
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن المعاذي، قال: قصد أبو جعفر العمري ابن بلال في داره، وكان عنده جماعة فيهم أَخُوهُ أَبُو اَلطَّيِّبِ وَاِبْنُ حِرْزٍ، فَدَخَلَ اَلْغُلَامُ فَقَالَ: أَبُو جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيُّ عَلَى اَلْبَابِ، فَفَزِعَتِ اَلْجَمَاعَةُ لِذَلِكَ وَأَنْكَرْتُهُ، لِلْحَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(391) جامع الرواة (ج 2/ ص 153).
(392) خلاصة الأقوال (ص 242 و243/ الرقم 27).
(393) الغيبة للطوسي (ص 400).
اَلَّتِي كَانَتْ جَرَتْ، ولم يستطع ابن بلال أنْ يحجبه فقال: يَدْخُلُ، فَدَخَلَ أَبُو جَعْفَرٍ - العمري -، فَقَامَ لَهُ أَبُو طَاهِرٍ وَاَلْجَمَاعَةُ، وَجَلَسَ فِي صَدْرِ اَلمَجْلِسِ، وَجَلَسَ أَبُو طَاهِرٍ كَالْجَالِسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمْهَلَهُمْ أَنْ يَسْكُتُوا، ثُمَّ قَالَ - العمري -: يَا أَبَا طَاهِرٍ، أنشدك بالله أَلَمْ يَأْمُرْكَ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) بِحَمْلِ مَا عِنْدَكَ مِنَ اَلمَالِ إِلَيَّ؟! فَقَالَ - ابن بلال -: اَللَّهُمَّ نَعَمْ، فَنَهَضَ أَبُو جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) مُنْصَرِفاً، وَوَقَعَتْ عَلَى اَلْقَوْمِ سَكْتَةٌ، فَلَمَّا تَجَلَّتْ عَنْهُمْ قَالَ لَهُ أَخُوهُ أَبُو اَلطَّيِّبِ: وَمِنْ أَيْنَ رَأَيْتَ صَاحِبَ اَلزَّمَانِ؟! فَقَالَ أَبُو طَاهِرٍ: أَدْخَلَنِي أَبُو جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) إِلَى بَعْضِ دُورِهِ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ مِنْ عُلُوِّ دَارِهِ، فَأَمَرَنِي بِحَمْلِ مَا عِنْدِي مِنَ اَلمَالِ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو اَلطَّيِّبِ: وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنَّهُ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ؟! قَالَ: قَدْ وَقَعَ عَلَيَّ مِنَ اَلْهَيْبَةِ لَهُ وَدَخَلَنِي مِنَ اَلرُّعْبِ مِنْهُ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ (عليه السلام)، قال ذلك الرجل من أصحابنا: فَكَانَ هَذَا سَبَبَ اِنْقِطَاعِي عَنْهُ(394).
خامساً: البغدادي:
وهو محمّد بن أحمد بن عثمان بن سعيد العمري، حفيد السفير الأوَّل وابن أخي السفير الثاني أبي جعفر العمري، كان أمره في قلَّة العلم والمروءة أشهر من أنْ يُذكر(395).
فقد كان مشهوراً ومعروفاً عند عمِّه أبي جعفر العمري بالضلال والانحراف، لكنَّه غير معروف لدى الكثيرين من الأصحاب.
روى الطوسي (رحمه الله) بأنَّ جماعة من الأصحاب كانوا في مجلس إقامة أبي جعفر العمري، وهم يتذاكرون شيئاً من الروايات وما قاله الصادقون (عليهم السلام) حَتَّى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(394) الغيبة للطوسي (ص 400 و401/ ح 375).
(395) الغيبة للطوسي (ص 413).
أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ اَلمَعْرُوفُ بِالْبَغْدَادِيِّ اِبْنُ أَخِي أَبِي جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيِّ (رضي الله عنه)، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ (رضي الله عنه) قَالَ لِلْجَمَاعَةِ: أَمْسِكُوا، فَإِنَّ هَذَا اَلْجَائِيَ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكُمْ(396).
وكان هذا قد ادَّعى السفارة الكاذبة، وكان له جماعة من المؤيِّدين، منهم: أبو دلف محمّد بن مظفَّر الكاتب، وقد كَانَ فِي اِبْتِدَاءِ أَمْرِهِ مُخَمِّساً(397)، مَشْهُوراً بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَانَ تَرْبِيَةَ اَلْكَرْخِيِّينَ وَتِلْمِيذَهُمْ وَصَنِيعَتَهُمْ، وَكَانَ اَلْكَرْخِيُّونَ مُخَمِّسَةً لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ اَلشِّيعَةِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو دُلَفَ يَقُولُ ذَلِكَ، وَيَعْتَرِفُ بِهِ، وَيَقُولُ: نَقَلَنِي سَيِّدُنَا اَلشَّيْخُ اَلصَّالِحُ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ) عَنْ مَذْهَبِ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْكَرْخِيِّ إِلَى اَلمَذْهَبِ اَلصَّحِيحِ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ اَلْبَغْدَادِيَّ(398).
ثمّ إنَّ أبا بكر البغدادي حين أرسل إليه وجوه الخاصَّة وعلماؤهم وسألوه عن دعواه السفارة، أنكر ذلك وحلف عليه وقال: لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ مَالٌ لكي يأخذه بالوكالة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وإنَّما عُرِضَ عليه ذلك امتحاناً، فَأَبَى وَقَالَ: مُحَرَّمٌ عَلَيَّ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ هَذَا اَلْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلَا اِدَّعَيْتُ شَيْئاً مِنْ هَذَا(399).
قال الراوي: فَلَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ، مَالَ إِلَيْهِ أبو دلف الكاتب وَعَدَلَ عَنِ اَلطَّائِفَةِ وَأَوْصَى إِلَيْهِ، لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَلَعَنَّاهُ، وَبَرِئْنَا مِنْهُ، لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنِ اِدَّعَى اَلْأَمْرَ بَعْدَ اَلسَّمُرِيِّ فَهُوَ كَافِرٌ مُنَمِّسٌ، ضَالٌّ مُضِلٌّ(400).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(396) الغيبة للطوسي (ص 413 و414/ ح 388).
(397) المخمِّسة من الغلاة يقولون: إنَّ الخمسة: سلمان، وأبو ذرٍّ، والمقداد، وعمَّار، وعمرو بن أُميَّة الضمري هم الموكَّلون بمصالح العالم من قِبَل الربِّ. (الغيبة للطوسي: هامش ص 414).
(398) الغيبة للطوسي (ص 414/ ح 390).
(399) الغيبة للطوسي (ص 412 و413/ ح 386).
(400) الغيبة للطوسي (ص 412/ ح 385).
وكان أبو دلف يدافع عن أبي بكر البغدادي ويُفضِّله على أبي القاسم الحسين بن روح وعلى غيره، فلمَّا قيل له في وجه ذلك قال: لِأَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ قَدَّمَ اِسْمَهُ عَلَى اِسْمِهِ فِي وَصِيَّتِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: فَالمَنْصُورُ إِذًا أَفْضَلُ مِنْ مَوْلَانَا أَبِي اَلْحَسَنِ مُوسَى الكاظم (عليه السلام)، قَالَ: وَكَيْفَ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ اَلصَّادِقَ (عليه السلام) قَدَّمَ اِسْمَهُ عَلَى اِسْمِهِ فِي اَلْوَصِيَّةِ، فَقَالَ لِي: أَنْتَ تَتَعَصَّبُ عَلَى سَيِّدِنَا ومولانا وَتُعَادِيهِ، فَقُلْتُ: وَاَلْخَلْقُ كُلُّهُمْ تعَادِي أَبَا بَكْرٍ اَلْبَغْدَادِيَّ وَتَتَعَصَّبُ عَلَيْهِ غَيْرُكَ وَحْدَكَ، وَكِدْنَا أَنْ نَتَقَاتَلَ وَنَأْخُذَ بِالْأَزْيَاقِ(401).
وَحُكِيَ أَنَّهُ تَوَكَّلَ لِلْيَزِيدِيِّ بِالْبَصْرَةِ، فَبَقِيَ فِي خِدْمَتِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَجَمَعَ مَالاً عَظِيماً، فَسُعِيَ بِهِ إِلَى اَلْيَزِيدِيِّ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ، وَصَادَرَهُ وَضَرَبَهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ حَتَّى نَزَلَ اَلمَاءُ فِي عَيْنَيْهِ، فَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ ضَرِيراً(402)، بعد أنْ أوصى إلى أبي دلف من بعده، فأصبح هذا أيضاً مدَّعياً للسفارة.
سادساً: الباقطاني:
وكان هذا أيضاً مدَّعياً السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد فضحه أحمد الدينوري بعد أنْ حمل إليه ستَّة عشر ألف دينار من أهل دينور ليُسلِّمها إلى السفراء بالوصف، فوصل للباقطاني وقال: بَدَأْتُ بِالْبَاقَطَانِيِّ، وَصِرْتُ إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُ شَيْخاً مَهِيباً لَهُ مُرُوَّةٌ ظَاهِرَةٌ، وَفَرَسٌ عَرَبِيٌّ، وَغِلْمَانٌ كَثِيرٌ، وَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ اَلنَّاسُ يَتَنَاظَرُونَ عنده، قال: فَدَخَلْتُ إِلَيْهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَحَّبَ وَقَرَّبَ وَسَرَّ وَبَرَّ، فَأَطَلْتُ اَلْقُعُودَ إِلَى أَنْ خَرَجَ أَكْثَرُ اَلنَّاسِ، فَسَأَلَنِي عَنْ إِرْبَتِي، فَعَرَّفْتُهُ أَنِّي رَجُلٌ مِنَ أهل اَلدِّينَوَرِ، وَافَيْتُ وَمَعِي شَيْءٌ مِنَ اَلمَالِ أَحْتَاجُ أَنْ أُسَلِّمَهُ وَأُرِيدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(401) الغيبة للطوسي (ص 413/ ح 387).
(402) الغيبة للطوسي (ص 414/ ح 389).
حُجَّةً، فلمَّا أعوزه ذلك قَالَ: تَعُودُ إِلَيَّ فِي الغد، قال: فَعُدْتُ إِلَيْهِ مِنَ اَلْغَدِ، فَلَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ، وافتضحه الله على رؤوس الخلائق(403).
سابعاً: إسحاق الأحمر:
وكان هذا قد ادَّعى السفارة أيضاً من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وكان شابًّا نظيفاً، وقد كان يحضر منزله أكثر ممَّا يحضره الباقطاني، وكان له فرس ولباس ومروَّة وغلمان كثر، قال الدينوري: دَخَلْتُ عليه وَسَلَّمْتُ عليه، فَرَحَّبَ وَقَرَّبَ، فَصَبَرْتُ إِلَى أَنْ خَفَّ اَلنَّاسُ، فَسَأَلَنِي عَنْ حَاجَتِي، فَقُلْتُ لَهُ كَمَا قُلْتُ لِلْبَاقَطَانِيِّ، وعدت إليه بعد ثلاثة أيَّام، فلم يأتِ بحجَّة، وفضحه الله تعالى في أمره(404).
ثامناً: أبو دلف الكاتب:
وهو محمّد بن المظفَّر الكاتب، كان مخمِّساً مشهوراً، آمن بأبي بكر البغدادي واعتبر مذهبه هو الصحيح(405)، وكان يدافع عنه بحرارة، ويُقدِّمه على ابن روح النوبختي(406)، حتَّى أوصى له أبو بكر البغدادي بعد وفاته، وأمره في الجنون أكثر من أنْ يُحصى(407).
ادَّعى السفارة بعد السمري، فكان هذا علامة كذبه لدى الأصحاب، فأظهر الغلوَّ، وجُنَّ وسلسل، ثمّ صار مفوِّضاً(408).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(403) فرج المهموم (ص 240)، عنه بحار الأنوار (ج 51/ ص 300 و301/ ح 19).
(404) فرج المهموم (ص 240 و241)، عنه بحار الأنوار (ج 51/ ص 300 و301/ ح 19).
(405) الغيبة للطوسي (ص 414/ ح 390).
(406) الغيبة للطوسي (ص 413/ ح 387).
(407) الغيبة للطوسي (ص 414).
(408) الغيبة للطوسي (ص 412/ ح 385).
أقول: لقد كان معظم هؤلاء المنحرفين المذكورين مشتركين في خطِّ الأئمَّة (عليهم السلام) والسفراء في الأعمِّ الأغلب، بشعورهم بظلم السلطات لهم، وعدم اعترافهم بمشروعيَّتها، وهذا الشعور نفسه كان قد جعلهم يرهبون أنْ يبيعوا ضمائرهم للسلطات أو يداهنوا معهم في أمرهم، أو يُكرِّسوا نشاطهم وجهودهم لأجلها، لأنَّهم يشعرون أنَّهم لن يحصلوا على المؤيِّدين والأنصار في الأُمَّة، وأنَّهم سيفقدونهم إنْ فعلوا شيئاً ما لصالح السلطات، فاعتبار أنَّ تلك الفصائل كانت تُمثِّل أعلى رصيد للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فليس من السهولة أنْ يُقدِّموا التنازلات للسلطات على صالح حسابهم، وعلى هذا سوف لن يكون الشعور بهذا الاتِّجاه وهو القرب من السلطات والإدلاء بأسرار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مجدياً لهم.
مضافاً إلى معرفتهم التامَّة بأنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) على علم كامل وتامٍّ بكلِّ ما يصدر منهم من تحرُّكات ونشاط، وبكلِّ الدسائس والمؤامرات التي ربَّما يحيكونها ضدَّه، وأنَّه بإمكانه أنْ يفضحهم في عقر دارهم، ولا يكون لهم أيّ قيمة في الأُمَّة.
وهذا هو الذي جعلهم طرفاً في عدائهم للسلطات والسفراء على حدٍّ سواء، ولم يكن في مستطاعهم وهم يُمثِّلون أضيق الاتِّجاهات وأضعفها في أنْ يحاربوا في جهتين ويبذلوا نشاطهم في أكثر من ميدان، ممَّا عجَّل في خاتمة أمرهم وإنهاء حسابهم.
* * *
المبحث الرابع: التراث الذي خلَّفه محمّد بن عثمان ابن سعيد العمري للأمَّة الإسلاميَّة:
لقد خلَّف محمّد بن عثمان العمري تراثاً خالداً للأجيال والأُمَّة الإسلاميَّة مع تصدِّيه لمهمَّة السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ونُلخِّصه بما يلي:
ما تركه من روايات وأحاديث عن الأئمَّة وكُتُب ومؤلَّفات:
لقد كانت بغداد في أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث مسرحاً عامًّا للحوادث السياسيَّة والفكريَّة، وقد خلَّف محمّد بن عثمان العمري تراثاً ضخماً من الروايات والأحاديث عن الأئمَّة (عليهم السلام) وكُتُباً صنَّفها في مختلف العلوم.
فقد روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أبي نصر هبة الله، قال: كَانَ لِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ فِي اَلْفِقْهِ، مِمَّا سَمِعَهَا مِنْ أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ - العسكري - (عليه السلام) وَمِنَ اَلصَّاحِبِ (عليه السلام) وَمِنْ أَبِيهِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ - الحسن العسكري (عليه السلام) -، وَعَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ - الهادي - (عليه السلام)، فِيهَا كُتُبٌ تَرْجَمَتُهَا: كُتُبُ اَلْأَشْرِبَةِ.
وَذَكَرَتِ اَلْكَبِيرَةُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي جَعْفَرٍ - محمّد بن عثمان - (رضي الله عنه) أَنَّهَا وَصَلَتْ إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه) عِنْدَ اَلْوَصِيَّةِ إِلَيْهِ(409).
والغريب من النجاشي والطوسي (رحمهما الله) أنَّهما ذكراه فيمن لم يرو عن الأئمَّة (عليهم السلام)، مع ما تراه من روايته عن الإمامين الهادي والعسكري (عليهما السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(409) الغيبة للطوسي (ص 363/ ح 328).
قال السيِّد الخوئي (رحمه الله): مقتضى ذلك أنَّ محمّد بن عثمان بن سعيد له كتاب وله رواية عن العسكري (عليه السلام) والصاحب (عليه السلام)، فكان على النجاشي والشيخ أنْ يذكراه في كتابيهما، وأنَّه لا وجه لعدِّه فيمن لم يرو عنهم (عليهم السلام)، كما صنعه الشيخ (قدس سره).
ثمّ قال: ويمكن الاعتذار عن كلا الأمرين، أمَّا عن الأوَّل فبأنَّ الكتاب على ما يظهر من الرواية كان من الودائع عند السفراء، فلم يرَه أحد من العلماء والرواة، ولذلك لم يتعرَّض النجاشي والشيخ له.
وأمَّا عن الثاني فبأنَّ رواية محمّد بن عثمان عن العسكري (عليه السلام) لم تثبت إلَّا فيما رواه ابن نوح من رواية محمّد بن عثمان عن العسكري (عليه السلام) في الكتاب المزبور، وقد عرفت حال الكتاب. وأمَّا روايته عن الصاحب (عليه السلام) فهو وإنْ كان أمراً ثابتاً وتقدَّم بعضها، إلَّا أنَّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) لم يتعرَّض في رجاله لمن روى عن الصاحب (عليه السلام)، باعتبار أنَّ الرواة عنه (عليه السلام) ينحصر في السفراء إلَّا نادراً، فلأجل ذلك لم يجعل الشيخ لهذا باباً، وأدرج من روى عن الصاحب (عليه السلام) أيضاً فيمن لم يرو عنهم (عليهم السلام)(410).
وقال التستري (رحمه الله) معتذراً للشيخ الطوسي والنجاشي (رحمهما الله) قائلاً: إنَّ عدم عنوان الشيخ في الفهرست له والنجاشي غفلة بعد كونه ذا كتاب(411).
والله أعلم.
وأمَّا رواياته وأحاديثه عن الأئمَّة (عليهم السلام):
فقد روى عنهم (عليهم السلام) في مجالات مختلفة وأبواب عديدة من العلوم، ونُلخِّص بعضها بما يلي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(410) معجم رجال الحديث (ج 17/ ص 296 و297).
(411) قاموس الرجال (ج 9/ ص 410).
رواياته في أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة(412)، وأنَّ المهدي (عجَّل الله فرجه) يحضر كلَّ موسم حجٍّ، وما قاله (عليه السلام) في الموسم(413)، ودعاء الفرج الذي قرأه الإمام المهدي (عليهم السلام)(414)، ومعاجز رآها في ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(415)، والأموال التي كانت تصل للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقضيَّة التشكيك(416)، وزيارة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والصالحين تزيد في الرزق(417)، وروايته عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في دعاء المؤمن ودعاء الكافر(418)... إلخ.
وأمَّا أدعيته عن الأئمَّة (عليهم السلام):
فقد قدَّم محمّد بن عثمان العمري تراثاً ضخماً من الأدعية إلى الأُمَّة الإسلاميَّة، فكان منها أدعية ذات مضامين تربويَّة وعرضه فيها: إنماء الملكات الروحيَّة والنفسيَّة السائرة نحو التكامل، وإضعاف الغرائز الجامحة في الإنسان وانتشاله من هوَّة الشهوات، وتهذيب طباعه، وتطهيره من الآثام لكي يستخدم قواه ومواهبه في كلِّ خير.
وجاءت الأدعية التي رواها محمّد بن عثمان عن أئمَّته (عليهم السلام) أو قالها بنفسه معالجة مشكلة الإنسان وهمومه، وهي تقوم على ناحيتين:
الأُولى: زرع بذور الخير والأماني وسقيها بماء العقيدة، وتقوية هذا الشعور بتوفير الأجواء الملائمة لاحتضانها لكي تُعطي ثماراً صالحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(412) كمال الدِّين (ص 409/ باب 38/ ح 9).
(413) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 520/ ح 3115)، الغيبة للطوسي (ص 363 و364/ ح 329).
(414) كمال الدين للصدوق: 1/432، بحار الأنوار للمجلسي: 51/15.
(415) كمال الدِّين (ص 433/ باب 42/ ح 13 و14).
(416) الغيبة للطوسي: 130.
(417) مصباح المتهجِّد (ص 330).
(418) بحار الأنوار للمجلسي: 5/195.
الثانية: تنمية الرغبة والرهبة من الله تعالى، لأنَّها وحدها التي يتشعَّب عنها جذور الخير والتآلف، وإيجاد الوازع الدِّيني في النفس مرافقاً له في سرِّه وعلانيته ليمنعه عن ارتكاب المعاصي، ويُوقفه عن ارتكاب الجرائم.
ولقد رسمت تلك الأدعية العلاقات الاجتماعيَّة والعائليَّة، وغرضهم زرع بذور المجتمع الصالح، ومنها التام لله سبحانه وتعالى.
وهناك نموذج آخر من الدعاء يُعبَّر عنه بالدعاء السياسي، وقد استعمله الأئمَّة (عليهم السلام) كسلاح وزرع الخوف والرعب في قلوب الأعداء لزعزعة كيانهم وتشتيت كلمتهم، وإيقاد الجذوة في نفوس المؤمنين وشحذها وتقويتها.
وإليك ما ورد من أدعية من تراثٍ خلَّفه محمّد بن عثمان العمري عن الأئمَّة (عليهم السلام) ومنها أدعية مأثورة ومشهورة تُقرَأ دائماً في مرِّ الأيَّام، ولها إشراقات روحيَّة في النفوس.
ومنها: دعاء الافتتاح:
وهو الدعاء المشهور الذي يُقرَأ في شهر رمضان المبارك كلَّ ليلة، قال ابن طاووس (رحمه الله) نقلاً عن كتاب محمّد بن قرة، بإسناده عن أَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ السكوني (رضي الله عنه)، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ اَلْبَغْدَادِيَّ أَنْ يُخْرِجَ إِلَيَّ أدعية في شَهْرِ رَمَضَانَ التي كَانَ عَمُّهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيُّ (رضي الله عنه) يَدْعُو بِهَا، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ دَفْتَراً مُجَلَّداً بِأَحْمَرَ، فنسخت منه أدعية كثيرة، ومن جملتها: وتدعو بهذا الدعاء في كلِّ ليلة من شهر رمضان، فإنَّ الدعاء في هذا الشهر تسمعه الملائكة وتستغفر لصاحبه(419).
وقال النوري (رحمه الله) في (تحيَّة الزائر) ما ترجمته: وأسند العلَّامة المجلسي هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(419) إقبال الأعمال (ج 1/ ص 138).
الدعاء إلى صاحب الأمر (عليه السلام)، وكتب للشيعة أنْ يُقرَأ كلَّ ليلة من شهر رمضان(420).
وأوَّله: «بسم الله الرحمن الرحيم، اَللَّهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ اَلثَّنَاءَ بِحَمْدِكَ، وَأَنْتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوَابِ بِمَنِّكَ...» إلخ(421).
ومنها: دعاء السمات:
قال المجلسي (رحمه الله): وهذا الدعاء من الأدعية المشهورة التي اشتهرت بين أصحابنا غاية الاشتهار في جميع الأعصار والأمصار، وكانوا يواظبون عليه، ويُعرَف بدعاء (الشبُّور) و(السمات) بمعنى العلامات، والشبُّور بمعنى البوق الذي يُنفَخ فيه.
روى المجلسي (رحمه الله) بإسناد صحيح عن الحسين بن أحمد بن عمر بن الصباح، قال: حَضَرْتُ مَجْلِسَ اَلشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيِّ (قدس سره)، فَقَالَ بَعْضُنَا لَهُ: يَا سَيِّدِي، مَا بَالُنَا نَرَى كَثِيراً مِنَ اَلنَّاسِ يَصَّدَّقُونَ شَبُّورَ اَلْيَهُودِ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْهُمْ، وَهُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فَقَالَ: لِهَذَا عِلَّتَانِ: ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ، فَأَمَّا اَلظَّاهِرَةُ فَإِنَّهَا أَسْمَاءُ اَللهِ وَمَدَائِحُهُ، إِلَّا أَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَبْتُورَةٌ، وَعِنْدَنَا صَحِيحَةٌ مَوْفُورَةٌ، عَنْ سَادَتِنَا أَهْلِ اَلذِّكْرِ، نَقَلَهَا لَنَا خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَيْنَا. وَأَمَّا اَلْبَاطِنَةُ فَإِنَّا رُوِّينَا عَنِ اَلْعَالِمِ - أي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا دَعَا اَلمُؤْمِنُ يَقُولُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ): صَوْتٌ أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ، اِقْضُوا حَاجَتَهُ وَاِجْعَلُوهَا مُعَلَّقَةً بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ حَتَّى يُكْثِرَ دُعَاءَهُ شَوْقاً مِنِّي إِلَيْهِ، وَإِذَا دَعَا اَلْكَافِرُ يَقُولُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ): صَوْتٌ أَكْرَهُ سَمَاعَهُ، اِقْضُوا حَاجَتَهُ وَعَجِّلُوهَا لَهُ حَتَّى لَا أَسْمَعَ صَوْتَهُ، وَيَشْتَغِلَ بِمَا طَلَبَهُ عَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(420) تحيَّة الزائر (ص 132)، عن زاد المعاد (ص 86).
(421) إقبال الأعمال (ج 1/ ص 138).
خُشُوعِهِ»، قَالُوا: فَنَحْنُ نُحِبُّ أَنْ تُمْلِيَ عَلَيْنَا دُعَاءَ اَلسِّمَاتِ اَلَّذِي هُوَ لِلشَّبُّورِ حَتَّى نَدْعُوَ بِهِ عَلَى ظَالِمِنَا وَمُضْطَهِدِنَا وَاَلمُخَاتِلِينَ لَنَا وَاَلمُتَعَزِّزِينَ عَلَيْنَا، فَقَالَ - محمّد بن عثمان العمري -: حَدَّثَنِي أَبُو عُمْرو عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي اَلمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ اَلْجُعْفِيُّ أَنَّ خَوَاصًّا مِنَ اَلشِّيعَةِ سَأَلُوا عَنْ هَذِهِ اَلمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا أَبَا عَبْدِ اَللهِ - الصادق - (عليه السلام)، فَأَجَابَهُمْ بِمِثْلِ هَذَا اَلْجَوَابِ(422).
وكان يوشع بن نون وصيُّ موسى (عليه السلام) قد دعا بهذا الدعاء وعلَّمه خواصَّ بني إسرائيل، قال الكفعمي (رحمه الله): وهو مروي عن الصادق (عليه السلام) أيضاً بعينه إلَّا أنَّه ذكر أنَّ محاربة العماليق كانت مع موسى (عليه السلام)(423).
وقد روي فضائل عديدة في قراءته، فقد روي عن الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «لَوْ حَلَفْتُ أَنَّ فِي هَذَا اَلدُّعَاءِ اَلاِسْمَ اَلْأَعْظَمَ لَبَرَرْتُ، فَادْعُوا بِهِ عَلَى ظَالِمِنَا وَمُضْطَهِدِنَا وَاَلمُتَعَزِّزِينَ عَلَيْنَا»(424).
وقال (عليه السلام) أيضاً: «هَذَا مِنْ عَمِيقِ مَكْنُونِ اَلْعِلْمِ وَمَخْزُونِهِ، فَادْعُوا بِهِ وَلَا تَبْذُلُوهُ لِلنِّسَاءِ وَاَلسُّفَهَاءِ وَاَلصِّبْيَانِ وَاَلظَّالِمِينَ وَاَلمُنَافِقِينَ...»، إلخ من الفضائل في قراءته(425).
وقال عثمان بن سعيد العمري: قال محمّد بن عليٍّ الراشدي: ما دعوت به في مهمٍّ ولا ملمٍّ إلَّا ورأيت سرعة الإجابة(426).
وقد ذكر المجلسي (رحمه الله) أنَّه يُستحَبُّ الدعاء به في آخر ساعة من نهار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(422) بحار الأنوار (ج 87/ ص 96).
(423) بحار الأنوار (ج 87/ ص 102).
(424) المصدر السابق.
(425) المصدر السابق.
(426) المصدر السابق.
الجمعة، وقد تصدَّى الكفعمي لشرح هذا الدعاء، فأخذت منه بعض الفوائد لبسط الكلام فيه لكونه من الأدعية المشهورة، وقد اشتمل هذا الدعاء على ألفاظ غريبة تحتاج إلى الشرح والبيان(427).
وهذا الدعاء هو: قال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في (المصباح): دعاء السمات مروي عن العمري - محمّد بن عثمان العمري -، وهو: «اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ اَلْعَظِيمِ اَلْأَعْظَمِ - ثلاث مرَّات -، اَلْأَعَزِّ اَلْأَجَلِّ اَلْأَكْرَمِ، اَلَّذِي إِذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى مَغَالِقِ أَبْوَابِ اَلسَّمَاءِ لِلْفَتْحِ بِالرَّحْمَةِ اِنْفَتَحَتْ، وَإِذَا دُعِيتَ بِهِ عَلَى مَضَائِقِ أَبْوَابِ اَلْأَرْضِ لِلْفَرْجِ اِنْفَرَجَتْ...» إلخ(428).
ومنها: دعاء أمير المؤمنين في الاستجارة، وهو أفضل أدعيته (عليه السلام):
قال ابن طاووس (رحمه الله): ومن ذلك الدعاء المفضَّل على كلِّ دعاء لأمير المؤمنين (عليه السلام) والباقر والصادق، عُرِضَ على أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري (قدس سره)، فقال: ما مثل هذا الدعاء...، وقال: قراءة هذا الدعاء من أفضل العبادات، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم، اَللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ...» إلخ(429).
ومنها: دعاء عيد الفطر المبارك(430)، ودعاء رجب في كلِّ يوم، حيث روى الطوسي (رحمه الله) أنَّه أخرج هذا التوقيع الشريف من الناحية المقدَّسة على يدي أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم، اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعَانِي جَمِيعِ مَا يَدْعُوكَ بِهِ وُلَاةُ أَمْرِكَ، اَلمَأْمُونُونَ عَلَى سِرِّكَ، اَلمُسْتَبْشِرُونَ بِأَمْرِكَ...» إلخ(431).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(427) بحار الأنوار (ج 87/ ص 126).
(428) مصباح المتهجِّد (ص 416 و417).
(429) مهج الدعوات (ص 119 و120).
(430) إقبال الأعمال (ج 1/ ص 468).
(431) مصباح المتهجِّد (ص 803).
ومنها: صلاة وزيارة ودعاء للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
قال المجلسي (رحمه الله): قال مؤلِّف (المزار الكبير): ذكر التوجُّه إلى الحجَّة صاحب الزمان (عليه السلام) بالزيارة بعد صلاة اثنتي عشرة ركعة... إلخ(432)، والظاهر أنَّ الصلاة قبل الزيارة.
روى صاحب المزار وغيره عن أبي الحسين حمزة بن محمّد بن الحسن بن شبيب، قال: عَرَّفَنَا أَبُو عَبْدِ اَللهِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - النوبختي -، قَالَ: شَكَوْتُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ شَوْقِي إِلَى رُؤْيَةِ مَوْلَانَا (عليه السلام)، فَقَالَ لِي: مَعَ اَلشَّوْقِ تَشْتَهِي أَنْ تَرَاهُ؟! فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ، فَقَالَ لِي: شَكَرَ اَللهُ لَكَ شَوْقَكَ، وَأَرَاكَ وَجْهَهُ فِي يُسْرٍ وَعَافِيَةٍ، لَا تَلْتَمِسْ يَا أَبَا عَبْدِ اَللهِ أَنْ تَرَاهُ، فَإِنَّ أَيَّامَ اَلْغَيْبَةِ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ، وَلَا تَسْأَلِ اَلاِجْتِمَاعَ مَعَهُ، إِنَّهَا عَزَائِمُ اَللهِ وَاَلتَّسْلِيمُ لَهَا أَوْلَى، وَلَكِنْ تَوَجَّهْ إِلَيْهِ بِالزِّيَارَةِ بَعْدَ صَلَاة اِثْنَتَيْ عَشَرَ رَكْعَة... إلخ(433).
أقول: قوله: (لَا تَلْتَمِسْ يَا أَبَا عَبْدِ اَللهِ أَنْ تَرَاهُ...) إلخ، المراد منه رؤيته مطلقاً، فهو غير ممنوع أصلاً، ولو كان ممنوعاً مطلقاً ولو في بعض الأحيان لم يتَّفق لأحد من أهل الإيمان حتَّى السفراء أنفسهم، وهذا مخالف للعيان، لأنَّ الحكايات والروايات بهذا المرام من المؤمنين يوجب اليقين لأهل اليقين.
ومنها: أدعية الأئمَّة (عليهم السلام) وقنوتاتهم في الودائع المستحفظة:
قال ابن طاووس (رحمه الله): وَجَدْتُ فِي هَذَا اَلْأَصْلِ اَلَّذِي نَقَلْتُ مِنْهُ هَذِهِ اَلْقُنُوتَاتِ مَا هَذَا لَفْظُهُ مِمَّا يَأْتِي ذِكْرُهُ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، ثُمَّ وَجَدْتُ بَعْدَ سَطْرٍ هَذِهِ اَلْقُنُوتَاتِ إِسْنَادُهَا فِي كِتَابِ (عَمَلِ رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ) تَأْلِيفِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اَللهِ بْنِ عَبَّاس (رحمه الله)، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو اَلطَّيِّبِ اَلْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(432) بحار الأنوار (ج 99/ ص 96).
(433) المزار لابن المشهدي (ص 585 و586).
مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ اَلصَّبَّاحِ اَلْقَزْوِينِيُّ وَأَبُو اَلصَّبَّاحِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ اَلْبَغْدَادِيُّ اَلْكَاتِبَانِ، قَالَا: جَرَى بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا فَقِيهِ اَلْعِصَابَةِ ذِكْرُ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ بْنِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ اَلطَّالِبِيِّينَ: إِنَّمَا يَنْتَقِمُ مِنْهُ اَلنَّاسُ تَسْلِيمَ هَذَا اَلْأَمْرِ إِلَى اِبْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ شَيْخُنَا: رَأَيْتُ أَيْضاً مَوْلَانَا أَبَا مُحَمَّدٍ المجتبى أَعْظَمَ شَأْناً، وَأَعْلَى مَكَاناً، وَأَوْضَحَ بُرْهَاناً مِنْ أَنْ يَقْدَحَ فِي فِعْلٍ لَهُ اِعْتِبَارُ اَلمُعْتَبِرِينَ، أَوْ يَعْتَرِضَهُ شَكُّ اَلشَّاكِّينَ وَاِرْتِيَابُ اَلمُرْتَابِينَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ: لَـمَّا مَضَى سَيِّدُنَا اَلشَّيْخُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيُّ (رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَزَادَهُ عُلُوّاً فِيمَا أَوْلَاهُ) وَفرغ مِنْ أَمْرِهِ، جَلَسَ اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحِ بْنِ أَبِي بَحْرٍ (زَادَ اَللهُ تَوْفِيقَهُ) لِلنَّاسِ بَقِيَّة نَهَارِ يَوْمه فِي دَارِ اَلمَاضِي (رضي الله عنه) - أي محمّد بن عثمان العمري -، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ ذَكَاءُ اَلْخَادِمُ اَلْأَبْيَضُ مُدَرَّجاً وَعُكَّازاً وَحُقَّةَ خَشَبٍ مَدْهُونَةً، فَأَخَذَ اَلْعُكَّازَ فَجَعَلَهَا فِي حَجْرِهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَأَخَذَ اَلمُدَرَّجَ بِيَمِينِهِ وَاَلْحُقَّةَ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ لِوَرَثَتِهِ: فِي هَذَا اَلمُدَرَّجِ ذِكْرُ وَدَائِعَ، فَنَشَرَهُ - ابن روح -، فَإِذَا هِيَ أَدْعِيَةٌ وَقُنُوتُ مَوَالِينَا اَلْأَئِمَّةِ (عليهم السلام)، فَأَضْرَبُوا عَنْهَا وَ قَالُوا فَفِي اَلْحُقَّةِ...، وَفِيهِ قُنُوتُ مَوْلَانَا أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ بْنِ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَأَمْلاَهَا عَلَيْنَا مَنْ حَفِظَهُ، فَكَتَبْنَاهَا عَلَى مَا سَطَرَ فِي هَذِهِ اَلْمِدْرَجَةِ، وَقَالَ: اِحْتَفِظُوا بِهَا كَمَا تَحْتَفِظُونَ بِمُهِمَّاتِ اَلدِّينِ، وَعَزَمَاتِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ (جَلَّ وَعَزَّ)(434).
وهي قنوتات وأدعية للأئمَّة (عليهم السلام) إلى الحجَّة المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهي طويلة جدًّا، مذكورة في كُتُب الأدعية، فراجعها.
أمَّا تراثه فيما خرج من توقيعات:
وخرج من محمّد بن عثمان العمري توقيعات كثيرة من إمامه المهدي (عجَّل الله فرجه) للأُمَّة الإسلاميَّة في أُمور وقضايا عديدة، تُلخَّص بعضها بما يلي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(434) مهج الدعوات (ص 45 - 47).
التوقيع الأوَّل: النهي عن ذكر اسم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحكمة النهي عن ذلك:
روى المجلسي (رحمه الله) بإسناده عن عليِّ بن صدقة القمِّي، قال: خرج إلى محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) ابتداءً من غير مسألة: «لِيُخْبِرَ اَلَّذِينَ يَسْأَلُونَ عَنِ اَلْاِسْمِ إِمَّا اَلسُّكُوتَ وَاَلْجَنَّةَ، وَإِمَّا اَلْكَلَامَ وَاَلنَّارَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ وَقَفُوا عَلَى اَلْاِسْمِ أَذَاعُوهُ، وَإِنْ وَقَفُوا عَلَى اَلمَكَانِ دَلُّوا عَلَيْهِ»(435).
التوقيع الثاني: مسألة كلاميَّة، وهي تفويض الخلق والرزق:
ورد عن أبي جعفر محمّد بن عليِّ بن الحسين بن بابويه - أو قال: أبو الحسن عليُّ بن محمّد بن أحمد الدلَّال القمِّي(436) -، قال: اِخْتَلَفَ جَمَاعَةٌ مِنَ اَلشِّيعَةِ فِي أَنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) فَوَّضَ إِلَى اَلْأَئِمَّةِ (عليهم السلام) أَنْ يَخْلُقُوا وَيَرْزُقُوا، فَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا مُحَالٌ لَا يَجُوزُ عَلَى اَللهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اَلْأَجْسَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِهَا غَيْرُ اَللهِ تَعَالَى، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ اَللهُ تَعَالَى أَقْدَرَ اَلْأَئِمَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَفَوَّضَهُ إِلَيْهِمْ، فَخَلَقُوا، وَرَزَقُوا، وَتَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ نِزَاعاً شَدِيداً، فَقَالَ قَائِلٌ: مَا بَالُكُمْ لَا تَرْجِعُونَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ فَتَسْأَلُونَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَيُوَضِّحَ لَكُمُ اَلْحَقَّ فِيهِ؟ فَإِنَّهُ اَلطَّرِيقُ إِلَى صَاحِبِ اَلْأَمْرِ (عليه السلام)، فَرَضِيَتِ اَلْجَمَاعَةُ بِأَبِي جَعْفَرٍ، وَسَلَّمَتْ وَأَجَابَتْ إِلَى قَوْلِهِ، فَكَتَبُوا اَلمَسْأَلَةَ، وَأَنْفَذُوهَا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِهِ تَوْقِيعٌ نُسْخَتُهُ: «إِنَّ اَللهَ تَعَالَى هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَجْسَامَ، وَقَسَّمَ اَلْأَرْزَاقَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا حَالٌّ فِي جِسْمٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(435) قد تقدَّم في (ص 39)، فراجع.
(436) جاء في هامش الاحتجاج (ج 2/ ص 284): قال المامقاني في تنقيحه (ج 3/ ص 11/ باب الكنى): أبو الحسن الدلَّال ليس له ذكر في كلمات أصحابنا الرجاليِّين، وإنَّما الذي عثرنا عليه رواية الكليني (رحمه الله) في باب تربيع القبر من (الكافي): (عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر...).
اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ، وَأَمَّا اَلْأَئِمَّةُ (عليهم السلام) فَإِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اَللهَ تَعَالَى فَيَخْلُقُ، وَيَسْأَلُونَهُ فَيَرْزُقُ، إِيجَاباً لِمَسْأَلَتِهِمْ، وَإِعْظَاماً لِحَقِّهِمْ»(437).
التوقيع الثالث: متى يظهر المهدي (عجَّل الله فرجه)؟
روى الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن أبي عليٍّ محمّد بن همَّام، قال: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ (قدس سره) يَقُولُ: خَرَجَ تَوْقِيعٌ بِخَطٍّ نَعْرِفُهُ: «مَنْ سَمَّانِي فِي مَجْمَعٍ مِنَ اَلنَّاسِ بِاسْمِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اَللهِ»، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ: وَكَتَبْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ اَلْفَرَجِ مَتَى يَكُونُ؟ فَخَرَجَ إِلَيَّ: «كَذَبَ اَلْوَقَّاتُونَ»(438).
التوقيع الرابع: الموسوعة الفقهيَّة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
روى الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي، قال: كَانَ فِيمَا وَرَدَ عَلَيَّ مِنَ اَلشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ - العمري - (قدس سره) فِي جَوَابِ مَسَائِلِي إِلَى صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام): «أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنَ اَلصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، فَلَئِنْ كَانَ كَمَا يَقُولُ اَلنَّاسُ: إِنَّ اَلشَّمْسَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ اَلشَّيْطَانِ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ اَلشَّيْطَانِ، فَمَا أَرْغَمَ أَنْفَ اَلشَّيْطَانِ أَفْضَلُ مِنَ اَلصَّلَاةِ؟ فَصَلِّهَا وَأَرْغِمْ أَنْفَ اَلشَّيْطَانِ...» إلخ(439)، وهو توقيع طويل جدًّا وردت فيه مسائل عديدة وفروع فقهيَّة متنوِّعة في كلِّ الأبواب، فراجعها في مظانِّها.
التوقيع الخامس: معجزات المهدي (عجَّل الله فرجه):
وروى المجلسي (رحمه الله) بإسناده عن أبي الحسين الأسدي، قال: وَرَدَ عَلَيَّ تَوْقِيعٌ مِنَ اَلشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ (قدس سره) اِبْتِدَاءً لَمْ يَتَقَدَّمْهُ سُؤَالٌ، نسخته: بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، لَعْنَةُ اَلله وَاَلمَلَائِكَةِ وَاَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ عَلَى مَنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(437) الغيبة للطوسي (ص 293 و294/ ح 248)، الاحتجاج (ج 2/ ص 284 و285).
(438) كمال الدِّين (ص 483/ باب 45/ ح 3).
(439) كمال الدِّين (ص 520/ باب 45/ ح 49).
اِسْتَحَلَّ مِنْ أَمْوَالِنَا دِرْهَماً»، قَالَ أَبُو اَلْحُسَيْنِ اَلْأَسَدِيُّ (رحمه الله): فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنِ اِسْتَحَلَّ مِنْ مَالِ اَلنَّاحِيَةِ دِرْهَماً دُونَ مَنْ أَكَلَ مِنْهُ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهُ، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَنِ اِسْتَحَلَّ مُحَرَّماً، فَأَيُّ فَضْلٍ فِي ذَلِكَ لِلْحُجَّةِ (عليه السلام) عَلَى غَيْرِهِ؟! قَالَ: فَوَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالْحَقِّ بَشِيراً لَقَدْ نَظَرْتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي اَلتَّوْقِيعِ فَوَجَدْتُهُ قَدِ اِنْقَلَبَ إِلَى مَا كَانَ فِي نَفْسِي: «بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، لَعْنَةُ اَللهِ وَاَلمَلَائِكَةِ وَاَلنَّاسِ أَجْمَعِينَ عَلَى مَنْ أَكَلَ مِنْ مَالِنَا دِرْهَماً حَرَاماً»، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلْخُزَاعِيُّ: أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي اَلْحُسَيْنِ اَلْأَسَدِيُّ هَذَا اَلتَّوْقِيعَ حَتَّى نَظَرْنَا فِيهِ وَقَرَأْنَاهُ(440).
التوقيع السادس: فضيحة المنحرفين، وأجوبة عامَّة في الفقه والسياسة:
روى الكليني (رحمه الله) عن إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ (رضي الله عنه) أَنْ يُوصِلَ لِي كِتَاباً قَدْ سَأَلْتُ فِيهِ عَنْ مَسَائِلَ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ، فَوَرَدَتْ اَلتَّوْقِيعِ بِخَطِّ مَوْلَانَا صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام): «أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ أَرْشَدَكَ اَللهُ وَثَبَّتَكَ مِنْ أَمْرِ اَلمُنْكِرِينَ لِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِنَا وَبَنِي عَمِّنَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) وَبَيْنَ أَحَدٍ قَرَابَةٌ، وَمَنْ أَنْكَرَنِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ اِبْنِ نُوحٍ (عليه السلام). وأَمَّا سَبِيلُ عَمِّي جَعْفَرٍ(441) وَوُلْدِهِ فَسَبِيلُ إِخْوَةِ يُوسُفَ (عليه السلام). وَأَمَّا اَلْفُقَّاعُ فَشُرْبُهُ حَرَامٌ، وَلَا بَأْسَ بِالشَّلْمَابِ. وَأَمَّا أَمْوَالُكُمْ فَلَا نَقْبَلُهَا إِلَّا لِتَطَهَّرُوا، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصِلْ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَقْطَعْ...، وَأَمَّا ظُهُورُ اَلْفَرَجِ فَإِنَّهُ إِلَى اَللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَكَذَبَ اَلْوَقَّاتُونَ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اَلْحُسَيْنَ (عليه السلام) لَمْ يُقْتَلْ فَكُفْرٌ وَتَكْذِيبٌ وَضَلَالٌ. وَأَمَّا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(440) بحار الأنوار (ج 53/ ص 183 و184/ ح 12)، عن كمال الدِّين (ص 522/ باب 45/ ح 51)، والاحتجاج (ج 2/ ص 300).
(441) يُكنَّى جعفر هذا أبو عبد الله، ويُلقَّب (كرين) لأنَّه أولد مائة وعشرين ولداً، أعقب من جماعة انتشر منهم عقب ستَّة...، ويقال لولده: الرضويُّون، نسبة إلى جدِّه الرضا (عليه السلام)، وكانت وفاته عام (271هـ) وله خمس وأربعون سنة، وقبره في دار أبيه بسامرَّاء. (فِرَق الشيعة: هامش ص 95).
اَلْحَوَادِثُ اَلْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اَللهِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيُّ رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ فَإِنَّهُ ثِقَتِي وَكِتَابُهُ كِتَابِي. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ اَلْأَهْوَازِيُّ فَسَيُصْلِحُ اَللهُ لَهُ قَلْبَهُ وَيُزِيلُ عَنْهُ شَكَّهُ. وَأَمَّا مَا وَصَلْتَنَا بِهِ فَلَا قَبُولَ عِنْدَنَا إِلَّا لِمَا طَابَ وَطَهُرَ. وَثَمَنُ اَلْمُغَنِّيَةِ حَرَامٌ. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ بْنِ نُعَيْمٍ فَهُوَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَتِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ. وَأَمَّا أَبُو اَلْخَطَّابِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْنَبَ اَلْأَجْدَعُ فَمَلْعُونٌ، وَأَصْحَابُهُ مَلْعُونُونَ، فَلَا تُجَالِسْ أَهْلَ مَقَالَتِهِمْ، فَإِنِّي مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَآبَائِي (عليهم السلام) مِنْهُمْ بِرَاءٌ. وَأَمَّا اَلمُتَلَبِّسُونَ بِأَمْوَالِنَا، فَمَنِ اِسْتَحَلَّ مِنْهَا شَيْئاً فَأَكَلَهُ فَإِنَّمَا يَأْكُلُ اَلنِّيرَانَ. وَأَمَّا اَلْخُمُسُ فَقَدْ أُبِيحَ لِشِيعَتِنَا(442)، وَجُعِلُوا مِنْهُ فِي حِلٍّ إِلَى وَقْتِ ظُهُورِ أَمْرِنَا، لِتَطِيبَ وِلاَدَتُهُمْ وَلَا تَخْبُثَ. وَأَمَّا نَدَامَةُ قَوْمٍ قَدْ شَكُّوا فِي دِينِ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) عَلَى مَا وَصَلُونَا بِهِ فَقَدْ أَقَلْنَا مَنِ اِسْتَقَالَ، وَلَا حَاجَةَ فِي صِلَةِ اَلشَّاكِّينَ»(443).
التوقيع السابع: فائدة الغيبة وعلَّتها:
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن إسحاق بن يعقوب، قال: إنَّه ورد عليَّ من الناحية المقدَّسة على يد محمّد بن عثمان العمري: «وَأَمَّا عِلَّةُ مَا وَقَعَ مِنَ اَلْغَيْبَةِ، فَإِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آبَائِي إِلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ، وَإِنِّي أَخْرُجُ حِينَ أَخْرُجُ وَلَا بَيْعَةَ لِأَحَدٍ مِنَ اَلطَّوَاغِيتِ فِي عُنُقِي، وَأَمَّا وَجْهُ اَلاِنْتِفَاعِ بِي فِي غَيْبَتِي فَكَالاِنْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ إِذَا غَيَّبَتْهَا عَنِ اَلْأَبْصَارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(442) تحقيق ما أحلَّ من الخُمُس في زمن الغيبة للشيعة يُطلَب من كُتُب الفقه، وفيه روايات وأقوال، أشهرها وأظهرها أنَّ المراد بهذا الخبر وأمثاله إباحة الخُمُس في المناكح للشيعة زمن الغيبة لتطيب ولادتهم، دون الخُمُس في غيرها لأنَّه واجب.
(443) كمال الدِّين (ص 483 - 485/ باب 45/ ح 4)، الغيبة للطوسي (ص 290 - 292/ ح 247).
اَلسَّحَابُ، وَإِنِّي لَأَمَانُ أَهْلِ اَلْأَرْضِ كَمَا أَنَّ اَلنُّجُومَ أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ، فَأَغْلِقُوا أَبْوَابَ اَلسُّؤَالِ عَمَّا لَا يَعْنِيكُمْ، وَلَا تَتَكَلَّفُوا عَلَى مَا قَدْ كُفِيتُمْ، وَأَكْثِرُوا اَلدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ اَلْفَرَجِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَرَجكُمْ، وَاَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا إِسْحَاقَ بْنَ يَعْقُوبَ وَعَلى مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدى»(444).
التوقيع الثامن: في طلب العافية:
روى المجلسي (رحمه الله) بإسناده عن أحمد بن روح، قال: خَرَجْتُ إِلَى بَغْدَادَ فِي مَالٍ لِأَبِي اَلْحَسَنِ اَلْخَضِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ لِأُوصِلَهُ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ، فَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَسْأَلَ اَلدُّعَاءَ لِلْعِلَّةِ اَلَّتِي هُوَ فِيهَا، وَأَسْأَلَهُ عَنِ اَلْوَبَرِ يَحِلُّ لُبْسُهُ؟! فَدَخَلْتُ بَغْدَادَ وَصِرْتُ إِلَى اَلْعَمْرِيِّ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ اَلمَالَ، وَقَالَ: صِرْ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، وَاِدْفَعْ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَأْخُذَهُ، وَقَدْ خَرَجَ اَلَّذِي طَلَبْتُ، فَجِئْتُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ فَأَوْصَلْتُهُ إِلَيْهِ، فَأَخْرَجَ إِلَيَّ رُقْعَةً فِيهَا: «بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، سَأَلْتَ اَلدُّعَاءَ عَنِ اَلْعِلَّةِ اَلَّتِي تَجِدُهَا، وَهَبَ اَللهُ لَكَ اَلْعَافِيَةَ، وَدَفَعَ عَنْكَ اَلْآفَاتِ، وَصَرَفَ عَنْكَ بَعْضَ مَا تَجِدُهُ مِنَ اَلْحَرَارَةِ، وَعَافَاكَ وَصَحَّ جِسْمُكَ...» إلخ(445).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(444) الغيبة للطوسي (ص 292 و293/ ح 247)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 485/ باب 45/ ح 4).
(445) بحار الأنوار (ج 53/ ص 197/ ح 23)، عن الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 702/ ح 18).
المبحث الخامس: المعجزات التي ظهرت من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يدي محمّد بن عثمان بن سعيد العمري:
ذكرنا أنَّ المعجزة بمفهومها الدِّيني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر ممَّا كانت عليه في ظلِّ وجهة النظر الكلاسيكيَّة إلى علاقة السببيَّة، فقد تحوَّلت تلك العلاقة في المنطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطَّرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبيَّة، فتتحوَّل المعجزة على هذا إلى حالة استثنائيَّة لهذا الاطِّراد في الاقتران أو التتابع من دون أنْ تصطدم بضرورة أو تُؤدِّي إلى استحالة، ولكنَّها بناءً على الأُسُس المنطقيَّة للاستقراء تتَّفق مع وجهة النظر الحديثة، في أنَّ الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولكنَّا نرى أنَّه يدلُّ على وجود تفسير مشترك لاطِّراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظِّم الكون إلى ربط ظواهر معيَّنة بظواهر أُخرى باستمرار، فتدعو الحكمة بنفسها أحياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة(446).
لقد صارت معاجز الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يدي سفيره محمّد بن عثمان العمري، وهي تدلُّ على صدق مقالته، وصحَّة بابيَّته، ودليل واضح على أمامة من انتموا إليه(447).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(446) بحث حول المهدي (عجَّل الله فرجه) (ص 79 و80).
(447) الغيبة للطوسي (ص 415).
وقد اعتادت الأُمَّة أنْ لا تقبل أيَّ ادِّعاء في أمر ما إلَّا بعد أنْ يقام لها آية معجزة، وقد أقام العمري المعاجز الكثيرة التي ظهرت على يديه من إمامه المهدي (عجَّل الله فرجه)(448)، فكان أبو جعفر يُخبر عن عجائب الأُمور التي لا يقف عليها إلَّا الله سبحانه وتعالى، أو الأنبياء والأئمَّة (عليهم السلام) من قِبَل الله الذي يعلم السرائر وما تخفي الصدور(449).
ونُلخِّص بعض ما ظهر من معجزات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) التي ظهرت على يدي سفيره محمّد بن عثمان العمري:
أوَّلاً: الإخبار عن أُمور غيبيَّة مدهشة:
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أبي نصر هبة الله، قال: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي نَوْبَخْتَ مِنْهُمْ أَبُو اَلْحَسَنِ بْنُ كَثِيرٍ اَلنَّوْبَخْتِيُّ (رحمه الله)، وَحَدَّثَتْنِي بِهِ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ (رضي الله عنه): أَنَّهُ حُمِلَ إِلَى أَبِي (رضي الله عنه) فِي وَقْتٍ مِنَ اَلْأَوْقَاتِ مَا يُنْفِذُهُ إِلَى صَاحِبِ اَلْأَمْرِ (عليه السلام) مِنْ قُمَّ وَنَوَاحِيهَا، فَلَمَّا وَصَلَ اَلرَّسُولُ إِلَى بَغْدَادَ وَدَخَلَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ وَأَوْصَلَ إِلَيْهِ مَا دُفِعَ إِلَيْهِ وَوَدَّعَهُ وَجَاءَ لِيَنْصَرِفَ قَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: قَدْ بَقِيَ شَيْءٌ مِمَّا اُسْتُودِعْتَهُ، فَأَيْنَ هُوَ؟ فَقَالَ لَهُ اَلرَّجُلُ: لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَا سَيِّدِي فِي يَدِي إِلَّا وَقَدْ سَلَّمْتُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: بَلَى، قَدْ بَقِيَ شَيْءٌ، فَأَرْجِعْ إِلَيَّ مَا مَعَكَ وَفَتِّشْهُ وَتَذَكَّرْ مَا دُفِعَ إِلَيْكَ. فَمَضَى اَلرَّجُلُ، فَبَقِيَ أَيَّاماً يَتَذَكَّرُ وَيَبْحَثُ وَيُفَكِّرُ، فَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئاً، وَلَا أَخْبَرَهُ مَنْ كَانَ فِي جُمْلَتِهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَقَالَ لَهُ: لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فِي يَدِي مِمَّا سُلِّمَ إِلَيَّ، وَقَدْ حَمَلْتُهُ إِلَى حَضْرَتِكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنَّهُ يُقَالُ لَكَ: «اَلثَّوْبَانِ اَلسَّرْدَانِيَّانِ(450) اَللَّذَانِ دَفَعَهُمَا إِلَيْكَ فُلَانُ بْنُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(448) الاحتجاج للطبرسي: 2/478.
(449) الغيبة للطوسي (ص 295).
(450) السردانيَّة: جزيرة كبيرة ببحر المغرب قاله في (القاموس)، ولعلَّ الثوب السرداني منسوب إلى هذه الجزيرة. (من هامش المصدر).
فُلَانٍ مَا فَعَلَا؟!»، فَقَالَ لَهُ اَلرَّجُلُ: إِي وَاَللهِ يَا سَيِّدِي لَقَدْ نَسِيتُهُمَا حَتَّى ذَهَبَا عَنْ قَلْبِي، وَلَسْتُ أَدْرِي اَلْآنَ أَيْنَ وَضَعْتُهُمَا، فَمَضَى اَلرَّجُلُ، فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ كَانَ مَعَهُ إِلَّا فَتَّشَهُ وَحَلَّهُ، وَسَأَلَ مَنْ حَمَلَ إِلَيْهِ شَيْئاً مِنَ اَلمَتَاعِ أَنْ يُفَتِّشَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَقِفْ لَهُمَا عَلَى خَبَرٍ، فَرَجَعَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: يُقَالُ لَكَ: «اِمْضِ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ اَلْقَطَّانِ اَلَّذِي حَمَلْتَ إِلَيْهِ اَلْعِدْلَيْنِ اَلْقُطْنَ فِي دَارِ اَلْقُطْنِ، فَافْتُقْ أَحَدَهُمَا، وَهُوَ اَلَّذِي عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّهُمَا فِي جَانِبِهِ»، فَتَحَيَّرَ اَلرَّجُلُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ، وَمَضَى لِوَجْهِهِ إِلَى اَلمَوْضِعِ، فَفَتَقَ اَلْعِدْلَ اَلَّذِي قَالَ لَهُ: اُفْتُقْهُ، فَإِذَا اَلثَّوْبَانِ فِي جَانِبِهِ قَدِ اِنْدَسَّا مَعَ اَلْقُطْنِ، فَأَخَذَهُمَا وَجَاءَ بِهِمَا إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَسَلَّمَهُمَا إِلَيْهِ وَقَالَ: لَقَدْ نَسِيتُهُمَا، لِأَنِّي لَـمَّا شَدَدْتُ اَلمَتَاعَ بَقِيَا، فَجَعَلْتُهُمَا فِي جَانِبِ اَلْعِدْلِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْفَظَ لَهُمَا.
وَتَحَدَّثَ اَلرَّجُلُ بِمَا رَآهُ وَأَخْبَرَهُ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ - العمري - عَنْ عَجِيبِ اَلْأَمْرِ اَلَّذِي لَا يَقِفُ إِلَيْهِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ إِمَامٌ مِنْ قِبَلِ اَللهِ اَلَّذِي يَعْلَمُ اَلسَّرَائِرَ وَمَا تُخْفِي اَلصُّدُورُ.
وَ لَمْ يَكُنْ هَذَا اَلرَّجُلُ يَعْرِفُ أَبَا جَعْفَرٍ - العمري -، وَإِنَّمَا أُنْفِذَ عَلَى يَدِهِ كَمَا يُنْفِذُ اَلتُّجَّارُ إِلَى أَصْحَابِهِمْ عَلَى يَدِ مَنْ يَثِقُونَ بِهِ، وَلَا كَانَ مَعَهُ تَذْكِرَةٌ سَلَّمَهَا إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ وَلَا كِتَابٌ، لِأَنَّ اَلْأَمْرَ كَانَ حَادًّا جِدًّا فِي زَمَانِ اَلمُعْتَضِدِ، وَاَلسَّيْفُ يَقْطُرُ دَماً كَمَا يُقَالُ، وَكَانَ سِرًّا بَيْنَ اَلْخَاصِّ مِنْ أَهْلِ هَذَا اَلشَّأْنِ(451).
ثانياً: معاجز متتابعة:
وروى المجلسي (رحمه الله) بإسناده عن محمّد بن عليِّ بن متيل، قال: قَالَ عَمِّي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَتِّيلٍ: دَعَانِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ اَلسَّمَّانُ اَلمَعْرُوفُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(451) الغيبة للطوسي (ص 294 - 296/ ح 249).
بِالْعَمْرِيِّ، وَأَخْرَجَ إِلَيَّ ثُوَيْبَاتٍ مُعْلَمَةً وَصُرَّةً فِيهَا دَرَاهِمُ، فَقَالَ لِي: تَحْتَاجُ أَنْ تَصِيرَ بِنَفْسِكَ إِلَى وَاسِطٍ فِي هَذَا اَلْوَقْتِ، وَتَدْفَعَ مَا دَفَعْتُ إِلَيْكَ إِلَى أَوَّلِ رَجُلٍ يَلْقَاكَ عِنْدَ صُعُودِكَ مِنَ اَلمَرْكَبِ إِلَى اَلشَّطِّ بِوَاسِطٍ، قَالَ: فَتَدَاخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ غَمٌّ شَدِيدٌ، وَقُلْتُ: مِثْلِي يُرْسَلُ فِي هَذَا اَلْأَمْرِ وَيَحْمِلُ هَذَا اَلشَّيْءَ اَلْوَتْحَ - أي القليل التافه -، قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى وَاسِطٍ وَصَعِدْتُ مِنَ اَلمَرْكَبِ، فَأَوَّلُ رَجُلٍ تَلَقَّانِي سَأَلْتُهُ عَنِ اَلْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَطَاةٍ اَلصَّيْدَلَانِيِّ وَكِيلِ اَلْوَقْفِ بِوَاسِطٍ، فَقَالَ: أَنَا هُوَ، مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَتِّيلٍ، قَالَ: فَعَرَفَنِي بِاسْمِي، وَسَلَّمَ عَلَيَّ، وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَتَعَانَقْنَا، فَقُلْتُ لَهُ: أَبُو جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيُّ يَقْرَأُ عَلَيْكَ اَلسَّلَامَ، وَدَفَعَ إِلَيَّ هَذِهِ اَلثُوَيْبَاتِ وَهَذِهِ اَلصُّرَّةَ لِأُسَلِّمَهَا إِلَيْكَ، فَقَالَ: اَلْحَمْدُ لِلهِ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اَللهِ اَلْعَامِرِيَّ قَدْ مَاتَ، وَخَرَجْتُ لِأُصْلِحَ كَفَنَهُ، فَحَلَّ اَلثِّيَابَ، فَإِذَا بِهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ حِبَرَةٍ وَثِيَابٍ وَكَافُورٍ، وَفِي اَلصُّرَّةِ كَرَى اَلْحَمَّالِينَ وَاَلْحَفَّارِ، قَالَ: فَشَيَّعْنَا جَنَازَتَهُ، وَاِنْصَرَفْتُ(452).
ثالثاً: الأموال الناقصة:
روى المفيد (رحمه الله) بإسناده عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ اَلنَّيْسَابُورِيِّ، قَالَ: اِجْتَمَعَ عِنْدِي خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ يَنْقُصُ عِشْرُونَ دِرْهَماً، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أُنْفِذَهَا نَاقِصَةً، فَوَزَنْتُ مِنْ عِنْدِي عِشْرِينَ دِرْهَماً، وَبَعَثْتُهَا إِلَى اَلْأَسَدِيِّ - أبي جعفر العمري -، وَلَمْ أَكْتُبْ مَا لِي فِيهَا، فَوَرَدَ اَلْجَوَابُ: «وَصَلَتْ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، لَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ دِرْهَماً»(453).
رابعاً: قصَّة الدينوري وما فيها من الأعاجيب:
روى المجلسي (رحمه الله) بإسناده عن أبي العبَّاس أحمد الدينوري الملقَّب بـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(452) بحار الأنوار (ج 51/ ص 336 و337/ ح 63)، عن كمال الدِّين (ص 504/ باب 45/ ح 35).
(453) الإرشاد (ج 2/ ص 365).
(آستاره)، قال: اِنْصَرَفْتُ مِنْ أَرْدَبِيلَ إِلَى دِينَوَرَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - العسكري - (عليه السلام) بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ - الترديد من الراوي -، فَاسْتَبْشَرَ أَهْلُ دِينَوَرَ بِمُوَافَاتِي، وَاِجْتَمَعَ اَلشِّيعَةُ عِنْدِي، فَقَالُوا: اِجْتَمَعَ عِنْدَنَا سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنْ مَالِ اَلمَوَالِي، وَنَحْتَاجُ أَنْ نَحْمِلَهَا مَعَكَ، وَتُسَلِّمَهَا بِحَيْثُ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا قَوْمِ، هَذِهِ حِيرَةُ، وَلَا نَعْرِفُ اَلْبَابَ فِي هَذَا اَلْوَقْتِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا اِخْتَرْنَاكَ لِحَمْلِ هَذَا اَلمَالِ لِمَا نَعْرِفُ مِنْ ثِقَتِكَ وَكَرَمِكَ، فَاعْمَلْ عَلَى أَنْ لَا تُخْرِجَهُ مِنْ يَدَيْكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ... إلخ(454)، والخبر طويل جدًّا اقتصرنا على هذا، فراجعه في المصدر ففيه العجائب المدهشة.
خامساً: قصَّة صاحب الشهباء:
روى الراوندي (رحمه الله) بإسناده عن أَبِي اَلْحَسَنِ اَلمُسْتَرِقِّ اَلضَّرِيرِ، قَالَ: كُنْتُ يَوْماً فِي مَجْلِسِ اَلْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اَللهِ بْنِ حَمْدَانَ نَاصِرِ اَلدَّوْلَةِ، فَتَذَاكَرْنَا أَمْرَ الجماعة(455) - أي الشيعة -، وَكُنْتُ أُزْرِي عَلَيْهَا، إِلَى أَنْ حَضَرْتُ مَجْلِسَ عَمِّيَ اَلْحُسَيْنِ يَوْماً، فَأَخَذْتُ أَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، قَدْ كُنْتُ أَقُولُ بِمَقَالَتِكَ هَذِهِ إِلَى أَنْ نُدِبْتُ لِوِلَايَةِ قُمَّ حِينَ اِسْتَصْعَبَتْ عَلَى اَلسُّلْطَانِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ وَرَدَ إِلَيْهَا مِنْ جِهَةِ اَلسُّلْطَانِ يُحَارِبُهُ أَهْلُهَا، فَسُلِّمَ إِلَيَّ جَيْشٌ وَخَرَجْتُ نَحْوَهَا، فَلَمَّا بَلَغْتُ إِلَى نَاحِيَةِ (طَزَرَ) خَرَجْتُ إِلَى اَلصَّيْدِ، فَفَاتَتْنِي طَرِيدَةٌ، فَاتَّبَعْتُهَا وَأَوْغَلْتُ فِي أَثَرِهَا حَتَّى بَلَغْتُ إِلَى اَلنَّهَرٍ، فَسِرْتُ فِيهِ، وَكُلَّمَا أَسِيرُ يَتَّسِعُ اَلنَّهَرُ، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيَّ فَارِسٌ تَحْتَهُ شَهْبَاءُ وَهُوَ مُتَعَمِّمٌ بِعِمَامَةِ خَزٍّ خَضْرَاءَ لَا أَرَى مِنْهُ سِوَى عَيْنَيْهِ، وَفِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(454) بحار الأنوار (ج 51/ ص 300/ ح 19)؛ ورواه الطبري الشيعي (رحمه الله) في دلائل الإمامة (ص 519 و520/ ح 493/97).
(455) في المصدر: (الناحية).
رِجْلَيْهِ خُفَّانِ أَحْمَرَانِ، فَقَالَ لِي: «يَا حُسَيْنُ»، فَلَا هُوَ أَمَّرَنِي وَلَا كَنَّانِي، فَقُلْتُ: مَا ذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: «لِـمَ تَزْرِي عَلَى اَلنَّاحِيَةِ...» إلخ(456)، وهو خبر طويل أيضاً، فراجعه.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(456) الخرائج والجرائح (ج 1/ ص 472 - 474/ ح 17).
المبحث السادس: وفاة محمّد بن عثمان العمري:
انطلقت الحركة التغييريَّة والإصلاحيَّة عند الأئمَّة (عليهم السلام) من منطلقين أساسيَّين:
أحدهما: الالتزام بالمبدأ الرسالي حرفيًّا، وعدم التفريط به مطلقاً.
وثانيهما: رعاية الظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة السائدة في المجتمع والسلطات الحاكمة.
ويلتقي هذان الأمران في ضرورة العمل الإيجابي المحدَّد الشكل والأدوات في ظلِّ تلك الظروف.
هذا بالنسبة للمجتمع التطبيقي لعمل الأئمَّة (عليهم السلام) ونشاطهم الحركي.
وأمَّا المنهج العقائدي والفكري، فإنَّهم كانوا يُمثِّلون كلَّ ما تطلبه الشريعة، فيُترجموها في سلوكهم ترجمة حيَّة وأمينة، ومن خلاله تُوفِّر مستلزمات القيادة بأعلى مستواه بسبب التجربة الكاملة مع الأُمَّة، فإنَّ السلطات كانت تراقب كلَّ تحرُّكاتهم، وقد حاولت مراراً تمييع أُطروحتهم، وصهرها في الجهاز الحاكم، وعزلهم عن الأُمَّة وأصحابهم (عليهم السلام)، والإكثار في معاناتهم، ممَّا كان له أثر سلبي في كفكفة نشاطهم.
ويظهر هذا من خلال سياسة الحذر والكتمان قولاً وفعلاً في سلوكهم، وانتقل الأئمَّة (عليهم السلام) في تلك الظروف من مرحلة التوسُّع الأُفُقي إلى مرحلة الحفاظ على البقاء والاتِّصال بأصحابهم الذين امتلكوا الكفاءات العظيمة
وصلابة العقيدة والمبدأ، فاعتمدوا عليهم في أُمورهم ووثَّقوهم للأُمَّة، ليسهل عملهم.
وفي الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قام محمّد بن عثمان العمري بأمر السفارة خمسين عاماً برواية ابن هبة(457).
ونشير هنا إلى مسامحة تاريخيَّة في سفارة العمري:
إنَّ الأولى أنْ تكون سفارة محمّد بن عثمان العمري أربعين عاماً لا خمسين عاماً كما تقدَّم ذكره عن ابن هبة، لما عرفت من أنَّ ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كانت عام (256هـ)(458)، وفي رواية أُخرى أنَّها عام (255هـ)(459)، وبدأت السفارة عام (260هـ) أي بعد وفاة أبيه (عليه السلام)(460)، وكانت وفاة عثمان بن سعيد العمري - السفير الأول عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - عام (265هـ)(461)، أي إنَّها استغرقت خمسة أعوام، وكانت وفاة محمّد بن عثمان العمري عام (305هـ)، فعليه تكون مدَّة سفارة محمّد بن عثمان العمري أربعين عاماً لا أكثر.
ولو اعتمدنا على رواية هبة الله فإنَّ سفارة محمّد بن عثمان ستكون عام (255هـ) ولم يُولَد الإمام المهدي على رواية الطوسي بعد.
ولا تنفعنا أيضاً على الرواية الأُخرى، لأنَّ الإمام العسكري (عليه السلام) كان قد تُوفّي عام (260هـ)، ثمّ استغرقت سفارة عثمان بن سعيد العمري خمسة أعوام.
فلا نتَّفق مع هبة الله في روايته، وفيها من المسامحة ما لا يخفى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(457) الغيبة للطوسي (ص 366/ ح 334).
(458) قد تقدَّم في (ص 85)، فراجع.
(459) الكافي (ج 1/ ص 514).
(460) الإرشاد (ج 2/ ص 313).
(461) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 404).
لقد أمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لمحمّد بن عثمان العمري في أنْ يُوصي لابن روح بعده قبل وفاته بسنوات، كما سيأتي ذكره في ترجمة ابن روح.
لقد كان محمّد بن عثمان العمري شيخاً متواضعاً، عليه مبطنة بيضاء، يقعد على لبد في بيت صغير، ليس له غلمان، ولا له من المروَّة والفرس ما وُجِدَ لغيره(462).
وكان قد حفر لنفسه قبراً ينزل فيه كلَّ يوم، فيقرأ فيه القرآن جزءاً جزءاً(463).
ولم يترك من زخارف الدنيا وزينتها بعد وفاته سوى مدرجاً وعكازاً وحُقَّة خشب مدهونة(464)، مع ما كانت تصله من الأموال العظيمة من الأقطار الإسلاميَّة، فلم يزدد إلَّا تواضعاً وإجلالاً، وكانت تُحدَّد بحدود المصالح العامَّة لا بالزخارف والأُبَّهة الظاهريَّة.
لقد كان أبو جعفر العمري حسن السيرة، يرتدي اللباس المتواضع، وفي يده خاتم قد نُقِشَ عليه: (لا إله إلَّا الله الحقُّ المبين)، وكانت عليه أيضاً نقوش خواتيم الأئمَّة (عليهم السلام).
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عَنْ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ هَمَّامٍ، قَالَ: وَعَلَى خَاتَمِ أَبِي جَعْفَرٍ - محمّد بن عثمان العمري - اَلسَّمَّانِ (رضي الله عنه): (لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ اَلمَلِكُ اَلْحَقُّ اَلمُبِينُ)، فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ - الحسن العسكري - (عليه السلام) عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) أَنَّهُمْ قَالُوا: «كَانَ لِفَاطِمَةَ (عليها السلام) خَاتَمٌ فَصُّهُ عَقِيقٌ، فَلَمَّا حَضَرَتْهَا اَلْوَفَاةُ دَفَعَتْهُ إِلَى اَلْحَسَنِ (عليه السلام)، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ اَلْوَفَاةُ دَفَعَهُ إِلَى اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)، قَالَ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام): فَاشْتَهَيْتُ أَنْ أَنْقُشَ عَلَيْهِ شَيْئاً، فَرَأَيْتُ فِي اَلنَّوْمِ اَلمَسِيحَ عِيسَى بْنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(462) دلائل الإمامة (ص 521).
(463) الغيبة للطوسي (ص 365/ ح 332 و333).
(464) مهج الدعوات (ص 46).
مَرْيَمَ (عليه السلام)، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رُوحَ اَللهِ، مَا أَنْقُشُ عَلَى خَاتَمِي هَذَا؟! قَالَ: اُنْقُشْ عَلَيْهِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ اَلمَلِكُ اَلْحَقُّ اَلمُبِينُ)، فَإِنَّهُ أَوَّلُ اَلتَّوْرَاةِ وَآخِرُ اَلْإِنْجِيلِ»(465).
وروي أنَّ محمّد بن عثمان العمري (رحمه الله) كان قد حفر لنفسه قبراً، وسوَّاه بالساج، فسأله محمّد بن عليٍّ الأسود القمِّي عن ذلك، فقال: لِلنَّاسِ أَسْبَابٌ، وَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَمْرِي، فَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهْرَيْنِ رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ(466).
ودخل عليه أبو الحسن عليُّ بن أحمد الدلَّال القمِّي ليُسلِّم عليه، فوجده وبين يديه ساجة ونقَّاش ينقش عليها ويكتب آياً من القرآن، وأسماء الأئمَّة (عليهم السلام) على حواشيها، فقال له: يَا سَيِّدِي، مَا هَذِهِ اَلسَّاجَةُ؟ فَقَالَ لِي: هَذِهِ لِقَبْرِي تَكُونُ فِيهِ، أُوضَعُ عَلَيْهَا - أَوْ قَالَ: أُسْنَدُ إِلَيْهَا -، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنْهُ.
قال العمري: وَأَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْزِلُ فِيهِ، فَأَقْرَأُ جُزْءاً مِنَ اَلْقُرْآنِ فِيهِ، فَأَصْعَدُ.
قال الراوي: وَأَظُنُّهُ قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَرَانِيهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا وَكَذَا صِرْتُ إِلَى اَللهِ (عزَّ وجلَّ) وَدُفِنْتُ فِيهِ وَهَذِهِ اَلسَّاجَةُ مَعِي.
قال الدلَّال القمِّي: فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ أَثْبَتُّ مَا ذَكَرَهُ، وَلَمْ أَزَلْ مُتَرَقِّباً بِهِ ذَلِكَ، فَمَا تَأَخَّرَ اَلْأَمْرُ حَتَّى اِعْتَلَّ أَبُو جَعْفَرٍ، فَمَاتَ فِي اَلْيَوْمِ اَلَّذِي ذَكَرَهُ مِنَ اَلشَّهْرِ اَلَّذِي قَالَهُ مِنَ اَلسَّنَةِ اَلَّتِي ذَكَرَهَا، وَدُفِنَ فِيهِ(467).
وقد اختُلِفَ في تاريخ وفاته، فقد ذكر الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن هبة الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(465) الغيبة للطوسي (ص 297/ ح 252).
(466) الغيبة للطوسي (ص 365 و366/ ح 333).
(467) الغيبة للطوسي (ص 364 و365/ ح 332).
قال: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي غَالِبٍ اَلزُّرَارِيِّ (رَحِمَهُ اَللهُ وَغَفَرَ لَهُ) أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ (رحمه الله) مَاتَ فِي آخِرِ جُمَادَى اَلْأُولَى سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ(468).
ووافق هذا التاريخ جماعة من مؤرِّخي أهل السُّنَّة(469).
وفي رواية أُخرى عن هبة الله محمّد بن محمّد، قال: إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيَّ (رحمه الله) مَاتَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ(470).
والأُولى هي الأصحّ بنظر الاعتبار، بحسب التسلسل التاريخي.
وبعد وفاته (رحمه الله) قام ابن روح النوبختي بتغسيله وتكفينه والقيام بأُموره، ودفنه في دار الماضي أبيه(471)، وقبره عند والدته في شارع باب الكوفة، في الموضع الذي كانت دوره ومنازله فيه، وهو الآن في وسط الصحراء (قدس سره)(472).
أقول: وقبره الآن مشيَّد معروف بالخلَّاني، يُزار للذكرى والتبرُّك (قدس سره)(473)، وفيه عمارة مشيَّدة، وحوله بيوت عامرة.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(468) الغيبة للطوسي (ص 366/ ح 334).
(469) راجع ما مرَّ في (ص 128).
(470) المصدر السابق.
(471) مهج الدعوات (ص 46).
(472) الغيبة للطوسي (ص 366/ ح 334).
(473) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 406).
المبحث الأوَّل: الحسين بن روح النوبختي في الميزان:
وبعده ابن روح الحسين * * * شيخ جليل ثقة وعين(474)
هو الحسين بن روح بن أبي بحر، أبو القاسم النوبختي(475)، أو الروحي(476)، أو القمِّي(477)، أو القيني، أو القسي(478)، وابن نوبخت(479)، أو نيبخت(480).
تصدَّى أمر السفارة بعد وفاة محمّد بن عثمان العمري عام (305هـ)(481) بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
أثنى عليه المخالف والمؤالف، قال الذهبي عنه: إنَّه كان وافر الحرمة، وكثرت غاشيته حتَّى كان الأُمراء والوزراء يركبون إليه والأعيان، وتواصف الناس عقله وفهمه، فروى عليُّ بن محمّد الأيادي، عن أبيه، قال: شاهدته يوماً وقد دخل عليه أبو عمر القاضي(482)، فقال له أبو القاسم: صواب الرأي عند
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(474) الدُّرَر الكامنة (ص 182).
(475) الغيبة للطوسي (ص 371/ ح 342).
(476) الغيبة للطوسي (ص 320 و370/ ح 266 و338).
(477) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 831/ ح 1052)، مجمع الرجال (ج 2/ ص 174).
(478) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 190).
(479) الاحتجاج (ج 2/ ص 296).
(480) كمال الدِّين (ص 442/ باب 43/ ح 16).
(481) قد تقدَّم في (ص 128)، فراجع.
(482) وهو محمّد بن يوسف قاضي قضاة كان يُضرَب المثل بعقله وحلمه، تُوفّي عام (320هـ)، له ترجمة في تاريخ بغداد (ج 4/ ص 171 - 175/ الرقم 1846).
المشفق - المشغف - عبرة عند المتورِّط، فلا يفعل القاضي ما عزم عليه، فرأيت أبا عمر قد نظر إليه، ثمّ قال: من أين لك هذا؟ فقال: إنْ كنت قلت لك ما عرفته، فمسألتي من أين لك؟ فضول! وإنْ كنت لم تعرفه فقد ظفرت بي، قال: فقبض أبو عمر على يديه وقال: لا، بل والله أُؤخِّرك ليومي أو لغدي، فلمَّا خرج قال أبو القاسم: ما رأيت محجوجاً قطُّ يلقى البرهان بنفاق مثل هذا، لقد كاشفته لما لم أُكاشف به غيره.
ولم يزل أبو القاسم وافر الحرمة إلى أنْ وزر حامد بن العبَّاس، وبقيت حرمته على ما كانت إلى أنْ مات في سنة ستٍّ وعشرين وثلاثمائة، وقد كاد أمره أنْ يظهر ويستفحل(483).
وقال أيضاً عنه: وإنَّ الأموال تُجبى إليه، وقد تلطَّف في الذبِّ عن نفسه بعبارات تدلُّ على درايته ووفور عقله ودهائه وعلمه، وكان يُفتي الشيعة ويفيدهم، وله رتبة عظيمة بينهم(484).
وقال ابن أبي طيٍّ الغسَّاني وقد ذكره بخطٍّ مغلق سقيم: أبو القاسم القيني أو القسي، وهو الشيخ الصالح أحد الأبواب لصاحب الأمر، نصَّ عليه بالنيابة أبو جعفر محمّد بن عثمان العمري عنه، وجعله أوَّل من يدخل عليه حين جعل الشيعة طبقات، وقد خرج على يديه تواقيع كثيرة(485).
وجاء مثله في (لسان الميزان) لابن حجر، و(الوافي) للصفدي، وأضافا: لـمَّا مات أبو جعفر صارت النيابة إلى أبي القاسم، وجلس ببغداد في الدار، وجلس الشيعة حوله، وخرج (ذكاء) الخادم ومعه عكازة ومدرج وحُقَّة، وقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(483) سير أعلام النبلاء (ج 15/ ص 222 - 224/ الرقم 85).
(484) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 191).
(485) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 190).
إنَّ مولانا قال: إذا دفنني أبو القاسم وجلس فسلِّم إليه هذا، وإذا في الحُقِّ خواتيم الأئمَّة (عليهم السلام)، ثمّ قام في آخر اليوم ومعه طائفة، فدخل دار أبي جعفر محمّد، وكثرت غاشيته حتَّى كان الأُمراء يركبون إليه، والوزراء والمعزولون عن الوزارة، والأعيان، وتواصف الناس عقله، ولم يزل أبو القاسم على هذه الحالة حتَّى ولي حامد بن العبَّاس الوزارة، فجرى له معه أُمور وخطوب(486).
وقال ابن حجر عنه: هو أحد الرؤساء، وإنَّه كان كثير الجلالة في بغداد(487).
وعبَّر اليافعي عنه بأنَّه الزعيم(488).
وابن الأثير بأنَّه الباب(489).
أمَّا المؤالف فقد ذكرنا عباراتهم، فقد أثنوا عليه جميعاً، قال المفيد وابن شهرآشوب (رحمهما الله): كان الحسين بن روح من خواصِّ الإمام العسكري (عليه السلام)، والباب له(490).
وقال الطوسي (رحمه الله): هو من رواة الأحاديث عنهم (عليهم السلام)(491)، ومن الخواصِّ والمعتمدين لأبي جعفر بن عثمان العمري، وكان أوَّل من أذن له بالدخول عليه(492)، وكان يَنْظُرُ فِي أَمْلَاكِهِ، وَيُلْقِي بِأَسْرَارِهِ اَلرُّؤَسَاءَ مِنَ اَلشِّيعَةِ، وَكَانَ خِصِّيصاً بِهِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُهُ بِمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَوَارِيهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَأُنْسِهِ، فعرفته الشيعة - والأُمَّة الإسلاميَّة - . لِمَعْرِفَتِهِمْ بِاخْتِصَاصِه بأَبِي جعفر العمري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(486) الوافي بالوفيات (ج 12/ ص 227)، لسان الميزان (ج 2/ ص 283 و284/ الرقم 1177).
(487) لسان الميزان (ج 2/ ص 83/ الرقم 1177).
(488) مرآة الجنان (ج 2/ ص 214).
(489) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 290).
(490) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 525).
(491) تهذيب الأحكام (ج 6/ ص 93/ ح 176/3).
(492) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 190).
وَتَوْثِيقِهِ عِنْدَهُمْ، فَمَهَّدْتُ لَهُ اَلْحَالَ فِي طُولِ حَيَاتِهِ إِلَى أَنِ اِنْتَهَتِ اَلْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي أَمْرِهِ وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ أَحَدٌ(493).
وأثنى عليه متأخِّرو علماء الإماميَّة، قال فيه الحرُّ العاملي (رحمه الله): جليل القدر، عظيم المنزلة، من وكلاء صاحب الزمان (عليه السلام)، رواه الصدوق والشيخ وغيرهما(494).
وقال عنه السيِّد الصدر (رحمه الله): المولى أبو القاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي المتقدِّم ذكره في المتكلِّمين من آل نوبخت، كان أعلم أهل زمانه في كلِّ علوم الإسلام، ولا تعرف الشيعة في الدِّين والمذهب أفضل منه، كان عالماً ربَّانيًّا، زاهداً متقشِّفاً، صاحب الأسرار والكرامات والعلوم والمكاشفات، أوثق أهل زمانه وأعقل كلِّ أقرانه، مقبول عند الموافق والمخالف، لا مغمز لأحد فيه من كلِّ فِرَق الإسلام، مقبول القول عند الكلِّ(495).
وقال السيِّد الخوئي (رحمه الله): هو أحد السفراء والنوَّاب الخاصِّ للإمام الثاني عشر (عليه السلام)، وشهرة جلالته وعظمته أغنتنا عن الإطالة في شأنه(496).
وذكر التستري والمامقاني (رحمهما الله) مثله(497).
تولَّى أمر السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عام (305هـ) بموت أبي جعفر العمري، وبقي فيها إلى أنْ لحق بالرفيق الأعلى في شعبان عام ستٍّ وعشرين وثلاثمائة(498)، فتكون مدَّة سفارته حوالي الواحد والعشرين عاماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(493) الغيبة للطوسي (ص 372/ ح 343).
(494) وسائل الشيعة (ج 30/ ص 352).
(495) تأسيس الشيعة (ص 412).
(496) معجم رجال الحديث (ج 6/ ص 257/ الرقم 3406).
(497) قاموس الرجال (ج 3/ ص 451/ الرقم 2156)، تنقيح المقال (ج 2/ ص 133).
(498) الغيبة للطوسي (ص 386 و387/ ح 350)، الوافي بالوفيات (ج 12/ ص 227)، سير أعلام النبلاء (ج 15/ ص 224)، تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 192).
ينتمي هذا السفير إلى طائفة بني نوبخت، وهي طائفة كبيرة خرج منها جماعات كثيرة من العلماء والأُدباء والمنجِّمين والفلاسفة والمتكلِّمين والكُتَّاب والحُكَّام والأُمراء، وكانت لهم مكانة وتقدُّم في دولة بني العبَّاس، وأصلهم من الفرس(499).
قال القطفي: إنَّهم كلّهم فضلاء، لهم فكرة صالحة ومشاركة في علوم الأوائل(500).
وذكر ابن طاووس (رحمه الله) جماعة منهم كانوا قد برزوا في علم النجوم، فألَّفوا فيها كُتُباً ذكروا أنَّها دلالات على الحادثات، أمثال: الحسن بن موسى، وموسى بن العبَّاس بن إسماعيل، والفضل بن أبي سهل، وغيرهم(501).
ويرجع أصل نوبخت إلى جدِّهم الأوَّل نوبخت، وقد كان منجِّماً فاضلاً يصحب المنصور العبَّاسي دائماً(502)، وكان أوَّل من ساهم في بناء بغداد عام (144هـ)، فوضع المنصور العبَّاسي أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجِّم(503).
سكن نوبخت هذا بغداد عام (145هـ) بعد أنْ أقطعه أبو جعفر المنصور ألفي جريب بنهر جوبر(504)، ويقع هذا النهر في الجانب الغربي من شطِّ دجلة(505)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(499) الكنى والألقاب (ج 1/ ص 95).
(500) تأسيس الشيعة (ص 362)، نقلاً عن أخبار الحكماء للقطفي.
(501) فرج المهموم (ص 121).
(502) تأسيس الشيعة (ص 362).
(503) تاريخ بغداد (ج 1/ ص 88).
(504) نهر جوبر هو نهر الحويزة، ذكره الطبري في تاريخه (ج 6/ ص 263)، وابن الأثير في الكامل في التاريخ (ج 5/ ص 571).
(505) آل نوبخت (ص 27)، عن ابن خرداذبه (ص 7).
فقد بنى نوبخت وأولاده بيوتاً لهم في تلك الأراضي التي وهبها له المنصور، وصارت لهم أملاكاً كثيرة هناك، ولهم دور بنهر طابق، وهو من المحلَّات الواقعة غربي بغداد(506)، والنوبختيَّة(507)، وفي حوالي النعمانيَّة بين بغداد وواسط في الساحل الغربي من دجلة كانت لهم منازل يملكونها(508)، وكانت لنوبخت براعة في علم النجوم، وله تأليفات وتراجم فيه(509).
وخلَّف ولده الوحيد (الفضل) الذي كان صاحب دار الحكمة للرشيد(510)، وآل نوبخت كلُّهم ينتمون لهذا الابن الواحد لنوبخت كما جاء في الكُتُب والأشعار، وكانت للفضل كُتُب مترجمة عن الفارسيَّة إلى العربيَّة، منها: كتاب النهمطان في المواليد، والفأل النجومي(511).
أمَّا مذهب آل نوبخت وابنه الفضل فهو مذهب السُّنَّة، وأمَّا أولاد وأحفاد الفضل فقد اشتهروا بالتشيُّع وولاية عليٍّ (عليه السلام) وولده في الظاهر(512)، وكان بينهم أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) أمثال: يعقوب بن إسحاق، وإسحاق بن إسماعيل بن أبي سهل، وأبو سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي، وهو شيخ المتكلِّمين في أصحابنا ببغداد، ومتقدِّم بني نوبخت في زمانه، وكان له جلالة في الدِّين والدنيا يجري مجرى الوزراء، وقد صنَّف في الإمامة والردِّ على الملاحدة والغلاة وسائر المبطلين وتواريخ الأئمَّة (عليهم السلام) وغير ذلك ما زيد على ثلاثين مجلَّداً ذكرها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(506) الأغاني (ج 4/ ص 308).
(507) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 360).
(508) تاريخ اليعقوبي: 1/321.
(509) كشف الظنون: حاجي خليفة: 5/35.
(510) فرج المهموم (ص 125).
(511) فهرست ابن النديم (ص 333).
(512) الفهرست لابن النديم: 333 وتاريخ الحلاج: «ماسينون» في ترجمة الفضل بن نوبخت.
أصحاب الكُتُب الرجاليَّة(513)، أخذ عنه عبد الله النعمان المعروف بالمفيد شيخ الشيعة في زمانه وغيره(514)، وكانت له مباحثات ومناظرات مع أبي عليٍّ الجُبَّائي وهو أحد أركان المعتزلة في عدَّة مجالس بالأهواز، وله مناظرات مع الحكيم الرياضي المعروف ثابت بن قرة الصابي، وكلاهما مدوَّن في كتاب يُذكر في عداد مؤلَّفاته، كان الشيخ المفيد (رحمه الله) يعتني بكُتُبه، وكان يقرأها النجاشي (رحمه الله) عليه، ومنها كتاب التنبيه(515).
وسيأتي بعض الحديث عن هذه الشخصيَّة التي التقت بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ورأته عن قريب.
لقد ذكرنا أنَّ الحسين بن روح النوبختي له قرابة مع آل نوبخت خاصَّة مع أبي سهل إسماعيل بن عليٍّ المتقدِّم(516)، وأبي عبد الله الحسين بن عليٍّ النوبختي الذي كان وزيراً لابن رائق، وكانت له السلطة التامَّة عليه(517)، قال ابن مسكويه: كان الحسين بن عليٍّ النوبختي متفرِّداً بابن رائق والمدبِّر للملك، وهو الذي بنى لابن رائق تلك الرتبة العظيمة، وساق إليه تلك النعمة وجمع له تلك الأموال التي كان مستظهراً بها في ضمان واسط والبصرة(518).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(513) راجع: رجال النجاشي (ص 31/ الرقم 68)، الفهرست (ص 49/ الرقم 36/7)، خلاصة الأقوال (ص 55 و56/ الرقم 10)، لسان الميزان (ج 1/ ص 424/ الرقم 1324)؛ قال الذهبي في تاريخ الإسلام (ج 23/ ص 409): (كان كاتباً بليغاً، شاعراً).
(514) لسان الميزان (ج 1/ ص 424/ الرقم 1324).
(515) أعيان الشيعة (ج 3/ ص 384).
(516) خاندان نوبختي (بالفارسيَّة) (ص 212).
(517) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 451/ حوادث عام 325هـ). قال الصولي في الأوراق (ج 2/ ص 76): مات في هذا الوقت عليُّ بن العبَّاس النوبختي، وقد قارب ثمانين سنة، وكان حسن الأدب والشعر، وكان ابنه الحسين يكتب لابن رائق ويُدبِّره أمره.
(518) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 452).
قال ابن رائق يمدحه ويثني عليه: ما كنت لأصرف الحسين بن عليٍّ مع نصحه لي وتبرُّكي به، ولو فتح لي فارس وأصبهان وساقهما إليَّ خصوصاً، وأهداهما لي دون غيري، قال له ابن مقاتل: أيُّها الأمير، فإنْ كرهت هذا فضمِّنه واسط والبصرة، فقال ابن رائق: هذا لفعلته، إنْ أشار به أبو عبد الله الحسين بن عليٍّ... فقال بعد أنْ بكى: أعظم الله أجرك أيُّها الأمير في أبي عبد الله، عده في الأموات، ثمّ لطم وجهه، فقال ابن رائق: لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، أعزز عليَّ به، ولو فدى حيٌّ ميِّتاً لفديته بملكي كلِّه(519).
وكانت مدَّة تدبير الحسين بن عليٍّ النوبختي لأُمور المملكة ثلاثة أشهر وثمانية أيَّام(520).
ولا يوجد أيُّ ترديد في لقب الحسين بن روح بأنَّه النوبختي، لأنَّه كان مخلطاً لآل نوبخت أمثال: أبي سهل إسماعيل بن عليٍّ، وأبي عبد الله الحسين بن عليٍّ وزير ابن رائق، وأحمد بن إبراهيم الذي كان صهراً للشيخ أبي جعفر العمري على ابنته أُمِّ كلثوم الكبيرة (رحمهما الله).
وكان كثيراً ما يقول أصحابنا في المكاتبات التي خرجت جواباتها على يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح: إنَّها بخطِّ أحمد بن إبراهيم بن نوبخت وإملاء الشيخ أبي القاسم الروحي(521).
وكان ابن روح قد دُفِنَ في مقابر النوبختيِّين كما سيأتي، فإنَّ كلَّ تلك الشواهد تكفي في صحَّة انتسابه لآل نوبخت.
نعم ذكر الحافظ شمس الدِّين الذهبي نقلاً عن يحيى بن طيٍّ المتوفَّى عام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(519) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 453 - 455).
(520) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 456).
(521) قد تقدَّم في (ص 127)، فراجع.
(630هـ) أنَّه قال: أبو القاسم القيني أو القسي، وكذا صورته في تاريخ يحيى بن أبي طيٍّ الغسَّاني، وخطُّه مغلق سقيم(522)، والظاهر أنَّه القمِّي كما جاء عن الكشِّي(523).
روى القهبائي (رحمه الله) بإسناده عن جعفر بن معروف الكشِّي أنَّه قال: كتب أبو عبد الله البلخي إليَّ يذكر عن الحسين بن روح القمِّي، أنَّ أحمد بن إسحاق كتب إليه يستأذنه في الحجِّ...، فمات بحلوان(524).
ويُؤيِّد نسبته تلك معرفته اللسان الآبي القمِّي(525)، وأنَّه لم يُذكر اسمه في الشجرة النوبختيَّة(526).
ولعلَّه - والله العالم - انتسب لآل نوبخت من أُمِّه مثل أبي محمّد الحسن بن موسى ابن أُخت أبي سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي، لأنَّ آل نوبخت كانوا كلُّهم من أهل بغداد، وإنْ كان أصلهم من الفرس كما تقدَّم.
أمَّا منزلته في الأُمَّة:
فقد جاء في النصوص التاريخيَّة أنَّ ابن روح النوبختي كان قد حصل على رتبة عظيمة في الأُمَّة، وخاصَّة الطائفة الإماميَّة التي بالغت في إعظامه وإجلاله، وصار مرجعاً لها في مهامِّها.
قالت أُمُّ كلثوم الكبيرة بنت أبي جعفر العمري (رحمه الله): حَصَّلَ فِي أَنْفُسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(522) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 190)، سير أعلام النبلاء (ج 15/ ص 222/ الرقم 85).
(523) اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 831/ ح 1052).
(524) مجمع الرجال (ج 1/ ص 95). و(حلوان) مدينة واقعة على طريق كرمانشاهان وبغداد. أعيان الشيعة (ج 2/ ص 479).
(525) الغيبة للطوسي (ص 321/ ح 268). و(آبة) مدينة قريبة من قم.
(526) خاندان نوبختي (بالفارسيَّة) (ص 213).
اَلشِّيعَةِ مُحَصَّلاً جَلِيلاً، لِمَعْرِفَتِهِمْ بِاخْتِصَاصِ أَبِي - تقصد العمري - إِيَّاهُ، وَتَوْثِيقِهِ عِنْدَهُمْ، وَنَشْرِ فَضْلِهِ وَدِينِهِ، وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُهُ مِنْ هَذَا اَلْأَمْرِ - أي السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) -(527)، وَكَانَ يُخْرِجُ إِلَيْهِمُ اَلتَّوْقِيعَاتِ بِالْخَطِّ اَلَّذِي كَانَ يَخْرُجُ فِي حَيَاةِ اَلْحَسَنِ - العسكري - (عليه السلام) إِلَيْهِمْ بِالمُهِمَّاتِ فِي أَمْرِ اَلدِّينِ وَاَلدُّنْيَا، وَفِيمَا يَسْأَلُونَهُ مِنَ اَلمَسَائِلِ بِالْأَجْوِبَةِ اَلْعَجِيبَةِ (رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ)، فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي أَمْرِهِ، وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا جَاهِلٌ بِأَمْرِ أَبِي أَوَّلاً، وَقَدْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي نَوْبَخْتَ (رحمهم الله) مِثْلِ أَبِي اَلْحَسَنِ بْنِ كِبْرِيَاءَ وَغَيْرِهِ(528)، فَكُلُّ مَنْ طَعَنَ عَلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ بن روح النوبختي فَقَدْ طَعَنَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ العمري، وَطَعَنَ عَلَى اَلْحُجَّةِ (عليه السلام)(529).
وكان ابن روح أعقل الناس عند المخالف والموافق(530)، وصارت العامَّة تُعظِّمه(531)، وترفعه على رؤوسها، ويكثر الدعاء له، والطعن على من يرميه بالرفض(532)!
وقد بالغ الذهبي غير مرَّة في مدحه والثناء عليه، فقال عنه مرَّة: كانت له عبارات تدلُّ على رزانته ووفور عقله ودهائه وعلمه، وله رتبة عظيمة(533).
وفي أُخرى: إنَّ له عبارات بليغة تدلُّ على فصاحته وكمال عقله، وله جلالة عجيبة(534).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(527) الغيبة للطوسي (ص 372/ ح 343).
(528) المصدر السابق.
(529) الغيبة للطوسي (ص 369 و370/ ح 337).
(530) الغيبة للطوسي (ص 384/ ح 346).
(531) الغيبة للطوسي (ص 384/ ح 347).
(532) الغيبة للطوسي (ص 385/ ح 347).
(533) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 191).
(534) سيرة أعلام النبلاء (ج 15/ ص 224).
وقال عنه الصفدي: وكثرت غاشيته حتَّى كان الأُمراء يركبون إليه والوزراء والمعزولون عن الوزارة والأعيان، وتواصف الناس عقله(535).
وروى الطوسي (رحمه الله) ما يُؤكِّد هذه الحقيقة في عدَّة روايات، منها: ما رواه بإسناده عن أَبِي أَحْمَدَ دَرَانَوَيْهِ اَلْأَبْرَصِ اَلَّذِي كَانَتْ دَارُهُ فِي دَرْبِ اَلْقَرَاطِيسِ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَإِخْوَتِي نَدْخُلُ إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه) نُعَامِلُهُ، قَالَ: وَكَانُوا بَاعَةً وَنَحْنُ مَثَلاً عَشْرَةٌ، تِسْعَةٌ نَلْعَنُهُ وَوَاحِدٌ يُشَكِّكُ، فَنَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ بَعْدَمَا دَخَلْنَا إِلَيْهِ، تِسْعَةٌ نَتَقَرَّبُ إِلَى اَللهِ بِمَحَبَّتِهِ، وَوَاحِدٌ وَاقِفٌ(536). وكان يصل إليه من الوزراء والرؤساء من الشيعة مثل آل الفرات وغيرهم لجاهه وموضعه وجلالة محلِّه عندهم(537). وقد كان ابن روح عارفاً بالمذاهب والفِرَق الإسلاميَّة الأُخرى.
قال أبو أحمد درانويه الأبرص: إِنَّهُ كَانَ يُجَارِينَا مِنْ فَضْلِ اَلصَّحَابَةِ مَا رَوَيْنَاهُ وَمَا لَمْ نَرْوِهِ، فَنَكْتُبُهُ لِحُسْنِهِ عَنْهُ (رضي الله عنه)(538).
وكان قد استعمل التقيَّة في سفارته مع غيره من المذاهب، فقد روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أبي الحسن بن كبرياء النوبختي، قال: بَلَغَ اَلشَّيْخَ أَبَا اَلْقَاسِمِ - النوبختي - أَنَّ بَوَّاباً كَانَ لَهُ عَلَى اَلْبَابِ اَلْأَوَّلِ قَدْ لَعَنَ مُعَاوِيَةَ وَشَتَمَهُ، فَأَمَرَ - ابن روح - بِطَرْدِهِ وَصَرْفِهِ عَنْ خِدْمَتِهِ، فَبَقِيَ مُدَّةً طَوِيلَةً يَسْأَلُ فِي أَمْرِهِ، فَلَا وَاَللهِ مَا رَدَّهُ إِلَى خِدْمَتِهِ، وَأَخَذَهُ بَعْضُ اَلْأَهْلِ فَشَغَلَهُ مَعَهُ، كُلُّ ذَلِكَ لِلتَّقِيَّةِ(539).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(535) الوافي بالوفيات (ج 12/ ص 227).
(536) الغيبة للطوسي (ص 386/ ح 349).
(537) الغيبة للطوسي (ص 372/ ح 343).
(538) الغيبة للطوسي (ص 386/ ح 349).
(539) الغيبة للطوسي (ص 385 و386/ ح 348).
وحضر ابن روح النوبختي مجلس مناظرة في دار ابن اليسار، وَقَدْ تَنَاظَرَ اِثْنَانِ، فَزَعَمَ وَاحِدٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ اَلنَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، وَقَالَ اَلْآخَرُ: بَلْ عَلِيٌّ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ، فَزَادَ اَلْكَلاَمُ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ أَبُو اَلْقَاسِمِ: اَلَّذِي اِجْتَمَعَتِ اَلصَّحَابَةُ عَلَيْهِ هُوَ تَقْدِيمُ اَلصِّدِّيقِ، ثُمَّ بَعْدَهُ اَلْفَارُوقِ، ثُمَّ بَعْدَهُ عُثْمَانُ ذُو اَلنُّورَيْنِ، ثُمَّ عَلِيٌّ اَلْوَصِيُّ، وَأَصْحَابُ اَلْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ اَلصَّحِيحُ عِنْدَنَا، فَبَقِيَ مَنْ حَضَرَ اَلْمَجْلِسَ مُتَعَجِّباً مِنْ هَذَا اَلْقَوْلِ، وَكَانَ اَلْعَامَّةُ اَلْحُضُورُ يَرْفَعُونَهُ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَكَثُرَ اَلدُّعَاءُ لَهُ وَاَلطَّعْنُ عَلَى مَنْ يَرْمِيهِ بِالرَّفْضِ.
قال أبو عبد الله بن غالب حمو أبي الحسن بن أبي الطيِّب - راوي هذا الحديث -: فَوَقَعَ عَلَيَّ اَلضَّحِكُ، فَلَمْ أَزَلْ أَتَصَبَّرُ، وَأَمْنَعُ نَفْسِي، وَأَدُسُّ كُمِّي فِي فَمِي، فَخَشِيتُ أَنْ أَفْتَضِحَ، فَوَثَبْتُ عَنِ اَلمَجْلِسِ، وَنَظَرَ إِلَيَّ، فَفَطَنَ بِي، فَلَمَّا حَصَلْتُ فِي مَنْزِلِي، فَإِذَا بِالْبَابِ يُطْرَقُ، فَخَرَجْتُ مُبَادِراً، فَإِذَا بِأَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه) رَاكِباً بَغْلَتَهُ قَدْ وَافَانِي مِنَ اَلمَجْلِسِ قَبْلَ مُضِيِّهِ إِلَى دَارِهِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اَللهِ - أَيَّدَكَ اَللهُ -، لِـمَ ضَحِكْتَ؟ فَأَرَدْتَ أَنْ تَهْتِفَ بِي كَأَنَّ اَلَّذِي قُلْتُهُ عِنْدَكَ لَيْسَ بِحَقٍّ، فَقُلْتُ: كَذَاكَ هُوَ عِنْدِي، فَقَالَ لِي: اِتَّقِ اَللهَ أَيُّهَا اَلشَّيْخُ، فَإِنِّي لَا أَجْعَلُكَ فِي حِلٍّ، تَسْتَعْظِمُ هَذَا اَلْقَوْلَ مِنِّي؟! فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، رَجُلٌ يَرَى بِأَنَّهُ صَاحِبُ اَلْإِمَامِ وَوَكِيلُهُ يَقُولُ ذَلِكَ اَلْقَوْلَ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَلَا يُضْحَكُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا؟! فَقَالَ لِي: وَحَيَاتِكَ لَئِنْ عُدْتَ لَأَهْجُرَنَّكَ، وَوَدَّعَنِي وَاِنْصَرَفَ(540).
أمَّا عند محمّد بن عثمان العمري:
فقد كانت الأنظار تحوم فترة سفارة العمري حول مجموعة من الشخصيَّات التي ساهمت في أمر السفارة، وربَّما تكون السفارة من بعد العمري لأحدهم بسبب ما امتلكه كلٌّ منهم من كفاءة وقدرة، ونشير إلى بعضهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(540) الغيبة للطوسي (ص 384 و385/ ح 347).
أوَّلاً: أبو سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي:
ذكرنا أنَّ بني نوبخت كانوا من المتقدِّمين في العلوم، وقاموا بخدمات جليلة في الأُمَّة، ويمكن تقسيمهم إلى ستِّ طبقات، نشير إليهم باختصار:
أ - المترجمون والمنجِّمون، أمثال نوبخت، وابنه الفضل، وبعض أولاده أمثال: عبد الله، وأبي العبَّاس.
ب - المتكلِّمون، أمثال أبي إسحاق إبراهيم صاحب (الياقوت) الذي شرحه العلَّامة الحلِّي (رحمه الله)، وابن أُخته السيِّد عميد الدِّين، وعلَّق عليه ابن أبي الحديد شارح (النهج)، ومنهم: أبو سهل إسماعيل بن عليٍّ المذكور، وأبو محمّد الحسن بن موسى المتوفَّى عام (300هـ) إلى (310هـ)، وهو صاحب كتاب (فِرَق الشيعة) وكتاب (الآراء والديانات)، وأوَّل من صنَّف في المِلَل والنِّحَل.
ج - الأُدباء ورواة الأشعار، أمثال: إسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت، وبعض إخوته، وأبي طالب ومحمّد بن روح...، إلخ.
د - علماء الحديث والأخبار، أمثال: أبي الحسن بن كبرياء، وأبي محمّد الحسن بن الحسين، وغيرهم.
هـ - الكُتَّاب، أمثال: أبي الحسين بن عليِّ بن العبَّاس، وابنه أبي يعقوب إسحاق، وأبي الفضل يعقوب، وعليِّ بن أحمد.
و - أصحاب الأئمَّة وخواصُّهم، أمثال: يعقوب بن إسحاق، وأبي القاسم بن روح النوبختي - سفير الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) -، وأبي سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي.
فهذه الطبقات من آل نوبخت كانت أقوالهم حجَّة، ففي النجوم أعلم الناس(541)، وفي الكلام عُدَّ قولهم سنداً، وطابق قولهم قول الإماميَّة(542)، وفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(541) ديوان ابن الرومي (ص 88).
(542) بحار الأنوار للمجلسي: 14/352 - 355.
المقالات والآراء والأديان كتاب أبي محمّد النوبختي من الكُتُب المعتبرة في هذا الفنِّ(543)، والمثل الكامل في المعرفة بالمِلَل والنِّحَل(544)، وفي أخبار الشيعة وتقرير مذهبهم كانوا في رديف الشيخ المفيد وابن بابويه (رحمهما الله)، ويُعَدُّون من أركان الدِّين(545)، وفي جمع الأخبار والأشعار كان أبو نؤاس والبحتري وابن الرومي من آل نوبخت من أهمّ وأوثق المراجع التي يرجع بها إليهم، فخلَّفوا فكراً وذوقاً في الأدب العربي، وفي الترجمة كانوا في عداد أكابر المترجمين(546).
ترحَّم عليهم الشيخ المفيد (رحمه الله) وغيره من كبار العلماء(547).
ويُستفاد ممَّا تقدَّم أنَّ السفير الثاني محمّد بن عثمان كان ملتفتاً لهذه الطائفة خدمتهم للأُمَّة، فكان كثيراً ما يُقرِّبهم إليه، ويساهمهم في أمر السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
ومنهم أبو سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي الذي كان يجري مجرى الوزراء في جلالة الكتاب، وكان له مقام رفيع في الدولة العبَّاسيَّة يقرب من مقام الوزارة، وله نفوذ تامٌّ في الدولة، وكانت الدولة تُرسِله في مهمَّاتها للربط بين الحكومات ومعاقبة المعتدين والسارقين(548).
أمَّا على الصعيد الدِّيني والعقائدي، فقد كانت له منزلة رفيعة عند الأئمَّة (عليهم السلام)، وقد أراه الإمام العسكري ابنه المهدي (عجَّل الله فرجه) في أصعب الفترات،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(543) مروج الذهب (ج 1/ ص 94)، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 3/ ص 228).
(544) معجم الأدباء للحموي: 2/279.
(545) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج 10/ ص 287).
(546) عيون الأنباء (ج 3/ ص 9).
(547) أوائل المقالات (ص 33 وغيرها).
(548) أعيان الشيعة (ج 3/ ص 383 و384).
فوصف إسماعيل بن عليٍّ النوبختي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قائلاً: فَلَمَّا مَثُلَ اَلصَّبِيُّ بَيْنَ يَدَيْهِ - أي أبيه العسكري (عليه السلام) - سَلَّمَ، وَإِذَا هُوَ دُرِّيُّ اَللَّوْنِ، وَفِي شَعْرِ رَأْسِهِ قَطَطٌ، مُفَلَّجُ اَلْأَسْنَانِ، فَلَمَّا رَآهُ اَلْحَسَنُ (عليه السلام) بَكَى، وَقَالَ: «يَا سَيِّدَ أَهْلِ بَيْتِهِ...، أَبْشِرْ يَا بُنَيَّ فَأَنْتَ صَاحِبُ اَلزَّمَانِ، وَأَنْتَ اَلمَهْدِيُّ، وَأَنْتَ حُجَّةُ اَللهِ عَلَى أَرْضِهِ، وَأَنْتَ وَلَدِي وَوَصِيِّي...» إلخ(549).
وشاع خبر إسماعيل بن عليٍّ النوبختي في الأُمَّة، وبين علماء الشيعة بأنَّه سيكون السفير بعد العمري لما يروه من تقريبه له، وكان جماعة من أهل مصر يذكرون ذلك، فلمَّا قَدِمَ إسماعيل بن عليٍّ النوبختي عليهم سألوه: كَيْفَ صَارَ هَذَا اَلْأَمْرُ إِلَى اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ دُونَكَ؟! فَقَالَ لَهُمْ: هُمْ أَعْلَمُ وَمَا اِخْتَارُوهُ، وَلَكِنْ أَنَا رَجُلٌ أَلْقَى اَلْخُصُومَ وَأُنَاظِرُهُمْ، وَلَوْ عَلِمْتُ بِمَكَانِهِ - يعني الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - كَمَا عَلِمَ أَبُو اَلْقَاسِمِ - الحسين بن روح النوبختي - وَضَغَطَتْنِي اَلْحُجَّةُ عَلَى مَكَانِهِ، لَعَلِّي كُنْتُ أَدُلُّ عَلَى مَكَانِهِ(550).
وقد استطاع إسماعيل بن عليٍّ النوبختي أنْ يكشف خُدَع وألاعيب الحلَّاج، ويفضحه أمام الأُمَّة كما سيأتي.
ثانياً: جعفر بن أحمد بن متيل وأبيه:
وساهمت هاتان الشخصيَّتان في أمر السفارة فترة العمري، وقرَّبهما إليه، وبلغ به الأمر أنْ يبقى أيَّاماً في بيت جعفر بن أحمد بن متيل وابنه، وكان لا يتناول طعاماً إلَّا ما قد طُبِخَ وأُصلح في بيت جعفر بن أحمد(551).
وقال مشائخ الأُمَّة وأعلامها: كُنَّا لَا نَشُكُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ كَائِنَةٌ مِنْ أَبِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(549) الغيبة للطوسي (ص 273/ ح 237).
(550) الغيبة للطوسي (ص 391/ ح 358).
(551) الغيبة للطوسي (ص 369/ ح 337).
جَعْفَرٍ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ إِلَّا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَتِّيلٍ أَوْ أَبُوهُ، لِمَا رَأَيْنَا مِنَ اَلْخُصُوصِيَّةِ بِهِ وَكَثْرَةِ كَيْنُونَتِهِ فِي مَنْزِلِهِ، وَكَانَ اَلْأَصْحَابُ لَا يَشُكُّونَ إِنْ كَانَتْ حَادِثَةٌ لَمْ تَكُنِ اَلْوَصِيَّةُ إِلَّا إِلَيْهِمَا مِنَ اَلْخُصُوصِيَّةِ بِهِمَا(552).
وكان من شدَّة قربه لهما أنَّه لا يجلس مجلساً إلَّا وكانا معه في صدر المجلس وعند رأسه، فكان يسألهما ويُحدِّثهما(553).
ثالثاً: الحسين بن روح النوبختي:
وقد بدأ عمله فترة سفارة العمري وكيلاً عنه (رضي الله عنه)، وهو أحد الوكلاء العشرة الذين كانت تُجبى لهم الأموال إلى بغداد، وكان هؤلاء الوكلاء كُلُّهُمْ أَخَصَّ مِنْ الحسين بْنِ رَوْحٍ في أمر السفارة، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ إِذَا اِحْتَاجَ إِلَى حَاجَةٍ أَوْ إِلَى سَبَبٍ فَإِنَّهُ يُنَجِّزُهُ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ، لِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تِلْكَ اَلْخُصُوصِيَّةُ(554).
كان ابن روح بعيداً عن الأحداث، ولم تُسلَّط عليه الأضواء بداية سفارة العمري، ولم نجد نصًّا في توثيقه من الأئمَّة السابقين (عليهم السلام)، ولا نعرف سرَّ هذا الإهمال، وإنَّما ذُكِرَ بأنَّه من أصحاب الإمام العسكري، وكان باباً له (عليه السلام)، فكان يتلقَّى الأسرار منه (عليه السلام) ويوصل أخباره إلى الأُمَّة بأمره (عليه السلام)(555).
ولا يهمُّنا هذا الإهمال منهم (عليهم السلام) ما دمنا نقطع بصحَّة سفارة العمري عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأنَّ قوله قول الأئمَّة، وفعله فعلهم(556)، وتسالم الأُمَّة أيضاً على صحَّة أقوال أبي جعفر العمري وأفعاله (رضي الله عنه)(557).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(552) المصدر السابق.
(553) الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 339).
(554) الغيبة للطوسي (ص 369/ ح 336).
(555) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 525).
(556) الغيبة للطوسي (ص 243/ ح 209).
(557) الغيبة للطوسي (ص 363/ ح 327).
واقتضت المشيئة الإلهيَّة في أنْ يكون الحسين بن روح سفيراً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فأصدر أوامره لسفيره العمري في أنْ يُمهِّد له ليتصدَّى أمر السفارة بعد وفاته، وقد تمَّ الإعلان عن سفارته قبل سنتين أو ثلاثة سنوات من وفاة أبي جعفر العمري، فلمَّا علمت الأُمَّة ذلك، وممَّا وقع عليه الاختيار على أبي القاسم الحسين بن روح سلَّموا له، ولم يُنكِروا عليه، وكانوا معه كما كانوا مع أبي جعفر العمري(558).
قال جعفر بن أحمد بن متيل: فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ وَأَخَذْتُ بِيَدِ أَبِي اَلْقَاسِمِ وَأَجْلَسْتُهُ فِي مَكَانِي وَتَحَوَّلْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ(559).
وَلَمْ يَزَلْ جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ فِي جُمْلَةِ أَبِي اَلْقَاسِمِ (رضي الله عنه) وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَتَصَرُّفِهِ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيِّ إِلَى أَنْ مَاتَ (رضي الله عنه)، فَكُلُّ مَنْ طَعَنَ عَلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ فَقَدْ طَعَنَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ وَطَعَنَ عَلَى اَلْحُجَّةِ (عليه السلام)(560).
فكانت الأموال تُحمَل إليه، وهي التي حصلت في باب الوقف إلى أبي جعفر العمري (رضي الله عنه)(561).
أمَّا الأساليب التي اتَّبعها أبو جعفر تمهيداً لسفارة ابن روح النوبختي، فأهمُّها:
أوَّلاً: تقريبه منه واختصاصه به:
لقد استعمل العمري ابن روح في بداية أمره وكيلاً خاصًّا عنه في أملاكه لعدَّة أعوام، ينظر فيها ويلقي بأسرارها إلى الرؤساء من علماء الإماميَّة، وصار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(558) الغيبة للطوسي (ص 369/ ح 337).
(559) الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 339).
(560) الغيبة للطوسي (ص 369 و370/ ح 337).
(561) الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 338).
خصِّيصاً به، وجعله أوَّل من يدخل عليه حين جعل الشيعة طبقات(562)، وكان يُحدِّثه بما يجري بينه وبين جواريه لقربه منه، وأُنسه به(563)، وجعل له ثلاثين ديناراً ورزقاً له كلَّ شهر، غير ما يصل إليه من الوزراء والرؤساء من الشيعة مثل آل الفرات وغيرهم لجاهه ولموضعه وجلالة محلِّه عندهم(564).
ثانياً: توثيقه وأمر الأمَّة بمراجعته:
لقد أمر محمّد بن عثمان العمري قبل وفاته بسنتين أو ثلاثة أصحابه ووكلاءه بحمل الأموال إلى أبي القاسم الروحي (رضي الله عنه)، فأمر (رحمه الله) أبا جعفر محمّد بن عليٍّ الأسود بحمل ما وصل من الأموال إليه(565).
وقوله لابن قزدا المدائني الذي حمل معه أربعمائة دينار: اِمْضِ بِهَا إِلَى اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ(566).
وكان بعض أصحابه يتوقَّف مغضباً ويخاطبهم أحياناً: إِنِّي أَقَمْتُ أَبَا اَلْقَاسِمِ بْنَ رَوْحٍ النوبختي مَقَامِي، وَنَصَبْتُهُ مَنْصَبِي(567).
ثالثاً: التصريح بسفارته وكونها بأمر المهدي (عجَّل الله فرجه):
وقد استعمل محمّد بن عثمان عبارات واضحة تدلُّ على أنَّ ابن روح النوبختي هو السفير بعده، وأنَّه لا مجال للشكِّ فيه، وكون ذلك بأمر الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(562) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 190)، سير أعلام النبلاء (ج 15/ ص 222)، الوافي بالوفيات (ج 12/ ص 227).
(563) الغيبة للطوسي (ص 372/ ح 343).
(564) المصدر السابق.
(565) الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 338).
(566) الغيبة للطوسي (ص 367/ ح 335).
(567) الغيبة للطوسي (ص 368/ ح 335).
المهدي (عجَّل الله فرجه)، كقوله لجعفر بن أحمد بن متيل: (أُمرت) أنْ أُوصي إلى أبي القاسم بن روح(568).
وقوله لجماعة من وجوه الشيعة وشيوخها: إِنْ حَدَثَ عَلَيَّ حَدَثُ اَلمَوْتِ فَالْأَمْرُ إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ اَلنَّوْبَخْتِيِّ، فَقَدْ (أُمِرْتُ) أَنْ أَجْعَلَهُ فِي مَوْضِعِي بَعْدِي، فَارْجِعُوا إِلَيْهِ وَعَوِّلُوا فِي أُمُورِكُمْ عَلَيْهِ(569).
وتصريحه أمام كثير من وجوه وعلماء الأُمَّة أمثال: أبي عليٍّ بن همَّام، وأبي عبد الله بن محمّد الكاتب، وأبي عبد الله الباقطاني، وأبي سهل بن عليٍّ، وأبي عبد الله بن الوجناء، وغيرهم بقوله: هَذَا أَبُو اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحِ بْنِ أَبِي بَحْرٍ اَلنَّوْبَخْتِيُّ، اَلْقَائِمُ مَقَامِي، وَاَلسَّفِيرُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ صَاحِبِ اَلْأَمْرِ (عليه السلام)، وَاَلْوَكِيلُ لَهُ، وَاَلثِّقَةُ اَلْأَمِينُ، فَارْجِعُوا إِلَيْهِ فِي أُمُورِكُمْ، وَعَوِّلُوا عَلَيْهِ فِي مُهِمَّاتِكُمْ، فَبِذَلِكَ (أُمِرْتُ)، وَقَدْ بَلَّغْتُ(570).
فلمَّا علم ابن روح بأنَّه السفير من بعد أبي جعفر العمري وقد كان في دار ضيِّقة، فسرَّ به وشكر الله (عزَّ وجلَّ)(571)، وصارت تُدفَع إليه الأموال التي كانت تصله من أقصى البلاد، والردُّ على الأسئلة والاحتجاج على أهل الفِرَق والمقالات.
أمَّا منزلته من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
ذكرنا أنَّ اختيار ابن روح النوبختي لأمر السفارة إنَّما كان بأمر المهدي (عجَّل الله فرجه)، والوصيَّة إليه من قِبَل أبي جعفر العمري قبل وفاته بسنتين أو ثلاث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(568) الغيبة للطوسي (ص 370/ ح 339).
(569) الغيبة للطوسي (ص 371/ ح 341).
(570) الغيبة للطوسي (ص 371 و372/ ح 342).
(571) الغيبة للطوسي (ص 368/ ح 335).
قالت أُمُّ كلثوم بنت أبي جعفر العمري (رضي الله عنه): فَمَهَّدْتُ لَهُ اَلْحَالَ فِي طُولِ حَيَاةِ أَبِي إِلَى أَنِ اِنْتَهَتِ اَلْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ(572).
وكانت هناك مصلحتان في اختيار ابن روح النوبختي لأمر السفارة، هما:
أوَّلاً: تكامل الشخصيَّة والإخلاص:
إنَّ منصب السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يستدعي رجالاً يتَّصفون بالوعي والإيمان، والقابليَّة والقدرة على إدارة شؤون الأُمَّة، مضافاً إلى عامل الإخلاص والولاء التامِّ للإمام (عجَّل الله فرجه)، ويكون بمستوى المسؤوليَّة بحيث يستحيل عليهم بثُّ أخبارهم والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إلى السلطات وإنْ مُزِّق لحمهم ودُقَّ عظمهم، فالسفارة لم تكن لإسماعيل بن عليٍّ ولا لجعفر بن متيل وأبيه، لعدم توفُّر المستلزم الآخر لقوام الشخصيَّة المتكاملة، وهي الولاء والإخلاص والتضحية للمبدأ، أو تعريض النفس للأخطار ومنه القتل إنْ تطلَّب ذلك، مع توفُّر العلم والوعي الثقافي والسياسي، وقد أكَّد إسماعيل بن عليٍّ هذه الحقيقة بقوله: وَأَمَّا أَبُو اَلْقَاسِمِ - النوبختي - فَلَوْ كَانَ اَلْحُجَّةُ (عليه السلام) تَحْتَ ذَيْلِهِ وَقُرِّضَ بِالمَقَارِيضِ مَا كَشَفَ اَلذَّيْلَ عَنْهُ(573).
ثانياً: غلق الشُّبُهات أمام المشكِّكين والمرجفين:
لقد كانت فترة سفارة العمري مليئة بالمتاعب والآلام، بسبب طولها وظهور الكثير من المدَّعين للسفارة كذباً وزوراً، وصعوبة الزمان، وملاحقة السلطان لأنصار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وقد وُفِّق العمري كثيراً في اتِّباعه أُسلوب الحذر والكتمان، والسير على خطَّة وبرامج منظَّمة وضعها منهجاً له في عمله وقد تقدَّم ذكره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(572) الغيبة للطوسي (ص 372/ ح 343).
(573) الغيبة للطوسي (ص 391/ ح 358).
ثمّ تولَّى ابن روح السفارة رسميًّا عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عام (305هـ)، أي بعد موت أبي جعفر العمري، وكانت مدَّة سفارة ابن روح حوالي الواحد والعشرين عاماً، أي إلى وفاته في ستٍّ خلون من شعبان عام ستٍّ وعشرين وثلاثمائة(574)، فكان أوَّل كتاب ورد عليه من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في تعيينه سفيراً رسميًّا عنه (عجَّل الله فرجه) هو يوم الأحد لستّ خلون من شوَّال سنة خمس وثلاثمائة، وأمره (عجَّل الله فرجه) في البدء بمهمَّته في السفارة، ودعا له بالتوفيق في عمله.
أمَّا نصُّ بيانه (عجَّل الله فرجه):
روى الطوسي بإسناده عَنْ أَبِي اَلْعَبَّاسِ بْنِ نُوحٍ، قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ مُحَمَّدِ بْنِ نَفِيسٍ فِيمَا كَتَبَهُ بِالْأَهْوَازِ: أَوَّلَ كِتَابٍ وَرَدَ مِنْ أَبِي اَلْقَاسِمِ (رضي الله عنه): «نَعْرِفُهُ عَرَّفَهُ اَللهُ اَلْخَيْرَ كُلَّهُ وَرِضْوَانَهُ وَأَسْعَدَهُ بِالتَّوْفِيقِ، وَقَفْنَا عَلَى كِتَابِهِ، وَثِقَتُنَا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ عِنْدَنَا بِالمَنْزِلَةِ وَاَلمَحَلِّ اَللَّذَيْنِ يَسُرَّانِهِ، زَادَ اَللهُ فِي إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، إِنَّهُ وَلِيُّ قَدِيرٌ، وَاَلْحَمْدُ لِلهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً»(575).
وقد ورد هذا التعيين لابن روح من قِبَله (عجَّل الله فرجه) بعد خمسة أشهر من وفاة أبي جعفر العمري (رضي الله عنه) المتوفَّى في جمادى الأوَّل من نفس العام(576).
فبدأ بأمر السفارة، وقام بها خير قيام، واتَّبع مذهب التقيَّة في أُسلوبه، وإظهاره مذهب أهل السُّنَّة بنحو ملفت للنظر، ممَّا ساعده هذا المنهج كثيراً في تسهيل عمله في السفارة، ومواجهة تيَّار الانحراف المتمثِّل في السلطة والأُمَّة، والقضاء على المدَّعين للسفارة كذباً، ولاسيّما الشلمغاني والحلَّاج اللذان شكَّلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(574) قد تقدَّم في (ص 180)، فراجع.
(575) الغيبة للطوسي (ص 372 و373/ ح 344).
(576) قد تقدَّم في (ص 128)، فراجع.
خطراً حقيقيًّا على الإسلام وقواعد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ودخل البلاط العبَّاسي، واستقطب الكثير من الوزراء والأُمراء، ممَّا كان له الأثر الإيجابي في تخليصه من سجن المقتدر(577)، لأجل الاتِّهامات التي وجَّهها له أعداؤه، ومنها تهمة تعاونه مع القرامطة ودعوتهم إلى احتلال بغداد(578).
ولم يكن ابن روح النوبختي يتصرَّف في أمر سفارته من قِبَل نفسه، بل يُلبِّي كلَّ ما يُملي عليه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حيث قال: لَئِنْ أَخِرَّ مِنَ اَلسَّمَاءِ فَتَخْطَفَنِي اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِيَ اَلرِّيحُ مِنْ مَكَانٍ سَحِيقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ فِي دِينِ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) بِرَأْيِي، وَمِنْ عِنْدِ نَفْسِي، بَلْ ذَلِكَ عَنِ اَلْأَصْلِ، وَمَسْمُوعٌ مِنَ اَلْحُجَّةِ (عليه السلام)(579).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(577) الغيبة للطوسي (ص 307 و308/ ح 259)، تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 191)، سير أعلام النبلاء (ج 15/ ص 223 و224)، الوافي بالوفيات (ج 12/ ص 227).
(578) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 191)، الوافي بالوفيات (ج 12/ ص 227).
(579) الغيبة للطوسي (ص 322/ ح 269).
المبحث الثاني: التحرُّك الثقافي والسياسي لابن روح النوبختي وأسباب اعتقاله:
لقد خلَّف الانحراف القائم مادّيًّا وعقائديًّا في أغلب فترات التاريخ بؤساً اقتصاديًّا، وتخلُّفاً اجتماعيًّا مؤسفاً، وابتعاداً عن القِيَم والمبادئ الأصيلة المتبلورة في الخطِّ الإسلامي الصحيح للأئمَّة (عليهم السلام)، وربَّما أنَّهم كانوا يُمثِّلون المعارضة الإسلاميَّة الحادَّة لذلك الانحراف بأشكاله وأنواعه رأياً وتطبيقاً، لكن هذا التحرُّك كان قد أوجد حالة عدم الارتياح من قِبَل السلطات جعلها تسعى في كفكفة نشاطهم بأساليبها المتنوِّعة، فظهر الانحراف، وتفشَّى في مختلف قطاعات الأُمَّة وكيانها الإسلامي.
أمَّا ارتباطهم (عليهم السلام) بأصحابهم فقد كان مقتصراً على الدوائر الضيِّقة التي كانت تتَّسع حيناً، وتضمر حيناً آخر بسبب الظروف التي يمرُّ بها الأئمَّة (عليهم السلام)، وكانت تتناسب تناسباً عكسيًّا مع ضعف السلطة القائمة آنذاك، وقد كان السفراء فترة الغيبة على ارتباط تامٍّ بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مع حاجز الخوف الذي فرضته السلطات حينها، وعاشوا معمعة التضحيات الكبرى، وقدَّموا تراثاً ضخماً للأجيال، وحافظوا فيه على أُطروحات الأئمَّة (عليهم السلام) وما رسموه من مشاريع ضخمة للأُمَّة الإسلاميَّة، ولم تكن الثقافة المعطاة منهم (عليهم السلام) دائماً التي تتَّفق مع خطِّ السفير واعتقاده، بل قد يمتزج بها غيرها نظراً لاقتضاء المصلحة الإسلاميَّة العامَّة.
أمَّا فترة سفارة ابن روح النوبختي، فقد برز فيها جانبان - كانا فريدان من نوعهما - هما:
أوَّلاً: دمج الأُمَّة بمذاهبها ومعتقداتها:
لقد ربط ابن روح فترة سفارته بين المذاهب والمسلمين، ووحَّد كلمتهم، وآخى بينهم، وكان العامَّة يذكرونه بكلِّ خير، تاركاً التعصُّب المذهبي وكلَّ ما يُؤدِّي إلى الفرقة والتخاصم.
ثانياً: إفحام من ادَّعى السفارة الكاذبة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
وقد سعى ابن روح النوبختي بروح إسلاميَّة عالية مليئة بالتفاهم لإيجاد شعار الوحدة الذي دعا إليه وسعى لتحقيقه، فكان يحضر المجالس العلميَّة ويدعو لإقامتها، كالمجالس التي تُعقَد في دار ابن مقلة الوزير(580)، ودار الخليفة المقتدر العبَّاسي، ودار ابن يسار(581)، وغيرها، فأبدى فيها تفوُّقاً ونجاحاً باهراً على أقرانه ونظائره، ومسكتاً لخصومه(582).
وقد كان له في دار الوزير حامد بن العبَّاس أُمور وخطوب يطول شرحها(583).
وكان يُخبرهم بما لا يعرفوه، ويروي لهم ما لم يرووه(584)، فعظم في أعينهم، وكبر في نفوسهم، وأبدوا له احتراماً وإجلالاً لا نظير له.
وكانت له مناظرات كلاميَّة مع علماء الكلام، ومنهم ترك الهروي الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(580) الغيبة للطوسي (ص 406/ ح 378).
(581) الغيبة للطوسي (ص 384/ ح 347).
(582) المصدر السابق.
(583) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 191)، سير أعلام النبلاء (ج 15/ ص 223).
(584) الغيبة للطوسي (ص 386/ ح 349).
قال عن ابن روح بعد انتهاء المناظرة: فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً تَكَلَّمَ وَأَجَابَ فِي هَذَا اَلْبَابِ بِأَحْسَنَ وَلَا أَوْجَزَ مِنْ جَوَابِهِ(585).
وله مناظرات مع المفوِّضة بعد اختلاف الأصحاب في مسألة التفويض(586).
ونقاشه لمسألة تسليط الله الأعداء على الأولياء كما في قصَّة الحسين (عليه السلام) وتسليط يزيد عليه لقتله، وحلِّه هذه الشبهة(587).
أمَّا تحرُّكه السياسي:
فقد ذكرنا أنَّ فترة سفارة ابن روح كانت قد بدأت عام (305هـ) وانتهت بوفاته عام (326هـ)، وقد استغرقت حوالي الواحد وعشرين عاماً، وقد عاصر فيها ثلاثة من الخلفاء العبَّاسيِّين، هم:
1 - المقتدر العبَّاسي، وقد عاصر فيها خمسة عشر عاماً من خلافته التي بدأت عام (295هـ) وانتهت عام (320هـ).
2 - خلافة القاهر، وعاصر سنتين من خلافته التي بدأت عام (320هـ) وانتهت عام (322هـ).
3 - خلافة الراضي بالله، وعاصر أربع سنوات من خلافته التي بدأت عام (322هـ) وانتهت عام (329هـ).
وقد رافقت فترة سفارة ابن روح بعض الحوادث، ونُلخِّصها بما يلي:
أوَّلاً: خلافة المقتدر العبَّاسي:
أمَّا أهمّ ميزاتها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(585) الغيبة للطوسي (ص 388/ ح 353).
(586) الغيبة للطوسي (ص 387/ ح 351).
(587) الغيبة للطوسي (ص 324 - 326/ ح 273).
أ - الضعف الإداري:
ذكرت النصوص التاريخيَّة بأنَّ دولة المقتدر العبَّاسي كانت ذات تخليط كثير، لصغر سنِّه، واستيلاء أُمِّه ونسائه وخدمه عليه، فكانت دولة تدور أُمورها على تدبير النساء والخدم، وهو مشغول في لذَّاته، فخربت الدنيا في أيَّامه، وخلت بيوت الأموال، واختلفت الكلمة، فخُلِعَ ثمّ أُعيد ثمّ قُتِلَ(588).
ب - النقمة العسكريَّة وتدهور الجيش:
وانتشرت الفتن في عهد المقتدر العبَّاسي، فخرج عليه مؤنس الخادم سنة (317هـ)، بعد أنْ بلغه أنَّه فكَّر في تولية هارون بن غريب مكانه، وأرسل مؤنس إلى المقتدر يُنبؤه بتذمُّر الجيش من إسراف الحاشية والخدم وضياع الأموال وإفساد الحكم بسبب تدخُّلهم في أُمور الدولة، ويلحُّ عليهم في إخراجهم من قصره والاستيلاء على ما في أيديهم، فردَّ المقتدر عليه بكتاب ينفي فيه التُّهَم التي وُجِّهت إليه وإلى رجال حاشيته، فطلب القُوَّاد وعلى رأسهم أبو الهيجاء الحمداني ونازوك، فثاروا على الخليفة، وأخرجوه من داره، ونادوا بخلعه، وبايعوا محمّد بن المعتضد، ولقَّبوه القاهر بالله(589).
ج - استنزاف بيت المال وفقدان الرقابة:
وقد استنزف بيت المال في عهد الخليفة المقتدر بين عام (295هـ) إلى (320هـ)، لأنَّ المال أُخِذَ منه بزعم إعادته متى تحسَّن الحال، وفي عام (319هـ) عرض الوزير على المقتدر ما كان من العجز وهو سبعمائة ألف دينار، فعظم ذلك على المقتدر(590).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(588) الفخري في الآداب السلطانيَّة (ص 253).
(589) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 264 - 269).
(590) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 298)، الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 231).
د - الاستهتار بالقِيَم والمبادئ:
ولقد ذكر المؤرِّخون في حوادث عام (313هـ) فترة سفارة ابن روح النوبختي أنَّ الشيعة البغداديِّين كانوا يجتمعون في مسجد براثا(591)، فعلم الخليفة بأنَّ قوماً منهم يجتمعون فيه لسبِّ الصحابة، فأمر بكسبه في يوم الجمعة وقت الصلاة، فوُجِدَ فيه ثلاثون إنساناً يُصَلُّون، فقبض عليهم، وفُتِّشوا، فوُجِدَ معهم خواتم من طين أبيض عليها اسم الإمام، كما كان يفعل دعاة الفاطميِّين مع من ينتسب إليهم، وقد استصدر الخليفة فتوى بهدم المسجد حتَّى سُوِّي بالأرض وعُفي رسمه ووصل المقبرة التي تليه(592).
ثانياً: الخليفة القاهر بالله:
وقد امتازت خلافته بميزات نُلخِّصها:
أ - قبح السريرة والتظاهر بالمحرَّمات:
وصف الصولي الخليفة القاهر بالله بأنَّه كان أهوجَ، سفَّاكاً للدماء، قبيح السريرة، كثير التلوُّن والاستحالة، مدمن خمر، ولولا جودة حاجبه (سلامة) لأهلك الحرث والنسل(593).
ب - إشاعة الإرهاب والاستهانة بالنفوس:
وصف المسعودي الخليفة القاهر باشتهاره بالقسوة، فقد اتَّخذ حربة يحملها بيده إذا سعى في ذلك، ويطرحها بين يديه حال جلوسه، يباشر الضرب بتلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(591) قال الشهيد (رحمه الله) في ذكرى الشيعة (ج 3/ ص 118) ما لفظه: (ومن المساجد الشريفة مسجد براثا غربي بغداد، وهو باقٍ إلى الآن، وفيه فضائل عديدة...).
(592) المنتظم في تاريخ الأُمَم والملوك (ج 13/ ص 247 و248).
(593) تاريخ الموصل (ج 2/ ص 240)، تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 17).
الحربة لمن يريد قتله، فسكن من كان قبله من الخلفاء التشغُّب والتوثُّب عليهم، وكان مخوف السطوة(594).
ج - تناصر الطوائف الإسلاميَّة:
اشتدَّ الخلاف في فترة سفارة ابن روح النوبختي بين الفِرَق والمذاهب الإسلاميَّة فيما بينها، وقد كان في بغداد آنذاك أكبر الفِرَق وهما الحنابلة والشيعة(595)، فكان أنصار الطائفة الشيعيَّة يسكنون بنوعٍ خاصٍّ حول سوق الكرخ، ولم يتقدَّموا الجسر الكبير، ويحتلُّوا باب الطاق إلَّا في أواخر القرن الرابع الهجري، ولم يستطيعوا التعدِّي إلى القسم الغربي، لأنَّ الهاشميِّين كانوا يكونون عصبة قويَّة هناك لاسيّما حول باب البصرة، وكانوا من أشدّ أعداء الشيعة(596).
على أنَّ ياقوت الحموي وجد أنَّ أهل محلِّ باب البصرة بين كرخ بغداد والقبلة كلُّهم سنّيُّون حنابلة، وأنَّ يسار الكرخ وفي جنوبها سُنّيَّة، أمَّا الكرخ فأهلها كلُّهم شيعة إماميَّة، لا يوجد فيها سُنِّي البتَّة(597).
فمن ذلك التناحر:
1 - ما ذكره ابن كثير في حوادث عام (317هـ) من وقوع فتنة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروزي الحنبلي وبين طائفة من العامَّة، اختلفوا في تفسير قوله تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً﴾ (الإسراء: 79)، فقالت الحنابلة: يجلسه معه على العرش، وقال الآخرون: المراد بذلك الشفاعة العظمى، فاقتتلوا بسبب ذلك، وقُتِلَ بينهم قتلى(598).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(594) مروج الذهب (ج 4/ ص 221).
(595) المقدسي: 126.
(596) الكامل في التاريخ، ابن الأثير: 9/146.
(597) معجم البلدان (ج 4/ ص 448).
(598) البداية والنهاية (ج 11/ ص 184).
2 - وما ذكره آدم متز في حوادث عام (321هـ)، قال: وهمَّ عليُّ بن يلبق وهو من القُوَّاد الترك مرَّة أُخرى بأنْ يلعن معاوية وابنه يزيد على المنابر، فاضطربت العامَّة، وكان البربهاري رئيس الحنابلة يثير الفتن هو وأصحابه(599)، فتقدَّم عليُّ بن يلبق ليقبض على البربهاري هذا، فهرب وقبض على جماعة من كبار أصحابه، فجُعِلُوا في زورق مطبق وأُحدروا إلى البصرة(600).
3 - ما ذكره آدم متز في حوادث عام (323هـ)، قال: نُودي في جانبي بغداد بأنْ لا يجتمع مع الحنابلة نفسان في موضع واحد، وكان ذلك لكثرة تشرُّطهم على الناس وإيقاعهم الفتن المتَّصلة، فخرج توقيع الخليفة الراضي بكتاب بيَّن فيه أخطاء الحنابلة وتوعَّدهم بالعقاب...، إلخ(601).
د - استنزاف الطاقة وحروب القرامطة:
استغرقت معظم فترة ابن روح النوبختي بحروب القرامطة، حيث اتَّصفوا بالصرامة والشدَّة والاستهانة بالدماء، فبثُّوا الرعب، وانهارت المبادئ والقِيَم، وكبدوا سوريا والعراق والبحرين تضحيات جليلة، وقد شهد عام (311هـ) مأساة البصرة، وهاجموا الكوفة عام (315هـ) هجوماً مميتاً، ونهبوا قوافل الحجَّاج عام (312هـ)، وجبوا ضريبة من الحجَّاج وكفُّوا عنهم عام (313هـ)، وعطَّلوا الحجَّ عام (317هـ) إلى عام (327هـ)، وهجموا على مكَّة عام (317هـ)، وسُفِكت دماء الحجَّاج في المسجد الحرام، وقلعوا الحجر الأسود(602)، وأبقوه ثلاثين عاماً عندهم(603).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(599) الحضارة الإسلاميَّة (ج 1/ ص 88).
(600) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 349).
(601) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 414).
(602) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 207).
(603) تاريخ الشعوب الإسلاميَّة (ص 231).
هـ - الهرج والمرج وتدهور الأوضاع السياسيَّة:
كان الوزراء والوزارة ممَّن كانوا يتناوبون الحكم سرعان ما يبدو فشلهم في معاملة الناس، وتوزيع الأموال وتدبير الشؤون السياسيَّة، فيُعزَلون، وقد يذوقون بعد العزل صنوف العذاب والسجن والنهب ممَّا لا يحصى بحديث.
ولقد ذكر المؤرِّخون بأنَّ ابن روح النوبختي كان أحد الرؤساء في خلافة المقتدر العبَّاسي، وله وقائع في ذلك مع الوزراء(604)، وكان وافر الحرمة، وجرت له خطوب مع الوزير ابن العبَّاس(605)، واكتسب له الكثير من الأنصار في البلاط العبَّاسي(606)، وحصل له عند المقتدر محلٌّ عظيم(607)، وكذا عند الخليفة الراضي بالله(608)، وصار له رزق يُدفَع من خزينة الدولة يُقدِّمه إليه الوزراء والرؤساء مثل آل الفرات وغيرهم، لجاهه وموضعه وجلالة محلِّه عندهم(609)، وكثرت غاشيته حتَّى ركب إليه الأُمراء والوزراء والمعزولون عن الوزارة والأعيان(610).
ويعود هذا النفوذ في البلاط العبَّاسي إلى ثلاثة أُمور رئيسيَّة، هي:
أوَّلاً: علومه وسعة اطِّلاعه:
لقد كان ابن روح النوبختي عارفاً بمجريات الأحداث وقوانين الأُمَّة والدولة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(604) لسان الميزان (ج 2/ ص 283/ الرقم 1177)، معجم المؤلِّفين (ج 4/ ص 8).
(605) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 191).
(606) دائرة المعارف الإسلامية المعربة: 1/181.
(607) الغيبة للطوسي: 187 و252.
(608) الغيبة الصغرى للصدر: 445.
(609) قد تقدَّم في (ص 187)، فراجع.
(610) قد تقدَّم في (ص 187)، فراجع.
ثانياً: أُسلوبه ومنهجيَّته المتكاملة في العمل.
ثالثاً: القرابة التي كانت بينه وبين آل نوبخت:
لقد ذكرنا أنَّ ابن روح يُنسَب إلى بني نوبخت، وخاصَّة إلى أبي سهل إسماعيل بن عليٍّ الذي حصل على مقام رفيع في الدولة العبَّاسية يقرب من مقام الوزارة، وكان له نفوذ تامٌّ فيها بحيث تبعه لمحاسبة الوزراء(611).
ولقرابته من أبي عبد الله الحسين بن عليٍّ الذي كان وزيراً في حكومة الراضي بالله، والمدبِّر للملك لابن رائق، ومن ساق إليه تلك النعمة(612).
وهناك من الأُمراء والكُتَّاب من آل نوبخت تربطه معهم رابطة النسب(613).
وكانت الدولة تنظر إلى النوبختيِّين بعين الاحترام والإجلال، وتهابهم، وتستشيرهم، وتأخذ برأيهم في تنصيب الخلفاء، وتجعله فوق الآراء.
قال ابن العبرى: لـمَّا قُتِلَ المقتدر العبَّاسي عام (320هـ) عظم قتله على مؤنس وقال: الرأي أنْ ننصب ولده أبا العبَّاس، فإنَّه تربيتي، وهو صبيٌّ عاقل فيه دين وكرم ووفاء لما يقول، فاعترض عليه إسحاق النوبختي وقال: بعد الكدِّ استرحنا من خليفة له أُمٌّ وخالة وخدم يُدبِّرونه، فنعود إلى تلك الحالة؟ لا والله لا نرضى إلَّا برجل كامل يُدبِّر نفسه ويُدبِّرنا، وما زال حتَّى ردَّ مؤنساً عن رأيه، وذكر له أبو منصور محمّد بن المعتضد القاهر بالله، ليكون خليفة، فأجابه مؤنس عن ذلك، وكان النوبختي في ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه، فإنَّ القاهر قتله(614).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(611) قد تقدَّم في (ص 190)، فراجع.
(612) قد تقدَّم في (ص 183)، فراجع.
(613) خاندان نوبختي (بالفارسيَّة) (ص 213).
(614) تأسيس الشيعة (ص 371).
ويُعلَم أنَّ إسحاق بن إسماعيل كان من أهل الحلِّ والعقد يجري مجرى الوزراء(615)، وقد ذكره الصدوق (رحمه الله) في قائمة من شاهد المهدي (عجَّل الله فرجه)(616).
وهنا نتساءل: ما هي طبيعة العمل الذي قام به ابن روح النوبختي في البلاط العبَّاسي؟ وما هي أسباب اعتقاله من قِبَل السلطة وزجّه في السجن مع منزلته الرفيعة عند المقتدر والراضي، ومع وجود النوبختيِّين في الحكم؟
ونجيب عن هذه التساؤلات:
ذكرنا بأنَّ ابن روح النوبختي صارت له المنزلة العظيمة عند المقتدر الذي كانت له حظوة بسبب عقله ودرايته التي جعلته محلِّ اعتماد المخالف والمؤالف(617)، واستطاع أنْ يكسب كثيراً من الأنصار في البلاط العبَّاسي(618)، وصارت له وقائع مع الوزراء(619)، خاصَّةً مع حامد بن العبَّاس، فقد كانت له معه خطوب(620)، فما تلك الخطوب يا ترى؟!
روى المؤرِّخون أنَّ حامد بن العبَّاس هذا كان قد ألقى القبض على ابن روح النوبختي وأودعه السجن الذي في دار المقتدر(621)، أو الممطورة(622)، وذكروا أنَّ مدَّة حبسه كانت خمس سنوات فقط(623).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(615) المصدر السابق.
(616) كمال الدِّين (ص 442/ باب 43/ ح 16).
(617) قد تقدَّم في (ص 206)، فراجع.
(618) قد تقدَّم في (ص 198)، فراجع.
(619) قد تقدَّم في (ص 206)، فراجع.
(620) قد تقدَّم في (ص 179)، فراجع.
(621) الغيبة للطوسي (ص 307/ ح 259).
(622) لسان الميزان (ج 2/ ص 283/ الرقم 1177).
(623) تجارب الأمم: 5/195.
وعرفنا هذه المدَّة من جهتين:
أوَّلاً: إخبار رجال الإماميَّة الثقات بسجن ابن روح النوبختي(624)، واستتاره(625).
ثانياً: أخبار وتواريخ أهل العامَّة، فقد ذكر الحافظ الذهبي في حوادث عام (317هـ) أنَّ المحبوسين في دار الخلافة الذي أخرجهم مؤنس - كما تقدَّم - الحسين بن روح بن بحر أبا القاسم القيني - أو القمِّي - المتوفَّى سنة (326هـ)، وكان قد قبض عليه الوزير حامد بن العبَّاس، وسُجِنَ خمسة أعوام(626)، وأُطلق سراحه وقت خلع المقتدر(627).
وقد سرد ابن أبي طيٍّ المتوفَّى عام (630هـ) في أوراق حال ابن روح النوبختي وكيفيَّة اعتقاله(628).
فيكون بناءً على هذا فترة اعتقاله في عام (312هـ)، وكان معه جماعة في السجن منهم: المقتدر العبَّاسي بعد أنْ خلعه القادة والموالي وتولَّى الخلافة عام (317هـ).
والطريف في الأمر أنَّ القاهر هذا كان قد ذاق طعم الخلافة لمدَّة يومين فقط! في غضون أيَّام ملكه، ولـمَّا رأى القاهر أنَّ المقتدر سيرجع إلى دست الخلافة خاطبه المقتدر قائلاً: يا أخي، قد علمت أنَّك لا ذنب لك وأنَّك قُهرت، ولو لقَّبوك بالمقهور لكان أولى من القاهر، فبكى القاهر وقال: يا أمير المؤمنين، نفسي نفسي، اُذكر الرحم التي بيني وبينك(629).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(624) الغيبة للطوسي: 252.
(625) الغيبة للطوسي (ص 302 و303/ ح 256).
(626) تجارب الأمم، ابن مسكويه: 5/195.
(627) تاريخ الإسلام للذهبي: 24/190، سير أعلام النبلاء للذهبي: 15/222، الوافي بالوفيات للصفدي: 12/366.
(628) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 191).
(629) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 206).
وكان في السجن مع ابن روح النوبختي أيضاً أُمُّ المقتدر وولده وعليُّ بن عيسى الوزير وآخرون، وكان مؤنس المظفَّر وأبو الهيجاء من حمدان قد صمَّما على إرجاع المقتدر المعزول إلى الخلافة، فدخل مؤنس الدار، وسأل بعض الخدم عن المقتدر، فأعلموه بمكانه، فاحتال في إخراجه وإخراج أُمِّه وولده، فوجَّه معهم ثقاته إلى داره ليستتروا فيها، وأخرج عليَّ بن عيسى من المكان الذي كان محبوساً فيه فصرفه إلى منزله، وأخرج الحسين بن روح عام (317هـ) معهم أيضاً وأرجعوه إلى بيته(630).
ودار حوار بين المقتدر ومؤنس المظفَّر بعد الإخراج حول ابن روح النوبختي، فقال المقتدر العبَّاسي: دعوه، فبخطيئته جرى علينا ما جرى(631).
فما هي خطيئة ابن روح؟ وما الذي جرى حتَّى أوجب سجنه وسجن الخليفة معه؟
وأمَّا الإجابة عنها:
أوَّلاً: اتِّهامه في دسائس القرامطة:
قال الذهبي والصفدي: وممَّا رموه - أي ابن روح النوبختي - به أنَّه كان يكاتب القرامطة ليقدموا ويحاصروا بغداد(632)، فإنَّه كان يُهيِّئ لهم الأسباب للاستيلاء على سواحل الخليج والحجاز وزرع الخوف والقلق في بغداد، ولكنَّه بما أُوتي من نبوغ ودهاء ووفور عقل حاول دفع ذلك عن نفسه(633).
أقول: ولا يتَّفق هذا مع سياسة ابن روح في كتمان أمره والحذر، ومسلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(630) تاريخ الطبري (ج 11/ ص 122/ في حوادث عام 317هـ).
(631) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 191)، الوافي بالوفيات (ج 12/ ص 227).
(632) المصدر السابق.
(633) تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 191).
الاحتجاب والتقيَّة التي استعملها في عمله في السفارة، ومع الذكاء والعقل الذي امتلكه ابن روح كما ذكراه.
ولا يمكن للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تأييد القرامطة الذين اشتهروا بالصرامة والشدَّة والاستهانة بالدماء وبثِّ الرعب، وقلع الحجر الأسود من المسجد الحرام! وهو الذي يدافع عن مصالح الأُمَّة أينما اقتضت، بل كان على العكس من ذلك حيث استنكر (عجَّل الله فرجه) أعمال القرامطة وفضحهم وكشف زيغهم وخُدَعهم أمام الأُمَّة. وكيف يوافق أفعال القرامطة وقد اشتهر عنه في الحديث النبوي الشريف بأنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً؟
فممَّا جاء في ذلك أنَّ رجلاً جليلاً من فقهاء أصحابنا - بتعبير الراوي - كتب إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) رسالة عن طريق بعض سفرائه، فلم يرد فيها الجواب على كثرة ما كان يرد من أجوبة وتوقيعات عنه (عجَّل الله فرجه)، قال الراوي: فَنَظَرْنَا فَإِذَا اَلْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اَلرَّجُلَ تَحَوَّلَ قَرْمَطِيًّا(634)، ولذلك فإنَّ اعتناق شخص لمذهب القرامطة يُعتبَر سبباً كافياً لمقاطعته والإعراض عنه مهما بلغ علمه.
ثانياً: اتِّهامه بكثرة الديون ومطالبات الدولة:
ذكر الطبري في تاريخه كيفيَّة إطلاق سراح ابن روح النوبختي من السجن وأسباب اعتقاله، فقال: كان محبوساً بسبب مال طولب به من قِبَل الديوان(635).
أقول: وهذا غير تامٍّ أيضاً، فلا يُعقَل من ابن روح أنْ يُسجَن خمسة أعوام في السجن لأجل هذا المال مع وجود بني نوبخت وهم أصحاب المراتب والمناصب العالية في الدولة، وما كانوا يُسلِّمون له من الأموال من الوزراء والأُمراء، وكان له رزق من بيت المال...، إلخ(636).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(634) الكافي (ج 1/ ص 520/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 13)، الإرشاد (ج 2/ ص 359).
(635) تاريخ الطبري (ج 11/ ص 122).
(636) الغيبة للطوسي (ص 372/ ح 343).
ومع أنَّه كان لا يفعل إلَّا الصواب بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فكيف يسمح الإمام له بأنْ يقترض أموالاً من الدولة بحيث يبقى عاجزاً عن تسديدها ويبقى بعيداً عن المهمَّة التي اختير ابن روح لها في أمر السفارة؟!
ثالثاً: كثرة أنصاره وأتباعه:
لقد كانت الدولة تتوجَّس خيفةً من نشاط ابن روح، حتَّى إنَّه جمع لنفسه أنصاراً وأتباعاً له في البلاط العبَّاسي، وكان هذا يثير من تساؤلاتهم نحوه، وقد حصلت الدولة على حقائق دامغة تُثبِت ارتباطه بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، كالاعتراف الذي حصلت عليه من الشلمغاني بعد تقدميه للمحاكمة قائلاً بأنَّه كان وكيلاً عن ابن روح وليس إلهاً(637)، لكن الدولة لم تسأل عن معنى هذه الوكالة، ولم تُرسِل خلف ابن روح ليدلي بتوضيحاته حول هذه الوكالة ولمن هي.
ولكن عقل ابن روح ودرايته كانت قد نفت عنه كلَّ تلك التُّهَم الموجَّهة إليه، فمن جهة أنَّه يُعلِن عن أنَّ مذهبه أهل السُّنَّة، ودفاعه عن الصحابة والخلفاء أمام الأُمَّة، ومن جهة أُخرى ارتباطه بالخليفة الراضي والقاهر وبني نوبخت وآل الفرات وغيرهم، وعلاقته القويَّة بهم كان قد رفع عنه كلَّ تلك التُّهَم الموجَّهة له.
قال الذهبي: وكثرت غاشيته حتَّى كان الأُمراء والوزراء يركبون إليه والأعيان، وتواصف الناس عقله وفهمه.
وقال الصفدي: ولم يزل أبو القاسم - النوبختي - على مثل هذه الحالة حتَّى ولي حامد بن العبَّاس الوزارة.
وقد كاد أمره أنْ يظهر ويستفحل، وجرت لحامد مع ابن روح خطوب، وكان جمع الأنصار داخل البلاط سبباً في أنْ يأمر حامد بن العبَّاس بإيداع ابن روح النوبختي في السجن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(637) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 291).
رابعاً: اعتقاله بسبب ما يصله من أموال:
قال الذهبي: وكانت الإماميَّة تبذل له الأموال، وتُجبى من كلِّ البلاد الإسلاميَّة، وكان يُفتي الشيعة ويفيدهم، وكان قدوتهم، وله جلالة عجيبة، وله رتبة عظيمة بينهم.
ثمّ قال الذهبي: وممَّا رموه به أنَّ الأموال تُجبى إليه(638).
ولعلَّ هذا هو السبب في اعتقاله، وما تقدَّم من الصفدي في الأمر الثالث، لأنَّ الخزينة المالية للدولة كانت تعاني من النقص والحرمان بسبب الحروب التي كانت تُهدِّدها وقد صرفت لأجلها الكثير من النفقات.
وعلى كلِّ حال أُطلق سراح ابن روح النوبختي عام (317هـ) بعد أنْ استغرق سجنه خمسة أعوام منذ عام (312هـ)، وتابع فيها أعماله، ولم يتغيَّر موقعه الاجتماعي في الأُمَّة، وبقيت منزلته رفيعة بين الأُمراء والوزراء.
فقد روي أنَّ محمّد بن رائق أصدر مرسوماً حكوميًّا في التصرُّف في ممتلكات وضياع ابن مقلة وابنه عام (324هـ)، فقام أبو عليٍّ ابن مقلة بزيارة لأبي عبد الله الحسين بن عليٍّ النوبختي وزير ابن رائق لعلَّه يرفع ما صدر من المرسوم الحكومي وإيقاف ممتلكاته، وفي ضمن تشبُّثاته أيضاً طلب من ابن روح النوبختي أنْ يتوسَّط له أبو عبد الله عند ابن رائق، فكانت نتيجة الوساطة هي إصدار مرسوم حكومي إلى أبي عبد الله الحسين بن عليٍّ من قِبَل ابن رائق في رفع الحصار عليه ووقف ممتلكات ابن مقلة وفتح ما كان مغلقاً(639).
وبما أنَّ وزارة أبي عبد الله الحسين بن عليٍّ النوبختي لم تطل أكثر من ثلاثة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(638) راجع: تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 190 - 192)، وسير أعلام النبلاء (ج 15/ ص 22 - 224/ الرقم 85)، والوافي بالوفيات (ج 12/ ص 226 و227).
(639) الأوراق للصولي (ج 2/ ص 87).
أشهر وثمانية أيَّام(640)، فيكون تشبُّث ابن مقلة في إرجاع أمواله إليه بابن روح هو عام (325هـ) كما ذكره الصولي(641).
ثالثاً: خلافة الراضي بالله:
وقد امتازت خلافته بعدَّة ميزات، نُلخِّصها بما يلي:
حاول ابن روح النوبختي فترة خلافة الراضي بالله أنْ يحصل على رتبة جليلة في السلطة عند المؤالف والمخالف، وقد كانت تصله الأموال الكثيرة من أقصى البلاد الإسلاميَّة في الوقت الذي كانت فيه الخزينة المالية تعاني من النقص والإفلاس، فأثار ذلك العمل السلطة، وسعى به جماعة إليها، وصار الخليفة الراضي بالله يتحدَّث عن ابن روح وما يصله من الأموال.
فقد ذكر الصولي المتوفَّى عام (335هـ) وقد عاصر ابن روح النوبختي قائلاً: إنَّ الخليفة كان كثيراً ما يقول: إنَّ الإماميَّة يحملون إليه الأموال، فنردُّ عنه، ونُكذِّب، فيقول لنا: وما في هذا؟ والله لوددت أنَّ مثله ألفاً تحمل أموالها إليه فيفقرهم الله، ولا أكره غنى هؤلاء من أموالهم(642).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(640) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 456).
(641) الأوراق للصولي (ج 2/ ص 87).
(642) الأوراق للصولي (ج 2/ ص 104)، خاندان نوبختي (بالفارسيَّة) (ص 220).
المبحث الثالث: الحسين بن روح النوبختي ومدَّعو السفارة الكاذبة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
المنحرفون عن الإسلام والتعاليم السماويَّة والمتاجرون باسمه هم أشدّ وقعاً وأكثر تأثيراً وخطراً من الكفرة والملحدين، فقد ظهر رجال فترة الغيبة الصغرى وهم منحرفون عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ارتبطوا بالعوامِّ ليُبعدوهم عن الفكر الأصيل ويُشكِّكوا في عقائدهم، من خلال تزريقهم الأفكار المسمومة في جسد الأُمَّة، والسلطة من ورائهم في ذلك، بعد أنْ تكون الأُمَّة أحوج إلى التثقيف والتوعية.
وقد عرف الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حيلهم وألاعيبهم، ففضحهم وهم في عقر دارهم، وقد كلَّف هذا الأمر العناء والكثير من الجهود لإقناع الأُمَّة بكذب هؤلاء.
ولقد كان بإمكان هؤلاء إخبار السلطات عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أو أصحابه، ولكنَّهم لم يفعلوا ذلك لأُمور:
أوَّلاً: علمهم بأنَّ خطَّ السلطة هو غير مشروع، ومن جهة يريدون الارتزاق عن هذا الطريق وبأسهل الوسائل، فالدخول في خطِّ السلطة معناه الابتعاد عن الأُمَّة، وفيه نهايتهم المحتومة إنْ علمت بذلك. ولا تحصل من السلطات على شيء، لعلمها بإفلاس الخزينة الماليَّة ونقصانها. وربَّما لا تتجاوب السلطات معهم، لأنَّه يُسبِّب لها مشاكل عديدة هي في غنى عن ذلك، ومواجهة
أكبر تيَّار يمكن أنْ تستفيد منه لصالحها في حروبها الخارجيَّة، وهي الأُمَّة التي هي رصيد الإمام (عجَّل الله فرجه)، فهي لا تقدر على مواجهتها أبداً، ولا ترى ضرورة في ذلك.
ثانياً: علمهم بأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سيفضحهم قبل أنْ يقوموا بأيِّ عمل، ومعنى ذلك موتهم التدريجي في ساحة الصراع، فعلى هذا ينبغي أنْ يُفكِّر هؤلاء في طريق يضمن لهم سلامتهم في جانب، وعدم فقدان الأُمَّة في جانب آخر، ثمّ يسيروا في تحصيل رغباتهم لإيذاء الإمام (عجَّل الله فرجه) تدريجيًّا.
قال أبو عليٍّ بن همَّام: كُلُّ هَؤُلَاءِ اَلمُدَّعِينَ إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبُهُمْ أَوَّلاً عَلَى اَلْإِمَامِ (عليه السلام)، وَأَنَّهُمْ وُكَلَاؤُهُ، فَيَدْعُونَ اَلضَّعَفَةَ بِهَذَا اَلْقَوْلِ إِلَى مُوَالَاتِهِمْ، ثُمَّ يَتَرَقَّى اَلْأَمْرُ بِهِمْ إِلَى قَوْلِ اَلْحَلَّاجِيَّةِ، كَمَا اِشْتَهَرَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ اَلشَّلْمَغَانِيِّ وَنُظَرَائِهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعاً لَعَائِنُ اَللهِ تَتْرَى(643).
ونشير هنا إلى شخصيَّتين فترة سفارة ابن روح النوبختي كانتا قد ادَّعيتا السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كذباً وزوراً، وهدَّدا سفارة ابن روح، وكانتا أكثر خطراً من غيرهما، وهما:
أوَّلاً: الحلاَّج:
الصوفي المشهور، اجتمع حوله تلاميذه (الحلَّاجيَّة) عند عودته إلى بغداد عام (296هـ)، واتَّهمه المعتزلة بالشعوذة، وأُخرج من الطريقة بمقتضى توقيع من الإماميَّة، وفتوى من الظاهريَّة، وقُبِضَ عليه مرَّتين من قِبَل رجال الشرطة العبَّاسيِّين، وأُحضر أمام الوزير ابن عيسى، وعُذِّب في عام (301هـ)، وأمضى ثماني سنوات في سجن بغداد، وكانت رعاية (شغب) أُمِّ المقتدر والحاجب نصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(643) الغيبة للطوسي (ص 397 و398/ ح 368).
سبباً في أنْ عاداه الوزير حامد بن العبَّاس وزير المقتدر، فأمر بقتله بعد محاكمة دامت سبعة أشهر، بمقتضى فتوى أقرَّها القاضي المالكي أبو عمرو، وآل إليه ما آل أمره(644).
وقد عمل الشيخ المفيد (رحمه الله) كتاباً في الردِّ على الحلَّاجيَّة، فقال: والحلَّاجيَّة ضرب من أصحاب التصوُّف، وهم أصحاب الإباحة، والقول بالحلول، وكان الحلَّاج يتخصَّص بإظهار التشيُّع، وإنْ كان ظاهر أمره التصوُّف، وهم قوم ملاحدة وزنادقة يُموِّهون بمظاهرة كلِّ فرقة بدينهم، ويدَّعون للحلَّاج الأباطيل، ويجرون في ذلك مجرى المجوس في دعواهم لزرادشت المعجزات، ومجرى النصارى في دعواهم لرهبانهم الآيات والبيِّنات، والمجوس والنصارى أقرب إلى العمل بالعبادات منهم، وهم أبعد من الشرائع والعمل بها من النصارى والمجوس(645).
عدَّه الصدوق (رحمه الله) بأنَّه من الغلاة(646)، والطوسي (رحمه الله) بأنَّه من الكذَّابين والملعونين بلسان الأئمَّة (عليهم السلام) لادِّعائه البابيَّة والرؤية للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(647)، وأمَّا المرتضى والطبرسي وابن طاووس والحلِّي وغيرهم فقد رأوا أنَّه من المذمومين(648).
وقد وافق أبناء العامَّة هذا الرأي، فقال ابن النديم: إنَّه رجل محتال مشعبذ(649).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(644) روضات الجنَّات (ج 3/ ص 107 فصاعداً).
(645) تصحيح اعتقادات الإماميَّة (ص 134 و135).
(646) الاعتقادات في دين الإماميَّة (ص 101).
(647) الغيبة للطوسي (ص 401).
(648) روضات الجنَّات (ج 3/ ص 107 فصاعداً).
(649) فهرست ابن النديم (ص 241).
ورأى الذهبي أنَّه المقتول على الزندقة(650).
ذكر الصولي: أنَّ الحلَّاج جاهل يتعاقل، وغبي يتبالغ، وخبيث مدَّعٍ، وراغب يتزهَّد، وتاجر يتعبَّد(651).
واختلفت آراء المفكِّرين الأُوروبيِّين في الحلَّاج، فقد رأى مولر ودربلو أنَّ الحلَّاج كان نصرانيًّا في سريرة نفسه، واتَّهمه (ريسكه) بالكفر، ورأى (ثولوك) أنَّه كان متناقضاً في أقواله، وعدَّه (كريمر) من القائلين بوحدة الكون، ورأى (كازنسكي) أنَّه كان مريضاً بأعصابه، وعدَّه (براون) دسَّاساً ماهراً خطراً، وأنَّه كان رائداً للغزالي، لأنَّه حاول أنْ يُوفِّق في آرائه بين الدِّين والفلسفة اليونانيَّة على أساس من التجربة الصوفيَّة.
وقد جعل الصوفيَّة من الحلَّاج أعظم شهدائهم وإنْ كان قد أنكر تستُّرهم(652).
ولم يبقَ لنا من مؤلِّفات الحلَّاج إلَّا كتاب (الطواسين)(653).
وقد تناولت ادِّعاءاته أربعة أُمور: المجاهدات، الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب، التصرُّفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات، وألفاظ موهمة الظاهر يُعبَّر عنها بالشطحيَّات.
وله آراء أُخرى كادِّعاء الربوبيَّة وقطبيَّة الأرض وعلوم الغيب، ورؤيته للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والنيابة والبابيَّة عنه (عجَّل الله فرجه).
وذكر الخطيب البغدادي عنه أنَّه استغوى كثيراً من الناس والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى لدخوله من طريقهم(654).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(650) ميزان الاعتدال (ج 1/ ص 548/ الرقم 2059).
(651) البداية والنهاية (ج 11/ ص 159)، نقلاً عن الصولي.
(652) دائرة المعارف الإسلامية المعربة: 8/19.
(653) فهرست ابن النديم (ص 242).
(654) تاريخ بغداد (ج 8/ ص 122).
وكان يتقرَّب إلى الإماميَّة ليستميل قلوبهم ويحصل على منزلة عندهم، وكان يدعو الناس إلى نصرة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ويُبشِّرهم بالفرج، وخروج الصاحب (عجَّل الله فرجه) من أرض طالقان عمَّا قريب(655).
وقد حاول مراراً التقرُّب من إسماعيل بن عليٍّ النوبختي وعليِّ بن الحسين بن بابويه القمِّي (الصدوق)، وكان يعتقد أنَّه بإمكانه إطلاء الخُدَع والحيل والمخرقة عليهما.
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أبي نصر هبة الله، قال: لَـمَّا أَرَادَ اَللهُ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ أَمْرَ اَلْحَلَّاجِ وَيُظْهِرَ فَضِيحَتَهُ وَيُخْزِيَهُ، وَقَعَ لَهُ أَنَّ أَبَا سَهْلٍ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَلِيٍّ اَلنَّوْبَخْتِيَّ مِمَّنْ تُجَوَّزُ عَلَيْهِ مَخْرَقَتُهُ وَتَتِمُّ عَلَيْهِ حِيلَتُهُ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِيهِ، وَظَنَّ أَنَّ أَبَا سَهْلٍ كَغَيْرِهِ مِنَ اَلضُّعَفَاءِ فِي هَذَا اَلْأَمْرِ بِفَرْطِ جَهْلِهِ، وَقَدَرَ أَنْ يَسْتَجِرَّهُ إِلَيْهِ فَيَتَمَخْرَقَ بِهِ وَيَتَسَوَّفَ بِانْقِيَادِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَسْتَتِبَّ لَهُ مَا قَصَدَ إِلَيْهِ مِنَ اَلْحِيلَةِ وَاَلْبَهْرَجَةِ عَلَى اَلضَّعَفَةِ، لِقَدْرِ أَبِي سَهْلٍ فِي أَنْفُسِ اَلنَّاسِ وَمَحَلِّهِ مِنَ اَلْعِلْمِ وَاَلْأَدَبِ أَيْضاً عِنْدَهُمْ، وَيَقُولُ لَهُ فِي مُرَاسَلَتِهِ إِيَّاهُ: إِنِّي وَكِيلُ صَاحِبِ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) - وَبِهَذَا أَوَّلاً كَانَ يَسْتَجِرُّ اَلْجُهَّالَ ثُمَّ يَعْلُو مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ - وَقَدْ أُمِرْتُ بِمُرَاسَلَتِكَ، وَإِظْهَارِ مَا تُرِيدُهُ مِنَ اَلنُّصْرَةِ لَكَ لِتُقَوِّيَ نَفْسَكَ وَلَا تَرْتَابَ بِهَذَا اَلْأَمْرِ.
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو سَهْلٍ (رضي الله عنه) يَقُولُ لَهُ: إِنِّي أَسْأَلُكَ أَمْراً يَسِيراً يَخِفُّ مِثْلُهُ عَلَيْكَ فِي جَنْبِ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْكَ مِنَ اَلدَّلَائِلِ وَاَلْبَرَاهِينِ، وَهُوَ أَنِّي رَجُلٌ أُحِبُّ اَلْجَوَارِيَ وَأَصْبُو إِلَيْهِنَّ، وَلِي مِنْهُنَّ عِدَّةٌ أَتَحَظَّاهُنَّ، وَاَلشَّيْبُ يُبْعِدُنِي عَنْهُنَّ، وَيُبْغِضُنِي إِلَيْهِنَّ، وَأَحْتَاجُ أَنْ أَخْضِبَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَأَتَحَمَّلُ مِنْهُ مَشَقَّةً شَدِيدَةً لِأَسْتُرَ عَنْهُنَّ ذَلِكَ، وَإِلَّا اِنْكَشَفَ أَمْرِي عِنْدَهُنَّ فَصَارَ اَلْقُرْبُ بُعْداً وَاَلْوِصَالُ هَجْراً، وَأُرِيدُ أَنْ تُغْنِيَنِي عَنِ اَلْخِضَابِ وَتَكْفِيَنِي مَؤُنَتَهُ وَتَجْعَلَ لِحْيَتِي سَوْدَاءَ، فَإِنِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(655) روضات الجنَّات (ج 3/ ص 110)، عن مجالس المؤمنين (ج 2/ ص 453).
طَوْعُ يَدَيْكَ وَصَائِرٌ إِلَيْكَ وَقَائِلٌ بِقَوْلِكَ وَدَاعٍ إِلَى مَذْهَبِكَ مَعَ مَا لِي فِي ذَلِكَ مِنَ اَلْبَصِيرَةِ وَلَكَ مِنَ اَلمَعُونَةِ.
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ اَلْحَلَّاجُ مِنْ قَوْلِهِ وَجَوَابِهِ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ فِي مُرَاسَلَتِهِ وَجَهِلَ فِي اَلْخُرُوجِ إِلَيْهِ بِمَذْهَبِهِ وَأَمْسَكَ عَنْهُ وَلَمْ يَرُدَّ إِلَيْهِ جَوَاباً، وَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ رَسُولاً. وَصَيَّرَهُ أَبُو سَهْلٍ (رضي الله عنه) أُحْدُوثَةً وَضُحْكَةً وَيَطْنِزُ - يسخر - بِهِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، وَشَهَّرَ أَمْرَهُ عِنْدَ اَلصَّغِيرِ وَاَلْكَبِيرِ، وَكَانَ هَذَا اَلْفِعْلُ سَبَباً لِكَشْفِ أَمْرِهِ وَتَنْفِيرِ اَلْجَمَاعَةِ عَنْهُ(656).
وفعل كذلك مع الصدوق (رحمه الله) بمراسلته له قائلاً: أَنَا رَسُولُ اَلْإِمَامِ وَوَكِيلُهُ، فَخَرَقَهَا وَقَالَ: مَا أَفْرَغَكَ لِلْجَهَالَاتِ، فَضَحِكُوا مِنْهُ وَهَزَءُوا بِهِ...، وأمر الصدوق غلامه بضربه برجله وبقفاه، فخرج عدوُّ الله ورسوله، ثمّ قال: أَتَدَّعِي اَلمُعْجِزَاتِ؟ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اَللهِ، فَأُخْرِجَ بِقَفَاهُ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَهَا بِقُمَّ(657).
لقد أغضبت تصرُّفات الحلَّاج وأفعاله ابن روح النوبختي(658)، فقال فيه: هَذَا كُفْرٌ بِاللهِ تَعَالَى وَإِلْحَادٌ قَدْ أَحْكَمَهُ هَذَا اَلرَّجُلُ اَلمَلْعُونُ - أي الحلَّاج - فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ اَلْقَوْمِ لِيَجْعَلَهُ طَرِيقاً إِلَى أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بِأَنَّ اَللهَ تَعَالَى اِتَّحَدَ بِهِ وَحَلَّ فِيهِ كَمَا يَقُولُ اَلنَّصَارَى فِي اَلمَسِيحِ (عليه السلام)(659).
وخرج من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) توقيع يلعن فيه جماعة ممَّن ادَّعى البابيَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(656) الغيبة للطوسي (ص 401 و402/ ح 376)؛ وفي تاريخ البغدادي (ج 8/ ص 122) بعد ذكره ما أراده أبو سهل إسماعيل بن عليٍّ من وصل شعره وردِّ لحيته سوداء قال: (آمنت بما يدعوني إليه كائناً ما كان، إنْ شاء قلت إنَّه باب الإمام، وإنْ شاء: الإمام...) إلخ.
(657) الغيبة للطوسي (ص 402 و403/ ح 377).
(658) دائرة المعارف الإسلامية المعربة: 14/77.
(659) الغيبة للطوسي (ص 405/ ح 378)؛ هذا والحديث في ابن أبي العزاقر الشلمغاني، وفي آخره: (كما يقول النصارى في المسيح (عليه السلام)، ويعدو إلى قول الحلَّاج لعنه الله).
والرؤية له كذباً وزوراً، كالنميري والهلالي والبلالي والحلَّاج وغيرهم(660)، وقد اتَّهم فيه الحلَّاج بالزندقة والخروج من الدِّين(661)، وإدخاله الأباطيل والخرافات(662)، ودعوته للقرامطة(663)، وسُعي به في وزارة عليِّ بن عيسى الأُولى(664).
وقد استمال جماعة من الوزراء وطبقات وحواشي السلطات وأُمراء الأمصار وملوك العراق والجزيرة وما والاها، فأمر المقتدر بتسليمه إلى حامد بن العبَّاس، وجرى له معه خطوب(665).
ومكث الحلَّاج محبوساً في دار الخلافة ثمانية أعوام موسَّعاً عليه(666)، وحاكمه ابن العبَّاس قائلاً له: ألست تعلم أنِّي قبضت عليك بدور الراسبي وأحضرتك واسط فذكرت في دفعة أنَّك المهدي(667)؟! ثمّ أُخرج إلى رحبة المسجد وأمر الجلاد بضربه بالسوط، فضُرِبَ تمام الألف، ثمّ قُطِعَت يداه ورجلاه وحُزَّ رأسه وأُحرقت جثَّته(668)، وبقي أربعة آلاف من الحلَّاجيَّة في العراق ينتظرونه(669)، إلى عام (449هـ)، ويقفون بحيث صلب على دجلة يتوقَّعون ظهوره(670).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(660) الاحتجاج (ج 2/ ص 289 و290).
(661) مجالس المؤمنين للشوشتري: 271.
(662) تلبيس إبليس لابن الجوزي: 271، تاريخ بغداد للبغدادي: 8/127 و135.
(663) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 380.
(664) الحضارة الإسلامية: آدم متز 2/43.
(665) تاريخ بغداد للبغدادي: 8/127.
(666) الحضارة الإسلامية: آدم متز 2/43.
(667) تاريخ بغداد (ج 8/ ص 131).
(668) تاريخ بغداد (ج 8/ ص 134 و135).
(669) كشف المحجوب – نيكلسون: 260، الحضارة الإسلامية – آدم متز: 2/43.
(670) رسالة الغفران للجمعية الآسيوية Jras, 1902 - 9 S.833.
ثانياً: الشلمغاني:
وُلِدَ في شلمغان، وهي من قرى واسط بالعراق(671)، وانتقل إلى بغداد، فكان أحد كُتَّابها وأحد مؤلِّفي علماء الشيعة(672)، والمتقدِّمين في الأصحاب(673). نصبه ابن روح وكيلاً عنه، بعد أنْ فرغ من دفن أبي جعفر العمري (رضي الله عنه)(674)، فقصده الناس في حوائجهم ومهمَّاتهم(675)، خرجت على يديه توقيعات الإمام المهدي من قِبَل ابن روح النوبختي(676)، لما كان شيخاً مستقيم العقيدة والسلوك والصلاح(677)، ثمّ حمله الحسد لأبي القاسم بن روح على ترك المذهب والدخول في المذاهب الرديَّة(678)، وظهرت منه مقالات منكرة(679)، وأصبح غالياً(680)، واعتقد بالتناسخ وحلول الأُلوهيَّة فيه(681).
فظهر توقيع من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بلعنه والبراءة منه وممَّن تولَّاه، وشاع خبره، وبلغ الخليفة الراضي بالله، فأمر بالقبض عليه، وقتله واستراحت الشيعة والأُمَّة الإسلاميَّة منه(682).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(671) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 290).
(672) التنبيه والإشراف (ص 343).
(673) رجال النجاشي (ص 378/ الرقم 1029).
(674) خاندان نوبختي (بالفارسيَّة) (ص 222).
(675) الغيبة للطوسي (ص 303/ ح 256).
(676) المصدر السابق.
(677) رجال النجاشي (ص 378/ الرقم 1029)، الفهرست (ص 224/ الرقم 627/42).
(678) رجال النجاشي (ص 378/ الرقم 1029).
(679) الفهرست (ص 224/ الرقم 627/42).
(680) رجال الطوسي (ص 448/ الرقم 6364/114).
(681) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 290).
(682) الغيبة للطوسي (ص 406/ ح 378).
وكان الشلمغاني يُلقِّب نفسه بالحلَّاج أيضاً(683)، وكان يتعاطى الكيمياء(684)، وقد ذُكِرَت عقائده في أربعة مصادر مهمَّة من مصادر التاريخ الإسلامي(685).
وقد كان للشلمغاني تأليفات كثيرة فترة استقامته وبعضها فترة انحرافه، وقد ذكرها ابن النديم والنجاشي والطوسي وغيرهم(686)، ونشير إلى جملة منها لارتباطها بسفارة ابن روح النوبختي:
أوَّلاً: كتاب التكليف:
وقد ألَّفه الشلمغاني في حال استقامته، فلمَّا حصلت نسخة منه بيد ابن روح النوبختي قال لأصحابه: اُطْلُبُوهُ إِلَيَّ لِأَنْظُرَهُ، فَجَاءُوا بِهِ، فَقَرَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَقَالَ: مَا فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ رَوَى عَنِ اَلْأَئِمَّةِ إِلَّا مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَإِنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِمْ فِي رِوَايَتِهَا لَعَنَهُ اَللهُ(687).
قال العلَّامة الحلِّي (رحمه الله): كتاب التكليف رواه المفيد (رحمه الله) إلَّا حديثاً منه في باب الشهادات أنَّه يجوز للرجل أنْ يشهد لأخيه إذا كان له شاهد واحد من غير علم(688).
ولكن الصحيح هو ما رواه الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن محمّد بن أحمد بن داود والحسين بن عليِّ بن بابويه أنَّهما قالا: مِمَّا أَخْطَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ - الشلمغاني - فِي اَلمَذْهَبِ فِي بَابِ اَلشَّهَادَةِ أَنَّهُ رَوَى عَنِ اَلْعَالِمِ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا كَانَ لِأَخِيكَ اَلمُؤْمِنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(683) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 186)، معجم الأُدباء (ج 1/ ص 235).
(684) معجم الأُدباء (ج 1/ ص 236).
(685) راجع: تاريخ الموصل (ج 2/ ص 241)، والكامل في التاريخ (ج 8/ ص 290)، ووفيات الأعيان (ج 2/ ص 155 و156)، وتاريخ أبي الفداء (ج 2/ ص 80)، وغيرها.
(686) فهرست ابن النديم (ص 425)، رجال النجاشي (ص 378 و379/ الرقم 1029)، الفهرست (ص 224/ الرقم 627/42).
(687) الغيبة للطوسي (ص 408 و409/ ح 382).
(688) خلاصة الأقوال (ص 399/ الرقم 30).
عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ فَدَفَعَهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ اَلْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ إِلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَكَانَ اَلشَّاهِدُ ثِقَةً رَجَعْتَ إِلَى اَلشَّاهِدِ فَسَأَلْتَهُ عَنْ شَهَادَتِهِ، فَإِذَا أَقَامَهَا عِنْدَكَ شَهِدْتَ مَعَهُ عِنْدَ اَلْحَاكِمِ عَلَى مِثْلِ مَا يَشْهَدُهُ عِنْدَهُ، لِئَلَّا يُتْوَى - أي يهلك - حَقُّ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ»، وَاَللَّفْظُ لاِبْنِ بَابَوَيْهِ، قَالَ: هَذَا كَذِبٌ مِنْهُ، لَسْنَا نَعْرِفُ ذَلِكَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: كَذَبَ فِيهِ(689).
وروى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن محمّد بن الفضل بن تمَّام، قال: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ اَلْزَّكُوزَكِيَّ (رحمه الله) وَقَدْ ذَكَرْنَا كِتَابَ اَلتَّكْلِيفِ وَكَانَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ غَالٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا كَتَبْنَا اَلْحَدِيثَ، فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: وَ أَيْشٍ كَانَ لاِبْنِ أَبِي اَلْعَزَاقِرِ - الشلمغاني - فِي كِتَابِ اَلتَّكْلِيفِ؟! إِنَّمَا كَانَ يُصْلِحُ اَلْبَابَ وَيُدْخِلُهُ إِلَى اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه) فَيَعْرِضُهُ عَلَيْهِ وَيُحَكِّكُهُ، فَإِذَا صَحَّ اَلْبَابُ خَرَجَ فَنَقَلَهُ، وَأَمَرَنَا بِنَسْخِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَتَبْتُهُ فِي اَلْإِدْرَاجِ بِخَطِّي بِبَغْدَادَ. قَالَ اِبْنُ تَمَّامٍ: فَقُلْتُ لَهُ: تَفَضَّلْ يَا سَيِّدِي فَادْفَعْهُ إِلَيَّ حَتَّى أَكْتُبَهُ مِنْ خَطِّكَ، فَقَالَ لِي: قَدْ خَرَجَ عَنْ يَدِي، فَقَالَ اِبْنُ تَمَّامٍ: فَخَرَجْتُ وَأَخَذْتُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَتَبْتُ بَعْدَمَا سَمِعْتُ هَذِهِ اَلْحِكَايَةَ(690).
ثانياً: كتاب التأديب(691).
ثالثاً: رسالة ابن همَّام(692).
رابعاً: كتاب الأوصياء:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(689) الغيبة للطوسي (ص 409/ ح 383).
(690) الغيبة للطوسي (ص 389/ ح 354).
(691) الغيبة للطوسي (ص 390/ ح 357).
(692) وهو محمّد بن أبي بكر الإسكافي من كبار شيوخ الإماميَّة، وأجداده من الزرادشتيَّة الفرس، له كتاب في تاريخ الأئمَّة يُسمَّى الأنوار، وُلِدَ سنة (258هـ) وتُوفّي سنة (326هـ)، وكان أوَّل من أسلم من أهله وهداه الله إلى الحقِّ. (رجال النجاشي: ص 379 و380/ الرقم 1032).
وقد جاء فيه ولادة القائم (عجَّل الله فرجه)، وكيفيَّة زيارته للإمامين العسكريَّين (عليهما السلام)، وما رآه من معاجز، وقد ذكره الطوسي (رحمه الله) في موضعين، فقد روى بإسناده عن محمّد بن عليٍّ الشلمغاني في كتاب (الأوصياء)، قال: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ نَصْرٍ غُلَامُ أَبِي اَلْحَسَنِ - الإمام الهادي - (عليه السلام)، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَـمَّا وُلِدَ اَلسَّيِّدُ - أي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - تَبَاشَرَ أَهْلُ اَلدَّارِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا نَشَأَ خَرَجَ إِلَيَّ اَلْأَمْرُ أَنْ أَبْتَاعَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَعَ اَللَّحْمِ قَصَبَ مُخٍّ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا لِمَوْلَانَا اَلصَّغِيرِ (عليه السلام)(693).
وروى بإسناده عن الشلمغاني في كتاب (الأوصياء) أنَّه قال: قال أبو جعفر المروزي: خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ إِلَى اَلْعَسْكَرِ، وَرَأَوْا أَيَّامَ أَبِي مُحَمَّدٍ (عليه السلام) فِي اَلْحَيَاةِ وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طَنِينٍ، فَكَتَبَ: جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ يَسْتَأْذِنُ فِي اَلدُّخُولِ إِلَى اَلْقَبْرِ(694)، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ: لَا تَكْتُبْ اِسْمِي، فَإِنِّي لَا أَسْتَأْذِنُ، فَلَمْ يَكْتُبْ اِسْمَهُ، فَخَرَجَ إِلَى جَعْفَرٍ: «اُدْخُلْ أَنْتَ وَمَنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ»(695).
خامساً: كتاب الغيبة:
قال الطوسي (رحمه الله): ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي اَلْعَزَاقِرِ اَلشَّلْمَغَانِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ (اَلْغَيْبَةِ) اَلَّذِي صَنَّفَهُ: وَأَمَّا مَا بَيْنِي وَبَيْنَ اَلرَّجُلِ اَلمَذْكُورِ - زَادَ اَللهُ فِي تَوْفِيقِهِ - فَلَا مَدْخَلَ لِي فِي ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ أَدْخَلْتَهُ فِيهِ، لِأَنَّ اَلْجِنَايَةَ عَلَيَّ فَإِنِّي وَلِيُّهَا. وَقَالَ فِي فَصْلٍ آخَرَ: وَمَنْ عَظُمَتْ مِنَّتُهُ عَلَيْهِ تَضَاعَفَتِ اَلْحُجَّةُ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ اَلصِّدْقُ فِيمَا سَاءَهُ وَسَرَّهُ، وَلَيْسَ يَنْبَغِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اَللهِ إِلَّا اَلصِّدْقُ عَنْ أَمْرِهِ، مَعَ عِظَمِ جِنَايَتِهِ، وَهَذَا اَلرَّجُلُ مَنْصُوبٌ لِأَمْرٍ مِنَ اَلْأُمُورِ لَا يَسَعُ اَلْعِصَابَةَ اَلْعُدُولُ عَنْهُ فِيهِ، وَحُكْمُ اَلْإِسْلَامِ مَعَ ذَلِكَ جَارٍ عَلَيْهِ كَجَرْيِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ وَذَكَرَهُ(696).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(693) الغيبة للطوسي (ص 245/ ح 213).
(694) المراد بالقبر هي المقبرة المطهَّرة للإمامين العسكريَّين (عليهما السلام). (من هامش المصدر).
(695) الغيبة للطوسي (ص 343/ ح 293).
(696) الغيبة للطوسي (ص 391/ ح 359 و360).
ودخلت كُتُب الشلمغاني البيوت لقربه من ابن روح حال استقامته، فَسُئِلَ ابن روح عَنْ كُتُبِهِ بَعْدَ مَا ذُمَّ وَخَرَجَتْ فِيهِ اَللَّعْنَةُ، فَقِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ نَعْمَلُ بِكُتُبِهِ وَبُيُوتُنَا مِنْهَا مِلَاءٌ؟! فَقَالَ ابن روح: أَقُولُ فِيهَا مَا قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ - العسكري - (عليه السلام) وَقَدْ سُئِلَ عَنْ كُتُبِ بَنِي فَضَّالٍ(697)، فَقَالُوا: كَيْفَ نَعْمَلُ بِكُتُبِهِمْ وَبُيُوتُنَا مِنْهَا مِلَاءٌ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «خُذُوا بِمَا رَوَوْا، وَذَرُوا مَا رَأَوْا»(698)، فإنَّ الانحراف في العقيدة لا ينافي إمكان صحَّة الرواية حال الاستقامة.
لقد كان الشلمغاني وجيهاً عند الناس(699)، ونال احترام بني بسطام(700)، الذين سكنوا بغداد قديماً، فصار منهم كُتَّاباً وعُمَّالاً في الديوان العبَّاسي، ومنهم: أبو العبَّاس أحمد بن محمّد بن بسطام وأولاده أبو القاسم عليٌّ وأبو الحسين بن محمّد الذين ربطتهم صلة القرابة بآل الفرات، فلقد كان محمّد هذا صهر حامد بن العبَّاس وزير المقتدر، وكانت هذه الطائفة من المدافعين عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) والإماميَّة، ولكن بعد إعلان الشلمغاني عن عقيدته بقوا على اعتقادهم السابق فيه وتابعوه في أفعاله، ممَّا كان سبباً في بثِّ المقتدر جواسيسه حول بيوتهم ليرقبوا تحرُّكاتهم ويقتنصوا أخبارهم، وحصل الشلمغاني على احترام آل الفرات الذين كانوا بداية أمرهم على مذهب الإماميَّة، وهم رهط الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات الذي كان من وزراء بني العبَّاس،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(697) بنو فضَّال هم ثلاثة أولاد للحسن بن فضَّال الكوفي المتوفَّى عام (224هـ)، وأولاده الثلاثة هم من الفقهاء الفطحيِّين، وهم: أحمد المتوفَّى عام (260هـ)، ومحمّد، وعليّ البالغة كُتُبه الثلاثون كتاباً، وله كتاب في تأييد مذهبه. راجع: اختيار معرفة الرجال (ج 2/ ص 635/ ح 639)، ورجال النجاشي (ص 34 - 36/ الرقم 72، وص 257 - 259/ الرقم 676).
(698) الغيبة للطوسي (ص 389 و390/ ح 355).
(699) الغيبة للطوسي (ص 403/ ح 378).
(700) المصدر السابق.
وهو الذي صحَّح الخطبة الشقشقيَّة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ويحتمل أنَّهم نزلوا بشطِّ الفرات، وكان منهم أبو الحسن بن الفرات الذي وزر ثلاث مرَّات للمقتدر كان آخرها عام (311هـ)(701)، وكان ولده المحسن هو الغالب على الأُمور في هذه الوزارة(702) حتَّى عُزِلَ عام (312هـ)، واختفى ولده المحسن، وصادر ابن الفرات على جملة من المال مبلغها ألف ألف دينار(703). وابن الفرات هذا فرع من أب وأخ منحرفين، كانا قد اتَّبعا محمّد بن نصير النميري الذي ادَّعى السفارة كذباً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فترة سفارة أبي جعفر العمري، وقد تقدَّم ذلك.
وكان المحسن بن عليٍّ وقحاً سيِّئ الأدب ظالماً ذا قسوة شديدة، وكان الناس يُسَمُّونه: الخبيث بن الطيِّب(704)، وروي له شنائع في التعذيب والمصادرة(705)، وكان الشلمغاني من أقربائه، وله معه رابطة النسب، ومن المقرَّبين إليه(706).
وأمَّا ميزات تلك الفترة:
أوَّلاً: ما رواه الطوسي (رحمه الله) بإسناده عَنْ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ هَمَّامٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ اَلشَّلْمَغَانِيَّ لَمْ يَكُنْ قَطُّ بَاباً إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ، وَلَا طَرِيقاً لَهُ، وَلَا نَصَبَهُ أَبُو اَلْقَاسِمِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ وَلَا سَبَبٍ، وَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ فَقَدْ أَبْطَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ فَقِيهاً مِنْ فُقَهَائِنَا، وَخَلَّطَ وَظَهَرَ عَنْهُ مَا ظَهَرَ، وَاِنْتَشَرَ اَلْكُفْرُ وَاَلْإِلْحَادُ عَنْهُ(707).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(701) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 139 و140).
(702) المصدر السابق.
(703) مروج الذهب (ج 4/ ص 214).
(704) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 142).
(705) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 141).
(706) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 290).
(707) الغيبة للطوسي (ص 408/ ح 381).
ولا تنافي هذه الرواية ما ذكره أبو غالب الزراري من أنَّ الشيخ الحسين بن روح نصب الشلمغاني وكيلاً عنه حال استقامته(708)، خاصَّةً وأنَّ ابن همَّام نفسه اعترف بأنَّ الشلمغاني كان وكيلاً صالحاً لابن روح حال استتاره عن الخليفة المقتدر(709).
ثانياً: كان تنصيب الشلمغاني وكيلاً لابن روح بعد وفاة العمري ودفنه(710)، وفي بعض النصوص أنَّه كان وقت استتاره واختفائه عن الوسط الإسلامي(711).
وقد ذكرنا أنَّه اعتُقِلَ عام (312هـ)، فيكون تنصيبه للشلمغاني إذن في بداية وزارة حامد بن العبَّاس أو آخرها حيث كان مستقيم السلوك والعقيدة في تلك الفترة(712)، ثمّ خرج عن المذهب وكذب على ابن روح، وحكى عنه لبني بسطام وآل الفرات كلَّ كذب وبلاء وكفر، وأسنده إلى ابن روح النوبختي، فكانوا يقبلونه منه ويأخذونه عنه(713).
وعندما لعنه ابن روح قال الشلمغاني في تأويل كلامه: إِنَّ لِهَذَا اَلْقَوْلِ بَاطِناً عَظِيماً، وَهُوَ أَنَّ اَللَّعْنَةَ اَلْإِبْعَادُ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: «لَعَنَهُ اَللهُ» أَيْ بَاعَدَهُ اَللهُ عَنِ اَلْعَذَابِ وَاَلنَّارِ، ثمّ قال: وَاَلْآنَ قَدْ عَرَفْتُ مَنْزِلَتِي، وَمَرَّغَ خَدَّيْهِ عَلَى اَلتُّرَابِ وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالْكِتْمَانِ لِهَذَا اَلْأَمْرِ(714).
وادَّعى الشلمغاني أنَّ روح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انتقلت إلى العمري أبي جعفر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(708) الغيبة للطوسي (ص 323 و324/ ح 272).
(709) الغيبة للطوسي: 187.
(710) خاندان نوبختي (بالفارسيَّة) (ص 222).
(711) الغيبة للطوسي: 183.
(712) الغيبة للطوسي: 183.
(713) الغيبة للطوسي (ص 403/ ح 378).
(714) الغيبة للطوسي (ص 403 - 405/ ح 378).
وروح أمير المؤمنين (عليه السلام) انتقلت إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، وروح مولاتنا فاطمة (عليها السلام) انتقلت إلى ابنة أبي جعفر العمري(715).
وعدا الشلمغاني إلى قول الحلَّاج لعنه الله(716)، واستهوى قلوب الضعفاء، واستزلَّ خلقاً كثيراً من المسلمين وأشرك طوائف العمهين(717).
وكان يقول لبني بسطام: إِنَّنِي أَذَعْتُ اَلسِّرَّ وَقَدْ أُخِذَ عَلَيَّ اَلْكِتْمَانُ فَعُوقِبْتُ بِالْإِبْعَادِ بَعْدَ اَلاِخْتِصَاصِ، لِأَنَّ اَلْأَمْرَ عَظِيمٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ مُؤْمِنٌ مُمْتَحَنٌ، فَيُؤَكَّدُ فِي نُفُوسِهِمْ عِظَمُ اَلْأَمْرِ وَجَلَالَتُهُ(718).
وكانت له حكاية مع أبي سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي مشابهة لحكاية الحلَّاج وافتضاحه، حيث راسله الشلمغاني يدعوه فيها إلى الفتنة، ويبذل له المعجز وإظهار العجب - كما حكاه ابن النديم -، قال: وكان بمقدَّم رأس أبي سهل جلح يشبه القرع، فقال للرسول: أنا ما أدري المعجز أيّ شيء هو! يُنبت صاحبك - الشلمغاني - بمقدَّم رأسي الشعر حتَّى أُؤمن به! فما عاد إليه الرسول(719).
وحذَّر ابن روح النوبختي كلَّ أصحابه من الشلمغاني، وكذا في بني نوبخت، فلم يبقَ أحد إلَّا وتقدَّم إليه الشيخ أبو القاسم وكاتبه بلعن أبي جعفر الشلمغاني والبراءة منه وممَّن يتولَّاه ورضي بقوله أو كلَّمه فضلاً عن موالاته(720).
وخرج توقيع من ابن روح النوبختي وهو في السجن عام (312هـ) بلعن الشلمغاني، وقد رواه الطوسي (رحمه الله) بأسانيد مختلفة، قال: خَرَجَ اَلتَّوْقِيعُ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(715) المصدر السابق.
(716) المصدر السابق.
(717) معجم الأُدباء (ج 1/ ص 235/ ترجمة ابن أبي عون).
(718) الغيبة للطوسي (ص 403 و404/ ح 378).
(719) تأسيس الشيعة (ص 368)، عن فهرست ابن النديم (ص 225).
(720) الغيبة للطوسي (ص 405/ ح 378).
اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ فِي اَلشَّلْمَغَانِيِّ، وَأَنْفَذَ نُسْخَتَهُ إِلَى أَبِي عَلِيٍّ بْنِ هَمَّامٍ فِي ذِي اَلْحِجَّةِ سَنَةَ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ(721).
وقال محمّد بن الحسن الصيمري: أَنْفَذَ اَلشَّيْخُ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه) مِنْ محبسه فِي دَارِ اَلمُقْتَدِرِ إِلَى شَيْخِنَا أَبِي عَلِيٍّ بْنِ هَمَّامٍ فِي ذِي اَلْحِجَّةِ سَنَةَ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَمْلَاهُ أَبُو عَلِيٍّ عَلَيَّ وَعَرَّفَنِي أَنَّ أَبَا اَلْقَاسِمِ (رضي الله عنه) رَاجَعَ فِي تَرْكِ إِظْهَارِهِ، فَإِنَّهُ فِي يَدِ اَلْقَوْمِ وَحَبْسِهِمْ، فَأُمِرَ بِإِظْهَارِهِ وَأَنْ لَا يَخْشَى وَيَأْمَنَ، فَتَخَلَّصَ وَخَرَجَ مِنَ اَلْحَبْسِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَاَلْحَمْدُ لِلهِ(722).
ويظهر أنَّ التوقيع كان قد شاع وانتشر قبل خروج ابن روح من السجن بقليل، أي ما يقرب من عام (317هـ)، وإليك نصُّه:
روى الطوسي والطبرسي (رحمهما الله) بإسنادهما: «بسم الله الرحمن الرحيم، اِعْرِفْ - أَطَالَ اَللهُ بَقَاءَكَ وَعَرَّفَكَ اَلْخَيْرَ كُلَّهُ وَخَتَمَ بِهِ عَمَلَكَ - مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ وَتَسْكُنُ إِلَى نِيَّتِهِ مِنْ إِخْوَانِنَا - أَدَامَ اَللهُ سَعَادَتَهُمْ - بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ اَلمَعْرُوفَ بِالشَّلْمَغَانِيِّ - عَجَّلَ اَللهُ لَهُ اَلنَّقِمَةَ وَلَا أَمْهَلَهُ - قَدِ اِرْتَدَّ عَنِ اَلْإِسْلَامِ وَفَارَقَهُ وَأَلْحَدَ فِي دِينِ اَللهِ وَاِدَّعَى مَا كَفَرَ مَعَهُ بِالْخَالِقِ (جَلَّ وَتَعَالَى) وَاِفْتَرَى كَذِباً وَزُوراً وَقَالَ بُهْتَاناً وَإِثْماً عَظِيماً، كَذَبَ اَلْعَادِلُونَ بِاللهِ وَضَلُّوا ضَلَالاً بَعِيداً وَخَسِرُوا خُسْرَاناً مُبِيناً، وَإِنَّا بَرِئْنَا إِلَى اَللهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ (صَلَوَاتُ اَللهِ وَسَلَامُهُ وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِمْ) مِنْهُ، وَلَعَنَّاهُ (عَلَيْهِ لَعَائِنُ اَللَّهِ تَتْرَى) فِي اَلظَّاهِرِ مِنَّا وَاَلْبَاطِنِ، فِي اَلسِّرِّ وَاَلْجَهْرِ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى مَنْ شَايَعَهُ وَتَابَعَهُ وَبَلَغَهُ هَذَا اَلْقَوْلُ مِنَّا فَأَقَامَ عَلَى تَوَلِّيهِ بَعْدَهُ. وَأَعْلِمْهُمْ تَوَلَّاكُمُ اَللهُ أَنَّنَا فِي اَلتَّوَقِّي وَاَلمُحَاذَرَةِ مِنْهُ عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ نُظَرَائِهِ مِنَ اَلشَّرِيعِيِّ وَاَلنُّمَيْرِيِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَاَلْهِلَالِيِّ وَاَلْبِلَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَعَادَةُ اَللهِ (جَلَّ ثَنَاؤُهُ) مَعَ ذَلِكَ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا جَمِيلَةٌ، وَبِهِ نَثِقُ، وَإِيَّاهُ نَسْتَعِينُ، وَهُوَ حَسْبُنَا فِي كُلِّ أُمُورِنَا وَنِعْمَ اَلْوَكِيلُ»(723).
وقد ترك هذا التوقيع آثاراً بليغة في الحدِّ من نشاط الشلمغاني ولعنه في المحافل العلميَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة(724).
ولم يأبه الشلمغاني بهذا القرار، وكان يُعلِن بين الآونة والأُخرى عن رفضه لهذا القرار واستنكاره، وصبَّ جام غضبه على أنصار الإمام (عجَّل الله فرجه)، فكتب كتاب (الغيبة)، وادَّعى فيه منصباً لم يصنعه الله فيه، وافترى الكثير على الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(725).
قال الشلمغاني: مَا دَخَلْنَا مَعَ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ - النوبختي - فِي هَذَا اَلْأَمْرِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ فِيمَا دَخَلْنَا فِيهِ، لَقَدْ كُنَّا نَتَهَارَشُ عَلَى هَذَا اَلْأَمْرِ كَمَا تَتَهَارَشُ اَلْكِلَابُ عَلَى اَلْجِيَفِ. لكن الأُمَّة لَمْ تَلْتَفِتْ إِلَى هَذَا اَلْقَوْلِ، وَأَقَامَتْ عَلَى لَعْنِهِ وَاَلْبَرَاءَةِ مِنْهُ(726).
ثمّ أظهر الشلمغاني أنَّ الأجوبة التي كانت تخرج من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هي له، ولا دخل للإمام (عجَّل الله فرجه) فيها، فخرج توقيع من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لأهل قم فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، قَدْ وَقَفْنَا عَلَى هَذِهِ اَلرُّقْعَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ، فَجَمِيعُهُ جَوَابُنَا [عَنِ اَلمَسَائِلِ] وَلَا مَدْخَلَ لِلْمَخْذُولِ اَلضَّالِّ اَلمُضِلِّ اَلمَعْرُوفِ بِالْعَزَاقِرِيِّ (لَعَنَهُ اَللهُ) فِي حَرْفٍ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَتْ أَشْيَاءُ خَرَجَتْ إِلَيْكُمْ عَلَى يَدَيْ أَحْمَدَ بْنِ بِلَالٍ وَغَيْرِهِ مِنْ نُظَرَائِهِ، وَكَانَ مِنِ اِرْتِدَادِهِمْ عَنِ اَلْإِسْلَامِ مِثْلُ مَا كَانَ مِنْ هَذَا (عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللهِ وَغَضَبُهُ)»(727).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(723) الغيبة للطوسي (ص 410 و411/ ح 384)، الاحتجاج (ج 2/ ص 290).
(724) الغيبة للطوسي (ص 411 و412/ ح 384).
(725) الغيبة للطوسي (ص 391).
(726) الغيبة للطوسي (ص 391 و392/ ح 361).
(727) الغيبة للطوسي (ص 373 و374/ ح 345).
وأراد الراوي أنْ يتأكَّد أنَّ ما خرج من هؤلاء قبل انحرافهم صحيح أم لا؟ قال الراوي: فَاسْتَثْبَتُّ قَدِيماً فِي ذَلِكَ، فَخَرَجَ اَلْجَوَابُ منه (عليه السلام): «أَلَا مَنِ اِسْتَثْبَتَ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي خُرُوجِ مَا خَرَجَ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ»(728).
وقد كانت الضربة التي وجَّهها ابن روح للشلمغاني شديدة كانت قد أنهت بحياته(729)، وافتضح على أثرها في آخر وزارة حامد بن العبَّاس حيث أظهر قبائح أفعاله وكفره وإلحاده، فنبذته الأُمَّة وطردته من بينها، فلاذ بالبلاط العبَّاسي بعد عزل الوزير حامد بن العبَّاس ومجيء أبي الحسن بن الفرات، وللمرَّة الثالثة عام (311هـ) إلى الوزارة، فارتبط مع ابنه المحسن وقرَّبه إليه(730)، ونصبه في بعض أعمال الديوان(731)، ليُخفِّف عنه وطأة المعارضين، ويخفي الأموال التي سرقها من الأُمَّة، وحين اضطرب أمر المحسن وأبيه قام باضطهاد المنكوبين، فاستخلف الشلمغاني بالحضرة لجماعة من العُمَّال، وكان للشلمغاني صاحب يعرفه بملازمته، مقدام على الدماء، من أهل البصرة، فسلَّم إليه جماعة، فذبحهم كما يُذبَح الغنم، ثمّ استخرج أموال جماعة كانوا مستترين، وصادر القسم الآخر(732).
وبعد أنْ قُتِلَ المحسن وأبوه، حلَّ محلَّهما في الوزارة أبو القاسم الخاقاني، فهرب الشلمغاني إلى الموصل، وصار في ضيافة الأمير ناصر الدولة الحمداني، روى النجاشي (رحمه الله) أنَّ الشلمغاني أخبر بقائمة كُتُبه عند استتاره بمعلثايا(733).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(728) المصدر السابق.
(729) الكامل في التاريخ: 8/290، الفَرق بين الفِرق للبغدادي: 264، تاريخ الإسلام للذهبي.
(730) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 290).
(731) معجم البلدان للحموي: 1/235، تجارب الأمم – ابن مسكويه: 5/123، حوادث عام 312هـ
(732) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 185 و186).
(733) رجال النجاشي (ص 379/ الرقم 1029)؛ وقال الحموي في معجم البلدان (ج 5/ ص 158): (معلثايا بليد له ذكر في الأخبار المتأخِّرة قرب جزيرة ابن عمر من نواحي الموصل).
وبعد بقائه مدَّة من الزمن هناك، رجع إلى بغداد واستتر فيها، وأظهر أنَّه يدَّعي لنفسه الربوبيَّة(734)!
فتابعه الكثيرون من وزراء وشعراء(735)، ولم يكن الإمساك بالشلمغاني يسيراً، فقد استمرَّت حملات المطاردة والتفتيش عليه من قِبَل عليِّ بن مقلة وزير المقتدر عام (322هـ)، وكان الشلمغاني قد أحسَّ بالخطر، ورأى كثرة أنصاره، فوجَّه بخطابه إلى ابن روح يدعوه للمباهلة، وقال: أَنَا صَاحِبُ اَلرَّجُلِ - يقصد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - وَقَدْ أُمِرْتُ بِإِظْهَارِ اَلْعِلْمِ، وَقَدْ أَظْهَرْتُهُ بَاطِناً وَظَاهِراً، فَبَاهِلْنِي! فَأَنْفَذَ إِلَيْهِ ابن روح جواباً شفويًّا: أَيُّنَا تَقَدَّمَ صَاحِبَهُ فَهُوَ اَلمَخْصُومُ، فَتَقَدَّمَ اَلْعَزَاقِرِيُّ - الشلمغاني -(736).
وأُقيم مجلس المباهلة في دار الوزير ابن مقلة، وحضره الخاصَّة والعامَّة، فلمَّا دخل الشلمغاني المجلس خفية توجَّهت إليه الأعناق ليسمعوا ما يقوله، وفوجئ الشلمغاني بتحشُّد الشيعة الإماميَّة في هذا المجلس، وكلٌّ منهم يحكي عن ابن روح لعنه والبراءة منه، فلم يرَ غير أنْ يقول كلمته الأخيرة ويخرج هارباً بسرعة قائلاً: أجمعوا بيني وبينه - يقصد ابن روح - حتَّى آخذ بيده ويأخذ بيدي، فإنْ لم تنزل عليه نار من السماء تحرقه، وإلَّا فجميع ما قاله فيَّ حقٌّ(737).
فوصل هذا الخبر إلى أسماع الخليفة الراضي بسرعة عام (322هـ)، فأمر جنوده بإلقاء القبض عليه وكبس داره، فأُلقي القبض عليه وفُتِّش داره تفتيشاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(734) الفَرق بين الفِرَق (ص 238)، العبر في خبر من غبر (ج 2/ ص 196).
(735) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 290).
(736) الغيبة للطوسي (ص 307/ ح 258).
(737) الغيبة للطوسي (ص 406/ ح 378).
دقيقًا، فوُجِدَ فيه عدَّة رسائل من أتباعه وخطابات مجملة له بأنَّه الله سبحانه(738)! وعُرِضَت هذه الرسائل كلُّها على الخليفة الراضي بالله، فأقرَّ بها الشلمغاني كلَّها، واعترف بأنَّها كانت من أتباعه، فثبت صحَّتها، فأحضر الخليفة اثنين من أتباعه، فأمرهما بصفع الشلمغاني، فصفعه أحدهما(739)، وأمَّا الثاني فخاطبه: مولاي الكبير! ثمّ مدَّ يده إلى لحية الشلمغاني على سبيل التوقير والتكريم وقال: مولاي مولاي، وإلهي وسيِّدي ورازقي(740)!
فقال الراضي بالله مخاطباً الشلمغاني: قد زعمت أنَّك لا تدَّعي الأُلوهيَّة، فما هذا؟! فقال: وما عليَّ من قول ابن أبي عون؟ والله يعلم أنَّني ما قلت له: إنَّني إله قطُّ(741).
ثمّ جرت عدَّة لقاءات بينه وبين الفقهاء والقضاة(742)، فأصدروا حكماً بإراقة دمه وأتباعه، فجُلِدَ أمام الناس ثمّ قُتِلَ وأُحرق جسده أمام المارَّة والنظارة.
وقد روى الطوسي (رحمه الله) له أشعاراً أثناء موته(743)، واستراحت منه الأُمَّة بأسرها.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(738) معجم الأُدباء (ج 1/ ص 248).
(739) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 291)، العبر في خبر من غبر (ج 2/ ص 197).
(740) تاريخ الموصل (ج 2/ ص 242)، الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 291).
(741) المصدر السابق.
(742) معجم الأُدباء (ج 1/ ص 252).
743) الغيبة للطوسي (ص 407/ ح 379)، وفيه: (وقال شاعرهم لعنهم الله...).
المبحث الرابع: التراث الذي خلَّفه الحسين ابن روح النوبختي للأمَّة الإسلاميَّة:
لقد خلَّف الحسين بن روح النوبختي تاريخاً وتراثاً ضخماً للأجيال الإسلاميَّة مع تصدِّيه لمهمَّة السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ونُلخِّصه بما يلي:
ما تركه من روايات وأحاديث وكُتُب:
برع ابن روح النوبختي في ميادين العلم، وحاز السبق في حلبات الأدب، وروى عن الأئمَّة (عليهم السلام) كثيراً من الروايات، وصنَّف في شتَّى العلوم ومتنوَّع الفنون، وزهت صورته العلميَّة زهو الطاووس في حدائق الكمال، ولكن التاريخ لم يمهله حيث امتدَّت إليه يد الغدر، فلم تبقَ له من كُتُبه التي ألَّفها سوى كتاباً واحداً كما ذكره المؤرِّخون، وهو كتاب (التأديب)، وفيه مسائل فقهيَّة كالصلاة والصيام وأُمور أُخرى(744)، وقد نسخ الشلمغاني نسخة منه، وأدخل فيه فرعاً فقهيًّا مخالفاً لما عليه مذهب الأصحاب.
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن سلامة بن محمّد، قال: أَنْفَذَ اَلشَّيْخُ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضي الله عنه) كِتَابَ (اَلتَّأْدِيبِ) إِلَى قُمَّ، وَكَتَبَ إِلَى جَمَاعَةِ اَلْفُقَهَاءِ بِهَا، وَقَالَ لَهُمْ: اُنْظُرُوا فِي هَذَا اَلْكِتَابِ، وَاُنْظُرُوا فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُكُمْ؟! فَكَتَبُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ كُلَّهُ صَحِيحٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(744) الغيبة للطوسي (ص 390/ ح 357)، الذريعة (ج 3/ ص 210/ الرقم 775)، معجم المؤلِّفين (ج 4/ ص 8).
وَمَا فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُ إِلَّا قَوْلُهُ: اَلصَّاعِ فِي اَلْفِطْرَةِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَاَلطَّعَامُ عِنْدَنَا مِثْلُ اَلشَّعِيرِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ(745).
وأمَّا كتاب التكليف وقد ذكرناه في عداد مؤلَّفات الشلمغاني، فلعلَّه من تعليمات ابن روح أيضاً، وهو كتاب في الحديث، وكان الشلمغاني (لعنه الله) قد أدخل فيه أُموراً كثيرة ونسبها إلى الأصحاب ولم يقولوا بها، وكان ابن روح يُصلِح كلَّ ما يكتبه الشلمغاني(746).
أمَّا روايته، فقد روى ابن روح النوبختي عن الأئمَّة (عليهم السلام) في شتَّى العلوم، فروى في الإمامة(747)، وإيمان أبي طالب (عليه السلام)(748)، والمتعة(749)، وزيارة العسكريَّين (عليهما السلام)(750)، وغيرها.
قال التستري (رحمه الله): والغريب ممَّا وقع من بعض العلماء، ولعلَّه وقع منهم غفلةً أنَّ رجال الشيخ الطوسي غفل عن عنوانه مع عموم موضوعه(751).
وقد روى عن محمّد بن زياد، وروى عنه الحسن بن جمهور في باب فضل زيارة الإمامين العسكريَّين (عليهما السلام)، كما تقدَّمت الرواية عنه(752).
وأمَّا تراثه في الأدعية:
فقد روى أدعية مشهورة من الأئمَّة (عليهم السلام) ومنه أيضاً، ونُلخِّصها بما يلي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(745) الغيبة للطوسي (ص 390/ ح 357).
(746) الغيبة للطوسي (ص 389/ ح 354).
(747) الغيبة للطوسي: 239.
(748) كمال الدين الصدوق: 2/198، البحار: 35/79، معاني الأخبار للصدوق: 286.
(749) الغيبة للطوسي: 240.
(750) التهذيب للطوسي: 6/93، جامع الرواة للأردبيلي: 1/240.
(751) قاموس الرجال (ج 3/ ص 451).
(752) معجم رجال الحديث للخوئي: 5/236.
أوَّلاً: الأدعية الرجبيَّة:
قال ابن طاووس (رحمه الله): ومن دعوات كلَّ يوم من رجب ما رويناه عن جدِّي أبي جعفر الطوسي (قدَّس الله روحه)، فقال: قَالَ اِبْنُ عَيَّاشٍ: وَخَرَجَ إِلَى أَهْلِي عَلَى يَدِ اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ (رضي الله عنه) فِي مُقَامِهِ عِنْدَهُمْ هَذَا اَلدُّعَاءُ فِي أَيَّامِ رَجَبٍ: «اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِالمَوْلُودَيْنِ فِي رَجَبٍ...» إلخ(753).
ثانياً: الزيارة الرجبيَّة:
وروى الطوسي (رحمه الله) زيارة رواها ابن عيَّاش، قال: حَدَّثَنِي خَيْرُ بْنُ عَبْدِ اَللهِ، عَنْ مَوْلَانا أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رُوحٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: زُرْ أَيَّ اَلمَشَاهِدِ كُنْتَ بِحَضْرَتِهَا فِي رَجَبٍ، ثُمَّ تَقُولُ إِذَا دَخَلْتَ: «اَلْحَمْدُ لِلهِ اَلَّذِي أَشْهَدَنَا مَشْهَدَ أَوْلِيَائِهِ فِي رَجَبٍ...» إلخ(754).
ثالثاً: دعاء وصلاة يوم المبعث:
وروى ابن طاووس (رحمه الله) بإسناده إلى جدِّه أبي جعفر الطوسي (رحمه الله) بإسناده إلى أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رُوحٍ (رحمه الله)، قَالَ: تُصَلِّي فِي هَذَا اَلْيَوْمِ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَاتِحَةَ اَلْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ مِنَ اَلسُّوَرِ... إلخ(755).
رابعاً: التوسُّل بالإمام الحسين (عليه السلام):
وهو دعاء خرج منه (عجَّل الله فرجه) على يد الحسين بن روح إلى القاسم بن العلاء الهمداني، جاء فيه: «إِنَّ مَوْلَانَا اَلْحُسَيْنَ (عليه السلام) وُلِدَ يَوْمَ اَلْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ، فَصُمْهُ وَاُدْعُ فِيهِ بِهَذَا اَلدُّعَاءِ: اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ اَلمَوْلُودِ فِي هَذَا اَلْيَوْمِ...» إلخ(756).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(753) إقبال الأعمال (ج 3/ ص 215)، عن مصباح المتهجِّد (ص 804 و805).
(754) مصباح المتهجِّد (ص 821).
(755) إقبال الأعمال (ج 3/ ص 274)، عن مصباح المتهجِّد (ص 816).
(756) إقبال الأعمال (ج 3/ ص 303).
خامساً: زيارة آل ياسين:
روى الطبرسي (رحمه الله) عن محمّد بن عبد الله الحميري مع مسائله التي بعثها عام ثمان وثلاثمائة إلى ابن روح النوبختي ليوصلها إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أنَّه قال: خَرَجَ اَلتَّوْقِيعُ مِنَ اَلنَّاحِيَةِ اَلمُقَدَّسَةِ حَرَسَهَا اَللهُ بَعْدَ اَلمَسَائِلِ: «بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، لَا لِأَمْرِهِ تَعْقِلُونَ، حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، فَمَا تُغْنِ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ...» إلخ(757).
سادساً: زيارة للصادق (عليه السلام):
روى المجلسي (رحمه الله) عن مجموع الدعوات لأبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري، قال: رَوَى أَبُو اَلْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَجَاءٍ اَلصَّيْدَاوِيُّ هَذِهِ اَلزِّيَارَةَ لِعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ اَلْعَمْرِيِّ (رحمه الله) وَمَعَهُ أَبُو اَلْقَاسِمِ بْنُ رَوْحٍ: قَالَ: عِنْدَ زِيَارَتِهِمَا لِمَوْلَانَا أَبِي عَبْدِ اَللهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ - الصادق - (عليه السلام) وَقَفَا عَلَى بَابِ اَلسَّلَامِ، فَقَالَا: اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مَوْلَايَ وَاِبْنَ مَوْلَايَ وَأَبَا مَوَالِيَّ وَرَحْمَةُ اَللهِ وَبَرَكَاتُهُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَهِيدَ دَارِ اَلْفَنَاءِ، وَزَعِيمَ دَارِ اَلْبَقَاءِ... إلخ(758).
أمَّا تراثه من التوقيعات التي خرجت على يديه من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
لقد خرجت توقيعات منه (عجَّل الله فرجه) للأوضاع السياسيَّة التي أحاطت تلك الفترة بالأُمَّة، كقلع القرامطة للحجر الأسود ونقله إلى هجر، وتحذيره الوكلاء من السلطات، وغيرها. ونُلخِّص بعض توقيعاته (عجَّل الله فرجه):
التوقيع الأوَّل: في أهل قم:
ذكر ابن نوح أَنَّ هَذَا اَلدَّرْجَ بِعَيْنِهِ كَتَبَ بِهِ أَهْلُ قُمَّ إِلَى اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(757) الاحتجاج (ج 2/ ص 315 و316).
(758) بحار الأنوار (ج 97/ ص 211/ ح 9).
- الحسين بن روح (رحمه الله) - وَفِيهِ مَسَائِلُ، فَأَجَابَهُمْ عَلَى ظَهْرِهِ بِخَطِّ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ اَلنَّوْبَخْتِيِّ، وَحَصَلَ اَلدَّرْجُ عِنْدَ أَبِي اَلْحَسَنِ بْنِ دَاوُدَ. نُسْخَةُ اَلدَّرْجِ: مَسَائِلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَللهِ بْنِ جَعْفَرٍ اَلْحِمْيَرِيِّ: بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، أَطَالَ اَللهُ بَقَاءَكَ وَأَدَامَ عِزَّكَ وَتَأْيِيدَكَ وَسَعَادَتَكَ وَسَلَامَتَكَ وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَزَادَ فِي إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ وَجَمِيلِ مَوَاهِبِهِ لَدَيْكَ وَفَضْلِهِ عِنْدَكَ، وَجَعَلَنِي مِنَ اَلسُّوءِ فِدَاكَ وَقَدَّمَنِي قِبَلَكَ، اَلنَّاسُ يَتَنَافَسُونَ فِي اَلدَّرَجَاتِ، فَمَنْ قَبِلْتُمُوهُ كَانَ مَقْبُولاً، وَمَنْ دَفَعْتُمُوهُ كَانَ وَضِيعاً، وَاَلْخَامِلُ مَنْ وَضَعْتُمُوهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ، وَبِبَلَدِنَا - أَيَّدَكَ اَللهُ - جَمَاعَةٌ مِنَ اَلْوُجُوهِ يَتَسَاوَوْنَ وَيَتَنَافَسُونَ فِي اَلمَنْزِلَةِ، وَوَرَدَ - أَيَّدَكَ اَللهُ - كِتَابُكَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ...، إلخ(759). وهو خبر طويل جدًّا وردت فيه المسائل الفقهيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، فراجعه في مظانِّه.
التوقيع الثاني: أسئلة الحميري:
وقد روى الطوسي والطبرسي (رحمهما الله) كتاب لمحمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في مثل ذلك، جاء فيه: رَأْيُكَ أَدَامَ اَللهُ عِزَّكَ فِي تَأَمُّلِ رُقْعِتي وَاَلتَّفَضُّلِ بِمَا يُسَهِّلُ لِأُضِيفَهُ إِلَى سَائِرِ أَيَادِيكَ عَلَيَّ، وَاِحْتَجْتُ أَدَامَ اَللهُ عِزَّكَ أَنْ تَسْأَلَ لِي بَعْضَ اَلْفُقَهَاءِ عَنِ اَلمُصَلِّي إِذَا قَامَ مِنَ اَلتَّشَهُّدِ اَلْأَوَّلِ لِلرَّكْعَةِ اَلثَّالِثَةِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَبِّرَ...، إلخ. وهو خبر طويل أيضاً كسابقه، وقد جاء في آخره: قَالَ اِبْنُ نُوحٍ: نَسَخْتُ هَذِهِ اَلنُّسْخَةَ مِنَ اَلمُدْرَجَيْنِ اَلْقَدِيمَيْنِ اَلَّذَيْنِ فِيهِمَا اَلْخَطُّ وَاَلتَّوْقِيعَاتُ(760).
التوقيع الثالث: أسئلة في الحجِّ:
وروى الطبرسي (رحمه الله) كتاباً آخر لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَللهِ اَلْحِمْيَرِيِّ إِلَى صَاحِبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(759) الغيبة للطوسي (ص 374 و375/ ح 345)، الاحتجاج (ج 2/ ص 301).
(760) الغيبة للطوسي (ص 378 - 384/ ح 346)، الاحتجاج (ج 2/ ص 304).
اَلزَّمَانِ (عليه السلام) مِنْ جَوَابِ مَسَائِلِهِ اَلَّتِي سَأَلَهُ عَنْهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ - أرسلها لابن روح - يسأل عَنِ اَلمُحْرِمِ يَجُوزُ أَنْ يَشُدَّ اَلْمِئْزَرَ مِنْ خَلْفِهِ عَلَى عَقِبِهِ بِالطُّولِ...، إلخ(761). وهو طويل أيضاً اشتمل على مسائل عديدة في الحجِّ.
التوقيع الرابع: الأسئلة الفقهيَّة المتنوِّعة:
وأرسل محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري أيضاً مسائل عام ثمان وثلاثمائة إلى ابن روح النوبختي ليوصلها إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، جاء فيه: أَطَالَ اَللهُ بَقَاكَ وَأَدَامَ عِزَّكَ وَكَرَامَتَكَ وَسَعَادَتَكَ وَسَلَامَتَكَ، وَأَتَمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَزَادَ فِي إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ وَجَمِيلِ مَوَاهِبِهِ لَدَيْكَ وَفَضْلِهِ عَلَيْكَ وَجَزِيلِ قَسْمِهِ لَكَ، وَجَعَلَنِي مِنَ اَلسُّوءِ كُلِّهِ فِدَاكَ وَقَدَّمَنِي قِبَلَكَ، إِنَّ قِبَلَنَا مَشَايِخَ وَعَجَائِزَ يَصُومُونَ رَجَباً مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً...، إلخ(762). وهو خبر طويل اشتمل على مسائل فقهيَّة عديدة متنوِّعة.
التوقيع الخامس: إنزال العقوبة في بعض المشعوذين:
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن جماعة، عَنْ أَبِي اَلْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ اَلْقُمِّيِّ، قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ اَلنَّوْبَخْتِيِّ وَإِمْلَاءِ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه) عَلَى ظَهْرِ كِتَابٍ فِيهِ جَوَابَاتٌ وَمَسَائِلُ أُنْفِذَتْ مِنْ قُمَّ يَسْأَلُ عَنْهَا هَلْ هِيَ جَوَابَاتُ اَلْفَقِيهِ (عليه السلام) أَوْ جَوَابَاتُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ اَلشَّلْمَغَانِيِّ، لِأَنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ اَلمَسَائِلُ أَنَا أَجَبْتُ عَنْهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ (عليه السلام) عَلَى ظَهْرِ كِتَابِهِمْ: «بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، قَدْ وَقَفْنَا عَلَى هَذِهِ اَلرُّقْعَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ، فَجَمِيعُهُ جَوَابُنَا...» إلخ.
وَقَالَ اِبْنُ نُوحٍ: أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهَذَا اَلتَّوْقِيعِ أَبُو اَلْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(761) الاحتجاج (ج 2/ ص 306).
(762) الاحتجاج (ج 2/ ص 309 و310).
تَمَّامٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَتَبَهُ مِنْ ظَهْرِ اَلدَّرْجِ اَلَّذِي عِنْدَ أَبِي اَلْحَسَنِ بْنِ دَاوُدَ، فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو اَلْحَسَنِ بْنُ دَاوُدَ وَقَرَأْتُهُ عَلَيْهِ...(763).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(763) الغيبة للطوسي (ص 373/ ح 345).
المبحث الخامس: معجزات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يدي الحسين بن روح النوبختي:
إنَّ المعجزة تترك آثاراً وتجاوباً سريعاً في النفوس ما لا يمكن أنْ تتركه الأنظمة والتشريعات العامَّة، لأنَّها فرضتها الضرورات الملحَّة لإقناع من بهرتهم الحياة ولا يؤمن إلَّا بالمحسوس.
ولا يهمُّنا تحديد الشكل الذي كانت تتمُّ فيه المعجزة، فإنَّ المعجزات إنَّما ظهرت لدعم قولهم وصحَّة الانتساب، فإنَّ ظهور المعجزات والكرامات على أيدي السفراء الذي هو من الممكن الذي ليس بواجب عقلاً ولا ممتنع قياساً، قد جاءت الأخبار على التظاهر والانتشار بكونه منهم (عليهم السلام)، فقُطِعَ عليه من جهة السمع والآثار(764).
وإنَّهم (عليهم السلام) إنَّما جاؤوا بخوارق العادات والمعجزات حيث مصلحة الدِّين التي تفرض عليهم ذلك(765).
وظهور المعجزات على المنصوبين من الخاصَّة والسفراء المنصَّبين من قِبَل صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) جائز لا يمنع منه عقل ولا سُنَّة ولا كتاب(766).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(764) أوائل المقالات (ص 68).
(765) التصوُّف والتشيُّع (ص 140).
(766) أوائل المقالات (ص 69).
ونذكر ملخَّصاً عن بعض المعجزات التي ظهرت على يد ابن روح النوبختي من قِبَل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
أوَّلاً: القرامطة والأسرار الغيبيَّة:
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللهِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ (رحمه الله)، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا اَلمُقِيمِينَ بِبَغْدَادَ فِي اَلسَّنَةِ اَلَّتِي خَرَجَتِ اَلْقَرَامِطَةُ عَلَى اَلْحَاجِّ، وَهِيَ سَنَةُ تَنَاثُرِ اَلْكَوَاكِبِ، أَنَّ وَالِدِي (رضي الله عنه) كَتَبَ إِلَى اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه) يَسْتَأْذِنُ فِي اَلْخُرُوجِ إِلَى اَلْحَجِّ، فَخَرَجَ اَلْجَوَابِ عَنْهُ (عليه السلام): «لَا تَخْرُجْ فِي هَذِهِ اَلسَّنَةِ»، فَأَعَادَ وَقَالَ: هُوَ نَذْرٌ وَاجِبٌ، أَفَيَجُوزُ لِيَ اَلْقُعُودُ عَنْهُ؟ فَخَرَجَ اَلْجَوَابُ: «إِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَكُنْ فِي اَلْقَافِلَةِ اَلْأَخِيرَةِ»، وَكَانَ فِي اَلْقَافِلَةِ اَلْأَخِيرَةِ، فَسَلِمَ بِنَفْسِهِ، وَقُتِلَ مَنْ تَقَدَّمَهُ فِي اَلْقَوَافِلِ اَلْأُخَرِ(767).
ثانياً: ولادة الصدوق (رحمه الله) بدعاء المهدي (عجَّل الله فرجه):
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الأسود (رحمه الله)، قال: سَأَلَنِي عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ (رضي الله عنه) بَعْدَ مَوْتِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ (قدس سره) أَنْ أَسْأَلَ أَبَا اَلْقَاسِمِ اَلرَّوْحِيَّ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ) أَنْ يَسْأَلَ مَوْلَانَا صَاحِبَ اَلزَّمَانِ (عليه السلام) أَنْ يَدْعُوَ اَللهَ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَداً ذَكَراً. قَالَ: فَسَأَلْتُهُ، فَأَنْهَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَنَّهُ قَدْ دَعَا لِعَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (رحمه الله)، فَإِنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ مُبَارَكٌ يَنْفَعُ اَللهُ بِهِ، وَبَعْدَهُ أَوْلَادٌ...، قَالَ: فَوُلِدَ لِعَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ (رضي الله عنه) تِلْكَ اَلسَّنَةَ اِبْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَبَعْدَهُ أَوْلَادٌ...، إلخ(768).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(767) الغيبة للطوسي (ص 322/ ح 270).
(768) الغيبة للطوسي (ص 320/ ح 266)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 502 و503/ باب 482/ ح 31).
ثالثاً: رسالة تُكتَب بلا مداد:
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عَنِ اَلصَّفْوَانِيِّ، قَالَ: وَافَى اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ اَلْوَجْنَاءُ اَلنَّصِيبِيُّ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْفَضْلِ اَلمَوْصِلِيُّ، وَكَانَ رَجُلاً شِيعِيًّا غَيْرَ أَنَّهُ يُنْكِرُ وَكَالَةَ أَبِي اَلْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه)، وَيَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ اَلْأَمْوَالَ تُخْرَجُ فِي غَيْرِ حُقُوقِهَا، فَقَالَ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ اَلْوَجْنَاءُ لِمُحَمَّدِ بْنِ اَلْفَضْلِ: يَا ذَا اَلرَّجُلُ، اِتَّقِ اَللهَ، فَإِنَّ صِحَّةَ وَكَالَةِ أَبِي اَلْقَاسِمِ كَصِحَّةِ وَكَالَةِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ، وَقَدْ كَانَا نَزَلَا بِبَغْدَادَ عَلَى اَلزَّاهِرِ، وَكُنَّا حَضَرْنَا لِلسَّلَامِ عَلَيْهِمَا، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ هُنَاكَ شَيْخٌ لَنَا يُقَالُ لَهُ: أَبُو اَلْحَسَنِ بْنُ ظَفَرٍ، وَأَبُو اَلْقَاسِمِ بْنُ اَلْأَزْهَرِ، فَطَالَ اَلْخِطَابُ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْفَضْلِ وَبَيْنَ اَلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْفَضْلِ لِلْحَسَنِ: مَنْ لِي بِصِحَّةِ مَا تَقُولُ وَتَثَبُّتِ وَكَالَةِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ؟ فَقَالَ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ اَلْوَجْنَاءُ: أُبَيِّنُ لَكَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ يَثْبُتُ فِي نَفْسِكَ، وَكَانَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْفَضْلِ دَفْتَرٌ كَبِيرٌ فِيهِ وَرَقٌ طَلْحِيٌّ مُجَلَّدٌ بِأَسْوَدَ، فِيهِ حُسْبَانَاتُهُ، فَتَنَاوَلَ اَلدَّفْتَرَ اَلْحَسَنُ وَقَطَعَ مِنْهُ نِصْفَ وَرَقَةٍ كَانَ فِيهِ بَيَاضٌ، وَقَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ اَلْفَضْلِ: اِبْرُوا لِي قَلَماً، فَبَرَى قَلَماً، وَاِتَّفَقَا عَلَى شَيْءٍ بَيْنَهُمَا لَمْ أَقِفْ أَنَا عَلَيْهِ، وَأَطْلَعَ عَلَيْهِ أَبَا اَلْحَسَنِ بْنَ ظَفَرٍ، وَتَنَاوَلَ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ اَلْوَجْنَاءُ اَلْقَلَمَ، وَجَعَلَ يَكْتُبُ مَا اِتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي تِلْكَ اَلْوَرَقَةِ بِذَلِكَ اَلْقَلَمِ اَلمَبْرِيِّ بِلَا مِدَادٍ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، حَتَّى مَلَأَ اَلْوَرَقَةَ، ثُمَّ خَتَمَهُ وَأَعْطَاهُ لِشَيْخٍ كَانَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْفَضْلِ أَسْوَدَ يَخْدُمُهُ، وَأَنْفَذَ بِهَا إِلَى أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ، وَمَعَنَا اِبْنُ اَلْوَجْنَاءِ لَمْ يَبْرَحْ، وَحَضَرَتْ صَلَاةُ اَلظُّهْرِ، فَصَلَّيْنَا هُنَاكَ، وَرَجَعَ اَلرَّسُولُ فَقَالَ: قَالَ لِي: اِمْضِ فَإِنَّ اَلْجَوَابَ يَجِيءُ، وَقُدِّمَتِ اَلمَائِدَةُ، فَنَحْنُ فِي اَلْأَكْلِ إِذْ وَرَدَ اَلْجَوَابُ فِي تِلْكَ اَلْوَرَقَةِ مَكْتُوبٌ بِمِدَادٍ عَنْ فَصْلٍ فَصْلٍ، فَلَطَمَ مُحَمَّدُ بْنُ اَلْفَضْلِ وَجْهَهُ وَلَمْ يَتَهَنَّأْ بِطَعَامِهِ، وَقَالَ لاِبْنِ اَلْوَجْنَاءِ: قُمْ مَعِي، فَقَامَ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى أَبِي
اَلْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه)، وَبَقِيَ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي، أَقِلْنِي أَقَالَكَ اَللهُ، فَقَالَ أَبُو اَلْقَاسِمِ: يَغْفِرُ اَللهُ لَنَا وَلَكَ إِنْ شَاءَ اَللهُ(769).
أقول: وهناك معاجز كثيرة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ظهرت على يدي ابن روح النوبختي رواها أهل السِّيَر والأخبار، ومنها: معجزات ظهرت للقاسم بن العلاء وقد عمَّر مائة وسبعة عشر عاماً، وصار أعمى لا يبصر، فأعاد الله إليه بصره، وظهرت له معاجز أُخرى من الإمام (عجَّل الله فرجه)(770)، ومعجزات ظهرت للزراري وحلّ مشكلاته العائليَّة(771)، وشفاء الأخرس على يديه (عجَّل الله فرجه)(772)، وقصَّة السبائك الذهبيَّة(773)، وظهور معجزته (عجَّل الله فرجه) لرجل أنكر ولده(774)، وقصَّة الحُقَّة التي ألقتها المرأة في ماء الفرات فرأتها في بيتها بعد رجوعها(775)، وكلام ابن روح النوبختي باللسان الآبيِّ لأهل قم(776)، وقصَّة رجل شكى قلبه ونصائح الإمام (عجَّل الله فرجه) له(777).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(769) الغيبة للطوسي (ص 315 - 317/ ح 264).
(770) الغيبة للطوسي (ص 310 - 315/ ح 263).
(771) الغيبة للطوسي (ص 304 - 306/ ح 257).
(772) الغيبة للطوسي (ص 309 و310/ ح 262).
(773) كمال الدِّين (ص 516 و517/ باب 45/ ح 45)؛ وروى الصدوق (رحمه الله) قصَّة مشابهة لها أيضاً في كمال الدِّين (ص 518 و519/ باب 45/ ح 47).
(774) الغيبة للطوسي (ص 308/ ح 260).
(775) كمال الدِّين (ص 519/ باب 45/ ح 47).
(776) الغيبة للطوسي (ص 321/ ح 268)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 503 و504/ باب 45/ ح 34).
(777) الغيبة للطوسي (ص 323/ ح 271).
المبحث السادس: وفاة الحسين بن روح النوبختي:
ذكرت النصوص التاريخيَّة أنَّ تاريخ وفاة ابن روح النوبختي كان في يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة من شعبان سنة ستٍّ وعشرين وثلاثمائة(778)، وقبره في النوبختيَّة في الدرب الذي كانت فيه دار عليِّ بن أحمد النوبختي النافذ إلى التلِّ وإلى درب الآجر وإلى قنطرة الشوك(779).
ويوجد اليوم في الجانب الشرقي من بغداد، وهو في آخر زقاق يمرُّ في وسط سوق العطَّارين، يقع في وسط بيت ينبغي الاستيذان والدخول فيه(780).
ومع الأسف الشديد لم يتبرَّع ولحدِّ الآن رجل من أهل الخير لشراء هذا البيت ليُبنى فيه صحن مختصر مع مجموعة من الغُرَف والحياض، فإنَّ له منافع خيريَّة لا تُحصى، علاوة على تجليل وتعظيم لصاحب هذا القبر الشريف، فإنَّ غالب الزوَّار في بيع وشراء ومعاملات، وهم يحتاجون إلى مكان للاستراحة فيه بضع ساعات والتطهير والصلاة، ولا يوجد في بغداد محلًّا كهذا لهم في الكاظمين (عليهما السلام)، ولو بُني هذا المقام لصار مقرًّا لآلاف الزوَّار في كلِّ أُسبوع وشهر، وسوف يُجلَب له الإعانات الدِّينيَّة والدنيويَّة، ويكون حامياً للنفوس والأعراض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(778) الغيبة للطوسي (ص 386 و387/ ح 350)، تاريخ الإسلام (ج 24/ ص 192)، سير أعلام النبلاء (ج 15/ ص 224)، الوافي بالوفيات (ج 12/ ص 227).
(779) الغيبة للطوسي (ص 386/ ح 350).
(780) منتهى الآمال (ج 3/ ص 407).
وقد حقَّق الدكتور مصطفى جواد البغدادي في نشرته مجلَّة العرفان(781) حول قبر ابن روح النوبختي، فقال: إنَّ قبره في الجانب الغربي، وقد دُرِسَ فيما دُرِسَ من قبور العظماء والعلماء في ذلك الجانب.
واستدلَّ لذلك بقول ابن خلَّكان في ترجمة الحسن بن محمّد المهلبي الوزير: إنَّه دُفِنَ بمقابر قريش في مقبرة النوبختيَّة(782)، فعُلِمَ من هذا أنَّ مقبرة النوبختيَّة كانت في مقابر قريش التي دُفِنَ فيها الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) بالجانب الغربي من بغداد.
فإنْ أراد الطوسي (رحمه الله) من (النوبختيَّة) هي محلَّة النوبختيَّة لا مقبرتهم فلا يضرُّ، لأنَّ محلَّة النوبختيَّة كانت في الجانب الغربي أيضاً، ويدلُّ عليه قول هبة الله الكاتب: إنَّ النوبختيَّة في الدرب النافذ إلى درب الآجر(783).
قال ياقوت الحموي في كلمة (الآجر): إنَّ درب الآجر محلَّة من محال نهر طابق ببغداد وخربت، وبنهر معلَّى درب الآجر بالجعفريَّة، عامر، آهل(784).
ونهر طابق كان في الجانب الغربي، قال ياقوت الحموي: إنَّ نهر طابق محلَّة كانت ببغداد من الجانب الغربي(785)، ونهر معلَّى كان بالجانب الشرقي(786).
وأراد هبة الله بدرب الآجر المحلَّة التي كانت بالجانب الغربي، لذكر قنطرة الشوك التي هي في الجانب الغربي.
قال ياقوت الحموي: نهر عيسى كورة كبيرة في غربي بغداد، يأخذ من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(781) مجلَّة العرفان (العدد 4/ ص 379).
(782) وفيات الأعيان (ج 2/ ص 127).
(783) الغيبة للطوسي (ص 386/ ح 350).
(784) معجم البلدان (ج 1/ ص 51).
(785) معجم البلدان (ج 4/ ص 4).
(786) معجم البلدان (ج 2/ ص 42).
الفرات ثمّ يتفرَّع منه أنهار تخرق إلى مدينة السلام وتمرُّ بعدَّة قناطر، وعدَّ منها قنطرة الشوك، ثمّ يصبُّ في دجلة(787).
فعُلِمَ من ذلك أنَّ النهر الذي على بعضه قنطرة الشوك يأتي من الفرات ويصبُّ في دجلة، فتكون قنطرة الشوك غربي دجلة(788).
لقد ترك ابن روح النوبختي من الأولاد الذكور ابناً اسمه (روح)، وقد ذكره العلماء وأثنوا عليه، وكان أحد أعلام الشيعة وثقاتهم والمرضيِّين عندهم، وكان محدِّثاً فاضلاً ومتكلِّماً مناظراً، روى عنه الحسين بن عليِّ بن موسى بن بابويه وجماعة من كبار الشيعة(789).
قال الخوئي (رحمه الله): وكان روح بن الحسين بن روح بن أبي روح النوبختي يروي عن أبيه (رضي الله عنه) وغيره من أئمَّة العلم الكبار في المائة الثالثة(790).
وقد روى له الطوسي (رحمه الله) في كتاب (الغيبة) أنَّه قرأ الحسين بن روح هذا الكتاب مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَقَالَ: مَا فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ رَوَى عَنِ اَلْأَئِمَّةِ... الخبر(791).
وطوى ابن روح صفحة مشرقة من حياته بعد تمهيده للسمري في أمر السفارة كما سيأتي، وانتقل إلى الرفيق الأعلى، ولم يكن عمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سوى واحد وسبعين عاماً(792).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(787) معجم البلدان (ج 5/ ص 321 و322).
(788) تاريخ بغداد للبغدادي: 1/91، مناقب بغداد لابن الجوزي: 18، مراصد الاطلاع للحموي: 5/403.
(789) تأسيس الشيعة (ص 373).
(790) معجم رجال الحديث (ج 8/ ص 212/ الرقم 4637)، عن تأسيس الشيعة (ص 373).
(791) الغيبة للطوسي (ص 408 و409/ ح 382).
(792) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 547).
المبحث الأوَّل: عليُّ بن محمّد السمري في الميزان:
والسمري عادل ذو العزم * * * وقد تُوفِّي لسقوط النجم(793)
والغيبة الكبرى بموته بدت * * * فنور اللَّهُمَّ عينا كدرت
وهو أبو الحسن عليُّ بن محمّد السمري(794)، أو السيمري(795)، أو الصيمري(796)، والمشهور الأوَّل، مضبوطاً بالسين المهملة المفتوحة والميم المضمومة والراء، وقيل: بالسين المهملة المكسورة والميم المكسورة المشدَّدة والراء(797).
وسَمَّر - بفتحتين وتشديد الميم - موضع في اليمامة فيه نخل كثير(798)، قال الحموي: وسَمَّر أعتقد بأنَّه لفظ نبطي وليس عربي، وهي بلد من أعمال (كسكر) وهي داخلة الآن تحت أعمال البصرة، وهي واقعة بين البصرة وواسط(799).
وذكر النهاوندي مثله عن السمعاني(800).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(793) الدُّرَر الكامنة (ص 182).
(794) الغيبة للطوسي (ص 393).
(795) الأنوار النعمانيَّة (ج 2/ ص 15).
(796) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 412).
(797) إيضاح الاشتباه (ص 221/ الرقم 401)، بهجة الآمال (ج 5/ ص 517).
(798) معجم البلدان (ج 3/ ص 246).
(799) المصدر السابق.
(800) العبقري الحسان (بالفارسيَّة (ج 5/ ص 116)، عن الأنساب للسمعاني (ج 3/ ص 297).
لم تذكر النصوص تاريخ ومحلَّ ولادته وأُسرته، وإنَّما ذُكِرَ فيها كواحد من أصحاب العسكري (عليه السلام)، ثمّ ذُكِرَ أنَّه قام بمهامِّ السفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(801).
أثنى عليه العلماء قديماً وحديثاً، فقد عدَّه الطوسي (رحمه الله) من السفراء الممدوحين بعد أنْ ذكر طرفاً من أخباره وأحواله(802).
وقال فيه الصدوق (رحمه الله): إنَّه ممَّن أجمع الشيعة على عدالته وثقته(803).
ووصفه المفيد (رحمه الله) بأنَّه أهل عقل وأمانة وثقة ودراية وفهم وتحصيل ونباهة(804).
وقال عنه الطبرسي (رحمه الله) بأنَّه صادق اللهجة في مقالته(805).
وأثنى عليه متأخِّرو العلماء أيضاً، وأطنبوا في مدحه وتعظيمه، قال المامقاني (رحمه الله): إنَّه من السفراء والنوَّاب، وهو السفير بعد أبي القاسم بن روح، وكان يُكنَّى بأبي الحسن، وثقته وجلالته أشهر من أنْ يُذكر، وأظهر من أنْ يُحرَز، فهو كالشمس لا يحتاج إلى بيان نوره، وقد كانت سفارته عن الحجَّة المنتظَر (عليه السلام) بوصيَّة الشيخ أبي القاسم بن روح إليه عند موته بأمر من الحجَّة (عليه السلام)(806).
وقال السيِّد الصدر (رحمه الله) عنه: كان حجَّة المولى على المؤمنين، عالماً ربَّانياً زاهداً ورعاً، شيخنا في الحديث والفقه، وكان المرجع بعد الشيخ أبي القاسم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(801) الغيبة للطوسي (ص 393).
(802) المصدر السابق.
(803) كمال الدين: 1/189.
(804) الفصول العشرة (ص 81).
(805) الاحتجاج للطبرسي: 2/478.
(806) تنقيح المقال للمامقاني: 2/305.
الحسين بن روح (رضي الله عنه) وباب الأحكام للطائفة، وله حكايات وكرامات ومكاشفات رواها الثقات(807).
وجاء في (تعق): عليُّ بن محمّد السمري من السفراء والنوَّاب، وجلالته تغني عن التعرُّض لحاله(808).
وفي (النقد) مثله(809).
تولَّى السفارة من حين وفاة أبي القاسم بن روح النوبختي بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(810).
وقد تسالمت الأُمَّة عليه وقبولها له، وكان تصدِّيه للسفارة عام (326هـ)، إلى أنْ لحق بالرفيق الأعلى عام (329هـ) في النصف من شعبان(811)، فتكون مدَّة سفارته حوالي ثلاثة أعوام كاملة غير أيَّام.
وقد وقع توهُّم في هذه الشخصيَّة في أنَّها نفسها شخصيَّة عليِّ بن زياد الصيمري، أو عليِّ بن محمّد بن زياد الصيمري، أم هي ثلاث شخصيَّات؟
ومنشأ هذا التوهُّم والاختلاف يعود إلى اختلاف الأخبار والروايات، فقد ذكر الطوسي (رحمه الله) في رجاله: عليَّ بن محمّد السمري - سفير الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) - بأنَّه من أصحاب الإمام العسكري تحت عنوان الصيمري لا السمري(812).
وروى ابن شهرآشوب (رحمه الله) دخول عليِّ بن محمّد بن زياد الصيمري على أبي أحمد عبد الله بن طاهر، وفي يديه رقعة أبي محمّد... إلخ(813).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(807) تأسيس الشيعة (ص 412).
(808) منتهى المقال (ج 5/ ص 57)، عن تعليقة الوحيد البهبهاني (ص 238).
(809) بهجة الآمال للتبريزي: 5/517.
(810) الغيبة للطوسي (ص 393/ ح 362).
(811) الغيبة للطوسي (ص 394/ ح 364).
(812) رجال الطوسي (ص 400/ الرقم 5858/3).
(813) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 530).
وهو نفس ما رواه الإربلي (رحمه الله)، ولكنَّه عن عليِّ بن محمّد السمري(814).
فنقول في رفع التوهُّم: أمَّا عليُّ بن زياد الصيمري، فقد ذكر الوحيد (رحمه الله) بأنَّه ممَّا لا شاهد عليه، ولا يوجد هذا الاسم في بعض النُّسَخ(815).
وقال التستري (رحمه الله): يمكن الاستشهاد له بأنَّ (دلائل الحميري) وكذا (الإكمال) و(دلائل الطبري) روت في معجزات الحجَّة (عليه السلام) عن عليِّ بن محمّد بن زياد الصيمري أنَّ عليَّ بن محمّد السمري كتب يسأل كفنًا...، إلخ. ورواه (الكافي) و(الغيبة) عن عليِّ بن زياد الصيمري. فلا بدَّ أنَّ لفظ الأوَّل (عليَّ بن زياد الصيمري) نسبة إلى الأب، والثاني (عليَّ بن محمّد بن زياد الصيمري) نسبة إلى الجدِّ، كما أنَّ (الغيبة) رواه في إسناد آخر عن (محمّد بن زياد الصيمري) وهو محرَّف عن عليِّ بن محمّد بن زياد الصيمري. هذا والصيمري كما قال السمعاني: نسبة إلى صيمر، نهر من أنهار البصرة عليه عدَّة قرى، وإلى صيمرة بلد بين ديار الجبل وخوزستان، لكن لا يبعد أنْ يكون الصيمري في (رجال الشيخ) و(المُهَج) والخبر محرَّف الصهري لقربهما في الخطِّ، فكأنَّ قول المسعودي: صهر جعفر بن محمود الوزير هو تفسير للقبه، ومن تزوَّج بنت أحد الأشراف يُعرَف به، كالداماد في المتأخِّرين(816).
أمَّا الخوئي (رحمه الله) فقد ذكر أنَّه تقدَّم عن الشيخ في رجاله عدُّ (عليِّ بن زياد الصيمري) من أصحاب الهادي (عليه السلام)، وظاهره مغايرته لعليِّ بن محمّد بن زياد، ولكن الصحيح أنَّهما واحد، وذلك لما تقدَّم عن (الكافي) و(الإرشاد) و(الغيبة) من أنَّ عليَّ بن زياد كتب إليه (عليه السلام) يسأله كفناً، فكتب إليه... الخبر، فيُعلَم من ذلك اتِّحاد عليِّ بن محمّد بن زياد مع عليِّ بن زياد(817).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(814) كشف الغمَّة (ج 3/ ص 213).
(815) قاموس الرجال (ج 7/ ص 554).
(816) قاموس الرجال (ج 7/ ص 554 و555).
(817) معجم رجال الحديث (ج 13/ ص 152/ الرقم 8434).
وهما شخصيَّة واحدة لا متعدِّدة.
وكان الطوسي (رحمه الله) قد عدَّ عليَّ بن محمّد بن زياد الصيمري من أصحاب الإمام الهادي والعسكري (عليهما السلام)(818).
ووثَّقه ابن طاووس (رحمه الله) قائلاً: كتاب (الأوصياء) تأليف السعيد عليِّ بن محمّد بن زياد الصيمري، كان قد لحق مولانا الهادي والعسكري (عليهما السلام) وخدمهما، وكاتباه ودفعا إليه توقيعات كثيرة، وكان رجلاً من وجوه الشيعة وثقاتهم، ومقدَّماً في الكتابة والعلم والأدب والمعرفة(819).
فيتَّضح أنَّ عليِّ بن محمّد بن زياد الصيمري يختلف تماماً عن عليِّ بن محمّد السمري سفير الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
إنَّ النصوص التاريخيَّة لم تذكر طبيعة العمل الذي كان يقوم به السمري فترة إمامة الحسن العسكري (عليه السلام)، سوى أنَّه كان من أصحابه والمقرَّبين إليه(820)، وأمَّا فترة إمامة المهدي (عجَّل الله فرجه) فقد كانت الظروف صعبة للغاية، وقد كثر فيها الكذَّابون والمدَّعون للسفارة زوراً وكذباً، وأخذت السلطات تضايق أصحاب الإمام، وتحدُّ من نشاطهم، وهكذا أعلن السفير ابن روح النوبختي للأُمَّة بأنَّ السمري هو السفير بعده بأمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مراعياً فيه جانب الحذر والكتمان، ولم نعثر على نصٍّ تاريخي في تنصيب الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)(821) السمري سفيراً له بعد ابن روح، ولعلَّ ذلك يعود لتسالم الأُمَّة عليه، الحاصل من ثقة الأُمَّة المطلقة بابن روح النوبختي والتسليم له، وما كان ابن روح يقول ذلك من نفسه في تنصيبه السمري، بل ذلك من الأصل ومسموع من الحجَّة (عجَّل الله فرجه)(822).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(818) رجال الطوسي (ص 389 و400/ الرقم 5729/24 و5858/3).
(819) مهج الدعوات (ص 273)، فرج المهموم (ص 37).
(820) رجال الطوسي (ص 400/ الرقم 5858/3).
(821) الغيبة للطوسي: 242، إعلام الورى للطبرسي: 242، ودائرة المعارف الإسلامية المعربة: 1/181.
(822) الغيبة للطوسي (ص 322/ ح 269).
ولم يقم أحد من السفراء إلَّا بنصٍّ عليه من قِبَل الصاحب (عجَّل الله فرجه) ونصب صاحبه الذي تقدَّم عليه، ولم تقبل الشيعة قول السمري إلَّا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يده من قِبَل صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) تدلُّ على صدق مقالته وصحَّة بابيَّته(823).
ثمّ كانت الأموال تُحمَل إليه، فيُخرج لهم التوقيعات، وكان يذكر كمّيَّة الأموال جملةً وتفصيلاً، ويُسمِّي أصحابها بالإعلام من قِبَل القائم (عجَّل الله فرجه) له في ذلك(824).
وقد امتازت سفارة السمري بميزات، نُلخِّصها كالتالي:
أوَّلاً: قصر مدَّة سفارته:
لقد كانت مدَّة سفارته ثلاث سنوات إلَّا أيَّام، ويعود سبب قصرها إلى الجوِّ الخانق الذي كان يعيشه هذا السفير، وصعوبة الزمان، وكثرة الحوادث، وتشتُّت الأذهان.
ثانياً: ضآلة النشاط:
وامتازت هذه الفترة بالذات بقلَّة نشاط هذا السفير وضآلة عمله بالنسبة إلى أسلافه، لعدم تهيُّؤ الظروف المناسبة والفُرَص المؤاتية للعمل، وليس كما ذكره بعض المستشرقين من أنَّ السمري ربَّما أدركته الخيبة فشعر بتفاهة منصبه وعدم حقيقته كوكيل معتمد للإمام المفترض(825).
وما دراسة هذا المستشرق لهذا السفير إلَّا كونه بمستوى حدِّه وضآلة تفكيره، وإلَّا فأيُّ تفاهة في هذا المنصب الإلهي الخطير وكونه ممثِّلاً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فكراً وروحاً؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(823) تاج المواليد (ص 66).
(824) الخرائج والجرائح للراوندي: 186.. المخطوط.
(825) عقيدة الشيعة (ص 257).
إنَّ الشعور بعدم حقيقة الوكالة أمر لا معنى له على الإطلاق، خاصَّةً في ما يتجلَّى مع موقفه المباشر من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وتلقِّيه التوقيعات منه (عجَّل الله فرجه)، وجلب رضا واعتماد الأُمَّة وتسالمها عليه وقبولها أقواله وأفعاله.
ثالثاً: قلَّة التوقيعات الصادرة إليه:
رابعاً: كثرة المدَّعين للسفارة كذباً وزوراً عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
خامساً: كثرة المنازعات والمناقشات بين الفِرَق الإسلاميَّة واختلافها.
سادساً: خروج توقيع من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في إنهاء السفارة بموت السمري.
* * *
المبحث الثاني: التحرُّكات السياسيَّة والفكريَّة والاجتماعيَّة للسمري:
إنَّ فترة سفارة السمري كانت قد امتازت بميزات نُلخِّصها فيما يلي:
أوَّلاً: في خدمة الراضي بالله والمتَّقي:
أ - بغداد، والفوضى:
شهدت العاصمة بغداد في هذه الفترة بالذات من سفارة السمري فترة خلافة الراضي والمتَّقي بالله الاضطرابات والفوضى التي عمَّت كلَّ قطاعات البلاد، قال الصولي في حوادث عام (327هـ): عاثت العامَّة في الأرض فساداً، وانقضوا على الحمَّامات العامَّة وأخذوا ثياب من فيها، وكثرت المصادرات، وتفاقم شرُّ اللصوص الذين تسلَّحوا بالعدد لكبس الدور ليلاً، وشكى الناس من غير جدوى إلى (بجكم) ما أحلَّه بهم أصحابه من بلاء، وانتشرت الفوضى والمنازعات، وساءت أحوال العراق(826).
ب - المنازعات الدِّينيَّة والطائفيَّة ونشاط القرامطة:
ولم تخل فترة سفارة السمري من عبث القرامطة، فقد كانت تلك الفترة آخذة بالمدِّ والجزر، وكان الحجُّ آنذاك معطَّلاً من عام (317هـ) إلى عام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(826) تاريخ الإسلام السياسي والدِّيني والثقافي والاجتماعي (ج 3/ ص 28).
(327هـ) لاعتراض القرامطة(827).
أمَّا المنازعات الدِّينيَّة فقد بقيت بين الطوائف في بغداد عاصمة الخلافة ممَّا زاد الأمر إدباراً(828).
ج - الضعف الإداري، وتوقُّف الفتوحات:
وتوقَّفت الفتوحات الإسلاميَّة في هذه الفترة بالذات لضعف الخلافة والجهاز الإداري للبلاد وتدهور حالها، فإنَّ الخليفة لم يكن له سوى بغداد وأعمالها، والحكم فيها جميعاً لابن رائق وليس للخليفة حكم(829)!
د - الغارات والتقسيمات الطائفيَّة:
لقد كانت البلاد الإسلاميَّة تعاني من الانقسامات الطائفيَّة والعرقيَّة، فالبصرة في يد ابن رائق، وخوزستان في يد البريدي، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه، وكرمان في يد أبي محمّد إلياس، والريُّ وأصبهان والجبل في يد ركن الدولة بن بويه ويد وشمكير أخي مرداويج يتنازعان عليها، والموصل ودياربكر ومضر وربيعة في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد محمّد بن طغج، والمغرب وأفريقيا في يد أبي القاسم القائم بأمر الله بن المهدي العلوي، وهو الثاني منهم، ويُلقَّب بأمير المؤمنين، والأندلس في يد عبد الرحمن بن محمّد الملقَّب بالناصر الأُموي...(830). وكان النزاع قائماً على قدم وساق بين تلك الأمصار، وكان شنُّ الغارات والحروب بينها قد هدَّ كيان الدولة العبَّاسيَّة(831).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(827) الحضارة الإسلامية – آدم متز: 1/28.
(828) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية – الخضري: 265.
(829) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 323).
(830) الكامل في التاريخ (ج 8/ ص 323 و324).
(831) حياة الحيوان للدميري: 1/130.
هـ - شهوات الخليفة، واستهتاره بالمبادئ:
لقد عاصر السمري بقيَّة خلافة الراضي بالله المتوفَّى عام (329هـ)، وخمسة أشهر وخمسة أيَّام من خلافة المتَّقي بالله، وكانت هذه السنوات مليئة بالظلم وسفك الدماء(832)، فلمَّا نصب الراضي ابن أخي القاهر خليفة، كان له من العمر خمسة وعشرون عاماً، وكان له من العيب أنَّه يُؤثِر لذَّاته وشهواته على رأيه، ولم يسلم عهده من سفك الدماء، فقد احتال مثلاً على الوزير (ابن مقلة) بعد تركه الوزارة حتَّى قبض عليه وسجنه وقبض على جماعة من أهله وأقاربه ممَّن سعى في تقليد الأمر لنفسه، وبايعه الناس عليه، فمنهم من قتله، ومنهم من ضربه وسجنه، فمات في سجنه، ومنهم من استتر طول المدَّة(833).
و - الطبقة البرجوازيَّة، والأوضاع الاقتصاديَّة المتردّية:
كان المجتمع يومذاك فترة سفارة السمري قائماً على أساس الطبقيَّة الملموسة، فالأموال مرتكزة بيد الأقوياء والمتنفِّذين في السلطة، ويحظى الأتراك والقُوَّاد والموالي بقسط كبير منها، على حين يعيش سائر الناس بالمستوى المتوسِّط أو دونه إلى حدِّ الفقر المدقع من دون ضمان عيش أو أمل حياة(834).
ز - الانقلابات العسكريَّة المتوالية، وحالات الوزارة:
أمَّا الإدارة للبلاد فترة سفارة السمري فهو حديث ذو شجون، فقد استعان الراضي والمتَّقي في إدارة شؤون دولتهما ببعض الوزراء الضعاف الذين بذلوا للخليفة الكثير من الأموال، مقابل أنْ يرفعهم إلى مرتبة الوزراء!
وليس أدلّ على ذلك ممَّا بذله أبو عليٍّ بن مقلة حينما تقلَّد أمر الوزارة للمرَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(832) عقيدة الشيعة (ص 257).
(833) الحضارة الإسلامية – آدم متز: 1/15، العيون: 161، الأوراق للصولي: 148.
(834) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 90 و91).
الثالثة في عهد الراضي، فقد دفع للخليفة خمسمائة ألف دينار! غير أنَّه لم يتمتَّع بالوزارة طويلاً إذ ثار عليه الجند، وقامت في البلاد فتنة انتهت بعزله، وصرفه الراضي عن الوزارة، واستوزر عبد الرحمن بن عيسى بن داود الجرَّاح فظهر عجزه في إدارة البلاد، وقلَّد الراضي أخاه الوزارة فاختلت أُمور الدولة في عهد وزارته، ولم يلبث أنِ استقال من منصبه، فحلَّ محلَّه محمّد بن القاسم الكرخي، وكان كغيره من الوزراء الذين سبقوه ضعيف الجانب لم يقم بأيِّ عمل في سبيل إصلاح شؤون البلاد وإقالتها من عثرتها، بل قد اشتدَّ ضعف الدولة في عهده واضطرَّ أخيراً إلى الاختفاء حتَّى لا يلحق به أذى الأهلين(835).
ح - إمرة الأُمراء، والملوك الميروفنجيِّين:
كان ابن رائق وكاتبه هما اللذان ينظران في كافَّة شؤون الدولة، وصارت أموال النواحي تُحمَل إلى خزائن الأُمراء(836)، فكانوا يأمرون وينهون وينفقونها كما يرون، ويُطلِقون لنفقات السلطان ما يريدون.
وبطلت بيوت الأموال، وأنَّ حالة الخلفاء العبَّاسيِّين في عهد إمرة الأُمراء لتشبه في كثير من الوجوه حالة الملوك الميروفنجيِّين المتأخِّرين الذين كانوا أشبه بألاعيب في أيدي نظار السراي (Maires)، والذين لم يعد لهم من الأمر شيء إلَّا ما كان من ظهورهم في الحفلات الرسميَّة، وفيما عدا ذلك عاشوا عيشة العزلة في إحدى ضياعهم(837).
ط - الجيش والبنية الدفاعيَّة:
لقد بلغت الخلافة العبَّاسيَّة فترة سفارة السمري من الضعف بحيث لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(835) تاريخ الإسلام السياسي والدِّيني والثقافي والاجتماعي (ج 3/ ص 27).
(836) تجارب الأُمَم (ج 5/ ص 444).
(837) تاريخ الإسلام السياسي والدِّيني والثقافي والاجتماعي (ج 3/ ص 28).
يتمكَّن من دفع أرزاق الجيش، وارتفاع النقمة العسكريَّة، وضعف البُنية الدفاعيَّة، فلم يتمكَّن الخليفة في الحصول على ما يكفيه، وظلَّت الحالة على ذلك حتَّى تُوفّي الراضي عام (329هـ)، بعد أنْ حكم الدولة العبَّاسيَّة ستّ سنين وعشرة أشهر وعشرة أيَّام، واجتمع كاتب (بجكم) الكوفي مع سليمان بن الحسن وزير الراضي وغيره ممَّن تقلَّد الوزارة وأصحاب الدواوين والعلويِّين والقضاة وأفراد البيت العبَّاسي وسائر رجالات الدولة وشاورهم فيمن يصلح للخلافة، فرشَّحوا إبراهيم بن المقتدر لهذا المنصب، فأُحضر لدار الخلافة، وعُرِضَت عليه ألقاب، فاختار منها لقب المتَّقي، وبويع له في العشرين من شهر ربيع الأوَّل سنة (329هـ)، وسيَّر الخلع واللواء إلى (بجكم) بواسط(838).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(838) تاريخ الإسلام السياسي والدِّيني والثقافي والاجتماعي (ج 3/ ص 28 - 30).
المبحث الثالث: معجزات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على يدي السمري (رضي الله عنه):
كانت الغيبة الصغرى كافية لإثبات وجود المهدي (عجَّل الله فرجه) بما يصل إلى الناس عن طريق سفارته من البيِّنات والبيانات، كما أوجبت بكلِّ وضوح أنْ يعتاد الناس على غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه) ويستسيغون فكرة اختفائه بعد أنْ كانوا يعاصرون عهد ظهور الأئمَّة (عليهم السلام) وإمكان الوصول إلى مقابلة الإمام (عجَّل الله فرجه).
لقد كان الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) متدرِّجاً في الاحتجاب أوَّل مرَّة، وكلَّما سار به الزمن زاد احتجابه حتَّى لا يكاد يُنقَل عنه المشاهدة فترة سفارة السمري لغير السفير نفسه، وحينما كانت هذه الفترة مشارفة على الانتهاء، فقد كان الجيل المعاصر لزمن ظهور الأئمَّة (عليهم السلام) قد انتهى، وبدأت تظهر أجيال جديدة إلى الوجود قد اعتادت غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وفكرة القيادة وراء الحجاب، وأصبحت معدَّة ذهنيًّا وبشكلٍ تامٍّ لتقبُّل فكرة انقطاع السفارة أساساً.
وهكذا استوفت الغيبة أغراضها، وانحصرت رؤية الإمام (عجَّل الله فرجه) في السفير نفسه، ولو طال أمر السفارة لاحتمل انكشاف أمرها، لعدم إمكان المحافظة على السرّيَّة الملتزمة في خطِّها.
أمَّا المعجزات التي ظهرت من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على أيدي السمري، فنُلخِّصها بما يلي:
إخباره بوفاة الصدوق (رحمه الله) قبل وقوعها:
عليُّ بن بابويه والد الشيخ الصدوق (رحمه الله) هو من أجلَّاء الشيعة والأدلَّاء على الصراط، فقد كان شيخ القمّيِّين في عصرهم وفقيههم وثقتهم ومتقدِّمهم(839)، وهو أوَّل من ابتكر طرح الأسانيد وجمع بين النظائر وأتى بالخبر مع القرينة، وكان الأصحاب يأخذون الفتاوى من رسالته إذا أعوزهم النصُّ ثقةً واعتماداً عليه(840)، ولقد جمع من غزارة علمه وكمال عقله وجودة فهمه وشدَّة حفظه وحسن ذكائه وعلوِّ همَّته، وخاطبه الإمام العسكري (عليه السلام) بقوله: «أُوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي أبا الحسن عليَّ بن الحسين القمِّي وفَّقك الله لمرضاته، وجعل من صلبك أولاداً صالحين برحمته بتقوى الله»(841).
وكانت له مكاتبات مع النوبختي، وتوقيعات منه (عجَّل الله فرجه) إليه، ومنها قوله (عجَّل الله فرجه): «قَدْ دَعَوْنَا اَللهَ لَكَ بِذَلِكَ، وَسَتُرْزَقُ وَلَدَيْنِ ذَكَرَيْنِ خَيِّرَيْنِ»، فوُلِدَ له أبو جعفر وأبو عبد الله من أُمِّ ولد، وكان أبو جعفر - الشيخ الصدوق - يقول: أنا وُلدت بدعوة صاحب الأمر (عليه السلام)، ويفتخر بذلك(842).
لقد كانت لعليِّ بن بابويه منزلة خاصَّة ومقام رفيع عند السمري الذي كان يسأل عن أخباره كلَّ قريب وقادم إلى بغداد(843)، وأخبر بموته زمن وساعة وفاته وهو في قم، فأرَّخوا، فأتى الخبر بعد سبعة عشر يوماً أو ثمانية عشر يوماً أنَّه قُبِضَ في تلك الساعة التي ذكرها - السمري -(844).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(839) روضات الجنَّات (ج 4/ ص 273/ الرقم 397).
(840) رياض العلماء (ج 4/ ص 6).
(841) روضات الجنَّات (ج 4/ ص 274/ الرقم 397).
(842) رجال النجاشي (ص 261/ الرقم 684).
(843) الغيبة للطوسي (ص 396/ ح 366).
(844) المصدر السابق.
فقد روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أبي الحسن صالح بن شعيب الطالقاني (رحمه الله) فِي ذِي اَلْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اَللهِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ، قَالَ: حَضَرْتُ بَغْدَادَ عِنْدَ اَلمَشَايِخِ (رحمهم الله)، فَقَالَ اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيُّ (قدس سره) اِبْتِدَاءً مِنْهُ: رَحِمَ اَللهُ عَلِيَّ بْنَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ اَلْقُمِّيَّ، فَكَتَبَ اَلمَشَايِخُ تَارِيخَ ذَلِكَ اَلْيَوْمِ، فَوَرَدَ اَلْخَبَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ، وَمَضَى أَبُو اَلْحَسَنِ اَلسَّمُرِيُّ (رضي الله عنه) بَعْدَ ذَلِكَ فِي اَلنِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ(845).
وهناك خبر آخر رواه الطوسي (رحمه الله) مشابهاً لما ذُكِرَ(846).
أقول: ولم نعثر عن معاجز أُخرى للسمري لنذكرها في هذا الباب.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(845) الغيبة للطوسي (ص 394/ ح 364).
(846) الغيبة للطوسي (ص 395 و396/ ح 366).
المبحث الرابع: وفاة عليِّ بن محمّد السمري (رضي الله عنه):
ذكرنا أنَّ فترة سفارة السمري هي ثلاثة أعوام، وقد بدأت من عام (326هـ) إلى عام (329هـ)(847)، ولم ينفتح السمري في سفارته كما كان لأسلافه السفراء، ولم يكتسب ذلك العمق والرسوخ في الأُمَّة كمن كان قبله، وإنْ كان الاعتقاد بجلالته ووثاقته كالاعتقاد بهم(848).
لقد روى السمري أيضاً عن الأئمَّة (عليهم السلام)، روى الطبري (رحمه الله) بإسناده عن عليِّ بن محمّد السمري، قال: كَتَبْتُ إِلَيْهِ أَسْأَلُهُ عَمَّا عِنْدَكَ مِنَ اَلْعُلُومِ، فَوَقَّعَ (عليه السلام): «عِلْمُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مَاضٍ، وَغَابِرٌ، وَحَادِثٌ...» إلخ(849).
وروى الإربلي (رحمه الله) بإسناده عن محمّد بن عليٍّ السمري أنَّه قال: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي أَحْمَدَ عُبَيْدِ اَللهِ بْنِ عَبْدِ اَللهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رُقْعَةُ أَبِي مُحَمَّدٍ - العسكري - (عليه السلام)، فِيهَا: «إِنِّي نَازَلْتُ اَللهَ فِي هَذَا اَلطَّاغِي - أَي اَلزُّبَيْرِيَّ - وَهُوَ أَخَذَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ»، فَلَمَّا كَانَ فِي اَلْيَوْمِ اَلثَّالِثِ فَعَلَ بِهِ مَا فَعَلَ(850).
ورواه الحافظ في أماليه(851).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(847) الغيبة للطوسي (ص 394/ ح 364).
(848) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 413).
(849) دلائل الإمامة (ص 524/ ح 495/99).
(850) كشف الغمَّة (ج 3/ ص 213).
(851) كشف الغمة للأربلي: 2/417.
وقد وصلت كُتُب أبي جعفر العمري وفيها أحاديث سمعها من العسكري والمهدي (عليهما السلام) ومن أبيه عثمان بن سعيد إلى عليِّ بن محمّد السمري، واحتفظ بها عنده، وكان فيها الأسرار كما ذكرنا(852).
وقد ألَّف السمري ديواناً من الشعر سمَّاه: ديوان السمري أو شعره، فقد عدَّه ابن شهرآشوب (رحمه الله) في شعراء الشيعة(853)، ولكنَّنا لم نرَ له شعراً(854).
وقبل وفاة السمري بأيَّام أخرج إلى الناس توقيعاً من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أعلن فيه عن انتهاء الغيبة الصغرى والسفارة.
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن الصفواني، قال: لـمَّا حضرته الوفاة حضرت الشيعة عنده وسألته عن الموكَّل بعده ولمن يقوم مقامه، فلم يُظهر شيئاً من ذلك، وذكر أنَّه لم يُؤمَر بأنْ يُوصي إلى أحد بعده في هذا الشأن، وقال: لِلهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ. فَالْغَيْبَةُ اَلتَّامَّةُ هِيَ اَلَّتِي وَقَعَتْ بَعْدَ مُضِيِّ اَلسَّمُرِيِّ (رضي الله عنه)(855).
وقد وردت نصوص عديدة في أنَّه قدَّم طلباً للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بأنْ يُرسِل إليه كفناً، فورد منه (عجَّل الله فرجه): «إِنَّكَ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَنَةَ ثَمَانِينَ»، فَمَاتَ فِي اَلْوَقْتِ اَلَّذِي حَدَّدَهُ، وَبُعِثَ إِلَيْهِ بِالْكَفَنِ قَبْلَ مَوْتِهِ.
وقد رواها الطبري (رحمه الله) في (دلائله)، والصدوق (رحمه الله) في (إكماله)، والحميري (رحمه الله) في (دلائله) عن عليِّ بن محمّد الصيمري أنَّ عليَّ بن محمّد السمري كتب يسأل كفناً...، إلخ(856).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(852) الغيبة للطوسي: 221.
(853) معالم العلماء (ص 183).
(854) الذريعة للطهراني (ج 9 ق 2/ ص 470).
(855) الغيبة للطوسي (ص 393 و394/ ح 362).
(856) كمال الدِّين (ص 501/ باب 45/ ح 26)، ولم نجده في دلائل الإمامة للطبري ولا في قرب الإسناد للحميري.
ولكن الكليني (رحمه الله) في (الكافي)، والطوسي (رحمه الله) في (الغيبة) روياها عن عليِّ بن محمّد الصيمري أنَّه كتب يسأل كفناً، فورد فيها: «إِنَّكَ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ...، إلخ(857).
وقد حلَّ المجلسي (رحمه الله) هذا فقال: المقصود من طالب الكفن قبل موته هو الصيمري لا السمري، والمظنون أنَّ المراد بالسنة المحدَّدة هي سنة إحدى وثمانين ومائتين، وإنْ كان يحتمل أنْ يُراد به السنة الحادية والثمانين من عمره(858).
لقد علمت الأُمَّة بموت السمري، وكان أمراً واضحاً لديها بأنَّ كلَّ من ادَّعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمِّس ضالٌّ مضلٌّ(859).
وعلمت أيضاً بالتوقيع الآخر الذي أخرجه السمري للأُمَّة من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في نهاية الغيبة الصغرى بانتهاء السفارة، وإعلانه (عجَّل الله فرجه) عن بداية الغيبة الكبرى، وسنذكره في ختام البحث إنْ شاء الله تعالى.
لقد ذكر المؤرِّخون أنَّ وفاة السمري كانت في سنة تناثر النجوم، وهي عام (329هـ).
قال صاحب (الروضات): رأى الناس في تلك السنة أي عام (329هـ) تساقط الشُّهُب الكثيرة من السماء، وفُسِّر ذلك بموت العلماء، وقد كان ذلك، فإنَّه مات في تلك السنة جملة من العلماء منهم: عليُّ بن محمّد السمري، وعليُّ بن بابويه القمِّي ودُفِنَ بقم، والكليني، وغيرهم، فصارت تلك السنة تاريخاً من هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(857) الكافي (ج 1/ ص 524/ باب مولد الصاحب (عليه السلام)/ ح 27)، وفيه (عليُّ بن زياد الصيمري)؛ ولم نجده في الغيبة للطوسي.
(858) مرآة العقول (ج 6/ ص 199).
(859) الغيبة للطوسي (ص 412/ ح 385).
الجهة، وقد ذُكِرَ في كتاب (تاريخ أخبار البشر) موت جماعة كثيرة من العلماء، ومنهم عليُّ بن محمّد السمري(860).
وقد اختلف العلماء في سنة تناثر النجوم، فقد ذكر البهائي (رحمه الله) أنَّها عام (241هـ)، وأوَّل كلامه صاحب (الروضات) قائلاً: ولا يبعد كونها بعينها هي سنة تسع وعشرون وثلاثمائة، وذلك كما ذكره غير واحد منهم، فيحتمل أنْ يكون قد وقع للبهائي اشتباه في الضبط أو لأحد النُّسَّاخ في رموزها الهندسيَّة، فلا تغفل(861).
وقال التستري (رحمه الله): إنَّ العلَّامة توهَّم في موت عليِّ بن الحسين بن بابويه سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وهي السنة التي تناثر فيها النجوم، فإنَّ سنة التناثر لم تكن في عام (329هـ) بل كانت سنة (313هـ).
ثمّ استشهد التستري (رحمه الله) بقول ابن الأثير في وقائع سنة (323هـ) أنَّه قال: وفيها في الليلة الثانية عشرة من ذي القعدة - وهي الليلة التي أوقع القرمطي بالحجَّاج - انقضت الكواكب من أوَّل الليل إلى آخره انقضاضاً دائماً مسرفاً لم يُعهَد مثله. وقال المسعودي بعد ذكر انقضاض الكواكب سنة (232هـ) في عصر المتوكِّل العبَّاسي: وقد كان في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة انقضاض كوكب عظيم هائل، وهي الليلة التي وقعت فيها القرامطة بحاجِّ العراق(862).
ويمكن الجمع بين الأقوال بأنَّ تناثر النجوم وتهافتها لم ينحصر في سنة معيَّنة ومحدَّدة بالذات كما تقدَّم في أقوال العلماء والمؤرِّخين، ولعلَّ أقربها ما ذكره النجاشي (رحمه الله) وهو وقوعها عام (329هـ)، لأنَّه أقرب زماناً من الغيبة، وأعرف بها من غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(860) روضات الجنَّات (ج 4/ ص 278).
(861) راجع: روضات الجنَّات (ج 5/ ص 40).
(862) قاموس الرجال (ج 7/ ص 437).
وقد أيَّد هذا البحراني (رحمه الله)(863)، ووافقه بعض مؤرِّخي الجمهور(864).
وانتقل السمري إلى الرفيق الأعلى، فأُودع الأرض في قبره في الشارع المعروف بشارع الخلنجي من ربع المحوَّل قريب من شاطئ نهر أبي عتاب(865)، وهو بقرب الكليني (رحمه الله)، وله الآن في بغداد مزار معروف(866).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(863) لؤلؤة البحرين (ص 366).
(864) روضات الجنات للأصبهاني: 4/278.
(865) الغيبة للطوسي (ص 396/ ح 367).
(866) تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 416).
المبحث الخامس: دراسة ونقد لتوقيع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) للسمري بانتهاء الغيبة الصغرى:
أمَّا التوقيع الصادر من الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في إعلانه لسفيره السمري بانتهاء الغيبة الصغرى والسفارة وبدء الغيبة الكبرى، فهو:
روى الطوسي (رحمه الله) بإسناده عن أبي محمّد أحمد بن الحسن المكتِّب، قال: كُنْتُ بِمَدِينَةِ اَلسَّلَامِ فِي اَلسَّنَةِ اَلَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيُّ (قدس سره)، فَحَضَرْتُهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ، فَأَخْرَجَ إِلَى اَلنَّاسِ تَوْقِيعاً نُسْخَتُهُ:
«بِسْمِ اَللهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ اَلسَّمُرِيَّ أَعْظَمَ اَللهُ أَجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَاجْمَعْ أَمْرَكَ وَلَا تُوصِ إِلَى أَحَدٍ فَيَقُومَ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، فَقَدْ وَقَعَتِ اَلْغَيْبَةُ اَلتَّامَّةُ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْنِ اَللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ طُولِ اَلْأَمَدِ، وَقَسْوَةِ اَلْقُلُوبِ، وَاِمْتِلَاءِ اَلْأَرْضِ جَوْراً، وَسَيَأْتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي اَلمُشَاهَدَةَ، أَلَا فَمَنِ اِدَّعَى اَلمُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوجِ اَلسُّفْيَانِيِّ وَاَلصَّيْحَةِ فَهُوَ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ اَلْعَلِيِّ اَلْعَظِيمِ».
قَالَ: فَنَسَخْنَا هَذَا اَلتَّوْقِيعَ، وَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا كَانَ اَلْيَوْمُ اَلسَّادِسُ عُدْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ وَصِيُّكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: لِلهِ أَمْرٌ هُوَ بَالِغُهُ، وَقَضَى، فَهَذَا آخِرُ كَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ(867).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(867) الغيبة للطوسي (ص 395/ ح 365)؛ ورواه الصدوق (رحمه الله) في كمال الدِّين (ص 516/ باب 45/ ح 44).
ويقع الكلام هنا في مقامين:
أوَّلاً: في سند هذا الحديث المشهور المستفيض.
ثانياً: في دلالته.
أمَّا الكلام في المقام الأوَّل:
فاعلم أنَّ هذا الحديث صحيح عال اصطلاحاً، لأنَّه مروي عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بواسطة ثلاثة من الرواة، هم:
1 - السمري، سفير الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
2 - الشيخ الصدوق محمّد بن عليِّ بن بابويه القمِّي.
3 - أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتِّب.
ونخصُّ الكلام في الشخصية الثالثة، لتقدُّم الكلام في الشخصين الأوَّلين:
قال عناية الله: وقد روى عنه الصدوق مكرَّراً مترضّياً مترحِّماً، وهذا من أمارات الصحَّة والوثاقة. ثمّ ذكرت شواهد له كثيرة(868).
ونشير هنا إلى أمرين:
الأمر الأوَّل: روي في (الغيبة) هكذا: أَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ اَلْحَسَنِ اَلمُكَتِّبُ، قَالَ: كُنْتُ بِمَدِينَةِ اَلسَّلَامِ...، الخبر(869). وساق مثله ما نقله ابن بابويه في (كمال الدِّين وتمام النعمة)(870). وقد عرفت أنَّ الذي روى عنه ابن بابويه هو الحسن بن أحمد وليس أحمد بن الحسن، والظاهر أنَّ السهو في كتاب الشيخ وقع من النُّسَّاخ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(868) راجع: مجمع الرجال (ج 2/ ص 98، وج 7/ ص 190 و191).
(869) الغيبة للطوسي (ص 395/ ح 365).
(870) كمال الدِّين (ص 516/ باب 45/ ح 44).
ويُؤيِّد هذا السهو ما رواه النوري الطبرسي في (جنَّة المأوى) في الفائدة الأُولى، وعن (غيبة الطوسي) عن الحسن بن أحمد المكتِّب(871). والله العالم.
الأمر الثاني: أنَّ صاحب (المستدرك) مع سعة باعه وكثرة اطِّلاعه واهتمامه في استقصاء أسماء مشايخ الصدوق كان قد غفل عن هذه الشخصيَّة العظيمة التي روى عنها الصدوق مكرَّراً مترضّياً مترحِّماً، وأمثال هذه الأُمور تبعث على الفحص والتتبُّع، وتوجب الظفر بما غفل عنه من قبله، فقد روى عناية الله في (مجمع رجاله) هذا الحديث عن كتاب (ربيع الشيعة) لابن طاووس (رحمه الله) حاكياً عن الحسن بن أحمد المكتِّب، فتأمَّل(872).
وقد طُعِنَ في سند هذا الحديث...
فقالوا: إنَّه خبر واحد، مرسَل، ضعيف، لم يعمل به ناقله - وهو الشيخ في الكتاب المذكور -، وأعرض عنه الأصحاب، فلا يعارض تلك الوقائع والقَصص التي يحصل القطع عن مجموعها، بل من بعضها المتضمِّن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها عن غيره (عليه السلام).
ويمكن المناقشة في تلك المطاعن وردُّها كلَّها بأُمور:
أوَّلاً: أنَّ كونه خبراً واحداً ليس نقصاً فيه، لما ثبت في الأُصول من حجّيَّة الخبر الواحد الثقة، والقول بعدم حجّيَّته فهو قول شاذٌّ لا يقول به إلَّا النادر من العلماء.
ثانياً: أنَّ كونه مرسَلاً، غير تامٍّ، إذ قد رواه الطوسي (رحمه الله) في (الغيبة)، والصدوق (رحمه الله) في (إكماله)، وغيرهما، فأين الإرسال؟!
والزمن بحسب العادة مناسب مع وجود الواسطة الواحدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(871) جنَّة المأوى (ص 159).
(872) مجمع الرجال للقهبائي (ج 7/ ص 190 و191).
وأمَّا ما ذكره الطبرسي (رحمه الله) هذا الخبر مرسَلاً من دون ذكر السند، فإنَّه التزم في أوَّل كتابه (الاحتجاج) بأنَّه لا يذكر فيه سند الأحاديث، إمَّا بسبب موافقتها الإجماع، أو اشتهارها بين المخالف والمؤالف، أو موافقتها بحكم العقل(873).
فظهر أنَّ الحديث المذكور أيضاً كان غنيًّا عن ذكر السند إمَّا لموافقته للإجماع، أو لاشتهاره، أو كليهما معاً، لأنَّ علماءنا ابتداءً من الصدوق (رحمه الله) إلى زماننا هذا استندوا إليه واعتمدوا عليه، ولم يناقش فيه أحد أو يتأمَّل في اعتباره كما لا يخفى على من له أُنس وتتبُّع في كلماتهم ومصنَّفاتهم، إذن هذه من الروايات القطعيَّة التي لا ريب فيها ولا شبهة تعتريها، قال (عليه السلام): «المجمع عليه لا ريب فيه»(874).
ثالثاً: أنَّ كونه ضعيفاً لا نُسلِّم به، وعلى تقدير التسليم فإنَّه للإثبات التاريخي وإنْ لم يكن كافياً لإثبات الحكم الشرعي.
رابعاً: وأمَّا إعراض الأصحاب كالطوسي (رحمه الله) وغيره، فهو تخيُّل ووهم، لأنَّ الشيخ وغيره اعتبروا إثبات رؤية المهدي (عجَّل الله فرجه) في غيبته الكبرى هو ممَّا لا شكَّ فيه، إلَّا أنَّه إنَّما يصلح دليلاً على إعراضهم لو كانت هناك معارضة ومنافاة بين التوقيع وإثبات الرؤية، وأمَّا مع عدم المعارضة فيمكن أنْ يكون الطوسي (رحمه الله) وغيره قد التزموا بكلا الناحيتين من دون تكاذب بينهما، ومعه لا دليل على هذا الإعراض منهم، ولو كان هذا حاصلاً عنهم لما أضرَّ بحجّيَّة الخبر، لما هو الثابت المحقَّق في علم الأُصول بأنَّ إعراض العلماء عن الرواية لا يوجب وهناً في الرواية لا سنداً ولا دلالةً(875).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(873) الاحتجاج (ج 1/ ص 4).
(874) الكافي (ج 1/ ص 68/ باب اختلاف الحديث/ ح 10).
(875) تاريخ الغيبة الصغرى (ص 641 و642).
أمَّا الكلام في المقام الثاني:
فقد تقدَّم ذكرنا التوقيع عنه (عجَّل الله فرجه)، وقد جاء فيه: «فقد وقعت الغيبة التامَّة»، وهو تعليل لقوله (عجَّل الله فرجه): «ولا توصِ لأحدٍ يقوم مقامك»، ويدلُّ هذا على أنَّ الغيبة الكبرى هي التي انقطعت النيابة والسفارة الخاصَّة فيها. وأكَّد ذلك بقوله (عجَّل الله فرجه): «وَسَيَأْتِي لِشِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي اَلمُشَاهَدَةَ»، ولا شبهة في أنَّ المراد بها هو وقوعها على نحو ما وقع للسفراء الأربعة، وقد صرَّح بأنَّ كلَّ من ادَّعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمِّس ضالٌّ مضلٌّ.
فالمشاهدة هنا مقيَّدة بكونها على نحو البابيَّة والسفارة الخاصَّة لا مطلق المشاهدة، وهو من باب ذكر المطلق وإرادة المقيَّد، أو ذكر العامِّ وإرادة الخاصِّ، وهذا شائع في العُرف واللغة.
فلا تنافي إذن بين التوقيع الشريف ووقوع المشاهدة زمن الغيبة الكبرى لكثير ممَّن فاز بشرف رؤيته (عجَّل الله فرجه)، قال العلماء: إنَّ هذا الوجه قريب جدًّا، وقد نُقِلَ عن (البحار)(876) وغيره.
هذا، وقد قيل في الجمع بين وقوع المشاهدة في الغيبة الكبرى والتوقيع الصادر منه (عجَّل الله فرجه) وجوه، وهي بعيدة، ولا حاجة للتعرُّض لها هنا، وهي مذكورة في (البحار)، فراجعها(877).
وقد أكَّد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في توقيعه للسمري أُموراً عديدة، هي:
أوَّلاً: إخباره بموت السمري في غضون ستَّة أيَّام، وهو من الإخبار بالغيب الذي يمكن تحقُّقه للإمام (عجَّل الله فرجه)، ولم يشكّ أحد يومئذٍ في صدق الخبر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(876) بحار الأنوار (ج 52/ ص 151/ ذيل الحديث 1).
(877) الفوائد المذكورة في البحار (ج 53/ ص 318 - 325) هي من كتاب جنَّة المأوى (ص 159 - 166)، فتنبَّه.
فغدا أصحابه بعد ستَّة أيَّام، فوجدوه يجود بنفسه، وتحقَّق كما أخبر عنه الإمام (عجَّل الله فرجه).
ثانياً: إيعازه (عجَّل الله فرجه) بانتهاء السفارة وبداية الغيبة الكبرى بموت السمري، وأنْ لا يُوصي بعده لأحد.
ثالثاً: الإغماض عن ذكر تاريخ الظهور، وأنْ لا ظهور منه (عجَّل الله فرجه) إلَّا بإذنه تعالى.
رابعاً: إعرابه عن أمد الغيبة الكبرى بأنَّه سيكون طويلاً مديداً.
خامساً: إشارته في التوقيع إلى أُمور غيبية كقسوة القلوب، وضعف الوازع الإيماني، وعدم الشعور بالمسؤوليَّة، والمشارفة على الانحراف.
سادساً: إخباره (عجَّل الله فرجه) عن السفياني والصيحة، وأنَّه حقٌّ لا محيص عنه قبل خروجه وظهوره، وتصديقه ما جاء عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الأُمور الغيبيَّة.
سابعاً: إخباره (عجَّل الله فرجه) عن امتلاء الأرض ظلماً وجوراً، وفقدان العدالة، وغلبة الشهوات وسيطرتها على العالم.
ثامناً: تصريحه (عجَّل الله فرجه) بأنَّ من ادَّعى المشاهدة له كرؤية السفراء له، مدَّعين البابيَّة عنه (عجَّل الله فرجه) والسفارة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو مفتر كذَّاب(878).
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(878) راجع: تاريخ الغيبة الصغرى (ج 1/ ص 634 - 639).