أعظم الحجج في عظمة وشرح دعاء الفرج

أعظم الحُجَج في عظمة وشرح دعاء الفرج

تأليف: الشيخ عبَّاس عزيز الحلفي
الطبعة الأُولى: 1442هـ

الفهرس

الإهداء..................3
المقدّمة..................5
الباب الأوَّل: أهمّيَّة وعظمة الدعاء بالفرج للحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه)..................7
الفصل الأوَّل: في عظمة الدعاء والمدعو والمدعو له..................9
الأمر الأوَّل: عظمة الدعاء..................11
الدعاء..................11
بعض ما يُحقِّقه الدعاء..................12
الآية الكريمة وفوائدها..................12
الفائدة الأُولى: رواية الآية..................12
الفائدة الثانية: ضمير المتكلِّم وتعدُّده..................13
الفائدة الثالثة: الخطاب بين الله وعباده بلا واسطة..................14
الفائدة الرابعة: عبادي..................14
الفائدة الخامسة: العنديَّة في ﴿عِبَادِي﴾..................15
الفائدة السادسة: النسبة لله في قوله: ﴿عِبَادِي﴾..................16
الفائدة السابعة: الإطلاق في النسبة ﴿عِبَادِي﴾..................17
الفائدة الثامنة: وجه سرِّ إضافة العباد إليه تعالى..................17
الفائدة التاسعة: التأكيد على القرب..................19
الفائدة العاشرة: أنواع القرب..................19
الفائدة الحادية عشر: أسباب القرب..................20
الفائدة الثانية عشر: الأكثر قرباً إلى الله..................21
الفائدة الثالثة عشر: آثار القرب من الله تعالى..................22
الفائدة الرابعة عشر: من الأعماق في ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾..................22
الفائدة الخامسة عشر: جواب عن شبهة..................23
الفائدة السادسة عشر: تقديم الجواب على الشرط..................24
الفائدة السابعة عشر: الفارق بين أُجيب وأستجيب..................25
الفائدة الثامنة عشر: الفرق بين (إنْ) و(إذا)..................25
الفائدة التاسعة عشر: درجات الدعاء..................27
الفائدة العشرون: عمق من أعماق ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾..................27
الفائدة الحادية والعشرون: اليقين بالله وبقدرته..................28
الفائدة الثانية والعشرون: قيمة الإنسان بعبوديَّته..................29
الفائدة الثالثة والعشرون: الإجابة المتبادلة..................29
الأمر الثاني: عظمة المدعو (الله سبحانه وتعالى)..................30
الأمر الثالث: عظمة المدعو له في معنى (صاحب الزمان والعصر والأمر)..................34
ما معنى صاحب الزمان؟..................35
تطبيق: (القابض والباسط) القبض والبسط..................35
المثال القرآني..................35
المثال الروائي..................36
ما معنى صاحب الأمر؟..................39
أوَّلاً: الأمر التشريعي..................39
ثانياً: الأمر التكويني..................43
الأمر في حديث أهل البيت (عليهم السلام)..................46
الأمر: الإمامة..................46
الأمر: أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)..................46
الأمر: الظهور..................46
الفصل الثاني: أعظم الحُجَج في عظمة دعاء الفرج..................49
الحُجَج الإلهيَّة..................51
الحُجَج النبويَّة المحمّديَّة..................55
الحجَّة العلويَّة..................58
الحجَّة الفاطميَّة..................65
الصبر والجزع والرسالة الفاطميَّة..................66
الحجَّة الحسنيَّة..................68
الإيمان أمر وجودي يشتدُّ ويضعف..................69
الحجَّة الحسينيَّة..................71
الحجَّة السجَّاديَّة..................71
الحجَّة الباقريَّة..................72
الحجَّة الصادقيَّة..................73
الحجَّة الكاظميَّة..................74
الحجَّة الرضويَّة..................75
الحجَّة الجواديَّة..................77
الحجَّة النقويَّة..................78
الحُجَج العسكريَّة..................79
الحُجَج المهدويَّة..................79
حجَّة من مضى ومن بقي..................80
حجَّة ممَّن مضى..................80
حجَّة من بقي..................84
الفصل الثالث: أُصول وفروع الدِّين من المنتظرين..................87
1 - التوحيد من المنتظرين..................89
معرفة الله سبحانه وتعالى..................89
2 - العدل من المنتظرين..................100
3 - النبوَّة من المنتظرين..................103
4 - القرآن والكُتُب السماويَّة من المنتظرين..................104
5 - الإمامة من المنتظرين..................106
6 - المعاد من المنتظرين..................119
فروع الدِّين من المنتظرين..................120
الفصل الرابع: العلامة الحتميَّة الموجبة لظهور دعاء الفرج..................123
أُمُّ العلامات المعرفة..................125
الحديث الأوَّل..................126
فائدة..................126
الحديث الثاني..................127
الفائدة الأُولى..................127
الفائدة الثانية..................128
الحديث الثالث..................129
الفائدة الأُولى: توقيفيَّة المعرفة..................129
الفائدة الثانية: توفيقيَّة المعرفة..................130
الفائدة الثالثة: المعرفة القلبيَّة لا تنفكُّ عن العمل..................130
قصَّة (فاطلب المعرفة)..................132
الإشارة الأُولى: أثر العبادة..................133
الإشارة الثانية: المعرفة في النهج الإلهي..................133
الإشارة الثالثة: القيمة بتشخيص القِيَم..................133
الإشارة الرابعة: البحث والترصُّد والاعتناء بالدِّين..................134
الإشارة الخامسة: أصل أصالة الدِّين..................134
الإشارة السادسة: لابدّيَّة الإمام في كلِّ عصر..................135
الإشارة السابعة: اقتران القابليَّة والفاعليَّة..................135
تحصيل وثمرة ونتيجة وخلاصة وصفوة..................135
الباب الحديدي الذي يحجب دعاء الفرج الغفلة..................136
آيات بيِّنات..................137
الآية الأُولى..................137
الآية الثانية..................137
الآية الثالثة..................138
أحاديث عالية المضامين..................138
الشيطان وعداوته المتواصلة..................140
أقوى سلاح للشيطان..................140
جنَّة إبليس ونعيمه..................142
الدرع الفولاذي للمنتظر..................143
كلمة..................144
الفصل الخامس: هل يحتاج الإمام (عجَّل الله فرجه) إلى دعاء الفرج؟..................147
الجواب الأوَّل..................149
الجواب الثاني..................149
الجواب الثالث..................150
الجواب الرابع..................150
الجواب الخامس..................150
الجواب السادس..................151
الجواب السابع..................151
الجواب الثامن..................151
الجواب التاسع..................151
الجواب العاشر..................152
الجواب الحادي عشر..................152
الجواب الثاني عشر..................153
الجواب الثالث عشر..................153
الخاتمة..................159
الباب الثاني: شرح دعاء الفرج..................163
الفصل الأوَّل: الدعاء ومصادره..................165
الدعاء..................167
المصادر..................167
كتاب الكافي والشيخ الكليني (رحمه الله)..................168
طريقة الشيخ الكليني (رحمه الله)..................170
أقوال العلماء في شأن الكافي ونسبته لمؤلِّفه الجليل..................171
وفاة الشيخ الكليني (رحمه الله)..................173
الفصل الثاني: شرح الدعاء..................175
الفقرة الأُولى: «اَللَّهُمَّ»..................177
المسألة الأُولى: اسم الجلالة في الأحاديث..................177
المسألة الثانية: معنى اسم (الله) في أحاديث أهل بيت (عليهم السلام)..................179
المسألة الثالثة: التطابق مع القرآن الكريم..................182
الفقرة الثانية: «كُنْ»..................184
الجواب الأوَّل: طلب الـ «كُنْ» في مرحلة العلَّة المبقية..................185
الجواب الثاني: طلب «كُنْ» إلى الدرجات العليا..................185
الجواب الثالث: التحقُّق الفعلي الخارجي..................186
الجواب الرابع: الدعاء لنا ليس للإمام (عجَّل الله فرجه)..................186
الجواب الخامس: بيان وترسيخ للعقيدة..................187
الفقرة الثالثة: «لِوَلِيِّكَ فُلانِ بْنِ فُلانٍ»..................188
كيفيَّة التوفيق والتوجيه..................188
أوَّلاً: لعلَّه أُريد به التعمية..................188
ثانياً: الدعاء لجميع الأئمَّة (عليهم السلام)..................188
الفقرة الرابعة: «فِي هَذِه السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ»..................190
الفقرة الخامسة: «وَلِيًّا»..................191
المسالة الأُولى: الولاية في حديث أهل البيت (عليهم السلام)..................191
المسألة الثانية: الولاية في كلمات العلماء..................194
الأُولى: كلمة أُستاذ المحقِّق النائيني الغروي (رحمه الله)..................194
الثانية: كلمة آية الله العظمى السيِّد الخوئي (قدّس سرّه)..................195
المسألة الثالثة: ولاية التشريع والتكوين..................197
الأوَّل: الولاية التشريعيَّة..................198
الثاني: الولاية التكوينيَّة..................198
المسألة الرابعة: الفروق بين الولايتين التشريعيَّة والتكوينيَّة..................198
المسألة الخامسة: المراد من الولاية في الدعاء..................200
الفقرة السادسة: «وَحَافِظاً»..................201
المسألة الأُولى: معنى حفظ الإمام (عليه السلام)..................201
إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) حفظ الإمام (عليه السلام) في أُمور كثيرة..................201
المسألة الثانية: هل الإمام يُخشى عليه؟..................202
المسألة الثالثة: ما هو دورنا في حفظ الإمام (عليه السلام)؟..................205
الفقرة السابعة: «وَنَاصِراً»..................209
المسألة الأُولى: نصرة الله (عزَّ وجلَّ) لوليِّه (عليه السلام)..................209
المسألة الثانية: ما معنى فقرة الدعاء «وَنَاصِراً»..................213
الفقرة الثامنة: «وَدَلِيلاً»..................217
المسألة الأُولى: في بيان كيفيَّة كونهم (عليهم السلام) الأدلّاء إلى مرضاته وأنحائه..................217
المسألة الثانية: المراد من «وَدَلِيلاً»..................220
الفقرة التاسعة: «وَقَائِداً»..................222
المسألة الأُولى: معنى القيادة..................222
المسألة الثانية: كم القيادة؟..................223
المسألة الثالثة: القيادة لمن؟..................224
المسألة الرابعة: فيما القيادة؟..................225
الفقرة العاشرة: «وَعَيْناً»..................227
المسألة الأُولى: في معنى العين..................227
المسألة الثانية: المراد من فقرة الدعاء..................227
المعنى الأوَّل: العين الجارية بالماء..................227
المعنى الثاني: العين أشراف القوم..................229
الفقرة الحادية عشر: «حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً»..................231
وقفة: أين يسكن الإمام (عجَّل الله فرجه)؟..................231
الفقرة الثانية عشر: «وَتُمَتِّعَه فِيهَا طَوِيلاً»..................235
المسألة الأُولى: تُمتِّعه أو تُمكِّنه أُطروحة..................235
المسألة الثانية: مناقشة واختيار..................249
الجهة الأُولى: أوَّل مصدر لهذا الدعاء..................250
الجهة الثانية: التمتُّع ورد في الجهتين جهة الخير والشرِّ..................250
الجهة الثالثة: أنَّ التمكين كذلك استُخدِمَ في الجهتين جهة الخير والشرِّ..................251
الجهة الرابعة: ورد التمتُّع في كُتُب اللغة ليس مرتبط بمجموعة معيَّنة..................251
الجهة الخامسة..................252
الجهة السادسة: توقيفيَّة الدعاء..................252
المسألة الثالثة: كيفيَّة التوفيق بين «طَوِيلاً» ومدَّة دولته..................253
الروايات في مدَّة حكومة صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)..................254
الجمع بين الأخبار..................257
المسألة الرابعة: المراد من «وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً» والدولة المهدويَّة..................260
الأمر الأوَّل: رفع جميع العاهات والضعف..................260
الأمر الثاني: الرحلات الفضائيَّة في عصر الظهور..................261
الأمر الثالث: العلم والمعرفة في أعلى مراتبها..................265
الأمر الرابع: الهداية إلى أعلى مراتب التوحيد والولاية..................268
خاتمة: كلمات العلماء في أهمّيَّة دعاء الفرج..................271
كلمة الميرزا محمّد باقر الأصفهاني (رحمه الله)..................271
كلمة الشيخ عبَّاس القمِّي (رحمه الله)..................271
كلمة السيِّد مرتضى المجتهدي السيستاني..................272
كلمة الحاجّ الشيخ حسن عليّ الأصفهاني..................272
كلمة آية الله الشيخ المحقِّق السند البحراني (دامت بركاته)..................273
كلمة آية الله عبد النبيِّ العراقي (قدّس سرّه)..................274
كلمة سماحة السيِّد علاء الدِّين الموسوي (دامت بركاته)..................274
كلمة آية الله السيِّد مرتضى الشيرازي..................275
كلمة آية الله دربندي (قدّس سرّه)..................276
المصادر والمراجع..................277

الإهداء

إلى الساحة المقدَّسة والفناء الأقدس..
إلى الأمل العظيم والمنتظر الأعظم..
إلى حلم الأنبياء وفرحة الفقراء..
إلى دمعة فاطمة وابتسامة عليٍّ..
إلى بكاء الحسين وآهات زينب..
إلى حزن الأرض ودعاء السماء..
إلى تطلُّع الحُجَج..
إلى صميم دعاء الفرج..
إلى صاحب الزمان والعصر والأمر الحجَّة بن الحسن وخُدَّامه وأعوانه على غيبته ونأيه أُهدي هذا الجهد.
وعادتهم الإحسان وسجيَّتهم الكرم.

عبَّاس الحلفي

(٣)

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة:
الحمد لله المنعم المنَّان الذي جعل انتظار مولانا صاحب الزمان أفضل عبادات أهل الإيمان، والصلوات علي نبيِّه وصفيِّه محمّد الذي نزل عليه القرآن، وعلى آله المعصومين أُمناء الرحمن وحُجَج الله على الإنس والجانِّ، ولعنة الله على أعدائهم أهل الكفر والطغيان.
عن ميسر بن عبد العزيز، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال لي: «يَا مُيَسِّرُ اُدْعُ وَلَا تَقُلْ: إِنَّ اَلْأَمْرَ قَدْ فُرِغَ مِنْه، إِنَّ عِنْدَ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) مَنْزِلَةً لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَسْأَلَةٍ، ولَوْ أَنَّ عَبْداً سَدَّ فَاهُ وَلَمْ يَسْأَلْ لَمْ يُعْطَ شَيْئاً، فَسَلْ تُعْطَ. يَا مُيَسِّرُ، إِنَّه لَيْسَ مِنْ بَابٍ يُقْرَعُ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبِه»(1).
أقول: يقول الإمام (عليه السلام): «يَا مُيَسِّرُ، إِنَّه لَيْسَ مِنْ بَابٍ يُقْرَعُ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لِصَاحِبِه».
ومن هنا نريد أنْ نقرع الباب بهذه الكلمات التي تُنبئ عن أهمّيَّة الدعاء بالفرج وعظمته، ونسعى إلى الاستشعار والتحسُّس بقيمة الدعاء لمولانا الحجَّة ابن الحسن (عجَّل الله فرجه)، ونحن على يقين أنَّه من أهل بيت «وَعَادَتُكُمُ اَلْإِحْسَانُ، وَسَجِيَّتُكُمُ اَلْكَرَمُ»(2).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الكافي (ج 2/ ص 466 و467/ باب فضل الدعاء والحثِّ عليه/ ح 3).
(2) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 616/ ح 3213).

(٥)

ونحن هنا نريد أنْ نحوم حول دعاء الفرج الوارد في كُتُب الأحاديث(3) والأدعية(4) في بيان أهمّيَّته وعظمته وشرحه، لما يحتلُّ من المكانة في معطياته العلميَّة والعمليَّة، فإنَّه الجزء الحقيقي من حياة أهل الإيمان.
ومنه التوفيق والتسديد.
ويبقى شعوري وشعاري: قليل منك يكفيني، وقليلك لا يقال له: قليل.

عبَّاس الحلفي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(3) الكافي (ج 4/ ص 162/ باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان/ ح 4).
(4) المصباح للكفعمي (ص 586).

(٦)
(٧)

الأمر الأوَّل: عظمة الدعاء:
أقول: لـمَّا كان البحث في دعاء الفرج فلا بدَّ من الوقوف ولو على نحو الإشارة على (الدعاء) و(المدعو) و(المدعو له).
الدعاء:
إنَّ الدعاء ضروري في حياة العبد، فهو سلاحه، كما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اَلدُّعَاءُ سِلَاحُ اَلمُؤْمِنِ، وَعَمُودُ اَلدِّينِ، وَنُورُ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرْضِ»(5).
وهو أيضاً مخُّ العبادة، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «اَلدُّعَاءُ مُخُّ اَلْعِبَادَةِ، وَلاَ يُهْلَكُ مَعَ اَلدُّعَاءِ أَحَدٌ»(6).
وما يدلُّ على أهمّيَّته أيضاً وروده في سورة الفاتحة، فكما هو معلوم أنَّ الصلاة عمود الدِّين، وأهمُّ ما في الصلاة الفاتحة، وتُقرَأ في الصلاة مرَّتين. ومن امتيازات هذه السورة، أنَّه «لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب»(7)، وهي تُعلِّمنا كيف نخاطب ربَّ العالمين، حيث بدأت بالحمد والثناء على الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وانتهت بالدعاء: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾، فهذا الدعاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) الكافي (ج 2/ ص 648/ باب أنَّ الدعاء سلاح المؤمن/ ح 1).
(6) الدعاوات للراوندي (ص 18/ ح 8).
(7) التاريخ الكبير للبخاري (ج 4/ ص 357)، مشارق أنوار اليقين (ص 189).

(١١)

من أهمّ الأدعيَّة وأنفعها، ولهذا وجب على الإنسان أنْ يدعو به في كلِّ ركعة، فربُّ العالمين جعله معلَماً ثابتاً في الصلوات اليوميَّة. وبالتالي، فإنَّ الدعاء يتكرَّر على لسان المؤمن كلَّما وقف للصلاة بين يدي الله (عزَّ وجلَّ).
بعض ما يُحقِّقه الدعاء:
أ - الإحساس بالحاجة: الإنسان يدعو عندما يكون مُحتاجاً.
ب - الإحساس بقدرة المدعو: أنْ يعلم الداعي أنَّ الذي يدعوه قادرٌ على الإجابة.
وهاتان المسألتان هما عين العبوديَّة، والعبادة الإحساس بالحاجة، وبقدرة المدعو على الإجابة.
وسنقف بحول الله على آية جامعة لما نحن فيه، وبعض الأحاديث المتعلِّقة بها.
الآية الكريمة وفوائدها:
قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186).
الفائدة الأُولى: رواية الآية:
روي أنَّ سائلاً سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال: أقريب ربُّنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ...﴾ الآية(8).
أقول: كما هو معلوم (النداء) للبعيد المحتاج إلى رفع الصوت، و(المناجاة) للقريب الذي لا يحتاج إلى ذلك، والقرب الإلهي سيأتي في الفوائد الآتية إنْ شاء الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(8) عوالي اللئالي (ج 2/ ص 82/ ح 218).

(١٢)

الفائدة الثانية: ضمير المتكلِّم وتعدُّده:
(قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾، أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون، وأرقّ أُسلوب وأجمله، فقد وضع أساسه على التكلُّم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية بالأمر.
ثمّ قوله: ﴿عِبَادِي﴾، ولم يقل: الناس وما أشبهه، يزيد في هذه العناية.
ثمّ حذف الواسطة في الجواب حيث قال: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، ولم يقل: فقل: إنَّه قريب.
ثمّ التأكيد بـ (إنَّ).
ثمّ الإتيان بالصفة دون الفعل، الدالُّ على القرب، ليدلَّ على ثبوت القرب ودوامه.
ثمّ الدلالة على تجدُّد الإجابة واستمرارها، حيث أتى بالفعل المضارع الدالِّ عليهما.
ثمّ تقييده الجواب أعني قوله: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ بقوله: ﴿إِذَا دَعَانِ﴾، وهذا القيد لا يزيد على قوله: ﴿دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ المقيَّد به شيئاً، بل هو عينه، وفيه دلالة على أنَّ دعوة الداعِ مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60).
فهذه سبع نكات في الآية تُنبئ بالاهتمام في أمر استجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كُرِّر فيها - على إيجازها - ضمير المتكلِّم سبع مرات، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف)(9).
أقول: وإنْ ذكر السيِّد العلَّامة مجموعة إشارات للآية المباركة، فنحن سنأتي عليها على شكل فوائد، لأهمّيَّتها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(9) تفسير الميزان (ج 2/ ص 30 و31).

(١٣)

الفائدة الثالثة: الخطاب بين الله وعباده بلا واسطة:
المباشرة في الخطاب بين الله وعباده بلا واسطة، وذلك أنَّ الله لم يضع في جواب السؤال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ واسطة بل أجاب مباشرةً: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، وهذا لحن خاصٌّ يختلف عن أغلب الآيات التي يجعل الله رسوله فيها واسطة للإجابة، فيقول مثلاً: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ﴾ (البقرة: 217)، فالآية تجعل رسول الله في مقام المبلِّغ، لذلك تقول له: ﴿قُلْ﴾.
ومنه قوله (جلَّت قدرته): ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ (البقرة: 220).
وقوله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ (طه: 105).
فالسائل في هذه الآيات وكثير غيرها يسأل، والنبيُّ هو الواسطة في نقل الجواب الإلهيِّ، باعتبار وظيفته الربَّانيَّة، وهو الوجود النوريُّ الكامل المندكُّ في الله سبحانه.
إلَّا أنَّه في هذه الآية لم يكن هناك واسطة في جواب السؤال، بل جاء الجواب مباشرةً من الله سبحانه: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، وفي ذلك نكت بلاغيَّة كثيرة، ومنها: أنَّ الله (جلَّت قدرته) هو الذي يدعو عباده للدعاء، وهو الذي يُجيب دعوة الداعي، لذلك لو سأل الداعي شيئاً فمن إكرام هذا الداعي أنْ يُجيبه صاحب الدعوة مباشرةً.
الفائدة الرابعة: عبادي:
﴿عِبَادِي﴾: أضافهم لنفسه للتخصيص والتشريف، سمَّاهم العباد ومنحهم منزلة العبوديَّة.
جوهر الدعاء آخر المراتب السير والسلوك إلى الله (عزَّ وجلَّ)، وأنت تجد القرآن حافلاً بهذا المعنى العميق.

(١٤)

ومنها: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1).
﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ (النجم: 10).
﴿فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: 65).
وآيات أُخرى تُشير إلى منزلة العبوديَّة.
الفائدة الخامسة: العنديَّة في ﴿عِبَادِي﴾:
تأمَّل جيِّداً فيما تتضمَّنه عمليَّة استخدام كلمة ﴿عِبَادِي﴾ بدلاً من كلمة الناس وغيرها من الكلمات الأُخرى، ممَّا يدلُّ على اهتمام الباري (عزَّ وجلَّ) بالدعاء، وهذا يشبه إضافة (الكعبة) إلى الله تعالى، وتشريفها بنسبتها إليه سبحانه، حيث يقول: ﴿بَيْتِيَ﴾ (البقرة: 125)، فكذلك إضافة العباد إلى الله (جلَّ جلاله) ونسبتهم إليه، لأنَّها سبب لمباهتهم، وحقٌّ لهم ذلك.
واستخدم كلمة ﴿عِبَادِي﴾ وهو تعبير عامٌّ يختلف تماماً عن قوله تعالى مثلاً: ﴿عِبَادُ الرَّحْمنِ﴾ (الفرقان: 63)، أو ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ (الفجر: 29)، لأنَّ هذين التعبيرين استُخدِمَا للإشارة إلى فئة أو مجموعة خاصَّة من العباد أو الناس، باعتبار أنَّ المفهوم من قوله تعالى: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾ والذي تبعه قوله سبحانه: ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 30)، هو أنَّ هناك فئة معيَّنة تتمتَّع بهذه المنزلة أو المكانة المتميِّزة، وأنَّه ليس باستطاعة غيرهم بلوغ تلك المنزلة. أمَّا كلمة ﴿عِبَادِي﴾ في الآية الشريفة التي نحاول تفسيرها فتشمل أيَّ عبد من عباد الله المحتاجين ممَّن لم تُعيِّن لهم منزلة خاصَّة مثل جنَّة خاصَّة أو غير ذلك.

(١٥)

والخلاصة فإنَّ كلمة ﴿عِبَادِي﴾ الواردة في آخر سورة الفجر تشير إلى عباد مُعيَّنين، لأنَّها:
أوَّلاً: تقصد جماعة معيَّنة ومقاماً معيَّناً لهم، وأنَّه لا يمكن لأحد الوصول إلى ذلك المقام المنيع دون إذن أو هدى.
وثانياً: فإنَّ هذه الكلمة مسبوقة بقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ (الفجر: 27 و28)، وهذا يعني أنَّ الوصول إلى مقام النفس المطمئنَّة والفوز برضا الخالق والخلق في نفس الوقت ليس بمقدور أحد سوى الخواصِّ من العباد وليس جميعهم.
وثالثاً: أُلحقت الآيات المذكورة بقوله سبحانه: ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾، ممَّا يُشير إلى أنَّ هذه الجنَّة تختلف عن تلك المذكورة في قوله تعالى: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ (البقرة: 25) والجنان الأُخرى، ومع ذلك فقد يدخل بعض العوامِّ من العباد روضة الخواصِّ ويرقى إلى منزلتهم بالتدريج، بسبب الاستجابة والإيمان المذكور في الآية.
الفائدة السادسة: النسبة لله في قوله: ﴿عِبَادِي﴾:
النسبة لله في قوله: ﴿عِبَادِي﴾ هذا التعبير الذي يُعَدُّ أجمل كسوة يُكسى بها الإنسان إذ ينسبه الله لنفسه، ونسبة أيِّ شيء إلى الله سبحانه تشريف وتعظيم له ومنه قوله تعالى: ﴿أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (البقرة: 125).
فبرغم فخامة كسوة البيت الحرام إلَّا أنَّ نسبته إلى الله كسوة أعظم، ويقال هنا: إنَّ ﴿عِبَادِي﴾ مثل ﴿بَيْتِيَ﴾، فكما أنَّ الله أكرم هذا البيت ونسبه لنفسه فجعله مطافاً لعباده، فكذلك جعل الإنسان الداعي مطافاً للملائكة، وقلب الإنسان الداعي يصبح كعبة للملائكة، وأجمل ما يمكن أنْ يُكسى به مثل هذا الإنسان هو النسبة لله سبحانه.

(١٦)

الفائدة السابعة: الإطلاق في النسبة ﴿عِبَادِي﴾:
الإطلاق في النسبة ﴿عِبَادِي﴾، فليس هناك شرط في استجابة الدعاء والقرب الإلهيِّ، وهذه خصوصيَّة في هذه الآية، فنحن نجد في سورة الفجر مثلاً ذلك القيد: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 27 - 30)، فاشترط أنْ تكون النفس مطمئنَّة، وهي مرتبة روحيَّة تصل إليها النفس تُؤهِّلها لتكون ضمن هذه النسبة ﴿عِبَادِي﴾، ثمّ تلتحق بـ ﴿جَنَّتِي﴾ أي جنَّة الله.
لكن في هذه الآية لا يُشتَرط في الحصول على هذا القرب الإلهيِّ أنْ يكون الإنسان قد وصل إلى وصف أو إلى مرحلة، بل إنَّ الإنسان - أيّ إنسان - ينال القرب والاستجابة بذلك الفنِّ والمهارة في إظهار عبوديَّته بين يدي الله سبحانه وتعالى.
الفائدة الثامنة: وجه سرِّ إضافة العباد إليه تعالى:
الفقرة الأُولى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي﴾ ما هو وجه سرِّ إضافة العباد إليه تعالى، حيث قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي﴾ ولم يقل: وإذا سألك الناس، العباد في القرآن الكريم لها عدَّة إضافات، تارةً تُضاف إلى ضمير المتكلِّم ﴿عِبَادِي﴾، وتارةً تُضاف إلى لفظ (الرحمن)، وتارةً تُضاف إلى اسم الجلالة (عبد الله)، وتارةً تُضاف إلى ضمير الغيبة (عبده).
لكلِّ إضافة معنًى معيَّن ومضمون خاصٌّ، فعندما تُضاف كلمة العباد أو العبد إلى لفظ الجلالة (عبد الله)، فهو يشير إلى درجة من الكمال أُضيفت إلى منبع الكمال ألَا وهو الله (عزَّ وجلَّ)، مثلاً عندما يتحدَّث عن عيسى بن مريم: ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا

(١٧)

(مريم: 29 - 31)، عبَّر عنه بـ (عبد الله)، لأنَّ عيسى بن مريم تضمَّن مراتب من الكمال استحقَّ بها أنْ يُضاف إلى منبع الكمال وهو الله تبارك وتعالى: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾.
عندما تُضاف إلى (الرحمن) فهي تشير إلى لون من العطف ولون من التواضع ومن الحنو، قال (عزَّ وجلَّ): ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً﴾ (الفرقان: 63)، ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾ (الفرقان: 72)، لأنَّه يريد أنْ يتحدَّث عن رحمتهم وعن عطفهم وتواضعهم، لذلك أضافهم إلى (الرحمن) وإلى مصدر الرحمة، ولم يقل: عباد الله، فقال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمنِ﴾.
وتارةً الإضافة إلى ضمير الغيبة: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ (الإسراء: 1)، الإضافة إلى ضمير الغيبة تشير إلى معنى الاختصاص، الله (عزَّ وجلَّ) من خلال هذه الإضافة يقول بأنَّ هذا العبد - ألَا وهو محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - اختصَّه الله من بين عباده ومخلوقاته بخصائص معيَّنة واصطفاه إليه واختاره واجتباه، فلأجل أنْ يشير إلى الاجتباه والاصطفاء أضافه إلى ضميره: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾.
الإضافة إلى ضمير المتكلِّم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ (الزمر: 53)، هذه الإضافة لإشعار الحنان كأنْ تُظهِر حنانك على إنسان فتقول له: يا صديقي، يا عزيزي، هذه الإضافة تُشعِر بالحنان والرأفة، الله (عزَّ وجلَّ) يريد في هذه الآية أنْ يُشعِر عباده بعطفه، برأفته وقربه، لذلك أضافهم إلى ضمير المتكلِّم فقال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186)، ولذلك في آية

(١٨)

أُخرى لكي يُظهِر مدى عطفه ومدى رحمته ورأفته قال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر: 53).
الفائدة التاسعة: التأكيد على القرب:
التأكيد على قرب الله سبحانه وتعالى باستخدام (إنَّ).
استخدام الصفة (قريب) بدلاً من الفعل، بهدف بيان ثبوت قرب الله (عزَّ وجلَّ) واستمراره ودوامه.
استخدام الفعل (أُجيب) الذي يُفيد تجدُّد الإجابة واستمرارها.
ويُستفاد من قوله تعالى: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ قربه (عزَّ وجلَّ) من السائل والداعي لا قربهما منه، فوسيلة قربهما من الله سبحانه معلومة من التعبيرات التي تلي هذه العبارة، فقرب الله تعالى هو من أوصافه وإجابته للدعاء أو سرعة الإجابة هي من أفعاله، ومضمون الآية الشريفة هو إثبات وصف القرب قبل إثبات فعل الإجابة.
الفائدة العاشرة: أنواع القرب:
هو ما يقابل البعد، وهو أعمُّ من مادِّي أو معنوي، فالقرب يُستَعمل على أنواع:
قرب مكاني: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ (التوبة: 28).
وقرب زماني: ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ (هود: 81).
وقرب روحاني: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (الواقعة: 10 و11).
وقرب في النَّسَب: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214).
وقرب في الصفات: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ (آل عمران: 167).
فظهر أنَّ القرب خلاف البعد.

(١٩)

الفائدة الحادية عشر: أسباب القرب:
تحدَّثت بعض الآيات والروايات عمَّا يمكن أنْ يُطلَق عليه أسباب التقرُّب من الله تعالى، أمثال:
1 - السجود: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ (العلق: 19)، يستدلُّ عالم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الإمام عليُّ بن موسى الرضا (عليه السلام) بهذه الآية على أنَّ السجود هو أقرب حالة للعبد من الله تعالى: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ اَلْعَبْدُ مِنَ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) وهُوَ سَاجِدٌ، وَذَلِكَ قَوْلُه (عزَّ وجلَّ): ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾»(10)، والخصوصية المذكورة موجودة في السجود، سواء كان سجود شكر أم سجود صلاة.
2 - الصلاة: «اَلصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِّ تَقِيٍّ»(11).
3 - الزكاة: «ثُمَّ إِنَّ اَلزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ اَلصَّلَاةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ اَلْإِسْلَامِ»(12).
4 - الأُضحية: «فإنَّها قربان لله (عزَّ وجلَّ)»(13).
5 - الصلاة المستحبَّة: «صَلاَةُ اَلنَّوَافِلِ قُرْبَانٌ إِلَى اَللهِ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ»(14).
وطبعاً إنَّ ما يحمل أهمّيَّة كبيرة هو العمل بالتكليف، ومع أنَّ النوافل تحمل آثاراً إيجابيَّة ومفيدة، فقد تكون في بعض الأوقات مضرَّة بالفرائض، وبالتالي تصبح عامل بُعْد، كمن يُصلِّي نافلة الليل ثمّ تكون سبباً لترك القيام إلى صلاة الصبح، في هذه الحالات يجب ترك النافلة لأجل الفريضة، «لَا قُرْبَةَ بِالنَّوَافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالْفَرَائِضِ»(15)، «إِذَا أَضَرَّتِ اَلنَّوَافِلُ بِالْفَرَائِضِ فَارْفُضُوهَا»(16).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(10) الكافي (ج 3/ ص 264 و265/ باب فضل الصلاة/ ح 3).
(11) نهج البلاغة (ص 494/ ح 136).
(12) نهج البلاغة (ص 317/ ح 199).
(13) راجع: الكافي (ج 7/ ص 461 و462/ باب النوادر/ ح 9).
(14) تحف العقول (ص 403).
(15) نهج البلاغة (ص 475/ ح 39).
(16) نهج البلاغة (ص 525/ ح 279).

(٢٠)

إنَّ ما تقدَّم هو من باب ذكر المصداق، وإلَّا فإنَّ كلَّ تكليف يأتي به الإنسان بقصد القربة فهو يُقرِّب من الله تعالى، جاء في الرواية: «لَـمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَالَ: يَا رَبِّ، مَا حَالُ اَلمُؤْمِنِ عِنْدَكَ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ... وَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْه، وَإِنَّه لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذَا أَحْبَبْتُه كُنْتُ إِذاً سَمْعَه اَلَّذِي يَسْمَعُ بِه، وَبَصَرَه اَلَّذِي يُبْصِرُ بِه، وَلِسَانَه اَلَّذِي يَنْطِقُ بِه، وَيَدَه اَلَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُه، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُه»(17).
من جهة أُخرى فإنَّ الذنوب والمكروهات تُبعِد الإنسان من الله تعالى، جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أَبْعَدُ مَا يَكُونُ اَلْعَبْدُ مِنَ اَللهِ أَنْ يَكُونَ اَلرَّجُلُ يُوَاخِيَ اَلرَّجُلَ وَهُوَ يَحْفَظُ عَلَيْه زَلَّاتِه لِيُعَيِّرَه بِهَا يَوْماً مَا»(18).
الفائدة الثانية عشر: الأكثر قرباً إلى الله:
وإنَّ أهمَّ عامل للقرب من الله تعالى هو طاعته وعبوديَّته. من جهة أُخرى فإنَّ قيمة العبوديَّة بالمعرفة، أي كلَّما كانت معرفة السالك أكبر كانت قيمة عبوديَّته وطاعته أكثر. وبما أنَّ الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) هم الإنسان الكامل المصون في العمل والفكر عن الخطأ والاشتباه، فإنَّ طاعتهم وعبوديَّتهم تتمتَّع بقيمة أعلى، لذلك كان قربهم من الله تعالى لا نظير له.
وعليه، فقرب كلِّ قريب بالقرب منهم، وهم قريبون من الله سبحانه وتعالى.
والمتتبِّع في الآيات والأحاديث والنصوص الوحيانيَّة من الدعاء والزيارات يجد هناك معنًى واضحاً جدًّا، أنَّ المناط في قرب الإنسان من الله (عزَّ وجلَّ) بقربه لأهل بيت العصمة والطهارة، وبُعده في البُعد عنهم (عليهم السلام). وعلاوة على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(17) الكافي (ج 2/ ص 352 و353/ باب الانتفاء/ ح 8).
(18) الكافي (ج 2/ ص 355/ باب من طلب عثرات المؤمنين وعوراتهم/ ح 7).

(٢١)

ذلك في التكامل في كلِّ مرحلة من التكامل في العلم والعمل وغيرها، وإنْ شاء الله ستجد في العناوين الآتية ما يُدلِّل على ذلك.
الفائدة الثالثة عشر: آثار القرب من الله تعالى:
يحصل القرب المعنوي إلى الله تعالى من خلال عبوديَّة الإنسان، وتظهر الآثار الإلهيَّة في الشخص، فيصبح عمله هو عمل الله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ (النساء: 80)، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ (الفتح: 10)، ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ (الأنفال: 17). وهذا الإنسان المتقرِّب يمكنه أنْ يصبح خليفة الله تعالى، فيقوم بالأعمال الإلهيَّة.
يصبح الإنسان كقطعة الحديد التي تتماهى مع النار على أثر الاقتراب، وذلك بعد رفع الموانع كالصدأ والشوائب الأُخرى، فتخرج خصائص النار من هذا الحديد. طبعاً تبقى للحديد هذه الخصائص ما دام قريباً من النار، وإذا ما ابتعد عنها فقدها.
الفائدة الرابعة عشر: من الأعماق في ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾:
إنَّ للفظة ﴿قَرِيبٌ﴾ أبعاد عميقة وكثيرة سنُشير لبعضها:
﴿قَرِيبٌ﴾ في الأبحاث العقائديَّة والعقليَّة تعني أنَّه الموجود القريب بنفس النسبة من كلِّ شيء، وهو لا يحتاج إلى مكان، لأنَّ نسبته لكلِّ شيء على نحو التساوي، فقريب هنا تعني إذن أنَّ نسبة قرب الله من كلِّ البشر على نحو التساوي، ولو كان سبحانه قريباً من أُناس دون غيرهم لكان في مكان يجب أنْ نذهب له.
لماذا عبَّر بـ ﴿قَرِيبٌ﴾ ولم يقل مثلاً: فإنِّي رحيم؟
﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ مفتاح لكي ترفع من ذهنك كلَّ سؤال عن الله سبحانه وتعالى، فلا تحتاج بعد فهم ﴿قَرِيبٌ﴾ بالمعنى الذي أسلفنا أنْ تسأل: أين الله؟!

(٢٢)

كما أنَّ الإطلاق في قوله: ﴿قَرِيبٌ﴾ يحلُّ شبهة أساسيَّة، فهو يزيل كلَّ أشكال التجسيم التي يمكن أنْ تطرأ على الذهن، تزيل كلَّ تصوُّر عن أنَّ لله ظرفيَّة مكانيَّة أو زمانيَّة أو حاليَّة هو فيها أقرب من الظرف الآخر.
الفائدة الخامسة عشر: جواب عن شبهة:
من هنا ننتقل إلى جواب عن شبهة، هناك بعض الأقلام عندما تتحدَّث عن التوسُّل، الإماميَّة يتوسَّلون بمحمّد وآل محمّد، الإماميَّة يقولون: يا عليُّ، بحقِّك عند الله أجب، بحقِّك عند الله أنقذني، بحقِّك عند الله افعل لي كذا، ويتوسَّلون هذا التوسُّل، بعض الأقلام تطرح شبهة أمامه تقول: التوسُّل تبعيد للمسافة، لماذا؟ لأنَّ الله أقرب إلينا حتَّى من الوسيلة نفسها، فكيف نُوسِّط بيننا وبينه واسطة، الآن إذا شخص واقف أمامك بينك وبينه شبرين تذهب وتحضر واسطة عصا وتقول: سأجعلها واسطة وأنا قريب منك، إذا كان الله أقرب إلينا من حبل الوريد، وأقرب إلينا حتَّى من محمّد وآله، إذا كان الله أقرب إلينا من كلِّ شيء، وأقرب إلينا حتَّى من الوسائط التي نُوسِّطها، إذن جعل الوسائط والوسائل بيننا وبينه تبعيد للمسافة، هذه هي الشبهة.
والجواب: أنَّ هناك قرب خلقي وهناك قرب تفضُّلي وهناك قرب مادِّي، أنت تقول: الله أقرب إلينا من حبل الوريد، أنت تقصد أيَّ نوع من القرب؟ خلط هذا بين أنواع القرب، هذا هو الجواب: هناك خلط بين أنواع القرب، صحيح الله أقرب إلينا من حبل الوريد، وأقرب إلينا من النبيِّ وآله، ولكنَّه أقرب إلينا قرب خلقيًّا، ونحن بالوسيلة لا نطلب القرب الخلقي، لأنَّه حاصل من الأوَّل سواء طلبناه أم لم نطلبه، هو أقرب إلينا من حبل الوريد، يعني أنت إذا تُصلِّي تطلب القرب الخلقي؟ الله خلقني فهو أقرب إليَّ من حبل الوريد صلَّيت أو لم أُصَلِّ، أنا لا أطلب القرب الخلقي لأنَّه حاصل، وطلب الحاصل تحصيل

(٢٣)

للحاصل، وتحصيل الحاصل محال، أنا لا أطلب القرب الخلقي أنا أطلب القرب الثاني وهو القرب التفضُّلي، وهذا قد لا يكون حاصلاً وإنَّما يحصل بواسطة الوسيلة.
إذن صاحب الشبهة خلط بين القرب الخلقي وبين القرب التفضُّلي وبين القرب المادِّي، والإماميَّة عندما يتوسَّلون بمحمّد لا يطلبون قرباً خلقيًّا، لأنَّه حاصل وإنَّما يطلبون قرباً تفضُّليًّا، والقرب التفضُّلي لا يحصل إلَّا بعمل صالح، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (المائدة: 35)، وأفضل الوسيلة ما قاله القرآن نفسه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: 64). القرآن الكريم نفسه يقول: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ (البقرة: 125)، يعني أنا إذا ذهبت إلى مقام إبراهيم يصبح الله أقرب إليَّ من مكان آخر؟ القرب الخلقي واضح إنَّما مقام إبراهيم وسيلة للقرب التفضُّلي، فكما أنَّ مقام إبراهيم وسيلة للقرب التفضُّلي فإنَّ محمداً وأهل بيته وسيلة للقرب التفضُّلي.
الفائدة السادسة عشر: تقديم الجواب على الشرط:
تقديم الجواب على الشرط في الآية والحال أنَّ الشرط يتقدَّم على المشروط «إِذَا زَالَتِ اَلشَّمْسُ فَصَلِّ»(19)، لأنَّه من حيث التكوين والنظم الصلاة متعلِّقة بالزوال، فما لم يحدث زوال لا تجب الصلاة، ووفق ذلك كان يجب أنْ يكون سياق الآية هو: (إذا دعاني الداعي أجبته)، لكنَّ الله هنا قدَّم الجواب: ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾ على الشرط والذي هو ﴿إِذَا دَعَانِ﴾، وهذا يتضمَّن معنًى مهمًّا مفاده: أنَّ الله يريد القول: إنَّه ليس هناك حائل ولا مانع عن الإجابة، فالإجابة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(19) تهذيب الأحكام (ج 2/ ص 245 و246/ ح 976/13).

(٢٤)

حتميَّة وقطعيَّة، بل الله سبحانه وتعالى سبقك في القرب إليه ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾، وهو سبحانه أجابك قبل أنْ تسأل، وهذا يفيد الحتميَّة والقطعيَّة لاستجابة الدعاء.
الفائدة السابعة عشر: الفارق بين أُجيب وأستجيب:
في الآية إشارة لطيفة، فالله تعالى قد وعد في دار الدنيا كلَّ من يدعوه، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...﴾ (غافر: 60)، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186)، والفارق بين أُجيب وأستجيب أنَّ الإجابة هي الاستماع للدعاء، أمَّا الاستجابة فهي تحقيق مراد الداعي. الله سبحانه وتعالى يجيب الدعاء لكنَّه لا يستجيب دائماً، لذا نعتقد أنَّه لا يردُّ دعاء عنده سبحانه، فهو يسمع كلَّ داعٍ فإنْ لم يقضِ حاجتهم في الدنيا ادُّخرت لهم إلى يوم القيامة، بل ورد في الروايات أنَّه تعالى يعتذر من كلِّ عبد دعاه ولم يستجب له ويُعطيهم أكثر ممَّا سألوه، بينما نعتب بجهلنا على الله تعالى إذا تأخَّرت الإجابة، وما تأخيرها إلَّا في صلاحنا، ورد في الرواية: «وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا اَلْفَقْرُ، فَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ»(20).
الفائدة الثامنة عشر: الفرق بين (إنْ) و(إذا):
هناك نكتة بلاغيَّة في التعبير بـ ﴿إِذَا دَعَانِ﴾ وليس بـ (إنْ دعان)، والفرق بين (إنْ) و(إذا) فرق كبير وظريف جدًّا في استخدامات القرآن، ولبيان ذلك دعونا نُبيِّن الفرق بين معنى اللفظتين:
(إنْ): تفيد أنَّ الأمر يصعب حدوثه، فهو نادر التحقُّق أو لا يتحقَّق.
(إذا): تفيد أنَّ الأمر سوف يحدث حقيقةً، أو يترجَّح وقوعه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(20) مجمع البيان (ج 9/ ص 52).

(٢٥)

نماذج قرآنيَّة:
- ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 180)، الآية استخدمت (إذا) في الحديث عن الموت لأنَّه محتَّم على الجميع، لكنَّها استخدمت (إنْ) في مسألة الميراث، فليس الكلُّ يُورِّث.
- ﴿وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ﴾ (الكهف: 17)، فالتعبير بـ (إذا) عن طلوع الشمس لأنَّه واقع لا محالة.
- ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ (التوبة: 5)، (إذا) لأنَّ الأشهر الحُرُم لا بدَّ أنْ تنتهي.
- في حوار بين الله وموسى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قَالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف: 143)، فقال في الحديث عن الجبل: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ﴾، لأنَّ الجبل لا يمكن أنْ يستقرَّ في مكانه.
- الحديث في القرآن عن يوم القيامة يستخدم (إذا): ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾ (الانفطار: 1 و2)، ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرضُ زِلْزَالَهَا﴾ (الزلزلة: 1)، وذلك لأنَّها أُمور واقعة لا محالة.
بعد فهم الفرق بين (إنْ) و(إذا) واستعراض نماذج الآيات في ذلك نعود للآية الشريفة:
الله يقول: ﴿إِذَا دَعَانِ﴾ أي إنَّ مقتضى حال العبوديَّة والحاجة بالنسبة للإنسان أنْ يقع الدعاء منه دائماً، ومقتضى خلقة الإنسان أنْ يدعو دائماً.
وهذه المعاني يصبُّها حديث قدسي بين الله ونبيِّه موسى في قالب ظريف،

(٢٦)

يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى: «يَا مُوسَى، سَلْنِي كُلَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَتَّى عَلَفَ شَاتِكَ وَمِلْحَ عَجِينِكَ»(21).
الفائدة التاسعة عشر: درجات الدعاء:
للدعاء ثلاث درجات، هي:
1 - الدعاء بلسان الاستعداد: وهو ما يمتلك أثراً بالغاً بالتأكيد، إذ عندما يمتلك الموجود الاستعداد المطلوب لتقبُّل الكمال والفيض فإنَّ الفاعل (وهو الله (عزَّ وجلَّ)) لن يبخل ولن يُمسِك، بل سيُؤتي كلَّ موجود، وذلك بحسب استعداده وقابليَّته، ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه: 50).
2 - الدعاء بلسان الحال: وهو أدنى مرتبة من الدعاء بلسان الاستعداد، وفيه يتَّصف المرء بالخضوع والخشوع والطلب واللجوء وما شابه ذلك، حيث يطلب الشخص في هذه الحالة من ربِّه ما يناسب حالته الخاصَّة وإنْ لم يكن استعداده قد بلغ النصاب التامَّ المطلوب.
3 - الدعاء بلسان المقال: وتأثير مثل هذا الدعاء ليس كالدعاء في الدرجتين الأوَّليَّتين رغم احتفاظه بصيغته العباديَّة، «اَلدُّعَاءُ مُخُّ اَلْعِبَادَةِ»(22).
الفائدة العشرون: عمق من أعماق ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ﴾:
وهذا النوع من القرب الإلهيِّ استدعى أنْ يأتي بعده بكلمة ﴿أُجِيبُ﴾، لأنَّ فيها سرعة استجابة، فالقرب الإلهي يجعل الإجابة للداعي سريعة، غير مشروطة، فهو بمجرَّد أنْ يدعو يُجاب من قِبَل الله سبحانه، لأنَّ الله قريب منه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(21) عدَّة الداعي (ص 123).
(22) الدعاوات للراوندي (ص 18/ ح 8).

(٢٧)

قرب محبَّة ولطف، ولذا فشروط استجابة الدعاء التي وردت عندنا ليست إلَّا آداباً ينبغي للإنسان أنْ يأتي بها لكنَّها ليست شروطاً في أصل استجابة الله سبحانه، شرط الاستجابة الوحيد أنْ تكون مريداً لله.
﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾.
﴿أُجِيبُ﴾: الجواب من (جبَّ) وهو القطع، يقال: جبَّ النخل أي قطعه، ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ (الفجر: 9)، بمعنى قطعوا الصخور وفصلوها. والدعاء نداء وطلب، والجواب يرفع حاجة الإنسان، لأنَّه يقطع الحاجة، فـ ﴿أُجِيبُ﴾ بمعنى أنَّه ليس بين حاجة الإنسان وبين الإجابة حائل ولا فاصل، بل هو بمجرَّد أنْ يدعو فهو مجاب.
وهذه الآية دليل على حتميَّة الإجابة، فلا يمكن ألَّا يُجيب اللهُ الإنسانَ، ولنُبيِّن ذلك بمثالٍ حياتيٍّ: لاحظوا مثلاً لو أنَّ أحداً ما كتب طلباً معيَّناً لجهة ما، ووصل وقرأه المسؤول، فهو إمَّا يعطيه ما طلب أو يقول له: سأُعطيك شيئاً آخر، وكلاهما إجابة، الواقع أنَّنا غالباً نلتفت لحاجتنا، فإذا قضيت قلنا: إنَّ الله استجاب لنا، وإذا لم تقضَ نقول: لم يجبنا الله.
الفائدة الحادية والعشرون: اليقين بالله وبقدرته:
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ [البقرة: 186]: «يَعْلَمُونَ أَنِّي أَقْدِرُ عَلَى أَنْ أُعْطِيَهُمْ مَا يَسْأَلُونَ»(23).
ولذا كان من شرائط الدعاء معرفة الله، فقد سأل بعضهم الإمام الصادق (عليه السلام) قائلين: ندعو فلا يُستجاب لنا! قال: «لِأَنَّكُمْ تَدْعُونَ مَنْ لَا تَعْرِفُونَهُ»(24).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(23) تفسير العيَّاشي (ج 1/ ص 83/ ح 196).
(24) التوحيد للصدوق (ص 288 و289/ ح 7).

(٢٨)

الفائدة الثانية والعشرون: قيمة الإنسان بعبوديَّته:
دعاء الإنسان وإظهار عبوديَّته لله هو ما يجعل له قيمةً واعتباراً في عالم الحقِّ والحقيقة، والارتباط الذي أصبح بينه وبين الله يجعل له وزناً، ليس قيمة محدودة وألقاباً أرضيَّة طبيب، عالم... إلخ، لأنَّها اعتبارات محدودة بمحدوديَّة الأرض، الاعتبار الواقعي هو الذي يكون بين يدي الله، «إِلَهِي إِنَّ مَنْ تَعَرَّفَ بِكَ غَيْرُ مَجْهُولٍ»(25).
إنَّ الإنسان الذي لا يعرف كيف يخاطب الله سبحانه وتعالى فهو لا يُدرك قيمة نفسه، ولا يقرأ نفسه، ولذلك عندما نتصوَّر أنَّنا ندعو ولا يُستجاب لنا نحن لا نعرف حقيقة الدعاء، الدعاء ليس فقط إجابة الحاجة الذي تريدها، الدعاء هو هذا القرب والحديث والجواب من الله هذا الذي يُعطيك حجماً ووزناً لذلك ليس هناك دعاء لا يسمعه الله سبحانه وتعالى، بمعنى أنَّه لا يستجيبه فذلك محال، لأنَّه قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر: 60)، ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (البقرة: 186).
الفائدة الثالثة والعشرون: الإجابة المتبادلة:
بعد أنْ وعد بالإجابة والقبول قال: ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ أي اقبلوا أنتم أيضاً دعوتي إذا دعوتكم وأمرتكم بالطاعات والدعاء، فاطلبوا واسألوا تضرُّعاً وخفيةً لا بقلب ساهٍ وغير متوجِّه ومتعقِّل لمعنى ما تقولون، ولا جهراً ورياءً فإنَّ الله لا يُحِبُّ المعتدين، واطلبوا ولا تستكبروا ولا تتركوا الدعاء استكباراً وتجبُّراً وعدم اعتقاد.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(25) إقبال الأعمال (ج 3/ ص 298).

(٢٩)

الأمر الثاني: عظمة المدعو (الله سبحانه وتعالى):
الحديث عن العظمة الإلهيَّة يتصاغر أمامها أعظم الموجودات، فكيف بالكلمات والحروف، ولهذا سنذكر بعض فقرات الأدعية التي تشير إلى عظمة العظمة الإلهيَّة، وذكر بعض كلمات العلماء.
يقول السيِّد عبد الأعلى السبزواري (قدّس سرّه):
«وَبِعَظَمَتِكَ الَّتِي مَلَأَتْ أَرْكَانَ كُلِّ شَيْءٍ».
أفعال الله الحسّيَّة، وفيه ذكر بيان معاني العرش:
العظمة: الكبرياء، والتعظيم: التبجيل والتوقير، وعظمة الفاعل تظهر بعظمة فعله، ومن جملة أفعاله (الفلك الأقصى) الذي هو عرش الله تعالى، إذ للعرش إطلاقات أربع:
قد يُطلَق العرش ويُراد به علمه المحيط.
وقد يُطلَق ويُراد به الفيض المقدَّس.
وقد يُطلَق ويُراد به عالم العقل.
وقد يُطلَق ويُراد به الفلك الأطلس.
ولـمَّا كان هو من حيث الكمّيَّة والكيفيَّة أعظم الأجسام، وصفه تعالى بالعظمة في كلامه المجيد، وقال: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129]. وخصَّه بالذكر، إذ جميع الأجسام مشمولة، وهو محيط بجميعها.

(٣٠)

ومن جملة الأجسام: الفلك الثامن الذي يُسمَّى بـ (الكرسي)، ويشتمل على كرات وأجرام منيرة وكواكب مضيئة.
بيان مقدار عظم الكواكب الثابتة والسيَّارة:
وقد حُدِّد في علم الهيأة أنَّ أعظم الثوابت المرصودة مقدار جرمه مائتان واثنان وعشرون مثل مقدار جرم الأرض، وأصغرها مقدار جرمه ثلاثة وعشرون مثل مقدار جرم الأرض. وأنَّ مقدار جرم زحل من الكواكب السيَّارة اثنان وثمانون مثل جرم الأرض، ومقدار جرم المشتري مائة وثمانون مثل مقدار جرم الأرض، وأنَّ مقدار المرِّيخ ثلاثة أمثال مقدار الأرض، ومقدار جرم الشمس ثلاثمائة وستة وعشرون مثل مقدار الأرض.
وهكذا سائر الثوابت والسيَّارات التي قد حُدِّدت مقاديرها، ولا يعلم عددها إلَّا هو، وكذا طبقات الأرض، من الطينيَّة والصرفة، والطبقة التي صارت مسكن المواليد الثلاثة.
بيان أفعال الله المعنويَّة:
وسائر المركَّبات كلِّها فعل: إمَّا من أفعاله سبحانه الحسّيَّة، وإمَّا أفعاله المعنويَّة من العقول والنفوس، والصور البرزخيَّة التي لا يعلم حسابها إلَّا الله تعالى. بل من جملة أفعاله الحسّيَّة والمعنويَّة معاً خلقة الإنسان الذي هو جالس بين الحدَّين، وجامع للحسنيين، وواسطة بين الإقليمين، الذي فؤاده بيت يتراءى فيه جميع أفعاله تعالى، من السماء والسماوي، والأرض والأرضي، بل كلُّ إنسان مع ما في قلبه في قلب الأُناسي الأُخَر.
وبالجملة، فبهذه يظهر عظمة الله تعالى، والوجود المنبسط الذي قد مرَّ أنَّه صنع الله وفعله، طبق وملأ تجاويف الأشياء، وهو كخيط يُنظِّم شتاتها، وجامع متفرِّقاتها، بحيث لا يعزب عن حيطته شيء. وقد مرَّ أنَّه في العقل

(٣١)

عقل، وفي النفس نفس، وفي الجوهر جوهر، وفي العرض عرض، وبذاته لا شيء منها)(26).
ومن الأدعية الواردة عن أمير المؤمنين (عليه السلام):
عن عدي بن حاتم الطائي، قال: دخلت على أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فوجدته قائماً يُصلِّي متغيِّراً لونه، فلم أرَ مصلّياً بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أتمّ ركوعاً ولا سجوداً منه، فسعيت نحوه، فلمَّا سمع بحسِّي أشار بيده، فوقفت حتَّى صلَّى بركعتين أوجزهما وأكملهما، ثمّ سلَّم، ثمّ سجد سجدة أطالها، فقلت في نفسي: نام والله، فرفع رأسه ثمّ قال: «لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ حَقًّا حَقًّا، لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ إِيمَاناً وَتَصْدِيقاً، لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ تَعَبُّداً وَرِقًّا، يَا مُعِزَّ اَلمُؤْمِنِينَ بِسُلْطَانِهِ، يَا مُذِلَّ اَلْجَبَّارِينَ بِعَظَمَتِهِ، أَنْتَ كَهْفِي حِينَ تُعْيِينِي اَلمَذَاهِبُ عِنْدَ حُلُولِ اَلنَّوَائِبِ فَتَضِيقُ عَلَيَّ اَلْأَرْضُ بِرُحْبِهَا، أَنْتَ خَلَقْتَنِي يَا سَيِّدِي رَحْمَةً مِنْكَ لِي، وَلَوْ لَا رَحْمَتُكَ لَكُنْتُ مِنَ اَلْهَالِكِينَ، وَأَنْتَ مُؤَيِّدِي بِالنَّصْرِ مِنْ أَعْدَائِي، وَلَوْلَا نَصْرُكَ لَكُنْتُ مِنَ اَلمَغْلُوبِينَ، يَا مُنْشِئَ اَلْبَرَكَاتِ مِنْ مَوَاضِعِهَا، وَمُرْسِلَ اَلرَّحْمَةِ مِنْ مَعَادِنِهَا، وَيَا مَنْ خَصَّ نَفْسَهُ بِالْعِزِّ وَاَلرِّفْعَةِ فَأَوْلِيَاؤُهُ بِعِزِّهِ يَعْتَزُّونَ، وَيَا مَنْ وَضَعَ لَهُ اَلمُلُوكُ نِيرَ اَلمَذَلَّةِ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ فَهُمْ مِنْ سَطَوَاتِهِ خَائِفُونَ، أَسْأَلُكَ بِكِبْرِيَائِكَ اَلَّتِي شَقَقْتَهَا مِنْ عَظَمَتِكَ، وَبِعَظَمَتِكَ اَلَّتِي اِسْتَوَيْتَ بِهَا عَلَى عَرْشِكَ، وَعَلَوْتَ بِهَا عَلَى خَلْقِكَ، وَكُلُّهُمْ خَاضِعٌ ذَلِيلٌ لِعِزَّتِكَ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَاِفْعَلْ بِي أَوْلَى اَلْأَمْرَيْنِ، تَبَارَكْتَ يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ...»(27).
يقول العلَّامة المجلسي (رحمه الله):
(بيان: «بِعَظَمَتِكَ» أي عظمة صفاتك، «اَلَّتِي اِشْتَقَقْتَهَا مِنْ كِبْرِيَائِكَ» أي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(26) شرح دعاء كميل (ص 25 - 27).
(27) بحار الأنوار (ج 83/ ص 225 و226/ ح 45).

(٣٢)

عظمة ذاتك فإنَّها راجعة إليها وعينها، والكبرياء الذاتيَّة مشتقَّة من كينونته ووجوده الذي هو عين ذاته، إذ وجوب الوجود مستتبع لجميع الكمالات، ولـمَّا كان وجوب الوجود مستتبعاً لوجود الممكنات، فكأنَّه مشتقٌّ من جوده وكونه فيَّاضاً على الإطلاق. ويحتمل أنْ يكون المراد بالاشتقاق الإظهار والإبراز بمعنى أظهرت عظمة صفاتك من كبرياء ذاتك من وجوب وجودك ووجوب وجودك من جودك الفائض على الممكنات وكذا سائر الفقرات، والأظهر أنَّ هذه من مكنونات الأسرار ولا تصل عقولنا إليها)(28).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(28) بحار الأنوار (ج 88/ ص 199).

(٣٣)

الأمر الثالث: عظمة المدعو له في معنى (صاحب الزمان والعصر والأمر):
حتَّى نُدرك بعض الشيء من عظمة المدعو له أذكر لك رواية مهمَّة جدًّا:
روى أحمد بن فهد الحلِّي في (عدَّة الداعي): عن ابن أبي عمير، عن زيد النرسي، عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ فِي ظَهْرِ اَلْغَيْبِ نَادَاهُ مَلَكٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلدُّنْيَا: يَا عَبْدَ اَللهِ وَلَكَ مِائَةُ أَلْفِ ضِعْفٍ مِمَّا دَعَوْتَ، وَنَادَاهُ مَلَكٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلثَّانِيَةِ: يَا عَبْدَ اَللهِ وَلَكَ مِائَتَا أَلْفِ ضِعْفٍ مِمَّا دَعَوْتَ، وَنَادَاهُ مَلَكٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلثَّالِثَةِ: يَا عَبْدَ اَللهِ وَلَكَ ثَلَاثُمِائَةِ [أَلْفِ] ضِعْفٍ مِمَّا دَعَوْتَ، ونَادَاهُ مَلَكٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلرَّابِعَةِ يَا عَبْدَ اَللهِ ولَكَ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ ضِعْفٍ مِمَّا دَعَوْتَ، وَنَادَاهُ مَلَكٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلْخَامِسَةِ: يَا عَبْدَ اَللهِ وَلَكَ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ ضِعْفٍ مِمَّا دَعَوْتَ، وَنَادَاهُ مَلَكٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلسَّادِسَةِ: يَا عَبْدَ اَللهِ وَلَكَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ ضِعْفٍ مِمَّا دَعَوْتَ، وَنَادَاهُ مَلَكٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلسَّابِعَةِ: يَا عَبْدَ اَللهِ وَلَكَ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ ضِعْفٍ مِمَّا سَأَلْتَ، ثُمَّ يُنَادِيهِ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا اَلْغَنِيُّ اَلَّذِي لَا أَفْتَقِرُ، يَا عَبْدَ اَللهِ لَكَ أَلْفُ أَلْفِ ضِعْفٍ مِمَّا دَعَوْتَ»(29).
أقول: هذا لمن دعا لأخيه المؤمن، فكيف لمن دعا لصاحب الزمان، وصاحب العصر، وصاحب الأمر، والحجَّة المهدي (عجَّل الله فرجه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(29) عدَّة الداعي (ص 171 و172).

(٣٤)

ما معنى صاحب الزمان؟
الصاحب: بمعنى القائم على الشيء ومالكه ومدبِّره.
الزمان: هو مقدار الحركة.
ولـمَّا كانت الحركة تختلف باختلاف الموجودات المادّيَّة والروحانيَّة والمجرَّدات، فالزمان اختلف من حيث اختلاف الموجودات، فعندنا زمان كثيف للمادّيَّات وزمان لطيف للروحانيَّات، وعندنا زمان ألطف للمجرَّدات، والمادّيَّات كعالم المادَّة، والروحانيَّات كالجنِّ، والمجرَّدات كالموجودات العالية كروح القُدُس وغيره.
وحينما يقال: صاحب الزمان فإنَّ من معانيه المالك والمتصرِّف والمدبِّر للزمان بأقسامه الكثيف واللطيف والألطف وما خفي عنَّا.
تطبيق: (القابض والباسط) القبض والبسط:
ومن موارد التصرُّف بالزمان هو القبض والبسط، وهما مأخوذان من اسم القابض والباسط، ونحن نُمثِّل بمثال قرآني وروائي حتَّى يتَّضح بعض الشيء من معالم هذا الوصف.
المثال القرآني:
﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 259).
يحكي الذكر الحكيم أنَّ رجلاً صالحاً مرَّ على قرية خاوية وقد سقطت سقوفها، فتساءل في نفسه: كيف يُحيي الله أهلها بعد ما ماتوا؟ ولم يقل ذلك

(٣٥)

إنكاراً ولا ارتياباً، بل أحبَّ أنْ يريه الله إحياءها مشاهدةً مثل قول إبراهيم، فأماته الله مائة سنة ثمّ أحياه، فسمع نداءً: ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾؟ فقال: ﴿لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾، لأنَّ الله أماته في أوَّل النهار وأحياه بعد - مائة سنة - في آخر النهار، فقال: ﴿يَوْماً﴾ ثم التفت فرأى بقيَّة من الشمس، فقال: ﴿أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾، فوافاه النداء: ﴿بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ﴾، فانظر إلى طعامك وشرابك لم تُغيِّره السنون، ثمّ أمر بأنْ ينظر إلى حماره كيف تفرَّقت أجزاؤه وتبدَّدت عظامه، فجعل الله سبحانه إحياءه آية للناس وحجَّة في البعث، ثمّ جمع الله عظام حماره وكساها لحماً وأحياه.
والإمعان في قوله سبحانه: ﴿فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ﴾ يفيد أنَّه أماته سبحانه، ثمّ أحياه بعد تلك المدَّة.
كما أنَّ الإمعان في قوله: ﴿وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ﴾ سواء أُريد منه عظام حماره أو غيره، يفيد أنَّه سبحانه كساها لحماً ثمّ أحياه، فكان هناك إحياء لميِّتين.
والعجب أنَّ الذي يتطرَّق إليه الفساد بسرعة كالطعام والشراب لم يتغيَّر طيلة هذه المدَّة، ولكن ما لا يتطرَّق إليه الفساد إلَّا بعد مدَّة طويلة فقد تفرَّقت أجزاؤه وتلاشت أعضاؤه، وبذلك ازداد إيمان الرجل الصالح بالبعث والحشر.
والشاهد كما هو مبيَّن أنَّ القبض كان متوجِّهاً للطعام، والبسط متوجِّه للحمار، وجرى التغيُّر عليه دون الذي جرى عليه القبض.
المثال الروائي:
وقد ذكر المجلسي (رحمه الله) في (البحار) قصَّة تنفعنا كشاهد نقلاً عن كتاب (السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان) تأليف العالم الكامل السيِّد عليِّ بن عبد الحميد النيلي النجفي، قال عليُّ بن عبد الحميد عند ذكر من رأى القائم (عجَّل الله فرجه):
فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهد بالعيان أبناء الزمان، وهو قصَّة أبي راجح الحمَّامي بالحلَّة، وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل

(٣٦)

الصدق الأفاضل، منهم الشيخ الزاهد العابد المحقِّق شمس الدِّين محمّد بن قارون (سلَّمه الله تعالى)، قال:
كان الحاكم بالحلَّة شخصاً يُدعى مرجان الصغير، فرُفِعَ إليه أنَّ أبا راجح هذا يسبُّ الصحابة، فأحضره وأمر بضربه، فضُرِبَ ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه، حتَّى إنَّه ضُرِبَ على وجهه فسقطت ثناياه، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلة من الحديد، وخرق أنفه ووضع فيه شركة من الشعر وشدَّ فيها حبلاً، وسلَّمه إلى جماعة من أصحابه، وأمرهم أنْ يدوروا به أزقَّة الحلَّة، والضرب يأخذ من جميع جوانبه، حتَّى سقط إلى الأرض وعاين الهلاك.
فأُخبر الحاكم بذلك، فأمر بقتله، فقال الحاضرون: إنَّه شيخ كبير، وقد حصل له ما يكفيه، وهو ميِّت لما به، فاتركه وهو يموت حتف أنفه، ولا تتقلَّد بدمه. وبالغوا في ذلك حتَّى أمر بتخليته، وقد انتفخ وجهه ولسانه، فنقله أهله في الموت ولم يشكّ أحد أنَّه يموت من ليلته.
فلمَّا كان من الغد غدا عليه الناس فإذا هو قائم يُصلِّي على أتمّ حالة، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت، واندملت جراحاته، ولم يبقَ لها أثر والشجَّة قد زالت من وجهه.
فعجب الناس من حاله وساءلوه عن أمره، فقال: إنِّي لـمَّا عاينت الموت، ولم يبقَ لي لسان أسأل الله تعالى به، فكنت أسأله بقلبي، واستغثت إلى سيِّدي ومولاي صاحب الزمان (عليه السلام)، فلمَّا جنَّ عليَّ الليل فإذا بالدار قد امتلأت نوراً، وإذا بمولاي صاحب الزمان قد أمرَّ يده الشريفة على وجهي، وقال لي: «اخرج وكد على عيالك فقد عافاك الله تعالى»، فأصبحت كما ترون.
وحكى الشيخ شمس الدِّين محمّد بن قارون المذكور، قال: وأُقسم بالله تعالى أنَّ هذا أبو راجح كان ضعيفاً جدًّا، ضعيف التركيب، أصفر اللون، شين

(٣٧)

الوجه، مقرض اللحية، وكنت دائماً أدخل الحمَّام الذي هو فيه، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل، فلمَّا أصبحت كنت ممَّن دخل عليه، فرأيته وقد اشتدَّت قوَّته، وانتصبت قامته، وطالت لحيته، واحمرَّ وجهه، وعاد كأنَّه ابن عشرين سنة، ولم يزل على ذلك حتَّى أدركته الوفاة.
ولـمَّا شاع هذا الخبر وذاع طلبه الحاكم وأحضره عنده، وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة وهو الآن على ضدِّها كما وصفناه، ولم يرَ بجراحاته أثراً، وثناياه قد عادت، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم، وكان يجلس في مقام الإمام (عليه السلام) في الحلَّة ويُعطي ظهره القبلة الشريفة، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها، وعاد يتلطَّف بأهل الحلَّة، ويتجاوز عن مسيئهم، ويُحسِن إلى محسنهم، ولم ينفعه ذلك، بل لم يلبث في ذلك إلَّا قليلاً حتَّى مات(30).
والشاهد في القصَّة: (وأُقسم بالله تعالى أنَّ هذا أبو راجح كان ضعيفاً جدًّا، ضعيف التركيب، أصفر اللون، شين الوجه، مقرض اللحية، وكنت دائماً أدخل الحمَّام الذي هو فيه، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل، فلمَّا أصبحت كنت ممَّن دخل عليه، فرأيته وقد اشتدَّت قوَّته، وانتصبت قامته، وطالت لحيته، واحمرَّ وجهه، وعاد كأنَّه ابن عشرين سنة، ولم يزل على ذلك حتَّى أدركته الوفاة)، وأنت ترى صاحبيَّة صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) في كيفيَّة إجراء القبض والبسط، (اشتدَّت قوَّته، وانتصبت قامته...، وعاد كأنَّه ابن عشرين سنة) ماذا يعني ذلك؟ يعني أنَّ صاحب الزمان المالك والمتصرِّف بالزمان.
وقد ذكرنا شيئاً من التفصيل في ذلك في كتاب (كلمات في حديث من مات).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(30) بحار الأنوار (ج 52/ ص 70 و71/ ح 55)، عن السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان (ص 37 - 40).

(٣٨)

ما معنى صاحب الأمر؟
الصاحب: وقد تبيَّن بعض الشيء من معناه فيما تقدَّم.
الأمر: ينقسم إلى تشريعي وتكويني، وله أقسام أُخرى تتصيَّد من الآيات والأحاديث والزيارات سنشير إليها.
وعقيدتنا تبعاً للنصوص الوحيانيَّة أنَّ لصاحب الأمر أمر الولاية الإلهيَّة التشريعيَّة والتكوينيَّة المطلقة على كلِّ الوجود.
ولا بدَّ من ذكر ما يُؤيِّد ما ذكرناه.
أوَّلاً: الأمر التشريعي:
منها: عن محمّد بن سنان، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: «يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِه، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيًّا وَفَاطِمَةَ، فَمَكَثُوا أَلْفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ اَلْأَشْيَاءِ فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا، وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَفَوَّضَ أُمُورَهَا إِلَيْهِمْ، فَهُمْ يُحِلُّونَ مَا يَشَاؤُونَ، وَيُحَرِّمُونَ مَا يَشَاؤُونَ، وَلَنْ يَشَاؤُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»، ثمّ قال: «يَا مُحَمَّدُ هَذِه اَلدِّيَانَةُ الَّتِي مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مَحَقَ، وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ، خُذْهَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ»(31).
والشاهد: «فَهُمْ يُحِلُّونَ مَا يَشَاؤُونَ، وَيُحَرِّمُونَ مَا يَشَاؤُونَ، وَلَنْ يَشَاؤُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى».
المقصود بالولاية التشريعيَّة هو أنَّ أمر التصرُّف في الدِّين وأحكامه وحلاله وحرامه موكول إليهم بأمر الله تعالى وإذنه، فهم يُحلِّلون ما شاؤوا، ويُحرِّمون ما شاؤوا، ولن يشاؤوا إلَّا أنْ يشاء الله تعالى. فحيث إنَّ ربَّهم تبارك وتعالى أدَّبهم فأحسن تأديبهم، فإنَّه قد فوَّض إليهم دينه، فهم الأعرف بالمصالح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(31) الكافي (ج 1/ ص 441/ باب مولد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووفاته/ ح 5).

(٣٩)

والمفاسد في كلِّ الموارد، وبناءً على معرفتهم (صلوات الله عليهم) هذه فإنَّهم يسنُّون القواعد والأحكام ويتصرَّفون فيها.
ومنها: ما في كتاب الله تعالى من قوله (عزَّ من قائل): ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (الأحزاب: 36)، ففيها أشرك الله تعالى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالقضاء، وهو هاهنا بمعنى الأمر والإبرام، أي التشريع، فلا يكون الرسول على هذا مجرَّد مبلِّغ، بل مشرِّع أيضاً.
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7)، وسيأتي وجه الاستدلال به في كلام الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام).
ومنها: ما عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ أَدَّبَ نَبِيَّهُ حَتَّى إِذَا أَقَامَهُ عَلَى مَا أَرَادَ قَالَ لَهُ: ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ لَهُ رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) زَكَّاهُ اَللهُ فَقَالَ: ﴿إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، فَلَمَّا زَكَّاهُ فَوَّضَ إِلَيْهِ دِينَهُ، فَقَالَ: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، فَحَرَّمَ اَللهُ اَلْخَمْرَ وَحَرَّمَ رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كُلَّ مُسْكِرٍ، فَأَجَازَ اَللهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَإِنَّ اَللهَ أَنْزَلَ اَلصَّلَاةَ، وَإِنَّ رَسُولَ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَقَّتَ أَوْقَاتِهَا، فَأَجَازَ اَللهُ ذَلِكَ لَهُ»(32).
ومنها: عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَدَّبَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَلَمَّا تَأَدَّبَ فَوَّضَ إِلَيْهِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]. فَقَالَ: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]، فَكَانَ فِيمَا فَرَضَ فِي اَلْقُرْآنِ فَرَائِضُ اَلصُّلْبِ، وَفَرَضَ رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فَرَائِضَ اَلْجَدِّ، فَأَجَازَ اَللهُ ذَلِكَ لَهُ، وَأَنْزَلَ اَللهُ فِي اَلْقُرْآنِ تَحْرِيمَ اَلْخَمْرِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(32) بصائر الدرجات (ص 399/ ج 8/ باب 4/ ح 5).

(٤٠)

بِعَيْنِهَا، فَحَرَّمَ رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تَحْرِيمَ اَلمُسْكِرِ، فَأَجَازَ اَللهُ لَهُ ذَلِكَ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، فَمَا حَرَّمَ رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا حَرَّمَ اَللهُ»(33).
ومنها: ما عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «وَضَعَ رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دِيَةَ اَلْعَيْنِ، وَدِيَةَ النَّفْسِ، وَحَرَّمَ اَلنَّبِيذَ، وَكُلَّ مُسْكِرٍ»، فقال له رجل: وضع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من غير أنْ يكون جاء فيه شيء؟ قال: «نَعَمْ لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَعْصِيه»(34).
ومنها: ما عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «لَـمَّا عُرِجَ بِرَسُولِ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نَزَلَ بِالصَّلَاةِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ زَادَ رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سَبْعَ رَكَعَاتٍ شُكْراً للهِ، فَأَجَازَ اَللهُ لَه ذَلِكَ، وَتَرَكَ الْفَجْرَ لَمْ يَزِدْ فِيهَا لِضِيقِ وَقْتِهَا، لأَنَّه تَحْضُرُهَا مَلَائِكَةُ اَللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ اَلنَّهَارِ، فَلَمَّا أَمَرَه اَللهُ بِالتَّقْصِيرِ فِي اَلسَّفَرِ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِه سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَتَرَكَ اَلمَغْرِبَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْئاً، وَإِنَّمَا يَجِبُ اَلسَّهْوُ فِيمَا زَادَ رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَمَنْ شَكَّ فِي أَصْلِ الْفَرْضِ فِي اَلرَّكْعَتَيْنِ اَلْأَولَتَيْنِ اسْتَقْبَلَ صَلَاتَه»(35).
ومنها: ما عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) أَدَّبَ نَبِيَّه عَلَى مَحَبَّتِه، فَقَالَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْه فَقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وقَالَ (عزَّ وجلَّ): ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]»، قال: ثمّ قال: «وَإِنَّ نَبِيَّ اَللهِ فَوَّضَ إِلَى عَلِيٍّ وَائْتَمَنَه، فَسَلَّمْتُمْ وَجَحَدَ اَلنَّاسُ، فَوَاللهِ لَنُحِبُّكُمْ أَنْ تَقُولُوا إِذَا قُلْنَا، وَأَنْ تَصْمُتُوا إِذَا صَمَتْنَا، وَنَحْنُ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اَللهِ (عزَّ وجلَّ)، مَا جَعَلَ اَللهُ لِأَحَدٍ خَيْراً فِي خِلَافِ أَمْرِنَا»(36).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(33) بصائر الدرجات (ص 402/ ج 8/ باب 4/ ح 16).
(34) الكافي (ج 1/ ص 267/ باب التفويض إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).../ ح 7).
(35) الكافي (ج 3/ ص 487/ باب النوادر/ ح 2).
(36) الكافي (ج 1/ ص 265/ باب التفويض إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).../ ح 1).

(٤١)

ومن هذه الروايات ونظائرها تفهم أنَّ الله تعالى قد فوَّض أمر التصرُّف في الدِّين إلى نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّ نبيَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد فوَّض ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومنه إلى سائر الأئمَّة المعصومين (عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام). وأنَّ من شواهد ذلك زيادة ركعتين على كلٍّ من صلوات الظهر والعصر والعشاء، وركعة على المغرب، وإبقاء الفجر على حالها. ومن الشواهد تحريم كلِّ مسكر إلى جانب الخمر، وفرض سهم للجدِّ في الميراث، إلى غير ذلك ممَّا قد شرَّعه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمضاه الله تبارك وتعالى.
وقد دلَّت السيرة الفعليَّة للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمَّة (عليهم السلام) على وقوع هذا التصرُّف التشريعي منهم، إذ ورد مثلاً أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد رفع حكم الزكاة عن الخيل والرقيق حين قال: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ زَكَاةِ اَلْخَيْلِ وَاَلرَّقِيقِ»(37).
وما ورد مثلاً من أنَّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) قد شرَّع حكماً خاصًّا هو بمثابة زكاة الخيل والبراذين، فعن زرارة، عن الباقر والصادق (عليهما السلام): «وَضَعَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عَلَى اَلْخَيْلِ اَلْعِتَاقِ اَلرَّاعِيَةِ فِي كُلِّ فَرَسٍ فِي كُلِّ عَامٍ دِينَارَيْنِ، وَجَعَلَ عَلَى اَلْبَرَاذِينِ دِينَاراً»(38).
ومنها: ورد مثلاً من أنَّ الإمام الجواد (صلوات الله عليه) قد شرَّع حكماً خاصًّا مؤقَّتاً يقضي بالخُمُس في صنف محدَّد من الزكاة، وهو زكاة النقدَيْن، وفي سنة واحدة عيَّنها، حين كتب (عليه السلام) إلى عليِّ بن مهزيار: «اَلَّذِي أَوْجَبْتُ فِي سَنَتِي هَذِهِ، وَهَذِهِ سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ فَقَطْ...»، إلى أنْ قال: «وَلَمْ أُوجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ، وَلا أُوجِبُ عَلَيْهِمْ إِلَّا اَلزَّكَاةَ اَلَّتِي فَرَضَهَا اَللهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْتُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(37) وسائل الشيعة (ج 9/ ص 80/ ح 11573/6)، عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 66/ ح 246)، وفيه: (صدقة الخيل والرقيق).
(38) الكافي (ج 3/ ص 530/ باب ما يجب عليه الصدقة من الحيوان وما لا يجب/ ح 1).

(٤٢)

عَلَيْهِمُ اَلْخُمُسَ فِي سَنَتِي هَذِهِ فِي اَلذَّهَبِ وَاَلْفِضَّةِ اَلَّتِي قَدْ حَالَ عَلَيْهَا اَلْحَوْلُ، وَلَمْ أُوجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي مَتَاعٍ وَلَا آنِيَةٍ وَلَا دَوَابَّ وَلَا خَدَمٍ وَلَا رِبْحٍ رَبِحَهُ فِي تِجَارَةٍ وَلَا ضَيْعَةٍ...»(39).
فلاحظ أنَّه (عليه السلام) يقول: «أَوْجَبْتُ...، وَلَمْ أُوجِبْ»، أي إنَّه نسب تشريع هذا الأمر الوجوبي إلى نفسه، كما هو الحال مع قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «عَفَوْتُ»، أو قولهما (عليهما السلام) عن الأمير (عليه السلام) أنَّه «وَضَعَ...، وَجَعَلَ».
وبهذا تثبت الولاية التشريعيَّة المطلقة لهم (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)(40).
ثانياً: الأمر التكويني:
من الممكن أنَّ (صاحب الأمر) له معنى آخر وهو أدقّ وأعلى، وهو بمعنى الأمر التكويني والوجودي والكوني، الأمر الذي أخبرنا عنه الله تعالى في سورة (يس): ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس: 82 و83).
﴿أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هو الأمر التكويني، يقول للكون: كن، فيكون دون ترديد أو تردُّد، ومن دون أنْ يمرَّ فترة من الزمن، أو يكون مقيَّداً بالشرائط والمعدَّات، كن مباشرةً فيكون، إذا أراد شيئاً ربُّنا يقول له: كن، فيكون دون تراخي الزمان وترتُّب على أسباب معيَّنة، هو الذي بمجرَّد أمره يُحقِّق ما يريد ويفعل ما يريد، هذا هو الأمر التكويني.
والبحث في الولاية التكوينيَّة طويل جدًّا، وأنا هنا أختصر اختصاراً شديداً فقط للإشارة، وإنْ شاء الله سنقف عليها فيما يأتي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(39) تهذيب الأحكام (ج 4/ ص 141/ ح 398/20).
(40) أقول: اقتطعنا موضع الحاجة من كلام العلَّامة السيِّد مرتضى العاملي (قدّس سرّه).

(٤٣)

يقول آية الله السبحاني:
(الولاية التكوينيَّة للأولياء الإلهيِّين:
سؤال: لا ريب أنَّ الولاية التكوينيَّة من شؤون الموجود الذي له هيمنة وسيطرة على الخلق والمحيط به، والمجرَّد من صفات المادَّة والمادّيَّات، وهذا لا يصدق إلَّا على الله سبحانه، وعلى هذا الأساس يطرح السؤال التالي نفسه: كيف يا ترى نُفسِّر الولاية التكوينيَّة لأولياء الله سبحانه؟
الجواب: أنَّ عالم الخلق عالم الأسباب والمسبَّبات، ولقد تعلَّقت الإرادة الإلهيَّة الحكيمة بذلك، وهو أنَّ ما من ظاهرة أو حادثة إلَّا ولها علَّة خاصَّة تصدر عنها، وفي نفس الوقت ينتهي جميع نظام العلل والمعاليل إلى الله سبحانه، وتستمدُّ قدرتها منه، فهو سبحانه الذي يخلق السبب ويمنحه القدرة والطاقة ويُهيِّئه لإيجاد معلوله الخاصِّ، وفي الحقيقة أنَّ المؤثِّر الواقعي في تمام العالم كلِّه وجود واحد هو الله سبحانه، وتستمدُّ منه كلُّ العلل والأسباب قدرتها، وإليه تنتهي.
إنَّ حقيقة التوحيد هو أنْ نعتقد أنَّه لا مؤثِّر بالاستقلال إلَّا الله وحده، ولا يمكن أنْ نتصوَّر وجود موجود يكون مقابلاً للقدرة الربوبيَّة، بحيث يستطيع التأثير في إيجاد معلوله بصورة مستقلَّة أو يستطيع التصرُّف في عالم الخلق بنحو تكون إرادته مستقلَّة عن الإرادة الإلهيَّة، وهذا الاعتقاد هو ما يُصطَلح عليه في علم الكلام بالتوحيد الأفعالي، وقد بُحِثَ ذلك بصورة مفصَّلة وشاملة عند التعرُّض لبحث مراتب التوحيد.
فإذا سلَّمنا بهذا الأصل يكون الاعتقاد بالولاية التكوينيَّة لأولياء الله ليس منزَّهاً عن الشرك فقط، بل هو عين التوحيد، وذلك لأنَّنا حينما نعتقد بأيِّ حركة تصدر من الإنسان، سواء كانت من الأُمور العاديَّة كالمشي والكلام، أو كانت من الأُمور الغير العاديَّة كمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، أنَّها صدرت منه

(٤٤)

على نحو الاستقلال وبدون الاتِّكاء على القدرة والحول الإلهي، فلا ريب أنَّ مثل هذا التصوُّر يكون شركاً.
ولكن إذا اعتقدنا بأنَّ العبد مهما كان مقامه ومرتبته لا يمكن أنْ يستقلَّ في فعله وعمله عن القدرة والإرادة الإلهيَّة، فلا ريب أنَّنا حينئذٍ لم نتجاوز جادَّة التوحيد، ولم ننحرف عن الصراط المستقيم.
فليس ملاك التوحيد والشرك بأنْ تُنسَب الأفعال العاديَّة والأُمور الطبيعيَّة إلى العباد، ونعتقد أنَّهم يقومون بها بصورة مستقلَّة، وأمَّا الأُمور العظيمة والكبيرة الخارجة عن النظام الطبيعي فننسبها إلى الله بصورة مباشرة، لأنَّنا حينئذٍ ومن أجل الفرار من الشرك نقع في الشرك الذي نفرُّ منه، بل إنَّ ملاك التوحيد في الفاعليَّة هو الاعتقاد بأنَّ الإنسان وفي جميع حركاته وسكناته وأفعاله غير مستقلٍّ عن الله سبحانه وعن القدرة الإلهيَّة، وأنَّ الإرادة والمشيئة الإلهيَّة فوق إرادة الجميع، ولا تفاوت حينئذٍ بين ما يصدر من الإنسان من عمل، سواء كان عاديًّا أو كان خارقاً للعادة)(41).
فقد تبيَّن من هذا الكلام أنْ لا إشكال فيها، أمَّا مساحتها فأنقل كلام السيِّد الخوئي زعيم الطائفة (قدّس سرّه):
(فالظاهر أنَّه لا شبهة في ولايتهم على المخلوق بأجمعهم كما يظهر من الأخبار، لكونهم واسطة في الإيجاد، وبهم الوجود، وهم السبب في الخلق، إذ لولاهم لما خُلِقَ الناس كلُّهم، وإنَّما خُلِقُوا لأجلهم، وبهم وجودهم، وهم الواسطة في إفاضة، بل لهم الولاية التكوينيَّة لما دون الخالق، فهذه الولاية نحو ولاية الله تعالى على الخلق ولاية إيجاديَّة، وإنْ كانت هي ضعيفة بالنسبة إلى ولاية الله تعالى على الخلق)(42).
والكلام فيها له عرض عريض وطولاً طويل يأتي في محلِّه إنْ شاء الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(41) الفكر الخالد في بيان العقائد (ج 1/ ص 192 و193).
(42) مصباح الفقاهة (ج 5/ ص 35).

(٤٥)

الأمر في حديث أهل البيت (عليهم السلام):
أقول: قد استُخدِمَ لفظ (الأمر) في أحاديث أهل بيت العصمة والطهارة (صلوات الله عليهم) في الإمامة والولاية والعلم والسرِّ والشأن وغيرها.
الأمر: الإمامة:
عن المفضَّل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «إِيَّاكُمْ وَاَلتَّنْوِيهَ، أَمَا وَاَللهِ لَيَغِيبَنَّ إِمَامُكُمْ سِنِيناً مِنْ دَهْرِكُمْ، وَلَتُمَحَّصُنَّ حَتَّى يُقَالَ: مَاتَ أَوْ هَلَكَ، بِأَيِّ وَادٍ سَلَكَ؟ وَلَتَدْمَعَنَّ عَلَيْهِ عُيُونُ اَلمُؤْمِنِينَ، وَلَتُكْفَؤُنَّ كَمَا تُكْفَأُ اَلسُّفُنُ فِي أَمْوَاجِ اَلْبَحْرِ، وَلَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَخَذَ اَللهُ مِيثَاقَهُ وَكَتَبَ فِي قَلْبِهِ اَلْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَلَتُرْفَعَنَّ اِثْنَتَا عَشْرَةَ رَايَةً مُشْتَبِهَةً لَا يُدْرَى أَيٌّ مِنْ أَيٍّ»، قال: فبكيت، فقال لي: «مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ اَللهِ؟»، فقلت: وكيف لا أبكي وأنت تقول: «اِثْنَتَا عَشْرَةَ رَايَةً مُشْتَبِهَةً لَا يُدْرَى أَيٌّ مِنْ أَيٍّ»، فكيف نصنع؟ قال: فنظر إلى شمس داخلة في الصفَّة، فقال: «يَا أَبَا عَبْدِ اَللهِ، تَرَى هَذِهِ اَلشَّمْسَ؟»، قلت: نعم، قال: «وَاَللهِ لَأَمْرُنَا أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ اَلشَّمْسِ»(43).
الأمر: أحاديث أهل البيت (عليهم السلام):
عن حمدان بن سليمان، عن الهروي، قال: سمعت أبا الحسن عليَّ بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول: «رَحِمَ اَللهُ عَبْداً أَحْيَا أَمْرَنَا»، فقلت له: فكيف يُحيي أمركم؟ قال: «يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَيُعَلِّمُهَا اَلنَّاسَ، فَإِنَّ اَلنَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا»(44).
الأمر: الظهور:
في رسالة الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) للشيخ المفيد (رحمه الله): «فَلْيَعْمَلْ كُلُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(43) كمال الدِّين (ص 347/ باب 33/ ح 35).
(44) معاني الأخبار (ص 180/ باب معنى قول الصادق (عليه السلام): من تعلَّم علماً ليماري به السفهاء.../ ح 1).

(٤٦)

اِمْرِئٍ مِنْكُمْ بِمَا يَقْرُبُ بِهِ مِنْ مَحَبَّتِنَا، وَيَتَجَنَّبُ مَا يُدْنِيهِ مِنْ كَرَاهَتِنَا وَسَخَطِنَا، فَإِنَّ أَمْرَنَا بَغْتَةٌ فُجَاءَةٌ حِينَ لَا تَنْفَعُهُ تَوْبَةٌ، وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عِقَابِنَا نَدَمٌ عَلَى حَوْبَةٍ»(45).
وهكذا ذُكِرَ في أُمور أُخرى، والنتيجة فإنَّ الأمر الذي صاحبه صاحب الأمر يصدق على كلِّ ما ذكرنا وما لم نذكره، فهو المالك والحاكم والمدبِّر للأمر.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(45) الاحتجاج (ج 2/ ص 323 و324).

(٤٧)

نذكر في هذا العنوان مجموعة من الحُجَج التي تُثبِت عظمة وأهمّيَّة دعاء الفرج، سواء في الآيات أو الروايات التي تُصرِّح أو تشير أو تمتُّ بصلة إلى أهمّيَّة الدعاء بالفرج، وقد ذكرنا في كتابنا (رسائل المعصومين (عليهم السلام) للمنتظرين) مجموعة منها على نحو التفصيل، وهنا أردنا أنْ نُوجِّه القلوب والألسن نحو دعاء الفرج وأهمّيَّته.
الحُجَج الإلهيَّة:
الأُولى:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ (البقرة: 1 - 3)، فعن داود الرقِّي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، قال: «مَنْ أَقَرَّ بِقِيَامِ اَلْقَائِمِ أَنَّهُ حَقٌّ»(46).
أقول: والإقرار يقتضي الدعاء له بتعجيل الفرج، وخاصَّة ذكر اسم القائم «بِقِيَامِ اَلْقَائِمِ»، فإنَّه يقتضي الاستعداد والإعداد والدعاء له (صلوات الله عليه)، كاشف عن الاهتمام به فضلاً عن الإيمان به.
وعن يحيى بن أبي القاسم، قال: سألت الصادق (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾، فقال: «اَلمُتَّقُونَ شِيعَةُ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وَأَمَّا اَلْغَيْبُ فَهُوَ اَلْحُجَّةُ اَلْغَائِبُ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(46) كمال الدِّين (ص 340/ باب 33/ ح 19).

(٥١)

وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُ اَللهِ تَعَالَى: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ [يونس: 20]»(47).
أقول: لقد ذكرنا في كتاب (الانتظار في كلمات العلماء) في الكلمة الخامسة عشر: الترابط بين الانتظار والتقوى:
الاعتقاد بوجود الإمام المهدي (عليه السلام)، وبيعته عبر بيعة نائبه، وانتظارها، والمواظبة على آداب الغيبة، كلُّ ذلك لا ينفع صاحبه شيئاً إذا لم يكن متَّقياً.
فالتقوى هي المنطلق، وهي الشرط الذي لا يُقبَل بدونه عمل، والمسيرة التي سيقودها (عليه السلام)، هي مسيرة أهل العبادة الذين تُطوى لهم الأرض، أهل البصائر الذين لا ذنوب لهم تحجبهم عن رؤية الحقيقة حين (تتطاير القلوب مطايرها).
وممَّا يُرشِدنا إلى الترابط بين الانتظار والتقوى ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ اَلْقَائِمِ فَلْيَنْتَظِرْ، وَلْيَعْمَلْ بِالْوَرَعِ وَمَحَاسِنِ اَلْأَخْلَاقِ وَهُوَ مُنْتَظِرٌ، فَإِنْ مَاتَ وَقَامَ اَلْقَائِمُ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ مِنَ اَلْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَدْرَكَهُ، فَجِدُّوا وَاِنْتَظِرُوا»(48).
وبديهي أنَّ التقوى واجبة في كلِّ حال، إلَّا أنَّ المقصود هو الإشارة إلى هذه العلاقة بينها وبين الانتظار، وفائدة ذلك أنْ يُدرك من يغلب عليه الطابع الحركي العملي، ويحسب أنَّه من جنود المهدي دون شكٍّ... أنَّ هذا البعد وحده لا يكفي.
فما على أحدنا إذا أراد أنْ يكون من جنوده (عليه السلام) إلَّا أنْ يعتني بتهذيب نفسه، ليحصل على الأقلّ على شيء من التناسب بينه وبين هذه المسيرة الربَّانيَّة التي سيملأ الله بها الأرض قسطاً وعدلاً(49).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(47)كمال الدِّين (ص 340/ باب 33/ ح 20).
(48) الغيبة للنعماني (ص 207/ باب 11/ ح 16).
(49) آداب عصر الغيبة للشيخ حسين الكوراني (ص 47 - 49).

(٥٢)

وأنت ترى أيُّها العزيز كيف ربط الإمام (عليه السلام) بين الآيتين، والآية الثانية نصَّت على الانتظار، ومن شؤون الانتظار الدعاء له (عجَّل الله فرجه)، ومن هذا فهي حجَّة إلهيَّة عظيمة.
الثانية:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (هود: 86).
عن الحسن بن مسعود ومحمّد بن الجليل، قالا: دخلنا على سيِّدنا أبي عليٍّ العسكري (عليه السلام) بسامرَّا وعنده جماعة من شيعته، فسألناه عن أسعد الأيَّام وأنحسها، فقال: «لَا تُعَادُوا اَلْأَيَّامَ فَتُعَادِيَكُمْ»، وسألناه عن معنى هذا الحديث، فقال: «مَعْنَاهُ بَيْنَ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ، إِنَّ اَلسَّبْتَ لَنَا، وَاَلْأَحَدَ لِشِيعَتِنَا، وَاَلْاِثْنَيْنِ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَاَلثَّلَاثَاءَ لِشِيعَتِهِمْ، وَاَلْأَرْبِعَاءَ لِبَنِي اَلْعَبَّاسِ، وَاَلْخَمِيسَ لِشِيعَتِهِمْ، وَاَلْجُمُعَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَاَلْبَاطِنُ أَنَّ اَلسَّبْتَ جَدِّي رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَاَلْأَحَدَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ، وَاَلْاِثْنَيْنِ اَلْحَسَنُ وَاَلْحُسَيْنُ، وَاَلثَّلَاثَاءَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَاَلْأَرْبِعَاءَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَعَلِيُّ بْنُ مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَنَا، وَاَلْخَمِيسَ اِبْنِيَ اَلْحَسَنُ، وَاَلْجُمُعَةَ اِبْنُهُ اَلَّذِي تَجْتَمِعُ فِيهِ اَلْكَلِمَةُ، وَتَتِمُّ بِهِ اَلنِّعْمَةُ، وَيُحِقُّ اَللهُ اَلْحَقَّ وَيُزْهِقُ اَلْبَاطِلَ، فَهُوَ مَهْدِيُّكُمْ اَلمُنْتَظَرُ»، ثمّ قرأ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، ثمّ قال لنا: «وَاَللهِ هُوَ بَقِيَّةُ اَللهِ»(50).
أقول: لا ظاهر إلَّا بباطن، فقوام ما يتقوَّم به الظاهر بالباطن، ومن ثَمَّ يقول الإمام (عليه السلام): الجمعة هو مهديُّكم المنتظر، به يجمع الكَلِم، ويتمُّ النِّعَم، ويحقُّ الله الحقَّ ويُزهِق الباطل، وهو والله بقيَّة الله. الإمام (عليه السلام) يُبيِّن بعض الآثار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(50) الهداية الكبرى (ص 363).

(٥٣)

لظهوره، ويقسم الإمام (عليه السلام) أنَّه بقيَّة الله، وهو خير لنا. ومن هنا وجب علينا الدعاء، وهي من أعظم الحُجَج.
الثالثة:
جاء في الحديث القدسي: «قَالَ عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام): أَوْحَى اَللهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى (عليه السلام): حَبِّبْنِي إِلَى خَلْقِي، وَحَبِّبْ خَلْقِي إِلَيَّ، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَفْعَلُ؟ قَالَ: ذَكِّرْهُمْ آلَائِي وَنَعْمَائِي لِيُحِبُّونِي، فَلَأَنْ تَرُدَّ آبِقاً عَنْ بَابِي، أَوْ ضَالًّا عَنْ فِنَائِي، أَفْضَلُ لَكَ مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ بِصِيَامِ نَهَارِهَا وَقِيَامِ لَيْلِهَا. قَالَ مُوسَى (عليه السلام): وَمَنْ هَذَا اَلْعَبْدُ اَلْآبِقُ مِنْكَ؟ قَالَ: اَلْعَاصِي اَلمُتَمَرِّدُ، قَالَ: فَمَنِ اَلضَّالُّ عَنْ فِنَائِكَ؟ قَالَ: اَلْجَاهِلُ بِإِمَامِ زَمَانِهِ تُعَرِّفُهُ، وَاَلْغَائِبُ عَنْهُ بَعْدَ مَا عَرَفَهُ، اَلْجَاهِلُ بِشَرِيعَةِ دِينِهِ تُعَرِّفُهُ شَرِيعَتَهُ، وَمَا يَعْبُدُ بِهِ رَبَّهُ، وَيَتَوَصَّلُ [بِهِ] إِلَى مَرْضَاتِهِ. قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): فَأَبْشِرُوا مَعَاشِرَ عُلَمَاءِ شِيعَتِنَا بِالثَّوَابِ اَلْأَعْظَمِ، وَاَلْجَزَاءِ اَلْأَوْفَرِ»(51).
أقول: الحديث من غُرَر الأحاديث، وفيه الخطاب الإلهي مع كليمه ونبيِّه ورسوله.
وعنوان الرسالة الإلهيَّة «حَبِّبْنِي إِلَى خَلْقِي، وَحَبِّبْ خَلْقِي إِلَيَّ».
ثمّ النبيُّ موسى (عليه السلام) يطلب الكيفيَّة في ذلك.
والله (عزَّ وجلَّ) يُعلِّم نبيَّه (عليه السلام): «فَلَأَنْ تَرُدَّ آبِقاً عَنْ بَابِي، أَوْ ضَالًّا عَنْ فِنَائِي».
ثمّ يُبيِّن الله (عزَّ وجلَّ) عظمة هذا العمل بقوله: «أَفْضَلُ لَكَ مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ بِصِيَامِ نَهَارِهَا وَقِيَامِ لَيْلِهَا»، والله سبحانه ينسب العبادة لنبيه بصيامه وقيامه لسنة كاملة متواصلة، ونحن نعلم أنَّ عبادة النبيِّ ليس بالشيء الهيِّن، ففيها التوجُّه والإخلاص، ولكنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُعرِّفه القيمة أين تكمن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(51) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص 342/ ح 219).

(٥٤)

ومن هنا النبيُّ موسى (عليه السلام) من شدَّة حرصه سأل الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يُبيِّن له عن الآبق والضالِّ.
فقال موسى (عليه السلام): «وَمَنْ هَذَا اَلْعَبْدُ اَلْآبِقُ مِنْكَ؟»، قال: «اَلْعَاصِي اَلمُتَمَرِّدُ».
قال: «فَمَنِ اَلضَّالُّ عَنْ فِنَائِكَ؟»، قال: «اَلْجَاهِلُ بِإِمَامِ زَمَانِهِ تُعَرِّفُهُ، وَاَلْغَائِبُ عَنْهُ بَعْدَ مَا عَرَفَهُ، اَلْجَاهِلُ بِشَرِيعَةِ دِينِهِ تُعَرِّفُهُ شَرِيعَتَهُ، وَمَا يَعْبُدُ بِهِ رَبَّهُ، وَيَتَوَصَّلُ [بِهِ] إِلَى مَرْضَاتِهِ».
ومن هنا يُعرَف القيمة بالتعريف بالإمام (عجَّل الله فرجه) والدعاء له، وهذه حجَّة إلهيَّة مع ما تقدَّم من الحُجَج.
الحُجَج النبويَّة المحمّديَّة:
الأُولى:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ اَلمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ»(52).
قد ذكرنا في كتابنا (رسائل المعصومين (عليهم السلام) للمنتظرين) هذا الحديث، وتناولنا بعض فوائده، وها نحن نشير لبعض الإشارات.
النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ﴿مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3 و4).
يقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ أَصْبَحَ»، الصباح فيه يكون الإنسان نشيطاً، لأنَّه أخذ قسطاً من الراحة، ومن جهة أُخرى تزوَّد من نافلة الليل، ويكون في الصباح عادةً جلُّ اهتمامه في العمل المهمِّ، الموظَّف في وظيفته، والعامل في عمله،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(52) الكافي (ج 2/ ص 163/ باب الاهتمام بأُمور المسلمين والنصيحة لهم ونفعهم/ ح 1).

(٥٥)

والطالب في درسه، والطبيب في طبابته، والمؤمن دائماً اهتمامه مصبوب في أُمور المسلمين.
وليعلم أنَّ الحديث يقول: «بِأُمُورِ اَلمُسْلِمِينَ»، و(الأُمور) غير المسلمين، فكيف بشخص المسلم، بل بشخص المؤمن، بل الأعظم من ذلك كيف بمن لا يهتمُّ بسيِّد المؤمنين والمسلمين، صدر الخلائق، النازح المغيَّب، الوحيد الشريد؟
الحديث يقول: «مَنْ أَصْبَحَ لَا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ اَلمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ»، فكيف بمن لا يهتم بأُمور الحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه)؟
ومن أولويَّات الاهتمام هو الدعاء له، وخاصَّةً دعاء الفرج، وهو المطلوب.
الثانية:
قال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ»(53).
وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أَفْضَلُ جِهَادِ أُمَّتِي اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ»(54).
وقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): «إِنَّ أَحَبَّ اَلْأَعْمَالِ إِلَى اَللهِ (عزَّ وجلَّ) اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ»(55).
وعن مولانا الجواد (عليه السلام)، قال: «أَفْضَلُ أَعْمَالِ شِيعَتِنَا اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ»(56).
أقول: وأنت ترى تأكيد الشريعة على هذا الأصل الأصيل والاهتمام به، وتعالَ معي إلى أحاديث معرفته التي من خلالها ينطلق الإنسان للانتظار والدعاء وكلِّ الواجبات الملقاة على المنتظرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(53) كمال الدِّين (ص 644/ باب 55/ ح 3).
(54) تحف العقول (ص 37).
(55) الخصال (ص 616/ ح 10).
(56) كمال الدِّين (ص 377/ باب 36/ ح 1).

(٥٦)

فعن يحيى بن عبد الله، قال: قال لي أبو عبد الله جعفر بن محمّد (عليهما السلام): «يَا يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اَللهِ، مَنْ بَاتَ لَيْلَةً لَا يَعْرِفُ فِيهَا إِمَامَهُ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(57).
وعن محمّد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليهما السلام) يقول: «كُلُّ مَنْ دَانَ اَللهَ بِعِبَادَةٍ يُجْهِدُ فِيهَا نَفْسَه وَلَا إِمَامَ لَه مِنَ اَللهِ فَسَعْيُه غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَهُوَ ضَالٌّ مُتَحَيِّرٌ، وَاَللهُ شَانِئٌ لأَعْمَالِه، وَمَثَلُه كَمَثَلِ شَاةٍ ضَلَّتْ عَنْ رَاعِيهَا وَقَطِيعِهَا، فَهَجَمَتْ ذَاهِبَةً وَجَائِيَةً يَوْمَهَا، فَلَمَّا جَنَّهَا اللَّيْلُ بَصُرَتْ بِقَطِيعٍ مَعَ غَيْرِ رَاعِيهَا، فَحَنَّتْ إِلَيْهَا وَاغْتَرَّتْ بِهَا، فَبَاتَتْ مَعَهَا فِي رَبَضَتِهَا، فَلَمَّا أَنْ سَاقَ الرَّاعِي قَطِيعَه أَنْكَرَتْ رَاعِيَهَا وَقَطِيعَهَا، فَهَجَمَتْ مُتَحَيِّرَةً تَطْلُبُ رَاعِيَهَا وَقَطِيعَهَا، فَبَصُرَتْ بِغَنَمٍ مَعَ رَاعِيهَا، فَحَنَّتْ إِلَيْهَا واغْتَرَّتْ بِهَا، فَصَاحَ بِهَا الرَّاعِي: الْحَقِي بِرَاعِيكِ وَقَطِيعِكِ، فَإِنَّكِ تَائِهَةٌ مُتَحَيِّرَةٌ عَنْ رَاعِيكِ وَقَطِيعِكِ، فَهَجَمَتْ ذَعِرَةً مُتَحَيِّرَةً نَادَّةً لَا رَاعِيَ لَهَا يُرْشِدُهَا إِلَى مَرْعَاهَا أَوْ يَرُدُّهَا، فَبَيْنَا هِيَ كَذَلِكَ إِذَا اغْتَنَمَ الذِّئْبُ ضَيْعَتَهَا فَأَكَلَهَا، وَكَذَلِكَ وَاَللهِ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَصْبَحَ مِنْ هَذِه اَلْأُمَّةِ لَا إِمَامَ لَه مِنَ اَللهِ (جَلَّ وَعَزَّ) ظَاهِراً عَادِلاً أَصْبَحَ ضَالًّا تَائِهاً، وَإِنْ مَاتَ عَلَى هَذِه الْحَالِ مَاتَ مِيتَةَ كُفْرٍ وَنِفَاقٍ. واعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْجَوْرِ وَأَتْبَاعَهُمْ لَمَعْزُولُونَ عَنْ دِينِ اَللهِ قَدْ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا، فَأَعْمَالُهُمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا ﴿كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ [إبراهيم: 18]»(58).
وعن عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل يتولَّاكم، ويبرء من عدوِّكم، ويُحلِّل حلالكم، ويُحرِّم حرامكم، ويزعم أنَّ الأمر فيكم لم يخرج منكم إلى غيركم، إلَّا أنَّه يقول: إنَّهم قد اختلفوا فيما بينهم وهم الأئمَّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(57) الغيبة للنعماني (ص 126/ باب 7/ ح 1).
(58) الكافي (ج 1/ ص 374 و375/ باب فيمن دان الله (عزَّ وجلَّ) بغير إمام من الله (جلَّ جلاله)/ ح 2).

(٥٧)

القادة، فإذا اجتمعوا على رجل فقالوا: هذا، قلنا: هذا، فقال (عليه السلام): «إِنْ مَاتَ عَلَى هَذَا فَقَدْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(59).
وعن الحارث بن المغيرة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ مَاتَ لَا يَعْرِفُ إِمَامَه مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»؟ قال: «نَعَمْ»، قلت: جاهليةً جهلاء أو جاهليَّة لا يعرف إمامه؟ قال: «جَاهِلِيَّةَ كُفْرٍ وَنِفَاقٍ وَضَلَالٍ»(60).
وعليه، من عرف إمام زمانه ارتبط به، ومن ارتبط به فهو لا ينفكُّ عن الدعاء له.
وهذه الحجَّة لا تحتاج إلى إقامة البرهان، لشدَّة الوضوح والبيان.
والأحاديث كثيرة، وإشارتها دقيقة، وأبحاثها عميقة، نسأل الله التوفيق والسداد لدرايتها لا لروايتها فقط، والعمل الجادَّ الدؤوب لأجل مهديِّنا حبيب القلوب، بجاه أفضل الخلق محمّد وآله الطاهرين.
الحجَّة العلويَّة:
عن الحسين بن عليٍّ (عليه السلام)، قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، نَبِّئْنَا بِمَهْدِيِّكُمْ هَذَا، فَقَالَ: ...»، إلى أنْ قال - موضع الشاهد في صفة المهدي (عليه السلام) -: «أَوْسَعُكُمْ كَهْفاً، وَأَكْثَرُكُمْ عِلْماً، وَأَوْصَلُكُمْ رَحِماً، اَللَّهُمَّ فَاجْعَلْ بَعْثَهُ خُرُوجاً مِنَ اَلْغُمَّةِ، وَاِجْمَعْ بِهِ شَمْلَ اَلْأُمَّةِ، فَإِنْ خَارَ اَللهُ لَكَ فَاعْزِمْ، وَلَا تَنْثَنِ عَنْهُ إِنْ وُفِّقْتَ لَهُ، وَلَا تَجُوزَنَّ عَنْهُ إِنْ هُدِيتَ إِلَيْهِ، هَاهْ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِ -»(61).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(59) الغيبة للنعماني (ص 132 و133/ باب 7/ ح 16).
(60) الكافي (ج 1/ ص 377/ باب من مات وليس له إمام من أئمَّة الهدى/ ح 3).
(61) الغيبة للنعماني (ص 221 و222/ باب 13/ ح 1).

(٥٨)

أقول: قد تناولنا هذا الحديث بشيء من التفصيل في كتاب الرسائل، وها نحن نشير لبعض الإشارات.
في الرواية عبارات وإشارات وحقائق ودقائق تحتاج إلى تخصُّص وفوق التخصُّص، ففيها: «وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِ».
لعلَّه (صلوات الله عليه) يشير إلى موضع الشوق، وهو القلب، فإنَّ القلب هو المركز والمحور.
ولعلَّه أراد أنْ يبثَّ الشوق ويُعبِّر عن حبِّه حينما مرَّ ذكره، وهذا حال العاشق، فكيف بأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو أمير في كلِّ شيء.
ولعلَّه أراد الإفصاح والإعلام للذين ارتبطوا أنْ أفصحوا عمَّا هو مكنون بداخلكم، وكونوا دعاة لإظهار ذاك الشوق.
ولعلَّه يريد أنْ يقول: هاهنا الخزانة، خزانة الحبِّ والشوق والمعرفة، فاطلبوها من محلِّها.
في (تحف العقول) للحرَّاني (رحمه الله): «يَا اِبْنَ اَلنُّعْمَانِ، إِنَّ حُبَّنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ يُنْزِلُهُ اَللهُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مِنْ خَزَائِنَ تَحْتَ اَلْعَرْشِ كَخَزَائِنِ اَلذَّهَبِ وَاَلْفِضَّةِ، وَلَا يُنْزِلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ، وَلَا يُعْطِيهِ إِلَّا خَيْرَ اَلْخَلْقِ، وَإِنَّ لَهُ غَمَامَةً كَغَمَامَةِ اَلْقَطْرِ، فَإِذَا أَرَادَ اَللهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ مَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ أَذِنَ لِتِلْكَ اَلْغَمَامَةِ فَتَهَطَّلَتْ كَمَا تَهَطَّلَتِ اَلسَّحَابُ، فَتُصِيبُ اَلْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ»(62).
وفي الرواية: «شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِ»، يقول الشيخ حسين گنجي في كتاب (استعدُّوا):
(في رواية عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) حينما كان يتكلَّم حول الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) إلى أنْ يصل كلامه يقول: «آه! شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِه».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(62) تحف العقول (ص 313).

(٥٩)

آه كلمة تقال باللسان في مقام الشوق، على أنَّ أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أبو الأئمَّة (عليهم السلام) وأبو الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) أيضاً يتأوَّه ويقول: (آه بأيِّ قدر أنا مشتاق ومحبٌّ لرؤيته!)، هذه علامة المحبِّ.
المحبُّون للإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) هكذا حالات لديهم، في حالة عدم الاستقرار لانتظار لقاء الإمام وليِّ العصر (عجَّل الله فرجه) لا يُشخِّصون الليل من النهار، والنهار من الليل! هذا وحده همُّهم وغمُّهم أنْ يصلوا إلى لقاء الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه).
دعاء الندبة يُعطي درساً في الشوق:
هكذا يُعلِّمنا الدعاء الشريف دعاء الندبة، من بداية الدعاء إلى نهايته، يُعلِّمنا درس الشوق والانجذاب للإمام وعدم الاستقرار بدون لقائه. يُعطي درساً بأنَّ:
«اَلمُشْتَاقُ لَا يَشْتَهِي طَعَاماً، وَلَا يَلْتَذُّ بِشَرَابٍ...، وَلَا يَأْوَي دَاراً، وَلَا يَسْكُنُ عِمْرَاناً...، وَلَا يَقِرُّ قَرَاراً»(63).
نقرأ في دعاء الندبة: «لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ اَلنَّوَى!»(64).
يا ليتني أعرف أين آخر مكان استقرَّ بكم.
هل هذه الكلمة: «لَيْتَ...» بصرف الكلام وصرف التلفُّظ، أو حكاية التألُّم والشوق القلبي لفرد يقول: أنا مشتاق؟!
أو عندما نقول: «عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أَرَى الْخَلْقَ وَلَا تُرَى»(65).
يا سيِّدي الحبيب! صعب عليَّ أنْ أرى كلَّ الوجود وأرى كلَّ الناس وأنت لا تُرى بهذه العين!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(63) بحار الأنوار (ج 67/ ص 24/ ح 24)، عن مصباح الشريعة (ص 196).
(64) المزار لابن المشهدي (ص 580).
(65) المزار لابن المشهدي (ص 581).

(٦٠)

هذا درس الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في الشوق وعدم الاستقرار بدون المحبوب.
يريد منَّا الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنْ نكون بالنسبة للإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) هكذا، بل إنَّ عاشق الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) هكذا.
حقًّا إنَّه لعزيز وصعب على المنتظِر والناصر الحقيقي أنْ يرى العالَم بدون الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)، مثل هذا العالم بالنسبة له سجن ليس بستاناً! وتكون الدنيا بستاناً بالنسبة للإنسان عندما يرى صاحب البستان، ويكون بينه وبين صاحب البستان لقاءات!) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.
ويقول الشيخ الأصفهاني في (مكيال المكارم):
(إظهار الشوق إلى لقائه، وهو من علامات أحبَّائه وأهل ولائه، ولا ريب في رجحانه واستحبابه، لورود ذلك في الأدعية المرويَّة لجنابه، ونعم ما قيل:

قلبي إليك من الأشواق محترق * * * ودمع عيني من الآماق مندفق
الشوق يحرقني والدمع يغرقني * * * فهل رأيت غريقاً وهو محترق

ويدلُّ على المقصود أنَّ مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يُظهِر الشوق إلى رؤيته كما عرفت في الحديث المروي عنه في وصف المهدي (عليه السلام) في حرف العين المهملة، حيث قال بعد أنْ بيَّن جملة من صفاته وعلاماته، وأمر ببيعته وإجابة دعوته: «هاه» وأومئ بيده إلى صدره شوقاً إلى رؤيته، وقد مرَّ الخبر بطوله في علمه (صلوات الله عليه).
ويدلُّ على ما ذكرنا أيضاً ما روي في (البحار) عن كتاب (المزار الكبير) بإسناده عن أحمد بن إبراهيم، قال: شكوت إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان شوقي إلى رؤية مولانا (عليه السلام)، فقال لي: مع الشوق تشتهي أنْ تراه؟ فقلت له: نعم، فقال لي: شكر الله لك شوقك، وأراك وجهه في يسر وعافية، لا تلتمس يا أبا عبد الله

(٦١)

أنْ تراه فإنَّ أيَّام الغيبة تشتاق إليه، ولا تسأل الاجتماع معه، إنَّه عزائم الله، والتسليم لها أولى، ولكن توجَّه إليه بالزيارة... الخبر(66).
أقول: حسن الشوق إليه أمر واضح لا سترة فيه، لأنَّ ذلك من لوازم المحبَّة التي لا تنفكُّ عن الأحبَّة، وقوله: (شكر الله لك شوقك)، فيه إيماء إلى ما يترتَّب على ذلك من الثواب الجميل، كما يدلُّ عليه قول الصادق (عليه السلام) في الحديث الآتي، مع ما فيه من التبجيل والتجليل.
وأمَّا قوله: (لا تلتمس يا أبا عبد الله أنْ تراه...) إلخ، فالمراد رؤيته بنحو الأئمَّة السابقين (صلوات الله عليهم أجمعين)، يعني رؤيته في كلِّ وقت يُراد لنيل هذا المراد، وأمَّا طلب رؤيته مطلقاً فهو أمر غير ممنوع، بل هو من وظائف أهل العمل المشروع، وفوزهم بذلك ليس بنادر الوقوع.
ويشهد لما دلَّلنا عليه قوله: (فإنَّ أيَّام الغيبة تشتاق إليه، ولا تسأل الاجتماع معه، إنَّه عزائم الله...) إلخ، إذ لو كان رؤيته والاجتماع معه ولو في بعض الأحيان من عزائم الله في صاحب الزمان لم يتَّفق ذلك لأحد من أهل الإيمان، وهذا مخالف للعيان، لأنَّ الروايات والحكايات في الفائزين بهذا المرام من المؤمنين يوجب اليقين لأهل اليقين.
ثمّ لا يخفى أنَّ قوله: (تشتاق إليه) جملة خبريَّة في مقام الإنشاء، مفادها الأمر بالشوق إليه (صلوات الله وسلامه عليه)...) إلى آخر كلامه (رحمه الله)(67).
أقول: إنَّ الإنسان مخلوق بحقيقته طالب للكمال من دون أدنى تأمُّل، وهو غير محتاج للتعليم والدرس في نفس الطلب والميل الوجداني الذاتي، نعم يقع عنده الاشتباه في تحديد الكمال، ولهذا يحتاج التعليم والتذكير في تحديد المصداق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(66) بحار الأنوار (ج 53/ ص 174/ ح 6)، عن المزار لابن المشهدي (ص 585).
(67) مكيال المكارم (ج 2/ ص 148 و149).

(٦٢)

يقول السيِّد الخميني (رحمه الله):
(لا بُدَّ أنْ نعرف بأنَّ ما هو من أحكام الفطرة لا يمكن أنْ يختلف فيه اثنان، من ناحية أنَّها من لوازم الوجود وقد تخمَّرت في أصل الطبيعة والخلقة. فالجميع، من الجاهل والمتوحِّش والمتحضر والمدني والبدوي، مجمعون على ذلك. وليس ثَمَّة منفذ للعادات والمذاهب والطُّرُق المختلفة للتسلُّل إليها والإخلال بها. إنَّ اختلاف البلاد والأهواء والمأنوسات والآراء والعادات، التي توجب وتُسبِّب الخلاف والاختلاف في كلِّ شيء، حتَّى في الأحكام العقليَّة، ليس لها مثل هذا التأثير أبداً في الأُمور الفطريَّة. كما أنَّ اختلاف الإدراك والأفهام قوَّةً وضعفاً لا تُؤثِّر فيها. وإذا لم يكن الشيء بتلك الكيفيَّة فليس من أحكام الفطرة ويجب إخراجه من فصيلة الأُمور الفطريَّة. ولذلك تقول الآية: ﴿فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾، أي إنَّها لا تختصُّ بفئة خاصَّة ولا طائفة من الناس. ويقول تعالى أيضاً: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ [الروم: 30]، أي لا يُغيِّره شيء، كما هو شأن الأُمور الأُخرى التي تختلف بتأثير العادات وغيرها...).
إلى أنْ يقول: (إنَّها الفطرة التي تعشق الكمال، فأنت إنْ تجوَّلت في جميع الأدوار التي مرَّ بها الإنسان، واستنطقت كلَّ فرد من الأفراد، وكلَّ طائفة من الطوائف، وكلَّ ملَّة من الملل، تجد هذا العشق والحبَّ قد جبل في طينته، فتجد قلبه متوجِّهاً نحو الكمال. بل إنَّ ما يُحدِّد الإنسان ويدفعه في سكناته وتحرُّكاته، وكلُّ العناء والجهود المضنيَّة التي يبذلها كلُّ فرد في مجال عمله وتخصُّصه، إنَّما هو نابع من حبِّ الكمال، على الرغم من وجود منتهى الخلاف بين الناس فيما يرونه من الكمال، وبأيِّ شيء يتحقَّق الكمال ويُشاهَد المعشوق.
فكلٌّ يجد معشوقه في شيء، ظانًّا أنَّ ذلك هو الكمال وكعبة الآمال،

(٦٣)

فيتخيَّله في أمر معيَّن، فيتوجَّه إليه، ويتفانى في سبيله تفاني العاشق. إنَّ أهل الدنيا وزخارفها يحسبون الكمال في الثروة، ويجدون معشوقهم فيها، فيبذلون من كلِّ وجودهم الجهد والخدمة الخالصة في سبيل تحصيلها، فكلُّ شخص مهما يكن نوع عمله ومهما يكن موضع حبِّه وتعشُّقه، فإنَّه لاعتقاده بأنَّ ذلك هو الكمال يتوجَّه نحوه. وهكذا حال أهل العلوم والصنايع، كلٌّ يرى الكمال في شيء ويعتقد أنَّه معشوقه، بينما يرى أهل الآخرة والذكر والفكر غير ذلك...
وعليه، فجميعهم يسعون نحو الكمال. فإذا ما تصوَّروه في شيءٍ موجود أو موهوم تعلَّقوا به وعشقوه. ولكن لا بُدَّ أنْ نعرف أنَّه على الرغم من هذا الذي قيل، فإنَّ حبَّ هؤلاء وعشقهم ليس في الحقيقة لهذا الذي ظنُّوه بأنَّه معشوقهم، وإنَّ ما توهَّموه وتخيَّلوه ويبحثون عنه ليس هو كعبة آمالهم. إذ لو أنَّ كلَّ واحد منهم رجع إلى فطرته لوجد أنَّ قلبه في الوقت الذي يُظهِر العشق لشيءٍ ما فإنَّه يتحوَّل عن هذا المعشوق إلى غيره إذا وجد الثاني أكمل من الأوَّل، ثمّ إذا عثر على أكمل من الثاني، ترك الثاني وانتقل بحبِّه إلى الأكمل منه، بل إنَّ نيران عشقه لتزداد اشتعالاً حتَّى لا يعود قلبه يُلقي برحاله في أيَّة درجة من الدرجات ولا يرضى بأيِّ حدٍّ من الحدود.
مثلاً، إذا كنتَ تُحِبُّ جمال القدود ونضارة الوجوه، عثرت على ذلك عند من تراها كذلك، توجَّه قلبك نحوها. فإذا لاح لك جمالٌ أجمل، لا شكَّ في أنَّك سوف تتوجَّه إلى الجميل الأجمل، أو أنَّك على الأقلّ تطلب الاثنين معاً، ومع ذلك لا تخمد نار الاشتياق عندك، ولسان حال فطرتك يقول: كيف السبيل إليهما معاً؟ ولكن الواقع هو أنَّك تطلب كلَّ جميل تراه أجمل، بل قد تزداد اشتياقاً بالتخيُّل، فقد تتخيَّل أنَّ هناك جميلاً [أجمل] من كلِّ ما تراه بعينك، في مكان ما، فيحلق قلبك طائراً إلى بلد الحبيب، ولسان حالك يقول: هل سمعت الموجود

(٦٤)

الحاضر والغائب في آنٍ معاً؟ إنَّني ذلك الحاضر في الجمع وقلبي موجود في مكان آخر. وقد تعشق ما تتمنَّى)(68).
وأخيراً إنَّ الأمير (صلوات الله عليه) يقول: كمالكم أيُّها البشر أُحدِّده لكم وأُعيِّنه، فلا تشتبهوا وتزيغوا عنه: «أَوْسَعُكُمْ كَهْفاً، وَأَكْثَرُكُمْ عِلْماً، وَأَوْصَلُكُمْ رَحِماً، اَللَّهُمَّ فَاجْعَلْ بَعْثَهُ خُرُوجاً مِنَ اَلْغُمَّةِ، وَاِجْمَعْ بِهِ شَمْلَ اَلْأُمَّةِ»(69).
«أَنْتَ كَهْفِي حِينَ تُعْيِينِي اَلمَذَاهِبُ فِي سَعَتِهَا»(70).
الحجَّة الفاطميَّة:
قالت فاطمة (عليها السلام): «مَا عَلَى عَلِيٍّ صَبْرٌ»(71).
أقول: كلُّ ما قيل ويقال في صبر الصدِّيقة فاطمة (عليها السلام) فهو دونه، فالحقيقة أعظم وأكمل.
وكلُّ صبر يترشَّح فهو من صبرها، وهي المشهود لها قبل أنْ تُخلَق بالصبر: «اِمْتَحَنَكِ اَللهُ اَلَّذِي خَلَقَكِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكِ فَوَجَدَكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صَابِرَةً»(72).
فهي أصبر الصابرين لأنَّها كفوء عليٍّ (عليه السلام)، وهي أُمُّ الصبر لأنَّها أُمُّ لأبيها وأُمُّ الأئمَّة (عليهم السلام).
وكلَّ آية مدحت الصابرين هي على رأسها، وكلُّ حديث يعدُّ الصبر فضيلة فهي، فالفضل فيها ومنها وإليها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(68) الأربعون حديثاً (ص 222 - 226).
(69) الغيبة للنعماني (ص 221 و222/ باب 13/ ح 1).
(70) إقبال الأعمال (ج 2/ ص 80).
(71) تفسير العيَّاشي (ج 2/ ص 67/ ح 76).
(72) مصباح المتهجِّد (ص 711).

(٦٥)

الصبر والجزع والرسالة الفاطميَّة:
ليس كلُّ جزع مذموماً، فقد وردت أحاديث عن المعصومين (عليهم السلام) في أُمور يكون ممدوحاً ومطلوباً.
منها: عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: «كُلُّ اَلْجَزَعِ وَاَلْبُكَاءِ مَكْرُوهٌ سِوَى اَلْجَزَعِ وَاَلْبُكَاءِ عَلَى اَلْحُسَيْنِ (عليه السلام)»(73).
ومنها: لـمَّا وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) على الضريح الأقدس، ضريح النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ساعة دفنه، فقال: «إِنَّ اَلصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلَّا عَنْكَ، وَإِنَّ اَلْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلَّا عَلَيْكَ، وَإِنَّ اَلمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ، وَإِنَّه قَبْلَكَ وَبَعْدَكَ لَجَلَلٌ»(74).
الجزع الذي يُعبِّر عن الحبِّ للرسول وآله وعن الحزن على ما أصاب الدِّين ورموزه، فإنَّه يُمثِّل أقصى حالات الطاعة لله، والانقياد إليه، والحبِّ له. وهو من العبادات التي ورد الأمر بها، ووعد الله بالثواب الجزيل عليها.
وغيرهما من الأحاديث الدالَّة على المطلوب.
وفيما نحن فيه، ففي تفسير العيَّاشي (رضوان الله عليه): عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه، عن جدِّه: ما أتى علىَّ يوم قطُّ أعظم من يومين أتيا علىَّ، فأمَّا اليوم الأوَّل فيوم قُبِضَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأمَّا اليوم الثاني فوَالله إنِّي لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبى بكر والناس يبايعونه، إذ قال له عمر: يا هذا، ليس في يديك شيء مهما لم يبايعك علىٌّ، فابعث إليه حتَّى يأتيك يبايعك، فإنَّما هؤلاء رعاع، فبعث إليه قنفذ، فقال له: اذهب فقل لعلىٍّ: أجب خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فذهب قنفذ، فما لبث أنْ رجع، فقال لأبي بكر: قال لك: «مَا خَلَّفَ رَسُولُ اَللهِ أَحَداً غَيْرِي»، قال: ارجع إليه، فقل: أجب فإنَّ الناس قد أجمعوا على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(73) أمالي الطوسي (ص 162/ ح 268/20).
(74) نهج البلاغة (ص 527/ ح 292).

(٦٦)

بيعتهم إيَّاه، وهؤلاء المهاجرين والأنصار يبايعونه وقريش، وإنَّما أنت رجل من المسلمين لك ما لهم وعليك ما عليهم، فذهب إليه قنفذ، فما لبث أنْ رجع، فقال: قال لك: «إِنَّ رَسُولَ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَالَ لِي وَأَوْصَانِي أَنْ إِذَا وَارَيْتُهُ فِي حُفْرَتِهِ لَا أَخْرُجُ مِنْ بَيْتِي حَتَّى أُؤَلِّفَ كِتَابَ اَللهِ، فَإِنَّهُ فِي جَرَائِدِ اَلنَّخْلِ وَفِي أَكْتَافِ اَلْإِبِلِ»، قال عمر: قوموا بنا إليه، فقام أبو بكر، وعمر، وعثمان، وخالد بن الوليد، والمغيرة بن شعبة، وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وسالم مولى أبي حذيفة، وقنفذ، وقمت معهم، فلمَّا انتهينا إلى الباب فرأتهم فاطمة (صلوات الله عليها) أغلقت الباب في وجوههم، وهي لا تشكُّ أنْ لا يُدخَل عليها إلَّا بإذنها، فضرب عمر الباب برجله، فكسره - وكان من سعف -، ثمّ دخلوا، فأخرجوا عليًّا (عليه السلام) ملبَّباً، فخرجت فاطمة (عليها السلام)، فقالت: «يَا بَا بَكْرٍ، أَتُرِيدُ أَنْ تُرْمِلَنِي مِنْ زَوْجِي؟ وَاَللهِ لَئِنْ لَمْ تَكُفَّ عَنْهُ لَأَنْشُرَنَّ شَعْرِي، وَلَأَشُقَّنَّ جَيْبِي، وَلَآتِيَنَّ قَبْرَ أَبِي، وَلَأَصِيحَنَّ إِلَى رَبِّي»، فأخذت بيد الحسن والحسين (عليهما السلام)، وخرجت تريد قبر النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقال عليٌّ (عليه السلام) لسلمان: «أَدْرِكْ اِبْنَةَ مُحَمَّدٍ، فَإِنِّي أَرَى جَنْبَتَيِ اَلمَدِينَةِ تُكْفَيَانِ، وَاَللهِ إِنْ نَشَرَتْ شَعْرَهَا وَشَقَّتْ جَيْبَهَا وَأَتَتْ قَبْرَ أَبِيهَا وَصَاحَتْ إِلَى رَبِّهَا لَا يُنَاظَرُ بِالمَدِينَةِ أَنْ يُخْسَفُ بِهَا [وَبِمَنْ فِيهَا]»، فأدركها سلمان (رضي الله عنه)، فقال: يا بنت محمّد، إنَّ الله إنَّما بعث أباك رحمةً فارجعي، فقالت: «يَا سَلْمَانُ يُرِيدُونَ قَتْلَ عَلِيٍّ، مَا عَلَى عَلَيٍّ صَبْرٌ، فَدَعْنِي حَتَّى آتِيَ قَبْرَ أَبِي فَأَنْشُرَ شَعْرِي وَأَشُقَّ جَيْبِي وَأَصِيحَ إِلَى رَبِّي»، فقال سلمان: إنِّي أخاف أنْ يُخسَف بالمدينة، وعليٌّ بعثني إليكِ ويأمركِ أنْ ترجعي إلى بيتكِ وتنصرفي، فقالت: «إِذاً أَرْجِعُ وَأَصْبِرُ وَأَسْمَعُ لَهُ وَأُطِيعُ»، قال: فأخرجوه من منزله ملبَّباً، ومرُّوا به على قبر النبيِّ (عليه وآله السلام)، قال: فسمعته يقول: «يَا ﴿ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي...﴾ إلى آخر الآية [الأعراف: 150]، وجلس أبو بكر في سقيفة بنى ساعدة وقُدِّم علىٌّ، فقال له عمر: بايع، فقال له علىٌّ: «فَإِنْ أَنَا لَمْ أَفْعَلْ فَمَهْ؟»، فقال له

(٦٧)

عمر: إذاً أضرب والله عنقك، فقال له علىٌّ: «إِذَاً وَاَللهِ أَكُونُ عَبْدَ اَللهِ اَلمَقْتُولَ، وَأَخَا رَسُولِ اَللهِ»، فقال عمر: أما عبداً لله المقتول فنعم، وأمَّا أخو رسول الله فلا - حتَّى قالها ثلاثاً -، فبلغ ذلك العبَّاس بن عبد المطَّلب، فأقبل مسرعاً يهرول، فسمعته يقول: ارفقوا بابن أخي ولكم عليَّ أنْ يبايعكم، فأقبل العبَّاس وأخذ بيد عليٍّ، فمسحها على يد أبي بكر، ثمّ خلُّوه مغضباً، فسمعته يقول ورفع رأسه إلى السماء: «اَللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ اَلنَّبِيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قَدْ قَالَ لِي: إِنْ تَمُّوا عِشْرِينَ فَجَاهِدْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُكَ فِي كِتَابِكَ: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ [الأنفال: 65]»، قال: وسمعته يقول: «اَللَّهُمَّ وَإِنَّهُمْ لَمْ يُتِمُّوا عِشْرِينَ» حتَّى قالها ثلاثاً، ثمّ انصرف(75).
إذن خزانة الصبر، والصابرة قبل أنْ تُخلَق، أُمُّ الصبر، والملهمة للصابرين، تقولها بكلمة واحدة: «مَا عَلَى عَلَيٍّ صَبْرٌ، فَدَعْنِي حَتَّى آتِيَ قَبْرَ أَبِي فَأَنْشُرَ شَعْرِي وَأَشُقَّ جَيْبِي وَأَصِيحَ إِلَى رَبِّي»، نعم إنَّه موطن الصبر فيه ليس جميلاً، بل الجزع فيه ممدوح ومطلوب.
فقدان الإمام ممَّا ينبغي فيه الجزع، ولهذا أنت ترى الإمام (عليه السلام) في دعاء الندبة يقول: «هَلْ مِنْ مُعِينٍ فَأُطِيلَ مَعَهُ الْعَوِيلَ وَاَلْبُكَاءَ، هَلْ مِنْ جَزُوعٍ فَأُسَاعِدَ جَزَعَهُ إِذَا خَلَا، هَلْ قَذِيَتْ عَيْنٌ فَسَاعَدَتْهَا عَيْنِي عَلَى الْقَذَى»(76).
الحجَّة الحسنيَّة:
قال الإمام الحسن (عليه السلام): «لَا حَيَاةَ لِمَنْ لَا دِينَ لَهُ»(77).
و«مَنْ نَافَسَكَ فِي دِينِكَ فَنَافِسْهُ»(78).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(75) تفسير العيَّاشي (ج 2/ ص 66 - 68/ ح 76).
(76) المزار لابن المشهدي (ص 582/ الدعاء للندبة).
(77) موسوعة الكلمة (ج 7/ ص 189).
(78) تنبيه الخواطر (ج 1/ ص 143).

(٦٨)

الحديث عن الحياة حديث عن الدِّين، والدِّين هو الحياة والحياة هي الدِّين، ولـمَّا كان الدِّين أمراً وجوديًّا فلهذا مولانا الإمام المجتبى (صلوات الله عليه) يقول: التنافس ممدوح، فهو ليس رتبة واحدة، بل طبقات ومراتب، فمن نافسك نافسه وتصاعد بالدرجات.
يقول تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 76).
عن عبد العزيز القراطيسي، قال: قال لي أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ، إِنَّ اَلْإِيمَانَ عَشْرُ دَرَجَاتٍ بِمَنْزِلَةِ السُّلَّمِ يُصْعَدُ مِنْه مِرْقَاةً بَعْدَ مِرْقَاةٍ...»(79).
الإيمان أمر وجودي يشتدُّ ويضعف:
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «اَلْإِيمَانُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، فَالْمِقْدَادُ فِي اَلثَّامِنَةِ، وَأَبُو ذَرٍّ فِي اَلتَّاسِعَةِ، وَسَلْمَانُ فِي اَلْعَاشِرَةِ»(80).
والأحاديث كثيرة في هذا الباب من أراد الزيادة فليراجع الجوامع الحديثيَّة.
أقول: وليس الإيمان وحده في هذه الشاكلة الوجوديَّة، بل الإسلام والتقوى واليقين والصبر والصلاة والدِّين، خذ هذا الحديث الذي هو من أُمَّهات أحاديث المعرفة.
في (بصائر الدرجات) للشيخ الصفَّار (رحمه الله) في حديث أوَّله عن المفضَّل أنَّه كتب إلى أبي عبد الله (عليه السلام)، فجاءه هذا الجواب من أبي عبد الله (عليه السلام):
«إِنِّي أُخْبِرُكَ أَنَّ اَلدِّينِ وَأَصْلَ اَلدِّينِ هُوَ رَجُلٌ، وَذَلِكَ اَلرَّجُلُ هُوَ اَلْيَقِينُ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(79) الكافي (ج 2/ ص 44 و45/ باب آخر من درجات الإيمان/ ح 2).
(80) روضة الواعظين (ص 280).

(٦٩)

وَهُوَ اَلْإِيمَانُ، وَهُوَ إِمَامُ أُمَّتِهِ وَأَهْلِ زَمَانِهِ، فَمَنْ عَرَفَهُ عَرَفَ اَللهَ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ أَنْكَرَ اَللهَ وَدِينَهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ جَهِلَ اَللهَ وَدِينَهُ وَحُدُودَهُ وَشَرَائِعَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ اَلْإِمَامِ»(81).
أقول: وهذا الحديث من أُمَّهات الأحاديث، كلُّه قواعد معرفيَّة وعقديَّة، فمن أحبَّ الاستفادة والزيادة فليراجع آخر كتاب (بصائر الدرجات) للصفَّار (رحمه الله).
والعبارة صريحة، ولو أنَّ الإنسان توقَّف عندها بعض الشيء لوجد فيها مغانم كثيرة.
فدينك أيُّها العزيز له أصل، وبدون هذا الأصل لا دين لك، أمَا ترى أنَّ الإمام (عليه السلام) عبَّر عن هذا الأصل باليقين والإيمان؟
وربط معرفته (عجَّل الله فرجه) بمعرفة الله (عزَّ وجلَّ)، والجهل به جهل بالله والدِّين والحدود والشرائع.
الإمام الصادق (عليه السلام) لم يترك شيئاً للجاهل بإمام زمانه، فكم حريٌّ بنا أنْ نجعل إمام زماننا (عجَّل الله فرجه) مقدَّم على كلِّ شيء مع عدم تغاضي عن بقيَّة العبادات وسائر المعارف الأُخرى.
والآيات والأحاديث والأدعية والزيارات تشهد بما نحن فيه.
إلَّا أنَّه نحن من باب الشاهد فقط أشرنا إشارة.
نعود إلى كرم الإمام المجتبى (صلوات الله عليه).
أقول: سيِّدي يا أبا محمّد، سلام الله عليك، أشهد أنَّك قد بلَّغت ونصحت ووفيت وأوفيت، فقد قلت: «لَا حَيَاةَ لِمَنْ لَا دِينَ لَهُ»، لا حياة من لا إمام له، و«مَنْ نَافَسَكَ فِي دِينِكَ فَنَافِسْهُ»، من نافسك في إمامك فنافسه.
ازدادوا معرفةً وقرباً وعملاً ودعاءً وارتباطاً بإمام زمانكم، اجتهدوا بطاعته وأداء حقوقه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(81) بصائر الدرجات (ص 549/ ج 10/ باب 21/ ح 1).

(٧٠)

الحجَّة الحسينيَّة:
قال الإمام الحسين (عليه السلام): «وَلَا يَبْقَى رَجُلٌ مِنْ شِيعَتِنَا إِلَّا أَنْزَلَ [اَللهُ إِلَيْهِ] مَلَكاً يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ اَلتُّرَابَ وَيُعَرِّفُهُ أَزْوَاجَهُ وَمَنَازِلَهُ فِي اَلْجَنَّةِ، وَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدٌ، وَلَا مُبْتَلًى إِلَّا كَشَفَ اَللهُ عَنْهُ بَلَاءَهُ بِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ، وَلَتَنْزِلَنَّ اَلْبَرَكَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ حَتَّى إِنَّ اَلشَّجَرَةَ لَتَقْصِفُ بِمَا يُرِيدُ اَللهُ فِيهَا مِنَ اَلثَّمَرِ، وَلَيُؤْكَلَنَّ ثَمَرَةُ اَلشِّتَاءِ فِي اَلصَّيْفِ، وَثَمَرَةُ اَلصَّيْفِ فِي اَلشِّتَاءِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اَللهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرضِ﴾ [الأعراف: 96]»(82).
الإمام الحسين (صلوات الله عليه) يتحدَّث بهذا الحديث عن رجعته، وعن دولة أهل البيت (عليهم السلام)، واخترت من هذا الحديث فقط المقطع الأخير.
والذي أُريد أنْ أقوله: إنَّ ثأر الإمام الحسين (عليه السلام) ورجعته متعلِّقة بظهور الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، وقد بيَّنت الروايات هذا المطلب بأحسن البيان.
ومن هنا فإنَّ الدعاء له بالفرج هو دعاء لرجوع الإمام الحسين (عليه السلام)، وهو مساهمة في أخذ ثأره، وكذلك تعجيل برجوع الأئمَّة (عليهم السلام)، وهذه من عقائدنا المبيَّنة في روايات أهل البيت (عليهم السلام).
الحجَّة السجَّاديَّة:
قال إمامنا السجَّاد (صلوات الله عليه): «يَا أَبَا خَالِدٍ، إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ، اَلْقَائِلِينَ بِإِمَامَتِهِ، وَاَلمُنْتَظِرِينَ لِظُهُورِهِ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ، لِأَنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْطَاهُمْ مِنَ اَلْعُقُولِ وَاَلْأَفْهَامِ وَاَلمَعْرِفَةِ مَا صَارَتْ بِهِ اَلْغَيْبَةُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ اَلمُشَاهَدَةِ، وَجَعَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اَلزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ اَلمُجَاهِدِينَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(82) الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 849 و850/ ح 63).

(٧١)

بِالسَّيْفِ، أُولَئِكَ اَلمُخْلَصُونَ حَقًّا، وَشِيعَتُنَا صِدْقاً، وَاَلدُّعَاةُ إِلَى دِينِ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) سِرًّا وَجَهْراً»(83).
«إِنَّ أَهْلَ زَمَانِ غَيْبَتِهِ» يصحُّ عليهم بشرطين:
أوَّلاً: القول بإمامته.
ثانياً: الانتظار لظهوره.
القول بإمامته هو الاعتقاد الصحيح الموافق للتعاليم الإلهيَّة، وكما في الزيارة: «اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ سَلَامَ مَنْ عَرَفَكَ بِمَا عَرَّفَكَ بِهِ اَللهُ، وَنَعَتَكَ بِبَعْضِ نُعُوتِكَ اَلَّتِي أَنْتَ أَهْلُهَا وَفَوْقَهَا»(84).
والانتظار لظهوره هو العمل المطابق للتعاليم الإلهيَّة، ومن ضمن الأعمال التي على عاتق المنتظرين هو التمهيد والدعاء له، وفي الحديث إشارات ودقائق ذكرناها في كتاب (الرسائل).
الحجَّة الباقريَّة:
عن أُمِّ هاني، قالت: سألت أبا جعفر محمّد بن عليٍّ (عليه السلام) عن قول الله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ﴾ [التكوير: 15 و16]، قالت: فقال: «إِمَامٌ يَخْنِسُ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ يَظْهَرُ كَالشِّهَابِ يَتَوَقَّدُ فِي اللَّيْلَةِ اَلظَّلْمَاءِ، فَإِنْ أَدْرَكْتِ زَمَانَه قَرَّتْ عَيْنُكِ»(85).
الشاهد في الحديث: «فَإِنْ أَدْرَكْتِ زَمَانَه قَرَّتْ عَيْنُكِ»، وإنْ كان الحديث ملئ في المعارف والأسرار، ولكن نحن نكتفي في الإشارة للحجَّة في عظمة الدعاء لمولانا الحجَّة (عجَّل الله فرجه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(83) كمال الدِّين (ص 320/ باب 31/ ح 2).
(84) المزار لابن المشهدي (ص 587).
(85) الكافي (ج 1/ ص 341/ باب في الغيبة/ ح 22).

(٧٢)

يقول الإمام (عليه السلام): «قَرَّتْ عَيْنُكِ»، ونحن نعلم أنَّ اللغة وضعت هذه اللفظة للسرور والراحة، ولهذا حينما يقال: قرير العين، أي سُرَّ بما رأى في حياته، أو مات قرير العين: مات مرتاح البال مطمئنًّا.
وهي صفة مشبَّهة تدلُّ على الثبوت من قَرَّ.
ففي الحديث الوارد في (الكافي) لشيخنا الكليني (رحمه الله):
عن عمرو بن الأشعث أنَّه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «يُسْئَلُ الرَّجُلُ فِي قَبْرِه، فَإِذَا أَثْبَتَ فُسِحَ لَه فِي قَبْرِه سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، وَفُتِحَ لَه بَابٌ إِلَى اَلْجَنَّةِ، وَقِيلَ لَه: نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ، قَرِيرَ الْعَيْنِ»(86).
وعلى هذا فإنَّ قرَّة العين مطلوبة في حدِّ ذاتها، وإدراك زمان الحجَّة (عجَّل الله فرجه) يتأتَّى من خلال أُمور، ومنها دعاء الفرج، وهو مطلوبنا.
الحجَّة الصادقيَّة:
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «لَوْ أَدْرَكْتُهُ لَخَدَمْتُهُ أَيَّامَ حَيَاتِي»(87).
وقد تقدَّم في الحجَّة الباقريَّة أنَّ أحد وسائل الإدراك دعاء الفرج.
وعن سدير الصيرفي، قال: دخلت أنا والمفضَّل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب، على مولانا أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فرأيناه جالساً على التراب، وعليه مسح خيبري مطوَّق بلا جيب، مقصَّر الكُمَّين، وهو يبكي بكاء الواله الثكلى، ذات الكبد الحرَّى، قد نال الحزن من وجنتيه، وشاع التغيُّر في عارضيه، وأبلى الدموع محجريه، وهو يقول: «سَيِّدِي غَيْبَتُكَ نَفَتْ رُقَادِي، وَضَيَّقَتْ عَلَيَّ مِهَادِي، وَاِبْتَزَّتْ مِنِّي رَاحَةَ فُؤَادِي، سَيِّدِي غَيْبَتُكَ أَوْصَلَتْ مُصَابِي بِفَجَائِعِ اَلْأَبَدِ، وَفَقْدُ اَلْوَاحِدِ بَعْدَ اَلْوَاحِدِ يُفْنِي اَلْجَمْعَ وَاَلْعَدَدَ، فَمَا أُحِسُّ بِدَمْعَةٍ تَرْقَى مِنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(86) الكافي (ج 3/ ص 238/ باب المسألة في القبر ومن يُسئَل ومن لا يُسئَل/ ح 9).
(87) الغيبة للنعماني (ص 252/ باب 13/ ح 46).

(٧٣)

عَيْنِي، وَأَنِينٍ يَفْتُرُ مِنْ صَدْرِي عَنْ دَوَارِجِ اَلرَّزَايَا وَسَوَالِفِ اَلْبَلَايَا إِلَّا مُثِّلَ بِعَيْنِي عَنْ غَوَابِرِ أَعْظَمِهَا وَأَفْضَعِهَا، وَبَوَاقِي أَشَدِّهَا وَأَنْكَرِهَا، وَنَوَائِبَ مَخْلُوطَةٍ بِغَضَبِكَ، وَنَوَازِلَ مَعْجُونَةٍ بِسَخَطِكَ».
قال سدير: فاستطارت عقولنا ولهاً، وتصدَّعت قلوبنا جزعاً من ذلك الخطب الهائل والحادث الغائل، وظننَّا أنَّه سمت لمكروهة قارعة، أو حلَّت به من الدهر بائقة، فقلنا: لا أبكى الله يا بن خير الورى عينيك، من أيَّة حادثة تستنزف دمعتك، وتستمطر عبرتك؟ وأيَّة حالة حتَّمت عليك هذا المأتم؟
قال: فزفر الصادق (عليه السلام) زفرة انتفخ منها جوفه، واشتدَّ منها خوفه، وقال: «وَيْلَكُمْ نَظَرْتُ فِي كِتَابِ اَلْجَفْرِ صَبِيحَةَ هَذَا اَلْيَوْمِ، وَهُوَ اَلْكِتَابُ اَلمُشْتَمِلُ عَلَى عِلْمِ اَلمَنَايَا وَاَلْبَلَايَا وَاَلرَّزَايَا وَعِلْمِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ اَلَّذِي خَصَّ اَللهُ بِهِ مُحَمَّداً وَاَلْأَئِمَّةَ مِنْ بَعْدِهِ (عليهم السلام)، وَتَأَمَّلْتُ مِنْهُ مَوْلِدَ قَائِمِنَا وَغِيبَتَهُ وَإِبْطَاءَهُ وَطُولَ عُمُرِهِ وَبَلْوَى اَلمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ اَلزَّمَانِ وَتَوَلُّدَ اَلشُّكُوكِ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ طُولِ غَيْبَتِهِ وَاِرْتِدَادَ أَكْثَرِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ وَخَلْعَهُمْ رِبْقَةَ اَلْإِسْلَامِ مِنْ أَعْنَاقِهِمُ...»(88).
أقول: هذا حال إمامنا الصادق (عليه السلام) مع غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه)، فكيف ينبغي حالنا ونحن أهل زمان غيبته؟
أقول: أقلُّ الواجب هو التمسُّك بدعاء الفرج له.
الحجَّة الكاظميَّة:
عن أبي أحمد محمّد بن زياد الأزدي، قال: سألت سيِّدي موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(88) كمال الدِّين (ص 352 - 354/ باب 33/ ح 50).

(٧٤)

[لقمان: 20]، فقال: «اَلنِّعْمَةُ اَلظَّاهِرَةُ اَلْإِمَامُ اَلظَّاهِرُ، وَاَلْبَاطِنَةُ اَلْإِمَامُ اَلْغَائِبُ»، فقلت له: ويكون في الأئمَّة من يغيب؟ قال: «نَعَمْ يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِ اَلنَّاسِ شَخْصُهُ، وَلَا يَغِيبُ عَنْ قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ ذِكْرُهُ، وَهُوَ اَلثَّانِي عَشَرَ مِنَّا، يُسَهِّلُ اَللهُ لَهُ كُلَّ عَسِيرٍ، وَيُذَلِّلُ لَهُ كُلَّ صَعْبٍ، وَيُظْهِرُ لَهُ كُنُوزَ اَلْأَرْضِ، وَيُقَرِّبُ لَهُ كُلَّ بَعِيدٍ، وَيُبِيرُ بِهِ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَيُهْلِكُ عَلَى يَدِهِ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ، ذَلِكَ اِبْنُ سَيِّدَةِ اَلْإِمَاءِ اَلَّذِي تَخْفَى عَلَى اَلنَّاسِ وِلَادَتُهُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ تَسْمِيَتُهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَيَمْلَأَ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(89).
أقول: أنت ترى الكلمات النورانيَّة التي صدرت من معدن الطهارة والقدس، كلُّ كلمة لها وزن الدنيا وما فوقها من المعرفة، ونحن هنا فقط على مستوى الإشارة والتنصيص على أهمّيَّة دعاء الفرج.
أوَّلاً: الإمام صرَّح بأنَّ الإمام نعمة، وعليها آيات وروايات، هذه الحقيقة، وكما يُعلَم (وجوب الشكر على النعمة) وجوباً شرعيًّا وعقليًّا كما هو مقرَّر في محلِّه، وبهذا فإنَّ دعاء الفرج من أقسام الشكر، وهو المطلوب.
ثانياً: قال الإمام (عليه السلام): «يَغِيبُ عَنْ أَبْصَارِ اَلنَّاسِ شَخْصُهُ، وَلَا يَغِيبُ عَنْ قُلُوبِ اَلمُؤْمِنِينَ ذِكْرُهُ»، والذكر القلبي يستتبعه ذكر لساني، ومن أهمّ الأذكار هو دعاء الفرج.
الحجَّة الرضويَّة:
عن الحسن بن محبوب، عن أبي الحسن عليِّ بن موسى الرضا (عليهما السلام)، قال: قال لي: «لَا بُدَّ مِنْ فِتْنَةٍ صَمَّاءَ صَيْلَمٍ يَسْقُطُ فِيهَا كُلُّ بِطَانَةٍ وَوَلِيجَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ فِقْدَانِ اَلشِّيعَةِ اَلثَّالِثَ مِنْ وُلْدِي، يَبْكِي عَلَيْهِ أَهْلُ اَلسَّمَاءِ وَأَهْلُ اَلْأَرْضِ وَكُلُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(89) كمال الدِّين (ص 368 و369/ باب 34/ ح 6).

(٧٥)

حَرَّى وَحَرَّانَ وَكُلُّ حَزِينٍ وَلَهْفَانَ»، ثمّ قال (عليه السلام): «بِأَبِي وَأُمِّي سَمِيُّ جَدِّي (صَلَوَاتُ اَللهِ عَلَيْهِ)، وَشَبِيهِي وَشَبِيهُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ (عليه السلام)، عَلَيْهِ جُيُوبُ اَلنُّورِ، يَتَوَقَّدُ مِنْ شُعَاعِ ضِيَاءِ اَلْقُدْسِ، يَحْزَنُ لِمَوْتِهِ أَهْلُ اَلْأَرْضِ وَاَلسَّمَاءِ، كَمْ مِنْ حَرَّى مُؤْمِنَةٍ، وَكَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ مُتَأَسِّفٍ حَرَّانَ حَزِينٍ عِنْدَ فِقْدَانِ اَلمَاءِ اَلمَعِينِ، كَأَنِّي بِهِمْ آيِسٌ مَا كَانُوا قَدْ نُودُوا نِدَاءً يَسْمَعُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُ مَنْ قَرُبَ، يَكُونُ رَحْمَةً عَلَى اَلمُؤْمِنِينَ، وَعَذَاباً عَلَى اَلْكَافِرِينَ»(90).
(الفتنة الصمَّاء هي التي لا سبيل إلى تسكينها، لتناهيها في دهائها، لأنَّ الأصمّ لا يسمع الاستغاثة، ولا يقلع عمَّا يفعله، وقيل: هي كالحيَّة الصمَّاء التي لا تقبل الرقى، انتهى.
أقول: لا يبعد أنْ يكون مأخوذاً من قولهم: صخرة صمَّاء، أي الصلبة المصمتة، كناية عن نهاية اشتباه الأمر فيها حتَّى لا يمكن النفوذ فيها والنظر في باطنها وتحيُّر أكثر الخلق فيها، أو عن صلابتها وثباتها واستمرارها.
والصيلم الداهية والأمر الشديد.
ووقعة صيلمة أي مستأصلة.
وبطانة الرجل صاحب سرِّه الذي يشاوره في أحواله.
ووليجة الرجل دخلاؤه وخاصَّته، أي يزلُّ فيها خواصُّ الشيعة.
والمراد بالثالث الحسن العسكري، والظاهر رجوع الضمير في (عليه) إليه، ويحتمل رجوعه إلى إمام الزمان المعلوم بقرينة المقام، وعلى التقديرين المراد بقوله: «سَمِيُّ جَدِّي» القائم (عليه السلام).
قوله (عليه السلام): «عَلَيْهِ جُيُوبُ اَلنُّورِ» لعلَّ المعنى أنَّ جيوب الأشخاص النورانيَّة من كُمَّل المؤمنين والملائكة المقرَّبين وأرواح المرسَلين تشتعل للحزن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(90) كمال الدِّين (ص 370 و371/ باب 35/ ح 3).

(٧٦)

على غيبته وحيرة الناس فيه، وإنَّما ذلك لنور إيمانهم الساطع من شموس عوالم القدس. ويحتمل أنْ يكون المراد بجيوب النور الجيوب المنسوبة إلى النور والتي يسطع منها أنوار فيضه وفضله تعالى.
والحاصل أنَّ عليه (صلوات الله عليه) أثواب قدسيَّة وخلع ربَّانيَّة تتَّقد من جيوبها أنوار فضله وهدايته تعالى.
ويُؤيِّده ما مرَّ في رواية محمّد بن الحنفيَّة عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «جَلَابِيبُ اَلنُّورِ».
ويحتمل أنْ يكون (على) تعليليَّة، أي ببركة هدايته وفيضه (عليه السلام) يسطع من جيوب القابلين أنوار القدس من العلوم والمعارف الربَّانيَّة)(91).
أقول: حديث مولانا عليِّ بن موسى (صلوات الله عليه) فيه معارف وتعاليم وغيبيَّات، ويُعتَبر ملحمة من الملاحم، ونحن مقصودنا منه فقط إثبات أهمّيَّة دعاء الفرج.
وأنت ترى الإمام (صلوات الله عليه) يذكر الغيبة والفتنة والبكاء، وكلُّ هذا يقتضي الاهتمام بالدعاء في ذلك الزمن، وأهمّ الأدعية هو دعاء الفرج الذي به تنتهي الغيبة والفتنة والبكاء.
الحجَّة الجواديَّة:
عن عبد العظيم الحسني، قال: دخلت على سيِّدي محمّد بن عليٍّ (عليهما السلام) وأنا أُريد أنْ أسأله عن القائم أهو المهدي أو غيره؟ فابتدأني فقال لي: «يَا أَبَا اَلْقَاسِمِ، إِنَّ اَلْقَائِمَ مِنَّا هُوَ اَلمَهْدِيُّ اَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُنْتَظَرَ فِي غَيْبَتِهِ، وَيُطَاعَ فِي ظُهُورِهِ، وَهُوَ اَلثَّالِثُ مِنْ وُلْدِي، وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بِالنُّبُوَّةِ، وَخَصَّنَا بِالْإِمَامَةِ، إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فِيهِ فَيَمْلَأَ اَلْأَرْضَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(91) بحار الأنوار (ج 51/ ص 153 و154).

(٧٧)

قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً، وَإِنَّ اَللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيُصْلِحُ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ كَمَا أَصْلَحَ أَمْرَ كَلِيمِهِ مُوسَى (عليه السلام)، إِذْ ذَهَبَ لِيَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَاراً فَرَجَعَ وَهُوَ رَسُولٌ نَبِيٌّ»، ثمّ قال (عليه السلام): «أَفْضَلُ أَعْمَالِ شِيعَتِنَا اِنْتِظَارُ اَلْفَرَجِ»(92).
والذي نريد أنْ نأخذه شاهداً على الذي نحن فيه هو: «اَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُنْتَظَرَ فِي غَيْبَتِهِ، وَيُطَاعَ فِي ظُهُورِهِ»، والإمام (عليه السلام) يوجب الانتظار، ومن مسؤوليَّات الانتظار المعرفة والعمل والتمهيد، ومنها الدعاء بالفرج له.
الحجَّة النقويَّة:
عن مولانا الهادي (صلوات الله عليه) ويُعلِّم النخعي في زيارة الجامعة الكبيرة: «عَارِفٌ بِحَقِّكُمْ، مُقِرٌّ بِفَضْلِكُمْ، مُحْتَمِلٌ لِعِلْمِكُمْ، مُحْتَجِبٌ بِذِمَّتِكُمْ، مُعْتَرِفٌ بِكُمْ، مُؤْمِنٌ بِإِيابِكُمْ، مُصَدِّقٌ بِرَجْعَتِكُمْ، مُنْتَظِرٌ لِأَمْرِكُمْ، مُرْتَقِبٌ لِدَوْلَتِكُمْ»(93).
ما معنى الإمام (عليه السلام) يُلقِّن الزائر بهذه المتون بهذه العبائر؟
هل يريد الإمام (عليه السلام) فقط أنْ تجري على ألسنتنا هذه الكلمات، أم هذه الكلمات عقائد لا بدَّ أنْ يعتقد بها الزائر وكلُّ معتقد بإمامة أهل البيت (عليهم السلام)؟
تعالَ إلى بعض ما في هذه العبائر:
«عَارِفٌ بِحَقِّكُمْ»، عرفان حقِّهم يستلزم العمل بحقوقهم، ومنها الدعاء بالفرج لهم.
«مُقِرٌّ بِفَضْلِكُمْ»، الإقرار بالفضل يستدعي الشكر والامتنان، ومن الشكر القولي الدعاء بالفرج.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(92) كمال الدِّين (ص 377/ باب 36/ ح 1).
(93) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 614/ ح 3213).

(٧٨)

«مُحْتَمِلٌ لِعِلْمِكُمْ»، الاحتمال لعلم أهل البيت (عليهم السلام) العمل بمقتضاه.
«مُحْتَجِبٌ بِذِمَّتِكُمْ، مُعْتَرِفٌ بِكُمْ، مُؤْمِنٌ بِإِيابِكُمْ، مُصَدِّقٌ بِرَجْعَتِكُمْ، مُنْتَظِرٌ لِأَمْرِكُمْ، مُرْتَقِبٌ لِدَوْلَتِكُمْ»، وأنت ترى كلَّ الكلمات تذكر وتشير وتُصرِّح بالعمل، ومنها الدعاء بالفرج لإمام الزمان.
الحُجَج العسكريَّة:
عن أحمد بن إسحاق بن سعد، قال: سمعت أبا محمّد الحسن بن عليٍّ العسكري (عليهما السلام) يقول: «اَلْحَمْدُ للهِ اَلَّذِي لَمْ يُخْرِجْنِي مِنَ اَلدُّنْيَا حَتَّى أَرَانِي اَلْخَلَفَ مِنْ بَعْدِي، أَشْبَهَ اَلنَّاسِ بِرَسُولِ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خَلْقاً وَخُلْقاً، وَيَحْفَظُهُ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي غَيْبَتِهِ، ثُمَّ يُظْهِرُهُ فَيَمْلَأُ اَلْأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(94).
قد ذكرنا الحديث في كتاب (الرسائل)، وبيَّنَّا بعض مفاصل الحديث المهمَّة، ونحن هنا فقط نشير إلى ما يكون حجَّة علينا في أهمّيَّة دعاء الفرج.
الإمام العسكري (عليه السلام) بمقامه الشامخ يحمد الله (عزَّ وجلَّ) على رؤية إمام الزمان، وهذا تشخيص ودعوة لنا أنْ نطلب رؤية إمام الزمان (عجَّل الله فرجه)، ورؤيته (عجَّل الله فرجه) من أحد أسبابها دعاء الفرج، سواء في الغيبة الكبرى أو لظهوره.
الحُجَج المهدويَّة:
عن إسحاق بن يعقوب أنَّه ورد عليه من الناحية المقدَّسة على يد محمّد بن عثمان: «... وَأَمَّا عِلَّةُ مَا وَقَعَ مِنَ اَلْغَيْبَةِ فَإِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ آبَائِي (عليهم السلام) إِلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِطَاغِيَةِ زَمَانِهِ، وَإِنِّي أَخْرُجُ حِينَ أَخْرُجُ وَلَا بَيْعَةَ لِأَحَدٍ مِنَ اَلطَّوَاغِيتِ فِي عُنُقِي. وَأَمَّا وَجْهُ اَلاِنْتِفَاعِ بِي فِي غَيْبَتِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(94) كمال الدِّين (ص 408 و409/ باب 38/ ح 7).

(٧٩)

فَكَالاِنْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ إِذَا غَيَّبَتْهَا عَنِ اَلْأَبْصَارِ اَلسَّحَابُ، وَإِنِّي لَأَمَانٌ لِأَهْلِ اَلْأَرْضِ كَمَا أَنَّ اَلنُّجُومَ أَمَانٌ لِأَهْلِ اَلسَّمَاءِ، فَأَغْلِقُوا بَابَ اَلسُّؤَالِ عَمَّا لَا يَعْنِيكُمْ، وَلَا تَتَكَلَّفُوا عِلْمَ مَا قَدْ كُفِيتُمْ، وَأَكْثِرُوا اَلدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ اَلْفَرَجِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فَرَجُكُمْ، وَاَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا إِسْحَاقَ بْنَ يَعْقُوبَ وَعَلى مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدَى»(95).
وهنا الإمام (عجَّل الله فرجه) يذكر أنَّ فرجنا ورؤيته وظهوره والخير كلَّه في دعاء الفرج.
حجَّة من مضى ومن بقي:
حجَّة ممَّن مضى:
عن مسعدة، قال: كنت عند الصادق (عليه السلام) إذ أتاه شيخ كبير قد انحنى متَّكئاً على عصاه، فسلَّم، فردَّ أبو عبد الله (عليه السلام) الجواب، ثمّ قال: يا ابن رسول الله، ناولني يدك أُقبِّلها، فأعطاه يده، فقبَّلها، ثمّ بكى، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَا يُبكِيكَ يَا شَيْخُ؟»، قال: جُعلت فداك، أقمت على قائمكم منذ مائة سنة أقول: هذا الشهر، وهذه السنة، وقد كبرت سنِّي ودُقَّ عظمي واقترب أجلي، ولا أرى ما أُحِبُّ، أراكم معتلِّين مشرَّدين، وأرى عدوَّكم يطيرون بالأجنحة، فكيف لا أبكي؟ فدمعت عينا أبي عبد الله (عليه السلام)، ثمّ قال: «يَا شَيْخُ، إِنْ أَبْقَاكَ اَللهُ حَتَّى تَرَى قَائِمَنَا كُنْتَ مَعَنَا فِي اَلسَّنَامِ اَلْأَعْلَى، وَإِنْ حَلَّتْ بِكَ اَلمَنِيَّةُ جِئْتَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ مَعَ ثَقَلِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَنَحْنُ ثَقَلُهُ، فَقَالَ (عليه السلام): إِنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ فَتَمَسَّكُوا بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اَللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي»، فقال الشيخ: لا أُبالي بعد ما سمعت هذا الخبر، قال: «يَا شَيْخُ، إِنَّ قَائِمَنَا يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ اَلْحَسَنِ، وَاَلْحَسَنُ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ عَلِيٍّ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(95) كمال الدِّين (ص 483 - 485/ باب 45/ ح 4).

(٨٠)

وَعَلِيٌّ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدٌ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ عَلِيٍّ، وَعَلِيٌّ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِ اِبْنِي هَذَا - وأشار إلى موسى (عليه السلام) -، وَهَذَا خَرَجَ مِنْ صُلْبِي، نَحْنُ اِثْنَا عَشَرَ كُلُّنَا مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ»، فقال الشيخ: يا سيِّدي، بعضكم أفضل من بعض؟ قال: «لَا نَحْنُ فِي اَلْفَضْلِ سَوَاءٌ، وَلَكِنْ بَعْضُنَا أَعْلَمُ مِنْ بَعْضٍ»، ثمّ قال: «يَا شَيْخُ، وَاَللهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ اَلدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اَللهُ ذَلِكَ اَلْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ قَائِمُنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ، أَلَا وَإِنَّ شِيعَتَنَا يَقَعُونَ فِي فِتْنَةٍ وَحَيْرَةٍ فِي غَيْبَتِهِ، هُنَاكَ يُثْبِتُ عَلَى هُدَاهُ اَلمُخْلَصِينَ، اَللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ»(96).
وللشيخ المجلسي (رحمه الله): (بيان: لا يخفى أنَّ هذا الخبر مخالف لما دلَّت عليه الأخبار الكثيرة من كونهم في العلم والطاعة سواء، ولأمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) فضلهم، ولا يبعد أنْ يكون اشتُبِهَ على الرواي فعكس، ويمكن توجيهه بأنْ يكون المراد أعلميَّة بعضهم من بعض في بعض الأحوال، أي قبل إمامة الآخر واستكمال علمه، ولا يبعد أنْ يكون مبنيًّا على البداء، فإنَّ الحكم البدائي يصل إلى إمام الزمان ولم يكن وصل إلى من قبله، وإنْ ورد في الخبر أنَّه يعرض على أرواح من تقدَّمه من الأئمَّة، لئلَّا يكون بعضهم أعلم من بعض، لكن يصدق عليه أنَّه أعلم ممَّن كان قبله في حياته، والله تعالى يعلم وحُجَجه (عليهم السلام) حقائق أحوالهم)(97).
وفي (بصائر الدرجات) بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «خَرَجَ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِالنَّاسِ يُرِيدُ صِفِّينَ حَتَّى عَبَرَ اَلْفُرَاتَ، فَكَانَ قَرِيباً مِنَ اَلْجَبَلِ بِصِفِّينَ إِذْ حَضَرَتْ صَلَاةُ اَلمَغْرِبِ، فَأَمْعَنَ بَعِيداً، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَأَذَّنَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ اَلْأَذَانِ اِنْفَلَقَ اَلْجَبَلُ عَنْ هَامَةٍ بَيْضَاءَ بِلِحْيَةٍ بَيْضَاءَ وَوَجْهٍ أَبْيَضَ، فَقَالَ: «اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اَللهِ وَبَرَكَاتُهُ، مَرْحَباً بِوَصِيِّ خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ، وَقَائِدِ اَلْغُرِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(96) كفاية الأثر (ص 264 - 266).
(97) بحار الأنوار (ج 36/ ص 409).

(٨١)

اَلمُحَجَّلِينَ، وَاَلْأَعَزِّ اَلمَأْثُورِ، وَاَلْفَاضِلِ وَاَلْفَائِقِ بِثَوَابِ اَلصِّدِّيقِينَ، وَسَيِّدِ اَلْوَصِيِّينَ، قَالَ لَهُ: وَعَلَيْكَ اَلسَّلَامُ يَا أَخِي شَمْعُونَ بْنَ حَمُّونَ وَصِيَّ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ رُوحِ اَلْقُدُسِ، كَيْفَ حَالُكَ؟ قَالَ: بِخَيْرٍ يَرْحَمُكَ اَللهُ، أَنَا مُنْتَظِرٌ رُوحَ اَللهِ يَنْزِلُ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَداً أَعْظَمَ فِي اَللهِ بَلَاءً، وَلَا أَحْسَنَ غَداً ثَوَاباً، وَلَا أَرْفَعَ مَكَاناً مِنْكَ، اِصْبِرْ يَا أَخِي عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ حَتَّى تَلْقَى اَلْحَبِيبَ غَداً»(98).
أقول: وجه الاستشهاد بهذا الحديث أنَّه يدلُّ على كون شمعون منتظراً لهذا الظهور المبارك الميمون، والتشبُّه بأولياء الله والاقتداء بهم أمر محبوب عند الله (عزَّ وجلَّ)، مضافاً إلى سائر ما ورد في فضيلة الانتظار.
وفي معجزات أمير المؤمنين (عليه السلام) ما رواه أهل السِّيَر واشتهر به الخبر في العامَّة والخاصَّة حتَّى نظمه الشعراء وخطب به البلغاء ورواه الفهماء والعلماء من حديث الراهب بأرض كربلاء والصخرة، وشهرته تُغني عن تكلُّف إيراد الإسناد له، وذلك أنَّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) لـمَّا توجَّه إلى صفِّين، لحق أصحابه عطش شديد، ونفد ما كان معهم من الماء، فأخذوا يميناً وشمالاً يلتمسون الماء، فلم يجدوا له أثراً، فعدل بهم أمير المؤمنين عن الجادَّة، وسار قليلاً، فلاح لهم دير في وسط البرّيَّة، فسار بهم نحوه، حتَّى إذا صار في فنائه أمر من نادى ساكنه بالإطلاع إليهم، فنادوه، فأطلع، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): «هَلْ قُرْبَ قَائِمِكَ هَذَا مَاءٌ يَتَغَوَّثُ بِهِ هَؤُلَاءِ اَلْقَوْمُ؟».
فقال: هيهاتَ، بيني وبين الماء أكثر من فرسخين، وما بالقرب منِّي شيء من الماء، ولولا أنَّني أُوتى بماء يكفيني كلَّ شهر على التقتير لتلفت عطشاً.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَسَمِعْتُمْ مَا قَالَ اَلرَّاهِبُ؟».
قالوا: نعم، أفتأمرنا بالمسير إلى حيث أومأ إليه لعلَّنا نُدرك الماء وبنا قوَّة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(98) بصائر الدرجات (ص 300 و301/ ج 6/ باب 5/ ح 16).

(٨٢)

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى ذَلِكَ»، ولوى عنق بغلته نحو القبلة، وأشار لهم إلى مكان يقرب من الدير، فقال: «اِكْشِفُوا اَلْأَرْضَ فِي هَذَا اَلمَكَانِ»، فعدل جماعة منهم إلى الموضع فكشفوه بالمساحي، فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع.
فقالوا: يا أمير المؤمنين، هنا صخرة لا تعمل فيها المساحي.
فقال لهم: «إِنَّ هَذِهِ اَلصَّخْرَةَ عَلَى اَلمَاءِ فَإِنْ زَالَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا وَجَدْتُمُ اَلمَاءَ، فَاجْتَهِدُوا فِي قَلْبِهَا».
فاجتمع القوم وراموا تحريكها، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، واستصعبت عليهم.
فلمَّا رآهم (عليه السلام) قد اجتمعوا وبذلوا الجهد في قلع الصخرة، فاستصعبت عليهم، لوى (عليه السلام) رجله عن سرجه حتَّى صار على الأرض، ثمّ حسر عن ذراعيه ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحرَّكها، ثمّ قلعها بيده ودحا بها أذرعاً كثيرة، فلمَّا زالت عن مكانها ظهر لهم بياض الماء، فتبادروا إليه، فشربوا منه، فكان أعذب ماء شربوا منه في سفرهم وأبرده وأصفاه، فقال لهم: «تَزَوَّدُوا وَارْتَوُوا»، ففعلوا ذلك.
ثمّ جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها حيث كانت، وأمر أنْ يُعفى أثرها بالتراب، والراهب ينظر من فوق ديره، فلمَّا استوفى علم ما جرى نادى: يا معشر الناس أنزلوني أنزلوني، فاحتالوا في إنزاله، فوقف بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال له: يا هذا، أنت نبيٌّ مرسَل؟ قال: «لَا»، قال: فمَلَك مقرَّب؟ قال: «لَا»، قال: فمن أنت؟ قال: «أَنَا وَصِيُّ رَسُولِ اَللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اَللهِ خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ».
قال: ابسط يدك أُسلم لله تبارك وتعالى على يدك، فبسط أمير المؤمنين (عليه السلام)

(٨٣)

يده وقال له: «اِشْهَدِ اَلشَّهَادَتَيْنِ»، فقال: أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمّداً رسول الله، وأشهد أنَّك وصيُّ رسول الله وأحقّ الناس بالأمر من بعده.
فأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) عليه شرائط الإسلام، ثمّ قال له: «مَا اَلَّذِي دَعَاكَ اَلْآنَ إِلَى اَلْإِسْلَامِ بَعْدَ طُولِ مُقَامِكَ فِي هَذَا اَلدَّيْرِ عَلَى اَلْخِلَافِ؟».
فقال: أُخبرك - يا أمير المؤمنين -، إنَّ هذا الدير بُني على طلب قالع هذه الصخرة ومُخرج الماء من تحتها، وقد مضى عالم قبلي لم يُدركوا ذلك، وقد رزقنيه الله (عزَّ وجلَّ)، وإنَّا نجد في كتاب من كُتُبنا وناثر عن علمائنا، أنَّ في هذا الصقع عيناً عليها صخرة لا يعرف مكانها إلَّا نبيٌّ أو وصيُّ نبيٍّ، وإنَّه لا بدَّ من وليٍّ لله يدعو إلى الحقِّ، آيته معرفة مكان هذه الصخرة وقدرته على قلعها، وإنِّي لـمَّا رأيتك قد فعلت ذلك تحقَّقت ما كنَّا ننتظره وبلغت الأُمنية منه، فأنا اليوم مسلم على يدك ومؤمن بحقِّك ومولاك.
فلمَّا سمع ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) بكى حتَّى اخضلَّت لحيته من الدموع، ثمّ قال: «اَلْحَمْدُ للهِ اَلَّذِي لَمْ أَكُنْ عِنْدَهُ مَنْسِيًّا، اَلْحَمْدُ للهِ اَلَّذِي كُنْتُ فِي كُتُبِهِ مَذْكُوراً»، ثمّ دعا الناس فقال لهم: «اِسْمَعُوا مَا يَقُولُ أَخُوكُمْ هَذَا اَلمُسْلِمُ»، فسمعوا مقالته، وكثر حمدهم لله وشكرهم على النعمة التي أنعم الله بها عليهم في معرفتهم بحقِّ أمير المؤمنين (عليه السلام).
ثمّ سار (عليه السلام) والراهب بين يديه في جملة أصحابه حتَّى لقي أهل الشام، فكان الراهب من جملة من استُشهِدَ معه، فتولَّى (عليه السلام) الصلاة عليه ودفنه وأكثر من الاستغفار له، وكان إذا ذكره يقول: «ذَاكَ مَوْلَايَ»(99).
حجَّة من بقي:
عن المفضَّل بن عمر، قال: ذكرنا القائم (عليه السلام) ومن مات من أصحابنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(99) الإرشاد (ج 1/ ص 334 - 337).

(٨٤)

ينتظره، فقال لنا أبو عبد الله (عليه السلام): «إِذَا قَامَ أُتِيَ اَلمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ صَاحِبُكَ، فَإِنْ تَشَأْ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ فَالْحَقْ، وَإِنْ تَشَأْ أَنْ تُقِيمَ فِي كَرَامَةِ رَبِّكَ فَأَقِمْ»(100).
وروى الشيخ (رحمه الله) في (مصباح المتهجِّد) عن أبي حمزة الثمالي في زيارة العبَّاس (عليه السلام): «أَشْهَدُ أَنَّكَ قُتِلْتَ مَظْلُوماً، وَأَنَّ اَللهَ مُنْجِزٌ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ، جِئْتُكَ زَائِراً عَارِفاً يَا اِبْنَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ وَقَلْبِي مُسْلِمٌ لَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ تَابِعٌ، وَنُصْرَتِي لَكُمْ مُعَدَّةٌ، حَتَّى يَحْكُمَ اَللهُ وَهُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ»(101).
وكذلك في زيارة مسلم بن عقيل (عليه السلام) التي رواها المشهدي (رحمه الله) في (المزار الكبير)(102)، ورواها السيِّد ابن طاوس (رحمه الله) في (مصباح الزائر)(103).
وفي زيارة لأمير المؤمنين (عليه السلام) رواها المشهدي (رحمه الله) في (المزار الكبير)، وقد تضمَّنت: «أَنِّي مُقِرٌّ بِكُمْ، مُعْتَصِمٌ بِحَبْلِكُمْ، مُتَوَقِّعٌ لِدَوْلَتِكُمْ، مُنْتَظِرٌ لِرَجْعَتِكُمْ»(104).
وفي زيارة أُخرى رواها المشهدي (رحمه الله) وهي الزيارة الرجبيَّة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في رجب، بل لكلِّ المعصومين (عليهم السلام) في ذلك الشهر، وفيها: «حَتَّى الْعَوْدِ إِلَى حَضْرَتِكُمْ، وَالْفَوْزِ فِي كَرَّتِكُمْ، وَالْحَشْرِ فِي زُمْرَتِكُمْ»(105).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(100) الغيبة للطوسي (ص 458 و459/ ح 470).
(101) مصباح المتهجِّد (ص 725).
(102) المزار لابن المشهدي (ص 178).
(103) مصباح الزائر (ص 100).
(104) المزار لابن المشهدي (ص 250).
(105) المزار لابن المشهدي (ص 205).

(٨٥)

الفصل الثالث: أُصول وفروع الدِّين من المنتظرين (106)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(106) استفدت العنوان من كتاب (استعدُّوا أنصار الإمام صاحب الزمان) للشيخ حسين گنجي، حيث يقول في المقدّمة: (كلُّ أُصول الدِّين في حالة انتظار مجيء الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)، المنتظِر - بكسر الظاء - هو المعتقِد بإله المنتظَر، لذلك يطلب مجيء الإمام صاحب الزمان (صلوات الله عليه)، وكذلك هو معتقِد بالرسالة والإمامة، وهو الآن في حالة انتظار الموعود. وكذلك الوعد الإلهي - بالظهور - في حالة انتظار، وهو معتقِد أيضاً، وإلَّا ليس له معنى أنْ يكون منتظِراً - بكسر الظاء -. إذاً كلُّ أُصول الدِّين والمعارف الإلهية في حالة انتظار!

(٨٧)

1 - التوحيد من المنتظرين:
التوحيد في المعارف الإلهيَّة يُطلَق على مجموعة من المسائل على معرفة الله والصفات والأسماء، ويُفرَد باب في الكُتُب التدريسيَّة التعليميَّة يُسمَّى بالعدل الإلهي لأهمّيَّته أو تشعُّب مسائله أو تبعاً للتقسيم المتَّبع مع المدارس الأُخرى، وإلَّا في الحقيقة هو صفة كباقي الصفات الإلهيَّة، وهذه المسائل لها تفصيلات مطوَّلة، ونحن لسنا بصدد الكشف عنه، وإنَّما نحن بصدد إيجاد الروابط والعلاقة بين التوحيد والإمام الحجَّة المهدي (عجَّل الله فرجه).
معرفة الله سبحانه وتعالى:
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «خَرَجَ اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَللهَ (جَلَّ ذِكْرُهُ) مَا خَلَقَ اَلْعِبَادَ إِلَّا لِيَعْرِفُوهُ، فَإِذَا عَرَفُوهُ عَبَدُوهُ، فَإِذَا عَبَدُوهُ اِسْتَغْنَوْا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ سِوَاهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَمَا مَعْرِفَةُ اَللهِ؟ قَالَ: مَعْرِفَةُ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ إِمَامَهُمُ اَلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ»(107).
قال الصدوق (رحمه الله): (يعني ذلك أنْ يعلم أهل كلِّ زمان أنَّ الله هو الذي لا يُخليهم في كلِّ زمان عن إمام معصوم، فمن عند ربًّا لم يقم لهم الحجَّة فإنَّما عبد غير الله (عزَّ وجلَّ))(108).
قال المجلسي (رحمه الله): (بيان: يحتمل أنْ يكون المراد أنَّ معرفة الله تعالى إنَّما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(107) علل الشرائع (ج 1/ ص 9/ باب 9/ ح 1).
(108) علل الشرائع (ج 1/ ص 9/ باب 9/ ذيل الحديث 1).

(٨٩)

ينفع مع سائر العقائد التي منها معرفة الإمام، أو أنَّ معرفة الله إنَّما يحصل من معرفة الإمام، إذ هو السبيل إلى معرفته تعالى)(109).
قال الكراجكي (رحمه الله): (اعلم أنَّه لـمَّا كانت معرفة الله وطاعته لا ينفعان من لا يعرف الإمام، ومعرفة الإمام وطاعته لا ينفعان إلَّا بعد معرفة الله، صحَّ أنْ يقال: إنَّ معرفته هي معرفة الإمام وطاعته، ولـمَّا كانت أيضاً المعارف الدِّينيَّة العقليَّة والسمعيَّة تحصل من جهة الإمام، وكان الإمام آمراً بذلك وداعياً إليه، صحَّ القول: إنَّ معرفة الإمام وطاعته هي معرفة الله سبحانه، كما نقول في المعرفة بالرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وطاعته: إنَّها معرفة بالله سبحانه، قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]، وما تضمَّنه قول الحسين (عليه السلام) من تقدُّم المعرفة على العبادة غاية في البيان والتنبيه)(110).
قال السيِّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني (رحمه الله): (يلاحَظ هنا أنَّ الإمام (عليه السلام) اعتبر معرفة الله هي معرفة الإمام ذاتها، لأنَّ الطريق الوحيد لمعرفة الله هو معرفة الإمام، إذ تتحقَّق التربية والتعليم وأخذ أحكام الدِّين بواسطة الإمام، هذا أوَّلاً.
وثانياً: أنَّ الإمام هو الاسم الأعظم لله، ومعرفته بالنورانيَّة هي معرفة الله نفسها، لذلك فإنَّ معرفة الإمام لا تستقلُّ عن معرفة الله ولا تقبل الانفصال عنها.
وفي هذا الضوء جاءت الرواية عن (قرب الإسناد) للحميري، عن ابن عيسى، عن البزنطي، عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنَّه قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «مَنْ سَرَّهُ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اَللهِ حِجَابٌ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى اَللهِ وَيَنْظُرَ اَللهُ إلَيْهِ فَلْيَتَوَالَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(109) بحار الأنوار (ج 5/ ص 312).
(110) كنز الفوائد (ص 151 و152).

(٩٠)

آلَ مُحَمَّدٍ وَيَتَبَّرأ مِن أَعْدَائِهِمْ وَيَأتَمَّ بِالْإمَامِ مِنْهُمْ، فَإنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ نَظَرَ اَللهُ إِلَيْهِ وَنَظَرَ إِلَى اَللهِ»(111))(112).
قال ميرزا محمّد التقي الممقاني (رحمه الله): (تحقيق لطيف في أنَّ معرفة الإمام هي معرفة الله:
يقول محمّد تقي الشريف مصنِّف هذا الكتاب: لا وحشة في عبارة هذا الحديث، فإنَّ ذات الله لا تُعرَف ولا يُحاط بها، وإنَّما يُعرَف الله تعالى بآياته التي ظهر بها للخلق، ولا آية لله تعالى أعظم من وجود الإمام، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّ آيَةٍ للهِ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَيُّ نَبَإٍ أَعْظَمُ مِنِّي»(113)، فمن عرف الإمام فقد عرف الله، لأنَّه عرفه بما ظهر به في الإمكان ظهوراً وصفيًّا لا ظهوراً ذاتياً كما زعمه بعض القاصرين المنتحلين للمعرفة، فافهم)(114).
ويقو ل الشيخ فاضل الصفَّار: (وعمدتها [الطُّرُق] ثلاثة، هي:
الآيات الكونيَّة، ويُعبَّر عنها بالكتاب التكويني.
والقرآن الكريم، ويُعبَّر عنه بالكتاب التدويني.
والإمام المعصوم، وهو أقرب هذه الطُّرُق وأكملها، لأنَّه جمع كمال الكتابين معاً ذاته، وكشف عن حقيقتها وسنَّ مناهجهما بقوله وفعله)(115).
وللشيخ حسين گنجي (دامت بركاته) مقالة جميلة أنقلها بتمامها:
(قال الله الحكيم في كتابه الكريم: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الروم: 4 و5].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(111) قرب الإسناد (ص 351/ ح 1260).
(112) معرفة الإمام (ج 3/ ص 26).
(113) الكافي (ج 1/ ص 207/ باب أنَّ الآيات التي ذكرها الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه هم الأئمَّة (عليهم السلام)/ ح 3) بتفاوت يسير.
(114) صحيفة الأبرار (ج 1/ ص 305 و306).
(115) كتاب الحقائق واللطائف (ج 2/ ص 397).

(٩١)

وفي الزيارة الجامعة الكبيرة: «آتَاكُمُ اَللهُ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعَالَمِينَ»(116).
هنا نريد أنْ نرى ما هي الرابطة بين الولاية والتوحيد، والإسلام والإيمان.
الولاية والتوحيد:
عندما نراجع الأحاديث والروايات، نرى أنَّه لا يوجد بين التوحيد والولاية فرق وانفصال، وفي الحقيقة إنَّ الولاية هي ظهور التوحيد، وهي مُعرِّف التوحيد، ويمكن أنْ نستنتج أنَّ كلَّ شخص لم ينضوِ تحت لواء الولاية ليس لديه توحيد (لا إله إلَّا الله)، ولا يمكننا أنْ نقول له: أنت عبد لله وموحِّد.
لدينا روايتان، كلُّ واحدة من هاتين الروايتين تُسمَّى (سلسلة الذهب)، بمعنى أنَّ راوو هذه الرواية هم الأئمَّة المعصومون (عليهم السلام) وملائكة الله، وهاتان الروايتان من خصائصهما أنَّه إذا كتب شخص سندهما بزعفران وأذابهما في الماء وشربهما المريض يتعافى بإذن الله(117).
قيلت إحدى هاتين في نيشابور، عن الإمام عليٍّ الرضا (عليه السلام): «كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللهُ حِصْنِي، فَمَنْ قَالَهَا دَخَلَ حِصْنِي، وَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي».
يقول الله المنَّان: كلمة (لا إله إلَّا الله) قلعة محكمة، كلُّ شخص يقول: لا إله إلَّا الله، يدخل القلعة ويأمن من العذاب!
تواصل الرواية: «بِشُرُوطِهَا، وَأَنَا مِنْ شُرُوطِهَا»(118).
كلمة (لا إله إلَّا الله) لها أربعة عشر شرطاً باسم أربعة عشر معصوماً (عليهم السلام)، وأحدها هو الاعتقاد بولايتي وإمامتي أنا الإمام عليّ الرضا (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(116) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 615/ ح 3213).
(117) ينقل المؤلِّف عن صحيفة الأبرار (ج 2/ ص 84).
(118) راجع: أمالي الصدوق (ص 305 و306/ ح 349/8)، كشف الغمَّة (ج 3/ ص 102).

(٩٢)

تقول الرواية الثانية: «وِلَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي»(119).
ولاية عليٍّ (عليه السلام) كذكر (لا إله إلَّا الله) قلعة محكمة، وأيُّ شخص يدخلها يكون محفوظاً من العذاب.
السؤال هنا: هل لله قلعتان: قلعة باسم التوحيد، وقلعة باسم الولاية؟
نجيب: لا، لأنَّ تجلِّي التوحيد في الولاية، يتحدَّث الله من خلال الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام)، إذاً أيُّ شخص لم يعتقد بولاية أهل البيت (عليهم السلام) لم يعتقد بتوحيد وفردانيَّة الله.
جاء أحد الأشخاص وطلب من الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شيئاً، أجابه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنْ شَاءَ اَللهُ وَ- إِنْ شَاءَ - عَلِيُّ بْن أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)»(120).
بمعنى مشيئة وإرادة الله ومشيئة وإرادة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) واحدة، ولا بدَّ من أنْ تشاء الولاية ويريد مقام المُظهريَّة ليتحقَّق الأمر.
هنا أُشير إلى مثالين:
المثال الأوَّل: نقرأ في حديث الكساء أنَّ جبرائيل (عليه السلام) طلب الإذن للدخول إلى الكساء، وأجازه الله المنَّان، عندما نزل جبرائيل (عليه السلام) إلى الأرض، ونقل ما جرى في السماء للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): هل تأذن لي بالدخول في الكساء؟ إذا كان الله أَذِنَ له بالدخول لماذا الإذن الثاني؟ لأنَّه لا بدَّ من أخذ الإذن من مظهر الولاية والرسالة، وإذن أهل البيت (عليهم السلام) مرتبط بإذن الله!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(119) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 2/ ص 146).
(120) ينقل المؤلِّف عن القطرة من بحار مناقب النبيِّ والعترة (عليهم السلام) (ج 1/ ص 193)، إنَّ كلمة (إنْ شاء) الثانية هي معنى الحديث فقط ليست من الحديث.

(٩٣)

المثال الثاني: نقرأ في أواخر الزيارة الجامعة: «يَا وَلِيَّ اَللهِ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) ذُنُوباً لَا يَأْتِي عَلَيْهَا إِلَّا رِضَاكُمْ»(121)، لا تُمحى الذنوب ولا تذهب الذنوب إلَّا برضا أهل البيت (عليهم السلام)، أعطى الله في الحقيقة هذا الشرط لأهل البيت (عليهم السلام).
تقول الزيارة الجامعة في مقطع آخر هكذا: «مَنْ أَرادَ اَللهَ بَدَأَ بِكُمْ، وَمَنْ وَحَّدَهُ قَبِلَ عَنْكُمْ، وَمَنْ قَصَدَهُ تَوَجَّهَ بِكُمْ»(122)، بمعنى أنَّ أيَّ شخص يريد أنْ تكون لديه إرادة الله، ويريد أنْ يعرف الله، يبدأ ويتحرَّك بكم أهل البيت، أنا لا أعلم كيف أدخل مدينة الله؟ لا بدَّ من أنْ أقول: يا أمير المؤمنين، يا فاطمة الزهراء، أيُّها الأئمَّة المعصومون، يا صاحب الزمان، أُريد الدخول إلى مدينة الله ولا أعلم من أين! أعرف فقط أنَّ لديكم معرفة بهذه المدينة، وأنتم باب هذه المدينة. هل يمكن أنْ تأخذوا بيدي، وتُدخِلوني في هذه المدينة؟ كلُّ شخص يُوحِّد الله، أي يعرف الله واحداً أحداً فرداً صمداً، لا بدَّ من أنْ تكون لدى هذا الشخص علامات، إحدى هذه العلامات أنَّه «قَبِلَ عَنْكُمْ»، يعرفكم ويقبل ما تقولونه، ويقبل صفاتكم وفضائلكم وكلماتكم، وفي النتيجة لا يذهب خلف ووراء الغرب والشرق الذين لا يعرفون ما هي حقيقة الإنسان. أيُّ شخص لديه قصد القرب إلى الله، ولديه قصد رؤية الله، لا بدَّ من أنْ يتوجَّه وينظر إليكم! هل مَنْ يُصلِّي، ويصوم، ويطوف بالبيت، قَصَدَ الله؟ يقال: لا، لأنَّ المخالفين والمعاندين يُصَلُّون أكثر منَّا بكثير، ويصومون، ويطوفون حول بيت الله! العلامة هي أنْ تذهب إلى جهة الأربعة عشر معصوماً (عليهم السلام). كلُّ شخص لديه قَصْد أنْ يرى الله، أنْ ينظر في مرآة مظهر الله، أي أنْ يذهب إلى الأئمَّة (عليهم السلام) ويرى صفات الله، عظمة الله، قدرة الله، رحمة الله و... في أهل البيت (عليهم السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(121) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 616/ ح 3213).
(122) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 615/ ح 3213).

(٩٤)

نقرأ في الزيارة السابعة في (تحفة الزائر) للعلَّامة المجلسي (قدّس سرّه)، في الخطاب إلى الإمام عليٍّ (عليه السلام): «اَلسَّلَامُ عَلَى نَفْسِ اَللهِ تَعَالَى اَلْقَائِمَةِ فِيهِ بِالسُّنَنِ»(123).
ما معنى السلام على نفس الله؟ بمعنى السلام على كلِّ صفات الله، السلام على كلِّ كمالات الله، السلام على كلِّ أفعال الله الموجودة في الخارج التي هي في وجود أمير المؤمنين (عليه السلام).
وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) يقول: «بِنَا عُبِدَ اَللهُ، وَبِنَا عُرِفَ اَللهُ، وَبِنَا وُحِّدَ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى»(124).
هذه الجملة لها معنيان:
المعنى الأوَّل: أي لو أنَّ الله لم يخلقنا، لم يستطع أحد أنْ يعبد الله كما نعبد، ويعرف الله، ويصبح في فصل التوحيد! نحن عرفنا الله، وتوحيد الله بواسطتنا، وإلَّا لأصبح الناس في العبادة والمعرفة والتوحيد ضائعين في أودية الشرك الدقيقة، ولعبدوا غير الله!
المعنى الثاني: لو لم نكن نحن الأئمَّة المعصومون (عليهم السلام) لم يعرف الناس طريق العبوديَّة والمعرفة وتوحيد الله المنَّان، وهكذا قالوا: «مِنَ الْبِرِّ التَّوْحِيدُ»(125).
أُخِذَ التوحيد منَّا سواء كانوا أنبياء (عليهم السلام) أم غير أنبياء، لأنَّنا نحن: «أَرْكَاناً لِتَوْحِيدِهِ»(126).
يقول الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) في دعاء رجب: «فَبِهِمْ مَلَأَتْ سَمَاءَكَ وَأَرْضَكَ حَتَّى ظَهَرَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»(127).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(123) راجع: بحار الأنوار (ج 97/ ص 331/ ح 29).
(124) الكافي (ج 1/ ص 145/ باب النوادر/ ح 10).
(125) الكافي (ج 8/ ص 242/ ح 336).
(126) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 611/ ح 3213 الزيارة الجامعة الكبيرة).
(127) مصباح المتهجِّد (ص 804).

(٩٥)

أي يا إلهي! مُلِئَتْ السماء والأرض بصفات وأسماء وكمالات الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام) حتَّى ظهر وبرز (لا إله إلَّا الله)، بالتوحيد والشهادة بالوحدانيَّة.
يقول الله المنَّان في الحديث القدسي: «كُنْتُ كَنْزاً مَخْفِيًّا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ، فَخَلَقْتُ اَلْخَلْقَ لِكَي أُعْرَفَ»(128).
أي إنَّ الله كان مخفيًّا، ولم يكن أحد يعرف وحدانيَّة الله، ماذا حصل حتَّى عرفوا الله؟ ظهر وبرز توحيد الله المنَّان في وجه وصفات وكمالات وغلبة الأئمَّة المعصومين (عليهم السلام).
يأتي هنا سؤال، وهو: هل طلب منَّا توحيد الذات أو توحيد الصفات؟ نعلم أنَّه لا يوجد طريق لأحدٍ إلى ذات الله كما قالوا لنا: «لَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَاتِ اَللهِ»(129).
إذاً، نحن مكلَّفون بالتوحيد في الصفات والأسماء، وهم الأئمَّة المعصومون (عليهم السلام)، أي إنَّ التوحيد القابل لإدراك وفهم الناس هو التوحيد الذي يظهر ويبرز بوجود الأئمَّة (عليهم السلام). كلُّ شخص ليس لديه هذه الولاية، فإنَّه ليس لديه التوحيد الذي طلبه الله منَّا، ونستطيع أنْ نقول له: أنت لست موحِّداً، ولا تُصدِّق بالله! الأشخاص الذين يُطبِّلون بالتوحيد من دون أهل البيت (عليهم السلام) ليس لديهم التوحيد الواقعي، لأنَّ التوحيد الواقعي هو الذي عرفه أهل البيت (عليهم السلام) فقط.
الولاية والإسلام:
طبق الأحاديث المتواترة أنَّ الولاية ليست فقط ركن من أركان الإسلام، بل هي أعلى ركن في الإسلام، كمثال الآية التي نزلت على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد قضيَّة الغدير وتُعرِّف الولاية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(128) بحار الأنوار (ج 84/ ص 199)، مشارق أنوار اليقين (ص 39) بتفاوت يسير.
(129) تقسيم الخواطر (ص 367).

(٩٦)

وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3]، لم يقل في هذه الآية: مذهبكم، بمعنى أنَّ الولاية هي مكمِّلة للدِّين، لماذا؟ لأنَّه من دون الولاية نعمة الله ناقصة، يقول في آخر الآية: الآن أصبحت راضياً أنْ يكون الدِّين الإسلامي دينكم.
إذاً، تريد هذه الجملة أنْ تقول: إنَّ الولاية جزء الإسلام وركن الإسلام، وهي من أركان الإسلام الأصيلة أيضاً، ليست من أُصول المذهب، لذا يقول: «بُنِيَ اَلْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: [عَلَى] اَلصَّلَاةِ، وَاَلزَّكَاةِ، وَاَلصَّوْمِ، وَاَلْحَجِّ، وَالْوَلَايَةِ، وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ»(130).
إنَّ الولاية التي هي في جنب الصلاة والصوم هي المحبَّة والإطاعة، لكن الولاية القلبيَّة والإمامة في جنب التوحيد والنبوَّة.
الولاية والإيمان:
في نهاية الآية التي نزلت في يوم الغدير على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يقول الله فيها: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 67].
هل كان الأشخاص الذين تجمَّعوا في يوم الغدير غير مسلمين؟ بحسب الظاهر كان الكلُّ مسلماً، وقد أدَّوا أعمال الحجِّ، لأنَّ الكافر لا يذهب إلى مكَّة! ولا يقبل قضيَّة مكَّة! إذاً مَنْ هم هؤلاء؟ هؤلاء هم الأشخاص الذين لا يقبلون الولاية، أي كلُّ شخص لا يقبل الولاية لا نستطيع أنْ نقول عنه: إنَّه مسلم، بل نستطيع أنْ نقول عنه: إنَّه كافر، هكذا جاء في الزيارة الجامعة: «وَمَنْ جَحَدَكُمْ كَافِرٌ، وَمَنْ حَارَبَكُمْ مُشْرِكٌ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيْكُمْ فِي أَسْفَلِ دَرَكٍ مِنَ الجَّحِيمِ»(131)، مَنْ أنكر ولايتكم وإمامتكم كافر.
قال سلمان المحمّدي (رضي الله عنه): سمعت حبيبي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لعليٍّ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(130) الكافي (ج 2/ ص 18/ باب دعائم الإسلام/ ح 1).
(131) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 613/ ح 3213).

(٩٧)

«يَا أَبَا الْحَسَنِ، مَثَلُكَ فِي أُمَّتِي مَثَلُ سُورَةِ اَلتَّوْحِيدِ»، لماذا شبَّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بسورة التوحيد؟ إحدى الجهات هي أنَّ ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) من سنخ المعارف، ولا بدَّ من أنْ تُوضَع في جنب التوحيد والمعارف، وأصل كلامه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد ذلك: «فَمَنْ قَرَأَهَا مَرَّةً فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَهَا مَرَّتَيْنِ فَقَدْ قَرَأَ ثُلُثَيِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثَاً فَقَدْ خَتَمَ الْقُرْآنَ، فَمَنْ أَحَبَّكَ بِلِسَانِهِ فَقَدْ كَمَلَ لَهُ ثُلُثُ الْإِيمَانِ، وَمَنْ أَحَبَّكَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ فَقَدْ كَمَلَ لَهُ ثُلُثَا الْإِيمَانِ، وَمَنْ أَحَبَّكَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ وَنَصَرَكَ بِيَدِهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ»(132).
وكما قال النبيُّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً: «يَا عَلِيُّ، حُبُّكَ إِيِمَانٌ، وَبُغْضُكَ نِفَاقٌ وَكُفْرٌ»(133).
وقال الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد غزوة خيبر: «يَا عَلِيُّ، لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ»(134).
يقول جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) بعد أنْ قال الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَعَاشِرَ اَلْأَنْصَارِ اِعْرِضُوا أَوْلَادَكُمْ عَلَى مَحَبَّةِ عَلِيٍّ [فَإِنْ أَجَابُوا فَهُمْ مِنْكُمْ وَإِنْ أَبَوْا فَلَيْسُوا مِنْكُمْ]»، قال جابر بن عبد الله: فكنَّا نَعْرِضُ حبَّ عليٍّ (عليه السلام) على أولادنا، فمن أحبَّ علياً علمنا أنه من أولادنا، ومن أبغض عليًّا انتفينا منه(135)(136).
الولاية والتقوى:
يُعرِّف الله المؤمنين في سورة البقرة المباركة: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: 4].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(132) أمالي الصدوق (ص 86/ ح 54/5).
(133) معاني الأخبار (ص 206).
(134) بحار الأنوار (ج 39/ ص 286 و287/ ح 79).
(135) انتفينا منه: أي تنصَّلنا منه، أي اعتبرناه ليس ابننا.
(136) علل الشرائع (ج 1/ ص 143/ باب 120/ ح 7).

(٩٨)

السؤال هنا: ما هو هذا الشيء الذي أُنزِل على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ ما هو: ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾؟ تقول في الآية التي أُنزِلت في يوم الغدير: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 67].
اتَّفق الشيعة والسُّنَّة أنَّ هذه الآية نزلت في يوم الغدير، وهي نازلة لكي تُعرِّف (أمير المؤمنين (عليه السلام))(137).
يهدي القرآنُ الأشخاصَ الذين لديهم الإيمان بالولاية وبـ ﴿مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾، لأنَّه يقول: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2].
ولذلك النتيجة التي نتحصَّل عليها أنَّ الذين لا ينضوون تحت لواء الولاية:
1 - ليسوا مؤمنين.
2 - ليسوا قابلين للهداية.
عندما يكونون غير قابلين للهداية فإنَّهم يمضون في وادي الضلالة والضياع!)(138).
أقول: ولعلَّ أوضح بيان لحقيقة التوحيد والعدل والإيمان واليقين وأصل أُصول الدِّين هذا الحديث، وهو يُبيِّن حقيقة المطلب بأجلى صورة، حيث يقول إمامنا الصادق (عليه السلام) للمفضَّل: «ثُمَّ إِنِّي أُخْبِرُكَ أَنَّ اَلدِّينِ وَأَصْلَ اَلدِّينِ هُوَ رَجُلٌ، وَذَلِكَ اَلرَّجُلُ هُوَ اَلْيَقِينُ، وَهُوَ اَلْإِيمَانُ، وَهُوَ إِمَامُ أُمَّتِهِ وَأَهْلِ زَمَانِهِ، فَمَنْ عَرَفَهُ عَرَفَ اَللهَ، وَمَنْ أَنْكَرَهُ أَنْكَرَ اَللهَ وَدِينَهُ، وَمَنْ جَهِلَهُ جَهِلَ اَللهَ وَدِينَهُ وَحُدُودَهُ وَشَرَائِعَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ اَلْإِمَامِ»(139).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(137) ينابيع المودَّة (ج 1/ ص 359/ ح 20).
(138) مجلَّة رسالة القلم/ العدد 36/ مقال الشيخ حسين گنجي تحت عنوان: (الولاية والتوحيد هما الإسلام والإيمان).
(139) بصائر الدرجات (ص 549/ ج 10/ باب 21/ ح 1).

(٩٩)

وبيانه من أوضح الواضحات، وبعد هذا البيان المختصر تبيَّن أنَّ التوحيد بإمامة إمام زماننا، ولا يظهر حقّيَّة التوحيد بأعلى درجاته، وكما في الحديث فقد ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «إِنَّمَا سُمِّيَ اَلمَهْدِيُّ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يُهْدَى لِأَمْرٍ خَفِيٍّ، يُهْدَى لِمَا فِي صُدُورِ اَلنَّاسِ»(140).
وفي رواية ثانية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) دَعَا اَلنَّاسَ إِلَى اَلْإِسْلَامِ جَدِيداً، وَهَدَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ قَدْ دُثِرَ فَضَلَّ عَنْهُ اَلْجُمْهُورُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ اَلْقَائِمُ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ قَدْ ضَلُّوا عَنْهُ، وَسُمِّيَ بِالْقَائِمِ لِقِيَامِهِ بِالْحَقِّ»(141).
أقول: والبحث في التوحيد بمجموع مسائله له أبحاث معمَّقة، وكلُّها تُؤيِّد ما نذهب إليه، ومن هنا نستطيع أنْ نقول: إنَّ التوحيد من المنتظرين.
2 - العدل من المنتظرين:
يُعتَبر العدل من الأُصول الاعتقاديَّة التي يمتاز بها الشيعة الإماميَّة عن غيرهم من المذاهب الأُخرى، فمسألة العدل عندهم قد دخلت كلَّ الأصعدة الحياتيَّة المهمَّة، وهذا يعود إلى وجود العدل في كلِّ أفعال الله تعالى، فهو - أي الله تعالى - قد جعله من أسمائه الحسنى، فعندما يأخذ الشيعة الإماميَّة العدل ويعتبرونه من أُصول الدِّين لم يكن هذا جزافاً، وإنَّما كان على أساس وأصل متين استمدُّوه من القرآن الكريم، هذا الكتاب العظيم الذي بذر فكرة العدل في قلوب وأرواح الناس، ثمّ سقاها ونمَّاها فكريًّا وفلسفيًّا وعمليًّا واجتماعيًّا، إنَّه القرآن الكريم الذي طرح مسألة العدل من حيث مظاهرها المختلفة: العدل التكويني، والعدل التشريعي، والعدل الأخلاقي، والعدل الاجتماعي.
العدل في اللغة: العدل من أسماء الله سبحانه، العدل هو الذي لا يميل به

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(140) دلائل الإمامة (ص 466/ ح 451/55).
(141) الإرشاد (ج 2/ ص 383).

(١٠٠)

الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل مصدر سُمِّي به فوُضِعَ موضع العادل، وهو أبلغ منه، لأنَّه جعل المسمَّى نفسه عدلاً، وفلان من أهل المعدلة: أي من أهل العدل. والعدل: الحكم بالحقِّ، فيقال: هو يقضي بالحقِّ ويعدل وهو حَكَم عادل: ذو معدلة في حكمه.
أمَّا تعريف العدل في الاصطلاح: فلقد وردت فيه عدَّة تعاريف، ولكن الذي يهمُّنا فيما نحن فيه التعريف الذي يقول: (هو رعاية الاستحقاق في إفاضة الوجود، وعدم الامتناع عن الإفاضة والرحمة حيث يتوفَّر إمكان الوجود أو إمكان الكمال).
وكلُّ ما قيل ويقال فإنَّ العدل وظهوره في عالم الخلقة والموجودات في خليفة الله الأعظم الذي هو الأسماء الحسنى والصفات العليا، ومع هذا وذاك فإنَّ العدل من أظهر صفاته وصفة دولته وأسمائه.
ففي الدعاء المروي عنه (عليه السلام) لليالي شهر رمضان: «اَللَّهُمَّ وَصَلِّ عَلَى وَلِيِّ أَمْرِكَ اَلْقَائِمِ اَلمُؤَمَّلِ، وَاَلْعَدْلِ اَلمُنْتَظَرِ»(142).
وفي حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَظْهَرُ بَعْدَ غَيْبَةٍ طَوِيلَةٍ وَحَيْرَةٍ مُضِلَّةٍ، فَيُعْلِنُ أَمْرَ اَللهِ، وَيُظْهِرُ دِينَ اَللهِ (عزَّ وجلَّ)، يُؤَيَّدُ بِنَصْرِ اَللهِ، وَيُنْصَرُ بِمَلَائِكَةِ اَللهِ، فَيَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً»(143)، «فَهُوَ إِمَامٌ تَقِيٌّ نَقِيٌّ بَارٌّ مَرْضِيٌّ هَادٍ مَهْدِيٌّ أَوَّلُ اَلْعَدْلِ وَآخِرُهُ...»(144).
وفي حديث إمامنا الصادق (عليه السلام): «أَمَا وَاَللهِ لَيَدْخُلَنَّ عَلَيْهِمْ عَدْلُهُ جَوْفَ بُيُوتِهِمْ كَمَا يَدْخُلُ اَلْحَرُّ وَاَلْقُرُّ»(145).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(142) مصباح المتهجِّد (ص 580).
(143) كمال الدِّين (ص 257 و258/ باب 24/ ح 2).
(144) كمال الدِّين (ص 267/ باب 24/ ح 11).
(145) الغيبة للنعماني (ص 307/ باب 17/ ح 1).

(١٠١)

وفي الاستغاثة بزيارة (سلام الله الكامل): «سَلَامُ اَللهِ اَلْكَامِلُ اَلتَّامُّ اَلشَّامِلُ اَلْعَامُّ، وَصَلَوَاتُهُ وَبَرَكَاتُهُ اَلْقَائِمَة اَلتَّامَة، عَلَى حُجَّةِ اَللهِ وَوَلِيِّهِ فِي أَرْضِهِ وَبِلَادِهِ، وَخَلِيفَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ، وَسُلَالَةِ اَلنُّبُوَّةِ، وَبَقِيَّةِ اَلْعِتْرَةِ وَاَلصَّفْوَةِ، صَاحِبِ اَلزَّمَانِ، وَمَظْهَرِ اَلْإِيمَانِ، وَمُعْلِنِ أَحْكَامِ اَلْقُرْآنِ، مُطَهِّرِ اَلْأَرْضِ، وَنَاشِرِ اَلْعَدْلِ فِي اَلطُّولِ وَاَلْعَرْضِ»(146).
وهنا أنقل لك قول السيِّد مرتضى المجتهدي السيستاني في تعليقته على خطبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
(فيقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خطبة له: «... وتُنزَع حُمَة كلِّ دابَّة حتَّى يُدخِل الوليد يده في فم الحَنَش فلا يضرُّه، وتلقى الوليدة الأسد فلا يضرُّها، ويكون في الإبل كأنَّه كلبها، ويكون الذئب في الغنم كأنَّه كلبها، وتملأ الأرض من الإسلام، ويُسلَب الكُفَّار ملكهم، ولا يكون الملك إلَّا لله وللإسلام، وتكون الأرض كفاثور الفضَّة تنبت نباتها كما كانت على عهد آدم، يجتمع النفر على القِثَّاء فتُشبِعهم، ويجتمع النفر على الرُّمَّانة فتُشبِعهم، ويكون الفرس بدُرَيْهمات»(147).
اُنظروا إلى النَّقاط المهمَّة الموجودة في هذه الرواية، والتي بيَّنت التغيُّرات الحاصلة في عصر المشرق للظهور، منها:
1 - سلب حالة الافتراس من الحيوانات المفترسة.
2 - ستصبح في ذلك الوقت الحيوانات المفترسة والوحشيَّة من أمثال الأسد والذئب أهليَّة، فتمشي بين الإبل والغنم.
3 - مصادرة الثروة والأموال العائدة لجميع الكُفَّار الذين يصرُّون على البقاء على كفرهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(146) المزار لابن المشهدي (ص 671).
(147) الملاحم والفتن لابن طاوس (ص 173 و174/ ح 234) بتفاوت يسير.

(١٠٢)

4 - وجود حكومة إلهيَّة واحدة، وحاكميَّة الدِّين الإسلامي فقط.
5 - ستزداد البركة الإلهيَّة في ذلك العصر بحيث تصبح الفاكهة والخضار أضعافاً مضاعفة، والحبَّة الواحدة منها مثل حبَّة الرُّمَّان والخيار تُشبِع عدداً من الأشخاص.
6 - تُباع جميع السلع والأشياء بثمن بخس وزهيد، فمثلاً يُباع ويُشرى الحصان بدراهم معدودات.
وبناءً على ما ورد في هذا الحديث الشريف، فإنَّه من النتائج المترتِّبة على عصر الظهور والتي بشَّر بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناس أجمعين في الحكومة العالميَّة للإسلام، هي نزول البركات السماويَّة العجيبة، والتطوُّر الاقتصادي والتوسعة الزراعيَّة، وترويض الحيوانات المفترسة واللَّاسعة و...
ومن الأحداث والنِّعَم التي تقع في عصر الظهور، هي ترويض الحيوانات الوحشيَّة وبقاء الجميع في أمان منها، وهذا التحوُّل والتغيُّر الحاصل جاء نتيجة قدرة الولاية المطلقة للإمام بقيَّة الله الأعظم أرواحنا لمقدمه الفداء، وتصرُّف الإمام العظيم في ذلك الزمان وتأثيره على جميع الموجودات.
هذه النِّعَم لا تترك أثرها الواضح على الحيوانات، بل ستجلب معها بركات السماوات والأرض، وكذلك فإنَّ أيَّ تغيُّر وتحوُّل وتطوُّر في الأصعدة والمجالات فهو ناتج من ظهور القدرة والولاية للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه))(148).
ومن هذا كلِّه قلنا: إنَّ العدل من المنتظرين.
3 - النبوَّة من المنتظرين:
«يَا مَعْشَرَ اَلْخَلَائِقِ، أَلَا وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى آدَمَ وَشَيْث فَهَا أَنَا ذَا آدَم وَشَيْث، أَلَا وَمَنْ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى نُوحٍ وَوَلَدِه سَام فَها أَنَا ذَا نُوحٍ وَسَامٍ، أَلَا وَمَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(148) دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) (ص 33).

(١٠٣)

أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فَها أَنَا ذَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَلَا وَمَنْ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مُوسَى وَيُوشَع فَهَا أَنَا ذَا مُوسَى وَيُوشَع، أَلَا وَمَنْ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عِيسَى وَشَمْعُون فَهَا أَنَا ذَا عِيسَى وَشَمْعُون...»(149).
وضع الله تعالى كلَّ الأنبياء (عليهم السلام) في (مقام الانتظار)، وأعلن أنَّه سبحانه وتعالى معهم! ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ (يونس: 20). وكيف أعلنت كلُّ الكُتُب السماويَّة عن هذه البشارة، وزيَّن الله تعالى بها الكُتُب السماويَّة بأنْ قال: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105).
لأنَّه بمجيء الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) يتحقَّق هدف الخلقة، وهو العبوديَّة.
والولاية لها تجلٍّ كامل، وفرج كلِّ الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) معلَّق على فرج الإمام صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)!
أقول: وقد كان ولا زال هدف الأنبياء (عليهم السلام) تحقيق العدل الإلهي في الأرض، ولم تستجب البشريَّة لمشروع السماء، وقد أُنيطت هذه المهمَّة بخاتم الأوصياء (عجَّل الله فرجه)، فهم جميعهم منتظرون لظهوره وتحقُّق العدل.
ومن هنا قلنا: إنَّ النبوَّة من المنتظرين.
4 - القرآن والكُتُب السماويَّة من المنتظرين:
أقول: يُستفاد من مجموعة أحاديث كثيرة أنَّ الكُتُب السماويَّة تُستَخرج في زمن الظهور، وكذلك القرآن تُكشَف أسراره وبياناته، وهذا كلُّه لا يكون إلَّا بزمن ظهوره (عجَّل الله فرجه).
فعن محمّد بن عجلان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ (عليه السلام)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(149) مختصر بصائر الدرجات (ص 184).

(١٠٤)

دَعَا اَلنَّاسَ إِلَى اَلْإِسْلَامِ جَدِيداً، وَهَدَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ قَدْ دُثِرَ فَضَلَّ عَنْهُ اَلْجُمْهُورُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ اَلْقَائِمُ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ قَدْ ضَلُّوا عَنْهُ، وَسُمِّيَ بِالْقَائِمِ لِقِيَامِهِ بِالْحَقِّ»(150).
وعن أبي سعيد الخراساني قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المهدي والقائم واحد؟ فقال: «نَعَمْ»، فقلت: لأيِّ شيء سُمّي المهدي؟ قال: «لِأَنَّهُ يُهْدَي إِلَى كُلِّ أَمْرٍ خَفِيٍّ، وَسُمِّيَ اَلْقَائِمَ لِأَنَّهُ يَقُومُ بَعْدَ مَا يَمُوتُ، إِنَّهُ يَقُومُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ»(151).
وفي رواية أُخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «... وَإِنَّمَا سُمِّيَ اَلْقَائِمُ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ مَضْلُولٍ عَنْهُ»(152).
وروى السيِّد ابن طاوس (رحمه الله) عن نعيم بإسناده عن كعب، قال: (المهدي يبعث بعثاً لقتال الروم، يُعطى فقه عشرة، يستخرج تابوت السكينة من غار أنطاكية، فيها التوراة التي أنزل الله على موسى، والانجيل الذي أنزل الله على عيسى، يحكم بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم)(153).
وعن الإمام أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «إِنَّمَا سُمِّيَ اَلمَهْدِيُّ مَهْدِيًّا لِأنَّهُ يَهْدِي لِأَمْرٍ خَفِيٍّ، يَهْدِي لِمَا فِي صُدُورِ اَلنَّاسِ، يَبْعَثُ إِلَى اَلرَّجُلِ فَيَقْتُلُهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ شيءٍ قَتَلَهُ. وَيَبْعَثُ ثَلَاثَةَ رَاكِبٍ - قَالَ: هِيَ بِلُغَةِ غَطْفَانَ رَكْبَانِ - أَمَّا رَاكِبٌ فَيَأخُذُ مَا فِي أَيْدِي أَهْلِ اَلذِّمَّةِ مِنْ رَقِيقِ اَلمُسْلِمِينَ فَيعْتِقُهُم. وَأَمَّا رَاكِبٌ فَيُظْهِرُ اَلبَرَاءَةَ مِنهُمَا - يَغُوثَ وَيَعُوقَ - فِي أَرْضِ اَلْعَرَبِ. وَرَاكِبٌ يُخْرِجُ اَلتَّوْرَاةَ مِنْ مَغَارَةٍ بِأَنْطَاكِيَةَ، وَيُعْطَى حُكْمَ سُلَيْمَانَ (عليه السلام)»(154).
ومن هنا فإنَّ أسرار القرآن والكُتُب السماويَّة من المنتظرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(150) الإرشاد (ج 2/ ص 383).
(151) الغيبة للطوسي (ص 471/ ح 489).
(152) روضة الواعظين (ص 264 و265).
(153) الملاحم والفتن (ص 142/ ح 166).
(154) دلائل الإمامة (ص 466/ ح 451/55).

(١٠٥)

5 - الإمامة من المنتظرين:
كما يُعلَم أنَّ الإمامة منزلتها عظيمة في دين الإسلام، وهي أصل عظيم في الدِّين، والحديث عنه واسع جدًّا جدًّا، وقد بيَّنَّا مسائل كثيرة عنها في كتابنا (كلمات في حديث من مات)، ونحن هنا بصدد بيان أنَّ الإمامة من المنتظرين، فنقول:
أوَّلاً: أنَّ الأئمَّة (عليهم السلام) جميعهم منتظرون للدولة الإلهيَّة وصاحبها صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)، والشواهد كثيرة.
منها: عن سليمان بن بلال، قال: حدَّثنا جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، عن أبيه، عن جدِّه، عن الحسين بن عليٍّ (عليهم السلام)، قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، نَبِّئْنَا بِمَهْدِيِّكُمْ هَذَا، فَقَالَ: إِذَا دَرَجَ اَلدَّارِجُونَ، وَقَلَّ اَلمُؤْمِنُونَ، وَذَهَبَ اَلمُجْلِبُونَ، فَهُنَاكَ هُنَاكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، مِمَّنِ اَلرَّجُلُ؟ فَقَالَ: مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، مِنْ ذِرْوَةِ طَوْدِ اَلْعَرَبِ، وَبَحْرِ مَغِيضِهَا إِذَا وَرَدَتْ، وَمَخْفِرِ أَهْلِهَا إِذَا أُتِيَتْ، وَمَعْدِنِ صَفْوَتِهَا إِذَا اِكْتَدَرَتْ، لَا يَجْبُنُ إِذَا اَلمَنَايَا هَلَعَتْ، وَلَا يَخُورُ إِذَا اَلمَنُونُ اِكْتَنَعَتْ، وَلَا يَنْكُلُ إِذَا اَلْكُمَاةُ اِصْطَرَعَتْ، مُشَمِّرٌ مُغْلَوْلِبٌ، ظَفِرٌ ضِرْغَامَةٌ، حَصِدٌ مُخْدِشٌ ذِكْرٌ، سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اَللهِ، رَأْسٌ، قُثَمُ، نَشُؤَ رَأْسُهُ فِي بَاذِخِ اَلسُّؤْدَدِ، وَعَارِزٌ مَجْدَهُ فِي أَكْرَمِ اَلمَحْتِدِ، فَلَا يَصْرِفَنَّكَ عَنْ بَيْعَتِهِ صَارِفٌ عَارِضٌ، يَنُوصُ إِلَى اَلْفِتْنَةِ كُلَّ مَنَاصٍ، إِنْ قَالَ فَشَرُّ قَائِلٍ، وَإِنْ سَكَتَ فَذُو دَعَائِرَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى صِفَةِ اَلمَهْدِيِّ (عليه السلام) فَقَالَ: أَوْسَعُكُمْ كَهْفاً، وَأَكْثَرُكُمْ عِلْماً، وَأَوْصَلُكُمْ رَحِماً، اَللَّهُمَّ فَاجْعَلْ بَعْثَهُ خُرُوجاً مِنَ اَلْغُمَّةِ، وَاِجْمَعْ بِهِ شَمْلَ اَلْأُمَّةِ، فَإِنْ خَارَ اَللهُ لَكَ فَاعْزِمْ، وَلَا تَنْثَنِ عَنْهُ إِنْ وُفِّقْتَ لَهُ، وَلَا تَجُوزَنَّ عَنْهُ إِنْ هُدِيتَ إِلَيْهِ، هَاهْ - وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِ -»(155).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(155) الغيبة للنعماني (ص 221 و222/ باب 13/ ح 1).

(١٠٦)

ومنها: في دعاء الندبة المروي عن إمامنا الصادق (عليه السلام): «هَلْ إِلَيْكَ يَا بْنَ أَحْمَدَ سَبِيلٌ فَتُلْقى، هَلْ يَتَّصِلُ يَوْمُنا مِنْكَ بِعِدَةٍ فَنَحْظى، مَتَى نَرِدُ مَناهِلَكَ الرَّوِيَةَ فَنَرْوَى، مَتَى نَنْتَقِعُ مِنْ عَذْبِ مَائِكَ فَقَدْ طَالَ الصَّدَى، مَتَى نُغَادِيكَ وَنُرَاوِحُكَ فَنُقِرُّ عَيْناً، مَتَى تَرَانَا وَنَراكَ وَقَدْ نَشَرْتَ لِوَاءَ النَّصْرِ، تُرَى أَتَرَانَا نَحُفُّ بِكَ وَأَنْتَ تَؤُمُّ المَلَأَ، وَقَدْ مَلَأْتَ اَلْأَرْضَ عَدْلاً»(156).
والشواهد كثيرة، وقد تقدَّم منها في طيِّات هذا الكتاب، وسيأتي منها.
ثانياً: يقول شيخنا المحقِّق السند (دامت بركاته): (إنَّ كلَّ إمام من الأئمَّة الاثني عشر مهدي منتظر موعود في عقيدة مدرسة أهل البيت ويُدعى بتعجيل فرجه وظهوره.
إنَّ مقام المهدويَّة - كما سيتبيَّن - هو مقام لكلِّ إمام من الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام) عندما يقيموا دولة الحقِّ والعدل، وإنَّ موتهم ومكثهم في البرزخ بمثابة غيبة مؤقَّتة لهم تنتهي برجوعهم إلى الدنيا، وهو ظهورهم من بعد غيبة الموت.
وسيأتي في مقال لاحق في هذا الفصل أنَّ المهديِّين الاثني عشر هم الأئمَّة الاثنا عشر، وهو مقام الرجعة لهم بإقامة الدولة المعلنة.
وقد ورد في آداب زيارة كلِّ معصوم الدعاء له بتعجيل فرجه وظهوره، ليُنجز الله له ما وعده من النصر وإقامة دولة العدل على يديه، وأنَّ كلَّ واحد منهم (عليهم السلام) موعود ومنتظر ظهوره.
وقد حصلت غفلة لدى غالب عامَّة المؤمنين عن إتيان هذه الأدعية والآداب في زيارة كلِّ معصوم، وهو ما أوجب الغفلة عن تعاليم العقيدة بالرجعة والمعرفة بكلِّ إمام بحقِّ معرفته، أي الغفلة عن المعرفة المستقبليَّة لكلِّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(156) المزار لابن المشهدي (ص 582).

(١٠٧)

إمام، فإنَّ الدعاء بتعجيل الفرج ليس خاصًّا بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، بل وارد في زيارة كلِّ إمام معصوم، بل وارد في آداب زيارة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً، لأنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً موعود منتظر رجعته في آخر الرجعة، ليقيم أكبر دولة على وجه الأرض، ويكون الأئمَّة الاثنا عشر وزراء له.
ومن تلك الموارد:
فقد روى الشيخ في (مصباح المتهجِّد) عن جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ رَسُولِ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَاَلْأَئِمَّةِ (عليهم السلام) مِنْ بَعِيدٍ فَليَقُلْ...»، وساق الزيارة إلى قوله: «إِنِّي لَمِنَ اَلْقَائِلِينَ بِفَضْلِكُمْ، مُقِرٌّ بِرَجْعَتِكُمْ، لَا أُنْكِرُ للهِ قُدْرَةً، وَلَا أَزْعُمُ إِلَّا مَا شَاءَ اَللهُ»(157).
وروى ابن قولويه في (كامل الزيارات) في المعتبر، عن عروة بن إسحاق بن أخي شعيب العقرقوفي، عمَّن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إِذَا أَتَيْتَ قَبْرَ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) وَيُجْزِيكَ عِنْدَ قَبْرِ كُلِّ إِمَامٍ (عليه السلام)...»، وساق أدب الزيارة والدعاء فيها إلى قوله (عليه السلام): «اَللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ اَلْعَهْدِ مِنْ زِيَارَةِ قَبْرِ اِبْنِ نَبِيِّكَ، وَاِبْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً، تَنْتَصِرُ بِهِ لِدِينِكَ، وَتَقْتُلُ بِهِ عَدُوَّكَ، فَإِنَّكَ وَعَدْتَهُ ذَلِكَ، وَأَنْتَ اَلرَّبُّ اَلَّذِي لَا تُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ. وَكَذَلِكَ تَقُولُ عِنْدَ قُبُورِ كُلِّ اَلْأَئِمَّةِ (عليهم السلام)»(158).
وهذه الرواية والزيارة صريحة في أنَّ من المقام المحمود لكلِّ إمام أنْ ينتصر الله به لدينه في الدنيا، ويقتل به أعداء الله، وأنَّ كلَّ إمام موعود من الله بذلك، وقد مرَّت الآيات القرآنيَّة التي فيها هذا الوعد لكلِّ إمام.
وروى السيِّد ابن طاوس في (إقبال الأعمال) في أعمال شهر ذي الحجَّة أنَّه يُستَحبُّ أنْ يُدعى في يوم دحو الأرض بهذا الدعاء، وساقه إلى قوله: «وَابْعَثْنَا فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(157) راجع: مصباح المتهجِّد (ص 289).
(158) كامل الزيارات (ص 523 - 526/ ح 804/2).

(١٠٨)

كَرَّتِهِ حَتَّى نَكُونَ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَعْوَانِهِ»(159)، وهذا الدعاء في شأن أمير المؤمنين (عليه السلام) نظير الدعاء الوارد في الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه).
وروى السيِّد ابن طاوس في (مصباح الزائر) زيارة طويلة للحسين (عليه السلام)، وفي آخرها هذا الدعاء: «اَللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى سَيِّدِي وَمَوْلَايَ صَلَاةً تَرْفَعُ بِهَا ذِكْرَهُ، وَتُظْهِرُ بِهَا أَمْرَهُ، وَتُعَجِّلُ بِهَا نَصْرَهُ. وَاخْصُصْهُ بِأَفْضَلِ قِسَمِ اَلْفَضَائِلِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ...» الحديث(160).
ومتن هذه الزيارة صريح في الدعاء بتعجيل نصر سيِّد الشهداء (عليه السلام) بظهوره مرَّةً أُخرى برجعة من القبر إلى دار الدنيا، وأنَّ لفظ الدعاء بتعجيل نصره (عليه السلام) نظير الدعاء الوارد بتعجيل فرج المهدي (عليه السلام).
ما رواه ابن قولويه في (كامل الزيارات) من صحيح أبي حمزة الثمالي، عن الصادق (عليه السلام) في زيارة الحسين (عليه السلام): «وَنُصْرَتِي لَكُمْ مُعَدَّةٌ، حَتَّى يَحْكُمَ اَللهُ بِدِيِنِهِ وَيَبْعَثَكُمْ، وَأُشْهِدُ اَللهَ أَنَّكُمْ اَلْحُجَّةَ، وَبِكُمْ تُرْجَى اَلرَّحَمَةُ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لَا مَعَ عَدُوِّكُمْ، إِنِّي بِكُمْ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ، لَا أُنْكِرُ للهِ قُدْرَةً، وَلَا أُكَذِّبُ مِنْهُ بِمَشِيَّةً».
ثمّ قال: «اللَّهُمَّ صلِّ على أمير المؤمنين عبدك وأخي رسولك الذي انتجبته بعلمك، وجعلته هادياً لمن شئت من خلقك، والدليل على من بعثته برسالتك، وديَّان الدِّين بعدلك، وفصل قضائك بين خلقك، والمهيمن على ذلك كلِّه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. اللَّهُمَّ أتمم به كلماتك، وأنجز به وعدك، وأهلك به عدوَّك، واكتبنا في أوليائه وأحبَّائه. اللَّهُمَّ اجعلنا له شيعةً وأنصاراً وأعواناً على طاعتك وطاعة رسولك، وما وكلته به واستخلفته عليه»(161).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(159) إقبال الأعمال (ص 313/ الطبعة القديمة).
(160) مصباح الزائر (ص 248 و249).
(161) كامل الزيارات (ص 403 و404/ ح 639/23).

(١٠٩)

وهذا الدعاء قد ذُكِرَ في الزيارة بضمير الجمع أيضاً بعد الصلاة على كلِّ إمام إمام، ممَّا يفيد أنَّ كلَّ إمام من الأئمَّة الاثني عشر سيُنجز الله لكلِّ واحد منهم دولة الحقِّ وإقامة العدل التي وعد بها وقطع بها على نفسه في العديد من السور القرآنيَّة.
ما رواه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في (المصباح الكبير) في ذكر قنوت الوتر، قال: ويُستَحبُّ أنْ يُزاد هذا الدعاء: «الحمد لله شكراً لنعمائه»، وذكر شكاية طويلة من أحوال الغيبة والدعاء لصاحب الزمان بتعجيل الفرج والخروج، إلى أنْ قال: «اللَّهُمَّ وشرِّف بما استقلَّ به من القيام بأمرك لدى مواقف المسار مقامه، وسُرَّ نبيَّك محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) برؤيته ومن تبعه على دعوته»، ثمّ قال: «ورُدَّ عنه من سهام المكاره ما يُوجِّهه أهل الشنآن إليه وإلى شركائه في أمره، ومعاونيه على طاعة ربِّه ...» الدعاء(162).
والتعبير في الدعاء: «وَسُرَّ نَبِيَّكَ مُحَمَّدٍ بِرُؤْيَتِهِ» دالٌّ على أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا زال يولي الاهتمام والرعاية والتدبير لمجريات وأحداث البشر في دار الدنيا، وأنَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يتابع تفاصيل الأُمور.
كما أنَّ التعبير في الدعاء إلى شركائه في أمره في مقابل معاونيه يظهر منه الإشارة إلى بقيَّة الأئمَّة الاثني عشر، وأنَّهم (صلوات الله عليهم) لا يزالون مساهمين في القيام بأمر الله.
ما رواه الشيخ أيضاً في (المصباح) في أدعية الصباح والمساء في الدعاء الكامل المعروف بدعاء الحريق يقول في آخره: «اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ اَلطَّيِّبِينَ، وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وَفَرَجِي، وَفَرِّجْ عَنْ كُلِّ مَهْمُومٍ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ وَاَلمُؤْمِنَاتِ. اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاُرْزُقْنِي نَصْرَهُمْ، وَأَشْهِدْنِي أَيَّامَهُمْ، وَاِجْمَعْ بَيْنِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(162) راجع: الإيقاظ من الهجعة (ص 290)، عن المصباح الكبير.

(١١٠)

وَبَيْنَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ، وَاِجْعَلْ مِنْكَ عَلَيْهِمْ وَاقِيَةً حَتَّى لَا يَخْلُصَ إِلَيْهِمْ إِلَّا بِسَبِيلِ خَيْرٍ وَعَلَى مَنْ مَعَهُمْ وَعَلَى شِيعَتِهِمْ وَمُحِبِّيهِمْ وَعَلَى أَوْلِيَائِهِمْ...» الدعاء(163).
والتعبير في الدعاء: «وَارْزُقْنِي نَصْرَهُمْ وَأَشْهِدْنِي أَيَّامَهُمْ» دالٌّ على أنَّ لكلِّ واحد من الأئمَّة الاثني عشر دولة وأيَّام نصر كتب الله له، كما أنَّ لهم في الآخرة ملكاً.
وما رواه ابن قولويه أيضاً في (كامل الزيارات) (المزار) في زيارة للحسين بن عليٍّ (عليه السلام) بسنده عن سعدان بن مسلم قائد أبي بصير، قال: حدَّثني بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وذكر الزيارة للحسين (عليه السلام) يقول فيها بعد ذكر النبيِّ والأئمَّة (عليهم السلام): «وَحَبِّبْ إِلَيَّ مَشَاهِدَهُمْ حَتَّى تُلْحِقَنِي بِهِمْ، وَتَجْعَلَهُمْ لِي فَرَطاً، وَتَجْعَلَنِي لَهُمْ تَبَعاً فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ»، قال: ثمّ تقول: «لَبَّيْكَ دَاعِيَ اَللهِ، إِنْ كَانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي فَقَدْ أَجَابَكَ قَلْبِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي وَرَأْيِي وَهَوَايَ، عَلَى اَلتَّسْلِيمِ لِخَلَفِ اَلنَّبِيِّ اَلمُرْسَلِ، وَاَلسِّبْطِ اَلمُنْتَجَبِ، وَاَلدَّلِيلِ اَلْعَالِمِ...، فَقَلْبِي لَكُمْ مُسَلِّمٌ، وَأَمْرِي لَكُمْ مُتَّبِعٌ، وَنُصْرَتِي لَكُمْ مُعَدَّةٌ، حَتَّى يَحْكُمَ اَللهُ وَهُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ لِدِينِهِ وَيَبْعَثُكُمْ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لَا مَعَ عَدُوِّكُمْ، إِنِّي مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ بِرَجْعَتِكُمْ، لَا أُنْكِرُ للهِ قُدْرَةً، وَلَا أُكَذِّبُ لَهُ مَشِيَّةً، وَلَا أَزْعُمُ أَنَّ مَا شَاءَ لَا يَكُونُ...» وذكر الزيارة(164).
وفي الزيارة تنصيص على أنَّ الله يبعث الأئمَّة من القبور رجوعاً إلى الدنيا ويُعلِي أمره بهم ويُحيي بهم دينه.
وما رواه الكليني أيضاً في الباب المذكور بالسند السابق يقول فيه أبو عبد الله (عليه السلام): «إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُوَدِّعَه فَقُلِ: اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اَللهِ وَبَرَكَاتُه، أَسْتَوْدِعُكَ اَلله...»، إلى أنْ قال: «اَللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْه آخِرَ اَلْعَهْدِ مِنَّا وَمِنْه، اَللَّهُمَّ إِنِّي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(163) مصباح المتهجِّد (ص 226 و227).
(164) كامل الزيارات (ص 387 و388/ ح 633/17).

(١١١)

أَسْأَلُكَ أَنْ تَنْفَعَنَا بِحُبِّه، اَللَّهُمَّ ابْعَثْه مَقَاماً مَحْمُوداً تَنْصُرُ بِه دِينَكَ، وَتَقْتُلُ بِه عَدُوَّكَ، وتُبِيرُ بِه مَنْ نَصَبَ حَرْباً لآِلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّكَ وَعَدْتَ ذَلِكَ وأَنْتَ لَا تُخْلِفُ اَلْمِيعَادَ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اَللهِ وَبَرَكَاتُه، أَشْهَدُ أَنَّكُمْ شُهَدَاءُ نُجَبَاءُ، جَاهَدْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللهِ، وقُتِلْتُمْ عَلَى مِنْهَاجِ رَسُولِ اَللهِ صَلَّى اَللهُ عَلَيْه وَآلِه وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً»(165).
وفي هذه الزيارة تنصيص على بعث سيِّد الشهداء بخصوصه من القبر راجعاً إلى الدنيا لينتصر الله به لدينه ويُبير به أعداءه بإقامة دولة العدل الإلهي، وهو أحد درجات المقام المحمود.
ثمّ إنَّ هذا المضمون قد ورد في كثير من زيارات الحسين (عليه السلام)، وكذلك في كثير من زيارات أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكذلك ورد في واحدة من زيارات كلِّ إمام من بقيَّة الأئمَّة أو أكثر من زيارة واحدة لكلٍّ منهم، وهذا ممَّا يُدلِّل على أنَّ من مقوِّمات زيارتهم مع عرفان حقِّهم حال زيارة الزائر العارف بأنَّهم (عليهم السلام) لا زالوا ولاة يلون أمر الله في الناس، وأنَّهم يُنتَظر عودهم إلى الدنيا ببعث الله إيَّاهم من قبورهم، وأنَّ هذه القبور والمراقد الشريفة كما هي موطن غيبتهم فهي موطن ظهورهم وخروجهم مرَّةً أُخرى، وأنَّ الالتزام بزيارة تلك القبور والمراقد عبارة عن انتظار وترقُّب لعودتهم وثبات على ولائهم وطاعتهم والانقياد لهم.
فقد ورد في بعض زيارات أمير المؤمنين (عليه السلام) والتي أوردها المشهدي في (مزاره الكبير) قول الزائر في وسط الزيارة مخاطباً أمير المؤمنين (عليه السلام): «... مُؤْمِنٌ بِرَجْعَتِكَ، مُنْتَظِرٌ لِأَمْرِكَ، مُتَرَقِّبٌ لِدَوْلَتِكَ، آخِذٌ بِقَوْلِكَ، عَامِلٌ بِأَمْرِكَ، مُسْتَجِيرٌ بِكَ، مُفَوِّضٌ أَمْرِي إِلَيْكَ، مُتَوَكِّلٌ فِيهِ عَلَيْكَ، زَائِرٌ لَكَ، لاَئِذٌ بِبَابِكَ اَلَّذِي فِيهِ غِبْتَ وَمِنْهُ تَظْهَرُ، حَتَّى تُمَكِّنَ دِينَهُ اَلَّذِي اِرْتَضَى، وَتُبَدِّلَ بَعْدَ اَلْخَوْفِ أَمْناً، وَتَعْبُدَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(165) الكافي (ج 4/ ص 575/ باب زيارة قبر أبي عبد الله الحسين بن عليٍّ (عليه السلام)/ ح 1).

(١١٢)

اَلمَوْلَى حَقًّا، وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَيَصِيرَ اَلدِّينُ كُلُّهُ للهِ، وَأَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا، وَوُضِعَ اَلْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَاَلشُّهَدَاءِ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَاَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ»(166).
وفي الرواية جملة من الفوائد:
الأُولى: أنَّ مواضع قبورهم ومراقدهم أبواب للآخرة يُتَّجه منها تجاه دار الآخرة، فهي مشاعر أُخرويَّة في بقاع أرضيَّة، كما قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [النور: 36]، وقد روى الفريقان في ذيل الآية أنَّ بيت عليٍّ وفاطمة (عليهما السلام) من أفاضلها.
الثانية: أنَّ مراقدهم وقبورهم أبواب غُيِّبُوا فيها، ومنها سيُبعَثون تارةً أُخرى إلى دار الدنيا في الرجعة، فهي مواطن انتظار لرجعتهم، ومطالع ترقُّب لأوبتهم، ومشارف آمال لكرَّتهم، فمن ثَمَّ كانت ملاذاً ومستجاراً ومعاذاً.
الثالثة: أنَّ مفاد هذه الزيارة أنَّ الحساب ووضع الكتاب والمجيء بالنبيِّين والشهداء للمحاسبة هي في الرجعة في أواخرها، ويتمُّ القضاء بالفصل بالحقِّ.
الرابعة: أنَّ كمال ازدهار عمارة الأرض سيتمُّ بظهور وسيطرة الدِّين على سائر أرجاء الأرض، وهو سيتحقَّق في الرجعة بدءاً من ظهور الصاحب وصعوداً وارتقاءً وانتهاءً في أواخر الرجعة.
ويظهر ممَّا سبق من الروايات أنَّ كلَّ الأئمَّة موعودون بالرجعة، وأنَّ كلًّا منهم منتظر ومهدي يقيم دولة العدل الإلهي، وقد ورد في زيارات الحسين، بل في عدَّة من زيارات الأئمَّة (عليهم السلام) الدعاء: «تَنْتَصِرُ بِهِ لِدِيِنِكَ».
وهو إشارة إلى رجعة الحسين (عليه السلام) ورجعة بقيَّة الأئمَّة (عليهم السلام)، وهذا المفاد في هذا الدعاء شبيه مفاد دعاء: «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ اَلْحُجَّةِ...».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(166) المزار لابن المشهدي (ص 308).

(١١٣)

بل هذا الدعاء الأخير في الأصل ليس مخصوصاً بالإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)، بل عامٌّ لكلِّ الأئمَّة الاثني عشر (عليهم السلام).
وقد ورد في أحد زيارات الحسين (عليه السلام) خطاباً لأنصار الحسين (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ مُنْجِزٌ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ»، بل وكذا في زيارة أبي الفضل العبَّاس (عليه السلام).
ما ذكره الشيخ الطوسي في (مصباح المتهجِّد) في أعمال يوم الجمعة، قال: ويُستَحبُّ زيارة النبيِّ [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] والأئمَّة (عليهم السلام) في يوم الجمعة، وروي عن جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام) أنَّه قال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ قَبْرَ رَسُولِ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَقَبْرَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ وَفَاطِمَةَ وَاَلْحَسَنِ وَاَلْحُسَيْنِ وَقُبُورَ اَلْحُجَجِ (عليهم السلام) وَهُوَ فِي بَلَدِهِ، فَلْيَغْتَسِلْ فِي يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ...»، ثمّ ساق آداب مقدّمة للزيارة، ويُقدِّم صلاة الزيارة، «فَإِذَا تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ فَلْيَقُمْ مُسْتَقْبِلَ اَلْقِبْلَةِ وَلْيَقُلْ: اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اَللهِ وَبَرَكَاتُهُ، اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اَلمُرْسَلُ، وَاَلْوَصِيُّ اَلمُرْتَضَى، وَاَلسَّيِّدَةُ اَلْكُبْرَى، وَاَلسَّيِّدَةُ اَلزَّهْرَاءُ، وَاَلسِّبْطَانِ اَلمُنْتَجَبَانِ، وَاَلْأَوْلَادُ وَاَلْأَعْلَامُ وَاَلْأُمَنَاءُ اَلمُنْتَجَبُونَ [اَلمُسْتَخْزَنُونَ]، جِئْتُ اِنْقِطَاعاً إِلَيْكُمْ وَإِلَى آبَائِكُمْ وَوَلَدِكُمُ اَلْخَلَفِ عَلَى بَرَكَةِ حَقٍّ، فَقَلْبِي لَكُمْ مُسَلِّمٌ، وَنُصْرَتِي لَكُمْ مُعَدَّةٌ، حَتَّى يَحْكُمَ اَللهُ بِدِينِهِ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لَا مَعَ عَدُوِّكُمْ، إِنِّي لَمِنَ اَلْقَائِلِينَ بِفَضْلِكُمْ، مُقِرٌّ بِرَجْعَتِكُمْ، لَا أُنْكِرُ للهِ قُدْرَةً، وَلَا أَزْعُمُ إِلّا مَا شَاءَ اَللهُ، سُبْحَانَ اَللهِ ذِي اَلمُلْكِ وَاَلمَلَكُوتِ...»(167).
وهذه الرواية لهذه الزيارة لهم (عليهم السلام) من بُعد ظاهرة في كون هذا من آداب الزيارة عند كلِّ المعصومين (عليهم السلام)، وأنَّ كلَّ واحد منهم (عليهم السلام) مترقِّب منتظر لرجعته للحكم في الأرض، بأنْ يبعثه الله في الدنيا رجعةً، وهذا شامل للنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وفاطمة (عليها السلام) كما هو للأئمَّة الاثني عشر.
ما رواه ابن قولويه في (كامل الزيارات) في زيارة الحسين (عليه السلام) بطريق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(167) مصباح المتهجِّد (ص 288 و289).

(١١٤)

معتبر عن أبي حمزة الثمالي، عن الصادق (عليه السلام)...، وذكر (عليه السلام) آداب الزيارة والدعاء قبلها، ثمّ ذكر الزيارة، ثمّ قال (عليه السلام): «قل: لبَّيك داعي الله - سبعاً -، وقل: إنْ كان لم يجبك بدني عند استغاثتك، فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري ورأيي وهواي على التسليم لخلف النبيِّ المرسَل، والسبط المنتجب، والدليل العالم، والأمين المستخزن، والمؤدِّي المبلِّغ، والمظلوم المضطهد، جئتك انقطاعاً إليك وإلى جدِّك وأبيك وولدك الخلف من بعدك، فقلبي لكم مسلِّم، ورأيي لكم متَّبع، ونصرتي لكم معدَّة، حتَّى يحكم الله بدينه ويبعثكم، وأُشهد الله أنَّكم الحجَّة، وبكم تُرجى الرحمة، فمعكم معكم لا مع عدوِّكم، إنِّي بكم من المؤمنين، لا أنكر لله قدرة، ولا أكذب منه بمشيَّة».
وقد تضمَّنت الزيارة بعد ذلك التسليم والصلاة على النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثمّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، ثمّ واحد واحد من الأئمَّة (عليهم السلام).
وورد في أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الزيارة: «اللَّهُمَّ أتمم به كلماتك، وأنجز به وعدك، وأهلِك به عدوَّك، واكتبنا في أوليائه وأحبَّائه، اللَّهُمَّ اجعلنا له شيعةً وأنصاراً وأعواناً».
وفي الزيارة أيضاً بعد السلام والصلاة على كلِّ واحد واحد من الأئمَّة بأسمائهم، وتقول: «اللَّهُمَّ أتمم بهم كلماتك، وأنجز بهم وعدك، وأهلِك بهم عدوَّك وعدوِّهم من الجنِّ والإنس أجمعين...، اللَّهُمَّ اجعلنا لهم شيعةً وأنصاراً وأعواناً على طاعتك وطاعة رسولك»(168).
وهذا صريح في أنَّ كلَّ واحد منهم موعود منتظر يُنجز الله به وعده وينتقم بهم من أعدائه ويقيم به دينه ومواعيده في نصر الدِّين وإعلاء الحقِّ وإذلال الباطل وإقامة شرائعه وأحكامه وآيات كتابه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(168) كامل الزيارات (ص 403 - 405/ ح 639/23).

(١١٥)

فكلُّ ما ورد من تعاليم في المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) هو بعينه وارد في كلِّ إمام إمام أنَّه يبعثه الله مرَّةً أُخرى في الدنيا رجعةً.
وقد ورد في دعاء مولد الحسين عليه السلام «اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ اَلمَوْلُودِ فِي هَذَا اَلْيَوْمِ، اَلمَوْعُودِ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ اِسْتِهْلَالِهِ...، اَلمَمْدُودِ بِالنُّصْرَةِ يَوْمَ اَلْكَرَّةِ، اَلمُعَوَّضِ مِنْ قَتْلِهِ أَنَّ اَلْأَئِمَّةَ مِنْ نَسْلِهِ، وَاَلشِّفَاءَ فِي تُرْبَتِهِ، وَاَلْفَوْزَ مَعَهُ فِي أَوْبَتِهِ، وَاَلْأَوْصِيَاءَ مِنْ عِتْرَتِهِ بَعْدَ قَائِمِهِمْ وَغَيْبَتِهِ، حَتَّى يُدْرِكُوا اَلْأَوْتَارَ وَيَثْأَرُوا اَلثَّارَ وَيُرْضُوا اَلْجَبَّارَ وَيَكُونُوا خَيْرَ أَنْصَارٍ...، فَنَحْنُ عَائِذُونَ بِقَبْرِهِ مِنْ بَعْدِهِ، نَشْهَدُ تُرْبَتَهُ وَنَنْتَظِرُ أَوْبَتَهُ».
وقد رواه الشيخ في (المصباح) بطريقه عن القاسم بن علاء الهمداني وكيل العسكري(169).
ومفاد الدعاء ظاهر بوضوح في أنَّ سيِّد الشهداء (عليه السلام) موعود بمدد النصر يوم كرَّته (عليه السلام)، وكذلك الأوصياء من عترته، وأنَّ أوبتهم وكرَّتهم تقع بعد قائمهم وغيبته، وأنَّهم يُدركوا الأوتار ويثأروا الثأر ويرضوا الجبَّار بتطهير الأرض من المفسدين العتاة، وآخر الدعاء تضمَّن أنَّ الحسين (عليه السلام) منتظرٌ أوبته ورجوعه.
وقد روى الشيخ عن أبي حمزة الثمالي في (مصباح المتهجِّد) في زيارة العبَّاس (عليه السلام): «أَشْهَدُ أَنَّكَ قُتِلْتَ مَظْلُوماً، وَأَنَّ اَللهَ مُنْجِزٌ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ، جِئْتُكَ زَائِراً عَارِفاً يَا اِبْنَ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ وَقَلْبِي مُسْلِمٌ لَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ تَابِعٌ، وَنُصْرَتِي لَكُمْ مُعَدَّةٌ، حَتَّى يَحْكُمَ اَللهُ وَهُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لَا مَعَ عَدُوِّكُمْ، إِنِّي بِكُمْ وَبِإِيَابِكُمْ مِنَ اَلمُؤْمِنِينَ، وَبِمَنْ خَالَفَكُمْ وَقَتَلَكُمْ مِنَ اَلْكَافِرِينَ»(170).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(169) مصباح المتهجِّد (ص 826 و827).
(170) مصباح المتهجِّد (ص 725).

(١١٦)

وفيها تصريح أنَّ جميعهم موعودون بالنصر في رجعتهم.
ونظير هذه الزيارة ورد في زيارة مسلم بن عقيل (عليه السلام) التي رواها المشهدي (رحمه الله) في (المزار الكبير)(171)، ورواها السيِّد ابن طاوس (رحمه الله) في (مصباح الزائر)(172).
وفي زيارة لأمير المؤمنين (عليه السلام) رواها المشهدي (رحمه الله) في (المزار الكبير)، وقد تضمَّنت: «أَنِّي مُقِرٌّ بِكُمْ، مُعْتَصِمٌ بِحَبْلِكُمْ، مُتَوَقِّعٌ لِدَوْلَتِكُمْ، مُنْتَظِرٌ لِرَجْعَتِكُمْ»(173).
وفي زيارة أُخرى رواها المشهدي (رحمه الله) وهي الزيارة الرجبيَّة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في رجب، بل لكلِّ المعصومين (عليهم السلام) في ذلك الشهر، وفيها: «حَتَّى الْعَوْدِ إِلَى حَضْرَتِكُمْ، وَالْفَوْزِ فِي كَرَّتِكُمْ، وَالْحَشْرِ فِي زُمْرَتِكُمْ»(174).
وروى في (الكافي) صحيح عبد الله بن جندب، قال: سألت أبا الحسن الماضي (عليه السلام) عمَّا أقول في سجدة الشكر فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال: «قُلْ وَأَنْتَ سَاجِدٌ: اَللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ مَلَائِكَتَكَ وَأَنْبِيَاءَكَ وَرُسُلَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ اَللهُ رَبِّي، وَاَلْإِسْلَامَ دِينِي، وَمُحَمَّداً نَبِيِّي، وَعَلِيًّا وَفُلَاناً وَفُلَاناً إِلَى آخِرِهِمْ أَئِمَّتِي، بِهِمْ أَتَوَلَّى وَمِنْ عَدُوِّهِمْ أَتَبَرَّأُ. اَللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ دَمَ اَلمَظْلُومِ - ثَلَاثاً -. اَللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ بِإِيوَائِكَ عَلَى نَفْسِكَ لأَوْلِيَائِكَ لِتُظْفِرَنَّهُمْ بِعَدُوِّكَ وعَدُوِّهِمْ»(175).
فهذا دعاء يومي يُؤتى به في كلِّ سجدة شكر لكلِّ صلاة فريضة، بل لكلِّ صلاة نافلة أيضاً في اليوم عدَّة مرَّات، وفيها الدعاء والإلحاح بتعجيل الظفر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(171) المزار لابن المشهدي (ص 178).
(172) مصباح الزائر (ص 100).
(173) المزار لابن المشهدي (ص 250).
(174) المزار لابن المشهدي (ص 205).
(175) الكافي (ج 3/ ص 325/ باب السجود والتسبيح والدعاء فيه.../ ح 17).

(١١٧)

والنصر لكلِّ واحد واحد من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) والانتقام لدم سيِّد الشهداء وذلك بظهور قائمهم (عجَّل الله فرجه) ورجعتهم بعده في سياق واحد.
ومنه يظهر أنَّ ما يدعو به المؤمنون من تعجيل فرج صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) لا بدَّ من تتميمه بالدعاء بتعجيل رجعتهم (عليهم السلام)، وأنَّ رجوع كلِّ إمام هو ظهور له بعد غيبته بالموت، كما ورد ذلك في كثير من الزيارات سواء أُريد من الظهور معنى البروز، أو أُريد منه معنى السيطرة والسلطة، فإنَّ كلَّ إمام يبرز برجوعه إلى الحياة الدنيا بعد غيابه بخفاء الموت، فلكلِّ إمام ظهور بعد غيبة، كما أنَّ له دولة في الرجعة بعد استضعاف في الحياة الأُولى.
وروى الكليني عن محمّد بن عيسى بإسناده عن الصالحين (عليهم السلام)، قال: «تُكَرِّرُ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَذَا اَلدُّعَاءَ سَاجِداً وَقَائِماً وَقَاعِداً وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَفِي الشَّهْرِ كُلِّه وَكَيْفَ أَمْكَنَكَ وَمَتَى حَضَرَكَ مِنْ دَهْرِكَ، تَقُولُ بَعْدَ تَحْمِيدِ اَللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاَلصَّلَاةِ عَلَى اَلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فِي هَذِه اَلسَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَقَاعِداً وَعَوْناً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَه فِيهَا طَوِيلاً»(176).
ورواه الشيخ الطوسي بنفس الإسناد وبنفس المتن في (مصباح المتهجِّد)(177).
ورواه السيِّد ابن طاوس في (فلاح السائل) وفي (الإقبال) مسنداً بنفس الإسناد إلَّا أنَّه استبدل (فلان بن فلان): «لِوَلِيِّكَ اَلْقَائِمِ بِأَمْرِكَ اَلْحُجَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْحَسَنِ اَلمَهْدِيِّ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ أَفْضَلَ اَلصَّلَاةِ وَاَلسَّلَامِ»، لكنَّه في (فلاح السائل) أورد المتن: «لِوَلِيِّكَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»(178).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(176) الكافي (ج 4/ ص 162/ باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان/ ح 4).
(177) مصباح المتهجِّد (ص 630 و631).
(178) فلاح السائل (ص 46)، إقبال الأعمال (ج 1/ ص 191).

(١١٨)

وأورده الكفعمي في (البلد الأمين) بنفس اللفظ الموجود في (الكافي) و(مصباح) الشيخ(179)، لكنَّه في (مصباحه) أورده كما في (إقبال) ابن طاوس(180).
وفي (البحار) أورد هذا الدعاء ضمن دعاء طويل يُدعى به في يوم الجمعة في سياق الدعاء لمحمّد وآل مُحمَّد (عليهم السلام)، وفي وسط الدعاء: «اَللَّهُمَّ اِحْفِظْ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ»(181).
وبعبارة أُخرى: ممَّا يوجب الاشتباه ما رواه السيِّد ابن طاوس في (الإقبال) من رواية محمّد بن عيسى بن عبيد بإسناده عن الصالحين (عليهم السلام)، قال: «وَكَرِّرْ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قَائِماً وَقَاعِداً وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَالشَّهْرَ كُلَّهُ وَكَيْفَ أَمْكَنَكَ وَمَتَى حَضَرَكَ فِي دَهْرِكَ، تَقُولُ بَعْدَ تَمْجِيدِ اَللهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ (عليهم السلام): اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ اَلْقَائِمِ بِأَمْرِكَ الْحُجَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ المَهْدِيِّ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ أَفْضَلُ اَلصَّلَاةِ وَاَلسَّلَامِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَقَائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَمُؤَيِّداً حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً...»(182))(183).
وهناك أُمور أُخَر تدلُّ على مطلبنا أعرضنا عنها خوفاً من الإطالة، وقد تبيَّن أنَّ الإمامة من المنتظرين.
6 - المعاد من المنتظرين:
كما يعلم المتخصِّصون في المعارف الإلهيَّة أنَّ المعاد يُطلَق على أمرين: تارةً يُطلَق على يوم القيامة، وتارةً أُخرى يُطلَق على الرجعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(179) البلد الأمين (ص 203).
(180) المصباح للكفعمي (ص 586).
(181) بحار الأنوار (ج 86/ ص 340).
(182) إقبال الأعمال (ج 1/ ص 191).
(183) الرجعة بين الظهور والمعاد (ج 1/ ص 322).

(١١٩)

وكلا الأمرين متوقِّف على ظهور الإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه)، ومن هذا نستطيع أنْ نقول: إنَّ المعاد من المنتظرين.
فروع الدِّين من المنتظرين:
عن أبي طالب عبد الله بن الصلت، عن حمَّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بُنِيَ اَلْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى اَلصَّلَاةِ، وَاَلزَّكَاةِ، وَاَلْحَجِّ، وَاَلصَّوْمِ، وَاَلْوَلَايَةِ»، قال زرارة: فأيُّ ذلك أفضل؟ فقال: «اَلْوَلَايَةُ أَفْضَلُهُنَّ لِأَنَّهَا مِفْتَاحُهُنَّ، وَاَلْوَالِي هُوَ اَلدَّلِيلُ عَلَيْهِنَّ»(184).
والحديث فيه مجموعة بيانات نوريَّة صدح بها إمامنا الصادق (عليه السلام)، ونحن نشير بعض الإشارات المستفادة من كلمات الأعلام (رضوان الله عليهم):
الإشارة الأُولى: أنَّ الصلاة والزكاة والحجَّ والصوم علاقات بين الإنسان وربِّه، ونفسه ومجتمعه، وهي من فروع الدِّين.
الإشارة الثانية: أنَّ الولاية هي مفتاح الصلاة والصوم والحجِّ والزكاة، لو أخذنا الولاية من الإنسان سوف يخرب ظاهر تلك الأرجل الأربعة والأعمدة الأُخرى، ويذهب روحها وعقلها أيضاً.
الإشارة الثالثة: عبَّر الحديث عن الولاية بالمفتاح، ويُستفاد أنَّ العبادات صناديق مغلقة، ومهما حملت من كنوز ومعنويَّات لا فائدة فيها ولا تساوي أبخس الأثمان من دون مفتاح.
الإشارة الرابعة: الوالي والإمام هو الدليل والهادي لأجل الصلاة والصوم، وبدون الوالي والإمام لن يكون وجود للصلاة والصوم والحجِّ والزكاة، لذلك تكون الصلاة والعبادات تيهاً وضلالاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(184) المحاسن للبرقي (ج 1/ ص 286/ ح 430).

(١٢٠)

الإشارة الخامسة: الحديث ذكر لفظة البناء «بُنِيَ اَلْإِسْلَامُ»، ومن هنا يُستفاد أنَّ الإسلام مسكن للإنسان، ومن دون الولاية لن تقوم خيمة الإسلام، وليست قابلة للحياة والسكن الاعتقادي والأخلاقي والعبادي والإنساني. لو نرفع الإمامة لسوف تخرب سماء الإسلام وتُضرَب ببعضها.
وهناك إشارات كثيرة في الحديث المبارك تجدها مطويَّات في كلمات الأعلام.
ومن هنا نستطيع أنْ نقول: إنَّ فروع الدِّين من المنتظرين.

* * *

(١٢١)

كما أنَّ لظهور الإمام المغيَّب (عجَّل الله فرجه) علامات حتميَّة وغير حتميَّة ذُكِرَت في المجاميع الروائيَّة، ولها أبحاث مفصَّلة مذكورة في مضانِّها، كذلك لظهور دعاء الفرج في أجواء المؤمنين والمؤمنات علامات حتميَّة لو ظهرت لكان دعاء الفرج ظاهراً بصورته المطلوبة المعدّ لظهور الإمام المغيَّب، وهذه العلامات متناثرة في أُمَّهات كُتُب الحديث والدعاء والزيارة نحاول ذكر واحدة، وهي تُعَدُّ أُمُّ العلامات وأصل لكلِّ العلامات، وسنشير في طيَّات هذه الأوراق إلى بقيَّة العلامات، ومنه المدد والتوفيق.
أُمُّ العلامات المعرفة:
المعرفة هي أُمُّ العلامات وأُسُّها وأصلها، وهي ليست علامة لظهور دعاء الفرج وحده، بل من بركاتها تثمر الحبُّ والتعلُّق والشوق والانتظار والترقُّب والتربُّص وكلُّ أنواع الارتباطات.
وليُعلَم أنَّ المعرفة لها الدور الأكبر في كلِّ القضايا الأصليَّة التي يبتني عليها الدِّين، فلا بدَّ من مرور ولو سريع على كلمات أهل بيت العصمة (صلوات الله عليهم أجمعين).
ونحن هنا نشير لبعض معالم المعرفة، ولعلَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُوفِّقنا في مجال أوسع لتسليط الضوء بشكل أشمل وأكمل.
أيُّها العزيز تعالَ معي إلى كلمات المعصومين (صلوات الله عليهم)، وسأتلو عليك بعض أحاديثهم مع بعض الاستفادات.

(١٢٥)

الحديث الأوَّل:
في أُصول الكافي للكليني (رحمه الله): عن معاوية بن وهب، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أفضل ما يتقرَّب به العباد إلى ربِّهم وأحبّ ذلك إلى الله (عزَّ وجلَّ) ما هو؟ فقال: «مَا أَعْلَمُ شَيْئاً بَعْدَ المَعْرِفَةِ أَفْضَلَ مِنْ هَذِه الصَّلَاةِ، ألَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الصَّالِحَ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ (عليه السلام) قَالَ: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ [مريم: 31]»(185).
فائدة:
أقول: الحديث فيه عدَّة فوائد، ولكن نذكر فائدة واحدة، وهي أنَّ الحديث يشير إلى أفضل وأحبّ شيء إلى الله (عزَّ وجلَّ)، وكما نعلم أنَّ الإنسان له بُعد مجرَّد وبُعد مادِّي، وأفضل شيء بالنسبة للبُعد المجرَّد للإنسان هو المعرفة، وبالنسبة للبُعد المادِّي الصلاة.
وكما في مكاتبة أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى محمّد بن أبي بكر: «وَاُنْظُرْ إِلَى صَلاَتِكَ كَيْفَ هِيَ، فَإِنَّكَ إِمَامٌ لِقَوْمِكَ (يَنْبَغِي لَكَ) أَنْ تُتِمَّهَا وَلَا تُخَفِّفَهَا، فَلَيْسَ مِنْ إِمَامٍ يُصَلِّي بِقَوْمٍ يَكُونُ فِي صَلَاتِهِمْ نُقْصَانٌ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِ، لَا يُنْقَصُ مِنْ صَلَاتِهِمْ شَيْءٌ، وَتَمِّمْهَا وَتَحَفَّظْ فِيهَا، يَكُنْ لَكَ مِثْلُ أُجُورِهِمْ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئاً...»، إلى أنْ قال: «ثُمَّ اُنْظُرْ رُكُوعَكَ وَسُجُودَكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كَانَ أَتَمَّ اَلنَّاسِ صَلَاةً، وَأَحَقَّهُمْ عَمَلاً بِهَا. وَاِعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلَاتِكَ، فَمَنْ ضَيَّعَ اَلصَّلَاةَ فَإِنَّهُ لِغَيْرِهَا أَضْيَعُ»(186).
والشاهد في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَاِعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(185) الكافي (ج 3/ ص 264/ باب فضل الصلاة/ ح 1).
(186) أمالي الطوسي (ص 29 و30/ ح 31/31).

(١٢٦)

لِصَلَاتِكَ»، جعل الصلاة إماماً والأعمال جميعها مأموماً، وليعلم أنَّ الإنسان في بُعده المادِّي متقوِّم على أساس البُعد المجرَّد، فقوام كلِّ ما يتعلَّق بالعبادات متقوِّم بالصلاة، والصلاة وكلُّ العبادات متقوِّمة على المعرفة، بل حتَّى الأُمور المجرَّدة كالحبِّ والشوق والارتباط متقوِّمات على المعرفة، فكلَّما ازداد الإنسان معرفة زيد في بُعده المجرَّد، وبالتالي ازداد بُعده المادِّي.
الحديث الثاني:
عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ [البقرة: 269]، فقال: «طَاعَةُ اَللهِ، وَمَعْرِفَةُ اَلْإِمَامِ»(187).
أقول: وفيه فوائد، وسنشير إلى فائدتين فقط:
الفائدة الأُولى:
أنَّ القرآن ذكر الحكمة في عدَّة مواضع، منها:
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7).
وهي نظرة إلى المضامين اللفظيَّة، ويُعلَم أنَّ الآيات المحكمات هنَّ أُمُّ الكتاب، وكلُّ المتشابهات ترجع إلى هذه الأُمِّ العاصمة من الزيغ. وهذه الآيات المحكمة إنَّما كانت محكمة لأنَّها دالَّة على أصلين مهيمنين: طاعة الله، ومعرفة الإمام، فمن كان عارفاً بالإمام وطائعاً لله فهو حكيم ومحكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(187) الكافي (ج 1/ ص 185/ باب معرفة الإمام والردِّ إليه/ ح 11).

(١٢٧)

وحكمة، فهو ليس معصوماً فقط، بل هو عاصم من الزيغ والأهواء بشرط الرجوع إليه.
وفي (بشارة المصطفى): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَنْ مَنَّ اَللهُ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ أَهْلِ بَيْتِي وَوَلَايَتِهِمْ فَقَدْ جَمَعَ اَللهُ لَهُ اَلْخَيْرَ كُلَّهُ»(188).
الفائدة الثانية:
أنَّ معرفة الإمام هي المعرفة بالله، كما في ورد في الزيارة: «مَنْ عَرَفَهُمْ فَقَدْ عَرَفَ اَللهِ»(189).
إنَّه إذا تفكَّر الإنسان في الشي ء وتدبَّر لأثره، لا يبقى عنده شكٌّ ولا شبهة في الشيء، ويكون عارفاً به.
ولـمَّا كان الله (عزَّ وجلَّ) لا يمكن إدراكه بذاته، ومن جهة أُخرى لا بدَّ من معرفته، ولولا المعرفة فلا عبادة ولا طاعة، وجب معرفة الأئمَّة، لكونهم الطريق الوحيد إلى معرفة الله، وهذه هي الغاية القصوى من نصبهم.
«مَنْ عَرَفَهُمْ فَقَدْ عَرَفَ اَللهِ».
إنَّه لا يتسنَّى لمن ينشد معرفة الله - أصلها أو مرتبة من مراتبها - دون الرجوع إلى المحلِّ المجعول على نحو التعيين للمعرفة، والمراد من (المحلِّ) هو ذوات الأئمَّة وأشخاصهم، لا المكان الذي يتواجدون فيه، ولا خصوص أقوالهم الصادرة عنهم في باب معرفة الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا، فإنَّ من عرف الأئمَّة فقد عرف الله، لا بمعنى أنَّ الله حالٌّ فيهم، فإنَّه كفر، بل لأنَّهم أسماء الله الحسنى التي بها يُعرَف، فعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(188) بشارة المصطفى (ص 272/ ح 83).
(189) الكافي (ج 4/ ص 578 و579/ باب القول عند قبر أبي الحسن موسى وأبي جعفر الثاني (عليهما السلام)، وما يُجزئ من القول عند كلِّهم (عليهم السلام)/ ح 2).

(١٢٨)

[الأعراف: 180]، قال: «نَحْنُ وَاللهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنَى اَلَّتِي لَا يَقْبَلُ اَللهُ مِنَ اَلْعِبَادِ عَمَلاً إِلَّا بِمَعْرِفَتِنَا»(190)(191).
الحديث الثالث:
عن محمّد بن حكيم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المعرفة من صنع من هي؟ قال: «مِنْ صُنْعِ اَللهِ، لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ»(192).
أقول: وهذا الحديث من أُمَّهات الأحاديث في المسائل الدِّينيَّة، ونحن نُشير إلى ثلاث فوائد:
الفائدة الأُولى: توقيفيَّة المعرفة:
الحديث يُصرِّح بتوقيفيَّة معرفة أهل البيت (عليهم السلام) «... سَلَامَ مَنْ عَرَفَكَ بِمَا عَرَّفَكَ بِهِ اَللهُ...»(193)، وليس لكسب الإنسان وأفكاره دور في معرفتهم.
وليُعلَم أنَّ البحث من أوضح الواضحات لمن له دراية في حديث أهل البيت (عليهم السلام)، نعم البحث في تفصيله يحتاج إلى تنبيهات وتوضيحات، ولقد تناول العلماء هذا البحث في بحوث الأسماء الحسنى وبعض المسائل الأُخرى، وهذا التفريق لا داعي له للمتبصِّر، فإنَّ هناك تصريحات لا تحتاج تأويلاً وتقويلاً.
يقول إمامنا زين العابدين وسيِّد الساجدين (صلوات الله عليه): «إِنَّ دِينَ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ اَلنَّاقِصَةِ، وَاَلْآرَاءِ اَلْبَاطِلَةِ، وَاَلمَقَائِيسِ اَلْفَاسِدَةِ، وَلَا يُصَابَ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ، فَمَنْ سَلَّمَ لَنَا سَلِمَ، وَمَنِ اِقْتَدَى بِنَا هُدِيَ»(194).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(190) الكافي (ج 1/ ص 143 و144/ باب النوادر/ ح 4).
(191) مع الأئمَّة الهداة في شرح الزيارة الجامعة الكبيرة (ج 1/ ص 282).
(192) الكافي (ج 1/ ص 163/ باب البيان والتعريف ولزوم الحجَّة/ ح 2).
(193) المزار لابن المشهدي (ص 587).
(194) كمال الدِّين (ص 324/ باب 31/ ح 9).

(١٢٩)

والشواهد أكثر من أنْ تُعْدَّ في هذا الباب، وتحتاج إلى بسط، ونحن نكتفي بالإشارة، وهو وليُّ التوفيق.
الفائدة الثانية: توفيقيَّة المعرفة:
إنَّ المعرفة توفيق وكرامة من الله يكرم بها عباده، ففي (كامل الزيارات) في زيارة عاشوراء: «فَأَسْأَلُ اَللهَ اَلَّذِي أَكْرَمَنِي بِمَعْرِفَتِكُمْ وَمَعْرِفَةِ أَوْلِيَائِكُمْ، وَرَزَقَنِي اَلْبَرَاءَةَ مِنْ أَعْدَائِكُمْ، أَنْ يَجْعَلَنِي مَعَكُمْ فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ»(195).
وفي الدعاء: «اَللَّهُمَّ عَرِّفْنِي نَفْسَكَ...، عَرِّفْنِي رَسُولَكَ...، عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ»(196).
وفي الحديث: «مَنْ مَنَّ اَللهُ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ أَهْلِ بَيْتِي...»(197).
إذن المعرفة منة وتوفيق وكرامة من الله (عزَّ وجلَّ)، وهكذا البراءة.
الفائدة الثالثة: المعرفة القلبيَّة لا تنفكُّ عن العمل:
عن عبد الأعلى، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلحك الله، هل جُعِلَ في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال: فقال: «لَا»، قلت: فهل كُلِّفوا المعرفة؟ قال: «لَا، عَلَى اَللهِ اَلْبَيَانُ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، و﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: 7]»، قال: وسألته عن قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: 115]، قال: «حَتَّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيه وَمَا يُسْخِطُه»(198).
وعن حسين الصيقل، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «لَا يَقْبَلُ اَللهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(195) كامل الزيارات (ص 330/ ح 556/9).
(196) الكافي (ج 1/ ص 337/ باب في الغيبة/ ح 5).
(197) بشارة المصطفى (ص 272/ ح 83).
(198) الكافي (ج 1/ ص 163/ باب البيان والتعريف ولزوم الحجَّة/ ح 5).

(١٣٠)

عَمَلاً إِلَّا بِمَعْرِفَةٍ، وَلَا مَعْرِفَةَ إِلَّا بِعَمَلٍ، فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْه اَلمَعْرِفَةُ عَلَى اَلْعَمَلِ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلَا مَعْرِفَةَ لَه، أَلَا إِنَّ اَلْإِيمَانَ بَعْضُه مِنْ بَعْضٍ»(199).
وعلى هذا يقول السيِّد الخميني (رحمه الله): (هناك فرق واضح بين العرفان والعلم، بين التعرُّف على شيء وبين العلم به. يقال: إنَّ العلم في اللغة يختصُّ بالكلّيَّات، والمعرفة خاصَّة بالجزئيَّات والتشخُّص، ويقال: إنَّ العارف بالله هو الذي يتعرَّف على الحقِّ سبحانه بالمشاهدة الحضوريَّة، وإنَّ العالم بالله هو الذي ينتهي إلى الحقِّ سبحانه من خلال البراهين الفلسفيَّة.
وذهب البعض إلى أنَّ الفارق بين العلم والعرفان من وجهين:
الأوَّل: من ناحية متعلَّق كلٍّ منهما كما ذكرنا - متعلَّق العلم كلِّي، ومتعلَّق المعرفة جزئي -.
والثاني: أنَّه أُخِذَ في المعرفة نسيان الشيء المعلوم سابقاً، في حين أنَّ العلم هو ما يُدركه الإنسان ابتداءً، وأمَّا الشيء الذي كان معلوماً فغفل عنه ونسيه ثمّ أدركه ثانياً يقال له: إنَّه قد عرفه، وإنَّما يقال للعارف: عارفاً، لأنَّه يتذكَّر الأكوان السالفة، والنشئآت السابقة على كونه المُلكي ونشأته الطبيعيَّة.
وادَّعى بعض أهل السلوك - العرفاء - أنَّ سبب التسمية هو تذكُّر عالم الذرِّ، ويقول بأنَّه لو أُزيح حجاب الطبيعة الباعث على الغفلة والنسيان عن أعين السالك، لتذكَّر العوالم السابقة)(200).
أقول: وهذا الكلام مأخوذ من كلمات أهل بيت العصمة (صلوات الله عليهم) في أحاديث عالم الذرِّ وغيرها، منها هذا الحديث كما في (العلل): عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(199) الكافي (ج 1/ ص 44/ باب من عمل بغير علم/ ح 2).
(200) الأربعون حديثاً (ص 689).

(١٣١)

مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف: 172]، قال: «ثَبَتَتِ اَلمَعْرِفَةُ، وَنَسُوا اَلمُوَقَّتَ، وَسَيَذْكُرُونَهُ يَوْماً، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَنْ خَالِقُهُ وَلَا مَنْ رَازِقُهُ»(201).
وهذا واضح لمن كان له أدنى تأمُّل.
قصَّة (فاطلب المعرفة):
ولنختم هذا العنوان بقصَّة، عن محمّد بن فلان الواقفي، قال: كان لي ابن عمٍّ يقال له: الحسن بن عبد الله، كان زاهداً، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان يتَّقيه السلطان لجدِّه في الدِّين واجتهاده، وربَّما استقبل السلطان بكلام صعب يعظه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وكان السلطان يحتمله لصلاحه، ولم تزل هذه حالته حتَّى كان يوم من الأيَّام إذ دخل عليه أبو الحسن موسى (عليه السلام) وهو في المسجد، فرآه، فأومأ إليه، فأتاه، فقال له: «يَا أَبَا عَلِيٍّ، مَا أَحَبَّ إِلَيَّ مَا أَنْتَ فِيه وَأَسَرَّنِي إِلَّا أَنَّه لَيْسَتْ لَكَ مَعْرِفَةٌ، فَاطْلُبِ اَلمَعْرِفَةَ»، قال: جُعلت فداك، وما المعرفة؟ قال: «اذْهَبْ فَتَفَقَّه وَاطْلُبِ اَلْحَدِيثَ»، قال: عمَّن؟ قال: «عَنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ اَلمَدِينَةِ، ثُمَّ اِعْرِضْ عَلَيَّ اَلْحَدِيثَ»، قال: فذهب، فكتب، ثمّ جاءه، فقرأه عليه، فأسقطه كلَّه، ثمّ قال له: «اذْهَبْ فَاعْرِفِ اَلمَعْرِفَةَ»، وكان الرجل معنيًّا بدينه، فلم يزل يترصَّد أبا الحسن (عليه السلام) حتَّى خرج إلى ضيعة له، فلقيه في الطريق، فقال له: جُعلت فداك، إنِّي أحتجُّ عليك بين يدي الله فدلَّني على المعرفة، قال: فأخبره بأمير المؤمنين (عليه السلام) وما كان بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأخبره بأمر الرجلين، فقبل منه، ثمّ قال له: فمن كان بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ قال: «اَلْحَسَنُ (عليه السلام)، ثُمَّ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)» حتَّى انتهى إلى نفسه، ثمّ سكت، قال: فقال له:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(201) علل الشرائع (ج 1/ ص 117 و118/ باب 97/ ح 1).

(١٣٢)

جُعلت فداك، فمن هو اليوم؟ قال: «إِنْ أَخْبَرْتُكَ تَقْبَلُ؟»، قال: بلى، جُعلت فداك، قال: «أَنَا هُوَ»، قال: فشيء أستدلُّ به؟ قال: «اِذْهَبْ إِلَى تِلْكَ اَلشَّجَرَةِ - وأشار [بيده] إلى أُمِّ غيلان - فَقُلْ لَهَا: يَقُولُ لَكِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ: أَقْبِلي»، قال: فأتيتها فرأيتها والله تخدُّ الأرض خدًّا حتَّى وقفت بين يديه، ثمّ أشار إليها فرجعت، قال: فأقرَّ به، ثمّ لزم الصمت والعبادة، فكان لا يراه أحد يتكلَّم بعد ذلك(202).
وفي القصَّة إشارات:
الإشارة الأُولى: أثر العبادة:
أقول: العبادة الصوريَّة يأتي بها المخالف، ويكون لها شأن، فكيف لو كانت على معرفة وذات محتوى.
وهذا مستفاد من: (وكان يتَّقيه السلطان لجدِّه في الدِّين واجتهاده، وربَّما استقبل السلطان بكلام صعب يعظه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وكان السلطان يحتمله لصلاحه).
الإشارة الثانية: المعرفة في النهج الإلهي:
أقول: المنهج السماوي منهج أهل البيت (صلوات الله عليهم) يُؤكِّد على أهمّ مسألة، وهي المعرفة، وهي القلب للقالب والمحتوى للحاوي، وهي الذات والحقيقة.
(فقال له: «يَا أَبَا عَلِيٍّ، مَا أَحَبَّ إِلَيَّ مَا أَنْتَ فِيه وَأَسَرَّنِي إِلَّا أَنَّه لَيْسَتْ لَكَ مَعْرِفَةٌ، فَاطْلُبِ اَلمَعْرِفَةَ»).
الإشارة الثالثة: القيمة بتشخيص القِيَم:
كلُّ ما عند الناس إمَّا أنْ يكون صحيحاً فهو منهم، وإلَّا فهو ساقط لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(202) الكافي (ج 1/ ص 352 و353/ باب ما يُفصَل به بين دعوى المحقِّ والمبطل في أمر الإمامة/ ح 8).

(١٣٣)

قيمة له، ففي الحديث عن أبي مريم، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) لسَلَمة بن كهيل والحَكَم بن عتيبة: «شَرِّقَا وَغَرِّبَا لَنْ تَجِدَا عِلْماً صَحِيحاً إِلَّا شَيْئاً يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ»(203).
(قال: «اذْهَبْ فَتَفَقَّه وَاطْلُبِ اَلْحَدِيثَ»، قال: عمَّن؟ قال: «عَنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ اَلمَدِينَةِ، ثُمَّ اِعْرِضْ عَلَيَّ اَلْحَدِيثَ»، قال: فذهب، فكتب، ثمّ جاءه، فقرأه عليه، فأسقطه كلَّه).
الإشارة الرابعة: البحث والترصُّد والاعتناء بالدِّين:
أقول: على الإنسان الاعتناء بدينه، ولا يكون أهون عليه من أمر من أُمور الدنيا، فلا بدَّ أنْ يبحث ويترصَّد ومن ثَمَّ الباقي تحنُّن وتعطُّف منهم (عليهم السلام)، وكما يقال: (من جدَّ وجد).
(وكان الرجل معنيًّا بدينه، فلم يزل يترصَّد أبا الحسن (عليه السلام) حتَّى خرج إلى ضيعة له، فلقيه في الطريق، فقال له: جُعلت فداك، إنِّي أحتجُّ عليك بين يدي الله فدلَّني على المعرفة).
الإشارة الخامسة: أصل أصالة الدِّين:
أقول: إنَّ التعاليم السماويَّة تُؤكِّد أنَّ الدِّين وأصل الدِّين المعرفة، وأصل المعرفة آل محمّد (صلوات الله عليهم)، من عرفهم عرف الله، ومن أطاعهم أطاع الله، ومن وصلهم وصل الله.
ففي القصَّة: (قال: فأخبره بأمير المؤمنين (عليه السلام) وما كان بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأخبره بأمر الرجلين، فقبل منه، ثمّ قال له: فمن كان بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ قال: «اَلْحَسَنُ (عليه السلام)، ثُمَّ اَلْحُسَيْنُ (عليه السلام)» حتَّى انتهى إلى نفسه، ثمّ سكت).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(203) بصائر الدرجات (ص 30/ ج 1/ باب 6/ ح 4).

(١٣٤)

الإشارة السادسة: لابدّيَّة الإمام في كلِّ عصر:
إمام عصرك وزمانك وأمرك السبب المتَّصل بين الأرض والسماء، باب الله، ووجه الله، والصراط الأقوم، وسبيل الله، فإنْ عرفته عرفت الله ونبيَّه والأئمَّة والدِّين، وإنْ جهلته فأنت في جاهليَّة ضلال وكفر ونفاق، وهذه المسألة من أهمّ المسائل التي بيَّنتها التعاليم الإلهيَّة، وأنَّه (عليه السلام) لا تخلو منه الأرض ولا يخلو منه زمان.
(قال: فقال له: جُعلت فداك، فمن هو اليوم؟ قال: «إِنْ أَخْبَرْتُكَ تَقْبَلُ؟»، قال: بلى، جُعلت فداك، قال: «أَنَا هُوَ»).
الإشارة السابعة: اقتران القابليَّة والفاعليَّة:
أقول: هنا جاء الحنان والتعطُّف من إمام الزمان بعد الترصُّد والترقُّب والإصرار جاء القرار، رزقنا الله (عزَّ وجلَّ) وإيَّاكم أنْ نكون أهلاً ممَّن يعطف علينا إمام زماننا بالمعرفة.
ففي أمالي الصدوق (رحمه الله): قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما مرَّ: «مَنْ مَنَّ اَللهُ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ أَهْلِ بَيْتِي وَوَلَايَتِهِمْ فَقَدْ جَمَعَ اَللهُ لَهُ اَلْخَيْرَ كُلَّهُ»(204).
(قال: فشيء أستدلُّ به؟ قال: «اِذْهَبْ إِلَى تِلْكَ اَلشَّجَرَةِ - وأشار [بيده] إلى أُمِّ غيلان - فَقُلْ لَهَا: يَقُولُ لَكِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ: أَقْبِلي»، قال: فأتيتها فرأيتها والله تخدُّ الأرض خدًّا حتَّى وقفت بين يديه، ثمّ أشار إليها فرجعت، قال: فأقرَّ به، ثمّ لزم الصمت والعبادة، فكان لا يراه أحد يتكلَّم بعد ذلك).
تحصيل وثمرة ونتيجة وخلاصة وصفوة:
قوام ما يتقوَّم به البُعد المادِّي للإنسان هو البُعد المجرَّد، وقوام ما يتقوَّم به

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(204) أمالي الصدوق (ص 560 و561/ ح 751/9).

(١٣٥)

البُعد المجرَّد هي المعرفة، وقوام المعرفة في أوَّلها وآخرها وأُسُّها وصميمها وجوهرها معرفة الإمام، وقوام معرفة الإمام هي معرفة إمام الزمان المنحصر بالحجَّة بن الحسن (عجَّل الله فرجه).
وهذه المعرفة توقيفيَّة على أساس البُعد العلمي، أي فقط ما نطقت به الآيات والروايات والأدعية والزيارات من دون إقصاء لفهم النصِّ المعصومي.
وهذه المعرفة توفيقيَّة من الله سبحانه وتعالى ومن أهل البيت (عليهم السلام)، وهذه المعرفة إنْ وُفِّقت لها فهي لا تنفكُّ عن العمل كما مرَّ عليك في حديث الإمام الصادق (عليه السلام وعلى أهل بيته): «فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْه اَلمَعْرِفَةُ عَلَى اَلْعَمَلِ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلَا مَعْرِفَةَ لَه»(205)، وهذه الدلالة دلالة إلزام لا دلالة إراءة وبيان فقط.
في مناجاة المريدين: «سُبْحَانَكَ مَا أَضْيَقَ اَلْطُّرُقَ عَلَى مَنْ لَمْ تَكُنْ دَليلَهُ، وَمَا أَوْضَحَ اَلْحَقَّ عِنْدَ مَنْ هَدَيْتَهُ سَبيلَهُ، إِلهي فَاسْلُكْ بِنَا سُبُلَ اَلْوُصُولِ اِلَيْكَ، وَسَيِّرْنَا في أَقْرَبِ اَلطُّرُقِ لِلْوُفُودِ عَلَيْكَ»(206).
ومن هنا علينا السؤال والاستجداء أنْ يرزقنا الله المعرفة التي لا تنفكُّ عن العمل، وأنْ نشحذ الهمم نحو إمام زماننا (عجَّل الله فرجه) حتَّى نكون بالمستوى المطلوب من تحمُّل المسؤوليَّة، ويكون شغلنا الشاغل الدعاء لإمام الزمان (عجَّل الله فرجه).
الباب الحديدي الذي يحجب دعاء الفرج الغفلة:
الأبواب كثيرة بقدر حبائل الشياطين التي تمنع الإنسان من الوصول للكمال، لكن الباب الأنكى والأدهى والباب الحديدي المستحكم على الإنسان،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(205) الكافي (ج 1/ ص 44/ باب من عمل بغير علم/ ح 2).
(206) الصحيفة السجَّاديَّة (ص 411/ الرقم 189).

(١٣٦)

هو الغفلة كما يظهر من مجموع الآيات والروايات ومن قصَّة الإنسان والشيطان وقصَّة نهاية الشيطان على يدي صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه).
ونحن هنا نشير إلى بشاعة صورة هذا الباب الذي أسميناه بالباب الحديدي وأسبابه ونتائجه وما يُحطِّم هذا الباب.
آيات بيِّنات:
هذه بعض الآيات التي تُشير إلى بعض مفاسد الغفلة وأسبابها ونتائجها:
الآية الأُولى:
يقول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179).
وفيها أُمور، منها:
أوَّلاً: هذا تعريف الله سبحانه للغافلين.
ثانياً: الغفلة تحطُّ مرتبة الإنسان إلى ما هو دون مرتبة الحيوان.
ثالثاً: الغفلة تُعطِّل القلوب وتُعمي العيون.
رابعاً: الغفلة تصمُّ الآذان وتمسخ الإنسانيَّة.
خامساً: ما دام الغفلة فالتسافل مستمرٌّ، وجهنَّم فتحت أبوابها للغافلين.
فما أبشعها من صورة، والسبب الغفلة.
الآية الثانية:
يقول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ (النحل: 107 - 109).

(١٣٧)

أقول: الغفلة قلبت الموازين فانعدمت البصيرة والبصر، ففضَّلت الحياة الدنيا التي هي لهو ولعب وسراب لا حقيقة لها على الحياة الحقيقيَّة الدائمة الباقية.
الغفلة استحكمت، فطُبِعَ على قنوات العلم، فأصبح الإنسان يرى الحقائق بالمقلوب، ومنها تحقُّق اليقين بالخسارة الكبرى.
والغفلة أعلنت الكفر، فلا هداية تصل للإنسان.
والسبب كلُّ السبب هي الغفلة.
الآية الثالثة:
يقول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ (يوسف: 13).
أقول: الذئب والبئر، والخيانة والتغيُّب، والإقصاء والإبعاد، نتيجة حتميَّة للغفلة.
﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي﴾ الأنبياء أيضاً يحزنون على فراق الوليِّ، بل استمرَّ حزنه على غيابه، حتَّى ابيضَّت عيناه من الحزن.
﴿عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ الغفلة تؤدِّي للضرر، الغفلة توصل الإنسان إلى التفريط بوليِّ الله الأعظم.
والإمام الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة يقول: «مَا ذَا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ»(207).
أحاديث عالية المضامين:
يقول أمير المؤمنين عليٌّ (صلوات الله عليه):
- «اَلْغَفْلَةُ أَضَرُّ اَلْأَعْدَاءِ»(208).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(207) إقبال الأعمال (ص 349/ الطبعة القديمة).
(208) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 35/ ح 527).

(١٣٨)

- «اَلْغَفْلَةُ فَقْدٌ»(209).
- «اَلْغَفْلَةُ ضَلَالَةٌ»(210).
- «اَلْغَفْلَةُ طَرَبٌ»(211).
- «اَلْغَفْلَةُ اِغْتِرَارٌ»(212).
- «اَلْغَفْلَةُ تُفْسِدُ اَلْأَعْمَالَ»(213).
- «دَوَامُ اَلْغَفْلَةِ يُعْمِي اَلْبَصِيرَةَ»(214).
- «اَلْغَفْلَةُ ضَلَالُ اَلنُّفُوسِ وَعُنْوَانُ اَلنُّحُوسِ»(215).
- «اِحْذَرُوا اَلْغَفْلَةَ فِإِنَّهَا مِنْ فَسَادِ اَلْحِسِّ»(216).
- «مَنْ طَالَتْ غَفْلَتُهُ تَعَجَّلَتْ هَلَكَتُهُ»(217).
- «اِنْتِبَاهُ اَلْعُيُونِ لَا يَنْفَعُ مَعَ غَفْلَةِ اَلْقُلُوبِ»(218).
- وفي حديث المعراج: «مَنْ غَفَلَ عَنِّي لَا أُبَالِي بِأَيِّ وَادٍ هَلَكَ»(219).
وقفة تستوقفنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(209) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 20/ ح 111).
(210) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 25/ ح 248).
(211) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 26/ ح 279).
(212) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 476/ ح 10).
(213) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 172/ ح 86).
(214) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 819/ ح 112).
(215) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 75/ ح 1445).
(216) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 160/ ح 7).
(217) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 609/ ح 672).
(218) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 101/ ح 1892).
(219) إرشاد القلوب (ج 1/ ص 205).
 

(١٣٩)

الشيطان وعداوته المتواصلة:
الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (يوسف: 5)، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ (فاطر: 6).
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنْ كَانَ اَلشَّيْطَانُ عَدُوًّا فَالْغَفْلَةُ لِمَاذَا؟»(220).
ويقول أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلوات والسلام): «قَالَ اَللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِمُوسَى (عليه السلام): يَا مُوسَى، اِحْفَظْ وَصِيَّتِي لَكَ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: أَوَّلُهُنَّ مَا دُمْتَ لَا تَرَى ذُنُوبَكَ تُغْفَرُ فَلَا تَشْتَغِلْ بِعُيُوبِ غَيْرِكَ، وَاَلثَّانِيَةُ مَا دُمْتَ لَا تَرَى كُنُوزِي قَدْ نَفِدَتْ فَلَا تَغْتَمَّ بِسَبَبِ رِزْقِكَ، وَاَلثَّالِثَةُ مَا دُمْتَ لَا تَرَى زَوَالَ مُلْكِي فَلَا تَرْجُ أَحَداً غَيْرِي، وَاَلرَّابِعَةُ مَا دُمْتَ لَا تَرَى اَلشَّيْطَانَ مَيِّتاً فَلَا تَأْمَنْ مَكْرَهُ»(221).
أقوى سلاح للشيطان:
أخي العزيز سمعت معي أنَّ الشيطان عدوٌّ مبين، واعلم كما أنَّ عمره طويل فإنَّ خبرته طويلة وأسلحته قويَّة، فهو يستخدم مع كلِّ طائفة ومجموعة وشخص أُسلوباً يناسبه، للعالم من علمه، وللعابد من عبادته، ولكلِّ شخص يأتيه ممَّا هو فيه، وهاك حديث، يقول الإمام الصادق (صلوات الله عليه) كما موجود في (الكافي الشريف) في حديث العابد:
«كَانَ عَابِدٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يُقَارِفْ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا شَيْئاً، فَنَخَرَ إِبْلِيسُ نَخْرَةً، فَاجْتَمَعَ إِلَيْه جُنُودُه، فَقَالَ: مَنْ لِي بِفُلَانٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَا لَه، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ تَأْتِيه؟ فَقَالَ: مِنْ نَاحِيَةِ النِّسَاءِ، قَالَ: لَسْتَ لَه، لَمْ يُجَرِّبِ النِّسَاءَ، فَقَالَ لَه آخَرُ: فَأَنَا لَه، فَقَالَ لَه مِنْ أَيْنَ تَأْتِيه؟ قَالَ: مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرَابِ وَاللَّذَّاتِ، قَالَ: لَسْتَ لَه، لَيْسَ هَذَا بِهَذَا، قَالَ آخَرُ: فَأَنَا لَه، قَالَ: مِنْ أَيْنَ تَأْتِيه؟ قَالَ: مِنْ نَاحِيَةِ الْبِرِّ، قَالَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(220) من لا يحضره الفقيه (ج 4/ ص 393/ ح 5836).
(221) الخصال (ص 217/ ح 41).

(١٤٠)

انْطَلِقْ فَأَنْتَ صَاحِبُه، فَانْطَلَقَ إِلَى مَوْضِعِ اَلرَّجُلِ، فَأَقَامَ حِذَاه يُصَلِّي»، قال: «وَكَانَ اَلرَّجُلُ يَنَامُ وَاَلشَّيْطَانُ لَا يَنَامُ، وَيَسْتَرِيحُ وَاَلشَّيْطَانُ لَا يَسْتَرِيحُ، فَتَحَوَّلَ إِلَيْه اَلرَّجُلُ وَقَدْ تَقَاصَرَتْ إِلَيْه نَفْسُه وَاسْتَصْغَرَ عَمَلَه، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اَللهِ، بِأَيِّ شَيْءٍ قَوِيتَ عَلَى هَذِه اَلصَّلَاةِ؟ فَلَمْ يُجِبْه، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْه، فَلَمْ يُجِبْه، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْه، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اَللهِ، إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْباً وَأَنَا تَائِبٌ مِنْه، فَإِذَا ذَكَرْتُ اَلذَّنْبَ قَوِيتُ عَلَى اَلصَّلَاةِ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي بِذَنْبِكَ حَتَّى أَعْمَلَه وَأَتُوبَ، فَإِذَا فَعَلْتُه قَوِيتُ عَلَى اَلصَّلَاةِ، قَالَ: ادْخُلِ اَلمَدِينَةَ فَسَلْ عَنْ فُلَانَةَ اَلْبَغِيَّةِ فَأَعْطِهَا دِرْهَمَيْنِ وَنَلْ مِنْهَا، قَالَ: وَمِنْ أَيْنَ لِي دِرْهَمَيْنِ؟ مَا أَدْرِي مَا الدِّرْهَمَيْنِ؟ فَتَنَاوَلَ اَلشَّيْطَانُ مِنْ تَحْتِ قَدَمِه دِرْهَمَيْنِ، فَنَاوَلَه إِيَّاهُمَا، فَقَامَ فَدَخَلَ اَلمَدِينَةَ بِجَلَابِيبِه يَسْأَلُ عَنْ مَنْزِلِ فُلَانَةَ اَلْبَغِيَّةِ، فَأَرْشَدَه اَلنَّاسُ وَظَنُّوا أَنَّه جَاءَ يَعِظُهَا، فَأَرْشَدُوه، فَجَاءَ إِلَيْهَا، فَرَمَى إِلَيْهَا بِالدِّرْهَمَيْنِ، وقَالَ: قُومِي، فَقَامَتْ، فَدَخَلَتْ مَنْزِلَهَا، وقَالَتِ: ادْخُلْ، وَقَالَتْ: إِنَّكَ جِئْتَنِي فِي هَيْأَةٍ لَيْسَ يُؤْتَى مِثْلِي فِي مِثْلِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِخَبَرِكَ، فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ لَه: يَا عَبْدَ اَللهِ، إِنَّ تَرْكَ الذَّنْبِ أَهْوَنُ مِنْ طَلَبِ اَلتَّوْبَةِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ اَلتَّوْبَةَ وَجَدَهَا، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا شَيْطَاناً مُثِّلَ لَكَ، فَانْصَرِفْ فَإِنَّكَ لَا تَرَى شَيْئاً، فَانْصَرَفَ، وَمَاتَتْ مِنْ لَيْلَتِهَا، فَأَصْبَحَتْ فَإِذَا عَلَى بَابِهَا مَكْتُوبٌ: احْضُرُوا فُلَانَةَ فَإِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَارْتَابَ اَلنَّاسُ، فَمَكَثُوا ثَلَاثاً لَمْ يَدْفِنُوهَا ارْتِيَاباً فِي أَمْرِهَا، فَأَوْحَى اَللهِ (عزَّ وجلَّ) إِلَى نَبِيٍّ مِنَ اَلأَنْبِيَاءِ لَا أَعْلَمُه إِلَّا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليه السلام) أَنِ ائْتِ فُلَانَةَ فَصَلِّ عَلَيْهَا وَمُرِ اَلنَّاسَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهَا، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهَا، وَأَوْجَبْتُ لَهَا الْجَنَّةَ بِتَثْبِيطِهَا عَبْدِي فُلَاناً عَنْ مَعْصِيَتِي»(222).
والقصَّة معبِّرة وفيها أبعاد وإنِّي أتركها لك أيُّها العزيز تأمَّل فيها ففيها مغانم كثيرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(222) الكافي (ج 8/ ص 384 و385/ ح 584).

(١٤١)

جنَّة إبليس ونعيمه:
إنَّ إبليس وحزبه جنَّتهم ونعيمهم هو مقدار مكثهم في الدنيا، وهذا معلوم من قوله: ﴿فَأَنْظِرْنِي﴾ (الحجر: 36).
فاعلم أيُّها العزيز أنَّ إبليس (لعنة الله عليه) عالم، وله الأيدي الطوال في كلِّ العلوم، ومن جهة أُخرى كان عابداً تُوصَف عبادته بأنَّه صلَّى ركعتين استمرَّت أربعة آلاف سنة. هذا هو علمه، وهذه هي عبادته!
وهو جسور وغير مؤدَّب وعديم الحياء، حتَّى إنَّه جلس أمام الله المتعالي وأقسم بعزَّته وعظمته على أنْ يغوي العباد، ويُحرِفهم عن الصراط، هكذا يقول لنا القرآن الكريم:
﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (ص: 82 و83).
وله عداء مع بني آدم قديم، ولا ينفكُّ عن عداوته أبداً، ولا يوجد له شغل إلَّا إغواء البشر، فهو لا يغفل عنك، وله حيل وأساليب، ويريد أنْ يُهلِكك بأيَّة صورة.
وليُعلَم إنْ كان عدوًّا لك في كلِّ شيء إلَّا أنَّه أهمّ مسألة عنده بقائه في الدنيا فترة أطول، وهذه المسألة لا تتحقَّق إلَّا بأبعاد المجتمع عن إمام زمانها الذي بفرجه وظهوره نهاية الشيطان، فهو يصرُّ على بقائه غائباً بكلِّ صورة حتَّى إنَّه أعان الحركات الضالَّة المضلَّة باسم الإمام (عجَّل الله فرجه)، والواقع يشهد بأنَّه نجح نجاحاً على مستوى لا يُستهان به في إنشاء الحركات الفاسدة باسم الإمام (عجَّل الله فرجه)، ومن جهة أُخرى بدأ يعمل على الطبقة المسمَّى بالمثقَّفة حتَّى أوقعهم بحبائله، ففشلت بهذا الامتحان، وقد شاهدنا جميعاً في هذا العصر وكلِّ العصور كيف تعاملوا بمن أراد أنْ يدعو للارتباط بالإمام (عجَّل الله فرجه) على مستوى ذكره الذي هو لون

(١٤٢)

من ألوان الارتباطات، يحارب من الذين فشلوا في الامتحان، وتبدأ الدعاوى الشيطانيَّة والتُّرُهات الإبليسيَّة أنْ ابتعدوا عن ذكر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فإنَّها حركات ضالَّة، وإذا أرادوا أنْ يقولوا أحسن قولاً وهذَّبوا العبارات واختاروا أفضل الكلمات قالوا: إنَّ ذكر الإمام (عجَّل الله فرجه) صحيح ولكن يجرجر الإنسان البسيط إلى الحركات الضالَّة المضلَّة.
إذن جنَّة إبليس ونعيمه إبعاد المجتمع عن تفشِّي ذكر الإمام (عجَّل الله فرجه) والارتباط به.
الدرع الفولاذي للمنتظر:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّ اَللهَ أَرْسَلَ اِلَيْكُمْ رَسُولاً لِيُزِيحَ بِهِ عِلَّتَكُمْ، وَيُوقِظَ بِهَ غَفْلَتَكُمْ»(223).
وقال (عليه السلام): «دَوَاءُ اَلْغَفْلَةِ اَلْيَقْظَةُ».
وقال (عليه السلام): «ضَادُّوا اَلْغَفْلَةَ بِالْيَقْظَةِ»(224).
وقال (عليه السلام): «بِالمَوَاعِظِ تَنْجَلِي اَلْغَفْلَةُ»(225).
وقال (عليه السلام): «بِدَوَامِ ذِكْرِ اَللهِ تَنْجَابُ اَلْغَفْلَةُ»(226).
وقال (عليه السلام): «مَنْ لَمْ يَسْتَظْهِرْ بِالْيَقْظَةِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْحَفَظَةِ»(227).
وقال (عليه السلام): «أَلَا مُسْتَيْقِظٌ مِنْ غَفْلَتِهِ قَبْلَ نَفَادِ مُدَّتِهِ»(228).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(223) بحار الأنوار (ج 74/ ص 295 و296/ ح 4).
(224) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 427/ ح 31).
(225) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 296 و297/ ح 13).
(226) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 300 و301/ ح 91).
(227) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 653/ ح 1337).
(228) غُرَر الحِكَم ودُرَر الكَلِم (ص 176/ ح 2).

(١٤٣)

وقال (عليه السلام): «فَاسْتَصْبِحُوا بِنُورِ يَقْظَة فِي اَلْأَبْصَارِ وَاَلْأَسْمَاعِ وَاَلْأَفْئِدَةِ»(229).
أقول: أنت ترى كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكر العلاج في الرُّسُل واليقظة والمواعظ وديمومة ذكر الله، وتذكر الروايات أُموراً أُخرى، المتتبِّع لكلام أهل بيت العصمة (عليهم السلام) يجد الدواء لكلِّ داء، ولكن الأهمّ استعماله بعد معرفته لنزيح الغفلة وتحصل اليقظة والذكر الدائم للإمام المغيَّب (عجَّل الله فرجه).
كلمة:
يقول السيِّد ابن طاوس (رحمه الله): (إنَّ النوم موت اليقظة ووفاة الجوارح [عن] حياة الاستقامة، قال الله (جلَّ جلاله): ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾ [الأنعام: 60]، فجعل (جلَّ جلاله) النوم وفاةً واليقظة بعثاً وحياةً، وقد عرفت [أنَّ] النائم يصير كالأعمى والأصمّ والأخرس والزَّمِن والمرطوب، ويضيع منه الانتفاع بعقله فيما يُقرِّبه [من] علَّام الغيوب، وكأنَّه إذا نام فقد ضيَّع عياله وأمواله وحوائجه ومهمَّاته وضروراته، وما بقي له قدرة على حفظ شيء ممَّا كان يحفظه باليقظة من مطلوباته ومراداته، ولو أحرزها بالأقفال وما يجري مجراها من الاحتيال فإنَّه إذا نام أمكن فيها وقوع ما لا يريد على كلِّ حال.
فكأنَّ الإنسان إذا نام قد أُصيب مصائب هائلة، ووقع تحت أخطار ذاهلة، وما بقي يقدر على جمع شمله باليقظة على السلامة، وبجوارحه على الاستقامة، ويحفظ لمهمَّاته على الإرادة التامَّة إلَّا الله (جلَّ جلاله).
أقول: فينبغي أنْ يتوب من ما يقتضى غضبه عليه، فإنْ لم توافقه نفسه على التوبة وكان مصرًّا قد غلبت القساوة عليه فيسأل الله (جلَّ جلاله) العفو عنه، فإنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(229) نهج البلاغة (ص 342/ ح 222).

(١٤٤)

مصانعته لله (جلَّ جلاله) عند نومه لا بدَّ منه، فإنَّه إذا كان الله (جلَّ جلاله) غضباناً عليه وهو مهون بغضبه وغير ملتفت إليه فقد أعان هلاك مهجته وكلَّ ما يعزُّ عليه، وصار في حال ينبغي أنْ يبكى منه ويُبكى عليه، ولم يصح منه طلب العفو والغفران بذلِّ الجناة والعصيان، فيستسلم لله (جلَّ جلاله) استسلام من يسترحم لمن يأخذ القود منه، فعسى من رحمته وسعت كلَّ شيء (جلَّ جلاله) يرحمه ويعفو عنه ويحفظه في نومته ويعيده فوائد يقظته، ويودع نفسه وكلَّ من يعزُّ عليه وما يعزُّ عليه لله (جلَّ جلاله) الذي أمر بحفظ الودائع والأمانات وجعل ذلك من الوصف الكامل، وهو أجلّ وأقدر عليه.
أقول: ولقد رأيت في كتاب (الياقوت الأحمر) تأليف أحمد بن الحسن الأهوازي ما هذا لفظه، قال: وسمعت بعض وصفاء الأكاسرة قالت: ما نام كسرى قطُّ إلَّا ونومه يسجد لله (عزَّ وجلَّ) ويسأله أنْ يُحييه بعد [أنْ] يميته، يعنى بالموت النوم، وبالحياة الانتباه)(230).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(230) الأمان من أخطار الأسفار والأزمان (ص 139 و140).

(١٤٥)

وفي هذا الفصل نحاول أنْ ندفع الشبهة القائلة بأنَّ الإمام لا يحتاج إلى دعائنا، فكيف يطلب منَّا الدعاء له ونحن نعتقد أنَّ الإمام كامل غني عمَّا في أيدي الناس؟ ففي (الكافي) عن الحسين بن محمّد بن عامر بإسناده رفعه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَنْ زَعَمَ أَنَّ اَلْإِمَامَ يَحْتَاجُ إِلَى مَا فِي أَيْدِي اَلنَّاسِ فَهُوَ كَافِرٌ، إِنَّمَا اَلنَّاسُ يَحْتَاجُونَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمُ اَلْإِمَامُ، قَالَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ): ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103]»(231).
وفي مقام الإجابة نذكر عدَّة أجوبة:
الجواب الأوَّل (232):
أنْ يكون دعاؤنا له من باب هدية شخص حقير فقير إلى سلطان جليل كبير، ولا ريب أنَّ ذلك علامة احتياج هذا الفقير إلى عطاء ذاك السلطان الكبير، وهذا دأب العبيد بالنسبة إلى الموالي، والداني إلى العالي، ونعم ما قيل:

أهدت سليمان يوم العيد قبرة * * * برجلة من جراد كان في فيها
ترنَّمت بلطيف القول ناطقة * * * إنَّ الهدايا على مقدار مهديها

الجواب الثاني:
أنَّ الظاهر من الروايات أنَّ وقت ظهوره (عليه السلام) من الأُمور البدائيَّة (البداء) التي يمكن التقديم والتأخير فيها مشروطاً باهتمام أهل الإيمان بالدعاء لتعجيل ظهور صاحب الزمان (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(231) الكافي (ج 1/ ص 537/ باب صلة الإمام (عليه السلام)/ ح 1).
(232) من الجواب الأوَّل إلى الخامس أخذناه من مكيال المكارم (ج 1/ ص 277 - 279).

(١٤٩)

الجواب الثالث:
أنَّه لا ريب في وقوع ابتلاء الأئمَّة (عليهم السلام) - بمقتضى البشريَّة - بالبليَّات والأسقام والهموم والأحزان، ولدفع تلك الأُمور أسباب، يتمشَّى بعضها من أهل الإيمان، ومن أعظم الأسباب لصرف أنواع البلاء الجدِّ والاهتمام في الدعاء، كما ورد في الروايات، ولا يخفى على أهل الدرايات.
الجواب الرابع:
أنَّه إذا كان لنا مطلوب وكان من دونه موانع لا يتيسَّر لنا البلوغ إليه إلَّا برفع تلك الموانع، وجب علينا المسابقة والمجاهدة في دفعها ورفعها، ولـمَّا كان تأخُّر ظهور مولانا (عليه السلام) بسبب موانع نشأت من قِبَلنا، فعلينا المسألة من الله تعالى شأنه، لدفع تلك الموانع. فالدعاء بتعجيل فرجه في الحقيقة دعاء في حقِّنا ومفيد لنا.
الجواب الخامس:
أنَّه ليس لفضل الله تعالى ورحمته نهاية محدودة، ولا في وجود الإمام (عليه السلام) نقص وقصور عن قبول الفيض منه (عزَّ وجلَّ)، فما المانع من إفاضة عناية مخصوصة بدعاء المؤمنين لمولاهم (عليه السلام).
والقول بأنَّ كونه وسيلة في الإفاضة إلى العباد منافٍ لبلوغه درجة بوسيلة العباد، ليس إلَّا صرف استبعاد، فإنَّ كونهم علَّة غائيَّة لخلق الممكنات، والإفاضة إلى البريَّات، لا ينافي حصول لوازم البشريَّة فيهم، فإنَّ الله تعالى خلق الأفلاك والأرضين وما فيهنَّ وما بينهنَّ لأجلهم، ويفيض إلى أهلها ببركتهم، لكنَّهم يحتاجون بمقتضى البشريَّة في تعيُّشهم وبقاء حياتهم الظاهرة إلى ما يخرج من الأرض، كاحتياج سائر الخلق إليه.
وممَّا ذكرنا ظهر أنَّ نفع الصلاة من المؤمنين على خاتم النبيِّين وآله

(١٥٠)

الطاهرين يرجع إلى المصلِّي والمصلَّى عليه، لا من باب الاحتياج إلى دعاء المصلِّي، حتَّى يرد علينا ما أُورد، بل من جهة قابليَّتهم (عليهم السلام) لإفاضات الله تعالى التي لا نهاية لها، لأنَّ دوامها واستمرارها وتجدُّدها إنَّما هي من لوازم قدرته الكاملة التامَّة العامَّة الدائمة.
الجواب السادس (233):
 زيادة ارتباطنا به وعدم الغفلة عنه، ممَّا يُعطينا زخماً معنويًّا وحركةً عاليةً في اتِّجاه حركة الإصلاح العالمي والتمهيد لها.
الجواب السابع:
كلُّ أُمَّة تريد أنْ تُرسِّخ عقيدة على نحو التشبُّع تضع أمام طائفتها كتاب يُتدارس في كلِّ المراحل من حياتها، أو تكتب قصيدة يطلب منها في جميع المراحل بتكرارها حتَّى تتشبَّع تلك الطائفة، ومن هنا دعاء الفرج حالة من التشبُّع في العقيدة المهدويَّة، كما في تلاوة القرآن الكريم والكثرة المتكاثرة من الأحاديث في الحثِّ على ختمه، ودعاء الفرج نوع من تلقين الوعي الباطني للإنسان المنتظر.
الجواب الثامن:
الدعاء له أصناف متعدِّدة، قسم كبير منه يأتي بصيغة من المعصوم، وهو يريد أنْ يُعلِّم من لا عصمة له كيف يدعو ويطلب، وكيف يُعرِّي ذاته ممَّا هي عليه، لكي ينطلق إلى أمرٍ يجب أنْ يكون عليه، والدعاء قد يكون تعليميًّا أو توجيهيًّا.
الجواب التاسع:
الذي يدعو للإمام (عجَّل الله فرجه) يُؤكِّد الانتماء إليه، وحينما يُؤكِّد الانتماء إليه إنَّما يُطلِق أوَّل إشارة للاستعداد والتأهُّل لنصرة رسالة الإمام (عجَّل الله فرجه)، فهي استفادة من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(233) شذرات مهدويَّة (ص 161).

(١٥١)

جهة تأهُّل المأموم لأداء حقِّ الإمام (عجَّل الله فرجه)، والحقُّ هنا ليس حقٌّ شخصي وإنَّما حقُّ الرسالة.
الجواب العاشر:
عند قراءة الدعاء للإمام (عجَّل الله فرجه) بالمقابل هل سيدعو الإمام لي أو لا يدعو؟ لا شكَّ ولا ريب سيدعو لي، ولكن بفارق كبير، فلساني وقلبي واقعه الآثام والذنوب، ولسانه وقلبه واقعه النور، وشتَّان بين دعاء المعصوم ودعاء من لا عصمة له.
الجواب الحادي عشر (234):
بدعائنا نطلب فرجنا في ذلك، ففي التوقيع المروي في (كمال الدِّين) و(الاحتجاج) و(البحار) حيث قال (عجَّل الله فرجه): «أَكْثِرُوا اَلدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ اَلْفَرَجِ فَإِنَّ ذَلِكَ فَرَجَكُمْ»(235).
«فَإِنَّ ذَلِكَ فَرَجَكُمْ» يحتمل أحد أُمور:
أحدها: أنْ يكون المراد بذلك فرجه (عليه السلام)، ويكون الكلام تعليلاً للأمر بدعاء الفرج، يعني أنَّ فرجكم يترتَّب على ظهوري وفرج أمري، ويُقرِّب هذا الاحتمال قرب اسم الإشارة منه.
ويُؤيِّده أيضاً جميع ما ورد في الروايات، من أنَّ بفرجه فرج أولياء الله، وقد قدَّمنا ما يدلُّ على ذلك في حرف الفاء فراجع.
الثاني: أنْ يكون المراد بذلك فرجه أيضاً، ويكون الكلام تعليلاً للأمر بالإكثار من الدعاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(234) مكيال المكارم (ج 1/ ص 284 - 286).
(235) كمال الدِّين (ص 485/ باب 45/ ح 4)، الاحتجاج (ج 2/ ص 284)، بحار الأنوار (ج 52/ ص 92/ ح 7، وج 53/ ص 181 و182/ ح 10).

(١٥٢)

الثالث: أنْ يكون المراد بذلك نفس هذا الدعاء، يعني أنْ يحصل الفرج لكم بالدعاء لتعجيل فرجي وظهوري.
الرابع: أنْ يكون المراد بذلك الإكثار يعني أنَّه يحصل الفرج في أمركم بإكثاركم من الدعاء، بتعجيل فرجي.
هذا ما اختلج بالبال من وجوه الاحتمال في هذا المقال، والله تعالى هو العالم بخفيَّات الأُمور وحقائق الأحوال، ويُقرِّب الاحتمالين الأخيرين أنَّ ذلك يُستَعمل في الإشارة إلى البعيد غالباً كما تبيَّن في علم النحو، فتدبَّر.
ويُؤيِّدهما أيضاً ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى في بعض الروايات: أنَّ الملائكة يدعون للداعي لأخيه المؤمن في غيبته بما يدعو به لأخيه أضعافاً مضاعفة، وبعض آخر فيه أيضاً دلالة على المقصود ونيل الفرج بالدعاء لفرجه المسعود.
فإنْ قلت: فما معنى حصول الفرج للداعي بهذا الدعاء؟
قلت: حصول الفرج بسبب هذا الدعاء يقع للداعي بأحد أنحاء:
منها: أنْ يبلغ بمأموله وما يهتمُّ بحصوله من الأُمور الدنيويَّة أو غيرها ببركة دعائه لمولاه، فإنَّه الوسيلة لكلِّ خير وصلاح، والداعي لمن يدعو له بالفرج والفلاح.
الجواب الثاني عشر:
المطالبة بقراءة الأدعية هو من أجل حجز مقدار من وقت الإنسان بشكل مبرمج لذكر الإمام (عجَّل الله فرجه)، وهي منهجة معدَّة سلفاً من قِبَل المعصوم لتبرز مواثيق الولاء وعهود الانتماء ولوازم الطاعة.
الجواب الثالث عشر:
الحصول على الأجر الكبير والثواب الجزيل من الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر العلَّامة آية الله الحاجّ ميرزا محمّد تقي الموسوي الأصفهاني (فقيه أحمدآبادي) تسعين فائدة في الدعاء بتعجيل الفرج، وهي كالتالي:

(١٥٣)

1 - قوله (عليه السلام): «وَأَكْثِرُوا اَلدُّعَاءَ بِتَعْجِيلِ اَلْفَرَجِ فَإِنَّ ذَلِكَ فَرَجَكُمْ».
2 - يوجب ازدياد النِّعَم.
3 - إظهار المحبَّة الباطنيَّة.
4 - أنَّه علامة الانتظار.
5 - إحياء أمر الأئمَّة الطاهرين (سلام الله عليهم أجمعين).
6 - سبب فزع الشيطان اللعين.
7 - النجاة من فِتَن آخر الزمان ومهالكه.
8 - أنَّه أداء لبعض حقوقه في الجملة، وأداء حقِّ ذي الحقِّ [من] أوجب الأُمور.
9 - أنَّه تعظيم لله ولدين الله.
10 - دعاء صاحب الزمان (عليه السلام) في حقِّه.
11 - شفاعته له في يوم القيامة.
12 - شفاعة النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له إنْ شاء الله تعالى.
13 - أنَّه امتثال لأمر الله تعالى، وابتغاء من فضل الله تعالى.
14 - يوجب إجابة الدعاء.
15 - أنَّه أداء أجر الرسالة.
16 - يوجب دفع البلاء.
17 - يوجب سعة الرزق إنْ شاء الله تعالى.
18 - غفران الذنوب.
19 - التشرُّف بلقائه في اليقظة أو المنام.
20 - الرجعة إلى الدنيا في زمان ظهوره (عليه السلام).
21 - يصير من إخوان النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

(١٥٤)

22 - استباق وقوع الفرج لمولانا صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه).
23 - أُسوة بالنبيِّ والأئمَّة (عليهم السلام).
24 - أنَّه وفاء بعهد الله وميثاقه.
25 - ما يترتَّب على برِّ الوالدين من الفوائد والمكارم.
26 - درك فضل رعاية الأمانة.
27 - زيادة إشراق نور الإمام في القلب.
28 - طول العمر إنْ شاء الله تعالى.
29 - التعاون على البر والتقوى.
30 - الفوز بنصر الله والغلبة على الأعداء بعون الله تعالى.
31 - الاهتداء بنور القرآن المجيد.
32 - صيرورته معروفاً عند أصحاب الأعراف.
33 - الفوز بثواب طلب العلم إنْ شاء الله تعالى.
34 - الأمن من المخاوف والعقوبات الأُخرويَّة إنْ شاء الله تعالى.
35 - البشارة والرفق عند الموت.
36 - إجابة دعوة الله ودعوة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
37 - كونه مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في درجته.
38 - أنْ يصير أحبّ الخلق إلى الله تعالى.
39 - أنْ يصير أعزّ الخلق وأكرمهم عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
40 - أنَّه يصير من أهل الجنَّة إنْ شاء الله تعالى.
41 - أنْ يشمله دعاء النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
42 - غفران الذنوب وتبدُّل السيِّئات بالحسنات.
43 - أنْ يُؤيِّده الله تعالى في العبادة.

(١٥٥)

44 - أنْ يدفع به العقوبة عن أهل الأرض إنْ شاء الله تعالى.
45 - فيه ثواب إعانة المظلوم.
46 - فيه ثواب إجلال الكبير والتواضع له.
47 - فيه ثواب طلب ثار مولانا المظلوم الشهيد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
48 - تحمُّل أحاديث الأئمَّة الطاهرين (عليهم السلام).
49 - إضاءة نوره لغيره في مشهد القيامة.
50 - شفاعته لسبعين ألفاً من المذنبين.
51 - دعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) في حقِّه يوم القيامة.
52 - دخول الجنَّة بغير حساب.
53 - السلامة من عطش يوم القيامة.
54 - الخلود في الجنَّة.
55 - أنْ يوجب خمش وجه إبليس وقرح قلبه.
56 - أنْ يُتحَف يوم القيامة بتحفة مخصوصة.
57 - أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يُخدِمه من خدم الجنَّة.
58 - أنْ يكون في ظلِّ الله الممدود وتنزل عليه الرحمة ما دام مشتغلاً بذلك الدعاء.
59 - فيه ثواب نصيحة المؤمن.
60 - أنَّ المجلس الذي يُدعى فيه للقائم (عجَّل الله فرجه) يكون محضراً للملائكة المكرَّمين.
61 - أنَّ الداعي لهذا الأمر الجليل ممَّن يُباهي به الإله الجليل.
62 - تستغفر له الملائكة.
63 - يكون من أخيار الناس بعد الأئمَّة الطاهرين.

(١٥٦)

64 - أنَّه إطاعة لأُولي الأمر الذين فرض الله تعالى طاعتهم.
65 - يوجب سرور الله (عزَّ وجلَّ).
66 - يوجب سرور رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
67 - أنَّه من أحبّ الأعمال إلى الله تعالى شأنه.
68 - أنَّ الداعي بهذا الأمر الشريف يكون ممَّن يحكمه الله تعالى في الجنان إنْ شاء الله تعالى.
69 - أنَّه يُحاسَب حساباً يسيراً.
70 - الأنيس الشفيق له في البرزخ والقيامة.
71 - أنَّه أفضل الأعمال.
72 - يوجب زوال الغمِّ.
73 - أنَّه أفضل من الدعاء في حقِّ الإمام زمان ظهوره.
74 - دعاء الملائكة في حقِّه.
75 - يشمله دعاء سيِّد الساجدين (عليه السلام)، وهو يشتمل على فنون من الفوائد وصنوف من العوائد.
76 - أنَّه تمسُّك بالثقلين.
77 - أنَّه اعتصام بحبل الله تعالى.
78 - يوجب إكمال الإيمان.
79 - درك مثل ثواب جميع العباد.
80 - أنَّه تعظيم شعائر الله (عزَّ وجلَّ).
81 - فيه ثواب من استُشهِدَ مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
82 - فيه ثواب من استُشهِدَ تحت راية القائم (عليه السلام).
83 - فيه ثواب الإحسان إلى مولانا صاحب الزمان (عليه السلام).

(١٥٧)

84 - فيه ثواب إكرام العالم.
85 - فيه ثواب إكرام الكريم.
86 - الحشر في زمرة الأئمَّة الطاهرين.
87 - ارتفاع الدرجات في روضات الجنَّات.
88 - الأمن من سوء الحساب في يوم الحساب.
89 - الفوز بفضل درجات الشهداء يوم القيامة.
90 - الفوز بالشفاعة الفاطميَّة(236).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(236) مكيال المكارم (ج 1/ ص 280 - 284).

(١٥٨)

الخاتمة

وأختم الكلام في كلمة السيِّد ابن طاوس (رضوان الله عليه):
(لعلَّك لا تنشط لهذه الهدايا، إمَّا أنَّك تقول: إنَّ الهداة مستغنون عنها، أو لعلَّك تستكثرها لتكرارها في كلِّ يوم فيميل طبعك إلى التفرُّغ منها.
واعلم أنَّ القوم (صلوات الله عليهم) مستغنون عن هديَّتك، ولكن أنت غير مستغنٍ عن الهدية إليهم وقرب مقولتك لديهم، كما أنَّ الله (جلَّ جلاله) مستغنٍ عن هذه الأحوال، فليكن في نيَّتك وسريرتك عند ابتداء الهدية لهذه الأعمال أنَّ المنَّة لله (جلَّ جلاله) ولهم (صلوات الله عليهم)، كيف هداك الله (جلَّ جلاله) وهدوك به (جلَّ جلاله) إلى السعادة والأمان والخلود في كمال الإحسان ديار الرضوان، ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [الحجرات: 17]، وأنت كما قال بعض أهل البيان:

أُهدي لمجلسه الكريم وإنَّما * * * أُهدي له ما خرَّت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وما له * * * منٌّ عليه لأنَّه من مائه

وأمَّا استكثارك لهديتك أو ميلك إلى تفرُّغك من الصلاة لتحصيل سعادتك، فاعلم أنَّ هذه الهداية إلى الهديَّة إنَّما حصلت لك بطريق عناية الله (جلَّ جلاله) بأُولئك الصفوة المرضيَّة، وإخلاصهم في معاملة الجلالة الإلهيَّة، وخاصَّة فإنَّك تقول: لولا حُجَج الله (جلَّ جلاله) على العباد ما خلق الله (جلَّ جلاله) أرضاً ولا سماءً ولا أحداً في البلاد، ولا ناراً ولا جنَّةً للمعاد، ولا شيئاً من النعيم والإرفاد، فهل ترى أعمالك جميعها إلَّا في ميزان ما بهم وفي ديار رضوان ثوابهم؟ لأنَّ إخلاصهم في العبادة

(١٥٩)

كان بفضل الله (جلَّ جلاله) عليهم سبب ما يبلغ إليه من السعادة، فإذا كان في الحساب ولو دار على مال ولو كنت تبلغه لولا عموم الكرم والإفضال، ولو كنت عارفاً بمقدار حقِّ الله تعالى بهم وحقِّهم عليك بالله (جلَّ جلاله) وما يضيع من حقوقهم بالليل والنهار، كنت قد رأيت ما تهديه يحتاج إلى اعتذار، وكنت قلت كقول بعض الاعتبار:

فإنْ يقبلوا منِّى هدية قاصر * * * عددت لكم ذاك القبول من الفضلِ
وكان قبول عندكم فضل رحمة * * * يعزُّ بها قلب الوليِّ من الذلِّ
ويوجب شكراً عنده لمقامكم * * * وفرض حقوق لا يقوم لها مثلي

وقال لي بعض أصحابنا: إنِّي أستصغر نفسي وعملي أنْ أُهدي إليهم.
فقلت له: إذا كنت لا تستصغر نفسك عن خدمة الله (جلَّ جلاله) بحمده وساير خدمته، وهو أعظم من كلِّ عظيم، فلا معنى لاستصغار نفسك عن خدمة نوَّابه، لاسيّما وقد رضوا هم خدمتك لهم)(237).
أقول: وإلى هنا قد تمَّ الباب الأوَّل في أهمّيَّة وعظمة الدعاء بالفرج للحجَّة ابن الحسن (عجَّل الله فرجه)، ولو أردنا أنْ نستقصي جميع الآيات والأحاديث وكلمات العلماء لما انتهى بنا المقام إلَّا لعدَّة مجلَّدات، ولكن أردنا فقط التذكير والتنبيه لأهمّيَّة المسألة في حياة المنتظرين.
وإنْ شاء الله يليه الباب الثاني في شرح دعاء الفرج، ومنه التوفيق والتسديد.
وأقولها: قليل منك يكفيني، وقليلك لا يقال له: قليل.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(237) جمال الأُسبوع (ص 32 و33).

(١٦٠)

بسم الله الرحمن الرحيم

«اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ اَلْحُجَّةِ بْنِ اَلْحَسَنِ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ فِي هَذِه اَلسَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَقَائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَه فِيهَا طَوِيلاً، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمِينَ».

والحمد لله ربِّ العالمين
* * *

(١٦١)

الدعاء:
محمّد بن عيسى بإسناده عن الصالحين (عليهم السلام)، قال: «تُكَرِّرُ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَذَا اَلدُّعَاءَ سَاجِداً وَقَائِماً وَقَاعِداً وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَفِي الشَّهْرِ كُلِّه وَكَيْفَ أَمْكَنَكَ وَمَتَى حَضَرَكَ مِنْ دَهْرِكَ، تَقُولُ بَعْدَ تَحْمِيدِ اَللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاَلصَّلَاةِ عَلَى اَلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فِي هَذِه اَلسَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَقَاعِداً وَعَوْناً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَه فِيهَا طَوِيلاً»(238).
المصادر:
لقد ذكر دعاء «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ» في مصادر كثيرة، منها:
1 - الكافي (ج 4/ ص 162/ باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان/ ح 4).
2 - تهذيب الأحكام (ج 3/ ص 102 و103/ ح 265/37).
3 - مختصر بصائر الدرجات (ص 193).
4 - بحار الأنوار (ج 94/ ص 349).
5 - مستدرك الوسائل (ج 7/ ص 483/ ح 8707/5).
وغيرها.
وكذلك كُتُب الأدعيَّة، ومنها:
1 - مصباح المتهجِّد للشيخ الطوسي (ص 630 و631).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(238) الكافي (ج 4/ ص 162/ باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان/ ح 4).

(١٦٧)

2 - المزار لابن المشهدي (ص 611 و612).
3 - إقبال الأعمال للسيِّد ابن طاوس (ج 1/ ص 191).
4 - فلاح السائل للسيِّد ابن طاوس (ص 46).
5 - البلد الأمين للشيخ الكفعمي (ص 203).
6 - مفاتيح الجنان للشيخ عبَّاس القمِّي (ص 364).
كتاب الكافي والشيخ الكليني (رحمه الله):
أقدم مصدر نقل هذا الدعاء هو كتاب (الكافي) للشيخ الجليل محمّد بن يعقوب الكليني (أعلى الله مقامه)، وعليه نحاول أنْ نتوقَّف بعض الشيء على الكتاب ومؤلِّفه.
قد عاش هذا الشيخ الجليل زمان الغيبة الصغرى، وعاصر السفراء العظام للناحية المقدَّسة، وتُوفِّي قبل وفاة السفير الرابع، وهو عليُّ بن محمّد السمري، فإنَّ هذا السفير العظيم تُوفِّي سنة (329هـ) بينما الكليني تُوفِّي سنة (328هـ)، ونُقِلَ أنَّه تُوفِّي سنة (329 هـ)، فتكون سنة وفاتهما على هذا واحدة.
وألَّف كتابه الشريف فترة عشرين سنة على ما نقل النجاشي في ترجمته(239).
وكتاب (الكافي) مركَّب من ثلاثة أقسام: كتاب الروضة، والأُصول، والفروع.
أمَّا كتاب الروضة فقد طُبِعَ في جزء واحد، ويتضمَّن بعض خُطَب الأئمَّة (عليهم السلام) ومواعظهم، وبعض القضايا التاريخيَّة المرتبطة بهم وبغيرهم.
وقد ذكر البعض أنَّ الكليني لـمَّا أكمل كتابه وأتمَّ ردَّ موارده إلى فصولها بقيت زيادات كثيرة من خُطَب أهل البيت ورسائل الأئمَّة (عليهم السلام) وآداب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(239) رجال النجاشي (ص 337/ الرقم 1026).

(١٦٨)

الصالحين وطرائف الحِكَم ممَّا لا ينبغي تركه، فألَّف كتاباً يجمع ذلك، وسمَّاه بالروضة، لأنَّ الروضة منبت أنواع التمر.
وأمَّا الأُصول فقد طُبِعَ في جزئين، كلُّ جزء يتضمَّن أربعة كُتُب، فالجزء الأوَّل يتضمَّن كتاب العقل والجهل ويبحث عمَّا يرتبط بالعقل والجهل، وكتاب فضل العلم ويبحث عمَّا يرتبط بالعلم وفضله، وكتاب التوحيد ويبحث عن التوحيد، وكتاب الحجَّة ويبحث عمَّا يرتبط بالمعصومين (عليهم السلام)، كالبحث عن علمهم وتاريخ حياتهم وغير ذلك ممَّا يرتبط بهم.
وأمَّا الجزء الثاني فيتضمَّن كتاب الإيمان والكفر، وكتاب الدعاء، وكتاب فضل القرآن، وكتاب العشرة.
وأمَّا الفروع فقد طُبِعَت في خمسة أجزاء، كلُّها تعرض الأحاديث الواردة في الفروع الفقهيَّة.
وقد أولت الشيعة اهتماماً كبيراً للكافي، وضافرت جهودها عليه بحثاً وقراءةً ومطالعةً منذ الزمن السالف وحتَّى يومنا هذا.
يقول النجاشي (رحمه الله): (كنت أتردَّد إلى المسجد المعروف بمسجد اللؤلؤي، وهو مسجد نفطويه النحوي، أقرأ القرآن على صاحب المسجد، وجماعة من أصحابنا يقرأون كتاب الكافي على أبي الحسين أحمد بن أحمد الكوفي الكاتب، حدَّثكم محمّد بن يعقوب الكليني، ورأيت أبا الحسن العقراني يرويه عنه)(240).
ومجموع أحاديث (الكافي) على ما قيل يزيد على مجموع أحاديث الصحاح الستَّة للعامَّة، فإنَّ مجموع أحاديث الكافي (16199) حديثاً، بينما مجموع أحاديث الصحاح (9483) حديثاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(240) المصدر السابق.

(١٦٩)

ومن هنا تتجلَّى لنا عظمة الكتاب المذكور، ومدى الأتعاب التي بذلها مؤلِّفه، جزاه الله على تلك الجهود خير ما يُجزي به عباده الصالحين.
طريقة الشيخ الكليني (رحمه الله):
1 - أنَّ بعض أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) سجَّل الأحاديث التي سمعها منهم (عليهم السلام) في كراريس بلغ عددها (400) كرَّاساً سُمّيت بعد ذلك بـ (الأُصول الأربعمائة).
وقد عمد الكليني والصدوق والطوسي (رحمهم الله) إلى تلك الأُصول وبوَّبوها إلى أبواب معيَّنة، ووضعوا كلَّ حديث في بابه المناسب، وبذلوا في هذا المجال جهوداً لا تُثمَّن، وبرزت نتيجةً لتلك الجهود الكُتُب الأربعة المتداولة بأيدينا اليوم، وهي: الكافي، ومن لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار.
وقد سهَّل علينا هؤلاء الأعلام وعبَّدوا لنا طريق الاجتهاد والاستنباط، فالفقيه إذا أراد استنباط حكم ورامَ التعرُّف على وجود حديث يرتبط به راجع الكُتُب المذكورة في الباب المناسب لذلك الحكم.
وطريقة أصحاب هذه الكُتُب مختلفة، فالكليني حينما ينقل الأحاديث من الأُصول ينقلها غالباً مع ذكر تمام السند، فيقول مثلاً: حدَّثني عليُّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن الإمام (عليه السلام)، ونادراً ما يحذف بعض السند.
نعم، قد يحذف بعض السند اعتماداً على السند السابق، وهو ما يُصطَلح عليه بالتعليق، وهذا أمر متداول لديه (رحمه الله).
ولتوضيح ذلك نذكر المثال التالي المذكور في الفروع (ج 4/ ص 176/ باب المساجد التي يصلح الاعتكاف فيها)، يقول (رحمه الله):
1 - عدَّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، عن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام)...

(١٧٠)

2 - سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد، عن داود بن سرحان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)...
نحن نعرف من خلال مراجعاتنا أنَّ الكليني لا يروي عن سهل مباشرةً، فلا بدَّ وأنْ يكون ابتداؤه السند في الحديث الثاني بسهل هو من باب الاعتماد والتعليق على السند السابق، فكأنَّه يريد أنْ يقول: أنا أروي الحديث الثاني عن عدَّة من أصحابنا عن سهل، بَيْدَ أنَّه حذف كلمة العدَّة من باب الاعتماد على السند السابق.
وهذا أمر قد يخفى على المبتدئ، فيتخيَّل أنَّ الكليني يروي عن سهل، وأنَّ سهلاً من مشايخ الكليني.
وقد يروي بعض الأحيان عن سهل مباشرةً ومن دون تعليق على السند السابق، كما في الفروع (ج 3/ ص 154/ باب الميِّت يموت وهو جُنُب.../ ح 3)، و(ج 3/ ص 155/ باب المرأة تموت وفي بطنها ولد يتحرَّك/ ح 2)، و(ج 3/ ص 165/ باب حدِّ حفر القبر واللحد.../ ح 1)، وفي مثل هذه الحالة يكون الحديث غير معتبر من حيث السند، لعدم معرفة الواسطة بين الكليني وسهل، إلَّا إذا حصل الاطمئنان بأنَّها نفس الواسطة التي يذكرها في سائر الموارد.
وما ذكرته في سهل وحذف الواسطة هو من باب المثال، وإلَّا فقد نعثر على نظائر له وأمثلة أُخرى.
أقوال العلماء في شأن الكافي ونسبته لمؤلِّفه الجليل:
قال الشيخ النجاشي (رحمه الله): (محمّد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني، وكان خاله علَّان الكليني الرازي، شيخ أصحابنا في وقته بالريِّ

(١٧١)

ووجههم، وكان أوثق الناس في الحديث، وأثبتهم، صنَّف الكتاب الكبير المعروف بالكليني يُسمَّى الكافي في عشرين سنة)(241).
وقال الشيخ المفيد (رحمه الله): (وقد ذكر الكليني (رحمه الله) في كتاب الكافي، وهو من أجلّ كُتُب الشيعة وأكثرها فائدةً...)(242).
وقال الشيخ الطوسي (رحمه الله): (محمّد بن يعقوب الكليني، يُكنَّى أبا جعفر، ثقة، عارف بالأخبار، له كُتُب، منها: كتاب الكافي، وهو يشتمل على ثلاثين كتاباً)(243).
وقال الشهيد الأوَّل محمّد بن مكّي العاملي (رحمه الله): (كتاب الكافي في الحديث الذي لم يُعمَل للإماميَّة مثله، للشيخ أبي جعفر محمّد بن يعقوب الكليني)(244).
وقال المحقِّق الشيخ عليّ الكركي (رحمه الله): (الشيخ الإمام السعيد الحافظ المحدِّث الثقة جامع أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني صاحب الكتاب الكبير في الحديث المسمَّى بالكافي الذي لم يُعمَل مثله...، وقد جمع هذا الكتاب من الأحاديث الشرعيَّة والأسرار الدِّينيَّة ما لا يوجد في غيره)(245).
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله): (كتاب الكافي للشيخ الصدوق ثقة الإسلام، مقبول طوائف الأنام، ممدوح الخاصِّ والعامِّ، محمّد بن يعقوب الكليني...، كان أضبط الأُصول وأجمعها، وأحسن مؤلَّفات الفرقة الناجية وأعظمها)(246).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(241) رجال النجاشي (ص 377/ الرقم 1026).
(242) تصحيح اعتقادات الإماميَّة (ص 70).
(243) الفهرست (ص 210/ الرقم 602/17).
(244) بحار الأنوار (ج 104/ ص 190).
(245) بحار الأنوار (ج 105/ ص 75).
(246) مرآة العقول (ج 1/ ص 3).

(١٧٢)

وقال الميرزا عبد الله الأفندي (رحمه الله): (ثقة الإسلام، هو في الأغلب يُراد منه أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، الرازي، صاحب الكافي وغيره، الشيخ الأقدم، المسلَّم بين العامَّة والخاصَّة، والمفتي لكلا الفريقين)(247).
وفاة الشيخ الكليني (رحمه الله):
ذُكِرَت سنة وفاة الشيخ الكليني (رحمه الله) مرَّتين: (328) للهجرة، و(329) للهجرة، وكلتاهما مشهورتان، إلَّا أنَّ النجاشي أكَّد أنَّ وفاته وقعت سنة تناثر النجوم، وهي سنة (329) للهجرة، وهي السنة التي تساقطت فيها الشُّهُب بكثرة ملحوظة. ويبقى الثَّابت في وفاته أنَّها كانت قبل الغيبة الكبرى.
ودُفِنَ في بغداد بباب الكوفة، وهو أحد الأبواب الأربعة لقصر (المنصور) الذي بناه وسط بغداد. وقبر الشيخ الكليني واقع في الجانب الشرقي المُسمَّى بـ (الرَّصافة) عند طرف (جسر الشهداء) اليوم، وقد أصبح معروفاً بل مزاراً معلوماً.
يقع ضريح الشيخ الكليني (رحمه الله) في جامعٍ في جانب الرصافة عند (جسر الشهداء) يقابله جامع اسمه (الوزير)، وكانت هنالك كتابات وعبارات على القبر وعلى الجامع تُشير إلى أنَّ هذا القبر يعود للكليني، وقبل سقوط النظام البعثي بسنة أقدمت عصابات صدَّام على تشويه الحقيقة، حيث قاموا بإخفاء العبارات التي تُشير إلى اسم صاحب القبر، وكتابة اسم (الشيخ حارث المحاسبي) بدلاً عنه، وكان اسم الجامع بُدِّل سابقاً إلى (الآصفية).
وقد ذكر السيِّد هاشم البحراني في (روضة العارفين) أنَّ جسد الكليني قد رُئي طريًّا بكفنه بعد سنوات متمادية، حيث لم يندثر ولم يتعرَّض للتآكل، يشهد بذلك هذه الحادثة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(247) رياض العلماء (ج 7/ ص 45).

(١٧٣)

رأى بعض حُكَّام بغداد قبر الكليني (عطَّر الله مرقده) فسأل عنه، فقيل: إنَّه قبر بعض الشيعة، فأمر هذا الحاكم بهدمه، فحُفِرَ القبر وإذا به يرى فيه جسداً بكفنه لم يتغيَّر، وإلى جنبه طفل صغير مدفون بكفنه أيضاً! فأمر الحاكم بدفنه مرَّة ثانية، وبنى عليه قُبَّة، وهو إلى الآن قبرٌ معروف ومشهود.
هذا ما جاء في (روضة الواعظين) للفتَّال النيسابوري.
أمَّا في غيره فقد ورد: أنَّ بعض حُكَّام بغداد لـمَّا رأى إقبال الناس على زيارة الأئمَّة (عليهم السلام) وتعظيمهم وتشييد قبورهم، حمله النُّصب والبُغض يومها على التفكير بنبش قبر الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) قائلاً: إنْ كان كما يزعم الشيعة من فضله فهو موجود في قبره، وإلَّا مَنَعْنا الناسَ من زيارة قبورهم.
فقيل له - ولعلَّ القائل هو وزيره -: إنَّ الشيعة يدَّعون في علمائهم أيضاً ما يدَّعون في أئمَّتهم! وإنَّ هنا رجلاً من علمائهم المشهورين، واسمه محمّد بن يعقوب الكليني، وهو من أقطاب علمائهم، فيكفيك الاعتبار بحفر قبره.
فأمر الحاكم بحفر قبر الشيخ الكليني، حتَّى إذا كُشِفَ وجد الشيخَ على هيأته كأنَّه قد دُفِنَ في تلك الساعة! فأمر الحاكم ببناء قُبَّة عظيمة عليه وبتعظيمه، وصار القبر فيما بعد مزاراً مشهوراً.

* * *

(١٧٤)

الفقرة الأولى: «اَللَّهُمَّ»
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: اسم الجلالة في الأحاديث:
الحديث الأوَّل: عن الإِمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، قال: «وَاَللهُ إِلَهُ كُلِّ شَيْءٍ، اَلرَّحْمَنُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَاَلرَّحِيمُ بِالمُؤْمِنينَ خَاصَّةً»(248).
الحديث الثاني: عن هشام بن الحَكَم أنَّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها...، فقال: «اَللهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَه، وَإِلَه يَقْتَضِي مَأْلُوهاً»(249).
الحديث الثالث: عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «اَللهُ هُوَ الَّذِي يَتَأَلَّهُ إِلَيْهِ عِنْدَ اَلْحَوَائِجِ وَاَلشَّدَائِدِ كُلُّ مَخْلُوقٍ عِنْدَ انْقِطَاعِ اَلرَّجَاءِ مِنْ كُلِّ مَنْ هُوَ دُونَهُ»(250).
يقول الشيخ السبحاني: (المشهور أنَّ (الله) أصله (إله) فحُذِفَت همزته وأُدخل عليه الألف واللَّام، فخُصَّ بالباري...، وقد فُسِّر بوجوه سبعة، إليك بيانها:
1 - مشتقٌّ من الأُلوهيَّة التي هي العبادة، فإنَّ التألُّه، هو التعبُّد. يقال: فلان متألِّه، أي متعبِّد...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(248) الكافي (ج 1/ ص 114/ باب معاني الأسماء واشتقاقها/ ح 1).
(249) الكافي (ج 1/ ص 114/ باب معاني الأسماء واشتقاقها/ ح 2).
(250) التوحيد للصدوق (ص 230 و231/ ح 5).

(١٧٧)

2 - مشتقٌّ من الوله، وهو التحيُّر، يقال: أَله يأله إذا تحيَّر.
3 - مشتقٌّ من قولهم: ألَهْتُ إلى فلان أي فَزِعْتُ إليه، لأنَّ الخلق يألهون إليه، أي يفزعون إليه في حوائجهم.
4 - مشتقٌّ من أَلهتُ إليه أي سكنت إليه، لأنَّ الخلق يسكنون إلى ذكره.
5 - مشتقٌّ من لاه أي احتجب، والمعنى أنَّه سبحانه المحتجب بالكيفيَّة عن الأوهام، الظاهر بالدلائل والأعلام.
6 - مشتقٌّ من ألِه الفصيل إذا ولع بأُمِّه، والظاهر أنَّه يرجع إلى التفسير الثالث، أي إنَّه مشتقٌّ من أَلَهَ بمعنى (فزع).
7 - مشتقٌّ من (لاه) إذا ارتفع، والله سبحانه وتعالى هو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدَثات.
والحقُّ أنَّه لا صلة لهذه المعاني لما وُضِعَ له لفظ (إله)، وإنَّما هي من لوازم المعنى، لا نفسه ولا جزءه بل لازماً له، لأنَّ من كان إلهاً - بالمعنى الذي نذكره - للعالمين، يُعبَد وتتحيَّر العقول في درك كنهه وتسكن إليه النفس ويُحتَحب عن الأوهام وإنْ كان وجوده ظاهراً بالدلائل والبرهان.
ما هو المختار؟
إنَّ لفظ الجلالة وما يعادله في عامَّة اللغات موضوع لما يتبادر في عامَّة الأذهان بصورة إجماليَّة من كونه مصدر الخلق والكون الذي يُعبَّر عنه في لسان الحكماء والمتكلِّمين بواجب الوجود، أو الذات الجامعة لصفات الجمال والجلال، إلى غير ذلك من الكلمات التي هي تعبير تفصيلي لما هو المتبادر عند عامَّة الشعوب)(251).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(251) تفسير السور المسبِّحات الخمس (ص 18 - 20).

(١٧٨)

المسألة الثانية: معنى اسم (الله) في أحاديث أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام):
الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه سُئِلَ عن الله؟ قال: «اَلْأَلِفُ آلَاءُ اَللهِ عَلَى خَلْقِهِ مِنَ النَّعِيمِ بِوَلَايَتِنَا، وَاَللَّامُ إِلْزَامُ اَللهِ خَلْقَهُ وَلَايَتَنَا»، قلت: فالهاء؟ قال: «هَوَانٌ لِمَنْ خَالَفَ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(252).
أقول: وهنا يتبيَّن أنَّ الإمام (عليه السلام) بيَّن الاسم الإلهي في الولاية وشؤونها، ومن هنا يأتي سؤال: هل الاسم الإلهي غير أو عين الله (عزَّ وجلَّ)؟
(قاعدة: تغاير الأسماء مع الذات:
إنَّ الافتتاح للقرآن الكريم بالاسم لا ريب أنَّه يحمل في طيَّاته إشارة إلى أنَّ الاسم هو فاتحة الخلقة الإلهيَّة وفاتحة الظهور وفاتحة الكلام التكويني وهو الكلمة الأُولى، وأنَّه الحجاب بين الذات الإلهيَّة والخلق، ومن ثَمَّ يكون التوجُّه والتوصُّل والتمسُّك به وسيلة إلى الذات المقدَّسة.
روى الكليني (رحمه الله) بسنده عن الرضا (عليه السلام) قوله: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام): هل كان الله (عزَّ وجلَّ) عارفاً بنفسه قبل أنْ يخلق الخلق؟ قال: «نَعَمْ»، قلت: هل يراها ويسمعها؟ قال: «مَا كَانَ مُحْتَاجاً إِلَى ذَلِكَ، لأَنَّه لَمْ يَكُنْ يَسْأَلُهَا وَلَا يَطْلُبُ مِنْهَا، هُوَ نَفْسُه وَنَفْسُه هُوَ قُدْرَتُه نَافِذَةٌ، فَلَيْسَ يَحْتَاجُ أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَه وَلَكِنَّه اخْتَارَ لِنَفْسِه أَسْمَاءً لِغَيْرِه يَدْعُوه بِهَا، لأَنَّه إِذَا لَمْ يُدْعَ بِاسْمِه لَمْ يُعْرَفْ، فَأَوَّلُ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِه اَلْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لأَنَّه أَعْلَى اَلأَشْيَاءِ كُلِّهَا، فَمَعْنَاه اَللهُ وَاسْمُه اَلْعَلِيُّ الْعَظِيمُ هُوَ أَوَّلُ أَسْمَائِه عَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»(253).
بيانه: الحديث الشريف يدلُّ على أنَّ الذات الأزليَّة لا اسم لها في ذاتها، وأنَّ الاسم علامة وآية ودلالة، والعلامة إنَّما يُحتاج إليها لما هو غائب، وحيث إنَّ ذاته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(252) التوحيد للصدوق (ص 230/ ح 3).
(253) الكافي (ج 1/ ص 113/ باب حدوث الأسماء/ ح 2).

(١٧٩)

حاضرة لذاته، فلم تكن غائبة عن ذاته كي يطلبها بالاسم بخلاف غيره من المخلوقات، فإنَّها لا يمكنها معرفة الذات الإلهيَّة بالذات، بل لا سبيل إلى معرفتها إلَّا بالاسم.
وإلى هذا يشير قوله (عليه السلام): «لأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُدْعَ بِاسْمِهِ لَمْ يُعْرَفُ».
وفي هذا برهان على أنَّ المعرفة بالباري لا تتمُّ إلَّا بالأسماء، ويمتنع معرفة الذات بدون الأسماء، فالأسماء وسيلة المعرفة ومن دونها لا تتمُّ المعرفة، لأنَّ الذات الإلهيَّة خارجة عن الحدود لا يُحاط بها، فهي من البساطة التي تبهم على غيرها من الذوات.
ثمّ إنَّ في هذه الرواية إشارة إلى أنَّ الاسم ظهور للذات، وهذا الظهور بالإضافة إلى غيره تعالى، كما أنَّه تبيَّن أنَّ اسم كلِّ شيء ظهور له، وظهوره تعالى يعلو كلَّ ظهور.
والحاصل: أنَّ دور الأسماء هو نفي حدِّ التعطيل في معرفة الذات الإلهيَّة، كما أنَّها ينفي بها حدَّ التشبيه)(254).
(وروى الكليني أيضاً بسنده عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «اسْمُ اَللهِ غَيْرُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْهِ اِسْمُ شَيْءٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مَا خَلَا اَللهَ، فَأَمَّا مَا عَبَّرَتْهُ اَلْأَلْسُنُ أَوْ عَمِلَتِ اَلْأَيْدي فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَاَللهُ غايَةٌ مِنْ غاياتِهِ، وَاَلمُغَيَّى غَيْرُ اَلْغَايَةِ، وَاَلْغَايَةُ مَوْصُوفَةٌ، وَكُلُّ مَوْصُوفٍ مَصْنُوعٌ، وَصَانِعُ اَلْأَشْيَاءِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِحَدٍّ وَسِمَةٍ، لَمْ يَتَكَوَّنْ فَيُعْرَفُ كَيْنُونِيَّتُهُ بِصُنْعِ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَتَنَاهَ إِلَى غَايَةٍ إِلَّا كَانَتْ غَيْرَهُ، لَا يَزِلُّ مَنْ فَهِمَ هَذَا اَلْحُكْمَ أَبَداً، وَهُوَ اَلتَّوْحِيدُ اَلْخالِصُ، فَارْعَوْهُ وَصَدِّقُوهُ وَتَفَهَّمُوهُ بِإِذْنِ اَللهِ، مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْرِفُ اَللهَ بِحِجَابٍ أَوْ بِصُورَةٍ أَوْ بِمِثَالٍ فَهُوَ مُشْرِكٌ، لأَنَّ حِجَابَهُ وَمِثالَهُ وَصُورَتَهُ غَيْرُهُ، وَإِنَّما هُوَ وَاحِدٌ مُتَوَحِّدٌ، فَكَيْفَ يُوَحِّدُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(254) تفسير ملاحم المحكمات (ص 37 - 39).

(١٨٠)

مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَرَفَهُ بِغَيْرِهِ، وَإِنَّما عَرَفَ اَللهَ مَنْ عَرَفَهُ بِاللهِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِهِ فَلَيْسَ يِعْرِفُهُ، إِنَّما يَعْرِفُ غَيْرَهُ، لَيْسَ بَيْنَ اَلْخَالِقِ وَاَلمَخْلوقِ شَيْءٌ، وَاَللهُ خَالِقُ اَلْأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ، وَاَللهُ يُسَمَّى بِأَسْمَائِهِ، وَهُوَ غَيْرُ أَسْمَائِهِ وَاَلْأَسْمَاءُ غَيْرُهُ»(255).
وقوله (عليه السلام): «اِسْمُ اَللهِ غَيْرُهُ» يُشير (عليه السلام) إلى تغاير الذات الأزليَّة مع اسم (الله)، كما مرَّ في الأحاديث السابقة، ثمّ يُنبِّه أنَّ المراد من هذا الاسم - اسم الجلالة - ليس هو ما تُعبِّر به الألسن، وينقش بعمل الأيدي، بل هو المشار إليه باللفظ والكتابة، أي هو المقصود والغاية المرادة من الاسم اللفظي أو المنقوش، فالمغيَّا وهو الاسم اللفظي والاسم المنقوش مغاير إلى اسم (الله) الغاية.
ويمكن أنَّ ما أراده (عليه السلام) حينئذٍ من اسم الله الغاية، المفهوم الذهني، وأنَّه مصنوع، وموصوف بوصف، يصنعه الذهن، وهو يغاير صانع الأشياء، أو يُراد من اسم الله الغاية هو الاسم الذي خُلِقَ أوَّلاً في الأسماء، والذي مرَّ في الروايات السابقة، وهو الاسم بوجوده التكويني، وأنَّ هذا الاسم حيث إنَّه موصوف فهو مصنوع، أي مخلوق لأنَّ الذات الأزليَّة لا تُحَدُّ بوصف، إذ كلُّ موصوف مصنوع وصانع الأشياء لا يُوصَف بوصف فيُحَدُّ بذلك الوصف، إذ الوصف اسم من الأسماء كما مرَّ في حديث أنَّ الاسم صفة لموصوف.
والذات الأزليَّة لا تتناهى إلى غاية من صفة أو اسم إلَّا وكانت تلك الغاية غير الذات الأزليَّة، وهذا الاحتمال في مفاد الرواية قريب من قول الأمير (عليه السلام) في (نهج البلاغة): «اَلَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ»(256).
أي كلُّ صفة لها حدٌّ فهي دون صفته، وحيث إنَّ الصفات الكماليَّة تغاير بعضها البعض، فهي محدودة، وهي دون الصفة التي هو عليها)(257).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(255) الكافي (ج 1/ ص 113 و114/ باب حدوث الأسماء/ ح 4).
(256) نهج البلاغة (ص 39/ الخطبة 1).
(257) تفسير ملاحم المحكمات (ص 41 - 43).

(١٨١)

أقول: قد تبيَّن من الأحاديث أنَّ الأسماء غير الله (عزَّ وجلَّ)، ويشهد لذلك القرآن الكريم في قوله: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (الأعراف: 180)، وقوله: ﴿اللهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (طه: 8)، فتجد أنَّ القرآن يقول: لله الأسماء، وله الأسماء، وليس هو الأسماء الحسنى.
وقد تقدَّم أنَّ الأسماء غيره، يقول إمامنا الصادق (عليه السلام): «نَحْنُ وَاللهِ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنَى اَلَّتِي لَا يَقْبَلُ اَللهُ مِنَ اَلْعِبَادِ عَمَلاً إِلَّا بِمَعْرِفَتِنَا»(258).
المسألة الثالثة: التطابق مع القرآن الكريم:
أقول: الدعاء بدأ بـ «اَللَّهُمَّ»، وهذه عقيدة توحيديَّة أمرنا بها الباري (عزَّ وجلَّ)، وقد تقدمت الآيات المباركة، ومنها: ﴿وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ (الأعراف: 180).
فالآية المباركة تُصرِّح ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾، ويشهد لذلك الآيات والأحاديث التي يطول المقام عند ذكره.
الواسطة بالعبوديَّة توحيد لا شرك ولا كفر:
يقول شيخنا آية الله المحقِّق السند البحراني (دامت بركاته):
(إنَّ جوهر العبادة ليس بشكل وهيأة رسوم العبادة، بل جوهر العبادة الطاعة والطوعانيَّة والخضوع والانقياد، إذ لو كان مدار التوحيد في العبادة على نفي الواسطة المنصوبة من قِبَله تعالى ونفي الوسيلة، لكان إبليس إمام الموحِّدين، ولكان قدوة الموحِّدين في نفي العقيدة الشركيَّة في العبادة، لأنَّه عرض على الله أنْ يعبده عبادة من دون واسطة خليفة الله آدم، وهذا العرض - بحسب الصورة الظاهرة - أبلغ في دعاء الله وحده بلا شريك، بينما نرى الباري تعالى قد حكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(258) الكافي (ج 1/ ص 143 و144/ باب النوادر/ ح 4).

(١٨٢)

بأنَّ ما فعله إبليس بنفي الواسطة الإلهيَّة كفر، بل وحكم بأنَّ رغبة إبليس في عبادته مباشرةً شرك، وقد فسَّر أمير المؤمنين وأئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) ذلك بأنَّ رفض إبليس للواسطة الإلهيَّة وطلبه للسجود مباشرةً لله من دون الانقياد لآدم (عليه السلام) ينطوي في الحقيقة على تكبُّر على الله، لأنَّه لم يُسلِّم لربِّ العزَّة في قضائه وأمره.
والكبر: انفساخ عن العبوديَّة وبروز لفرعونيَّة الذات، فرأى في نفسه الاستقلال عن باريه فردَّ عليه أمره، ورأى تقدُّم رأيه على حكم الله وحكمته، وكلُّ ذلك ينطوي على إنكار مقامات ربوبيَّته تعالى وصفاته الكماليَّة بنحو مستبطن، فاعتدَّ إبليس بذاته بأنَّ له شأن الارتباط والتلقِّي مباشرةً عن الباري، وهذا يؤول إلى الاستخفاف بعلوِّ مقامات الربوبيَّة وإنكار عزِّ الشؤون الإلهيَّة)(259).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(259) الإمامة الإلهيَّة (ج 2/ ص 119).

(١٨٣)

الفقرة الثانية: «كُنْ»
«كُنْ»: فعل أمر من (كان يكون)، وهنا يُستَخدم للطلب من الله تعالى، والخبر هو عبارة «وَلِيًّا وَحَافِظاً...».
الإشكال: أقول: نحن مأمورون بالدعاء حقيقةً وليس مجرَّد لقلقة لسان أو صورة دعاء، فما هو إذاً معنى هذا الطلب الذي يجب علينا وعلى جميع المسلمين والمؤمنين أنْ نُكرِّره في ليلة القدر وكلِّ ساعة وأيَّام دهرنا وعلى كلِّ حالٍ كما في رواية محمّد بن عيسى المرويَّة في (الكافي الشريف)؟
«اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ... وَلِيًّا وَحَافِظاً وَقَائِداً...»، وهنا يأتي سؤال، وهو: هل أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) لم يكن لوليِّه وليًّا وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً، ونحن نعتقد تبعاً لأحاديث أهل بيت العصمة (عليهم السلام) أنَّ هذه الصفات له منذ الولادة وما قبلها وما بعدها، ولا تنفكُّ عنه أبداً، فيرد علينا سؤال: إذا كان كذلك فهو طلب الحاصل، وهو محال، فكيف يطلب المؤمن شئياً حاصلاً؟
ونصيغه بعبارة أُخرى، وهو: أنَّ الإمام وليٌّ وقائد...، فالأمر بالدعاء يلزم منه التكليف بتحصيل الحاصل، فيكون محالاً. وطلب الحاصل لغو، فإنَّك إذا كنت جاهلاً بالمسألة صحَّ أنْ تقول للمعلِّم: علِّمني المسألة، أمَّا إذا كنت عالماً بها فلا يصحُّ حقيقةً أنْ تقول: علِّمنيها، إلَّا مجازاً أو مجاملةً أو توريةً أو شبه ذلك. وكذلك إذا كنت مريضاً صحَّ أنْ تقول للطبيب: عالجني أو اسعَ

(١٨٤)

لشفائي، أمَّا إذا كنت صحيح الجسم معافى فإنَّ من اللغو أنْ تقول للطبيب: عالجني أو اسعَ لشفائي. وكذلك إذا كنت خارج السيَّارة أو الطائرة صحَّ أنْ تقول: أركِبني أو أدخِلني، ولا يصحُّ ذلك بالبداهة إذا كنت داخل الطائرة أو السيَّارة، فطلب الحاصل لغو، بل هو محال من الملتفت، بمعنى أنَّ الطلب الحقيقي محال، ولو صدر فإنَّما هو صورة طلب وليس بواقع الطلب وحقيقته.
الجواب:
وفي مقام الإجابة أقول - وقد ترى في الأجوبة ما لا يصحُّ على مقام الإمامة، فنحن نذكرها على سبيل رفع الشبهة لا على سبيل الاعتقاد -:
الجواب الأوَّل: طلب الـ «كُنْ» في مرحلة العلَّة المبقية:
ومعناها طلب الديمومة والاستمراريَّة في البقاء للصفات المذكورة في المقام، وليس الكلام عن العِلَّة المحدِثة لهذه الصفات فإنَّها حاصلة، أمَّا المبقية فغير حاصلة، لذا احتاجت إلى طلب ودعاء وإلحاح.
وتوضيح ذلك: أنَّ الصفات منَّا تحتاج إلى الحدوث في المرحلة الأُولى، ومن ثَمَّ تحتاج إلى الإفاضة آناً فآناً، فهي كنهر الماء المتجدِّد الذي ظاهره أمر واحد لكنَّه في واقعه تمرُّ عليك في كلِّ لحظة قطرات جديدة ومياه جديدة يتصوَّرها الساذج هي نفس السابقة الآتية. فالإمام والنبيُّ (عليهما السلام) محتاجان لله (عزَّ وجلَّ) في الحدوث والبقاء.
الجواب الثاني: طلب «كُنْ» إلى الدرجات العليا:
ما من مقام من المقامات إلَّا وله مراتب في السُّلَّم التكاملي، والقرآن يقول: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف: 76)، فكلُّ أمر وجودي هو حقيقة تشكيكيَّة ذات مراتب إلى أنْ تنتهي إلى مرحلة لا تفاوت ولا تشكيك فيها، وهي ذات الله (عزَّ وجلَّ).
ومن هنا نستطيع أنْ نقول: لعلَّه الداعي يطلب من الله تعالى أنْ يزيد بولاية وقيادة ودلالة... الإمام (عجَّل الله فرجه)، وبه ينحلُّ الإشكال.

(١٨٥)

الجواب الثالث: التحقُّق الفعلي الخارجي:
حينما نُؤمَر بالدعاء في هكذا أدعية لعلَّه المراد منها هو تحقُّقها خارجاً وفعلاً في الواقع الخارجي، نحن نعلم أنَّ الإمام متَّصف بها ذاتاً، ومن المستحيل الانفكاك عنها بوجه من الوجوه، وإنَّما ندعو بها ونطلبها على أساس أنْ يظهر الإمام بها بعد غيبته، وتكون ظهوراً بعد غيبة، والإمام (عجَّل الله فرجه) لم يتوانَ بظهور آثار تلك الصفات والعمل بها، وطلبنا أنْ تكون هذه الصفات تظهر لنا عياناً بظهور صاحبها.
الجواب الرابع: الدعاء لنا ليس للإمام (عجَّل الله فرجه):
إنَّ الدعاء ليس متعلِّقاً بالإمام (عجَّل الله فرجه)، وإنَّما متعلِّق بالداعي، وهذا متصوَّر في المقام، وله نظائر كثيرة.
وبيانه: أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) هو وليُّ الله ودليله، وهو القيادة والناصر، وإنَّما هذا الدعاء ونظائره يُراد منه تركيزه في قلب الداعي وتثبيته، وبعبارة أُخرى يُراد منها تحقيقها في نفس الداعي، وله نظائر كثيرة، منها: ما ورد عن عليِّ بن الحسين (عليه السلام): «اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَشَرِّفْ بُنْيَانَه، وَعَظِّمْ بُرْهَانَه، وَثَقِّلْ مِيزَانَه، وَتَقَبَّلْ شَفَاعَتَه»(260)، فإنَّ من المعلوم أنَّ الشفاعة لرسول الله ثابتة ومتقبَّلة، وإنَّما ندعو بها لتثبت في نفس الداعي.
ومنها: ما ورد في دعاء الافتتاح: «وَأَيِّدْهُ بِرُوحِ اَلقُدُسِ»(261).
ومنها: ما ورد عن الحسن بن إبراهيم، عن الصادق (عليه السلام)، قال: «فِي اَلْأَنْبِيَاءِ وَاَلْأَوْصِيَاءِ خَمْسَةُ أَرْوَاحٍ: رُوحُ اَلْبَدَنِ وَرُوحُ اَلْقُدُسِ وَرُوحُ اَلْقُوَّةِ وَرُوحُ اَلشَّهْوَةِ وَرُوحُ اَلْإِيمَانِ، وَفِي اَلمُؤْمِنِينَ أَرْبَعَةُ أَرْوَاحٍ: أَفْقَدُهَا رُوحُ اَلْقُدُسِ وَرُوحُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(260) الصحيفة السجَّاديَّة (ص 198/ الدعاء 109).
(261) مصباح المتهجِّد (ص 580).

(١٨٦)

اَلْبَدَنِ وَرُوحُ اَلشَّهْوَةِ وَرُوحُ اَلْإِيمَانِ، وَفِي اَلْكُفَّارِ ثَلَاثَةُ أَرْوَاحٍ: رُوحُ اَلْبَدَنِ وَرُوحُ اَلْقُوَّةِ وَرُوحُ اَلشَّهْوَةِ»، ثمّ قال: «رُوحُ اَلْإِيمَانِ يُلَازِمُ اَلْجَسَدَ مَا لَمْ يَعْمَلْ بِكَبِيرَةٍ، فَإِذَا عَمِلَ بِكَبِيرَةٍ فَارَقَهُ اَلرُّوحُ، وَرُوحُ اَلْقُدُسِ مَنْ سَكَنَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِكَبِيرَةٍ أَبَداً»(262).
وكذلك التأييد بروح القُدُس من الأُمور الضروريَّة والثابتة في حقِّ الإمام والأئمَّة (عليهم السلام)، وإنَّما يُراد منها تثبيتها في نفس الداعي.
والأمثلة كثيرة في ذلك.
الجواب الخامس: بيان وترسيخ للعقيدة:
كما هو ثابت أنَّ الأدعية والزيارات عبارة عن دورة عقائديَّة مركِّزة يُعلِّمها أهل البيت (عليهم السلام) للمؤمنين. وتكرُّرها إنَّما هو لمزيد من تأصيل العقائد، وتلقين النفس، وتأصيل في القلب.
فالدعاء الوارد إنَّما هو بيان للعقيدة المهدويَّة ليثبت هذه المعاني كاعتقادات في نفسه، وبعبارة ينزلها من حيِّز المعلومة في العقل إلى اعتقاد راسخ في القلب، «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ... وَلِيًّا وَحَافِظاً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً»، لا بدَّ أنْ نعتقدها ونُجسِّدها في سلوكنا وعملنا.
أقول: إنَّ الأجوبة بعضها نرتضيها وبعضها ذكرناها على سبيل رفع الإشكال.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(262) بصائر الدرجات (ص 467/ ج 9/ باب 14/ ح 3).

(١٨٧)

الفقرة الثالثة: «لِوَلِيِّكَ فُلانِ بْنِ فُلانٍ»
الدعاء الوارد في (الكافي) و(التهذيب) وبعض المصادر الأُخرى تذكر فلان بن فلان، «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»، وتجد في مصادر أُخرى كالبحار «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ فِي خَلْقِكَ وَلِيًّا وَحَافِظاً»(263)، وفي كتاب (مختصر بصائر الدرجات): «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»(264).
كيفيَّة التوفيق والتوجيه:
أوَّلاً: لعلَّه أُريد به التعمية:
أقول: لعلَّه أُريد به التعمية على اسم الإمام (عجَّل الله فرجه) للظروف الأمنيَّة التي تحيط بالقضيَّة المهدويَّة، وقد وردت روايات كثيرة في ذلك بتسمية الإمام بأسماء فيها نوع من السرّيَّة مثل الناحية المقدَّسة والسرداب والصاحب وغيرها، وقد كشف الحرُّ العاملي (رضوان الله عليه) عن الأسباب والمسبَّبات، وهو من أفضل الكُتُب وأسماه، كشف التعمية في حكم تسمية صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)، وهو من خيرة الكُتُب في الباب.
ثانياً: الدعاء لجميع الأئمَّة (عليهم السلام):
لعلَّه أراد به الدعاء لجميع الأئمَّة (عليهم السلام)، كما اختار هذا القول شيخنا المحقِّق السند (دامت بركاته).
قال: (إنَّ كلَّ واحدٍ منهم (عليهم السلام) موعود ومنتظر ظهوره، وقد حصلت غفلة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(263) بحار الأنوار (ج 86/ ص 340).
(264) مختصر بصائر الدرجات (ص 193).

(١٨٨)

لدى غالب عامَّة المؤمنين عن إتيان هذه الأدعية والآداب في زيارة كلِّ معصوم، وهو ما أوجب الغفلة عن تعاليم العقيدة بالرجعة والمعرفة بكلِّ إمام بحقِّ معرفته، أي الغفلة عن المعرفة المستقبليَّة لكلِّ إمام، فإنَّ الدعاء بتعجيل الفرج ليس خاصًّا بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، بل وارد في زيارة كلِّ إمام معصوم، بل وارد في آداب زيارة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً، لأنَّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيضاً موعود منتظر رجعته في آخر الرجعة، ليقيم أكبر دولة على وجه الأرض، ويكون الأئمَّة الاثنا عشر وزراء له...)، إلى أنْ يقول: (ومن ثَمَّ ورد لفظ الحديث في عدَّة من الروايات المتقدِّمة: «اللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»، إشارة إلى عموم هذا الحديث للمعصومين الأربعة عشر لا خصوص الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)، وقد نبَّه على ذلك غير واحد من المحدِّثين الكبار، أي نبَّه على عموم الدعاء لكلِّ المعصومين (عليهم السلام)، ولكن هذه التعاليم غائبة عن أذهان كثير من المؤمنين، كلُّ ذلك بسبب غياب المعرفة بالرجعة، والغفلة عن هذا الباب العظيم في المعرفة الموجب لكمال المعرفة بالله وقدرته ومشيئته والمعرفة بمقامات النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الآتية، والمقامات لأمير المؤمنين والأئمَّة المستقبليَّة.
الإقبال: من رواية محمّد بن عيسى بن عبيد بإسناده عن الصالحين (عليهم السلام) قال: «وَكَرِّرْ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ [قَائِماً وَقَاعِداً وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَالشَّهْرَ كُلَّهُ وَكَيْفَ أَمْكَنَكَ وَمَتَى حَضَرَكَ فِي دَهْرِكَ، تَقُولُ بَعْدَ تَمْجِيدِ اَللهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ وَآلِهِ (عليهم السلام)]: اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ اَلْقَائِمِ بِأَمْرِكَ الْحُجَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ المَهْدِيِّ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ أَفْضَلُ اَلصَّلَاةِ وَاَلسَّلَامِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَقَائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَمُؤَيِّداً حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً...»(265))(266).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(265) إقبال الأعمال (ج 1/ ص 191).
(266) الرجعة بين الظهور والمعاد (ج 1/ ص 322).

(١٨٩)

الفقرة الرابعة: «فِي هَذِه السَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ»
أقول: إنَّ من العبادات ما هي وقتيَّة زمانيَّة محدَّدة في وقت معيَّن كالحجِّ والصوم والصلاة، فإنَّ لها وقتاً محدَّداً على المكلِّفين.
ومنها ما لا تُحَدُّ بوقت محدَّد، فهي مطلوبة منهم في كلِّ زمان ومكان، كالتوحيد والنبوَّة والولاية، فإنَّها مطلوبة من المكلَّفين في كلِّ زمان ومكان، وسواء تلبَّس بعبادة وقتيَّة كالصلاة والصوم وغيرها، أو لم يتلبَّس فإنَّها مرادة منه في كلِّ الاحوال والأماكن حتَّى بعد انتقاله إلى البرزخ والآخرة والجنَّة، فإنَّها عبادة دائمة، وهذا البحث له تفصيلات واسعة، وأنا هنا أردت الإشارة إليه ومن تلك العبادات الدائمة هي مودَّة أهل البيت (عليهم السلام)، ويتفرَّع من المودَّة الدعاء للأئمَّة (عليهم السلام)، نعم الدعاء منه ما هو مقالي، ومنه ما هو حالي، وقد تقدَّم بيانه في الباب الأوَّل من هذا الكتاب.

* * *

(١٩٠)

الفقرة الخامسة: «وَلِيًّا»:
وفيها مسائل:
المسالة الأولى: الولاية في حديث أهل البيت (عليهم السلام):
أقول: قد ذكرنا في كتاب (حديث من مات) وفي (شرح زيارة الممتحنة) ما يتعلَّق بالولاية، وذكرنا الأحاديث وكلمات العلماء هناك، ونحن هنا من باب حتَّى لا نبخس الدعاء حقَّه نتطرَّق إلى شيء منها.
وليُعلَم أنَّ من أوسع البحوث المعرفيَّة هو بحث الولاية، والحديث عنه طويل جدًّا، وقد ألَّف العلماء كُتُباً فيها بحسب مشاربهم، ولو أراد أحدنا أنْ يجمع ما كُتِبَ حول الولاية لكانت مكتبة كبيرة، ونحن نحاول أنْ نذكر هنا بعض الأحاديث.
عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن الحَكَم بن مسكين، عن إسحاق بن عمَّار، عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ [الأحزاب: 72]، قال: «هِيَ وَلَايَةُ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)»(267).
وعن الحسين بن محمّد، عن معلَّى بن محمّد، عن الحسن بن عليٍّ الوشَّاء،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(267) الكافي (ج 1/ ص 413/ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية/ ح 2).

(١٩١)

عن مثنَّى الحنَّاط، عن عبد الله بن عجلان، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 208]، قال: «فِي وَلَايَتِنَا»(268).
وعن الحسين بن محمّد، عن معلَّى بن محمّد، عن محمّد بن أُورمة ومحمّد بن عبد الله، عن عليِّ بن حسَّان، عن عبد الله بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ [النبأ: 1 و]، قال: «النَّبَأُ الْعَظِيمُ اَلْوَلَايَةُ»، وسألته عن قوله: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ للهِ الْحَقِّ﴾ [الكهف: 44]، قال: «وَلَايَةُ أَمِيرِ اَلمُؤْمِنِينَ (عليه السلام)»(269).
وعن عليِّ بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عليِّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾ [الروم: 30]، قال: «هِيَ اَلْوَلَايَةُ»(270).
أقول: لقد عقد الشيخ الكليني (رضوان الله عليه) باباً وعنونه بـ (نكت ونتف من التنزيل في الولاية)، ثمّ عقد باباً بعده وعنونه بـ (باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية)، ومجموع الأحاديث في البابين (101) حديثاً، وأنا سأذكر هنا (30) حديثاً لتقف بعض الشيء على سعة الولاية في لسان الوحي وأهل بيت الوحي (صلوات الله عليهم) وبعض الذي يتحصَّل منها.
- حقيقة الكتاب، هي الولاية.
- الأمانة المعروضة، هي الولاية.
- الإيمان الخالص، هي الولاية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(268) الكافي (ج 1/ ص 417/ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية/ ح 29).
(269) الكافي (ج 1/ ص 418/ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية/ ح 34).
(270) الكافي (ج 1/ ص 418 و419/ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية/ ح 35).

(١٩٢)

- الإيمان المعروف، هي الولاية.
- الوفاء بالنذر، هي الولاية.
- إقامة الكُتُب المنزَّلة، هي الولاية.
- إطاعة الله ورسوله، هي الولاية.
- السلم كافَّة، هي الولاية.
- الخير الأبقى، هي الولاية.
- ما لا تهوى أنفس الأعداء، هي الولاية.
- كبر على المشركين، هي الولاية.
- الهداية، هي الولاية.
- النبأ العظيم، هي الولاية.
- إقامة الوجه والحنفيَّة، هي الولاية.
- الطريقة، هي الولاية.
- الموعظة الواحدة، هي الولاية.
- أنباء الرسالة، هي الولاية.
- كافر من أنكرها، هي الولاية.
- القول الذي اختلفوا فيه، هي الولاية.
- فكُّ الرقبة، هي الولاية.
- البشرى وقدم الصدق، هي الولاية.
- هنالك الولاية لله الحقِّ، هي ولاية عليٍّ.
- صبغة المؤمنين، هي ولاية عليٍّ.
- بيت النبيِّ والأنبياء، هي ولاية عليٍّ.
- ذكر الله والميثاق المأخوذ، هي ولاية عليٍّ.

(١٩٣)

- ولاية الله المبعوث بها الأنبياء، ولاية عليٍّ.
- مكتوبة في جميع صُحُف الأنبياء، ولاية عليٍّ.
أقول: والحديث أعمق وأعمق، والمتتبِّع يجد الحديث لا زال على أطرافها.
المسألة الثانية: الولاية في كلمات العلماء:
وهنا أنقل كلمتين لعالمين من أكابر علماء الطائفة:
الأُولى: كلمة أُستاذ الفقهاء والمجتهدين المحقِّق النائيني الغروي (رحمه الله):
(إنَّ لولايتهم مرتبتين:
إحداهما: الولاية التكوينيَّة التي هي عبارة عن تسخير المكوِّنات تحت إرادتهم ومشيَّتهم بحول الله وقوَّته، كما ورد في زيارة الحجَّة (أرواحنا له الفداء) بأنَّه ما من شيء إلَّا وأنتم له السبب، وذلك لكونهم (عليهم السلام) مظاهر أسمائه وصفاته تعالى، فيكون فعلهم فعله وقولهم قوله، وهذه المرتبة من الولاية مختصَّة بهم وليست قابلة للإعطاء إلى غيرهم، لكونها من مقتضيات ذواتهم النوريَّة ونفوسهم المقدَّسة التي لا يبلغ إلى دون مرتبتها مبلغ.
وثانيتهما: الولاية التشريعيَّة الإلهيَّة الثابتة لهم من الله سبحانه وتعالى في عالم التشريع، بمعنى وجوب اتِّباعهم في كلِّ شيء وأنَّهم أولى بالناس شرعاً في كلِّ شيء من أنفسهم وأموالهم.
والفرق بين المرتبتين ظاهر، حيث إنَّ الأُولى تكوينيَّة والثانية ثابتة في عالم التشريع، وإنْ كانت الثانية أيضاً لا تكون ثابتة إلَّا لمن له المرتبة الأُولى، إذ ليس كلُّ أحد لائقاً للتلبُّس بذلك المنصب الرفيع والمقام المنيع إلَّا من خصَّه الله بكرامته، وهو صاحب المرتبة الأُولى على ما هو الحقُّ عندنا، خلافاً للعامَّة الذاهبين إلى إثبات تلك المرتبة الثانية لكلِّ من يُقلِّد أمر الأُمَّة من كلِّ برٍّ وفاجر، ولو كان من آل يزيد أو آل مروان.

(١٩٤)

ولا إشكال عندنا في ثبوت كلتا المرتبتين من الولاية للنبيِّ وللأوصياء من عترته (صلوات الله عليه وعليهم)، ويدلُّ عليه الأدلَّة الأربعة كما استدلَّ به المصنِّف في الكتاب، فلا يُعبَأ بخلاف من يخصُّ الولاية التشريعيَّة بخصوص وجوب اتِّباعهم في الأحكام الشرعيَّة والتقبُّل عنهم فيما يُبلِّغون منها، وقال بعدم الدليل على وجوب الإطاعة في الزائد عن ذلك كما في الأُمور العاديَّة مثل الأكل والنوم والمشي والقيام والقعود فلا يجب امتثالهم فيما يأمرون بالأُمور المتعارفة لعدم ثبوت السلطنة لهم في أمثاله.
ولا يخفى وهنه وسخافته، بل الأدلَّة الأربعة ناهضة على ردِّه، وكأنَّه تبع في ذلك للمخالفين الذين لا يوافقونه في الرأي غفلةً عن حقيقة الحال.
وبالجملة ما أحسن ما ذكره بعضهم في تعريف الولاية بقوله: إنَّها عبارة عن الرياسة على الناس في أُمور دينهم ودنياهم ومعاشهم ومعادهم.
ويدلُّ على ثبوت هذا المعنى لهم قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في خطبة الغدير: «أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟»، وغيره من الأخبار المتظافرة الظاهرة دلالتها في هذا المعنى، فلا ينبغي الارتياب في ذلك)(271).
الثانية: كلمة آية الله العظمى السيِّد الخوئي (قدّس سرّه):
(فالكلام فيها من جهات أربعة:
الأُولى: في ولايتهم التكوينيَّة.
الثانية: في ولايتهم التشريعيَّة.
الثالثة: في نفوذ أوامرهم في الأحكام الشرعيَّة الراجعة إلى التبليغ ووجوب تبعيَّتهم.
الرابعة: في وجوب إطاعة أوامرهم الشخصيَّة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(271) كتاب المكاسب والبيع (ج 2/ ص 332 و333).

(١٩٥)

أمَّا الجهة الأُولى [أي في ولايتهم التكوينيَّة]، فالظاهر أنَّه لا شبهة في ولايتهم على المخلوق بأجمعهم كما يظهر من الأخبار، لكونهم واسطة في الإيجاد، وبهم الوجود، وهم السبب في الخلق، إذ لولاهم لما خُلِقَ الناس كلُّهم، وإنَّما خُلِقُوا لأجلهم، وبهم وجودهم، وهم الواسطة في إفاضة، بل لهم الولاية التكوينيَّة لما دون الخالق، فهذه الولاية نحو ولاية الله تعالى على الخلق ولاية إيجاديَّة وإنْ كانت هي ضعيفة بالنسبة إلى ولاية الله تعالى على الخلق، وهذه الجهة من الولاية خارجة عن حدود بحثنا وموكولة إلى محلِّه.
وأمَّا الجهة الثالثة أعني وجوب إطاعتهم في الأحكام الراجعة إلى التبليغ فهي قضيَّة قياستها معها، إذ بعد العلم بأنَّ الأحكام الإلهيَّة لا تصل إلى كلِّ أحد بلا واسطة، وأنَّ النبيَّ صادق إنَّما نبَّأ عن الله تعالى، فلا مناص من وجوب إطاعته وحرمة المعصية وجوباً شرعيًّا مولويًّا، فهذه الجهة أيضاً غنيَّة عن البيان.
أمَّا الجهة الرابعة فالظاهر أيضاً عدم الخلاف في وجوب إطاعة أوامرهم الشخصيَّة التي ترجع إلى جهات شخصهم، كوجوب إطاعة الولد للوالد، مضافاً إلى الإجماع وإنْ لم يكن تعبُّديًّا، لاستناده إلى الأخبار والآيات التي تدلُّ عليه، أمَّا الآية فقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، إذ الظاهر منها كون كلٍّ منهم بعنوانه واجب الإطاعة ومفترض الطاعة، وكون إطاعة كلٍّ منهم إطاعة لله، لأمره تعالى على ذلك، لا من جهة كون إطاعتهم متفرِّعة [على] إطاعة الله ليكون الأمر للإرشاد ويخرج عن المولويَّة.
والاستشكال هنا من جهة الآية وغيرها من الأدلَّة ناظرة إلى وجوب الإطاعة في الجهات الراجعة إلى الإمامة دون شخصهم وشؤونهم.
وفيه أنَّ الأدلَّة مطلقة من هذه الجهة، فالتقييد بلا وجه، نعم جهة الإمامة

(١٩٦)

من الجهات التعليليَّة لا من الجهات التقييديَّة، وإنَّ كونهم إماماً ونبيًّا أوجبت وجوب إطاعتهم في جميع الجهات.
وبالجملة، لا شبهة في دلالة الأدلَّة على ذلك وعدم تقييدهم بجهة الإمامة.
هذا، ولا بأس بالاستدلال بقوله تعالى أيضاً: ﴿إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً﴾ [الأحزاب: 36]، فليس لهم الخيرة إذ حكمهم (عليهم السلام) ولو بما يرجع إلى شخصهم من الجهات من جملة القضاء خصوصاً بضميمة قوله تعالى: فليس لهم الخيرة.
وأمَّا الروايات فوق حدِّ الإحصاء، كما ورد في وجوب إطاعتهم وفي عدَّة موارد من زيارة الجامعة ذُكِرَ ذلك، وقد استُدِلَّ عليه بدليل العقل، بدعوى أنَّهم من جملة المنعمين، وشكر المنعم واجب، فإطاعتهم واجبة، لكونها من جملة الشكر الواجب.
أقول: لا شبهة في كونهم منعماً، لكونهم واسطة في الإيجاد والإفاضة، بل من أقوى المنعمين، وإنَّ شكرهم واجب، وإنَّ إنعامهم من جملة إنعام الله وإنْ كانت ضعيفة بالنسبة إلى (إنعام الله تعالى) إنعامهم، ولكن هذا الوجوب ليس وجوباً شرعيًّا، بل وجوب عقلي، بمعنى أنَّ العقل يُدرك حسن ذلك وقبح تركه، وأمَّا أنَّ تركه أيَّ شيء يستتبع أهو يستتبع العقاب فلا، بل غايته أنْ يستتبع منع النعمة وأخذها من المنعمين بصيغة المفعول)(272).
المسألة الثالثة: ولاية التشريع والتكوين:
الولاية في بعض معانيها التي تُطلَق عليهم إنَّما هي بمعنى التولية للأُمور والتدبير لها، وهي على قسمين:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(272) مصباح الفقاهة (ج 5/ ص 35 - 37).

(١٩٧)

الأوَّل: الولاية التشريعيَّة:
بمعنى أنَّ لهم الآمريَّة والناهية الشرعيَّة، فزمام أمر الشرع في الأمر والنهي والسياسة وتدبير أُمور المسلمين من بيان الحكم والقضاء وإجراء الحدود وسوقهم إلى الحرب وأمثاله.
وهي بهذا المعنى ثابتة لهم بكلِّ ما دلَّ على إمامتهم ووصايتهم بعد النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب، وهذا ممَّا لا يُنكِره أحد من الشيعة.
الثاني: الولاية التكوينيَّة:
كلَّما قيل ويقال في ولاية التكوين هو بحسب ما ظهر إلينا وإلَّا فالأمر أعمق وأعمق، وقد تقدَّم في المسألة الأُولى والثانية ما يظهر لك ممَّا ادَّعينا، وأنت ترى آية الله العظمى السيِّد الخوئي (قدّس سرّه) يقول: (ولايتهم على المخلوق بأجمعهم كما يظهر من الأخبار، لكونهم واسطة في الإيجاد، وبهم الوجود، وهم السبب في الخلق، إذ لولاهم لما خُلِقَ الناس كلُّهم، وإنَّما خُلِقُوا لأجلهم، وبهم وجودهم، وهم الواسطة في إفاضة، بل لهم الولاية التكوينيَّة لما دون الخالق، فهذه الولاية نحو ولاية الله تعالى على الخلق ولاية إيجاديَّة).
المسألة الرابعة: الفروق بين الولايتين التشريعيَّة والتكوينيَّة:
أقول: قد يتداخل الكلام في الولاية والهداية، لأنَّهما من مشرب واحد، كما تقدَّم في المسألة الأُولى.
1 - أنَّ الولاية التشريعيَّة إنَّما تكون في عالم الجعل والاعتبار، وأمَّا الولاية التكوينيَّة فإنَّها تكون في عالم التكوين.
2 - أنَّ دور الولاية التشريعيَّة هو البيان والإراءة، بخلاف الولاية

(١٩٨)

التكوينيَّة فإنَّ دورها هو إيصال القابل إلى المطلوب، وهو ما عبَّرنا عنه بالهداية التكوينيَّة أو أثر الولاية التكوينيَّة.
3 - أنَّ دور الهداية التشريعيَّة قابل للتخلُّف، لأنَّه مجرَّد إراءة للطريق، فلا يأخذ بأعناق المكلَّفين إلى المقصد والمطلوب، ولذا نجد الكثير من أبناء الأُمَّة غير ملتزمين بالشريعة رغم حصول الإراءة لهم، وهذا بخلاف ما عليه الحال في الولاية التكوينيَّة وأثرها الفعلي حيث يتمُّ بواسطتها إيصال القابل إلى المطلوب فلا تخلُّف في ذلك البتَّة، ولا يعني هذا سلب الاختيار عن القابل فضلاً عن الفاعل، فإنَّ القابل مختار في وصوله إلى المطلوب، لأنَّ في ذلك كماله واكتماله، فيكون معنى عدم التخلُّف هو أنَّها لا تخطئ هدفها أبداً.
4 - أنَّ أبواب الولاية التشريعيَّة منحصرة بالأئمَّة والأنبياء والرُّسُل لا غير، بخلاف الولاية التكوينيَّة فإنَّ أبوابها مشرعة لكلِّ من وصل إلى مقام التحقُّق الأسمائي، حيث يكون فاعلاً بحسب الاسم المتحقّق به والمرتبة التي هو عليها.
5 - أنَّ البعد التشريعي بمعنى الهداية والإراءة المحضة يشمل مرتبة معرفيَّة أدنى من المرتبة المعرفيَّة في البعد التشريعي بمعنى الهداية والإراءة غير المحضة، أي إنَّ البعد التأسيسي مرتبته المعرفيَّة أرفع وأشرف من البعد البياني المحض.
6 - وجود التشريع والتكوين، كما أنَّ للماء أثراً تكوينيًّا في حفظ الحياة المادّيَّة، وعدمه عدم لها، وكذلك الهواء والشمس كلٌّ منهما له أثره التكويني في الوجود المادِّي، فكذلك وجود الإمام، بل إنَّ وجوده ضروريٌّ في حفظ نفس الماء والهواء والشمس وغير ذلك من الأُمور الأساسيَّة في حفظ الحياة. ولو فرضنا جدلاً وجود بدائل أُخرى عن الماء والهواء والشمس، فإنَّه لا يمكن إيجاد بديل آخر عن الإمام، ففيه يكمُن السرُّ في حفظ نظام التكوين.

(١٩٩)

المسألة الخامسة: المراد من الولاية في الدعاء:
أقول: بعد بيان معنى الولاية وبعض تقسيماتها تبيَّن أنَّ الولاية التكوينيَّة ثابتة لهم، ولا تُنتَزع منهم طرفة عين أبداً، أمَّا الولاية التشريعيَّة فبعض أقسامها وهي كالأُمور السياسيَّة وتدبير أُمور المسلمين من بيان الحكم والقضاء وإجراء الحدود وسوقهم إلى الحرب وأمثاله قد يحرم منها المجتمع بسوء تدبيرات الظالمين وسكوت المجتمع عنها، وهي إحدى الابتلاءات التي ابتلى الله (عزَّ وجلَّ) البشر، ولهذا نقرأ في زيارة عاشوراء: «وَلَعَنَ اَللهُ أُمَّةً دَفَعَتْكُمْ عَنْ مَقَامِكُمْ، وَأَزَالَتْكُمْ عَنْ مَرَاتِبِكُمُ الَّتِي رَتَّبَكُمُ اَللهُ فِيهَا»(273).
ومن هذا يُفهَم لعلَّ المراد من فقرة الدعاء «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ... وَلِيًّا» أي ابسط له الأمر حتَّى يتولَّى أُمورنا في التشريع، كما هو متولِّيها في التكوين.
ولعلَّ المراد من «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ... وَلِيًّا» أي اللَّهُمَّ أظهر ولاية وليِّك التكوينيَّة عياناً وعلاناً ليبسط العدل والقسط.
ولعلَّ ما تقدَّم من احتمالات التي ذكرناها في الردِّ على الإشكال في الفقرة الأُولى من الدعاء.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(273) كامل الزيارات (ص 328 و329/ 556/9).

(٢٠٠)

الفقرة السادسة: «وَحَافِظاً»:
إنَّ من أسماء الله الحافظ، وهو من الأسماء الوسيعة، وفيها أبحاث دقيقة نذكر منها بعض المسائل:
المسألة الأولى: معنى حفظ الإمام (عليه السلام):
إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) حفظ الإمام (عليه السلام) في أُمور كثيرة:
منها: حفظه عن أقذار الجاهليَّة وأنجاسها وأدناس الضلالة وأرجاسها، كما في الزيارة: «أَشْهَدُ أَنَّكَ كُنْتَ نُوراً فِي اَلْأَصْلَابِ اَلشَّامِخَةِ وَاَلْأَرْحَامِ اَلمُطَهَّرَةِ لَمْ تُنَجِّسْكَ اَلْجَاهِلِيَّةُ بِأَنْجَاسِهَا وَلَمْ تُلْبِسْكَ مِنْ مُدْلَهِمَّاتِ ثِيَابِهَا»(274).
ومنها: المحفوظ الذي لا ينال معرفته أحد من الخلق، والأحاديث في ذلك كثيرة: «يَا عَلِيُّ مَا عَرَفَ اَللهَ إِلَّا أَنَا وَأَنْتَ، وَمَا عَرَفَنِي إِلَّا اَللهُ وَأَنْتَ، وَمَا عَرَفَكَ إِلَّا اَللهُ وَأَنَا»(275).
ومنها: أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) حفظه إلى آخر الزمان ليبسط العدل والقسط في آخر الزمان.
ومنها: حفظه من البلايا والرزايا والأذيَّة التي تناله من الظالمين وغيرهم.
ونحن نعلم أنَّ الإمام متصدِّي لأُمور البشريَّة جمعاء والخلق أجمع، وهو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(274) مصباح المتهجِّد (ص 721).
(275) مختصر بصائر الدرجات (ص 125).

(٢٠١)

مطَّلع على جميع الأعمال والنوايا ما ظهر منها وما بطن، والإمام في بشريَّته يصيبه الأذى، وقد قال جدُّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيتُ»(276)، وهذا ما نتطرَّق إليه في المسألة الآتية.
المسألة الثانية: هل الإمام يُخشى عليه؟
هل يُصاب بدن المعصوم (عليه السلام) بشيء يُخاف عليه منه؟
ونجيب عن ذلك: أنَّ بدن المعصوم (عليه السلام) كما أنَّ له مميَّزات خصَّه الله بها وقد ذكرتها الروايات من أنَّه لا ظلَّ له ولا عيب فيه وغيرها التي يطول الحديث عنها، ونحن هنا لا نريد التطرُّق لها، وإنَّما نريد أنْ نقف على أنَّ بشريَّة الإمام (عليه السلام) تُصاب بالأذى والألم والجوع والعطش والضعف كما بيَّنت الروايات ذلك لأسباب معيَّنة، ومع هذا كلِّه ما يُصاب به بدن المعصوم لا يتنافى مع النبوَّة ولا مع العصمة ولا المقامات الأُخرى التي هي من شؤون المعصوم، فالآثار على البدن لا على النفس والروح.
ولشيخنا المحقِّق السند (دامت بركاته) بحث قد أشار فيه لبعض طبقات المعصوم، وأنا هنا أنقل لك بعضه:
(في مراتب طبقات المعصوم:
... معرفة أنَّ المعصوم هو ذو شؤون وذو طبقات من الأرواح جزئيَّة ومتوسِّطة وكلّيَّة وفوق الكلّيَّة هو أمر بالغ الأهمّيَّة، وشؤون هذه المراتب في النفس الإنسانيَّة حتَّى في النفس غير المعصومة مختلفة الشأن ولا يمكن توحيدها على نسق واحد، ولذلك كثير من الأسئلة التي ترد كيف مع علم عليِّ بن أبي طالب أنَّه لا يُقتَل إذاً أين الشجاعة؟ وهذا العلم علم مَنْ؟ فإنَّ علم النور شيء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(276) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص 42).

(٢٠٢)

وعلم النفس شيء آخر، وحتَّى لو العقل يعلم فإنَّه لا يهدئ النفس الجزئيَّة التي تهيج من أيِّ إثارة، وكما يقول الإمام الصادق في قصَّة النبيِّ موسى (عليه السلام) فقد أخبره الله أنَّ قومه ضلُّوا، فأعلمه عبر قلبه وروحه وعقله، ولكن من نفسه الجزئيَّة عندما شاهد قومه غضب لله، فيشير الإمام ليس العيان كالبيان، فعين الشيء غير بيانه، الآن لو نظريًّا يصفون للإنسان امرأة جميلة فإنْ يتخيَّلها فكلُّها تصوُّرات عقليَّة، أمَّا يفتتن بالخارج بامرأة شيء آخر، أو تُوصَف لإنسان معركة محتدمة وأنَّه سيبقى منه وكذا، ولكن لـمَّا يخوض عباب المعركة أمر آخر وظهور عبر هياج النفس، وذلك لاختلاف شؤون مراتب نفس الإنسان، والذي يُؤثِّر وتتفاعل معه هو الجزئيَّات والمحسوسات.
إذاً بطبعه يتأثَّر بشيء آخر ولكن بالترويض شيء آخر، فالمعصوم يُروِّض نفسه لمراتب أعلى فأعلى، وهذا معنى العصمة، فلا جبر ولا تفويض إنَّما أمر بين أمرين بمعنى أنَّ هناك امتحان، ولذلك الشجاعة ليست وصف العقل إنَّما وصف النفس النازلة، ومن هنا يُلتَفت إلى أنَّ أوصاف الفضائل مختلفة بحسب الموصوف في الإنسان، والرذائل في الإنسان على العكس هي بحسب مراتب روحه وليس وصف واحد ولا موصوف واحد.
إذاً تفكيك هذه الشؤون وهذه المراتب وهذه الجهات وهذه الأوصاف أمر بالغ الأهمّيَّة، فإنَّ الكثير لديهم الصعوبة في كيفيَّة الجمع بين هذه الصفات، فإن كان عقل فكيف يجوع؟ ﴿وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْ لَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً﴾ [الفرقان: 7]، فيتصوَّرن أنَّهم يلاحظون الجهة النوريَّة، فيصعب عليهم الجمع بين الجنبتين، وقوله: ﴿لَوْ لَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ﴾، أو قولهم: ﴿أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ [التغابن: 6]، فمن جهة البشريَّة ليس لديه ارتباط، فإذا كان فيه

(٢٠٣)

جهة بشريَّة فكيف يكون ارتباطه مع الملكوت؟ طبعاً جهة البشريَّة جهة طينيَّة وما ربطها بالنور والملكوت الصاعد، والجمع بين الجنبتين دوماً يشكل على الكثير من الناس...
مثل بدنه الشريف يكابد الأعداء فيُضرَب ويُقذَف بحجر ويتألَّم ويصيبه كسر، وليس معنى ذلك إذا أُجرح المعصوم أو طُعِنَ فإنَّه خلاف العصمة، فهذا ليس خلاف العصمة، وكذا النفس الجزئيَّة تكابد، فالمكابدة والمصارعة وحصول الألم والجرح وحصول الطعن لا يُخرج المعصوم عن عصمته، فالمعصوم يريد أنْ يُنجي جسده في المبارزة لكنَّه إذا لم يُنجي جسده فهل هذا خلاف العصمة؟ فالمعصوم يبارز ويريد أنْ ينجي بدنه ولكنَّه يُصاب بجروح وتجري الدماء، وهذا ليس خلاف العصمة أو خلاف ما يريده المعصوم.
إذاً هناك قاعدة وهو أنَّ مكابدة المعصوم ونفسه الجزئيَّة والقوى النازلة غير القلب والنور وتلقِّي ضربات وربَّما طعنات من دون أنْ يُخرج المعصوم عن الاستقامة والعصمة، فهذا لا ينافي العصمة، فأيُّوب حصل في جسمه قيح وقرح بحيث إنَّ قومه تركوه ولم تبقَ له وفيَّة من الأرحام إلَّا زوجته، فهذه مكابدة وليس مطاوعة...
وحقيقة التكامل في المعصومين هي قاعدة إذا لم يُتقنها ويُجيدها الباحث في المعارف ربَّما تخلق له إرباك وكثير من التساؤلات. وبعبارة أُخرى: تشابه الأحوال عند المعصومين علينا أنْ أحد أسبابها هي قضيَّة التكامل، وكما مرَّ أنَّ كلَّ رتبة من رُتَب المعصومين له جهة تكامل خاصَّة به ومناسبة إليه، مثلاً تكامل النفس أو بدن المعصوم فمن الواضح أنَّ بدن المعصوم يتكامل ويكون جنين ثمّ يكون رضيع ثمّ يشبُّ بدنه، وكذا ويختلف عن نموِّ بقيَّة الأبدان إلى أنْ يكهل ويشيخ كما تُحدِّثنا بذلك الروايات الكثيرة، فالبدن لدى المعصومين في حين

(٢٠٤)

لا نغفل عن قاعدة صفوة الخلق بدناً وروحاً، ولكن له مراحله الطبيعيَّة من النموِّ بحسب طبيعة صفوة الشيء وسلالته)(277).
ومن هنا نقول: إنَّه ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ بدن الإمام وبعض طبقات المعصوم يصيبها الأذى والضعف، كما في تعبير رسول الله الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنِّي أَجِدُ فِي بَدَنِي ضَعْفاً»(278)، والأسباب تتعدَّد في ذلك.
المسألة الثالثة: ما هو دورنا في حفظ الإمام (عليه السلام)؟
أقول: إنَّ العناية الإلهيَّة بالإمام (عجَّل الله فرجه) تحوط به، وهي مستمرَّة إلى يوم ظهوره المبارك، ومع ذلك أُلقيت علينا مسؤوليَّات كثيرة، ومنها حفظ الإمام (عجَّل الله فرجه)، والقرآن والأحاديث بيَّنت شواهد كثيرة في ذلك، فمنها: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ (البقرة: 207).
وقد أثنى القرآن الكريم على تلك التضحية العظيمة من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا بسبب النوم في فراش النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والتضحية بالنفس في سبيل الهدف المقدَّس، فهو شأن الرجال العظام الذين يُؤثِرون بقاء الدِّين ونصرته على أيِّ شيء آخر، وفي تلك الظروف لم يكن لأحد أنْ يتصدَّى لتلك المهمَّة العظيمة غير عليٍّ (عليه السلام)، ولذلك جعله النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مكان نومه حتَّى يُوهِم الأعداء ببقائه وعدم مغادرته لبيته، وهذا نوع حفظ للقيادة والإمامة.
والروايات قد ذكرت عظمة هذا العمل، ومنها هذه الرواية التي ينقلها العلَّامة المجلسي (رضوان الله عليه):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(277) مباحث حول النبوَّات (ص 355 - 378).
(278) مفاتيح الجنان (ص 867/ حديث الكساء).

(٢٠٥)

عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «أَمَا إِنَّ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ (عليه السلام) لَمَنْ يَأْتِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَقَدْ وُضِعَ لَهُ فِي كِفَّةِ سَيِّئَاتِهِ مِنَ اَلْآثَامِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ اَلْجِبَالِ الرَّوَاسِي وَاَلْبِحَارِ اَلسَّيَّارَةِ، تَقُولُ اَلْخَلَائِقُ: هَلَكَ هَذَا اَلْعَبْدُ، فَلَا يَشُكُّونَ أَنَّهُ مِنَ اَلْهَالِكِينَ، وَفِي عَذَابِ اَللهِ مِنَ اَلْخَالِدِينَ، فَيَأْتِيهِ النِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ اَللهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا اَلْعَبْدُ اَلْجَانِي، هَذِهِ اَلذُّنُوبُ اَلمُوبِقَاتُ، فَهَلْ بِإِزَائِهَا حَسَنَةٌ تُكَافِئُهَا، وَتَدْخُلُ اَلجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اَللهِ، أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا فَتَدْخُلُهَا بِوَعْدِ اَللهِ؟ يَقُولُ اَلْعَبْدُ: لَا أَدْرِي، فَيَقُولُ مُنَادِي رَبِّنَا (عزَّ وجلَّ): إِنَّ رَبِّي يَقُولُ: نَادِ فِي عَرَصَاتِ اَلْقِيَامَةِ: أَلَا إِنِّي فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ بَلَدِ كَذَا وَكَذَا وَقَرْيَةِ كَذَا وَكَذَا، قَدْ رَهُنَ بِسَيِّئَاتِهِ كَأَمْثَالِ اَلْجِبَالِ وَاَلْبِحَارِ، وَلَا حَسَنَةَ بِإِزَائِهَا، فَأَيُّ أَهْلِ هَذَا اَلمَحْشَرِ كَانَتْ لِي عِنْدَهُ يَدٌ أَوْ عَارِفَةٌ فَلْيُغِثْنِي بِمُجَازَاتِي عَنْهَا، فَهَذَا أَوَانُ شِدَّةِ حَاجَتِي إِلَيْهَا، فَيُنَادِي اَلرَّجُلُ بِذَلِكَ، فَأَوَّلُ مَنْ يُجِيبُهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، أَيُّهَا اَلمُمْتَحَنُ فِي مَحَبَّتِي، اَلمَظْلُومُ بِعَدَاوَتِي، ثُمَّ يَأْتِي هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ عَدَداً مِنْ خُصَمَائِهِ اَلَّذِينَ لَهُمْ قِبَلَهُ اَلظَّلَامَاتُ، فَيَقُولُ ذَلِكَ اَلْعَدَدُ: يَا أَمِيرَ اَلمُؤْمِنِينَ، نَحْنُ إِخْوَانُهُ اَلمُؤْمِنُونَ، كَانَ بِنَا بَارًّا، وَلَنَا مُكَرِّماً، وَفِي مُعَاشَرَتِهِ إِيَّانَا مَعَ كَثْرَةِ إِحْسَانِهِ إِلَيْنَا مُتَوَاضِعاً، وَقَدْ نَزَلْنَا لَهُ عَنْ جَمِيعِ طَاعَاتِنَا وَبَذَلْنَاهَا لَهُ، فَيَقُولُ عَلِيٌّ (عليه السلام): فَبِمَاذَا تَدْخُلُونَ جَنَّةَ رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: بِرَحْمَتِهِ اَلْوَاسِعَةِ الَّتِي لَا يَعْدَمُهَا مَنْ وَالَاكَ، وَوَالَى آلَكَ، يَا أَخَا رَسُولِ اَللهِ، فَيَأْتِي اَلنِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ اَللهِ تَعَالَى: يَا أَخَا رَسُولِ اَللهِ، هَؤُلَاءِ إِخْوَانُهُ اَلمُؤْمِنُونَ قَدْ بَذَلُوا لَهُ، فَأَنْتَ مَا ذَا تَبْذُلُ لَهُ؟ فَإِنِّي أَنَا اَلْحَكَمُ، مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ اَلذُّنُوبِ قَدْ غَفَرْتُهَا لَهُ بِمُوَالَاتِهِ إِيَّاكَ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِي مِنَ اَلظَّلَامَاتِ فَلَا بُدَّ مِنْ فَصْلِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَيَقُولُ عَلِيٌّ (عليه السلام): يَا رَبِّ، أَفْعَلُ مَا تَأْمُرُنِي، فَيَقُولُ اَللهُ: يَا عَلِيُّ، اِضْمِنْ لِخُصَمَائِهِ تَعْوِيضَهُمْ عَنْ ظُلَامَاتِهِمْ قِبَلَهُ، فَيَضْمَنُ لَهُمْ عَلِيٌّ (عليه السلام) ذَلِكَ، وَيَقُولُ لَهُمْ: اقْتَرِحُوا عَلَيَّ مَا شِئْتُمْ، أُعْطِكُمُ عِوَضاً مِنْ ظُلَامَاتِكُمْ قِبَلَهُ، فَيَقُولُونَ: يَا أَخَا رَسُولِ اَللهِ،

(٢٠٦)

تَجْعَلُ لَنَا بِإِزَاءِ ظُلَامَاتِنَا قِبَلَهُ ثَوَابَ نَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِكَ لَيْلَةَ بَيْتُوتَتِكَ عَلَى فِرَاشِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَيَقُولُ عَلِيٌّ (عليه السلام): قَدْ وَهَبْتُ ذَلِكَ لَكُمْ، فَيَقُولُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ): فَانْظُرُوا يَا عِبَادِيَ الْآنَ إِلَى مَا نِلْتُمُوهُ مِنْ عَلِيٍّ فِدَاءً لِصَاحِبِهِ مِنْ ظُلَامَاتِكُمْ، وَيَظْهَرُ لَهُمْ ثَوَابُ نَفَسٍ وَاحِدٍ فِي اَلْجِنَانِ مِنْ عَجَائِبِ قُصُورِهَا وَخَيْرَاتِهَا، فَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُرْضِى اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ خُصَمَاءَ أُولَئِكَ اَلمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ يُرِيهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اَلدَّرَجَاتِ وَاَلمَنَازِلِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى بَالِ بَشَرٍ، يَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا هَلْ بَقِيَ مِنْ جَنَّاتِكَ شَيْءٌ إِذَا كَانَ هَذَا كُلُّهُ لَنَا، فَأَيْنَ يَحُلُّ سَائِرُ عِبَادِكَ اَلمُؤْمِنِينَ وَاَلْأَنْبِيَاءُ وَاَلصِّدِّيقُونَ وَاَلشُّهَدَاءُ وَاَلصَّالِحُونَ؟ وَيُخَيَّلُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ اَلْجَنَّةَ بِأَسْرِهَا قَدْ جُعِلَتْ لَهُمْ، فَيَأْتِي اَلنِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ اَللهِ تَعَالَى: يَا عِبَادِي، هَذَا ثَوَابُ نَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي قَدِ اقْتَرَحْتُمُوهُ عَلَيْهِ، قَدْ جَعَلَهُ لَكُمْ، فَخُذُوهُ وَانْظُرُوا، فَيَصِيرُونَ هُمْ وَهَذَا اَلمُؤْمِنُ اَلَّذِي عَوَّضَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام) فِي تِلْكَ الْجِنَانِ، ثُمَّ يَرَوْنَ مَا يُضِيفُهُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَى مَمَالِكِ عَلِيٍّ (عليه السلام) فِي اَلْجِنَانِ مَا هُوَ أَضْعَافُ مَا بَذَلَهُ عَنْ وَلِيِّهِ اَلمُوَالِي لَهُ، مِمَّا شَاءَ مِنَ الْأَضْعَافِ اَلَّتِي لَا يَعْرِفُهَا غَيْرُهُ»، ثمّ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ اَلمُعَدَّةُ لِمُخَالِفِي أَخِي وَوَصِيِّي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)؟»(279).
أقول: والأحاديث كثيرة في ذلك، ونحن نكتفي بهذه الآية والرواية، ونحاول أنْ نشير إلى تكليفنا نحن اتِّجاه حفظ الإمام (عليه السلام):
منها: أنْ نحفظ مشروعه، أقصد به المشروع المهدوي من تأسيس المؤسَّسات والمشاريع المهدويَّة من ذكره وإحياء ما يتعلَّق به من الكلمات إلى الأفعال والخيرات وكلِّ ما يمتُّ إليه بصلة.
ومنها: أنْ نحفظه في دين جدِّه وإعلاء كلمته، ونجعله نصب أعيننا في الليل والنهار، ونحمل على رؤوسنا شعار: (اللَّهُمَّ لا تجعل مصيبتنا في ديننا).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(279) بحار الأنوار (ج 8/ص 59 - 61/ح 82)، عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) (ص 127 - 129).

(٢٠٧)

ومنها: أنْ نكون أُنسه وراحته، ونُدخِل السرور عليه في كلِّ أحواله، كما كان أصحاب الأئمَّة (عليهم السلام) أُنساً وراحةً، كأمثال أبي حمزة الثمالي والمفضَّل (رضوان الله عليهما)، فعن حسين بن أبي حمزة، عن أبيه أبي حمزة، قال: والله إنِّي لعلى ظهر بعيري بالبقيع إذ جاءني رسول فقال: أجب يا أبا حمزة، فجئت وأبو عبد الله (عليه السلام) جالس، فقال: «إِنِّي لَأَسْتَرِيحُ إِذَا رَأَيْتُكَ»(280)، وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): «إِنَّ اَلمُفَضَّلَ كَانَ أُنْسِي وَمُسْتَرَاحِي»(281).
ومنها: الدعاء للإمام (عجَّل الله فرجه)، وأنت قد ترى أهمّيَّة الدعاء وعظمته، ويُستكشف ذلك من أُمور عدَّة قد ذكرت منها في هذا الكتاب مجموعة ليست بقليلة.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(280) اختيار معرفة الرجال (ج 1/ ص 141/ ح 61).
(281) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 41/ ح 29).

(٢٠٨)

الفقرة السابعة: «وَنَاصِراً»:
مسألتان:
المسألة الأولى: نصرة الله (عزَّ وجلَّ) لوليِّه (عليه السلام):
يطلب الداعي في هذه الفقرة أنْ يكون الله (عزَّ وجلَّ) ناصراً للإمام (عجَّل الله فرجه)، ونحن لا نشكُّ أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) وعد في كتابه الكريم أنْ ينصر من نصره بقوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمّد: 7)، ومن المعلوم أنَّ أعظم ناصر لله (عزَّ وجلَّ) ولدينه هو الإمام (عليه السلام)، بل معطيات الشريعة تترقَّى وتقول: إنَّ نصرة وليِّه وخليفته هي نصرة لله (عزَّ وجلَّ) بقوله: ﴿وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحشر: 8).
ولـمَّا كان الإمام ناصراً لله (عزَّ وجلَّ) فإنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد نصره في مواطن متعدِّدة:
منها: ذكره في كتابه الكريم، ومن هذه الآيات قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القَصص: 5)، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33)، وقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ (النور: 55)، وغيرها من الآيات التي اختصَّت بذلك.
ومن الكُتُب المؤلَّفة في ذلك، هو: كتاب (المحجَّة فيما نزل في القائم

(٢٠٩)

الحجَّة (عليه السلام)) تأليف السيِّد هاشم بن سلمان التوبلي المحدِّث البحراني (ت ١١٠٧هـ)، طُبِعَ بتحقيق السيِّد منير الميلاني في بيروت، وطُبِعَ أيضاً في قم بتحقيق وتعليق الشيخ حامد الفدوي الأردستاني، نشر المكتبة المرتضويَّة لإحياء الآثار الجعفريَّة.
وكتاب (المهدي في القرآن) تأليف آية الله السيِّد صادق الحسيني الشيرازي.
وكتاب (القرآن يتحدَّث عن الإمام المهدي (عليه السلام)) (الإشارات القرآنيَّة وتأويل الآيات التي تحدَّثت عن الإمام المخلِّص في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام))، إعداد مهدي حسن علاء الدِّين، نشر مركز بقيَّة الله الأعظم للدراسات والنشر، بيروت، لبنان.
وكتاب (الظواهر القرآنيَّة والإمام المهدي) لآية الله الشيخ محمّد السند، وغيرها من الكُتُب.
ومنها: نصرته بالكرامات والمعاجز التي ظهرت منه، وقد دونتها الكُتُب، فقد روى الشيخ الصّدوق (رحمه الله)، قال: حدَّثنا أبو الأديان، قال: كنتُ أخدم الحسنَ ابن عليٍّ (العسكري) (عليه السلام)، وأحمل كُتُبه إلى الأمصار، فدخلتُ عليه في علَّته التي تُوفِّي فيها (صلوات الله عليه)، فكتب معي كُتُباً، وقال: «اِمْضِ بِهَا إِلَى اَلمَدَائِنِ، فَإِنَّكَ سَتَغِيبُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً وَتَدْخُلُ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى يَوْمَ اَلخَامْس عَشَرَ وَتَسْمَعُ اَلْوَاعِيَةَ فِي دَارِي، وَتَجِدُنِي عَلَى اَلمُغْتَسَلِ»، قال أبو الأديان: فقلت: يا سيِّدي، فإذا كان ذلك فمَنْ؟ قال: «مَنْ طَالَبَكَ بِجَوَابَاتِ كُتُبِي فَهُوَ اَلْقَائِمُ مِنْ بَعْدِي»، فقلت: زِدْني، فقال: «مَنْ يُصَلِّي عَلَيَّ فَهُوَ اَلْقَائِمُ بَعْدِي»، فقلت: زدني، فقال: «مَنْ أَخْبَرَ بِمَّا في الهِمْيَانِ فَهُوَ اَلْقَائِمُ بَعْدِي»...، وخرجتُ بالكُتُب إلى المدائن وأخذتُ جواباتها، ودخلت سُرَّ من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر

(٢١٠)

لي (عليه السلام)، فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن عليٍّ أخيه بباب الدار والشيعة من حوله يُعَزُّونه ويهنُّونه، فقلت في نفسي: إنْ يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة، لأنِّي كنت أعرفه يشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق، ويلعب بالطنبور، فتقدَّمت فعزَّيت وهنَّيت، فلم يسألني عن شيء، ثمّ خرج عقيد فقال: يا سيِّدي، قد كُفِّن أخوك، فقم وصلِّ عليه، فدخل جعفر بن عليٍّ والشيعة من حوله يقدمهم السمَّان والحسن بن عليٍّ قتيل المعتصم المعروف بسَلَمة، فلمَّا صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن عليٍّ (صلوات الله عليه) على نعشه مكفَّناً، فتقدَّم جعفر بن عليٍّ ليُصلِّي على أخيه، فلمَّا همَّ بالتكبير خرج صبيٌّ بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذ برداء جعفر بن عليٍّ وقال: «تَأَخَّرْ يَا عَمّ فَأَنَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَبِي»، فتأخَّر جعفر وقد أربد وجهه واصفرَّ، فتقدَّم الصبيُّ وصلَّى عليه ودُفِنَ إلى جانب قبر أبيه (عليهما السلام)، ثمّ قال: «يَا بَصْرِيُّ، هَاتِ جَوَابَاتِ اَلْكُتُبِ اَلَّتِي مَعَكَ»، فدفعتها إليه، فقلت في نفسي: هذه بيِّنتان، بقي الهميان، ثمّ خرجت إلى جعفر بن عليٍّ وهو يزفر، فقال له حاجز الوشَّاء: يا سيِّدي، من الصبيُّ؟ لنقيم الحجَّة عليه، فقال: والله ما رأيته قطُّ ولا أعرفه، فنحن جلوس إذ قَدِمَ نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن عليٍّ (عليهما السلام)، فعرفوا موته، فقالوا: فمن نُعزِّي؟ فأشار الناس إلى جعفر بن عليٍّ، فسلَّموا عليه وعزُّوه وهنُّوه وقالوا: إنَّ معنا كُتُباً ومالاً، فتقول ممَّن الكُتُب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منَّا أنْ نعلم الغيب، قال: فخرج الخادم، فقال: معكم كُتُب فلان وفلان وفلان، وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطليَّة، فدفعوا إليه الكُتُب والمال، وقالوا: الذي وجَّه بك لأخذ ذلك هو الإمام(282).
وعن محمّد بن عبد الله المطهَّري، عن حكيمة بنت محمّد الجواد (عليه السلام) وقد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(282) كمال الدِّين (ص 475 و476/ باب 43/ ضمن الحديث 25).

(٢١١)

سألها عن حديث مولد الإمام المهديِّ (عليه السلام)، فقالت: لقد رأيتُه قبل مضيِّ أبي محمّد (الحسن العسكري (عليه السلام)) بأيَّامٍ قلائلَ فلم أعرفه، فقلت لابن أخي (عليه السلام): مَنْ هذا الذي تأمرني أنْ أجلس بين يديه؟ فقال (عليه السلام): «هَذَا اِبْنُ نَرْجِس، وَهَذَا خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي، وَعَنْ قَلِيلٍ تَفْقِدُونِي، فَاسْمَعِي لَهُ وَأَطِيعِي»، قالت حكيمة: فمضى أبو محمّد (عليه السلام) بعد ذلك بأيَّامٍ قلائل، وافترق الناس كما ترى، وواللهِ إنِّي لأراه صباحاً ومساءً، وإنَّه لَيُنبِّئني عمَّا تسألون عنه فأُخبركم، وواللهِ إنِّي لأُريد أنْ أسأله عن الشيء فيبدأني به(283).
وعن أبي نعيم محمّد بن أحمد الأنصاري، قال: وجَّه قومٌ من المفوِّضة والمقصِّرة كاملَ بن إبراهيم المدني إلى أبي محمّد (الحسن العسكري) (عليه السلام)، قال كامل: فقلت في نفسي: أسأله لا يدخل الجنَّة إلَّا مَنْ عرف معرفتي وقال بمقالتي، قال: فلمَّا دخلتُ على سيِّدي أبي محمّد (عليه السلام) نظرتُ إلى ثيابٍ بياض ناعمة عليه، فقلت في نفسي: وليُّ الله وحجَّته يلبس الناعم من الثياب ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهانا عن لبس مثله! فقال متبسِّماً: «يَا كَامِلُ»، وحسر عن ذراعيه، فإذا مِسْحٌ أسود خَشِنٌ على جلده، فقال: «هَذَا للهِ، وَهَذَا لَكُمْ»، فسلَّمت وجلست إلى بابٍ عليه ستر مُرخى، فجاءت الريح فكشفت طرفه، فإذا أنا بفتى كأنَّه فِلْقَةُ قمرٍ من أبناء أربع سنين أو مثلها، فقال لي: «يَا كَامِلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ»، فاقشعررتُ من ذلك وأُلهمتُ أنْ قلت: لبَّيك يا سيِّدي، فقال: «جِئْتَ إِلَى وَلِيِّ اَللهِ وَحُجَّتِهِ وَبَابِهِ تَسْأَلُهُ هَلْ يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ عَرَفَ مَعْرِفَتَكَ وَقَالَ بِمَقَالَتِكَ؟»، فقلت: إي والله، فقال: «إِذَنْ وَاَللهِ يَقِلُّ دَاخِلُهَا، وَاَللهِ إِنَّهُ لَيَدْخُلُهَا قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ: اَلْحَقِّيَّةُ»، قلت: يا سيِّدي، ومَنْ هم؟ قال: «قَوْمٌ مِنْ حُبِّهِمْ لِعَلِيٍّ يَحْلِفُونَ بِحَقِّهِ وَلَا يَدْرُونَ مَا حَقُّهُ وَفَضْلُهُ»، ثمّ سكت (صلوات الله عليه) عنِّي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(283) كمال الدِّين (ص 429/ باب 42/ ح 2).

(٢١٢)

ساعة، ثمّ قال: «وَجِئْتَ تَسْأَلُهُ عَنْ مَقَالَةِ اَلمُفَوِّضَةِ، كَذَبُوا بَلْ قُلُوبُنَا أَوْعِيَةٌ لِمَشِيَّةِ اَللهِ، فَإِذَا شَاءَ شِئْنَا، وَاَللهُ يَقُولُ: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ﴾ [الإنسان: 30]»، ثمّ رجع الستر إلى حالته فلم أستطع كشفه، فنظر إليَّ أبو محمّد (عليه السلام) متبسِّماً، فقال: «يَا كَامِلُ، مَا جُلُوسُكَ وَقَدْ أَنْبَأَكَ بِحَاجَتِكَ اَلْحُجَّةُ مِنْ بَعْدِي؟!»، فقمتُ وخرجتُ ولم أُعاينه بعد ذلك. قال أبو نعيم: فلقيتُ كاملاً فسألته عن هذا الحديث، فحدَّثني به(284).
وأُمور أُخرى كثيرة يجدها المتتبِّع في ذلك.
المسألة الثانية: ما معنى فقرة الدعاء «وَنَاصِراً»:
لعلَّه: الداعي يطلب التعجيل بتذليل الصعاب واجتماع العدَّة ومبايعة جبرائيل وميكائيل وأمداد الملائكة.
عن عبد العظيم الحسني (رحمه الله)، قال: قلت لمحمّد بن عليِّ بن موسى (الإمام الجواد (عليه السلام)): إنِّي لأرجو أنْ تكون القائم من أهل بيت محمّد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، فقال (عليه السلام): «يَا أَبَا اَلْقَاسِمِ، مَا مِنَّا إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ بِأَمْرِ اَللهِ (عزَّ وجلَّ) وَهَادٍ إِلَى دِينِ اَللهِ، وَلَكِنَّ اَلْقَائِمَ اَلَّذِي يُطَهِّرُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ أَهْلِ اَلْكُفْرِ وَاَلْجُحُودِ وَيَمْلَؤُهَا عَدْلاً وَقِسْطاً هُوَ اَلَّذِي تَخْفَى عَلَى اَلنَّاسِ وِلَادَتُهُ، وَيَغِيبُ عَنْهُمْ شَخْصُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ تَسْمِيَتُهُ، وَهُوَ سَمِيُّ رَسُولِ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَكَنِيُّهُ، وَهُوَ اَلَّذِي تُطْوَى لَهُ اَلْأَرْضُ، وَيَذِلُّ لَهُ كُلُّ صَعْبٍ، [وَ]يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِهِ عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنْ أَقَاصِي اَلْأَرْضِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اَللهِ (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 148]، فَإِذَا اِجْتَمَعَتْ لَهُ هَذِهِ اَلْعِدَّةُ مِنْ أَهْلِ اَلْإِخْلَاصِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(284) الغيبة للطوسي (ص 246 و247/ ح 216).

(٢١٣)

أَظْهَرَ اَللهُ أَمْرَهُ، فَإِذَا كَمَلَ لَهُ اَلْعَقْدُ وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ رَجُلٍ خَرَجَ بِإِذْنِ اَللهِ(عزَّ وجلَّ)، فَلَا يَزَالُ يَقْتُلُ أَعْدَاءَ اَللهِ حَتَّى يَرْضَى اَللهُ (عزَّ وجلَّ)»، قال عبد العظيم: فقلت له: يا سيِّدي، وكيف يعلم أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد رضي؟ قال: «يُلْقِي فِي قَلْبِهِ اَلرَّحْمَةَ»(285).
وعن إبراهيم الجريري، عن أبيه، قال: (النفس الزكيَّة غلام من آل محمّد اسمه: محمّد بن الحسن، يُقتَل بلا جرم ولا ذنب، فإذا قتلوه لم يبقَ لهم في السماء عاذر، ولا في الأرض ناصر، فعند ذلك يبعث اللهُ قائمَ آل محمّد في عصبة لهم أدقّ في أعين الناس من الكحل، إذا خرجوا بكى لهم الناس، لا يرون إلَّا أنَّهم يختطفون، يفتح الله لهم مشارق الأرض ومغاربها، ألَا وهم المؤمنون حقًّا، ألَا إنَّ خير الجهاد في آخر الزمان)(286).
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام)، قال: «فَيَهْبِطُ مِنْ عَقَبَةِ طُوًى فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرٍ حَتَّى يَأْتِيَ اَلمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ فَيُصَلِّي فِيهِ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَيُسْنِدُ ظَهْرَهُ إِلَى اَلْحَجَرِ اَلْأَسْوَدِ، ثُمَّ يَحْمَدُ اَللهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيَذْكُرُ اَلنَّبِيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ اَلنَّاسِ، فَيَكُونُ أَوَّلُ مَنْ يَضْرِبُ عَلَى يَدِهِ وَيُبَايِعُهُ جَبْرَئِيلَ وَمِيكَائِيلَ»(287).
وفي أعمال النصف من شعبان: «اَللَّهُمَّ بِحَقِّ لَيْلَتِنا وَمَوْلُودِهَا، وَحُجَّتِكَ وَمَوْعُودِهَا، اَلَّتي قَرَنْتَ اِلَى فَضْلِهَا فَضْلاً فَتَمَّتْ كَلِمَتُكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِكَ وَلَا مُعَقِّبَ لِآيَاتِكَ، نُورُكَ اَلمُتَاَلِّقُ، وَضِيَاؤُكَ اَلمُشْرِقُ، وَاَلْعَلَمُ اَلنُّورُ في طَخْيَاءِ اَلدَّيْجُورِ، اَلْغائِبُ الْمَسْتُورُ، جَلَّ مَوْلِدُهُ، وَكَرمَ مَحْتِدُهُ، وَاَلمَلَائِكَةُ شُهَّدُهُ، وَاَللهُ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ، إِذَا آنَ مِيعَادُهُ، وَاَلمَلائِكَةُ أَمْدَادُهُ، سَيْفُ اَللهِ اَلَّذِي لَا يَنْبُو،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(285) كمال الدِّين (ص 376 و377/ باب 36/ ح 2).
(286) الغيبة للطوسي (ص 464 و465/ ح 480).
(287) بحار الأنوار (ج 52/ ص 307/ ح 81)، عن سرور أهل الإيمان (ص 94).

(٢١٤)

وَنُورُهُ اَلَّذِي لَا يَخْبُو، وَذُو الْحِلْمِ اَلَّذِي لَا يَصْبُو، مَدَارُ اَلدَّهْرِ، وَنَوَامِيسُ اَلْعَصْرِ، وَوُلَاةُ اَلْأَمْرِ، وَاَلمُنَزَّلُ عَلَيْهِمْ مَا يَتَنَزَّلُ في لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ، وَأَصْحَابُ اَلْحَشْرِ وَاَلنَّشْرِ، تَرَاجِمَةَ وَحْيِهِ، وَوُلَاةُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، اَللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلى خَاتِمِهم وَقَائِمِهِمْ اَلمَسْتُورِ عَنْ عَوَالِمِهِمْ، وَأَدْرِكَ بِنَا أَيَّامَهُ وَظُهُورَهُ وَقِيَامَهُ، وَاجْعَلْنَا مِنْ أَنْصَارِهِ، وَاقْرِنْ ثَارَنَا بِثَارِهِ، وَاكْتُبْنَا في أَعْوَانِهِ وَخُلَصَائِهِ، وَأَحْيِنَا فِي دَوْلَتِهِ نَاعِمينَ، وَبِصُحْبَتِهِ غَانِمينَ وَبِحَقِّهِ قَائِمينَ، وَمِنَ اَلسُّوءِ سَالِمينَ، يَا أَرْحَمَ اَلرَّاحِمينَ، وَاَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ اَلْعَالَمينَ، وَصَلَّى اَللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ وَاَلمُرْسَلينَ، وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ اَلصَّادِقينَ وَعِتْرَتِهَ اَلنَّاطِقينَ، وَالْعَنْ جَميعَ اَلظَّالِمينَ، واحْكُمْ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ يَا أَحْكَمَ اَلْحَاكِمينَ»(288).
والشواهد كثيرة في هذا الباب، ونحن نقتصر بما أوردنا.
ولعله: تهيئة الأنصار للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
والتهيئة تتأتَّى من خلال عوامل:
العامل الأوَّل: التوفيقات الإلهيَّة، وكما يُنقَل: (التوفيق خير رفيق)، فإنَّ التوفيق الإلهي إذا نال مجموعة يعادل كما من الأعمال الكبيرة الجبَّارة، والتوفيق لا يتأتَّى جزافاً وإنَّما له أسباب كثيرة.
العامل الثاني: توجُّه البشريَّة والعائلة الإنسانيَّة إلى الأمل الإلهي بتطلُّعها إلى المنقذ والمخلِّص كما فعل بنو إسرائيل، فعن فضل بن أبي قرَّة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «أَوْحَى اَللهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ سَيُولَدُ لَكَ، فَقَالَ لِسَارَةَ، فَقَالَتْ: ﴿أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ﴾ [هود: 72]، فَأَوْحَى اَللهُ إِلَيْهِ: أَنَّهَا سَتَلِدُ وَيُعَذَّبُ أَوْلَادُهَا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ بِرَدِّهَا اَلْكَلَامَ عَلَيَّ»، قال: «فَلَمَّا طَالَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ اَلْعَذَابُ ضَجُّوا وَبَكَوْا إِلَى اَللهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، فَأَوْحَى اَللهُ إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ أَنْ يُخَلِّصَهُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(288) مصباح المتهجِّد (ص 842 و843).

(٢١٥)

مِنْ فِرْعَوْنَ، فَحَطَّ عَنْهُمْ سَبْعِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ»، قال: وقال أبو عبد الله: «هَكَذَا أَنْتُمْ لَوْ فَعَلْتُمْ لَفَرَّجَ اَللهُ عَنَّا، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُونُوا فَإِنَّ اَلْأَمْرَ يَنْتَهِي إِلَى مُنْتَهَاهُ»(289).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(289) تفسير العيَّاشي (ج 2/ ص 154/ ح 49).

(٢١٦)

الفقرة الثامنة: «وَدَلِيلاً»:
«اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى وَلِيِّكَ، اَلمُحْيِي سُنَّتَكَ، اَلْقَائِمِ بِأَمْرِكَ، اَلدَّاعِي إِلَيْكَ، اَلدَّلِيلِ عَلَيْكَ، وَحُجَّتِكَ عَلَى خَلْقِكَ، وَخَلِيفَتِكَ فِي أَرْضِكَ، وَشَاهِدِكَ عَلَى عِبَادِكَ»(290).
لا ريب في أنَّه (عجَّل الله فرجه) هو الدليل على دين الله وصراطه ومرضاته والدليل عليه، وقد دلَّت على ذلك النصوص الوحيانيَّة، ونحن نشير إلى كيفيَّة دلالاته، ومن ثَمَّ نُبيِّن مراد الفقرة في الدعاء.
المسألة الأولى: في بيان كيفيَّة كونهم (عليهم السلام) الأدلّاء إلى مرضاته وأنحائه:
(فنقول: إنَّها على أقسام:
الأوَّل: أنَّهم أدلَّاء عليها بالبيان العلمي المطابق مع العقل والبرهان القطعي، بحيث تُصدِّقه العقول ولا تردُّه البراهين القاطعة في أقسام العلوم والمعارف الإلهيَّة، وهذا أيضاً أمر مسلَّم لا شبهة فيه، فإنَّ الكُتُب مشحونة بذكر بياناتهم الظاهرة المقرونة بالبراهين القاطعة في أيِّ موضوع علمي بيَّنوه (عليهم السلام) لكلِّ أحد، سواء أكان من موافقيهم أم من مخالفيهم.
بل جمعوا (عليهم السلام) العلوم كلَّها، وأنَّهم لا يُسئَلون في أمر إلَّا أجابوا عنه بأحسن وجه، ويدلُّ على هذا الأحاديث الكثيرة في عناوين مختلفة ممَّا ورد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(290) الغيبة للطوسي (ص 279/ ح 238).

(٢١٧)

عنهم (عليهم السلام) كما تقدَّم في بيان أمر الولاية، وأنَّهم حجَّة الله، وأنَّه تعالى لم يجعل حجَّة في خلقه يُسئَل عن أمر فيقول: لا أعلم، كما لا يخفى.
الثاني: أنَّهم أدلَّاء عليها بالعمل، فإنَّ أعمالهم (عليهم السلام) كأقوالهم حجَّة يُرجَع إليها في تشخيص الوظائف، كما حُقِّق في الأُصول.
وكيف كان إنَّهم (عليهم السلام) لا يصدر منهم فعل يكون على خلاف مرضاته تعالى، بل جميع أفعالهم تدلُّ على أنَّها مرضيَّة له تعالى، وإليه يشير قوله في حقِّهم: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 26 و27].
الثالث: أنَّهم (عليهم السلام) أدلَّاء عليها بالصفات الحميدة، فإنَّهم (عليهم السلام) متَّصفون بأكمل الصفات المحمودة، بل سيجيء إنْ شاء الله أنَّ كلَّ صفة حميدة في أيِّ رجل فهي متشعِّبة منهم (عليهم السلام)، كما دلَّ عليه قوله (عليه السلام): «إِنْ ذُكِرَ اَلْخَيْرُ كُنْتُمْ [أَوَّلَهُ وَ]أَصْلَهُ وَفَرْعَهُ...»(291) إلخ...، وهذا أيضاً ظاهر لا شكَّ فيه حتَّى عند المخالفين وعند المعاندين لهم (عليهم السلام)، فهم بصفاتهم يدلُّون على مرضاته تعالى، أي إنَّ أيَّ صفة كانوا متَّصفين بها فهي مرضيَّة لله تعالى، فمن اتِّصافهم بها يُعلَم أنَّها مرضيَّة له تعالى، فهم (عليهم السلام) الأدلَّاء على كونها صفة أيضاً.
الرابع: أنَّهم بحقيقتهم النورانيَّة، وبما هم مظهر للأسماء الحسنى، وبما هم قائمون بالأسماء العظمى لله تعالى، وبما هم المظهر الأتمُّ له تعالى في جميع صفاته الجلاليَّة والجماليَّة، وبما هم محالُّ معرفة الله تعالى كما تقدَّم يدلُّون على مرضاته في هذه الأُمور من المعارف الغامضة الإلهيَّة، فلا بدَّ لكلِّ أحد من العارفين والسالكين إليه تعالى والواصلين إلى معرفته تعالى أنْ يعرضوا حالاتهم عليهم (عليهم السلام) بلحاظ تلك الحالات الكائنة فيهم (عليهم السلام)، فيستدلُّون بها على مرضاته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(291) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 616/ ح 3213).

(٢١٨)

تعالى فيها بأنْ يروا ويعلموا أنَّ ما وافق من تلك الحالات الكائنة فيهم مع الحالات الكائنة فيهم (عليهم السلام) فهي مرضيَّة له تعالى وإلَّا فلا.
وبعبارة أُخرى: إنَّه قد علمت سابقاً مفصَّلاً أنَّهم معانيه تعالى وأبوابه وحجَّته، وعلمت معنى أنَّهم معاني الله، أي إنَّهم حقيقة الأسماء الحسنى، وبهم ومنهم يُتوصَّل إليها، والمعرفة بهم بما هم كذلك دليل على معرفته تعالى، فهم بحقيقتهم أدلَّاء على معرفته تعالى المرضيَّة له، التي خلق الخلق لها كما تقدَّم من قول الحسين (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ مَا خَلَقَ اَلْخَلْقَ إِلَّا لِيَعْرِفُوه»، وتقدَّم أنَّه لا يُعرَف الله إلَّا بسبيل معرفتهم، فمعرفتهم سبيل معرفة الله ودليلها، بل معرفتهم معرفة الله كما علمت من قوله (عليه السلام): «[إِنَّ مَعْرِفَةَ اَللهِ] مَعْرِفَةُ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ إِمَامَهُمُ اَلَّذِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ»(292).
والحاصل: أنَّ الله تعالى يُعرَف بأسمائه التي هي صفاته تعالى، وهي ليست إلَّا ذواتهم المقدَّسة، لقوله (عليه السلام): «[وَاَللهِ] نَحْنُ اَلْأَسْمَاءُ اَلْحُسْنَى»(293) كما تقدَّم، فهم (عليهم السلام) حينئذٍ بما هم مصاديق لها أدلَّاء لله تعالى، فإنَّ شيعتهم يقتبسون معارفهم وحقائقهم منهم، فهم بما لهم من المراتب التي يختصُّ كلٌّ منهم ببعضها أيضاً أدلَّاء على الله، وبحقيقتهم التي هي بعض مراتب الأسماء الإلهيَّة أدلَّاء على الله، وبسبيل معرفتهم يُعرَف الله حيث إنَّها مقتبسة منهم (عليهم السلام)، بل في الحقيقة إنَّ ما فيهم من تلك الحقائق والمعارف لـمَّا كانت منهم (عليهم السلام) فصحَّ أنْ يقال: إنَّ المعارف الكائنة فيهم المستدلُّ بها على الله تعالى إنَّما هي منهم وبهم (عليهم السلام)، فهم (عليهم السلام) في ظهورهم في شيعتهم أدلَّاء على الله تعالى، فتدبَّر تعرف)(294).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(292) علل الشرائع (ج 1/ ص 9/ باب 9/ ح 1).
(293) المحتضر (ص 136).
(294) الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة (ج 2/ ص 407 - 409).

(٢١٩)

فتبيَّن أنَّهم الأدلَّاء إلى الله بصفاتهم وأفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، وهم الدالُّون علي الله بجميع أنحاء الدلالة، فالكلُّ من جميع الجهات عارفون بالله بهم، عابدون لله بهم، سالكون إلى الله تعالى بهم (صلوات الله عليهم)، فهم السبيل الأعظم، والصراط الأقوم، والصراط المستقيم إلي الله تعالى.
المسألة الثانية: المراد من «وَدَلِيلاً»:
بعد أنْ تبيَّن أنَّ الإمام هو الدليل المطلق على الله ودينه وصراطه ومرضاته، فإنَّ طلب الداعي لا بدَّ من توجيهه إلى ما يناسب المقام.
الوجه الأوَّل: هو إظهار دلالاته للبشريَّة علناً وإفهامهم إيَّاها، فإنَّ الكثير من البشريَّة لا يعرفون دلالة الإمام (عليه السلام) لا بالإجمال ولا بالتفصيل.
فكما ورد في (البحار): «وَكَمَا جَعَلْتَهُمْ اَلسَّبَبَ إِلَيْكَ، وَاَلسَّبِيلَ إِلَى طَاعَتِكَ، وَاَلْوَسِيلَةَ إِلَى جَنَّتِكَ، وَاَلْأَدِلَّاءَ عَلَى طُرُقِكَ»(295).
فما معنى «اَلْأَدِلَّاءَ عَلَى طُرُقِكَ»؟ وكم الطُّرُق إلى الله (عزَّ وجلَّ)؟ وهل هي مادّيَّة أو معنويَّة أو كليهما؟ فهذا مخفيٌّ على الكثير.
ومثل النصِّ الوارد في حديث المعراج: «[نَحْنُ] اَلدَّلِيلُ اَلْوَاضِحُ لِمَنْ اِهْتَدَى»(296)، هم دليل واضح ولكن لمن اهتدى، ما هي الهداية؟ هل هي هداية التشريع أو التكوين؟ وكيف الوصول إليها والتلبُّس بها؟ وما هي مقدَّماتها وقواعدها؟ وإلى غير ذلك من الأسئلة.
الوجه الثاني: هو تثبيت دلالاته في نفس الداعي، فإنَّ كثيراً من الاعتقادات التي نتلوها ونلوكها بألسنتنا لم تتنزَّل في قلوبنا، وهذا ممَّا لا يشكُّ فيه أحد، فإنَّا نعتقد بالآية المباركة: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(295) بحار الأنوار (ج 86/ ص 341).
(296) المحتضر (ص 229).

(٢٢٠)

وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 105) على مستوى العقل والفكر حتَّى لو أنَّا طولبنا بالأدلَّة عليها لأقمنا الأدلَّة العقليَّة والتعبُّديَّة عليها، ولكن لو راجعنا أعمالنا وسلوكيَّاتنا في قبال رؤية الله ورسوله وأوليائه لوجدنا لم نقم لهم وزناً حتَّى مع أقلّ الأوزان، فإنَّا نراعي الأطفال في تصرُّفاتنا كيلا يعيبونا ويستنقصوا منَّا.
ومن هذا فإنَّ تلاوة كثير من الأدعية هي تلقين عقائد لنا وتثبيتها في القلب، والفقرة تريد ترسيخ عقيدة دلالة وليِّ الله (صلوات الله عليه) بدلالة الله (عزَّ وجلَّ).

* * *

(٢٢١)

الفقرة التاسعة: «وَقَائِداً»:
وفيها مسائل:
المسألة الأولى: معنى القيادة:
قائد جمعه قادة، وهو اسم فاعل، وهو مشتقٌّ من قود، قال الخليل بن أحمد: (القود نقيض السوق، يقود الدابَّة من أمامها ويسوقها من خلفها، والقياد: الحبل الذي تقود به دابَّة أو شيئاً)(297).
وقال عليّ نظامي بور الهمداني: (القائد: من يقود قوماً مثلاً، وهو قريب المعنى إلى الإمام والهادي، وهو الذي يعرف الطريق، بمعنى إذا بُعِثَت الجيوش إلى القتال يُبعَث رجل قبلها في الخفاء للتفحُّص عن خصوصيَّات العدوِّ كالكمّيَّة والكيفيَّة والعدد وغير ذلك من الجزئيَّات حتَّى يرجع فيُخبرهم ويقودهم في السير ليكون هجومهم على الأعداء على معرفة كاملة منهم، يقال لذلك المبعوث المتفحِّص: قائد)(298).
واعلم أنَّ الأنبياء والقادة الربَّانيِّين هم قُوَّاد الناس وليسوا سائقيهم، لأنَّهم يقدمونهم ويدعون الناس للسير ورائهم، لا أنَّهم يقفون ويقولون لهم: الطريق من هنا، اذهبوا واحذروا السقوط ونحن على الأثر(299).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(297) العين للفراهيدي (ج 5/ ص 196/ مادَّة قود).
(298) المعارف الرائعة في شرح زيارة الجامعة (ص 65).
(299) أدب فناء المقرَّبين (ج 1/ ص 176).

(٢٢٢)

المسألة الثانية: كم القيادة؟
إنَّ قيادة أهل البيت (صلوات الله عليهم) من ابتداء الوجود إلى نهايته، وإليك بعض الشواهد:
منها: في دعاء الاستئذان المتقدِّم: «اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْتَهُمْ مُلُوكاً لِحِفْظِ اَلنِّظامِ، وَاخْتَرْتَهُمْ رُؤسَاءَ لِجَمِيعِ اَلْأَنَامِ، وَبَعَثْتَهُمْ لِقِيَامِ اَلْقِسْطِ فِي اِبْتِداءِ اَلْوُجُودِ إِلَى يَوْمِ اَلقِّيَامَة، ثُمَّ مَنَنْتَ عَلَيْهِمْ بِاسْتِنَابَةِ أَنْبِيَائِكَ لِحِفْظِ شَرَائِعِكَ وَأَحْكَامِكَ، فَأَكْمَلْتَ بِاسْتِخْلَافِهِمْ رِسَالَةَ اَلمُنْذِرِينَ كَمَا أَوْجْبْتَ رِئَاسَتَهُمْ فِي فِطَرِ اَلمُكَلَّفِينَ»(300).
ومنها: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنْ وُلْدِ آدَمَ إِلَى مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِلَّا وَهُمْ تَحْتَ لِوَاءِ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(301).
ومنها: عن أبان بن عثمان، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، قال: «إِذَا كَانَ يَوْمُ اَلْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ اَلْعَرْشِ: أَيْنَ خَلِيفَةُ اَللهِ فِي أَرْضِهِ؟ فَيَقُومُ دَاوُدُ اَلنَّبِيُّ (عليه السلام)، فَيَأْتِي اَلنِّدَاءُ مِنْ عِنْدِ اَللهِ (عزَّ وجلَّ): لَسْنَا إِيَّاكَ أَرَدْنَا وَإِنْ كُنْتَ للهِ خَلِيفَةً، ثُمَّ يُنَادِي ثَانِيَةً: أَيْنَ خَلِيفَةُ اَللهِ فِي أَرْضِهِ؟ فَيَقُومُ أَمِيرُ اَلمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَيَأْتِي اَلنِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ اَللهِ (عزَّ وجلَّ): يَا مَعْشَرَ اَلْخَلَائِقِ، هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَلِيفَةُ اَللهِ فِي أَرْضِهِ وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، فَمَنْ تَعَلَّقَ بِحَبْلِهِ فِي دَارِ اَلدُّنْيَا فَلْيَتَعَلَّقْ بِحَبْلِهِ فِي هَذَا اَلْيَوْمِ لِيَسْتَضِيءَ بِنُورِهِ، وَلِيَتَّبِعَهُ إِلَى اَلدَّرَجَاتِ اَلْعُلَى مِنَ اَلْجِنَانِ»، قال: «فَيَقُومُ أُنَاسٌ قَدْ تَعَلَّقُوا بِحَبْلِهِ فِي اَلدُّنْيَا فَيَتَّبِعُونَهُ إِلَى اَلْجَنَّةِ، ثُمَّ يَأْتِي اَلنِّدَاءُ مِنْ عِنْدِ اَللهِ (جلَّ جلاله): أَلَا مَنِ اِئْتَمَّ بِإِمَامٍ فِي دَارِ اَلدُّنْيَا فَلْيَتَّبِعْهُ إِلَى حَيْثُ شَاءَ وَيَذْهَبُ بِهِ، فَحِينَئِذٍ ﴿تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ﴾ [البقرة: 166]، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(300) بحار الأنوار (ج 99/ ص 115).
(301) تفسير العيَّاشي (ج 2/ ص 311/ ح 145).

(٢٢٣)

فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ [البقرة: 167]»(302).
أقول: والثابت أنَّ وجود أهل بيت العصمة والطهارة لهم التقدُّم في الخلقة، وهم متقدِّمون بالفضائل كلِّها، فلهم القيادة منذ بدء الوجود إلى آخره.
المسألة الثالثة: القيادة لمن؟
كما هو ظاهر في النصوص الواردة عنهم (عليهم السلام) أنَّ قيادتهم لجميع الخلق من الأنبياء والملائكة والجنِّ والإنس والطير والوحش والحجر والمدر كلٌّ بحسبه.
ومن النصوص الدالَّة على ذلك ما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة: «قَادَةَ اَلْأُمَمِ»(303)، و(الأُمَم) جمع الأُمَّة، والمراد: أُمَم الأنبياء بما فيهم أُمَّة الإسلام، أو أنَّ المراد: الخلق كلُّهم(304). إنَّ الأُمَّة قد تُطلَق على غير الإنسان كقوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾ (الأنعام: 38)، فالأُمَّة لغةً تُطلَق على الخلق إنساناً كان أم لا.
وعن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «اَلْحُجَّةُ قَبْلَ اَلْخَلْقِ، وَمَعَ اَلْخَلْقِ، وَبَعْدَ اَلْخَلْقِ»(305).
وعن مولانا الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): «نَحْنُ حُجَجُ اَللهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَجَدَّتُنَا فَاطِمَةُ (عليها السلام) حُجَّةُ اَللهِ عَلَيْنَا»(306).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(302) أمالي المفيد (ص 285/ ح 3).
(303) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 610/ ح 3213).
(304) مجمع البحرين (ج 6/ ص 12).
(305) الكافي (ج 1/ ص 177/ باب أنَّ الحجَّة لا تقوم لله على خلقه إلَّا بإمام/ ح 4).
(306) تفسير أطيب البيان (ج 13/ ص 226).

(٢٢٤)

وعن أبي جعفر (عليه السلام): «وَلَقَدْ كَانَتْ (عليها السلام) مَفْرُوضَةُ اَلطَّاعَةِ عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ اَللهُ مِنَ اَلْجِنِّ وَاَلْإِنْسِ، وَاَلطَّيْرِ وَاَلْوَحْشِ، وَاَلْأَنْبِيَاءِ وَاَلمَلَائِكَةِ»(307).
والشواهد في حجّيَّتهم وولايتهم وإمامتهم للخلق أكثر من أنْ تُحصى، وكلُّها تدلُّ على أنَّ الخلق دونهم، وهم (عليهم السلام) أئمَّتهم وقادتهم إلى الله تعالى.
المسألة الرابعة: فيما القيادة؟
في هذه المسألة نُبيِّن أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) في ماذا يقودون الخلق؟
والجواب على ذلك:
منها: إلى معرفة الله تعالى وطاعته بالهداية في الدنيا.
ومنها: يقودون في الآخرة جميع الأُمَم حتَّى الأُمَم السابقة بالشفاعة الكبرى، والقيادة إلى الجنان العليا.
ومنها: يقودون الملائكة إلى التسبيح والتهليل، «فَسَبَحْنَا فَسَبَحَتِ اَلمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِنَا»(308).
ومنها: إلى عبادة الله سبحانه، «بِعِبَادَتِنَا عُبِدَ اَللهُ، وَلَوْ لَا نَحْنُ مَا عُبِدَ اَللهُ»(309).
ومنها: إلى الخير والصلاح من خلال ما ينشرون من الأحكام والمعارف.
ومنها: إلى النجاة وبرِّ الأمان، كما طالعنا في صفحات التاريخ في جميع الأنبياء العظام (عليهم السلام) كانوا في أحلك الشدائد والمصائب يتوسَّلون بأسمائهم الشريفة، وأنوارهم المقدَّسة، فيكشف الله (عزَّ وجلَّ) لأجل أسمائهم وأنوارهم الطيِّبة المهمَّ من أُمورهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(307) العوالم (ج 1/ ص 172/ باب 13/ ح 1).
(308) الهداية الكبرى (ص 240).
(309)) ) الكافي (ج 1/ ص 144/ باب النوادر/ ح 5).

(٢٢٥)

ومنها: يقودونهم إلى تيسير ما خُلِقُوا له بأسباب الألطاف المعينة على الخيرات والمانعة من الشرور، إعانةً لا تبلغ حدَّ الإلجاء ومنعاً لا يرفع الاختيار.
وإجمال ذلك كلّه قيادة أهل البيت (صلوات الله عليهم) للخلق كلِّه إلى كماله المنشود والمقصود من الخلقة.

* * *

(٢٢٦)

الفقرة العاشرة: «وَعَيْناً»:
الداعي في هذه الفقرة يطلب من الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يكون الله (عزَّ وجلَّ) لوليِّه (عجَّل الله فرجه) «عَيْناً».
المسألة الأولى: في معنى العين:
من راجع كُتُب اللغة وجد أنَّ العين تُطلَق على ما يبلغ إلى ثلاثين معنى من مصاديق الأصل، أو تجوُّز بمناسبة.
ونحن نختار معنيين ونترك البقيَّة للمتدبِّر الباحث.
المسألة الثانية: المراد من فقرة الدعاء:
المعنى الأوَّل: العين الجارية بالماء:
فهذا المعنى صادق على الإمام (عليه السلام)، فقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ (الملك: 30)، ومن هنا جاء في الرواية عن عليِّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: قلت له: ما تأويل قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾؟ فقال: «إِذَا فَقَدْتُمْ إِمَامَكُمْ فَلَمْ تَرَوْهُ فَمَاذَا تَصْنَعُونَ؟»(310).
وكذلك عن محمّد بن همَّام، قال: حدَّثنا أحمد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(310) كمال الدِّين (ص 360/ باب 34/ ح 3).

(٢٢٧)

بن مابنداذ، قال: حدَّثنا أحمد ابن هلال، عن موسى بن القاسم، عن معاوية البجلي، عن عليِّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: قلت له: ما تأويل هذه الآية: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾؟ قال: «إِذَا فَقَدْتُمْ إِمَامَكُمْ فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِإِمَامٍ جَدِيدٍ»(311).
ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري، والذي هو علَّة حياة، أمَّا باطن الآية فإنَّه يرتبط بوجود الإمام (عليه السلام) وعلمه وعدالته التي تشمل العالم، والتي هي الأُخرى تكون سبباً لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.
ووجه تشبيهه (عليه السلام) بالماء باعتباره سبباً لحياة كلِّ ظاهر، بل إنَّ تلك الحياة قد وُجِدَت وتُوجَد بسبب وجوده المعظَّم بمراتب أعلى وأتمّ وأشدّ وأدوم من الحياة التي يُوجِدها الماء، بل إنَّ حياة نفس الماء من وجوده (عليه السلام).
ومروي في (كمال الدِّين) عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه قال في الآية الشريفة: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد: 17]، قال: «يُحْيِيهَا اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِالْقَائِمِ (عليه السلام) بَعْدَ مَوْتِهَا، مَوْتِهَا بِكُفْرِ أَهْلِهَا، وَاَلْكَافِرُ مِيِّتٌ»(312).
وفي رواية الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الآية المذكورة: «يَعْنِي يُصْلِحُ اَلْأَرْضَ بِقَائِمِ آلِ مُحَمَّدٍ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا، يَعْنِي مِنْ بَعْدِ جَوْرِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهَا»(313).
ولا يخفى أنَّ الناس يستفيدون في أيَّام الظهور من هذه العين التي هي الفيض الربَّاني بسهولة وبساطة، مثل العطشان بجنب النهر الجاري العذب، فليس عنده من الانتظار إلَّا الاغتراف، ولهذا عبَّر عنه (عليه السلام) بـ (الماء المعين).
وبما أنَّ الحقَّ قد رفع من الخلق الألطاف الخاصَّة في أيَّام الغيبة وذلك بسوء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(311) الغيبة للنعماني (ص 181/ باب 10/ فصل 4/ ح 17).
(312) كمال الدِّين (ص 668/ باب 58/ ح 13).
(313) الغيبة للطوسي (ص 175/ ح 131).

(٢٢٨)

أعمالهم، فلزمهم أنْ يلتمسوا الفيض ويأخذوا الخير ويتعلَّموا منه (عليه السلام) بالمشقَّة والتعب والعجز والخضوع والتضرُّع والإنابة، مثلهم مثل العطشان إذا أراد أنْ يُخرج الماء من البئر العميقة فليس عنده طريق إلَّا بذل الجهد باستخدام الآلات والوسائل ليُطفئ نار عطشه، ولهذا عبَّر عنه (عليه السلام) بـ «بئر معطلة»(314).
أقول: لقد وُصِفَ الإمام بالماء، فلا يوجد غيره إمام واحد إمام زمانكم، وما عداه سراب لا يروي العطاش.
وقد وصف الغيبة بالغور، نعم غار في أرضكم ليس في السماء، هو بينكم ولكن افسحوا المجال يدخل عليكم، نادوه يُجيبكم.
نطلب الطعام حينما نجوع، ونطلب الراحة حين التعب، ونطلب الماء حين العطش، ونطلب الإمام حينما نعرفه أنَّه هو الماء المعين، وهو سرُّ وجودنا.
الإمام (عليه السلام) يسأل: «ماذا تصنعون؟»، الشهيد يُبكى عليه، والضيف يُرحَّب به، ولكن الغائب يُنتَظر ويُترقَّب.
وقد بيَّنَّا في كتابنا (رسائل المعصومين للمنتظرين) الآية المباركة، وذكرنا عشرة فوائد، لمن أراد الازدياد فليراجع في رسالة الإمام الكاظم (عليه السلام).
والمعنى في فقرة الدعاء أنَّه تكليف على المنتظرين أنْ يعملوا بواجبات الانتظار لكي يتسنَّى للعين (الإمام (عجَّل الله فرجه)) أنْ ينبع ماؤها لإصلاح العالم وبسط العدل.
المعنى الثاني: العين أشراف القوم:
تُطلَق العين على أشراف القوم الذين منهم يصدر الخير، وهم عيون القوم، ونحن لا نشكُّ أنَّ أشرف الموجودات في عصرنا الحاضر هو إمام الزمان (عجَّل الله فرجه)، وأنَّه العين، وهو عين الأعيان، ولا يقاس بآل محمّد أحد، وكما ذكر إمامنا الرضا (عليه السلام): «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، ضَلَّتِ اَلْعُقُولُ، وَتَاهَتِ اَلْحُلُومُ، وَحَارَتِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(314) تفسير القمّي (ج 2/ ص 85).

(٢٢٩)

اَلْأَلْبَابُ، وَخَسَأَتِ اَلْعُيُونُ، وَتَصَاغَرَتِ اَلْعُظَمَاءُ، وَتَحَيَّرَتِ اَلْحُكَمَاءُ، وَتَقَاصَرَتِ اَلْحُلَمَاءُ، وَحَصِرَتِ اَلْخُطَبَاءُ، وَجَهِلَتِ اَلْأَلِبَّاءُ، وَكَلَّتِ اَلشُّعَرَاءُ، وَعَجَزَتِ اَلْأُدَبَاءُ، وَعَيِيَتِ اَلْبُلَغَاءُ عَنْ وَصْفِ شَأْنٍ مِنْ شَأْنِه، أَوْ فَضِيلَةٍ مِنْ فَضَائِلِه، وَأَقَرَّتْ بِالْعَجْزِ وَاَلتَّقْصِيرِ، وَكَيْفَ يُوصَفُ بِكُلِّه أَوْ يُنْعَتُ بِكُنْهِه أَوْ يُفْهَمُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِه أَوْ يُوجَدُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَه وَيُغْنِي غِنَاه؟ لَا كَيْفَ وَأَنَّى وهُوَ بِحَيْثُ اَلنَّجْمِ مِنْ يَدِ اَلمُتَنَاوِلِينَ وَوَصْفِ اَلْوَاصِفِينَ»(315).
ورد في دعاء الندبة: «أَيْنَ صَدْرُ اَلْخَلَائِقِ ذُو اَلْبِرِّ وَاَلتَّقْوَى»(316)، والصدر هو المقدَّم، فهو صدر الخلائق من الجنِّ والإنس والسماوات والأرضين والملائكة وجميع الخلائق، فلعلَّ المراد من «كُنْ لِوَلِيِّكَ... عَيْناً» قدِّمه واجعله العين لنا في هذا العالم وأظهره لنا.
وكما في دعاء الندبة: «وَاجْعَلْ مُسْتَقَرَّهُ لَنَا مُسْتَقَرًّا وَمُقَاماً، وَأَتْمِمْ نِعْمَتَكَ بِتَقْدِيمِكَ إِيَّاهُ أَمَامَنَا»(317)، «مَتَى تَرَانَا وَنَرَاكَ وَقَدْ نَشَرْتَ لِوَاءَ اَلنَّصْرِ، تُرَى أَتَرَانَا نَحُفُّ بِكَ وَأَنْتَ تَؤُمُّ اَلمَلَأَ، وَقَدْ مَلَأْتَ اَلْأَرْضَ عَدْلاً، وَأَذَقْتَ أَعْدَاءَكَ هَوَاناً وَعِقَاباً، وَأَبَرْتَ اَلْعُتَاةَ وَجَحَدَةَ اَلْحَقِّ، وَقَطَعْتَ دَابِرَ اَلمُتَكَبِّرِينَ، وَاجْتَثَثْتَ أُصُولَ اَلظَّالِمِينَ»(318).
فالتعابير الواردة في دعاء الندبة كأنَّما هي شرح للعبارة.
وبقيت المعاني الواردة في العين تصدق من جهة ولا تصدق من جهة أُخرى، ونحن نكتفي بما أوردنا.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(315) الكافي (ج 1/ ص 201/ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته/ ح 1).
(316) المزار لابن المشهدي (ص 579).
(317) المزار لابن المشهدي (ص 583).
(318) المزار لابن المشهدي (ص 582).

(٢٣٠)

الفقرة الحادية عشر: «حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً»:
وقفة: أين يسكن الإمام (عجَّل الله فرجه)؟
حينما ندعو بدعاء الفرج نواجه هذه الفقرة، فيتبادر لنا أنَّ الإمام الآن ليس في الأرض، ولعلَّه في السماء كالنبيِّ عيسى (عليه السلام).
وللإجابة على ذلك نتوقَّف عليها بعض الشيء.
أقول: قد وردت بعض النصوص التي تشير إلى أنَّ الإمام يعيش معنا في الأرض في زمن الغيبة:
الحديث الأوَّل: عن سدير الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: «إِنَّ فِي صَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ لَشَبَهاً مِنْ يُوسُفَ»، فقلت: فكأنَّك تُخبرنا بغيبة أو حيرة، فقال: «مَا يُنْكِرُ هَذَا اَلْخَلْقُ اَلمَلْعُونُ أَشْبَاهُ اَلْخَنَازِيرِ مِنْ ذَلِكَ؟ إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا عُقَلَاءَ أَلِبَّاءَ أَسْبَاطاً أَوْلَادَ أَنْبِيَاءَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَكَلَّمُوهُ وَخَاطَبُوهُ وَ تَاجَرُوهُ وَرَاوَدُوهُ وَكَانُوا إِخْوَتَهُ وَهُوَ أَخُوهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى عَرَّفَهُمْ نَفْسَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾، فَعَرَفُوهُ حِينَئِذٍ، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ اَلْأُمَّةُ اَلمُتَحَيِّرَةُ أَنْ يَكُونَ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) يُرِيدُ فِي وَقْتٍ مِنَ اَلْأَوْقَاتِ أَنْ يَسْتُرَ حُجَّتَهُ عَنْهُمْ، لَقَدْ كَانَ يُوسُفُ اَلنَّبِيُّ مَلِكَ مِصْرَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ مَسِيرَةُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِمَكَانِهِ لَقَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَاَللهِ لَقَدْ سَارَ يَعْقُوبُ وَوُلْدُهُ عِنْدَ اَلْبِشَارَةِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ بَدْوِهِمْ إِلَى مِصْرَ، فَمَا تُنْكِرُ هَذِهِ اَلْأُمَّةُ أَنْ يَكُونَ اَللهُ يَفْعَلُ بِحُجَّتِهِ مَا فَعَلَ بِيُوسُفَ، وَأَنْ يَكُونَ صَاحِبُكُمُ اَلمَظْلُومُ اَلمَجْحُودُ حَقَّهُ صَاحِبَ هَذَا اَلْأَمْرِ

(٢٣١)

يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمْ، وَيَمْشِي فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَيَطَأُ فُرُشَهُمْ وَلَا يَعْرِفُونَهُ حَتَّى يَأْذَنَ اَللهُ لَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ نَفْسَهُ كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ حِينَ قَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ﴾ [يوسف: 90]؟»(319).
الحديث الثاني: عن إسحاق بن عمَّار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لِلْقَائِمِ غَيْبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا قَصِيرَةٌ وَاَلْأُخْرَى طَوِيلَةٌ، اَلْغَيْبَةُ اَلْأُولَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِه فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ شِيعَتِه، وَاَلْأُخْرَى لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِه فِيهَا إِلَّا خَاصَّةُ مَوَالِيه»(320).
الحديث الثالث: قال (عجَّل الله فرجه) لابن المازيار: «يَا اِبْنَ اَلمَازِيَارِ، لَتَمْلِكُونَهُمْ كَمَا مَلَكُوكُمْ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَذِلَّاءُ»، فقلت: سيِّدي لقد بعد الوطن وطال المطلب، فقال: «يَا اِبْنَ اَلمَازِيَارِ، أَبِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أُجَاوِرَ قَوْماً غَضِبَ اَللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَلَهُمُ اَلْخِزْيُ فِي اَلدُّنْيَا وَاَلْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْكُنَ مِنَ اَلْجِبَالِ إِلَّا وَعْرَهَا وَمِنَ اَلْبِلَادِ إِلَّا عَفْرَهَا، وَاَللهُ مَوْلَاكُمْ أَظْهَرَ اَلتَّقِيَّةَ فَوَكَلَهَا بِي، فَأَنَا فِي اَلتَّقِيَّةِ إِلَى يَوْمٍ يُؤْذَنُ لِي فَأَخْرُجُ»، فقلت: يا سيِّدي، متى يكون هذا الأمر؟ فقال: «إِذَا حِيلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ سَبِيلِ اَلْكَعْبَةِ، وَاِجْتَمَعَ اَلشَّمْسُ وَاَلْقَمَرُ وَاِسْتَدَارَ بِهِمَا اَلْكَوَاكِبُ وَاَلنُّجُومُ...»(321).
الحديث الرابع: عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: خرجت مع أبي عبد الله (عليه السلام)، فلمَّا نزلنا الروحاء نظر إلى جبلها مطلًّا عليها، فقال: لي: «تَرَى هَذَا اَلْجَبَلَ؟ هَذَا جَبَلٌ يُدْعَى رَضْوَى مِنْ جِبَالِ فَارِسَ أَحَبَّنَا فَنَقَلَهُ اَللهُ إِلَيْنَا، أَمَا إِنَّ فِيهِ كُلَّ شَجَرَةٍ مُطْعِمٍ، وَنِعْمَ أَمَانٌ لِلْخَائِفِ مَرَّتَيْنِ، أَمَا إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ فِيهِ غَيْبَتَيْنِ، وَاحِدَةٌ قَصِيرَةٌ، وَاَلْأُخْرَى طَوِيلَةٌ»(322).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(319) الغيبة للنعماني (ص 166 و167/ باب 10/ فصل 3/ ح 4).
(320) الكافي (ج 1/ ص 340/ باب في الغيبة/ ح 19).
(321) الغيبة للطوسي (ص 266/ ح 228).
(322) الغيبة للطوسي (ص 163/ ح 123).

(٢٣٢)

الحديث الخامس: عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لَا بُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ مِنْ عُزْلَةٍ، وَلَا بُدَّ فِي عُزْلَتِهِ مِنْ قُوَّةٍ، وَمَا بِثَلَاثِينَ مِنْ وَحْشَةٍ، وَنِعْمَ اَلمَنْزِلُ طَيْبَةُ»(323).
أقول: في الحديث الأوَّل شبَّهه الإمام بالنبيِّ يوسف (عليه السلام)، ثمّ قال: «يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمْ، وَيَمْشِي فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَيَطَأُ فُرُشَهُمْ وَلَا يَعْرِفُونَهُ»، وهذا يدلُّ أنَّه في الأرض.
وفي الحديث الثاني قسَّم العلم به لمجموعتين خاصَّة، واحدة في الغيبة الصغرى، والأُخرى في الكبرى، وهذا فيه إشعار لتواجده في الأرض.
وفي الحديث الثالث يذكر (عجَّل الله فرجه) سكناه في الأرض، لكن المكان الصعب منها، «وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْكُنَ مِنَ اَلْجِبَالِ إِلَّا وَعْرَهَا وَمِنَ اَلْبِلَادِ إِلَّا عَفْرَهَا»، فذكر الجبال والبلاد، وهذه صراحة على السكن في الأرض.
وفي الحديث الرابع عيَّن الإمام (عليه السلام) اسم الجبال (رضوى) الذي يتَّخذه مكاناً لغيبته.
وفي الحديث الخامس يُحدِّد الإمام (عليه السلام) اسم المدينة التي يسكنها، «وَنِعْمَ اَلمَنْزِلُ طَيْبَةُ».
وهذه الأحاديث وغيرها تذكر أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) في الأرض يسكن، ولكن يرى الناس ويرونه ولكن لا يعرفونه.
وقد سُئِلَ السيِّد المرجع محمّد سعيد الحكيم (دام ظلُّه الوارف) عنه، فأجاب كما تناقله البعض.
السؤال: نقول في الدعاء للإمام الحجَّة (عجَّل الله فرجه): «اللَّهُمَّ كن لوليِّك الحجَّة بن الحسن...»، حتَّى نصل لجملة: «حتَّى تُسكِنه أرضك طوعاً وتُمتِّعه فيها طويلاً»،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(323) الغيبة للطوسي (ص 162/ ح 121).

(٢٣٣)

فهل يُفهَم من ذلك بأنَّ الإمام المهدي (أرواحنا لمقدمه الفداء) لا يسكن الأرض من بعد غيبته الكبرى، وأنَّ الله سبحانه وتعالى قد رفعه إليه كما رفع المسيح بن مريم (عليهما السلام)؟
الجواب:
لا يُفهَم منه المعنى المذكور، بل الظاهر أنَّ المقصود منه أنَّه سيكون ساكناً للأرض علانيةً وطوعاً من دون خوف، لأنَّه في غيبته وتخفِّيه لا يكون ساكناً طوعاً، بل خائفاً مطارداً، كما دلَّت عليه روايات أُخرى، مثل ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «لَا بُدَّ لِصَاحِبِ هَذَا اَلْأَمْرِ مِنْ عُزْلَةٍ، وَلَا بُدَّ فِي عُزْلَتِهِ مِنْ قُوَّةٍ، وَمَا بِثَلَاثِينَ مِنْ وَحْشَةٍ، وَنِعْمَ اَلمَنْزِلُ طَيْبَةُ»(324).
إذن ما معنى «حتَّى تُسكِنه أرضك طوعاً»؟
وأُجيب أنَّه يدلُّ على زمان ظهوره وانبساط يده (عليه السلام)، لأنَّه اليوم مقهور مغصوب مستأثر على حقِّه غير مستطيع لإظهار الحقِّ في الخلق.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(324) الغيبة للطوسي (ص 162/ ح 121).

(٢٣٤)

الفقرة الثانية عشر: «وَتُمَتِّعَه فِيهَا طَوِيلاً»:
المسألة الأولى: تُمتِّعه أو تُمكِّنه أُطروحة:
في هذه الفقرة طُرِحَت مسألة، وهي أنَّ الوارد في كتاب (الكافي الشريف): «وَتُمَتِّعَهُ»، وورد في كتاب (التهذيب): «وَتُمَكِّنَهُ»، فما هو الأصحّ المتناسب مع الدعاء؟
يقول السيِّد جعفر الحيدري(325):
(إنَّ هذا البحث الذي أُقدِّمه بين أيديكم يرتبط بأحد أهمّ الأدعية الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، والذي يُعرَف بدعاء الفرج للإمام المهدي المنتظر عجَّل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا من أنصاره وأعوانه والذابِّين عنه والمستشهدين بين يديه صلوات الله وسلامه عليه.
وقد نقل الراوي لهذا الدعاء الشريف عن أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّه ممَّا يُدعى به في الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان المبارك، وهي المظنون كونها ليلة القدر في أكثر الروايات، بل صريح بعضها.
وبحسب تعبير الرواية الشريفة عن محمّد بن عيسى، بإسناده عن الصالحين (عليهم السلام)، قال: «تُكَرِّرُ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَذَا اَلدُّعَاءَ سَاجِداً وَقَائِماً وَقَاعِداً وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَفِي الشَّهْرِ كُلِّه وَكَيْفَ أَمْكَنَكَ وَمَتَى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(325) بحث منشور في موقع (الجامعة الإسلاميَّة لعلوم أهل البيت) للسيِّد جعفر الحيدري، بعنوان: (دعاء الفرج)، راجع الرابط التالي: (http://www.uofislam.net/).

(٢٣٥)

حَضَرَكَ مِنْ دَهْرِكَ، تَقُولُ بَعْدَ تَحْمِيدِ اَللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاَلصَّلَاةِ عَلَى اَلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ...» إلخ(326).
إذن فالدعاء - على اختصاره - هو من الأدعية المهمَّة جدًّا، والذي يُدعى به في ليلةٍ هي أهمّ وأفضل ليالي السنة، وفي شهر هو خير شهورها، بل يُدعى به في كلِّ حال ومتى حضرك من دهرك. كلُّ ذلك لأهمّيَّته العظيمة وفائدته الجليلة كما يُستفاد من الرواية الشريفة المنقولة في عيون الكُتُب، وهو المستفاد أيضاً من سيرة علماء الإماميَّة ومتشرِّعيهم على امتداد الزمان.
وهذا إنْ دلَّ على شيء فهو يدلُّ على الاهتمام البالغ والشديد بهذا الدعاء الشريف وبمضامينه العظيمة بلا شكٍّ.
ولستُ في هذا البحث بصدد التركيز على أهمّيَّة هذا الدعاء أو على المعاني الجليلة التي تضمَّنها أو المعاني السامية التي يريد أهل البيت (عليهم السلام) أنْ يُركِّزوها في أذهاننا وقلوبنا من أجل التفاعل مع الوجود المقدَّس لوليِّ الله الأعظم الإمام المهدي المنتظر (سلام الله عليه) في كلِّ وقت وحال، والارتباط به وانتظار ظهوره الشريف.
موضوع البحث:
وإنَّما أردت الالتفات - مع الأخذ بنظر الاعتبار تلك الأهمّيَّة له - إلى فقرة من فقرات هذا الدعاء الشريف، لا أظنُّ أنَّها بهذه الصيغة التي يقرأ المؤمنون بها ويكتبون، بل لعلَّ هناك تصحيفاً أو سهواً أو غلطاً وقع من الناسخ لها، وهي فقرة: «وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً»، وهذا ما سيتَّضح من خلال تحقيق الحال فيما يأتي، عسى أنْ نُوفَّق لقراءة هذا الدعاء الشريف وغيره من الأدعية الشريفة من دون لحن في الإعراب أو خطأ في الكلمات، حتَّى يكون تأثيره علينا وعلى الواقع فعَّالاً ناجعاً، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله على محمّد رسوله وآله وسلَّم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(326) الكافي (ج 4/ ص 162/ باب الدعاء في العشر الأواخر من شهر رمضان/ ح 4).

(٢٣٦)

نصُّ الدعاء ومصدره:
في البداية نشير إلى أقدم مصدر نقل هذا الدعاء، وهو كتاب (الكافي) للشيخ الجليل محمّد بن يعقوب الكليني (أعلى الله مقامه)، حيث ذكر في الفروع الجزء الرابع صفحة (162) من كتاب الصيام باب الدعاء في العشر الأواخر، عن محمّد بن عيسى بإسناده عن الصالحين (عليهم السلام)، قال: «تُكَرِّرُ فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ هَذَا اَلدُّعَاءَ سَاجِداً وَقَائِماً وَقَاعِداً وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَفِي الشَّهْرِ كُلِّه وَكَيْفَ أَمْكَنَكَ وَمَتَى حَضَرَكَ مِنْ دَهْرِكَ، تَقُولُ بَعْدَ تَحْمِيدِ اَللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَاَلصَّلَاةِ عَلَى اَلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فِي هَذِه اَلسَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَقَاعِداً وَعَوْناً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَه فِيهَا طَوِيلاً».
وهذا النصُّ - مع اختلاف يسير- هو ما يتداوله المؤمنون في مواقع الدعاء ومظانِّ الإجابة غالباً. ومن المعلوم أنَّ المقصود بفلان بن فلان هو الحجَّة بن الحسن (سلام الله عليه) وإنَّما قضت الظروف في ذلك الزمان إخفاء الاسم، وهكذا التقديم والتأخير في بعض كلمات الدعاء مثل كلمة (ناصراً) قبل (قائداً)، لا يُؤثِّر في المضمون شيئاً، خصوصاً مع الأخذ بنظر الاعتبار قاعدة التسامح في أدلَّة السُّنَن على بعض معانيها، بل مع ملاحظة ورود ذلك التعبير في مصادر أُخرى.
المناقشة في فقرة من الدعاء:
ولكنَّ المهمَّ هو هذه الفقرة التي عقدنا الحديث عنها، وهي عبارة «وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً» في ذيل الدعاء، فإنَّه من البعيد جدًّا - كما سيتَّضح - أنْ تكون هي من النصِّ الوارد فيه، بل إنَّ الصحيح فيها هو: «وَتُمَكِّنَهُ فِيهَا طَوِيلاً» كما هي في رواية شيخ الطائفة الطوسي للدعاء في كتابه الشريف تهذيب

(٢٣٧)

الأحكام الجزء الثالث صفحة (102) عند ذكره لأدعية العشر الأواخر من شهر رمضان، حيث نقل نفس الرواية السابقة عن محمّد بن عيسى بإسناده عن الصادقين (عليهم السلام) قال:
«وَكَرِّر فِي لَيْلَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ...»، إلى أنْ قال: «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فِي هَذِه اَلسَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَقَائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَكِّنَه فِيهَا طَوِيلاً».
والملاحَظ أنَّ التعبير الموجود في هذا النصِّ هو بالضبط ما عليه سيرة العلماء والمؤمنين عند قراءتهم لهذا الدعاء الشريف، من دون تقديم وتأخير وتغيير، عدا هذه الفقرة الموجودة في ذيل الدعاء، والتي أشرنا إليها آنفاً.
وهذا الأمر - أعني التقديم والتأخير - وإنْ كان لا يُؤثِّر في هذا العمل المندوب كثيراً مع الالتفات إلى قاعدة التسامح، ولكنَّه يدعو إلى التأمُّل قليلاً لمعرفة النصِّ الصحيح أو الأصحّ على أقلّ تقدير، خصوصاً مع الأهمّيَّة الكبرى لهذا الدعاء الشريف والتي أشرنا إليها في بداية البحث.
وأمَّا ما يرتبط بالفقرة الأخيرة - محلّ الكلام - فإنَّ ما أظنُّه، بل أعتقد به هو أنَّ العبارة الصحيحة فيه هي: «وَتُمَكِّنَهُ فِيهَا طَوِيلاً» دون غيرها.
وليس هذا لأجل ورودها في رواية الشيخ الطوسي للدعاء فحسب - خاصَّةً وأنَّ الشيخ (أعلى الله مقامه) أراد بها نفس رواية الشيخ الكليني (قدَّس الله نفسه) كما هو واضح بالمقارنة -، بل لأنَّ هذا التعبير هو الملائم لمثل المقام، وهو المستعمَل في مثل هذا السياق قرآناً وسُنَّةً نبويَّة وولويَّة.
وأمَّا التعبير الآخر: «وَتُمَتِّعَهُ» فهو غير مستعمَل في مثل المقام، ولو على نحو عدم الوجدان، والله العالم.
وحتَّى يكون الدعاء الشريف - على أهمّيَّته الفائقة - فعَّالاً ومؤثِّراً وناجعاً

(٢٣٨)

فيما يمرُّ به المؤمنون من ظروف عصيبة، مع تكالب الأعداء وتواتر أنواع البلاء، ينبغي أنْ نتحرَّى فيه اللفظ الصحيح ليُؤثِّر أثره - ولو بنحو جزء العلَّة - ويبقى التوفيق الكامل بظهور الإمام الحجَّة المنتظر (عجَّل الله فرجه) والتزوُّد من فيض علمه ولطفه والتشرُّف بالنظر إلى طلعته المباركة غاية عظيمة، بل تمام العلَّة المطلوبة، نرجو من الله أنْ يتمَّها علينا قريباً عاجلاً، وما ذلك على الله ببعيد.
البحث في معنى الصيغتين لغةً واستعمالاً:
ولكي يتَّضح الحال بشكل أدقّ، سوف أتناول بالبحث معنى هاتين الكلمتين لغةً، وكذلك موارد استعمالهما في الكتاب والسُّنَّة، حسب ما استطعت الظفر به من ذلك، كما سأُشير إلى ما ورد من الروايات الشريفة لتطبيق هذه الكلمة أو تلك في موارد استعمالها، والله وليُّ التوفيق.
قال في لسان العرب في مادَّة (مكن): (الجوهري: مكَّنه الله من الشيء وأمكنه منه بمعنى. وفلان لا يمكنه النهوض أي لا يقدر عليه. ابن سيِّده: وتمكَّن من الشيء واستمكن ظفر، والاسم من كلِّ ذلك المكانة)(327).
فالمكان هو مقرُّ الشيء من الأرض، والإمكان والتمكين الإقرار، والتقرير في المحلِّ، وربَّما يُطلَق المكان [و]المكانة لمستقرِّ الشيء من الأُمور المعنويَّة كالمكانة في العلم وعند الناس، ويقال: أمكنته من الشيء فتمكَّن منه أي أقدرته عليه فقدر عليه، وهو من قبيل الكناية.
وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته: (ويقال: مكَّنته ومكَّنت له فتمكَّن، قال: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرضِ﴾ [الأعراف: 10]، ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ [الأحقاف: 26]، ﴿أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ﴾ [القَصص: 57]، ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ﴾ [القَصص: 6]، ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(327) لسان العرب (ج 13/ ص 414/ مادَّة مكن).

(٢٣٩)

ارْتَضَى لَهُمْ﴾ [النور: 55]، وقال: ﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: 13]، وأمكنت فلانًا من فلان...) إلخ(328).
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرضِ﴾ [الأعراف: 10].
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ [الأحقاف: 26].
﴿أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ﴾ [القَصص: 57].
﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ﴾ [القَصص: 6].
﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ [النور: 55].
﴿فِي قَرَارٍ مَكِينٍ﴾ [المؤمنون: 13].
وأمَّا في استعمال القرآن الكريم:
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحجّ: 41].
فقد ورد في تفسير هذه الآية عدد من الأحاديث التي تُبيِّن أنَّ المراد منهم هم الأئمَّة الطاهرون (عليهم السلام)، وخاصَّةً الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
وهنا أُشير إلى رواية واحدة في المقام، وهي ما أورده العلَّامة المجلسي في (البحار) عن (كنز الفوائد) للكراجكي(329): عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ...﴾ الآية، قال: «هَذِهِ لِآلِ مُحَمَّدٍ اَلمَهْدِيِّ وَأَصْحَابِهِ يُمَلِّكُهُمُ اَللهُ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيُظْهِرُ اَلدِّينَ، وَيُمِيتُ اَللهُ (عزَّ وجلَّ) بِهِ وَ بِأَصْحَابِهِ اَلْبِدَعَ وَاَلْبَاطِلَ، كَمَا أَمَاتَ اَلسَّفَهَةُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(328) مفردات ألفاظ القرآن (ص 773).
(329) كذا، والصحيح (كنز جامع الفوائد وتأويل الآيات الظاهرة) للسيِّد شرف الدِّين عليّ الحسيني الأسترآبادي.

(٢٤٠)

اَلْحَقَّ، حَتَّى لَا يُرَى أَثَرٌ مِنَ اَلظُّلْمِ، وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اَلمُنْكَرِ، وَلله عَاقِبَةُ اَلْأُمُورِ»(330).
وأيضًا قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ [النور: 55].
جاء في تفسير (مجمع البيان) للشيخ الطبرسي في شرحه لها:
(يعني دين الإسلام الذي أمرهم أنْ يدينوا به، وتمكينه أنْ يُظهِره على الدِّين كلِّه، كما قال: «زُويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أُمَّتي ما زُوي لي منها». وقيل: تمكينه بإعزاز أهله وإذلال أهل الشرك وتمكين أهله من إظهاره بعد أنْ كانوا يخفونه)(331).
وحول نفس هذه الآية الشريفة ذكر الشيخ عليُّ بن إبراهيم القمِّي في تفسيره بأنَّها نزلت في القائم من آل محمّد (صلوات الله عليه)(332).
وروى الشيخ محمّد بن إبراهيم النعماني في كتاب (الغيبة)(333) ما يُؤكِّد ذلك أيضاً.
وأيضاً قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القَصص: 5 و6].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(330) بحار الأنوار (ج 24/ ص 165 و166/ ح 9)، عن تأويل الآيات الظاهرة (ج 1/ ص 343 و344/ ح 25).
(331) مجمع البيان (ج 7/ ص 266).
(332) تفسير القمِّي (ج 1/ ص 14).
(333) الغيبة للنعماني (ص 247/ باب 13/ ح 35).

(٢٤١)

فقد ورد في عدد من الأخبار عند تفسير هذه الآية الإشارة إلى الإمام الحجَّة (سلام الله عليه)، وأنَّه هو المقصود فيها، بل ورد في أخبار أُخرى استشهاد الإمام المهدي بهذه الآية على نفسه الشريفة، كما في رواية السيِّدة حكيمة لولادته (سلام الله عليه)(334).
وأمَّا مجيء هذه الكلمة ومشتقَّاتها في القرآن الكريم في نفس السياق ولكن من دون ورود روايات تُطبِّقها على الإمام المهدي (سلام الله عليه) فهي عديدة، منها:
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً﴾ [الأنعام: 6].
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: 10].
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾ [يوسف: 56].
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ [يوسف: 54].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ [الكهف: 84].
وقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القَصص: 57].
وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ﴾ [الأحقاف: 26].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(334) كمال الدِّين (ص 425/ باب 42/ ح 1).

(٢٤٢)

وأمَّا ما ورد بهذه اللفظة ومشتقَّاتها بنفس السياق في أحاديث أهل البيت أو أدعيتهم (سلام الله عليهم)، فمنها:
ما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة التي رواها الصدوق، ورواها غيره كذلك، عن الإمام الهادي (عليه السلام) بقوله: «... وَقَلْبِي لَكُمْ مُسَلِّمٌ، وَرأيِي لَكُمْ تَبَعٌ، وَنُصْرَتِي لَكُمْ مُعَدَّةٌ، حَتَّى يُحْيِي اَلله دِينَهُ بِكُمْ، وَيَرُدَّكُمْ فِي أَيَّامِهِ، وَيُظْهِرَكُمْ لِعَدْلِهِ، وَيُمَكِّنَكُمْ فِي أَرْضِهِ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لَا مَعَ عَدُوِّكِمْ، آمَنْتُ بِكُمْ وَتَوَلَّيْتُ آخِرَكُمْ بِمَا تَوَلَّيْتُ بِهِ أَوَّلَكُمْ، وَبَرِئْتُ إِلَى اَللهِ (عزَّ وجلَّ) مِنْ أَعْدائِكُمْ...» إلخ(335).
وفي (المقنعة) للمفيد باب شرح الصلاة على النبيِّ والأئمَّة (عليهم السلام) الواردة في كلِّ يوم من شهر رمضان، يقول:
ويتبع هذا التسبيح بالصلاة على محمد وآله، على ما جاءت به الآثار، فتقول: «إِنَّ اَللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يَا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، لَبَّيْكَ يَا رَبِّ وَسَعْدَيْكَ، اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ...»، إلى أنْ يقول في آخر الصلاة: «اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى اَلْخِيَرَةِ مِنْ ذُرِّيَّةِ نَبِيِّكَ، اَللَّهُمَّ اُخْلُفْ نَبِيَّكَ فِي أَهْلِهِ، اَللَّهُمَّ مَكِّنْ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ، اَللَّهُمَّ اِجْعَلْنَا مِنْ عَدَدِهِمْ وَمَدَدِهِمْ وَأَنْصَارِهِمْ عَلَى اَلْحَقِّ فِي اَلسِّرِّ وَاَلْعَلَانِيَةِ...» إلخ(336).
وروى الشيخ الطوسي هذه الصلاة في (مصباح المتهجِّد)(337) ورواها في (التهذيب)(338) ونقلها السيِّد ابن طاوس في (الإقبال)(339).
وأيضاً ما أورده السيِّد في (الإقبال) من دعاء الإمام الصادق (عليه السلام) يوم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(335) من لا يحضره الفقيه (ج 2/ ص 614/ ح 3213).
(336) المقنعة (ص 329 - 332).
(337) مصباح المتهجِّد (ص 620 - 623).
(338) تهذيب الأحكام (ج 3/ ص 119 و120).
(339) إقبال الأعمال (ج 1/ ص 212 - 215).

(٢٤٣)

عرفة، وهو دعاء طويل حيث يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في نهاية ثلثه الأوَّل تقريباً: «... اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ الَّذِينَ أَذْهَبْتَ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرْتَهُمْ تَطْهِيراً، اَللَّهُمَّ افْتَحْ لَهُمْ فَتْحاً يَسِيراً، وَانْصُرْهُمْ نَصْراً عَزِيزاً، وَاجْعَلْ لَهُمْ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً، اللَّهُمَّ مَكِّنْ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَاجْعَلْهُمْ أَئِمَّةً وَاجْعَلْهُمُ اَلْوَارِثِينَ...» إلخ(340).
وقد وردت هذه الصيغة أو أحد مشتقَّاتها في أدعية أُخرى لم نذكرها اختصاراً.
وأمَّا الصيغة الثانية، وهي: «وَتُمِتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً»، فقد أشرنا في بداية البحث إلى الظنِّ، بل الاعتقاد بعدم كونها من الدعاء، لما أشرنا إليه من عدم ورود مثل هذه الصيغة في نحو هذا الاستعمال وهذا السياق، بل إنَّ ما ورد لهذه الصيغة ومشتقَّاتها من استعمالات لا يخرج عن إحدى هذه المعاني الستّ، وهي:
المعنى الأوَّل: والمراد به التمتُّع الدنيوي الذي يلائم الكُفَّار والمنافقين والفاسقين، الغافلين عن الآخرة ونعيمها أو جحيمها، وهذا المعنى هو الأكثر في استعمالات القرآن الكريم، مثل:
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ [الأنعام: 128].
وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [التوبة: 69].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(340) إقبال الأعمال (ج 2/ ص 126).

(٢٤٤)

وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً﴾ [الفرقان: 18].
وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [القَصص: 61].
وقوله تعالى: ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء: 204 - 207].
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ﴾ [البقرة: 126].
وقوله تعالى: ﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [هود: 48].
وقوله تعالى: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [لقمان: 24].
وقوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [الأحزاب: 16].
وقوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: 3].
وقوله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 55].
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوَى لَهُمْ﴾ [محمّد: 12].
وقوله تعالى: ﴿فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ [هود: 65].

(٢٤٥)

وقوله تعالى: ﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ﴾ [إبراهيم: 30].
وقوله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 55].
وقوله تعالى: ﴿وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ﴾ [الذاريات: 43].
وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ [الأحقاف: 20].
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران: 14].
وقوله تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى﴾ [النساء: 77].
وقوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
وغيرها من الآيات الشريفة التي لم نذكرها اختصاراً.
وأمَّا المعنى الثاني المستعمل فيه هذه الصيغة ومشتقَّاتها، فهو بمعنى الحاجة والغرض الشخصي، والتي يُعبَّر عنها بالأمتعة ونحوها:
كما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ [النور: 29].
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الأحزاب: 53].
وقوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ [يوسف: 17].

(٢٤٦)

وقوله تعالى: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ﴾ [يوسف: 79].
ولعلَّ منه قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ [المائدة: 96].
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس: 30 - 32].
وأمَّا المعنى الثالث: فهو المراد منه إعطاء شيءٍ من المال للزوجة المطلَّقة قبل أنْ يُسَمَّ مهرها وقبل الدخول بها.
كما في قوله تعالى: ﴿وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 236].
وقوله تعالى: ﴿وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 241].
وقوله تعالى: ﴿فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ [الأحزاب: 28].
وقوله تعالى: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً﴾ [الأحزاب: 49].
وأمَّا المعنى الرابع: فهو ما أُريد به أحد أقسام الحجِّ، والمعبَّر عنه بحجِّ التمتُّع، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: 196].
وأمَّا المعنى الخامس: فهو أحد قسمي النكاح، أو ما يُعبَّر عنه بالعقد المنقطع في مقابل العقد الدائم، كما ورد في قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [النساء: 24].

(٢٤٧)

ولا يخفى ما في هذه الاشتقاقات من تداخل وتقارب في معانيها، حيث إنَّ الأصل في كلِّ هذه الصِّيَغ هي مادَّة واحدة ومصدر واحد، وهو الاستمتاع أو التمتُّع بالشيء، ولكنَّ الاختلاف من جهة الاستعمال أو بالإضافة إلى المستمتِع أو المستمتَع به أو فيه - وقد يتخلَّف الأمر نوعاً ما، كما في المعنى الثاني بل والرابع حيث صار مصطلحاً فيه مع غضِّ النظر عن تحقُّق التمتُّع في الخارج وإنْ كان الشيء بطبيعته ممَّا يكون فيه الاستمتاع خارجاً -.
وعليه فلا فرق بين المعنى الأوَّل مثلاً وبين المعنى السادس الذي سأذكره إلَّا من جهة الاستعمال وعدمه، أو لنقل - مراعاة للدقَّة العلميَّة - من جهة كثرة الاستعمال وندرته، ولذلك فإنَّ:
المعنى السادس: هو التمتُّع المجرَّد، وقد ورد هذا الاستعمال بهذا المعنى في القرآن الكريم في آية واحدة كما أظنُّ، وهي قوله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ [هود: 3].
وفي هذا الاستعمال لا نجد إضافة الاستمتاع إلى الكافرين أو المنافقين أو الفاسقين، وكذلك لم يرد في ضمن الآية الشريفة ذكرٌ لهم، وإنْ كان خطاب الآية بل والسياق فيها هو لغير المؤمنين كما لا يخفى، حيث ابتدأت الآية بطلب الاستغفار والتوبة، ونتيجة ذلك أنَّ الله سوف يُمتِّعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمَّى ووقت محدود، ويؤتِ كلَّ ذي فضل فضله، وأمَّا إذا لم تستغروا ولم تتوبوا فإنِّي أخاف عليكم عذاب يوم كبير.
وأنت ترى أنَّ هذا الاستعمال لم يبتعد كثيراً عن المعنى الأوَّل الذي ذكرناه، فهو وإنْ كان حسناً ولكنَّه ضمن شروط وقيود ووقت محدود، بل هو أيضاً في سياق الحديث عن غير المؤمنين.

(٢٤٨)

ولذلك كلِّه فنحن لا نجد واحداً من هذه المعاني الستّ المتقدِّمة يصلح لأنْ يكون ضمن دعاء الفرج الشريف للإمام الحجَّة المهدي المنتظر عجَّل الله فرجه وسهَّل مخرجه وجعلنا من أنصاره وأعوانه وخُدَّامه والمستشهدين بين يديه.
وإنَّ كلمة «وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً» لا تناسب أبداً أنْ تكون دعاءً منَّا لله سبحانه وتعالى من أجل أنْ يكون وليًّا وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً للإمام المهدي (سلام الله عليه) حتَّى يُمتِّعه في هذه الأرض طويلاً، بعد أنْ اتَّضح بأنَّ هذه الصيغة لا تُستَعمل في هذا السياق.
وعليه، فإنَّ عبارة «وَتُمَكِّنَهُ فِيهَا طَوِيلاً» بعد أنْ عرفنا بأنَّها المذكورة في كتاب (التهذيب) للشيخ الطوسي (أعلى الله مقامه) عند إيراده لنفس رواية الدعاء الشريف هذا، وبعدما اتَّضح جليًّا بأنَّ هذا التعبير هو المستعمَل كتاباً وسُنَّةً في مثل هذا السياق، وأنَّ كلمة «وَتُمَتِّعَهُ» لا تناسب المقام، بل ولم تُستَعمل في مثل السياق، ظهر بأنَّ التعبير الصحيح والذي يجب أنْ يكون هو المستعمل عند قراءتنا لهذا الدعاء الشريف هي عبارة: «وَتُمَكِّنَهُ فِيهَا طَوِيلاً» بلا شكٍّ إنْ شاء الله تعالى.
هذا مضافاً إلى ما أشرنا إليه من احتمال التصحيف لما بين «تُمَكِّنَهُ» و«تُمَتِّعَهُ» من التشابه والتقارب في خطوط ذلك الزمان خاصَّة قبل التنقيط كما لا يخفى.
وقد كان هناك نقاط أُخرى مرتبطة ببعض جهات الموضوع أعرضنا عنها اختصاراً).
المسألة الثانية: مناقشة واختيار:
أقول: ذكر السيِّد أيَّده الله قائلاً: (وأمَّا ما يرتبط بالفقرة الأخيرة - محلّ الكلام - فإنَّ ما أظنُّه، بل أعتقد به هو أنَّ العبارة الصحيحة فيه هي: «وَتُمَكِّنَهُ فِيهَا طَوِيلاً» دون غيرها).

(٢٤٩)

ورفض «وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً» معلِّلاً أنَّها لا تتناسب مع الدعاء، وذكر للتمتُّع ستَّ معانٍ استفادها من استعمالات القرآن الكريم:
المعنى الأوَّل: والمراد به التمتُّع الدنيوي الذي يلائم الكُفَّار والمنافقين والفاسقين، الغافلين عن الآخرة ونعيمها أو جحيمها.
والمعنى الثاني المستعمَل فيه هذه الصيغة ومشتقَّاتها، فهو بمعنى الحاجة والغرض الشخصي، والتي يُعبَّر عنها بالأمتعة.
والمعنى الثالث: فهو المراد منه إعطاء شيءٍ من المال للزوجة المطلَّقة قبل أنْ يُسَمَّ مهرها وقبل الدخول بها.
والمعنى الرابع: فهو ما أُريد به أحد أقسام الحجِّ، والمعبَّر عنه بحجِّ التمتُّع.
والمعنى الخامس: فهو أحد قسمي النكاح، أو ما يُعبَّر عنه بالعقد المنقطع في مقابل العقد الدائم.
والمعنى السادس: هو التمتُّع المجرَّد، وقد ورد هذا الاستعمال بهذا المعنى في القرآن الكريم في آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ [هود: 3].
أقول: ويردُّ كلامه أيَّده الله من جهات:
الجهة الأُولى: أوَّل مصدر لهذا الدعاء:
المصدر الأوَّل للدعاء كتاب (الكافي)، وإنَّ كتاب (التهذيب) بعده، والكُتُب التي نقلتها بعد (التهذيب) لم تنقل ما نقله صاحب (التهذيب)، وهذا يُرجِّح صحَّة «وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً».
الجهة الثانية: التمتُّع ورد في الجهتين جهة الخير والشرِّ:
أقول: قد ذكر الآيات التي تشير إلى ما لا يتناسب، وأنا هنا أذكر ما يتناسب مع الدعاء:

(٢٥٠)

الآية الأُولى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ (هود: 3).
الآية الثانية: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ (الأحزاب: 53).
الآية الثالثة: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ (عبس: 31 و32).
والآية الأُولى والثانية والثالثة ذُكِرَ فيها المتاع مرضيًّا وحسناً وهبةً من الله سبحانه، وفيها صيغة المدح وللمؤمنين وليس للكُفَّار والمنافقين وأهل الدنيا.
الجهة الثالثة: أنَّ التمكين كذلك استُخدِمَ في الجهتين جهة الخير والشرِّ:
الآية الأُولى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ (الأنعام: 6).
الآية الثانية: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ﴾ (الأحقاف: 26).
وأنت ترى في الآيتين ذُكِرَ التمكين للذين أُهلكوا وهم جاحدون.
الجهة الرابعة: ورد التمتُّع في كُتُب اللغة ليس مرتبط بمجموعة معيَّنة:
يقول العلَّامة المصطفوي (دامت بركاته): (إنَّ الأصل الواحد في المادَّة: كون الشيء ذا انتفاع يوجب حصول التذاذ وتلاؤم أو رفع حاجة. ومن مصاديقه: بلوغ شيء إلى حدِّ جودة في ذاته حتَّى يُنتَفع به. وارتفاع وطول حتَّى يُستفاد منه كالشجر والعمر والحبل. وشدَّة وإحكام في الشيء كما في فتل الحبل.

(٢٥١)

والمتعة فعلة بمعنى ما يُمتَّع به ويُنتَفع منه في مورد الحاجة، كما في الزاد، والقوت، وما يُتمتَّع به، ومتعة المطلَّقة، ومن أثاث البيت.
والمتاع: كسلام وجبان مصدراً وصفةً، فالمصدر بمعنى المتوع وكون الشيء ذا انتفاع في مورد الحاجة. والصفة بمعنى ما يُنتَفع به.
والإمتاع والتمتيع: يُستَعملان في مقام التعدية، أي جعل شيء ذا انتفاع به ما يقال: أمتعه به ومتَّعه به.
فظهر أنَّ مفاهيم - التلذُّذ، الطول، الجودة، البلوغ، الارتفاع، الامتداد، البقاء -: من لوازم الأصل وآثاره.
والمتاع صفة: كما في: ﴿وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: 80]، ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ [الأحزاب: 53]، ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا﴾ [يوسف: 17]، يُراد ما يكون ذا انتفاع ومتوع في رفع الحوائج.
ولا دلالة فيها على مفاهيم التلذُّذ والطول والارتفاع والامتداد، ولاسيّما مفهوم التلذُّذ في الآية الثانية، فإنَّه لا معنى للسؤال عن أزواج النبىِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما يُتلذَّذ به)(341).
الجهة الخامسة:
أنَّ التمتُّع يستقيم هنا، لأنَّه يُعبَّر عنه في المسائل التي تكون أقلّ فترةً بالنسبة إلى ما هي أكبر منها، والدولة المهدويَّة بالرغم من سعتها وطول فترتها إلَّا أنَّها تكون قصيرة بالنسبة لما بعدها من الرجعة والآخرة.
الجهة السادسة: توقيفيَّة الدعاء:
كما هو معلوم أنَّ هناك أُمور توقيفيَّة كالتوحيد والأسماء والصفات والنبوَّة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(341) التحقيق في كلمات القرآن الكريم (ج 11/ ص 15).

(٢٥٢)

والإمامة وأسماء وصفات أهل البيت والأدعية الواردة عنهم (عليهم السلام) حتَّى إنَّ الإمام (عليه السلام) لا يُجيز في بعض الأدعية زيادة كلمة صحيحة، ولكن الإمام يقول توقَّف على ما يصل إليكم، فعن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «سَتُصِيبُكُمْ شُبْهَةٌ فَتَبْقَوْنَ بِلَا عَلَمٍ يُرَى، وَلَا إِمَامٍ هُدًى، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إِلَّا مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ اَلْغَرِيقِ»، قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: يقول: «يَا اَللهُ، يَا رَحْمَنُ، يَا رَحِيمُ، يَا مُقَلِّبَ اَلْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فقلت: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلبي على دينك، قال: «إِنَّ اَللهَ (عزَّ وجلَّ) مُقَلِّبُ اَلْقُلُوبِ وَاَلْأَبْصَارِ، وَلَكِنْ قُلْ كَمَا أَقُولُ لَكَ: يَا مُقَلِّبَ اَلْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»(342).
والدعاء من الأُمور التوقيفيَّة كما بيَّنته هذه الرواية وروايات أُخرى، فالدعاء من الأُمور التي ليس للعقل إليها سبيل.
وهناك جهات أُخرى أعرضنا عنها خوف الإطالة.
المسألة الثالثة: كيفيَّة التوفيق بين «طَوِيلاً» ومدَّة دولته:
يذكر صاحب (مختصر بصائر الدرجات) شرحاً لهذه العبارة، ونحن نوردها: (وقوله: «وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً»، هذا يكون على ما رويناه في رجعته (عليه السلام) بعد وفاته، لأنَّا روينا أنَّه يعيش في عالمه بعد مقدم ظهوره تسع عشرة سنة وأشهراً ويموت (صلَّى الله عليه)، فمن ذلك ما رويناه عن النعماني من كتاب (الغيبة) له رفع الحديث عن حمزة بن حمران، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «يملك القائم (عليه السلام) تسع عشرة سنة وأشهراً»، وروي أيضاً أنَّ الذي يُغسِّله جدُّه الحسين (عليه السلام)، فأين موقع هذه التسع عشرة سنة وأشهر من الدعاء له بطول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(342) كمال الدِّين (ص 351 و352/ باب 33/ ح 49).

(٢٥٣)

العمر والتمتُّع في الأرض طويلاً الذي يظهر من هذا ويتبادر إليه الذهن أنَّه يكون أطول من الزمان الذي انقضى في غيبته (عليه السلام)، وعمره الشريف اليوم ينيف على الخمسمائة والثلاثين سنة، ويدلُّ على ما قلناه ما تقدَّم ورويناه عن الصادق (عليه السلام) أنَّه سُئِلَ: أيُّ العمرين له أطول؟ قال: «الثاني بالضعف»، وهذا صريح في رجعته (عليه السلام))(343).
أقول: ولنا كلام في المقام مع جلالة قدر المتحدِّث (رضوان الله عليه).
قال (رضوان الله عليه): (روينا أنَّه يعيش في عالمه بعد مقدم ظهوره تسع عشرة سنة وأشهراً ويموت (صلَّى الله عليه)).
الروايات في مدَّة حكومة صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه):
أقول: قد وردت روايات كثيرة تذكر مدَّة حكومته غير هذه الرواية:
منها: ثلاثمائة وتسع سنين، عن أبي الجارود، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «إِنَّ اَلْقَائِمَ يَمْلِكُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ كَمَا لَبِثَ أَهْلُ اَلْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ، يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ عَدْلاً وَقِسْطاً كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَجَوْراً، وَيَفْتَحُ اَللهُ لَهُ شَرْقَ اَلْأَرْضِ وَغَرْبَهَا، وَيَقْتُلُ اَلنَّاسَ حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا دِينُ مُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)...»(344).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له تُسمَّى المخزون: «فَيَمْكُثُ فِيمَا بَيْنَ خُرُوجِهِ إِلَى يَوْمِ مَوْتِهِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَنَيِّفاً، وَعِدَّةُ أَصْحَابِهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، مِنْهُمْ: تِسْعَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَسَبْعُونَ مِنَ اَلْجِنِّ، وَمِائَتَانِ وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ فِيهِمْ سَبْعُونَ اَلَّذِينَ غَضِبُوا لِلنَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إِذْ هَجَتْهُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، فَطَلَبُوا إِلَى نَبِيِّ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي إِجَابَتِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ حَيْثُ نَزَلَتْ هَذِهِ اَلْآيَةُ: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(343) مختصر بصائر الدرجات (ص 193).
(344) الغيبة للطوسي (ص 474/ ح 496).

(٢٥٤)

وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227]، وَعِشْرُونَ مِنْ أَهْلِ اَلْيَمَنِ مِنْهُمُ اَلْمِقْدَادُ بْنُ اَلْأَسْوَدِ، وَمِائَتَانِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ اَلَّذِينَ كَانُوا بِسَاحِلِ اَلْبَحْرِ مِمَّا يَلِي عَدَنَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ نُبِيُّ اَللهِ بِرِسَالَةٍ فَأَتَوْا مُسْلِمِينَ...»(345).
ومنها: أربعين عاماً، عن زيد بن وهب الجهني، عن الحسن بن عليِّ بن أبي طالب، عن أبيه (صلوات الله عليهما)، قال: «... يَبْعَثَ اَللهُ رَجُلاً فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ، وَكَلَبٍ مِنَ اَلدَّهْرِ، وَجَهْلٍ مِنَ اَلنَّاسِ، يُؤَيِّدُهُ اَللهُ بِمَلَائِكَتِهِ، وَيَعْصِمُ أَنْصَارَهُ، وَيَنْصُرُهُ بِآيَاتِهِ، وَيُظْهِرُهُ عَلَى أَهْلِ اَلْأَرْضِ حَتَّى يَدِينُوا طَوْعاً وَكَرْهاً، يَمْلَأُ اَلْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلاً، وَنُوراً وَبُرْهَاناً، يَدِينُ لَهُ عَرْضُ اَلْبِلَادِ وَطُولُهَا، لَا يَبْقَى كَافِرٌ إِلَّا آمَنَ بِهِ، وَلَا طَالِحٌ إِلَّا صَلَحَ، وَتَصْطَلِحُ فِي مُلْكِهِ اَلسِّبَاعُ، وَتُخْرِجُ اَلْأَرْضُ نَبْتَهَا، وَتُنْزِلُ اَلسَّمَاءُ بَرَكَتَهَا، وَتَظْهَرُ لَهُ اَلْكُنُوزُ، يَمْلِكُ مَا بَيْنَ اَلْخَافِقَيْنِ أَرْبَعِينَ عَاماً، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَ أَيَّامَهُ، وَسَمِعَ كَلَامَهُ»(346).
ومنها: سبع سنين مقدار كلِّ سنة عشر سنين، عن عبد الله بن القاسم الحضرمي، عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كم يملك القائم؟ قال: «سَبْعُ سِنِينٍ يَكُونُ سَبْعِينَ سَنَةٍ مِنْ سِنِيكُمْ هَذِهِ»(347).
وروى أبو بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث طويل - أنَّه قال: «إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) سَارَ إِلَى اَلْكُوفَةِ، فَهَدَمَ بِهَا أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ، فَلَمْ يَبْقَ مَسْجِدٌ عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ لَهُ شُرَفٌ إِلّا هَدَمَهَا وَجَعَلَهَا جَمَّاءَ، وَوَسَّعَ اَلطَّرِيقَ اَلْأَعْظَمَ، وَكَسَرَ كُلَّ جَنَاحٍ خَارِجٍ فِي اَلطَّرِيقِ، وَأَبْطَلَ اَلْكُنُفَ وَاَلمَآزِيبَ إِلَى اَلطُّرُقَاتِ، وَلَا يَتْرُكُ بِدْعَةً إِلَّا أَزَالَهَا، وَلَا سُنَّةً إِلَّا أَقَامَهَا، وَيَفْتَحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَاَلصِّينَ وَجِبَالَ اَلدَّيْلَمِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(345) مختصر بصائر الدرجات (ص 202).
(346) الاحتجاج (ج 2/ ص 11).
(347) الغيبة للطوسي (ص 474/ ح 497).

(٢٥٥)

فَيَمْكُثُ عَلَى ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ مِقْدَارُ كُلِّ سَنَةٍ عَشْرُ سِنِينَ مِنْ سِنِيكُمْ هَذِهِ، ثُمَّ يَفْعَلُ اَللهُ مَا يَشَاءُ»، قال: قلت: جُعلت فداك، فكيف تطول السنون؟ قال: «يَأْمُرُ اَللهُ تَعَالَى اَلْفَلَكَ بِاللُّبُوثِ وَقِلَّةِ اَلْحَرَكَةِ، فَتَطُولُ اَلْأَيَّامُ لِذَلِكَ وَاَلسِّنُونُ»، قال: قلت له: إنَّهم يقولون: إنَّ الفلك إنْ تغيَّر فسد، قال: «ذَلِكَ قَوْلُ اَلزَّنَادِقَةِ، فَأَمَّا اَلمُسْلِمُونَ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ شَقَّ اَللهُ اَلْقَمَرَ لِنَبِيِّهِ (عليه السلام)، وَرَدَّ اَلشَّمْسَ مِنْ قَبْلِهِ لِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَأَخْبَرَ بِطُولِ يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ ﴿كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحجّ: 47]»(348).
ومنها: تسعة عشر سنة، عن ابن عقدة، عن عليِّ بن الحسن التيملي، عن الحسن بن عليِّ بن يوسف، عن أبيه. ومحمّد بن عليٍّ، عن أبيه، عن أحمد بن عمر الحلبي، عن حمزة بن حمران، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال: «يَمْلِكُ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) مِنَّا تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشْهُراً»(349).
وعن ابن عقدة، قال: حدَّثنا محمّد بن المفضَّل بن إبراهيم بن قيس بن رُمَّانة الأشعري وسعدان بن إسحاق بن سعيد وأحمد بن الحسين بن عبد المَلِك الزيَّات ومحمّد بن أحمد بن الحسن القطواني، عن الحسن بن محبوب، عن عمرو ابن ثابت، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر محمّد بن عليٍّ (عليه السلام) يقول: «وَاَللهِ لَيَمْلِكَنَّ رَجُلٌ مِنَّا أَهْلَ اَلْبَيْتِ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَزْدَادُ تِسْعاً»، قال: فقلت له: ومتى يكون ذلك؟ قال: «بَعْدَ مَوْتِ اَلْقَائِمِ (عليه السلام)»، قلت له: وكم يقوم القائم (عليه السلام) في عالمه حتَّى يموت؟ فقال: ««تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ قِيَامِهِ إِلَى يَوْمِ مَوْتِهِ»(350).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(348) الإرشاد (ج 2/ ص 385).
(349) الغيبة للنعماني (ص 353/ باب 26/ ح 1).
(350) الغيبة للنعماني (ص 354/ باب 26/ ح 3).

(٢٥٦)

ومنها: ﴿حم * عسق﴾ (الشورى: 1 و2)، عداد سني القائم (عليه السلام)، عن أحمد بن عليٍّ وأحمد بن إدريس، عن محمّد بن أحمد العلوي، عن العمركي، عن محمّد بن جمهور، عن سليمان بن سماعة، عن عبد الله بن القاسم، عن يحيى بن ميسرة الخثعمي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «﴿حم * عسق﴾ عِدَادُ سِنِي اَلْقَائِمِ، وَ(قاف) جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالدُّنْيَا مِنْ زُمُرُّدٍ أَخْضَرَ، فَخُضْرَةُ اَلسَّمَاءِ مِنْ ذَلِكَ اَلْجَبَلِ، وَعِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ فِي ﴿عسق﴾»(351).
ومنها: ثمّ لأديمنَّ ملكه...، عن الحسن بن محمّد بن سعيد الهاشمي، عن فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، عن محمّد بن عليِّ بن أحمد الهمداني، عن العبَّاس ابن عبد الله البخاري، عن محمّد بن القاسم بن إبراهيم، عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن عليِّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «... لَـمَّا عُرِجَ بِي إِلَى اَلسَّمَاءِ نُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ... وَلَأُطَهِّرَنَّ اَلْأَرْضَ بِآخِرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِي، وَلَأُمَلِّكَنَّهُ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَلَأُسَخِّرَنَّ لَهُ اَلرِّيَاحَ، وَلَأُذَلِّلَنَّ لَهُ اَلسَّحَابَ اَلصِّعَابَ، وَلَأُرَقِّيَنَّهُ فِي اَلْأَسْبَابِ، وَلَأَنْصُرَنَّهُ بِجُنْدِي، وَلَأَمُدَّنَّهُ بِمَلَائِكَتِي حَتَّى يُعْلِنَ دَعْوَتِي، وَيَجْمَعَ اَلْخَلْقَ عَلَى تَوْحِيدِي، ثُمَّ لَأُدِيمَنَّ مُلْكَهُ، وَلَأُدَاوِلَنَّ اَلْأَيَّامَ بَيْنَ أَوْلِيَائِي إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ»(352).
الجمع بين الأخبار:
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): (روي أنَّ مدَّة دولة القائم (عليه السلام) تسع عشرة سنة، تطول أَّامها وشهورها على ما قدَّمناه، وهذا أمر مغيَّب عنَّا، وإنَّما أُلقي إلينا منه ما يفعله الله (عزَّ وجلَّ)، بشرط يعلمه من المصالح المعلومة له (جلَّ اسمه)، فلسنا نقطع على أحد الأمرين، وإنْ كانت الرواية بذكر سبع سنين أظهر وأكثر)(353).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(351) تفسير القمّي (ج 2/ ص 267 و268).
(352) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 237 و238/ ح 22).
(353) الإرشاد (ج 2/ ص 386 و387).

(٢٥٧)

وقال المجلسي (رحمه الله): (بيان: الأخبار المختلفة الواردة في أيَّام ملكه (عليه السلام) بعضها محمول على جميع مدَّة ملكه، وبعضها على زمان استقرار دولته، وبعضها على حساب ما عندنا من السنين والشهور، وبعضها على سنيه وشهوره الطويلة، والله يعلم)(354).
أقول: قال بعضهم: إنَّه يُجمَع بأنَّ استقرار أمره في الابتداء (5) أو (7) سنين، ويتكامل في (40) عاماً، وانتهاؤه في (309) سنة، وأيَّد كلامه بأنَّ هذا الانتظار الطويل والمشقَّات الكثيرة لا بدَّ أنْ تنتهي بما يناسب هذا، وليس ينبغي تحمُّل ذلك لحكومة يتمُّ أمدها في (19) سنة أو أقلّ أو أكثر، ولا يتفوَّه بهذا من له أدنى عقل.
أقول: الأُمور الإلهيَّة ومنها هذا السرُّ الذي سمَّاه في قرآنه الغيب فقال: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 3)، وعكس عظمة أمره قول الإمام موسى ابن جعفر (عليه السلام) لأخيه: «عُقُولُكُمْ تَصْغُرُ عَنْ هَذَا»(355)، وباهى الله به ملائكته، وأخبر به نبيَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المعراج، وبيَّنه نبيُّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصياؤه بهذه الروايات الكثيرة التي لا يوجد مثلها إلَّا في أمر الإمامة، وغير ذلك ممَّا رأيته من الأحاديث في طول الكتاب. نعم الأسرار الإلهيَّة تصغر عنها العقول، ولا طريق إليها، فكيف بإنكارها وإثباتها أو بيان حدودها، بل العاقل يقول: لا أدري، وإنَّ الله حكيم، ولا علم لي بحكمة الخلق والمخلوقات، وإنَّه لماذا بعد الفترة بين عيسى (عليه السلام) والنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بخمسمائة سنة والجاهليَّة العظيمة(356) حين جاء بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يتمّ ذلك ولم يستقرّ طويلاً، بل أرسله بعد أربعين سنة من عمره، ثمّ ثلاثة عشر منه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(354) بحار الأنوار (ج 52/ ص 280).
(355) الكافي (ج 1/ ص 336/ باب في الغيبة/ ح 2).
(356) بل يمكن أنْ يقال: وقبله إلى زمن آدم حيث الغلبة لأتباع الشيطان غالباً.

(٢٥٨)

في مكَّة لم يُقبَل منه وكان في عذاب من المشركين، وبعده ثمانية سنوات في المدينة وإنْ كان يعيش بعظمة بين أهلها ولكنَّه في مشقَّات الحروب العظيمة الكثيرة، وبعد فتح مكَّة وبعده في عام الوفود وإنْ استقرَّ ملكه في الحجاز وأطرافه ولكنَّه كان مبتلى بالمنافقين و...، فلماذا بشر هذا الباطل الطويل بحكومة سنة أو سنتين؟
فإنْ قلت: هذا يتمُّ بأوصيائه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
قلت: إنَّ هؤلاء أيضاً مقهورون.
فإنْ قلت: وبالمهدي (عليه السلام) له يظهر دينه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وندَّعي أنَّ ملكه طويل.
قلت: أكثر ملكه (309) سنة، فتكون بعد هذا المقدّمة الطويلة(357) غاية لا يبلغ ثلث عشرها، وعلى قوله لا بدَّ أنْ تكون ذي المقدّمة أقوى.
والذي به تنحلُّ المشكلة أنَّه لا بدَّ أنْ يكون ذو المقدّمة أقوى في الملاك والمصالح، ولا يعلمها إلَّا الله، فلا ندري حكمة الأُمور البسيطة، فكيف بأمر الرسالة، حتَّى نقول: لماذا أرسل النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك الزمان لا قبله بمائة سنة مثلاً؟ ولماذا بعد استقرار حكومته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يُمهِله سنوات فيستفيد المسلمون بمحضره حتَّى يقطع دابر المنافقين واستقرَّ الأمر لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولماذا ولماذا...، وكذلك في أمر الظهور.
ثمّ على فرض صحَّة ذلك، فنقول: بعد ذلك رجعة الأئمَّة الطاهرين في دولة الحقِّ تبتدئ به ويدوم بآبائه إلى يوم القيامة، كما رأيت في الأخير: «ثُمَّ لَأُدِيمَنَّ مُلْكَهُ، وَلَأُدَاوِلَنَّ اَلْأَيَّامَ بَيْنَ أَوْلِيَائِي إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ»، ولا يمكن القول: لماذا النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يأتي به الحجَّة (عليه السلام)؟
وأمَّا بحسب الروايات فالقول بأنَّ بعضها لابتداء الأمر وبعضها لكلِّه لا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(357) قريب من عشرة آلاف سنة من زمن آدم (عليه السلام)، و1450 سنة من نبوة النبيِّ إلى زمان كتابة هذا الكتاب (1437هـ).

(٢٥٩)

يوافق ظاهرها، فإنَّ فيها أنَّ الأمر من ابتداء قيامه إلى يوم موته (19) سنة، وفي الباقي في كلٍّ منها التعبير با (الملك) و(يملك) بنسق واحد. على أنَّه مرَّ منَّا ظهور الروايات في أنَّه يضع سيفه على عاتقة ثمانية أشهر، واستفدنا سابقاً أنَّ زمن حرب القائم حتَّى تستقرَّ حكومته ثمانية أشهر. ولو فُرِضَ أنَّه زمان استقراره في الملَّة الإسلاميَّة، ثمّ يُفرِّق الجنود لفتح البلاد، فعلى أنَّه خلاف ظاهرها(358)، أنَّ الأمر الذي بدؤه بهذه الصعوبة في ثمانية أشهر لما يسَّر الله له من جنوده، فكذلك فيما بعده، لا يطول كثيرة. والله هو العالم وأولياؤه)(359).
المسألة الرابعة: المراد من «وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً» والدولة المهدويَّة:
أقول: إنَّ دولة الإمام (عليه السلام) تتمتَّع بأُمور، ومنها:
الأمر الأوَّل: رفع جميع العاهات والضعف:
يقول الإمام الباقر (عليه السلام): «مَنْ أَدْرَكَ قَائِمَ أَهْلِ بَيْتِي مِنْ ذِي عَاهَةٍ بَرَأَ، وَمِنْ ذِي ضَعْفٍ قَوِيَ»(360).
وعلى ضوء هذا، يمكن أنْ نستفيد من كلام الإمام (عليه السلام): «وَمِنْ ذِي ضَعْفٍ قَوِيَ» نقطتين أساسيَّتين وهامَّتين، وهما:
1 - أنَّ ما جاء في كلام الإمام الباقر (عليه السلام) هو محمول على الإطلاق، وغير مختصٍّ بالضعف والأمراض الجسديَّة، بل هو شامل لكلِّ شخص لديه ضعف من الناحية النفسيَّة.
ومن الملاحظ أنَّ سبب الكثير من الأمراض الجسديَّة نابع من الحالة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(358) راجع الأخبار التي ذكرنا سابقاً في أبواب قتاله، وأنَّه يقاتل حتَّى لا يبقى مشرك ولا تبقى أرض إلَّا نودي فيها بالشهادتين.
(359) موسوعة الإمام المنتظر (ج 5/ ص 362).
(360) الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 839/ ح 54).

(٢٦٠)

النفسيَّة وضعفها، ولذا فإنَّ رفع هذه النقيصة في عصر الظهور يُؤدِّي إلى إزالة النقص الجسدي بشكل ذاتي.
عودة القدرة والقوَّة:
2 - أنَّ النقطة التي يمكن استنباطها من هذه الرواية والجديرة بتسليط الضوء عليها، هي: أنَّ البشارة الواردة فيها لا تقتصر على مسألة إزالة الضعف والمرض عن البشريَّة جمعاء، وإنَّما تتضمَّن إحلال القدرة والسلامة بدلاً عنهما(361).
لأنَّ الإمام (عليه السلام) قال: «وَمِنْ ذِي ضَعْفٍ قَوِيَ»، فلا يبقى على وجه المعمورة شخص ضعيف، بل سوف يتمتَّع الجميع بحالة من القدرة والقوَّة والاستطاعة.
يقول الإمام الحسين (عليه السلام): «... وَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ اَلْأَرْضِ أَعْمَى وَلَا مُقْعَدٌ وَلَا مُبْتَلًى إِلَّا كَشَفَ اَللهُ عَنْهُ بَلَاءَهُ بِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ»(362).
الأمر الثاني: الرحلات الفضائيَّة في عصر الظهور:
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «... لَـمَّا عُرِجَ بِي إِلَى اَلسَّمَاءِ نُودِيتُ: يَا مُحَمَّدُ... وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُظْهِرَنَّ بِهِمْ دِينِي، وَلَأُعْلِيَنَّ بِهِمْ كَلِمَتِي، وَلَأُطَهِّرَنَّ اَلْأَرْضَ بِآخِرِهِمْ مِنْ أَعْدَائِي، وَلَأُمَلِّكَنَّهُ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَلَأُسَخِّرَنَّ لَهُ اَلرِّيَاحَ، وَلَأُذَلِّلَنَّ لَهُ اَلسَّحَابَ اَلصِّعَابَ، وَلَأُرَقِّيَنَّهُ فِي اَلْأَسْبَابِ، وَلَأَنْصُرَنَّهُ بِجُنْدِي، وَلَأَمُدَّنَّهُ بِمَلَائِكَتِي حَتَّى يُعْلِنَ دَعْوَتِي، وَيَجْمَعَ اَلْخَلْقَ عَلَى تَوْحِيدِي، ثُمَّ لَأُدِيمَنَّ مُلْكَهُ، وَلَأُدَاوِلَنَّ اَلْأَيَّامَ بَيْنَ أَوْلِيَائِي إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ»(363).
عند التأمُّل بدقَّة في الرواية نشاهد نقاط مهمَّة نشير إلى بعض منها:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(361) دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) (ص 96).
(362) الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 849/ ح 63).
(363) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (ج 1/ ص 237 و238/ ح 22).

(٢٦١)

1 - يقول البارئ (عزَّ وجلَّ) في هذه الرواية: «وَلَأُسَخِّرَنَّ لَهُ اَلرِّيَاحَ، وَلَأُذَلِّلَنَّ لَهُ اَلسَّحَابَ اَلصِّعَابَ، وَلَأُرَقِّيَنَّهُ فِي اَلْأَسْبَابِ»، وهذا دليل واضح على أنَّ صعود الإمام (عجَّل الله فرجه) إلى السماوات هو صعود جسماني، كما حدث لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معراجه.
وهذا معناه أنَّ نفوذ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لا يكون بالقالب المثالي، كما أنَّ المقصود من الصعود إلى السماوات هو ليس الصعود الروحي، لأنَّه إذا كان كذلك ففي هذه الحالة لا توجد أيَّة حاجة أو ضرورة للاستفادة من السحاب الصعاب أو بقيَّة الأسباب الأُخرى، حيث إنَّ الذهاب بالقالب المثالي أو الروح فقط لا يحتاج إلى الاستفادة من الوسائل الفضائيَّة.
2 - النقطة المهمَّة الأُخرى التي يمكن استنباطها من الرواية، هي: أنَّه متى ما رغب وأراد الإمام (عجَّل الله فرجه) الصعود الجسماني إلى السماوات فإنَّه لا يحتاج إلى الأسباب والوسائل الفضائيَّة، بل يستطيع (عليه السلام) وبواسطة الوسائل الظاهرية أو البراق - المخصوص للرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والذي هو تحت تصرُّفه (عجَّل الله فرجه) - إنجاز وتحقيق هذا الأمر.
وأمَّا في الرواية فقد جاء التعبير بالأسباب والوسائل، وهذا دليل على أنَّ نفوذه وذهابه إلى السماوات لا ينحصر بوسيلة مثل البراق، ولذلك فإنَّ لفظة الأسباب والوسائل ظاهرة - نظراً إلى عدد الوسائل ومجيء الأسباب بلفظة الجمع - في أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) لا يستفيد من وسيلة محدودة مثل البراق.
والجدير بالاهتمام أنَّ لفظة «اَلسَّحَابَ اَلصِّعَابَ» أيضاً جاءت بلفظ الجمع.
3 - ويمكن الاستفادة من نقطة أُخرى، وهي: أنَّ هناك ثلاث وسائل وطُرُق يمكن الاستعانة بها والوصول إلى الفضاء في عصر الظهور، وهي كالتالي:

(٢٦٢)

أ - «لَأُسَخِّرَنَّ لَهُ اَلرِّيَاحَ»، كما قال تعالى: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ﴾ (ص: 36).
لا يشكُّ أحد بما للرياح والأعاصير من آثار كبيرة وعجيبة، وأنَّ تسخيرهما يأتي بمعنى السيطرة عليهما ووضعهما تحت التصرُّف.
ولم يتمكَّن أحد من العلماء في عصرنا الحاضر قطعاً من السيطرة على الرياح الشديدة والاستفادة من قوَّتها، ولكن حسب ما جاء في الآيات القرآنيَّة الكريمة فإنَّها تشير وبوضوح إلى استفادة النبيِّ سليمان (عليه السلام) من هذا الموضوع.
وأنَّ الإمام بقيَّة الله الأعظم (أرواحنا لمقدمه الفداء) - والذي له الولاية على كلِّ شيء - سيتمكَّن من إخضاعها ورفع آثارها المخرِّبة والاستفادة منها بشكل إيجابي.
ب - «وَلَأُذَلِّلَنَّ لَهُ اَلسَّحَابَ اَلصِّعَابَ»، من الطبيعي فإنَّ السحاب الضوئيَّة وقدراتها العظيمة والعجيبة هي غير السُّحُب العاديَّة.
ج - «وَلَأُرَقِّيَنَّهُ فِي اَلْأَسْبَابِ»، وممَّا يُلفِت النظر هنا هو الاستفادة من الحرف (في) في هذه الجملة، وهذا معناه: أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) سيكون في وسط وداخل الوسائل الفضائيَّة. وأمَّا إذا كان المقصود من الأسباب هي «اَلسَّحَابَ اَلصِّعَابَ» فقط، لكان يجب استعمال حرف (على) يعني الركوب على السحاب وليس فيها.
4 - إضافةً إلى النقاط الأُخرى الكثيرة الموجودة في هذه الرواية تبرز من بينها نقطة جديرة بالعناية، وهي: أنَّ الله سبحانه وتعالى في هذا الحديث القدسي وبعد أنْ أقسم بعزَّته وجلاله، فإنَّ جميع المواضيع والحوادث التي ذكرها لرسوله الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وردت محلَّات باللَّام والنون التأكيديَّة. وهذا دليل على أنَّ جميع الحوادث والوقائع التي جاءت في الرواية - مثل: نفوذ الإمام (عجَّل الله فرجه) وصعوده إلى السماوات بواسطة الوسائل الفضائيَّة و... - تقع في زمن المستقبل في عصر الظهور المتألِّق، وهذا الأمر لا يقبل أيَّ شكٍّ أو تردُّد.

(٢٦٣)

5 - النقطة الأُخرى التي يمكن استخراجها من هذه الرواية والاستفادة منها، هي: أنَّ تسخير جميع الأسباب والسحاب الصعاب وبقيَّة الوسائل الفضائيَّة دليل على أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) لا يستفيد وحده منها باعتبار كثرتها، بل إنَّ أصحابه وأعوانه وكلَّ شخص يرغب فيه الإمام (عجَّل الله فرجه) ويقع مورداً لرضاه يمكنه الاستفادة منها، كما فعل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما اصطحب بعض أصحابه الخُلَّص من أمثال سلمان و... إلى السماء بواسطة السحاب، وكان صعودهم وعروجهم إلى مقدار حيث أصبحت الأرض في أعينهم كحبَّة جوزة. ومن الطبيعي فإنَّ مسافة الصعود إلى السماوات هو أكثر من المسافة الموجودة بين القمر والأرض، يعني أنَّهم عرجوا إلى مسافة أعلى من القمر، لأنَّه ومع أنَّ القمر أصغر من الأرض فإنَّه يرى أكبر من الجوزة. إذن، فقد كانت المسافة التي قطعوها أكثر من المسافة الموجودة بين القمر والأرض.
6 - ويمكن الاستدلال ممَّا قلناه على أنَّ حكومة الإمام بقيَّة الله الأعظم (عجَّل الله فرجه) هي أرقى حكومة عالميَّة عادلة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى - وبعد بيان أنَّ المشرق والمغرب سيكون تحت سيطرة وقدرة وولاية الإمام (عجَّل الله فرجه) في عصر الظهور - يذكر الرحلات الفضائيَّة والوسائل الفضائيَّة المختلفة في ذلك الزمان.
ومن هنا فإنَّه بالإضافة إلى وضع عالم ملكوت السماوات تحت تصرُّف الإمام الهمام (عجَّل الله فرجه) في عصر الظهور المشرق، فإنَّ من ناحية عالم الملك السماء أيضاً ستكون ضمن دائرته واختياراته (عجَّل الله فرجه).
7 - النقطة المهمَّة الأُخرى التي يمكن الاستفادة منها في هذه الرواية هي: أنَّه نظراً لعظمة عالم الخلق وسعة الفضاء والسماوات، فإنَّ استعمال لفظة «أَسْبَاب اَلسَّمَاوَاتِ» في الرواية دليل صريح على أنَّ السُّفُن والوسائل الفضائيَّة الأُخرى

(٢٦٤)

 التي تجول في السماء الكبيرة في ذلك العصر لا بدَّ لها أنْ تكون من الوسائل التي تفوق سرعتها سرعة الضوء.
إذن، فإنَّ التعبير بـ «أَسْبَاب اَلسَّمَاوَاتِ» يُثبِت أنَّ هناك وسائل فضائيَّة أسرع بكثير من سرعة الضوء، بحيث لا تقع في جاذبيَّة المادَّة والمكان السابق وحدود الزمان، وهذه واحدة من الأُصول والقواعد الثابتة في تطوير علم الفضاء(364).
الأمر الثالث: العلم والمعرفة في أعلى مراتبها:
عن الإمام الباقر (عليه السلام): «إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رُؤُوسِ اَلْعِبَادِ، فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ، وَأَكْمَلَ بِهَا أَخْلَاقَهُمْ»(365).
وعن الإمام الحسين (عليه السلام): «إِنَّ اَللهَ لَيَهَبُ لِشِيعَتِنَا كَرَامَةً لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ شَيْءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَمَا كَانَ فِيهَا، حَتَّى إِنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيُخْبِرَهُمْ بِعِلْمِ مَا يَعْلَمُونَ»(366).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) دَعَا اَلنَّاسَ إِلَى اَلْإِسْلَامِ جَدِيداً، وَهَدَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ قَدْ دُثِرَ فَضَلَّ عَنْهُ اَلْجُمْهُورُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ اَلْقَائِمُ مَهْدِيًّا لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَمْرٍ قَدْ ضَلُّوا عَنْهُ، وَسُمِّيَ بِالْقَائِمِ لِقِيَامِهِ بِالْحَقِّ»(367).
وعنه (عليه السلام) أيضاً: «إِذَا قَامَ اَلْقَائِمُ (عليه السلام) جَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، كَمَا دَعَا رَسُولُ اَللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فِي بُدُوِّ اَلْإِسْلَامِ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ»(368).
وعنه (عليه السلام) أيضاً: «اَلْعِلْمُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفاً، فَجَمِيعُ مَا جَاءَتْ بِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(364) دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) (ص 272).
(365) الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 840/ ح 57).
(366) الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 850/ ح 63).
(367) الإرشاد (ج 2/ ص 383).
(368) الإرشاد (ج 2/ ص 384).

(٢٦٥)

اَلرُّسُلُ حَرْفَانِ، فَلَمْ يَعْرِفِ اَلنَّاسُ حَتَّى اَلْيَوْمِ غَيْرَ اَلْحَرْفَيْنِ، فَإِذَا قَامَ قَائِمُنَا أَخْرَجَ اَلْخَمْسَةَ وَاَلْعِشْرِينَ حَرْفاً فَبَثَّهَا فِي اَلنَّاسِ، وَضَمَّ إِلَيْهَا اَلْحَرْفَيْنِ، حَتَّى يَبُثَّهَا سَبْعَةً وَعِشْرِينَ حَرْفاً»(369).
النقاط المهمَّة في الرواية:
يوجد في هذه الرواية الكثير من النقاط الجديرة بالاهتمام، وتُصرِّح بقدوم مستقبل زاهر، وعالم قائم على العلم والمعرفة، وإليكم بعضاً من تلك النقاط:
1 - في قول الإمام الصادق (عليه السلام): «فَبَثَّهَا فِي اَلنَّاسِ»، دليل على موضوع في غاية الأهمّيَّة، وهو شموليَّة وعموميَّة العلم وانتشاره بين جميع أفراد المجتمع الواحد، وذلك بدليل (الألف واللَّام) الموجودة في كلمة (الناس)، لذلك فإنَّ الناس في ذلك الزمان يرتقون المدارج العلميَّة والثقافيَّة، ولا ينحصر في جماعة أو فئة خاصَّة. إذن، سوف يستفيد الجميع في ذلك العصر المشرق من نعمة العلم والمعرفة.
2 - نستنتج من الرواية كذلك أنَّ العلم لا ينتشر ويأخذ صفة العموميَّة والشموليَّة قبل قيام الإمام بقيَّة الله الأعظم (أرواحنا لمقدمه الفداء)، وإنَّما يكون مقتصراً على مجموعة خاصَّة، وهؤلاء أيضاً ليس لهم الإلمام الكامل بجميع العلوم وإنَّما ببعض منها.
3 - هناك فرق بيِّن شاسع بين العلم والمعرفة الموجودين في عصر التكامل وما هو موجود في هذا الزمان، ففي عصر الظهور سيأخذ العلم والمعرفة أبعاداً واسعة وشموليَّة، ويتمتَّع الجميع بمختلف أنواعهما.
إنَّ كلمة (العلم) تعني جنس العلم، وذلك بدليل (الألف واللَّام)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(369) بحار الأنوار (ج 52/ ص 336/ ح 73)، عن الخرائج والجرائح (ج 2/ ص 841/ ح 59)، وفيه: (العلم سبعة وعشرون جزءاً).

(٢٦٦)

الموجودة فيها، وإنَّ مجموعة كلِّ العلوم في الماضي والآن وقبل القيام وبعد الظهور هي سبعة وعشرين حرفاً، وإنَّ كلَّ ما توصَّل إليه العلم منذ عصر الأنبياء (عليهم السلام) وإلى انتهاء عصر الغيبة هو حرفان، ويُضَمُّ إليهما في عصر الظهور خمسة وعشرين حرفاً آخر. إذن، توجد ثقافة عظيمة ومتكاملة ومزدهرة بين جميع شرائح المجتمع الواحد.
ونظراً لكلِّ هذا التطوُّر الحاصل في العلم منذ زمان الأنبياء والمرسَلين (عليهم السلام) وإلى زمان وجود الإمام الصادق (عليه السلام)، ومع كلِّ العلوم التي بيَّنها وعلَّمها الإمام (عليه السلام) إلى أصحابه الخُلَّص من أمثال جابر بن حيَّان في الصناعة والكيمياء وبقيَّة العلوم الأُخرى، وأيضاً من بعد مرحلة الإمام وإلى زمان قيام الإمام صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه)، يراها كلَّها الإمام الصادق (عليه السلام) تتجسَّد بحرفين فقط، وهذه النقطة ستأخذ أبعادها الكبيرة وحجمها عندما نرى مدى ووسعة العلوم العظيمة التي ظهرت من لدن الإمام الصادق (عليه السلام) والتي هي إلى الآن نموذج ومحلُّ تعجُّب الكثير من علماء زماننا الحاضر.
4 - في ذلك الزمان سيُدرك الناس المعنى الحقيقي للعلم، وسيُعرَف من هم العلماء، لأنَّ العلم والمعرفة ينبعان في هذا الزمان من النبع الزلال والمعين الصافي الذي لا ينضب لأهل الوحي والرسالة (عليهم السلام)، ويُبيِّن إلى الناس في ظلِّ العناية الإلهيَّة والمقام الشامخ للإمام بقيَّة الله الأعظم (أرواحنا لمقدمه الفداء). وينتشر فيه العلم والمعرفة الحقيقيَّان والصحيحان، وليس العلوم التي تُطرَح بصورة كلّيَّة، والتي أساسها النظريَّة والاحتمال.
5 - لا يوجد في ذلك الزمان شيء عن العلوم الكاذبة وخداع العلماء للشعوب وجرِّها إلى الضياع، فيكون فيه العلم وسيلة لهداية وإرشاد الناس.
ولا يوجد فيه أيضاً أيُّ خبر عن الكُتُب المضيِّعة للوقت التي طرح

(٢٦٧)

مشروعها الاستعمار لإعمالها في الدول الضعيفة، والعلوم التي أُمليت، والشهادات التي تمَّ الحصول عليها بحفنة من الدولارات. ويجب الإذعان أنَّه في ذلك العصر سيكون الناس جميعهم علماء من الطراز الأوَّل، ويحملون العلم الواقعي والحقيقي المتطوِّر، ولا يوجد فيه مكان للعلماء الذين حصلوا على شهاداتهم عن طريق غير حقيقي وعدُّوا ضمن قائمة العلماء.
6 - ستنتشر مجموعة العلوم المتكاملة بين أوساط المجتمع، ومعنى هذا: أنَّ كلَّ فرع من فروع العلم يصل إلى مراحله النهائيَّة، ومن ثَمَّ يُروَّج بينهم فيستفيدون منها حسب الحاجة والطلب.
وكما أنَّ المجتمع يتمتَّع في عصر الظهور بالتطوُّر والتقدُّم في مجالات الاقتصاد والزراعة والأمن و...، ويتمتَّع الكلُّ بنِعَمها، فإنَّه يتمتَّع أيضاً من الناحية العلميَّة والمعرفيَّة بالإمكانيَّات التي توفَّرت والاستفادة منها بأفضل وجه ممكن، وبالتالي عدم إحساس هؤلاء من أيِّ نقص علمي.
الأمر الرابع: الهداية إلى أعلى مراتب التوحيد والولاية:
عن أبي سعيد الخراساني، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المهدي والقائم واحد؟ فقال: «نَعَمْ»، فقلت: لأيِّ شيء سُمّي المهدي؟ قال: «لِأَنَّهُ يُهْدَي إِلَى كُلِّ أَمْرٍ خَفِيٍّ، وَسُمِّيَ اَلْقَائِمَ لِأَنَّهُ يَقُومُ بَعْدَ مَا يَمُوتُ، إِنَّهُ يَقُومُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ»(370).
الروايات تعطينا سبب تسميته (عجَّل الله فرجه) بالمهدي، وهو الهداية إلى أمر خفي، أو مضلول عنه، أو ضلَّ عنه الجمهور، أو كلِّ أمر خفي.
أمَّا ما هو هذا الأمر الخفي؟
فالإمام (عجَّل الله فرجه) يهدي إلى كلِّ أمر مضلول عنه، وكلِّ أمر خفي، سواء في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(370) الغيبة للطوسي (ص 471/ ح 489).

(٢٦٨)

التشريع أو التكوين، في الأُمور الاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة وغيرها، وأهمُّها على الإطلاق هي التوحيد والولاية.
وأنت تجد الحديث يذكر (كلّ)، و(كلّ) أداة عموم، وأوَّل ما خفي على البشر الله تعالى: «كُنْتُ كَنْزاً مَخْفِيًّا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُعْرَفَ، فَخَلَقْتُ اَلْخَلْقَ لِكَي أُعْرَفَ»(371)، فهو يشمل كلَّ أمر خفي من أعلى الوجود إلى أدناه، فهو هادٍ في كلِّ هذه الدائرة!
وهذا أعظم النعيم والتنعُّم الذي يتنعَّم به الإمام (عجَّل الله فرجه) حيث يرى أولياءه وصلوا إلى الدرجات العليا للتوحيد والولاية، فالعبارة التي في الدعاء: «وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً» قد يُراد منها تحقيق هدف الأنبياء والأولياء، وتحقيق مراد الله (عزَّ وجلَّ) من الخلقة، ففي الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «خَرَجَ اَلْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليهما السلام) عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَللهَ (جَلَّ ذِكْرُهُ) مَا خَلَقَ اَلْعِبَادَ إِلَّا لِيَعْرِفُوهُ، فَإِذَا عَرَفُوهُ عَبَدُوهُ، فَإِذَا عَبَدُوهُ اِسْتَغْنَوْا بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَنْ سِوَاهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا اِبْنَ رَسُولِ اَللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَمَا مَعْرِفَةُ اَللهِ؟ قَالَ: مَعْرِفَةُ أَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ إِمَامَهُمُ اَلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ»(372).
والحديث عن الولاية والتوحيد والارتباط بينهما يحتاج إلى كتاب وحده، وقد أشرنا في كتابنا (حديث من مات) مجموعة إشارات نافعة.
وبهذا الحديث نختم الكلام في هذا الشرح المختصر لدعاء الفرج، وبقيت متعلَّقات كثيرة تركناها لمجال أكبر، نسأل الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يُوفِّقنا إليها.

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(371) بحار الأنوار (ج 84/ ص 199)، مشارق أنوار اليقين (ص 39) بتفاوت يسير.
(372) علل الشرائع (ج 1/ ص 9/ باب 9/ ح 1).

(٢٦٩)

خاتمة: كلمات العلماء في أهمّيَّة دعاء الفرج

كلمة الميرزا محمّد باقر الأصفهاني (رحمه الله):
رأيت ليلة من هذه الليالي في المنام أو بين اليقظة والمنام، الإمام الهمام مولى الأنام والبدر التمام، وحجَّة الله على ما فوق الثرى وما تحت الثرى، مولانا الحسن المجتبى (عليه الصلاة والسلام)، فقال ما معناه: قولوا على المنابر للناس وأمروهم أنْ يتوبوا ويدعوا في فرج الحجَّة (عليه السلام) وتعجيل ظهوره، ليس هذا الدعاء كصلاة الميِّت واجباً كفائيًّا يسقط بقيام بعض الناس به عن سائرهم، بل هو كالصلوات اليوميَّة التي يجب على كلِّ فرد من المكلَّفين الإتيان بها...، إلى آخر ما قال، والله المستعان في كلِّ حال(373).
كلمة الشيخ عبَّاس القمِّي (رحمه الله):
واعلم أنَّ العلماء قد ذكروا في كُتُبهم أنَّ من تكاليف العباد في زمن الغيبة الدعاء لصاحب الزمان (عليه السلام) والتصدُّق عن وجوده المقدَّس.
ومن جملة تلك الأدعية الواردة تقول دائماً بعد تمجيد الله تعالى والصلاة على النبيِّ الأكرم وآله (عليهم السلام):
«اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ اَلْحُجَّةِ بْنِ الْحَسَنِ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِهِ فِي هَذِهِ اَلسَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَنَاصَراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَهُ أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ بِهَا طَوِيلاً»(374).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(373) مكيال المكارم (ج 1/ ص 403).
(374) منازل الآخرة (ص 287).

(٢٧١)

كلمة السيِّد مرتضى المجتهدي السيستاني:
لزوم الدعاء لصاحب العصر والزمان (أرواحنا فداه): إنَّ ألزم الدعاء في عصر الغيبة الدعاء لظهور مولانا بقيَّة الله في العالمين، لأنَّه صاحبنا وصاحب العصر والزمان، بل صاحب الأمر ووليِّ العوالم، وكيف تجوز الغفلة عنه وهو إمامنا؟ والغفلة عن الإمام هي الغفلة من أصل من أُصول الدِّين، فعليك بالدعاء له (عليه الصلاة والسلام) قبل الدعاء لنفسك وأهلك وإخوانك(375).
كلمة الحاجّ الشيخ حسن عليّ الأصفهاني:
يذكر صاحب كتاب (الصحيفة المهديَّة) السيِّد مرتضى المجتهدي السيستاني عن الشيخ حسن عليّ الأصفهاني: أنَّه اشتغل منذ الطفولة بالعبادات والرياضات الشرعيَّة، وتحمَّل زحمات كثيرة للوصول إلى المقامات المعنويَّة، وكتب ما عمل به من الأذكار والأوراد والختومات وكذا الصلوات والآيات في مدَّة عمره، ولاشتمال ما كتبه على الأسرار والنكات المهمَّة لم يجعله في أيدي الناس واختفى ما كتبه.
قال لي المرحوم والدي المعظَّم (أعلى الله مقامه) حول ما كتبه الشيخ: لقد أعطى الحاجُّ الشيخ حسن عليّ الأصفهاني في أواخر أيَّام حياته كتابه هذا لآية الله المرحوم الحاجّ السيِّد عليّ الرضوي.
وغرضنا من نقل هذه القضيَّة نكتة مهمَّة ذكرها الشيخ (رحمة الله عليه) في آخر كتابه، ينبغي أنْ يستفيد منها كلُّ من يسلك طريق المعنويَّات ويسعى في السير والسلوك، وهو هذا: يا ليت ما عملته من قراءة الأوراد والأذكار والختومات للوصول إلى المقامات المعنويَّة كانت في سبيل التقرُّب إلى مولاي صاحب الزمان (عجَّل الله تعالى فرجه).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(375) الصحيفة المهديَّة (ص 14).

(٢٧٢)

فانظروا إلى ما قاله الرجل الإلهي المعروف عند الخاصِّ والعامِّ، وإلى إظهار تأسُّفه في آخر عمره، وتمنِّيه في آخر حياته أنَّه عمل ما عمل للتقرُّب إلى مولانا صاحب الزمان (أرواحنا فداه).
لا شكَّ في أنَّ للحاجَّ الشيخ حسن عليّ الأصفهاني قدرة مهمَّة روحيَّة، وقلَّ مثله في الشخصيَّات البارزة. ومع ذلك كلِّه كانت أُمنيته أنَّ ما فعله طول حياته كان بقصد التقرُّب إلى أمير عالم الوجود. ولم يسعَ في تحمُّل القدرة من أجل شفاء المرضى، ولم يجعل ما يشابه ذلك مقصداً لأعماله.
أعظم عبرة للإنسان - في أيِّ طريق يسعى - أنْ يعتبر من تجارب أعاظم الرجال في ذلك الطريق، وأنْ يستفيد من جهادهم طول حياتهم، وما كسبوه من معارف بعد سنين وسنين، وأنْ يتوجَّه إلى آخر تجاربهم طيلة حياتهم.
عليكم بالدقَّة في هذه النكتة: الاستفاده من التجارب المهمَّة لأعاظم الرجال يزيد في القيمة المعنويَّة لحياة الإنسان مئات المرَّات.
فاسعوا في العمل بما جرَّبه المرحوم الحاجُّ الشيخ حسن عليّ الأصفهاني وكتبه في كتابه، واقرؤوا الأدعية والزيارات وساير العبادات للتقرُّب إلى الله حتَّى تكونوا مقرَّبين عند وليِّه مولانا صاحب العصر والزمان (عجَّل الله تعالى له الفرج)، واطرحوا المقاصد الصغيرة. هذه الحقيقة لو عملتم بها لانتفعتم من حياتكم أكمل الانتفاع(376).
كلمة آية الله الشيخ المحقِّق السند البحراني (دامت بركاته):
الدعاء المعروف للحجَّة (عجَّل الله فرجه): «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ اَلْحُجَّةِ بْنِ اَلْحَسَنِ اَلْعَسْكَرِيِّ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِه فِي هَذِه اَلسَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(376) الصحيفة المهديَّة (ص 21 و22).

(٢٧٣)

وَقَائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَكِّنَهُ فِيهَا طَوِيلاً»، فإنَّ الدعاء بالنصرة في هذه الساعة الفعليَّة وطوال فترة الغيبة حتَّى الظهور يقضي بوجود كيان فعليٍّ يتجاذب مع القوى الراهنة في الأنظمة البشريَّة، وكذلك الدعاء بالقيادة الإلهيَّة يقضي بوجود حركة فعليَّة تحتاج إلى الدلالة الإلهيَّة(377).
كلمة آية الله عبد النبيِّ العراقي (قدّس سرّه):
ولا يخفى على المؤمنين أنَّه ينبغي أنْ يتوسَّلوا كلَّ يوم بالإمام وليِّ العصر وصاحب الزمان، للاستمداد في الأُمور الدنيويَّة والأُخرويَّة، لأنَّ وظيفة ذلك الوجود المقدَّس الإعانة وإصلاح أُمور المؤمنين في الغيبة، وإيصال الفيض إليهم، كما جاء في توقيعات الشيخ المفيد (رحمة الله عليه)، وقد بيَّنه أيضاً في (نهج البلاغة)، ولذا رأيت من اللازم إدراج أوجز زيارة له في هذه الرسالة كي يتوسَّل به الشيعة كلَّ يوم ويعملوا بوظيفة الرعايا(378).
كلمة سماحة السيِّد علاء الدِّين الموسوي (دامت بركاته):
ألم يرد في الروايات أنَّ للإنسان بعد كلِّ صلاة دعوة مستجابة؟ أليس من الأحرى بنا أيُّها المؤمنون أنْ نجعل هذه الدعوة المستجابة في حقِّ مولانا وإمامنا صاحب الزمان (عليه السلام)؟
فلتكن أوَّل دعوة ندعوها بعد كلِّ فريضة: «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ اَلْحُجَّةِ بْنِ اَلْحَسَنِ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِه فِي هَذِه اَلسَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَقَائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً»، هذا الدعاء المعروف، فإنَّ في ذلك فرجنا، «أكثروا من الدعاء لفرجه فإنَّه فرجكم»،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(377) الإمامة الإلهيَّة (ج 2 - 3/ ص 465).
(378) الكنز الخفي (ص 271).

(٢٧٤)

إذا كنت في ضيق، وإذا كان المجتمع في ضيق، وإذا كانت الأُمَّة في بليَّة، فهذا هو فرجها «أكثروا من الدعاء»(379).
كلمة آية الله السيِّد مرتضى الشيرازي:
إنَّ علينا أنْ نُحيي أمره (عليه السلام)، ومن طُرُق إحياء أمره إحياء أدعيته، وفي الأسابيع القادمة إذا وفَّقنا الله تعالى سوف نتكلَّم بعض الكلام عن حجابه، واستخارته، عن تسبيحه، وعن غير ذلك ممَّا سيأتي إنْ شاء الله.
ولقد تميَّز المرحوم الشيخ محمود الحلبي (رضوان الله عليه) بإحيائه دعاء الفرج، وهو: «اَللَّهُمَّ كُنْ لِوَلِيِّكَ اَلْحُجَّةِ بْنِ اَلْحَسَنِ صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آبَائِه فِي هَذِه اَلسَّاعَةِ وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلِيًّا وَحَافِظاً وَقَائِداً وَنَاصِراً وَدَلِيلاً وَعَيْناً حَتَّى تُسْكِنَه أَرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتِّعَهُ فِيهَا طَوِيلاً»، ويمكن أنْ تقرأ بعده بعض المقاطع الموجودة في آخر دعاء الندبة: «وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ، وَهَبْ لَنَا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعَاءَهُ وَخَيْرَهُ مَا نَنَالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَفَوْزاً عِنْدَكَ، وَاجْعَلْ صَلَاتَنَا [صَلَوَاتِنَا] بِهِ مَقْبُولَةً، وَذُنُوبَنَا بِهِ مَغْفُورَةً، وَدُعَائَنَا بِهِ مُسْتَجَاباً، وَاجْعَلْ أَرْزَاقَنَا بِهِ مَبْسُوطَةً، وَهُمُومَنَا بِهِ مَكْفِيَّةً، وَحَوَائِجَنَا بِهِ مَقْضِيَّةً، وَأَقْبِلْ إِلَيْنَا بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنَا إِلَيْكَ، وَانْظُرْ إِلَيْنَا نَظِرَةً رَحِيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرَامَةَ عِنْدَكَ، ثُمَّ لَا تَصْرِفْهَا عَنَّا بِجُودِك...» إلى آخر الدعاء(380).
إنَّ دعاء الفرج المشهور الآن، لم يكن معروفاً - حسب استقرائنا - قبل الشيخ الحلبي، بل كان القليل من الناس يقرأونه، لكن الشيخ الحلبي (جزاه الله خير الجزاء) وله الأجر العظيم على كلِّ بيت ومنزل ومكان يُتلى فيه دعاء الفرج، فإنَّه يوجد الآن لعلَّه يومياً الملايين أو عشرات الملايين أو أقلّ أو أكثر من الناس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(379) محاضرات في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) (ج 2/ ص 105).
(380) المزار لابن المشهدي (ص 584).

(٢٧٥)

ممَّن يتلون دعاء الفرج، وثواب ذلك كلّه يُمنَح للشيخ الحلبي من غير أنْ ينقص من أُجورهم، وما أعظم ذلك من إنجاز وما أعظمه من أجر!
وكما أحيى الشيخ الحلبي (رحمه الله) هذا الدعاء فليُشمِّر بعض العلماء والفضلاء والخطباء، بل حتَّى بعض الأطبَّاء أو المهندسين أو المحامين أو التُّجَّار أو غيرهم، عن ساعد الجدِّ لإحياء سائر الأدعية الواردة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أو عن سائر الأئمَّة الأطهار (عليهم السلام)(381).
كلمة آية الله دربندي (قدّس سرّه):
وأُقسم قسماً حقًّا بولايته المطلقة أنَّ كلَّ من وصل إلى الدرجة الرفيعة والمرتبة السنيَّة من الفضلاء والفقهاء والحكماء في كلِّ الأعصار والأزمنة بعد زمن غيبة وليِّ الله تعالى لم يصل إليها إلَّا بالتفات وتوجُّه من حضرته الشريفة، وأنَّ كلَّ من صار من أخيار أحبار هذه الأُمَّة وبدلاها وفُجِّر له من قلب القلب ينابيع حكم تعينه عن النضح بدلاها لم يصر كذلك إلَّا بتسديدات من جنابه الأرفع الأعلى(382).

* * *

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(381) موقع مؤسَّسة التقى الثقافيَّة/ موضوع 236 إحياء أمر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
(382) خزائن الاعتقادات (ص 5/ الطبعة الحجريَّة).

(٢٧٦)

المصادر والمراجع

1 - القرآن الكريم.
2 - الاحتجاج: أحمد بن عليٍّ الطبرسي/ تعليق وملاحظات: السيِّد محمّد باقر الخرسان/ 1386هـ/ دار النعمان/ النجف الأشرف.
3 - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي): الشيخ الطوسي/ تحقيق: السيِّد مهدي الرجائي/ 1404هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث.
4 - آداب عصر الغيبة: الشيخ حسين الكوراني/ دار التعارف للمطبوعات/ بيروت.
5 - أدب فناء المقرَّبين: عليّ نظامي بور الهمداني.
6 - الأربعون حديثاً: الإمام الخميني/ تعريب: محمّد الغروي/ ط 9/ 1435هـ/ دار التعارف للمطبوعات/ بيروت.
7 - الإرشاد: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
8 - إرشاد القلوب: الحسن بن محمّد الديلمي/ ط 2/ 1415هـ/ مطبعة أمير/ انتشارات الشريف الرضي/ قم.
9 - إقبال الأعمال: السيِّد عليُّ بن طاوس/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط 1/ 1414هـ/ مكتب الإعلام الإسلامي؛ والطبعة القديمة/ 1409هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
10 - الأمالي: الشيخ الصدوق/ ط 1/ 1417هـ/ مركز الطباعة والنشر في مؤسَّسة البعثة/ قم.

(٢٧٧)

20 - البلد الأمين: الكفعمي/ 1383هـ/ مكتبة الصدوق/ طهران.
21 - التاريخ الكبير: البخاري/ المكتبة الإسلاميَّة/ دياربكر/ تركيا.
22 - تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة: السيِّد شرف الدِّين عليّ الحسيني الأسترآبادي/ ط 1/ 1407هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
23 - تُحَف العقول عن آل الرسول: ابن شعبة الحرَّاني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ 1404هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
24 - التحقيق في كلمات القرآن الكريم: الشيخ حسن المصطفوي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة الطباعة والنشر وزراة الثقافة والإرشاد الإسلامي.
25 - تصحيح اعتقادات الإماميَّة: الشيخ المفيد/ تحقيق: حسين دركاهي/ ط 2/ 1414هـ/ دار المفيد/ بيروت.
26 - تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام)/ ط 1 محقَّقة/ 1409هـ/ مدرسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
27 - تفسير السور المسبَّحات الخمس: الشيخ جعفر السبحاني/ ط 1/ 1432هـ/ مؤسَّسة الإمام الصادق (عليه السلام)/ قم.
28 - تفسير العيَّاشي: العيَّاشي/ تحقيق: هاشم الرسولي المحلَّاتي/ المكتبة العلميَّة الإسلاميَّة/ طهران.
29 - تفسير القمّي: عليُّ بن إبراهيم القمّي/ تحقيق: طيِّب الجزائري/ ط 3/ 1404هـ/ مؤسَّسة دار الكتاب/ قم.
30 - تفسير الميزان: العلَّامة الطباطبائي/ منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميَّة/ قم.

(٢٧٩)

31 - تفسير ملاحم المحكمات: الشيخ محمّد السند/ ط 1/ 1433هـ/ الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع/ بيروت.
32 - تقسيم الخواطر: روزبهان البقلي الشيرازي (شطاح فارس)/ تحقيق وتصحيح: أحمد فريد المزيدي/ ط 1/ 1428هـ/ دار الآفاق العربيَّة/ القاهرة.
33 - تنبيه الخواطر (مجموعة ورَّام): ورَّام بن أبي فراس المالكي الأشتري/ ط 2/ 1368ش/ دار الكُتُب الإسلاميَّة.
34 - تهذيب الأحكام: الشيخ الطوسي/ تحقيق وتعليق: السيِّد حسن الموسوي الخرسان/ ط 3/ 1364هـ/ دار الكتب الإسلاميَّة/ طهران.
35 - التوحيد: الشيخ الصدوق/ تحقيق وتصحيح: هاشم حسيني طهراني/ ط 1/ جماعة المدرِّسين في الحوزة العلميَّة/ قم.
36 - جمال الأُسبوع: ابن طاوس/ تحقيق: جواد القيُّومي/ ط 1/ 1371ش/ مطبعة أختر شمال/ مؤسَّسة الآفاق.
37 - الحقائق واللطائف: الشيخ فاضل الصفَّار.
38 - الخرائج والجرائح: قطب الدِّين الراوندي/ بإشراف: السيِّد محمّد باقر الموحِّد الأبطحي/ ط 1/ 1409هـ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
39 - خزائن الاعتقادات: الدربندي/ الطبعة الحجريَّة.
40 - الخصال: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1362ش/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
41 - الدعوات: قطب الدِّين الراوندي/ ط 1/ 1407هـ/ مطبعة أمير/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
42 - دلائل الإمامة: محمّد بن جرير الطبري الشيعي/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة البعثة/ قم.

(٢٨٠)

43 - رجال النجاشي (فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة): أبو العبَّاس أحمد ابن عليّ بن أحمد بن العبَّاس النجاشي الأسدي الكوفي/ ط 5/ 1416هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
44 - روضة الواعظين: محمّد بن الفتَّال النيسابوري/ تقديم: السيِّد محمّد مهدي السيِّد حسن الخرسان/ منشورات الشريف الرضي/ قم.
45 - رياض العلماء وحياض الفضلاء: الميرزا عبد الله أفندي الأصبهاني/ تحقيق: السيِّد أحمد الحسيني الإشكوري/ ط 1/ 1431هـ/ مؤسَّسة التاريخ العربي/ بيروت.
46 - سرور أهل الإيمان في علامات صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه): السيِّد بهاء الدِّين عليّ النيلي النجفي/ ط 1/ 1426هـ/ دليل ما/ قم.
47 - السلطان المفرِّج عن أهل الإيمان: السيِّد بهاء الدِّين عليّ النيلي النجفي/ ط 1/ 1426هـ/ دليل ما/ قم.
48 - شذرات مهدويَّة: الشيخ حسين الأسدي/ ط 2/ 1438هـ/ مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ النجف الأشرف.
49 - شرح دعاء كميل: السيِّد عبد الأعلى السبزواري/ ط 1/ 1431هـ/ مؤسَّسة العروة الوثقى/ الرويس.
50 - صحيفة الأبرار: ميرزا محمّد التقي الممقاني.
51 - الصحيفة السجَّاديَّة: تحقيق: محمّد باقر الأبطحي/ ط 1/ 1411هـ/ مطبعة نمونه/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ومؤسَّسة الأنصاريان/ قم.
52 - الصحيفة المهديَّة المنتخبة: السيِّد مرتضى المجتهدي السيستاني/ ط 4/ مطبعة أنصار المهدي (عليه السلام)/ انتشارات الماس.

(٢٨١)

53 - عدَّة الداعي: ابن فهد الحلّي/ تحقيق: أحمد الموحِّدي القمّي/ مكتبة وجداني/ قم.
54 - علل الشرائع: الشيخ الصدوق/ تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم/ 1385هـ/ منشورات المكتبة الحيدريَّة ومطبعتها/ النجف الأشرف.
55 - العوالم (السيِّدة الزهراء (عليها السلام)): الشيخ عبد الله البحراني/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ قم.
56 - عوالي اللئالي: ابن أبي جمهور الأحسائي/ تحقيق: مجتبى العراقي/ ط 1/ 1403هـ/ مطبعة سيِّد الشهداء/ قم.
57 - العين: الخليل الفراهيدي/ ط 2/ 1409هـ/ مؤسَّسة دار الهجرة.
58 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): الشيخ الصدوق/ تحقيق: حسين الأعلمي/ 1404هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
59 - غُرَر الحِكَم ودُرَر الكلم: عبد الواحد الآمدي التميمي/ تحقيق وتصحيح: السيِّد مهدي الرجائي/ ط 2/ 1410هـ/ دار الكتاب الإسلامي/ قم.
60 - الغيبة: ابن أبي زينب النعماني/ تحقيق: فارس حسُّون كريم/ ط 1/ 1422هـ/ أنوار الهدى.
61 - الغيبة: الشيخ الطوسي/ تحقيق: عبد الله الطهراني وعليّ أحمد ناصح/ ط 1/ 1411هـ/ مطبعة بهمن/ مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة/ قم.
62 - الفكر الخالد في بيان العقائد: الشيخ جعفر السبحاني.
63 - فلاح السائل: السيِّد ابن طاوس.
64 - الفهرست: الشيخ الطوسي/ تحقيق: جواد القيُّومي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي.

(٢٨٢)

65 - قرب الإسناد: أبو العبَّاس عبد الله بن جعفر الحميري القمّي/ ط 1/ 1413هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
66 - الكافي: الشيخ الكليني/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 5/ 1363هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
67 - كامل الزيارات: جعفر بن محمّد بن قولويه/ تحقيق: الشيخ جواد القيُّومي/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة نشر الفقاهة.
68 - كتاب المكاسب والبيع: تقرير بحث الشيخ النائيني/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
69 - كشف الغمَّة في معرفة الأئمَّة: عليُّ بن أبي الفتح الإربلي/ ط 2/ 1405هـ/ دار الأضواء/ بيروت.
70 - كفاية الأثر في النصِّ على الأئمَّة الاثني عشر: أبو القاسم عليُّ بن محمّد الخزَّاز القمّي الرازي/ تحقيق: السيِّد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري الخوئي/ 1401هـ/ انتشارات بيدار.
71 - كمال الدِّين وتمام النعمة: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1405هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
72 - كنز الفوائد: أبو الفتح محمّد بن عليٍّ الكراجكي/ ط 2/ 1369ش/ مكتبة المصطفوي/ قم.
73 - لسان العرب: أبو الفضل جمال الدِّين محمّد بن مكرم الإفريقي المصري (ابن منظور)/ 1405هـ/ نشر أدب الحوزة/ قم.
74 - مباحث حول النبوَّات: الشيخ محمّد السند/ بقلم: حارث العذاري/ ط 1/ 1394ش/ مطبعة طاهر/ دار الكوخ/ طهران.

(٢٨٣)

75 - مجمع البحرين: الشيخ فخر الدِّين الطريحي/ ط 2/ 1362ش/ مرتضوي.
76 - مجمع البيان في تفسير القرآن: أمين الإسلام أبو عليٍّ الفضل بن الحسن الطبرسي/ قدَّم له: السيِّد محسن الأمين العاملي/ ط 1/ 1415هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
77 - المحاسن: أحمد بن محمّد بن خالد البرقي/ تصحيح وتعليق: السيِّد جلال الدِّين الحسيني المحدِّث/ 1370هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة/ طهران.
78 - محاضرات في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): عدَّة محاضرين/ إعداد مركز الدراسات التخصُّصيَّة في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)/ ط 1/ 1425هـ/ النجف الأشرف.
79 - المحتضر: حسن بن سليمان الحلّي/ تحقيق: سيِّد عليّ أشرف/ ط 1/ 1424هـ/ انتشارات المكتبة الحيدريَّة/ مطبعة شريعت.
80 - مختصر بصائر الدرجات: حسن بن سليمان الحلّي/ ط 1/ 1370هـ/ منشورات المطبعة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
81 - مرآة العقول: العلّامة المجلسي/ ط 2/ 1404هـ/ دار الكُتُب الإسلاميَّة.
82 - المزار الكبير: محمّد بن جعفر المشهدي/ تحقيق: جواد القيُّومي الأصفهاني/ ط 1/ 1919هـ/ نشر القيُّوم/ قم.
83 - مشارق أنوار اليقين: الحافظ رجب البرسي/ تحقيق: السيِّد عليّ عاشور/ ط 1/ 1419هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
84 - مصباح الزائر: السيِّد عليِّ بن موسى بن طاوس/ ط 1/ 1417هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.

(٢٨٤)

85 - مصباح الشريعة: المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام)/ ط 1/ 1400هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.
86 - مصباح الفقاهة: تقرير بحث السيِّد الخوئي/ ط 4/ 1417هـ/ مؤسَّسة أنصاريان/ قم.
87 - مصباح المتهجِّد: الشيخ الطوسي/ ط 1/ 1411هـ/ مؤسَّسة فقه الشيعة/ بيروت.
88 - المصباح: الكفعمي/ ط3/ 1403هـ/ مؤسسة الأعلمي/ بيروت.
89 - المعارف الرائعة في شرح زيارة الجامعة: عليّ نظامي بور الهمداني.
90 - معاني الأخبار: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ 1379هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
91 - معرفة الإمام: السيِّد محمّد حسين الطهراني/ ط 1/ 1416هـ/ دار المحجَّة البيضاء/ بيروت.
92 - مفاتيح الجنان: الشيخ عبَّاس القمّي/ ط 3/ 2006م/ مكتبة العزيزي/ قم.
93 - مفردات ألفاظ القرآن: الراغب الأصفهاني/ تحقيق: صفوان عدنان داوودي/ ط 2/ 1427هـ/ طليعة النور.
94 - المقنعة: الشيخ المفيد/ ط 2/ 1410هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
95 - مكيال المكارم: ميرزا محمّد تقي الأصفهاني/ تحقيق: عليّ عاشور/ ط 1/ 1421هـ/ مؤسَّسة الأعلمي/ بيروت.

(٢٨٥)

96 - الملاحم والفتن: ابن طاوس/ ط 1/ 1416هـ/ مؤسَّسة صاحب الأمر/ أصفهان.
97 - من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصدوق/ تصحيح وتعليق: عليّ أكبر الغفاري/ ط 2/ مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرِّسين بقم المشرَّفة.
98 - منازل الآخرة: الشيخ عبَّاس القمّي/ تحقيق: السيِّد ياسين الموسوي/ ط 1/ 1419هـ/ مؤسَّسة النشر الإسلامي/ قم.
99 - مناقب آل أبي طالب: ابن شهرآشوب/ 1376هـ/ المكتبة الحيدريَّة/ النجف الأشرف.
100 - موسوعة الكلمة: السيِّد حسن الحسيني الشيرازي/ ط 1/ 1427هـ/ دار العلوم/ الكويت.
101 - نهج البلاغة: خُطَب أمير المؤمنين (عليه السلام)/ ما اختاره وجمعه: الشريف الرضي/ تحقيق: الدكتور صبحي صالح/ ط 1/ 1387هـ، وبشرح محمّد عبدة/ ط 1/ 1412هـ/ دار الذخائر/ قم.
102 - الهداية الكبرى: الحسين بن حمدان الخصيبي/ ط 4/ 1411هـ/ مؤسَّسة البلاغ/ بيروت.
103 - وسائل الشيعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة): الحرُّ العاملي/ ط 2/ 1414هـ/ مؤسَّسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث/ قم.
104 - ينابيع المودَّة لذوي القربى: سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي/ تحقيق: السيِّد عليّ جمال أشرف الحسيني/ ط 1/ 1416هـ/ دار الأُسوة.

* * *

(٢٨٦)